رسائل آل طوق القطيفي المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ أحمد آل طوق

المحقق: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الناشر: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

المطبعة: شركة دار المصطفى (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة: 1

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1422 ه.ق

الصفحات: 524

المكتبة الإسلامية

رسائل آل طوق القطيفي

المحرّر الرّقمي: محمّد علي ملك محمّد

ص: 1

اشارة

ص: 2

رسائل آل طوق القطيفي

مجموعة مؤلفات العلامة المحقق الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طوق القطيفي

المتوفی بعد سنة 1245 ه

المجلد الثاني

تحقيق ونشر

شركة دار المصطفی صلی اللّه عليه وآله لإحياء التراث

ص: 3

اسم الكتاب... رسائل آل طوق القطيفي ج2

تأليف... العلامة الشيخ أحمد آل طوق

تحقيق ونشر وتوزيع... شركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

صف وإخراج... شركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

الطبعة... الأولی 1422 ه- 2001 م

يطلب من:

لبنان - بيروت - ص.ب: 24/197 - هاتف

سوريا - دمشق - ص.ب: 733 - السيدة زينب - تلفاكس: 6420085 011

إيران - قم - ص.ب: 37185/3156 - هاتف: 778865 - فاكس: 778855

تحقيق و نشر شركة دار المصطفی صلی اللّه عليه وآله لإحياء التراث

بيروت - لبنان - ص.ب: 24/197

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 5

جميع الحقوق محفوظة لشركة دار المصطفی (صلی اللّه عليه وآله) لإحياء التراث

ص: 6

الرسالة التاسعة : روح النسيم في أحكام التسليم

اشارة

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

أمّا بعد :

فيقول أقلّ الوَرَى قدراً وأخملهم ذِكْراً أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : اعلم هدانا اللّه وإيّاك أن مسألة التسليم الواقع في آخر الصلاة قد اضطرب فيه فتوى العصابة اضطراباً كثيراً ، فأحببت أن أبحثَهُ بحسب تيسير اللّه.

والبحث فيه في ثلاثة مواطن :

ص: 9

ص: 10

الأوّل : في وجوبه وندبيّته

القائلون بالاستحباب

فاختلفوا هل هو واجب أو مندوب؟ ونُسب الثاني في ( البحار ) (1) وغيره (2) إلى الشيخين (3) : وابن البرّاج (4) : وابن إدريس (5) : وجماعة ، وفي ( الذكرى ) (6) إلى أكثر القدماء. وفيه نظر يظهر إن شاء اللّه ممّا سيتلى عليك إن شاء اللّه تعالى.

ومال إليه في ( المدارك ) (7) ونسبه لأكثر المتأخّرين ، وقال به العلّامة : في ( القواعد ) (8) و ( التحرير ) (9) و ( الإرشاد ) (10) و ( المختلف ) (11) ، ومال إليه المحقّق الكركي (12).

القائلون بالوجوب

والذي يظهر لي أن المشهور بين الفرقة من المتقدّمين والمتأخّرين هو الوجوب.

فقد قال به السيّد المرتضى (13) : والصدوق (14) : والشيخ : في ( المبسوط ) (15) والجعفي

ص: 11


1- بحار الأنوار 82 : 296.
2- جامع المقاصد 2 : 323 ، مدارك الأحكام 3 : 429 ، كشف اللثام : 127.
3- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ) 14 : 139 ، النهاية : 89.
4- المهذّب 1 : 99.
5- السرائر 1 : 241.
6- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
7- مدارك الأحكام 3 : 429 - 430.
8- قواعد الأحكام 1 : 279.
9- تحرير الأحكام 1 : 41 ( حجريّ ).
10- إرشاد الأذهان 1 : 256.
11- مختلف الشيعة 2 : 191 / المسألة : 109.
12- جامع المقاصد 2 : 326.
13- الناصريّات : 212 / المسألة : 82.
14- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944 ، المقنع : 96 ، الأمالي ( الصدوق ) : 512.
15- المبسوط 1 : 115 - 116.

في ( الفاخر ) (1) وابن أبي عقيل (2) : وسلّار (3).

ونسبه الشهيد (4) : إلى الحلبيّين كأبي الصلاح (5) : وابن زهرة (6) : ، [ وابني سعيد (7) ].

وهو المنقولُ عن الراوندي (8) : ، والمحقّق : في ( الشرائع ) (9) و ( النافع ) (10) و ( المعتبر ) (11) ، والعلّامة : في ( المنتهى ) (12) و ( التبصرة ) (13) ، والشهيد الأوّل : في جميع كتبه (14) ، وابن فهد : في ( المهذّب ) (15) و ( الموجز ) (16) وغيرهما ، والسيوري : في ( التنقيح ) (17).

وظاهر ( كنز العرفان ) (18) ، وبعض شرّاح ( الألفية ) ، وفخر المحقّقين : في ( الإيضاح ) (19) ، وابن طاوس : في ( فلاح السائل ) (20) ، وابن عمّه السيّد أحمد : في ( البشرى ) كما نقله عنه في ( الحبل المتين ) (21) وغيره (22) ، والآقا باقر (23) : وهو إمام عصره ، وقد أدركته صغيراً.

ص: 12


1- عنه في الذكرى : 206 ( حجريّ ).
2- عنه في المعتبر 2 : 233.
3- المراسم العلوية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 3 : 371.
4- غاية المراد : 150.
5- 3الكافي في الفقه : 119 - 120.
6- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 4 : 548.
7- في المخطوط : ( أبي سعيد ) انظر غاية المراد : 151.
8- عنه في الذكرى : 206 ( حجريّ ).
9- شرائع الإسلام 1 : 79.
10- المختصر النافع : 84.
11- المعتبر 2 : 233.
12- منتهى المطلب 1 : 295.
13- تبصرة المتعلّمين : 28.
14- منها : البيان : 176 ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 277 ، الدروس 1 : 183.
15- المهذّب البارع 1 : 387.
16- الموجز ( ضمن الرسائل العشرة ) : 83.
17- التنقيح الرائع 1 : 211.
18- كنز العرفان 1 : 132.
19- إيضاح الفوائد 1 : 115.
20- فلاح السائل : 120.
21- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).
22- كشف اللثام 4 : 129.
23- عنه في الجواهر 10 : 278. وهو الآقا محمّد باقر بن محمّد أكمل المعروف بالآقا البهبهاني أو الوحيد البهبهاني. ولد سنة 16. ه أو (1117) ه ، وتوفّي سنة (1205) ه ، من مؤلّفاته : ( شرح المفاتيح ) ، حاشية على ( شرح الإرشاد ) ، حاشية ( المدارك ) ، ( الفوائد الجديدة ) .. وغيرها كثير. أعيان الشيعة 9 : 182.

ومال إليه القاساني : في ( المفاتيح ) (1) ، والسيّد الأعظم السيّد مهدي : في ( الإصلاح ) على ما في مختصره للشيرواني : ، والشيخ بهاء الدين : في ( المختصر العباسي ) على ما في تعريبه و ( الحبل المتين ) (2) و ( الاثنا عشريّة ). قال في ( الاثنا عشرية ) : ( التاسع - : يعني من الواجبات التسليم ، وصيغته السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

والأصحّ وجوبه كما نطقت به الروايات المعتبرة المتكثّرة ) (3) ، انتهى.

واختارهُ أيضاً الفاضل المحقّق الشيخ محمّد بن الحسن الأصفهاني : الملقّب ببهاء الدين المعروف بين المعاصرين بالفاضل الهندي في شرحه لشرح ( اللمعة ) المسمّى ب- ( المناهج السويّة في شرح الروضة البهيّة ) (4) ، وابن سعيد : في ( الجامع ) (5) ، وصاحب ( المعالم ): ، والحرّ العاملي (6) : ، وجماعة من مشايخنا المعاصرين كالشيخ حسين آل عصفور (7) : ، والشيخ مبارك ابن الشيخ

ص: 13


1- مفاتيح الشرائع 1 : 152.
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 255 ( حجريّ ).
3- الاثنا عشريّة : 29.
4- المناهج السويّة في شرح الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ، لمؤلّفه المولى بهاء الدين محمّد بن تاج الدين الحسن بن محمّد الأصفهاني المعروف بالفاضل الهندي ( 1062 - 1126 ه ) صاحب كتاب ( كشف اللثام عن قواعد الأحكام ). توجد منه عدة نسخ خطيّة في مكتبات متفرّقة ، يبتدأ بكتاب الطهارة شرحاً مزجيّاً بما يقرب من ثلاثين ألف بيت ، ثمّ شرحاً منفصلاً فيما يقرب من عشرين ألف بيت لكتاب الصلاة ، ويختمه بكتاب الحجّ. انظر : الذريعة 22 : 4. أعيان الشيعة 9 : 138. والمصدر غير متوفّر لدينا.
5- الجامع للشرائع : 74.
6- وسائل الشيعة 6 : 415 - 419 ، أبواب التسليم ، ب 1.
7- سداد العباد : 186 ، وهو العلّامة الفاضل خاتمة الحفّاظ والمحدّثين الفقيه النبيه الشيخ حسين ابن العالم الأمجد الشيخ محمد ابن الشيخ أحمد آل عصفور الدرازي البحراني ، كان مضرب المثل في قوّة الحافظة ، ملازماً للتدريس والتصنيف ، مواظباً على تعزية الحسين عليه السلام في بيته في كلّ وقت ، توفّي رحمه اللّه تعالى سنة 1216 ه ، من مؤلّفاته : الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع ، السداد ، الحقائق الفاخرة في تتميم الحدائق الناضرة .. وغيرها كثير. أنوار البدرين :7. 184.

علي (1) : ، وشيخنا الشيخ محمّد بن سيف (2) : ، وجماعة ، وهو المختار لنا.

ضروب من الدلالة على القول بالوجوب

أحدها : ما استفاض نقله بين الخاصّة (3) والعامّة (4) من مواظبة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وخلفائه عليهم السلام عليه ، والأصلُ في فعل المعصوم الذي عُلِمَ قصدُهُ القُربَةَ به الوجوبُ حتّى يدلّ الدليل على استحبابه ، كما حقّق في الأُصول ، وخصوصاً في الصلاة ، بل ظاهر عبارة فاضل ( الفوائد الحائريّة ) (5) : أنه في الصلاة لا خلاف فيه.

قال في ( الذكرى ) : ( تواتر النقل عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : وأهل بيته عليهم السلام بقول السلام عليكم من غير بيان ندبيّته ، فهو امتثال للأمر بالواجب ، حتّى إن قول سلف الأُمّة السلام عليكم عقيب الصلاة داخلٌ في ضروريّات الدين ، وإنما الشأن في الندبيّة أو الوجوب ) (6) ، انتهى.

الثاني : أنك إذا تدبّرت الأخبار وجدتها طافحة على فعل أهل البيت له ، بل وملازمتهم له ومواظبتهم عليه ، ولم نجد خبراً ولا نقلاً يشعر بتركهم له أو خروجهم من الصلاة بغيره أصلاً ، فالأصلُ إذن وجوبُه.

الثالث : وقوعه في الصلاة البيانيّة ، كما استفاض به النقل من خبر حمّاد : مع

ص: 14


1- هو العالم العامل الفقيه المحدّث الشيخ مبارك ابن الشيخ علي آل حميدان الأحسائي القطيفي الجارودي مولداً ومنزلاً. كان رحمه اللّه تعالى من العلماء الفضلاء الأتقياء النبلاء محدّثاً مجتهداً ورعاً ، ينقل عنه تلميذه العلّامة الشيخ سليمان آل عبد الجبار بعض فتاويه كتحريم الجمع بين الشريفتين كما هو قول صاحب الحدائق. له رسالة عملية في الصلاة مختصرة. توفّي رحمه اللّه تعالى سنة (1224) ه. أنوار البدرين :269- 272.
2- العالم العامل الأمجد الشيخ محمّد ابن الحاجّ أحمد بن سيف النعيمي القطيفي ، كان من مشاهير علماء القطيف وأرباب الفتاوى ، له إجازة من شيخه يحيى بن عمران. أنوار البدرين : 288.
3- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
4- صحيح مسلم 4 : 123 - 127 ، سنن الترمذي 2 : 89 / 295.
5- الفوائد الحائريّة : 315 - 316 / الفائدة الثانية والثلاثون.
6- الذكرى : 208 ( حجريّ ).

الصادق عليه السلام (1) : ، وقد خرج عليه السلام بالسلام فيها ، فالأصلُ وجوبهُ.

الرابع : أنه لا يحصل يقين الخروج من العهدة ويقين امتثال الأمر بإقامة الصلاة إلّا به ، فالمُسَلّم خارج من الصلاة وسالم من الوقوع في خطر إثم إبطال الفرض بيقين ، بخلاف غيره.

الخامس : ما يظهر من عبارة الشيخ الجليل ابن أبي عقيل : أن التسليمَ المُخْرِجَ وهو السلام عليكم هو مذهبُ آل الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، كما نقله عنه جماعة.

قال في ( الذكرى ) : ( قال ابن أبي عقيل : فإذا فرغ من التشهّد وأراد أن يسلّم على مذهب آل الرسول صلى اللّه عليه وآله ، فإن كان إماماً أو منفرداً سلّم تسليمةً واحدةً مستقبل القبلة يقول السلام عليكم ) (2). وساق باقي عبارته في كيفيّة تسليم المأموم.

وظاهره أنه إجماع أهل البيت عليهم السلام : ، وأن النقل به متواتر أو مستفيض ؛ ولذلك نقله عنهم ونسبه إليهم على سبيل القطع والجزم ، فإذا ثبت أن مذهبَ آل الرسول صلى اللّه عليه وآله : فِعْلُهُ والخروجُ بهِ ثبت أن الأصلَ وجوبُهُ حتّى تثبتَ نَدبيّتُه ، ولا دليلَ عليها يُعتمدُ عليه.

السادس : ما قاله في ( الذكرى ) : ( إنه قد ثبت بلا خلافٍ وجوبُ الخروجِ من الصلاةِ كما ثبت الدخولُ فيها ، فإن لم يقف الخروج منها على السلام دون غيره جاز أن يخرج بغيره من الأفعال المنافية للصلاة كما يقول أبو حنيفة : ، وأصحابُنا لا يجوّزون ذلك ، فثبتَ وجوبُ التسليم. وكلامُ السيّد مصرّحٌ بركنيّتِهِ (3) ، وأن المعتبرَ ، السلام عليكم ولعلّه يريد بالركن مرادف الواجب ) (4) ، انتهى ، وهو قويّ متين وثيق.

قلت : لعلّ السيّدَ أطلق الركنيّة عليه مجازاً من أجل أنه لو تركه عمداً [ أو ] سهواً وفَعَلَ ما تبطلُ الصلاةُ بفعلِهِ قبلَ فعلِهِ بطلت صلاتُهُ.

ص: 15


1- الكافي 3 : 311 - 312 / 8 ، تهذيب الأحكام 2 : 81 - 82 / 301 ، وسائل الشيعة 5 : 461 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1 ، ح 2.
2- الذكرى : 205 ( حجريّ ).
3- الناصريّات : 209 / المسألة : 82.
4- الذكرى : 205 ( حجريّ ).

السابع : عملُ الأُمّة قديماً وحديثاً في سائر الأعصار على الخروج من الصلاة بالسلام ، حتّى لو خرج أحدٌ بغيره أنكرَ عليه العالِمُ والجاهِلُ ، فَتَرْكُه والخروجُ بغيره يحتاجُ إلى دليلٍ قاطعٍ ، والقولُ بالاستحباب يستلزمُ صحّةَ الخروجِ بغيرهِ.

الثامن : اتّفاقُ الأُمّة على تعيينه للخروج ، عدا ما يُنْسَبُ إلى أبي حنيفة : من جواز الخروج بكلّ منافٍ (1). والقولُ بالاستحبابِ مُستلزمٌ لقولِهِ كما يظهر بالتأمّل.

التاسع : الإجماعُ على فساد الصلاةِ لو أزادَ المصلّي ركعةً قبلَ التسليم عامداً عالِماً ، فلو كان مستحبّاً لَمَا بطلت الصلاةُ لوقوع الزيادة بعد كمالها. وعليك بملاحظة كلامهم في الخلل وفي صلاة المسافر ، يظهرُ لكَ الإجماعُ على ذلك.

وقال فاضل ( المناهج ) : ( الرابع : مواظبة النبيّ : ونوّابه صلوات اللّه عليه وعليهم - والصحابة والتابعين عليه ، مع قوله صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أُصلّي (2).

الخامس : طريقة الاحتياط ، فإنه إذا سلّم خرج من الصلاة ومن العهدة بيقينٍ ، بخلاف ما إذا لم يسلّم.

السادس : أنه لو لم يجب لَمَا بطلت صلاةُ المسافر بالإتمام ، والتالي باطلٌ ) ، انتهى. وهو يشعر بأنهُ إجماعٌ في المسافر إذا أتمّ.

العاشر : قال فاضل ( المناهج ): ( الثالثُ من وجوهِ الاحتجاجِ يعني على وجوب التسليم أن كلّ مَنْ قالَ بكونِ التكبير جزءاً من الصلاةِ قالَ بوجوبِ التسليمِ وكَوْنِه جزءاً منها ، لكنّ المقدّمَ حقّ ؛ لأن النيّةَ لا بدّ مِنْ أن تقارنَ التكبيرَ أو تتقدّم عليه بلا فصل ، ولا شي ء ممّا ليس جزءاً منها كذلك ، ولأنه لو لم يكن جزءاً منها لَمَا اشترط فيه الطهارة ، لكن يشترط ) ، انتهى.

ولعلّهم أرادوا أن كُلّ مَا دلّ على وجوب التكبير وجزئيّته دلّ على وجوب التسليم وجزئيّته ، فأسنَدوا ( قال ) لضمير الدليل ، حيث عبّروا ب- ( مَنْ ) عنه مبالغةً في

ص: 16


1- المجموع شرح المهذّب 3 : 462.
2- عوالي اللآلي 1 : 197 - 198 / 8 ، مسند أحمد بن حنبل 5 : 53.

وضوح الدلالة ، وليس التعبير ب- ( مَنْ ) عن غير العقلاءِ بعزيزٍ في العربية (1).

وما ألطف ما نُقِلَ عن الزمخشري : من قوله في جملة الاستدلال على هذا ، حيث قال : ( ويدلّ عليه قول العلماء : مَنْ لِمَا يَعْقِلُ ).

وبهذا استدلّ في ( الذكرى ) قال فيها في سياق الاستدلال لوجوب التسليم : ( وأيضاً فكلّ مَنْ قال : التكبيرُ من الصلاة ، ذهب إلى أن التسليمَ واجبٌ وأنه منها ) (2). وهما أخذاه من استدلال المرتضى : به.

قال في ( المختلف ) : ( احتجّ المرتضى (3) .. ) ، وذكر حديث : [ تحريمها (4) التكبير (5) ] ومداومته صلى اللّه عليه وآله عليه ، مع قوله صلّوا كما رأيتموني أُصلّي.

ثمّ قال : ( ولأن كلّ مَنْ قال بكون التكبير من الصلاة قال : إن التسليمَ واجبٌ ، وإنه من الصلاة ) (6). ثمّ أخذ في بيان أن التكبير من الصلاة ، وفهم منه أنه ادّعى الإجماعَ ، ومَنَعَهُ.

الحادي عشر : ما شاع بين الموجبين الاستدلال به من قولهم : شي ءٌ من التسليم في غير الردّ واجبٌ ، ولا شي ءَ من التسليم في غير ردّ السلام بواجبٍ في غير الصلاة إجماعاً (7).

أمّا المقدّمة الأُولى ؛ فلقوله تعالى : ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (8) ، وأما الثانية فواضحة.

ولا ينافي هذا ما جاء في تأويل الآية مِنْ أن المراد التسليم لوصيّه من بعده (9) أو التسليم عليه (10) ، فإن القرآن المجيد ذو بطون وظاهر وباطن وتأويل وتفسير ، والكلّ حجّة بلا تنافٍ ، واستدلالنا هنا بظاهر لفظ الآية ، ولا يتبادر منه إلّا التحيّة المعهودة وهي : السلام عليكم.

ص: 17


1- شرح ابن عقيل 1 : 147 - 148.
2- الذكرى : 205 ( حجريّ ).
3- الناصريّات : 211 / المسألة : 82.
4- في المخطوط : ( مفتاحها ) ، وما أثبتناه من المصدر.
5- عوالي اللآلي 1 : 416 / 91.
6- مختلف الشيعة 2 : 192 - 193 / المسألة : 109.
7- مختلف الشيعة 2 : 194 / المسألة : 109.
8- الأحزاب : 56.
9- الاحتجاج 1 : 597.
10- الوسيط 3 : 481.

الثاني عشر : ما اشتهرت روايته بين الأُمّة من قوله صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أُصلّي (1) ، وقد كان يسلّم ، بل مواظباً عليه كما استفاض (2) ، فالتسليم واجب.

الثالث عشر : ما روته العامّة (3) والخاصّة (4) أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : قال مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم.

رواه في ( الذكرى ) بلفظ : ( رُويَ ) ، واستدلّ به قال رحمه اللّه : ( دلّ على أن غير التسليم ليس بمُحلّلٍ ) (5).

وفي ( تفسير العسكري عليه السلام ) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (6).

وفي ( البحار ) نقلاً من ( الهداية ) : وعن الصادق عليه السلام : أنه قال تحريم الصلاة التكبير ، وتحليلها التسليم (7).

وفي ( الكافي ) بسنده عن القدّاح : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : مفتاح الصلاة الوضوء ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (8).

وفي ( البحار ) نقلاً من مناقب ابن شهرآشوب : عن أبي حازم : قال : سُئِلَ عليّ بن الحسين عليه السلام : ما افتتاح الصلاة؟ قال التكبير.

قال : ما تحريمها؟ قال التكبير.

قال : ما تحليلها؟ قال التسليم (9).

هكذا في النسخة التي بين يدي ، ولا يبعد أن فيه تحريفاً من الناسخ ، وأن صوابه

ص: 18


1- عوالي اللآلي 1 : 197 - 198 / 8 ، مسند أحمد بن حنبل 5 : 53.
2- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
3- مسند أحمد بن حنبل 1 : 123 ، سنن الدارمي 1 : 175.
4- عوالي اللآلي 1 : 416 / 91.
5- الذكرى : 205 ( حجريّ ).
6- التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام : 521.
7- بحار الأنوار 82 : 310 / 17 ، الهداية ( الصدوق ) : 133.
8- الكافي 3 : 69 / 2 ، وفيه : « افتتاح » بدل : « مفتاح ».
9- بحار الأنوار 82 : 303 / 6 ، مناقب آل أبي طالب 4 : 143 ، بتفاوت.

ما افتتاح الصلاة؟ قال : ( الطهور ). ويمكن أن يكون ما هنا صواباً ، وأراد بافتتاحها أوّلها.

وفي ( المناهج ) : إن الصدوق (1) : والشيخ (2) : والمرتضى (3) : رووا عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : مرسلاً أنه قال مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم.

قال في ( المنتهى ) : ( لا يقال : هذا خبر مرسل في طرقكم فلا يُعملُ به ؛ لأنا نقول : لانسلّم أنه مرسل ، فإن الأُمّة تَلَقّته بالقبول ونقله الخاصّ والعامّ ، ومثل هذا الحديث البالغ في الشهرة قد تُحذَف رواتُه اعتماداً على شهرته. على أن الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني : رواه مسنداً ) وذكر خبر القدّاح : بسنده ، ثمّ قال : ( ولو سُلّمَ فهؤلاء الثلاثة هم العمدة في ضبط الأحاديث ، ولو لا علمهم بصحّته لما أرسلوه وحكموا بأنه من قوله عليه السلام ) (4) ، انتهى.

والظاهر أن أميرَ المؤمنين : راوٍ لَهُ عن الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، فصواب العبارة أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى آخره.

قال في ( الذكرى ) : ( ومَنْ نصر الأخير استدلّ بما رواه أمير المؤمنين عليه السلام : عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أنه قال .. ) (5). وذكر الخبر. ولكن هكذا في نسخة ( المناهج ) التي نقلتُ منها ، وليس معنا غيرها ، وظاهرُها أنها بخطّ مصنّفها ، ولا يعصم من السهو إلّا المعصوم ، واللّه العالم بحقيقة الحال.

ووجه الاستدلال بهذا الخبر المستفيض من وجهين :

أحدهما : أنه جعل التسليم في آخر الصلاة بمثابة التكبير في أوّلها ، والتكبيرُ واجبٌ داخلٌ لا نعلم فيه خلافاً لا فتوًى ولا نصّاً ، فالتسليم مثله ، فكما أن تحريمها

ص: 19


1- الفقيه 1 : 23 / 68 ، وفيه : « افتتاح الصلاة الوضوء » بدل : « مفتاح الصلاة الطهور ».
2- الخلاف 1 : 377 / المسألة : 134.
3- الناصريّات : 211 / المسألة : 82.
4- منتهى المطلب 1 : 295.
5- الذكرى : 207 ( حجريّ ).

طرفها الأوّل ، فتحليلها طرفُها الآخرُ.

الثاني : حمل التسليم على التحليل ، وهو يقتضي حصر التحليل فيه ؛ لعدم جواز أن يُحمل الأخصّ على الأعمّ إلّا بطريق المجاز والمبالغة ، فلو كان مندوباً لجاز الخروج بغيره ضرورة جواز ترك المندوب.

وقال فاضل ( المناهج ): ( الروايتان الأُوليان تدلّان على انحصار تحليلها فيه من وجهين :

الأوّل : أن المصدر المضاف إلى المعرفة يُفيدُ العمومَ ، فيفيد أن كلّ تحليل للصلاة فهو التسليم ، أي حاصلٌ به ، وفي حمله عليه مبالغة في الانحصار ، كما لا يخفى.

والثاني : تقديم التحليل ، فإنه لا يخلو ؛ إمّا أن يكونَ المرادُ بهذا الكلام الإخبارَ عن التحليل بكونه تسليماً ، على ما تقتضيه الأُصول من وجوب تقديم المبتدأ فيما إذا كانا معرفتين ، فيكون التسليم خبراً ، والخبر ؛ إمّا مساوٍ للمُخْبَرِ عنه ، أو أعمّ.

أو يكون المرادُ الإخبار عن التسليم بأنه تحليلٌ للصلاة ، فيكون المسند قد قُدّم ، وهو يفيد الحصر ، مع أن حمل المفرد على المفرد يقتضي تساويهما في الصدق.

أو يكون المراد تفسير التحليل ، فيفيد أن ماهيّة التحليل هي التسليم ، وهو أفيدُ للحصر ) ، انتهى.

وقال فخر المحقّقين : ( وهو الصحيح عندي يعني : وجوب التسليم لقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم.

وذلك يقتضي الحصر ، ولأنه صلى اللّه عليه وآله كان يخرج من الصلاة بهِ لا بغيره ) (1) ، فجزم بنسبة الخبر له صلى اللّه عليه وآله ، وأنه لا يخرج إلّا بالتسليم.

الرابع عشر : صحيح عليّ بن جعفر : قال : ( رأيت إخوتي موسى : وإسحاق : محمّداً : أبناء جعفر عليه السلام : يسلّمون في الصلاة على اليمين والشمال السلام عليكم ورحمة اللّه ،

ص: 20


1- إيضاح الفوائد : 115 - 116.

والسلام عليكم ورحمة اللّه ) (1). وجه الدلالة : أن الأصلَ في فعل المعصوم المقصود به القربة الوجوبُ ، خصوصاً في الصلاة.

الخامس عشر : ورود الأمر به في أخبار كثيرة ، والأمر للوجوب.

منها : صحيح الحلبي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال إذا لم تدرِ أربعاً صلّيت [ أم ] (2) خمساً ، أَمْ نقصت أَمْ زدت ، فتشهّد وسلم (3) الخبر.

ومنها : صحيح سليمان بن خالد : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل نسي أن يجلس في الركعتين الأُوليين ، فقال إنْ ذكر قبل أن يركع فليجلس ، وإن لم يذكر حتّى يركع فليتمَّ الصلاة ، حتّى إذا فرغ فليسلِّم (4) الخبر.

وصحيح ابن أبي يعفور : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل صلّى الركعتين من المكتوبة ، [ فلا (5) ] يجلس فيها حتّى يركع ، فقال يتمّ صلاته ، ثمّ يسلّم (6) الخبر.

وصحيح محمّد بن مسلم : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل صلّى ركعتين ولا يدري ركعتين هي أو أربع قال يسلّم ، ثمّ يقوم فيصلّي ركعتين (7) الخبر.

وصحيح عبد اللّه الحلبي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الرجل خلف الإمام فيطيل الإمام التشهّد ، فقال يسلّم مَن خلفه ، ويمضي في حاجته إن أحبَّ (8).

ص: 21


1- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 2.
2- في المخطوط : ( أو ) ، وما أثبتناه من المصدر.
3- تهذيب الأحكام 2 : 196 / 772 ، الإستبصار 1 : 380 / 1441 ، وسائل الشيعة 8 : 224 - 225 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 14 ، ح 4.
4- تهذيب الأحكام 2 : 158 / 618 ، الإستبصار 1 : 362 / 1374 ، وسائل الشيعة 6 : 402 ، أبواب التشهّد ، ب 7 ، ح 3.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( فلم ).
6- تهذيب الأحكام 2 : 158 / 620 ، الإستبصار 1 : 363 / 1375 ، وسائل الشيعة 6 : 402 ، أبواب التشهّد ، ب 7 ، ح 4.
7- تهذيب الأحكام 2 : 185 / 737 ، الإستبصار 1 : 372 / 1414 ، وسائل الشيعة 8 : 221 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 11 ، ح 6.
8- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1299.

وحسنة ابن أبي عمير : عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في رجل صلّى فلم يدرِ اثنتين صلّى أم ثلاثاً أم أربعاً؟ قال يقوم فيصلّي ركعتين من قيام ويسلّم ، ثمّ يصلّي ركعتين من جلوس ويسلّم (1) الخبر.

وحسنة زرارة : عن أبي جعفر عليه السلام : في حديث طويل قال فيه وإن كنت قد صلّيت العشاء الآخرة ونسيت المغرب ، فقم فصلِّ المغرب ، وإن كنت ذكرتها وقد صلّيت من العشاء الآخرة ركعتين أو ثلاثاً فانوها المغرب ثمّ سلّم (2) الخبر.

وحَسَن زرارة : عن أحدهما عليهما السلام ، قلت له : رجل لا يدري أواحدة صلّى أم اثنتين؟ قال يعيد ، قلت : رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثاً؟ قال إن دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ، ثمّ صلّى الأُخرى ولا شي ء عليه ، ويسلّم (3).

وموثّقة أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا لم تدرِ أربعاً صلّيت أم ركعتين ، فقم واركع ركعتين ، ثمّ سلّم واسجد سجدتين وأنت جالس ، ثم تسلّم بعدهما (4).

وموثّقة عمّار بن موسى : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل صلّى [ ثلاث ] (5) ركعات وهو يظن أنها أربع قال يبني على صلاته متى ما ذكر ، ويصلّي ركعة ويتشهّد ويسلّم (6) الخبر.

ومنها : ما في ( المعتبر ) نقلاً من جامع البزنطي : عن عبد الكريم : عن أبي بصير : قال

ص: 22


1- الكافي 3 : 353 / 6 ، التهذيب 2 : 187 / 742 ، وسائل الشيعة 8 : 223 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 13 ، ح 4.
2- الكافي 3 : 291 - 292 / 1 ، تهذيب الأحكام 3 : 158 - 159 / 340 ، وسائل الشيعة 4 : 290 - 291 ، أبواب المواقيت ، ب 63 ، ح 1.
3- الكافي 3 : 350 / 3 ، تهذيب الأحكام 2 : 192 / 759 ، وسائل الشيعة 8 : 189 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 1 ، ح 6 ، وأيضاً 8 : 214 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 9 ، ح 1.
4- تهذيب الأحكام 2 : 185 / 738 ، وسائل الشيعة 8 : 221 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 11 ، ح 8.
5- من المصدر.
6- تهذيب الأحكام 2 : 353 - 354 / 1466 ، وسائل الشيعة 8 : 203 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 3 ، ح 14.

قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا كنت وحدك فسلّم تسليمةً واحدةً عن يمينك (1).

وما في ( البحار ) نقلاً من ( المعتبر ) ، و ( المنتهى ) ، و ( التذكرة ) ، نقلاً من جامع البزنطي عن عبد اللّه بن أبي يعفور : سألت أبا عبد اللّه : عن تسليم الإمام وهو مستقبل القبلة قال يقول : السلام عليكم (2).

وفيه نقلاً من ( دعائم الإسلام ) عن جعفر بن محمَّد عليهما السلام : قال فإذا قضيت التشهّد فسلّم عن يمينك وعن شمالك ، تقول : السلام عليكم ورحمة اللّه ، السلام عليكم ورحمة اللّه (3).

وبالجملة ، فالأخبار الآمرة بالتسليم آخر الصلاة أكثر من أن أُحصيها ، ومدلولُ الأمر الوجوبُ ، فيحتاج القائلُ بالاستحباب إلى دليلٍ يقاومُها ، ولا دليل.

السادس عشر : ما رواه الصدوق : في ( العلل ) بسنده عن المفضّل بن عمر : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن العلّة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة قال لأنه تحليل للصلاة الخبر.

إلى أن قال : قلت : فَلِمَ صار تحليل الصلاة التسليم؟ قال لأنه تحيّة المَلَكَينِ ، وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة للعبد من النار (4) الخبر.

وفيه من الدلالة ما لا يخفى ، بل ظاهره أن المعروف بين أصحاب الأئمّة عليهم السلام هو الوجوب ، حيث وقع السؤال عن علّة وجوب التسليم.

السابع عشر : ما رواه الصدوق : في ( معاني الأخبار ) بسنده عن عبد اللّه بن الفضل الهاشميّ : قال : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن معنى التسليم في الصلاة ، فقال التسليم علامة الأمن ، وتحليل للصلاة ، قلت : وكيف ذلك جعلت فداك؟ قال كان الناس فيما مضى إذا سلّم عليهم واردٌ أمِنُوا شرَّهُ ، وكانوا إذا ردّوا عليه أمِنَ شرَّهم ، وإن لم يسلّم لم يأمنوه ، وإن لم

ص: 23


1- المعتبر 2 : 237.
2- بحار الأنوار 82 : 302 / 4 ، المعتبر 2 : 236 ، منتهى المطلب 1 : 296 - 297 ، تذكرة الفقهاء 3 : 246.
3- بحار الأنوار 82 : 308 / 14 ، دعائم الإسلام 1 : 215.
4- علل الشرائع 2 : 57 - 58 / 1.

يردّوا على المُسَلِّم لم يأمنهم ، وذلك خُلُقٌ في العرب ، فجعل التسليم [ علامة (1) ] للخروج من الصلاة ، وتحليلاً للكلام ، وأمناً مِنْ أنْ يدخل في الصلاة ما يفسدها (2).

وجه الدلالة فيه من ثلاثة أوجه :

أحدها : نصّه أنه تحليل الصلاة ، وقد مضى وجه دلالته.

الثاني : أنه دلّ على أنه إذا وقع قبله شي ء من مفسدات الصلاة بطلت ، وبعده لا تبطل.

الثالث : ما قرّره فاضل ( المناهج ) : بعد أن أورد هذه الرواية ، ورواية علل الصدوق : المتقدّمة (3) ، وما رواه الفضل بن شاذان : من ( العلل ) ، حيث قال فإنْ قال : فلِمَ جعل التسليم تحليلَ الصلاة ولم يجعل بدله تكبيراً أو تسبيحاً أو ضرباً آخر؟ قيل : لأنه لمّا كان في الدخول في الصلاة تحريمُ الكلام للمخلوقين والتوجّه إلى الخالق ، كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها ، وابتداء المخلوقين بالكلام إنما هو بالتسليم (4).

قال رحمه اللّه : ( وجه دلالة الروايات مع تصريح رواية المفضّل بالوجوب ، أنها دلّت صريحاً على أن التسليم علّة لانحلال الصلاة والخروج منها وحليّة ما ينافيها ، والمعلولُ عدمٌ عند عدم علّتهِ ، الّا أن يتيقّن أنه يخلف بدلها علّة أُخرى ، لكن لا يتيقّن هنا ، فتعيّن ألّا يتحقّق الخروج من الصلاة إلّا به ) ، انتهى.

وهو حسن ، لكن دلالة خبر علل الفضل على العلّية فيه تأمّل.

الثامن عشر : صحيح زرارة : ومحمّد بن مسلم : ، قالا : قلنا لأبي جعفر عليه السلام : رجل صلّى في السفر أربعاً أيُعيدُ؟ قال إن كان قُرئتْ عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعادَ ، وإن لم يكن قُرِئتْ عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه (5).

ص: 24


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( علّة ).
2- معاني الأخبار : 175 - 176 ، وسائل الشيعة 6 : 418 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 13.
3- علل الشرائع 2 : 57 / 1 ، وسائل الشيعة 6 : 417 - 418 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 11.
4- علل الشرائع 1 : 305 / 9 ، وسائل الشيعة 6 : 417 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 10.
5- تهذيب الأحكام 3 : 226 / 571 ، وسائل الشيعة 8 : 506 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 17 ، ح 4.

وهذا الخبر هو عمدة العصابة في صحّة صلاة المسافر تماماً إذا كان جاهلاً بحكم التقصير ، ولو كان التسليم مندوباً لَمَا بطلت صلاة العالِم بالتقصير لو أتمّ ؛ لوقوع الزيادة خارج الصلاة.

التاسع عشر : موثّق أبي بصير : قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : يقول في رجل صلّى الصبح ، فلمّا جلس في الركعتين قبل أن يتشهّد رعف قال فليخرج فليغسل أنفه ، ثمّ ليرجع فليتمّ صلاته ، فإنّ آخر الصلاة التسليم (1).

العشرون : ظاهرُ النصّ (2) والفتوى (3) بلا معارض عدمُ مشروعيّة صلاة الاحتياط قبل التسليم ، ولو كان مندوباً لشرع قبله ، ولا دليل على مشروعيّته قبله.

الحادي والعشرون : الظاهرُ أيضاً من النصّ (4) والفتوى (5) عدمُ مشروعيّة سجدتي السهو قبل التسليم ، وأن فعلهما قبله إنما هو مذهب العامّة (6) ، ولو كان مستحبّاً لَشَرعتا قبله بلا نكير ، وليس كذلك.

الثاني والعشرون : يلزم القولَ بالاستحباب ؛ إمّا موافقةُ أبي حنيفة : في القول بجواز الخروج من الصلاة بكلّ مُنَافٍ (7) ، أو القولُ بتعيّن الخروج بآخِرِ واجبٍ منها ، ولا قائل بشي ء منهما ، ولا دليل عليه ، بل الإجماع قائم على نفيهما وعلى وجوب الخروج منها كما قام على وجوب الدخول فيها ، فتعيّن القول بوجوب التسليم وانحصار المُخْرِجِ فيه.

ص: 25


1- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1307 ، الإستبصار 1 : 345 / 1302 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 4.
2- الكافي 3 : 352 / 4 ، تهذيب الأحكام 2 : 186 / 739.
3- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 146 ، النهاية : 90 - 91.
4- الفقيه 1 : 225 / 994 ، تهذيب الأحكام 2 : 195 / 768 ، الإستبصار 1 : 380 / 1438 ، وسائل الشيعة 8 : 208 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 5 ، ح 3.
5- رسائل الشريف المرتضى 3 : 37 ، المبسوط 1 : 125.
6- المغني 2 : 22 - 23 ، عمدة القارئ 7 : 301.
7- المجموع شرح المهذّب 3 : 462.

الثالث والعشرون : استقرّ المذهب بلا خلاف يُعْلمُ ودلّت الأخبار على عدم مشروعيّة قضاء السجدة المنسيّة والتشهّد المنسيّ قبل التسليم (1) ، ويلزمه وجوبُه ؛ إذ لو كان مندوباً لشرع ذلك قبله.

الرابع والعشرون : موثّقة عمّار بن موسى : سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن التسليم ما هو؟ فقال إذنٌ (2).

قال الشيخ بهاء الدين : ( فإن حكمه عليه السلام بأن التسليمَ إذْنٌ يعطي بظاهره عدم جواز الخروج من الصلاة بدون الإذْنِ ) (3).

قلت : ويعطي أيضاً بظاهره أنه بوقوعه تتحقّق الرخصة في العمل المنافي ، وبه يتحقّق انقطاع القدوة من المأموم ، وأنه به أُذِنَ للمأموم في مفارقة الإمام.

وقد أطال البهائي رحمه اللّه : في الاستدلال للقول بالوجوب ، ولننقل ملخّصاً من عبارته لحسنه وكلّ بحثه هنا حسن قال رحمه اللّه : ( والذي يظهر لي أن القولَ بالوجوب أقربُ. لنا : ما تضمّنه الحديث الثالث يعني : صحيح زرارة : وابن مسلم (4) : من إعادة المسافر إذا صلّى أربعاً ، ومعلوم أن ذلك للزيادة في الصلاة ، ولو كان التسليم مستحبّاً لانقطعت بإتمام التشهّد فلم يحصل الزيادة فيها ، والحملُ على ما إذا نوى الأربع ابتداءً فالفسادُ سابقٌ لا لاحقٌ بعيدٌ مخالفٌ لإطلاق الحديث ، فإن منعوا انقطاع الصلاة ركوناً إلى أن التسليم من أجزائها المستحبّة نقضوا ما هو عمدتهم في الاستدلال على استحبابه ، أعني : ما تضمّنه الحديث العاشر من صحّة صلاة من أحدث قبل التسليم ، فكفونا مؤنة الكلام فيه ) (5).

ثمّ أخذ يستدلّ بالأخبار الآمرة بالتسليم وبأخبار صلاة الخوف ، فإن وقوع

ص: 26


1- الكافي 3 : 357 / 8 ، تهذيب الأحكام 2 : 344 / 1429 ، وسائل الشيعة 6 : 406 ، أبواب التشهّد ، ب 9 ، ح 3.
2- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1296 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 7.
3- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 255 ( حجريّ ).
4- تهذيب الأحكام 3 : 226 / 571 ، وسائل الشيعة 8 : 506 ، أبواب صلاة المسافر ، ب 17 ، ح 4.
5- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 255 ( حجريّ ).

التسليم فيها مع ضيق الحال والاضطرار - [ راجع ] إلى مراعاة التخفيف بترك بعض الواجبات التي يسوغ تركها للضرورة كالسورة ، فضلاً عن المندوبات.

قال رحمه اللّه : ( ولنا أيضاً ما تضمّنه الحديث [ السادس (1) ] والسابع والثامن والتاسع ، فإن الخبر فيها بمعنى الأمر ، ودلالة الثامن أبلغ ، فإن أمرَهُم بالتسليم في ذلك الوقت يعني : وقت الحرب ومناجزة العدو المناسب للتخفيف ظاهرٌ في المراد ).

إلى أن قال : ( وفي الحديث الخامس والعشرين يعني موثّقة أبي بصير : السابقة (2) دلالة على الجزئيّة ، فإن قالوا بها لزم نقض الحديث العاشر ، كما قلناه في الثالث ). يعني بالعاشر الخبر الدالّ على صحّة صلاة من أحدث قبل التسليم (3) ، فإن الجزئيّة تنافي الصحّة حينئذٍ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ولنا أيضاً ما رواه الشيخ : وابن بابويه : والمرتضى : عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (4) ، وقد وقع التسليم خبراً عن التحليل ، والخبر ؛ إمّا مساوٍ للمبتدإ ، أو أعمّ منه ، فلو حصل التحليل بغير التسليم للزم الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ ، على أن المصدر المضاف يفيد العموم ، فيستفاد من الخبر أن كلّ محلّلٍ تسليمٌ.

وأُورِدَ عليه أنه خبر مرسل فلا يجوز التعويل عليه في إثبات الأحكام الشرعيّة.

وذبّ عنه العلّامة : في ( المنتهى ) (5) بأن الأُمّة تلقّته بالقبول ونقله الخاصّ والعامّ ، وما هو بهذه المثابة من الشهرة قد تحذف رواته اعتماداً على شهرته ، وهؤلاء

ص: 27


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الثالث ).
2- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1307 ، الإستبصار 1 : 345 / 1302 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 4.
3- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1306 ، الإستبصار 1 : 345 / 1301 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 2.
4- الخلاف 1 : 377 / المسألة : 134 ، الفقيه 1 : 23 / 68 ، الناصريّات : 211 / المسألة : 82.
5- منتهى المطلب 1 : 295.

المشايخ الثلاثة هم العمدة في ضبط الأحاديث ، ولو لا علمهم بصحّته لما أرسلوه وحكموا بأنه من قوله صلى اللّه عليه وآله. هذا ملخّص كلامه.

وقد يؤيّد أيضاً بأن مذهب السيّد في العمل بأخبار الآحاد معروف ، فلو لم يكن اشتهار هذا الحديث في زمنه بالغاً حدّا يخرجه عن تلك المرتبة لم يحسن تعويله عليه ، فتأمّل.

ولنا أيضاً مواظبة النبيّ صلى اللّه عليه وآله : على الخروج به من الصلاة ، بحيث لم ينقل إلينا خروجه بغيره أصلاً ، وقد قال صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أُصلّي (1) ، ومواظبة أئمّتنا سلام اللّه عليهم عليه ، فقد قال الصادق عليه السلام : بعد الإتيان به يا حمّاد : ، هكذا صلِّ (2) ، خرج ما عداه ممّا علم استحبابه بدليل خاصّ ، فبقي الباقي.

وكذا مواظبة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ، حتّى ادّعى بعض علمائنا : ( إن قول سلف الأُمّة السلام عليكم عقيب الصلاة داخل في ضروريّات الدين ) (3).

ولنا أيضاً أحاديث متكثّرة سوى ما مرّ متضمّنة للأمر بالسلام ، وبعضها لا يخلو من اعتبار ، كما رواه أبو بكر الحضرمي : قال : قلت له : أُصلّي بقوم ، فقال سلّم واحدة ولا تلتفت ، قل : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السلام عليكم (4) ) (5). ثمّ ذكر جملة من الأخبار الآمرة بالتسليم ، مثل خبر الحسين بن أبي العلاء (6) : ، وخبر ابن أبي يعفور (7) : ، وخبر عبد الرحمن بن سيّابة : وأبي العباس (8).

ص: 28


1- عوالي اللآلي 1 : 197 - 198 / 8 ، مسند أحمد بن حنبل 5 : 53.
2- الكافي 3 : 311 - 312 / 8 ، الأمالي ( الصدوق ) : 337 - 338 / 13 ، تهذيب الأحكام 2 : 81 - 82 / 301 ، وسائل الشيعة 5 : 461 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1 ، ح 2.
3- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
4- تهذيب الأحكام 3 : 48 / 168.
5- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 255 - 256 ( حجريّ ).
6- تهذيب الأحكام 2 : 159 / 623 ، وسائل الشيعة 6 : 403 ، أبواب التشهّد ، ب 7 ، ح 5.
7- تهذيب الأحكام 2 : 156 / 609 ، الإستبصار 1 : 360 / 1366 ، وسائل الشيعة 6 : 370 ، أبواب السجود ، ب 16 ، ح 1.
8- الكافي 3 : 353 / 7 ، وسائل الشيعة 8 : 211 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 7 ، ح 1.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( والروايات في هذا الباب كثيرة جدّاً ، وقد يستدلّ أيضاً بأن شيئاً من التسليم واجبٌ ، ولا شي ءَ من التسليم في غير الصلاة بواجبٍ ، فشي ءٌ منه واجب في الصلاة.

أمّا الصغرى فلقوله تعالى : ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) ، وأمّا الكبرى فبالإجماع.

وهذا الدليل ممّا أورده العلّامة (2) : وغيره ، وهو مشهور على ألسنة القائلين بوجوب التسليم ) (3) ، انتهى كلامه ، زِيدَ عُلاه وإعظامه.

واستدلّ في ( الذكرى ) بجملة من الأخبار المذكورة ، وبما روي عن ابن مسعود : قال : ( ما نسيت من الأشياء فلم أنسَ تسليم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : في الصلاة عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة اللّه ). وبما روت عائشة أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : كانت له في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه.

وممّا استدل به أيضاً بعد هذا ما قال : ( ويستدلّ على أصحابنا بأنه قد ثبت بلا خلاف وجوب الخروج من الصلاة كما ثبت وجوب الدخول فيها ، فإن لم يقف الخروج منها على السلام دون غيره جاز أن يخرج بغيره من الأفعال المنافية للصلاة كما يقول أبو حنيفة : ، وأصحابنا لا يجيزون ذلك ، فثبت وجوب التسليم ) (4).

وهذا قد مضى نقله ، وإنما أعدناهُ لربط ما بعده به ، وهذا في غاية القوّة ، رفع اللّه درجاته.

واستدلّ أيضاً بعدّة وجوه : كملازمة أهل بيت النبوّة صلوات اللّه عليهم عليه وكذا الصحابة ، وجملة السلف ، وبجملة من الأخبار.

ص: 29


1- الأحزاب : 56.
2- منتهى المطلب 1 : 295.
3- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 256 ( حجريّ ).
4- الذكرى : 205 ( حجريّ ).

ص: 30

القول بالاستحباب وردّه

وأجاب القائلون بالاستحباب عن الاستدلال ب- : ( أن شيئاً من التسليم واجب ) (1) إلى آخره. بأن ظاهر الآية (2) أن المراد منه التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، وهو ليس بواجبٍ عيناً لا في الصلاة ، ولا في غيرها بالإجماع. كذا قال فاضل ( المناهج ).

والجوابُ ما مرّ إن كان المستند في هذا للرواية ، وإن كان لمجرّد دعوى الظاهريّة منعنا أنه ظاهرها ، ولو سلّم فالجواب عنه ما أفاده فاضل ( المناهج ): ، حيث قال رحمه اللّه تعالى ، بعد أن ذكر هذا الجواب - : ( ولا يخفى ما فيه ، فإنه لا يضرّ المستدلّ ، فإنه يقول : لمّا كان ظاهر الأمر الوجوب لزم الحمل عليه ما لم يدلّ على إرادة غيره منه دليلٌ ، فلا بدّ مِنْ ألّا يحمل على السلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ؛ لئلّا يلزم وجوبُه الذي اعترفتم بالإجماع على نفيه ).

وهو جليل جميل ، لكنّه قال رحمه اللّه بعد هذا : ( بل الجواب أنا لا نسلّم أن المراد التلفّظ بلفظ السلام ، بل الاستسلام له ، والانقياد إليه ، وإطاعته فيما يأمر وينهى. وقد روى أبو بصير : عن الصادق صلوات اللّه عليه - : إنّ المراد به التسليم للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : في الأُمور (3) ، أو لا نسلّم أنه لا شي ء منه بواجب في غير الصلاة ، ولِمَ لا يجوز أن يكون قد كان واجباً في حياته صلى اللّه عليه وآله ، وإن كان مرّة واحدة؟! ) انتهى.

أقول : سياق الآية وعطفه على ( صَلُّوا عَلَيْهِ ) (4) المرادُ به التلفّظ بالنصّ (5)

ص: 31


1- الحبل المتين : 256.
2- الأحزاب : 56.
3- بحار الأنوار 2 : 200 / 64 ، بتفاوت.
4- الأحزاب : 56.
5- ثواب الأعمال : 187 / 1.

والإجماع يقتضي إرادة التلفّظ بلفظه كالمعطوف عليه بلا شكّ ولا غبار عليه ، وما ورد من تفسيرها (1) بالتسليم له والانقياد أمراً ونهياً لا ينافي الظاهر من الآية.

فالقرآن الكريم له بطون إلى سبعين بطناً ، وتأويل وتنزيل ، وظاهر وباطن ، وله تخوم ، ولتخومه تخوم ، وكلّ بطن يختصّ التكليف به برتبة من رتب الوجود لا يجوز تكليف ما دونها به ، فإنه لا يجوز أن يكلّف مَنْ في الدرجة الأُولى مِنْ دُرَج الإيمان بتكاليف مَنْ هو في الدرجة الثانية ، وهكذا صعوداً ، فإنه يستلزم ألّا يتحقّق وصف الإيمان إلّا في أهل العصمة ، بل في خصوص أهل بيت محمَّد صلى اللّه عليه وآله.

ولو كان ما ذكره ينافي الاستدلال بظاهر الأمر لم يتمّ أن هذا معناها ، ولا أمكن الاستدلال بها على وجوب الانقياد والتسليم لأمره ونهيه ؛ لأنه قد ورد في معناها غير هذا.

ففي ( القمّي ) : ( قوله ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) يعني : سلّموا له وبالولاية وبما جاء به ) (2).

وفي ( الاحتجاج ) عن أمير المؤمنين عليه السلام : [ و (3) ] لهذه الآية ظاهر وباطن ، فالظاهر قوله ( صَلُّوا عَلَيْهِ ) ، والباطن قوله ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) أي سلّموا لمن وصّاه واستخلفه عليكم ، فضّله وعهد به إليه تسليماً (4) ، وغير ذلك ممّا ورد في معناها.

على أنه قد ورد تفسيرها بالتلفّظ بالتسليم عليه ، ففي ( ثواب الأعمال ) عن الكاظم عليه السلام : في حديث طويل في هذه الآية أنه قال وأمّا قوله عزوجل ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (5) يعني : التسليم فيما ورد عنه.

قيل : فكيف نصلّي على محمّد : وآله؟ قال تقولون : صلوات اللّه وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع خلقه على محمّد وآل محمّد ،

ص: 32


1- مجمع البيان 8 : 479.
2- تفسير القمّي 2 : 196.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( إنّ ).
4- الاحتجاج 1 : 597.
5- الأحزاب : 56.

والسلام عليه وعليهم ورحمة اللّه وبركاته (1) الخبر.

والأخبار بإرادة التلفّظ بالتسليم عليه كثيرة ، مثل ما تكرّر في الأخبار من قول الصحابة : ( عرفنا التسليم عليك ، فكيف الصلاة عليك؟ ) (2). ممّا دلّ على أنهم إنما فهموا منها التسليم عليه باللفظ.

هذا ، والحقّ أن ظاهر سياق الآية إنما يدلّ على التسليم عليه ؛ لأنه مقتضى العطف ، لكن لقائلٍ أن يقول : إن التسليم في الصلاة داخل في ظاهر السياق ، بدليل النصّ (3) والفتوى (4) ، بأن المصلّي يقصد بسلامه محمّداً : وآله صلّى اللّه عليه وعليهم ولا ينافيه جواز قصد غيرهم معهم كالملائكة أو الأنبياء أو الجماعة أو الملكين. وبهذهِ الملاحظة يتمّ هذا الاستدلال.

وأمّا احتمال وجوبه في حياته ولو مرّة فكما ترى ؛ لعدم الدليل عليه ، ولأنه ربّما أفضى إلى النسخ بعد موته ، واللّه العالم.

وأورد الشيخ بهاء الدين : على هذا الدليل ما صورته قال بعد أن ذكره : ( فإن قلت : حدّ الأوسط في هذا القياس إن كان لفظ ( واجباً ) ليكون ضرباً ثالثاً من الشكل الثاني ، لم يستقم ؛ لأن النتيجة فيه موجبة ، وهذا لا يكون في شي ء من ضروب الشكل الثاني.

وإن كان ( شي ء من التسليم ) ليكون ضرباً خامساً من الشكل الثالث ، فكذلك أيضاً ؛ لأن نتيجة هذا الضرب سالبة جزئيّة ، على أن الباقي من هذا القياس بعد إسقاط الحدّ الأوسط ليس هو الأوسط ، بل هو عنه بمراحل.

وبالجملة ، فهو قياس مختلّ ؛ إذ ليس على وتيرة شي ء من الإشكال الأربعة ).

ص: 33


1- ما ورد في ثواب الأعمال عن الكاظم عليه السلام يختلف عمّا في المتن. نعم ، ورد بهذا النصّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام في معاني الأخبار. راجع : ثواب الأعمال :1. 188 / 1 ، معاني الأخبار : 367 - 368 / 1.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 236.
3- وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8 ، 9.
4- المبسوط 1 : 116.

وأجاب عنه بما لفظه : ( قلت : خروجه عن وتيرة الأشكال الأربعة لا يوجب خلله إلّا إذا لم يستلزم النتيجة ، والاستلزام هنا ظاهر ، فإنه إذا ثبت وجوب التسليم وثبت عدم وجوبه في حال من الأحوال في غير الصلاة ، لزم وجوبه فيها البتّة.

وكم قياس ليس على النمط المألوف في الأشكال الأربعة بتغييرٍ ما في الحدّ الأوسط أو ما شابه ذلك وهو منتج ، نحو قولنا : زيد مقتول بالسيف ، والسيف آلة حديديّة ، فإنه ينتج بأنه مقتول بآلة حديديّة.

بل ربّما لا يوجد الحدّ الأوسط أصلاً ويلزم عنه قول ثالث ، نحو قولنا : كلّ ممكن حادث ، وكلّ واجب قديم ، فإنه يلزم منه لا شي ء من الممكن بواجب ) (1).

قلت : وقال هو رحمه اللّه في حواشي ( الحبل ) : ( لا يخفى أن هذا الكلام يعني : الاعتراض بأن هذا خارج عن أُسلوب الأشكال الأربعة إنما يتّجه إذا تألّف الدليل على هيئة القياس الاقتراني ، وأمّا لو أُلّف على هيئة القياس الاستثنائي لم يتّجه هذا الكلام. كأن يقال : التسليم إمّا واجب في الصلاة أو في غيرها ، لكنّه في غير الصلاة غير واجب ، فهو واجب في الصلاة ) (2) ، انتهى.

وأقول : هو في غنًى عن هذه التكلّفات ، فإن الدلالة غير منحصرة في القياس الاقتراني ولا الاستثنائي ، فالملزوم يدلّ على اللازم ، وبالعكس أيضاً بالنظر الدقيق ؛ لأنا لا نقول بجواز أعميّة اللازم كما هو الشائع في ألسنة أقلّاء أهل النظر ، وإن كان كلامهم حقّا بوجه ، وليس هنا محلّ بيانه. والعلّة تدلّ على المعلول ، وبالعكس في وجه صحيح ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3) ، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

فيكفيه في الاستدلال أن يقول : ثبت وجوب التسليم بمقتضى الأمر ، ولا قائل بوجوب التسليم عيناً في غير الصلاة ، فثبت وجوبه في الصلاة ، وإلّا لزم ؛ إمّا خرق

ص: 34


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 256 ( حجريّ ).
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 256 ( حجريّ ).
3- البقرة : 286.

الإجماع ومخالفته ، أو مخالفة أمر الكتاب بلا دليل.

وقد أجاب العلّامة : في ( المختلف ) عن هذا الدليل بمنع كون الأمر في الآية للوجوب ، وعلى فرض تسليمه نمنع اقتضاءه التكرار ، فيكفي المرّة ، وعلى فرض تسليم اقتضائه التكرار نمنع اقتضاءه وجوب ما يدّعونه من تسليم الصلاة ؛ لأن المأمور به هو التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، وهو غير تسليم الصلاة ، فما تدلّ عليه الآية لا يقولون به ، وما يقولون به لا تدلّ عليه الآية (1). هذا حاصل كلامه.

قال البهائي : ( وناقشه بعضهم : بأن كون الأمر للوجوب ممّا ثبت في الأُصول. وقد شيّد طاب ثراه أركانه في كتبه الأُصوليّة ، وبأنه متى ثبت وجوب التسليم في الصلاة مرّة ثبت التكرار ؛ إذ لا قائل بالفصل. وبأن الأمر في الآية مطلق ، وعطف المطلق على المقيّد لا يوجب تقييده ) (2) ، انتهى.

قلت : الذي يظهر من سياق الآية والأخبار الواردة في تفاسيرها أن المراد منها هو التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : وله في جميع ما جاء به عن اللّه أمراً ونهياً ، فثبت به وجوب التسليم عليه ، ولا شي ء من التسليم عليه بواجب في غير الصلاة ، فيجب أن يُعنى وآله ب- : « السلام عليكم » للإجماع على عدم وجوب السلام عليك أيّها النبيّ.

وبهذا يتمّ الغرض من الاستدلال. على أن فيما ذكرناه من الأدلّة القاطعة المتنوّعة كفاية لمرتاد الحقّ.

وأجابوا عن الخبر القائل تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (3) :

أوّلاً : بأنه مرسل ، والشهرة لا تجبره ، وروايةُ الثلاثة الذين هم العمدة لها بالنسبة إليه صلى اللّه عليه وآله على طريقة الجزم غايتهُ أن يكون مرويّاً لهم بطريق صحيح ، وربّما ظنّوا رواته عدولاً ولم يطّلعوا على جرح مَنْ هو مجروح منهم ، فلا يلزم كذبهم ، ولا

ص: 35


1- مختلف الشيعة 2 : 195 / المسألة : 109.
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 257 ( حجريّ ).
3- الكافي 3 : 69 / 2 ، الفقيه 1 : 23 / 68 ، وسائل الشيعة 6 : 417 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 8.

الاعتماد على مراسيلهم.

وثانياً : بأنه معارض بما سيأتي من الروايات.

وثالثاً : بأنه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملاً.

ورابعاً : أنه دليل الخطاب ، وهو متروك.

وخامساً : بأن دلالته على المدّعى مبنيّة على إفادةِ المصدرِ المضافِ إلى المعرفة العمومَ ، وهي ممنوعة ؛ إذ ربّما أُريد الجنس أو العهد الذهني أو الخارجي.

وسادساً : بأنه ربّما يحمل الأعمّ من وجه على الأخصّ من وجه ، كما يقال : زيد قائم.

وسابعاً : بأنه لا خفاء بأن المعنى ليس على ظاهر ما يفهم منه ، فإن التسليم ليس عين التحليل ، فلا بدّ من إضمار ، ولا دليل على تعيين المضمر ، فكما يجوز إضمار ما يدلّ على الوجوب ، كأن يقال : حاصل به ، أو نحوه ، يجوز إضمار ما يدلّ على الاستحباب ، كأن يقال : تحليلها يستحبّ أن يكون به.

والجواب عن الأوّل : أوّلاً : بأن إرساله منجبر بعمل المشهور به ، وهذه طريقة أصحابنا تنزيلهم الخبر الذي يعمل به المشهور منزلة الصحيح ، بل هو عندهم أقوى من الصحيح الذي لم يحفّ بالقرائن القويّة ، كما لا يخفى على مَنْ تتبّع كتبهم وعرف طريقتهم ، فدعوى عدم انجباره بالشهرة مكابرة في مقابلة الدليل بلا دليل.

وثانياً : بأن قطع المشايخ الثلاثة بنسبته للنبيّ صلى اللّه عليه وآله : يفيد اليقين بيقينهم بصدوره منه ، وذلك فرع ثبوته عندهم بالاستفاضة.

وثالثاً : بأن إطباق الأُمّة على روايته تخرجه من حدّ الإرسال وتلحقه بالمستفيضات.

ورابعاً : بأن مضمونه ، بل ولفظه مرويّ بطرق عديدة من طرق أصحابنا في الكتب المعتبرة كما مرّ ، وبذلك يعلم أنه من المسانيد لا من المراسيل.

وأيضاً ، تسليم أنه وصل إلى رؤساء الفرقة بطريق صحيح يخرجه من حدّ الإرسال. واحتمال ظنّهم عدالة رواته مع احتمال جرحهم ولم يطّلعوا عليه يهدم

ص: 36

أساس الاستدلال ؛ لاستلزامه عدم تيقّن صحّة خبرٍ ، ويسدّ باب العلم بأحوال الرواة ، ويبطل تقسيم الخبر إلى صحيح وغيره.

وكيف يجري هذا الاحتمال في شأن هؤلاء الثلاثة وهم رؤساء الفرقة ، والذين هم أئمّة الجرح والتعديل ، وإليهم شُدّت الرحال في معرفة أحوال الرجال ، وعليهم معوّل الطائفة في هذا الباب؟!.

وعن الثاني : بمنع مقاومة شي ء من الأخبار التي استدلّ بها القائل بالاستحباب ، وكيف تعارضه مع تأييده بما سمعت من الأدلّة القاطعة من الأخبار الكثيرة وغيرها؟! فلا مقاومة ، فلا معارضة.

وعن الثالث : بأنه ليس بخبر واحد ، بل هو مرويّ بطرق كما عرفت.

وأجاب فاضل المناهج : عن الرابع بأنك قد عرفت دلالته على المدّعى من غير طريق دليل الخطاب ، وقد مرّ بيانه من كلامه ، رفع اللّه مقامه.

وعن الخامس : بأن هذا الجواب مع ظهور عدم وروده على ما قرّرنا به الدلالة مندفعٌ عن التقرير المشهور أيضاً :

أمّا أوّلاً ، فبأن العموم هو المتبادر ، فلا بدّ في فهم غيره من قرينة.

وأمّا ثانياً ، فلأن من الظاهر أن العهد هنا غير مراد ؛ أمّا الخارجي فلأنه لا عهد خارجاً ، وأمّا الذهني فلأنه مجاز لا بدّ من قرينة على إرادته ، وليست.

فالذي يمكن أن يقال : إرادة الجنس ، وهو لا يضرّنا ، فإن حصر جنس التحليل في التسليم كافٍ لنا. وكذا تفسيره به ، ومساواته له ، أو أعمّيّته منه.

وعن السادس : بأنه فيما إذا كان المحكوم عليه والمحكوم به كلاهما معرفتين - ممنوعٌ ، إلّا مجازاً وتوسّعاً ، فإن الحمل لا معنى له إلّا الاتّحاد في الصدق والوجود ، والتعريف لا بدّ من أن يكون له فائدة ، ولا فائدة له إلّا الإشارة ؛ إمّا إلى الجنس ، أو فرد معهود منه ، أو الاستغراق.

وعلى كلّ لا يصحّ أن يكون بينهما عموم من وجه ، كما لا يخفى.

ص: 37

ويمكن جعل هذين الجوابين جواباً واحداً بأن يقال : إن الاستدلال به مبنيّ ؛ إمّا على إرادة العموم ، أو على أنه لا يمكن أن يكون بين الموضوع والمحمول عموم من وجه ، فإنه بانتفاء الأوّل يبطل الوجه الأوّل ، وبالثاني الثاني.

أقول : يريد بالجوابين المشار لهما الخامس والسادس ، وحينئذٍ فالجواب عنه إثبات الدعويين ، وقد ثبتتا بما مرّ.

ثمّ نقول : قوله : ( لا معنى للحمل إلّا الاتّحاد في الصدق والوجود ) فيه غموضٌ ، فإنه بظاهره مخالف لما أجمع عليه أهل العربية والمعاني والبيان واللسان والميزان من صحّة حمل الأعمّ على الأخصّ.

فنقول : لا منافاة بينهما ، بل كلاهما حقّ ، فإن أهل اللسان والبيان والميزان إنما يعنون عموم المحمول بحسب مفهوم اللفظ بحسب وضعه ، وهذا الفاضل عنى المحمول الخاصّ على الموضوع الخاصّ ، جزئيّاً كان كلّ منهما أو كلّيّاً.

إذ من البيّن فيما إذا قلت : زيد قائم ، أو حيوان ، أنك لم تحمل على زيد إلّا قيامه وحيوانيّته ، لظهور استحالة حمل قائميّة عمرو أو حيوانيّته على زيد ، بل إنما تحمل على الشي ء قسطه الذي يخصّه ممّا يصدق عليه مفهوم المحمول.

وقد أشار إلى هذا المعنى ابن سينا : في ( الإشارات ) (1) ، وشرّاح كلامه (2) ، لكن كلامهم فيما إذا دخلت أداة الحصر على الجملة الحمليّة ، فإنهم حكموا بأنها تفيد حينئذٍ مساواة المحمول للموضوع ، ولم يتعرّضوا لذكر غيرها.

وكذلك أشار إلى ما أشار له فاضل ( المناهج ) : [ وم ] السيّد الداماد : في حواشي ( الأُفق المبين ) ، ونسب مثله للجرجاني : ، ولسنا بصدد البحث عن هذه المسألة وبيانها ، بل بيان عبارة هذا الفاضل.

فإنك إذا تأمّلت بالنظر إلى رتب الوجود وجدت المحمول والموضوع بحسب كلّ رتبة متساويين في الصدق والوجود ، فإذا قلت : زيد حيوان ، لم يحمل عليه إلّا

ص: 38


1- شرح الإشارات 1 : 138. ( المتن ).
2- شرح الإشارات 1 : 138.

ما يخصّه في تلك الحال من مطلق الحيوانيّة ، وحين حملك عليه الحيوانيّة ليس هو إلّا حيواناً ، لأنك لا تحمل عليه الحيوانيّة إلّا حال كونه مُلاحظاً في رتبته الحيوانيّة حتّى يمكن أن يحمل عليه قسطه الذي يخصّه من الحيوانيّة العامّة ، وحينئذٍ يتساوى المحمول والموضوع ، فتأمّله فإنه يدقّ ويجلّ.

وأجاب الفاضل المذكور عن السابع ب- ( أنك خبير باندفاعه ، فإن هذه العبارة شائعة بين أهل اللسان فيما يراد به المبالغة في التلازم بين الشيئين ، حتّى كاد لا يفتقر إلى إضمار شي ء ، ولا يكاد يفهم منه إلّا إنه حاصل به ، أو ملازم له ، ونحو ذلك ممّا يؤدّي مؤدّاه ، إلّا إذا كانت قرينة صارفة عن إرادة هذا المعنى.

وأيضاً الإضمار لا يصحّ من البليغ إلّا إذا كانت هناك قرينة تدلّ على المضمر ، فإذا لم تكن قرينة حاليّة أو مقاليّة عليه كما هنا تعيّن تقدير أعمّ العوام ، وهو هنا الحصول ونحوه ، على أنه يمكن أن يقال : إن ما قبله قرينة على إرادة هذا المعنى.

وبالجملة ، فإن اعتُمِدَ على هذا الخبر كانت دلالته على وجوب التسليم أوضح من أن تتطرّق إليه شبهة ) ، انتهى.

ونحن نقول : لا ينبغي الشكّ في حجيّة هذا الخبر ووضوح دلالته ، فإنه إذا لم يعتمد على مثله ممّا أطبقت الأُمّة على روايته ولا أقلّ من أن يكون ممّا امِرْنا بالأخذ به ممّا اشتهر لم يحصل الوثوق بخبرٍ حتّى يعتمد عليه في إثبات حكم ، ومن البيّن أنه إذا لم يعتمد على مثله فَلَأنْ لَايُعْتَمد على ما استدلّ به القائلون بالاستحباب من الأخبار أوْلى.

وأجاب القائل بالاستحباب أيضاً عمّا استدلّ به المرتضى (1) : ، والشهيد : في ( الذكرى ) (2) ، وفاضل ( المناهج ) : مِنْ أن كلّ مَنْ قال بوجوب التكبير وجزئيّته قال بوجوب التسليم وجزئيّته بمنع الإجماع ، فإن كلّ مَنْ منع من وجوب التسليم

ص: 39


1- الناصريّات : 211 - 212 / المسألة : 82.
2- الذكرى : 205 ( حجريّ ).

قائل بوجوب التكبير وكونه جزءاً من الصلاة ، كما ذكره في ( المختلف ) (1) و ( المناهج ) وغيرهما.

والجواب : أن المرتضى إن أراد بهذا دعوى الإجماع فهو إجماع منقول ، وهو حجّة ولا اعتراض عليه ولا ينافي عدم ظهوره لغيره ، وإن أراد شيئاً آخر لم يرد عليه منع الإجماع ، وقد تقدّم أنه يمكن أن يريد أن كلّ دليل دلّ على وجوب التكبير دلّ على وجوب التسليم ، فإن المُدْخِلَ كالمُخْرِجِ في صفة الجزئيّة والوجوب أو الندب ، والإجماع من النصّ (2) والفتوى (3) قائم على وجوب التكبير ، فيدلّ على وجوب التسليم وإن كان هذا التوجيه بعيد من ظاهر العبارة ، على أن الدلالة لم تنحصر في هذا الدليل.

وأجابوا عن الاستدلال بمواظبة النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ونوّابه والصحابة عليه ، بأن المواظبة على فعل لا تدلّ على وجوبه ، فإن النبيّ : وخلفاءَهُ صلّى اللّه عليه وعليهم وكثيراً من الصحابة كانوا يواظبون على المندوبات كمواظبتهم على الواجبات.

وأمّا قوله صلى اللّه عليه وآله صلّوا كما رأيتموني أُصلّي (4) فنحن نقول بموجبه ، ولا يدلّ على وجوب التسليم إلّا بعد أن يتبيّن أنه جزء من الصلاة ، وهو أوّل المسألة.

وقال فاضل ( المناهج ): ( وهو مندفع بأن العبادات وهيئاتها لا شبهة في أنها لا تصحّ إلّا على الوجه الذي تُيُقّنَ إجزاؤهُ من جهة الشرع ، فإذا واظب النبيّ صلى اللّه عليه وآله : على هيئة العبادة بحيث لم يرد ولم ينقل أنه فعلها على هيئة أُخرى تعيّن فعلُها على تلك الهيئة إلى أن يتحقّق برهان قاطع على جواز غيرها من إجماع أو نصّ ، وإذا واظب على شي ء في عبادة ولم يفعله أبداً على وجه يشعر بانفصاله عنها لزم القول بجزئيّته لها إلى أن يقوم دليل على خلافها.

ومن الظاهر أنه صلى اللّه عليه وآله وكذا الأئمّة صلوات اللّه عليهم والصحابة كلّهم كانوا

ص: 40


1- المختلف 2 : 193 / المسألة : 109.
2- انظر وسائل الشيعة 6 : 9 - 16 ، أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح ، ب 1 ب 3.
3- الناصريّات : 211 / المسألة : 82.
4- عوالي اللآلي 1 : 197 - 198 / 8 ، مسند أحمد بن حنبل 5 : 53.

يواظبون على التسليم عقيب التشهّد الأخير من غير فصل بينه وبين ما قبله من أفعال الصلاة ، ولم يُرَ أحدٌ منهم ولم ينقل عنه خروجه من الصلاة قبل التسليم ، كما لم ينقل خروجه عنها بدونه. فتعيّن القول بجزئيّة التسليم للصلاة ووجوبه فيها إلى أن يقوم دليلٌ على خلافه ) ، انتهى.

وأقول : قد ثبت بالدليل المتضاعف أن ما عُلِمَ قَصْدُ المعصومِ القربةَ به من الأفعال الأصلُ فيه الوجوبُ ما لم يدلّ دليل على استحبابه ، خصوصاً الصلاة ، فقد نقل فيها الإجماع ، وليس هنا محلّ بيانه.

فلا شكّ في أن مواظبته صلى اللّه عليه وآله على فعل شي ء في الصلاة أو كيفيّةٍ في شي ء دليلُ الوجوب ، ومِنْ أوضح الأدلّة على وجوب اتّباعه في كلّ ما يواظب على فعله فيها حتّى يقوم دليل على ندبيّته أنه لولاه للزم أن يدلّ على ندبيّته ، وإلّا لزم الإغراء بالقبيح والإيقاع في خطر عدم الامتثال.

وأجابوا عن الاستدلال بأن المصلّي إذا سلّم خرج من العهدة بيقين بالمعارضة بالأصل.

والجواب : أن هذا الأصل مضمحل بالأدلّة القاطعة ، وقد عرفت جملة منها ، فلا يجوز العمل به مع منعها منه هنا ، وبأنه مُعَارَضٌ بأصالة بقاء شغل الذمّة بالعبادة.

وقال فاضل ( المناهج ) : مجيباً عن هذا بأنك خبير بأن الأصل هنا مضمحل إن لم نقل إن الأصلَ في كلّ ما واظب عليه في العبادات وجوبه ، على أنه مُعَارَضٌ بأصالة البقاء في العهدة.

وأجابوا عن بطلان صلاة المسافر بالإتمام مع العلم بوجوب القصر بعدم تسليم أن البطلان بمجرّد الزيادة ، بل إنما تبطل إذا نوى الإتمام من أوّل الصلاة ، باعتبار أنه نوى خلاف المشروع ، أمّا إذا نوى القصر ثمّ زاد سهواً أو بنيّة الزيادة بعد التشهّد الأوّل فلا تبطل عند القائلين بالاستحباب ، وإن أطلقوا فلا بدّ مِنْ أن يحمل عليه كلامهم. وهذا الجواب ذكره في ( المناهج ) ولم يجب عنه.

وجوابه : أن إطلاق الفريقين بطلان صلاة المسافر يُؤذِنُ باتّفاقهم عليه ، وهو يؤذن

ص: 41

بالإجماع ، ويؤيّده إطلاق الفقهاء في سائر الأعصار أن زيادة الركن مبطلة عمداً وسهواً وعدم معذوريّة الجاهل فيه إلّا ما خرج بدليل ، بل لا يكاد يتحقّق فيه خلاف ، ولو كان إطلاق القائلين بالاستحباب مقيّداً بما ذكر أولاً لصرّحوا به ونصّوا عليه دفعاً للغرر والاشتباه ، وإنما هذا إلزام لهم بما لا يقولون به ، وهو ينافي قولهم بالاستحباب ويناقضه.

وأيضاً ، فلنا منع بطلان الصلاة بنيّة وصلها بصلاة بعد كمالها ، صحيحة كانت أو فاسدة ، مشروعة أو غير مشروعة.

وأيضاً ، فلنا منع وجوب ملاحظة القصر والتمام ، ولو أوجبناهُ منعنا تأثيره في الصحّة ، والبطلان سلّمناه ، لكنّه بسبب آخر للبطلان غير الزيادة.

وأجابوا عن خبر أبي بصير : الناصّ على أن آخر الصلاة التسليم (1)

بأن كون التسليم آخر الصلاة إنما يفيد جزئيّته لها ، وأما وجوبه فلا ، فإنه كثيراً ما يكون جزء العبادة الواجبة مندوباً.

قال فاضل ( المناهج ): ( ولا يخفى اندفاعه ، فإن الخبر متضمّن للأمر بإتمام الصلاة ، وهو دالّ على عدم تمامها قبل التسليم ، ثمّ إطلاق الجزئيّة للعبادة الواجبة يعطي الوجوب ما لم يدلّ [ دليل ] قاطع ) ، انتهى.

قلت : ولنا أن نمنع جزئيّة المستحبّ الواقع بعد كمال جميع واجباتها ، وإنما يكون المندوب جزءاً منها إذا وقع في خلال واجباتها.

وأجابوا عن الأخبار الآمرة بالتسليم بالحمل على الاستحباب.

والجواب : أن حملها عليه إخراجٌ للأمر عن مدلوله الشرعي ، مع كثرتها وتنوّعها ، وهذا غير مقبول إلّا بدليل قاطع يقاومها ، ولا دليل كذلك.

ص: 42


1- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1307 ، الإستبصار 1 : 345 - 346 / 1302 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 4.

أدلَّة القول بالاستحباب

اشارة

ولنذكر الآن أدلّة القائلين بالاستحباب ، فنقول : قال فاضل ( المناهج ): ( قد حصل ممّا حقّقنا أنه إن لم يكن للقائلين بالاستحباب دليلٌ يقوى على معارضة ما ذكرناه من أدلّة الموجبين تعيّن القولُ بالوجوب ، فلنذكر أدلّتهم ليعلم الحال ، استدلّوا أوّلاً : بالأصل ، وقد عرفت اضمحلاله ).

أقول : قد مرّ الكلام في هذا الأصل ، وأنه مرتفع بما تُلي عليك من الأدلّة ، ومعارضٌ بأصالة استصحاب شغل الذمّة اليقيني ، على أن الأصل لو بقي لم يكن مقتضاه الندبيّة ، وإنما يقتضي في الحقيقة عدم التكليف بالتسليم أصلاً.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وثانياً : بقوله صلى اللّه عليه وآله إنما صلاتنا هذه تكبير ، وقراءة ، وسجود (1) ، ولم يذكر التسليم ، وإنما من أدوات الحصر ، فيدلّ على انحصار أجزائها فيما ذكر.

وهو مردود بأنه لو بقي على ظاهره لم يصحّ ، فإنه أغفل كثيراً من الواجبات كالتشهّد ، والأذكار ، والطمأنينات ، ورفع الرأس ، وإن أمكن إدراج الرفع والطمأنينة في الركوع والسجود فلا شبهة في أنه لا يمكن في التشهّد ، وكذا القيام ، فلا بدّ من أن يحمل على حصر معظم الأجزاء وأشرفها ، كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (2) الآية ، وقوله صلى اللّه عليه وآله الحجّ عرفة (3) ، فلا دلالة له على المقصود ).

قلت : ويمكن إرادة جميع الأذكار من لفظ التكبير ، فإنه كثيراً ما يطلق في الأخبار

ص: 43


1- عوالي اللآلي : 3 : 94 / 104.
2- الأنفال : 2.
3- عوالي اللآلي 2 : 93 / 247 ، سنن ابن ماجة 2 : 1003 / 3015.

لفظ التسبيح والتنزيه والتكبير ، بل ولفظ الاستغفار أيضاً على مطلق ذكر اللّه ، كما لا يخفى على المتتبّع المتدبّر ، فيدخل فيه ذكر الركوع والسجود والتشهّد والتسليم ، فإنه دعاء وعبادة ، وكذا الركوع في لفظ السجود تغليباً ، فإنه شائعٌ في اللغة.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وثالثاً : بأنه لو كان واجباً وجزءاً من الصلاة لكان تبطل الصلاة بتخلّل الحدث بينه وبين ما قبله ، والتالي باطل ؛ لصحيحة زرارة : عن الباقر عليه السلام : سألته عن رجل يصلّي ثمّ يجلس فيُحدِث قبل أن يسلّم قال عليه السلام تمّت صلاته (1) ).

قلت : ومثله خبر [ الحسن (2) ] بن الجهم : سألت أبا الحسن عليه السلام : عن رجل صلّى الظهر أو العصر فأحدث حين جلس في الرابعة ، فقال إن كان قال : أشهد أن لا إله إلّا اللّهُ وأن محمّداً رسولُ اللّه ، فلا يعيد ، وإن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فليعد (3) ، وشبههما من الأخبار المتضمّنة لصحّة الصلاة مع الخروج بغير السلام من سائر المنافيات.

( ورابعاً : بما رواه الحلبي : عن الصادق عليه السلام : إذا التفتَّ في صلاة مكتوبة من غير فراغ فأعد الصلاة إذا كان الالتفات فاحشاً ، وإن كنت قد تشهّدت فلا تعد (4).

وخامساً : برواية غالب بن عثمان : عن الصادق عليه السلام : سألته عن الرجل يصلّي المكتوبة فيقضي صلاته ويتشهّد ، ثمّ ينام قبل أن يسلّم قال عليه السلام تمّت صلاته (5).

وسادساً : بصحيحة زرارة : عن الباقر : صلوات اللّه عليه - : سألته عن رجل صلّى

ص: 44


1- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1306 ، الإستبصار 1 : 345 / 1301 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 2.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الحسين ) ، وقد ورد بلفظ ( الحسين بن الجهم ) في رجال الطوسي : 373 ، وخلاصة الأقوال : 113.
3- تهذيب الأحكام 2 : 354 - 355 / 1467 ، الإستبصار 1 : 401 / 1531 ، وسائل الشيعة 7 : 234 - 235 ، أبواب قواطع الصلاة ، ب 1 ، ح 6.
4- الكافي 3 : 365 / 1 ، تهذيب الأحكام 2 : 323 / 1322 ، الإستبصار 1 : 405 / 1547 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 4.
5- تهذيب الأحكام 2 : 319 / 1304 ، وسائل الشيعة 6 : 425 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 6.

خمساً ، فقال عليه السلام إنْ كان جلس في الرابعة قدر التشهّد فقد تمّت صلاته (1). ونحوها روايات.

وسابعاً : بصحيح محمّد بن مسلم : عن الصادق عليه السلام : قال إذا استويت جالساً ، فقل : أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً عبدُه ورسوله ، ثمّ تنصرف (2).

وثامناً : بصحيح علي بن جعفر : عن أخيه موسى : صلوات اللّه عليه - : سألته عن الرجل يكون خلف الإمام فيطوّل الإمام التشهّد فيأخذ الرجل البول ، أو يتخوّف على شي ء يفوت ، أو يعرض له وجع ، كيف يصنع؟ قال يتشهّد هو وينصرف ، ويدع الإمام (3).

وتاسعاً : بموثّقة يونس : قلت لأبي الحسن : صلوات اللّه عليه - : صلّيت بقومٍ صلاةً فقعدت للتشهّد ، ثمّ قمت ونسيت أن أُسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّمت علينا ، فقال عليه السلام ألم تسلِّم وأنت جالس؟.

قلت : بلى قال لا بأس عليك ، ولو نسيت حين قالوا ذلك استقبلتهم بوجهك فقلت : السلام عليكم (4).

وعاشراً : بصحيحة زرارة : والفضيل : ومحمّد بن مسلم : عن الباقر : صلوات اللّه عليه أنه قال إذا فرغ رجل من الشهادتين فقد مضت صلاته ، فإن كان مستعجلاً في أمرٍ يخاف أن يفوته فسلَّم وانصرف أجزأه (5).

وحادي عشر : بصحيحة معاوية بن عمّار : قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا فرغت من

ص: 45


1- تهذيب الأحكام 2 : 194 / 766 ، الإستبصار 1 : 377 / 1431 ، وسائل الشيعة 8 : 232 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 19 ، ح 4.
2- تهذيب الأحكام 2 : 101 / 379 ، الإستبصار 1 : 342 / 1289 ، وسائل الشيعة 6 : 397 ، أبواب التشهّد ، ب 4 ، ح 4.
3- الفقيه 1 : 361 / 1191 ، تهذيب الأحكام 2 : 349 / 1446 ، وسائل الشيعة 8 : 413 ، أبواب صلاة الجماعة ، ب 64 ، ح 2.
4- تهذيب الأحكام 2 : 348 / 1442 ، وسائل الشيعة 6 : 425 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 5.
5- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1298 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 5.

طوافك فأتِ مقام إبراهيم عليه السلام : ، فصلِّ ركعتين واجعلهما قياماً (1) ، واقرأ في الأُولى منهما : سورة التوحيد قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ (2) ، وفي الثانية : قُلْ يَا أيّهَا الكَافِرُونَ (3) ، ثمّ تشهّد واحمد اللّه واثنِ عليه ، وصلِّ على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، واسأله أن يتقبّل منك (4) ، فإن الإعراض عن ذكر التسليم في هذا المقام قرينة على عدم وجوبه. وإذ لا يجب في ركعتي الطواف لا يجب في غيرهما ؛ لعدم القول بالفصل.

وثاني عشر : برواية الحلبي : عن الصادق عليه السلام : قال إذا نسي أن يسلِّم خلف الإمام أجزأه تسليمُ الإمام (5).

هذا غاية ما استخرجه فاضل ( المناهج ) : من الاستدلال لهم ، وقد أحاط بما لم يُحط به غيره.

ردّ أدلَّة القول بالاستحباب

والجواب عنه إجمالاً إمّا بالحمل على التقيّة ، فإن غاية ما ذكر كلّه صحّة الخروج من الصلاة بغير التسليم ، وهذا لم يقل به أحد من الأُمّة غير أبي حنيفة (6) : ، وقد نصّ الشهيد : في ( الذكرى ) على : ( أنه لم يقل به أحدٌ من الأصحاب ) (7) ، فسبيله سبيل ما جاء في بعض الأخبار من أن آخر الصلاة السجود ، مثل خبر زرارة : عن الصادق : سلام اللّه عليه في الرجل يحدث بعد ما يرفع رأسه من السجود الأخير ، فقال عليه السلام تمّت صلاته ، وإنما التشهّد سنّة في الصلاة ، فيتوضّأ ويجلس مكانه ، أو مكاناً نظيفاً فيتشهّد (8) ، وبمعناه عدّة أخبار.

ص: 46


1- في المصدر : « واجعله إماماً » بدل : « واجعلهما قياماً ».
2- الإخلاص : 1.
3- الكافرون : 1.
4- الكافي 4 : 423 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 423 ، أبواب الطواف ، ب 71 ، ح 3.
5- تهذيب الأحكام 2 : 160 / 627 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 3.
6- المجموع شرح المهذب 3 : 462.
7- الذكرى : 207 ( حجريّ ).
8- تهذيب الأحكام 2 : 318 / 1300 ، الإستبصار 1 : 342 / 1290 ، وسائل الشيعة 6 : 411 ، أبواب التشهّد ، ب 13 ، ح 2.

وإمّا بالطرح ؛ لعدم مقاومتها لما ذكرناه من الأدلّة القاطعة ، ولاستلزامها ما لم يقل به أحدٌ من الأصحاب من صحّة الخروج بغير التسليم ، ومشروعيّة صلاة الاحتياط وسجدتي السهو قبله ، ولتشابه ظاهرها ، ولقبولها التأويل ، كلّها أو جلّها.

وأمّا تفصيلاً : فبما أجاب به فاضل ( المناهج ) : شكر اللّه سعيه ، ولننقل عبارته بلفظها ، وعسى أن نزيد عليها من البيان ما نرجو من اللّه أن يفيضه علينا من خزائن رحمته ونوره.

قال رحمه اللّه : ( ونحن نقول في الجواب عن هذه الأحاديث : إنها ومثلها لا بدّ من أن تحمل على التقيّة إن لم يكن لها نحوٌ آخر من التأويل ؛ لأنه كما يحصل الجمع بين الأدلّة بحمل ما دلّ على الوجوب ظاهراً على الاستحباب ، كذلك يحصل الجمع بحمل ما دلّ على عدم الوجوب على التقيّة ، وهذا هو المتعيّن ؛ لأنه أحوط للدين.

على أنا نقول بعد تسليم العمل بمضامين هذه الأخبار في الرواية الأُولى :

أوّلاً : أن ظاهرها أن صدور الحدث عنه بعد الصلاة ، كما لا يخفى ، فلا بدّ من أن يُراد بالتسليم المندوب منه ؛ لأنه الذي تتمّ الصلاة قبله.

وثانياً : أنه يحتمل أن يكون : ( يحدّث ) بالتشديد من التحديث ، ويؤيّده لفظ ( يجلس ) كما هو ظاهر عند مَنْ له معرفة بأطوار المحاورات ، فيحمل على أنه تكلّم ناسياً بما لا يخرجه عن حدّ المصلّي ، ولا شبهة في أنه لا يخلّ بالصلاة.

والمراد بتمام صلاته ليس أنه تمّ قبل السلام ، بل السؤال حينئذٍ قرينة على أن المراد به أنه لا تختلّ صلاته بهذا السبب ، بل في قول السائل : ( قبل أن يسلّم ) دلالة على أنه سلّم بعده ، وحينئذٍ فلا شكّ في أنه تمّت صلاته ).

أقول : يريد بالرواية صحيحة زرارة : عن الباقر عليه السلام (1) : ، ولعلّه أراد بالتسليم المندوب هو الصيغة المؤخّرة من الصيغتين بناءً على القول بالتخيير ، والواجب ما

ص: 47


1- تهذيب الأحكام 2 : 194 / 766 ، الإستبصار 1 : 377 / 1431 ، وسائل الشيعة 8 : 232 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 19 ، ح 4.

تبدأ به منهما. أو يريد به التسليم الثاني للإمام أو المأموم بناءً على القول به.

ويحتمل أن يراد بالتسليم المسبوق بالحدث هو التعقيب مجازاً لاشتماله عليه ، والقرينة ما في السؤال من فرض الحدث في جلوس معطوف على : ( يصلّي ) ب- ( ثمّ ) الدالّة على تعقّبه وتراخيه عن الصلاة.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( وفي رواية الحلبي (1) :

أوّلاً : أنها إن حملت على ما حملتم عليه من المعنى ، فكما لها دلالة على عدم جزئيّة السلام ، فكذلك لها دلالة من جهة أُخرى على جزئيّته ، فإن هذا الحكم متعلّق بالالتفات في الصلاة ، فدلّ على أنه ما لم يسلّم فهو داخل في الصلاة ، إلّا أن يعطف الشرطيّة الثانية على مجموع الشرطيّة الأُولى.

وثانياً : أنه يمكن أن يُقرأ فلا تعد بفتح التاء فسكون العين فضمّ الدال ، من ( عداه يعدوه ) إذا تجاوزه ، أو بفتح التاء والعين والدال المشدّدة ، من التعدّي ، أي وإن كنت قد تشهّدت فلا تَعَدّ إلى التسليم فإنه لا ينفعك ، بل عليك الاستئناف.

وثالثاً : أنه يمكن أن يكون إن في قوله وإن كنت وصليّة ، أي تجب الإعادة وإن تمّ التشهّد ، وإنما نفى التسليم.

وقوله فلا تعد يحتمل حينئذٍ تلكما الوجهين مع الوجه الذي قرأه المستدلّ ، وأن يكون بفتح التاء وضمّ العين ، من العود ، أي فلا تَعُد هذا الفعل المبطل للصلاة ، أو لا تَعدُ إليه ، أو لا تَعد ، أو لا تتعدّ عن حدود اللّه ، أو عمّا قلناه لك ، أو إلى ما بقي من أجزاء الصلاة بعد الالتفات فإنه لا ينفعك ، وعلى جميع هذه التقادير تكون ( الفاء ) في فلا تعد للتفريع لا للمُجَازَاة ).

قلت : ويحتمل احتمالاً ظاهراً قويّاً أنه أراد بقبليّة الفراغ كون الالتفات قبل التسليم ؛ إذ لا يتحقّق الفراغ منها قبله ، لما عرفت من عدم القائل بصحّة الخروج

ص: 48


1- الكافي 3 : 365 / 10 ، تهذيب الأحكام 2 : 323 / 1322 ، الإستبصار 1 : 405 / 1547 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 4.

بغيره ، فلا يتحقّق الحكم عند الأصحاب بالفراغ منها قبله وإن لزم القائلين بالاستحباب ذلك ، لكن الظاهر أنه لا يقول به أحدٌ منهم.

ويحتمل أيضاً دخول التسليم في لفظ التشهّد مَجازاً ، فإن الأصحاب بل والأخبار يطلقون التشهّد عليه مع جميع مندوباته ومتعلّقاته ، كما لا يخفى على المستوضح ، فلا يكون في الخبر دلالة على المدّعى لما فيه من هذه الاحتمالات.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وفي صحيحة زرارة (1) : أن من الظاهر أن مَنْ جلس بقدر التشهّد الكامل كان قد جلس بقدر أدنى ما يجب في التشهّد مع التسليم ، فليكن هو المراد ، ولم يصرّح به لظهور ذلك. ثمّ كما أن التشهّد الذي يأتي به عقيب الخامسة يكون مجزئاً كذلك التسليم ، وكما أن هذا الفصل لا يضرّه فكذا لا يضرّه أيضاً ، أو كما أن الجلوس بقدر التشهّد مجزيٌ عن الإتيان به كذا الجلوس بقدر التسليم يجزئُ عنه.

وفي صحيحة محمّد بن مسلم (2) : أنه لا دلالة لها أصلاً على عدم وجوب التسليم ، فإن الانصراف أعمّ من الانصراف للتسليم ، ومنه بدونه ، ولمّا لم يكن المقصود هنا الإتيان بالتشهّد لم يصرّح بالتسليم.

والحاصل أن الانصراف لا معنى له إلّا الخروج عن الصلاة ، وأمّا دلالته على الخروج من غير أن يكون له سبب من التسليم ونحوه فلا ، بل ربّما أُطلِقَ الانصرافُ على التسليم في كثير من الأخبار ، كما لا يخفى على مَنْ تتبّعها ، وكذا الكلام في صحيحة عليّ بن جعفر (3) ).

قلت : ويمكن حمل التشهّد فيها على ما يعمّ التسليم ، كما تقدّم في غيرها.

ص: 49


1- تهذيب الأحكام 2 : 194 / 766 ، الإستبصار 1 : 377 / 1431 ، وسائل الشيعة 8 : 232 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 19 ، ح 4.
2- تهذيب الأحكام 2 : 101 / 379 ، الإستبصار 1 : 342 / 1289 ، وسائل الشيعة 6 : 397 ، أبواب التشهّد ، ب 4 ، ح 4.
3- الفقيه 1 : 361 / 1191 ، تهذيب الأحكام 2 : 349 / 1446 ، وسائل الشيعة 8 : 413 ، أبواب صلاة الجماعة ، ب 64 ، ح 2.

ومن الأخبار التي أُطلِقَ فيها الانصراف على التسليم خبر أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الرجل إذا سها في القنوت قنت بعد ما ينصرف وهو جالس (1).

ومثلها كثير ، كما يظهر بمراجعة أبواب السهو والشكّ والتعقيبات ، فراجع. وقد ترك خبر غالب بن عثمان (2).

والجواب عنها بحمل التسليم فيها على ما يقع في التعقيب بعد السلام المُخْرِج من الصلاة ، والتشهّد على ما يعمّ التسليم الواجب.

والقرينة قول السائل : ( سألته عن الرجل يصلّي المكتوبة ، فيقضي صلاته ويتشهّد ، ثمّ ينام ) ، فإنه فرض النوم بعد قضاء الصلاة ، ولا معنى له إلّا فراغها بالكلّيّة ، وعطف التشهّد عليه من باب عطف الجزء على الكلّ مبالغة في بيان استكمال الصلاة ، ولذا عطفه بالواو.

وفي عطفه النوم على قضاء الصلاة والتشهّد ب- ( ثمّ ) قرينة أيضاً على ذلك ، ومبالغة في بيان وقوع النوم بعد كمال الصلاة ، وهذا بحمد اللّه جليّ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وفي موثّقة يونس بن يعقوب (3) : أنه لا دلالة لها على المدّعى أيضاً ، فإنه إنما قيل فيها ولو نسيت حين قالوا ذلك ، ولا يفهم منه إلّا إنه نسي حينئذٍ أنه هل سلّم أم لا؟ وهو شكّ في الفعل بعد انقضائه ، ومن المعلوم عدم اعتباره وتماميّة الفعل ).

قلت : وما أظهر احتمال أن يراد بالتسليم فيها التسليم المندوب حال التفرّق ، فإنه قال : ( قعدت للتشهّد ، ثمّ قمت ونسيت أن أُسلّم عليهم ، فقالوا : ما سلّمت علينا ) أي تسليم التفرّق ، حيث عطف القيام على التشهّد ب- ( ثمّ ) الدالّة على التراخي.

ويحمل التشهّد على ما يعمّ التسليم ، فإنه متعارف ومجاز شائع ، ولذا خاطبوه

ص: 50


1- تهذيب الأحكام 2 : 160 - 161 / 631 ، وسائل الشيعة 6 : 287 ، أبواب القنوت ، ب 16 ، ح 2.
2- تهذيب الأحكام 2 : 319 / 1304 ، وسائل الشيعة 6 : 425 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 6.
3- تهذيب الأحكام 2 : 348 / 1442 ، وسائل الشيعة 6 : 425 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 5.

وعاتبوه بما هو خارج عن الصلاة ، بل بما تعمّده مبطل لها ، ولو كان المقصود تسليم الصلاة لَتَحرّجوا من ذلك ، كما لا يخفى من طريقة المسلمين.

وأيضاً الجواب فيه قرينة على ذلك ، بل دلالة ، حيث سأله قال ألم تسلّم وأنت جالس؟. قلت : بلى. فإن ظاهره إنما عنى به تسليم الصلاة ، فأجابه بأن تسليم الصلاة يكفي عن تسليم التفرّق ، حيث إنه واقع حال مفارقته لهم ومفارقتهم له في الصلاة ومُؤذن بذلك ، فلا دلالة للخبر على المدّعى بوجه.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وفي صحيحة الفضيل : وزرارة : ومحمّد بن مسلم (1) : إنا وإن أوجبنا التسليم وجعلناه جزءاً من الصلاة لكن جزئيّته ليست كجزئيّة سائر الأجزاء ، فإنه في الأصل إنما وضع للخروج منها ، فمضيّ الصلاة حين الفراغ من الشهادتين إشارة إلى هذا المعنى ).

قلت : بل هو جزءٌ كالتحريمة حقيقة ؛ لأنه جعل في مقابلتها ، والخبر ظاهر في وجوبه ، فإنه رتّب فيه الانصراف والإجزاء عليه. ومعنى قوله عليه السلام إذا فرغ من الشهادتين فقد مضت صلاته أنه لم يبقَ من واجبات صلاته إلّا التسليم المُخْرِج ، وأدخل الصلاة على محمّد وآله في لفظ الشهادتين ؛ للإجماع والنصّ (2) بوجوبها ، وأن ما بينهما من المأثور مستحبّ ، ولذا قال بعد قوله مضت صلاته - فإنْ كان مستعجلاً في أمر يخاف فوته فسلَّم وانصرف أجزأه (3) ، فعقّب التسليم للشهادتين ، فهي قد دلّهم فيها (4) على أن ما يقال بعد التشهّد والصلاة على محمّد : وآله وقبل التسليم مستحبّ.

وأيضاً ، إن سُلّم دلالتها على استحباب التسليم قلنا : دلّ ظاهرها أيضاً على استحباب الصلاة على محمّد : وآله صلى اللّه عليه وآله ، وهذا لا يقول به أحد من الفرقة.

ص: 51


1- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1298 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 5.
2- وسائل الشيعة 6 : 407 - 408 ، أبواب التشهّد ، ب 10.
3- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1298 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 5.
4- في المخطوط بعدها : ( عليه ).

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( وفي صحيحة معاوية بن عمّار (1) : أن ظاهرها أن التشهّد وما يليه بعد إتمام الصلاة ، فالظاهر أنه يستحبّ بعدها هذه الأُمور ، فلا دلالة لها على المطلوب ).

قلت : ويحتمل دخول التسليم في لفظ التشهّد كما دخلت الصلاة على محمّد : وآله فيه ، وإلّا لدلّت على استحباب الصلاة على محمَّد صلى اللّه عليه وآله ، وآله لإهمال ذكره فيها ، ولا قائل به.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وفيما يليها من الرواية يعني : رواية الحلبي (2) أن دلالتها على الوجوب أظهر من دلالتها على عدمه ، كما لا يخفى. هذا كلّه ، مع أنه لا يتمّ الاستدلال بالروايات الأربع الأُوَل إلّا إذا ثبت أنه إذا كان جزءاً من الصلاة كان كسائر الأجزاء ، حتّى تبطل الصلاة بصدور شي ء من مبطلاتها قبله سهواً أو نسياناً ، وهو ممنوع ).

قلت : أمّا كونه جزءاً واجباً كسائر الأجزاء الواجبة فلا شكّ فيه ، حتّى إنه قد ادّعى المرتضى ركنيّته كما سمعت ؛ وذلك لِمَا رأى فيه من خواصّ الركنيّة ، حيث إنه تبطل الصلاة بتركه عمداً ونسياناً ، لكنّه إنما لحقه هذا الوصف بسبب ما يتخلّل حال تركه بينه وبين غيره من أجزائها الواجبة ، ولذا لو كان المُتَخَلّل وقع نسياناً ، وهو ممّا لا تبطل به الصلاة سهواً ، لم تبطل.

وكذا لو كرّر سهواً أو واقع في غير محلّه سهواً لم تبطل ، وبذلك فارق حكم سائر أركانها. وكلّ جزء واجب لا تبطل الصلاة بتخلّل شي ء من مبطلاتها قبله سهواً أو نسياناً ما لم يكن الصادر ممّا يبطلها عمداً وسهواً ، فلا فرق في هذا بين التسليم وغيره من أجزائها الواجبة.

والجواب عن الروايات الأربع قد عرفته ، فلسنا وإيّاه بمحتاجين إلى هذا التكلّف بلا دليل ، ولا إلى هذا الفرق بلا فارق.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وبالجملة ، فقد صار من الواضح البيّن أن هذه الدلائل لا تصلح

ص: 52


1- الكافي 4 : 423 / 1. وسائل الشيعة 13 : 1. أبواب الطواف ، ب 71 ، ح 3.
2- تهذيب الأحكام 2 : 160 / 627 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 3.

لمعارضة ما دلّ على الوجوب ، فتعيّن القول به ) ، انتهى كلامه ، أعلى اللّه مقامه.

وأنا أقول : قد وَضُح الصبح لذي عينين ، فاترك الجدال ، فلا شكّ في الوجوب والجزئيّة.

وقال ابن زهرة : في ( الغنية ) : ( يجب التسليم على خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ويدلّ على ما اخترناه أنه لا خلاف في وجوب الخروج من الصلاة ، وإذا ثبت ذلك ولم يَجُز بلا خلافٍ بين أصحابنا الخروج منها بغير السلام ، من الأفعال المنافية لها كالحدث وغيره ، على ما يقول أبو حنيفة : ، ثبت وجوب السلام ) (1) ، انتهى.

وقال السيوري : في ( التنقيح ) : ( الوجوب قول المرتضى (2) : والتقي (3) : وابن أبي عقيل (4) : وسلّار (5) : وابن زهرة (6) : والمصنّف (7) والعلّامة : في بعض كتبه (8). وهو الحقّ ؛ لقوله صلى اللّه عليه وآله في حديث عليّ عليه السلام : تحليلها التسليم (9).

وجه الاستدلال أنه لم يَجُز الخروج من الصلاة إلّا بالتسليم ، فيكون واجباً لوجوب الخروج من الصلاة إجماعاً ، وإن جاز الخروج بدونه يلزم أن يكون المبتدأ وهو تحليلها أعمّ من خبره وهو التسليم ، وهو باطل ؛ إذ لا يقال : الحيوان إنسان. ولمواظبة النبيّ صلى اللّه عليه وآله : والأئمّة : والصحابة والتابعين على فعله ) (10) ، انتهى.

وبالجملة ، فنقلُ الإجماع على وجوب الخروج من الصلاة بالتسليم مستفيضٌ ، وهو من أوضح الأدلّة على وجوبه ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

ص: 53


1- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 4 : 548.
2- الناصريّات : 209 / المسألة : 82.
3- الكافي في الفقه : 119 - 120.
4- عنه في المعتبر 2 : 233.
5- المراسم العلوية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 3 : 371.
6- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 4 : 548.
7- المختصر النافع : 84.
8- منتهى المطلب 1 : 295.
9- الكافي 3 : 69 / 2 ، الفقيه 1 : 23 / 68 ، الخلاف 1 : 377 / المسألة : 134.
10- التنقيح الرائع 1 : 211 - 212.

ص: 54

الموطن الثاني من مواطن الخلاف

أنهم اختلفوا : هل التسليم جزء ، أو خارج؟

فالمشهور شهرةً بلغت الحدّ الذي أمرنا أهل البيت ، سلام اللّه عليهم ، بالأخذ بها وترك غيرها ، وأنه شاذّ نادرٌ ، بل ربّما كانت إجماعاً مشهوريّاً الجزئيّةُ ، وهو الحقّ.

قال فاضل ( المناهج ): ( اعلم أنه نقل أكثرُ الأصحابِ على جزئيّة السلام للصلاة على تقدير الوجوب الإجماع ، وربّما ظهر من كلام بعضهم ومنهم المصنّف في ( القواعد ) (1) الخلافُ. وذكر علم الهدى أنه ( لم يجد به من الأصحاب نصّاً ) (2) ثمّ قوّى الجزئيّة.

والروايات أيضاً مختلفة ، فمنها ما يدلّ على الجزئيّة ، ومنها ما هو بخلافه ، والأظهر الجزئيّة ؛ لِمَا قد عرفت ، وإن من قال باستحباب التسليم لم يمنع من أن يكون جزءاً مندوباً لها ، بل ظاهره ذلك ، فإنه قال : إن الخروج من الصلاة بأحد ثلاثة أشياء : التسليم ، ونيّة الخروج ، وفعل المنافي ، فإذا حلّل صلاته بالتسليم كان هو المُخْرِج له عنها ، فيكون جزءاً منها ) ، انتهى.

وأقول : فَهْمُ جزئيّته من جملة من الأخبار غيرُ عزيز ، خصوصاً مثل تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم (3) ، فإن المقابلة تقتضي الجزئيّة.

ومثل ما جاء في كيفيّة صلاة الخوف ، مثل صحيحة زرارة : وفضيل : ومحمّد بن

ص: 55


1- تمهيد القواعد : 323.
2- الناصريّات : 209 / المسألة : 82.
3- الكافي 3 : 69 / 2 ، الفقيه 1 : 23 / 68 ، وسائل الشيعة 6 : 11 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ب 1 ، ح 10.

مسلم : عن أبي جعفر عليه السلام : إذا كان صلاة المغرب في الخوف فرّقهم فرقتين ، وصلّى بفرقة ركعتين ثمّ جلس بهم ، ثمّ أشار إليهم بيده ، فقام كلّ إنسان فيصلّي ركعة ، ثمّ سلّموا وقاموا مقام أصحابهم ، وجاءت الطائفة الأُخرى فكبّروا ودخلوا في الصلاة ، وقام الإمام وصلّى بهم ركعة ليس فيها قراءة ، فتمّت للإمام ثلاث ركعات ، وللأوّلين ركعتان في جماعة ، وللآخرين واحدة (1) ، فصار للأوَّلين التكبير وافتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم (2) ، حيث جعل لكلّ فرقة جزءاً من الصلاة ، فدلّ بظاهره أن التسليم جزء كالتكبير. وأمثال هذا غير عزيز.

ومثل صريح موثّقة أبي بصير : ، حيث نصّ فيها على أن آخر الصلاة التسليم (3) ، وهي نصّ في المسألة.

وأمّا ما يوهم الخروج ، مثل صحيحة سليمان بن خالد : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن رجل نسي أن يجلس في الركعتين الأُوليين ، فقال إن ذكر قبل أن يركع فليجلس ، وإن لم يذكر حتّى يركع فليتمّ الصلاة ، حتّى إذا فرغ فليسلِّم وليسجد سجدتي السهو (4).

وصحيحة ابن أبي يعفور : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن رجل صلّى الركعتين من المكتوبة فلا يجلس فيهما حتّى يركع ، فقال يتمّ صلاته ، ثمّ يسلِّم ، ويسجد سجدتي السهو وهو جالس قبل أن يتكلّم (5).

والجواب : أنهما من أدلّة القائلين بالاستحباب وقد عرفت ما فيها ، فنحن نطالب القائل بالوجوب والخروج عن الجزئيّة بدليل يدلّ على الخروج والوجوب لم نعلمه ،

ص: 56


1- في المصدر : « وحداناً » بدل : « واحدة ».
2- تهذيب الأحكام 3 : 301 / 917 ، 918 ، الإستبصار 1 : 456 - 457 / 1767 ، 1768 ، وسائل الشيعة 8 : 436 ، أبواب صلاة الخوف ، ب 2 ، ح 2.
3- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1307 ، الإستبصار 1 : 345 - 346 / 1302 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 4.
4- تهذيب الأحكام 2 : 158 / 618 ، الإستبصار 1 : 361 - 362 / 1374 ، وسائل الشيعة 6 : 402 ، أبواب التشهّد ، ب 7 ، ح 3.
5- تهذيب الأحكام 2 : 158 / 620 ، الإستبصار 1 : 363 / 1375 ، وسائل الشيعة 6 : 402 ، أبواب التشهّد ، ب 7 ، ح 4.

وإلّا فكلّ ما دلّ على الخروج بظاهره فهو من أدلّة الاستحباب.

والشيخ بهاء الدين : بعد أن نقل قول المرتضى (1) : أنه لم يجد لأصحابنا نصّاً في ذلك ، ثمّ قوّى كونه جزءاً من الصلاة ، وأنه ركن من أركانها قال : ( ويلوح من كلام بعض القائلين بوجوبه الحكم بخروجه عنها ، حيث اشترطوا في صحّة الصلاة بظنّ دخول الوقتِ دخوله في أثنائها ، وقيّدوه بما قبل التسليم ، ولم يعتبروا دخوله في أثنائه ) (2).

قلت : غير خفيّ على المستوضحين أن اعتبارهم حينئذٍ دخول الوقت في أثنائها قبل التسليم ، إنما معناه أنه حينئذٍ إن دخل الوقت عليه قبل كمال الصلاة صحّت ، وإن دخل بعد كمالها لم تصحّ ، وإنما أهملوا ذكر دخوله في أثناء التسليم ؛ لأنه لا يكاد يتحقّق للمكلّف العلم بدخول الوقت بين لفظ السلام وبين لفظة عليكم من قول المصلّي السلام عليكم مع الاتّصال ، بل لا يبعد جدّاً العلم بدخوله بين الصلاة على محمّد : وآله وبين التسليم مع الاتّصال ، فهم لم يريدوا إلّا ما يعلم يقيناً من القبليّة والبعديّة ، وهو ما يدخل في وسع المكلّفين.

ولو كانوا ملاحظين ما فهمه رحمه اللّه لصرّحوا بدخوله قبل الصلاة على محمّد : وآله صلّى اللّه عليه وعليهم وبعدها أو في أثنائها ، ولم يذكروا ذلك ، فإن كان تركهم للتعرّض لذكر دخوله في أثناء التسليم يدلّ على أنهم قائلون بخروج التسليم ، كان تركهم لذكر مثله بالنسبة إلى الصلاة على محمّد وآله دليلاً على أنهم يقولون بخروجها ، وليس كذلك.

ثمّ قال البهائي : رحمه اللّه تعالى - : ( وقد يتراءى أنه لا طائل في البحث عن ذلك ؛ لرجوع هذا البحث في الحقيقة إلى البحث عن وجوب التسليم واستحبابه ،

ص: 57


1- الناصريّات : 208 - 209 / المسألة : 82.
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).

فعلى القول بوجوبه لا معنى لخروجه ، وعلى القول باستحبابه لا معنى لدخوله ) (1).

قلت وباللّه المستعان - : هذا الكلام شي ء وأي شي ء ، فقوله رحمه اللّه : ( إنه ليس بشي ء ) (2) ليس بشي ء ، وذلك أنا لو قلنا : إنه واجب خارج كان قولاً بأنه تكليف مستقلّ بنفسه ، فلا معنى لإضافته لفرض الظهر الواقع قبله مثلاً دون العصر الواقع بعده ، فإن صحّ نسبته لما قبله صحّ لما بعده ، وإن لم يصحّ نسبته لما بعده لم يصحّ لما قبله ؛ لأنه واجب مستقلّ خارج عنهما ، فكيف يقال : تسليم الظهر ، ولا يقال : تسليم العصر؟!.

وأيضاً ، فهذا الواجب الخارج ليس بمقدّمة للفرض الواقع قبله ، ولا شرط في صحّته ولا في التكليف به ؛ لأن شيئاً من ذلك لا يكون بعد الفراغ من الصلاة ، وليست الصلاة السابقة عليه من باب الأسباب المقتضية لوجوبه ، كالكسوف بالنسبة لصلاته ، قطعاً ، فما معنى هذا الواجب المستقلّ ، وما أوجبه؟

فإن قلت : النصّ أوجبه. قلت : ما دلّ على وجوبه دلّ على جزئيّته.

وأيضاً ، فالقول بخروجه يستلزم إدخاله في التعقيب ، ولا قائل بوجود تعقيب واجب ، ويستلزم القول بصحّة الخروج بأيّ مُخْرِجٍ ، أو تعيين المُخْرِج بالصلاة على محمّد : وآله صلى اللّه عليه وآله ، ولا قائل من الفرقة فيما علمنا ، فلم يبقَ إلّا إن البحث يرجع إلى وجوبه واستحبابه ؛ إذ لا يعقل أن واجباً من واجبات الصلاة خارج عنها ، ولا أن مندوباً واقعاً بعدها جزء منها ؛ إذ لا نعقل من واجبها إلّا جزءها ، ولا مندوباً بعد كمالها إلّا خارجاً عنها.

ثمّ قال البهائي رحمه اللّه : يعني : بعد هذا الكلام - : ( وليس بشي ء ؛ إذ على القول باستحبابه يمكن أن يكون من الأجزاء المندوبات ، كبعض التكبيرات السبع ، وكالسلام على النبيّ وآله صلى اللّه عليه وآله والملائكة في آخر التشهّد.

ص: 58


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).

وعلى القول بوجوبه يمكن أن يكون من الأُمور الخارجة عن حقيقة الصلاة ، كالنيّة عند بعض ، بل جوّز صاحب ( البشرى ) جمال الدين بن طاوس : أن يكون الخروج من الصلاة ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين ، ويكون قول السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته بعد ذلك واجباً أيضاً وإن كان المُخْرِجُ غيره ) (1).

قلت : أمّا إنه ليس بشي ء ، فقد عرفت أنه شي ء وأيّ شي ء.

وأمّا إنه على الاستحباب يمكن أن يكون من أجزائها ، فإمكانه ممنوع ؛ إذ الضرورة قاضية بأن الشي ء إذا تمّ وانقضى لم يبقَ له جزء حتّى يقال : إن الشي ء الخارج عنه جزء له واجباً كان أو مندوباً ، فإن القولَ بأن الصلاة تمّت بالصلاة على محمّد : وآل محمّد : وأن التسليم خارج وهو جزء منها متناقضٌ ، فإن مؤدّاه أنها تمّت وأنها لم تتمّ.

والفرقُ بين المندوب الواقع في خلالها قبل كمالها بكمال واجباتها وبين المندوب الواقع بعد كمالها وتمامها ، أوضحُ من النهار والشمس طالعة ليس عليها غبار ، فإن الأوّل لا شكّ في جزئيّته ، والثاني لا شكّ في عدم جزئيّته لوقوعه بعد تمامها ، ولأنا لا نعقل الفرق بينه وبين سائر التعقيبات الواقعة بعدها ، والسلام على النبيّ جزء منها لا نعلم أحداً نفى جزئيّته ، والأخبار تدلّ عليه كما هو ظاهر ، وهو دليل أيضاً على جزئيّة التسليم ووجوبه.

وأمّا التكبيرات الست ؛ فما أُوقع منها بعد التحريم فلا شكّ في جزئيّته لوقوعه خلالها ، وما أُوقع منها قبل التحريمة فلا شكّ في خروجه عنها وعدم جزئيّته ؛ للنصّ (2) والإجماع بلا معارض على أن أوّل أفعال الصلاة التحريمة ، فالفرقُ بينها وبين الواقع بعد كمال أفعال الصلاة أوضحُ من أن يحتاج إلى بيان.

وبهذا يتّضح الجواب عن إمكان وجود جزء واجب خارج ؛ إذ لا يعقل أن يكون

ص: 59


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 - 254 ( حجريّ ).
2- الكافي 3 : 69 / 2 ، الفقيه 1 : 23 / 68 ، وسائل الشيعة 6 : 11 ، أبواب تكبيرة الإحرام ، ب 1 ، ح 10.

ما خرج عن الشي ء بأجمعه جزءاً له ، فإنه في معنى أنه جزء وليس بجزء ، وخارج وليس بخارج ، وهو محال ؛ لاستلزامه الجمع بين النقيضين.

وأمّا النيّة ؛ فإن فُرِضَت جزءاً فليست بخارجة ، وإن فُرِضَت خارجة عن الحقيقة فليست بجزء ، مع أن الفرق بينها وبين التسليم لا يخفى بأدنى تأمّل ، فهو قياس مع الفارق ، على أن النيّة ليست بفعل من أفعالها الواقعة خارج الزمان ، وإنما هي رتبة من رتب وجودها الواقعة قبل الزمان والمكان.

وأمّا ما نقله عن ( البشرى ) فكلام غير واضح المعنى ، فإن ظاهره أن المصلّي مخيّر في أنه يجعل المُخْرِجَ السلام علينا ، أو لا يجعله ، مع بقاء السلام عليكم على وجوبه ، ويحتمل على تقدير نيّة الخروج به الوجوب والندب ، فعلى الأوّل يلزم أن الصيغتين واجبتان ، وعلى الثاني يلزم صحّة الخروج بالمندوب ، وهذه الاحتمالات جارية فيما إذا لم ينوِ به الخروج ولم يعيّن شيئاً من الاحتمالات.

وبالجملة ، فكلامه هذا خارج عن جميع النصوص والفتاوى ، فلا شكّ في وجوب الإعراض عنه.

وأنا إلى الآن وهو اليوم السادس عشر من شهر ذي الحجّة الحرام [ من ] السنة الثالثة والأربعين بعد المائتين والألف لم أظفر بمصرّحٍ من الأصحاب بأن التسليم واجب خارج ، إلّا ما تُوهِمُه عبارة صاحب ( الفاخر ) (1) : ، على ما نقله عنه في ( الذكرى ) ، حيث قال : ( أقلّ المجزي من الصلاة في الفريضة : تكبيرة الافتتاح ، وقراءة الفاتحة في الركعتين ، أو ثلاث تسبيحات ، والركوع ، والسجود ، وتكبيرة واحدة بين السجدتين ، والشهادة في الجلسة الأُولى ، وفي الأخيرة الشهادتان والصلاة على النبيّ : وآله صلّى اللّه على محمّد : وآله والتسليم ، والسلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه

ص: 60


1- الفاخر في الفقه ، لأبي الفضل محمّد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم الصابوني الجعفي الكوفي ، الزيدي المستبصر العائد إلى القول بالإمامة ، والساكن بمصر ، من أعلام المائة الثالثة وبعدها. الذريعة 16 : 92.

وبركاته ) (1). قال في ( الذكرى ) : ( وكلامه هذا يشتمل على أشياء لا تُعَدّ من المذهب :

منها : التكبيرة الواحدة بين السجدتين.

ومنها : القصر على الشهادة في الجلسة الأُولى.

ومنها : وجوب التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله.

وأمّا البدل عن القراءة فيريد به مع الاضطرار ، صرّح به في غير هذا الموضع ).

وقال في موضع آخر : ( من شهد الشهادتين وأحدث أو أعجلته حاجة ، فانصرف قبل أن يسلّم إمامُه ، أو قبل أن يسلّم هو إن كان وحده ، فقد تمّت صلاته ).

ثمّ قال : ( يسلّم إن كان إماماً بواحدة تلقاء وجهه في [ القبلة (2) ] السلام عليكم ، يرفع بها صوته ، وإن كان صفوفاً خلف إمام سلّم القوم على أيمانهم وعلى شمائلهم ، فإن كان في آخر الصف فعليه أن يسلّم عن يمينه فقط ، ومن كان وحده أجزأه عنه السلام الذي في آخر التشهّد ، ويزيد في آخره السلام عليكم ، يميل أنْفَه عن يمينه قليلاً ) (3).

قال الشهيد : ( وعنى ب- ( الذي في آخر التشهّد ) قوله السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وعلى أهل بيته ، السلام على نبيّ اللّه ، السلام على محمّد بن عبد اللّه خاتم النبيّين ورسول ربِّ العالمين ، السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السلام على الأئمّة المهتدين الراشدين ، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

وظاهره الخروج بقوله السلام عليكم ، وأنه واجب ، إلّا إن حكمه بصحّة صلاة المحدث قبله ينافيه ، إلّا أن يكون مصيراً إلى مثل قول أبي حنيفة ). إلى هنا كلام ( الذكرى ) (4).

وهذه كما لا يخفى عبارة مضطربة لا توافق بمجموعها شيئاً من مذاهب الأُمّة ،

ص: 61


1- الذكرى : 206 ( حجريّ ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الصلاة ).
3- الذكرى : 206 ( حجريّ ).
4- الذكرى : 206 ( حجريّ ).

وقد عرفت نصّ الشهيد : على أنها إنما توافق مذهب أبي حنيفة : ، وهذا إنما هو في صحّة الخروج من الصلاة بغير التسليم من سائر المنافيات ، وإلّا فإنها بمجموعها لا تطابق مذهب أبي حنيفة : ولا غيره ، فلا تضرّ هي وما نقله البهائي : عن ( البشرى ) (1) بالإجماعات المنقولة من القائلين بوجوبه على جزئيّته.

وبالجملة ، فلا ينبغي الشكّ في وجوبه وجزئيّته بعد ما أحطناك به من الأدلّة من النصّ والفتوى والاعتبار والإجماع المنقول ، كلّ ذلك بلا معارض يصلح للمعارضة ويعتمد عليه في تأسيس الأحكام ، على أنه لو فرض وجود قائل بوجوبه وخروجه كان بهذا شاذّاً نادراً لا دليل عليه ، بل هو ممّا أُمرنا أن ندعه.

ثمّ قال البهائي رحمه اللّه : ( ويتفرّعُ على الحكم بجزئيّته أو خروجه فروعٌ :

منها : لو ظنّ دخول الوقت فصلّى ، ثمّ تبيّن دخوله في أثناء التسليم ، فعلى الجزئيّة تصحّ عند من يكتفي بدخول الوقت في أثناء الصلاة ، كالشيخ (2) : والمحقّق (3) وأتباعهما ، عملاً برواية إسماعيل بن رَبَاح (4). وعلى الخروج تبطل لوقوعها بأجمعها خارج الوقت ) (5).

قلت : قد عرفت أنه لا يكاد يتحقّق هذا الفرض ؛ لعدم تمكّن عامّة المكلّفين من العلم به.

ثمّ قال : ( ومنها : عدم احتياجه إلى نيّة مستقلّة إن قلنا بجزئيّته ؛ لاندراجه تحت نيّة الصلاة كسائر أجزائها ، وإن قلنا بخروجه افتقر إلى نيّة مستقلّة لا محالة ) (6).

قلت : هذا حقّ ويجري هذا التفريع على القول باستحبابه ؛ إذ لا محالة أن العبادة المندوبة الواقعة بعد كمال الصلاة وتمامها لا تدخل تحت نيّتها ، بل تفتقر إلى نيّة

ص: 62


1- عنه في الحبل المتين : 254.
2- المبسوط 1 : 74.
3- شرائع الإسلام 1 : 53 - 54.
4- تهذيب الأحكام 2 : 35 / 110 ، وسائل الشيعة 4 : 206 ، أبواب المواقيت ، ب 25 ، ح 1.
5- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ) ، بتفاوتٍ يسير.
6- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ) ، بتفاوتٍ يسير.

مستقلّة ، وقد ثبت جزئيّة السلام ، فيثبت وجوبه ، فتنبّه.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( ومنها : ما لو نذر لمن كان متلبّساً بالصلاة في الوقت الفلاني ، فصادف اشتغاله في ذلك الوقت بالتسليم ، فإن كان جزءاً استحقّ المنذورَ به ، وإلّا فلا ) (1).

قلت : لا يكاد يتحقّق شكّ في الحكم على من وجد في أثناء التسليم أنه في الصلاة ، وأنه مُصَلّ عرفاً وشرعاً ؛ لما عرفت أنه لم يقل أحدٌ بالخروج منها قبل كمال التسليم مع الحكم بصحّتها.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( والحاصل أن كلّاً من احتمالَيْ جزئيّة التسليم وخروجه يتمشّى على تقديرَيْ وجوبه واستحبابه ) (2).

قلت : قد عرفت عدم إمكان جزئيّته على فرض خروجه مطلقاً ، وعدم إمكان جزئيّته على تقدير ندبيّته ؛ لخروجه حينئذٍ عن جميع الصلاة ؛ لأنها تمّت قبله بجميع أجزائها ، وإلّا لم تكن تمّت.

فإن قالوا : لم تتمّ.

قلنا : لا يجوز تركه ، وهذا عنوان الوجوب.

وإن قالوا : تمّت.

قلنا : خرج عنها ، فلا يمكن فرض جزئيّته ، ولأنه حينئذٍ لا يعقل الفرق بينه وبين سائر التعقيبات.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وأمّا ما يلوح من كلام بعض المتأخّرين من استلزام القول باستحبابه الحكم بخروجه عن الصلاة فمحلّ تأمّل ) (3).

قلت : تأمّلناه فوجدناه لابساً نور الحقّ ، كما هو ظاهر ممّا أسلفناه ، فالقولُ بأنه

ص: 63


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).
3- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).

مستحبّ واقع بعد تمام وكمال أجزائها وحقيقتها وهو جزء خُلْفٌ محالٌ ، فهو دعوى ما صحّحت ببرهان من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو الاعتبار الذي تعرف العقول عدله.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( فإن زعم إطباق القائلين باستحبابه على انقطاعها قبله ، وأن الخروج منها رأساً يحصل بالفراغ من الصلاة على النبيّ : وآله ، لم تُقبل منه هذه الدعوى ما لم تقترن بإثباتٍ ) (1).

قلت : قد أثبتنا لك لزوم ذلك لهذا القول بالبرهان ؛ إذ لا يتصوّر من عاقل يقول : إن ما خرج عن الحقيقة جزء منها ، والقائلون باستحبابه كلّهم عقلاء فضلاء ، فهذه الدعوى إذن مقبولة ، وكما استفاض نقل إجماع القائلين بالوجوب على الجزئيّة كذلك نقل إطباق القائلين بالاستحباب على الخروج.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( كيف؟ والشيخ مع قوله باستحبابه قائل بأن انقطاعها والخروج عنها يحصل به ، وهو الظاهر من كلام المفيد : ، كما قال في ( الذكرى ) (2) ) (3).

قلت : نعم ، عبارتا الشيخين : في ( تهذيب الأحكام ) و ( المقنعة ) صريحتان في أنه لا يتحقّق الخروج منها وانقطاعها إلّا بالتسليم ، إلّا إن المفيد في بيان النافلة عيّن السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، ولم يذكر السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، وفي بيان الفريضة ذكر هذه الصيغة ولم يذكر الصيغة الأُولى.

قال المفيد : في بيان كيفيّة نوافل الظهر في بيان التشهّد في الركعة الثانية : ( ويتشهّد ، ويقول باسم اللّه وباللّه ، والحمد لله ، والأسماء الحسنى كلّها لله ، أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّداً : عبده ورسوله ، أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة صلى اللّه عليه وآله الطاهرين.

ص: 64


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).
2- الذكرى : 206 ( حجريّ ).
3- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).

ويسلّم تجاه القبلة تسليمة واحدة ، فيقول (1) السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، ويميل مع التسليم بعينه إلى يمينه ، فإذا سلّم فقد فرغ من الركعتين وحلّ له الكلام ) (2).

وقال في بيان الفريضة : ( فإذا جلس للتشهّد في الرابعة من الظهر والعصر والعشاء الآخرة ، وفي التشهّد الثاني من الثالثة في المغرب ، أو الثانية من الغداة ، فليقل باسم اللّه وباللّه ) ، وساق صفة التشهّد والتحيّات.

إلى أن قال : (اللّهم صلّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ ، وارحم محمّداً : وآل محمّدٍ : ، وتحنّن على محمّدٍ : وآل محمّدٍ : ، كأفضل ما صلّيت وباركت وترحّمت وتحنّنت على إبراهيم : وآل إبراهيم : إنك حميدٌ مجيدٌ ، السلام عليك أيّها النبيّ : ورحمة اللّه وبركاته.

ويومي بوجهه إلى القبلة ، ويقول السلام على الأئمّة الراشدين ، السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

وينحرف بعينه إلى يمينه ، فإذا فعل ذلك فقد فرغ من صلاته ، وخرج منها بهذا التسليم ) (3) ، انتهى.

وظاهر هذا أنه لا يتحقّق الخروج من الصلاة إلّا به وأنه جزء داخل ، وأنه في النافلة السلام عليكم إلى آخره ، وفي الفريضة السلام علينا إلى آخره.

وهذا الظاهر لا يقول به أحدٌ من العلماء ، وأقصى ما يمكن أن يقال في الجمع بين كلامَيْه : إنه يخيّر بين الصيغتين ، أمّا الدلالة على الاستحباب فلا تدلّ عليه هاتان العبارتان بوجه ، فتأمّله ، بل ظاهرهما الوجوب.

لكنّه قال في محلّ آخر : ( والسلام في الصلاة سنّة ، وليس بفرض تفسد بتركه الصلاة ) (4).

ص: 65


1- في المصدر : ( يقول ) بدل : ( فيقول ).
2- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 107 - 108.
3- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 113 - 114 ، بتفاوتٍ يسير.
4- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 139.

ويحتمل في هذه العبارة أنه أراد بالفرض الركن الذي تفسد بتركه عمداً وسهواً ، وبالسنّة ما لا تفسد بتركه سهواً وإن فسدت عمداً ، ولعلّه أراد أنها لا تفسد بتركه سهواً لا عمداً ، ويدلّ على هذا ما سلف من كلام الشهيد (1) : وغيره أن الأصحاب لا يجوّزون الخروج من الصلاة بغير التسليم ، وإنما يجيز ذلك أبو حنيفة.

ويؤيّده أيضاً أن الشيخ إنما استدلّ على هذه المقولة بخبر أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا نسي الرجل أن يسلِّم ، فإذا ولّى وجهه عن القبلة ، وقال : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فقد فرغ من صلاته (2).

وخبر الحلبي : عنه عليه السلام قال إذا نسي أن يسلِّم خلف الإمام أجزأه تسليم الإمام (3).

واقتصر عليهما ، وموردهما النسيان ، ولو كان الشيخ : يقول : إنه لا يخرج من الصلاة إلّا بالتسليم ، كما هو ظاهر عبارتيه الأُوليين ، ويقول : يجوز تركه ، كان كلامه متدافعاً.

وبالجملة ، فالشيخان : من أعقل العقلاء ، ولا يقول عاقل بأنه ما يجوز الإتيان به من الأذكار بعد تمام وكمال ماهيّة الصلاة جزء من ماهيّتها ، فمن الضروري استحالة أن يكون ما هو خارج من الحقيقة جزء من الحقيقة ، ولو فرض أنهما قالا ذلك لم يكن قَدْحاً في نقل إطباق القائلين بالاستحباب على الخروج ؛ لعدم العبرة بالشاذّ النادر ، فلا تغفل.

ثمّ قال البهائي : رحمه اللّه تعالى - : ( نعم ، قد يورد هنا : أن في كلام القائل بانقطاع الصلاة به ما يدلّ على انقطاعها بالصلاة على النبيّ : وآله صلى اللّه عليه وآله ، وهو تناقض ) (4).

قلت : إذا وجد هذا وذاك في كلام شخص فهو تناقض لا يخفى على أحد عرف معناه ، ولا جواب له ، وإن توهّمه هو رحمه اللّه.

ص: 66


1- الذكرى : 205 ( حجريّ ).
2- تهذيب الأحكام 2 : 159 - 160 / 626.
3- تهذيب الأحكام 2 : 160 / 627 ، وسائل الشيعة 6 : 424 ، أبواب التسليم ، ب 3 ، ح 3.
4- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ويجاب بأن ما يأتي به المصلّي من الأذكار بعد التشهّد الواجب وقبل التسليم فهو من مستحبّات الصلاة وأجزائها المندوبة ، وأمّا ما يأتي به بعد التسليم فهو تعقيب لا صلاة ؛ لانمحاء أثر الصلاة بعده بالكلّيّة ، وهذا معنى انقطاعها به ، وهو لا ينافي انقطاع واجباتها بغيره ) (1).

قلت : هذا الجواب مغرّب والإشكال مشرّق فلن يلتقيا ، فأمّا أن ما يأتي به المصلّي من الأذكار قبل التسليم فهو من مستحبّات الصلاة فلا شكّ فيه ، والنصّ (2) والإجماع عليه قائم ، لكنّه لا تعلّق له بدفع الإشكال ، بل يلوح منه آثار وجوب التسليم وجزئيّته. وأمّا أن ما يأتي به بعد التسليم فهو تعقيب ، فيدلّ أيضاً على وجوبه وجزئيّته. والعجب ممّن يسلّم هاتين المقدّمتين كيف يدّعي الاستحباب؟! خصوصاً مع تسليم أنه قبل التسليم لا تنمحي صورة الصلاة وإنما تنمحي بعده ، فما زال أثر الصلاة وصورتها لم تنمحِ فهو في صلاة ، وهذا لا يلائم القول بالاستحباب ، ولا بعدم جزئيّة التسليم.

وبالجملة ، فالإشكال باقٍ ، وليس في كلامه ما يدفعه بوجه ، كما لا يخفى.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى : ( قال الشهيد : في ( الذكرى ) : ( وبهذا يظهر عدم المنافاة بين القول بندبيّته وأنه مُخْرِجٌ من الصلاة ، إلّا إنه يلزم بقاء المكلّف في الصلاة بدون الإتيان به وإن طال ، ولا استبعاد فيه حتّى يخرج عن كونه مصلّياً ، أو يأتي بمنافٍ ).

ثمّ قال : ( فإن قلت : البقاء في الصلاة يلزمه تحريم ما يجب تركه ، ووجوب ما يجب فعله ، والأمران منفيّان هنا ، فينتفي ملزومهما وهو البقاء في الصلاة.

[ قلتُ (3) ] : لا نسلّم انحصار البقاء في هذين اللازمين على الإطلاق ، إنما ذلك قبل فراغ الواجبات ، أمّا مع فراغها فينتفي هذان اللازمان ، وتبقى باقي اللوازم من

ص: 67


1- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).
2- التهذيب 2 : 99 / 373 ، الوسائل 6 : 393 - 394 ، أبواب التشهّد ، ب 3 ، ح 2.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( قلنا ).

المحافظة على الشروط ، وثواب المصلّي ، واستجابة الدعاء ) (1). هذا كلامه رحمه اللّه وهو بالتأمّل حقيق ). إلى هنا كلام ( الحبل المتين ) (2).

قلت : تأمّلناه كما أمر فوجدناه كما ترى ، فقد عرفت وجه المنافاة بين كونه مُخْرِجاً وكونه مندوباً ، ومن الواضح كالصبح لذي عينين بقاء المصلّي في الصلاة حتّى يأتي بما يخرجه منها ، فالقول بندبيّته وأنه المخرج قول بأنه قبله خارج منها غير خارج منها ؛ لجواز ترك المندوب اختياراً ، فهو قبله خارج بمقتضى الندبيّة ، وغير خارج بمقتضى أنه لم يخرج منها ؛ لبقاء جزء منها لم يأتِ به.

وأمّا أنه يلزم من القول بأنه المخرج القول بأن المصلّي قبله باقٍ في الصلاة فواضح ، ويلزم كلّ مَنْ هو باقٍ في الصلاة ترك جميع ما يحرم على المصلّي البتّة.

ومن الواضح انحصار لازم البقاء في الصلاة فيما ذكر من الأمرين ، وقد سلّمه فيما إذا كان قبل كمال الواجبات ، وبعدها لا صلاة ، فلا بقاء فيها ، فلا لازم له باقٍ.

وأيضاً ، إذا سلّم انحصار لازم البقاء في الصلاة فيهما قبل كمال الواجبات فهو بهذا لازم للباقي في صلاته من حيث هو كذلك ، فبعد كمال الواجبات ؛ إمّا أن يكون باقٍ في صلاته ، أو لا ، فعلى الأوّل ينحصر اللزوم فيهما لوجود المقتضي وهو البقاء في الصلاة. وعلى الثاني لا يلزمه شي ء من لوازم البقاء في الصلاة.

أمّا وجوب المحافظة على الشروط بعد كمال الواجبات فواضح البطلان ، وإلّا لم يكن المندوب مندوباً.

وبالجملة ، فالبصير المنصف إذا تأمّل القول بندبيّته أو خروجه وجد أركان أساسه مضطربة غير ثابتة ولا قارّة. واللّه العالم بأحكامه ، وهو الغفور الرحيم.

ص: 68


1- الذكرى : 208 ( حجريّ ) ، بتفاوتٍ يسير.
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 254 ( حجريّ ).

الموطن الثالث اختلافهم في تعيين الصيغة المُخْرِجَة

الموطن (1) الثالث اختلافهم في تعيين الصيغة المُخْرِجَة

فإن الوارد في النصوص ، والمنصوص عليه في الفتوى ، ثلاث صيغ :

أوّلها : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته.

والثانية : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

والثالثة : السلام عليكم ، أو بإضافة ورحمة اللّه ، أو بإضافة وبركاته.

فالمشهور بين العصابة من المتقدّمين والمتأخّرين تعيين الصيغة الأخيرة للخروج ، وأن الأُوليين من مستحبّات الصلاة البتّة ، وهذا هو الحقّ.

وفي ( الدروس ) (2) أن عليه الموجبين. وفي ( البيان ) (3) : ( أن السلام علينا لم يوجبه أحدٌ من القدماء ، وأن القائل بوجوب التسليم يجعلها مستحبّة كالتسليم على الأنبياء والملائكة غير مخرجة من الصلاة ). وهو يؤذن بدعوى إجماعهم على انحصار المخرج في السلام عليكم.

وفي ( الحبل المتين ) : ( إن السلام عليكم ورحمة اللّه لا ريب في تحقّق الخروج بها من الصلاة ، ونقل المحقّق في ( المعتبر ) على ذلك الإجماع ) (4).

وفي ( المعتبر ) ، كما نقله في ( الذكرى ) : ( إن مَنْ قال السلام عليكم ورحمة اللّه ، خرج به ، وعليه علماء الإسلام كافّة لا يختلفون ، وإنما الخلاف في تعيّنه

ص: 69


1- في المخطوط : ( المقام ) ، وما أثبتناه وفقاً لما جاء في مقدّمة الرسالة.
2- الدروس 1 : 183.
3- البيان : 177.
4- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).

للخروج ) (1) ، انتهى.

وقال في ( المناهج ) في شرح قول الشهيد (2) : ( وأمّا الثانية فمخرجة بالإجماع ) - : ( أي إجماع علماء الإسلام كافّة ، على ما نقله في ( المعتبر ) (3) ، و ( التذكرة ) (4) ، وبه روايات منها : صحيحة عليّ بن جعفر : عن إخوته (5) ، ومنها : رواية المعراج (6) ، ومنها : صحيحة البزنطي (7) ) ، انتهى.

وقال في محلّ آخر في شرح قول الشهيد : ( وعليه المصنّف في ( الذكرى ) (8) و ( البيان ) (9) ) (10) : ( لأنه قد قرّر أن التسليم الذي دلّت الدلائل على وجوبه هو السلام عليكم ، ثمّ إن الدلائل قد دلّت على أنه المحلّل للصلاة ، فلا يجوز نيّة الخروج بغيره ، وأمّا ما دلّ على الخروج بالأوّل فغير قاطع ).

وأخذ يذكرها ويجيب عنها.

ثمّ قال : ( وبالجملة ، فالدلائل الدالّة على وجوب التسليم لمّا دلّت على وجوب الثاني ومعلوم أن الخروج بالتسليم الواجب تعيّن حمل ما دلّ على الخروج بغيره ظاهراً على معنى لا ينافيه ، وأمّا إذا جمع بينهما فظاهرٌ أنه لا يجوز نيّة الخروج بالأوّل ، أعني السلام علينا ، فإنه قد ظهر أن المُخْرِجَ الشرعي هو الثاني ، فنيّة الخروج بالأوّل نيّة في الصلاة ، وهي مبطلة له ) ، انتهى.

وفي ( الذكرى ) (11) ، و ( المناهج ) ، و ( شرح المفاتيح ) للشيخ حسين : ، و ( المدارك ) (12) ،

ص: 70


1- الذكرى : 206 ( حجريّ ) ، المعتبر 2 : 235.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 277.
3- المعتبر 2 : 235.
4- تذكرة الفقهاء 3 : 245 / المسألة : 301.
5- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 2.
6- علل الشرائع 2 : 9 / 1 ، وسائل الشيعة 5 : 468 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1 ، ح 10.
7- المعتبر 2 : 236 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 11.
8- الذكرى : 207.
9- البيان : 176.
10- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 278.
11- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
12- مدارك الأحكام 3 : 435.

وغيرهم أن هذه الصيغة مُخْرِجة بالإجماع.

لنا : أوّلاً : الإجماعات المستفيضة على أن من قال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته بعد الصلاة على محمّد : وآله في آخر الصلاة ، فقد تمّت صلاته ، وخرج منها.

ونقل عباراتهم الصريحة في الإجماع على ذلك أكثر من أن تحصى ، وقد عرفت قليلاً من كثير منها ، فلا يحصل يقين للبراءة إلّا به ، وغيره مشكوك فيه ، فيتعيّن.

وثانياً : إطلاق الأخبار الآمرة بالتسليم ، وهي أكثر من أن تُحصى في مُصَنّفٍ.

ووجه الدلالة : أنه يجب حملها وصرفها إلى خصوص صيغة التسليم المعروفة عند عامّة المكلّفين من أهل الإسلام ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، ولا يعرف أهل الإسلام الخاصّ منهم والعامّ من صيغة التسليم إلّا هذه ، ولا يكاد ينصرف ذهن ولا يتبادر فكر إلى غيرها من الصيغتين الأُوليين.

قال في ( الذكرى ) : ( عبارة التسليم قد صارت متعارفة بين الخاصة والعامّة في السلام عليكم

يعرف ذلك بتتبّع الأخبار والتصانيف ، حيث يذكر فيها ألفاظ السلام المستحبّة ، ثمّ يقال بعدها : وبعد السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، ثمّ يسلّم. وهذا تصريح منهم بأن اسم التسليم الشرعي مختصّ بصيغة السلام عليكم ) (1) ، انتهى.

ويدلّ عليه أيضاً أن لفظ السلام قد صار في الإسلام على ذلك ، بحيث إذا أُطلق أن التسليم مستحبّ ، أو ابتداءً مندوب ، وردّ السلام واجب ، لا يفهم منه أحد غير السلام عليكم ، وقد تطابق في هذا النصوص (2) وفتوى العصابة (3) ، فيجب حمل إطلاق الأمر بالتسليم عليه.

وثالثاً : إطلاق الخبر المستفيض أن تحليلها التسليم (4).

والتقريب : ما مرّ من وجوب حمله على المتعارف المعهود بين المسلمين ، وهو السلام عليكم.

ص: 71


1- الذكرى : 207 ( حجريّ ).
2- انظر وسائل الشيعة 12 : 66 - 67 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 39.
3- مدارك الأحكام 3 : 473.
4- الفقيه 1 : 23 / 68.

ورابعاً : خصوص صحيح عليّ بن جعفر : رأيت إخواني موسى : وإسحاق : ومحمّداً : يسلّمون في الصلاة على اليمين والشمال السلام عليكم ورحمة اللّه ، السلام عليكم ورحمة اللّه (1).

