ميقات الحج-المجلد 34

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

الإله في كلمة الإخلاص

ص: 3

آية الله الشيخ جعفر السبحاني

إنّ المسلمين في زيارتهم البيت الحرام يذكرون موقفاً خالداً لنبيهم العظيم حيث وقف ذات يوم على صخرة في جبل الصفا منادياً بصوت عال، وقال: «أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم مصدّقيّ؟»

قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم من بين يدي عذاب شديد ... ثم دعاهم إلى كلمة التوحيد، وقال:

«قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا»

فاستجاب لدعوته قليل من الناس ورفض الأكثرون، ولكن دعوته انتشرت بفضل الله تعالى في مكة والقبائل المحيطة بها، إلى أن عمّت غالب أرجاء الدنيا.

فعلى المسلمين أن يعيدوا النظر في فهمهم لمعنى كلمة التوحيد.

وهذا المقال يتكفل بتبيين مفهوم الإله، في هذه الكلمة المباركة.

معنى «الإله» في الذكر الحكيم

المشهور أنّ «الله» أصله «إله» فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام، فخُصّ بالباري، ولتخصُّصه به قال تعالى: رَبُّ السَّماواتِ وَ الأرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا. (1) والمهم هنا، هو تفسير لفظ الإله، وتبيين معناه، وقد فُسّر بوجوه سبعة، إليك بيانها:


1- مريم: 65.

ص: 4

1. مشتق من الألوهية التي هي العبادة، فإن التألّه، هو التعبّد. يقال: فلان متألّه، أي متعبِّد، قال رؤبة:

لله درّ الغانيات المُدّهِ (1) لمّا رأين حليي المُموَّهِ

سبّحن واسترجعن من تألّهي

أي من تعبّدي. ويقال: ألِه الله فلانٌ إلاهةً، كما يقال: عبده عبادة. (2) فعلى هذا يكون معناه: الّذي يحقّ له العبادة.

2. مشتق من الوله وهو التحيّر، يقال: أَله يأله إذا تحيّر.

3. مشتق من قولهم: الَهْتُ إلى فلان أي فَزِعتُ إليه، لأن الخلق يألهون إليه، أي يفزعون إليه في حوائجهم.

4. مشتق من ألهِتُ إليه أي سكنت إليه، لأن الخلق يسكنون إلى ذكره.

5. مشتق من لاه أي احتجب. والمعنى أنّه سبحانه المحتجب بالكيفية عن الأوهام، الظاهر بالدلائل والأعلام. (3) 6. مشتقّ من ألِه الفصيل إذا ولع بأمّه. والظاهر أنّه يرجع إلى التفسير الثالث، أي أنّه مشتق من أَلَهَ بمعنى «فزع».

7. مشتق من «لاه» إذا ارتفع، والله سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات. (4) والحق أنّه لا صلة لهذه المعاني لما وضع له لفظ «إله» وإنّما هي من لوازم المعنى، لا نفسه ولا جزءه، بل لازماً له، لأنّ من كان إلهاً- بالمعنى الّذي نذكره- للعالمين، يُعبد وتتّحير العقول في درك كنهه، وتسكن إليه النفس، ويُحتحب عن الأوهام، وإن كان وجوده ظاهراً بالدلائل والبرهان.

ما هو المختار؟

إنّ لفظ الجلالة وما يعادله في عامّة اللغات موضوع لما يتبادر في عامّة الأذهان بصورة إجمالية من كونه مصدر الخلق والكون الّذي


1- المُدَّه، جمع مادِه، وهو المادح.
2- التبيان في تفسير القرآن 28: 1.
3- مجمع البيان 19: 1.
4- تفسير الرازي 158: 1- 161.

ص: 5

يعبّر عنه في لسان الحكماء والمتكلمين بواجب الوجود، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والجلال، إلى غير ذلك من الكلمات الّتي هي تعبير تفصيلي لما هو المتبادر عند عامّة الشعوب.

ثمّ إنّ الوثنيين اخترعوا لله سبحانه أنداداً وأشباهاً على درجات مختلفة من الكمال والجمال، وتفويض الأُمور إليهم، وإن كانت هي مجرّد أسماء ليس لها من الألوهية شي ء سوى الإسم، يقول سبحانه: إنْ هِيَ إلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ. (1) فإذا حاول العرب أن يشيروا إلى هذه الآلهة المزعومة مع ما لها من درجات ومراتب مختلفة من القرب والبعد عن الله سبحانه يطلقون عليها لفظ الآلهة، وعلى هذا فلفظ الجلالة علم لمصداق كامل لمفهوم الإله، ولكن لفظ الإله موضوع لمعنى كلي يشمله وسائر الآلهة المزعومة الّتي ليست على درجة واحدة من الكمال والجمال؛ فربما يكون إلهاً ولا يكون خالقاً ورازقاً، بل يكفي في كونه معزّاً أو ناصراً أو غافراً للذنوب، أو مفوّضاً له شي ء من أفعاله سبحانه.

وليس من البعيد أنّ لفظ (إله) مأخوذ من كلمة (يهوه) و «ادوناي» ... يقول مؤلف قاموس الكتاب المقدّس: فالاسم الثاني يدل على علاقة الله مع بني إسرائيل وهو إله تابوت العهد، وإله الرؤيا، والاعلان، وإنّه الفداء. (2)

والقرآن الكريم إذا أراد أن يشير إلى الفرد المعيّن من الكلّي يستعمل لفظ الجلالة «الله»، وإذا أراد أن يشير إلى المعنى الكلي الشامل لهذا الفرد وغيره، الّذي له درجات ومراتب يستعمل لفظ «إله» كما يقول سبحانه- ناطقاً عن لسان المشركين-: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ. (3)


1- النجم: 23.
2- قاموس الكتاب المقدس: 107.
3- سورة ص: 5.

ص: 6

ولذلك نرى أنّه في بعض اللغات العالمية يفرّقون بين مفاد لفظ الجلالة، ومفاد «الإله» ويعبّرون عن المعنيين بلفظ واحد إلّا أنّهم يفرّقون بينهما في الكتابة، فعندما يشيرون إلى «الله» يكتبونها بالشكل التالي: (God)

، وعند الإشارة إلى المعنى الكلي لهذا الفرد يكتبونها بالنحو التالي: (God)

هذا هو المدّعى، والدليل عليه بوجوه:

الأوّل: مادة اللفظين واحدة

إنّ مادة اللفظين واحدة، فكيف يفترقان في المعنى؟ والدليل على ذلك قولهم: إنّ «الله» مشتق من لفظ «إلاه».

قال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة: إنّ أصله «إلاه» على وزن فعال، فحذفت الفاء الّتي هي الهمزة، وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة الداخلة على لام التعريف في خصوص النداء في نحو قوله: «يا الله اغفرلي»، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا الاسم. (1)

فإذا كانت المادة واحدة فيكون لفظ الجلالة بالمعنى الموجود في مادته علماً للشخص؛ و من المعلوم أنّ لفظ الجلالة حاك عن الصفات الجلالية والجمالية أو ما أشبه ذلك، فيجب أن تكون مادته حاكية عن هذه المعاني كلها، لا عن معنى المعبود أو غيره من المعاني السبعة فقط.

الثاني: الاحتجاج بعدم وجود إله غير الله

إنّه سبحانه حينما يستدل على التوحيد وأنّه لا إله إلّا الله فإنّه يستخدم كلمة الإله ويقول:


1- لاحظ: مجمع البيان 19: 1.

ص: 7

قُلْ أرَأيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أرَأيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُمْ بلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أ فَلا تُبْصِرُونَ. (1) ترى أنّه سبحانه يعدُّ تدبير العالم على نحو يعيش الإنسان فيه عيشاً رغيداً من شؤون الإله، ولذلك يقول: مَنْ إلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُمْ بِضِياءٍ. أو يقول: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيْلٍ فهذا تصريح بأنّ التصرف في الكون من شؤون الإله، ثم يردّ على المشركين بأنّ التصرف في الكون وإن كان من شؤون الإله إلّا أنّه لا إله إلّا الله.

فلو وضعنا «الخالق البارئ» وغيرها ممّا يعدّ تفسيراً للمعنى الإجمالي للإله، مكانه: لانسجم معنى الفقرة، بأن يقال: لا خالق ولا بارئ ولامدبّر غير الله، لانسجمت.

وأما لو جعلنا المعبود مكانه، لاختلّت بلاغة الآية، كأن نقول: هل معبود إلّا الله يأتيكم بالنهار أو بالليل؟ إذ ليس التصرف في الكون على النحو البديع من شؤون المعبود، وما أكثر المعبودين ولكنهم لاينفعون ولايضرون.

وبعبارة أُخرى: إنّ التصرّف في الكون وتنظيم أسباب الحياة من شؤون من بيده الكون ومصير الإنسان، فكأنّه سبحانه يقول: لو اختلّ النظام بأنْ دام النهار أو دام الليل فأيّ إله (من بيده الكون) يأتي بالضياء بعد الليل، أو به بعد النهار، وليس هو إلّا الله، وأما لو قلنا بأنه بمعنى المعبود يكون المعنى كالتالي: فأي معبود يأتي بالضياء بعد الليل أو العكس؟

ومن المعلوم أنّ التصرف في الكون ليس من شؤون مطلق المعبود، وإنّما هو من شؤون من بيده الكون إيجاداً وتدبيراً؛ فيكون الإله في الآيتين بمعنى المتصرف في الكون والمدّبر، وما يرادفه.

الثالث: الاستدلال على التوحيد بلزوم الفساد عند تعدّد الآلهة


1- القصص: 71- 72.

ص: 8

استدل سبحانه على التوحيد في الربوبية بآيات منها:

1- قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. (1) فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتم إلّا إذا فُسّر «الإله» في الآية بالمتصرف المدبّر، أو من بيده أزمّة الأُمور، أو ما يقرب من هذين؛ ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لبداهة تعدد المعبود في هذا العالم، مع عدم الفساد في النظام الكوني، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة ومركزاً لها، وكان العالم منتظماً، غير فاسد.

وعندئذٍ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات- بالحق- لفسدتا، ولما كان المعبود بالحقّ مدبِّراً و متصرفاً، لزم من تعدّده فساد النظام، وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له، والدليل على ذلك عدم خطوره عند سماعه.

2- قوله سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بمَا خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ. (2) ويتم هذا البرهان أيضاً إذا فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّيّ ما يطلق عليه لفظ الجلالة؛ وإن شئت قلت: إنّه كناية عن الخالق، أو المدبّر المتصرف، أو من يقوم بأفعاله وشؤونه؛ والمناسب في هذا المقام هو الخالق، ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق، واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقض البرهان، لأنّه لايلزم من تعدّده أي اختلال في الكون، وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة، فإنّ في العالم آلهة متعددة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً، ولم يقع أيّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة؛ وما ربّما يتصور من غلبة استعمال الإله في


1- الأنبياء: 22.
2- المؤمنون: 91.

ص: 9

المعبود بالحق، فلاحاجة إلى تقديره. مدفوع، باستعماله- كثيراً في غيره- كقوله: اجَعَلَ الآْلِهَةَ إلهاً واحِداً. (1) 3- قوله سبحانه: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إذاً لَابْتَغَوْا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبيلًا. (2) فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق، أو المدبّر المتصرف، أو من بيده أزمّة أمور الكون، أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الأُلوهية.

وأمّا تعدد المعبود فلا يلزم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

الرابع: الملازمة بين الألوهية وعدم ورود النار

قوله تعالى: إنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها .... (3) والآية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار على أنّها ليست آلهة، إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه، فإنّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله، أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار أو أن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات وعدم كونها حصب جهنم، وعندئذٍ لا يتمّ البرهان، إلّا إذا قُيد المعبود بقيد أو قيود ترفعه إلى حدّ القداسة المطلقة، وهذا تكلف واضح؛ ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.


1- سورة ص: 5: لاحظ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم الّذي وصفه محمّد فؤاد عبدالباقي المصريّ، فقد استعمل في كثير من الآيات في مورد المعبود الباطل، لو سلّمنا وضعه للمعبود. ولذلك قلنا في «مورد المعبود الباطل» لا في معناه.
2- الإسراء: 42.
3- الأنبياء: 98- 99.

ص: 10

الخامس: لزوم اختلال المعنى لو فسر بالمعبود

قوله سبحانه: فَإلَهُكُمْ إلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبتِينَ. (1) فلو فسّر الإله في الآية بالمعبود لزم عدم صحة المعنى، إذ المفروض تعدّد المعبود في المجتمع البشري، ولأجل دفع هذا ربما يقيّد الإله هنا بلفظ «الحقّ» أي المعبود الحقّ إله واحد؛ ولو فسّرناه بالمعنى الإجمالي الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرّف، وإيصال النفع، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال، لصحّ حصر الإله- بهذا المعنى- في واحد، بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة، إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة الإنسانية، والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلّا الله سبحانه.

ولا نريد أن نقول: إنّ لفظ «الإله» بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الغافر على وجه التفصيل، إذ لايتبادر من لفظ «الإله» إلّا المعنى الإجمالي، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الإله؛ ومعلوم أنّ كونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى الإجمالي، غيرُ كونها معنى موضوعاً له الّلفظ المذكور، كما أنّ كونه تعالى ذو سلطة على العالم كله أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره، وصف نشير إليه بالمعنى الإجمالي الذي نتلقاه من لفظ «الله»، لا أنّه نفس معناه.

السادس: استعمال لفظ الجلالة مكان الآخر

ربّما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله، ويتجرّد عن معنى العلَمية ويبقى فيه معنى الوصفية، فلذلك يصح استعماله مكان الإله، وإليك بعض موارده:

قال سبحانه: وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ. (2) فالآية تشير إلى أنّ إله


1- الحج: 34.
2- الأنعام: 3.

ص: 11

السماء هو إله الأرض، وليس هناك آلهة بحسب الأنواع والأقوام، فالضمير «هو» مبتدأ ولفظ الجلالة خبر، والمعنى هو المتفرد بالإلهيّة في السماوات، فوزانها وزان قوله سبحانه: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الأرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ. (1) فإنّ اللفظين في الآيتين بمعنى واحد، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الأُولى خرج عن العلَمية وعاد إلى الكلّية والوصفية، ولذلك صحّ جعله مكان الإله في الآية الأُولى، وجي ء بنفس لفظ الإله في الآية الثانية.

السابع: معنى «الإله» في تثليث النصارى

حكى القرآن الكريم عقيدة النصارى في الله سبحانه، وهي ما تُعرف بعقيدة التثليث، وتتلّخص في وجود ثلاثة أقانيم، هي: الأب، والابن، والروح القدس، أي أنّ هناك إلهاً أباً، وإلهاً ابناً، وإلهاً باسم: الروح القدس.

وهذا القول لا يخلو من أمرين: إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأقانيم الثلاثة جزءاً تشكّلُ وجوده سبحانه، وعندئذ تُصبح له شخصية واحدة ذات أجزاء، أو أن يكون كُلّ واحد منها ذا شخصية مستقلة؛ وعلى كل تقدير فالجميع عندهم إله، يقول سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إنّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أنْصارٍ (2) ثم قال سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إلهٍ إلَّا إلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ. (3) ففي الآية الأُولى يحكي عنهم قولهم أنّ الله هو المسيح بن مريم، فالمسيح عندهم هو الله المتجسد.


1- الزخرف: 84.
2- المائدة: 72.
3- المائدة: 73.

ص: 12

وردّ عليهم في نفس الآية بأنّه كيف يصحّ ذلك مع أنّ المسيح لايأمر الناس بعبادته، بل بعبادة غيره، وذلك بقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ؟

وفي الآية الثانية يحكي سبحانه عنهم اعتقادهم بالآلهة الثلاثة، فكل من الأب والأبن والروح القدس عندهم إله، ويردّ عليهم بأنّه لا إله إلّا إله واحد.

أمّا كيفية الاستدلال على أنّ الإله في هذه الآيات وما يليها ليس بمعنى المعبود أو غيره من المعاني السبعة، بل أريد به ما يُراد من لفظ الجلالة بتجريده عن العلَمية، فواضحة لدى التدبّر، بشرط أن نقف على مغزى الاختلاف بين الموحّد وأهل التثليث، إذ ليس مصب الاختلاف بينهم، وحدة المعبود أو تعدّده، وإنّما هو لازم نزاع آخر يرجع إلى وحدة ذات الواجب أو تعدّدها، فإذا قال سبحانه: إنَّمَا اللَّهُ إلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ (1)، فلا يريد أنّه معبود واحد ليس له ولد، و إنّما يُريد بساطة ذات الله و وحدتها.

وإذا قالت النصارى إنّ الله ثالث ثلاثة، فمرادهم أنّه ثالث الآلهة وأنّ الواجب جلّ اسمه أو ما يشار إليه بلفظ الجلالة، آلهة ثلاثة، لا إله واحد، فإذا ردّ عليهم سبحانه بقوله: وَما مِنْ إلهٍ إلَّا إلهٌ واحِدٌ يُريد وحدة الذات وبساطتها.

فالإله في كلام كل من الطرفين يشير إلى تلك الذات المقدسة، فيكون مرادفاً للفظ الجلالة، لكن بشرط تجريدها عن العلَمية.

ولو فُسِّر لفظ (الإله) في هذه الموارد بوحدة المعبود أو كثرته، لزم غضّ النظر عما هو موضع النزاع لبّاً عبر قرون.

ومنه يظهر مفاد الإله في الآية التالية، إذ لا محيص من تفسيره بالمعنى المختار الّذي يعبر عنه بواجب الوجود، الخالق، البارئ، إلى غير ذلك من الصفات.

قال سبحانه: وَ إذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أ أنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَ امِّىَ إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِى أنْ


1- النساء: 171.

ص: 13

أقُولَ ما لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِى نَفْسِى وَ لا أعْلَمُ ما فِى نَفْسِكَ إنَّكَ أنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. (1) وذلك أنّ علماء النصارى يتبنّون التثليث، وينسبونه إلى عيسى بن مريم، وأنّه دعا إلى إلهين آخرين من دون الله، وهما نفسه وأمُّه.

ومن المعلوم أنّ النفي والإثبات يردان على موضوع واحد وهو ادّعاء النصارى أنّ ثمة إلهين وراء الله سبحانه، هما: المسيح وأمّه، وردّ سبحانه على تلك المزعمة بأنّ الإله واحد لا غير.

فعندئذٍ لا يمكن تفسير الإله بمعنى المعبود، إذ الكلام يتعلق بمقام الذات، وأنّه كثير أو واحد، لا بموضع المعبودية.

ونظيرها الآية التالية، قال سبحانه: يا أهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِى دِينِكُمْ وَلاتَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِى السَّماواتِ وَ ما فِى الأرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. (2) وحصيلة الكلام هو أنّ الاختلاف والنزاع بين أهل التوحيد وأهل الكثرة راجع إلى وحدة ما يشار إليه بلفظ الجلالة أو تعدّده؛ وأنّه هل هو هوية بسيطة واحدة، أو هي مركبة، أو متعددة يعبّر عنها بالإله الأب، والإله الابن، والإله الروح القدس.

فحقيقة النزاع عبارة عن دراسة مسألة غامضة، وهي أنّ جوهر الذات شي ء واحد أو هي أشياء؟ فمن السذاجة أن نعبّر عن واقع النزاع بوحدة المعبود وتعدّده، فإذا قيل: الإله الواحد، أو ثالث الآلهة، فلا يُراد عندئذٍ إلّا ما يُشار إليه بلفظ الجلالة الّذي تشير إلى الذات المستجمعة لصفات الجمال والجلال، ولكن بقيد تجريده عن العلَمية.


1- المائدة: 116.
2- النساء: 171.

ص: 14

الثامن: وقوع قوله: (لا إله إلّا هو) تعليلًا لحصر الشؤون

قد وقع قوله: «لا إله إلّا هو» في الآيات التالية تعليلًا لحصر الرازقية، وربوبية المشرق والمغرب، ومالكية السماوات والأرض في الله سبحانه، ولا يصح كونه علّة للحصر المذكور إلّا إذا أريد به المعنى الإجمالي الملازم للخالقية والربوبية والمالكية، فعندئذٍ يصلح أن يقع تعليلًا، لما تقدمه من حصر الأُمور المذكورة في الله.

1. هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الأرْضِ لا إلهَ إلَّا هُوَ. (1) فصدر الآية ينفي أي خالق غير الله يرزق الناس، وذيلها أعني قوله: لا إلهَ إلَّا هُوَ بمنزلة التعليل له، ولا يصح تعليلًا إلّا إذا أريد به ذلك المعنى السامي الملازم للشؤون، فكأنّه يقول «إذا لم يكن إله- بهذا المعنى- فلا خالق يرزق الناس إلّا الله.

2. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لَا إلهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا. (2) إنّ صدر الآية يصفه سبحانه بكونه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ، أي رب عالم الشهادة، ثم يأتي بقوله: لا إلهَ إلَّا هُوَ تعليلًا لما تقدم، ولا يصح ذلك إلّا بتفسير الإله بالمعنى السامي الّذي يدل عليه لفظ الجلالة، لكن مجرداً عن العلَمية، فيكون المعنى: إذا لم يكن خالق مدبر و ...، إلّا الله، فهو رب السماوات والأرض و ...

ثم عطف عليه قول: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لأنّ اتخاذ الوكيل بمعنى إيكال الأُمور إليه من شؤونه سبحانه.

3. الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الأرْضِ لَا إلهَ إلَّا هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ. (3) وكيفية الاستظهار هو نفس ما تقدم في الآيتين المتقدمتين، فلا يصلح قوله: لَا إلهَ إلَّا هُوَ تعليلًا لما سبق إلّا إذا أريد بالإله المعنى الإجمالي السامي الملازم للخالقية والرازقية والربوبية وغيرها، فإذا كانت هذه الشؤون منحصرة في الله سبحانه، فله ملك السماوات والأرض.


1- فاطر: 3.
2- المزمل: 9.
3- الاعراف: 158.

ص: 15

التاسع: مفهوم الإله عند الوثنيين

يظهر من بعض الآيات أنّ الإله عند المشركين عبارة عمن ينصر العبَدةَ في الشدائد والملمّات، ويورث لهم عزّاً في الحياة.

قال سبحانه حاكياً عند عقيدتهم: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. (1) وقال عزّ من قائل: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. (2) وكانوا يسوّون بين الله والآلهة، يقول سبحانه حاكياً عن قولهم يوم القيامة: تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. (3) فإذا كانت الآلهة المزعومة عند المشركين هو الناصر في الشدائد وواهب العزة، وفي مستواه سبحانه، فلا يراد بها عند الاطلاق إلّا ما يراد من لفظ الجلالة مجردة عن العلَمية.

ولذلك يردّ عليهم سبحانه في غير واحد من الآيات بأنّ الآلهة لايملكون من شؤونه سبحانه شيئاً.

ويقول سبحانه وتعالى: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ. (4) والآية تدل على أنّ من شؤون الإله هو الخلق، والاصنام فاقدة له.

ويقول سبحانه وتعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ. (5) والآية تدل على أنّ من شؤون الإله هو القدرة والدفاع عن نفسه وعمن يعبده، وآلهتهم تفقد هذه اللوازم والشؤون.


1- يس: 74.
2- مريم: 81.
3- الشعراء: 97- 98.
4- الفرقان: 3.
5- الأنبياء: 42.

ص: 16

فالآيتان تدلان على أنّه كلما أطلق الإله لا يتبادر منه إلّا من يملك هذه الشؤون- لا مجرد كونه معبوداً- ولذلك رد الوحي الإلهي وصفهم أو أصنامهم بالالوهية، بعدم وجود هذه الشؤون فيها.

انتقال هُبَل إلى مكة

ويوضح مكانة الأوثان عندهم ما نقله ابن هشام في سيرته يقول: أنّ عمرو بن لُحَيّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أُموره، فلما قدم مآبَ في أرض البَلْقاء، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام الّتي أراكم تَعبْدون؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها، فنَسْتمطرها فتُمْطِرَنا، ونَسْتَنْصرها فتَنْصرنا؛ فقال لهم: أفلا تُعْطُونني منها صَنماً، فأسيرَ به إلى أرض العرب، فيعبدوه؟ فأعْطَوْه صَنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكَّة، فَنَصَبه، وأمَر الناس بعبادته وتعظيمه. (1) فإذا كان الإمطار عند الجفاف، والإنصار في الحروب والشدائد من شؤون الإله المزعوم، فيكون المتبادر منه هو نفس ما يتبادر من لفظ الجلالة، مجرداً عن العلَمية.

العاشر: الإله في كلام الإمام علي 7

وممّا يؤيد ما ذكرناه من عدم الفرق بين الإله، ولفظ الجلالة إلّا بالكلية والجزئية، كلام الإمام أميرالمؤمنين (ع) في نقد كون كلامه سبحانه قديماً، بأنه لو كان كذلك، لكان إلهاً ثانياً؛ وإليك نصّه:

يَقُول لمنْ أرَادَ كونه: كُنْ فَيَكُونُ، لا بصورت يُقرع، ولا بنداء يُسمع، وإنّما كلامُه سبحانه فِعل منه أنشَأه وَمَثَّلَهُ، لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً، وَلَوْ كَانَ قَدِيماَ لَكَانَ إلهاً ثَانِياً. (2) أي لو كان قديماً، لكان واجب الوجود، أو ما يفيد ذلك، ولامعنى لتفسير الإله بالمعبود، أي لكان إلهاً معبوداً ثانياً.


1- السيرة النبوية: 77.
2- نهج البلاغة الخطبة 186.

ص: 17

وفي بعض كلماته أيضاً، إشارة إلى ما ذكرنا، حيث قال:

ألْجِئْ نَفْسَكَ فِي أمُورِكَ كُلِّهَا إلَى إلهِكَ. (1) وقال أيضاً: وَابْدَاْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالإِسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ. (2)

حصيلة البحث:

1. ليس للإله إلّا معنى واحد، وهو نفس ما يفهم من لفظ الجلالة، لكن مجرداً عن العلَمية.

2. إنّ تفسير الإله بالمعاني السبعة أو الأكثر تفسير باللوازم والآثار للإله، لنفس معناه.

3. لفظ الإله ليس بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الغافر، إذ لايتبادر من لفظ الإله إلّا المعنى البسيط، بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الموضوع له لفظ الإله، ومعلوم أنّ كون هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط، غير كونها معنى موضوعاً للّفظ المذكور؛ فتدبر.

تصحيح خطأ في الاصطلاح

إنّ لتوحيده سبحانه مراتب:

منها: التوحيد في الخالقية، بمعنى أنّه لا خالق إلّا هو، يقول سبحانه: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ. (3) ومنها: التوحيد في الربوبية، بمعنى أنّه سبحانه مدبّراً للكون بعد خلقه له.

إنّ الوثنيين في جزيرة العرب لم يكونوا يعانون من أي انحراف في مسألة التوحيد في الخالقية، وكانوا يعتقدون بأنّه ليس في الكون سوى خالق واحد، بيد أنّ بعضهم أو أكثرهم كانوا يعانون في توحيد


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل، رقم 31.
2- المصدر نفسه.
3- فاطر: 3.

ص: 18

الربوبية، حيث يعتقدون بأنّ الله سبحانه فوّض تدبير بعض أمور الكون إلى الملائكة، والجنّ، والكواكب، والأرواح المقدّسة، إلى غير ذلك، فجاء القرآن يركّز على التوحيد في الربوبية، مضافاً إلى التوحيد في الخالقية، قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أ فَلا تَذَكَّرُونَ. (1) وقال عزوجل: اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. (2) فقوله: يُدَبِّرُ الأمْرَ إشارة إلى التوحيد في الربوبية، وتدبير الكون بعد ايجاده، وأنّه سبحانه يقوم به فقط.

حتّى أنّه سبحانه استدلّ على التوحيد في الربوبية، بأنّ تعدّد الآلهة يوجب الفساد، وقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (3)، و مثلها قوله سبحانه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إلهٍ إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. (4) وبذلك أثبت أنّ المدبّر واحد مضافاً إلى وحدة الخالق، هذا من جانب ومن جانب آخر كلّما أُطلق (الرب) يراد به: مَنْ فوّض إليه أمر الشي ء من حيث الإصلاح والتدبير والتربية، فيقال: رَبّ الضيعة، لمن عليه إصلاحها ورعايتها؛ ويقال: ربّ الدار، لمن عليه حفظها وتصليح خرابها؛ وقد أطلق يوسف (ع) كلمة الرب على عزيز مصر، حيث قال: إنَّهُ رَبِّى أحْسَنَ مَثْوَاىَ (5)، كما أنّه سبحانه وصف اليهود والنصارى بأنهم: اتَّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (6)، وقال عبدالمطّلب لإبرهة «أنا ربّ الإبل وللبيت ربّ».


1- يونس: 3.
2- الرعد: 2.
3- الأنبياء: 22.
4- المؤمنون: 91.
5- يوسف: 23.
6- التوبة: 31.

ص: 19

وهذه الفقرات ترشدنا إلى معنى الرب وأنّه دون الخالق.

إذا علمت ذلك فلنقف على الخطأ في الاصطلاح الّذي وقع فيه ابن عبدالوهاب ومن والاه، حيث فسّر التوحيد في الربوبية بالخالقية، والتوحيد في الإلوهية بمعنى العبادة، فقال في كتاب (تسع رسائل): إذا قيل لك: إين الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية؟ فقل: توحيد الربوبية فعل الرب، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنزال المطر وإنبات النبات وتدبير الأُمور.

وتوحيد الإلهية فعلك أيها العبد مثل الدعاء والخوف والرجاء والاستغاثة، وغير ذلك من أنواع العبادة. (1) ترى أنّه فسّر الربوبية بالخالقية، ولكنّه عطف عليها ما هو داخل في الربوبية؛ كما أنّه فسّر الإلهية بالعبادة، وقد علمت أنّ الإله وما يشتق منه يراد منه معنى سامٍ له مصاديق مختلفة يجمعها كلّها (إله).

فعلى ما ذكرنا في وضع الاصطلاح التعبير بالخالقية مكان الربوبية، والتوحيد بالعبادة مكان الإلهية.

تمّت الرسالة ظهيرة يوم الخامس والعشرين،

من شهر رمضان المبارك من شهور عام 1431 ه

والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات


1- تسع رسائل، الرسالة الخامسة: 41. طبعة القاهرة.

ص: 20

الحج و أبعاده التربوية والإجتماعية

السيد علي قاضي عسكر

(وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). (1) الحج هو زيارة بيت الله الحرام (2)، الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً وقبلةً يتوجّه نحوها جميع المسلمين في عباداتهم (3)، والطريق المؤدّي إلى غفران الرحمن والدخول إلي جنّة الرضوان. (4) ولقد كان الحج فريضة مفروضة في أولى الشرائع الإلهية، وأدّاه الملائكة وآدم وحوّاء وأنبياء الله جميعاً على أكمل وجه (5)، وأدخل إبراهيم (ع) إمام الموحدين تعديلات عليه وجدّده (6)، وامِرَ إسماعيل بالتمهيد لإقامة تلك الشعيرة المقدّسة (7)، وقد أدّى الرسول الأكرم (ص) شعائر هذه الفريضة مرّات عديدة رغم كلّ الصعوبات التي واجهته. (8) وتعتبر عبادة الحج من أهم العبادات الإسلامية، وتذكر بعض النصوص أنها تأتي بالدرجة الثانية بعد الصلاة في الأهمية


1- سورة آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 6: 8، سورة الحج: 27.
3- وَ إذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاس وَ أمْناً، البقرة: 125. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، البقرة: 144.
4- راجع فروع الكافي 219: 1.
5- من لا يحضره الفقيه 159: 1، علل الشرائع: 399- 406.
6- وَ إذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، البقرة: 127.
7- وَ عَهِدْنا إلى إبْراهِيمَ وَ إسْماعِيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ، البقرة: 125.
8- في صحيح البخاري: «حجّ النبي قبل النبوة وبعدها، ولم يعرف عددها ولم يحجّ بعد الهجرة إلا حجّة الوداع». وفي الكافي عن الإمام الصادق: «حج رسول الله عشرين حجّة مستقرة».

ص: 21

والأفضلية، وأنه أحد الجهادين، فقد روى الكليني بطريق معتبر عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي قال: «سمعت أباعبداللّه (ع) يقول ويذكر الحج فقال: قال رسول اللّه (ص): «هو أحد الجهادين، هو جهاد الضعفاء ونحن الضعفاء، أما إنه ليس شي ء أفضل من الحج إلّا الصلاة، وفي الحج ههنا صلاة وليس في الصلاة قبلكم حج». (1) كما أنَّ الحج عماد الدين وقوام وجوده، فقد ورد في الحديث: «لايزال الدين قائماً ما قامت الكعبة». (2) ولا يجوز تعطيل الكعبة والحج، ويجب على إمام المسلمين إلزام المسلمين أن يقوموا بأداء هذا الواجب والانفاق عليه إذا لم يتحقق ذلك بشكل اعتيادي. (3) نعم، ذلكم هو الحج الذي يكافح ويسعى المسلم في سبيل أداء مناسكه، ويحمّل نفسه مشقة وتعباً، ويعاني مرارة الغربة والهجران، ويمسك عن جميع ميوله ولذّاته، ويمتنع عن كثير من عاداته وطبائعه، باذلًا القدر الأكبر من مصاريفه لذلك، إنّه الحجّ الذي يُزيح عن كاهل المؤمن الكثير من المعاصي الكبيرة بأدائه هذه الفريضة، يمحو عن قلبه كلّ صَدإ سبّبته سيئاته، فيكون كمن ولدته أمّه (4)، فالحجّ تفسيرٌ (5) لآية: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) و (قِياماً لِلنَّاسِ) (6)، ورمز قوتهم وعزتهم. (7) وهذه العبادة بهذه الأوصاف، لايمكن أن تكون مجرّد شعيرة ظاهرية بحتة، فلا شك أنّها تمتلك روحاً و فلسفة عميقة، ولها أسرارٌ وحكمٌ و أهداف وفوائد، ألقت بظلالها على حياة الإنسان في البعدين المادّي والمعنويّ، وبالنفوذ ببصيرة إلى أعماق تلك الأعمال الظاهرية، وبالوصول إلى باطن تلك الأعمال يمكننا أن نفهم فلسفة تشريعها


1- وسائل الشيعة 77: 8، ح 2.
2- وسائل الشيعة 14: 8، ح 5.
3- راجع جواهر الكلام 214: 17.
4- ثواب الأعمال: 27، وسائل الشيعة 83: 8، الحديث 15.
5- تفسير القمي: 448، معافي الأخبار: 222، بحار الأنوار 6: 99.
6- سورة المائدة: 97.
7- «قال الصادق: لايزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»، الكافي 271: 4، الحديث 24.

ص: 22

وأبعادها المختلفة، ونشهد منافعها المذكورة في قوله تعالى: (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أيَّامٍ مَعْلُوماتٍ). (1) فالحديث عن الحج وما يتعلّق به من هذا المنطلق، أصبح ضرورة يلحّ الواقع عليها، و يأتي هذا المقال الموجز تبياناً لما يتعلق بتلك الأبعاد المكنونة للحج، و الأهداف المنشودة له، والمنافع المشهودة منه، مستندين على كتاب الله العزيز، والسنة النبوية الشريفة، وأحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؛ لفهم تلك الحقائق واستخراجها من مصادرها الأصيلة، ومقتبسين من أفكار الإمام الخميني لتوضيح بعض معالمها ومفاهيمها، عسى الله أن ينفع بها ضيوف الرحمن الوافدين من جميع بلاد الإسلام، وتنال رضى ربِّ الأنام.

هذا، وسنركِّز في البحث على البعدين التربوي والإجتماعي، لأهمِّيتهما في واقعنا المعاصر:

القسم الأول: الجوانب التربوية في الحج

إنَّ العقل وهو رسول الإنسان في باطنه، وإن كان غير عاجز عن البحث في فلسفة الحج، وأسراره العميقة وأهدافه في مختلف أبعاده، ومنها التربوية، ولكن نظراً لكون المعطيات والنتائج الحاصلة من ذلك هي عقلية بحتة، لا تخلو أن تكون تلك المعطيات ملوّثة بالإشكالات والهفوات و «دين الله لا يصاب بالعقول» (2)، ولذا فإننا اتّبعنا خطّ سير أكثر أماناً للحصول على فلسفة الحج وأسراره، وسنقوم في الغالب ببحث وتقصّي أحكام وأسرار الحج، بالاعتماد على المصادر النقلية من الكتاب والسنة، فإنّهما لم يتركانا سدىً في هذا المجال، حيث وضّحا لنا قسماً كبيراً من أسرار هذه العبادة وآثارها، وأهدافها السامية في الحياة الإنسانية، وسنسعى إلى توضيح جزء من بحر لطائف وأسرار وأهداف ونتائج الحج الواسع، مستفيدين من


1- سورة الحج: 27- 28.
2- بحار الأنوار 303: 3، الحديث 41.

ص: 23

النّصوص التي بحوزتنا والمستخرجة من آيات الكتاب، ومتون الأحاديث ولنتعرّف على جانب من روح وعقل هذه العبادة الجماعية في جوانبها التربوية؛ ونبدأ بالجانب السلوك الروحاني والعرفاني، لأهميته في تربية الإنسان، ثمَّ نتطرق إلى الجانب الأخلاقي:

أ- السلوك الرّوحاني والعرفاني

حين نطالع سيرة إبراهيم (ع) وحركته، كما بيّنها لنا القرآن الكريم، ونتابع كيفيّة جلبه لولده وزوجه إلى صحراء مكة، ومن ثم قضيّة ذبح إسماعيل (ع) ووصول الذبح السماوي، وبناء الكعبة المشرفة، وما تبعها من أعمال الحجّ، فإننا نحصل على دورة كاملة للمسيرة العبادية والسلوك الرّوحاني والمعنوي للإنسان، خروجاً من مختنق الذات وعبادتها، ووصولًا إلى التقرب إلى الله، ونبذ متعلّقات النّفس الماديّة، والالتحاق بمقام الربّ، والركون إلى دار الكبرياء، ومع أنه يبدو للوهلة الأولى أنّ الأحداث التي واجهت إبراهيم (ع)، وكذلك أعمال مناسك الحجّ تتألف ظاهرياً من أحداث منفصلة عن بعضها البعض، إلّا أنّ مطالعة دقيقة في هذا المجال، تبيّن لنا حقيقة أن هذه المناسك إنما هي سلسلةٌ متصلة تلاحق هدفاً واحداً، يعبّر عنها العرفاء بمراحل السير والسلوك الرّوحانيّين، ومراتب الطلب والحضور ومراسيم الحبّ والعشق والإخلاص، وأخيراً خروج المرء من جلده والالتحاق ببحر وجود الخالق اللامحدود، كلّ ذلك يكون في باطن تلك المناسك، ويحصل الإنسان بذلك على نقاط ألطف كلّما دقّقَ في تلك الأمور. (1) ويشترط في مسيرة الإنسان نحو الرّب الخروج من دائرة العالم المادّي، وتبنّي طريقة السالكين إلى الله، قال الإمام الصادق (ع): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله تعالى من كلّ شاغل، ثم اغتسل بماء التوبة الخالصة من الذنوب، ودَع الدنيا والراحة والخلق». (2)


1- تفسير الميزان 301: 1.
2- مصباح الشريعة، الباب 211.

ص: 24

و كما قاله الإمام زين العابدين (ع) مخاطباً الشبلي: «فحين نزلت الميقات أنويت أنك خلعتَ ثوب المعصية ولبست ثوب الطاعة؟ ... فحين تجردت عن مخيط ثيابك أنويت أنك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ ... فحين اغتسلت أنويت أنك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ ... فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ أنويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟ ... فحين أحرمت أنويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّوجل؟ ... فحين عقدت الحجّ أنويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟ ..» وهكذا يسير الإمام (ع) مع الشبلي في بيان معاني وفلسفة مناسك الحج حتى يختم كلامه (ع) قائلًا له: «.. ارجع فإّنك لم تحجّ». (1) وحينما يسأل الإمام زين العابدين (ع) عن تلك الحالة التي تعتريه، عند وقوفه في الميقات وكأنه لايستطيع أن يقول: لبّيك، فيجيب (ع): «أخشى أن يقول لي ربّي: لا لبّيك ولا سعديكَ»، فيقول سفيان بن عيينة، وهو الرّاوي لهذا الحديث: «فلمّا لبّى غُشِيَ عليه وسقط من راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجّه». (2) وتستمر روح العبودية هذه والسلوك الروحاني والتقرّب إلى الله تعالى، وترك الدنيا والانسلاخ عن عالم المادة، والالتحاق بالملكوت والاستغراق في الله، حتى انتهاء مراحل وأعمال الحجّ ومناسكه، وهذا السلوك الرّوحاني هو الذي يمثل جوهرة العبودية في كل العبادات، لكن تتجلى في الحج أكثر من غيره من العبادات، ولذا فإنَّ الحج بهذا البعد المعنوي الواسع والجاذبية الرّوحانيّة العظيمة، هو بمثابة دورة كاملة من البناء الذاتي لشخصية الإنسان المسلم، وتهذيب نفسه من كل صنوف الدّنس، والتزيّن بمظاهر الأسماء والصفات الإلهية.


1- مستدرك الوسائل 2: كتاب الحجّ، الباب 17، الحديث 5.
2- المحجّة البيضاء 201: 2.

ص: 25

ب- البعد الأخلاقي للحج

مناسك الحج ومراسمه ما هي إلَّا دورة تدريبية تربوية للنفس والروح والبدن على السواء، لصنع الإنسان الحرّ في فكره وإرادته، غيرمنقادٍ لأعداء اللَّه، شياطين الإنس والجنّ كبيرهم وصغيرهم، فالأفعال العبادية والتروك والالتزامات، كلّ هذه التعابير الجسدية والنفسية وسيلة من وسائل انتظام الخُلق وسموه ككيان روحي فكري أخلاقي عبادي متميز.

إنَّ في الحج يتعوَّد المسلم الألفة، والتعارف عن طريق السفر والاختلاط، فتنمو لديه الروح الاجتماعية، وتتهذب ملكاته الأخلاقية، عن طريق هذه الممارسة التربوية، والتفاعل البشري الرائع، الذي يشهده في الحج، بأرقى درجات الالتزام، والاستقامة السلوكية، من خلال المناسك والمراسم الشرعية؛ كثيراً ما يتغير الإنسان إلى الأفضل، فيتعود الحاج على الصبر، واحتمال المشاق والصعاب، إضافة إلى تعوده من خلال المعاشرة على حسن الخلق، والصدق، والحوار مع الحجاج الآخرين، ويتعود اللطف، والتواضع، واللين، وحسن المحادثة، والتعاطف، والكرم، والامتناع عن الكذب، والخصومة، والغيبة، والنميمة، والتكبر، والعظمة، والجدال، وغيرها، حيث قال تعالى: الْحَجُّ أشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِى الْحَجِّ .... (1) وهذه النواهي في الحج تساهم في بناء شخصية المسلم، وتعمل على إعادة تنظيمها، وتصحيح مسيرتها في الحياة، وتزرع في النفس مكارم الأخلاق وتقودها إلى استقامة السلوك، وحسن المعاشرة.

ويتطلب الحج من المكلفين به شدّ الرحال، وتغير الحال، وصحبة الرجال، وربما الأهل والعيال، وفي كل ذلك دروس في حسن الأفعال، فأهل الحكمة يقولون: إنّ الأخلاق، هي الحكمة العملية، التي تتجسد بالفعل غير الاعتيادي الذي يصدر من الإنسان بغاية، ومن أجل هدف.


1- البقرة: 197

ص: 26

وإن كان الإنسان مستتراً قبل الحج في بيته لايعلم من خلقه شي ء، فقد برز في الحج إلى الساحة العملية، فلا يمكنه أن يخفي على الناس خليقته، وهو في سبيله إلى الله تعالى، عليه أن يلجأ إلى فعل لا يخترق به قصده الحسن في الله مقصد حجه ومنتهى غايته، إذ السفر ميزان الأخلاق؛ لما يظهر معه من طبائع الأفراد، التي لا يستطيع الإنسان بسهولة تجاوزها؛ لأنها توجه أفعاله بشكل عفوي، ذلك مقابل العمل الخلقي، باعتباره غير اعتيادي؛ لأنه يحتاج إلى علة يستند إليها، فالعمل الاعتيادي تحركه الغريزة، وتحركه الطبيعة، وتحركه العادة، أما العمل الخلقي فتحركه الغاية المستندة إلى الحكمة، والتي بدورها تستند إلى مرتكز عقلي.

البُعد المعنوي للحج عند الإمام الخميني

لقد أكّد الامام الخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران مراراً، أنّ سفر الحج هو سفر إلهي، وليس سفراً عادياً مادياً مجرّداً، وأنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة، وهي التي تقرّب الانسان من أفق التوحيد والتنزيه، وأنّه لن يحصل عليها الحاج ما لم يطبق أحكام وقوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن، والبُعد المعنوي للحج هو الدافع والوازع للمسلم، حيث يدفعه نحو الأبعاد الأخرى بحيث يراعي فيها الأخلاق والآداب الاجتماعية في علاقاته مع ضيوف الرحمن في موسم الحج، ومع عامة الناس بعد الموسم، و يقول الإمام الخميني في ذلك: «إعلموا جميعاً! أنّ البعد السياسي والاجتماعي للحج لايتحقق إلّا بعد أن يتحقق البُعد المعنوي». (1) ولهذا نجد الإمام اهتم بهذا الجانب؛ لأنه الوسيلة الناجعة لارتقاء المسلم الأبعاد الأخرى، فقد جاء عنه رضوان الله عليه: «في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة، في جوار بيت اللَّه الملي ء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدسة للعليّ العظيم،


1- الحج في أحاديث الإمام الخميني، مجلة ميقات الحج 4: 4.

ص: 27

وحرّروا قلوبكم أيها الحجاج الأعزاء من جميع الارتباطات المتعلقة بغير اللَّه ...». (1) وقد وجّه الإمام الخميني خطابات عديدة في هذا المجال، ليبين أنّ على الحاج أن يطهّر نفسه، ويخلي قلبه من كلّ شي ء إلّا حب اللَّه، والطاعة، والخضوع له، وأنه يجب عليه أن يربط روحه بمعبوده الواحد الأحد؛ فقد قال محدثاً الحجيج: «... وأثناء الطواف في حرم اللَّه حيث يتجلى العشق الالهي، اخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أي خوف لغير اللَّه؛ وفي موازاة العشق الإلهي، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة، والطواغيت، وعملائهم، وأزلامهم ...». (2) ويسترسل الإمام في حديثه للحجيج مذكرهم بالاطمئنان القلبي الحاصل من الحالة العرفانية التي يعيشها العبد من معبوده ومحبوبه قائلًا: «سيروا إلى المشعرالحرام، وعرفات، وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد اللَّه الحق بإقامة حكم المستضعفين، وبسكون وهدوء فكّروا بآيات اللَّه الحق، ...». (3) وأيضاً يقول الإمام الخميني: «أخرجوا من قلوبكم غير حب اللَّه، ونوّروها بأنوار التجليات الإلهية، حتى تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلى اللَّه مليئة بمضمون الحج الإبراهيمي، وبعده بالحج المحمدي، ...». (4) القسم الثاني: البعد الإجتماعي للحج

إنّ الانعزال الاجتماعي يعدُّ من أخطر العوامل التي تؤدي إلى الاضطرابات العقلية التي تصيب الفرد المحروم من المشاركة في


1- الحج في أحاديث الإمام الخميني، مجلة ميقات الحج 8: 4.
2- الحج في أحاديث الإمام الخميني، مجلة ميقات الحج 8: 4.
3- الحج في أحاديث الإمام الخميني، مجلة ميقات الحج 6: 8.
4- الحج في أحاديث الإمام الخميني، مجلة ميقات الحج 8: 4.

