ميقات الحج-المجلد 33

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

وجيزة حول الكعبة الشريفة

ص: 6

آية الله الشيخ عبدالله جوادي آملي

ألحمدُ للهِ الذي جعل الكعبة قياماً للناس، و الصلاة والسلام على جميع الأنبياء، سيّما الخليل (ع) الذي رفع قواعدها، و الحبيب (ص) الذي طهّرها من الصنم، و عترته المعصومين، سيّما خاتمهم المهدي الموجود الموعود (عج) الذي به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلًا، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً؛ بهم نتولّى ومن أعدائهم نتبرأ إلى الله.

إنّ الله سبحانه خالق كلّ شي ءٍ ممكنٍ و يكون خلقه إيّاه بالتجلّي كما قال مولانا أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (ع): «ألحمدُ لله المتجلّي لِخَلقه بِخَلقه». (1) أي فتجلّى الله سبحانه بالخلق لكل مخلوقٍ فكل مخلوقٍ يعرفُ الله سبحانه و يسبّحه و يحمّده و يسجد و يأتيه طائعاً كما في غير واحدة من الآياتِ، فلا الخلق بالتجافي بل بالتجلّي، و لا المخلوق محجوب عن خالقه المتجلّي له، إذ ليس المتجلّى له هو خصوص الانسان، و إن كان هو أقوى مخلوقٍ تجلّى الله له.

فهذا أصل إلهي، و هو أنّ الله مُتجلٍّ في خلقه و أنّ مخلوقة متجلّى له بلا استثناء في شي ء من هذين المطلبين.

إنّ كمال الخالق و حُسنه الوجودي (لا الاعتباري) يتجلّى في خلقه و إنّ كمال المخلوق و حسنه الوجودي يكشف كمال الخالق و حُسنَه الوجودي، و لا يختصّ ذلك في خلق الإنسان الذي له أحسن تقويم؛ فما ورد


1- نهج البلاغه، الخطبة: 108.

ص: 7

فيه من قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. (1) إنما هو تمثيل لا تعيين، لأنه جارٍ بعينه في إنزال القرآن الحكيم الذي هو أحسن الحديث و أبلغ الموعظة، و حيث إنّ الله سبحانه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِىَ. (2) فهو أحسنُ المتكلّمين وأحسنُ المحدّثين، وما إلى ذلك من الأشباه والنظائر.

إنّ الله سبحانه رفيعُ الدرجات ذو العرش، و يرفع الذين آمنوا درجةً والذين أوتوا العلم درجات، و يرفع الأوحديّ منهم مكاناً عليّاً.

فجميع ذلك مصداق خلقه المتجلّى به للمخلوق، فأيّ مخلوقٍ عَرَفَ نفسَه يعرف ربّه بمقدار معرفته، و لا خصيصة لهذا الأصل بالإنسان، و إن كان له حظٌّ وافرٌ، و لا يمكن أن لا يعرف مخلوقٌ أيّ مخلوقٍ كان نفسه إلّا بسوء عمله الذي يختلف باختلاف المخلوق شدةً و ضعفاً، و كلّ مخلوق عرف نفسه يعرف خالقه المتجلّى له بالضرورة.

و حيث إنّ درجات التجلّي متفاوتةٌ فكلّ مقدارٍ نَقَصَ منه ينتزع من القدر الناقص عنوان التجافي المقابل للتجلّي، إذا الميز بينهما بأنّ المتجلّي يكون جامعاً بين الدرجات بنحوٍ إذا هبط إلى الأرض يكون موجوداً في السماء أيضاً، و إذا نزل إلى السِفل يكون موجوداً في العلو و يصير مظهراً لله الذي هو دانٍ في علوّه و عالٍ في دنوّه، بلا اتّحاد و لا حلولٍ، و بأنّ المتجافي لايكون كذلك، حيث إنّه إذا كان عالياً لم يكن سافلًا، وإن كان هابطاً لم يكن


1- سورة المؤمنون: 14.
2- سورة الزمر: 23.

ص: 8

صاعداً، و ذلك كالمطر حيث إنّه مادام في سحاب السماء لا يكون في بحر الأرض أو نهرها، و مادام هبط إلى البرّ أو البحر لا يكون في سحابها.

مع أنّ كل شي ءٍ مسبوقٌ بوجوده في خزائن الله سبحانه، و أنّ هبوطه إلى الأرض ليس بمعنى خلوّ المخزن عما اختزن فيه؛ فما أفاده سبحانه بقوله: وَإِن مِّنْ شَىْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. (1) حقّ لا ريب فيه، إلّا أنّ بين أنحاء التنزيل فرقاً.

إنّ القرآن قد نزل من لدن عليّ حكيم، و إنّ المطر أيضاً نزل من مخزنه، و لكن بينهما تفاوتاً من البدء إلى الختم، و من كيفية الانزال و ما إلى ذلك؛ فالقرآن نزل بالتّجلي الخاص كما أفاده مولانا أميرالمؤمنين (ع): «فتجلّى لهم سبحانه في كتابه مِن غير أن يكونوا رأوه». (2) والمطر نزل بالتّجافي فالقرآن بمثابة الحبل الممدود من الصدر إلى الساقة بلا طرحٍ و لانبذٍ، و المطر مُلْقىً و مَنْبوذٌ فأين أحدهما من الآخر؟

فالقرآن من أدلّه الذي يكون بيد الله إلى آخره الذي بأيدي الناس كلام الله حيث قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ. (3) والتفصيل موكول إلى موطنه المعدّ لبيان كيفية نزول القرآن و مَيْز نزوله عن نزول غيره.


1- سورة الحجر: 21.
2- نهج البلاغه، الخطبة: 147.
3- سورة الزخرف: 3 و 4.

ص: 9

إنّ الكعبة التي هي قبلة المسلمين، و مطاف الطائفين، و مزار الزائرين، قد نزلت إلى الأرض قرب نزول القرآن إليها، لا كنزول المطر إليها، و يشهد له ما ورد في شأن الحجر الأسود، من أنه يمين الله في الأرض، فمن استلامه فكأنه بايع يمين الله الذي كلتا يديه يمين، مع نزاهته عن الجسم، و برائته عن المادة، و طهارته عن لوث الجسمية، و ما إلى ذلك؛ سبّوحٌ قدّوسٌ ربنا و ربّ الملائكة و الروح.

إنّ الكعبة هي متن القبلة فمن دَخَلَها فهو في عين القبلة بحيث أينما يتوجّه فثَمّ وجهُ الله و لا مَيْز هناك بين الأمام و الخلف و اليمين و اليسار والفوق والتحت إلّا بالاعتبار، و إلّا فالجميع قبلة و البيت الذي هذا شأنه فهو مَجْلىً لله المتجلّي فيه، لأنّه تعالى يكون مع الإنسان أينما كان، و كيف كان، و حيث كان، و لا يعمر هذا البيت إلّا الموحّد الخالص: إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ. (1) و لا يطوف حوله إلّا العتيق عن حُبّ غير الله، و لا يستقبله إلّا المستدبر ما سوى الله.

إنّ الكعبة رقيقةٌ للبيت المعمور الذي يَعْمره الملائكة الذين لايعصون الله ما يأمرهم و هم بأمره يعملون، و لا يسبقونه بالقول و يخافون ربّهم من فوقهم، و يسبّحونه و يقدّسونه، و هم المدبّرون العالَم بأمره تعالى، و حيث إنّ البيتَ المعمور بالملائكة أقوى درجة من الكعبة فهو بتمامه أي داخله و سطوحه الخارجة كلها بحيث أينما يتوجّه إليه مَلكٌ مِن الملائكة فثمّ وجه الله.


1- سورة الأنفال: 34.

ص: 10

والسرّ في تماثل الكعبة و البيت هو أنّ ذلك البيت حقيقةٌ لرقيقة الكعبة، و هي رقيقة لتلك الحقيقة صوناً للتجلّي عن التّجافي، فجميع ما في البيت المعمور حاصلة للكعبة ضعيفاً، و جميع ما في الكعبة حاصلة للبيت المعمور شديداً.

إنّ البيتَ المعمور رقيقةٌ للعرش الإلهي، و ذلك حقيقة لهذه الرقيقة كما أشير في التماثل بين الكعبة و البيت المعمور، و العرش معمورٌ بمن يستولي عليه و هو الله سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. (1) و لكنه تعالى إنما يَعمر عرشه بأسمائه الحسنى، و أوصافه العليا، و كلماته التامّة التي تحكيها التسبيحات الأربع و هي:

سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر

كما دلّت عليها الرواية الدالّة على أنّ تربيع العرش و كونه ذا أركان أربعة إنّما هو لأنّ تلك الكلمات التي بني عليها العرش أربع، فلو أمكن لأحدٍ أن يَصْعَد إليه بإذن الله تعالى فهو يرى نفسه محفوفاً بالتوحيد المشار إليه تارةً بالتسبيح، و أخرى بالتحميد، و ثالثةً بالتهليل، و رابعةً بالتكبير، و هي و إن كانت كثيرة لفظاً و مفهوماً و لكنّها متحدة مصداقاً.

فهذا الصاعد الذي عرج بروحه إلى ذلك المستوى، فهو يرى قلبه، إنّه أينما توجّه فثمّ وجه الله، و حيث إنّ هذا السعيد الصاعد ذو قلب سليم ليس فيه غير حُبّ الله، فيصير بذلك بمنزلة العرش، الذي مبناه، و بناؤه، و


1- سورة طه: 5.

ص: 11

جداره، و سقفه، و بابه، و ميزابه، و كلّ ما يتعلّق به توحيداً خالصاً لله الذي ليس كمثله شي ء.

ثمّ إنّ تلك الكلمات الطيّبة حقيقة العرش الذي هو رقيقتها، و يكون العرش حقيقة البيت المعمور الذي هو رقيقته، و يكون البيت المعمور حقيقة بيت الله في الأرض (الكعبة) الذي هو رقيقته، و من هنا يتبين أنّ نزول الكعبة إلى الأرض بالتجلّي الخاص لا التجلّي العام الذي يصحبه التجافي أحياناً، و أنّ معنى ما قد يقال: إنّ الكعبة من تخوم الأرض إلى عنان السماء قبلةٌ، له معنى دقيق في الفقه الأكبر و الأوسط، كما أنّ له معنى رائجاً في الفقه الأصغر، و أنّ صغر الفقه و كبره يرجعان إلى المحتوى الناظر إلى الجهاد الأصغر و الأكبر، إذ لا يمكن الفتح في الجهاد الأكبر بسلاح الفقه الأصغر، لأنّ لكلّ جهادٍ سلاحاً، و ظَفَراً، و غنيمةً، كما أنّ له هزيمة و غرامة، و أنّ قلبَ المؤمن إنّما يصير عرش الرحمن، إذا التزم بجميع ما في الفقهين الأصغر و الأكبر، و عرفه واعترف به، و آمن بذلك، و عمل به خالصاً لله، البري ء مِن الرّياء، و السمعة، و ما إلى ذلك من هوى النفس، فلابدّ من تضحيتها، و تزكية الروح، و تذكية العقل، حتى يليق بأن يصعد، و يصير بنفسه بمنزلة عرش الرحمن، فحينئذٍ إذا أفيض على قلبه شي ءٌ من المعارف العلمية، أو العملية، يصير ذلك كلمةً عرشية، لأنّها أفيض على عرش الرّحمن و استقرّ عليه، و كلّ ما يستقرّ على العرش يصير عرشياً، فتلك المعارف تصير حكماً عرشية، كما هو المعهود لدى أبناء التحقيق؛ لا أنّ كل مطلبٍ عريقٍ عميقٍ دقيقٍ يستحقّ بأن يُعبّر عنه بالحكمة العرشية؛ لأنّه أفيض على

ص: 12

قلب الغير، و أيّ مطلبٍ أفيض على الغير فهو عارية ترجع إلى صاحبها، و لا مساس لها بالمستعير، فليس له أن يتفوّه بذلك إلّا بعد التصريح بالاعارة و الاستعارة، لأنّ ذلك المطلب السامي، و إن كان مشهوداً للعارف، أو معقولًا للحكيم، إلّا أنّ نقله ليس عرفاناً و لافلسفةً، إذ الناقل المستعير لا يكون عارفاً شاهداً، و لا حكيماً عاقلًا، إذ نقل الشهود و العقل أجني عنه منقوله.

فكما أنّ قارى ء القرآن له أنْ يقرأ و يرقى، حيث يقال له: «إقرأ وارقَ». (1) ولا يختصّ ذلك بالآخرة، و إن كان هنالك بنحو أتم، بل يجري في الأولى أي الدنيا أيضاً، فكل الحاج و المعتمر و الزائر، و كل من يتّجه إلى الكعبة و يصلّي نحوها يقال له: طُفْ، زُر، صَلّ و أرْقَ من الكعبة إلى البيت المعمور، و منه إلى العرش، و منه إلى محتوى التسبيحات الأربع، و صير عبداً خالصاً ذا قلبٍ سليمٍ ليس فيه شي ء سوى حُبّ الله، و حُبّ آثاره القيّمة من القرآن، و العترة (هم) الذين ورد فيهم أنّهم بمثابة الكعبة تُؤتى و لاتأتي؛ لأنّ الإمام لا يكون إلّا كذلك.

إنّ الكعبة التي لم يذكر إلّا بَضْعَة ممّا ورد فيها هي مدار حياة الأمّة و مماتهم وجوباً أو ندباً، من الصلاة، و الذبح، و النَحر، و الاحتضار، و التصلية، و الدفن، و ما إلى ذلك؛ فلذا يقال حيّاً و ميتاً: إنّ الكعبة قبلتي، كما يقال في الحالتين: إنّ القرآن كتابي و إنّ محمداً (ص) نبيّي و رسولي، و إنّ عليّاً و أولاده المعصومين الأحد عشر (هم) أئمّتي، و ما إلى ذلك من الأمور الدينيّة؛ فيلزم معرفتها بحيث لايضيع شي ء من حقّها أوّلًا، ثمّ تجعل


1- الكافي، 606: 2.

ص: 13

سلّماً للصعود إلى البيت المعمور هكذا ثانياً، و من هنا يصح أن يقال: «الكعبة! و ما أدراك ما الكعبة؟! حيث إنّ الطائف لا يرى منها إلّا حجراً لا يضرّ و لاينفع» كما أنّ قارئ القرآن لا يسمع إلّا لفظاً عربياً، و لكنه لا يدري من أين تجلّى؟ و من أين نزل في القوس النزولي؟ و إلى أين يصعد و يترقّي في القوس الصعودي؟

إنّ كلمة «ياء» التي أضيف إليها لفظ البيت في قوله تعالى: طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ .... (1) ليست إضافةً اعتبارية، بل تحكي الإضافة الإشراقية التي يكون المضاف فيها تابعاً للإضافة، بخلاف ما في الاعتبارية منها، حيث إنّ الإضافة فيها تابعة للمضاف، كما أنّها تابعة للمضاف إليه.

والحاصل أنّ إضافة البيت إلى الله تشريفية، تحكي شرافة المضاف تكويناً لا اعتباراً صرفاً، و أنّ التشريف التشريعي يساوق التكوين، إذ الشريعة الإلهية عين الحكمة بلا جزافٍ، و متن الواقعيّة بلا تسامحٍ و لاتساهلٍ.

و إن شئت فقارن هذه الإضافة و الإضافة التي في قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى. (2) إذ المضاف هناك أي الروح موجود مجرّد ملكوتي من أمر الله، و له شأوٍ قاصٍ تحكيه الإضافة المذكورة و إن يكن بين الروح الإنساني المنفوح فيه من الله، و بين ظاهر الكعبة المنبة من أحجار


1- سورة البقرة: 125.
2- سورة الحجر: 29.

ص: 14

لاتضرّ و لا تنفع (1) فرق، و لكن بعد التدبّر في باطنها يعترف بإمكان التشابه، و من هنا قِيل في نعتِ الكعبة باللغة الفارسية المقاربة للعربية في غير واحد من المعارف و الحِكَم عدا ما فيها من القرآن الحكيم و كلام أهل بيت الوحي:

كعبه را جامه كردن از هوس است ياء بيتي جمال كعبه بس است

(2) أي لا تحتاج الكعبة إلى تزيينها بالثوب الحريري و نحوه؛ لأنّ جمالها إنّما هو في لفظة الياء في كلمة بَيْتي في قوله تعالى: طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ. (3) حيث إنّ جمال المخلوق بإضافته إلى الخالق الجميل الذي كلّ جماله جميل، و إن نسأله بأجمله في «دعاء السحر» حسب ما عَلّمنا مولانا أبوجعفر الباقر (عليه و على آبائه الأطيبين و أبنائه الأنجبين آلاف التحيّة و الثناء).

إنّ الكعبة سبب قيام الناس للتوحيد و العدل، على الإلحاد و الظلم، فهو موجب لمقاومتهم تجاه الباطل، أىّ باطلٍ كان، و سببٌ لإقامة الحقّ، أينما كان، فهي أي الكعبة تهدي الناس إلى أن يدوروا مع الحق حيثما دار، و تهدموا الباطل أينما ظهر، لأنّ معها لا يُبدئ الباطل و لا يعيد: قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ. (4) والدليل على كونها أي الكعبة


1- نهج البلاغة، الخطبة: 192.
2- ديوان الحكيم السنائي الغزنوي.
3- سورة البقرة: 125.
4- سورة سبأ: 49.

ص: 15

عاملة للقيام هو قوله سبحانه: قِيَاماً لِلنَّاسِ. (1) فهي محور المقاومة والوحدة الإسلامية من مشارق الأرض و مغاربها، و من يُرد فيها بظلم أو إلحاد يذقْه الله عذاباً أليماً.

و لعلّ بناء الخليل (ع)- الجذّاذ للأوثان و الأصنام- جعل الكعبة سبباً للقيام على كسر أصنام الجاهلية بإذن الله، و الشاهد على أنّ هذا البيت الرفيع بناؤه، هو استقرار مقامه فيه من أبعد عهدٍ إلى اليوم كما قال سبحانه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. (2) والعربي الجاهلي جعله مأمناً للقاتل و كان يحفظه مادام هو فيه، و ليس ذلك لكونه معبداً للصنم، إذ لم يعهد إجْلال معبده أصلًا، حيث إنّه كم من معبد في شرق الأرض و غربها للصنم و الوثن لا يعهد فيه مثل ذلك؛ والحاصل أنّ الكعبة سبب قيام الناس للاعتقاد.

وأنّ المال سبب قيام الناس للاقتصاد حسبما يستفاد من قوله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً. (3) فإذا قام الناس بالكعبة للاعتقاد، يتمّ لهم القيام بالمال للاقتصاد، و إذا قعدوا عنها و لا يقوموا بها للاعتقاد صار المال وبالًا و دولةً بين الأغنياء منهم، و يصيرون شيعاً يستضعف الغنيُّ منهم الفقير، و يستأثرون لأنفسهم ما الناس فيه شَرَعٌ سواء، و يخضمون مال الله خضم الإبل نَبْتَة الربيع، و يحومون حوم النثيل والمعتلف، أعاذ الله الأمة الإسلامية من هؤلاء، و من يحذو حذوهم.


1- سورة المائدة: 97.
2- سورة آل عمران: 97.
3- سورة النساء: 5.

ص: 16

فالحج و العمرة سير إلى سبب القيام للاعتقاد، و تعديل لما هو عامل القيام للاقتصاد، إذ: ما جاع فقيرٌ إلّا بما مُتّع به الغنيّ.

إنّ التحقيق حول معنى التجلّي الممتاز عن التجافي، و حوم الحقيقة و الرقيقة يزيح أي شكٍّ يمكن أن يختلج ببال مَن لا يؤمن إلّا بما يراه جَهْرةً، فيقول: لو كانت الكعبة بحذاء البيت المعمور للزم سكون الأرض و السماء معاً، أو حركتهما من مبدإ خاص إلى منتهى مخصوص على سرعة خاصّة، حفظاً للمحاذاة، ذهولًا عن معنى التحاذي المعنوي، و غفلةً عن التقابل الملكوتي، و ما إلى ذلك مما يناسب تحاذيهما كمحاذاة البيت المعمور العرش المحاذي للكلمات الأربع.

إنّ الإنسان المطبوع على قلبه، المختوم على سمعه و بصره، كما يُبَدل هويّته، ويجعل فؤاده كالحجر أو أشدّ قسوةً، يجعل أوّل بيتٍ وُضع للناس بيت العنكبوت، و لا تكون عبادته لديه إلّا مكاءً و تصديةً، فمن دسّى نفسَه و خاب بتدسيسها، يُبَدل أقوى البيوت بأوهنها، و أمّا من عرف نفسه و زكّاها، يعرف قدرها و ينفتح له بذلك أبواب المعارف و الحِكم، و ينكشف له سرّ التعبير عن الكعبة بالبيت، مع أنّه لا بيتوتة هناك لأحدٍ، والسرّ هو أنّ عنوان البيت يحكي الليل التي إليها بركات، لاتوجد في النهار كما قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا. (1) و المرجوّ أن تتبرّك الأمّة الإسلامية على اختلاف مذاهبها ببركة الكعبة ما هو خير لها.

آمين يا ربّ البيت الحرام


1- سورة المزمل: 6.

ص: 17

مقالة و رسالة

آية الله الشيخ جعفر السبحاني

1. التبرّك

على ضوء الكتاب والسنّة

لا يشك ذو مسكة في أنّ التقريب بين المذاهب الإسلامية وقادتها وأتباعها، هو بغية كلّ مسلم عارف بما يسودهم من الظن السيِّئ والتباعد بينهم، وأنّ أعداء الإسلام على سعي حثيث، في زرع العداء والتباغض بين أبناء الأُمّة الواحدة، وإغراء طائفة على طائفة أُخرى بصور مختلفة، وبين ظهرانيهم آذان صاغية للنعرات الجاهلية، كما أنّ بينهم أقلاماً مستأجرة تلعب بحبل الأعداء لإشعال نار الفتنة بين الإخوة، الذين تجمعهم وتربطهم أُمور شتّى من الإيمان بالله ورسله وكتبه وخاتم أنبيائه وسنّته وشريعته إلى غير ذلك من أواصر الوحدة.

والطريق الوحيد لتقريب الخُطى بين الإخوة هو الدعوة إلى الأخذ بالمشتركات، وتبيين أنّ ما يوحِّد المسلمين على اختلاف فرقهم أكثر ممّا يفرقهم ويشتّتهم، فاللازم هو التأكيد على أواصر الوحدة، والإغماض عما

ص: 18

يسبِّب الفُرقة، خصوصاً إذا كانت المفرّقات مسائل كلامية أو فروعاً فقهية ممّا لا تمتّ إلى الإيمان والكفر بصلة.

ولأجل أن نجسّد كيفية الدعوة إلى الوحدة الإسلامية نضع أمام القارئ الكريم (سنّياً كان أم شيعياً) رسالة التبرّك بآثار النبي (ص) الّذي هو من الأُصول المشتركة بين عامّة المذاهب الإسلامية، عسى أن نُسكت الصوت المخالف لهذا الأمر الّذي دعا إليه الكتاب والسنّة، ونساهم في تعزيز الروابط بين المسلمين، حتّى يصبح الجميع في كلّ موطن وموقف إخوة متحابّين متمسّكين بحبل الوحدة، الّذي أرشد إليه سبحانه بقوله عزّ من قائل: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً. (1) إنّ من ينطلق من الكتاب والسنّة وأحاديث أئمة أهل البيت (هم) والسيرة الرائجة بين المسلمين لا يخالف في أمر التبرّك قدر شعرة، وإنّما يخالف فيه ويناقش في مشروعيته مَن يأبى التحرّر من أسر تقليد بعض مَن لم يُمعن النظر في هذه المصادر، ولم يُرزَق التوفيق في التبرّك بآثار النبي، الّذي يعبّر عن غاية مودّته وتوقيره وتعظيمه (ص).

التبرّك لغةً

التبرّك مأخوذ من «برك» وله معنيان:


1- آل عمران: 103.

ص: 19

1. الثبات والدوام، كما يقال: وبارك على محمد وعلى آل محمد، أي أثبت وأدم ما آتيتهم من التشريف والكرامة.

2. الزيادة والنمو. (1) ويناسب المعنى الثاني قوله تعالى: وَ هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ. (2)

، وقوله سبحانه: الذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ. (3)

ويقال في المثل: بارك الله الشي ء وبارك فيه وعليه؛ ففي الموارد المشار إليها، خير مكنون يزيد وينمو على مرّ الزمان، ويقصده المتبرِّك.

التبرّك اصطلاحاً

التبرّك اصطلاحاً هو طلب ثبوت الخير الإلهي في الشي ء. (4)

وعلى هذا فالمتبرِّك بالقرآن وبالآثار المتبقية عن الأنبياء والأئمة، يطلب الخير الإلهي، لا بمعنى أنّها تحمل خيراً في ذاتها، وإنّما يتوسّل بها لطلب الخير من الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فالأحرى أن يعدّ التبرّك من فروع التوسّل، فكلّ خير من الأثر المتبرّك به فإنّما هو من الله سبحانه وهو الّذي أعطاه هذا الأثر، فطلب الخير منه طلب خير من الله وهو كعملة ذات وجهين، فهو يطلب الخير من الأثر ظاهراً ولكن يطلبه من الله حقيقة؛ لأنّ ما للسبب من الأثر هو من الله سبحانه وليس منه بالذات، وهنا كلمة قيمة لبعض الأعلام نأتي بنصّها:


1- مقاييس اللغة 227: 1؛ النهاية في غريب الحديث 120: 1.
2- الأنعام: 155.
3- الإسراء: 1.
4- الموسوعة الكويتية 69: 10.

ص: 20

إنّ التبرّك ليس إلّا توسّلًا إلى الله تعالى بذلك المتبرّك به، سواء أكان أثراً أو مكاناً أو شخصاً.

أمّا الأعيان فلاعتقاد فضلها وقربها من الله سبحانه وتعالى مع اعتقاد عجزها عن جلب خير أو دفع شر إلّا بإذن الله.

وأمّا الآثار فلأنّها منسوبة إلى تلك الأعيان فهي مشرّفة بشرفها ومكرّمة ومعظّمة ومحبوبة لأجلها.

وأمّا الأمكنة فلا فضل لها لذاتها من حيث هي أمكنة، وإنّما لما يحلّ فيها ويقع من خير وبرّ، كالصلاة والصيام وجميع أنواع العبادات ممّا يقوم به عباد الله الصالحون، إذ تتنزّل فيها الرحمات وتحضرها الملائكة وتُغشِّيها السكينة، وهذه هي البركة الّتي تطلب من الله في الأماكن المقصودة لذلك.

وهذه البركة تطلب بالتعرض لها في أماكنها، بالتوجّه إلى الله تعالى ودعائه واستغفاره، وتذكر ما وقع في تلك الأماكن من حوادث عظيمة ومناسبات كريمة تحرّك النفوس وتبعث فيها الهمّة والنشاط للتشبّه بأهلها أهل الفلاح والصلاح. (1) إذا عرفت ذلك فلنذكر النصوص الدالّة على جواز التبرّك بين الأُمم السالفة، والأُمّة الإسلاميّة.


1- مفاهيم يجب أن تصحّح، للسيد محمد بن علوي المالكي: 219، الطبعة العاشرة.

ص: 21

1. التبرّك في الأمم السالفة

يظهر من الآيات والروايات أنّ التبرّك بآثار الأنبياء كان رسماً شائعاً عند الأُممّ السالفة، فكانوا يطلبون الخير تارة من الأسباب الطبيعية، وأخرى من الأسباب غير الطبيعية.

وبعبارة أخرى: أنّ الخير في كلا الموردين بيد الله تعالى لقوله تعالى: بِيَدِكَ الْخَيْرُ. (1)

ولكنّه ينزل ضمن أسباب خاصّة، تارة عادية طبيعية، وأخرى على خلاف العادة، وطالب الخير تارة يقصده من القسم الأوّل وأخرى من الثاني والسيرة جارية على هذا في أكثر الأُمم.

ذكر صاحب تاريخ الخميس في خلافة «المتقي لله» القصة التالية: في سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة أرسل ملك الروم يطلب منه- المتقي لله- منديلًا زعم أنّ المسيح مسح به وجهه، فصارت صورة وجهه فيه، وكان هذا المنديل في كنيسة الرهبان، وأرسل ملك الروم يقول: إن أرسلت هذا المنديل أطلقت لك عشرة آلاف أسير من المسلمين.

فأحضر المتقي لله الفقهاء واستفتاهم فقالوا: أرسل إليهم هذا المنديل، ففعل وأطلق الأسراء. (2) وما نقله الدياربكري يكشف عن وجود التبرّك عند المسيحيّين وقد ورثوا الفكرة عن آبائهم وأجدادهم.


1- آل عمران: 26.
2- تاريخ الخميس: 352: 2.

ص: 22

وقد ورد لفظة «بارك» ومشتقاتها كثيراً في الكتاب المقدس ومنه: «بركة هارون وبنيه لبني إسرائيل» (عد 23: 6- 27) وقد بارك المسيح تلاميذه قبل أن يصعد. (انجيل لوقا 50: 24- 51). (1) 2. التبرّك في القرآن الكريم

وقد ذكر القرآن الكريم التبرّك في العديد من الآيات نذكرها تباعاً:

1. هذا هو نبي الله يعقوب الّذي تبرّك بقميص يوسف، قال تعالى حاكياً عن يوسف: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأتِ بَصِيراً وَأتُونِي بِأهْلِكُمْ أجْمَعِينَ. ثم قال تعالى: فَلَمَّا أنْ جَاءَ الْبَشِيرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. (2) فالله سبحانه هو الّذي جدّد بصر يعقوب بعدما كُفَّ، لكن بسبب خاص وهو قميص ولده يوسف.

وأمّا ما هي الصلة بين القميص المنسوج من القطن وإعادة البصر إلى يعقوب؟ فغير معلومة لنا، وعلى كل تقدير فللقميص وإرادة يوسف مدخلية في إعادة البصر بإذن من الله سبحانه.

2. تبرّك بني إسرائيل بصندوق العهد، أي التابوت، والتابوت هو الصندوق الّذي صنعه موسى (ع) بأمر الله تعالى، وقد وصفه في قاموس الكتاب المقدس بأنّ طوله كان ذراعين ونصفاً وعرضه ذراعاً ونصفاً وارتفاعه


1- قاموس الكتاب المقدس: 171.
2- يوسف: 93، 96.

ص: 23

ذراعاً ونصفاً، وكان في التابوت الوعاء الّذي يحتوي على المنّ، وعصا هارون الّتي أفرخت، ولوحا العهد وكان عليهما وصايا الله العشر المكتوبة. (1) ويصفه سبحانه بقوله: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ. (2) قال الطبرسي: إنّ التابوت كان] هو [الّذي أنزله الله على أم موسى فوضعت فيه ابنها وألقته في البحر، وكان في بني إسرائيل معظّماً يتبرّكون به، فلمّا حضر موسى الوفاة، وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آثار النبوة، وأودعه عند وصيه يوشع بن نون، فلم يزل التابوت بينهم، وبنوا إسرائيل في عزّ وشرف ما دام فيهم. (3) وقال السيوطي: كان في التابوت عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ولوحان من التوراة والمّن وكلمة الفرج: «لا إله إلّا الله الحليم الكريم، وسبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ العرش العظيم، والحمدلله ربّ العالمين». (4) وعلى كل تقدير فقد كان بنو إسرائيل يتبرّكون به ويحملونه عند مواجهة الأعداء فينتصرون، وكفى في قداسة التابوت أنّه سبحانه يقول: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ وقصة التابوت وكيفية غلبة العمالقة على بني إسرائيل


1- قاموس الكتاب المقدس: 209.
2- البقرة: 248.
3- مجمع البيان 614: 1، ط. بيروت.
4- الدر المنثور 778: 1.

ص: 24

وأخذ التابوت منهم، مذكورة في التفاسير، والله سبحانه وعدهم بأنّهم لو قاتلوا مع ملكهم طالوت، يسترجع إليهم التابوت وتحمله الملائكة إليهم؛ يقول سبحانه: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَ آلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ. (1) أي أنّ آية ملك (طالوت) هو أنّه يحارب الأعداء، ويسترجع التابوت الّذي تحمله الملائكة فيرونه بنو إسرائيل عياناً. (2) 3. التبرّك بأصحاب الكهف، فعندما يذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب الكهف والرّقيم في سورة الكهف، يبتدئ ببيان قصتهم بالآية 9 ويختمها بالآية 26.

وقد نزلت هذه الآيات لتشدّ قلوب المؤمنين وتثبت الإيمان فيها، وذلك بالوقوف على مصير أصحاب الكهف الذين تركوا متاع الحياة الدنيا وزينتها وهجروا مجتمعهم الغارق في الوثنية والتجأوا إلى كهف ضيّق موحش من أجل أن تبقى قلوبهم عامرة بالعقيدة الصحيحة، متوهّجة بحرارة الإيمان.

فلمّا علم سبحانه صدقهم وثباتهم في طريق التوحيد شملتهم عناية الله تبارك وتعالى فالتجأوا إلى الكهف، فأطبق الله سبحانه على آذانهم فناموا سنين طويلة، وبذلك خلصوا من مكائد الملك وأعوانه الذين كانوا يروّجون الوثنية ويحاربون الموحّدين، فلمّا بعثهم الله سبحانه بعد مضي ثلاثة قرون وانكشف أمرهم للناس، وثبت أنّ وعد الله حق حيث إنّ إيقاظهم الّذي


1- البقرة: 248.
2- مجمع البيان 615: 1.

ص: 25

يشبه البعث والإحياء بعد إنامتهم الّتي تُشبه الموت، أقوى دليل على قدرته سبحانه على أن يبعث الناس يوم القيامة ثم إنّه بعدما تبيّن ما هو الغرض من إنامتهم وإيقاظهم أماتهم الله سبحانه، واختلف الناس في حقّهم وفي شأنهم، فذهب فريق منهم إلى إغلاق باب الكهف وسترهم عن أعين الناس وجعلهم وراء البنيان وإلى هذا يشير قوله سبحانه: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا. (1) والقائلون بذلك هم الأقلية الوثنية، أرادوا بذلك أن يخفوا أمرهم لكي ينساه الناس ولا يتحدّثون به، وقالوا- تحقيراً بشأنهم-: رَبُّهُمْ أعْلَمُ بِهِمْ. (2) وقال الفريق الآخر، أي: الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أمْرِهِمْ. (3) أي على أمر القائلين بالاقتراح الأوّل: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا. (4) تتعبّدون فيه لله سبحانه تبركاً بتربتهم، وهذا يدل على أمرين:

1. جواز بناء المساجد على قبور الأولياء.

2. جواز التبرّك بتربة القبور، لأنّ القرآن يذكر ذلك من دون ردّ واعتراض، بل يظهر منه التأييد والموافقة.


1- الكهف: 21.
2- المصدر السابق.
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 26

تبرّك الصحابة بآثار النبي (ص)

ذكر أصحاب السير والتاريخ تبرّك الصحابة بأنواع متعددة من آثار النبي (ص) نظير: «التبرّك بماء وضوئه، وبريقه، وبنخامته، وبدمه، وبشعره، وبسؤره، وبطعامه، وبأظافره، وبلباسه، وبأوانيه، وبما لمسه، وبمصلاه»؛ هذا ما جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: 70: 10- 71، ولكن الموارد أوسع ممّا ذكر هناك، ولأجل الإشارة إلى شي ء منها، نذكر بعض النصوص:

1. التبرّك بماء وضوئه (ص)

أرسلت قريش عروة بن مسعود الثقفي ليمثّلها في صلح الحديبية مع رسول الله (ص)، وكلّمه رسول الله (ص) بنحو ما كلّم به أصحابه، وأخبره أنّه لم يأت يريد حرباً، و بعد ما تمت المذاكرة بين الطرفين قام عروة من عند رسول الله (ص) وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضّأ، إلّا ابتدروا وضوءه، ولا يَبْصق بُصاقاً إلّا ابتدروه، ولا يسقط من شعره شي ء إلّا أخذوه، فرجع إلى قريش، فقال: يا معشر قُريش، إنّي قد جئت كسْرى في مُلكه، وقيصر في مُلكه، والنجاشيِّ في مُلكه، وإني والله ما رأيت مَلِكاً في قوم قطّ مثلَ محمد في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يُسلمونه لشي ء أبداً، فَرَوا رأيكم. (1) 2. التبرّك بقدحه


1- السيرة النبوية لابن هشام 328: 3.

ص: 27

أخرج البخاري في صحيحه عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أنّه قال: فأقبل النبي (ص) يومئذ حتّى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه، ثم قال: «اسقنا يا سهل!»، فأخرجت لهم هذا القدح فأسقيتهم فيه] وقال أبوحازم [فأخرج لنا سهل ذلك القدح فشربنا منه، قال: ثم استوهبه عمر بن عبدالعزيز بعد ذلك فوهبه له. (1) 3. التبرّك بسؤره

روى أحمد بن حنبل عن أبي صالح، عن أم هاني أنّ النبي (ص) دخل عليها يوم الفتح، فأتته بشراب، فشرب منه، ثم فضلت منه فضلة، فناولها فشربته، ثم قالت: يا رسول الله، لقد فعلت شيئاً ما أدري يوافقك أم لا؟ قال (ص): «وما ذاك يا أمّ هاني؟»، قالت: كنت صائمة فكرهت أن أرد فضلك فشربته، قال (ص): «تطوعاً أو فريضة؟» قالت: قلت: بل تطوُّعاً، قال (ص): «فإنّ الصائم المتطوع بالخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر». (2) 4. التبرّك بمنبره

سأل عبدالله بن أحمد عن أبيه قال: سألته عن الرجل يمسّ منبرالنبي (ص) ويتبرّك بمسّه، ويقبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، أو نحو ذلك يريد بذلك التقرب إلى الله جلّ وعزّ، فقال: «لا بأس بذلك». (3)


1- فتح الباري 98: 10، برقم 5687.
2- مسند أحمد 391: 10، برقم 27454. ط. دارالفكر، بيروت.
3- العلل ومعرفة الرجال 492: 2، برقم 3243.

ص: 28

وعلّق محقّق كتاب (العلل ومعرفة الرجال) على هذا الحديث وقال: أمّا مسّ منبر النبي (ص) فقد أثبت ابن تيمية- في الجواب الباهر لزوّار المقابر- فعله عن ابن عُمر، دون غيره من الصحابة، وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنّف (121: 4) عن زيد بن الحباب قال حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبدالملك بن قسيط، قال: رأيت نفراً من أصحاب النبي (ص) إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رُمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا؛ قال: «ورأيت يزيد يفعل ذلك».

وقال الكرماني حول قول عمر: عندما جاء إلى الحجر الأسود فقبّله فقال: إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولولا أنّي رأيت النبي يقبلك ما قبلتك: «وأمّا تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرّك وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم فهو حسن محمود باعتبار القصد والنية؛ وقد سأل أبو هريرة الحسن (رض) أن يكشف له المكان الّذي قبّله رسول الله (ص) وهوسرته فقبّله تبركاً بآثاره وذريته (ص)، وقد كان ثابت البناني لا يدع يد أنس (رض) حتّى يقبّلها ويقول: يد مسّت يد رسول الله؛ وقال أيضاً: وأخبرني الحافظ أبو سعيد ابن العلائي قال: رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم، عليه خط ابن ناصر وغيره من الحفاظ، أنّ الإمام أحمد سئل عن تقبيل قبر النبي (ص) وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك؛ قال: فأريناه للشيخ تقي الدين بن تيمية، فصار يتعجّب من ذلك ويقول: عجيب أحمد عندي جليل يقوله هذا كلامه أو معنى كلامه. وقال: وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد انّه غسل قميصاً للشافعي وشرب الماء الّذي غسله به، وإذا

ص: 29

كان هذا تعظيمه لأهل العلم فكيف بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء (هم)؟! ولقد أحسن مجنون ليلى حيث يقول:

أمرّ على الديار ديار ليلى أقبّل ذا الجدار ولا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

(1) 5. التبرّك بالدنانير الّتي لمسها النبي (ص)

أخرج أحمد في مسنده عن جابر بن عبدالله قال: كنت مع النبي (ص) في سفر- إلى أن قال:- وكنت على جمل فاعتلّ قال: فلحقني رسول الله (ص) وأنا في آخر الناس قال: فقال: «مالكَ يا جابرُ؟» قال: قلت اعتلّ بعيري، قال: فأخذ بذنبه ثم زجره قال: فما زلت إنّما أنا في أوّل الناس يهمني رأسه فلمّا دنونا من المدينة قال: قال لي رسول الله (ص): «ما فَعَلَ الجملُ؟» قلت: هو ذا، قال: «فبعنيه» قلت: لا بل هو لك، قال: «بعنيه» قال: قلت: هو لك، قال: «لا، قد أخذته بأوقية، اركبه فإذا قدمتَ فائتنا به» قال: فلمّا قدمت المدينة جئت به فقال: «يا بلال زن أوقيةً وزده قيراطاً» قال: قلت: هذا قيراط زادنيه رسول الله (ص) لا يفارقني أبداً حتّى أموت قال: فجعلته في كيس فلم يزل عني حتّى جاء أهل الشام يوم الحرة فأخذوه فيما أخذوا. (2) 6. التبرّك بالعصا الّتي أعطاها النبي (ص)


1- عمدة القارئ 5: الجزء 241: 9.
2- مسند أحمد: 51: 5- 52، برقم 14383.

ص: 30

روى أحمد في مسنده عن عبدالله بن أنيس في حديث فلمّا قدمت على رسول الله (ص) فرآني فقال: «أفلح الوجه».

قال: قلت: قتلته يا رسول الله قال: «صادقت».

قال: ثم قام معي رسول الله (ص) فدخل في بيته فأعطاني عصاً فقال: «أمسك هذه عندك، يا عبدالله بن أنيس».

قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله (ص) وأمرني أن أمسكها، قالوا: أو لا ترجع إلى رسول الله (ص) فتسأله عن ذلك؟

قال: فرجعت إلى رسول الله (ص) فقلت: يا رسول الله، لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة، إنّ أقل الناس المتخصّرون يومئذ يوم القيامة». فقرنها عبدالله بسيفه فلم تزل معه حتّى إذا مات أمر بها فصبت معه في كفنه ثم دفنا جميعاً. (1) 7. التبرّك بقميص النبي (ص)

روى ابن عبد البّر في ترجمة فاطمة بنت أسد بن هاشم، قال: أسلمتْ وهاجرتْ إلى المدينة وتوفيت بها، وقال الزبير: هي أوّل هاشمية ولدت لهاشمي.


1- مسند أحمد: 431: 5، برقم 16047.

ص: 31

قال: وقد أسلمت وهاجرت إلى الله ورسوله وماتت بالمدينة في حياة النبي (ص) وشهدها رسول الله (ص).

قال أبو عمر: روى سعدان بن الوليد السابري، عن عطاء ابن أبي رباح، عن ابن عباس قال: لمّا ماتت فاطمة أم علي بن أبي طالب ألبسها رسول الله (ص) قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه، فقال: «إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسي من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها». (1) 8. التبرّك بالبردة المهداة

قدم كعب بن زهير على الرسول (ص) وأنشد قصيدته اللامية المعروفة الّتي مستهلها:

بانت سعاد فقلبي اليو م متبول متيّم إثرها لم يُفد مكبول

وجاء فيها قوله:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

أنبئت أنّ رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

إنّ الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف الله مسلول

قال الدياربكري: رمى عليه رسول الله (ص) بردة كانت عليه، وأنّ معاوية بذل له فيها عشرة آلاف مثقال، فقال: ما كنت لأُوثر بثوب


1- الإصابة 368: 4؛ والاستيعاب بهامش الاصابة 370: 4.

ص: 32

رسول الله (ص) أحداً، فلمّا مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفاً فأخذها منهم. قال: وهي البردة الّتي عند السلاطين إلى اليوم. (1) 9. التبرّك بجبّته (ص)

روى مسلم عن أسماء بنت أبي بكر أنّها أخرجت جبّة رسول الله (ص) كانت عند عائشة، فلمّا قبضت قبضتها، وكان النبي (ص) يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى ونستشفي بها. (2) 10. التبرّك بالقبر الشريف

أخرج الحاكم في مستدركه عن داود بن أبي صالح، قال: أقبل مروان يوماً فوجد رجلًا واضعاً وجهه على القبر، فأخذ برقبته وقال: أتدري ما تصنع؟ قال: نعم، فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري (رض) فقال: جئت رسول الله (ص) ولم آت الحجر، سمعت رسول الله (ص) يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله».

ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه (يعني البخاري ومسلم). (3) وروى السمهودي عن أبي الجوزاء قال: قُحِطَ أهلُ المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة، فقالت: فانظروا قبر النبي (ص) فاجعلوا منه كُوَّةً


1- تاريخ الخميس 131: 2.
2- صحيح مسلم، برقم 2069، باب النهي عن لبس الحرير، كتاب اللباس والزينة.
3- مستدرك الحاكم 115: 4، كتاب الفتن والملاحم.

ص: 33

إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف، ففعلوا، فمطروا حتّى نَبَتَ العُشْبُ وسمنت الإبلُ حتّى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.

قال الزين المراغي: واعلم أنّ فتح الكُوَّة عند الجَدْب سُنَّةُ أهل المدينة حتّى الآن، يفتحون كوة في سفل قبة الحجرة: أي القبة الزرقاء المقدسة من جهة القبلة، وإن كان السقف حائلًا بين القبر الشريف وبين السماء.

قلت: وسنّتُهم اليوم فتحُ الباب المواجهِ للوجه الشريف من المقصورة المحيطة بالحجرة، والاجتماع هناك، والله أعلم. (1)

وروى البخاري: لمّا حضرت الوفاة عمر بن الخطاب، قال لابنه عبدالله: انطلق إلى أُم المؤمنين عائشة، فقل: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قال: فاستأذن وسلم، ثم دخل عليها وهي تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه.

فقالت: كنت أُريده لنفسي ولأُوثرنّه اليوم على نفسي، فلمّا أقبل قال له: ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين. قال: ما كان شي ء أهم من ذلك المضجع فإذا قبضت فاحملوني ثم سلّموا ثم قل: يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني، وإلّا فردّوني إلى مقابر المسلمين. (2) 11. التبرّك بالمواضع الّتي صلّى فيها الرسول (ص)

أخرج البخاري عن مولى بن عقبة قال:


1- وفاء الوفا 560: 1.
2- صحيح البخاري، برقم 1392، كتاب الجنائز.

ص: 34

رأيت سالم بن عبدالله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها ويحدّث أنّ أباه كان يصلّي فيها، وأنّه رأى النبي (ص) يصلّي في تلك الأمكنة، وحدثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلّا وافق نافعاً في الأمكنة كلها إلّا أنّهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء. (1) 12. التبرّك بخاتم النبي (ص)

روى عبدالرزاق عن معمر، قال: أخرج إلينا عبدالله بن محمد (بن) عقيل خاتماً نقشه تمثال، وأخبرنا أنّ النبي (ص) لبسه مرّة أو مرّتين، قال: فغسله بعض من كان معنا فشربه. (2) 13. التبرّك بالمسح واللمس

كانت الصحابة يطلبون من النبي (ص) أن يمسح على رؤوسهم ويبارك لهم، ومن هؤلاء زياد بن عبد اللّه بن مالك الهلالي، قال ابن حجر: فدخل زياد منزل ميمونة أمّ المؤمنين وكانت خالته ... فقالت: يا رسول اللّه (ص) إنّه ابن أختي، فدعاه فوضع يده على رأسه ثمّ حدرها على طرف أنفه، فكان بنو هلال يقولون: ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد.

ثمّ قال ابن حجر: وذكر ابن سعد القصة مطولة عن هشام بن الكلبي ... وقال الشاعر لعلي بن زياد المذكور:

يا ابن الذي مسح الرسول برأسه ودعا له بالخير عند المسجد


1- صحيح البخاري، برقم 483، باب المواضع الّتي صلى فيها النبي ص.
2- المصنف لعبدالرزاق الصنعاني 347: 1.

ص: 35

مازال ذاك النور في عرنينه حتى تبّوأ بيته في ملحد

(1) هذه ثلاثة عشر مورداً تبرّك فيها الصحابة ولم يعترض عليه أحد، وكانوا يتلقون التبرّك بأنّه غير مناف للتوحيد الّذي بعث لأجله النبي (ص) والموارد كثيرة نكتفي بهذا المقدار، ومن أراد التفصيل فليراجع إلى الكتابين التاليين فقد بلغا الغاية:

1. «تبرّك الصحابة بآثار النبي والصالحين» للعلّامة المحقّق والمؤرّخ الخبير محمد طاهر بن عبدالقادر بن محمود المكي، طبع الكتاب في القاهرة، مطبعة المدني، عام 1385 ه-. ق.

2. «التبرّك» بقلم المحقّق الخبير آية اللّه علي الأحمدي الميانجي (1344- 1421 ه-)، فقد تتبّع في كتابه هذا- وبنحو يثير الإعجاب حقّاً- المسألة من جميع أبعادها التاريخية والحديثية و ...، وأثبت بما لا مزيد عليه وبنحو لا يدع للترديد أو الشكّ مجالًا في أنّ سيرة المسلمين عامّة والصحابة والتابعين خاصة كانت قائمة على التبرّك بآثار النبي (ص) والصالحين.


1- الإصابة 539: 1- 540، رقم الترجمة 2856.

ص: 36

التبرّك في روايات أهل البيت (هم)

قد ذكرنا فيما مضى التبرّك في السنة النبوية ومصادر التاريخ، والآن نذكر ما ورد عن أئمة أهل بيت رسول الله (ص)، وهم أعلم بما فيه.

1. التبرّك باسم الله جل وعلا

روى الإمام الحسن بن علي العسكري (ع)، عن آبائه، عن علي (هم)- في حديث- أنّ رجلًا قال له: إن رأيت أن تعرّفني ذنبي الّذي امتحنت به في هذا المجلس، فقال: «تركك حين جلست أن تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، إنّ رسول الله (ص) حدّثني عن الله عزّوجلّ أنّه قال: كلّ أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر». (1) 2. التبرّك بالقرآن الكريم

روى الكليني بسنده عن ابن القدّاح، عن أبي عبدالله (ع) قال: «قال أميرالمؤمنين (ع): البيت الّذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزوجل فيه تكثر بركته وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين، ويضي ء لأهل السماء كما تضي ء الكواكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزوجل فيه تقلّ بركته وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين». (2) 3. التبرّك بماء وضوء النبي (ص)

روى الصدوق في «عيون أخبار الرضا (ع)»، عن الإمام الرضا (ع) قال: «سمعت أبي يحدّث عن أبيه، عن جدّه (هم)، عن جابر بن عبدالله قال:


1- تفسير الإمام العسكري ع: 24 و 25؛ الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب الذكر، الحديث 4.
2- أصول الكافي 611: 2، كتاب فضل القرآن.

ص: 37

كان رسول الله في قبّة من أدم وقد رأيت بلالًا الحبشيّ وقد خرج من عنده ومعه فضل وضوء رسول الله (ص) فابتدره الناس، فمن أصاب منه شيئاً تمسّح به وجهه، ومن لم يُصب منه شيئاً أخذ من يدي صاحبه فمسح به وجهه، وكذلك فعل بفضل وضوء أمير المؤمنين (ع)». (1) 4. التبرّك بقبر النبي (ص)

روى الكليني بسنده عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى، عن أبيه، عن جدّه (هم) قال: «كان علي بن الحسين (ع) يقف على قبر النبي (ص) فيسلم عليه ويشهد له بالبلاغ، ويدعو بما حضره، ثمّ يسند ظهره إلى العروة الخضراء الدقيقة العرض ممّا يلي القبر، ويلتزق بالقبر ويسند ظهره إلى القبر، ويستقبل القبلة فيقول: «أللّهم إليك ألجأت ظهري، وإلى قبر نبيّك محمّد (ص) عبدك ورسولك أسندت ظهري، والقبلة الّتي رضيت لمحمّد (ص) استقبلت، أللّهم إنّي أصبحت لا أملك لنفسي خير ما أرجوه، ولا أدفع عنها شرّ ما أحذر عليها، وأصبحت الأُمور بيدك فلا فقير أفقر منّي، ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير، أللّهمّ ارددني منك بخير فإنّه لا رادّ لفضلك، أللّهم إنّي أعوذ بك من أن تبدّل اسمي، أو تغيّر جسمي، أو تزيل نعمتك عندي، أللّهمّ كرّمني بالتقوى، وجمّلني بالنعم، وأعمرني بالعافية، وارزقني شكر العافية». (2)


1- عيون أخبار الرضا ع: 227؛ بحار الأنوار 33: 17، برقم 15.
2- الوسائل 14: كتاب الحج، الباب 6 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 2.

ص: 38

وروى الكليني- أيضاً- عن ابن فضّال قال: رأيت أبا الحسن (الرضا) (ع) وهو يريد أن يودّع للخروج إلى العمرة فأتى القبر من موضع رأس رسول الله (ص) بعد المغرب فسلّم على النبي (ص) ولزق بالقبر، ثمّ أتى المنبر، وانصرف حتّى أتى القبر فقام إلى جانبه يصلّي، وألصق منكبه الأيسر بالقبر قريباً من الأسطوانة الّتي دون الأسطوانة المخلّقة الّتي عند رأس النبي (ص) فصلّى ستّ ركعات- أو ثماني ركعات- في نعليه. (1) وروى الكليني بسنده عن معاوية بن عمّار قال: قال أبوعبدالله (ع): «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي (ص) فائت المنبر فامسحه بيدك وخذ برمانتيه، وهما السفلاوان، وامسح عينيك ووجهك به فإنّه يقال: إنّه شفاء للعين، وقم عنده فاحمد الله وأثن عليه وسل حاجتك فإنّ رسول الله (ص) قال: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة- والترعة هي الباب الصغير- ثمّ تأتي مقام النبي (ص) فتصلّي فيه ما بدا لك». (2) شبهة القائلين بحرمة التبرّك

لما وقف القائل بمنع التبرّك على هذه الروايات الهائلة الحاكية عن تبرّك الصحابة بآثار النبي (ص)، حاول أن يتخلّص من ذلك بالوجهين التاليين:


1- الوسائل 14: كتاب الحج، الباب 15 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 3.
2- الوسائل 14: كتاب الحج، الباب 7 من أبواب المزار وما يناسبه، الحديث 1.