وليس هذا تعقيباً خارجاً عن الصلاة قطعاً ، حيث قال هذا الشيخ العظيم الشأن : ( يسلّمون في الصلاة ) ، فهو تسليمها المُخْرِج منها.

وخامساً : خبر المفضّل المنقول من ( العلل ) (2) ، حيث سأل أبا عبد اللّه عليه السلام : عن علّة وجوب التسليم ، فقال عليه السلام لأنه تحليل للصلاة قال : ولِمَ صار تحليلها التسليم؟ قال عليه السلام لأنه تحيّة الملكين ؛ لأنا لا نعرف من تحيّة التسليم إلّا السلام عليكم.

وسادساً : خبر عبد اللّه بن الفضل الهاشمي : المنقول من ( معاني الأخبار ) ، لمّا سأل أبا عبد اللّه عليه السلام : عن معنى التسليم في الصلاة ، فقال عليه السلام التسليم علامة الأمن ، وتحليل الصلاة قال : فكيف ذلك؟ قال كان الناس فيما مضى إذا سلّم عليهم واردٌ أمِنوا شرَّه ، وكانوا إذا ردّوا عليه أمِنَ شرَّهم ، وإن لم يسلِّم لم يأمنوه ، وإن لم يردّوا على المُسلِّم لم يأمنهم ، وذلك خُلُقٌ في العرب ، فجعل التسليم [ علامة (3) ] للخروج من الصلاة ، وتحليلاً للكلام ، وأمْناً من أن يدخل في الصلاة ما يفسدها (4).

فهذا الخبر نصّ في أن المراد من التسليم المخرج من الصلاة الذي لا يحلّ قبله شي ء من المنافيات هو ما يعرفه العرب من لفظ التسليم وهو السلام عليكم.

وسابعاً : إطلاق قول الصادق عليه السلام : في موثّقة أبي بصير : إن آخر الصلاة التسليم (5) ، والتقريب : ما مرّ من وجوب صرفه إلى المتعارف.

وثامناً : موثّقة عمّار بن موسى : ، سَألَ أبا عبد اللّه عليه السلام : عن التسليم ، فقال إذْنٌ (6) ،

ص: 72


1- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 2.
2- علل الشرائع 2 : 57 - 58 / 1.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( علّة ).
4- معاني الأخبار : 175 - 176.
5- تهذيب الأحكام 2 : 320 / 1307 ، الإستبصار 1 : 345 / 1302 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 4.
6- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1296 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 7.

لوجوب صرفه كأمثاله إلى المعهود المتعارف وهو السلام عليكم ، فلا خروج منها ولا إذن في المنافيات إلّا به.

وبالجملة ، فالأدلّة على هذا القول كثيرة ، وفيما حصل كفاية.

بقي هنا شي ء هو أن صيغ التسليم المعروف بين المسلمين ثلاث السلام عليكم ، والسلام عليكم ورحمة اللّه ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فأيّها الواجب في الصلاة؟

قلت : المشهور أن الواجب هو الاولى فقط ، وما زاد مستحبّ ، واشتهر النقل عن أبي الصلاح (1) : أنه أوجب الثانية.

قال في ( الذكرى ) نقلاً عن ( المعتبر ) : ( قال أبو الصلاح : الفرض أن يقول السلام عليكم ورحمة اللّه ، وبما قلناه قال ابن بابويه (2) : وابن أبي عقيل (3) : وابن الجنيد (4) : قال : ( يقول السلام عليكم ، فإن قال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته كان حسناً ).

لنا ما روي أن عليّاً عليه السلام : كان يسلّم عن يمينه وشماله السلام عليكم ، السلام عليكم (5).

ومن طريق الخاصّة ما رواه البزنطي : عن عبد اللّه بن أبي يعفور : عن الصادق عليه السلام : في تسليم الإمام وهو مستقبل القبلة قال يقول : السلام عليكم (6).

وما رواه أبو بصير : عن الصادق عليه السلام : فتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم (7) ) (8) ، انتهى.

وقال الشيخ بهاء الدين : ( أمّا عبارته فالتي تضمّنها الحديث الأوّل يعني : صحيح

ص: 73


1- الكافي في الفقه : 119.
2- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944 ، المقنع : 96.
3- عنه في المعتبر 2 : 236.
4- عنه في المعتبر 2 : 236.
5- السنن الكبرى 2 : 254 / 2984.
6- المعتبر 2 : 236 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 11.
7- الإستبصار 1 : 347 / 1307 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
8- الذكرى : 206 - 207 ( حجريّ ) ، المعتبر 2 : 236.

عليّ بن جعفر : المتقدّم (1) أعني السلام عليكم ورحمة اللّه ، ممّا لا ريب في تحقّق الخروج بها من الصلاة ، ونقل المحقّق : في ( المعتبر ) (2) على ذلك الإجماع ، ولا خلاف في عدم وجوب ضمّ وبركاته ، كما قال العلّامة : في ( المنتهى ) (3) ، ولو أسقط قول ورحمة اللّه جاز أيضاً عند غير أبي الصلاح ) (4) ، انتهى ، وهو يؤذن بدعوى الإجماع على الاكتفاء بالصيغة الأُولى.

أقول : دلّت الأخبار الواردة في تسليم الصلاة على الصيغ الثلاث : أمّا السلام عليكم فالأخبار به كثيرة ، بل أكثر الأخبار وردت به.

وأمّا السلام عليكم ورحمة اللّه فورد به بعض الأخبار ، وقد سلف بعضها.

وأمّا السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فورد به أيضاً بعض الأخبار ، مثل : خبر المعراج (5) ، وصحيحة عليّ بن جعفر : عن إخوته (6) ، وعمل أكثر الفرقة من مجتهد ومقلّد على هذا من غير نكير ، وإجماع العصابة على مشروعيّته ، فلا ريب فيها.

والذي يظهر لي من الأخبار وفتوى الفرقة في كيفيّة التسليم الذي وردت به الشريعة عموماً وخصوصاً ، ابتداءً وردّاً وهذا منه بلا إشكال ، كما عرفت أنه في الصلاة كغيرها من باب الواجب المخيّر ، فللمصلّي أن يأتي بأيّ الصيغ الثلاث شاء ، وكلّ صيغة أتى بها نوى بها الوجوب ، وإن أكملها الأخيرة ، وأوسطها أوسطها ، وأقلّها الاولى ، وهي أقلّ ما يتأدّى به الواجب المخيّر ، ولا تلتئم الأخبار إلّا على هذا ، ودلالتها عليه تظهر بأدنى تأمّل.

ص: 74


1- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم 2 ، ح 2.
2- المعتبر 2 : 235.
3- منتهى المطلب 1 : 296.
4- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).
5- علل الشرائع 2 : 9 / 1 ، وسائل الشيعة 5 : 468 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1 ، ح 10.
6- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 2.

تنبيهات

اشارة

بقي هنا تنبيهات :

أحدها : أنه يجب في تسليم الصلاة أحد الصيغ الثلاث على الكيفيّة المذكورة : السلام عليكم ، أو ما يتبعها ويكمّلها ، فلو قدّم عليكم ، أو نكّر السلام ، أو قدّم وأخّر في ورحمة اللّه وبركاته ، أو غيّر هذا الأُسلوب بوجهٍ ما لم يجزِه ، وبطل تسليمه ، فبطلت صلاته.

أمّا الأوّل ؛ فلأن العبادات كيفيّات متلقّاة من الشارع لا يجزي غيرها.

وأمّا الثاني ؛ فلأن تسليم الصلاة جزء منها لا يتأدّى واجب الخروج منها إلّا به ، ولم يقع ، وما وقع فهو شي ء خارج منها جعل فيها بنيّة الجزئيّة ، فهو يبطلها ، هذا إن قلنا : إنه دعاء كما هو الأصحّ ، وأمّا إن قلنا : إنه من كلام الآدميّين لا ذكر ولا دعاء ، فالبطلان به حينئذٍ أوضح ، بل لا يحتاج إلى بيان.

وقال فاضل ( المناهج ) : بعد قول الشهيد : ( أمّا السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته بعد كلام طويل وفي العبارة دلالة على أُمور :

أحدها : أن هذا الترتيب واجب ، فلا يجوز عليكم السلام.

والثاني : أنه لا يجوز تنكير السلام.

والثالث : أنه لا يجوز السلام عليك.

ودليل الكلّ واحد ، وهو أنه عبادة لفظيّة فلا يجوز التلفّظ إلّا بما ورد منها شرعاً.

واستدلّ في ( المنتهى ) على الأوّل برواية عثمان بن عيسى : عن الصادق عليه السلام : قال : سألته عن الرجل يسلّم عليه في الصلاة قال يردّ ، ويقول : سلام عليكم ، ولا يقول : عليكم

ص: 75

السلام ، فإنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كان قائماً يصلّي فمرّ عمّار بن ياسر : فسلّم عليه ، فردّ عليه النبيّ صلى اللّه عليه وآله : هكذا (1)قال : ( وإذا كان الإتيان بهذه الصيغة منهيّاً عنه في الصلاة على سبيل الردّ فكذا في التسليم ؛ لأنه قبله لم يخرج عن الصلاة ، والردّ كالابتداء ) (2).

وذهب المحقّق : في ( المعتبر ) (3) إلى جواز السلام عليكم ، مستدلّاً بأنه يصدق عليه اسم التسليم ، وبأنها كلمة ورد بها القرآن (4) ) ، انتهى.

قلت : لا يخفى على من تأمّل كلام القوم أنهم لا يفرّقون بين تسليم الصلاة وغيره ، بل إنما يعرفون منه أنه فرد من أفراد التسليم الذي هو تحيّة الإسلام ، فيجري فيه حكمه التخييري وغيره ، إلّا إنه لا يجوز مخالفة كيفيّة الصيغة الواردة في تسليم الصلاة لأنها عبادة متلقّاة.

وفي ( الذكرى ) نقلاً من ( المعتبر ) أنه قال : ( لا تجزي ترجمتها يعني السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ولا نكسها ، فتبطل صلاته لو تعمّده ، ولأنه كلام في الصلاة غير مشروع ) (5).

وقال بعد ذلك : ( ولو قال السلام عليكم ، ونوى به الخروج فالأشبه الإجزاء ؛ لصدق التسليم عليه ، ولأنها كلمة ورد القرآن بصورتها ، فتكون مجزية ، ولو نكس لم يجزِ ؛ لأنه خلاف المنقول ، وخلاف تحيّة القرآن ، ولأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : قال لرجل لا تقل عليك السلام (6) ) (7) ، انتهى.

قلت : لو قال السلام عليكم في الصلاة لم يجزِ ؛ لأنه خلاف المنقول في الصلاة ، والقرآن إنما ورد بها في غير الصلاة ، وإلّا لجاز ( سلامٌ ) أو ( سلاماً ) ، ولا نعلم به قائلاً.

ولا تجزي الترجمة فيه أيضاً كسائر أجزاء الصلاة ؛ لوجوب وقوعها بأجمعها

ص: 76


1- الكافي 3 : 366 / 1 ، تهذيب الأحكام 2 : 328 / 1348 ، وسائل الشيعة 7 : 267 - 268 ، أبواب قواطع الصلاة ، ب 16 ، ح 2.
2- منتهى المطلب 1 : 297.
3- المعتبر 2 : 236.
4- الأنعام : 54 ، الأعراف : 46 ، الرعد : 24.
5- الذكرى : 206 ( حجريّ ) ، المعتبر 2 : 236.
6- سنن أبي داود 4 : 353 / 5209.
7- الذكرى : 207 ( حجريّ ) ، المعتبر 2 : 236 - 237.

بالعربيّة بالإجماع والنصّ البياني وغيره ، فلو أوقع بالترجمة فسدت الصلاة قطعاً.

وقال المحقّق الكركي : في ( شرح القواعد ) : ( على القول بوجوب التسليم يجب فيه ما يجب في التشهّد من الجلوس بقدره مطمئناً اختياراً ، وعربيّته مع القدرة أو إمكان التعلّم ، ومراعاة المنقول ، فلو نكرّ : ( السلام ) ، أو اقتصر على بعضه لم يجزِ ، خلافاً للمحقّق (1) : ، ودعواه صدق التسليم عليه متوقّفة على الدليل ، وكذا لو جمع الرحمة أو وحّد البركات ، ونحو ذلك ) (2) ، انتهى.

قلت : لو ضاق الوقت عن تعلّم العربية وأمكن أحد صيغ السلام التي لم تنقل في الصلاة لم يبعد إجزاؤها ، بل تعيّنها ، فإن تعذّر جميع الصيغ الواردة في التسليم لم يبعد إجزاء الترجمة ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3) ، فإن كان شي ء من ذلك لا عن تفريط فلا إثم ، وإلّا أثِمَ وإن أجزى ، واللّه العالم.

وذهب المحقّق نجم الدين : وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه ، إلى وجوب أحد الصيغتين تخييراً ، إمّا السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، أو السلام عليكم ، ولا نعلم قائلاً قبله.

قال رحمه اللّه : ( والتحقيق أنه إن بدأ ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين ، كان التسليم الآخر مستحبّاً ، فيأتي بأحسن ما قيل ، وإن بدأ ب- : « السلام عليكم » أجزى هذا اللفظ ، وكان قوله ورحمة اللّه وبركاته ، مستحبّاً يأتي به ما شاء ) (4) ، انتهى.

ونقله عنه الشهيد : في ( الذكرى ) ، ثمّ قال : ( إلزامه بوجوب صيغة السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين تخييراً قول حدث في زمانه فيما أظنّه أو قبله بيسير ، فإن بعض شرّاح رسالة سلّار أومأ إليه ، واحتجاجه بصدق اسم التسليم عليه محلّ النزاع ، فإن راوي هذا الخبر مسنداً من العامّة ، أو مرسلاً من الخاصّة يزعم أن ( اللام ) في التسليم للعهد ، وهو التسليم المعروف المخرج من الصلاة عندهم لا غيره ، ولأن

ص: 77


1- المعتبر 2 : 236.
2- جامع المقاصد 2 : 327.
3- البقرة : 286.
4- المعتبر 2 : 236.

عبارة التسليم قد صارت متعارفة بين الخاصّة والعامّة في السلام عليكم ، يعرف ذلك بتتبّع الأخبار والتصانيف ، حيث يذكر فيها ألفاظ السلام المستحبّة ، ثمّ يقال بعدها : وبعد السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، ثمّ يسلّم ، وهذا تصريح منهم بأن اسم التسليم الشرعي مختصّ بصيغة السلام عليكم ) (1). قال في ( المناهج ) : ( واعلم أن المحقّق : استدلّ على هذا المدّعى بقوله صلى اللّه عليه وآله تحليلها التسليم (2) لأنه يقع على كلّ واحد [ من ] العبارتين ، قال : ( ويؤيّد ذلك روايات عن أهل البيت : ، صلوات اللّه عليهم ) (3).

وذكر منها رواية أبي بصير (4) : ، ثمّ قال : ( يلزم من الاقتصار في الخروج على ما يسمّى تسليماً الخروج بقوله السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته.

فلنا : السلام على النبيّ صلى اللّه عليه وآله من جملة أذكار الصلاة فلا يخرج به ويجري مجرى الدعاء والثناء على اللّه سبحانه وتعالى ، ويدلّ عليه روايات ). وذكر منها رواية أبي كَهْمَس (5) والحلبي (6).

ثمّ قال : ( ولو قيل : احتججتم بفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله : وهو صلى اللّه عليه وآله لم يخرج إلّا بقول السلام عليكم ورحمة اللّه ، فيجب الاقتصار عليه ، قلنا : دلّ على الجواز قوله صلى اللّه عليه وآله وتحليلها التسليم (7) ، وهو صادق على كلّ ما يسمّى تسليماً ممّا ذكر في الصلاة عدا ما يقصد به الدعاء للنبيّ والأئمّة عليهم الصلاة والسلام ) (8). هذا ما تعلّق من كلامه بالاحتجاج على مذهبه.

ص: 78


1- الذكرى : 207 ( حجريّ ).
2- الكافي 3 : 69 / 2 ، وسائل الشيعة 6 : 415 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 1.
3- المعتبر 2 : 234.
4- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
5- التهذيب 2 : 316 / 1292 ، وسائل الشيعة 6 : 426 ، أبواب التسليم ، ب 4 ، ح 2.
6- تهذيب الأحكام 2 : 316 / 1293 ، وسائل الشيعة 6 : 426 ، أبواب التسليم ، ب 4 ، ح 1.
7- الكافي 3 : 69 / 2.
8- المعتبر 2 : 234 - 235.

وأورد عليه في ( الذكرى ) بأن ادّعاءه صدق التسليم على كلّ منهما محلّ النزاع قال : ( ولأن راوي هذا الخبر مسنداً من العامّة ومرسلاً من الخاصّة يزعم أن ( اللام ) في التسليم للعهد ، وهو التسليم المعروف المخرج من الصلاة عندهم لا غيره ، وعبارة التسليم قد صارت متعارفة بين الخاصّة والعامّة في السلام عليكم ، يعلم ذلك بتتبّع الأخبار والتصانيف ، حيث يذكر فيها ألفاظ السلام المستحبّة ثمّ يقال بعدها : وبعد السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، ثمّ يسلّم ، وهذا تصريح منهم بأن اسم التسليم الشرعي مختصّ بصيغة السلام عليكم ) (1). ثمّ استشهد على ذلك بكلام الشيخ : في ( الخلاف ) (2) ولا يخفى أن ما ذكره إنما يضرّ المحقّق لو لم يكن له شاهد من النصّ على أن السلام علينا قاطع للصلاة ومحلّل لها.

وأمّا إذا استشهد بالنصوص الصريحة فيه من غير معارض فكلّا ، لأنه دلّت النصوص على أنها تتحلّل بقول السلام علينا ، ولا شكّ أن اسم التسليم شامل له حقيقة ، وما ادّعاه من صيغة حقيقة في العبارة الأُخرى إن سُلّم ففي عرف الفقهاء ، ثمّ إن ترقّينا له ففي عرف الأئمّة عليهم السلام أيضاً ، وأمّا في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله : فكلّا.

وبالجملة ، فالمحقّق : إنما استدلّ بالنصوص على تعميم التسليم الوارد في الحديث النبويّ ، ولا شبهة أنه لا يعارضه ما ذكره المصنّف رحمه اللّه تعالى ) ، انتهى.

وأقول : في كلام هذا الفاضل في الردّ هنا على الشهيد : والذبّ عن المحقّق : ضروب من الضعف لا تخفى :

منها : أن دعواه وجود الشواهد على كلام المحقّق ، وأن السلام علينا مخرجة من النصّ ، ممنوعةٌ ؛ لأنك قد عرفت ما في الأخبار التي استدلّ بها على صحّة الخروج ب- : « السلام علينا » ، وهذا الفاضل ممّن حقّق وبالغ في نفي دلالتها كما عرفت ،

ص: 79


1- الذكرى : 207 ( حجريّ ).
2- الخلاف 1 : 376 / المسألة : 134 ، الذكرى : 207 ( حجريّ ).

وبملاحظته يتّضح أنه لا شاهد لدعوى المحقّق : ، وليس هذا عدول من هذا الفاضل إلى اختيار المحقّق : ؛ لأنه قبل هذا وبعده ضعّفه ، بل ردّه.

ومنها : أن نَفْيَهُ الشكّ عن شمول اسم التسليم له ممنوعٌ عند الإطلاق ؛ إذ لا شكّ في أنه لا يفهم أحد من إطلاق لفظ : سلّم ، وسلم في الصلاة وغيرها ، والسلام تحية الإسلام ، وأجر المسلّم كذا ، والتسليم أفضل من الردّ ، وما أشبه هذا ، إلّا التسليم المعهود لجميع المسلمين ، المعروف بينهم ، وهو السلام عليكم ، فلا يجوز حمل تحليلها التسليم على غيره إلّا بدليل ، ولا دليل.

وإن فرض ذلك شمل التسليم على النبيّ بلا شكّ ؛ إذ لا ريب أنه تسليم ، ومن البيّن الذي لا شكّ فيه أن كون التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من جملة أذكار الصلاة ، وأنه يجري مجرى الدعاء والثناء على اللّه ، لا يخرجه عن كونه تسليماً ، مع أنا نقول : إن السلام علينا دعاء من المصلّين لأنفسهم ولعباد اللّه الصالحين بلا شكّ ، وممّن نصّ عليه الفاضل في ( المناهج ).

فإن كان التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : يجري مجرى الثناء على اللّه وذكره ، فهذا يجري مجراه ، فأمّا ألّا يكونا مقصودين في الحديث النبويّ ، أو يتحقّق الخروج بالتسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، ولا قائل بالخروج به.

قال في ( الحبل المتين ) : ( إنه لا كلام في عدم كونها مخرجة من الصلاة ، بل قال العلّامة : في ( المنتهى ) : ( لا نعرف فيه خلافاً بين القائلين بوجوب التسليم ) (1) ) (2) ، انتهى.

ومنها : أنه إذا سُلّم أن السلام عليكم هو الحقيقة في عرف الأئمّة صلوات اللّه وسلامه عليهم فقد سُلّم أنه كذلك في عرف النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ؛ إذ لا يعرف أهل الإيمان للأئمّة عرفاً غير عرف النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، فالقول بأن له عرفاً يغاير عرفهم ممّا يدفعه جميع

ص: 80


1- منتهى المطلب 1 : 296.
2- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 253 ( حجريّ ).

قواعد الإيمان وأدلّة التوحيد وجميع أخبار أهل البيت ، بل ضرورة المذهب ، وما يلزمه من المفاسد الدينيّة ما لا يحصى ، وهذه غفلة منه نوّر اللّه ضريحه.

وبالجملة ، فليس في كلامه هذا ما يؤيّد كلام المحقّق : ، ولا ما يدفع نقض الشهيد : له بوجهٍ أصلاً ، بل هو أضعف من استدلال المحقّق : على ما فيه من الضعف ، وأنت إذا تأمّلت الأخبار لم تجد فيها ما يدلّ على وجوب السلام علينا بوجه أصلاً ، وما دلّ بظاهره على صحّة الخروج به أو انقضاء الصلاة بانقضائه فغايته الدلالة على استحباب التسليم المعهود ، وقد عرفت ما فيه ، فليس على مذهب المحقّق : دليل أصلاً ، مع أنه يلزمه أنك إذا قدّمت السلام علينا يكون السلام عليكم من جملة التعقيب ، ولم نظفر بقائل به ، ولا خبر يدلّ عليه ؛ إذ كلّ مستحبّ بعد كمال الصلاة والخروج منها فهو تعقيب.

وقال الشهيد : في ( الروضة ) بعد قول المصنّف : ( ثمّ يجب التسليم ، وله عبارتان السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، أو السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، مخيّراً فيهما ، وبأيّهما بدأ كان هو الواجب وخرج به من الصلاة ، واستحبّ الآخر ) (1) - : ( وأمّا جعل الثاني مستحبّاً كيف كان كما اختاره المصنّف هنا فليس عليه دليل واضح ، وقد اختلف فيه كلام المصنّف فاختاره هنا وهو من آخر ما صنّفه ، وفي ( الألفيّة ) (2) وهي من أوّله ، وفي ( البيان ) أنكره غاية الإنكار ، فقال بعد البحث عن الصيغة الأُولى : ( وأوجبها بعض المتأخّرين ، وخيّر بينها وبين السلام عليكم ، وجعل الثانية منهما مستحبّة ، وارتكب جواز السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين بعد السلام عليكم ، ولم يذكر ذلك في خبر ولا مصنّف ، بل القائلون بوجوب التسليم واستحبابه يجعلونها مقدّمة عليه ) (3) ، وفي ( الذكرى ) نقل وجوب الصيغتين تخييراً عن بعض المتأخّرين ، وقال : ( إنه قويّ متين إلّا إنه لا قائل به من القدماء فكيف

ص: 81


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 277.
2- الألفيّة في الصلاة اليوميّة : 60.
3- البيان : 177.

يخفى عليهم مثله لو كان حقّا ) (1) ) (2) ، انتهى.

وقال في ( المناهج ) : ( قوله : ( وأمّا جعل الثانية مستحبّة كيف كان كما اختاره المصنّف هنا فليس عليه دليل واضح ) : اعلم أن جعل الثاني مستحبّاً كيف كان يتضمّن أربع دعاوي :

الاولى : أنه يتخيّر في تقديم أيّ العبارتين شاء.

والثانية : أنه يتعيّن المتقدّم أن يكون هو الواجب.

والثالثة : أنه يتعيّن نيّة الخروج به.

والرابعة : أن المتأخّر أيّة كانت من العبارتين مستحبّ ) ، انتهى.

قال في ( الذكرى ) بعد ذكر الاحتمالات الستّة في التسليم : ( وبعد هذا كلّه فالاحتياط للدين الإتيان بالصيغتين ؛ جمعاً بين القولين ، وليس ذلك بقادح في الصلاة بوجهٍ من الوجوه ، بادياً ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين ، لا بالعكس ، فإنه لم يأتِ به خبر منقول ولا مصنّف مشهور ، إلّا ما في بعض كتب المحقّق (3) : ، ويعتقد ندب السلام علينا ، ووجوب الصيغة الأُخرى ، وإن أبى المصلّي إلّا إحدى الصيغتين ، ف- « السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته » مُخْرِجةٌ بالإجماع ) (4) ، انتهى.

وبمثل هذه العبارة عبّر الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ).

قال في ( المناهج ) بعد أن نقل عبارة ( الذكرى ) : ( أمّا كون الاحتياط في الجمع بينهما فلوجهين :

الأوّل : أنه إن اقتصر على السلام علينا ، لم يأتِ بالواجب عند السيّد (5) : وأبي الصلاح (6). وإن اقتصر على الآخر لم يأتِ بالواجب عند يحيى بن سعيد (7).

ص: 82


1- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 278.
3- شرائع الإسلام 1 : 79.
4- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
5- الناصريّات : 211 - 212 / المسألة : 82.
6- الكافي في الفقه : 119.
7- الجامع للشرائع : 84.

والثاني : أنك قد عرفت أن ابن طاوس رحمه اللّه (1) : احتمل وجوبهما ؛ لدلالة الأخبار عليه.

وأمّا إن الاحتياط في تقديم السلام علينا فلأنه المنقول من فعل الأئمّة والصحابة وأقوالهم.

وأمّا كون الاحتياط في ألّا يقصد الخروج إلّا ب- : « السلام عليكم » فلِمَا مرّ من أن التسليم حقيقة عرفيّة فيه ، فيكون هو المخرج ، فإن نوى الخروج بالأوّل احتمل أن يكون نواه في أثناء الصلاة ، بل هو الظاهر. وعلى تقدير أن يكون السلام علينا مخرجاً لم يضرّ عدم نيّة الخروج به ؛ لأن نيّة الخروج لا تشترط في التسليم ولا ينته ب- : « السلام عليكم » ؛ لأن غايته أن يكون لَغْواً ، هذا غاية ما يمكن أن يقال ) ، انتهى.

وأقول : ليس ما ذكره رحمه اللّه هو وجه الاحتياط الذي لاحظه الشهيد : ؛ لأنه قال : ( جمعاً بين القولين ) (2) ، والظاهر أنه عنى المشهور ، وقول المحقّق : ومن تبعه ، وأمّا إنه لاحظ قول يحيى بن سعيد : وعبارة ( البشرى ) فكلّا ؛ لأنهما شاذّان نادران لا دليل على شي ء منهما ، ولا شكّ عنده في سقوطهما ، ولذلك لم يعرج على عبارة ( البشرى ) ، ورمى قول يحيى : بمخالفة الإجماع ، فتوجيه ( المناهج ) غير ما لاحظه الشهيد : ، على أن كلّاً منهما خارج عن طريق الاحتياط على ما سنوضّحه إن شاء اللّه تعالى من ذي قبل ، وسيأتي أيضاً إن شاء اللّه تعالى أن فاضل ( المناهج ) : أنكر كون هذا سبيل الاحتياط ، فترقّب إنا وإيّاك لرحمة اللّه من المترقّبين.

ثمّ اعلم أن الذي يظهر لي أن عبارة المحقّق : في ( المعتبر ) غير صريحة في أن المصلّي إذا بدأ ب- : « السلام عليكم » ، استحبّ له أن يأتي بعده ب- : « السلام علينا » ، حيث إن لفظها كما عرفت هكذا : ( والتحقيق : أنه إن بدأ ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين كان التسليم الآخر مستحبّاً ، وإن بدأ ب- : « السلام عليكم » ، أجزأهُ هذا اللفظ ،

ص: 83


1- عنه في الذكرى : 208 ( حجريّ ).
2- الذكرى : 208 ( حجريّ ).

وكان قوله ورحمة اللّه وبركاته ، مستحبّاً ) (1) ، ولم يقل : ويستحبّ له حينئذٍ أن يأتي بعده ب- : « السلام علينا » إلى آخره. بل ظاهر هذه العبارة أنه إن بدأ ب- : « السلام علينا » ، استحبّ له أن يأتي ب- : « السلام عليكم » ، وإن بدأ ب- : « السلام عليكم » ، أجزأه وحده ، ولم أقف على من تنبّه لهذا.

نعم ، هو ظاهر عبارة ( الشرائع ) و ( النافع ) ، حيث قال في ( الشرائع ) : ( الثامن : التسليم ، وهو واجب على الأصحّ ، ولا يخرج من الصلاة إلّا به ، وله عبارتان : أحدهما : أن يقول السلام علينا إلى آخره ، والأُخرى : أن يقول السلام عليكم إلى آخره ، وبكلّ منهما يخرج من الصلاة ، وبأيّهما بدأ كان الثاني مستحبّاً ) (2) ، انتهى.

ومثلها عبارة ( النافع ) (3) ، مع أنها محتملة لما هو ظاهر عبارة ( المعتبر ) ، فيكون معناها : إن بدأ ب- : « السلام علينا » ، استحبّ له الإتيان بالأُخرى طبق ما وردت به الأخبار من الترتيب وجاز له تركها ، وإن بدأ ب- : « السلام عليكم » كانت الأُخرى مستحبّة ، بمعنى أنها تترك حينئذٍ لا إلى بدل ، لا أنه يستحبّ الإتيان بها بعد السلام عليكم ؛ لأن كيفيّة العبادة متلقّاة ، ولم يرد به خبر ، فيبعد أن يفتي به مثل هذا الإمام المتبحّر.

وأصرح من عبارتيه عبارة ابن شجاع (4) في ( معالم الدين ) ، حيث قال في تعداد الواجبات : ( الثامن : التسليم ، وليس بركن ، ومحلّه آخر التشهّد ، وأنه يخرج من الصلاة وإن لم يقصد ، وصورته : إمّا السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، أو السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين.

ويجوز الجمع ، فيستحبّ الأخيرة ، على أنها محتملة ؛ لأنه مخيّر في الإتيان بأيّهما شاء وحدها ، وأنه يجوز الجمع بينهما على الترتيب ).

ص: 84


1- المعتبر 2 : 236.
2- شرائع الإسلام 1 : 79.
3- المختصر النافع : 84.
4- محمّد بن شجاع الأنصاري الشهير بالقطّان ، صاحب ( معالم الدين في فقه آل ياسين ) ، من أعلام القرن التاسع الهجري. انظر أعيان الشيعة 9 : 363، والمصدر غير متوفّر لدينا.

وذهب يحيى بن سعيد : في ( الجامع ) إلى وجوب السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين قال رحمه اللّه : ( والتسليم الواجب الذي يخرج به من الصلاة السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ) (1) ، وهذا مذهب انفرد به وحده ، ولا نعلم به قائلاً من الأُمّة غيره ، ولا شكّ أنه مخالف لكلّ من سبقه ولحقه ، ولا نعلم له عليه دليلاً ، وهو اعلم بما قال ، فلا شكّ أنه شاذّ نادر في غاية الشذوذ والندرة ، فيجب الإعراض عنه على كلّ حال.

ويمكن أن يكون تمسّك بصحيح ميسر : أو حسنه عن الباقر : صلوات اللّه عليه - أنه قال شيئان يفسد الناس بهما صلاتَهم : قول الرجل : تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك ، وإنما هو شي ء قالته الجنّ بجهالة فحكى اللّه عنهم ، وقول الرجل : السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين (2).

فإن المفسد مخرج ، وهذا لا يصحّ التمسّك به ؛ لأن المراد منها قول ذلك في التشهّد الأوّل مطلقاً ، أو التشهّد الأوّل والثاني قبل الشهادتين ، كما هو عمل عامّة العامّة.

والوجه في البطلان حينئذٍ مخالفة الكيفيّة المتلقّاة من الشارع في العبادة ، وذلك مبطل قطعاً ، وإلّا فذكر هذه الصيغة بعد الشهادتين والصلاة على محمّد : وآله قبل السلام عليكم في الأخبار وكتب العصابة أكثر من أن يحصى ، على أنها معارضة بما سمعت من الأخبار المستفيضة.

واحتمل فيها فاضل ( المناهج ) : أن المراد بإفسادها الصلاة إذا قيل في التشهّد الأوّل ، أو إذا قصد به الخروج منها ، والوجه الأوّل احتمله جماعة من الأكابر ، والثاني حسن لا من حيث الإتيان بها على كلّ حال ، بل من حيث قصد الخروج حينئذٍ ، فإنه مخالف للمشروع.

وفي ( الذكرى ) (3) أن يحيى بن سعيد : خرج في هذا عن الإجماع من حيث لا

ص: 85


1- الجامع للشرائع : 84.
2- تهذيب الأحكام 2 : 316 / 1290 ، وسائل الشيعة 6 : 409 ، أبواب التشهّد ، ب 12 ، ح 1.
3- الذكرى : 206 ( حجريّ ).

يشعر. وبالجملة ، فلا شكّ في سقوط هذا القول.

وبالجملة ، فالذي قام عليه الدليل عندي بلا إشكال ولا احتمال ولا تردّد هو وجوب التسليم وجزئيّته ، واختصاص الوجوب ب- : « السلام عليكم » ، أو السلام عليكم ورحمة اللّه ، أو السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، مخيّراً بينها كسائر التسليم الذي هو تحيّة الإسلام ، فإنه هو هو بعينه ، كما لا يخفى على من تأمّل عبارات الفقهاء من الخاصّة والعامّة ، وتأمّل الأخبار من الطريقين ، فإنه يجده ليس عليه غبار.

وإن السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين مستحبّ من مستحبّات الصلاة الواقعة في أثنائها قبل كمالها بلا شبهة ، ك- « السلام عليك أيّها النبيّ : ورحمة اللّه وبركاته » بلا فرق بينهما بوجه.

فإذا عرفت هذا فاعلم أن الذي يقتضيه الورع والاحتياط ترك الإتيان ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين أصلاً ، قبل السلام عليكم ، وبعدها.

أمّا قبلها ؛ فلأنك إمّا أن تنوي حينئذٍ الوجوب ، أو الندب.

فعلى الأوّل ، يقع في محذور مخالفة المشهور بين العصابة من القول باستحبابها ، فتكون على هذا القول قد أتيت بالمندوب بنيّة الوجوب ، وهو لا يجوز ، ولا تتأدّى به العبادة على المشهور المنصور ، فيكون باطلاً منهيّاً عنه ، فتبطل الصلاة حينئذٍ ؛ لأنه نهي في العبادة ، وهو مبطل إجماعاً ؛ لأن الشارع لم يكلّف به بعنوان الوجوب على هذا القول ، وإنما كلّف به بعنوان الندب.

فلو ساغ الإتيان بالمندوب بعنوان الوجوب وبالعكس لَمَا كان لتقسيم الشارع العبادات للواجب والندب فائدة ، ولَمَا عرف الواجب من المندوب ؛ لعدم بقاء الفرق بينهما إذا جاز اعتقاد ندبيّة الواجب وتأديته بهذا القصد والعنوان وبالعكس ، وأيضاً نيّة الوجوب بالمندوب وبالعكس فرع اعتقاد ذلك ؛ إذ لا يمكن مخالفة نيّة العمل لما يعتقده العامل من وصفه بأحدهما ، بل هو محال ، فيكون هذه النيّة والاعتقاد لم يأتِ بها الشرع ، فهو إدخال فيه ما ليس هو منه ، وأيضاً فأنت حينئذٍ يلزمك أن تقصد

ص: 86

الخروج به ؛ إذ لا قائل بوجوب التسليمين أو جواز قصد الخروج بهما ، فتكون قد قصدت الخروج عندهم قبل كمال الصلاة في أثنائها ، وهو مبطل.

وعلى الثاني ، تقع في محذور مخالفة المحقّق : ومن قال بمقالته ، فإنهم يوجبون نيّة الوجوب به إذا قدّم على السلام عليكم ، ويقصدون الخروج به ويجعلونه هو المخرج خاصّة.

فإذا أتيت به بعنوان الندب لم تأتِ بما قالوه ، فإنك لم تأتِ بواجب أصلاً ، فليس هذا حينئذٍ ما أفتوا به ، بل يقولون : إن نيّة الندب بالواجب مبطلة له ، وقد نقل عليه الإجماع غير واحد ، فيكون منهيّاً عنه حينئذٍ فيبطل الصلاة.

فأنت إذا لم تأتِ ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين قبل السلام عليكم ، فقد خرجت من خلاف الكلّ ، وعملت بمذهب الكلّ.

أمّا على المشهور فأنت حينئذٍ تكون قد تركت مندوباً ، فلا محذور.

وأمّا على مذهب المحقّق (1) : ومن تبعه (2) فلأنك حينئذٍ قد امتثلت الأمر وخرجت من العهدة ، حيث إنك أتيت بأحد فَرْدَي الواجب المخيّر ؛ لأنهم لا يوجبون إلّا أحدهما تخييراً.

فإن قلت : لم يخرج حينئذٍ من خلاف ابن سعيد. قلت : ذلك مذهب لم يقل به أحد من الأُمّة ، فلا ريب في عدم الالتفات له والاعتداد به.

فإذا عرفت هذا عرفت أن ليس الاحتياط للدين الجمع بينهما مقدّماً ل- « السلام علينا » ، ناوٍ به الندب ، وقاصداً ب- : « السلام عليكم » الوجوب والخروج ، كما قاله الشهيد : في ( الذكرى ) (3) ؛ لأنك حينئذٍ لم تخرج من محذور مخالفة المحقّق : ومن تبعه ، بل ولا من خلاف ابن سعيد (4) : على شذوذه وندرته ، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان.

ص: 87


1- المعتبر 2 : 236 ، المختصر النافع : 84.
2- منتهى المطلب : 296 ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 277.
3- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
4- الجامع للشرائع : 84.

وأمّا إن أتيت به بعد السلام عليكم فلأنك حينئذٍ قد فعلت شيئاً لم يأتِ به خبر ، ولم يدلّ عليه الشارع بوجهٍ ، بل هو مخالف لعمل عامّة المسلمين وخاصّتهم في سائر الأزمان والأصقاع ، فتقع في محذور إدخالك في الشرع ما ليس منه ، ومحذور عبادتك لله من حيث تحبّ لا من حيث يحبّ. وهذا جارٍ في تقديمه على السلام عليكم أيضاً ، فلا تغفل.

وممّا يستأنس له في هذا خبر أبي بكر الحضرمي قلت له : أُصلّي بقوم ، فقال : [ تسلِّم (1) ] واحدة ولا تلتفت ، قل : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، السلام عليكم (2).

وأنا لمّا ظهر لي هذا تركت الإتيان ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين أصلاً ، ولم أقف على من وافقني على هذا ، وبعد سبع سنين وقع في يدي كتاب الصلاة من ( المناهج شرح الروضة ) تصنيف محمّد بن الحسن الأصفهاني : ، الملقّب ببهاء الدين ، وهو مصنّف ( شرح القواعد ) المسمّى ب- ( كشف اللثام ) ، فوجدته قد قرّر هذا وصرّح به ، ولننقل عبارته بحروفها. قال رحمه اللّه على عبارة ( الألفيّة ) (3) التي ذكرها في ( الروضة ) وصورتها : ( إن من الواجب جعل المخرج ما يقدّمه من إحدى العبارتين ، فلو جعله الثانية لم يجزِ ) (4) : ( قوله : ( فلو جعله الثانية لم يجزِ ) : أمّا إذا كان المتقدّم هو السلام عليكم فظاهر ؛ لأنها مخرجة بالإجماع ، ولا تشرّع مستحبّة متقدّمة إجماعاً ، فيكون نيّة الاستحباب بها كنيّة استحباب بعض الواجبات المتعيّنة في أثناء الصلاة ، وهو مبطل.

وأمّا إذا كان المتقدّم هو السلام علينا ، فلِمَا في بعض الأخبار من كونها مخرجة

ص: 88


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( سلّم ).
2- تهذيب الأحكام 3 : 276 / 803 ، وسائل الشيعة 6 : 427 ، أبواب التسليم ، ب 4 ، ح 3.
3- الألفيّة في الصلاة اليوميّة : 60.
4- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 279.

من الصلاة ، وهو وجه إيجابها تخييراً ، فنيّة الاستحباب بها يوجب المحذور السابق ). هذا لفظ الشارح في شرحه ، وهو حسن.

اللّهمّ إلّا أن يقال : إن غاية ما لزم من الأخبار والإجماع صلاحيّة كلّ منهما للخروج به من الصلاة ، وأمّا ألّا يجوز إيقاعه لا بقصد الخروج ، بل لمجرّد الدعاء الذي يستحبّ في جميع الأحوال وبعد كلّ جزء من أجزاء الصلاة ، فلم يلزم ، وحينئذٍ فيقصد به الندب ، لكن لا يخفى أن الاحتياط خلافه.

فما اختاره في ( الألفيّة ) من انتفاء الاحتياط فيما جعله في ( الذكرى ) (1) احتياط قويّ ، وقولنا في الاستدلال له : إنه على تقدير أن يكون السلام علينا مخرجاً لا يضرّ عدم نيّة الخروج به ولا نيّة الخروج بغيره مدفوعٌ بأن المفروض ليس مجرّد عدم نيّة الخروج ، بل نيّة الندب ، ولا يخفى أنه ينافي كونه مخرجاً.

فقد يحصل لك ممّا عرّفناك أن الاحتياط للدين أن يقتصر على السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ، فإنه إن اقتصر على الآخر لم يخف ما فيه ، وإن جمع بينهما وقصد الخروج بالمتقدّم كان فيه ما عرفت ، إلّا أن يكون المتقدّم هذه العبارة ، فإن الأُخرى تكون مستحبّة بذلك المعنى الذي ذكرناه ، وإن قصد الخروج بالمتأخّر كان فيه ما عرفت الآن.

وأمّا قول يحيى بن سعيد (2) : فهو مخالف للإجماع كما عرفت ، فلا التفات إليه ، ويقوّي كونه احتياطاً الروايةُ التي قدّمناها عن الباقر : صلوات اللّه عليه الناصّة بأن السلام علينا يفسد الصلاة ). يعني بها صحيحة مَيْسِرِ المتقدّمة (3).

( والعجب من كثير من الأصحاب أنهم استدلّوا بها على كونه مخرجاً عن الصلاة على وجه التخيير بينه وبين السلام عليكم ، مع أنها صريحة أنه مفسد لها ، والمفسد وإن كان مخرجاً لكن لا بالمعنى الذي أرادوه ، ولا تصريح فيها بأنه في التشهّد الأوّل

ص: 89


1- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
2- الجامع للشرائع : 84.
3- تهذيب الأحكام 2 : 316 / 1290 ، وسائل الشيعة 6 : 409 ، أبواب التشهّد ، ب 12 ، ح 1.

مفسد دون الثاني ).

إلى أن قال في شرح قول الشارح : ( إلّا إنه ليس احتياطاً ) : ( فيه إشارة إلى ما اخترناه من الاحتياط ، فإنه إذا لم يكن هذا احتياطاً ؛ فإمّا أن يكون الاحتياط الاقتصار على أحدهما لا على التعيين ، أو على السلام عليكم ، أو على السلام علينا ، أو الجمع بينهما ، مع تقديم علينا ، وجعل الآخر مستحبّاً ، أو بالعكس ، أو بالتخيير بين الأمرين ، لكن لا خفاء في أنه لا احتياط في الاقتصار على السلام علينا ؛ لأنه لا إجماع على الاجتزاء به ، بل نقل على خلافه ، وكذا الاحتياط في جعل السلام عليكم مستحبّاً لذلك ، وهو قد ردّ على من أجاز جعل الأخير أيّاً ما كان من العبارتين مستحبّاً ، فلم يبقَ إلّا أن يكون الاحتياط في الاقتصار على السلام عليكم ، كما قلنا ) ، انتهى كلامه ، وهو في غاية الحسن والجلالة واللطافة.

والحاصل أن المصلّي إن اقتصر على السلام عليك أيّها النبيّ ، وقع في خلاف الموجبين لغيرها طُرّاً ، بل لم يقل أحدٌ من الفرقة بصحّة الخروج بها كما عرفت ، وإن لزم ذلك للقائلين باستحباب التسليم.

وإن أضاف لها السلام علينا ، أو اقتصر عليها ، وقع في خلاف الموجبين ل- « السلام عليكم ».

وإن جمع بينهما أو بينهما وبين السلام عليكم ، فإن نوى الوجوب بالأُولى أو الثانية أو هما ، وقع في مخالفة المشهور من تعيين السلام عليكم ووجوبها ، ووجوب نيّة الندب في السلام علينا فوقع في محذور نيّة الوجوب في المندوب.

وإن نوى الندب بهما أو ب- : « السلام عليكم » وقع في محذور مخالفة المحقّق : ومن تبعه ، فيقع في محذور نيّة الندب بالواجب.

أمّا لو ترك السلام علينا ، واقتصر على السلام عليكم فعمله صحيح بالإجماع ، فإن المشهور أنها مستحبّة ، كما هو عند جميع القائلين باستحباب التسليم ، وجميع القائلين بتعيين السلام عليكم من الموجبين ، والمحقّق : مخيّر ، فالصلاة عنده حينئذٍ

ص: 90

صحيحة ، ومذهب ابن سعيد : ساقط بالإجماع ، فاعرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال ، والحمد لله ربّ العالمين.

وقال الفاضل الشيخ عبد اللّه بن حسين التستري (1) : في ( شرح الألفيّة ) : ( وقد يقال : مقتضى الأخبار مع ملاحظة كلام الأصحاب يقتضي تقديم السلام عليكم، فإن الأخبار دلّت على الخروج ب- : « السلام علينا » ، وقول الأصحاب : إن السلام عليكم من أجزاء الصلاة ، فحينئذٍ من قدّم السلام علينا فقد أدخل بين أجزاء الصلاة ما يبطلها ، بخلاف من أخّره ) ، انتهى.

وأقول : أمّا دلالة الأخبار على الخروج ب- : « السلام علينا » فممنوعةٌ ، والمستند واضح ممّا مرّ ذكره. وأمّا إن قول الأصحاب : ( إن السلام عليكم من أجزاء الصلاة ) فيظهر منه إجماع.

وعلى كلّ حال ، فهو يدافع أن الأخبار دلّت على الخروج ب- : « السلام علينا » ؛ لأنه إذا ثبت أن الأصحاب قائلون بجزئيّة السلام عليكم فقد ثبت أنهم قائلون بعدم الخروج ب- : « السلام علينا » ، ومحال أن يقول الأصحاب بخلاف ما دلّت الأخبار عليه ، وإلّا لناقضت قولهم ، وهو محالٌ.

نعم ، لو دلّ دليل على التعبّد بالإتيان ب- : « السلام علينا » ، بعد السلام عليكم ، لكان الاحتياط فيه ، ولكن لم يدلّ عليه دليل كما عرفت ، فلم يبقَ سبيل إلى الاحتياط إلّا ترك السلام علينا أصلاً.

[ الثاني (2) ] : هل تجب نيّة الخروج بالتسليم المُخْرِج؟ قولان : قال في ( المدارك ) : ( الأجود أنه لا يجب نيّة الخروج من الصلاة بالتسليم ؛

ص: 91


1- الشيخ عبد اللّه التستري توفّيَ سنة (1021) ه كان تلميذ الأردبيلي وشيخ المولى محمّد تقي المجلسي ، من مؤلّفاته : شرح القواعد ، شرح ألفية الشهيد ، شرح على المختصر العضدي ، شرح إرشاد العلّامة ، وغيرها. أعيان الشيعة 8 : 1. والمصدر غير متوفّر لدينا.
2- أي الثاني من التنبيهات التي ابتدأها في ص 73 ، وفي المخطوط ( الأَوّل ) مع زيادة لفظة ( تنبيهات ) قبله.

للأصل ، وانتفاء المخرج عنه ، وربّما قيل بالوجوب ؛ لأنه ليس جزءاً من الصلاة ، ولأنه محلّل فيحتاج إلى النيّة ، كالمحلّل في الحجّ والعمرة ، وهو ضعيف ، ودليله مزيف ) (1) ، انتهى.

وقال الشهيد : في ( الذكرى ) : ( هل يجب في التسليم نيّة الخروج على تقدير القول بوجوبه؟ قال الشيخ : في ( المبسوط ) : ( ينبغي أن ينوي بهذا ذلك ) (2) ، وليس بصريح في الوجوب.

وجه الوجوب : أن نظم الكلام يناقض الصلاة في موضعه من حيث هو خطاب للآدميّين ، ومن ثمّ تبطل الصلاة بفعله في أثنائها عامداً ، وإذا لم تقترن به نيّة تصرفه إلى التحليل كان مناقضاً للصلاة مبطلاً لها ) (3).

قلت : الظاهر أن هذا إنما يتمّ على القول بالجزئيّة كما هو المعروف من مذهب القائلين بالوجوب ، ولعلّه لم يعتبر القول بالخروج لشذوذه.

وأيضاً ، هذا لا يتمّ على تقدير الجزئيّة ، إلّا إذا أوجبنا له نيّة بانفراده ولم نكتفِ فيه بنيّة الصلاة التي تشمله ، وهو اعلم بما قال.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ووجه عدم الوجوب قضيّة الأصل ، وأن نيّة الصلاة اشتملت عليه وإن كان مخرجاً منها ، ولأن جميع العبادات لا تتوقّف على نيّة الخروج ، بل الانفصال منها كافٍ في الخروج ، ولأن مناط النيّة الإقدام على الأفعال لا الترك لها ) (4).

قلت : أمّا قضية الأصل فمرتفعة بكونه عبادة أو جزءاً من العبادة ، وكلّ عبادة وجزء من عبادة لا يتحقّق فيه الامتثال والخروج من العهدة إلّا بنيّة بالإجماع والنصوص المستفيضة.

وأمّا إن نيّة الصلاة اشتملت عليه فهو محقّق لوجوب النيّة فيه لا رافعاً له ، وإن أراد النيّة المختصّة به فهو ساقط ؛ لاتّفاق النصّ والإجماع على عدم وجوب إفراد

ص: 92


1- مدارك الأحكام 3 : 438.
2- المبسوط 1 : 116.
3- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
4- الذكرى : 209 ( حجريّ ).

جزء من الصلاة بنيّة ، بل الظاهر عدم جوازه في العبادة الواحدة ، بل ربّما كان ذلك مبطلاً ، كما إذا خصّ كلّ جزء بنيّة غير ملاحظ فيها ما سواه ؛ لخروجه حينئذٍ عن المعلوم من تكليف الشارع ، فهو تلاعب أو شبهه.

وأمّا إن جميع العبادات لا يتوقّف عليها الخروج ، بل الانفصال منها كافٍ ، فنحن لا نقول هنا بوجوب نيّة الترك ، بل بوجوب نيّة جزء من الصلاة ، وهو فعل لا ترك ، ولا نعني بوجوب نيّته فيه إلّا وجوب نيّة فعل المخرج.

وأمّا إن مناط النيّة الإقدام على الأفعال لا الترك لها فحقّ ، لكن لا ينفعه ، لأنا لا نوجب إلّا نيّة الإقدام على فعل المخرج.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ومبنى الوجوب على أنه جزء من الصلاة كما اختاره المرتضى (1) : ، أو خارج عنها ، فعلى الأوّل يتوجّه عدم نيّة الخروج به ، وعلى الثاني يتوجّه وجوب النيّة ) (2).

قلت : هذا لو كان يجب إفراده بنيّة ، ونعني بعدم توجّه النيّة عدم إفراد الجزء بها ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : هو جزء يجب إدخاله في نيّة الصلاة بجميع أجزائها كغيره من الأجزاء ، ولا قائل بصحّة فعل من الصلاة لا بنيّة.

وأمّا على فرض الخروج والوجوب ، فلا شكّ في وجوب إفراده بنيّة حينئذٍ ؛ لأنه عمل ، بل عبادة.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ولأن الأصحاب وخصوصاً المتأخّرين يوجبون على المُعتمِر والحاجّ نيّة التحلّل بجميع المحلّلات ، فليكن التسليم كذلك ؛ لأنه محلّل من الصلاة بالنصّ ) (3) ، انتهى كلامه ، رفع اللّه مقامه.

قلت : لا نعرف من مذهب الأصحاب في محلّلات الحجّ والعمرة وهي جميع أفعالهما بعد عقد الإحرام إلّا قصد الفعل بعينه ك- : أطوف بهذا البيت سبعة أشواط ،

ص: 93


1- الناصريّات : 208 - 209 / المسألة : 82.
2- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
3- الذكرى : 209 ( حجريّ ).

مع باقي مشخّصات المنوي ، ولا نعرف من نصّ على أنه يجب في نيّة الطواف مثلاً لأتحلّل به من الإحرام ، وعلى فرضه فليس هو بمحلّل ، وإنما المحلّل ؛ إمّا جميع الأفعال بفرضها كالشي ء الواحد ، وهذا لا يتمّ إلّا بتكلّف بعيد ؛ لأنها عبادات متعدّدة متباينة ، وعلى فرضه فالطواف مثلاً جزء محلّل لا محلّل ، فيمتنع نيّة التحلّل به من حيث هو.

أو نقول : المحلّل هو آخر جزء من أجزاء الأفعال ، كالتقصير مثلاً في المتمتّع بها على المشهور من جزئيّته ، وعليه فقس غيرها.

ولنا أيضاً مع فرض ما ذكر منع كون السلام من قبيل محلّل النُّسكَيْن ، فمساواته له يكون قياساً.

وبالجملة ، فنحن نقول : التسليم واجب من واجبات الصلاة ، فلا بدّ من شمول نيّة الصلاة له ودخوله فيها كشمولها لغيره من أجزائها الواجبة ، أي يجب أن ينوي فعله كغيره ، ولا يضرّ اعتقاد أنه جزء مخرج ، أي أن بكماله تكمل الصلاة ويخرج المصلّي منها.

وأمّا إنه يجوز فعله لا بنيّة أصلاً فالنصّ والإجماع من غير معارض يمنعه ؛ لأنه عبادة وعمل لا يصحّ ولا يتحقّق من حيث هو جزء من الصلاة إلّا بنيّة.

وأمّا أنه يجب إفراده بنيّة من بين أمثاله من واجبات الصلاة فكلّا ؛ لأن ذلك يستلزم إخراجه عن نيّة الصلاة الكلّيّة البسيطة الشاملة لجميع أجزائها ، وهذا مفسد للصلاة ؛ لأنها عبارة عن جميع أجزائها ، فإذا أُفرِدَ بنيّة لم تكن النيّة المتّصلة بأوّلها نيّة للصلاة ، بل لبعضها ، ولأنها عبادة واحدة ، فإذا أُفرد هذا الجزء بنيّة لم يكن ما فرض أنه واحد واحداً.

نعم ، على فرض القول بأنه خارج يجب إفراده بنيّة ؛ لأنه عمل مستقلّ. واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

ص: 94

[ الثالث (1) ] : فرّع الشهيد : في ( الذكرى ) هنا بعد العبارة التي ذكرناها فروعاً قال رحمه اللّه : ( أحدها : إن قلنا بوجوب نيّة الخروج فهي بسيطة لا يشترط فيها تعيين ما وجب تعيينه في نيّة الصلاة ؛ إذ الخروج إنما هو عمّا نواه وتشخّص.

ويحتمل أنه ينوي الوجوب والقربة لا تعيين الصلاة والأداء ، فإن الأفعال تقع على وجوه وغايات ، وأمّا تعيين الصلاة والأداء فيكفي فيه ما تقدّم من نيّتها وإرادة الخروج عنها الآن ) (2).

قلت : هذا التفريع إنما يتحقّق على ملاحظة إفراد السلام بنيّة تخصّه وملاحظة الخروج به ، وقد أعلمناك أنه لا يجب ذلك ، بل ربّما ضرّ ، وإنما هو جزء من الصلاة لا يجب فيه غير ما يجب في سائر أجزائها الواجبة ، وهو قصد الإتيان به مع العلم بأنه الجزء الذي تتمّ بفعله الصلاة ويتحقّق الخروج منها ، فدخوله في نيّة الصلاة الجُمَليّة البسيطة كافٍ عند التفات النفس لوصفه العنواني عند الإتيان به تقصد الإتيان به ملاحظاً وجوبه وجزئيّته وأنه كغيره من أمثاله من أجزائها ، فإنك تنوي في النيّة الإجماليّة الإتيان بذكر الركوع الواجب ، وحين فعله تقصد ذلك ، وهو الإتيان بالذكر المقصود وأنه جزء منها ، وجزء من الركوع واجب ، وعليه فقس.

ووقوع الأفعال على وجوه وغايات ممّا لا شكّ فيه ، وغاياتها الباعثة عليها هي روح نيّاتها ، ومن أجل ذلك وجب ملاحظة الوجوب والقربة والأداء ، وأنه جزء من صلاة كذا ؛ فإنه جزء من عمل يجب ملاحظة ذلك في جميعه ، فلا معنًى ؛ لأنه يجب في نيّة المغرب مثلاً قصد الوجوب والأداء والقربة بفعل فرض المغرب كلّه ، ولا يجب ملاحظة ذلك في جزء من هذه الجملة التي وجب في جميعها ذلك.

نعم ، لا يجب فيه ملاحظة أنه مخرجٌ من كلّ جزء جزءاً على حدة ، بل لا يجوز ذلك ، فإنه خلاف المفهوم من الشارع ؛ لأنه لا يطابق الواقع ، فإنه آخر الصلاة من

ص: 95


1- أي الثالث من التنبيهات التي ابتدأها في ص 73 ، وفي المخطوط : ( الثاني ).
2- الذكرى : 209 ( حجريّ ).

حيث جملتها لا آخر كلّ جزء على حدة ، وإنما الخروج من كلّ جزء بكماله.

وقوله رحمه اللّه : ( إنه يكفي في تعيين الصلاة والأداء ما تقدّم من نيّتها وإرادة الخروج منها الآن ) يومئ إلى ما ذكرناه ؛ إذ لا يتمّ إلّا على ما قرّرناه ، فلا تغفل.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( الثاني : إن اعتبرنا نيّة الخروج وعيّن الخروج عن صلاةٍ ليس متلبّساً بها ؛ فإن كان عمداً بطلت الصلاة بفعل مناقضها ، وإن كان غلطاً ففيه إشكال منشؤُه النظر إلى قصده في الحال فتبطل الصلاة ، وإلى أنه في حكم الساهي ، والأقرب صحّة الصلاة إن قلنا بعدم نيّة الخروج ؛ لأنها على ما افتتحت عليه.

وإن قلنا بوجوب نيّة الخروج احتمل ذلك أيضاً ، صرفاً للنيّة إلى الممكن ، وأن الغالط كالقاصد إلى ما هو بصدده ، وإن كان سهواً فالأقرب أنه كالتسليم ناسياً في أثناء الصلاة ، فيجب له سجدتا السهو ، ثمّ يجب التسليم ثانياً بنيّة الخروج.

ولو قلنا : لا يجب نيّة الخروج ، لم يضرّ الخطأ في التعيين نسياناً كالغلط ، أمّا العمد فمبطل على [ تقديري (1) ] القول بوجوب نيّة الخروج والقول بعدمه ، وكذا لو سلّم بنيّة عدم الخروج به فإنه يبطل على القولين ) (2).

قلت : هذا أيضاً تفريع على أفراده بنيّة ، وإلّا فلا يتصوّر أن يقصد المصلّي لفرض الظهر مثلاً أني أُسلّم في فرض المغرب. أو : أن الآن آخر جزء منها. لا بنيّة العدول إلى الأُخرى في حال يصحّ فيه ذلك.

غاية ما يمكن تصوّره أن يقصد : [ إني (3) ] أُسلّم تسليماً ليس هو تسليم الصلاة التي أنا متلبّس بها الآن. وهذا مبطل للصلاة قطعاً ؛ لأنه تلاعب ، ولأنه يستلزم قصد الخروج منها وإبطالها ، ولأنه لا خلاف في أنه إذا تعمّد التسليم في أثناء الصلاة بطلت ، وهذا كذلك.

ص: 96


1- في المخطوط : ( تقدير ).
2- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
3- في المخطوط : ( أن ).

وهذا الإبطال يتمشّى على القول بالجزئيّة والخروج ، ويلزم القول بالاستحباب عدم البطلان ، ولا أظنّ أحداً يقول به من الفرقة ، لما يلزم من موافقة أبي حنيفة.

أمّا الغالط فإن أراد به مَنْ كان مستحضراً عند التسليم أني في فرض الظهر مثلاً وقصد تسليمها والنقش حينئذٍ في ذهنه بدل حروف فرض الظهر حروف فرض المغرب مثلاً ، فلا شكّ أنه لا يضرّه ؛ لعدم اعتبار ذلك في النيّة شرعاً.

وإن كان أراد به من توهّم أنه في فرض العصر مثلاً ، والحال أنه في الظهر مثلاً ، فهذا هو السهو بعينه ؛ لعدم ظهور مباينة هذا لأقسام السهو ، والظاهر أن صلاته حينئذٍ صحيحة ، اكتفاءً بنيّة السابقة البسيطة الشاملة لجميع أجزاء الصلاة ، وهذا من باب رفع عن أُمّتي الخطأ والنسيان (1) ومن باب إنّ الصلاة على ما افتتحت عليه (2) كما جاء في غير خبر ، وموردها من قام ونوى فرضاً فذهل في أثنائه فظنّ أنه في نفل ، فهي من باب المسألة المبحوث عنها ؛ لعدم الفرق ، فلا إشكال.

ولا تتوقّف الصحّة حينئذٍ على القول بعدم وجوب نيّة الخروج. نعم ، الأحوط إعادة السلام ، وسجود السهو بعده.

ووجه عدم الإعادة والسجود أن الظاهر قصد التسليم فيما دخل فيه من الصلاة والخروج بفعله منها ، وإنما ذلك من خطأ الوهم ، كما أنه إذا كان في فرض فتوهّم أنه في نفل فسجد إنما يقصد السجود فيما دخل فيه وإن وهم أنه نفل ، وهذا كافٍ ، واللّه رؤوف بالعباد ، وباقي كلامه واضح.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( الثالث : وقت النيّة على القول بوجوبها عند التسليم مقارنة له ، فلو نوى الخروج قبل التسليم بطلت الصلاة لوجوب استمرار حكم النيّة ، ولو نوى قبله الخروج عنده لم تبطل ؛ لأنه قضية الصلاة ، إلّا إنه لا تكفيه

ص: 97


1- الفقيه 1 : 36 / 132 ، عوالي اللآلي 1 : 232 / 131 ، وسائل الشيعة 4 : 373 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 12 ، ح 6 ، 8.
2- تهذيب الأحكام 2 : 197 / 776 ، عوالي اللآلي 1 : 205 / 34.

هذه النيّة ، بل تجب عليه النيّة مقارنة لأوّله ) (1).

قلت : وهذا أيضاً تفريع على وجوب إفراده بنيّة ، وقد عرفت ما فيه ، وعلى هذا فكلامه حقّ ، وهو واضح.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( الرابع : هذه النيّة لا يجب التلفّظ بها قطعاً ؛ لاشتمالها على ألفاظ ليست من أذكار الصلاة ، وكذا نيّة العدول في [ أثناء (2) ] الفريضة إلى فريضة أُخرى لا يجوز التلفّظ بها وإن جاز التلفّظ بالنيّة في ابتداء الصلاة ) (3).

قلت : هكذا في النسخة التي بين يدي ، والظاهر وجوب إبدال لفظ ( لا يجب ) ب- ( لا يجوز ) ؛ لما ذكره رحمه اللّه من التعليل ، ولا خصوصيّة لهذا الجزء من أجزاء الصلاة بذلك ، بل هو جارٍ في جميع أجزائها الواجبة والمندوبة ، فلو لاحظ نيّة الركوع أو ذكره مثلاً عند الإتيان به وتلفّظ بها بطلت ، وكذا كلّ جزء.

وأراد بالفرض المعدول عنه وإليه هنا هو فروض الصلاة ، ولو عبّر به لكان أوْلى ، فإن الفرض أعمّ من ذلك ، ولا يجري البطلان بالتلفّظ بنيّة العدول في كلّ عدول من فرض إلى فرض ، فلو عدل من العمرة إلى الحجّ وتلفّظ بنيّته لم يبطل النسك إجماعاً ، والمراد ظاهر ، والمناقشة في العبارة بعد ظهور المراد هيّن.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( الخامس : لو تذكّر في [ أثنائها (4) ] صلاة سابقة وجب العدول إليها ، والأقرب أنه لا يجب فيه تجديد نيّة الخروج ، ولا إحداث نيّة التعيين في الخروج لهذهِ الصلاة التي فرضه الخروج منها ، كما لا يجب في الصلاة المبتدأة التعيين ؛ لأن نيّة [ العدول (5) ] صيّرت التسليم لها.

وهذا العدول إنما يتمّ لو قلنا بأن التسليم جزء من الصلاة ، ولو حكمنا بخروجه لم يجزِ قطعاً ) (6) ، انتهى.

ص: 98


1- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( نيّة ).
3- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أثنائه ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( التعيين ).
6- الذكرى : 209 - 210 ( حجريّ ).

قلت : معنى العدول إلى السابقة أنه ينوي العصر فيذكر أنه لم يصلّ الظهر مثلاً ، أو ينوي الحاضر فيذكر أن عليه فائتة في أثناء المنويّة أوّلاً فيعدل ، أي ينوي أن ما فعلته ممّا نويتها من الأُولى أو الفائتة هو من المعدول لها ، ويأتي ببقيّتها بنيّة أنها من المعدول إليها.

إذا عرفت هذا فاعلم أن في عبارته ما لا يخفى :

أمّا أوّلاً ؛ فلأن تذكّر السابقة في أثناء السلام عليكم نادر بعيد جدّاً كما مرّ.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنه على تقديره فالأظهر أنه حينئذٍ يقصد أن ما سبق منه قبل التذكّر ، وما يأتي منه بعده للسابقة وجزء منها ، كما هو الشأن في سائر أجزاء المعدول منها وإليها ، فلا بدّ حينئذٍ من تعيين المعدول إليها وتوجّه القصد بما بقي إليها ، وإلّا لم يتحقّق العدول. ويحتمل أنه يعيده حينئذٍ من أوّله ، ويسجد للسهو لما أتى به منه ؛ لأنه حينئذٍ في القصد ظاهراً لم يتحقّق منه تسليم لأحدهما ، ولا يخلو من ضعف.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأن نيّة تعيين السابقة لا بدّ منه ، وإلّا لم يتحقّق عدول ، وهذا هنا لا معنى له إلّا نيّة تعيينه بجزئيّته للسابقة ، فلا معنى للقول بأنه لا يجب إحداث نيّة التعيين به ؛ لأن نيّة تعيين السابقة صيّرت التسليم لها ، ولأن عبارته تعطي إمكان تعيينين ، وليس كذلك.

[ الرابع (1) ] قال في ( الذكرى ) : ( يستحبّ أن يقصد الإمام التسليم على الأنبياء والأئمّة والحفظة والمأمومين لذكر أُولئك وحضور هؤلاء ، والصيغة صيغة خطاب ، والمأموم يقصد بأُولى التسليمتين الردّ على الإمام ، فيحتمل أن يكون على سبيل الوجوب ؛ لعموم قوله تعالى : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (2) ، ويحتمل أن يكون على سبيل الاستحباب ؛ لأنه لا يقصد به التحيّة ، وإنما

ص: 99


1- أي الرابع من التنبيهات التي ابتدأها في ص 75 ، وفي المخطوط : ( الثالث ).
2- النساء : 86.

الغرض به الإيذان بالانصراف من الصلاة ، كما في خبر أبي بصير. (1) وجاء في خبر عمّار بن موسى : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن التسليم ما هو؟ فقال هو إذْنٌ (2) ، والوجهان ينسحبان في ردّ المأموم على مأموم آخر.

وروى العامّة عن سَمُرَة قال : أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : أن نسلّم على أنفسنا (3) ، وأن يسلّم بعضنا على بعض (4).

وعلى القول بوجوب الردّ يكفي في القيام به واحد ، فيستحبّ للباقين ، وإذا اقترن المأموم والإمام أجزأ ولا ردّ هنا ، وكذلك إذا اقترن تسليم المأمومين تكافؤوا في التحيّة ، ويقصد المأموم بالثانية الأنبياء والحفظة والمأمومين ، وأمّا المنفرد فيقصد بتسليمه ذلك ، ولو أضاف الجميع إلى ذلك قصد الملائكة أجمعين ومَنْ على الجانبين من مسلمي الإنس والجنّ كان حسناً.

وقال ابن بابويه : يردّ المأموم على الإمام واحدة ، ثمّ يسلّم من جانبيه بتسليمتين (5). وكأنه يرى أن التسليمتين ليستا للردّ ، بل عبادة محضة متعلّقة بالصلاة ، ولمّا كان الردّ واجباً في غير الصلاة لم يكفِ عنه تسليم الصلاة ، وإنما قدّم الردّ لأنه واجب مضيّق ؛ إذ هو حقّ لآدمي.

والأصحاب يقولون : إن التسليمة تؤدّي وظيفتي الردّ والتعبّد به في الصلاة ، كما سبق مثله في اجتزاء العاطس في حال رفع رأسه من الركوع بالتحميد عن العطسة وعن وظيفة الصلاة.

وهذا يتمّ حسناً على القول باستحباب التسليم ، وأمّا على القول بوجوبه فظاهر الأصحاب أن الاولى من المأموم للردّ على الإمام ، والثانية للإخراج من الصلاة ،

ص: 100


1- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
2- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1296 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 7.
3- في المصدر : ( أئمّتنا ) بدل : ( أنفسنا ).
4- سنن الدارقطني 1 : 360 / 2.
5- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944 ، المقنع : 96.

ولهذا احتاج إلى تسليمتين.

ويمكن أن يقال : ليس استحباب التسليمتين في حقّه ؛ لكون الاولى ردّاً والثانية مخرجة ؛ لأنه إذا لم يكن على يساره أحد اكتفى بالواحدة عن يمينه وكانت محصّلة للردّ والخروج من الصلاة ، وإنما شرعيّة الثانية ليعمّ السلام على الجانبين ؛ لأنه بصيغة الخطاب ، فإذا وجّه إلى أحد الجانبين اختصّ به وبقي الجانب الآخر بغير تسليم ، ولمّا كان الإمام غالباً ليس على جانبيه أحد اختصّ بالواحدة ، وكذلك المنفرد ، ولهذا حكم ابن الجنيد (1) : بما تقدّم من تسليم الإمام إذا كان في صفّ عن جانبيه ) (2) ، انتهى.

وظاهره الميل إلى وجوب قصد الإمام التسليم على المأموم ، والمأموم قصد الردّ على الإمام ، وبعضهم على بعض.

وفاضل ( المناهج ) : لمّا أورد عبارة ( الذكرى ) بحروفها من غير مناقشة قال بعدها بلا فصل : ( ولا تتوهّم أنه إن كان يجب على المأمومين ردّ الإمام وجب على كلّ مَنْ سمع تسليم كلّ مصلّ ردّه ؛ لأنه يقصد بتسليمه المؤمنين ؛ لأن الإمام ينبغي أن يخصّ المأمومين بالتسليم من بين المؤمنين ثمّ يقصد سائرهم ، بخلاف غير المأموم فإنه غير مقصود بخصوصه ، على أن قصده المؤمنين غير معلوم ، بخلاف قصد المأمومين فإنه الظاهر ) ، انتهى.

قلت : ظاهره ك- ( الذكرى ) وجوب قصد الإمام التسليم على المأموم والمأموم الردّ على الإمام وبعضهم على بعض ، إلّا إن قوله : ( ثمّ يقصد سائرهم ) لم يظهر لي معناه ، فإن ( ثمّ ) تقتضي الترتيب مع التراخي ، والقصد سابق على التسليم قطعاً.

والوجه في أنه لا يجب الردّ على كلّ مَنْ سمع تسليم مُصَلّ غير المأموم أن قصارى الأمر استحباب قصد سائر المؤمنين مع جملة مَنْ يقصد بتسليمه ، ولا نعلم قائلاً بوجوب هذا القصد ، ولا دليلاً عليه ، والأصل عدمه ، والسامع لا يجب عليه الردّ ،

ص: 101


1- عنه في مختلف الشيعة 3 : 516 / المسألة : 379.
2- الذكرى : 208 - 209 ( حجريّ ).

إلّا إذا تيقّن أنه مقصود بالسلام ، ولا قرينة تدلّ على قصده ، فلا يجب الردّ.

بل الظاهر أنه لا يشرع إلّا للمأموم ؛ لعدم الدليل على مشروعيّته حينئذٍ ، ولأنه خلاف عمل المسلمين في سائر الأزمان والأصقاع ، كما لا يخفى.

ثمّ قال رحمه اللّه بعد قول ( الروضة ) : ( فليقصد بالأُولى الردّ على الإمام ) (1) - : ( لأنه حقّ آدمي أداؤه واجب مضيّق ، ولكن ينافيه الإيماء إلى اليمين كما لا يخفى ، بل الأوْلى أن يقصد بالأُولى الردّ مضافاً إلى مقصده. وقال في ( البيان ) : ( الظاهر أن ردّ السلام هنا غير واجبٍ ؛ لعدم قصد المصلّي التحيّة المحضة ) (2) أقول : ولو سلّم ، فلمّا لم يكن القصد واجباً لم يتيقّن المأموم قصده ، فلم يعلم بما يوجب الردّ ) ، انتهى.

قلت : لا ينافيه الإيماء إلى اليمين لوجهين :

أحدهما : أنه حينئذٍ تعبّد محض.

والثاني : أن العلّة في هذا الإيماء إدخال الكاتبين في التسليم ، كما صرّح به بعض الأخبار (3) ، فلا منافاة بين وجوب ردّ المأموم لأنه مسلّم عليه وبين الالتفات.

ومعنى عدم قصد المصلّي التحيّة المحضة إنه يقصد التحيّة بجزء من الصلاة ، فهو تحيّة وجزء ، وأنت خبير بأن قصد الجزئيّة مع قصد التحيّة لا ينافي وجوب الردّ.

نعم ، إن قلنا : إن قصد التحيّة بالسلام للمأموم غير واجب ، توجّه عدم وجوب الردّ ؛ لعدم تيقّن المأموم أن الإمام سلّم عليه ، بل على هذا لا يظهر وجه لمشروعيّة الردّ بمجرّد الاحتمال الإمكاني ، مع عدم إمكان إطلاق المأموم على قصد الإمام ، فالاستحباب حينئذٍ يحتاج إلى دليل ، فأمّا الوجوب إن قلنا بوجوب قصد الإمام التسليم على المأموم ، أو عدم مشروعيّة قصد الردّ إن لم نقل به.

والتحقيق أن نقول : الذي يظهر لي بعد تدبّر الأخبار واستشهاد الاعتبار أن المنفرد والإمام والمأموم يلزمهم قصد التسليم على محمّد وآل محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، وذلك أنه

ص: 102


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 280.
2- البيان : 178.
3- علل الشرائع 2 : 57 - 58 / 1.

لا ريب في أن التسليم تحيّة ودعاء لمخاطب ، وقد ثبت الأمر به من الشارع على سبيل الوجوب ، وأنه تعبّد كلّ مكلّف بالصلاة به على وجه الجزئيّة من الصلاة ، فلا بدّ أن يُقْصَدَ به مُحيّا مدعوّ له مُسلّمٌ عليه وإلّا لخرج عن مقاصد الحكمة وأُلحِقَ بكلام مَنْ لا قصد له ، وحاشا الحكيم أن يتعبّد العبيد بمثله.

وأيضاً ، فهو كلام خطابي إنشائي موضوع لمعنًى فلا بدّ له من قصد مخاطب معنيّ به ، وإلّا لخرج عن محاورات العقلاء ومقاصد الإنشاءات أو موضوعاتها.

والدليل على وجوب قصد محمّد : وآله الأطياب أنه هم الذين وجب تقديم ذكرهم قبل التسليم بالصلاة عليهم التي هي تجديد العهد المأخوذ لهم في الذرّ والأظلّة فهم بها حضور ، فيخاطبون خطاب الحاضر فهم المدلجون بين يدي كلّ مدلج ، والباب الذي يصعد منه إلى اللّه كلّ عمل صالح ، وهم الذين يعرضون أعمال الخلائق على اللّه ، وهم الوجه الذي تقصد به القربات وتتوجّه إليه الصالحات ، وهم الميزان الذي توزن به الأعمال ، فالصلاة الواجبة في الصلاة عليهم والتسليم الواجب فيها لهم وعليهم ؛ لأنهم قبلة كلّ عمل صالح ، بل هم المخاطبون والمخاطبون بالصالحات.

ويؤيّده بل يدلّ عليه ما جاء في تفسير قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1) مِنْ أن المراد الصلاة عليه والتسليم عليه وله ، فهو أمر ، والأمر للوجوب ، ولا صلاة ولا سلام عليه واجب إلّا في الصلاة ، فتدبّر ، وتفهّم تفهم.

ويستحبّ للمصلّي إدخال المَلَكَيْنِ الكاتبين في قصد التسليم استحباباً مؤكّداً ؛ لدلالة بعض الأخبار عليه ، وأن يقصد أيضاً سائر الأنبياء والملائكة ، فإنهم عباد اللّه الصالحون ، ولكن بالتبعيّة لمحمّد : وآله صلى اللّه عليه وآله ، فهم المعنيّون أوّلاً وبالذات ب- : « السلام علينا » وعلى عباد اللّه الصالحين.

ويتأكّد الاستحباب إن قدّم ذكرهم قبل التسليم بالصلاة والتسليم عليهم ، ولا

ص: 103


1- الأحزاب : 56.

يجب ذلك ؛ لأنه لا يجب ذكر غير محمّد وآل محمّد : صلّى اللّه عليه وعليهم - بالصلاة والسلام في الصلاة ، ولكن استحباب ملاحظة إدخال الملكين وسائر الأنبياء وعباد اللّه الصالحين من الملائكة وغيرهم حينئذٍ ، إنما هو من باب استحباب أفضل فردَي الواجب التخييري ، فافهم.

وإن الإمام يجب عليه مع هذا إدخال المأموم في قصد التسليم أيضاً.

وظاهر ( الذكرى ) (1) أن وجوب عنايتهم بالتسليم مذهب الأصحاب ، فتدبّرها.

ويدلّ عليه من الأخبار مثل ظاهر صحيح زرارة : وفضيل : ومحمّد بن مسلم : عن أبي جعفر عليه السلام : إذا كان صلاة المغرب في الخوف فرّقهم فرقتين الخبر.

إلى أن قال فتمّت للإمام ثلاث ركعات ، وللأوّلين ركعتان في جماعة ، وللآخرين واحدة (2) ، فصار للأوّلين التكبير وافتتاح الصلاة ، وللآخرين التسليم (3) ، فإن المراد به التسليم عليهم.

ويدلّ عليه صريحاً حسنة الحلبي : أو صحيحته : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن صلاة الخوف قال يقوم الإمام وتجي ء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه ، وطائفة بإزاء العدو ، فيصلّي بهم الإمام ركعة ، ثمّ يقوم ويقومون معه ، فيمثل قائماً ويصلّون هم الركعة الثانية ، ثمّ يسلِّم بعضهم على بعض ، ثمّ ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم ، ويجي ء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلِّي بهم الركعة الثانية ، ثمّ يجلس الإمام فيقومون هم فيصلّون ركعة أُخرى ، ثمّ يسلِّم عليهم فينصرفون بتسليمه (4).

ومثل خبر ابن اذَيْنة : عن الصادق عليه السلام : في حديث المعراج قال ثمّ التفتَ فإذا بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيّين يعني : بعد أن صلّى هناك بهم فقيل : يا محمّد : ، سلّم عليهم ، فقال : السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته (5). وهو صريح في وجوب تسليم الإمام

ص: 104


1- الذكرى : 205 - 209 ( حجريّ ).
2- في المصدر : « وحداناً » بدل : « واحدة ».
3- تهذيب الأحكام 3 : 301 / 917 ، 918 ، وسائل الشيعة 8 : 436 ، أبواب صلاة الخوف ، ب 2 ، ح 2.
4- الكافي 3 : 455 / 1 ، وسائل الشيعة 8 : 437 ، أبواب صلاة الخوف ، ب 2 ، ح 4.
5- علل الشرائع 2 : 9 / 1 ، وسائل الشيعة 5 : 468 ، أبواب أفعال الصلاة ، ب 1 ، ح 10.

على المأموم ، فيجب قصدهم مع القصد الأوّل.

ومثل ظاهر رواية أبي بصير : عن الصادق عليه السلام : قال فيها ثمّ تُؤذِنُ القومَ يعني : المأمومين فتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم (1).

ومثل ظاهر موثّقة يونس بن يعقوب ، قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام : صلّيت بقومي صلاة فقمت ولم أُسلّم عليهم ، نسيت ، فقالوا : ما سلّمت علينا قال ألَمْ تسلِّم وأنْت جالس؟ قلت : بلى. قال فلا شي ء عليك ، ولو شئت حين قالوا لك ، استقبلتهم بوجهك فقلت : السلام عليكم (2).

فظاهرها أن الإمام يسلّم على المأموم وأنه معهود بينهم لا يعرفون سواه.

وهذه الرواية أوردها في ( البحار ) من ( قرب الإسناد ) بهذا اللفظ ، ثمّ قال : ( روى الشيخ (3) : أيضاً هذا الخبر في الموثّق عن يونس : ، وفيه ولو نسيت حين قالوا ولعلّ ما هنا أصوب ) (4) ، انتهى.

قلت : الظاهر منه أنه نسي إسماعهم التسليم لا أصله بقرينة قوله ألَمْ تسلِّم وأنت جالس يعني : عليهم ، كما هو ظاهره ، فإذن نسخة ( تهذيب الأحكام ) أيضاً تكافئ نسخة ( قرب الإسناد ) في الصواب.

ومثل ما رواه الصدوق : في ( العلل ) و ( العيون ) بسنده من ( علل الفضل ) عن الرضا عليه السلام : فإن قال قائل : فَلِمَ جعل التسليم تحليل الصلاة ولم يجعل بدله تكبير أو تسبيح أو ضرب آخر؟ قيل : لأنه لمّا كان في دخول الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين والتوجّه للخالق ، كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها بدء المخلوقين من الكلام أوّلاً بالتسليم (5).

فدلّ الخبر على أنه يراعي فيه خطاب مخاطب مخصوص به ، وأحقّ مَنْ

ص: 105


1- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
2- قرب الإسناد : 309 / 1206.
3- تهذيب الأحكام 2 : 348 / 1442.
4- بحار الأنوار 82 : 303 / 7 ، قرب الإسناد : 309 / 1206.
5- علل الشرائع 1 : 305 / 9 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 108 - 109 / 1 ، بتفاوتٍ يسيرٍ فيهما.

يخاطب به من وجب ذكره قبله ، وهو مَنْ لا يغيب عنه أحد من الخلق ، فإنه سبيل جميع الخلق إلى اللّه ومَنْ إليه إيابهم وعليه حسابهم. والمأموم ، فإنه قد ربط صلاته بصلاة الإمام ، وهو من شفعائه إلى اللّه فيها ، فيلزم الإمام الشفاعة له بالسلامة فيها باللفظ ، كما أنه شفيعه فيها بالمعنى. ثمّ بعدهما من ذكر من عباد اللّه الصالحين من النبيّين والمرسلين والملائكة ، خصوصاً الكرام الكاتبين.

ومثل ما رواه الصدوق : في ( العلل ) بسنده عن المفضّل بن عمر : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن العلّة التي من أجلها وجب التسليم في الصلاة ، فقال لأنه تحليل الصلاة.

قلت : فلأيّ علّة يسلّم على اليمين ولا يسلّم على نبيّنا قال لأن الملك الموكّل الذي يكتب الحسنات على اليمين ، والذي يكتب السيّئات على اليسار ، والصلاة حسنات ليس فيها سيّئات ، فلها يسلِّم على اليمين دون اليسار.

قلت : فَلِمَ لا يقال : السلام عليك ، والملك على اليمين واحد ، ولكن يقال السلام عليكم؟.

قال ليكون قد سلّم عليه وعلى مَنْ على اليسار ، وفضّل صاحب اليمين عليه بالإيماء إليه.

قلت : فَلِمَ لا يكون الإيماء في التسليم بالوجه كلّه ، ولكن كان بالأنف لمن يصلّي وحده ، وبالعين لمن يصلّي بقوم؟ قال لأن مقعد الملكين من ابن آدم الشِّدْقَيْنِ (1) ، فصاحب اليمين على الشِّدْقِ الأيمن ، وتسليم المصلّي عليه ليثبت له صلاته في صحيفته.

قلت : فَلِمَ يسلّم المأموم ثلاثاً؟ قال تكون واحدة ردّاً على الإمام ، وتكون عليه وعلى ملائكته. وتكون الثانية على مَنْ على يمينه ، والملكين الموكّلين به. وتكون الثالثة على مَنْ على يساره وملائكته الموكّلين به ، ومَنْ لم يكن على يساره أحد لم يسلِّم على يساره ، إلّا أنْ يكون يمينه إلى الحائط ويساره إلى المصلِّي معه خلف الإمام فيسلّم على يساره.

قلت : فتسليم الإمام على مَنْ يقع؟ قال على ملائكته والمأمومين ، يقول لملائكته :

ص: 106


1- الشِّدْقُ : جانب الفمّ. لسان العرب 7 : 58 شدق.

اكتبا سلامة صلاتي ممّا يفسدها ، ويقول لِمَنْ خَلْفَهُ : سلّمتم وأمِنْتُم من عذاب اللّه عزوجل.

قلت : فَلِمَ صار تحليل الصلاة التسليم؟ قال لأنه تحيّة المَلَكَيْنِ ، وفي إقامة الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها وتسليمها سلامة العبد من النار يوم القيامة ، وفي قبول صلاة العبد يوم القيامة قبول سائر أعماله ، فإذا سلمت له صلاته سلمت له جميع أعماله ، وإن لم تسلم له صلاته وردّت عليه ردّ ما سواها من الأعمال الصالحة (1).

فقد دلّ هذا الخبر على ما دلّ عليه الخبر الذي قبله من وجوب قصد الخطاب بالتسليم لمعيّن ، وعلى استحباب إدخال الملكين في القصد ، وعلى وجوب قصد المأموم مع من يجب قصده ، خصوصاً مع ملاحظة غيره معه من الأدلّة ، وعلى وجوب قصد الإمام مع مَلَكَيْهِ تبعاً له بالردّ ، كما هو شأن ردّ السلام في غير الصلاة.

ومثل خبر عبد اللّه بن الفضل المروي : في ( المعاني ) : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن معنى التسليم في الصلاة ، فقال التسليم علامة الأمْنِ ، وتحليل الصلاة ، قلت : وكيف ذلك جعلت فداك؟ قال كان الناس فيما مضى إذا سلّم عليهم وارد أمِنُوا شرَّه ، وكانوا إذا ردّوا عليه أمِن شرَّهم ، وإن لم يسلِّم عليهم لم يأمَنُوه ، وإن لم يردّوا على المسلم لم يأمنهم ، وذلك خُلُقٌ في العرب ، فجعل التسليم علامة للخروج من الصلاة وتحليلاً للكلام وأمناً من أن يدخل في الصلاة ما يفسدها ، والسلام اسم من أسماء اللّه عزوجل ، وهو واقع من المصلِّي على ملكي اللّه الموكّلين به (2).

فقد دلّ هذا الخبر على أن السلام مقصود به خطاب مسلّم عليه ، وأنه يستحبّ ملاحظة الملكين في الخطاب بالتسليم ، لكنّه استحباب عينيّ لأنه أفضل فردي المخيّر ؛ لاستحالة أن يجمع بين المندوب بالذات والواجب بالذات في نيّة واحدة وجوباً أو ندباً.

ودلّت هذه الأخبار كلّها وغيرها على أن المراد بإطلاق الأمر بالتسليم هو التسليم المتعارف بين الناس ، وهو السلام عليكم ، أو وما يتبعها.

ص: 107


1- علل الشرائع 2 : 57 - 58 / 1.
2- معاني الأخبار : 176.

وأن المأموم يجب أن يقصد بالسلام مع من خصّ من اللّه بقصد الصلاة أوّلاً وبالذات ، ولم يشرع لغيره إلّا تبعاً له ، وهو من لا يغيب عنه مصلّ ، ولو غاب عن مصلّ لم يصلّ ، فالصلاة منه وله وعليه الصلاة والسلام ، والتسليم له ومنه بدأ وإليه يعود الردّ على الإمام وعلى مَلَكَيْه تبعاً له.

ويستحبّ له أيضاً أن يلاحظ مع ذلك من يستحبّ له الصلاة والسلام عليهم هنالك ، وهم جميع عباد اللّه الصالحين من النبيّين والمرسلين والملائكة أجمعين ، وخصوصاً المقرّبين.

وإن كان مع المأموم مأموم آخر وجب ملاحظة الردّ عليه بتسليمه أيضاً إن سبقه بالتسليم ، وإلّا استحبّ له التسليم على غيره من المأمومين مرّة أُخرى ، فإن اتّفقوا دفعةً فالظاهر التكافؤ ولا يجب الردّ ، وكذا لو اقترن تسليم الإمام والمأموم كما صرّح به في ( الذكرى ) (1).

ويكفي كلّ من الإمام والمأموم تسليم واحد يقصد به جزئيّة الصلاة والتسليم على من يخاطبه به وتتأدّى به الوظيفتين.

ويدلّ على وجوب قصد المأموم الردّ على الإمام بعد تحقّق وجوب قصد الإمام التسليم على المأموم كلّ ما دلّ على وجوب ردّ السلام ، من إجماع الأُمّة ، والنصوص المستفيضة المضمون (2) من غير معارض ولا استثناء هذا الفرد منه.

فإن جميع ما ذكرناه من الأخبار هنا وفيما سبق ، غير ما استدلّ به القائل بالاستحباب يدلّ على أن المراد بتسليم الصلاة هو تحيّة الإسلام المعروفة ، وأنه فرد منه ، وخصوص خبر المفضّل المذكور عن قريب (3) ، فيراعى فيه جميع ما يجب مراعاته في تحيّة الإسلام ، وجميع تلك الأحكام لفظاً وهيئة وقصداً ، ويخصّ هنا

ص: 108


1- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
2- انظر وسائل الشيعة 7 : 267 ، أبواب قواطع الصلاة ، ب 16.
3- علل الشرائع 2 : 57 - 58 / 1.

بزيادة قد عرفتها ، والسلام.

وأمّا كفاية تسليمة واحدة وعدم وجوب أكثر منها ، فلا يظهر فيه خلاف ، ومن هنا يعلم أنه لو اتّفق الإمام والمأموم أو المأمومون دفعة كفى تسليم واحد للوظيفتين ؛ ولتكافؤهما حينئذٍ كما ذكره في ( الذكرى ) (1).

واعلم أن جميع ما ذكرناه يجزي فيه ما يجزي في سائر أجزاء الصلاة الواجبة أو المندوبة ، من النيّة الإجماليّة البسيطة الواقعة مقارنة للتحريمة المستديمة إلى آخر الصلاة ، فيجزي في هذا ما يجزي في غيره ، من غير فرق ؛ لأنه جزء منها. وذهول الفكر ودهشته ما لم يخرج به المصلّي عن القصد بالكلّيّة لا يضرّ ، ويجب على الجاهل التعلّم.

[الخامس : (2) ] المشهور في كتب الفتوى أن الإمام والمنفرد يسلّم كلّ منهما تسليمة واحدة تجاه القبلة ، ويومئ بصفحة وجهه إلى يمينه ، والمأموم كذلك ، إلّا أن يكون على يساره مأموم فحينئذٍ يستحبّ له تسليمة اخرى يومئ فيها بصفحة وجهه إلى يساره.

وجعل ابنا بابويه (3) : الحائط عن يساره بمنزلة المأموم.

وحكم في ( الفقيه ) (4) بثلاث تسليمات حينئذٍ ، وإن لم يكن عن يساره أحد من المأمومين ولا حائط فتسليمتان.

فأمّا أنه لا يجب على المصلّي منفرداً كان أو إماماً أو مأموماً إلّا تسليمة واحدة ، فالدليل عليه الأصل والإجماع والنصّ.

ففي صحيحة محمّد بن مسلم : وزرارة : ومُعَمّر بن يحيى : وإسماعيل : ، جميعاً عن

ص: 109


1- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
2- أي الخامس من التنبيهات التي ابتدأها في ص 73 ، وفي المخطوط : ( الرابع ).
3- المقنع : 96.
4- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944.

أبي جعفر عليه السلام : أنه قال يسلّم تسليمة واحدة إماماً كان أو غيره (1).

وفي الإمام والمأموم إذا لم يكن على يساره أحد مع هذا صحيحة منصور بن حازم : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : الإمام يسلِّم واحدة ، ومَنْ وراءه يسلّم باثنتين ، فإن لم يكن على يساره (2) أحد سلّم واحدة (3).

وفي المأموم مع هذا إذا لم يكن على يساره أحد رواية عَنْبَسَة بن مصعب : قال : سألت أبا عبد اللّه : سلام اللّه عليه عن رجل يقوم في الصفّ خلف الإمام ، وليس على يساره أحد ، كيف يسلّم؟ قال تسليمة عن يمينه (4).

والأخبار بهذه المضامين غير عزيزة.

وأمّا استحباب تسليمة ثانية للمأموم إذا كان عن يساره أحد من المأمومين ، فهذان الخبران وغيرهما من الأخبار (5) يدلّ عليه ، مع أنه لا يظهر فيه خلاف.

وفي ( المناهج ) بعد قول الشهيد : ( وإن كان على يساره أحد سلّم اخرى ) (6) يعني : المأموم قال : ( وإن لم يكن مصلّياً ؛ لكثير من الروايات ، منها : صحيحة منصور : ، الماضية آنفاً ، ومنها : صحيحة عبد الحميد بن عوّاض : عن الصادق : سلام اللّه عليه قال وإن كنت مع إمام فتسليمتين (7) ) ، انتهى.

قلت : لا يكاد يتحقّق الشكّ عند كلّ من يفهم لحن خطاب أهل البيت سلام اللّه عليهم في أن المراد ب أحد في مثل هذه الأخبار الناصّة على أنه إذا كان على

ص: 110


1- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 348 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 5.
2- في المصدر : « شماله » بدل : « يساره ».
3- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 346 ، الإستبصار 1 : 346 / 1304 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 4.
4- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 347 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 6.
5- انظر وسائل الشيعة 6 : 419 - 423 ، أبواب التسليم ، ب 2.
6- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 279.
7- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 3.

يسار المأموم أحد استحبّ له أن يسلّم اخرى - : هو أحد يصلّي معه مؤتمّاً بمن ائتمّ به ، وأنه لا يعني به كلّ شي ء ، وإلّا لشمل الحائط والبهيمة والملائكة والجانّ ، فعلى هذا يشرع لكلّ مأموم تسليمتان ؛ لأنه لا يخلو يساره عن أحد بالضرورة ، وبطلان هذا لا غبار عليه ، ولذلك لم نعلم أحداً من المصنّفين نصّ على هذا التعميم ، ولم يُذكر في خبر.

واستناده رحمه اللّه إلى الأخبار الكثيرة إنما هو في استحباب تسليمتين للمأموم إذا كان عن يساره أحد من المأمومين لإمامه ، كما يدلّ عليه علّة ذلك ، وهو الردّ على مَنْ على يساره مع سبقهم له بتسليم أو التسليم عليهم ، لما عرفت من أن المأموم يقصد الردّ على الإمام والتسليم على غيره من المأمومين أو الردّ عليهم ، ويشعر به استدلاله بصحيحة ابن عوّاض ، فلا تغفل.

بقي هنا شيئان يجب التنبيه عليهما :

الأوّل : يحتمل عندي احتمالاً قويّاً أن المأموم إذا علم سبق تسليم مَنْ على يساره مِنَ المأمومين وجب عليه التسليمة الثانية ، لتكون التسليمة الاولى مؤدّية لفريضة الصلاة والردّ على الإمام ، والتسليم على مَنْ وجب عليه التسليم عليه ، وسنّة التسليم على غيره من المأمومين. والثانية للردّ على من سبق تسليمه عليه منهم ، وهم مَنْ على يساره منهم ؛ لعموم أدلّة وجوب ردّ السلام من الكتاب (1) والسنّة (2) ، فلو قيل به لكان قويّاً ، لكن لم أرَ مَنْ ذكره.

الثاني : دلّ الفتوى والأخبار الواردة في هذه المسألة على أن التسليم قد صار حقيقة شرعيّة وعرفيّة في الصلاة كغيرها في السلام عليكم ، أو ما يتبعها ؛ إذ لا يقول أحد : إن المراد ب- : يسلّم مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً ، أو يسلّم على ملَكَيْه ، أو المأموم ، وبه يردّ على الإمام ، أو يقصد الأنبياء والرسل ، إلى غير ذلك من هذه المعاني والمقاصد ، متحقّق في السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، فإذن لا يحمل إطلاق

ص: 111


1- النساء : 86.
2- انظر الكافي 2 : 644 / باب التسليم.

الأمر بالسلام هنا إلّا على السلام عليكم ، وبهذا يتحقّق سقوط القول بتعيين السلام علينا ، وضعف القول بالتخيير جدّاً.

وأمّا ( إيماء المنفرد إلى القبلة ، ثمّ يومي بمؤخّر عينه إلى يمينه ) ، كما قال الشهيد في ( اللمعة ) (1) ، فقال الشهيد الثاني : في الشرح : ( أمّا الأوّل يعني : إيماءَهُ إلى القبلة - فلم نقف على مستنده ، وإنما النصّ والفتوى على كونه إلى القبلة بغير إيماء ، وفي ( الذكرى ) (2) ادّعى الإجماع على نفي الإيماء إلى القبلة بالصيغتين ، وقد أثبته هنا وفي ( النفليّة ) (3).

وأمّا الثاني يعني : إيماءَهُ بمؤخّر عينه فذكره الشيخ (4) : ، وتبعه عليه الجماعة ، واستدلّوا عليه بما لا يفيده ) (5) ، انتهى.

وفي ( المناهج ) بعد قوله : ( ثم يومي ) إلى آخره - : ( أي في آخر التسليم لا بعده ، وعبارات غيره من الأصحاب خالية عن هذا الترتيب ، وإنما يفتقر إليه إذا اعتبر الإيماء إلى القبلة ، فإنهما لا يجتمعان ، فيجب أن يجمع بين الخبرين الدالّ أحدهما على الإيماء إلى القبلة ، والآخر عليه إلى اليمين على هذا ، ولمّا كان الإيماء إليها لا وجه له لم يكن لهذا وجه.

واعتبر ابن إدريس (6) : الإيماء بالوجه إلى اليمين كالإمام ، وعكس بعضهم فاعتبر الإيماء بالعين في الإمام ، وبالوجه في المنفرد ) ، انتهى.

وعنى بالخبرين : رواية ابن عوّاض (7) : ، ورواية البزنطي : عن عبد الكريم : عن أبي بصير (8).

ص: 112


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 279.
2- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
3- الفوائد المليّة لشرح الرسالة النفليّة ( المتن ) : 224.
4- النهاية ( الطوسي ) : 72.
5- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 279.
6- السرائر 1 : 231.
7- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 3.
8- المعتبر 2 : 237 ، وسائل الشيعة 6 : 421 - 422 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 11.

ويمكن أن يقال : إن الشهيد : في ( اللمعة ) و ( النفليّة ) إنما أراد بالإيماء إلى القبلة هو التسليم مستقبل القبلة ، بقرينة كلامه في ( الذكرى ) ، وبقرينة فتواه في جميع كتبه باستحباب نظره حال الجلوس للتشهّد إلى حِجْرهِ.

أو أراد به الإيماء بقلبه لا بوجهه الجسماني ، أي يكون حال تسليمه مشيراً بقلبه وقصده إلى القبلة ، وأراد مَنْ في جهتها.

أو أراد بالقبلة القبلة الحقيقيّة ، وهو مَنْ يستقبله حال صلاته بقلبه ، فلا تناقض في فتواه ، ولا خروج عن ظاهر فتوى غيره.

وقال أيضاً في ( المناهج ) : ( قوله : ( على كونه إلى القبلة ) (1) كرواية عبد الحميد بن عوّاض : عن الصادق عليه السلام : قال فإن كنت وحدك فواحدة مستقبل القبلة ). وقال أيضاً : ( قوله : ( وفي ( الذكرى ) ادّعى الإجماع ) (2) ) إلى آخره قال : ( لا إيماء إلى القبلة بشي ء من صيغتي التسليم المخرج من الصلاة بالرأس ولا بغيره إجماعاً ، وإنما المنفرد والإمام يسلّمان تجاه القبلة بغير إيماء ، وأمّا المأموم فالظاهر أنه يبتدئ به مستقبل القبلة ، ثمّ يكمله بالإيماء إلى الجانب الأيمن أو الأيسر. وهذه العبارة كما تدلّ على نفي الإيماء إلى القبلة مطلقاً تدلّ على الفرق بين المأموم وغيره باختصاص الإيماء إلى اليمين أو اليسار به.

واستفاد منها الشارح في ( روض الجنان ) (3) تبعاً للشيخ عليّ (4) : رحمه اللّه أن الإيماء بعد الفراغ من التسليم ، مع أنها صريحة في خلافه ، فإنه إنما جعل الإيماء في تكميل السلام لا بعده ، ولا شي ء في كلامه يوجب حمل ذلك على أن يقرن بين التكميل والإيماء ، فإن الذي نفى أن يكون بصيغة التسليم إنما هو الإيماء إلى القبلة. نعم ، يتوجّه عليه أن الفرق الذي اختاره لا وجه له ).

ص: 113


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 297.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 297.
3- روض الجنان : 281.
4- جامع المقاصد 2 : 328 - 329.

وقال : ( قوله : ( واستدلّوا عليه بما لا يفيده ) (1) ، وهو رواية البزنطي : عن عبد الكريم عن أبي بصير : عن الصادق : صلوات اللّه عليه قال إذا كنت وحدك فسلّم تسليمة واحدة عن يمينك (2) ، فإنه مع عدم نقاء السند إنما المتبادر منه أن يحوّل وجهه إلى اليمين ، لا أن يومئ بمؤخّر العين إليه ، إلّا إنهم لعلّهم أرادوا الجمع بينه وبين ما دلّ على الاستقبال ، فإن المراد به لا بدّ من أن يكون ما يقابل الكون عن اليمين أو الشمال ، لا ما ينافي ميل الوجه قليلاً إلى أحدهما ، فحينئذٍ لا بدّ من حمل هذه الرواية على إرادة الإيماء بالعين. وبَعْدُ فيه ما فيه ؛ لصحّة الرواية الأُولى دون هذه ، فلا تعارض بينهما حتّى يفتقر إلى الجمع ، وروى الصدوق : في ( العلل ) (3) مسنداً عن المفضّل بن عمر ) وساق الخبر المتقدّم.

ثمّ قال : ( وقد عمل بمضمونه الصدوق : في ( الفقيه ) (4) ، إلّا فيما سيأتي من أنه ينزّل الحائط عن اليسار منزلة الإنسان ، ويمكن أن تكون هذه الرواية متمسّكاً للعاكس القائل : إن الإمام يومئ بمؤخّر عينه والمنفرد بصفحة وجهه ، حملاً للإيماء بالأنف على ما قاربه من صفحة الوجه ، أو لأن الإيماء بصفحة الوجه يستلزم الإيماء بالأنف.

وأمّا ابن إدريس (5) : المسوّي بينهما في الإيماء بصفحة الوجه ، فالخبر الأوّل الذي حمله الأكثر على الإيماء بمؤخّر العين مع الذي يأتي يصلحان متمسّكاً له ) ، انتهى.

وهو حسن ، وأحسن منه حمل خبر أبي بصير (6) : على ميل الوجه إلى اليمين شيئاً قليلاً لا ينافي الاستقبال بالوجه ، كما يرشد إليه الإجماع والأخبار على عدم جواز تعمّد الميل به إلى محض اليمين أو الشمال ، فلا تنافي بين الخبرين ، ولعلّه مراد من

ص: 114


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 279.
2- علل الشرائع 2 : 57 / 1.
3- علل الشرائع 2 : 57 / 1.
4- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944.
5- السرائر 1 : 231.
6- المعتبر 2 : 237 ، وسائل الشيعة 6 : 421 - 422 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 11.

عبّر بالإيماء بمؤخّر العين ، ولا يخفى على أحد تلازم الإيماء بالأنف وصفحة الوجه ، وعدم إمكان انفكاك أحدهما عن الآخر ، فلا غَرْوَ (1) في التعبير عن أحدهما بالآخر ، فلا تغفل ولا تسارع إلى تغليط عالمٍ إلّا بعد الجهد في تصحيح مقاله.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( قوله : ( والإمام يومئ بصفحة وجهه يميناً ) (2) ؛ لصحيحة عبد الحميد بن عوّاض : عن الصادق : صلوات اللّه عليه قال إن كنت تؤمّ قوماً أجزأك تسليمة واحدة عن يمينك (3) ، والظاهر من الكون على اليمين الإيماء بصفحة الوجه ، ولا مانع من حمله عليه ، يلجئنا إلى تأويله بنحو ما مرّ في حديث المنفرد. ثمّ إنه ربّما يتوهّم من استحباب هذا الإيماء استحباب التسليم ، أو عدم جزئيّته للصلاة ، فإنه التفات ، ومثل هذا الالتفات في الصلاة مكروه ، وهو مندفع بجواز مخالفة هذا الجزء الواجب لها كسائر أجزائها ).

أقول : بل المانعُ من حمله على الإيماء بصفحة الوجه بحيث يخرج عن حدّ الاستقبال عرفاً قائم ؛ لأنه جزء ممّا يجب الاستقبال به كلّه ، واستثناء هذا الجزء يحتاج إلى دليل يقاوم النصوص المجمع على العمل بها في مطلق الصلاة ، فيجب صرف هذا إلى ما لا يخرجه عن ذلك ، وهو ما يتحقّق به مسمّى الإشارة بالوجه وهو أدقّ المَيْل ، وهو ما عبّر بعضهم عنه بالمَيْل أو الإشارة بالأنف لتلازمهما ، وبهذا يظهر أنه لا يدلّ على استحباب التسليم ولا على عدم جزئيّته ، فتأمّله.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( قوله : ( بمعنى أنه يبتدئ به ) (4) إلى آخره ، يعني أنه الذي أراده المصنّف ؛ لأنه لمّا اعتبر الاستقبال في المنفرد لزمه اعتباره في غيره ؛ إذ لا وجه لاعتبار ما دلّ على الاستقبال في البعض دون البعض ، وكما يمكن الجمع بين الأدلّة

ص: 115


1- الغَرْو : العَجَبُ. لسان العرب 10 : 64 غرا.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 279.
3- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 3.
4- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 279.

بالترتيب الذي اعتبره يمكن في غيره فليعتبر.

وقال في ( المسالك ) : ( وينبغي أن يكون الإيماء بالصفحة بعد التلفّظ ب- : « السلام عليكم » إلى القبلة ، جمعاً بين وظيفتي الإيماء والاستقبال بأفعال الصلاة على تقدير كونه منها ) (1) ، انتهى.

يعني : أنه يدوم مستقبلاً إلى أن يقول السلام عليكم ، ثمّ يومئ ويقول ورحمة اللّه وبركاته بناءً على أن أقلّ الواجب هو السلام عليكم ، وقد حصل مستقبلاً ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ؛ لأن الظاهر أن يكون الإيماء مقروناً بالخطاب.

ثمّ أقول : إن الخبر الذي عارض خبر الإيماء على ما صرّح به في ( روض الجنان ) (2) هو رواية أبي بصير : عن الصادق عليه السلام : ثمّ تُؤذِنُ القومَ ، فتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم (3) ، وفي طريقها محمّد بن سنان : ومحمّد بن مسْكان : ، فلا تقوى على معارضة صحيحة عبد الحميد (4) : ، بخلاف حال المنفرد فإن الدالّ على الاستقبال هناك صحيح ، والدالّ على الإيماء ضعيف.

على أن هذه الرواية على تقدير الاعتماد عليها ليست صريحة المعارضة لتلك الرواية ، فإنه تقدّم فيها الأمر بقول السلام علينا ، وأنه تنقطع به الصلاة ، فيحتمل أن يكون الإيماء به على قول من خيّر بين العبارتين كالمصنّف هنا ، على أنه ذكر في ( روض الجنان ) (5) أن الإيماء بصفحة الوجه لا ينافي الاستقبال ، وإنما الغرض من ذكر الاستقبال الردّ على العامّة ، حيث يولّون تمام وجوههم فيحرفونها عن القبلة ، وهو حسن ، إلّا أن يحمل الاستقبال على الإيماء إلى القبلة ، كما فهمه المصنّف ، وقد عرفت أنه لا وجه له.

ص: 116


1- مسالك الأفهام 1 : 225.
2- روض الجنان : 281.
3- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
4- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 3.
5- روض الجنان : 281.

هذا ، وقال ابن الجنيد : إن الإمام إن كان في صفّ سلّم على جانبيه (1). قيل : وفي بعض الأخبار ما يدلّ عليه (2).

أقول : ولا بأس بما قاله ؛ لأن الإيماء إلى إحدى الجهتين ظاهره تخصيص مَنْ عليها بالسلام ، فأيّ بأس في تخصيص مَنْ على الأُخرى بتسليم آخر ) ، انتهى.

وأقول : أنت خبير بأنه لا تلازم بين اعتبار الاستقبال في المنفرد وبين اعتباره في غيره ؛ لجواز اختصاص كلّ بحكم ، فحمله عليه قياس أو يشبهه.

وما قاله في ( المسالك ) (3) حسن ، لكن ليس معناه بحسب الظاهر ما قاله هذا الفاضل من أنه يستقبل ب- : « السلام عليكم » ، ثمّ يومئ بقول ورحمة اللّه وبركاته ، إلّا أن تقول بأن ورحمة اللّه وبركاته مستحبّة محضة خارجة عن التسليم بالكلّيّة ، وقد حقّقنا أنه لا وجه له ولا دليل عليه ، وإنما التسليم في الصلاة كغيرها واجب مخيّر بين السلام عليكم ، أو ورحمة اللّه وبركاته.

وكون أقلّ الواجب السلام عليكم لا ينافي هذا ، ولا يدلّ على ما قاله من تفسير عبارة ( المسالك ) اقتصار الشهيد فيها على ذكر السلام عليكم ، فإنه أقلّ الواجب كما اعترف به هذا الفاضل وغيره ؛ لأن الصيغة الوسطى والكبرى على ما حقّقناه مستحبّ عيني واجب تخييري كما هو معلوم بالإجماع في غير الصلاة ، وعدم ظهور الفارق بعد ثبوت أن التسليم في الصلاة هو بعينه تحيّة الإسلام المعهودة كما سبق بيانه ، ومن البيّن أن مراد ( المسالك ) (4) الإيماء بعد كمال التسليم الشامل للرتب الثلاث المتأدّي بالدنيا منها ، على أنه اعترف بأن ما قاله في عبارة ( المسالك ) خلاف الظاهر ، فكفانا مؤنة النزاع.

ص: 117


1- عنه في مختلف الشيعة 3 : 516 / المسألة : 379 ، بالمعنى.
2- تهذيب الأحكام 2 : 317 / 1297 ، وسائل الشيعة 6 : 419 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 2.
3- مسالك الأفهام 1 : 225.
4- مسالك الأفهام 1 : 225.

وأمّا إن رواية أبي بصير (1) : لضعفها لا تعارض صحيحة عبد الحميد (2) : فحقّ ، لكن إذا أمكن الجمع بينهما بما لا يستلزم طرح ظاهر كلّ منهما وجب ، فإن طرح الرواية لا يخلو من شَوْبِ تكذيب للراوي ، وهو ممّا يجب اجتنابه حتّى يقوم الدليل القاطع عليه. نعم ، إن استلزم الجمع طرح ظاهر أحدهما أو كلاهما لم يقبل إلّا بدليل.

هذا ، وقد وثّق جماعة محمّد بن سنان : ، منهم المفيد (3) : ، ومنهم : الشيخ حسين بن عصفور : في ( شرح المفاتيح ) ، وقد ورد فيه روايات (4) تدلّ على جلالته (5).

وروى عنه جماعة من أكابر العصابة ، واعتمد على هذه الرواية جماعة واستدلّوا بها على استحباب السلام.

وابن مسْكان : مجهول الحال ، فروايته أقوى من رواية معلوم الضعف ، كما أن رواية المختَلَف في حاله أقوى من رواية المتّفَق على ضعفه ، ولكن لا شكّ أن المقطوع بصحّتها أقوى منهما ، وفيما تضمّنته من الأمر ب- : « السلام علينا » مع الحكم بانقضاء الصلاة به ما مرّ ، واحتمال الإيماء ب- : « السلام علينا » كما ترى ، مع أنه مدفوع بما مرّ في كلامه من تأويلها.

وما نقله عن ( روض الجنان ) (6) هو عين ما حقّقناه من أن الإيماء بصفحة الوجه يجب حمله على ما لا يخرج به عن الاستقبال عرفاً ، فهو حسن كما قال. وحمل الاستقبال على الإيماء بعيد عن الظاهر جدّاً ، على أنه اعترف بأنه لا وجه له ، فلا وجه لاحتماله.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( قوله : ( بصيغة السلام عليكم ) (7) في المرّتين ، وإلّا فالإتيان بالصيغتين

ص: 118


1- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
2- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 3.
3- الإرشاد ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 11 / 2 : 248.
4- رجال الكشّي 2 : 849 - 850.
5- في المخطوط بعدها : ( لكنه الراوي ).
6- روض الجنان : 281.
7- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 79.

مشترك بين الكلّ ، لا يختلف حكمه باختلاف حال المصلّي ، ولأن هذه الصيغة هي التي وضعت للتحيّة وتصلح للردّ والإيماء ، وأمّا الأُخرى فبمنزلة الدعاء ) ، انتهى.

وهذا ممّا لا يكاد يقع فيه شكّ ، وهو دليل على ما سلف من أن لفظ السلام والتسليم قد صار حقيقة شرعيّة فيه عرفاً عامّاً وخاصّاً في هذه الصيغة ، فلا وجه لما مضى من مناقشته للشهيد في ذلك.

وقال السيّد : في ( المدارك ) بعد قول المحقّق : ( ومسنون هذا القسم : أن يسلّم المنفرد إلى القبلة تسليمة واحدة ، ويومئ بمؤخّر عينه إلى يمينه ) (1) - : ( أمّا الاكتفاء بالتسليمة الواحدة إلى القبلة فهو مذهب الأصحاب ، ويدلّ عليه صحيحة عبد الحميد (2) ).

وذكرها بتمامها ، ثمّ قال : ( وأمّا الإيماء بمؤخّر العين إلى اليمين والمؤخّر - كمؤمّن طرفها الذي يلي الصدْغ فَعَزَاهُ في ( المعتبر ) (3) إلى الشيخ : في ( النهاية ) (4) ) قال : ( وربّما أيّده رواية أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا كنت وحدك فسلّم تسليمة واحدة عن يمينك (5) ، وفي رواية أبي بصير : ثمّ تُؤْذِنُ القومَ ، وتقول وأنت مستقبل القبلة : السلام عليكم (6) ، وفي الطريق محمّد بن سنان ) (7).

قلت : الإيماء بمؤخّر العين وبصفحة الوجه والتسليم عن أحد الجانبين متلازم فلا ينفكّ أحدها عن الآخر ، فكلّ ما دلّ على أحدها دلّ على الآخرَيْنِ ، فلا تغفل.

ولو أغمضنا عن دلالة بعض هذه الأخبار على ذلك فكفى بفتوى مثل هؤلاء الأئمّة دليلاً ؛ لأنهم لا يفتون إلّا بدليل ، وهذا أمر مندوب إجماعاً ، فيكفي في ثبوته

ص: 119


1- شرائع الإسلام 1 : 97.
2- تهذيب الأحكام 2 : 92 / 345 ، وسائل الشيعة 6 : 416 ، أبواب التسليم ، ب 1 ، ح 3.
3- المعتبر 2 : 237.
4- النهاية ( الطوسي ) : 72.
5- المعتبر 2 : 237 ، وسائل الشيعة 6 : 421 - 422 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 12.
6- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
7- مدارك الأحكام 3 : 438 - 439.

مثل فتوى هؤلاء الأعاظم.

وقد عرفت أن ابني بابويه (1) : جعلا الحائط بمنزلة المأموم في استحباب التسليمة الثانية للمأموم ، وأنكر جماعة الدلالة عليه.

وقال في ( الذكرى ) : ( لا بأس باتّباعهما لأنهما جليلان لا يقولان إلّا عن ثَبْت ) (2) ، واعتماد الفقهاء في المستحبّات على فتوى أكابر العصابة كثير.

ثمّ قال في ( المدارك ) : ( قوله : ( والإمام بصفحة وجهه ، وكذا المأموم ، ثمّ إن كان على يساره غيره أومأ بتسليمة أُخرى إلى يساره بصفحة وجهه ) (3). المستند في ذلك ما رواه الشيخ : في الصحيح عن منصور بن حازم : قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : الإمام يسلِّم واحدة ، ومَنْ وراءَه يسلّم اثنتين ، فإن لم يكن على شماله أحد سلَّم واحدة (4).

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا كنت في جماعة فقل مثل ما قلت ، وسلم على مَنْ على يمينك وشمالك ، فإن لم يكن على شمالك أحد فسلِّم على الذين على يمينك (5).

وليس في هاتين الروايتين ولا في غيرهما ممّا وقفت عليه دلالة على الإيماء بصفحة الوجه ) (6) ، انتهى.

قلت : قد عرفت أن التسليم عن اليمين أو الشمال مستلزم للإيماء بصفحة الوجه ، أو هو هو ، فلا غَرْوَ في التعبير عن أحدهما بالآخر ، وباقي البيان ووجه الفتوى بيّن ممّا قبله.

وقال البهائي : في ( الحبل ) : ( أمّا إيماء الإمام والمأموم بصفحة الوجه ، والمنفرد بمؤخّر العين ، فلم نظفر في الأخبار التي وصلت إلينا بما يصلح مستنداً له ) (7) ، انتهى.

ص: 120


1- المقنع : 96.
2- الذكرى : 208 ( حجريّ ).
3- شرائع الإسلام 1 : 79.
4- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 346 ، وسائل الشيعة 6 : 420 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 4.
5- تهذيب الأحكام 2 : 93 / 349 ، وسائل الشيعة 6 : 421 ، أبواب التسليم ، ب 2 ، ح 8.
6- مدارك الأحكام 3 : 439 ، ويلاحظ أن صاحب المدارك قد أفرد عبارة ( والإمام بصفحة وجهه ) بشرح مستقلّ.
7- الحبل المتين ( ضمن رسائل الشيخ بهاء الدين ) : 255 ( حجريّ ).

وفيه ما مرّ ، وهم اعلم بما قالوا ، ومثل الشيخ : والمحقّق : والشهيد : وأضرابهم يُضنّ بمثلهم عن التهجّم على الفتوى بغير دليل ، على أنك عرفت الدلالة من الأخبار ، فتدبّر.

قال فاضل ( المناهج ): ( قوله : ( من عدم الدلالة عليه ظاهراً ) (1) ، بل الدليل على الإيماء بالصحّة ظاهر ، وأمّا بمؤخّر العين فقد عرفت أن عليه أيضاً دليلاً ، ولا يخفى وجه كلامه على من تدبّر من عبارته وغيرها ).

وقال فاضل ( المناهج ) : رحمه اللّه : ( قوله : ( وليقصد المصلّي الأنبياء [ والملائكة ] (2) والأئمّة عليهم السلام والمسلمين من الإنس والجنّ ) (3) فإنه لفظ عربي له معنًى ، ولا مخصّص لبعض المخاطبين دون بعض ، ولا يضرّ قصد الكلّ ، بل ينفع ، فلا بدّ من أن يتوجّه إلى كلّ من يصلح للخطاب والتسليم عليه. والملائكة والأنبياء منصوص عليهم ، وكانوا هم المخاطبين في أوّل شرع الصلاة حين صلّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : في السماء.

وليخصّ الإمامُ المأمومين والمأمومون الإمام من بين المؤمنين مع إرادة سائرهم ؛ لأن الحاضر لا سيّما المتبوع والتابع في الصلاة أحقّ بالتحيّة من غيره ، بل كلّ مصلّ ينبغي أن يخصّ كلّ حاضر من المؤمنين لذلك ، ولدلالة الأخبار عليه وعلى متلوّه ، أمّا على متلوّه فظاهر ، فيدلّ عليه ما دلّ على استحباب تسليم المأموم على الجانبين إن كان على يساره أحد ، ولم يقيّد بكونه مصلّياً.

وكذلك ينبغي أن يخصّ الملكين الموكّلين به ، والملائكة الذين يرجو حضورهم من بين سائر الملائكة لذلك ، ولدلالة بعض الأخبار المتقدّمة صريحاً على أن الإيماء عن اليمين لتخصيص ملك الحسنات ، ولفظ الجمع لشموله له وللآخر ، ومنه يعلم أنه ينبغي أن يخصّ الملك الموكّل بالحسنات أيضاً من بين الملكين ) ، انتهى.

وفي بعضه تأمّل لا يخفى ، وهو أن ظاهر قوله : ( وليقصد .. إلى قوله - : فلا بدّ من

ص: 121


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 280.
2- من المصدر.
3- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 1 : 280.

أن يتوجّه إلى كلّ مَنْ يصلح للخطاب والتسليم عليه ) يعطي وجوب ذلك ، وهذه الكلّيّة ممنوعة لما تقدّم ، ولعدم الدليل عليه.

وكيف يجب أن يقصد بالتسليم مَنْ لا يجب ذكره في الصلاة ولا إحضاره بالبال؟! وإنما يجب قصد مَنْ يجب ذكره وإحضاره بالبال قبله ، وقد مرّ بيانه.

وأيضاً ، فنحن نمنع الدلالة على استحباب قصد كلّ مؤمن ومؤمنة ، وقصد كلّ من حضر [ الصلاة (1) ] منهم غير الإمام والمأموم مع المسلّم أو الإمام ؛ لما مرّ.

ولا يدلّ على ظاهر عبارته ما قاله من : ( أنه لفظ عربي له معنًى ولا مخصّص ) ؛ لأنه لو سلّم اقتضى عمومه صحّة ملاحظة فسقة المؤمنين المجاهرين بالمعاصي ، بل والكفّار ، لصلاحيّة الكلّ للخطاب بالتسليم وغيره.

وبطلان هذا ظاهر بالإجماع والنصّ (2) القائمين على المنع من التسليم على الكفّار ، وكراهيّة التسليم على المجاهرين بالفسوق والعصيان من المؤمنين خصوصاً شارب الخمر واللاعب بالنَّرْدِ والشطرنج والمقامر وغيرهم ، كما لا يخفى على من تدبّر الأخبار ، فظهر عدم نفع قصد الكلّ ، بل ضرره في بعض القصود ، فلا دلالة فيه على ظاهر المدّعى.

على أن قوله في آخر العبارة : ( ينبغي .. وينبغي .. وينبغي .. ) لا يخلو ظاهره من شوب منافرة لظاهر صدر العبارة ودليلها ، فإن ( ينبغي ) ظاهر في الاستحباب ، وصدر العبارة ودليلها ظاهره الوجوب ، كما لا يخفى.

وأيضاً ، فدلالة استحباب التسليمة الثانية للمأموم إذا كان عن يساره أحد على عموم الأحد لكلّ حاضر وإن لم يكن مصلّياً ؛ لعدم التقييد ، فكما ترى ، وقد مرّ الكلام فيه.

وإن كلّ أحد من أهل الاستيضاح والاستنباط ممّن يفهم لحن خطابهم سلام اللّه

ص: 122


1- في المخطوط : ( المصلّي ).
2- انظر وسائل الشيعة 12 : 77 - 80 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 49.

عليهم لم يفهم منه إلّا مَنْ على يساره ممّن هو مؤتمّ بإمامه ، ولو كان بعموم ظاهره لدخل فيه الكافر ، بل والحيوان ، وهذا باطل بالضرورة ، ولو كان ذلك حقّا لدلّ عليه الشارع ولصرّح به بعض نوّابه ، بحيث يظهر القائل به في كلّ زمان ، ولم يظهر لي دلالة عليه ، ولا قائل به غير هذا الفاضل ، وهو اعلم بما قال.

وقوله بعد هذا : قوله : ( وإن كان مخرجاً عن العهدة ) (1) ؛ لأن العبادات اللفظيّة لا يقصد بها إلّا الألفاظ ، إلّا إذا دلّ دليل على إرادة المعنى معها ؛ وذلك لأنه إن اعتبر المعنى لزم الحرج العظيم على العالمين بمعانيها ، فضلاً عن الجاهلين ، ولذا لم يشترط في أصل الصلاة التوجّه إلى المعاني والإقبال عليها ، ففي التسليم الموضوع للخروج منها بطريق أوْلى لا يخلو من منافرة لظاهر ما قبله ، على أنا أيضاً نمنع إجزاء مجرّد تلاوة الألفاظ من غير قصد معانيها مع القدرة على معرفتها ، وإلّا لَمَا ذمّ اللّه من لا يتدبّر القرآن ، ولَمَا شبّه من لا يتدبّره بالحمار يحمل أسفاراً.

وبالجملة ، فالأخبار الدالّة على وجوب قصد معاني ما تعبّد اللّه به عباده من الألفاظ من القادر على معرفتها أكثر من أن تحصى في كتاب. نعم ، من لم يستطع لذلك يكفي تعبّده بتلاوة اللفظ ؛ لأنه لا يسقط الميسور بالمعسور (2) ، و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3) ، وإنما يداقّ (4) اللّه الناس على قدر عقولهم (5) ، أمّا مَنْ أعطاه اللّه عقلاً يدرك به ما خاطبه به مولاه ويعرف به مراده منه فأهمل ذلك فقد كفر النعمة واستحقّ النقمة ورضي بالدون فهو المغبون ، والناس في المعارف يتفاضلون ولكلّ نصيب سؤله من مولاه بلسان اختيار قابليّته ، ولو عجز إنسان عن دَرْك بعض وقدر على دَرْك بعض وجب عليه ما قدر عليه ، وسقط عنه ما عجز عنه.

ص: 123


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة ( المتن ) 1 : 280.
2- عوالي اللآلي 4 : 58 / 205 ، وفيه : « لا يترك » بدل : « لا يسقط ».
3- البقرة : 286.
4- المُداقّة : هي أن تداقّ صاحبك في الحساب وتناقشه فيه. مجمع البحرين 5 : 162 دقق.
5- الكافي 1 : 11 / 7 ، بالمعنى.

وبالجملة ، فحالهم في القدرة على التلفّظ بالعبادات اللفظيّة وعدمه كحالهم في دَرْك معرفة المعاني وقصدها من غير فرق ، وصاحب الأمر إنما يكلّف الناس بقدر وسع المكلّف ، وإنما يخاطبه بقدر عقله ، لا ينقص ولا يزيد ، ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (1) ، فمن أهمل درك معاني تكاليفه بقدر ماله من العقل لم يعمل بما كلّف به ؛ لأن العمل بقدر العلم ، والعلم أساس العمل ومادّته ، فمن أهمل طلب علم ما كلّف به من العمل لم يعمل ؛ لأن تكليفه إنما هو بقدر وسعه من العلم ، فمن لم يعلم مع قدرته لم يعمل مع قدرته ، ومن لم يعمل مع قدرته فقد عصى ، ومن لم يقدر (2) ف- ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا ما آتاها ) (3) ، فلا إفراط ولا تفريط.

قال في ( البيان ) : ( ثمّ الإمام يقصد السلام على الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والحفظة والمأمومين ، وكذا المنفرد إلّا في قصد المأمومين ، والمؤتمّ يقصد بأحدهما الردّ على الإمام وبالأُخرى مقصد الإمام.

وقال ابن بابويه : يردّ المأموم على الإمام بواحدة ، ثمّ يسلّم عن جانبيه بتسليمتين (4).

وقال ابن أبي عقيل : ويردّ المأموم التسليم على مَنْ سلّم عليه من الجانبين والكلّ جائز ، ولو قصد المصلّي مسلمي الجنّ والإنس وجميع الملائكة جاز ، ولو ذهل هذا القصد فلا بأس ) (5) ، انتهى.

وهو كما قال فيما لو ذهل كسائر أجزائها ، ويكفي قصد المطلق إلى الإتيان بجميع الأجزاء في أوّلها. وكلّ كلامه حسن إلّا إن إطلاقه أن المأموم يسلّم مرّتين ويقصد بأحدهما ما قصده الإمام يجب تقييده بما إذا كان بجانبه مؤتمّ آخر ، مع أنه بظاهره ينافر ما عَزَاه في ( الذكرى ) (6) لظاهر الأصحاب في تسليمتيه ، فراجعه.

ص: 124


1- الكهف : 49.
2- في المصدر : ( يعلم ) بدل : ( يقدر ).
3- الطلاق : 7.
4- الفقيه 1 : 210 / ذيل الحديث 944 ، المقنع : 96.
5- البيان : 177 - 178.
6- الذكرى : 209 ( حجريّ ).

[ السادس (1) ] : يجب في التسليم كلّ ما يجب في واجب التشهّد من الجلوس ، والطمأنينة ، والعربيّة ، وغير ذلك ؛ لأنه جزء من الصلاة ، فله ما لغيره من أجزائها ، وعليه ما عليها ، ومع العجز لا يسقط الميسور بالمعسور.

قال في ( الذكرى ) : ( الجالس للتسليم كهيئة المتشهّد في جميع ما تقدّم من هيئات الجلوس للتشهّد الواجبة والمستحبّة والمكروهة كالإقعاء ؛ لدلالة فحوى الكلام عليه ، ولأنه مأمور بتلك الهيئة حتّى يفرغ من الصلاة ، فيدخل فيها التسليم ، ويجب الطمأنينة بقدره ، والإتيان بصيغته مراعياً فيها الألفاظ المخصوصة باللفظ العربي ، والترتيب الشرعي ؛ لأنه المتلقّى عن صاحب الشرع المخصوص صلى اللّه عليه وآله ، ولو جهل العربيّة وجب عليه التعلّم ، ومع ضيق الوقت تجزي الترجمة كباقي الأذكار غير القراءة ، ثمّ يجب التعلّم لما يستقبل من الصلاة ) (2) ، انتهى وكلّه حسن.

[ السابع (3) ] : الإجماع قائم على استحباب التسليم على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : قبل التسليم المُخرِج ، وقبل السلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، بصيغة السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة اللّه وبركاته ، وما يظهر من عبارة ( الفاخر ) (4) من وجوبها لم نعلم له موافقاً في ذلك من الأُمّة ، بل هو مسبوق بالإجماع وملحوق به.

قال في ( البيان ) : ( وهو مسبوق بالإجماع وملحوق به ، ومحجوج بالروايات المصرّحة بندبه ) (5).

ونقل كلام ( البيان ) في ( المناهج ) ساكتاً عليه ، ولو لا ذلك لكان قويّاً ؛ لظاهر قوله عزّ اسمه ( وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (6) ، مع ما ورد في تفسيرها بالتسليم عليه صلى اللّه عليه وآله (7) ما أفاض الباري جوداً على موجود.

ص: 125


1- أي السادس من التنبيهات التي ابتدأها في ص 73 ، وفي المخطوط : ( الرابع ).
2- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
3- أي السابع من التنبيهات التي ابتدأها في ص 77 ، وفي المخطوط : ( الخامس ).
4- عنه في البيان : 178.
5- البيان : 178.
6- الأحزاب : 56.
7- كنز الدقائق 8 : 212 - 213.

وفي ( الذكرى ) أنه ليس من المذهب (1) ، وقال في ( الذكرى ) أيضاً : ( ويستحبّ عند ذكر النبيّ صلى اللّه عليه وآله : بالتسليم عليه الإيماء إلى القبلة بالرأس ، قاله المفيد (2) : ، وسلّار (3) : ، وهو حسن في البلاد الذي يكون قبره صلى اللّه عليه وآله قبلة المصلّي ) (4) ، انتهى.

قلت : كلامه رحمه اللّه في هذا التقييد حسن لو كان الإيماء إلى قبره ، لكن الإيماء إلى القبلة إنما هو إليه ، وهو قبلة الصلاة أينما توجّهت القبلة ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (5) ، وهو الوجه فاغتنم.

نعم ، لم نقف على دليل هذا الحكم من النصّ ، رزقنا اللّه الوقوف عليه ، وكفى بهذين الإمامين الجليلين ناقلاً.

ولنقطع الكلام مصلّين على محمّد : وآله ، وحامدين لله المولى الجليل الغفّار الكريم ، وقد جعلتها وفادة على باب صاحب الأمر ، راجياً منه العفو عن زللي كما هو شأنه ، فإن قَبِلَها فبرحمته ، وإن ردّها فبذنوب مؤلّفها تراب أقدام المؤمنين : أحمد ابن صالح بن سالم بن طوق. وأنا أتضرّع إليه في العفو عن جرائمي وجرائم والديّ وجميع المؤمنين والمؤمنات ، وهو بنا رؤوف رحيم.

وقد تمّت آخر نهار اليوم التاسع والعشرين من شهر محرّم الحرام ، لعن اللّه من انتهك حرمة آل الرسول صلى اللّه عليه وآله : فيه ، وهو أوّل شهور [ السنة (6) ] الرابعة والأربعين بعد الألف والمائتين هجريّة. والحمد لله ربّ العالمين كما هو أهله ، وصلّى اللّه على محمّد وآله وسلم عليهم كما هم أهله ، وقد وسمتها ب- : ( روح النسيم في أحكام التسليم ).

تمّت على يد المذنب الجاني العاصي الفقير إلى اللّه الغني : زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا اللّه عنهم بمحمّد : وآله المعصومين ، صلّى اللّه عليهم أجمعين.

ص: 126


1- الذكرى : 206 ( حجريّ ).
2- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 114.
3- المراسم العلوية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 3 : 374.
4- الذكرى : 209 ( حجريّ ).
5- البقرة : 115.
6- في المخطوط : ( سنة ).

الرسالة العاشرة : من استوعب عذره الوقت ولم يتمكن بعد زوال العذر من ركعة

اشارة

ص: 127

ص: 128

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليِّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمَّد : وآله الطيِّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

وبعد : فيقول الأقل أحمد بن صالح بن سالم بن طوق (1) :

مسألة : مَنِ استوعب عذره الوقت ، بحيث لم يتمكّن بعد زوال العذر من ركعة بعد تحصيل شرائط الصلاة ، سقط عنه الفرض بلا خلاف يظهر ولو تمكّن من بعض ركعة. ويدلّ عليه النصّ بلا معارض يظهر ، كما سنذكر بعضها إن شاء اللّه تعالى ، فلا يبعد قيام الإجماع عليه.

وأمّا إذا أدرك ركعة تامّة من الوقت كأن طهرت الحائض أو النفساء ، أو أفاق المجنون والمغمى عليه ، أو بلغ الإنسان ، أو أسلم الكافر ، وقد بقي من الوقت قدر ما يحصل فيه الطهارة وركعة تامّة بأقلّ المجزي ، وجبت عليه تلك الفريضة ، فإن أهمل حينئذٍ وجب القضاء.

في بيان حدّ بركعة

وفي حدّ الركعة التي مَنْ أدركها وجبت عليه تلك الفريضة ، ومَنْ أكملها في ثانية الرباعيّة ، ثمّ عرض له الشكّ لم تبطل فريضته ، وإن عرض له الشكّ قبل إكماله

ص: 129


1- من « ش ».

بطلت ، أقوال أربعة :

أحدها وهو المشهور المنصور - : رفع الرأس وانفصال الجبهة من محلِّ السجود بعد السجدة الثانية وبه يتحقَّق كمال الركعة. ويدلّ عليه أن المعروف من عُرف المتشرّعة أنهم إذا أطلقوا الركعة فإنما يريدون مجموع الأفعال إلى أن تنفصل الجبهة عن محلّ السجود في السجدة الثانية. ولذا لو دعا في السجدة الثانية من الركعة الأُولى أو الأخيرة مثلاً صدق في عرفهم أنه دعا في الركعة الأُولى أو الأخيرة.

ولو نذر أن يدعو بدعاء مخصوص في الركعة الأُولى مثلاً تحقّق الامتثال بفعله في السجدة الثانية منها بعد الذكر الواجب ؛ لأنه حينئذٍ لم يخرج منها ؛ لأن انتهاء أفعال الصلاة لا تتحقّق إلّا بالدخول في فعل آخر. وما زال ساجداً في الثانية منها لا يكون داخلاً في الثانية البتّة ، فلا تكون الأُولى منتهية ؛ ولأن الأصل كونه في الأُولى حتّى يثبت الناقل عنها بيقين ، ولا يحصل يقين الانتقال عنها إلّا بانفصال الجبهة من محلّ السجود في السجدة الثانية.

وأيضاً ترى الفقهاء في كلّ طبقة بلا نكير يطلقون القول : إن السجدتين من كلّ ركعة ركن ، وإن مَنْ نسي سجدة من ركعة قضاها بعد التسليم ، وإن صلاة العيد مثلاً ركعتان في كلّ ركعة سجدتان. وغير ذلك من وصف الفرائض والنوافل.

وبالجملة ، لا شكّ في أن في كلّ ركعة سجدتين ، فممّا لا ينبغي الارتياب فيه أن السجدتين من الركعة ، وما زال المصلّي لم تنفصل جبهته من محلّ السجود في الثانية يصدق عليه أنه في السجدة الثانية ، فيصدق أنه في الأُولى مثلاً لعدم انتهائها ، لعدم انتهاء السجود الذي هو منها البتّة ، ولعدم صدق دخوله في الثانية البتّة. فإنه لا يتحقّق دخوله في الثانية ما لم يتحقّق انفصاله من الثانية. فما لم يتحقّق الفراغ من الثانية لا يتحقّق الدخول في الثانية ، فما لم يدخل في الثانية فهو في الأُولى.

وهذا وأمثاله كثير في كلام الفقهاء ، وأنت إذا تأمّلت الأخبار وجدتها دالّة على أن

ص: 130

السجدتين بكمالهما حتّى يرفع رأسه من الثانية من الركعة ، وأنه ما دام لم يرفع رأسه من الثانية فهو في الركعة لم يخرج منها ، خصوصاً أخبار الدعوات والأوراد الواردة بأنك تدعو في آخر سجدة من مفردة الوتر (1) ، أو آخر سجدة من الركعة الأخيرة من صلاة كذا (2) ، وأمثال هذا مستفيض لا يسع المقامُ نقلَه.

وكلّ هذا يدلّ دلالة صريحة على أن الحقيقة الشرعيّة في الركعة هي مجموع الأفعال حتّى تنفصل الجبهة من محلّ السجود في السجدة الثانية. فإذا ثبت هذا ثبت أن آخر الركعة هو رفع الرأس من السجدة الثانية ، وفي كثير من الأخبار : تصلّي ركعتين تطيل سجودهما وركوعهما (3).

وبالجملة ، فإن استفادة أن آخر الركعة رفع الرأس من السجدة الثانية من النصّ غير عزيز ، بل لعلّك لو تدبّرت كتب الدعوات وما ورد في طلب الحاجات وجدت الدلالة على ذلك مستفيضة. وأيضا إذا انفصل رأس المصلّي من موضع السجود في الثانية فقد تمّت الركعة إجماعاً ، ولم يقم دليل على انتهائها قبل ذلك من نصّ ولا إجماع ، فهو قبل ذلك في الركعة بحكم الاستصحاب ، وأصالة عدم الدخول في غيرها عدم حدوث الحادث.

قال الكاشاني في ( شرح المفاتيح ) : ( المراد من إدراك الركعة إدراك تمامها ، وهو رفع الرأس من السجدة الأخيرة ؛ لأنه المصطلح عليه عند المتشرّعة ، فعلى تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة مطلقاً أو في زمان الصادقين عليهما السلام ومَنْ بعدهما فأمر ظاهر ، وعلى القول بنفيها فالقرينة الصارفة عن المعنى اللغوي تعيّن الاصطلاحي بغلبة الاستعمال وشيوعه إلى أن اعتقد الحقيقة الشرعيّة الفحول من المحقّقين ، فالذهن ينصرف إليه لا إلى ما لم يعهد استعمال الشارع فيه أو ندر.

ص: 131


1- المصباح ( الكفعمي ) : 81 ، بحار الأنوار 84 : 308 / 86.
2- انظر : الكافي 3 : 478 - 479 / 8 ، وسائل الشيعة 8 : 128 ، أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، ب 28 ، ح 1.
3- انظر المصباح ( الكفعمي ) : 276 ، 277.

فما في ( الذكرى ) من الاكتفاء ( بالركوع للتسمية لغةً وعرفاً ولأنه المعظم ) (1) ، فيه ما فيه ويضره (2). ومقصدنا أصالة العدم وأصالة البقاء واستدعاء شغل الذمّة اليقيني البراءة اليقينيّة ، وأن مقتضى الآية والأخبار الدالّة على الأوقات لزوم إدراك المجموع في الوقت ، خرج ما خرج بالإجماع وبقي الباقي ) ، انتهى.

وقال في ( المصابيح ) (3) : ( الرابع يعني : من الأقوال في المسألة - : توقّف الإكمال على الرفع من الثانية ، وهو ظاهر المشهور ، كما يستفاد من ( الذكرى ) (4) و ( المدارك ) (5) وغيرهما (6) ، ويظهر من مطابقته لعُرف المتشرّعة ، فإن المتبادر من الركعة في إطلاقاتهم مجموع الأفعال إلى الرفع ، ولذا لو دعا أو أطال الذكر في السجدة الثانية من أيّ ركعة صدق أنه دعا في تلك الركعة ، أو أطال الذكر فيها. ولو نذر أحدهما امتثل بفعله ما لم يرفع من السجدة الأخيرة.

وقد صرّح العلَّامة : في ( التذكرة ) (7) ، وغير واحد ممَّن تأخَّر عنه في مسألة إدراك الوقت بإدراك الركعة ، بأن الركعة إنما تتحقّق برفع الرأس من السجدة الثانية ، وللركعة معنًى واحد لا يختلف باختلاف المسائل. وهذا القول هو اختيار ( الذخيرة ) (8) ، و ( الكفاية ) (9) ، و ( البحار ) (10) ، وهو المختار ؛ لأن الأصل بقاء الركعة حتّى يثبت الانتقال منها والخروج عنها ، ولا يُعلم إلّا بالرفع ).

إلى أن قال : ( ويدلّ عليه أيضاً أن الركعة من الحقائق الشرعيّة ، فيرجع في تعيينها

ص: 132


1- الذكرى : 122 ( حجريّ ).
2- كذا في النسختين.
3- مصابيح الأحكام أو المصابيح في الفقه المستنبط على الوجه الصحيح. لآية اللّه بحر العلوم السيّد محمّد مهدي بن مرتضى بن محمّد الطباطبائي البروجردي. والمجلّد الرابع منه بخطّ الشيخ أحمد بن صالح آل طوق وعليه بعض الحواشي بإمضائه. انظر الذريعة 21 : 3. والمصدر غير متوفّر لدينا.
4- الذكرى : 122 ( حجريّ ).
5- مدارك الأحكام 3 : 92.
6- ذخيرة المعاد : 377.
7- تذكرة الفقهاء 2 : 324 / المسألة : 41 ، الفرع : ج.
8- ذخيرة المعاد : 377.
9- كفاية الأحكام : 26.
10- بحار الأنوار 85 : 187.

إلى عُرف المتشرّعة ، والمفهوم منها في عرفهم كما عرفت هو مجموع الأفعال إلى الرفع ، فتكون كذلك شرعاً ؛ ولأن أجزاء الصلاة تختلف باعتبار الانتهاء والإكمال.

فالأقوال منها كالقراءة والذكر والدعاء تنتهي بنفسها ، ولا يتوقّف الفراغ منها على الدخول في غيرها. وأمّا الأفعال فإنما يحصل إكمالها والفراغ منها بالانتقال إلى فعل آخر ، فإن القائم قائم ما لم يركع ، والراكع راكع ما لم يرفع ، وكذا الساجد فإن سجوده مستمرّ باقٍ لا ينتهي ولا يكمل إلّا بالرفع ، سواء في ذلك السجدة الأُولى والثانية ، وخروج الرفع عن السجود لا ينافي توقّف إكماله عليه ، كما أن خروجه عن الركوع لا ينافي ذلك ، وهو مع خروجه عن الحقيقتين جاز أن يُعدّ من واجباتهما ؛ لتوقّف الامتثال على الإكمال المتوقّف عليه.

ولا يلزم من ذلك عدّ الركوع من واجبات القيام وإن أمكن بالاعتبار المذكور ؛ لأن الأُمور الاعتباريّة لا يلزم فيها الاطّراد ، والركوع لمّا كان ركناً مستقلا لم يُجعل تابعاً لغيره بخلاف الرفع ، ويمتاز الرفع عمّا عداه من الأفعال بعدم توقّف إكماله على الدخول في غيره ؛ لكونه من الأُمور المقتضية الغير الباقية ، فجاز من هذا الوجه دخوله في الركعة وانتهائها به وإن كان خارجاً من السجود ، غير أن ذلك لا أثر له يعتدّ به في العمل مع القول بتوقّف إكمال السجود عليه ، كما هو المختار ) ، انتهى كلام ( المصابيح ).