ص: 28

النشاطات الاجتماعية؛ وليس غريباً أن نقول: بأنّ المسلمين هم أقل الفئات البشرية انعزالًا، وأقلهم إصابةً بأمراض الاغتراب والعزلة، حيث إنَّ التأكيد في العبادات الجماعية كصلاة الجمعة، والجماعة، والعيد، والحج، يقوي الانتماء الإجتماعي، والعلاقات والسلوك الجماعي، ومن الطبيعي أنّ أهداف الانتماء الاجتماعي لن تتكامل ما لم يشعر الفرد بالأمان، والحج يعطي الفرد شعوراً بالأمان؛ لوقوعه في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، ولأنّ المناسك يجب أن تؤدى في وضع شرعي أمني خاص، ومن أجل ذلك، فقد أورد الإسلام ترتيبات أمنية في موسم الحج، حيث أوجب الأمن في البيت الحرام، وكون الحرم آمناً يأمن من دخله، وحرَّم الاعتداء على الآخرين، وحرَّم القتال في الأشهر الحرم، وأوجب حفظ حرمة الشعائر، وحرمة القاصدين لزيارة بيت الله الحرام، ومنع كلّ أساليب تعكير صفو الأمن خلال أداء المناسك، كالكذب، والجدال، والفسوق، وهذا كله يعكس أهمية الأمان في حياة الناس.

والحج أيضاً لقاء يكتسب منه المسلم ثقافة اجتماعية، وفوائد مسلكية، ومنافع مادية، قد تنجر عنها بركة عظيمة، وفوائد جمّة لشعوب إسلامية بكاملها، إذ قد تعقد فيه المعاهدات التجارية، كتبادل البضائع ممّا ينشط الاقتصاد الإسلامي، ولم يكن هذا ليقع لولا تعارف المسلمين بسبب اجتماعهم لأداء هذه الفريضة المباركة؛ ذلك أنّ في تعارف الشعوب الإسلامية، وتبادلها الآراء، وطرحها لمشاكلها ما يضيق شقّة الخلاف إن كان هناك خلاف، وإذا انعدم الخلاف عمّ التفاهم، ووحدت الغايات، واتحدت المناهج.

والحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام، وترسيخ لقيم التواضع والمساواة، فقد أراد دين اللَّه أن لا تكون تعاليمه ومبادئه مجرّد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعبادته وشعائره ربطاً وثيقاً، حتى تكون سلوكاً تطبيقياً في حياة المسلم وفي علاقته مع الآخرين.

إنّ المسلم هناك وعندما يتجرّد عن الثوب الأنيق، بل الثوب المخيط، ويحرم عليه أن يمسّ الطيب .. ويرى نفسه في لباس يساوي أقلّ الناس مالًا وجاهاً، هناك يتلقّى درساً في المساواة، لا تبلغه أقوى العبارات وأعظم الدروس، فالزيّ الذي يرتديه الحاج يدخل في شكله

ص: 29

البسيط، ولونه الملائكي، يعرض بوضوح توحيد فصائل المجتمع الإسلامي، وتضامنه، ووحدته الشاملة التي سنتعرض إليها بإختصار:

الحجّ و وحدة المسلمين

إنّ الوحدة هي الكفيلة لحفظ كيان الأمّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها .. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة، ومنبع القدرة والمنعة .. وأنّ القوّة أمر ضروري لحفظ الشرائع والمبادئ .. والوحدة مصدر قوّة، وفي الحج نجد هذه القوة، حيث إنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس، وتعصم السلوك، بل هو أيضاً عنوان للُاخوّة الإنسانية العامة عبر التاريخ حول مسألتي العبودية لله، واجتناب الطاغوت، وذلك بشتى الأساليب التي تتناسق فيما بينها لتؤكد هذا المضمون الوحدوي العظيم في الحج، ومسلك وخطّ جميع الأنبياء، وإعطاء القوة للأمة.

وقدتابعت الثورة الإسلامية في إيران هذا الخط، وأكَّدت على لزوم إعادة الدور الحقيقي للشعائر الإسلامية، كصلاة الجمعة، والحج، باعتبارهما من أكبر المجالات المحققة للإحساس بضرورة الوحدة في هذه الأمة.

إنّ الحج فريضة إلهية، لها أبعاد توحيدية كبيرة، وهي مؤتمر كبير يجمع المسلمين من كل الأقطار، متحدة نحو قبلة واحدة، في طاعة إله واحد، مستنين بسنة الرسول الأكرم (ص).

الخلاصة والنتيجة

كانت تلك نظرة موجزة عن البعد التربوي والإجتماعي للحج الذي فرضه الإسلام، وأدّاه الرسول (ص) واستوت على أساسه سيرة أئمة الدّين، وحفطة الشريعة الإسلامية، إستناداً على الكتاب والسنة، وعلى ضوء أفكار علماء المسلمين ومفكريهم، لاسيَّما الإمام الخميني الراحل، و لاشك إذن في كون أي حجّ يفتقد هذه الروح وذلك العقل، وتلك الأبعاد وغيرها من الآثار والمعطيات، مهما بلغت درجة

ص: 30

سطوع ظاهره وتزينه بالمظاهر البرّاقة، لا يتعدى كونه ضجيجاً وحسب، ويكون حجَّاً للنزهة والسياحة والتجارة، كما وصفه الرسول الأعظم (ص) بقوله لإبن عباس في ذكر حوادث تقع في المستقبل لأناس آخر الزمان: «يحجّ أغنياء أمتي للنزهة، ويحجّ أوساطها للتجارة، ويحجّ فقراؤهم للرياء والسمعة». (1) وإثر إلقاء هذه النظرة الواقعية، الخالية من العنصرية والتحيّز في مسألة الحجّ وأبعاده وآثاره، يطرح هنا السؤال نفسه على كلّ علماء الدين ومفكريهم الحريصين على حفظ الإسلام ورقى المجتمع الإسلامي، وكل المهتمين بشؤون الإسلام ومصير المسلمين، وهو: ما هي نسبة الاستفادة التربوية والإجتماعية التي تحصل عليها سيول المتدفقة تجاه بيت الله الحرام، و المتعطشين لمناسك الحج، والعاشقين لزيارة النبي الكريم (ص) هذا السفر الذي يستغلّ عادة الكثير من الإمكانات المالية والمعنوية اللازمة لقطعه؟

وما هو الدور الذي يلعبه علماء المسلمين ومفكروهم، والذين تقع على عاتقهم المسؤولية الايدوليوجية، والفكرية، والإرشاد، والتعليم، والأمر بالمعروف، ومراقبة المجتمعات الإسلامية كافّة؟

وما هي التدابير التي ينبغي أن تتخذها الدول وحكّام الأقطار الإسلامية في هذاالمجال؟

ولاشك أنَّ الجواب هو لا يتعدّى أمراً واحداً، وهو عودة علماء الإسلام إلى مكانتهم الطبيعية الأصلية في المجتمع، الذي أرادها الله ورسوله لهم، حيث يبلغون رسالات الله ويخشونه ولايخشون أحداً غيره.

ومن هنا تكون مسؤولية العلماء العاملين على إيصال الناس إلى ربهم، الّذين نصبوا أنفسهم في مقام الوصل بين العباد وخالقهم، أكبر وأعظم وآكد، إذ عليهم أن يهيئوا أنفسهم في الدرجة الأولى للعمل الدؤوب على جعل مراسم الحج برنامجاً عبادياً، وميقاتاً إلهياً، يقرّبون به العباد من ربهم، ويهذّبون نفوسهم على


1- مجمع النورين للمرندي: 293؛ الميزان في تفسير القران 434: 5.

ص: 31

الإخلاص والطاعة، والتخلق بالأخلاق الإيمانية العالية حتى يكتبوا عندالله من المبلغين الرساليين، ثمَّ يجعلونها برنامجاً جامعاً تربوياً، إجتماعياً، إقتصادياً، سياسياً، وثقافياً، يدفعون المجتمع الإسلامي به نحو الصواب، والرشاد، والإصلاح، والرقى في جميع مجالات الحياة.

وبتحقق هدف كهذا، فإنّ الجموع الإسلامية الغافلة ستستيقظ من غفلتها، وتتذوق التجارب القيّمة الموجودة في تاريخها المجيد والمشرق، وباعتمادهم روح الأمل، فإنَّهم سوف يسيرون خلف علمائهم و أمرائهم، وبذلك يحيون روح الحجّ الإسلامي، ويُلبسون المجتمعات الإسلامية تلك الحياة الطيبة، وتتحقق بذلك الأمَّة الواحدة التي أرادها الله أن تكون خير الأمم أخرجت للناس، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ ...). (1) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الأخيار المنتجبين.

فهرس المصادر:

- القران الكريم.

- وسائل الشيعة/ الحر العاملي.

- سفينة البحار/ المحدِّث القمي.

- علل الشَّرايع/ الشيخ الصدوق.

- أصول الكافي/ الشيخ الكليني.

- الميزان/ محمد حسين الطباطبائي.

- بحار الأنوار/ العلامة المجلسي.

- تفسير القمي/ علي بن إبراهيم.

- ثواب الأعمال/ الشيخ الصدوق.

- المحجّة البيضاء/ الفيض الكاشاني.

- من لايحضره الفقيه/ الشيخ الصدوق.


1- سورة آل عمران: 110.

ص: 32

- جواهر الكلام/ محمد حسن النجفي.

- مستدرك الوسائل/ المحدِّث النوري.

- صحيح مسلم/ مسلم بن الحجاج القشيري.

- صحيح البخاري/ محمد بن إسماعيل.

- مسند أحمد بن حنبل، سنن ابن ماجة.

- مصباح الشريعة/ المنسوب للإمام الصادق (ع).

- الحج في أحاديث الإمام الخميني/ مجلة ميقات الحج.

الأقراص الكمبيوترية (Cd)

1- جامع الأحاديث: (442 مجلد في 187 عنوان من 90 مؤلف)، إصدار مركز البحوث الكمبيوترية للعلوم الإسلامية، قم.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الإصدار الثاني.

2- مكتبة أهل البيت: (4467 مجلد)، إصدار مركز المعجم الفقهي للمرجع الديني آية الله السيد الگلبايگاني، الإصدار الأول.

ص: 33

عدم اشتراط المَحْرم في حج المرأة

سماحة الشيخ محمد القايني

طرح أخيراً بعض المتصدّين في الحجاز: منع النساء من الحج في الجملة إذا انفردن و لم يكن لهنّ ذومحرم يصاحبهنّ في السفر إلى المشاعر.

و هذه مسألة مطروحة في الكلمات قديماً و قد اختلف الفقهاء في الحكم فيها جوازاً و منعاً؛ والمعروف والمشهور عدم اشتراط وجوب الحج بما ذكر، بل ذهب جلّ الفقهاء عدا أحمد و بعض إلى عدم الاشتراط، بل اختلفت الرواية عن أحمد فيما ذهب إليه و قد نسب إليه وجوه و القول بالاشتراط هو أحدها.

ولنفرض أنّ مذهب بعض فقهاء المسلمين هو اشتراط وجوب الحج بوجود محرم للمرأة في سفرها، بل ليفرض أن بعضهم ذهبوا إلى حرمة السفر تكليفاً على المرأة منفردةً غير مصاحبة للمحرم.

ولكن مذهب آخرين عدم حرمة السفر بل وجوب السفر إلى الحج على المرأة إذا تمكنت من السفر وحدها؛ فهل يسوغ- مع هذا- فضلًا عن أن يجب على الحكّام إذا انتحلوا بعض المذاهب الفقهية أن يجبروا غيرهم من سائر المسلمين ممن لايعتقدوا بمذهبهم الفقهي، بل يختلفون معهم في ذلك، على السير على نهجهم، والمتابعة لهم، و السير على مذهب فقهي لايعتقدون به، بل يعتقدون عدم صحّته؛ فهب إنّ الحنابلة لايوجبون سفر الحج على المرأة المنفردة، فهل يجب على المالكي، والشافعي، وغيرهم، ممّن يرون وجوب الحج على المرأة مهما انفردت، ولم يكن معها مصاحب محرم أن يعدو عن طريقته، ويعدل عن مذهبه، ويخالف فقهه، فيترك الحج الواجب في مسلكه؟

ونحن وإن كنّا في هذا المجال بصدد البحث عن مسألة حكم سفر المرأة وحدها، و وجوب الحج عليها كذلك، على أساس ما تقتضيه

ص: 34

الأدلة الاجتهادية حسب الصناعة، ولكن ينبغي قبل ذلك أن نتطرّق إلى هذا الأمر الهام الذي يعمّ المسألة و غيرها من المسائل، ألا وهو شأن الحكّام في التعامل مع المسلمين فيما اختلفوا فيه من المذاهب الفقهيّة، فهل لمسلم أو حاكم من المسلمين أن يجبر غيره على السير على مذهب خاص، و انعزال مذهبه فضلًا عن أن يجب عليه ذلك؟

فالحنبلي يجبر الحنفي على العمل وفق المذهب الحنبلي، أهذا جائز، أو أن الحنبلي يجبر الإمامي على العمل على خلاف مذهبه الفقهي، فهذا سائغ فضلًا عن أن يجب؟!

و من جملة تطبيقات المسألة ما نحن بصدد البحث عنه، أعني إجبار مسلم لايرى حرمة السفر على المرأة فيما انفردت و لم يصاحبها محرم من زوج و غيره، و منعها عن الحج و هي ترى وجوبه عليها، و عدم جواز تركه لها لكونها مستطيعة حسبما تعتقده في مذهبها، سواء كانت معتقدة بمذهب الإمامية أو الشافعية أو المالكية بل و الحنبلية على بعض التقادير، فإنّ كل هؤلاء لايرون منعاً في السفر على المرأة، بمجرد كونها امرأة، إذا كانت واثقة من نفسها بالتمكّن.

فهل يجوز لبعض المسلمين منعها عن الحج، لمجرد أنّ هذا البعض ينتحل مذهباً في الفقه لايوافق هذا الرأي أو يعتقد خلافه؟!

أليس هذا منافياً لمصداقية مذاهب المسلمين في الفقه و لزوم الاعتراف بها؟ أو لا يكون هذا تحميلًا على المسلمين خلاف ما تقتضيه الحجة عليهم؟ فمن اعتقد بمذهب و قلّد في مسائله ذلك المذهب، فقد تمت الحجّة عليه، أفلا يكون منعه من العمل على وفق مذهبه ظلماً و زوراً؟

والمجتهد و المقلّد مع إصابة الواقع مأجوران و مع الخطأ معذوران زيادة على الأجر؛ و من يدري بمطابقة عقيدته للواقع في

ص: 35

مجال الفقه؟ أللهم إلّا أن يكون معتقداً بكونه معذوراً أصاب أو أخطأ، صادف الواقع أو انحرف عنه.

ولولا أنّ المسلمين أحرار في العمل على وفق مذاهبهم في الفقه بعد الإعتقاد بها و تمام الحجة عليهم، كان الواجب عليهم رفض المذاهب المختلفة و الالتفات حول مذهب واحد، و مع هذا فأيّ ترجيح لمذهب الحنابلة على مذهب الشافعي، أو لمذهب الشافعي على الحنفي، أو لهم على مذهب مالك؟

وبعد كلّ هذا، فالشيعة الإماميّة يعتقدون أنّ مذهبهم هو موافق لسنّة رسول الله (ص) لأنهم اتّبعوا فيه أهل بيته وعترته (عليهم السلام)، وحديث العترة ومذهبهم حديث جدّهم رسول الله (ص) ومذهبه؛ لايقولون برأي أو اجتهاد، بل يتبعون سنة النبي (ص) بعد الكتاب، و يصدرون عن معينه (ص) بعد القرآن، ومع الغض عن هذا، فهل يحق لبعض المسلمين أن يجتهد و لايحقّ ذلك للعترة؟! ويكون اعتبار الاجتهاد حصراً على غيرهم ولايعبأ بمذهبهم إلّا أن يكون ذلك لعدم صدور الاجتهاد عنهم، لكونهم معصومين أو لروايتهم المسائل عن النبي (ص) بلا إعمال حدس أو اجتهاد، و معه فاعتبار مذهبهم أولى.

وعلى أية حال فهذا أمر هام لاينبغي المرور عليه بسهولة، فإنّ المسلمين مختلفون في كثير من المسائل الفقهية، إلّا في المسائل الضروريّة كوجوب الصلوات الخمس، وحج البيت، وصيام شهر رمضان، ونحو ذلك؛ ومع ذلك فهم في فروع هذه المسائل على مذاهب و أقوال، قلّما تجد مسألة اتّفقوا على حكمها، بل كثيراً ما تجد الاختلاف بين علماء مذهب واحد في حكم المسألة، سيّما في الفروع المستجدّة، بل وفي بعض الفروع القديمة حيث يختلفون فيما كان مذهب إمامهم في تلك المسألة، و من جملة المسائل مسألة سفر المرأة وحدها، فقد نسب إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أقوال و إن مال بعض علمائهم إلى بعضها، ولكن ربّما يذهب غيره إلى غيره، و يعتقد أن مذهب أحمد كان غير ما مال إليه ذاك البعض.

ص: 36

والاختلاف بين المذاهب الإسلامية في أحكام الفروع أمر واضح لايختلف فيه إثنان، فلايكون منع بعضهم من العمل على وفق مذهبهم إلّا استكباراً عليهم، وازدراءً بمذهبهم، وتوهيناً لفقههم، دع عنك إنّه قديكون مذهب ذاك البعض الممنوع مدعوماً بأدلّة تقوى على غيره، وترجح عند المعارضة بغيرها، فإنّ عامّة الناس إنما وظيفتهم التقليد، ولايقدرون على الاستدلال في جزئيات المسائل، فإنّ التفصيل وظيفة أهل الخبرة و ليس وظيفة عامّة النّاس.

فقد ترى أنّ بعض المتشبهين بأهل العلم يعارضون المسلمين ممّن لايوافقونهم في الفروع، ويحتجون عليهم ببعض الآيات والنصوص، وليست هذه الآيات والنصوص خافية على العلماء الذين خالفوا مذهب هؤلاء في الفقه و الفروع، و لو ذكروا هذه النصوص عندهم لأجيبوا بما يقنعهم، أو لايمكنهم أحياناً إلزامهم بمذهبهم، ولكن لاشأن للمقلّدين من عامّة المسلمين في هذه المسائل، ومعرفة تفصيل الاستدلال فيها ليجوّز معارضتهم بنصوص أو أحاديث.

و حيث انتهى الأمر إلى هذا، فأنا اقترح على ولاة الأمّة و رعاتهم، و على المؤتمرات الإسلامية التي يعترف بها المسلمون على شتّى المذاهب أن تجعل هذه المسألة في جدول أعمالهم، ويقررون في ضمن قراراتهم حريّة المسلمين ممّن ينتحلون المذاهب المختلفة في العمل وفق مذاهبهم في الفروع، ولايحق لأحد أن يجبرهم على وفق مذهبه، فإنّه ظلم و زور، ولايستثنى من هذا القرار أيّ بلد من بلاد المسلمين بما فيها الحرمان الشريفان مكّة المكرمة ومدينة الرسول (ص)؛ فبماذا يحقّ منع المرأة المصريّة وهي مسلمة سوى إنّها لاتعتقد بمذهب ابن حنبل- في أكثر تقدير- منعها عن الحج بحجة انّه ليس لها محرم، و ابن حنبل لايرى وجوب الحج أو جوازه عليها مع أنّ مالكاً والشافعي وغيرهما يعتقدون خلاف ذلك؟!

و بماذا يحقّ منع المسلمين من شتّى المذاهب غير القليل منهم من التبرّك بضريح النبي (ص) وغيره من قبور الصالحين و الأولياء لمجرّد أنّ بعض المذاهب لايجوّز ذلك؟!

ص: 37

وبماذا يحقّ منع المسلمين من زيارة النبي (ص) بشدّ الرحال إليه لقصد زيارته، و التبرّك بقبره الشريف، و التوسل به إلى الله تعالى لمجرّد اعتقاد بعض المذاهب حرمة ذلك؟ استناداً إلى حديث: «لاتشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد ...». (1) و ليس قبر النبي (ص) من جملة المساجد؟!

مع أنّه لو صحّ الحديث سنداً و تمّ دلالةً، فهو قابل للتخصيص والمعارضة بما دلّ على الترغيب على زيارة النبي (ص) حتى عدّفي بعض النصوص ترك زيارته جفاءً، و لاتقصر النصوص المرويّة من طرق أهل البيت عن غيرها؛ فقد يقطع الفقيه بسبب سيرة المسلمين على الذهاب لزيارة النبي (ص) سيّما زيارة الحجاج له، وهذه السيرة بمرأى من عترة النبي (ص) وعلماء الأمّة باستحباب السفر لزيارته (ص) و تأكّد ذلك.

أو لا يكون حجر الأمّة عن فهم ما لايفهم البعض سدّاً لباب العلم بلاموجب، و استكباراً على سائر المسلمين، و تطاولًا عليهم؟

ثمّ لنرجع إلى حكم المسألة الّتي لأجلها عقدنا الكلام وهي وظيفة المرأة في حجّها، و أنّه هل يشترط في وجوب الحج عليها أو جوازه وجود محرم لها يرافقها في سفرها؟ سيّما في هذه الأعصار الّتي سهل أمر السفر فيها و لايحتاج إلى مؤونة كثيرة، و لا تطول الأسفار البعيدة، و لاتحتاج المرأة في سفرها إلى من يركبها أو ينزلها من المراكب، و لاتأثير للمرافقين عادةً في دفع ما قد يتّفق من الأخطار، و الحوادث كسقوط الطائرة أو نحو ذلك.

قد اختلف علماءالمسلمين في ذلك، والمعروف بينهم وفيهم الإمامية عدم اشتراط وجوب الحج بالمحرم، و ذهب قليل منهم إلى الاشتراط.


1- من لايحضره الفقيه 1: 231.

ص: 38

بل من ينسب إليه الاشتراط ربّما ينسب إليه خلاف ذلك أيضاً، بل قد يكون مراد من يحكى عنه الاشتراط معنى لاينطبق على الأسفار في هذه الأعصار، ممّا لايتطلب حاجة المسافر في الركوب و النزول، إلى من يعين الشخص على ذلك حيث علل في بعض الكلمات الحكم بما يظهر منه أنّ الوجه في الإشتراط هو اضطرار المسافر إلى المعين في سفره، و هذا لايعمّ السفر بالوسائل الحديثة.

و كيف كان نحن نقتصر في مجال حكاية الأقوال إلى عبارتين:

* إحداهما لصاحب الجواهر.

* و الأخرى لابن قدامة.

1. قال في الجواهر مازجاً كلامه بعبارة الشرايع:

لايشترط في وجوب الحج وجود المحرم في النساء، مع عدم الحاجة إليه، بل يكفي غلبة ظنها بالسلامة على نفسها وبضعها للرفقة مع ثقات، و كونها مأمونة أو غير ذلك، بلاخلاف أجده فيه بيننا؛ لصدق الاستطاعة بعد جواز خروجها مع عدم الخوف نصاً وفتوىً بدونه. (1) 2. و قال ابن قدامة في المغني:

قال ابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي ليس الْمَحْرم شرطاً في حجها- يعني المرأة- بحال؛ قال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لابأس به؛ وقال مالك: تخرج مع جماعة من النساء؛ وقال الشافعي: تخرج مع حرّة مسلمة ثقة؛ وقال الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول تتخذ سلّماً تصعد عليه و تنزل ولايقربها رجل إلّا أنه يأخذ رأس


1- جواهر الكلام 330: 17، الحج.

ص: 39

البعير وتضع رجلها على ذراعه؛ قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، و اشترط كل واحد منهم شرطاً لاحجة معه عليه. (1) وقد نقل في المغني عن أحمد في اشتراط المحرم في وجوب الحج على المرأة وجوهاً حيث قال- بعد أن استظهر من عبارة ماتنه عدم وجوب الحج على المرأة التي لامحرم لها-: و قد نص عليه أحمد، فقال أبوداود: قلت لأحمد: امرأة موسرة لم يكن لها محرم هل يجب عليها الحج؟ قال: لا.

و قال أيضاً: المحرم من السبيل؛ وهذا قول الحسن والنخعي وإسحاق وابن المنذر وأصحاب الرأي.

و عن أحمد: أنّ المحرم من شرائط لزوم السعي دون الوجوب، فمتى فاتها الحج بعد كمال الشرائط الخمس لموت أو مرض لايرجى برؤه، أخرج عنها حجة، لأنّ شروط الحج المختصة به قد كملت، وإنما المحرم لحفظها فهو كتخلية الطريق وإمكان المسير.

وعنه رواية ثالثة: إنّ الْمَحرم ليس بشرط في الحج الواجب؛ قال الأثرم سمعت أحمد يُسأل: هل يكون الرجل محرماً لأمّ امرأته يخرجها إلى الحج؟ فقال: أما في حجة الفريضة فأرجو، لأنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، و أما في غيرها فلا. والمذهب الأول و عليه العمل. (2) و قال في الشرح الكبير: اختلفت الرواية عن أحمد في وجود المحرم في حق المرأة، ثم ذكر نحواً مما تقدم في المغني. (3) و على أيّ تقدير فالبحث عن حكم المسألة في مرحلتين:


1- المغني 190: 3، كتاب الحج.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.

ص: 40

إحداهما: ما تقتصيه القاعدة من الإطلاقات في الكتاب العزيز و غيره، حتّى إنّه لو فرض قصور الأدلّة الخاصّة و لو بسبب التعارض أو الإجمال كان ما تقتضيه القاعدة هو المحكّم.

كما أنّه لا بأس بالإشارة- و لو إجمالًا- إلى ما تقتضيه الأصول العملية في الباب.

ثانيتهما: ما تقتضيه الأدلّة الخاصّة.

أمّا البحث عن المرحلة الأولى: فلا ريب أنّ مقتضى الأصل العملي هو جواز السفر بدون محرم، و ذلك حيث شك في التحريم فإنّ المقام كسائر ما شك في ثبوت حكم إلزامي فيه ممّا يكون الأصل نافياً للإلزام، ما لم تقم حجّة على الإثبات.

نعم، و الأصل يقتضي عدم وجوب السفر حيث يحتمل اشتراط الوجوب بالمحرم ما لم يثبت عدم الاشتراط.

و بعد هذا نقول: إنّ مقتضى إطلاق الكتاب المجيد و النصوص المعتبرة الّتي تعبّر عن السنّة القويمة هو عدم اشتراط وجوب الحج بالمحرم مادام أنّ المكلّف يتمكّن من السفر بدونه، و هو قادر على الاستقلال في السفر، قال تعالى: وَللهِ عَلىَ النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا. (1) فانّ الموضوع لوجوب الحجّ هو المستطيع الشامل لذي محرم، و لفاقده والّذي لايفرّق فيه بين الرّجل و المرأة؛ فربّما يضطرّ الرجل إلى من يساعده في سفره فلايكون مستطيعاً بدونه، كما ربّما لاتحتاج المرأة إلى من يعينها فتستطيع بدونه.


1- سورة آل عمران: 97.

ص: 41

و بالجملة: فاشتراط المحرم للحاج تقييد في إطلاق الآية الشريفة و غيرها من إطلاقات أدلّة وجوب الحجّ لايصار إليه إلّا حيث يقوم عليه دليل قاطع كسائر موارد الإطلاق.

وأمّا البحث عن المرحلة الثانية- أعني ماتقتضيه الأدلة الخاصّة-: فقد استدلّ لاشتراط وجوب الحج بل جوازه بوجود المحرم ببعض النصوص ونحن نذكرها و نتكلّم حول مدلولها.

الرواية الأولى: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «لايحلّ لإمرأة تؤمن بالله و اليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلّا و معها ذومحرم». (1) فربّما يستدلّ بهذا الخبر على اشتراط وجوب الحج بوجود محرم للمرأة، وإلّا فلايجب عليها، و وجه الاستدلال به هو إطلاق عدم حلّ السفر للمرأة بدون ذي محرم الشامل للحج كغيره؛ فإذا لم يحل السفر لم يجب لامحالة، حيث إنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلًا.

و هذا الخبر و نحوه هو عمدة الدليل لمن ذهب إلى الاشتراط.

ولكن يرد على الاستدلال بهذا الخبر في المقام وجوه من الإشكال:

الوجه الأول:

إنّ النسبة بين هذا الخبر ونحوه، وبين إطلاق الكتاب وغيره- ممّا تضمّن وجوب الحج على المستطيع على الإطلاق- هي العموم و الخصوص من وجه؛ حيث يجتمعان في السفر للحج، و تفترق الآية في حج الرجل وتفترق الرواية في سفر المرأة لغير الحج.


1- المغني، لابن قدامة 191: 3.

ص: 42

و مع هذا فتكون الرواية معارضةللكتاب العزيز، ولو بالعموم من وجه، فكيف تقدّم الرواية؟! بل لابدّ من طرحها بسبب المعارضة للكتاب ولا أقل من عدم موجب لتقديم الخبر.

لايقال: إنّ الرواية تقدّم مع كون نسبتها العموم من وجه، لكونها حاكمةوناظرة، ولاتلحظ النسبة بين الحاكم وغيره.

فإنّه يقال: ليس هناك ما يدلّ على حكومة الرواية، و إلّا كان مطلق المعارض بالعموم من وجه حاكماً.

مع أنّ تقديم أحد المتعارضين على الآخر بالحكومة ترجيح بلا مرجّح، فهلّا يقدم ما دلّ على وجوب الحج على مطلق المستطيع؟

الوجه الثاني

أنّ هذه الرواية لا إطلاق فيها من حيث اشتراط جواز سفر المرأة بالمحرم على وجه الاطلاق، بل أقصاها اشتراط السفر الذي يكون مقداره مسيرة يوم بذلك؛ وهذا غير ما هو المنسوب إلى القائل بالاشتراط من ثبوت الشرطية، بلا اختصاص بما هو مذكور في الخبر؛ هذا من ناحية.

ومن ناحيةأخرى: هل العبرة بمسيرة يوم بحسب وسائل السفر المعاصرة لصدور النصوص، أو أنّ العبرة بمسيرة يوم في كلّ عصر بحسب وسائل ذاك العصر؟ فإنّه إذا كان المعيار هو الأخير، لايبقى في كثير من الموارد مصداق للرواية، حيث إنّ الأسفار إلى الحج تكون نوعاً بالطائرة، ولاتطول الرحلة بها يوماً بل تكون بضع ساعات.

ربّما يظن وضوح الأمر، وأنّ العبرة بمسيرةيوم بحسب وسائل عصر الروايات، حيث إنّ المتكلّم يتكلّم بحسب شرائط عصره، فإذا قال القائل: يطول السفر إلى بلدة كذا يوماً، ويستغرق السير إليه كذا مدّة، فإنه يريد ذلك بحسب الوسائل المعاصرة له، ولايريد بحسب

ص: 43

الوسائل التي ليست دارجة آنذاك، كالسفر بما كان يغدو به ويروح سليمان (ع) أو يسير به الطير، أو الملك، أو الجنّ وما شابه ذلك.

ولكن الظاهر أنّه ليس الأمر واضحاً كما ظنّ، بل كما يحتمل ذلك يحتمل أن تكون القضيّة حقيقية، ويختلف صدقها بحسب الأعصار المختلفة، ولها نظائر.

بل حمل سفر مسيرةيوم على خصوص مسيرة يوم في عصر خاص راجع إلى اعتبار القضية خارجية، و مشيرة إلى أمر خاص، ومقتضى الظهور في القضايا الشرعية كونها قضايا حقيقية، لا خارجية و مشيرة، و هذا يعيّن أن تكون العبرة في كلّ عصر بحسبه.

نعم ربّما تكون مناسبات الحكم و الموضوع قاضية بخلاف ذلك، بأن يكون المراد من العنوان الإشاره إلى معيّن، وأن لاتكون القضية حقيقية، ولكنّه خلاف القاعدة لابدّ من إثباتها، وبدونه فظهور القضايا الشرعية في الحقيقة يقتضي تطبيقها على كلّ عصر بحسبه.

وإن شئت مزيد توضيح لذلك نقول:

مثلًا قد ورد في الكتاب العزيز الأمر بمعاشرةالنساء بالمعروف، كما ورد وجوب الإنفاق عليهنّ بالمعروف، ولا ريب أنّ المعروف في عصر نزول الكتاب وصدور النصوص كان يختلف بحسب المصداق عن المعروف في عصرنا، فهل تجد من نفسك حمل الأدلة على خصوص المعروف في تلك الأعصار؟ وهل يجزي في نظر الفقيه أن ينفق الرجل لامرأته من المركب ما كان متعارفاً في القديم أو يقدّم لها لباساً لو لبسه شخص فعلًا كان من لباس الشهرة يشار إليه بالبنان وهكذا.

بل واضح بحسب المتفاهم العرفي أنّ العبرة في العشرة بالمعروف والإنفاق به هو المتعارف في كلّ عصر، ويكون هذا من

ص: 44

الاختلاف في المصداق بحيث لاينطبق عنوان المعروف على ما لايكون معروفاً فعلًا بعد ظهور المشتق في المتلبس.

لِمَ لايكون عنوان السفر مسيرة يوم في المقام من هذا القبيل؟ فإنّه وإن كان مصداقه في عصر النصوص ثمانية فراسخ مثلًا، ولكن لايصدق العنوان فعلًا على السفر ضعف هذه المسافة، بل لابدّ في صدقة من ملاحظة ما يمكن السير في اليوم فعلًا بحسب المتعارف، ويكون ذلك هو المعيار، وإن سار شخص خاص ذاك المقدار في مدّة أقلّ أو أكثر.

ومناسبات الحكم و الموضوع أيضاً تساعد على ذلك، لا على كون العبرة بتحديد المقدار بما كان يستدعيه سفر اليوم من المسافة في عصر النص؛ حيث إنّ منع المرأة من السفر بحسب المتفاهم من حيث ضعفها وحاجتها إلى من يعينها، وهذا لايصدق في الأسفار القصيرة، والمدّة القليلة، ولذا حدّ مقدار السفر في النص بمسيرة يوم بحيث لو كان المسير دون ذلك لم يكن في سفرها بدون محرم بأس.

الوجه الثالث:

أنّ مناسبات الحكم والموضوع تقضي بأن المنع من سفر المرأته بدون محرم إذا زاد على مسيرة ثلاثة أيام أو يوم، إنّما هو لما في السفر بهذا المقدار من المسافة من المؤونة والكلفة التي تستدعي رفيقاً مناسباً يساعد الضعيف- ومنه المرأة- على أعباء السفر ومستدعياته، ولذا لم يشترط المحرم في السفر القصير مثل مسيرة ساعة ونحوها، حيث إنّ الضعيف يركب في المبدء ولو بإعانة الحاضرين، وينزل في المقصد كذلك، ولايستدعي السفر القصير نزولًا وركوباً في الأثناء عادة، ليحتاج المسافر إلى مرافق معين.

وهذا بخلاف الأسفار البعيدة، فإنّ طول المسير يستدعي من رعاية الضعيف والعناية به ما يكون هو في غنى عنه حيث يقصر السفر.

ص: 45

وحيث أنّ وضع السفر واقتضاءاته اختلفت عن القديم في هذه الأعصار، حيث لايستدعي السفر ما كان يستدعيه سابقاً فلا موجب لاشتراط المحرم حينئذٍ، وقد أسمعناك ما عن الأوزاعي من قوله: تخرج مع قوم عدول تتخذ سلّماً يصعد عليه وتنزل، ولايقربها رجل إلّا أنه يأخذ رأس البعير وتضع رجلها على ذراعه. (1) فإنّ هذه العبارة تشهد بما يستدعيه السفر آنذاك و ملابساته، وعلى ضوء هذه الملابسات و المناسبات ورد النص.

ومن هنا يظهر أنّ تحديد شرط المحرم بما إذا كان السفر مسيرة يوم أو ثلاثة يناسب أن يكون المحرم شرطاً في المسير لا في المقصد؛ وأنّ عملية السفر بمعنى السير مشروط- على تقدير الاشتراط- بالمحرم لا كون السفر بمعنى البعد عن الأصل، والكون خارج الوطن مشروطاً بهذا الشرط.

فإنّه فرق بين أن يقول: لايحلّ لامرأة أن تكون مسافرة إلّا و معها محرم وبين أن يقال: لايحل لها أن تسافر.

فإنّ الأوّل يستدعي اشتراط رفقة المحرم حتى حال النزول في المقصد، لأنّ الشخص المسافرحال النزول في غير موطنه كحال سيره؛ بخلاف الثاني، فإنّه لايستدعي أكثر من مرافقة المحرم حال السير، والنصوص وردت بمضمون الأوّل؛ نعم في رواية ابن عمر ما هو بمضمون الثاني و سيأتي الحديث.

الوجه الرابع:

إنّ هذه الرواية و نحوها مع الغضّ عن سندها و تسليم دلالتها معارضة بجملة من النصوص وردت عن أهل البيت (عليهم السلام)- وهم أدرى بما في البيت- نصّت على جواز حجّ المرأة بدون مراقب ومحرم.


1- المغني، لابن قدامة 190: 3.

ص: 46

مضافاً إلى معارضتها بما يروى من غيرطريقهم من حديث أبي سعيد، حيث قيد النهي فيه بما كان قدر المسير ثلاثة أيّام. (1) وما روي أنّ النبي (ص) قال لعدي بن حاتم: «يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤمّ البيت لا جوار معها لاتخاف إلّا الله». (2) وهذا الحديث يفيد أنّ عدم خروج المرأة في السفر وحدها لعدم أمن الطرق والخوف، وحيث يؤمن الطرق وينعدم الخوف، فلا محذور في سفرها، وإلّا كان الأولى التعرض لحكمه من النهي حتى آنذاك.

وبما ذكرنا يندفع ما ذكره ابن قدامة في الردّ على الخبر بأنّ حديث عدي يدلّ على وجوب السفر لا على جوازه. (3) ومن الغريب بعد ما عرفت من تقييد النص اشتراط المحرم، يكون السفر مسيرة يوم أو ثلاثة القضاء باشتراطه على الاطلاق، وأنه لايحلّ السفر قليلًا كان أو كثيراً إلّا بمرافقة المحرم، فإنّه اجتهاد بعد النص الصريح، وغيرة على النساء زائداً على الشرع المبين.

قال ابن قدامة: قال أبوعبدالله- يعني ابن حنبل- أما أبوهريرة فيقول يوماً وليلةً، ويروي عن أبي هريرة: لاتسافر سفراً أيضاً، وأمّا حديث أبي سعيد يقول: ثلاثة أيّام؛ قلت: ما تقول أنت؟ قال: لاتسافر سفراً قليلًا ولا كثيراً إلّا مع ذي محرم. (4) ولعمري إنّ مثل هذه الفتاوى جرأة على الدين أن يقول الرجل ورد في الشرع كذا، وأنا أقول كذا، فهل هناك بعد الشرع الذي لاطريق لمعرفته إلّا النصوص والروايات مجال لمقال؟


1- المغني، لابن قدامة 191: 3.
2- المصدر السابق.
3- المغني، لابن قدامة 192: 3.
4- المغني، لابن قدامة 191: 3.

ص: 47

وما جرّأ القوم على مثل هذا إلّا الذين سبقوا، فكان يقول أحدهم: كان على عهد رسول الله كذا، وأنا أفعل كذا.

الرواية الثانية: ما يروى عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: «لايخلون رجل بامرأة إلّا ومعها ذومحرم، ولاتسافر امرأة إلّا ومعها ذومحرم»، فقام رجل فقال: يا رسول الله إنّي كنت في غزوة كذا، وانطلقت امرأتي حاجةً، فقال النبي (ص): «انطلق فاحجج مع امرأتك». (1) وهذه الرواية كسابقتها متفق عليها في البخاري و مسلم، كما ذكره ابن قدامة، وفي رواية مسلم: ولاتسافر المرأة إلّا مع ذي محرم.

ويردّ على الاستدلال بهذا الخبر ما تقدّم في المروي عن أبي هريرة.

نعم هذه الرواية مطلقة من حيث قدر المسير إلّا أنه لامناص من تقييدها على تقدير صحّة الخبرين بخبر أبي هريرة، لأنّه قيد النهي بما كان السفر مسيرة يوم، ولولا هذا كان التقييد لغواً لاينبغي صدوره من الحكيم.

الرواية الثالثة: ما يروى عن ابن عمر عن النبي (ص): «لاتسافر المرأة ثلاثاً إلّا ومعها ذومحرم». (2) والكلام في هذا الخبر نحو ما تقدّم.


1- مسند أحمد 222: 1 و 346؛ البخاري 219: 2؛ مسلم 104: 4.
2- مسند أحمد 13: 2.

ص: 48

الرواية الرابعة: ما رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عبّاس، أنّ النبي (ص) قال: «لاتحجّنّ امرأة إلّا ومعها ذومحرم».

وهذه الرواية وإن كان لايرد على الاستدلال بها بعض ما أوردناه على الاستدلال بالنصوص المارّة التي سبقت، إلّا أنها مع الغض عن سندها، معارضتها ببعض النصوص؛ فغاية الأمر أنّها دالة على الحكم بالاطلاق، لإمكان تقييدها بما إذا لم يكن السفر بدون المرافق مأموناً، كما هو الغالب في الأعصار السابقة، حيث لم يكن السفر للرجال فضلًا عن النساء مأموناً عادة، بل كان عرضة للأخطار، والذي يدلّ على التقييد ما ورد في نصوص أهل البيت (عليهم السلام).

هذا مضافاً إلى أنّ مناسبات الحكم والموضوع قد يمنع من انقداح الإطلاق للخبر، فإنّ المنع من سفر المرأة بدون محرم لكونه مشقّة عليها سيّما في الأعصار القديمة التي كان السفر يستدعي من المؤونة في الركوب، والنزول، والسير، وملابساتها، ما لايستدعيه السفر في هذه الأعصار والطرق معبّدة، والأسفار الجويّة لاتستدعي عادة مرافقاً في المسير.

الرواية الخامسة: ابن عمر: أنّ النبي (ص) قال: «لاتسافر المرأة ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم». (1) وفي رواية مسلم: «ثلاثاً إلّا» وفي نقل: «ثلاثة إلّا» وفي رواية: «لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلّا ومعها ذومحرم».

الرواية السادسة: أبوسعيد الخدري عن النبي (ص) قال: «لاتسافر المرأة يومين إلّا معها زوجها أو ذومحرم». (2)


1- صحيح البخاري 35: 2 و المسلم 102: 4.
2- صحيح البخاري 58: 2.

ص: 49

وفي نقل آخر لمسلم: «لاتسافر المرأة يومين من الدهر إلّا ومعها ذومحرم منها أو زوجها». (1) وفي رواية لمسلم عن أبي سعيد: «لاتسافر المرأة ثلاثاً إلّا مع ذي محرم». (2) وفي رواية أخرى له عنه: «لاتسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلّا مع ذي محرم». (3) وفي نقل: «أكثر من ثلاث» (4) وفي موضع آخر: «لايحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيّام فصاعداً إلّا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذومحرم منها». (5) وفي نقل: «مسيرة يومين وليلتين». (6)والكلام في الخبرين الأخيرين يظهر مما سبقهما.

وممّا يوهن الاعتماد على النصوص المروية في منع سفر المرأة بدون ذي محرم، اختلافها الشديد في الحدّ المذكور، كما سبقت الإشارة إليه، مع العلم بعدم صدور مثل هذا الاختلاف عن النبي (ص) فيقع التعارض بينها لامحالة، ومع ذلك فقد جمع النووي بين النصوص المختلفة جمعاً لايساعده العرف ولايؤيده الاعتبار.


1- مسلم 102: 4.
2- مسلم 103: 4.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.
5- مسلم 104: 4؛ الترمذي 318: 2 وذكر بعده حديث: «لاتسافر امرأة مسيرة يوم وليلة» وقال: والعمل على هذا عند أهل العلم يكرهون للمرأة أن تسافر إلّا مع ذي محرم.
6- سنن البيهقي 138: 3.

ص: 50

قال في شرح مسلم:- تعليقاً على حديث: «لاتسافر المرأة ثلاثاً» وفي رواية: «فوق ثلاث»؛ وفي رواية: «ثلاثة»؛ وفي رواية: «لايحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلّا ومعها ذومحرم»؛ وفي رواية: «لاتسافر المرأة يومين من الدهر إلّا ومعها ذومحرم منها أو زوجها»؛ وفي رواية: «نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين»؛ وفي رواية: «لايحلّ لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلّا ومعها ذوحرمة»؛ وفي رواية: «لايحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلّا مع ذي محرم»؛ وفي رواية: «مسيرة يوم وليلة»؛ وفي رواية: «لاتسافر امرأة إلّا مع ذي محرم». هذه روايات مسلم.

وفي رواية لأبي داود: «ولاتسافر بريداً» والبريد مسيرة نصف يوم.

قال العلماء: اختلاف هذه الألفاظ لاختلاف السائلين، واختلاف المواطن، وليس في النهي عن الثلاثة تصريح بإباحة اليوم والليلة أوالبريد.

قال البيهقي: كأنه (ص) سئل عن المرأة تسافر ثلاثاً بغير محرم، فقال: «لا»؛ وسئل عن سفرها يومين بغير محرم، فقال: «لا»؛ وسئل عن سفرها يوماً فقال: (لا- ظ)؛ وكذلك البريد فأدّى كلّ منهم ما سمعه وما جاء منها مختلفاً عن رواية واحد، فسمع في مواطن ... إلى آخر ما ذكر. (1) ثمّ زاد على ما ذكره من الاختلاف بعض ما لم يذكره مثل: «بعد يومين»، (2) سيّما الذي حكاه عن المنذري؛ و راجع كلام ابن حجر في فتح الباري في مجال اختلاف هذه النصوص. (3)


1- شرح مسلم للنووي 106: 9.
2- مسند الشاميين، 4:؛ الطبراني 361: 1.
3- فتح الباري 65: 4.

ص: 51

أقول: لو انفتح باب مثل هذه الاحتمالات في النصوص والأخبار، لجرّ على كلّها الوهن والسقوط، فلم يشقّ النفس بشي ءٍ من الروايات بعد هذا، فيأتي الرواي ويسئل عن حكم فرض مع قيود، فيجاب بكلمة واحدة من أمر أو نهي، ثمّ يدخل كلّ القيود المفروضة في كلامه في كلام المجيب، فإنّ هذا تدليس واضح، وكذب فاضح، لاينبغي صدوره ممّن له أدنى درجة الضبط، وأقل مراتب الوثوق.

فإنّ ورود القيد في مقام الجواب ظاهر بل دال بوضوح شديد، بل صريح في مدخليّته في الحكم ولو في الجملة، بناءً على أنّ القيد ليس له مفهوم مطلق، بخلاف ما إذا كان القيد مفروضاً في كلام السائل؛ فانّ ورود الجواب لايستدعي دخالة القيود المفروضة في كلام السائل في الحكم، فدرج القيود في كلام المجيب بما يظهر منه صدورها من المجيب خيانة في النقل، وكذب في الخبر.

ثمّ إنّ ابن حجر بعد ذكره الاختلاف الكثير في هذه الروايات قال: وقد عمل أكثر العلماء في هذا الباب بالمطلق، لاختلاف التقييدات. (1) أقول: إنّ رواية التقييد لراوي المطلق يوجب وهن المطلق، واحتمال وهم الرواي، فينبغي الاقتصار في المنع- على تقديره- على القدر المتيقن وهو فرض القيد، وبالغض عن ذلك، فإنّ العمل بالمطلق على تقدير تعارض المقيّد إنّما يكون حيث لايكون المتعارضات في القيد متفقة على المعارضة مع المطلق، وإلّا فيكون المطلق أيضاً طرفاً للمعارضة، ويسقط عن الاعتبار.

وممّا يوهن الاعتماد على نصوص المنع عن سفر المرأة بدون محرم، مايظهر من بعض النصوص من انكار عائشة ذلك على روايه، وكيف نخفى مثل هذا الحكم على عائشة، وهي امرأة، والمسألة محل ابتلائها ولو كان السفر بدون محرم حراماً عليها لعلمته لا محالة.


1- المصدر السابق.

ص: 52

فقد روي عن ابن حبّان بسنده عن عمرة بنت عبدالرحمن أنّها كانت عند عائشة، تقول لعائشة: إنّ أباسعيد الخدري يخبر عن رسول الله (ص) أنّه قال: «لايحلّ لامرأة تسافر فوق ثلاثة أيّام إلّا مع ذي محرم»؛ قالت عمرة: فالتفتت إلينا عائشة فقالت: ما كلّهنّ لها ذومحرم؛ (1) وفي نقل: مالكلكنّ ذو محرم. (2) ومن بارد القول، ما نقله ابن حبّان عن أبي حاتم، من أنّه لم تكن عائشة بالمتهمة أباسعيد الخدري في الرواية، لأنّ أصحاب النبي (ص) كلّهم عدول ثقات، وإنّما أرادت عائشة بقول: ما لكلكم ذومحرم، تريد أن ليس لكلكم ذومحرم تسافر معه، فاتّقوا الله ولاتسافر واحدة منكنّ إلّا بذي محرم يكون معها. (3) أقول: لو لم تكن عائشة متهمة لأبي سعيد في صدقه، فلا أقل من كونها متهمة له في ضبطه للحديث وفهمه.