ص: 39

الأوّل: التبرّك مخصوص بآثار النبي (ص) في حال حياته لا بعد رحيله. (1) ولسائل أن يسأل القائل: هل كان التبرّك بآثار النبي (ص) في حال حياته أمراً عباديّاً يتقرّب به إلى الله سبحانه أو كان عملًا عادّياً- لا عبادّياً- نظير الأعمال الّتي يقوم بها الناس حسب فطرتهم؟ فعلى الأوّل يكون التبرّك عندئذ شركاً يعدّ نوع عبادة للغير فلا يجوز للنبي أن يقرّه فيسكت عنه أو أن يدعمه بدفع العصا وغيرها، كيف وقد وصف سبحانه الشرك بأنّه ظلم عظيم؟ قال سبحانه مخاطباً لنبيّه: لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. (2) وعلى هذا فلا محيص من ردّ هذا الفرض.

وعلى الثاني أي كون التبرّك أمراً عادّياً يطلب المتبرك الخير من مورده كما يطلب الخير من سائر الأُمور فلا يصحّ تخصيص الجواز بآثار النبي (ص)، لأنّ المفروض أنّه خارج عن إطار العبادة وداخل تحت الأُمور العاديّة.

إنّ التبرّك بآثار الأولياء والعلماء والأخيار أمر فطري للناس، ولذلك تبركت بنو إسرائيل بتابوت موسى، كما تبرّك الموحدون بأصحاب الكهف ببناء المسجد على قبورهم والعبادة فيه، وقد مرّ أنّ إمام الحنابلة أحمد


1- التبرّك والتوسل والصلح مع العدوّ الصهيوني: 40، والقائل عبدالعزيز بن باز مفتي السعودية سابقاً.
2- الزمر: 65.

ص: 40

بن حنبل تبرّك بماء غسل فيه قميص الشافعي. (1) وقد جاء في بعض الروايات أنّ في سؤر المؤمن شفاءاً. (2) ونقل بعض الثقات أنّه شارك في ضيافة أقامها الشيخ عبدالعزيز بن باز لجماعة من العلماء وهو منهم ورأى بام عينيه أنّ أصحاب المفتي في نهاية الأمر تسابقوا إلى سؤر طعامه، أفيصحّ بعد ذلك تخصيص التبرّك بآثار النبيّ؟!

الثاني: أنّ التبرّك يختصّ بما مسّ جسده الشريف.

إنّ التبرّك بما مسّ جسده (ص) من ماء وضوء أو عَرَق أو شعر، فهذا معروف وجائز عند الصحابة، لما في ذلك من الخير والبركة؛ وهذا قد أقرّه النبي دون ما لم يمسّ جسده. (3) وعلّق محقّق كتاب الإمام أحمد باسم «العلل ومعرفة الرجال» فقال في الهامش: وأنّ هذا كان لمّا كان منبره الّذي لامس جسده الشريف، أمّا الآن فقد تغيّر، لا يقال بمشروعيّة مسه تبركاً به. (4) يلاحظ عليه أوّلًا: أنّ تخصيص التبرّك بالآثار مسّها جسد النبي المطهّر (ص) لا يخلو من وجهين:

1. إنّ لجسده المطهّر تأثيراً في نشوء الخير وزيادة النعمة؛ وهذا الوجه مرفوض بما عليه علماء السنّة وبالأخص فقهاء الحنابلة؛ لأنّهم


1- مرّ سابقاً فراجع.
2- الوسائل 25: الباب 18 من أبواب الأشربة المباحة، الحديث 1.
3- التبرّك والتوسل والصلح مع العدو الصهيوني: 40.
4- العلل ومعرفة الرجال 494: 2.

ص: 41

ينكرون أيّ مؤثر في العالم سوى الله تبارك وتعالى وشعارهم في هذا الموضع قول القائل:

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة فذاك كفر عند أهل الملّة

فعلى هذا الأصل فليس لجسده المطهر أي تأثير في وجود الخير وزيادة النعمة، وإلّا يلزم الاعتقاد بمؤثر سوى الله سبحانه، ولو كان التأثير ظلّياً وتابعاً لمشيئته سبحانه فإنّهم ينفون ذلك كلّه.

2. نفي القول بالتأثير لكن تبرّك الصحابة كان في خصوص ما مسّ جسده الشريف لا غير؛ لكن هذا الوجه مردود بنصّ التاريخ، وذلك:

أوّلًا: أنّ فاطمة الزهراء (ها) بنت النبي الأكرم (ص) الّتي طهرها الله سبحانه في كتابه وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (1)، وأناط سبحانه رضاه وغضبه برضا فاطمة وغضبها فقال النبي (ص):

«فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها فقد أغضبني». (2) وفي رواية أخرى، أنّ غضب الزهراء (ها) ورضاها يوجب غضب الله سبحانه ورضاه، فقال:

«يا فاطمة إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك». (3)


1- الأحزاب: 33.
2- صحيح البخاري 210: 4، دار الفكر، بيروت؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 84: 7.
3- مستدرك الحاكم 154: 3؛ مجمع الزوائد 203: 9، وقد استدرك الحاكم في كتابه الأحاديث الصحيحة حسب شروط البخاري ومسلم ولكن لم يخرجاه، وعلى ذلك فهذا الحديث صحيح عند الشيخين وهو متفق عليه.

ص: 42

إنّها (ها) تبركت بتراب قبر أبيها ووضعت شيئاً منه على عينها وقالت:

ماذا على مَنْ شمَّ تربة أحمد ألّا يشمَّ مدى الزمان غواليا

صُبّت علَيّ مصائب لو أنّها صُبّت على الأيام صِرْن لياليا

(1) والتراب الّذي أخذته بنت النبي لم يمسَّ جسد النبي (ص)، إذ لم تأخذه من تراب داخل القبر الّذي مسّ جسده، بل أخذته من تراب ظاهر القبر الّذي يوارى به الميّت.

وهذا هو مضيّف النبي أبو أيوب الأنصاري حيث جعل خدّه على تراب قبر النبي (ص) متبرّكاً به أيّام كانت الحكومة بيد الأمويين وعلى رأسهم مروان بن الحكم. (2) وهؤلاء هم صحابة النبي (ص) كانوا يتبرّكون بالصلاة في أماكن صلّى فيها النبي، ومن المعلوم أنّ تلك الأماكن لم تكن مسقّفة أو مفروشة بالحُصُر والبواري، بل كانت أراض مكشوفة صلّى فيها النبي (ص)، فمن المعلوم أنّ الأمطار والرياح والعواصف تفرّق ترابها إلى نقاط بعيدة وترسل غبار الأماكن الأُخرى إليها.


1- المغني لابن قدامة: 411: 2.
2- مرّ سابقاً في مبحث: 7. التبرك بالقبر الشريف.

ص: 43

إنّه سبحانه أمر حجّاج بيته الحرام بالصلاة في مقام إبراهيم (ص) فقال: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى. (1) وليس المقام إلّا جزءاً من المسجد الحرام، ولكنّه سبحانه أمر بالصلاة فيه وما هذا إلّا للتبرّك به، والمقام الموجود حاليّاً وحتّى الموجود في القرون السابقة لم يكن ممّا مسّه جسد بطل التوحيد.

ومَن قرأ تبرّك الصحابة بآثار النبي يقف على أنّ تلك المحاولة ليست إلّا لرأي مسبق ودعماً للمذهب ولم تكن هذه المحاولة وما تقدّمها في خلد أي صحابي يتبرّك بآثار النبي (ص).

وثانياً: أنّ كثيراً من الأعمال الّتي يمارسها المسلمون في الحرمين الشريفين من تقبيل الضريح والجدران والأبواب وأركان البيت وغير ذلك كله تجسيد منهم لحبّ الله وحبّ رسوله الّذي أمر سبحانه به في قوله: إِنْ كَانَ آبَاؤكُمْ وَأبْنَاؤكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَاد فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاْتِيَ اللهُ بِأمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. (2) وأمر في آية أخرى بتوقير النبي (ص) إلى جانب الإيمان به ونصرته واتّباعه وقال: ... فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنْزِلَ مَعَهُ أولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (3) والمراد من التعزير هو تكريمه وتوقيره،


1- البقرة: 125.
2- التوبة: 24.
3- الأعراف: 157.

ص: 44

وبما أنّ يد المحبين لاتصل إلى يد النبي (ص) حتّى يقبّلونها، يقبّلون ما له به صلة، وهذه هي العادة السائدة بين العقلاء فيقبّل الولد ما ورثه من الآباء من ألبسة وكتب وأقلام وتصاوير، وكأنّ منطق الجميع منطق مجنون ليلى العامرية:

أمرّ على الديار ديار ليلى أُقبّل ذا الجدار و لا الجدارا

وماحبّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سكن الديارا

(1) وقد عدّ البيهقي محبة النبي من شعب الإيمان. (2) كما عقد مسلم في صحيحه باباً باسم توقيره (ص) وترك إكثار سؤاله عمّا لا ضرورة إليه. (3) والعجب أنّ أتباع ابن تيمية- الّذي يعدّ التبرّك بآثار النبي (ص) بعد رحيله بدعة- كانوا يتبرّكون بالماء الّذي فضل من غسله، يقول تلميذه ابن كثير في حوادث سنة 728 ه-: شرب جماعة الماء الّذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الّذي غُسّل به، ودفع في الخيط- الّذي كان فيه الزئبق الّذي كان في عنقه (عنق ابن تيمية) بسبب القمل- مأة وخمسون درهماً، وقيل: إنّ الطاقية الّتي كانت على رأسه دفع فيها خمس مأة درهماً، وحصل في الجنازة ضجيج وبكاء كثير وتضرع، وختمت له ختمات كثيرة


1- مرّ مصدر البيتين سابقاً.
2- شعب الإيمان 129: 2.
3- صحيح مسلم: كتاب الفضائل، الباب 37.

ص: 45

بالصالحية وبالبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلًا ونهاراً يبيتون عنده ويصبحون، ورويت له منامات صالحة ورثاه جماعة بقصائد جمّة. (1)

2. رسالة مفتوحة

إلى رئيس مركز البحوث والدراسات في مبرّة الآل والأصحاب المحترم

قرأنا في جريدة الرأي الكويتية (العدد: 10428) حواراً مع الشيخ محمد سالم الخضر حول مشروع (مبرّة الآل والأصحاب) تحت عنوان: «هدفنا تخليص الأمّة من الصراع الطائفي».


1- البداية والنهاية 142: 14- 143.

ص: 46

وإليك بعض فقرات هذا الحوار:

1. قال المحاور- جواباً عن سؤال: كيف جاءت فكرة مبرة الآل والأصحاب؟- بزغت الفكرة نتيجة للوضع الطائفي القائم في الأُمّة الإسلامية والذي استغله أعداء الإسلام أسوأ استغلال، فأردنا أن نقوم بعمل شي ء إيجابي حتى نخلّص المجتمعَ من الصراع الطائفي الذي وصل إلى الكويت، وصارت فكرة المبرة مقبولة لدى المعتدلين من الطرفين حيث إنّها مسّت الجرح وتعاملت معه بحكمة وأبرزت بعض الحقائق الغائبة عن المنتسبين للطرفين.

2. وقال: إنّ حبّ آل البيت فطري عند جميع المسلمين، وإنّ المبرة على وشك الانتهاء من كتاب يستوعب شخصية الإمام الحسين من ميلاده ونشأته، وقد أسميناه «قرة العين في سيرة الإمام الحسين رضي الله عنه» إلى أن يقول: إنّنا نعيش في فترة حرجة في حياة الأُمّة تفرض علينا أن نتعقّل في رؤيتنا لمأساة الحسين رضي الله عنه، وأن نقف موقفاً واحداً ضد النداءات الطائفية المستفزة والتي من شأنها أن تخلق جوّاً من التشاحن البغيض بين المسلمين.

3. وقال: أذكر منها عبارة (يا لثارات الحسين) التي تستحق من خطباء المنابر و القادة السياسيين (سنّة وشيعة) موقفاً موحّداً لما فيها من الاستفزاز الطائفي والتحريض على المسلمين:

فيزيد لم يكن سنياً كما أنّ الحسين لم يكن شيعياً، إذ لم يكن في ذلك الزمان (سنّة وشيعة) بالمعنى العقائدي أصلًا، وترديد عبارة (يا لثارات

ص: 47

الحسين) في زماننا هذا، وقد مات قتلة الحسين رضي الله عنه منذ أكثر من 1360 سنة يعني أنّنا نكرّس في أبنائنا، الطائفية، والرغبة في الانتقام من الآخر.

وعلينا أن نتساءل: من منّا يتحمّل دم الحسين رضي الله عنه ويستحق أن يُنتقم منه؟

4. ثم يتطرق المتحدث إلى صيام عاشوراء وانّه ليس فكرة طائفية و لاحتى من خصوصيات طائفة دون أخرى، فإنّ الذين ينتقدون هذه السنّة النبوية يتناسون أنّ المسألة اتفاقية بين أهل السنّة والجماعة وبين الشيعة الاثنى عشرية بغضّ النظر عن اجتهادات وآراء البعض.

هذه فقرات أربع اقتطعناها من الحوار الذي أجري مع رئيس مركز البحوث والدراسات في المبرة المذكورة.

ولنا معها وقفات، نريد عطف نظر الرئيس المحترم إليها:

الاولى: لا شك أنّ توحيد الكلمة والابتعاد عن التفرق والتشرذم أمر يستحسنه العقل، ويأمر به الشرع، فالله سبحانه مدح الوحدة وذم الفرقة بقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا. (1) فكأنّ الأُمّة المتفرّقة كالمتردي في البئر، حيث لا تكتب له النجاة إلّا بالتمسّك بالحبل الموصول إليه، وهكذا الأُمّة المتفرّقة، لا تنجو من عواقب الفرقة إلّا بالتمسّك بحبل الله سبحانه.


1- آل عمران: 103.

ص: 48

ونحن إذا أمعنا النظر في هذه الآية: قُل هُوَ القادِرُ عَلى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوقِكُمْ أوْ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِكُمْ أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأسَ بَعْض أنْظُر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون. (1) نرى أنّه سبحانه جعل تفرّق الأُمّة إلى شيع، في عداد العذاب النازل من السماء! فأي بيان أفضل من هذا؟ كما نزّه سبحانه نبيّه الأكرم (ص) من أن يكون في عداد المفرّقين للدين فقال: إنّ الّذينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ء إنّما أمْرُهُمْ إلَى اللهِ ثُمَّ يُنبِّئُهُمْ بِماكانُوا يَفْعَلُونَ. (2) ويقول الإمام أميرالمؤمنين صلوات الله عليه: «والزموا السواد الأعظم، فإنّ يد الله مع الجماعة؛ وإيّاكم والفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان، كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب؛ ألا من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه ولو كان تحت عمامتي هذه». (3)

وعلى هذا، فالتقريب بين المسلمين و تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي، هو أمنية كل مسلم واع ينبض للإسلام ومصالح المسلمين قلبه.

ولأجل تحقيق هذه الأُمنية قام في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، رجال مخلصون من الشيعة والسنّة بتأسيس دار باسم «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية»، وإصدار مجلة باسم «رسالة الإسلام» وقد نجحوا في أهدافهم نجاحاً باهراً يقف عليه كلّ من قرأ شيئاً من منشوراتهم، وما قدّموا


1- الأنعام: 65.
2- الأنعام: 159.
3- نهج البلاغة، الخطبة 127.

ص: 49

للأُمّة من أفكار وآراء وأعمال صادقة تنمُّ عن إخلاصهم وتفانيهم في سبيل التقريب.

هذا ممّا لا نقاش فيه، ونحن نصافق أصحاب المبرة فيما يدعون إليه من التقريب و الوحدة الإسلامية و تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي.

الثانية: جاء في الفقرة الثانية: إنّ حب أهل البيت أمر فطري وعطف عليه حبّ الصحابة وإنّه أيضاً فطري، ونحن لا نناقشه في جعل أهل البيت والصحابة في ميزان واحد، مع أنّه لا يقاس بآل محمد أحد؛ قال علي (ع) في حقّهم: «لا يقاس بآل محمد (ص) من هذه الأُمّة أحد، ولايسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين. إليهم يفي ء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة». (1) كيف يقاس بهم غيرهم مع أنّه سبحانه فرض مودّتهم على المسلمين عامة، من غير فرق بين الصحابة وغيرهم؟! وقال تعالى: قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلّا الموَدَّةَ فِي الْقُربَى. (2) كيف يقاس بهم غيرهم وقد أشركهم النبي (ص) في المباهلة دون غيرهم؟! فقال سبحانه: فَقُل تَعالَوا نَدْعُ أبْناءَنا وَأبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأنْفُسَنا وَأنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلى الكاذِبِين. (3)


1- نهج البلاغة، الخطبة 2.
2- الشورى: 23.
3- آل عمران: 61.

ص: 50

وقد اتّفق أهل السير والحديث والتفسير على أنّه لم يحضر في أرض المباهلة غير النبي وسبطيه وبنته وصهره وأشركهم في المباهلة، وأمرهم بالتأمين بعد دعائه، وترك أزواجه وأقرباءه وعامّة الصحابة.

وكم وكم لآل البيت (هم) من فضائل، ومناقب متواترة أو متضافرة أصفق على نقلها أئمة الحديث، وليس لغيرهم ما لهم، وهذا يبعثنا على أن نعطي لكلّ فئة حقّها، ونقيم لهم وزناً خاصاً ولا نبخس الناس أشياءهم.

نحن نمرّ على هذه التسوية مرار الكرام، ولكن نناقشه في أمرين آخرين:

1. إنّ الكاتب يدّعي أنّ حبّ آل البيت (هم) أمر فطري، فلازم ذلك أن يُرى أثر الحبّ على مائدة المدّعين: في كتبهم وخطبهم و آرائهم، والدفاع عن محبّيهم إلى غير ذلك من مظاهر الحبّ، ومن أظهر مظاهر الحبّ هو الطاعة حيث قالوا: «إنّ المحبّ لمن أحبّ مطيع» وقد شاع وذاع: الحبّ هو الاتّباع.

ومع ذلك لا نجد في حياة المدّعين أي أثر من آثار الحبّ سوى هذه الكلمة وما أشبهها، وقد ملأوا كتبهم بآثار غيرهم، واستشهدوا برواياتهم وآرائهم وفتاواهم، ولم يذكروا عن آل البيت (هم) في الفقه والتفسير والأدب والأخلاق والأُصول والفروع إلّا شيئاً يسيراً جدّاً!!

هذا هو أبو هريرة قد عاش مع النبي (ص) وصحبه أقل من أربع سنين وقد رووا عنه أزيد من خمسة آلاف حديث، في حين عاش علي (ع) مع النبي (ص) منذ بعثته إلى رحيله (ص) ولكنّهم لم يرووا عنه إلّا عُشر ما

ص: 51

رووا عن أبي هريرة!! فهل هذا ينسجم والتسوية بين الآل والأصحاب في الحبّ والاتّباع؟!

2. أنّ لازم حبّ آل البيت (هم) حبّ مَن يحبهم ويطيعهم، ويأخذ منهم حلالهم وحرامهم، وفي الوقت نفسه يأخذ عن غيرهم إذا صحّ الطريق، وهؤلاء هم المعروفون بالشيعة في أقطار العالم، ومنهجهم وديدنهم هو العمل بقول الرسول (ص):

«إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي وانّهما لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض». (1)

وفي هذا المجال نقول: إنّ الأبطال المجاهدين في جنوب لبنان هم من الشيعة الإمامية، وقد وقفوا أمام أطماع الصهاينة في الأراضي الإسلامية حتى ردّوا السهام إلى نحورهم، فأعمالهم البطولية وتضحياتهم أمر مشكور يقدّره كل من له غيرة على إسلامه ودينه، ولكن ممّا يثير الدهشة، أنّه في الوقت الذي يقاتل فيه هؤلاء المجاهدون الأبطال في لبنان، القوات الصهيونية المعتدية، دفاعاً عن حياض الوطن وعن كرامة الأُمّة العربية والإسلامية، ويسطّرون أروع الملاحم في الثبات والتضحية والفداء، كانت الأصوات المبحوحة ل- «علماء» ودعاة وخطباء تلك الفئة المتطرّفة، تدعو الناس إلى عدم تقديم أي شكل من أشكال المساعدة لهم، بل راحوا يفتون (مأجورين من حكّامهم) بتحريم رفع يدي الضراعة إلى الله عزّوجلّ، والدعاء لأبطال الجهاد والمقاومة بالنصر وتثبيت الأقدام!!


1- حديث متواتر رواه أصحاب الصحاح والمسانيد بأسانيد كثيرة.

ص: 52

فلو أنّ امرءاً حرّاً (مسلماً كان أو غير مسلم) مات أسفاً من هذه المواقف المخزية، ما كان به ملوماً، بل كان جديراً به عند ذوي الضمائر الحيّة.

فأيّة قلوب مختومة تضمّ صدور هؤلاء، حيث لا يفقهون مصالح المسلمين، بل مصلحة أنفسهم؟! وأية غشاوة على أعينهم، إذ لا يبصرون من يدافع بحقٍّ عن كيان الأُمّة ومقدّراتها ومقدّساتها؟!! وأيّ وقر في آذانهم، يصمّهم عن سماع صراخ اليتامى والثكالى، وأنين الجرحى والمعذّبين والمشرّدين من أبناء دينهم وأمّتهم؟!! وأية أنفس شحيحة ينطوون عليها، حين تدفعهم إلى البخل عليهم بالدعاء، بل يأمرون الناس فيه بالبخل؟!!

كيف يتلُون الكتاب المجيد، وتلهج ألسنتهم بآياته، وهم يخذلون، ويحضّون على خذلان من يصدّ عدوان أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، وينعتونهم بكل سوء لبِئسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُم أنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُون. (1) ومع ذلك يدّعون حبّ آل البيت (هم) وتخليص الأُمّة من الصراع الطائفي!!!

الثالثة: تطرّق الشيخ محمد الخضر في كلامه إلى الشعار الذي ترفعه الشيعة وخطباء المنابر- أعني قولهم: «يا لثارات الحسين»- وسأل عن معنى هذا الشعار ومَن الذي يُنتقَم منه؟

أقول: إنّ التساؤل عن معنى شعار «يا لثارات الحسين»، وعن الغاية المقصودة منه، وقد بات قتلَة الحسين في مزبلة التاريخ، والإيحاء بأنّ المناداة به دعوة للانتقام من أتباع سائر المذاهب الإسلامية، ما هو إلّا تساؤل مريب،


1- المائدة: 80.

ص: 53

ومحاولة بائسة للطعن على حملة هذا الشعار، وتشويه سمعتهم، وتمزيق وحدة المسلمين.

فالحسين (ع) يمثّل أحد طرفي الصراع المشتعل أواره بين الحق والباطل، والعدل والجور، والاستقامة والانحراف، والصلاح والفساد، والحرية والاستبداد، ومن هنا بقيت قضيته حيّة خالدة، ولم تمت باستشهاده ولن تموت، ولم تنته بموت قاتليه ولن تنتهي، فكلّ سعي، وكلّ تحرّك، وكلّ موقف ينتصر للحق والعدل والاستقامة والحرية والمبادئ السامية، ويخذل الباطل والظلم والانحراف والاستبداد والانتهازية، فهو انتقامٌ لأبي الأحرار الإمام الحسين (ع) وأخذٌ بثأره.

والتاريخ، لم يسجّل في صفحة واحدة من صفحاته الكثيرة، استغلال الشيعة لهذا الشعار استغلالًا سيئاً، باستباحة دم أيّ مسلم من أيّ مذهب كان، على الرغم ممّا تعرّضوا له من ظلم واضطهاد وقتل وسجن وتشريد على أيدي الحكام الجائرين وأشياعهم، وعلى الرغم من امتلاء تاريخهم القديم والحديث بالثورات والانتفاضات والمواقف الجريئة ضد الطغاة المفسدين.

وتزداد الصورة نصاعة أكثر، إذا انضمّ إلى ما تقدّم، وقوفهم إلى صفّ أتباع سائر المذاهب الإسلامية في الدفاع عن الإسلام، والمصالح العليا للمسلمين، بل لهم فضل السبق على غيرهم في مواجهة الأعداء والغزاة المستعمرين، كما حصل مثلًا في حركة الجهاد ضد الاحتلال البريطاني الغاشم لمدينة البصرة في عام (1333 ه-)، ودفاعهم عن الخلافة العثمانية على الرغم

ص: 54

مما مارسه العثمانيون ضدهم من قمع وظلم وإقصاء وتهميش، وكما حصل أيضاً في ثورة العشرين العارمة (1338 ه-/ 1920 م) ضد القوات البريطانية المحتلة للعراق.

الرابعة: ختم رئيس مركز الدراسات في المبرة كلامه بقوله:

نفخر أنّ لدينا مشروعاً عملياً للوحدة الإسلامية منطلقاً من صيام عاشوراء وقال: إنّه لابد من إحياء تلك السنة النبويّة فإنّ المسألة اتفاقية بين أهل السنة وبين الشيعة الاثنى عشرية؛ واستند إلى قول المرجع الديني السيد الخوئي- رضوان الله عليه-.

أقول: إذا كانت الغاية، تخليص الأُمّة من الصراع الطائفي وتجسيد الوحدة الإسلامية من خلال صيام عاشوراء، فنعمت الغاية وبئست الوسيلة، وذلك للأُمور التالية:

1. أنّ تسمية صيام ذلك اليوم بالسنّة النبوية يعرب عن الخلط بين السنّة، والنفل، لأنّ المطلوب بلا منع من الترك إن كان ممّا واظب عليه النبي (ص) أو الخلفاء الراشدون من بعده فسنّة، وإلّا فمندوب ونفل. (1) روى البخاري عن عائشة: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله (ص) يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه. (2)


1- الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة سنة، 265: 2.
2- صحيح البخارى، كتاب الصوم، رقم الحديث 2002.

ص: 55

وتدل الرواية بوضوح على أنّ الرسول (ص) والصحابة الكرام تركوا صيامه بعد فرض رمضان؛ و مع هذا، كيف يصفه الشيخ بالسنّة، ويريد إحياءها وقد تركه صاحب الشريعة وخلفاؤه؟!

والحديث يدلّ على أنّ صيام عاشوراء كان سنّة جاهلية وقد كان النبي (ص) يصومه قبل قدومه للمدينة.

ويظهر من صحيح البخاري أنّ معاوية بن أبي سفيان بعد ما اغتصب الخلافة، صار بصدد إحياء تلك السنّة الجاهلية، حيث روى عن محمد بن عبد الرحمن أنّه سمع معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حج، على المنبر يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله (ص) يقول: هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر. (1) ما هو المراد بعاشوراء في الحديث النبوي (ص)؟

روى البخاري عن ابن عباس قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بنى اسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى؛ قال: فأنا أحقّ بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. (2)


1- صحيح البخاري، كتاب الصوم، رقم الحديث 2001.
2- صحيح البخاري، حديث 2004.

ص: 56

والحديث يدلّ على أنّ صيام يوم عاشوراء من سنن اليهود على خلاف ما دلّ عليه الحديث السابق من أنّها سنة جاهلية عربية، ويمكن الجمع بأنّ العرب في الجاهلية اتخذتها عن اليهود فصارت سنة لهم.

وعلى أي تقدير سواء أكانت سنة جاهلية أم سنة يهودية، فيوم عاشوراء الذي كان اليهود يصومون فيه وصام فيه النبي (ص) بحجّة أنّه أحق بموسى منهم، غير اليوم العاشر من محرّم الحرام الذي يُتصوَّر أنّ صيامه سنّة من سنن النبي (ص).

وذلك لأنّ الحديث يحكي بوضوح أنّ النبي (ص) أوان قدومه للمدينة، وجد اليهود يصومون فيه، ومن المعلوم أنّ هجرة النبي (ص) كانت في النصف الأوّل من ربيع الأوّل، فاليوم الذي صام فيه النبي (ص)، وأمر بصومه كان في النصف الأوّل من شهر ربيع الأوّل ولا صلة له بعاشر محرم الحرام، فمن يريد أن يعمل بالحديث فليصم اليوم العاشر الذي يصوم فيه اليهود، لا عاشر محرّم الحرام.

وقد تنبّه بعض الفلكيين من المسلمين لذلك الخطإ الرائج على ألسنة العوام، أعني الفلكي الطائر الصيت أبو ريحان محمد البيروني (362- 440) حيث قال: إنّ عاشوراء هو عبراني معرّب يعنى: «عاشور» وهو العاشر من «تشرى» اليهود، الذي صومه صوم «الكبّور» وأنّه اعتُبر في شهور العرب، فجُعل في اليوم العاشر من أوّل شهورهم كما هو في اليوم العاشر من أول شهور اليهود، ثم نقل الرواية من أنّ النبي (ص) لما قدم المدينة ... وقال: وهذه الرواية غير صحيحة؛ لأن الامتحان يشهد عليها وذلك لأنّ أوّل المحرم كان

ص: 57

سنة الهجرة يوم الجمعة، السادس عشر من شهر تموز سنة ثلاث وثلاثين وتستعمائة للاسكندر، فإذا حسبنا أوّل سنة اليهود في تلك السنة كان يوم الأحد، الثاني عشر من أيلول ويوافقه اليوم التاسع والعشرون من صفر، ويكون صوم العاشور يوم الثلاثاء التاسع من شهر ربيع الأوّل، وقد كانت هجرة النبي (ص) في النصف الأوّل من ربيع الأوّل، إلى أن قال: ... فيكون على ما ذكرنا قدوم النبي المدينة قبل العاشور بيوم واحد وليس يتفق وقوعه في المحرّم إلّا قبل تلك السنة ببضع سنين أو بعدها بنيّف وعشرين سنة، فكيف يجوز أن يقال: إنّ النبي صام عاشوراء لاتفاقه مع العاشور في تلك السنّة؟! (1) وبعبارة أكثر وضوحاً: إنّ السنة العبرية (اليهودية) تبدأ في الخريف، بدلًا من منتصف فصل الشتاء (كما في التقويم الميلادي)، وهي (أي السنة العبرية) تعتمد على القمر، وتتكون من (12) شهراً، وهي:

تشْرى، مرحشوان، كسلو، طبت، شباط، أدار، نيسان، أيار، سيوان، تموز، آب، أيلول.

وتتكون الأشهر من (30) و (29) يوماً بالتبادل. ويضاف في خلال (19) عاماً شهر قوامه (29) يوماً سبع مرات بين شهري (أدار ونيسان)، ويطلق على هذا الشهر اسم (فيادار)، وفي الوقت ذاته يصبح أدار (30) يوماً. (2)


1- الآثار الباقية، عن القرون الخالية: 421، تحقيق اذكيائي.
2- أنظر: الموسوعة العربية العالمية 82: 7- 83، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية.

ص: 58

وعلى ضوء ذلك نقول: إذا صحّ أنّه نُدب إلى صيام يوم عاشوراء، وأنّ ثمّة من يريد صوم ذلك اليوم، فليصم في يوم (العاشور) من شهر (تشري) الذي يقع دائماً في فصل الخريف (حسب التقويم العبري)، لا أن يصوم في يوم (عاشوراء) من شهر (محرم الحرام)، الذي يتحرك عبر الفصول، وفقاً للتقويم الهجري.

وممّا يثير العجب ما نقله ابن حجر عن بعض من حاول تصحيح الحديث وقال: يحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون يوم عاشوراء بحسب السنين الشمسية فصادف يوم عاشوراء بحسبهم اليوم الذي قدم فيه المدينة. (1) ولا أظن أنه يخفى على القارئ وجود التناقض في كلام القائل، إذ كيف يمكن أن يصادف قدوم النبي (ص) يوم عاشوراء بحسبهم؟ ولذلك قال ابن حجر: إنّ سياق الأحاديث تدفع هذا التأويل.

وفي الختام نلفت نظر الأساتذة الذين يصرّون على الاحتفال بيوم عاشوراء أنّ أوّل من احتفل بهذا اليوم الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام عبدالملك بن مروان، يقول المقريزي: إنّ ملوك بني أيوب الذين أزالوا الفاطميين عن منصة الخلافة كانوا يتخذون يوم عاشوراء يوم سرور، يوسعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في المطاعم ويصنعون الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجاج في أيام عبدالملك بن مروان؛ ليرغموا بذلك


1- فتح الباري 200: 4.

ص: 59

آناف شيعة علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- الذين يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي، لانّه قتل فيه. (1) وقد لعب الوضّاعون الكذّابون دوراً عظيماً في الدعوة إلى إظهار الفرح والسرور في عاشر محرم، واتخاذه عيداً وإظهار الزينة كالخضاب والاكتحال إلى حد، قام غير واحد من المحققين بتكذيب هذه المراسم.

قال ابن حجر: إنّ ما أصيب به الحسين (رض) في يوم عاشوراء إنّما هو الشهادة الدالة على حظوته و رفعته ودرجته عند الله، وإلحاقه بدرجات أهل بيته الطاهر- إلى أن قال- و امّا بدع الناصبة المتعصبين على أهل البيت من اظهار غاية الفرح والسرور، واتخاذه عيداً وإظهار الزينة فيه، كالخضاب والاكتحال ولبس جديد الثياب، وتوسيع النفقات، وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العادات، واعتقادهم أنّ ذلك من السنة والمعتاد، والسنة ترك ذلك كله، فانّه لم يرد في ذلك شي ء يعتمد عليه ولا أثر صحيح يرجع إليه، وقد سئل بعض أئمة الحديث عن هذه الأمور، فقال: لم يرد فيه حديث صحيح عنه (ص) ولا أحد من أصحابه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين لا من الأربعة ولا من غيرهم، ولم يرد في الكتب المعتمدة في ذلك صحيح أو ضعيف .... (2)


1- الخطط المقريزية 490: 1 المواعظ الاعتبار بذكر الخطط والآثار.
2- الصواعق المحرقة: 183، بتلخيص ولكلامه ذيل يليق بالمطالعة.

ص: 60

2. أنّ القول بأنّ صيام يوم عاشوراء أمر اتّفق على جوازه، السنّة والشيعة، أمر لا يوافق الواقع، فإنّ لفقهاء الإمامية فيه آراء سبعة إليك إجمالها:

أ. حرمة صومه إذا كان بنية التبرّك بمصرع الحسين وآل بيت النبي (هم) سواء أثبت صيام عاشوراء عن النبي (ص) أم لم يثبت؟

ب. استحباب الإمساك في هذا اليوم عن الأكل والشرب وبقية المفطرات إلى ما بعد صلاة العصر تأسيّاً بعطش الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه.

ج. استحباب صومه كاملًا لكن على وجه الحزن فقط، ومعنى ذلك استحبابه بهذا القيد.

د. كراهة صومه من دون نيّة الحزن، ولعلّه المشهور.

ه- .. استحباب صومه من حيث هو.

و. حرمة صومه مطلقاً بأي نيّة كانت، حزناً أم تبركاً.

ز. الاحتياط- وجوباً- باجتناب صومه مطلقاً بأي نيّة كانت. (1) ومع ذلك فكيف يصف المتحدث صيام عاشوراء أمراً أصفق عليه الفريقان؟!


1- لاحظ رياض المسائل 467: 5؛ جواهر الكلام 105: 17؛ الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء للكاتب 306: 2- 310؛ الرسول المصطفى ص والشعائر الحسينية: 475- 478 وقد أفاض القول في حكم الصيام مما لا مزيد عليه.

ص: 61

نعم، قال السيد الخوئي بكونه مندوباً- لكن مندوباً- بالذات، و حراماً بالعرض، وقد اختزل المتحدّث كلامه فاكتفى بصدره وترك ذيله، وإليك ما قاله في ذيل كلامه:

نعم لا إشكال في حرمة صوم هذا اليوم بعنوان التيمّن والتبرّك والفرح والسرور كما يفعله أجلاف آل زياد والطغاة من بني أميّة، من غير حاجة إلى ورود نص أبداً، بل هو من أعظم المحرمات، فإنّه ينبئ عن خبث فاعله، وخلل في مذهبه ودينه، وهو الّذي اشير إليه في بعض النصوص المتقدّمة من أنّ أجره مع ابن مرجانة الّذي ليس هو إلّا النار، ويكون من الأشياع والأتباع الذين هم مورد اللعن في زيارة عاشوراء، وهذا واضح لا سترة عليه، بل هو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى. (1) 3. سلّمنا، كون صيامه سنّة يليق أن تُحيا، فلماذا تُحيا بالابتهاج والسرور، أيجوز في منطق العقل، والعاطفة، الابتهاج بيوم سُفك فيه دم إمامهم سبط رسول الله وريحانته، ودماء الأبرار الأتقياء من أهل بيته وأصحابه؟!

أوَ ليس هذا دليلًا على أنّ وراء الكواليس شيئاً، وأنّ النيات ليست بصادقة ولا خالصة، وأنّ المبرة مصيدة للشيعة أو صدٌّ عن انتشار التشيع الّذي بدأ ينتشر منذ أعوام لقوة منطقه، ووضوح مسالكه؟!

إنّه يجدر بمن تهمّه وحدة خطا المسلمين، ويدعو إلى جمع كلمتهم وإصلاح واقعهم المأساوي، يجدر به أن يعمل على تجنّب إثارة مسائل الخلاف، والتأكيد على المشتركات- وما أكثرها- لتعزيز روح الثقة، التي هي


1- مستند العروة، كتاب الصوم 305: 2.

ص: 62

مفتاح التآخي والتعاون والتآلف بينهم، وأن تكون نياته صادقة في هذا الاتجاه، لا أن يرفع يافطة الوحدة، ليختفي وراءها، ويُخفي معه- كما يظن- أغراضه السقيمة، فيصبح مصداقاً للمثل السائر: سَبَّحَ ليسرق.

فدعوا هذا الحرص المصطنع على الوحدة والتقارب بين المذاهب الإسلامية، فإنّ إصراركم على استفزاز الآخرين في عقائدهم ومشاعرهم، يكشف عن نياتكم الحقيقية، ويفضح دموع التماسيح التي تذرفونها أسىً كاذباً على مصالح المسلمين، الذين لم يَعُد ينطلي عليهم هذا التمويه والخداع.

الخامسة: نفترض أنّ صيام يوم عاشوراء سنّة نبوية، ولكن من أصول بعض أهل السنّة وعلى رأسهم ابن تيمية، ترجيح ترك السنّة إذا كان شعاراً للمخالف وله نظائر:

1. تسطيح القبر

قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن الدمشقي: السنّة في القبر التسطيح، وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. (1) وقال الرافعي: إنّ النبي (ص) سطّح قبره ابنه، وعن القاسم بن محمد قال: رأيت قبر النبي (ص) وأبي بكر وعمر مسطّح.


1- اختلاف الأئمة 88: 1، في هامش الميزان، للشعراني.

ص: 63

وقال ابن أبي هريرة: إنّ الأفضل الآن العدول من التسطيح إلى التسنيم، لأنّ التسطيح صار شعاراً للروافض، فالأولى مخالفتهم وصيانة الميت وأهله عن الاتهام بالبدعة. (1) 2. الجهر بالبسملة

روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله (ص) يجهر بالصلاة ب- «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكان علي (ع) يجهر بالتسمية، وقد ثبت بالتواتر وكان علي بن أبي طالب (ع) يقول: «يا من ذكره شرف للذاكرين»، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه. (2) ولكن حكى الرافعي عن ابن أبي هريرة أنّ الجهر بالتسمية إن صار في موضع شعار للروافض، فالمستحب هو الإسرار بها مخالفة لهم. (3) 3. ترك المستحبات إذا صارت شعاراً للشيعة

قال ابن تيمية عند بيان التشبّه بالروافض: ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم، فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك، لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم ولا يتميز السنّي من


1- العزيز في شرح الوجيز 453: 2.
2- مفاتيح الغيب 205: 1.
3- العزيز في شرح الوجيز 453: 2.

ص: 64

الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم، ومخالفتهم، أعظم من مصلحة هذا المستحب. (1) حكى البرسوي عن كتاب «عقد الدرر واللآلي وفضل الشهور والليالي» للشيخ شهاب الدين الشهير بالرسّام ما يلي، يقول: ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً، يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبه بيزيد الملعون وقومه وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح، فإنّ ترك السنّة، سنّة إذا كانت شعاراً لأهل البدع كالتختم باليمين فإنّه في الأصل سنّة، لكن لمّا كان شعار أهل البدعة والظلمة، صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى. (2) إلى غير ذلك من الموارد التي تركوا فيها السنّة لأجل كونها شعاراً للمخالف.

فإذا كان هذا هو الأصل المتّبع عند السلف فيليق بالخلف أن يتبع في كلّ سنّة صارت شعاراً للمخالف، ومن المعلوم- إلى حدّ علمه الأكمه والأصم- أنّ صيام عاشوراء صار شعاراً للأمويين بعد مقتل الحسين (ع) وشهادته، ويقول باقر العلوم (ع):... أللهم إنّ هذا يوم تبرّكت به بنو أمية وابن آكلة الأكباد بقتلهم الحسين (ع)... (3)


1- منهاج السنّة 143: 2.
2- روح البيان 142: 4.
3- مصباح المتهجد: 775؛ بحار الأنوار 295: 98.

ص: 65

فعلى مَن ينبض قلبه بوحدة الكلمة وتوحيد الأُمّة أن لا يصوم يوم عاشوراء، لئلّا يتشبّه بالأمويين وأذنابهم ومن سار على نهجهم.

هذه رسالتي المفتوحة لرئيس مركز البحوث والدراسات في مبرّة الآل والأصحاب عسى أن ينظر إليها بعين الإنصاف والتجرد عن الرأي المسبق الذي نشأ عليه في بيئته.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

ص: 66

مقتطفات من كتاب: الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة «2»

إعداد وتقديم: محمدعلي المقدادي

لمؤلفه الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان

المقدمة

إنّ من كان له أدنى إلمام بالمعالم الإسلامية، يعلم بأنّ قسماً كبيراً منها يرتبط بالآثار الباقية من رسول الله (ص) وأهل بيته الطيبين (هم) والصالحين؛ و لاشك أنّ الأجيال سواء أكانت المؤمنة أم الأخرى التي تريد الاطلاع والدراسة- التي لم تكن حاضرةً في تلك العصور- لايمكنها التعرّف على هؤلاء القادة السادة إلّا من خلال الاطلاع على آثارهم التي تبين تاريخهم النير، و دورهم الكبير، وعطاءهم المبارك، وتضحياتهم الجسام، حقاً «إنّ آثارهم تدلّ عليهم».

ص: 67

فالآثار خير وسيلة وأنجع طريقة للتعرف على سيرتهم وأخلاقهم، و للتعرف على ما حملوه من قيم ومبادئ، راحت تترك بصماتها على سلوكهم وأخلاقهم، وظلت هذه الآثار تحكي بصدقٍ عظمة جهودهم التي بذلوها في سبيل رسالة السماء، وهداية الناس، و انقاذهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الحياة الإيمانية، غير مكتفين بأنفسهم وأهليهم ومن حولهم في عصرهم، بل حتى للذين يأتون بعدهم بما يتركونه من تراث مقروء، أو مسموع، أو مرئي يمكن الاستفادة منه؛ في الاقتداء بهم، والسير على نهجهم القيم، المنبثق من كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ص).

فلو علم الإنسان المسلم أنّ رسول الله (ص) الذي وصفه القرآن الكريم بقوله: وإنَّكَ لَعَلىَ خُلُقٍ عَظيِمٍ قد تجسد خلقه هذا، و هو يعيش حياةً متواضعةً مشحونةً بالتواد والتراحم، بعيدةً عن الفظاظة والغلظة؛ تتلمسها في دار صغيرة بسيطة اتخذها سكناً، و في مسجد اتخذه مقراً لعبادته وقيادته للأمة والدولة، وهكذا في كل مواقعه ومواقفه ومنازله وعلاقاته.. فسيتّخذ هذا الإنسان المسلم طريقاً صحيحاً مماثلًا لما عليه رسول الله (ص) وأهل بيته (هم) و الصالحون رضوان الله تعالى عليهملَقَدْ كَانَ لَكُمْ فيِ رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ. .. (1) و يقتدي بهم بسبب ما رأى من آثارهم، و يعيش حتماً مثل ما رأى و عرف من كيفية منازلهم، و بساطة عيشهم؛ و بسبب هذا التعرّف على آثارهم يصير ذلك الإنسان أنموذجاً حياً في عصره، و إن كان عصره بعيداً عنهم بقرون، فضلًا عما يترتب على زيارة هذه المواقع من بركات وأجر وثواب...

و ليس هذا من منافع التعرّف على آثارهم القيّمة فحسب، بل ستكون هذه الآثار معلماً واضحاً، و داعياً قوياً، للتعرف على المنهج المبارك


1- الأحزاب: 21.

ص: 68

نفسه الذي ساقته السماء والتزم به الصالحون، فيا حبذا لو كانت دار رسول الله (ص) وآثاره المباركة باقية في عصرنا، لتكون داعية حقيقية إلى الإسلام العزيز الحنيف!!

ولكن يا للمصيبة! فقد ابتلي الإسلام و الأمة الإسلامية بفرقة فاسدة حاقدة، بدأوا بتكفير أبناء الأمة الإسلامية، واتهموهم بالشرك و الإلحاد! و لم يكتفوا بهذه الاتهامات الكاذبة، بل بدأوا بهدم كل ما تعلقت به نفوس المؤمنين من الأماكن الإسلامية، و تخريب الآثار المقدسة التي بقيت من عصر الرسول الأكرم (ص).

إنّ الذي ارتكبه هؤلاء ضدّ آثار الرسول (ص) و أهل بيته (هم)، وتكفير المجتمع المسلم وقتلهم الأبرياء، لايقل بشاعة مما يرتكبه الصهاينة، وهو يلبي ما يأمله أعداء الإسلام ويهدفون إليه من إيجاد الخلافات وإثارة النعرات بين الأمة الواحدة...

إنّ الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم، قد بذل جهده في هذا الكتاب لإثبات قدسية الأماكن الشريفة و المعالم الأثرية في مكة المكرمة وأهميتها، تلك الآثار التي كانت عامرة منذ قرون و سنين، قبل أن يقوم الوهابيون الجاهلون بهدمها وتخريبها، فحرموا الناس من منافعها وبركاتها .. إنهم لا يسمعون شيئاً و لايعقلون سوى ما يلبي أهدافهم و اعتقادهم الضال!

إنّ ما قام به الدكتور لجهد واسع نافع، مع أنه كان يعيش في ظروف صعبة و خطيرة؛ و ليس في هذه المجلة ما يسع كل ما تفضل به الدكتور من مباحث كتابه القيم، فاقتطفنا من ثمار هذه الروضة الجليلة بحوثاً يستفيد منها القراء الكرام؛ وهذا هو القسم الثاني من الكتاب.

نسأل الله سبحانه و تعالى أن يوفقنا لما يحبّ و يرضى، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ.

ص: 69

مقدّمة المؤلف

إنّ الأماكن التاريخية ذاكرة الأمم الحيّة، والشاهد القائم الذي لايكذب، والدليل الناطق الباقي إذا اندثرت الأجيال.

مكة المكرمة مهد الإسلام، ومبعث النور، ومنطلق خاتمة الرسالات، شرفت بولادة المصطفى (ص)، واحتضنت كبار صحابته الكرام على أرضها المباركة، شهدت عرصاتها و مرابعها ملحمة الصراع بين الحق والباطل، و زكت تربتها بالدماء الزكية، دماء الشهداء.

في كلّ شعب منها وزاوية وبقعة أثر خالد، ومنار مضي ء يحكي قصصاً من جهادهم، و أمثلة من كفاحهم، تظل وقائعه حية في نفوس الأجيال المسلمة سماعاً، ومشاهدة، تكتحل بها نواظرهم، و تتردد على أسماعهم مآثرهم، ترسخ بها معاني الإيمان، تتقوى بها عزائمهم، وتتجدد بها هممهم؛ لنشر العقيدة السليمة، والمبادئ، والقيم الصحيحة، يستنطقون من خلال السيرة والمسيرة والآثار القائمة أمجاد التاريخ الإسلامي في مراحله المبكرة؛ ليبعث حياً في النفوس.

مكة المكرمة قد ضمت العديد الكثير من تلك الأماكن التاريخية المهمة في تاريخ الإسلام، حظيت بعناية المسلمين واهتمامهم منذ العصور الإسلامية المبكرة تأليفاً وتدويناً، توقيعاً، ورواية متواترة، علمياً ومحلياً، فهي سجلّ حافل، في صفحات موثقة، يتوارث معرفتها الخلف عن السلف في تسلسل تاريخي منتظم، منذ ظهور الرسالة المحمدية، حتى الوقت الحاضر، حرص السلف الصالح: محدثون، وفقهاء، ومؤرخون، و أدباء منذ

ص: 70

القرن الأول الهجري على ترسيم تلك الأماكن، وتوقيعها، وتحديدها تخليداً للحدث، مرتبطاً بمشاهدة المكان، فللمكان إيحاءاته وإشعاعاته، بقيت تراثاً خالداً باقياً عبر الأجيال المتعاقبة في أمانة وصدق، دون أن تمس بسوء.

إنّ هذا البحث يواصل تلك المسيرة التي ابتدأها سلفنا الصالح في صياغة تحليلية جديدة، فهو امتداد لتلك الجهود، خصوصاً وأنّ الكثير منها قد اختفى عن الأنظار؛ لغرض توسعة المسجد الحرام، وإعادة تخطيط المدينة المقدسة، مكة المكرمة بحسب ما جد فيها من طرق، وتزايد عدد السكان، وأعداد الحجاج الذين بلغ إحصاؤهم إلى ما يزيد على المليونين، والمستقبل ينبئ بزيادات مضاعفة في السكان، والحجاج والمعتمرين.

أدى هذا و غيره إلى غياب بعض تلك الأماكن من الوجود، وحتى تظل تلك الشواهد التاريخية التي عاصرت أفضل الخلق، وأعظم أجيال الإسلام محفورة في الذاكرة- وحتى لا يصبح تاريخنا و ماضينا أسطورة مثل ما حدث لبعض الأمم السابقة- يأتي هذا البحث لرصدها، وما طرأ عليها، استمراراً للتسلسل التاريخي لجزء من أهم خصائص المدرسة التاريخية المكية.

ظهرت العناية بهذه الأماكن المأثورة في مكة المكرمة عبر القرون الماضية توثيقاً في مدونات متعددة كثيرة، ومن لدن جهات علمية متنوعة.

في مدونات السيرة النبوية والمدونات التاريخية، والدراسات الفقهية، يسند هذا التدوين العلمي تواتر محلي تتوارثه الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة، حرصاً ألا يطويها النسيان، فللمكان إيحاءاته و إشعاعاته الإيمانية، واستذكار الذين أدّوا دوراً مهماً في نشر الإسلام.

ص: 71

بهذا المفهوم التربوي الراقي، البعيد عن الغلوّ والمجافاة، استحوذ هذا الموضوع على اهتمام علماء الإسلام: محدثين، وفقهاء، ومؤرخين من عصر التابعين حتى العصر الحاضر، فقاموا برصد تلك الأماكن التاريخية تحديداً، وتعييناً، و تاريخاً لما حدث عليها من إحداثات، يدعمهم النقل المتواتر بين الأجيال، بالسماع والمشاهدة، جيلًا بعد جيل، في حرص وأمانة علمية شديدة، تجلى هذا الاهتمام في الآتى:

أولًا: مدوّنات السيرة النبوية.

ثانياً: سير الصحابة رضوان الله عليهم.

ثالثاً: المصادر التاريخية العامة، والأخرى المتخصصة في التاريخ المكي.

رابعاً: كتب المناسك ومدوناتها المطولة والمختصرة، فقد أصبح ذكر هذه الأماكن موضوعاً ثابتاً، وباباً مهماً مستقلًا في معظم كتب المناسك تحت عناوين مختلفة، قلّ أن يخلو منها كتاب من تلك الكتب، بل إنّ بعض العلماء أفردها بكتابات مستقلة، ورسائل مفردة زيادة في العناية والاهتمام.

يقتصر العرض لمختارات من المدونات السابقة تفصيلًا إن شاء الله تعالى، توثيقاً صريحاً للتواتر العلمي.

واجب الأمانة العلمية والتاريخية يقضي ذكر العناوين التي يضعها المؤلفون في تقديمها وعرضها، فإنّ لكل عنوان مدلوله عند المؤلف، وسيكون من مهمة البحث تحليل تلك العناوين تحليلًا علمياً متجرداً.

ص: 72

الواجب العلمي يقضي إنصاف كل ذي رأي في هذا الموضوع بأدلته، وبالفهم الذي يفهمه، دون تحيز، أو افتئات، فمن ثم اقتضت الدراسة تقسيم البحث إلي الفصول الآتية ...

أودّ أن أنبه القارئ الكريم إلى أمرين ينبغي أن يكونا في الحسبان:

أولًا: مهمة البحث أصالة هو العرض المتجرد بما يمليه المنهج العلمي، خصوصاً فيما يتصل بالآراء الفقهية، فليس المجال مجال سجال، أو جدال، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلّا صاحب الرسالة سيدنا محمد (ص)، وللقارئ أن يرجح ما يشاء، دون غمط، أو تقليل، أو نبذ للآخرين، فهذا ليس من خلق الإسلام.

ثانياً: جاء الاقتباس من مصادر متعددة متنوعة لقرون مختلفة، فبرغم تكرار أسماء المواضع، لكن يختلف المؤلفون في أسلوب العرض، وذكر معلومات إضافية عن الموضع بما حدث له من عمار، أو خراب له فى عصره، كذلك ليتم الاقتناع بالتواتر العلمي في كل مجموعة من تلك الكتب المنتسبة إلى فنونها على انفرادها، وفق عصور مختلفة، وبجميعها مجتمعة، بالإضافة إلى التواتر المحلي في تعيين هذه الأمكنة، وتحديدها، وتوارث مواقعها جيلًا بعد جيل، يتجلى هذا من وصف بعض الأمكنة في ثنايا كتابات بعض المؤلفين، مثل الحديث عن مكان مولد النبي (ص): «وهو من أصح الآثار عند أهل مكة، يحقق ذلك مشايخهم»، وبهذا يتحقق المعنى الاصطلاحي بين علماء الإسلام لمدلول (التواتر) وهو:

ص: 73

«الخبر الثابت على ألسنة قوم لايتصور تواطؤهم على الكذب». (1) تم العرض على هذا الأسلوب من أجل قطع الشك باليقين، وحتى لايسقط القارئ المتأمل في دائرة الإنكار التي لاتستند إلى دليل، والذي يروج له البعض من دون علم ومعرفة بالمواقع والأنحاء في مكة المكرمة، ولأمر ما يشككون فيما جرى عليه التواتر العلمي والمحلي فيما لاشك فيه منذ القرون الإسلامية الأولى، دون علم أو سند؛ سامحهم الله.