قلت : الرفع غير داخل في شي ء من الركعتين ، وإنما هو كالأخذ في القيام والهوي مقدّمة لما بعده ، بل لا يبعد خروجه عن أجزاء الصلاة الأصليّة وإن وجب من باب المقدّمة لفعل بعده. وظاهر ( المصابيح ) أنه لم يقف على خلاف في أن آخر الركعة التي يُدرك بإدراكها الوقت هو الرفع من السجدة الثانية ، وإنما وقف على الخلاف فيها في بحث إكمال الركعتين اللتين تبطل الصلاة بتعلّق الشكّ بهما في الرباعيّة وعدم

ص: 133

بطلانها لو [ أحرزا (1) ] ووقع الشكّ بعد انتهائهما في الشكوك الأربعة.

والظاهر أن الخلاف جارٍ في الجميع وإن كان المتأخّرون إنما تعرّضوا لذكر الخلاف في بحث الشكّ.

الثاني : تحقّق الإكمال بإكمال الذكر الواجب من السجدة الثانية وإنْ لم يرفع رأسه منها.

وعليه جماعة من المتأخّرين ؛ لأن الرفع ليس جزءاً من السجود ، ولا له دخل فيه ، وإنما هو واجب مستقلّ أو مقدّمة لواجب آخر كالتشهّد ، كذا في ( الروض ) (2) و ( المقاصد ).

قال في ( المصابيح ) : ( وفيه أن الرفع معدود عندهم من واجبات الركوع والسجدة الاولى ، فجاز أن نعدّه من واجبات الثانية ؛ لأن تعلّقه بها كتعلّقه بهما من غير فرق ، وخروجه عن السجود لا ينافي توقّف إكماله عليه ، فإن السجود لا ينتهي إلّا به ) ، انتهى.

قلت : غير خفيّ أنه لا تنافي بين كون الرفع واجباً مستقلا أو مقدّمة لواجب آخر ، وبين كون الركعة لا تنتهي إلّا بالرفع من السجدة الثانية. ولا تلازم بين كون الرفع من السجود من واجباته حتّى يدلّ القول به على أن الركعة لا تتمّ إلّا به ، والقول بأن الرفع واجب مستقلّ أو مقدّمة لواجب آخر ، على أن الركعة تتمّ قبل أن تنفصل الجبهة من محلّ السجدة الثانية.

هذا ، وقد عرفت أن إكمال الركعة لا يتحقّق إلّا بإكمال السجدتين ؛ لأنهما جزء منها شرعاً ، وأنه لا شكّ في أنه ما لم يرفع رأسه من السجدة فهو فيها وإن طال الذكر والدعاء فيها.

وأيضاً قال في ( المصابيح ) : ( قال في ( الذكرى ) : ( وظاهر الأصحاب أن كلّ موضع تعلّق فيه الشكّ بالاثنتين يشترط فيه إكمال السجدتين ، فتبطل بدونه محافظةً على ما سلف من اعتبار سلامة الأُوليين. وربّما اكتفى بعضهم بالركوع لصدق مسمّى الركعة.

ص: 134


1- من « ش ».
2- روض الجنان : 181.

والأوّل أقوى. نعم ، لو كان ساجداً في الثانية ولمّا يرفع رأسه وتعلّق الشكّ لم استبعد صحّتها لحصول مسمّى الركعة ) (1).

وحكى في ( المدارك ) (2) عن الشهيد ما تقدّم من عدم استبعاده الصحّة في الفرض المذكور ، ونفى عنه البعد. وتعقّبهما الخراساني : في ( الكفاية ) (3) و ( الذخيرة ) فقال : ( إن مقتضى صحيحة عبيد بن زرارة (4) : ، وحسنة زرارة (5) : الإعادة في الصورة المذكورة ) (6) ، انتهى.

قلت : إذا دلّت الروايتان على الإعادة عند عروض الشكّ بعد واجب الذكر وقبل رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فقد دلّتا على أن الركعة لا تنتهي إلّا بالرفع من السجدة الأخيرة.

وقال في ( المصابيح ) أيضاً : ( حكم الشكّ قبل الذكر هو الإبطال ، فكذا بعده قبل الرفع ؛ استصحاباً للحكم الثابت مع انتفاء المزيل ؛ ولا يعارضها أصل صحّة الصلاة ، فإنهما واردان عليه ومخصّصان له ، ولعموم الأمر بإعادة الصلاة بالشكّ بين الاثنتين والثلاث ، والشكّ بين الاثنتين والأربع ، كما في الصحيحين ، بل مطلق الشكّ المتعلّق بالاثنتين والثلاث (7) ، والشكّ بين الاثنتين والأربع (8) ، كما في الصحيحين ، بل بمطلق الشكّ المتعلّق بالاثنتين ، كما يستفاد من أحدهما ، خرج عنه الشكّ الواقع بعد الرفع

ص: 135


1- الذكرى : 227 ( حجريّ ).
2- مدارك الأحكام 4 : 257.
3- كفاية الأحكام : 26.
4- تهذيب الأحكام 2 : 193 / 760 ، الإستبصار 1 : 375 / 1424 ، وسائل الشيعة 8 : 215 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 9 ، ح 3.
5- الكافي 3 : 350 / 3 ، تهذيب الأحكام 2 : 192 / 759 ، وسائل الشيعة 8 : 189 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 1 ، ح 6.
6- ذخيرة المعاد : 377.
7- تهذيب الأحكام 2 : 193 / 760 ، الإستبصار 1 : 375 / 1424 ، وسائل الشيعة 8 : 215 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 9 ، ح 3.
8- تهذيب الأحكام 2 : 186 / 741 ، الإستبصار 1 : 373 / 1417 ، وسائل الشيعة 8 : 221 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 11 ، ح 7.

بالإجماع والنصوص فيبقى غيره ) ، انتهى.

قلت : كلّ ما دلّ على الإبطال بالشكّ قبل الرفع من السجدة الثانية من الركعة الثانية ، فهو يدلّ على أن الركعة لا تنتهي إلّا بالرفع من السجدة الثانية ؛ لأن المعروف من النصّ والفتوى دوران الإبطال بالشكّ وعدمه في الرباعيّة على إكمال الثانية وعدمه.

ثمّ قال في ( المصابيح ) أيضاً : ( واستدلّ المتأخّرون على ذلك يعني : أن الشكّ الواقع قبل الرفع من السجدة الثانية من الركعة الثانية مبطل ، وأن الركعة لا تكمل إلّا بذلك بما رواه الكليني : والشيخ : في الصحيح ، أو الحسن كالصحيح عن زرارة : عن أحدهما عليهما السلام قال : قلت : رجل لا يدري اثنتين صلّى أم ثلاثاً. قال إنْ دخله الشكّ بعد دخوله في الثالثة مضى في الثالثة ، ثم صلّى الأُخرى ولا شي ء عليه (1).

فإن قضيّة المفهوم توقّف الصحّة على الدخول في الثالثة المتردّدة بينها وبين الرابعة ، فتبطل الصلاة بالشكّ الواقع قبله ، ومنه الشكّ قبل رفع الرأس من سجود الركعة المتردّدة بينها وبين الثانية ، كما هو المطلوب.

وفيه نظر ، فإن الدخول في الثالثة ليس إلّا بالخروج من الثانية ، والقائل بعدم توقّفه على الرفع يدّعي تحقّق الخروج منها وإن لم يرفع ، فلو بنى الاستدلال على التوقّف المذكور لزم الدور ، وإلّا لم يثبت الإبطال لمكان الاحتمال ) ، انتهى.

قلت : لا ريب في أنه ما لم يرفع من الثانية لا يتحقّق الدخول في الثالثة ولا في مقدّمتها ؛ لما تقدّم ، ولأن السجدة شي ء واحد وإن طالت ، فلا يمكن القول بأنها شطران جزء من الثانية وجزء من الثالثة ؛ لأنه واضح البطلان ، فلا يرد على الاستدلال المذكور شي ء ، لأنه لا دليل على أن السجدة الثانية من الركعة جزؤها منها وجزؤها من التي بعدها ، بل قام الدليل على أن مجموع السجدتين من الركعة ،

ص: 136


1- الكافي 3 : 350 / 3 ، تهذيب الأحكام 2 : 192 - 193 / 759 ، وسائل الشيعة 8 : 189 ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب 1 ، ح 6.

فإنه لا ريب أن في كلّ ركعة سجدتين لا أقلّ ولا أكثر ، فلا يمكن القول بأنه متى أتى بواجب الذكر في السجدة الثانية دخل في الثالثة ؛ لما يلزمه من القول بأن في كلّ ركعة أكثر من سجدتين.

وأيضاً أصل الفرض من اللّه كلّ فرض إنما هو ركعتان وزاد الرسول صلى اللّه عليه وآله : في المغرب ركعة ، وفي كلّ من الرباعيّات ركعتين (1) بمقتضى ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (2).

فإذا قيل : إنه متى أكمل ذكر السجدة الثانية دخل في الركعة الثالثة مثلاً ، فهل باقي السجدة من أصل الفرض أو ممّا أزاده الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، مع أنها سجدة واحدة؟ ولا ريب أن مجموع السجود الثاني من الثانية من أصل الفرض الذي فرضه اللّه ، فلا ريب أنه لا تنتهي الركعة إلّا بالرفع من الثانية ، وأيضاً لا شكّ أن التشهّد من أصل فرض الصلاة.

فإذا قيل : إن الركعة تتمّ بتمام واجب ذكر السجدة الثانية. يلزمه أن ما زاد على الذكر الواجب منها ليس من أصل فرض اللّه ، ولا ممّا زاده الرسول صلى اللّه عليه وآله : ، بل شي ء زائد في خلال أصل الفرض.

الثالث : يتحقّق إكمال الركعة بمجرّد وضع الجبهة على محلّ السجود في السجدة الثانية ولو لم يأتِ بالذكر الواجب أو الطمأنينة بقدره.

وعزاه في ( المصابيح ) إلى ظاهر ( الذكرى ) و ( المدارك ) ، ونقل عن الفاضل المتأخّر أنه احتمله في ( شرح الروضة ) ، وأنه قوّى ذلك بحصول مسمّى الركعة بمسمّى السجدة الثانية ، وخروج ما عدا الوضع عن حقيقة السجود.

قال السيّد : ( وفيه أن الذكر من واجباتها فلا تكمل بدونه ، والاعتبار في الإكمال بالواجب مطلقاً وإن لم تبطل الصلاة بالإخلال به سهواً ، وإلّا لحصل بمسمّى الاولى ؛ لعدم بطلان الصلاة بنسيان السجدة الواحدة كما هو المشهور ) ، انتهى.

ويزيدك دلالة على ضعف هذا القول ما سمعت فيما مرّ ، فلا تغفل ، فإنه يوضّح لك

ص: 137


1- علل الشرائع 1 : 304 / 8.
2- ص : 39.

عدم خروج شي ء من ذكر السجدة وإن طال عن مسمّاها وحقيقتها شرعاً وعرفاً.

الرابع : يتحقّق كمال الركعة بالركوع.

حكاه في ( الذكرى ) (1) عن بعضهم قال في ( المصابيح ) : ( واختاره بعض المتأخّرين (2) ) ، ونقله عن ظاهر المحقّق : في ( المسائل البغداديّة ) (3) ، نظراً إلى أن الركعة واحدة الركوع ، كما أن السجدة واحدة السجود ، وأن بالركوع يحصل معظم الإجزاء ، فيجتزي به تنزيلاً للأكثر منزلة الكلّ ، وأن الركوع قد أُطلق عليه اسم الركعة في كثير من الأخبار ، كرواية صلاة الكسوف ، ففي الصحيح : سألنا أبا جعفر عليه السلام : عن صلاة الكسوف كم ركعة؟ فقال عليه السلام عشر ركعات وأربع سجدات .. ويقنت في كلّ ركعتين (4) ، ونحوه غيره من الصحاح (5).

وضعف هذه الوجوه ظاهر.

قيل : ( وبهذا القول يندفع الإشكال الوارد على المشهور في مسألة الشكّ بين الأربع والخمس إذا كان بعد الركوع وقبل السجود ، فإنهم حكموا فيها بالصحّة ، ولا تصحّ إلّا بصدق الركعة على الركوع ، وقد التزم ذلك المحقّق : في ( المسائل البغداديّة ) (6) ، تخلّصاً عن هذا الإشكال ، والأمر في ذلك هيّن وإن استصعبه غير واحد من المحقّقين الأبدال ) ، انتهى.

وهذا القول وإن كان ضعيفاً شاذّاً إلّا إنه أقوى من الثالث ؛ إذ عليه يمكن القول بأن السجود واجب مستقلّ خارج عن الركعة كالتشهّد ، وإن ضعف بقيام الدليل على أن السجود من الركعة ، كما سمعت. واللّه العالم.

ص: 138


1- الذكرى : 122 ( حجريّ ).
2- كفاية الأحكام : 26.
3- المسائل البغداديّة ( ضمن الرسائل التسع ) : 251 / المسألة : 23.
4- الكافي 3 : 463 - 464 / 2 ، تهذيب الأحكام 3 : 156 / 335 ، وسائل الشيعة 7 : 494 ، أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ب 7 ، ح 6.
5- انظر وسائل الشيعة 7 : 492 - 495 ، أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ب 7 ، ح 1 - 3 ، 7.
6- المسائل البغداديّة ( ضمن الرسائل التسع ) : 251 / المسألة : 23.

الدليل على وجوب الصلاة على من أدرك ركعة

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن الدليل على أنه مَنْ أدرك ركعة من الوقت وجبت الصلاة الإجماع والنصّ. وما نقله في ( المختلف ) (1) عن ابن إدريس : من قوله : ( إذا أسلم الكافر ، وطهرت الحائض والنفساء ، وبلغ الصبي وأفاق المجنون ، والمغمى عليه قبل غروب الشمس في وقت يتّسع لفرض الظهر والعصر معاً والطهارة لهما ، وجب على كلّ واحد منهم أداء الصلاتين أو قضاؤهما إن أخّرهما ) (2) لا يدلّ على المخالفة واعتبار التمكّن من فعل الصلاة أجمع ، كما فهمه في ( المختلف ) ، وإلّا لدلّ على اعتبار التمكّن من الفرضين معاً ، وهو باطل بالنصّ والإجماع ، والمنصور المشهور شهرة أكيدة في سائر الأزمان أن الصلاة حينئذٍ كلّها مؤدّاة.

قال في ( المختلف ) : ( لنا : قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (3) ، وهو يدلّ على وجوب الصلاة إلى حدّ الغسق ، خرج عنه ما إذا لحق أقلّ من ركعة للإجماع ، فيبقى الباقي على عمومه.

وما رواه عمّار الساباطي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : عن الرجل إذا غلبته عينه أو عاقه أمر أن يصلّي الفجر ما بين أن يطلع الفجر إلى أن تطلع الشمس وذلك في المكتوبة خاصّة فإنْ صلّى ركعة من الغداة ، ثمّ طلعت الشمس فليتمّ الصلاة وقد جازت صلاته ، وإنْ طلعت الشمس قبل أنْ يصلّي ركعة فليقطع الصلاة ولا يصلّي حتّى تطلع الشمس ويذهب شعاعها (4).

وأمّا كون الصلاة أداءً ؛ فلما رواه الأصبغ بن نَبَاتة : قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة تامّة (5) ، ولأنه لو لم يكن

ص: 139


1- مختلف الشيعة 2 : 71 / المسألة : 20.
2- السرائر 1 : 276.
3- الإسراء : 78.
4- تهذيب الأحكام 2 : 262 / 1044.
5- تهذيب الأحكام 2 : 38 / 119 ، الإستبصار 1 : 275 - 276 / 999 ، وسائل الشيعة 4 : 217 ، أبواب المواقيت ، ب 30 ، ح 2.

إدراك الركعة مقتضياً لإدراك وقت الصلاة لَمَا وجبت عليه ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. والشرطيّة ظاهرة ؛ إذ العذر المستوعب لجميع الوقت مسقط لفعلها ، ولأنه لو لم يكن مؤدّياً لما وقع الفرق بين إدراك الركعة والأقلّ منها ) (1) ، انتهى.

وظاهر الآية و [ الخبرين (2) ] جميعاً يدلّ على أن مَنْ أدرك ركعة وجبت الصلاة أداءً كلّها ؛ لأن ذلك يدلّ على أن الشارع هنا جعل مقدار الركعة من الوقت وما يليه من الزمان بقدر تمام الصلاة وقتاً لتلك الصلاة وإن كان ضروريّاً.

والمحقّق الثاني : في حاشية ( القواعد ) اختار أن مَنْ أدرك ركعة من الوقت وجبت الصلاة أداءً كلّها ، وصرّح بأنه المشهور ، ونقل عن الشيخ : أنه قال : إنه إجماع (3).

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ويستدلّ له بقوله صلى اللّه عليه وآله مَنْ أدرك ركعة من [ الصلاة (4) ] فقد أدرك الصلاة (5) ، والمراد : كمن أدرك الصلاة في الوقت ) (6) ، انتهى.

وهذا الخبر يدلّ على أن مَنْ أدرك ركعة وجبت الصلاة أداءً كلّها.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه الأخبار الدالّة على امتداد الوقت إلى الغروب ، كخبري عبيد بن زرارة : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن وقت الظهر والعصر ، فقال إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ، إلّا إنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس (7).

وخبر زرارة : قال : قال أبو جعفر عليه السلام : أحَبّ الوقت إلى اللّه تعالى أوّله حين يدخل وقت الصلاة فصلِّ الفريضة ، فإنْ لم تفعل فإنك في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس (8).

ص: 140


1- مختلف الشيعة 2 : 72 / المسألة : 20.
2- من « ش » ، وفي « ز ». ( الخبر ).
3- الخلاف 1 : 272 / المسألة : 13.
4- من المصدر ، وفي النسختين : « الوقت ».
5- الذكرى : 122 ( حجريّ ) ، وفيه : « فقد أدرك العصر » ، وسائل الشيعة 4 : 218 ، أبواب المواقيت ، ب 30 ، ح 4.
6- جامع المقاصد 2 : 30.
7- تهذيب الأحكام 2 : 24 / 68 ، الإستبصار 1 : 260 / 934 ، وسائل الشيعة 4 : 126 ، أبواب المواقيت ، ب 4 ، ح 5.
8- تهذيب الأحكام 2 : 24 - 25 / 69 ، الإستبصار 1 : 260 - 261 / 935 ، وسائل الشيعة 4 : 119 - 120 ، أبواب المواقيت ، ب 3 ، ح 5.

وخبر عبيد بن زرارة : أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في قول اللّه عزّ اسمه ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) قال عليه السلام إنّ اللّه افترض أربع صلوات ، أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها صلاتان أوّل وقتهما من زوال الشمس إلى غروب الشمس ، إلّا إنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل ، إلّا إنّ هذه قبل هذه (2). إلى غير ذلك ممّا دلّ على أنك في وقتٍ من صلاة العصر ما لم تغب الشمس.

ومنه أن ظاهر العصابة قديماً وحادثاً وفي سائر الأعصار أنه إذا زالت الشمس اختصّت الظهر بقدر أدائها بأقلّ المجزي ، ثمّ تشترك مع العصر حتّى يبقى عن الغروب بقدر العصر بأقلّ المجزي ، فيخرج وقت الظهر ويختصّ الوقت بالعصر ، إلّا ما يُنقل عن الصدوق : من القول باشتراك الوقتين من أوّل الزوال إلى الغروب (3).

وقد نظر في هذا النقل بإطلاقه بعض أعاظم المعاصرين فقال : ( إن الصدوق : لا يقول بالاشتراك إلّا في أوّل الوقت دون آخره ، فإنه يقول بموافقة المشهور في اختصاص العصر من آخر النهار بقدر أدائها ، وإن عبارته في ( الفقيه ) (4) و ( المقنع ) (5) تدلّ على ذلك. فعلى هذا لا يظهر خلاف في اختصاص العصر من آخر النهار بقدر أدائها ، فالوقت حينئذٍ وقت للعصر حتّى تغيب الشمس ) (6).

ويدلّ على ذلك ما رواه داود بن فرقد : عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام : قال إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر ، حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس (7).

ص: 141


1- الإسراء : 78.
2- تهذيب الأحكام 2 : 25 / 72 ، وسائل الشيعة 4 : 157 ، أبواب المواقيت ، ب 10 ، ح 4.
3- مختلف الشيعة 2 : 33 / المسألة : 3.
4- الفقيه 1 : 140 / 648.
5- المقنع : 91.
6- هو الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ). هامش « ز ».
7- تهذيب الأحكام 2 : 25 / 7 ، الإستبصار 1 : 261 / 936 ، وسائل الشيعة 4 : 127 ، أبواب المواقيت ، ب 4 ، ح 7.

وما رواه أيضاً عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا غابت الشمس فقد دخل وقت المغرب حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي ثلاث ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت المغرب والعشاء الآخرة حتّى يبقى من انتصاف الليل مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت المغرب وبقي وقت العشاء الآخرة إلى انتصاف الليل (1).

فقد دلّ هذا كلّه على أن المكلّف مكلّف بالصلاة ما بقي من وقتها قدر ركعة ؛ لأنه في وقتها ، فوقتها باقٍ ، وما زال وقتها باقياً فالمكلّف مكلّف بأدائها. وهذا كلّه يدلّ على أن الشارع هنا جعل مقدار ما يدرك المصلّي من آخر الوقت وما بعده من الزمان وقتاً لهذه الصلاة ، فيجب أن تؤدّى فيه ؛ لأنه كُلّف بها حينئذٍ ، ولا يكلّف بها إلّا في وقت يسع أداءها ؛ لامتناع التكليف بالمحال ، فكلّ صلاة فُعلت في الوقت الذي وقّته الشارع لها فهي أداء.

صلاة من أدرك من الوقت ركعة هل هي أداءٌ أم قضاءٌ؟

فقد ظهر لك من هذا كلّه أن مَنْ أدرك من الوقت قدر ركعة وجبت عليه تلك الفريضة أداءً ، وأنه إذا لم يبقَ عن الغروب إلّا قدر أداء العصر فقد خرج وقت الظهر واختصّت العصر بالوقت إلى ألّا يبقى عن الغروب قدر ركعة فيخرج وقتها ، وأنه إذا لم يبقَ عن الانتصاف إلّا قدر أداء العشاء فقد خرج وقت المغرب واختصّت العشاء بباقي الوقت إلى ألّا يبقى عن الانتصاف قدر ركعة فيخرج وقت العشاء أيضاً ، وأنه ما إن بقي من وقت الصلاة قدر ركعة فهي واجبة أداءً كلّها ، وأنه إذا لم يبقَ من الوقت قدر ركعة تامّة فقد خرج وقت أداء الصلاة إجماعاً.

وعن السيّد المرتضى : أنه إذا بقي من آخر الوقت ركعة فالصلاة حينئذٍ قضاء كلّها ، محتجّاً بأن أجزاء العبادة مقابلة لأجزاء الوقت ، فالركعة الأُولى قد فُعلت في

ص: 142


1- تهذيب الأحكام 2 : 28 / 82 ، الإستبصار 1 : 263 / 945 ، وسائل الشيعة 4 : 184 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 4.

آخر الوقت ، وليس ذلك وقتاً لها فتكون قضاءً ، وكذا باقي الركعات (1).

وأجاب عنه في ( المختلف ) بالمنع من كونه قد فعل خارج الوقت قال : ( لأنا قد بيّنا أن إدراك الركعة مقتضٍ لإدراك الصلاة أجمع ) (2).

وقال الشيخ علي : في حاشية ( القواعد ) بعد نقل هذا القول عن المرتضى : - : ( وهو مدفوع بالنصّ ) (3).

وأنت خبير بأن جميع ما ذكرناه يدفع هذا القول ، وليس القضاء إلّا ما وقع كلّه خارج الوقت ، على أن النصّ (4) والإجماع قائم على أن مَنِ استوعب عذره الوقت سقط عنه ذلك الفرض أداءً وقضاءً ، وكيف يجب قضاء ما لم يجب؟! وإنما القضاء استدراك فائت ، وما لا يجب لم يفُت حتّى يُستدرك.

وأيضاً يلزم القول بإيجاب الفرض على مَنْ أدرك قدر ركعة من وقته أنها حينئذٍ أداء لا قضاء ، والمعروف من النصّ والفتوى إيجاب الفرض على من أدرك ركعة من وقته. إلّا ما ربّما توهمه عبارة ( المبسوط ) المنقولة في ( المختلف ) حيث قال : ( إنه قال في فصل الحيض : ( يستحبّ لها قضاء الصلاتين إذا طهرت قبل مغيب الشمس بمقدار خمس ركعات ، فإن لم تلحق إلّا مقدار أربع ركعات لزمها العصر لا غير ) (5) ) (6).

وهي عبارة متشابهة ، فإن فحوى قوله : ( لزمها العصر لا غير ) لزوم الفرضين لو أدركت مقدار خمس ، وظاهر قوله : ( يستحبّ لها ) عدم وجوب فرض واستحباب قضائه ، بل عدم وجوبهما مع استحباب قضائهما ، ولم يفرّق بين ذلك الوقت لو فعلت

ص: 143


1- عنه في مختلف الشيعة 2 : 72 / المسألة : 20.
2- مختلف الشيعة 2 : 72 - 73 / المسألة : 20.
3- جامع المقاصد 2 : 30.
4- انظر : الفقيه 1 : 237 / 1041 ، الإستبصار 1 : 458 / 1778 ، وسائل الشيعة 8 : 259 ، أبواب قضاء الصلوات ، ب 3 ، ح 2.
5- المبسوط 1 : 45 ، باختلافٍ يسير.
6- مختلف الشيعة 2 : 71 / المسألة : 19 ، باختلافٍ يسير.

فيه أو خارجه ، وهذا ما لا يقول به أحد حتّى هو. فإن المنقول عنه (1) أنه قال في ( الخلاف ) (2) وفي بحث الأوقات من ( المبسوط ) (3) : ( لو أدرك بمقدار ما يصلّي فيه خمس ركعات قبل الغروب لزمه الصلاتان بلا خلاف ، وإن لحق أقلّ من ذلك لم تلزمه الظهر عندنا ).

ولو سلّمنا مخالفته في حيض ( المبسوط ) لم يضرّ بالإجماع المؤيّد بالنصّ. فإذاً لا يعقل قضاء صلاة لم تُفرض.

فلو قلنا : فات الوقت كلّه ووجبت هذه الصلاة ، لزم أنها أداء ؛ لأنها فرض برأسه لا قضاء فائتة ، فيلزم أن يزاد في اليوميّة فرض غير الخمسة المعهودة والجمعة ، وهو باطل.

وأيضاً نحن نمنع دعوى أن أجزاء الوقت منطبقة على أجزاء العبادة ، فإنه دعوى لا دليل عليه ، بل نقول : كلّ جزء من الوقت وقت لكلّ جزء من العبادة ، بل يمكن أن يقال : لو كان كذلك لزم أن تكون كلّها قضاءً متى فات من أوّل الوقت قدر ركعة ، وهو ظاهر البطلان.

وقيل : إن تلك الركعة التي وقعت في الوقت أداء والباقي قضاء ، محتجّاً بأن الباقي وقع خارج الوقت ، ولا نعني بالقضاء سوى ذلك (4).

وأجاب عنه في ( المختلف ) بما أجاب به عن حجّة المرتضى : من أنه بيّن أن إدراك الركعة مقتضٍ لإدراك الصلاة أجمع ، فدعوى خروج شي ء منها عن الوقت ممنوع (5). وكلّ ما يرد على دليل المرتضى : وارد على دليل هذا القول.

وقال الشيخ علي بعد أن نقل القول بالتوزيع - : ( [ وهو (6) ] أضعفها ).

قال : ( إذ لم يثبت التعبّد بمثله ).

ص: 144


1- عنه في مختلف الشيعة 2 : 71 / المسألة : 19.
2- الخلاف 1 : 273 / المسألة : 14.
3- المبسوط 1 : 73.
4- عنه في مختلف الشيعة 2 : 72 / المسألة : 20.
5- مختلف الشيعة 2 : 72 / المسألة : 20.
6- من المصدر ، وفي النسختين : ( أنه ).

ثمّ قال : ( وتظهر فائدة الخلاف في النيّة في الترتيب على الفائتة السابقة ، [ فعلى (1) ] القضاء يترتّب دون الأداء ، ويشكل في التوزيع وهو أحد دلائل ضعفه ) (2).

قلت : ويضعفه أيضاً أن القضاء فرض برأسه يتوقّف على دليل وأمر برأسه ، وما زاد على الواحدة لم يأتِ به أمر على حدة ، ولم يأتِ وصفه بأنه قضاء. وهذا يُستأنس به لضعف قول المرتضى. وممّا يؤيّد ضعف القول بالتوزيع ، بل يدلّ عليه ، إطلاق الأخبار القائلة : إن الصلاة على ما افتتحت عليه (3). وهذا كما يدلّ على ضعف القول بالتوزيع يدلّ على قوّة المشهور المنصور.

إذا عرفت هذا كلّه ، ظهر لك أن من أدرك قبل الانتصاف قدر أربع [ ركعات (4) ] لم يلزمه إلّا العشاء وسقط المغرب ، وكذا يلزمه العشاء خاصّة لو لم يدرك قبل الانتصاف إلّا ركعة أو اثنتين أو ثلاثاً بطريق أوْلى. والحكم فيما لو أدرك أقلّ من أربع إجماعي ، وفيما لو أدرك قدر أربع هو المشهور شهرة أكيدة في سائر الأعصار كادت أن تكون إجماعاً ، والنصوص تدلّ عليه بلا معارض (5) ، وكذا لو لم يدرك قبل الغروب إلّا قدر أربع فنازلاً إلى ركعة سقطت الظهر ؛ لاستيعاب العذر وقتها ، فإنه يخرج حينئذٍ ، فلا تجب إلّا العصر.

أمّا لو بقي قبل الغروب قدر خمس ، فظاهر الفتوى والنصّ بلا معارض وجوب الفرضين جميعاً ، بل نُقل فيه الإجماع ، وعن ( الخلاف ) نفي الخلاف فيه كما مرّ (6) ؛ لأنه أدرك ركعة من وقت الظهر فيجب ، لأنه أدركها أو أدرك وقتها كما مرّ ، فإذا وجب الفرضان وجب تقديم الظهر ؛ لوجوب الترتيب إذا وجب الفرضان أُدّيا أو قُضيا لو فاتتا.

ص: 145


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ففعل ).
2- جامع المقاصد 2 : 30.
3- تهذيب الأحكام 2 : 197 / 776 ، وسائل الشيعة 6 : 6 ، أبواب النيّة ، ب 2 ، ح 2.
4- من « ش ».
5- تهذيب الأحكام 2 : 28 / 82 ، وسائل الشيعة 4 : 184 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 4.
6- الخلاف 1 : 273 / المسألة : 14.

ووجوب ترتّب صحّة العصر على تقديم الظهر إجماعي ، إلّا ما استثني من حكم مَنْ صلّى العصر بظنّ أنه صلّى الظهر ، ولم يذكر حتّى سلّم في الوقت المشترك ، فيكون قدر ركعة وما يتمّ به الظهر حينئذٍ من الوقت المختصّ بالعصر وقتاً للظهر ، ولا يبقى للعصر حينئذٍ من النهار إلّا قدر ركعة ، هي وما بعدها ممّا تتمّ به العصر من وقت المغرب وقت للعصر ، ولا يجوز أن تصلّى فيه المغرب أيضاً ، كما لا يجوز صلاة العصر في قدر الثلاث التي هي من وقتها ، فوجب فيها الظهر فصارت وقتاً للظهر. كلّ هذا لا نعلم فيه خلافاً.

لكن قال العلّامة : في ( المختلف ) : ( لو أدرك قدر الخمس قبل الغروب لزمه الفرضان ، وهل الأربع للظهر أو للعصر؟ فيه احتمال ، والأقرب [ أنه (1) ] للعصر. وتظهر الفائدة فيما لو أدرك قبل الانتصاف قدر أربع.

لنا : أن الأربع وقت للعصر لو فاتت الخامسة ، فكذا معها لاستحالة صيرورة ما ليس بوقت وقتاً ؛ ولأنه لو كانت الأربع للظهر لكان إذا أدرك مقدار أربع وجبت الظهر ، لأنه أدرك منها أكثر من ركعة ، وليس كذلك إجماعاً. ولما رواه داود بن فرقد : عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام ) (2). وساق الخبرين المذكورين.

وفي ( القواعد ) (3) أيضاً ذكر الاحتمالين ، واختار ما اختاره في ( المختلف ) ، وفرّع عليه ما فرّعه فيه من أن الفائدة تظهر في العشاءين. وقريب منه كلامه في ( المنتهى (4) ) (5).

وقال في ( التحرير ) : ( [ الثالث (6) ] في أوقات المعذورين ، ونعني بالعذر : ما يسقط القضاء كالجنون والصغر (7) والحيض والكفر ، وله أحوال ثلاثة

ص: 146


1- من المصدر ، وفي النسختين : ( أنها ).
2- مختلف الشيعة 2 : 72 / المسألة : 20.
3- قواعد الأحكام 1 : 248.
4- في « ش » : ( المختلف ).
5- منتهى المطلب 1 : 210.
6- من المصدر ، وفي النسختين : ( الرابع ).
7- في المصدر : ( الصبي ) بدل : ( الصغر ).

الأوّل : أن يخلو عنها آخر الوقت بقدر الطهارة وأداء ركعة ، كما لو طهرت الحائض قبل المغرب فيلزمها العصر ، ولو طهرت قبله بمقدار الطهارة وخمس ركعات وجبت الظهر أيضاً ، والأربع في مقابلة الظهر لا العصر على إشكال ، وتظهر الفائدة في المغرب والعشاء ) (1) ، انتهى.

وأقول : كلامه رحمه اللّه لا يخلو من تشابه وغموض ، فإنه إن أراد بالأربع التي احتمل فيها أنها للظهر أو للعصر ، ورجّح أنها للعصر الأربع التي أوّلها استكمال شرائط وجوب الفرضين وآخرها ما يكون بينه وبين الغروب قدر ركعة ، لم ينطبق على استدلاله بأنها للعصر ، بأن الأربع وقت للعصر لو فاتت الخامسة ، فكذا معها ؛ لاستحالة صيرورة ما ليس بوقت وقتاً ، وبروايتي ابن فرقد : ، كما هو ظاهر ، فإن الدليلين لا ينطبقان إلّا على إرادة الأربع المحدودة بالغروب ، مع أنه أيضاً منافٍ لما ثبت بالنصّ والإجماع من أن الوقت مشترك بين الظهرين حتّى لا يبقى عن الغروب إلّا قدر أربع ، فحينئذٍ يخرج وقت الظهر وتختصّ العصر بالأربع ، فالنصّ والإجماع قائمان على أن قدر الاولى من الخمس من الوقت المشترك ، فلا يمكن احتمال أنها للعصر ، بل يتعيّن أنها للظهر ، فلا يحتمل أن هذه الأربع للعصر.

ومنافٍ أيضاً لما هو ظاهر النصّ وفتوى العصابة وعملهم في سائر الأزمان أنه متى أدرك قبل الغروب خمساً وجب الفرضان أداءً ، والظهر قبل العصر ، فلا يمكن أن يقال : إن هذه الأربع للعصر.

وإن أراد بها الأربع التي يحدّها الغروب ، وهي التي إذا لم يبقَ إلّا هي اختصّ بها العصر وخرج وقت الظهر ، فإن أراد بحكمه ( أنها حينئذٍ للعصر ) أنها حينئذٍ مختصّة بالعصر ، كما لو لم يبقَ إلّا هي ، فيخرج وقت الظهر بدخولها ، فهو باطل قطعاً ؛ لأنه يقتضي أن الظهر حينئذٍ تجب ولا تصلّى أداءً قبل العصر ، بل يجب قضاؤها بعد أن

ص: 147


1- تحرير الأحكام 1 : 27 ( حجريّ ).

يصلّي العصر بعد ذهاب قدر الخامسة ؛ إذ لا يزاحم القضاءُ الأداءَ في الوقت الذي لا يسع إلّا الأداء ، وهذا باطل إجماعاً ، ولأن النصّ والإجماع على أنه حينئذٍ يجب الفرضان أداءً ، ولأنه منافٍ لحكمه هو بأن مَنْ أدرك من الوقت ركعة وجب الفرض كلّه أداءً ، والظهر قد بقي من وقتها حينئذٍ ركعة ، مع أنه لا يحتمل على هذا أن تكون للظهر.

وإن أراد أنها للعصر بالأصالة دون قدر الخامسة ، منعنا أن قدر الأربع المحدودة بالغروب حين إدراك قدر الخمس للعصر بالأصالة ؛ لأنها لا تختصّ بالعصر إلّا إذا لم يبقَ إلّا قدرها ، مع أن فرض ذلك ينافي احتمال أنها للظهر ؛ إذ لو أهمل المكلّف حينئذٍ الظهر حتّى لم يبقَ إلّا أربع فات الظهر قطعاً بالنصّ والإجماع.

ولو احتمل أنها للظهر لاحتمل أنه يصلّي الظهر حينئذٍ ، وهو باطل ؛ لاختصاص العصر حينئذٍ بالأربع ، فلا يجوز إهمالها في وقتها المتضيّق على أنه لا يحتمل التكليف حينئذٍ بالفرضين أداءً والوقت لا يسع إلّا أحدهما.

وأيضاً ينافيه ظاهر عبارته في ( التحرير ) (1) ، فإن ظاهرها أن المراد بالأربع هي الأربع الأُولى التي يكون بينها وبين الغروب قدر ركعة فتأمّلها. فلا يحتمل أنها للظهر حينئذٍ ؛ إذ إدراك قدر الخامسة لا يصيّر ما اختصّ بالعصر بالنصّ والإجماع للظهر.

وإن أراد أن الأربع المحدودة بالغروب للعصر بالأصالة ، فإذا بقي قدر خمس زاحمتها الظهر في قدر ثلاث منها بسبب إدراك ركعة من وقتها ، فصار قدر الثلاث من أربع العصر بالأصالة وقتاً للظهر مع قدر الخامسة بالعرض ، كما جعل الشارع قدر الركعة قبل الغروب مع قدر ثلاث من وقت المغرب وقتاً للعصر ، لم يحتمل أن يكون الأربع بكمالها للظهر ولا قدر الثلاث الاولى منها وقتاً للعصر حينئذٍ ، فلا وجه للاحتمال.

وبالجملة ، إذا بقي قبل الغروب قدر خمس فالركعة التي يتعقّبها الغروب للعصر

ص: 148


1- تحرير الأحكام 1 : 27 ( حجريّ ).

خاصّة بلا شكّ ، فلا يحتمل أن تكون للظهر بوجهٍ ، فلا يحتمل أن تكون الأربع التي يحدّها الغروب للظهر بوجهٍ ؛ لخروج واحدة منها عن هذا الاحتمال بالنصّ والإجماع ، والركعة الاولى من الخمس وهي المتعقّبة لزوال العذر بلا فصل ، وهي التي يكون بينها وبين الغروب قدر أربع للظهر خاصّة بالنصّ والإجماع ، فلا يحتمل أن تكون للعصر بوجهٍ أصلاً ، فأي أربع يجري فيها الاحتمال المذكور؟ فعلى فرض تسليم جريان الاحتمال إنما يجري في الثلاث المتوسّطة.

هذا ، وقد قال فخر المحقّقين : في ( الإيضاح ) بعد قول أبيه في ( القواعد ) : ( ولو أدرك مقدار خمس والطهارة وجب الفرضان ، وهل الأربع للظهر أو للعصر؟ فيه احتمال ) (1) - : ( هذه المسألة مبنية على السابقة يعني : مسألة ما لو ضاق الوقت إلّا عن ركعة ، فهل الصلاة كلّها أداءً ، أو قضاءً ، أو موزّعة؟ قال رحمه اللّه - : فالقائل بأنه إذا أدرك ركعة من الصلاة يكون الجميع أداءً ، بمعنى أن الوقت الذي وقع فيه التمام جعله الشارع وقتاً لمثل هذه الصلاة ، فإنه يلزم على قوله أن تكون الأربع للظهر ، واحتجّوا بأنه لولا أن يكون للظهر لما جاز فعلها ؛ لعدم جواز فعل القضاء في المضيّق ، وعلى قول الآخرين أنها للعصر ) (2) ، انتهى.

وظاهر هذا الكلام ، بل صريحه أن المراد بالأربع التي احتمل والده فيها أن تكون حينئذٍ للظهر أو للعصر هي الأُولى التي يكون بينها وبين الغروب قدر ركعة ؛ لأن تفريع الاحتمال على الأقوال واستدلاله بما ذكر للقول بأنها للظهر لا يتمّ إلّا على هذا. وقد عرفت ما فيه.

وفيه أيضاً : أن والده اختار أن مَنْ أدرك من الوقت ركعة أدرك الصلاة أداءً وهو قد وافقه في ذلك ، فيلزمه أن يقول الأربع للظهر بمقتضى تقريره ، فكيف يختار هو ووالده أنها للعصر وهما لا يقولان بأن الصلاة مع إدراك ركعة قضاءٌ ، ولا موزّعة. فالاختياران على ما قُرّر من أن المسألة متفرّعة على الاولى ، فمَنْ قال بأنها في

ص: 149


1- قواعد الأحكام 1 : 248 ، باختلافٍ يسير.
2- إيضاح الفوائد 1 : 75 - 76.

الأُولى أداءٌ كلّها لزمه القول هنا بأن الأربع هنا للظهر ، ومَنْ قال بغير هذا قال : إنها للعصر متناقضان ، كما لا يخفى. أو أن المسألة غير متفرّعة على الاولى.

وأمّا استدلاله رحمه اللّه على أن الأربع للعصر بأنه : ( إذا بقي مقدار ثمان تضيّق الوقتان إجماعاً ، فكلّ شي ء يفوت ؛ فإمّا من الظهر خاصّة ، أو العصر خاصّة ، أو منهما ، أولا من واحد منهما. والكلّ باطل غير الأوّل ، وهو المطلوب ) (1) ، انتهى. [ فهو (2) ] في غاية الضعف ؛ لأنك إذا تأمّلته حقّ التأمّل وجدته مبنيّاً على قول المرتضى : من تطبيق أجزاء الوقت على أجزاء الصلاة (3) ، وهو مردود لا يقول به هو ، بل الظاهر أنه منقطع.

وأيضاً يلزمه إلّا تؤدّى الظهر ؛ إذ لم يبقَ من وقتها إلّا قدر الركعة الأُولى ، فتكون الظهر قضاءً ، فيجب تأخيرها عن العصر ، وهو كما ترى ، والنصّ والفتوى يدفعه.

وأيضاً لا يلائم القول بأن مَنْ أدرك قدر ركعة وجبت أداءً ، وهو من القائلين به.

وأيضاً أنه لم ينقص من وقتيهما شي ء حينئذٍ ، فإن الشارع جعل مقدار الاولى وقتاً للظهر ، والركعة الأخيرة مع قدر ثلاث من وقت المغرب وقتاً للعصر ، كما اعترف به هو ، وقام عليه الدليل.

وأيضاً إذا نقص من وقت الظهر قدر ثلاث بقي واحدة ، فلا يصيّرها نقصان الثلاث وقتاً للعصر.

وبالجملة ، فكلامه مضطرب والمدّعى غير واضح ، ودليله ممنوع ، بل هو دعوى مجرّدة عن الدليل ، عارية من الدلالة ، أو منشؤه اضطراب المتن وتشابهه.

وقال الشيخ علي : في حاشية ( القواعد ) : ( قوله : ( ولو كان مقدار خمس ركعات والطهارة وجب الفرضان ) (4) بإدراك أحدهما وركعة من وقت الأُخرى. قوله : ( وهل الأربع للظهر أو للعصر؟ فيه احتمال. وتظهر الفائدة في المغرب والعشاء ) (5). قد

ص: 150


1- إيضاح الفوائد 1 : 76 - 77.
2- في النسختين : ( وهو ).
3- عنه في مختلف الشيعة : 72 / المسألة : 20.
4- قواعد الأحكام 1 : 248.
5- المصدر نفسه.

عرفت ابتناء هذه المسألة على القول بأن الجميع أداء يعني : فيما لو لم يبقَ من الوقت إلّا قدر ركعة فإنه قال : إن تفريع أن الأربع للظهر وهو حقّ أو للعصر إنما يتأتّى على القول بأن الصلاة حينئذٍ أداءٌ كلّها قال رحمه اللّه في شرح هذه العبارة المنقولة هنا : وفي عبارة المصنّف تسامح ، فإن الأربع لا يتصوّر كونها للعصر ؛ لأن الركعة الأُولى للظهر قطعاً ) (1).

قلت : هذا صريح في أن الأربع التي فُرض فيها الاحتمال هي الأُولى التي يفصل بينها وبين الغروب قدر ركعة ، وقد عرفت ما فيه ، ووجه عدم إمكان كونها هي.

ثمّ قال : ( ولا يستقيم أن يريد بها الثلاث مع الركعة الأُولى تارة ، ومع الأخيرة أُخرى ؛ لأن مقتضى هذا التركيب كون الأربع التي يأتي فيها الاحتمالان واحدة ، إلّا أن يحمل على أن المراد الأربع من هذا المجموع ، فيكون المعنى حينئذٍ : وهل الأربع للظهر [ وللعصر (2) ] واحدة أم بالعكس؟ ) (3).

قلت : هذا الاحتمال الأخير إذا تأمّلته جيّداً رأيته لا يتمّ على القول بوجوب أداء الظهر حينئذٍ ، وإنما يتمّ لو قلنا : إنه يحتمل وجوب تقديم الظهر حينئذٍ أداءً كلّها. ويحتمل وجوب تقديم العصر كذلك ، فإن قلنا الأربع للظهر فالأوّل ، وإن قلنا للعصر فالثاني ، وهذا باطل ؛ إذ ظاهر فتوى العصابة تقديم الظهر أداءً كلّها ، أو قضاءً كلّها ، أو موزّعة ، كما هو الأمر في العصر لو لم يبقَ من الوقت إلّا قدر ركعة ، فإنها تقدّم على المغرب حينئذٍ بلا خلاف يظهر أداءً أو قضاءً أو بالتوزيع ، كما مرّ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ولا بدّ في العبارة من تقدير شي ء ، وهو مقدار الأربع من الوقت ؛ إذ الأربع للظهر قطعاً ، وهو الذي نواه المصلّي ) (4).

قلت : هذا التقدير لا يُخرج العبارة من التشابه ، ولا يدفع شيئاً من الإيرادات المذكورة. نعم ، قطعه بأن الأربع للظهر يرفع احتمال أن قدرها من الوقت ، أو قدر

ص: 151


1- جامع المقاصد 2 : 31 - 32.
2- من المصدر ، وفي النسختين : ( فللعصر ).
3- جامع المقاصد 2 : 32.
4- جامع المقاصد 2 : 32.

ثلاث منها للعصر ، كما لا يخفى ؛ لما بينهما من التنافي.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ومنشأ الاحتمالين الالتفات إلى ما كان عليه وإلى ما صار إليه ) (1).

قلت : قد عرفت الدليل على أن الأربع الأُولى لم تكن للعصر بوجه ؛ لأن منها واحدة للظهر ، كما قطع به هو في صدر العبارة ، حيث نفى تصوّر كونها للعصر لذلك ، وأن الأربع الأخيرة لا يُحتمل كونها للظهر في حال ؛ لأن الركعة الأخيرة منها للعصر قولاً واحداً ، وأمّا الثلاث التي بعد الاولى وقبل الأخيرة التي يحدّها الغروب ، فنحن نمنع في مفروض المسألة أنها كانت للعصر ثمّ صارت للظهر ، وإنما هي في المسألة المفروضة للظهر بأصل الشرع ؛ لأن الدليل قام على هذا ، ولم يقُم دليل على أنها هنا كانت للعصر ثمّ عرض ما صيّرها للظهر. ولو سلّم أنها كذلك ثبت اختصاصها حينئذٍ بالظهر ، فلا يحتمل كونها للعصر.

وعلى كلّ حال فالعلّامة : فرض الاحتمالين في أربع لا في ثلاث.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( والثاني أقوى ؛ لأن وقوع [ شي ء (2) ] من الظهر فيه لا يصيّره وقتاً لها ، كما في ثلاث من العصر إذا وقعت في وقت المغرب ، وركعة من الصبح بعد طلوع الشمس ، والأخبار ليس فيها إلّا إدراك الصلاة المقتضي لكونها أداءً ، وذلك لا يستلزم كون الوقت لها ، فلعلّه لكونها افتتحت على الأداء ) (3).

قلت : في هذا الكلام أُمور :

أحدها : أن صدر عبارته صريح في أن الأربع التي احتمل فيها العلّامة : الاحتمالين هي التي يكون بينها وبين الغروب قدر ركعة ، ودليله لا ينطبق إلّا على أنها هي التي يحدّها الغروب ، كما لا يخفى.

وثانيها : أن الأخبار إذا دلّت على أنها حينئذٍ أداءٌ ، فقد دلّت على أن ذلك الوقت الذي تؤدّى فيه وقت لها ؛ لأنه لا معنى لوقت الصلاة إلّا ما تقع فيه ، ولا معنى للأداء

ص: 152


1- جامع المقاصد 2 : 32.
2- من المصدر ، وفي النسختين : ( ثلاث ).
3- جامع المقاصد 2 : 32.

إلّا ما أُوقع في وقت العبادة المؤدّاة ، فالأداء ما وقع في وقت العبادة المؤدّاة ، والقضاء ما وقع لا في وقتها ؛ فإمّا أن يكون ما وقعت فيه وقتاً لها ، أو هي قضاء. فإذاً ما قاله رحمه اللّه في الحقيقة ميلٌ إلى قول المرتضى : ، أو إلى التركيب وهو قد زيّفهما.

وثالثها : أن افتتاحها على الأداء دليل على أنها كلّها أداءٌ ، وهو دليل على أن الشارع جعل ذلك الوقت وقتاً لها ، وإلّا لصحّ القول بالتوزيع وهو لا يرتضيه.

وبالجملة ، فدعوى أن صلاة افتتحت على الأداء واختتمت عليه وهي واقعة في غير وقتها ، واضح السقوط.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( وتظهر فائدة الاحتمالين وثمرة كلّ واحد منهما في المغرب والعشاء ، وكأن هذا جواب سؤال يرد هنا ، هو : أن البحث عن كون مقدار الأربع للظهر أو للعصر خالٍ عن الفائدة ؛ لأن الظهر قد تعيّن فعلها فيه على كلّ تقدير ، فما الفائدة؟ وجوابه ما ذكر ) (1).

قلت : إذا تعيّن فعل الظهر في هذا الوقت أداءً على كلّ حال وامتنع فعل العصر فيه ، لم يبقَ وجه لاحتمال أن يكون قدرها أو قدر ثلاث منها وقتاً للعصر بوجه ، وإذا تعيّنت الركعة التي يتعقّبها الغروب للعصر حينئذٍ ولم يجُز فعل الظهر فيه مطلقاً ، لم يُحتمل أن تكون للظهر بوجه.

ثم قال رحمه اللّه تعالى - : ( والتحقيق أن المكلّف لو أدرك من وقت العشاء مقدار أربع ركعات ، يجب أن يؤدّي المغرب والعشاء جميعاً على الاحتمال الأوّل ؛ لأن ضيق الوقت لمّا صيّر ما تؤدّى به الصلاة الاولى من وقت الثانية وقتاً لها في الظهرين ، وجب أن يطّرد في العشاءين لوجود المقتضي بخلاف الثاني ؛ لأن الوقت على هذا التقدير للعشاء ) (2).

قلت : إذا صيّر ضيق الوقت في الظهرين ما تؤدّى به الظهر وقتاً لها ، سقط احتمال

ص: 153


1- جامع المقاصد 2 : 32.
2- جامع المقاصد 2 : 32 ، وفيه : ( ما به تؤدّى ) بدل : ( ما تؤدّى به ).

أن يكون قدر ما تؤدّى به أو ثلاث منه وقتاً للعصر. وأيضاً فكلامه هذا لا يتمّ له على فرض تأتي الاحتمالين إلّا في ثلاث من الأربع التي يحدّها الغروب ، فإن قدر ما يؤدّى فيه ركعة من الظهر للظهر بلا نزاع ، وكذا آخر ركعة من الخمس للعصر بلا نزاع. والعلّامة : فرضَ الاحتمالين في أربع ، وظاهره وإن كان ممنوعاً أنه عنى الأربع المحدودة بالغروب ، وظاهر الشارح في صدر عبارته وظاهر استدلاله أنها الأربع الأُولى.

وأيضاً لو فرض صحّة الاحتمال في الظهرين منعنا وجود مقتضيه في العشاءين ؛ لأنه إنما هو إدراك ركعة من وقت الظهر ، وهذا مفقود في العشاءين إذا لم يبقَ قبل الانتصاف إلّا قدر أربع ، فإن الدليل قائم من النصّ (1) المشتهر العمل به على أنه متى لم يبقَ قبل الانتصاف إلّا قدر أربع ، فقد خرج وقت المغرب واختصّت العشاء بقدر الأربع ، فالمقتضي لفرض الاحتمال في الظهرين مفقود في العشاءين ، على أنه غير مجدٍ فرضه في الظهرين بعد تسليم وجوب تقديم الظهر أداء ، والتفريع على شي ء وهمي قد منعت الشريعة من إبرازه في الخارج لا يجوز ولا يؤسّس به حكم شرعيّ خصوصاً في العبادات.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( والتحقيق كما نبّه عليه الفاضل السيّد عميد الدين (2) أن هذه الفائدة ليست بشي ء ؛ لأن المقتضي لصيرورة ذلك وقتاً للظهر ليس هو ما ذكر ، بل مع إدراك ركعة من وقت الظهر ، وذلك منتفٍ في المغرب في الفرض المذكور ) (3) ، انتهى كلام المحقّق الشيخ علي : في المسألة.

قلت : إذا سلّم أن إدراك قدر ركعة من وقت الظهر يصيّرها مع قدر ثلاث بعدها وقتاً للظهر لم يبقَ وجه لاحتمال أن تكون قدر ذلك ، بل ولا قدر الثلاث التي بعدها

ص: 154


1- تهذيب الأحكام 2 : 28 / 82 ، الإستبصار 1 : 263 / 945 ، وسائل الشيعة 4 : 184 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 4.
2- كنز الفوائد 1 : 92.
3- جامع المقاصد 2 : 33.

وقتاً للعصر. ولا أن قدر الأربع التي تلي الركعة التي من وقت الظهر وقتاً للظهر ، وإذا انتفى تحقّق المقتضي للاحتمال في الظهرين في العشاءين حين لم يبقَ قبل الانتصاف إلّا قدر أربع ، لم يبقَ لهذا الاحتمال في الظهرين وجه ولا فائدة بوجه أصلاً.

وبالجملة ، فالاحتمال ممنوع من أصله ؛ إذ لا وجه له ولا معنًى ، وعلى فرض تسليمه لا فائدة فيه مع تسليم وجوب الفرضين أداءً مُقدّماً للظهر ، إلّا أن يقال : إنه يحتمل وجوب تقديم العصر ؛ لأن الوقت لها بالأصالة ، وهم لا يقولون بذلك ، ولا يظهر به قائل. وظهور فائدته في العشاءين ممنوع بعد قيام الدليل على أنه إذا لم يبقَ قبل الانتصاف إلّا قدر أربع ، فقد خرج وقت المغرب بالكلّيّة ، واختصّت العشاء بذلك الوقت.

وبالجملة ، فالأربع المفروض فيها الاحتمال غير واضحة ، والاحتمال ممنوع ، وفائدته منتفية.

ص: 155

ص: 156

الخلاصة

اشارة

وملخّص الحكم أن الذي دلّ عليه الدليل من النصّ والفتوى أنه متى أدرك المكلّف قدر خمس بعد الطهارة قبل الغروب وجب الظهر والعصر أداءً مرتّباً ، وكذلك لو أدرك خمساً قبل الانتصاف وجب العشاءان كذلك ، أمّا لو لم يدرك في الموضعين إلّا قدر أربع فنازلاً فقد خرج وقت الظهر والمغرب ، فإنْ كان قد أهملهما بعد أن وجبا قضاهما بعد العصر أو العشاء ، وإلّا فلا. واللّه العالم.

وقال السيّد عميد الدين : في حاشية ( القواعد ) : ( قوله : ( وهل الأربع للظهر أو للعصر؟ فيه احتمال ) (1). أقول : وجه احتمال كون الأربع للظهر أن الشارع فرض عليه الإتيان بالظهر في ذلك القدر من الزمان على وجه التضييق ، ولا نعني بوقت الفريضة إلّا الوقت الذي فرضه لتلك الفريضة عيناً دون غيره. ومن أن مقدار أربع كان مختصّاً بالعصر لولا إدراك قدر الخامسة ، فكذا إذا أدركه لامتناع صيرورة ما ليس بوقت وقتاً ؛ ولأن ذلك يقتضي كون مقدار ثلاث بعد الغروب لو أدرك قدر ركعة من آخر وقت العصر وقتاً للعصر دون المغرب ؛ لأنه قد فرض عليه الإتيان بباقي العصر في ذلك الوقت مضيّقاً ، وهو باطل قطعاً ) (2) ، انتهى.

قلت : لا يخفى أن توجيهه لاحتمال كون الأربع للظهر ظاهر في أن المراد بالأربع المحتملة هي الأُولى التي يقع فيها الظهر ، وهي التي يفصل بينها وبين الغروب ركعة. وتوجيهه احتمال أنها للعصر ظاهر في أن المراد بها الأربع الأخيرة المتّصلة بالغروب ، فالاحتمال الآخر في كلّ منهما غير موجّه ، مع أنه إذا سلّم أن

ص: 157


1- قواعد الأحكام 1 : 248.
2- كنز الفوائد 1 : 92.

الشارع فرض الإتيان بالظهر في ذلك القدر من الزمان لم يبقَ له وجه في احتمال أن يكون ذلك أو قدر ثلاث منه للعصر ؛ لأنه خلاف ما فرضه الشارع. كما أنه لا يحتمل القول بأن مقدار ثلاث بعد الغروب لِمَن لم يدرك قبله إلّا ركعة وقتاً للمغرب ؛ لأن الشارع فرض الإتيان ببقيّة العصر في ذلك الزمان ، ولا ينافي كونهما وقتاً للعصر أو للمغرب بالنسبة لِمَن لم يدرك قدر ركعة من وقت الظهر أو العصر.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( قوله : ( وتظهر الفائدة في المغرب والعشاء ) (1) يريد أنه إنْ جعلنا مقدار الأربع وقتاً للظهر ، فلو أدرك قبل الانتصاف مقدار أربع وجب عليه المغرب والعشاء ؛ لأن مقدار ثلاث يدرك بها المغرب ، ويدرك العشاء بإدراك ركعة في وقتها. وإن جعلنا الأربع للعصر كان قدر الأربع قبل الانتصاف وقتاً للعشاء الآخرة ، فهو يقضي المغرب. وهذا التفريع ليس عندي بشي ء ) (2) ، انتهى.

قلت : إذا كان التفريع ليس بشي ء لما عرفت من أن الدليل قائم على أنه متى لم يبقَ قبل الانتصاف إلّا قدر أربع ، فقد خرج وقت المغرب واختصّ الوقت بالعشاء لم يبقَ للاحتمال في الظهرين حينئذٍ معنًى ولا فائدة ، ولا دليل يدلّ بوجه من ضروب الدلالة على صحّة هذا الاحتمال.

تنبيه

المعروف من الفتوى أن المراد من إدراك الركعة إدراك أقلّ المجزي من الواجبات الاختياريّة. وصرّح الشيخ علي : في ( شرح القواعد ) (3) بأن السورة حينئذٍ لا يسقط وجوبها لضيق الوقت ، بل لو لم يسعها الوقت سقط الفرض أو ثبت القضاء ، ونقل عن ( التذكرة ) (4) التصريح به. ومثله بعض شرّاح ( النافع ) فتوًى ونقلاً عن ( التذكرة ) ، بل قال : ( لا اعلم له رادّاً من الأصحاب ). وهو جيّد ، واللّه العالم.

ص: 158


1- قواعد الأحكام 1 : 248.
2- كنز الفوائد 1 : 92 ، باختلاف يسير.
3- جامع المقاصد 2 : 31 ، ولم ينقل التصريح به عن ( التذكرة ) ، بل نصّ عبارته : ( وقد نبّه على ذلك في التذكرة ).
4- تذكرة الفقهاء 2 : 324 / المسألة : 41 ، الفرع : ج.

وصلّى اللّه على محمّد : وآله وصحبه وسلم ، والحمد لله ربِّ العالمين.

انتهت بقلم مؤلّفها الأقلّ أحمد بن صالح بن سالم آل طوق : ، عصر 28 محرّم سنة (1241) ، والحمد لله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

وقد نقلتها من خطّ المؤلّف المحقّق مدّ اللّه في عمره ، وأنا العبد الجاني الأثيم المخطئ زرع بن محمّد علي بن حسين الخطّي : عفا اللّه عنه (1).

ص: 159


1- ورد في آخر نسخة « ش » : تمّت الرسالة على يد الأقلّ المخطئ يوسف بن مسعود بن سليمان الجشّي ، وذلك في الساعة التاسعة من اليوم الثالث من الشهر الثالث من السنة الحادية من العشر الخامسة من المائة الثالثة من الألف الثانية من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآله أكمل الصلاة والسلام والتحيّة ، والحمد لله ربِّ العالمين. تمّت بمعونته وحسن توفيقه.

ص: 160

الرسالة الحادية عشرة : أحكام العُمرة

اشارة

ص: 161

ص: 162

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

وبعد :

فهذه نبذة يسيرة في أحكام العُمرة ، كتبتها امتثالاً لقوله تعالى : ( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (1) ، بالتماس بعض الإخوان ، واللّه الموفّق المرشد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وبه العصمة.

ص: 163


1- المائدة : 2.

ص: 164

أدلة وجوب العمرة

اشارة

اعلم أن العُمرة واجبة كالحجّ ، على من استطاع إليها سبيلاً ، بأصل الشرع في العمر مرّة كالحجّ ، ففي ( الكافي ) في الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال العُمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ على من استطاع ؛ لأن اللّه عزوجل يقول ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (1) ، وإنما نزلت العُمرة بالمدينة.

قال : قلت له ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) (2) أيجزي ذلك عنه؟ قال نعم (3).

وفي ( الصافي ) (4) عن ( العيّاشي ) (5) عنه عليه السلام مثله.

وفي الصحيح عن ابن أُذينة قال : كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام مسائل ، فجاء الجواب بإملائه سألت عن قول اللّه عزوجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (6) ، يعني به : الحجّ والعُمرة جميعاً ؛ لأنهما مفروضان (7).

وفي خبر أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السلام ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (8) قال هما مفروضان (9).

وفي ( العلل ) في الصحيح عن ابن أبي عمير ، وحمّاد وصفوان وفضالة عن

ص: 165


1- البقرة : 196.
2- البقرة : 196.
3- الكافي 4 : 265 / 4 ، وسائل الشيعة 11 : 9 ، أبواب وجوب الحجّ ، ب 1 ، ح 5.
4- التفسير الصافي 1 : 231.
5- تفسير العيّاشي 1 : 107 / 224.
6- آل عمران : 97.
7- الكافي 4 : 264 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 7 ، أبواب وجوب الحجّ ، ب 1 ، ح 2.
8- البقرة : 196.
9- الكافي 4 : 265 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 459 / 1593 ، وسائل الشيعة 14 : 295 ، أبواب العمرة ، ب 1 ، ح 1.

معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال العُمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ من استطاع ؛ لأن اللّه عزوجل يقول ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) .. (1) الخبر.

وفي صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إذا تمتّع بالعُمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العُمرة (2).

وصحيح يعقوب بن شعيب ، قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : قول اللّه عزوجل ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) يكفي الرجل إذا تمتّع بالعُمرة إلى الحجّ مكان تلك العُمرة؟ قال كذلك أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أصحابه (3).

وخبر أبي بصير : سألت أبا الحسن عليه السلام عن العُمرة ، أواجبة هي؟ قال نعم.

قلت : فمن تمتع يجزي عنه؟ قال نعم (4).

وخبر المفضّل بن صالح عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال العُمرة مفروضة مثل الحجّ ، فإذا أدّى المتعة فقد أدّى العُمرة المفروضة (5).

وهذا المضمون مستفيض بلا معارض ، وعليه إجماع العصابة فتوًى وعملاً.

أقسام العمرة

وهي تنقسم إلى متمتّع بها ومفردة. والمتمتّع بها فرض من نأى من أهل الآفاق ؛ بأصل الشرع دون المفردة ، والمفردة فرض حاضري مكّة دون المتمتّع بها ؛ وذلك لأن الكتاب (6) والسنّة (7) المستفيضة به بلا اختلاف وإجماع الفرقة في كلّ زمان

ص: 166


1- علل الشرائع 2 : 111 / 1 ، وسائل الشيعة 14 : 297 ، أبواب العُمرة ، ب 1 ، ح 8.
2- الكافي 4 : 533 / 1 ، وسائل الشيعة 14 : 305 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 1 ، وفيهما : « استمتع » بدل : « تمتَّع ».
3- تهذيب الأحكام 5 : 433 / 1054 ، وسائل الشيعة 14 : 306 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 4.
4- الكافي 4 : 533 / 2 ، وسائل الشيعة 4 : 305 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 3 ، وفيهما : ( عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ).
5- الفقيه 2 : 274 / 1339 ، وسائل الشيعة 4 : 306 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 6.
6- البقرة : 196.
7- انظر وسائل الشيعة 11 : 258 - 262 ، أبواب أقسام الحج ، ب 6.

ومكان كلّها دلّت على أن فرض أهل الآفاق حجّ التمتّع دون القرآن والإفراد. فيكون فرضه من العُمرة الواجبة بأصل الشرع العمرة المتمتّع بها ، فلا تجب عليه المفردة ؛ إذ لم يدلّ دليل على أن أحداً يجب عليه بأصل الشرع عمرتان : عُمرة تمتّع ، ومفردة. وكذلك القول في اختصاص حاضري مكّة بوجوب المفردة.

وأيضاً النصّ (1) والإجماع إنما دلّا على أن العُمرة على الإطلاق فريضة على من استطاع إليها سبيلاً ، كما أن الكتاب (2) والسنّة (3) والإجماع إنما دلّوا على أن ( لِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) على الإطلاق.

ثمّ إن الكتاب والسنّة والإجماع دلّوا على أن الحجّ ينقسم إلى ثلاثة أنواع ، والعُمرة إلى نوعين ، وأنه ليس كلّ نوع من أنواع الحجّ والعُمرة واجباً على كلّ مستطيع ، بل على أن فرض من نأى عن مكّة التمتع دون قسيميه فلا يجزي أحدهما عنه اختياراً ، وفرض حاضري مكّة القرآن أو الإفراد.

ومن هذا يعلم أن النائي لم تفرض عليه المفردة بأصل الشرع ، ومن هو من حاضري المسجد لم تفرض عليه عُمرة التمتّع بأصل الشرع. ولم يدلّ دليل على أن المتمتّع بها واجبة على كلّ من استطاع ، ولا على أن المفردة واجبة على كلّ من استطاع ؛ لا كتاباً ولا سنّة ولا إجماعاً ، وكذلك أقسام الحجّ ، بل لم يُفتِ أحد بذلك أصلاً.

وأنت إذا تتبّعت كلام علماء الفرقة وجدتهم مطبقون على أنه إنما يجب الحجّ أو العُمرة على من استطاع بأصل الشرع مرّة واحدة في العمر ، فلو وجب على أحد نوعان من أنواع العُمرة لكان الواجب عليه أكثر من مرّة واحدة في عمره بأصل الشرع.

ص: 167


1- انظر ذلك تحت عنوان : أدلة وجوب العمرة المتقدّمة.
2- في قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) . آل عمران : 97.
3- الكافي 4 : 264 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 7 ، أبواب وجوب الحجّ ، ب 1 ، ح 2.

فلو قلنا : إن المفردة تجب على النائي بأصل الشرع ، لكنّا ربّما أوجبنا عليه عمرتين بأصل الشرع ، كما لو استطاع للمفردة فأتى بها ثمّ استطاع للحجّ ، بل ربّما كان ذلك في عام واحد ، وهذا خلاف ما عليه الفرقة فتوًى وعملاً في سائر الأعصار. فحينئذ إمّا أن نوجب على من استطاع للمفردة من أهل الآفاق عمرتين بأصل الشرع ، أو نسقط عنه فرض التمتّع ، وكلاهما خلاف الإجماع والنصّ. فهو مخالف لنصّ الكتاب والسنّة والإجماع.

إيضاح حول عبارة الشرائع

ولذا ترى كلّ من تكلّم في أحكام العُمرة يقول : العُمرة واجبة بأصل الشرع في العمر مرّة بشرط الاستطاعة ، ثمّ يقسّمها إلى متمتّع بها ومفردة ، ويحكم بأن المتمتّع بها فرض من نأى ، والمفردة فرض حاضري المسجد.

ولهذا لمّا كان في عبارة ( الشرائع ) ما يوهم شبه التدافع ، تعرّض الشهيد في الشرح لكشفه قال المحقّق بعد أن قال : ( وشرائط وجوبها شرائط وجوب الحجّ ومع الشرائط تجب في العمر مرّة ، وقد تجب بالنذر ).

وذكر ما في أسباب وجوبها وعدد أفعالها الواجبة ، ثمّ قال - : ( وتنقسم إلى متمتّع بها ومفردة ؛ فالأُولى تجب على من ليس من حاضري المسجد الحرام ، ولا تصحّ إلّا في أشهر الحجّ وتسقط المفردة معها ) (1).

قال الشارح قدس سره : ( يفهم من لفظ السقوط أن المفردة واجبة بأصل الشرع على كلّ مكلّف ، كما أن الحج مطلقاً يجب عليه ، وأنها إنما تسقط عن المتمتّع إذا اعتمر عمرته تخفيفاً ، ومن قوله : ( والمفردة تلزم حاضري المسجد الحرام ) ، عدم وجوبها على النائي من رأس ، وبين المفهومين تدافع ظاهر ، وكأن الموجب لذلك كون عُمرة التمتّع أخفّ من المفردة ، وكانت المفردة بسبب ذلك أكمل ، وهي المشروعة بالأصالة

ص: 168


1- شرائع الإسلام 1 : 274 - 275.

المفروضة قبل نزول آية التمتّع ، فكانت عُمرة التمتّع قائمة مقام الأصليّة مجزئة عنها ، وهي منها بمنزلة الرخصة من العزيمة.

ويكون قوله : ( والمفردة تلزم حاضري المسجد الحرام ) إشارة إلى ما استقرّ عليه الحال ، وصار هو الحكم الثابت الآن بأصل الشرع. ففي الأوّل إشارة إلى ابتدائه ، والثاني إلى استقراره ) (1) ، انتهى.

أقول : وقد تقدّم في أحكام حجّ التمتّع من ( الشرائع ) مثل هذه العبارة ، وأجاب عنها الشارح بجواب يحسن ذكره هنا أيضاً ، وكأنه اعتمد على ذكره هناك.

حيث قال المحقّق هناك : ( وإذا صحّ التمتّع سقطت العُمرة المفردة ) (2).

قال الشارح : ( هذا السقوط لا يتأتّى عندنا حقيقة إلّا في ذي الموطنين بمكّة وناءٍ أو الناذر للحجّ مطلقاً ، أمّا من فرضه التمتّع ابتداءً فإن سقوط المفردة في حقّه مجاز ؛ إذ لم تجب حتّى تسقط. نعم ، يتوجّه ذلك على مذهب العامّة ، لتخييرهم بين الأنواع الثلاثة مطلقاً ) (3) ، انتهى.

أقول : حاصله أنه لا يتأتّى السقوط حقيقة إلّا في حقّ من وجب عليه نوع من الحجّ لا على التعيين ، بل على التخيير ، ومن هو كذلك لم يثبت في ذمّته نوع بعينه من حجّ أو عُمرة ، وإنما وجب عليه أمر كلّيّ هو الحجّ الكلّيّ والعُمرة الكلّيّة من حيث هما كلّيّان. وبالإحرام بأحد أفراد الكلّيّ يتعيّن ويتبيّن ما هو في ذمّته من الأمر الكلّيّ الذي لا تحقّق له في الخارج إلّا في ضمن جزئي من جزئيّاته.

فالثابت في ذمّته جزئيّ خاصّ يتعيّن ويتبيّن بالإحرام به ، فمن تمّ تمتّعه لا يقال : إنه ثبت في ذمّته المفردة إلّا مجازاً ؛ لأنه لم يثبت في ذمّته الكلّيّ بجميع أفراده ، وإلّا لتعيّن عليه الجميع ولم يُجزِه فرد منها ، ولا الكلّيّ من حيث هو كلّيّ ؛ لعدم إمكان وجوده كذلك خارجاً ، وإنما الثابت في ذمّته فرد خاصّ ، لكنّه غير متعيّن خارجاً إلّا

ص: 169


1- مسالك الأفهام 2 : 497 - 498.
2- شرائع الإسلام 1 : 213.
3- مسالك الأفهام 2 : 201.

بالإحرام بنيّة إيقاعه. فإذن سقوط المفردة عنه مجاز لا حقيقة ؛ لعدم ثبوتها بعينها في ذمّته.

وأيضاً يأتي في كلام الشارح أن العُمرة المفردة غير مرتبطة بالحجّ ، فأوجب الحجّ دونها على من وجب عليه دونها ، فلو استطاع للحجّ دونها لم تجب وبالعكس. فناذر الحجّ مطلقاً لا تجب عليه عُمرة مفردة حتّى تسقط على ما اختاره.

ويؤيّده أن الشيخ عليّاً صرّح في حاشية الكتاب في شرح هذه العبارة بأن السقوط مجاز. وممّا يؤنس بهذا إن لم يدلّ عليه حسنة الحلبيّ ، أو صحيحته عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال إذا تمتّع الرجل بالعُمرة ، فقد قضى ما عليه من فريضة العُمرة (1).

فدلّ ظاهرها أن المتمتّع إنما فرضه المتعة.

وظاهر صحيحة ابن عمّار قال أبو عبد اللّه عليه السلام الحجّ ثلاثة أصناف : حجّ مفرد ، وقران ، وتمتّع بالعُمرة إلى الحجّ ، وبها أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، والفضل فيها ، ولا نأمر الناس إلّا بها (2).

فإن ظاهره أن المراد بالناس أهل الآفاق ؛ ليتمّ التقسيم والحصر معاً. فإذن الآفاقيُّ غير مأمور إلّا بعُمرة التمتُّع.

وصحيحة ابن عمّار قال أبو عبد اللّه عليه السلام ما نعلم حجّا لله غير المتعة (3).

خرج منه ما خرج بدليل ، وبقي فرض النائي منحصراً في المتعة. فلو كان يجب عليه المفردة لعلموا أن لله عليه حجّا غير المتعة ، فإن المفردة حجّ لله.

وقريب من ذلك مثل خبر معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال من حجّ فليتمتَّع ، إنا لا نعدل بكتاب اللّه عزوجل وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله (4).

والظاهر أنه أراد الحجّ الواجب بأصل الشرع على النائي بدليل خروج ما عداه

ص: 170


1- الكافي 4 : 533 / 1 ، وسائل الشيعة 14 : 305 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 1 ، وفيهما : « استمتع » بدل : « تمتع ».
2- تهذيب الأحكام 5 : 24 / 72 ، وسائل الشيعة 11 : 211 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 1 ، ح 1.
3- الكافي 4 : 291 / 4 ، وسائل الشيعة 11 : 243 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 3 ، ح 13.
4- الكافي 4 : 291 / 6 ، وسائل الشيعة 11 : 243 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 3 ، ح 14.

بالنصّ والإجماع. فإذن لم يؤمر النائي إلّا بحجّ التمتّع ، فلا يكون مأموراً بالمفردة ، والأمر سهل.

والغرض بيان أنه لا قائل بوجوب المفردة على النائي بأصل الشرع ، ولا نصّ يدلّ عليه ، والتتبّع حكم عدل.

فعلى هذا لو وصل أطراف مكّة من وجب عليه حجّ التمتّع بأصل الشرع ، لا يجب عليه أن يأتي بعُمرة مفردة لا قبل حجّه ولا بعده. فلو أراد دخول مكّة قبل أن يحرم بعُمرة التمتّع لغرض دينيّ أو دنيوي دخلها بعُمرة مفردة ، ينوي بإحرامه الندب. ونقل ما يدلّ على هذا من الأخبار وعبارات الأصحاب لا يليق بهذه الرسالة ، وعمل الفرقة على ما قلناه في سائر الأعصار من جميع أهل الأمصار بلا نكير ولا شبهة.

وأمّا ما في بعض الأخبار من مثل قول السائل : فمن تمتّع تجزي عنه؟ قال نعم (1) ، فلا ينافي ما قدّمناه من اختصاص الآفاقيّ بوجوب المتمتّع بها والمكّيّ بالمفردة ؛ فإن السائل علم أن العُمرة فرض كالحجّ ، وعلم أن المتمتّع بها داخلة في الحجّ كالجزء منه ، فسأل عمّن هي كذلك ، هل هي من العُمرة المفروضة فيجزي أداؤها ، أو يختصّ الفرض بعُمرة مبتولة؟

وبالجملة ، لم نجد خبراً ولا فتوًى بوجوب المتمتّع بها على من هو من حاضري المسجد الحرام ، ولا المبتولة على آفاقيّ. والمعروف من النص (2) والفتوى (3) أنه يشترط في فرض المتمتّع بها الاستطاعة إلى الحجّ معها وهو إجماع.

شرائط وجوب العمرة

واختلفوا في المفردة ، ففي كلام جمع أن المشهور عدم توقّف وجوبها على الاستطاعة للحجّ (4) ، وبالعكس ، فلو حصلت الاستطاعة لها وحدها وجبت وحدها ،

ص: 171


1- الكافي 4 : 533 / 2 ، وسائل الشيعة 14 : 305 ، أبواب العُمرة ، ب 5 ، ح 13.
2- وسائل الشيعة 14 : 295 ، أبواب العمرة ، ب 1.
3- مدارك الأحكام 8 : 459.
4- رياض المسائل 4 : 397.

وبالعكس.

وقيل : يتوقّف وجوب كلّ منهما على الاستطاعة للآخر (1).

وقيل : لا يشترط في وجوب الحجّ الاستطاعة لها ، ويشترط في وجوبها الاستطاعة له معها (2).

وظاهر تصريحات المعظم في صفة واجبات الإفراد والقران بأن عليه عُمرة مفردة يأتي بها بعد الحجّ ، أو : ثمّ يعتمر عُمرة مفردة ، أو : يعتمر بعده عُمرة مفردة. وما أشبه هذه العبارات يدلّ على وجوب المفردة بوجوب أحد القسمين ، ومقتضاه مراعاة الاستطاعة له بالاستطاعة لها.

والظاهر أنهم إنما يريدون بذلك حجّ الإسلام خاصّة ؛ لأن كثيراً منهم مع ذلك يصرّح بعدم وجوبها مع المندوب أو المنذور وشبهه إذا لم تلاحظ فيه كما هو مقتضى الفتوى والنصوص.

قال السيّد في مداركه بعد قول المحقّق في وصف واجب الإفراد : ( وعليه - يعني : المفرد عُمرة مفردة بعد الحجّ والإحلال منه ) (3) - : ( ربّما أشعرت العبارة ونظائرها بلزوم العُمرة المفردة لكلّ حاجّ مفرد ، وليس كذلك ، بل إنما تلزم في حجّ الإسلام دون الحجّ المندوب والمنذور إذا لم يتعلّق النذر بالعُمرة ؛ كما تدلّ عليه الأخبار الواردة بكيفيّة حجّ الإفراد ) (4) ، انتهى.

لما مرّ ، ولظواهر عدّة أخبار منها في ( الفقيه ) عن جميل عن الصادق عليه السلام أنه قال في الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية إنها تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة ، ثمّ تقيم حتّى تطهر فتخرج إلى التنعيم فتحرم فتجعلها عُمرة (5).

وما أشبهه ممّا دلّ على أن من دخل المشعر فضاق الوقت عن إتمامها وإدراك

ص: 172


1- وهو المنقول في مستند الشيعة 11 : 160.
2- الدروس 1 : 338.
3- شرائع الإسلام 1 : 213.
4- مدارك الأحكام 7 : 186.
5- الفقيه 2 : 240 / 1146 ، وسائل الشيعة 11 : 297 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 21 ، ح 2.

الموقفين أنه يعدل إلى نيّة حجّ الإفراد ، وعليه بعد إكماله عُمرة مفردة. وعلى مضمونها الفتوى والعمل بلا خلاف يظهر. فهذا إن لم يدلّ على وجوب العُمرة المفردة في حجّ الإسلام فهو يؤيّده ويشهد له.

وممّا يُستأنس له به مثل صحيحة ابن أُذينة في مكاتبته لأبي عبد اللّه عليه السلام في قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (1) أنه عليه السلام قال يعني به الحجَّ والعُمرة جميعاً (2).

وما في معناهما ممّا ورد في تفسير الآية ، بل لعلّ في قوله جميعاً دليلاً بطريق الإشارة إلى أن حجّ الفريضة وهو حجّ الإسلام لا بدّ معه من العُمرة فتأمّله فيكون ظاهر الآية يدلّ عليه بمعونة الرواية.

وظاهر قوله عزّ اسمه - ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (3) وما ورد في تفسيرها في عدّة أخبار منها الصحيحة المذكورة (4) أن المراد بإتمامها أداؤهما واتّقاء ما يتّقي المحرم فيهما ، فإن جمعهما في الأمر بإتمامهما يعني : أداءهما بمقتضى الروايات مع وحدة الأمر لعلّه يشعر بذلك.

وأمّا الحجّ المندوب فلا تجب معه العُمرة ما لم يكن تمتّعاً ؛ لعدم تحقّقه بدونها ، وأخبار وصف التمتّع والإفراد دليل على ما قلنا ، حيث حكمت في التمتّع بطوافين بين الصفا والمروة ، وفي القرآن والإفراد بطواف واحد.

وخصوص خبر عبد الملك بن عمرو : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن المتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ، فقال تمتّع.

قال : فقضى أنه أفرد الحجّ في ذلك العام أو بعده ، فقلت : أصلحك اللّه سألتك فأمرتني بالتمتّع ، وأراك قد أفردت الحجّ ، فقال أما واللّه ، إنّ الفضل لفي الذي أمرتك به ، ولكنّي ضعيف فشقّ علي طوافان بين الصفا والمروة ، فلذلك أفردت

ص: 173


1- آل عمران : 97.
2- الكافي 4 : 264 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 7 ، أبواب وجوب الحجّ ، ب 1 ، ح 2.
3- البقرة : 196.
4- أي صحيحة ابن أُذينة.

الحجّ (1) ، فإنه صريح في أنه لم يعتمر.

وكذلك أخبار حجّ الوداع فإنها ظاهرة في أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يعتمر.

والمشهور أنه لو استطاع من هو من حاضري المسجد الحرام للمفردة وحدها وجبت ، وهو الحقّ.

وفهمه من الأخبار السابقة وغيرها غير خفيّ ، ولعدم ارتباطها بالحجّ.

ص: 174


1- الكافي 4 : 292 - 293 / 12

موجبات العمرة

اشارة

وقد تجب العمرة بأسباب :

منها : النذر ، والعهد ، واليمين ، بالنصّ والإجماع.

ومنها : فوات الحجّ بعد الإحرام بالحجّ ، أو فواته مع عمرة التمتّع بعد الإحرام بها وفواتها مع الحجّ ، فإنه حينئذٍ يجب العدول بنيّة إحرامه إلى نيّة العُمرة المفردة ، والإتيان بأفعالها ليتحلّل من إحرامه. وهذا ثابت بالنصّ (1) والإجماع ، لكنّه مختصّ بالمفردة.

ومن وقع على زوجته دائمة كانت أو منقطعة ، حرّة أو مملوكة فجامعها قُبُلاً بالنصّ (2) والإجماع ، ودبراً على الأشهر الأظهر ؛ لدخوله في إطلاق من وقع على امرأته ، ويتحقّق ذلك بإيلاج الحشفة قبل المشعر ، ولو بعد عرفة وجب عليه إتمام الحجّ ، والحجّ من قابل عقوبة سواء كان الحجّ فرضاً أو نفلاً ولو كان عن غيره.

فإذا كان ما أوقع فيه الخطيئة تمتّعاً وجب القضاء تمتّعاً ؛ لأنه يجب من نوع ما أوقع فيه الخطيئة فتجب معه العُمرة المتمتّع بها ؛ لأنه لا يكون حجّ تمتّع إلّا بعمرة تمتّع قبله.

أمّا لو كان ذلك الحجّ قراناً أو إفراداً ؛ فإن كان ندباً أو ملتزماً وحده قضي وحده ، وإن كان ملتزماً بإجارة أو نذر أو شبهه مع العُمرة المفردة فالأظهر الأشهر أنه كذلك ؛

ص: 175


1- وسائل الشيعة 14 : 48 ، أبواب الوقوف بالمشعر ، ب 27.
2- وسائل الشيعة 13 : 110 - 115 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3.

لأن الفرض هو الأوّل على الأشهر الأظهر ، لدلالة النصّ (1) عليه. وعلى القول بأنه الثاني كما عن ابن إدريس (2) فأظهر الوجهين أنه كذلك ؛ لعدم ارتباطهما ، إلّا أن يكون قد التزم فيه تأخير العُمرة عن الحجّ ، فتجب في الثانية دون الاولى وعليه بدنة.

ولو كان منه ذلك قبل كمال السعي في العُمرة المفردة وجبت البدنة وعمرة مفردة مثلها مستأنفة بالنصّ والإجماع. ففي الصحيح عن يزيد بن معاوية : سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل اعتمر عمرة مفردة فغشي أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه؟ قال عليه السلام

عليه بدنة لفساد عمرته ، وعليه أن يقيم إلى الشهر الآخر ، فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم بعمرة (3).

وموثّقة مِسْمَعٍ عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يعتمر عمرة مفردة ، فيطوف بالبيت طواف الفريضة ، ثمّ يغشى أهله قبل أن يسعى بين الصفا والمروة قال عليه السلام

قد أفسد عمرته وعليه بدنة ، ويقيم بمكّة مُحِلّاً حتّى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه ، ثمّ يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأنه لأهل بلاده ويحرم منه ويعتمر (4).

والمسألة إجماعيّة. والمعروف من المذهب أنه يجب حينئذٍ إكمالها والقضاء.

أحكام العمرة الفاسدة

وربّما توهّم بعض متأخّري المتأخّرين أنه لا يجب إكمال الفاسدة ، بل متى وقعت منه تلك الخطيئة أحلّ. والمستند ما تضمّنه الخبران من الحكم بفسادها ، وما في الثانية من قوله عليه السلام : إنه يقيم بمكَّة محلّاً حتّى يخرج الشهر. وهذا مدفوع بوجوه :

الأوّل : أن المعروف من النصّ والفتوى أن من أحرم بحجّ أو عُمرة فلا يحلّ له ما

ص: 176


1- الكافي 4 : 373 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 112 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3 ، ح 9.
2- السرائر 1 : 550 ، عنه في مدارك الأحكام 8 : 409.
3- تهذيب الأحكام 5 : 324 / 1112 ، وسائل الشيعة 13 : 128 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 12 ، ح 1.
4- الكافي 4 : 538 - 539 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 128 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 12 ، ح 1.

حرّمه الإحرام إلّا بإيقاع أفعال معلومة محصورة ، بلا فرق ولا فارق بين أنواع الحجّ ولا أنواع العُمرة ، ولا بين الحجّ والعمرة.

وإيقاع الخطيئة ليس يعدّ في فتوًى ولا خبر من المحلّلات ، بل صريح ما تطابق عليه النصّ والفتوى فيمن وقع منه مثل ذلك في إحرام الحجّ أنه يجب عليه إكماله ولا يحلّ بذلك من إحرامه أنه ليس من المحلّلات في إحرام حجّ ولا عُمرة ؛ لعدم الفرق بين إحرامي الحجّ والعمرة تحريماً وتحليلاً ، لاستصحاب كونه محرماً ، وتحريم ما يحرم على المحرم حتّى يثبت إحلاله بيقين. ولا يتحقّق إحلاله إلّا بالإتيان بأفعال العُمرة ، أو ما يحلّ به المصدود أو المحصر إن كان كذلك ، ولا يقين في إحلاله وارتفاع حكم المحرم عنه بمجرّد إيقاعه الخطيئة ؛ لعدم الدليل المعارض لذلك الاستصحاب.

الثاني : أن لفظ الخبرين ظاهره وجوب الإتمام ، وإلّا لما كان لقوله عليه السلام يقيم إلى الشهر الآخر (1)

فائدة ولا معنًى ؛ إذ لو أخلّ بمجرّد الخطيئة مع وجوب الإعادة لكان يأمره بالإتيان بها فوراً لا بعد شهر ، فلمّا حكم بالفصل بينهما بشهر علم أن ذلك فرع كمال العُمرة الفاسدة وتحقّقها ؛ لأن الشهر إنما يُفصل به بين العمرتين التامّتين اللتين يلزم المكلّف الإتيان بهما ، ومع فرض التحلّل من الإحرام بذلك لا معنى لاعتبار فصل الشهر خصوصاً لو وقع الوقاع قبل الطواف ؛ إذ لا عمرتين حينئذٍ حتّى يراعى الفصل بالشهر.

أمّا إطلاق الإفساد فيهما فمجاز ، ومعناه ما يعني الفقهاء بإفساد الحجّ بذلك ، وهو وجوب القضاء مع الإكمال. وقد صرّح جملة من الأخبار (2) بإطلاق الإفساد بالحجّ ، ولعلّه مأخذ الفقهاء في إطلاق الإفساديّة على الحجّ ؛ لعدم الفرق بين إحرام الحجّ والعمرة.

ص: 177


1- تهذيب الأحكام 5 : 324 / 1112 ، وسائل الشيعة 13 : 128 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 12 ، ح 1.
2- وسائل الشيعة 13 : 126 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 11.

وأما قوله عليه السلام : [ يقيم بمكّة (1) ] مُحلّا (2) ، فمعناه أنه يجب عليه البقاء بمكّة بعد إحلاله من الاولى إلى الشهر الآخر ، فليس فيه دلالة على بطلان الإحرام من رأس بوجه ، والاحتمال ظاهر بل متعيّن لما ذكر من الدليل.

الثالث : ظاهر قوله عزّ اسمه - ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (3) لا يعارض بالاحتمال من رواية ، خصوصاً هذه الموثّقة ، مع ما عرفت من فساد الاحتمال ، وسقوط ذلك الاستدلال.

الرابع : أن ظاهر ( الغنية ) أنه إجماع قال : ( وفي الوطء في الفرج في إحرام الحجّ قبل الوقوف بعرفة فساده بلا خلاف ، ويلزم المضي فيه بلا خلاف إلّا من داود (4). وقوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) يبطل قوله ؛ لأنه لم يفرّق في الأمر بالإتمام بين ما فسد وبين ما لم يفسد ، وتجب عليه مع ذلك بدنة ؛ بدليل الإجماع المشار إليه وطريقة الاحتياط ) (5) ، انتهى.

وظاهر استدلاله بالآية أنه لا فرق في وجوب الإتمام مع الإفساد بين الحجّ والعمرة للأمر بإتمامهما فيها. فالظاهر أن ما ادّعاه من الإجماع يشملهما بأنواعهما. وهل هذا الحكم من وجوب الإكمال والإعادة من أجل فعل الوقاع قبل إكمال الطواف والسعي مختصّ بالعمرة المفردة كما عن جماعة ، وهو ظاهر ابن حمزة (6) وابن البرّاج (7) و ( تهذيب الأحكام ) (8) و ( المبسوط ) (9) و ( النهاية ) (10) ، حيث إنهم ذكروا الحكم بالإفساد ووجوب الإكمال والقضاء فيمن وقع منه ذلك قبل كمال الطواف

ص: 178


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( يبقى ).
2- تهذيب الأحكام 5 : 324 / 1112 ، وسائل الشيعة 13 : 128 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 12 ، ح 1.
3- البقرة : 196.
4- عنه في المجموع شرح المهذّب 7 : 417 ، الخلاف 2 : 365 / المسألة : 202.
5- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 397.
6- الوسيلة : 159.
7- المهذّب 1 : 222.
8- تهذيب الأحكام 5 : 323 / ذيل الحديث 1110.
9- المبسوط 1 : 337.
10- النهاية : 231.

والسعي في إحرام المفردة ، ولم يتعرّضوا للمتمتّع بها. أو يعمّها مع عمرة التمتّع ، كما اختاره جماعة بل نسب للأكثر ، والظاهر أنه مشهور المتأخّرين (1)؟

واحتجّ القاصرون له على العمرة المفردة بعدم الدليل على عمومه للمتمتّع بها ؛ لأن الأخبار إنما وردت في المفردة يعنون الأخبار السابقة بل قال بعض الأعاظم من المعاصرين : ( إن إلحاق المتمتّع بها في ذلك بالمفردة قياس ) ؛ لعدم الدليل عليه ، واختصاص الأخبار بالمفردة.

والعجب أن العلّامة في ( المختلف ) (2) اختار شموله للمتمتّع بها ، واستدلّ بالخبرين الأوّلين ، ولا دلالة فيهما على غير المفردة ؛ لأنها فيهما مورد السؤال والجواب ، فإن كان دليل من طرّد الحكم وعدّاه إلى المتمتّع بها تلك الأخبار المتقدّمة ، فمنع دلالتها على ذلك واضح ، فطرد الحكم فيها قول بلا دليل.

فعلى هذا يتعيّن قصر الحكم على المفردة ، لكنّي لم أقف للقائلين بقصره على المفردة على كلام في حكم المتمتّع بها ، لو وقع فيها ذلك فينبغي ألّا يكون له أثر فيها بالكلّيّة ؛ لاعترافهم بعدم الدليل. فإثبات كفّارة أو غيرها قياس باطل.

واختلف القائلون بعموم الحكم المذكور للمتمتّع بها في أنه هل يسري الإفساد إلى حجّها ، أم لا ، بل يقصر الإفساد والإكمال والإعادة عليها؟

فالأكثر على الأوّل استناداً إلى ارتباطهما وكونهما كالجزء من حجّها ، ولا يخفى ضعف الحجّة مع أنها مخرجة ، ولم أقف للقائلين بعدم السراية إلى الحجّ ، على أنه هل يكملها بصورة المتمتّع بها مع وجوب قضائها ، أم بصورة المفردة لوجوب قضائها؟ ومع القضاء قبل الحجّ ينبغي أن تتعيّن الثانية ؛ لكونها متعته ؛ لعدم جواز الفصل بين عمرة التمتّع وحجّها بنسك ، فلا يمكن إجراء الخلاف الواقع في إفساد الحجّ بين المشهور وابن إدريس (3) هنا ، ولا على الحكم فيما لو ضاق الوقت عن

ص: 179


1- مسالك الأفهام 2 : 481.
2- مختلف الشيعة 4 : 173 / المسألة : 131.
3- السرائر 1 : 550.

القضاء قبل الحجّ ، بحيث لو أتى به فات الحجّ. فهل يتعيّن الإفراد وينقلب الفرض إليه لضيق الوقت ، أم يبقى محلّاً إلى قابل فيأتي بهما ، لأنه في معنى من تعمّد ترك الحجّ ؛ ولأنه لا يسوغ المتمتّع بها بعد أيّام الحجّ ، ولا أن تنفرد عن الحجّ ؛ للارتباط الثابت بالنصّ (1) والإجماع؟

وعلى الأوّل فهل يبقى وجوب قضائها مع انقلاب الفرض إلى الإفراد والإتيان به مع المفردة؟ وعلى هذا الفرض متى تقضى؟ وتقضى وحدها مع عدم صحّة انفرادها عن الحجّ أم يقضى معها ، فلا يبقى حينئذٍ فرق بين هذا وبين من قال بسراية الإفساد إلى الحجّ؟

وبالجملة ، فالبحث في غاية الصعوبة والإشكال ، لكنه غير بعيد برجحان القول بعموم الحكم من الإفساد وسرايته إلى الحجّ ووجوب إكمالها وقضائهما في العام القابل كما هو المشهور ، لا للأخبار الواردة في المفردة ولا لصحيحة ابن عمّار : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن متمتّع وقع على أهله ولم يزر قال ينحر جزوراً ، وقد خشيت أن يكون قد ثلم حجّه إن كان عالماً (2) الخبر.

لعدم وضوح الدلالة ، بل ظاهرها أنه في إحرام الحجّ ، كما فهمه الشيخ منها حيث قال في ( تهذيب الأحكام ) : ( وإذا جامع الإنسان قبل طواف الزيارة فعليه أن ينحر جزوراً ثمّ يطوف ، فإن لم يتمكّن فبقرة أو شاة ) (3). ثمّ استدلّ بهذه الرواية.

ولا لصحيحة ابن عمّار كما في ( تهذيب الأحكام ) : سأل معاوية بن عمّار الصادق عليه السلام عن رجل متمتّع وقع على امرأته ولم يقصّر قال ينحر جزوراً ، وقد خشيت أن يكون قد ثلم حجّه إن كان عالماً ، وإن كان جاهلاً فلا شي ء عليه (4) الخبر.

ص: 180


1- وسائل الشيعة 11 : 301 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22.
2- الكافي 4 : 378 / 3 ، تهذيب الأحكام 5 : 321 / 1104 ، وسائل الشيعة 13 : 121 122 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 9 ، ح 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 321.
4- تهذيب الأحكام 5 : 321 / 1104 ، وسائل الشيعة 13 - 131 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 13 ، ح 4.

لاحتمال أن يكون ذلك في إحرام الحجّ ، وإن كان ظاهره أعمّ ، ولأن الإجماع قائم ، والنصّ (1) به متكرّر ، على أن ذلك بعد الوقوفين في الحجّ. وبعد السعي في العمرة مطلقاً لا يوجب الإفساد ولا الإعادة ؛ فتعيّن أنه أراد بثلم الحجّ المخشيّ عليه هو نقصان ثوابه.

بل لعموم صحيحة زرارة قال : سألته عن محرم غشي امرأته وهي محرمة. قال عليه السلام جاهلين أو عالمين.

قلت : أجبني في الوجهين جميعاً قال إن كانا جاهلين استغفرا ربّهما ومضيا على حجّهما وليس عليهما شي ء ، وإن كانا عالمين فُرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه ، وعليهما بدنة وعليهما الحجّ من قابل ، فإذا بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نسكهما ، ويرجعا إلى المكان الّذي أصابا فيه ما أصابا ، قلت : فأي الحجّتين لهما؟ قال : الأُولى التي أحدثا فيها ما أحدثا ، والأُخرى عليهما عقوبة (2).

وصحيحة ابن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في المحرم يقع على أهله؟ قال إن كان أفضى إليها فعليه بدنة والحجّ من قابل ، وإن لم يكن أفضى إليها فعليه بدنة وليس عليه الحجّ من قابل.

قال : وسألته عن رجل وقع على امرأته وهو محرم؟ قال إن كان جاهلاً فليس عليه شي ء ، وإن لم يكن جاهلاً فعليه سوق بدنة وعليه الحجّ من قابل ، فإذا انتهى إلى المكان الذي وقع بها فُرّق محملاهما فلم يجتمعا في خباء واحد ؛ إلّا أن يكون معهما غيرهما ، حتّى يبلغ الهدي محلّه (3). هكذا لفظ الخبر في ( الكافي ).

والظاهر أنه من قوله : ( وسألته ) إلى آخره ، رواية أُخرى مستقلّة ، ولهذا قال في ( تهذيب الأحكام ) : روى موسى بن القاسم عن صفوان عن معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل محرم وقع على أهله (4) .. إلى آخر ما في ( الكافي ) ،

ص: 181


1- وسائل الشيعة 13 : 118 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 6.
2- الكافي 4 : 373 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 112 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3 ، ح 9.
3- الكافي 4 : 373 - 374 / 3 ، وسائل الشيعة 13 : 113 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3 ، ح 12.
4- تهذيب الأحكام 5 : 319 / 1099 ، وسائل الشيعة 13 : 110 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3 ، ح 1.

فاقتصر على هذا ، وهو قرينة على أنه رواية مستقلّة.

وخبر علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن محرم واقع أهله ، فقال قد أتى عظيماً.

قلت : لمبتلى؟ فقال استكرهها أو لم يستكرهها؟. قلت : أفتني بهم جميعاً ، فقال إن كان استكرهها فعليه بدنتان ، وإن لم يكن استكرهها فعليه بدنة وعليها بدنة ، ويفترقان من المكان الذي كان فيه ما كان ، حتّى ينتهيا إلى مكّة وعليهما الحجّ من قابل لا بدّ منه.

قال : قلت : فإذا انتهيا إلى مكّة فهي امرأته كما كانت؟ فقال نعم ، هي امرأته كما هي ، فإذا انتهيا إلى المكان الذي كان منهما ما كان ، افترقا حتّى يحلّا ، فإذا أحلّا فقد انقضى عنهما ؛ فإنّ أبي كان يقول ذلك (1).

وصحيحة جميل بن درّاج : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن محرم وقع على أهله قال عليه بدنة. قال : فقال له زرارة : قد سألته عن الذي سألته عنه ، فقال لي عليه بدنة. قلت : عليه شي ء غير هذا؟ قال نعم ، عليه الحجّ من قابل (2).

وما رواه الشيخ أيضاً في الصحيح عن معاوية بن عمّار : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل وقع على أهله فيما دون الفرج قال عليه بدنة وليس عليه الحجّ من قابل ، وإن كانت المرأة تابعته على الجماع فعليها مثل ما عليه ، وإن كان استكرهها فعليه بدنتان وعليهما الحجّ من قابل (3) آخر الحديث.

ثمّ قال الشيخ رحمه اللّه تعالى بعد هذا : وروى محمّد بن يعقوب عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير. ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن أبي عمير وصفوان عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في المحرم يقع على أهله قال إن كان أفضى إليها فعليه بدنة والحجّ من قابل ، وإن لم يكن أفضى إليها فعليه بدنة

ص: 182


1- الكافي 4 : 374 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 116 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 4 ، ح 2.
2- تهذيب الأحكام 5 : 318 / 1096 ، وسائل الشيعة 13 : 111 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 3 ، ح 3.
3- تهذيب الأحكام 5 : 318 / 1097 ، وسائل الشيعة 13 : 119 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 7 ، ح 1.

وليس عليه الحجّ من قابل (1).

فهذه الأخبار وما شابهها تتناول بإطلاقها إحرام عمرة التمتّع كما هو ظاهر. ويؤيّده ، بل يوضّحه أن ظاهر جملة منها أن ذلك العمل مفروض وقوعه خارج الحرم ، حيث إنها أوجبت الافتراق من موضع الخطيئة إلى أن يبلغ الهدي محلّه ، أو إلى أن يقضيا مناسكهما ، أو إلى أن يدخلا مكّة ، أو إلى أن يرجعا إلى مكان الخطيئة من الطريق.

وظاهر هذا أنه مفروض الوقوع في الطريق بين المحرم والحرم ، ويؤكّده اختلاف الأصحاب ؛ في أن التفرقة المجمع عليها هل هي في النسك الأوّل ، أو القضاء؟.

وعلى الأوّل ، فالافتراق من محلّ الخطيئة كما هو الإجماع نصّاً وفتوى (2). وهل منتهاه على القولين إلى أن يبلغ الهدي محلّه ، أو إلى تمام المناسك ، أو إلى أن يعودا إلى مكان الخطيئة من الطريق؟ ربّما قيل بوجوبه في النُّسكين جميعاً (3) ، كما هو ظاهر بعض الأخبار كخبر ابن أبي حمزة (4).

وأيضاً قد اختلف الأصحاب في أنه لو حجّا حجّ القضاء على غير تلك الطريق التي أحدثا فيها ما أحدثا في الحجّ الأوّل ، ووصلا إلى طريق يشترك فيه الطريقان بعد مكان الخطيئة ، هل يفترقان من محلّ الاشتراك كما احتمله في ( المسالك ) (5) ، أم لا؟ بل مثّل بعضهم (6) لمحلّ اشتراك الطريقين بالمرور على عرفة.

وكلّ هذا يخبرك بظاهره كالأخبار إن الخطيئة مفروضة في طريق المحرم إلى الحرم ، وهذا لا يكون إلّا في إحرام عمرة التمتّع غالباً ؛ لأن أكثر الواردين فرضهم ذلك ، أو حجّ إفراد ، أو قران كما هو الفرد النادر الوقوع. فإذا كان ظاهرها وقوع

ص: 183


1- تهذيب الأحكام 5 : 319 / 1098 ، وسائل الشيعة 13 : 119 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 7 ، ح 2.
2- مدارك الأحكام 8 : 411.
3- تذكرة الفقهاء 8 : 35 / المسألة : 405 ، مسالك الأفهام 2 : 476.
4- الكافي 4 : 374 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 116 ، أبواب كفّارات الاستمتاع ، ب 4 ، ح 2.
5- مسالك الأفهام 2 : 476.
6- مسالك الأفهام 2 : 476.

الخطيئة في طريق بين المحرم والحرم ، فظاهره أن أكثره في إحرام عمرة التمتّع.

فإذن دلّت هذه الأخبار بظاهرها وإطلاقها معاً على دخول الإفساد في المتمتّع بها ، وسريان الإفساد للحجّ.

فإن قلت : احتمال اختصاص هذه الأخبار بإحرام الحجّ بقرينة الحكم بقضاء الحجّ وعدم ذكر العمرة قائم.

قلت : الاحتمال لا يمنع الاستدلال إلّا في مقام لا تقوم القرينة على نفيه ، وقد عرفت هنا منعه بطريقين : عموم الإطلاق ، وظاهر السياق. فلو جرى الاحتمال هنا لما تمّ الاستدلال بالإطلاق ؛ لاختلال اختصاصه بفرد من أفراد المطلق ، وكون ذكر قضاء الحجّ وعدم ذكر العمرة قرينةً على الاحتمال ممنوعة لما ذكرناه.

وإنما اقتصر على بيان النصّ على قضاء الحجّ ؛ لما هو معلوم من المذهب نصّاً (1) وفتوى (2) من ارتباط عمرة التمتّع بحجّه ، وللنصّ (3) على أن وجوب قضائها يستلزم وجوب قضاء الحجّ ؛ لما ربّما يخفى على بعض السامعين ؛ بسبب وقوع الإحلال بينهم مع ارتباطهم ، فأشار بذكر وجوب قضاء الحجّ المستلزم لوجوب قضاء العمرة إلى أنها كالجزء منه ، فلا يصحّ انفراد أحدهما عن الآخر أداءً وقضاءً.

فإن قلت : كيف يعمّ الإطلاق المتمتّع بها مع تحقّق الإجماع على أنه لو وقع الوقاع بعد كمال سعيها قبل التقصير لم تفسد؟

قلت : هذا على القول بأن التقصير ليس بنُسك فيها ، وإنما هو محلّل خارج واضح الفساد ؛ لخروج زمن الوقاع عن أفعالها ، وعلى القول بأنه نسك كما هو الأظهر ، نقول : استثناه الدليل كما استثنى وقوعه بعد التقصير فيها ، فلا تمتنع دلالتها على الإفساد ، وشموله للحجّ لو وقع الوقاع قبل كمال سعيها. فقد تبيّن من ظاهر هذه

ص: 184


1- وسائل الشيعة 11 : 301 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22.
2- مسالك الأفهام 2 : 481 ، مدارك الأحكام 8 : 459.
3- انظر وسائل الشيعة 14 : 295 ، أبواب العمرة ، ب 1.

الأخبار خصوصاً مع ملاحظة أن الخطيئة مفروض وقوعها في الطريق بين محلّ الإحرام والحرم ، وملاحظة كلام الأصحاب معها في مبدأ الافتراق ومنتهاه إنها مفروضة في إحرام عمرة التمتّع ؛ لأنه الفرد الغالب الشائع على مَنْ حجّ مِنْ خارج الحرم ، لا أقلّ من عمومها لها.

وممّا يستأنس به لعموم هذه الأخبار أن المشايخ في الكتب الأربعة (1) عنونوا هذا في باب ، و ( الوقاع قبل عرفة أو المشعر ) باباً آخر على حدة ، وأوردوا فيه أخباراً غير هذه ، فلا أقلّ من شمولها لها ، فدلّت على سريان الإفساد لحجّها ؛ لهذه الأخبار ، ولتحقّق ارتباطها بالحجّ.

ولهذا لا يظهر خلاف في وجوب قضاء عمرة التمتّع لو أفسد الناسك حجّه بالوقاع قبل عرفة أو المشعر مع الحجّ ؛ إذ لا يتحقّق حجّ تمتّع بدون عمرته ؛ لأنه كيفيّة متلقّاة من الشارع كذلك ، ولنصّه على دخول العمرة في الحجّ ، فهي كجزء منه متى وجب قضاء أحدهما وجب قضاء الآخر.

وهل يلحق بالوقوع على المرأة الوقوعُ على الأمَة؟ الظاهر ذلك ؛ لأن الظاهر دخولها في أهل الرجل عرفاً ، وقد صرّح به بعضهم (2). وأيضاً فالشهرة الأكيدة على إلحاقها.

وهل يلحق به وطء الشبهة والزنا ولواط الذكر؟ المشهور ذلك ؛ معلّلاً بأنه أفحش وأشدّ إثماً ، ولأن الظاهر أن مناط العقوبة وسببها وقوع الوقاع المحرّم ، وهو متحقّق ، ولا بأس به.

أمّا البدنة فهي ثابتة على من واقع في إحرامه مطلقاً ؛ حجّا كان أو عمرة مطلقاً فيهما ؛ قبل التقصير في العمرة ، وقبل إكمال خمسة أشواط من طواف النساء في حجّ أو عمرة مفردة على الأشهر ، وقبل إكمال أربعة إجماعاً.

ص: 185


1- الكافي 4 : 440 ، الفقيه 2 : 236 ، تهذيب الأحكام 5 : 316 ، الاستبصار 2 : 242.
2- مدارك الأحكام 8 : 409.

ومن وصل الميقات في وقت يعلم أو يظنّ ظنّاً متاخماً للعلم أنه لا يدرك أن يأتي بأفعال المتعة ويدرك الموقفين ، لزمه أن يحرم ويحجّ الإفراد أو القرآن إن كان التمتّع فرضه ولو بالعارض من الملتزم ، أو الإفساد للحجّ في العام الأوّل ، ولزمه بعده عمرة مفردة. لا نعلم فيه مخالفاً.

وفهمه من إطلاقات بعض الأخبار ممكن ، مثل صحيحة ابن بزيع : سألت الرضا عليه السلام عن المرأة تدخل مكّة متمتّعة فتحيض قبل أن تحلّ ، متى تذهب متعتها؟ قال كان جعفر عليه السلام يقول بزوال الشمس من يوم التروية. وكان موسى عليه السلام يقول : صلاة الصبح من يوم التروية. قلت : جعلت فداك ، عامّة مواليك يدخلون يوم التروية ، ويطوفون ويسعون ، ثمّ يحرمون بالحجّ ، فقال زوال الشمس؟. فذكرت له رواية عجلان أبي صالح (1) ، فقال عليه السلام لا ، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة. فقلت : فهي على إحرامها ، وتجدد إحرامها للحجّ؟ فقال عليه السلام لا ، هي على إحرامها. فقلت : فعليها هدي؟ قال لا ، إلّا أن تحبّ أن تتطوّع.

ثمّ قال أمّا نحن فإذا رأينا هلال ذي الحجّة قبل أن نحرم فاتتنا المتعة (2).

فإن ظاهرها أنه مثل من يُحرم من الشجرة إذا أهلّ ذو الحجّة قبل أن يحرم لا يدرك المتعة ، وإذا لم يدرك أحرم بالحجّ.

وخبر ابن بكير عن بعض أصحابنا أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن المتعة متى تكون؟

ص: 186


1- وهي الرواية التي أخرجها الشيخ عن الكليني في موردين ، تهذيب الأحكام 5 : 391 - 392 / 1368 ، و: 392 / 1369 ، ومضمونها أن امرأة متمتّعة قدمت مكّة فرأت الدم ، وكان جواب الإمام عليه السلام : « تطوف بين الصفاء والمروة ، ثم تجلس في بيتها فإن طهرت طافت بالبيت ، وإن لم تطهر ؛ فإذا كان يوم التروية أفاضت عليها الماء ، وأهلّت بالحجّ من بيتها ، وخرجت إلى منى فقضت المناسك كلّها ، فإذا قدمت مكّة طافت بالبيت طوافين ، وسعت بين الصفا والمروة ، فإذا فعلت ذلك فقد حلّ لها كلّ شي ء ما عدا فراش زوجها ».
2- تهذيب الأحكام 5 : 391 / 1366 ، الإستبصار 2 : 311 / 1107 ، وسائل الشيعة 11 : 299 - 300 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 21 ، ح 14.

قال يتمتّع من ظنّ أن يدرك الناس بمنى (1).

وخبر الميثميّ : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لا بأس للمتمتّع إن لم يحرم من ليلة التروية متى ما تيسّر له ما لم يخف فوت الموقفين (2).

وخبر جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال المتمتّع له المتعة إلى زوال الشمس من يوم عرفة ، وله الحجّ إلى زوال الشمس من يوم النحر (3).

وموثّقة ابن مسلم : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إلى متى يكون للحاجّ عمرة؟ قال إلى السحر من ليلة عرفة (4). وأمثال هذه الأخبار ، فإن إطلاق مفاهيمها يدلّ على ذلك ، فتأمّلها.

ص: 187


1- الكافي 4 : 443 - 444 / 3 ، تهذيب الأحكام 5 : 170 / 566 ، الإستبصار 2 : 246 / 861 ، وسائل الشيعة 11 : 292 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 20 ، ح 6.
2- الكافي 4 : 444 / 4 ، تهذيب الأحكام 5 : 171 / 568 ، الإستبصار 2 : 247 / 863 ، وسائل الشيعة 11 : 292 - 293 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 20 ، ح 5. وفيها : ( عن شعيب المحاملي ) غير أنه في هامش الكتاب إشارة إلى أنه في نسخة من وسائل الشيعة : ( الميثمي ).
3- تهذيب الأحكام 5 : 171 / 569 ، الإستبصار 2 : 247 / 865 ، وسائل الشيعة 11 : 295 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 20 ، ح 15.
4- تهذيب الأحكام 5 : 172 / 573 ، وسائل الشيعة 11 : 293 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 20 ، ح 1.

ص: 188

الإحرام لدخول مكّة

ومن أراد دخول مكّة حرم عليه أن يدخلها مُحِلّاً ، ووجب عليه أن يدخلها محرماً. فإن كان يريد الإحرام لدخولها في أشهر الحجّ كان مخيّراً بين الإحرام بنوع من أنواع الحجّ ، أو عمرة التمتّع أو عمرة مفردة. هذا إن لم يتعيّن عليه نوع من الحجّ أو العمرة ؛ فإن كان قد وجب عليه نوع خاصّ تعيّن ، وإن لا يكن حين يكون في الميقات قاصداً دخول مكّة في أشهر الحجّ تعيّن عليه الإحرام بالعمرة المفردة.

كلّ ذلك وجوباً إن وجب النُّسك أو دخول مكّة ، وإلّا كان ندباً ، وهو واجب شرطيّ ، ووجوبه الشرطيّ لا ينافي ندبه ، ولا وجوبه على المكلّف ينافي شرطيّته ؛ لأنه بالنسبة لدخول مكّة كالوضوء للصلاة نفلها وواجبها فتحرم الصلاة وجوباً وندباً. ويكفي الواجب منه للواجب والندب ، كلّ ذلك بالإجماع والنصّ ، عدا ما استثني بالدليل.

ففي صحيح معاوية بن عمّار قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يوم فتح مكّة إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، وهي حرام إلى أن تقوم الساعة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار (1).

ورواه الصدوق (2) مرسلاً.

وبإسناده عن كليب الأسديّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله استأذن اللّه عزوجل في مكّة ثلاث مرّات من الدهر ، فأذن له فيها ساعة من النهار ، ثمّ جعلها حراماً ما دامت

ص: 189


1- الكافي 4 : 226 / 4 ، وسائل الشيعة 12 : 404 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 7 ، وروى الصدوق رحمه اللّه قريباً منه ، انظر الفقيه 2 : 159 / 689.
2- الفقيه 2 : 159 / 687.

السماوات والأرض (1).

وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في ( إعلام الورى ) نقلاً من كتاب أبان بن عثمان عن بشير النبّال عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : ألا إنّ مكّة محرّمة بتحريم اللّه ، لم تحلّ لأحد كان قبلي ، ولم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار ، إلى أن تقوم الساعة (2) الخبر.

وفي ( الكافي ) بسنده عن وردان عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام قال من كان في مكّة على مسيرة عشرة أميال لم يدخلها إلّا بإحرام (3).

وفي ( الفقيه ) بسنده عن القاسم بن محمّد عن علي بن أبي حمزة : سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل يدخل مكّة في السنة مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً كيف يصنع؟ قال إذا دخل فليدخل ملبّياً ، وإذا خرج فليخرج محِلّاً (4).

ورواه في ( الكافي ) (5) بسنده عن يونس عن علي بن أبي حمزة مثله.

وبالجملة ، فالأخبار بوجوب الإحرام لدخول مكّة وتحريم دخولها بغير إحرام مستفيضة جدّاً ، من غير أن يعيّن في شي ء منها إحرام خاصّ بنوع من الحجّ أو العمرة. ويستثنى من ذلك الحطّابة والحشاشة والمجتلبة وأشباههم ، ممّن يكثر دخوله مكّة كما هو ظاهر المذهب (6) ، فإن في وجوب الإحرام عليهم والنسك حرجاً وعسراً.

ويدلّ عليه من الأخبار مثل صحيح رفاعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إنّ الحطّابة والمجتلبة أتوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسألوه فأذن لهم أن يدخلوها حلالاً (7).

والمختلبة في ( الكافي ) بالخاء المعجمة وهم من يجتلب الحشيش من خارج

ص: 190


1- الفقيه 2 : 159 / 688 ، وسائل الشيعة 12 : 405 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 9.
2- إعلام الورى بأعلام الهدى : 188 ، وسائل الشيعة 12 : 406 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 12.
3- الكافي 4 : 325 - 326 / 11 ، وسائل الشيعة 12 : 404 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 5.
4- الفقيه 2 : 239 / 1141 ، وسائل الشيعة 12 : 405 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 10.
5- الكافي 4 : 534 / 3.
6- انظر مدارك الأحكام 7 : 384.
7- تهذيب الأحكام 5 : 165 / 552 ، وسائل الشيعة 12 : 407 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 2.

مكّة.

وفي ( تهذيب الأحكام ) (1) بالجيم ، وهو أعمّ من الأوّل.

وكذا يستثني المريض مرضاً يشقّ عليه معه الإحرام ويخرج به عن وسعه تكاليف الإحرام ، فإنه يحقّ له دخولها محلّاً ، كما هو ظاهر الفتوى (2) والنصّ المستفيض (3) الموافق لنفي الضرر ، ولقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (4) ، ولقوله عزّ اسمه - ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (5).

مثل صحيح محمّد بن مسلم وشبهه كما في ( الفقيه ) (6) ، و ( تهذيب الأحكام ) (7) عن أبي جعفر عليه السلام : هل يدخل الرجل مكّة بغير إحرام؟ قال : لا إلّا مريض أو به بطن.

وإنما حملنا مثل هذا الحديث المشتهر العمل بمضمونه بين العصابة على مرض يشقّ معه الإحرام ويخرج بصاحبه عن وسع تكاليفه ؛ جمعاً بينه وبين مثل صحيح رفاعة : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل به بطن ووجع شديد يدخل مكّة حلالاً؟ فقال لا يدخلها إلّا محرماً (8).

وقويّ رفاعة أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن الرجل يعرض له المرض الشديد قبل أن يدخل مكّة قال لا يدخلها إلّا بإحرام (9).

بحمل هذه الأخبار وشبهها على مريض لا يشقّ عليه تكاليف الإحرام مشقّة لا تتحمّل عادة ، ولا يخرج عن وسعه تحمّلها.

ص: 191


1- تهذيب الأحكام 5 : 165 / 552.
2- مدارك الأحكام 7 : 381.
3- تهذيب الأحكام 5 : 165 / 550 ، 551.
4- البقرة : 185.
5- البقرة : 186.
6- الفقيه 2 : 239 / 1140.
7- تهذيب الأحكام 5 : 165 / 551 ، وفيه : « إلّا أن يكون مريضاً » ، وسائل الشيعة 12 : 403 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 4.
8- تهذيب الأحكام 5 : 165 / 552 ، وسائل الشيعة 12 : 403 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 3.
9- الكافي 4 : 324 / 4 ، وسائل الشيعة 12 : 405 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 8.

وقد حمل الشيخ (1) مثل هذا على الاستحباب ، ولا بأس به مع الإطاقة مع المشقّة ، أمّا بدونها فيجب ولو كان مريضاً.

ولو ترك الإحرام أثم ، ولا يجب التدارك والبدل لا أداءً ولا قضاءً.

والظاهر أنه يتحقّق الإثم عليه بدخوله محلّاً ، كما يظهر من صحيح عاصم بن حميد : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يدخل الحرم أحد إلّا محرماً قال لا ، إلّا مريض أو مبطون (2). وصحيح محمّد بن أبي نصر (3) مثله.

وصحيح محمّد بن مسلم : قلت لأبي جعفر عليه السلام : هل يدخل الرجل الحرم بغير إحرام؟ قال لا ، إلّا أن يكون مريضاً أو به بطن (4).

فإن ظاهرها المنع من دخول الحرم بغير إحرام ، فبه يتحقّق الإثم إذا كان حينئذٍ قاصداً مكّة ؛ لأن ظاهر الأصحاب أنه لا يجب الإحرام بمجرّد قصد الحرم بدون قصد مكّة ؛ كما يظهر من تتبّع كلماتهم ، فإنهم إنما يذكرون وجوب الإحرام لدخول مكّة ولا يذكرون الحرم (5).

فتعيّن حمل هذه الأخبار على أنه يأثم من قصد دخول مكّة إذا جاوز الوقت بغير إحرام بمجرّد دخوله الحرم ؛ فإنه إذا فعل ذلك ثبتت المعصية في حقّه وتحقّقت منه ، وقبل دخوله الحرم كأنه بمنزلة العازم على فعل المعصية ساعٍ إليه ولما يفعل ، فعليه إثم سعيه للمعصية ، فإذا دخل الحرم تحقّق منه فعل المعصية.

وممّا ينبّه على هذا مثل ما رواه الصدوق في ( العلل ) (6) و ( العيون ) (7) بأسانيد

ص: 192


1- تهذيب الأحكام 5 : 165 / ذيل الحديث 552.
2- تهذيب الأحكام 5 : 468 / 1639 ، وسائل الشيعة 12 : 402 - 403 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 448 / 550.
4- تهذيب الأحكام 5 : 448 / 1564 ، وسائل الشيعة 12 : 403 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 4.
5- مدارك الأحكام 7 : 380.
6- علل الشرائع 1 : 318 / 9 ، بتفاوتٍ يسير.
7- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 120 - 121 ، بتفاوتٍ يسير.

متعدّدة عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام أنه قال إنما أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم اللّه وأمنه ، ولئلّا يلهوا ويشتغلوا بشي ء من أُمور الدنيا وزينتها ولذّاتها ، ويكونوا جادّين فيما هم فيه ، قاصدين نحوه مقبلين عليه بكلّيّتهم ، مع ما فيه من التعظيم لله عزوجل ولنبيّه ، والتذلّل لأنفسهم عند قصدهم إلى اللّه عزوجل ، ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه ، ماضين نحوه ، مقبلين إليه بالذلّ والاستكانة والخضوع.

وما في ( العلل ) بسنده عن العبّاس بن معروف عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال حرّم المسجد لعلّة الكعبة ، وحرّم الحرم لعلّة المسجد ، ووجب الإحرام لعلّة الحرم (1).

فعلى هذا تبيّن أن العلّة الحقيقيّة وهي علّة العلّة في الإحرام الوفادة إلى بيت اللّه الذي حرّم الحرم لأجله ، فمن قصد في طريقه مثلاً أن يمرّ بالمشعر وليس قاصداً للحرم لا يكون قاصداً الوفادة إلى اللّه في بيته ، ولا مقبلاً على عبادة اللّه والتذلّل إليه ، فلا يتحقّق وجوب الإحرام عليه. وإن من أمّ الحرم قاصداً الوفادة إلى اللّه في بيته المعظّم وجب عليه الإحرام ، ليكون حال دخوله حرم اللّه وحمى بيته مخلصاً لله تائباً آئباً معرضاً عن غير اللّه ، وإظهار التحقّق بالعبوديّة له ولرسوله.

وحينئذٍ إذا أخلّ بالإحرام بأن دخل حرم اللّه قاصداً مكّة ، محلّاً بلا مسوغ الرخصة ، تحقّق منه فعل المعصية.

وأيضاً لو كان يجب الإحرام لدخول الحرم بدون قصد مكّة بل الحرم خارجها ، لوجب على كلّ من قصد الحرم أو وطنه أن يدخل مكّة بل المسجد ؛ لأنه متى أحرم وعقد إحرامه لا يحلّ منه إلّا بطواف الكعبة وصلاة في المسجد ، وسعى بين الصفا والمروة وحلق أو تقصير ، ما لم يُصدّ أو يحصر.

ولا دليل على ذلك ، ولم نقف على مفتٍ به ، بل وجدنا بعضهم يستدلّ على وجوب الإحرام لدخول مكّة ببعض الأخبار التي فيها : لا يدخل الحرم أحد بغير

ص: 193


1- علل الشرائع 2 : 120 / 1 ، وفيه : « لعلّة الإحرام » بدل : « لعلّة الحرم ».

إحرام ، كالسيّد في ( المدارك ) (1) وغيره.

ولم أقف على من أفتى بوجوب الإحرام لدخول الحرم بدون دخول مكّة إلّا ظاهر الحرّ في ( وسائل الشيعة ) ، حيث قال : ( باب أنه لا يجوز دخول مكّة ولا الحرم بغير إحرام ولو دخل لقتال ، إلّا أن يكون مريضاً فلا يجب ، بل يستحبّ ، أو دخل قبل شهر من إحرامه أو يتكرّر ) (2) ، انتهى. وهو شاذّ مشكل.

ويستثنى أيضاً من خرج بعد إحلاله وأراد الدخول قبل مضيّ شهر من إحلاله ، فإنه يجوز له حينئذٍ أن يدخلها مُحِلّاً بالإجماع والنصّ المستفيض.

ففي ( وسائل الشيعة ) نقلاً من سرائر ابن إدريس (3) ، نقلاً من كتاب جميل بن درّاج عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام : في الرجل يخرج من الحرم إلى بعض حاجته ثمّ يرجع من يومه قال لا بأس أن يدخل بغير إحرام (4).

وفي ( الكافي ) بسنده عن ابن القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وعن أبيه ميمون قال : ( خرجنا مع أبي جعفر عليه السلام إلى أرض بطيبة ، ومعه عمر بن دينار وأُناس من أصحابه ، فأقمنا بطيبة ما شاء اللّه ).

إلى أن قال : ( ثمّ دخل مكّة ودخلنا معه بغير إحرام ) (5).

ورواه في ( المحاسن ) (6) عن جعفر بن محمّد مثله.

وفي ( تهذيب الأحكام ) في صحيحة جميل عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الرجل يخرج إلى جدّة في الحاجة؟ قال يدخل مكّة بغير إحرام (7).

ص: 194


1- مدارك الأحكام 7 : 381.
2- وسائل الشيعة 12 : 402 ، أبواب الإحرام ، ب 50.
3- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 567.
4- وسائل الشيعة 12 : 405 - 406 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 11.
5- الكافي 6 : 543 / 9 ، وسائل الشيعة 12 : 406 - 407 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 1.
6- المحاسن 2 : 480 / 2668 ، وسائل الشيعة 12 : 407 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 1.
7- تهذيب الأحكام 5 : 166 / 553 ، وسائل الشيعة 12 : 407 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 3.

وبسنده عن علي بن السندي عن ابن أبي عمير مثله (1).

وفي صحيح أبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الرجل يخرج من الحرم في الحاجة قال إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام ، وإن دخل في غيره دخل بإحرام (2).

وبسنده عن الحسن بن بكير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه خرج إلى الربذة يشيّع أبا جعفر ، ثمّ دخل مكّة حلالاً (3).

وحسنة حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال من دخل مكّة متمتّعاً في أشهر الحجّ ، لم يكن له أن يخرج حتّى يقضي الحجّ الخبر.

إلى أن قال : قلت : فإن جهل وخرج إلى المدينة وإلى نحوها بغير إحرام ثمّ رجع في إبّان الحجّ في أشهر الحجّ يريد الحجّ ، أيدخلها محرماً أو بغير إحرام؟ فقال إن رجع في شهره دخل بغير إحرام ، وإن دخل في غير الشهر دخل محرماً.

قلت : أي الإحرامين والمتعتين متعته : الأُولى ، أو الأخيرة؟ قال الأخيرة ، وهي عمرته ، وهي المحتسب بها التي وصلت بحجّه (4) الخبر.

وفي ( الفقيه ) : قال الصادق عليه السلام إذا أراد المتمتّع الخروج إلى مكّة إلى بعض المواضع ، فليس له ذلك ؛ لأنه مرتبط بالحجّ حتّى يقضيه ، إلّا أن يعلم أنه لا يفوته الحجّ ، فإذا علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكّة محلّاً ، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها محرماً (5).

وفي قويّة إسحاق بن عمّار : سألت أبا الحسن عليه السلام عن المتمتّع يجي ء فيقضي متعته ، ثمّ تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة ، أو إلى ذات عرق أو إلى بعض المعادن قال : يرجع إلى مكّة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي يتمتّع فيه ؛ لأن لكلّ شهر عمرة وهو

ص: 195


1- تهذيب الأحكام 5 : 474 - 475 / 1672.
2- تهذيب الأحكام 5 : 166 / 554 ، وسائل الشيعة 12 : 407 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 4.
3- تهذيب الأحكام 5 : 475 / 1673 ، وسائل الشيعة 12 : 408 ، أبواب الإحرام ، ب 51 ، ح 5.
4- الكافي 4 : 441 - 442 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 303 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22 ، ح 6.
5- الفقيه 2 : 238 - 239 / 1139 ، وسائل الشيعة 11 : 304 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22 ، ح 10.

مرتهن بالحجّ.

قلت : فإنه دخل في الشهر الذي خرج فيه قال كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى هؤلاء ، فلما رجع فبلغ ذات عرق ، أحرم من ذات عرق بالحجّ ، ودخل وهو محرم بالحجّ (1).

فهذه الأخبار وغيرها تدلّ على أنه يجوز دخول مكّة بغير إحرام لمن أراد أن يدخلها قبل مضيّ شهر من إحلاله من إحرام قبله ، وأن الأفضل إلّا يدخلها إلّا محرماً. فإن كان الإحرام السابق الذي أحلّ منه بعمرة التمتّع لم يخرج إلّا بعد أن يحرم بالحجّ ، فإن لم يفعل بأن دخل بعد مضيّ شهر من إحلاله دخل محرماً بعمرة التمتّع ، وهي عمرته ولا يجب عليه للأُولى طواف النساء ؛ لأنهن قد حللن له ، فلا يحرمن إلّا بدليل ، ولا دليل. وقيل : يجب ، وهو ضعيف.

وإن دخل قبل مضيّ شهر دخل محلّاً. ولا يظهر لي دليل على جواز إحرامه بعمرة التمتّع ولا المفردة من نصّ ولا إجماع بل ولا فتوًى ولا بالحجّ ما لم يتضيّق وقته ؛ لعدم ظهور قائل به وإن دلّ ظاهر بعض الأخبار لإمكان حمله على التضيّق أو غيره. لكن يظهر من بعض عبارات ( تهذيب الأحكام ) (2) و ( المنتهى ) (3) جوازه ، وهو محمول على التضيّق.

وإن كان بعمرة مفردة ، فإن شاء دخل ناسكاً ، وإن شاء محلّاً إن لم يمضِ شهر من إحلاله ، وإن مضى شهر وجب عليه ألّا يدخلها إلّا محرماً.

وعلى وجوب الإحرام للدخول بعد مضيّ شهر من إحلاله تحمل الأخبار الدالّة بظاهرها على وجوب الفصل بين العمرتين بشهر ، مثل إنّ لكلّ شهر عمرة (4) ، وشبهه.

وتحمل الأخبار الدالّة على عدم تقدير في الفصل بين العمرتين والدالّة على

ص: 196


1- الكافي 4 : 442 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 303 - 304 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22 ، ح 8.
2- تهذيب الأحكام 5 : 164 / ذيل الحديث 548.
3- منتهى المطلب 2 : 711.
4- تهذيب الأحكام 5 : 435 / 1510 ، وسائل الشيعة 14 : 309 ، أبواب العمرة ، ب 6 ، ح 5.

الفصل بعشرة أيّام (1) على الجواز ، فإنه لا يجب الإحرام ما لم يمضِ شهر من الإحلال وإن جاز بل استحبّ. وبهذا تجتمع الأخبار ويتحقّق العمل بجميعها.

وقيل (2) : الشهر المعتبر في وجوب الإحرام للدخول هو زمن ما بين الإحرامين.

والذي يقتضيه النظر أنه بين الإحلال والإحرام ؛ لأن به يتحقّق زمن ما بين العمرتين ، وقد دلّت الأخبار على اعتبار فصل بقدر معلوم بين العمرتين وجوباً أو استحباباً أو رخصة ، وليس زمن ما بين الإهلالين أو الإحلالين زمن ما بين العمرتين ؛ لعدم تحقّق العمرة إلّا بكمال أفعالها وإحلال منها وإن كان الإحرام للدخول بعد مضيّ شهر من الإهلال الأوّل أحوط وأولى ؛ لتحقّق الإجماع واستفاضة الأخبار بوجوب الإحرام للدخول عدا ما استثناه الدليل. فيقين البراءة حينئذٍ يكون بالإحرام ؛ للإجماع حينئذٍ على يقين البراءة به.

والشهر المعتبر في وجوب الإحرام ثلاثون يوماً إن وقع الخروج في أثناء الشهر ؛ لأنه الأصل. وقد دلّت أخبار أشهر السياحة (3) وغيرها (4) على اعتبار المنكسر ثلاثين.

وهلالي إن وقع الخروج في أوّل جزء من أوّل ليلة من الشهر ؛ لأنه الشهر العرفي. وقد تقدّمت الإشارة إلى هذه في نظيره وحقّقناه في رسالة مفردة.

ويظهر من بعض عبارات الأصحاب أن الشهر المعتبر من حين الخروج من مكّة وإن طال الزمان بينه وبين الإحلال من النُّسُك الأوّل ، وهو ضعيف جدّاً ، وإن دلّ ظاهر بعض الأخبار عليه فإنها مؤوّلة بما إذا لم يكن بين الإحلال والإهلال شهر ، أو كان كما يشير إليه إن لكلّ شهر عمرة ، وغيره.

فيكون معنى إن رجع في الشهر الذي خرج فيه أي إذا كان الشهر الذي خرج فيه

ص: 197


1- الفقيه 2 : 278 / 1363 ، وسائل الشيعة 14 : 309 ، أبواب العمرة ، ب 6 ، ح 9.
2- الحدائق الناضرة 16 : 318.
3- انظر تفسير العيّاشي 2 : 79 - 81 / ح 2 - 10.
4- وسائل الشيعة 10 : 261 ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب 5.

هو الشهر الذي يلي الإحلال الأوّل ، فإنه المتبادر ؛ لأنه الذي يقع فيه الاشتباه على السائل غالباً. وإلّا فوقوع مثل هذا السؤال ممّن أحلّ منذ عشرة أشهر مثلاً أو أكثر بعيد لندور الاشتباه فيه وبعده ، خصوصاً إذا مضى له سنون وهو في مكّة بعد الإحلال ثمّ خرج ؛ لشمول الفرض له ، وعدم تقدير المدّة فيها بين الخروج والإحلال ، فلا ريب في ضعف القول بذلك.

واستثنى جماعةٌ المماليك أيضاً ، فجوّزوا لهم دخول مكّة بلا إحرام ، واستدلّ له في ( المنتهى ) (1) بأن السيّد لم يأذن لهم في التشاغل بالنُّسك عن خدمته ، وبأنه لم يجب عليهم حجّة الإسلام لهذا ، فعدم وجوب الإحرام للدخول أوْلى.

وفيه أنه إن سلّم صحّة الدليل كان لازمه تحريم الإحرام لا عدم وجوبه ، مع أن ظاهر الفتوى أن كلّ من جاز له الدخول بغير إحرام جاز له الدخول محرماً ، بل هو أفضل.

وأيضاً المملوك الذي يريد دخول مكّة إن كان مأذوناً له في دخوله أو مأموراً من سيّده ، فالنصّ (2) والإجماع على وجوب الإحرام على كلّ من أراد دخول مكّة بقول مطلق ، عدا ما قام الدليل على رخصته في الدخول بغير إحرام يشمله. فحينئذٍ منعُ السيّد للمملوك المأمور بالدخول عن الإحرام بمنزلةِ المأمور بالصلاة مع النهي عن الطهارة ، فإن الإحرام شرط في جواز دخولها ، فيحرم على كلّ مكلّف دخولها بدونه ، عدا ما استثناه الدليل ، ولا دليل هنا من نصّ أو إجماع على رخصة المملوك في ترك الإحرام.

وإن كان غير مأذون له بل هو عاصٍ بدخوله حرّم عليه الدخول والإحرام وإثم عليهما. فلا ريب في ضعف هذا القول ؛ لعدم الدليل عليه ومعارضة عموم الأدلّة وإطلاقها على كلّ من أراد دخولها له ، فإن هذا أصل وقاعدة مسلّمة ، فلا يجوز الخروج عنها إلّا بدليل.

ص: 198


1- منتهى المطلب 2 : 689.
2- وسائل الشيعة 12 : 402 ، أبواب الإحرام ، ب 50.

واستثنى أيضاً جماعة (1) من أراد دخولها لقتال مباح ، فأجازوا له الدخول محلّاً. ولا ريب في سقوط هذا القول ، بعد ما سمعت من الأدلّة المصرّحة بأن مكّة حرام إلى يوم القيامة ، ولم تحلّ إلّا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ساعة ، وأنها لا تحلّ لأحد قبله ولا بعده ولا له إلّا تلك الساعة (2).

على أن الفرض كالمستحيل ، حتّى إذا قام قائم آل محمّد صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين ، عجّل اللّه فرجه فهو العالم باللّه وبأحكامه ، والأمر مفوّض إليه.

ص: 199


1- منتهى المطلب 2 : 688 ، مدارك الأحكام 7 : 384 ، وفيه : ( هذا القول مشهور بين الأصحاب ).
2- إعلام الورى بأعلام الهدى : 188 ، وسائل الشيعة 12 : 406 ، أبواب الإحرام ، ب 50 ، ح 12.

ص: 200

فصل : في مواقيت العمرة

اشارة

وهي :

ذو الحُلَيفة : لأهل المدينة. والأشهر الأظهر أنه الوادي المسمّى بذي الحليفة كلّه ، لا المسجد الكائن فيه على عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وهو صحن المسجد الموجود الآن ، دون سقائفه بخصوصه كما قيل ، فإنه ضعيف جدّاً ، ويدلّ على ما هو المشهور من أنه جميع ذلك الوادي الأخبار المتكثّرة بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة (1).

وما ورد بتفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة فمن باب بيان الشي ء باسم أشرف أجزائه أو أشهرها ، أو من باب بيانه بأشهر أسمائه عند المخاطب وأوضحها عنده ، فقد ورد إطلاق ذي الحليفة (2) والشجرة (3) ومسجد الشجرة (4) على ذلك الوادي ، ولم يرد حديث بأن الوقت خصوص المسجد دون باقي ذلك الوادي حتّى يعارض به تلك الإطلاقات المستفيضة فتقيّد به.

إن ما ورد في بعض الأخبار تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة (5) من باب الإيضاح ، إلّا إن المحرّم خصوص المسجد. وهذا هو مقصود من عبّر عنه بذي

ص: 201


1- الكافي 4 : 319 / 302 ، وسائل الشيعة 11 : 307 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 1 - 3.
2- الكافي 4 : 319 / 3 ، وسائل الشيعة 11 : 307 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 1.
3- قرب الإسناد : 146 / 599 ، وسائل الشيعة 11 : 309 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 7.
4- الكافي 4 : 319 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 308 ، أبواب المواقيت ، ب 8 ، ح 3.
5- الكافي 4 : 319 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 308 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 3.

الحليفة وقال : وهو : مسجد الشجرة ، تفسيراً من الفقهاء تبعاً للفظ الخبر.

ولذا ترى بعضهم كالمفيد في ( المقنعة ) (1) والشيخ في ( المصباح ) (2) ، يقول : مسجد الشجرة وهو : ذو الحليفة.

ولعلّه إشارة إلى أن ما وقع في بعض الأخبار من تفسير ذي الحليفة بمسجد الشجرة أنه من باب البيان والتفسير.

وقد صرّح بذلك في ( التنقيح ) حيث قال : ( يقال : [ لمسجد (3) ] الشجرة : ذو الحليفة ؛ لأنه اجتمع فيه ناس وتحالفوا ) (4).

وأيضاً فالأخبار (5) متكثّرة بجواز عقد الإحرام بالتلبية خارج المسجد ، والنصوص المستفيضة (6) بأن عقد إحرام القارن إذا عقد بالإشعار أو التقليد إنما يكون خارج المسجد. والإجماع والنصّ على أنه لا يجوز عقد الإحرام إلّا في الحرم ، وعليه العمل في كلّ زمان. فلو جاز تأخير عقد الإحرام عن الحرم بشبر أو أقلّ لجاز تأخيره إلى أن يدخل مكّة ، فيسلم من مشقّة الإحرام من ذي الحليفة وخطر تكاليفه وكفّاراته.

وناهيك بحجّة الوداع فإنها من أوضح الأدلّة على جواز الإحرام من جميع ذلك الوادي ، فتأمّلها. ونقل الأخبار في ذلك ممّا يطول مع ظهورها.

ولنا في بيان المسألة رسالة مفردة بحمد اللّه ، فقد اشتملت على جملة من الأخبار وصحيح الاعتبار ، فراجعها.

والجُحفة (7) : لأهل المغرب والشام.

ص: 202


1- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 394.
2- مصباح المتهجّد : 617.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( مسجد ).
4- التنقيح الرائع 1 : 447.
5- وسائل الشيعة 12 : 396 - 398 ، أبواب الإحرام ، ب 46.
6- وسائل الشيعة 11 : 275 ، أبواب أقسام الحج ، ب 12.
7- الجُحفة بالضم - : ميقات أهل الشام ، وكانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلاً من مكّة ، وكانت تسمّى مهيعة .. فجاءها سيل الجحاف فاجتحفهم ، فسمّيت الجحفة. القاموس المحيط 3 : 179 الجحفة.

والعقيق (1) : لأهل العراق.

وقرن المنازل (2) : لأهل الطائف.

ويلملم (3) : لأهل اليمن.

ومن كان منزله أقرب من هذه المواقيت إلى مكّة فمحرمه منزله.

أمّا الخمسة الأُول ، فإجماع أهل البيت وأتباعهم في كلّ عصر فتوًى وعملاً ، والنصوص به مستفيضة بالغة نهاية الاشتهار ، متكثّرة متكرّرة في الأُصول المعتمدة.

وأمّا السادس فالنصّ والإجماع على أن دويرة الأهل بشرط الأقربيّة في الجملة محرم. ولكن هل المعتبر أقربيّتها إلى مكّة ، أو إلى عرفة؟ قولان ، أصحّهما الأوّل وهو المشهور ، ويدلّ عليه الأخبار المستفيضة ، ففي صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لا تجاوزها إلّا وأنت محرم ؛ فإنه وقّت لأهل العراق بطن العقيق ، ووقّت لأهل اليمن يلملم ، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقّت لأهل المغرب الجحفة وهي : مهيعة ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة. ومن كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكّة فوقته منزله (4).

وصحيحته أيضاً عنه عليه السلام أنه قال من كان منزله دون الوقت إلى مكّة ، فليحرم من منزله (5).

وفي حديث آخر إذا كان منزله دون الميقات إلى مكّة ، فليحرم من دويرة أهله (6).

ص: 203


1- العقيق : كلّ مسيل شقّه الماء ، وهو ستّة مواضع منها عقيق المدينة ، وهو عقيقان : أكبر وهو : ممّا يلي الحرّة إلى قصر المراجل وأصغر ، وهو : ما سفل عن قصر المراجل. القاموس المحيط 3 : 385 العقيق ، معجم البلدان 4 :1. 139 العقيق.
2- قرن المنازل : جبيل قرب مكّة يحرم منه حاجّ نجد ، معجم البلدان 5 : 202.
3- يلملم : ألملم : موضع على ليلتين من مكّة. وهو ميقات أهل اليمن ، وفيه مسجد معاذ بن جبل ، وقيل : هو جبل بالطائف على ليلتين أو ثلاث. وقيل : هو وادٍ هناك. معجم البلدان 5 : 441.
4- الكافي 4 : 318 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 308 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 2.
5- تهذيب الأحكام 5 : 59 / 183 ، وسائل الشيعة 11 : 333 - 334 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 1.
6- تهذيب الأحكام 5 : 59 / 184 ، وسائل الشيعة 11 : 334 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 2.