روايات أهل البيت (عليهم السلام)

وأمّا روايات أهل البيت (عليهم السلام) في مجال هذا الحكم فهي مستفيضة:

الرواية الأولى: صحيح سليمان بن خالد في المرأة تريد الحج ليس معها محرم هل يصلح لها الحج قال: «نعم إذا كانت مأمونة». (4) ونحوها رواية ثانية، هي معتبرة أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن المرأة تحجّ بغير وليّها؟ فقال: «إن كانت مأمونة تحجّ مع أخيها المسلم».

الرواية الثالثة: معتبرة معاوية بن عمّار قال: سألت أباعبدالله (ع) عن المرأة تحجّ إلى مكة بغير ولي؟ فقال: «لابأس تخرج مع قوم ثقات». وفي نقل الكليني: «عن المرأة الحرّة». (5)


1- صحيح ابن حبّان 444: 6.
2- صحيح ابن حبّان 442: 6.
3- المصدر السابق.
4- الوسائل 153: 11، الباب 58، الحديث 2 و 5.
5- المصدر السابق، الحديث 3.

ص: 53

الرواية الرابعة: معتبرة معاوية بن عمّار: «لابأس و إن كان لها زوج أو أخ أو ابن أخ فأبوا أن يحجّوا بها وليس لهم سعة، فلاينبغي لها أن تقعد، ولاينبغي لهم أن يمنعوها. (1) الرواية الخامسة: معتبرة صفوان الجمال قال: قلت لأبي عبدالله (ع): قد عرفتني بعملي تأتيني المرأة أعرفها بإسلامها وحبّها إيّاكم، وولايتها لكم ليس لها محرم؟ قال: «إذا جائت المرأة المسلمة فاحملها؛ فإنّ المؤمن محرم المؤمنة، ثمّ تلا هذه:

والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. (2) قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: قال سيد المحققين بعد هذه الرواية: وأمّا مقتضى هذه الروايات فهو الاكتفاء في المرأة بوجود الرفقة المأمونة، وهي التي يغلب ظنّها بالسلامة معها.

فلو انتفى الظنّ المذكور بأن خافت على النفس أو البضع أو العرض، ولم يندفع ذلك إلّا بالمحرم، اعتبر وجوده قطعاً؛ لما بالتكليف بالحج مع الخوف من فوات شي ء من ذلك من الحرج والضرر. (3) وقد حكم في الملاذ بأنّ جواز الحج بغير محرم مجمع عليه بين الأصحاب. (4) و قال في معنى كون المرأة مأمونة: ظاهره أنّ هذا الشرط لعدم جواز منع أهاليها من حجّها، فإنّهم إذا لم يعتمدوا عليها في ترك ارتكاب المحرّمات وما يصير سبباً لذهاب عرضهم، يجوز لهم أن يمنعوها إذا لم يمكنهم بعث أمين معها.

ويحتمل أن يكون المراد: مأمونة عند نفسها، أي آمنة من ذهاب عرضها، فيوافق الأخبار الأخيرة. (5)


1- المصدر السابق، الحديث 4.
2- المصدر السابق، الحديث 1.
3- مرآة العقول 172: 17.
4- ملاذ الأخبار 388: 8.
5- مرآة العقول 173: 17

ص: 54

وقال في الملاذ في معنى مأمونة: أي في نفسها، فهذا القيد للولي وتمكينها منه؛ أو مأمونة عند النّاس فيكون جواز خروجها مشروطاً بكونها مأمونة عند النّاس، لئلا تتهم في عرضها، فتكون مأمونة في قوة آمنة. (1) نعم ورد في معتبرة عبدالرحمن بن الحسن عن أبي عبدالله (ع) قال: سألته عن امرأة تحجّ بغير محرم؟ فقال: «إذا كانت مأمونة ولم تقدر على محرم فلابأس بذلك». (2) وهذا الخبر و إن لم يشترط في وجوب الحج وجود المحرم الذي كان يقول به غيرنا، ولكن ظاهره التكليف بمرافقة المحرم مع التمكن، حيث شرط في جواز السفر بدون المحرم عدم التمكن منه، فالمرأة إذا قدرت أن تسترفق محرم لها فلاينبغي لها أن تخرج وحدها.

ونحوه خبر قرب الإسناد بإسناده عن أميرالمؤمنين علي (ع) كان يقول: «لابأس أن تحجّ المرأة الصرورة مع قوم صالحين إذا لم يكن لها محرم ولا زوج». (3) ولكن تقدّم أنّ مناسبات الحكم والموضوع تقضي باختصاص شرطية المحرم بتلك الأعصار الغابرة التي كان الرفيق والمصاحب مؤثراً في تخفيف ثقل السفر ورفع أعبائه، ومساعداً في دفع المشاكل وأخطاره، لا في هذه الأعصار التي ربّما لايكون الرفيق إلّا ثقلًا على المسافر، وكلفة عليه زائداً على كلفة السفر ومؤونته.

فقد تحصل ممّا تقدّم استفاضة النصوص من طرق أهل البيت (عليهم السلام) بعدم اشتراط المحرم في جواز السفر للمرأة، ولا في وجوب الحج عليها، بل إذا أمنت المرأة من نفسها، واستطاعت الحج بدون محرم، حجّت وسافرت، ولايحقّ لأحد أن يمنعها حتى الزوج؛ وقد وردت نصوص عدّة في عدم اشتراط إذن الزوج أيضاً في الحج الواجب؛ والله العالم.


1- ملاذ الأخبار 389: 8.
2- الوسائل 153: 11، الباب 58، الحديث 6.
3- نفس المصدر: الحديث 7.

ص: 55

إخراج غير المسلم من الجزيرة العربية دراسة فقهية استدلاليّة

حيدر حب الله

تمهيد

الذي يبدو للباحث أنّ المعروف بين الفقهاء المسلمين، (1) هو الحكم بعدم استيطان المشركين خاصّة أو مع أهل الكتاب- ولو كانوا أهل ذمّة- جزيرةَ العرب على نقاش في التحديد الجغرافي لهذه المنطقة، لتشمل جزيرة العرب كلّها، وضيقاً لتقتصر على مكّة المكرمة والمدينة المنوّرة أو بلاد الحجاز.

وهذه الصيغة القانونية للمسألة توحي بالدرجة الأولى- من حيث المقدار الواضح منها- بلزوم إلغاء ظاهرة توطّن غير المسلم في تلك المنطقة، بيد أنّ البحث الفقهي- وعلى ما هو مسجّل في جملة من الكتب الفقهية- قد تطرّق إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ طُرح على بساط البحث موضوع دخولهم إلى هذه البقعة ولو لمجرّد المرور، كما لو هبطت الطائرة في مطار جدّة كمحطة «ترانزيت»، لتعود للإقلاع بعد مدّة قصيرة من الزمن، مكملةً مسيرها إلى حيث مقصدها الأصلي، كما أنّ مسألة زيارتهم هذه الأراضي ولو مجرّدةً عن غرض الاستيطان، بل للسياحة أو التجارة أو .. كان هو الآخر كغيره- ربما- مورداً لتحفظ


1- أنظر: الطوسي، المبسوط 47: 2؛ والمحقق الحلي، شرائع الإسلام 253: 1؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 334: 9؛ والشهيد الأوّل، الدروس الشرعية 39: 2؛ والمحقق الكركي، جامع المقاصد 464: 3.

ص: 56

بعض الفقهاء المسلمين، ولا أقلّ محلّ جدل .. (1)، وذكر بعضهم جواز أن يأذن لهم الإمام بالبقاء ثلاثة أيام فقط. (2) بل وصل الالتزام الفقهي بهذا الحكم إلى درجة الحكم بنبش قبره لو دفن فيه على حدّ تعبير بعض النصوص الفقهية (3).

ولم يخالف في أصل المسألة إلّا بعضٌ قليل من الفقهاء استشكل فيها، مثل السيد أبوالقاسم الخوئي (4).

وعلى أية حال، فلابدّ لنا من دراسة المسألة من حيث الأساس، وأنه هل هناك ما يؤكّد ثبوت هذا التشريع أو ما كان من قبيله في المتوفّر لدينا من المصادر الدينية أم لا؟ كما أنه لابدّ لنا- وفي إطار استعراض وملاحظة النصوص والأدلّة المتوفرة في الموضوع- من ملاحقة المدى الذي تعطيه هذه الأدلّة من حيث السعة والضيق على تقدير ثبوت الجذر والبنية الأولى له.

نظرية الإخراج من الحجاز وجزيرة العرب، الأدلة والشواهد والمناقشات

الذي يظهر من كلمات الفقهاء في هذا الإطار هو الاعتماد على مجموعة أدلّة لتثبيت هذا الحكم، وأهمّها:

1- المستند القرآني لنظرية الإخراج من الجزيرة العربية

اعتمد بعض العلماء هنا على قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ


1- راجع: المحقق الحلي، شرائع الإسلام 253: 1.
2- العلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 212: 2- 213؛ وقواعد الأحكام 515: 1.
3- العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 337: 9؛ والمحقق الكركي، جامع المقاصد 465: 3.
4- أنظر: الخوئي، منهاج الصالحين 400: 1؛ والوحيد الخراساني، منهاج الصالحين 452: 2؛ ومحمود الهاشمي، منهاج الصالحين 414: 1.

ص: 57

وَلاتُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرام حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ. (1) حيث ذهب المحقّق الأردبيلي إلى أنّ هذه الآية ظاهرة في وجوب إخراج المشركين من مكّة، وفاقاً لما قاله الفقهاء في أبحاثهم الفقهيّة. (2) والاستناد إلى هذه الآية الكريمة يقوم على تفسير: مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ بمعنى: من المكان الذي أخرجوكم منه، أمّا إذا فسّرناها بأنّها في مقام التعليل، بمعنى: أخرجوهم لأنّهم أخرجوكم، فإنّها ستخرج عن مجال الاستدلال؛ لأنّ غاية ما تدلّ عليه حينئذٍ أنه يجب عليكم إخراجهم من مكّة ردّاً على إخراجهم لكم منها، فيتحدّد الحكم ضمن إطار هذه المعادلة، فإذا انتهى الزمن الأول الذي عاش فيه من فعل ذلك- إخراج المسلمين من بلدهم- لم يعد هناك معنى لإخراج الأجيال اللاحقة؛ لعدم صدق الحيثية الإثباتية للحكم في موردهم، كما هو واضح.

بل حتى لو فهمنا دلالة: مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ على بيان المكان، فإنّ قرينة أخْرَجُوكُمْ شاهدة على الحيثية التعليلية لهذا الحكم، بوصفه حكماً عقابياً لهم على فعلهم ذلك بكم، وإلا لم يكن هناك معنى لبيان محلّ الإخراج بهذه الطريقة واللسان.

والحيثية التعليلية التي أشرنا إليها، بصرف النظر عن تفسير حَيْثُ في الآية الكريمة تلوح من ظاهر كلمات بعض المفسّرين أيضاً. (3)


1- سورة البقرة: 191.
2- راجع: الأردبيلي، زبدة البيان: 308.
3- أنظر: الطبرسي، جوامع الجامع 189: 1؛ ومجمع البيان 30: 2؛ والفيض الكاشاني، التفسير الصافي 228: 1؛ والطبري، جامع البيان 261: 2؛ وتفسير السمعاني 192: 1؛ وتفسير البغوي 162: 1؛ والغرناطي، التسهيل لعلوم التنزيل 73: 1؛ وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 233: 1.

ص: 58

يضاف إلى ذلك أنّ الآية- لو سلّمنا بها- خاصّة بمكّة؛ لأنّها هي التي تمّ إخراج المسلمين منها، كما أنّها خاصّة بالمشركين من عبدة الأوثان؛ لأنّهم هم القدر المؤكّد؛ حيث لم يشارك أهل الكتاب في إخراج المسلمين من مكّة، ولا أهل سائر الديانات الأخرى.

والنتيجة: إنّ الظاهر من الآية كونها وردت- على حدّ تعبير ابن كثير (774 ه-)- مورد القصاص والردّ بالمثل؛ فإنّ هؤلاء القوم أخرجوكم لحوالي عقد من الزمن من بلدكم ظلماً وعدواناً، فيجب أن يعاقبوا بالإخراج، وليس هذا اللسان لسان قانون يمنع دخول أيّ مشرك مطلقاً أرض الحجاز إلى يوم القيامة.

من هذا كلّه، يظهر أنّ ما ذكره بعض الباحثين من أنّ المشرك لا تؤخذ منه الجزية، ولا يقبل منه غير الإسلام، وهذا يعني عدم جواز استيطانه بلاد الإسلام، (1) فضلًا عن استيطانه جزيرة العرب، غير صحيح؛ لأنّه من أخذ اللوازم بطريقة غير عرفية ولا قانونية، فلو كان هذا الحكم يتضمّن عدم استيطانهم بوصفه حكماً ثابتاً، كان معنى ذلك أنه لو ارتفع حكم القتل- ولو لعنوان ثانوي كالعهد والأمان و ..- منعوا من استيطان العالم الإسلامي!! بل إنّ حكم القتل حكمٌ مستقلّ قائم بنفسه على تقدير الأخذ بإطلاقه، نعم عدم الاستيطان لازم خارجي لواقع القتل؛ لفرض موته، مع أنه لا يشمل جثته كي لا يجوز دفنها في بلاد الإسلام، أو في جزيرة العرب كما ذكره بعضهم؛ لعدم وجود معنى لشمول دليل القتل لقتل الجثة مثلًا.

وعليه، فالاعتماد على مستند قرآني مفترَض؛ لإثبات وجوب إخراج الكفار من الجزيرة العربية، غير دقيق.

2- استدعاءات شرافة الموضع

الدليل الثاني الذي ذكروه هنا هو أنّ جزيرة العرب تعدّ من المواقع الشريفة من جهة كونها منزلًا ومركزاً للعرب الذين كان منهم


1- محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسّرة 325: 3- 326.

ص: 59

رسول الله (ص) وحيثية الشرف المتضمّنة فيها تستدعي عدم السماح بدخول غير المسلم إليها، مما يفرض حرمانه من ذلك. (1) غير أن هذا الكلام لا يعدو أن يكون محاولة لتقريب الحكم إلى الذهن من حيث حكمته، وإلّا فإنه لا يمثّل في حدّ ذاته أية قاطعية؛ إذ إنّ محض الشرفية لو استدعى هذا الحكم هنا، لكان يستدعي نماذج مشابهة لا يصح الالتزام بها؛ فمثلًا: هل يلتزم القائل به بحرمة إدخالهم أو دخولهم الكوفة والنجف والقدس ومشهد وباقي المناطق بما يؤدّي إلى توسعة الحكم لأكثر من ذلك، مما هو غير ثابت في الشريعة، بملاحظة أنه لو كان لبان، بل قد بان عدمه؟!

على أنّ تشرّف بقعةٍ معينة كيف عرفنا أنه يوجب حرمة دخول الكافرين إليها؟ وما هو المبرّر المنطقي الذي جعلنا نقفز إلى هذا الحكم على أساسه؟! كما أنّ القضية من جهة أخرى قابلة وفق منطق هذا الاستدلال للتوسعة، من قبيل حرمة دخول الفاسقين المتهتكين ولو كانوا من المسلمين وشبه ذلك، مما لا يظنّ بالالتزام به؛ لقيام الشواهد التاريخية على عكسه.

والذي يبدو أنّ المستدل كأنه استوحى من استيطانهم تلك البلاد ما يفيد هتك حرمتها أو إضعاف عزّتها أو أصالتها وأشباه ذلك، مما يلقي بظلاله على نفس الظاهرة الإسلامية والمجتمع الإسلامي بصورة سلبية، لما تمثله جغرافيا الحجاز من ارتباط وثيق بالتراث الإسلامي، ومن هذه الجهة قد يتمّ التوافق معه متى أحرزنا صغرى هذه المعادلة ومصداقها، الأمر الذي لا يملك وجهاً واضحاً إلّا في بعض الحالات التي ربما نصنّفها في حساب الحال النادر.

3- مستند الإجماع في نظرية التحريم

استند بعض الفقهاء هنا إلى الإجماع، (2) فضلًا عن الشهرة المؤكّدة في عدّة كلماتٍ لهم. (3)


1- الكركي، جامع المقاصد 465: 3.
2- المبسوط 47: 2؛ وتذكرة الفقهاء 334: 9؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 80: 3؛ والمحقق النجفي، جواهر الكلام 289: 21.
3- شرائع الإسلام 253: 1؛ والمحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 521: 7؛ والخوئي، منهاج الصالحين 400: 1.

ص: 60

وهذا الإجماع يمكن إثباته أيضاً من طريق آخر، غير ملاحظة كلمات الفقهاء في المسألة على ما أفاده الشيخ محمد حسن النجفي (1)، وذلك بالرجوع إلى نفس السيرة الإسلامية الجارية على ذلك.

ومتى تحقّق ذلك الإجماع وتلك الشهرة كانا بنفسيهما دليلًا على الحكم الشرعي.

وهذا الاستدلال يمكن تسجيل ملاحظتين عليه، هما:

الملاحظة الأولى: ما صار مكرّراً جداً من احتمال المدركية على أقلّ تقدير في هذا الإجماع، إذا لم نقل بحصول الاطمئنان العرفي بهذه المدركية، من خلال تداول المسألة على مستوى المستند الحديثي في المصادر الشيعية والسنية، كما سوف نلاحظه إن شاء الله تعالى.

الملاحظة الثانية: إنّ قيام السيرة الإسلامية على ظاهرة منع دخول غير المسلمين أراضي الحجاز، لو تأكّدنا منه في مختلف المراحل التاريخية، لا يفيد يقيناً بقيام إجماع فقهي؛ لأنّ الملاحظ في تشكّل هكذا ظواهر اجتماعية سياسية عامة على أساسٍ ديني أنه يعتمد بالدرجة الأولى على مزاوجة بين الموقف السياسي الإسلامي التقليدي، والمرجعية الدينية العامة، ومن الممكن جداً عدم تأثير الموقف المخالف في إلغاء أو تقليص مثل هذه الظواهر، فالموقف الرسمي الديني والسياسي كافٍ في حدّ نفسه في تشكيل سيرة وتعاقد اجتماعي عام في مثل هذه المسألة، تماماً كما يحصل في عصرنا في بعض الديار الإسلامية، حيث يكفي إصدار مفتي تلك الديار فتوى ثم قيام الدولة بتطبيق تلك الفتوى لتكون حالةً عامّة،


1- جواهر الكلام 289: 21.

ص: 61

رغم أنه قد يكون هناك الكثير من المعارضين لهذه الفتوى في الأروقة والمحافل العلمية.

ومن هنا لا تكون السيرة شاهدةً على توافق فقهي تخصّصي لدى علماء الفقه على مستوى الدراسة العلمية للمسألة.

4- مستند السيرة الإسلامية العامّة

ذكر المحقق النجفي (1) هنا أنّه يمكن التمسّك مباشرةً بالسيرة الإسلامية القائمة على ذلك، بمعنى جعلها كاشفاً مباشراً عن الموقف الشرعي الإسلامي، بلا ضرورة لتوسّط الإجماع الفقهي في عملية الكشف هذه.

وهذا هو الفارق في كلامه بين تمسّكه بالسيرة هنا وفي الدليل المتقدّم، حيث جعلها هناك وسيطاً لاكتشاف الإجماع، أما هنا فجعلها دليلًا مستقلًا.

وهذا الدليل يمكن أن يلاحظ عليه أمرٌ عام، وهو أنّ السيرة المتشرّعية يمكن أن تخضع لقانون المدركيّة كما يخضع لها الإجماع؛ حيث لابدّ في السيرة من رفع تمام الاحتمالات التي تدعم نشوءها من عناصر غير الفقه والحكم الإسلامي.

وهذه السيرة في الفترة اللاحقة لعصر النص يحتمل فيها في حالاتٍ كثيرة- كما في محلّ بحثنا- اعتمادها على الفتاوى والآراء الفقهية للفقهاء وأئمة المذاهب و .. ومع هذا الاحتمال لا تعود لهذه السيرة كاشفيّة تامة عن إسلامية الحكم الذي تختزنه.

كما أنّ هذه السيرة في الفترة المعاصرة لزمن النص يحتمل فيها في كثير من الأحيان اعتمادها على عناصر غير مجرّد الموقف الإسلامي، كما لو اعتمدت السيرة على فهم خاصّ للنص، كما في موردنا الذي يوجد فيه- كما سيأتي- نصّ وصية الرسول (ص) في هذا


1- المصدر السابق.

ص: 62

المضمار، الأمر الذي يحتمل معه أنهم اعتمدوا- بوصفهم فقهاء وعلماء دين معاصرين للقرون الإسلامية الأولى- على هذا النص، كما أنّ الاستدلال بمسألة شرفية المكان ربما كان عاملًا مساعداً في نشوء هذه المفاهيم المرتبطة بمسألتنا؛ وربما كانت العوامل السياسية قد لعبت دوراً في تفريغ الجزيرة من غير المسلمين، الأمر الذي تُلُقّي فيما بعد على أنه أمرٌ ديني ثابت.

على أنه من غير المعلوم تكوّن مفهوم السيرة هنا في القرون الثلاثة الأولى؛ لأنّ هذا النوع من الأحكام له في الغالب جانب سياسي إجرائي يعني الدولة وأجهزتها، وليس قضيّةً عبادية أو معاملة مالية شائعة، حتى تعيش في وعي الناس بشكل مستمرّ أو تمارس بشكل متواصل، ومعه يكفي في تصوّر انعقاد سيرة اتخاذ موقف فقهي رسمي من جانب بعض فقهاء الدولة مدعوماً بقرار سياسي في تلك المنطقة، وأين هذا من تكوّن مفهوم السيرة؟!

كما أنّ المسألة في دائرة أبناء الطائفة الشيعية لا تخرج عما قلناه آنفاً، انطلاقاً من وجود مدارس ورؤى متعدّدة في الوسط الشيعي، حتى في ظلّ وجود الإمام، نظراً لقلّة وضعف عمليّة التواصل المجتمعي العام الذي يسمح للإمام (ع) بالإشراف عل كلّ المجتمع الشيعي، لاسيّما مع الظلم الذي مورس على أئمة أهل البيت النبوي في العصرين الأموي والعباسي، إذ لم يكن التواصل الجماهيري وعلاقة الإمام (ع) بالقاعدة كما هي الحال عليه اليوم.

وهذه الملاحظة العامّة- وكما أشرنا- وإن لم يكن مجال تفصيلها هنا، إلّا أنه اتضح أنها تعيق عملية الكشف في السيرة.

5- مستند الأحاديث الشريفة

يمكن اعتبار هذا الدليل هو الأساس هنا، أي التمسّك بالأخبار الواردة في المسألة من كتب الفريقين: السنّي والشيعي، وإن ذكر

ص: 63

الشهيد الثاني وغيره عدم العثور على خبر في المسألة من طرق الإماميّة، (1) وما عثرنا عليه نحن هو:

الحديث الأول: الرواية المتضمّنة لوصية النبي (ص) بإخراج اليهود من جزيرة العرب، أو إخراج المشركين منها، ففي الحقيقة خبر الوصية يشتمل على نصّين:

أحدهما: ما يدلّ على إخراج اليهود والنصارى أو اليهود فقط.

وثانيهما: ما ورد في المصادر الحديثية السنّية، ويشتمل على إخراج المشركين، وله وجودٌ ما في مصادر الشيعة.

وقد نقل النص الأول في الغالب عن أمّ سلمة زوج النبي (ص)، كما نقل النصّ الثاني عن ابن عباس، والنصان هما:

أ- خبر أم سلمة المروي عن رسول الله (ص) أنه: أوصى عند وفاته: يُخرج اليهود من جزيرة العرب ... (2) وبحسب نقل الحرّ العاملي عن أمالي الطوسي، جاءت إضافة النصارى إلى اليهود؛ (3) وورد في مرسل ابن جريج بأن لا يترك يهودي ولا نصراني بأرض الحجاز. (4) ب- خبر ابن عباس، الذي جاء بصيغة: «... أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ..». (5) وقد جاء مضمون الوصيّة عن ابن عباس بنقل الفضل بن شاذان في وقائع حادثة يوم الخميس، وأنّ النبي (ص) قال فيما قال: «.. وعليكم بهذه الثلاثة أشياء أنفذوها بعدي: أنفذوا جيش أسامة،


1- مسالك الأفهام 80: 3؛ ومجمع الفائدة والبرهان 521: 7.
2- الطوسي، الأمالي: 404؛ الهيثمي، مجمع الزوائد 325: 5، وذكر أنّ رجاله رجال الصحيح؛ والطبراني، المعجم الكبير 265: 23.
3- تفصيل وسائل الشيعة 132: 15.
4- الصنعاني، المصنّف 57: 6- 58، و 361: 10؛ والدر المنثور 227: 3.
5- صحيح البخاري 137: 5؛ ومسند ابن حنبل 222: 1؛ وصحيح مسلم 75: 5؛ وسن أبي داوود 41: 2؛ والبيهقي، السنن الكبرى 207: 9؛ والصنعاني، المصنف 57: 6، و 311: 10 و ..

ص: 64

وأجيزوا الوفد كما كنت أجيزهم، وانفوا المشركين من جزيرة العرب، حتى لا يكون في جزيرة العرب إلّا دين واحد ..». (1) وهذه الوصية واضحة فيما تقرّره على مستوى بحثنا؛ لأنها تقرّر إخراج الكافرين من جزيرة العرب، بمعنى عدم السماح لهم بالاستقرار فيها، وهو المطلوب، بل قد تشمل مطلق الزيارة والتردّد، دون مثل الدفن ونحوه.

والبحث في هذه الوصية يقع تارةً على المستوى السندي الصدوري وأخرى على المستوى الدلالي:

أما الناحية السندية: فهي ضعيفة في رواية أمّ سلمة، حيث ورد في طريقها وهب بن حزم وهو مهمل جداً، نعم صحّح السند في طرق أهل السنة، غير مرسل ابن جريج، وأما خبر ابن عباس ففي طريق ابن شاذان مشكلة إثبات صحّة نسبة الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم إليه، فإنّ نسخ هذا الكتاب (كتاب الإيضاح) قليلة جداً، ويبدو أنّ العلامة المجلسي والحرّ العاملي لم تصلهما نُسَخه، ولهذا أقرّ محقّقو الكتاب بندرة النسخ، وأنها بأجمعها غير كاملة وفيها غلط، (2) وأقدم نسخه المتوفرة لا يحرز عودها إلى قبل القرن الحادي عشر الهجري، فالاعتماد على كتاب من هذا النوع مشكل جداً.

وأما سند المصادر السنية برواية ابن عباس فهو تام وفقاً لأصول علم الجرح والتعديل عند أهل السنّة؛ بعيداً عن التحفّظ من موضوع ابن عباس حيث كان صغير السنّ.

وأما الناحية الدلالية: فقد تبرز عدّة ملاحظات، هي:

الملاحظة الأولى: إنّ النصّين متناقضان؛ فإنّ أحدهما يجعل مورد الوصية أهلَ الكتاب، والآخر يجعلها واردةً في المشركين الذين صاروا علماً لعبدة الأوثان؛ وحيث إنّ الوصية واحدة، فلا محالة يقع التردّد في موردها، فيعود الحديث مشوباً بالغموض من هذه الناحية.


1- ابن شاذان، الإيضاح: 359- 360.
2- أنظر مقدّمة المصحّح للإيضاح: 61. مير جلال الدين الأرموي.

ص: 65

وقد يقال بأنّ هذه الملاحظة قابلة للمناقشة؛ لأنّ النصين لم يتصدّيا لإبراز وصيّة رسول الله (ص) بما هي نصٌّ كامل متكامل، وإنما أخبر كلّ نصّ منهما عن شي ء أوصى به، ولعلّ كلّ نص منهما يخبر عن مقطع آخر، حتى لو فرضنا أنّ الوصية المخبر عنها كانت واحدة، وأنه لم يقم الرسول (ص) بالإيصاء مرّتين متباعدتين زماناً، كما هو غير بعيد.

إلّا أنّ ظاهر الروايات- لاسيما بطريق ابن عباس- الإخبار عن تمام الوصية؛ فإنها ذكرت أنّ الرسول بيّن ثلاثة أشياء في وصيّته ثم ذكرتها، وفي بعض المصادر جاء نسيان الثالثة من طرف الراوي، وهو ظاهر في بيان أحداث الوصية كلّها، لاسيّما وأنّ بعض روايات إخراج اليهود عبّر فيها بآخر ما تكلّم به الرسول حيث جاء قوله: «أخرجوا اليهود من الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب»؛ (1) وفي خبر آخر إلى أبي عبيدة بن الجراح أيضاً أنه: «وأحسبه قال: أخرجوا اليهود من أرض الحجاز»، (2) حيث لايبدو من الراوي التأكّد من صدور هذه الجملة.

وهذا ما يفتح الباب على تردّد آخر، في إضافة أهل نجران على صعيد الجزيرة العربية، وتخصيص اليهود بأرض الحجاز، بناءً على التمييز بين الجزيرة والحجاز؛ إلّا إذا جرى الإصرار على وجود عدّة وصايا له (ص) عند وفاته، في بعضها يذكر المشركين وفي بعضها الآخر اليهود، بل لقد تعدّدت الروايات في آخر ما نطق به الرسول (ص) من الصلاة وغيرها، ولعلّ التعبير بآخر ما تكلّم به قائمٌ على المسامحة العرفية.

الملاحظة الثانية: إنّ ظاهر رواية كتاب الإيضاح بيان للغاية بقوله: «حتى لا يكون في جزيرة العرب إلّا دين واحد»، وهذا معناه أنّ الإخراج كان لغاية عدم وجود دينين في جزيرة العرب، وستأتي رواية مستقلّة بهذا الصدد؛ وعدم وجود دينين لا يقتضي منع الكافر من الاستيطان في الحجاز أو جزيرة العرب؛ لعدم صدق وجود دينين بذلك، بل إنما يصدق بوجود جماعات كبيرة لها معابدها، وأماكن صلاتها،


1- سنن الدارمي 233: 2؛ والكوفي، المصنّف 635: 7؛ والبخاري، التاريخ الكبير 57: 4.
2- مجمع الزوائد 28: 2.

ص: 66

ومظاهرها الدينية، فهذا العنوان أخصّ من عنوان مطلق المنع من الاستيطان أو الزيارة أو الدفن أو نحو ذلك.

إلّا أنّ هذه الملاحظة لمّا وردت على الرواية المذكورة في مصدر غير معتبر سنداً لم يكن يمكن التعويل عليها في مواجهة سائر الروايات قبل النظر في الروايات القادمة.

الملاحظة الثالثة: إنّ هذا النص- الوصية- قد صدر قبيل وفاةالرسول (ص) وبعد نزول سورة المائدة ورجوع النبي من حجّة الوداع، وقد تعرّضنا في مناسبةٍ أخرى لما يصدر عن النبي بعد هاتين الحادثتين، وقلنا بأنّ مقتضى آية إكمال الدين أنه لم يعد هناك شي ء ناقص في الدين، وأنّ حجّة الوداع قد أعلن فيها النبي (ص) أنه ما من شي ء يقرّب إلى الجنة ويبعّد عن النار إلّا وقاله، إذاً فلم تعد هناك أشياء ناقصة في أصل الدين، من هنا تحمل النصوص النبوية التي أعقبت هذا الأمر، إما على تكرار ما كان قاله النبي من قبل، أو على بيان حكم حكومي ولائي، غير الأحكام الإلهية الثابتة.

وهنا يقال: إذا ثبت أنّ مسألة إخراج المشركين من جزيرة العرب قد صدرت من النبي قبل ذلك، كان بيانه هنا تكراراً للحكم الإلهي، ويتمّ الاستدلال، أما إذا لم يثبت ذلك، فيحتمل جداً أن يكون بياناً لحكم حكومي بيّنه النبي ليفعلوه لمصالح زمنية تستدعي تطهير الجزيرة العربية تماماً من الشرك، لتكون خاليةً تماماً من الوجود غير الإسلامي، ريما حمايةً لانطلاقة الوجود الإسلامي بعد ذلك في الفتوحات أو غيرها.

ولعلّ ما يعزز هذا الأمر أنّ الموردين الآخرين اللذين ذكرهما النبي فيهما روح الحكم التاريخي، فإنّ إنفاذ جيش أسامة ليس حكماً إلهياً ثابتاً وإنما هو حكم مرحلي خاصّ بزمن النبي (ص) وإجازة الوفد كما كان يجيزهم- بمعنى إكرامهم وإنزالهم- ليس حكماً خاصاً بالوفود الآتية؛ لأنّ عنوانه عام، وإنما هو مصداق لوجوب الإكرام أو لنهج التعامل مع المؤلّفة قلوبهم أو نحو ذلك، فليس هناك تأسيس حكم جديد هنا أيضاً.

ص: 67

وقد بحثنا في محلّه (1) من قبل، وتوصّلنا إلى أنّ موارد الشك في تاريخية الحكم لا أصل فيها يثبت التاريخية أو عدمها، فيرجع إلى القدر المتيقن، ولا يقين هنا بشمول الحكم لغير ذلك الزمان.

الحديث الثاني: خبر ابن عباس أنّ رسول الله (ص) قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»، (2) وفي مرسل عمر بن عبدالعزيز: «لا يبقينّ دينان بأرض العرب». (3) وفي خبر عائشة قالت: كان آخر ما عهد رسول الله (ص) أن قال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان»، (4) وفي حديث آخر: «لا دينان بأرض العرب». (5) وقد ذكر أنّ هذا الحديث جاء في سياق إجلاء عمر بن الخطاب أهل خيبر تارةً، وأهل نجران أخرى، ولهذا لاحظ الطبري الشيعي أنّ ما فعله عمر بن الخطاب مع أهل نجران وخيبر يخالف عهود النبي معهم وصلحه وإقرارهم على ما هم عليه. (6) ولعلّ الوسط السنّي كان يستشعر إشكالية قديمة من هذا النوع، حيث نجد عند الإمام مالك في الموطأ، نقلًا عن ابن شهاب قوله: «ففحص عن ذلك عمربن الخطاب حتى أتاه الثلج واليقين أنّ رسول الله (ص) قال .. فأجلى يهود خيبر .. وقد أجلى عمربن الخطاب يهود نجران وفدك، فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شي ء، وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض؛ لأنّ رسول الله (ص) كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض، فأقام لهم


1- حيدر حب الله، حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم: 663- 740.
2- الصنعاني، المصنّف 359: 10، 360؛ والموطأ 892: 2- 893.
3- البيهقي، السنن الكبرى 208: 9؛ والصنعاني، المصنّف 360: 10.
4- مسند ابن حنبل 275: 6؛ وتاريخ الطبري 453: 2؛ البيهقي، السنن الكبرى 266: 6.
5- الشافعي، الأم 317: 1؛ والتمهيد 463: 6.
6- الطبري، المسترشد: 527.

ص: 68

عمر نصف الثمر ونصف الأرض، قيمةً من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها». (1) ويلاحظ هنا تعرّض بعض علماء أهل السنّة للإجلاء الذي قام به النبي (ص) في حقّ يهود المدينة من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. (2) وهذا الوضع يفتح على فرضيّة أساسية، وهي أنّ الخليفة الثاني عمربن الخطاب لعلّه هو الذي اتخذ قرار إجلاء أهل الأديان الأخرى عن الجزيرة العربية، نتيجة اجتهادٍ منه أو قراءة ميدانية أو غير ذلك، ثم لمّا جاءت الأجيال اللاحقة، سعت لتبرير هذا الأمر عند ظهور إشكالية عدم التناسب بين فعله وما كانت الحال عليه أيام الرسول (ص) فنسبت مقولة عدم اجتماع دينين إلى النبي، ونُسب الأمر بإخراج اليهود والنصارى إليه أيضاً.

ويعزّز ما نقول ما رواه ابن أبي شيبة الكوفي بسنده إلى ابن عمر، عن أبيه عمربن الخطاب أنه قال:" لا يتركوا اليهود والنصارى بالمدينة فوق ثلاث قدر ما يبيعوا سلعتهم، وقال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". (3) هذا يعني أن قرار إخراج أهل الكتاب كان قراراً من الخليفة الثاني، وها هو النصّ عينه يُنقل عنه، وإنما نسب إلى الرسول (ص) بعد ذلك ربما إجابةً عن اعتراض معترض هنا أو هناك، ولا يهمّنا هنا تصويب فعل الخليفة أو تخطئته، بقدر ما يعنينا اكتشاف أنّ الحكم ليس إلهياً ثابتاً، وإنما هو حكم حكومي من خليفة المسلمين لمصالح وقتية رآها.

والذي يؤكّد ما نقول أيضاً، طريقة تعبير الراوي بأنّ عمربن الخطاب فحص حتى أتاه الثلج واليقين، فهذا النوع من التعبير يستبطن- فيما أظن- رغبةً من الراوي في إضفاء طابع السكينة


1- مالك بن أنس، الموطأ 893: 2.
2- البيهقي، السنن الكبرى 208: 9.
3- المصنّف 635: 7.

ص: 69

على الخطوة التي قام بها الخليفة الثاني، وإلّا فلماذا هذا التعبير وكأنّه يؤرّقه شي ء؟! ثم ما معنى الفحص؟ فلو كان الرسول (ص) أوصى بذلك عند وفاته، كما تقول الروايات المتقدّمة، لعرفها كلّ الناس، بل لقد كان الخليفة الثاني حاضراً في تلك المواقع، فكيف لم يطّلع، بل فحص ولم تقل الرواية: سأل؟!

على أنّني أستغرب أنه لو كان هذا النصّ موجوداً عن النبي، فلماذا لم يتداول قبل خلافة عمربن الخطاب؟! ولماذا سكت الصحابة- سواء كانوا من الموالاة أم من المعارضة- الذين سمعوه عنه، وهو حكم إلهي، ولم يخبروا به الخليفة الأوّل أبا بكر، حتى كاد هذا الحكم الذي أخبر به النبي، بل أوصى به، يختفي إلى حدّ أنّ عمربن الخطاب نفسه فحص وبحث حتى علم بالموضوع؟! إنّ هذا كلّه يثير الاستغراب في هذه القضيّة.

إنّ قرار الخليفة الثاني يرجع- كما قيل- إما إلى تكاثر أهل نجران حتى خاف المسلمون من هجوم قادم من طرف الجنوب، أو إلى عدم التزامهم بالعهد مع الخليفة، أو إلى أنّ بعضهم (سكان دعش) أسلموا ثم ارتدّوا؛ (1) أو كما في رواية البخاري اعتداء أهل خيبر على عبدالله بن عمر؛ وسوف نشرح بعض ذلك قريباً بعون الله تعالى.

وعلى أية حال، فرواية عدم اجتماع دينين في جزيرة العرب ضعيفة السند بالإرسال؛ حيث نسبها ابن شهاب الزهري إلى النبي بلا سند، ومراسيله لا تلحق بالمسانيد عندنا، وخبر عائشة فيه ابن إسحاق، والخبر الأخير كالثاني مرسلٌ لا يحتجّ به، كما ورد الخبر الأوّل عن ابن المسيب مرسلًا.

الحديث الثالث: ما ورد في سياق إنباء النبي بنفسه أنّه سوف يخرج المشركين أو غيرهم من جزيرة العرب.


1- تامر باجن أوغلو، حقوق أهل الذمة في الفقه الإسلامي: 17؛ والسيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم 149: 8- 163.

ص: 70

فقد جاء في خبر جابر، أنه قال: قال رسول الله (ص): «لئن بقيت لأخرجنّ المشركين من جزيرة العرب»، فلما ولي عمر أخرجهم. (1) لكنّ جابر بن عبدالله الأنصاري يخبرنا في رواية أخرى أنه سمع هذا الخبر من عمر بن الخطاب عن رسول الله (ص)، إنّما بهذا النص: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلّا مسلماً». (2) هذا النص الثاني الذي ينقل عن عمربن الخطاب ينافي النصّ السابق الذي تحدّثنا عنه، والذي يذكر أنّ عمربن الخطاب فحص حتى أتاه الثلَج واليقين بأنه لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فلو كان عمر قد سمع هذا الحديث هنا من الرسول فما الموجب للشك أيام خلافته؟! وما الموجب للفحص ما دام هو مباشرة على علم بالموضوع من شخص الرسول (ص)؟!

إنّ هذا يؤكّد ما قلناه من أنّ قرار إخراج اليهود والنصارى كان قراراً حكومياً من جانب الخليفة الثاني، وأنّ هذه النصوص جاءت- فيما بعد- لتدعم ما كان اتخذه الخليفة من قرار اجتهادي من قبل.

إنّ النص النبوي المنسوب إلى عمربن الخطاب هنا، يواجه عدّة إشكاليات:

1- لقد ورد في بعض المصادر الحديثية أنّ يهود خيبر اعتدوا على عبد الله بن عمر بن الخطاب، ولما وصل الخبر إلى عمر، قام في الناس خطيباً، فقال: أيها الناس، إنّ رسول الله (ص) كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبدالله بن عمر ففرعوا يديه كما بلغكم، مع عدوتهم على الأنصار قبله، لا نشك أنهم


1- الكوفي، المصنّف 635: 7.
2- مسند أحمد 29: 1، 32، و 345: 3؛ وصحيح مسلم 160: 5؛ وسنن أبي داوود 41: 2؛ وسنن الترمذي 81: 3؛ والحاكم، المستدرك 274: 4.

ص: 71

أصحابهم، ليس لنا هناك عدوٌّ غيرهم، فمن كان له مال بخيبر فليلحق به، فإني مخرجٌ يهود، فأخرجهم. (1) فهذا النصّ من رسول الله يجعل لحاكم المسلمين الخيار في الإخراج والإبقاء، فكيف يمكن التصديق بأنّ عمربن الخطاب قد سمع النبي في نصّه الاستراتيجي المتقدّم على عدم إبقاء غير المسلم في جزيرة العرب، ثم يستند لتبرير إخراج اليهود إلى نصّ يمنح صلاحية الإخراج للحاكم دون أن يأمر بالإخراج، مع أنّ الأول أهم وأوجب، فلو كان قد سمع هذا الخبر في الخطّة النبوية لما استند إلى خبر خيار الحاكم.

2- ما جاء في خبر عامر بن عبد الرحمن بن نسطاس، أنّ الرسول صالح اليهود" على أنّكم تكفونا العمل ولكم شطر الثمر، على أن أقرّكم ما بدا لله ورسوله .. فلم يزل خيبر بيد اليهود على صلح النبي (ص) حتى كان عمر فأخرجهم، فقالت اليهود: لم يصالحنا النبي (ص) على كذا وكذا؟ قال: بلى! على أن نقرّكم ما بدا لله ولرسوله، فهذا حين بدا لي إخراجكم، فأخرجهم ..". (2) فهذا الخبر يسند فيه عمر الإخراج إلى أنّ الاتفاق مع اليهود كان مع بقاء الخيار بيد المسلمين، وأنّ عمربن الخطاب قد مارس حقّه هذا في الأمر، وليس هناك مؤشر على إلزام شرعي.

لكن الرواية ضعيفة السند بابن نسطاس، فضلًا عن أنها لا تنفي وجود أمر شرعي يحتاج لتهيّؤ ظروفه التي توافرت في عصر الخليفة الثاني، والاستناد إلى خيار المسلمين منطقي لتبرير الأمر أمام اليهود.

3- خبر يحيى بن سهل، في قصّة تحريض اليهود على قتل مظهر بن رافع الحارثي، ثم مقتله بعد ذلك، وأنه لمّا وصل الخبر، قال عمربن الخطاب:" إني خارج إلى خيبر، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال،


1- مسند أحمد 15: 1؛ سنن أبي داوود 35: 2؛ السنن الكبرى 56: 9؛ وابن هشام، السيرة النبوية 817: 3؛ والسيرة الحلبية 772: 2؛ وصحيح البخاري 177: 3- 178؛ والذهبي، تاريخ الإسلام 425: 2.
2- الصنعاني، المصنف 125: 4؛ ابن شبة، تاريخ المدينة 178: 1.

ص: 72

حادّ حدودها، ومورف أرفها، ومجلٍ يهود عنها، فإنّ رسول الله (ص) قال: هلمّ، أقرّكم الله، وقد أذن الله في إجلائهم ففعل ذلك بهم". (1) هذا النص الذي يناقش في ثبوته تاريخياً يعطي دعماً لفكرة أنّ موضوع الإجلاء كان موكولًا لنظر المسلمين، وأنه كان يمكنهم عند أيّ خطأ أن ينطلقوا لإجلائهم، ولم يكن هناك أمرٌ قاطع بالإجلاء، وإلا لاستند عمربن الخطاب إلى النصّ النبوي الآمر أو الراسم لسياسة الإجلاء، مع أنه لم يفعل، ممّا يدلّ على عدم وجود أمر نبوي في هذا الصدد.

4- ما ورد عن ابن عمر من أنّ والده أجلى اليهود من المدينة، فقالوا: أقرّنا النبي (ص) وأنت تخرجنا؟! قال:" أقرّكم النبي (ص) وأنا أرى أن أخرجكم من المدينة". (2) والنص هنا واضح- بعد صرف النظر عن مسألة إثباته التاريخي الذي يبدو مشكلًا- في أنّ القضية كانت اجتهاداً، إذا أردنا أن نستبعد المواجهة الصريحة لقرار النبي بالإقرار لهم بالبقاء، وأنّ النبي بوصفه إمام المسلمين أقرّهم، وعمر اليوم بوصفه إمام المسلمين يخرجهم، فلو كان هناك تشريع ديني بالإخراج لكان هو الأولى بالظهور، أللهم إلّا أن يقال بأنّ كلام عمر هنا جاء جدلًا معهم، ولم يكن في سياق الكشف عن الدوافع الحقيقية والنهائية لقراره.

5- خبر الأعمش، عن سالم، قال: كان أهل نجران قد بلغوا أربعين ألفاً، قال: وكان عمر يخافهم أن يميلوا على المسلمين، فتحاسدوا بينهم. قال: فأتوا عمر، فقالوا: إنّا قد تحاسدنا بيننا فأجلنا، وقال: وكان رسول الله (ص) قد كتب لهم كتاباً أن لا يجلوا، وقال: فاغتنمها عمر فأجلاهم، فندموا، فأتوه، فقالوا: أقلنا، فأبى أن يقيلهم، فلما قدم عليّ أتوه، فقالوا: إنا نسألك بخطّ يمينك وشفاعتك عند نبيك إلا أقلتنا، فأبى، فقال: ويحكم، إنّ عمر كان


1- المتقي الهندي، كنز العمال 509: 4.
2- المصدر السابق 507: 4، نقلًا عن الغيلانيات.

ص: 73

رشيد الأمر؛ قال سالم: فكانوا يرون أنّ علياً لو كان طاعناً على عمر في شي ء من أمره، طعن عليه في أهل نجران. (1) يبدو لي هذا النص لا يمكن تصديقه، فهل يعقل أن تأتي أمّةٌ من الناس تطلب إجلاءها عن موطنها؟! مهما تحاسدوا وتشاجروا ... هذا النص على تقدير صحّته يدلّ على أنّ قرار الإجلاء لم يكن لنصّ ديني، وإنما لتوافق تقدّم بطلبه الطرف الآخر.

لكنّ هذا الخبر حتى لو كان موضوعاً يؤكّد ما قلناه سابقاً، من أنّ التباساً أحاط خطوة عمربن الخطاب، وأنّ هناك انتقادات أعتقد أنّه سجّلها خصوم الخلفاء الأوائل من العلويين، من بينها مخالفة سنّة عمر لسنّة النبي في موضوع أهل الكتاب، ولهذا نجد الراوي يشير في النهاية إلى الإمام علي بن أبي طالب (ع) وأنّه لم يكن يطعن في عمر شيئاً، ممّا يعطي مؤشراً واضحاً على أنّ بعض أنصار خطّ الإمام علي (ع) كانوا بصدد النقد لسياسات عمربن الخطاب، وأنّ الراوي اخترع هذه القصّة ليبرّأ ساحة الخليفة الثاني أمام العلويين.