على أنه ينبغي أن يكون القارئ الكريم على وعي تام للفرق بين أمرين مختلفين حكماً:

أولًا: المحافظة على هذه الأماكن من يد العابثين، فهي أمانة الماضي، وأمانة تاريخية ينبغي أن تبقى دروساً حية، ناطقة للأجيال القادمة، ينظرون إلى تاريخ الرسالة المحمدية من خلالها.

ثانياً: الممارسات المخالفة للعقيدة الصحيحة يأباها العقل، وترفضها العقيدة الإسلامية الصحيحة، وهذا ما ستتم مناقشته والحديث عنه بشكل تفصيلي. والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبد الوهاب إبراهيم أبوسليمان- مكة المكرمة


1- الجرجاني، علي بن محمد الشريف، كتاب التعريفات، الطبعة الأولى: 74، بيروت: لبنان، عام 1969 م، التواتر.

ص: 74

... ثانياً: المنظوم:

المنظومات الشعرية للأماكن المتواترة المأثورة:

تنوع اهتمام العلماء من فقهاء و مؤرخين وغيرهم بالأماكن المأثورة المتواترة بمكة المكرمة، فرصدوها نظماً في مدوناتهم الفقهية، أو خصوها بمؤلفات مستقلة.

من هؤلاء الذين ضمنوها في مؤلفاتهم الفقهية:

1. العلامة الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد المرادي المعروف بالنحاس، أو ابن النحاس (260- 338 ه-/ 873- 949 م) في كتابه (المناسك).

2. العلامة الشيخ عبدالملك بن جمال الدين العصامي (978- 1037 ه-/ 1570- 1627 م):

نظم الأماكن المأثورة في مكة المكرمة على وفق ما قال الحسن" البصري"، لكن قيد كل موضع بزمن تبعاً للنقاش المفسر، فقال:

«قد ذكر النقاش في المناسك وهو لعمري عمدة المناسك»

«أنّ الدعاء بخمسة و عشره في مك-- ة يقبل ممن ذكره»

ثم عرضها جميعاً في خمسة عشر موضعاً، (1) ثم شرحها العلامة الشيخ إدريس الشماع الشافعي بعنوان (الإنابة في أماكن الإجابة).


1- النووي، أبو زكريا يحيى، الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، الطبعة الأولى، القاهرة: جمعية النشر والتأليف الأزهرية، عام 1349 ه-/ 1931 م، 385: 4.

ص: 75

3. العلامة الشيخ محمد بن علان الصديقي الشافعي المكي (ت 1075 ه-/ 1664 م)، قال:

«وقد كنت نظمتها، وزدت عليها مواضع أخرى، فقلت:

ألحمد لله و صلى الله على نبيه الذي اجتباه و للقصر

محمد و الآل و الصحابة و هذه مواضع الإجابة

وذلك الحجر الطواف والصفا والمروة المسعى لدى من عرفا

ملتزم والمستجار ومنى وعرفات ثم جمع فاتقنا

كذا لدى الثلاث من جمرات وزمزم أتى عن الثقات

خلف المقام وبوسط الكعبة وغير ذا مواضع بمكة

مثل حرا ومسجد التنعيم والمختبى ومولد الكريم

ومهبط الوحي وعند المتكا وغار ثور فادع تعطى سؤلكا

وغيرها مواضع مأثورة وهي لدى أربابها مشهورة».

(1)


1- النووي، الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، 385: 4.

ص: 76

الفصل الثالث

الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة في المدونات الفقهية

المبحث الأول:

المتواتر من الأماكن المأثورة في مكة المكرمة في كتب (المناسك):

اهتمت كتب المناسك عموماً، ومؤلفات الفقهاء المكيين خصوصاً بذكر الأماكن المأثورة في مكة المكرمة مما له علاقة بالرسول (ص) مباشرةً، أو بحدث من الأحداث الإسلامية المهمة، أو ذي علاقة بأحد من أصحاب رسول الله (ص) مما نقل بالتواتر من الصدر الأول للإسلام، واستمر نقله ومعرفته حتى العصر الحاضر.

وضع الفقهاء لهذه الأماكن التاريخية المأثورة في مكة المكرمة آلية علمية لفحصها وإثبات صحتها، وذلك بتحديد مواضعها، ومقاساتها بأدوات القياس لديهم ذرعاً، وضعوا لها عناوين مختلفة مناسبة يبدو واضحاً عليها الصنعة الفقهية بذكر الأحكام الشرعية المناسبة لها، والآداب التي ينبغي للزائر أن يلتزمها عند حضوره عندها.

من الصعب استقصاء هذه الكتب، ولكن يتم اختيار مجموعة من الكتب لمؤلفين، لهم شهرتهم في الوسط العلمي، ينتج من سرد بعضها الاقتناع بالتواتر العلمي الفقهي، من هذه المدونات:

ص: 77

أولًا- كتاب (مثير الغرام الساكن على أشرف الأماكن) تأليف: الإمام أبي الفرج عبدالرحمن بن الجوزي (ت 597 ه-/ 1200 م): (1)

ورد ذكرها لديه تحت عنوان:

(باب ذكر أماكن بمكة يستحب فيها الصلاة والدعاء)، وهي ثمانية عشر موضعاً:

المكان الأول- البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص) و كان عقيل بن أبي طالب قد أخذه حين هاجر رسول الله (ص)، فلم يزل بيده وولده حتى باعوه من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فأدخله في داره التي يقال لها (البيضاء)، وتعرف اليوم بدار ابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتى حجت الخيزران جارية المهدي، فجعلته مسجداً يصلى فيه، وأخرجته من الدار إلى الزقاق الذي يقال له: زقاق المولد.

المكان الثاني- منزل خديجة (ها)، وهو البيت الذي كان يسكنه رسول الله (ص)، وفيه توفيت خديجة (ها)، ولم يزل النبي (ص) مقيماً به حتى هاجر، فأخذه عقيل، ثم اشتراه منه معاوية وهو خليفة، فجعله مسجداً يصلى فيه، وبناه، وفتح فيه معاوية باباً من دار أبي سفيان، وهي الدار التي قال فيها رسول الله (ص) يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

المكان الثالث- مسجد دار الأرقم بن أبي الأرقم، وهي التي يقال لها دار الخيزران، كان النبي (ص) فيه مستتراً في بداية الإسلام.


1- الطبعة الأولى، قدم له وحققه وفهرسه مصطفى محمد حسين الذهبي، القاهرة: دار الحديث، 1415 ه-/ 1995 م.

ص: 78

المكان الرابع- مسجد بأعلى مكة عند الردم، عند بئر جبير بن مطعم يقال: إنّ النبي (ص) صلى فيه.

المكان الخامس- مسجد بأعلى مكة يقال له مسجد الجن، وهو، فيما يقال: موضع الخط الذي خطه لابن مسعود ليلتئذ، ويقال له مسجد البيعة، فيقال: إنّ الجن بايعوا رسول الله (ص) هنالك.

المكان السادس- مسجد بأعلى مكة أيضاً، يقال له مسجد الشجرة، يقابل مسجد الجن، يقال: إنّ النبي (ص) دعا شجرة كانت في موضع المسجد فأقبلت تخط الأرض، حتى وقفت بين يديه، ثم أمرها فرجعت.

المكان السابع- مسجد تسميه أهل مكة مسجد عبدالصمد بن علي، لأنه بناه.

المكان الثامن- مسجد عن يمين الموقف، يقال له مسجد إبراهيم وهو غير مسجد عرفة الذي يصلي فيه الإمام.

المكان التاسع- مسجد بمنى يقال له: مسجد الكبش؛ لأنّ الكبش الذي فدى به إبراهيم ولده نزل هنالك.

المكان العاشر- مسجد بأجياد، وفيه موضع يقال له: المتكا، يقال: إنّ النبي (ص) اتكا هنالك.

المكان الحادي عشر- مسجد على جبل أبي قبيس، يقال له مسجد إبراهيم، وبعضهم يقول: هو مسجد لرجل يقال له إبراهيم، وليس بالخليل.

المكان الثاني عشر- مسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم، يقال: إنّ النبي (ص) بايع الناس عنده يوم الفتح.

ص: 79

المكان الثالث عشر- مسجد العقبة، حيث بايع الأنصار.

المكان الرابع عشر- مسجد بذي طوى، وكان النبي (ص) ينزل هنالك حين يعتمر، وحين يحج تحت سمرة في موضع المسجد وبنته زبيدة بأزج.

المكان الخامس عشر- مسجد الجعرانة، حيث أحرم النبي (ص) بعمرة.

المكان السادس عشر- مسجد التنعيم، قال رسول الله (ص) لعبدالرحمن ابن أبي بكر: «عمّر أختك من التنعيم فإذا أهبطت بها الأكمة، فمرها، فلتحرم».

المكان السابع عشر- مسجد في جبل حراء فإنّ النبي (ص) كان يتعبد فيه.

المكان الثامن عشر- مسجد في جبل ثور، وهو الذي اختفى فيه رسول الله (ص)، وأبوبكر». (1)


1- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن،: 344.

ص: 80

ثانياً- كتاب (البحر العميق في مناسك العمرة والحج إلى البيت العتيق)، تأليف: محمد بن أحمد بن محمد بن الضياء القرشي (ت 854 ه-/ 1450 م). (1)

ورد ذكر هذه الأماكن تحت عنوان (فصل في ذكر الأماكن المباركة بمكة المشرفة، وحرمها وقربه التي يستحب زيارتها، والصلاة والدعاء فيها رجاء بركتها)؛ بعد هذا التعريف بهذه الأماكن يقول:

«وهذه الأماكن مساجد ودور، وجبال، ومقابر، والمساجد أكثر من غيرها، إلّا أنّ بعض المساجد اشتهر باسم (المولد)، وبعضها باسم الدار ...».

ثم عرض كل ذلك بالتفصيل إلى أن قال: «و أما المواضع المباركة بمكة المعروفة بالموالد، فاعلم أنّ هذه المواضع مساجد، لكنها مشهورة عند الناس ... بالمواليد، فأفردت عن المساجد بالذكر لهذا المعنى، منها:

الموضع الذي يقال له مولد النبي (ص)، وهو عند أهل مكة مشهورة في الموضع المعروف بسوق الليل، قال الأزرقي: البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص) هو في دار محمد بن يوسف، كان عقيل بن أبي طالب أخذه حين هاجر النبي (ص)، وفيه وفي غيره يقول النبي (ص) عام حجة الوداع: «وهل ترك لنا عقيل من ظل؟»، فلم يزل بيده وبيد ولده حتى باعه ولده من محمد بن يوسف أخي الحجاج، فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، ثم تعرف بدار ابن يوسف، فلم يزل ذلك البيت في الدار حتى حجت الخيزران أمّ


1- الطبعة الأولى، تحقيق عبدالله نذير أحمد عبدالرحمن مزي، مكة المكرمة: المكتبة المكية ومؤسسة الريان، عام 1427 ه-/ 2006 م.

ص: 81

الخليفتين موسى الهادي، وهارون الرشيد، فجعلته مسجداً يصلى فيه، وأخرجته من الدار، وأشرعته في الزقاق الذي على أصل تلك الدار، ويقال له: زقاق المولد، قال الأزرقي: سمعت جدي، ويوسف بن محمد يثبتان أمر المولد، وأنه ذلك البيت لا اختلاف فيه عند أهل مكة ...».

ثم تكلم عن الدور المباركة بمكة، قائلًا:

«فاعلم أنّ بمكة دوراً مباركة معروفة عند الناس غالبها مساجد، ولكنها اشتهرت بالدور عند أهل مكة، فلذلك أفردناها بالذكر عن المساجد، منها: دار أم المؤمنين خديجة (ها)، بالزقاق المعروف زقاق الحجر، ويقال له قديماً زقاق العطارين، كما ذكره الأزرقي، ويقال لهذه الدار مولد فاطمة (ها)؛ لأنّ فيها ولدت، قال الأزرقي: كان يسكنها رسول الله (ص)، وفيه ابتنى بخديجة، وولدت فيها أولادها جميعاً، وفيها توفيت، فلم يزل النبي (ص) ساكناً حتى خرج إلى المدينة مهاجراً ...». (1)

ثالثاً- كتاب (لباب المناسك وعباب المسالك): تأليف العلامة الفقيه المحدث الشيخ رحمة الله السندي، ثم المكي (930- 993 ه-/ 1523- 1585 م). (2)

ذكر هذه الأماكن تحت عدة عناوين:


1- البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى بيت الله العتيق، 2623: 5.
2- الطبعةالثالثة، تحقيق عبدالرحيم بن محمدأبوبكر بيروت: دارقرطبة، عام 1421 ه-.

ص: 82

(فصل في أماكن الإجابة)، و (فصل في المواضع التي صلى فيها رسول الله (ص) بالمسجد الحرام)، وأخيراً (فصل: في زيارة المواضع المشهورة بالفضل)، ثم عرض بعد هذا قوله: «يستحب زيارة بيت خديجة (ها)، وقيل: هو أفضل موضع بمكة بعد المسجد الحرام، ومولد النبي (ص)، ودار أبي بكر، ومولد علي، ودار أرقم، وغار جبل ثور، وغار جبل حراء، ومسجد الراية، ومسجد الجن، ومسجد الشجرة مقابله». (1) هكذا تواترت كتب المناسك في عرض هذا الموضوع.

رابعاً- كتاب (إرشاد السالك إلى أفعال المناسك) للعلامة الفقيه برهان الدين إبراهيم بن فرحون المدني المالكي (ت 799 ه-/ 1396 م): (2)

ذكر هذه الأماكن تحت العنوان التالي:

(الباب العشرون: في ذكر آثار شريفة بمكة ينبغي أن تقصد للتبرك بها).

«واعلم أنّ بمكة آثاراً ينبغي للحاج أن يقصدها ويدعو الله فيها:

الموضع الأول- البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص)، وهو في زقاق معروف يقال له زقاق المولد.

الموضع الثاني- منزل السيدة خديجة (ها)، وفيه ولدت أولادها منه (ص)، وفيه توفيت خديجة، و لم يزل النبي (ص) مقيماً به إلى أن هاجر، وكان


1- لباب المناسك وعباب المناسك،: 294- 297.
2- الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق محمد بن الهادي أبوالأجفان، تونس: بيت الحكمة، عام 1989 م.

ص: 83

معاوية اشتراه فجعله مسجداً يصلى فيه، وفتح معاوية فيه باباً من دار أبي سفيان، وهي الدار التي قال فيها رسول الله (ص) يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن».

الموضع الثالث- مسجد في دار الأرقم التي على الصفا، ويقال لها: «دار الخيزران، فكان له (ص) تردد، وإقامة ...». (1)ثم يستمر المؤلف في تعداد ماتبقى من هذه الأمكنة ...

خامساً- كتاب (الإيضاح في مناسك الحج والعمرة)، تأليف الإمام يحيى بن شرف النووي، (631- 671 ه-/ 1233- 1272 م). (2)

فقد عقد الباب الخامس في كتابه بعنوان (في المقام بمكة وطواف الوداع وفيه مسائل)، منها:

«المسألة الرابعة عشرة: يستحب زيارة المواضع المشهورة بالفضل في مكة والحرم، وقد قيل: إنها ثمانية عشر موضعاً منها: البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص)، وهو اليوم مسجد في زقاق يقال له زقاق المولد، وذكر الأزرقي أنه لاخلاف فيه.

ومنها: بيت خديجة (ها)، وفيه ولدت أولادها من رسول الله (ص) وفيه توفيت خديجة (ها)، و لم يزل رسول الله (ص) مقيماً به حتى هاجر، قال


1- إرشاد السالك إلى أفعال المناسك، 545: 2.
2- حاشية العلامة ابن حجرالهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج المدينة المنورة، المكتبة السلفية، ت. د..

ص: 84

الأزرقي: ثم اشتراه معاوية وهو خليفة من عقيل ابن أبي طالب فجعله مسجداً. ومنها: مسجد دار الأرقم وهي التي يقال لها دار الخيزران، كان النبي (ص) مستتراً فيه في أول الإسلام، قال الأزرقي: هو عند الصفا، وفيه أسلم عمر بن الخطاب ...». (1) سادساً- كتاب (القرى لقاصد أمّ القرى)، تأليف الحافظ أبي العباس أحمد بن عبدالله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري المكي، (615- 694 ه-/ 1218- 1294 م). (2)

يعد هذا الكتاب من أعظم كتب المناسك، وأجلها، وأكبرها، وأمثلها منهجاً وطريقة، يصفه محققه مصطفى السقا بقوله:

«إنه أجمع كتاب في موضوعه، وحسبه أنه يشتمل على جميع ماورد في الحج من الآيات القرآنية، والنصوص الحديثية من كتب الصحاح الستة: البخاري، ومسلم، والموطأ، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، ومن غيرها من كتب المسانيد، والسنن، التقط أصح مافيها ... إلى غيرها من كتب المناسك والسنن ...». (3)

عرض في هذا الكتاب للأماكن التاريخية تحت عنوان (ماجاء في ذكر أماكن بمكة وحواليها يستحب زيارتها والصلاة والدعاء فيها رجاء


1- حاشية العلامة ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج،: 444.
2- الطبعة الثانية، عارضه بمخطوطات مكة المكرمة والقاهرة مصطفى السقا، القاهرة: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، عام 1390 ه-/ 1970 م.
3- المصدر السابق: 9.

ص: 85

بركتها) يقول في بدايته: «وهي ثمانية عشر موضعاً» نأتي هنا على عناوينها حسب ترتيبه:

الأول- الموضع الذي ولد فيه رسول الله (ص).

الثاني- دار خزيمة، كان مسكن رسول الله (ص)، وولدت فيه خديجة أولادها من رسول الله (ص)، وفيه توفيت، و لم يزل النبي (ص) مقيماً فيه حتى هاجر، فأخذه عقيل، ثم اشتراه معاوية بن أبي سفيان وهو خليفة، فجعله مسجداً يصلى فيه.

الثالث- مسجد الأرقم بن أبي الأرقم التي عند الصفا.

الرابع- مسجد بأعلى مكة عند أول الردم، وعند بئر جبير بن مطعم.

الخامس- مسجد بأعلى مكة أيضاً يقال له مسجد الجن.

السادس- مسجد بأعلى مكة يقال له مسجد الشجرة.

السابع- مسجد بأعلى مكة أيضاً عند سوق الغنم.

الثامن- مسجد بأجياد.

التاسع- مسجد على جبل أبي قبيس يقال له مسجد إبراهيم.

العاشر- مسجد بذي طوى.

الحادى عشر- مسجد العقبة، حيث بايع الرسول (ص) الأنصار.

الثاني عشر- مسجد الجعرانة، أحرم الرسول (ص) من هنالك بعمرة.

الثالث عشر- مسجد التنعيم، حيث أمر الرسول (ص) عبدالرحمن أن يعمر عائشة منه.

الرابع عشر- مسجد الكبش بمنى، فدى إسماعيل، أو إسحاق بكبش هنالك.

ص: 86

الخامس عشر- مسجد عن يمين الموقف وهو غير المسجد الذي يصلي فيه الإمام بعرفة.

السادس عشر- مسجد الخيف.

السابع عشر- مسجد بقرب مسجد الخيف من يمانيه يعرف بمسجد المرسلات، فيه نزل على النبي (ص) سورة المرسلات.

الثامن عشر- غار جبل حراء، كان النبي (ص) يتعبد فيه.

التاسع عشر- غار جبل ثور، اختفى فيه النبي (ص) و أبوبكر». (1) سابعاً- كتاب (هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك)، تأليف الإمام عزالدين بن جماعة الكناني (694- 767 ه-/ 1294- 1365 م). (2)

خص الباب العاشر بهذا الموضوع بعنوان: (في دخول مكة المعظمة وفي الطواف والسعي، وما يتعلق بذلك) وقد جاء فيه:

«واستحب- كما قال بعض الشافعية- زيارة المواضع المشهورة بالفضل، كالموضع المعروف بمولد سيدنا رسول الله (ص)، وكالموضع المعروف ببيت خديجة ... وكالمسجد الذي في دار الخيزران عند الصفا ...». (3)


1- القرى لقاصد أم القرى: 664؛ يلاحظ أنّ المؤلف ذكر في البداية أنّ هذه الأماكن ثمانية عشر موضعاً، في حين أنّ تعدادها في العرض وصل إلى تسعة عشر موضعاً.
2- الطبعة الأولى، تحقيق نورالدين عتر، بيروت: دار البشائر الإسلامية، عام 1414 ه-/ 1994 م.
3- هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 955: 2.

ص: 87

ثامناً- كتاب (فتح الفتاح شرح الإيضاح)، تأليف محمد علي بن علان الصديقي الشافعي الأشعري المكي (ت 676 ه-/ 1277 م). (1)

جاء في (فتح الفتاح) قوله: «المواضع المشهورة بالفضل، بمعنى الفضيلة في الذات، ولكثير الثواب في مكة، والحرم، وخارجها كمسجد المبايعة عند جمرة عقبة منى، وقد قيل إنها ثمانية عشر موضعاً، عبر الطبري بتسعة عشر بالفوقية، وعد ماذكر المصنف.

منها: البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص)، وهو اليوم مسجد، وذكر الطبري أنّ الذي جعل المولد النبوي مسجداً، الخيزران سرية المهدي، لماحجت، وأنه كان بيد عقيل وورثته، إلى أن اشتراه أخو الحجاج فأدخله في داره في زقاق يقال له زقاق المولد.

وذكر الأزرقي: أنه لاخلاف فيه، فيؤخذ منه رد ما قيل: إنه بالدار التي بالصفا، أو بالردم، أو بمنى، أو بعسفان، كما بينه في كتاب طيب المورد في تاريخ محل المولد، أو أنه لضعفه نزل منزلة العدم». (2) وكذلك في كتاب (الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية)، خص المواضع التي صلى فيها رسول الله (ص) حول الكعبة بنظم مستقل. (3)


1- فتح الفتاح في شرح الإيضاح للنووي مكةالمكرمة: مكتبة الحرم الشريف، فقه شافعي، رقم 44، مصورعن مخطوط.
2- ابن علان الصديقي، محمد علي، فتح الفتاح في شرح الإيضاح للنووي: 419- 420.
3- 4 : 385-395.

ص: 88

وغيرها من كتب الفقه والمناسك التي أعطت أهمية خاصة لذكر هذه الأماكن، وتحديدها وبخاصة مؤلفات الفقهاء المكيين ماذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

المبحث الثاني:

التحليل العلمي للعناوين الفقهية في كتابات الفقهاء، للأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة:

معظم المدونين للتاريخ المكي هم من الفقهاء والمحدثين المكيين، حرصوا فيه على تخصيص فصل مستقل للأماكن التاريخية المأثورة، وبيان الثابت الصحيح منها، في دقة كاملة، وحرص شديد على بيان الصحيح نسبته إلى النبي (ص) وبيان غير الصحيح، يتجلى هذا بداية في عناوين كتاباتهم أولًا، وثانياً تسجيل وقوفهم عليها، واختبار صحتها، هؤلاء الفقهاء، القضاة، المحدثون لاتخدعهم مقالات العامة، و لاينساقون مع الشائع، والذائع، وقد دون معظمهم المنهج العملي لاختبار الصحيح منها، والزائف في كتابات تاريخية موثقة في مدوناتهم التاريخية والفقهية، رائدهم في ذلك إثبات ماتصح نسبته إلى النبي (ص) وتأكيده، فإنّ الكاذب على النبي (ص) يتبوأ مقعده من النار، كماورد الحديث بهذا، فليس الكذب على النبي (ص) كالكذب على أحد من أمته، وإن كان الكذب مذموماً في جميع الأحوال.

يقدم البحث تحليلًا لبعض مقالاتهم لبيان وجهة نظرهم، ونبذة مختصرة من سيرهم في نهاية البحث، حتى يعرف القارئ مكانتهم العلمية فيزداد ثقة بما يقولونه، وألا يحمله عدم معرفته بمكانتهم الجرأة عليهم ...

ص: 89

لم يفت معظم الفقهاء الذين كتبوا في فقه المناسك سواء من المكيين، أو غيرهم، وهم علماء ثقات لهم وزنهم الكبير في الفقه الإسلامي أن يخصوا باباً مستقلًا للأماكن الإسلامية المأثورة في مكة المكرمة في كتب المناسك، يتناول البحث طائفة محدودة منهم، أنموذجاً لكتابات الآخرين، وقد جاءت العناوين في صياغات مختلفة:

(الأماكن المشهورة) (الأماكن المباركة) (الأماكن المعظمة) (المشاهد المكرمة) (الأماكن التي يستحب زيارتها).

ملاحظ أنّ بعض العناوين ليس فيها استعمال المصطلح الفقهي (يستحب)، لكنها تعني الحث على زيارتها.

يتجاوز هذا الجزء من البحث عبارات المورخين، ويركز بصفة خاصة على عبارات بعض المحدثين والفقهاء خصوصاً عند إعطاء زيارة هذه الأماكن حكماً شرعياً.

وردت لدى بعض الفقهاء عبارة (الاستحباب) في صياغة فقهية صريحة، هذه الكلمة حين يطلقها الفقيه فإنه يعني معناها الفقهي الاصطلاحي (الثواب على الفعل، والتجاوز عن الترك).

يهتم البحث هنا ببيان هذا التوجه لإطلاق هذا المصطلح الشرعي، وتعليله فقهاً حسب منطق أولئك العلماء، فالمهم هو إدراك تفسيرهم كمايدور في خلدهم، لاتفسيره حسب رأي المخالف لهم وهو مايقتضيه البحث العلمي المتجرد، حتى يمكن إنصاف صاحب كل رأي؛ من هؤلاء:

ص: 90

الإمام محمد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي (ت 250 ه-) بعنوان:

«ذكر المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة المكرمة، وما فيها من آثار النبي (ص)، وماصح من ذلك». (1)

الإمام أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي، من علماء القرن الثالث الهجري:

«المواضع التي يستحب فيها الصلاة بمكة، وآثار النبي (ص) فيها وتفسير ذلك». (2) الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي (ت 597 ه-):

«ذكر أماكن بمكة يستحب فيها الصلاة والدعاء: وهي ثمانية عشر موضعاً:

المكان الأول: البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص) ...

المكان الثاني: منزل خديجة (ها) ...

المكان الثالث: مسجد في دار الأرقم بن أبي الأرقم ...

المكان الرابع: مسجد بأعلى مكة عند الردم ...

المكان الخامس: مسجد بأعلى مكة يقال له: مسجد الجن ...

المكان السادس: مسجد بأعلى مكة أيضاً يقال له مسجد الشجرة ...، ثم أتم بقية هذه المواضع». (3)


1- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، 198: 2.
2- أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، 5: 4.
3- مثير الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن: 344.

ص: 91

الحافظ أبو العباس أحمدبن عبدالله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري ثم المكي (615- 694):

«فينبغي لمن قصد آثار النبوة أن يعم بصلاته الأماكن التي هي مظنة صلاته (ص) فيها رجاء أن يظفر بمصلى النبي (ص) من كل مكان:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم انزلا حيث حلت

ومسا تراباً طيباً مس ذيلها وبيتاً وظلًا حيث باتت وظلت

و لاتيأسا أن يعفو الله عنكما إذا أنتما صليتما حيث صلت».

(1) الإمام يحيى بن شرف النووي (631- 676):

«الرابعة عشرة: يستحب زيارة المواضع المشهورة بالفضل في مكة والحرم، وقد قيل إنها ثمانية عشر موضعاً، منها: البيت الذي ولد فيه رسول الله (ص)، وهو اليوم مسجد في زقاق يقال له زقاق المولد، وذكر الأزرقي أنه لاخلاف فيه ...». (2) وبعضهم جمع بين بعض تلك العبارات السابقة مثل:


1- القرى لقاصد أمّ القرى: 350.
2- كتاب الإيضاح في مناسك الحج والعمرة: 404، الطبعة الثانية، وعليه الإفصاح على مسائل الإيضاح على مذاهب الائمة الأربعة وغيرهم ...، بيروت: دار البشائر، عام 1414 ه-/ 1994 م.

ص: 92

الإمام عزالدين بن جماعة الكناني (694- 767 ه-):

«الباب العاشر (في دخول مكة المعظمة، وفي الطواف والسعي، وما يتعلق بذلك) إلى أن قال:

واستحب- كما قال بعض الشافعية- زيارة المواضع المشهورة بالفضل، كالموضع المعروف بمولد سيدنا رسول الله (ص)، وكالموضع المعروف ببيت خديجة (ها) ... وكالمسجد الذي في دار الخيزران عند الصفا ...». (1) وذكر في موضع آخر: إذا فرغ الحاج من الرمي فالسنة كما قال الشافعية أنه ينصرف إلى رحله من منى كماصنع رسول الله (ص)، وحيث نزل منها جاز، لكن الأفضل- كما قال الشافعية- منزل رسول الله (ص) وما قاربه. (2) العلامة الفقيه برهان الدين إبراهيم بن فرحون المدني المالكي (ت 799 ه-):

«الباب العشرون: في ذكر آثار شريفة بمكة ينبغي أن تقصد للتبرك بها». (3)


1- هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 955: 2.
2- المصدر السابق 1120: 3.
3- إرشاد السالك إلى أفعال المناسك، 545: 2.

ص: 93

الإمام القاضي العلامة الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد ابن علي الفاسي المكي المالكي (757- 832 ه-):

جاء هذا الموضوع تحت العنوان التالي:

«الباب الحادي والعشرون: في ذكر الأماكن المباركة التي ينبغي زيارتها الكائنة بمكة المشرفة وحرمها قربه». (1) الإمام الفقيه أبو البقاء محمد بن أحمد بن محمد بن الضياء المكي الحنفي، قاضي مكة المكرمة ومفتيها (854 ه-):

«فصل في ذكر الأماكن المباركة بمكة المشرفة وحرمها التي يستحب زيارتها والصلاة والدعاء فيها رجاء بركتها»، عددها وخصها بدراسة علمية فقهية بدءاً من الصفحة: 2625 إلى الصفحة: 2667. (2) الإمام علي بن عبدالله بن أحمد الحسني السمهودي (844- 922 ه-) نص على الآتي:

«... ابن زبالة عن خالد بن عوسجة قال: كنت أدعه ليلة إلى زاوية دار عقيل بن أبي طالب التي تلي باب الدار، فمر بي جعفر بن محمد ... يريد العُريض، معه أهله، فقال لي: «أعن أثر وقفت هاهنا؟ قلت: لا، قال هذا موقف رسول الله (ص) بالليل، إذا جاء يستغفر لأهل البقيع ...».


1- شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 260: 1.
2- البحر العميق في مناسك المعتمر والحاج إلى بيت الله العتيق، 5: 2623.

ص: 94

قال المراغي: فينبغي الدعاء فيه، وقد أخبرني غير واحد أنّ الدعاء هناك مستجاب.

قلت [السمهودي]: الأماكن التي دعا (ص) بها كلها أماكن إجابة، ولذا يستحب الدعاء فيها». (1) العلامة الفقيه جمال الدين محمد جار الله بن محمد نورالدين ابن أبي بكر ابن علي بن ظهيرة القرشي المخزومي (ت 986 ه-):

«خاتمة في ذكر الأماكن المعظمة، والمشاهد المكرمة التي تقصد زيارتها، المشهورة بالفضل بمكة شرفها الله تعالى وحرمها، وضواحيها من المواليد، والدور، والمساجد، والجبال، والمقابر وما أشبه ذلك». (2) العلامة علي بن عبد القادر الطبري (1070 ه-):

عقد «الفصل الثالث في الأماكن المشهورة فيها [مكة المكرمة] وفي المساجد: بمكة ونواحيها أماكن مشهورة يستحب زيارتها ...». (3)


1- خلاصة الوفا بأخبار دارالمصطفى: 415، المدينة المنورة: المكتبة العلمية لصاحبها الشيخ محمد سلطان النمنكاني، عام 1392 ه-/ 1972 م.
2- الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف: 330.
3- الأرج المسكي في التاريخ المكي وتراجم الملوك والخلفاء: 58.

ص: 95

العلامة محمد بن أحمد بن سالم بن عمر المكي المالكي، المعروف بابن الصباغ (1243- 1321 ه-):

«الفصل الثالث في الأماكن التي يستجاب فيها الدعاء بمكة المشرفة وحرمها وما قاربهما». (1) إلى غير ذلك من المؤلفين الذين عرضت كتاباتهم بالتفصيل سابقاً في هذا البحث.

ومما ينبغي أن يحذر منه في هذا المجال أن لايساء فهم كلام الفقهاء السابقين وتوصيفهم لتلك الأماكن (بالمباركة)، أو (استحباب الصلاة فيها، ورجاء إجابة الدعاء) على الحث على القيام بأعمال تتنافى مع صفاء العقيدة وإخلاصها، فإنهم أبعد أن يخرقوا معالم التوحيد، وهم أساطين هذا العلم، والمحافظون على تجريده من أي شائبة تمسه.

الصلاة في المكان الذي صلى فيه الرسول (ص) لأي قصد مشروع لاينقض عروة من عرى التوحيد مادامت العبادة لله وحده، خالصة له، ومما هو مسلم أنّ الأمكنة تتفاضل بحسب من حل بها، وما حل فيها.

يقول الشريف العلامة أبو عيسى سيدي المهدي الوزاني (ت 1342 ه-): إنّ الأعمال تشرف بشرف الأزمنة، كما تشرف بشرف


1- تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام والمشاعر العظام ومكة والحرم و ولاتها الفخام، 586: 2.

ص: 96

الأمكنة، ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع فوجب أن يكون العمل فيه أفضل». (1)

الفصل الرابع

شواهد التواتر المحلي للأماكن المأثورة في مكة المكرمة


1- النوازل الجديدة الكبرى، فيما لأهل فاس، وغيرهم من البدو والقرى 229: 2، الطبعة الأولى، قابله وصححه عمر بن عباد، المغرب: وزارة الأوقاف، عام 1417 ه-/ 1996 م.

ص: 97

المبحث الأول:

مظاهر التواتر المحلي:

(النقل بالتوارث من طرق الإثبات)

يتضح من التواتر المحلي المكي في القديم والحديث ونقل الجم الغفير من الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة تعيين الأماكن المأثورة، وتحديدها وهي معروفة، معلومة للمكيين، مشهورة بين علمائهم، ومثقفيهم، وعامتهم، كان معظمها قائماً ومشاهداً قبل بدء التوسعة للحرم الشريف عام 1375 ه-، يعد هذا التاريخ بداية التطوير والتغيير، لمدينة مكة المكرمة، ثم توالى هذا تباعاً حتى وقتنا الحاضر عام 1430 ه-.

يتجلى التواتر المحلي من عبارات المؤلفين الموثوقين، فضلًا عن نقل أفراد المجتمع كافة.

يمكن إدارك هذا النوع من التواتر من نصوص الكتب السابقة، يقدم البحث هنا بعض النماذج من كتابات المؤلفين السابقين التي تشير إلى هذا المعنى، أعني التواتر المحلي:

كتاب «الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف» تأليف: جمال الدين محمد جار الله بن محمد نورالدين بن أبي بكر بن علي بن ظهيرة القرشي المخزومي (ت 986 ه-/ 1578 م):

«فمنها، وهو من أجلّها مولد سيدنا رسول الله (ص)، فنبدأ به وهو بمكة في المكان المعروف بسوق الليل مشهور بمولد النبي (ص)»، إلى أن يقول:

ص: 98

«وكون هذا المكان مولده (ص) مشهور، متوارث، يأثره الخلف عن السلف». (1) كتاب «البحر العميق» تأليف: الفقيه ابن الضياء المكي، القرشي يقول:

«الموضع الذي يقال له مولد النبي (ص)، وهو عند أهل مكة مشهور في الموضع المعروف بسوق الليل».

وقد تقدم هذا النص من كتابه، هذا أنموذج صريح في التعبير عن التواتر المحلي، ينطبق على ماصح من تلك الأمكنة بموازين الفقهاء العارفين.

من فضل الله ونعمه، التي لاتحصى على أمة الإسلام، أن بقيت بعض هذه الأماكن محافظاً عليها لم تندثر، بل ظلت باقية تروي للأجيال الحاضرة والمستقبلة تاريخ أمجاد الإسلام...

الكثير من هذه الأماكن المأثورة ظل ظاهراً مشاهداً حتى الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، قبل أن تمتد يد التطوير والتوسعة للحرم الشريف، الكثير من معالم مكة المكرمة ظل باقياً كحاله في القرون الأولى، شاهد هذا الجيل المخضرم من أبناء مكة المكرمة والعالم الإسلامي الذي حضر مكة المكرمة في تلك الفترة قبل عام 1375 ه-، شهد الكثير من المعالم العمرانية، والمشاعر الدينية كما كان يتحدث عنها المؤرخون المكيون السابقون أمثال الإمام الأزرقي، والفاكهي، والتقي الفاسي وغيرهم، وهي


1- الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف: 325.

ص: 99

قطعاً لا مجال للشك في تحقيق أمكنتها، ونسبتها بعد ماحققها أعلام المكيين (وأهل مكة أدرى بشعابها)، كما أنّ أهل كل بلد أدرى بها، فإنكار نسبة هذه الأماكن من مَن لم يعش فيها غير معتبر شرعاً وعرفاً، وإنكاره لهذه الأماكن برغم هذا التواتر مكابرة بغير علم.

المبحث الثاني

عناية الحكومة.. بالأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة:

... منح سعادة الشيخ عباس قطان الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة (ها) زوجة النبي (ص)، لإقامة مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم على أنقاض الدار.

كما تفضل فمنحه أيضاً المكان الذي ولد فيه الرسول الأعظم (ص) لبناء مكتبة ضخمة يؤمها رواد العلم وطلابه، ويشرع هذا الأسبوع بالبناء حسب التصميم الذي وضع لذلك. (1)... اتخذت الخطوات الرسمية العملية لتحقيق هذه الرغبة الكريمة، فوثقت بالمحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة توثيقاً شرعياً بالصك رقم 140 بالمجلد الرابع، تاريخ 25 جمادى الآخرة 1373 ه-/ 1 فبراير 1954 م، هذا فيما يخص المولد النبوي الشريف، وصدر أيضاً صك من المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة بخصوص وقفية دار أمّ المؤمنين السيدة


1- صحيفة «البلاد»، العدد: 9981، السنة الخامسة عشرة، الصادر يوم الأحد 25 جمادى الأولى 1370 ه- الموافق 4 مارس 1951 م.

ص: 100

خديجة (ها)، وكلاهما كان لدى رئيس المحكمة الشرعية الكبرى آنذاك فضيلة الشيخ عبدالله بن عمر بن دهيش، وصدق الصكان من قبل رئاسة القضاة.

وردت في الصك الأول العبارات التالية:

«لدي أنا عبدالله بن عمر بن دهيش، رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة حضر أمين بن الشيخ عباس قطان الوكيل عن عمته المصونة فاطمة بنت يوسف قطان بموجب صك التوكيل الصادر من كاتب عدل مكة برقم 192 في 23/ 2/ 1371 ه- المخول له ذلك؛ وقرر على طريق الإنهاء قائلًا: إنّ موكلتي المذكورة كانت تقدمت بطلب من الحكومة السنية السماح لها بإنشاء مكتبة بالموضع المعروف بمولد النبي (ص) بشعب علي بمحلة سوق الليل؛ الشهير في محله شهرة تامة تغني عن تحديده ووصفه، وبعد الإجراءات الرسمية صدر قرار الرئاسة برقم 525/ 23 في 14/ 4/ 1370 ه- بالموافقة على الطلب المذكور، لأنه عمل خيري، على أن يجرى تسجيل الوقفية بالمحكمة الكبرى عند تمام البناء، وأن يكون مكتبة عمومية موقوفة بجميع أبنيتها، ومحتوياتها لجميع المسلمين، وقد حاز القرار المذكور موافقة صاحب السمو الملكي نائب جلالة الملك المعظم المبلغ إلى أمانة العاصمة برقم 3068، وتاريخ 11/ 5/ 1370 ه-، وصورة من ذلك إلى مقام رئاسة القضاة ... وقد اشترطت بوقفتيها شروطاً، منها: أنها لاتؤجر الدار المذكورة، ولاتباع، و لا توهب، ولا يستبدل بها، بل تبقى قائمة على أصولها، كما أنها اشترطت أنّ الكتب التي فيها لاتخرج عنها، وشرطت عدم الاستغلال حاضراً، ومستقبلًا إذا اندثر البناء في غير ما منح من أجله، ولا من ورثته، ولا أي

ص: 101

أحد، فعلى مقتضى البينة المعدلة حسب الأصول، ثبت لدي أنّ فاطمة بنت يوسف قطان أنشأت بمالها المباني المذكورة بعاليه، فقد أجزت الوقفية المذكورة على الشروط المذكورة، وأمضيته، وأمرت بتنظيم صك بها تحريراً في اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية، عام الثالث والسبعين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة من له العز والشرف، صلى الله عليه وآله وسلم».

رئيس المحكمة الكبرى بمكة

(ختم فضيلته)

أما ماهو بخصوص دار أمّ المؤمنين السيدة خديجة (ها)، فقد صدر بوقفيتها صك صادر من المحكمة الشرعية الكبرى رقم 142، تاريخ 25 جمادى الآخرة 1373 ه-/ 1 مارس 1954 م، ووردت فيه العبارات التالية:

«ألحمد لله وحده، لدي أنا عبدالله بن عمر بن دهيش، رئيس المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة حضر أمين بن الشيخ عباس قطان، وقرر على طريق الإنهاء قائلًا: إن والدي الشيخ عباس بن يوسف قطان حال حياته طلب من الحكومة السنية منح الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة الكبرى، وبمولد السيدة فاطمة الكائنة بمحلة القشاشية المعروف بمحلها، الشهيرة شهرة تامة تغني عن تحديدها لإنشاء مباني مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم من خيرات والده الشيخ يوسف قطان، وقد صدر أمر حضرة صاحب السمو الملكي النائب العام لجلالة الملك المعظم إلى أمانة العاصمة برقم 711 في 24/ 7/ 1366 ه-، بالموافقة على الشروط التي أقر المقام السامي بها في الخصوص المذكور، وأرسلت صورة من الأمر الكريم

ص: 102

المعطى إليه إلى والدي، وأشعرت وزارة المالية، ومقام رئاسة القضاة بصورة منه، ووالدي بصفته وصياً مختاراً من قبل والده الشيخ يوسف قطان على الخيرات والمبرات من مخلفات والده بموجب الصك الصادر من المحكمة الكبرى برقم 120 في 9/ 2/ 1351 ه-، قدقام حال حياته بإنشاء المباني للمدرسة المذكورة على الأرض المذكورة من وصاية والده للخيرات التي كانت تحت يده، لاملك ولا حق فيها، وعاجلته المنية قبل تسجيل هذه الوقفية لدى الجهات الرسمية، وحيث إنّ المباني المذكورة مشتملة على أماكن علوية وسفلية، ومنافع، ومرافق، ومشتملات شرعية، وحوش، محدودة شرقاً بالزقاق النافذ المعروف بزقاق الحجر، وغرباً بالقبان، وشاماً وقف بيت سنبل، ويمناً ملك الأشراف قديماً، وحديثاً ملك حسن طلاقي وأولاده، وقد شرط في هذه الوقفية شروطاً جعل العمل عليها، والمصير إليها منها: أنها لاتؤجر الدار المذكورة ولا تباع، ولا توهب، ولا تعار، ولا يستبدل بها بل تبقى قائمة على أصولها ...».

إلى أن يقول رئيس المحكمة:

«فعلى مقتضى البينة المعدلة حسب الأصول ثبت لدي أنّ عباس بن يوسف قطان أنشأ من مال والده يوسف قطان الأبنية المذكورة بعاليه فقد أجزت الوقفية المذكورة على الجهات المذكورة، وأمضيته، وأمرت بتنظيم صك بها تحريراً في اليوم الخامس والعشرين من شهر جمادى الثانية عام الثالث والسبعين بعد الثلاثمائة والألف ...».

ص: 103

(ختم رئيس المحكمة الكبرى). (1) لابد من وقفتين عند هذين الصكين:

الأولى: أنّ في هذين الصكين ما يثبت التواتر المحلي لكلا هذين المكانين المأثورين، حيث جاء في وصف مكانهما وتحديدهما استغناء القاضي الشيخ عبدالله ابن دهيش عن تحديد هذين المكانين في صك الوقفية، فقد عبر بقوله بالنسبة للمولد النبوي الشريف: «المعروف بمولد النبي (ص) بشعب علي بمحلة سوق الليل، الشهير في محله شهرة تامة تغني عن تحديده ووصفه».

وبالنسبة لمنزل أمّ المؤمنين السيدة خديجة (ها) قول فضيلة القاضي الشيخ عبدالله بن دهيش:

«منح الأرض البيضاء المعروفة بدار السيدة خديجة الكبرى، وبمولد السيدة فاطمة الكائنة بمحلة القشاشية المعروف بمحلها، الشهيرة شهرة تامة تغني تحديدها».

الثانية: ... يروي الزميل الأستاذ عبدالرزاق بن المحدث خطيب المسجد الحرام، وإمامه، الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة، بداية العمل في تأسيس مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في هذا المكان المبارك قائلًا:

«... وكنا قد عرفنا قبل ذلك أنّ هذا هو محل دار أمّ المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد (ها)، وهي الدار التي ولدت فيها السيدة فاطمة الزهراء (ها)، وبعد فترة من الزمن رأيت عمالًا يحفرون في هذا الموقع لعمل أساسات لمبنى جديد، وقد اتضح وجود مبنى كامل فيه مسجد تحت مستوى


1- صورة الصكين موجودة عند المؤلف المحترم.

ص: 104

الشارع، ولابد أنّ التي تحيط بالدار هي التي ارتفعت بسبب السيول وغيرها، المهم أنه شيد مبنى جديد في نفس الموقع، وشغلته مدرسة لتحفيظ القرآن، وهو أفضل استغلال لهذا الموقع التاريخي بما قيض الله له من أهل الخير، من فكر هذا التفكير السليم، وقد بني في نفس الفترة في أواسط الستينيات الهجرية، وأواخرها كان مع دار الأرقم بن أبي الأرقم بالصفا (دار الإسلام)، وهي أول مدرسة في الإسلام ...

قصة أخرى حيث إنها تقع في زقاق متفرع من المسعى على يسار الذاهب إلى الصفا، وهذا الزقاق يبعد عن جبل الصفا بحوالي الخمسين متراً، زقاق الخيزران، أما دار الأرقم فكانت تبعد عن المسعى بنحو مائة متر، وهي قريبة من دور سدنة الكعبة المشرفة آل الشيبي، وكانت عبارة عن دار مكونة من دور واحد، ومبنية على نفس طراز بناء الحرم القديم من الأعمدة والعقود، وكانت مهجورة.

وقد قيض الله لها فضيلة إمام الحرم المكي الشيخ عبد الظاهر أبوالسمح، ونائبه فضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، فطلبا من الملك عبدالعزيز منحها لتكون مقراً لمدرسة دار الحديث التي سبق وأن أسسها عام 1353 ه-، فوافق الملك عبدالعزيز على ذلك، وسلمت لهما، ولما كانت دوراً واحداً لايزيد على أربع غرف، وهذا لايكفي لاستيعاب المدرسة فقد تبرع أحد فاعلي الخير ببناء دور ثان على دورها الأرضي، وقد كان لوجيه جدة الشيخ محمد حسين نصيف الذي كان يتعاطف كثيراً مع هذه المدرسة دور كبير في هذا العمل، ولكن هذا الدور المضاف لم يأت متناسقاً مع الدور

ص: 105

الأرضي، ذلك أنّ الدور الأرضي كان مبنياً كما أسلفت على الطراز الإسلامي ذي الأعمدة والعقود، أما الإضافة فجاءت على الطراز الحديث الإسمنتي، وهكذا ظهر البناء كمن يلبس ثوباً وعباءة ويضع فوق رأسه قبعة، واستمرت مدرسة دار الحديث تشغل هذا المبنى الأثري محيية ذكراه الطيبة حتى جاء مشروع توسعة الحرم، فهدم هذا المبنى عام 1375 ه-، ومكانه الآن في الشارع الواقع بين الصفا وجبل أبي قبيس ...». (1)

وقال الندوي صاحب كتاب (شهور في ديار العرب):

«... بعد الطواف رغبت في السلام على الشيخ أبي السمح، وحين وصلت إلى باب (دار الحديث) وجدت مولانا عبدالوهاب الدهلوي قادماً من مقر إقامتي، وكان قد ذهب لزيارتي، وكان برفقته محمد بن عبدالرزاق حمزة، فجلسنا معاً، نتحدث في موضوعات مختلفة، كان الشيخ أبوالسمح قد ذهب إلى دار الأرقم، ويقال: إنّ هذا المبنى الخاص بدارالأرقم بني في بداية العهد العباسي، ولهذا فإنّ مكانته التاريخية حقيقية وثابتة، وقد أخذ الشيخ أبوالسمح هذا المبنى لدارالحديث، وهناك فكرة لبناء مبنى رائع، وضخم في هذا الموقع، وللأسف لم أتمكن من زيارة (دارالأرقم)، الدار التي كان يرابط فيها رسول الله (ص) وصحابته من الفدائيين الأوائل، وإن شاء الله أزورها بعد العودة من المدينة المنورة بصحبة مولانا عبدالوهاب، فهو من أشهر علماء آثار مكة المكرمة، وهو أيضاً مسؤول المالية في لجنة دار الحديث».


1- صحيفة عكاظ: 8، السنة الأربعون، العدد 11569، السبت 28 ذوالحجة 1418 ه-.

ص: 106

وبمناسبة دار الأرقم، ذكر العالم السلفي الشيخ محمد بن عبدالرزاق رأيه فيما يتعلق بالأماكن التاريخية في مكة، فيقول:

«يجب الإبقاء على جميع هذه المباني، وجعلها مقراً للإدارات، والهيئات العلمية والدينية، وكان من الضروري هدم القباب، ولكن لا معنى لإهمال تلك الأماكن ذات الصلة بالحياة الأولى للدعوة الإسلامية». (1) يتفق مع هذا الرأي بعض علماء السلف في العصر الحديث مثل العلامة السيد رشيد رضا فهو ممن يؤيدون استغلال هذه الأماكن التاريخية الثابتة استغلالًا حضارياً... (2) هذا هو الفكر المستنير الوسط في التعامل مع هذه الأماكن التاريخية، فإزالتها اعتداء على التاريخ ومشاعر المسلمين، وتقديسها بصورة تتنافى مع العقيدة الصحيحة أمر مرفوض، والعلاج لهذه الظاهرة من بعض الجهلة من خارج البلاد، يكون بالتوعية المفيدة عن طريق تنظيم جموع الزائرين لمشاهدة هذه الأماكن بقيادة دليل يرشدهم، ويعرفهم بتاريخ الإسلام، ونشوئه على رحابها، ومحاربته لكل المظاهر التي تتنافي مع التوحيد الخالص الذي ينبغي أن يتحلى به المسلم في تعامله مع الآثار.


1- حديث شفهي مع ابنه الجليل الأستاذ عبدالرزاق محمد عبدالرزاق حمزة كاتب المقال الآنف الذكر.
2- أرسلان، الأمير شكيب، السيد رشيد رضا وإخاء أربعين سنة: 458، الطبعة الأولى، دمشق: مطبعة ابن زيدون، عام 1356 ه-/ 1937 م.

ص: 107

التوعية هي الحل السليم، وهي فيما بعد درس مفيد لكل من يقصد زيارة هذه الأماكن التاريخية، خصوصاً بعد عودة الحجاج، والمعتمرين إلى أوطانهم.

إنّ توظيف هذه الأماكن التاريخية بطريقة عقلانية، وأسلوب حضاري، يحفظ للمكان قدره، ومكانته التاريخية، وجلاله ووقاره، في نفوس المسلمين.. الذين يعرفون لمثل هذه الأماكن التاريخية أهميتها، وأثرها الكبير على توجيه الأجيال، وإذكاء روحها بمعاني الإيمان.

أما ثالثة الأثافي، وفي نفس السياق لهذا التوجه الحضاري، فهو مايذكره المربي الثقة الأستاذ محمد أمين إسماعيل خدمدي من أبناء مكة المكرمة والمعاصرين للمربي الفاضل الشيخ عبدالله خوجة رائد مدارس (محو الأمية) عن مدارس النجاح الليلية التي تأسست عام 1350 ه-، وعن قصة منح المدرسة (مولد سيدنا علي بن أبي طالب (ع)) بشعب علي الرواية التالية:

«أما عن كيفية وجود المدرسة: فإنّ معهد الأنجال بالرياض أراد أن يعمل حفلة تخرج، فذكر لهم أنّ شيخاً بمكة يدعى عبدالله خوجة له باع في إعداد الحفلات.

يقول الشيخ: أتاني الشيخ طاهر الدباغ ومعه أعيان مكة، وطلبوا مني بغيتهم، فطلبت منهم مصروف البيت، فوعدوني خيراً.

وذهبت إلى الرياض، وأعددت الحفل، ونجح نجاحاً باهراً، وبعد نجاح الحفل أردت الاستئذان للعودة إلى دياري بمكة، إلّا أنهم طلبوا مني أن

ص: 108

أنتظر يومين، أو ثلاثة، وثالث يوم جاءوا إليّ بدفتر كبير مثل دفتر الحضور والغياب، وقالوا لي تمنّ في هذا الدفتر، ونحن نرفعه إلى جلالة الملك؟

فطلبت وقفاً من أوقاف مكة المكرمة.