وخبر مِسْمَعٍ القويّ عنه عليه السلام أنه قال إذا كان منزل الرجل دون ذات عرق إلى مكّة ، فليحرم من منزله (1).

وخبر أبي سعيد القويّ (2) : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمن كان منزله دون الجحفة إلى مكّة قال يحرم منه (3).

وخبر رَبَاح بن أبي نصر : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يروون أن علياً عليه السلام قال إنّ من تمام حجِّك إحرامك من دويرة أهلك.

فقال سبحان اللّه لو كان كما يقولون لم يتمتّع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بثيابه إلى الشجرة ، وإنما معنى دويرة أهله : من كان أهله وراء الميقات إلى مكّة (4).

وبالجملة ، فالأخبار بهذا مستفيضة ، ولا دليل على اعتبار القرب إلى عرفات. فمقابلتها بمثل أنه لا يجب المرور بمكّة على الحاجّ ، وأن أهل مكّة يخرجون من هذا لوجوب المغايرة بين الأقرب إليها وبينها ، فإن الثابت بالنصّ لا يردّه عدم وجوب مرور الحاجّ بمكّة ؛ إذ لا ملازمة بين كون من كان منزله أقرب إلى مكّة فميقاته منزله ، وبين عدم وجوب المرور بها على الحاجّ بوجه ، فلا يرتّب أحد الحكمين المتباينين من كلّ وجه على الآخر.

وأمّا لزوم خروج أهل مكّة فغير ضائر بالحكم المبحوث عنه ؛ فإنه إذا ثبت ذلك لمن كان منزله أقرب إليها من الميقات ثبت لأهلها بطريق أوْلى. على أن كون ميقات حجّ أهل مكّة ثابت بالنصّ والإجماع ، فلا يضرّ خروجهم عن تلك الأخبار لو سلّم.

والظاهر أنه يكفي صحّة الحكم بجواز الإحرام من دويرة الأهل كونها أقرب إلى

ص: 204


1- تهذيب الأحكام 5 : 59 / 185 ، وسائل الشيعة 11 : 334 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 3.
2- القويّ : وهو الحديث الذي خرج عن الصحيح والحسن والموثّق ، ولم يدخل في الضعيف. وهو أقسام منها الأعلى والأوسط والأدنى ، ومنها القوي بالمعنى العام ، وبالمعنى الأخصّ ، والقويّ كالحسن ، والقويّ كالموثق ، والقويّ كالصحيح ، والمحتمل الصحة ، والمحتمل الموثّقيّة والمحتمل الحسن. انظر مقباس الهداية 1 :2. 177 ، 5 : 135 - 161.
3- تهذيب الأحكام 5 : 59 / 186 ، وسائل الشيعة 11 : 334 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 4.
4- تهذيب الأحكام 5 : 59 / 187 ، وسائل الشيعة 11 : 334 ، أبواب المواقيت ، ب 17 ، ح 5.

مكّة من الميقات الذي في جهتها ، لا من جميع المواقيت. فلو كان منزله ممّا يلي الشجرة ، وكان أقرب إلى مكّة منها ، صحّ إحرامه منه وإن كان غير الشجرة أقرب إلى مكّة من منزله ؛ لإطلاقات الأخبار ، ولخصوص مثل قويّة أبي سعيد المتقدّمة ، حيث وقع السؤال فيها عمّن كان منزله أقرب إلى مكّة من الجحفة ، ولا معارض لها.

وقويّة مِسْمَع التي مرّت ، المتضمّنة لصحّة إحرام من كان منزله أقرب من ذات عرق ، لا تنافي ذلك ؛ لعدم الحصر في مثله. واللّه العالم.

وإن كان منزله ليس في جهة محرم كغربيّ مكّة اعتبر أقربيّته إليها من جميع المحارم ؛ لإطلاق مثل من كان منزله خلف هذه المواقيت ، ومن كان أهله وراء الميقات ، وشبههما ؛ ولأنه المتيقّن وفيه الحائطة.

وهذه المواقيت الستّة تشترك فيها العمرتان والحجّان بالإجماع والنصّ المستفيض (1) ، وقد سمعت بعضه.

وأدنى الحِلّ ميقات اضطراريّ للمتمتّع بها وللحجّين ، واختياريّ للعمرة المفردة ، فهو لها كأحد المحارم الستّة لكلّ نسك ، وقد صرّح بذلك جمع ، بل لا يظهر لي مفتٍ بردّه ، مع مسيس الحاجة له وعدم التقيّة فيه ، فلا خلاف يظهر فيه.

قال محمّد بن شجاع في ( معالم الدين ) : ( المواقيت ستّة : العقيق لأهل العراق ، ومسجد الشجرة لأهل المدينة اختياراً ، والجحفة اضطراراً ، وهي ميقات أهل الشام اختياراً ، ويلملم لأهل اليمن ، وقرن المنازل لأهل الطائف ، وميقات مَن منزله أقرب من الميقات منزلُه ، ومكّة لحجّ التمتّع وخارج الحرم للعمرة المفردة ، وموضع العذر للمعذور. ومن حجّ على ميقات غيره أحرم منه ، ولو خلا الطريق من ميقات أحرم عند محاذاة أحدهم ، فإن ظهر تقدّمه أعاد وإلّا أجزأ. ولو تعذّرت المحاذاة أحرم من أدنى الحِلّ. وهذه المواقيت للحجّ والعمرة ) ، انتهى. هذا كلامه في بحث أفعال الحجّ.

وقال في بحث حجّ الإفراد والقران : ( هو أن يحجّ ثمّ يعتمر ).

ص: 205


1- انظر وسائل الشيعة 11 : 307 ، أبواب المواقيت ، و 14 : 298 ، أبواب العمرة ، ب 2.

إلى أن قال : ( ثمّ يأتي بمناسك الحجّ إلّا الهدي ، ثمّ يعتمر. وتجب في العمر مرّة واحدة على الفور بشرائط الحجّ ، فلو استطاع لأحدهما وجب خاصّة على توقّف. وميقاتها ميقات الحجّ أو أدنى الحِلّ ، وأفضله الجعرانة (1) أو التنعيم (2) أو الحديبية (3) ، ولا تصحّ من الحرم إلّا لضرورة ) ، انتهى.

وقال الشيخ حسين آل عصفور في ( شرح المفاتيح ) بعد أن أورد جملة من الأخبار في أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اعتمر من أدنى الحلّ - : ( وبالجملة ، فالأخبار في أن الميقات للعمرة المفردة أدنى الحِلّ ، لمن خرج من مكّة إليها ، ولمن أراد أن يدخل مكّة من طريق لا يفضي إلى الميقات ، مستفيضة لكلّ معتمر ) ، انتهى.

وقال الخراساني في ( الكفاية ) : ( المقصد السادس في العمرة المفردة ).

إلى أن قال : ( ويجب فيها النيّة ، وفي كلام بعضهم : يجب الإحرام من الميقات أو من خارج الحرم؟ وخيّر في ( التذكرة ) (4) و ( الدروس ) (5) بين الإحرام من أدنى الحِلّ وأحد المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وفي بعض روايات الأصحاب : أنه يحرم من أدنى الحلّ. والمراد بأقرب الحلّ إلى الحرم. فظاهر ( المنتهى ) (6) أنه لا خلاف في جواز الإحرام من أدنى الحِلّ ) ، انتهى.

وقال الشيخ أحمد بن المتوّج في ( مجمع الفوائد ) : ( وصورة العمرة المفردة : النيّة والإحرام من الميقات ، وهو أدنى الحِلّ ، وأفضله الجعرانة ثمّ التنعيم ثمّ الحديبية ).

ص: 206


1- الجعرانة بكسر الجيم ، وإسكان العين أو كسرها - : ماء بين الطائف ومكّة ، نزلها النبيّ صلى اللّه عليه وآله لمّا قسّم غنائم هوازن عند مرجعه من غزاة حنين ، وأحرم منها ، وله فيها مسجد. معجم البلدان 2 : 142.
2- التَّنْعيم بالفتح ثمّ السكون وكسر العين - : موضع بمكّة في الحلّ ، ومنه يحرم المكّيّون بالعمرة. معجم البلدان 2 : 49.
3- الحُدَيبية بضمّ الحاء وفتح الدال - : قرية سمّيت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله تحتها ، وبينها وبين مكّة مرحلة ، وبين المدينة تسع مراحل. وبعضها الحديبية في الحلّ وبعضها في الحرم. معجم البلدان 2 : 229.
4- تذكرة الفقهاء 7 : 194 / المسألة : 148.
5- الدروس 1 : 342.
6- منتهى المطلب 2 : 668 ( حجريّ ).

إلى أن قال : ( مسألة : ميقات العُمرة المفردة ميقات الحجّ أو خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ؛ لإحرام النبيّ صلى اللّه عليه وآله بها ، ثمّ التنعيم ؛ لأمره بذلك ، ثمّ الحديبية ؛ لاهتمامه. ولو أحرم بها من الحرم لم يجز إلّا لضرورة ) ، انتهى.

وقال رئيس زمانه السيّد مهديّ في مصابيحه في بحث وجوه الفرق بين أنواع الحجّ - : ( السابع : محلّ الإحرام بالعمرة ، فإن المتمتّع يجب عليه أن يحرم بها من الميقات ، أو ما في حكمه مطلقاً ، بخلاف المفردة ، فإنه إنما يجب عليه ذلك لو مرّ عليها ، فلو كان في الحرم أحرم من أدنى الحِلّ ، وإن لم يكن من أهله ، ولم يجب عليه الخروج إلى الميقات إجماعاً ) ، انتهى.

وعبارته توهم أن أدنى الحِلّ ميقات اختياريّ لحجّ الإفراد ، فكونه كذلك للعمرة المفردة بطريق أوْلى ، وإن كان الظاهر أنه إنما أراد عمرة المفرد ؛ بقرينة صدر البحث. وعلى كلّ حال فهو صريح في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة.

وقال الشهيد في مسالكه في بحث أفعال حجّ القرآن والإفراد في شرح قول المحقّق : ( يأتي بها من أدنى الحِلّ ) (1) يعني : عمرة الحجّ - : ( المراد بأدنى الحِلّ أقربه إلى الحرم وألصقه به ، والمعتبر منه ما قارب الحرم عرفاً. وفي كثير من كتب الفتاوى ميقاتها خارج الحرم ، وهو يشمل البعيد من الحِلّ والقريب. وفي ( التذكرة ) (2) خيّر بين الإحرام من أدنى الحِلّ وبين الإحرام من أحد المواقيت ، ومثله في ( الدروس ) (3) ، وكذا القول في كلّ عمرة مفردة. وفي إجزاء ما خرج من الحِلّ عن حدّ القرب عرفاً وعن أحد المواقيت نظر ) (4) ، انتهى.

وهذا لا ينافيه قوله في كتاب العمرة من الكتاب في شرح قول المصنّف : ( وصورتها أن تحرم من الميقات الذي يسوغ الإحرام منه ) (5). قال الشارح : ( هو أحد

ص: 207


1- شرائع الإسلام 1 : 213 - 214.
2- تذكرة الفقهاء 7 : 194 / المسألة : 148.
3- الدروس 1 : 342.
4- مسالك الأفهام 2 : 202.
5- شرائع الإسلام 1 : 274.

المواقيت الخمسة إن مرّ بها ، أو منزله إن كان أقرب ، أو أدنى الحِلّ للمفردة إن كان في مكّة أو ما في حكمها ) (1) ، لأنه في معرض بيان أحوال العمرتين الواجبتين بأصل الشرع. فمراد الشارح بالمفردة : المفردة الواجبة بأصل الشرع ، وهي فرض أهل مكّة ومن في حكمها ، ولذا قال : ( و [ ما (2) ] في حكمها ). فلا منافاة بين كلاميه. هكذا ينبغي أن يفهم كلامه فيصان عن التناقض.

وقال السيّد عليّ المعاصر وهو المرجع في زمانه في شرح ( النافع ) الصغير في شرح قول المحقّق في بيان المواقيت في كتاب الحجّ ، بعد أن ذكر المواقيت الستّة : ( لا يجوز من أراد النسك من الميقات إلّا محرماً ، ويرجع إليه لو لم يحرم منه ، فإن لم يتمكّن فلا حجّ له إن كان عامداً ) (3) - : ( على الأشهر الأقوى ، وقيل : يحرم من موضعه إذا كان الحجّ عليه مضيّقاً. وإطلاق النصّ والمتن وجماعة يعمّ الإحرام للعمرة المفردة ، فلا يباح دخول مكّة حتّى يحرم من الميقات ، وبه صرّح بعض. ويضعف بأن أدنى الحِلّ ميقات اختياريّ لها ، غاية الأمر إثمه بتركه الإحرام من الميقات ) (4) ، انتهى.

وكلامه هذا لا يكون إلّا فرع القول بأن من كان في طريقه محرمان ؛ كالشجرة والجُحفة ، وتعمّد ترك الإحرام من الأوّل وأحرم من الثاني أجزأ وأثم ، كما صرّح به جمع. والمطلوب من نقل كلامه تصريحه بأن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للعمرة المفردة كأحد الستّة. وسيأتي إن شاء اللّه تحقيق مسألة التأخير من الأوّل إلى الثاني.

وقال الشيخ علي بن عبد العالي في منسك الحجّ ، بعد أن عدّد المواقيت الستّة : ( وميقات العمرة المفردة خارج الحرم ) ، انتهى.

وقال ابن سعيد في جامعه : ( وميقات المتعة العقيق لأهل العراق .. ، والجحفة

ص: 208


1- مسالك الأفهام 2 : 493.
2- في المخطوط : ( من ).
3- المختصر النافع : 150 ، وفيه : ( لا يجاوز الميقات .. ).
4- الشرح الصغير 1 : 342.

لأهل الشام ، ولأهل المدينة مسجد الشجرة ، وعند الضرورة الجحفة ، وميقات أهل اليمن يلملم ، وأهل الطائف قرن المنازل ، ومن منزله دون هذه فميقاته منزله ، وميقات العمرة المفردة خارج الحرم ) (1) ، انتهى.

وقال الشهيد في ( الدروس ) في درس أفرده للعمرة - : ( تجب العمرة كالحجّ بشرائطه ).

إلى أن قال : ( ووقت المفردة الواجبة بأصل الشرع عند الفراغ من الحجّ وانقضاء أيّام التشريق ).

إلى أن قال : ( ووقت المندوبة جميع السنة ).

إلى أن قال بعد ذكر أفضلها وفضلها ، وقدر ما بين العمرتين - : ( وميقاتها ميقات الحجّ أو خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ؛ لإحرام النبيّ صلى اللّه عليه وآله منها ، ثمّ التنعيم ؛ لأمره بذلك ، ثمّ الحديبية ؛ لاهتمامه به. ولو أحرم بها من الحرم لم يجز إلّا لضرورة ) (2) ، انتهى.

وقال ابن البرّاج في مهذّبه في باب ضروب العمرة : ( العمرة المتمتّع بها لا تصحّ إلّا في أشهر الحجّ ، والتي لا يتمتّع بها يجوز فعلها في شهور الحجّ وغيرها. وأفضل العمرة ما كان في رجب ، وقد ورد في شهر رمضان (3). وصفتها أن يحرم المعتمر من خارج الحرم ويعقد إحرامه بالتلبية ، فإذا دخل الحرم قطعها ، فإن كان قد خرج من مكّة ليعتمر قطعها إذا شاهد الكعبة ) (4) ، انتهى.

وقال العلّامة في ( التحرير ) في بحث العمرة : ( ميقات العمرة ميقات الحجّ لمن كان خارجاً من المواقيت إذا قصد مكّة ، أمّا أهل مكّة أو من فرغ من الحجّ وأراد الاعتمار فإنه يخرج إلى أدنى الحِلّ ، وينبغي أن يكون أحد المواقيت التي وقتها

ص: 209


1- الجامع للشرائع : 177 - 179 ، باختلاف يسير.
2- الدروس 1 : 337 - 338.
3- وسائل الشيعة 14 : 304 ، أبواب العمرة ، ب 4 ، ح 2.
4- المهذّب 1 : 211.

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للعمرة المبتولة ) (1) ، انتهى.

وهو يعني بالمواقيت المؤقّت لها : الجعرانة والتنعيم والحديبيّة ، وهو صريح في أنها للعمرة المفردة اختياراً.

وقال العلّامة في ( الإرشاد ) في المطلب الذي عقده في أحكام العمرة المفردة ، بعد بيان أفرادها الواجبة بأصل الشرع وبالسبب : ( ويجب فيه النيّة والإحرام من الميقات أو من خارج الحرم ، وأفضله الجعرانة ثمّ التنعيم ثمّ الحديبية ) (2).

وقال الخراساني في ( شرح الإرشاد ) بعد قول المصنّف : ( أو من خارج الحرم ) بلا فصل - : ( وخيّر في ( التذكرة ) (3) و ( الدروس ) (4) بين الإحرام من أدنى الحِلّ ، أو أحد المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. وظاهر ( المنتهى ) (5) أنه لا خلاف في صحّة الإحرام بها من أدنى الحِلّ. ويدلّ عليه ما رواه ابن بابويه عن عمر بن يزيد في الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام من أراد أن يخرج من مكّة ليعتمر ، أحرم من الجعرانة أو الحديبية وما أشبههما (6) ) (7) ، انتهى.

فانظر إلى فهمه من العبارة وغيرها ومن الصحيحة أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لجميع أفراد المفردة ، سواء كان خارجاً لها من الحرم أو قادماً من خارجه. ولو كان مراد القوم عنده خصوص من خرج من الحرم لها ، وكذا من الصحيحة ، لما حسن نقله عباراتهم ، ولا الاستدلال بالخبر عليها في هذا البحث في شرح هذه العبارة ، فإنها صريحة لا تقبل التأويل في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة مطلقاً ، كما يهديك إليه المقام. وقد جمد عليه الشارح من غير مناقشة ولا نقل خلاف.

ص: 210


1- تحرير الأحكام 1 : 129 ( حجريّ ).
2- إرشاد الأذهان 1 : 337.
3- تذكرة الفقهاء 7 : 194 / المسألة : 148.
4- الدروس 1 : 342.
5- منتهى المطلب 2 : 668 ( حجريّ ).
6- الفقيه 2 : 276 / 1350 ، وسائل الشيعة 11 : 341 ، أبواب المواقيت ، ب 22 ، ح 1.
7- ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد : 697 ( حجريّ ).

وكلامه هذا ملخّص كلام ( المدارك ) (1) ، بل في ( المدارك ) احتمل كون أدنى الحِلّ محرماً اختياريّاً للمتمتّع بها ، إذا كان الناسك مجاوراً مكّة ولما ينتقل فرضه إلى القرآن والإفراد ، وله ظواهر جملة من النصوص. وجعل المصير إلى ما عليه الأصحاب من المنع منه أحوط.

فهذه عبارات الأصحاب تنادي بلسان إطلاقها أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمطلق المعتمرين عمرة مفردة من غير فرق بين الخارج لها من الحرم وغيره ، بلا نقل خلافٍ ولا توقّف ولا استشكال. ولم نظفر بعبارة مصرّحة بأن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمن أراد الاعتمار بمفردة إذا خرج لها من الحرم دون من أرادها من خارجه.

وهذا لا ينافيه الحكم بأن من أراد دخول الحرم بعمرة مفردة ومرّ على ميقات لزمه الإحرام منه ، فإن ذلك متحقّق في كلّ من أراد النُّسك بحجّ أو عمرة ، فلو كان هذا ينافي كون أدنى الحِلّ محرماً اختياريّاً لها ، للزم من أن كلّ من مرّ على محرم من الخمسة وهو يريد النُّسك أنه محرمه الاختياري دون ما سواه منها ؛ لعدم جواز تجاوزه بغير إحرام ، ووجوب الرجوع إليه أو تجاوزه محلّاً دون ما سواه في قول.

وممّا يزيدك بياناً ما أطبقت عليه الفرقة بل الأُمّة فتوًى وعملاً في جميع الأعصار بلا نكير ، واستفاضت به نصوص أهل العموم والخصوص من غير تدافع ولا تنافر ، ونقل الإجماع به مستفيض. فإذن هو ملحق بالضروريات من أن من خرج من الحرم ليعتمر عُمرة مفردة ، جاز له أن يحرم بها من أدنى الحِلّ اختياراً. ولم نجد من صرّح بأن هذا من خصائصه دون النائي ، ولم نجد به خبراً. فإن هذا من أوضح الأدلّة على أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للعمرة المفردة مطلقاً.

فإن ادّعى أحد تخصيصه به طالبناه بالدليل على الفرق والتخصيص. ولو كان مختصّاً بمن خرج لها من الحرم لوقع بيانه في عموم ، أو خصوص ، أو إجمال ، أو

ص: 211


1- مدارك الأحكام 7 : 207.

عبارة ، أو إشارة ، أو فتوى ، فلمّا وجدنا النصّ والفتوى متطابقين على أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ لمن أراد الاعتمار بها ممّن كان في الحرم ، ولم يبيّن الشارع لنا تخصيصه به كما بيّن تخصيصه مكّة لحجّ المتمتّع ولأهلها ، علمنا أن هذا عامّ لكلّ معتمر بمفردة ، وإلّا لوجب بيانه في الحكمة الإلهيّة ؛ لعموم البلوى وحذراً من الإغراء بما ليس مشروعاً. فتأمّل المقام والمقال ، واعرف الرجال بالحقّ ولا تعرف الحقّ بالرجال.

وأمّا الأخبار الدالّة على هذا غير ما أشرنا إليه فمنها صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثلاث عمر متفرّقات : عمرة في ذي القعدة ، أهلّ من عسفان ، وهي عمرة الحديبية. وعمرة أهلّ من الجحفة ، وهي عمرة القضاء. وعمرة أهلّ من الجعرانة ، بعد ما رجع من الطائف من غزوة حنين (1).

وخبر أبان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عمرة الحديبية وقضى الحديبية من قابل ، ومن الجعرانة حين أقبل من الطائف ، ثلاث عمر كلّها في ذي القعدة (2).

وصحيح عبد اللّه بن الحجّاج : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إني أُريد الجوار ، فكيف أصنع؟ قال إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فأحرم بالحجّ.

إلى أن قال إن سفيان فقيهكم أتاني فقال : ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون منها؟ فقلت له : هو وقت من مواقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله. فقال : فأي وقت من مواقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله هو؟ فقلت له : أحرم منها حين قسّم غنائم حنين ومرجعه من الطائف. فقال : إنما هذا شي ء أخذته من عبد اللّه بن عمر ، كان إذا رأى الهلال صاح بالحجّ ، فقلت : أليس قد كان عندكم مرضياً؟. قال : بلى ، ولكن [ أما علمت (3) ] أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إنما أحرموا من المسجد؟. فقلت : إنّ أُولئك كانوا متمتّعين في أعناقهم الدماء ، وإنّ هؤلاء قطنوا مكّة فصاروا

ص: 212


1- الكافي 4 : 251 / 10 ، وسائل الشيعة 14 : 299 ، أبواب العمرة ، ب 2 ، ح 2.
2- الكافي 4 : 252 / 13 ، وسائل الشيعة 14 : 299 ، أبواب العمرة ، ب 2 ، ح 3.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أعلمت ).

كأنهم من أهل مكّة ، وأهل مكّة لا متعة لهم ، فأحببت أن يخرجوا من مكّة إلى بعض المواقيت ، وأن يستغبّوا بها أيّاماً. فقال لي وأنا أُخبره أنها وقت من مواقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : يا أبا عبد اللّه ، فإني أرى لك ألّا تفعل. فضحكت وقلت : ولكنّي أرى لهم أن يفعلوا (1) الخبر.

وصحيح الحنّاط : قال : كنت مجاوراً بمكّة ، فسألت أبا عبد اللّه عليه السلام : من أين أُحرم بالحجّ؟ فقال من حيث أحرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من الجعرانة (2).

وفي ( الفقيه ) اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ثلاث عمر متفرّقات كلّها في ذي القعدة : عمرة أهلّ فيها من عسفان وهي : عمرة الحديبية وعمرة القضاء ، [ أحرم (3) ] فيها من الجحفة ، وعمرة أهلّ فيها من الجعرانة ؛ وهي بعد أن رجع من الطائف من غزاة حنين (4).

وبالجملة ، فإنا لا نعلم خلافاً بين الأُمّة في أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أحرم بعد منصرفه من الطائف بالعمرة المفردة من الجعرانة ، وليس بخارج من الحرم لها بالضرورة ؛ لأن ذلك بعد واقعة هوازن ، ومضيّه بعدها إلى الطائف فحاصرها ، ثمّ رجع إلى الجعرانة ، وقسّم غنائم هوازن فيها ، ثمّ أحرم بالعمرة منها ودخل مكّة.

وفي تعليل الفقهاء أفضليّة الإحرام لمن أراد العُمرة ممّن هو في الحرم من الجعرانة ، بأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أحرم منها ، يعنون به تلك الواقعة ، دليلٌ على أنهم لا يشكّون في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة ، سواء في ذلك الخارج لها من الحرم والداخل بها من خارجه ، ولم ينقلوا خلافاً ، ولا توقّفاً لأحد فيه ، ولا استشكال ؛ لأنهم كلّهم يعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله اعتمر من الجعرانة وهو قادم من خارج الحرم ، ولعلّ تركه الإحرام فيها من قرن المنازل ؛ لأنه لم يكن حين مرّ به قاصداً دخول مكّة ، وإنما قصد الاعتمار بعد أن قسّم غنائم هوازن ، وفيه بيان أن

ص: 213


1- الكافي 4 : 300 / 5 ، وسائل الشيعة 11 : 267 - 268 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 9 ، ح 5.
2- الكافي 4 : 302 / 9 ، وسائل الشيعة 11 : 268 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 9 ، ح 6.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : « أهل ».
4- الفقيه 2 : 275 / 1341 ، وسائل الشيعة 11 : 341 ، أبواب المواقيت ، ب 22 ، ح 2.

أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة لا منه ، أو أنه أخذ طريقاً لا يمرّ به.

وبعد ما أشرنا له من الأخبار ، وما ذكرناه منها ومن عبائر أكابر العصابة بلا توقّف ولا نقل خلاف ولا استشكال ، لا ينبغي الريب في أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمفردة كأحد الستّة بالنسبة للمتمتّع وللحجّ. بل ظاهر صحيح ابن الحجّاج (1) وصحيح الحنّاط (2) أن أدنى الحِلّ محرم اختياريّ للمتمتّع بها. ولكن لم يظهر لي عامل به إلّا ما يظهر من ( المدارك ) (3) ومنسك الشيخ حسن ابن الشهيد من الميل إلى العمل بظاهرهما.

وعلى كلّ حال ، فهما وأمثالهما يرجّحان القول بأن الحاجّ والمتمتّع إذا لم يمرّا بمحرمٍ من الخمسة ولم يحاذيا أحدها ، فمحرمها أدنى الحِلّ ، فتأمّله.

تنبيه

قال الشيخ فخر الدين في ( مجمع البحرين ) : ( في الحديث أنه نزل الجعرانة ، هي بتسكين العين والتخفيف ، وقد تكسر وتشدّد الراء موضع بين مكّة والطائف على سبعة أميال من مكّة ، وهي إحدى حدود الحرم وميقات للإحرام ) (4) ، انتهى.

وفي ( المصباح ) حدّدها بسبعة أميال أيضاً (5).

وفي ( القاموس ) أنها موضع بين مكّة والطائف (6).

وعُسْفان قال في ( القاموس ) : ( عسفان كعثمان - : موضع على مرحلتين من مكّة ) (7).

وفي ( المصباح ) : ( عسفان : موضع بين مكّة والمدينة ، يذكّر ويؤنث ، ويسمّى في

ص: 214


1- انظر : ص 208 هامش 4.
2- الكافي 4 : 302 / 9 ، وسائل الشيعة 11 : 268 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 9 ، ح 6.
3- مدارك الأحكام 7 : 207.
4- مجمع البحرين 3 : 247 جعر.
5- المصباح المنير : 102 جعر.
6- القاموس المحيط 1 : 727 الجعرانة.
7- القاموس المحيط : 3 : 254 عسفان.

زماننا مدرج عثمان. بينه وبين مكّة ثلاث مراحل ) (1).

وفي ( مجمع البحرين ) (2) أن بينه وبين مكّة مرحلتين.

وفي ( المصباح ) : ( المرحلة : المسافة التي يقطعها المسافر في نحو يوم ) (3).

وفي الصحيح عن زرارة : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّه عزوجل - ( ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) (4). قال يعني : أهل مكّة ليس عليهم متعة ، كلّ من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلاً ذات عرق وعسفان كما يدور حول مكّة ، فهو ممّن دخل في هذه الآية ، وكلّ من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (5).

وظاهر هذا الخبر أن عُسْفان على ثمانية وأربعين ميلاً من مكّة كذات عرق.

هذا وأنت خبير بأن من بدا له أن يدخل مكّة ممّن كان في جدّة وتجدّد له العزم على دخولها ، فإنه يحرم من أدنى الحِلّ إذا أراد دخولها بالمفردة في سائر الأعصار ، من غير نكير من أحد من المسلمين من الخاصّة والعامّة.

ص: 215


1- المصباح المنير : 409 عسف.
2- مجمع البحرين : 5 : 100 عسف.
3- المصباح المنير : 223 رحل.
4- البقرة : 196.
5- تهذيب الأحكام 5 : 33 / 98 ، وسائل الشيعة 11 : 259 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 6 ، ح 3.

ص: 216

فصل : عدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت

إذا عرفت هذا فاعلم أن من قصد مكّة لإحدى العمرتين ، أو حجّ الإفراد أو القرآن ، فإن مرّ على أحد المواقيت الخمسة الأُول وهي : ذو الحُلَيفة ، والجحفة ، والعقيق بدرجاته الثلاث ، وقرن المنازل ، ويلملم وجب عليه الإحرام منه وإن لم يكن وقت أهله ، كالمدني يمرّ بيلملم وشبهه ، لا يجوز له أن يتجاوزه إلّا محرماً عاقداً إحرامه بما ينعقد به من التلبياتِ الأربعِ ، والإشعار والتقليدِ بالإجماع والنصوص (1) المتعدّدة المتنوّعة.

وكذا من كان محرمه دويرة أهله إذا مرّ بمنزله ، فلو لم يمرّ بمحرم فإن كان يريد النسك بعمرة التمتّع أو أحد نوعي الحجّ أحرم من مكان يحاذي أوّل محرم يحاذيه ؛ لظاهر صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال من أقام بالمدينة وهو يريد الحجّ شهراً ، ثمَّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة ، فإذا كان حذاء الشجرة مسيرة ستّة أميال فليحرم منها (2).

ولا فرق بين المواقيت في ذلك ولا خصوصيّة تظهر للشجرة في ذلك ، ولا قائل بتخصيصه بذلك فيما علمنا.

ص: 217


1- وسائل الشيعة 11 : 331 - 332 ، أبواب المواقيت ، ب 15.
2- الكافي 4 : 321 / 9 ، وسائل الشيعة 11 : 317 - 318 ، أبواب المواقيت ، ب 7 ، ح 1 ، وفيهما : « من أقام بالمدينة شهراً ، وهو يريد الحجّ ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه ، فليكن إحرامه من مسيرة ستّة أميال ، فيكون حذاء الشجرة من البيداء ».

وظاهره أنه يَحرمُ عند محاذاة أقرب ميقات إلى طريقه ، وأيضاً ما زاد عن ذلك فهو مسافة لا يجوز له قطعها لو أتى المحرم إلّا محرماً على المشهور ، وما حاذاه حال تعذّر المرور عليه قائم مقامه ، فهو محرم بمنزلته وإن خصّ بتلك الحال. وليس للأصحاب دليل على صحّة الإحرام بالمحاذاة إذا لم يمرّ بنفس الوقت إلّا هذا الخبر ، فالقول بأنه حينئذٍ يحرم عند محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة ضعيف (1) ؛ لعدم الدليل عليه من نصّ أو إجماع.

وما ربّما يقال من أن الأصل براءة الذمّة من التكليف بأكثر من تلك المسافة ، فمعارض بأن الدليل المرخّص للإحرام إنما دلّ على ذلك. فإذن يقين البراءة لا يحصل بدونه ، وقياس غيره عليه غير مقبول إلّا بدليل ، ولا دليل على التأخّر إلى محاذاة غيره. وأيضاً ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقّت مواقيت للحجّ والعُمرة مخصوصة معلومة ؛ فانقلب الأصل بهذا إلى عدم صحّة الإحرام إلّا منها إلّا أن يدلّ عليه دليل ، ولا دليل على صحّة الإحرام بعد محاذاة المحرم وتأخيره إلى محاذاة ما هو أقرب منه.

قال السيّد في ( المدارك ) بعد أن أورد صحيحة ابن سنان المتقدّمة : ( ومقتضى العبارة يعني عبارة الشرائع أن المراد بالميقات الذي يجب الإحرام عند محاذاته أقرب المواقيت إلى مكّة ، واعتبر العلّامة في ( المنتهى ) (2) الميقات الذي هو أقرب إلى طريقه ، وحكم بأنه إذا كان بين ميقاتين متساويين في القرب إليه تخيّر في الإحرام من أيّهما شاء ، اقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ) (3) ، انتهى.

فقد دلّت عبارة ( المنتهى ) على أن الأصل يقتضي تكليفه بالإحرام عند محاذاة أقربها إلى طريقه. ولعلّ وجهه ما قرّرناه.

ولكن بقي في العبارة شي ء هو أن قوله : ( إن العلّامة في ( المنتهى ) حكم بأنه إذا

ص: 218


1- قواعد الأحكام 1 : 79 ( حجريّ ) ، مسالك الأفهام 2 : 216.
2- منتهى المطلب 2 : 671.
3- مدارك الأحكام 7 : 223.

كان بين ميقاتين ) إلى آخرها ، إن كان السيّد فهم منها التخيير حينئذٍ في الإحرام بالمحاذاة مع فرض التساوي ، فمعناه غير واضح ، إنما يتمّ فرض التساوي حال المحاذاة إذا كان بينهما. وحينئذٍ فلا معنى للتخيير ؛ لأن محاذاة أحدهما تستلزم محاذاة الآخر. وإن كان معناها في الإحرام من نفس الوقت فلا يناسب ذكرها في هذا المقام ، فتأمّل.

هذا ، والأحوط الأوْلى ألّا يحرم بالمحاذاة إلّا مع تعسّر الإحرام من نفس أحد المواقيت ؛ لأن جمعاً من العلماء لم يتعرّضوا للإحرام بالمحاذاة ، وأعرضوا عن الرواية ، خصوصاً محاذاة غير الشجرة ؛ لعدم ورود دليل يعمّ غيرها أو يخصّه.

هذا ، والظاهر أنه لو قصد محرماً منها عينه لم يتحتّم عليه الإحرام بمحاذاة من سبقت محاذاته ؛ لأخبار جواز تأخير الإحرام من الشجرة إلى الجحفة للمعذور (1) ، مع لزوم محاذاته الشجرة ، بل لا يبعد عدم صحّة إحرامه حينئذٍ ؛ للأصل ، وهذه الأخبار الآمرة بتأخير إحرام المعذور إلى الجحفة. والصحّة لا دليل عليها ، فيتعيّن التأخير إلى الوقت الثاني. وإن لم يمرّ بأحد المواقيت المذكورة ولم يحاذِ أحدها أحرم من أدنى الحِلّ إذا شقّ عليه الرجوع لأحدها ، أو محاذاته عند مشقّة الوصول إلى عينه ؛ لأنه محرم اضطراريّ له بالنصّ (2) والإجماع ، ولأنه محرم اختياريّ للمفردة ، ولأن ما مرّ من الأخبار دلّ بعضها على أنه وقت من مواقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الجملة.

وقيل (3) : يُحرم من بعد أقرب المواقيت إلى مكّة ، واحتجّ له بأنها مسافة لا يجوز له قطعها. واعترضه في ( المدارك ) بأن قولهم : ( إن هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلّا محرماً ) في موضع المنع ؛ لأن ذلك إنما يثبت مع المرور على الميقات لا مطلقاً (4) ،

ص: 219


1- وسائل الشيعة 11 : 316 ، أبواب المواقيت ، ب 6.
2- وسائل الشيعة 11 : 328 - 331 ، أبواب المواقيت ، ب 14.
3- انظر مسالك الأفهام 2 : 216.
4- مدارك الأحكام 7 : 224.

انتهى ، وهو حسن.

هذا كلّه في المعتمر عمرة التمتّع والحاجّ قراناً أو إفراداً ، أمّا من يريد العُمرة المفردة فإن مرّ على محرم من الستّة وجب عليه الإحرام منه ، وإلّا أخّر إحرامه إلى أدنى الحِلّ ؛ لأنه وقت اختياريّ لها ، ولا يجوز الإحرام من غير الوقت مع المرور به اختياراً ، فلو قصد رجل قادم من اليمن المدينة مثلاً ومرّ على يلملم وهو غير قاصد مكّة ، لم يجب عليه الإحرام ، بل لا يجوز له ولو وطئ الحرم برجله إجماعاً قولاً وفعلاً حتّى من المعصوم ؛ فإن النبيّ صلى اللّه عليه وآله مرّ عام بدر على ذي الحُلَيفة ولم يحرم ، وكذا عام هوازن مرّ على قرن المنازل ، بحسب الظاهر حين منصرفه من حصار الطائف ؛ لأنه كان قاصداً للجعرانة لا مكّة.

ثمّ لو بدا له بعد أن وصل جدّة مثلاً دخول مكّة بمفردة ، فإنه يجوز له حينئذٍ الإحرام من أدنى الحِلّ ، ولا يجب عليه الرجوع إلى يلملم ولا غيره من الخمسة ، بل من الستّة لو كان محرمه دويرة أهله ، وإن رجع إلى أحدها فلا بأس ، بل هو أفضل إن استلزم زيادة المشقّة في التكليف.

ولو مرّ من يريد دخول مكّة على أحدها ونسي أن يحرم منه ، أو نسي الحكم أو نسي المحرم أو تركه جهلاً بالحكم أو بالمحرم ، فإن كان غرضه المتمتّع بها أو الحجّ وجب عليه الرجوع لأحدها ، لا خصوص ما فارقه محلّاً ؛ لأن كلّا من الخمسة محرم لكلّ من مرّ به بالإجماع والنصوص المتنوّعة الأسناد.

ولا دليل على وجوب الرجوع لما فارقه بعينه وعدم إجزاء الإحرام من غيره ، بل ظاهر الأخبار الآمرة لمن نسي الإحرام حتّى دخل الحرم بالرجوع إلى مَهَلّ أهل بلده ، وغيرها صريح في عدم وجوب الرجوع لخصوص ما فارقه وفي صحّة الإحرام من غيرها منها ، فينبغي الجزم بذلك. وإن كان غرضه المفردة جاز الرجوع إلى أحد الخمسة والتأخير إلى أدنى الحِلّ ؛ الجعرانة أو غيرها ؛ لأنه محرم اختياريّ لها كأحد الخمسة.

ص: 220

ويشارك الناسي والجاهل في جميع ذلك مَن منعه من الميقات مانع ؛ من جنون أو إغماء أو رقّ ولم يأذن له المولى إلّا بعد تجاوزه ، ومن لم يُرِد النسك وبعد المجاوزة أراده ، أو لم يُرد دخول مكّة ثمّ أراده ، ومن أُعتق بعد تجاوزه مع قصده مكّة ، ومن بلغ قاصداً مكّة بعد المجاوزة ، وكلّ من ساغ له دخولها بغير إحرام ثمّ أراد النسك بعد المجاوزة. وجميع هؤلاء يجب عليهم الرجوع لأحد المواقيت الخمسة ، إلّا أن يكون نُسكهم عُمرة مفردة فإنه يجزيهم الإحرام من أدنى الحِلّ.

والدليل على أن [ للجاهل (1) ] حكم الناسي صحيحة عبد اللّه بن سنان : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل مرّ على الوقت الذي يحرم الناس منه ، فنسي أو جهل فلم يحرم حتّى أتى مكّة ، فخاف إن رجع إلى الوقت أن يفوته الحجّ؟ فقال يخرج من الحرم ويحرم ويجزئه ذلك (2) ، مع أنه مشهور في الفتوى شهرة أكيدة ، بل لا يكاد يظهر فيه خلاف ، والأخبار به متكثّرة.

ولو لم يتمكّن أحد من هؤلاء من الرجوع للميقات رجعوا إلى حيث يمكن ولو خارج الحرم على الأحوط ، وإن كان الحقّ أنهم يجزئهم الإحرام حينئذٍ من أدنى الحِلّ. ويجزئهم الإحرام من محلّ التعذّر ولو مكّة. ولو لم يحرم أحدهم من الوقت مع إمكان الإحرام منه بطل نُسكه. ولو تعمّد أحد مجاوزة الوقت بعد الوصول له أثم ، ووجب عليه الرجوع له أو لغيره ممّا وقّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لنُسكه ولو غير ما فارقه كما هو المشهور ، وعزاه الشيخ حسين إلى الأكثر ، واختاره.

ويدلّ عليه أن الإجماع والنصّ (3) على أنها خمستها محرم لكلّ من وصل إليها. فكلّ محرم وصل إليه من تعمّد المجاوزة لأحدها بعد الوصول إليه محلّاً محرم له ؛ لصدق مروره عليه ووصوله له وإن أثم بما فعل. وأيضاً وجوب قطع المسافة التي

ص: 221


1- في المخطوط : ( الجاهل ).
2- الكافي 4 : 324 / 6 ، وسائل الشيعة 11 : 328 ، أبواب المواقيت ، ب 14 ، ح 2.
3- وسائل الشيعة 11 : 331 - 332 ، أبواب المواقيت ، ب 15.

من الأوّل إلى الثاني محرماً فات ، فوجوب قضائه أو إعادته يحتاج إلى دليل ، لأنه تكليف آخر جديد مغاير للأوّل ولا دليل.

ويدلّ عليه أيضاً من خصوص الأخبار إطلاق صحيحة الحلبيّ : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل ترك الإحرام حتّى دخل الحرم؟ فقال عليه السلام يرجع إلى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه ويحرم ، وإن خشي أن يفوته الحجّ فليحرم من مكانه ، فإن استطاع أن يخرج من الحرم فليخرج (1). بل هو في المتعمّد أظهر.

وقيل : يلزمه الرجوع إلى خصوص ما عصى بمفارقته. ولا دليل عليه ، فهو ضعيف ، ولكنّه أحوط خروجاً من الخلاف. ولو لم يتمكّن من تعمّد مجاوزة الوقت محلّاً ، مع علمه به وبالتحريم من الرجوع إلى أحد الخمسة ؛ لضيق الوقت أو غيره من الموانع ، فالمشهور أنه لا يصحّ له نُسك ، بل لم ينقل فيه خلاف في كتب الخلاف ؛ لأنه مكلّف بإنشاء الإحرام من أحد المواقيت وقد أهمله.

وقد ثبت بالنصّ (2) والإجماع أنه لا يصحّ النُّسك إلّا إذا أوقع الإحرام من أحدها ، وإن أنشأه قبلها أو بعدها لا يصحّ النُّسك ولا ينعقد إلّا في موارد استثناها الدليل ، وليس هذا منها ، ولأن الأصل شغل ذمّته بالتكليف ، فلا يخرج عنه إلّا بدليل ، ولا دليل على صحّة نسك هذا.

وأيضاً هذا ترك الإحرام الذي هو أعظم أركان النُّسك عمداً ؛ لعدم صحّته إلّا من مكان معيّن ، وقد خالف ولم يحرم منه ، فنسكه باطل ، وذمّته بالتكليف مشغولة. وما استفاض من أن تلك المواقيت لا يجوز لأحد أن يحرم قبلها ولا بعدها (3) شاهد له ، بل دليل عليه.

ص: 222


1- تهذيب الأحكام 5 : 58 / 180 ، وسائل الشيعة 11 : 330 ، أبواب المواقيت ، ب 14 ، ح 7.
2- وسائل الشيعة 11 : 332 - 333 ، أبواب المواقيت ، ب 16.
3- وسائل الشيعة 11 : 322 ، أبواب المواقيت ، ب 11.

ونقل عن الشيخ (1) أنه نقل قولاً بصحّة نُسكه إذا أحرم من موضع التعذّر ، أو أدنى الحِلّ مع التمكّن منه.

ونقل السيّد في ( المدارك ) (2) أن بعضهم احتمله ، ومال هو إليه.

وكذا الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ).

ولهم أن أدنى الحِلّ أو محلّ التعذّر ثبت بالنصّ (3) أنه محرم اضطراريّ فيمن لم يمرّ بمحرم في المحاذي ، ومن لم يمرّ بمحرم ولم يحاذه ، والناسي والجاهل ، وهذا مضطرّ.

وأيضاً هذا تائب مكلّف ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4) ، وهذا وسعه ، ومعصيته بمجاوزته الميقات لا تُسقط تكليفه في ذلك العام.

ولهم أيضاً صحيح الحلبيّ المذكور (5) فإنه مطلق ، بل هو في العامد أظهر. وقد دلّ على أنه يجزئه الإحرام من غير الوقت مع ضيق الوقت ، ولا معارض له يظهر من نصّ أو إجماع.

ويمكن أن يجاب عن الأوّل بالمنع من كون ذلك محرم اضطراريّ للعامد ؛ لعدم الدليل عليه ، وكون الدليل أثبت لغيره محرماً اضطراريّاً لا يفيد ، والقياس باطل. ونمنع القضيّة القائلة : إن لكلّ مضطرّ محرماً اضطراريّاً.

وعن الثاني بأن هذا كلّفه اللّه وسعه ، ففرّط وجنى على نفسه ، والعبادة إنما تصحّ من حيث المعبود لا العابد ، فهذا نظير من استطاع ففرّط واستقرّ الحجّ في ذمّته ، فإنه مكلّف به ولو تسكّع. وأمّا إن معصيته لا تسقط تكليفه في ذلك العام ، فنظيره من توانى مع استطاعته حتّى ضاق الوقت وسافر الرفقة.

ص: 223


1- المبسوط 1 : 309.
2- مدارك الأحكام 7 : 235.
3- وسائل الشيعة 11 : 328 ، أبواب المواقيت ، ب 14.
4- البقرة : 286.
5- تهذيب الأحكام 5 : 58 / 180 ، وسائل الشيعة 11. : 5. أبواب المواقيت ، ب 14 ، ح 7.

وأمّا صحيح الحلبيّ فإنه وإن دلّ بإطلاقه ولكن ظاهر الأصحاب الإعراض عن هذه الدلالة في المقام ، مع أنه بمرأى منهم. بل استدلّ به الشيخ (1) على حكم الناسي ، فهو قد فهم منه أنه وارد في الناسي.

وبالجملة ، فالمسألة مشكلة وإن كان ما عليه ظاهر الأصحاب لا يخلو من قوّة.

ولا ينعقد الإحرام قبل الميقات للنصّ المستفيض (2) والإجماع إلّا في موضعين وقع الخلاف فيهما :

أحدهما : لو نذر الإحرام قبله ، فهل ينعقد نذره؟ قولان :

أحدهما : لا ينعقد ، وإليه ذهب ابن إدريس (3) والعلّامة في ( المختلف ) (4) ، وهو ظاهر ( الفقيه ) أيضاً حيث قال : ( ولا يجوز الإحرام قبل بلوغ الميقات ، ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلّا لعلّة أو تقيّة ، فإذا كان الرجل عليلاً أو اتّقى فلا بأس أن يؤخّر الإحرام إلى ذات عرق ) (5). ولم يذكر النذر ولا روايته.

وظاهر ( الكافي ) (6) أيضاً حيث قال : ( باب من أحرم دون الوقت ). وساق الأخبار المانعة من ذلك ، ولم يذكر رواية النذر ، وإنما ذكر خبر الإحرام قبله خوف فوت الشهر في العُمرة المفردة.

وهو ظاهر ابن زهرة في ( الغنية ) (7) ، بل ظاهره أنه إجماع كما ستقف على عبارته إن شاء اللّه.

والمرتضى في ( الانتصار ) (8) ، وظاهره أنه إجماع ، وستأتي عبارته. وظاهر ابن

ص: 224


1- تهذيب الأحكام 5 : 58 / 180.
2- وسائل الشيعة 11 : 319 - 1322 ، أبواب المواقيت ، ب 9.
3- السرائر 1 : 526 - 527.
4- مختلف الشيعة 4 : 68 - 69 / المسألة : 27.
5- الفقيه 2 : 199.
6- الكافي 4 : 321.
7- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 389 - 390 ، وعبارته : ( ولا يجوز عقد الإحرام إلّا في موضع مخصوص .. وقلنا ذلك للإجماع المكرّر .. ).
8- الانتصار : 234 - 235 / المسألة : 121 ، وعبارته : ( ودليلنا : بعد الإجماع الذي يمضي .. ).

البرّاج في ( المهذّب ) (1).

وفي ( التنقيح ) (2) نقل المنع من الإحرام قبل الوقت مطلقاً عن الحسن والمرتضى والعجليّ ، وأنهم لم يستثنوا الناذر ، وستأتي عبارته إن شاء اللّه.

ويدلّ عليه أن الإحرام قبل الميقات وبعده غير مشروع إلّا ما استثناه الدليل ، وليس هذا منه. والنصّ (3) والإجماع أن نذر ما ليس بمشروع باطل لا ينعقد ، فهذا نذر غير مشروع ، فهو باطل ، فلا ينعقد.

وأمّا إن الإحرام قبلها أو بعدها غير مشروع فقد استفاضت به الأخبار.

فمنها : خبر زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) : شوّال ، وذو القعدة وذو الحجّة ، ليس لأحد أن يحرم بالحجّ في سواهن. وليس لأحد أن يحرم قبل الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وإنما مثل ذلك مثل من صلّى في السفر أربعاً وترك الاثنتين (4).

دلّ الخبر على أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله جعل للإحرام بالحجّ وقتاً ومكاناً معلومين ، لا يجوز إيقاعه لأحد في غيرهما ، والنكرة في سياق النفي للعموم.

وخبر مَيْسر : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل أحرم من العقيق وآخر من الكوفة أيّهما أفضل؟ قال يا مَيْسر ، أتصلّي العصر أربعاً ، أم تصلّيها ستّاً؟

فقلت : أصليها أربعاً أفضل ، فقال وكذلك سنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أفضل من غيرها (5).

فجعل الإحرام من الكوفة بمنزلة صلاة العصر ستّاً ، وصلاة العصر ستّاً لا شكّ أنه بدعة مبطل ، فلا يصحّ نذره. فما هو بمنزلته من الإحرام من الكوفة كذلك.

وخبر ابن أُذينة كما في ( تهذيب الأحكام ) وصحيحه كما في ( الكافي ) قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام من أحرم بالحجّ في غير أشهر الحجّ فلا حجّ له ، ومن أحرم دون الميقات فلا

ص: 225


1- المهذّب 1 : 214.
2- التنقيح الرائع 1 : 449.
3- وسائل الشيعة 23 : 317 - 321 ، كتاب النذر والعهد ، ب 17.
4- الكافي 4 : 321 - 322 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 323 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 6.
5- تهذيب الأحكام 5 : 52 / 156 ، وسائل الشيعة 11 : 324 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 6.

إحرام له (1). فقد ساوى بين الإحرام بالحجّ في غير أشهر الحجّ ، وبين الإحرام قبل الوقت في البطلان ، مع عمومه. والإحرام بالحجّ في غير أشهر الحجّ باطل بدعة غير مشروع ، لا يصحّ نذره بالنصّ والإجماع ، فمساويه مثله.

وفي ( العيون ) بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام أنه كتب إلى المأمون ولا يجوز الإحرام دون الميقات قال اللّه تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (2) (3). وظاهره أن المراد بإتمامها في الآية الإحرام بهما من الميقات.

وخبر موسى بن القاسم عن حَنَان بن سَدِير قال : كنت أنا وأبي وأبو حمزة الثمالي ، وعبد الرحيم القصير ، وزياد الأحلام ، فدخلنا على أبي جعفر عليه السلام فرأى زياداً وقد تسلّخ جسده ، فقال له من أين أحرمت؟. فقال : من الكوفة ، فقال ولم أحرمت من الكوفة؟. فقال : بلغني عن بعضكم أنه قال : ما بَعُد من الإحرام فهو أعظم للأجر ، فقال ما بلّغك هذا إلّا كذّاب.

ثمّ قال لأبي حمزة من أين أحرمت؟. فقال : من الربذة ، فقال له ولِمَ ، لأنك سمعت أن قبر أبي ذرٍّ بها فأحببت ألّا تجوزه؟.

ثمّ قال لأبي وعبد الرحيم القصير من أين أحرمتما؟. فقالا : من العقيق ، فقال أصبتما الرخصة واتّبعتما السنّة (4) الخبر.

وظاهره أن الإحرام من غير المواقيت المعلومة ليس من الرخصة ولا من السنّة ، فيكون غير مشروع ، وهو مطلق.

وخبر إبراهيم الكرخيّ قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أحرم في غير أشهر الحجّ ، أو من دون الميقات الذي وقّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال ليس إحرامه بشي ء (5).

ص: 226


1- الكافي 4 : 322 / 4 ، وسائل الشيعة 11 : 320 ، أبواب المواقيت ، ب 9 ، ح 3.
2- البقرة : 196.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 24 ، ب 35 ، ح 1 ، وسائل الشيعة 11 : 320 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 9.
4- تهذيب الأحكام 5 : 52 / 158 ، وسائل الشيعة 11 : 324 - 325 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 7.
5- الكافي 4 : 321 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 319 ، أبواب المواقيت ، ب 9 ، ح 2.

وهذا مطلق.

وصحيحة معاوية بن عمّار : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول ليس ينبغي أن يحرم دون الوقت الذي وقّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، إلّا أن يخاف فوت الشهر في العُمرة (1).

فقد حصر الرخصة في الإحرام قبل الوقت في خوف فوت الشهر في العُمرة ، فما سواه لا رخصة فيه.

وخبر حَرِيز عن رجل عن أبي جعفر عليه السلام قال من أحرم من دون الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فأصاب شيئاً من النساء والصيد فلا شي ء عليه (2).

وهذا عامّ في المشهور ، ولا أقلّ من الإطلاق المفيد للعموم.

وصحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال من تمام الحجّ والعُمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لا تجاوزها إلّا وأنت محرم (3).

ثمّ عدّ المواقيت الستّة. ومقتضى ظاهره أن الحجّ والعُمرة بدون ذلك غير تامّ ، وعدم التمام ظاهره البطلان ؛ لمقام الإطلاق ؛ لأنه الفرد الكامل فهو المتبادر.

وصحيح الحلبيّ : قال أبو عبد اللّه عليه السلام الإحرام من مواقيت خمسة وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لا ينبغي لحاجّ ولا معتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها.

ثمّ عدّها وقال ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (4).

وهو عامّ ولا ينبغي للتحريم ؛ لعدم القائل بالكراهية.

وفي ( قرب الإسناد ) عن محمّد بن الوليد عن عبد اللّه بن بكير قال : حججت في أُناس من أهلنا فأرادوا أن يحرموا قبل أن يبلغوا العقيق ، فأبيت عليهم وقلت : ليس الإحرام إلّا من الوقت ، فخشيت ألّا أجد الماء ، فلم أجد بدّاً من أن أُحرم معهم ،

ص: 227


1- تهذيب الأحكام 5 : 53 / 161 ، وسائل الشيعة 11 : 326 ، أبواب المواقيت ، ب 12 ، ح 1.
2- تهذيب الأحكام 5 : 54 / 165 ، وسائل الشيعة 11 : 322 ، أبواب المواقيت ، ب 10 ح 1.
3- الكافي 4 : 318 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 308 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 2.
4- الكافي 4 : 319 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 308 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 3.

فدخلنا على أبي عبد اللّه عليه السلام ، فقال له ضريس بن عبد الملك : إن هذا زعم أنه لا ينبغي الإحرام إلّا من الوقت ، فقال عليه السلام صدق.

ثمّ قال إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة (1) الخبر. وخبر فُضَيْل بن يَسَار : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل اشترى بدنة قبل أن ينتهي إلى الوقت الذي يحرم فيه ، فأشعرها وقلّدها ، أيجب عليه حين فعل ذلك ما يجب على المحرم؟ قال لا ، ولكن إذا انتهى إلى الوقت فليحرم ، ثمّ يشعرها أو يقلّدها ؛ فإنّ تقليده الأوّل ليس بشي ء (2).

وخبر مَيْسَرة قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا متغيّر اللون ، فقال لي من أين أحرمت؟. قلت : من موضع كذا وكذا ، فقال ربّ طالب خير تزلّ قدمه.

ثمّ قال يسرّك أن صليت الظهر في السفر أربعاً؟ قلت : لا. قال فهو واللّه ذاك (3).

وبالجملة ، فالأخبار بأن الإحرام قبل الميقات غير مشروع مستفيضةٌ جدّاً ، بل ظاهرها أن ذلك بدعة وإدخالاً في الشرع ما ليس منه ، كزيادة ركعة في الفريضة ، وهذا هو الحقّ وقد قال به جمع من أكابر العلماء ، فلا يصحّ نذرهم ولا ينعقد ، بل ظاهر بعضهم أنه إجماع.

قال السيّد المرتضى في ( الانتصار ) : ( وممّا انفردت به الإماميّة القول بأن الإحرام قبل الميقات لا ينعقد.

دليلنا بعد الإجماع أن معنى : ( ميقات ) في الشريعة : هو الذي يتعيّن للفعل (4) ، فلا يجوز التقدّم عليه مثل مواقيت الصلاة ، فتجويز التقدّم على الميقات يبطل هذا الاسم ) (5).

ص: 228


1- قرب الإسناد : 173 / 636 ، وسائل الشيعة 11 : 321 ، أبواب المواقيت ، ب 9 ، ح 6.
2- الكافي 4 : 322 / 3 ، وسائل الشيعة 11 : 319 ، أبواب المواقيت ، ب 9 ، ح 1.
3- الكافي 4 : 322 / 6 ، وسائل الشيعة 11 : 324 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 5.
4- ليست في المصدر.
5- الانتصار : 234 - 235 / المسألة : 121.

ثمّ استدلّ أيضاً بيقين البراءة بالإحرام من الميقات دون الإحرام قبله ، وردّ على المخالفين في تجويزه ، ولم يستثنِ شيئاً. وتعليله مع عدم استثنائه شيئاً ظاهر في القول بعدم مشروعيّة الإحرام قبله مطلقاً ، حتّى لخائف فوت شهر رجب بالعمرة المفردة ، وظاهره أنه إجماع.

وقال ابن زهرة في ( الغنية ) : ( لا يجوز عقد الإحرام إلّا في موضع مخصوص ، وهو لمن حجّ على طريق المدينة : ذو الحليفة وهو مسجد الشجرة ، ولمن حجّ على طريق الشام : الجحفة ، وعلى طريق العراق : بطن العقيق ، وأوّله المسلخ ، وأوسطه غمرة ، وآخره ذات عرق ، ولمن حجّ على طريق اليمن : يلملم ، ولمن حجّ على طريق الطائف : قرن المنازل.

وقلنا ذلك ؛ للإجماع ، وطريقة الاحتياط ، واليقين لبراءة الذمّة. وأيضاً فإن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وقّت هذه المواقيت ، وإذا كان معنى الميقات في الشرع ما يتعيّن للفعل ، فلا يجوز تقديمه عليه ، كمواقيت الصلاة. فكان تجويز من جوّز تقديم الإحرام على الميقات مبطلاً لهذا الاسم ) (1) ، انتهى.

ولم يستثنِ شيئاً ، فظاهره عدم مشروعيّة الإحرام قبل الميقات مطلقاً ، وأنه إجماع. وإنما بحثه مع العامّة في تجويز ذلك.

وقال العلّامة في ( نهج الحقّ ) : ( ذهبت الإماميّة إلى أنه لا يجوز الإحرام قبل الميقات ) (2).

ثمّ نقل أن أبا حنيفة والشافعي أجازاه ، وردّ عليهما بأن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أحرم من الميقات ، وقال خذوا عنّي مناسككم (3) ، ولم يستثنِ شيئاً. وظاهره أن الإحرام قبل الوقت غير مشروع مطلقاً ، وأنه إجماع.

وقال ابن البرّاج في مهذّبه : ( الأمكنة التي يجب الإحرام منها هي التي وقّتها

ص: 229


1- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 389 - 390.
2- نهج الحقّ : 471.
3- مسند أحمد بن حنبل 3 : 318.

النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، وهي : ذو الحليفة .. ) (1) ، وساق تعداد المواقيت الستّة ولم يستثنِ شيئاً ، وظاهره القول بعدم مشروعيّة الإحرام قبل الوقت مطلقاً.

وقال الشيخ أحمد بن عبد الرضا المعروف بالمهدي في تعداد واجبات الإحرام : ( ووقوع الإحرام في أحد المواقيت الستّة التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ).

ثمّ عدّ الخمسة ودويرة الأهل ومكّة لحجّ التمتّع ، ولم يستثنِ شيئاً. وظاهره عموم المنع ممّا سواها.

وقال الكاشاني في ( النخبة ) : ( يشترط في كلّ من الثلاثة يعني : أنواع الحجّ وعمرة التمتّع وقوعه في أشهر الحجّ ، وفي الخمسة الإحرام من الميقات الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لكلّ قوم ، وهي مشهورة ) (2).

وظاهره كالأوّل من عدم مشروعيّة غير ذلك مطلقاً.

وقال الشيخ المفيد في ( المقنعة ) : ( اعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وقّت لكلّ قوم ميقاتاً يحرمون منه ، لا يجوز لهم التقدّم في الإحرام من قبل بلوغه ولا التأخير عنه ، فوقّت لأهل المدينة مسجد الشجرة ، وهو ذو الحليفة ، فأهل المدينة وكلّ من حجّ على طريقها يجب أن يحرموا منه.

ولأهل العراق بطن العقيق ، وأوّله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق ، ولا يجوز التقدّم بالإحرام على المسلخ ولا التأخّر عن ذات عرق. ولأهل الشام الجحفة ، لا يتقدّمونها ولا يتأخّرون عنها ) (3).

ثمّ عدّ باقي المواقيت الستّة ولم يستثنِ شيئاً. وظاهره عدم صحّة الإحرام قبلها وعدم مشروعيّته مطلقاً.

وقال بعض أفاضل المتأخّرين في منسكه : ( ويشترط في الإحرام إيقاعه من أحد المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وهو مسجد الشجرة .. ).

ص: 230


1- المهذّب 1 : 213 - 214.
2- النخبة : 153 - 154 ، بتفاوتٍ يسير.
3- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 394 - 395.

وعدّ المواقيت الستّة ومكّة ولم يستثنِ شيئاً.

وظاهره كغيره عدم مشروعيّة الإحرام قبلها مطلقاً.

وقال الشيخ علي بن عبد العالي في منسكه : ( لمّا كان موضع إحرام التمتّع وحجّ الإفراد والقران واحداً وهو الميقات المعيّن شرعاً أو منزل المكلّف إن كان منزله أقرب إلى مكّة وجب تعيين المواقيت و [ هي (1) ] ستّة ).

وعدّها ولم يستثنِ. وظاهره كغيره. وهو ظاهر منسك الشيخ حسن ابن الشهيد ، ومنسك الشيخ علي بن سليمان القدميّ.

وقال العلّامة في ( المختلف ) : ( جوّز الشيخ (2) الإحرام قبل الميقات للناذر ، وهو مذهب سلّار (3) وابن حمزة (4). ومنع ابن إدريس (5) من ذلك ، ونقل عن الشيخ أنه رجع عن ذلك في مسائل ( الخلاف ).

وهو خطأ ؛ لأن الشيخ قال في مسائل ( الخلاف ) : ( فإن أحرم قبل الميقات لم ينعقد إلّا أن يكون نذر ذلك ) (6).

والسيّد المرتضى (7) وابن أبي عقيل (8) ، منعا من الإحرام مطلقاً ولم يستثنيا ، وكذا ابن الجنيد وابن بابويه (9).

واحتجّ المجوّزون بالأصل ، وبما رواه عليّ بن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يحرم من الكوفة؟ قال فليحرم من الكوفة وليفِ لله بما قال (10).

ص: 231


1- في المخطوط : ( هو ).
2- المبسوط 1 : 311.
3- المراسم العلوية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 7 : 238.
4- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 159.
5- السرائر 1 : 526 - 527.
6- الخلاف 2 : 286 / المسألة : 62.
7- رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : 65.
8- عنه في السرائر 1 : 527.
9- الفقيه 2 : 199 / ذيل الحديث 907.
10- تهذيب الأحكام 5 : 53 / 163 ، الإستبصار 2 : 163 / 534 ، وسائل الشيعة 11 : 326 - 327 ، أبواب المواقيت ، ب 13 ، ح 1.

وعن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سمعته يقول لو أن عبداً أنعم اللّه عليه نعمة ، أو ابتلاه بليَّة فعافاه من تلك البليّة ، فجعل على نفسه أن يحرم بخراسان ، كان عليه أن يتمّ (1).

والجواب : المنع من بقاء حكم الأصل بعد تواتر النقل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنه وقّت المواقيت المعيّنة (2). وعن الحديثين بضعف سندهما ؛ فإن عليّ بن أبي حمزة واقفي ، وسماعة أيضاً.

واحتجّ المانعون بأنها عبادة شرعيّة فيتوقّف فعلها على أمر الشارع بها ، وبما رواه ابن مُسْكان في الصحيح : حدّثني ميسر (3) .. ).

وساق الخبر المتقدّم ، ثمّ قال : ( والتشبيه يقتضي المساواة في الأحكام ، فكما كانت الزيادة محرّمة لا يصحّ نذرها في باب الصلاة ، فكذا في الميقات. وعن زرارة عن الباقر عليه السلام .. ).

وساق الخبر المتقدّم (4) ثمّ قال : ( وكما كانت الزيادة مبطلة لا ينعقد نذرها ، فكذلك في صورة الحمل ؛ ولأنه نذر عبادة غير مشروعة ، فكان بدعة ، وكان معصية فلا ينعقد نذره. وهذا عندي أقرب ) (5) ، انتهى.

أقول : صورة سند الرواية الاولى في ( تهذيب الأحكام ) : أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن إسماعيل عن صفوان عن علي بن أبي حمزة قال : كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام .. الخبر.

ولا شكّ في أنه ضعيف بما قال وبأنه مكاتبة ، والخبر الثاني أيضاً لا شكّ في

ص: 232


1- تهذيب الأحكام 5 : 54 / 164 ، الإستبصار 2 : 164 / 536 ، وسائل الشيعة 11 : 327 ، أبواب المواقيت ، ب 13 ، ح 3.
2- تهذيب الأحكام 5 : 51 - 61 / باب : 6 ، وسائل الشيعة 11 : 307 ، أبواب المواقيت ، ب 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 52 / 156 ، الإستبصار 2 : 161 / 528 ، وسائل الشيعة 11 : 324 ، أبواب المواقيت ، ب 12 ، ح 6.
4- الكافي 4 : 321 - 322 / 2 ، وسائل الشيعة 11 : 323 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 6.
5- مختلف الشيعة 4 : 68 - 69 / المسألة : 27.

ضعفه.

ولكن روى الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) بسنده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن علي قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل جعل لله عليه شكراً أن يحرم من الكوفة؟ قال فليحرم من الكوفة وليفِ لله بما قال (1).

هكذا في نسخة عندي وغيرها ، وفي نسختين غيرها : ( عن الحلبيّ ) بدل : ( علي ) ، كما هو في نسخ ( الإستبصار ) (2).

ولكن قال في ( المنتقى ) بعد أن أورد هذا السند : ( قد اتّفقت كلمة المتعرّضين لتصحيح الأخبار على صحّة هذا الخبر ، وأوّلهم العلّامة في ( المنتهى ) (3). ولا شكّ عند الممارس في أنه غير صحيح ؛ فإن حمّاداً في الطريق إن كان ابن عثمان كما تشعر به روايته عن الحلبيّ فالحسين بن سعيد لا يروي عنه بغير واسطة قطعاً وليست بمتعيّنة على وجه نافع ، كما قد يتّفق في سقوط بعض الوسائط سهواً.

وإن كان ابن عيسى فلا يروي عن عبيد اللّه الحلبيّ فيما يعهد من الأخبار أصلاً. والمتعارف عند إطلاق لفظ الحلبيّ أن يكون هو المراد به ، وربّما أُريد منه محمّد أخوه ، وفي رواية ابن عيسى عنه كما في عبيد اللّه. نعم ، يوجد في عدّة طرق : عن حمّاد بن عيسى عن عمران الحلبيّ.

وفي احتمال إرادته عند الإطلاق بُعدٌ ، لا سيّما بعد ملاحظة كون رواية الحديث بالصورة التي أوردناها إنما وقعت في ( الاستبصار ) ، وأمّا ( تهذيب الأحكام ) فنسخه متّفقة على إيراده هكذا : الحسين بن سعيد عن حمّاد عن علي. ورواية حمّاد بن عيسى عن علي بن أبي حمزة معروفة.

والحديث مرويّ عنه أيضاً في الكتابين على إثر هذه الرواية بغير فصل بإسناد معلّق عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن محمّد بن إسماعيل عن صفوان عن عليّ

ص: 233


1- تهذيب الأحكام 8 : 314 / 1166 ، ولم يرد فيه : « وليَفِ لله بما قال ». وفيه أيضاً : ( سألت أبا الحسن عليه السلام .. ).
2- الاستبصار 2 : 163 / 534.
3- منتهى المطلب 2 : 669.

بن أبي حمزة. وذكر معنى الحديث. وتصحيفه بالحلبيّ قريب ، وخصوصاً مع وقوعه في صحبة حمّاد.

وبالجملة ، فالاحتمالات قائمة على وجه ينافي الحكم بالصحّة ، وأعلاها كون الراوي عليّ بن أبي حمزة ، فيتّضح ضعف الخبر ، وأدناها الشكّ في الاتّصال بتقدير أن يكون هو الحلبيّ. فإن أحد الاحتمالات معه : أن يكون المراد بحمّاد : ابن عثمان ، والحسين لا يروي عنه بغير واسطة ؛ وذلك موجب للعلّة المنافية للصحّة ) (1) ، انتهى كلامه.

وقال العلّامة التوبليّ في تذكرته بعد إيراد هذا الكلام عن ( المنتقى ) - : ( قلت : يأتي سند الحديث المبحوث عنه في باب النذر هكذا : عنه يعني الحسين بن سعيد عن حمّاد بن عيسى عن علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن عليه السلام .. ).

وساق الحديث إلى قوله فليحرم من الكوفة (2) ( وهذا السند يعطي ما قاله صاحب ( المنتقى ) ؛ لأن في هذا السند تنبيهاً على ما قاله صريحاً.

واعلم أن قول صاحب ( المنتقى ) : ( وأمّا تهذيب الأحكام فنسخه متّفقة على إيراده ) إلى آخره ، فيه نظر ، فإن عندي نسختين من ( تهذيب الأحكام ) عن الحلبيّ كما في ( الاستبصار ) (3) ) ، انتهى كلام السيّد.

قلت : وعندي نسختان من ( تهذيب الأحكام ) هكذا عن الحلبيّ أيضاً. وعلى كلّ حال فبحث ذينك الإمامين يفضي بالناظر إلى ضعف الخبر.

وعلى كلّ حال فمثل هذه الأخبار الضعيفة لا يعارض بها ما ذكرناه من الأخبار ، ولا تخصّص بها تلك العمومات والإطلاقات ؛ لضعفها عن مقاومة بعضها فضلاً عن جميعها مع تكثّرها وموافقتها للمعقول وقواعد المنقول ، فإن العبادات كيفيّات متلقّاة فلا تصحّ إلّا من حيث يحبّ المعبود دون العابد.

ص: 234


1- منتقى الجمان 3 : 138 - 139.
2- تهذيب الأحكام 8 : 314 / 1166.
3- الإستبصار 2 : 163 / 534.

وتلك المواقيت أبواب لحرم اللّه جعلها اللّه رحمة لعباده ، ليستعدّوا فيها لما يصلح من صفات الوافدين الداخلين في باب رحمة اللّه وحرمه ، فيستعدّوا فيها للوفادة إلى بيت اللّه ، مجرّدين عن كلّ شاغل عن الوفادة إلى اللّه. ولم يوقّت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للإحرام بالحجّ والعُمرة بقاعاً معلومة ، ومنع من الإحرام من سواها إلّا لمعان تختصّ بها هو اعلم بها وأهل بيته. كما أشار إليه الخبر المروي عن الصادق عليه السلام في ( العلل ) وغيره في علّة إحرام النبيّ صلى اللّه عليه وآله من الشجرة أنه عليه السلام قال لأنه لمّا اسري به وصار بحذاء الشجرة ، وكانت الملائكة تأتي إلى البيت المعمور بحذاء المواضع التي هي مواقيت (1) الخبر.

فكانت المواقيت بحذاء الأبواب التي تدخل منها الملائكة إلى البيت المعمور ، فكذلك خصّت بكونها مواضع إحرام القاصد إلى مكّة دون غيرها من بقاع الأرض. ولو ساواها وشاركها من بقاع الأرض شي ء ، لكان كلّما بعد وشقّ أفضل ، ولكان صلى اللّه عليه وآله يبيّن ذلك لأُمّته. وإنما ظهر منه تخصيص تلك البقاع لتلك العبادة ، كما عيّن للموقفين محلّاً ، وللذبح محلّا ، ولرمي الجمار محلّاً ، وللطواف محلّاً ، ولصلاته محلّاً وللسعي محلّاً ، فجميع مناسك الحجّ لكلّ نسك محلّ مخصوص وهيئة مخصوصة ، والإحرام منها. ولا ينافيه التوسعة في بعض لمكان الضرورة.

هذا ، مع أن الخبر الأوّل (2) يمكن تأويله ، بإرادة النذر من محرم أهل الكوفة وهو العقيق ، وذلك صحيح منعقد بالنصّ والإجماع. فكما صحّ تأويل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السلام أن أهل السند محرمهم البصرة بأن المراد محرم أهل البصرة وهو

ص: 235


1- علل الشرائع 2 : 139 / 1 ، وفيه : « لأنه صلى اللّه عليه وآله لمّا اسري به وصَار بحذاء الشجرة وكانت الملائكة تأتي إلى البيت المعمور بحذاء المواضع التي هي مواقيت سوى الشجرة فلما كان في الموضع الذي بحذاء الشجرة نودي : « يا محمّد. قال لبّيك. قال : ألم أجدك يتيماً فآويتُ ، ووجدتك ضالاً فهديتُ قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : إن الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك ، لبّيك. فلذلك أحرم من الشجرة دون المواضع كلّها ».
2- تهذيب الأحكام 8 : 314 / 1166.

العقيق. أوّله بذلك الشيخ (1) ، وكذلك كلّ من ذكره ، ولم نعلم أحداً قال بظاهره مع صحّته ، بل أطبقوا على تأويله بذلك. فكما صحّ تأويله بذلك صحّ تأويل خبر النذر به ، فإن كان صارف يصرف هذا التأويل وإلّا صحّ فيهما.

وأمّا قوله عليه السلام في خبر أبي بصير كان عليه أن يتم فيحتمل أنه أراد بقوله : إنه جعل على نفسه أن يحرم بخراسان أي محرم أهل خراسان ، أو أنه أراد بقوله كان عليه أن يتم (2) أي لا يحرم إلّا من أحد المواقيت ؛ فإنه قد روي كما تقدّم أن من تمام الحجّ والعُمرة أن يحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (3).

فهو إمّا إشارة إلى عدم مشروعيّة هذا النذر ، أو أن من نذر ذلك وجب عليه الإحرام من محرم أهل تلك الناحية ؛ لأنه بعض من الطريق يصحّ نذره فيلزم فيه دون ما زاد. وإن كان هذا ضعيفاً جدّاً. والأوّل أوجه.

وعلى كلّ حال ، فمتى قام الاحتمال بطل الاستدلال. هذا كلّه مضافاً إلى أن هذه الأخبار موافقة لمذهب أبي حنيفة والشافعيّ ، والرشد في خلافهم. فإذن الحقّ عدم مشروعيّة النذر المذكور ، واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

وقيل : يصحّ ، وقد عرفت القائل ودليله ، وضعف القول به.

وقال المقداد في ( التنقيح ) في شرح قول المحقّق : ( ولا يصحّ الإحرام قبل الميقات إلّا لناذر ) (4) - : ( هذا قول الشيخ (5) والمفيد (6) وابن حمزة (7) ، لرواية أبي

ص: 236


1- تهذيب الأحكام 5 : 55 / 169 ، وسائل الشيعة 11 : 309 ، أبواب المواقيت ، ب 1 ، ح 5.
2- تهذيب الأحكام 5 : 54 / 164 ، وسائل الشيعة 11 : 327 ، أبواب المواقيت ، ب 13 ، ح 3.
3- تهذيب الأحكام 5 : 54 / 166 ، وسائل الشيعة 11 : 332 - 333 ، أبواب المواقيت ، ب 16 ، ح 1.
4- المختصر النافع : 150.
5- النهاية : 209 ، المبسوط : 311.
6- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 394.
7- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 159.

بصير (1) ، وعليّ بن أبي حمزة (2) عن الصادق عليه السلام. ومنعه الحسن (3) والمرتضى (4) والعجليّ (5) مطلقاً ، ولم يستثنوا الناذر ؛ لأصالة عدم الجواز ، ولصحيحة ابن مُسْكان عن مَيْسر عن الصادق عليه السلام (6) ، ولرواية زرارة عن الباقر عليه السلام ليس لأحد أن يحرم قبل الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، وإنما مثله من صلّى في السفر أربعاً وترك الثنتين (7) وكما كانت الزيادة مبطلة ولا ينعقد نذرها فكذا صورة النزاع.

والجواب بحمل المطلق على المقيّد ، وروايتهم مطلقة ، فتحمل على غير المنذور ، وعدم انعقاد نذر الأربع سفراً ، لا يرد عليه ؛ لصريح التحريم فيه دون ما نحن فيه ) (8) ، انتهى.

قلت : فيه نظر من وجوه :

الأوّل : نسبة القول للمفيد [ في ] عبارة ( المقنعة ) تأباه ، إلّا أن يكون قاله في غيره ، أو هو توهّم من كلام الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) ، وظنّه كلام المفيد.

الثاني : أنه حكم على الرواية التي أوردها دليلاً للمانعين أنها مطلقة ، وليس كما قال ، بل هي عامّة ، لأنها نكرة في سياق النفي.

الثالث : أنه إذا ثبت البدعيّة في المشبّه به من جهة وجه الشبه ، اقتضى المساواة فيها ، وإلّا لكان التشبيه خطأ ، ولا جهة للشبه إلّا عدم مشروعيّة المشبّه به ، فلا بدّ أن

ص: 237


1- تهذيب الأحكام 5 : 54 / 164 ، الإستبصار 2 : 164 / 536 ، وسائل الشيعة 11 : 327 ، أبواب المواقيت ، ب 13 ، ح 3.
2- تهذيب الأحكام 5 : 53 / 163 ، الإستبصار 2 : 163 / 534 ، وسائل الشيعة 11 : 326 - 327 ، أبواب المواقيت ، ب 13 ، ح 1.
3- عنه في السرائر 1 : 527 ، مختلف الشيعة 4 : 67 - 68 / المسألة : 27.
4- رسائل الشريف المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : 65.
5- السرائر 1 : 526 - 527.
6- تهذيب الأحكام 5 : 52 / 156 ، وسائل الشيعة 11 : 324 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 6.
7- تهذيب الأحكام 5 : 51 / 155 ، وسائل الشيعة 11 : 323 ، أبواب المواقيت ، ب 11 ، ح 3.
8- التنقيح الرائع 1 : 449.

يساويه في المنع.

وهل يساوي النذر أخويه في ذلك على القول به؟ لم أقف على مصرّح به ، إلّا صاحب ( معالم الدين ) متردّداً فيه ، وشهيد ( الروضة ) (1) اختار مساواته [ لهما (2) ]. وقال في ( المسالك ) : ( الظاهر عدم الفرق بين النذر وأخويه ، وإن كان النذر هو [ المستعمل فيه (3) ] ؛ لأن النصوص شاملة لهما ، [ فإنها (4) ] مفروضة فيمن جعل ذلك عليه ) (5).

ص: 238


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 3 : 38.
2- في المخطوط : ( له ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( منه ).
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( لأنها ).
5- مسالك الأفهام 2 : 219.

جواز تقديم الإحرام على المواقيت

من أراد الاعتمار في رجب ، وخاف إن أخّر الإحرام إلى الوقت أن يفوته الشهر ، فالمشهور أنه يجوز له حينئذٍ تقديم الإحرام على المواقيت ؛ ليدرك جزءاً من العُمرة في رجب ، فإن عمرة رجب تلي الحجّ في الفضل. بل قال الخراساني في ذخيرته : إنه ظاهر الأصحاب (1).

وقال الشيخ علي في حواشي ( الشرائع ) : ( ورد أن عمرة رجب تلي الحجّ في الفضل ، فإذا خاف تقضّيه وأراد إدراك إحرامها فيه ، شرع له الإحرام قبل الميقات للنصّ والإجماع ) ، انتهى.

وقبل هذا بسطر واحد قال : ( منع ابن إدريس (2) من الإحرام قبل الميقات لناذر وغيره ، ومنع من انعقاد النذر ). واحتجّ المشهور بصحيحة معاوية بن عمّار السابقة عن الصادق عليه السلام

ليس لأحد أن يحرم دون الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلّا أن يخاف فوت الشهر في العُمرة (3).

وموثّقة إسحاق بن عمّار : سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يجي ء معتمراً ينوي عمرة رجب ، فيدخل الهلال قبل أن يبلغ العقيق ، أيحرم قبل الوقت ويجعلها لرجب ، أو يؤخّر الإحرام إلى العقيق ويجعلها لشعبان؟ قال يحرم قبل الوقت لرجب ، فإنّ لرجب فضلاً وهو الذي نوى (4).

ص: 239


1- ذخيرة المعاد : 574 ، بالمعنى.
2- السرائر 1 : 527.
3- تهذيب الأحكام 5 : 53 / 161 ، وسائل الشيعة 11 : 325 - 326 ، أبواب المواقيت ، ب 12 ، ح 1.
4- تهذيب الأحكام 5 : 53 / 160 ، وسائل الشيعة 11 : 326 ، أبواب المواقيت ، ب 12 ، ح 2.

وادّعى الكاشاني أيضاً في مفاتيحه أنه إجماع (1). وعن ( المعتبر ) أنه اتّفاق أصحابنا (2).

وأنت خبير بأن ما سبق من عبارات العلماء المانعة من الإحرام قبل الميقات ظاهرها عموم المنع هنا أيضاً ، وبهذا مع كون هذه الأخبار موافقة لمذهب العامّة - يخدش دعوى الإجماع.

وبالجملة ، فالمسألة قويّة الإشكال. والاحتياط ويقين البراءة وأصالة استصحاب حال تحليل من أحرم قبل الوقت يقتضي عدم مشروعيّة هذا الإحرام ، وصحّة الرواية وعمل جماعة بها ودعوى الإجماع من بعضهم يقتضي مشروعيّته. وأنا في صحّته من المتوقّفين ، والاحتياط مطلوب ، وفوت الإحرام في رجب أهون من أن يُدخَلَ في الشرع ما لم يحصل يقين كونه منه ، فلا ينبغي التعرّض له ، واللّه العالم.

ولو كان في طريق قاصداً مكّة ممّن يجب عليه الإحرام محرمان ، ووصل لأوّلهما ، وجب الإحرام منه. لا نعلم فيه خلافاً إلّا ما ينسب لظاهر الجعفيّ من القول بجواز التأخير إلى الثاني كالمدنيّ يمرّ بالشجرة ولا يحرم إلّا من الجحفة. ولو لا الشهرة الأكيدة في كلّ زمان على وجوب الإحرام من الأوّل التي يشمّ منها عطر الإجماع لكان القول به متّجهاً.

ولو عصى وأخّر الإحرام لثانيهما فأحرم منه أجزأه وأثم ، ولا يجب عليه الرجوع إلى الأوّل بعد الوصول للثاني ، وإنما يجب قبل الوصول إليه على الأقوى ، وبه صرّح جماعة من أكابر العصابة ؛ لصدق مروره على المحرم ، فهو بمروره عليه محرم له. وهل يجوز العدول عن طريق الأوّل إلى طريق لا يفضي به إلّا إلى الثاني اختياراً؟ الظاهر ذلك كما صرّح به جمع من الأفاضل ، كالذي يخرج من المدينة فإنه يجوز له سلوك أي طريق شاء ولو لم يُفضِ به إلى عين الوقت ، كما يرشد له اتّفاقهم على أن من أخذ طريقاً لا يفضي به إلى ميقات أحرم من محاذاة أقرب المواقيت إلى طريقه أو إلى مكّة. ومن لم يحاذِ ميقاتاً كالذي يأتي من الغرب عن مكّة على البحر

ص: 240


1- مفاتيح الشرائع 1 : 311.
2- المعتبر 2 : 806.

فإنه يحرم من أدنى الحِلّ ، أو من مساواة أقرب المواقيت إلى مكّة.

ولم يشترطوا في جواز سلوكه طريقاً لا يفضي به إلى عين أحد المواقيت ، ألّا يتمكّن من الوصول إلى عين الميقات ؛ للأصل من عدم وجوب سلوك طريق مخصوصة ، ولصحيحة عبد اللّه بن سنان المتقدّمة (1) ، التي هي العمدة في جواز الإحرام بالمحاذاة ، فإنها دلّت على جواز سلوك المدنيّ طريقاً لا يفضي به إلى عين ميقات اختياراً. فجواز سلوكه طريقاً يفضي به إلى عين الميقات الثاني بدون أن يمرّ على الأوّل كالمدنيّ يسلك طريقاً يفضي به إلى العقيق ، أو الجحفة دون الشجرة اختياراً أوْلى. ولعلّ معنى صحيحة الحلبيّ : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام من أين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال من الجحفة ، ولا [ يجاوز (2) ] الجحفة إلّا محرماً (3).

وصحيحة معاوية بن عمّار : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة؟ فقال عليه السلام لا بأس (4).

ذلك بأن يكون المسئول عنه إنما سلك طريقاً إلى الجحفة لا يفضي به إلى الشجرة ، بل يمكن حمل خبر أبي بصير المتضمّن أن أبا عبد اللّه عليه السلام أحرم من الجحفة (5) على ذلك احتمالاً ظاهراً.

واعلم أنه لا يسوغ الإحرام بالمحاذاة إذا كان قاصداً طريقاً يفضي به إلى عين أحد المواقيت وإن لم يكن بطريق مستقيم ، كالذي يقصد الإحرام من عين يلملم والوصول إليه من جدّة بعد محاذاته له في البحر ، فإنه بقصده لا يكفيه الإحرام بالمحاذاة ، فإنه قاصد للميقات عينه وإن كان بعد محاذاته. وعموم الفتوى والنصّ بأنه لا يجوز لمن قصد أحدهما الإحرام قبلها ولا بعدها يدلّ على ذلك ، فتنبّه.

ص: 241


1- رسائل المرتضى ( المجموعة الثالثة ) : 65.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : « يتجاوز ».
3- تهذيب الأحكام 5 : 57 / 177 ، وسائل الشيعة 11 : 316 - 317 ، أبواب المواقيت ، ب 6 ، ح 3.
4- الفقيه 2 : 199 / 908 ، وسائل الشيعة 11 : 316 ، أبواب المواقيت ، ب 6 ، ح 1.
5- تهذيب الأحكام 5 : 57 / 176 ، وسائل الشيعة 11 : 317 ، أبواب المواقيت ، ب 6 ، ح 4.

ص: 242

واجبات العمرة

اشارة

واعلم أن واجبات العُمرة تسعة أشياء : لبس ثوبي الإحرام ، والنيّة ، والتلبيات الأربع ، والطواف ، وركعتاه ، والسعي ، والتقصير ، أو الحلق ، والكفّ عن جميع ما حرّمه الإحرام. ولنذكر ذلك في فصول سبعة :

الأوّل : في كيفيّة الإحرام

اشارة

وهو يشتمل على : لبس ثوبي الإحرام ، والنيّة ، والتلبيات الأربع.

ثوبا الإحرام

فنقول : إذا كنت في الزمان والمكان الذي يسوغ لك الإحرام فيه ، فالواجب أن تنزع عنك المخيط ، وتلبس ثوبي الإحرام ، وهما قطعتان ممّا يصحّ الصلاة فيه ، تتأزّر بأحدهما ، ويجب أن تكون ساترة لبشرة العورة ، ولونها إجماعاً ، ولحجمها أيضاً على الأظهر. وليس وجوب سترها للعورة شرطاً فيها من حيث هي ثوب إحرام ؛ لعدم الدليل على شرطيّته في ثوبي الإحرام من حيث هما ثوبا الإحرام ، بل من حيث وجوب ستر العورة في الصلاة وعن الناظر المحترم. وترتدي الأُخرى ، بأن تضعها على كتفيك أو على كتف واحد ، وتجمع طرفيها على الآخر. ولا يجب استدامة هيئة منهما.

وهل يجب أن تكون ساترة كالأُولى؟ الأظهر العدم ؛ للأصل ، واستصحاباً لعدم وجوب ستر بشرة شي ء من جسده وحجمه ، ولأنه لا خلاف يظهر في عدم وجوب ستر شي ء من المنكبين أو الظهر ، كذلك في حال من أحوال الإحرام. وشرط الستر

ص: 243

يقتضي وجود ما يجب ستره بمقتضى الإضافة ، وأكثر ما يستفاد من الأخبار وجوب لبس ثوبين غير مخيطين من جنس ما تصحّ الصلاة فيه (1) ، ولأنا لا نعلم قائلاً بوجوب استدامة هيئة في لبس الرداء ، ولا قائلاً بوجوب دوام لبسه وعدم جواز نزعه.

وقال في ( المدارك ) في شرح قول المحقّق : ( ولا يجوز الإحرام فيما لا يجوز لبسه في الصلاة ) (2) - : ( مقتضى العبارة عدم جواز الإحرام في الحرير للرجل وجلد غير المأكول وما يحكي العورة ، والثوب المتنجّس نجاسة لا يعفى عنها في الصلاة.

أمّا المنع من الإحرام في الحرير وجلد غير المأكول ، فيدلّ عليه مضافاً إلى العمومات المانعة من لبس الحرير مفهوم قوله عليه السلام في صحيحة حَرِيز كلّ ثوب يصلّي فيه ، فلا بأس أن يحرم فيه (3).

بل يحتمل قويّاً عدم الاجتزاء بجلد المأكول أيضاً ؛ لعدم صدق اسم الثوب عليه عرفاً.

وأمّا الحاكي ، فإطلاق عبارات الأصحاب تقتضي عدم جواز الإحرام فيه مطلقاً ، من غير فرق بين الإزار والرداء ، وجزم في ( الدروس ) (4) بالمنع من الإزار الحاكي ، وجعل اعتبار ذلك في الرداء أحوط. ولا يبعد عدم اعتباره فيه ؛ للأصل ، وجواز الصلاة فيه على هذا الوجه ) (5) ، انتهى.

وقال السيّد عليّ في شرح قول المحقّق في ( النافع ) (6) : ( الثالث : لبس ثوبي الإحرام وهما واجبان ، والمعتبر ما تصحّ الصلاة فيه للرجل ) (7) - : ( في المشهور بين الأصحاب ، حتّى إن ظاهر جماعة أنه إجماع. فإن تمّ ، وإلّا فلا دليل على هذه الكلّيّة. نعم ، لا شبهة في حرمة المغصوب والميتة مطلقاً والحرير للرجل ، ولا بأس بإلحاق النجس.

ص: 244


1- وسائل الشيعة 12 : 473 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 35.
2- شرائع الإسلام 1 : 221.
3- الفقيه 2 : 215 / 976 ، تهذيب الأحكام 5 : 66 / 212 ، وسائل الشيعة 12 : 359 ، أبواب الإحرام ، ب 27 ، ح 1.
4- الدروس 1 : 344.
5- مدارك الأحكام 7 : 274.
6- المختصر النافع : 153.
7- في المخطوط بعد نهاية قول المحقّق : ( قال السيّد ).

وأمّا سائر ما يشترط في ثوب الصلاة من عدم كونه ممّا لا يؤكل لحمه ولا شافّاً فلا أعرف عليه دليلاً وإن كان اعتباره أحوط وأوْلى ) (1) ، انتهى.

وأقول : لا نسلّم أن مقتضى عبارات الأصحاب ذلك ، ولعلّه اعتمد في فهمه ذلك منهم من إطلاق جملة من عباراتهم أنه لا يجوز الإحرام فيما لا يجوز لبسه في الصلاة ، كعبارة المحقّق وجماعة (2).

وأنت إذا أعطيت التأمّل حقّه وجدت مرادهم أنه يجب كون لباس المحرم من جنس ما تصحّ الصلاة فيه ، ومرادهم النصّ على عدم جواز الإحرام في جلد الميتة ، أو غير مأكول اللحم أو صوفه أو شعره ، ولا المتنجّس بنجاسة لا يعفى عنها في ثوب المصلّي ، والمغصوب ونحو ذلك ، فإنه شرط في ثياب المحرم كالمصلّي. أمّا كون الثوب في نفسه ساتراً فلا نسلّم شرطيّته في ثوب المصلّي فضلاً عن المحرم.

نعم ، يجب في حال الصلاة ستر العورة على كلّ حال ، وفي حال الإحرام سترها عن ناظر محترم. وهذا معنًى غير معنى اشتراط كون ثوب المصلّي أو المحرم في ذاته ساتراً ، ألا ترى أنه يجوز الصلاة في الثوب الشافّ إذا كانت العورة مستورة بغيره ، أو به إذا ثنّي أو كرّر وتعدّد حتّى ستر العورة ؛ بالإجماع فتوًى وعملاً في سائر الأزمان والبقاع.

فهذا يدلّك على أنه لا يشترط الستر في ثوب المصلّي من حيث هو ثوب مصلّ ، بل لأجل وجوب ستر العورة. فإذا تأمّلت هذا ونحوه ظهر الفرق بين شرطيّة حلّه وطهارته ممّا لا يعفى عنه ونحوهما وبين شرطيّة ستره ؛ فإن هذا يكون بالعارض وذاك بالذات. وقد ثبت أنه يجوز الإحرام فيما تصحّ فيه الصلاة ، كما هو ظاهر النصّ والفتوى.

وبهذا ينكشف مراد المحقّق ومن عبّر بمثل عبارته ، كيف يكون ظاهر العصابة ما قاله السيّدان ، وأكثر العصابة لم يذكره ، كالكلينيّ والصدوق في ( الفقيه ) ، والمفيد ،

ص: 245


1- رياض المسائل 4 : 54 - 58 ، باختلاف.
2- مدارك الأحكام 7 : 274.

وشيخ التهذيبين ، والعلّامة في ( التلخيص ) و ( الإرشاد ) و ( التحرير ) و ( القواعد ) و ( المختلف ) ، والمحقّق في ( الشرائع ) و ( النافع ) ، وابن زهرة وابن حمزة ، وابن البرّاج في مهذّبه ، وأكثرهم. بل لم أجد التعرّض لذكر الستر في ثوبي الإحرام في كتاب ، ولا منسك سوى كلام السيّدين المذكورين ، والشيخ حسين ، وشهيد ( الدروس ) (1) ، وكلّهم لم يشترط الستر في الرداء. ونفى الدليل على شرط الستر السيّد الثاني كما سمعت ، وشهيد ( الروضة ) (2) شرط ألّا يكون شافّاً.

والظاهر أنهم جميعاً إنما أرادوا وجوب ستر العورة بالإزار وإن كان في ذاته شافّاً ، وهذا حديث غير حديث وجوب كون ثوب الإحرام ساتراً في ذاته من حيث إنه ثوب محرم.

لكن عبارة ( الروضة ) تحتمل إرادته بوجه ، حيث إنه قال في شرح قول الشهيد في متن في سياق تعداد واجبات الإحرام : ( ولبس ثوبي الإحرام من جنس ما يصلّي فيه ) - : ( المحرم ، فلا يجوز أن يكون من جلد ، وصوف ، وشعر ، ووبر ما لا يؤكل لحمه ، ولا من جلد المأكول مع عدم التذكية ، ولا في الحرير للرجال ، ولا في الشافّ مطلقاً ، ولا في النجس غير المعفوّ عنها في الصلاة ) (3) ، انتهى.

فإن إطلاقه يحتمل ثلاثة أوجه :

الأوّل : يعني للرجال والنساء.

الثاني : يعني الإزار والرداء.

الثالث : يعني سواء كان معه ساترٌ أم لا ؛ ليعمّ المرتدي بقطعتين ، والمتّزر بقطعتين ، وبعض ثياب المرأة ليعمّ حتّى الغلالة.

ويحتمل إرادته الجميع ، وهو وجه رابع لإطلاقه.

ص: 246


1- الدروس 1 : 344.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 231.
3- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 231.

نعم ، اتّفقت كلمتهم بحسب ما ظهر على اشتراط كون ما يحرم فيه ممّا تصحّ فيه صلاته ، وإنما اختلفوا في الحرير للمرأة ، ويدلّ عليه من الأخبار ، ما رواه الكليني في الصحيح عن حمّاد (1) ، وابن بابويه في الصحيح عن حمّاد عن حَرِيز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال كلّ ثوب يصلّي فيه فلا بأس أن يحرم فيه (2).

ورواه الشيخ (3) عن الكليني بسنده المذكور.

فتلخّص من البحث أن النصّ والإجماع إنما دلّا على وجوب كون ثوبي المحرم من سنخ ما تصحّ فيه صلاته ذاتاً وصفة ، ولا ريب أنه تصحّ صلاة الرجل في إزار ساتر لعورته ولو بكونه مثنّيا اتّصل أو انفصل ، ورداء ولو شفّ ووصف. فلا شبهة في جواز الإحرام فيما هو كذلك.

ويعضد ما قلناه ما ثبت بالإجماع والنصّ من جواز اتّزار المحرم وارتدائه بأكثر من قطعتين اختياراً ولاتّقاء الحر والبرد (4). فلأن يتّقي بهما كشف العورة أوْلى. فربّما دلّ إطلاقه على جواز الاستتار بتكريره.

بقي الكلام في جواز إحرام المرأة في الحرير ولبسها إيّاه محرمة. فنقول : لأصحابنا فيه قولان :

أحدهما : يجوز على كراهية ، وهو الحقّ ، ويدلّ عليه الأصل ، واستصحاب حالها قبل الإحرام ، وأنه يجوز لها الصلاة فيه ، فيجوز لها الإحرام فيه ، بنصّ الخبر السابق الذي هو الأصل فيما اشتهر من أن كلّ ما تصحّ صلاة المحرم فيه يصحّ إحرامه فيه.

وصحيح يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قلت له : المرأة تلبس القميص تزرّه عليها ، وتلبس الحرير والخزّ (5) والديباج؟ فقال نعم ، لا بأس به ، وتلبس الخلخالين

ص: 247


1- الكافي 4 : 339 / 3.
2- الفقيه 2 : 215 / 976.
3- تهذيب الأحكام 5 : 66 / 212 ، وسائل الشيعة 12 : 359 ، أبواب الإحرام ، ب 27 ، ح 1.
4- وسائل الشيعة 12 : 362 ، أبواب الإحرام ، ب 30.
5- الخزّ : ثياب تنسج من صوف وإبريسم. لسان العرب 4 : 81 خزز.

والمَسَك (1) (2).

ومثله خبر النضر بن سويد عن أبي الحسن عليه السلام : سألته عن المحرمة ، أي شي ء تلبس من الثياب؟ قال تلبس الثياب كلّها إلّا المصبوغة بالزعفران والورس ، ولا تلبس القفّازين (3) الحديث.

وصحيح الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال لا بأس أن تحرم المرأة في الذهب والخزّ ، وليس يكره إلّا الحرير المحض (4).

وخبر أبي بصير المراديّ أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن القزّ ، تلبسه المرأة في الإحرام؟ قال لا بأس ، إنما يكره الحرير المبهم (5).

وخبر سَمَاعة ، سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن المحرمة تلبس الحرير؟ فقال لا يصلح أن تلبس حريراً محضاً لا خلط فيه ، فأمّا الخزّ والعلم في الثوب فلا بأس أن تلبسه وهي محرمة ، وإن مرّ بها رجل استترت منه بثوبها ، ولا تستتر بيدها من الشمس وتلبس الخزّ ، أما أنهم يقولون : إنّ في الخزّ حريراً ، وإنما يكره المبهم (6).

وخبر الأحمسيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن العمامة السابريّة فيها علم حرير ، وتحرم فيها المرأة؟ قال نعم ، إنما كره ذلك إذا كان سداه ولحمته جميعاً حريراً (7) الخبر.

وغير ذلك ، فإن ( يكره ) ظاهر في المعنى المتعارف المقابل للاستحباب.

والقول الثاني : المنع من إحرامها فيه ؛ لظواهر عدّة أخبار محمولة على الكراهيّة ،

ص: 248


1- المَسَك بالتحريك - : أسورة من ذبْل أوعاج. الصحاح 4 : 1608 مسك.
2- تهذيب الأحكام 5 : 74 / 246 ، وسائل الشيعة 12 : 366 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 74 / 244 ، وسائل الشيعة 12 : 366 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 2.
4- الفقيه 2 : 220 / 1020 ، وسائل الشيعة 12 : 367 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 4.
5- الفقيه 2 : 220 / 1018 ، وسائل الشيعة 12 : 367 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 5.
6- الفقيه 2 : 220 / 1017 ، وسائل الشيعة 12 : 368 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 7.
7- الكافي 4 : 345 / 5 ، وسائل الشيعة 12 : 369 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 11.

بدليل ما سمعت ، وعلى ما تلبسه المرأة من الحرير للزينة ، فإن كلّ ما يفيدها زينة فإنه محرّم عليها.

وما دلّ على الجواز يحمل على هذا على ما لا يفيدها زينة. ولكن النساء [ يختلفن (1) ] بحسب [ حالهن (2) ] فيما [ يفيدهن (3) ] زينة ، فربّما كانت امرأة يفيدها أسمال الحرير زينة ، وربّما كان سائر الحرير لا يفيد اخرى زينة. وقد حقّقنا ذلك في حكم المعتدّة في ( جامع الشتات ).

وممّن اختار المنع شيخنا الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ) قال رحمه اللّه في الاستدلال على ذلك : ( لما ثبت لدي من منع الصلاة فيه لهن ، ولكثرة الأخبار به ، ومطابقة الأخبار المجوّزة للعامّة ، فتحمل على التقيّة ). وساق الأخبار التي ظاهرها المنع.

والجواب : منع عدم صحّة صلاتها فيه ؛ لشذوذ القائل به وضعف دليله ، وتحقيقه في غير هذا المقام.

وممّا يدلّ على صحّة صلاتها فيه ما استدلّ به هو عليه السلام في هذا المقام على المنع من إحرامها فيه ، من موثّقة إسماعيل بن الفضل : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة ، هل يصلح لها أن تلبس ثوباً حريراً وهي محرمة؟ قال لا ، ولها أن تلبسه في غير إحرامها (4) ، فإنه نصّ في جواز صلاتها فيه. وكلّ ما صحّ صلاتها فيه صحّ إحرامها فيه. ونمنع دلالته على منعها من الإحرام فيه ، فإن ( لا يصلح ) أعمّ من التحريم في كثير من الموارد.

وبعد الأخبار الجامعة بين المرخّصة والمانعة ، لا معنى للطرح والحمل على التقيّة.

ص: 249


1- في المخطوط : ( يختلفون ).
2- في المخطوط : ( حالهم ).
3- في المخطوط : ( يفيدهم ).
4- الكافي 4 : 346 / 8 ، وسائل الشيعة 12 : 368 - 369 ، أبواب الإحرام ، ب 34 ، ح 10.

وحمل الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) (1) والحرّ في وسائله الأخبار المرخّصة على ما إذا كان الحرير ممزوجاً. وهو ضعيف ؛ لعدم الدليل عليه.

والمرأة تلبس من الثياب ما شاءت ، وتلبس السراويل بدلالة الخبر المتقدّم ، وموثّقة الحلبيّ الناصّة على جواز لبسها السراويل ، وهي معلّلة إرادة الستر (2). وربّما قيل بمنعها من المخيط ، وهو شاذّ لا دليل عليه.

ولا يجوز الإحرام فيما لا تصحّ الصلاة فيه من مغصوب ، أو نجس بنجاسة لا يعفى عنها في الصلاة ، وجلد غير المأكول والميتة مطلقاً ، وشعر غير المأكول وصوفه ووبره وإن جاز استصحاب ذلك ؛ للاستصحاب والأصل وعدم المانع. ولا نعلم فيه مخالفاً. وكذا استصحاب الحرير المحض للرجل والمرأة ، إذا لم يكن شي ء منه ملبوساً.

ولبس ثوبي الإحرام واجب ؛ للتأسّي بالمعصوم عليه السلام ، وقوله خذوا عنّي مناسككم (3) ، ولفعله له في مقام البيان مع كونه عبادة ، فالأصل أن يكون للوجوب. ولخصوص صحيحة معاوية بن عمّار اغتسل والبس ثوبك (4) ، والأمر للوجوب. ولوجوب ستر العورة بالنسبة إلى الإزار. وليس لبسه شرطاً في صحّة الإحرام ولا جزءاً منه على الأشهر الأظهر ؛ لعدم ظهور ما يدلّ على ذلك من نصّ أو إجماع. والأصل عدم الجزئيّة والشرطيّة.

وممّا يشهد لذلك الأخبار المعلّقة تحريم ما يحرم على المحرم على النيّة والتلبيات الأربع من غير تعرّض لذكر لبسهما في ذلك. وممّا يستأنس له به أيضاً عدم ضرر نزعهما بعد الإحرام في الإحرام. ولو كان جزءاً أو شرطاً لضرّ في تحقّق

ص: 250


1- تهذيب الأحكام 5 : 75 / ذيل الحديث 246.
2- تهذيب الأحكام 5 : 76 / 252 ، وسائل الشيعة 12 : 499 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 50 ، ح 2.
3- مسند أحمد بن حنبل 3 : 318 ، وفيه : « خذوا مناسككم ».
4- الكافي 4 : 326 / 1 ، وسائل الشيعة 12 : 323 ، أبواب الإحرام ، ب 6 ، ح 4 ، وفيهما : « والبس ثوبيك ».

حقيقة الإحرام ؛ لأنه منافٍ للجزئيّة ؛ إذ لا يمكن بقاء الشي ء مع فقد جزئه ، ولا يمكن انفكاك المشروط عن شرطه ، فليس لبسهما بشرط في وجود حقيقة الإحرام ولا جزءاً منها ، وإلّا لما زايلها ولما تحقّقت مع فقده.

نعم ، لو أحرم في المخيط أو عرياناً أثم وصحّ إحرامه.

وممّا ينبّه عليه حمل المتأخّرين كلام الشيخ في ( النهاية ) (1) الذي ظاهره وجوب الإحرام من المسلخ ، وكلامه في بعض كتبه من جواز تأخير الإحرام للمريض عن الوقت ، على جواز تأخير نزع المخيط ، ولبس ثوبي الإحرام بدون النيّة والتلبية ، وحكمهم بأن من فعل ذلك فهو محرم وإن أخّر نزع المخيط ولبس ثوبي الإحرام.

ومن الأدلّة على عدم جزئيّة لبس الثوبين وعدم شرطيّته صحيحة معاوية بن عمّار وغير واحد عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجل أحرم وعليه قميصه ، فقال ينزعه ولا يشقّه (2) الخبر.

وصحيحة عبد الصمد بن بشير في الرجل الذي جاء يلبّي حتّى دخل المسجد وعليه قميصه ، فأفتاه أتباع أبي حنيفة بأن يشقّ قميصه ويخرجه من رجليه وعليه بدنة والحجّ من قابل.

إلى أن قال : فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام متى لبست قميصك؟ أبعد ما لبيّت ، أم قبل؟. قال : قبل أن أُلبّي. قال فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة ، وليس عليك الحجّ من قابل (3) الخبر.

والمعتبر فيهما : ما صدق عليه اسم الرداء والإزار عرفاً. وما لم يستر المنكبين ، وما سامت الصدر من القفا لا يقين في صدق اسم الرداء عليه عرفاً. وما لم يستر ما بين السرّة والركبة مع المقدّمتين لا يقين في صدق الإزار عليه عرفاً ، فلا يجزي

ص: 251


1- النهاية : 210 ، المبسوط 1 : 312.
2- تهذيب الأحكام 5 : 72 / 238 ، وسائل الشيعة 12 : 488 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 45 ، ح 2.
3- تهذيب الأحكام 5 : 72 / 239 ، وسائل الشيعة 12 : 488 - 489 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 45 ، ح 3.

منهما ما نقص عن ذلك.

والوضعيّات التي لم يتبيّن فيها حدّ معيّن من الشارع قد حكم فيها العرف ؛ لعدم جواز التكليف بما لا يطاق ، ولا تكليف إلّا بعد البيان.

وهل يجوز الاتّزار والارتداء بقطعة واحدة؟ وجهان : من عدم صدق الثوبين عرفاً ، ومن صحّة الصلاة فيما هو على تلك الحال. والجواز أظهر ، وتركه أحوط وأوْلى ، إلّا مع الضرورة لما هو كذلك مع عدم التمكّن من فصلهما ، كأن يكون معاراً ويمنع المالك من فصلهما.

ولا يشترط ملك عين ثوبي الإحرام ، بل يكفي ملك المنفعة ، ولو بالإباحة أو الإجارة أو الوصيّة أو الوقف وشبه ذلك ؛ للأصل السالم من المعارض. على أنا لا نعلم فيه خلافاً من الفرقة ، بل عمل سائر المسلمين في سائر الأعصار عليه ، فهو إجماع.

ويجوز عقد الإزار لا بخياطة قطعاً ؛ للأصل بلا معارض ، ودلالة بعض الأخبار عليه (1). ولا يجوز بخياطة يصدق عليه معها أنه مخيط عرفاً قطعاً. وهل يجوز بخياطة لا يصدق عليه بها أنه مخيط عرفاً؟ وجهان : من الأصل مع خروجه عن اسم المخيط عرفاً مع عدم الناقل عن الأصل من نصّ أو إجماع ، ومن صدق المخيط عليه في الجملة. والأظهر الأوّل ، وإن كان الأحوط اجتنابه. وأمّا الرداء فحكمه كذلك ؛ للأصل بلا معارض ، إلّا إن الأحوط ترك عقده على كلّ حال.

وذهب جماعة إلى تحريم عقد [ إزاره (2) ] ؛ استناداً إلى موثّقة سعيد الأعرج : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المحرم يعقد [ إزاره (3) ] في عنقه؟ قال عليه السلام لا (4).

وليس فيه مع ضعف سنده دلالة على المنع من عقده بغير الأزرار. ولعلّه أراد

ص: 252


1- الكافي 4 : 347 / 3 ، وسائل الشيعة 12 : 502 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 53 ، ح 2.
2- في المخطوط : ( موزره ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أزراره ).
4- الفقيه 2 : 221 / 1023 ، وسائل الشيعة 12 : 502 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 53 ، ح 1.

أزرار الطيلسان ، فإنه ورد النهي عن زرّ أزراره (1) ، أو الثوب المخيط (2) عند الاضطرار إلى لبسه.

وعلى كلّ حال ، فليس للرداء فيه ذكر بخصوصه. ولو أُريد ما لو كان للرداء أزرار شمل الإزار ، وهم لم يذكروه. والمراد : النهي عن اتّخاذ الأزرار وزرّها في كلّ ثوب يلبسه المحرم اختياراً أو اضطراراً ، كما يرشد له قول الصادق عليه السلام في صحيحة معاوية بن عمّار لا تلبس وأنت تريد الإحرام ثوباً تزرّه ، ولا تدرعه (3) الخبر.

وقوله عليه السلام في صحيحه أيضاً لا تلبس ثوباً له أزرار وأنت محرم إلّا أنْ تنكسه ، ولا ثوباً تدرعه (4) الخبر.

وعلى كلّ حال ، لا دليل على المنع من عقد الرداء بغير [ الأزرار (5) ] ولو بخياطة لا يعدّ بها مخيطاً عرفاً ، كالنفذتين والثلاث ، كما تدلّ عليه أخبار الطيلسان ، وستأتي إن شاء اللّه تعالى.

وفي ( الكافي ) عن القدّاح عن جعفر عليه السلام إنّ عليّاً عليه السلام كان لا يرى بأساً بعقد الثوب إذا قصر ، ثمّ يصلّي فيه وإن كان محرماً (6).

نعم ، دلّت هذه الأخبار على تحريم زرّ الرجل المحرم ثوبَه الاختياريّ والاضطراريّ. أمّا المرأة ، فيجوز لها زرّ ثوبها مطلقاً ؛ للأصل واستصحاب حالها قبل الإحرام ، ولخصوص صحيح يعقوب بن شعيب : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : المرأة تلبس القميص وتزرّه عليها ، وتلبس الحرير والخزّ والديباج؟ قال نعم ، لا بأس به (7) الخبر.

ص: 253


1- وسائل الشيعة 12 : 474 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 36.
2- وسائل الشيعة 12 : 473 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 35.
3- تهذيب الأحكام 5 : 69 / 227 ، وسائل الشيعة 12 : 473 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 35 ، ح 2.
4- الفقيه 2 : 218 / 998 ، وسائل الشيعة 12 : 473 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 35 ، ح 1.
5- في المخطوط : ( الإزار ).
6- الكافي 4 : 347 / 3 ، وسائل الشيعة 2 : 502 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 35 ، ح 2.
7- تهذيب الأحكام 5 : 74 / 246 ، وسائل الشيعة 12 : 366 ، أبواب الإحرام ، ب 33 ، ح 1.

وفي ( شرح المفاتيح ) للشيخ حسين : ( لا يجوز عقد الرداء ويجوز عقد الإزار. ويدلّ على الأوّل موثّقة سعيد الأعرج عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن المحرم يعقد إزاره في عنقه؟ قال لا (1). وظاهر النهي التحريم ، والمراد : الرداء ؛ لأنه الذي يعقد في العنق للمحرم.

وفي صحيح علي بن جعفر ، وخبره كما في ( المسائل ) (2) و ( قرب الإسناد ) (3) عن أخيه موسى عليه السلام قال المحرم لا يصلح له أنْ يعقد إزاره على رقبته ، ولكن يثنيه على عنقه ولا يعقده ) ، انتهى.

قلت : خبر الأعرج في ( الفقيه ) في نسخ ثلاث : ( أزراره ) وهو في هذا الكتاب ، وفي ثلاث نسخ من ( المدارك ) ( إزاره ) (4) ، وإطلاق الإزار على الرداء بعيد. وعلى تقديره لا يعارض الأصل ؛ لضعفه ومعارضته بما جاء في خبر القدّاح ، وتخصيصه بالرداء ضعيف جدّاً يأباه إطلاقه. وخبر علي بن جعفر لا يدلّ على أكثر من الكراهيّة ، بل في قوله عليه السلام لا يصلح إشعار بها ، فتأمّل.

ويجوز شدّ الإزار بالهميان ولو كان مخيطاً ؛ لأنه لا يعدّ لباساً ؛ لا شرعاً ولا عرفاً ، وللأصل ، ولاستصحاب حاله قبل الإحرام ، ولصحيحة يعقوب بن شعيب : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المحرم يصرّ الدراهم في ثوبه؟ قال نعم ، ويلبس المنطقة والهميان (5).

ولا فرق بين كونه مشدوداً أو لا ؛ لإطلاق هذه الصحيحة ، وللأصل. وإطلاق هذه الصحيحة جواز لبسه المنطقة.

والظاهر أنه مقيّد بما إذا كان فيها نفقته ، كما يدلّ عليه الصحيح عن عاصم بن حميد عن أبي بصير : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المحرم يشدّ على بطنه العمامة؟ قال لا.

ص: 254


1- الفقيه 2 : 221 / 1023 ، وسائل الشيعة 12 : 502 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 53 ، ح 1.
2- مسائل علي بن جعفر : 273 / 678 ، وسائل الشيعة 12 : 503 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 53 ، ح 5.
3- قرب الإسناد : 241 / 953 ، وسائل الشيعة 12 : 503 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 53 ، ح 5.
4- مدارك الأحكام 7 : 330.
5- الكافي 4 : 344 / 3 ، وسائل الشيعة 12 : 491 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 47 ، ح 1.

ثمّ قال كان أبي يقول : يشدّ على بطنه المنطقة التي فيها نفقته ؛ ليستوثق بها ، فإنها من تمام الحجّة (1) ، فإنها معلّلة ، وهو يدلّ على أن الوصف مناط الحكم. فمفهومه حينئذٍ حجّة قطعاً ، وإن كان الأصل يقتضي جواز شدّها مطلقاً ، خصوصاً إذا خلت من خياطة.

وفي ( شرح المفاتيح ) للشيخ حسين أنه جاء في النصّ والفتوى جواز أن يشدّ على المئزر العمامة ونحوها.

ويؤيّد تقييدها بما إذا كان فيها نفقته الخبر الناهي عن شدّ المئزر بتكّة وغيرها. فالظاهر الاقتصار على ما فيه نفقته ، وهو أحوط أيضاً. وظاهر هذا الحديث : النهي عن شدّ العمامة على البطن مطلقاً. والظاهر أنها مقيّدة بما إذا رفعها إلى صدره ، بدلالة صحيحة عمران الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال المحرم يشدّ على بطنه العمامة ، وإن شاء يعصبها على موضع إزاره ، ولا يرفعها إلى صدره (2).

ويمكن حمل الأُولى أيضاً على الكراهيّة ، والأصل يؤيّد الرخصة. وفي ترجيح الناقل عن الأصل على المقرّر له إشكال ما لم يعلم سبق المقرّر على الناقل. وأيضاً ، فمفاهيم الأخبار الدالّة على أن المحرم لا يلبس ثوباً يزرّه ولا يدرعه مؤيّدة لجواز شدّ العمامة والمنطقة والهميان على الوسط ، وشدّ الإزار بأحدها ما لم تبلغ الصدر ، فإنه محلّ الرداء ، مع دلالة هذا الخبر على المنع منه حينئذٍ.

وهل تجب النيّة في لبس الثوبين؟ وجهان. ومقتضى القول بشرطيّته وشطريّته ذلك ، والأحوط الأولى مراعاتها في لبسهما ، بل ومراعاته لبسهما في النُّسك المتشخّص بجميع مشخّصاته. وسيأتي بيانها إن شاء اللّه الرحمن المنّان.

تنبيه

دلّت القاعدة المسلّمة المشار لها في النصّ القائلة : إن كلّ ثوب يصلّي فيه المحرم يحرم فيه وكلّ ثوب لا تصحّ صلاته فيه لا يحرم فيه - [ على أُمور ينبغي

ص: 255


1- الكافي 4 : 343 / 2 ، وسائل الشيعة 12 : 491 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 47 ، ح 2.
2- الفقيه 2 : 221 / 1026 ، وسائل الشيعة 12 : 533 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 72 ، ح 1.

التنبيه عليها (1) ] :

منها : أنه لا تصحّ الصلاة في المغتصب ، والنجس بما لا يعفى عنه في ثوب المصلّي ، وما يحكي لون العورة إذا كان وحده إجماعاً أو حجمها عند جماعة (2) وهو الأقوى. كما مرّت الإشارة لجميع ذلك.

والمشهور عدم جواز الصلاة في فضلة غير مأكول اللحم إذا كان ملبوساً إجماعاً ، والنصوص (3) به متكثّرة. والمشهور تعدية الفساد إلى ما لصق بالثوب أو البدن من فضلة غير مأكول اللحم ولو لم يكن لباساً ، سواء كان محوكاً في الثوب ، أو مخيطاً فيه ، أو لاصقاً به خاصّة.

ولا تجوز الصلاة في حرير محض للرجال إجماعاً ، ولا للنساء في قول ضعيف (4). ولا تجوز الصلاة في الذهب إذا كان ملبوساً ولو كان جزءاً من الملبوس ولو خاتماً وكان طلاءً للرجال بالنصّ (5) والإجماع ، ولا تضرّ مصاحبته. فهل يصحّ الإحرام في ثوب ممّا ذكر ، أو يصحّ في شي ء دون آخر؟.

فنقول : اعلم أن المفهوم من عبارات الفقهاء أن مرادهم به أن كلّ ما تصحّ الصلاة في جنسه يصحّ الإحرام في جنسه. وقد صرّح بذلك المحقّق في ( النكت ) (6) وغير واحد (7) ، فنقول : أمّا (8) الإحرام في المغتصب فغير جائز بالنصّ (9) والإجماع على قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، وأمّا النجس بنجاسة لا يعفى عنها في الصلاة فلا نعرف في المنع من الإحرام فيه مخالفاً.

قال السيّد في ( المدارك ) : ( أمّا اعتبار الطهارة فيدلّ عليها مضافاً إلى مفهوم

ص: 256


1- في المخطوط : ( فينبغي التنبيه لأُمور ).
2- الذكرى 3 : 50 ، جامع المقاصد 2 : 95.
3- انظر وسائل الشيعة 4 : 355 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 7.
4- الفقيه 1 : 171 / ذيل الحديث 807.
5- وسائل الشيعة 4 : 412 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 30.
6- النهاية ونكتها 1 : 474.
7- مدارك الأحكام 7 : 274 - 275.
8- في المخطوط بعدها : ( عدم جواز ).
9- وسائل الشيعة 25 : 389 ، كتاب الغصب ، ب 5.

صحيحة حريز يعني : قوله عليه السلام كلّ ثوب تصلّي فيه فلا بأس أن تحرم فيه (1) ما رواه الكليني في الحسن عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن المحرم يقارن بين ثيابه وغيرها التي أحرم فيها؟ فقال لا بأس بذلك إذا كانت طاهرة (2).

وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن معاوية بن عمّار أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن المحرم تصيب ثيابه الجنابة؟ قال لا يلبسه حتّى يغسله وإحرامه تامّ (3).

ومقتضى الرواية عدم جواز لبس النجس حالة الإحرام مطلقاً. ويمكن حمله على ابتداء اللبس ؛ إذ من المستبعد وجوب الإزالة عن الثوب دون البدن. إلّا أن يقال بوجوب إزالتها عن البدن أيضاً للإحرام ، ولم أقف على مصرّح به ، والاحتياط يقتضي ذلك ) (4) ، انتهى.

وأقول : لا يخفى أن صحيحتي ابن عمّار إن دلّتا على وجوب طهارة ثوب المحرم دلّتا على وجوب طهارته من كلّ نجاسة وإن كانت ممّا يعفى عنها في الصلاة. وأمّا صحيحة حَرِيز فظاهرهم أنهم فهموا منها الجنس. وثوب القطن الساتر الحلال مثلاً تصحّ في جنسه الصلاة ، وبطلانها فيما كان متنجّساً إنما هو لأن مصاحبة المصلّي لنجاسة لا يعفى عنها في بدنه وثوبه مبطلة ، فالمانع عارض.

ولذا فرّق الشهيد (5) بين ما لا تتمّ فيه الصلاة ؛ كالتكّة النجسة وبين كونه ممّا لا يؤكل لحمه ، بأن الأوّل عارض وهذا ذاتيّ ، فيجوز الصلاة في الأوّل دون الثاني وإن كان جواز الأوّل لا يخلو من إشكال. فيحتمل خروج ثوب المحرم النجس عن مدلولها. ويحتمل دخوله في مفهومها بأن تقول : هذا ثوب لا تصحّ الصلاة فيه ولو

ص: 257


1- الفقيه 2 : 215 / 976 ، تهذيب الأحكام 5 : 66 / 212 ، وسائل الشيعة 12 : 359 ، أبواب الإحرام ، ب 27 ، ح 1.
2- الكافي 4 : 34 / 9 ، وسائل الشيعة 12 : 363 ، أبواب الإحرام ، ب 30 ، ح 2.
3- الفقيه 2 : 219 / 1006 ، وسائل الشيعة 12 : 476 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 37 ، ح 1.
4- مدارك الأحكام 7 : 275.
5- الذكرى 3 : 39 - 40 ( حجريّ ) ، بالمعنى.

بسبب العارض ، فلا يصحّ الإحرام فيه ، والتعميم للعارض هو ظاهرها. والأوّل أظهر ؛ لأن ظاهر الفتوى إرادة جنس الذات دون العارض ، ولو لا عدم ظهور المخالف في وجوب طهارة ثوب المحرم مع استفادته من صحيحتي ابن عمّار لأمكنت المناقشة في هذا الحكم.

لكن استثناء نجاسة يعفى عنها في الصلاة لا دليل عليه ، فالحقّ وجوب طهارتهما من كلّ نجاسة كما أطلقه في ( الدروس ) (1) و ( الوسيلة ) (2) وغيرهما (3) ؛ لأن الدلالة عليه ليست من فحوى صحيحة حَرِيز ، كما عرفت.

والظاهر عدم اختصاص الحكم بالابتداء ؛ لظاهر إطلاق النصّ (4) والفتوى. وليس بينه وبين جواز بقاء النجاسة على بدن المحرم تلازم ، فلا استبعاد في الفرق. على أن الاستبعاد يتلاشى بعد كون الأصل الجواز في نجاسة البدن بلا معارض ، وقيام الدليل على وجوب طهارة الثوب.

وأمّا جلد غير المأكول اللحم ممّا له نفس سائلة ، وشعره ، وصوفه ، ووبره ، وريشه ، فلا تصحّ الصلاة فيه إذا كان لباساً ولو خاتماً أو سيراً كالسوار بذاته ، فجنسه لا تصحّ فيه الصلاة ، ولا يجوز لبسه للمحرم ولو كان زائداً على ثوبيه إجماعاً في الكلّ ، وللنصّ (5) الصريح فيه في الصلاة ، وصحيحة حَرِيز المتقدّمة (6) في الإحرام.

أمّا لو لم يكن لباساً كالشعرات الملقاة على الجسد أو الثوب ، وكاللبن والمخاط واللعاب المتلطّخ به الجسد أو الثوب وشبهها ، فالمشهور بطلان الصلاة فيه. وليس لأنه لو كان على الثوب جاعلاً جنسه جنس ما لا تصحّ الصلاة فيه بالأصالة ، بل لأن

ص: 258


1- الدروس 1 : 344.
2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 163.
3- النهاية : 217.
4- الكافي 4 : 34 / 9 ، الفقيه 2 : 219 / 1006 ، وسائل الشيعة 12 : 363 ، أبواب الإحرام ، ب 30 ، ح 2 ، و 12 : 476 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 37 ، ح 1.
5- وسائل الشيعة 4 : 352 - 355 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 5 و 6 و 7.
6- الفقيه 2 : 215 / 976 ، تهذيب الأحكام 5 : 66 / 212 ، وسائل الشيعة 12 : 359 ، أبواب الإحرام ، ب 27 ، ح 1.

مصاحبته في الصلاة مبطلة ، فليس ثوب الإحرام إذا كان عليه شي ء منها من جنس ما لا تصحّ الصلاة فيه ؛ لعروض المانع من الصلاة. ولم يدلّ دليل من نصّ أو إجماع على المنع من الإحرام فيه حينئذٍ. والأصل واستصحاب حال المحرم قبل الإحرام ؛ [ يقتضيان (1) ] الجواز بلا معارض. ويؤكّده ما في صحاح الأخبار أن المحرمة تلبس المَسَك والمسكة. وفي ( القاموس ) : ( إنها الأسورة والخلاخيل من القرون والعاج ) (2).

وفي ( مجمع البحرين ) : ( المَسَك بالتحريك - : أسورة من ذبل أو عاج. والذبل : شي ء كالعاج ، ويقال : إنه قرن الأوعال ) (3).

وفي ( المصباح ) : ( المَسَك بفتحتين - : أسورة من ذبل أو عاج ) (4). وفيه : ( الذبل : شي ء كالعاج ، وقيل : إنه ظهر السلحفاة البحريّة ) (5) ، انتهى.

وفي ( القاموس ) : ( الذبل : جلد السلحفاة البحريّة أو البريّة ، أو عظام ظهر دابّة بحريّة ) (6).

ولكن هذا يشعر بجواز مصاحبته حال الصلاة ، ولعلّه حينئذٍ مخصوص بما إذا لم يكن من أجزاء غير مأكول اللحم حال الصلاة ، أمّا حال الإحرام فلا مانع منه.

وأمّا جلد الميتة مطلقاً فلا يجوز لبسه في الصلاة بذاته بالنصّ (7) والإجماع ، ولا الإحرام فيه بالإجماع ، ولأنه من جنس ما لا يصلّى فيه ، ولا مصاحبته في الصلاة مطلقاً. والأخبار به متكثّرة بلا معارض يعتدّ به ، ولم يقم دليل على عدم جواز مصاحبته للمحرم بأي وجه كان ، والأصل والاستصحاب [ يقتضيان (8) ] جوازه أيضاً.

ويجوز الصلاة في شعر الميتة ووبرها وصوفها وريشها مع الطهارة مطلقاً ؛ فيجوز الإحرام فيه ومعه مطلقاً. وكذلك جلد ما يؤكل لحمه تصحّ الصلاة فيه اختياراً ؛

ص: 259


1- في المخطوط : ( يقتضي ).
2- القاموس المحيط 3 : 465 المسك.
3- مجمع البحرين 5 : 288 مسك.
4- المصباح المنير : 573 مسك.
5- المصباح المنير : 206 ذبل.
6- القاموس المحيط 3 : 555 ذبل.
7- وسائل الشيعة 4 : 343 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 1.
8- في المخطوط : ( يقتضي ).

فيجوز الإحرام فيه اختياراً ولو كان ملبوساً ولو كان هو الساتر وحده.

أمّا الأوّل ؛ فللأخبار الكثيرة ، منها ما دلّ على جواز الصلاة في فرو الخزّ (1) ، وعليه الإجماع ونقله مستفيض ، والأخبار والفتاوى مطلقة ؛ فيعمّ ما لو كان وحده. وكذا الفتوى من القائلين بجواز الصلاة في فرو السنجاب والحواصل (2) ، وما دلّ عليه من الأخبار مطلقان ، بل إطلاق النصوص (3) والفتوى (4) المجمع عليه بصحّة الصلاة في جلد ما يؤكل لحمه تعمّ ما لو كان وحده. بل قال القاشانيّ في ( شرح المفاتيح ) : ( لا تأمّل في صحّة الستر في الأديم ممّا لا يعدّ ثوباً ).

ذكره في بحث وجوب ستر العورة في الصلاة ، وهو كما قال ؛ لعدم الدليل على حصر الساتر في الصلاة فيما خرج عنه ، وللأصل ، ولاستصحاب صحّة ستر العورة قبل الصلاة به.

فإذا تبيّن هذا قلنا : [ كلّ ما (5) ] تصحّ الصلاة في جنسه يصحّ الإحرام فيه ، فلا مجال للتوقّف في صحّة الإحرام فيه. هذا مع أن الأصل الإباحة.

وأمّا الذهب ، والمذهّب ، والثوب المحوك فيه ولو طلاءً ، فحرام لبسه على الرجل ولو كان مُحِلّاً ، وتبطل به الصلاة ، ولا تضرّ مصاحبته مطلقاً حتّى في الصلاة والإحرام ؛ للأصل وللأخبار الواردة بجواز شدّ الهميان والمنطقة فيها النفقة للمحرم (6). وهو يعمّ حتّى حالة كونه مصلّياً.

ولِمَا ورد أن المعصوم سلام اللّه عليه شدّ أضراسه بسيم من الذهب (7). ولم يرد أنه ينزعه حال الصلاة ولا حال الإحرام.

ص: 260


1- وسائل الشيعة 4 : 359 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 8.
2- النهاية : 97 ، المبسوط 1 : 82 - 83 ، منتهى المطلب 1 : 228.
3- وسائل الشيعة 4 : 345 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 2.
4- المبسوط 1 : 82 ، منتهى المطلب 1 : 230.
5- في المخطوط : ( كما ).
6- وسائل الشيعة 12 : 491 ، أبواب تروك الإحرام ، ب 47.
7- الكافي 6 : 482 - 483 / 3 ، وسائل الشيعة 4 : 416 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 31 ، ح 1.

وأمّا النساء فيجوز لبسه [ لهنّ (1) ] حال الصلاة مطلقاً وحال الإحرام إذا لم يفدهن زينة ، والحرير كالذهب في جميع ما ذكر.

نيّة الإحرام

فإذا لبس المحرم ثيابه وجب أن ينوي ما قصد له من النُّسُك : جنساً بأن يعيّن ما يحرم له من عمرة التمتّع أو الإفراد.

ووصفاً من أنها واجبة أو مندوبة.

والواجبة من أنها عمرة الإسلام أو قضاء العُمرة المفسدة أو في حجّ القضاء ، وبالالتزام بإجارة أو نذر أو شبهه.

ولا بدّ من العلم بواجباتها وقصد الإتيان بها في محالّها وأزمانها ، والكفّ عن كلّ ما يحرم على المحرم على الإجمال. ولا يشترط العلم بتفاصيل المحرّمات وإن كان أوْلى وأحوط. كلّ ذلك تقرّباً إلى اللّه بامتثال أمره ونهيه.

وليُدخلْ في مَنْوِيّه التلبيات الأربع الواجبة ؛ فإنها جزء من النُّسُك ينعقد بها الإحرام بمثابة التحريم من الصلاة ، فهما جزءان من العمل المنويّ.

ولا ينعقد الإحرام بالمتمتّع بها إلّا في شوّال ، وذي القعدة ، وذي الحجّة إلى وقت يمكنه فيه أداء مناسكها وإدراك الموقفين. والمفردة تصحّ في جميع السنة. وليس لما بين العمرتين حدّ لا تصحّ فيه الثانية على الأظهر. ولو نوى نوعاً وقصد الإحرام به ونطق بغيره لم يضرّ وإن كان عمداً خصوصاً مع التقيّة ، والأخبار (2) بأمر الشارع أن ينطق بالحجّ وينوي العُمرة كثيرة بلا معارض ، ولأن النيّة ليست هي الحروف المنطوق بها ، بل ولا الحروف المتصوّرة وإن حكت صورة حقيقة النيّة ، وهي التي روحها الأمر الباعث على العمل.

ص: 261


1- في المخطوط : ( لهم ).
2- انظر وسائل الشيعة 12 : 348 ، أبواب الإحرام ، ب 21.

ولا يصحّ الإحرام بنُسُكين معاً ، ولا على الترديد ؛ لعدم تشخّص المنويّ وتميّزه من كلّ وجه ، فيكون عامّاً بوجه فيتعذّر بروزه في خارج الزمان ، فيكون العمل الذي يأتي به غير المنويّ بحسب الحقيقة. والأدلّة على وجوب قصد العمل المتميّز المتشخّص من كلّ وجه في النيّة من الكتب الثلاثة أكثر من أن يحصرها فكري.

ولو نسي وشكّ بعد تيقّن الإحرام بماذا أحرم؟ فإن كان قد وجب عليه نُسُك معيّن صرفه إليه إن كان إحرامه في وقت يصحّ فيه الإحرام به ؛ عملاً بالظاهر.

وإن لا يكن في ذمّته نُسُك ، فإن كان في أشهر الحجّ تخيّر ، والأحوط الأوْلى أن يأتي بعمرة التمتّع وحجّه ما لم يكن قد تضيّق الوقت عن أدائهما تامّين ، وإلّا تخيّر بين الثلاثة ؛ لعدم الترجيح لا لمرجّح ، واستحالة نُسُكين في إحرام واحد ، والتكليف بما لا يطاق ، ووجوب التخلّص من كونه محرّماً.

فلو اختار أن يفعل واجبات المفردة مثلاً فالأحوط الأوْلى ألّا يعدل عنه إلّا إن كان من المفردة إلى المتمتّع بها ، بل لزومه حينئذٍ في غير ذلك غير بعيد.

ولو أحرم بما أحرم به فُلان لم يصحّ وإن ظنّ نُسُكه ظنا متاخماً للعلم ؛ لأنا نشترط معلوميّة المنويّ في الجملة وتشخّصه من كلّ وجه.

نعم ، لو كان المحرم معصوماً صحّ ذلك منه ؛ لعلمه اليقينيّ بما أحرم به زيد وتشخّصه عنده بكلّ وجه ، كما وقع لأمير المؤمنين مع النبيّ صلّى اللّه عليهما وآلهما المقدّسين فإن النبيّ صلى اللّه عليه وآله عالم بما يحرم به عليّ عليه السلام ، بل هو الآمر له به ؛ ولذا ساق عنه البدن. وعليّ عليه السلام عالم بما أحرم به النبيّ صلى اللّه عليه وآله ؛ لأنه باب علمه (1). وكذا لو أخبر الناسك المعصوم بنسك زيد صحّ الإحرام بما أحرم به ، لكنّه خارج فيهما عن فرض المسألة داخل في المعلوم المتشخّص.

ويستحب النطق بالنيّة ، بل سمّي النطق بها إحراماً وفرضاً للمنويّ في أخبار كثيرة مجازاً. والإحرام الشرعيّ حقيقة هو النيّة والتلبيات الأربع. وقد نطق بأن

ص: 262


1- الفقيه 2 : 153 / 665 ، وسائل الشيعة 11 : 231 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 2 ، ح 25.

الأوّل مجاز والثاني هو الحقيقة الأخبار ، وصرّح به الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) (1) ، والمحقّق في ( نكت النهاية ) (2) ، وغيرهما.

ويستحبّ أيضاً أن يشترط في إحرامه أن يحلّه حيث حبسه ، فيقول : اللّهمّ إني أُريد الإحرام بكذا ، فإن عرض لي عارض فحلّني حيث حبَستني بقدرتك التي قدّرت.

ونحو هذا من العبارات الواردة في هذا المعنى. وإنما ذكرت هذين المستحبّين بخصوصهما لسرّ لا يخفى على الفطن.

التلبيات الأربع

فإذا نوى النُّسك المتعيّن المتشخّص من كلّ وجه ، بأن يقصد الإحرام بالنُّسُك المتشخّص كما مرّ ، ويلبّي التلبيات الأربع التي يعقد بها الإحرام المتعيّن في النُّسُك المقصود وجوباً أو ندباً ، وبعد النيّة والتلبيات ينعقد الإحرام ، وتجب جميع واجباته وأركانه ؛ فتؤدّى بعنوان الوجوب.

فالنسُك المندوب لا ينوى فيه الندب إلّا حال النيّة والتلبيات ، وأمّا باقي أفعاله فتكون واجبة ، فتؤدّى بعنوان وصف الوجوب ، وذلك إجماع. ولا بدّ حال تلبيته من كونه مستحضراً لنيّة النُّسُك الذي يقصده ، فلا ينعقد بها الإحرام لو لبّى ساهياً أو ذاهلاً عمّا يعقده من الإحرام بالنُّسُك المعيّن ، أو نائماً أو سكرانَ أو مجبوراً على النطق بها من غير قصد للنّسُك.

فإذن لا بدّ من مقارنة النطق بالتلبيات الأربع للنيّة. نعم ، لا يجب مقارنتها للنطق بالنيّة ، وقراءة الدعاء الوارد حينئذٍ. والأخبار بما ذكرناه كثيرة (3).

والظاهر أن مراد من قال : ( لا يجب مقارنة النيّة للتلبيات ) ، النيّة الملفوظة ، لا

ص: 263


1- تهذيب الأحكام 5 : 83 / ذيل الحديث 276.
2- النهاية ونكتها 1 : 473.
3- انظر وسائل الشيعة 12 : 340 ، أبواب الإحرام ، ب 16.

المشيئة والعزم الخاصّ على العمل الخاصّ.

وصورة التلبيات أن يقول : ( لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبّيْكَ ). ووجوب التلبيات الأربع ثابت بالنصّ (1) والإجماع ، وأنها العاقدة للإحرام ، وبعدها تحرم محرّمات الإحرام لا قبلها. والأحوط أن يضمّ إليها : ( إن الحَمْدَ والنعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ ) ؛ خروجاً من خلاف العلماء.

ولا يجب الجهر بالتلبيات مطلقاً للنصّ (2) وللأصل السالم من المعارض ، ولا تجب الطهارة حال النيّة والتلبيات مطلقاً. والأخرس يعقد قلبه بعد النيّة بالتلبية ، ويشير بإصبعه إلى أنه عاقد نيّة إحرامه بالتلبيات ، وإن أمكنه تصوّر حروفها وجب. ومن لم يسمع أصلاً ، ولا سمع اللغة ، ولم يعلم ما يقول الناس أصلاً غير مكلّف ، بل حكمه حكم الطفل.

ويجب العربيّة في التلبيات الأربع ، ومن لم يستطعها وجب عليه التعلّم ، فإن ضاق الوقت لبّى بالترجمة ، ولا تسقط ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3).

ص: 264


1- وسائل الشيعة 12 : 374 ، أبواب الإحرام ، ب 36.
2- وسائل الشيعة 12 : 378 - 379 أبواب الإحرام ، ب 37 - 38.
3- البقرة : 286.

الفصل الثاني : في الطواف

الطواف في العمرتين واجب بالنصّ والإجماع ، وفيه أَبحاث :

الأوّل : إذا أتيت مكّة زادها اللّه شرفاً وأنت محرم ، فائتِ الكعبة وطف بها سبعة أشواط ، لا أقلّ ولا أكثر ولو خطوة ، بل ولا أقلّ منها. وهنا مسائل :

الأُولى : يجب البدأة بالحجر والختم به بالنصّ (1) والإجماع.

الثانية : يجب أن يكون البيت زاده اللّه تشريفاً وتعظيماً على يسارك في جميع الطواف بالنصّ (2) أيضاً والإجماع فتوًى (3) وعملاً من الأُمّة كالأوّل.

الثالثة : يجب إدخال حجر إسماعيل في الطواف بالنصّ (4) والإجماع كذلك.

الرابعة : يجب أن يكون الطواف بين البيت والمقام حيث هو الآن بالنصّ (5) : والإجماع أيضاً ، وهي معتبرة من جميع نواحيه بالنصّ (6) والإجماع.

وهل هي معتبرة من جهة الحجر من الشاذروان كالجهات الثلاث ، أم من حدّ الحجر؟ قولان يلتفتان إلى أن الحجر من البيت أم لا؟.

وعزي الأوّل إلى مشهور المتأخّرين ، بل عزي إلى الأكثر. ولكن قال خاتمة الحفّاظ الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ) : ( ما نسبه في ( الدروس ) (7) إلى المشهور من أن الحجر من الكعبة ، لا نعلم في كلام الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين

ص: 265


1- الكافي 4 : 419 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 357 ، أبواب الطواف ، ب 31 ، ح 3.
2- انظر : تذكرة الفقهاء 8 : 89 / المسألة : 456 ، مدارك الأحكام 8 : 128 ، رياض المسائل 4 : 261 ، عوالي اللآلي 4 : 215 / 73.
3- انظر : تذكرة الفقهاء 8 : 89 / المسألة : 456 ، مدارك الأحكام 8 : 128 ، رياض المسائل 4 : 261 ، عوالي اللآلي 4 : 215 / 73.
4- وسائل الشيعة 13 : 353 ، أبواب الطواف ، ب 30.
5- وسائل الشيعة 13 : 350 ، أبواب الطواف ، ب 28.
6- المصدر نفسه.
7- الدروس 1 : 394.

سوى ما ذكره علّامة ( المنتهى ) (1) ، وهو أعرف بما قال ) ، انتهى.

وهو كما قال ؛ فإن ما وقفنا عليه من عباراتهم سوى الشهيدين (2) إنما يذكرون وجوب الطواف بين البيت والمقام ، ووجوب استقبال الكعبة في الصلاة ، والأوّل أقوى.

لنا جميع ما دلّ على أن الكعبة القبلة ، وعليه إجماع المسلمين. والكعبة لا شكّ في خروج الحِجْر عنها ، وعدم صحّة الصلاة إليه وحده ، وعدم أحكام دخول الكعبة لمن دخله ، بل الضرورة قاضية بصدق من قال : لم أدخل الكعبة ، مع دخوله الحجر.

وظهور عدم شمول الأخبار (3) الدالّة على استحباب دخول الكعبة في حال وكراهيتها في حال لدخوله ، والأخبار الدالّة على أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله دخل الكعبة في وقت كذا ، ولم يدخلها في وقت كذا ظاهرة ، بل نصّ في خروج الحجر عنها.

وإطباق المؤرّخين المحدّدين لطول الكعبة وعرضها وعمقها على عدم إدخال الحجر فيه ، وتحديد الكعبة بالأركان التي هي بإزاء أركان البيت المعمور بل أركان العرش الأربعة ، وكون البيت مربّعاً بمثابة البيت المعمور بل بمثابة العرش كلّها ظاهرة في خروج الحجر عنها. بل يلزم عند التأمّل ألّا تكون للكعبة أربعة أركان لو قلنا بدخول الحجر فيها ، بل ركنان.

وهذا خلاف الضرورة الدينيّة ؛ إذ من اليقين الذي لا ينبغي الريب فيه أن الركن المسمّى بالشاميّ والركن المسمّى بالمغربيّ ، الموجودين الآن اللذين يستلمهما الطائف هما ركنا البيت. ولو كان الحجر منه لما كانا ركنية ، بل هما في وسطه. وهذا واضح الدلالة على خروج الحجر.

وكذا الروايات الناطقة بأنْ ليس فيه من الكعبة ولا قلامة ظفر ، وفيها الصحيح

ص: 266


1- منتهى المطلب 2 : 961.
2- الدروس 1 : 394 ، مسالك الأفهام 2 : 333 ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 249.
3- تهذيب الأحكام 5 : 278 / 948 ، وسائل الشيعة 13 : 273 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 35.

والموثّق القويّ وغيرهما.

ففي صحيح معاوية بن عمّار : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحجر ، أهو من البيت أو فيه شي ء من البيت؟ قال لا ، ولا قلامة ظفر ، ولكن إسماعيل دفن امّه فيه ، فكَرِهَ أن يوطأ فحجر عليه (1).