6- إنّ مجموعة النصوص التاريخية والحديثية هذه تتحدّث عن ملابسات خاصّة رافقت إجلاء عمر بن الخطاب لليهود من بعض المناطق، وليس فيها عين ولا أثر لفكرة وجود أمر إلهي نبوي أبدي بذلك قام عمر بتنفيذه، فلو كان هذا الأمر موجوداً لظهر أثناء هذه الأحداث وقبيل اتخاذ الخليفة قرار الإجلاء من هنا أو هناك؛ بل هذه النصوص توحي- حتى لو وضعت- بأنّ جدلًا أحاط خطوة الخليفة، وأنّ عملية الوضع هذه جاءت لتبرّر قرار الخليفة الثاني، فلو كان النصّ الإلهي معروفاً في تلك الفترة لتناوله الوضّاع وأقحموه في هذه النصوص التاريخية التي تحدّثت عن الإجلاء، ودافعوا به عن الخليفة الثاني.

ويجب أن لا نغفل عن أنّ كلّ ما تقدّم كان بملاحظة الرواية بصيغة (اليهود والنصارى)، لا بالصيغة الأولى التي ورد فيها الحديث عن (المشركين)، فإنها سليمة عن هذه الإشكالات كلّها.


1- الكوفي، المصنّف 564: 8؛ وكنز العمال 506: 4- 507.

ص: 74

وإذا غضضنا الطرف عما تقدّم، فإنّ هذه الرواية- سواء وردت بلفظ (المشركين) أم (اليهود والنصارى)- لا تبيّن حكماً إلهياً؛ إذ غاية ما فيها أنّ النبي (ص) يخبرنا أنّه إذا سنحت له الظروف سوف يُخرج المشركين وأهل الكتاب من الجزيرة، وهذا المعطى أعمّ من أن يكون قراراً إلهياً إلزامياً أو يكون قراراً نبوياً زمنياً، بذلك استدعته ملابسات وظروف تلك الفترة، فلو تعاطينا مع النبي على أنّ لديه نوعين من القرارات، فهذا النصّ بهذه الصيغة لن يؤكّد أيّاً من النوعين؛ ولهذا يؤخذ بالقدر المتيقن، وهو تاريخية الحكم.

ونشير هنا أيضاً إلى أنّ قرار إجلاء النبي (ص) يهودَ المدينة إلى خارجها- وليس إلى خارج الجزيرة- لا يدلّ على وجود قرار إلهي أبدي بالإجلاء، رغم أنّ تعبير بعض الروايات ورد فيه الإجلاء؛ (1) لأنّ أحداث المدينة عرفت ملابسات خاصّة، وبقاء اليهود كان يهدّد أمن الدولة الإسلامية، الأمر الذي أكّدته بشكل قاطع أحداث معركة الأحزاب، التي دفعت النبي لاتخاذ قراره بغزوة بني قريظة، ثم بخيبر، ولهذا نجد في بعض نصوص قرار الإجلاء هذا عن المدينة ما يفيد استناد الحكم إلى قرار نبوي بوصفه حاكم المسلمين، لا إلى قرار شرعي أبدي ينفّذه النبي (ص) ففي خبر أبي هريرة عن النبي (ص) في حوار النبي مع اليهود في سياق إرهاصات قرار الإجلاء جاء: «اعلموا أنما الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلّا فاعلموا إنما الأرض لله ورسوله». (2) فإنّ الاستناد إلى سلطنة النبي على الأرض استناد إلى معيار مالكي لا إلى معيار شرعي قانوني إلهي ثابت، فكأنه يقول لشخص: هذه الدار داري وأنا قرّرت إخراجك منها، فإنّ هذا اللسان ليس لسان تشريع إلهي نازل بأمره بذلك إلى يوم القيامة، وإنما هو لسان حكومي زمني كما هو واضح.


1- صحيح البخاري 65: 4، و 57: 8، 156؛ ومسند أحمد 451: 2.
2- صحيح البخاري 156: 8؛ وصحيح مسلم 159: 5؛ وسنن أبي داوود 33: 2.

ص: 75

وبهذا لا يصحّ الاستناد إلى التجربة النبوية في المدينة لتعميمها إلى ما نحن فيه، لاسيما وأنّ الفعل دليل صامت لا إطلاق فيه، كما هو مقرّر في علم أصول الفقه.

الحديث الرابع: ما عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: قال رسول الله (ص): «يا عليّ، إن أنت ولّيت الأمر بعدي فأخرج أهل نجران من جزيرة العرب». (1) إنّ هذا الأمر دليلٌ على تشريع إخراج أهل نجران.

والجواب:

أولًا: إنّ الرواية وردت وفي طريقها قيس، وهو قيس بن الربيع، بقرينة ما جاء في أمالي المحاملي، (2) وقد رجّح الهيثمي كونه ابن الربيع، (3) وعليه فيكون الخبر ضعيفاً بضعف قيس بن الربيع.

نعم ورد الخبر بغير طريق قيس بن الربيع في مصنّف الصنعاني، لكن في الطريق يوجد الحسن بن عمارة، وهو رجل متروك متّهم بالكذب، كما نصّ على ذلك أئمة الجرح والتعديل، (4) ولا أقلّ من أنه كثير الوهم والخطأ، وأنه ضعيف في الرواية، فالخبر لا قيمة له على المستوى السندي.

ثانياً: إنّ الخبر أخصّ من المدعى؛ لأنّه خاصّ بنجران وأهلها ولا يشمل غير ذلك، فلا يمكن من خلاله إثبات حرمة توطّن مطلق المشرك أو الكافر بلاد الحجاز أو جزيرة العرب.

ثالثاً: لا يوجد في هذا الحديث أيّ مؤشر على طبيعة القرار الذي أوصى به النبي، فقد تقتضي المصلحة الزمنية هذا الإخراج، والنبي لم تكن الظروف مؤاتية له فطلب من الخليفة بعده أن يقوم بهذه المهمّة، وهذا أمر لا تُعرف حيثياته، وليس الخطاب فيه موجّهاً


1- مسند أحمد 87: 1؛ والصنعاني، المصنّف 361: 10؛ وعمر بن أبي عاصم، كتاب السنّة: 549.
2- أمالي المحاملي: 157.
3- مجمع الزوائد 185: 5.
4- المزي، تهذيب الكمال 265: 6- 277.

ص: 76

للمسلمين، أو بنحو بيان الحكم مثل: يجب إخراج أهل نجران، أو إنّ الله فرض عليكم إخراج أهل نجران، فهذه الألسنة التي وردت بها هذه الرواية هنا لا تثبت حكماً إلهياً دائماً إلى يوم القيامة.

الحديث الخامس: خبر دعائم الإسلام، عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لايدخل أهل الذمّة الحرم، ولا دار الهجرة، ويخرجون منهما». (1) فهذا الحديث يمنع دخول أهل الذمّة دار الهجرة، فإذا منع من ذلك أهل الذمة، فبطريق أولى أن يمنع سائر الكفار لاسيما المشركين، والظاهر أنّ المراد بدار الهجرة المدينة المنوّرة أو مطلق الحجاز على أبعد تقدير؛ وظاهر الحديث مطلق دخولهم ولو للزيارة أو التجارة أو نحو ذلك؛ لأنّ التعبير جاء «لا يدخل» وهو شامل لذلك كلّه.

والخبر جيّد دلالةً، لكنّه ضعيف السند جداً؛ فإنه ورد مرسلًا بلا سند أصلًا.

الحديث السادس: خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (ع) قال: وسألته عن اليهودي والنصراني والمجوسي، هل يصلح أن يسكنوا في دار الهجرة؟ قال: «أما أن يلبثوا فيها فلا يصلح»، وقال: «إن نزلوا نهاراً ويخرجوا منها بالليل فلا بأس». (2) ودلالتها على منعهم من الاستقرار واضحة، لكنها تجيز الزيارة بمقدار بسيط؛ لهذا فهي تخصّص إطلاق خبر الدعائم المتقدّم من هذه الناحية.

لكنّ هذا الخبر ورد في قرب الإسناد للحميري وتهذيب الأحكام للطوسي بسند فيه عبد الله بن الحسن، وهناك في السند أيضاً أحمد بن محمد بن يحيى العطار، وهما مجهولان، ولم ينقل هذه الرواية الحرّ العاملي عن مسائل علي بن جعفر مباشرةً حتى يصحّح الطريق ولو على مثل نظرية السيد الخوئي، ولعلّ نسخة مسائل علي بن جعفر التي وصلت للحرّ العاملي ليس فيها هذا الحديث، وإنما هو


1- القاضي النعمان، دعائم الإسلام 381: 1.
2- تهذيب الأحكام 277: 8؛ ومسائل علي بن جعفر: 296؛ قرب الإسناد: 260.

ص: 77

موجود في النسخة المطبوعة اليوم، والتي لا يحرز صحّتها، فالخبر من الناحية السندية ضعيف.

ومن هذا كلّه، يظهر أن الرواية الوحيدة التامّة سنداً هي الوصية النبوية بحسب ما نقلها لنا ابن عباس من طريق أهل السنّة، إذا غضضنا الطرف عن إشكالية ابن عباس نفسه، وهي خاصّة بالمشركين ولا تشمل سائر الديانات، كما أنّ ظاهرها إخراج الجماعات مقابل استيطانها، لا إخراج الأفراد أو المنع من الزيارة والتجارة، فضلًا عن إشكالية احتمال التاريخية فيها، كما هي الحال في إنفاذ جيش أسامة الذي جاء في ضمن الوصية أيضاً، لاسيما وأننا لا نملك نصّ كلام النبي (ص) وإنما مضمونه الكلّي بحسب نقل الرواة، هذا ولاتسلم هذه الرواية شيعيّاً- كما هو المعروف- سنداً؛ لعدم ورودها بطريق صحيح من طرق الإمامية.

أما روايات إخراج اليهود والنصارى فنشكّ فيها جداً من حيث كونها حكماً إلهياً، لمجمل الملاحظات التي تقدّمت.

والاحتمال الراجح عندي أنّ النبي (ص) أوصى وصيةً سياسية أمنية بإخراج المشركين من الجزيرة بوصفها البلد الإسلامي الوحيد عند وفاته، حمايةً لوضع الدولة واستقرارها من أن يخطّط هؤلاء شيئاً، وأنّ هذا النص تمّ فهمه فهماً أبدياً من جهة، ثم تمّ توظيفه بتعديل المشركين إلى ما يشمل اليهود والنصارى، لتفسير الخطوة التي قام بها عمربن الخطاب فيما بعد تفسيراً دينياً، باعتقاد أنّ التفسير الديني هو الوحيد القادر على أن يعذره، فاتسع المفهوم وتحوّل إلى حكم شرعي عام وراسخ.

مساحة الحكم: جزيرة العرب أم الحجاز أم ..؟

وقع بحث بين العلماء في المنطقة التي يفترض إخراج المشركين منها، وقد لاحظنا أنّ الروايات نفسها طرحت عدّة عناوين في هذا الإطار مثل: جزيرة العرب، دار الهجرة، الحجاز، نجران.

وقد تعدّدت الكلمات في تحديد جزيرة العرب (أرض العرب) وبلاد الحجاز، وهذه بعض الكلمات:

ص: 78

ذكر بعضهم- ونقل عن الأصمعي- أنّ جزيرة العرب هي من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، ومن جدّة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام في العرض. (1) وقالوا: جزيرة العرب أربعة أقسام: اليمن، ونجد، والحجاز، والغور، وهي تهامة، فمن جزيرة العرب الحجاز وما جمعه، وتهامة واليمن وسبأ والأحقاف واليمامة والشحر وهجر وعمان والطائف ونجران والحجر وديار ثمود والبئر المعطلة والقصر المشيد وإرم ذات العماد وأصحاب الأخدود وديار كندة طي ء وما بين ذلك. (2) وينقل عن الإمام أحمد بن حنبل فيما يظهر تعريفٌ آخر لجزيرة العرب بأنّها المدينة وما والاها، (3) ولعلّه ليس بصدد تعريفها بقدر ما هو بصدد بيان حدود مساحة الحكم بالإجلاء، أي بصدد تفسير المراد مما جاء في الأحاديث، على أساس أنه من المعلوم تاريخياً أنه لم يتم إجلاء أحد من شيماء ولا من اليمن؛ وهذا ما يظهر بوضوح من مقاربة غير واحد من الفقهاء للمسألة، مستدلّين بأنّ أحداً من الخلفاء لم يُجل أو يمنع الكفار من اليمن وشيماء. (4) ويظهر من العلامة الحلي أنّ «جزيرة العرب» قد تطلق على الحجاز، (5) لكنّه في كتاب آخر ذكر عدم استيطانهم الحجاز، وفسّره


1- النووي، المجموع 429: 19؛ لسان العرب 133: 4- 134؛ مغني المحتاج 246: 4؛ وتنوير الحوالك: 643؛ والفائق في غريب الحديث 182: 1؛ المعارف: 566؛ ومعجم ما استعجم 6: 1؛ هذا وحدّدت عرضاً من جدّة إلى ريف العراق أو أنف العراق، فانظر: معجم ما استعجم 6: 1.
2- معجم البلدان 138: 2.
3- ابن قدامة، المغني 614: 10.
4- البهوتي، كشف القناع عن متن الإقناع 155: 3؛ والطوسي، المبسوط 47: 2؛ والمحقق الحلي، شرائع الإسلام 253: 1؛ والعلامة الحلي، تذكرة الفقهاء 335: 9؛ ومنتهى المطلب حجري 971: 2.
5- تحرير الأحكام الشرعية 212: 2.

ص: 79

بخصوص مكّة والمدينة، (1) مع أنه فسّر أرض الحجاز في موضع ثالث بأنها مكّة والمدينة واليمامة وخيبر وينبع وفدك ومخاليفها. (2) وذكر بعضهم أنّ جزيرة العرب هي:" ما بين حفر أبي موسى الأشعري إلى أقصى اليمن في الطول، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة". (3) وبهذا يرجّح بمراجعة كلمات اللغويين وأمثالهم أنّ جزيرة العرب تدخل فيها اليمن والحجاز ووسط الجزيرة اليوم، بل نحن نرجّح ذلك بتسميتها جزيرة؛ لأنّ هذا معناه أنهم فهموا منها أنها محاطة بالمياه، وهذا ما يؤكّد أنهم يرون حدودها من الجنوب عند اليمن وعمان هو البحر، ومن الشرق بحر الهند وبحر عمان، ومن الشمال الشرقي الخليج الفارسي، ومن الغرب البحر الأحمر، ومن الشمال أطراف الشام وبلاد العراق، بل نهري دجلة والفرات كما يشير الطريحي إليهما، (4) ولو كانت خاصّة بالحجاز أو لا تشمل اليمن ولا وسط الجزيرة فلماذا أطلقوا عليها هذه التسمية؟! وكذلك بشاهد جعلها جزيرة العرب؛ لأنّ العرب كانوا يسكنون هذه المنطقة كلّها.

أما الفقهاء، فقد اضطرّوا لطرح تفاسير أخرى لها كحصرها بالحجاز؛ للخروج من تعارض الروايات تارةً، وتفسير عدم إخراج أحد من الكفار من اليمن، بل هذا هو المفهوم من كلماتهم، وما ذكره العلامة الحلي من أنّهم يطلقون الجزيرة على خصوص الحجاز لم أعثر عليه.

وهذا ما يضعنا أمام إشكالية التشكيك في صدور الروايات التي ورد فيها التعبير بجزيرة العرب، فلو صدر هذا النص فلماذا لم يطالب أحدٌ من الخلفاء بإجرائه؟ ولماذا لم يطالب الخليفة الثاني عمربن الخطاب بذلك عندما قرّر إجلاء يهود خيبر وغيرهم ولم يذكّره أحد من


1- قواعد الأحكام 515: 1.
2- منتهى المطلب 971: 2؛ وتحرير الأحكام الشرعية 212: 2.
3- الصحاح 613: 2؛ ومعجم استعجم 6: 1؛ والنهاية في غريب الحديث 268: 1؛ ولسان العرب 134: 4.
4- مجمع البحرين 370: 1.

ص: 80

الصحابة؟! هذا الأمر يضعف الوثوق مجدّداً بصدور هذه الروايات أو على الأقلّ يفرض الأخذ بالقدر المتيقن، وهو بلاد الحجاز خاصّة.

نتائج البحث

نستنتج من مجموعة النقاط والمداخلات التي تقدّمت ما يلي:

أولًا: إنّنا نشكّك في أصل الحكم بإخراج الكفار من جزيرة العرب أو بلاد الحجاز، وفاقاً للسيد الخوئي ولأستاذنا السيد محمود الهاشمي، نعم مكّة المكرمة أمرٌ يمكن القبول به في دائرة المشركين؛ انطلاقاً من قوله تعالى: .. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ... (1) فإنّ النهي عن الاقتراب إذا فهم منه الدخول اختصّت الحرمة به دون سائر أحياء مكة، وأما إذا فهم منه أن يكونوا على مقربة منه، فهذا يعني عدم الاقتراب لا عدم الدخول، فيلزم المنع من دخولهم المنطقة المحيطة بالمسجد الحرام أيضاً، ما لم نفسّر المسجد الحرام بمطلق الحرم، فيكون الحكم شاملًا لمكّة وأزيد بقليل.

ثانياً: لو سلّم الحكم، فهو خاصّ بالمشركين، وليس شاملًا لأهل الكتاب.

ثالثاً: المقدار المتيقّن من المساحة الجغرافية المحظورة هو بلاد الحجاز، أمّا غيرها فمشكوك، ومقتضى الأصل عدم الحظر.

رابعاً: المقدار المتيقّن هو استيطانهم بلاد الجزيرة، وأما مطلق الزيارة أو المرور أو الدفن فلا دليل عليه، نعم دخول المشركين إلى المسجد الحرام ممنوع مطلقاً.

خامساً: إذا لزم من دخولهم هذه الأرض، بل مطلق بلاد المسلمين، محذورٌ آخر أو عنوان ثانوي، حرُم دخولهم ومنعوا من ذلك، وهذا أمرٌ آخر واضح.


1- التوبة: 28.

ص: 81

الإحصار في الحج والعمرة

الإحصار في الحج والعمرة (1)

.. فَإنْ احْصِرْتُمْ ...

حسن محمد

وَأتِمُّواْ لْحَجَّ وَلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ احْصِرْتُمْ فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْىِ وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ لْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضاً أوْ بِهِ أذًى مِّن رَّأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِلْعُمْرَةِ إِلَى لْحَجِّ فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ فِي لْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أهْلُهُ حَاضِرِي لْمَسْجِدِ لْحَرَامِ وَتَّقُواْ للَّهَ وَعْلَمُواْ أنَّ للَّهَ شَدِيدُ لْعِقَابِ. «1» فبعد أن تحدث القرآن الكريم عن الصيام، وشهر رمضان، ونزول القرآن الكريم، وأحكام الصيام، وعن الأهلة وأنها مواقيت للناس والحج، وعن القتال عند المسجد الحرام وهو الساحة الرئيسة لأعمال الحج والعمرة، والأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذوالحجة ومحرم ورجب،


1- سورة البقرة: 196.

ص: 82

ففيها شهران من أشهر الحج؛ جاء كلامه عن الحج وأحكامه الذي تأتي أشهره بعد شهر رمضان مباشرةً: شوال وذو القعدة وذوالحجة، بعد ذكره للحج والعمرة هاتين العبادتين المباركتين وشعائرهما بالآية: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ... التي قبل أن تبين أحكاماً عديدةً ومهمةً نأتي عليها، تؤكد شيئاً مهماً لاتتم العبادات إلّا به، وهو أن تكون لله تعالى خالصةً .. فالحج شعيرة من شعائر الإسلام وأحد أركانه، شرعته السماء على يدي نبي الله إبراهيم (ع)، وواظب عليه العرب قبل الإسلام والمسلمون بعده وهو أقسام ثلاثة:" حج التمتع، حج القران، حج الإفراد"؛ وأما العمرة فهي قسمان:" عمرة مفردة، وعمرة التمتع" ولكل من الحج والعمرة واجبات وأجزاء وشروط وآداب استوعبتها كتب مختصة بهما ..

ولكن هذه العبادة حجاً كانت أو عمرةً، قد يحرم لها شخص أو جماعة وحتى أمة من الناس، إلّا أنهم قد لايوفقون لإتمام باقي مناسكها ومواقفها، لأسباب طارئة عليهم، كعدو يصدهم، أو مرض ينتابهم، فيحول بينهم وبين ما جاؤوا لأجله وهو الحج والعمرة، فأتى هذا الاستدراك الذي تحمله الآية، ليبين لهم الحالة التي حدثت لهم ووقعوا فيها، ويضع لها أحكاماً، تيسيراً لهم بما يتفق وروح الشريعة الموصوفة بالتسهيل والتيسير، وأداءً للطاعات مهما كانت العقبات، ووصولًا للهدف الذي ينشده الدين الحنيف: التقوى والتقرب إليه تعالى، وعدم حرمانهم حجاجاً كانوا أو معتمرين أجور حجهم وعمرتهم، بسبب ما أحيط بهم من عدو وما حل بهم من مرض أو خوف .. فثوابهم محفوظ وأجرهم مضمون، وحالهم حال من أتم حجه وعمرته، شريطة أن ينحروا ما معهم من الهدي، فيحلوا إحرامهم على تفصيل يأتي بين حالات الإحصار أوالصد، بين مانع المرض، أو الحبس، أو الخوف، ومنع العدو ...

وقت النزول:

اختلف في وقت نزول هذه الآية، فريق ذهب إلى أنها نزلت في السنة السادسة للهجرة النبوية المباركة في الحديبية، اسم بئر قريبة من مكة وطريق جدة، طرف الحرم على تسعة أميال من مكة،

ص: 83

وقيل: سميت بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وتمت تحتها بيعة الشجرة المعروفة. (1) فالفخر الرازي ذكر أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار أحصروا النبي (ص) بالحديبية؛ وذكر أيضاً قول أبي مسلم: ... إنّ هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي (ص) في السنة الماضية عن الحج والعمرة .. وهذا المنع حدث في السنة السادسة للهجرة، فيما يذكر في موضع آخر من تفسيره للآية أنها نزلت في السنة السابعة من الهجرة.

الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أنّ هذه الآية نزلت في حصر الحديبية.

القرطبي عند حديثه حول المراد من الحصر ذكر التالي: وقال بن عمر وبن الزبير وبن عباس والشافعيّ وأهل المدينة: المراد بالآية حَصْر العدوّ؛ لأنّ الآية نزلت في سنة سِتّ في عُمْرة الحُدَيبيَة حين صَدّ المشركون رسول الله (ص) عن مكة.

قال بن عمر: خرجنا مع رسول الله (ص) فحال كفار قريش دون البيت، فَنَحر النبيّ (ص) هَدْيَه وحَلَق رأسه.

ودلّ على هذا قوله تعالى: فَإِذَآ أمِنْتُمْ ولم يقل: برأتم؛ والله أعلم.

بل إنّ بن عاشور في تحريره نفى الخلاف حيث يقول: ولا خلاف في أنّ هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست، حين صدّ المشركون المسلمين عن البيت- مستدلًا بحديث كعب بن عجرة- وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج، فالمقصود من الكلام هو العمرة؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج، تبشيراً بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد، وهذا من معجزات القرآن.

حكى صاحب الحدائق عن العلامة في المنتهى: ونقل النيشابوري وغيره اتفاق المفسرين على أنّ قوله تعالى: فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى نزلت في حصر الحديبية.


1- أنظر كنز العرفان عن الخطابي في أماليه؛ والروض المعطار في خبر الأقطار ...

ص: 84

السيد العلامة الطباطبائي: نزلت الآيات في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول الله (ص) وفيها تشريع حج التمتع.

الشيخ مكارم الشيرازي: لا يعلم بدقة تاريخ نزول الآيات المتعلقة بالحج في القرآن الكريم، ولكن يرى بعض المفسرين العظام أنها نزلت في حجة الوداع، في حين يرى بعضهم أنّ جملة: فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى ناظرة إلى حادثة (الحديبية) الواقعة في السنة السادسة للهجرة، حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام.

سيد قطب: وليس لدينا تاريخ محدد لنزول آيات الحج هذه إلّا رواية تذكر أنّ قوله تعالى: فَإنْ أحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْى نزلت في الحديبية سنة ست من الهجرة.

ولم يذكر الرواية، ولا أدري فقد تكون رواية كعب بن عجرة التي استند عليها ابن عاشور وكما ذكرت في أسباب النزول للواحدي.

كذلك ليس لدينا- والكلام لسيد قطب- تاريخ مقطوع به لفرضية الحج في الإسلام، سواء على الرأي الذي يقول بأنه فرض بآية: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أو بآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا الواردة في سورة آل عمران؛ فهذه كتلك ليس لدينا عن وقت نزولها رواية قطعية الثبوت.

وقد ذكر بن قيم الجوزية في كتاب:" زاد المعاد" أنّ الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة؛ ارتكاناً منه إلى أنّ الرسول (ص) حج حجة الوداع في السنة العاشرة؛ وأنه أدى الفريضة عقب فرضها إمّا في السنة التاسعة أو العاشرة.

ولكن هذا لايصلح سنداً- كما يقول سيد قطب- فقد تكون هناك اعتبارات أخرى هي التي جعلت الرسول (ص) يؤخر حجه إلى السنة العاشرة، وبخاصة إذا لاحظنا أنه أرسل أبا بكر أميراً على الحج في السنة التاسعة؛ وقد ورد أنّ رسول الله (ص) لما رجع من غزوة تبوك هم بالحج؛ ثم تذكر أنّ المشركين يحضرون موسم الحج على عادتهم، وأنّ بعضهم يطوفون بالبيت عراة، فكره مخالطتهم .. ثم نزلت براءة، فأرسل (ص) علي بن أبي طالب (ع) يبلغ مطلع براءة للناس، وينهي بها

ص: 85

عهود المشركين، ويعلن يوم النحر إذا اجتمع الناس بمنى: «لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله (ص) هو إلى مدته» ومن ثم لم يحج (ص) حتى تطهر البيت من المشركين ومن العرايا.

وهناك ما يستأنس به- والقول ما زال لسيد قطب- على أنّ فريضة الحج وشعائره قد أقرها الإسلام قبل هذا؛ وقد ورد أنّ الفريضة كتبت في مكة قبل الهجرة، ولكن هذا القول قد لا يجد سنداً قوياً، إلّا أنّ آيات سورة الحج المكية" على الأرجح" ذكرت معظم شعائر الحج، بوصفها الشعائر التي أمر الله إبراهيم بها، الآيات: 26- 29، 31- 33، 36- 37؛ وقد ذكر في هذه الآيات أو أشير إلى الهدي والنحر والطواف والإحلال من الإحرام وذكر اسم الله، وهي شعائر الحج الأساسية، وكان الخطاب موجهاً إلى الأمة المسلمة موصولة بسيرة أبيهم إبراهيم، مما يشير إلى فرضية الحج في وقت مبكر، باعتباره شعيرة إبراهيم الذي إليه ينتسب المسلمون؛ فإذا كانت قد وجدت عقبات من الصراع بين المسلمين والمشركين- وهم سدنة الكعبة إذ ذاك- جعلت أداء الفريضة متعذراً بعض الوقت، فذلك اعتبار آخر؛ وقد رجحنا في أوائل هذا الجزء- الثاني- أنّ بعض المسلمين كانوا يؤدون الفريضة أفراداً في وقت مبكر؛ بعد تحويل القبلة في السنة الثانية من الهجرة. (1) وعلى القول: إنّ هذه الآية نزلت في قصة الحديبية سنة ست هجرية حين خرج رسول الله (ص) من المدينة في ذي القعدة متوجهاً إلى مكة المكرمة معتمراً لا محارباً، ومكة بعد لم تفتح له أبوابها، فهي ما زالت بيد مشركي قريش، وقد صدوه والمسلمين عن البيت الحرام، وكان هذا العمل منهم الذي سماه القرآن الكريم صداً وسماه إحصاراً: ... وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أنْ تَعْتَدُوا .... (2)


1- أنظر تفسير الرازي؛ المغني لابن قدامة 371: 3؛ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي؛ الحدائق للبحراني؛ تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي؛ تفسيرالأمثل، للشيخ مكارم الشيرازي الذي أشار إلى تفسير الميزان؛ مستدرك الوسائل 85: 8، ح 91182؛ في ظلال القرآن، لسيد قطب.
2- سورة المائدة: 2.

ص: 86

هُمُ الَّذيِنَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ .... (1) وَأتِمُّواْ لْحَجَّ وَلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ احْصِرْتُمْ فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْىِ .... (2) سبقته مقدمات سلمية وخطوات طيبة من قبل رسول الله (ص) ومر بمواقف متشنجة عنيدة وبكبرياء وتعسف من قبل المشركين ظهر هذا عبر ما دار من مفاوضات بينهم وبين المسلمين .. وترتبت على فعلهم المتجسد بالحيلولة دون دخول رسول الله (ص) ومن معه مكة، ودون إتمامهم مناسكهم التي بدأوها بالإحرام وجاؤوا لها لا لشي ء غيرها، والذي سمته آيات قرآنية بالإحصار والصد، أمور وأحكام مفصلة للمحصور والمصدود من المسلمين، ذكرها هذا المقطع القرآني الكريم والسنة النبوية الشريفة ...، وقد أفردت هذه المقالة للحديث عن بعض مباحث هذه الآية ذات المباحث العديدة والمفصلة واخترت:

* الإتمام

* الإحصار

* التحلل:

- بالذبح

- بالحلق

وقبل هذا لابد لي من الرجوع إلى قضية مجي ء رسول الله (ص) وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة، فقد تكون هي وقت نزول هذه الآية على أكثر الأقوال، أو أنها مصداق لما وصفته الآية من الإحصار والصد الذي قد يحدث لمن قد أحرم لأداء نسكي الحج والعمرة، مبينةً ما عليه فعله، وهو ما زال في أول جزء من المناسك؛ ومن الله تعالى استمد التوفيق.

أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له؟!

عبارة صريحة لأحد المفاوضين بين المسلمين والمشركين عثرت عليها، تبين لنا الموقف العنيد للمشركين من رسول الله (ص) والظلم


1- سورة الفتح: 25.
2- سورة البقرة: 196.

ص: 87

الذي ألحقوه به وبأتباعه وقد جاء مكة بغصن أخضر تحمله يد كريمة؛ وبقلب لم ينو سوءاً لهم، فلا سلاح ولا تآمر- مع خشيته من أن تعرض له قريش بحرب أو منع من دخول مكة- إنما هو حبّ لهذا البيت وتعظيم له ووفاء له وأداء لزيارته، وصلة لرحم قطعتها قريش، وكلامه (ص): «لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها» إضافةً لما ذكرته لنا مصادر التاريخ أدلةً على سلامة موقف المسلمين وأنهم لم ينووا من مجيئهم مكة إلّا خيراً، بعد أن رفضتهم قريش من قبل، ووضعت أمام دعوتهم العراقيل، وآذتهم في دينهم أيما أذى، وفتنتهم في عقيدتهم أيما فتنة، وقاطعتهم وحاصرتهم، وسلبت أموالهم وفرقت جمعهم، وأخرجتهم من ديارهم مكة، وقاتلتهم وغزتهم في المدينة، وفعلت كل ما يحلو لها للقضاء عليهم جميعاً ... ها هو رسول الله (ص) يأتي مكة، موطنه الحبيب الذي أكره على تركه، وساق (ص) معه الهدي، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس في مكة ومن حولها من حرب يظنونها ويخشونها!

يريد (ص) زيارة البيت، لا يريد قتالًا، وساق معه الهدي سبعين بدنة؛ راح مشركو قريش يرفضون دخول رسول الله (ص) مكة:" فوالله لا يدخلها علينا عنوةً أبداً".

" هذه قريش، قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم" لقد تجسدت هذه قراراً عملياً بمنع المسلمين عن زيارة بيت الله الحرام وكان أخيراً بنداً من بنود الصلح" صلح الحديبية"، بعد أن أمروا مندوبهم:

" ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً".

هذا الصد عن البيت الحرام وهذا الإحصار سعةً وأحكاماً نجده في الكتاب والسنة وأقوال أئمة التفسير والفقه، بعد أن نقرأ

ص: 88

باختصار قصته في أقوال المؤرخين كما جاءت في سيرة ابن هشام وفي غيرها:

أقام رسول الله (ص) بالمدينة شهر رمضان وشوالًا، وخرج في ذي القعدة معتمراً، لا يريد حرباً، واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي، واستنفر العربَ ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش الذي صنعوا، أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من الأعراب، وخرج رسول الله (ص) بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له.

وفي خبر خرج رسول الله (ص) عام الحديبية يريد زيارة البيت، لا يريد قتالًا، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر؛ وكان جابر بن عبدالله يقول: كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.

وخرج رسول الله (ص) حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي ويقال بُسْر- فقال: يا رسول الله، هذه قريش، قد سمعت بمسيرك، فخرجوا معهم العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور، وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدَّموها إلى كُراع الغَميم.

فقال رسول الله (ص): يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش، فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة. ثم قال: «من رجل يخرج بنا عن طريق غير طريقهم التي هم بها؟»، قال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله؛ فسلك بهم طريقاً وعراً أجرل (أي كثير

ص: 89

الحجارة؛ ويروى: أجرد أي ليس فيه نبات) بين شعاب، فلما خرجوا منه، وقد شق ذلك على المسلمين وأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي.

قال رسول الله (ص) للناس: «قولوا نستغفر الله ونتوب إليه» فقالوا ذلك، فقال: «والله إنها للحطة» (يريد قول الله تعالى لبني إسرائيل: وَقُولُوا حِطَّةٌ. (1) ومعناه حط عنا ذنوبنا) التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها؛ فأمر رسول الله (ص) الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض في طريق (تخرجه) على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة؛ فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش (غباره) قد خالفوا عن طريقهم، رجعوا راكضين إلى قريش، وخرج رسول الله (ص) حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته؛ فقالت الناس: خلأت (بركت) الناقة، قال: ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلّا أعطيتهم إياها.

ثم قال للناس: «انزلوا». قيل له: يا رسول الله! ما بالوادي ماء ننزل عليه، فأخرج سهماً من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه فنزل به في قليب (بئر) من تلك القلب. فغرزه في جوفه، فجاش (ارتفع) بالرواء (الكثير) حتى ضرب الناس عنه بعطن (العطن: مبرك الإبل حول الماء) ... فلما اطمأن رسول الله (ص) أتاه بديل بن ورقاء الخزاعي في رجال من خزاعة، فكلموه وسألوه: ما الذي جاء به؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حرباً، وإنما جاء زائراً البيت، ومعظماً لحرمته، ثم قال لهم نحواً مما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إنّ محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وجبهوهم (خاطبوهم بما يكرهون) وقالوا: وإن كان جاء ولا يريد قتالًا، فوالله لا يدخلها علينا عنوةً أبداً، ولا تحدث بذلك


1- البقرة: 58؛ الأعراف: 161.

ص: 90

عنا العرب؛ وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله (ص) مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئاً كان بمكة؛ ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله (ص) مقبلًا قال: هذا رجل غادر؛ فلما انتهى إلى رسول الله (ص) وكلمه، قال له رسول الله (ص) نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله (ص) ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله (ص) قال: إنّ هذا من قوم يتألهون (يتعبدون ويعظمون أمر الإله)، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رآى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده (ما يعلق في أعناق الهدي ليعلم أنه هدي) وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله (موضعه الذي ينحر فيه من الحرم) رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله (ص) إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: اجلس، فإنما أنت أعرابي لا علم لك. غضب الحليس عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم. أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له!) والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إلى رسول الله (ص) عروة بن مسعود الثقفي؛ فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد- وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس- وقد سمعت بالذي نابكم، فجمعت من أطاعني من قومي، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسي؛ قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم؛ فخرج حتى أتى رسول الله (ص) فجلس بين يديه، ثم قال: يا محمد أجمعت أوشاب (أخلاط) الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل؛ قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبداً. وأيم الله، لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً ... ثم

ص: 91

جعل يتناول لحية رسول الله (ص) وهو يكلمه؛ والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله (ص) في الحديد؛ فجعل يقرع يده إذ تناول لحية رسول الله (ص) ويقول: اكفف يدك عن وجه رسول الله (ص) قبل أن لا تصل إليك؛ فيقول عروة: ويحك! ما أفظك وأغلظك! فتبسم رسول الله (ص) فقال له عروة: من هذا يا محمد؟ قال: هذا بن أخيك المغيرة بن شعبة؛ قال: أي غدر، وهل غسلت سوءتك إلا بالأمس. أراد عروة بقوله هذا أنّ المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف: بنو مالك رهط المقتولين، والأحلاف رهط المغيرة، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر. فكلمه رسول الله (ص) بنحوٍ مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول الله (ص) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلّا ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصاقاً إلا ابتدروه. ولا يسقط من شعره شي ء إلّا أخذوه. فرجع إلى قريش، فقال: يا معشر قريش، إني قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشي ء أبداً، فروا رأيكم .. وإن رسول الله (ص) دعا خراش بن أمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له الثعلب، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله (ص) وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله، حتى أتى رسول الله (ص).

وفي خبر أنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلًا منهم أو خمسين رجلًا، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله (ص) ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً، فأخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول الله (ص) فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله (ص) بالحجارة والنبل.

ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش

ص: 92

عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكني أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان؛ فدعا رسول الله (ص) عثمان بن عفان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنه إنما جاء زائراً لهذا البيت، ومعظماً لحرمته.

فخرج عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله (ص) فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله (ص) ما أرسله به؛ فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله (ص) إليهم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف؛ فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله (ص) واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله (ص) والمسلمين أنّ عثمان بن عفان قد قتل، وفي خبر أنّ رسول الله (ص) قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله (ص) الناس إلى البيعة؛ فكانت بيعه الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله (ص) على الموت، وكان جابر بن عبدالله يقول: إنّ رسول الله (ص) لم يبايعنا على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ...

وأنك ترجع عنا عامك هذا ..!!

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي، إلى رسول الله (ص) وقالوا له: ائت محمداً فصالحه، ولا يكن في صلحه إلّا أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله (ص) مقبلًا، قال: «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».

فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله (ص) تكلم فأطال الكلام، وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح؛ وكان آخر بنود الصلح هذا (وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام

ص: 93

قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها).

قدم (ص) إلى هديه فنحره!!

وكان رسول الله (ص) مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي؛ فلما رأى الناس أنّ رسول الله (ص) قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون. عن ابن عباس قال: حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون. فقال رسول الله (ص): «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين» قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين» فقالوا: يا رسول الله: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكوا». (1) إذن منع رسول الله (ص) ومن معه من المسلمين من دخول مكة، فوقع الإحصار والصد، وبعد معرفة هذا نعود إلى ما أشرنا إليه من مباحث في الآية الكريمة:

* الإتمام: وَأتِمُّواْ لْحَجَّ وَلْعُمْرَةَ للَّهِ

فهو من الفعل تم يتم تماً وتماماً: كمل؛ ومنه أتم الشي ء أكمله وتمم الشي ء تتميماً وتتمةً: أكمله؛ واستتم الشي ء: أكمله ومنه التمام أي تمام الشي ء: ما يتم به؛ والتم: الشي ء التام، أي أن يؤتى بجميع أجزائه.

وقد اختلفت استفادتهم من هذا الفعل أتِمُّوا الذي تكرر ذكره في القرآن الكريم: ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ. (2) أمر يقتضي الوجوب


1- السيرة النبوية، لابن هشام، بحذف الأسناد وتصرف بسيط.
2- سورة البقرة: 187.

ص: 94

ولكن لا وجوب الصيام بل وجوب إتمام الصيام إلى الليل؛ فإنّ وجوب الصيام لا يثبت بهذه الآية بل بغيرها من الآيات، كالآية: 183 البقرة.

فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ. (1) أيضاً هو أمر بإتمام العهد لا إنشاء العهد فقد أنشئ العهد من قبل. وهكذا الآية التي نحن بصددها، فهي قد لا تدل على وجوب الحج، فوجوبه يستفاد من غيرها من الآيات (الآية 96 من سورة آل عمران، والآية 27 من سورة الحج والسنة النبوية) فيما حمله بعضهم على إيجاب الحج؛ لأنها أول آية نزلت تتحدث عن الحج وأحكامه، وذكروا أدلتهم على استفادة وجوب الحج والعمرة أيضاً منها، وأنّ حمل هذه الآية على إيجاب الحج والعمرة أولى من حملها على إتمامهما حين الشروع بكل منهما؛ نعم الأمر بإتمام كل من الحج والعمرة لله دليل على أن كلًا منهما عبادة واجبةً كانت أو مستحبةً ... هذا ما سنجده من أقوال ونجد غيره من أحكام عند التعرض لكلماتهم.

إذن وقع كلام بينهم في المعنى المراد بهذا الإتمام، واختلفت استفادتهم من هذا الأمر: أتِمُّوا.

هل هو إنشاء لفريضة الحج دون العمرة أو لهما معاً؟

هل هو أمر بإتمام كل منهما متى بدئ بهما؟ ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية- كما يقول أبو مسلم- وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الإتمام.

أو أنّ المراد من: أتِمُّوا هو الإتيان بهما لا الإتمام بعد الشروع.

وبما أنّ الحج واجب وهو أمر مفروغ منه للأدلة، هل يستفاد من هذه الآية وجوب العمرة؟ فتدرج هذه الآية في الاستدلال الفقهي تحت عنوان أدلة وجوب الحج والعمرة لا فقط في باب أفعال وأنواع الحج والعمرة وأحكامهما، علماً بأنّ هناك قولين للعلماء؛ قول بوجوب العمرة، وقول باستحبابها، فهل يستفاد وجوبها من الآية المذكورة؟ وحتى عند من يقول باستفادة استحباب العمرة من هذه الآية، فإنّ الشروع بها يوجب إتمامها، وإن كان هناك من يقول بأنّ الإتمام في الآية يعني وجوب أدائهما.


1- سورة التوبة: 4.

ص: 95

هذه النقاط وغيرها سنجد الإجابة عنها فيما ذكروه من تفصيل:

يقول سيد قطب: وقد فهم بعض المفسرين من هذا الأمر أنه إنشاء لفريضة الحج، وفهم بعضهم أنه الأمر بإتمامه متى بدى ء- وهذا هو الأظهر- فالعمرة ليست فريضة عند الجميع، ومع هذا ورد الأمر هنا بإتمامها كالحج، مما يدل على أنّ المقصود هو الأمر بالإتمام لا إنشاء الفريضة بهذا النص؛ ويؤخذ من هذا الأمر كذلك أنّ العمرة- ولو أنها ابتداء ليست واجبة- إلّا أنه متى أهل بها المعتمر فإنّ إتمامها يصبح واجباً، والعمرة كالحج في شعائرها ما عدا الوقوف بعرفة، والأشهر أنها تؤدى على مدار العام، وليست موقوتة بأشهر معلومات كالحج.

ابن كثير: ... شرع في بيان المناسك، فأمر بإتمام الحج والعمرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما؛ ولهذا قال بعده: فَإنْ احْصِرْتُمْ أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما، ولهذا اتفق العلماء على أنّ الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هو قولان للعلماء.

الشيخ الطبرسي: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي أتموها بمناسكهما وحدودهما وتأدية كل ما فيهما عن ابن عباس ومجاهد، وقيل: معناه أقيموهما إلى آخر ما فيهما وهو المروي عن أميرالمؤمنين (ع) وعلي بن الحسين (ع) وعن سعيد بن جبير ومسروق والسدي.

في حين ذكر القرطبي الاختلاف في المعنى المراد بإتمام الحج والعُمرة لله مبيناً أنّ هناك مذهبين:

من يوجب العمرة.

من لا يوجبها.

ولكل منهما فهمه لمراد: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قيل: أداؤهما والإتيان بهما؛ كقوله: فَأتَمَّهُنَّ. (1) وقوله: ثُمَّ أتِمُّواْ لصِّيَامَ إِلَى لَّليْلِ. (2) أي ائتوا بالصيام؛ ثم يعقب قائلًا: وهذا على مذهب من أوجب العُمرة.


1- سورة البقرة: 124.
2- سورة البقرة: 187.

ص: 96

ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإنّ مَن أحرم بنُسك وجب عليه المضيّ فيه ولا يفسخه؛ قال معناه الشعبيّ وبن زيد.

وعن عليّ بن أبي طالب (ع): إتمامهما أن تُحرم بهما من دُوَيْرَة أهلك.

ورُوي ذلك عن عمربن الخطاب وسعدبن أبي وَقّاص، وفَعَله عمران بن حُصين.

وقال سفيان الثَّوْريّ: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك؛ ويقوّي هذا قوله: لِلَّه.

وقال عمر: إتمامهما أن يُفرد كلّ واحد منهما من غير تَمَتُّع وقِران؛ وقاله بن حبيب.

وقال مُقاتل: إتمامهما ألّا تستحِلُّوا فيهما ما لا ينبغي لكم؛ وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون: لَبّيْك اللَّهُمّ لَبّيْك، لا شريكَ لك إلّا شريكاً هو لك، تَمْلكه وما مَلَك. فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشي ء آخر.

هذا ما ذكره القرطبي من أقوال بخصوص أتِمُّوا.

فيما أضاف ابن الجوزي في تفسير زاد المسير، قولين آخرين: أن معنى إتمامها، أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمربن الخطاب، والحسن، وعطاء؛ أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد.

الرازي يقول: إنّ أهل التفسير ذكروا أنّ هذه الآية هي أول آية نزلت في الحج، فحملها على إيجاب الحج أولى من حملها على الإتمام بشرط الشروع فيه.

وأما عن قراءة الرفع والتي قصدوا بها إخراج العمرة عن حكم الحج في الوجوب، فالرازي يدفعها لشذوذها وضعفها. (1) وقد استدل الرازي على أنّ العمرة واجبة في حجته الثانية، التي احتج بها في وجوب العمرة قوله تعالى: يَوْمَ لْحَجِّ لأكْبَرِ. (2) يدل


1- مجلة ميقات الحج، العدد: 30، قراءة في آية من آيات الحج.
2- سورة التوبة: 3.

ص: 97

على وجوب حج أصغر على ما عليه حقيقة أفعل، وما ذاك إلّا العمرة بالاتفاق، وإذا ثبت أنّ العمرة حج، وجب أن تكون واجبة لقوله تعالى: وَأتِمُّواْ لْحَجَّ ولقوله: وَلِلَّهِ عَلَى لنَّاسِ حِجُّ لْبَيْتِ. (1) ثم ذكر عدداً من الروايات تأييداً لما ذهب إليه من وجوب العمرة، وهو ما جاء في الحجة الثالثة.

ما أورده ابن الجوزي في المتفق بين الصحيحين أنّ جبريل (ع) سأل رسول الله (ص) عن الإسلام، فقال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر».

عن أبي رزين أنه سأل النبي (ص) فقال: إنّ أبي شيخ كفي أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن، فقال (ص): «حج عن أبيك واعتمر»، فأمر بهما، والأمر للوجوب.

عن زيد بن ثابت أنه (ص) قال: «الحج والعمرة فرضان لا يضرك بأيهما بدأت».

عن عائشة أم المؤمنين، قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ فقال (ص): «عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة».

وفي الحجة الرابعة والأخيرة يأتي بما قاله الشافعي: اعتمر النبي (ص) قبل الحج، ولو لم تكن العمرة واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب.

هذه الأدلة ساقها الرازي على ما ذهب إليه من وجوب العمرة؛ لينتقل إلى ذكر ومناقشة أدلة من لم يذهب إلى وجوبها وردها جميعاً ...

أما القرطبي فهو الآخر يذهب إلى أنّ هذه الآية تعد دليلًا على وجوب العمرة؛ لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج، وهو ما تعرض له في المسألة الرابعة من تفسيره.


1- سورة آل عمران: 97.