فطلبوا مني البحث، فوجدت ضالتي في هذا المكان [مولد سيدنا علي بن أبي طالب (ع)]، واعتمدوا لي «بن لادن بالمونة، والمعلمين» وشيدت المدرسة، والمدرسة لها فرع في حي الشبيكة تحت إدارة مدير مدرسة الترقي العلمية الكائنة بزقاق العجيمي خلف البريد بالشامية كان يديرها الشيخ أحمد عبدالغني عجيمي ...». (1)

ظلت هذه المدرسة في هذا المبنى تؤدي دورها التثقيفي سنين عديدة حتى جرى هدم حي شعب علي (ع) من أجل توسعة الطرق، وعمل الأنفاق الآتية من حي العزيزية في وسط جبل أبي قبيس.

أدى توظيف هذه الأماكن التاريخية دوراً مهماً في الحياة العلمية والثقافية داخل المملكة السعودية وخارجها، وبعد إزالة بعضها بقصد توسعة ساحات الحرم الشريف للمصلين، يظل مكان المولد النبوي الشريف (مكتبة مكة المكرمة) معلماً حضارياً ثقافياً بارزاً يؤدي دوراً علمياً فريداً داخل المملكة العربية السعودية وخارجها... للحفاظ على تاريخ الأمة الإسلامية من الضياع، وتسلط الجاهلين.


1- وثيقة مخطوطة خاصة لعبد الوهاب أبوسليمان.

ص: 109

الفصل الخامس

آراء العلماء في زيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة

اختلف فقهاء الأمة في مشروعية زيارة هذه الأماكن إلى فريقين: معارضين ومؤيدين.

فيما يلي عرض رأي الفريقين مع ذكر أهم استدلالاتهم:

ص: 110

المبحث الأول:

رأي المعارضين لزيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكةالمكرمة وأدلتهم:

يذهب البعض إلى أنّ زيارة هذه الأماكن «من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة». (1) كابن تيمية، فإنّ له موقفاً ورأياً خاصاً نحو هذه القضية.

1. الاعتراض على المصنفين في المناسك في ذكرهم للمزارات:

قال ابن تيمية: «وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة، وما حولها، وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل أن أحج في أول عمري لبعض الشيوخ، جمعته من كلام العلماء، ثم قد تبين لنا أنّ هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة، وأنّ السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئاً من ذلك، وأنّ أئمة الهدى ينهون عن ذلك، وأنّ المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لها قصده للصلاة والدعاء والطواف، وغير ذلك من العبادات، ولم يشرع لها قصد مسجد بعينه بمكة سواه، ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شي ء من الأحكام، وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد من دعاء وصلاة وغير ذلك إذا


1- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم،: 339، الطبعة السابعة، تحقيق وتعليق ناصر بن عبدالكريم العقل، الرياض: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، عام 1419 ه-/ 1999 م.

ص: 111

فعله في المسجد الحرام كان خيراً له، بل هذا سنة مشروعة، وأما قصد مسجد غيره هناك تحرياً لفضله فبدعة غير مشروعة». (1) 2. وفي معرض الإنكار على زيارة الأماكن التي قضى فيها رسول الله (ص) فترة من رسالته بمكة المشرفة يقول:

«فتحنثه، وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث، ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به، وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء، ثم هاجر إلى المدينة، واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت، والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال: إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم والحديبية غربيّه، ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه وأقاموا بها ثلاثاً، ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين لم يتخلف عن الحج معه إلّا من شاء الله.


1- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، 339: 2.

ص: 112

وهو في ذلك كله لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئاً من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلّا بالمسجدالحرام و بين الصفا والمروة، و بمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة المجاورة لعرفة.

ثم بعده خلفاؤه الراشدون، وغيرهم من السابقين الأولين لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء.

وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: ثَانيِ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فيِ الْغَارِ وهو غار بجبل ثور، يمان مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته، والصلاة فيه، والدعاء، ولا بنى رسول الله (ص) بمكة مسجداً غير المسجدالحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد، ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد.

ومعلوم أنه لوكان هذا مشروعاً مستحباً يثيب الله عليه لكان النبي (ص) أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك، وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شي ء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله ...». (1)


1- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، 333: 2.

ص: 113

3. عرض الشيخ خلاف الأئمة في زيارة هذه الأماكن قائلًا:

«وقد اختلف العلماء في إتيان المشاهد، فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار التي بالمدينة ماعدا قباء، وأحد، ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه، ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها.

فهؤلاء كرهوها مطلقاً ...، لأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر.

واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها، وذكر طائفة من المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المساجد، وعدوا منها مواضع وسموها.

وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلّا إذا اتخذت عيداً مثل أن تنتاب لذلك، ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات، وإن كانت بيوتهن خيراً لهن إلّا إذا تبرجن، وجمع بذلك بين الآثار، واحتج بحديث ابن مكتوم ...». (1) 4. صحة بناء مسجد في موضع صلاة رسول الله (ص)، أو قصد الصلاة في موضع صلاته:

يقر ابن تيمية هذا شريطة أن يكون القصد بناء المسجد أصالة؛ يقول:

«ومثله: ما خرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال: كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي (ص) فقلت: إني أنكرت بصري، وإنّ


1- المصدر السابق 275: 2.

ص: 114

السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكاناً حتى اتخذه مسجداً، فقال: أفعل إن شاء الله.

فغدا عليّ رسول الله (ص) وأبوبكر معه بعد ما اشتد النهار، فاستأذن النبي (ص) فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: أين تحبّ أن أصلي من بيتكم؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحبّ أن يصلي فيه، فقام رسول الله (ص) فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم.

ففي هذا الحديث دلالة على أنّ من قصد أن يبني مسجده في موضع صلاة رسول الله (ص) فلا بأس به، وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته، لكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أنّ موضعاً يصلي له فيه النبي (ص) ليكون النبي (ص) هو الذي رسم المسجد، بخلاف مكان صلى فيه النبي (ص) اتفاقاً فاتخذ مسجداً، لا لحاجة إلى المسجد، لكن لأجل صلاته فيه ...». (1) 5. مشروعية قصد الصلاة في الأمكنة التي كان يقصدها (ص) للصلاة عندها بقصد الإتباع والاقتداء:

«فأما الأمكنة التي كان النبي (ص) يقصد الصلاة أو الدعاء عندها فقصد الصلاة فيها، أو الدعاء سنة اقتداء برسول الله (ص) وإتباعاً له، كما إذا تحرى الصلاة، أو الدعاء في وقت من الأوقات، فإنّ قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب ...


1- المصدر السابق.

ص: 115

ومثل هذا ماخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال: كان سلمة ابن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له: يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة.

فقال: رأيت النبي (ص) يتحرى الصلاة عندها، وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه، وذكر أنّ رسول الله (ص) كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة.

وقد ظن بعض المصنفين أنّ هذا مما اختلف فيه، وجعله والقسم الأول سواء، وليس بجيد، فإنه هنا أخبر أن النبي (ص) كان يتحرى البقعة، فكيف لايكون هذا القصد مستحباً!

نعم: إيطان بقعة في المسجد لايصلي إلّا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة، والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان.

فيجب الفرق بين اتباع النبي (ص) والاستنان به فيما فعله، وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به ...». (1) 6. المحاذير المتوقعة من زيارة الأماكن النبوية المباركة:

لايخفي القائلون بهذا الرأي من ارتكاب بعض المحظورات الواقعة من بعض الجهلة لدى زيارة هذه الأماكن المنافية لعقيدة التوحيد، وهذا ملموس من العامة، فسداً لهذه الذريعة يغلق هذا الباب كاملًا صيانة لصفاء


1- المصدر السابق 274: 2- 277.

ص: 116

العقيدة، يقرر الشيخ هذا الأمر في العبارة التالية، فمن كره هذه الزيارات إنما كرهها، لأنها «ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل الكتاب، ولأن مافعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي (ص)». (1) ثم قال ابن تيمية:

«والصواب مع جمهور الصحابة، لأنّ متابعة النبي (ص) تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل مافعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإنّ الأعمال بالنيات». (2) أنظر لهذا الاتجاه:

1. الشثري، سعد بن ناصر بن عبد العزيز.

حكم زيارة أماكن السيرة النبوية.


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق.

ص: 117

الرياض: دار إشبيليا، الطبعة الأولى، عام 1424 ه-/ 2003 م.

2. عبد العزيز بن عبدالله الجفير

الآثار والمشاهد وأثر تعظيمها على الأمة الإسلامية.

مصر: دار الهدي النبوي، ودار الفضيلة، الطبعة الأولى، عام 1424 ه-/ 2003 م.

3. أبو عمر الماحي.

ماذا يقولون عن التبرك وتقبيل اليد.

الطبعة الأولى، الرياض: مطبعة النرجس التجارية، عام 1429 ه-.

المبحث الثاني:

رأي المؤيدين لزيارة الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة وأدلتهم:

فيما يلي عرض موجز لأهم أدلة الفقهاء المجيزين زيارة الأماكن النبوية المأثورة:

ومما ينبغي أن يحاذر منه في هذا المجال بادئ ذي بدء أن لايساء فهم كلام الفقهاء وتوصيفهم لتلك الأماكن (بالمباركة)، أو (استحباب الصلاة فيها، ورجاء إجابة الدعاء) على الحثّ على القيام بأعمال تتنافى مع صفاء

ص: 118

العقيدة وإخلاصها، فإنهم أبعد أن يخرقوا معالم التوحيد، وهم أساطين هذا العلم، والحافظون على تجريده من أي شائبة تمسه.

الصلاة في المكان الذي صلى فيه الرسول (ص) لاينقض عرًى من عرى التوحيد مادامت العبادة لله وحده، خالصة له:

استعمال الفقهاء لكلمة (الأماكن المباركة) لا إشكال فيه، فهو وصف كاشف، كما يقول المناطقة، فالأماكن تتفاضل بحسب أوصافها، ومن حل فيها، وما حدث عليها؛ يستدل لهذه الكلمة بما نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. (1) يذكر العلامة أبو محمد عبدالحق بن عطية الأندلسي (481- 546) أن:

«البركة من جهتين: إحداهما: النبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر وفي نواحيه، ونواديه؛ والأخرى: النعم من الأشجار والمياه، والأرض المفيدة التي خص الله الشام بها ...». (2)

يستخلص من هذا:

أنّ كل مكان حلّ فيه رسول الله (ص) هو مكان مبارك، ولا يخالف في هذا مسلم جاهل، فضلًا عن عالم عاقل.


1- سورة الإسراء: 1.
2- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 10: 9.

ص: 119

يقول العلامة أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الَّذِي بَاركْنَا حولَهُ «قيل: بالثمار، وبمجاري الأنهار، وقيل: بمن دفن حوله من الأنبياء، والصالحين، وبهذه جعل مقدساً». (1)..، فمن ثم استعمل هؤلاء العلماء الفقهاء كلمة (المباركة)، ولا غرابة في ذلك.

وحيث عرف تعليل كونها مباركة، نتيجة لهذا يكون الدعاء فيها مستجاباً بإذن الله عزوجل؛ وهذا اعتراف من أئمة في التفسير بأنّ الأماكن تتفاضل بحسب من حلّ بها، وما حلّ فيها، لهذا المعنى أفرد الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه باباً بعنوان:

«المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي (ص)» و عرض لعشرة أحاديث، وكذلك خص هذه الأماكن العلامة عماد الدين أبوالفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774 ه-) بعنوان:

«ذكر الأماكن التي صلى فيها رسول الله (ص) وهو ذاهب من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته». (2)

علّق العلامة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني في شرحه على صنيع الإمام البخاري بقوله: ومحصل ذلك أنّ ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن، وتشدده في الإتباع مشهور، ولا يعارض ذلك ماثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان، فسأل عن ذلك فقالوا: قد صلى فيه


1- الجامع لأحكام القرآن، 212: 9، الطبعة الثانية، بيروت: دار إحياء التراث العربي، عام 1966 م.
2- حجة الوداع: 156، الطبعة الأولى، تحقيق خالد أبوصالح الرياض: دارالوطن.

ص: 120

النبي (ص) «فقال: من عرضت له الصلاة فليصل، وإلّا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب، لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً»، لأنّ ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة، أو خشي أن يشكل ذلك على من لايعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً.

وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر، وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي (ص) أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، وإجابة النبي (ص) إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين ... (1)

وبنفس السياق يستشهد العلامة الإمام المحدث الورع أبو محمد عبدالله بن أبي جمرة الأندلسي المتوفى سنة 699 ه- من السنة النبوية الشريفة في كتابه بهجة النفوس وتحليلها بمعرفة مالها وما عليها شرح مختصر صحيح البخاري في شرحه للحديث الذي رواه عن عمر، يقول: سمعت النبي (ص) بوادي العقيق يقول: «أتاني الليلة آت من ربي فقال: صلّ في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة».

وفيه دليل على أنّ المقصود منا في الأمكنة والأزمنة المباركة التعبد، يؤخذ ذلك من قوله (ص): «صلّ في هذا الوادي المبارك» فمن أجل بركته أمر بالصلاة فيه، كما قال تعالى في الأشهر الحرم: فَلَاتَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ ونهى عن الظلم فيها لكون الإثم عليه إذ ذاك أكثر مما لوكان في غيرها،


1- فتح الباري، بشرح صحيح الإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري 567: 1.

ص: 121

والأمر بالشي ء نهي عن ضده، والنهي عن الشي ء أمر بضده، فلما نهى عن ترك الظلم فيها يلزم فعل الطاعة، أو يندب إليها ...). (1) ثبوت زيارة رسول الله (ص) وبعض كبار أصحابه لغار حراء

فقد جاء في صحيح مسلم تحت عنوان: (باب من فضائل طلحة والزبير) الحديث التالي: «عن أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) كان على حراء هو وأبوبكر، وعمر، وعثمان وعلي، وطلحة، والزبير فتحركت الصخرة، فقال رسول الله (ص): اهدأ فما عليك إلّا نبي، أو صديق، أو شهيد». (2)

وبسند آخر إلى «أبي هريرة أنّ رسول الله (ص) كان على جبل حراء فتحرك، فقال رسول الله (ص): «اسكن حراء فما عليك إلّا نبي، أو صديق، أو شهيد» وعليه النبي (ص)، وأبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص». (3)

الإجابة في هذه الأماكن قد تكون مرفوعة وفضل الله لايحصى

يعرض لهذا العلامة الفقيه عفيف الدين عبدالله بن إبراهيم ميرغني، الحسني المتقي المكي، الطائفي، الحنفي (ت 1207 ه-) في كتابه (عدة الإنابة في أماكن الإجابة) عنواناً خاصاً (المستند في إجابة الدعاء عامة) قائلًا:


1- الطبعة الثالثة، بيروت: دار الجيل، عام 1984 م، 157: 1.
2- أبوالحسين مسلم بن الحجاج القشيري، النيسابوري، صحيح مسلم، الطبعة الأولى، 1880: 4، خادم الكتاب محمد فؤاد عبدالباقي، القاهرة: دارالحديث، عام 1412 ه-/ 1991 م، رقم الحديث 2471.
3- صحيح مسلم، 1880: 4.

ص: 122

«واعلم أنّ الحسن [البصري] ذكر الإجابة في هذه الأماكن، والظاهر أنه لايقول ذلك إلّا عن توقيف، لأنه تابعي جليل، بل سيد التابعين.

وقال الشيخ محمد بن علي علان في شرح الأذكار: عن جده عبدالملك ابن علي: إنّ الحسن البصري رفع ذلك إلى النبي (ص)، فإن ثبت ذلك فيكفي في العمل له، ولعله ثبت عند الشيخ عبدالملك العصامي أيضاً، لأنه ذكره في آخر نظمه المشهور، وله شواهد فإنّ بعضها مذكور في أحاديث مرفوعة، وقد ذكرها مطلقة عن الأوقات، وتبعه في ذلك أكثر من ذكرها من مشايخنا، وعليه جرى الناظم، وقال الملا علي قاري، والظاهر أنّ هذه الأماكن الشريفة موضع إجابة الدعوات المنيفة في الأزمنة المخصوصة، ويمكن حملها على عمومها، والله سبحانه أعلم، وقيد النقاش البعض، ومشى عليه الشافعية، وفضل الله لايحصى ...». (1)

عمل السلف الصالح من الصحابة

ذكر الأزرقي بسنده إلى ابن جريج عن إسماعيل بن أمية أنّ خالد بن مضرس أخبره أنه رأى أشياخاً من الأنصار يتحرون مصلى رسول الله (ص) أمام المنارة [منارة مسجد الخيف] قريباً منها.

قال جدي: «الأحجار التي بين يدي المنارة، وهي موضع مصلى النبي (ص) لم نزل نرى الناس وأهل العلم يصلون هناك». (2)


1- شرح الأذكار: 41.
2- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، 174: 2.

ص: 123

جاء من بعده الفاكهي فذكر أنّ: «الأحجار التي بين يدي المنارة هو موضع مصلى النبي (ص) لم يزل أهل العلم يصلون هناك وهو مسجد الغيشومة». (1)

عمل السلف الصالح من التابعين

ذكر مؤرخ المدينة المنورة العلامة أبوزيد عمر بن شبة النميري البصري (173- 262 ه-) قوله:

«قال أبو غسان، وقال لي غير واحد من أهل العلم من أهل البلد:

إنّ كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبني بالحجارة المنقوشة المطابقة فقد صلى فيه النبي (ص)، وذلك: أنّ عمر بن عبدالعزيز حين بنى مسجد رسول الله (ص) سأل- والناس يومئذ متوافرون- عن المساجد التي صلى فيها رسول الله (ص) ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة ...». (2)

«وتفيد المصادر أيضاً أنه أول من بنى محراباً في هذه المساجد، وأطلق المؤرخون على هذا الطراز المعماري للمساجد (البناء العمري)، وقد استمر الأمراء والأعيان وغيرهم من عامة المسلمين يهتمون بهذه المساجد الأثرية عمارة وتجديداً وترميماً وتوسعةً». (3)


1- أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، 265: 4.
2- تاريخ المدينة المنورة، 74: 1، الطبعة الأولى، تحقيق فهيم محمد شلتوت، المدينة المنورة: السيد حبيب محمود أحمد، عام 1411 ه-/ 1990 م.
3- عبدالغني، محمد إلياس، المساجد الأثرية في المدينة المنورة: 13، الطبعة الثانية، المدينة المنورة: مطابع الرشيد، عام 1419 ه-/ 1999 م.

ص: 124

هذا التعامل مع الأماكن المأثورة التي صحت نسبتها إلى رسول الله (ص) ظهرت في القرن الأول الهجري على يد الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز حينما كان والياً على المدينة المنورة للوليد بن عبدالملك عند ما كتب إليه قائلًا: مهما صح عندك من المواضع التي صلى فيها النبي (ص) فابن عليه مسجداً.

و لم يكن ثمة اعتراض من الأئمة المعاصرين.

يقول الحافظ أبو عبدالله محمد بن محمود النجار (578- 643 ه-) عن المساجد المأثورة بالمدينة المنورة:

«فهذه الآثار كلها آثار بناء عمر بن عبدالعزيز». (1)

أجاب المؤيدون لزيارة الأماكن النبوية المأثورة على ماورد في احتجاج المانعين لها بما يتم عرضه في صياغة موجزة:

قد ثبت صعود رسول الله (ص) وبعض كبار صحابته زيارة غار حراء، وذلك متوافر في دواوين السنة النبوية: صحيح مسلم، كما تقدم الإشارة إليه وتوثيقه، والترمذي (3696)، ومسند الإمام أحمد رقم (420) بسنده مانصه:

«... عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله (ص) يوم حراء إذ اهتز


1- الدرة الثمينة في أخبار المدينة،: 181، الطبعة الأولى، قابله واعتنى به محمد علي شكري المدينة المنورة: دار المدينة المنورة للنشر والتوزيع، ت. د.

ص: 125

الجبل فركله بقدمه، ثم قال: اسكن حراء، ليس عليك إلّا نبي، أو صديق، أو شهيد، وأنا معه؟ فانتشد له رجال ...» الحديث. (1) عدم فعله (ص) لايدل على الكراهة:

وهي مسألة أصولية خلافية، وفي هذا يقول الناظم:

الترك ليس بحجة في شرعنا لايقتضي منعاً ولا إيجابا

من يدعي حظراً بترك نبينا ويراه حكماً صادقاً وصوابا

قد حاد عن نهج الأئمة كلهم بل جانب الحق الصحيح وخابا

ما الحظر إلا إن يكن نهي أتى متوعداً لمخالفيه عقابا

أو ذم فعل مؤذناً بعقوبة أو ذكر تحريم يصادف عابا

إنه ليس من الضروري أن يوجد نص من كتاب، أو سنة على الاستحباب، ذلك أنه مما هو مقرر فقهاً أنّ: المندوب كما يستفاد من أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام، فكذلك كان يترك الشي ء وهو يستحب فعله لدفع المشقة عن أمته ...

شاهد هذا ماذكره ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) قوله: في الموطأ عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: ما سبّح رسول الله (ص) سبحة الضحى قط وإني لأسبحها، وإن كان


1- الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد بن حنبل، 478: 1، الطبعة الثانية، الرياض.

ص: 126

رسول الله (ص) ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليه ... (1) الحديث المتصل لايعارض بالحديث المنقطع

حديث قطع عمر بن الخطاب شجرة الرضوان مقطوع لايقاوم الحديث المتصل في صحيح البخاري الذي جاء فيه:

(أنها عميت عليهم في السنة الثانية من البيعة).

ورد في بحث للعلامة عزالدين الفلواروي عضو المجمع العلمي الإسلامي بالهند نقلته مجلة الأزهر 1: م 4 بالقاهرة ربيع الأول سنة 1346 ه- تحت عنوان: (شجرة الرضوان) ابتدأ البحث بقوله:

«هذه الشجرة المباركة التي بايع النبي (ص) تحتها خمس عشرة مائة من المسلمين على الجهاد في سبيل الله، فتقبلها الله قبولًا حسناً فقال في كتابه الحكيم: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تحْتَ الشَّجَرَةِ ولهذه الفضيلة العظيمة، ورضوان الله عنهم سماها الناس شجرة الرضوان، ووقعت هذه البيعة سنة ست من الهجرة النبوية ثم يقول تحت عنوان:

«إلى ما بقيت الشجرة وما فعل بها؟»

يجيب أول مايجيب في هذا البحث بقوله:


1- ابن قيم الجوزية، شمس الدين محمدبن أبي بكر، زاد المعاد، الطبعة الأولى، 352: 1 تحقيق شعيب الأرنؤوط و عبدالقادر الأرنؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية، عام 1399 ه-/ 1979 م.

ص: 127

«التحقيق في ذلك أنّ صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب عند عامة العلماء بإسناد صحيح جيد عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أنّ الشجرة قد عميت علينا في السنة الثانية من البيعة و لم نجدها بعد.

حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية عن نافع قال: (قال ابن عمر رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها كانت رحمة). (1) وقال سعيد بن المسيب عن أبيه: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها. (2) ثم يطرح السؤال الآتي:

«هل قطع الشجرة عمر، أو أمر بقطعها؟»

يذكر الجواب قائلًا:

«هذه كلمة تداولتها الألسن من غير تفكر في صحتها وسقمها، لافرق في ذلك بين العالم وأخي الجهل، والهوى، فإنه كلما سئلوا عن المآثر والمقابر، وتعظيمها الشرعي قالوا: هذا كله يفضي إلى الشرك، ألا ترى أنّ عمر قطع الشجرة التي بايع الناس تحتها على يد رسول الله (ص) حسماً لمادة الشرك!

فاعلم أنّ مانسب لعمر من أمر القطع لا أصل له؛ لوجوه عديدة نذكرها:


1- البخاري 5: 1- 4.
2- المصدر السابق 599: 2.

ص: 128

الأول: أنّ هذا يخالف رواية البخاري الصحيحة، فإنها تدل على خفائها، واستتارها عن عيون الناس- كما قلناه آنفاً- فما معنى قطع الشجرة؟

والثانى: إن أردنا من قول جابر المعنى الذي رواه ابن حجر: أنّ هذه الشجرة كانت باقية إلى آخر عمره، أي سنة 78 من الهجرة فهذا أيضاً لايفيد المطلوب، فإنّ رحلة عمر كانت سنة 23 من الهجرة.

والثالث: أنّ من ذكر هذه الرواية ذكرها في طبقات ابن سعد، وروى ابن سعد في طبقاته حديث ابن المسيب (أي حديث الاستتار المذكور) بطرق عديدة، ثم في آخرها رواية القطع عن نافع، قال فيها:

أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء، حدثنا عبدالله بن عون عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان، فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت.

هذه الرواية مدار مانسب إلى عمر، وأنه أمر فقطع، لايحتج به عند أهل الحديث، والانقطاع ظاهر لامرية فيه، فأن نافعاً لم يدرك عمر، وما لقيه، ولا روى عنه، وكشف تلك الغمة: أنّ نافعاً مولى لعبدالله بن عمر، ووجده ابن عمر في غزوة الديلم، أو الطالقان، أو كابل، والمدة بين تلك الغزوات وزمان عمر مديدة طويلة، ونافع قد عمر وتوفي سنة 120 ه-، وصحب ابن عمر ثلاثين عاماً، وتوفي ابن عمر سنة 74 ه- (تذكرة الحفاظ) ويروي عن عبدالله بن عمر وأبي هريرة، وأبي لبابة، ورافع بن خديج، وعائشة،

ص: 129

وأم سلمة، وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة، ولم يدرك أيام عمر فما معنى روايته عنه؟

أنظر التاريخ الصغير للبخاري، والطبقات لابن سعد، وتهذيب التهذيب 12: 1، والتقريب وعامة كتب الرجال، والتاريخ لابن خلكان، ولذا قالت الشراح في حديث مالك عن نافع أنّ عمر بن الخطاب كتب ... المذكور في الموطأ في صدر الباب بعد روايات: (أنّ هذا الحديث منقطع، فإنّ نافعاً لم يدرك عمر).

و انظر شرح الموطأ للشيخ سلام الله الدهلوي الحنفي غير مطبوع، والزرقاني 1: 1 طبع مصر على أنّ رواية القطع ليست بالجزم بل بصيغة التمريض بقوله: (ويقال لها) فدلت أنّ الشجرة لم تكن هي شجرة الرضوان بعينها بل كانت التي تنسب إليها بالظنون لذا أمر بقطعها.

من هذا يعلم القارئ نقائض هذه الرواية، وكونها غير مقبولة.

واعلم أنّ هذا الأثر أولى أن لايقبل عند أهل الحديث، فعندهم المراسيل، والمنقطعات وآثار الصحابة كل هذه ليست بحجة، والأثر الذي روي عن نافع في الطبقات خلاف مايروى عنه في البخاري عن ابن عمر، ورواة البخاري كلهم أثبات ثقات ...».

... ظهر مماتقدم أنّ لكل من أصحاب الرأيين استدلاله ووجهة نظره.

لمزيد لمعرفة استدلال هذا الاتجاه تنظر الكتب التالية:

1. الكاندهلوي المدني، محمد زكريا

الكنز المتواري في معادن لامع الدراري وصحيح البخاري 234: 4.

باكستان: مؤسسة الخليل الإسلامية، عام 1419 ه-.

ص: 130

2. الكردي، محمد طاهر المكي.

تبرك الصحابة بآثار رسول الله (ص) وبيان فضله العظيم.

الطبعة الثانية، القاهرة، دار الطباعة المحمدية، عام 1394 ه-/ 1974 م.

3. القارئ، أبو مجاهد عبدالعزيز بن عبدالفتاح.

الآثار النبوية بالمدينة المنورة، وجوب المحافظة عليها، وجواز التبرك بها.

المدينة المنورة: يطلب من المؤلف، عام 1427 ه-.

4. الإدريسة، خديجة.

البركة والتبرك من ذهبيات الحافظ الذهبي قراءة عابرة في سير أعلام النبلاء

الطبعة الأولى.

الفصل السادس

الواقع المعاصر للأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة

الآثار الإسلامية في مكة المكرمة حافظ على معظمها سلف الأمة خلال الأربعة عشر قرناً هجرية الماضية، خصوصاً ماكانت نسبته منها يقيناً إلى الحدث الذي جعله تاريخاً خالداً، فوصل إلينا معظمها سليماً.

ونحن في بداية الثلث الأول من القرن الخامس عشر الهجري وبالتحديد في العام الثلاثين بعد الأربعمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة، متابعة للمنهج العلمي التاريخي للمدرسة التاريخية المكية يتم عرض الأماكن التاريخية المندثرة في مبحث، والباقية في الوقت الحاضر في مبحث ثان:

ص: 131

المبحث الأول:

المندثر من الأماكن المأثورة المتواترة في مكة المكرمة في الوقت الحاضر:

اهتم بعض المؤرخين المكيين، لدى عرض الأماكن المأثورة في مكة المكرمة ببيان المندثر، والباقي منها في زمانهم، أمثال:

تقي الدين الفاسي (757- 832 ه-/ 1373- 1428 م).

جمال الدين محمد جار الله بن محمد بن ظهيرة القرشي (ت 986 ه-/ 1578 م).

محمد قطب الدين النهروالي المكي (917- 990 ه-/ 1511- 1582 م)

ويمتد الزمن حتى الربع الأول من القرن الخامس عشر الهجري/ الواحد والعشرين الميلادي، فيندثر بعض من تلك، وفي الوقت الحاضر، بدءاً من شهر ربيع الأول عام 1429 ه-/ 2008 م حتى عام 1430 ه-/ 2009 م تمت إزالة أحياء أثرية كاملة أمثال: حي الشامية، والشبيكة، وحارة الباب، والقرارة، والراقوبة، وسوق المدعى، وسوق الجودرية.

حتى وصلت الهدميات إلى شمال مكة المكرمة سوق المعلاه، وربما أتت هذه التوسعة الكبيرة فشملت مسجد الراية المسمى حالياً حسب اللوحة (جامع خادم الحرمين)، وما حوته هذه الأحياء من أماكن مأثورة مهمة؛ لصالح توسعة الحرم الشريف، والساحات الشمالية، وإلى حي جرول في الناحية الغربية منها.

ص: 132

لايسعنا إلّا أن نردد القول المشهور: «تغيرت البلاد ومن عليها»، فلم يبق من أحياء مكة القديمة حول الحرم الشريف وما ضمته من أماكن تاريخية مأثورة إلّا الأسماء والتاريخ المكتوب.

متابعة لهذا المنهج العلمي للمدرسة التاريخية المكية، يتم عرض المندثر من هذه الأماكن في هذا المبحث.

خصص جمال الدين محمد بن ظهيرة القرشي مساحة في كتابه (الجامع اللطيف) للمساجد التي ذكرها الأزرقي و لم تعرف الآن، [عصر ابن ظهيرة القرشي]، فقال:

«وأما المساجد التي ذكرها الأزرقي، ولم تعرف الآن فستة مساجد»:

الأول: مسجد بأعلى مكة بين شعب ابن عامر ... وهذا المسجد لايعرف الآن.

الثاني: مسجد بأجياد يقال: إنّ النبي (ص) اتكأ هناك ...، قال الأزرقي: إنّ أهل العلم ينكرون ذلك، وإنما يثبتون أنه صلى بأجياد الصغير، ولايوقف على موضع مصلاه أيضاً تحقيقاً، بل حدساً بغير أصل.

الثالث: مسجد بأعلى مكة، يقال له مسجد الشجرة.

الرابع: مسجد بذي طوى في علو مكة بين الثنيتين اللتين يدخل منهما الحاج.

الخامس: مسجد السرر، تعيين محله يقيناً لايوقف عليه الآن، بل جهته.

ص: 133

السادس: مسجد بعرفة عن يمين الموقف يقال له مسجد إبراهيم، وليس مسجد عرفة الذي يصلي فيه الإمام.

فهذه المساجد المذكورة لم تعرف الآن [أي في عصر ابن ظهيرة، وذلك هو القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي]». (1) وبعد القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي، اندثر بعض من تلك الأماكن الإسلامية، فأصبحت خبراً من الأخبار، وربما زال الكثير منها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين/ العشرين والحادي والعشرين الميلاديين، لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها كثرة أعداد الحجاج الذين وصلت أعدادهم إلى الملايين، مما لم يكن موجوداً في القرون الماضية، فاستدعى هذا توسعة الحرم المكي الشريف، وإزالة الكثير مما حوله من العمران، والأماكن بهدف إيجاد مكان لقاصدي البيت الحرام، الذي هو الهدف الأول، ومعظم القصد من حجة العمر، ولهذا أزيل الكثير من تلك الأماكن، فإنّ معظمها يدخل في نطاق تلك التوسعة، فمن ثم يتم عرض أسماء ما أزيل من تلك الأماكن الإسلامية المأثورة:

أولًا- منزل السيدة خديجة (ها)

كان في هذا الموقع المبارك بناية من ثلاثة أدوار خصصت لتكون مدرسة لتحفيظ القرآن، هدم ذلك المنزل المبارك، لصالح توسعة ساحات الحرم المكي الشريف في الجهة الشرقية منه، وذلك عام 1410 ه-/ 1989 م، جاء في مقدمة الدراسة التوثيقية الصادرة عن (إعمار):


1- الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف،: 338.

ص: 134

«أثناء إعداد المرحلة الأولى من المشروع الخاص بتطوير المساحات المحيطة للحرم المكي الشريف بمنطقة القشاشية لتهيئة المنطقة شرق المسعى لأداء الصلاة لأكبر عدد من المصلين، ولصالح مشروع أنفاق الخدمات، وتيسير الحركة أمام رواد بيت الله الحرام، وفي 29 ربيع الأول 1410 ه-/ 29 نوفمبر 1989 م، اكتشف القائمون على المشروع في أثناء عملية إزالة العقارات بالمنطقة، وجود بعض الأماكن الأثرية بالقرب من برحة القباني، الواقعة بين المسجد الحرام وسوق المدعى، حيث وجد محراب كبير باتجاه الحرم، وقد لوحظ أنّ الموقع الذي وجد به هذه البقايا الأثرية هو الموقع نفسه الذي كان لمدرسة تحفيظ القرآن التي أنشأها الشيخ عباس قطان بعد ما استأذن من الملك عبدالعزيز في إنشاء تلك المدرسة في مكان بيت السيدة خديجة (ها)، المعروف باسم (مولد السيدة فاطمة (ها))، في زقاق الحجر، المعروف بزقاق الصوغ، وزقاق العطارين». (1) موقع هذا المنزل المبارك في الوقت الحاضر في الساحة الشرقية، لدى المصباح الكبير مقابل باب السلام بعد اثني عشر متراً في اتجاه الشمال نحو المدعى، حيث شاهدت مخطط هذا الموقع شخصياً بحضور أحد المسؤولين في مؤسسة ابن لادن مع كل من الدكتور عويد المطرفي، والدكتور عبدالله


1- بيت السيدة خديجة على مرّ العصور، دراسة توثيقية، الصفحة: 2، مرقومة بالآلة الكاتبة، وصلتني مناولة من معالي الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية سابقاً يحفظه الله.

ص: 135

شاووش في رمضان عام 1425 ه-، فتبين الأمر على خلاف ما يعتقد البعض أنّ هذا المنزل يقع في إطار الميضآة.

ثانياً- دار الأرقم بن أبي الأرقم

تنتسب هذه الدار إلى الصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم القرشي المخزومي «كان من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم قديماً، قيل: كان ثاني عشر، وكان من المهاجرين الأولين، وشهد بدراً ونفله رسول الله (ص) سيفاً، واستعمله على الصدقات، وهو الذي استخفى رسول الله (ص) في داره، وهي في أصل الصفا، والمسلمون معه بمكة لما خافوا المشركين، فلم يزالوا بها حتى كملوا أربعين رجلًا، وكان آخرهم إسلاماً عمر بن الخطاب، فلما كملوا به أربعين خرجوا ...».

تدعى هذه الدار ب- (دار الخيزران) نسبة إلى أمّ الخليفة الرشيد، وفي التعريف به، ورد أنّ «دار الخيزران» هي دور حول المختبى، ملكتها الخيزران أمّ الرشيد شراء، لمّاحجت، وتناقلت في يد الملاك إلى أن صارت من جملة أملاك السلطان مرادخان، جاء في (إتحاف فضلاء الزمن): وفي سنة 1112 ه-/ 1700 م، «عمّر إبراهيم بك دار الأرقم، وهي دار البيعة، ومجتمع الصحابة قبل الهجرة، جددها من أساسها إلى فوقها، وجعل فيها قبة عظيمة، وطاجنين، ورمم البيت الشريف، وجعل لمبرك ناقته (ص) مسجداً، وله محراب صغير خلف المحل الشريف مما يلي الطريق، وعمّره من أساسه بالحجر

ص: 136

الشبيكي، والشميسي، وجعل على جداره شراريف، وطبطب، أعلى سطح الجميع بالنورة». (1)

انتهت العناية بهذا المكان في عهد الملك عبد العزيز، بأن أصبح مدرسة متخصصة في علم الحديث النبوي الشريف، درس فيه كبار العلماء أمثال: الشيخ عبدالظاهر أبي السمح، والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة.

ظلت هذه المدرسة في هذا المكان المبارك تعمل على تدريس السنة الشريفة، وعلومها، تخرجت فيها أجيال كثيرة من أبناء العالم الإسلامي شرقه وغربه، فقامت بدور مهم.

أزيل مبنى هذه الدار مع بقية الدور حولها، عام 1375- 1376 ه-/ 1955- 1956 م، لصالح توسعة الحرم الشريف.

أطلق على باب الحرم في الجهة التي كانت بها الدار (باب الأرقم) تذكيراً للمكان الذي شهد بدايات الإسلام، ومعاناة المسلمين، وتخفيهم لعبادة المولى جل وعلا، وفي البرج المجاور له في الحرم الشريف استقرت رئاسة جماعة تحفيظ القرآن، حيث تجتمع الحفظة فيه كل جمعة لتلاوة القرآن.

لاتزال مدرسة دار الحديث تؤدي وظيفتها التعليمية في مكة المكرمة، وقد تطورت الدراسة والمناهج فيها، وأغلب طلابها من الغرباء، وأصبحت شهادتها النهائية تؤهل للالتحاق بالجامعة.

ثالثاً- مولد الإمام علي بن أبي طالب (ع)


1- الطبري، محمد بن علي بن فضل المكي، إتحاف فضلاء الزمن بتاريخ ولاية بني الحسن، 223: 2، الطبعة الأولى، مصر: دار الكتاب الجامعي، عام 1413 ه-/ 1993 م.

ص: 137

تقرر هدم منطقة شعب علي والمنازل على جبل أبي قبيس بما فيها مدرسة النجاح الليلية المقامة في موقع مولد سيدنا علي بن أبي طالب (ع) في العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري/ الحادي والعشرين الميلادي، ضمن إزالة حي شعب بني هاشم (سوق الليل) عام 1402 ه-.

رابعاً- مسجد النحر بمنى، أزيل ضمن مباني منى من أجل توسعة الطرق المؤدية إلى الجمرات.

خامساً- مسجد الكبش بمنى، أزيل ضمن ما أزيل من المباني بمنى من أجل توسعة الطرق المؤدية إلى الجمرات.

سادساً- مسجد المرسلات، أزيل ضمن المباني التي أزيلت بمنى لتوسعة مسجد الخيف، والطرق المؤدية إلى نفق الملك خالد.

سابعاً- مولد جعفر بن محمد الصادق (ع) ليس له وجود في الوقت الحاضر.

ثامناً- دار العباس، دخل في المسعى ضمن توسعة الحرم الشريف، التوسعة الأولى عام 1375 ه-.

ص: 138

الصيد

محسن الأسدي

سجل الصيد في حياة الناس المعيشية والتجارية والترفيهية دوراً مهماً وقديماً في تاريخها، فقد كان الفرس من أوائل الأمم التي اهتمت بالصيد، وهم أول من ضرّى البزاة، وحتى ورد أنّ أول من صاد بالبازي أحد ملوك فارس أثناء رحلة في الطبيعة، وقد قال لرجال دولته: لقد رأيت في هذا الطائر ما يحيّر اللب، ويملأ القلب، فهو عظيم السطوة، شديد البأس، كبير النفس، طويل الصبر، جليل القدر، تخافه الطيور ولا يخافها ..، ثم واصل حديثه لهم: ولقد علمني هذا الطائر كثيراً مما لم أكن أعلمه من شؤون المملكة وسياسة الناس، فقد أرشدني إلى التزام «الحرمة»، والاستتار من أوباش الناس، وغضّ الطرف لاستمرار الهيبة، ودوام الصمت للخديعة والسرعة في البطش لتخويف الأعداء، وطول الأكل للاستمراء، وتصغير اللقم للأمن من الغصة، وتشمير الثوب للنظافة.. ثم ختم قوله: وبصورة عامة، لقد جمع هذا الطائر ضروب الأدب مع العقل الكامل.

ص: 139

هذا عند الفرس وأما عند الروم فهم الأمة الثانية بعد الفرس، التي اختلط بها العرب، فهم أول من لعب وأدب الشواهين واصطاد بها وبالعقاب، ولم يسبقهم لاقتنائها أحد؛ يذكر المسعودي في مروج الذهب أن" قسطنطين" ملك عمورية، خرج يوماً يتصيد بالبزاة، فكان أول من لعب بالشواهين، ويبدو أنّ قسطنطين هذا قد أولع بالشواهين ولعاً بالغاً، حتى أنه راضها على أن تظلله من الشمس، فكان إذا ركب حلقت كوكبة منها فوق موكبه، وحامت فوق رأسه، وسارت لمسيره.. فإذا نزل وقعت حوله..؛ وأما الصيد عند العرب في الجاهلية، فلم يكن في حقيقته وسيلة من وسائل الرزق وحسب، و إنما كان متعة من متع النفس، وفناً وأدباً، ويعد من فنون الفروسية وضرباً من ضروب الحرب في أيام السلم، وهم أول من ضرّى الصقور وصاد بها، و أنّ أول من صاد بالصقر وضراه هو الحارث بن معاوية بن ثور بن كنده.

وأيضاً اهتموا بكلاب الصيد كثيراً، واهتمامهم هذا كان قديماً حتى كانت لها عندهم أنساب وأسماء له ولأبيه وجده وأمه، فقد كان لعدي بن حاتم خمسة كلاب سماها بأسماء أعلام، وأحياناً يسمونه باسم المنطقة التي جي ء منها وينسبونه إليها، ككلب السلوقي، وهي نسبة إلى مدينة سلق قرب حضرموت، ويعد من أفضل أنواع كلاب الصيد، وقد كان كلب الصيد رفيق البدوي أين ماكان في حله وترحاله، وهو أداته التي يصطاد بها ويعتاش منها..؛ والصيد بواسطة كلاب السلوقي من أجمل المتع والرحلات في البوادي

ص: 140

والفلوات والصيد به يعد أجمل بكثير من الصيد بواسطة الصقور وهذا امر مسلم به.

وفي العصر الإسلامي، فقد كان الصيد بدرجة راح يتحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عن أحكامه بل وآدابه، يقول سبحانه وتعالى في ذلك:

يَسْألوُنَكَ مَا ذَا أحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحلَّ لَكمُ الطيباتُ وما عَلَّمْتُمْ مِن الجوارحِ مُكلّبينَ تُعلّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَليكُمْ واذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عليهِ واتقُوا اللهَ إنَّ اللهَ سريعُ الحِسابِ. (1)

ومن السنة يقول عدي بن حاتم الطائي وهو أحد ملوك العرب في الجاهلية، حيث كان صياداً عرف بولعه فيه، وكان صاحب كلاب وجوارح، يستعملها في صيده، وكثرت أسألته لرسول الله (ص) عن الصيد حلاله وحرامه حتى وردت عنه عدة روايات تدلّنا على مدى اهتمامه وغيره بهذا الأمر:

سألت رسول الله (ص) فقلت: إنّا قوم نتصيد بهذه الكلاب، فقال (ص): «إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسكن عليك، إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، فإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل».

وسألته عن صيد الكلب، فقال (ص): «إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فأمسك عليك فكل».


1- سورة المائدة: 4.

ص: 141

سألت رسول الله (ص) عن صيد المعراض؟ قال: «ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ».

قلت لرسول الله (ص): أرمي الصيد وأجده من الغد فيه سهمي؟ قال (ص): «إذا وجدت فيه سهمك وعلمت أنه قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل».

وهذا الشاعرأبونواس اشتهر في تربيتها وذكرها في أشعاره وسمي ديوانه من بعده (الطروديات) وله:

أنعت كلباً أهله من كده قد سعدت جدودهم بجده

(1) الصيد لغةً:

من الفعل صاد الطير والوحش ونحوهما صيداً: أمسكه بالمصيدة؛ صاده: قنصه.

اصطاد: أمسك ومنه اصطاد الطير إذا أمسكه بالمصيدة؛ والمصيد هو الطير، والمصيد والمصيدة: آلة الصيد والجمع مصايد؛ والرجل صائد وصياد.

والصيد يطلق على الاصطياد فيكون مصدراً؛ ويطلق على المصيد فيكون اسماً، أي ما يصاد، والجمع صيود.


1- أنظر في كل هذا: مروج الذهب للمسعودي؛ القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن؛ حلية الأولياء، لأبي نعيم 4، 7، 8 عدي بن حاتم؛ وكتاب الصيد عند العرب، للدكتور عبد الرحمن الباشا، بتصرف.

ص: 142

القنص: من قنص الصيد يقنصه قنصاً واقتنصه وتقنصه: اصطاده، فهو قانص وقنيص وقناص، قنص الصيد وقنص والقنيص: المصيد.

التصقر: التصيد بالصقر.

آيات الصيد في القرآن الكريم

وردت كلمة الصيد في القرآن الكريم أربع مرات في الآيات التالية من سورة المائدة 1، 2، 4، 94، 95، 96؛ و وردت كلمة فاصطادوا مرةً واحدةً في الآية الثانية من السورة نفسها؛ فيما تضمنت الآية الرابعة وسائل الصيد وما يتوفر فيها، وأحكام شرعية لحلية ما يصاد، وهذا يعني أن الصيد كل ما جاء فيه هو في سورة المائدة فقط.

سورة المائدة:

الآية الأولى: يأيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ أوْفُواْ بِلْعُقُودِ أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ لأنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي لصَّيْدِ وَأنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ للَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ.

الآية الثانية: يَا أيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ للَّهِ وَلَا لشَّهْرَ لْحَرَامَ وَلَا لْهَدْيَ وَلَا لْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ لْبَيْتَ لْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أن صَدُّوكُمْ عَنِ لْمَسْجِدِ لْحَرَامِ أن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى لْبرِّ وَلتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى لإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ وَتَّقُواْ للَّهَ إِنَّ للَّهَ شَدِيدُ لْعِقَابِ.

ص: 143

الآية الرابعة: يَسْألُونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحِلَّ لَكُمُ لطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ لْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ للَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَذْكُرُواْ سْمَ للَّهِ عَلَيْهِ وَتَّقُواْ للَّهَ إِنَّ للَّهَ سَرِيعُ لْحِسَابِ.

الآية الرابعة والتسعون: يَأيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ للَّهُ مَن يَخَافُهُ بِلْغَيْبِ فَمَنِ عْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

الآية الخامسة والتسعون: يَأيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ لصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ لنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ لْكَعْبَةِ أوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أمْرِهِ عَفَا للَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ للَّهُ مِنْهُ وَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو نْتِقَامٍ.

الآية السادسة والتسعون: أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ لْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ لْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَتَّقُواْ للَّهَ لَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.

نبدأ أولًا بالآية 4 من المائدة؛ لأنها تتحدث عن وسائل عملية الصيد وما يجب توفره فيها، وما يترتب على هذه العملية من شروط ليكون ما ينتج عنها طيباً حلالًا..

في سبب النزول ذكروا عن سعيد بن جبير وأيضاً عن أبي حمزة الثمالي والحكم بن ظهيرة: أنها نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن مهلل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله (ص) زيد الخير؛ قالا: يا رسول الله (ص) إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، وإنّ الكلاب تأخذ البقر والحمر والظباء والضب، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما تقتله، فلا ندرك

ص: 144

ذكاته، وقد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت الآية: الطيبات: الذبائح وما علمتم من الجوارح يعني: وصيد ما علمتم من الجوارح، وهي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.

وهناك سبب آخر وتفصيل له ذكروه عن أبي رافع .. وأن رسول الله (ص) لما نزلت هذه الآية أذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .. بعد أن سألوه: ماذا يحل لنا من هذه الأمة ..؟. (1)

وهذا يدل على الدور الذي يحتاجونه من هذا الحيوان وصعوبة الاستغناء عنه في مشروع الصيد الذي يحتل مكانةً في حياتهم ومعيشتهم ..

جاء علماء الحيوان، وفسروا الجوارح بقولهم وهذه خلاصته:

إنّ كلمة الجارح تطلق على كل ما يطير كالبازي، والشاهين، والصقر، وغيرها، وكلمة الضاري تطلق على كل ما يسير، كالفهد والأسد وغيرها لم تفرق بين طائر يطير أو وحش يسير.. فجاء الإنسان بهداية ربانية ولحاجة جسدية، وبفطرة إنسانية .. هدته لمعرفة بعض أسرار هذه المخلوقات، ليتقن فن التعامل معها.. يأمرها فتطيع وينهاها فتستجيب..، فسبحان الله في علاه!.، لقد حباه من العقل ما مكنه من التغلب على أقوى الحيوانات وتأنيس وحشها، وتضرية سباعها..، وتسليط بعضها على بعض .. فضرب الضعيف بالقوي..، واصطاد الغبي بالذكي.. وجنى ثمرات ذلك كله لنفسه ولبني جلدته!.


1- أسباب النزول للواحدي؛ تفسير القرطبي بإيجاز بسيط.

ص: 145

وفي اللغة: الجوارح جمع جارحة، والهاء للمبالغة، سميت بذلك؛ لأنها تجرح الصيد غالباً أو لأنها تكسب، والجرح: الكسب ومنه: ويعلم ما جرحتم بالنهار. (1) والجوارح تعني الكواسب من سباع البهائم والطير، كالكلب والعقاب؛ ولأنها تكسب أربابها الطعام بصيدها سميت جوارح، يقال: جرح فلان أهله خير إذا كسبهم خيراً، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، ولا جارحة لفلانة أي لا كاسب لها.

مكلبين: يعني مؤدبين ومضرين أي معوديها على الضراوة؛ والمكلب اسم مفعول من كلب، أي: المضرى بالصيد من هذه الجوارح، والمروض منها على الافتراس؛ لأن الترويض أكثر ما يكون للكلب، فاشتق من لفظه، لشيوع الغلبة عليه. (2)

مع بعض المفسرين:

عديدة هي الأسئلة التي كان المسلمون يوجهونها لرسول الله (ص) وهي دليل تحرجهم وتوقيهم مما كان يعمل به في الجاهلية، وحرصاً منهم على معرفة ما إذا كان للشريعة رأي فيه، وأنها ترتضيه وتقره .. حتى يكونوا على يقين من حلية أي شي ء يريدون أن يقربوه، وحتى لا يقعوا في مخالفة أمر


1- سورة الأنعام: 60.
2- الدر المصون، للسمين الحلبي؛ مجمع البيان، للطبرسي؛ إعراب القرآن الكريم، محيي الدين الدرويش، الآية.

ص: 146

شرعي، وبالتالي عليهم أن ينسجموا مع منهج السماء وأحكامها في حلالها وحرامها، وأن يكونوا على معرفة بها ووعي لأهدافها وحكمها.

ومنها هذا السؤال الوارد في الآية الكريمة بعد ما عرفوا آيات التحريم في الآيات الثلاث قبلها:

يسألونك ماذا أحل لهم؟ وجاءهم الجواب على لسان رسول الله (ص) بأمر من الله تعالى له؛ ليحل لهم أمرين كما توفرت عليهما الآية المذكورة:

الأمر الأول: قل أحل لكم الطيبات يقول سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن: وهو جواب يستحق التأمل.. إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة: إنهم لم يحرموا طيباً، ولم يمنعوا عن طيب، وإن كل الطيبات لهم حلال، فلم يحرم عليهم إلّا الخبائث.. والواقع أنّ كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية؛ كالميتة والدم ولحم الخنزير، أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب، أو كان الاستقسام فيه كالأزلام وهو نوع من الميسر..

الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: لمَّا قدَّم سبحانه ذكر المحرمات عَقَّبه بذكر ما أحل فقال: يسألونك يا محمد ماذا أحل لهم معناه أيّ شي ء أحل لهم أي يستخبرك المؤمنون ما الذي أحل لهم من المطاعم والمآكل وقيل: من الصيد والذبائح قل يا محمد أحل لكم الطيبات منها، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من المأكولات والذبائح والصيد عن أبي علي الجبائي وأبي مسلم؛ وقيل: مما لم يرد بتحريمه كتاب ولا سنة وهذا أولى لما

ص: 147

ورد أنّ الأشياء كلها على الإطلاق والإباحة حتى يرد الشرع بالتحريم؛ وقال البلخي الطيبات ما يستلذ..

ابن كثير في تفسير القرآن الكريم: لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها، إما في بدنه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة؛ كما قال تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا ضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ. (1) قال: يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحِلَّ لَكُمُ لطَّيِّبَاتُ؛ كما في سورة الأعراف في صفة محمد (ص) أنه: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. (2) عن سعيد بن جبير، عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين، سألا رسول الله (ص) فقالا: يا رسول الله، قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت: يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحِلَّ لَكُمُ لطَّيِّبَاتُ قال سعيد: يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم؛ وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شي ء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق..

القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: الطيبات: الحلال، وكل حرام فليس بطيب، وقيل: ما التذه آكله وشاربه، ولم يكن عليه فيه ضرر في الدنيا ولا في الآخرة، وقيل: الطيبات الذبائح؛ لأنها طابت بالتذكية.

السيد العلامة في الميزان في تفسير القرآن: يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحِلَّ لَكُمُ لطَّيِّبَاتُ؛ سؤال مطلق، أجيب عنه بجواب مطلق فيه إعطاء الضابط الكلي الذي يميز الحلال من الحرام، وهو أن يكون ما يقصد التصرف


1- سورة الأنعام: 119.
2- سورة الأعراف: 157.