وعن ( العلل ) (2) في الحسن مثله ، كما نقله الشيخ في ( شرح المفاتيح ).

ومثله صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام (3).

وعن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال الحجر بيت إسماعيل وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل (4).

وعن ( مستطرفات السرائر ) في الصحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن الحجر قال إنكم تسمّونه الحطيم وإنما كان لغنم إسماعيل (5) الخبر.

وفي الموثّق القويّ عن يونس بن يعقوب قال : قلت للصادق عليه السلام : كنت أُصلّي في الحجر ، فقال لي رجل : لا تصلّ المكتوبة في هذا الموضع فإن الحجر من البيت ، فقال كذب ، صلِّ فيه حيث شئت (6).

وأيضاً الأخبار الدالّة على أن الحجر إنما حجّره إسماعيل عليه السلام لمّا دفن امّه لئلّا يوطأ أي للطائفين ، وإلّا فمطلق الوطء للداخل لا يمنعه التحجير. وهي كثيرة في الأربعة وغيرها ، نقلها ممّا يطول دالّة على أنه قبل ذلك محلّاً للطواف ، وأنه خارج عن الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام ؛ إذ لم يثبت جواز الطواف من جوف الكعبة في شريعة. وهذه الأدلّة كلّها لا معارض لها من نصّ أو إجماع.

ص: 267


1- الكافي 4 : 210 / 15 ، وسائل الشيعة 13 : 353 ، أبواب الطواف ، ب 30 ، ح 1.
2- علل الشرائع 1 : 52 / 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 469 / 1643 ، وسائل الشيعة 5 : 276 ، أبواب أحكام المساجد ، ب 54 ، ح 2.
4- الكافي 4 : 210 / 14 ، وسائل الشيعة 13 : 354 ، أبواب الطواف ، ب 30 ، ح 3.
5- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 562 ، وسائل الشيعة 13 : 355 ، أبواب الطواف ، ب 30 ، ح 10.
6- تهذيب الأحكام 5 : 474 / 1670 ، وسائل الشيعة 5 : 276 ، أبواب أحكام المساجد ، ب 54 ، ح 1.

ودعوى أن الحجر كان من الكعبة وإنما أخرجه قريش لمّا أعوزتهم الآلات في بنائها دعوى لم تصحّح ببرهان ، بل هي خلاف النصوص الصريحة. ولو كانت صحيحة لدلّ الشارع عليها ببيان ، بل لردّها الرسول صلى اللّه عليه وآله وأئمّة المسلمين إلى ما كان ، ولو كان تركهم للتقيّة لدلّوا على أنه كذلك ، وأن القائم عجّل اللّه فرجه سيردّها إلى ما بناه إبراهيم عليه السلام.

ولمّا لم يكن من أهل البيت عليهم السلام إشارة إلى هذه الدعوى بوجه ، بل دلّوا على خلافها علم بطلانها ، وحديث عائشة (1) أوهى من بيت العنكبوت ، مع أنه صرّح بأن منه ستّة أذرع من البيت خاصّة. فعليه يكون مبدأ مسافة المطاف منها لأمن آخر الحجر ؛ ولم يقل به أحد.

وأيضاً العصابة مجمعة على أنه يجب أن يكون الطواف خارج البيت كلّه وداخلاً عن المقام كلّه ، فلا يجوز الطواف خلف المقام من جميع نواحي البيت ، كما يدلّ عليه خبر محمّد بن مسلم : سألته عن حدّ الطواف بالبيت ، الذي من خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت قال كان الناس على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يطوفون بالبيت والمقام ، وأنتم اليوم تطوفون بين المقام وبين البيت ، فكان الحدّ موضع المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف ، والحدّ قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلّها ، فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك ، كان طائفاً بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ؛ لأنه طاف في غير حدّ ولا طواف له (2).

وظاهر العصابة الإطباق على العمل به ، إلّا ما ينقل عن ابن الجنيد (3) وظاهر الصدوق (4) من جواز الطواف خلف المقام للضرورة من شدّة زحام وشبهه. والظاهر

ص: 268


1- انظر : تذكرة الفقهاء 8 : 91 / المسألة : 458 ، المجموع شرح المهذّب 8 : 36.
2- الكافي 4 : 413 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 350 ، أبواب الطواف ، ب 28 ، ح 1.
3- عنه في مختلف الشيعة 4 : 200 / المسألة : 154 ، مدارك الأحكام 8 : 131.
4- عنه في مدارك الأحكام 8 : 131.

أنه منقطع ، وعمل الأُمّة في سائر الأعصار على خلافه ، فلا شبهة في وجوب كون الطائف يجب أن يكون أقرب إلى البيت من المقام في جميع طوافه.

وبهذا يظهر لك فساد ما قاله الشهيد الثاني في روضته في شرح قول الأوّل في بحث شرائط الطواف : ( والطواف بينه وبين المقام ). قال الشارح - : ( حيث هو الآن ، مراعياً لتلك النسبة من جميع الجهات ، فلو خرج عنها ولو قليلاً بطل ، وتحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه وإن جعلناه خارجاً من البيت ) (1) ، انتهى.

وفساده من وجهين :

الأوّل : أنه يستلزم الطواف خلف المقام ، إذ لا ريب أنه حينئذٍ يطوف في دائرة يزيد نصف قطرها على نصف قطر الدائرة التي يطوف فيها من الجهات الثلاث الأُخر ، بقدر ما بين الشاذروان إلى منتهى حائط الحجر. فإذا كانت الدائرة التي يطوف فيها من الجهات الثلاث يماسّ محيطها محيط المقام كما هو المتيقّن كان محيط الدائرة التي يطوف فيها من جهة الحجر لا يماسّ محيطها شيئاً من المقام بالضرورة. وعليك بتأمّل هذا الشكل تستعن به (2)تهذيب الأسماء واللغات 151:3.(3).

ص: 269


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 249.
2- لم يرد في المخطوط شكل ( جدول ) ، بل كان هناك مساحة ما يقارب خمسة أسطر ملئت بعبارة كتبت وبقلم مغاير لقلم المخطوط ، وبأسطر شذّت عن سطوره. ولمغايرة قلم هذه العبارة ارتأينا أن نضيفها إلى الهامش ، وإليك نصّ العبارة : ( اعلم أنه ذكر لي ثقة أمين أنه ذرع ما بين الصندوق الموضوع على حجر المقام وبين الشاذروان ، فكان ذرعُه خمسةً وعشرين ذراعاً شرعياً ونصف ذراز. وأنه ذرع ما بين الشاذروان إلى آخر جدار الحجر فكان عشرين ذراعاً. وقال الشيخ محمد ابن الشيخ حسن أبي محلّی ساكن الفرع من الحجاز في منسكه: إنه اعتبر الباقي بعد جدار الحجر من ذرع ما بين البيت والمقام ستة أذرع ونصف ذراع تقريباً، ولعلّه خمسة وعشرون ونصف، وغلط الناسخ، أو أن ما بين ظاهر الصندوق إلی نفس حجر المقام ذراع. ونقل الشيخ محمّد المذكور عن النووي في (تهذيب الأسماء واللغات)
3- أنه سبعة. ولعلّ النووي أدخل الشاذروان في السبعة، واللّه العالم).

الثاني : أن الحكم بوجوب مراعاة تلك النسبة من جميع الجهات كما هو المتّفق عليه يناقض القول باحتساب المسافة من خارج الحجر مع القول بخروجه عن البيت.

نعم ، لو قلنا بدخوله أمكن ذلك ، ولي فيه تأمّل أيضاً ، فلا تغفل.

وما لعلّه يُتوهّم في معنى عبارته أن قوله : ( وتحتسب المسافة ) إلى آخره ، بمنزلة المستثنى من قوله : ( مراعياً تلك النسبة من جميع الجهات ) ، فكأنه قال : يجب مراعاة قدر ما بين المقام والبيت من جميع الجهات إلّا من جهة الحجر ، فإنه لا يجب مراعاة ذلك القدر ، بل تجوز الزيادة عنه. ظهر فساده بما سمعت من النصّ (1) والإجماع على وجوب مراعاة تلك النسبة من أربع جهات ، فلا تغفل.

الخامسة : تجب فيه النيّة مقارنة لأوّله إجماعاً. وهو أن ينوي الطواف الواجب في العُمرة المتمتّع بها ، أو المفردة الواجبة في حجّ الإسلام وهي عمرة الإسلام ، أو بالنذر أو شبهه ، أو بالاستئجار نيابة عن فلان ، أو بالإفساد لعمرة أُخرى أو حجّ ، أو المندوبة قربة إلى اللّه ، أو امتثالاً لأمر اللّه أو طاعة لله.

ويجب استدامتها حكماً بألّا ينوي بحركته نيّة تخالفها أو ينام أو يغمى عليه أو يسكر أو يجنّ وما أشبه ذلك ، ويلحق به ما لو ذهل عن كونه حال حركته طائفاً بالكلّيّة ، بحيث يخرج به الذهول والفكر عن كونه طائفاً بالكلّيّة ، فإنه مبطل كالذي قبله.

السادسة : تجب الطهارة من الحدث في الطواف الواجب ، لا نعلم فيه مخالفاً. ودعوى الإجماع عليه مستفيضة ، والنصوص مستفيضة به.

منها : صحيحة معاوية بن عمّار : قال أبو عبد اللّه عليه السلام تقضى المناسك كلّها على غير

ص: 270


1- وسائل الشيعة 13 : 350 ، أبواب الطواف ، ب 28.

وضوء إلّا الطواف بالبيت ، والوضوء أفضل (1).

وصحيحة محمّد بن مسلم : سألت أحدهما عليهما السلام عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهر قال يتوضّأ ويعيد ، فإنْ كان تطوّعاً توضّأ وصلّى ركعتين (2).

وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته عن رجل طاف بالبيت وهو جنب ، فذكر وهو في الطواف قال يقطع طوافه ولا يعتدّ بشي ء ممّا طاف.

وسألته عن رجل طاف وهو على غير وضوء قال يقطع طوافه ولا يعتدّ به (3).

وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : سألته عن الرجل يطوف على غير وضوء ، أيعتد بذلك الطواف؟ قال لا (4).

وغيرها من الأخبار من غير معارض ، فإذن الحكم إجماعيّ.

وحكم المستحاضة مع فعلها ما يجب عليها للصلاة حكم الطاهر بلا خلاف يظهر ، وأخبار أسماء بنت عميس (5) دليل عليه بلا معارض ، فهو إجماع أيضاً ، وبدونه محدثة.

وتقوم الطهارة الترابيّة مقام المائيّة حال تعذّر المائيّة بلا خلاف يعرف ، وعموم أخبار بدليّة التراب عن الماء تشمله.

هذا بالنسبة إلى المستحاضة وذي البطن والسلس والريح ، الذين لا ينقطع حدثهم بقدر الطواف ، وتعذّرت عليهم الطهارة المائيّة على نحو يتيح لهم التيمّم

ص: 271


1- الفقيه 2 : 250 / 1201 ، وسائل الشيعة 13 : 374 ، أبواب الطواف ، ب 38 ، ح 1.
2- الكافي 4 : 420 / 3 ، تهذيب الأحكام 5 : 116 / 380 ، الإستبصار 2 : 222 / 764 ، وسائل الشيعة 3 : 374 ، أبواب الطواف ، ب 38 ، ح 3 ، باختلافٍ يسير.
3- الكافي 4 : 420 / 4 ، تهذيب الأحكام 5 : 117 / 381 ، الإستبصار 2 : 222 / 765 ، وسائل الشيعة 13 : 375 ، أبواب الطواف ، ب 38 ، ح 4 ، باختلاف.
4- الكافي 4 : 420 / 1 ، تهذيب الأحكام 5 : 116 / 378 ، الإستبصار 2 : 221 / 762 ، وسائل الشيعة 13 : 375 ، أبواب الطواف ، ب 38 ، ح 5.
5- الكافي 4 : 449 / 1 ، تهذيب الأحكام 5 : 399 / 1288 ، وسائل الشيعة 13 : 462 ، أبواب الطواف ، ب 91 ، ح 1.

للصلاة. هذا إن أمكن طوافهم ولو محمولين ، وإلّا وجبت الاستنابة ، ويعتبر ذلك حينئذٍ في النائب.

أمّا الحائض فلا يجوز لها دخول المسجد الحرام ولو متيمّمة فلا يصحّ طوافها. والأخبار به وبأنها تعدل إلى حجّ الإفراد لو لم تطهر في وقت يسعها بعد الطهر أفعال العُمرة مع إدراك الموقفين كثيرة (1) ، فلا بدّ لها من أن تطهر أوّلاً حتّى يباح لها التيمّم للطواف إذا تعذّرت المائيّة.

وأمّا الجنب فيصحّ منه الطواف بالترابيّة ؛ للعمومات ، ومن حيث اضطراره حينئذٍ ، وعدم ورود الرّخصة له بالعدول أو تأخير الطواف.

السابعة : يشترط في صحّة الطواف طهارة الثوب من النجاسة مطلقاً ، وإن عفي عنها في الصلاة على الأشهر الأظهر ؛ لعموم الدليل ، كخبر يونس بن يعقوب : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يرى في ثوبه الدم وهو في الطواف قال ينظر الموضع الذي فيه الدم فيعرفه ، ثمّ يخرج فيغسله ، ثمّ يعود فيتمّ طوافه (2).

وموثّقته : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رأيت في ثوبي شيئاً من دم وأنا أطوف ، فقال اعرف الموضع ، ثمّ اخرج فاغسله ، ثمّ عدّ وابنِ على طوافك (3).

وعمل المشهور يجبر ضعف السند.

والجمع بين هذه الرواية وما رواه الشيخ عن البزنطيّ عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : قلت له : رجل في ثوبه دم ممّا لا تجوز الصلاة في مثله فطاف في ثوبه ، فقال أجزأه الطواف فيه ، ثمّ ينزعه ويصلّي في ثوب طاهر (4).

بحمل هذه على من لم يعلم بالنجاسة حتّى فرغ من طوافه ، فإنه صحيح ؛

ص: 272


1- ستأتي في المسألة الثامنة عشرة انظر : ص 283 وما بعدها.
2- تهذيب الأحكام 5 : 126 / 415 ، وسائل الشيعة 13 : 399 ، أبواب الطواف ، ب 52 ، ح 2.
3- الفقيه 2 : 246 / 1183 ، وسائل الشيعة 13 : 399 ، أبواب الطواف ، ب 52 ، ح 1.
4- تهذيب الأحكام 5 : 126 / 416 ، وسائل الشيعة 13 : 399 ، أبواب الطواف ، ب 52 ، ح 3.

للامتثال ، ولأنه ممّن وضع عنهم ما لا يعلمون.

وظاهر الفتوى أن من لم يعلم بالنجاسة حتّى فرغ صحّ طوافه مطلقاً ، بل لا نعلم فيه مخالفاً ، بل ادّعى فيه الإجماع جماعة. وجاهل الحكم عامد على الأشهر الأظهر ؛ لعدم دليل على معذوريّته هنا ، والأصل عدم المعذوريّة.

وفي ( الدروس ) (1) ألحقَ الناسي بالعامد. والمشهور إلحاقه بالجاهل ، وهو غير بعيد ؛ لصدق الامتثال وتحقّق المعذوريّة في الجملة.

ولو قيل بالفرق بين ذكرانه في حال إمكان الإتيان به ، أو قبل التلبّس بنُسُك آخر وغيره كان وجهاً.

ومن علم بالنجاسة في الأثناء أزالها وبنى إن أكمل حينئذٍ أربعة أشواط مطلقاً وصحّ طوافه. وكذا يصحّ لو لم يستلزم إزالتُها قطعَه والإخلالَ بالموالاة مطلقاً. أمّا لو كان إزالتُها تستلزم ذلك وعلم قبل إكمال أربعة ، فهل يبني حينئذٍ على ما أتى به أو يعيد من رأس؟

قيل : إن المشهور الثاني ؛ نظراً لأدلّة وجوب الموالاة كالتأسّي وغيره ، خرج منه ما لو أكمل أربعة بدليل ، ولأن الفتوى والأخبار فصّلت في مواضع كثيرة من قواطع الطواف بين إكمال الأربعة فيبني وعدمه فيستأنف ، فكأنها قاعدة في قطع الطواف حصلت بالاستقراء وبهذا تخرج عن القياس.

وقال جماعة : يبني مطلقاً (2) ؛ نظراً إلى إطلاق الخبرين المذكورين (3) ، وصحيح حمّاد بن عثمان عن حبيب بن [ مظاهر (4) ] قال : ابتدأت في طواف الفريضة وطفت شوطاً ، فإذا إنسان قد أصاب أنفي فأدماه ، فخرجت فغسلته ، ثمّ جئت فابتدأت الطواف ، فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه عليه السلام ، فقال بئس ما صنعت ، كان ينبغي لك أنْ تبنى

ص: 273


1- الدروس 1 : 404.
2- مدارك الأحكام 8 : 145 - 146.
3- هما قويّة منصور بن حازم : في الكافي 4 : 421 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 129 / 426 ، وخبره : في الكافي 5 : 129 / 427.
4- من المصدر ، وفي المخطوط ( ظاهر ).

على ما طفت ، أما إنه ليس عليك شي ء (1).

ونظراً إلى صدق الامتثال بما مضى ، وهذا أقوى من الأوّل.

بل ظاهر ( المدارك ) (2) وغير واحد : أنه المشهور ، ولم ينسبوا الخلاف بالتفصيل إلّا إلى الشهيدين (3).

وهذه الأخبار مقيّدة لما ربّما يقال : إن القاعدة المستفادة من استقراء أحكام قطع الطواف الفرق بين ما إذا كان بعد إكمال أربعة فيبني ، أو قبله فيعيد. فصحّة البناء هنا مطلقاً خرج وثبت بهذا الدليل. وربّما قيل بالإعادة مطلقاً ، وهو شاذّ نادر ضعيف جدّاً.

الثامنة : يشترط في صحّة الطواف مطلقاً الستر للعورة التي يجب سترها في الصلاة ، فقد استفاضت الأخبار بأن أمير المؤمنين عليه السلام أذّن في الموسم لمّا بعثه النبيّ صلى اللّه عليه وآله بآيات البراءة إلّا يطوف بهذا البيت عريان.

منها : ما نقله الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ) عن العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بعث عليّاً عليه السلام بسورة براءة فوافى الموسم ، فبلّغ عن اللّه وعن رسوله بالمزدلفة ويوم النحر عند الجمار وفي أيّام التشريق الخبر.

إلى أن قال ولا يطوفنّ بالبيت عريان (4).

ومنه : عن البقباق عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال فيه فلمّا قدم عليّ عليه السلام ، وكان يوم النحر بعد الظهر وهو يوم الحجّ الأكبر.

إلى أن قال وقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان (5) الخبر.

ص: 274


1- الفقيه 2 : 247 / 1188 ، وسائل الشيعة 3 : 379 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 2.
2- مدارك الأحكام 8 : 145 - 146.
3- الدروس 1 : 404 - 405 ، مسالك الأفهام 2 : 339 - 340.
4- تفسير العيّاشيّ 2 : 80 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 400 / 401 ، أبواب الإحرام ، ب 53 ، ح 3.
5- وسائل الشيعة 13 : 401 ، أبواب الإحرام ، ب 53 ، ح 4.

ومنه : عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال خطب علي عليه السلام الناس ، واخترط سيفه وقال : لا يطوفن بالبيت عريان (1).

ومنه : عن أبي الصباح عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، نحوه (2).

ومنه : عن حكيم بن الحسين عن علي بن الحسين عليهما السلام أن عليّاً عليه السلام نادى في الموقف : ألا لا يطوفنّ بالبيت عريان ولا عريانة (3).

ومنه : في حديث آخر لمحمّد بن مسلم أن عليّاً عليه السلام قال لا يطوفنّ بالبيت عريان (4).

ومن القمّي عن محمّد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام قال قال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمرني عن اللّه ألّا يطوف بالبيت عريان (5).

واشتهر بين الأُمّة عن ابن عبّاس وهو في ( العلل ) مسند أن النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لا يطوفنّ بالبيت عريان (6).

وإرساله وضعف سنده لا يضرّ ، مع اشتهار روايته واشتهار العمل بمضمونه ، وتأيّده بالأخبار ونقل أهل السير والتواريخ المتعرّضين لذكر قصّة براءة (7) ، فلا ريب في استفاضة نهي النبيّ صلى اللّه عليه وآله عن أن يطوف عريان.

هذا كلّه ، مضافاً إلى التأسّي بفعل الشارع ، مضافاً أيضاً إلى قوله صلى اللّه عليه وآله خذوا عنّي مناسككم (8) مع أنه طاف بستر في مقام البيان. وأيضاً في وجوب لبس الإزار على المحرم أيضاً استئناس لذلك ، بل إشعار ، فتفطّن.

ص: 275


1- تفسير العيّاشيّ 2 : 80 / 7 ، وسائل الشيعة 13 : 401 أبواب الإحرام ، ب 53 ، ح 5.
2- تفسير العيّاشيّ 2 : 81 / 8 ، وسائل الشيعة 13 : 401 ، أبواب الطواف ، ب 53 / ذيل الحديث 5.
3- تفسير العيّاشيّ 2 : 81 / 12 ، وسائل الشيعة 13 : 401 ، أبواب الإحرام ، ب 53 ، ح 6 ، باختلاف فيهما.
4- تفسير العيّاشيّ 2 : 80 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 402 ، أبواب الإحرام ، ب 53 ، ح 7.
5- تفسير القمّي 1 : 309.
6- علل الشرائع 1 : 224 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 400 ، أبواب الطواف ، ب 53 ، ح 1.
7- تفسير القمّي 1 : 309.
8- مسند أحمد بن حنبل 3 : 318.

فلم يبقَ بعد هذا شبهة في وجوب الستر للطواف وشرطيّته في صحّته ، فإن النهي في العبادة يقتضي الفساد ، فليس للتوقّف فيه وجه.

التاسعة : الختان شرط في صحّة طواف الرجل دون المرأة ، كما قطع به أكثر الأصحاب ، وعن ظاهر ( المنتهى ) (1) أنه موضع وفاق.

وفي كلام جماعة أنه إجماع.

والنصوص به مستفيضة ، منها : صحيحة حَرِيز (2) ، وإبراهيم بن عمرو (3) عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال لا بأس أنْ تطوف المرأة غير مخفوضة ، وأمّا الرجل فلا يطوف إلّا وهو مختون.

وصحيحة معاوية بن عمّار عنه عليه السلام أنه قال الأغلف لا يطوف بالبيت ، ولا بأس أنْ تطوف المرأة (4).

وصحيحة إبراهيم بن ميمون عنه عليه السلام : في الرجل يسلم فيريد أن يحجّ وقد حضر الحجّ ، أيحجّ أم يختتن؟ قال لا يحجّ حتّى يختتن (5).

وحسنة حَرِيز عنه عليه السلام قال لا بأس أنْ تطوف المرأة غير مخفوضة ، وأمّا الرجل فلا يطوف إلّا وهو مختتن (6).

وموثّقة حَنَان بن سَدِير : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن نصرانيّ أسلم وحضر الحجّ ولم يكن اختتن ، أيحجّ قبل أن يختتن؟ قال لا ، ولكن يبدأ بالسنّة (7).

ص: 276


1- منتهى المطلب 2 : 690 ( حجريّ ).
2- الكافي 4 : 281 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 377 ، أبواب الطواف ، ب 39 ، ح 1 ، بتفاوتٍ يسير.
3- الفقيه 2 : 250 / 1205 ، وسائل الشيعة 13 : 271 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 33 / ذيل الحديث 3 ، بتفاوتٍ يسير.
4- تهذيب الأحكام 5 : 126 / 413 ، وسائل الشيعة 13 : 270 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 33 ، ح 1.
5- الكافي 4 : 281 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 270 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 33 ، ح 1.
6- الفقيه 2 : 251 / 1206 ، وسائل الشيعة 13 : 271 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 3.
7- وسائل الشيعة 13 : 271 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 33 ، ح 4.

والنهي في العبادة يقتضي الفساد ، والعبادات كيفيّات [ متلقّيَات (1) ] من الشارع ، ولم نظفر بدليل يدلّ على تخصيص ذلك بحال السعة. وإطلاق قوله تعالى : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (2) وقوله عزّ اسمه ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (3) لا ينافي ذلك حتّى يجمع بين الآيات والأخبار بالحمل على السعة ، بل هو جمع بلا دليل.

وأي فرق في الأمر بالحجّ والطواف بين شرطيّة الطهارة والستر وغيرها وبين شرطيّة الختان؟ فإذن القول بعدم شرطيّته حال الضرورة ضعيف ، لا دليل عليه.

وهل يشمل الحكم بالشرطيّة غير البالغ من الذكور؟ الظاهر ذلك ؛ لظاهر صحيحة ابن عمّار (4) المذكورة. وحينئذٍ يجب أن يطوف عنه وليّه إذا أحرم به أو يختنه.

وفي الخنثى المشكل إشكال ، أقربه عدم الشرطيّة ؛ للأصل ، وخروجها عن اسم الرجل عرفاً ، وتبادر إطلاق الأغلف على الذكر الصريح. والأحوط الأوْلى إلحاقها بالرجل.

العاشرة : قال في ( المدارك ) : ( قال في ( التذكرة ) : ( لو شكّ في الطهارة : فإن كان في أثناء الطواف تطهّر واستأنف ؛ لأنه شكّ في العبادة قبل فراغها فيعيد كالصلاة. ولو شكّ بعد الفراغ لم يستأنف ) (5). هذا كلامه ، وهو غير جيّد ولا مطابق للأُصول المقرّرة.

والحقّ أن الشكّ في الطهارة إن كان بعد تيقّن الحدث وجب عليه الإعادة مطلقاً ؛ للحكم بكونه محدثاً شرعاً ، وإن كان الشكّ في الطهارة بمعنى الشكّ في بقائها للشكّ في وقوع الحدث بعد تيقّن الطهارة لم تجب عليه كذلك ؛ لكونه متطهّراً

ص: 277


1- في المخطوط : ( متلقّاة ).
2- الحجّ : 29.
3- آل عمران : 97.
4- تهذيب الأحكام 5 : 126 / 413 ، وسائل الشيعة 13 : 270 ، أبواب مقدّمات الطواف ، ب 33 ، ح 1.
5- تذكرة الفقهاء 8 : 113 / المسألة : 476.

شرعاً ) (1) ، انتهى.

قلت : هذه عبارة ( التحرير ) (2) أيضاً ، ومعنى عبارة العلّامة أن من شكّ في أنه تطهّر أم لا ، بعد تيقّن سبق الحدث وهو في الأثناء ، تطهّر وأعاد ؛ لأنه حينئذٍ محدث شرعاً ، ولأن الأصل عدم الطهارة حينئذٍ. وإن كان لم يعرض له الشكّ إلّا بعد فراغه صحّ ، بناءً على ظاهر الحالّ وإلّا لزم الحرج ؛ إذ لا فرق بين طول الزمان بعد الطواف وقصره ، فلو حكم حينئذٍ بالبطلان لزم العسر والحرج لأكثر الناسكين ، وليس في هذا مخالفة لقواعد الفقه وأُصوله.

هذا وقد اشتهر حديث الطواف بالبيت صلاة (3) ، والصلاة بُنِيَ أكثر أحكامها على الظاهر ، كما في الشكوك وغيرها دون الأصل ؛ دفعاً للحرج والعسر ، فكيف بالطواف المكلّف به أهل البلاد البعيدة ، مَنْ لا يجد إلّا استطاعة واحدة؟ فظهر جودة كلام العلّامة ومطابقته للقواعد الشرعيّة ، فتأمّله.

ونظير المسألة الشكّ في عدد الطواف ، وما قاله السيّد جيّد إذا كان الشكّ واقعاً في أثناء الطواف.

الحادية عشرة : من أحدث في أثناء الطواف الواجب قطعه وتطهّر ؛ لما دلّ على شرطيّة الطهارة فيه ، فإن كان حدثه قبل إكمال أربعة أشواط أعاده بعد الطهارة من أوّله ؛ لأصالة شغل الذمّة بيقين وقاعدة وجوب توالي أربعة أشواط. وإن كان بعد إكمال أربعة أشواط تطهّر وبنى على ما مضى ؛ بمقتضى القاعدة المشار لها ولصدق الامتثال ، ولخصوص ما رواه الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) عن موسى بن القاسم عن النخعيّ عن ابن أبي عمير عن جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يحدث في طواف الفريضة وقد طاف بعضه قال يخرج ويتوضّأ ، فإنْ كان جاز النصف

ص: 278


1- مدارك الأحكام 8 : 141.
2- تحرير الأحكام 1 : 99 ( حجريّ ).
3- عوالي اللآلي 2 : 167 / 3 ، سنن الدارمي 2 : 44.

بنى على طوافه ، وإن كان أقلّ من النصف أعاد الطواف (1).

وليس لها معارض ، بل ظاهر الفتوى عليها.

الثانية عشرة : تجب سبعة أشواط تامّة لا تنقص ولا تزيد ، كلّ شوط من الحَجَر إلى الحَجَر ، فلو نوى الزيادة أو النقصان ولو في الأثناء بطل ؛ إذ لا يعارض يقين شغل الذمّة اليقيني إلّا مثله ، ولأنه لم يأتِ عن الشارع ، بل هو خلاف عمل الشارع. وقوله : ( العبادة كيفيّة متلقّاة ) ، ويحتمل الصحّة في الجملة إن نوى الزيادة في الأثناء ؛ لخروجها عن المنويّ ، وهو ضعيف جدّاً ، بل لا يبعد سقوطه.

الثالثة عشرة : تجب الموالاة في الأشواط السبعة كما هو ظاهر النصّ (2) والفتوى ، فمن نقص من طوافه عمداً أو سهواً رجع وأتمّ ما بقي إن كان قد أتى بأربعة متوالية ، وإلّا أعاد من رأس سواء كان عامداً أو ساهياً ، كما هو ظاهر الفتوى.

وفي مختصر السيّد عليّ من شرحه على ( النافع ) : ( قد أخرجنا متمسّك هذا الحكم في ( الشرح ) (3) ) (4) ، انتهى.

وقد نبّهناك على أن هذه قاعدة مأخذها استقراء أحكام قطع الطواف لمرض ، أو حضور صلاة ، أو حاجة مؤمن ، أو عروض حدث ، أو غير ذلك. خرج منها ما خرج بدليل ، وبقي الباقي على مقتضى القاعدة.

الرابعة عشرة : لا يجوز تعمّد قطع الطواف الواجب في غير ما رخّص فيه الدليل ؛ لظاهر الكتاب والنصّ (5) والإجماع ، فلو فعل أتمّ وأعاد ؛ إمّا ما بقي أو من رأس ، بحسب الدليل ، وستعرف مواضعها في خلال الكتاب إن شاء اللّه تعالى.

الخامسة عشرة : من اختصر شوطاً في الحجر بأن سلك من باطنه ، بطل شوطه

ص: 279


1- تهذيب الأحكام 5 : 118 / 384 ، وسائل الشيعة 13 : 378 ، أبواب الطواف ، ب 40 ، ح 1.
2- انظر وسائل الشيعة 13 : 378 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، و: 386 ، أبواب الطواف ، ب 45.
3- رياض المسائل 4 : 283. بتفاوتٍ يسير.
4- الشرح الصغير 1 : 424.
5- وسائل الشيعة 13 : 378 ، أبواب الطواف ، ب 41.

بالنصّ والإجماع. وهل يبطل الطواف كلّه فتجب الإعادة من رأس ، أو يعيد ما اختصر من طوافه خاصّة ، أو يعيد من رأس إن كان الاختصار قبل إكمال أربعة أشواط ، وما اختصر خاصّة إن كان بعده؟ الأظهر الأشهر الثاني.

ويدلّ عليه ما رواه في ( تهذيب الأحكام ) في الصحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : رجل طاف بالبيت واختصر شوطاً واحداً في الحَجر قال يعيد ذلك الشوط (1).

وفي ( الفقيه ) : روى ابن مسكان عن الحلبيّ قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحِجر ، كيف يصنع؟ قال يعيد الطواف الواحد (2).

وفي ( شرح المفاتيح ) للشيخ حسين ، نقلاً من ( مستطرفات السرائر ) (3) في الصحيح عن الحلبيّ عنه عليه السلام ، مثل ما في ( الفقيه ).

وفي ( الكافي ) في الصحيح عن حفص بن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في الرجل يطوف بالبيت فيختصر في الحجر قال يقضي ما اختصر من طوافه (4).

وعلى هذا ، فما ورد في المسألة من إطلاق الأمر بالإعادة مقيّد مبيّن بهذه الأخبار أو محمول على من اختصر السبعة ، فإنه يعيدها إجماعاً ، فلا يطرح خبر بل يحصل العمل بجميعها. ولو قلنا بإعادة الطواف من رأس لزم طرح هذه الصحاح الصراح.

ومنه يظهر ضعف القول بالتفصيل بين ما لو كان الاختصار قبل إكمال أربعة فيعيد من رأس ، وما لو كان بعد إكمالها فيعيد ما اختصره خاصّة ؛ إذ لا دليل عليه في هذا

ص: 280


1- تهذيب الأحكام 5 : 109 / 353 ، وسائل الشيعة 13 : 356 ، أبواب الطواف ، ب 31 ، ح 1.
2- الفقيه 2 : 249 / 1197 ، وسائل الشيعة 13 : 356 ، أبواب الطواف ، ب 31 / ذيل الحديث 1.
3- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 561 ، وسائل الشيعة 13 : 356 ، أبواب الطواف ، ب 31 / ذيل الحديث 1.
4- الكافي 4 : 419 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 356 ، أبواب الطواف ، ب 31 ، ح 2.

المقام إلّا القاعدة المشار لها ، وعلى تقديرها فالدليل هنا مخرج عنها ، ولا مقاومة بين هذه الأخبار ، وبين قاعدة مستنبطة من الاستقراء.

السادسة عشرة : لا يجوز قطع الطواف الواجب لدخول البيت ؛ لظاهر الكتاب والسنّة ، فلو قطع طوافه لدخول البيت فإن كان قبل كمال أربعة أشواط أعاد من رأس ، لا نعلم فيه مخالفاً ، وإن كان بعده ، فالمشهور أنه يبني على ما مضى ويكمله. وقيل : يعيد من رأس ، واستوجهه السيّد في ( المدارك ) (1) ، وهو قويّ.

والذي يدلّ على تحريمه لذلك ، وعلى إعادته أجمع إن قطعه قبل إكمال أربعة ، صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن رجل طاف بالبيت ثلاثة أشواط ، ثمّ وجد من البيت خلوة فدخله ، كيف يصنع؟ قال يعيد طوافه ، وخالف السنّة (2).

وخبر ابن مُسْكَان قال : حدّثني من سأله عليه السلام عن رجل طاف بالبيت طواف الفريضة ثلاثة أشواط ، ثمّ وجد خلوة من البيت فدخله قال يقضي طوافه ، وخالف السنّة ، فليعد (3).

وصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام : فيمن كان يطوف بالبيت فعرض له دخول الكعبة فدخلها قال يستقبل طوافه (4).

ويدلّ بإطلاقها على عموم الإعادة ولو كان دخوله بعد الأربعة ، ولا معارض لها فيما ظهر.

هذا ، والإجماع على وجوب الموالاة المعتضد بالتأسّي ، ويقين شغل الذمّة بيقين [ يقتضيان (5) ] وجوب الإعادة حينئذٍ من رأس مطلقاً ، واللّه العالم.

ص: 281


1- مدارك الأحكام 8 : 150.
2- تهذيب الأحكام 5 : 118 / 386 ، وسائل الشيعة 13 : 379 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 3.
3- تهذيب الأحكام 5 : 118 / 387 ، وسائل الشيعة 13 : 379 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 4 ، وفيهما : « نقض طوافه » ، إلّا إنه في هامش وسائل الشيعة إشارة إلى أنه في نسخة من وسائل الشيعة : « يقضي ».
4- الفقيه 2 : 247 / 1187 ، وسائل الشيعة 13 : 378 - 379 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 1.
5- في المخطوط : ( يقضي ).

السابعة عشرة : يجوز قطع الطواف عند عروض حاجة للطائف يخاف فوتها ، أو عروض قضاء حاجة مؤمن مطلقاً ، لا يظهر لي فيه مخالف. فإن قطعه حينئذٍ قبل إكمال الأربعة أعاده من رأس ، وإن كان بعدها بنى على ما مضى وأكمله ، كما هو ظاهر الفتوى. ويدلّ على هذا كلّه أخبار كثيرة.

فأمّا ما يدلّ على أنه إذا لم يتمّ أربعة أشواط يعيدهُ من رأس فصحيح أبان بن تَغْلِب عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في رجل طاف شوطاً أو شوطين ، ثمّ خرج مع رجل في حاجته قال إنْ كان طواف نافلة بنى عليه وإن كان طواف فريضة لم يبنِ (1).

وظاهر خبر جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام : في الرجل يطوف ثمّ تعرض له الحاجة قال لا بأس أنْ يذهب في حاجته أو حاجة غيره ويقطع الطواف ، وإن أراد أنْ يستريح ويقعد فلا بأس بذلك ، فإذا رجع بنى على طوافه ، فإنْ كان نافلة بنى على الشوط والشوطين ، وإن كان طواف فريضة ثمّ خرج في حاجة مع رجل لم يبنِ ، ولا في حاجة نفسه (2).

وعلى هذا ظاهر الفتوى. فما ظاهره من الأخبار أنه يبني مطلقاً إذا خرج في حاجة له أو لغيره محمول على طواف النافلة دون الفريضة.

وأمّا إنه إذا كان بعد إكمال أربعة يبني على ما مضى ، فيدلّ عليه خبر أبي عزة قال : مرّ بي أبو عبد اللّه عليه السلام وأنا في الشوط الخامس من الطواف ، فقال لي انطلق حتّى نعود هاهنا رجلاً.

فقلت : أنا في خمسة أشواط من أُسبوعي ، فأُتمّ أُسبوعي؟ قال اقطعه واحفظه من حيث تقطعه ، حتّى تعود إلى الموضع الذي قطعت منه فتبني عليه (3).

وخبر أبي الفرج قال : طفت مع أبي عبد اللّه عليه السلام خمسة أشواط ، ثمّ قلت : إني

ص: 282


1- الكافي 4 : 413 / 1 ، تهذيب الأحكام 5 : 119 / 388 ، الإستبصار 2 : 223 / 770 ، وسائل الشيعة 13 : 380 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 5.
2- تهذيب الأحكام 5 : 120 / 394 ، الإستبصار 2 : 224 / 774 ، وسائل الشيعة 13 : 381 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 8.
3- الكافي 4 : 414 / 6 ، وسائل الشيعة 13 : 382 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 10.

أُريد أن أعود مريضاً ، فقال احفظ مكانك ثمّ اذهب فعده ، ثمّ ارجع فأتمّ طوافك (1).

وأمّا أصل جواز القطع لذلك ، فيدلّ عليه خبر أبي أحمد قال : كنت مع أبي عبد اللّه عليه السلام يده في يدي أو يدي في يده إذ عرض لي رجل له حاجة فأومأت إليه بيدي فقلت له : كما أنت حتّى أفرغ من طوافي ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام ما هذا؟. فقلت : أصلحك اللّه ، رجل جاءني في حاجة ، فقال أمسلم هو؟. قلت : نعم قال اذهب معه في حاجته. قلت : أصلحك اللّه ، وأقطع الطواف؟ قال نعم ، قلت : وإن كان في المفروض؟ قال نعم وإن كنت في المفروض.

قال : وقال أبو عبد اللّه عليه السلام من مشى مع أخيه المسلم في حاجته ، كتب اللّه له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيّئة ، ورفع له ألف ألف درجة (2).

وخبر أبان بن تَغْلِب قال : كنت مع أبي عبد اللّه عليه السلام في الطواف ، فجاءني رجل من إخواني فسألني أن أمشي معه في حاجته ، ففطن لي أبو عبد اللّه عليه السلام ، فقال يا أبان ، من هذا الرجل؟. فقلت : رجل من مواليك سألني أن أذهب معه في حاجته ، فقال يا أبان ، اقطع طوافك وانطلق معه في حاجته فاقضها له.

قلت : وإن كان في فريضة؟ قال نعم وإن كان [ طواف (3) ] فريضة. فقال يا أبان ، ما ثواب من طاف بهذا البيت أُسبوعاً؟. فقلت : لا واللّه ما أدري قال تكتب له ستّة آلاف حسنة ، وتمحى عنه ستّة آلاف سيّئة ، وترفع له ستّة آلاف درجة قال : وروى إسحاق بن عمّار وتقضى له ستّة آلاف حاجة ولقضاء حاجة عبد مؤمن خير من طواف وطواف حتّى عدّ عشرة أسابيع ، فقلت : جعلت فداك أفريضة أم نافلة؟ فقال يا أبان ، إنما يسأل اللّه العباد عن الفرائض لا عن النوافل (4).

ص: 283


1- تهذيب الأحكام 5 : 119 / 388 ، الإستبصار 2 : 223 / 770 ، وسائل الشيعة 13 : 380 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 6.
2- الكافي 4 : 414 / 7 ، وسائل الشيعة 13 : 383 ، أبواب الطواف ، ب 42 ، ح 3.
3- من وسائل الشيعة ، وفي تهذيب الأحكام : ( في ).
4- تهذيب الأحكام 5 : 120 / 392 - 393 ، وسائل الشيعة 13 : 380 - 381 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 7 ، و: 302 ، أبواب الطواف ، ب 4 ، ح 1.

ويؤيّدهما عموم الأخبار المستفيضة وإطلاقاتها بالحثّ على قضاء حاجة المؤمن ، وهي أكثر من أن أُحصيها.

الثامنة عشرة : الحائض والنفساء إذا اعتلّتا قبل إكمال أربعة أشواط ، بطل ما طافتاه من الأشواط وصبرتا حتّى تطهرا ، أو طافتا وأكملتا أفعال العُمرة ، فإن منع المتمتّعة منهما عذرُها عن التربّص إلى الطهر ؛ لتضيّق الوقت عن إكمال العُمرة وإدراك الموقفين وخافت فواتهما وجب عليها العدول بنيّة الإحرام إلى حجّ الإفراد ، والاعتمار بمفردة بعده على ما هو المعروف من المذهب ، بل ظاهر ( الغنية ) (1) وغير واحد أنه إجماع.

قال السيّد عليّ في ( شرح النافع ) (2) : أنه استفاض نقل الإجماع عليه في كلام جمع. وعن العلّامة في ( المنتهى ) (3) و ( التذكرة ) (4) أنه قول علمائنا أجمع.

ويدلّ عليه روايات : منها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى وابن أبي عمير وفُضالة عن جميل بن درّاج قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة الحائض إذا قدمت مكّة يوم التروية قال تمضي كما هي إلى عرفات فتجعلها حجّة ، ثمّ تقيم حتّى تطهر ، وتخرج إلى التنعيم وتحرم وتجعلها عمرة.

قال ابن أبي عمير : كما صنعت عائشة (5).

وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن المرأة تجي ء متمتّعة ، فتطمث قبل أن تطوف بالبيت حتّى تخرج إلى عرفات ، فقال تصير حجّة مفردة (6).

وفي الصحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال ليس على النساء حلق ، وعليهنّ التقصير ، ثمّ يهللن بالحجّ يوم التروية فكانت عمرة وحجّة ، فإنْ اعتللن كنّ على حجّهن ولم

ص: 284


1- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 401.
2- رياض المسائل 4 : 321.
3- منتهى المطلب 2 : 855.
4- تذكرة الفقهاء 8 : 217 / المسألة : 560.
5- تهذيب الأحكام 5 : 390 / 1363.
6- الفقيه 2 : 240 / 1147.

يضررن بحجّهن (1).

وفي الموثّق عن إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه السلام قال : سألته عن المرأة تجي ء متمتّعة ، فتطمث قبل أن تطوف بالبيت حتّى تخرج إلى عرفات قال تصير حجّة مفردة (2) الخبر.

وفي الصحيح عن ابن بَزيع قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة تدخل مكّة متمتّعة ، فتحيض قبل أن تحلّ ، متى تذهب متعتها؟ قال كان جعفر عليه السلام يقول : زوال الشمس من يوم التروية ، وكان موسى عليه السلام يقول : صلاة الصبح من يوم التروية الخبر.

إلى أن قال : فذكرت له رواية عجلان (3) ، فقال لا ، إذا زالت الشمس ذهبت المتعة.

فقلت : فهي على إحرامها أو تجدّد إحراماً للحجّ؟ فقال لا ، هي على إحرامها. فقلت : فعليها هدي؟ قال لا ، إلّا أنْ تحبَّ أنْ تتطوّع (4) الخبر.

وبالجملة ، فالأخبار بذلك كثيرة وعليها ظاهر العصابة في كلّ زمان ، وهو المعروف من عملهم وفتاواهم بلا تناكر. فوجب حمل ما دلّ بظاهره على أنه يجوز لها أن تؤخّر الطواف كلّه وتأتي ببقيّة أفعال العُمرة ، وتقضي الطواف بعد الموقفين وأفعال منى ، على ما إذا [ كانت (5) ] قد اعتلّت بعد أن طافت أربعة أشواط ، فإن ظواهر ما دلّ على ذلك شاذّ ، فإن قيل به فهو شاذّ مثله ، وقد أُمرنا بالأخذ بما اشتهر دون ما شذّ (6).

فإن كان علّتها بعد أن أكملت أربعة أشواط ، علمت موضع قطعها وقطعت ، وأتت بالسعي وقصّرت وقضت ما بقي بعد أفعال منى قبل طواف الحجّ والنساء ، وكذا صلاة هذا الطواف في المشهور بين العصابة ، بل ظاهر ( الغنية ) (7) أنه إجماع. هذا إن خافت فوت الموقفين قبل أن تطهر ، وإلّا صبرت وأكملت الطواف وأتت ببقيّة

ص: 285


1- تهذيب الأحكام 5 : 390 / 1364.
2- تهذيب الأحكام 5 : 390 / 1365.
3- تهذيب الأحكام 5 : 391 - 392 / 1368 - 1369.
4- تهذيب الأحكام 5 : 391 / 1366 ، الاستبصار 2 : 311 / 1107.
5- في المخطوط : ( كان ).
6- عوالي اللآلي 4 : 133 / 229.
7- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 401.

واجبات العُمرة إن اعتلّت بعد الأربعة وإلّا استأنفته بعد الطهر.

واستدلّوا عليه بخبر صاحب اللؤلؤ قال : حدّثنا من سمع أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في المرأة المتمتّعة إذا طافت بالبيت أربعة أشواط ثمّ حاضت ، فمتعتها تامّة وتقضي ما فاتها من الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وتخرج إلى منى قبل أنْ تطوف الطواف الآخر (1).

وخبر سعيد الأعرج قال : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة ثمّ طمثت قال تتمّ طوافها فليس عليها غيره ، ومتعتها تامّة فلها أنْ تطوف بين الصفا والمروة ؛ وذلك لأنها زادت على النصف ، وقد مضت متعتها ولتستأنف بعد الحجّ (2).

وعن إبراهيم بن إسحاق ، عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السلام : عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة ثمّ طمثت قال تتمّ طوافها وليس عليها عمرة ومتعتها تامّة ، ولها أنْ تطوف بين الصفا والمروة ؛ وذلك لأنها زادت على النصف ، وقد مضت متعتها (3) الخبر.

وخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت أو بين الصفا والمروة ، فجازت النصف فعلمت ذلك الموضع ، فإذا طهرت رجعت فأتمّت بقيّة طوافها من الموضع الذي علمته ، وإن هي قطعت طوافها في أقلّ من النصف فعليها أنْ تستأنف الطواف من أوّله (4). ويؤيّدها الأخبار الكثيرة وفيها الصحيح وغيره المطلقة : أن مَن طمثت قبل الطواف أخّرته وأتمّت العُمرة وأتت به بعد الحجّ. فإنه إذا دلّت على جواز تأخير الطواف كلّه ومتعتها تامّة ، فلأن تؤخّر ما نقص عن النصف بطريق أوْلى. وأيضاً القاعدة المدّعاة في أن من طاف أربعة فقطع يبني تؤيّده ، بل هو فرد منها.

ص: 286


1- تهذيب الأحكام 5 : 393 / 1370 ، وسائل الشيعة 13 : 456 ، أبواب الطواف ، ب 86 ، ح 2.
2- تهذيب الأحكام 5 : 393 / 1371 ، وسائل الشيعة 13 : 456 ، أبواب الطواف ، ب 86 ، ح 1.
3- الفقيه 2 : 241 / 1155 ، وسائل الشيعة 13 : 455 ، أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 4.
4- الكافي 4 : 448 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 453 - 454 ، أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 1.

ونقل في ( المدارك ) عن ابن إدريس أنه قال : ( الذي تقتضيه الأدلّة ، أنها إذا جاءها الحيض قبل جميع الطواف فلا متعة لها ، وإنما ورد بما قال شيخنا أبو جعفر (1) خبران مرسلان (2) فعمل عليهما ، وقد بيّنا أنه لا يعمل بأخبار الآحاد وإن كانت مسندة ، فكيف بالمراسيل؟ ) (3).

قال في ( المدارك ) : ( وهذا القول لا يخلو من قوّة ؛ لامتناع إتمام العُمرة المقتضي لعدم وقوع التحلّل. ويشهد له صحيحة محمّد بن إسماعيل ، حيث قال فيها : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن المرأة تدخل مكّة متمتّعة فتحيض قبل أن تحلّ ، متى تذهب متعتها؟ ) (4) الحديث (5) ، انتهى.

قلت : وقريب منها صحيحة الحلبيّ المتقدّمة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، حيث قال فيها ليس على النساء حلق وعليهنّ التقصير ، ثمّ يهللن بالحجّ يوم التروية فكانت عمرة وحجّة ، فإنْ اعتللن كنّ على حجّهن ولم يضررن بحجّهن (6).

فإن إطلاقها شامل لمحلّ النزاع.

وصحيحة ابن عمّار المتقدّمة : سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن المرأة تجي ء متمتّعة ، فتطمث قبل أن تطوف بالبيت حتّى تخرج إلى عرفات ، فقال تصير حجّة مفردة (7) لأن إطلاق قبليّة الطواف يشمل محلّ النزاع ؛ لأن لفظ الطواف ينصرف إلى الكامل وهو السبعة. ويؤيّده أيضاً أن الطواف عبادة واحدة ، فجواز تفريقها يحتاج إلى دليل ، والأرجح المشهور.

والجواب : المنع من اقتضاء الأدلّة لما قاله ابن إدريس ، فإنك إذا تتبّعت الأدلّة

ص: 287


1- المبسوط 1 : 331.
2- تهذيب الأحكام 5 : 393 / 1370 - 1371 ، الإستبصار 2 : 313 / 1111 1112 ، وسائل الشيعة 13 : 456 ، أبواب الطواف ، ب 86 ، ح 1 ، 2.
3- السرائر 1 : 623.
4- مدارك الأحكام 7 : 182 - 183.
5- تهذيب الأحكام 5 : 391 / 1366 ، الإستبصار 2 : 311 / 1107 ، وسائل الشيعة 11 : 299 - 300 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 21 ، ح 14.
6- تهذيب الأحكام 5 : 390 / 1364.
7- الفقيه 2 : 240 / 1147.

وجدتها تدافع ما قال ، ومثله القول بامتناع إتمام العُمرة على كلّ حال. والأخبار إذا تصفّحتها وجدتها تدلّ على جواز تفريق الطواف والسعي في موارد كثيرة.

وبهذا يندفع القول : إنها عبادة واحدة فالأصل عدم جواز تفريقها.

وإطلاق قبليّة الطواف إنما يتبادر منها قبليّته بأجمعه ، وبه تنتفي دلالة الأخبار المذكورة. وصحيحة ابن بَزِيع (1) شاملة لما لو فجأها المرض في أثناء السعي ، بل قبل التقصير ولو كمل السعي. والنصّ (2) والإجماع على تمام متعتها إذا اعتلّت بعد كمال السعي. وضعف سند دليل المشهور منجبر بعمل أساطين الفرقة ومشهورهم في كلّ زمان.

التاسعة عشرة : إذا دخل وقت فريضة جاز قطع الطواف مطلقاً ، ولو كان فرضاً بلغ النصف أم لا (3). ولا فرق في الفريضة بين اليوميّة وغيرها ممّا وجب بأصل الشرع أو بالسبب العارض فيصلّي ويبني على ما طاف ولو كان شوطاً على الأشهر الأظهر. وظاهر ( الغنية ) (4) أنه إجماع ، وعن ( المنتهى ) (5) و ( التذكرة ) (6) أنه قول العلماء إلّا مالكاً.

ويدلّ على ذلك كلّه خبر هشام عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال في رجل كان في طواف فريضة فأدركته صلاة فريضة قال يقطع طوافه ويصلّي الفريضة ، ثمّ يعود فيتمّ ما بقي عليه من طوافه (7).

وصحيحة ابن سنان قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل كان في طواف النساء

ص: 288


1- تهذيب الأحكام 5 : 391 / 1366 ، الاستبصار 2 : 311 / 1107.
2- الكافي 4 : 448 / 2 ، وسائل الشيعة : 453 - 454 ، أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 1.
3- وردت بعدهما هذه العبارة : ( وظاهر الغنية .. إلّا مالكاً ) وقد حذفناها لتكرّرها في نهاية الفقرة.
4- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 404 - 405.
5- منتهى المطلب 2 : 698.
6- تذكرة الفقهاء 8 : 115 / المسألة : 478 ، وفيه : ( قول العامّة إلّا مالكاً ).
7- الكافي 4 : 415 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 384 ، أبواب الطواف ، ب 43 ، ح 1.

فأُقيمت الصلاة قال يصلّي ، فإذا فرغ بنى من حيث قطع (1).

ولا يجوز قطع طواف الفريضة لصلاة نافلة مطلقاً ، وإن كانت الوتر على الأشهر الأظهر ؛ لعدم جواز قطع الفريضة ؛ لقوله تعالى : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (2) وغيرها من الأخبار ، والإجماع إلّا ما خرج بدليل ، ولأنه عبادة واحدة فجواز قطعها وتفريقها يحتاج إلى دليل ، ولأن الذمّة مشغولة بالطواف بيقين ، فإجزاء المفرّق يحتاج إلى دليل ، فلا يجوز قطعه لها والبناء ، ولا يظهر قائل بجواز القطع ووجوب الاستئناف ، مع أنه لا دليل عليه ، بل هو على عدمه قائم.

وما رواه الكليني والشيخ عنه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : سألته عن الرجل يكون في الطواف ، وقد طاف بعضه وبقي عليه بعض ، فيطلع الفجر ، فيخرج من الطواف إلى الحِجْر أو إلى بعض المساجد ، إذا كان لم يوتر ، فيوتر ثمّ يرجع فيتمّ طوافه ، أفَتَرى ذلك أفضل أم يتمّ الطواف ثمّ يوتر وإن أخّر بعض الأسفار؟ قال ابدأ بالوتر واقطع الطواف إذا خفت ذلك ، ثمّ أتمّ الطواف بعد (3). فمحمول على طواف النافلة.

وأجاز الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) (4) قطعه مطلقاً ، لمثل ما تضمّنته هذه الرواية ، من خوف فوت الوتر ، وأنه حينئذٍ يبني على ما مضى. واستدلّ عليه بهذه الرواية ، وبأن هذه النافلة يعني : الوتر معلّقة بوقت ، فإذا جاز وقتها من أدائها كان قاضياً لها ، وليس كذلك الطواف ؛ لأنه ليس له وقت معيّن من أخّره عنه فاته.

وهذا الدليل إن سلّم اقتضى جواز قطع طواف الفرض ؛ لخوف فوات وقت كلّ

ص: 289


1- الكافي 4 : 415 / 3 ، وسائل الشيعة 13 : 384 - 385 ، أبواب الطواف ، ب 43 ، ح 2.
2- محمّد : 33.
3- الكافي 4 : 415 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 122 / 397 ، وسائل الشيعة 13 : 385 - 386 ، أبواب الطواف ، ب 44 ، ح 1.
4- تهذيب الأحكام 5 : 121 122 / ذيل الحديث 396 ، بالمعنى ، وسائل الشيعة 13 : 385 - 386 ، أبواب الطواف ، ب 44 ، ح 1.

نافلة موقّتة ، ولا نعلم به قائلاً. على أنا نمنع أن طواف الفرض ليس له وقت معيّن ، بل نقول : متى شرع الناسك فيه تعيّن الوقت له إلّا ما خرج بدليل في بعضه. وقد وافق الشيخَ على ذلك بعضُ المتأخّرين (1) ، وهو ضعيف.

العشرون : من نسي شوطاً أو شوطين أو ثلاثة صحّ طوافه وأكمل بعد الذكر ، وإن كان أكثر من ذلك استأنف ، هذا هو المعروف من المذهب.

أمّا الأوّل ، فيدلّ عليه من الأخبار مثل خبر الحسن بن عطيّة قال : سأله سليمان ابن خالد وأنا معه عن رجل طاف بالبيت ستّة أشواط قال أبو عبد اللّه عليه السلام وكيف طاف ستّة أشواط؟.

قال : استقبل الحجر وقال : اللّه أكبر وعقد واحداً ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام يطوف شوطاً.

فقال سليمان : فإنه فاته ذلك حتّى أتى أهله قال يأمر من يطوف عنه (2).

ولا فارق بين الشوط والشوطين والثلاثة فيما علمناه قبل ( المدارك ) (3) ، بل في ( الغنية ) (4) أنه إن قطع الطواف الواجب لأداء الفريضة بنى على ما مضى ولو شوطاً ، وإلّا فالتفصيل مطلقاً ، وأنه إجماع.

وإطلاق موثّقة إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل طاف بالبيت ثمّ خرج إلى الصفا ، فطاف بين الصفا والمروة ، فبينما هو يطوف ؛ إذ ذكر أنه ترك بعض طوافه بالبيت قال يرجع إلى البيت فيتمّ طوافه ، ثمّ يرجع إلى الصفا والمروة فيتمّ ما بقي (5).

فإنه متناول للواحد والاثنين والثلاثة.

أمّا الثاني ، فلا يظهر فيه خلاف ، ويدلّ عليه أصالة بقاء شغل الذمّة المتيقّن ،

ص: 290


1- منتهى المطلب 2 : 698.
2- تهذيب الأحكام 5 : 109 / 354 ، وسائل الشيعة 3 : 357 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 1.
3- مدارك الأحكام 8 : 148 - 149.
4- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 8 : 404 - 405.
5- الكافي 4 : 418 / 8 ، الفقيه 2 : 248 / 1190 ، تهذيب الأحكام 5 : 109 / 355 ، وسائل الشيعة 13 : 358 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 2.

وأصالة عدم جواز تفرقة العبادة الواحدة ، والإجماع على وجوب الموالاة العرفيّة في الطواف الواجب ، إلّا ما خرج بدليل.

ويدلّ على التفصيل من أصله وعلى الشقّين معاً العلّة المصرّح بها في النصوص السابقة في حكم من حاضت في أثناء الطواف كخبر الأعرج : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة ثمّ طمثت قال تتمّ طوافها وليس عليها غيره ومتعتها تامّة ، وذلك لأنها زادت على النصف (1) الخبر.

وخبر إبراهيم بن إسحاق عمّن سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن امرأة طافت بالبيت أربعة أشواط وهي معتمرة ثمّ طمثت قال تتمّ طوافها وليس عليها عمرة ومتعتها تامّة ؛ وذلك لأنها زادت على النصف (2) الخبر.

وخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إذا حاضت المرأة وهي في الطواف بالبيت ، فجازت النصف فعلمت ذلك الموضع ، فإذا طهرت رجعت فأتمّت بقيّة طوافها من الموضع الذي علمت. وإن هي قطعت طوافها في أقلّ من النصف ، فعليها أنْ تستأنف الطواف (3).

وهذه العلّة قد أومأت إليها عدّة أخبار كما يظهر بالتدبّر ، بل التفصيل كأنه قاعدة وأصل يرجع إليه إلّا ما استثناه الدليل.

ولو لم يذكر ما نسي بعد أن أكمل النصف حتّى خرج من مكّة رجع فأتمّ مع المكنة ، فإن تعذّر استناب من يأتي بما ترك.

أمّا الأوّل فللأصل ، حيث إن المكلّف بالنُّسُك شخص معيّن ، والأصل يقتضي عدم إجزاء عمل غيره عنه في العينيّ.

وأمّا الثاني فبالإجماع ، ولخبر الحسن بن عطيّة (4).

ص: 291


1- تهذيب الأحكام 5 : 393 / 1371 ، وسائل الشيعة 13 : 456 ، أبواب الطواف ، ب 86 ، ح 1.
2- الفقيه 2 : 141 / 1155 ، وسائل الشيعة 13 : 455 ، أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 4.
3- الكافي 4 : 448 / 2 ، وسائل الشيعة 13 : 453 - 454 ، أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 1.
4- تهذيب الأحكام 5 : 109 / 354 ، وسائل الشيعة 3 : 357 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 1.

وهل يجب إعادة ما بعد الطواف من المناسك؟ ظاهر إطلاقات الأخبار (1) والفتاوى (2) العدم ، بل عدم المشروعيّة ؛ للاقتصار فيها على الأمر بإعادة المنسيّ حينئذٍ ، ولاقتضاء الامتثال الإجزاء.

وهل يجب بعد الإتيان بذلك الجزء المنسيّ من الطواف أن يقصّر؟ وجهان : ممّا ذكر من اقتضاء الامتثال الإجزاء ، ومن أنه حينئذٍ محرم ولا يتحقّق إحلاله إلّا به ، والأوّل (3) وقع غير موقعه. والأوّل أقرب ؛ لعدم ورود الأمر به ، بل ظاهر بعض الأخبار أنه متى أتى به هو أو نائبه حلّ له ما حرم عليه ، ولتحقّق الامتثال.

الحادية والعشرون : يجوز قطع الطواف للاستراحة بما لا يخلّ بالموالاة عرفاً بالإجماع ، ولأن عليه عمل الأُمّة في سائر الأعصار.

ويدلّ عليه من الأخبار خبر جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يطوف ثمّ تعرض له الحاجة قال لا بأس أنْ يذهب في حاجته أو حاجة غيره ويقطع الطواف ، وإنْ أراد أنْ يستريح ويقعد فلا بأس بذلك (4) الخبر.

فلو نافت استراحته الموالاة عرفاً ؛ لطول زمانها ، فإن كان التأخّر لعجزه عن الإكمال قبل فوات الموالاة أُلحِقَ بمن عرض له مرض في أثنائه ، وإلّا فإن جاز النصف بنى ، وإلّا استأنف.

الثانية والعشرون : لا بدّ من تحقّق الإتيان بسبعة أشواط ، لا أقلّ ولا أكثر ولو كان خطوة ، فلو شكّ فيما دون السبعة بطل مطلقاً ، سواء كان شكّه وهو حذاء الحَجَر أم قبله.

ولو كان في السابع ؛ فإن كان حينئذٍ قبل الحَجَر بطل أيضاً مطلقاً ، سواء كان شكّه

ص: 292


1- الكافي 4 : 418 / 8 ، التهذيب 5 : 109 - 110 / 355 ، الوسائل 13 : 358 ، أبواب الطواف ب 32 ، ح 2.
2- شرائع الإسلام 1 : 243.
3- أي التقصير الأوّل.
4- تهذيب الأحكام 5 : 120 / 394 ، الإستبصار 2 : 224 / 774 ، وسائل الشيعة 13 : 381 ، أبواب الطواف ، ب 41 ، ح 8.

هل هو في السادس أو السابع ، أو هل هو في السابع أو الثامن؟ لأنه لا بدّ حينئذٍ من أن يعرّض الواجب للزيادة العمديّة أو النقيصة العمديّة في كلّ ذلك ، ولأن الذمّة مشغولة بيقين في ذلك كلّه ، ولا يقين في فراغها سواء بنى على الأقلّ أم الأكثر.

وإن كان شكّه في السابع وهو على سَمْتِ الحَجَر ؛ فإن كان شكّه هل أكمل السادس أم السابع؟ بطل أيضاً لما ذكر. وإن كان شكّه : هل أكمل السابع أو الثامن؟ صحّ طوافه لأصالة عدم الزيادة. كلّ ذلك في طواف الفرض.

ولو كان شكّه بعد الانصراف بنى على المصحّح ولم يلتفت للشكّ أصلاً ، وبنى على الظاهر من فعل الصحيح المبرى ء للذمّة ؛ لئلّا يلزم الحرج ، ولأن الطواف صلاة. ومبنى أمر الصلاة على تقديم حكم الظاهر والعمل به ، ويتحقّق الانصراف منه بنيّة قطعه مع الإعراض عنه عرفاً ، وبمحو صورته عرفاً.

والذي يدلّ على أن من شكّ : أستّة طاف أم سبعة؟ فطوافه باطل ، خبرُ محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف بالبيت ، فلم يدرِ أستّة طاف أو سبعة طواف فريضة؟ قال فليعد طوافه.

فقيل له : إنه قد خرج وفاته ذلك قال ليس عليه شي ء (1).

وفيه دلالة على أنه لو شكّ بعد الانصراف لا يلتفت.

ومثله خبر منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إني طفت فلم أدرِ أستّة طفت أم سبعة؟ فطفت طوافاً آخر ، فقال هلّا استأنفت.

قلت : قد طفت وذهبت قال ليس عليك شي ء (2).

ومثلهما أيضاً صحيحة منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف طواف الفريضة ، فلم يدرِ ستّة طاف أم سبعة؟ قال فليعد طوافه.

فقلت : ففاته. فقال ما أرى عليه شيئاً ، والإعادة أحبّ إليّ وأفضل (3).

ص: 293


1- تهذيب الأحكام 5 : 110 / 356 ، وسائل الشيعة 13 : 359 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 1.
2- تهذيب الأحكام 5 : 110 / 358 ، وسائل الشيعة 13 : 359 - 360 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 3.
3- الكافي 4 : 416 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 361 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 8.

فهذه الأخبار دلّت على أن من شكّ في الفريضة بين الستّة والسبعة بطل طوافه إن كان قبل الانصراف ، وإن كان بعده فلا عبرة بشكّه. وليس في هذه الصحيحة دلالة بوجه على أنه يبني في الفرض على الأقلّ ، كما يظهر من ( المدارك ) (1). والأمر ظاهر جدّاً.

وخبر إسماعيل عن أحمد بن عمر المرهبيّ عن أبي الحسن الثاني عليه السلام : سألته عن رجل شكّ فلم يدرِ أستّة طاف أو سبعة؟ قال إنْ كان في فريضة أعاد كلّ ما شكّ فيه ، وإن كان نافلة [ بنى على ما هو أقلّ (2) (3) ].

ويدلّ على البطلان لو كان شكّه فيما دون الستّة أيضاً موثّقة حَنَان بن سَدِير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما تقول في رجل طاف فأوهم قال : إني طفت أربعة ، وقال : طفت ثلاثة؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام أي الطوافين : طواف نافلة ، أو طواف فريضة؟.

ثم قال إنْ كان طواف فريضة فليلقِ ما في يديه وليستأنف ، وإن كان طواف نافلة واستيقن الثلاث ، وهو في شكّ من الرابع أنه طاف ، فليبنِ على الثالث فإنه يجوز له (4).

ولو شكّ في أصل الطواف ، فقال : لا أدري طفت أم لم أطف؟ فإن كان بعد أن صلّى الركعتين ، أو في أثناء السعي أو بعده ، لم يلتفت بناءً على الظاهر. والأحوط الالتفات ما لم يكن شكّه بعد التحلّل. وإن كان شكّه قبل صلاة الركعتين طاف قطعاً.

الثالثة والعشرون : يجب أن يطوف المكلّف الناسك القادر بنفسه ، فلا تجزي الاستنابة مع القدرة ؛ لأصالة عدم إجزاء عمل الغير عنه مع تكليفه عيناً ، وللإجماع. فلو عجز ؛ فإن أمكنه أن يطوف على دابّة وجب ؛ لجوازه اختياراً على الأشهر الأظهر ، وإلّا فإن أمكنه أن يطوف مُعَضّداً له وجب ، وإلّا وجب أن يجعل من يطوف به ولو بأُجرة لا تضرّ بحاله ، لا نعلم فيه خلافاً.

ص: 294


1- مدارك الأحكام 8 : 181.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : « أعاد ».
3- تهذيب الأحكام 5 : 110 / 359 ، وسائل الشيعة 13 : 360 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 4.
4- الكافي 4 : 417 / 7 ، وسائل الشيعة 13 : 360 ، أبواب الطواف ، ب 33 ، ح 7.

ويدلّ على أنه يطاف به مع الإمكان صحيحُ صفوان بن يحيى قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن الرجل المريض يقدم مكّة ، فلا يستطيع أن يطوف بالبيت ولا يسعى بين الصفا والمروة قال يُطاف به محمولاً يخبط الأرض برجله حتّى يمس قدميه في الطواف ، ثمّ يوقف به في أصل الصفا والمروة إذا كان معتلا (1).

وصحيحة حَريز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الرجل يطاف به ويرمى عنه ، فقال إذا كان لا يستطيع (2).

وموثّقة ابن عمّار قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن المريض ، يطاف عنه بالكعبة؟ فقال لا ، ولكن يطاف به (3).

وصحيحة حَرِيز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال المريض المغلوب والمُغمى عليه يرمى عنه ويطاف به (4).

وخبر الربيع بن خُثَيم قال : شهدت أبا عبد اللّه عليه السلام وهو يطاف به حول الكعبة في محمل (5).

وكذا من اعتلّ في أثناء طوافه يكملْه راكباً. وإلّا يقدر ولو بمانع التقيّة عُضّدَ له وطيف به ما بقي ولو لم يَطُف في ذلك كلّه إلّا بعض شوط.

هذا كلّه إن لم يكن في سعة من تأخير الطواف كلّه أو بعضه مع باقي النُّسُك. فإن كان العليل في سعة من ذلك تأخّر حتّى يتضيّق وقته أو يضطرّ إلى الإحلال.

ص: 295


1- تهذيب الأحكام 5 : 123 / 401 ، الإستبصار 2 : 225 / 777 ، وسائل الشيعة 13 : 389 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 2.
2- تهذيب الأحكام 5 : 123 / 402 ، الإستبصار 2 : 225 / 778 ، وسائل الشيعة 13 : 389 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 3.
3- تهذيب الأحكام 5 : 123 / 399 ، الإستبصار 2 : 225 / 775 ، وسائل الشيعة 13 : 390 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 7.
4- تهذيب الأحكام 5 : 123 / 400 ، الإستبصار 2 : 225 / 776 ، وسائل الشيعة 13 : 389 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 1.
5- الكافي 4 : 422 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 391 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 8.

فحينئذٍ إن قدر أن يطوف على دابّة وجب ، وإلّا فُمعَضّداً له ، وإلّا يقدر طيف به ، وإلّا يمكن ولو لدوام حدثه وعدم القدرة على الاستمساك طيف عنه. ويصلّي هو إن أمكن وإلّا استناب فيها أيضاً ، فإذا قطع طوافه للمرض ؛ فإن كان قد أكمل أربعة أشواط بنى ، وإلّا استأنف كما هو ظاهر النصّ (1) والفتوى.

وفي ( المدارك ) (2) : إن هذا التفصيل مقطوع به في كلام الأصحاب ، ففي خبر حَرِيز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال المريض المغلوب والمُغمى عليه ، يرمى عنه ويطاف عنه (3).

وصحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال المبطون والكسير يطاف عنهما ويرمى عنهما (4).

وخبر حبيب الخثعميّ وصحّحه في ( المدارك ) (5) عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنْ يطاف عن المبطون والكسير (6).

وخبر البجليّ قال : سألت أبا الحسن عليه السلام ، وكتبت إليه عن سعيد بن يسار أنه سقط من جمله فلا يستمسك بطنه ، أطوف عنه وأسعى؟ قال لا ، ولكن دعه فإنْ برئ قضى ، وإلّا فاقضِ أنت عنه (7).

وموثّقة إسحاق بن عمّار قال : سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن رجل طاف بالبيت بعض طواف الفريضة ، ثمّ اعتلّ علّة لا يقدر فيها على تمام طوافه قال إذا

ص: 296


1- وسائل الشيعة 13 : 386 ، أبواب الطواف ، ب 45.
2- مدارك الأحكام 8 : 155.
3- الفقيه 2 : 252 / 1214 ، وسائل الشيعة 13 : 393 ، أبواب الطواف ، ب 49 ، ح 2 ، بالمعنى.
4- تهذيب الأحكام 5 : 124 / 404 ، الإستبصار 2 : 226 / 780 ، وسائل الشيعة 13 : 390 ، أبواب الطواف ، ب 49 ، ح 3.
5- مدارك الأحكام 8 : 156.
6- تهذيب الأحكام 5 : 124 / 405 ، الإستبصار 2 : 226 / 781 ، وسائل الشيعة 13 : 394 ، أبواب الطواف ، ب 50 ، ح 5.
7- تهذيب الأحكام 5 : 124 / 406 ، الإستبصار 2 : 226 / 782 ، وسائل الشيعة 13 : 387 ، أبواب الطواف ، ب 45 ، ح 3.

طاف أربعة أشواط أمر من يطوف عنه ثلاثة أشواط وقد تمّ طوافه ، فإنْ كان طاف ثلاثة أشواط وكان لا يقدر على التمام ، فإن هذا ممّا غلب اللّه عليه ، فلا بأس أنْ يؤخّر يوماً أو يومين. فإنْ كانت العافية وقدر على الطواف طاف أُسبوعاً ، فإنْ طالت علّته أمر من يطوف عنه أُسبوعاً ويصلّى عنه ، وقد خرج من إحرامه. وفي رمي الجمار مثل ذلك (1).

ورواه في ( الكافي ) ، إلّا إن فيه ويصلّي هو ركعتين (2).

ولا منافاة ؛ فإنه مع قدرته على أداء ركعتي الطواف في محلّها يتعيّن عليه ، وإلّا أجزأت الاستنابة.

وفي الحسن بل الصحيح عن الحلبيّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إذا طاف الرجل بالبيت أشواطاً ثمّ اشتكى أعاد الطواف (3) يعني : الفريضة.

وإطلاقها مقيّد بالأُولى ، وضعف الاولى منجبر بالعمل بها ، على أن في ضعفها بحثاً ، وقد عدّها بعضهم في الصحيح ، مع أن المتيقّن من الأشواط هي الثلاثة ، والامتثال يقتضي الإجزاء ، فلا يتعدّى البطلان لما زاد على الثلاثة إلّا بدليل ، ولا دليل.

وفي معتبرة ابن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام الصبيان يطاف بهم ويرمى عنهم.

قال : وقال أبو عبد اللّه عليه السلام المرأة إذا كانت مريضة لا تعقل يطاف بها أو يطاف عنها (4).

وفي ( الفقيه ) : روى أبو بصير أن أبا عبد اللّه عليه السلام مرض ، فأمر غلمانه أن يحملوه ويطوفوا به ، فأمرهم أن يخطّوا برجله الأرض ؛ حتّى تمسّ الأرضَ قدماه في الطواف (5).

وفي رواية محمّد بن الفُضَيل عن الربيع بن خُثَيم أنه كان يفعل ذلك كلّما بلغ إلى

ص: 297


1- تهذيب الأحكام 5 : 124 / 407 ، وسائل الشيعة 13 : 386 - 387 ، أبواب الطواف ، ب 45 ، ح 2.
2- الكافي 4 : 414 / 5.
3- الكافي 4 : 414 / 4 ، وسائل الشيعة 13 : 386 ، أبواب الطواف ، ب 45 ، ح 1.
4- الكافي 4 : 422 / 4 ، وسائل الشيعة 13 : 391 - 392 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 9.
5- الفقيه 2 : 251 / 1211.

الركن اليماني (1).

والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، ولا يخفى على البصير دلالتها مع القواعد والعمومات على المدّعى ، فلا نطوّل بالبيان.

الرابعة والعشرون : يجوز أن يطوف الناسك على دابّة أو محمولاً لإنسان اختياراً ولو كان صحيحاً ؛ للأصل ، ولما رواه الصدوق في الصحيح عن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول حدّثني أبي عليه السلام أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله طاف على راحلته ، واستلم الحَجَر بمحجنه وسعى عليها بين الصفا والمروة (2).

قال : وفي خبر آخر أنه كان يقبّل الحَجَر بالمحجن (3) ؛ ولأن به يتحقّق مسمّى الطواف ، والامتثال يقتضي الإجزاء. هذا مع أنه الأشهر.

الخامسة والعشرون : لو حمل إنسان إنساناً ليطوف حول الكعبة ، ونوى الحامل والمحمول أجزأهما عن فرضيهما بالنصّ والإجماع ، فيما عدا ما لو استأجره للحمل في غير طواف الحامل ، أو استأجره للحمل وأطلقه. ففي الصحيح عن الهيثم بن عُرْوة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت له : إني حملت امرأتي ثمّ طفت بها وكانت مريضة ، وقلت له : إني طفت بها بالبيت في طواف الفريضة وبالصفا والمروة ، واحتسبت بذلك لنفسي فهل يجزيني؟ قال نعم (4).

وفي صحيحه الآخر على ما في ( الكافي ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام : رجل كانت معه صاحبته ، لا تستطيع القيام على رجلها فحملها زوجها في محمل ، فطاف بها طواف الفريضة بالبيت وبالصفا والمروة ، أيجزيه ذلك الطواف عن نفسه طوافه بها؟

ص: 298


1- الكافي 4 : 422 / 1 ، وسائل الشيعة 13 : 391 ، أبواب الطواف ، ب 47 ، ح 8.
2- الفقيه 2 : 251 / 1209 ، وسائل الشيعة 13 : 442 ، أبواب الطواف ، ب 81 ، ح 2.
3- الفقيه 2 : 251 / 1210 ، وسائل الشيعة 13 : 442 ، أبواب الطواف ، ب 81 ، ح 3.
4- الفقيه 2 : 309 / 1534 ، تهذيب الأحكام 5 : 125 / 410 ، وسائل الشيعة 13 : 395 ، أبواب الطواف ، ب 50 ، ح 2.

فقال إيهاً ، اللّه إذنَ (1)النهاية في غريب الحديث والأثر 87:1 - إيه.(2).

وصحيح ابن البختريّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في المرأة تطوف بالصبي وتسعى به ، هل يجزي ذلك عنها وعن الصبي؟ فقال نعم (3).

وعن ( المنتهى ) أنه قال فيه : ( إذا حمل محرم محرماً فطاف به ، ونوى كلّ واحد منهما الطواف أجزأ عنهما ) (4) ، واستدلّ بصحيحة حفص (5) وحديث الهيثم (6). ولم ينقل فيه خلافاً لعلمائنا.

ومثله في ( التذكرة ) (7).

وقال في ( التلخيص ) : ( يستنيب غير [ المتمكّن (8) ] أو الغائب دون من اجتمع فيه الضدّان ، والحامل يجزئه ) (9).

وقال في ( التحرير ) : ( لو حمل محرم محرماً فطاف به ، ونوى كلّ منهما الطواف

ص: 299


1- الكافي 4 : 428 / 9 ، وسائل الشيعة 13 : 396 ، أبواب الطواف ، ب 51 ، ح 4 ، وفيهما : « إذاً » بدل : « أذِنَ ». قال المجلسيّ رحمه اللّه : ( قوله عليه السلام : « إيهاً اللّه إذاً » ، قال في ( المنتقى ) : ( اتفق في النسخ التي رأيتها ل- ( الكافي ) و ( الفقيه ) إثبات الجواب هكذا : « إيهاً اللّه إذاً » ، وفي بعضها : « أذِنَ » ، وهو موجب لا لتباس المعنى ). قال في (النهاية): (قد ترد (إيهاً) منصوبة بمعنی التصديق والرضا بالشيء)
2-
3- تهذيب الأحكام 5 : 125 / 411 ، وسائل الشيعة 13 : 395 - 396 ، أبواب الطواف ، ب 51 ، ح 3.
4- منتهى المطلب 2 : 702.
5- تهذيب الأحكام 5 : 125 / 411 ، وسائل الشيعة 13 : 395 - 396 ، أبواب الطواف ، ب 51 ، ح 3.
6- الفقيه 2 : 309 / 1534 ، تهذيب الأحكام 5 : 125 / 410 ، وسائل الشيعة 13 : 395 ، أبواب الطواف ، ب 50 ، ح 2.
7- تذكرة الفقهاء 8 : 123 / المسألة : 486.
8- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الممكن ).
9- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 30 : 336.

أجزأ عنهما ) (1).

وقال ابن حمزة في ( الوسيلة ) : ( المريض ضربان : إمّا أمكنه إمساك الطهارة ، أو لم يمكنه. فالأوّل يطوف به وليّه ، وإن نوى لنفسه طوافاً صحّ ) (2).

وقال المحقّق في ( النافع ) : ( ولو حمل إنساناً فطاف به ، احتُسب لكلّ منهما طوافه ) (3).

ولم يتكلّم ابن فهد في ( المهذّب ) (4) على هذه العبارة ، مع أن موضوعه خلافيّات ( النافع ).

وقال في ( الشرائع ) : ( ولو حمله حامل فطاف به ، أمكن أن يُحْتَسَبَ [ لكلّ ] (5) منهما طوافه عن نفسه ) (6).

وأنت خبير ، بأن هذه العبارات وأمثالها شاملة للمتبرّع بالحمل والولي والمملوك والمستأجر عليه مطلقاً. ومثلها في الشمول لذلك كلّه الأخبار المذكورة من غير تقييد يظهر.

وقال العلّامة في ( المختلف ) : ( أطلق الأصحاب جواز أن يطوف الحامل عن نفسه. وقال ابن الجنيد ونِعْمَ ما قال - : والحامل للمريض يجزيه طوافه عن طواف الواجب عليه ، هذا إذا لم يكن أجيراً ).

ونقل الخبرين ثمّ قال : والتحقيق أنه إن استؤجر للحمل في [ الطواف (7) ] أجزأ عنهما ، وإن استؤجر للطواف لم يجز عن الحامل ) (8) ، انتهى.

وفي ( القواعد ) : ( وتجوز النيابة في الطواف عن الغائب والمعذور ، كالمغمى عليه والمبطون لا عمّن انتفى عنه الوصفان. والحامل والمحمول وإن تعدّد يحتسبان وإن

ص: 300


1- تحرير الأحكام 1 : 99 ( حجريّ ).
2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 174.
3- المختصر النافع : 146.
4- المهذب البارع 2 : 137 - 138.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( كل ).
6- شرائع الإسلام 1 : 208.
7- من المصدر ، وفي المخطوط : ( الطريق ).
8- مختلف الشيعة 4 : 202 / المسألة : 157.

كان الحمل بأُجرة على إشكال ) (1).

وكتب الشيخ عليّ في حاشيته على ( القواعد ) على هذه العبارة : ( إذا كان تبرّعاً يحتسبان ، وكذا لو كان بأُجرة لكن استأجره للحمل في طوافه ، وإلّا احتسب للمحمول خاصّة ؛ لاستحقاق قطع المسافة بالإجارة ، فلا تجزي عن فرض الحامل. وعليه نزل صحيحة حفص بن البختري (2) عن الصادق عليه السلام ) (3) ، انتهى.

وكتب فخر المحقّقين على العبارة : ( تحرير البحث أن الإنسان إذا حمل إنساناً آخر في الطواف وقصد الطواف عن نفسه لكن أراد أن ينفع المحمول بحمله ؛ ليصحّ له طوافه بركوبه عليه ، فقد اختلف الفقهاء هنا ، بعد اتّفاقهم على وقوف طواف المحمول مع النيّة منه إن كان بالغاً. ولو كان صبيّاً ونوى هو الطواف به معه ، فقال بعضهم (4) : لا يقع للحامل ؛ لأن العبادة الواجبة يشترط فيها أن يوقعها لوجوبها لا لغرض آخر. وهؤلاء هم القائلون بأن ضمّ نيّة التبرّد إلى الوضوء مبطل ؛ لمنافاة ذلك الإخلاص.

وقال بعضهم : لا يشترط ذلك ، بل يجوز أن يقصد به مع الفرض ما يؤدّي إليه في الأكثر ؛ لأنه حاصل له ، سواء قصده أم لم يقصده. والحمل جائز له ، فإذا تحرّك هو تحرّك المحمول بالعَرَض قطعاً ، فهو غير مناف. والقائلون بهذا هم القائلون بجواز ضمّ نيّة التبرّد إلى نيّة الاستباحة (5).

ثمّ استدلّ هؤلاء في هذه المسألة بما رواه حفص (6) في الصحيح ، وما رواه الهيثم (7) ).

وساق الحديثين ، ثمّ قال : ( وقال ابن الجنيد ونِعْمَ ما قال - : إذا كان الحمل

ص: 301


1- قواعد الأحكام 1 : 77 ( حجريّ ).
2- الكافي 4 : 429 / 13.
3- جامع المقاصد 3 : 145 - 146.
4- مسالك الأفهام 1 : 34.
5- شرائع الإسلام 1 : 12 ، مدارك الأحكام 1 : 191.
6- تهذيب الأحكام 5 : 125 / 411 ، وسائل الشيعة 13 : 395 ، أبواب الطواف ، ب 50 ، ح 2.
7- تهذيب الأحكام 125 / 410 ، وسائل الشيعة 13 : 395 ، أبواب الطواف ، ب 50 ، ح 1.

بأُجرة لم تُجْزِ عن الحامل وإلّا أجزأ ؛ لاستحقاق قطع المسافة عليه بعقد الإجارة ، فلم يجُز له صرفه لنفسه كما لو استأجر للحجّ.

واعترض عليه بأن العقد وقع عن نفس الحمل فلا ينافي إرادة الطاعة بخلاف الاستئجار للحجّ ، ومن ثمّ قال المصنّف : فيه إشكال. وقول ابن الجنيد عندي هو الأقوى.

وجواب الاعتراض أن المقصود من الإجارة إنما هو الطواف به لا الحمل خاصّة. أمّا لو نوى الطواف للمحمول لم يقع عنه قطعاً ) (1) ، انتهى.

وقال الشيخ عليّ في حاشية ( الشرائع ) بعد العبارة المذكورة : ( التفصيل حسن ، وهو أنه إن كان الحمل تبرّعاً أو بجعالة احتسب كلّ منهما طوافه. وكذا إن كان بأُجرة لكن استأجره ليحمله في طوافه ، وإلّا احتُسب للمحمول خاصّة ؛ لاستحقاقه قطع المسافة بالإجارة ، فلا يجزي عن فرض الحامل. وعليه نزل صحيحة حفص عن الصادق عليه السلام ) ، انتهى.

وكتب في ( المسالك ) على العبارة المذكورة : ( هذا إذا كان الحامل متبرّعاً أو حاملاً بجعالة ، أو مستأجَراً للحمل في طوافه. أمّا لو استؤجر للحَمل مطلقاً لم يحتسِب الحامل ؛ لأن الحركة المخصوصة قد صارت مستحقّة عليه لغيره ، فلا يجوز صرفها إلى نفسه. وفي المسألة أقوال ، هذا أجودها ) (2).

وكتب في ( المدارك ) على العبارة : ( إنما كان لكلّ منهما أن يحتسب بذلك طوافاً عن نفسه ؛ لحصول الطواف من كلّ منهما. أمّا الحامل فظاهر ، وأمّا المحمول فلأن فرضه الحصول طائفاً حول البيت ، وقد امتثل. ويؤيّده صحيح حفص ).

ونقل الحديثين ، ثمّ قال : ( وإطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الحمل بين أن يكون تبرّعاً أو بأُجرة. وحكى في ( المختلف ) (3) عن ابن الجنيد أن الحامل للمريض

ص: 302


1- إيضاح الفوائد 1 : 278 - 279.
2- مسالك الأفهام 2 : 177.
3- مختلف الشيعة 4 : 202 / المسألة : 157.

يجزيه عن الطواف الواجب عليه ).

وساق عبارة ( المختلف ) ثمّ قال : ( وهو حسن ) (1).

وقال في ( التنقيح ) بعد عبارة ( النافع ) (2) المذكورة : ( أكثر الأصحاب أطلقوا ذلك ، وابن الجنيد قيّده بعدم الأُجرة ، ومعها لا احتساب به للحامل. وتردّد العلّامة (3) فيه من حيث استحقاق قطع المسافة عليه بعقد الإجارة ، ولم يجُز صرفه إلى نفسه ، كما لو أجّر نفسه للحجّ. واختار السيّد (4) الاحتمال الأوّل. وقال الشهيد : ( يحتسب [ لهما (5) ] إلّا أن يستأجره على حمله لا في طوافه ) (6). وهو تفصيل حسن. وإذا استؤجر على حمله لا في طوافه تكون منافعه مملوكة للمستأجر ، فلا يجوز صرفها إلى غيره. أمّا في طوافه فمن المعلوم عدم استحقاق جميع منافعه ، بل الحمل لا غير ) (7).

وقال السيّد عليّ في شرح ( النافع ) على العبارة ، عند قول المحقّق : ( احتسب به لكلّ منهما طواف ) (8) - : ( لو [ نوياه (9) ] بلا خلاف ؛ للصحاح ، وإطلاقها يقتضي عدم الفرق بين ما لو كان الحمل تبرّعاً أو بأُجرة خلافاً لجماعة في الثاني ، فمنعوا عن الاحتساب للحامل. وقيل بالفرق بين ما لو استؤجر للحمل في الطواف فالأوّل ، وما لو استؤجر للطواف فالثاني ، وهما أحوط في المرتبتين وإن كان في تعيّنهما ولا سيّما الأوّل نظر ) (10).

وقال الشهيد الثاني في ( شرح اللمعة ) بعد قول المصنّف : ( ولو أمكن حمله في الطواف والسعي وجب ، ويُحتسب لهما ). قال الشارح : ( لو نوياه ، إلّا أن يستأجره للحمل لا في طوافه أو مطلقاً فلا يُحتسب للحامل ؛ لأن الحركة مع الإطلاق قد

ص: 303


1- مدارك الأحكام 7 : 130 - 131.
2- المختصر النافع : 146.
3- قواعد الأحكام 1 : 77 ( حجريّ ).
4- في المصدر : ( السعيد ) بدل : ( السيّد ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( له ).
6- الدروس 1 : 322.
7- التنقيح الرائع 1 : 431.
8- المختصر النافع : 146.
9- من المصدر ، وفي المخطوط : ( نواه ).
10- الشرح الصغير 1 : 327 - 328.

صارت مستحقّة عليه لغيره ، فلا يجوز صرفها إلى نفسه. واقتصر في ( الدروس ) (1) على الشرط الأوّل ) (2) ، انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر عبارة ( المختلف ) وفخر المحقّقين أنه لم يخالف في صحّة نيّة كلّ منهما الطواف لنفسه مطلقاً إلّا ابن الجنيد. والتحقيق أنه إذا نوى كلّ منهما أجزأ عنهما وإن كان الحمل بأُجرة ، ما لم يشترط ألّا يحمله في طوافه ، ويحتمل الصحّة مطلقاً احتمالاً قويّاً.

أمّا الأوّل ، فعملاً بإطلاق الأخبار المشتهر العمل بها من غير معارض.

وليس للمحمول على الحامل حال الاستئجار أكثر من أن يديره حول الكعبة قدر ما استؤجر عليه. وأيّ فرق بين صحّة نيّة الأجير حينئذٍ ونيّة المملوك لو أمره سيّده بحمله أو حمل غيره ليطوف المحمول. ولم نقف على مصرّح بالمنع ، بل المملوك أوْلى بعدم الصحّة لو قلنا بعدم صحّة نيّة الأجير ؛ لأنه مملوك المنافع بالذات بأصل الشرع ، والأجير استحقّت عليه تلك الحركة بالعارض.

هذا ، وقد صرّحوا بأنه يجوز أن يؤاجر نفسه إنسان في عام لاثنين أحدهما لحجّ ، والآخر لعمرة مبتولة. وما استدلّوا به لابن الجنيد ومن وافقه من المتأخّرين جار فيه.

وأمّا الثاني ، فلعموم المؤمنون عند شروطهم (3) ولولاه لكان القول بالصحّة مطلقاً في غاية القوّة ، واللّه العالم.

السادسة والعشرون : كلّ طواف واجب ركن إلّا طواف النساء. وقد نقل الإجماع على عدم ركنيّته جماعة.

ومعنى الركن في الحجّ والعُمرة : ما يبطل النُّسُك بتركه عمداً لا سهواً. ومعنى الواجب فيهما غير الركن - : ما يجب الإتيان به ويأثم بتركه ، ولا يبطل النُّسُك ، ولا

ص: 304


1- الدروس 1 : 322.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 193 - 194.
3- عوالي اللآلي 1 : 218 / 84 ، 293 / 173 ، 2 : 257 / 7 ، 3 : 217 / 77.

يحلّ عليه ما يتوقّف حلّه على فعله إلّا بالإتيان به. لا نعلم في ذلك كلّه خلافاً ، وفهمه من الأخبار غير عزيز.

بقي الكلام في أنه متى يتحقّق ، وبما يتحقّق الترك ، فنقول : أمّا الحجّ ، فيتحقّق ترك الطواف فيه بخروج ذي الحجّة. وأمّا العُمرة المتمتّع بها. فيضيق الوقت عن الإتيان بها أجمع مع إدراك الوقوف بعرفة من الزوال إلى الغروب. ولا يكفي إدراك جزء إن كان الترك عمداً اختياراً ؛ لتحقّق ترك الواجب حينئذٍ اختياراً ، ولعدم صلاحيّة الزمان لها اختياراً ، وللنهي عنه اختياراً. وللأمر بالوقوف حينئذٍ وبالاشتغال بالعمرة حينئذٍ يتحقّق ضدّه العامّ ، ويحتمل الاجتزاء حينئذٍ بمسمّاه وإن أثم. وإن كان نسياناً تحقّق بضيق الوقت عن العُمرة والمجزي من اختياريّ عرفة.

فإذا تحقّق ترك طوافها ؛ فإن كان عمداً بطلت عمرته ، ولا يصحّ حجّة ؛ لأن حجّ التمتّع لا يكون بدون عمرة التمتّع قبله ، لكنّه لا يكون الناسك بذلك مُحلّاً ، ولا يخرج من إحرامه بمعصيته ؛ لأن الشارع لم يعدّها من المحلّلات لما حرّمه الإحرام ؛ لحصرها في أفعال معيّنة ليس هذا منها.

والعبادات كيفيّات متلقاة ، ولأن الأصل والاستصحاب [ يقتضيان (1) ] بقاء منعه من محرّمات الإحرام ؛ فيجب عليه حينئذٍ العدول إلى العُمرة المفردة ، كما هو الأشهر الأظهر ، أو ينقلب نُسُكه مفردة ولو لم ينوِ العدول على قول ، ويتحلّل بالإتيان بأفعالها و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (2) ، وإلّا بما يجعل لها منه المخرج ، وبقاؤه محرماً أبداً عسرٌ وحرجٌ لا يطاق.

هذا ، وقد أطبقت العصابة على أن من أحرم بعمرة التمتّع ، ولم يدرك الإتيان بها مع الحجّ وجب عليه العدول إلى حجّ الإفراد. فإن لم يدركه وجب العدول إلى العمرة المفردة أو انقلب إحرامه إليها ولو لم ينوِ العدول ، وإنما يحلّ من إحرامه بإتيانه بأفعالها أو بأفعال حجّ الإفراد ، وما نحن فيه كذلك ، إلّا إنه فوات اختياريّ ، وإحلاله

ص: 305


1- في المخطوط : ( يقتضي ).
2- البقرة : 286.

بمجرّد تعمّد ترك الركن وحلّ ما حرّمه الإحرام بمعصيته لا دليل عليه ، ولا نعلم قائلاً به ؛ فاحتماله وهم بحت.

وإن كان تحقّق ترك طوافها نسياناً ، فإن ذكر في وقت يسع الإتيان به وبما بعده من أفعال العُمرة ، مع إدراك أقلّ المجزي من اختياريّ عرفة ، وجب الإتيان به وبما بعده من واجبات عمرته لترتّب صحّتها حينئذٍ عليه ، ولأنها الكيفيّة المتلقّاة ، ولما يحصل به من يقين البراءة ، ولأن فيه الحائطة وتمّ نُسُكه وحجّه.

وإن لم يسع الوقت إلّا الإتيان به خاصّة دون باقي واجباتها ، احتمل الاجتزاء به قضاءً ، وصحّت عمرته وحجّه ؛ لإطلاق الأكثر أن من نسي الطواف قضاه ولو بعد المناسك.

وظاهر ( المدارك ) (1) أنه إجماع.

ولعلّ مراد المعبّر بذلك من بعديّة المناسك (2) : مناسك العُمرة في مثل هذه الصورة للعمرة المتمتّع بها.

وله أيضاً ظاهر صحيحة عليّ بن جعفر (3) ؛ وستأتي إن شاء اللّه تعالى وتقدّس ، من غير تعرّض لذكر الإتيان بما بعده من الواجبات.

ولعذره حينئذٍ بالنسيان القهريّ ، فيدخل في رفع عن أُمّتي النسيان (4).

واحتمل وجوب العدول حينئذٍ إلى حجّ الإفراد ؛ لعدم التمكّن حينئذٍ من عمرة التمتّع على الوجه المتلقّى من ترتّب صحّة ما بعده عليه ، مع حضوره ومباشرته له ، فقد فاتت ولم يتمكّن من أداء أفعالها لا باختياره لعذرة بالنسيان القهريّ فيدخل في رفع عن أُمّتي النسيان ، فلا يصحّ حجّ التمتّع إلّا بعمرته ، فوجب العدول حينئذٍ إلى حجّ الإفراد. والمسألة محلّ إشكال وإن كان الثاني لا يخلو من قوّة.

ص: 306


1- مدارك الأحكام 8 : 175.
2- أي قوله : ( قضاه ولو بعد المناسك )
3- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.
4- عوالي اللآلي 1 : 232 / 131.

ولو ذكره في وقت لا يسع الإتيان إلّا بأربعة أشواط مع باقي مناسكها ، فالاحتمالان أيضاً أوْلى بالصحّة. ولعلّ الأوّل هنا أرجح ؛ لما ثبت من صحّته كذلك فيمن فجأها الحيض بعد إكمالها أربعة وغيرها.

ولو ذكره في وقت لا يسع الإتيان بشي ء منه أصلاً ، فالوجهان ، وأوْلى بوجوب العدول إلى حجّ الإفراد. والأمر في هذه الفروع مشكل ، وأشكل منها كلّها ما لو لم يذكره إلّا بعد أن تلبّس بالحجّ أو في أثنائه أو بعد كماله.

فإن العصابة قد أجمعوا على عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك قبل إكماله ، وأن الثاني حينئذٍ باطل. وإنما اختلفوا فيمن أحرم بالحجّ ناسياً قبل أن يُقَصّر من عمرة التمتّع ، فقال ابن إدريس (1) ببطلان إحرامه بالحجّ حينئذٍ. ولو لا النصّ (2) على الصحّة حينئذٍ لكان قوله هو الأقوى ؛ لأنه أوفق بقواعد الحجّ ، ومن إطلاق الفتاوى بصحّة النُّسُك مع تركه نسياناً ، وأنه متى ذكره قضاه. وظاهر صحيحة عليّ بن جعفر ذلك (3). ولكن عبارات بعض الأصحاب مجملة جدّاً.

قال المحقّق في ( الشرائع ) : ( الطواف ركن ، من تركه عامداً بطل حجّه ، ومن تركه ناسياً قضاه ولو بعد المناسك ، ولو تعذّر العود استناب فيه ) (4). وإطلاق العبارة كما قال في ( المدارك ) (5) يشمل طواف الحجّ بأنواعه ، والعُمرة بنوعيها ، وطواف الفريضة وطواف النساء.

وكتب السيّد في ( المدارك ) على قوله : ( ومن تركه ناسياً ) إلى آخره : ( هذا مذهب الأصحاب لا اعلم فيه مخالفاً ) (6). بعد أن كتب بعد قوله : ( الطواف ركن ) إلى آخره : ( إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين طواف الحجّ وطواف العُمرة وطواف

ص: 307


1- السرائر 1 : 580 - 581.
2- وسائل الشيعة 12 : 410 - 411 ، أبواب الإحرام ، ب 54.
3- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.
4- شرائع الإسلام 1 : 245.
5- مدارك الأحكام 8 : 172.
6- مدارك الأحكام 8 : 175.

النساء ) (1). ثمّ نقل عن ( المسالك ) (2) أن المراد به غير طواف النساء.

وظاهرهما أن الحكمين شاملان لطواف الحجّ والعمرتين ، وهو مشكل ؛ لأنا سنبيّن إن شاء اللّه تعالى أنه لا يتحقّق ترك الطواف المبطل في المفردة الغير المجامعة للحجّ. وعلى تقديره ، أو كونها المجامعة له ، فأي مناسك يقضي بعدها؟ وكذلك في طواف الحجّ ، ما معنى قضائه مع النسيان بعد المناسك؟ وإرادة السعي ورمي الجمار وطواف النساء بعيد مخالف للأصل ؛ من دلالة موضوع الجمع المعرّف باللام.

والظاهر أن مراده بقوله : ( الطواف ركن من تركه عامداً بطل حجّه ) ما يعمّ طواف الحجّ وعمرة التمتّع ، والمفردة المجامعة لحجّ الإسلام. ويبقى الإشكال في المفردة غيرها ، ولعلّه يرى تحقّق ترك طوافها المبطل بوجه من الوجوه الآتية إن شاء اللّه تعالى ، فيعمّ طوافها.

ويبقى الإشكال في قوله : ( ومن تركه ناسياً قضاه ولو بعد المناسك ) ، فإن ظاهر العبارة عود المفعول في ( تركه ) للطواف المذكور أوّلاً ، الذي من تركه عامداً بطل حجّه.

ولكنّه يشكل بقوله بعد هذا : ( ومن ترك طواف الزيارة ناسياً ) (3) إلى آخره. فإنه يعطي بظاهره أن المراد هنا بالمنسيّ طواف العُمرة دون الحجّ ، بل الأنسب بقوله : ( ولو بعد المناسك ) إرادة طواف المتمتّع بها خاصّة ، حتّى يراد بالمناسك : مناسك الحجّ ، ولكن يحتاج في صحّة العبارة إلى تكلّف وتجوّز.

وكتب الشيخ علي على قوله : ( ومن تركه ناسياً ) إلى آخره - : ( يلوح من هذه العبارة ونظائرها أن الترك يتصوّر بالإخلال به ولو قبل المناسك ، فينبغي تأمّل ذلك ) ، انتهى.

وهذا لا يظهر له وجه صحيح إلّا إذا أُريد به طواف المتمتّع بها خاصّة ، والمناسك :

ص: 308


1- مدارك الأحكام 8 : 172.
2- مسالك الأفهام 2 : 348.
3- شرائع الإسلام 1 : 245 ، وفيه : ( من نسي طواف الزيارة ) بدل : ( ومن ترك طواف الزيارة ناسياً ).

مناسك الحجّ ؛ إذ أقصى ما يمكن تصوّره في غير ذلك أن يراد به : طواف الحجّ ، وبالترك قبل المناسك أنه يتحقّق الترك المبطل عمداً بالعزم على عدم الإتيان به.

وهذا بعيد جدّاً ، بل فاسد ؛ إذ لا ريب في صحّته ولو كان منه ذلك العزم مع إتيانه به بعد المناسك. ومع هذا لا يتصوّر حينئذٍ فيه النسيان قبل المناسك.

والغرض من نقل هذه العبارات أن ظاهر عبارة المحقّق تعمّ عمرة التمتّع ، والشرّاح لم يدفعوها ، بل ظاهر ( المدارك ) (1) الإجماع على صحّة العُمرة المتمتّع بها لو نسي طوافها ولم يذكره إلّا بعد التلبّس بالحجّ ، وصحّة الحجّ حينئذٍ ، ويقضي طوافها بعد مناسكه.

وقال في ( النافع ) : ( الطواف ركن ، من تركه عامداً بطل حجّه ، ولو كان ناسياً أتى به ، ولو تعذّر العود استناب فيه ).

ثمّ قال بعد هذا : ( ولو نسي طواف الزيارة حتّى يرجع إلى أهله وواقع ، عاد وأتى به ، ومع التعذّر يستنيب فيه ) (2) ، انتهى.

وظاهر العبارة الأُولى يعمّ طواف الحجّ والعُمرة ، وتعقيبه بالعبارة الثانية يشعر بتخصيص الاولى بطواف العُمرة. لكنّ الحكم بالبطلان مع الترك عمداً يشملهما قطعاً ، فالعبارة لا تخلو من تشابه وإجمال. وعلى كلّ حال ، فظاهرها صحّة العُمرة المتمتّع

بها لو ترك طوافها نسياناً ولو لم يذكره إلّا بعد الحجّ وصحّة الحجّ أيضاً.

وابن فهد في ( المهذّب ) (3) بعد إيراد العبارة الأُولى تكلّم على الفرق بين الركن وغيره من واجبات الحجّ ، وأطلق القول بأن ترك الركن عمداً مبطل ، وسهواً غير مبطل ، وعليه الإتيان به بنفسه أو نائبه. وظاهره صحّة العُمرة في مسألتنا وصحّة الحجّ ، وعليه قضاء الطواف المنسيّ.

ومثله المقداد في ( التنقيح ) (4) ، حيث إنه اقتصر في شرح العبارة الأُولى على بيان

ص: 309


1- مدارك الأحكام 8 : 175.
2- المختصر النافع : 165 - 166.
3- المهذّب البارع 2 : 206 - 207.
4- التنقيح الرائع 1 : 506.

معنى الركن في باب الحجّ ، وأنه ما يبطل النُّسُك بتركه عمداً لا سهواً ، وأن من تركه ناسياً وجب العود لفعله مع المُكْنة ، والاستنابة مع التعذّر والمشقّة ، وبيان المشقّة ، وأن كلّ طواف واجب ركن إلّا طواف النساء ، والفرق بين الركن وغيره من الواجبات.

وكتب على العبارة الثانية (1) وجه التردّد في وجوب الكفّارة على من نسي طواف الزيارة حتّى رجع وجامع. وظاهره صحّة العُمرة والحجّ إذا نسي طوافها ولم يذكره إلّا بعد التلبّس بالحجّ.

وصورة عبارة السيّد علي المعاصر في شرح عبارتي المحقّق في ( النافع ) ، مازجاً لعبارته بعبارة المتن هكذا : ( الطواف ركن ، فلو تركه عالماً عامداً بألّا يأتي به في وقته وهو في طواف الحجّ قبل انقضاء ذي الحجّة ، وفي طواف العُمرة قبل أن يضيق الوقت عنها ، وفي طواف العُمرة المجامعة لحجّ الإفراد والقِران قبل خروج السنة ، بناءً على وجوب إيقاعهما فيها ، وفي المجرّدة قبل الخروج من مكّة بنيّة الإعراض عن فعله على إشكال بطل حجّه أو عمرته بلا خلاف ولا إشكال.

ثمّ إن هذا غير طواف النساء ، فإنه ليس بركن يبطلُ بتركه النُّسُك بغير خلاف. وفي كلام جمع الإجماع. ولو كان تركه له ناسياً أتى به مع القدرة وقضاه متى ذكره. ولا يبطل النُّسُك ولو كان الطواف الركن وذكره بعد المناسك وانقضاء الوقت ، بلا خلاف فيه وفي كلّ من الحكم بالصحّة ووجوب القضاء عليه بنفسه مع القدرة إلّا من الشيخ في كتابي الحديث (2) في الأوّل ، فأبطل الحجّ بنسيان طوافه ، ومثله الحلبيّ (3) ، وهما نادران ، بل على خلافهما الإجماع في صريح ( الغنية ) (4) و ( الخلاف ) وظاهر

ص: 310


1- وهي قول المحقق رحمه اللّه : ( ولو نسي طواف الزيارة .. وفي الكفّارة تردّد ). المختصر النافع : 167.
2- تهذيب الأحكام 5 : 127 - 128 / ذيل الحديثين 418 ، 421 ، الاستبصار 2 : 228 / ذيل الحديث 788.
3- الكافي في الفقه : 195.
4- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيَّة ) 8 : 401.

غيرهما ، مع أن الأوّل قد رجع عنه في جملة من كتبه (1).

ومن بعض المتأخّرين في الثاني ، فجوّز الاستنابة مطلقاً ولو مع القدرة على المباشرة وهو ضعيف.

ولو تعذّر العود استناب فيه بلا خلاف من القائلين بصحّة الحجّ وعدم بطلانه.

وفي ( الغنية ) الإجماع للصحيح (2). وهو نصّ في تساوي الحجّ والعُمرة ، كما يقتضيه إطلاق المتن وجمع. ولكن عن الأكثر الاقتصار عليه في طواف الحجّ ، ولا وجه له ) (3) ، انتهى.

وهو صريح في صحّة العُمرة والحجّ إذا نسي طوافها ولو لم يذكر إلّا بعد التلبّس بالحجّ ، بل ظاهره أنه إجماع العلّامة في ( القواعد ) في مطلب الأحكام : ( من ترك الطواف عمداً بطل حجّه ، وناسياً يقضيه ولو بعد المناسك ، ويستنيب لو تعذّر العود. ولو نسي طواف الزيارة وواقع بعد رجوعه إلى أهله فعليه بدنة والرجوع لأجله ) (4).

وظاهره كالمحقّق عموم الحكمين للحجّ والعُمرة ، وكأنهما خصّا بقولهما : ( ولو بعد المناسك ) صورة نسيان طواف عمرة التمتّع حتّى تلبّس بالحجّ.

وكتب الشيخ علي في شرح هذه العبارة على قوله : ( من ترك الطواف عمداً بطل حجّه ) - : ( ما سننقله من الاستشكال فيما يتحقّق به الترك ) (5).

ولم يكتب على قوله : ( وناسياً ) إلى آخره ، إلّا إن حكم ( الجاهل كالعامد ) (6). واستدلّ عليه بصحيحة عليّ بن جعفر (7).

ص: 311


1- المبسوط 1 : 359 ، النهاية : 272.
2- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، الإستبصار 2 : 228 / 788 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 38 ، ح 1.
3- الشرح الصغير 1 : 430.
4- قواعد الأحكام 1 : 84 ( حجريّ ).
5- في المصدر : ( ممّا يشكل تحقيق ما به يتحقق الترك ) بدل العبارة التي أوردها المصنّف. انظر جامع المقاصد 3 : 201.
6- المصدر نفسه.
7- قرب الإسناد : 107.

لكنّه قال في شرح قوله : ( ولو نسي طواف النساء ) إلى آخره - : ( ولو نسي طواف عمرة التمتّع أو الإفراد ، وجب العود له مع الإمكان ).

ثم قال ، بعد ذكر حكم من جامع حينئذٍ قبل الذكر أو بعده : ( فرع : قال شيخنا الشهيد في حواشيه : ( لم يذكر الأكثر قضاء السعي لو قضى الطواف. وفي ( الخلاف ) (1) يقضي السعي بعده ).

ونقل عن المخالف قولاً ، ثمّ قال : ( ما قلناه مجمع عليه ).

قلت : يشهد له ما تقدّم التنبيه عليه من الرواية الدالّة على أن من سعى ولم يطف ، يطوف ثمّ يسعى ) (2) ، انتهى.

وهو صريح في صحّة العُمرة والحجّ في مسألتنا.

وقال في ( الإرشاد ) : ( المقصد الثاني في الطواف : وهو ركن يبطل الحجّ بتركه ، [ ويقضيه (3) ] في السهو ، ولو تعذّر استناب ).

ثمّ قال بعد كلام : ( ولو نسي طواف الزيارة حتّى يرجع إلى أهله وواقع بعد الذكر فبدنة ، ويستنيب لو نسي طواف النساء ) (4) ، انتهى.

ولا تخلو عبارته من تشابه ، فإن أراد بالعبارة الأُولى ما يعمّ الحجّ والعُمرة فلا وجه لتخصيص الحجّ بالتنصيص على بطلانه ، وإن أراد الحجّ خاصّة فلا وجه لإفراد طواف الزيارة ؛ لأنه حينئذٍ هو الأوّل ، فحقّه أن يقول بعد قوله : ( ولو تعذّر استناب ، ولو لم يذكره حتّى يرجع إلى أهله ) إلى آخره - : ولكنّه أراد العموم بالعبارة الاولى ، وخصّ الحجّ بالحكم بالبطلان ؛ لاستلزام ترك طوافه وطواف العُمرة لبطلانه. ولعلّه أراد التنبيه على ذلك ، فعلى هذا لو نسي طواف العُمرة حتّى تلبّس بالحجّ صحّت وصحّ الحجّ وإن لم يحلّ من إحرامها.

وكتب الشيخ علي بن عبد العالي على العبارة الأُولى بعد قوله : ( ويقضي في

ص: 312


1- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
2- جامع المقاصد 3 : 203.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( يقضي ).
4- إرشاد الأذهان 1 : 324 ، 326.

السهو ) - : ( ممّا يشكل تحقيق ما به يتحقّق ترك الطواف ، فإنه لو سعى قبل الطواف لم يعتدّ به ، وإن أحرم بنُسُك آخر بطلت متعته إن كان متمتّعاً ) (1) .. إلى آخر ما سننقله من عبارته في ( شرح القواعد ) ، وكأنه تنبّه للإشكال في هذا البحث بوجه.

وقال في ( التلخيص ) : ( من ترك الطواف عمداً بطل حجّه ، ونسياناً يأتي به ويستنيب مع التعذّر ).

ثمّ قال بعد كلام : ( وناسي طواف الزيارة إذا رجع إلى أهله يرجع ، ومع العجز يستنيب ).

ثمّ قال بعد كلام : ( ولو ذكر أنه طاف أحد طوافي العُمرة والحجّ على غير [ الوضوء واشتبه أعاد (2) ] بوضوء ) (3) ، انتهى.

وكأنه أراد بالعبارة الاولى طواف العُمرة ، بقرينة العبارة الثانية. وإرادة ما يعمّ الحجّ والعُمرة من العبارتين معاً واضح ، وإطلاق الثالثة يشمل ما لو لم يذكر إلّا بعد إكمال النُّسُك أو الحجّ ، وإن كان الواقع بلا طهارة طواف عمرة التمتّع. والكلّ ظاهره صحّة العُمرة والحجّ في المسألة المبحوث عنها.

وقال في ( التحرير ) في فصل أحكام الطواف : ( السادس : الطواف ركن ، من تركه عمداً بطل حجّه ، ولو كان ناسياً قضاه ولو بعد المناسك ، فإن تعذّر استناب فيه ).

ثمّ قال : ( الثالث عشر : لو تحلّل من إحرام العُمرة ، ثمّ أحرم بالحجّ وطاف وسعى له ، ثمّ ذكر أنه طاف مُحْدِثاً أحد الطوافين ولم يعلم أيّهما هو ، أعاد الطوافين معاً ).

ثمّ قال : ( التاسع عشر : طواف الحجّ ركن فيه بالإجماع ، كما أن طواف العُمرة ركن فيها ، فلو أخلّ به عمداً بطل حجّه ، وإن أخلّ به نسياناً وجب عليه أن يعود فيقضيه ، فإن لم يتمكّن استناب فيه ) (4) ، انتهى.

ص: 313


1- جامع المقاصد 3 : 201.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( وضوء أعاده ).
3- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 30 : 335.
4- تحرير الأحكام 1 : 99 - 100 ( حجريّ ).

وظاهره صحّة العُمرة والحجّ مع نسيان طواف العُمرة ولو لم يذكر إلّا بعد الحجّ.

وقال ابن زهرة في ( الغنية ) : ( ومن فاته طواف المتعة مضطرّاً قضاه بعد فراغه من مناسك الحجّ ولا شي ء عليه ، بدليل نفي الحرج في الدين. وأمّا طواف الزيارة فركن من أركان الحجّ ، من تركه متعمّداً فلا حجّ له بلا خلاف ، ومن تركه ناسياً قضاه وقت ذكره. فإن لم يذكره حتّى عاد إلى بلده قضاه من قابل بنفسه ؛ بدليل الإجماع المشار إليه. فإن لم يستطع استناب من يطوف عنه ؛ بدليل الإجماع المشار إليه ، وقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) ) (2) ، انتهى.

وعبارته نصّ في صحّة العُمرة والحجّ في المسألة المبحوث عنها ، ولم أقف على أصرح منها ، بل صريحها صحّتها بمجرّد ترك طواف العُمرة لضرورة ولو لم يكن عن نسيان.

وقريب منها عبارة الشيخ عليٍّ في حاشية ( الإرشاد ) حيث قال : ( ولو نسي طواف عُمرة التمتّع أو الإفراد ، وجب العود مع الإمكان ). ومثلها عبارته في ( شرح القواعد ).

وقال الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ) مازجاً لعبارته بعبارة المتن - : ( طواف الزيارة ، وهو طواف الحجّ الأوّل ، وهو وطواف العُمرة ولو متمتّعاً بها ركن ، حتّى [ إن ] من تركه عامداً بطل حجّه ، أو في عمرته بطلت عمرته. وهذا حكم مجمع عليه بين الأصحاب ، بخلاف طواف النساء فهو واجب غير ركن بلا خلاف فيهما ؛ إذ الأوّل متّفق على ركنيّته ، كما أن الثاني متّفق على عدمها.

ومن تركهما كليهما أو أحدهما ناسياً غير عامد ، قضاه وتداركه ولو بعد كمال المناسك. ولو شَقّ العودُ استناب فيه بلا خلاف فيهما ، وإنما الخلاف في طواف النساء ، هل يجوز الاستنابة فيه وإن أمكن العود كما هو المشهور ، أو لا يجوز إلّا مع

ص: 314


1- الحجّ : 78.
2- الغنية ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيَّة ) 8 : 401.

العذر مثل الطواف الآخر كما عليه شيخ الطائفة (1) وجماعة (2)؟

وهذه الأحكام بعد الإجماع حكم بها للصحاح المستفيضة ، لكن أكثرها ورد في طواف النساء :

منها : صحيح ابن عمّار : سألت الصادق عليه السلام عن رجل نسي طواف النساء حتّى يرجع إلى أهله قال يرسل فيطاف عنه ، فإن توفّي قبل أنْ يطوف ، فليطف عنه وليّه (3). وصحيحه الآخر مثله (4).

ومنها : صحيح عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام : سألته عن رجل ، نسي طواف الفريضة حتّى قدم بلاده وواقع النساء ، كيف يصنع؟ فقال يبعث بهدي ؛ إن كان تركه في حجّ بعث به في حجّ ، وإن كان تركه في عمرة بعث به في عمرة ، ووكّل من يطوف عنه ما تركه من طوافه (5) ) ، انتهى ما أردنا نقله من كلامهما.

وأنت خبير بأن صريح كلام الشارح وهو خاتمة الحفّاظ صريح في صحّة العُمرة والحجّ لو نسي طواف العُمرة ، ولو لم يذكر حتّى تلبّس بالحجّ صحّت متعته وحجّه ، بل صريحه أنه إجماع.

وقال الشهيد في (الدروس) : (كلّ طواف واجب ركن إلّا طواف النساء ، فلو تَركَه عمداً بطل نسكه ولو كان جاهلاً ، ولو تركه ناسياً عاد له ، فإن تعذّر استناب فيه).

ثمّ قال: (الرابع : إذا وجب قضاء طواف العُمرة أو طواف الحجّ ، فالأقرب وجوب قضاء السعي أيضاً ، كما قاله الشيخ في (الخلاف) (6) ، ولا يحصل التحلّل بدونهما. ولو شكّ في كون المتروك طواف الحجّ أو طواف العُمرة ، أعادهما وسعيهما ، ويحتمل إعادة واحد عمّا في ذمّته) (7) ، انتهى. وظاهره صحّة العُمرة والحجّ مع نسيان طوافها

ص: 315


1- تهذيب الأحكام 5 : 255 / ذيل الحديث 864.
2- منتهى المطلب 2 : 769 ، مدارك الأحكام 8 : 184.
3- تهذيب الأحكام 5 : 255 / 866 وسائل الشيعة 13 : 407 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 3.
4- تهذيب الأحكام 5 : 255 / 866 وسائل الشيعة 13 : 407 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 3.
5- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.
6- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
7- الدروس 1 : 403 ، 405.

وذكر أنه بعد الحجّ.

وقال الشهيدان في ( اللمعة ) وشرحها ممزوجة عبارة الشرح بالمتن - : ( كلّ طواف واجب ركن يبطل النُّسُك بتركه عمداً كغيره من الأركان إلّا طواف النساء. والجاهل عامد ، ولا يبطل بتركه نسياناً ، لكن يجب تداركه فيعود إليه وجوباً مع المُكْنَة ولو من بلده ، ومع التعذّر يستنيب فيه.

ويتحقّق البطلان بتركه عمداً أو جهلاً بخروج ذي الحجّة قبل فعله إن كان طواف الحجّ مطلقاً ، وفي عمرة التمتّع بضيق وقت الوقوف إلّا عن التلبّس بالحجّ قبله ، وفي المفردة المُجامِعة للحجّ والمفردة عنه إشكال. ويمكن اعتبار نيّة الإعراض عنه ) (1) ، انتهى.

وهو صريح في صحّة العُمرة مع نسيان طوافها ولو لم يذكره إلّا بعد الحجّ - وصحّة الحجّ ، بل لازم تحديد فواتها بتركه عمداً بما ذكر صحّتها لو ذكره في مثل ذلك الوقت ، فيصحّ حينئذٍ الإحرام بالحجّ ويقضي الطواف بعده.

هذا ما ظفرت به من كلام الأصحاب فيما يتعلّق بالمسألة ، وهو يقتضي أن من نسي طواف عمرة التمتّع ولم يذكره إلّا بعد أن تلبّس بالحجّ ، أو في وقت لا يسع الإتيان به ، أو الإتيان به وحده أن عمرته تامّة وحجّه تامّ صحيح. ولو أحرم بالحجّ قبل أن يأتي بالطواف المنسي فحجّه حينئذٍ وعمرته تامّان صحيحان.

وبالجملة ، فجميع الصور المذكورة يصحّ فيها عمرة التمتّع وحجّه بلا احتمال من الاحتمالات المذكورة سابقاً. فإن تمّ إجماع فلا مَعدل عنه ، ويكون هذا مستثنًى من عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك ، وإلّا فالمسألة في غاية الإشكال من وجهين :

أحدهما : أنهم أجمعوا على عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك.

وثانيهما : أن من أحرم بنُسُك لا يجوز له أن يحرم بغيره قبل التحلّل من الأوّل ، فإن فعل كان إحرامه الثاني باطلاً.

ص: 316


1- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 256 - 257.

ونقل الإجماع عليه مستفيض ، إلّا فيما لو أحرم بالحجّ قبل التقصير من المتعة ناسياً ، فإنه يصحّ إجماعاً ؛ إمّا لأن التقصير ليس بنُسُك وإنما هو محلّل ، وإمّا لقيام الدليل من النصّ والإجماع.

وإنما وقع الخلاف فيمن أحرم بالحجّ قبل التقصير من إحرام المتعة متعمّداً ، فعن الشيخ (1) وتبعه جماعة (2) أنه ينقلب حجّه إفراداً وتبطل متعته.

وعن ابن إدريس أنه قال : ( أُصول المذهب والأدلّة تقتضي إلّا ينعقد إحرامه بحجّ ؛ لأنه بعد في عمرته لم يتحلّل منها. وقد أجمعنا على أنه لا يجوز إدخال الحجّ على العُمرة ولا العُمرة على الحجّ قبل فراغ مناسكهما ) (3) ، انتهى.

فإذا كان هذا ، فكيف يصحّ الإحرام قبل الطواف؟! قال السيّد في ( المدارك ) في شرح قول المحقّق : ( ولا يجوز إدخال أحدهما على الآخر ) (4) - : ( بأن ينوي الإحرام بالحجّ قبل التحلّل من العُمرة ، أو بالعمرة قبل الفراغ من أفعال الحجّ وإن تحلّل ، فإن ذلك غير جائز عند علمائنا ونقل الشارح الإجماع (5). ويدلّ عليه مضافاً إلى أن العبادات متوقّفة على النقل ، ولم يرد التعبّد بذلك قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (6) ، ومع الإدخال لا يتحقّق الإتمام. وصحيحة عبد اللّه بن سنان (7) ذكرها وقال - : ومتى امتنع الإدخال وقع الثاني فاسداً إلّا أن يقع الإحرام بالحجّ بعد السعي وقبل التقصير من العُمرة ، فإنه يصحّ في المشهور وتصير الحجّة مفردة ) (8) ، انتهى.

وقال بعد قول المحقّق : ( لا يجوز لمن أحرم أن ينشئ إحراماً آخر حتّى يكمل أفعال ما أحرم له. فلو أحرم متمتّعاً ودخل مكّة وأحرم بالحجّ قبل التقصير ناسياً ، لم

ص: 317


1- المبسوط 1 : 316.
2- مسالك الأفهام 2 : 239 - 240.
3- السرائر 1 : 581 ، باختلاف.
4- شرائع الإسلام 1 : 215.
5- مسالك الأفهام 2 : 211 - 212.
6- البقرة : 196.
7- الكافي 4 : 440 / 1 ، تهذيب الأحكام 5 : 90 / 297.
8- مدارك الأحكام 7 : 212 - 213.

يكن عليه شي ء ، وقيل : عليه دم ؛ وإن فعل ذلك عامداً ، قيل : بطلت عمرته وصارت حجّته مبتولة ، وقيل : بقي على إحرامه الأوّل ) (1) - : ( أمّا إنه لا يجوز للمحرم إنشاء إحرام آخر ، قبل التحلّل من الأوّل فظاهر ( المنتهى ) (2) أنه موضع وفاق بين الأصحاب ، ويدلّ عليه الأخبار الكثيرة (3) الواردة في بيان حجّ التمتّع ؛ حيث يذكر فيها التقصير والإحلال من إحرام العُمرة ، ثمّ الإهلال بإحرام الحجّ ، فيكون الإتيان بالإحرام قبل التقصير تشريعاً محرّماً ).

ثمّ ذكر الحكم لو أحرم قبل التقصير ناسياً ، وأنه صحيح ، وإنما ذكر الخلاف في وجوب البدنة ، ثمّ نقل القولين فيمن فعل ذلك عامداً.

ثمّ قال : ( القول ببطلان العُمرة بذلك وصيرورة الحجّة مبتولة للشيخ (4) وجمع من الأصحاب ).

ثمّ نقل استدلال الشيخ بخبري أبي بصير (5) وابن فضيل (6) ، ثمّ قال : ( وفي الروايتين قصور من حيث السند ، فيشكل التعويل عليهما في إثبات حكم مخالف للأصل والاعتبار. وأجاب عنهما في ( الدروس ) (7) بالحمل على متمتّع عدل عن الإفراد ثمّ لبّى بعد السعي ؛ لأنه رُويَ التصريح بذلك (8) ).

ثمّ نسب القول ببطلان الإحرام بالحجّ حينئذٍ لابن إدريس (9) ، وقال : محتجّاً بأن الإحرام بالحجّ إنما يسوغ التلبّس به بعد التحلّل من الأوّل ، وقبله يكون منهيّاً عنه ،

ص: 318


1- شرائع الإسلام 1 : 221 - 222.
2- منتهى المطلب 2 : 685.
3- وسائل الشيعة 11 : 212 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 2.
4- المبسوط 1 : 316 ، النهاية : 215 ، تهذيب الأحكام 5 : 90 / ذيل الحديثين 295 ، 296.
5- تهذيب الأحكام 5 : 90 / 295 ، وسائل الشيعة 12 : 412 ، أبواب الإحرام ، ب 54 ، ح 5.
6- تهذيب الأحكام 5 : 90 / 296 ، وسائل الشيعة 12 : 412 ، أبواب الإحرام ، ب 54 ، ح 4.
7- الدروس 1 : 333.
8- الكافي 4 : 298 - 299 / 1 ، وسائل الشيعة 11 : 255 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 5 ، ح 4.
9- السرائر 1 : 581.

والنهي في العبادات يقتضي الفساد. وبأن الإجماع منعقد على أنه لا يجوز إدخال الحجّ على العُمرة ، ولا العُمرة على الحجّ ، قبل فراغ مناسكهما.

وأُجيب عنه بمنع كون النهي مفسداً ؛ لرجوعه إلى وصف خارج عن ماهيّة الإحرام ، وبمنع تحقّق الإدخال ؛ لأن التقصير مُحَلّل لا جزءاً من العُمرة.

ويتوجّه على الأوّل أن المنهيّ عنه نفس الإحرام ؛ لأن التلبّس به قبل التحلّل من إحرام العُمرة إدخال في الدين ما ليس منه ، فيكون تشريعاً محرّماً ويفسد ؛ لأن النهي في العبادة يقتضي الفساد ، وإذا كان فاسداً يكون وجوده كعدمه. ويبقى الحال على ما كان عليه من وجوب التقصير وإنشاء إحرام الحجّ.

وعلى الثاني أن المستفاد من الأخبار الكثيرة المتضمّنة لبيان أفعال العُمرة كون التقصير من جملة أفعالها وإن حصل التحلّل به ، كما في طواف الحجّ وطواف النساء. وقد صرّح بذلك في ( المنتهى ) (1) مدّعياً عليه الإجماع وساق عبارته ثمّ قال : ( ومتى ثبت كون التقصير نُسُكاً تحقّق الإدخال بالتلبّس بإحرام الحجّ قبل الإتيان به ).

إلى أن قال : ( ومقتضى الأصل المصير إلى ما ذكره ابن إدريس إلى أن يثبت سند الروايتين ) (2) ، انتهى.

وبالجملة ، فنقل الإجماع على عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك قبل إكمال الأوّل مستفيض. ولا ريب أن من أحرم بالحجّ قبل أن يطوف للعمرة المتمتّع بها ، فقد أدخل نُسكاً على نُسُك ؛ لأنه يعدّ محرماً بالعمرة ، لم يتحلّل من إحرامه ولم يكمل أفعال العُمرة. فكيف الجمع بين : صحّة الحجّ وعمرة التمتّع مع نسيان طوافها وعدم ذكر أنه قبل التلبّس بالحجّ ، مع تحقّق إدخال نُسُك الحجّ على نُسُك العُمرة قبل التحلّل منها ، بالإتيان بجميع أفعالها؟

ص: 319


1- منتهى المطلب 2 : 709.
2- مدارك الأحكام 7 : 279 - 283.

قال في ( المسالك ) بعد قول المحقّق : ( ولا إدخال أحدهما على الآخر ) (1) - : ( بأن ينوي الإحرام بالحجّ قبل التحلّل من العُمرة ، أو بالعمرة قبل الفراغ من أفعال الحجّ. وإن تحلّل فإن ذلك لا يجوز إجماعاً فيقع الثاني باطلاً ؛ للنهي وعدم صلاحيّة الزمان. ويستثنى من الحكم بفساد الثاني ما لو أحرم بالحجّ بعد السعي وقبل التقصير منها ، فإنه يصحّ على المشهور وتصير الحجّة مفردة ) (2) ، انتهى.

فتراه ادّعى الإجماع على عدم صحّة الثاني ، ولم يستثنِ إلّا الإحرام بالحجّ بعد السعي قبل التقصير من العُمرة. فعليه لا يصحّ الإحرام بالحجّ قبل طواف العُمرة أو سعيها ، سواء كان الفعل عمداً أو سهواً.

وبالجملة ، فجميع من نصّ على عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك لم يستثنِ إلّا الإحرام بالحجّ قبل التقصير من العُمرة سهواً إجماعاً وعمداً في قولٍ ، وهو ضعيف ، بل عن ( الخلاف ) (3) أنه نقل قولاً ببطلان الإحرام بالحجّ حينئذٍ ولو كان سهواً ؛ ومن أجل ذلك أجمعوا على أن من أحرم بالحجّ قبل سعي العُمرة لم ينعقد إحرامه ، سواء كان عمداً أو سهواً.

قال الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ) : ( لو أحرم بالحجّ قبل الطواف والسعي أو قبل السعي عامداً ، فلا كلام في فساد إحرام الحجّ بذلك ، ولا تصير الحجّة مفردة به ، وكذلك لو نسي فأحرم قبل كمال السعي لم ينعقد. ولا خلاف في هذين بين علمائنا ) ، انتهى.

وقال في ( الدروس ) : ( لا يجوز إدخال الحجّ على العُمرة إلّا في حقّ من تعذّر عليه إتمام العُمرة فإنه يعدل إلى الحجّ. ولو أحرم بالحجّ قبل التحلّل من العُمرة فهو فاسد إن تعمّد ذلك إلّا أن يكون بعد السعي وقبل التقصير ، فإنه يصحّ في المشهور ، وتصير الحجّة مفردة.

ص: 320


1- شرائع الإسلام 1 : 215.
2- مسالك الأفهام 2 : 211 - 212.
3- الخلاف 2 : 261 - 262 / المسألة : 27.

ويشكل بالنهي عن الإحرام وبوقوع خلاف ما نواه إن أدخل حجّ التمتّع ، وعدم صلاحيّة الزمان إن أدخل غيره ، فالبطلان أنسب ).

ثمّ قال : ( ولو نسي صحّ إحرامه هنا بالحجّ ، ولو نسي فأحرم به قبل كمال السعي لم ينعقد. وكذا لا يجوز إدخال العُمرة على الحجّ إلّا في صورة الفسخ أو عند الضرورة كخوف تعقّب الحيض ، فلو أحرم بالعُمرة قبل كمال التحلّل من الحجّ لم ينعقد ، والظاهر أنه يؤخّره عن المبيت بمنى ورمي الجمرات.

ولا تنعقد العُمرة الواجبة قبل ذلك ولا المندوبة ؛ للنهي عن عُمرة التحلّل قبل أيّام التشريق ، كما رواه معاوية بن عمّار (1) ، فغيرها أوْلى. وكذا لا يجوز إدخال حجّ على حجّ ، ولا عمرة على عمرة ، ولا نيّة حجّتين ولا عمرتين ، فلو فعل فالبطلان ) (2) ، انتهى.

وقد نبّه الشهيد الثاني على أن العدول ليس بإدخال حتّى يستثنى.

وقال الشهيد الثاني في شرح قول الأوّل في ( اللمعة ) ، مازجاً عبارته بعبارته : ( لا يجوز الجمع بين النُّسُكين الحجّ والعُمرة بنيّة واحدة ، ولا إدخال أحدهما على الآخر ، بأن ينوي الثاني قبل إكمال تحلّله من الأوّل ، وهو الفراغ منه لا مطلق التحلّل ، فيبطل الثاني إن كان عمرة مطلقاً ، حتّى لو أوقعها قبل المبيت بمنى ليالي التشريق ، أو كان الداخل حجّا على العُمرة قبل السعي لها ) (3).

ثمّ أخذ يقرّر حكم ما لو أحرم بعد السعي قبل التقصير الثاني أن اللازم من صحّة العُمرة المتمتّع بها ، إذا نسي طوافها ولم يذكره إلّا بعد التلبّس بالحجّ أنه أحرم بالحجّ قبل السعي للعمرة.

وقد عرفت أنه إذا أحرم بالحجّ قبل كمال سعي العُمرة فنُسُكه باطل.

ص: 321


1- تهذيب الأحكام 5 : 295 / 999 ، الإستبصار 2 : 307 / 1097 ، وسائل الشيعة 14 : 50 ، أبواب الوقوف بالمشعر ، ب 27 ، ح 3.
2- الدروس 1 : 333 - 334.
3- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 2 : 219 - 220.

أمّا الملازمة ، فظاهرة ممّا ذكرناه.

وأمّا بيان المقدّمة الأُولى ، فلأنه يجب تقديم الطواف على السعي ، فلو عكس لم يعتدّ بسعيه ، ووجب الإعادة بعد الطواف عمداً كان أو سهواً فيما هو المعروف من النصّ والفتوى ما لم يتلبّس بشي ء من الطواف ، على خلاف فيه معروف. والمفروض هنا أنه لم يأتِ بشي ء من الطواف.

وأنت إذا تأمّلت النصوص من الأصحاب والأخبار في ترتيب أفعال الحجّ والعُمرة وجدتها مصرّحة بذلك ، وكذا في خصوص المسألة ، فإنهم يحكمون بفساد السعي الواقع قبل الطواف.

قال الشيخ في ( تهذيب الأحكام ) : ( ومن قدّم السعي بين الصفا والمروة على الطواف يجب عليه أن يطوف بالبيت ، ثمّ يعيد السعي بين الصفا والمروة ) (1).

ثمّ استدلّ بقويّة منصور بن حازم : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت فقال يطوف بالبيت ثمّ يعود إلى الصفا والمروة فيطوف بينهما (2).

وبخبر منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل بدأ بالسعي بين الصفا والمروة قال يرجع فيطوف بالبيت ثمّ يستأنف السعي.

قلت : إن ذلك قد فاته قال عليه دم ، ألا ترى أنك إذا غسلت شمالك قبل يمينك ، كان عليك أنْ تعيد على شمالك (3).

وقال في ( المدارك ) بعد قول المحقّق : ( لا يجوز تقديم السعي على الطواف ) - : ( أمّا إنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فلا خلاف فيه بين الأصحاب ، ويدلّ عليه الروايات الكثيرة المتضمّنة لبيان أفعال الحجّ والعُمرة ، حيث يذكر فيها الطواف

ص: 322


1- تهذيب الأحكام 5 : 129 / ذيل الحديث 925.
2- الكافي 4 : 421 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 129 / 426.
3- تهذيب الأحكام 5 : 129 / 427.

أوّلاً ثمّ السعي. وصحيحة منصور بن حازم. وساق الرواية المذكورة من ( تهذيب الأحكام ) (1).

ثمّ قال : ( وصرّح الشهيد في ( الدروس ) (2) بأن من قدّم السعي على الطواف يجب عليه إعادة السعي وإن كان سهواً ، وهو كذلك ؛ لتوقّف الامتثال عليه ) (3) ، انتهى.

وعن العلّامة أنه قال في ( المنتهى ) (4) و ( التذكرة ) (5) : ( السعي تبع للطواف لا يصحّ [ تقديمه عليه (6) ] ). فإذا سعى قبله لم يصحّ ، واستند إلى صحيح ابن حازم (7) ، والحديث الآخر المتضمّن أن عليه دماً ) (8).

ثمّ قال : ( لو سعى بعد طوافه ثمّ ذكر أنه طاف بغير طهارة ، لم يعتدّ بطوافه ولا بسعيه ؛ لأنه تبع له ).

وقال محمّد بن شجاع في أحكام الطواف : ( ويجب تقديمه على السعي في الحجّ والعُمرة ، فلو أخّره أعاده ، ثمّ يسعى. ولو ذكر في السعي أنه لم يطف طاف ثمّ استأنف السعي ).

وقال في واجبات السعي : ( السابع : إيقاعه بعد الطواف ، فلو قدّمه أعاده. الثامن : تأخيره عن الركعتين ، فيعيد لو قدّمه ) ، انتهى.

وقال في ( القواعد ) : ( غير طواف النساء مقدّم على السعي ، فإن عكس أعاد سعيه ) (9) ، انتهى.

وقال في ( التحرير ) : ( لا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فإن قدّمه لم يجز. ولو طاف بعض الطواف ثمّ مضى إلى السعي ناسياً ، فذكر في أثناء السعي نقصان

ص: 323


1- تهذيب الأحكام 5 : 129 / 426.
2- الدروس 1 : 411.
3- مدارك الأحكام 8 : 219.
4- منتهى المطلب 2 : 708.
5- تذكرة الفقهاء 8 : 141 142 / المسألة : 502 ، والعبارة للتذكرة.
6- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أن يتقدّمه طواف ).
7- الكافي 4 : 421 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 129 / 426.
8- تهذيب الأحكام 5 : 129 / 427.
9- قواعد الأحكام 1 : 429.

الطواف ، رجع فأتمّ طوافه ، ثمّ عاد فتمّم سعيه ) (1).

وقال في ( الإرشاد ) في أحكام السعي : ( وتحرم الزيادة عمداً ويبطل بها لا سهواً ، وتقديمه (2) على الطواف فيعيده بعد الطواف لو قدّمه ) (3).

وقال الشيخ عليّ في ( حاشية الإرشاد ) بعد قول العلّامة - : ( ولو ذكر في السعي النقص أتمّ الطواف مع تجاوز النصف ثمّ أتمّ ) (4) - : ( وبدونه يعيدهما ).

وكتب في أحكام السعي على العبارة المذكورة : ( في صحيحة منصور بن حازم وغيرها ما يدلّ على أنه لو قدّم السعي أعاده بعد الطواف وإن كان ناسياً ) ، انتهى.

وقال في ( التلخيص ) : ( لا يجوز تقديم السعي على الطواف ) (5).

وقال : ( لو ذكر أنه طاف أحد طوافي العُمرة والحجّ على غير وضوء ، أعاده بوضوء وسعى ) (6).

وقال الشهيد بعد قول المحقّق : ( لو ذكر في أثناء السعي نقصاناً من طوافه ، قطع السعي وأتمّ الطواف ثمّ أتمّ السعي ) (7) - : ( إنما يتمّ الطواف مع تجاوز نصفه ، بأن يكون قد طاف أربعة أشواط ، فحينئذٍ يتمّه ، ثمّ يبني على ما مضى من السعي وإن كان شوطاً ، بل بعض شوط على الظاهر. ولو لم يبلغ في الطواف الأربعة أعاده من رأس ، ثمّ استأنف السعي وإن لم يبقَ منه إلّا القليل ، بل وإن كان أكمله ) (8).

وقال الكاشاني في ( المفاتيح ) : ( لا يجوز تقديم السعي على طواف الزيارة ولا على ركعتيه ) (9).

قال الشارح الشيخ حسين : ( لوجوب الترتيب ) ، انتهى.

ص: 324


1- تحرير الأحكام 1 : 100 ( حجريّ ).
2- معطوف على ( الزيادة ) في قوله : ( وتحرم الزيادة ).
3- إرشاد الأذهان 1 : 327.
4- إرشاد الأذهان 1 : 326.
5- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 30 : 336.
6- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 30 : 335 ، باختلافٍ يسير.
7- شرائع الإسلام 1 : 249.
8- مسالك الأفهام 2 : 363.
9- مفاتيح الشرائع 1 : 377 ، وفيه : ( ولا تأخيره عن طواف النساء ) بدل : ( ولا على ركعتيه ).

ولا فارق بين طواف الحجّ والعُمرة.

وقال ابن حمزة في ( الوسيلة ) : ( من قدّم السعي على الطواف لم يكن لسعيه حكم ) (1). وقال في أحكام السعي : ( ولا يجوز تقديمه على الطواف ) (2) ، انتهى.

وقال الشهيد في ( الدروس ) في أحكام الطواف : ( الرابع عشر : يجب تقديم طواف الحجّ والعُمرة على السعي ، فلو قدّم السعي لم يجز وإن كان سهواً ) (3).

وقال في واجبات السعي : ( سادسها : وقوعه بعد الطواف ، فلو وقع قبله بطل مطلقاً إلّا طواف النساء عند الضرورة ) (4) ، انتهى.

وقال الشيخ علي بن سليمان القدميّ : ( لا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فلو قدّمه عامداً أو جاهلاً أو ساهياً عاد فطاف ، ثمّ استأنف السعي من رأس ) ، انتهى.

وقال الشيخ بهاء الدين في واجبات السعي : ( الثاني عشر : وقوعه بعده ، يعني : الطواف ) ، انتهى.

وقال الشيخ أحمد بن عبد الرضا المعروف بالمهذّب في واجبات السعي : ( وفعله يوم الطواف لا قبله ولا بعده ، ووقوعه بعده لا قبله ) ، انتهى.

وقال الشيخ علي بن عبد العالي في منسكه في واجبات السعي : ( الثامن : وقوعه بعد الطواف والركعتين ) ، انتهى.

فهذه عبارات الأصحاب بين مطلق للحكم بعدم صحّة السعي لو وقع قبل الطواف كلّه ، وبين مصرّح بعدم الفرق بين وقوعه كذلك عمداً أو سهواً في الحكم بفساده وعدم صحّته حينئذٍ ، بل عن الشيخ في ( الخلاف ) (5) أن من وجب عليه قضاء طواف العُمرة أو الحجّ وجب عليه قضاء السعي ، مدّعياً على ذلك الإجماع.

وصرّح بوجوب ذلك جماعة منهم الشهيد في ( الدروس ) (6) ، والسيّد في

ص: 325


1- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 174.
2- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 176.
3- الدروس 1 : 408.
4- الدروس 1 : 411.
5- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
6- الدروس 1 : 405.

( المدارك ) (1) ، وغير واحد ، وما ذاك إلّا فرع الحكم بفساد السعي حينئذٍ.

فعلى هذا يلزم أن من نسي طواف عمرة التمتّع وسعى كان سعيه باطلاً ، فلو أحرم حينئذٍ بالحجّ كان إحرامه باطلاً ؛ للإجماع على أن من أحرم بالحجّ قبل سعي العُمرة لم ينعقد إحرامه سهواً كان أو عمداً. فكيف يجتمع هذا مع القول بصحّة العُمرة والحجّ مع نسيان طوافها والتلبّس بالحجّ قبل ذكرانه والإتيان به؟ إن هذا لمشكل جدّاً.

بل يلزم على هذا صحّة العُمرة المتمتّع بها وحجّها بدون الإتيان بطوافها وسعيها وصلاة طوافها وتقصيرها لو ترك ذلك سهواً ؛ لِما عرفت ، ولتصريحهم في السعي لو تركه سهواً بمثل ما صرّحوا به في الطواف ، وهذا مشكل جدّاً.