ص: 98

فكل من الرازي والقرطبي يذهبان إلى وجوب العمرة بهذه الآية. (1) وأما الأردبيلي في زبدة البيان- بعد أن يحكي عن الكشاف وتفسير القاضي ومجمع البيان: وأتموهما يعني إئتوا بهما تامين مستجمعين للشرائط مع جميع المناسك وتأدية كل ما فيهما، أي المراد الإتيان بهما لا الإتمام بعد الشروع فيهما؛ ويؤيده قراءة" أقيموا الحج والعمرة" وبعد أن يذكر حسنة عمر بن أذينة التي قال فيها: كتبت إلى أبي عبدالله (ع) بمسائل بعضها مع أبي بكير وبعضها مع أبي العباس، وجاء الجواب بإملائه (ع): سألت عن قول الله عزّوجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا يعني به الحج والعمرة جميعاً؛ لأنهما مفروضان؛ وسألت عن قول الله عزّوجلّ: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ قال: يعني بتمامهما أداءهما واتقاء ما يتقي المحرم فيهما؛ وسألت عن قوله تعالى: الْحَجُّ الأكْبَر ما يعني بالحج الأكبر؟ فقال: الحج الأكبر الوقوف بعرفة ورمي الجمار، والحج الأصغر العمرة. (2)- فينتهي إلى نتيجتين:

الأولى يقول فيها: فعلى هذه التفاسير كلها تدل الآية على وجوب الحج والعمرة ابتداءً، وإن لم يكن شرع فيهما، والظاهر أنه لا خلاف عندنا فيه، ويدل عليه الأخبار أيضاً، وعلى وجوب القربة في فعلهما، فيفهم وجوب النية فيهما وفي سائر العبادات لعدم القائل بالفصل كما هو مذهبنا.

وأما دلالتها حينئذ على إتمام الحج المندوب وإتمام الحج الواجب الفاسد والعمرة كذلك كما قيل ليست بواضحة إلّا بتكلف؛ نعم لا يبعد إتمامهما في الفاسد بدليل وجوب أصلهما، وأصل عدم سقوط الباقي بالإفساد والأصل بقاؤه.

والنتيجة الأخرى التي استظهرها بعيداً عما ذكره: ولكن ظاهر الآية مع قطع النظر عن التفاسير التي تقدمت وجوب إتمامهما


1- أنظر تفسيري الرازي والقرطبي: الآية، بتصرف.
2- الكافي 264: 4.

ص: 99

بعد الشروع، فتفيد وجوب إتمام كل منهما بعد الشروع فيهما ندباً، أو مع الإفساد؛ وحينئذ لا تدل على وجوبهما أصالةً وقبل الشروع.

وأيضاً الزمخشري في تفسير الكشاف لا يرى أنّ الآية تدل على كونهما واجبين أو تطوّعين، حيث يقول: فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلّا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين، فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً.

إلّا أن تقول: الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما، بدليل قراءة من قرأ «وأقيموا الحج والعمرة» والأمر للوجوب في أصله، إلّا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب كما دلّ في قوله: فاصْطَادُواْ. (1) فَانْتَشِرُوا. (2) ونحو ذلك.

فيقال لك: فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب، وهو ما روي: أنه قيل: يا رسول الله: العمرة واجبة مثل الحج؟ قال: «لا، ولكن أن تعتمر خير لك». وعنه: «الحج جهاد والعمرة تطوّع».

فإن قلت: فقد روي عن ابن عباس أنه قال: إنّ العمرة لقرينة الحج؛ وعن عمر: أنّ رجلًا قال له: إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين عليّ، أهللت بهما جميعاً فقال: «هُديت لسنة نبيك». وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبة مثل الحج؟

قلت: كونها قرينة للحج أنّ القارن يقرن بينهما، وأنهما يقترنان في الذكر فيقال: حجّ فلان واعتمر والحجاج والعمار، ولأنها الحجّ الأصغر، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب. وأمّا حديث عمر فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة؛ والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، في أنك تأمره بفرض وتطوّع.

ما ورد على الزمخشري:


1- سورة المائدة: 2.
2- سورة الأحزاب: 53.

ص: 100

وهنا يرد إشكال عليه أو تدافع في قوله الأخير فهو وإن حمل الآية على محض الأمر بإتمامهما بعد الشروع فيهما، واختار كون العمرة غير واجبة وهو ما عليه آخرون غيره، إلّا أنّ الكلام في اجتماع الأمر للوجوب والندب وكما يراه الزمخشري في آية وَأتِمُّوا ... وفيما ذكره بعد في آية الوضوء.

والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب فبقي الحجّ وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، في أنك تأمره بفرض وتطوّع.

عبارة أطلقها هنا في كلامه عن هذه الآية: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ مخرجاً العمرة من صفة الوجوب، ومبقياً الحج وحده مشمولًا بالوجوب، فهما بمنزلة وجوب صيام شهر رمضان، واستحباب صيام ستة من شهر شوال؛ فاجتمع الوجوب والاستحباب بأمر واحد، وهو يتنافى مع ما ورد عنه في تفسيره لآية الوضوء 6 من سورة المائدة.

هل يجوز أن يكون الأمر شاملًا للمحدثين وغيرهم لهؤلاء على وجه الإيجاب ولهؤلاء على وجه الندب؟

قلت: لا؛ لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية؛ فقد قبل الاجتماع هناك وعده هنا ألغازاً وتعميةً!!

وللمحقق الأردبيلي في زبدة البيان تنبيه على ما وقع به صاحب الكشاف من تدافع وغرابة أثارت عجب المحقق، فراح يناقشه فيما وقع فيه، وترك نقاشه مطالب نافعة لمن أراد ذلك.

وقد ذكر صاحب كنز العرفان أقوالًا عديدة قبل أن يصل إلى القول المتبنى من قبله، فيقول:

تمام الحج والعمرة قيل: هو أن يحرم بهما من دويرة أهله.

وقيل: أن يفرد لكل واحد منهما سفراً.

وقيل: إخلاصهما للعبادة لا للمعاش.

ثم يقول: والحق أنّ المراد أن يؤتى بجميع أجزائهما وكيفيات تلك الأجزاء؛ ثم يقول: لكن لكون كل واحد منهما مركباً من أجزاء مختلفة ربما يوهم أن من أتى ببعض تلك الأجزاء وأخل بالباقي عمداً يصح منه ذلك المأتي به، ويجب عليه قضاء الباقي كمن صام بعض رمضان وترك الباقي، وذلك وهم باطل، فإن كل

ص: 101

واحد من تلك الأجزاء شرط في صحة الباقي كأجزاء الصلاة، فإذا لم يأت الحاج أو المصلي بكل الأجزاء بطل حجه وصلاته بخلاف الصوم، فإنّ كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة لا ارتباط لها بيوم آخر ولا شرطية لأحدهما بالآخر، ولذلك قال المحققون من أصحابنا: إنّ كل يوم من أيام رمضان يفتقر إلى نية مستقلة.

ثم راح يذكر التالي:

1. ما قاله أصحابنا أنّ من أفسد حجه، وجب عليه إتمامه والحج من قابل لوجوب إتمام الحج، والإفساد غير مانع منه؛ ثم إنّ الإفساد عندنا سبب مستقل لوجوب الحج كغيره من الأسباب كالنذر والاستيجار، فيجب حج آخر غير الأول ولو كان مندوباً؛ وكذا نقول فيمن أفسد صومه الواجب المعين أنه يجب إتمامه وقضاؤه.

2. استدل أصحابنا بالآية أيضاً على وجوب إتمام الحج والعمرة المندوبين.

3. أنّ الأمر بإتمامهما قد يستدل به على وجوب كل واحد منهما؛ لأن الأمر للوجوب، ووجوب كل واحد من الأجزاء يستلزم وجوب الماهية المركبة من تلك الأجزاء ضرورة، فتكون العمرة واجبة خلافاً لأبي حنيفة فإنه جعلها سنةً وكذلك قال مالك، وأولا الآية بأنّ المراد إذا شرعتم فيهما، فإنّ الشروع في الندب يوجب إتمامه عندهم أيضاً.

محمد متولي يقول عن وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: نفهم منه أنّ الأمر بإتمام الشي ء لا يكون إلّا إذا جاء الأمر بفرض هذا الفعل، فكأنك بدأت في العمل بعد التشريع به، ويريد منك سبحانه ألّا تحج فقط، ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّاً مستوفياً لكل مطلوبات المشرع له؛ وساعة يقول الحق: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ لقائل أن يقول: إنّ الحج شي ء والعمرة شي ء آخر، بدليل عطفها عليه، والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي المشاركة، فإن وجدت مشاركة ولم توجد مغايرة فلا يصح العطف، بل لابد أن يوجد مشاركة ومغايرة. والمشاركة بين الحج والعمرة أن كليهما نسك وعبادة، وأما المغايرة فهي أنّ للحج

ص: 102

زمناً مخصوصاً ويشترط فيه الوقوف بعرفة، وأما العمرة فلا زمن لها ولا وقفة فيها بعرفة؛ ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج: وَللَّهِ عَلَى لنَّاسِ حِجُّ لْبَيْتِ مَنِ سْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. (1) ولم يأت في تلك الآية بذكر العمرة، ومنها نعرف أنّ الحج شي ء والعمرة شي ء آخر، والمفروض علينا هو الحج؛ ولذلك أقول دائماً لابد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة، ونأتي بكل الآيات التي تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماماً، فحين يقول الحق في قرآنه أيضاً: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ نعرف من ذلك أنّ العمرة غير الحج، وحين تقرأ قول الله في سورة براءة: وَأذَانٌ مِّنَ للَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى لنَّاسِ يَوْمَ لْحَجِّ لأَكْبَرِ. (2) نعرف أنّ هناك حجاً أكبر، وحجاً ثانياً كبيراً، ولذلك فآية: وَللَّهِ عَلَى لنَّاسِ حِجُّ لْبَيْتِ جاءت بالبيت المحرم، وهو القدر المشترك في الحج والعمرة، ونعرف أنّ الحج الأكبر هو الحج الذي يقف فيه المسلم بعرفة؛ لأنّ الرسول (ص) قال: «الحج عرفة»، وهو الحج الأكبر؛ لأنّ الحشد على عرفة يكون كبيراً، وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة.

إذن قوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى لنَّاسِ حِجُّ لْبَيْتِ الحج هو القصد إلى مُعظّم وهو: حِجُّ لْبَيْتِ أما العمرة فهي الحج الكبير، وزمانها شائع في كل السنة، والقاصدون للبيت يتوزعون على العام كله؛ وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله سبحانه: وَللَّهِ عَلَى لنَّاسِ حِجُّ لْبَيْتِ ومادام جاء بالأمر المشترك في قوله: حِجُّ لْبَيْتِ فهو يريد الحج الأكبر والحج الكبير.


1- سورة آل عمران: 97.
2- سورة التوبة: 3.

ص: 103

وابن عاشور يذكر أنّ من معاني وَأتِمُّوا أنه أمر بإكمال الحج والعمرة، بمعنى ألا يكون حجاً وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب .. وله كلام مفصل. (1) في قوله: للَّهِ يقول السيوري: يدل صريحاً على وجوب ايقاعهما خالصين لله تعالى، لا للرياء والسمعة، ولا لقصد المعاش خاصةً، وعلى وجوب النية في كل فعل من الأفعال، وعلى عدم صحة وقوعهما من الكافر لعدم الإخلاص منه، وإن كانا واجبين عليه، خلافاً للشافعي فإنه جعل الإسلام شرطاً في وجوب الحج، مع قوله إنّ الكافر مكلف بالفروع.

يقول ابن عاشور: وقوله: للَّهِ أي لأجل الله وعبادته، والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلّا لله ولا العمرة إلّا له؛ لأنّ الكعبة بيت الله وحرمه، فالتقييد هنا بقوله: للَّهِ تلويح إلى أنّ الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين، وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم، وهم الذين منعوا المسلمين منه، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين، فقيل لهم: إنّ ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة؛ لأنكم إنما تحجون لله، لا لأجل المشركين، ولأنّ الشي ء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره، لا ينبغي أن يكون ذلك صارفاً عنه، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة؛ ويجوز أن يكون التقييد بقوله: للَّهِ لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام، فإنّ المشركين لما وضعوا هبلًا على الكعبة، ووضعوا إسافاً ونائلة على الصفا والمروة، قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى؛ وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.


1- تفسير القرآن الكريم، لابن كثير؛ مجمع البيان، للطبرسي؛ الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي؛ الكشاف، للزمخشري؛ زبدة البيان، للأردبيلي؛ كنز العرفان، للسيوري؛ تفسير محمد متولي الشعراوي؛ التحرير والتنوير، لابن عاشور.

ص: 104

والشعرواي يقول: والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أنّ بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالًا شكلياً، وقد يقبلون على العبادة لأغراض أخرى غير العبادة، فكان لابد أن يبين القصد من الحج والعمرة، وأنّ المطلوب هو إتمامهما، ولابد أن يكون القصد لله لا لشي ء آخر، لا ليقال: الحاج فلان! أو ليشتري سلعاً رخيصة ويبيعها بأغلى من ثمنها بعد عودته؛ ونحن نعلم أنّ الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها، فمثلًا لا يقال: المصلى فلان! ولا المزكي فلان! فإن كان الحاج حريصاً على هذا اللقب، وهو دافعه من وراء عبادته، فلا بد ألا يخرج بعبادته عن غرضها المشروعة من أجله، إنّ الحق يقول: وَأتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وكلمة لِلَّه تخدمنا في قضايا متعددة، فما هي هذه القضايا؟

إنّ المسلم عندما يريد أن يحج لله، فلا يصح أن يحج إلّا بمال شرع الله وسائله؛ كثير من الناس حين يسمعون الحديث الشريف: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» يعتقدون أنّ الإنسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم، ثم يظن أنّ حجة واحدة تُسقط عنه كل ذنوبه، نقول لهؤلاء: أولًا: لابد أن تكون الحجة لله، وثانياً: أن تكون من مال حلال، وما دامت لله ومن مال حلال فلا بد أن تعرف ما هي الذنوب التي تسقط عنه بعد الحج، فليست كل الذنوب تسقط، وإنما الذنوب المتعلقة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنّ الذنب المتعلق بالله أنت لم تظلم الله به لكن ظلمت نفسك، ولكن الذنب المتعلق بالبشر فيه إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم، وبالتالي فإنّ ظلم العباد لا يسقط إلّا بردّ حقوق العباد. (1) إذن بغض النظر عن استفادتهم من الآية وجوب العمرة أو عدمه، فإنّ المراد من الآية كما هو بين من أرجح كلماتهم:

أداؤهما والإتيان بهما تامين كما عند من أوجب العمرة.


1- كنز العرفان في فقه القرآن؛ التحرير والتنوير، لابن عاشور؛ و الشعراوي في خواطره، سورة البقرة: 196؛ وانظر القرطبي في تفسيره للآية.

ص: 105

إتمامهما بعد الشروع بهما كما عند من لم يوجب العمرة.

فهو أمر بإكمال كل من الحج والعمرة وفق أحكامهما وشرائطهما، دون نقص، إلا أنّ هذا المطلوب قد يواجههم ما يعيقهم ويمنعهم عن تحقيقه بعد إحرامهم، وهو: الإحصار

** الإحصار فَإنْ احْصِرْتُمْ

الإحصار والحصر والصدّ لغةً:

لما أمر الله سبحانه وتعالى بإتمام الحج والعمرة، ذكر ما يمنع من ذلك الإتمام، ألا وهو الإحصار، وكلمات اللغويين كأقوال المفسرين اضطربت في كل من الإحصار والحصر، وكأنّ بعضهم جعل (أحصر) مختصةً بما يقع للشخص من داخله، ما يحدث له من ذاته من خوف أو مرض يصيبه، وجعل (حصر) مختصةً بما يقع على الشخص من الخارج بفعل فاعل؛ سجنه فلان وحبسه فلان، وضيق عليه وأحاط به، كما أنّ الأخبار فرقت بينهما والصد، مع أنّ القرآن الكريم وصف الحالة التي حدثت في الحديبية المتمثلة بمنع المشركين لرسول الله (ص) من دخول مكة بالإحصار والصد، وكل منهما يحمل معنى (المنع) المنع الحاصل من العدو؛ نعم لهم أن يتوسعوا في ذلك بإضافة مصاديق لهذه المفردات، ولعلي لم أجد خلافاً كالخلاف حول مفردة كهذه خصوصاً وقد رتبوا أحكاماً على كل من الإحصار الذي جعلوه بسبب المرض والحصر الذي جعلوه بسبب العدو وفاقاً لكلمات بعض علماء اللغة، وللنصوص التي وردت وأعطت للأول حكماً غير الذي أعطته للآخر، كما أنّ الإحصار وحكمه إن ثبت بسبب العدو فهل هو ثابت بوجود موانع أخرى؟

إذن هناك فرق بين لفظتي الإحصار والحصر وبينهما والصد، كما أنّ هناك ثمرة فقهية مترتبة على هذا التفريق بين هذه المفردات وأسبابها، بأن يكون لكل منها حكم ليس لغيرها، وهو ما نجده في كلمات اللغويين والمفسرين والفقهاء.

ص: 106

فلغةً:

حصر فلاناً: ضيق عليه وأحاط به؛ ويقال: حصره المرض أو الخوف: منعه من المضي لأمره، فهو محصور وحصير.

وأحصر البعير: حصره؛ وأحصر فلاناً: حبسه؛ ويقال: أحصره المرض وأحصره الخوف.

وحاصره محاصرةً وحصاراً: أحاط به ومنعه من الخروج من مكانه؛ فالإحصار هو المنع من الوصول إلى المطلوب.

هذا وأنّ التنزيل العزيز استعمل مفردة (أحصروا، واحصروهم) وكل منهما تعني التالي كما جاءت به التفاسير: حبسهم الجهاد عن الكسب، احبسوهم؛ لِلْفُقَرَاءِ الَّذيِنَ احْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. (1) الذين حبسوا ومنعوا في طاعة الله أي منعوا أنفسهم من التصرف في التجارة للمعاش؛ وقوله في سبيل الله يدل على أنهم حبسوا أنفسهم عن التقلب لاشتغالهم بالعبادة والطاعة.

وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ. (2) معناه واحبسوهم، وامنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام، والمنع لم يكن مقيداً بالمرض.

والصد من الفعل صد، وصد فلاناً عن كذا: منعه وصرفه؛ وفي التنزيل العزيز: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ. (3) أي صرفهم ومنعهم عن طريق الحق.

وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ. (4) فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. (5) وفي آيات أخرى؛ والمعنى: منعوا غيرهم إما عن طريق الإيمان أو عن طريق الدين الحق، منعوا المؤمنين.

كما أنّ القرآن الكريم استعمل كلًا من الإحصار والصد للتعبير عما يحدث من منع وإعاقة، فمرةً عبر عن ذلك بقوله: فَإنْ احْصِرْتُمْ عما فعله المشركون بالمسلمين بمنعهم عن المسجد الحرام


1- سورة البقرة: 273.
2- سورة التوبة: 5.
3- سورة النمل: 24.
4- سورة النساء: 167.
5- سورة التوبة: 9.

ص: 107

أو عن مكة عند من يرى نزول الآية في الحديبية، وحتى عند من لا يرى ذلك ولكن ما حصل في الحديبية مثال لهذا الإحصار والمنع.

وتارةً: أنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

وهل حصر وأحصر بمعنى أو بينهما فرق؟

سؤال يطرحه السمين الحلبي بعد ذكره أنّ الحصر هو المنع، ومنه قيل للملك: الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس.

وجوابه: خلاف بين أهل العلم: فقال الفراء والزجاج والشيباني: إنهما بمعنى، يقالان في المرض والعدو جميعاً وأنشدوا:

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول

وفرق بعضهم، فقال الزمخشري: يقال: أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف أو مرض أو عجز قال تعالى: الَّذيِنَ احْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وحصر إذا حبسه عدو أو سجن، هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شي ء مثل صده وأصده؛ وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً، فإنه قال: والمشهور في اللغة: أحصر بالمرض وأحصر بالعدو؛ وقال ثعلب: حصر في الحبس أقوى من أحصر، والحصير أيضاً: الملك كما تقدم لاحتجابه قال لبيد: ... جن لدى باب الحصير قيام.

الشيخ الطبرسي: والإحصار: المنع، يقال للرجل الذي منعه الخوف أو المرض عن التصرف: قد أحصر فهو محصور؛ ويقال للرجل الذي حبس: قد حصر فهو محصور؛ وقال الفراء: يجوز أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر؛ وخالفه فيه أبو العباس المبرد والزجاج. (1) وينقل ابن عاشور التالي: والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال: أحصره منعه مانع قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الَّذيِنَ احْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ. (2) أي منعهم الفقر من السفر للجهاد.

ثم يقول: وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده وأصده؛ هذا قول المحققين من أئمة


1- المعجم الوسيط: 178؛ والدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي 313: 2- 314؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي؛ الآيات.
2- سورة البقرة: 273.

ص: 108

اللغة، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو، قال: وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ. (1) فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما في أحدهما كما قال الزمخشري في «الكشاف»، ومن اللغويين من قال: أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جداً.

وفي القاموس الفقهي: والمشهور عن أكثر أهل اللغة أنّ الإحصار إنما يكون بالمرض، وأما العدو فهو المحصر؛ وقال غيرهم: يقال في جميع ما يمنع الإنسان من التصرف.

قول ابن قتيبة كما حكاه ابن الجوزي: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر.

والرازي في تفسيره يقول: اتفقوا على أنّ لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه.

أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:

الأول: وهو اختيار أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض، قال ابن السكيت: يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر؛ وقال ثعلب في فصيح الكلام: أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

والقول الثاني: أنّ لفظ الإحصار يفيد الحبس والمنع، سواء كان بسبب العدو أو بسبب المرض وهو قول الفراء.

والقول الثالث: أنه مختص بالمنع الحاصل من جهة العدو، وهو قول الشافعي، وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر، فانهما قالا: لا حصر إلّا حصر العدو، وأكثر أهل اللغة يردون هذا القول على الشافعي.

هذه آية مشكلة، عضلة من العضل!!

كل ذلك دفع ابن عربي أن يقول: هذه آية مشكلة، عضلة من العضل؛ فيجيبه القرطبي في تفسيره للآية بقوله: لا إشكال فيها،


1- سورة التوبة: 5.

ص: 109

ونحن- والقول ما زال للقرطبي- نبينها غاية البيان، فنقول: الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملةً؛ أي بأيّ عذر كان، كان حَصْرُ عدوٍّ أو جورُ سلطان أو مرضٌ أو ما كان.

وختلف العلماء في تعيين المانع هنا على قولين:

قال علقمة وعُروة ابن الزبير وغيرهما: هو المرض لا العدوّ.

وقيل: العدوّ خاصّة؛ قاله بن عباس وبن عمر وأنس والشافعيّ.

قال بن العربي: وهو ختيار علمائنا؛ ورأى أكثر أهل اللغة ومحصّليها على أنّ «احْصِر» عُرِّضَ للمرض، و «حُصِر» نزل به العدوّ.

والقرطبي وبعد كلام مفصل ومفيد يرد به قول ابن عربي ويبين ما ورد عن علماء اللغة واختلافهم في (أحصر وحصر) ويذكر أنّ الأكثر من أهل اللغة على أنّ" حصر" في العدو، و" أحصر" في المرض ويختم بقول الزجاج: الإحصار عند جميع أهل اللغة إنما هو من المرض، فأمّا من العدوّ فلا يقال فيه إلا حُصِر؛ يقال: حُصِر حصراً، وفي الأوّل احصِر إحصاراً. (1) والآلوسي في رده الزجاج يقول: والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقاً، وليس الحصر مختصاً بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف- كما توهم الزجاج- من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكراراً ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازاً وكلاهما خلاف الأصل.


1- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي؛ الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي؛ التحرير والتنوير لابن عاشور، والتفسير الكبير للرازي: الآية: 196 من سورة البقرة؛ روح المعاني للآلوسي.

ص: 110

الفائدة:

كل هذه أمثلة على مدى الخلاف الحاصل بينهم عن المفردة محل البحث، فهل هناك ثمرة منه؟

إنّ فائدة هذا البحث تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أن حكم الإحصار عند حبس العدو ثابت، وهل يثبت بسبب المرض وسائر الموانع؟

يقول الرازي: قال أبوحنيفة: يثبت.

وقال الشافعي: لا يثبت.

ثم يواصل الرازي كلامه: وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة وذلك لأن أهل اللغة رجلان:

أحدهما: الذين قالوا: الإحصار مختص بالحبس الحاصل بسبب المرض فقط، وعلى هذا المذهب تكون هذه الآية نصاً صريحاً في أن إحصار المرض يفيد هذا الحكم.

والثاني: الذين قالوا: الإحصار اسم لمطلق الحبس سواء كان حاصلًا بسبب المرض أو بسبب العدو، وعلى هذا القول حجة أبي حنيفة تكون ظاهرة أيضاً؛ لأنّ الله تعالى علق الحكم على مسمى الإحصار، فوجب أن يكون الحكم ثابتاً عند حصول الإحصار سواء حصل بالعدو أو بالمرض.

وأما على القول الثالث: وهو أنّ الإحصار اسم للمنع الحاصل بالعدو، فهذا القول باطل باتفاق أهل اللغة وبتقدير ثبوته فنحن نقيس المرض على العدو بجامع دفع الحرج وهذا قياس جلي ظاهر فهذا تقرير قول أبي حنيفة وهو ظاهر قوي.

وأما تقرير مذهب الشافعي، فهو أنا ندعي أنّ المراد بالإحصار في هذه الآية منع العدو فقط، والروايات المنقولة عن أهل اللغة معارضة بالروايات المنقولة عن ابن عباس وابن عمر، ولا شك أنّ قولهما أولى لتقدمهما على هؤلاء الأدنى في معرفة اللغة وفي معرفة تفسير القرآن، ثم إنا بعد ذلك نؤكد هذا القول بوجوه من الدلائل:

الحجة الأولى: أنّ الإحصار إفعال من الحصر والإفعال تارة يجي ء بمعنى التعدية نحو: ذهب زيد وأذهبته أنا، ويجي ء بمعنى صار ذا كذا نحو: أغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى،

ص: 111

ويجي ء بمعنى وجدته بصفة كذا نحو: أحمدت الرجل أي وجدته محموداً، والإحصار لا يمكن أن يكون للتعدية، فوجب إما حمله على الصيرورة أو على الوجدان والمعنى: أنهم صاروا محصورين أو وجدوا محصورين، ثم إنّ أهل اللغة أتفقوا على أنّ المحصور هو الممنوع بالعدو لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الإحصار هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدو، أو وجدوا ممنوعين بالعدو، وذلك يؤكد مذهبنا.

الحجة الثانية: أنّ الحصر عبارة عن المنع وإنما يقال للإنسان: إنه ممنوع من فعله ومحبوس عن مراده، إذا كان قادراً عن ذلك الفعل متمكناً منه، ثم إنه منعه مانع عنه، والقدرة عبارة عن الكيفية الحاصلة بسبب اعتدال المزاج وسلامة الأعضاء، وذلك مفقود في حق المريض فهو غير قادر ألبتة على الفعل، فيستحيل الحكم عليه بأنه ممنوع؛ لأنّ إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي، أما إذا كان ممنوعاً بالعدو فههنا القدرة على الفعل حاصلة، إلّا أنه تعذر الفعل لأجل مدافعة العدو، فصح ههنا أن يقال: إنه ممنوع من الفعل، فثبت أنّ لفظة الإحصار حقيقة في العدو، ولا يمكن أن تكون حقيقة في المرض.

الحجة الثالثة: أنّ معنى قوله: احْصِرْتُمْ أي حبستم ومنعتم والحبس لا بد له من حابس، والمنع لا بد له من مانع، ويمتنع وصف المرض بكونه حابساً ومانعاً؛ لأنّ الحبس والمنع فعل، وإضافة الفعل إلى المرض محال عقلًا، لأنّ المرض عرض لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلًا وحابساً ومانعاً، أما وصف العدو بأنه حابس ومانع، فوصف حقيقي، وحمل الكلام على حقيقته أولى من حمله على مجازه.

الحجة الرابعة: أنّ الإحصار مشتق من الحصر ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض، فلفظ الإحصار وجب أن يكون خالياً عن الإشعار بالمرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة.

الحجة الخامسة: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مّن رَّأسِهِ فعطف عليه المريض، فلو كان المحصر هو المريض أو من يكون المرض داخلًا فيه، لكان هذا عطفاً للشي ء على نفسه.

ص: 112

فإن قيل: إنه خص هذا المرض بالذكر؛ لأنّ له حكماً خاصاً، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية إن منعتم بمرض تحللتم بدم، وإن تأذى رأسكم بمرض حلقتم وكفرتم.

قلنا: هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض، إلّا أنه مع ذلك يلزم عطف الشي ء على نفسه، أما إذا لم يكن المحصر مفسراً بالمريض، لم يلزم عطف الشي ء على نفسه، فكان حمل المحصر على غير المريض يوجب خلو الكلام عن هذا الاستدلال، فكان ذلك أولى.

الحجة السادسة: قال تعالى في آخر الآية: فَإِذَا أمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالْعُمْرَةِ إلَى لْحَجّ ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو لا في المرض، فإنه يقال في المرض: شفي وعفي ولا يقال أمن.

فإن قيل: لا نسلم أنّ لفظ الأمن لا يستعمل إلّا في الخوف، فإنه يقال: أمن المريض من الهلاك وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها؛ قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيد فإنه لا يفيد إلا الأمن من العدو، وقوله خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها؛ قلنا: بل يوجب لأن قوله: فَإِذَا أمِنتُمْ ليس فيه بيان أنه حصل الأمن مماذا، فلا بد وأن يكون المراد حصول الأمن من شي ء تقدم ذكره، والذي تقدم ذكره هو الإحصار، فصار التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار، ولما ثبت أنّ لفظ الأمن لا يطلق إلّا في حق العدو، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار منع العدو.

وخلص الرازي من مناقشته القيمة هذه إلى قوله: فثبت بهذه الدلائل أنّ الإحصار المذكور في الآية هو منع العدو فقط، أما قول من قال: إنه منع المرض صاحبه خاصة فهو باطل بهذه الدلائل، وفيه دليل آخر، وهو أنّ المفسرين أجمعوا على أنّ سبب نزول هذه الآية أنّ الكفار أحصروا النبي (ص) بالحديبية، والناس وإن اختلفوا في أنّ الآية النازلة في سبب هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلّا أنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه، فلو كان الإحصار اسماً لمنع المرض، لكان سبب نزول الآية خارجاً عنها، وذلك باطل بالإجماع، فثبت بما ذكرنا أنّ الإحصار في هذه الآية عبارة عن منع العدو، وإذا ثبت هذا فنقول: لا يمكن قياس منع المرض عليه، وبيانه من وجهين:

ص: 113

الأول: أنّ كلمة إن، شرط عند أهل اللغة، وحكم الشرط انتفاء المشروط عن انتفائه ظاهراً، فهذا يقتضي أن لا يثبت الحكم إلّا في الإحصار الذي دلت الآية عليه، فلو أثبتا هذا الحكم في غيره قياساً كان ذلك نسخاً للنص بالقياس، وهو غير جائز.

الوجه الثاني: أنّ الإحرام شرع لازم لا يحتمل النسخ قصداً، ألا ترى أنه إذا جامع امرأته حتى فسد حجه لم يخرج من إحرامه، وكذلك لو فاته الحج حتى لزمه القضاء والمرض ليس كالعدو، ولأنّ المريض لا يستفيد بتحلله ورجوعه أمناً من مرضه، أما المحصر بالعدو فإنه خائف من القتل إن أقام، فإذا رجع فقد تخلص من خوف القتل.

الشيخ الطبرسي: فَإنْ احْصِرْتُمْ فيه قولان: أحدهما: أنّ معناه منعكم خوف أو عدو أو مرض فامتنعتم لذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وعطا وهو المروي عن أئمتنا.

الثاني: معناه إنّ منعكم حابس قاهر عن مالك.

ويقول عن الآية: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. (1) أي لأجل أنهم صدوكم يعني النبي (ص) وأصحابه عام الحديبية.

ثم ذكر سبحانه سبب منعه رسول الله (ص) ذلك العام دخول مكة فقال: هُمُ الَّذيِنَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. (2) أن تطوفوا وتحلوا من عمرتكم يعني قريشاً، أي وصدوا الهدي وهي البدن التي ساقها رسول الله (ص).

السيد العلامة في الميزان: ... الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام. (3) يقول الأردبيلي في زبدة الأحكام: الحصر والإحصار هو المنع كالصد والإصداد؛ وبعد أن ينقل ما ذكره بعض علماء اللغة يقول: فقد علم أنه في الأصل المنع عن الشي ء مطلقاً سواء كان المانع المرض


1- سورة المائدة: 2
2- سورة الفتح: 25.
3- مجمع البيان، للطبرسي الآيات 196 البقرة و 2 المائدة و 25 الفتح، مع تفصيل لصلح الحديبية؛ الميزان في تفسير القرآن، للعلامة الطباطبائي؛ القاموس الفقهي، لسعدي أبوجيب.

ص: 114

أو العدو؛ ولكن الظاهر مما قيل في سبب نزوله من أنه نزل في الصد في الحديبية، وقوله: فَإِذَا امِنْتُمْ أنّ المراد به هنا الصد بالعدو؛ وقوله: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يدل على أنه بالمرض، إذ البعث إنما هو في المرض عند أصحابنا، وأما حكم الصد بالعدو عند أصحابنا والشافعي فهو الذبح موضع الصد، ونقل من فعله (ص) ذلك في الحديبية وهي من الحل على ما قالوا؛ ثم يقول الأردبيلي: أما أصحابنا فكأنهم يجعلونه مخصوصاً بالمرض، وما يسلمون سبب النزول ويجعلون امِنْتُمْ بمعنى أمنتم من المرض فقط أو العدو أيضاً، وإن لم يكن منع العدو مذكوراً بخصوصه. (1) الإمامية:

بعد هذا، فالإمامية ولأخبارهم الناطقة بذلك أنّ المحصور والمصدود كل منهما غير الآخر- أي بخلاف ما عليه فقهاء المذاهب الأخرى من أنّ الحصر والصد واحد، وهما من جهة العدو- وأيضاً بينهما فرق في الأحكام. فلا شك أنّ مراد كل من اللفظين هو المنع، إلا أنهم ميزوا بين منع من قبل عدو فهو المصدود، ومنع بسبب آخر غير العدو كالمرض فهو المحصور.

فالمصدود: هو من تلبس بالإحرام لحج أو لعمرة، فمنعه عدو أو نحوه عن دخول مكة إن كان معتمراً، أو منعه عن الموقفين (موقف عرفات وموقف المزدلفة) أو عن أحدهما مع فوات الآخر إن كان حاجاً شريطة أن لا يكون له طريق إلا موضع الصد، أو له طريق إلا أن نفقته قصرت به عن بلوغه.

والمحصر: هو الممنوع بالمرض ونحوه عن الوصول إلى مكة إن كان معتمراً أو عن الموقفين إن كان حاجاً.

ولا فرق بين أن يكون المحصور أو المصدود أمة من الناس أو كان شخصاً واحداً في صدق العنوان وفي الأحكام.


1- زبدة البيان، للأردبيلي، السورة والآية.

ص: 115

وهذا التفريق بين اللفظين ترتبت عليه أحكام وافرة لكل منهما تكفلت بها الكتب الفقهية.

وفي الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني المتوفى سنة 1186 ه- وهو من كبار علماء الإمامية وبعد نقله لما ورد عن بعض علماء اللغة وأقوال بعض الفقهاء، وبعد أن يقرر التالي: والذي يظهر مما قدمنا من كلامهم اتحاد الحصر والصد، وأنهما بمعنى المنع من عدو كان أو مرض؛ وهذا هو الذي عليه عامة فقهاء الجمهور. (1) يقول: إنّ المراد من الحصر في الآية الشريفة إنما هو المعنى اللغوي الذي قدمنا نقله عن جملة أهل اللغة الشامل للحصر والصد، وهو عبارة عن مطلق المنع بعدو كان أو مرض أو نحوهما؛ والفرق بين المصدود والمحصر انما هو عرف خاص عندهم صلوات الله عليهم، كما نطقت به أخبارهم ...؛ ويعضد ما ذكرناه من معنى الآية ما صرح به أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان ...، ولكن الشهيد الثاني في المسالك يقول: اختصاص الحصر بالمرض هو الذي استقر عليه رأي أصحابنا ووردت به نصوصهم وهو مطابق للغة، قال في الصحاح: أحصر الرجل على ما لم يسم فاعله، قال ابن السكيت: أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها؛ قال الله تعالى: فَإِنْ احْصِرْتُمْ ثم قال: وقد حصره العدو يحصرونه إذا ضيقوا عليه وأحاطوا به وحاصروه محاصرةً وحصاراً. (2) وأما عند الامامية- والكلام لصاحب الحدائق- وهو الذي دلت عليه أخبارهم فهو أن اللفظين متغايران، وإنّ الحصر هو المنع من تتمة أفعال الحج أو العمرة بالمرض، والصد هو المنع بالعدو.

العلامة في المنتهى: الحصر عندنا هو المنع من تتمة أفعال الحج بالمرض خاصة، والصد بالعدو، ويفترقان أيضاً في أنّ المصدود يحل له بالمحلل جميع ما حرمه الأحرام حتى النساء، دون المحصور فإنه يحل له ما عدا النساء، وفى مكان الذبح، فالمصدود يذبحه في محل الصد،


1- الحدائق الناضرة 3: 16.
2- المصدر السابق، المقصد الخامس في الإحصار والصد.

ص: 116

والمحصور يبعث به إلى مكة فيذبح بها إن كان الصد في العمرة، أو إلى منى إن كان في الحج؛ انتهى ما حكاه صاحب الحدائق عن العلامة.

وأذكّر هنا بمن ذهب من أهل السنة إلى أنّ الإحصار بالمرض، فالرازي حيث ذكر اتفاقهم على أنّ لفظ الحصر مخصوص بمنع العدو إذا منعه عن مراده وضيق عليه؛ أما لفظ الإحصار فقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال، وكان أولها اختيار أبي عبيدة وابن السكيت والزجاج وابن قتيبة وأكثر أهل اللغة أنه مختص بالمرض، قال ابن السكيت: يقال أحصره المرض إذا منعه من السفر وقال ثعلب في فصيح الكلام: أحصر بالمرض وحصر بالعدو.

والكسائي وأبي معاذ أنهما فرقا بين الإحصار فجعلوه من المرض، والحصر الذي جعلوه من العدو، فعلى هذا كانت الآية خاصةً في الممنوع من المرض؛ كما جاء في الفقه الاستدلالي للزحيلي 288: 3.

كما أنّ سيد قطب في تفسيره يرجح صحة تفسير الإحصار بالمرض حيث يقول: ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر- وهذا متفق عليه- أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة- واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته-.

والقرطبي: فالأكثر من أهل اللغة على أن «حُصر» في العدوّ، و «أحصر» في المرض؛ وصاحب القاموس الفقهي نسب القول بأنّ الإحصار إنما يكون بالمرض إلى المشهور.

الروايات:

ومن الأخبار الدالة على تغايرهما ما رواه صاحب كتاب الوسائل في أبواب الاحصار والصد- باب أنّ المصدود بالعدو تحل له النساء بعد التحلل، والمحصور بالمرض لا تحل له النساء حتى يطوف طواف النساء أو يستنيب فيه، وجملة من أحكام الاحصار والصد:

ص: 117

عن معاوية بن عمار، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «المحصور غير المصدود، وقال: المحصور هو المريض، والمصدود هو الذي رده المشركون، كما ردوا رسول الله (ص) ليس من مرض؛ والمصدود تحل له النساء، والمحصر لا تحل له النساء».

ص: 118

ثم قال: «والمحصور والمضطر يذبحان بدنتيهما في المكان الذي يضطران فيه، وقد فعل رسول الله (ص) ذلك يوم الحديبية حين رد المشركون بدنته وأبوا أن تبلغ المنحر، فأمر بها فنحرت مكانه».

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن (ع) قلت: أخبرني عن المحصور والمصدود هما سواء؟ فقال: «لا». قلت: فأخبرني عن النبي (ص) حين صده المشركون، قضى عمرته؟ قال: «لا ولكنه اعتمر بعد ذلك».

وما رواه معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن رجل أحصر فبعث بالهدي. قال: «يواعد أصحابه ميعاداً، إن كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر، فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه، ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي المناسك، وإن كان في عمرة فلينظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصر وأحل. وإن كان مرض في الطريق بعد ما أحرم فأراد الرجوع رجع إلى أهله ونحر بدنة، أو أقام مكانه حتى يبرأ إذا كان في عمرة، وإذا برئ، فعليه العمرة واجبة، وإن كان عليه الحج رجع أو أقام ففاته الحج، فإن عليه الحج من قابل، فإن الحسين بن علي صلوات الله عليهما خرج معتمراً فمرض في الطريق، فبلغ علياً (ع) ذلك وهو في المدينة فخرج في طلبه، فأدركه بالسقيا وهو مريض بها، فقال: يا بني ما تشتكي؟ فقال: اشتكي رأسي؛ فدعا علي (ع) ببدنة فنحرها، وحلق رأسه، ورده إلى المدينة، فلما برئ من وجعه اعتمر». قلت: أرايت حين برأ من وجعه قبل أن يخرج إلى العمرة حلت له النساء؟ قال: «لا تحل له النساء حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة»، قلت: فما بال رسول الله (ص) حين رجع من الحديبية حلت له النساء ولم يطف بالبيت؟ قال: «ليسا سواء، كان النبي (ص) مصدوداً والحسين (ع) محصوراً». (1)


1- الوسائل الباب 1 من الإحصار والصد، ح 2، 3، 4، 5. و الباب 8 من الإحصار والصد؛ التهذيب 423: 5 و 464.

ص: 119

إذن فعند الإمامية أنّ الإحصار يختص بالمرض، والصد بالعدو وما ماثله؛ لاشتراك الجميع في المنع من بلوغ المراد؛ ولما كان لكل منهما حكم ليس للآخر اختص باسم، فإن حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه مع أصحابه ويواعدهم يوماً لذبحه فيتحلل في ذلك اليوم من كل شي ء إلا من النساء حتى يحج في القابل إن كان حجه واجباً، أو يطاف عنه إن كان حجه ندباً؛ والممنوع بالعدو يذبح هديه حينئذ، ويحل من كل شي ء حتى النساء.

بم يتحقق الصد أو الحصر؟

في كنز العرفان: يتحقق الصد عند الإمامية بالمنع عن الموقفين معاً لا عن أحدهما مع حصول الآخر.

في زبدة البيان: معلوم تحققه بالمنع عن الموقفين معاً في الحج، والظاهر عدم التحقق بالمنع عن أحدهما فقط، مثل إن حصر عن عرفة فحصل له وقوف المشعر، أو وقف بها ثم حصر عنه، ويدل عليه ما ورد في الصد في صحيحة فضل بن يونس الثقة قال: سألت أبا الحسن الأول (ع) عن رجل عرض له سلطان فأخذه ظالماً له يوم عرفة قبل أن يعرف- بتشديد الراء المكسورة- فبعث به إلى مكة فحبسه، فلما كان يوم النحر خلى سبيله، كيف يصنع؟ قال: «يلحق فيقف بجمع، ثم ينصرف إلى منى، فيرمي ويحلق ويذبح ولا شي ء عليه». قلت: فإن خلى عنه يوم الثاني كيف يصنع؟ قال: «هذا مصدود عن الحج، فإن كان دخل مكة متمتعاً بالعمرة إلى الحج، فليطف بالبيت أسبوعاً ويسعى أسبوعاً ويحلق رأسه ويذبح شاة. وإن كان دخل مكة مفرداً، فليس عليه ذبح ولا حلق». وفي الكافي: «ولاشي ء عليه».

يقول المحقق الأردبيلي: وهذه وإن كانت في الصد، ولكن الظاهر عدم الفرق بينهما في ذلك ...؛ وفي هذا الخبر فوائد استنتجها المحقق، ألخص بعضاً منها بالتالي:

عدم تحقق الصد إذا كان محبوساً بالحق وذلك يفهم من قوله ظالماً.

إدراك الحج بإدراك المشعر اضطرارياً كان أو اختيارياً.

ص: 120

عدم تحقق الصد بالمنع من عرفة فقط مع تيسر المشعر.

تحقق الصد إذا أخرج من الحبس بعد فوت المشعر.

أنه لو كان بعد التعريف أيضاً لم يكن مصدوداً لقوله: قبل أن يعرف.

وجوب الذبح والحلق مع العمرة.

عدم وجوب كفارة بفوت منسك بغير الاختيار.

ثم يقول: فلا يتحقق الحصر في الحج إلّا عن الموقفين أو عن أحدهما مع فوات الآخر به.

وعن العمرة لايتحقق الحصر إلّا عن الطواف. وأما الصد فلاشك في تحققه أيضاً عما يتحقق عنه الحصر. (1) وعند باقي المذاهب: الإحصار هو المنع ولكن شرعاً:

عند الحنفية: منع المحرم عن أداء الركنين (الوقوف والطواف)، ويتحقق بعدو أو بمرض أو ضياع نفقة أو حبس أو كسر أو عرج وغيرها من الموانع التي تمنع المحرم من إتمام ما أحرم به حقيقةً أو شرعاً؛ ومن أحصر بمكة وهو ممنوع من الركنين: الوقوف والطواف، كان محصراً؛ لأنه تعذر عليه الإتمام، فصار كما إذا أحصر في الحل؛ وإن قدر على أحد الركنين فليس بمحصر؛ لأنه إن قدر على الطواف تحلل به، وإن قدر على الوقوف فقد تم حجه، فليس بمحصر.

واستدلوا على عموم أسباب الإحصار بعموم قوله تعالى: فَإِنْ احْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ والمنع كما يكون من العدو يكون من المرض وغيره، والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب؛ إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب.

وعن الكسائي وأبي معاذ أنّ الإحصار من المرض، والحصر من العدو، فعلى هذا كانت الآية خاصةً في الممنوع من المرض.

وعند الجمهور: منع المحرم من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة؛ والمنع الذي يعد به المحرم محصراً عندهم هو ما يكون بعدو، ودليلهم:


1- كنزالعرفان، للسيوري؛ زبدة البيان، للأردبيلي.

ص: 121

- أنّ آية ألإحصار نزلت في أصحاب رسول الله (ص) حين أحصروا من العدو.

- وإنّ آخر الآية: فَإِذَا أمِنْتُمْ والأمان من العدو يكون.

- ورواية ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: لا حصر إلا من عدو. (1)* التحلل- بالذبح: فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْيِ

هناك إحصار للمؤمنين وهناك صد عن مكة وعن المسجد الحرام وعن أركان الحج والعمرة، فلم تتركهم الشريعة دون علاج، بعد أن تحملوا عناء الطريق ووعثاء السفر؛ شدته ومشقته، وما يتضمنه منسك الإحرام الذي تلبسوا فيه من واجبات عليهم أداؤها وتروك عليهم اجتنابها؛ لا لشي ء إلا ليؤدوا حجةً لله تعالى وعمرةً، فإذا بمرض ينتابهم أو يصيب بعضهم، أو عدو يحاصرهم أو يصدهم عن تحقيق ما يأملونه وما يبتغونه من مناسك لعبادتين كبيرتين مباركتين. فجاءت الآية الكريمة لتنقذهم من موقف كهذا بما سهل عليهم وبما توفر لديهم من هدي وبه يتم خروجهم من حالة الإحرام التي هم فيها، فجاز لهم ما كانوا ممنوعين منه على تفصيل فقهي.

الفاء رابطة لجواب الشرط، وما: اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف، أي فعليكم ما استيسر، والجملة جزم جواب شرط. واستيسر: فعل ماض.

وفي مجمع البيان: موضع ما رفع كأنه قال فعليه ما استيسر، ويجوز أن يكون موضعه نصباً، وتقديره فاهدوا ما استيسر، والرفع أولى لكثرة نظائره كقوله: فدية من صيام ...؛ فعدة من أيام ...؛ فصيام ثلاثة أيام في الحج.