ص: 148

فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمراً طيباً، وإطلاق الطيب أيضاً من غير تقييده بشي ء يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الأفهام المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الأفهام العادية فهو طيب، وجميع ما هو طيب حلال؛ وإنما نزلنا الحلية والطيب على المتعارف المعهود لمكان أنّ الإطلاق لا يشمل غيره على ما بين في فن الأصول.

الأمر الثاني: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ لْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ للَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَذْكُرُواْ سْمَ للَّهِ عَلَيْهِ ...

وهذا هو الطعام الآخر الذي أحلته السماء، ولكن بشروط؛ ولأننا بصدد الحديث عن حرمة الصيد للمحرم، نذكر بعض أقوالهم موجزة:

سيد قطب: ويضيف إلى الطيبات- وهي عامة- نوعاً منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم، وهو ما تمسكه الجوارح المعلمة المدربة على الصيد كالصقر والبازي، ومثلها كلاب الصيد، أو الفهود والأسود، مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة أي يكلبها ويصطادها.

يقول الشيخ السيوري في كنز العرفان:

1- أنه لا يباح أكل صيد غير المعلم.

2- إباحة تعليم الجوارح كلها والصيد بها.

3- أنه لا بد في إباحة الصيد من العقر والجرح لمدلول «الجوارح».

الطبرسي في مجمع البيان:

وقيل: الجوارح هي الكلاب فقط عن ابن عمر والضحاك والسدي وهو المروي عن أئمتنا (هم) فإنهم قالوا هي الكلاب المعلَّمة خاصة أحلَّه الله

ص: 149

إذا أدركه صاحبه وقد قتله لقوله: فكلوا ممَّا أمسكن عليكم وروى علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب فقال: «لاتأكل إلّا ما ذكيت إلّا الكلاب»؛ فقلت: فإن قتله؟ قال: «كُلْ فإنّ الله يقول: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ لْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ للَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَذْكُرُواْ سْمَ للَّهِ عَلَيْهِ؛ ثم قال (ع): كل شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلَّمة فإنها تمسك على صاحبها؛ وقال: إذا أرسلت الكلب المعلَّم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته وهو أن تقول: بسم الله والله أكبر».

ويؤيّد هذا المذهب ما يأتي بعد من قوله: مكلّبين أي أصحاب الصيد بالكلاب؛ وقيل: أصحاب التعليم للكلاب.

يقول ابن كثير: أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها، والطيبات من الرزق، وأحل لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي الكلاب والفهود والصقور وأشباهها؛ كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة، وممن قال ذلك علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ لْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ وهن الكلاب المعلمة، والبازي، وكل طير يعلم للصيد.

وروي عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح، وروي عن علي بن الحسين مثله،.. والمحكي عن الجمهور أنّ الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب؛ لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم؛ واختاره ابن جرير، واحتج في ذلك بما رواه

ص: 150

عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله (ص) عن صيد البازي، فقال: «ما أمسك عليك فكل».

العلامة في الميزان: والجوارح: جمع جارحة وهي التي تكسب الصيد من الطير كالصقر والبازي والكلاب والفهود، وقوله: مُكَلِّبِينَ حال، وأصل التكليب تعليم الكلاب وتربيتها للصيد أو اتخاذ الصيد وإرسالها لذلك، وتقييد الجملة بالتكليب لايخلو من دلالة على كون الحكم مختصاً بكلب الصيد لايعدوه إلى غيره من الجوارح.

وقوله: مما أمسكن عليكم التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها.

وقوله: واذكروا اسم الله عليه تتميم لشرائط الحل وأن يكون الصيد مع كونه مصطاداً بالجوارح ومن طريق التكليب والإمساك على الصائد مذكوراً عليه اسم الله تعالى.

ثم يقول: ومحصل المعنى أنّ الجوارح المعلمة بالتكليب- أي كلاب الصيد- إذا كانت معلمة واصطادت لكم شيئاً من الوحش الذي يحل أكله بالتذكية وقد سميتم عليه، فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، وأما دون القتل فالتذكية بالذبح والإهلال به لله يغني عن هذا الحكم.

يقول الشيخ الطبرسي: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ للَّهُ أي لأن تؤدّبونهن حتى يصرن معلَّمة مما ألهمكم الله بعقولكم حتى ميّزتم بين المعلم وغير المعلم، وفي هذا دلالة أيضاً على أنّ صيد الكلب غير المعلم حرام إذا لم

ص: 151

يدرك ذكاته؛ وقيل: معناه كما علمكم الله عن السدي وهذا بعيد لأنَّ مِنْ بمعنى الكاف لا يعرف في اللغة ولا تقارب بينهما لأنّ الكاف للتشبيه ومِنْ للتبعيض؛ واختلف في صفة الكلب المعلم فقيل: هو أن يستشلى (تهيج) لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ويمسك عليه إذا أخذه ويستجيب له إذا دعاه ولا يفرّ منه فإذا توالى منه ذلك كان معلماً؛ عن سعد بن أبي وقاص وسلمان وابن عمر.

وقيل: هو ما ذكرناه كله وإن لا يأكل منه عن ابن عباس وعدي بن حاتم وعطاء والشعبي وطاوس والسدي، فروى عدي بن حاتم عن النبي (ص) أنه قال: «إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل منه فإنما أمسك على نفسه»؛ وقيل: حدّ التعليم أن يفعل ذلك ثلاث مرات عن أبي يوسف ومحمد؛ وقيل: لا حدّ لتعليم الكلاب وإذا فعل ما قلناه فهو معلَّم، ويدل على ذلك ما رواه أصحابنا أنه إذا أخذ كلب المجوسي فعلمه في الحال فاصطاد به جاز أكل ما يقتله، وقد تقدم أنّ عند أهل البيت لا يحل أكل صيد غير الكلب إلا ما أدرك ذكاته ومن أجاز ذلك قال: إن تعلم البازي هو أن يرجع إلى صاحبه، وتعلم كل جارحة من البهائم والطير هو أن يشلى على الصيد فيستشلى ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيب، فإذا كان كذلك كان معلماً أكل منه أو لم يأكل، روي ذلك عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وابن عمر، وقال آخرون: ما أكل منه فلا يؤكل؛ رووه عن علي (ع) والشعبي وعكرمة.

ص: 152

وعن التعليم يقول السيوري في كنز العرفان: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ للَّهُ فيه دلالة على كون التعليم أمراً مستفاداً كيفيته من الشارع، فقال أصحابنا نقلًا عن أئمتهم (هم) أنّ التعليم يحصل بأمور:

الأول: الاسترسال إذا أغري.

الثاني: الانزجار إذا زجر.

الثالث: أن لا يعتاد أكل صيده.

الرابع: الاستمرار على ذلك غالباً ولا اعتبار بالندرة نفياً أو إثباتاً.

وعن قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يقول الطبرسي: أي مما أمسك الجوارح عليكم، وهذا يقوي قول من قال: ما أكل منه الكلب لا يجوز أكله؛ لأنه أمسك على نفسه، ومن شرط في استباحة ما يقتله الكلب أن يكون صاحبه قد سمى عند إرساله، فإذا لم يسمّ لم يجز له أكله إلّا إذا أدرك ذكاته، وأدنى ما يدرك به ذكاته أن يجده تتحرك عينه أو أذنه أو ذنبه، فتذكيته حينئذٍ بفري الحلقوم والأوداج.

وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ أي قبل الإرسال عن ابن عباس والحسن والسدي؛ وقيل: معناه اذكروا اسم الله على ذبح ما تذبحونه، وهذا صريح في وجوب التسمية والقول الأول أصح.

وَاتَّقُوا اللهَ أي اجتنبوا ما نهاكم الله عنه فلا تقربوه واحذروا معاصيه التي منها أكل صيد الكلب غير المعلم أو ما لم يمسكه عليكم أو ما لم يذكر اسم الله عليه من الصيد والذبائح.

ص: 153

يَأيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ للَّهُ مَن يَخَافُهُ بِلْغَيْبِ فَمَنِ عْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ.

الروايات:

عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (ع) قال في قوله عزّوجّل: لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ قال: «حشرت لرسول الله (ص) في عمرة الحديبية الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم.

عن أحمد بن محمد رفعه في قول الله تبارك وتعالى: تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ قال: ما تناله الأيدي البيض والفراخ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.

عن الحلبي قال سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عزّ وجّل: لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ قال: «حشر عليهم الصيد (من كل وجه) حتى دنا منهم ليبلونهم به.

وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية، فكانت الوحوش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم، لم يروا مثله قط فيما خلا؛ فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون، ليعلم الله من يخافه بالغيب. (1) مع المفسرين: الشيخ الطبرسي في مجمع البيان، والشيخ السيوري في كنز العرفان في فقه القرآن: خص المؤمنين بالذكر وإن كان الكفار أيضاً


1- وسائل الشيعة، أبواب تروك الإحرم؛ الميزان، للسيد الطباطبائي 144 143: 7، بحث روائي.

ص: 154

مخاطبين بالشرائع؛ لأنهم القابلون لذلك المنتفعون به؛ وقيل: لأنه لم يعتد بالكفار.

البلاء هو الامتحان والاختبار، ولام القسم والنون المشددة للتأكيد، وقوله: بشي ء من الصيد يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عوناً لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية..

لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ أي ليختبرن الله طاعتكم عن معصيتكم؛ واللام للابتداء أو التأكيد.

بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي بتحريم شي ء من الصيد وإنما بعّض لأنه عنى صيد البر. فيما السيوري يذهب إلى أنّ بشي ء من من جنس الصيد ومن هنا للبيان؛ ومعنى الاختبار من الله أن يأمر وينهى ليظهر المعلوم ويصح الجزاء؛ قال أصحاب المعاني: امتحن الله أمة محمد (ص) بصيد البر كما امتحن أمة موسى (ع) بصيد البحر، وكما ابتلي قوم طالوت بالنهر.

القرطبي في أحكام القرآن ذكر مسائل في الآية:

الأولى: قوله تعالى لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار؛ وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعاً عند الجميع منهم، مستعملًا جداً، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألّا يعتدوا في السبت. وقيل: إنها نزلت عام الحديبية؛ أحرم بعض الناس مع النبي (ص) ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض صيدٌ اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، وشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بياناً لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجّهم وعُمرتهم.

ص: 155

ثم يقول في المسألة الثانية: اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين:

أحدهما: أنهم المُحِلّون، قاله مالك.

الثاني: أنهم المحرمون قاله ابن عباس، وتعلق بقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ فإنّ تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام. قال ابن العربي: وهذا لا يلزم؛ فإن التكليف يتحقق في المُحِّل بما شُرط له من أمور الصيد، وما شُرع له من وصفه في كيفية الاصطياد.

ويخلص القرطبي إلى أنّ الصحيح أنّ الخطاب في الآية لجميع الناس مُحلّهم ومُحرمهم؛ لقوله تعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ للَّهُ أي ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضّعف والشدّة.

وفي المسألة الثالثة: قوله تعالى: بِشَيْ ءٍ مِّنَ لصَّيْدِ يريد ببعض الصيد، فمِن للتبعيض، وهو صيد البر خاصّة، ولم يعمّ الصيد كله لأن للبحر صيداً، قاله الطَّبَريّ وغيره. وأراد بالصيد المصيد، لقوله: تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ.

القرطبي في المسألة الرابعة: قوله تعالى: تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ بيان لحكم صغار الصيد وكباره؛ وقرأ بن وثّاب والنَّخَعيّ: «يناله» بالياء منقوطة من تحت. قال مجاهد: الأيدي تنال الفِراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفِر، والرّماح تنال كبار الصيد؛ وقال بن وهب قال مالك: وكل شي ء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشي ء من سلاحه فقتله فهو صيد، كما قال الله تعالى.

ص: 156

و في المسألة الخامسة: خص الله تعالى الأيدي بالذكر، لأنها عُظْم التصرف في الاصطياد، وفيها تدخل الجوارح والحِبالات، وما عمل باليد من فِخاخ وشِباك؛ وخص الرّماح بالذكر لأنها عُظْم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه.

وفي المسألة السابعة: قال القرطبي: حتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأنّ المثير لم تنل يده ولا رمحه بعدُ شيئاً، وهو قول أبي حنيفة.

وأما الطبرسي فيقول: تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ قيل فيه أقوال:

أحدها: أنّ المراد به تحريم صيد البر والذي تناله الأيدي من فراخ الطير وصغار الوحش والبيض، والذي تناله الرماح الكبار من الصيد، عن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي عبد الله (ع).

وثانيها: أنّ المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي والرماح، لأنه يأنس بالناس ولا ينفر منهم فيه، كما ينفر في الحل، وذلك آية من آيات الله عن أبي علي الجبائي.

وثالثها: أنّ المراد به ما قرب من الصيد وما بعد.

السيوري في كنز العرفان: أن ذلك الصيد المبتلى به ليس بعيداً عنهم ولا ما يصعب عليهم تناوله، فإنّ ذلك مما لا فائدة في الاختبار به، كما لايبتلي الله العنين بالحسناء، والأخشم بلذيذ الرائحة (والأخشم: من لايكاد يشم شيئاً لسدة في خياشيمه) بل بما هو قريب منهم تناله أيديهم ورماحهم؛ وكان قد كثر الصيد عندهم بالحديبية وهو محرمون، بحيث يدخل في أمتعتهم

ص: 157

حتى كانوا يتمكنون من قبضه بأيديهم، وقيل: المراد بما تناله أيديهم الصغار ورماحهم الكبار عن الصادق (ع) وابن عباس؛ وقيل: بل الأول صيد الحرم لأنسه بهم، والثاني صيد الحل لنفوره عنهم.

الطبرسي في لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ معناه ليعاملكم معاملة من يطلب منكم أن يعلم مظاهرة في العدل، ووجه آخر ليظهر المعلوم وهو أن يخاف بظهر الغيب، فينتهي عن صيد الحرم طاعة له تعالى؛ وقيل: ليعلم وجود خوف من يخافه بالوجود، لأنه لم يزل عالماً بأنه سيخاف فإذا وجد الخوف علم ذلك موجوداً وهما معلوم واحد وإن اختلفت العبارة عنه فالحدوث إنما يدخل على الخوف لا على العلم وقوله: بِالْغَيْبِ معناه في حال الخلوة والتفرد.

وقيل: معناه أن يخشى عقابه إذا توارى بحيث لا يقع عليه الحسّ عن الحسن؛ وقال أبو القاسم البلخي: إنّ الله تعالى وإن كان عالماً بما يفعلونه فيما لم يزل فإنه لا يجوز أن يُثيبهم ولا يعاقبهم على ما يعلمه منهم وإنما يستحقُّون ذلك إذا علمه واقعاً منهم على الوجه الذي كَلَّفهم عليه فإذاً لا بد من التكليف والابتلاء.

والسيوري يقول: إنّ ذلك الابتلاء ليس عبثاً، لصيانة أفعال الحكيم عن ذلك، كما دل عليه الدليل، بل لغاية مقصودة وهي تميز من يخافه بالغيب أي في القيامة ممن لا يخافه؛ وقيل: الغيب حال انفراد المكلف عن الناس...

فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ أي من تجاوز حدَّ الله وخالف أمره بالصيد في الحرم وفي حال الإحرام.

ص: 158

فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ أي مؤلم، وفي تنكير العذاب وإبهامه تشديد لحال الصيد..

الصيد والحرم والإحرام

لقد سجلت للصيد أحكام كثيرة وكفارات مفصلة في موسم الحج والعمرة للإنسان المحرم، حينما ينوي الإحرام في حج أو عمرة .. وأيضاً وهو يعيش أو يتواجد في مناطق الحرم في مكة المكرمة أو في المدينة المنورة، فلا فرق بين الحرمين المباركين الحرم المكي والحرم المدني.

فالقرطبي في تفسيره في المسألة الثامنة في الآية 95 من المائدة بعد أن يذكر: رجل حرام وامرأة حرام وجمع ذلك حرم .. يقول: وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم؛ يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحُرم أو في الحَرَم، أو تلبّس بالإحرام؛ إلّا أنّ تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبراً، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي.

وفي التاسعة، القرطبي وبعد أن يقول التالي: حَرَم المكان حَرَمان؛ حَرمُ المدينة وحَرَمُ مكة؛ يذكر أقوالًا مختلفة وأدلتها، نكتفي بشي ء منها وبعض الروايات؛ يقول: وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجرهِ، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه- فأما حَرَم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما؛ وقال بن أبي ذئب: عليه الجزاء .. وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها ..

ص: 159

عن سعيد بن المسيّب" أنّ أبا هُريرة قال: لو رأيت الظّباء تَرتع بالمدينة ما ذَعَرتُها، قال رسول الله (ص): «ما بين لابتيها حرام»" فقول أبي هريرة ما ذَعَرتُها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة ..

قوله (ص): «اللَّهُمَّ إنَّ إبراهيم حرّم مكة، وإني أحرم المدينة مثل ما حَرم به مكة ومثله معه لا يُخْتلى خَلَاها ولا يُعضَد شجرُها ولا يُنفَّر صيدُها».

قوله (ص): «المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوى مُحدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلًا». (1) حدود الحرمين المباركين:

ولضرورة معرفة الحرمين المكي والنبوي اللذين يحرم فيهما الصيد، ويتم فيهما تفعيل أحكامه على المحرم والمحل، نذكر التالي:

حدود الحرم المكي نصبت عليه أعلام من جهاته، وهي أحجار مرتفعة قدر متر منصوبة من جانبي كل طريق كما جاء في كتاب «فقه السنة»، فمن جهة الشمال مكان يدعى: «التنعيم» وبينه وبين مكة 6 كيلومترات؛ ومن الجنوب «أضاة» بينها وبين مكة 12 كيلومتراً؛ ومن جهة الشرق" الجعرانة" وبينها وبين مكة 16 كيلومتراً؛ ومن جهة الغرب


1- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، الآية.

ص: 160

" الشميسي" وبينه وبين مكة 15 كيلومتراً؛ فيما قال العلامة الحلي الإمامي في التذكرة: إنّ حد الحرم المكي بريد في بريد- البريد 12 ميلًا-.

ويذكر الزحيلي: أنّ حد الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال من مكة عند بيوت بني نفار أو السقيا، وتعرف الآن بمساجد عائشة، ومن طريق اليمن على سبعة أميال طرف أضاة لبن في ثنية لبن، ومن طريق العراق على سبعة أميال من مكة على ثنية جبل بالمنقطع أو المقطع، ومن الطائف وبطن نمرة على طريق عرفات على سبعة أميال من مكة عند طرف عرفة، ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال في شعب آل عبد الله بن خالد، ومن جدة على عشرة أميال من مكة عند منقطع الأعشاش، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلًا؛ وأما وج- بفتح الواو وتشديد الجيم- وهو واد بالطائف فهو من الحل ..

أما حد الحرم النبوي فقدره اثنا عشر ميلًا يمتد من عير إلى ثور، وعير جبل عند الميقات، وثور جبل عند أحد؛ والعلامة في التذكرة قال: وحدّ حرم المدينة من عاير إلى عير؛ وجاء في كتاب المغني" أنّ أهل العلم بالمدينة لا يعرفون ثوراً ولا عيراً" وغير بعيد أن تتغير الأسماء بمرور الزمن.

الزحيلي يذكر أنّ حرم المدينة جنوباً وشمالًا بريد في بريد ما بين عائر إلى ثور لخبر الصحيحين:" المدينة حرم من عير إلى ثور" وعائر أو عير اسم جبل مشهور بقرب المدينة، وثور: جبل صغير وراء أحد من جهة الشمال، وجبل أحد من الحرم؛ وشرقاً وغرباً بريد في بريد أيضاً ما بين لابتيها، لقوله (ص): «حرم رسول الله (ص) ما بين لابتي المدينة» فمساحتها

ص: 161

بريد في بريد من جهاتها الأربع، وسورها الآن هو طرفها في زمنه (ص). وجعل النبي (ص) حول المدينة اثني عشر ميلًا. (1) يأيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ أوْفُواْ بِلْعُقُودِ أحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ لأنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّىِ لصَّيْدِ وَأنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ للَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. (2)

المشهور في القراءة: حرم بضم الحاء والراء، وفي الشواذ قرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وَثَّاب «حُرْم» بسكون الرّاء، وهي لغة تميميّة يقولون في رُسُل: رُسْل وفي كُتُب كُتْب ونحوه.

وقد أجملت سورة المائدة في أول آية منها حرمة الصيد على المحرم.

وفي هذه الآية أقوال ثلاثة، كما يبينها الشيخ الطبرسي في مجمع البيان حيث يقول: في غَيْرَ مُحِلِّىِ الصَّيْدِ وَأنْتُمْ حُرُمٌ من قال: إنه حال من أوفوا فمعناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم محرمون أي في حال الإحرام؛ ومن قال: إنه حال من أحلت لكم فمعناه أحلت لكم بهيمة الأنعام أي الوحشية من الظباء والبقر والحمر غير مستحلين اصطيادها في حال الإحرام.

ومن قال: إنه حال من يتلى عليكم فمعناه أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة غير مستحلين اصطيادها في حال إحرامكم ..


1- الفقه على المذاهب الخمسة، لمغنية 225- 227؛ الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي 318: 3- 319، 333.
2- سورة المائدة: 1.

ص: 162

القرطبي في تفسيره: في المسألة الخامسة- قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّىِ لصَّيْدِ أي ما كان صيداً فهو حلال في الإحلال دون الإحرام، وما لم يكن صيداً فهو حلال في الحالين؛ وختلف النّحاة في إلَّا مَا يُتْلَى هل هو ستثناء أو لا؟ فقال البصريون: هو ستثناء من بَهِيمَةُ الانْعَامِ و غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ استثناء آخر أيضاً منه؛ فالاستثناءان جميعاً من قوله: بَهِيمَةُ الانْعَامِ وهي المستثنى منها؛ التقدير: إلّا ما يُتْلَى عليكم إلَّا الصّيدَ وأنتم مُحرِمون؛ بخلاف قوله: إِنَّآ ارْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ. (1) إِلَّا آلَ لُوطٍ. (2) وقيل: هو مستثنى مما يليه من الاستثناء؛ فيصير بمنزلة قوله عزّوجلّ: إِنَّآ ارْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ. ولو كان كذلك لوجب إباحة الصّيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من المحظور، إذ كان قوله تعالى: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذاً معناه أحِلّت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلَّا ما يُتلى عليكم سِوَى الصّيد؛ ويجوز أن يكون معناه أيضاً أوفوا بالعقود غير مُحلِّي الصّيد وأُحلّت لكم بهيمة الأنعام إلّا ما يُتلى عليكم. وأجاز الفرّاء أن يكون إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في موضع رفع على البدل على أن يعطف بإلَّا كما يعطف بلا؛ ولا يجيزه البصريون إلّا في النكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو جاء القوم إلّا زيدٌ ..

قوله تعالى: وَأنْتُمْ حُرُمٌ يعني الإحرام بالحجّ والعُمرة؛ يقال: رجل حرام وقوم حُرُم إذا أحرموا بالحجّ؛ ومنه قول الشاعر:


1- سورة الحجر: 58.
2- سورة الحجر: 59.

ص: 163

فقلتُ لها فِيئي إليكِ فإنّنِي حرامٌ وإنِّي بعد ذاك لَبِيب

أي مُلَبٍّ؛ وسُمي ذلك إحراماً لما يحرّمه من دخل فيه على نفسه من النساء والطِّيب وغيرهما.

ويقال: أحرم دخل في الحرم؛ فيحرُم صَيْد الحرم أيضاً.

الطبرسي في مجمع البيان: إنَّ اللهَ يحَكُمُ مَا يُريِدُ معناه أن الله يقضي في خلقه مايشاء من تحليل مايريد، وتحريم مايريد تحريمه، وإيجاب مايريد إيجابه، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه، فافعلوا ما أمركم به وانتهوا عما نهاكم عنه في قوله: أحِلَّتْ لَكُمْ بهَيِمَةُ الأنْعَامِ دلالة على تحليل أكلها وذبحها والانتفاع بها.

احِلَّ لَكُمْ صَيْدُ لْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ لْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَتَّقُواْ للَّهَ لَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (1)

بينت الآية أنّ هناك نوعين من الصيد، فجعلت منه الآيات حلالًا وحراماً.

الأول: حلية صيد البحر، صيد حيوانه حلال، وأكله حلال للمحرم ولغيره فهما فيه سواء؛ أما وَطَعَامُهُ فهو شي ء آخر؛ ولهذا جاءت الآية


1- سورة المائدة: 96.

ص: 164

بطعام البحر معطوفاً على صيد البحر؛ والشي ء لا يعطف على نفسه، فإذا ما جاء العطف فهو عطف شي ء على شي ء آخر، فالعطف يقتضي المغايرة.

في مجمع البيان للشيخ الطبرسي:

ثُمَّ بيَّن سبحانه ما يحلُّ من الصيد وما لا يحلُّ فقال: احِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي أبيح لكم صيد الماء، وإنما أحلَّ بهذه الآية الطري من صيد البحر، لأنّ العتيق لاخلاف في كونه حلالًا عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد.

وَطَعَامُهُ يعني طعام البحر ثم اختلف فيه فقيل: يريد به ما قذفه البحر ميتاً عن ابن عباس وابن عمر وقتادة؛ وقيل: يريد به المملوح عن ابن عباس في رواية أخرى وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وهو الذي يليق بمذهبنا؛ وإنما سمي طعاماً؛ لأنه يدّخر ليطعم فصار كالمقتات من الأغذية، فيكون المراد بصيد البحر الطري وبطعامه المملوح، لأن عندنا لايجوز أكل ما يقذف به البحر ميتاً للمحرم وغير المحرم.

وقيل: المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزرع والثمار.

وابن عاشور (ت 1393 ه-) في تفسيره التحرير والتنوير يقول: وقوله: وَطَعَامُهُ عطف على صيد البحر والضمير عائد إلى الْبَحْرِ، أي وطعام البحر، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد؛ والمعنى: والتقاط طعامه أو وإمساكُ طعامه؛ وقد اختلف في المراد من «طعامه»؛ والذي روي عن جلّة الصحابة: أنّ طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له؛ ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا

ص: 165

ممّا لا يلائم سياق الآية، وهؤلاء هم الذين حرّموا أكل ما يخرجه البحر ميّتاً، ويردّ قولهم ما ثبت عن رسول الله (ص) أنّه قال في البحر: «هو الطهور ماؤه الحِلّ ميتته» وحديث جابر في الحوت المسمّى العنبر، حين وجدوه ميّتاً، وهم في غزوة، وأكلوا منه، وأخبروا رسول الله، وأكل منه رسول الله (ص).

يقول القرطبي في تفسيره: وَلِلسَّيَّارَةِ فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عُبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون، وأكل النبي (ص)، فبيّن الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر؛ الثاني: أن السيَّارة هم الذين يَركبونه، كما جاء في حديث مالك والنَّسائيّ:" أنّ رجلًا سأل النبي (ص) فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبيّ (ص): «هو الطّهُورُ ماؤُه الحِلُّ ميْتتهُ» ..

وابن عاشور يقول: استئناف بياني نشأ عن قوله:

يَا أيُّهَا الَّذيِنَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ فإنّه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدي مثل ما قتَل من النعم، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر، لأنّ أخذه لا يسمّى في العرف قتلًا، وليس لما يصاد منه مثل من النعم، ولكنّه قد يشكّ لعلّ الله أراد القتل بمعنى التسبّب في الموت، وأراد بالمثل من النعم المقاربَ في الحجم والمقدار، فبيّن الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة، لأنّ صيد البحر ليس من حيوان الحرم، إذ ليس في شي ء من أرض الحرم بحر .. إنّ أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها،

ص: 166

وأما عن معنى أحلّ لكم صيد البحر فيقول ابن عاشور: إبقاء حلّيّته لأنّه حلال من قبل الإحرام، والخطاب في لكم للذين آمنوا، والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحدة في مواقعه في هذه الآيات، أي أحلّ لكم قتله، أي إمساكه من البحر.

ثم يواصل كلامه: والبحر يشمل الأنهار والأودية، لأنّ جميعها يسمّى بحراً في لسان العرب، وقد قال الله تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ.. وليس العذب إلّا الأنهار كدجلة والفرات، وصيد البحر: كلّ دوابّ الماء التي تصاد فيه، فيكون إخراجها منه سبب موتها قريباً أو بعيداً، فأمّا ما يعيش في البرّ وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة، ولا خلاف في هذا، أمّا الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه، عند من يرى أنّ منه ما لا يؤكل، فليس هذا موضع ذكره، لأنّ الآية ليست بمثبتة لتحليل أكل صيد البحر ولكنّها منبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام.

محمد متولي الشعراوي في تفسيره: لقد أباح لنا سبحانه الاستمتاع بكل صيد البحر، وجاء هذا التحليل هنا بأسلوب اللف والنشر، كما في وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ لْلَّيْلَ وَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ. (1) وكلنا يعرف أنّ الليل للراحة والنهار للتعب، والليل يسلم للنهار، والنهار يسلم لليل، إذن فالمسكن يعود إلى الليل، وابتغاء الفضل بالكد يعود


1- سورة القصص: 73.

ص: 167

إلى النهار، إذن فقد جاء الحكم على طريق اللف والنشر المرتب، وهو ما فعله الشاعر فقال:

قلبي وجفني واللسان وخالقي راضٍ وباكٍ شاكرٌ وغفورُ

فالقلب راض، والجفن باكٍ، واللسان شاكر، والخالق غفور، ولكن الشاعر جاء بالأحكام منشورة بعد أن لف الكلمات الأربع الأولى، أي أنه طوى المحكوم عليه مع بعضه ثم نشر الأحكام من بعد ذلك .. وبعد أن حلل الحق صيد البحر جاء بتحريم صيد البر إن كنا حُرُماً، وذلك تأكيد جديد على تحريم صيد البر في أثناء الإحرام أو الوجود في الحرم.

الطبرسي في تفسيره: مَتَاعَاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ، قيل معناه: منفعة للمقيم والمسافر عن قتادة وابن عباس والحسن؛ وقيل: لأهل الأمصار وأهل القرى، وقيل: للمحل والمحرم.

الثاني: حرمة صيد البر وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ لْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه نجده فيما يلي من أقوالهم: اتفقت كلمتهم على حرمة صيد البر للمحرم، أي عملية الصيد نفسها، أو المصاد نفسه.

واختلفت كلمتهم في الصيد بمعنى الشي ء المصاد إن صاده غير المحرم.

واختلفوا في المعني بالصيد فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل وهو قول أهل العراق واستدلوا بقول علي (ع):

صَيْدُ المُلُوكِ أرانِبٌ وَثَعالِبٌ فَإذا رَكِبْت فَصِيدِيَ الأَبْطالُ

ويقول الطبرسي: وهو مذهب أصحابنا رضي الله عنهم.

ص: 168

وقيل: هو كل ما يؤكل لحمه وهو قول الشافعي. واختلفوا أيضاً في النهي الوارد هل هو خاص بالحيوان الذي يصاد عادةً، أم أنّ النهي شامل لكل حيوان ولو لم يكن مما يصاد، ومما لا يطلق عليه لفظ الصيد.

واختلف قولهم في مَا دُمْتُمْ حُرُمَاً في هذه الآية وَأنْتُمْ حُرُمٌ كما في الآية 94: وأنتم محرمون أي في حالة إحرام، أو أنتم في الحرم، أو كلاهما.

يقول الشيخ الطبرسي: أي وأنتم مُحرمون بحج أو عمرة.

وقيل: معناه وأنتم في الحرم.

قال الجبائي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد على الوجهين معاً؛ وهو الصحيح الذي يذهب إليه الشيخ الطبرسي.

وقال علي ابن عيسى: تدل على الإحرام بالحج أو العمرة فقط.

اتفقوا على حرمة الاصطياد على المحرم، واختلفت أقوالهم فيما صاده الغير؛ الطبرسي في تفسيره: هذا يقتضي تحريم الاصطياد في حال الإحرام، أما بالنسبة إلى ما صاده الغير فيذكر قولين، وتحريم أكل ما صاده الغير؛ وبه قال علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير.

وقيل: إنّ لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره عن عمر وعثمان والحسن.

والصيد قد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدراً، ويكون عبارة عن المصيد فيكون اسماً، ويجب حمل الآية على الأمرين وتحريم الجميع.

وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ هذا أمر منه تعالى بأن يتقي جميع معاصيه ويجتنب جميع محارمه، لأنّ إليه الرجوع في الوقت الذي لا يملك أحد

ص: 169

فيه الضرَّ والنفع سواه وهو يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه والمسي ء بإساءته.

ابن عاشور في قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً زيادة تأكيد لتحريم الصيد، تصريحاً بمفهوم قوله: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ ولبيان أنّ مدّة التحريم مدّة كونهم حُرُماً، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة، وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناساً بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة، ولو شاء الله لحرّمه أبداً.

وفي الموطأ: أنّ عائشة قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي إنّما هي عشر ليال (أي مدّة الإحرام) فإن تخلَّجَ في نفسك شي ء فدعه، تعني أكل لحم الصيد.

ثم يقول: والتحريم متعلّق بقتله لقوله قبله: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ فلا يقتضي قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً تحريم أكل صيد البرّ على المحرم إذا اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إيّاه، لأنّه قد علم أنّ التحريم متعلّق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة، وقد أكل رسول الله (ص) من الحمار الذي صاده أبو قتادة، كما في حديث الموطأ عن زيد بن أسلم، وأمر رسول الله (ص) بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون؛ وعلى ذلك مضى عمل الصحابة، وهو قول؛ وأمّا ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أنّ النبي (ص) ردّ على الصعب بن جَثّامة حماراً وحشياً أهداه إليه وقال له: «إنّا لم نردّه عليك إلّا أنّا حُرُم» وقد اختلف الفقهاء في محل هذا الامتناع، فقيل: يحرم أن يأكله مَن صِيدَ لأجله لا غير،

ص: 170

وهذا قول عثمان بن عفّان، وجماعة من فقهاء المدينة، ورواية عن مالك، وهو الأظهر، لأنّ الظاهر أنّ الضمير في قول النبي (ص) عائد إلى النبي (ص) وحده، لقوله: «لم نردّه»، وإنّما ردّه هو وحده؛ وقيل: يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره، وهو قول بعض أهل المدينة، وهو المشهور عن مالك؛ وكأنّ مستندهم في ذلك أنّه الاحتياط وقيل: لايأكل المحرم صيداً صِيد في مدّة إحرامه ويأكل ما صِيد قبل ذلك، ونسب إلى علي بن أبي طالب (ع) وابن عباس، وقيل: يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقاً، وإنّما حرّم الله قتل الصيد، وهو قول أبي حنيفة.

والحاصل أنّ التنزّه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنّة بحديث الصعب بن جَثَّامة، وهو محتمل كما علمت، والأصل في الامتناع الحرمة، لأنّه لو أراد التنزّه لقال: أمّا أنا فلا آكله، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضبّ.

يَا أيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ لصَّيْدَ وَأنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ لنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ لْكَعْبَةِ أوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أمْرِهِ عَفَا للَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ للَّهُ مِنْهُ وَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو نْتِقَامٍ. (1)


1- سورة المائدة: 95.

ص: 171

الروايات:

عن أبي عبدالله (ع) في حديث قال: «إذا فرض على نفسه الحج ثم أتم بالتلبية، فقد حرم عليه الصيد وغيره، ووجب عليه في فعله ما يجب على المحرم».

عن أبي عبدالله (ع) قال: «واجتنب في إحرامك صيد البر كله، ولا تأكل مما صاده غيرك، ولا تشر إليه فيصيده».

عن أبي عبدالله (ع) قال: «لاتأكل شيئاً من الصيد (وأنت محرم) وإن صاده حلال».

في الدرالمنثور: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمد بن علي: أن رجلًا سأل علياً (ع) عن الهدي مما هو؟..، قال: فسمعته يقول: يَا أيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ لصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: هَدْياً بَالِغَ لْكَعْبَةِ؟ قال: نعم. فقال: إن قتلت ظبياً فما علي؟ قال: شاة؛ قال علي: هَدْياً بَالِغَ لْكَعْبَةِ؟ قال الرجل: نعم، فقال علي: «قد سماه الله بالغ الكعبة كما تسمع».

والروايات في هذا الخصوص كثيرة عن أئمة أهل البيت (هم)، وهي كذلك عند أهل السنة. (1) الخطاب في هذه الآية كما في غيره من الآيات حين يبين تشريعاً للجماعة المؤمنة، وهي الأقرب لتطبيق ما تحكم به السماء، بل التي يجب


1- الوسائل، للعاملي؛ الدر المنثور؛ التاج الجامع للأصول، للشيخ منصور علي ناصف وغيرها.

ص: 172

عليها الالتزام بمقتضى عهدها وبيعتها لله ورسوله، وإلا فإنها ينتظرها عقاب شديد إن تولت عن التطبيق وأعرضت عن الطاعة.

هذا التشريع" حرمة الصيد" حدد بمكان محدد ووقت قليل وفي حالة كون المكلف عقد نية الإحرام، حيث جعله الفقهاء من تروك الإحرام ومحظوراته التي بعض مواردها في الحرمة وبعضها في الكراهة، وأنها مشتركة بين الرجل والمرأة أو مختصة بأحدهما دون الآخر؛ وقد ثبتت بالكتاب والسنة وبالإجماع في الجملة.

في هذه الآية جاء النهي عن قتل الصيد، ولكنه نهي مقيد بفترة زمنية وهي فترة الإحرام، أو بمكان محدود وهو الحرم، أي أنّ هناك مدّة للتحريم مدّة كونهم حُرُماً، أي محرمين أو مارّين بحرم مكة، وهذا إيماء لتقليل مدّة التحريم استئناساً بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدّة، ولو شاء الله لحرّمه أبداً.

وقع بينهم كلام مختلف ومفصل حول ما يترتب على المحرم عند مخالفته النهي الوارد في الآية المذكورة عمداً، وهذا يعني إن قتله خطأً فلا إثم عليه ولا كفارة، كما يظهر للقارئ .. غير أن لهم كلاماً آخر يأتينا، وقبل ذلك فقد

ص: 173

تعتبر لازمة وهي:

1- المثلية في الحيوان المقتول أي ما يماثله من النعم التي هي الإبل، والبقر، والغنم، فمثل بقر الوحش البقر، ومثل الغزال الغنم.

2- الحكمان العدلان من المسلمين.

ص: 174

3- أن يكون الجزاء هدياً يهدى إلى الحرم، يطعمه فقراء الحرم ومساكينه.

4- إن لم يوجد للحيوان مثل، يتصدق بقيمته طعاماً، وإن تعذر وجود الطعام فليصم عن كل مد يوماً.

وَأنتُمْ حُرُمٌ فيها أقوال: أنتم مُحرمون بحج أو عمرة؛ وأنتم في الحرم.

إنّ الصيد يحرم في كل إحرام بحج كان أو بعمرة واجباً كان الحج والعمرة أو نفلًا لعموم اللفظ؛ هذا ما ذكره السيوري في كنز العرفان.

وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً ذكر الشيخ الطبرسي أقوالًا: قيل: هو أن يتعمد القتل ناسياً لإحرامه عن الحسن ومجاهد وابن زيد وابن جريج وإبراهيم قالوا: فأما إذا تعمد القتل ذاكراً لإحرامه فلا جزاء فيه، لأنه أعظم من أن يكون له كفارة.

وقيل: هو أن يتعمد القتل وإن كان ذاكراً لإحرامه عن ابن عباس وعطاء والزهري وهو قول أكثر الفقهاء.

فأما إذا قتل الصيد خطأ أو ناسياً فهو كالمتعمد في وجوب الجزاء عليه وهو مذهب عامة أهل التفسير والعلم وهو المروي عن أئمتنا (هم).

قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ.

العلامة في الميزان: قوله: مُتَعَمِّداً حال من قوله: مَنْ قَتَلَهُ وظاهر التعمد ما يقابل الخطأ الذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك

ص: 175

كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيداً، ولازمه وجوب الكفارة إذا كان قاصداً لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسياً أو ساهياً.

وأما القرطبي فله كلام أكثر تفصيلًا حيث يقول في المسألة العاشرة في الآية: ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطى ء والناسي، والمتعمد هنا هو القاصد للشي ء مع العلم بالإحرام، والمخطى ء هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.

وختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال:

الأول- ما أسنده الدَّارَقُطْني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلّظوا في الخطأ لئلا يعودوا.

الثاني- أن قوله: مُتَعَمِّداً خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.

الثالث- أنه لا شي ء على المخطى ء والناسي، وبه قال الطَّبَري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جُبَير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود، وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه، وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن دعى شغلها فعليه الدليل.

الرابع- أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله بن عباس، وروى عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزُّهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم؛ قال الزُّهري: وجب الجزاء في العمد

ص: 176

بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسُّنة؛ قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة.

الخامس- أن يقتله متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه- وهو قول مجاهد- لقوله تعالى بعد ذلك: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ للَّهُ مِنْهُ قال: ولو كان ذاكراً لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأوّل مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه؛ قال مجاهد: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه، ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكراً للإحرام أو ناسياً له، ولا يصح عتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان، وقد رُوِي عنه أنه لاحكم عليه في قتله متعمداً، ويستغفر الله، وحَجُّهُ تام، وبه قال ابن زيد؛ ودليلنا على داود" أن النبي (ص) سئل عن الضَّبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشاً، ولم يقل عمداً ولا خطأ.

وقال بن بكير من علمائنا- والكلام للقرطبي-: قوله سبحانه: مُتَعَمِّداً لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد ليبين أنه ليس كبن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمداً كفارة، وأنّ الصيد فيه كفّارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ؛ والله أعلم.

سيد قطب في تفسيره:" إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمداً فأما من قتله خطأً فلا إثم عليه ولا كفارة" وتتمة كلامه يأتينا في الجزاء.

ص: 177

هذا في التعمد .. أما في الجزاء الذي حددته الآية بالتالي: فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ لنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ لْكَعْبَةِ أوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً

فيه أربع قراءات، وكل قراءة تقتضي شيئاً:

فَجَزَآءٌ مِّثْلُ برفع جزاء وتنوينه، و «مِثْلُ» على الصفة وهي قراءة أهل الكوفة ويعقوب. والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النَّعم؛ وهذه القراءة تقتضي أن يكون المِثل هو الجزاء بعينه.

و جَزَا ءُ بالرفع غيرمنون، و مِثْل بالإضافة، أي فعليه جزاءُ مثل ما قتل، وهي قراءة الباقين؛ و مِثْل مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك؛ ونظير هذا قوله تعالى:

أوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِى لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي لظُّلُمَاتِ. (1) التقدير كمن هو في الظلمات، وقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ. (2)

أي ليس كهو شي ء، وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل، إذ الشي ء لا يضاف إلى نفسه؛ وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول، وهو قول الشافعي على ما يأتي؛ وقوله: مِنَ النَّعَمِ صفة لجزاء على القراءتين جميعاً، وقرأ الحسن مِنَ النَّعْمِ بإسكان العين وهي لغة؛ وقرأ عبد الرحمنفَجَزَآءٌ بالرفع والتنوين مِثْل بالنصب؛ قال أبوالفتح: مِثْل


1- سورة الأنعام: 122.
2- سورة الشورى: 11.

ص: 178

منصوبة بنفس الجزاء،؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل؛ وقرأ ابن مسعود والأعمش فَجَزَآؤه مِّثْلُ بإظهار «هاء» ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل؛ وقرأ أهل المدينة وابن عامر أو كفارةُ بغير تنوين طعامٍ على الإضافة، والباقون أو كفارة بالتنوين طعامُ بالرفع ولم يختلفوا في مساكين أنه جمع وروي في الشواذ قراءة أبي عبد الرحمن فجزاءٌ منون مثل منصوب وقراءة محمد بن علي الباقر (ع) وجعفر بن محمد الصادق (ع) يحكم به ذو عدل منكم. (1) قال الزجاج: ويجوز أن يكون المعنى فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل، فيكون جزاء مبتدأً ومثل خبره؛ واختلف في هذه المماثلة أهي في القيمة أو الخلقة؟ فالذي عليه معظم أهل العلم أنّ المماثلة معتبرة في الخلقة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وشبهه بقرة، وفي الظبي والأرنب شاة وهو المروي عن أهل البيت (هم) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي وعطاء والضحاك وغيرهم.

وقال إبراهيم النخعي: يُقَوَّم الصيد قيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم فاعتبر المماثلة بالقيمة؛ والصحيح عند الطبرسي القول الأول. (2) سيد قطب: فإذا كان القتل عمداً، فكفارته أن يذبح بهيمةً من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله؛ فالغزالة مثلًا تجزئ فبها نعجة أو عنزة،


1- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي؛ مجمع البيان، للطبرسي.
2- مجمع البيان للشيخ الطبرسي.

ص: 179

والأيل- بتشديد الياء وكسرها- تجزئ فيه بقرة، والنعامة والزرافة وما إليها تجزئ فيها بدنة، والإرنب والقط وأمثالهما يجزئ فيه إرنب، وما لا مقابل له من البهيمة يجزئ عنه ما يوازي قيمته.

مغنية في الفقه على المذاهب الخمسة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أن يحكم اثنان من أهل العدالة بأن هذا الحيوان الأهلي هو مثل الحيوان الوحشي المقتول؛ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أنه إذا أتى مكة ذبح المماثل الأهلي وتصدق به.

العلامة في الميزان: وقوله: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، وذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلان منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هدياً يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكة أو بمنى على ما يبينه السنة النبوية.

فقوله: جزاء بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدل عليه الكلام، وقوله: مثل ما قتل وقوله: من النعم وقوله: يحكم به، أوصاف للجزاء، وقوله: هدياً بالغ الكعبة موصوف وصفة، والهدي حال من الجزاء .. وقد قيل غير ذلك.

وقوله: أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً خصلتان أخريان من خصال كفارة قتل الصيد، وكلمة" أو" لا يدل على أزيد من

ص: 180

مطلق الترديد، والشارح السنة، غير أن قوله: أو كفارة حيث سمى طعام المساكين كفارة ثم اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.

سيد قطب: ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل، فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هدياً حتى تبلغ الكعبة، تذبح هناك وتطعم للمساكين، أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين، بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد (خلاف فقهي) فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة، مقدراً ثمن الصيد أو البهيمة، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين .. أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال.

وفي مجمع البيان: وفي هذه الآية يحكم به ذوا عدل منكم قال ابن عباس: يريد يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به هدياً بالغ الكعبة أي يهديه هدياً يبلغ الكعبة؛ وهنا قال ابن عباس: يريد إذا أتى مكة ذبحه وتصدَّق به.

وقال أصحابنا- والقول للطبرسي-: إن كان أصاب الصيد وهو محرم بالعمرة ذبح جزاءه أو نحره بمكة قبالة الكعبة، وإن كان محرماً بالحج ذبحه أو نحره بمنى.

أو كفارة طعام مساكين:

ص: 181

قيل في معناه قولان أحدهما: أن يُقوَّم عدله من النعم ثم يجعل قيمته طعاماً ويتصدق به عن عطاء وهو الصحيح والآخر: أن يُقوَّم الصيد المقتول حيّاً ثم يجعل طعاماً عن قتادة.

أو عدل ذلك صياماً وفيه أيضاً قولان:

أحدهما: أن يصوم عن كل مدّ يُقوَّم من الطعام يوماً عن عطاء وهو مذهب الشافعي.

والآخر: أن يصوم عن كل مُدّين يوماً وهو المروي عن أئمتنا (هم) وهو مذهب أبي حنيفة.

هل هي مرتبة أو مخيرة؟

واختلفوا في هذه الكفارات الثلاث فقيل: إنها مرتبة عن ابن عباس والشعبي والسدي قالوا: وإنما دخلت أو لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث.

وقيل: إنها على التخيير عن ابن عباس في رواية أخرى وعطاء والحسن وإبراهيم وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وكلا القولين- يقول الطبرسي- رواه أصحابنا.

لِيَذُوقَ وَبَالَ أمْرِهِ: أي عقوبة ما فعله في الآخرة إن لم يتب. وقيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره وثقله بما يلزمه من الجزاء فإن سأل سائل، فقال: كيف يسمّى الجزاء وبالًا وإنما هي عبادة فإذا كانت عبادة فهي نعمة ومصلحة؟ فالجواب أن الله سبحانه شدَّد عليه التكليف بعد أن عصاه فثقل ذلك عليه كما حَرَّم الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل

ص: 182

ذلك عليهم وإن كان مصلحة لهم: عفا الله عما سلف من أمر الجاهلية عن الحسن؛ وقيل: عفا الله عما سلف من الدفعة الأولى في الإسلام أي قبل التحريم.

وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ: أي من عاد إلى قتل الصيد محرماً فالله سبحانه يكافيه عقوبة بما صنع واختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة فقيل إنه لا جزاء عليه عن ابن عباس والحسن وهو الظاهر في روايات أصحابنا، وقيل: إنه يلزمه الجزاء عن عطاء وسعيد بن جبير وإبراهيم وبه قال بعض أصحابنا.

وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ: معناه قادر لا يغلب ذو انتقام ينتقم ممن يتعدى أمره ويرتكب نهيه.

وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة، ففي الكفارة معنى العقوبة، لأنّ الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديداً كبيراً، لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف، والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف: عَفَا للَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ للَّهُ مِنْهُ وَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو نْتِقَامٍ.

فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام!

الصيد في الفقه:

الصيد احتل مكانته في الشريعة الإسلامية، وقد أطال فقهاء المذاهب الكلام في الصيد للمحرم آداباً وأحكاماً وكفارات، وابتدأوا من صيد

ص: 183

النعامة التي تشبه الناقة إلى صيد الجرادة، حتى أنهم فرعوا فروعاً كثيرة وافترضوا صوراً شتى .. يستطيع القارئ العودة لما كتبوه في مصادره.

ففي جامع المقاصد للمحقق الثاني الشيخ الكركي (ت 940 ه-) في شرح القواعد وهو يعدد تروك الإحرام جاء في متن القواعد التالي:

" الصيد، وهو الحيوان الممتنع بالأصالة اصطياداً وأكلًا- وإن ذبحه وصاده المحل- وإشارةً ودلالةً وإغلاقاً وذبحاً، فيكون ميتةً يحرم على المحل والمحرم، والصلاة في جلده، والفرخ والبيض كالأصل؛ والجراد صيد، وما يبيض ويفرخ في البر.

ولا يحرم صيد البحر، وهو ما يبيض ويفرخ فيه، ولا الدجاج الحبشي، ولا فرق بين المستأنس والوحشي، ولا يحرم الإنسي بتوحشه، ولا فرق بين المملوك والمباح، ولا بين الجميع وأبعاضه، ولا يختص تحريمه بالإحرام، بل يحرم في الحرم أيضاً ..."

وهذه قراءة مضغوطة انتقيتها من كتاب: الفقه على المذاهب الخمسة للشيخ محمدجواد مغنية تبين لنا خلاصة آراء هذه المذاهب في أحكام الصيد للمحرم ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وهو ما رأيناه فيما ذكرناه أعلاه من أقوال المفسرين.

يقول الشيخ: اتفقوا قولًا واحداً على تحريم التعرض لصيد البر بالقتل أو الذبح أو الدلالة عليه أو الإشارة إليه، ولذا يحرم التعرض لبيضه وأفراخه.

ص: 184

أما صيد البحر فجائز ولا فدية فيه، لقوله تعالى: أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ لْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ لْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَتَّقُواْ للَّهَ لَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. (1)

وتحريم الصيد في الحرم يشمل المحل والمحرم على السواء، أما خارج الحرم فيجوز للمحل دون المحرم، ولو ذبح المحرم الصيد يصير ميتة، ويحرم أكله على جميع الناس.

واتفقوا على أن للمحرم أن يقتل الحدأة- نوع من الطير- والغراب والفأرة والعقرب، وزاد جماعة الكلب العقور وكل مؤذ.

ثم يذكر الشيخ أقوال المذاهب مبيناً اتفاق بعضهم واختلاف الآخر:

الشافعية والإمامية: الصيد البري إن كان له مثل أهلي في الشكل والصورة، كالبقر الوحشي تخير القاتل بين أن يخرج مثله من النعم، فيذبحه ويتصدق به، وبين أن يقوّم المثل بدراهم يشتري بها طعاما، ثم تصدق بالطعام على المساكين لكل مسكين مدان، أي 1600 غرام على وجه التقريب، وبين أن يصوم عن كل مدين يوماً؛ وبهذا قال المالكية إلا أنهم قالوا: يقوّم نفس الصيد لا مثله؛ وقال الحنفية: يضمن الصيد بالقيمة سواء أكان له مثل أم لم يكن؟ ومتى قومه تخير القاتل بين أن يشتري بالثمن المماثل من النعم ويخرجه، وبين أن يشتري طعاماً و يتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوماً (التذكرة وفقه السنة).


1- سورة المائدة: 96.

ص: 185

واتفق الإمامية والشافعية على أنّ الكفارة تسقط عن الجاهل والناسي إلا في الصيد، فإن الكفارة تجب فيه، حتى ولو وقع سهواً، (الجواهر، فقه السنة)؛ انتهى ما ذكره مغنية.

وفي ختام هذه الفقرة نذكر خلاصة فقهية نافعة عن كفارة ما يفعله المحرم بشي ء محرم عليه، وهي على ضروب ثلاثة: أحدها: يوجب الكفارة سواء فعله عامداً أو ساهياً؛ والثاني: يوجبها مع العمد دون النسيان؛ والثالث: فيه الإثم دون الكفارة.

وبما أنّ مقالتنا عن الصيد فلا نتعرض إلى الثاني والثالث، لأن الأول يندرج تحته الصيد بلاخلاف بين الجمهور من أبي حنيفة والشافعي وأصحابهما وعامة أهل العلم، فمن قتل صيداً له مثل أو ذبحه وكان حراً كامل العقل، محلًا في الحرم، أو محرماً في الحل، فعليه فداؤه بمثله من النعم ...