وبالجملة ، فأنا إلى الآن لم يظهر لي دليل على صحّة العُمرة المتمتّع بها لو نسي طوافها ولم يذكره إلّا بعد أن تلبّس بأفعال الحجّ ، ولا على صحّة هذا الحجّ. وليس في الباب إلّا صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام قال : سألته عن رجل نسي طواف الفريضة حتّى قدم بلاده ، وواقع النساء كيف يصنع؟ قال يبعث بهدي ؛ إنْ كان تركه في حجّ بعث به في حجّ ، وإن كان تركه في عمرة بعث به في عمرة ، ووكّل من يطوف عنه ما تركه من طوافه (2).

وإطلاق هذه الرواية مخصّص بالإجماع على عدم جواز إدخال نُسُك على نُسُك قبل إتمامه ، وبالنصّ والإجماع على أن من أحرم قبل السعي بالحجّ لم ينعقد إحرامه. هذا مع إمكان حملها على طواف حجّ التمتّع دون عمرته ، وطواف العُمرة المفردة.

وبالجملة ، فحملها على طواف نُسُك صحيح واقع في وقته ومحلّه ممكن ، وهو

ص: 326


1- مدارك الأحكام 8 : 177.
2- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، الإستبصار 2 : 228 / 788 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.

طواف حجّ التمتّع الواقع بعد كمال عمرته ، والعُمرة المفردة الغير المجامعة للحجّ أو المجامعة له الواقعة بعد كمال حجّ القرآن ، أو الإفراد الصحيح دون عمرة التمتّع ودون حجّ القرآن ، أو الإفراد الذي يجب معه في عامه عمرة مفردة بعده ، والقرينة ما ذكرناه.

هذا مع أن الشيخ في التهذيبين (1) حملها على ناسي طواف النساء ، فصرفها عن ظاهرها ، وكذا الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ). والمشهور خصّصوها بما إذا تعذّر العود في جواز الاستنابة فصرفوها أيضاً عن ظاهرها ، وهي بدون هذا كلّه لا تقوى على معارضة تلك الأُصول المجمع عليها ممّا ذكرنا. فلم يبقَ في المسألة فيما ظهر إلّا فساد العُمرة والحجّ فيما لو نسي طواف المتمتّع بها ولم يذكر حتّى تلبّس بأفعال الحجّ.

ولم أقف على من تنبّه لهذا الإشكال والداء العضال ، واللّه يهدي إلى صراط مستقيم ، وأسأله العفو عن العمد والخطأ ، وهو أرحم الراحمين.

هذا كلّه إذا كان المنسيّ كلّ الطواف أو أكثر من ثلاثة أشواط ، فلو كان المنسيّ ثلاثة أشواط فنازلاً احتمل صحّة نسكه ، ويأتي بالمنسيّ متى ذكره ، وعمرته وحجّه صحيحان ، ويقضي الفائت وإحلاله صحيح ؛ وذلك للأخبار الدالّة على أن المتمتّعة إذا طافت أربعة أشواط ، ثمّ اعتلّت ولم يسع الوقت أن تصبر إلى أن تطهّر ، تسعى وتقصّر وتحلّ وتحرم بالحجّ ، وتقضي ما بقي عليها من طواف عمرتها بعد الرجوع من مِنى. وعليه فتوى العصابة (2).

فقد دلّ ذلك على تحقّق صحّة الإحلال حينئذٍ من العُمرة وإن بقي من الطواف شي ء وتمام النُّسُكين. ولا يظهر فرق بين ضرورة عروض الحيض والنسيان ؛ فكلاهما عذر واقع بغير اختيار المكلّف بالنُّسُك.

ص: 327


1- تهذيب الأحكام 5 : 128 / ذيل الحديث 421 ، الاستبصار 2 : 228 / ذيل الحديث 788.
2- منتهى المطلب 2 : 698.

والحاصل أنه دلّ على صحّة الإحلال والإحرام حينئذٍ للضرورة والتوسعة ورفع الحرج وإرادة اليسر ، والنسيان ضرورة ، فيدخل في رفع عن أُمّتي النسيان (1).

بل عذر النسيان أوْلى من عذر ضرورة المتعمّد. وقد صرّح جماعة بأن حكم نسيان أقلّ من أربعة أشواط حكم نسيان طواف النساء ، وفيه تأييد ، ويحتمل فساد الحجّ والعُمرة حينئذٍ كنسيان الكلّ ، وفي الأوّل قوّة.

وأمّا العُمرة المفردة ؛ فإن كانت هي المجامعة للحجّ ، فإن قلنا بوجوب الإتيان بها مع الحجّ في عام واحد ، كما هو الأقوى وعليه مشهور الفرقة ؛ ولدلالة بعض الأخبار عليه (2) ، ولأن به يقين البراءة ، ولأنه الأحوط ؛ تحقّق تركه فيها بخروج ذي الحجّة ، فتبطل لو تركه فيها عمداً حتّى خرج الشهر ، بمعنى عدم كفاية ما أتى به من الأفعال غير الطواف إن أتى بها دونه ، وعدم إجزائها عن فرضه ، فتبقى ذمّته مشغولة بالنُّسُك إن وجب ، لا بمعنى أنه إذا ترك الطواف الركنيّ عمداً حتّى خرج وقتها ، أحلّ من إحرامه وحلّت له محرّمات الإحرام ، بل يجب عليه التحلّل بالإتيان بأفعال المفردة.

وهل يجزئه حجّه؟ وجهان : للأوّل قيام الدليل على عدم ارتباط المفردة بالحجّ ، والامتثال يقتضي الإجزاء ، وإن أثم بإبطال العُمرة وتأخيرها عن عام حجّها. فعلى هذا يجب الإتيان بها من قابل وحدها في شهر ذي الحجّة ؛ لأن المتلقى من الشارع فعلها أعني : عمرة الإسلام فيه ، ولم يثبت عنه الرخصة في الإتيان بها في غيره.

وهل يجوز له التحلّل حينئذٍ بالإتيان بأفعال المفردة واستئناف عمرة الإسلام من قابل ، أم يجب عليه البقاء على إحرامه حتّى يأتي بها من قابل؟ وجهان : أرجحهما الأوّل ؛ للعسر والمشقّة اللازمة للثاني.

وللثاني أن العبادات كيفيّات متلقّيات ، وهذا لم يأتِ بالكيفيّة المتلقّاة فلا يكون

ص: 328


1- عوالي اللآلي 1 : 232 / 131 ، وسائل الشيعة 4 : 373 ، أبواب لباس المصلّي ، ب 12 ، ح 6 ، 7 ، 8.
2- تهذيب الأحكام 5 : 454 - 455 / 1588 ، وسائل الشيعة 11 : 213 - 217 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 2 ، ح 4.

ممتثلاً ، والأصل يقين شغل ذمّته فيستصحب ، ولا دليل على خلوّ عهدته حينئذٍ فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) ، ولا تنقض اليقين بالشك (2). وهذا أيضاً أحوط.

وعليك بالحائطة لدينك (3).

والأخير أرجح الوجهين وإن كان الأوّل لا يخلو من قوّة.

وإن قلنا بعدم وجوبها مع الحجّ في عام واحد ، أو كانت غير الواجبة مع الحجّ ، فتحقّق ترك طوافها المبطل لها مشكل ، فإنا لو حكمنا ببطلانها في حال ؛ فإمّا أن نحكم بإحلاله من إحرامه وحلّ ما حرّمه الإحرام بمجرّد عصيان الناسك بتعمّد ترك الركن ، وهذا باطل قطعاً ؛ لعدم القائل ، ولأن المحلّلات من الإحرام أفعال مخصوصة محصورة ليس هذا منها ، ولعدم الدليل على ذلك شرعاً وعقلاً ، ولأصالة بقائه على إحرامه بعد يقين تلبّسه به ، فيستصحب تحريم محرّمات الإحرام عليه ، ولشغل ذمّته اليقينيّ بما أوجبه الإحرام من الأفعال.

وإمّا أن نحكم ببقائه على إحرامه حينئذٍ وتحريم ما حرّمه الإحرام ، وقد بطل نُسُكه وفاته الإتيان بأفعاله. ومن فاته النُّسُك الذي أحرم به ، وفات صحّة العدول إلى نُسُك آخر غير العُمرة المفردة ، إنما يتحلّل بالعمرة المفردة.

فهذا ؛ إمّا أن يحرم بعمرة اخرى وهو لا يصحّ ؛ لأنه لم يتحلّل من الإحرام الأوّل ، فيلزم إدخال نُسُك على نُسُك وهو لا يصحّ ، ولا ينعقد الثاني إجماعاً.

وإمّا أن يأتي بأفعال العُمرة التي ترك ركنها عمداً ، فلا يتحقّق حينئذٍ ترك ركن منها ولا بطلانها ؛ لأنه أتى بجميع أفعالها في وقتها ؛ إذ لا وقت لها معيّن تفوت بفواته.

قال المحقّق الشيخ عليّ في ( شرح القواعد ) بعد قول العلّامة : ( من ترك الطواف

ص: 329


1- إشارة إلى ما ورد في وسائل الشيعة 27 : 173 ، أبواب صفات القاضي ، ب 12 ، ح 63.
2- إشارة إلى ما ورد في تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ، وسائل الشيعة 1 : 245 ، أبواب نواقض الوضوء ، ب 1 ، ح 1.
3- إشارة إلى ما ورد في وسائل الشيعة 27 : 173 ، أبواب صفات القاضي ، ب 12 ، ح 65 ، وفيه : « وتأخذ بالحائطة لدينك ».

عمداً بطل حجّه ) (1) - : ( ممّا يشكل تحقّق ما يتحقّق الترك به ، فإنه لو سعى قبل الطواف لم يعتدّ به ، ولو قصّر لزمته الكفّارة إن كان معتمراً ، وإن أحرم بنُسُك آخر بطل فعله. ويمكن أن يحكّم في ذلك العرف.

وإذا شرع في نُسُك آخر عازماً على ترك الطواف بحيث يصدق الترك عرفاً ، حكم ببطلان الحجّ ، أو يراد به خروجه من مكّة بنيّة عدم فعله. ولم أظفر في هذا الباب بشي ء.

وفي رواية عليّ بن أبي حمزة إن من جهل أن يطوف حتّى رجع إلى أهله ، عليه إعادة الحجّ وعليه بدنة (2).

ولا دلالة فيها على اعتبار الرجوع إلى الأهل في تحقّق الترك ؛ لأن ذلك وقع حكاية حال التارك.

ويمكن أن يقال : إن كان الطواف لعمرة التمتّع تحقّق الترك إذا تركه بعد ضيق الوقت ، إلّا عن باقي المناسك من الإحرام للحجّ ، والوقوفين وغيرهما أقلّ الواجب. وإن كان للحجّ فعند خروج ذي الحجّة ، وإن كان لعمرة الإفراد فعند الخروج من مكّة ، أو يحكّم في هذا الأخير العُرف ، أو يقال في هذا الأخير ما دام لم يتضيّق عليه نُسُك آخر لا يتحقّق الترك.

بل يقال : لا يتحقّق معنى الترك المقتضي للبطلان فيها ؛ لأن العُمرة المفردة هي المحلّلة من الإحرام عند بطلان نُسُك آخر لا غيرها ، فلو بطلت لاحتيج في التحلّل من إحرامها إلى أفعال العُمرة ، وهو ظاهر البطلان ) (3) ، انتهى.

وبمثل ذلك قال في حاشية ( الإرشاد ) ، وحاشية ( الشرائع ) ، وتبعه في هذا التحقيق شهيد ( المسالك ) (4).

ص: 330


1- قواعد الأحكام 1 : 428.
2- الفقيه 2 : 256 / 1240 ، تهذيب الأحكام 5 : 127 / 419.
3- جامع المقاصد 3 : 201.
4- مسالك الأفهام 2 : 348.

ومعنى قوله في رواية ابن أبي حمزة أنه ( لا دلالة فيها على اعتبار الرجوع إلى الأهل في تحقّق الترك ) : أنه لا دلالة فيها على أنه لا يتحقّق الترك إلّا بالوصول إلى الأهل ؛ لأنها حكاية حال ، والترك إذا فرض إمكان تحقّقه لا ينحصر في ذلك ؛ لأن الرواية صريحة في أن الرجوع إلى الأهل يتحقّق به البطلان ، للأمر فيها بإعادة الحجّ ؛ لأنها لا تدلّ على أن البطلان إنما تحقّق بالوصول إلى الأهل.

ويدلّ على أن المفردة هي المحلّلة من الإحرام عند بطلان نُسُك آخر [ لا ] غيرها أن غيرها إمّا حجّ وإمّا عمرة تمتّع. والنصّ والإجماع على أن من فاته الحجّ بعد التلبّس بإحرامه يتحلّل بعمرة مفردة. وبفوات العُمرة المتمتّع بها وبطلانها بحيث لا يمكن تداركها يفوت حجّ التمتّع ؛ فإن كان في حال يسوغ له العدول منها إلى حجّ الإفراد والإتيان به وجب ، وإلّا صدق فوت العُمرة والحجّ ؛ فيجب حينئذٍ التحلّل بعمرة مفردة.

هذا ، وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال أيّما حاجّ سائق للهدي أو مفرد للحجّ أو متمتّع بالعمرة إلى الحجّ قدم ، وقد فاته الحجّ ، فليجعلها عمرة وعليه الحجّ من قابل (1).

وهو صريح في أن من قدم متلبّساً بالعمرة المتمتّع بها ، فما أدرك أن يأتي بأفعالها ويتحلّل ويحرم بالحجّ ، ويدرك المجزي من اختياريّ عرفة ، ولا العدول إلى حجّ الإفراد ، بحيث يدرك المجزي من اختياريّ عرفة ، بل فاته الحجّ بنوعيه ، يتحلّل بعمرة مفردة.

وظاهر صحيحه الآخر يشمل المتمتّع بها أيضاً : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل خرج حاجّاً ففاته الحجّ ولم يكن طاف قال يقيم مع الناس حراماً أيّام التشريق ولا عمرة فيها ، فإذا انقضت طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحلّ ، وعليه الحجّ من قابل ، يحرم من

ص: 331


1- الفقيه 2 : 284 / 1394 ، تهذيب الأحكام 5 : 294 / 998 ، الإستبصار 2 : 307 / 1095 ، وسائل الشيعة 14 : 49 ، أبواب الوقوف بالمشعر ، ب 27 ، ح 1.

حيث أحرم (1).

فإنها ظاهرة في أن من فاته الحجّ بعد التلبّس بإحرامه ، أو إحرام عمرة التمتّع ولم يدرك الحجّ ، يتحلّل بأفعال العُمرة المفردة ، شاملة بإطلاقها للقسمين ، وهي دالّة على أن فوات الطواف يفسد النُّسُك.

بل هي في الصورة الثانية أعني : من أحرم بالمتعة ولم يدرك طوافها ولا الحجّ - أظهر ؛ لأن طواف الحجّ إنما هو في أيّام التشريق. فلا يتحقّق حينئذٍ فوت الحجّ بسبب فوت الطواف ؛ لأنه أمره أن يقيم مع الناس أيّام التشريق حراماً ، وهذا لا يتصوّر في فوت الحجّ بفوت طوافه ، فظاهره الاختصاص بالصورة الثانية ، يعني : أنه حينئذٍ متلبّس بإحرام عمرة التمتّع ، فما أدركها وما أدرك الحجّ ، فأمره أن يتحلّل بالمفردة بعد أيّام التشريق.

وقال في ( المدارك ) في شرح قول المحقّق : ( الطواف ركن ، من تركه عامداً بطل حجّه ) (2) - : ( يتحقّق ترك الطواف في الحجّ بخروج ذي الحجّة قبل فعله ، وفي عمرة التمتّع بضيق وقت الوقوف إلّا عن التلبّس بالحجّ قبله ، وفي العُمرة المفردة المجامعة لحجّ الإفراد والقران بخروج السنة ؛ بناءً على وجوب إيقاعهما فيها ، لكنّه غير واضح.

وفي المجرّدة إشكال ؛ إذ يحتمل وجوب الإتيان بالطواف فيها مطلقاً ؛ لعدم التوقيت والبطلان بالخروج من مكّة بنيّة الإعراض عن فعله.

واحتمل الشارح تحقّق الترك في الجميع بنيّة الإعراض عنه ، والرجوع إلى ما يعدّ تركاً في العُرف (3). وهو غير واضح ؛ لأنه مع بقاء الوقت ، يمكن الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فينتفي المقتضي للبطلان ) (4) ، انتهى ، وهو جيّد.

ص: 332


1- تهذيب الأحكام 5 : 295 / 999 ، الإستبصار 2 : 307 / 1096 ، وسائل الشيعة 14 : 50 ، أبواب الوقوف بالمشعر ، ب 27 ، ح 3.
2- شرائع الإسلام 1 : 245.
3- مسالك الأفهام 2 : 349.
4- مدارك الأحكام 8 : 173.

والحاصل أنه لم يظهر لي دليل من نصّ أو إجماع أو غيرهما على أنه يتحقّق ترك طوافها المبطل لها في حال بوجه ، وما ذكر من احتمال حال يتحقّق فيه أو به ترك طوافها المبطل لها لا دليل عليه مطلقاً ، لا من رواية ولا إجماع ولا اعتبار ، لا عموماً ولا خصوصاً ولا بوجه أصلاً.

وكيف يتحقّق فواته المبطل والوقت باقٍ؟! والعبادة لا يتحقّق فوتها إلّا إذا كانت مؤقّتة وخرج وقتها ، وما لا توقيت فيه كيف يتحقّق فواته؟! فلو أن أحداً نوى ترك الظهر ، وأعرض عن فعلها ، لم يتحقّق فوتها إلّا بخروج وقتها.

نعم ، لا ريب في الإثم بالخروج من مكّة أو تضيّق نُسُك آخر ، وفي عدم انعقاد الإحرام بنُسُك آخر واجباً كان أو ندباً.

وقد تبيّن من هذا أنه متى بطل النُّسُك بترك ركن منه عمداً ، أو بتعذّر الإتيان به مع عدم النسيان ، أو بتعذّر الإتيان بالنُّسُك أجمع ، أو تركه عمداً حتّى خرج وقته ، وجب التحلّل بالعمرة المفردة بنيّة العدول إليها على الأظهر الأشهر ، وإلّا لوقع غير المنويّ ؛ لأنه نوى غير الواقع ، ولا عمل إلّا بنيّة.

وقال السيّد في ( المدارك ) : ( إذا بطل الحجّ بترك الركن كالطواف أو ما في معناه ، فهل يحصل التحلّل بذلك ، أو يبقى على إحرامه إلى أن يأتي بالفعل الفائت في محلّه ، ويكون إطلاق البطلان مجازاً كما قاله الشهيد (1) في الحجّ الفاسد ، بناءً على أن الأوّل هو الفرض ، أو يتحلّل بأفعال العُمرة؟ أوجه.

وجزم الشيخ عليّ في حواشي ( القواعد ) بالأخير ، وقال : إنه على هذا لا يكاد يتحقّق معنى الترك المقتضي للبطلان في العُمرة المفردة ؛ لأنها هي المحلّلة من الإحرام عند بطلان نُسُك آخر لا غيرها ، فلو بطلت احتيج في التحلّل من إحرامها إلى أفعال العُمرة ، وهو معلوم البطلان (2).

وما ذكره غير واضح المأخذ ؛ فإن التحلّل بأفعال العُمرة إنما يثبت مع فوات الحجّ

ص: 333


1- الدروس 1 : 370.
2- جامع المقاصد 3 : 201 ، بالمعنى.

لا مع بطلان النُّسُك مطلقاً.

والمسألة قويّة الإشكال من حيث استصحاب حكم الإحرام إلى أن يعلم حصول المحلّل ، وإنما يعلم بالإتيان بأفعال العُمرة ، ومن أصالة عدم توقّفه على ذلك مع خلوّ الأخبار الواردة في مقام البيان منه. ولعلّ المصير إلى ما ذكره أحوط ) (1) ، انتهى.

ووافقه على مثل هذا التقرير خاتمة الحفّاظ المحدّثين الشيخ حسين في ( شرح المفاتيح ).

وأقول : أمّا احتمال الإحلال بمجرّد المعصية بترك الركن عمداً فقد عرفت فساده ممّا قرّرناه ، ولم نظفر بما يدلّ عليه بوجه من وجوه الدلالات ، ولا بمفتٍ به ولا عامل به في سائر الأعصار. واستصحاب شغل ذمّته اليقينيّ بموجبات الإحرام ، ومنعه عن محرّمات الإحرام ثابت بيقين ، ولا ناقل عنهما.

وأمّا احتمال أنه بقي على إحرامه إلى أن يأتي بالفائت في محلّه ، فكلام لم يظهر لي معناه ؛ فإن الفوات لا يتحقّق إلّا بفوات الوقت ، وبعد فوات الوقت ، فما معنى الإتيان به في محلّه؟ لا يحتمل إرادة المكانيّ ؛ إذ لا قائل : إن من بطل حجّه مثلاً بترك أحد الموقفين عمداً ، أو الطواف ، أو السعي يحلّ من إحرامه بالوقوف بعرفة ، أو المشعر ، أو بالطواف ، أو بالسعي في غير أيّام الحجّ المعيّنة للفعل المتروك.

بل الإجماع والنصّ كما اعترف به هو وجمع على أن من فاته الحجّ إنما يتحلّل بالعُمرة المفردة.

وأيضاً فالتجوّز في إطلاق الفساد على الحجّ الفاسد لا يظهر بناؤه على القول بأن الأوّل هو الفرض ؛ لأن الاحتمال قائم على أن من أفسد حجّه بالمواقعة وجب عليه إكماله ، وعلى أنه لا يحلّ من إحرامه إلّا بإكماله.

غاية الأمر أن معنى فساده على القول بأن الثاني هو الفرض أن الأوّل غير مجزٍ عن الفرض ولا مبرئ للذمّة ؛ فتعيّن الوجه الثالث ، وتبيّن مأخذ الشيخ علي.

ص: 334


1- مدارك الأحكام 8 : 174 - 175.

وأمّا قوله رحمه اللّه : ( إن التحلّل بأفعال العُمرة إنما ثبت مع فوات الحجّ لا مع بطلان النُّسُك مطلقاً ) (1) ، فقد عرفت وجه ضعفه ؛ فإن من تلبّس بإحرام العُمرة المتمتّع بها ، ثمّ تبيّن أنه لا يدرك الحجّ قبل فعلها ، وجب عليه التحلّل بالمفردة ؛ إذ لا متعة بدون حجّها. لا نعلم فيه مخالفاً ، وعمل الفرقة على ذلك في سائر الأعصار من غير نكير. ودلالة الأخبار وقوانين الفن عليه غير عزيزة ؛ كما في صحيحتي ابن عمّار (2) السابقتين.

وأمّا أصالة عدم توقّفه على ذلك بعد تلبّسه بالإحرام الصحيح ، فممنوعة. وأصالة بقائه على حكم الإحرام فيما وجب وحرم ، واستصحاب شغل ذمّته بما أوجبه الإحرام وحرّمه بيقين ، وكون العبادات كيفيّات متلقّيات ، سند المنع. على أن جريان أصالة الإباحة والعدم في كيفيّات العبادات المتلقّيات بعد ثبوتها ممنوع ، خصوصاً في مثل المقام بعد التلبّس بالإحرام ، فليست الأخبار خالية من الدلالة عليه كما قال ، مع قيام الإجماع عليه أيضاً.

هذا إذا كان ترك الطواف عمداً ، أمّا لو تركه نسياناً ، وجب عليه تداركه بنفسه مع المكنة على الأشهر الأظهر ؛ لأصالة عدم كفاية نيابة الغير في التكاليف العينيّة ، ولاستصحاب شغل ذمّة المكلّف بما كلّف به اليقينيّ حتّى يحصل الناقل عنه. فإن شقّ ولم يستطع تداركه بنفسه استناب من يقضيه عنه مع ركعتيه في ظاهر الفتوى ، وتدلّ عليه صحيحة عليّ بن جعفر (3) المتقدّمة.

وإنما حملنا إطلاق قوله فيها ووكّل من يطوف عنه ما تركه ، على من شقّ عليه

ص: 335


1- مدارك الأحكام 8 : 175.
2- للصحيحة الاولى انظر : الفقيه 2 : 284 / 1394 ، تهذيب الأحكام 5 : 294 / 998 ، الإستبصار 2 : 307 / 1095 ، وسائل الشيعة 14 : 49 ، أبواب الوقوف بالمشعر ، ب 27 ، ح 1. وللصحيحة الثانية أنظر: التهذيب 5: 999/295، الاستبصار 2: 1096/307، وسائل الشيعة 50:14، أبواب الوقوف بالمشعر، ب27، ح3.
3- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، الإستبصار 2 : 228 / 788 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.

التدارك بنفسه ؛ جمعاً بينها وبين أصالة عدم كفاية فعل الغير في التكاليف العينيّة.

فإن تداركه بنفسه ، فهل تجب إعادة السعي وطواف النساء؟ الأظهر ذلك ، كما صرّح به في ( الدروس ) (1) ، وحكى عن الشيخ في ( الخلاف ) (2) مدّعياً عليه الإجماع. وإطلاق الأخبار التي تضمّنت الأمر بإعادة السعي لمن نسي وسعى قبل أن يطوف ، وإطلاق الفتوى بوجوب الترتيب يدلّ على ذلك.

أمّا لو عجز عن تداركه بنفسه فاستناب ، فهل يجزيه إتيان النائب به أو لا بدّ من الاستنابة في السعي أيضاً؟ ظاهر الأكثر وصحيحة عليّ بن جعفر (3) الأوّل ، ومقتضى توقّف صحّة السعي على الطواف وتبعيّته له الثاني ، مع أنه أحوط.

مضافاً إلى أن الشيخ ادّعى الإجماع (4) على أن من تدارك الطواف تدارك السعي. ولا يظهر فارق بين من تداركه بنفسه أو بوكيله ، فالثاني أوْلى ، بل وأظهر. ولا إشكال في وجوب تدارك ركعتي الطواف إذا وجب تداركه بنفسه أو بنائبه وإن كان قد أتى بهما ؛ لعدم مشروعيّتهما قبله.

السابعة والعشرون : من نسي بعض الطواف ؛ فإن كان المنسيّ أربعة فصاعداً ، فكَمَنْ لم يطف أصلاً ، وإن كان ثلاثة فما دونها ، بنى وأجزأه إكمالها ، ولا يعيد شيئاً من الأفعال التي بعد الطواف إذا أتى بها ؛ لظاهر إطلاق النصّ (5) والفتوى بذلك من غير تعرّض لذكر استدراك شي ء قد أتى به من الأفعال الواجبة بعد الطواف.

ولخصوص الأخبار (6) الواردة فيمن نسي شيئاً من الطواف حتّى دخل في السعي أنه يرجع ويتمّ طوافه ثمّ يكمل السعي.

ص: 336


1- الدروس 1 : 405.
2- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
3- تهذيب الأحكام 5 : 128 / 421 ، الإستبصار 2 : 228 / 788 ، وسائل الشيعة 13 : 405 - 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 1.
4- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
5- وسائل الشيعة 13 : 359 ، أبواب الطواف ، ب 33.
6- الكافي 4 : 418 / 8 ، تهذيب الأحكام 5 : 109 - 110 / 355 ، وسائل الشيعة 13 : 358 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 2.

وظاهرها عدم الفرق بين من أكمل أربعة أو لم يكملها ، وبه أفتى جماعة (1) ، وفيه قوّة ؛ لإطلاق الأخبار (2) من غير معارض في المقام. وما يستدرك من ذلك إن كان في وقته فعلى وجه الأداء ، وإن خرج وقته فعلى وجه القضاء.

ولو لم يذكر ما نسي من ثلاثة أشواط فما دون إلّا بعد أن تلبّس بنُسُك آخر ، فالظاهر كفاية الإتيان بما نسي متى أمكن ، وصحّة النُّسُكين ؛ لمّا مرّ ولأخبار من فجأها الحيض بعد أن كملت أربعة أشواط من عمرة التمتّع ولم يسع الوقت انتظارها الطهر (3) ، وغيرها. بل ظاهر الأخبار والأصحاب أن الثلاثة ليست ركناً كطواف النساء. وقد صرّح بعض الأفاضل أن حكمها حكم طواف النساء.

وكذا لو ذكرها في وقت تضييق نُسُك آخر ، فإن الظاهر كفاية قضائها وحدها ، بل الظاهر كفاية قضائها وصحّة الإحلال والإهلال وإن لم يتضيّق نُسُك آخر إذا لم يذكرها إلّا بعد إكمال نسكها. وفي الأخبار الدالّة على أن من نسي شيئاً من الطواف وذكره في أثناء السعي ، يرجع فيكمل الطواف ثمّ يكمل السعي ويبني فيه على ما مضى (4) ، دلالةٌ عليه.

الثامنة والعشرون : من وجب عليه تدارك الطواف أو بعضه وجب عليه تداركه بنفسه مع المكنة ، ومع المشقّة يكفيه التوكيل ، وفعل الوكيل في استدراكه.

التاسعة والعشرون : من فاته الطواف بحيث يصحّ له استدراكه وجب ، ووجب استدراك الركعتين والسعي بعده ولو كان قد أتى بهما لما مرّ ، لا فرق في ذلك بين فواته عمداً أو سهواً.

قال في ( المدارك ) : ( ومتى وجب قضاء طواف العُمرة أو الحجّ ، فالأقرب وجوب

ص: 337


1- الدروس 1 : 407.
2- وسائل الشيعة 13 : 359 ، أبواب الطواف ، ب 33.
3- الفقيه 2 : 241 / 1155 ، تهذيب الأحكام 5 : 393 / 1370 ، 1371 ، وسائل الشيعة 13 : 455 - 456 أبواب الطواف ، ب 85 ، ح 4 ، وب 86 ، ح 1 - 2.
4- الكافي 4 : 418 / 8 ، تهذيب الأحكام 5 : 109 - 110 / 355 ، وسائل الشيعة 13 : 358 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 2.

إعادة السعي أيضاً ، كما اختاره الشيخ في ( الخلاف ) (1) ، والشهيد في ( الدروس ) (2) ؛ لصحيحة منصور بن حازم ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت ، فقال يطوف بالبيت ثمّ يعود إلى الصفا والمروة فيطوف بينهما (3).

وإنما يحصل التحلّل ممّا يتوقّف على الطواف والسعي بالإتيان بهما ولا يحصل بدون فعلهما ) (4) ، انتهى ، وهو حسن.

الثلاثون : لو عاد لاستدراك الطواف المنسيّ بعد الخروج من مكّة زادها اللّه شرفاً على وجه يستدعي وجوب الإحرام لدخولها ؛ فإن كان العود لاستدراك الطواف كلّه لم يَحتجْ إلى إحرام جديد ؛ لأنه محرم لم يتحلّل من إحرامه الأوّل كما عرفت ، ولإطلاق الأخبار (5) والفتاوى (6) وجوب الاستدراك ، من غير تعرّض لذكر وجوب الإحرام للدخول في مقام البيان ، مع أنه ممّا يعمّ به البلوى.

وإن كان لاستدراك ثلاثة أشواط فما دونها لم يجز له الدخول إلّا محرماً بنُسُك آخر ، ويقضي ما فات بعد التحلّل منه أو قبله ؛ لما عرفت من البحث السابق.

هذا كلّه إن كان طواف إحدى العمرتين أو بعضه ، أمّا لو كان طواف الحجّ ، فإن كان المستدرك بعضه فكبعض طواف العُمرة ، وإن كان كلّه فوجهان ، أقربهما عدم الافتقار إلى تجديد إحرام ؛ للأصل ، ولصدق المحرم عليه في الجملة وإن حلّ له بعض ما حرّمه الإحرام. والإحرام لا ينعقد إلّا من مُحِلّ ، ولا يجب إلّا على مُحِلّ.

ولا ينافي هذا كلّه حصر الفقهاء من يسوغ له دخول مكّة بغير إحرام في أصناف ليس هذا منهم ؛ لأنهم إنما عنوا به المُحِلّين فأوجبوا الإحرام لدخول مكّة على كلّ

ص: 338


1- الخلاف 2 : 395 / المسألة : 257.
2- الدروس 1 : 405.
3- الكافي 4 : 421 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 129 / 426 ، وسائل الشيعة 13 : 413 ، أبواب الطواف ، ب 63 ، ح 2.
4- مدارك الأحكام 8 : 177.
5- وسائل الشيعة 13 : 356 ، أبواب الطواف ، ب 31 ، ح 1 ، وفيه أيضاً : 357 - 358 ، أبواب الطواف ، ب 32 ، ح 1.
6- تهذيب الأحكام 5 : 109 / ذيل الحديث 352 ، شرائع الإسلام 1 : 243 ، مستند الشيعة 12 : 128.

مُحِلّ إلّا الأصناف المستثناة ، وهذا ليس بمُحِلّ. فالحصر لا يخرجه عن جواز دخوله بغير إحرام جديد ، بل الأخبار الدالّة على أن من خرج من مكّة محرماً بالحجّ يدخلها بذلك الإحرام (1) تدلّ عليه في الجملة.

الحادية والثلاثون : حكم الجاهل في جميع ما ذكر من المسائل حكم العامد العالم ، كما هو ظاهر المذهب ، ولعموم التكليف وعدم ما يدلّ على معذوريّة الجاهل هنا ، ولصحيحة علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة قال إنْ كان على وجه جهالة في الحجّ أعاد وعليه بدنة (2).

وخبر علي بن أبي حمزة : سئل عليه السلام عن رجل جهل أن يطوف بالبيت حتّى رجع إلى أهله قال إذا كان على جهة الجهالة أعاد الحجّ وعليه بدنة (3).

ولا فارق في ذلك بين الحجّ والعُمرة ، فيلزم الجاهل حكم العالم العامد في جميع ما ذكر من الفروع. والظاهر أنه لا يتصوّر السهو في شأن الجاهل ؛ لأن النسيان لا يكون إلّا بعد العلم والذكر ، فمن ترك شيئاً من الواجبات جهلاً لزمه حكم العامد العالم.

الثانية والثلاثون : ما قرّرناه من الإشكال والحكم بالبطلان فيمن نسي طواف المتمتّع بها حتّى أحرم بالحجّ جارٍ في المفردة إذا نسي طواف الحجّ حتّى أحرم بها ؛ فإنها على ما سلف باطلة.

فإن كانت هي الواجبة مع الحجّ في عام بطلت هي وحجّها ، بمعنى أنهما غير مبرئين للذمّة ولا مسقطين للفرض ؛ لوجوب الإتيان بهما في عام ، وعدم جواز تأخير الطواف عن عام الحجّ إن خرج الشهر.

ص: 339


1- وسائل الشيعة 11 : 301 - 305 ، أبواب أقسام الحجّ ، ب 22 ، ح 6 ، ح 8 ، ح 9.
2- تهذيب الأحكام 5 : 127 / 420 ، الاستبصار 2 : 228 / 787 ، وفيه : « على وجه الجهالة » ، وسائل الشيعة 13 : 404 ، أبواب الطواف ، ب 56 ، ح 1.
3- تهذيب الأحكام 5 : 127 / 419 ، الإستبصار 2 : 228 / 786 ، وسائل الشيعة 13 : 404 ، أبواب الطواف ، ب 56 ، ح 2 ، وفيها : « إذا كان على وجه جهالة ».

فإن ذكر وأمكنه الإتيان بالطواف المنسيّ والعُمرة قبل خروج الشهر صحّا وإلّا بطلا ؛ لعدم الإتيان بالصورة المتلقّاة ، فلا يتحقّق الامتثال منه حينئذٍ ، فيبقى في استصحاب التكليف بهما وشغل ذمّته بهما ، ولا ينافي هذا بتلها عن الحجّ. وإن كان لا يتحلّل إلّا بالإتيان بأفعال المفردة ينوي بها مفردة غير المجامعة للحجّ.

الثالثة والثلاثون : طواف النساء واجب في المفردة ، وغير مشروع في المتمتّع بها ، كلاهما بالنصّ (1) والإجماع والمخالف (2) فيهما شاذّ نادر قائلاً ودليلاً ، بل الظاهر أنه منقطع ، وما أوهمه محمولاً على التقيّة ، متروك العمل به في سائر الأعصار.

ووقته بعد الحلق والتقصير ، لا نعرف فيه خلافاً. والأخبار الدالّة على تأخّره عن السعي كثيرة.

منها : صحيحة إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال لولا ما منّ اللّه على الناس من طواف الوداع ، لرجعوا إلى منازلهم لا ينبغي لهم أنْ يمسّوا نساءهم ، حتّى يطوفوا بالبيت أُسبوعاً آخر بعد سعيهم (3).

وإطلاقه شامل للعمرة ، وفيه إشعار يوجب تداركه بنفس الناسك ولو كان جاهلاً.

ومنها : حسنة نجيّة عن أبي جعفر عليه السلام قال إذا دخل المعتمر مكّة غير متمتّع ، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ، وصلّى الركعتين خلف مقام إبراهيم ، فليلحق بأهله إنْ شاء (4).

والظاهر أنه ترك ذكر طواف النساء تقيّة ، ولعلّ الركعتين المأمور بهما آخر الحديث هما ركعتاه ؛ بقرينة تأخير ذكرهما عن السعي فتفطّن. وفيه أيضاً دلالة على عدم ركنيّته ، ولو كان ركناً أو قبل السعي لذكره في مقام البيان.

ص: 340


1- الكافي 4 : 538 / 9 ، تهذيب الأحكام 5 : 254 / 861 ، وسائل الشيعة 13 : 442 - 443 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 1.
2- انظر الدروس 1 : 329.
3- الكافي 4 : 513 / 3 ، تهذيب الأحكام 5 : 253 / 856 ، وسائل الشيعة 13 : 299 ، أبواب الطواف ، ب 2 ، ح 3 ، بتفاوتٍ يسير في الجميع.
4- تهذيب الأحكام 5 : 434 / 1505 ، الإستبصار 2 : 325 / 1125 ، وسائل الشيعة 14 : 306 ، أبواب العمرة ، ب 5 ، ح 5.

وقال في ( المدارك ) : ( أمّا إنه لا يجوز تقديم طواف النساء على السعي لمتمتّع ولا لغيره مع الاختيار ، فهو مذهب الأصحاب لا أعرف فيه مخالفاً ، ويدلّ عليه الأخبار الكثيرة المتضمّنة لوجوب تأخيره عن السعي ، كقوله عليه السلام في صحيحة معاوية بن عمّار

ثمّ اخرج إلى الصفا فاصعد عليه ، واصنع كما صنعت يوم دخلت مكّة ، ثمّ ائت المروة فاصعد عليها وطف بينهما سبعة أشواط ، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة. فإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شي ء أحرمت منه إلّا النساء ، ثمّ ارجع إلى البيت وطف به أُسبوعاً آخر ، ثمّ تصلّي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام (1) الحديث ).

وإطلاقه يشمل العُمرة والحجّ ، وظاهره أيضاً تأخّره عن التقصير أو الحلق ؛ لقوله فقد أحللت ، ولا إحلال إلّا بعد ذلك ، وفيه إشعار بعدم ركنيّته في الجملة.

قال السيّد : ( وثمّ تقتضي الترتيب قطعاً ، ويؤيّده رواية أحمد بن محمّد ، عمّن ذكره قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : جعلت فداك ، متمتّع زار البيت فطاف طواف الحجّ ثمّ طاف طواف النساء ثمّ سعى ، فقال لا يكون سعي إلّا من قبل طواف النساء (2) .. ) (3) ، انتهى.

ولا فارق في ذلك بين الحجّ والعُمرة.

وأمّا ما يدلّ على تأخّره عن الحلق والتقصير فكثير أيضاً.

منها : صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال المعتمر عمرة مفردة إذا فرغ من طواف الفريضة وصلاة الركعتين خلف المقام والسعي بين الصفا والمروة حلق أو قصّر (4).

فرتّب الحلق أو التقصير على الفراغ من الأعمال الثلاثة ، فدلّ بظاهره على تأخّر

ص: 341


1- الكافي 4 : 511 / 4 ، وسائل الشيعة 14 : 249 - 250 ، أبواب زيارة البيت ، ب 4 ، ح 1.
2- الكافي 4 : 512 / 5 ، تهذيب الأحكام 5 : 133 / 438 ، الاستبصار 2 : 231 / 799.
3- مدارك الأحكام 8 : 190 - 191.
4- تهذيب الأحكام 5 : 438 / 1523 ، وسائل الشيعة 13 : 511 ، أبواب التقصير ، ب 5 ، ح 1.

طواف النساء عن ذلك كلّه.

ومرسلة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن المعتمر يطوف ويسعى ويحلق قال لا بدّ له بعد الحلق من طواف آخر (1).

وهي نصّ في المطلوب.

وصحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال العُمرة المبتولة يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ثمّ يحلّ ، فإنْ شاء أنْ يرتحل من مكّة ارتحل (2).

وصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنه قال إذا دخل المعتمر مكّة من غير تمتّع ، وطاف بالبيت وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام ، وسعى بين الصفا والمروة ، فليلحق بأهله إنْ شاء (3).

وعدم ذكر طواف النساء في هذا وشبهه من الأخبار للتقيّة ، وفيه إشارة للدلالة على أن من اضطرّ بعد إحلاله بالحلق أو التقصير إلى الخروج ، جاز له أن يخرج ويستنيب من يأتي به عنه.

وبالجملة ، فقد أطبقت العصابة على تأخّره عن الحلق أو التقصير ، لا نعلم فيه خلافاً ، وعليه عملهم في سائر الأزمان ، فلو قدّمه على الحلق أو التقصير عامداً اختياراً لغى وإن كان جهلاً ؛ لعدم الإتيان بالكيفيّة المتلقّاة من الشارع ، ولأن ذمّته مشغولة به بيقين ، ولا يقين في خلوّ عهدته بذلك ، فيستصحب شغل ذمّته به وتحريم النساء عليه حتّى يثبت الناقل ، ولا ناقل عنه.

الرابعة والثلاثون : لو قدّم الناسك طواف النساء على السعي عمداً لغا ولم يعتدّ به ؛ بالنصّ (4) والإجماع المستفيض من غير معارض ، ولمخالفة الكيفيّة المتلقّاة ، ولعدم

ص: 342


1- الكافي 4 : 538 / 7 ، تهذيب الأحكام 5 : 254 / 859 ، الإستبصار 2 : 231 / 802 ، وسائل الشيعة 13 : 443 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 2.
2- الكافي 4 : 537 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 443 - 444 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 4 ، وفيه : « من ساعته ارتحل ».
3- الفقيه 2 : 275 / 1342 ، وسائل الشيعة 14 : 316 ، أبواب العمرة ، ب 9 ، ح 2.
4- الكافي 4 : 512 / 5 ، تهذيب الأحكام 5 : 133 / 438 ، وسائل الشيعة 13 : 417 ، أبواب الطواف ، ب 65 ، ح 1.

يقين خلوّ العهدة به فيستصحب شغل الذمّة به وتحريم النساء عليه.

ولو قدّمه سهواً أو لضرورة ، كخوف الحيض لمعتادته في تلك الحال أو ظانتِه فيها ، صحّ وأجزأ. لا نعلم فيه خلافاً ، بل استفاض نقل الإجماع عليه وهو الحجّة. وقد اعترف غير واحد (1) من الحفّاظ بعدم النصّ عليه.

وحمل عليه بعض المتأخّرين (2) موثّق سَمَاعة عن أبي الحسن الماضي عليه السلام : سألته عن رجل طاف طواف الحجّ ، وطواف النساء قبل أن يسعى بين الصفا والمروة قال لا يضرّه ، يطوف بين الصفا والمروة وقد فرغ من حجّه (3).

وفي ( من لا يحضره الفقيه ) عن سماعة بن مهران عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، مثله (4).

ولا بأس به جمعاً بين الأخبار ، والدليل عليه الإجماع.

وفي ( المدارك ) أن الإجزاء حينئذٍ مقطوع به في كلام الأصحاب ، واستدلّ عليه بدفع الحرج والمشقّة اللازمين لوجوب تأخّره مع الضرورة ، وبخبر سَمَاعة بن مهران المتقدّم.

ثمّ قال : ( وهذه الرواية وإن كانت مطلقة إلّا إنه يجب حملها على حال الضرورة ؛ توفيقاً بين الأخبار.

ويؤيّده فحوى صحيحة الخزّاز قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه رجل ، فقال : أصلحك اللّه ، إن معنا امرأة حائضاً ولم تطف طواف النساء ، ويأبى الجمّال أن يقيم عليها. فأطرق وهو يقول لا تستطيع أنْ تتخلّف عن أصحابها ، ولا يقيم

ص: 343


1- مدارك الأحكام 8 : 191.
2- رياض المسائل 4 : 326.
3- تهذيب الأحكام 5 : 133 / 439 ، الإستبصار 2 : 231 / 800 ، وسائل الشيعة 13 : 418 ، أبواب الطواف ، ب 65 ، ح 2.
4- لم نعثر عليه بهذا السند في ( الفقيه ) ، وما ورد فيه : ( روى إسحاق بن عمّار عن سَمَاعة بن مهران عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال ) : ونقل نصّ الحديث المتقدّم. انظر الفقيه 2 : 244 / 1166.

عليها جمّالها.

ثمّ رفع رأسه وقال تمضي فقد تمّ حجّها (1).

فإذا جاز ترك الطواف من أصله للضرورة ، جاز تقديمه بطريق أوْلى ) ، انتهى كلام ( المدارك ) (2).

وأقول : ظاهر العبارة يدلّ على جواز تركه للضرورة مباشرةً واستنابةً. وهذا باطل بالإجماع والنصّ المستفيض (3) ، واستصحاب شغل ذمّة الناسك به وتحريم النساء عليه. فيجب حمل كلامه على إرادة جواز تركه مباشرة ، مع وجوب الاستنابة حينئذٍ صوناً لكلام مثله عن هذا الغلط ، مع أن الرواية لا تدلّ عليه بوجه.

على أن الأولويّة ممنوعة ؛ إذ لا ملازمة بين جواز الترك وصحّة تقديمه على السعي ؛ لأن العبادات كيفيّات متلقّيات لا تصحّ العبادة إلّا بها ، ولا عبرة بالإتيان بشي ء منها حتّى المندوب في غير محلّه.

وأيضاً ، كيف يتوهّم دلالة الخبر على جواز تركه أصلاً ، مع الإجماع والنصّ (4) المستفيض على أنه واجب؟! وجواز الترك كذلك لا إلى بدل إنما يتحقّق في المندوب. ومثل هذه الرواية أخبار أُخر قد أغفل ذكرها مثل صحيحة أبي بصير ومعاوية بن عمّارِ المتقدّمتين (5).

نعم ، هذه الأخبار تدلّ على أن طواف النساء ليس بركن.

الخامسة والثلاثون : من نسي طواف النساء وجب عليه تداركه بنفسه مع المكنة ، وإلّا وجب أن يوكّل من يأتي به عنه ؛ أداءً إن كان وقته باقياً ، وقضاءً إن خرج وقته. وكذا يجوز له أن يستنيب من يأتي به عنه مع ركعتيه إن اضطرّ إلى الخروج من مكّة

ص: 344


1- الكافي 4 : 451 / 5 ، الفقيه 2 : 245 / 1176 ، وسائل الشيعة 13 : 452 - 453 ، أبواب الطواف ، ب 84 ، ح 13.
2- مدارك الأحكام 8 : 191.
3- الكافي 4 : 538 / 9 ، تهذيب الأحكام 5 : 254 / 861 ، وسائل الشيعة 13 : 442 - 443 ، أواب الطواف ، ب 82 ، ح 1.
4- الوسائل 13 : 444 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 5.
5- الكافي 4 : 537 / 5 ، الفقيه 2 : 275 / 1342 ، وسائل الشيعة 13 : 443 - 444 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 4 ، و 14 : 417 ، أبواب الطواف ، ب 65 ، ح 1.

قبل فعله ، ويخرج كلّ ذلك لظاهر النصّ والفتوى.

ويدلّ على وجوب تداركه بنفسه مع المكنة ، مضافاً إلى أصالة عدم إجزاء فعل الغير في الواجب العينيّ ، واستصحاب شغل ذمّته به ، وتحريم النساء عليه اليقينيّين ، مع ما فيه من يقين البراءة والاحتياط مثل خبر معاوية بن عمّار : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل نسي طواف النساء حتّى دخل أهله قال لا يحلّ له النساء حتّى يزور البيت.

وقال يأمر من يقضي عنه إنْ لم يحجّ ، فإنْ توفّي قبل أنْ يطاف عنه فليقضِ عنه وليّه أو غيره (1).

وفي هذا الخبر دلالة على لزوم قضائه على الولي ، وعلى بطلان الوكالة بموت الموكّل ، وعلى أن طواف النساء واجب ، مضافاً إلى الإجماع وغيره من الأخبار ، مثل خبر إبراهيم بن عبد الحميد : سئل أبو الحسن موسى عليه السلام عن العُمرة المفردة ، على صاحبها طواف النساء؟ فقال نعم ، هو واجب (2).

والأخبار به كثيرة.

وصحيحة ابن عمّار أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام : سألته عن رجل نسي طواف النساء حتّى يرجع إلى أهله قال لا يحلّ له النساء حتّى يزور البيت ، فإنْ هو مات فليقضِ عنه وليّه أو غيره. فأمّا ما دام حيّاً ، فلا يصلح أنْ يقضى عنه (3) الخبر.

وصحيحه الآخر أيضاً عنه عليه السلام أيضاً : في رجل نسي طواف النساء حتّى أتى الكوفة قال لا يحلّ له النساء حتّى يطوف بالبيت.

قلت : فإن لم يقدر؟ قال يأمر من

ص: 345


1- الكافي 4 : 513 / 5 ، تهذيب الأحكام 5 : 128 / 422 ، الإستبصار 2 : 228 / 789 ، وسائل الشيعة 13 : 407 - 408 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 6.
2- تهذيب الأحكام 5 : 439 / 1524 ، وسائل الشيعة 13 : 444 ، أبواب الطواف ، ب 82 ، ح 5.
3- تهذيب الأحكام 5 : 255 / 865 ، 489 / 1747 ، الإستبصار 2 : 233 / 807 ، وسائل الشيعة 13 : 406 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 2.

يطوف عنه (1).

فهذه الرواية حاكمة على إطلاق ما قبلها.

وإطلاق صحيحة ابن عمّار أيضاً عنه عليه السلام : سألته عن رجل نسي طواف النساء حتّى يرجع إلى أهله قال يرسل فيطاف عنه ، فإنْ توفّي قبل أنْ يطاف عنه فليُطف عنه وليّه (2).

فالفارقُ في جواز الاستنابة وعدمها بين القادر وغيره عاملٌ بجميع الأخبار.

السادسة والثلاثون : من خرج من مكّة على وجه يستدعي وجوب الإحرام لو أراد الدخول ورجع ليستدرك طواف النساء ؛ فهل يجب عليه الإحرام للدخول؟

الظاهر ذلك ؛ لظاهر الأخبار المتقدّم بعضها الدالّة على أن من طاف وصلّى الركعتين وسعى أحلّ ، ولظاهر خبر معاوية بن عمّار المذكور ؛ لقوله عليه السلام يأمر من يقضي عنه إنْ لم يحجّ (3).

فهو يدلّ على جواز الحجّ له مع نسيانه طواف النساء ، فهو يدلّ على أنه أحرم من عمرته ، وإلّا لما جاز له الحجّ ؛ لما فيه من إدخال نُسُك على نُسُك.

ومن كان مُحِلّا ، وجب عليه الإحرام لدخولها إلّا ما استثني ، وليس هذا منه وإن حرم عليه النساء قبل فعله ؛ للدليل. ويحتمل ضعيفاً الاكتفاء بإحرامه الأوّل ؛ لأنه محرم في الجملة لتحريم النساء عليه ، مع أن يقين البراءة والاحتياط في الأوّل ، ولأنه لم يستثنِ ممّن يجب عليه الإحرام لدخولها.

السابعة والثلاثون : لو عجز الناسك عن المشي ركب وإن أمكنه الطواف على أربعة

ص: 346


1- تهذيب الأحكام 5 : 256 / 867 ، الإستبصار 2 : 233 / 809 ، وسائل الشيعة 13 : 407 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 4.
2- تهذيب الأحكام 5 : 255 / 866 ، الإستبصار 2 : 233 / 808 ، وسائل الشيعة 13 : 407 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 4.
3- الكافي 4 : 513 / 5 ، تهذيب الأحكام 5 : 128 / 422 ، الإستبصار 2 : 228 / 789 ، وسائل الشيعة 13 : 407 - 408 ، أبواب الطواف ، ب 58 ، ح 6.

؛ لثبوت التعبّد بالطواف راكباً ومحمولاً في الضرورة بالنصّ (1) والإجماع ، بل الظاهر جواز الركوب اختياراً ، وإن كان تركه حينئذٍ أحوط وأوْلى.

ولم يثبت التعبّد بالطواف على أربعة ، إلّا إلّا يستطيع إلّا المشي على أربعة لمرض أو خلقةٍ ، ولم يتمكّن من الطواف راكباً أو محمولاً ولو بأُجرة لا تضرّ بحاله ، فإنه يكفيه ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (2).

الثامنة والثلاثون : لو نذر إنسان الطواف على أربعة لم ينعقد ؛ لأنه نذر شيئاً غير مشروع اختياراً ، والعبادات كيفيّات متّبعة ، فهو كمَنْ نذر أن يصلّي الفرض جالساً أو مضطجعاً مع قدرته على القيام. وأيضاً فهو نذر مرجوح خصوصاً للنساء ؛ لما فيه من إسقاط المروءة ، ولأنه أشبه بالشهوة من العبادة ، فلا ينعقد.

وما روي بطريقين ضعيفين عن أمير المؤمنين عليه السلام : في امرأة نذرت أن تطوف على أربع قال تطوف أُسبوعاً ليديها وأُسبوعاً لرجليها (3) ، لا يقاوم ما دلّ على أن المرجوح لا ينعقد نذره ، وغيرها من الأُصول.

وأيضاً فالاسبوعان قائماً (4) غير منذور ، والمنذور غير المأمور به في الخبر ، مع أنها ظاهرة في عدم مشروعيّة الهيئة المنذورة ، فلا يصحّ نذرها.

وبالجملة ، فهذه الرواية غير مُلتفت إليها ، ولا يُعوّل عليها في تأسيس حكم ؛ لضعفها وتشابهها ومعارضتها بما لا تقاومه ، فلا شكّ في شذوذها وشذوذ القول بمضمونها ، وأشذّ منه تعديته إلى الرجل.

فلا معنى للتوقّف في حال المرأة مع الجزم ببطلانه في شأن الرجل ، مع أنه في حقّ المرأة أشدّ مرجوحيّة وأظهر مخالفة لقواعد الفقه ، واللّه العالم.

ص: 347


1- وسائل الشيعة 13 : 441 ، أبواب الطواف ، ب 81.
2- البقرة : 288.
3- الكافي 4 : 430 / 18 ، تهذيب الأحكام 5 : 135 - 136 / 447 ، وسائل الشيعة 13 : 421 - 422 ، أبواب الطواف ، ب 70 ، ح 1 - 2.
4- كذا في المخطوط ، والأوْلى جعله ( قياماً ) لأن صاحب الحال لم يذكر صراحة في الكلام.

التاسعة والثلاثون : يجب الطواف أيضاً بالنذر وأخويه وبالاستئجار ، فيجب فيه جميع ما يجب في الطواف الواجب بأصل الشرع فعلاً وتركاً.

وهل تجب معه ركعتان حينئذٍ؟ وجهان : أظهرهما عدم الوجوب ؛ لأنهما عبادة مستقلّة ، والأصل عدم الوجوب ، والأحوط والأوْلى فعلهما.

الأربعون : يحرم تعمّد الزيادة على سبعة أشواط ولو خطوة ، ويبطل بها الطواف الواجب بالنصّ والإجماع فيهما. وما عن الحلّي (1) من القول بكراهة القِران شاذّ ، بل لعلّه منقطع. ونقل غير واحد الاتّفاق والإجماع على التحريم والإبطال ، ومن ذلك القِران بين أُسبوعين فأكثر ، فإنه مُحرّم مُبطل في الفريضة بالنصّ والإجماع. وخلافُ الحلّي غير مضرّ به.

وفي ( تهذيب الأحكام ) عن عبد اللّه بن محمّد عن أبي الحسن عليه السلام قال الطواف المفروض إذا زدت عليه ، مثل الصلاة المفروضة إذا زدت عليها ، فعليك الإعادة وكذا السعي (2).

وخبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل طاف بالبيت ثمانية أشواط الطواف المفروض قال يعيد حتّى [ يثبته (3) ]. على ما في ( الكافي ) (4) ، وفي ( تهذيب الأحكام ) حتّى يستتمّه (5).

وصحيح البزنطيّ عن الرضا عليه السلام قال : سأل رجل أبا الحسن عليه السلام عن الرجل يطوف الأسابيع فيقرن ، فقال لا ، الأُسبوع وركعتان ، وإنما قرن أبو الحسن عليه السلام لأنه كان يطوف مع محمّد بن إبراهيم في حال التقيّة (6).

ص: 348


1- السرائر 3 : 572 ، عنه في الدروس 1 : 406 ، مدارك الأحكام 8 : 139.
2- تهذيب الأحكام 5 : 151 / 498 ، الإستبصار 2 : 217 / 747 ، 239 / 831 ، وسائل الشيعة 13 : 336 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 11.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( يثبت ).
4- الكافي 4 : 417 / 5 ، وسائل الشيعة 13 : 363 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 1.
5- تهذيب الأحكام 5 : 111 / 361 ، وسائل الشيعة 13 : 363 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ذيل الحديث ح 1.
6- تهذيب الأحكام 5 : 116 / 376 ، الإستبصار 2 : 221 / 761 ، وسائل الشيعة 13 : 371 ، أبواب الطواف ، ب 36 ، ح 7.

وخبر علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل يطوف يقرن بين أُسبوعين ، فقال إنْ شئت رويتُ لك عن أهل المدينة.

فقلت : لا واللّه مالي في ذلك حاجة جعلت فداك ، ولكن اروِ لي ما أدين اللّه تعالى به ، فقال لا تقرن بين أُسبوعين ، كلّما طفت أُسبوعاً فصلّ ركعتين. وأمّا أنا فربّما قرنت الثلاثة والأربعة. فنظرت إليه فقال أنا مع هؤلاء (1).

وخبر صفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر : سألاه عن القرآن في الطواف الأُسبوعين والثلاثة قال إنما هو أُسبوع وركعتان.

وقال كان أبي عليه السلام يطوف مع محمّد بن إبراهيم فيقرن ، وإنما كان ذلك منه لحال التقيّة (2).

وصحيح عليّ بن جعفر وخبره المرويّين في كتاب ( المسائل ) (3) و ( قرب الإسناد ) (4) كما في ( شرح المفاتيح ) للشيخ حسين عن أخيه موسى عليه السلام قال : سألته عن رجل تطوّع الأُسبوع والأُسبوعين ، فلا يصلّي ركعتين حتّى يبدو له أن يطوف أُسبوعاً ، هل يصلح ذلك؟ قال لا يصلح حتّى يصلّي ركعتي الطواف الأوّل ، ثمّ ليطف ما أحبّ.

وصحيح زرارة كما في ( مستطرفات السرائر ) (5) كما في ( شرح المفاتيح ) أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال فيه ولا قران بين أُسبوعين في فريضة ولا نافلة.

فهذه الأخبار كما ترى صريحة في تحريم تعمّد الزيادة في الفريضة وإبطالها له ؛ سواء كانت شوطاً أو أكثر أو أقلّ ، بل ظاهر بعضها عموم التحريم والإبطال للنافلة

ص: 349


1- الكافي 4 : 418 / 2 ، تهذيب الأحكام 5 : 115 / 374 ، الإستبصار 2 : 220 / 759 ، وسائل الشيعة 13 : 370 ، أبواب الطواف ، ب 36 ، ح 3.
2- تهذيب الأحكام 5 : 116 / 375 ، الإستبصار 2 : 221 / 760 ، وسائل الشيعة 13 : 371 ، أبواب الطواف ، ب 36 ، ح 6.
3- مسائل عليّ بن جعفر : 158 / 232 - 233.
4- قرب الإسناد : 212 / 332 - 333 ، وسائل الشيعة 13 : 371 ، أبواب الطواف ، ب 36 ، ح 8 ، وفيه أيضاً : 427 ، أبواب الطواف ، ب 73 ، ح 4.
5- السرائر ( المستطرفات ) 3 : 587 ، وسائل الشيعة 13 : 373 ، أبواب الطواف ، ب 36 ، ح 14.

أيضاً ، كما هو ظاهر الفتوى في غير زيادة أُسبوع آخر.

بقي الكلام فيما لو وقعت الزيادة سهواً ، فإن كانت أقلّ من شوط فظاهر الفتوى أنه يقطعها وتمّ طوافه وأجزأ.

ويدلّ عليه خبر أبي كَهْمَس قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل نسي فطاف ثمانية أشواط قال إنْ كان ذكر قبل أنْ يأتي الركن فليقطعه وقد أجزأ عنه (1) الخبر.

وإن كانت شوطاً فالمشهور أنه يضيف إليه ستّة اخرى ، ويدلّ عليه روايات ، منها صحيح محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن رجل طاف طواف الفريضة ثمانية أشواط قال يضيف إليها ستّة (2).

ومنها : رواية رفاعة قال : كان عليّ عليه السلام يقول إذا طاف رجل ثمانية فليتمّ أربعة عشر شوطاً.

قلت : يصلّي أربع ركعات؟ قال يصلّي ركعتين (3).

ومنها : صحيح ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سمعته يقول من طاف بالبيت فوهم حتّى يدخل في الثامن فليتمّ أربعة عشر شوطاً ، ثمّ ليصلِّ ركعتين (4).

ومنها : صحيح ابن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال إنّ عليّاً عليه السلام طاف ثمانية فزاد ستّة ، ثمّ ركع أربع ركعات (5).

ومنها : صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال إنَّ عليّاً عليه السلام طاف طواف الفريضة ثمانية فترك سبعة وبقي على واحد وأضاف إليها ستّة (6) الخبر.

ص: 350


1- الكافي 4 : 418 / 10 ، تهذيب الأحكام 5 : 113 / 367 ، بتفاوتٍ فيهما ، وسائل الشيعة 13 : 364 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 3 - 4.
2- تهذيب الأحكام 5 : 111 / 362 ، الإستبصار 2 : 218 / 748 ، وسائل الشيعة 13 : 365 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 8.
3- تهذيب الأحكام 5 : 112 / 363 ، وسائل الشيعة 13 : 365 - 366 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 9.
4- تهذيب الأحكام 5 : 112 / 364 ، وسائل الشيعة 13 : 364 - 365 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 5.
5- تهذيب الأحكام 5 : 112 / 365 ، وسائل الشيعة 13 : 365 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 6.
6- تهذيب الأحكام 5 : 112 / 366 ، وسائل الشيعة 13 : 365 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 7.

وخبر أبي كَهْمَس المتقدّم ، حيث قال فيه وإن لم يذكر حتّى بلغه يعني : الركن - فليتمّ أربعة عشر شوطاً (1).

وصحيحة أبي أيّوب : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل طاف بالبيت ثمانية أشواط طواف فريضة قال فليضمّ إليها ستّاً (2).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال إنّ في كتاب عليّ عليه السلام إذا طاف بالبيت ثمانية أشواط الفريضة واستيقن ثمانية ، أضاف إليها ستّاً ، وكذا إذا استيقن أنه سعى ثمانية ، أضاف إليها ستّاً (3).

قلت : ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم ، وخبر رفاعة ، وصحيحة ابن وهب ، وصحيح زرارة ، وصحيحة أبي أيّوب بإطلاقها يتناول العامد ولا تخصّصها بالناسي.

ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم إن في كتاب علي عليه السلام من كون الثامن وقع سهواً ؛ لأنه أحد فردي المطلق ، فلا منافاة ، فلا معارضة ، فلا تخصيص.

فإطلاق هذه الأخبار غير معمول به ، مع معارضته بإطلاق الأخبار المانعة من القرآن ؛ فإنه يتحقّق بزيادة شوط ويعمّ الناسي. وإطلاق الأخبار والفتاوى المانعة من الزيادة ، وبأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله لم يعهد منه مثل ذلك ، وقد قال خذوا عنّي مناسككم (4).

ولم يثبت أن أحداً من الأئمّة فعله ، بل دلّوا على أن الزيادة في الطواف كالزيادة في الصلاة ، والعبادة كيفيّة متلقّاة ، والأصل بقاء شغل الذمّة بالنُّسُك. وما دلّ على أن أحدهم قَرَنَ لم يدلّ على أنه في فريضة ، بل صريح بعضه أنه تقيّة.

وظاهر صحيحة ابن مسلم الأخيرة ، حيث قال فيها واستيقن لا يعارض إطلاقات تلك الأخبار المانعة من الزيادة ومن القِران ولا وجوب التأسّي ، ولا دليل

ص: 351


1- تهذيب الأحكام 5 : 113 / 367 ، وسائل الشيعة 13 : 364 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 4.
2- الفقيه 2 : 248 / 1192 ، وسائل الشيعة 13 : 367 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 13.
3- تهذيب الأحكام 5 : 152 / 502 ، وسائل الشيعة 13 : 366 ، أبواب الطواف ، ب 34 ، ح 10.
4- عوالي اللآلي : 215 / 73.

على تخصيصها بالناسي من نصّ ولا إجماع.

هذا ، مع أن تلك الزيادة التي وقعت سهواً بنيّة الوجوب لا يتمّ بها الأُسبوع المندوب إن قلنا : إن الثاني مندوب والأوّل هو الفرض ، كما هو قول الأكثر.

ولا مقصوده إن قلنا : إنه الفرض ، وإن الأُسبوع الأوّل انقلب نفلاً بمجرّد وقوع تلك الزيادة سهواً فلا يتمّ بها ، كما هو المنقول عن الصدوق (1) وابن الجنيد (2).

وكلّ هذا منافٍ لقواعد الفنّ وأدلّتها ، وقياسه على العدول في الصلاة ظاهر الضعف. هذا مع أن صحيحة ابن سنان ظاهرها أنه يتمّ أُسبوعاً آخر بمجرّد دخوله في الثامن ، ولا قائل به.

وظاهر صحيحة زرارة وقوع السهو من المعصوم ، وهو خلاف البرهان المحكم عقلاً ونقلاً وإجماعاً. وعن الصدوق في ( المقنع ) (3) بطلانهما فيجب الاستئناف ، وهو الأوفق بقواعد الفن ، ولعلّه الأقوى كما يظهر ممّا تلوناه على سمعك.

وإن كانت المسألة قويّة الإشكال ، والاحتياط في إكمال الأُسبوع الثاني والإعادة وصلاة ستّ ركعات. وإن كانت الزيادة أكثر من شوط فلا يحضرني فيه نصّ لأصحابنا ولا خبر ، ولا يظهر فرق بين الشوط وما زاد.

ومقتضى عموم الأدلّة السابقة البطلان ، بل هو أولى من الإبطال بالشوط الواحد ، ومقتضى الفتوى بصحّتهما إذا زاد شوطاً الصحّة ولو زاد ستّة ، وهو أوضح إشكالاً وضعفاً كما لا يخفى ، واللّه العالم (4).

ص: 352


1- الفقيه 2 : 248 / 1192 ، عنه في مختلف الشيعة 4 : 207 / المسألة : 161 ، مدارك الأحكام 8 : 170.
2- عنه في مختلف الشيعة 4 : 207 / المسألة : 161 ، مدارك الأحكام 8 : 170.
3- المقنع : 266 ، عنه في مختلف الشيعة 4 : 206 / المسألة : 160 ، مدارك الأحكام 8 : 169.
4- إلى هنا تنتهي نسخة المخطوط التي بين أيدينا.

الرسالة الثانية عشرة : مسألة في الرضاع

ص: 353

ص: 354

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمّدٍ وآله الطيّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

وبعد :

فقد ورد عليّ سؤال من العالم العامل الفاضل الكامل الشيخ محمّد ابن المقدّس الشيخ علي ابن الشيخ محمّد ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ إبراهيم الدرازي : يدلّ على غزارة علمه ، وجودة فهمه ، وأنا لست من فرسان الحلبة ، ولا شجعان هذه الجلبة ، هذا مع شدّة تقسّم القلب وتشتّت اللبّ ، وقلّة البضاعة ، وكثرة الإضاعة ، وعدم حضور الآلة ، وعظم الملالة ، واللّه المستعان وعليه التكلان.

قال حرسه اللّه - : ( بسم اللّه الرحمن الرحيم. سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ).

أقول : وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( ما يقول شيخنا أدام اللّه فوائده ).

أقول : اللّهمّ استجب دعاءه ، واجعلني خيراً ممّا يظنّون ، واغفر لي ما لا يعلمون.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( هل يحلّ للأب الرضاعي نكاح مطلّقة ابنه الرضاعي؟ ).

أقول : لا يحلّ ، وعليه أطبقت الأُمّة بحسب ما ظهر في كلّ زمان ومكان ، ولا

ص: 355

تكليف إلّا بعلم ما ظهر ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، فلو كان هذا التحريم المجمع عليه من غير الحقّ ، لظهر ردّه من حافظ الشريعة الذي ينفى عنها تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، عجّل اللّه فرجه.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( وما وجه فتوى الأصحاب بالتحريم هنا والآية (1) نصّ في تقييد الحكم بالولد الصلبي ).

أقول : نعم في ذلك وجهان :

الأوّل : ما سلّمه هو سلّمه اللّه من أنه فتوى الأصحاب ، فإذا تبيّن أنه فتوى الأصحاب وحجّة اللّه قد أقرّهم عليه ، ولم يظهر منه بعبارة أو إشارة أو عموم أو خصوص ردّه ، وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، وهم القرى التي هي منازل السائرين إليه ، الذين نصّ عليهم بأنهم الحكّام على الرعايا ووصفهم بأنهم الحجّة على من دونهم وهو الحجّة عليهم ، عُلِمَ أنه حقّ ، فلا تطلب أثراً بعد عين. هذا ، وقد علمت أنه لا يعرف فيه خلاف بين الأُمّة فضلاً عن الأصحاب.

الثاني : أن الآية الكريمة نصّ في ولد الصلب ، وعلى تحريم حليلته على أبيه إجماع الأُمّة أيضاً كما لا يخفى ، وجاءت السنّة أن الرضاع لحمة كلحمة النسب ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) ، وقد تلقّت الأُمّة هذين الخبرين بالقبول واستدلّوا بهما في سائر الأزمان والأصقاع على كثير من مسائل الرضاع ، كما لا يخفى.

فللولد الرضاعي لحمة كلحمة الولد الصلبي ، ومقتضى لحمة الولد الصلبي تحريم زوجته على أبيه بنصّ الآية الكريمة والإجماع ، فيثبت مثله للحمة الولد الرضاعي ؛ للخبرين المتّفق على قبولهما والعمل بمضمونهما ، فتحرم زوجة الولد الرضاعي كما تحرم زوجة الولد الصلبي بمقتضى ضمّ ما يقولونه.

ص: 356


1- النساء : 23.
2- وسائل الشيعة 20 : 371 - 373 ، أبواب ما يحرم من الرضاع ، ب 1.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( وما الوجه عند المفسّرين (1) في جعل فائدة القيد في الآية إخراج زوجة المتبنّى خاصّة ).

أقول : الوجه في ذلك ، إمّا في الظاهر فهو ما علموه من سبب نزول الآية (2) ، وأمّا في الحقيقة فما علمت من إجماع الأُمّة على أن المراد من القيد ذلك ، مع عدم ظهور ما ينافيه من نقل أو عقل ، وثبوت وجوب حفظ الشريعة على الحجّة بالدليل عقلاً ونقلاً (3) وإجماعاً ، ونظير القيد فيها القيد في الربيبة ؛ لعدم اشتراط كونها في الحجر نصّاً (4) وإجماعاً.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( على أن زوجة الولد الصلبي ليست إحدى السبع أو التسع من المحرّمات النسبيّة حتّى يحرم من حلّ محلّها بالرضاع ، ويندرج تحت يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (5) ).

أقول : قد عرفت الجواب عن هذا ، وتحريم زوجة الولد الصلبي ثابت بالكتاب والسنّة ، والإجماع الضروري أو كالضروري ، والولد الرضاعي كالولد الصلبي ، فيحرم بسببه ما يحرم بسببه. ونظيرها أُخت الزوجة من الرضاع ، فإنها تحرم جمعاً بلا خلاف يظهر. وأُخت الولد الصلبي من الرضاع لأبيه الرضاعي نسباً ورضاعاً ولأُمّه الرضاعيّة نسباً على المشهور ، بل نقل عليه الإجماع جماعة ، ودلّت عليه الأخبار كصحيحة ابن مهزيار (6) : ، وصحيحة عبد اللّه بن جعفر (7) : ، وصحيحة أيّوب بن نوح (8) ، وغيرها فظهر اندراج زوجة الولد الرضاعي تحت حكم ما يحرم من الرضاع أي

ص: 357


1- انظر مثلاً التبيان في تفسير القرآن 3 : 158 - 159.
2- التبيان في تفسير القرآن 3 : 158 - 159.
3- الكافي 1 : 198 - 204 / 1 - 2 ، بصائر الدرجات : 331 / ب 10.
4- الفقيه 3 : 262 / 1248 ، تهذيب الأحكام 7 : 273 / 1165 - 1166.
5- وسائل الشيعة 20 : 371 - 373 ، أبواب ما يحرم من الرضاع ، ب 1.
6- الكافي 5 : 446 / 13 ، وسائل الشيعة 20 : 402 - 403 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب 14 ، ح 1.
7- الكافي 5 : 447 / 18 ، وسائل الشيعة 20 : 404 - 405 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب 16 ، ح 2.
8- تهذيب الأحكام 7 : 321 / 1324 ، وسائل الشيعة 20 : 404 ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، ب 16 ، ح 1.

بسبب ما يحرم بالنسب بسببه ، وتحت حكم الرضاع لحمة كلحمة النسب.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( والتمسّك بالإجماع لو ادّعي هنا لا يفيد من جانب منْ لا يرى العمل به ).

أقول : الإجماع المتحقّق بتحريم نكاح زوجة الولد الرضاعي وولد الولد الصلبي لا يكاد أحد من المسلمين يستطيع ردّه والعمل بخلافه ، فهو فيهما من الإجماع الذي قال فيه عليه السلام إنّ المجمع عليه لا ريب فيه (1) ، وكثيراً ما احتجّ المعصوم به على الخصوم كما يشهد به التتبّع ، ولا يظهر من لا يرى العمل بمثله ، ولو كان مثله لا حجّة فيه لتعطّل كثير من أحكام الشريعة ، ويلزمه أن الشارع أهمل بيانه ، وهو باطل بالضرورة.

ثمّ قال حرسه اللّه - : ( على أن ولد الولد إن كان ولداً للصلب ، فما معنى ذلك؟ وإلّا فالسؤال موجّه معه أيضاً ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ).

أقول : إذا صدق على ولد الولد أنه ولد صدق عليه أنه ولد للصلب ؛ إن كان حقيقة فحقيقة ، وإن كان مجازاً فمجازٌ ، وقد أثبتنا في الرسالة المعمولة في أن إطلاق الولد عليه مجاز أو حقيقة أنه مجاز ، فلا ريب في ورود الاستعمال بإطلاق لفظ الولد على الإطلاق والولد للصلب عليه ، لكنّه لا يدلّ على أنه حقيقة ؛ لأنه استعمال مع نصب قرينة على إرادة عموم اللفظ له.

فلو خُلّينا ولفظ هذه الآية (2) لقلنا : إنها لا تدلّ على تحريم زوجته على جدّه لمثل ما قلناه في الرسالة ، وتعدية حكم تحريم زوجة الولد على أبيه لابنه بالنسبة إلى جدّه إنما جاء بالوراثة من أبيه بالدليل.

ولهذا نظائر كثيرة في أحكام الحجب والميراث والنكاح. ولو كان ولد الصلب يشمل ولد الولد حقيقة لكان كلّ ما ثبت له من أحكام أبيه وخصائصه في الميراث

ص: 358


1- الكافي 1 : 67 - 68 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، أبواب صفات القاضي ، ب 9 ، ح 1.
2- النساء : 23.

وغيره ثبت له بالأصالة ، مع أن كثيراً منها لا يستحقّها ولا تثبت له إلّا بعد فقد أبيه.

وبالجملة ، فقد دلّ الدليل على أن المراد من الآية المذكورة ما هو أعمّ من الولد للصلب بلا فصل أو بواسطة أو وسائط من النصّ والإجماع. ويمكن أن يقال : إن القيد للنصّ على تحريم حليلة من يطلق عليه اسم الولد مطلقاً حقيقة أو مجازاً لينحصر الخارج منها في المتبنّى ، فتدلّ على أن المتبنّى ليس بولد لا حقيقة ولا مجازاً ، لأنه لم يخرج من الصلب لا حقيقة ولا مجازاً لا بلا فصل ولا بفصل بواسطة أو أكثر ، بل ربّما أشعر القيد بأن إطلاق الولد على ولد الولد ليس بحقيقة وإلّا لاكتفى به هاهنا ، لكن فيه غموض.

وعلى كلّ حال ، فالآية الكريمة لا تدلّ على أن إطلاق الولد على ولد الولد حقيقة بوجه من وجوه الدلالة ، خصوصاً إذا كانت الواسطة امّاً ، فممّا لا ينبغي الريب فيه أن ولد البنت ليس ولداً حقيقة خصوصاً إذا تكثّرت الوسائط ، وربّما أشعر إطلاق قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) (1) بذلك ، والعرف في سائر الأزمان يساعده ، وكذا قوله تعالى : ( وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ ) (2) الآية.

هذا ما خطر بالبال فيما حضر مع كثرة البلبال ، والملتمس الدعاء وبكم القدوة ، ومنكم التسديد والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.

حرّر بقلم القاصر المقصّر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : آخر نهار 29 شهر ربيع المولد الأعظم سنة (1241).

وتشرّف برقم ما هو مزبور أقلّ الخليقة بل لا شي ء في الحقيقة ، الأقلّ الجاني يوسف ابن مسعود بن سليمان الجشّي البحراني : ، وذلك في الليلة الحادية من الشهر الرابع من السنة الحادية من العشر الخامسة من المائة الثالثة من الألف الثانية من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآله أكمل الصلاة والسلام والتحيّة. تمّت بالخير والبركة

ص: 359


1- الأحزاب : 5.
2- الحجرات : 13.

ص: 360

الرسالة الثالثة عشرة : عدّة المطلّقة الحرّة

اشارة

ص: 361

ص: 362

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله.

مسألة : لو كانت المطلّقة الحرّة الحائل لا تحيض إلّا في أكثر من ثلاثة أشهر مرّة وطلّقت ، وقد بقي من طهرها شهر مثلاً فما عدّتها؟

قلت : قال الفاضل : في ( كشف اللثام ) على قول العلّامة : ( ولو كان حيضها في كلّ ستّة أشهر أو خمسة ) : قال الشارح : أو أربعة. ( اعتدّت بالأشهر ) (1). قال الشارح : ( اتّفاقاً كما في ( الخلاف ) (2) و ( السرائر ) (3) ، ولنحو قول الباقر عليه السلام : في صحيح زرارة وحسنته أمران أيّهما سبق إليها بانت به المطلّقة المسترابة التي تستريب الحيض ، إن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت بها ، وإنْ مرّت بها ثلاث حِيَضٍ ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض (4).

وأمّا نحو قول أحدهما عليهما السلام في صحيح محمّد بن مسلم : في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة ، أو ستّة أو سبعة أشهر إنّ عدّتها ثلاثة أشهر (5).

فلعلّه محمول على التحيّض بعد كلّ ثلاثة أشهر.

ولا يشترط في الاعتداد بالأشهر وقوع الطلاق بحيث يتعقّبه ثلاثة أشهر بيض ؛ لإطلاق النصوص من الأخبار والأصحاب ، فلو كانت لا تحيض إلّا بعد ثلاثة وطلّقت حيث بقي إلى حيضها شهر اعتدّت بالأشهر أيضاً وإن رأت الدم بعد شهر ؛

ص: 363


1- قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجريّ ).
2- الخلاف 5 : 57 / المسألة : 5.
3- السرائر 2 : 742.
4- الخصال 1 : 47 - 48 ، باب الاثنين / 51 ، الفقيه 3 : 332 / 1609.
5- الكافي 6 : 99 / 5 ، الفقيه 3 : 332 / 1608 ، تهذيب الأحكام 8 : 119 - 120 / 412 ، الإستبصار 3 : 323 / 1150 ، وسائل الشيعة 22 : 183 - 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 1. بالمعنى.

لصدق سبق ثلاثة أشهر بيض على ثلاث حِيَضٍ ، فإنه أعمّ من أن يكون بعد الطلاق من غير فصل أو مع الفصل ، فتكون عدّتها ثلاثة أشهر مع الحيض السابق والطهر السابق عليه. ولا بُعْدَ في اختلاف العدّة باختلاف وقت الطلاق طولاً وقصراً ، بل هو واقع في المعتدّة بالأقراء ) (1) ، انتهى.

أقول : ظاهر عبارة الشارح أن الاتّفاق متحقّق على أن مَنْ كانت يعتادها حيضها في أكثر من ثلاثة أشهر مطلقاً فهي تعتدّ بثلاثة أشهر ، كما هو المنقول عن ( الخلاف ) (2) و ( السرائر ) (3) ، وبه أفتى جمع مثل العلّامة : في ( القواعد ) (4) و ( الإرشاد ) (5) و ( التلخيص ) (6) و ( التحرير ) (7) والخراساني : في كفايته (8) ، وصاحب ( معالم الدين ) والمحقّق : في ( الشرائع ) (9) و ( النافع ) (10) ، وغير واحد. والأمر كذلك.

وظاهر ( المسالك ) أيضاً أنه ظاهر الأصحاب ، حيث قال : ( إن الروايات تقتضي اشتراط سلامة الثلاثة بعد الطلاق من الحيض ، فلو وقع الطلاق في أثناء الطهر بحيث لم يبقَ بعده ثلاثة وإن كان أصله أكثر لا تعتدّ بالأشهر. وعبارات الأصحاب خلاف ذلك من حيث الإطلاق ) (11) ، انتهى.

وظاهره اتّفاقهم على أن مَنْ كانت عادتها في الحيض لأكثر من ثلاثة أشهر ، فهذه تعتدّ بالشهور على كلّ حال من غير فرق بين أن تطلّق في أوّل طهرها أو وسطه أو آخره. ولا عبرة لها بما يكون من حيض العادة إذا وقع قبل مضي ثلاثة بيض ؛ لأن فرض هذا الاعتداد بالشهور دون الأقراء ، وهذا هو الحقّ ، وهو الذي تطابقت

ص: 364


1- كشف اللثام 2 : 136 ( حجريّ ).
2- الخلاف 5 : 57 / المسألة : 5.
3- السرائر 2 : 742.
4- قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجريّ ).
5- إرشاد الأذهان 2 : 47.
6- تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 39 : 504.
7- تحرير الأحكام 2 : 71 ( حجريّ ).
8- كفاية الأحكام : 204.
9- شرائع الإسلام 3 : 25.
10- المختصر النافع : 313.
11- مسالك الأفهام 9 : 251 ، وفيه : ( عبارة ) بدل : ( عبارات ).

الأخبار في الدلالة عليه من غير تدافع ولا تنافر.

الأخبار الدالّة على الاعتداد بالشهور

ففي حسنة ابن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام أنه قال في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر أو في ستّة أو في سبعة أشهر ، والمستحاضة التي لم تبلغ المحيض ، والتي تحيض مرّة ويرتفع مرّة ، والتي لا تطمع في الولد ، والتي قد ارتفع حيضها وزعمت أنها لم تيأس ، والتي ترى الصفرة من حيض ليس بمستقيم ، فذكر أن عدّة هؤلاء كلّهنّ ثلاثة أشهر (1).

وفي الموثّق عن أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنه قال في المرأة يطلّقها زوجها وهي تحيض كلّ ثلاثة أشهر حيضة ، فقال إذا انقضت ثلاثة أشهر انقضت عدّتها ، يحسب لها كلّ شهر حيضة (2).

وحسنة أبي مريم : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : عن الرجل كيف يطلّق امرأته وهي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر حيضة واحدة؟ قال يطلّقها تطليقة واحدة في غرّة الشهر ، فإذا انقضت ثلاثة أشهر من يوم طلّقها فقد بانت منه (3).

وخبر أبي الصباح : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : سألته عن التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة ، كيف تعتدّ؟ فقال تنتظر مثل قرئها التي (4) كانت تحيض فيه في الاستقامة ، فتعتدّ ثلاثة قروء (5).

ص: 365


1- الكافي 6 : 99 / 5 ، تهذيب الأحكام 8 : 119 - 120 / 412 ، الإستبصار 3 : 323 / 1150 ، وسائل الشيعة 22 : 183 - 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 1.
2- الكافي 6 : 99 / 6 ، تهذيب الأحكام 8 : 120 / 413 ، الإستبصار 3 : 323 - 324 / 1151 ، وسائل الشيعة 22 : 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 2.
3- تهذيب الأحكام 8 : 120 / 414 ، الإستبصار 3 : 324 / 1152 ، وسائل الشيعة 22 : 200 ، أبواب العدد ، ب 13 ، ح 3.
4- في (الكافي) و (الاستبصار): «التي».
5- الكافي 6 : 99 / 4 ، تهذيب الأحكام 8 : 120 - 121 / 415 ، الإستبصار 3 : 325 / 1155 ، وسائل الشيعة 22 : 187 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 10. وفي الجميع : « فلتعتدّ » بدل : « فتعتدّ ».

وفي صحيح الحلبي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : سألته عن قول اللّه عزوجل ( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) (1) ، ما الريبة؟ قال ما زاد على شهر فهو ريبة ، فلتعتدّ ثلاثة أشهر ، ولتترك الحيض ، وما كان في الشهر لم يزد في الحيض على ثلاث حيض ، فعدّتها ثلاث حِيَضٍ (2).

وحسنة زرارة : قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام : عن التي لا تحيض إلّا في ثلاث سنين أو أربع سنين ، فقال تعتدّ ثلاثة أشهر ، ثمّ تزوّج إنْ شاءت (3).

وصحيح أبي بصير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في التي لا تحيض إلّا في ثلاث سنين أو أكثر من ذلك قال : فقال مثل قرئها التي كانت تحيض في استقامتها ، ولتعتدّ بثلاثة قروء ، وتتزوّج إنْ شاءت (4).

وخبر أبي الصباح : قال : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام : عن التي لا تحيض كلّ ثلاث سنين إلّا مرّة واحدة ، كيف تعتدّ؟ قال تنتظر مثل [ قروئها (5) ] التي كانت تحيض في استقامتها ، ولتعتدّ ثلاثة قروء (6) الخبر.

وصحيح الحلبي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : مثله (7).

وخبر الغنوي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : في المرأة التي لا تحيض إلّا في ثلاث سنين أو

ص: 366


1- الطلاق : 4.
2- الكافي 6 : 100 / 8 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 407 ، الإستبصار 3 : 325 / 1157 ، وسائل الشيعة 22 : 186 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 7.
3- الفقيه 3 : 332 / 1607 ، تهذيب الأحكام 8 : 121 / 417 ، الإستبصار 3 : 326 - 327 / 1162 ، وسائل الشيعة 22 : 187 - 188 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 11.
4- تهذيب الأحكام 8 : 121 122 / 419 ، الإستبصار 3 : 326 - 327 / 1162 ، وسائل الشيعة 22 : 188 - 189 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 14.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : « أقرائها ».
6- الفقيه 3 : 332 / 1610 ، تهذيب الأحكام 8 : 122 / 420 ، الإستبصار 3 : 326 / 1159 ، وسائل الشيعة 22 : 189 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 15.
7- تهذيب الأحكام 8 : 122 / 421 ، الإستبصار 3 : 326 / 1160 ، وسائل الشيعة 22 : 189 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 15.

أربع سنين أو خمس سنين قال تنتظر مثل قرئها التي (1)كانت تحيض ، فلتعتدّ (2) الخبر. وغيرها من الأخبار.

وقد دلّت حسنة ابن مسلم : بمنطوقها على أن مَنْ كانت عادتها في الحيض ثلاثة أشهر ، أو في ستّة أو سبعة ، أنها تعتدّ بثلاثة أشهر.

ودلّ موثّق أبي بصير : وحسنة أبي مريم : وخبر أبي الصباح : على أن مَنْ كانت يعتادها الحيض في كلّ ثلاثة أشهر أنها تعتدّ بثلاثة أشهر.

ودلّ الجميع بطريق الأولويّة والفحوى على أن مَنْ كانت عادتها في الحيض أكثر من ثلاثة أشهر ولو يوماً أنها كذلك ، مضافاً إلى أن الإجماع قائم على عدم الفرق بين مَنْ كانت عادتها أكثر من ثلاثة أشهر بيوم أو شهر أو أكثر مطلقاً.

فقد تطابقت هذه النصوص على أن مَنْ كانت عادتها في الحيض أكثر من ثلاثة أشهر أن فرضها الاعتداد بثلاثة أشهر مطلقاً ، ودلّ إطلاقاتها على عدم الفرق في مَنْ كانت كذلك بين أن تطلّق في أوّل طهرها أو أثنائه أو آخره ولو قبل حيضها بلحظة ، فلا عبرة بالحيض الواقع في أثناء عدّتها ، فدلّ ذلك كله على أن مَنْ كانت عادتها في أكثر من ثلاثة أشهر مطلقاً فعدّتها ثلاثة أشهر لا تزيد ولا تنقص ولا تختلف.

وظاهر الفتوى والأخبار من غير اختلاف أن مبدأ عدّة الطلاق من حين انتهاء صيغة إنشاء الطلاق.

بقي الكلام فيما دلّ بظاهره على أن مَنْ كانت عادتها في الحيض تأتيها في كلّ ثلاثة أشهر فعدّتها ثلاثة أشهر. فظاهر العصابة الإطباق على طرح هذا الظاهر ، وحملها على أن مَنْ كانت عادتها في التحيّض بعد كلّ ثلاثة أشهر ، وعلى أن مَنْ كانت عادتها ثلاثة أشهر فنازلاً فإنها تعتدّ بالأقراء.

ويدلّ على هذا من الأخبار خبر عمّار الساباطي : قال : سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام : عن

ص: 367


1- في الكافي والاستبصار: «التي».
2- تهذيب الأحكام 8 : 122 / 422 ، الإستبصار 3 : 326 / 1161 ، وسائل الشيعة 22 : 190 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 19.

الرجل عنده امرأة شابّة ، وهي تحيض في كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر حيضة واحدة ، كيف يطلّقها زوجها؟ فقال أمر هذه شديد ، هذه تطلّق طلاق السنّة تطليقة واحدة على طهر من غير جماع بشهود ، ثمّ تُترك حتّى تحيض ثلاث حِيَضٍ ، متى حاضتها فقد انقضت عدّتها (1) الخبر.

وظاهر العصابة الإطباق على العمل بهذا المضمون ، فلا يضرّ ضعفه ، وبه يثبت ما أطبقت عليه العصابة فيما ظهر من أن مَنْ كانت يعتادها الحيض في كلّ شهر أو في كلّ شهرين أو في كلّ ثلاثة فهي تعتدّ بالأقراء دون الشهور. فوجب حمل تلك الظواهر على مَنْ كانت يعتادها الحيض بعد كلّ ثلاثة أشهر.

ويخطر بالفكر العليل جمع بين الإجماع على هذا المضمون وبين تلك الظواهر الدالّة على أن من كانت يعتادها الحيض في كلّ ثلاثة أشهر فعدّتها ثلاثة أشهر لم أقف على مَنْ ذكره وهو أن تُحمل تلك الظواهر على إرادة أن مَنْ تحيض في كلّ ثلاثة أشهر أنها تعتدّ بالأقراء ، كلّ قرء ثلاثة أشهر. وهذا وإن كان بعيداً من اللفظ إلّا إنه لا يزيد على بُعْد الأوّل.

مناقشة قول الفاضل الهندي في شرح عبارة القواعد

إذا عرفت هذا عرفت أن قول الفاضل : في شرح عبارة ( القواعد ) المذكورة أن مَنْ طُلّقت وهي ممّن يعتادها الحيض في أكثر من ثلاثة أشهر ، أنها تعتدّ ثلاثة أشهر مع الحيض السابق عليها وبقيّة الطهر السابق عليه إن لم يكن ثلاثة أشهر بيض ، وإلّا اكتفت بها ، وأن عدّة هذه تختلف طولاً وقصراً بحسب ما يبقى من طهر طلاقها إلى زمن حيضها ضعيف جدّاً من وجوه :

الأوّل : أنه لا دليل عليه بخصوصه من نصّ أو إجماع ، بل لم نقف عليه لغيره ، فهو

ص: 368


1- تهذيب الأحكام 8 : 119 / 410 ، الإستبصار 3 : 322 - 323 / 1148 ، وسائل الشيعة 22 : 199 ، أبواب العدد ، ب 13 ، ح 1.

شاذّ.

الثاني : أنه لا دليل على اختلاف عدّة المعتدّة بالشهور طولاً وقصراً ، بل الأخبار والفتاوى متطابقة على أن عدّة المعتدّة بالشهور ثلاثة أشهر لا أقلّ ولا أكثر وإن اختلف الأصحاب في شهورها ، هل هي هلاليّة مطلقاً ، أو عدديّة مطلقاً ، أو هلاليّة إن طلّقت من أوّل جزء من الشهر ، وإلّا فهلاليان وعددي ملفّق تتمّته من الرابع؟ وهذا هو الحقّ.

الثالث : أنه على قوله يلزم أن عدّة هذه ملفّقة من الأقراء والشهور ، وهذا غير معروف بين المسلمين ، إلّا مَنْ طرأ يأسها بعد قرء أو قرائن.

الرابع : أن نفي البعد في اختلاف العدّة هنا فرع على ثبوت ما قاله بدليل ، ولم يثبت بدليل ، بل الدليل كما عرفت ينفيه ، ولا تلازم بين ثبوته في ذوات الأقراء والشهور ، فثبوته في ذوات الأقراء لا يوجب ثبوته في ذوات الشهور ، والقياس باطل ، على أنه لا جامع بينهما يوجب القياس.

إشكال الشهيد الثاني في مسالكه

الخامس : أنه يناقض صدر عبارته ، حيث حكم بأنها تعتدّ بثلاثة أشهر وأطلق ، وكأنه رحمه اللّه أراد بذلك التخلّص من استشكال الشهيد : في ( المسالك ) حيث قال في شرح قول المحقّق : ( ولو كان مثلها تحيض وهي لا تحيض ، اعتدّت بثلاثة أشهر إجماعاً ، وهذه تراعي الشهور والحِيَض ، فإن سبقت الأطهار فقد خرجت من العدّة ، وكذا إن سبقت الشهور ) (1) - : ( اعلم أن الأصل في عدّة الحائض (2) الأقراء ؛ لقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) ، وشرط اعتدادها بالأشهر فقدها ، كما نبّه عليه قوله تعالى : ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ ) إلى قوله

ص: 369


1- شرائع الإسلام 3 : 24 - 25.
2- في المصدر : ( الحائل ) بدل : ( الحائض ).
3- البقرة : 228.

( وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) (1) ، ولا يشترط في اعتدادها بالأشهر يأسها من المحيض عندنا ، بل متى انقطع عنها ثلاثة أشهر فصاعداً اعتدّت بالأشهر كما يتّفق ذلك للمرضع والمريضة ؛ لقول الباقر عليه السلام : في حسنة زرارة : أمران أيّهما سبق بانت المطلّقة المسترابة. تستريب الحيض إنْ مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت منه ، وإن مرّت بها ثلاث حيض ، ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض (2).

والمراد من قوله : ( وهذه تراعي الشهور والحيض ) إلى آخره أن مع سبق الأشهر بغير حيض أصلاً تعتدّ بالأشهر ، ومع مضيّ ثلاثة أطهار قبل مضي ثلاثة أشهر خالية من الحيض تعتدّ بالأطهار. أمّا لو فرض رؤيتها في الثلاثة الأشهر حيضاً ولو مرّة واحدة لم تعتدّ بالأشهر ، بل بالأطهار إن تكرّر لها ذلك ، بأنْ كانت تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة. ولو فرض أن حيضها إنما يكون فيما زاد على ثلاثة أشهر ولو ساعة ، وطُلّقت في أوّل الطهر ، فمضت الثلاثة من غير أن ترى الدم فيها ، اعتدّت بالأشهر.

وإلى هذا أشار في الرواية [ بقوله (3) ] إنْ مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت منه.

وقوله وإنْ مرّت بها ثلاث حِيَضٍ ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض.

قال ابن أبي عمير : قال جميل : في تفسير ذلك يعني : خبر زرارة : - : إن مرّت بها ثلاثة أشهر إلّا يوماً فحاضت ، ثمّ مرّت بها ثلاثة أشهر إلّا يوماً فحاضت ، ثمّ مرّت بها ثلاثة أشهر إلّا يوماً فحاضت ، فهذه تعتدّ بالحيض على هذا الوجه ، ولا تعتدّ بالشهور. وإن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض لم تحض فيها فقد بانت (4).

ويشكل على هذا ما لو كانت عادتها أن تحيض في كلّ أربعة أشهر مثلاً مرّة ،

ص: 370


1- الطلاق : 4.
2- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( لقوله ).
4- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.

فإنه على تقدير طلاقها في أوّل الطهر ، أو ما قاربه بحيث يبقى لها منه ثلاثة أشهر بعد الطلاق ، تنقضي عدّتها بالأشهر كما تقرّر. ولكن لو فرض طلاقها في وقت لا يبقى من الطهر ثلاثة أشهر تامّة ، كان اللازم من ذلك اعتدادها بالأقراء ، فربّما صارت عدّتها سنة وأكثر على تقدير وقوع الطلاق في وقت لا يتمّ بعده ثلاثة أشهر بيض ، [ والاجتزاء (1) ] بالثلاثة على تقدير سلامتها ، فتختلف العدّة باختلاف وقت الطلاق الواقع بمجرّد الإخبار (2) ، مع كون المرأة من ذوات العادة المستقرّة في الحيض.

ويقوى الإشكال لو كانت لا ترى الدم إلّا في كلّ سنة أو أزيد مرّة ، فإن عدّتها بالأشهر على المعروف من النصّ والفتوى ، وعلى هذا فيلزم ممّا ذكروه هنا من القاعدة أنه لو طلّقها في وقت لا يسلم بعد الطلاق لها ثلاثة أشهر طهر ، أن تعتدّ بالأقراء وإن طال زمانها. وهذا بعيد ومنافٍ لما قالوه من أن أطول عدّة تفرض عدّة المسترابة ، وهي سنة أو تزيد ثلاثة أشهر. ولو قيل بالاكتفاء بثلاثة أشهر إمّا مطلقاً أو بيضاً هنا كما لو خلت من الحيض ابتداءً كان حسناً.

وقد ذكر المصنّف (3) ، والعلّامة : في كتبه (4) أن مَنْ كانت لا تحيض إلّا في كلّ خمسة أشهر أو ستّة أشهر عدّتها بالأشهر ، وأطلقا (5). وزاد في ( التحرير ) أنها إن كانت لا تحيض إلّا في كلّ ثلاثة أشهر فصاعداً تعتدّ بالأشهر (6) ، ولم تعتدّ بعروض الحيض في أثنائه ، كما فرضناه.

وروى محمّد بن مسلم : في الصحيح عن أحدهما عليهما السلام أنه قال في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة ) (7).

ص: 371


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( إلّا اجتزت ).
2- في المصدر : ( الاختيار ) بدل : ( الإخبار ).
3- شرائع الإسلام 3 : 25.
4- انظر : قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجريّ ) ، إرشاد الأذهان 2 : 47 ، تلخيص المرام ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 39 : 504.
5- في المصدر : ( أطلق ) بدل : ( أطلقا ).
6- تحرير الأحكام 2 : 71 ( حجريّ ).
7- الكافي 6 : 99 / 5 ، الفقيه 3 : 332 / 1608 ، تهذيب الأحكام 8 : 119 - 120 / 412 ، الإستبصار 3 : 323 / 1150 ، وسائل الشيعة 22 : 183 - 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 1.

وساق الخبر المتقدّم ، ثمّ قال : ( وهي تؤيّد ما ذكرناه ) (1) ، انتهى.

وقال أيضاً في شرح قول المحقّق : بعد هذا : ( ولو كانت لا تحيض إلّا في كلّ ستة أشهر أو خمسة أشهر ، اعتدّت بالأشهر ) (2) - : ( هكذا اتّفقت عبارة المصنّف وجماعة من الأصحاب ، ولا وجه للتخصيص بالخمسة والستّة ، بل الضابط أنها مَنْ سلم لها ثلاثة أشهر بعد الطلاق لا ترى فيها حيضاً اعتدّت بالأشهر.

وقد دلّ على ذلك رواية زرارة : عن الباقر عليه السلام : قال أمران أيّهما سبق بانت المطلّقة المسترابة ، تستريب الحيض إنْ مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت منه ، وإنْ مرّت بها ثلاث حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض (3).

وفي رواية أُخرى لزرارة : عن أحدهما عليهما السلام أي الأمرين سبق إليها فقد انقضت عدّتها ، إنْ [ مرّت (4) ] ثلاثة أشهر لا ترى فيها دماً فقد انقضت عدّتها ، وإنْ مرّت ثلاثة أقراء فقد انقضت عدّتها (5).

وفي صحيح محمّد بن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام أنه قال في التي تحيض في كلّ ثلاثة أشهر مرّة ، أو ستّة أو سبعة أشهر : إن عدّتها ثلاثة أشهر (6). وغير ذلك من الأخبار الدالّة على اعتبار سلامة ثلاثة أشهر.

لكن يبقى في ذلك ما أسلفناه من أن الروايات تقتضي اشتراط سلامة الثلاثة بعد الطلاق من الحيض فلو وقع الطلاق في أثناء الطهر بحيث لم يبقَ بعده ثلاثة وإن كان

ص: 372


1- مسالك الأفهام 9 : 237 - 239.
2- شرائع الإسلام 3 : 25.
3- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( مضت ).
5- الكافي 6 : 100 / 9 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 408 ، الإستبصار 3 : 324 / 1153 ، وسائل الشيعة 22 : 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 3. وفي الجميع : « إنْ مرّت » بدل : « إنْ مضت ».
6- الكافي 6 : 99 / 5 ، تهذيب الأحكام 8 : 119 - 120 / 412 ، الإستبصار 3 : 323 / 1150 ، وسائل الشيعة 22 : 183 - 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 1. نقله بالمعنى.

أصله أكثر ، لا تعتدّ بالأشهر. وعبارات (1) الأصحاب خلاف ذلك من حيث الإطلاق ) (2) ، انتهى.

الجواب عن إشكال الشهيد الثاني

وأنت خبير بأن هذا الإشكال إن تمّ وروده لم يخلص منه إدخال ما بقي من طهر الطلاق مع زمن الحيض في العدّة ، فإنه على تقدير وروده لا ينجي من انقلاب عدّة هذه إلى الأطهار ، على أن الذي يظهر لي أن هذا الإشكال غير وارد أصلاً ، وأن هذا التحقيق منه في غاية الضعف.

أمّا الأوّل ، فلأن الأخبار وكلام المحقّق (3) : والعلّامة (4) : وغيرهما (5) صريح في أن مَنْ تعتدّ بالشهور صنفان ، كلّ صنف له حكم ؛ ولذا تراهم يفردون كلّ صنفٍ بكلام ومسألة على حدة ، كما يظهر لِمَنْ طالع الأخبار والفتاوى. ولو كانت صنفاً واحداً لما خصّوا من يعتادها الحيض في أكثر من ثلاثة أشهر بالذكر وبحكم على حدة ، ولم تختلف الأخبار في الجواب عنهما ، فجاء في كلّ واحدة منهما جواب على حدة :

أحدهما : مَنْ كانت لا تحيض وهي في سنّ مَنْ تحيض ، وهذه سمّيت في الأخبار بالمسترابة بالحيض ، وحكمها في النصّ (6) والفتوى (7) أنها تراعي الأمرين أيّهما سبق بانت به ؛ إمّا ثلاثة أشهر ليس بينها حيض ، أو ثلاث حِيَضٍ. وهذه إن شَرَعت في الاعتداد بالشهور فحاضت قبل كمال ثلاثة أشهر بيض ، صبرت إلى تمام تسعة أشهر

ص: 373


1- في المصدر : ( عبارة ) ، بدل : ( عبارات ).
2- مسالك الأفهام 9 : 250 - 251.
3- شرائع الإسلام 3 : 24 - 25.
4- قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجريّ ) ، تحرير الأحكام 2 : 71 ( حجريّ ).
5- النهاية ( الطوسي ) : 532 ، 534.
6- الكافي 6 : 98 / 1 ، الفقيه 3 : 132 / 1609 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
7- النهاية ( الطوسي ) : 532 - 533 ، شرائع الإسلام 3 : 24 ، قواعد الأحكام 2 : 69 ( حجريّ ).

كما هو الأشهر الأظهر. أو إلى تمام سنة من حين الطلاق ، ثمّ اعتدّت بثلاثة أشهر وإن تخلّلها حيض على الأشهر الأظهر. وقيل : إن تخلّلها حيض فبالأقراء. وهو ضعيف تردّه ظواهر النصوص ، إلّا أن يتمّ لها ثلاثة أقراء في مدّة التربّص ، فتتمّ بها عدّتها ، وهذه هي المسمّاة بالمسترابة بالحمل.

والثانية : قسمان : المستحاضة التي لا تتميّز لها عادة بوجه ، والتي يعتادها الحيض في أكثر من ثلاثة أشهر مرّة. والقسمان فرضهما الاعتداد بالشهور مطلقاً ، ولا عبرة بعروض حيض عادتها في الثلاثة ، ولا ينقلها ذلك إلى الاعتداد بالأقراء ، ولا تزيد في عدّتها عن الثلاثة أشهر ولا لحظة ، كما هو المستفاد من إطلاق النصوص من الأخبار والأصحاب.

والشهيد : رحمه اللّه لمّا لم يلحظ أن هنا صنفين لكلّ حكم يخصّه وأن التي تنقلب عدّتها من الأشهر إلى الأقراء هي الصنف الأوّل عند عروض دم الحيض لها قبل تمام ثلاثة أشهر بيض دون الصنف الثاني ، فإن فرض مَنْ كانت منه الاعتداد بالشهور مطلقاً ، بل أدخل الصنف الثاني في حكم الأوّل - [ أورد (1) ] عليه الإشكال. ولو [ لحظ (2) ] الفرق بينهما لما بقي في نفسه منه شي ء ولا فاه به قلمه.

وقد تبيّن لك بحمد اللّه الفرق بينهما في النصّ والفتوى ، ولو كانا صنفاً واحداً وحكمهما واحداً لورد الإشكال ولزم الحرج الشديد والعسر الشديد في مَنْ تُطلّق من الصنف الثاني ، ولم يسلم لها من طهرها ثلاثة أشهر بيض قبل وقت حيضها ، خصوصاً إذا كانت عادتها في حول فما زاد. وهذا ينافيه عدل اللّه ورحمته ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (3) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4) والشريعة المحمّديّة سهلة سمحة.

وهذا كلّه يهديك إلى الفرق بين حكمي الصنفين ، وأن مَنْ تنقلب عدّتها من

ص: 374


1- في المخطوط : ( ورد ).
2- في المخطوط : ( تخط ).
3- البقرة : 185.
4- البقرة : 286.

الشهور إلى الأقراء أو تتربّص إلى أقصى مدّة الحمل فتعتدّ بعدها ، إنما هي التي من الصنف الأوّل. فالعقل والنقل يدلّان على عدم لزوم ما ألزمهم به الشهيد : ، لبطلانه في نفسه ؛ لما يلزم منه من الحرج المنافي للعدل والرحمة ومجرى التكليف على الأضعف الأسهل الأيسر. فيجب أن نفرّق بين حكمي الصنفين ، ويخصّ الانقلاب بالأوّل ، فيرتفع الإشكال.

وأمّا الثاني ، فمن وجوه :

أحدها : أن الإشكال غير وارد على المحقّق وغيره ؛ لعدم إدخالهم الصنف الثاني في حكم الأوّل ، بل أفردوا كلّاً منهما بحكم ، وخصّوا كلّاً منهما ببحث.

الثاني : أنه حكم أوّلاً بأن الضابط أنه متى انقطع حيضها ثلاثة أشهر فصاعداً اعتدّت بالأشهر ، وإطلاقه يقتضي عدم الفرق في اعتدادها بالأشهر بين مَنْ كانت لها عادة في أكثر من ثلاثة أشهر ، أو لم يكن لها عادة ، بل اتّفق أنها لم تحض بعد الطلاق حتّى كمل لها ثلاثة أشهر بيض. وعدم الفرق في مَنْ يعتادها في أكثر من ثلاثة أشهر بين أن تطلّق في أوّل طهرها أو آخره ، بحيث لا يسلم لها بعد الطلاق ثلاثة بيض ، وعدم الفرق في مَنْ يعتادها في أكثر من ثلاثة أشهر بين مَنْ يعتادها لأكثر منها يوماً أو حولاً فصاعداً.

مع أنه قال بعد هذا : إن المعروف من النصّ والفتوى أن مَنْ يعتادها في كلّ سنة مرّة أنها تعتدّ بثلاثة أشهر. وهذا يدلّ على شمول إطلاقه هنا.

ثمّ استدلّ على هذا بإطلاقه بحسنة زرارة : أمران أيّهما سبق (1) إلى آخره ، كما يوضّحه استدلاله بها على قول المحقّق : في المقولة الأُخرى : ( ومَنْ كانت لا تحيض إلّا في خمسة أشهر ) (2) إلى آخره. فتراه استدلّ بها على حكم الصنفين. وهذه الرواية

ص: 375


1- الكافي 6 : 98 / 1 ، الفقيه 3 : 132 / 1609 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
2- شرائع الإسلام 3 : 25.

لا تصلح دليلاً إلّا على الصنف الأوّل دون الثاني ، ولو فرض شمولها لهما لتدافعت مع الأخبار المذكورة في حكم الصنف الثاني ، ولا تناقض في السنّة. ولم يذكر أحد ذلك ولا تعرّض أحد للجمع بينهما ، وهو دليل على أن أحداً من العصابة لم يفهم الشمول منها لهما ، بل كلّهم فهموا تخصيصها بالدلالة على حكم الصنف الأوّل ؛ وهي المسمّاة بمستريبة الحيض في الخبر نفسه. وهو دليل واضح على اختصاصها بالصنف الأوّل. فإن الثانية ليست تستريب الحيض ، بل هي ذات عادة مستقرّة.

وأنت إذا تأمّلت الخبر لم يخف عليك اختصاصه بحكم الصنف الأوّل ، فلا يصحّ الاستدلال به على غيره ، ولا على أن حكم الصنف الثاني كالأوّل ، بل للثاني حكم على حدة ودليل على حدة ، كما سمعته من الأخبار المذكورة.

الثالث : أن ما ألزمهم به من اعتداد مَنْ يعتادها لأكثر من ثلاثة أشهر بالأقراء إذا طلّقت ، بحيث لا يسلم لها بعده ثلاثة بيض ولو كانت عادتها في سنين ، غير لازم ؛ لما عرفت من اختصاص كلّ منهما بحكم ، وأن هذه تعتدّ بالشهور على كلّ حال ، كما اعترف به هو ؛ لأن هذه غير داخلة في القاعدة التي أشار لها في حكم الصنف الأوّل. بل حاصل إشكاله وإلزامه أنهم غفلوا عمّا لا يغفل عنه ذو حجا ، وهم أجلّ من ذلك ؛ لأنهم أرباب الأفئدة والقلوب المستنيرة بشعاع نور المعصوم ، مع ما اعترف به من منافاة ذلك لما قالوه في أطول عدّة تفرض ، ولإطلاقاتهم في الصنف الثاني ، كالأخبار التي هي منهم بمرأى ومسمع ، وهم المستوضحون. وكيف يظنّ بهم أنهم غفلوا عمّا يلزمهم من الإشكال والمحال الذي لا مخلص منه لو لم يفرّقوا بين حكمي الصنفين ، مع شدّة وضوح الأمر؟!

الرابع : ظاهر قوله : ( ولو قيل بالاكتفاء بثلاثة أشهر إمّا مطلقاً أو بيضاً هنا ) (1) إلى آخره أنه لا قائل بشي ء منهما ، مع أنك قد عرفت أن النصّ والفتوى ظاهران في أن هذه تعتدّ بثلاثة أشهر مطلقاً ، كما اعترف به هو ، مع أنه بعد هذا بلا فصل نقل

ص: 376


1- مسالك الأفهام 9 : 239.

القول بذلك عن المحقّق : والعلّامة : في التي لا تحيض إلّا في كلّ خمسة أشهر ، وقال : ( لا وجه للتخصيص بالخمسة أو الستّة ) (1) إلى آخره ، بل نقل عن ( التحرير ) (2) كما سمعت التصريح بعدم اعتبار ما يعرض لها حينئذٍ من دم العادة في الثلاثة ، بل ظاهره الميل إليه ، حيث ذكر صحيحة محمّد بن مسلم : وقال : ( إنها تؤيّد ما ذكرناه ) (3).

الخامس : أنه قال في شرح قول المحقّق : في الصنف الثاني : ( ولو كانت لا تحيض إلّا في كلّ ستّة أشهر أو خمسة أشهر اعتدّت بالأشهر ) (4) - : ( هكذا اتّفقت عبارة المصنّف وجماعة من الأصحاب ) (5). وهو اعتراف منه بقولهم باعتدادها بالأشهر مطلقاً ، وهو منافٍ لظاهر عبارته الاولى المشعرة بعدم القائل به. ثمّ استدلّ على صحّة ذلك برواية زرارة : عن الباقر عليه السلام : أمران أيّهما سبق (6) إلى آخره ، وبروايته الأُخرى عن أحدهما عليهما السلام أيّ الأمرين سبق إليها (7) إلى آخره.

وقد عرفت أن مورد الخبرين إنما هو الصنف الأوّل وليس فيهما تعرّض للصنف الثاني وهي التي تعتدّ بالشهور على كلّ حال بوجه أصلاً ، وهو لمّا توهّم أنهما صنف واحد وحكمهما واحد استدلّ عليه بهذين الخبرين ، ولم يلتفت إلى أن المحقّق : أفرد كلّ صنف بكلام وحكم ، ولو كانا عنده بحكم واحد لكان في كلامه وكلام أضرابه تكرار لا لفائدة.

السادس : أنه استدلّ على مضمون هذا المتن بخبري زرارة : وفيه ما سمعت - وبصحيح محمّد بن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام في التي تحيض في كلّ ثلاثة

ص: 377


1- مسالك الأفهام 9 : 250.
2- تحرير الأحكام 2 : 71 ( حجريّ ).
3- مسالك الأفهام 9 : 239.
4- شرائع الإسلام 3 : 25.
5- مسالك الأفهام 9 : 250.
6- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
7- الكافي 6 : 100 / 9 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 408 ، الإستبصار 3 : 324 / 1153 ، وسائل الشيعة 22 : 184 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 3.

أشهر مرّة أو ستّة أو سبعة .. إلى آخره. والاستدلال بهذا على مضمون المتن من أن مَنْ كانت كذلك فعدّتها ثلاثة أشهر على الإطلاق ، حسن مطابق ، لكنّه غير خفي عدم تطابق الخبرين في الدلالة والمورد ، بل كلّ واحد له متعلّق ودلالة تغاير الآخر.

فخبرا زرارة : في الصنف الأوّل ، وهو المذكور في كلام المحقّق : في المقولة الاولى ، وصحيح ابن مسلم : مورده الصنف الثاني ، وهو المذكور في كلامه في المقولة الأُخرى ، والشارح لمّا توهّم دخول الصنف الثاني في حكم الأوّل استدلّ بالجميع هنا وبخبر زرارة في الصنفين معاً ، وورد عليه الإشكال ، وإلزامهم بالقول بما ينفيه العقل والنقل من الكتاب والسنّة والإجماع وإطلاقاتهم وحصرهم أطول العدد.

السابع : قوله : ( إن الأخبار دلّت على اعتبار سلامة ثلاثة أشهر بعد الطلاق من الحيض ) (1). إن أراد أنه كذلك في الصنفين كما هو ظاهر كلامه في شرح المقولتين فممنوع كما عرفت ، وإن أراد أنها تدلّ على ذلك بالنسبة إلى الصنف الأوّل المذكور حكمه في المقولة الأُولى دون الصنف الثاني المذكور حكمه في المقولة الثانية ، فمسلّم ، لكن عليه لا يبقى إشكال ؛ لأنه إنما نشأ من عدم الفرق بين حكمي الصنفين.

وإذ قد تبيّن الفرق في النصّ والفتوى ، واختصاص الصنف الثاني بأنها تعتدّ بثلاثة أشهر خاصّة على كلّ حال ، فلا إشكال ، وقد اعترف هو رحمه اللّه أن عبارات الأصحاب تأبى إجراء حكم الصنف الأوّل على الثاني ، وإدخال الثاني تحت حكم الأوّل.

وبالجملة ، فهذا البحث منه رحمه اللّه غير محقّق ولا منقّح ، بل مضطرب متدافع متناقض ، ومنشأ الاضطراب عدم التفاته إلى الفرق بين الصنفين فتوًى ودليلاً حال الكتابة. وكلامه في ( الروضة ) (2) كما هنا مبنيّ على خلطهما حكماً ، وقد تبعه في فتواه في ( الروضة ) بعض أئمّة المعاصرين في شرح ( النافع ) (3) ، والمعصوم مَنْ عصمه اللّه.

ص: 378


1- مسالك الأفهام 9 : 251 ، باختلاف.
2- الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 6 : 58 - 59.
3- رياض المسائل 7 : 361 - 364.

إشكالات وردود

فإن قلت : نقل العلّامة : في ( المختلف ) (1) عن الشيخ : في ( النهاية ) (2) أنه قال : ( متى كانت المرأة لها عادة في الحيض في حال الاستقامة ، ثمّ اضطربت عليها فصارت مثلاً بعد أن كانت تحيض في كلّ شهر لا تحيض إلّا في شهرين ، أو ثلاثة أو ما زاد عليها ، فلتعتدّ بالأقراء على ما جرت به عادتها في حال الاستقامة وقد بانت منه ).

وظاهر هذه العبارة يقتضي أن مَنْ كانت لها عادة في الحيض فإن فرضها الاعتداد بالأقراء مطلقاً وإن كان قرؤها عشر سنين فأكثر.

قلت : لا يريد الشيخ ذلك قطعاً ؛ لمنافاته لفتاواه في جميع كتبه ، بل وللعقل والإجماع في كلّ زمان ومكان ، وللنقل كتاباً وسنّة ، ولعلّ مراده بقوله : ( أو ما زاد عليها ) ، أو ما زاد على ذات العادة المستقيمة من الزمان في العادة المتجدّدة لها ما لم تزد عادتها على ثلاثة أشهر ، فانْ زادت عادتها على ثلاثة أشهر اعتدّت بالشهور ، كما صرّح به ورواه في سائر كتبه (3) المتأخّرة عن ( النهاية ).

بقي في عبارته أن ظاهرها أيضاً أن مَنْ كانت لها عادة في كلّ شهر فصارت في كلّ شهرين أو ثلاثة فإنها تعتدّ بمثل قرئها الذي كان في كلّ شهر ، وتترك الاعتبار بالعادة المتجدّدة.

قلت : إن معنى كلامه أن ذات العادة المتجدّدة في كلّ شهرين أو ثلاثة بعد أن كانت ذات عادة في كلّ شهر أنها تعتدّ بالأقراء المتجدّدة ، كما كانت تعتدّ بالأقراء الأُول قبل تغيّرها ، فكما أن عادتها الاعتداد بالأقراء حال الاستقامة كذلك تعتدّ بالأقراء حال تغيّر عادتها كذلك. وهذا معنًى ظاهر في عبارته ، فلا إشكال فيها.

ص: 379


1- مختلف الشيعة 7 : 485.
2- النهاية ( الطوسي ) : 533 - 534 ، باختلافٍ يسير.
3- الخلاف : 5 : 57 / المسألة : 5 ، المبسوط 5 : 237.

وقال ابن إدريس : على ما نقله في ( المختلف ) (1) ، بعد نقله هذه العبارة - : ( وقول شيخنا في ( النهاية ) : ( فلتعتدّ بالأقراء على ما جرت به عادتها حال الاستقامة ) (2) ، إن أراد بذلك في الشهر والشهرين والثلاثة من غير تجاوز الثلاثة الأشهر ، ولم يصر ذلك عادة لها ، بل هي عارفة بعادتها الاولى ، فلتعتدّ بما قال من عادتها الاولى في حال استقامة أقرائها. وإن أراد أن العادة الاولى اضطربت عليها واختلفت ، وصارت ناسية لأوقاتها وأيّامها غير عالمة بها ، ثمّ صار حيضها في الشهرين والثلاثة عادة لها ثابتة مستقرّة (3) ، توالت عليها شهران متتابعان ، ترى الدم [ فيهما (4) ] أيّاماً سواء في أوقات سواء ؛ فلتجعل ذلك عادة لها ، ولتعتدّ بذلك لا بالعادة الأُولى التي نسيتها واضطربت عليها.

وأمّا ما زاد على الثلاثة الأشهر ، وصارت لا ترى الدم إلّا بعد ثلاثة أشهر ، فإن هذه تعتدّ بالثلاثة الأشهر (5) البيض بغير خلاف ؛ لقوله عليه السلام أمران أيّهما سبق بانت به (6) ، وكان ذلك عدّة لها ، وقد سبقت الثلاثة الأشهر البيض قال - : هذا تحرير الحديث وفقهه ) (7).

قال العلّامة بعد أن نقل العبارتين - : ( وقول الشيخ : وتأويل ابن إدريس : مشكلان ، والمعتمد أنه إذا صارت عادتها في الحيض في كلّ شهرين أو ثلاثة تعتدّ بالعادة المتجدّدة لا السابقة ، وإن اضطربت عادتها تعتدّ بثلاثة أقراء كيف كان ما لم تمضِ ثلاثة أشهر بيض ، فإنها حينئذٍ تخرج من العدّة.

ص: 380


1- مختلف الشيعة 7 : 485 - 486 / المسألة : 127.
2- النهاية ( الطوسي ) : 533 - 534.
3- في المصدر : ( مستمرة ) بدل : ( مستقرّة ).
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( فيها ).
5- في المصدر : ( بالأشهر الثلاثة ) بدل : ( بالثلاثة الأشهر ).
6- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
7- السرائر 2 : 742.

لنا على الأوّل : قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) (1) الآية. وعلى الثاني : قوله عليه السلام : أمران متقاربان أيّهما سبق كان الحكم له (2) ) (3) ، انتهى.

وقد قال المحقّق : في ( نكت النهاية ) بعد إيراد هذه العبارة - : ( إذا صار ذلك عادة لم ترجع إلى العادة الاولى وهي قادرة على الاعتداد بالأقراء ، ثمّ لا تكون معتدّة بالأقراء ؛ لأنها لم ترَ ثلاث حِيَضٍ ولا ثلاثة أطهار. ولِمَ قال : ( تعتدّ بالأقراء؟ ) (4) وإنما تعتدّ بمثل أوقات الأقراء في حال الاستقامة.

قلت : هذه رواية محمّد بن الفضيل : عن أبي الصباح : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : سألته عن التي تحيض في ثلاثة أشهر مرّة ، كيف تعتدّ؟ قال تنتظر مثل قرئها الذي (5) كانت تحيض فيه في زمان الاستقامة ، فلتعتدّ ثلاثة قروء ، ثمّ تزوّج إن شاءت (6).

ومحمّد بن الفضيل [ : واقفي (7) ] وروايته هذه شاذّة ؛ فليست حجّة.

ويمكن حملها على امرأة كانت لها عادة مستقرّة ، ثمّ اختلف حيضها ولم تستقرّ لها عادة مستأنفة ، ثمّ رأت الدم مستمرّاً ، فإنها تعتدّ بما عرفته أوّلاً ؛ لأن ذلك لم ينسخ بعادة ثانية. فاعتدادها إذن بالأقراء على هذا التقدير ، لا بمثل أوقات الأقراء ) (8) ، انتهى.

أقول : هذا تأويل بعيد جدّاً كما هو ظاهر ، وأقرب منه وأوضح ما قدّمناه في تأويل عبارة الشيخ : ، من أن هذه تعتدّ بالأقراء المتجدّدة ؛ كما كانت تعتدّ بالأقراء

ص: 381


1- البقرة : 228.
2- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5 نقله بالمعنى.
3- مختلف الشيعة 7 : 486 / المسألة : 127 ، باختلافٍ يسير.
4- النهاية ( الطوسي ) : 533.
5- في الكافي والاستبصار: «التي».
6- الكافي 6 : 99 / 4 ، تهذيب الأحكام 8 : 120 - 121 / 415 ، الإستبصار 3 : 325 / 1155 ، وسائل الشيعة 22 : 187 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 10.
7- من المصدر ، وفي المخطوط : ( ضعيف ).
8- النهاية ونكتها 2 : 482 - 483.

الأُول ، فإن هذه عادة لها ثانية مستقرّة ، فكما أنها تعتدّ في العادة الاولى بأقرائها تعتدّ في حال العادة الثانية بأقرائها وإن طال زمانها على زمان الاولى. وهذا أقرب إلى لفظها ، وأوفق بالقواعد.

وأنت خبير أن ما أورده على عبارة الشيخ : غير وارد بعد تأمّل ما قرّرناه في تأويلها. أمّا كلام ابن إدريس : فالإشكال فيه من جهة عدم مناسبة شي ء من المعنيين لعبارة الشيخ : بوجه أصلاً.

فإن قلت : قول ابن إدريس : ( وأمّا ما زاد على الثلاثة الأشهر ، وصارت لا ترى الدم إلّا بعد ثلاثة أشهر فإن هذه تعتدّ بالثلاثة الأشهر بغير خلاف ) (1) ، ظاهره قريب من كلام ( المسالك ) (2) و ( كشف اللثام ) (3) من اشتراط مرور ثلاثة أشهر بيض بها ، حتّى تخرج من العدّة.

قلت : إنما مراده أنها تعتدّ بالشهور ؛ لصدق سبق الثلاثة البيض على ثلاث حيض ، أي أن هذه من شأنها بمقتضى عادتها سبق ثلاثة بيض على ثلاثة حيض ، فتقييد ابن إدريس : بالبيض لعلّه أشار به إلى ذلك ، وقد عرفت تصريح ( كشف اللثام ) بهذا المعنى.

وممّا يدلّك على أن ابن إدريس : أراد ذلك استدلاله بالحديث الذي أورده : (أمران أيهما سبق بانت به (4) ، وكان ذلك عدّة لها ) (5) ، فإن ظاهره أنه متى كانت عادتها ومن شأنها أن تسبق لها ثلاثة بيض على ثلاث حيض ، كان حكمها الاعتداد بالشهور على كلّ حال ما دامت على تلك الحال. وإن سبقت ثلاث حِيَضٍ كانت عدّتها بالأقراء.

وقول ابن إدريس : بعد إيراد الخبر بلا فصل : ( وقد سبقت الثلاثة الأشهر

ص: 382


1- السرائر 2 : 742.
2- مسالك الأفهام 9 : 250 - 251.
3- كشف اللثام 2 : 136 ( حجريّ ).
4- الكافي 6 : 98 / 1 ، تهذيب الأحكام 8 : 118 / 409 ، الإستبصار 3 : 324 / 1154 ، وسائل الشيعة 22 : 185 ، أبواب العدد ، ب 4 ، ح 5.
5- السرائر 2 : 742.

البيض ) (1) كالصريح في إرادته هذا المعنى. ومراد العلّامة : أيضاً ذلك ؛ لما صرّح به في جملة من كتبه (2) ، ولاستدلاله بالخبر الذي رواه : أمران متقاربان ، أيّهما سبق كان الحكم له فإن ظاهره كالصريح في أنها متى كانت عادتها في أكثر من ثلاثة أشهر كان الحكم في عدّتها للشهور. وإن كانت عادتها في الأقلّ من ثلاثة أشهر كان الحكم للأقراء في عدّتها.

ولابن سعيد : في ( النزهة ) عبارة لا تخلو من تشابه أو إشكال قال رحمه اللّه : ( وأمّا الثلاثة الأشهر فعدّة اثنتي عشرة ).

وعدّهن إلى أن قال : ( وعدّة المرأة التي لا تحيض إلّا في ثلاث سنين أو أربع سنين حيضة واحدة ، وكان ذلك عادة لها مستمرّة ، فإن كانت عادتها غير ذلك وهي ناسية لها فكذلك ثلاثة أشهر ، وإذا كانت ذاكرة لها اعتدّت بمثل زمان قرئها حال استقامتها ) (3) ، انتهى.

ولا يبعد أنه أراد بمَنْ ( عادتها غير ذلك ) مَنْ كانت لها عادة مستقيمة ثمّ استمرّ بها الدم ، فإنها إن عرفت عادتها اعتدّت بمثل قرئها المعتاد ، وإلّا فبالثلاثة الأشهر. وظاهره أن من كانت أكثر من شهر تعتدّ حينئذٍ بمثله ولو بلغ سنتين. وله ظاهر بعض الأخبار ، لكنّه فيما زاد متروك ، فيما زاد على الشهر.

وأغرب ما وقفت عليه في هذه المسألة ، عبارة ابن حمزة : في ( الوسيلة ) ، وقفت على نسختين متطابقتين على لفظ واحد ، ولا ثالثة لديّ حتّى اراجعها قال رحمه اللّه : ( الحائل المستقيمة الحيض إن كانت لا تحيض في كلّ ثلاث سنين إلّا مرّة اعتدّت بالشهور ، وإن حاضت لأقلّ من ذلك اعتدّت بالأقراء ) (4) ، انتهى.

وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن المعتدّة بالأقراء قد تكون عدّتها قريباً من تسع

ص: 383


1- السرائر 2 : 742.
2- انظر مثلاً مختلف الشيعة 7 : 486 / المسألة : 127.
3- نزهة الناظر ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) 39 : 464 ، باختلافٍ يسير.
4- الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 325 ، باختلافٍ يسير.

سنين ، وهذا لم يقل به أحد من الأُمّة إلى يومنا هذا ، ولم يدلّ عليه دليل من عقل أو إجماع أو كتاب أو سنّة ، ولعلّ فيها غلط من قلم الناسخ ، ولعل لفظها : إن كانت لا تحيض إلّا في ثلاثة أشهر .. إلى آخره ، فغلط الناسخ فأبدل لفظ ( الأشهر ) بلفظ ( السنين ) ، فإنها بهذا توافق النصّ والفتوى.

وممّا يدلّ على هذا أن ذلك لو كان مذهباً له مع شدّة غرابته لنُقل عنه ، ولم نظفر به منقولاً عنه من كتاب أو لسان عالم.

عدّة الأمة التي تحيض في أكثر من خمسة وأربعين يوماً

بقيت في المقام مسألة لم أقف على مَنْ ذكرها ، هي أن الأمَة لو كانت إنما تحيض في أكثر من خمسة وأربعين يوماً ، فهل حكمها الاعتداد بخمسة وأربعين يوماً مطلقاً ، أو بها وبما بقي من طهرها وحيضها ، على قياس ما قاله في ( كشف اللثام ) (1) في الحرّة ، أو بخمسة وأربعين يوماً إن سلمت لها بعد طلاقها ، وإلّا فبقرأين على قياس ما قاله الشهيد الثاني (2) : في الحرّة.

وكذا فيما لو كانت تحيض في كلّ خمسة وأربعين يوماً ، أو لم تحض فطُلّقت ، فحاضت حيضة وارتفع حيضها ، وتربّص بها أقصى الحمل ، فهل هي كالحرّة مطلقاً ، أو على التنصيف؟

في كلّ ذلك وجهان : من إطلاقات الأخبار التي مرّ ذكرها ، وإطلاق الفتاوى أن مَنْ كانت تحيض لأكثر من ثلاثة أشهر تعتدّ بثلاثة أشهر ، فهي كالحرّة هنا. ومن الأخبار (3) الدالّة كأكثر الفتاوى (4) أنها على التنصيف من الحرّة مطلقاً. وهذا أظهر الوجهين.

ص: 384


1- كشف اللثام 2 : 136.
2- مسالك الأفهام 9 : 237 - 238.
3- انظر وسائل الشيعة 22 : 256 - 258 ، أبواب العدد ، ب 40.
4- انظر : الخلاف 5 : 63 - 64 / المسألة : 12 - 13 ، شرائع الإسلام 3 : 29 - 30 ، مختلف الشيعة 7 : 502 / المسألة : 141 ، مسالك الأفهام 9 : 298.

وعليه فالخمسة والأربعون اليوم بالنسبة لها كالثلاثة الأشهر بالنسبة للحرّة في جميع ما فصّل من الأحكام ؛ لأن الدليل دلّ على أن عدّتها نصف عدّة الحرّة على الإطلاق.

والظاهر من الأخبار المذكورة أنها واردة في الحرّة ، فالقرآن في شأنها كالثلاثة في شأن الحرّة. وكذا الخمسة والأربعون اليوم كالثلاثة الأشهر.

ويحتمل أنها إن اعتادت الحيض لأكثر من خمسة وأربعين يوماً وأقلّ من ثلاثة أشهر أنها تعتدّ حينئذٍ الأقراء ، وإن اعتادته لأكثر من ثلاثة أشهر فبخمسة وأربعين يوماً مطلقاً ؛ لإطلاق الأخبار والفتاوى في الفرضين ، وهو قويّ. واللّه العالم بحقيقة أحكامه.

تحرير هذه المسألة بقلم الأقلّ الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : ، ضحى يوم الثالث من ذي القعدة الحرام (1239) ، وقد جعلتها وفادة على باب جود اللّه عجّل اللّه فرجه وسهل مخرجه فإنْ قبلها فأهل ذلك هو ، وإن ردّها فأهل ذلك أنا ، وهو أرحم بي من نفسي ومن أُمّي وأبي ، وصلّى اللّه على محمّدٍ : وآله وسلم كما هم أهله. والحمد لله ربّ العالمين.

تمّت بقلم المذنب المخطئ العاصي الأحقر : زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا اللّه عنهم بمحمّدٍ : وآله ، صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ص: 385

ص: 386

الرسالة الرابعة عشرة : مسألة في الحبوة

اشارة

ص: 387

ص: 388

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوَّة إلّا باللّه العليِّ العظيم ، والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى اللّه على محمَّد وآله الطيِّبين.

وبعد :

ورد سؤال من بعض علماء البحرين صورته :

نصّ المسألة

( بسم اللّه الرحمن الرحيم : ما يقول الفقيه أيّده اللّه تعالى فيما لو قال قائل بتمشية الحبوة إلى ولد الولد بالنسبة إلى جدّه ، وذلك بعد أن يكون على الشرائط المعتبرة في استحقاق الولد للصّلب لها ، وجوباً أو استحباباً ، ومجّاناً أو محتسبة ، محتجّاً بالإجماع على إرادته من إطلاق الولد والابن في جملة من الآيات ، مؤيّداً بما جاء في تفسيرها (1) عن أهل العصمة عليهم السلام ؛ كقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (2) ، ( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ) (3) ، ( أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ) (4) ، ( فَإِنْ

ص: 389


1- تفسير العيّاشي 1 : 256 / 69.
2- النساء : 22.
3- النساء : 23.
4- النور : 31.

كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ) (1) ، ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (2) ، وَ ( إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) .. ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (3).

وفي جملة من الروايات أيضاً مثل ما رواه ثقة الإسلام في ( روضة الكافي ) (4) عن أبي الجارود : ، وما رواه أيضاً في ( الكافي ) (5) في الصحيح عن محمّد بن مسلم : عن أحدهما عليهما السلام ، وما رواه الطبرسي : في كتاب ( الاحتجاج ) (6) في حديث طويل عن الكاظم عليه السلام ، وما رواه في ( الكافي ) (7) ، والصدوق : في ( الفقيه ) (8) عن الأحمسي. وهذا الخبر مرويّ بطرق متعدّدة ، ومتون متقاربة ، وفي بعضها أنه عليه السلام كرّر قوله إي واللّه ، إنا لولده (9) إلى آخره ، ثلاثاً. على أن الولد حقيقة فيهما معاً ، مقول بالتشكيك عليهما ، فإرادة ولد الصلب خاصّة من الولد في روايات الحبوة يحتاج إلى مخصّص.

ولو قال قائل : المخصّص هو العرف العام ، [ فالأولى (10) ] أن يقول بناءً على أن الخطابات الشرعيّة من قبيل الخطابات الشفاهيّة - : إنها قد صرّحت بما قلناه ، فوجب القبول.

على أنا نقول : إن كان العرف مخصّصاً في جميع موارد إطلاق الولد والابن ، ففيه أن الاختلاف في بعضها والاتّفاق في البعض الآخر يدفعه.

وإن أراد في خصوص مسألتنا فهو مصادرة ، على أن العرف العام لا يعتمد عليه

ص: 390


1- النساء : 12.
2- النساء : 12.
3- النساء : 11.
4- الكافي 8 : 263 / 501.
5- الكافي 5 : 420 / 1 ، وسائل الشيعة 20 : 412 ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 2 ، ح 1.
6- الاحتجاج 2 : 338 - 339.
7- الكافي 3 : 487 / 3 ، وسائل الشيعة 4 : 12 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 2 ، ح 2.
8- الفقيه 1 : 132 / 615 ، وسائل الشيعة 4 : 12 ، أبواب أعداد الفرائض ، ب 2 ، ح 2 ، ولم يرد فيها : « إي واللّه ، إنا لولده ».
9- الكافي 5 : 420 / 1 ، وسائل الشيعة 20 : 412 ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب 2 ، ح 1.
10- في المخطوط : ( فللأول ).

في مقام العلم بإرادة الشمول من الخطاب. وقد عرفت ممّا نبّهناك عليه ذلك.

ولو قال القائل بأن إرادة الظاهر والاستعمال الشائع يوجبان الحمل على الأولاد دون أولادهم ؛ بناءً على أن أحاديثنا المرويّة في كتبنا ليست من الخطاب الشفاهيّ في شي ء.

فلنا ألّا نسلّمه ، ولو سلّمناه مماشاةً للخصم فلنا أن نقول : إنه يجب العدول عنه إذا كانت هناك قرينة ؛ إذ من شرط العمل بهما عدم الدلالة على خلاف مقتضاهما ، وقد وجدت ؛ لأن ما ذكرناه لا أقلّ من أن يكون قرينة ، فالعدول إلى ما دلّت عليه الأدلّة وقامت القرينة متعيّن البتّة.

والملتمَس من الناظر تحرير الجواب على وجه يجلي غيهب الإشكال ، ويرشد إلى الصواب ؛ إمّا بنقل ما هو الحجّة من فتوى الأصحاب في هذه المسألة بالخصوص ، أو نقل ما يدلّ عليه صريحاً من متون النصوص.

أحسن اللّه جزاكم ، وأزال عنّا وعنكم العناء وهداكم ، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ). هذا آخر السؤال بحروفه.

جواب المسألة

وأقول وباللّه المستعان - : الشبهة نشأت من تصوّر أن الابن والولد يطلق على ولد الولد وابن [ البنت (1) ] حقيقة.

وقد اختلف علماؤنا في ذلك ؛ فعن المرتضى (2) : وابن إدريس (3) : ومعين الدين (4) وابن أبي عقيل (5) : في أحد قوليه أنه حقيقة.

ص: 391


1- في المخطوط : ( الابن ).
2- رسائل الشريف المرتضى 4 : 338 ، عنه في السرائر 3 : 239.
3- السرائر 3 : 239 - 240.
4- عنه في مسالك الأفهام 13 : 125.
5- عنه في الحدائق الناضرة 12 : 394.

واحتُجّ لهم بقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : للحسن بن علي عليهما السلام : الحسن ابني (1) وقوله صلى اللّه عليه وآله للحسنين ابناي هذان (2). وقوله صلى اللّه عليه وآله لهما إنهما ابناه لا يكاد يحصر.

وبالإجماع على أن عيسى بن مريم : ابنُ آدم : ، وبخطاب اللّه لنا ب- ( يا بَنِي آدَمَ ) (3).

وبأن إطلاق ابن آدم : على سائر البشر شائع في كلّ زمان ومكان.

وبما استفاض عن الأئمّة الأبرار ؛ من قولهم عليهم السلام إنا أبناء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (4) ، وبأن الناس يخاطبون كلّ واحد منهم ب- : ( يا بن رسول اللّه ) ، حتّى في الزيارات بعد موتهم (5). كلّ ذلك بلا نكير منهم ولا من غيرهم.

وبأن من وقف على بني هاشم شمل الطبقات ، وكذا لو أوصى لهم شمل الطبقات.

وبأنهم يحجبون الزوجين عن أعلى الفرضين كآبائهم.

وبقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (6) فإنها شاملة لمنكوحات الأجداد وإن علوا إجماعاً. وقوله تعالى : ( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ) (7) وقوله تعالى : ( أَوْ أَبْنائِهِنَّ ) (8) ، وقوله ( أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ) (9) ، وقوله ( فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ) (10) ، وقوله ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (11) ، وقوله ( إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) (12) وقوله ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (13). فحكم هذه الآيات كلّها وإطلاقها شامل لولد الولد بالإجماع. والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وإجراء حكم الولد في هذه الآيات مع إطلاقها بالإجماع دليل على أن إطلاق الولد على ولد الابن أو البنت وإن نزل حقيقة.

ص: 392


1- سنن الترمذي 5 : 658 / 3773 ، ينابيع المودّة 2 : 36 / 12 ، وفيهما : « إنّ ابني هذا .. ».
2- سنن الترمذي 5 : 656 - 657 / 3769 ، ينابيع المودّة 2 : 34 - 35 / 7 ، وفيهما : « هذان ابناي ».
3- الأعراف : 26 ، 27 ، 31 ، 35.
4- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 12 : 90 ، بحار الأنوار 26 : 256 - 257 / 32 ، وفيهما : « نحن أبناء نبيّ اللّه وأبناء رسول اللّه ».
5- انظر مثلاً المزار الكبير : 221.
6- النساء : 22.
7- النساء : 23.
8- النور : 31.
9- النور : 31.
10- النساء : 12.
11- النساء : 12.
12- النساء : 11.
13- النساء : 12.

دليل إطلاق الولد على ولد الولد والبنت مجازاً

والمشهور بين العصابة ، بل بين المسلمين في كلّ عصر أن إطلاق الولد والابن في الولد للصلب حقيقة ، وإنما يطلق على ولد الولد وولد البنت بطريق المجاز ، وهو المعروف من كلام أئمّة اللغة ، وهو الحقّ. ويدلّ عليه أُمور :

منها : صحّة السلب وصدقه ، وذلك دليل المجاز ، كما هو المعروف بين علماء فنون العربيّة وأهل الأُصول ؛ وذلك لأنه لا ريب في وقوع المجاز والحقيقة في الكتاب ، والسنّة ، وكلام العرب ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والمحكم والمتشابه.

ولكلّ باب منها أدلّة أقامها الشارع ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان.

ومن أعمّ أدلّة المجاز صدق السلب ، ولا ريب في صدق نفي الولد عن ولد الولد وولد البنت ، فلو قال الجدّ لأحدهما : هذا ليس بولدي. لصدق بلا ريب.

وممّا يدلّ على صدق هذا السلب من الأخبار صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال بنات البنت يقمن مقام البنات إذا لم يكن للميّت بنات ولا وارث غيرهن ، وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميّت ولد ولا وارث غيرهن (1).

وصحيح سعد بن أبي خلف : عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام : قال بنات البنت يقمن مقام البنات إذا لم يكن للميّت بنات ولا وارث غيرهنّ ، وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميّت ولد ولا وارث غيرهنّ (2).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال بنات البنت يرثن ، إذا لم يكنْ بنات كنَّ مكان البنات (3).

ص: 393


1- الكافي 7 : 88 / 4 ، وفيه « بنات الابنة » بدل : « بنات البنت » ، وسائل الشيعة 26 : 112 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 7 ، ح 4 ، بتقديم جملة : « ابن الابن » على جملة : « ابنة البنت ».
2- الكافي 7 : 88 / 1 ، وسائل الشيعة 26 : 110 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 7 ، ح 3 ، باختلافٍ يسير.
3- الكافي 7 : 88 / 3 ، وسائل الشيعة 26 : 110 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 7 ، ح 1 ، وفيهما : « بنات الابنة » بدل : « بنات البنت ».

فقد نفت هذه الأخبار وجود البنات والولد في حال وجود ولد الولد. فإذا صدق سلب الولد مع وجود ولده علم يقيناً أن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز.

ومنها : أن الأُبوّة والبنوّة من مقولة الإضافة ، فمتى صدق بنوّة شخص لآخر حقيقة صدق أُبوّة الآخر له حقيقة. ولا ريب أن البنوّة تَولّد والأُبوّةَ إيلاد في كلّ مقام من مقامات الوجود بما يناسبه. فالابن الحقيقيّ متولّد من الأب الحقيقيّ ؛ فإمّا ألّا يكون للشخص إلّا أب واحد حقيقة ، أو يصدق تولّده من اثنين حقيقة ، والضرورة تدفعه.

ومنها : أنه لو قلنا بإطلاق الولد على ولد الولد حقيقة لزم بمقتضى التضايف أن يكون لشخص أبوان في رتبة واحدة حقيقة ؛ جدّه لأبيه وجدّه لُامّه ، بل وأبوه وجدّه لُامّه. وهذا واضح البطلان عقلاً ولغةً ، حتّى بالتشكيك ؛ لما يلزم منه أنه متولّد منهما معاً وهما في رتبة واحدة دفعة واحدة أو متعدّدة.

ومنها : أنه يلزم أن يلد شخص آخر مرّتين إذا كان جدّاً لأبيه وأُمّه ، وهو محال.