فهناك وجهان فى إعراب الآية، أحدهما: أنّ «ما» في مَا اسْتَيْسَرَ مبتدأ، وخبرها محذوف بتقدير (عليكم) فتكون الجملة: (فعليكم ما استيسر من الهدي) والثانى: أنّ «ما» مفعول لفعل مقدّر تقديره: (فاهدوا ما استيسر من الهدي).


1- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي 286: 3 بإيجاز بسيط.

ص: 122

وفي التحرير والتنوير: فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام، فلا بد من تقدير دل عليه قوله: مِنَ الْهَدْيِ وقدره في «الكشاف» فعليكم، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي، ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.

وفي الدر المصون: مِنْ تبعيضية محلها النصب على الحال من الضمير المستتر في استيسر العائد على ما، أي حال كونه بعض الهدي.

مِنْ: بيانية لبيان الجنس فتتعلق بمحذوف أيضاً.

الهدي: جمع هدية، مصدر وقع موقع المفعول أي المهدى؛ فيقع للإفراد والجمع.

وفي مجمع البيان: وفي أصل الهدي قولان:

أحدهما أنه من الهدية يقال: أهديت الهدية إهداءً وأهديت الهدي إلى بيت الله إهداءً، فعلى هذا إنما يكون هدياً لأجل التقرب به إلى الله، والآخر أنه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد، فسمي هدياً؛ لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد.

والهدي هنا كما هو معروف: يطلق على الحيوان الذي يسوقه الحاج أو المعتمر هدية لأهل الحرم؛ ولهذا كانت تأخذ شيئاً من اهتمامهم وتقديرهم فكانوا يقسمون بها في أيامهم؛ قال العلاء بن حذيفة الغنوي:

يقولون من هذا الغريب بأرضنا أما و الهدايا إنني لغريب

وقال آخر:

حَلفْتُ بربّ مكة والمُصَلَّى وأعناقِ الهَدِيِّ مُقَلَّداتِ

الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره؛ يقال: أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد، والتخفيف، وقيل: التشديد لغة تميم، ومنه قول زهير:

فلم أر معشراً أسروا هديّاً و لم أر جار بيت يستباء

وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نِعم أو غير ذلك يسمى هدياً، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم.

ص: 123

يقال: تيسر، يسر الأمر واستيسر؛ فمااستيسر من تيسّر يقال: تيسر، يسر الأمر واستيسر؛ المراد جميع وجوه التيسر كما يذهب إليه ابن عاشور.

الشعراوي: تعني أيضاً إن كان الحصول على الهدى سهلًا، سواء لسهولة دفع ثمنه، أو لسهولة شرائه، فقد توجد الأثمان ولا يوجد المُثمَّن.

والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج، فإن كان اسماً فمن بيانية، وإن كان جمعاً فمن تبعيضية، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه.

وهنا نجد إلتفاتة جميلة من ابن عاشور: والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.

في تفسير الأمثل: ثمّ إنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك، فتقول: فَإِنْ احْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه؛ وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالاستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم؛ الشعراوي:" الهدي" هو ما يُهدى للحرم، أو ما يهدي الإنسان إلى طريق الرشاد، والمعنى مأخوذ من الهُدى، وهو الغاية الموصلة للمطلوب.

سيد قطب: ويستدرك من هذا الأمر العام بإتمام الحج والعمرة حالة الإحصار من عدو يمنع الحاج والمعتمر من إكمال الشعائر- وهذا متفق عليه- أو من مرض ونحوه يمنع من إتمام أعمال الحج والعمرة؛ واختلفوا في تفسير الإحصار بالمرض والراجح صحته، وفي هذه الحالة ينحر الحاج أو المعتمر ما تيسر له من الهدي ويحل من إحرامه في

ص: 124

موضعه الذي بلغه. ولو كان لم يصل بعد إلى المسجد الحرام ولم يفعل من شعائر الحج والعمرة إلا الإحرام عند الميقات (وهو المكان الذي يهل منه الحاج أو المعتمر بالحج أو العمرة أو بهما معاً، ويترك لبس المخيط من الثياب، ويحرم عليه حلق شعره أو تقصيره أو قص أظافره كما يحرم عليه صيد البر وأكله ...) وهذا ما حدث في الحديبية عندما حال المشركون بين النبي (ص) ومن معه من المسلمين دون الوصول إلى المسجد الحرام، سنة ست من الهجرة؛ ثم عقدوا معه صلح الحديبية، على أن يعتمر في العام القادم؛ فقد ورد أنّ هذه الآية نزلت؛ وأن رسول الله (ص) أمر المسلمين الذين معه أن ينحروا في الموضع الذي بلغوا إليه ويحلوا من إحرامهم فتلبثوا في تنفيذ الأمر، وشق على نفوسهم أن يحلوا قبل أن يبلغ الهدي محله- أي مكانه الذي ينحر فيه عادة- حتى نحر النبي (ص) هديه أمامهم وأحل من إحرامه .. ففعلوا.

وأما عن حكمة هذا الاستدراك فيقول سيد قطب: والحكمة من هذا الاستدراك في حالة الإحصار بالعدو كما وقع في عام الحديبية، أو الإحصار بالمرض، هي التيسير، فالغرض الأول من الشعائر هو استجاشة مشاعر التقوى والقرب من الله، والقيام بالطاعات المفروضة؛ فإذا تم هذا، ثم وقف العدو أو المرض أو ما يشبهه في الطريق فلا يحرم الحاج أو المعتمر أجر حجته أو عمرته، ويعتبر كأنه قد أتم، فينحر ما معه من الهدى ويحل؛ وهذا التيسير هو الذي يتفق مع روح الإسلام وغاية الشعائر وهدف العبادة. (1) أيسر الهدي:

إذن فعليكم ما سهل من الهدي أو فاهدوا ما تيسر من الهدي إذا أردتم الإحلال، ولكن ما هو أيسر الهدي؟

في الكافي عن الإمام الصادق (ع) في قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ شاة.


1- مجمع البيان في تفسير القران؛ والدر المصون للسمين الحلبي؛ والتحرير والتنوير لابن عاشور؛ تفسير البحر المحيط، أبو حيان؛ وتفسير الأمثل، للشيخ مكارم الشيرازي؛ وتفسير الشعراوي؛ في ظلال القرآن.

ص: 125

الطبرسي: والهدي يكون على ثلاثة أنواع: جزور أو بقرة أو شاة؛ وأيسرها شاة وهو المروي عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وروي عن ابن عمر وعائشة أنه ما كان من الإبل والبقر دون غيرهما والأول هو الصحيح.

القرطبي: «مَا سْتَيْسَرَ» عند جمهور أهل العلم شاة؛ وقال بن عمر وعائشة وبن الزبير: «ما ستيسر» جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة لا يكون من غيرهما؛ وقال الحسن: أعلى الهَدْي بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة؛ وعند الرازي: قال علي وابن عباس والحسن وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.

سيد قطب: أي ما تيسر، والهدي من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم والمعز، ويجوز أن يشترك عدد من الحجاج في بدنة أي ناقة أو بقرة، كما اشترك كل سبعة في بدنة في عمرة الحديبية، فيكون هذا هو ما استيسر؛ ويجوز أن يهدي الواحد واحدة من الضأن أو المعز فتجزى ء.

ابن عاشور: وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا.

الشيخ مكارم: ونعلم أيضاً أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيراً أو بقرة أو خروفاً، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنةً، ولهذا كانت جملة (فما استيسر من الهدي) تشير غالباً إلى الغنم. (1)


1- مجمع البيان؛ وجامع الأحكام؛ والتفسير الكبير؛ وفي ظلال القرآن؛ والأمثل.

ص: 126

التحلل- بالحلق: وَلَا تَحْلِقُواْ رُؤوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ لْهَدْيُ مَحِلَّهُ

وَلَا تَحْلِقُواْ: أي لا تزيلوا شعور رؤوسكم؛ واختلف المفسرون والفقهاء في أنّ هذا الحكم في الآية حكم يشمل جميع الحجاج والمعتمرين أو أنه خاص بمن حوصر أو صد عن إتمام باقي مناسك هاتين الشعيرتين المباركتين؛ الحج والعمرة، أو أنه يشمل الحالتين معاً:

الفريق الأول: ذهب إلى أنه حكم عام يشمل جميع الحجاج والمعتمرين من غير المحصورين والمصدودين.

ابن كثير: وبعطفه آية: وَلَا تَحْلِقُواْ على آية: وَأتِمُّواْ كما يأتينا يشمل غير من تعرضوا للإحصار.

سيد قطب: يذهب إلى أنّ هذا الحكم حكم عام من أحكام الحج والعمرة، ثم يقول عن حكم هذه الآية: وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار.

الفريق الثاني: حكم عام يشمل الحجاج والمعتمرين بما فيهم المحصورون والمصدودون.

مكارم الشيرازي: ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة، يشمل المحصور وغير المحصور.

القرطبي: ذكر أنّ الخطاب لجميع الأمة: مُحْصَر ومُخَلًّى.

الفريق الثالث: ذهب إلى أنه حكم خاص بالمحصورين والمصدودين، فهو استدراك من الحكم الوارد بالآية السابقة: فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْيِ.

القرطبي: ومن العلماء من يراها للمحصَرين خاصّةً.

فهذه الآية تنشي ء حكم التحلل من الإحرام، والتحلل: من حل الشي ء حلالًا صار مباحاً فهو حل وحلال، وحل المحرم وأحل: خرج من إحرامه، وجاز له ما كان ممنوعاً منه. (1)


1- القاموس الفقهي لسعدي أبو جيب؛ الجامع لأحكام القرآن.

ص: 127

مَحِلَّهُ: وقع كلام بين الأعلام في هذه المفردة:

القاموس الفقهي: محله، بلغ الهدي الموضع الذي يحل فيه نحره.

القرطبي: أي لا تتحلّلوا من الإحرام حتى يُنْحَر الهَدْي، والمَحِلُّ، الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه.

السمين الحلبي: يجوز أن يكون مَحِلَّهُ ظرف مكان أو زمان، ولم يقرأ إلّا بكسر الحاء فيما علمت إلّا أنه يجوز لغةً فتح حائه إذا كان مكاناً. وفرق الكسائي بينهما فقال: المكسور هو الإحلال من الإحرام، والمفتوح هو مكان الحلول من الإحصار.

ومن حيث كونه مكاناً اختلف فيه على قولين:

مجمع البيان: أنه الحرم فإذا ذبح به في يوم النحر أحل عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وعطا.

أنه الموضع الذي يصد فيه؛ لأن النبي (ص) نحر هديه بالحديبية وأمرأصحابه أن يفعلوا مثل ذلك وليست الحديبية من الحرم عن مالك.

وأما على مذهبنا والكلام ما زال للطبرسي: فالأول حكم المحصر بالمرض، والثاني حكم المحصور بالعدو.

وإن كان الإحرام بالحج فمحله منى يوم النحر، وإن كان الإحرام بالعمرة فمحله مكة.

وأما مَحِلَّهُ عند غيرهم، فهم على قولين:

الأول: عند مالك والشافعي، أينما وقع الإحصار، فهو موضع الحصر، ودليلهم: الاقتداء برسول الله (ص) زمن الحديبية؛ وقوله تعالى: وَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ قيل: محبوساً إذا كان محصَراً ممنوعاً من الوصول إلى البيت العَتِيق.

الثاني: عند أبي حنيفة، مَحِلّ الهَدْي في الإحصار: الحَرَم؛ لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلىَ لْبَيْتِ لْعَتِيقِ. (1) وحتجُّوا من السُّنة بحديث ناجية بن جُندب صاحب النبيّ (ص) أنه قال للنبيّ (ص): ابعث معي الهَدْيَ فأنحره بالحرم؛ قال: «فكيف تصنع


1- سورة الحج: 33.

ص: 128

به» قال: أخرجه في الأوْدية لا يقدرون عليه، فانطلق به حتى أنحره في الحرم.

وأجيب عن الآية بأنّ المخاطَب الآمنُ الذي يجد الوصول إلى البيت، فأمّا المُحْصَر فخارج من الآية بدليل نحر النبيّ (ص) وأصحابه هَدْيَهم بالحديبية وليست من الحَرَم.

وأما استدلالهم بحديث ناجية، فجوابه بأنّ هذا لا يصح، وإنما يُنحر حيث حلّ؛ قتداءً بفعله (ص) بالحديبية؛ وهو الصحيح الذي رواه الأئمة، ولأن الهَدْيَ تابع للمُهْدِي، والمهدِي حلّ بموضعه؛ فالمُهْدَى أيضاً يحل معه. (1) هذان الحكمان على القول بأنّ هذا الحكم خاص بالمحصورين، وأما على القول الآخر أنه حكم لا يشمل المحصورين بل هو لغيرهم من عموم الحجاج وهم الذين أمروا بالإتمام ولم يتعرضوا للإحصار أو الصد، فهذا ابن كثير في تفسيره يذكر أنّ قوله: وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ لْهَدْىُ مَحِلَّهُ معطوف على قوله: وَأتِمُّواْ لْحَجَّ وَلْعُمْرَةَ لِلَّهِ وليس معطوفاً على قوله: فَإِنْ احْصِرْتُمْ فَمَا سْتَيْسَرَ مِنَ لْهَدْىِ كما زعمه ابن جرير؛ لأنّ النبي (ص) وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق حَتَّى يَبْلُغَ لْهَدْىُ مَحِلَّهُ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً، أو من فعل أحدهما إن كان منفرداً أو متمتعاً؛ كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة، ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر». انتهى.

وبالتالي تكون منى مكان الذبح كما صرح به سيد قطب: فلا يجوز حلق الرؤوس إلّا بعد أن يبلغ الهدي محله، وهو مكان نحره، بعد الوقوف بعرفة، والإفاضة منها؛ والنحر يكون في منى في اليوم العاشر من ذي الحجة، وعندئذ يحل المحرم؛ أما قبل بلوغ الهدي محله فلا حلق ولا تقصير ولا إحلال.


1- الجامع لأحكام القرآن، بتصرف.

ص: 129

وأذكّر هنا أنه يرى الآية أوحكمها للذين لم يمنعهم الإحصار وهو واضح من كلامه: ( (وهذا في حالة الإتمام وعدم وجود الإحصار)). (1) وهذا هو حكم الآمنين المطالبين بالإتمام دون عائق يمنعهم من إحصار أو صد.

وللمقالة صلة.


1- تفسير ابن كثير؛ في ظلال القرآن: الآية.

ص: 130

الحج في الأدب العربي

الشيخ حسن طراد

الحج للأجيال أفضل معهد تجني به عفو الإله السرمدي

وتسير في درب التقى بتضامن وتعارف وتعاطف وتودّد

إحرامه نزعٌ لثوب مطامع و طوافه إجلال ربّ أوحد

وصَلاتُه صِلةُ القلوب بخالق باري الوجود ونبع عيشٍ أرغد

ص: 131

والسعيُ سعي للفضيلة والعلى وقضاء حاجات الفقير المُجهد

وكذلك التقصير رمز تجرّد من كل خُلْقٍ عن كمالك مُبعدِ

أما الوقوفُ فوقفة لتعارف وتقارب رغم المكان الأبعد

والإزدلاف لمشعر نرنو به لرضا السماء بتضرع وتعبد

والرمي رمي للطغاة بموقفٍ حُرٍ من الجمع الغفير مُوحَّد

والذبحُ ذبحٌ للهوى وتأثرٌ بسخاء إبراهيم بالغض الندي

والحلق زينة مؤمن متمسك بعُرى التقى رغم الزمان الأنكد

أما المبيت لدى مِنى فضيافةٌ محمودةٌ عند الإله الأجود

هي تلك فلسفة المناسك أشرقت وعياً يبدد حيرة المتردد

فالله لايدعو الأنامَ لغير ما يُجدي البرية في القريب و في الغد

وكذاك إن ينهى فعن مُردٍ لنا جسماً وروحاً دون أي تردد

هو عالمٌ بمفاسدٍ ومصالحٍ تعطي السعادة للتقي المهتدي

فمن اتّقى يجني المُنى بتعبدٍ وسواه يغرق في الشقا بتمرد (1)


1- فلسفة الحج في الإسلام: 233.

ص: 132

مقتطفات من كتاب: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة «3»

لمؤلفه الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان

إعداد وتقديم: محمدعلي المقدادي

المقدمة

إنّ من كان له أدنى إلمام بالمعالم الإسلامية، يعلم بأنّ قسماً كبيراً منها يرتبط بالآثار الباقية من رسول الله (ص) وأهل بيته الطيبين (عليهم السلام) والصالحين؛ و لاشك أنّ الأجيال سواء أكانت المؤمنة أم الأخرى التي تريد الاطلاع والدراسة التي لم تكن حاضرةً في تلك العصور لايمكنها التعرّف على هؤلاء القادة السادة إلّا من خلال الاطلاع على آثارهم التي تبين تاريخهم النير، و دورهم الكبير، وعطاءهم المبارك، وتضحياتهم الجسام، حقاً «إنّ آثارهم تدلّ عليهم».

فالآثار خير وسيلة وأنجع طريقة للتعرف على سيرتهم وأخلاقهم، و للتعرف على ما حملوه من قيم ومبادئ، راحت تترك بصماتها على سلوكهم وأخلاقهم، وظلت هذه الآثار تحكي بصدقٍ عظمة جهودهم التي بذلوها في سبيل رسالة السماء، وهداية الناس، و انقاذهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الحياة الإيمانية، غير مكتفين بأنفسهم وأهليهم ومن حولهم في عصرهم، بل حتى للذين يأتون بعدهم بما يتركونه من تراث مقروء، أو مسموع، أو مرئي

ص: 133

يمكن الاستفادة منه؛ في الاقتداء بهم، والسير على نهجهم القيم، المنبثق من كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ص).

فلو علم الإنسان المسلم أنّ رسول الله (ص) الذي وصفه القرآن الكريم بقوله: وإنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظيِمٍ قد تجسد خلقه هذا، و هو يعيش حياةً متواضعةً مشحونةً بالتواد والتراحم، بعيدةً عن الفظاظة والغلظة؛ تتلمسها في دار صغيرة بسيطة اتخذها سكناً، و في مسجد اتخذه مقراً لعبادته وقيادته للأمة والدولة، وهكذا في كل مواقعه ومواقفه ومنازله وعلاقاته.. فسيتّخذ هذا الإنسان المسلم طريقاً صحيحاً مماثلًا لما عليه رسول الله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) والصالحون رضوان الله تعالى عليهملَقَدْ كَانَ لَكُمْ فىِ رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ. .. (1) و يقتدي بهم بسبب ما رأى من آثارهم، و يعيش حتماً مثل ما رأى و عرف من كيفية منازلهم، و بساطة عيشهم؛ و بسبب هذا التعرّف على آثارهم يصير ذلك الإنسان أنموذجاً حياً في عصره، و إن كان عصره بعيداً عنهم بقرون، فضلًا عما يترتب على زيارة هذه المواقع من بركات وأجر وثواب ...

و ليس هذا من منافع التعرّف على آثارهم القيّمة فحسب، بل ستكون هذه الآثار معلماً واضحاً، و داعياً قوياً، للتعرف على المنهج المبارك نفسه الذي ساقته السماء والتزم به الصالحون، فيا حبذا لو كانت دار رسول الله (ص) وآثاره المباركة باقية في عصرنا، لتكون داعية حقيقية إلى الإسلام العزيز الحنيف!!

ولكن يا للمصيبة! فقد ابتلي الإسلام و الأمة الإسلامية بفرقة فاسدة حاقدة، بدأوا بتكفير أبناء الأمة الإسلامية، واتهموهم بالشرك و الإلحاد! و لم يكتفوا بهذه الاتهامات الكاذبة، بل بدأوا بهدم كل ما تعلقت به نفوس المؤمنين من الأماكن الإسلامية، و تخريب الآثار المقدسة التي بقيت من عصر الرسول الأكرم (ص).


1- الأحزاب: 21.

ص: 134

إنّ الذي ارتكبه هؤلاء ضدّ آثار الرسول (ص) و أهل بيته (عليهم السلام)، وتكفير المجتمع المسلم وقتلهم الأبرياء، لايقل بشاعة مما يرتكبه الصهاينة، وهو يلبي ما يأمله أعداء الإسلام ويهدفون إليه من إيجاد الخلافات وإثارة النعرات بين الأمة الواحدة ...

إنّ الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم، قد بذل جهده في هذا الكتاب لإثبات قدسية الأماكن الشريفة والمعالم الأثرية في مكة المكرمة وأهميتها، تلك الآثار التي كانت عامرة منذ قرون و سنين، قبل أن يقوم الوهابيون الجاهلون بهدمها وتخريبها، فحرموا الناس من منافعها وبركاتها .. إنهم لا يسمعون شيئاً ولايعقلون سوى ما يلبي أهدافهم و اعتقادهم الضال!

إنّ ما قام به الدكتور لجهد واسع نافع، مع أنه كان يعيش في ظروف صعبة و خطيرة؛ وليس في هذه المجلة ما يسع كل ما تفضل به الدكتور من مباحث كتابه القيم، فاقتطفنا من ثمار هذه الروضة الجليلة بحوثاً يستفيد منها القراء الكرام؛ وهذا هو القسم الثالث من الكتاب.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبّ ويرضى، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

مقدّمة المؤلف

إنّ الأماكن التاريخية ذاكرة الأمم الحيّة، والشاهد القائم الذي لايكذب، والدليل الناطق الباقي إذا اندثرت الأجيال.

مكة المكرمة مهد الإسلام، ومبعث النور، ومنطلق خاتمة الرسالات، شرفت بولادة المصطفى (ص)، واحتضنت كبار صحابته الكرام على أرضها المباركة، شهدت عرصاتها ومرابعها ملحمة الصراع بين الحق والباطل، وزكت تربتها بالدماء الزكية، دماء الشهداء.

في كلّ شعب منها وزاوية وبقعة أثر خالد، ومنار مضي ء يحكي قصصاً من جهادهم، وأمثلة من كفاحهم، تظل وقائعه حية في نفوس الأجيال المسلمة سماعاً، ومشاهدة، تكتحل بها نواظرهم، و تتردد على أسماعهم مآثرهم، ترسخ بها معاني الإيمان، تتقوى بها

ص: 135

عزائمهم، وتتجدد بها هممهم؛ لنشر العقيدة السليمة، والمبادئ، والقيم الصحيحة، يستنطقون من خلال السيرة والمسيرة والآثار القائمة أمجاد التاريخ الإسلامي في مراحله المبكرة؛ ليبعث حياً في النفوس.

مكة المكرمة قد ضمت العديد الكثير من تلك الأماكن التاريخية المهمة في تاريخ الإسلام، حظيت بعناية المسلمين واهتمامهم منذ العصور الإسلامية المبكرة تأليفاً وتدويناً، توقيعاً، ورواية متواترة، علمياً ومحلياً، فهي سجلّ حافل في صفحات موثقة، يتوارث معرفتها الخلف عن السلف في تسلسل تاريخي منتظم، منذ ظهور الرسالة المحمدية، حتى الوقت الحاضر، حرص السلف الصالح: محدثون، وفقهاء، ومؤرخون، وأدباء منذ القرن الأول الهجري على ترسيم تلك الأماكن، وتوقيعها، وتحديدها تخليداً للحدث، مرتبطاً بمشاهدة المكان، فللمكان إيحاءاته وإشعاعاته، بقيت تراثاً خالداً باقياً عبر الأجيال المتعاقبة في أمانة وصدق، دون أن تمس بسوء.

إنّ هذا البحث يواصل تلك المسيرة التي ابتدأها سلفنا الصالح في صياغة تحليلية جديدة، فهو امتداد لتلك الجهود، خصوصاً وأنّ الكثير منها قد اختفى عن الأنظار؛ لغرض توسعة المسجد الحرام، وإعادة تخطيط المدينة المقدسة، مكة المكرمة بحسب ما جد فيها من طرق، وتزايد عدد السكان، وأعداد الحجاج الذين بلغ إحصاؤهم إلى ما يزيد على المليونين، والمستقبل ينبئ بزيادات مضاعفة في السكان، والحجاج والمعتمرين.

أدى هذا وغيره إلى غياب بعض تلك الأماكن من الوجود، وحتى تظل تلك الشواهد التاريخية التي عاصرت أفضل الخلق، وأعظم أجيال الإسلام محفورة في الذاكرة وحتى لا يصبح تاريخنا وماضينا أسطورة مثل ما حدث لبعض الأمم السابقة يأتي هذا البحث لرصدها، وما طرأ عليها، استمراراً للتسلسل التاريخي لجزء من أهم خصائص المدرسة التاريخية المكية.

ظهرت العناية بهذه الأماكن المأثورة في مكة المكرمة عبر القرون الماضية توثيقاً في مدونات متعددة كثيرة، ومن لدن جهات علمية متنوعة.

ص: 136

في مدونات السيرة النبوية والمدونات التاريخية، والدراسات الفقهية، يسند هذا التدوين العلمي تواتر محلي تتوارثه الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، حرصاً ألا يطويها النسيان، فللمكان إيحاءاته وإشعاعاته الإيمانية، واستذكار الذين أدّوا دوراً مهماً في نشر الإسلام.

بهذا المفهوم التربوي الراقي، البعيد عن الغلوّ والمجافاة، استحوذ هذا الموضوع على اهتمام علماء الإسلام: محدثين، وفقهاء، ومؤرخين من عصر التابعين حتى العصر الحاضر، فقاموا برصد تلك الأماكن التاريخية تحديداً، وتعييناً، وتاريخاً لما حدث عليها من إحداثات، يدعمهم النقل المتواتر بين الأجيال، بالسماع والمشاهدة، جيلًا بعد جيل، في حرص وأمانة علمية شديدة، تجلى هذا الاهتمام في الآتى:

أولًا: مدوّنات السيرة النبوية.

ثانياً: سير الصحابة رضوان الله عليهم.

ثالثاً: المصادر التاريخية العامة، والأخرى المتخصصة في التاريخ المكي.

رابعاً: كتب المناسك ومدوناتها المطولة والمختصرة، فقد أصبح ذكر هذه الأماكن موضوعاً ثابتاً، وباباً مهماً مستقلًا في معظم كتب المناسك تحت عناوين مختلفة، قلّ أن يخلو منها كتاب من تلك الكتب، بل إنّ بعض العلماء أفردها بكتابات مستقلة، ورسائل مفردة زيادة في العناية والاهتمام.

يقتصر العرض لمختارات من المدونات السابقة تفصيلًا إن شاء الله تعالى، توثيقاً صريحاً للتواتر العلمي.

واجب الأمانة العلمية والتاريخية يقضي ذكر العناوين التي يضعها المؤلفون في تقديمها وعرضها، فإنّ لكل عنوان مدلوله عند المؤلف، وسيكون من مهمة البحث تحليل تلك العناوين تحليلًا علمياً متجرداً.

الواجب العلمي يقضي إنصاف كل ذي رأي في هذا الموضوع بأدلته، وبالفهم الذي يفهمه، دون تحيز، أو افتئات، فمن ثم اقتضت الدراسة تقسيم البحث إلي الفصول الآتية ...

أودّ أن أنبه القارئ الكريم إلى أمرين ينبغي أن يكونا في الحسبان:

ص: 137

أولًا: مهمة البحث أصالة هو العرض المتجرد بما يمليه المنهج العلمي، خصوصاً فيما يتصل بالآراء الفقهية، فليس المجال مجال سجال، أو جدال، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلّا صاحب الرسالة سيدنا محمد (ص)، وللقارئ أن يرجح ما يشاء، دون غمط، أو تقليل، أو نبذ للآخرين، فهذا ليس من خلق الإسلام.

ثانياً: جاء الاقتباس من مصادر متعددة متنوعة لقرون مختلفة، فبرغم تكرار أسماء المواضع، لكن يختلف المؤلفون في أسلوب العرض، وذكر معلومات إضافية عن الموضع بما حدث له من عمار، أو خراب له فى عصره، كذلك ليتم الاقتناع بالتواتر العلمي في كل مجموعة من تلك الكتب المنتسبة إلى فنونها على انفرادها، وفق عصور مختلفة، وبجميعها مجتمعة، بالإضافة إلى التواتر المحلي في تعيين هذه الأمكنة، وتحديدها، وتوارث مواقعها جيلًا بعد جيل، يتجلى هذا من وصف بعض الأمكنة في ثنايا كتابات بعض المؤلفين، مثل الحديث عن مكان مولد النبي (ص): «وهو من أصح الآثار عند أهل مكة، يحقق ذلك مشايخهم»، وبهذا يتحقق المعنى الاصطلاحي بين علماء الإسلام لمدلول (التواتر) وهو:

«الخبر الثابت على ألسنة قوم لايتصور تواطؤهم على الكذب». (1) تم العرض على هذا الأسلوب من أجل قطع الشك باليقين، وحتى لايسقط القارئ المتأمل في دائرة الإنكار التي لاتستند إلى دليل، والذي يروج له البعض من دون علم ومعرفة بالمواقع والأنحاء في مكة المكرمة، ولأمر ما يشككون فيما جرى عليه التواتر العلمي والمحلي فيما لاشك فيه منذ القرون الإسلامية الأولى، دون علم أو سند؛ سامحهم الله.

على أنه ينبغي أن يكون القارئ الكريم على وعي تام للفرق بين أمرين مختلفين حكماً:


1- الجرجاني، علي بن محمد الشريف، كتاب التعريفات، الطبعة الأولى: 74، بيروت: لبنان، عام 1969 م، التواتر.

ص: 138

أولًا: المحافظة على هذه الأماكن من يد العابثين، فهي أمانة الماضي، وأمانة تاريخية ينبغي أن تبقى دروساً حية، ناطقة للأجيال القادمة، ينظرون إلى تاريخ الرسالة المحمدية من خلالها.

ثانياً: الممارسات المخالفة للعقيدة الصحيحةيأباها العقل، وترفضها العقيدة الإسلامية الصحيحة، وهذا ما ستتم مناقشته والحديث عنه بشكل تفصيلي. والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبد الوهاب إبراهيم أبوسليمان مكة المكرمة

المبحث الثاني:

الباقي من الأماكن المأثورة المتواترة

في مكة المكرمة في الوقت الحاضر:

تتضمن هذه القائمة عناوين الأماكن المأثورة الباقية حتى عصرنا الحاضر، معروفة في أماكنها، مشهورة بمواقعها، سيكون العرض لها في وصف موجز لوضعها الحاضر:

أولًا مولد النبي (ص) يقع في حي بني هاشم، بالموضع الذي يقال له سوق الليل، وهو مشهور، وهو في الوقت الحاضر مقرّ (مكتبة مكة المكرمة)، يقع في دورين: دور أرضي، ودور علوي، له مدخلان: أمامي يطل على الساحة الشرقية للحرم الشريف، وخلفي في الناحية الجنوبية منه، أصبح البناية الوحيدة الباقية من حيّ سوق الليل بعد إزالة هذا الحي ضمن توسعة ساحات الحرم الشريف من الناحية الشرقية، تقع في واجهته الرئيسة غرباً، الساحة الشرقية للمسجد الحرام التي يطل عليها مشعر المسعى، وفي خلفه من ناحيته الغربية يقع نفقا الغزة النافذين من جبل أبي قبيس في امتداد أنفاق العزيزية، يقودان

ص: 139

إلى شارع الغزة، في طريقين مزدوجين، الأيمن منهما للقادم من محبس الجن بحيّ العزيزية، والآخر للذاهب من الغزة إلى حي أجياد.

الجهة الشمالية من المكتبة (المولد النبوي الشريف) أصبح ساحة كبيرة قد مهدت بعد هدم حي شعب علي [بني هاشم] بأكمله، وسوي جبل أبي قبيس في تلك الناحية، فأضحى فضاءاً واسعاً وأرضاً وطية مسفلتة، خصص جزء منها للدفاع المدني، وبعض المرافق الحكومية، ومكاتب لمشروع الحرم الشريف، ومواقف لسيارات بعض الإدارات الحكومية، واستخدمت أيضاً لمعدات البناء في توسعة المسعى، وما تبقى من الأرض خصص مواقف للمواصلات العامة في يوم الجمعة، والمواسم الدينية: رمضان والحج، وموسم العمرة لنقل قاصدي المسجد الحرام للساكنين شمال مكة المكرمة من خلال نفقي المشاة ذهاباً وإياباً.

يمثل هذا الجزء حي بني هاشم التاريخي، حيث يضمّ أماكن تاريخية مهمة في حياة المسلمين ينفذ نفقا المشاة إلى هذه الساحة، وقد كانا سابقاً طريقاً للسيارات، امتداداً لأنفاق العزيزية إلى مشعر الصفا، وقد شيد داخل جبل أبي قبيس في هذين النفقين (الذاهب والآيب) ميضآت عديدة تخدم القاصدين للمسجد الحرام للتطهر للصلاة، وقد كانت أقرب الميضآت إلى الحرم، حيث الخروج منهما رأساً إلى المسجد الحرام من خلال أبواب المسعى على خطوات منه استبدل بهذين النفقين للسيارات خاصة نفقا الغزة، وقد سدت فوهات الحمامات بالخرسانة الجاهزة، لأسباب أمنية، حيث تقع هذه الميضآت بأسفل جبل أبي قبيس الذي شيدت القصور الملكية فوقه مباشرة.

أصبح موقع المولد النبي الشريف المبارك (مكتبة مكة المكرمة)- وهو بناء قديم متهالك- بارزاً في هذه المنطقة، وقد كسي أسفله بالرخام الملون ضمن تبليط الساحة الشرقية للحرم الشريف.

وحتى العصر الحاضر (عام 1430 ه-) لا يزال المبنى على وضعه القديم منذ إنشاء المكتبة عام 1370 ه.

سبق الكلام على هذا الموقع المبارك لدى الحديث عن عناية الملك عبد العزيز بالأماكن التاريخية في مكة المكرمة، ورأي العلماء في الإبقاء عليه، واستغلاله بطريقة حضارية، وقد خص بتأليف

ص: 140

بعنوان: (مكتبة مكة المكرمة، دراسة موجزة لموقعها وأدواتها ومجموعاتها). (1) ثانياً- مسجد الراية: يقول المؤرخ فضيلة الشيخ محمد طاهر الكردي المكي الخطاط، في تحديد وتعيين هذا المسجد:

«مسجد الراية: هو الواقع بالجودرية على يمين الصاعد من المدّعى إلى المعلّا، وبين المسجد والبيوت التي قبله زقاق ضيق صغير نافذ إلى الطريق العام، وبئر جبير بن مطعم واقعة في هذا الزقاق الضيق، وملتصقة بجدار البيت الذي بجوارها، وهي بئر مهجورة؛ ولقد جدد بناء هذا المسجد في زماننا سنة 1361 ه/ 1942 م، فعند حفر أساسه عثروا على حجرين مكتوبين يدلان على أنّ هذا المسجد هو مسجد الراية، أحدهما مؤرخ سنة 989 ه/ 1581 م، وثانيهما مؤرخ سنة 1000 ه/ 1591 م، وقد رأينا الحجرين حين عمارة المسجد، ولا يزال الحجران مثبتين في جداره.

والبئر المذكورة حفرها في الأول قصي، ثم دثرت فاستخرجها جبير ابن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأحياها، هكذا قاله الأزرقي في تاريخه». (2) قد جددت عمارة المسجد عام 1394 ه-، (3) وهو حالياً يقع وسطاً بين سوق الجودرية وشارع الغزة العام، ويسمى في الوقت الحاضر بمسجد الملك فهد.

قد بني بناية جميلة حديثة يعلو المسجد قبة كبيرة، ومنارة، وضعت الميضآت في أسفل المسجد، وله بابان رئيسان: أحدهما: يطل على شارع الغزة العام، مقابل عمارة الجفالي، مرتفع عن مستوى الشارع العام يصعد إليه بدرج، والآخر في الجهة الشرقية يطل على


1- تأليف عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان، الطبعة الأولى، الرياض، مطبوعات الملك فهد الوطنية، السلسلة الأولى «20» عام 1416 ه/ 1995 م.
2- هامش 1 تعليق على كتاب الإعلام بأعلام بلد الله الحرام: 22.
3- أنظر: المفتي، بهجت صادق، دليل مكة المكرمة الإسلامي، الطبعة الأولى: 83، الرياض: مطابع الفرزدق، عام 1424 ه/ 2003 م.

ص: 141

سوق الجودرية، صممت الميضآة أسفل بناء المسجد وهو من المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة.

وصلت توسعة ساحات الحرم الشريف الشمالية مع نهاية الشهر الثالث من عام 1430 هإلى حدود هذا المسجد الشريف، هدمت جميع البنايات القديمة والحديثة المتقدمة أمامه نحو الحرم المكي الشريف، بما فيها من فنادق ومحلات تجارية، وقد كان هذان السوقان: المدعى والجودرية، من أنشط أسواق مكة التجارية قديماً، وحديثاً، حيث إنّ كل القادمين من سكان مكة المكرمة والحجاج، والمعتمرين في أحياء مكة المكرمة الشمالية يمرون بهذين السوقين لدى توجههم إلى المسجد الحرام، وكانت تعرض فيهما أنواع مختلفة من الضائع: محلات الملابس، والأحذية، والعطارة، وغيرها، وعادة ما يزدحم هذان السوقان بالعابرين خلالهما، وبخاصة يوم الجمعة، والمواسم الدينية، وكانت الجنائز تخترقهما إلى جنة المعلى، غير أنه في السنين الأخيرة، وعندما أصبح نقل الموتى إلى المسجد الحرام بسيارات الإسعاف، فيسهل على المشيعين نقل الموتى من الحرم الشريف إلى جنة المعلاة بنفس وسيلة النقل، فيكون خروج الجنائز من باب الملك عبدالعزيز من خلال نفق الغزة.

بهدم هذين السوقين، وإز التهما تماماً عام 1430 هأزيل من أسواق مكة الشهيرة قديماً، سوقا الجودرية والمدعى، ضمن ما أزيل من أحياء قديمة في مكة المكرمة.

ثالثاً- مسجد الإجابة: لا يزال هذا المسجد موجوداً قائماً في موضعه القديم في بناية حديثة، وكان عند قبلته حجران أثريان دوّن عليهما بعض الكتابات التي تؤرخ لبناء المسجد، وقد نقلا إلى الجدار الخارجي على يمين المدخل الرئيس للمسجد في عمارته الحديثة، وبجوارهما حجر من القاحوط دوّن عليه تاريخ تمام عمارة المسجد الجديدة (يوم الجمعة غرة رمضان عام 1422 ه، الموافق 16 نوفمبر سنة 2001 م)، بني المسجد بناءً حديثاً في عمارة حديثة أنيقة، وتم تكييفه مركزياً، على نفقة معالي الشيخ إبراهيم العنقري رحمه الله تعالى المستشار في الديوان الملكي.

ص: 142

يشرف المسجد على ثلاثة شوارع رئيسة، الواجهة الأمامية تطل على الشارع العام، والشرقية على شارع الإجابة، والغربية على شارع مرتفع.

هدم المسجد القديم عام 1394 هوأقيم موضعه المسجد الحالي، وشيد على طراز حديث.

وهو بناء مربع الشكل تزين جدرانه من أعلى عدد من الشرفات الجصية، وللمسجد بابان: من الجهة الشرقية، والغربية، ونوافذ عديدة، ومنارته في الركن الجنوبي الغربي. (1) رابعاً- مسجد البيعة: لايزال موجوداً في بنائه القديم، قمت مع بعض الزملاء بزيارته يوم كان متوارياً خلف جبل العقبة قبل نسفه فوجدناه مهملًا، نزع بابه، لم يعط الاهتمام اللائق بتاريخه في الإسلام.

وفي زيارة بحثية عام 1421 ه، عثر كل من عبدالوهاب أبوسليمان، ومعراج نواب مرزا، على الحجر الثالث الضائع الذي أشار إليه تقي الدين الفاسي المكي، في الحائط الغربي للمسجد، مغطى بطبقة من الدهان الأبيض. (2) كان هذا المسجد متوارياً من وراء جبل العقبة الضخم الذي يعد الحد الطبيعي لمنى في الناحية الغربية، لم يكن هذا المسجد معروفاً إلّا لمن قرأ عنه وقصده، وكان وضع هذا المسجد واستتاره من وراء ذلك الجبل الضخم في ذلك الشعيب الذي يسمى ب- (شعيب البيعة) محققاً تماماً كما وصفه العلامة الأزرقي وغيره من المؤرخين، اعتبره بعض الصحفيين بعد ظهوره اكتشافاً أثرياً جديداً.

وفي الوقت الحاضر أصبح المسجد ببنائه القديم ظاهراً بارزاً للعيان بعد إزالة جبل العقبة، حيث تمت إزالة الجبل الضخم عام 1428 هبعد عمل شاق متواصل ليل نهار لمدة عامين بآليات حديثة متقدمة، واستعمال الديناميت المفجر للصخر؛ ضمن مشروع تطوير،


1- المفتي، بهجت صادق، دليل مكة المكرمة الإسلامي: 89.
2- نشر هذا الخبر بصحيفة عكاظ، السنة الثانية والأربعون، العدد 12589، الثلاثاء 19 ذوالحجة 1421 ه، الموافق 12 فبراير 2001 م،: 39.

ص: 143

وتحسين الجمرات الأخير، المشروع الضخم الذي سخت عليه الحكومة السعودية بالمال الوافر، بقصد تجنيب الحجاج من الكوارث والإصابات، والمحافظة على أرواحهم ..

حدث كل هذا امتداداً لتطوير الجمرات، وتوسعة الساحات حولها، وقد أوصت اللجنة المشكلة لإعادة النظر في تطوير مشروع الجمرات المنعقدة في 25/ 11/ 1423 هبرئاسة الأمير عبدالمجيد بالفقرة التالية:

- المحافظة على منطقة شعيب البيعة ككل بحيث لايمسها المشروع بتغيير، لأنها توثق لفترة تاريخية إسلامية مهمة.

- معالجة وضع مسجد البيعة ومعاملته ضمن المخطط الشامل مع الأخذ في الاعتبار المحيط الطبيعي لمنطقة شعيب البيعة ومسجده. (1) لايزال المسجد قائماً بعد إزالة جبل العقبة وتطوير مبنى الجمرات، وقد أحيط بأسلاك شائكة محافظة عليه بعد تجديد دهانه، وفي النية إعادة بناء المسجد بناية حديثة حسبما جاء التصريح من سمو الأمير متعب بن عبدالعزيز آل سعود وزير البلديات والأشغال العامة، فعسى أن ينال الاهتمام اللائق به في الوقت الحاضر، وهو جدير بالمحافظة عليه، واسترجاع ذاكرة التاريخ الإسلامي، وما كان يلقاه رسول الله (ص) في الدعوة إلى دين الله، وأخذ البيعة من الأنصار رضوان الله عليهم على حمايته، ومؤازرته إذا حل ببلدهم.

خامساً- مسجد الخيف: لا يزال قائماً تقام فيه الصلوات الخمس أيام موسم الحج بدءاً من شهر ذي الحجة من كل عام، وتقام فيه صلاة عيد الفطر من كل سنة.

يحده من الشرق شارع مخصص للمشاة يتخلل بين مبنى المسجد ومقر وزارة الشؤون الإسلامية، ودورات المياه المخصصة بخدمة رواد المسجد، والمناطق المجاورة، ويتصل بشارع الخيف بدرج إسمنتية.


1- محضر اجتماع اللجنة المشكلة لدراسة مشروع تطوير الجمرات بتاريخ 1/ 12/ 1423 ه.

ص: 144

ومن الغرب شارع يربط شارع الرابطة وشارع الخيف والساحة الموجودة أمام البوابة الرئيسة.

توجد أمام واجهة المسجد القبلية مجموعة من الخيام الحديثة المقاومة للحريق في شكل نصف دائرة تشغلها الجهات الأمنية، والخدمية وغيرها.

مرت عمارة مسجد الخيف بمرحلتين وهي على النحو التالي:

المرحلة الأولى: في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز، وكان من أبرز سماتها أنها احتفظت بالملامح التاريخية للمسجد، مع توسعة من الناحية الشمالية والجنوبية، وإضافة رواق مسقوف بعرض 15 م، و به ثلاثة صفوف من الأعمدة، في كل صف 22 عموداً يطل كل منها على صحن المسجد ... وتقدر مساحته بحوالي 23660 م 2، بطول من الشرق إلى الغرب حوالي 182 م 2، وعرضه من الشمال إلى الجنوب حوالي 131 م. 2

المرحلة الثانية: في عهد الملك خالدبن عبدالعزيز، حيث أزيلت المباني القديمة بالكامل، ووضعت أساسات جديدة لبناء جديد بالكامل ... بلغت مساحة المسجد في هذه العمارة 25000 م. 2

مع هذا التجديد للمسجد محيت في البناء الجديد جميع المعالم التاريخية المأثورة التي توثق لبعض الأماكن الأثرية داخل المسجد، أصبح المسجد مسقفاً بالكامل، ومكيفاً تكييفاً عاماً.

في شوال عام 1427 هرمم المسجد، وأزيل البلاط القديم ليحل محله بلاط جديد فقشع القديم بواسطة تركترات و معدات ثقيلة، وكشف الحفريات عن سراديب داخل أرض المسجد، وقد وقفت على هذا مع الزميلين الدكتور معراج نواب مرزا، والدكتور عبدالله شاووش، وزوج ابنتي المهندس لدى مؤسسة بن لادن عاصم عبدالله تركستاني، ولأن العمال لايدركون أهمية مثل هذه الأمور فقد أشعرنا بهذا المسؤولين بمعهد أبحاث الحج. (1)


1- أنظر: أبو سليمان، عبدالوهاب إبراهيم، ومعراج نواب مرزا، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد التاسع والأربعون، السنة الثالثة عشرة: شوال، ذوالقعدة، ذوالحجة 1421 ه،: 160.

ص: 145

... سادساً- مسجد التنعيم، .. لايزال في مكانه، يؤمه المعتمرون، وقد جدد بناؤه، واتسعت أروقته على نمط حديث.

المسجد حديثاً: أزيل البناء القديم للمسجد، وكانت جداره قائمة دون سقف.

وفي عام 1398 هوضعت الحكومة السعودية مخططاً لإعادة بناء المسجد كأجمل ما تكون المساجد، بطراز معماري فريد، خاصة وأنّ هذا المسجد ذو أهمية خاصة، وما زال حيث أقيم بجوار ميقات أهل مكة؛ وبني المسجد على شكل مستطيل، عبارة عن قسمين منفصلين:

القسم الأول: المسجد ويتكون من أكتاف ثمانية تحمل قبة ضخمة، زينت الأكتاف بزخارف متنوعة، وتحمل الأكتاف رقبة القبة، ويعلوها القبة المرتفعة، يتوسط جدار القبلة المحراب الكبير رواق القبلة بارتفاع أربعين متراً.

القسم الثاني: مئذنتان: في الركن الشمالي الغربي، يقابلها في الطرف الآخر مئذنة أخرى بنفس المواصفات، تنتهي كل مئذنة بجوسق كمثرى الشكل يعلوها هلال.

للمسجد مدخلان ينفذان إلى ساحة مسقوفة بين المسجد والميضأة، ومنها الدخول مباشرة إلى ثلاثة أبواب موصلة إلى قاعة المسجد، خص منها باب لدخول النساء، يلج الداخل منها مباشرة إلى مكان الصلاة مستقبل المحراب، عزل مصلى النساء بالمسجد بفاصل خشبي.

يحوط المسجد من جهات ثلاث ساحات ومواقف للسيارات عدا الجهة القبلية. (1) سابعاً- مسجد الفتح بالقرب من الجموم: بني بناءً حديثاً متواضعاً من أحد المواطنين المحسنين، تصلى فيه الصلوات الخمس، وله إمام راتب.


1- أنظر: المفتي، بهجت صادق، دليل مكة المكرمة الإسلامي،: 72.

ص: 146

ثامناً- مسجد الجن (الحرس): لا يزال موجوداً في مكانه المعروف قديماً بسوق المعلاة، على يمين النازل إلى الحرم الشريف، له ثلاث واجهات رئيسة:

الشرقية تطل على الشارع المتوجه إلى باب مقبرة المعلاة، والغربية على شارع المسجد الحرام، والشمالية على شارع يلتقي فيه طريق المسجد الحرام مع الشارع المؤدي إلى مقبرة المعلاة.