قال الشيخ في الخلاف: إذا قتل صيداً، فهو مخير بين ثلاثة أشياء، بين أن يخرج مثله من النعم، وبين أن يقوّم مثله دراهم ويشتري به طعاماً ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوماً، ولا يجوز إخراج القيمة بحال، وإن كان الصيد لامثل له فهو مخير بين شيئين، بين أن يقوم الصيد ويشتري بثمنه طعاماً ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوماً، ولا يجوز إخراج القيمة بحال، وبه قال الشافعي؛ وفي الوجيز: الواجب في الصيد مثله من النعم، أو إطعام بمثل قيمة النعم، أو صيام بقدر الطعام لكل مد يوم.

وقال أبو حنيفة: الصيد مضمون بقيمته سواء كان له مثل أو لم يكن له مثل، إلا أنه إذا قومه فهو مخير بين أن يشتري بالقيمة من النعم

ص: 186

ويخرجه، وبين أن يشتري طعاماً ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوماً .. وهو خلاف ظاهر الآية فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل فأوجب مثلًا من النعم، وذلك يبطل قول من قال: الواجب قيمة الصيد. (1) يَا أيُّهَا لَّذِينَ آمَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ للَّهِ وَلَا لشَّهْرَ لْحَرَامَ وَلَا لْهَدْيَ وَلَا لْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ لْبَيْتَ لْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ. (2)

ما إن ينتهي وقت الإحرام بالكامل، حتى ينتهي الحظر عن الصيد، لكن في غير البيت الحرام أو منطقة الحرم التي لا يصح صيد فيها أصلًا، وتبقى محظورةً ..


1- الغنية 160- 161؛ الخلاف 396: 2 مسألة 258، 397 مسألة 260، 399 مسألة 261؛ كلها عن جامع الخلاف والوفاق لعلي بن محمد القمي. مع مراجعة الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي 248: 3- 280 تفصيل عن الصيد .. وأن صيد البر من محظورات الإحرام دون صيد البحر، وما يترتب على فعله من جزاء وضوابط.
2- سورة المائدة: 2.

ص: 187

يقول سيد قطب عن البيت الحرام:" إنها منطقة الأمان يقيمها الله في بيته الحرام، كما يقيم فترة الأمان في الأشهر الحرم .. منطقة يأمن فيها الناس والحيوان والطير والشجر أن ينالها الأذى، وأن يروعها العدوان .. إنه السلام المطلق يرفرف على هذا البيت، استجابة لدعوة إبراهيم- أبي هذه الأمة الكريم- ويرفرف على الأرض كلها أربعة أشهر كاملة في العام- في ظل الإسلام- وهو سلام يتذوق القلب البشري حلاوته وطمأنيته وأمنه، ليحرص عليه- بشروطه- وليحفظ عقد الله وميثاقه، وليحاول أن يطبقه في الحياة كلها على مدار العام، وفي كل مكان .."

إذن بعد أن وفوا بعقدهم الذي عقدوه مع الله تعالى، وانتهت مدته، لهم أن يمارسوا الصيد وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ.

لقد اختلف علماء الأصول في صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر بين من ذهب إلى الوجوب، ومن ذهب إلى الندب والإباحة، ومن قال بإنه أمر مشترك بين الإباحة والندب والوجوب، فيما توقف غيرهم ..

الشيخ السيوري بعد أن يقرر اختلاف الأصوليين في الأمر عقيب النهي هل هو للوجوب أو للإباحة؟ يقول: وقد احتج أصحاب القول الثاني بآية: فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (1) فإنه أطلق لهم ما حرمه عليهم من المعاملة، والانتشار ليس بواجب اتفاقاً ومنها: وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْمَحيِضِ .... (2)


1- سورة الجمعة: 10.
2- سورة البقرة: 222.

ص: 188

وبالآية محور كلامنا: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ جاءت بعد حظر ونهي حيث أباح لهم ما منعهم منه بسبب إحرامهم .. فهي رافعة للحظر ليس إلا، والأمر فَصْطَادُواْ لا يعني إلا الإباحة لقاعدة" الأمر بعد الحظر للإباحة"؛ وقال السيوري بالحرف الواحد: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ أمر إباحة بعد أن كان الصيد حراماً في حال الإحرام. (1)

يقول الشيخ الطبرسي: إذا حللتم من إحرامكم، فاصطادوا فيها الصيد الذي نهيتهم أن تحلوا فاصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن السبب المحرم قد زال عند جميع المفسرين.

الميزان: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَصْطَادُواْ أمر واقع بعد الحظر لايدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع، والحل والإحلال- مجرداً ومزيداً فيه- بمعنى وهو الخروج من الإحرام.

أما القرطبي وبعد أن يذكر أنه أمر إباحةٍ- بإجماع الناس- يقول: وليس بصحيح، بل صيغة «فعل» الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب، وهو مذهب القاضي أبي الطّيّب وغيره، لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدّم الحظر لا يصلح مانعاً، دليله قوله تعالى: فَإِذَا نسَلَخَ لأَشْهُرُ لْحُرُمُ فَقْتُلُواْ لْمُشْرِكِينَ. (2)

فهذه «فعل» على الوجوب لأن المراد بها الجهاد، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله: فَإِذَا قُضِيَتِ لصَّلَاةُ

فَنتَشِرُواْ. (3) فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأتُوهُنَّ. (4) من النظر إلى المعنى والإجماع، لا من صيغة الأمر ..


1- كنز العرفان في فقه القرآن 170: 1- 333، مع زيادة مناسبة مني.
2- سورة التوبة: 5.
3- سورة الجمعة: 10.
4- سورة البقرة: 222.

ص: 189

شخصيات من الحرمين الشريفين (27)

عَدِي بن حاتم الطائي (رضوان الله عليه)

محمد سليمان

عدي بن حاتم الجواد بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثمل بن عمرو بن الغوث بن طي بن أدد بن مالك بن زيد كهلان الطائي الأنصاري؛ واسم طي ء جلهمة، وسمي طيئاً، لأنه أول من طوى المنازل، وقيل أول من طوى بئراً؛ وكان أبوه حاتم من أجود العرب، وكنيته أبو سفانة، وهي ابنته الوحيدة كما يظهر؛ وعدي من قبيلة طي ء العربية، التي انتهت إليه رئاستها بعد أبيه .. وهو أبو طريف الطائي، ويقال: أبو وهب.

إ نّ النسب المذكور لعدي بن حاتم الطائي العائد إلى قبيلة طي ء أو طيئ، يجرنا إلى الحديث- ولو باختصار- عن هذه القبيلة تاريخها وفروعها وإسلامها.

فقبيلة طي ء أو طيئ من القبائل القحطانيّة الكبيرة، عديدة فروعها أو قبائلها .. ولكن يبقى أشهر هذه القبائل؛ قبيلتا جندب بن خارجة بن فطرة بن طي ء، والغوث بن طي ء.

ص: 190

حرب الفساد:

أحيطت حياة قبيلة طي ء بمعارك ضارية، ومن جملة تلك المعارك" حرب الفساد" التي وقعت بين بني جديلة وبني الغوث .. وسميت بحرب الفساد لأنها أفسدت العلاقات بين قبائل طي ء أيما فساد، وطال أمدها- كما ذكروا- حتى بلغت مائة وثلاثين سنة أي أكثر من ثلاثة أضعاف حرب البسوس بين بكر و تغلب، هذه الحرب الضروس التي دامت أربعين سنة، منذ شرارتها الأولى حين صرخت البسوس" واذلاه" وهي امرأة تميمية لما رأت ناقة قتلت ..

و ذكر بعض المؤرخين أنّ حرب الفساد لم تكن حرباً كباقي الحروب، وقد أدت إلى نزوح بني جديلة إلى الشام وإلى حلب وعلى قول آخرإلى العراق وبلاد مصر، وقد شهد عدي بن حاتم يوم اليحاميم من أيام تلك الحرب الضارية، وأيامها عديدة ومريرة حتى غدا بعضهم يخصف نعاله بأذني خصمه ويشرب الخمر بجمجمته، يقول شاعر منهم:

نخصف بالآذان منكم نعالنا ونشرب كرهاً منكم بالجماجم

وكان زيد الخيل وهو من أكبر شخصيات طيئ يعمل على وقف القتال ويدعو إلى الصلح .. يقول عدي: وإني لواقف يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد أحضر ابنيه مكنفاً وحريثاً في شعب لا منفذ له وهو يقول: أي بني أبقيا على قومكما، فإن اليوم يوم التفاني، فإن يكن هؤلاء أعمامنا فهؤلاء أخوال، ولم تبق لجديلة بقية بعد يوم اليحاميم،

ص: 191

ولم يحضر حاتم بن عبد الله الطائي هذه الحرب، وكان مجاوراً لبني بدر آنذاك فدخلوا بلاد حلب فحالفوهم وأقاموا معه.

و قبيلة طي ء المعروفة بالبداوة ..، كانت تسكن أراضي الجوف مع قبيلتي مراد وهمدان .. وقد حطت طي ء رحالها في سميرا وفيد من أراضي نجد بجوار قبيلة بني أسد حين هاجرت إليها بعد قبيلة الأزد، ثم وسعت أرضها باحتلالها لجبلي «أجأ» و «سلْمى» اللذين كانا في يد بني أسد، وألحقت ذلك بتمددها على جزء من أرض تميم بين نجد والحيرة، وكانت قبيلة طي ء قد تحالفت مع بني أسد ومع غطفان، ثم حصل اختلاف بين طي ء وبني أسد قبل البعثة النبوية بفترة وجيزة، فانحازت غطفان إلى بني أسد ضد طي ء ونشبت الحرب بينهم، فأخرج غطفان وبنو أسد قبيلة طي ء من أرضها، وعلى أثر ذلك ألغى ذو الخمار بن عوف الجذمي الحلف بين طي ء وغطفان، وراح يستنجد بقبيلتي غوث وجديلة فرعي طي ء، لاستعادة الأراضي التي خسرتها قبيلة طي ء؛ واستمر هذا النزاع يضيق تارةً ويتسع أخرى، حتى كتب رسول الله (ص) بعد البعثة النبوية كتاباً إلى بني أسد يمنعهم فيه من التعرض لأرض طي ء ومياهها ..

إسلام قبيلة طي ء:

إنّ الحديث عن إسلام قبيلة طي ء يأخذنا بدايةً ولو قليلًا إلى إسلام القبائل العربية اليمنية، ولا أرى بأساً أن أذكر ذلك في مقالتي هذه ولكن بكلام مضغوط، فلما دانت قريش بالفتح، ودانت بعدها هوازن وثقيف في الطائف وكان ذلك في شهر رمضان سنة تسع هجرية، حين قدم

ص: 192

رسول الله (ص) من تبوك، وكانت قبائل اليهود الثلاث القوية في المدينة قد انتهت شوكتها، فأجليت بنو قينقاع وبنو النضير إلى الشام، وأبيدت بنوقريظة، واستسلمت خيبر الاستسلام الأخير، وقبول النصارى دفع الجزية بعد أن أذعنوا للمسلمين، وتوسع النفوذ الإسلامي إلى حدود (أيله و جرباء و تبوك و دومة الجندل) في شمال الجزيرة العربية بعد غزوة تبوك .. صحيح أن الإسلام وصل بلاد اليمن قبل الهجرة النبوية، لكن إسلامهم بلغ ذروته في التاسعة هجرية المعروفة بعام الوفود بعد فتح مكّة سنة 8 هجرية، فغدت قبائل اليمن ترسل وفودها إلى رسول الله (ص) معلنةً إسلامها بشكل واسع؛ ولعل هذا وقع لأسباب طرأت على الساحة يومذاك كما ذكرناها.

يضاف إليها الفرقة والنزاع بين القبائل اليمانية، مما دفع بعضها إلى البحث عمن تعتمد عليه كسند قوي لها، خصوصاً بعد ما أصاب دولة اليمن من ضعف وتشتت لقواها السياسية والعسكرية .. لهذا ولتلك الأسباب ولعل لغيرها سلكت هذه القبائل طريق الهدى، وكان إيذاناً لها بدخول الناس في دين الله أفواجاً، وانسياح الإسلام في أرجاء الجزيرة كلها في عام واحد؛ وهذا لا يجعلنا نغفل عن التوفيق الإلهي لمن كان ينتظر الفرصة المناسبة للدخول في الإسلام بجد وصدق، خصوصاً إذا ما أخذنا بالرأي الذي يبين أن الإسلام أو على الأقل أخباره وبعض تعاليمه وصلت إليهم خلال وجود النبي (ص) في مكة.

وبما أن النظام القبلي كان هو الذي يسود المجتمع اليمني، فإنّ الناس يتبعون غالباً رؤساءهم وشيوخهم، الذين كانوا سباقين إلى الإسلام

ص: 193

ومسارعين في القدوم على رسول الله (ص) في المدينة المنورة ..

فقد أرسل بعض رؤساء القبائل ممثليهم إلى النبي (ص) يعلمونه بإسلامهم، مثل رؤساء قبيلة حمير الذين أوفدوا مالك بن مرارة الرهاوي إلى المدينة لمقابلة رسول الله (ص) فيما لم يكتف رؤساء قبائل أخرى بممثليهم بل شكلوا وفوداً إلى الرسول (ص) ليعلنوا إسلامهم مثل وفود دوس، والنخع، وغافق، وتجيب، والصدف، وخولان، وكندة، بينما جاء بعض رؤساء قبائل أخرى بأنفسهم، ليعلنوا إسلامهم أمام رسول الله (ص) مثل عمرو بن معدي كرب الزبيدي في بني زبيد، ومهري بن الأبيض، وفروة بن مسيك المرادي رئيس قبيلة مراد، و وفود رهاء وبجيلة والأزد وغافق وبارق وطي ء.

هذا وأن بعض الوفود التي قدمت إلى المدينة كان يضم أعداداً كبيرة من شيوخ القبائل وأفرادها، حتى بلغ أكثر من ألف نفر، ومن الواضح أن هذا العدد الكبير حين يعود بعد إسلامهم إلى بلادهم، فإنه سيكون ذا تأثير كبير في نشر الإسلام وبسط نفوذه، فأشعر بلغ وفدهم خمسين نفراً، وبلغ وفد دوس سبعين أهل بيت، وبلغ وفد بجيلة أربعمائة نفر، ووفد النخع مائتي نفر، ووفد طي ء خمسة عشر نفراً، و وفد صداء خمسة عشر نفراً وهكذا بقية الوفود، وخصوصاً أنها وفود تضم زعماءهم وأشرافهم ..

تعامله (ص):

لقد كان تعامله (ص) مع القادمين ينبثق من خلقه العظيم، فكان (ص) يستقبلهم بلطف، و يحسن ضيافتهم، وصولًا إلى تعميق روح الإيمان في قلوبهم ..

ص: 194

و من صور ذلك التعامل الرائع:

- كان (ص) يأمر بجوائز وصِلات لمن يفد عليه ويعلن إسلامه، كما فعل مع وفد خولان، وبجيلة وغامد، وتجيب.

- وكان (ص) يبعث بعض أصحابه إلى القبائل اليمانية، لتعليمهم القرآن والأحكام الشرعية، وليس دورهم يقف عند هذا الدور التثقيفي التعليمي، بل وكبادرة طيبة في إصلاح الوضع الاجتماعي لهم، كان (ص) يأمر مبعوثيه إليهم بتوزيع ما يحصلون عليه من الصدقات بين فقراء تلك القبائل.

- فالإمام علي بن أبي طالب (ع) بعثه (ص) لأخذ صدقات بني نجران، ومن أصحابه الآخرين الذين نالوا شرف بعثاته المذكورة:

خالد بن سعيد بن العاص الذي أرسله النبي (ص) مع فروة بن مسيك المرادي.

عمرو بن حزم الأنصاري الذي أرسله (ص) إلى بني الحارث بن كعب.

عمرو بن العاص وأبو زيد الأنصاري اللذين ارسلا إلى أزد عمان.

المهاجر بن أبي أمية وكان قد بعث إلى صنعاء.

زياد بن لبيد الأنصاري اوفد إلى حضرموت.

معاذ بن جبل الذي ارسل إلى حمير لدعوتهم إلى الإسلام، وكان عامل النبي (ص) على الجند ..

ص: 195

وعدي على صدقات قومه:

عدي بن حاتم بعد إسلامه جعله رسول الله (ص) على صدقات قومه، وبقي في وظيفته هذه حتى بعد وفاته (ص). وقد ورد أن عدياً لما أسلم بين يدي رسول الله (ص) وأراد أن يرجع إلى بلاده بعث إليه رسول الله (ص) يتعذر من الزاد، ويقول: والله ما أصبح عند آل محمد سفة من طعام" القبضة من الملح" ولكنك ترجع ويكون خير .. فلما قدم على أبي بكر أعطاه ثلاثين فريضة" ثلاثين بعيراً" فقال عدي: يا خليفة رسول الله! أنت إليها اليوم أحوج وأنا عنها غني، فقال أبو بكر: خذها فإني سمعت رسول الله (ص) يتعذر إليك ويقول: ترجع ويكون خير؛ فقد رجعت وجاء الله بخير، فأنا منفذ ما وعد رسول الله (ص) في حياته، فأنفذها، فقال عدي: آخذها الآن فهي عطية من رسول الله (ص)، فقال أبو بكر: فذاك.

وجاءت هذه العطية لعدي بعد أن جمع الصدقة من قومه وجاء بها إلى رسول الله (ص) ولكنه فوجئ بوفاته (ص) يقول الخبر: فقبض النبي (ص) وهي في يده،.. ناداه رجل من بني أسد.. يا بن حاتم فارجع فاقسم هذه الإبل بين قومك، فتكون سيد الحيين ما بقيت؛ فقال عدي: إن يكن محمد قد مات فإن الذي أسلمت له حي لم يمت، فساق الصدقة.. فكانت ثالثة ثلاث صدقات أو ثانية صدقتين قدمتا على أبي بكر بعد رسول الله (ص)، فأعطى منها عدياً ثلاثين بعيراً..

ص: 196

رسائله (ص) وعهوده:

كما كان من صور تعامله (ص) أن كتب الرسائل إلى عدد من رجال اليمن وقادتها مثل أبي ظبيان الغامدي يستميلهم ويدعوهم إلى الإسلام، فيما كتب عهوداً إلى عدد من قادة اليمن وشيوخها منحهم فيها عناوين سياسية وأقرهم على مناطقهم، ثم طلب منهم رعاية أحكام الإسلام وحدوده؛ ومن هؤلاء القادة: رؤساء حمير، و زبيد، ومراد، وهمدان، وخثعم، وطي ء، عهد (ص) إلى كل واحد منهم بإدارة قبيلته ومن هؤلاء: وائل بن حجر بن سعد الحضرمي الذي أضحى رئيساً لقومه، وقيس بن سلمة الجعفي الذي عينه أميراً على قبائل مران وحريم وكلاب، وفروة بن مسيك المرادي الذي غدا أمير مراد و زبيد، وأبو موسى الأشعري- وهو قائد سرية في حنين- عينه النبي (ص) والياً على عدن وزبيد ورمع والساحل، وصرد بن عبدالله الأزدي قائد الجيش الذي فتح جرش، وجرير بن عبدالله البجلي قائد الجيش الذي خرب صنم" ذو الخلصة" ممثله (ص) لدى ذي الكلاع وذي عمرو، وقيس بن الحصين الحارثي الذي جعله (ص) أميراً على قبيلة «بنوالحارث بن كعب» وبعد أن أسلم عدي بن حاتم الطائي- كما قلنا- غدا عاملًا على صدقات قومه، ومالك بن مرارة الذي عين عاملًا على صدقات الحميريين وكلف بأخذ الجزية من مشركيهم.

ص: 197

زيد الخيل:

وقبيلة طي ء فهي كباقي القبائل اليمنية، ففي السنة التاسعة (عام الوفود) وقد رأت الفتح العظيم، والنصر الكبير لرسول الله (ص) بفتح مكة ودانت له قريش، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ورأت وفود العرب قد وفدت إلى حيث المدينة المنورة أفواجاً، جماعات جماعات كثيرة، من كل حدب وصوب، لتبايع رسول الرحمة محمد (ص) وتعلن إسلامها وولاءها، وخير ما صورت هذه الحالة الآيات القرآنية في سورة النصر:

بسم الله الرحمن الرحيم* إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجاً* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.

أعدت قبيلة طي ء وفدها من خمسة عشر نفراً، فيهم زيد الخيل بن مهلهل، وهو سيدهم، فلما انتهوا إليه كلموه، وعرض عليهم الإسلام فأسلموا، فحسن إسلامهم، وقال رسول الله (ص) كما حدثني- و القول لابن إسحاق- من لا أتهم من رجال طي ء: ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني، إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه، ثم سماه رسول الله (ص) زيد الخير، وقطع له فيداً" وهو اسم مكان" وأرضين معه، وكتب له بذلك، فأسلموا على يدي رسول الله (ص) فخرج من عند رسول الله (ص) راجعاً إلى قومه، فقال رسول الله (ص): «إن ينج زيد من حمى المدينة»، فإنه قال: قد سماها رسول الله (ص) غير الحمى وغير أم ملدم، فلم يثبته، فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له: فردة، أصابته الحمى بها فمات، ولما أحس زيد بالموت قال:

ص: 198

أمرتحل قومي المشارق غدوةً وأترك في بيت بفردة منجد" أي بنجد"

ألا رب يوم لو مرضت لعادني عوائد من لم يبر منهن يجهد

" يبرى (بالبناء للمجهول) أي يبريه السفر ويضعفه".

فلما مات عمدت امرأته إلى ما كان معه من كتبه، التي قطع له رسول الله (ص) فحرقتها بالنار.

وتحكي الرسالة التي بعثها رسول الله (ص) إلى عشيرة معاوية بن جرول، وعشيرة عامر بن الأسود جوين الطائي، وعشيرة زيد الخيل الطائي اهتمام النبي (ص) بهذه القبيلة.

ويتضح مما تقدم أنّ الإسلام قد انتشر بين القبائل اليمنية انتشاراً سريعاً، وأنه بلغ درجة كبيرة من الانتشار والرسوخ في أواخر حياة رسول الله (ص) كما يتبين على الأغلب أنّ دخول تلك القبائل في الدين الحنيف حصل طواعية وباندفاع ذاتي وتأصَّل بين قبائلها حتى عرفوا بمواقفهم الجليلة وبصدقهم وجهادهم وعطائهم.. يشهد على ذلك الوفود التي كانت تتقاطر على المدينة، فتعلن إسلامها و تحمل صدقاتها إلى النبي (ص) ومن الرسائل والكتب التي كتبها رسول الله (ص) إلى رؤساء القبائل اليمانية يأمرهم فيها بالعمل بحدود الإسلام وأحكامه.

وقد أبلت قبيلة طي ء في قضية الردة بلاءً حسناً، فلم يرتد منها- كما فعلت القبائل الأخرى- إلا رجلان اثنان، ويبدو أن عدياً بعد إسلامه كان له دور كبير في إخماد ما كان يجيش في نفوس كثير منهم من رغبة في الارتداد.

ص: 199

إنها دروس ما أروعها!

إذا ما تأملنا الموقف العظيم لرسول الله (ص) في قصة إسلام قبائل اليمن، وبالذات قصة إسلام سفانة وأخيها، لاضطرنا ذلك على إعادة قراءته والوقوف عند كل فعل بل عند كل كلمة لرسول الله (ص)، فسنجد فيها قدرةً فائقةً وحكمةً عاليةً عالج فيها كل ما كانت عليه تلك القبائل، ليحقق ما كان تريده السماء وهو هدايتهم.

وقد استطاع أن يحدث تغييراً يعد أصعب أنواع التغيير، وهو تغيير ما كانوا يعتقدونه من معتقدات باطلة، لكنها رسخت في أنفسهم وسلوكهم، وما يترتب على هذا من تبديل لوضعهم الاجتماعي، ولعلاقاتهم المتأزمة والمصبوغة بالدماء والثارات لفترات طويلة جداً، وبأسلوب يتسم بالمهارة والإتقان، وهي مهارة مهمة يحتاجها صناع التأثير.

تأمل ما ذكرته باختصار عن تلك القبائل وعن كيفية إسلامها وموقف رسول الله (ص) فستجد مدى القدرات التي كان يتمتع بها نبي الرحمة محمد (ص). وتعال معي أيضاً للقصة التالية، فستجد درساً آخر يحكي خلق النبي (ص) وحكمته في تبليغ دعوة ربه، وتسويق ما أمره الله به، يظهر هذا مع عدي بن حاتم الطائي ومن قبله أخته سفانة، التي أسلمت وحسن إسلامها .. ويضع الباحث يده على دروس تربوية عديدة في كل هذا.

عدي الهارب من الله ورسوله!

فلا بد لنا أولًا من أن ننصت لعدي وهو يحدثنا عن موقفه من رسول الله (ص) قبل إسلامه على المستوى النفسي، وعن وضعه الديني

ص: 200

والاجتماعي، حيث يقول: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله (ص) حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرئاً شريفاً، وكنت نصرانياً، وكنت أسير في قومي بالمرباع" أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم" فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكاً في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله (ص) كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعياً لإبلي: لا أباً لك، أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللًا سماناً، فاحتبسها قريباً مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل.

ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي! ما كنت صانعاً إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد؛ قال: فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية" ويقال الحوشية وهي جبل للضباب قرب صرية من أرض نجد"، وخلفت بنتاً لحاتم في الحاضر" وهي سفانة كما رجحه السهيلي إذ لا يعرف له بنت غيرها، والحاضر: الحي"، فلما قدمت الشام أقمت بها.

واستمر عدي يحدثنا قائلًا: وتخالفني خيل لرسول الله (ص) فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله (ص) في سبايا من طي ء، وقد بلغ رسول الله (ص) هربي إلى الشام، فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسن فيها.

ص: 201

سفانة في الأسر:

فبعد أن وقعت أسيرةً في جيش علي بن أبي طالب (ع) عند ما غزا طيئاً في ربيع الآخر من السنة التاسعة هجرية في جند قوامهم مائة فارس ولتخريب قرية «فلس» فحمل علي (ع) على أرض حاتم وعادوا بغنائم وسبايا، ولكن وقبل أن يأمر بقتال أهلها، قال لهم: «قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم».

فقالت النساء لسفانة: إنهم يرثون النساء كما تورث الإبل؛ فقالت سفانة: كيف؟ قال النساء: لأنها لا ترث شيئاً من أموال الأهل؛ قالت سفانة: هل يمضون بي سبياً؟ لو فعلوا ذلك لقتلت نفسي، فقالت لها إحدى النسوة: من يدخل الإسلام لا يؤخذ سبياً، ألم تسمعي ابن أبي طالب (ع) يقول: «قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم»؟

وارتفع صوت علي بن أبي طالب: الأسر، الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع، وأصابت خيل رسول الله (ص) ابنة حاتم في سبايا علي، فقدم بها على رسول الله (ص).

إسلام سفانة بنت حاتم الطائي ثم عدي:

وما زلنا مع عدي وهو يواصل حديثه: فمر بها النبي (ص)، فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله! هلك الوالد وغاب الوافد

ص: 202

فامنن عليَّ منَّ الله عليك؛ قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم؛ قال: الفار من الله ورسوله؟ قالت: ثم مضى رسول الله (ص) وتركني.

حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، حتى إذا كان بعد الغد مر بي وقد يئست منه، فأشار إلي رجل من خلفه أن قومي فكلميه.

فقمت إليه فقلت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن عليَّ منَّ الله عليك؛ وفي خبر: وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فإن رأيت أن تخلي عني، ولا تشمت بي أحياء العرب، فإن أبي سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فرده، أنا ابنة حاتم الطائي، فامنن عليَّ منَّ الله عليك.

فقال (ص): قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، وفي خبر: ثم قال لأصحابه: خلوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق.

فسألت عن الرجل الذي كان أشار إلى أن أكلمه فقيل: علي بن أبي طالب (ع) وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام؛ قالت: فجئت رسول الله (ص) فقلت: يارسول الله، قد قدم رهط من قومي، لي فيهم ثقة وبلاغ؛ قالت: فكساني رسول الله (ص)، وحملني، وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

ص: 203

وفي خبر: وأقامت سفانة حتى قدم رهط من قومها فيهم ثقة وبلاغ فقالت: يا رسول الله، قدم رهط من قومي فيهم ثقة وبلاغ، فمنَّ عليها بالحرية، وأعطاها عطاءاً جزيلًا، وكساها، وأعطاها نفقة، وحملها على بعير.

فقالت سفانة: شكرتك يد افتقرت بعد غنى، ولا ملكتك يد اغتنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلب نعمة كريم إلا وجعلك سبباً لردها عليه.

وخرجت سفانة مع الرهط حتى قدمت الشام، وبينما عدي بن حاتم- الذي كان يدين بالمسيحية يومذاك، و قد فرّ إلى الشام- قاعد في أهله فنظر إلى ظعينة" امرأة في هودج" تصوب إليه.. ولنترك عدياً يحدثنا بلسانه عن المقطع هذا من حياته، قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلي تؤمنا، فقلت: ابنة حاتم؟ فإذا هي هي، فلما وقفت علي انسحلت" أخذت في اللوم ومضت فيه مجدةً" تقول: القاطع الظالم، احتملت أو فررت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك، عورتك! قلت: أي اخية، لا تقولي إلّا خيراً، فوالله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت.

ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها، وكانت امرأةً حازمةً: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟" يعني رسول الله (ص)" قالت: أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت، قلت: والله إنّ هذا الرأي.

ص: 204

وفي خبر: قالت سفانة: لقد فعلت فعلة لو كان أبوك موجوداً لفعلها، ابتدر راغباً أو راهباً، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فقال عدي: إني لأرجو الله أن يجعل يدي في يده.

يقول عدي: فخرجت حتى أقدم على رسول الله (ص) المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟

فقلت: عدي بن حاتم، جئت من نفسي بلا أمان أو كتاب؛ فقام رسول الله (ص) فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه، إذ لقيته أمرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها.

قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.

ثم مضى بي رسول الله (ص) حتى إذا دخل بي في بيته، تناول وسادةً من أدم محشوة ليفاً فقذفها إلي فقال: «اجلس على هذه».

قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت»، فجلست عليها، و جلس رسول الله (ص) بالأرض.

قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم، ألم تك ركوسياً؟" من الركوسية وهم قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين"؛ قلت: بلى؛ قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قلت: بلى؛ قال: «فإنّ ذلك لم يكن يحل لك في دينك»؛ قلت: أجل والله.

وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يُجهل.

ثم قال (ص): «لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال يفيض فيهم حتى لا يوجد من

ص: 205

يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم! فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف إلا الله، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم».

قلت: فأسلمت.

وفي خبر: ثم قال رسول الله (ص) لعدي: «ما يُفِرُّك! أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله»؟!

فقال: لا، ثم قال رسول الله (ص): «إنما تفر أن يقال: الله أكبر، وهل تعلم شيئاً أكبر من الله»؟!

فقال: لا، فقال رسول الله (ص): «فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون».

فقال عدي: إني حنيف مسلم، فانبسط وجه رسول الله (ص)، ثم وكل به رجلًا من الأنصار فنزل عنده.

وكان عدي يقول: قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت، وأيم الله لتكونن الثالثة، ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه. (1)


1- السيرة النبوية لابن هشام 224: 4- 228؛ تاريخ الطبري 186: 2- 188؛ مختصر تاريخ دمشق 297: 16- 298؛ وأسد الغابة والطبقات.

ص: 206

شي ء من حياة عدي:

عاش هذا الصحابي الجليل عدي بن حاتم رضوان الله عليه مأة وثمانين سنة ودفن في قرقيسياء وهي بلد على نهر الخابور، قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ، وعندها مصب الخابور في الفرات كما جاء في إحدى روايتين ذكرهما صاحب مختصر دمشق في ترجمته، فيما ذكر في الرواية الأولى أنه توفي في الكوفة زمن المختار الثقفي الذي كانت حكومته على الكوفة (18) شهراً، وهي من ربيع الأول سنة (66 ه-) إلى النصف من شهر رمضان سنة (67 ه-) وعدي حسب هذه الرواية ابن عشرين ومأة سنة، إذ كانت وفاته بين سنة (66- 67 ه-)، وهو ما ذكره بعض المؤرّخين؛ لهذا قد تكون ولادته ما بين سنة (52) و (54) قبل الهجرة النبويَّة المباركة، إن أخذنا برواية عمره 120 سنة ويبدو أنها المعتبرة، وأن عمره حين أسلم ستون سنة أو تزيد قليلًا، فكان مسلماً مؤمناً مجاهداً متبعاً للحق وأهله لم ينكص ولم يبدل ولم يغير حتى لحق بركب الخالدين .. بعد أن كان قبل البعثة النبوية و بعد الهجرة النبوية حتى السنة التاسعة هجرية- كما ذكرنا- على دين النصرانية أو الركوسية، وهو دين بين النصرانية والصابئية، لكنه لم يكن وثنياً، وكانت له زعامة قومه ورئاستهم، وقد احتواه الخلُق النبوي فجعله يدخل الإسلام ويعتنقه بصدق ووعي وبصيرة.

من صفاته:

وكان عدي بن حاتم رجلًا، جسيماً، شجاعاً، مقاتلًا، حتى ذهبت إحدى عينيه في معركة الجمل، وذهبت الأخرى في وقعة صفين، ويبدو أن

ص: 207

ذهاب العين لم يكن كاملًا، لأن عدياً اشترك في معركة النهروان، وعاصر ما بعدها من الأحداث، صحيح أن العور لغةً ذهاب بصرها، لكن هناك من يقول: إنّ العرب يعبِرون عن انقلاب الجفن، وما شابهه من العيوب التي تُصيب العين ولا تذهب بالبصر كلّه، ب- (العور).

كما كان أديباً شاعراً ذا حكمة، ملئت ترجمته في كل المصادر بأدبه الذي سطره شعراً ونثراً عبر مواقف شجاعة وجريئة قل نظيرها وهو ما سنراه في وقعة صفين وغيرها.

كريم من بيت كريم:

وكان قد ولد ونشأ وسط بيت يشخص فيه والده الذي ضرب مثلًا رائعاً في الكرم والجود، إما أن يكون وحيداً فيه أو كان أحد كرام ثلاثة؛ تزوج حاتم النوار التي طالما كانت تلومه على كرمه، فتزوج ماوية بنت عفزر، من بنات ملوك اليمن، وكانت تحب الكرم وتوقر الكرماء، فأنجبت له عدياً.

وقد تركت صفات الأب بصماتها على عدي، حتى ورث تلك الخصال الحميدة عن أبيه، الذي روى فيه الإمام الرضا (ع) كما في المستدرك: «أن رسول الله (ص) قال لعدي: دفع عن أبيك العذاب لسخاوة نفسه، أو رفع عن أبيك العذاب بسخاوة نفسه».

عن عدي أنه قال: «لما دخل على رسول الله (ص) ألقى إليه وسادة، فجلس على الأرض، فقال: أشهد أني لا أبتغي في الأرض علواً ولا فساداً، قال: فأسلم، قال رسول الله (ص): إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه».

ص: 208

يقول عدي: كان أبي يقول: ما بدأت أحداً بشر، ولا تذمرت على جار لي، ولا سألني أحد شيئاً فرددته.

ونشأ على تلك المكارم التي هذبها له الإسلام، فكانت على أجمل ما تكون.

وفي ذلك يقول الشاعر:

شابه حاتماً عدي في الكَرم ومن يشابِه أبه فما ظلَم

إذن كان عدي طيباً سمحاً جواداً كريماً كأبيه، وهذه ألوان من جوده وكرمه:

- أنه سمع رجلًا من الأعراب يقول: يا قوم، تصدقوا على شيخ معيل، وعابرِ سبيل، شهِد له ظاهره، وسمع شكواه خالقه، بدنه مطلوب، وثوبه مسلوب.

فقال له عدي: من أنت؟

قال: رجل من بني سعد، في دية لزمتني.

قال: فكم هي؟

قال: مأة بعير.

قال عدي: دونكَها في بطن الوادي.

- أرسل الأشعث بن قيس إلى عدي يستعير منه قدورحاتم أبيه، فأمر بها عدي فملئت، وحملها الرجال إلى الأشعث، فأرسل الأشعث إليه: إنما أردناها فارغة، فأرسل إليه عدي: إنا لا نعيرها فارغةً.

ص: 209

- ولطالما كان عدي يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن لجارات، ولهن حق.

- وقد خطب عمرو بن حريث إلى عدي بن حاتم، فقال: لا أزوجك إلّا على حكمي، فرجع عمرو وقال: امرأة من قريش على أربعة آلاف درهم أعجب إلي من امرأة من طي ء على حكم أبيها؛ فرجع، ثم أبت نفسه، فرجع إليه، فقال: على حكمي؟ قال: نعم؛ فرجع عمرو بن حريث، فلم ينم ليلته مخافة أن يحكم عليه بما لا يطيق، فلما أصبح، بعث إليه أن عرفني ما حكمت به علي؟ فأرسل إليه: إني حكمت بأربع مأة درهم وثمانين درهماً سنة رسول الله (ص)؛ وفي رواية: مهر عائشة، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكسوة، فردها وفرق الثياب في جلسائه وقال من الطويل:

يرى ابن حريث أن همي ماله وما كنت موصوفاً بحب الدراهم

و قالت قريش: لا تحكمه إنه على كل حال عدي بن حاتم

فيذهب منك المال أول وهلة وحمامها والنخل ذات الكمائم

فقلت: معاذ الله من ترك سنة جرت من رسول الله والله عاصمي

وقلت: معاذ من سوء سنة تحدثها الركبان أهل المواسم

- وفي سماحته وصبره على الأذى؛ ذكروا أنه أخذ رجل بلجام عدي بن حاتم فقال له: أتفخر بأبيك وهو جمر في النار؟! وتفخر على قومك بأن تجلس على وطاء دونهم؟! وذكر أشياء تقصر به، وهو واقف لا يحرك بغلته، فقال له لما سكت: إن كان بقي عندك شي ء تريد أن تذكره فافعل قبل أن يأتي شباب الحي، فإنهم إن سمعوك تقول هذا لشيخهم لم يرضوا.

ص: 210

وله أقوال جميلة منها:

- ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلّا وأنا على وضوء.

- وما جاء وقت صلاة قط إلّا وقد أخذت لها أهبتها، وما جاءت إلّا وأنا إليها بالأشواق.

- لسان المرء ترجمان عقله.

- ولما طلبوا منه أن يخبرهم عن السيد الشريف؟ قال: هو الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، الطارح لحقده، المعنى بأمر عامته.

- ولما قالوا له: أي الأشياء أثقل عليك؟ قال: تجربة الصديق، ومسلة (أي مسألة) اللئيم، و رد سائلي بلا نيل.

- ثم قيل له: فأي الأشياء أوضع للرجال؟ قال: كره الإسلام، وإضاعة الأسرار، والثقة بكل أحد؛ كان أبي يقول: ما بدأت أحداً بشر، ولا تذمرت على جار لي، ولا سألني أحد شيئاً فرددته.

إنّ معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وإنّ منكركم اليوم معروف زمان ما أتى، وإنكم لن تبرحوا بخير ما دمتم تعرفون ما كنتم تنكرون، ولا تنكرون ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير مستخف.

وقد ذكروا أنه قال حين قتل عثمان: لا ينتطح في قتله عنزان، فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل له: لا ينتطح في قتل عثمان عنزان! قال: بلى، وتفقأ عيون كثيرة؛ وإنما فقئت عينه يوم الجمل، ولهذا لما خرج الناس يقولون قتل عثمان: قال عدي: لا تحبق في قتله عناق حولية، فلما كان يوم الجمل فقئت عينه، وقتل ابنه محمد مع علي، وقتل ابنه الآخر مع الخوارج،

ص: 211

فقيل له: يا أبا طريف، هل حبقت في قتل عثمان عنلق حولية؟ فقال: بلى وربك، والتيس الأعظم.

وقول عدي هذا يضرب للأمر الذي لا يعبأ به، لا غير له ولا يدرك به ثأر، أو لا يكون له تغيير ولا نكير، أو لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان، وهو إشارة إلى قضية لا يجري فيها خلف و نزاع. (1)

من مروياته:

عدي وآية الصيام:

لما نزلت هذه الآية: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ. (2) قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم من الليل فلا أستبين الأسود والأبيض، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله (ص) فأخبرته، فضحك وقال: «إن كان وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل».

قال عدي: أتيت رسول الله (ص) وفي عنقي صليب من ذهب.

فقال (ص) لي: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك»، قال: فطرحته، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: إتَّخَذُوا


1- مستدرك الوسائل ح 7514؛ بحار الأنوار وفقه الإمام الرضا ع؛ هامش الصفحة 302- 303 من مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور 16 وفيه مصادر هذا المثل.
2- سورة البقرة: 187.

ص: 212

أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ... (1) حتى فرغ منها، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم.

فقال (ص): «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟» قال: فقلت: بلى، قال (ص): فتلك عبادتهم».

عنه عن النبي (ص): قال: قال رسول الله (ص): «يؤمر يوم القيامة بناس من الناس إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ونظروا إليها واستنشقوا رائحتها وإلى ما أعد الله لأهلها، نودوا أن اصرفوهم لا نصيب لهم فيها، قال: فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون بمثلها، قال: فيقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك، وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا، قال: ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مختبئين (أو مخبتين) تراؤن الناس بخلاف ما تعطوني من قلوبكم، هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتهم الناس ولم تجلوني، وتركتم للناس ولم تتركوا لي، فاليوم أذيقكم أليم العذاب مع ما حرمتكم من الثواب».

وعنه عن رسول الله (ص) أنه قال: «كلكم يناجي ربه ليس بينه وبينه ترجمان، ينظر إلى أيمنه فيرى عمله، ثم ينظر أمامه فيرى النار، ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة».

وعنه قال: أتيت رسول الله (ص) فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر ثم سألوه فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنّ أحدكم ملاقي الله فقائل ما أقول ألم أجعلك سميعاً بصيراً؟ ألم أجعل لك مالًا وولداً؟ فماذا قدمت؟ فينظر بين يديه


1- سورة التوبة: 31.

ص: 213

ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئاً، فلا يتقي النار إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة».

وعنه أيضاً، قال: ما دخلت على النبي (ص) إلا توسع لي، أو قال: تحرك لي، فدخلت عليه ذات يوم وهو في بيت مملوء من أصحابه، فلما رآني توسع لي حتى جلست إلى جانبه.

وفي الصيد الذي كان مولعاً به وصاحب كلاب وجوارح قرأت له ست روايات، أكتفي بواحدة: قال:- سألت رسول الله (ص) فقلت:- إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب، فقال (ص): «إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك، إلّا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فاني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، فإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل». (1) حواره مع ابن الزبير ومعاوية:

وذكر له موقف مع ابن الزبير ثم معاوية، كما ورد في مختصر تاريخ دمشق حين استأذن على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير، فقال له عبدالله: بلغني يا أميرالمؤمنين أن عند هذا الأعور جواباً، فلو شئت هجته. فقال: أما أنا فلا أفعل، ولكن دونكاه إن بدا لك، فلما دخل عدي قال له عبدالله بن الزبير: في أي يوم فقئت عينك يا أبا طريف؟


1- مختصر تاريخ دمشق 16 ترجمته: وهامش الصفحة 267- 303- 304؛ حلية الأولياء لأبي نعيم 4- 7- 8 عدي بن حاتم.

ص: 214

فقال له: في اليوم الذي قتل فيه أبوك، وكشفت فيه إستك، ولطم فيه على قفاك، وفي رواية وضربت على قفاك، وأنت مهزوم.

وفي رواية: يا أبا طريف متى ذهبت عينك؟

قال: يوم فر أبوك منهزماً فقتل، وضربت على قفاك وأنت هارب، وأنا مع الحق وأنت مع الباطل.

فضحك معاوية وقال له: ما فعلت الطرفات؟ وهم- طريف وطرفة ومطرف طريف- قال: قتلوا، قال: ما أنصفك ابن أبي طالب أن قتل بنوك معه وبقي له بنوه، قال: إن كان ذلك، لقد قتل وبقيت أنا من بعده.

وفي رواية أخرى وبحضور عمرو بن العاص، قال له معاوية: ما فعل الطرفات؟ ويعني طريفاً وطرافاً وطرفةً أبناؤه.

قال: قتلوا مع أمير المؤمنين (ع).

فقال له: ما أنصفك علي، إذ قدم أبناءك وأخر أبناءه!

قال: بل أنا ما أنصفته؛ قتل وبقيت بعده!

فقال معاوية: أما إنه قد بقيت قطرة من دم عثمان مالها إلّا كذا، و أومى بيده إليه.

فقال له عدي: إنّ السيوف التي أغمدت على حسك في الصدور، و لعلك تسل سيفاً تسل سيوف.

فالتفت معاوية إلى ابن العاص، فقال: كلمة شدها في قرنك.

ثم خرج عدي وهو يقول:

ص: 215

يحاولني معاوية بن صخر وليس إلى التي يبغي سبيل

يذكرني أبا حسن علياً وخطبي في أبي حسن جليل

يكاشرني ويعلم أن طرفي على تلك التي أخفى دليل

ويزعم أننا قوم طغام حراريون ليس لنا عقول

وقال ابن الوليد وقال عمرو عدي بعد صفين ذليل

فقلت صدقتما قد هد ركني وفارقني الذين بهم أصول

ولكني على ما كان مني أخبر صاحبي بما أقول

وإن أخاكما في كل يوم من الأيام محمله ثقيل

قال له معاوية: أليس زعمت أنه لا تحبق في قتل عثمان عنز؟ قال: قد والله حبق فيه التيس الأكبر، قال معاوية: إلا أنه قد بقي من دمه قطرة ولا بد أن اتتبعها، قال عدي: لا أبا لك شم السيف يسل السيف، فالتفت معاوية إلى حبيب بن مسلمة فقال: اجعلها في كنانتك فإنها حكمة.

ولما أسن استأذن قومه في وطاء (خلاف الغطاء، ما انخفض من الأرض) يجلس فيه في ناديهم وقال: إني أكره أن يظن أحدكم أني أرى أن لي عليه فضلًا، ولكني قد كبرت ورق عظمي، فقالوا: انتظر، فلما أبطأوا عليه أنشأ يقول من الوافر:

أجيبوا يا بني ثعل بن عمرو ولاتكموا الجواب من الحياء

فإني قد كبرت ورق عظمي وقل اللحم من بعد النقاء

وأصبحت الغداة أريد شيئاً يقيني الأرض من برد الشتاء

وطاءً يا بني ثعل بن عمرو وليس لشيخكم غير الوطاء

فإن ترضوا به فسرور راض وإن تأبوا فإني ذو إباء

ص: 216

سأترك ما أردت لما أردتم وردك من عصاك من العناء

لأني من مساءتكم بعيد كبعد الأرض من بعد السماء

وإني لا أكون لغير قومي وليس الدلو إلا بالرشاء

فأذنوا له أن يبسط في ناديهم، وطابت به أنفسهم، وقالوا: أنت شيخنا وسيدنا، وما فينا أحد يكره ذلك ولا يدفعه. (1)

عدي وأهل البيت (هم):

كان عدي بن حاتم على جانب عظيم من الوثاقة، ومن خلص أصحاب أميرالمؤمنين (ع)، وقد كان حاضراً في كل مواقعه ضد الناكثين والقاسطين والمارقين، ومن بعده مع الإمام الحسن (ع).

وكانت له مواقف مشرفة، وكلمات صادقة، وقصائد رائعة تحكي مدى إيمانه بالله تعالى ورسوله (ص) ومودته لأهل البيت (هم)، وثباته على مبدئه الحق بوعي وبصيرة.

وكان ممن اعتقدوا ورووا أنّ الأئمة بعد النبي (ص) اثنا عشر إماماً، كلهم من قريش.

وفي مناشدة أميرالمؤمنين (ع) حين قال: «أُنشد الله من شهد يوم غديرخم إلا قام، ولا يقوم رجل يقول نبئت أو بلغني، إلا رجل سمِعت أذناه، ووعاه قلبه.


1- المحاسن والمساوئ: 33؛ الدرجات الرفيعة: 360؛ مختصر تاريخ دمشق 16 ترجمته؛ أعيان الشيعة: 41.

ص: 217

فقام سبعة عشر رجلًا، وكان منهم عدي بن حاتم.

فقال أميرالمؤمنين (ع): «هاتوا ما سمعتم».

فنقلوا واقعة الغدير حتى انتهوا إلى القول: ثم أخذ (ص) بيدك يا أميرالمؤمنين، فرفعها وقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه، أللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

فقال علي (ع): «صدقتم، وأنا على ذلك من الشاهدين».

وقد ذكر بعضهم عدياً بأشعاره فيمن فاز بولائه ومودته لعلي (ع) ومنهم طلبة بن قيس بن عاصم المنقري:

إذا فاز دوني بالمودة مالك وصاحبه الأدنى عدي بن حاتم

وفاز بها دوني شريح بن هانئ ففيم ننادي للأمور العظائم

ولو قيل من يفدي عليا فديته بنفسك ياطلب بن قيس بن عاصم

لقلت نعم تفديه نفس شحيحة ونفدي بسعد كلها حي هاشم

وأيضاً لأيمن بن خريم بن فاتك وقد اعتزل علياً (ع) ومعاوية شعر يذكر عدياً فيه، و دوره في وقعة صفين:

أما والذي أرسى ثبيراً مكانه وأنزل ذا الفرقان في ليلةالقدر

لئن عطفت خيل العراق عليكم ولله لا للناس عاقبة الأمر

تقحمها قدماً عدي بن حاتم و الاشتر يهدى الخيل في وضح الفجر

(1)


1- أعيان الشيعة للعاملي، ترجمة عدي؛ كتاب الاحتجاج، للطبرسي؛ وقعة صفين، لابن مزاحم: 503- 553- 554.

ص: 218

ما قيل فيه:

إضافةً إلى ما مرّ علينا من مدح له، فقد ورد فيه العديد من الأقوال، وهي تحمل ثناءاً عليه وتكريماً له:

في أسد الغابة عن ابن عباس أنّ رسول الله (ص) أربعة سادة في الإسلام، بشر بن هلال العبدي، وعدي بن حاتم، وسراقة بن المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي.

وكان منها ما ذكروه في استنقاذه من ارتد من طي ء بعد وفاة رسول الله (ص)، فكان خير مولود ولد في طي ء، وأعظمه عليهم بركةً؛ فمن تلك الخيرية، وهذه البركة، و مما أضيف إليهما من مواقفه المتصفة بالإيمان والشجاعة والمروءة والوفاء والصدق والكرم والتسامح، وما قدمه للمسلمين؛ فقد كان لصدقاته التي جاء بها من قومه بعد إسلامه دور ظل يذكر له .. جاءت أوصافهم له وأقوالهم فيه:

استأذن عدي على عمر فقال له: تعرفني؟ قال عمر: نعم، فحباك الله أحسن المعرفة، أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأعطيت إذ منعوا.

و في حديث آخر: وأقبلت إذ أدبروا، فقال: حسبي يا أميرالمؤمنين حسبي.

وعنه قال: أتيت عمر بن الخطاب في أناس من قومي، فجعل يفرض للرجل من طي ء في ألفين ويعرض عني، قال: فاستقبلته فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه فأعرض عني؛ فقلت: يا أميرالمؤمنين! أتعرفني؟ قال: فضحك حتى استلقى لقفاه، ثم قال: نعم والله إني لأعرفك،

ص: 219

آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإنّ أول صدقة بيضت وجه رسول الله (ص) و وجوه أصحابه صدقة طي ء، جئت بها إلى رسول الله (ص)، ثم أخذ يعتذر ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة وهو سادة عشائرهم لما ينوبهم من الحقوق.

وعن نابل مولى عثمان بن عفان وحاجبه قال: جاء عدي بن حاتم إلى باب عثمان وأنا عليه فنحيته عنه، فلما خرج عثمان إلى الظهر عرض له، فلما رآه عثمان رحب به وانبسط إليه، فقال عدي: انتهيت إلى بابك وقد غم آذنك الناس عنك؛ فالتفت إلي عثمان فانتهرني وقال: لا تحجبه واجعله أول من تدخله، فلعمري إنا لنعرف له حقه وفضله، و رأي الخليفتين فيه وفي قومه، فقد جاءنا بالصدقة يسوقها، والبلاد تضطرم كأنها شعل النار من أهل الردة، فحمده المسلمون على ما رأوا منه.

وقد وصفه ابن عبد البر بأنه: كان سيداً شريفاً في قومه، فاضلًا، كريماً، خطيباً، حاضر الجواب.

وقال فيه ابن كثير: كان حاتم جواداً ممدحاً في الجاهلية، وكذلك ابنه في الإسلام.

وقال ابن حجر العسقلاني يعرفه: ولد الجواد المشهور، أبو طَريف، وكان جواداً.

وقال ابن الأثير: وكان جواداً، شريفاً في قومه، معظماً عندهم، وعند غيرهم.

ص: 220

وقال الزركلي: عدي بن حاتم أمير، صحابي، من الأجواد العقَلاء، كان رئيس طَي ء في الجاهلية والإسلام.

عدي وعلماء الرجال:

حظي عدي بمنزلة رفيعة عند علماء الرجال:

فقد عده الشيخ في رجاله (تارةً) من أصحاب رسول الله (ص) (وأخرى) من أصحاب علي (ع)، وعده من السابقين الذين رجعوا الى أميرالمؤمنين (ع)، وروى عنه.

وذكر الفضل بن شاذان في ترجمة البراء بن مالك: أنه من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين، وقد عد ستة عشر صحابياً كان عدي واحداً منهم.

وانظر فقرة" شهد معركة الجمل" التالية ما جاء عنه في ترجمة عبدالله بن خليفة الطائي من معجم رجال الحديث. (1) شهد معركة الجمل:

لعدي وقبيلته طي ء مواقف كبيرة في هذه الوقعة، ومنها: أنه استنفر قومه لنصرة الإمام علي (ع)، ذلك حين قام إلى الإمام علي (ع) وهو يعد العدة للذهاب إلى البصرة لملاقاة ما أعده طلحة والزبير، فقال: يا أميرالمؤمنين، لو تقدمت إلى قومي أخبرهم بمسيرك وأستنفرهم، فإن لك من


1- معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 12: رقم 7661، 4: رقم 1662.