ومنها : أنه يلزم منه أن مولانا الصادق عليه السلام : ولد حقيقة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ولأبي بكر ابن أبي قحافة : ، وهما أبواه حقيقة. وهذا بحكم الجمع بين الضدّين ، بل النقيضين بوجه ؛ لما يلزمه من إنتاج النور المحض من الظلمة المحضة. وهذا جارٍ في ثمانية من أهل البيت عليهم السلام.

ومنها : أنه يلزم منه أن يكون الرسول صلى اللّه عليه وآله : وأمير المؤمنين عليه السلام : قد سلكا في أصلاب غير طاهرة ، وأرحام غير مطهّرة ؛ إذ لا يشترط إيمان آباء أمّهاتهما إلى آدم وحوّاء عليهما السلام إجماعاً ، والوجدان يطابقه. بل يلزمه أن أُبوّة أبي بكر : للصادق عليه السلام : أشدّ وأقوى من أُبوّة النبيّ صلى اللّه عليه وآله : له ؛ لأنه صلى اللّه عليه وآله ولده مرّة ، وقد قال ولدني أبو بكر مرّتين (1). وهذا باطل عقلاً ونقلاً.

وإذا قلنا : إن إطلاقه مجاز لا يرد أن علاقة أُبوّة أبي بكر : أقوى ، لتكرّرها مرّتين من جهتين ؛ لأنا نقول : علاقة المجاز فيها واحدة بالنسبة إليه ؛ لأن معنى ولدني أبو

ص: 394


1- تهذيب الكمال 5 : 75 / 950.

بكر مرّتين : أنه ولد أُمّي مرّتين ، فتكَرّرت العلاقة بالنسبة لأُمّة لا له.

ومنها : أنه ممّا لا ريب فيه أن الولد إنما يتولّد ويتكوّن من ماء الأب والأُمّ المنفعل منهما حسّا والمتكوّن من مطاعمهما وأغذيتهما. وقد أطبق على ذلك الباحثون في الطبيعيات ، وتواتر به مضمون الأخبار ، كما لا يخفى على متتبّعها. فالولد لم يتحقّق في طبيعة جدّه ولا شي ء من قواه ، ولا سلك مادّة جسمه في صلب جدّه ، ولا ترائب جدّته ، فكيف يقال : إن جدّه وجدّته والداه حقيقة ، حتّى يكون هو ولدهما حقيقة مع انتفاء معنى التوالد بينهما حقيقة؟!.

ومنها : أن المشهور قديماً وحادثاً شهرة أكيدة ، بل قال المحقّق الطوسي : إنه كاد أن يكون مجمعاً عليه. (1) بل ظاهر غير واحد اتّفاق المتأخّرين على أن ولد الولد وإن كان أُنثى يقوم مقام الولد ويأخذ مستحقّه من إرث جدّه ، وولد البنت وإن كان ذكراً يقوم مقام امّه ويأخذ مستحقّها من إرث جدّه (2).

وعلى ذلك دلّت نصوص أهل البيت سلام اللّه عليهم بلا معارض ، فلو كان ولد البنت ولداً حقيقة لكان له مع بنت الولد الثلثان ، ولبنت الولد الثلث بنصّ ( يُوصِيكُمُ اللّهُ ) (3) الآية. ولو كان كذلك لزاد الفرع على أصله ، والمعلول على علّته بفضل ، لم يكن لأصله وعلّته ، وهذا ظاهر البطلان. وليس في هذا مصادرة ؛ لأنا استدللنا بالنصوص الدالّة على توريثهم كذلك على أنهم ليسوا بولد حقيقة.

ومنها : أنك تعلم أنه لم يوجد في كتب التاريخ وكتب النسّابين نسبة رجل ولا امرأة لجدّهما لُامّهما ، بل لو نسب رجل رجلاً لقبيلة امّه كذب أو غلط ، بل إنما ينسب لقبيلة أبيه ، وعلى ذلك بناء معرفة الأنساب والقبائل والعمائر والأفخاذ (4) في

ص: 395


1- عنه في كشف اللثام 2 : 290.
2- كشف اللثام 2 : 290 ( حجريّ ).
3- النساء : 11.
4- العمائر : جمع عِمارة ، وهي والفَخذ : من أجزاء القبيلة ، فيقال : شِعب ، ثمَّ قبيلة ، ثمَّ فصيلة ، ثمَّ عِمارة ، ثمَّ بطن ، ثمَّ فخذ. مختار الصحاح : 338 شعب.

كلّ عصر. ولو صحّ إطلاق الأب على الجدّ للأُمّ حقيقة لصحّ نسبة ولد البنت له ، فلم يعرف شعب ولا قبيلة ولا نسب ، وقد قال عزّ اسمه ( وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) (1) فتفوت هذه المزيّة.

ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) (2) الآية. وبه يتّضح أن نسبة الرجل لجدّه لُامّه مجاز. ولا فارق بين الجدّ للأُمّ والجدّ للأب. ومن أجل ذلك اختصّ الخُمس بمن انتسب لهاشم : بالأب دون الامّ ، وكذا الوقف عليهم والوصيّة لهم.

فإنْ قلت : إطلاق بني هاشم : وشبهه على الموجودين الآن دليل على أنه حقيقة ، ولا فارق بين الجدّ للأب والجدّ للُام.

قلت : كونه مجازاً بالنسبة لأب الامّ دليل على أنه مجاز بالنسبة لأب الأب ؛ لعدم الفارق ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولأنه بعد ثبوت المجازيّة بالنسبة لأب الامّ لا يمكن القول بأن الإطلاق حقيقة بالنسبة لأب الأب ، فهو دليل على المجازيّة مطلقاً ؛ لعدم الفارق دون العكس ؛ لأن الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وأيضاً هذا الوجه يدلّ على أن المجازيّة بالنسبة لأب الامّ ثابتة ، فلو قلنا بأن الاستعمال بالنسبة لأب الأب يدلّ على الحقيقة ، لزم الفرق بين الجدّين. والقول به خرق للإجماع المركّب.

ومنها : أنه لو كان إطلاق الولد يشمل ولد الولد حقيقة لورث ولد الولد وولد البنت مع عمّه وخاله ، وكان لولد البنت ثلثان ، وللبنت للصلب ثلث ، بل كان لها الثلث ، ولولدها الثلثان بنصّ ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) (3) الآية. والنصّ (4) والإجماع على أنه لا يرث ولد الولد مع وجود الولد يدفعه. وكذا لزوم زيادة الفرع وهو الولد على نصيب أصله ، ومن يتقرّب به وهو امّهُ ، وهو باطل. ويدلّ على أن الآية إنما

ص: 396


1- الحجرات : 13.
2- الأحزاب : 5.
3- النساء : 11.
4- انظر وسائل الشيعة 26 : 110 - 114 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 7.

عنت الولد للصلب ، فإذن هو الحقيقة دون ولده ، ولو كان الإطلاق يشمل ولد الولد حقيقة لكان دلالة الآية على ولد الصلب وإرادته منها خاصّة بقرينة ؛ فتكون مجازاً ، ولا قائل به.

ومنها : أنك إذا تدبّرت الآيات والروايات وكلام العرب وجدت اختصاص إطلاق الأبوين حقيقة بمن ولد الولد بلا فصل ، وهما من ولده حقيقة ، وما سواهما من آبائهما لا يطلق عليهما الأبوان إلّا مجازاً.

وممّا يدلّ على ذلك الإجماع نصّاً وفتوى وعملاً على إطلاق القول بأنه لا يرث مع الأبوين إلّا الأولاد وأولادهم وإن نزلوا ، فلو كان الجدّان أبوين حقيقة لورثا مع الأولاد ، ولا يرث أحد من الأجداد مع ولد أو ولد ولد بالنصّ (1) والإجماع.

وهما أيضاً قائمان على أن ما ذكره اللّه عزّ اسمه من فرض الأبوين إنما عنى بهما من ولده بلا فصل ، فإذا ثبت أن الوالدين لا يطلق على الجدّين إلّا مجازاً ، ثبت بحكم التضايف والمقابلة أن الولد لا يطلق على ولد الولد إلّا مجازاً.

وأيضاً قد استفاض عنهم عليهم السلام مثل قولهم في امرأة ماتت ، تركت أبويها وزوجها ، فقالوا

للزوج النصف وللأُمّ الثلث وللأب السدس (2). وعلى ذلك الإجماع قائم.

وأن هذا الحكم والإطلاق إنما عنى به الأبوين بلا فصل ، فلو دخل الجدّان في إطلاق الأبوين لشملهما هذا الحكم ، وليس كذلك بالنصّ والإجماع ، فليس الجدّان أبوين حقيقة.

وأيضاً ممّا لا ريب فيه أنك تقول : هذا جدّ فلان وهذا أبوه. وتقول لجدّه : ليس هذا أباه. ولو كان الجدّ أباً حقيقة لصدق أن يقال لشخص واحد : هذا جدّ فلان وأبوه حقيقة ، وهذا تنكره النفوس واللغة والعرف.

ص: 397


1- انظر وسائل الشيعة 26 : 91 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 1 ، ب 5 ، ب 8.
2- وسائل الشيعة 26 : 24 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 16 ، ح 6 ، ومثله بزيادة : « ثلاثة أسهم » و « سهمان » و « سهم » بعد حكم الزوج والأُمِّ والأب على التوالي في الحديثين : 1 ، 4 من الباب نفسه.

ولو صدق : هذا أبو زيد وجدّه حقيقة ، لكان لفظ الأب والجدّ من قبيل المترادف ، وهو ظاهر البطلان. وإذا ثبت أن أُبوّةَ الجدّ مجازٌ ، ثبت أن بنوّة ابن ابنه مجاز ؛ بحكم التضايف والمقابلة.

ومنها : أن المعروف من تحقيق أرباب النفوس القدسيّة أن المجاز خير من الاشتراك.

ومنها : أنا إذا قلنا بأن إطلاق الولد يشمل ولد الولد وإن نزل والأب يشمل الجدّ وإن علا ؛ فإمّا أن يكون على سبيل [ التواطؤ (1) ] ، وهو ظاهر البطلان ، أو على سبيل التشكيك ، فيعود إلى المجاز ؛ للافتقار في تعيين المراد إلى القرينة.

وأيضاً يجب صرف المطلق إلى أكمل الأفراد وأتمّها فعليّة. وعليه يجب صرف كلّ ما أُطلق فيه الولد والأب إلى المتلاصقين دون المنفصل بواسطة أو أكثر ، أو من باب الاشتراك اللفظي ، وهو باطل لا يقول به الخصم. مع أنه يؤول بافتقاره إلى القرينة إلى المجاز ، على أنه لا دليل على إرادة واحد من الثلاثة بخصوصه ، لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً. وإرادة الجميع من موضوع واحد أظهر بطلاناً.

ومنها : أن التضايف لا يكون إلّا بين شيئين ، ولا يكون المعنى الواحد متضايفاً إلّا مع واحد ، فإذا تحقّق معنى التضايف بين شيئين لا يكون أحدهما أيضاً متضائفاً مع آخر ، كما يعرفه كل من عرف معناه. فلا يمكن على هذا أن يكون لشخص أكثر من أب واحد حقيقة ؛ لما يلزمه من تحقّق الإضافة بينه وبين العرف بمعنى واحد.

وبالجملة ، فأنت إذا نظرت في معاني الأنساب ومواليد العالم في كلّ طبقة ، وجدت معنى الأُبوّة والبنوّة والتوالد حقيقة منحصراً في المتلاصقين دون المفصولين بواسطة ، فضلاً عن الوسائط. فالبذر ليس أباً للثمرة ، وإنما أبوها ووالدها الشجرة ، والبذر إنما هو أبو الشجرة.

والجواب عن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : للحسن : والحسين : ابناي وقول الأئمّة عليهم السلام :

ص: 398


1- في المخطوط : ( التواطي ).

نحن أبناء رسول اللّه (1) من وجهين :

أحدهما : أنه مجاز كما عرفت ، ولا نسلّم أن الأصل في الاستعمال الحقيقة ، بل هو أعمّ منها ومن المجاز ، والسرّ شاهد ، والبرهان مقرّر في محلّه.

والثاني : أنه حقيقة ، لكنّه ليس في مقام التولّد البشريّ الجسمانيّ الحسّيّ المحض ، وإنما هو في مقام قوله أنا وعلي : أبوا هذه الأُمّة (2) وقوله : حسين : منّي وأنا من حسين (3). وقول الرضا عليه السلام : في تعليل تسمية الرسول : بأبي القاسم : قال لابن فضّال : أمَا علمت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قال : أنا وعلي أبوا هذه الأمّة؟. قلت : بلى. قال أما علمت أنه يقال : عليّ قاسم الجنَّة والنار؟. قلت : بلى. قال فقيل له : أبو القاسم : ؛ لأنه أبو قسيم الجنّة والنار (4) الخبر.

وقول زين العابدين عليه السلام المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأُمّه (5).

وما استفاض من قولهم عليهم السلام كلّنا واحد ؛ أوَّلنا محمّد ، وأوسطنا محمّد ، وآخرنا محمّد ، وكلّنا محمّد (6).

وقول أمير المؤمنين عليه السلام : أنا محمّد ومحمّد أنا ، وأنا من محمّد ومحمّد منّي (7). وقول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : عليٌّ منّي ، وأنا من عليٍّ (8).

وقول الصادق عليه السلام : وقد أشار إلى فخذه - هذا لحم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، أو وهذا جلد رسول اللّه (9).

ص: 399


1- بحار الأنوار 26 : 256 / 32 ، وفيه : « ونحن أبناء نبيِّ اللّه صلى اللّه عليه وآله ».
2- كمال الدين : 261 / 7 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 85 / 29.
3- سنن الترمذي 5 : 658 / 3775.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 85 / 29.
5- وسائل الشيعة 12 : 231 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 13 ، ح 5 ، وفيه عن الإمام الكاظم عليه السلام ، بحار الأنوار 64 : 74 / 2 ، وفيه عن الصادق عليه السلام ، بحار الأنوار 64 : 75 / 6 ، وفيه عن الرضا عليه السلام.
6- بحار الأنوار 26 : 6 ، وقريب منه في : الغيبة ( النعماني ) : 86 ، بحار الأنوار 36 : 399 - 400 / 9.
7- بحار الأنوار 26 : 6.
8- بحار الأنوار 22 : 148 ، 26 : 350 ، وفيهما : « يا عليٌّ ، أنت منّي وأنا منك ».
9- مناقب آل أبي طالب 4 : 271 ، بحار الأنوار 26 : 28 / 29 ، وفيهما : قبض أبو عبد اللّه عليه السلام على ذراع نفسه وقال : « يا بكير ، هذا واللّه جلد رسول اللّه ، وهذه واللّه عروق رسول اللّه ، وهذا واللّه لحمه .. ».

والأخبار بمثل هذا المضمون لا تكاد تحصى ، وكلّها حقيقة وإن لم تكن حقيقة لغويّة ، لكنّها حقيقة حقيقيّة عقليّة وجوديّة شرعيّة. ولا منافاة بينها وبين المجاز اللغوي.

والجواب عن الإجماع على أن عيسى المسيح عليه السلام : ابنُ آدم من ثلاثة طرق :

أحدها : أنه مجاز ، كالقول بأن جميع البشر ممّن مضى ومَنْ غبر بنو آدم بالإجماع والنصّ (1). ولكنّ الإجماع على الاستعمال لا يدفع القول بأنه مجاز ؛ لأنه أعمّ من الحقيقة.

بهذا يجاب عن خطاب اللّه تعالى لنا ب- ( يا بَنِي آدَمَ ) (2) : وشيوع إطلاق ابن آدم على سائر البشر.

الثاني : المعارضة بالإجماع على أن عيسى عليه السلام ليس له أب. ومنه يظهر أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، فلا منافاة بين الإجماعين على هذا.

أمّا لو قلنا بأنه حقيقة تصادم الإجماعان المحقّقان على مرّ الأزمان ، وتحقّقُ إجماعين متناقضين في عصر واحد ظاهرُ الاستحالة ؛ لما يلزمه من اجتماع النقيضين. فثبت أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، وبه يثبت أن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز.

الثالث : أنك إذا تدبّرت أخبار الذرّ وأخذ الميثاق وجدت فيها ما يدلّ على أن عيسى عليه السلام بعد أن أُخرج من ظهر آدم عليه السلام وأُخذ عليه الميثاق لم يُردّ كغيره إلى صلب آدم ، وإلّا لجرى في الأصلاب. ولعلّ في تسمية اللّه له بعيسى بن مريم : إشارة إلى ذلك.

وبذلك يثبت أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، وهو يشهد بأن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز ، بل يدلّ عليه ؛ لعدم الفارق بين عيسى عليه السلام : وغيره.

وعن شمول الوقف والوصيّة لجميع الطبقات ، فيما لو وقف واقف على بني هاشم : مثلاً ، أو أوصى لهم ، بأن الوقوف والوصايا تتبع القصود فمن وقف أو أوصى لبني

ص: 400


1- الأعراف : 26 ، 27 ، 31 ، 35.
2- الأعراف : 26 ، 27 ، 31 ، 35.

هاشم : مثلاً في غابر الأزمان ، فقد دلّ الدليل على إرادته الشمول ، فيتبع القصد ؛ إذ لا يمكن أن يريد من أوصى أو وقف في زماننا ، أو نذر لبني هاشم : مثلاً إرادة ولد الصلب. فلو كان ذلك في زمن وجود ولده اتّبع القصد إن ظهر ، وإلّا منع ولد ولده.

والجواب عن باقي الأدلّة أن شمول حكم الأولاد لولدهم فنازلاً ثبت بدليل من نصّ (1) وإجماع ، أو نصّ أو إجماع. ولو خُلّينا وظاهر الآيات لم نُعدّ حكم الأولاد لأولادهم. وإنما ثبتت تلك الأحكام لولد الولد بالوراثة بعد أن قام الدليل من خارج على أنهم ورثوا تلك الأحكام والصفات من آبائهم ، فإنما هي أحكام آبائهم وصفاتهم ورثها منهم أبناؤهم بدليل.

ولعلّ السرّ في ذلك وشبهه ممّا قام الولد فيه مقام أبيه من أحكام الشريعة وهي أكثر ممّا ذكر بكثير أن الولد يرث من أبيه أكثر أحواله وأحكامه وصفاته وخواصّه ، جنساً ونوعاً ، وصنفاً وصفةً ، وطبيعةً ولوناً ، وخَلقاً وخُلقاً. حتّى إنه يتلوّن نفسه وجسده وطبيعته بأفكار أبيه وأُمّه وتصوّراتهما حال الوقاع ، حتّى إن صورته الجسدانيّة تنفعل بذلك ، كما يظهر لمن له ملاحظة في الإلهيّ والطبيعيّ. سبحان الأحد الصمد الذي لم يلد فيكون موروثاً.

ووراثة ابن الولد لجدّه حكماً أو صفةً أو سببيّة أو مسببيّة لا تدلّ على أنه ولد لجدّه حقيقة لغويّة ، وإنما تدلّ على أنه ولد لأبيه حقيقة ، وكلّ ما ورثه من جدّة فإنما هو تلقّاه ووصل إليه بواسطة أبيه. تفكّر في قولهم عليهم السلام ورثناه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2).

وفيما ورد في كيفيّة نزول الأوامر الإلهيّة على إمام كلّ زمان فإنه يتلقّاها من أبيه. وهكذا فإنها إنما تَرِد أوّلاً على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : ، ثمّ منه إلى أمير المؤمنين عليه السلام : ، وهكذا حتّى تَرِد على إمام الزمان من الذي قبله. فإنها تشعرك أن وراثة الولد من جدّه مجاز أي بواسطة أبيه وإن كانت وراثة أهل البيت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : كلّهم حقيقة ، لكنّها

ص: 401


1- انظر وسائل الشيعة 26 : 110 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 7.
2- الكافي 1 : 225 / 3 - 4 ، وفيهما : « وإنّا ورثنا محمَّداً صلى اللّه عليه وآله ».

بمقام أعلى من ذلك هو مقام أنهم نور واحد فاض من الواحد.

هذا كلّه ، مضافاً إلى أنه لم يثبت القول بأن إطلاق الولد يشمل ولد الولد حقيقة للسيّد : ولا للمصريّ : ولا للحسن : ، وإنما ثبت القول به لابن إدريس (1) : خاصّة.

أمّا السيّد ، فإنما نقل القول به عنه في بعض المسائل كما في ( كشف اللثام ) (2) ، وأمّا كتبه المشهورة فلم يصرّح فيها بذلك. وأمّا الحسن : ، فنقل عنه القولان (3) ، ولعلّه عدل عن هذا ولا أقلّ من الاحتمال. وأمّا معين الدين : ففي ( كشف اللثام ) (4) أنه حكي عنه القول بذلك ، وهو يدلّ على أنه لم يثبت عنه القول بذلك.

فعلى هذا تكون المسألة إجماعيّة ، وخلاف ابن إدريس : غير مضرّ به.

خلاصة القول

ثمّ نرجع إلى الكلام في أصل المسألة المبحوث عنها ، فنقول : ظاهر الأخبار (5) وفتاوى العصابة (6) اختصاص الحبوة بولد الصلب ؛ لأن المشهور كما عرفت على أن إطلاق الولد لا يتناول ولد الولد. ولم ينقلوا في المسألة خلافاً فيما علمنا.

فلو كان في المسألة خلاف للقائل بأن الولد يشمل ولد الولد حقيقة ، وقائل بأن ولد الولد يحبى من تركة جدّه ، لنقل كما نقل الخلاف في مسألة إرث أولاد الأولاد : هل يقتسمون تركة جدّهم تقاسم أولاد الصلب ؛ أو لكلّ نصيب أبيه؟ وغيرها.

فالظاهر أن المسألة اتّفاقيّة ، ولم نظفر بقائل بتعديتها لولد الولد ، ولا محتمل له احتمالاً إلّا الفاضل : في ( كشف اللثام ) ، حيث قال : ( الظاهر اختصاص ولد الصلب

ص: 402


1- السرائر 3 : 240.
2- كشف اللثام 2 : 290 ( حجريّ ).
3- نقل القول الأوَّل وهو الموافق للسيّد رحمه اللّه في الحدائق الناضرة 12 : 394 ، ونقل القول الثاني في مختلف الشيعة 9 : 28 / المسألة : 1.
4- كشف اللثام 2 : 290 ( حجريّ ).
5- الوسائل 26 : 97 - 100 ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب 3.
6- انظر : إرشاد الأذهان 2 : 120 ، مفتاح الكرامة 8 : 134.

بها ، كما هو نصّ ( الإرشاد ) (1) ، اقتصاراً في خلاف الأصل على اليقين المتبادر من النصوص. ويحتمل العموم بناءً على عموم الولد حقيقة ) (2) ، انتهى.

وهو احتمال ساقط ؛ لاختصاصه به فيما ظهر ، إلّا إنه يؤذن بعدم الخلاف في المسألة.

ولا ريب أن ظاهر الأخبار والأصحاب اختصاص الحبوة بولد الصلب من غير خلاف ؛ إذ يتعيّن حمل عبارة من أطلق القول بأنه يحبى الولد الأكبر من تركة أبيه على ولد الصلب ؛ لأن المعروف من المذهب أنه لا يطلق حقيقة إلّا على ولد الصلب ، كما عرفت.

ولأنه لو أُريد بالأخبار المطلقة كذلك ما يعمّ ولد الولد ولو مجازاً لدلّوا عليه بعبارة أو إشارة أو فحوى ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان. وإذا لم يوجد في الأخبار ما يدلّ عليه بوجه مع أن الحكم على خلاف الأصل ، وخلاف ظاهر الكتاب الذي هو الحجّة بين اللّه وخلقه ، [ و ] قرين الإمام لم يمكن القول به. وحمل إطلاقات الأخبار بحبوة الولد الأكبر على ما يعمّ ولد الولد ، ولما فيه من الاحتياط وتقليل تخصيص الكتاب وإطلاقات أخبار سهام المواريث وفروضها. بل الظاهر أن المسألة إجماعيّة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : قول صاحب السؤال زاده اللّه بصيرة في العلم والعمل - : ( لو قال قائل إلى قوله - : أو محتسبة ).

أقول : لا فائدة مهمّة في ذكر الاختلاف في كيفيّة الحبوة وشرائطها وأحكامها في معرض البحث عن تعدية الحبوة لولد الولد.

قوله : ( محتجّاً بالإجماع على إرادته إلى قوله - : وإن لم يكن له ولد ).

أقول : الإجماع على إرادته من الآيات المذكورة ممنوع ، والسند ما عرفت. وكيف يكون إجماعاً وقد صرّح كثير بل الأكثر أن تلك الأحكام إنما تعدّت لولد الولد

ص: 403


1- إرشاد الأذهان 2 : 120.
2- كشف اللثام 2 : 291 ( حجريّ ).

بدليل من خارج ، وإنّا لو خُلّينا وظاهر تلك الآيات لقصرنا الحكم على ولد الصلب؟

ولو سلّمنا إرادته منها لم يدلّ على المدّعى ؛ لجواز إرادة ما هو أعمّ من الحقيقة والمجاز ، وهو القدر المشترك بينهما وهو مجاز. ولا منع من استعمال اللفظ فيما هو أعمّ من حقيقته ومجازه مجازاً ، وهذا هو المسمّى بعموم المجاز. وما ورد في تفسيرها بما يعمّ ولد الولد دليل إرادة ما هو أعمّ من حقيقتها ومجازها ؛ فهو مجاز ، والقرينة عليه تلك الأخبار.

وبالجملة ، فإرادته من تلك الآيات لا يدلّ على أنه حقيقة فيهما بوجه.

وأمّا ما ذكره من الأخبار التي فيها إنا لولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (1) ، فقد عرفت الجواب عنها. فليس فيما ذكره حرسه اللّه دلالة على أن الولد حقيقة فيهما معاً ، مقول بالتشكيك عليهما كما قال حرسه اللّه بل لا دلالة على مطلق الاشتراك فيها بوجه ، فضلاً عن خصوص المقوليّة بالتشكيك.

على أنا لو سلّمنا أنه مقول عليهما بالتشكيك لوجب صرف الإطلاقات من الآيات والروايات وعبارات العلماء إلى أكمل الفردين ، وهو الولد للصلب ؛ لأنه المتيقّن ، خصوصاً في مقام الشكّ ومخالفة الأصل ، كما في مسألة الحبوة.

فظهر إرادة ولد الصلب خاصّة من الولد في روايات الحبوة دون ولد الولد ، ولم نحتج إلى طلب المخصّص ؛ لعدم العموم. وطلب المخصّص إنما يلزم بعد تسليم العموم ، ولا دليل على العموم بل هو قائم على عدمه ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة.

وقوله سلّمه اللّه تعالى - : ( ولو قال قائل : المخصّص هو العرف العام .. إلى قوله - : فوجب القبول ).

فيه :

أوّلاً : أن التخصيص بالعرف أو غيره فرع ثبوت العموم ، ولا عموم كما عرفت. مع أنه لا ريب أن العرف العام يبيّن الإجمال ، ويقيّد الإطلاق ويخصّص العموم. كلّ ذلك

ص: 404


1- مناقب آل أبي طالب 1 : 321 ، بحار الأنوار 101 : 363 / 13 ، وفيهما : « ولأنا ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ».

عند الاشتباه وفقدان الدليل على إرادة غير ما يقتضيه ؛ لأنهم عليهم السلام إنما يخاطبون الناس بما يعقلون ويفهمون ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان ، ولا يمكن حصر ما أحالوا بيانه على العرف العام من الأحكام.

وفيه أيضاً أن دفع الإحالة على العرف العام بما بيّنوه في الأخبار المذكورة لا يظهر وجه ابتنائه على أن الخطابات الشرعيّة من قبيل الخطاب الشفاهيّ.

وقد بان بهذا جواب قوله حرسه اللّه - : ( على أنا نقول ) إلى آخره.

قد ظهر جوابه ممّا قرّرناه ، مع أن فيه : أن قول القائل بوجوب صرفها إلى الظاهر والاستعمال الشائع لا يبتني على أن أحاديثنا المرويّة في كتبنا ليست من الخطاب الشفاهيّ. على أنه إذا سلّم أن الظاهر والاستعمال الشائع في لفظ الولد خصوص ولد الصلب كان دليلاً على أنه الحقيقة ، وعلى أنه المراد من إطلاقات الأخبار ؛ لأنهم عليهم السلام لا يخاطبون الناس إلّا بما يعقلون.

ولأنا لو سلّمنا أنه حقيقة فيهما ، وكان الظاهر والاستعمال الشائع اختصاصه بولد الصلب ، لزم منه أن استعماله في ولد الولد مهجور غير متعارف ، وإن كان حقيقة فيه فلا يحمل عليه إلّا بدليل ، فإن ثبت الدليل وجب قبوله ، وإلّا لم يجز صرف إطلاقات الأخبار إليه ؛ لهجرانه بين المخاطبين ، فلا يخاطبون بما لا يعقلون.

وأمّا أن العرف العام لا يعتمد عليه في مقام العلم بإرادة الشمول فحقّ. لكن لا علم بإرادة الشمول في مسألة الحبوة ؛ لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، بل العلم حاصل بتخصيصه بولد الصلب ؛ لأنه الموضوع الحقيقيّ له لغةً وعرفاً وشرعاً وعقلاً فيما علمنا.

فقوله حرسه اللّه تعالى - : ( وقد عرفت ممّا نبّهناك عليه ) ذلك دعوى بلا برهان ، لا نعرف ممّا ذكره ذلك ، حتّى إنه لم يحصل ممّا ذكره حرسه اللّه قرينة توجب العدول ، أو التوقّف عن صرف اللّفظ عن موضوعه ، أو توهّم الشمول في مسألة الحبوة ، فضلاً عن أن يكون ما ذكره دليلاً على ذلك.

ص: 405

هذا ما خطر بالبال ، والملتمس من الناظر التأمّل بعين الرضا ، ومنكم التسديد وبكم القدوة ، وعلى اللّه سبحانه التكلان ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطاهرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

ختمت باليوم السابع عشر من شهر ربيع المولد سنة (1241).

تمّت بتوفيق اللّه على يد المذنب المخطئ الجاني

زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع :

عفا اللّه عنهم بمحمّد وآله المعصومين.

ص: 406

الرسالة الخامسة عشرة : ضميمة طلب الثواب أو الهروب من العقاب في نيّة العبادة

اشارة

ص: 407

ص: 408

بسم اللّه الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليِّ العظيم ، وصلّى اللّه على محمَّد وآله الطيِّبين ، والحمد لله ربِّ العالمين.

مسألة (1) : اختلف الأصحاب في صحّة العبادات بقصد نيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، بمعنى : أنها يسقط بها القضاء ، وينال بها الثواب والجزاء ، ويصدق الامتثال بها فيسقط العقاب ، أم لا؟

الأشهر وهو قول الأكثر في ظاهر الحال على الصحّة.

أقوال العلماء في المسألة

قال الشهيد : في ( القواعد ) : ( وأمّا غاية الثواب والعقاب فقد قطع الأصحاب بكون العبادة فاسدة بقصدها ، وكذا ينبغي أن يكون غاية الحياء والشكر وباقي الغايات. والظاهر أن قصدها مجزٍ ؛ لأن الغرض بها اللّه تعالى (2) في الجملة ، ولا يقدح كون تلك الغايات باعثاً على العبادة أعني : الطمع ، والرجاء ، والشكر ، والحياء لأن

ص: 409


1- في « م » بياض مقداره كلمة ، وقد ملئ بقلم مغاير لقلم المخطوط بكلمة : ( وبعد ) ، ثم وضع عليها علامة سقط أُشير إليه بالعبارة التالية : ( فيقول الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق ).
2- قوله : ( اللّه تعالى ) ليس في المصدر.

الكتاب والسنّة مشتملتان (1) على المرهّبات من الحدود والتعزيرات والذمّ والإيعاد بالعقوبات ، وعلى المرغّبات من المدح والثناء في العاجل والجنّة ونعيمها في الآجل. وأمّا الحياء فغرض مقصود ).

ثمّ ذكر الحديث النبويّ أعبد اللّه كأنك تراه (2) ، وقال : ( إن تخيّل الرؤية يبعث على الحياء ) (3). وهو يؤذن بالإجماع على ذلك ، لكن ربّما يوجد في بعض نسخ الكتاب لفظ : ( بعض الأصحاب ).

ونقل العبارة في ( المدارك ) (4) بلفظ : ( قطع الأصحاب ) في أكثر نسخ ( المدارك ) ، وربّما وجد في بعض نسخ ( المدارك ) بلفظ : ( بعض ). ومقتضى ما نقله الشيخ البهائيّ : في ( الأربعين ) عنه في هذا الكتاب أنه : ( قطع الأصحاب ) بدون لفظ : ( بعض ).

وقال البهائيّ : في ( الأربعين ) : ( ذهب كثير من علماء الخاصّة والعامّة إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب ، وقالوا : إن هذا القصد منافٍ للإخلاص الذي هو إرادة وجه اللّه وحده ، وإن من قصد ذلك فإنما قصد جرّ النفع إلى نفسه ودفع الضرر عنها لا وجه اللّه تعالى. كما أن من عظّم شخصاً أو أثنى عليه طمعاً في ماله أو خوفاً من إهانته لا يعدّ مخلصاً في ذلك التعظيم والثناء.

وممّن بالغ في ذلك السيّد الجليل صاحب المقامات والكرامات رضيّ الدين عليّ ابن طاوس. ويستفاد من كلام شيخنا الشهيد : في قواعده أنه مذهب أكثر أصحابنا ).

وكأنه استبعد نسبته لجميع الأصحاب ففهم منه نسبته للأكثر ، وهو يؤيّد ما في أكثر نسخ ( القواعد ) من عدم وجود لفظ : ( بعض ).

ثمّ قال رحمه اللّه : ( ومن قال بأن ذلك القصد غير مفسد للعبادة ، منع خروج هذه عن

ص: 410


1- من المصدر ، وفي النسختين : ( مشتملة ).
2- عوالي اللآلي 1 : 405 / 65.
3- القواعد والفوائد 1 : 77 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية ، وفيه : ( فإنه إذا تخيّل الرؤية انبعث على الحياء ).
4- في نسخة المدارك : ( ونقل الشهيد رحمه اللّه في قواعده عن الأصحاب بطلان العبادة بهذهِ الغاية ، وبه قطع السيّد رضي الدين بن طاوس رحمه اللّه ، وهو ضعيف ) ، مدارك الأحكام 1 : 187 ، وانظر ص : 414 من هذا الكتاب.

درجة الإخلاص ).

وقال : ( إن إرادة الفوز بثواب اللّه ، والسلامة من سخطه ، ليست أمراً مخالفاً لإرادة وجه اللّه سبحانه ؛ فقد قال تعالى في مقام مدح أصفيائه ( كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (1) ، أي للرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وقال سبحانه ( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (2) ، وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) ، أي حال كونكم راجين للفلاح ، أو لكي تفلحوا. والفلاح : هو الفوز بالثواب. نصّ عليه الشيخ أبو علي الطبرسيّ (4). هذا ما وصل إلينا من كلام هؤلاء ، وللمناقشة فيه مجال.

أما قولهم : إن تلك الإرادة ليست مخالفة لإرادة وجه اللّه سبحانه ، فكلام ظاهريّ قشريّ ؛ إذ البون البعيد بين إطاعة المحبوب والانقياد إليه لمحض حبّه وتحصيل رضاه ، وبين إطاعته لأغراض أُخر أظهر من الشمس في رابعة النهار.

والثانية ساقطة بالكلّيّة عن درجة الاعتبار عند أُولي الأبصار.

وأمّا الاعتضاد بالآيتين الأُوليين ففيه أن كثيراً من المفسّرين (5) ذكروا أن المعنى : راغبين في الإجابة ، راهبين من الردّ والخيبة.

وأمّا الآية [ الثالثة (6) ] ، فقد ذكر الشيخ أبو علي الطبرسيّ : في ( مجمع البيان ) : إن معنى ( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) : لكي تسعدوا (7). ولا ريب أن تحصيل رضاه سبحانه هو الغاية العظمى.

وفسّر رحمه اللّه الفلاح في قوله تعالى : ( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (8) بالنجاح والفوز (9).

وقال الشيخ الجليل شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ : في تفسيره

ص: 411


1- الأنبياء : 90.
2- الأعراف : 56.
3- الحجّ : 77.
4- مجمع البيان 4 : 496.
5- مجمع البيان 4 : 533.
6- من المصدر ، وفي النسختين : ( الثانية ).
7- مجمع البيان 7 : 130.
8- آل عمران : 104.
9- مجمع البيان 2 : 614.

( التبيان ) : ( المفلحون : هم المنجحون الذين أدركوا ما طلبوا من عند اللّه بأعمالهم وإيمانهم ) (1).

وفي ( تفسير البيضاويّ ) : ( المفلح : الفائز بالمطلوب ) (2).

ومثله في ( الكشّاف ) (3).

نعم فسّر الطبرسيّ (4) الفلاح في قوله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) (5) بالفوز بالثواب ، لكن مجيئه في هذه الآية بهذا المعنى لا يوجب حمله في غيرها عليه أيضاً. وعلى تقدير حمله على ذلك المعنى إنما يتمّ التقريب لو جُعلت جملة الترجّي حاليّة ، أمّا لو جُعلت تعليليّة كما جعلها الطبرسيّ فلا دلالة فيها على ذلك المدّعى أصلاً ، كما لا يخفى.

هذا والأوْلى أن يُستدلّ على ذلك المطلب بما رواه الشيخ الجليل محمّد بن يعقوب : في ( الكافي ) بطريق حسن عن هارون بن خارجة : عن الإمام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام : قال العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا اللّه عزوجل خوفاً فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى (6) طلباً للثواب فتلك عبادة الأُجراء. وقوم عبدوا اللّه عزوجل حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة (7).

فإن قوله عليه السلام وهي أفضل العبادة يعطي أن العبادة على الوجهين السابقين لا تخلو من فضل أيضاً ، فتكون صحيحة ، وهو المطلوب ).

ثمّ قال رحمه اللّه : ( المانعون في نيّة العبادة من قصد تحصيل الثواب جعلوا هذا القصد مفسداً لها وإن انضمّ إليه قصد وجه اللّه سبحانه وتعالى ) (8) ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من ضعف التعبير والتحرير.

ص: 412


1- التبيان في تفسير القرآن 1 : 59.
2- تفسير البيضاوي 1 : 21.
3- الكشّاف 1 : 46 ، وفيه : ( الفائز بالبغية ).
4- مجمع البيان 7 : 132.
5- المؤمنون : 1.
6- ليست في « م ».
7- الكافي 2 : 84 / 5.
8- الأربعون حديثاً ( البهائي ) : 441 - 445.

وقال الشهيد : في ( الذكرى ) بعد أن بحث عن معنى الإخلاص والقربة والفلاح وابتغاء وجه اللّه ، وتفسيره بما يعمّهما وما لا يعمّهما - : ( وقد توهّم قوم أن قصد الثواب يخرج عنه ؛ لأنه جعله واسطة بينه وبين اللّه تعالى. وليس بذلك ؛ [ بدلالة ] (1) الآي والأخبار ، وترغيبات القرآنِ والسنّةُ [ مشعرة (2) ] به. ولا نسلّم أن قصد الثواب يخرج عن ابتغاء وجه اللّه تعالى بالعمل ؛ لأن الثواب لمّا كان من عند اللّه فمبتغيه مبتغٍ لوجه اللّه تعالى.

نعم ، قصد الطاعة التي هي موافقة الإرادة أوْلى ؛ لأنه وصول بغير واسطة ، ولو قصد المكلّف بالقربة الطاعة لله ، أو ابتغاء وجه اللّه كان كافياً ) (3) ، انتهى.

وهو ممّا يستأنس به لما في بعض نسخ قواعده (4) من إضافة لفظ : ( بعض ) إلى : ( الأصحاب ) كما مرّ.

وقال العلّامة : في أجوبة السيّد مهنّا : ( اتّفق العدليّة على أن من فعل فعلاً لطلب الثواب أو لخوف العقاب فإنه لا يستحقّ بذلك الفعل ثواباً. والأصل هو أن من فعل فعلاً ليجلب به نفعاً ، أو يدفع به ضرراً ، فإنه لا يستحقّ به المدح على ذلك ، ولا يسمّى من أفاد غيره شيئاً [ ليستعيض (5) ] عن فعله جواداً ، فكذا فعل الطاعة لأجل الثواب ولدفع العقاب.

والآيتان لا تنافيان ما قلنا ، لأن قوله تعالى : ( لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ) (6) لا يقتضي أن يكون غرضهم بفعلهم مثل هذا ، وكذا قوله تعالى : ( فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) (7) ؛ لعدم دلالتهما عليه ) (8) ، انتهى.

ص: 413


1- من المصدر ، وفي النسختين : ( لدلالة ).
2- من المصدر ، وفي النسختين : ( مشعر ).
3- الذكرى : 79 - 80 ( حجريّ ).
4- لم يرد في نسخة ( القواعد ) التي بين أيدينا لفظ ( بعض ). انظر القواعد والفوائد 1 : 77 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.
5- من المصدر ، وفي « م » : ( ليستعفيه ) ، وفي « ن » : ( ليستعفه ).
6- الصافّات : 61.
7- المطفّفين : 26.
8- أجوبة المسائل المهنّائيَّة : 90 / المسألة : 140.

وقال في ( المدارك ) : ( اشتراط القربة ، وهو موضع وفاق ) (1). واستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (2).

ثمّ قال : ( ولا ريب أنه لا يتحقّق الإخلاص بالعبادة إلّا مع ملاحظة التقرّب بها. والمراد بالتقرّب ؛ إمّا موافقة إرادة اللّه تعالى ، أو القرب منه المتحقّق بحصول الرفعة عنده ونيل الثواب لديه. وكلاهما محصّل للامتثال ، مُخرِج عن العهدة.

ويدلّ على الثانية ظواهر الآيات والأخبار ، كقوله تعالى : ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ) (3) ، و ( وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (4). وممّا روي عنهم عليهم السلام في الصحيح أن مَنْ بلغه ثوابٌ من اللّه على عمل فعمله التماس ذلك الثواب ، أُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه (5).

ونقل الشهيد : في قواعده (6) عن الأصحاب بطلان العبادة بهذه الغاية ، وبه قطع السيّد رضيّ الدين بن طاوس : ، وهو ضعيف ) (7) ، انتهى.

هكذا في أكثر نسخ ( المدارك ) فيما نقله عن ( القواعد ) ، وفي بعض نسخ ( المدارك ) إضافة لفظ : ( بعض ) إلى ( الأصحاب ) ، كما كان مثل ذلك في نسخ ( القواعد ).

وقال رضي الدين السيّد عليّ بن طاوس : في كتاب ( الإقبال ) في نيّة الصوم : ( ويكون القصد بنيّة الصوم أنك تعبد اللّه جلّ جلاله بصومك واجباً ؛ لأنه أهل للعبادة ، وتعتقد أنه من أعظم المنّة عليك ، حيث جعلك اللّه أهلاً لهذه السعادة ).

إلى أن قال : ( واعلم أن الداخلين في الصيام على عدّة أصناف وأقسام :

ص: 414


1- مدارك الأحكام 1 : 186.
2- البيِّنة : 5.
3- السجدة : 16.
4- الأنبياء : 90.
5- الكافي 2 : 87 / 2.
6- القواعد والفوائد 1 : 77 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.
7- مدارك الأحكام 1 : 187.

فصنف دخلوا في الصوم بمجرّد ترك الأكل والشرب بالنهار ، وما يقتضي الإفطار في ظاهر الأخبار ، وما صامت جارحة من جوارحهم عن سوء آدابهم وفضائحهم ، فهؤلاء يكون صومهم على قدر هذه الحال صوم أهل الإهمال.

وصنف دخلوا في الصوم وحفظوا بعض جوارحهم من سوء الآداب على مالك يوم الحساب ، فكانوا في ذلك النهار متردّدين بين الصوم بما حفظوه والإفطار بما ضيّعوه.

وصنف دخلوا في الصوم بزيادة النوافل والدعوات التي يعملونها بمقتضى العادات ، وهي سقيمة ؛ لسقم النيّات ، فحال أعمالهم على قدر إهمالهم.

وصنف دخلوا دار ضيافة اللّه جلّ جلاله في شهر الصيام ، والقلوب غافلة ، والهمم متكاسلة ، والجوارح متثاقلة ، فحالهم كحال من حمل هدايا إلى ملك ليعرضها عليه ، وهو كاره لحملها إليه وعرضها عليه ، وفيها عيوب تمنع من قبولها والإقبال عليه.

وصنف دخلوا في الصوم وأصلحوا ما يتعلّق بالجوارح ، ولكن لم يحفظوا القلب من الخطرات الشاغلة عن العمل الصالح ، فهم كعامل دخل على سلطانه ، وقد أصلح رعيّته بلسانه ، وأهمل ما يتعلّق بإصلاح شانه ، فهو مسؤول عن تقديم إصلاح الرعيّة على إصلاح نفسه ، وكيف أخّر مقدّماً وقدّم مؤخّراً ، وخاطر مع المطّلع على إرادته.

وصنف دخلوا في الصيام بطهارة العقول والقلوب على المراقبة لعلّام الغيوب ، حافظين لما (1) استحفظهم إيّاه ، فحالهم حال عبد تشرّف برضا مولاه.

وصنف ما قنعوا لله جلّ جلاله بحفظ العقول والقلوب والجوارح عن الذنوب والعيوب والقبائح ، حتّى شغلوها بما وفّقهم له من عمل راجح صالح. فهؤلاء أصحاب التجارة المربحة والمطالب المنجحة.

أقول : وقد يدخل في نيّات أهل الصيام إخطار ، بعضها يفسد حال الصيام ، وبعضها

ص: 415


1- في المصدر : ( ما ).

ينقصه عن التمام ، وبعضها يدنيه من باب القبول ، وبعضها يكمل له الشرف المأمول ، وهم أصناف :

صنف منهم الذين يقصدون بالصوم طلب الثواب ولولاه ما صاموا ولا عاملوا به ربّ الأرباب. فهؤلاء معدودون من عبيد السوء الذين (1) أعرضوا عمّا سبق لمولاهم من الإنعام عليهم وعمّا حضر من إحسانه إليهم ، وكأنهم إنما يعبدون الثواب المطلوب ، وليسوا في الحقيقة عابدين لعلّام الغيوب. وقد كان العقل قاضياً أن يبذلوا ما يقدرون عليه من وسائل الشيعة حتّى يصلحوا للخدمة لمالك النعم الجلائل.

وصنف قصدوا بالصوم السلامة من العقاب ، ولو لا التهديد والوعيد (2) بالنار وأهوال يوم الحساب ما صاموا ، فهؤلاء من لئام العبيد ؛ حيث لم ينقادوا بالكرامة ، ولا رأوا مولاهم أهلاً للخدمة فيسلكوا معه سبيل الاستقامة. ولو لم يعرفوا أهوال عذابه ما وقفوا على مقدّس بابه ، فكأنهم في الحقيقة عابدون لذواتهم ليخلّصوها من خطر عقوباتهم.

وصنف صاموا خوفاً من الكفّارات وما يقتضيه الإفطار من الغرامات ، ولو لا ذلك ما رأوا مولاهم أهلاً للطّاعة ومحلّاً للعبادات. فهؤلاء متعرّضون لردّ صومهم عليهم ، ومفارقون في ذلك مراد اللّه ومراد المرسل إليهم.

وصنف صاموا عادة لا عبادة ، وهم كالمسافرين في صومهم عمّا يراد الصوم لأجله ، وخارجون عن مراد مولاهم ومقدّس ظلّه ، فحالهم كحال الساهي واللاهي والمعرض عن القبول والتناهي.

وصنف صاموا خوفاً من أهل الإسلام ، وجزعاً من المعاد بترك الصيام ؛ إمّا للشكّ ، أو الجحود ، أو طلب الراحة في خدمة المعبود ، فهؤلاء أموات المعنى ، أحياء الصورة ، وكالصُمّ الذين لا يسمعون داعي صاحب النعم الكثيرة ، وكالعميان الذين لا يرون أن نفوسهم بيد مولاهم ذليلة مأسورة ، وقد قاربوا أن يكونوا كالدوابّ ، بل

ص: 416


1- من « ن » والمصدر ، وفي « م » : ( الذي ).
2- في « م » : ( التوعيد ).

زادوا عليها ؛ لأنها تعرف من يقوم بمصالحها ، وبما تحتاج إليه من الأسباب.

وصنف صاموا لأجل أنهم سمعوا أن الصوم واجب في الشريعة المحمّديّة ، فكان صومهم بمجرّد هذه النيّة ، من غير معرفة بسبب الإيجاب ، ولا ما عليهم لله جلّ جلاله من النيّة في تعريضهم لسعادة الدنيا ويوم الحساب. فلا (1) يستبعد أن يكونوا متعرّضين للعقاب.

وصنف صاموا وقصدوا بصومهم أن يعبدوا اللّه كما قدّمناه ؛ لأنه أهل للعبادة. فحالهم حال أهل السعادة.

وصنف معتقدون أن المنّة لله جلّ جلاله عليهم في صيامهم وثبوت أقدامهم ، عارفين بما في طاعته من إكرامهم وبلوغ مرامهم. فهؤلاء أهل الظفر بكمال العنايات وجلائل السعادات ) (2).

وقال أيضاً قدّس اللّه روحه الطاهرة في تعداد وجوه تخدُش الإخلاص في النيّة للصوم أو تنافيه ، وأمراض نفسانيّة في التعبّديّة وعلاماتها - : ( ومنها : أن تعتبر صومك هل (3) هو لمجرّد الثواب ، أو لأجل مراد ربّ الأرباب؟ فإن وجدت نفسك لولا الثواب الذي ورد في الأخبار وأنه يدفع إخطار النار ، ما كنت صمت ولا تكلّفت الامتناع بالصوم من الطعام والشراب والمسارّ ، فأنت قد عزلت اللّه جلّ جلاله عن أنه يستحقّ الصوم لامتثال أمره ، وعن أنه جلّ جلاله أهل للعبادة لعظيم قدره. ولو لا الرشوة والبرطيل ما عبدته ولا راعيت حقّ إحسانه السالف الجزيل ، ولا حرمة مقامه الأعظم الجليل ) (4).

وقال أيضاً : ( اعلم أن الذي تجده في كتابنا هذا من فضل صلاة وصوم وتعظيم الثواب والإحسان ، فكلّه مشروط بالإخلاص ، ومن جملة الإخلاص من أهل الاختصاص ألّا يكون قصدك بهذا العمل مجرّد هذا الثواب ، بل تعبد به ربّ الأرباب ؛

ص: 417


1- من « م » ، وفي « ن » : ( لئلّا ).
2- الإقبال بالأعمال الحسنة 1 : 186 - 189.
3- في المصدر : ( أن تعتبر هل صومك .. ).
4- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 194 - 195.

لأنه أهل لعبادة ذوي الألباب ، وهذه عقبة صعبة تبعد السلامة منها ) (1).

إلى غير ذلك من كلامه ممّا يطول نقله ، حتّى ضرب فيه الأمثال وأطال المجال في المقال. فإذا عرفت هذا عرفت أن المشهور هو صحّة العبادة مع قصد تحصيل الأجر والثواب من ثواب الدنيا والآخرة ، والخوف من العقاب.

أدلّة القول المشهور

واستدلّ للمشهور بكثرة الواردات في الكتاب والسنّة ، حتّى كان مضمونه متواتراً من ذكر الثواب ، من ثواب الدنيا والآخرة ممّا لا يمكن لغير المعصوم حصره. فلو كان قصد تحصيل الثواب الموعود به من المعبود أو الهرب ممّا توعّد به من عقابه في الدنيا والآخرة وثوابهما مخلّاً بالإخلاص الذي أمر اللّه العباد أن يعبدوه به ، ومنافياً له وموجباً للبطلان لكان ذكر الترغيبات الجزيلة والترهيبات الهائلة إغراءً بالقبيح ، وهذا محال ؛ لقبحه.

فيجب تنزيه الشارع الحكيم الغنيّ عن عبادة العابدين عنه ، بل الظاهر أنه إنما ذكر الترغيبات الجزيلة ليرغّب العابد في العبادة لأجلها ، والترهيبات ليعمل العامل خوفاً وهرباً منها ، فتحجزه الرغبة والرهبة عن المعصية بترك العمل.

واستدلّوا أيضاً بما مرّ من الآيات ، كقوله تعالى : ( وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (2) وأمثالها.

وبحسنة هارون بن خارجة (3) : المذكورة أوّلاً في عبارة الشيخ بهاء الدين (4) : ، وبما مرّ من خبر مَنْ بلغه ثواب على عمل (5) ، المذكور في عبارة ( المدارك ) (6) وشبهه. وبمضمونِه نحوٌ من ستّة أخبار وقفت عليها في ( أزهار الرياض ) (7) ، ولا تحضرني

ص: 418


1- الإقبال بالأعمال الحسنة 3 : 180.
2- الأنبياء : 90.
3- الكافي 2 : 84 / 5.
4- الأربعون حديثاً : 441 - 445.
5- الكافي 2 : 87 / 2.
6- الكافي 2 : 87 / 2.
7- أزهار الرياض : 340 ( مخطوط ).

الآن. ولهم أيضاً خبر حمران : عن أبي جعفر عليه السلام : إنّ لله مَلَكاً ينادي : أيّ عبد أحسن اللّه إليه ، وأوسع عليه في رزقه ، فلم يفد إليه في كلِّ خمسة أعوام مرَّة ليطلب نوافله؟! إنّ ذلك لمحروم (1) ، وأمثاله وهي كثيرة.

ومنعوا من منافاة هذا القصد للإخلاص والقربة ، كما مرّ.

ويدلّ على ما ذهب إليه رضيّ الدين بن طاوس (2) : ونقله البهائيّ (3) : عن كثيرٍ الإجماعُ المدّعى من العلّامة (4) : المذكور سابقاً ، ومن قواعد الشهيد (5) : على عبارة أكثر نسخها ، وأنه منافٍ للإخلاص لوجه اللّه ، فإنه حينئذٍ مشوبٌ بطلب النفس ونيل شهوتها ، ودفع المضارّ والمكروهات عنها في الدنيا والآخرة ، أو أحدهما بقدر طبقات المتعبّدين.

ولا ريب أن هذا منافٍ لمعنى الإخلاص لله ، بل للفظه ، فإن الخالص غير المشوب ، والمشوب غير خالص. وقد دلّ العقل والنقل كتاباً (6) وسنّة (7) والإجماع المقطوع به على وجوب الإخلاص في نيّة العبادات ، وأنها بدون الإخلاص باطلة غير مجزية ولا دافعة للذمّ والعقاب ، وأنه لا يستحقّ فاعلها مدحٌ ولا ثواب. بل لا يعدّ مطيعاً أصلاً ولا يوصف بأنه أطاع اللّه وعبده وحده ، ومن لم يعبده وحده لم يعبده أصلاً ؛ لأنه أشرك بعبادة ربّه أحداً. ومن كان كذلك تركه اللّه وشركه ، فللشرك دبيب في النفوس والنيّات أخفى من دبيب النمل على الصفا. فاللّه سبحانه لا يعبد إلّا بما خلص لوجهه الكريم من كلّ شائبة.

ويمكن أن يستدلّ لهذا أيضا بما رواه الكلينيّ : مرسلاً عن أمير المؤمنين عليه السلام : أنه قال في خطبة له ولو أراد اللّه جلّ ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ،

ص: 419


1- الكافي 4 : 278 / 2.
2- المتقدّم في ص : 417.
3- الأربعون حديثاً : 441.
4- أجوبة المسائل المهنائية : 90 / المسألة : 140.
5- القواعد والفوائد 1 : 77 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.
6- الأعراف : 29 ، غافر : 14 ، الشعراء : 89 ، البيّنة : 5.
7- انظر وسائل الشيعة 1 : 59 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 8.

ومعادن البلدان (1) ، ومغارس الجنان ، وأن يحشر طير السماء ، ووحش الأرض معهم لفعل. ولو فعل لسقط البلاء ، وبطل الجزاء ، واضمحلَّ الابتلاء (2) ، ولما وجب للقائلين (3) أُجور المُبتَلين ، ولا لحق المؤمنين ثواب المحسنين ، ولا لزمت الأسماء أهاليها على معنًى مبين. وكذلك (4) لو أنزل اللّه من السماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين ، ولو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين ، لكن اللّه جلّ ثناؤه جعل رسله أُولي قوَّة في عزائم نيّاتهم ، وضعَفة فيما ترى الأعين من حالاتهم ، من قناعة تملأ القلوب والعيون غناؤه ، وخَصَاصَة تملأ الأسماع والأبصار أداؤه.

ولو كانت الأنبياء أهل قوَّة لا ترام ، وعزَّة لا تضام ، وملك تمدّ له أعناق الرجال ، وتشدّ إليه عقد الرحال ، لكان أهون على الخلق في الاختبار ، وأبعدَ لهم عن (5) الاستكبار ، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم ، أو رغبة مائلة بهم. فكانت النيّات مشتركة ، والحسنات مقتسمة ، ولكن اللّه أراد أن يكون الاتِّباع لرسله ، والتصديق بكتبه ، والخشوع لوجهه ، والاستكانة لأمره ، والاستسلام لطاعته ، أُموراً له خاصَّة لا يشوبها من غيرها شائبة.

وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل. ألا ترون أن اللّه عزوجل اختبر الأوَّلين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام الَّذي جعله للناس قياماً ثم جعله بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية معاشاً ، وأغلظ محالِّ المسلمين مياهاً. بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشِلة ، وقرًى منقطعة ، وأثر من مواضع قطر السماء داثر ، ليس يزكو به خفٌّ ولا ظلف ولا حافر.

ثمّ أمر آدم عليه السلام : وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى

ص: 420


1- في النسخة التي بين أيدينا : « ومعادن العقيان » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « ومعادن البلدان ».
2- في النسخة التي بين أيدينا : « واضمحلَّت الإنباء » ، لكن أشار المحقّق إلى أنه في بعض النسخ : « واضمحل الابتلاء ».
3- جمع قائل ، وهو : الذي ينام القيلولة. لسان العرب 11 : 374 قيل.
4- في المصدر : « ولذلك ».
5- في المصدر : « في ».

رحالهم ، تهوي له ثمار الأفئدة من مفاوز قفار متّصلة ، وجزائر بحار منقطعة ، ومهاوي فجاج عميقة ، حتّى يهزّوا مناكبهم ذُلُلاً لله حوله ، ويرملوا على أقدامهم شعثاً غبراً له. قد نبذوا القنع والسرابيل وراء ظهورهم ، وحسروا بالشعور حلقاً عن رؤوسهم ابتلاءً عظيماً ، واختباراً كبيراً ، وامتحاناً شديداً وتمحيصاً بليغاً ، وقنوتاً مبيناً. جعله اللّه سبباً لرحمته ، ووصلة ووسيلة إلى جنَّته ، وعلَّة لمغفرته ، وابتلاءً للخلق برحمته.

ولو كان اللّه تبارك وتعالى وضع بيته الحرام ، ومشاعره العظام بين جنّات وأنهار ، وسهل وقرار ، جمِّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفِّ النبات ، متَّصل القرى (1) من بُرَّة سمراء ، وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ، وزروع ناضرة ، وطرق عامرة ، وحدائق كثيرة ، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء. ثمّ لو كانت الأساس المحمول عليها ، أو (2) الأحجار المرفوع بها بين زمرَّدة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفَّف ذلك مصارعة الشكِّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس : عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس. ولكن اللّه عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد ، ويتعبَّدهم بألوان المجاهدة ، ويبتليهم بضروب المكاره ؛ إخراجاً للتكبّر من قلوبهم ، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم ، وليجعل ذلك أبواباً إلى فضله ، وأسباباً ذُلُلاً لعفوه وفتنته كما قال ( الم. أَحَسِبَ النّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ) (3) (4) ، انتهى.

ووجه الدلالة منه أنه عليه سلام اللّه أوضح المقال بضرب الأمثال أن طاعة اللّه وعبادته بما تعبّد به عباده وامتثال أوامره والانزجار عن مناهيه ، لا يكون ولا يتحقّق في الوجود إلّا بتمام الاختبار وكمال الاختيار ، وذلك لا يكون إلّا بتساوي جهتي الداعيين : داعي اللّه ، وداعي الشيطان ، وتساوي تجاذبهما للنفس. ولعلّ السرّ في ذلك أنه لمّا كان تقدّست أسماؤه مختاراً ، وخلق الإنسان خليفة له ، جعله بأصل فطرته على كمال الاختيار ليدلّه بذلك على كمال بارئه.

ص: 421


1- من « م » والمصدر ، وفي « ن » : « القراء ».
2- في المصدر : « و ».
3- العنكبوت : 1 - 3.
4- الكافي 4 : 198 - 201 / 2.

وذلك لا يتمّ إلّا بتساوي تجاذب الداعيين ، وكمال القدرة على سلوك كلّ من السبيلين ، وكمال هداية النجدين. فلو كان في طاعة الرسل في كلّ ما تعبّد اللّه تعالى به عباده مرجّح من رغبة في نعيم ، أو خشية من عذاب أليم ، لم يكمل بتساوي تعارك الداعيين على القلب ، ولم يكن كلفة في التكليف ، ومجاهدة النفس. ولو كان الأمر كذلك لم يكن الاختبار والاختيار ، ولم يكن بلاؤه حسناً وهو حسن البلاء ، فإذا لم يكمل الاختيار بوجود المرجّح بطل الجزاء. وإنه من جملة ما يرفع كمال الاختيار ميل النفس إلى التلذّذ بالمنظر البهيّ ، والمطعم الشهيّ ، أو الجزع من توهّم قاهريّة الآمر الناهي وعقابه ، وإن بذلك يرتفع كمال الإخلاص في طاعة اللّه وعبادته ، فيرتفع بارتفاعه تحقّق طاعته لما فيه من شوب طاعة رغبة المكلّف ورهبته لما يلائم طباعه وشهوته وما ينافيهما.

وبهذا يثبت أن من عبده لمجرّد نيل الثواب أو الهرب من العقاب لم يعبده ، وقد ثبت بالإجماع والنصّ كتاباً وسنّة مجمع عليها وجوب إخلاص العبادة لله ، وأنه بدونه لا عبادة لله. وهذا إنما أخلص النيّة في طلب الشهوة ، أو الهرب من العقاب والشقوة.

والقاشانيّان : في ( المفاتيح ) (1) وشرحه (2) مع الأكثر ، واستدلّ عليه في المتن بالحسنة المصنّفة التي مرّ ذكرها (3).

وقال الشارح : ( صحّة قصد القربة بهذا المعنى يعني : قصد الفعل المعيّن والامتثال والإخلاص لا غبار عليه. وأمّا بالمعنى الآخر وهو : نيل الثواب ودفع

ص: 422


1- مفاتيح الشرائع 1 : 49.
2- شرح مفاتيح الشرائع ، لولد المصنّف علم الهدى محمد بن محسن الفيض الكاشاني المتوفّى بين ( 1112 - 1123 ) ، وهناك أيضاً ( شرح مفاتيح الشرائع ) للمولى محمّد هادي ابن المولى مرتضى ابن المولى محمّد مؤمن الذي هو أي محمد مؤمن أخو المولى محمد محسن الفيض المصنّف ل- ( المفاتيح ) الذي توفّي سنة (1091). انظر الذريعة 14 : 2. والمصدران غير متوفّرين لدينا.
3- الكافي 2 : 84 / 5.

العقاب ، ففيه كلام. بل الشهيد : نسب إلى الأصحاب القول بعدم الصحّة وبطلان العبادة بها وبه قطع السيّد ابن طاوس. ونظرهم إلى أن ذلك ينافي كون العبادة خالصة لله تعالى ، بل عند الحقيقة يعبد المكلّف نفسه.

لكن الظاهر من الآيات والروايات صحّتها ، مثل قوله تعالى : ( يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ) (1) وقوله عليه السلام من بلغه شي ء من الثواب (2) الحديث ، وغيره من الأخبار التي رغّب الأئمّةُ المكلّفين في العبادة ، بأن قالوا من فعلها أعطاه اللّه كذا وكذا من الأجر على وجه يحصل القطع برضاهم بفعلها رغبة في ذلك الثواب ، وكذلك الحال في زجرهم بالتهديدات والتخويفات في ترك الواجبات. فإذن كيف يبقى تأمّل في [ أن ] (3) زجرهم بها ليس إلّا لحصول الخوف لهم من هذه العتابات ، ويصير سبباً لعدم تركهم الواجبات ، كما ورد في ترك الصلاة والزكاة وغيرهما.

وكذلك الآيات القرآنيّة ، مثل قوله تعالى : ( جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) (4) و ( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (5) و ( فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) (6) بعد ما قال ( فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (7) ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى. بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحدود الشرعيّات في ترك الواجبات ، ومثلها في فعل المحرّمات ، بل كثير من الأخبار جعلوا المنافعَ الدنيويّة داعية إلى فعل عبادة ومضارّها سبباً لعدم ترك واجب ، وصرّحوا بذلك ؛ كيلا يتركوا الواجب لذلك. بل نقول : أصل العبادة لله خالصة ، إلّا أن الداعي إلى هذه العبادة وخلوصها لله تعالى نيل ثواب كذا وكذا ، أو دفع عقاب كذا وكذا ، وإنه ما لم يتحقّق الإخلاص له تعالى لا ينال الثواب ، ولا يدفع عنه العقاب.

ص: 423


1- الأنبياء : 90.
2- الكافي 2 : 87 / 1.
3- في النسختين : ( أنهم ).
4- الواقعة : 24.
5- الروم : 41.
6- البقرة : 66.
7- البقرة : 65.

ألا ترى أن أهل البيت : عليهم السلام في سورة هَلْ أَتَى قالوا ( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً. إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (1) فأجاب تعالى بقوله ( فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ ) (2) ، إلى غير ذلك من الآيات والأخبار في أمثال ما ذكرنا.

ولا شكّ في أن عبادة أهل البيت عليهم السلام : وأمثالهم ما كانت خالية من الإخلاص ، بل من لاحظ حال العبّاد في جميع البلاد ، الصلحاء منهم والزهّاد ، علم أنه ليس فعل الواجبات منهم وترك المحرّمات إلّا خوفاً من اللّه أن يعاقبهم ، والمستحبّات منهم ليس إلّا طمعاً في المنافع والمثوبات ، وغيرُها لا يتأتّى منهم ، بل ولا يتيسّر. وأمّا من أحبّ اللّه تعالى أزيد من حبّ نفسه إلى أن يؤثر على نفسه ما أحبّ اللّه تعالى فلا يريد محبوبه بل يريد محبوب محبوبه ، ولا يكره مكروهة بل يكره مكروه مكروهة تعالى أمكنه العبادة خالصة عن إرادة الثواب ودفع العقاب ، ويقول : عقابي سهلٌ في جنب ترك مراده تعالى ، أُعاقب ولا أترك مطلوبه تعالى ، وأيّ ثواب ألذّ من تحقّق مطلوب محبوبي؟ وهذه الرتبة لا يدركها الخواصّ فضلاً عن العوامّ.

نعم ، هي رتبة خواصّ الخواصّ الذين لا يعبدون اللّه خوفاً وطمعاً ، بل حبّا له وكونه أهلاً للعبادة ، ومستأهلاً لهذا الفعل ) ، انتهى.

ولا يخفى ما في بعض أدلّته من الضعف ، مع أنه رحمه اللّه اختار فيما سوى هذه من الضمائم الراجحة ديناً أو دنيا أو المباحة أن صحّة العبادة معها تدور على أنها مقصودة بالتبعيّة ، والإخلاص بالأصالة وبطلانها على العكس. وعسى أن يمنّ اللّه أن ننقل شيئاً من كلامه في غيرها من الضمائم (3). والفرق بين هذا وغيره من الضمائم المقصودة عسر غامض جدّاً حتّى لا يكاد يتحقّق الفرق بينهما.

إذا عرفت هذا ، وأن الأخبار بظواهرها متعارضة الدلالة على الصحّة والبطلان ،

ص: 424


1- الإنسان : 9 - 10.
2- الإنسان : 11.
3- في « م » : ( من الضمائم في غيرها ).

وأن المسألة فيها قولان ، فاعلم أنه ممّا لا يقع فيه الشكّ أن الإخلاص في العبادات شرط في صحّتها بالعقل والإجماع الذي لا ريب فيه ، والنقل المتواتر المضمون كتاباً (1) وسنّة (2).

ومعناه : أنك تقصد بفعلك عبادة اللّه وحده ، من حيث أمر ومن حيث يريد ، وأن حقيقة النيّة وروحها في كلّ عمل هو الأمر الباعث على العمل ، والغاية المطلوبة به ، فهي الإرادة الكاملة المحقّقة بجميع مشخّصات المنويّ. وروحها الغاية المطلوبة الباعثة على إشاعة العمل وإرادة بروزه في الخارج وإبرازه. فهي في الحقيقة فعل الفاعل والعمل المتشخّص من كلّ وجه مفعوله الواقع بفعله ، فهي طبقه وهو صفتها وحكايتها ، فكل مفعول حكاية فعل فاعله.

فإذن النيّة هي العمل إجمالاً ، وهو هي تفصيلاً بوجه ، وهو غيرها وهي غيره بوجه. أو قل : هي وجود العمل في الذهن (3) والخيال وعالم المثال ، وهو هي في خارج الزمان.

وبهذا يظهر أن النيّة ليست واقعة في الزمان ، وأن العمل ما لم يتشخّص بجميع مشخّصاته الخارجيّة في النيّة لم يكن هو المنويّ ؛ لأنه حينئذٍ تكون النيّة إرادة إجماليّة لشي ء كلّيّ والعمل لا يكون ، بل لا يمكن وقوعه في الخارج إلّا متشخّصاً بجميع متشخّصاته المحصّلة لكونه العينيّ الإذنيّ (4) الإمضائيّ.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن اللّه تعالى وتقدّس إنما خلق الخلق ليعبدوه وحده ، ويوحّدوه في جميع مقاماتهم التي من جملتها عبادتهم له. وحقيقة العبادة هي الطاعة ، أي الذلّ له ، والقبول منه ، والاستسلام والتسليم لأمره بجميع أنحاء وجوداته.

ص: 425


1- الأعراف : 29 ، غافر : 140 ، البيّنة : 5 ، الشعراء : 89.
2- انظر وسائل الشيعة 1 : 59 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 8.
3- في « م » : ( الدهر ).
4- في « م » : ( الأدنى ).

ومنها مقام عبادته وشكره للمنعم ، ولا شكّ أن عبادته بمجرّد قصد تحصيل الثواب الموعود أو الفرار من العقاب المتوعّد به ليست عبادة توحيديّة. وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان بعد التأمّل فيما أشرنا له إجمالاً.

وحينئذٍ نقول : لا تصحّ عبادة العابد إلّا إذا كان الباعث الحقيقيّ الأوّليّ له على العمل هو امتثال أمر المنعم والقربة له ، أي طلب رضاه الذي هو فرع حبّه له ؛ فإنه كلّما تقرّب العبد إلى اللّه بامتثال أمره ونهيه أحبّه ، فإذا أحبّه رضي عنه ، فإذا رضي عنه أثابه. كلّ ذلك كرم منه وفضل ، وليس رضاه مجرّدَ ثوابه ، وغضبُه محضَ عقابه ، كما دلّ عليه العقل ، والنقل كتاباً وسنّةً.

ولا ينافي هذا ويخرجه عن الإخلاص في العبوديّة لله علمُ العامل بما وعد اللّه المحسنين الشاكرين العاملين العابدين لله من حيث أحبّ وشرع ، وعلمُه بما توعّد به الكافرين بنعمة العاصين له من الغضب والعذاب في الدنيا والآخرة والبعد من رضوان اللّه تعالى ورحمته ، بل ميزان كمال العبادة والإيمان تساوي الخوف من سخط اللّه والبعد من رحمته ورضوانه ، والرجاء في رحمته ورضاه وإنعامه ، فهو يعبد اللّه بكمال الاختيار والانقياد ، وتمام العبوديّة والرجاء في رضاه وإنعامه ومزيده ، والطمع في محبّته ورضاه ، وكمال الخوف من غضبه ، والبعد من رضوانه ومحبّته ، والخوف منه.

وقد ثبت أن اليأس من روح اللّه والقنوط من رحمة اللّه من أكبر الكبائر بالنصّ من الكتاب (1) والسنّة (2) والإجماع ؛ فقد تبيّن أن الخوف من سخط اللّه والرجاء لرحمة اللّه وكرمه لا ينافيان كمال الإخلاص والعبوديّة وقصد التقرّب إلى اللّه ؛ لأنه أرحم الراحمين. ولعلّ الترغيبات والتهديدات وجملة الوعد والوعيد الواردة في الشريعة للدلالة على أن كمال الإيمان والعبوديّة إنما يتحقّق بكمال الرجاء لفضل اللّه

ص: 426


1- يوسف : 87 ، الحجر : 56.
2- انظر وسائل الشيعة 15 : 318 - 331 ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب 46 ، ح 2 ، 7 ، 13 ، 33 ، 36.

والقرب منه ، الذي هو رضاه ومحبّته وكمال الخوف من سخط اللّه تعالى وبغضه ، والبعد من ساحة رحمته ورضاه ، وتساوي خوفه ورجاه.

فكون العبد حال عبادته على كمال الرجاء من اللّه لما وعد به المطيعين ، وكمال الخوف من سخط اللّه وما يوجبه سخطه من عقوبات العاصين لا ينافي أنه عابد لله بكمال العبوديّة والتسليم والامتثال ، بحيث لو لم يسمع بالجزاء فعلاً وتركاً لكان يعبد اللّه ويشكر المنعم بإخلاص امتثال الأمر ، وطلب رضاه ، وحبّ ما يحبّه من عبده.

وعلى هذا تحمل الترغيبات والترهيبات ، ويحمل فتوى الأكثر من أهل النفوس القدسيّة. أمّا لو عبد العبد (1) وكانت غايته في عبادته مجرّد تحصيل ما وعد اللّه العابد على تلك العبادة من الثواب ، أو لمجرّد الفرار من العقوبات التي توعّد بها اللّه العاصين دنيا وآخرة فيهما ، بحيث لو لم يسمع بذلك ، أو لم يطمع في حصول الثواب أو الخلاص من العقاب لم يعبده ، فلا شكّ في بطلان عبادته ؛ لأنه غير عابد لله ، بل لهواه من جلب المحبوب ، ودفع المرهوب.

وقد علمنا بأُناس صاموا لأجل صيام بعض الأغنياء ، وصلّوا نافلة الليل لأجل أن فلانَ يصلّيها طلباً لرضاه ومحبّته ، ولأن يشاركوه في صفاته وفي فطوره وسحوره.

وكذا لا عبادة لمن كان الباعث له بالأصالة طلب الثواب ، أو الفرار من العقاب ولو كان يقصد مع هذا التقرّب إلى اللّه وامتثال أمره بالتبعيّة ، فإنه ضرب من الشرك في العبادة ، ولا شكّ أنها حينئذٍ غير خالصة لله بمحض العبوديّة ، فليس بموحّد لله في تلك العبادة. أمّا تساوي الداعيان فهو محال ، أو كالمحال ، ولو فرض إمكانها فهي كالأُولى باطلة ؛ لعدم تحقّق العبادة التوحيديّة بكمال العبوديّة ، والإخلاص في طلب التقرّب لله بتحصيل حبّه ورضاه ، والتخلّص من البعد منه ومن غضبه وبغضه.

وعلى هذا يحمل قول من قال ببطلان العبادة بقصد تحصيل الثواب والفرار من

ص: 427


1- في « م » : ( العابد ).

العقاب (1) ، ودعوى إجماع العدليّة (2) على ذلك ، ويرتفع التنافي بهذا والخلاف ، وبه تتطابق الأخبار ، ويمكن العمل بجميعها ولا يطّرح منها شي ء. وبغير هذا التفصيل لا بدّ من اطّراح إمّا الإجماع المنقول وجملة من الأخبار المؤيّدين بصافي الاعتبار ، أو الأخبار الدالّة على الترغيب والترهيب ، وهي في الكثرة بحيث يحصل القطع بأنها ذكرت للحثّ على الطاعة وعلى ترك المعصية ؛ تأكيداً للحجّة ، وقطعاً للأعذار ببيان شدّة حسن الطاعة وحسن عاقبتها ، وخبث المعصية وسوء عاقبتها. ولله الحجّة البالغة.

وبالجملة ، فمن صلّى أو صام أو زكّى أو خمّس أو جاهد في سبيل اللّه ، واجباً كان ذلك كلّه أو ندباً ، كما ذكرناه بقصد امتثال أمر اللّه وتحقّقاً بطاعة المنعم وشكره ، ومحبّة لما يحبّه اللّه منه ، وتقرّباً لله بطلب رضاه ومحبّته ، وهرباً من غضبه وبغضه ، والبعد من ساحة رحمته وجواره ، راجياً حينئذٍ لما وعده به من إفاضات رحماته طامعاً في رضاه ومحبّته ، والقرب من جواره ، خائفاً من مقته وسخطه ، والبعد من جوار أحبّائه ، كانت عبادته صحيحة قطعاً.

وكذلك لو دعا بدعاء ، أو عمل لشفاء الأسقام ، وقضاء الدين ودفع كيد الأعداء ، والحفظ وغير ذلك من أنواع الرحمات والجود ، يجب أن يدعو أو يصلّي ، أو يصل رحمه ، أو يتصدّق قاصداً امتثال أمر اللّه حابّاً لما أحبّه اللّه منه أن يسأله ويسترزقه ويستكفي به ، ويستشفي به من هذا الطريق ، وبهذا الدعاء أو العمل عالماً أن اللّه أحبّ منه أن يستفتح منه ويستنزل أنواع فيضه ورحماته بهذا الطريق ، فهو يسلكه ؛ لأن اللّه أمره أن يسلك إلى جوده ورحمته ورضاه من هذا الطريق ، فيكون عمله حبّا

ص: 428


1- منهم العلّامة رحمه اللّه في ( أجوبة المسائل المهنّائيَّة ) : 90 / المسألة : 140 ، والشهيد قدس سره في قواعده 1 : 77 ، والقاشانيان عليهما الرحمة في ( المفاتيح ) وشرحها ، المفاتيح 1 : 49 ، والسيّد رضيّ الدين بن طاوس رحمه اللّه كما نقل عنه في ( روض الجنان ) : 27 ( حجريّ ) ، و ( مدارك الأحكام ) 1 : 187. وغيرهم.
2- الذي نقله العلّامة رحمه اللّه في ( أجوبة المسائل المهنّائيَّة ) : 90 / المسألة : 140 ، بقوله : ( اتّفقت العدليَّة. ).

لما أحبّه اللّه منه ، وطلباً لموافقة إرادته منه وامتثالاً لما أمره به من السلوك إليه من هذا الباب ، ويكون راجياً لوعد اللّه حتّى كأن حاجته بالباب ، ومسروراً بما فتحه اللّه إليه من هذا الباب وهداه إليه ، وشكراً لما أنعم اللّه به عليه من هذه الرحمة ، وأقدره على ولوج هذا الباب.

فإن الدعاء باب عظيم من أبواب الرحمة ، لولا أن اللّه عزّ اسمه فتحه لعباده وهداهم إليه ودلّهم عليه لما عرفوه. فحقيقة الدعاء محض العبوديّة والقبول التوحيديّ ، فاللّه أحبّ من عبده أن يسأله ليفيض عليه ويجود ، حتّى قال ( قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ ) (1).

فكن أيّها الداعي قاصداً بدعائك امتثال أمر اللّه ، وطالباً لرضاه ، ومتأهّلاً لاستفاضة جوده ومحبّته فيما أمر به من دعائه ، والطلب منه وحده وإن في ذلك رضاه ولا تكن بدعائك قاصداً محض تحصيل غرضك وحاجتك ونفعك ، أو دفع ضرّك ، جاعلاً دعاءك لله وعبادتك إيّاه به من قبيل استعمالك دواءً أمرك به طبيب بحيث لو لم ترجُ نفعه لَمَا استعملته ؛ فإنك حينئذٍ لا تكون عابداً لله ، ولا قاصداً التقرّب إليه ، ولا فاعلاً لما أحبّه منك ، ولا محبّاً لما أحبّ مولاك ، ولا طالباً لرضاه ، ولا شاكراً نعماه ، بل طالباً لرضا نفسك ومقبلاً على هواك ، مستخفّاً برضا مولاك.

وعلى هذا التفصيل والبيان تلتئم الأخبار والأدلّة ، ويرتفع عن وجه الحقّ وسبيله الغبار ويجتمع القولان. ولا ينافيه تقسيم العباد إلى ثلاثة أصناف ؛ فإنه لا شكّ أن العباد متفاوتون في دُرَجِ الإيمان ، بل أصحاب الدرجة الواحدة متفاوتون تفاوتاً عظيماً. فالقسمة الثلاثيّة وقعت باعتبار من غلب على نفسه الرجاء ، ومن غلب عليه الخوف لمولاه ، ومنه حال عبادته كما وصفناه ، ومن تساوى فيه الخوف والرجاء فألقاهما عنه حال عبادته.

والناس في كلّ واحد من الأصناف الثلاثة متفاوتة رتبهم تفاوتاً عظيماً باعتبار

ص: 429


1- الفرقان : 77.

تفاوت فطرهم ووجوداتهم وقابليّاتهم وطبائعهم وعلمهم وعملهم ، وغير ذلك. فتأمّله بعين شاخصة في طلب الحقّ ونفس خالية من الشبهة تُرشد إن شاء اللّه تعالى.

تتمّة : في بيان حكم بعض الضمائم في النيّة

تتمّة مهمّة تؤيّد ما فصّلناه في بيان حكم بعض الضمائم غير ما بحثنا فيه. قال الشهيد : في ( القواعد ) : ( يعتبر في النيّة التقرّب إلى اللّه تعالى. ويدلّ عليه الكتاب والسنّة ؛ أمّا الكتاب فقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (1) الآية.

وقال اللّه تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى. وَلَسَوْفَ يَرْضى ) (2).

وأمّا السنّة ففي ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : في الحديث القدسيّ من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري تركته لشريكه (3) ) (4). أقول : أمّا وجوب اعتبار التقرّب إلى اللّه في النيّة وأنه لا تصحّ العبادة ، بل ولا تتحقّق بدونه فقد قام عليه الدليل من العقل والنقل كتاباً وسنّة والإجماع ، بحيث يحصل القطع به.

وأمّا الآية الأُولى فقد دلّت على أن غير ما تُخلَص نيّته لله وحده فليس بعبادة لله ، فدخل في عمومها المستفادِ من الحصر كلّ عبادة يشوب نيّتَها طلبُ شي ء غير التقرّب إلى اللّه ؛ فإنه حينئذٍ ليس بمأمور به ، وكلّ ما ليس بمأمور به فليس بعبادة لله.

وأمّا الثانية ، فلفظ الأحد فيها يعمّ حتّى نفس العابد ، فما سوى ما خلص لوجه اللّه غير محمود عند اللّه ، وما ليس بمحمود فهو باطل.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( معنى الإخلاص فعل الطاعة خالصاً لله وحده. وهنا غايات ثمانٍ :

ص: 430


1- البيِّنة : 5.
2- الليل : 19 - 21.
3- بحار الأنوار 69 : 299 / 36 ، مسند أحمد بن حنبل 2 : 301 ، كنز العمّال 3 : 482 / 7524 ، بتفاوت في الجميع.
4- القواعد والفوائد 1 : 75 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الأُولى.

الاولى : الرياء. ولا ريب أنه مخلّ بالإخلاص ، ويتحقّق الرياء بقصد مدح الرائي ، أو الانتفاع به ، أو دفع ضرره.

فإن قلت : فما تقول في العبادات المشوبة بالتقيّة؟

قلت : أصل العبادة واقع على وجه الإخلاص ، وما فعل منها تقيّة فإن له اعتبارين : بالنظر إلى أصله وهو قربة ، وبالنظر إلى ما طرأ من استدفاع الضرر وهو لازم (1) لذلك ، فلا يقدح في اعتباره. أمّا لو فرض إحداثه صلاة مثلاً تقيّة فإنه من باب الرياء ) (2).

أقول : لا ريب أن معنى الإخلاص في العبادة أن تفعل العبادة برسم العبوديّة التوحيديّة لله عزّ اسمه ، كما دلّ عليه العقل والنقل كتاباً وسنّة والإجماع الذي لا ريب فيه ، ولا تصحّ العبادة لله بدونه ، بل لا تتحقّق في الوجود عقلاً ونقلاً وإجماعاً. فإذن لو شاب النيّة شي ء ينافي إظهار رسم العبوديّة لله بالعبادة له لم تكن عبادة له ، لا فرق في ذلك بين إشابة تحصيل غرض نفس العابد من جلب نفع ، أو دفع ضرّ أو تحصيل غرض غير حبّه ورضاه أو دفع سخطه ونقمته ، فقد تبيّن منافاة الرياء للإخلاص والتقرّب إلى اللّه. وقد قام الإجماع على فساد العبادة بدخول الرياء في نيّتها ، بلا فرق بين قصد رضا الرائي وجلب مدحه ونفعه ، أو دفع سخطه وبغضه وضرره.

وأمّا فعل عبادة ألزمهُ بفعلها التقيّة ، أو كيفيّة فيها أوجبتها التقيّة كالتكفير والتأمين وغسل الرجلين ونحوها ، فيجب على العامل أن يعلم أن اللّه تعالى كلّفه في هذا الحال بهذه العبادة أو هذه الكيفيّة ، فيقصد امتثال أمر اللّه خالصاً لوجهه والتقرّب إليه كما وصفناه. فإن لم يفعل كما ذكرناه ، بل صلّى صلاة ، أو عمل في صلاته وطهارته كيفيّة غير الثابتة بأصل الشرع لمحض ابتغاء مرضاة المخالفين ، أو لمحض دفع ضررهم عنه ، فالظاهر أن عبادته داخلة في الرياء ، كما هو ظاهر من العبارة وجملة

ص: 431


1- ليست في « م ».
2- القواعد والفوائد 1 : 76 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.

من عبارات الأفاضل ، إلّا أن يجبر على فعل وحركة وقول يشبه صورة العبادة ، بحيث يكون حينئذٍ مسلوب الاختيار والقصد لفرط الخوف ، فتلك ليست برياء ولا عبادة أصلاً ، فلا عقاب عليه فيها ، ولا ثواب عبادة وإن أُثيب على ظلمهم له ، وقهرهم وإخافتهم له.

والظاهر أنها لا تجزيه عن فرضه ولا نفله ؛ إذ لم يتحقّق له حينئذٍ قصد ولا مشيئة ولا إرادة ، فلا نيّة عبادة له حينئذٍ ، ولا يتحقّق عمل بلا نيّة ، بل هو حينئذٍ يشبه القدوم في يد النجار.

وأمّا دفع الضرر اللازم لفعل التقيّة والعلم به فلا يقدح في صحّة قصد الإخلاص في التقرّب إلى اللّه وامتثال أمره ، فإنه من جملة ثواب العبادة. بل الظاهر أنه لو قصد العامل بالتقيّة في عمله بها أن اللّه أحبّ منّي أن أستدفع ضرر هؤلاء بهذا العمل وأمرني أن أستدفعه به ، فامتثلت وأحببت ما أحبّه منّي أن أفعله ، صحّت عبادته ؛ لأنه حينئذٍ كالدعاء والصلاة للشفاء ، أو دفع البلاء ، وردّ كيد الأعداء والحفظ ، فالعامل به يقصد قبوله نعمة اللّه وشكره والتوصّل إلى استفاضة جوده ونيل رحمته ومحبّته بما أمرني وأحبّ منّي السلوك إلى بابه الأعظم به ، غير منافٍ للقربة والإخلاص.

وممّا يؤنسك بما قرّرناه في عبادة المتّقي ما قاله البهائيّ : في شرح الأربعين ، حيث قال : ( لا بدّ في النيّة من القصد إلى إيقاع الفعل ، فمن تصوّر الفعل من دون قصد إلى إيقاعه فهو غير ناوٍ حقيقة ، وقد يطلق على هذا التصوّر اسم النيّة كما قال الفقهاء. ولو نوى المتوضّئ رفع حدث والواقع غيره ؛ فإن كان غلطاً صحّ ، وإن كان عمداً بطل ؛ لأنه في صورة الغلط قاصد إلى رفع حدث في الجملة ، وأمّا في صورة العمد فلم يحصل منه قصد إلى رفع شي ء ، وإنما تصوّر رفع غير الواقع ، فيبطل وضوؤه على الأصحّ ؛ لأنه غير ناوٍ في الحقيقة ، بل هو لاعب.

قال العلّامة : في بحث نيّة الوضوء من ( نهاية الإحكام ) : ( لا يجب التعرّض لنفي

ص: 432

حدث معيّن ، وإن نواه وكان هو الثابت صحّ إجماعاً ، ولو كان غيره ؛ فإن كان غالطاً فالأقرب الصحّة لعدم اشتراط التعرّض لها ، فلا يضرّ الغلط فيها ، وإن كان عامداً فالأقرب البطلان ؛ لتلاعبه بالطهارة ) (1) ، انتهى.

وقوله : ( لتلاعبه بالطهارة ) إشارة إلى عدم حصول القصد ) (2) ، انتهى.

وممّا يؤنسك أيضاً اشتراطهم في صحّة جميع الإيقاعات والاعترافات القصدَ الاختياريّ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( الثانية : قصد الثواب والخلاص من العقاب ، وقصدهما معاً.

الثالثة : فعلها شكراً لنعم اللّه تعالى واستجلابا لمزيده.

الرابعة : فعلها حياءً من اللّه تعالى.

الخامسة : حبّا له تعالى.

السادسة : تعظيماً لله تعالى ومهابة وانقياداً وإجابة له.

السابعة : فعلها موافقة لإرادته وطاعة لأمره.

الثامنة : فعلها لكونه تعالى أهلاً للعبادة. وهذه الغاية مجمع على كون العبادة تقع بها معتبرة ، وهي أكمل مراتب الإخلاص ، وإليه أشار إمام الحقّ أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام : بقوله ما عبدتك طمعاً في جنّتك ، ولا خوفاً من نارك ، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (3).

وأمّا غاية الثواب والعقاب .. ).

وساق العبارة المنقولة سابقاً (4) ، ثمّ قال : ( وأمّا الحياء فغرض مقصود. فقد جاء في الخبر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله : استحيوا من اللّه تعالى حقّ الحياء (5) وأعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (6) ، فإنه إذا تخيّل الرؤية انبعث على الحياء والتعظيم والمهابة.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : ، وقد قال له ذِعْلِب بالذال المعجمة المكسورة والعين

ص: 433


1- نهاية الأحكام 1 : 30.
2- الأربعون حديثاً ( البهائي ) : 449 - 450.
3- عوالي اللآلي 1 : 404 / 63.
4- انظر : ص 413.
5- عوالي اللآلي 1 : 405 / 64.
6- عوالي اللآلي 1 : 405 / 65 ، بتفاوتٍ يسير.

المهملة الساكنة واللام المكسورة - : هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين :؟ فقال أفأعبد ما لا أرى؟.

فقال : وكيف تراه؟ فقال عليه السلام لا تراه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير [ ملابس (1) ] ، بعيد منها غير مباين. متكلِّم [ لا برؤية (2) ] ، مريد لا بهمَّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسَّة ، رحيم لا يوصف بالرقَّة. تعنو الوجوه لعظمته ، وتجلّ القلوب من مخافته (3).

وقد اشتمل هذا الكلام الشريف على أُصول صفات الجلال والإكرام التي عليها مدار علم الكلام ، وأفاد أن العبادة تابعة للرؤية ، وتفسير معنى الرؤية ، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة تابع للرؤية ، وأفاد الإشارة إلى أن قصد التعظيم بالعبادة حسن وإن لم يكن تمام الغاية ، وكذا الخوف منه تعالى ) (4).

أقول : أمّا فعلها بقصد الثواب والعقاب ، فقد عرفت الكلام فيه فتوًى ودليلاً. وأمّا باقي الغايات الثماني ، من قصد الشكر ، أو الحياء ، أو للحبّ ، أو للتعظيم والمهابة والانقياد والإجابة لله عزّ اسمه ، أو الموافقة لإرادته وللطاعة لأمره ، أو لكونه عزّ اسمه وجلّ أهلاً للطاعة والعبادة. فكلّها لا ينافي شي ء منها الإخلاص وقصد القربة والامتثال كما يعلم ممّا قرّرناه فإنها كلّها لوازم التسليم والإذعان لقبول مراسم العبوديّة ، والتحقّق بالعبادة التوحيديّة التي هي قصر نفس العبد العابد المرتدي بنعمة مولاه ، وشكره على ما أولاه على باب عبوديّته لمولاه ، ويأسه ممّا سواه وقصر محبّته ورضاه على ما يحبّه مولاه ويرضاه ، موثقاً بوعده وحده ، غير آيس من روحه وإمداده ورفده وإن تفاوتت مراتب العباد في ذلك كلّه. وربّما غلب بعض المقامات على بعض في أكثر العباد ، فما أقلّ الوزن بالقسطاس المستقيم! وما أصعبه

ص: 434


1- من المصدر ، وفي النسختين : ( ملامس ).
2- من المصدر ، وفي النسختين : ( بلا روية ).
3- نهج البلاغة : 344 / الخطبة : 179.
4- القواعد والفوائد 1 : 77 - 78 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.

إلّا على خلّص المؤمنين!.

وأمّا أعلى المراتب في الإخلاص وهي مرتبة وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك (1) - فهي مرتبة الرؤية بحقائق الإيمان ، وأعلاها ألّا يرى العبد لنفسه اعتباراً بالكلّيّة ، بل يرى نفسه قابلاً محضاً ، بل فيضاً محضاً كأوّل حركة بروزه ، ومحض وجوده الذي هو جهة وجود فاعله ومفيضه الذي لا يشركه فيها شي ء من الخلق بوجه ، وهي مرتبة حقيقته التي من عرَفها عرَف ربّه بأقصى مراتب إمكان معرفته التي هي صفة وجودِه ، بل وجودُه.

فمن عبد ربّه بهذه المرتبة فقد عبده بكمال العبوديّة له ، وسواها رتب تنزّلاتها وتطوّراته في قوس عوده.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( لمّا كان الركن الأعظم في النيّة هو الإخلاص ، وكان انضمام تلك الأربعة غير قادح فيه ، فخليق أن نذكر ضمائم أُخر ، وهي أقسام :

الأوَّل : ما تكون منافية له ، وتوصف بسببه العبادة بالبطلان ، يعني : عدم استحقاق الثواب. وهل يقع مجزياً ، بمعنى سقوط التعبّد به والخلاص من العقاب؟ الأصحّ أنه لا يقع مجزياً. ولم اعلم فيه خلافاً إلّا من السيّد الإمام المرتضى (2) : قدّس اللّه لطيفه فإن ظاهره الحكم بالإجزاء في العبادة المنويّ بها الرياء.

الثاني : ما يكون من الضمائم لازم الفعل كضمّ التبرّد أو التسخّن أو التنظّف (3) إلى نيّة القربة. وفيه وجهان ينظران إلى عدم تحقّق معنى الإخلاص ، فلا يكون الفعل مجزياً ، وإلى أنه حاصل لا محالة ، فنيّته لتحصيل الحاصل الذي لا فائدة فيه. وهذا الوجه ظاهر أكثر الأصحاب (4) ، والأوّل أشبه. ولا يلزم من حصولِه نيّةً حصولُه.

ويحتمل أن يقال : إن كان الباعث الأصليّ هو القربة ، ثمّ طرأ التبرّد عند الابتداء

ص: 435


1- عوالي اللآلي 1 : 404 / 63.
2- الانتصار : 100 / المسألة : 9.
3- في « م » : ( التنظيف ).
4- المبسوط 1 : 19 ، المعتبر 1 : 140 ، منتهى المطلب 1 : 56.

في الفعل لم يضرّ ، وإن كان الباعث الأصليّ هو التبرّد فلمّا أراده ضمّ القربة لم يجز. وكذا إذا كان الباعث مجموع الأمرين ؛ لأنه لا أولويّة حينئذٍ ، فتدافعا فتساقطا ، فكأنه غير ناوٍ. ومن هذا الباب ضمّ نيّة الحمية إلى القربة في الصوم ، وضمّ ملازمة الغريم إلى القربة في الطواف والسعي والوقوف بالمشعرين.

الثالث : ما ليس بمنافٍ ولا لازم ، كضمّ إرادة دخول السوق مع نيّة التقرّب في الطهارة ، أو إرادة الأكل. ولم يرد بذلك الكون على طهارة في هذه الأشياء ، فإنه لو أراد الكون على طهارة كان مؤكّداً وغير منافٍ. وهذه الأشياء وإن لم يستحبّ لها الطهارة بخصوصها إلّا إنها داخلة فيما يستحبّ بعمومه. وفي هذه الضميمة وجهان مرتّبان على القسم الثاني ، وأوْلى بالبطلان ؛ لأن ذلك تشاغل عمّا يحتاج إليه بما لا يحتاج إليه ) (1) ، انتهى كلامه في قواعده ، زيد إكرامه.

وأقول : أمّا الرياء فالإجماع والنصّ بلا معارض على بطلان العبادة بضمّه إلى نيّتها ، بل لا يكاد تتحقّق عبادة لله مع مخالطة نيّة العامل بالرياء ؛ لأنه لا يُعبد إلّا بما خلص لوجهه الكريم. ( وَلِلّهِ ) لا لغيره على العموم الشامل ( يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) (2) على بعض الوجوه. فقد دلّت الآية على بعض الوجوه على أنه لا يتحقّق سجود لله ولو كرها إلّا ما اختصّ به.

وما حكاه عن ظاهر عبارة المرتضى : غير مخلّ بتحقّق الإجماع ، ولا معارض للبرهان المتضاعف عقلاً ونقلاً. ولعلّه سهوٌ ، أو أراد غير ما ظهر من عبارته.

وأمّا قصد التبرّد أو التسخين أو التنظيف بالغسل أو الوضوء مثلاً ، فلا شبهة في أنه ممانع للإخلاص ، بل منافٍ له ، فلا تصحّ مع قصده العبادة مطلقاً ، سواء كان مقصوداً بالأصالة أو بالتبعيّة ؛ لعدم تحقّق العبادة التوحيديّة بالضرورة ولكلّ امرئ ما نوى (3).

وليست هذه العبادة مختصّة باللّه ، بل لنفس العامل منها قسط باعث على

ص: 436


1- القواعد والفوائد 1 : 78 - 80 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثالثة.
2- الرعد : 15.
3- الأمالي ( الطوسيّ ) : 618 / 1274.

العمل.

نعم ، لا يضرّ بالإخلاص العلم بترتّب ذلك الأثر على هذه العبادة ولزومه لها ؛ لأنه لا يستلزم قصده في نيّة العبادة لله ، وإلّا للزم قصد جميع لوازم العمل الزمانيّة والمكانيّة وغيرهما ، والوجدان على خلاف ذلك ، ويجري هذا المجرى جميع ما شابهه من الضمائم كقصد الحمية بالصوم ، والرياضة البدنيّة به وبالصلاة ، وكذلك قصد التجارة والتكسّب والفرار من زيد مثلاً بالحجّ ، وما في معناه فإنه منافٍ للإخلاص كقصد الحِمية والتبرّد والرياضة ؛ لعدم الفارق ذاتاً وعرضاً.

وأمّا ضمّ مثل الأكل ودخول السوق وشبههما ممّا ليس له علاقة بالعبادة المنويّة كأن يقصد : إني أتطهّر أو أُصلّي لأتغذّى. فإن كان تلك العبادة دلّ الشارع على أن اللّه عزّ اسمه أحبّ من المكلّف الفاعل لها أن يقدّمها أمام الفعل المضموم معها ، كالصلاة للسفر صحّت العبادة لصحّة الإخلاص والتقرّب ، وإلّا بطلت لعدم مشروعيّتها ؛ إذ لا يعبد اللّه إلّا من حيث يحبّ بمثل ما يأمر ويحبّ كيفيّةً وكميّةً. فلو نوى بالوضوء مثلاً الكون على الطهارة حتّى لا أدخل السوق إلّا متطهّراً صحّ. ولو نوى : إني أتطهّر لدخول السوق كان باطلاً ؛ لعدم مشروعيّته ؛ لأنه لم يظهر أن اللّه عزّ اسمه تعبّد عبيده بذلك. فإذن تكون حينئذٍ عبادة من حيث أحبّ العابد لا المعبود ، وهي باطلة قطعاً.

وقال المحقّق الثاني : في ( شرح القواعد ) : ( قوله : ( ولو ضمّ التبرّد صحّ على إشكال ) (1). أي لو ضمّه إلى نيّة الوضوء المعتبرة. ومنشأ الإشكال من منافاته للقربة والإخلاص ؛ إذ هو أمر خارج عن العبادة ، ومن أنه لازم لفعلها سواء (2) نوى أم لا. والأصحّ الأوّل ؛ لأن لزومه لفعل الطهارة لا يقتضي جواز نيّته. ومثل التبرّد التسخّن وزوال الوسخ. قوله (3) : ولو ضمّ الرياء بطل ، قولاً واحداً. وحكي عن المرتضى (4)

ص: 437


1- قواعد الأحكام 1 : 10 ( حجريّ ).
2- في « م » : ( سوى ).
3- ليست في المصدر.
4- الانتصار : 100.

أن عبادة الرياء تسقط الطلب عن المكلّف ولا يستحقّ بها ثواباً. وليس بشي ء.

إذا تقرّر ذلك ، فالضمائم أربع :

الأولى : ضميمة اللازم المؤكّد ، كضميمة الرفع للاستباحة ، ولا شبهة في صحّتها.

الثانية : ضميمة اللازم الأجنبيّ ، كضميمة التبرّد ، وقد سبق حكمها.

الثالثة : ضميمة المنافي كالرياء ، وبطلانه معلوم.

الرابعة (1) : ضميمة الأمر الأجنبيّ الغريب ، كدخول السوق. وفي البطلان به وجهان ، أصحّهما البطلان ) (2) ، انتهى.

أقول : يظهر منه الإجماع على إبطال الرياء الملحوظ في نيّة العبادة ، وكأنه أيضاً لم تثبت عنده نسبة القول المحكيّ إلى المرتضى : ؛ ولذا قال : ( حكي ). وأمّا ضمّ الرفع للاستباحة فليس بضمّ شي ء لآخر ؛ لأن الذي يظهر لي تلازمهما ، فإن الرفع غاية ، أي علّة لتحقّق شرطيّة الوضوء مثلاً ، فالاستباحة هي غاية رفع الحدث. وطهارة دائم الحدث رافعة لما سبق عليها منه ، وما صاحبها وتعقّبها عفو لرفع الحرج لعدم سقوط العبادة المشروطة به بدوام الحدث و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (3). ويشبهه العفو عن دم القروح والجروح السائلة. وباقي كلامه معلوم حكمه ممّا قدّمناه.

وقال العلّامة : في ( التحرير ) : ( لو نوى ما لا تشرع له الطهارة كالأكل مثلاً ، لم يرتفع حدثه إجماعاً ، ولو نوى ما ليس من شرطه الطهارة ، بل من فضله كقراءة القرآن ، أو النوم قال الشيخ (4) : ولا يرتفع حدثه ؛ لأنه لم ينوِ رفعه ، ولا ما يتضمّنه. وعندي فيه توقّف ، أمّا لو نوى وضوءاً مطلقاً ، فالوجه ما قاله الشيخ ) (5) ، انتهى.

أقول : إذا نوى المتطهّر رفع الحدث لاستباحة ما ليس مشروطاً بالطهارة ، ولا

ص: 438


1- في المخطوط : ( الثاني ) ، ( الثالث ) ، ( الرابع ) بلفظ التذكير ولم يذكر الأوَّل. وفي المصدر مشار إليها بالحروف من ( أ ) - ( د ).
2- جامع المقاصد 1 : 203 - 204.
3- البقرة : 286.
4- المبسوط 1 : 19.
5- تحرير الأحكام 1 : 9 ( حجريّ ).

مشروعاً لها كالأكل ، ودخول السوق لم يرتفع حدثه ؛ لأنه عبادة لم تشرع ، فهي باطلة بلا شكّ. ولو كانت الطهارة من كمالها لا من شروطها (1) ، كالنوم وقراءة القرآن ، وجهان أظهرهما الصحّة ؛ لأن اللّه تعالى أحبّ من العبد أن ينام على طهارة ، وكذا في تلاوة كلامه ، وأمره أن يقرأه وينام متطهّراً. وهذا معنًى محصّل لمشروعيّة الطهارة ؛ لأنها موافقة لمحبّة اللّه وأمره.

والأحوط في هذا أن ينوي الكون على طهارة ، فلو قصد الكون على الطهارة ليكون على حال فعله ما لم تشرع له الطهارة على طهارة ، أو حال فعله ما الطهارة من كماله على طهارة صحّ فيهما لمشروعيّة الطهارة للكون على طهارة. والإجماع إنما هو على الفرض الأوّل ، وهو مراده رحمه اللّه.

وكذلك لا تصحّ طهارته ولا يرتفع حدثه لو نوى طهارة مطلقاً ؛ لأن الطهارة عبادة شرطيّة ، وليست بواجبه أو مندوبة لنفسها ، ففعلها كذلك غير مشروع فلا تصحّ ، ولا يُعبد اللّه إلّا بما شرع كما شرع.

وقال البهائيّ : في ( شرح الأربعين ) : ( المانعون في نيّة العبادة من قصد تحصيل الثواب أو دفع العقاب جعلوا هذا القصد مفسداً لها وإن انضمّ إليه قصد وجه اللّه سبحانه ، على ما يفهم من كلامهم. أمّا بقيّة الضمائم اللازمة الحصول مع العبادة نويت أو لم تنو ، كالخلاص من النفقة بعتق العبد في الكفّارة ، والحمية بالصوم ، والتبرّد في الوضوء ، وإعلام المأموم الدخول في الصلاة بالتكبير ، ومماطلة الغريم بالتشاغل بالصلاة ، وملازمته بالطواف والسعي ، وحفظ المتاع بالقيام لصلاة الليل وأمثال ذلك ، فالظاهر أن قصدها عندهم مفسد أيضاً بالطريق الأوّليّ. وأمّا الذين لا يجعلون قصد الثواب مفسداً فقد اختلفوا في الإفساد بأمثال هذه الضمائم ، فأكثرهم على عدمه ، وبه قطع الشيخ : في ( المبسوط ) (2) ، والمحقّق : في ( المعتبر ) (3) ، والعلّامة : في ( التحرير ) (4)

ص: 439


1- في « م » : ( شرطها ).
2- المبسوط 1 : 19.
3- المعتبر 1 : 140.
4- تحرير الأحكام 1 : 9 ( حجريّ ).

و ( المنتهى ) (1) ؛ لأنها تحصل لا محالة ، فلا يضرّ قصدها.

وفيه : أن لزوم حصولها لا يستلزم صحّة قصد حصولها. والمتأخّرون من أصحابنا حكموا بفساد العبادة بقصدها ، وهو مذهب العلّامة : في ( النهاية ) (2) و ( القواعد ) (3) ، وولده فخر المحقّقين : في الشرح (4) ، وشيخنا الشهيد : في ( البيان ) (5) ؛ لفوت الإخلاص ، وهو الأصحّ.

واحتمل شيخنا الشهيد : في قواعده (6) التفصيل بأن القربة إن كانت هي المقصودة بالذات ، والضميمة مقصودة تبعاً صحّت العبادة ، وإن انعكس الأمر أو تساويا بطلت.

هذا ، واعلم أن الضميمة إن كانت راجحة ولاحظ القاصد رجحانها وجوباً أو ندباً ، كالحِمية في الصوم لوجوب حفظ البدن ، والإعلام بالدخول في الصلاة للتعاون على البرّ ، فينبغي ألّا تكون مضرّة ؛ إذ هي حينئذٍ مؤكّدة. وإنما الكلام في الضمائم الغير الملحوظة الرجحان ، فصوم قصد الحمية مثلاً صحيح ؛ مستحبّاً كان الصوم أو واجباً ، معيّناً كان الواجب أو غير معيّن.

ولكن في النفس من صحّة غير المعيّن شي ء ، وعدمها محتمل ، واللّه اعلم ) (7) ، انتهى.

أقول : كلّ ما ذكره من الضمائم لا يخفى منافاته للإخلاص ومحض الامتثال والتقرّب إلى اللّه والعبادة التوحيديّة ؛ لما فيه من قصد تحصيل حظّ النفس الدنيويّ. فهي عبادة لله من حيث أحبّ العابد لا من حيث أحبّ اللّه ، فإن اللّه تقدّست أسماؤه لم يكلّف بأن يطاف ببيته الحرام لملازمة الغريم ، ولا بأن يصلّي لمماطلة الغريم ، ولا بعتق نسمة للخلاص من نفقتها ، ولا بالصلاة لحفظ المتاع ، ولا بالوضوء للتبرّد ، ولا

ص: 440


1- منتهى المطلب 1 : 56 ( حجريّ ).
2- نهاية الأحكام 1 : 33.
3- قواعد الأحكام 1 : 10 ( حجريّ ).
4- إيضاح الفوائد في شرح القواعد 1 : 36.
5- البيان : 44.
6- القواعد والفوائد 1 : 79 / القاعدة الأُولى ، الفائدة الثانية.
7- الأربعون حديثاً ( البهائيّ ) : 445 - 446.

بالصوم للحِمية ، وما أشبه ذلك من حظوظ النفس.

فإذن ليست تلك العبادة من حيث أحبّ وأمر ، وكلّ عبادة ليست كذلك فهي باطلة إلّا إعلام المأموم بالتكبير الدخول في الصلاة ، فإنه إن كبّر لذلك بطل التكبير والصلاة ، وإن كبّر بإخلاص وقصد برفع صوته بذلك التكبير الإعلام بالدخول في الصلاة صحّتا معاً ؛ لعدم مدخليّة رفع الصوت أو خفضه في العبادة.

وظاهر عبارته يؤذن بإجماع المتأخّرين على البطلان بتلك الضمائم. وقد صرّح بموافقتهم أوّلاً ثمّ فرّق بين ما لو كانت الضمائم ملحوظة الرجحان وعدمه ، فمال إلى صحّة الأوّل دون الثاني. وهذا لا يخلو من اضطراب مع أنه لا مدخليّة لرجحان الضميمة في نفسها وعدمه ؛ لأنا لا نعلم أن الشارع تعبّدنا بالصوم مثلاً لحفظ صحّة البدن فلا تجوز منّا عبادته بالصوم لذلك ؛ لأنه زيادة في الشرع ما ليس منه وعبادة من حيث يحبّ العابد ، فليست بعبادة لله ، بل للنفس والبدن أو المال مثلاً. ورجحانه في نفسه لا يستلزم صحّة جعله غاية ومنشأً لعبادة اللّه تعالى ولا ضمّه لنيّة عبادة اللّه وقصدها له. فالفرق لا يخلو من تحكّم.

ودعوى أنها حينئذٍ مؤكّدة ممنوع ؛ إذ لا دخل لتلك الضمائم في معنى تلك العبادات ، بل ولا في عبادة بالذات ، بل هي ضرب من المعاملات. فكما أن حفظ بدن غيرك من المؤمنين مع المكنة راجح ، كذا حفظ بدنك وصحّته راجح ، والمعاملات كما تكون بينك وبين غيرك تكون بينك وبين نفسك ، وكذا الفرق بين الصوم المعيّن وغيره لا يخلو من تحكّم ، بل هو ممنوع.

وبالجملة ، فلا دليل على تفصيله في المقامين. واللّه العالم.

وقال محمّد باقر القاشانيّ : ( الضميمة المقصودة إمّا أن تكون راجحة كقصد الإمام من تكبيره أو ركوعه وأمثالهما إعلام القوم أيضاً وكذا قصد الحمية في الصوم الذي يُقصد لله ، فلا يضرّ ؛ لعدم منافاته للإخلاص المطلوب منه ؛ لأن الضميمة أيضاً لله تعالى خصوصاً إذا كان الباعث الأصليّ هو الفعل لله تعالى كما هو الحال في

ص: 441

إعلام الإمام ).

أقول : ظاهر هذه العبارة أن الضميمة متى كانت راجحة في نفسها صحّت العبادة وإن كانت المقصودة بالذات. وهذا قد عرفت ضعفه ممّا قدّمناه ، مع أنه بظاهره متنافٍ مع ما قال بعد هذا بلا فصل : ( بل تشكل الصحّة في صورة لم يكن الباعث الأصليّ هو العبادة ، كصوم شهر رمضان بضميمة الحمية بحيث لو لم تكن الحمية لما صام ؛ إذ الظاهر أنه غير مطيع لله في صوم شهر رمضان ، بل عاصٍ فيه البتّة.

نعم ، إذا كان كلّ واحد من الأمرين علّة مستقلّة للفعل وإن لم يكن معه الآخر ، فالظاهر الصحّة مثل أن صوم شهر رمضان علّة مستقلّة في إحداثه فعلاً لله ، والحمية أيضاً علّة مستقلّة ) ، انتهى.

أقول : وظاهر صدر هذه العبارة يعطي الفرق بين كون العبادة مع الضميمة الراجحة في نفسها مقصودة بالذات فتصحّ ، أو لا ، فتفسد. ثم عقّبه بما صريحه : ( إنه مع تساوي الداعيين في العلّيّة الباعثيّة تصحّ ). وهذا بظاهره منافٍ لما قبله.

وبالجملة ، فكلامه هذا مع جلالته ورياسته لا يخلو من اضطراب ، ولكن المقام عسر المأخذ.

وبالجملة ، فقد قرّرنا لك أنه لا تصحّ العبادة مع هذه الضمائم إذا شاب غاية العبادة والباعث عليها شوب قصد شي ء منها وإن رجحت في نفسها وكانت مقصودة تبعاً لفرط ظهور عدم العبادة التوحيديّة لله حينئذٍ ، فكيف إذا كانت علّة مستقلّة مساوية في الباعثيّة لإرادة وجه اللّه وامتثال أمره؟! مع أنا نمنع تحقّق وجود عمل يكون له باعثان متساويان في الباعثيّة والعلّيّة لقصد إيقاعه لما يلزمه من اجتماع علّتين على معلول ، وهو محال عقلاً ونقلاً.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وإمّا (1) ألّا يكون راجحاً ، بل يكون مباحاً ، كالتبرّد في الوضوء أو تنظيف الوجه أو أمثال ذلك ، فإن كان الباعث الأصليّ هو العبادة والامتثال بحيث

ص: 442


1- عطف على قوله : ( إمّا أن تكون راجحة كقصد الإمام .. ) المتقدّم في ص 444.

لو لم يكن هذا القصد لم يفعل ، ولو كان يفعل البتّة وإن لم تكن نيّة الضميمة فهذا أيضاً لا يضرّه الضميمة ؛ لكون فعله من جهة الامتثال وقصد القربة والفرار عن المعصية ، تكون الضميمة معه أو لم تكن ).

أقول : لا يظهر لي أنه يمكن أن يكون مع النيّة شي ء من هذه الضمائم ملحوظاً مع استقلال قصد الامتثال والقربة والإخلاص بالعلّيّة الباعثيّة على الفعل ، فإنه متى كانت الضميمة لها مدخليّة في الباعثيّة كانت الباعثيّة مركّبة البتّة ، فلم تكن لله خالصة البتّة ولو ضعفت ملحوظيّتها ، ومتى لم تكن للضميمة مدخليّة في الباعثيّة أصلاً لم تكن ملحوظة البتّة.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( وكذا الحال لو كان كلّ واحد منهما علّة مستقلّة للفعل ، مثلاً الوضوء للصلاة علّة مستقلّة ، وغسل الوجه للتنظيف أيضاً علّة مستقلّة ، لكن الداعي هو الأوّل. وأمّا إذا كان الضميمة هي المقصودة بالأصالة أو لها مدخليّة في هذا القصد بحيث لولا هي لم يفعل وإن كانت جزءاً بحيث لولا قصد القربة أيضاً لم يفعل ، فهذا باطل ؛ لعدم الإخلاص وغيره ممّا اقتضاه الأدلّة ).

أقول : وهذا الكلام أيضاً لا يخلو على ضعفه من نوع اضطراب ؛ فإنه لا معنى لكون كلّ منهما علّة مستقلّة مع أن الداعي والباعث لم يكن إلّا أحدهما ؛ لأنه من البيّن الغنيّ عن البيان أنه إذا اختصّت العلّة الباعثيّة بأحدهما لم يكن للثاني مدخليّة في العلّيّة بوجه ، مع أنك قد عرفت أن من المستحيل اجتماع علّتين على شي ء بلا فرق في ذلك بين أنواع العلل. ولو فرض هنا كون العلّة الباعثيّة مركّبة من الداعيين منعنا كون عبادة اللّه بالإخلاص على الوجه الذي أمر اللّه تعالى أن يعبد به على سبيل العبادة التوحيديّة ، فلا تتحقّق هذه في الوجود مع تركّب الباعث وشوبه بقصد الضميمة ولو رجحت في نفسها فضلاً عن كونها مباحة.

وما ربّما يُتخيّل من ذلك فهو وهم ، أقواه وأعلاه كحسبان يقظة أهل الكهف إن سلّمنا إمكان تخيّله ، وإلّا فهو كتخيّل سعي حبال سحرة فرعون في الحقيقة بعد

ص: 443

التصفية.

وقد ظهر لك استحالة تحقّق وجود الإخلاص مع تحقّق مدخليّة للضميمة في القصد بوجه ولو بالجزئيّة الضعيفة.

وأيضاً إذا حكم بالبطلان مع ملحوظيّة الضميمة ولو بعنوان الجزئيّة ، فكيف يحكم بالصحّة مع كون كلّ منهما علّة مستقلّة؟! ولا معنى لكون الضميمة علّة مستقلّة وكونها ملحوظة تبعاً ، بحيث لو لم تكن كان الفعل ؛ لأن ما هذا شأنه لا مدخليّة له في الباعثيّة على الفعل وقصده أصلاً كما لا يخفى.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( وممّا ذكر ظهر حال المرجوح أيضاً من الضميمة أيضاً ، سيّما إذا كانت حراماً ، كالرياء الذي يكون شركاً لا كفراً ، يعني : كون الفعل لمحض الرياء. مضافاً إلى أن النهي في العبادة يوجب فسادها إذا تعلّق بنفس العبادة أو جزئها أو شرطها. ونقل عن المرتضى : رحمه اللّه تعالى - : أن الرياء لا يوجب البطلان ، بل يوجب عدم الثواب (1).

ويردّه قوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (2) ، وغيره. ويمكن أن يكون مراده إذا كان الباعث الأصليّ إطاعة اللّه تعالى ).

أقول : صدر هذه العبارة صريح في أنه متى لوحظ الرياء في العبادة كانت باطلة مطلقاً على أيّ وجه كانت ملحوظيّته ولو كانت بأضعف مراتب الملحوظيّة ، وهذا هو الموافق للنصّ كتاباً وسنّةً وللإجماع الذي لا ريب فيه. وعجز العبارة يظهر منه أنه إذا لم يكن الرياء ملحوظاً بالأصالة ، بل كان الملحوظ بالقصد الذاتيّ هو الإخلاص ، صحّت العبادة.

وهذا مع مخالفته الإجماع والكتاب والسنّة لم ينقل عن أحد ، بل المعروف من مذهب أهل البيت : صلوات اللّه عليهم وأتباعهم أنه متى دخل الرياء في العبادة على أيّ وجه كان بطلت ولو لحقها قبل آخرها بكلمة. ولعلّ السيّد : أراد الرياء

ص: 444


1- الانتصار : 100 / المسألة : 9.
2- البيِّنة : 5.

اللاحق للعبادة ثمّ دخله العجب بها أو تحدّث بها ثلاثاً فإنه ورد (1) أنها حينئذٍ تكتب في الرياء. ولا شكّ أنهما ضربان من الرياء الخفيّ ، وأنهما مسقطان للأجر ، إلّا إن الظاهر أنه لا يجب بهما القضاء ولا الإعادة. فظاهر عبارته لا تخلو من شوب اضطراب.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( فروع : الأوّل : قد عرفت أن النيّة التي هي الداعية إلى الفعل المحرّكة للإنسان الباعثة عليه ربّما تكون هي المخطرة بالبال ، وربّما لا تكون هي هي تنطبق عليها ، وربّما تتخلّف عنها وتغايرها ، فربّما كان الباعث غير الامتثال لأمر اللّه. ويخطر بالبال أنه الباعث مع علمه بأنه ليس كذلك ، أو مع غفلته عنه ، أو مع جهله به باعتقاده أن الذي أخطر بباله هو الباعث. وعبادة الكلّ فاسدة لما عرفت ، إلّا إن الأوّل أسوأ حالاً من الأخيرين ، والأخيران يحتاجان إلى جهاد نفس واجتهاد لتصحيح إعمالهما ، والأخير من الأخيرين لا يُتوهّم (2) أنه معذور لجهله ؛ إذ ربّما كان أشدّ سيّئة ، كما قال تعالى : ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) (3).

وقال اللّه تعالى : ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) (4).

إلى غير ذلك ممّا ظهر من القرآن العزيز ، والأخبار الكثيرة (5).

ويوافقهما الاعتبار ؛ لأن الأوّلين ربّما يعترفان بأن عملهما قبيح ، فينويان ويقضيان إن كان له قضاء ، وربّما ينكسر خاطرهما ، ويحزن خاطرهما ، وهذا محمود عند اللّه ، ويحبّه اللّه بخلاف الأخير ؛ إذ هو خلافهما ، بل ربّما تعجبه أعماله القبيحة ويصرّ عليها ويستكثر ، وعن الرجوع يستكبر. ولذا نبّههم الشارع بأمثال ما ذكر

ص: 445


1- انظر : الكافي 2 : 296 / 16 ، وسائل الشيعة 1 : 75 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 14 ، ح 2.
2- من « ن » ، وفي « م » : ( نتوهّم ).
3- الكهف : 13 - 14.
4- فاطر : 8.
5- انظر وسائل الشيعة 1 : 98 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 23.

وغيرها ، مثل ما مرّ أن الرياء أخفى من دبيب النملة .. إلى آخره ، وأكثرَ وبالغَ لشدّة خطره ونهاية عظم ضرره.

فلا بدّ للمكلّف من ملاحظة ما ذكر ، وأن يشرع في مرضه المهلك بمعرفة آثاره وعلاماته ثمّ (1) المعالجة والمجاهدة ، ولا يغفل عن مكائد نفسه الأمّارة ).

أقول : هذا الكلام في غاية الحسن ، فإنه من الحكمة التي هي ضالّة المؤمن ، فاغتنم الفرصة واقتنصها. لكنّه لا يخلو بعد التأمّل من منافاةٍ لبعض ما أسلفناه من كلامه ، ولكنّه ينبّهك على ما فصّلنا فتيقّظ.

وما قاله رحمه اللّه معلوم بالوجدان من كثير من الناس ؛ فإن كثيراً منهم يكون الباعث له على العبادة طلب الطبيعة للعادة ، أو رضا بعض البشر لينال بسببه حظّا من حظوظ الدنيا أو مجاراة الأقران ومشابهتهم ، أو حذر العار ، أو حذر الحدّ الدنيويّ ، أو فوت حظّ من حظوظ الدنيا ، أو مجرّد تحصيل ثواب اللّه في الآخرة ، أو الدنيا من جلب نفع أو دفع ضرّ ، أو مجرّد الخوف من عقاب الآخرة أو الدنيا ودفع بلائها ، أو غير ذلك من الأغراض الباعثة على العمل. وهو في جميع هذه الأقسام يتصوّر حال نيّة الصلاة أو الصوم ، مثلاً أُصلّي فرض كذا ، أو : أصوم غداً لوجوبه أو ندبه قربة إلى اللّه. ويخطر هذه الأحرف بباله.

فمنهم مَنْ يعلم أن الباعث على العمل غير ما خطره حال إرادة العمل ، وهو مع هذا يظنّ أن النيّة وحقيقتها هو ما خطره حينئذٍ بباله جهلاً منه ، ومنهم من يعلم حينئذٍ أن النيّة غير ما خطره من الحروف بباله حينئذٍ ، ومنهم من لا يعلم حينئذٍ بأن النيّة والباعث غير ما خطره من الأحرف بباله جهلاً منه ، أو غفلة من أجل قصوره ، أو تقصيره إلى غير ذلك من الأقسام. والكلّ عبادته باطلة.

والجهل كما قال ليس بعذر في غير ما قام على معذوريّة الجاهل فيه الدليلُ وإلّا لبطلت فائدة البعثة ، أو لزم التكليف بالمحال ، بل بطل التكليف. ومن البشر من

ص: 446


1- في « م » : ( بأتم ).

يظنّ أو يتوهّم أن اللّه إنما كلّف بعبادته التي لم يخلق الخلق إلّا لها (1) ليطلبوا بعبادتهم ثواب الآخرة أو الدنيا أو هما ، بحيث إنه لو لم يجازهم لما كان لعبادتهم معنًى ، بل تكون شبه العبث ، فهم لا تتحقّق منهم عبادة لغير محض ذلك ، فهم لا يعبدون المنعم محبّة لما أحبّه منهم ، ولا لامتثال أمره ، ولا طلباً لقربه ومحبّته ورضاه ، ولا لأنه أهل للطاعة ، ولا شكراً له بوجه أصلاً. وهؤلاء لا شكّ أنهم لا يعبدون اللّه ، بل هم بالمعاملين المتكسّبين أشبه منهم بالعابدين ، بل لا يكاد يتحقّق مبدأ اشتقاق العبادة في أعمالهم ولا شي ء من معناه. وباللّه المستعان.

ثمّ قال رحمه اللّه : ( الثاني : أنه ربّما يكون الأمر بعكس ما ذكر بأن يكون الداعي إلى الفعل قصد اللّه خالصاً ، إلّا إنه يخطر بباله أنه لغير اللّه غفلة ، وإذا راجع نفسه علم يقيناً أن المحرّك الباعث هو إرادة اللّه خالصة من دون شائبة شي ء آخر ، لكن يخطر بخاطره خطرات على الغفلة من غير أن يكون لها مدخليّة في التأثير ، وعبادته صحيحة ، ولا يضرّه التسويلات الشيطانيّة التي تكون أو لا تكون بالقياس إلى ما صدر منه.

نعم ، إن صار لها مدخليّة في الصدور بأن صارت هي العلّة أو جزء العلّة تصير العبادة فاسدة وإن صارت المدخليّة في آخر العبادة وعند الفراغ منها ولمّا يفرغ ، وأمّا بعد الفراغ فلا يضرّ ، لعدم المدخليّة في العلّة الغائيّة للعبادة التي فرغ منها.

نعم ، لو أظهر للناس أني فعلت كذا وكذا ، وإن كان هذا رياءً على حِدة إلّا إنه ربّما يفسد عبادته. ولذا ورد عنهم عليهم السلام أن البقاء على العمل أشدّ من العمل ، إن الرجل يصل بصِلَة (2) ، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له رياءً (3). إلى غير ذلك ، بل ورد أن

ص: 447


1- في النسختين بعدها : ( إلّا ).
2- من « م » ، وفي « ن » : ( بصلاة ).
3- إشارة إلى قول الباقر عليه السلام : « الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل ». قيل : وما الإبقاء على العمل؟ قال عليه السلام : « يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرّاً ، ثمَّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ، ثمَّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء ». الكافي 2 : 296 / 16.

العُجب يفسد العمل (1).

وورد أمثال ذلك ممّا يظهر أنه يبطل الثواب ، بل وربّما يصير موجباً للعقاب. لكن كون هذا يصير موجباً للقضاء غير معلوم ؛ لأن القضاء تدارك ما فات ، والفوت بعدم الفعل أو الفعل غير موافق لما أُمر به. وأمّا كون العُجب وأمثاله موجباً للفوت فيتدارك بالقضاء ، أو الفعل مرّة أُخرى ، فغير معلوم وغير معروف من حديث أو كلام فقيه ).

أقول : لا يخلو قوله : ( نعم ، إن صار لها مدخليّة ) إلى آخره ، من منافرة لصدر بحثه المذكور أوّلاً ، وهو اعلم بما قال ، وكلامه في هذا الفرع والذي قبله مطابق لما فصّلناه.

ثمّ اعلم أنه لا فرق في إفساد الضميمة المنافية للإخلاص في التقرّب إلى اللّه بامتثال أمره بين أن تكون مع نيّته في أوّل العمل ، أو تلحقه في أثنائه مطلقاً ، سواء كان رياءً أو عجباً أو غيرهما ، حتّى إنه لو أُعجب الإنسان بنفسه وما صدر منها وما يصدر واستكبارها واستحسانها وجميع صفاتها وأعمالها وعلومها واستصغارها لأدنى المؤمنين ، وأعماله واستحقارهم ، وأعمالهم بالنسبة له ولعلمه وعمله فإن إعماله وعلومه سراب بقيعة ؛ فإنه بعيد بهذا من خشية اللّه أشدّ البعد ومتجافٍ عن بساط العبوديّة لله بكمال الذلّ ، فهو بعيد عن دوام فيض رحمة اللّه ، فإنها إنما تكون للمسترحم بكمال الذلّ والحزن والخضوع والانكسار ، فإن اللّه يحبّ من عبده أن يسمعه صوت الحزين كما روي (2).

فهذا عمله باطل مردود عليه ، لا يصعد إلى اللّه ؛ لأنه لم يشتقّ من معنى العبوديّة لله ، فإنها لا تكون مع شوب أبداً. فأمّا إذا لحق العُجب والسمعة للعمل بعد كماله ، فالظاهر أنه لا يوجب الإعادة ولا القضاء لعدم الدليل على التكليف الثانوي ، ولأنها صدرت طبق الأمر ، والامتثال يقتضي الإجزاء ، ومعه لا إعادة ولا قضاء ؛ لأنهما إنما

ص: 448


1- إشارة إلى ما ورد في الكافي 2 : 313 / 3.
2- عدَّة الداعي : 146.

يثبتان مع عدم وقوعه للترك المحض ، أو صدور عمل فاسد لم يطابق ما أمر اللّه به. ولكنّه يبطل استقراره ودوام ثوابه وإن كان لا بدّ له من جزاء ، إلّا إن دوامه يقطعه ذلك ، فهو يشبه الملك المتزلزل المشروط لزومه بأمر ، فإنه ما دام لم يتحقّق المبطل للملك فنماؤه له ، فإذا وقع المبطل للملك لم يستحقّ نفعه ونماءَه.

وجميع ما قرّرناه فَهْمُه من الأخبار غير عزيز ، ونقل الأخبار الدالّة عليه ممّا يطول ، ويخرجنا عن موضوع الرسالة وما بنيت عليه من الاختصار.

ثمّ قال رحمه اللّه تعالى - : ( الثالث : عرفت أن المكلّف إن كان يعمل لأجل شهوة قلبه أو شهوة غيره لا يكون ممتثلاً ، وكذا لو كان إحدى الشهوتين جزء العلّة لعمله.

وأمّا الرياء فقد عرَفت أيضاً حاله. والرياء : أن يعمل لأجل أن يرى الناس ، أو يسمعوا أو يسمّى بالسمعة ، وتكون الرؤية والسماع علّة للفعل أو جزء علّة ، وإن لم يكونا علّة ولا جزأها فلا يضرّ ، مثل أنه يعمل لله ، إلّا إنه إذا رآه إنسان أو سمعه يسرّه ذلك.

وفي الصحيح عن الباقر عليه السلام : أنه قال لا بأس حين سئل عمّا ذكرنا ، ثمّ قال عليه السلام ما من أحد إلّا وهو يحبُّ أن يُظهر اللّه (1) له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك (2) ). أقول : وكذلك الحال لو كره ظهور فسقه وعصيانه ، أو قبيح منه أو ذمّة ولا يكون ذلك هو العلّة لصدور العبادة.

نعم ، يصحّ الإظهار ؛ لأن يقتدي به غيره فيضاعف أجره ، أو للترغيب وإشاعة العبادة والسنّة بين الناس لله تعالى أو أمثال ذلك. ومنها ألّا يذمّه الناس بترك الفرائض ويصير مسيئاً في الظاهر ، بل ظاهره الفسق عندهم ؛ لأن الناس شهداؤه في الدنيا والآخرة أو للتجافي عن التهتّك واللّه يبغض التهتّك ، ولأن الستر مأمور به ، أو لخوف أن يقصد بسوء أو للحياء وأمثال ذلك. فإن الإظهار غير نفس الفعل ،

ص: 449


1- ليست في المصدر.
2- الكافي 2 : 297 / 18.

والإظهار للأُمور المذكورة ربّما يكون واجباً ، وربّما يكون مستحبّاً ، وربّما يكون مباحاً. نعم ، إن كان رياء أو سمعة ، فهو حرام البتّة ، بل ومفسد للعمل.

خلاصة القول

أقول وباللّه المستعان - : قد عرفت فيما تقدّم أنه متى كان لشهوة الإنسان أو شهوة غيره مدخليّة في الباعث على العبادة ، بطلت لمنافاتها ما أمر اللّه به من العبادة بالإخلاص ، سواء كانت الشهوة هي الباعث وحدها أو كانت جزء الباعث. بل قد عرفت أن الإخلاص لا يمكن كونه جزء الباعث ، بحيث يتركّب الباعث منه ومن غيره ، وأنه محال.

ولا شبهة في أن من عمل لمجرّد تحصيل الثواب في الآخرة أو الدنيا عاملٌ عملاً الباعثُ عليه شهوةُ نفسِه ، فعبارته تعمّ ذلك ، فلا يخلو من نوع منافرة. وقد عرفت حال الرياء والعجب والسمعة وأنها أنواع من الرياء ، وعرفت أثرها في العبادة قبلاً وفي الأثناء وبعداً ، وأمّا إظهار العمل فربّما أمر الشارع به كإظهار الزكاة ، والصلاة في المساجد ، وصلاة الجماعة والجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الليل في بعض الأحوال وغير ذلك.

فالعامل يجب أن يلاحظ فيما يظهره أو يخفيه موافقة إرادة اللّه ومحبّته وامتثال أمره في حالَيْه ، فإن اللّه كما يحبّ أن يعبد سرّاً يحبّ أن يعبد جهراً ، وقد أمر أن يعبد سرّاً وجهراً. فيجب أن يلاحظ العابد موافقة إرادة اللّه منه في إسراره وإعلانه فيظهر الزكاة الواجبة ويسرّ المندوبة مثلاً ، وهو في كلّ من الصفتين يبتغي وجه اللّه ورضاه وما أحبّه منه ، ويراعي فيما لم يدلّ الدليل فيه على أحد الوجهين أخلصهما لله وأقربَهما من مرضاة اللّه وأحبّهما إلى اللّه تعالى ، كأن يكون في إظهار العمل سبب للاقتداء به ، أو إخراج بعض الجاهلين من أسر الجهالة ، أو إيقاظ بعض الغافلين من رقدة الغفلة عن طاعة اللّه ولها وبها ، أو يكون في إسراره إبعاد للشيطان عن وسوسة الرياء والسمعة أو العُجب ، أو في إظهاره نفي العُجب ، فإنه ربّما كان الإسرار سبباً

ص: 450

للعجب ، وربّما كان الإظهار سبباً له ، وكأن يكون الإسرار سبباً لبقاء عبادة اللّه بتلك العبادة ، فإنه ربّما كان إظهارها سبباً لقطعها وعدمها أو سبباً لضرر مؤمن.

فالعامل يجب عليه في إسراره وإعلانه أقرب الحالين إلى مرضاة اللّه ومحبّته ، فإن تساوى في نظر العامل الأمران أو (1) لم يهتدِ إلى المرجّح كان الإسرار أرجح ما دامت دولة الجهل ، فإن اللّه عزّ اسمه أحبّ من حيث الإطلاق أن يعبد فيها سرّاً. ومن أجل ذلك شرّعت التقيّة ووقع التكليف بها حفظاً لهياكل التوحيد عن المحو ، إلى غير ذلك من الأسرار.

وبالجملة ، فمرجّحات الإعلان و (2) الإسرار الموجب ملاحظتها التقرّبَ إلى اللّه وشدّةَ الإخلاص كثيرة جدّاً ، والطرق إلى مرضاة اللّه وما يقرّب منه بعدد أنفاس الخلائق ، وهي سمحة سهلة لكلّ سالك بحسب وسعه ، واللّه رؤوف رحيم. وأمّا حبّ الإنسان لأن يُظهر اللّه له في الناس الخير والذكر الجميل وبغضه لعكس ذلك ، فأمر جِبليّ طبعت النفوس عليه ، وهو غير مضرّ بالإيمان ما لم يُعمل لذلك ، فيدخل في الرياء والسمعة ، وربّما أُدخل في العُجب. وأمّا كراهية الإنسان لظهور معاصيه لمولاه ، فإن كان حياءً من اللّه فهو حسن ، وإن كان حياءً من الناس وخوفاً من مقتهم أو عقوبتهم فما أقبحه ؛ فقد ذمّ اللّه هذا في كتابه العزيز أشدّ الذمّ (3).

ثمّ ذكر رحمه اللّه تعالى بعد هذا سبعة أبحاث حقّق فيها حال جملة من الأغراض التي تخدش الإخلاص أو لا تخدشه ، لا نطوّل بذكرها من أرادها فليرجع إليه.

وبالجملة ، فكلّ غرض من أغراض النفس يكون له مدخليّة في الباعثيّة على العمل فهو يخدش الإخلاص ، ويرفع إطلاق الاسم على النيّة والعمل حقيقة ، ويبطل

ص: 451


1- في « م » : ( و ).
2- في « م » : ( أو ).
3- النساء : 108.

العمل. فلا بدّ في صحّة العمل صدق الإخلاص فيه حقيقة ، وهذا لا يتحقّق مع شوب مدخليّة لغير محض الامتثال والتقرّب وحبّ ما يحبّه اللّه من عبده كما هو واضح ، فإنه مع ذلك لا يخفى عدم تحقّق مبدأ اشتقاق الإخلاص عليه حقيقة ، بل ولا مجازاً ؛ لأنه ما لم تتحقّق الحقيقة في مثل المقام لا يتحقّق المجاز ؛ لأن المقام ليس بقابل للمجازفات والتجوّزات التي يصحّ نفيها بوجه. فصحّة العبادة يحتاج إلى مجاهدات كثيرة صعبة للنفس وعليها ، لكنّه بعد ارتياض النفس وتطبّعها به يكون سهلاً جدّاً لا يخرج عن وسع كلّ عابد بقدر قابليّته ، وعلى اللّه قصد السبيل ، ومنها جائر. عصمنا اللّه وإيّاكم من همزات الشيطان ، وأخذ بنا سبيل الرشاد.

تتمَّة في مطابقة العمل النيّة

لا يصحّ العمل إلّا إذا طابق النيّة وطابقته من كلّ وجه ف- : « إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكلِّ امرئ ما نوى » (1) ، وجاء في تفسير قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (2) تفسير الشاكلة بالنيّة (3). فلا بدّ إذن من تطابقهما.

والأخبار بهذا المضمون كثيرة جدّاً. والنيّة هي الإرادة الخاصّة من كلّ وجه بالعمل الخاصّ المتشخّص من كلّ وجه. فلا بدّ من تشخّص العمل فيها من كلّ وجه ، وروحها هو الباعث على تلك الإرادة. فإذن هي رتبة من مراتب وجود العمل الكونيّ ، فلا بدّ من تطابقهما من كلّ وجه ، وإلّا لم تكن تلك النيّة والإرادة نيّة لذلك العمل ، فلا بدّ من تشخّصه فيها من كلّ وجه.

فإذن لو كانت النيّة كلّيّة أو مجملة أو مبهمة ولو بوجه ، لم تكن مطابقة للعمل الواقع في خارج الزمان المتشخّص بجميع مشخّصاته ولا نيّة له ؛ لأنها رتبة من رتب

ص: 452


1- الأمالي ( الطوسيّ ) : 618 / 1274 ، وليس فيه لفظ : « إنما » ، وأخرجه بهذا اللفظ البخاريُّ في صحيحه 1 : 3 / 1 ، يُذكر أن المصنّف قدس سره ذكر الحديث من غير لفظ : « إنما ». راجع الصفحة : 1. الهامش : 1.
2- الإسراء : 84.
3- الدرّ المنثور 4 : 361 ، الجواهر الحسان 2 : 277.

وجوده في مقابلة الرتبة الأدنيّة التي تشخّص فيها بجميع حدوده ، وهذه غير تلك.

والدليل على هذا من الأخبار لا يُحصر ؛ لكثرته جدّاً ، وأيّده الاعتبار.

وأنت إذا تتبّعت جميع أبحاث الفقه من الطهارة إلى الحدود والديات ، وجدتها بأجمعها مستفيضة الدلالة على هذا ، ومضامين الأخبار المؤيّدة بالاعتبار دالّة عليه ، مثل إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكلِّ امرئ ما نوى.

فإذا أمرك اللّه تعالى بصلاة ركعتين مثلاً على سبيل الفرض بعد الطواف ، ونويت ركعتين مثلاً في الجملة ، ولم تلاحظ في نيّتك وصفهما بالوجوب وأنهما ركعتان من الطواف ، لم تنوِ ما فعلته ، ولم يطابق ما نويت. وكيف يُتصوّر كمال المطابقة بين المتشخّص الجزئيّ من كلّ وجه للكلّيّ ، أو المجمل ولو بوجه ، بحيث يكون هو هو من كلّ وجه.

وبيان هذا البحث يحتاج إلى بسط واسع ، والمقام لا يسعه. وما ذكرناه لك قانون كلّيّ ينفعك في موارد كثيرة ، وأرجو من اللّه أن يمدّ لي في التوفيق لإملاء رسالة مبسوطة في جزئيّات النيّات ، برحمته إنه جواد كريم.

وهذا آخر ما أردنا إملاءه في مسألة ضميمة طلب الثواب والهرب من العقاب في نيّة العبادة ، وقد جعلتها هدية لحضرة سيّد العالم السلطان الأعظم : عجّل اللّه بنشر ظلال عدله على جميع الخلائق فإن قبلها على حقارتها فهو أهل الرحمة ، وإن ردّها فبذنوب مؤلّفها الأقلّ أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : ، وهو أكرم من أن يخيب راجيه.

انتهى بعصر اليوم الثالث عشر من شهر صفر سنة (1243) (1) بقلم مؤلِّفها غفر اللّه له ولوالديه ، ولجميع إخوانه المخلصين ، وصلّى اللّه على محمَّد : وآله وسلم ، والحمد لله ربِّ العالمين كما هو أهله (2).

وافق الفراغ من نساخة هذه الرسالة ضحى يوم الخميس اليوم السابع من شهر رجب

ص: 453


1- في « م » بعدها : ( والحمد لله ).
2- ورد في ذيل هذه العبارة قوله : ( هذه صورة خَطِّ المصنّف شكر اللّه سعيه ) والظاهر أنها من الناسخ.

[ الأصمّ (1) ] سنة (1243) على يد الأقلِّ الأحقر الراجي عفو ربِّه الأجلِّ ناصر بن عليِّ بن ناصر بن عليِّ بن ناصر بن محمَّد ابن عبد اللّه بن حرم الفارساني البحراني عفا عنهم بمنِّه وكرمه إنه غفور رحيم. والحمد لله ربِّ العالمين كما هو أهله ، وصلّى اللّه على محمَّد وآله الطاهرين أبناء طه وياسين ، آمين آمين ربَّ العالمين (2).

ص: 454


1- في المخطوط : ( الأصب ) ولم نعثر على كلمة الأصب في اللغة كنعت لشهر اللّه رجب. والأصمُّ : شهر رجب ، وسمّي أصمّ ؛ لعدم سماع قعقعة السلاح فيه ، ولا صوت مستغيث ب- ( يا لَفلان ) و ( يا صاحباه ). لسان العرب 7 : 411 صمم.
2- في « م » بدلها : ( بقلم الأذلِّ الأحقر المخطئ الآثم الجاني زرع بن محمَّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا اللّه عنهم بمحمَّد : الأمين وعترته المعصومين ، وعن المؤمنين وعمَّن ترحَّم عليهم من المؤمنين. والحمد لله ، وصلّى اللّه على أفضل الأنبياء والمرسلين محمَّد : وآله الطاهرين ).

الرسالة السادسة عشرة : الواجب الكفائي

اشارة

ص: 455

ص: 456

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين ، ولا حول ولا قوَّة إلّا باللّه العليِّ العظيم.

أمّا بعد :

يقول المقصّر القاصر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : إن تحقيق مسألة ( الواجب الكفائيّ ) لم أقف فيها على تحقيق يكشف عن حقيقته ، فأحببتُ البحث عنه ، وبيان حقيقة الحال فيه ، فأقول وباللّه المستعان ومنه الهداية وعليه التكلان - :

تعريف الواجب الكفائي

قال العلّامة : في ( نهاية الأُصول ) : اعلم أن غرض الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين عيناً ، وقد يتعلّق بتحصيله مطلقاً.

والأوّل هو الواجب على الأعيان ، والأمر يتناولهم على سبيل الجمع.

والثاني هو الواجب على الكفاية ، والأمر يتناول الجماعة لا على سبيل الجمع ، وهو إنما يكون إذا كان الغرض يحصل بفعل البعض ، كالجهاد المقصود منه حراسة المسلمين ، فمتى حصل بالبعض سقط عن الباقين ، والتكليف فيه موقوف على الظنّ ..

واعلم أن الواجب على الكفاية واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ، خلافاً

ص: 457

لقوم (1) ، انتهى ملخّصاً.

وقد عنى بالقوم المخالفين بعض الشافعيّة (2) ، حيث ذهبوا إلى أنه إنما يجب على فرد غير معيّن وطائفة غير معيّنة ، وقد ردّه العلّامة (3) : وغيره بأن الإثم حاصل للجميع على تقدير الترك ، بالإجماع.