جدد بناؤه في العصر الحديث عام 1421 ه، تخطيطه المعماري يعتمد تفكيراً هندسياً حديثاً، يتجلى هذا في هيكله الخارجي، ومنارته في شكل هندسي غير مألوف، على نمط تجديد المساجد المجاورة في منطقة المعلاة: مسجد الجندراوي، ومسجد عين زبيدة، كسيت جداره الداخلية والخارجية بالرخام الملون النفيس، خصص الدور الأرضي لمصلى الرجال، والدور العلوي الأول للنساء، وجعلت ميضآت المسجد بالبدروم.

تاسعاً- مسجد الجعرانة: لا يزال قائماً، وقد جددت عمارته في العهد السعودي مرات عديدة آخرها عام 1428 ه.

عاشراً- غار حراء: معلم بارز من معالم مكة الشامخة يبدو في شكل هندسي فريد، يراه القادم إلى مكة من كل جوانبها وجهاتها، مكانه معروف مشهور منذ القدم، يصعد إلى أعلاه بدرج قديم منذ العهد العثماني، وقد تهدم معظمها بحكم القدم أحياناً، وقد هيأ الله له من العمال من ينحتون الدرج في الجبل تعويضاً لما تهدم من درجه المبني قديماً، عندما يصل الصاعد إلى قمة الجبل حيث المسجد المزال ينحدر هبوطاً إذا أراد الوصول إلى الغار الذي كان يتحنث فيه النبي (ص) الليالي ذوات العدد، داخله لا يتسع لأكثر من واحد إلّا بضيق شديد، يستطيع الزائر لهذا الغار أن يرى من خلال فجوة أمامية بين الصخرات كالطاق مشاهدة المسجد الحرام دون حجاب قبل بناء العمائر الضخمة، والأبراج العالية التي حجبت الرؤية.

لا يزال هذا الغار ولله الحمد قائماً يصعد إليه الحجاج، والمعتمرون، والأهالي بلهف وشوق برغم الصعوبة والمشقة، ومما يندى له الجبين أن هذا الغار الشريف يمارس عنده الكثير من ما يخالف الشريعة والعقيدة الصحيحة بسبب ترك الحبل على الغارب، دون

ص: 147

مبادرة لتنظيم الوفود من الحجاج والمعتمرين الراغبين في زيارة هذا الموضع الشريف، للذهاب إليه في مجموعات منظمة مع مرشد رسمي، يقص السيرة النبوية، والمراحل التي قضاها رسول الله (ص)، وبالإمكان استخدام الوسائل الحديثة بتسجيل تلك الوقائع، والمعاناة التي تكبدها رسول الله (ص)، دون خرق لقاعدة من قواعد العقيدة الصحيحة، ودون مساس بما يخدشها مما يجري على هذا المكان الطاهر المبارك من ممارسات الجاهلين، والمشعوذين المستغلين في الوقت الحاضر، ودون اتخاذ إجراءات سليمة للاستفادة من هذا الموقع التاريخي في سلامة وأمان.

أصبح ما حول جبل النور حياً كبيراً يسمى (حي جبل النور)، جزء من الحي مخطط تخطيطاً هندسياً حديثاً، والبعض منه عشوائي من دون تخطيط، و بخاصة ما يحيط بالجبل.

اتسع النطاق العمراني حول الجبل بطريقة عشوائية، لا تتلاءم ومكانته التاريخية في الإسلام، والطريق إلى صعوده ضيق غير ممهد، تغلب على الحي من حول الجبل المساكن الشعبية، والشوارع الضيقة، وهي كل يوم في امتداد، الوصول إلى الغار الذي كان يتحنث ويتعبد فيه رسول الله (ص) صعب جداً، حيث تهدمت الدرج الموصلة إلى قمته، وبالرغم من هذا يرتاده المواطنون، والحجاج.

حادي عشر- غار ثور: لا يزال بحمد الله باقياً، يصعد إليه القاصدون من حجاج بيت الله الحرام ليشاهدوا المكان الذي اختفى فيه رسول الله (ص)، وصاحبه أبوبكر، عند هجرته (ص) إلى المدينة المنورة، بالرغم من مشقة الصعود إليه، الصعود إليه أشد من الصعود إلى جبل النور، وأكثر مشقة، وكان هناك مسجد قد تهدم.

هذه جملة الأماكن الإسلامية المأثورة المتواترة الباقية حتى عام 1430 ه/ 2009 م. (1)


1- يذكر العلامة عفيف الدين عبدالله بن إبراهيم ميرغني ت 1207:" ومنها مولد سيدنا حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه بأسفل مكة على طريق الذاهب إلى بركة ماجن، قال الفاسي: ولم أر شيئاً يدل بصحة ذلك، بل في صحته نظر، لأن هذا الموضع ليس محلًا لبني هاشم: 210؛ هذا المسجد لا يزال قائماً وقد قام بتخطيطه، وبنائه في السبعينيات الهجرية من القرن الرابع عشر الهجري المهندس المكي محمد سعيد فارسي، وهو من سكان حي المسفلة قديماً، فبني بناءً حديثاً، أصبح هذا المسجد قريباً من المسجد الحرام بما يقدر بنصف كيلومتر بعد إزالة الكثير من المباني في بداية حي المسفلة، وبناء المباني والأبراج الضخمة حوله، وإلى جواره من الجهة الغربية مسجد آخر، قد بني عندما كان مسجد سيدنا حمزة متهدماً يفصل بينهما شارع ليس بالضيق، ولا زالت الشوارع في تلك المنطقة على حالها من الصغر والضيق برغم بناء العمارات الضخمة حول المسجد، وقد قمت بزيارة الموقع مع كل من الزميلين الدكتور عبدالله شاووش، والدكتور معراج نواب مرزا صباح يوم الخميس 27/ 4/ 1430 ه، الموافق 22/ 4/ 2009 م للتحقق من بقاء هذا المسجد.

ص: 148

والألم يحز في النفس، فإنّ بعض هذه الأماكن لاتعطى الاهتمام اللائق بتاريخها الإسلامي، ولا يسهل الوصول إليها بالوسائل الحديثة رحمة بالحجاج، الذين يقصدونها شوقاً للوقوف على آثار النبي (ص) في بلده مسقط رأسه (ص)، الأمل معقود في الله عزّوجل، ثم في حرص هيئة السياحة بالمملكة العربية السعودية؛ حيث يتولى أمر هذا المرفق نخبة من رجال المملكة الغيورين على تراثها، المقدرين قيمتها العلمية والتاريخية، لبذل جهود مشكورة في الحفاظ على تراث الأمة، وفي مقدمتها ما له علاقة بتاريخنا الإسلامي الخالد.

الخاتمة

يتلخص من العرض السابق ما يأتي:

1. التواتر العلمي حجة في الشريعة الإسلامية، وكذلك التواتر المحلي وهما وسيلتان قطعيتان تثبت بهما الأحكام الشرعية.

2. التشكيك فيما ثبت بالتواتر سواء العلمي أو المحلي، جناية مغلفة على تاريخ الأمة، وهدم لقطعياتها، بل تشكيك في الأصول التي ثبتت بهما، وهو أمر خطير شرعاً لمن يدرك حقيقة هذا النوع من الاستدلال وأهميته الشرعية.

ص: 149

3. زيارة الأماكن المأثورة للحاج أو المعتمر، وهو بمكة المكرمة أثناء إقامته، زيارة خالية مما يخدش العقيدة، أو يكسف إشراقها، هي في الأصل على الإباحة والجواز.

4. الاعتراض ينبغي أن ينصب على الممارسات التي تتنافى مع صفاء العقيدة وسلامتها، واتخاذ ما هو أسلم لمنعها؛ حيث إنّ القصد التطلع لمعرفتها، والوقوف على ما جرى من أحداث كان لها أثر عظيم في نشر العقيدة الإسلامية، وما تكبده رسول الله (ص) وصحابته الكرام في سبيلها، وإشباع الجانب الروحي لدى المسلم.

5. الحجاج والمعتمرون، والقادمون إلى هذه البلاد لاستكشاف التاريخ الإسلامي على أرضه لهم مشاعرهم الروحية، الإيمانية؛ فكل مؤمن يقرأ عن مكة المكرمة فإنما يقرؤه بتلهف واستيعاب، كما يقرأ عن أحب الأشياء إليه بعناية و اهتمام، فهو يترقب بفارغ الصبر الفرصة التي تتيح له زيارتها، ومشاهدتها، والوقوف على مآثرها، ومشاعرها وقوفاً يجمع به بين المرئي والمقروء، ويطبق معلوماته على المواقع، والمنازل تطبيقاً صحيحاً، فإذا وصل إليها تمثلت أمام عينيه جميع المعلومات المخزونة في حفظه، وتكونت عنده سلسلة من الأسئلة ... عن المطاف، وبئر زمزم، وابتدائه، ودار الندوة وموقعها؟ عن المسجد الحرام، وأصله، وزياداته، وأبوابه، وعماراته.

عن مولد النبي (ص) ومولد أولاده، وبيوت أصحابه، ومساجدهم، وعن دارأبي سفيان، ودار الأرقم ... (1)، هذا كله نابع وصادر عن مشاعر إيمانية عميقة بطبيعة الحال، تدفع الزائر للتزود بالمعلومات الصحيحة عنها، وهي فرصة لوجوده في مرابعها، وهي فرصة العمر التي قد لا تتاح له مرة أخرى، وإشباعه روحياً بما تتركه في نفسه من مشاعر الحب، والتمسك بتعاليم الإسلام، والتحمس لمتابعة النبي (ص) والسلف الصالح من أصحابه والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.


1- كتبي، السيد محمد أمين، تقديم كتاب الإعلام بأعلام البلد الحرام: 5.

ص: 150

6. إنكار هذه المشاعر الإيمانية في نفوس القادمين إليها إنكار لحقيقة الطبيعة البشرية، والجبلة الإنسانية؛ حيث الميول الطبيعية لمعرفة التاريخ الإسلامي في مواقعه ومشاهده، ومرابعه.

7. الأماكن المأثورة أمانة كل جيل يجب المحافظة عليها، فهي الشاهد الحي على الماضي ...

8. الأماكن المأثورة في المدينتين المقدستين: مكة المكرمة والمدينة المنورة شواهد تاريخية حية للتاريخ الإسلامي، ومواقفه الحاسمة؛ إزالتها يحيل تاريخنا الإسلامي في نظر الأجيال القادمة أسطورة من الأساطير.

9. الدعوة لإزالة الأماكن المأثورة في المدينتين المقدستين مكة المكرمة، والمدينة المنورة، محو للتاريخ الإسلامي في مواطنه الأصلية.

10. ليس من منهج السلف الصالح الدعوة إلى إزالة هذه الأمكنة المأثورة في مكة المكرمة ولا غيرها- فيما أحاط به العلم- حتى من المعارضين لزيارتها، ولهذا بقيت شاهداً حياً عبر العصور الماضية حتى عصرنا الحاضر.

11. ليست إزالة الآثار الأسلوب الصحيح لمنع الممارسات المخالفة لعقيدة التوحيد وصفائها، بل يحمل هذا في طياته إضعاف جذوة الإيمان في نفوس الشباب.

12. أصبح الناس من الوعي الديني بعامة، والسعوديون بخاصة ما يجعلهم يرفضون الممارسات التي تتنافى مع العقيدة الصحيحة.

13. (لا يُزال حق لباطل)، فلا تزال هذه الأماكن المأثورة ويمحى التاريخ الحق بسبب الممارسات الجاهلية الباطلة؛ هذه قاعدة شرعية تحمي الأمر الحق مما يخدشه من الباطل.

وفي هذا السياق سئل العلامة عزالدين بن عبد السلام الملقب بسلطان العلماء السؤال الآتي:

«إذا ثبت عن النبي (ص) سنة، هل يجوز تركها لكون المبتدع يفعلها أم لا؟

فأجاب: لا يجوز ترك السنن لمشاركة المبتدعين فيها، إذ لا يترك الحق لأجل الباطل، وما زال العلماء والصالحون يقيمون السنن مع العلم بمشاركة المبتدعين، وإذا لم يترك الحق لأجل الباطل فكيف يترك الحق

ص: 151

للمشاركة في الحق، ولو ساغ ذلك لترك الأذان، والإقامة، والسنن الراتبة، وصلاة الأعياد، وعيادة المرضى، والتسليم، وتشميت العاطس، والصدقات، والضيافات، وجميع المبرات المندوبات، والله أعلم». (1) هذا هو منهج السلف الصالح في مواجهة الانحرافات العقدية.

14. التوعية الدينية الصحيحة الموجهة إلى التعرف على التعامل الشرعي الصحيح مع مثل هذه الأماكن التاريخية ذات القيمة الدينية، والمعنوية، والتاريخية الرفيعة في تاريخ الأمة، هي الطريق الأمثل لتعديل سلوك بعض الجهلة من الحجاج، وهي الأسلوب الأمثل، والطريق الصحيح، وإلّا سيظل أصحاب الباطل متمسكين بعقائدهم، حتى لو أزيلت تلك المعالم لا قدر الله.

15. الأماكن المأثورة المتواترة الباقية بمكة المكرمة في الوقت الحاضر هي:

مكان المولد النبوي الشريف (ص) (مكتبة مكة المكرمة)، مسجد الراية، مسجد الإجابة، مسجد البيعة، مسجد الجن، مسجد الفتح، مسجد الجعرانة، مسجد التنعيم، مسجد الخيف، غار جبل حراء، غار جبل ثور.

16. مكان ولادته (ص) أمر مقطوع به بين العلماء المكيين، وأبناء مكة المكرمة متحقق لديهم ولادته في شعب هاشم بمكة المكرمة، في بيت والده المعروف اليوم بمكتبة مكة المكرمة، وأنه لا خلاف فيه بين الفقهاء، والمؤرخين، وعلماء السيرة النبوية، جيلًا بعد جيل، منذ القرون الإسلامية الأولى.

17. حظي مكان ولادته (ص) بقدر كبير من عناية المسلمين، واهتمام الخلفاء والأمراء عبر التاريخ الإسلامي بما يليق بمكانة نبي الإسلام سيدنا محمد (ص) في نفوس المسلمين.


1- الفتاوى الموصلية: 23، الطبعة الأولى، بيروت، دار الفكر المعاصر، ت. د.

ص: 152

18. عناية الملك عبدالعزيز بالأماكن المأثورة: المولد النبوي الشريف، ودار السيدة خديجة ودار الأرقم بن أبي الأرقم، ومولد علي بن أبي طالب (ع) وتوظيفها توظيفاً حضارياً، أنموذج رفيع في الاتجاه الصحيح.

19. ... مكان المولد النبوي الشريف بجعله مكتبة عامة، له بعد فكري، وحضاري، أما البعد الفكري فإنه يتمثل في استمرارية إشعاعه العلمي، يفد إليها العلماء، والباحثون من جميع أقطار العالم الإسلامي يستفيدون من محتوياتها من الكتب النفيسة، والبعد الحضاري بأن جعل من المكان ذي التاريخ الحضاري الطويل منارة علم، ومعرفة في بلد الله الأمين، ينبغي أن يحافظ عليه ليظل معلماً حضارياً من معالم أمة الإسلام في الوقت الحاضر، وهو من البعض المتبقي من تلك المعالم الشامخة.

20. حققت مكتبة مكة المكرمة- بهذا التوظيف الحضاري- خلال الخمسين عاماً الماضية- خدمات علمية ومعرفية جليلة منذ تأسيسها حتى الوقت الحاضر، فقد تطورت مجموعاتها من المصادر والمراجع، حيث ضمت ما يزيد على عشرين مكتبة خاصة من مكتبات كبار علماء مكة المكرمة، وأدبائها، تجمع نوادر المطبوعات والمخطوطات على المستوى العالمي.

21. موقع هذه المكتبة الفريد، ومكانها التاريخي بإيحاءاته الروحية، والإيمانية يمثل تاريخاً حياً ينبغي أن يظهر بالمظهر اللائق بمكانته إسلامياً، وتاريخياً، واستغلاله في ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة، وتفعيل النشاط العلمي، والدعوي من داخل أروقته، وتجديد بنائه بحيث يكون معلماً حضارياً لقاصديه من العلماء، والأدباء، والمفكرين، وطلاب العلم القادمين من جميع أرجاء العالم الإسلامي، وهو ما يتناسب مع مكانته السامية في تاريخ الإسلام، وقد زكى هذا الرأي سابقاً كبار العلماء السلفيين في هذه البلاد وغيرهم.

22. الحفاظ على هذا المكان التاريخي المبارك مستقلًا ببنايته وهيئته، وكذلك غيره من تلك الأماكن التاريخية المأثورة في مكة المكرمة، وتوظيفها التوظيف الديني، والعلمي العقلاني، والمدني الحضاري محافظة على مشاعر المسلمين، وتذكير ببدايات التاريخ

ص: 153

الإسلامي وما واجهه المسلمون لنشر الدين والحفاظ عليه من كيد الكائدين مما تواجه الأمة جزءً منه، وتحتاج إلى التذكير به في الوقت الحاضر.

23. التشكيك في صحة ما وقع عليه التواتر العلمي والمحلي من هذه الأماكن من دون دليل معتبر، مؤامرة لإخفات المشاعر الدينية، وجهالة بالتاريخ، وجناية على الحقائق الثابتة.

24. المغالاة بالتجاوز عن الحد المشروع، والمجافاة بالتبلد في الشعور ليسا من الإسلام في شي ء، بل هما الأبعد عن سنن الإسلام وهديه، تتعارض مع سماحة الإسلام، وشفافية روحه.

25. الوسطية في كل شي ء شعار الإسلام، فلا عبودية إلّا لله عزّوجل، ومن تعظيمه تعالى تعظيم كل من عظمه الله، وتشريف كل من شرفه الله، وكل ما ينتسب إلى ذلك، من غير خروج عن حقيقته، أو تجاوز له عن قدره.

لواحق:

تراجم نخبة من المؤلفين في الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة

يقدم البحث تراجم نخبة من الفقهاء أصحاب الرأي في موضوع زيارة الأماكن المأثورة، وإعطائها أحكاماً شرعية سواء منهم المعارض، والمؤيد، فلكل رأيه واجتهاده، وقد سبق عرض آراء الجميع.

ومما ينبغي أن لا يغيب عن ذهن القارئ، أنّ هذه الفئة من المؤلفين سواء المعارضين، والمؤيدين لهم جهادهم في محاربة البدع ومحدثات الأمور التي لا شاهد لها في الشرع، حاربوها بأنفسهم، وبأقلامهم، وألفوا في هذا الموضوع مؤلفات عديدة، فهم علماء ثقات علماً وعقيدةً، وإن اختلفت آراؤهم، ومناهجهم الاستدلالية.

سيرى القارئ كل هذا في تراجمهم، وبما خطته أقلامهم لهم مواقف صارمة من البدع التي تمس العقيدة الإسلامية.

فيما يلي عرض لهذه التراجم المختارة:

ص: 154

1. أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (ت 250 ه)

مؤلف كتاب: أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، الطبعة الثالثة، تحقيق رشدي الصالح ملحس، مكة المكرمة: مطابع دار الثقافة.

قال الحاج خليفة في كتابه كشف الظنون:

الإمام أبو الوليد محمد بن عبدالكريم الأزرقي، وهو أول من صنف في تاريخ مكة، ومختصره زبدة الأعمال ...

لم يعرف بالضبط تاريخ ولادته، ولا أشار إليه أحد من المؤرخين، لأن الأقدمين أهملوا ذكره بتاتاً، وترجمته التي وصلت إلينا هي من رواية الآخرين.

أما وفاته، فهي غير مضبوطة على التحقيق أيضاً، فقد ذكر الحاج خليفة صاحب كشف الظنون أنها 223 ه-، وقال ابن عزم التونسي: أنها عام 212 ه-، والحقيقة أنّ كليهما أخطأ السبيل، فإنّ الأزرقي توفي بعد هذا التاريخ بعشرات السنين، فقد ذكر الفاسي في كتابه العقد الثمين أنّ الأزرقي كان في عهد المنتصر على قيد الحياة. (1) 2. الإمام أبو عبدالله محمد بن إسحاق الفاكهي

مصنف كتاب: أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، مكة المكرمة: مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، عام 1407 ه/ 1986 م.

اسمه ونسبه: هو: محمد بن إسحاق بن العبّاس الفاكهي، أبو عبدالله المكي.

حياة الفاكهي: عقد ابن حجر في آخر كتابه (تغليق التعليق) باباً طويلًا ترجم فيه للبخاري، وعقد فيه فصلًا قال فيه: (فصلٌ في


1- أنظر 12: 1، 13؛ وانظر: الزركلي، الأعلام 222: 6.

ص: 155

ذكر الرواة عن البخاري. (1)) فذكر جماعة ممّن روى عنه كتبه، ثم قال: ومن الحفَّاظ (أي: الرواة عنه) من أقرانه فمن بعدهم، أبو زرعة، وأبو حاتم، وإبراهيم ابن إسحاق الحربي ... ثم ذكر جملة من الحفَّاظ إلى أن قال: (ومحمد بن إسحاق الفاكهي- صاحب أخبار مكة-) ...

طلبه للعلم ورحلاته: كان مبكّراً في طلبه للعلم، والتقائه بالشيوخ، والأخذ عنهم، وقد نصّ في كتابه على أنه التقى ببعض مشايخه في مكة، ولم يكونوا من أهلها. (2) ولم يقنع الفاكهي بمن أخذ عنهم بمكة، سواء مشايخها، أو الوافدين عليها، فرحل في طلب العلم إلى مراكز ثقافية، كانت لها شهرة واسعة في ذلك الزمن.

فقد عرفنا من كتابه هذا أنه رحل إلى بغداد، وسمع فيها من أحمد بن عبدالجبّار العُطاردي، ت 272 ه-. (3) ورحل إلى الكوفة، وسمع فيها من إسماعيل بن محمد الأحمسي. (4) ورحل إلى صنعاء، فسمع فيها من محمد بن علي النجّار، (5) وإبراهيم بن أحمد اليماني ... (6) مكانته الاجتماعية: يظهر من خلال ما سطره الفاكهي في كتابه أنه من رجالات مكة الذين يوضعون في الاعتبار، ودلّت بعض الأخبار على أنه عَلَمٌ من أعلام البلد الحرام، وخاصة بعد نضوجه العلمي، فقد وصف في كتابه هذا أماكن ومواضع قد لا يتيسر


1- تغليق التعليق 437: 5- 439.
2- قال في الأثر: 576 حدّثني أحمد بن الحارث الأشعري الكوفي، وحفظته منه في مكة؛ وفي الأثر: 585 قال: حدّثنا علي بن حرب الموصلي بمكة؛ وفي الأثر: 1806 قال: حدّثنا عمران بن موسى الطائي- سمعته منه في المسجد الحرام-.
3- أنظر الأثر: 1053.
4- الأثر: 1904.
5- الأثر: 1306.
6- الأثر: 2627، 2667.

ص: 156

لطالب علم عادي أن يصلها أو يراها، وروى حوادث ومراسلات بين الأمراء قد لا يطلّع عليها إلّا الخاصة ...

مشايخه: روى الإمام الفاكهي في كتابه (أخبار مكة) في المجلد الثاني عن 231 شيخاً، وتتفاوت روايته عنهم قلة وكثرة.

وقد روى عن أئمة أعلام مشهورين بالحفظ والإتقان وبالعناية بالحديث، مثل محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، وأبي حاتم الرازي، وأبي زرعة الجرجاني: أحمد بن حميد الصيدلاني، وإبراهيم بن يعقوب الجُوزجاني، وإسحاق بن منصور الكَوْسَج، والحسن بن عَرَفَة العَبْدي، وعبّاس بن محمد الدُّوري، وعمرو بن علي الفَلّاس، والزبير ابن بَكّار وغيرهم ...

أهمية كتاب الفاكهي: وقف ابن حجر على هذا الكتاب، واستفاد منه في كثير من كتبه وذكر إسناده إليه، ثم قال: (وهو كتاب نفيس في خمسة أسفار). (1) وقال الفاسي في كتابه (شفاء الغرام):

(وفي كتاب الفاكهي أمور كثيرة مفيدة جداً، ليست من معنى تأليف الأزرقي، ولا من المعنى الذي ألّفناه). (2) فهو بهذا يقرر أنّ المادة المسطرة في كتاب الفاكهي مادة واسعة تفوق المادة العلمية والتاريخية والأدبية التي في كتاب الأزرقي، وفي كتاب (شفاء الغرام) أيضاً، وهما أوسع الكتب المؤلفة في هذا الباب.

فإذا أردنا أن نتلمس أهمية كتاب الفاكهي هذا، وجب علينا أن نشير إلى النصوص الكثيرة التي احتفظ لنا الفاكهي بها من كتب مفقودة ...

وفاته: قال الفاسي في (العقد الثمين): (وما عرفت متى مات، إلّا أنه كان حيّاً في سنة اثنتين وسبعين ومائتين، لأنه ذكر فيها قضية تتعلق بالمسجد الحرام. (3)


1- تغليق التعليق 471: 5.
2- شفاء الغرام 4: 1.
3- العقد الثمين 310: 1، 9- 12، 14، 31، 33؛ وانظر: الزركلي، الأعلام 28: 6.

ص: 157

3. الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، (ت: 597 ه)

مؤلف كتاب: مثيرالغرام الساكن إلى أشرف الأماكن؛ الطبعة الأولى، قدم له وحققه وفهرسه الدكتور مصطفى محمد حسين الذهبي القاهرة: دارالحديث، 1415 ه/ 1995 م.

يذكر محقق الكتاب في التعريف بالمؤلف قوله: ...

مولده: ولد الإمام ابن الجوزي في مدينة بغداد (بدرب حبيب)، واختلفت الروايات في زمن مولده على خمسة أقوال من سنة 508 إلى 512 ه.

مذهبه الفقهي: كان ابن الجوزي حنبلياً شديد الميل للحنابلة، يدل على ذلك مواضع كثيرة من كلامه في كتبه خصوصاً في (مناقب الإمام أحمد) و (المنتظم).

شيوخ الإمام ابن الجوزي: لابن الجوزي مشايخ كثيرون على عادة علمائنا الأقدمين عامة، والمحدثين منهم خاصة، وقد تولى الإمام ابن الجوزي تعريفنا بشيوخه، وهم ستة وثمانون شيخاً، وثلاث شيخات ذكرهم في كتابه (مشيخة ابن الجوزي).

ثناء الأئمة على ابن الجوزي: قال مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي: (الواعظ المتفنن، صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والوعظ والأخبار والتاريخ وغير ذلك، وعظ من صغره، وفاق فيه الأقران، ونظم الشعر المليح، وكتب بخطه ما لا يوصف، ورأى من القبول والاحترام ما لا مزيد عليه). (1) وقال ابن خلكان: كان علَّامة عصره، وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ، صنف في فنون عديدة، وكتبه أكثر من أن تعد. (2) وقال عماد الدين الأصبهاني: واعظ، صنيع العبارة، بديع الإشارة، مولع بالتجنيس في لفظه، والتأنيس في وعظه، وله في


1- العبر، في خبر من غبر 297: 4، 298.
2- وفيات الأعيان 321: 2.

ص: 158

القلوب قبولها، حسن الشمائل، قد مزجت من اللطافة والكياسة شمولها. (1) وقال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: كان زاهداً في الدنيا، متقللًا منها، وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام، ولا يخرج من بيته إلّا إلى الجامع للجمعة وللمجلس، وما مازح أحداً قط، ولا لعب مع صبي، ولا أكل من جهة لا يتيقن حلّها، وما زال على ذلك الأسلوب حتى توفاه الله. (2) ووصفه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية بقوله: أحد أفراد العلماء برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحواً من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحو مائتي مجلد.

وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو. (3) وقال ابن تيمية: عددت له أكثر من ألف مصنف، ورأيت بعد ذلك ما لم أره. (4) وقال عنه الحافظ ابن رجب: كان لا يضيع من زمانه شيئاً، يكتب في اليوم أربع كراريس، يرتفع له كل سنة من كتابتها ما بين خمسين مجلداً إلى ستين، وله في كل علم مشاركة. (5) وقال الموفق المقدسي: كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة، وكان صاحب فنون، وكان يدرس الفقه ويصنف فيه.


1- خريدة القصر وجريدة العصر 261: 2.
2- مرآة الزمان 482: 8.
3- البداية والنهاية 31: 13.
4- نقلًا عن ذيل طبقات الحنابلة 415: 3.
5- المصدر السابق.

ص: 159

وأثنى على ابن الجوزي الإمام الداودي فقال: الإمام العلامة، حافظ العراق وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف المشهورة في أنواع العلوم، من التفسير والحديث، والفقه، والوعظ والزهد ... (1) وقال الإمام أبو الخير محمد بن الجزري في الثناء عليه: الإمام الحافظ أبوالفرج ابن الجوزي ... تلا بالعشر على أبي بكر محمد بن الحسين المزرفي؛ (2) يريد أنه جمع إلى علومه الوفيرة حفظ القراءات العشر المتواترة للقرآن الكريم.

مكانته العلمية: لم يقتصر ابن الجوزي على فن واحد من فنون العلم، فهو نفسه يقول: ولم أقنع بفن واحد، بل كنت أسمع الفقه والحديث، وأتبع الزهاد، ثم قرأت العربية، ولم أترك أحداً ممن يروي ويعظ، ولا غريباً يقدم، إلّا وأحضره وأتخير الفضائل. (3) ففي التفسير كان من الأعيان، كما قال عنه الذهبي، فقد فسر القرآن كله في مجلس الوعظ، كما قال: ما عرفت واعظاً فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، فالحمد لله المنعم؛ وقد كان من أبرز ما ألف ابن الجوزي في التفسير (المغني) واختصره في (زاد المسير في علم التفسير) وهو مطبوع في تسع مجلدات.

وفي الحديث كان من الحفاظ، فقد كتب الحديث وله إحدى عشرة سنة، وسمع قبل ذلك على حد قوله.

قال أبو عبدالله الدبيثي: إليه انتهت معرفة الحديث وعلومه والوقوف على صحيحه وسقيمه، وله فيه مصنفات من المسانيد والأبواب والرجال ومعرفة ما يحتج به. (4) وقال ابن الساعي: روى الحديث عن خلق كثير، وسمع الناس منه وانتفعوا به، وكتب بخطه ما لايدخل تحت الحصر، وخرج التخاريج، وجمع شيوخه، وأفراد المسانيد، وبين الأحاديث الواهية والضعيفة. (5)


1- طبقات المفسرين، للداودي 375: 1.
2- غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري 375: 1.
3- صيد الخاطر : 135، ولفتة الكبد : 24.
4- نقلًا عن أعلام النبلاء 373: 2؛ مرآة الزمان 782: 8.
5- الجامع المختصر لابن الساعي 66: 9.

ص: 160

وقد كان من أبرز مؤلفاته في الحديث: (جامع المسانيد)، و (الحدائق)، و (الموضوعات)، و (العلل المتناهية).

وفي الوعظ كان له باع طويل حتى قيل عنه إنه عالم العراق وواعظ الآفاق، فقد بدأ ابن الجوزي الوعظ في التاسعة من عمره، وهو سن مبكرة يدل على ذاكرة واعية، وبديهة حاضرة، وذكاء حاد، ونبوغ مبكر، وكان يحضر مجلس وعظه الكثيرون، يسمعون له، ويتأثرون به، فيقول ابن الجوزي عن مدى تأثيره في الناس: وضع الله لي القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم، فلايرتابون في صحته، وقد أسلم على يدي نحو مائتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجهال. (1) وقال ابن رجب: وإنّ مجالسه الوعظية لم يكن لها نظير، ولم يسمع بمثلها، وكانت عظيمة النفع، يتذكر بها الغافلون، ويتعلم منها الجاهلون، ويتوب عنها المذنبون، ويسلم فيه المشركون. (2) ولعل من أبرز ما كتبه في الوعظ: (التبصرة)، و (المنتخب)، و (المدهش)، و (بحر الدموع) و (بستان الواعظين ورياض السامعين).

أما في الفقه فلابد وأن يكون فقيهاً، وكيف لا وهو الواعظ المفسر الحافظ الحنبلي المذهب، المجتهد في بعض الآراء، ووصفه ابن رجب بأنه: مفيد المدرسة أي مدرسة الفقه الحنبلي؛ ومن أبرز ما ألفه في الفقه: (الإنصاف في مسائل الخلاف) و (عمدة الدلائل في مشهور المسائل)، و (المذهب في المذهب)، و (مسبوك الذهب)، و (المنفعة في المذاهب الأربعة)، وغير ذلك.

وفي التاريخ كان مؤرخاً بارع التصنيف وليس أدل على ذلك من كتابه (المنتظم)، كما كتب المناقب التي كتبها تعد موسوعة تاريخية متخصصة كل في موضوعه، منها: (مناقب أحمد بن حنبل)، و (مناقب الحسن البصري)، و (مناقب عمربن الخطاب)، و (مناقب عمربن


1- لفتة الكبد لابن الجوزي،: 251.
2- الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 410: 3.

ص: 161

عبدالعزيز)، و (مناقب سفيان الثوري)، و (مناقب إبراهيم ابن أدهم)، وغيرها.

هذا بالإضافة إلى نبوغه في الأدب، واللغة، والشعر، فقد قال الذهبي: (ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لايوصف، ولاقى من القبول والاحترام ما لا مزيد عليه). (1) ونقل عن أبي شامة أنّ أشعاره عشرة مجلدات، ويبدو أنّ شعره حسن، وإن كان محشواً بالمحسنات البديعة، وله (المقامات) وهي مطبوعة.

مصنفاته: أما كتبه فإنها كثيرة جداً تزيد على ألف كتاب.. وقد ألّف الأستاذ العلوجى كتاباً قيماً هو: (مؤلفات ابن الجوزي) أحصى فيه كتبه، وأشار إلى المطبوع منها (30 كتاباً) والمخطوط الموجود منها (139 كتاباً)، والمفقود (233 كتاباً)، واستدرك عليه بعض الزملاء كتباً أخرى ...

وفاته:.. عاش في بغداد معظماً موقراً.. وتوفي ليلة الجمعة الثاني عشر من رمضان سنة 597 هبين المغرب والعشاء في داره بقطفتا- محلة من محال بغداد-. (2) 4. الإمام الرباني يحيى بن شرف النووي (613 ه- 676 ه)

مؤلف كتاب: الإيضاح في مناسك الحج والعمرة، الطبعة الثانية، وعليه الإفصاح على مسائل الإيضاح على مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم، تأليف عبدالفتاح حسين راوه المكي، مكة المكرمة: المكتبة الإمدادية، 1414 ه/ 1994 م

يترجم له العلامة الفقيه الشيخ عبدالفتاح حسين راوه قائلًا:

التعريف بصاحب الإيضاح: هو الإمام العلامة شيخ الإسلام أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، والداعي إلى سبيل


1- العبر في خير من غبر، للذهبي 297: 4، 298.
2- 9:. 39- 17.

ص: 162

السالفين، محرر مذهب الشافعي ومهذبه، ومنقحه، ومرتبه، فقيه المحدِّثين، ومحدِّث الفقهاء الحافظ أبو زكريا يحيى بن شرف بن موسى بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة النووي الشافعي.

مولده: ولد في العشر الأول من المحرم عام 631 ه- ببلدة نوى (قرية من قرى دمشق بمرتفعات (الجولان)، وبها نشأ، وحفظ القرآن العظيم ...

تفننه في العلوم: تفنن في أصناف من العلوم فقهاً، فكان المرجع والمعوَّل عليه في فقه الشافعي، ومتون أحاديث، وأسماء الرجال، فجمع بين الرواية والدراية، فكان أول أهل زمانه معرفة، وحفظاً، وإتقاناً، وضبطاً لحديث رسول الله (ص)، وعالماً بعِلله، وصحيحه، وأسانيده، فالنووي فقيه المحدِّثين، ومحدِّث الفقهاء، بل صار علماً يشار إليه بالبنان في زمانه، ومرجعاً يعتمد عليه، غير منازَع ولا مدافَع.

توليته التدريس: بعد أن اكتملت للنووي أدوات الحديث والفقه، قام بتدريسهما في المدرسة الإقبالية التي أنشأها جمال الدين إقبال سنة 603 ه، ثم قام بالتدريس في المدرسة الركنية التي أسسها ركن الدين منكورس، والمدرسة الخَلَفية التي أقامها خلف الدين سليمان، ثم ولي دار الحديث سنة 665 هفلم يأخذ من معلومها شيئاً حتى توفي ...

شمائله: كان على جانب عظيم من الورع والزهد؛ قال الذهبي: كان عديم الميرة، و الرفاهية، والتنعم مع التقوى، والقناعة، والورع، والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية، وترك رعونات النفس من ثياب حسنة، ومأكل طيب، وتجمل في هيئة، بل طعامه جِلْف (1) الخبز بأيسر إدام، ولباسه ثوب خام، وسختِيانية (2) لطيفة.

وكان لايأكل من فاكهة دمشق لما في ضياعها (3) من الحيلة والشبهة، وكان لايتقوت مما يأتي من بلده من عند والديه، ولا يأكل إلّا


1- الجلف: الجاف الشديد.
2- السختيانية: جبة تلبس فوق الثوب.
3- الضياع: جمع ضيعة بفتح الضاد وسكون الياء وهي الحديقة، أو القطعة المزروعة من الأرض.

ص: 163

أكلة واحدة في اليوم والليلة بعد العشاء الآخرة، ولا يشرب إلّا شربة واحدة عند السحر، ولم يتزوج، وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف، ولذا قال ابن السبكي: إنه كان سيداً حصوراً وزاهداً، لم يبال بخراب الدنيا، إذا صيّر دينه ربعاً معموراً له الزهد والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنّة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير، لا يصرف ساعة في غير طاعة، كانت عليه سكينة ووقار في البحث مع العلماء وفي غيره، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، يواجه بهما الملوك والأمراء، ويكتب إليهم الرسائل ناصحاً بالعدل في الرعية، وإبطال المكوس، (1) وردّ الحقوق إلى أربابها؛ قال أبوالعباس بن فرج: كان الشيخ قد صارت إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شُدت إليه الرحال، المرتبة الأولى: العلم، الثانية: الزهد، الثالثة: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

وقال ابن كثير: إنه قام على الظاهر في دار العدل في قضية الغوطة لما أراد وضع الأملاك على بساتينها فردّ عليهم ذلك، ووقى الله شرها بعد أن غضب السلطان، وأراد البطش به، ثم بعد ذلك أحبه وعظمه، حتى كان يقول: أنا أفزع منه.

وفاته: سافر في آخر عمره إلى بلده نوى بعدما حج وزار القدس ووصل الخليل، فمرض بها عند والديه، وتوفي ليلة الأربعاء لست بقين من رجب سنة 676 ه. (2) 5. الحافظ أبوالعباس أحمد بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري ثم المكي، (615 ه- 694 ه)

مؤلف كتاب: القرى لقاصد أم القرى، الطبعة الثانية، تحقيق مصطفى السقا؛ مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1390 ه/ 1970 م.


1- المكوس: بضم الميم جمع مكس وهو ما يفرضه الحاكم من الإتاوة عن السلع التي تباع أو تجلب وغير ذلك.
2- 5 _ 9.

ص: 164

يذكر محقق الكتاب الأديب الكبير مصطفى السقا، في التنويه بالكتاب ومؤلفه قائلًا: مُؤلّف هذا الكتاب أحد أعلام المحَدِّثين وفقهاء الشافعيَّة، الحافظ القُدْوة، أحمد بن عبدالله، مُحِبُّ الدين الطَّبريّ، أبوالعباس وأبوجعفر، (1) فَرْع دَوْحة كبيرة من دَوْحات الشَّرف والرِّياسة في العلم والْحَسَب، ينتهي نسبُهم إلى الحُسين ابن عليّ بن أبي طالب، رسْخت أصولهم في طَبَرسْتان من بلاد العجم في الشرق، وامتدت فروعهم إلى أُمّ القُرى في بلاد الحجاز، وتوراث هو وبنو أعمامه وأبناؤهم وأحفادهم، مناصب التدريس، والقضاء، والخطابة، وإمامة الحرم المكي نحو ستة قرون، وكانوا أكبر أصحاب البيوتات بمكة، حتى كان الأشراف حُكام مكة لايَعْدِلون بهم أحداً في الشرف والصِّهْر والنّسَب.، وكان نساء هذه الأسرة يُبارين فحوُل الرجال في رفع مَنار العلم، والاستباق إلى غايات المجد، حتى خلّد التاريخ ذكرهن في الغابرين؛ قال الفاسيُّ مؤرخ مكة في كتابه (العقد الثمين):

وله تواليف حسنة في فنون العلم ...، وننقل هذا من التاريخ شهادات تستحق أن تكتب بأحرف من نور، عن المؤلف وأسْرته التي طَبَّقَت شهرتها الخافِقَيْن:

قال العلامة شمس الدين الذهبي في ترجمة المؤلف، في كتابه (تذكرة الحفاظ) طبع حيدر أباد (255: 4):

(الإمام المحدِّث المُفْتِي، فقيه الحَرَم، محبُّ الدين أبوالعباس أحمد بن عبدالله بن محمد ابن أبي بكر الطبَّري، ثم المكي، الشافعي، مصنف الأحكام ولد سنة خمس عشرة وستمائة، وسَمِع من أبي الحسن بن المُقَيِّر البغدادي، وابن الْجُميزي، وشُعيب الزعفراني، وعبدالرحمن بن أبي حِزْمي، وجماعة، وتَفَقَّه، ودَرَّس، وأفتى، وصنَفَّ، وكان شيخ الشافعية، ومحدِّث الحجاز.

رَوَى عنه الدِّمْياطي من نظمه، وأبوالحسن العطَّار، وأبومحمد بن البرزالي، وآخرون؛ وكان إماماً صالحاً زاهداً كبير الشأن، روى عنه


1- لم يكنه بأبي جعفر إلّا السيد محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس.

ص: 165

أيضاً ولده قاضي مكة، وكتب إليّ بمرويَّاته، توفي في جُمَادى الأولى أربع وتسعين وستمأة).

وقال السُّبْكي في طبقات الشافعية، 8: 5، 9: أحمد بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم، الحافظ أبوالعباس مُحِبُّ الدين الطبري، ثم المكي، شيخ الحرم، وحافظ الحجاز بلا مُدافَعة، مولده سنة عشر (1) وستمائة في جمادى الآخرة.

ومن كُتب المحبِّ الطبري غير ما ذكره الذهبي والسبكي:

1. كتاب (خلاصة سِيَر سَيِّد البَشَر (ص)).

2. كتاب (صَفْوَة القِرَى، في صفةِ حَجَّة المصطفى (ص)، وطَوْفه بأُمّ القُرَى). عدد ورقاته 22 وجدتهما ضمن مجموعة في علم التاريخ (تراجم وسير رقم 4) بدار الكتب المصرية.

3. السمط الثمين، في مناقب أمهات المؤمنين؛ طبعة راغب الطباخ في حلب.

4. ذخائر العُقبى، في منَاقب ذوي القربي؛ طبعة القدمي بمصر سنة 1356 ه.

5. كتاب في صفة حجة النبي (ص)؛ أنظر: 138 من هذا الكتاب.

6. الإمام عزالدين بن جماعة الكناني، عبدالعزيز بن الإمام بدر الدين محمد بن إبراهيم الدمشقي ثم المصري (694 ه-- 767 ه-).

مؤلف كتاب: هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك، الطبعة الأولى، حققه على نسخة بخط المصنف، ونسخ مأخوذة عنه وخرج أحاديثه وعلق عليه وكمل فوائده الدكتور نورالدين عتر؛ بيروت، دارالبشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، 1414 ه-/ 1994 م.

يبدأ المحقق ترجمة المؤلف بالفقرة التالية:


1- تقدم في كلام الذهبي أنه ولد سنة ست عشرة وستمأة. والصواب أنّ ميلاده سنة خمس عشرة وستمائة كما في العقد الثمين للفاسي.

ص: 166

اسمه ونسبه: هو الإمام عزالدين عبدالعزيز بن الإمام بدرالدين محمد بن إبراهيم ابن سعدالله ابن جماعة، (1) بن صخر الكِناني، (2) الحَمَوي الأصل، ثم الدمشقي، ثم المصري.

اشتهر بلقبه (عزالدين) حتى غلب عليه في كتب التاريخ، ويلقب أيضاً (العز بن جماعة) اختصاراً، (3) وكنيته (أبوعُمَر)؛ و (الكناني) نسبة إلى كنانة، قبيلة عربية تُنسب إلى كنانة، وهو الجد العاشر للنبي (ص)، ويُنسب أيضاً (الحَمَوي) لكون أصله من حماة، ولد أبوه الإمام بدرالدين محمد بن إبراهيم فيها سنة 639، كما يُنسب (الدمشقي) لولادته في دمشق، و (المصري) لإقامته فيها.

مولده ونشأته: ولد الإمام عزالدين عبدالعزيز ابن جماعة سنة أربع وتسعين وستمائة من الهجرة، (4) في شهر المحرم، (5) في التاسع عشر منه، (6) وكانت ولادته في مدينة دمشق المحروسة، في


1- كذا جاء نسبه إلى جماعة في كتابنا هذا: عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعدالله بن جماعة.
2- هكذا نسبه الحافظ ابن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 489: 2، والشوكاني في البدرالطالع، 359: 1، واقتصر تاج الدين عبدالوهاب بن علي السبكي على نسبه إلى جده «جماعة» في الطبقات الشافعية الكبرى، 79: 10، وسيأتي العزو إليه باسم" السبكي" وكذا عبدالرحيم بن الحسن الإسنوي في طبقات الشافعية، 186: 1، وسنقتصر في العزو إليه على" الإسنوي". لكن وقع في طبقات الشافعية لأحمد بن محمد قاضي شبهة، 101: 3:" ابن جماعة بن علي بن جماعة" طبع عالم الكتب؛ وسنعزو إليه ب-" ابن قاضي شبهة". وقال تقي الدين الحسني الفاسي:" ابن علي بن حازم بن صخر الكناني". أنظر العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، 457: 5، تحقيق فؤاد السيد.
3- " كثر هذا الاختصار في ألقاب المتأخرين، فيقولون في تاج الدين «التاج» وفي جلال الدين" الجلال"، وهكذا ...، وقد راجعنا ترجمة كل مَن له صلة بدراسة الإمام ابن جماعة، وأوردنا ما تمس إليه الحاجة" المحقق.
4- السبكي، 79: 10.
5- ابن قاضي شبهة، 101: 3.
6- الدرر الكامنة، 489: 2.

ص: 167

المدرسة العادلية الكبرى، بمنزل والده الإمام بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة، المحدّث الفقيه القاضي، الذي كان قاضي القضاة بالشام ...

نشاطه العلمي: اشتغل الإمام عزالدين عبدالعزيز بن جماعة في مختلف جوانب العلم، تعليماً، وتطبيقاً في وظيفة القضاء، وتصنيفاً، ولم يقتصر على جانب دون جانب في حياته العلمية.

أما التدريس فقد بدأه من سن مبكرة، وهو ابن عشرين سنة، واستمر فيه إلى أن مات، قال ابن قاضي شبهة: (ودرّس من سنة أربع عشرة)، (1) وفي الدرر الكامنة: (ودرّس من سنة 14 إلى أن مات). (2) فمن وظائفه في التدريس: (تدريس زاوية الإمام الشافعي بمصر، وتدريس الفقه بجامع طولون ونظره، وتدريس جامع الأقمر ونظره، وغير ذلك من الشرف والوظائف)، (3) مثل (تدريس الخشابية)؛ (4) كما كان له أيضاً وظيفة الخطابة. (5) أما التأليف فقد كان له فيه حظ موفور، يتجلى في مجموعة الكتب القيمة التي ألّفها، وقد ظهر لنا أنه كان يفيد في التصنيف من المجاورة في الحرمين، والتي كان يكثر منها، وقد وجدنا في آخر النسخة التي بخط المصنف: (وفرغ من كتابتها مؤلف الكتاب عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الكِنَانِيّ الشافعي- غفر الله لهم- يوم الأربعاء، الثاني والعشرين من صفر، عام خمسة وخمسين وسبعمائة، بالمدينة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام)؛ انتهى.