ص: 221

طي ء مثل الذي معك، فقال علي: نعم، فافعل، فتقدم عدي إلى قومه، فاجتمعت إليه رؤساء طي ء، فقال لهم: يا معشر طي ء، إنكم أمسكتم عن حرب رسول الله (ص) في الشرك، ونصرتم الله ورسوله في الإسلام على الردة، وعلي قادم عليكم، وقد ضمنت له مثل عدة من معه منكم، فخفوا معه، وقد كنتم تقاتلون في الجاهلية على الدنيا، فقاتلوا في الإسلام على الآخرة، فإن أردتم الدنيا فعند الله مغانم كثيرة، وأنا أدعوكم إلى الدنيا والآخرة، وقد ضمنت عنكم الوفاء، وباهيت بكم الناس، فأجيبوا قولي، فإنكم أعز العرب داراً، لكم فضل معاشكم وخيلكم، فاجعلوا أفضل المعاش للعيال وفضول الخيل للجهاد، وقد أظلكم علي والناس معه من المهاجرين والبدريين والأنصار، فكونوا أكثرهم عدداً، فإنّ هذا سبيل للحي فيه الغنى والسرور، وللقتيل فيه الحياة والرزق، فصاحت طي ء: نعم، نعم، حتى كاد أن يصم من صياحهم؛ فلما قدم على طي ء أقبل شيخ من طي ء قد هرم من الكبر، فرفع له من حاجبيه، فنظر إلى علي (ع) فقال له: أنت ابن أبي طالب؟ قال: نعم، قال: مرحباً بك وأهلًا، قد جعلناك بيننا وبين الله، وعدياً بيننا وبينك، ونحن بينه وبين الناس، لو أتيتنا غير مبايعين لك لنصرناك، لقرابتك من رسول الله (ص)، وأيامك الصالحة، ولئن كان ما يقال فيك من الخير حقاً إن في أمرك وأمر قريش لعجباً، إذ أخرجوك وقدموا غيرك؛ سر، فوالله لا يتخلف عنك من طي ء إلّا عبد أو دعي إلّا بإذنك؛ فشخص معه من طي ء ثلاثة عشر آلاف راكب؛ وفي مروج الذهب ستمأة راكب؛ وما أن رأى زفر بن زيد بن حذيفة الأسدي، وكان من سادة بني أسد موقف عدي هذا وما

ص: 222

كان من استجابة قومه طي ء حتى بادر قائلًا: يا أميرالمؤمنين، إنّ طيئاً إخواننا وجيراننا قد أجابوا عدياً، ولي في قومي طاعة، فأذن لي فآتهم؛ قال: نعم، فأتاهم فجمعهم وقال: يا بني أسد، إنّ عدي بن حاتم ضمن لعلي قومه فأجابوه، وقضوا عنه ذمامه، فلم يعتل الغني بالغني، ولا الفقير بالفقير، و واسى بعضهم بعضاً، حتى كأنهم المهاجرون في الهجرة، والأنصار في الأثرة، وهم جيرانكم في الديار، وخلطاؤكم في الأموال، فأنشدكم الله لا يقول الناس غداً: نصرت طي ء وخذلت بنو أسد، وإن الجار يقاس بالجار، كالنعل بالنعل، فإن خفتم فتوسعوا في بلادهم، وانضموا إلى جبلهم، وهذه دعوة لها ثواب من الله في الدنيا والآخرة، فقام إليه رجل منهم، فقال له: يا زفر، إنك كعدي، ولا أسد كطي ء، ارتدت العرب، فثبتت طي ء على الإسلام، وجاد عدي بالصدقة، وقاتل بقومه قومك، فوالله لو نفرت طي ء بأجمعها لمنعت رعاؤها دارها، ولو أن معنا أضعافنا لخفنا على دارنا، فإن كان يرضيك قدر ما يرد عنا عذر الخذلان، وإثم المعصية، فلك ذلك منا، فسار معه من أسد جماعة ليس كجماعة طي ء، حتى قدم بها على علي. (1)

ولما توجه الإمام أميرالمؤمنين (ع) من المدينة المنورة إلى الناكثين بالبصرة لقيه بعد الربذة عبد الله بن خليفة وإذ هم يتحدثان أقبل سواد كبير من قبل جبال طي، فقال أميرالمؤمنين (ع): أنظروا ما هذا السواد؟ فذهبت الخيل تركض، فلم تلبث أن رجع فقيل هذه طي قد جاءتك تسوق الغنم والإبل والخيل، فمنهم من جاءك بهداياه وكرامته، ومنهم من يريد النفوذ


1- الإمامة والسياسة تاريخ الخلفاء لابن قتيبة الدينوري 77: 1- 78.

ص: 223

معك إلى عدوك؛ فقال أميرالمؤمنين (ع): جزى الله طياً خيراً، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً.

فلما انتهوا إليه سلموا عليه، قال عبدالله بن خليفة: فسرني والله ما رأيت من جماعتهم وحسن هيئتهم، وتكلموا فأقروا والله لعيني ما رأيت خطيباً أبلغ من خطيبهم، وقام عدي بن حاتم الطائي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني كنت أسلمت على عهد رسول الله (ص) وأديت الزكاة على عهده، وقاتلت أهل الردة من بعده، أردت بذلك ما عند الله، وعلى الله ثواب من أحسن واتقى، وقد بلغنا أنّ رجالًا من أهل مكة نكثوا بيعتك وخالفوا عليك ظالمين، فأتيناك لنصرك بالحق، فنحن بين يديك، فمرنا بما أحببت، ثم أنشأ يقول:

فنحن نصرنا الله من قبل ذلكم وأنت بحق جئتنا فستنصر

فنكفيك دون الناس طراً بأسرنا وأنت به من سائر الناس أجدر

فقال أميرالمؤمنين (ع): جزاكم الله من حي عن الإسلام وأهله خيراً، فقد أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ونويتم نصر المسلمين ... وبرز عبد الله بن خليفة الطائي في جماعة من طي:

يا طي طي السهل والأجبال ألا اثبتوا بالبيض والعوالي

فقاتلوا أئمة الضلال

(1)


1- معجم رجال الحديث 11: رقم 9853، ترجمة عبدالله بن خليفة الطائي.

ص: 224

واحتل عدي مكانته القيادية في معركة الجمل حيث كان واحداً من الأمراء في معركة الجمل على خيل قضاعة ورجالتها، وله كلام جميل يدل على عظيم ولائه واستعداده والتزامه حين أقبل أميرالمؤمنين (ع) عليه وقال له: يا عدي! أنت شاهد لنا وحاضر معنا وما نحن فيه؟

فقال عدي: شهدتك أو غبت عنك فأنا عندما أحببت، هذه خيولنا معدة، و رماحنا محددة، و سيوفنا مجردة، فإن رأيت أن نتقدم تقدمنا، وإن رأيت أن نحجم أحجمنا، نحن طوع لأمرك، فأمر بما شئت، نسارع إلى امتثال أمرك.

وقد استشهد في هذه المعركة ابنه طريف، فيما فقئت عين عدي.

ونظر علي (ع) يوماً إلى عدي بن حاتم فوجده كئيباً حزيناً، فقال: ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ فقال: وما يمنعني يا أميرالمؤمنين! وقد قتل ابني وفقئت عيني؟ فقال: يا عدي، إنه من رضي بقضاء الله جزي عليه وكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جزي عليه وحبط عمله. (1) شهد معركة صفين:

كان ممن شهد صفين إلى جانب الإمام (ع) وجعله على قضاعة وطي ء، وإذا أخذنا بالرواية التي تنص على أنه توفي بين سنة 66- 67 هجرية، و أنّ عمره حين وفاته 120 سنة يكون عمره في صفين قد قارب التسعين سنة، ولم يكن تقدمه في العمر عائقاً عن أن يبالغ في مواقفه وخطبه


1- كتاب الجمل، للشيخ المفيد: 270- 367؛ مختصر تاريخ دمشق 293: 16- 305.

ص: 225

وأشعاره، حتى ظل في ولائه لعلي (ع) وفي شجاعته نموذجاً يذكره الآخرون له، ويستشهدون به، بل ويتمنونه.

مواقفه:

ومن مواقفه في صفين وقبل اندلاع المعركة كما جاء في قول نصر بن مزاحم في حديث صالح بن صدقة بإسناده قال: قام عدي بن حاتم إلى علي (ع) فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ عندي رجلًا من قومي لايجارى به، وهو يريد أن يزور ابن عم له، حابس بن سعد، (1) الطائي، بالشام- فلو أمرناه أن يلقى معاوية لعله أن يكسره ويكسر أهل الشام، فقال له علي: نعم، فمره بذلك- وكان اسم الرجل خفاف بن عبد الله- فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام، وكان حابس سيد طي ء فحدث خفاف حابساً أنه شهد عثمان بالمدينة، وسار مع علي إلى الكوفة؛ وكان لخفاف لسان وهيئة وشعر، فغدا حابس وخفاف إلى معاوية فقال حابس: هذا ابن عمي قدم الكوفة مع علي، وشهد عثمان بالمدينة، وهو ثقة؛ فقال له معاوية: هات يا أخا طي ء، حدثنا عن عثمان؛ قال: حصره المكشوح، وحكم فيه حكيم، ووليه محمد وعمار، وتجرد في أمره ثلاثة نفر: عدي بن حاتم، والأشتر النخعي، وعمرو بن الحمق، وجد في أمره رجلان، طلحة والزبير وأبرأ الناس منه علي.


1- حابس بن سعد، قيل كانت له صحبة، وقتل بصفين؛ تهذيب التهذيب 127: 2؛ و قال ابن دريد في الاشتقاق: 235 «كان على طي ء الشام مع معاوية، وقتل، وكان عمر ولاه قضاء مصر ثم عزله».

ص: 226

قال: ثم مه؟ قال: ثم تهافت الناس على علي بالبيعة تهافت الفراش، حتى ضلت النعل وسقط الرداء، ووطئ الشيخ، ولم يذكر عثمان ولم يذكر له، ثم تهيأ للمسير وخف معه المهاجرون والأنصار، وكره القتال معه ثلاثة نفر: سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، فلم يستكره أحداً، واستغنى بمن خف معه عمن ثقل. ثم سار حتى أتى جبل طي ء، فأتاه منا جماعة كان ضارباً بهم الناس، حتى إذا كان في بعض الطريق أتاه مسير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، فسرح رجالًا إلى الكوفة فأجابوا دعوته، فسار إلى البصرة فهي في كفه، ثم قدم إلى الكوفة، فحمل إليه الصبي، ودبت إليه العجوز، وخرجت إليه العروس فرحاً به، وشوقاً إليه، فتركته وليس همه إلّا الشام.

عن المحل بن خليفة قال: قام عدي بن حاتم الطائي بين يدي علي (ع) فحمد الله بما هو أهله وأثنى عليه، ثم قال: «يا أميرالمؤمنين، ما قلت إلّا بعلم، ولا دعوت إلّا إلى حق، ولا أمرت إلّا برشد، فإن رأيت أن تستأني هؤلاء القوم وتستديمهم حتى تأتيهم كتبك، ويقدم عليهم رسلك فعلت.

فإن يقبلوا يصيبوا ويرشدوا، والعافية أوسع لنا ولهم، وإن يتمادوا في الشقاق ولا ينزعوا عن الغي فسر إليهم، وقد قدمنا إليهم العذر ودعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق، فوالله لهم من الله أبعد، وعلى الله أهون،

ص: 227

من قوم قاتلناهم بناحية البصرة أمس، لما أجهد لهم الحق فتركوه، ناوخناهم براكاء القتال. (1) حتى بلغنا منهم ما نحب، وبلغ الله منهم رضاه فيما يرى».

فقام زيد بن حصين الطائي- وكان من أصحاب البرانس المجتهدين- فقال: ألحمد لله حتى يرضى، ولا إله إلّا الله ربنا، ومحمد رسول الله نبينا؛ أما بعد، فوالله لئن كنا في شك من قتال من خالفنا، لا يصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم ونستأنيهم، ما الأعمال إلّا في تباب، ولا السعي إلّا في ضلال، والله يقول: وَأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. إنا والله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يبتغون دمه، فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم، القليل في الإسلام حظهم، أعوان الظلم ومسددي أساس الجور والعدوان، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار، ولا التابعين بإحسان، فقام رجل من طي ء فقال: يا زيد بن حصين، أكلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن؟ قال: فقال زيد: ما أنتم بأعرف بحق عدي مني، ولكني لا أدع القول بالحق وإن سخط الناس.

فقال عدي بن حاتم: الطريق مشترك، والناس في الحق سواء، فمن اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى الذي عليه.

ثم تبعه أي عدي بن حاتم بلوائه وهو يقول:

أبعد عمار وبعد هاشم ابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء مثل حلم الحالم وقد عضضنا أمس بالأباهم


1- البراكاء، بضم الراء وفتحها: الابتراك في الحرب، وهو أن يجثو القوم على ركبهم. والمناوخة: مفاعله من النوخ، وهو البروك.

ص: 228

فاليوم لا نقرع سن نادم ليس امرؤ من يومه بسالم

حين كان عدي مع الأشتر النخعي وشريح بن هانئ على رأي واحد حين قاموا إلى علي (ع)، فتكلموا بلسان واحد وقالوا: إن الذين أشاروا عليك بالمقام، إنما خوفوك بحرب الشام، وليس في حربهم شي ء أخوف من الموت ونحن نريده.

وكان هذا لما استشار علي (ع) الناس، فأشاروا عليه بالمقام بالكوفة عامه ذلك، فيما كان من رأي علي (ع) كما هو قوله: «إن استعدادي لحرب أهل الشام، وجرير عندهم إغلاق للشام، وصرف لأهله عن خير إن أرادوه».

عدي في وفد إلى معاوية:

فعن المحل بن خليفة قال: لما توادع علي (ع) ومعاوية بصفين اختلفت الرسل فيما بينهما رجاء الصلح، فأرسل علي بن أبي طالب إلى معاوية عدي بن حاتم، وشبث بن ربعي، ويزيد بن قيس، وزياد بن خصفة، فدخلوا على معاوية، فحمد الله عدي بن حاتم وأثنى عليه ثم قال:

أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا، ويحقن الله به دماء المسلمين، وندعوك إلى أفضلها سابقة وأحسنها في الإسلام آثاراً، وقد اجتمع له الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا فأتوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل.

ص: 229

فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً ولم تأت مصلحاً، هيهات ياعدي كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشنان أما والله إنك لمن المجلبين علي ابن عفان، وأنت لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله هيهات يا عدي، قد حلبت بالساعد الأشد.

وفي وقعة من وقائع صفين، وقد احتدمت المنازعة حتى أكلت الكثير من الفريقين، أقبل بعدها عدي بن حاتم يطلب علياً في موضعه الذي خلفه فيه، فلم يجده، فسأل عنه، فدل عليه، فأقبل إليه، فقال: يا أميرالمؤمنين، أما إذ كنت حياً، فالأمر أمم" أي يسير وهين" واعلم أني ما مشيت إليك إلا على أشلاء القتلى، وما أبقى هذا اليوم لنا ولا لهم عميداً.

وكان عدي أكثر من صبر في تلك الساعة مع علي (ع). (1) الإمام علي (ع) يسره:

- ولما رأى عدي تثاقل جند الإمام علي (ع) عن مواصلة القتال في صفين، جاء يلتمس علياً، ما يطأ إلّا على إنسان ميت أو قدم أو ساعد، فوجده تحت رايات بكر بن وائل، فقال: يا أميرالمؤمنين، ألا نقوم حتى نموت؟ فقال علي (ع): ادنه، فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه فقال: ويحك، إنّ عامة من معي يعصيني، وإنّ معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه.

وقال عدي بن حاتم:

أقول لما أن رأيت المعمعه واجتمع الجندان وسط البلقعه

هذا علي والهدى حقاً معه يا رب فاحفظه ولا تضيعه

فإنه يخشاك ربي فارفعه ومن أراد عيبه (أو غيه) فضعضعه


1- الأخبار الطوال، للدينوري: 186.

ص: 230

- وفي وقعة من وقائع صفين، لما اختلط أمرهم حتى ترك أهل الرايات مراكزهم، وأقحم أهل الشام من آخر النهار، وتفرق الناس عن علي، فأتى ربيعة ليلًا فكان فيهم.

- وأقبل عدي بن حاتم يطلب علياً في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده، فطاف يطلبه، فأصابه في مصاف ربيعة فقال: «يا أميرالمؤمنين، أما إذ كنت حياً فالأمر أمم (أي قريب)، ما مشيت إليك إلّا على قتيل، وما أبقت هذه الوقعة لنا ولهم عميداً، فقاتل حتى يفتح الله عليك؛ فإنّ في القوم بقية بعد».

- ولعدي كلام جميل حين دخل الإمام علي (ع) على مصاف ربيعة قائلًا لهم: «أنتم درعي ورمحي» حتى راحت ربيعة تفخر بكلام علي (ع)، فقال عدي بن حاتم: يا أميرالمؤمنين، إنّ قوماً أنست بهم وكنت فيهم في هذه الجولة، لعظيم حقهم علينا، والله إنهم لصبر عند الموت، أشداء عند القتال.

وركب علي (ع) فرسه الذي كان لرسول الله، وكان يقال له: «المرتجز»، فركبه ثم تقدم أمام الصفوف ثم قال: بل البغلة بل البغلة. فقدمت له بغلة رسول الله (ص) «الشهباء»، فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله (ص) السوداء ثم نادى: «أيها الناس! من يشر نفسه لله يربح، هذا يوم له ما بعده، إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم» فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثنى عشر ألفاً قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم، وتقدمهم علي (ع) منقطعاً على بغلة رسول الله (ص) وهو يقول:

ص: 231

دبوا دبيب النمل لا تقوتوا وأصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا أولا فإني طالما عصيت

قد قلتم لو جئتنا، فجيت ليس لكم ما شئتم وشيت

بل ما يريد المحيى المميت

- وهنا تبعه عدي بن حاتم بلوائه وهو يقول:

أبعد عمار وبعد هاشم وابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء مثل حلم الحالم وقد عضضنا أمس بالأباهم

فاليوم لا نقرع سن نادم ليس امرؤ من يومه بسالم

وحمل الناس حملة واحدة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض، وأهمدوا ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية.

وعلي (ع) يضربهم بسيفه ويقول:

أضربهم ولا أرى معاويه الأخزر العين العظيم الحاويه

هوت به في النار أم هاويه

ص: 232

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، ...

قال الشني أبيات شعر في ذلك، نذكر منها بيتاً يبين دور عدي بن حاتم:

ورغبه فينا عدي بن حاتم بأمر جميل صدق القول والفعلا

(1) عدي ممن غم معاوية؟!

لقد قالها معاوية صراحة وجهاراً أنّ هناك أشخاصاً أدخلوا عليه الغم، وأربكوا عليه وضعه، فراح ينتدب لكل واحد منهم رجلًا من رجاله.

فعن عمر بن سعد قال: ولما تعاظمت الأمور على معاوية قبل قتل عبيدالله بن عمر بن الخطاب، دعا عمرو بن العاص، وبسر بن أرطاة وعبيدالله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فقال لهم: إنه قد غمني رجال من أصحاب علي، منهم سعيد بن قيس في همدان، والأشتر في قومه، والمرقال، وعدي بن حاتم، وقيس بن سعد في الأنصار، ... وقد عبأت لكل رجل منكم رجلًا منهم، فاجعلوا ذلك إلي؛ فقالوا: ذلك إليك؛ قال:.. وأنت يا عبد الرحمن بن خالد لأعور طي ء، يعني عدي بن حاتم.

عدي و ابن خالد:

وإنّ عبد الرحمن بن خالد غدا في اليوم الخامس، وكان أرجاهم عند معاوية أن ينال حاجته، فقواه معاوية بالخيل والسلاح، وكان معاوية


1- وقعة صفين: 403 406.

ص: 233

يعده ولداً، فلقيه عدي بن حاتم في حماة مذحج وقضاعة، فبرز عبد الرحمن أمام الخيل وهو يقول:

قل لعدي ذهب الوعيد أنا ابن سيف الله لا مزيد

... ثم حمل فطعن الناس، وقصده عدي بن حاتم، وسدد إليه الرمح، وهو يقول:

أرجو إلهي وأخاف ذنبي وليس شي ء مثل عفو ربي أو «ولست أرجو غير عفو ربي»

يا ابن الوليد بغضكم في قلبي كالهضب بل فوق قنان الهضب.

فلما كاد أن يخالطه بالرمح توارى عبد الرحمن في العجاج، واستتر بأسنة أصحابه، واختلط القوم، ورجع عبد الرحمن إلى معاوية مقهوراً، وانكسر معاوية.

ووقف معاوية أخيراً وقد جزع أهل الشام على قتلاهم فراح يسليهم بقوله:

... فأبشروا فإنّ الله قد قتل من القوم ثلاثة، قتل عمار بن ياسر وهو كان فتاهم، وقتل هاشماً وكان جمرتهم، وقتل ابن بديل وهو فاعل الأفاعيل، وبقى الأشعث والأشتر وعدي ابن حاتم؛ فأما الأشعث فحماه مصره، وأما الأشتر وعدي فغضبا للفتنة، والله قاتلهما غداً إن شاء الله.

موقف عدي من رفع المصاحف:

... فثار أهل الشام فنادوا في سواد الليل: ياأهل العراق، من لذرارينا إن قتلتمونا، ومن لذراريكم إن قتلناكم؟! الله الله في البقية؛ فأصبح

ص: 234

أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلدوها الخيل؛ والناس على الرايات قد اشتهوا ما دعوا إليه، ورفع مصحف دمشق الأعظم تحمله عشرة رجال على رؤوس الرماح، ونادوا: يا أهل العراق! كتاب الله بيننا وبينكم، وأقبل أبو الأعور السلمي على برذون أبيض وقد وضع المصحف على رأسه ينادي: يا أهل العراق! كتاب الله بيننا وبينكم، وهنا أقبل عدي بن حاتم فقال:

يا أميرالمؤمنين، إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلّا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم، وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلّا ما تحب، فناجز القوم.

فقام الأشتر النخعي فقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ معاوية لا خلف له من رجاله، ولك بحمد الله الخلف، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك، فاقرع الحديد بالحديد، واستعن بالله الحميد.

ثم قام عمرو بن الحمق فقال: يا أميرالمؤمنين، إنا والله ما أجبناك ولا نصرناك عصبية على الباطل، ولا أجبنا إلّا الله عزوجل، ولا طلبنا إلّا الحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لا ستشري فيه اللجاج، وطالت فيه النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس لنا معك رأي.

فقام الأشعث بن قيس مغضباً فقال: يا أميرالمؤمنين، إنا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوله، وما من القوم أحد أحنى على أهل العراق ولا أوتر لأهل الشام مني، فأجب القوم إلى كتاب الله، فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال.

ص: 235

فقال علي (ع): إنّ هذا أمر ينظر فيه.

وقد وقع الاختلاف في الموادعة:

لما عظم الأمر، واستحر القتال، وانطلقت الأقوال: إنّ هذه الحرب قد أكلتنا، وأذهبت الرجال، والرأي الموادعة؛ وقال بعضهم: لا بل نقاتلهم اليوم على ما قاتلناهم عليه أمس، وكانت الجماعة قد رضيت الموادعة، وجنحت إلى الصلح والمسالمة؛ فقام علي (ع) خطيباً فقال: «أيها الناس، إني لم أزل من أمري على ما أحب حتى قدحتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وهي لعدوكم أنهك؛ وقد كنت بالأمس أميراً، فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت ناهياً فأصبحت منهياً، فليس لي أن أحملكم على ما تكرهون».

قام عدي بعد آخرين، ليتجلى وعيه وبصيرته حين اختلف أهل العراق في الموادعة مع جند معاوية عبر قوله الذي جاء بعد أقوال أخرى لأصحاب علي (ع): أيها الناس، إنه والله لو غير علي دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، ولا وقع بأمر قط إلّا ومعه من الله برهان، وفي يديه من الله سبب، وإنه وقف عن عثمان بشبهة، وقاتل أهل الجمل على النكث، وأهل الشام على البغي، فانظروا في أموركم وأمره، فإن كان له عليكم فضل، فليس لكم مثله، فسلموا له، وإلّا فنازعوا عليه.

والله لئن كان إلى العلم بالكتاب والسنة إنه لأعلم الناس بهما، ولئن كان إلى الإسلام إنه لأخو نبي الله، والرأس في الإسلام، ولئن كان إلى العقول والنحائز (جمع نحيزة وهي الطبيعة) إنه لأشد الناس عقلًا، وأكرمهم

ص: 236

نحيزة، ولئن كان إلى الشرف والنجدة إنه لأعظم الناس شرفاً ونجدة، ولئن كان إلى الرضا، لقد رضي به المهاجرون والأنصار في شورى عمر، وبايعوه بعد عثمان، ونصروه على أصحاب الجمل والشام، فما الفضل الذي قربكم إلى الهدى، وما النقص الذي قربه إلى الضلال؟! والله لو اجتمعتم جميعاً على أمر واحد لأتاح الله له من يقاتل لأمر ماض، وكتاب سابق.

فاعترف أهل صفين لعدي بن حاتم بعد هذا المقام، ورجع كل من تشعب على علي (ع).

وبعد أن قام علي (ع) خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، قال: «أيها الناس، إنه قد بلغ بكم وبعدوكم ما قد رأيتم، ولم يبق منهم إلّا آخر نفس، وإنّ الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها، وقد صبر لكم القوم على غير دين، حتى بلغوا منكم ما بلغوا، وأنا غاد بنفسي بالغداة فأحاكمهم بسيفي هذا إلى الله».

فقام عدي وقال: يا أميرالمؤمنين، إنّ أهل الباطل لا تعوق أهل الحق، وقد جزع القوم حين تأهبت للقتال بنفسك، وليس بعد الجزع إلّا ما تحب، ناجز القوم.

وما يزال يشير على علي (ع) بالقتال حتى بعد أن استشهد عماررضوان الله تعالى عليه، قال: والله ياأميرالمؤمنين ما أبقت هذه الوقعة لنا ولا لهم عميداً، فقاتل حتى يفتح الله تعالى لك، فإنّ فينا بقية؛ فقال علي (ع): «يا عدي، قتل عمار بن ياسر؟» قال: نعم، فبكى علي (ع) وقال: «رحمك الله

ص: 237

يا عمار، استوجب الحياة والرزق الكريم، كم تريدون أن يعيش عمار، وقد نيف على التسعين»؟

وهكذا كان عدي سباقاً لقتال القوم، وكلما رأى ضعفاً ينتاب جبهة الإمام علي (ع) أو فرقة تلم بجنده بادر بالقول والفعل لدرء ما يحدث ويشجع القوم على القتال ومواصلته.

وعبارته في كتاب وقعة صفين: إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق، فإنه لم يصب عصبة منا وقد أصيب مثلها منهم، وكل مقروح، ولكنا أمثل بقية منهم. (1)

عدي والتحكيم:

لقد اختلف القوم على الإمام علي (ع) وكانوا بين رافض للهدنة والتحكيم، ويريد مواصلة الحرب ضد معاوية وجنده، ومن هؤلاء مالك الأشتر وقيس بن سعد، وكانا أشد الناس في هذا، فيما عمل آخرون للصلح، وكان منهم الأشعث بن قيس، وشريح بن هانئ، وعمرو بن الحمق، وزحر بن قيس، وعدوا معهم عدي بن حاتم، وأيضاً عدوه فيمن رضي أن يتولى التحكيم من طرف الإمام علي (ع) أبو موسى الأشعري، خلافاً لما استقام عليه رأي الإمام (ع) أن يرسل عبد الله بن عباس لمقابلة عمرو بن العاص من طرف معاوية.


1- الإمامة والسياسة 138: 1، 144، 146؛ كتاب وقعة صفين: 482.

ص: 238

كما كان عدي من الذين اختيروا شهوداً على الحكمين، وكان منهم عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس، وزياد بن كعب، وحجر بن عدي وآخرون؛ وذكروا أنّ عدياً قال لعمرو: أما والله يا عمرو إنك لغير مأمون الغناء، وإنك يا أبا موسى لغير مأمون الضعف، وما ننتظر بالقول منكما إلّا أن تقولا والله ما لكما مع كتاب الله إيراد ولا صدر؛ فقال أبو موسى: كفوا عنا، فإنا إنما نقول فيما بقي، ولسنا نقول فيما مضى.

ولما انتهى التحكيم إلى من انتهى إليه من خديعة عمرو بن العاص لأبي موسى، وتشاتما ثم انصرف عمرو إلى معاوية، ولحق أبو موسى بمكة، وانصرف القوم إلى علي (ع)، قال عدي للإمام علي (ع): أما والله يا أميرالمؤمنين، لقد قدمت القرآن، وأخرت الرجال، وجعلت الحكم لله.

فقال علي (ع): «أما إني قد أخبرتكم أن هذا يكون بالأمس، وجهدت أن تبعثوا غير أبي موسى، فأبيتم علي، ولا سبيل إلى حرب القوم حتى تنقضي المدة فصعد المنبر.. (1)


1- الإمامة والسياسة 157: 1 158.

ص: 239

من الأحداث الأخرى في صفين:

عدي مستجاراً

وكان عدي واحداً من الذين استجار بهم الأصبغ بن ضرار الأزدي حين أخذه الأشتر أسيراً في صفين، وجاء به ليلًا وشد وثاقه ينتظر به الصباح، وكان شاعراً مفوهاً، فرفع صوته فأسمع الأشتر:

أأخشى ولي في القوم رحم قريبة أبى الله أن أخشى والاشتر جاري

وجار سعيد أو عدي بن حاتم وجار شريح الخير قر قراري

وفي الصباح لما جاؤوا به إلى علي (ع)، قال للاشتر: فإذا أصبت منهم أسيراً فلا تقتله؛ فإنّ أسير أهل القبلة لا يفادى ولا يقتل، فرجع به الأشتر إلى منزله وقال: لك ما أخذنا منك، وليس لك عندنا غيره.

ابنه زيد وموقفه منه:

على هامش وقعة صفين، وفي حادث غير متوقع آلم عدياً كثيراً، وحين أقبل الناس على قتلاهم يدفنونهم.. كان هناك شخص من طي ء وهو حابس بن سعد الطائي، خال زيد بن حاتم، الذي كانت له حكاية مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حين دعاه فقال له: إني أريد أن أوليك قضاء حمص، فكيف أنت صانع؟ قال: أجتهد رأيي، وأستشير جلسائي، فانطلق فلم يمض إلّا يسيراً حتى رجع، فقال: يا أميرالمؤمنين، إني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك؛ قال: هاتها، قال: رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق ومعها جمع عظيم، وكأن القمر أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم، فقال له عمر: مع

ص: 240

أيهما كنت؟ قال: كنت مع القمر، قال عمر: كنت مع الآية الممحوة، اذهب، فلا والله لا تعمل لي عملًا.

فرده فشهد مع معاوية صفين، وكانت راية طي ء معه، فقتل يومئذ فمر به عدي بن حاتم، ومعه ابنه زيد بن عدي فرآه قتيلًا، فقال: يا أبه، هذا والله خالي، قال: نعم، لعن الله خالك، فبئس والله المصرع مصرعه، فوقف زيد فقال: من قتل هذا الرجل- مراراً- فخرج إليه رجل من بكر بن وائل طوال يخضب، فقال: أنا والله قتلته، قال له: كيف صنعت به؟ فجعل يخبره، فطعنه زيد بالرمح فقتله، وذلك بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

فحمل عليه عدي يسبه ويسب أمه ويقول: يا ابن المائقة، لست على دين محمد إن لم أدفعك إليهم، فضرب [زيد] فرسه فلحق بمعاوية، فأكرمه معاوية وحمله وأدنى مجلسه، فرفع عدي يديه فدعا عليه فقال: أللهم إن زيداً قد فارق المسلمين، ولحق بالمحلين أو «بالملحدين» أللهم فارمه بسهم من سهامك لا يشوى أو قال: لا يخطئ- فإن رميتك لا تنمي، لا والله لا أكلمه من رأسي كلمة أبداً، ولا يظلني وإياه سقف بيت أبداً؛ قال وقال زيد في قتل البكري:

من مبلغ أبناء طي بأنني ثأرت بخالي ثم لم أتأثم

تركت أخا بكر ينوء بصدره بصفين مخضوب الجيوب من الدم

وذكرني ثأري غداة رأيته فأوجرته رمحي فخر على الفم

لقد غادرت أرماح بكر بن وائل قتيلًا عن الأهوال ليس بمحجم

قتيلًا يظل الحي يثنون بعده عليه بأيد من نداه وأنعم

لقد فجعت طي بحلم ونائل وصاحب غارات ونهب مقسم

لقد كان خالي ليس خال كمثله دفاعاً لضيم واحتمالًا لمغرم

ص: 241

ولما لحق زيد بن عدي بمعاوية، تكلم رجال من أهل العراق في عدي بن حاتم، وطعنوا في أمره، وكان عدي سيد الناس مع علي (ع) في نصيحته وغنائه، فقام إلى علي (ع) فقال: يا أميرالمؤمنين، أما عصم الله رسوله من حديث النفس والوساوس وأماني الشيطان بالوحي؟ وليس هذا لأحد بعد رسول الله (ص) وقد أنزل في عائشة وأهل الإفك، والنبي (ص) خير منك، وعائشة يومئذ خير مني، وقد قربني زيد للظن وعرضني للتهمة، غير أني إذا ذكرت مكانك من الله ومكاني منك ارتفع حناني، وطال نفسي، و والله أن لو وجدت زيداً لقتلته، ولو هلك ما حزنت عليه، فأثنى عليه علي (ع) خيراً؛ وقال عدي في ذلك:

يا زيد قد عصبتني بمصابة وما كنت للثوب المدنس لابسا

فليتك لم تخلق وكنت كمن مضى وليتك إذ لم تمض لم تر حابسا

ألا زاد أعداء وعق ابن حاتم أباه وأمسى بالفريقين ناكسا

وحامت عليه مذحج دون مذحج وأصبحت للأعداء ساقاً ممارسا

نكصت على العقبين يا زيد ردةً وأصبحت قد جدعت منا المعاطسا

قتلت امرأً من آل بكر بحابس فأصبحت مما كنت آمل آيسا.

(1)


1- وقعة صفين، لابن مزاحم: 523.

ص: 242

شهد عدي معركة النهروان:

لا يقل ثباته في هذه المعركة عن وقعتي الجمل وصفين، حتى أنه لما أخبر بأن ولده طرفة قد قتل، طلبه فوجده، فدفنه، ثم قال: ألحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك! (1)

عدي في خلافة الإمام الحسن (ع)

وبعد وفاة الإمام علي (ع) ظل عدي على ولائه لأهل بيت النبوة (هم)، ولكن في هذه المرة مع الإمام الحسن (ع).

عدي أول الناس عسكراً!

لما أراد معاوية التوجه إلى العراق لقتال الإمام الحسن (ع)، يقول أبو الفرج في هذا:

فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان، وسار قاصداً إلى العراق، وبلغ الحسن (ع) خبر مسيره، وأنه بلغ جسر منبج، فتحرك لذلك، وبعث حجر بن عدي يأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير، ونادى المنادي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون، فقال الحسن (ع): إذا رضيت


1- تاريخ الطبري 123: 3، أحداث سنة 37 هجرية.

ص: 243

جماعة الناس فأعلمني، وجاء سعيد بن قيس الهمداني، فقال: اخرج، فخرج الحسن (ع) فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرهاً يشيرالإمام (ع) إلى الآية الكريمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ. (1) ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: وَاصْبِرُوا إنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. (2)

فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون، إلّا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أنّ معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه، فتحرك لذلك، فأخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة، حتى ننظر وتنظروا ونرى وتروا».

قال: وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس إياه، فسكتوا فما تكلم منهم أحد، ولا أجاب بحرف، فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قال:

أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام؟! ألا تحبون إمامكم، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب، أما تخافون مقت الله، ولا عيبها وعارها.

ثم استقبل الحسن (ع) بوجهه فقال: «أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما يحمد ورده وصدره، فقد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا منك، وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليوافي».


1- سورة البقرة: 216.
2- سورة الأنفال: 46.

ص: 244

ثم مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب، فركبه ومضى إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، وكان عدي أول الناس عسكراً.

ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم، وكلموا الحسن بمثل كلام عدي في الإجابة والقبول.

فقال لهم الحسن (ع): «صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء بالقول، والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيراً» ثم نزل. (1)


1- مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصفهاني: 7069.

ص: 245

جولة في الصحافة السعودية

د. حسن بن محمد سفر (1)

توسعة صحن المطاف

بين المصلحة الشرعية والآثار الإيجابية. (2)

يعيش العالم الإسلامي والدولي متغيرات جيوسياسية، جيوطموغرافية إضافةً إلى الزيادة في الوعي الثقافي، والحراك الديني، تمسكاً وتديناً، كون الإسلام عقيدة وشريعة ونظاماً، وقد أدرك العالم ما في الإسلام من روحانيات وسكينة وسلم وسلام، خصوصاً المسلمين الذين عاشوا حقباً من الزمن في الأقطاب المتجمدة، كدول روسيا التي اشتمت شعوبها الحرية والانفكاك من قيود العبودية، فهرعوا إلى الالتفات إلى شعائرهم وأداء فرائضهم كالحج والعمرة، فكان المقتضي الشرعي والإنساني أن تهيأ لهم أماكن الشعائر كالمطاف وتوسعة المسعى، وهو عين ما تقوم به الدولة من رعاية وخدمة للحرمين الشريفين.. لذلك فإن المنطلق في الشروع لتوسعة المطاف بعد دراسة، أصبح أمراً ضرورياً ولازماً وحيث إنّ القواعد الفقهية


1- أستاذ السياسة الشرعية والأنظمة، عضو مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
2- جريدة عكاظ، العدد: 3140، 21 يناير 2010 م.

ص: 246

السياسية تسعف كقاعدة (إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق) وقاعدة (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)؛ وإن التوسعة لصحن المطاف هي من باب التوسعة والراحة للمسلمين والخلو من التزاحم والتدافع.

ومن خلال الاستقراء لنصوص الشريعة ومقاصدها، والمتغيرات، وازدياد أعداد المسلمين، تتغلب الجوانب المصلحية في التمديد والتوسعة، مع المحافظة على الآثار والإبقاء على الرواق القديم، مع إدخال بعض التوسعات والتحسينات عليه، وتفريغ جزء منه للطائفين، وإعادة هيكلة وتوضيب العقبات بشكل هندسي حضاري للتخفيف من كثافة الطائفين في صحن المطاف، ويمكن أن يطاف خلال الأروقة يُريدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُريِدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وحبذا لو كان هناك تقنين تنظيمي لدخول الطائفين والمعتمرين أوقات الذروة، إذا وصل سقف الاستيعاب ذروته، محافظةً على سلامة الأرواح، والأنفس، والنسوة، خصوصاً في المواسم الرمضانية، والأعياد، والعمرة، ويجري القياس بما هو معمول به في التفويج لجسر الجمرات انتظاماً والله ولي التوفيق.

مولد النبي (ص).. ومولد خديجة (ها). (1)

د. محمد عبده يماني


1- جريدة المدينة، الأربعاء، 24 فبراير، 2010 م.

ص: 247

هذا حديث عن مولد النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، والذي ولد بمكة المكرمة، وكذلك عن مولد السيدة خديجة رضي الله عنها، هذه السيدة التي أحبها الله عزّوجل، وحبب إليها رسول الله (ص) فكانت نعم السند، ونعم المعين؛ ولذلك عندما نسترجع جوانب من السيرة النبوية نحسّ بأن هناك محطات مهمة، ومواقف ذات دلالات خاصة، في سيرة النبي (ص) ولعل زواجه بالسيدة خديجة بنت خويلد له دلالة عظيمة وأثر كبير في حياته، وحياة الدعوة الإسلامية، فهذه السيدة التي ولدت قبل ولادته بخمسة عشر عاماً أي على وجه التقريب في عام (556 م) قد ولدت في مكة المكرمة وتوفيت بها في العام الثالث قبل الهجرة وبعد البعثة بعشر سنين، وقبرها معروف إلى اليوم في الحجون.

هذه السيدة ليست سيدةً عاديةً ولا عابرة، وإنما امرأة مختارة، اختارها الله عزّ وجل لتكون بجوار النبي (ص) فهي التي سعت إليه ورغبت في الزواج منه، وهي امرأة من الحنفاء لم تعبد صنماً، لم تدعم رسول الله (ص) بمالها فقط، ولكنها وقفت معه بكل ما تملك من رأي حصيف وهمّة عالية وإيمان برب كريم، أقسمت به حتى قبل أن تدخل الإسلام يوم قالت: «كلا والله .. لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر».

هذا القسم يدلّ على إيمانها بالله الذي نوّر بصيرتها، وفي قسمها هذا إشارة واضحة إلى صفاء فطرتها، وإلى ثقتها العظمى بالله تعالى، وأن هذه الصفات قد حثت عليها الشرائع السابقة، وهي لعلى يقين أنه نبيّ هذه الأمة،

ص: 248

ولكن ليزداد قلبها يقيناً أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، ذلك الشيخ الورع الزاهد الذي تعمّق في الإنجيل، وفهم ما فيه من بشارات فهماً حقيقياً أنّ نبياً قد أظلّ زمانه، وعلماء أهل الكتاب ينتظرونه؛ ليقول لها بقلب مطمئن: إنه نبيّ هذه الأمة وجاء تأكيده تأكيداً لما كانت تراه من رؤى وتشعر به من مشاعر.

والنبي (ص) قد خصّه الله بفضائل كبرى، فمن ينظر في ولادته يجد أنها قد كانت بمكة المكرمة بعد ولادة السيدة خديجة في الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل سنة 571 م، ونشأ و دعا إلى الله عزّوجل، ونزل عليه القرآن بمكة المكرمة، وهاجر منها إلى المدينة المنورة بإذن ربه، وشاء الله أن يولد من أبوين كريمين لم يلتقيا على سفاح قطّ، وقال عنهما: «خيار من خيار» حيث يقول (ص): «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار»؛ وكانا من أهل الفترة و أهل الفترة بنص القرآن لا يعذبون لأن الدعوة لم تبلغهم.

وفى نصوص القرآن والأحاديث النبوية الشريفة ما يوضح ذلك بكل جلاء ويغني عن كل ذلك، وأنّ النبي (ص) تنقل في الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية، فما افترقت فرقتان منذ آدم (ع) إلّا كان في خيرهما.. ويكفينا: وَتَقَلّبكَ فِى السَّاجِديِنَ وأنه دعوة أبيه إبراهيم (ع) الذي دعا له: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ والمقصود بالأمة في الآية: وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ هم الذين كانوا على الملّة حتى مبعث النبي (ص) وآمنوا به.

ص: 249

إذاً فهو إنسان تنقل في الأصلاب الطاهرة، والأرحام الكريمة، إلى أن ولد من أبوين كريمين لم يلتقيا على سفاح قطّ، وسمي محمداً، ومن أسمائه (نبي الرحمة) و (رسول الرحمة) وهو (الرحمة المهداة).

وقد روى الحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «إنما أنا رحمة مهداة» كما رواه الطبري بلفظ: «بعثت رحمة مهداة» ويذكر الشيخ أبوزهرة في كتابه خاتم النبيين أنّ الرحمة كانت عنده ذات أثر عام، وللخلق كافة، ويذكر أن بعض أصحابه قالوا: يارسول الله أكثرت من ذكر الرحمة ونحن نرحم أزواجنا وذرياتنا. فقال (ص): «ماهذا أريد إنما أريد الرحمة بالكافة».

وقال القاضي عياض في كتابه الشفا: (ومما ذكر من خصائصه وبرّ الله سبحانه وتعالى به أنه خاطب الأنبياء جميعاً بأسمائهم فقال تعالى: يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى، يا زكريا، يا يحيى، ولم يخاطبه سبحانه وتعالى إلّا بقوله: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، يا أيها المزمل، يا أيها المدثر.

وقال ابن الجوزي: ما أقسم الله تبارك وتعالى بحياة أحد غيره (ص) لأنه أكرم البرية عنده، وذلك قوله: لَعَمْرُكَ وما معناه: وبقائك يا محمد، وقيل: وعيشك، وقيل: وحياتك.

وقال ابن عباس: ما خلق الله تبارك وتعالى ما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من سيدنا محمد (ص) ومن تعظيم الله له (ص) أن أخذ له ميثاق النبيين، قال الله تعالى: وَإِذْ أخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ

ص: 250

وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أأقْرَرْتُمْ وَأخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ.

وعن جابر قال: قال (ص): «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وكان النبي يبعث في قومه خاصةً، وبعثت إلى الناس كافةً، وأعطيت الشفاعة».

وذكر الرواة أنه (ص) قال: «أعطيت جوامع الكلم، وختمت بي النبوة والرسالة، وأنا خاتم النبيين» وقال تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وذكروا أنه (ص) قال: «وجُعلت أمتي خير أمة أخرجت للناس».

ولاشك أننا عندما نعلّم أولادنا نماذج مما اختص الله به نبينا من ميزات ومزايا وخصائص، وكيف أكرمه وقرن اسمه باسمه فإنّ هذا يزيدهم حباً له وتمسكاً بما قال وفعل، وكما قال قتادة: رفع الله ذكره (ص) في الدنيا والآخرة، فما من خطيب ولا مستشهد ولا صاحب رسالة إلا ويقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا تشريف عظيم له (ص).

ولابد لأبنائنا أن يعرفوا أنه خير من آمن وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين، وكيف كان ذلك، اجعلوهم يستمعون لكم وأنتم تقصّون عليهم قصة أعظم وأنبل كفاح لأعظم وأنبل نبي ورسول، دعوهم يطلعون على ما عاناه (ص) وهو ينشر دعوته بين قوم ران الجهل على قلوبهم، فأعمى أفئدتهم، واستبدت الوثنية بعقولهم، فطمست

ص: 251

على بصائرهم؛ قولوا لهم: إنه (ص) بدأ الدعوة إلى سبيل ربه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وجادل قومه بالتي هي أحسن، ولم يكن فظاً ولا غليظاً ولا عاتياً ولا متكبراً، بل كان فيه اللطف واللين، والحلم والصبر، والتواضع والشهامة والمروءة، وقد حاول مع قومه بكل الوسائل لهدايتهم، ولم يستعمل السيف إلّا بعد أن عُذِّب وأتباعه، وظُلم وأتباعه على أيدي صناديد قريش ومشركيها الذين نهبوا المال، وعذبوا الأجساد، واستباحوا الحرمات، وقتلوا النساء والأطفال، وآخر الأمر اضطروهم للهجرة إلى الحبشة، وترك الأهل والأوطان.

ثم كانت الهجرة إلى المدينة، فأذن الله لهم بالقتال كما قال سبحانه: أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وذلك بعد أن أمعنت قريش في ضلالها، وتوغلت في عنادها وكفرها، فخرج من مكة مهاجراً بدينه إلى يثرب، التي أصبحت المدينة المنورة بوجوده في ربوعها.

ولابد لأبنائنا أن يعرفوا أنه (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذا ما قرره الله تعالى بقوله: النَّبِيُّ أوْلَى بِالْمُؤمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ ولابد لأبنائنا أيضاً أن يعرفوا معنى هذه الآيات، فاشرحوها لهم، وبينوا لهم كيف كان حريصاً على صالح الإنسانية، مضحياً في سبيل نصحها ونجاتها من عذاب الدنيا والآخرة، واذكروا لهم ذلك الحديث الشريف الذي يصوّر فيه موقفه من قومه إذ يقول: «مَثَلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبّهن عنها، وأنا آخذ بحُجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي».

ص: 252

دعوا هذه الصورة المعبرة غاية التعبير تستقر في أذهان الناشئين والناشئات، فإنّ لهم فيها وقاية وحماية، وهي حصنهم الحصين إذا ما اقترب أحدهم من هاوية فساد، أو همّ بأن يقترف ما يعاقب الله عليه في الدنيا والآخرة.

اغرسوا في قلوب الأبناء والبنات محبة رسول الله (ص) ومحبة آل بيته الطاهرين الطيبين واذكروا لهم قوله: «من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله».

وذكّروهم أن كل ما تنعم به البشرية اليوم من عقيدة صحيحة سليمة، وشريعة كاملة شاملة عادلة، تحقّق للإنسان الأمن والسلام والحياة الكريمة يرجع الفضل فيها إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إليه».

وختاماً .. فقد كانت ولادته (ص) نوراً وهدًى ورحمة أضاءت الكون إلى يوم القيامة، فهو خاتم الأنبياء وسيد المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ما الذي نستفيده من ذكرى

مولد خاتم النبيين؟! (1)

د. زيد علي الفضيل


1- جريدة المدينة، الأحد، 7 مارس، 2010 م.

ص: 253

مع إطلالة شهر ربيع الأول من كل سنة، تعم الفرحة كل الوجوه استبشاراً بذكرى مولد خاتم الأنبياء والمرسلين، المنزّل رحمةً للعالمين، سيدنا محمد بن عبدالله الأمين، عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم، في هذا الشهر بخاصة، وليلة الثاني عشر منه يتبادل المحبون التهاني، وتطرب الأفئدة لسماع أجمل المدائح النبوية، وينبري الخطباء والدعاة والعلماء للحديث عن ملامح صفاته وعظائم أخلاقه (ص) وما أجمل مكان يُذكر فيه اسم الله، ويُذكر فيه حبيبه.

تلك هي حال كثير من المجالس على نطاق أفق عالمنا الإسلامي من شرقه إلى غربه، ولا شك فإنّ في هذا الأمر مندوحة كبيرة إذا جانب أصحابها فعل المنكرات من الأفعال والأقوال التي تخرج صاحبها عن طريق الصواب.

والسؤال الجوهري: ما الذي نستفيده كمسلمين من الاحتفال بذكرى مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام؟ وكيف نعمل على ترجمة تعاليمه السامية، وسلوكه النوراني بين أظهرنا فعلًا لا قولًا؟ وما الوسيلة الأمثل لتعريف العالم أجمع بحقيقة عظمة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟

و واقع الحال فلست هنا في مكان الداعية أو المرشد الدّيني حتى أجيب عما سبق تفصيلًا، لكنني أحسب نفسي أحد العاملين على تدبر فقه التاريخ وسماته الروحية، الراغبين في سبر أغواره، وبالتالي وبحسب تصوّري فإنّ من أكبر إشكالاتنا كأمة إسلامية كامن في عدم معرفتنا بشكل دقيق لجوهر حقيقة عظمة نبينا الذي أرسله الله رحمة للعالمين، لينقل الناس من

ص: 254

غياهب الجهل إلى عوالم النور والمعرفة، ويحرر العباد من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، فتتحقق العدالة المفقودة، وتتجلّى الغايات الربانية من الخلق، الهادفة إلى تعزيز التكافل والتراحم والمحبة بين جميع خلقه، القائمة على أساس من التساوي وفق ما تقتضيه لائحة الحقوق وقوانين السنن الكونية.

لأجل ذلك كان حرصه (ص) وطوال مسيرته النورانية خلال العهدين المكي والمدني، على تعزيز قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي الثالوث المقدس لكل طالب حق على هذه البسيطة، وكل حارس للقيم ضمن جنبات مجتمعاتنا، فلم يعمد عليه الصلاة والسلام على فرض قناعاته الإيمانية على أي أحد كائناً مَن كان، كما لم يعمل على إلغاء ونزع شخصية الآخر المخالف له بأي صورة من الصور، أو فرض تغييرها حال اتباعه والإيمان به، كما هو الحال مثلًا مع أم ولده سيدنا إبراهيم السيدة ماريا القبطية، حيث لم يفرض عليها الدخول في الإسلام بدايةً، فترك لها الخيار في ممارسة طقوسها العبادية، بل وبنى لها صومعة لأجل ذلك، ثم وبعد إسلامها واتباعها له، لم يقم بتغيير اسمها، فظل اسمها ماريا من قبل ومن بعد، تلك هي الحرية التي مارسها النبي فعلًا وسلوكًا، وحضّ عليها الكتاب الكريم في عديد من آياته الطاهرات كقوله جلّ وعلا: وَقُلِ الْحَقَّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤمِن وَمن شاء فليكفر. وفيما يتعلق بالجانب العدلي فقد جاء النبي ليبدي سخطه من حالة التمايز المجحفة بين العرب قبل الإسلام، أولئك الذين إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم الوجيه تركوه، ويعلنها مدويةً أمام الناس جميعاً بأنه لو سرقت فلذة كبده وريحانته وبضعته الشريفة فاطمة

ص: 255

الزهراء لأقام عليها الحد، ما أجمل هذا الحسم الذي لا مراء فيه، وما أروع هذه القيمة حين تصبح حقيقةً باديةً للعيان!

فالعدل وليس غيره أساس الكون، وقيمة وجوده، وجوهر رحمة الله العادل بين عبيده، والعدل في جوهره عنوان للمساواة المراد تحقيقها بين بني البشر، فالناس جميعاً من خلق الله الواحد الأحد، والكل نطفته الأولى من تراب، وهو ما حرص النبي على إشاعته بين أصحابه، وتعميقه في نفوسهم، فأين نحن من ذلك؟ وكيف تبدلت أولويات قيمنا؛ لتصبح مفاهيم الحرية والاختيار شيئاً من الخطإ الفادح، والمعصية الكبيرة، والاستلهام الشيطاني، وتصبح مفاهيم العدالة والمساواة من المفاهيم النسبية، التي يختلف فهم مدلولها بحسب موقع وزاوية نظر الفقيه العالم؟!

أنزعوا فتيل الفتن-- ة

بين السُّنة والشيعة. (1)

د. عائض القرني

لا تحتاج الأمة الإسلامية إلى مزيد من الشقاق والفرقة والعداوات والمعارك، ففيها ما يكفيها، وليس من العقل ولا من الحكمة، ولا من المنطق أن يستعدي السنة الشيعة، وأن يستعدي الشيعة السنة، فلن يزيدنا هذا العداء


1- الشرق الأوسط، العدد: 11382- 10/ صفر/ 1431 ه-.