وقال في ( تهذيب الأحكام ) (4) وشرحه لعميد الدين : ( البحث الثالث : في الواجب على الكفاية : وهو كلّ فعلٍ تعلّق غرض الشارع بإيقاعه لا من مباشر معيّن وهو واقع كالجهاد ، وهو واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ؛ لاستحقاقهم أجمع الذمّ والعقاب لو تركوه ، ولا استبعاد في إسقاط الواجب بفعل الغير.

والتكليف فيه موقوف على الظنّ ، فإن ظنّت طائفة قيام غيرها به سقط عنها ، ولو ظنّتْ كلّ طائفة ذلك سقط عن الجميع ، ولو ظنّت كلّ طائفة عدم الوقوع وجب على كلّ طائفة ) ، انتهى.

وكلامه في ( النهاية ) (5) بالنسبة إلى إناطة سقوطه وعدمه بالظنّ طبق هذه العبارة.

وقال الشارح : ( اعلم أن غرض الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين بعينه ، ويسمّى واجباً على الأعيان ، كالصلاة والصيام والحجّ ، وقد يتعلّق بتحصيله مطلقاً لا من مباشرٍ بعينه ، ويسمّى وجوباً على الكفاية وهو واقع ، كالجهاد الذي قصد به حراسة المسلمين وإذلال الكفّار ، فمتى حصل ذلك من بعض المسلمين سقط عن الباقين ؛ لحصول مقصود الشارع ، وهو واجب على جميع المكلّفين المخاطبين به ، بدليل توجّه الذمّ إليهم ولحوق العقاب بهم عند اتّفاقهم على

ص: 458


1- نهاية الوصول إلى علم الأُصول : 201 - 202 ( مخطوط ) ، عنه في مفاتيح الأُصول : 312 ( حجريّ ).
2- ذهب إلى ذلك صاحب المحصول ، انظر فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) 1 : 63 ، والبيضاوي. انظر مفاتيح الأُصول : 313 ( حجريّ ).
3- نهاية الوصول إلى علم الأُصول : 202 ، عنه في مفاتيح الأُصول : 313 ( حجريّ ).
4- عنه في مفاتيح الأُصول : 312 ( حجريّ ).
5- انظر : هامش 1 من نفس الصفحة.

تركه ) (1) ، انتهى.

وقال المحقّق ابن سعيد : في ( معارج الكمال ) : ( إذا تناول الأمر جماعة على سبيل الجمع يسمّى فرض عين ، كقوله ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (2) ، أو لا على سبيل الجمع ، يسمّى فرض كفاية ، والفرض فيه موقوف على العلم أو غلبة الظنّ ، فإن عَلِم أو ظنّ قوم أن غيرهم يقوم به سقط عنهم ) (3) ، انتهى.

وقال الشهيد : في ( القواعد ) : ( فرض العين [ شرعيّته للحكمة (4) ] في تكراره كالمكتوبة ، فإن مصلحتها الخضوع لله عزوجل ، وتعظيمه ، ومناجاته ، والتذلّل له ، والمثول بين يديه ، والتفهم لخطابه ، والتأدّب بآدابه. وكلّما تكرّرت الصلاة تكرّرت هذه المصالح الحكميّة.

أما فرض الكفاية فالغرض إبراز الفعل إلى الوجود ، وما بعده خالٍ عن الحكمة ، كإنقاذ الغير.

ولا ينتقض بصلاة الجنازة ؛ لأن الغرض منها الدعاء له ، وبالمرّة يحصل ظنّ الإجابة ، والقطع غير مراد ، فلا تبقى حكمة في الدعاء بعد ذلك ، لخصوصيّة هذا الميّت. وإنما قيّدنا بالخصوصيّة ؛ لأن الإحياء على الدوام يَدْعون للأموات لا على وجه الصلاة ) (5) ، انتهى.

وقال أيضاً في قواعده : الواجب على الكفاية له شَبَهٌ بالنفل ، من حيث إنه يسقط عن البعض بفعل الباقين. ومن حيث إن له شَبَهاً بالنفل جاز الاستئجار عليه ، كالاستئجار على الجهاد (6) ، انتهى ملخّصاً.

وقال الشيخ بهاء الدين : في ( الزبدة ) : ( الواجب الكفائيّ : ما يسقط عن الكلّ بفعل

ص: 459


1- عنه في مفاتيح الأُصول : 312 ( حجريّ ) ، ولم يورده كاملاً.
2- البقرة : 43.
3- معارج الأُصول : 75.
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( شرعية الحكمة ).
5- القواعد والفوائد 2 : 33 - 34 / القاعدة الرابعة.
6- القواعد والفوائد 1 : 189 - 190 / القاعدة الثالثة والخمسون.

البعض قطعاً ، أو ظنّاً شرعيّاً ) (1).

وقال الشارح الشيخ جواد : ( الفعل الواجب باعتبار فاعله ينقسم إلى فرض كفاية وفرض عين ؛ لأنه إن تعلّق غرض الشارع بوقوعه من كلّ واحد من المكلّفين بعينه ، أو من واحد معيّن كخصائص النبيّ صلى اللّه عليه وآله : ، فهو فرض عين كالصلاة.

وإن كان المقصود من إيجابه إيقاعه مع قطع النظر عن الفاعل المباشر له ، فهو فرض كفاية ، كالجهاد ، إذا كان الغرض منه إذلال الكفّار وإعانة المسلمين ، وهو قد يحصل بفعل البعض.

الواجب كفاية : هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ) ، انتهى.

قال الكاشاني : في ( المفاتيح ) والشيخ حسين : في شرحه وعبارتاهما ممزوجة [ إحداهما (2) ] بالأُخرى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : ( إذا اجتمعت الشرائط كلّها على تقدير الوجوب الكفائيّ لا العينيّ ، وكان المطّلع منفرداً تعيّن عليه وحده وصار واجباً عينيّاً ؛ إذ لا فرق بين الكفائيّ والعينيّ إلّا عند التعدّد وكان الجميع مستكملاً للشرائط.

فإن كان ثمّة غيره ، وشرع أحدهما في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، فإن ظنّ المشارك الآخر أن لمشاركته أثراً في تعجيل ترتّب الأثر وهو الائتمار في الأوّل والانزجار في الثاني ، ورسوخ الانزجار أيضاً وجب عليه أيضاً ، ولا يسقط عنه بمجرّد التلبّس ، وإلّا فلا يجب عليه ؛ لظنّه بوقوع الأمر على يد شريكه ؛ ولأن الغرض ووجه الحكمة في وجوبهما وقوع المعروف ممّنْ أمر به ، وارتفاع المنكر ممّن نُهي عنه ، فمتى حصلا أو ظنّ حصولهما بفعل واحد قد تلبّس بالفعل كان السعي من قبل الآخر عبثاً.

وهذا هو الفارق بين الواجب العينيّ والكفائيّ ، وهو معنى ما قيل كما هو المشهور بين علماء الفريقين - : إن وجوبهما كفائيّ ) ، انتهى.

ص: 460


1- الزبدة : 42 ( حجريّ ).
2- في المخطوط : ( أحدهما ).

وقال الشيخ زين الدين : في ( تمهيد القواعد ) : ( إذا طلب الفعل الواجب من كلّ واحد بخصوصه ، أو من واحد معيّن كخصائص النبيّ صلى اللّه عليه وآله : فهو فرض العين ، وإن كان المقصود من الوجوب إنما هو إيقاع الفعل مع قطع النظر عن الفاعل سمّي فرضاً على الكفاية ، ووجه التسمية بذلك أن فعل البعض فيه يكفي في سقوط الإثم عن الباقين مع كونه واجباً على الجميع ، بخلاف فرض العين فإنه يجب إيقاعه من كلّ عين ).

إلى أن قال بعد تعداد جملة من الكفائيّ المندوب والواجب - : ( إذا علمتَ ذلك فيتفرّع عليه فروع منها ).

إلى أن قال : ( ومنها : إذا صلّى على الجنازة واحد مكلّف كفى وإن كان أُنثى ).

إلى أن قال : ( ولو صلّى عليه أكثر من واحد دفعة ، أو متعاقبين بحيث شرع المتأخّر قبل فراغ الأوّل ، وقع الجميع فرضاً ؛ لأنه لم يسقط بالشروع سقوطاً مستقرّاً على الأقوى ، وحينئذٍ فينوي كلّ واحد الوجوب.

ولو صلّى المتأخّر بعد فراغ المتقدّم جماعة أو فرادى أو بالتفريق ، قيل : وقع الجميع فرضاً أيضاً كالسابق ؛ لأن الفرض متعلّق بالجميع ، وإنما سقط عن البعض بقيام البعض به تخفيفاً ؛ ولما فيه من ترغيب المصلّين ؛ لأن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل. وقيل : تكون المتأخّرة نفلاً ؛ لسقوط الفرض بالأُولى ، ولا معنًى للواجب إلّا ما يُؤثم بتركه ؛ إمّا مطلقاً ، أو بغير بدل ، ولا إثم هنا على الباقين ) (1) ، انتهى ملخّصاً.

وعلى مثل هذه العبارات كادت أن تتّفق كلمة أصحابنا في الكلام على بيان الواجب الكفائيّ. والظاهر من لفظ السقوط أن التكليف به يرتفع عن الباقين إذا قام به البعض ، وظاهر إطلاقهم السقوط يعمّ جميع أفراد الكفائيّ ، وخصوصاً عبارة ( شرح المفاتيح ) وعبارة ( القواعد ) فإنهما صريحتان في سقوط التكليف به عن الباقين إذا قام به بعض المخاطَبين به.

ومقتضى ظاهر هذا كلّه بدعيّة تكراره في جميع أفراده من غير فرق بين فرد منه

ص: 461


1- تمهيد القواعد : 48 - 50.

وآخر ، ولا بين تكراره من فاعل بعينه واحد ، أو متعدّد على التعاقب.

وأنا أقول : ليس هذا الإطلاق بجيّد ؛ لانتقاض طرده بجملة من أفراده ، كردّ السلام ، والصلاة على الميّت ؛ فإنه لا يكاد ينكر مشروعيّة تكرارهما إذا تعدّد الفاعل أو كان إماماً ولو اتّحد.

والأخبار بهما غير عزيزة الوجود ، فقد كرّر النبيّ صلى اللّه عليه وآله : الصلاة على بعض الصحابة كما روي ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل تكراره التكبير على حمزة رضى اللّه عنه (1).

وأمير المؤمنين عليه السلام صلّى على سهل بن حنيف : خمس مرّات ، ممّا روي بعدّة طرق يعرفها مَنْ راجع كتب الرجال والاستدلال ك- ( الذكرى ) (2) و ( المدارك ) (3).

وتكرّرت الصلاة من الصحابة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : بلا شكّ ، من غير إنكارٍ من وصيّه صلّى اللّه على محمّد وآله (4).

وبهذا يثبت انتقاض كلّيّته ، ويثبت مناقضته بالصلاة على الجنازة.

ويُمكن أن يجاب عنه بأَنه لعلّه أراد نفي مشروع تكراره من فاعل واحد ، لأنه لمْ يقمْ على مشروعيّته حينئذٍ دليل عنده إلّا في إمام الجماعة ؛ لثبوته بالدليل.

والتكليف خصوصاً في العبادات يحتاج ثبوت مشروعيّته إلى دليل قاطع ، فإن اللّه عزّ اسمه لا يُعبد إلّا من حيث يُحِبّ ، ومشروعيّة تكرار الصلاة على الميّت إذا تعدّد المصلّي جماعة أو فرادى لا يكاد يظهر فيه خلاف بين العصابة ، وإنما اختلفوا في كراهية التكرار وعدمه ، فتعيّن أنه أراد عدم الحكمة والمشروعيّة في تكراره من الفاعل الواحد غير ما ثبت بالدليل في إمام الجماعة.

على أن تعليله بحصول ظنّ الإجابة وهو يحصل بفعلها مرّة ، ضعيف ، فإنه لا ريب في تأكّد الظنّ وهو مطلوب البتّة ؛ لأن مطلوبيّته أوْلى من مطلوبيّة مطلقة ، مع

ص: 462


1- الكافي 3 : 186 / 1 - 3 ، 211 / 2 ، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 45 / 167 ، وسائل الشيعة 3 : 81 - 82 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 5 - 7.
2- الذكرى : 55 ( حجريّ ).
3- مدارك الأحكام 4 : 185.
4- الكافي 1 : 415 / 37.

أنه مطلوب في ضمن المطلوبيّة المطلقة ، ولا ينافيه عدم مطلوبيّة القطع ؛ لاستحالته إلّا بطريق أخبار المعصوم وإن كان ظاهر عبارته يعمّ الصنفين ، وهو أخبر بما قال.

أقسام التكليف

وتحرير القول في هذه المسألة المهمّة أن نقول وباللّه المستعان - : اعلم أن التكليفات التي دار عليها نظام الوجود الجملي التي هي السبيل إلى اللّه وبها حياة القلوب منقسمة إلى قسمين :

قسم اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يأمر اللّه تعالى به كلّ فرد فرد ممّن استجمع شرائط التكليف به من البشر ، وهو ما به قوام وجود كلّ فرد منهم ، وبعموم تكليف كلّ فرد به قوام النظام الجملي ، أو تكليف فرد معيّن دون مَنْ سواه ، وهو المسمّى في اصطلاح الأُصوليين والفقهاء بالواجب العيني ، وهذا ينقسم باعتبار ما كُلّف به المكلّفون إلى قسمين :

أحدهما : ما اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون التكليف فيه بشي ء معيّن لا يقوم غيره مقامه ، وأفراده كثيرة ؛ لأنه الغالب في الواجب العيني مثل الصلوات المفروضة ، والصوم المفروض ، وغيرهما ، وهو المعروف بالواجب المعيّن.

والثاني : ما اقتضت الحكمة أن يخيّر المكلّفون فيه بين فردين ، أو أفراد ، أيّهما أو أيّهم أوقعه المكلّف في الخارج كفى في تحقّق مصلحة النظام والعدل ، وهو المعروف بالواجب المخيّر ، مثل خصال الكفّارة المخيّرة ، وغيرها.

والإجماع قائم من الفرقة على أن التكليف واقع بأحدهما أو أحدها لا على التعيين. وللعامّة فيه أقوال ثلاثة (1).

وقسم : اقتضت الحكمة الإلهيّة تعلّق التكليف بإبرازه في الخارج مطلقاً ، لا من كلّ فرد على التعيين ، ولا من فرد معيّن بخصوصه ، وهذا هو المسمّى في عرف

ص: 463


1- فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) 1 : 66.

الفقهاء بالكفائيّ ، وهذا ينقسم أيضاً باعتبار غايته إلى قسمين :

أحدهما : ما كان كمال الحكمة في العدل ، وصلاح النظام الجملي في تحقّقه في الوجود مرّة واحدة ، من واحد أو أكثر يفعلونه جميعاً مرّة واحدة ، ويكون تكراره مطلقاً قبيحاً ؛ لكونه عبثاً ، أو يستلزم ضرراً ومفسدة ، كإنقاذ الغير من الهلكة كالغرق والحرق وشبههما. وأفراده كثيرة ، بل هي الأكثر في أفراد الكفائيّ ، ومنها واجبات الاحتضار ، والتكفين ، والتغسيل ، والدفن ، والجهاد بعد ارتفاع موجبه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ارتفاع سببهما ، وغير ذلك ، وهو كثير.

والنصّ من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل متطابقون على بدعيّة تكرار هذا القسم وحرمته وعدم مشروعيّته ؛ وذلك لانحصار الحكمة في إيجاده في خارج الزمان مرّة واحدة ؛ ولوضوح ضرر تكراره في أكثر موارده ، فهو لا يقبل الزيادة على المرّة بذاته ، وبحسب الفاعل والمحل القابل والموضوع.

والثاني : ما يقبل الزيادة بحسب الفاعل والذات والمحلّ القابل ؛ للقطع بعدم حصول الضرر في تكراره ، بل ظهور المصلحة فيه ؛ لما فيه من تأكّد ظنّيّة حصول غايته وإن كان حكمة صلاح النظام الجمليّ وحفظ الأرض عن أن تسيخ يكفي في تحقّقها إيجاده مرّة واحدة ولو من واحد ممّن كُلّفوا به ، وذلك مثل الصلاة على الأموات ، وردّ السلام إذا كان المبتدئ قد سلّمَ على متعدّد ؛ وذلك لأنه دعاء وغايته الإجابة ، وظنّها كاف لتعذّر العلم بها ، وهو يحصل بفعلها مرّة ولو من واحد ، لكن في التكرار زيادة ظنّيّة بحصول الإجابة ، وهو مطلوب عقلاً.

ويدلّ على صحّة طلب تأكّد هذا الظنّ وراجحيّته استحباب كثرة المصلّين على الميّت ، فقد ورد أن من شهد له أربعون من المؤمنين بخير قبل اللّه شهادتهم وغفر له (1). ذكرته بالمعنى.

ص: 464


1- الخصال 2 : 538 / 4 ، أبواب الأربعين وما فوقه.

مناقشة رأي الشهيد الثاني

فظهر أن الخلاف الذي ذكره الشيخ زين الدين : في ( التمهيد ) يجب أن يخصّ بهذا القسم ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في عدم مشروعيّة تكرار القسم الأوّل.

فنقول : لو صلّى على الجنازة واحد أو أكثر دفعة ، شرع لمَنْ يأتي بعد كمالها أن يصلّي عليها أيضاً بلا شكّ ؛ لما ذُكر من الأخبار وللإجماع ، ولأنه عمل المسلمين جيلاً بعد جيل في سائر الأعصار والأمصار ؛ ولأنه الثابت من صلاة الصحابة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : بلا نكير من وصيّه عليه السلام.

وكذلك لو سلّم واحد على متعدّد فردّ عليه واحد مثلاً شرعَ لغيره الردّ بعد كمال ردّ الأوّل بلا شكّ ، وعمل امّة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : على ذلك في سائر الأزمان بلا معارض ولا نكير فيهما.

فحينئذٍ : هل ينوي الآخر بصلاته ، أو ردّه السلام الوجوب ، أو الندب؟ قولان ، وعلى الأوّل وهو الوجوب ظاهر الشهيد : في ( القواعد ) و ( الذكرى ) قال في ( القواعد ) : ( ينبغي أن ينوي في الأشياء المحتملة للوجوب الوجوب ، كتلاوة القرآن ، إذْ حفْظه واجب على الكفاية ، وربّما تعيّن على الحافظ له ؛ حذراً من النسيان ، وكطلب العلم ؛ فإنه فريضة على كلّ مسلم ، وكالأمر بالمعروف إن قام غيره مقامه. وبالجملة ، فروض الكفاية كلّها.

وتجب نيّة الوجوب حيث يتعيّن عليه ، وفي ترك الحرام ينوي الوجوب ، وفي فعل المستحبّ وترك المكروه ينوي الندب ، واللّه الموفّق ) (1) ، انتهى.

وذلك لأن الظاهر أنه أراد ب- ( ينبغي ) الأحوط ، أي أن الاحتياط المبرئ للذمّة من عهدة التكليف بيقين هو نيّة الوجوب في كلّ واجب كفائيّ مع قيام الغير به. وهذا احتياط وجوبيّ لا يجوز غيره ؛ لعدم يقين الخروج من العهدة بغيره ، ولا يريد به نيّة

ص: 465


1- القواعد والفوائد 1 : 117 - 118 / القاعدة التاسعة والثلاثون ، الفائدة الثانية ، ق 1 ، ف 26.

الفاعل المتعيّن عليه قطعاً ؛ للإجماع على وجوبه حينئذٍ عليه ، وعدم إرادته ظاهر من عبارته حيث قال : ( وتجب نيّة الوجوب حيث يتعيّن عليه ). ولمْ يقل : ينبغي. ولا يريد ب- ( ينبغي ) الندب ، وإلّا لكان هو القول بالتخيير ، ولو كان مراده لصرّح بالتخيير مع راجحيّة الوجوب ، فتفطّن. وسيأتي بيان ضعف القول بالتخيير إن شاء اللّه تعالى.

وقال في ( الذكرى ) : ( النظر الرابع : في الصلاة ، ومطالبه ثلاثة :

الأوّل : في واجبها ، وفيه مسائل :

الأُولى : تجب النيّة المشتملة على قصد الفعل على وجهه تقرّباً إلى اللّه تعالى ؛ لأنها عبادة وعمل ، فيدخل تحت ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) (1) ، إنما الأعمال بالنيّات (2) ، وعن الرضا عليه السلام : لا عمل إلّا بنيّة (3) ؛ ولأن الفعل إذا أمكن وقوعه على وجوه بعضها غير مراد للشارع ، لم يحصل الامتياز إلّا بالنيّة ، وإلّا للزم الترجيح من غير مرجّح ).

إلى أن قال : ( [ تفريع (4) ] : لا يشترط التعرّض لكونها فرض كفاية ، بل يكفي [ مطلق (5) ] الفرض ؛ لحصول الامتياز به. ويحتمله ؛ لأن النيّة لامتياز الشي ء على ما هو عليه ) (6) ، انتهى.

وإطلاقه يظهر منه أنها تنوي وجوباً مطلقاً ، ولا ينافيه قوله في ( الدروس ) : ( ومَنْ دفن بغير صلاة صُلّيَ على قبره يوماً وليلة ، وقيل : إلى ثلاثة أيّام. وكذا يستحبّ لمن فاته الصلاة عليه ولو أدركه قبل الدفن ، ولم يناف التعجيل ، فالأوْلى استحباب الصلاة

ص: 466


1- البيِّنة : 5.
2- الأمالي ( الطوسيّ ) : 618 / 1274 ، عوالي اللآلي 2 : 190 / 79 ، وسائل الشيعة 1 : 48 - 49 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 5 ، ح 10 ، مسند أحمد بن حنبل 1 : 25 ، وفيه : « بالنيَّة ».
3- الكافي 2 : 84 / 1 ، الخصال 1 : 18 ، باب الواحد / 62 ، الأمالي ( الطوسيّ ) : 590 / 223 ، وفيه : « بالنيَّة » ، عوالي اللآلي 2 : 190 / 80 ، وسائل الشيعة 1 : 48 ، أبواب مقدِّمة العبادات ، ب 5 ، ح 9.
4- من المصدر ، وفي المخطوط : ( فرع ).
5- من المصدر ، وفي المخطوط : ( نيّة ).
6- الذكرى : 58 ( حجريّ ).

عليه ، ولو نزع مَنْ لم يصلّ عليه صُلّيَ عليه مطلقاً ، وفي استحباب تكرار الصلاة عليه هنا نظر ) (1) ، انتهى.

لاحتمال إرادته المستحبّ العينيّ ، بل هو الراجح بقرينة كلامه في ( القواعد ) و ( الذكرى ) ، ولا منافاة بين المستحبّ العينيّ والواجب الكفائيّ ؛ لصحّة اجتماعهما في فرد واحد كما عرفت.

والأوّل وهو الوجوب هو الأقوى عندي. ويدلّ عليه الاستصحاب السالم من المعارض الرافع له ، مِنْ نصّ أو إجماع ، وأنه الأحوط إذْ به يحصل يقين براءة الذمّة ، والخروج من عهدة التكليف المتيقّن ثبوته ، ولا يرفع اليقين إلّا مثلُه.

ويدلّ عليه أيضاً ظاهر عموم الكتاب والسنّة في ردّ السلام حيث قال عزّ اسمه وجلّ ( فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ) (2) وهذا الأمر المتّفق على إفادته الوجوب هنا لا شكّ في توجّهه إلى كلّ فرد حُيّيَ بالسلام ، بل هو في أفراد الجمع المحيّي به أظهر منه في الواحد ، فظاهره عموم وجوب كلّ ردّ. فالرادّ بقصد الوجوب سواء كان أوّلاً أو أخيراً ممتثل قطعاً ؛ لأنه أدّى وفعل ما أُمِرَ به على الصفة التي تَوجّه له بها الأمر ، بخلاف ناوي الاستحباب فإنه لم يتوجّه له أمرٌ بعنوان الاستحباب في الآية فلا يكون آتياً بما خُوطِبَ به ، ولا يقين له في خلوّ عهدته.

وعموم مثل صحيح عبد اللّه بن سنان : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السلام (3) الخبر.

وخبر السكونيّ : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : السلام تطوُّع ، والردُّ فريضة (4).

ص: 467


1- الدروس 1 : 112.
2- النساء : 86.
3- الكافي 2 : 670 / 2 ، وسائل الشيعة 12 : 57 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 33 ، ح 1 ، وفيه أيضاً : 135 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 93 ، ح 1.
4- الكافي 2 : 644 / 1 ، وسائل الشيعة 12 : 58 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 33 ، ح 3.

وخبر [ مَسْعَدة (1) ] بن صدقة : المرويّ في ( الخصال ) عن جعفر بن محمّد : عن أبيه عليهما السلام أنه قال التسليم من المسلّم تطوّع ومن الرادّ فريضة (2).

فعموم هذه الأخبار وشبهها يتناول الرادّ الأوّل والآخر وما بينهما إن كان.

ومثلهُ إطلاق الفتوى من جميع الأُمّة في جميع الأعصار بأن ابتداء السلام نافلة والردّ فريضة ، بل كاد أن يكون هذا الكلام بهذه العبارة من ضروريّات الملّة ؛ فإنك لا ترى أحداً من المكلّفين إلّا وهو يخبرك أنه يعلم أن ابتِداء السلام نفل وردّه فريضة ، وعموم إطلاقه يشمل الردّ الأوّل والآخر ، وهذه الإطلاقات والعمومات من الكتاب والسنّة والإجماع بوجوب الردّ لا معارض لها ، وهي شاملة لمحلّ النزاع ، ولا فارق بين ردّ السلام وغيره ممّا يشبهه في ذلك.

فإنْ قلت : النصّ والإجماع قائمان على أنه إذا كمل الردّ من واحد مِن القوم أجزأ عن الباقين ، وسقط عنهم لا إلى بدل ، فلو ترك الباقون حينئذٍ لم يُؤثموا ، وهذا هو معنى الواجب الكفائيّ ، ولا معنًى للمندوب إلّا ما لا يؤثم تاركه لا إلى بدل ، فكيف يُتصَوّر أن الردّ من الثاني بعد كمال ردّ الأوّل واجب وهو لا يؤثم بتركه؟

قلت : لا منافاة بين سقوط الإثم عن الثاني إذا ردّ الأوّل ولم يردّ ، وبين وجوب نيّة الوجوب من الثاني لو ردّ بعد كمال ردّ الأوّل وذلك لعدم استلزام السقوط ؛ لانقلاب الواجب مندوباً. والحقائق لا تنقلب ، وما بالذات لا يزول ، والوجوب والندب حقيقتان متباينتان عقلاً وشرعاً ، وله نظائر في الفقه ، فلو وجب على الحاكم قتل شخص للردّة وقَوَداً وحدّاً ، فَقَتَلَه آخر للردّة أو غيرها ، سقط عن الحاكم وجوب القتل.

وكذا كلّ كفائيٍّ لا يقبل الزيادة على مرّة ، فإنه في جميع هذا وشبهه يسقط الوجوب بفعل الغير ، ولا يتّصف الفعل في نفسه حينئذٍ بالندب ، بل هو على حقيقته ،

ص: 468


1- من المصدر ، وفي المخطوط : ( صدقة ).
2- الخصال 2 : 484 ، أبواب الاثني عشر / 57 ، وفيه : « والردّ عليه فريضة ».

فلو قبل التكرار فكرّر كان على تلك الحقيقة الوجوبيّة فتُلاحظ في نيّته.

فإنْ قلت : هذا الرادّ بعد كمال ردّ غيره ، أو المصلّي بعد كمال صلاة غيره ، يجوز لهما ترك الردّ والصلاة لا إلى بدل ، وهذا لازم الندب.

قلت : بل ردّ مَنْ قَبْله ، وصلاة مَنْ قَبْله هو البدل ؛ وذلك لأن الواجب الكفائيّ معناه بالنسبة إلى المكلّفين كالواجب التخييريّ بالنسبة إلى الأعمال المكلّف بها ؛ فإن حكمة النظام في التخييريّ تعلّقت بإيجاد أحد فرديه ، أو أفراده لا على التعيين ، مع ملاحظة وصف الوجوب العنوانيّ في الفرد المقصود فعله. ولهذا شاع بين العلماء أن أفضل فردي المخيّر واجب تخييراً مستحبّ عيناً ، كالجمعة والظهر على المشهور المنصور من القول بالتخيير بينهما مع أفضليّة الجمعة ، وكالردّ بالأحسن والمِثل في تحيّة السلام مع أفضليّة الأحسن (1). ولا يظهر خلاف في تعيّن قصد الوجوب بكلّ أجزاء الأحسن ، ولا نعلم قائلاً بأنك إذا سلّم عليك شخصٌ بلفظ السلام عليكم ورددتَ عليه بلفظ وعليكم السلام ورحمة اللّه أنكَ تقصد ب عليكم السلام الوجوب وبما زاد الندب ، بل تقصد بالجميع الوجوب ؛ فإنه أجمع أحدُ أفراد المخيّر ، وكلّ منها يُفعل بعنوان الوجوب.

وكذلك الكفائيّ معناه وقوع التخيير للجماعة الذين كُلّفوا به بين أن يفعله واحد منهم أو أكثر ، ففِعْلُ الواحد مع ترك الباقين بمنزلة أحد أفراد المخيّر ، فلو فَعَلَه الثاني أيضاً كان فعل الاثنين بمنزلة الفرد الآخر من المخيّر ، فيلزم فيه ملاحظة الوجوب ؛ لأن فعل الاثنين مثلاً متعاقباً كان أو دفعة بمثابة فرد من أفراد المخيّر ، فلا منافاة بين كون فعل الاثنين مستحبّاً عيناً واجباً تخييراً كأفراد المخيّر.

وسقوط الإثم بعدم فعل أحد فردي المخيّر لا ينافي نيّة الوجوب بفعله إذا اختير ، وهذا معنى قول الشيخ حسين : في ( شرح المفاتيح ) : ( ولو كان المخاطب به يعني : السلام جماعة ، وهي اثنان فصاعداً ، فالردّ واجبٌ كفائيّ ، وردّ الجميع مستحبّ

ص: 469


1- إشارة إلى قوله تعالى : ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) . النساء : 86.

عينيّ ) ، انتهى.

فلا تتوهّم أنه أراد أن ردّ ما زاد على الواحد مستحبّ ، أي ليس بواجب ؛ إذ لا تُشعر عبارته بهذا أصلاً ، ولو كان كذلك لكان معنى كلامه أنه إذا ردّ الجميع كان ردّ كلّ واحد مستحبّاً ، الأوّل والآخر ؛ لشمول لفظ الجميع لهما وما بينهما ، وأنه لو ردّ الجميع دفعة كان ردّهم مستحبّاً ، وهذا لا يقول به أحد من الأُمّة ، بل أراد بهذا مِثْلَ ما أراد بقوله : ( يجب الردّ بالأحسن أو المثل تخييراً وإن كان الأحسن مستحبّاً عينيّاً ) ، فجَعَلَ ردّ الجميع فرداً من أفراد ما خُيّر به مَنْ وجب عليهم الردّ من ردّ واحد أو أكثر ، فجَعَل رَدّ الجميع في الكفائيّ كالردّ بالأحسن في التخيير.

والظاهر أن هذا مقصود فقهائنا بمثل هذا الكلام ، فتنبّه فإنه دقيق ، ولا تستوحش من قلّة مَنْ نبّه على هذا بواضح البيان.

ولعلّ ما جاء في أخبار الباب التي هي الدليل بعد الإجماع على كفاية ردّ واحد من الجماعة إذا سلّم عَليهم مسلّم مثل موثّق غياث بن إبراهيم : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا سلَّم من القوم واحد أجزأ عنهم ، وإذا ردَّ واحد أجزأ عنهم (1) وخبر ابن بكير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال إذا مرَّت الجماعة بقوم أجزأهم أنْ يسلِّم واحد منهم ، وإذا سلَّم على القوم وهُمْ جماعة أجزأهم أنْ يردَّ واحد منهم (2) وأمثالهما يشعر بأن الردّ مطلقاً واجب ؛ لما فيه من الإشعار بأن ردّ الواحد من الجماعة أقلّ الواجب وأدنى مراتبه ، فأشعر بأن الردّ الواجب درجات ، أدناها ردّ واحد من الجماعة ، فيكون ردّ الاثنين درجة فوقه ، وهكذا إلى أن يردّ الجميع دفعة أو متعاقبين.

وردّ الجميع أعلى الدرجات ؛ ولذا قال العلماء : إن ردّ الجميع واجب كفاية ومستحبّ عيناً. ولمْ يُفَرّقوا بين ردّ الجميع دفعة أو متعاقبين ، بل أطلقوا بأن ردّ الجميع واجب كفاية ، مستحبّ عيناً.

ص: 470


1- الكافي 2 : 647 / 3 ، وسائل الشيعة 12 : 75 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 46 ، ح 2.
2- الكافي 2 : 647 / 1 ، وسائل الشيعة 12 : 75 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 46 ، ح 3.

فقد بان أن الكفائيّ والتخييريّ نوعان لمطلق ما اقتضت الحكمة تخيير المكلّفين التخيير فيه إلّا إن الأوّل في فعل الفاعل من حيث هو فاعل ، والثاني في فعله من حيث هو مفعوله ، كلّ ذلك تخفيف من اللّه ورحمة ، فكأن الجماعة المسلّم عليهم شخص واحد بملاحظة الهيئة الاجتماعيّة ، وكلّ واحد كأنه جزء من تلك الوحدة.

ولا ريب أن المسلّم إذا سلّم على متعدّدين يُلاحِظ أنه يسلّم على جملتهم من حيث إنهم جملة ، وعلى جميعهم من حيث الجمعيّة الحاصلة لهم حينئذٍ ، فكأنه يُلاحظ التسليم على شخص ذي أجزاء لا عليهم من حيث تعدّدهم ، وإلّا لم يكن فرق بين أن يسلّم على كلّ واحد واحد بعينه بسلام متعدّد ، أو بأنْ يقول : السلام عليك يا فلان ، ويا فلان ، ويا فلان ، وبين أن يقول : السلام عليكم. ملاحظاً للسلام على الجميع من حيث هو جميع.

والفرق واضح ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في وجوب الردّ على كلّ واحد منهم إذا لاحظ المسلّم وقصد التسليم على كلّ واحد ولو بالصيغة الأخيرة ؛ لأن ردّ السلام ثابت وجوبه لا يسقط إلّا بوجه دلّ عليه الشرع ، ولا دليل هنا. والأصل أيضاً عدم إجزاء فعل الغير في سقوط ما وجب على الغير ، ولا دليل هنا على إجزاء ردّ الغير عن الغير.

وخرج ما لو سلّم على جماعة بعنوان الجمعيّة ، وملاحظة الوحدة الحاصلة من الهيئة الاجتماعيّة بدليل ، فيبقى ما سوى ذلك في عهدة التكليف حتّى يردّ بنفسه. وكأنهم أرادوا جميعاً حينئذٍ شخصاً واحداً كُلّفَ بعبادة فعملها بجميع أجزائه ، وذلك أكمل أفراد امتثاله ، وتأديته ما وجب عليه.

وأمّا وجه سقوط الإثم عن الكلّ إذا ردّ واحد منهم فظاهرٌ ممّا قرّرناه ؛ إذ هو حينئذٍ بمثابة عمل بعض الكلّ من حيث هو بعض ، فيجزي عن كلّه من حيث هو كلّه ، وذلك حينئذٍ بمثابة ذكر اللسان الواجب ، فإنه يُسقط العقاب ، ويُوجبُ الثواب عن كلّ الإنسان ، وله ، فما أشبه هذا بهذا!.

ص: 471

وأيضاً فإنه إذا ثبت أن بيع الحاكم عن الممتنع عن أداء ما لزمه من الحقّ الماليّ ، وإخراجه الزكاة عن الممتنع عن إخراجها قهراً ، وأمثال ذلك كالحجّ الواجب عن الميّت إجماعاً ، وعن الحيّ العاجز لكبر وضعف على المشهور ، وغير ذلك وهو كثير ، يجزي فيه فعل الغير عن الغير ولو كان عبادة مع تباين الشخصين ، فَلأَن يجزي فعل ردّ السلام من واحد من الجماعة عنهم ، ويُسقط الإثم عن الباقين مع كونه حينئذٍ جزءاً من كلّ ، وبعضاً من جملة ، أوْلى مع ملاحظة انضمام سعة رحمة اللّه وبناء التكليف على التخفيف ، فتيقّظ فإن المقام دقيق.

وأيضاً ابتداء السلام مستحبّ كفائيّ لا نعلم فيه خلافاً ، فلو سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم ، والأخبار دالّة عليه ، مع أنه لا يكاد أحد يشكّ في بقاء استحباب التسليم من كلّ واحد بلا منافاة بين السقوط بفعل الواحد ، وبين بقاء الاستحباب في نفسه لكلّ واحد كفاية. فكما أن تسليم واحد من القوم لا يغيّر ذات ابتدائه عن كونه مستحبّاً كفائيّاً لو سلّمَ غيره ولو غيّره عن ذلك لسقط التكليف به رأساً ، وهو ظاهر البطلان. ولا قائل بوجود قسم مباح في الابتداء كذلك لو ردّ واحد من القوم لم يخرج الردّ من غيره بعد عن حقيقته ، وتنقلب ذاتُه إلى الاستحباب بحكم المقابلة ، ولأن اتّصاف الأفعال والعبادات بأحد العناوين الخمسة ليس يدور ويتسبّب عن أفعالهم ، ولا عليها ، ووجوب الردّ على الإطلاق ثابت على الرادّ ، وكذا وجوب الصلاة على الجنازة ، بل الكفائيّ قام إجماع العصابة على وجوبه على كلّ مستجمع للشرائط. فانقلابه حينئذٍ إلى الاستحباب يحتاج إلى دليل قاطع ، وسقوط الإثم لا يستلزمه كما عرفت.

وأيضاً فالقول بأن الثاني مثلاً إذا صلّى وردّ السلام بعد كمال عمل الأوّل ينوي الندب في الحقيقة قول بسقوط التكليف عن الثاني بما كلّف به ، وعدم مشروعيّة تكراره مطلقاً ؛ فإن النفل قسم من مطلق التكليف يباين الواجب ، فالمنوي حينئذٍ غير الساقط ، فليس هو إعادة لما سقط ولا تكراراً له ، وإنما هو عمل مستقل وتكليف

ص: 472

آخر خارج عن الكفائي الواجب والمندوب فهو مستحب عينيّ. فهذا القول مستلزم لعدم مشروعيّة إعادة العمل الواجب الكفائي مطلقاً ؛ فهذا التكليف يحتاج في تحقّق مشروعيّته إلى دليل ، ولا دليل.

واستدل الشهيد الثاني لهذا القول بأن الغرض متعلق بالجميع ؛ وإنما سقط عن البعض ؛ تخفيفاً ، ولما فيه من ترغيب المصلّين ؛ لأن ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل ) ، انتهى.

ودليله الأوّل عرفت وجهه ، والثاني كما ترى ، ونحن في غنًى عنه.

والقول الثاني : هو الاستحباب كما نقله في ( التمهيد ) (1) ، ولا تتوهّم أن السيّد : في ( المدارك ) ذهب إليه ، حيث قال رحمه اللّه في شرح قول المحقّق : ( وتكره الصلاة على الجنازة الواحدة مرّتين ) (2) - : ( اختلف الأصحاب في هذه المسألة ، فقال العلّامة : في ( المختلف ) (3) : ( المشهور كراهة تكرار الصلاة على الميّت ) ، وقيّد ابن إدريس (4) الكراهة بالصلاة جماعة لتكرار الصحابة الصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله : فرادى ، وقال الشيخ : في ( الخلاف ) : ( مَنْ صلّى على جنازة يُكره له أن يصلّي عليها ثانياً ) (5) ، وهو يُشِعرُ باختصاص الكراهة بالمصلّي المتّحد ، وربّما ظهر من كلامه في ( الاستبصار ) (6) استحباب التكرار من المصلّي الواحد وغيره.

والأخبار الواردة في هذه المسألة مختلفة ، فورد في بعضها الأمر بالصلاة لمَنْ لم يُصلّ ، كموثّقة عمّار الساباطي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال الميّت يُصلّى عليه ما لم يُوارَ بالتراب وإنْ كان قد صلّي عليه (7) ، وموثّقة يونس بن يعقوب : عن أبي عبد اللّه عليه السلام :

ص: 473


1- تمهيد القواعد : 50.
2- شرائع الإسلام 1 : 97.
3- مختلف الشيعة 2 : 309 - 310 / المسألة : 194.
4- السرائر : 360.
5- الخلاف 1 : 726 / المسألة : 548.
6- الاستبصار 1 : 485 / ذيل الحديث 1878.
7- تهذيب الأحكام 3 : 334 / 1045 ، الإستبصار 1 : 484 / 1874 ، وسائل الشيعة 3 : 86 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 19.

قال : سألته عن الجنازة لمْ أُدركها حتّى بلغت القبر ، أُصلّي عليها؟ قال إنْ أدركتها قبل أنْ تُدفن فإنْ شئتَ فصلِّ عليها (1).

وورد في بعض النهي عن ذلك كرواية وهب بن وهب : عن جعفر : عن أبيه عليهما السلام إنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : صلّى على جنازة ، فلمّا فرغ جاء أُناس فقالوا : يا رسول اللّه : ، لم ندرك الصلاة عليها. فقال : لا يصلّى على جنازة مرَّتين ، ولكن ادعوا له (2).

ورواية إسحاق بن عمّار : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : مثله (3).

وهذه الروايات قاصرة من حيث السند ، وجَمَعَ الأكثر بينها بحمل النهي على الكراهة ، وظاهرهم الاتّفاق على الجواز.

أمّا تكرار الصلاة من المصلّي الواحد فلمْ أقفْ فيه على رواية ، سوى ما نُقِلَ من صلاة أمير المؤمنين : صلوات اللّه عليه على سهل بن حنيف : خمس مرّات ، وقد روي ذلك بعدّة طرق ، منها : ما رواه الشيخ : في الحسن عن الحلبي : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال كبَّر أمير المؤمنين عليه السلام : على سهل بن حنيف : ، وكان بدريّاً ، خمس تكبيرات ، ثمّ مشى ساعة ، ثمَّ وضعه وكبَّر عليه خمساً اخرى ، فصنع ذلك حتّى كبَّر عليه خمساً وعشرين تكبيرة (4).

وعن أبي بصير : عن أبي جعفر عليه السلام : نحو ذلك ، وفي الرواية أنه عليه السلام كلَّما أدركه الناس قالوا : يا أمير المؤمنين ، لم ندرك الصلاة على سهل. فيضعه فيكبِّر عليه خمساً حتّى انتهى إلى قبره

ص: 474


1- تهذيب الأحكام 3 : 334 / 1046 ، الإستبصار 1 : 484 / 1875 ، وسائل الشيعة 3 : 86 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 20.
2- تهذيب الأحكام 3 : 332 / 1040 ، الإستبصار 1 : 485 / 1879 ، وسائل الشيعة 3 : 87 - 88 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 24.
3- تهذيب الأحكام 3 : 324 / 1010 ، الإستبصار 1 : 484 / 1878 ، وسائل الشيعة 3 : 87 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 23.
4- الكافي 3 : 186 / 2 ، وسائل الشيعة 3 : 80 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 1.

خمس مرّات (1).

وبذلك احتجّ الشيخ (2) : على استحباب الإعادة مطلقاً ، وهو إنما يدلّ على استحباب الإعادة للإمام خاصّة ، لكنْ قال العلّامة : في ( المختلف ) : ( إن حديث سهل ابن حنيف : مختصّ بذلك الشخص ؛ إظهاراً لفضله ، كما خصّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله : عمّه حمزة : بسبعين تكبيرة (3) ) (4).

وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام : في ( نهج البلاغة ) (5) ما يدلّ على ذلك.

وكيف كان ، فينبغي القطع بكراهة التكرار من المصلّي الواحد لغير الإمام ، بل يُمكن القول بعدم مشروعيّته ؛ لعدم ثبوت التعبّد به.

أمّا الإمام فلا يبعد الحكم بأنه يستحبّ له الإعادة بمن لم يصلّ ؛ للتأسّي ، وانتفاء ما ينتهض حجّة على اختصاص الحكم بذلك الشخص. ومتى قلنا بمشروعيّة الإعادة ، وأُريد التعرّض للوجه ، نوى الندب ؛ لسقوط الفرض بالأوّل ، وجوّز المحقّق الشيخ عليّ : إيقاعها بنيّة الوجوب اعتباراً بأصل الفعل ، ولا وجه له ) (6) ، انتهى.

ولفظ عبارة الشيخ عليّ : في شرح قول المحقّق : في ( الشرائع ) (7) والعلّامة : في ( القواعد ) (8) : ( وتكره الصلاة على الجنازة الواحدة مرّتين إذا كان المصلّي واحداً أو كان التكرار منافياً للتعجيل ، ويتخيّر في المُعادة بين نيّة الوجوب اعتباراً بأصل الفعل ، والندب اعتباراً بسقوط الفرض ) (9) ، انتهى.

ص: 475


1- الكافي 3 : 186 / 3 ، وسائل الشيعة 3 : 81 - 82 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 5.
2- الاستبصار 1 : 485 / ذيل الحديث 1887.
3- الكافي 3 : 186 / 1 ، وسائل الشيعة 3 : 82 ، أبواب صلاة الجنازة ، ب 6 ، ح 6.
4- مختلف الشيعة 2 : 309 - 310 / المسألة : 194.
5- نهج البلاغة : 527 - 528 / الكتاب 28 ، وفيه : « ألا ترى غير مخبر لك ، ولكن بنعمة اللّه أُحدِّث أن قوماً استشهدوا في سبيل اللّه تعالى من المهاجرين والأنصار ، ولكلٍّ فضلٌ حتّى إذا استشهد شهيدنا ، قيل : سيِّد الشهداء ، وخصَّه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ».
6- مدارك الأحكام 4 : 183 - 186.
7- شرائع الإسلام 1 : 97.
8- قواعد الأحكام 1 : 20 ( حجريّ ).
9- جامع المقاصد 1 : 428 - 429 ، بالمعنى.

وكلاهما لم يُرد ما نحن فيه من نيّة مَنْ أراد أن يصلّي على ميّتٍ بعد أن صلّى عليه غيره ، بل أرادا نيّة من صلّى ثمّ أراد أن يُعيد الصلاة هو مرّة أُخرى على فرض مشروعيّتها ، وهذه حينئذٍ بمنزلة اليوميّة المُعادة جماعة.

فقد قيل بالتخيير فيها بين نيّة الوجوب والندب ، والمشهور المنصور أنها لا تُعاد إلّا ندباً ؛ لانقضاء الفرض ، وعدم الدليل على ثبوت التكليف بفرضي ظهر مثلاً في يوم ، فهو حينئذٍ خارج عن الشريعة ، والتخيير أيضاً لا معنى له ؛ لأن العبادة بأصل الشرع ؛ إمّا واجبة ، أو مندوبة بذاتها. وكلّ منهما لا ينقلب حقيقته إلى الآخر باختيار أحد من المكلّفين ، وإنما توصف الأفعال وتتحقّق بصفة الوجوب أو الندب وغيرهما من الصفات الخمس بحسب حكمة اللّه وحده ، فلا أرى وجهاً لجواز نيّة الوجوب في المُعادة من شخص واحد ، فضلاً عن الجواز ؛ إذ لا يظهر دليل على مشروعيّتها بوجه أصلاً ، وكلامهما خارج عمّا نحن فيه.

وما مال إليه السيد : رحمه اللّه (1) من عدم مشروعيّة تكرار الصلاة من الشخص الواحد إذا لم يكن إماماً وصلّى بجماعة أُخرى مطلقاً ، سواء صلّى الأُولى جماعة أو منفرداً ، قويّ جدّاً.

ومثله إعادة الصلاة جماعة للإمام أيضاً بمن صلّى بهم أوّلاً ؛ فإنه لم يظهر لي دليل على مشروعيّة ذلك.

فأمّا إعادتها بمعنى تكرارها من أشخاص متعدّدين ، ومن الإمام بجماعة آخرين ، فلا شكّ في مشروعيّته.

وفي كراهته فرادى أو جماعة نظر ؛ لعدم ما يقاوم ويعارض ما مرّ من الأخبار من فعل المعصوم وتقريره ، وأمّا ما في ( المختلف ) (2) من اختصاص سهل : بذلك فممّا لا دليل عليه ، بل الدليل ينفيه ؛ لأن في أُمّة محمَّدٍ صلى اللّه عليه وآله : أمثاله كثير ، ومَنْ هو أفضل منه ، فلا يظهر وجه حكمة ولا دليل على اختصاصه بذلك دونهم. وما جاز بالنسبة لأهل

ص: 476


1- مدارك الأحكام 4 : 183 - 186.
2- مختلف الشيعة 2 : 310 / المسألة : 194.

الفضل جاز في غيرهم ؛ لعدم الفارق في هذا التكليف ، من نصّ ، أو فتوًى.

ولم أقف على ناصّ مصرّح من الأصحاب على اتّصاف صلاة المصلّي ثانياً على الجنازة بعد أن صلّى عليها غيره ، وسلام الرادّ بعد ردّ غيره بعنوان الندب.

ومثل عبارة ( الدروس ) (1) المتقدّمة وقول العلّامة : في ( التحرير ) : ( من لم يصلّ على الجنازة يستحبّ له أن يصلّي على القبر يوماً وليلة ، ثمّ لا يصلّي بعد ذلك على أظهر القولين ) (2) ، وما ماثلهما من عبارات الأصحاب ، فالظاهر أنهم إنما عَنوا الاستحباب العينيّ ، وهو يجامع الوجوب الكفائيّ والتخييريّ ، ولا أقلّ من الاحتمال.

وبالجملة ، فنيّة الاستحباب فيما نحن فيه لم أقف على مصرّح بها من الأصحاب إلّا ما تُوهّم عن ( روض الجنان ) (3) ولا على ما يدلّ عليه. وما استدلّ له به الشهيد رضي اللّه عنه : في ( التمهيد ) من ( سقوط الفرض بالأُولى ، ولا معنى للواجب إلّا ما يؤثم بتركه إمّا مطلقاً ، أو بغير بدل ، ولا إثم هنا على الباقين ) (4) قد مرّ جوابه ، فإن الكفائيّ يعمّ الخطاب به جميع المكلّفين ، بإجماع الفرقة.

ولم يُنقل الخلاف فيه إلّا عن بعض الشافعيّة (5) ، فإنهم ذهبوا إلى أنه واجب على فرد غير معيّن ؛ واحتجّوا بأن الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ والعقاب ، وهذا التارك لا يستحقّ ذمّاً ولا عقاباً إذا فعله غيره ، فلا يكون واجباً عليه ، ولأن الواجب لا يسقط بفعل الغير ، ولأنه كما أمَرَ بواحد مبهم ، جاز أمْرُ بعضٍ مبهم ، ولأنه تعالى أوجبَ النفور للتفقّه في الدين (6) على بعض غير معيّنٍ.

ودليلهم الأوّل هو بعينه دليل القائل بالاستحباب في المبحوث عنه كما يظهر

ص: 477


1- الدروس 1 : 112.
2- تحرير الأحكام 1 : 19 ( حجريّ ).
3- روض الجنان : 310.
4- تمهيد القواعد : 50.
5- ذهب إلى ذلك صاحب المحصول ، انظر فواتح الرحموت ( في هامش المستصفى من علم الأُصول ) 1 : 63. والبيضاوي ، انظر مفاتيح الأُصول : 313 ( حجريّ ).
6- في قوله تعالى : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) . التوبة : 122.

بأدنى ملاحظة.

وأجاب عنه القائلون بوجوبه على جميع المكلّفين من الخاصّة والعامّة بما مضمونه ومعناه ما أجاب به العلّامة : في ( النهاية ) حيث قال : ( والجواب أن ما ذكرتموه حدّ الواجب [ المعين (1) ] ، أمّا المخيّر فلا ، ولأنه على تقدير فعل الغير يسقط فلا يبقى واجباً عليه فلا يستحقّ ذمّاً ولا عقاباً. ولا استبعاد في أن يسقط الواجب على الشخص بفعل غيره إذا كان الغرض تحصيل ذلك الفعل وإدخاله في الوجود لا من مباشر معيّن.

والفرق بين الأمر بالمبهم والأمر له إمكان الإثم على ترك المبهم وإثم واحد مبهم غير معقول.

ويجب تأويل الآية على مَنْ يسقط الواجب بفعله ؛ جمعاً بين الأدلّة ، ولأنا نقول بموجبه ، فإن إيجاب النفور على بعض كلّ فرقة من غير تعيين يستلزم الوجوب على الجميع على الكفاية ، فإنه أوّل المسألة ) (2) ، انتهى.

وبهذا يسقط الاستدلال للقائل بالاستحباب بما في ( التمهيد ) زيادة على ما مرّ ، فإذا عمّ الخطاب بالكفائيّ جميع المخاطبين به ، وثبت وجوبه على كلّ فرد بمقتضى عموم الخطاب به للجميع ، وإن كان على وجه البدليّة ؛ إمّا لعدم الحكمة في إيجاده في الخارج مرّتين ، أو لتحقّق المفسدة أيضاً بفعله مرّتين كما في القسم الأوّل من قسميه ، أو لتحقّق مصلحة النظام الوجوديّ بفعله مرّة واحدة.

وإن قبلت الزيادة كما في الثاني ، فإمّا أن يعمل حينئذٍ فيما فيه النزاع بما يقتضي وصف فعله ثانياً بعد فعله أوّلاً من شخص آخر بالأدلّة التي مرّ ذكرها فنحكم بوجوبه مطلقاً ، أو نقول بعدم مشروعيّة فعله أكثر من مرّة مطلقاً ، اتّحد الفاعل أو اختلف ؛ التفاتاً إلى عبارات الفقهاء وعلماء الأُصول في تعريفه ، وحكمهم بأنه متى فَعَلَه واحد سقط عن الباقين.

ص: 478


1- من المصدر ، وفي الخطوط : ( العيني ).
2- نهاية الوصول إلى علم الأُصول : 202 ، ( مخطوط ).

فإن ظاهر إطلاق السقوط يقتضي عدم المشروعيّة ، ولا قائل بعدم مشروعيّة تكرار الصلاة على الجنازة من شخصين ، ولا تكرار ردّ السلام كذلك ، فلم يبقَ إلّا القول بوجوب ملاحظة نيّة الوجوب في فعل الشخص الثاني ، للردّ والصلاة ، وأمّا نيّة الاستحباب حينئذٍ فلا دليل يظهر عليها.

والعبادات لا تشرع إلّا كما أمر اللّه تعالى وأحبّ ، وهو الذي قسّمها برحمته وحكمته إلى واجب ومندوب بحسب قسمته الوجود إلى ذلك ، فإن فيه ما هو متمّم ومكمّل ، وفيه ما هو واجب بالذات. فالواجب لا تنقلب حقيقته إلى الندب ، ولا الندب إلى الوجوب بفعل بعض المكلّفين ، وما بالذات لا يزول ، ولا دليل هنا على انحلال ما وجب على جميع المكلّفين غير الفاعل الأوّل ، وانقلابه إلى الندب بعد فعل العامل الأوّل.

بل لو تأمّلت حقّ التأمّل لوجدتَ القول بذلك هو بعينه قول بعض الشافعيّة بأن الكفائيّ إنما وجب على واحد غير معيّن يرجع تعيينه إلى اختيار المكلّفين. وهو واضح الاستحالة والفساد ؛ لما عرفت ، ولأن أدلّة التوحيد تدفعه ؛ لمنافاته لها. فتأمّل المقام بقلب خالٍ من الشبهة والشكّ ، واعرف الرجال بالحقّ لا الحقّ بالرجال ، ثبّتنا اللّه وإيّاك على الصراط المستقيم ، والحمد لله ربّ العالمين.

تنبيهات

بقي هنا إلحاقة تكمل بها الرسالة ، فيها تنبيهات :

الأوَّل : تَفَطّنْ في قول العلّامة : وغيره في الجواب عن شبهة بعض الشافعيّة المذكورة : إن ما ذكره الشافعيّة حدّ الواجب العينيّ أمّا المخيّر فلا.

فإنه عنى بالمخيّر الكفائيّ ، ففيه إشارة إلى أن الكفائيّ تخييريّ بوجه. وفي هذا انسٌ لك فيما قرّرناه سابقاً وأوضحناه ، ووسيلة لقبوله ، وبه يتّضح معنى عبارة العلّامة : وأضرابه هنا.

الثاني : سقوط الكفائيّ عن المخاطبين به بفعل بعضهم ، هل مناطه الظنّ ، أو العلم؟

ص: 479

أطلق العلّامة : في ( النهاية ) و ( تهذيب الأحكام ) : أن مناطه الظنّ ، وكذلك السيّد عميد الدين : ، وجماعة.

قال في ( النهاية ) : ( والتكليف فيه موقوف على الظنّ ، فإذا ظنّ بعضٌ قيام غيرهم به سقط عنهم ، وإن ظنّوا عدم قيامهم وجب عليهم ، وإن ظنّ كلّ منهم عدم قيام غيره وجب على كلّ واحد القيام به ، وإن ظنّ كلّ فريق قيام غيرهم سقط عن الجميع ؛ لأن تحصيل العلم بأن غيره هل يفعل غير ممكن ، بل الممكن الظنّ ) (1) ، انتهى.

ومثله كلامه في ( تهذيب الأحكام ) وكلام عميد الدين : في شرحه ، وغير واحد من الأُصوليّين ، وشرط جماعة منهم الشيخ بهاء الدين : في ( الزبدة ) ، والشيخ جواد : في شرحها لسقوطه حصول العلم القطعيّ أو الظنّ الشرعيّ قال رحمه اللّه : ( الواجب الكفائيّ : ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً ، أو ظنّاً شرعيّاً ) (2).

وقال الشارح الشيخ جواد : ( فالواجب كفاية : هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ، والمراد بالظنّ الشرعيّ : ما نصبه الشارع حجّة كشهادة العدلين ، لا العدل الواحد. فعلى هذا سقوط التكليف إنما يكون مع القطع بفعل البعض له أو الظنّ الشرعيّ به ، فلو حصل لطائفةٍ ظنّ بوقوعه وطائفة اخرى لم يحصل لها ذلك الظنّ ، وجب على هذه الطائفة دون الاولى. وإذا حصل لكلّ طائفة ظنّ بعدم فعل الغير له ، وجب على الجميع. وإذا حصل لكلّ طائفة ظنّ شرعيّ أن الغير قد فعله ، سقط عن الكلّ.

لكن إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يقم به أحد ، فهل يسقط الوجوب أم لا؟

فيه نظر ؛ إذ يلزم منه ارتفاع الوجوب قبل أدائه من غير نسخ.

ويدفعه أن سقوط الوجوب قد يكون بغير النسخ كانتفاء علّته ، مثل إحراق الميّت الرافع لوجوب الغسل.

ص: 480


1- نهاية الوصول إلى علم الأُصول : 202 ( مخطوط ) ، عنه في مفاتيح الأُصول : 316 ( حجريّ ).
2- الزبدة : 42 ( حجريّ ).

وحيث اشترطنا القطع أو الظنّ الشرعيّ بوقوعه ، فلو أخبرنا واحد بوقوع الصلاة على الميّت لم يسقط عنّا ؛ لعدم حصول الظنّ الشرعيّ بذلك.

أمّا لو صلّى عليه واحد مكلّف فهل يسقط الوجوب بذلك عنّا مطلقاً ولو كان أنثى ، أو يشترط فيه العدالة؟ إشكال ، ينشأ من عدم قبول خبر الفاسق لو أخبَر بإيقاعها ؛ لوجوب التثبّت عند خبره ، ومن صحّة صلاة الفاسق في نفسها. هذا هو المشهور في الحكم ، وفيه إشكال ينشأ من أن قيام الظنّ مقام العلم إنما هو بنصّ خاصّ ، أو بدلالة عقليّة ، ولا شي ء منهما فيما نحن فيه. ولأن الوجوب معلوم والمُسْقِطُ مظنون ، والعلم لا يسقط بالظنّ فتأمّل فيه ) (1) ، انتهى.

والذي يظهر لي أن المسألة تدور على الظاهر دون الأصل ، فيكفي في الحكم بسقوط التكليف به الظنّ الغالب المستند إلى الأمارات القويّة [ التي (2) ] يظهر منها قيام الغير به ، مثل إخبار العدل عن نفسه أو غيره ، ومثل استمرار عادة أهل محلّة الميّت واستقرارها على أنهم لا يدفنون ميّتهم بغير صلاة ، وخصوصاً إذا كان فيهم [ صالحٌ (3) ] ، ومثل مشاهدة صلاة أحد عليها ، مع العلم بمعرفته للصلاة وعلمه بوجوبها. وإلّا لزم الحرج ؛ إذْ العلم اليقينيّ لا يُمكن حصوله ، لو رأيتَ عدلين يصلّيان على جنازة أو أخبراك بأنه صُلّيَ عليها كان غايته الظنّ وإن كان ذلك علماً شرعيّاً ، لكنّه لا يفيد أكثر من الظنّ ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على نيّتهما.

وأيضاً لو لم نقل بكفاية الظاهر والظنّ القويّ المستند إلى القرائن للزم أنه متى سمع المسلمون بميّت في أرضٍ لزمهم أجمعين السعي إلى الصلاة عليها ولو بسفر مع المكنة ، حتّى تقوم البيّنة بأنه صُلّي عليها أو يصلّون عليها. وهو خلاف عمل الأُمّة في سائر الأعصار ، بل عملهم على الدوام الاعتماد على مثل هذا الظنّ ، وتقديم

ص: 481


1- عنه في مفاتيح الأُصول : 314 ، 315 ( حجريّ ) ، ولم يورده كاملاً.
2- في المخطوط : ( الذي ).
3- في المخطوط : ( صلحا ).

الظاهر على الأصل ، و [ ما (1) ] وجدنا ولا سمعنا بمن طلب البيّنة في ذلك في عصر ، فالإجماع الفعليّ من المسلمين قائم على الاكتفاء بقيام مثل ذلك الظنّ ، وتقديم الظاهر على الأصل ، هذا مع ما فيه من الحرج والعسر والمشقّة الشديدة.

وأيضاً الإجماع قائم من الأُمّة على أنه متى فَعَلَه واحد ممّن خُوطِبَ به سقط عن الباقين وإن وقع الشكّ أو الخلاف في الاكتفاء بغير العدل ، فلا بدّ لذلك من مصدوق في الخارج ، وإلّا لكان هذراً من القول ، وحاشاهم من مثله ، خصوصاً في أحكام اللّه ، فنوّاب الإمام أجلّ من ذلك.

وفِعْلُ الواحد وإن كان عدلاً وشُوهِدَ فاعلاً لا يُثمر أكثر من الظنّ الذي اعتبرناه. والحقّ في غير العدل أن خبره مجرّداً عن العلم بفعله لا يفيد ظنّاً يُعتمد عليه في سقوط الواجب. وفعله المقطوع به بالمشاهدة أو شهادة العدلين به أو شياعه واستفاضته إن أثمر مثل ما ذكرناه من الظنّ سقط به الفرض ، وإلّا فلا.

وبالجملة ، فاشتراط القطع أو شهادة العدلين بفعل الغير في سقوط الفرض ربّما أدّى إلى القول بالوجوب العينيّ ، وفساده ظاهر.

مناقشة عبارة الشيخ جواد رحمه اللّه

ولنرجع إلى الكلام على عبارة الشيخ جواد رحمه اللّه : فنقول :

قوله : ( هو ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعاً أو ظنّاً شرعيّاً ).

أقول : فِعْلُ البعض لا يسقطه عن الكلّ ، وإنما يسقطه عن الباقين ؛ فإن العامل لا يحسن أن يقال سقط عنه بفعله ، فحقّ العبارة ما يسقط عن بقيّة المكلّفين بفعل غيرهم ، ولكنّ المقصود معلوم ، فالمناقشة في العبارة سهلة ، وإنما أردنا بيان مقصود العبارة.

ولكن حصول القطع غير ممكن ؛ لتوقّفه على الاطّلاع على الضمائر ؛ حتّى يعرف

ص: 482


1- في المخطوط : ( لا ).

صحّة النيّة وخلوصها لله ، ومطابقتها للشرع ، وذلك غير ممكن إلّا للمعصوم ، أو مَنْ أخبره المعصوم.

وإن أراد القطع العادي الحاصل بالقرائن القويّة المثمرة له ، فهو فردٌ ممّا ذكرناه من الظنّ ، وحينئذٍ لا حاجة إلى ذكر الظنّ الحاصل بشهادة العدلين ويجعله قسيماً للقطع ، فإنه قسم من الظنّ المعتبر ، وعلى هذا يرتفع الخلاف ويوافق قوله المشهور.

قوله : ( لكنْ إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يَقُم به أحد ) أي ظنّ كلّ طائفة قيام غيرها به ، ( فهل يسقط الوجوب أم لا؟ فيه ) أي في سقوطه عن الجميع ( نظر ؛ إذ يلزم منه ) أي من سقوطه عن الجميع ( ارتفاع الوجوب ) أي ارتفاع التكليف الوجوبي بهذه العبارة عن جميع المكلّفين بها ( قبل أدائه من غير نسخ ) لهذا الحكم والتكليف.

( ويدفعه ) أي لزوم ما ذكر ( أن سقوط الوجوب قد يكون بغير النسخ ، كانتفاء علّته ، مثل إحراق الميّت الرافع لوجوب الغسل ) أي والتكفين والصلاة والدفن لو كان رماداً أو أعفته الرياح.

ولعلّه أراد بالعلّة مطلق السبب ، بما يشمل المحلّ والموضوع ، ولو قال : لتعذّره بذهاب محلّه وشبهه ، لكان أوضح.

ثمّ أقول : لو ظنّ الظنّ المعتبر كلّ فريق قيام الآخر به ، وفي الواقع لم يقمْ به أحد منهم ، فإن لم ينكشف ذلك لأحد منهم فلا ريب في سقوطه عن الكلّ ؛ لوجود المُسقِط ، ولا تكليف إلّا بعد البيان ، وهذا ممّا لا يعلمون ، ومثل هذا وشبهه عنى صلى اللّه عليه وآله بقوله رُفِعَ عن أُمّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون .. (1).

وأيضاً هؤلاء حينئذٍ أخذوا بالرخصة وانتهوا إليها ، واللّه يُحبّ أن يُؤخذ برخصته كما يُحبّ أن يُؤخذ بعزائمه. وإن انكشف ذلك لكلّهم أو بعضهم فقد انكشف لمن علم به فساد ظنّه أنه باقٍ في عهدة التكليف إن كان التدارك ممكناً حينئذٍ فيجب عليه المبادرة للعمل ، وإلّا فالسقوط عنه باقٍ ؛ إذ لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها.

ص: 483


1- الخصال 2 : 417 ، باب التسعة / 9 ، وسائل الشيعة 4 : 373 ، أبواب لباس المصلِّي ، ب 13 ، ح 6 ، 8.

قوله : ( وحيث اشترطنا القطع أو الظنّ الشرعيّ ).

الأوْلى أن يقول : وحيث اشترطنا العلم القطعيّ أو الشرعيّ ، فإن الظنّ الحاصل من شهادة العدلين علم شرعيّ ؛ لأن الشارع أقامه مقام العلم القطعيّ ، ولذا أحلّ به الدماء والفروج والأموال وحقنها به ، وأوجب به الصوم والإفطار والحجّ والحدود والتعزيرات .. وغير ذلك. فيكون علماً وإن احتمل النقيض بحسب الإمكان العامّ رحمةً من اللّه وتسهيلاً لسبيل التكليف.

ثمّ نقول : القطع بمعنى اليقين الرافع للنقيض غير ممكن كما عرفت ، والظنّ الشرعيّ إن أراد به كلّ ما يحصل به الظنّ القويّ الراجح ، فهو ما قلناه ، فلا خلاف منه ، وأمثاله ممّن عبّر بمثل هذه العبارة (1).

وإن أراد خصوص الظنّ الحاصل بشهادة العدلين منعناه ؛ لما يؤول إليه من التكليف بما لا يطاق. وكثير من القرائن يفيد ظنّاً أقوى من الظنّ الحاصل بشهادة العدلين ، كمشاهدتهما يعملان ، بل مشاهدة العدل الواحد ، وكالشياع ، وكالوثوق بعادة المؤمنين العالمين بوجوب العمل ، وخصوصاً إذا خالطهم العدول ، وما أشبه ذلك.

قوله : ( فلو أخبَرَنا واحد ) أي وإن كان عدلاً ( بوقوع الصلاة على الميّت ، لم يسقط عنّا ، أي لعدم حصول سبب السقوط ؛ لعدم حصول الظنّ الشرعيّ ) الذي هو المُسْقِط ( بذلك ) أي بوقوع العمل في الخارج.

قوله : ( أمّا لو صلّى عليه واحد مكلّف ، فهل يسقط الوجوب بذلك عنّا مطلقاً ولو كان أُنثى ، أو يشترط فيه العدالة؟ إشكال ، ينشأ من عدم قبول خبر الفاسق لو أخبر بإيقاعها ؛ لوجوب التثبّت عند خبره ، ومن صحّة صلاة الفاسق في نفسها ).

قلت : لا ينبغي منه الشكّ والإشكال في عدم كفاية صلاة الواحد وإن كان ذكراً عدلاً في سقوط الفرض ؛ لأنه اشترط لسقوطه القطع أو الظنّ الشرعيّ ، وليس شي ء منهما حاصلاً بصلاة العدل الواحد قطعاً ، فضلاً عن الأُنثى أو الفاسق الواحد.

ص: 484


1- نسخة بدل : ( عبارته ).

وظاهر عبارته الاكتفاء بصلاة العدل الواحد وأنه لا إشكال حينئذٍ ، وهذا منافٍ لشرطه القطع أو العلم الشرعيّ ، وإنما يتمّ هذا البحث على ما اخترناه.

وحينئذٍ نقول : إن حصل بصلاة العدل ذكراً كان أم أُنثى ظنّ قويّ بانضمام القرائن الخارجة المثمرة له كشدّة صلاحه ، ورغبته في الأعمال ، ومبادرته ، وما أشبه ذلك كفى في السقوط عمّنْ شاهده ، وإلّا فلا.

أمّا صلاة الفاسق والفاسقة فلا تكفي في تحقّق المُسقِط للفرض الثابت بيقين ، ثمّ أيّ فرق بين شهادة العدل الواحد ورؤيته يصلّي؟ فإن صحة صلاته إنما تُعْلَم بخبره ، فإذا كان شهادته لا تكفي في سقوط الفرض ، فمشاهدته يصلّي بدون إخباره لا تكفي بطريق أوْلى ، وإخباره بعد صلاته بصحّتها لشهادته ، بل شهادته أقوى.

وصحّة صلاة الفاسق في نفس الأمر لا تثمر ظنّاً بصحّتها ، فضلاً عن القطع أو الظنّ الشرعيّ الذي اعتبره ؛ لأن وقوعها صحيحة لا يُعلَم إلّا بخبره ، وخبره أضعف من شهادته ، مع أن شهادته غير مقبولة ، فسقط الإشكال من أصله.

قوله : ( هذا هو المشهور ) يعني : الاكتفاء بصلاة الواحد الفاسق. وهذا بإطلاقه مع ما اختاره هو على طرفي إفراط وتفريط.

والحقّ ما قلناه من أنه إن أثمر ظنّاً معتبراً يتحقّق به ظاهريّة وقوع الفعل كفى في السقوط ، وإلّا فلا ، كالعدل. ونمنع أنه بإطلاقه هو المشهور ، بل المشهور ما قرّرناه من الظنّ القويّ المستند إلى القرائن الشرعيّة أو العرفيّة أو العاديّة القويّة.

قوله : ( وفيه إشكال ينشأ من أن قيام الظنّ مقام العلم إنما هو بنصّ خاصّ ، أو بدلالة عقليّة ، ولا شي ء منهما فيما نحن فيه ، ولأن الوجوب معلوم [ والمسقط ] (1) مظنون ، والعلم لا يسقط بالظنّ ).

أقول : هذا الإشكال مأخوذ من كلام الشهيد : في ( الروض ) في بحث أحكام

ص: 485


1- في المخطوط : ( السقوط ) وما أثبتناه وفقاً للنص الذي نقله المصنِّف عن شارح ( الزبدة ). المتقدّم في ص 19.

الأموات ، حيث قال رحمه اللّه : ( واعتبر المصنّفُ وجماعة في سقوط التكليف به الظنّ الغالب ؛ لأن العلم بأن الغير يفعل كذا في المستقبل ممتنع ، فلا تكليف به ، والممكن تحصيل الظنّ ، ولاستبعاد وجوب حضور جميع أهل البلد الكبير عند الميّت حتّى يدفن ، ونحو ذلك ).

إلى أن قال : ( ويشكل بأن الظنّ إنما يقوم مقام العلم مع النصّ عليه بخصوصه ، أو دليل قاطع. وما ذُكِر لا تتمّ به الدلالة ، فإن تحصيل العلم بفعل الغير في المستقبل ممكن بالمشاهدة ونحوها من الأُمور المثمرة له ، والاستبعاد غير مسموع ، وباستلزامه سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ، وامتناع نيّة الفرض من الظان عند إرادة المباشرة ، وبأن الوجوب معلوم والمُسْقِط مظنون ، والمعلوم لا يسقط بالمظنون ) (1) ، انتهى.

ثمّ نقول : الدلالة العقليّة والشرعيّة قائمتان على قيام الظنّ الذي اعتبرناه مقام العلم هنا :

أمّا الاولى ؛ فلأن العلم اليقينيّ بقيام الغير بالعمل غير ممكن إلّا للمعصوم أو مَنْ يُخبره به المعصوم كما تقدّم ، فتكليف عامّة البشر به تكليف بما لا يطاق ، وهو محال على اللّه ، فوجب في حكمة أرحم الراحمين أن يقوم الظنّ المذكور مقام العلم هنا ، لا كلّ ظنّ ووهم.

وأمّا الثانية ؛ فلما عرفت من إجماع الأُمّة على العمل به هنا ، وإقامتهم إيّاه مقام العلم. وأنتَ إذا تدبّرت الأخبار وجدتها غير خالية من الإشارة إلى ما قلناه ، على أنه لو شرطنا في كلّ حكم وجود نصّ خاصّ لتعطّل جُلّ أحكام الشريعة ، ولبطل الاستدلال بالعامّ والمطلق والمجمل والمفهوم والفحوى ، وغير ذلك من ضروب الدلالات ، وهو باطل بالضرورة.

فحصر الحكم في الدلالة العقليّة أو النصّ الخاصّ مخالف لإجماع الفرقة ، بل

ص: 486


1- روض الجنان : 92 ( حجريّ ).

للضرورة الوجدانيّة من النصّ المتواتر المضمون والفتوى ، واللّه العالم. وبهذا يظهر دفع الإشكال.

والمشاهدة لا تحصّل أكثر من الظنّ القويّ المثمر لظاهريّة حصول المسقط ، لا العلم القطعيّ المقاوم ليقين شغل الذمّة بالتكليف ؛ لتوقّفه على معرفة الضمائر والسرائر. فإن أراد بالعلم ما ذكرناه فمرحباً بالوفاق.

والاستبعاد مسموع ؛ لأن منشأه حصول المشقّة والحرج ، واستلزامُ سقوط الواجب عند عدم العلم بقيام الغير به ممنوع ؛ لابتنائه على ندبيّة نيّة العامل ثانياً ، وفيه ما مرّ.

الثالث : لو وجد المكلّف مَنْ يُفيد فعْله أو قوله الظنّ المُسْقِط قد شرع في العمل ، مع قبول العمل ؛ لوقوعه من اثنين كصلاة الجنازة ، وردّ السلام ، وحمل الميّت ، والجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما أشبه ذلك من الكفائيّ ، ولمّا يكمل العمل ، فهل يجوز له حينئذٍ التخلّف عنه والترك له؟

وجهان ، أحوطهما وأوفقهما بقواعد الشريعة الثاني ؛ ليقين توجّه الخطاب إليه ؛ ويقين استقرار الوجوب عليه حينئذٍ ، مع يقين عدم وجود المُسْقِط ، واحتمال عروض المفسدِ للعمل من الموت والإغماء والعجب والرياء ، وغيرها.

وللأوّل أن الظاهر في الأعصار والأمصار من عمل المسلمين ذلك ، ولأن الثاني لا يخلو من نوع حرج ، ولابتناء الباب على تحكيم الظاهر والعمل به دون الأصل ؛ لما يلزمه من العسر والحرج ، والاحتمالات لا ترفع الظاهر ، فإن انكشف وقوع شي ء منها وجبت المبادرة ورجع إلى الحالة السابقة على هذا الفعل ، فكأنه لم يكن منه أثر حينئذٍ.

وفي الثاني يقين السلامة من مخالفة الأمر ، وأوْلى بذلك ما لو رأيت جنازة محمولة لم يُصلّ عليها مثلاً ولو كان حاملوها ثقات.

وقال الشهيد : في ( الروض ) في أحكام الأموات بعد حكمه بأنها كلّها كفائيّة : ( والمراد بالواجب الكفائيّ هنا : مخاطبة كلّ مَنْ عَلِم بموته من المكلّفين ممّن يُمكنُه

ص: 487

مباشرة ذلك الفعل استقلالاً أو منضمّاً إلى غيره ، حتّى يعلم تلبّس من فيه الكفاية به ، فيسقط حينئذٍ عنه سقوطاً مراعًى باستمرار الفاعل عليه حتّى يفرغ.

ولو لا اعتبار المراعاة لزم عدم وجوب الفعل عند عروض مانعٍ للفاعل عن الإكمال ، وهو باطل ) (1) ، انتهى.

وهو حسن إن أراد بالعلم المغيّا ب- ( حتّى ) هو الظنّ الراجح الناشئ عن القرائن القويّة المثمرة ؛ لكون الظاهر الفعل حتّى يستقيم. أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن ظننت أن في مشاركتك لمن شرع فيه زيادة نجع أو سرعة تأثير وجبت بلا إشكال ، وإلّا فكما تقدّم. وأهون هذا ردّ السلام لسرعة انكشاف الأمر فيه.

الرابع : الكفائي فوريّ ، فلو أخّره بما ينافي الفوريّة أثِمَ إن تعمّد ولم يسقط وجوبه ، ووجبت تأديته ما أمكن ، ما بقي محلّه وموضوعه ، بعنوان الوجوب أداءً ، ووقته العمر ؛ لأن موجبه من قبيل الأسباب ولم يحدّده الشارع إلّا في الصلاة على الميّت بعد الدفن ، فقيل : يوم وليلة. وقيل : ثلاثة أيّام. وقيل : لا حدّ له. وهو الأظهر.

الخامس : السلام ابتداءً وردّاً ، جُمِعَ الكفائي والتخييري واجباً وندباً فيهما ، فالكفائي المستحبّ ابتداء السلام ، فإذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم ، وهو أدنى مراتب الندب ، ولا ترتفع ندبيّة الابتداء عن الباقين فيسلّمون ندباً ، وإنما كفى سلام أحدهم بالنصّ ، ولأن الحالة الاجتماعيّة لها وحدة جمعيّة ، فإذا سلّم أحدُهم فكأنه سلّمَ جزء ذلك الواحد ، فيكفي عن كلّه ، وسلام الكلّ أزكى للكلّ.

واعلم أن جميع السلام المبتدأ مندوب إلّا التسليم في آخر الصلاة ، فإنه واجب في مشهور العصابة.

والتخييريّ المستحبّ هو تخيير المبتدئ بالسلام بين الصيغ الثلاث.

والكفائيّ الواجب هو الردّ ، فإذا ردّ من القوم واحد أجزأ عن الباقين بالإجماع

ص: 488


1- روض الجنان : 92 ( حجريّ ).

والنصّ (1). والوجه التخريجي فيه ما مرّ من أن الحالة الاجتماعيّة لها وحدة جمعيّة ، فالمُسَلّم على الجماعة أو الاثنين ملاحظ أنه يُسَلّم على الجميع من حيث هو مجموع لا من حيث الانفراد والتعدّد ، فالواحد منهم حينئذٍ جزء الواحد الجمعيّ المتألّف من الأفراد ، فإذا ردّ الواحد فكأنه ردّ جزء الواحد ، فيكفي عن الكلّ ، وهو أدنى مراتب عمل ما وجب على ذلك الواحد المجموعيّ ، فلو ردّ غيره ردّ وجوباً سواء ردّ الباقون دفعة أو متعاقبين ؛ إذ لا فرق بين اتّحاد زمن ردّ كلّ واحد بنفسه ، أو تعاقب أزمان ردّهم.

والواجب التخييري فيه هو التخيير في الردّ بين المثل والأحسن ، فلو قال المسلّم سَلام عليكم مثلاً ، وقال الرادّ وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته ، كان مجموعُ الردّ فرداً من أفراد التخييريّ ، فيجب قصد الوجوب بجميع صيغة الردّ ، لا نعلم فيه خلافاً. فلا تتوهّم أن ما زاد عن المثل من صيغة الردّ مندوباً ، وإلّا لم يكن الردّ في مثله من الواجب المخيّر ، وهو من الواجب المخيّر إجماعاً ونصّاً (2) بلا معارض.

والردّ يجب فوراً بلا خلاف يُعرف ، فلو أخّره عمداً أثِم ، وسهواً أو لعذر لم يأثم ، ولا يسقط الوجوب حينئذٍ ، بل يجب المبادرة إليه ما أمكن. ووقته العمر أداءً ؛ لعدم الدليل على تحديد وقت أدائه ، وعدم ورود القضاء فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي يظهر لي من اختلاف الأخبار في صيغة السلام في آخر الصلاة أن الصيغ الثلاث واجبة تخييراً ، فالمصلّي يجب عليه أحدها تخييراً ، وأن حاله كحال المسلّم في غير الصلاة ابتداءً. فعلى هذا يجب على المأموم أن يأتي بالمثل أو الأحسن تخييراً كحال الرادّ في غير الصلاة.

السادس : الكفائي قسيم للتخييري كما عرّفه ، فله شبه بالمندوب من حيث جواز الترك لا إلى بدل بعد قيام الغير به ، أو ظنّه كما مرّ. وقد ذكر ذلك الشهيد : في

ص: 489


1- الكافي 2 : 647 / 1 ، 3 ، وسائل الشيعة 12 : 75 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 46 ، ح 2 ، 3.
2- الكافي 2 : 645 / 9 ، وسائل الشيعة 12 : 66 ، أبواب أحكام العشرة ، ب 39 ، ح 1.

قواعده كما سبق.

السابع : الكفائي ينقسم إلى معاملات وعبادات ، والعبادات منه ما هو مشابه للمعاملات ؛ لعدم خلوّها من تعلّقه بالغير من الناس أو غيرهم. وكلّ منهما قد يكون متعلّقه وموضوعه أمراً كلّيّاً ، وقد يكون جزئيّاً. فالأوّل من الأوّل مثل عمل الصنائع التي لا يقوم نظام التمدّن إلّا بها ، مثل البناية والحدادة ، وشبههما. والثاني منه مثل إطعام هذا الجائع ، وسقي هذا الظمآن ، وإنقاذ هذا الغريق ، وشبه ذلك.

والأوّل له شَبَهٌ بالمباح بالنسبة إلى خصوصيّات جزئيّاته ؛ ولذلك صحّ الاستئجار فيه على جزئيّات الأعمال بالنسبة إلى خصوصيّات الأشخاص ، وجاز للعامل الامتناع منها ، فتلطّف لكلّ موضع واحكم عليه بما يناسبه.

والأوّل من الثاني مثل سُكنى الحرمين ، ومطلق حجّ البيت لا باعتبار مباشر معيّن ، وشبههما. وفي بعض أنواع هذا القسم ما يشبه المعاملات ، كالمثال الأوّل ؛ ولذا جاز الاستئجار عليه وإن لم يجز الامتناع منه قبل قيام الغير به.

والثاني كتغسيل هذا الميّت ، والصلاة عليه ، وشبههما. وما لا يتعلّق منهما بالأمر الكلّي من حيث هو ، فالظاهر عدم جواز أخذ الأُجرة عليه مطلقاً.

تنبيه : قال الشهيد : في ( الروض ) : ( والنيّة معتبرة فيهما يعني : تحنيط الميّت وتكفينه لأنهما فعلان واجبان ، لكنْ لو أخلّ بها لم يبطل الفعل. وهل يأثم بتركها؟ يحتمله ؛ لوجوب العمل ، ولا يتمّ إلّا بالنيّة ؛ لقوله عليه السلام لا عمل إلّا بنيَّة (1).

وعدمه أقوى ؛ لأن القصد بروزهما للوجود كالجهاد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقضاء الدين ، وشكر النعمة ، وردّ الوديعة ، فإن هذه الأفعال كلّها يكفي مجرّد فعلها في الخلاص من تبعة الذمّ والعقاب ، ولكنْ لا يستتبع الثواب إلّا إذا أُريد

ص: 490


1- الكافي 2 : 84 / 1 ، الخصال 1 : 18 ، باب الواحد / 62 ، الأمالي ( الطوسي ) : 590 / 223 ، وفيه : « بالنيّة » ، عوالي اللآلي 2 : 190 / 80 ، وسائل الشيعة 1 : 48 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 5 ، ح 9.

بها التقرّب إلى اللّه تعالى ، كما نبّه عليه الشهيد : في ( القواعد ) (1). ومن هذا الباب توجيهه إلى القبلة ، وحمله إلى القبر ، ودفنه فيه ، وردّ السلام ، وإجابة المُسَمّت ، والقضاء ، والشهادة وأدائها ، أمّا غسل الميّت فلا ريب في اشتراط النيّة فيه إذا لم يجعله إزالة نجاسة ، فلا يقع معتبراً في نظر الشرع إلّا بها ، كنظائره من الأغسال ) (2) ، انتهى.

وأقول : ظاهر كلامه هذا ، بل صريحه أن جميع ما ذكره من قسم المعاملات لا من قسم العبادات ، وعليه فلا معنى للإثم بترك النيّة وإن كانت شرطاً لحصول الثواب.

وقوله عليه السلام لا عمل إلّا بنيَّة (3) إن كان المراد به نفي التحقّق فنعم ، لكنّه لا يدلّ حينئذٍ على المطلوب ، وإن أُريد الصحّة والأجر منعناه في المعاملات وخصّصناه بالعبادات.

ثمّ نقول أيضاً : إنه رحمه اللّه استثنى التغسيل من جميع ما ذكره ، ولم يذكر دليلاً على وجوب النيّة فيه.

ومن ثمّ تردّد المحقّق في ( المعتبر ) (4) في وجوبها فيه ، واحتمل أنه من باب إزالة النجاسة ، فنحن نطالب مزهر ( الروض ) بالفرق بين التغسيل وغيره من واجبات الميّت على الكفاية غير الصلاة.

والتحقيق أن جميع ما ذكره من باب المعاملات كما أفاد ، فلا يُشترط في صحّته النيّة ، ولا إثم بتركها إلّا تغسيل الميّت ، فإنه عبادة ؛ لما تكثّرت به النصوص من أنه غسل جنابة (5) ، وكغسل الجنابة (6) ، وعُلّلَ فيها بأنه لأجل خروج النّطفة التي خلق

ص: 491


1- القواعد والفوائد 1 : 89 / القاعدة التاسعة والثلاثون ، الفائدة الأُولى ، ق 1 ، ف 2.
2- روض الجنان : 104 - 105 ( حجريّ ).
3- الكافي 2 : 84 / 1 ، الخصال 1 : 18 / 62 ، الأمالي ( الطوسي ) : 590 / 223 ، وفيه : « بالنيّة » ، عوالي اللآلي 2 : 190 / 80 ، وسائل الشيعة 1 : 48 ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب 5 ، ح 9.
4- المعتبر 1 : 265.
5- انظر : الكافي 3 : 163 / 1 ، علل الشرائع 1 : 348 / 2 ، وسائل الشيعة 2 : 488 ، أبواب غسل الميّت ، ب 3 ، ح 6.
6- انظر : تهذيب الأحكام 1 : 447 / 1447 ، وسائل الشيعة 2 : 486 - 489 ، أبواب غسل الميّت ، ب 3.

منها من بدنه (1) ، فهو غسل جنابة ، فهو إذن مثل تغسيل الجنب الحيّ وتوضيئه إذا عجز عنه. ولمّا كان حينئذٍ لا يُكلّف بالنيّة اختصّ وجوبها بالمباشر ، على أن الظاهر أن المسألة إجماعيّة.

وإلّا الجِهاد ، فإنه أحد أركان الإسلام الخمسة ، كما استفاضت به الأخبار ، فهو عبادة كالأربعة الباقية ، ولا ينافيه أن غايته الدفع عن المسلمين ، فإنها الغاية الظاهرة ، وفي الحقيقة غايته حفظ الإسلام وهياكل التوحيد ، فهو من أعظم العبادات. لكن لمّا كان ذلك لا يُمكن إلّا بحفظ المسلمين عبّر الفقهاء بأن غايته حفظهم. فمن هنا يُمكن أن يدخل إنقاذ المسلم من الهلكة في قسم العبادات.

وإلّا السلام وردّه ، وتسميت العاطس وإجابته ؛ إذ لا ينبغي الشكّ في أنها دعاء ، وكلّ دعاء عبادة ، بالكتاب (2) والسنّة (3) والإجماع.

وإلّا شكر النعمة إذا كان المنعم هو اللّه تعالى.

وقد أهمل ذكر ابتداء السلام وتسميت العاطس ، فإن كان لأنهما عبادة طالبناه بالفرق بين الابتداء والردّ ، وإلّا فَلِمَ أهملهما؟! وقد ذكر الردّ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن غايتهما غاية الجهاد ، بل هو فرد منهما ، وفيه من دفع المفاسد الدينيّة ما لا يخفى.

وهذا آخر ما أردنا إملاءه في هذه الرسالة ، وقد وفدتُ بها على باب مالك رقّي ورقّ الخلائق ، الخلف بن الحسن : عجّل اللّه فرجه فإن قبلها فطالما عفا عن المذنبين مثلي ، وإن ردّها فبجرائمي ، وهو غير متّهم في عدله ، وأنا أعوذ وألوذ برأفته من سخطه ، وبعفوه من عقابه ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على باب الرحمة محمّد : وآله وسلم كما هم أهله.

ص: 492


1- انظر : الكافي 3 : 163 / 1 ، 2 ، 3 وسائل الشيعة 2 : 487 ، أبواب غسل الميّت ، ب 3 ، ح 2 ، 3 ، 4.
2- الفرقان : 77 ، غافر : 60.
3- الكافي 2 : 467 / 5 ، وسائل الشيعة 7 : 23 ، أبواب الدعاء ، ب 1 ، ح 2 ، 7 ، و 28 ، أبواب الدعاء ، ب 2 ، ح 14.

وقع الختام بقلم مؤلِّفها أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : آخر نهار اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام السنة الثالثة والأربعين والمائتين والألف ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمَّد : وآله الطيِّبين الطاهرين ، وسلَّم تسليماً كثيراً.

تمَّت بعون اللّه وحسن توفيقه على يد العبد العاصي الآثم الجاني زرع بن محمَّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا اللّه عنهم بمحمَّد : وآله المعصومين.

ص: 493

ص: 494

الرسالة السابعة عشرة : أجوبة مسائل السيد حسين البحراني

اشارة

ص: 495

ص: 496

مقدمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله ، ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلي العظيم ، وصلّى اللّه على محمّد : وآله الطيّبين ، والحمد لله ربّ العالمين.

وبعد :

فيقول الأقلّ الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : إنه قد ورد عليّ مسائل من السيّد العالم العامل التقيّ الوفيّ الصفيّ ، السيّد حسين بن الفردوسيّ : السيّد أحمد. ولعمري ، إنه قد استسمن ذا ورم (1) ، ولكنّ شدّة حرص السائل على طلب العلم حمله على ذلك ، فطمع في وابل برق خلّب ، والحكمة ضالّة المؤمن (2) ، وإلّا فلست من رجال تلك الصناعة ، ولا من تجّار تلك البضاعة ، ولكن لا يسقط الميسور بالمعسور ؛ لأن أمره عليّ واجب الإطاعة ، فها أنا ذا أُشرع في المقصود معتصماً بباب اللّه الأعظم.

ص: 497


1- انظر صبح الأعشى 1 : 530 ، وفيه : ( استسمنت ).
2- عوالي اللآلي 4 : 81 / 82.

ص: 498

الوجه في جعل المسجد الأقصى غاية للإسراء

قال حرس اللّه ذاته المحمّديّة - : ( ما الوجه في الآية الشريفة ، آية الإسراء قال اللّه تعالى : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) (1) ، فجعل الغاية إلى المسجد وهو البيت المعمور ، كما ورد في ( العيّاشيّ ) (2) وغيره (3) مع أنه صلى اللّه عليه وآله مرَّ على جميع العوالم بأسرها والجنَّة والنار ، فما العلّة في هذه الغاية؟ ).

أقول : الإسراء : هو السير في الليل كما هو معلوم من نصّ أهل اللغة (4) ، فلا يسمّى السير في النهار إسراء ، وغاية مخروط ظلّ الأرض المعبّر عنه بالليل هو الفلك الثالث. وقد جاء في الأخبار أن الإسراء محدود ، فمنه ما وقع من المسجد الحرام إلى بيت المقدس خاصّة ، كما يشعر به بعض الأخبار (5) ، وفي بعضها (6) تفسير المسجد الأقصى بالبيت المعمور ، وفي بعض الأخبار (7) أنه في السماء الرابعة.

فعلى الأوّل الأمر واضح ، حيث إن بيت المقدس هو نهاية الإسراء.

وعلى الثاني يكون غاية الإسراء أي السير في الليل الذي هو ظلّ المخروط - الفلك الرابع ، لكن بملاحظة خروج الغاية ، وما زاد على هذا ليس إسراء.

وقد علمت أنه صلى اللّه عليه وآله صلّى بالجماعة في المعمور صلاة الظهر يوم الجمعة (8) ، فليس

ص: 499


1- الإسراء : 1.
2- تفسير العيّاشيّ 1 : 178 / 531.
3- الكافي 3 : 302 / 1 ، تفسير القمّيّ 2 : 9.
4- الصحاح 6 : 2376 سرا ، لسان العرب 6 : 252 سرى.
5- الكافي 8 : 218 / 376 ، تفسير القمّيّ 2 : 12 - 13.
6- الكافي 3 : 302 / 1.
7- تفسير العيّاشيّ 2 : 137 / 43 ، علل الشرائع 2 : 110 / 1.
8- الفقيه 1 : 202 - 203 / 925.

إذن ثمّة إسراء ، بل الإسراء قد انقطع دون ذلك ، ولم يبقَ سير ، بل السير يكون أيضاً إلى غاية ينقطع دونها ، ولا تبقى إلّا حركة جوهريّة ، فليس عند ربّك صباح ولا مساء.

هذا إن اعتبرنا مطلق الليل ، وإن اعتبرنا كمال الليل ، وهو الليل المعهود فذاك لا يجاوز الأثير ، بل ينقطع في الجملة دونها. وعلى هذا يختصّ الإسراء بمفارقته صخرة بيت المقدس ، فهي نهاية الإسراء وهو السير ليلاً.

وبعبارة اخرى : الإسراء : هو السير في الليل كما عرفت ، والليل أيضاً هو عالم الملك ، لما فيه من شوب ظلمة الجسمانيّات وإن ضعفت.

وقلت في بعضها ونهايتها : سيره صلى اللّه عليه وآله إلى البيت المعمور الكائن في السماء السابعة وهو الضراح (1) أو في السماء الرابعة على اختلاف الروايات بلا تنافٍ. فإن الأوّل باطن الثاني ، والنسبة بينهما كما بين النفس الحيوانيّة الإنسانيّة والحواسّ الخمس الدماغيّة (2) ، وهو أوّل الملكوت ، وهو من الجبروت كالساعة الفجريّة من الليل والنهار. وهناك ينتهي الإسراء وتظلّه الشمس التي هي حقيقة الشمس الحسّيّة الوجوديّة ، وهي حينئذٍ على دائرة نصف ذلك النهار ؛ ولذا صلّى صلى اللّه عليه وآله بهم الظهر ظهر الجمعة هناك ، لأنه جمعة ذلك الأُسبوع الجامع لمختصّات سائر أيّامه من أرضه ونباتها وأقواتها ، المخلوقة في يومين من اسبوعه وسماواته السبع.

وبالجملة ، فالإسراء مغيّا بما هو سير في ليل ، ولا تنافيَ بين تجديد الإسراء وكونه صلى اللّه عليه وآله مرّ على جميع العوالم ؛ فالإسراء نهايته المسجد ، والمعراج عامّ أو خاصّ ببيت المقدس على اختلافه ؛ منه عامّ ومنه أعمّ ، ومنه خاصّ ومنه أخصّ ، واللّه العالم.

ص: 500


1- تفسير القمّيّ 2 : 9.
2- وهي القوى الخمس الباطنة التي تنشأ من مقدَّمة الدماغ ، كما في الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة 8 : 205 ، وهي : ( مدركة الصور « الحس » ، والمصوِّرة « الخيال » ، والمتصرّفة في المدركات « متفكِّرة » ، ومدركة المعاني « المتوهِّمة » ، والحافظة « الذاكرة » ). للمزيد راجع الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، والإشارات والتنبيهات 2 :2. 332.

اختصاص عليّ عليه السلام بلقب أمير المؤمنين؟

ثمّ قال حرس اللّه حقيقته العلويّة - : ( الثانية : ما النكتة والسرُّ في اختصاص مولانا عليِّ بن أبي طالب عليه السلام : بلفظ أمير المؤمنين : دون ما سواه من المعصومين ، من محمَّد صلى اللّه عليه وآله إلى الحجَّة عليه السلام ما سواه؟ ).

أقول وباللّه المستعان - : لفظ أمير المؤمنين : له اعتباران : اسم علم لقبيّ ، ونعت وصفيّ ، وكلاهما متحقّقان لأمير المؤمنين عليه السلام.

فالاعتبار الأوَّل : هو اسم سمّى اللّه به عليّ بن أبي طالب (1) : عليه سلام اللّه - وحده ، ولا يجوز أن يسمّى به على جهة العلَميّة الاسميّة غيره ، بل هو مختصّ به.

وبالاعتبار الثاني : أعني : الوصف الناعت ، يجوز أن يوصف به غيره من محمَّد صلى اللّه عليه وآله : إلى صاحب الأمر ، عليه سلام اللّه.

أمّا اختصاصه عليه السلام بالتسمية بأمير المؤمنين : ، فيدلّ عليه الإجماع من أهل البيت عليهم السلام : وأتباعهم ، والنصوص المستفيضة.

ففي بعض التفاسير لبعض المتأخّرين (2) ، بسنده إلى تفسير محمّد بن عيّاش السلميّ : ، بسنده عن محمّد بن إسماعيل الرازيّ : عن رجل سمّاه عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال : دخل رجل على أبي عبد اللّه عليه السلام : ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقام عليه السلام على قدميه ، فقال مه ، هذا الاسم لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين عليه السلام : ، سمّاه اللّه به ، ولم

ص: 501


1- الكافي 1 : 411 / 2.
2- البرهان في تفسير القرآن 2 : 174 / 2746 ، وقريب منه في كنز الدقائق 2 : 625.

يُسمَّ به أحدٌ غيره فرضي به إلّا كان منكوحاً ، وإن لم يكن ابتلي به ، وهو قول اللّه في كتابه ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلّا شَيْطاناً مَرِيداً ) (1).

قال : قلت : فماذا يدعى به قائمكم؟. فقال : يقال له : السلام عليك يا بقيّة اللّه : ، السلام عليك يا بن رسول اللّه (2).

ومنه (3) بسنده إلى غياث بن إبراهيم : في تفسيره عن فرات بن إبراهيم الكوفي (4) عن جعفر بن محمّد الفزاريّ : ، معنعناً عن عمر بن زاهر : قال : قال رجل لجعفر بن محمَّد عليهما السلام : نسلّم على القائم : بإمرة المؤمنين؟. قال لا ، ذلك [ سمّى (5) ] اللّه به أمير المؤمنين لا يسمّى به أحد قبله ولا بعده إلّا كافر. قال : كيف نسلّم عليه؟. قال تقولون : السلام عليك يا بقيَّة اللّه. ثمّ قرأ جعفر عليه السلام : ( بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (6).

فهذه الأخبار وغيرها دلّت على أنه اسم اختصّ به فلا يسمّى به أحد غيره أي لا يدعى على جهة الاسميّة الدالّة على ذات المسمّى غيره فإن الاسم ما دلّ وأنبأ عن المسمّى ، أي دلّ على ذات المسمّى الجامعة لصفاته. ولعلّ النكتة في ذلك أنه لمّا كان باعتبار الاسميّة والعلميّة بمعنى : باب مدينة العلم (7) : أي علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله - فالمدينة محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، وهو عليه السلام بابها الذي لا يؤتى إلّا منه ؛ لأنه بمعنى ممير العلم - علم الرسول صلى اللّه عليه وآله : جميعَ المؤمنين من الأوّلين والآخرين من جميع العوالم حتّى أولاده ، ولا أحد يميره منهم. فهو دون ما سواه باب مدينة العلم ، والباب والمدينة كالشي ء المختلف باعتبار اختلاف الكلّ وأجزائه.

فأمير المؤمنين عليه السلام : اختصّ من الرسول صلى اللّه عليه وآله : بهذه النسبة الجزئيّة. فأمير المؤمنين عليه السلام : كالجزء من الكلّ ، ولا يطلق على الكلّ من حيث هو كلّ ، الجزء من

ص: 502


1- النساء : 117.
2- تفسير العيّاشيّ 1 : 302 / 273.
3- كنز الدقائق 4 : 536.
4- تفسير فرات الكوفي : 193 / 249.
5- من المصدر ، وفي المخطوط : « سماه ».
6- هود : 86.
7- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ( ابن المغازلي ) : 84 / 125.

حيث هو جزء ، فلا يقال : إن الرسول صلى اللّه عليه وآله : هو باب مدينة علمه ، فيصحّ جزء نفسه ؛ لأنه هو عين المدينة ذات الباب. فكما لا يقال لغير عليّ عليه السلام : حتّى النبيّ صلى اللّه عليه وآله : باب مدينة علم الرسول : ، لا يقال لغيره مطلقاً : أمير المؤمنين : ، على وجه الاسميّة اللقبيّة ؛ لأن أمير المؤمنين بهذا الاعتبار وباب مدينة العلم بمعنًى واحد كالمترادف.

ولعلّ السرّ في ذلك أن عليّاً عليه السلام : هو الظاهر لولاية اللّه العظمى ، وهي ولاية محمَّد صلى اللّه عليه وآله : التي هي ولاية اللّه حقيقة. ولا بدّ لمحمّدٍ صلى اللّه عليه وآله : من ظاهر بها وحامل للوائها ، وهو لواء الحمد الجامع لجميع محامد الجمال والجلال ، بحيث لا يشذّ منه شي ء ، فكلّ ما في الخلق طرّاً من ذلك قطرة من بحار جماله وجلاله.

ولا يقال : محمّد : هو الظاهر بولاية نفسه ، ولا حامل لواء نفسه ، فإنه عين ولايته التي هي ولاية اللّه حقّا. ولا بدّ من المغايرة بين الظاهر والمظهر ، فلولا أن عليّاً كان مظهر ولاية محمّد : التي هي باطن نبوّته التي هي باطن رسالته لما ظهرت رسالته ، بل ولا نبوّته.

فهو منه كما قال صلى اللّه عليه وآله أنت منّي بمنزلة الروح من الجسد (1) ، وأنت نفسي (2).

وهما باعتبار شي ء واحد ونور واحد ، فعليّ : هو الظاهر بخلافة اللّه العظمى التي هي خلافة محمّد : ، فكما لا يقال : اللّه عزّ اسمه من أسمائه أمير المؤمنين ، لا يقال : إن من أسماء محمَّد صلى اللّه عليه وآله : أمير المؤمنين ؛ لأن الإمارة تقتضي مؤمّر بكسر الميم ومؤمّر بفتحها ومؤمّر عليه ، فالمؤمّر محمّد : والمؤمّر عليّ : والمؤمّر عليه ما سواه من الخلق. والمؤمّر بكسر الميم من حيث هو مؤمّر لا يكون هو الأمير.

وستظهر إمارة عليّ عليه السلام : وسلطنته على جميع المؤمنين ، بل الخلائق أجمعين في مقامين

ص: 503


1- التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام : 469 ، وفيه : « يا عليُّ ، أنت منّي بمنزلة السمع والبصر والرأس من الجسد ، والروح من البدن ».
2- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلَّفات الشيخ المفيد ) 12 : 223.

أحدهما (1) : في الرجعة ، حين يدفع له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لواءه.

والثاني : في القيامة الكبرى ، حيث يدفع له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لواءه لواء الحمد الذي آدم : ومن دونه تحته ، ففي ( زهر الرياض ) نقلاً من ( تفسير العيّاشيّ ) عن سلام بن المستنير : عن أبي عبد اللّه عليه السلام : قال لقد تسمّوا باسم ما سمّى اللّه به أحداً إلّا علي بن أبي طالب : عليه سلام اللّه وما جاء تأويله.

قلت : جعلت فداك ، متى يجي ء تأويله؟ قال إذا جاء جمع اللّه النبيِّين والمرسلين (2).

وورد في قوله تعالى : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ ) (3) : فيومئذٍ يدفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : رأيته إلى عليِّ بن أبي طالب عليه السلام : ، فيكون أمير الخلائق كلّهم أجمعين ؛ لكون (4) الخلائق كلّهم تحت لوائه ، ويكون هو أميرهم ، فهذا تأويله (5) إلى آخر الحديث.

فظهر أن جميع الخلائق تحت لوائه وسلطنته ، فهو يميّزهم بالعلم وجميع الكمالات ، وليس هو تحت لواء أحد أصلاً ؛ لأنه حامل لواء محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، فليس أحد يستحقّ هذا الاسم سواه ، ولا يقال : إن محمَّداً صلى اللّه عليه وآله : هو حامل لواء نفسه.

وبالجملة ، فعليّ بن أبي طالب : حمّله الرسول صلى اللّه عليه وآله : ولايته المطلقة التي هي ولاية اللّه ، فظهر بها وقام بها وحملها ، ولا يطيق أحد ولا شي ء سواه حملها. وإلّا لم يكن الواحد من كلّ وجه واحد ، فهو سلام اللّه عليه أمير المؤمنين : وباب مدينة علم محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، وحامل لوائه لواء الحمد بمعنًى. فهذه الأسماء كالمترادفة ، فالدليل عليّ : والمدلول ولاية محمَّد صلى اللّه عليه وآله : ، وهو صلى اللّه عليه وآله الظاهر ، والمظهر عليّ عليه السلام : ، فهو منه كالنفس من الجسد ، وهو منه كنور الشمس من الشمس. والدليل والمدلول يتّحدان ضرباً من

ص: 504


1- في المخطوط : ( إحداهما ).
2- في المصدر : « المؤمنين » بدل : « المرسلين ».
3- آل عمران : 81.
4- في المصدر : « يكون ».
5- تفسير العيّاشيّ 1 : 205 / 77.

الاتّحاد في النهاية.

أمّا في مقام الدلالة فهما شيئان : دليل ومدلول ، واسم ومسمّى ، وإمارة عليّ عليه السلام : وسلطنته من مقام ولاية محمّد : ، فهو نفسه.

ولا يقال : إنه صلى اللّه عليه وآله أمير نفسه ، وسلطان نفسه ، وعليّ عليه السلام : نفسه ، فعليّ عليه السلام : أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ، وليس هو بداخل تحت أمره أحد من خلفائه ، فظهر اختصاصه بهذا الاسم الأعظم إذا أخذ بعنوان الإطلاق. فالإمارة والولاية المطلقة لم يظهر بها أحد سواه ، والرسول صلى اللّه عليه وآله : ، إنما ظهر بالرسالة ، وقد أُخذ العهد على جميع الخلق حين أرسل لهم ب- ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (1) بالإيمان بولايته المطلقة ، وهي إمارة أمير المؤمنين.

وأمّا الرسول صلى اللّه عليه وآله : والأئمّة الأحد عشر فلا شكّ في أنهم موصوفون منعوتون بأمارة المؤمنين والسلطنة والاستيلاء على الخلائق أجمعين. وإن نعتهم ووصفهم بها لا على جهة التسمية اللقبيّة العلَميّة جائز ، أمّا محمَّد صلى اللّه عليه وآله : فبالأصالة ؛ لأنه ينبوع تلك الولاية العامّة المطلقة والسلطنة الشاملة وحقيقتها الحقّيّة وإن لم يمكن أن يكون هو مظهرها في مقام الرسالة ؛ لما بينهما من التمانع ، ولما يلزم من أنه لا يكون له خليفة ، بل يكون خليفة نفسه ويتّحد الظاهر والمُظهِر ، وهو محال.

وأيضاً لا يمكن اجتماع الظهور بالرسالة والولاية المطلقة في شخص ؛ لما بين المقامين من الاختلاف في التكاليف واللوازم. فمقام الولاية لا يطيق مقام النبوّة أن يحمل تكليفه ، وكذا مقام الرسالة بأن نقيسه إلى مقام النبوّة. ومن أجل ذلك تأخّر التكليف بالتأويل حتّى يظهر صاحب الأمر : عجل اللّه فرجه واللّه رؤوف بالعباد.

وأمّا الأئمّة الأحد عشر فهم ورثوا تلك الإمارة والولاية والسلطنة من أمير المؤمنين. وممّا يدلّ على صحّة وصفهم بها وراثة من أمير المؤمنين : ما رواه بعض المتأخّرين في تفسيره عن أبي علي أحمد بن الحسين بن أحمد بن عمران : في كتاب

ص: 505


1- الأعراف : 172.

( الاختصاص ) عن عليّ بن الحسن : عن محمّد بن الحسن : عن محمّد بن الحسن الصفّار : عن عليّ بن السنديّ : عن محمّد بن عمرو : عن أبي الصباح : مولى [ آل سام ] (1) قال : كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام : أنا وأبو المغراء : ؛ إذ دخل علينا رجل من أهل السواد ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته. فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته.

ثمّ اجتذبه وأجلسه إلى جنبه ، فقلت إلى أبي المغراء : أو قال لي أبو المغراء : - : إن هذا الاسم ما كنت أرى [ أحداً (2) ] يسلّم به إلّا على أمير المؤمنين : ، صلوات اللّه عليه. فقال لي

يا [ أبا الصباح (3) ] ، إنه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتّى يعلم أن ما لآخرنا ما لأوَّلنا (4).

ثمّ قال جامع التفسير : ( رأيت كثيراً في الروايات أن الناس سلّموا عليهم ، ودعوهم ، وخاطبوهم بهذا الاسم ، ولم يمنعوهم ) ، انتهى.

فهذا دليل على صحّة وصفهم ونعتهم بأمارة المؤمنين ، وإثبات إمارة كلّ واحد منهم العلم لمن دونه من الخلق وولايته وسلطنته العامّة عليهم ، ولكن بجهة الوراثة من أبيهم أمير المؤمنين عليه السلام : الذي ثبت له هذا الاسم بالأصالة من محمَّد صلى اللّه عليه وآله : على سبيل الإطلاق والعموم لجميع المؤمنين ؛ فكلّهم داخل تحتها ، كلّ بحسب قربه من المبدأ عزّ اسمه وتعالى. وليس أمير المؤمنين عليه السلام : بمقتضى التسمية داخلاً تحت إمارة أحد ؛ لأن ولايته ولاية محمّد : [ التي (5) ] هي ولاية اللّه الحقّيّة الحقيقيّة ، ولا يمكن أن يتسمّى بها ويحملها ويظهر بها أي يكون مظهرها في الخلق إلّا واحد ( لا تُكَلَّفُ إِلّا نَفْسَكَ ) (6) ، وعليّ عليه السلام : نفسه ، فإثباتها لغيره على هذا الوجه شرك باللّه ؛ لأنها تؤول إلى اتّخاذ إلهين اثنين ، وقد قال تعالى : ( لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ

ص: 506


1- من المصدر.
2- من المصدر ، وفي المخطوط : ( أن ).
3- من المصدر ، وفي المخطوط : ( صباح ).
4- الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 12 : 267 - 268.
5- في المخطوط : ( الذي ).
6- النساء : 84.

إِلهٌ واحِدٌ ) (1). وإمارة كلّ إمام بعده بالوراثة منه ؛ لأنه يثبت لآخرهم ما يثبت لأوّلهم بالوراثة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.

ولا ينافيه أن مرتبة أمير المؤمنين : في كلّ جمال وجلال لا يساويه فيها أحد ؛ إذ لا يعرف الرسول صلى اللّه عليه وآله : بتلك المعرفة إلّا هو من جميع الخلق. فإذن ظهر أن معنى أمير المؤمنين : بالنسبة لعليّ عليه السلام : ، ومعنى باب مدينة العلم (2) ، ومعنى حامل لواء الحمد (3) ، ومعنى ممير جميع المؤمنين من علم الرسول صلى اللّه عليه وآله (4) : ، ومعنى : نفس الرسول (5) يؤول إلى معنًى واحدٍ وحقيقة واحدة ، وبه يظهر اختصاصه عليه السلام بهذا الاسم ، واللّه الهادي إلى سواء السبيل. وقد كرّرت العبارة وأكثرت الإشارة طلباً للتنبيه ، واللّه الغفور الرحيم.

ص: 507


1- النحل : 51.
2- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ( ابن المغازلي ) : 84 / 125.
3- : كشف اليقين : 303.
4- علل الشرائع 1 : 191 / 1.
5- البرهان في تفسير القرآن 1 : 631 ، تفسير القرآن العظيم 1 : 350.

معنى قول السجّاد عليه السلام : « قَوْلُكَ حُكْمٌ ، .. »

ثمّ قال فطم اللّه نفسه الفاطميّة من الأغيار - : ( الثالثة : ما معنى ما في دعاء السجّاد عليه السلام في يوم عرفة قال قَوْلُكَ حُكْمٌ ، وَقَضَاؤُكَ حَتْمٌ ، وَإرَادَتُكَ عَزْمٌ (1)؟ ). أقول ومن اللّه الهداية - : قوله عليه السلام قَوْلُكَ حُكْمٌ أي قوله للشي ء ( كُنْ فَيَكُونُ ) . فالمراد من قوله : هو الكاف والنون ، فهي حكم لا يتخلّف عنه مخاطب به.

وقيل : معناه : أن قوله حكمة كما في قوله تعالى : ( وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (2) ، أي الحكمة. وله وجه لا يخلو من صواب.

وقوله عليه السلام وَقَضَاؤُكَ حَتْمٌ يمكن أن يراد به : قضاء الموت ، كما في قوله تعالى : ( لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ) (3) عنى : مجي ء الأجل المقضيّ.

أو يراد به القضاء النازل في ليلة القدر على صاحب الأمر صلى اللّه عليه وآله : ، من القضاء الذي لا يردّ ولا يبدّل ، وهو الممضيّ في ليلة ثلاثٍ وعشرين من شهر رمضان ، وهي ليلة الإمضاء ، فيراد القضاء الممضى دون ما لله فيه البداء ؛ فإنه لا يتحقّق له في الخارج.

أو يريد القضاء الذي برز به الأجل والكتاب وأدمجهما فيه ، فيعمّ جميع المقضيّات ، لكن باعتبار الرتب الستّ (4) التي لا يكون شي ء في السماء ولا في

ص: 508


1- الصحيفة السجّادية الكاملة : 210.
2- مريم : 12.
3- فاطر : 36.
4- إشارة إلى ما رواه كلٌّ من الكلينيّ والصدوق عن العالم عليه السلام أنه سئل : كيف علم اللّه؟ قال عليه السلام : « علم ، وشاء ، وأراد ، وقدَّر ، وقضى ، وأمضى ». فهذه الستُّ هي مراتبُ الإيجاد. انظر الكافي 1 : 148 / 4. التوحيد : 334 / 9.

الأرض إلّا بها. أو القضاء الذاتيّ الذي هو أحد رتب الوجود العامّ. فقد ورد (1) أن لله قضاءً حتماً وهو الوجوديّ بالأصالة ، وقضاءً غير حتم وهو العرضيّ. فكما له تعالى إرادتان : إرادة حتم وإرادة عزم ، كذلك له قضاءان.

وقوله عليه السلام وَإرَادَتُكَ عَزْمٌ لعلّه أراد أن إرادته لا تكون إلّا على كمال الاختيار لأنها صادرة عن الواحد المختار ، فليس في ملك اللّه جبر ، بل الخلق بجميع أنحائه جارٍ على كمال الاختيار ذاتاً وصفة وفعلاً ، حتّى في خلقه و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (2) ، حتّى في وجودها وصفات وجودها ولوازمه وكمالاته.

فحقيقة البشر لمّا طلبت من بارئها بلسان قابليّتها بكمال اختيارها أن تكون بشراً أعطاها الصورة البشريّة. وكذا الفرس والبقر والشجر والحشيش والمعدن ، وجميع ما ذرأ وبرأ من المجرّد والمادّيّ والعلويّ والسفليّ. بل كلّ ذي حرفة وصنعة طلب من جود بارئه أن يكون على تلك الحرفة والصنعة بكمال اختياره. وكذا كلّ ذي لون وهيئة وشكل من بياض وسواد ، وطول وقصر ، وغير ذلك ، كلّ طلب ما هو عليه من أرحم الراحمين بكمال اختياره أن يكون كما هو عليه. فلو أن البليد طلبت إنّيته بكمال الاختيار أن يكون ذا فطنة لَمَا كان بليداً ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (3).

وقد نصبت لك مرآةً إن [ أبصرت بها (4) ] نفسك بصفاء سرّك انطمست عنك كلّ شبهة توهم الخبر في نحو من أنحاء الوجود ، حتّى في الذرّ والطين. فحاصل معنى قوله عليه السلام إرَادَتُكَ عَزْمٌ أي إنما تجري على كمال الاختيار من المراد ، لا جبر في فعله عزّ اسمه ومشيئته بوجه ( وَما تَشاؤُنَ إِلّا أَنْ يَشاءَ اللّهُ ) (5). وإن أردت غير هذا فغير خفيّ أن لله إرادتين : إرادة حتم بالأصالة ، وإرادة عزم هي العرضيّة وهي التجلية. فلعلّه عليه السلام أراد الثانية ؛ إظهاراً لثبوتها ، واللّه العالم.

ص: 509


1- الكافي 1 : 147 / 4.
2- البقرة : 286.
3- الكهف : 49.
4- في المخطوط : ( أبصرتها ).
5- الإنسان : 30 ، التكوير : 29.

حكم البهيمة المذكّاة إذا وطئت

ثمّ قال أنار اللّه سرّه الأحمديّ - : ( الرابعة : البهيمة لو وُطئت فإن كانت مأكولة اللحم أُحرقت ، وإن لم تكن أُخرجت وبيعت في غير بلدها ، على ما فصَّلوه (1). فهذا مختصٌّ بالحيِّ ، أم يشمل ما لو ذكِّيت دابَّة كبقرة أو شاة ثمّ بعد الذبح وطئها إنسان ، فهل يلحقها حكم الحيِّ من تحريم لحمها وذبحها ، وعدم ذبحها لو كانت غير مأكولة؟ وهل عليه التعزير أم لا؟ ويقدر التعزير في الموطوءة الحيّة أم لا؟ ).

أقول وباللّه المستعان - : أمّا حكم الموطوءة الحيّة من النصّ (2) والفتوى (3) فمعلوم قد بان ، وأمّا الميتة لو وطئها إنسان فإن كانت غير مذكّاة فهي حرام بالموت. وإحراقها لو كانت [ غير ] مأكولة اللحم عادة لم يقم على التكليف به دليل ، والأصل يقتضي البراءة منه. وأمّا لو كانت مأكولة اللحم عادة كبقرة أو شاة فذكّيت ثمّ بعد تحقّق التذكية وطئها رجل ، فالأظهر أنه لا يلحقها حكم التحريم للأصل ، واستصحاباً بحلّها قبل الوطء ، وهو يقين لا يرفعه إلّا يقين مثله ، ولدخولها في عموم الأدلّة الدالّة على حلّ ما ذكّي ممّا يؤكل لحمه كالأنعام مثلاً ، بلا معارض لشي ء من ذلك.

وأخبار الباب إنما دلّت على تحريم الحيّة الموطوءة للرجل ؛ للأمر فيها كلّها بذبحها ولا يذبح إلّا الحيّ ، فدلّ ذلك أن دلالة الأخبار إنما هي ظاهرة في الحيّ ،

ص: 510


1- شرائع الإسلام 4 : 174 ، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 9 : 307 - 309.
2- وسائل الشيعة 24 : 169 - 170 ، أبواب الأطعمة والأشربة ، ب 30.
3- انظر : هامش 1 من نفس الصفحة.

وكذا تحريم لبنها ونسلها ظاهر في تعلّق الحكم بالحيّ. ولا يظهر فرق بين نكاحها حينئذٍ ونكاح قطعة مبانة ، فإنه لا يثمر تحريمها ولو كانت هي الفرج.

هذا مضاف إلى أن المذبوحة الميتة ليست حيواناً ولا بهيمة بالفعل ، والحقّ اشتراط بقاء مأخذ الاشتقاق في صحّة إطلاقه حقيقة. فهذه حينئذٍ جماد ، فلا معارض لما دلّ على حلّها. ويحتمل التحريم التفاتاً إلى دخولها في إطلاق تحريم موطوءة الرجل أو الإنسان.

وذكر لو أن الحياة في النصّ والفتوى إبانة لحكم الفرد الغالب الأكثريّ ، أي تذبح إذا كانت قابلة للذبح بأن كانت حيّة ، ويحرم لبنها إن كانت ميتةً ، ويكون الذكر كالأُنثى ؛ فإن الذكر يجري عليه حكم التحريم ، والذبح ، والحرق ، والتغريب كالأُنثى وهو ضعيف.

فإنا إذا صرفنا النصّ والفتوى إلى الفرد الغالب الذي هو مناط الأحكام ، خرجت المذكّاة من جميع أحكام الحيّة. على أنا نمنع دخولها حينئذٍ في لفظ البهيمة ؛ لخروجها حينئذٍ عن هذا المسمّى بالموت ، فلا تسمّى حينئذٍ دابّة ، ولا بهيمة ، ولا حيواناً حقيقة.

وأمّا ما ذكر من حكم الذبح ، وهل تذبح الموطوءة المذكّاة أم لا؟ فلا معنى له يظهر ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل.

وأمّا قوله حرسه اللّه - : ( وعدم ذبحها لو كانت غير مأكولة ) فلا يظهر لي معناه ، فإن حاصل السؤال هل حكم المذكّاة لو وطئت حكم الحيّة الموطوءة أم لا؟ وهذا غير جارٍ في غير المأكولة عادةً ؛ لعدم تذكيتها [ عادة (1) ]. فإن أراد أن غير المأكول عادة لو كان حلالاً كالدوابّ الثلاث لو ذكّيت ثمّ وُطئت ، هل تحرم ويجب تغريبها ، أم لا؟

فالجواب : أن الآية والاستصحاب والعمومات نصّاً وفتوى تقتضي بقاءه على

ص: 511


1- في المخطوط : ( عادته ).

حلّه ، ولم يظهر دليل على تحريمه ، وإنما دلّ على وجوب بيعه في غير بلد الفاعل ، لئلّا يعيّر. وهو يدلّ على سقوط حكم التغريب لو وطئ بعد الموت ؛ ذكّي أم لا؟ ولا يجري احتمال التحريم هنا ، ولا معنى لتغريب الميّت فيه.

وأمّا حكم التعزير فثابت على من وطئ دابّة ميّتة إذا بلغ سنّ وجوب التعزير ؛ لأنه عصيان ، وفعله محرّم ، بل أفحش من وطء الحيّة ، ولكنّه موكول قدره إلى نظر الحاكم هنا ولو قلنا بتعيين قدر في وطء الحيّة لعدم الدليل على تقديره هنا ، واللّه العالم.

ص: 512

في وجوب صلاة الآيات على من لم تقع الآية في بلده

ثمّ قال زاده اللّه علماً - : ( الخامسة : لو وقعت زلزلة في البحرين مثلاً ، والزلزلة وقتها العمر ، فهل يجب على من هو ساكنٌ غيرَ البحرين كالقطيف مثلاً صلاة الزلزلة ، أم لا؟ ومن صرَّح بهذا التفريع؟ ).

أقول وباللّه المستعان - : لا ريب أن صلاة الآيات لا تجب إلّا على من أظهرها اللّه له ، وأوقعها به ليدفع اللّه بها عمّن وقعت به الآية ما يحدث بها من البلاء والفساد الواقع بسببها في نفوس من وقعت بهم وأرضهم وهوائهم ومائهم ، فإذا صرفها اللّه برحمته عن قوم ، أو لأنهم لم يفعلوا ما يوجب عقابهم بإنزال تلك الآية بهم لم يجب عليهم تلك الصلاة. فلو وقعت زلزلة في البحرين مثلاً ولم تقع في القطيف مثلاً ، لم يجب على أهل القطيف صلاتها ، وإنما تجب على من وقعت بهم.

ووقتها العمر لمن كلّف بها. وكون وقتها العمر لمن كلّف بها لا يستلزم وجوبها على من لم تقع به ، بل لو وقعت الزلزلة أو غيرها من الآيات بقرية من قرى القطيف أو البحرين مثلاً ، لم تجب صلاة الآيات على أهل قرية منها اخرى لم تقع بها تلك الآية ؛ لأن اللّه تعالى لم ينزل بهم سببها ولم يخوّفهم به. وعلى ذلك عمل المسلمين في سائر الأوقات والأصقاع.

وأيضاً إيجاب صلاة الآيات على أهل القطيف مثلاً لو وقعت زلزلة في عمان مثلاً تكليف يحتاج إلى دليل ، ولا دليل. فأصل البراءة لا معارض له ولا ناقل عنه.

وأيضاً لو كان الوجوب يعمّ من لم تقع بهم الآية الواقعة في بلد اخرى لدلّ عليه الشارع بوجه من ضروب الدلالات ، ولَوُجِدَ في الأرض في كلّ زمان قائلٌ به ؛ لأنه

ص: 513

ممّا يعم به البلوى. وحيث لم يدلّ عليه صاحب الشريعة : ولو على لسان أحد نوّابه ، عُلم أنه لم يقع التكليف به ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان.

وممّا يؤنسك بهذا القول أن مَن لم يعلم بالخسوف حتّى خرج وقت الأداء ، لم يجب عليه القضاء مع وقوع الآية به وفي أرضه. فلو كان يجب على من لم تقع به الصلاة لوقوعها في غير أرضه بغيره ، لكان هذا أوْلى بالوجوب.

وأيضاً لو قلنا بالوجوب على من لم تقع به ، لكنّا نوجب ذلك عليه في غير الزلزلة لتساويها مع غيرها في سببيّة الصلاة. ولو قلنا بذلك لزم أنا نوجب على من لم تقع به غير الزلزلة القضاء دون الأداء ، بل بوجوبها أداء على غيره يجب عليه القضاء. وهذا واضح البطلان.

على أن الشهيد : في ( المسالك ) (1) قائل بمساواة غير الزلزلة لها في كون وقت أدائها العمر إذا وقعت ولم يسع وقت وقوعها الصلاة. ونقله عن ( الدروس ) (2).

وأنت إذا تأمّلت الأخبار (3) وجدت ما يرشدك إلى أنه لا يكلّف بصلاة الآيات أداء أو قضاء إلّا من أوقعها اللّه به دون باقي أهل الأرض. وليس معي آلة تراجع ، فلا اعلم من ذكر هذا الفرع ، واللّه العالم.

ص: 514


1- مسالك الأفهام 1 : 257.
2- الدروس 1 : 195.
3- المقنعة ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) 14 : 208 - 209 ، وسائل الشيعة 7 : 484 ، أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ب 1 ، ح 5.

حول رؤية المعصوم عليه السلام في المنام

ثمّ قال زاده اللّه صلاحاً - : ( السادسة : أنه ورد عن مولانا الصادق جعفر بن محمَّد عليهما السلام : إنا لا نُشبه أحداً (1) ما مَعناه؟ وكيف يتحقَّق رؤية المعصوم في المنام؟ كيف يراه الرائي وهو لا يشبه أحداً؟ وكيف لي بمعرفته أنه هو ، وأنا لو رأيته في صورة أحد وأخبرني هو ب- : إني المعصوم؟ فكيف يتأتّى لي بأن هذه الصورة لا تشبه صورة البشر مع أني غير محيط بمعرفة صور البشر كلِّها ، حتّى أقول : إنّ هذه الصورة لا تشبه صورة البشر؟ ).

أقول وباللّه المستعان - : إذا قال جعفر بن محمَّد عليهما السلام : إنا لا نشبه أحداً ، فمعناه أن ذواتنا وحقائقنا ليست من نوع شي ء من حقائق الخلق ، بل نحن فوق جميع الحقائق ، حقيقتنا ووجودنا فوق جميع الموجودات ، أطرافهم فوق جميع الخلق ودون الخالق ، فلهم حقيقة ووجود ، وقد اختصّوا بها لا تشبه شيئاً من حقائق الخلق. وكيف تشبه حقيقة العلّة حقيقة المعلول ، وهم علّة الخلق طرّاً؟ وقد بان وجود العلّة من المعلول لا بمزايلة. فهم عليهم صلوات اللّه وسلامه أنوار لاهوتيّة البسوا قوالب بشريّة لتطيق الناس رؤيتهم ( وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ ) (2).

وليس معنى إنا لا نشبه أحداً أنهم ليسوا على الصورة البشريّة ، ولا أنهم ليسوا على صورة من صور الخلق ، فإن هذا تدفعه المعاينة والوجدان حسّا وعقلاً. بل

ص: 515


1- بحار الأنوار 3 : 196 ، وفيه : « وعصمنا من أن نشبّهه بشي ء من خلقه ».
2- الأنعام : 9.

قالوا : إنا نتقلّب في الصور حيث شئنا (1). وليس معناه أيضاً : أن هذه الصورة البشريّة المحسوسة منّا لا تشبه صورة أحد من البشر المحسوسة ؛ لأن هذا ليس فيه قدح يذكر في مقام الافتخار.

ولم يقم دليل على أن أحداً من ولد آدم عليه السلام : على صورة إنسانيّة متفرّد بها دون سائر ذرّيّة آدم عليه السلام. على أن هذا الفرض كالمحال ؛ لاشتراك بني آدم : في نوعيّة الهيئة من العينين والأُذنين ومحالّهما ، وجميع الكيفيّة والكمّيّة ، وقد أشبهوا غيرهم في ذلك. فكيف ومقتضى نفي النكرة العموم؟ فلو لم يكونوا على شي ء من هيئات الصور البشريّة وكمّيّاتها ، بل ولا كيفيّاتها لم يكن لهم جسميّة أصلاً. والكلّ باطل بالضرورة حسّا وعقلاً ، فتبيّن أن ذلك غير مراد.

نعم ، لهم أعين لا تشبه أعين الناس ، وأسماع لا تشبه إسماع الناس ، أي بوجوداتها وعينها ، لا بهيئات أجسامها وكمّيّاتها. وبما تبيّن تندفع الشبهة ، وهذا معناه.

وتتحقّق رؤية المعصوم في المنام كما تتحقّق رؤيته في اليقظة ، إلّا إنه في اليقظة يبصره الناظر بعين جسميّة ، وفي المنام بعين مثاليّة. فإن أمكن رؤيته ومعرفته في اليقظة أمكن رؤيته ومعرفته في المنام ، وإن لا يمكن ذلك في المنام لا يمكن في اليقظة. وقد أمكن في اليقظة ، فهو في المنام ممكن ؛ لاتّحاد العلّة ، وسبب هذا إيجاباً وسلباً بلا فارق.

وهو عليه سلام اللّه يعرّفك نفسه إذا أراد في اليقظة والمنام على حدّ سواء. ولقد أراك نفسه في الميثاق فعرفته يقيناً ، وستراه عند الاحتضار ، وفي القبر ، وفي الرجعة ، وفي القيامة ، وتعرفه في كلّ ذلك يقيناً. بل معرفته في المنام ، وفي كلّ تلك المراتب أشدّ وأقوى من معرفته في اليقظة ؛ لأنك تعرفه في كلّ مقام بما يناسبه من المعرفة.

وهو في كلّ ذلك لا يشبه أحداً ولا يتوقّف معرفتك له إذا ظهر لك في مقام على

ص: 516


1- مشارق أنوار اليقين : 171 ، من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام وفيها : « أنا الذي أتقلّب في الصور كيف شاء اللّه ».

حالتك بجميع صور البشر ، وإلّا لم تكن حجّة على بشر ؛ إذ لا فرق في ذلك بين اليقظة والمنام ، بل جميع ما خلق اللّه دونه يعرفه من الثرى إلى العرش ، ولكن كلّ أحد من مقامه من الوجود. فليس يعرفه بالصورة البشريّة ، وليس البشر يعرفه بالصورة الملكيّة ولا الجبروتيّة ؛ لأنه لا تكمل حجّة اللّه إلّا إذا ظهر لكلّ أحد بما يمكن قبوله منه ، وما يأنس به من الصور. فلو ظهر البشر بصورة الملك لم يقبلوا منه بكمال الاختيار ، واللّه العالم.

ص: 517

معنى ( ما ) التعجبيّة الواردة في أدعيتهم عليهم السلام

ثم قال وفّقه اللّه للعلم بما يعلم ونوّر فكره به - : ( وسنح لي مسألة أيضاً هو أنه قد ورد عنهم عليهم السلام في أدعيتهم سبحانه من قدير ما أقدره ، وسبحانه من عليم ما أعلمه ، ومن كريم ما أكرمه (1).

وقد ذكر النحاة (2) في ( ما ) التعجبيّة أنها بمعنى شي ء ، كما قالوا في : ( ما أحسن زيداً! ) أي شي ء عظيم حسَّن زيداً ، فيلزم على هذا شي ء عظيم أقدره تعالى ، وشي ء عظيم أعلمه ، وشي ء عظيم أكرمه. فما معنى هذا؟ وكيف انطباقه على كلام النحاة؟ ).

وأقول وبمحمّدٍ وآله صلّى اللّه عليه وعليهم أجمعين ، أرجو من اللّه بلوغ المأمول - : ليس مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) في حال التعجّب : ( شي ء عظيم حسّن زيداً ) ، باتّفاق النحاة وأهل البلاغة ، وكلّ من عرف أساليب كلام العرب وإن بعد عهدي بمراجعة كتب العربيّة. بل مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) في التعجّب أن حُسنَ زيد شي ء عظيم يستحقّ أن يكون عجباً للأذهان ؛ لتجاوزه درجة المعتاد من حسن البشر.

والدليل على هذا اتّفاق أهل اللسان على أنه إنشاء لا إخبار وإن كان أصل موضوع الجملة خبراً كما هو شأن كلّ إنشاء. واتّفاقهم أيضاً على اتّحاد مدلول : ( ما أحسن زيداً! ) و ( أحسن بزيد! ) ولا شكّ ولا خلاف أن ( زيد ) في ( أحسن بزيد ) فاعل في المعنى ، فيكون في : ( ما أحسن زيداً! ) كذلك.

ويدلّ على ما قلناه أيضاً اتّفاقهم على أنه لا يُبنى إلّا من ثلاثيّ لازم ، ولا يكون

ص: 518


1- مهج الدعوات : 109 ، بحار الأنوار 92 : 367.
2- مغني اللبيب : 392 ، شرح ابن عقيل 3 : 150.

بحسب الأغلب أو كلّيّاً إلّا في الصفات الذاتيّة ، فلا يكون زيد في : ( ما أحسن زيداً! ) مفعولاً في المعنى البتّة ، فلا يكون المعنى : ( شي ء أحسن زيداً ) أي جعله حسناً ، بل يحتالون فيما إذا أرادوا التعجّب من الصفة التي ليست لازمة ذاتيّة في ردّها إلى الصفة اللازمة الذاتيّة بلفظ ( أشدّ ) ، فيقولون : ( ما أشدّ مضروبيّة زيد! ) فإن المضروبيّة صفة لزيد لا تتجاوزه ، وإن كانت من لوازم ضاربيّة الضارب. ولذا أيضاً يقولون : ( ما أشدّ ضاربيّة زيد! ) ، فافهم.

ولكن أوهمك اختلافهم في تركيب : ( ما أحسن زيداً! ) ، فالمشهور أن ( ما ) نكرة بمعنى شي ء ، و ( أحسن ) فعل ماضٍ وزيداً مفعول.

وهذا إنما هو تركيب الجملة باعتبار أصلها من الخبريّة قبل نقلها إلى المعنى الإنشائيّ ، وهو التعجب ، وبعد النقل يبقى التركيب الخبريّ على ما كان ؛ لأنها جرت مجرى الأخبار فلا تغيّر كما هو شأن كلّ جملة قُصد بها الإنشاء تركّب باعتبار صيغة لفظها الخبريّ المنقولة منه. ولذا لا يتصرّف فعل التعجب فلا يأتي منه مضارع ولا أمر في : ( ما أحسن زيداً! ) ولا ماضٍ ولا مضارع في : ( أحسن بزيدٍ ) ، ولا يأتي منهما مصدر ولا اسم فاعل ولا مفعول.

وليس مدلول ( أحسن ) في : ( ما أحسن زيداً! ) الماضي ولا : ( أحسن بزيد ) الأمر ؛ لنقلهما عن مدلولهما اللفظيّ الخبريّ. وكذا كلّ جملة إنشائيّة تركّب باعتبار لفظها الخبريّ ، فتقول في تركيب ( بعتك الثوب ) منشِئاً : ( باع ) فعل ماضٍ ، وليس مدلوله الماضي البتّة ، وعلى هذا فقس.

وإن أبيت إلّا تركن إلّا إلى كلام متقدّم ، فليس عندي ما أُراجعه إلّا كلام الاسفرائيني : في شرح ( اللباب ) استعرته لأنقل لك عبارته.

قال : ( ثمّ شرع يعني : الماتن في إعراب الصيغتين ، فقال : ( ما أفعله! ) أصله شي ء أفعله يعني : أن ( ما ) نكرة بمعنى : شي ء ، و ( أفعل ) فيه ضمير هو فاعله يرجع إلى ( شي ء ) ، وهو معنى قوله : والفعل مسند إلى ضمير ( ما ).

ص: 519

وقيل : إن ( ما ) موصولة ، و ( أفعله ) صلته. والموصول مع صلته مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي الذي أفعله حاصل.

وقيل : أصله : ( ما ) الاستفهاميّة ، أي ( أيّ شي ء أحسن زيداً ) أي جعله حسناً.

وهذه الوجوه باعتبار الأصل ، يعني : أن أصلها في الإعراب هذا ، لا أن هذا المعنى مراد ؛ لأن معناه التعجّب ، وما قدّر إنشاءً في الأصل جملةٌ خبريّة محتمِلة للصدق والكذب ، فلا يكون بمعنى الإنشاء.

وقال : ( تقديراً ) أي تقدير هذا الأصل لتصحيح هذا الإعراب ، ثمّ نقل إلى معنى التعجّب. وهذا الحكم مطّرد وهو أن الشي ء إذا نقل من حال إلى حال كان إعرابه بحسب المنقول عنه ، ومعناه بحسب المنقول إليه ) ، انتهى.

وبعد هذا فلا شبهة تبقى ، وهو قانون ينفعك في موارد كثيرة ، واللّه العالم. وصلّى اللّه على محمّدٍ : وآله الطيّبين وسلم عليهم أجمعين ، كما هم أهله. والحمد لله ربّ العالمين.

حرّر بقلم الأحقر الأقلِّ أحمد بن سالم بن طوق : ، انتهى عصر ثالث المحرّم سنة (1241).

نقلتها من نسخة الأصل ، وأنا الجاني الأثيم زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع.

ص: 520

فهرس الموضوعات

الرسالة التاسعة روح النسيم في أحكام التسليم... 7 - 126

[ مقدمة المؤلف ]... 9

والبحث فيه في ثلاثة مواطن... 9

الأوّل : في وجوبه وندبيّته... 11

القائلون بالاستحباب... 11

القائلون بالوجوب... 11

ضروب من الدلالة على القول بالوجوب... 14

القول بالاستحباب وردّه... 31

أدلَّة القول بالاستحباب... 43

ردّ أدلَّة القول بالاستحباب... 46

الموطن الثاني : هل التسليم جزء أو خارج؟... 55

الموطن الثالث: في اختلافهم في تعيين الصيغة المُخْرِجَة... 69

تنبيهات... 75

الأوّل في كيفية صيغ التسيليم... 75

الثاني : هل تجب نية الخروج بالتسليم المخرج؟... 91

الثالث في مناقشة تفريعات الشهيد الأول رحمه اللّه في نية التسليم... 95

الرابع في قصد الإمام التسليم على الأنبياء والأئمة والحفظة والمأممومين... 99

الخامس في تسليم المأموم... 109

السادس في واجبات التسليم... 125

السابع في التسليم على النبي صلى اللّه عليه وآله قبل التسليم المخرج... 125

ص: 521

الرسالة العاشرة من استوعب عذره الوقت ولم يتمكن بعد زوال العذر من ركعة

... 127 - 159

في بيان حدّ بركعة... 129

القول الأول في تحقق إكمال الركعة برفع الرأس من السجدة الثانية... 130

القول الثاني في تحققه بإكمال الذكر من السجدة الثانية... 134

القول الثالث في تحققه بمجرد وضع الجبهة على محل السجود في السجدة الثانية... 137

القول الرابع في تحققه بالركوع... 138

الدليل على وجوب الصلاة على من أدرك ركعغة من الوقت... 139

صلاة من أدرك من الوقت ركعة هل هي أداءٌ أم قضاءٌ؟... 142

الخلاصة... 157

تنبيه :... 158

الرسالة الحادية عشرة : احكام العمرة... 161 - 352

مقدمة المؤلف... 163

أدلة وجوب العمرة... 165

أقسام العمرة... 166

إيضاح حول عبارة الشرائع... 168

شرائط وجوب العمرة... 171

موجبات العمرة... 175

أحكام العمرة الفاسدة... 176

الإحرام لدخول مكَّة... 189

فصل في مواقيت العمرة... 201

تنبيه... 214

فصل عدم جواز تقديم الإحرام على المواقيت... 217

جواز تقديم الإحرام على المواقيت... 239

واجبات العمرة... 243

فصل الأوّل في كيفيّة الإحرام... 243

ص: 522

ثوبا الإحرام... 243

تنبيه... 255

نيّة الإحرام... 261

التلبيات الأربع... 263

الفصل الثاني في الطواف... 265

الرسالة الثانية عشرة : هل حل للأب الرضاعي نكاح مطلقة ابنة الرضاعي؟ 353 - 359

الرسالة الثالثة عشرة : عدة المطلقة التي لا تحيض إلا في أكثر من ثلاثة اشهر مرة

... 361 - 386

الأخبار الدالة على كون الاعتداد بالشهور... 365

مناقشة قول الفاضل الهندي في شرحج عبارة القواعد... 368

إشكال الشهيد الثاني في المسالك... 369

الجواب عن إشكال الشهيد الثاني... 373

إشكالات وردود... 379

عدّة الأمة التي تحيض في أكثر من خمسة وأربعين يوماً... 384

الرسالة الرابعة عشرة : في تمشية الحبوة إلى ولد الولد بالنسبة إلى جدة... 387 - 406

نصّ المسألة... 389

جواب المسألة... 391

دليل غطلاق الولد على ولد والبنت مجازاً... 393

خلاصة القول... 402

الرسالة الخامسة عشرة : ضميمة طلب الثواب والهرب من العقاب في نية العبادة

... 407 - 454

أقوال العلماء في المسألة... 409

أدلّة القول المشهور... 418

تتّمة في بيان حكم بعض الضمائم في النيّة... 430

خلاصة القول... 450

تتّمة في مطابقة العمل النيّة... 453

الرسالة السادسة عشرة : الواجب الكفائي... 455 - 493

تعريف الواجب الكفائي... 457

ص: 523

أقسام التكليف... 463

مناقشة رأي الشهيد الثاني... 465

تنبيهات... 479

الأول في جواب العلامة عن شبهة بعض الشافعية... 479

الثاني في سقوط الكفائي عن المخاطبين به يفعل بعضهم هل مناطه الظنّ أو العلم؟... 479

مناقشة عبارة الشيخ جواد رحمة اللّه... 482

الثالث : هل يجوز التخلف عن الفعل لو شرع به أحد المكلفين قبل إكماله؟... 487

الرابع في فورية الواجب الكفائي... 488

الخامس في السلام ابتداء ورداً جمع فيهما الكفائي والتخييري واجباً وندباً... 488

السادس في الكفائي قسيم للتخييري... 489

السابع في الكفائي ينقسم إلى معاملات وعبادات... 490

تنبيه في مناقشة رأي الشهيد الثاني في روض الجنان... 490

الرسالة السابعة عشرة : اجوبة مسائل السيد حسين البحرائي... 495 - 520

مقدمة المؤلف... 497

المسألة الاُولى : ما الوجه في جعل المسجد الأقصى غاية للإسراء؟... 499

المسألة الثانية في اختصاص الإمام عليّ عليه السلام بلقب أمير المؤمنين... 501

المسألة الثالثة في معنى : «قولك حكم ، وقضاؤك حتم ، وإرادتك عزم»... 508

المسألة الرابعة في حكم البهيمة المذكاة إذا وطئت... 510

المسألة الخامسة في وجوب صلاة الآيات على من لم تقع الآية في بلده... 513

المسألة السادسة حول رؤية المعصوم عليه السلام في المنام... 515

المسألة السابعة في معنى «ما» التعجيبية الواردة في أدعيتهم عليهم السلام... 518

فهرس الموضوعات... 521

ص: 524

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.