وهذا النص نقله بحروفه عبدالوهاب بن عمرالحسيني الذي قابل نسخة الظاهرية على نسخة الإمام الفيروزآبادي، أثبته بخطه


1- ابن قاضي شبهة، 101: 3.
2- الدرر الكامنة، 489: 2، قال في ذيله" في نسخة 24" قلت: لكن الصواب 14، لأنه ثبت كتابةً عند ابن قاضي شبهة.
3- السبكي 89: 10.
4- كما في ابن قاضي شبهة 102: 3.
5- السبكي والدرر، في الموضعين السابقين.

ص: 168

في آخر المجلد الأول نقلًا عن الفيروزآبادي، فقال: (وجدتُ بخط الشيخ مجد الدين: (1) وفرغ من كتابتها مؤلف الكتاب ...) إلى آخر ما ذكرناه بحروفه.

وهذا يوافق سنة استقالته الأولى لأجل الحج والمجاورة، سنة 754، (2) فيوافق الحج هذه السنة، والبقاء في المجاورة إلى شهر صفر وما بعده من سنة 755 ه- وكانوا يخرجون للحج من شهر رجب.

عبادته: تلقى الإمام عزالدين بن جماعة العلم والعمل جميعاً من مشايخه، ولاسيّما والده الذي عرفنا شهادة الأئمة له بالعلم، والعمل، والورع، حتى إنه رفض راتب القضاء لما وجد نفسه في سعة، ولما ولي على الإشراف على المدرسة الكاملية، أعاد إلى الوقف ما أخذه منها أيام طلبه للعلم فيها، لأنه اطلع على أنّ شرطها مبيت الطالب فيها، وكان هو لايبيت فيها. (3) كذلك نجد العز بن جماعة يسلك طريق أهل التَّعَبُّد في حياته، فهو يكثر من الحج والمجاورة، كما شهدوا له بذلك، وبهذا يخلو الجو للعبادة، والتوجه بكليته إلى الله تعالى، في الحرمين الشريفين، ما لا يخلو له في مصر، حيث المنصب، والمجتمع، والأشغال الكثيرة؛ ويجد الفراغ أيضاً للتأليف والبحث العلمي.

وكذلك نجد في العز بن جماعة رجل الإصلاح القضائي، لِمَا أجْراه في تعيين القضاة وإدارة العمل القضائي، ... ورجل الإصلاح الديني في المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن أمثلة ذلك ما نجده في كتاب الحج هذا من تنبيه على منكرات ومخالفات لأهل زمنه يحذِّر الناس منها، وكذلك ما يحدثنا هو نفسه في هذا الكتاب كيف سعى لتغيير المنكر بنفسه، وأزال بدعته في الطريق بين الحرمين، على الرغم من أنه كان بعيداً عن سلطانه.


1- هو الشيرازي الفيروزآبادي صاحب القاموس: 59- 60.
2- أنظر: 20- 21.
3- أنظر: 11.

ص: 169

قال في الباب الخامس: وبعد هذه المنزلة قُبيل قاع البَزْوَة شِق في جبل هناك على يمين الذاهب إلى مكة المشرفة، فُتِن العوام به يزعمون أن سيدنا رسول الله (ص) صلى فيه، وليس لذلك أصل.

ومررت به سنة تسع وأربعين وسبعمائة قبيل طلوع الشمس، فرأيت فيه زحمة، ورأيت النساء مختلطات بالرجال، وهو يصلون به في هذا الوقت المكروه، فسألتُ بعضهم عن صلاته؟ فقالوا: تحية البقعة! فنهيتم عن ذلك، وحذرتُهم من العَوْد إليه ... (1) أما الفقه فقد طلبه وحصّله من أئمة زمنه، واشتغل فيه تدريساً كما مر، وتصنيفاً، وتخريجاً لأدلته، قال ابن رافع: (جمع شيئاً على المهذب، وعمل المناسك الكبرى، والصغرى، وخرّج أحاديث الرافعي، وتكلم على مواضيع من المنهاج). (2) وهذه كلها في الفقه، فكيف يكون غير ماهر فيه، وله كل هذا الاشتغال به.

بل إنّ الإمام عزالدين بن جماعة لم يقتصر على الفقه الشافعي الذي تخرّج فيه، حتى تَجاوزه إلى سائر المذاهب الأربعة وأدلتها، وهذا كتابه (هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك) خير وثيقة، وأقوى برهان على رسوخه في المذاهب الأربعة، وإحاطته بمصادرها، ومعرفة رجال الفتوى في كل مذهب منها، مما لا يمكن أن يصدر إلّا عن فقيه عميق المعرفة، دقيق التمييز، ليس في مذهب واحد فحسب، بل في كل المذاهب المعمول بها في الأمصار الإسلامية ...

وفاته: كان الإمام أبوعمر عزالدين عبدالعزيز بن جماعة قد بلغ من العمر لدى استقالته من القضاء اثنتين وسبعين سنة، فخلّى نفسه للعبادة والحج والزيارة، لتوافيه منيته في السنة التالية، وهو على أحسن حال وأكمله.

قال الحافظ ابن حجر: وحج القاضي عزالدين من سنته وجاور إلى أن مات في السنة المقبلة، وكان يقول: أتمنى أن أموت في أحد


1- الفرع الرابع عشر: 362؛ ولم يبق لهذا الشق وجود الآن ولله الحمد.
2- الدرر الكامنة 489: 2.

ص: 170

الحرمين معزولًا عن القضاء، فنال أمنيته في الأمرين، ودفن بالقرب من الفضيل بن عياض بباب المعلاة. (1) وقال معاصره الإمام تاج الدين السبكي: واستمر على الزّاوية، وجامع طولون وجامع الأقمر- يعني استمر على دروسها بعد الاستقالة- وانفصل عن القضاء ومتعلقاته إلى أوان الحج، أخبره فقير أنه رأى النبي (ص) في المنام يقول له: (فلان أوحشنا)، وذكر هو أنه رأى والده يقول في المنام: (الذي رآه الفقير صحيح)، فَحَجّ وجاور بمكة، إلى جمادى الأولى، توجه إلى زيارة النبي (ص) وعاد إلى مكة، فأقام بها ثلاثة أيام معافي، ثم مرض فاسْتَمَرّ به المرض عشرة أيام، فَتُوُفّيَ في عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وستين وسبعمائة بمكة، ودُفِنَ في حادي عشر، بين الفضيل بن عياض، والشيخ نجم الدين الأصفهاني.

ويسجل الإمام ابن كثير وهو معاصر لابن جماعة نبأ وفاته في أحداث سنة 767 ه- ويبرزها تحت عنوان خاص، فيقول:

(وفاة قاضي القضاة عزالدين بن جماعة الشافعي: في العشر الأول من شهر شعبان قدم كتاب من الديار المصرية بوفاة قاضي القضاة عزالدين عبدالعزيز بن بدرالدين محمد بن جماعة بمكّة شرفها الله، في العاشر من جمادي الآخرة، ودفن في الحادي عشر في باب المعلّى، وذكروا أنه توفي وهو يقرأ القرآن، وأخبرني صاحب الشيخ محي الدين الرحبي حفظه الله أنه كان يقول كثيراً: (أشتهي أن أموت وأنا معزول، وأن تكون وفاتي بأحد الحرمين)، فأعطاه الله ما تمناه، عزل نفسه في السنة الماضية، وهاجر إلى مكة، ثم قدم إلى المدينة لزيارة رسول الله (ص) ثم عاد إلى مكة، وكانت وفاته بها في الوقت المذكور، فرحمه الله وَبَلَّ بالرحمة ثراه.

وقد كان مولده في سنة أربع وتسعين، فتوفي عن ثلاث وسبعين سنة؛ وقد نال العِزُّ عِزّاً في الدنيا، ورفْعَةً هائلة، ومناصبَ وتداريس كباراً، ثم عَزَلَ نفسه، وتفرّع للعبادة، والمجاورة بالحرمين الشريفين، فيقال له ما قُلْتهُ في بعض المراثي:


1- الدرر الكامنة 490: 2.

ص: 171

فكأنك قد أعلمت بالموتِ حتى* تَزَوَّدْتَ له من خيار الزاد. (1) ثناء العلماء عليه: احتل الإمام أبوعمر عزالدين عبدالعزيز بن جماعة، مكانة هامة عالية في التاريخ العام، حتى سُجِّلَتْ وقائِعُ حياته في أحداث التاريخ، بحسب وقتها من السنين، كما احتل مكانة عالية هي مكانة الإمامة في العلم، فاتفقوا على وصفه بها، وأثنوا على علمه وسيرته.

قال معاصره جمال الدين عبدالرحيم الإسنوي: نشأ في العلم و الدين، ومحبة أهل الخير، ودّرس وأفتى، وصنف تصانيف كثيرة حسنة، وخطب بالجامع بمصر، وتولى الوكالة الخاصة والعامة، والنظر على أوقاف كثيرة، ثم قضاء القضاة بالديار المصرية في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، فسار فيه سيرة حسنة، وكان حسن المحاضرة، كثير الأدب، يقول الشعر الجيد، ويكتب الخط الحسن السريع، حافظاً للقرآن، سليم الصدر، محباً لأهل العلم، يشتغل عليهم الكثير ... (2)ويقول الإمام الذهبي وهو معاصر له أيضاً توفي سنة 748 ه- قبله بنحو عشرين سنة: (قدم- أي والده- علينا بولده طالب حديث في سنة خمس وعشرين، فقرأ الكثير، وسمع، وكتب الطباق، وعُنِيَ بهذا الشأن، وكان خَيِّراً صالحاً، حسن الأخلاق، كثير الفضائل، سمعت منه، وسمع مني ...) وأثنى عليه بالتَّصَوُّن والديانة. (3) وقال ابن قاضي شبهة: قاضي القضاة، شيخ المحدثين، بركة المسلمين، عزالدين أبوعمر ...، نشأ في طلب العلم، وسمع الكثير، وحدّث، وأفتى، وصنف، وكان كثير الحج والمجاورة. (4) وهذا إمام من أئمة الفقه الشافعي، ومن أئمة الحديث والجرح والتعديل، وهو قاضي قضاة دمشق الإمام تاج الدين السبكي، المعاصر للإمام عزالدين بن جماعة يقول فيه: كان نَسَمَةً سعيدة ...، محباً


1- البداية والنهاية 334: 14، وفيه سقط وتحريف قوّمناه هنا.
2- الإسنوي 187: 1.
3- ابن قاضي شبهة 103: 3؛ وانظر الدرر الكامنة 489: 2.
4- ابن قاضي شبهة 101: 3.

ص: 172

للحديث ولسماعه، معمورَ الأوقات بذلك، نافذ الكلمة، وجيهاً عند الملوك، كثير العبادة، كثير الحج والمجاورة، ونال ما لم يَنَلْهُ أحدٌ قبله، مِنْ مَزيد السعد، مع حسن الشهرة، ونفاذ الكلمة، وطول المدة، وكثرة السكون. (1) وقال الإمام تقي الدين محمد الحسني الفاسي المكي: (كان سعيد الحركات، متين الديانة، كثير العبادة، له وقع في النفوس، معظماً عند الخاصة والعامة بحيث بلغ من أمره أنّ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أغدق الولايات في الممالك لمن يعينه، وهو مع ذلك مطّرح الجانب. (2) وقال السيوطي فيه: الحافظ الإمام قاضي القضاة عزالدين أبوعمر ... أخذ عنه العراقي، ووصفه بالحافظ. (3) آثاره العلمية: أثنى العلماء على الإمام أبي عمر عزالدين عبدالعزيز بن جماعة بالفضل في الفقه والحديث، وبدأبه على الاشتغال، قال الفاسي: وله نظم، وما زال يكتب ويُسمِعُ، ويشتغل ويصنف، حتى وفاته ... (4) وكانت مؤلفاته في مختلف العلوم الشرعية، والعقلية، والتطبيقية، حتى فاخروا به الأمم الأخرى ... (5) وقد خلدت العزّ بن جماعة مؤلفات قيّمة ومتنوعة، وصفها الإسنوي بقوله: وصنف تصانيف كثيرة حسنة؛ انتهى.

ومن هذه التصانيف مايلي:

1. كتابه الكبير في المناسك على مذاهب الأئمة الأربعة، في

2.


1- ابن قاضي شبهة 81: 10.
2- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 460: 5، ومراد العبارة الأخيرة الزهد بهذه المناصب.
3- طبقات الحفاظ للسيوطي: 536؛ وانظر نحوه في ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني: 41، والعراقي هو الإمام عبد الرحيم بن الحسين، أميرالمؤمنين في الحديث.
4- العقد الثمين: 458.
5- شذرات الذهب 139: 7.

ص: 173

مجلدين، وهو كتاب (هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك) ...، قال ابن قاضي شبهة: (مشتمل على نفائس وغرائب).

3. (تخريج أحاديث الرافعي) في مجلدين، قال ابن قاضي شبهة: (وهو كتاب نفيس جليل)، قلت: وعوّل عليه الحافظ ابن حجر في كتابه (تلخيص الحبير).

4. (المناسك الصغرى)، وقد طبع بتحقيق الدكتور حسين بن سالم الدهماني التونسي، ومنه نسخة خطية قديمة في المكتبة الظاهرية، قال في مطلعه: أما بعد، فهذا مختصر مناسك الحج اختصرت فيه من منسكي الكبير على مذاهب الأئمة الأربعة ورتبته على ستة أبواب ...، ويقع هذا المختصر في أربع وعشرين ومائة صفحة.

5. (السيرة الكبرى).

6. (السيرة الصغرى).

7. شرح على المذهب للشيرازي، لم يكمل، قالوا: (جمع شيئاً على المذهب).

8. تعليق على مواضع من منهاج الطالبين للنووي. وقال بعض المتأخرين: (صنف شرحاً على المنهاج لم يكمله). (1) 9. (التساعيات في الحديث)، (2) وهي أحاديث بينه فيها وبين النبي تسع وسائط فقط، أخرجها أبوجعفر محمد بن عبداللطيف بن الكوبك. (3)

.10


1- ابن قاضي شبهة 102: 3- 103؛ والدرر الكامنة 489: 2، ولم يذكر أي كتاب سيرة، وذكر في كشف الظنون السيرة الصغرى 1013: 2؛ والمناسك الكبرى 1829: 2 و 2030).
2- الأعلام، للزركلي 26: 4. طبع دارالملايين.
3- كشف الظنون لحاجي خليفة 403: 1.

ص: 174

11. (نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب). (1) 12. (أنس المحاضرة بما يستحسن في المذاكرة) قال الزركلي: (وهو مجلد ضخم رأيته في مغنسيا). (2)" (3) 7. الإمام العلامة الحافظ أبوالطيب تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي المكي المالكي، (775 ه- 832 ه)

مؤلف كتاب: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام؛ الطبعة الثانية، مقابلة، وتحقيق أيمن فؤاد سيد، ومصطفى محمد الذهبي، دار إحياء الكتب العربية، 1999 م

حياة الإمام تقي الدين الفاسي المكي:

... كان الفاسي يلقب بتقي الدين، ويكني أبا الطيب، وكان قاضي المالكية بالحرم الشريف، وقد ولد في ليلة الجمعة لعشرين من ربيع الأول عام 775 هبمكة المكرمة، ونشأ بها، وتتلمذ على علمائها وأهل الفضل فيها، وعنى بالحديث، فقرأ وسمع كثيراً من الكتب، وروى كثيراً من الأحاديث، وقد أجازه كثير من العلماء الأعلام، وقرأ عليهم، وأخذ عنهم، ومن هؤلاء:

1. الإمام العلامة قاضي مكة جمال الدين محمد بن عبدالله بن ظهيرة القرشي المخزومي المكي. (4) 2. جده لأمه قاضي القضاة كمال الدين أبوالفضل محمد بن

3.


1- الأعلام وهو في كشف الظنون 1940: 2، منه نسخة في الجامعة الأردنية، كما في فهرس المخطوطات العربية المصورة 2: رقم 338.
2- المرجع السابق، وذكر الرقم 5286 وقال: أنجزه سنة 762 ه.
3- 7: 1- 8، 13- 15، 22- 23- 27- 33.
4- هو أحد أجداد ابن ظهيرة المؤرخ صاحب كتاب الجامع اللطيف، في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف الذي ألفه عام 950 ه.

ص: 175

أحمد النويري الشافعي، خطيب مكة وقاضيها، عالم الحجاز في عصره، والمؤرخ المشهور.

4. ابن جده المذكور لأمه، وهو خال المؤلف، قاضي الحرمين محب الدين النويري.

5. الإمام أبوالمعالي عبدالله بن عمر الصوفي.

6. العلامة اللغوي قاضي اليمن مجدالدين محمد بن يعقوب الشيرازي الفيروزآبادي (729- 817 ه) صاحب (القاموس المحيط). (1) 7. العلامة المؤلف الشيخ كمال الدين محمد الدميري المصري الشافعي، ثم المالكي، المتوفي عام 808 ه.

8. العلامة إبراهيم بن محمد الدمشقي الصوفي المعروف بالبرهان.

9. الإمام المؤرخ المشهور الشيخ ابن خلدون المتوفي عام 808 ه، صاحب المقدمة والكتاب التاريخي المشهور.

10. الإمام الشهاب أحمد العلائي، وروى عن كثير آخرين من العلماء الأجلاء، والفاسي مؤلف هذا الكتاب يروي غالباً عن الإمامين: أبي أحمد البرهان إبراهيم بن محمد اللخمي، وأبي الفرج الجلال عبدالرحمن بن أحمد العربي ... وكذلك أخذ عن كثير من شيوخ عصره وأئمة زمانه، وكان معاصراً لشيخ الإسلام الحافظ الشهاب أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المصري المشهور، صاحب (فتح الباري) المتوفي عام 852 ه.

ويذكر الفاسي في كتابه (شفاء الغرام)، (2) أنه كان قاضي قضاة المالكية بمكة، وأنه باشر تدريس الفقه المالكي في مدرسة السلطان الملك المنصور بمكة عام 814 هفي بدء إنشائها، وكان يقوم


1- راجع ترجمته في 38: 3، وما بعدها من كتاب أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض وهو للمقري صاحب كتاب نفح الطيب.
2- 329: 1 من هذا الكتاب.

ص: 176

بالتدريس فيها فيما بين الظهر والعصر من يومي الأربعاء والخميس من كل أسبوع.

وقد ألف مؤلف هذا الكتاب كتباً جليلة مشهورة في مقدمتها:

1. كتابنا هذا (شفاء الغرام، بأخبار البلد الحرام).

2. تاريخه الكبير المسمي (بالعقد الثمين، في تاريخ البلد الأمين) ...، وقد ترجم فيه لولاة مكة وأعيانها وعلمائها وأدبائها، منذ ظهور الإسلام إلى عصره، وقد رتبه على حروف المعجم وبدأه بالمحمدين والأحمدين، وصدره بذكر رسول الله صلوات الله و سلامه عليه، وفي أوله مقدمة لطيفة تحتوي على مقاصد الكتاب. [قد طبع هذا الكتاب على نفقة معالي الشيخ محمد سرور رحمه الله تعالى، وقد صورت طباعته أيضاً].

3. (تحفة الكرام بأخبار البلد الحرام) وهو اختصار لكتابه (شفاء الغرام)، ويسمى أيضاً (تحصيل المرام، في تاريخ البلد الحرام).

4. (هادي ذوي الأفهام إلى تاريخ البلد الحرام) وهو مختصر من الكتاب السابق (تحفة الكرام).

5. (الزهور المقتطفة، في تاريخ مكة المشرفة) وهو مختصر من كتابه السابق (هادي ذوي الأفهام). (1) 6. (عجالة القرى، للراغب في تاريخ أم القرى).

7. (الجواهر السنية، في السيرة النبوية).

إلى غير ذلك من المؤلفات النفيسة التي كان (شفاء الغرام) أول كتاب يطبع فيها.

وفاته: وقد توفي المؤلف في ليلة الأربعاء للثالث والعشرين من شهر شوال المكرم عام 832 هبمكة المشرفة، بعد أن اعتمر في السابع والعشرين من رمضان من العام المذكور، وترك وراءه آثاراً خالدة،


1- طبع هذا الكتاب بتحقيق علي عمر، الطبعة الأولى، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، عام 1422 ه-/ 2001 م.

ص: 177

وقلما عني أحد من العلماء بتدوين تاريخ البلد الحرام في كتب مفيدة، كما عنى الفاسي عالم الحجاز وفقيهه ومؤرخه العظيم. (1) 8. القاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون المدني المالكي (ت 799 ه/ 1397 م)

مؤلف كتاب: إرشاد السالك إلى أفعال المناسك، دراسة وتحقيق محمد بن الهادي أبوالأجفان، قرطاج: بيت الحكمة، عام 1989 م.

ترجمه المحقق قائلًا: قاضي المدينة المنورة برهان الدين أبوإسحاق إبراهيم بن الشيخ أبي الحسن علي بن فرحون المدني الشيخ، الإمام، العمدة الهمام أحد شيوخ الإسلام، وقدوة العلماء الأعلام وخاتمة الفضلاء الكرام، كان فصيح القلم، كريم الأخلاق؛ أخذ عن والده وعمه، والإمام ابن عرفة، وأجازه ووالده، وابن الحباب، وابن مرزوق الجد، وابن جابر، وجماعة؛ ... عاش وهو يسكن داراً بالكراء؛ توفي في ذي الحجة سنة 799 ه-. (2) 9. الإمام أبوالبقاء محمد بن أحمد بن محمد بن الضياء المكي الحنفي قاضي مكة ومفتيها، (789 ه- 854 ه):

مؤلف كتاب: البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى بيت الله العتيق (فضائل مكة والمدينة والقدس، مناسك الحج، حج النبي (ص)، رحلة الحجيج، تاريخ الحرمين وآثارهما)، الطبعة الأولى، تحقيق د. عبدالله نذير أحمد عبدالرحمن مزي، مكة المكرمة: المكتبة المكية، 1427 ه/ 2006 م

يعرض محقق الكتاب لترجمته، يقتصر العرض هنا على بعض ما جاء فيها:


1- الجزء الأول،: 21- 14.
2- مخلوف، محمد بن محمد، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، بيروت: دار الكتاب العربي، ت. د.: 222.

ص: 178

ولادته ونشأته: ولد في ليلة تاسع المحرم، سنة (789 ه) بمكة المكرمة، ونشأ بها، وتعلم، فحفظ القرآن الكريم، ودرس الفقه، والنحو، وأصول الدين على مشايخها ... ورحل مرات كثيرة إلى القاهرة لطلب العلم، وصاحب والده في بداية حياته، وكانت تلك الصحبة باب الخير عليه ...

بعض مناصبه: ناب في القضاء عن والده بمكة، ثم استقل بالقضاء بعد وفاة والده سنة 825 ه ...

مؤلفاته: مؤلفات العالمِ دليل صدق، ومرآة حقيقية تعكس شخصيته العلمية ومكانته بين العلماء ... فمن أهم مؤلفاته:

- الْمَشْرَع في شرح المجمع (أربع مجلدات). (1)- البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى البيت العتيق.

- تنزيه المسجدالحرام عن بدع جهلة العوام (في مجلد)، واختصر منه في رسالة صغيرة. (2)- شرحي الوافي- (الكبير و الصغير). (3)- النكت على الصحيح- (في الحديث). (4)- شرح مقدمة الغزنوي في العبادات، وسماه (الضياء المعنوي)، أو (الضياء المعنوية على المقدمة الغزنوية). (5)- المتدارك على المدارك في التفسير (لم يكمل، ووصل فيه إلى آخر سورة هود). (6)- شرح البزدَوي- في الأصول- (ولم يكمل، ووصل فيه إلى


1- الضوء اللامع 85: 7.
2- وطبعت هذه الرسالة ضمن أوائل رسائل لقاء العشر الأواخر بالمسجد الحرام، لعدة محققين- دار البشائر الإسلامية بيروت، وقام العمل تحت إشراف مؤسسها رمزي دمشقية.
3- كشف الظنون: 438.
4- الأعلام للزركلي 332: 5.
5- فهرس مخطوطات مكتبة مكة المكرمة.
6- الضوء اللامع 85: 7.

ص: 179

القياس). (1)- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف.

ابن الضياء المصلح المجدد: كان ابن الضياء المكي مصلحاً، مجدداً من الطراز الأول فقد حارب البدع والخرافات وبخاصة ما كان يقع من ذلك في (المسجد الحرام)، و (مشاعر الحج)، و (طرق الحجيج) وكان رحمه الله من أشدّ المنكرين على وقوع هذه المنكرات في المسجد الحرام بجوار الكعبة المشرفة ...

وفاته: توفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة سابع عشر ذي القعدة سنة 854 هعن عمر يناهز الخمسة والستين عاماً، قضاها في طلب العلم، والتعليم، والتصنيف، وإحقاق الحق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القضاء والحِسبة، والنظر في شئون الحرم، والأربطة وغيرها.

ودفن رحمه الله من يومه- بعد الصلاة عليه عقب صلاة العصر عند باب الكعبة- بالمعلاة جوار أبيه. (2) 10. الإمام علي بن عبدالله بن أحمدالحسني السَّمهودي (844- 922 ه)

مؤلف كتاب: خلاصة الوفا بأخبار دارالمصطفى (ص)؛ المدينة المنورة: المكتبة العلمية لصاحبها الشيخ محمد سلطان النمنكاني، 1392 ه/ 1972 م

قدمه الشيخ حمد الجاسر، وترجم لمؤلفه قائلًا: يعتبر الإمام علي بن عبد الله بن أحمد السمهودي من أعظم مؤرخي طيبة الطيبة، بل هو أعظم من وصلت إلينا مؤلفاته منهم.

والإمام السمهودي ولد في سمهود من قرى صعيد مصر في شهر صفر سنة 844 ه، وتعلم في القاهرة، وفي سنة 873 هانتقل إلى المدينة فاستوطنها، واتصل بعلماء الحرمين الشريفين وبغيرهم


1- المصدر السابق.
2- 25: 1- 30، 38.

ص: 180

من علماء عصره، وقويت صلته بحكّام مصر، وخاصة الملك قايتباي الذي لقي منه حظوة وعناية، واستطاع بواسطته عمل أشياء كثيرة في المدينة المنورة.

وللسمهودي مؤلفات من أشهرها (وفاء الوفاء) و (خلاصة الوفاء)، و هو في هذين الكتابين لم يترك شاردة ولا واردة تتصل بالمدينة المنورة مما وصل إليه علمه إلّا ذكرها، بحيث أصبح كتاب (الوفاء) يعتبر خلاصة ما ألفه المتقدمون في تاريخ المدينة، باستثناء تراجم أعيانها، ولا نستبعد أن يكون ألف لذلك كتاباً مفرداً في ذلك، وقد توفي السمهودي رحمه الله في شهر ذي القعدة سنة 922 ه. (1) 11. علي بن عبد القادر الطبري، (ت 1070 ه)

مؤلف كتاب: الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء، الطبعة الأولى، تحقيق وتقديم أشرف أحمد الجمّال، مكة المكرمة: المكتبة التجارية، 1416 ه/ 1996 م

يذكر المحقق في ترجمته الآتي:

اسمه ونسبه: هو علي بن عبدالقادر بن محمد بن يحيي بن مجد الدين الطبري، الحسيني، الشافعي، المكي (ت 1070 ه)، يرجع نسبه إلى جماعة الطبريين، وهي من أقدم البيوت التي سكنت مكة، واشتهرت هذه الجماعة بكثرة علمائها وأئمتها، فلم تخل الأسرة الطبرية في عصر من العصور من عالم، أو إمام، أو فقيه، أو خطيب مشهور، وأول من قدم مكة من هذه الأسرة هو الشيخ رضي الدين أبوبكر بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن علي بن فارس الحسيني الطبري، قيل في سنة سبعين وخمسمائة، وقيل في أول التي بعدها، وقد أنجب سبعة أولاد فقهاء، قال عنهم الشيخ فخرالدين عمر بن فهد في كتابه (البيتيين في تراجم الطبريين): (كانوا كلهم علماء مدرسين) وسرد نسبهم إلى الحسين بن علي بن أبي طالب فقال:


1- الصفحة: ز- ح؛ العيدروس، محي الدين عبدالقادر، النور السافر عن أخبار القرن العاشر،: 58؛ والزركلي، الأعلام 307: 4.

ص: 181

أبوبكر بن محمد بن إبراهيم بن إبي بكر بن علي بن فارس بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبدالواحد بن علي بن الحسين بن علي بن إبي طالب، الحسيني، الطبري).

وقد كان مؤلفنا مؤرخاً، وإماماً، وفقيهاً، ودارساً للحديث، قام في حياته بخدمة التدريس، والإفتاء، فهو يقول: (فشرعت في العلوم الشرعية والأهم المقدم، ثم صرفت الهمة للقيام بخدمتي التدريس والإفتاء، والانتصاب لجواب من سأل، أو استفتى).

كان مقيماً بمكة، وأنه تسلم وظيفة تدريس الحديث بها سنة 1040 ه، أي قبل وفاته بثلاثين سنة، ومما لاشك فيه أنه كان لمؤلفنا مكانة عظيمة في مكة، ذلك لشهرة أسرته، ونجابة أفرادها علماء، وأئمة، وفقهاء، وخطباء ...

ولا شك أنّ لأسرة الطبري أثراً كبيراً في ثقافة مؤلفنا، فهو مؤرخ، فقيه، ناثر، خطيب، مشارك في علوم أخرى، وربما كان أكثر المؤثرين في ثقافته الأصيلة هو والده الشيخ عبدالقادر الطبري (ت 1033 ه)، ويدلل على ذلك ما يطرحه المؤلف نفسه في كتابه، وكثرة أخذه عن والده، وتوافق الروح المنهجية والثقافية لديهما ...

مؤلفاته: كان لمؤلفنا اهتمام كبير بتاريخ مكة المشرفة، بالإضافة إلى اهتمامه بعلوم أخرى، أهمها الفقه، والحديث، وقد ترك لنا الطبري عدة مؤلفات تناولت موضوعات شتّى، إلّا أن أغلبها ينصب على تاريخ مكة، وما تختص به هذه البلدة المشرفة، ومن مؤلفاته:

1. (سيف الإمارة على مانع نصب الستارة)، قال في سبب تأليفه له: فاستفتى السيد محمد أفندي الحاضرين من العلماء في نصب ساتر حول البيت" يقصد الكعبة" تكون الفَعَلة من خلفها عند البناء، فاختلفت آراء الحاضرين، فمن قائل بالاستحسان، ومن قائل بعدمه، وكنت من المستحسنين لجعلها، وألفت في ذلك رسالة لطيفة سميتها: سيف الإمارة على مانع نصب الستارة.

وقد ذكرها صاحب (معجم المؤلفين 126: 7) باسم (شن الغارة على مانع نصب الستارة)، وكذلك صاحب (هدية العارفين 759: 5)، و (إيضاح المكنون 57: 3).

ص: 182

2. (شرح الصدور وتنوير القلوب في الأعمال المكفرة للمتأخر والمتقدم من الذنوب)، وهي أرجوزة نحو أربعين بيتاً.

3. (تحفة الكرام بأخبار عمارة السقف والباب لبيت الله الحرام) يقول الطبري: وقد بينت فيها جواز قلع الباب- باب الكعبة- ولو للزينة، كما صرح به العلماء.

4. (الأقوال المعلمة في وقوع الكعبة المعظمة).

5. (الجواهر المنظمة بفضيلة الكعبة المعظمة).

6. (رسالة في بيان العمارة الواقعة بعد سقوط الكعبة).

7. (فوائد النيل بفضائل الخيل).

8. وأخيراً كتاب (الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء).

ولنتركه بين يدي القارئ يقدم نفسه، ولا يسعنا إلّا أن نقول: إنه بالفعل أهمّ الكتب التي تركها لنا عليّ بن عبدالقادر الطبري. (1) 12. جمال الدين محمد جارالله بن محمد بن أبي بكر بن علي بن ظهيرة القرشي، (ت 986 ه)

مؤلف كتاب: الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت العتيق، مكة المكرمة: مكتبة الثفافة، 1392 ه-/ 1972 م.

هو جارالله بن القاضي أمين الدين بن ظهيرة المكي المخزومي الحنفي، ترجمه العلامة قطب الدين المكي في تاريخه المخصوص بالحوادث فقال: شيخ الفتيا والتدريس، ومرجع العلماء، وصفوة الفقهاء بمكة المشرفة، كان مفرد زمانه في العلم، والفضل، والدين، والتقوى؛ قرأ الفقه على الشيخ أحمد بن طولون، والشيخ محمد النجمي، والشيخ أحمد القدسي، وأكابر العلماء: كالشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الغفار، والشيخ بهاء الدين بن سالم.


1- 11:- 13.

ص: 183

وتصدر للتدريس والفتوى وكان لطيف الذات، حسن العشرة، عظيم المروءة، توفي بمكة ليلة الأحد ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين وتسعمائة؛ انتهى.

قال صاحب النشر، قلت: وقد قلد المترجم إفتاء مكة المشرفة، وهو والد شيخ الشيوخ القاضي علي ولصاحب الترجمة فتاوى، وتاريخ منيف مسمى بالجامع اللطيف ذكر فيه فضائل مكة ومآثرها. (1) 13. السيدعفيف الدين عبدالله بن إبراهيم بن حسن بن محمد أمين ميرغني الحسني المتقي المكي الطائفي الحنفي (الملقب بالمحبوب)، (ت 1207 ه)

مؤلف كتاب: عدة الإنابة في أماكن الإجابة، الطبعة الأولى، تحقيق د. عبدالله نذير أحمد مزّي، مكة المكرمة: المكتبة المكية، 1429 ه/ 2008 م

يذكر محقق الكتاب في ترجمته للمؤلف: هو عبدالله بن إبراهيم بن حسن، بن محمد أمين بن علي، ميرغني الحسني، المتقي، المكي، الطائفي، الحنفي، الملقب: بالمحجوب (عفيف الدين، أبو السيادة) عالم، فاضل، فقيه من فقهاء الحنفية، أديب، شاعر، مشارك في أنواع العلوم؛ ولد بمكة، ونشأ بها، وأخذ عن المشايخ الأجلّاء.

قال الجبرتي: حضر دروس الشيخ أحمد النخلي وغيره، وانتقل إلى الطائف، فسكنها في عام 1166 ه، وصنف كتباً كثيرة في العقيدة، والحديث، والفقه، والآداب الدينية، إلى أن توفي في قرية السلامة، سنة 1207 ه.


1- غازي، عبدالله محمد، نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر: 6- 7. مخطوط خاص؛ وانظر الزركلي، الأعلام 59: 7.

ص: 184

قال عنه النبهاني: أحد أكابر الأولياء العارفين، ... ومآثره شهيرة ومفاخره كثيرة، وكراماته كالشمس في كبد السماء، وله مؤلفات كثيرة في علوم شتى. 14. الشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن محمد المالكي المكي المعروف بالصَّباغ (1243 ه- 1321 ه)

مؤلف كتاب: تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم وولاتها الفخام، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 1424 ه/ 2004 م

يستعرض محقق الكتاب حياة المؤلف قائلًا: اسمه، محمد بن أحمد بن سالم بن محمد المكي المالكي، المعروف بالصبَّاغ. (1) مولده: ولد الصباغ- رحمه الله- بمكة سنة ثلاث وأربعين ومائتين وألف من الهجرة. وبها نشأ، وأما والده فلم يولد فيها بل قدم إليها من مصر.

نشأته وحياته العلمية: نشأ الصباغ في رحاب البيت العتيق، ينهل من علماء زمانه، ومشايخ وقته، ومن العلماء الوافدين إلى البيت العتيق، حفظ القرآن، وطلب العلم، وتفقه على مذهب الإمام مالك بمكة، واشتغل الصباغ بالعلم، فأخذ عن مشايخ الوقت العلماء الأعيان ... قرأ على مفتي مكة السيد أحمد زَيْني دحلان، وقرأ على مفتي المالكية الشيخ حسين (الشفا)، و (موطأ الإمام مالك)، و (البخاري) في الحديث، وفي الفقه (حاشية الصفتي)، و (رسالة أبي


1- مصادر ترجمته: مختصر نشر النور والزهر: 400؛ وفيض الملك المتعالي 73: 3؛ والأعلام للزركلي 21: 6؛ ومعجم المؤلفين 262: 8؛ ونشر الرياحين 523: 2؛ وفهرس دارالكتب المصرية 125: 5؛ ومجلة المنهل 344: 7، وأرّخ وفاته سنة 1311 هوفهرس المخطوطات المصورة 2: رقم 614؛ وفهرس مخطوطات التراجم والتاريخ والسيرة النبوية في مكتبة الحرم المكي الشريف: 30.

ص: 185

زيد)، و (أقرب المسالك)، و (شرح الدردير على مختصر خليل)، وفي علم العربية (شرح القطر لابن هشام)، وغير ذلك من الكتب العظام.

وكان رحمه الله مؤرخاً، ذا ذكاء وحافظة جيدة، وكان من جملة المطوفين للحجاج المغاربة.

شيوخه: السيد أحمد زَيْني دحلان (1232 ه- 1304 ه)، فقيه مكة مؤرخ، ولد بمكة المكرمة، وتولى فيها التدريس، وكان مفتي الشوافع بمكة، وفي أيامه أنشئت أول مطبعة بمكة، فطبع فيها بعض كتبه، له عدد من التصانيف، منها (الفتوحات الإسلامية- ط) مجلدان، و (السيرة النبوية- ط)، و (خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام- ط) وغيرها، ومات في المدينة المنورة. (1) الشيخ عبدالقادر بن علي مشاط المكي المالكي (1248 ه- 1302 ه-): الإمام بالمقام المالكي، والمدرس بالمسجدالحرام. (2) الشيخ حسين الأزهري (1222 ه- 1292 ه): فقيه، كان مفتي المالكية في مكة، مغربي الأصل، ينسب إلى قبيلة طرابلس الغرب، يقال لها (العصور). (3) مؤلفاته: لم نجد للمؤلف بعد البحث في الكتب التي ترجمت له تأليفاً آخر غيرَ هذا التأليف الذي أسماه (تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم وولاتها الفخام) ... وهو كتاب فريدٌ، قد تضمن القديمَ والجديدَ.


1- مصادر ترجمته: الأعلام للزركلي 129: 1- 130؛ ومعجم المطبوعات: 990- 992؛ والأعلام الشرقية 75: 2- 76 ... ولادته سنة 1232 ه؛ وحيلة البشر 181: 1- 183؛ وفهرس الفهارس 290: 1- 292؛ وهدية العارفين 191: 1؛ ومعجم المؤلفين لكحالة 229: 1- 230؛ ونشر الرياحين للبلادي 27: 1- 28؛ وفيض الملك المتعالي مخطوط ورقة 30- 31؛ وأدبيات زيدان 288: 4؛ والآداب العربية لشيخو 97: 2؛ وتاريخ آداب اللغة العربية لزيدان 288: 4- 289؛ وفهرس التيمورية 238: 1، 98: 3؛ وفهرس الأزهرية 216: 6؛ واكتفاء القنوع: 422؛ وفهرس التصوف 12:؛ ومجلة المنار 317: 33- 319.
2- مختصر نشر النَّور والزهر: 274- 275.
3- مختصر نشر النَّور والزهر: 180- 181؛ الأعلام للزركلي 230: 2.

ص: 186

وفاته: سافر الصباغ إلى الحجاج الذين كانوا يأتون إلى مكة من المغرب لزيارتهم، وقضاء حاجاته على عادة المطوفين، وتوفي بالمغرب سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وبذلك يكون عمر الصباغ- رحمه الله- ثمان و سبعين سنة؛ وقد ذكر عبدالوهاب الدهلوي في مجلة المنهل أن وفاته سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة؛ وهذا خطأ محض، حيث إن الصباغ انتهى من تأليف كتابه سنة 1320 ه. كما هو مثبت في آخر النسخة الأصل.

أثر كتاب (التحصيل) للصباغ في المؤلفات التي أتت بعده: اعتنى المصنفون في تاريخ مكة بكتاب الصباغ (التحصيل)، وأكثروا من النقل عنه، وذلك يدل على مكانة كتاب (التحصيل) لدى العلماء:

أ- فقد أكثر الغازي (1290 ه- 1365 ه) النقل عن (التحصيل) في كتابه (إفادة الأنام بذكر أخبار البلد الحرام)، وقد بلغت المواطن التي نقل فيها من كتاب التحصيل (126) موضعاً.

ب- كما أنّ الكردي (1321 ه- 1400 ه) نقل من التحصيل عدداً من النقول في كتابه (التاريخ القويم)، وقد بلغت عدد النقول (65) موضعاً.

ج- كما أنّ حسين با سلامة (1299 ه- 1356 ه) نقل من (التحصيل) في كتابه تاريخ الكعبة المعظمة، (10) نصوص.

د- ونقل أحمد السباعي (1323 ه- 1404 ه) في كتابه (تاريخ مكة) ثلاثة نصوص، ولكن لم نعثر عليها في أصل المخطوط. (1) 15. العلامة المحدث المسند المؤرخ الشيخ عبدالله بن محمد الغازي المكي الحنفي، (1290 ه- 1365 ه)

مؤلف كتاب: إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام مع تعليقه المسمى بإتمام الكلام.

الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق: عبدالملك بن عبدالله بن دهيش، مكة المكرمة: مكتبة الأسدي، 1426 ه/ 2005 م


1- ابن دهيش، عبدالملك 7: 1- 10.

ص: 187

ترجم المحقق يحفظه الله للشيخ عبد الله غازي ترجمة مطولة، يقتصر العرض على ما يأتي:

العالم العلامة المسنِد، المؤرخ، عبد الله بن محمد الغازي المكي الحنفي؛ (1) ولد- كما ذكر بخط يده- بمكة المكرمة سنة تسعين ومائتين وألف للهجرة، أو واحد وتسعين. (2) نشأ الشيخ عبدالله الغازي في بيت والده في جبل هندي بمكة المكرمة، وقد توفيت أمه وعبدالله لا يزال صغيراً، فنشأ يتيماً دون إخوة، فربّاه والده، وأحسن تربيته، وقد تأمل والده بابنه عبدالله خيراً بعد وفاة والدته، فاهتم بتربيته وتعليمه، فعيّن له أستاذاً وهو صغير ليعلمه القرآن الكريم، فحفظ القرآن الكريم وصلَّى به في الناس صلاة التراويح في المسجد الحرام، وهو ابن الثانية عشرة من العمر ... (3) وكان عبدالله بارعاً في اللغة العربية، وهذا قد مكّنه من نسخ كثير من الكتب بخط يده، ليحتفظ بها في مكتبة، وذلك لعدم توفر الطباعة


1- مصادر ترجمته: الأعلام للزركلي 134: 4؛ التاريخ القويم 22: 1؛ نشر الرياحين 309: 1؛ أعلام المكيين 704: 2؛ مجلة المنهل 459: 6؛ تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع: 355؛ فيض المبدي: 50؛ جريدة البلاد، عدد 8586 في 10/ 5/ 1407 ه، وعدد 10592 في 17/ 1/ 1414 ه؛ سير وتراجم: 202- 203؛ نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهر: 215 مخطوط؛ الدر الفريد الجامع لمتفرقات الأسانيد: 82؛ قرة العين للفاداني: 233- 234؛ أعلام الحجاز 89: 4؛ الدليل المشير: 217- 227؛ العلماء والأدباء الورّاقون للدكتور عبدالوهاب أبوسليمان: 118- 125؛ مذكرة بخط المؤلف، مذكرة بخط حفيدة المؤلف.
2- ذكرت أغلب مصادر ترجمة المؤلف أن مولده كان عام 1290، بينما ذكر الكردي في التاريخ القويم أن ميلاده كان عام 1291 ه-، والحقيقة أن المؤلف ذكر في مذكرة له كتبها بخط يده أنه ولد سنة ألف ومائتين وتسعين أو واحد وتسعين ... بل المعمول على ما ذكره الغازي بنفسه عن مولده نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهر: 215 مخطوط.
3- مذكرة المؤلف، مذكرة حفيدة المؤلف، أعلام الحجاز: 89؛ قلت: وكانت طريقة الناس في صلاة التراويح في تلك الأيام أنهم يصلون جماعات متعددة، كل جماعة تتخذ لها إماماً، منتشرون في أورقة الحرم وسرادقاته، فمنهم المطيل ومنهم المخفف.

ص: 188

آنذاك، كما أنه أتقن اللغة الهندية من والده، (1) وقرأ بعض الكتب الفارسية، وتعلم النحو والصرف والحساب. (2) ... كان له حلقة تدريس في المسجد الحرام عند باب الزيادة (3) لتحفيظ القرآن الكريم؛ كما كان يدرس الحديث والفقه. (4) وقال تلميذه العلامة الفاداني: كان لا يحضر مجلسه إلّا الحاذقون ... (5) ... لقبه المؤرخون ب- (عميد المؤرخين):

قال الأستاذ الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان: (6) العلامة المحدث المسند عميد المؤرخين المكيين.

... قال الأستاذ طاهر الكردي: (7) عالم فاضل، وصالح كامل، كان جارنا بمكة المشرفة.

وقال أيضاً (8): كان صالحاً صدوقاً عفيفاً، قليل الكلام، لا يدخل فيما لا يعنيه، ولم يترك مطالعة الكتب حتى نهاية حياته.

... وفيما يلي ذكر للكتب التي ذكرتها المصادر للغازي:

1. إفادة الأنام بذكر أخبار بلد الله الحرام؛ في أربعة مجلدات، ونسخة أخرى في ستة مجلدات، ونسخة أخرى سبع مجلدات ...

2. تنشيط الفؤاد من تذكار علوم الإسناد. أو (إرشاد العباد إلى معرفة طريق الإسناد) في تراجم شيوخه ومشايخهم، في مجلدين وهو مخطوط.

3. نظم الدرر في تراجم علماء مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر. وهو مخطوط، اختصره وسماه (اختصار نشر النور


1- مذكرة حفيدة المؤلف.
2- مذكرة المؤلف.
3- باب الزيادة- أو زيادة دار الندوة-: كان يسمى باب سويقة، وقد أنشئ في عهد الخليفة المعتضد العباسي عام 281 ه، تاريخ عمارة المسجدالحرام: 131.
4- مذكرة حفيدة المؤلف، وتشنيف الأسماع: 356.
5- تشنيف الأسماع: 355.
6- العلماء والأدباء الوراقون: 118.
7- التاريخ القويم 23: 1.
8- مجلة المنهل 237: 8.

ص: 189

والزهر في تراجم أفاضل أهل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر).

وقد قام باختصار (نشر النور والزهر) أيضاً ونشره كلٌّ من الأستاذين: محمد سعيد العامودي وأحمد علي.

4. نثر الدرر في تذييل نظم الدرر في تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر ...

وقد أورد الغازي فيه تراجم لعلماء مكة الذين لم يرد ذكرهم في كتاب أبي الخير مرداد حيث توفي عام 1343 ه.

ويعد الكتاب مرجعاً لتراجم علماء مكة في عصر الغازي نفسه، حيث إنه ترجم للعلماء الذين عاصرهم في القرن الثالث عشر والرابع عشر للهجرة.

5. مجموع الأذكار من أحاديث النبي المختار؛ وهو مخطوط ...

وفاته: بعد حياة مليئة بالجد والعمل والتأليف، بعد حياة زهد وقناعة، بعد حياة تعتبر مدرسة في التقلّل من هذه الدنيا، لبلوغ المؤمن مبتغاه من رضى المولى عزّوجل، ومن تحصيل للعلم والشغف به. يُعَدُّ أنموذجاً يحكي لنا ويذكرنا بالسلف الصالح رضوان الله عليهم (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، انتقل من أرض البركة والنور إلى عالم الرفيق الأعلى- بعد أن مرض مدة من الزمن- في ضحوة يوم الخميس خامس شهر شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف، عن عمر يناهز خمسة وسبعين عاماً، قضى معظمه في التأليف والكتابة، وقد صُلِّيَ عليه بالمسجد الحرام في وقت العصر بإمامة السيد أبي بكر بن سالم البار، (1) ودفن بالمعلاة في دكة الشهداء، فرحمه الله رحمة واسعة. (2)" (3) عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان

مكة المكرمة؛ 7/ 5/ 1430 ه- الموافق 3/ 5/ 2009 م.


1- الدليل المشير: 223.
2- مذكرة حفيدة المؤلف.
3- الجزء الأول، ص 8، 11- 12، 15، 35- 38، 46- 48، 50.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.