ص: 256

إلّا تمزقاً وهزيمةً وإحباطاً وقلةً وذلةً، وما دام أنّ الله عزّوجل نهانا... فما المصلحة إذن في أن يتراشق الرموز في السنة والشيعة أو غيرها من الطوائف بالسباب والشتائم؟ ولما ذا نوقد نار الفتنة في دائرة أهل الإسلام؟ وأمتنا الإسلامية تتعرض لحملة عدوان من الصهاينة، ومن أعداء الله في كل مكان، بل رسولنا (ص) يُساء إليه جهاراً نهاراً برسوم مسيئة وتهم باطلة، فديناه بالآباء والأمهات والدماء والأرواح، فنترك هؤلاء الأعداء والرد عليهم ونصرة الدين والرسالة والرسول (ص) ونأتي إلى طوائف أهل الإسلام فنستثير رموزهم ونقلل من شأنهم وننشر معايبهم دون تذكر للنتائج المؤلمة.

لماذا لا يكون الحوار والتواصل والجدل بالتي هي أحسن والتعارف مكان التكفير والتبديع والتضليل والتفسيق، لقد شكونا وبكينا وتظلّمنا واعترضنا على سب أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله رضي عنهم وزكاهم وأثنى عليهم، فهل نأتي لنأخذ السب سلماً والشتم طريقاً والقذف منهجاً لنصلح ما أفسده الدهر، والله إن مَنْ أراد الانتقام بالسب والشتم من إحدى الطائفتين أو غيرهما من طوائف الإسلام لا حقاً نصروا، ولا باطلًا كسروا، ولمصلحة من يُنشر الخلاف والسب والشتم والتجريح في الفضائيات ومواقع الإنترنت؟ وكل مَنْ كتب سطراً واحداً أو قال كلمة واحدة فيها تكفير وتبديع وتضليل إنما صب الزيت على النار، وأضاف عود حطب إلى فرن العداوة، وعجبي من أتباع الطائفتين كيف يتحمّسون للخصومة والعداوة ويزرعون الكراهية في القلوب ويغرسون البغضاء في النفوس، لقد مرت بنا مئات الأعوام من السب والشتائم، فهل أصلحنا بذلك فساد ذات

ص: 257

البين؟ وهل أنهينا بهذا المسلك الخلاف؟ وهل داوينا الجراح؟ بل والله زادنا وهناً على وهن، وخلافاً على خلاف، إنّ الخطاب الجميل والكلمة اللينة والذوق العالي منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد أرشدنا الله عزّوجل إلى الحكمة والرفق واللين حتى مع فرعون ومع عبّاد الأصنام ومع اليهود والنصارى؛ لأن الرفق لا يكون في شي ء إلّا زانه، ولا يُنزع من شي ء إلّا شانه، كما في الحديث الصحيح، أما قال الله عزّوجل: ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ فأين نحن من هذا المنهج القويم والصراط المستقيم؟ لماذا نُخرج الحيات من جحورها والثعابين من بيوتها؟ لماذا نحوّل منابر الدعوة والحكمة والحوار والتربية والإقناع إلى منابر للسب والشتم والتكفير والتضليل والتجريح؟ ماذا ينتظر ممن أغضبناه وجرحنا مشاعره وآذيناه في عرضه ومعتقده أن يقابلنا به؟ سوف يحاربنا بالسلاح نفسه والطريقة بعينها، مثلًا بمثل سواء بسواء، فلا نحن أقنعناه وأرشدناه، ولا نحن تركناه وحيّدناه، وإنما عاديناه وحاربناه واستثرناه وأيقظناه.

أيها الناس من السنة والشيعة وغيرهم من الطوائف أمسكوا ألسنتكم، وأغمدوا أقلامكم، والسكينة السكينة، والهدوء الهدوء، فأمتنا الإسلامية بها من الجراح والمآسي والصدمات واللكمات ما يعجز عن علاجه أطباء العالم وحكماء الدنيا حتى صرنا كما قال المتنبي:

فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ

ص: 258

إنّ هذه المعارك المفتعلة هي نتيجة لإعراضنا عن اتباع الرسول (ص) وأهل بيته وأصحابه، وقد حذرنا الله من التفرق والاختلاف وذم من وقع في ذلك من أعدائه، فقال: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.

علماء: لا اختلاف بين المذاهب في المشتركات. (1)

احمد رافد- جدة

أجمعت آراء علماء على ضرورة نبذ الخلافات التي لا علاقة لها بالمشتركات الأساسية كالخلافات الطائفية بين افراد الأمة الإسلامية والتركيز على المشتركات فيما بينها والبعد عن المساس بالمعتقدات واتفقت الآراء على ضرورة الحوار بين المسلمين وتحريم الانتقاص من الصحابة أو شتمهم، وأشاروا إلى أنّ الأمة كانت قوية عندما كانت بعيدة عن التفرق والاختلاف ولم يدب الضعف فيها إلّا عندما اختلفت فيما بينها.

الدكتور محمد النجيمي، الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء قال: إنه من المعلوم شرعاً أنه لا يكره أحد على أن ينتمي لعقيدة أو مذهب لا يريده قال تعالى: لَا إكْرَاهَ فِى الدِّينِ وهذا مذهب عظيم في الإسلام سواء مع المسلمين


1- جريدة المدينة/ السبت، 23 يناير 2010 م.

ص: 259

أو غيرهم؛ أما بالنسبة للطوائف الإسلامية فهناك مشتركات لا يجوز لأي طائفة أنها تقوم بمخالفتها، وهذه المشتركات أولها توحيد الله وأنه المعبود بحق، وثاني هذه المشتركات القرآن الكريم، وسنة نبيه (ص).

.. وأضاف النجيمي من الطبيعي أن تكون هناك اختلافات في الأمور التي يصوغ الاختلاف فيها شرعاً مؤكداً أنه لا يجوز أن يسب أو يشتم أحد حتى لو كان صاحب بدعة أو كان غير مسلم، ولا يجوز أيضاً الاعتداء على معبوداتهم وما يرونه؛ وذلك لأن الله تعالى قال: وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا؛ فالإسلام ينهى المسلمين عن سب معبودات الآخرين وما يقدسونه حتى لا يكون ذلك سبباً في تبادل الشتائم، فمن باب أولى فإنه يجب على المسلمين أن يتمسكوا بالمشتركات، وإن كان عند طائفة مخالفة فيتم مناقشتها بالحوار والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وليس بالسباب والشتائم أو بالتكفير كما نلاحظ في بعض المواقع؛ وأضاف النجيمي قائلًا بأنه لايمكن أن تجد عالماً سنياً معتبراً في العالم الإسلامي ويصدر منه سب أو تكفير على موقعه، بينما نجد في بعض المواقع لدى بعض الطوائف تكفير للناس ولمن لا يؤمن بما يؤمنون به، وأشار النجيمي إلى أنّ مبدأ الكراهية والسب والشتائم مبدأ يجب أن يبعد من حياتنا ومن تعاملنا.

و قال الدكتور حامد الرفاعي رئيس اللجنة الإسلامية العالمية للحوار إنه لاخلاف بين أهل السنة ولله الحمد وهناك انسجام كامل، مشيراً إلى أنّ المجمع الفقهي الاسلامي يضم كل المذاهب، وكلها معتمدة، لكن أشار

ص: 260

إلى أنّ هناك خلافاً بين الطوائف وهي نوعان، منهم من جنح في خلافه مع أهل السنة إلى أمور عقدية وطبعاً هذه قضايا محسوم الأمر بها، والنوع الثاني ما يكون في الخلاف المعقول في القضايا العادية.

وأضاف الدكتور الرفاعي قائلًا: أنا أرى أن لا يدخل أهل السنة مع مماحكات بينهم وبين الطوائف الأخرى، وقد سألني الشيخ محمد مهدي شمس الدين وهو من أئمة الشيعة في لبنان عن رأيي في التقريب بين المذاهب؟

فأجبته إنني لست مع المهتمين بهذا الأمر، ولكن أنا مع تنقيح المذاهب بحيث يتم تنقيحها من كل ما يمس العقائد والبعد عنه، لافتاً إلى أنّ ما في المذاهب من اجتهاد في الرأي والاحكام فيه إثراء لشريعة الإسلام، أما الرأي إذا دخل في دائرة العقائد، ودخل في جوهرها، لم يصبح خلافاً مذهبياً، بل خلاف اعتقادي ونحن كمسلمين خلافنا مع النصارى واليهود هو في الجانب العقدي، أما من حيث الأصل نحن أهل كتاب وهم أهل كتاب، ولكن الذي يفرقنا هو الجوهرالعقدي، أي المسألة العقدية؛ أما عن كيفية التعامل، فأننا نصاحبهم في الدنيا معروفاً والإسلام طرح قاعدة: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ ديِنٌ أي بمعنى لنا عقيدتنا ولكم عقيدتكم، أما مصالح الحياة فتبقى مشتركة ويبقى الأخوة والتعامل الانساني بيننا.

من جانبه قال الشيخ خالد الرميح أمين هيئة المسلمين الجدد: إنّ التعصب المذهبي والعرقي والقبلي مرفوض في الإسلام وأمة محمد (ص) ارتفعت عندما كانت متفقة فيما بينها وبعيدة عن التفرق، لكنها ضعفت عندما

ص: 261

دب التفرق والخلاف والتعصب المذهبي والعرقي والقبلي، مضيفاً أنه ينبغي أن يكون هناك احترام بين الطوائف والمذاهب، واحترام كامل بكل ما تعنية هذه الكلمة فلا يكون هناك اعتداء من جهة ما على أخرى في العالم ككل، ولا يمكن لمسلم أن يسكت على الإساءة للرموز الإسلامية، واستحلال الدماء، فمن غير المعقول أن يعتدي طرف على الأخرى، ثم تكون هناك مطالبة بالاحترام، فالأولى أن تعصم الدماء، فهي أعظم من مجرد الاعتداء اللفظي أو في المعتقد.

مصلون يشتكون ضعف قدراتهم .. والوزارة تدافع عنهم

جريدة العكاظ/ الخميس 21/ 1/ 1431 ه-

خطباء لا يملكون القدرة على الخطابة، سواء في قلة ثقافتهم الشرعية، أو لا يملكون فن الخطابة والإلقاء وإقناع الآخرين، كما يشير أحد المصلين بلال بن حسن، مبيناً إلى أنه يقطع مسافات طويلة ليحضر خطبة جمعة لأحد البارزين في الخطابة، من أجل الاستماع لخطبة تتلمس حاجات الناس؛ وأوضح بلال إلى أن كثيراً من خطباء مساجدنا يميلون لرفع الأصوات، والبكاء والعويل، حتى تحولت الخطبة من أسلوب تذكيري إلى مشاعر جياشة، ليس بها جديد أو مفيد.

دفاع وآمال

ص: 262

يدافع إمام وخطيب جامع اللامي في جدة توفيق الصائغ عن خطباء المساجد، بتوضيحه أنه مع وجود قلة من الخطباء ممن لا يملكون المقدرة الخطابية المنبرية، إلّا أنّ هناك الكثير من خطبائنا المتميزين، وفي كثير من الأحياء، مطالباً الخطباء بتطوير قدراتهم الخطابية، ليصلوا إلى مستوى عال من التأهيل الخطابي.

ويشير مدير عام الأوقاف والمساجد في محافظة جدة فهيد البرقي إلى أنّ الخطباء قبيل تعيينهم يخضعون لآلية منظمة وضوابط وتعليمات، لضمان الوصول إلى مستويات راقية من الخطب، مثل: التأهيل الجامعي في أحد التخصصات الشرعية، واجتيازه الاختبار الذي تقيمه اللجنة الفرعية لشؤون المساجد. وأشار إلى أنّ إداراته تقيم عدة دورات للخطباء والأئمة والمؤذنين بين الحين والآخر.

ومع تأكيد مدير أوقاف ومساجد جدة أنّ الخطباء يعتنون بخطبهم ويهتمون بها، فإنه يوضح استحالة الوصول إلى الكمال المطلق الذي ينتظره الناس..

آثار البقيع.. تراث إسلامي تهدده آراء فقهية شاذة

شبكة التوافق- 25/ 1/ 2010 م

ص: 263

إنّ الاعتداء على آثار الأمة التاريخية ضرب من العنف الفكري الذي لا يختلف كثيراً عن العنف الجسدي الذي تمارسه الجماعات الإرهابية، فهو إرهاب فكري لا يقل في خطورته وضرره عن الإرهاب المسلح.

كانت حجة من سعى ويسعى هدم تلك الآثار التاريخية الخوف من الشركيات والبدع والتبرك بها، وبحجة عدم وجود نصوص توجب الحفاظ عليها.

وفي هذا التحقيق الذي أعدته (شبكة التوافق الإخبارية) سيتناول الظروف والأسباب التي حثت على تدمير وتخريب الآثار الإسلامية في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، حتى نستطيع أن نتحرك بعد ذلك بصورة واضحة وجلية على أبعاد هذه القضية، ولك أن تتساءل: لماذا- يا ترى- تصرفت فئة قليلة من المسلمين باجتهادها المتطرف، ونظرتها الضيقة في حق يملكه دين بأكمله، ويمثله السواد الأعظم من المسلمين المنتشرين في مختلف بقاع الأرض هُدِّمَت وسُوِّيت آثار الإسلام الأولى؛ لتخفي معالم تلك الحضارة وأضرحة رجالها ونسائها العظماء؟!

آثار البقيع قبل تدميرها

تشير المصادر التاريخية أن هنالك قباباً كانت تعلو قبور أئمّة أهل البيت (هم) كالقبّة الموجودة على قبر رسول الله (ص) لكنها هُدِمت سنة 1343 هجرية.

ص: 264

وكان السلطان عبد المجيد أمر سنة: 1270 هجرية، بتجديد عمارة المسجد النبويّ والقبّة النبويّة الشريفة، واستمرّ البناء نحو أربع سنين، وكذلك أمر ببناء قبّة أئمّة البقيع بعينِ البناء الذي بني به قبر رسول الله (ص).

و كتب السيّد محسن الأمين: لمّا عُمِل في زماننا شبّاك لضريحهم الشريف (أي لضريح أئمّة البقيع (هم)) بأصفهان من الفولاذ الدقيق الصنع، وبأعاليه الأسماء الحسنى لله تعالى بالخطّ الجميل المذهَّب، واستأذنت الدولة الإيرانية من الدولة العثمانيّة في وضع الشبّاك على ضريحهم المقدّس، أذِنتْ لها .. ولمّا جاء به السيّد علي القطب رحمه الله إلى جَدّة عارَضَ أهلُ المدينة (المتعنّتون منهم) في وضعه على القبور المقدّسة، فبقي الشباك في جدّة ثلاثة أعوام حتّى بذل الإيرانيون مبلغاً عظيماً من المال لأهل المدينة، فرضُوا بنقله ووضعه.

ولمّا حُمل إلى المدينة المنوّرة، وأرادوا إزالة الصندوق الخشب الموضوع على القبور الشريفة، ووضع الشبّاك الجديد مكانه، منع أهل المدينة من ذلك، بحجّة أنّ الصندوق الخشبي وقفٌ لا يجوز تغييره! فاضطُرّوا إلى وضع الشبّاك (جانباً) خارج الصندوق، فنقصت ألواحه الفولاذية بسبب ذلك، فاضطُرّوا إلى إكماله بقطعة من الخشب بعد دهنها بما يقرب من لونه والكتابة عليها.

ورأيتُ القطعة الخشبية ظاهرة فيه مقصّرة عنه في الرونق عند تشرّفي بزيارة المدينة المنوّرة بعد الحجّ عام 1321 ه-، وبعد ذلك عند تشرّفي بزيارتها من دمشق عام 1330 ه-، وبقي هذا الشبّاك حتّى أزاله

ص: 265

الوهابيّون عام 1343 ه- حين دخلوا المدينة المنوّرة وهدمهم لقبّة أئمّة البقيع (هم) وقبورهم المقدّسة.

مراحل هدم آثار البقيع

الهدم الأول: (1220 ه-/ 1805 م) يقول الجبرتي- في تاريخه عن أحداث يوم 15 رجب 1220 ه- (9 تشرين الأول أكتوبر 1805)-: وردت الأخبار بأن الوهابيين استولوا على المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، بعد حصارها نحو سنة ونصف. ويشير في موضع آخر إلى (هدم القباب).

الهدم الثاني (1344 ه-/ 1925 م) لعل أصدق وصف لهذه القضية هي تلك الرسالة التي أرسلها أحد الحجاج العراقيين لأحد علماء الشيعة في العراق والتي نصها: صدر الأمر بهدم وتخريب المراقد الشريفة، فشرع الجند أولًا بنهب جميع ما تحتويه تلك البنايات المقدسة في البقيع من الفرش والستائر والمعلقات والسرج وغير ذلك، ثم بدأوا يخربون تلك المشاهد المقدسة وفرضوا على جميع بنائي المدينة الاشتراك في التخريب والهدم.

وهذا الجانب من التهديم اعتبر أساساً لكل أعمال التهديم والتدمير التي تعرضت لها الآثار الإسلامية بعد هذا التاريخ، خاصة أنّ كل هذه الأعمال تم دعمها بالفتاوى والأحكام السياسية في ذات الوقت.

حفظ آثار البقيع وإعادة بنائها مهمة المسلمين

ص: 266

وإذا كان كل هذا الحفظ التاريخي لحضارة الفراعنة المصريين عبر مقابرهم وآثارهم، فلك أن تتألم على ضياع الكثير من آثار الإسلام في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وغيرهما، وتقدر حجم الخسارة الحضارية والتاريخية والدينية والنفسية على المسلمين ككل.

قال السيد الشهيد الصدر (قده): «إنّ المنطقة التي بقيت معروفة إلى الآن من البقيع هو المقدار الذي نراه بالصورة المعروفة التي تباع في الأسواق، والتي فيها قبور المعصومين الأربعة (هم) المدفونين هناك، و قبر العباس بن عبدالمطلب، و استمرت محفوظة و معروفة بفضل الله القادر القاهر جل جلاله، ومن ذلك نعرف أننا نستطيع بالدقة معرفة محل قبة أهل البيت المهدومة، فإنها كانت على هذه القبور أنفسها، مع وجود ما سمعناه في داخلها من الأضرحة و الزينة و الزخارف التي سرقت كلها من قبل القائمين بالهدم كما هو واضح، و بطبيعة الحال فإنّ كل الشيعة بما فيهم شيعة العراق وإيران و لبنان و باكستان و غيرهم، مستعدون لإعادة البناء على القبور المهدومة، و هي أمنية كانت و لاتزال، و ستبقى في قلوبنا حتى يقضي الله ما هو قاض».

ويقول الدكتور يماني شهدت فترات ماضية هدماً في بعض الآثار في المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، كما شهدت أخرى اهتماماً بترميمها والحرص على المحافظة عليها، واحدة من تلك الآثار التي سُوِّيت بالأرض، هي قبور البقيع بالمدينة المنورة، وبالرغم من أن محاولة درسها وإخفائها للأبد لم تنجح، إلّا أنّ هدم أضرحتها وتخريب معالمها قد حصل للأسف الشديد.

ص: 267

ويضيف: إنّ الآثار التي تمتلئ بها جنبات مكة المكرمة، والمدينة المنورة، تستحق منّا صيانتها ورعايتها كأمانة لدينا؛ لأنها تخصّ العالم الإسلامي، مؤكداً أنه من المهمّ أن لا نسمح لأي إنسان بالعبث فيها.

ورأى الدكتور أنور البكري أنّ الكثير من الآثار بحاجة إلى الاهتمام.

وعلق الدكتور عمر فلاته في هذا الشأن وقال: تحوي المدينة المنورة الكثير من الآثار، وبعض هذه الآثار لها ارتباط بالعبادة، والبعض ليس له ارتباط بها، ومع الأسف الشديد أنّ بعض القضايا مثل مسجد بني قريظة الذي هدم.. هذا مسجد صلى الرسول (ص) به، وأنا في تصوّري أنّ هناك إهمالًا في هذا المسجد.

المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي يقول في هذا الصدد عن آثار البقيع الغرقد: إنّ لتلك الآثار دلالات للبشرية ومقومات للهداية، بالإضافة إلى أنها من أحسن الذكريات لا الذكرى فقط.. والدنيا بأجمعها تحتفظ بالآثار بكل أنواعها، حيث إنّ العقل والعرف يدلان على حفظها، ولا يكون ذلك خلاف الشرع الذي يصرح بالمرور في ديارهم والنظر إلى آثارهم، وقد قال القرآن الحكيم: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ. (1) وقال تعالى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ. (2)


1- سورة الصافات: 137- 138.
2- سورة الحجر: 76.

ص: 268

مشيراً أنّ حفظ آثار العذاب عبرة فكيف بآثار الصالحين؟! وكيف بالنبي العظيم (ص) والأئمة الطاهرين (هم) والأصحاب المكرمين، وهكذا بالنسبة إلى المؤمنات الطاهرات؟!

هذا بالإضافة إلى وجود المعنوية في تلك الأماكن، كيف لا وقد قال سبحانه: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أثَرِ الرَّسُولِ. (1)

مخاوف من طمس ماتبقى من آثار

يقول الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان عضو هيئة كبار العلماء في هذا الشأن: «إنّ إزالة الآثار الإسلامية فيما لو حصلت ستحول التاريخ الإسلامي عند الأجيال القادمة إلى ما يشبه الأسطورة».

فالذي يتأمل في كلام الدكتور عبد الوهاب يجد أن المحاولة التي نادت ولا تزال تنادي بإزالة آثار البقيع هي تهدف إلى محو التراث الإسلامي، وتحاول تشويه الصورة للأجيال المقبلة.

ويضيف الدكتور عبدالوهاب: أنّ زيارة أماكن الآثار الإسلامية في الأصل مباحة، بل تصل إلى السنية لما تحدثه من طاقة إيمانية نتيجة الربط بالمكان.

ويرى أن عدم حفاظ الأمة الإسلامية على آثارها، وبالأخصّ أماكن إقامة النبي محمد (ص) لا يمكن وصفه إلّا بالعار عليها.


1- سورة طه: 96.

ص: 269

ورفض الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان قبول بعض الآراء الفقهية، التي ترى أنّ هذه الأماكن والمواقع التاريخية الإسلامية ستؤدي إلى تصرفات شركية، قائلًا: حتى لو أزيلت فإنّ الاعتقادات الخاطئة ستظل موجودة».

و دعا الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان إلى المحافظة على الأماكن التاريخية وحمايتها من الطمس؛ لأن الإزالة لم تكن في منهج السلف الصالح، وليست الأسلوب الصحيح لمنع الممارسات المخالفة للعقيدة بل هي تؤثر عكساً على إضعاف جذوة الإيمان في نفوس الشباب، وذلك وفقاً لما نشرته صحيفة" عكاظ".

وانتقد عدد من المهتمين بالآثار، حسب ما أفادت به (صحيفة الشرق الأوسط) اللندنية 4/ 9/ 2005 م، ومنهم الدكتور عبد الله نصيف والدكتور عايض الردادي عضو مجلس الشورى، والدكتور أنور عشقي، التسرع في اتخاذ خطوات الهدم والإزالة، ودعوا للحفاظ على ما تبقى من آثار إسلامية، ونادوا بالتريث في إزالتها باعتبارها وسيلة للاعتبار والاستذكار.

وأكدوا أنه بضياعها يضيع إحياء سنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديم النصح والإرشاد، ومشيرين إلى أهمية تصحيح الأخطاء الشرعية؛ لكي يتحقق الأجر، خاصة مع تنامي دور هذه المواقع الدينية كعامل جذب سياحي.

وجاء تصريح وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حاسماً لقضية المساجد السبعة، وما

ص: 270

طرح حولها من آراء متباينة تتجاذبها بين المناداة بإزالتها والإبقاء عليها، وفق أسباب وحجج تحكم قناعات كل طرف بتأكيده (بعدم التعرض لها بإزالة أو تغيير لمعالمها وطالب بالاهتمام بها وتزويدها بكافة الخدمات أسوةً بالمساجد الأخرى رغم أنه قد تم إزالة بعض منه) وأصدرت الهيئة العليا للسياحة قرارات حاسمة بعدم إزالة الآثار والعبث بها في المدينة المنورة، وأكد الأمير سلطان أنه صدر قرار من ولي العهد بعدم إزالة أية مبان أو آثار إلّا بعد معاينتها من وكالة الآثار، حتى نتمكن من تقييمها؛ لأنّ وكالة الآثار وهيئة السياحة هما الأقدر على تقدير أهمية ذلك الأثر حضارياً وإنسانياً.

وطالب وزير الداخلية أمراء المناطق المساندة في هذا الخصوص، إضافةً إلى مطالبة الأمير متعب بن عبد العزيز وزير الشؤون البلدية والقروية، أمانات وبلديات المدن بعدم المساس بالآثار أو التعرض لها بأية حجة كانت.

عضو هيئة كبار العلماء في السعودية يقول:

إنّ من العار إزالة الآثار النبوية

شبكة راصد الإخبارية/ 5/ 1/ 2010 م

ص: 271

قال عضو هيئة كبار العلماء في السعودية الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان: إنّ من" العار" إزالة الآثار الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ورفض أبوسليمان الآراء الفقهية التي ترى أنّ هذه الأماكن والمواقع التاريخية الإسلامية ستؤدي إلى تصرفات شركية.

مبيناً أنّ زيارة هذه الأماكن في الأصل مباحة بل تصل إلى السنية لما تحدثه من طاقة إيمانية نتيجة الربط بالمكان.

وأضاف في تقرير لصحيفة عكاظ أنه حتى لو أزيلت فإنّ الاعتقادات الخاطئة ستظل موجودة.

وقال: إنّ عدم حفاظ الأمة الإسلامية على آثارها، وبالأخص أماكن إقامة النبي محمد لا يمكن وصفه إلّا بالعار عليها.

موضحاً بأن زيارة هذه الأماكن في الأصل مباحة بل تصل إلى السنية؛ لما تحدثه من طاقة إيمانية نتيجة الربط بالمكان.

ودعا عضو هيئة كبار العلماء لدى تكريمه في نادي مكة الأدبي يوم الاثنين إلى توظيف الآثار الباقية من أماكن ومواقع في خدمة الدعوة الإسلامية وربط الأجيال القادمة بدينهم.

وتابع بأن إزالة الآثار الإسلامية فيما لو حصلت ستحيل التاريخ الإسلامي عند الأجيال القادمة بما يشبه الأسطورة على حد وصفه.

واعتبر متابعون أنّ كلام أبوسليمان يعد سابقة في تاريخ هيئة كبار العلماء، أرفع هيئة إفتاء في المملكة، والتي عرف أعضاؤها بالتشدد الديني،

ص: 272

خصوصاً تجاه الإبقاء على الآثار النبوية التي تعرض أغلبها للطمس والإزالة على يد الوهابيين طيلة 100 عام الماضية.

علماء «البحوث الإسلامية» يشدّدون على التقارب بين السُنة والشيعة

شبكة الملتقى 27/ 2/ 2010 م

شدّد مؤتمر علماء مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في القاهرة اليوم (السبت) بعنوان (صحابة رسول الله) على مبدأ التقارب بين السُنة والشيعة، في الوقت الذي اتهم فيه علماء مشاركون ما أسموه (الإعلام غير المسؤول) بتهويل الخلاف بين الجانبين.

فقد شدد شيخ الأزهر، الدكتور محمد سيد طنطاوي، في كلمته أمام المؤتمر ال- 14 لمجمع البحوث الإسلامية، والذي بدأت أعماله في مقر لأزهر الشريف، على أهمية التقارب بين السُنة والشيعة، لعدم وجود خلاف جوهري بينهم، وذلك من أجل وحدة الأمة الإسلامية، ودعا إلى أن يقتصر البحث في هذا على العلماء والمختصين، محذراً في الوقت نفسه من مغبة التهويل في هذا الخلاف من أعداء الأمة الإسلامية، حسب قوله.

من جانبه، حذر وزير الأوقاف الأردني، وعضو مجمع البحوث، الدكتور عبدالسلام العبادي، مما وصفه ب- (الإعلام غير المسئول) الذي يهول

ص: 273

الخلاف بين السُنة والشيعة لأغراض سياسية أو مذهبية، مؤكداً دور أهل العلم والاختصاص في بحث التقريب بين المذاهب الإسلامية.

وطالب العبادي، في كلمته أمام المؤتمر، حسبما نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، بتعديل بعض المناهج الدراسية في المؤسسات العربية، لتنقيتها من أي فكر لا يشجع على التقارب بين المذاهب، محذراً من التوترات السياسية في العالم الإسلامي بسبب الخلافات المذهبية.

كما شدد الدكتور علي الهاشمي، مستشار رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة للشؤون الدينية، وعضو المجمع، على ضرورة التقريب بين المذاهب الإسلامية، خاصة السُنة والشيعة، لدور ذلك الحيوي في وحدة العالم الإسلامي، مشيراً إلى جهود الأزهر في هذا الصدد، من أجل إزالة أي خلافات مذهبية في الأمة الإسلامية.

وبدوره، أوضح المفكر الإسلامي، الدكتور محمد عمارة، عضو مجمع البحوث، ضرورة أن يتولى أهل العلم والاختصاص بحث أي خلاف مذهبي أو عقائدي، وعدم نقل ذلك الخلاف للعامة ووسائل الإعلام، خاصة غير المسؤولة، لأثر ذلك في توسيع الخلاف وتفريق الأمة الإسلامية.

ص: 274

وَذَكّرْهُمْ بِأيّامِ اللهِ

وَذَكّرْهُمْ بِأيّامِ اللهِ (1)

مناسبات شهر ذي الحجة الحرام

أيوب الحائري

تمهيد

قد اهتم الإسلام أشد الاهتمام بالزمان والتاريخ كعامل مهم في حياة الأمم، حيث وردت في القرآن الكريم سور بكاملها بأسماء الزمان مثل: سورة الدهر، وسورة العصر، حيث أقسم تعالى به.

وتزداد مكانة بعض الأيام والتواريخ في الإسلام، بحسب الأحداث التي وقعت فيها، أو التي ستقع فيها، وهذا ما نلمسه من واقع حياتنا كمسلمين، إذ وردت أحاديث كثيرة في فضل بعض الأيام بالخصوص؛ فليلة القدر في القرآن خير من ألف شهر، ويوم الجمعة لها خصوصية معينة، وحدث هجرة الرسول (ص) له مكانة عالية إذ جعل مبدءاً للتاريخ في الإسلام، فسميت السنة بالهجرية نسبة إلى هذه الحادثة العظيمة.

وليست هذه منحصرة بالإسلام، بل سارت إلى غيره من الديانات، فقد اعتمد المسيحيون يوم ميلاد السيد المسيح (ع) مبدءاً لتقاويمهم تخليداً لذلك الحدث الهام.


1- سورة إبراهيم: 5.

ص: 275

ومما ينبغي الإشارة إليه في هذا المجال، هو التركيز على الاستفادة المثلى من هذه المناسبات لما فيه خير الإسلام والمسلمين، ولا يتم ذلك إلّا من خلال نشر الوعي والثقافة الإسلامية الصحيحة، والسعي لتمثل تلك التجارب الإسلامية الناجحة في واقعنا المعاصر، ولاسيما فيما يتعلق بذكريات الشخصيات الإسلامية الخالدة، من خلال جعلهم قدوات في حياتنا العملية، وتذكير الأمة بالقدرات العلمية والثقافية والنماذج الصالحة التي زخرت بها في كل العصور إلى يومنا هذا.

وفيما يتعلق بشهر ذي الحجة الحرام هو من الشهور المهمة العبادية التي جعل الله تعالى فيها مواقيت بغية تعميق العلاقة والارتباط به والتفرّغ له عمّا سواه، خصوصاً العشرة الأولى منه حيث جعلها الله تعالى موعداً للقائه والتقرب منه والزلفة إليه، وهي المراد بقوله تعالى:

وَاذْكُرُواْ اللهَ فِيَ أيّامٍ مّعْدُودَاتٍ. (1) وهي العشرة التي أتم بها موسى (ع) ميقاته مع ربه.

و في هذا الشهرتوجد مجموعة من المناسبات المهمة، فاليوم الأول منه كان مناسبة زواج الإمام علي (ع) من فاطمة الزهراء (ها)، واليوم الثالث منه كان تبليغ سورة البراءة من قبل الإمام علي (ع)، وكذلك كان وصول النبي (ص) مكة لأداء حجة الوداع، وفي اليوم السابع منه كانت شهادة الإمام الباقر (ع)، وفي اليوم الثامن منه كان خروج الإمام الحسين (ع) من مكة إلى العراق، وفي التاسع منه هو يوم عرفة، اليوم الذي دعا الله تعالى عباده فيه إلى طاعته وعبادته، وبسط لهم موائد إحسانه وجوده، وكذلك يوم شهادة مسلم بن عقيل، والعاشر منه جعله الله عيداً لجميع المسلمين، وفي اليوم الثامن عشر منه أتم الله النعمة على المسلمين بتنصيب الإمام علي (ع) من قبل


1- سورة البقرة: 203.

ص: 276

الرسول (ص) فكان إكمالًا لدينه؛ وغيرها من المناسبات العطرة، فحريّ بالمسلم أن يستثمر هذا الشهر، لكي يربّي نفسه تربية إلهية من خلال الاهتمام بالأعمال العبادية في هذا الشهر المبارك ويُحيي تلك المناسبات تعظيماً لشعائر الله تعالى، وفيما يلي أقدم استعراضاً لتلك المناسبات.

مناسبات شهر ذي الحجة

الرقم اليوم المناسبة السنة

1 1/ ذوالحجة زواج الإمام علي (ع) من فاطمة الزهراء (ها). 2 ه-

3 2/// أمر النبي (ص) علياً (ع) تبليغ سورة البراءة في الحج. 9 ه-

3 وصول النبي (ص) إلى مكة لحجة الوداع. 10 ه-

7 4/// استشهاد الإمام محمد الباقر (ع). 95 ه-

8 5/// يوم التروية- خروج الإمام الحسين (ع) من مكة العراق. 60 ه-

9 6/// يوم عرفة. من كل عام

7 استشهاد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة. 59 ه-

10 8/// عيد الأضحى المبارك (يوم النحر). من كل عام

18 9/// يوم الغدير (نصب علي (ع) وصياً من قبل النبي (ص). 10 ه-

22 10/// استشهاد ميثم التمار رضوان الله عليه. 60 ه-

24 11/// يوم المباهلة مع نصارى نجران. 10 ه-

24 12/// يوم تصدّق الإمام علي (ع) بالخاتم للفقير. 10 ه-

25 13/// نزول سورة الإنسان في فضل أهل البيت (هم). 10 ه-

25 14/// البيعة لعلي بن أبي طالب (ع) بالخلافة. 35 ه-

ص: 277

(1/ ذو الحجة/ السنة 2 ه-)

1. زواج الإمام علي (ع) من فاطمة الزهراء (ها)

كان عمر الإمام علي (ع) قد بلغ أربعاً وعشرين سنة، والسيدة فاطمة الزهراء قد أكملت التاسعة من عمرها وقد تقدم إلى رسول الله (ص) الكثير من الصحابة يطلبون يدها، إلّا أنّ الرسول (ص) امتنع عن ذلك، وصرح بأنه ينتظر فيها قضاء الله. (1) إلى أن تقدم أميرالمؤمنين (ع)؛ لخطبتها من رسول الله (ص)؛ فقال له (ص): «يا علي قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت ذلك لها، فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك».

فلما دخل النبي (ص) على فاطمة (ها)، وأخبرها بالأمر الذي جاء لأجله علي (ع)، سكتت ولم تولّ وجهها، ولم يرَ فيه الكراهية التي كان يراها في عرض غيره عليها، فقام وهو يقول (ص): «ألله أكبر، سكوتها إقرارها»، فخرج إلى علي (ع) وموافقة الزهراء بادية على قسائم وجهه، تحكيها ابتسامته المباركة.

فقال (ص): «يا علي هل معك ما أزوّجك به؟» فقال (ع): «فداك أبي وأمي، والله لا يخفى عليك من أمري شي ء، أملك سيفي ودرعي وناضحتي».


1- أنساب الأشراف 30: 2.

ص: 278

فقال (ع): «يا علي، أما سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحتك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكني قد زوّجتك بالدرع، ورضيت بها منك، بع الدرع، وائتني بثمنه». (1) باع الإمام علي (ع) الدرع بأربعمائة وثمانين درهماً. (2) وقيل بخمسمائة. (3) وجاء بالدراهم وطرحها بين يدي النبي (ص)، فكان هذا فقط صداق أشرف وأعظم فتاة عرفتها دنيا الإنسان.

ثم إنّ النبي (ع) قسّم المبلغ أثلاثاً، ثلثاً لشراء الجهاز، وثلثاً لشراء الطيب، وثلثاً تركه عند أم سلمة أمانة، ثم ردّه بعد ذلك إلى علي (ع) قُبيل الزفاف، إعانةً منه لوليمة الزفاف.

دفع النبي (ص) الثلث لأبي بكر وسلمان وبلال ليشتروا لفاطمة (ها) متاع بيتها، فكان ما اشتروه متواضعاً غاية التواضع، بحيث لما طرح بين يدي النبي (ص) أخذ يقلّبها بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: «أللهم بارك لقوم جُلُّ آنيتهم الخزف». (4)


1- الإصابة للعسقلاني 365: 4.
2- كانت تسمى هذه الدرع ب- الحطيمة لأنها كانت تحطم السيوف.
3- بحار الأنوار 144: 43.
4- المصدر السابق 130: 43، الحديث 32.

ص: 279

ومن خلال هذه النظرة السريعة لهذا الحدث الكبير في تاريخ الإسلام يمكن استقراء جملة من الدروس التربوية العظيمة التي جعلها النبي (ص) معالم للأجيال، يمكن الإشارة إلى أهمها وهي:

أولًا: اختيار علي (ع) لفاطمة (ها)- وإن كان من قبل السماء بقوله (ص): «إنّ الله أمرني بأن أزوِّج فاطمة من علي». (1)- لكنه كان وفق ضوابط الإيمان وأهلية كل طرف للطرف الآخر، ويدلّل ذلك بوضوح على أهمية هذه الضوابط واعتبارها هي الأساس الذي يجب أن تبني عليه أركان الأسرة المسلمة وكيانها.

ولعلّ في الكلام الذي روي عن النبي (ص): «يا فاطمة، أما إني ما آليت أن أنكحتك خير أهلي». (2) إشارة إلى لزوم انتخاب الأصلح.

ثانياً: السنن والدروس النبوية التي طبعت في معالم تشكيل هذه الأسرة المباركة من قلة المهر وإطعام الطعام وإقامة الفرح والسرور، وتوصية الطرفين أحدهما بالآخر، والبساطة في تجهيز أثاث البيت ومتطلباته.

عاش علي وفاطمة (ما) على أحسن حال، فلم يشتك علي من فاطمة طيلة حياته معها، وكذلك فاطمة، بل كان كل منهما للآخر نِعم العون على طاعة الله، وهناك كثير من النصوص تؤكّد هذه الحقيقة، فقد قال علي (ع) في بيان العلاقة بينهما: «فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى


1- ذخائر العقبى: 70.
2- الطبقات الكبرى 24: 8.

ص: 280

قبضها الله عزّوجل، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان». (1) وجاء في آخر كلام لها (ها) مع علي (ع): «يا بن العم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني»، فقال (ع): «معاذ الله أنتِ أعلم وأبرّ وأتقى وأكرم وأشدّ خوفاً من الله أن أوبخك بمخالفتي». (2) لقد كان التناغم والتلاؤم بين الإمام علي والسيدة فاطمة (ما) ما تعكسه هاتان العبارتان، وكيف لا يكونان كذلك وهما من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بنص كتابه العزيز: إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. (3) (3/ ذو الحجة/ السنة 9 ه-)

2. أمر النبي (ص) علياً (ع) تبليغ سورة البرائة في الحج


1- المناقب للخوارزمي: 256؛ كشف الغمة 363: 1؛ بحار الأنوار 134: 43.
2- أمالي الشيخ الطوسي 384: 1؛ بلاغات النساء، لابن طيفور: 20؛ روضة الواعظين: 151.
3- سورة الأحزاب: 33.

ص: 281

وفي هذا اليوم من السنة التاسعة للهجرة أرسل النبي (ص) علياً (ع) إلى مكة بالآيات الأولى من سورة البراءة، ليقرأها على كفّار مكة.

قال جبريل: «إن الله يقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك؛ فاستدعى رسول الله (ص) علياً (ع)... (1) هذه الحادثة تشير إلى جملة من النقاط المهمة:

أولًا: الأهمية الخاصة لهذه الآيات الشريفة وما تتضمنه من إمهال الكفار والمشركين فترة أربعة أشهر، تبدأ من العاشر من ذي الحجة وتنتهي باليوم العاشر من شهر ربيع الأول للسنة العاشرة.

ثانياً: تبين الحادثة فضل أميرالمؤمنين (ع)، وقد ورد في بعض النصوص كما في (مسند أحمد بن حنبل): أنّ علياً (ع) قال: «يا رسول الله لست خطيباً، فقال النبي (ص): لا محيص عن ذلك، فإما أن أذهب بها أو تذهب بها، فقال علي (ع): إذا كان ولا بدّ فأنا أذهب بها، فقال له النبي (ص): انطلق بها فإنّ الله يثبت لسانك ويهدي قلبك». (2) ثالثاً: مع أهمية العهود والمواثيق في الإسلام إلّا أن الأمر الإلهي أعلن من خلال هذه الآيات إعلاناً عاماً أمام الناس كافة: وَأذَانٌ مّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أنّ اللهَ بَرِيَ ءٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ .... (3)


1- الإرشاد 65: 1.
2- مسند أحمد بن حنبل 331: 1 ط/ مصر.
3- سورة التوبة: 3.

ص: 282

فقد تصرف الوحي والرسول (ص) معهم كما تصرف مع اليهود الذين نقضوا عهودهم ومواثيقهم من جانب واحد، وذلك بالتآمر سراً مع أعداء الإسلام، أو محاولة اغتيال النبي (ص) فتمت مواجهتهم وطردهم من المدينة، لكن بعض المعاهدات بقيت سارية المفعول، سواء أكانت ذات أجل مسمى أم لم تكن؟

إنّ القرائن والدلائل التي ظهرت من جانب المشركين تدل على أنهم كانوا على استعداد فيما لو استطاعوا أن يوجهوا ضربة قاضية للمسلمين دون أدنى اعتناء بعهودهم، ومن البديهي أنه إذا رأى الإنسان عدوه يتربص به ويستعد لنقض عهده، ولديه قرائن على ذلك وعلائم واضحة، أن ينهض لمواجهته قبل أن يستغفله، ويعلن إلغاء عهده، ويرد عليه بما يستحق.

ومن الجدير ذكره في هذا الباب أنّ القوانين الدولية المعاصرة لاتعترف بالمعاهدات بين الدول إذا ما تم إقرارها والتوقيع عليها تحت الضغوط والقوة القاهرة.

رابعاً: إن الأديان والعقائد الفاسدة مثل عبادة الأصنام ليست عقيدة ولا فكراً، بل هي خرافة ووهم باطل خطر، فيجب القضاء عليها وإزالتها من المجتمع الإنساني.

فإذا كانت قوة عبدة الأصنام وقدرتهم بالغة في الجزيرة العربية آنذاك، فاضطر النبي (ص) بسبب تلك الظروف إلى معاهدتهم ومصالحتهم، فإنّ ذلك لا يعني أنه لا يحق له إلغاء معاهدته- إذا ما قويت شوكته- وأن ينقض عهده الذي سيعتبر مخالفاً للمنطق والعقل فيما لو استمر عليه؛ كما أنّ

ص: 283

هذا الحكم مختص بالمشركين، أما أهل الكتاب وسائر الأقوام الذين كانوا في أطراف الجزيرة العربية فقد بقيت المعاهدات معهم على حالها ولم ينقض النبي (ص) مواثيقهم وعهودهم حتى وفاته.

إنّ البراءة في الآية المذكورة أعلاها لا تختصّ بمشركي الجزيرة بل إنها تشمل البراءة من مشركي العالم كله، الموجودين في عصر الرسالة ومن بعدهم إلى يوم القيامة. وهذه الآية تعلن عن أوضح موقف سياسي تجاه المشركين وأعداء الإسلام.

وأما من تمسّك بقوله تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجّ. (1)

لتحريم المظاهرات وإعلان البراءة من المشركين، فمردود؛ لأنّ المشهور عند المفسرين في تفسير هذه الآية أنّ الرفث هو الجماع والفسوق هو جميع المعاصي، والمراد بالجدال هو المراء والمشاجرة والمنازعة. (2) هذا ما عند القوم، وأمّا عند أهل البيت (هم) فقد فُسّر الجدال المذكور في الآية بقول الرجل: لا والله، وبلى والله. (3) وأين هذا من تحريم مطلق الجدال الذي يدعيه القوم؟! وقد اتخذه الوهابيون دليلًا على حرمة المظاهرات وإظهار البراءة من الكفار والمنافقين في موسم الحج.

ومن هذا المنطلق كان الإمام الخميني (قده) يرى بأنّ السياسة جزء من الدين، وأنّ عملية فصل السياسة عن الدين التي شاعت خلال العقود


1- سورة البقرة: 197.
2- الكشاف، للزمخشري 263: 1.
3- نور الثقلين 162: 1.

ص: 284

الأخيرة من هذا القرن، إنما روّج لها المستعمرون، وأنّ النتائج المشؤومة لهذا الفصل واضحة في العالم الإسلامي وبين أتباع سائر الأديان الإلهية.

وكان الإمام الخميني (قده) يعتقد بأنّ الإسلام دين الهداية البشرية في جميع مراحل وأبعاد وأدوار الحياة الفردية والاجتماعية، ولما كانت العلاقات الاجتماعية والسياسية جزءاً لايتجزأ من حياة البشر، فإنّ الإمام الخميني (قده) كان يرى أنّ الإسلام الذي يهتم بالجوانب العبادية والأخلاقية الفردية فحسب، ويصدّ المسلمين عن تقرير مصيرهم وعن المسائل الاجتماعية والسياسية، إسلام محرّف، وعلى حد تعبير سماحته" إسلام أمريكي".

لقد بادر الإمام الخميني (قده) بعد انتصار الثورة الإسلامية فضلًا عن الحكومة الإسلامية بأسلوب يختلف تماماً عن الأنظمة السياسية المعاصرة، أوضح أركانه وأصوله دستور الجمهورية الإسلامية، إلى إحياء شعائر الإسلام الاجتماعية، وإعادة الروح السياسية للأحكام الإسلامية، وما إحياء وإقامة مراسم صلاة الجمعة، ومراسم صلاة الجماعة، ومراسم صلاة الأعياد الإسلامية الكبرى في مختلف أنحاء البلاد، إلّا توكيد على أنّ الإسلام عقيدة عبادية سياسية، وطرح المسائل والمشكلات التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي داخل البلاد وخارجها في خطب صلوات الجمعة والأعياد الدينية، وتغيير أسلوب ومحتوى مراسم العزاء والرثاء، وغيرها من مضامين التغيير إلّا نماذج بارزة على ذلك.

ص: 285

إنّ أحد أبرز إنجازات الإمام الخميني (قده) إحياء الحج الإبراهيمي، واعتبر الحج من أبرز مظاهر التلاقي وإعلان البراءة من المشركين، إلا أنّ الناظر إلى الحج لايرى أيّ أثر من طرح لمشكلات العالم الإسلامي والبراءة من المشركين؛ وقد اعتبر رضوان الله عليه من خلال بياناته السنوية التي كان يوجّهها إلى الحجاج في موسم الحج على وجوب اهتمام المسلمين بالأمور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار إعلان البراءة من المشركين ركناً من أركان الحج، وتوضيح مسؤوليات الحجيج في هذا الخصوص.

وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت مسيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشرات الآلاف من الحجاج الإيرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الأخرى، يردّدون خلالها شعارات تطالب بإعلان البراءة من أمريكا والاتحاد السوفيتي آنذاك وإسرائيل باعتبارها مصاديق بارزة للشرك والكفر العالمي، وتدعو المسلمين إلى الاتحاد.

وفي هذا الصّدد يقول سماحة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي حفظه الله تعالى في ندائه لحجاج بيت الله الحرام وذلك في موسم الحج لعام (1424 ه-):

إنهم (المستكبرون) يشعرون بوجود الصحوة الإسلامية، ويشعرون بالخطر من انتشار فكرة (الإسلام السياسي) وسيادة الإسلام، وترتعد فرائصهم عندما يفكرون بيوم تنهض فيه الأمة الإسلامية موحدة مليئة بالأمل، فإنّ الأمة الإسلامية بما تملكه من ثروات طبيعية، وتراث حضاري تاريخي عظيم، ورقعة جغرافية مترامية الأطراف، وكم بشري هائل، لن تسمح في ذلك اليوم المنشود، لقوى الهيمنة التي طفقت تمتص دم الأمة

ص: 286

وتنتهك حرمتها وكرامتها طوال مائتي عام، أن تستمر في هذا الطغيان والعدوان.

إنّ النخب السياسية والفكرية في عالمنا الإسلامي تتحمل اليوم مسؤولية جسيمة في إقامة مناسك الحج وشعائره بما جاء به الإسلام العظيم.

إننا نستشرف أفق المستقبل مشرقاً أمام شعبنا والعالم الإسلامي، و مستمرون بعزيمة راسخة في الدرب الذي رسمه الإمام الخميني العظيم، وواثقون من تحقق الوعد الإلهي وثوقاً يتزايد يوماً بعد يوم. (1) (3/ ذو الحجة/ السنة 9 ه-)

3. وصول النبي (ص) إلى مكة المكرمة لحجة الوداع

كان وصول النبي (ص) إلى كدي أو كداء، يوم الإثنين الرابع من ذي الحجة في العام العاشر للهجرة، وكان في آخر نهار ذلك اليوم. (2) فلما أصبح في اليوم التالي اغتسل ودخل مكة نهاراً. (3) وذلك من العقبة، فلما انتهى إلى باب المسجد- باب شيبة- استقبل القبلة (الكعبة) فحمد الله وأثنى عليه


1- بيان الإمام الخامنئي حفظه الله تعالى في موسم الحج 2004 م.
2- بحار الأنوار 39: 21؛ فروع الكافي 233: 1.
3- المغازي، للواقدي 1097: 2.

ص: 287

وصلى على أبيه إبراهيم، (1) ثم دخل بناقته العضباء واستلم الركن (الحجر الأسود) بمحجنته (عصاً قصيرة معوجة الرأس)، وقبّل الحجر، (2) ثم طاف بالبيت سبعة أشواط، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم (ع)، قرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون، وفي الثانية التوحيد، (3) ثم دخل زمزم فشرب منه، ثم استقبل الكعبة وقال: «أللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كلّ داء وسقم»، ثم رجع إلى الحجر الأسود ليستلمه وقال لأصحابه: «ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر» ثم استلمه وخرج إلى الصفا، وقال لأصحابه: ابدؤوا بما بدأ به الله تعالى إذ قال: إِنّ الصّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ، حتى صعد الصفا فقام عليه، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبّره قال:

«لا إله لا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شي ء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده». قال مثل هذا ثلاث مرات، ودعا بين ذلك، ثم نزل إلى بطن الوادي ومشى حتى صعد المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا. (4) لحوق علي (ع) بركب الرسول (ص)

كان علي (ع) في اليمن، وكان الرسول (ص) قد كاتب علياً (ع) بالتوجه إلى الحج من اليمن، فخرج أميرالمؤمنين (ع) بمن معه من العسكر


1- بحار الأنوار 396: 21، وفروع الكافي 234: 1.
2- فروع الكافي 283: 1؛ بحار الأنوار 402: 21؛ المغازي للواقدي 1098: 2.
3- صحيح مسلم 36: 4؛ بحارالأنوار 404: 21؛ المغازي 1098: 2.
4- بحار الأنوار 404: 21؛ صحيح مسلم 36: 4؛ المغازي 1099: 2.

ص: 288

الذي صحبه، وساق معه أربعاً وثلاثين بدنة هدياً، معه الحلل، ولما بلغ يلملم عقد نيته بنية النبي، وقال: «أللهم إهلالًا كإهلال نبيك».

فلما قارب رسول الله (ص) مكة من طريق المدينة قاربها أميرالمؤمنين (ع) من طريق اليمن، فلما كان بالفتق قرب الطائف خلّف على أصحابه أبا رافع القبطي، وتقدمهم للقاء النبي (ص)، فأدركه وقد أشرف على مكة، فسلم وأخبره بما صنع وأنه سارع للقائه قبل الجيش. (1) فسرّ رسول الله (ص) بذلك وابتهج بلقاء علي (ع)، وكان محرماً فسأله: «بمَ أهللت يا علي؟ فقال (ع): يا رسول الله، إنك لم تكتب إليّ بإهلالك، ولا عرفتنيه، فعقدت نيتي بنيتك. وقلت: أللهم إهلالًا كإهلال نبيك، وسقت معي من البدن أربعاً وثلاثين بدنة، فقال رسول الله (ص): ألله أكبر فقد سقت أنا ستاً وستين، وأنت شريكي في حجتي ومناسكي وهديي، فأقم على إحرامك، وعد إلى جيشك، فعجّل بهم إليّ حتى نجتمع في مكة إن شاء الله».

خطبته (ص) في آخر عمرته:

روى الكليني بسنده عن الصادق (ع): أنه لما فرغ رسول الله (ص) من سعيه وهو على المروة أقبل على الناس بوجهه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إنّ هذا جبرائيل- وأومأ بيده إلى خلفه- يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحل، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم، ولكني سقت الهدي، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حَتّىَ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ


1- المغازي، للواقدي 108: 2، وقال الواقدي: إنّ الحلل هي الغنائم، وقال المفيد: كانت جزية نصارى نجران.

ص: 289

فقال رجل من القوم: أنخرج حجاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر؟! (يعني من غسل الجنابة).

فقال رسول الله (ص): أما إنك لن تؤمن بهذا أبداً!

فقال سراقة بن مالك الكناني: يا رسول الله، علمنا ديننا كأننا خلقنا اليوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟

فقال رسول الله (ص): بل هو للأبد إلى يوم القيامة، وشبك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة». (1) وفي يوم التروية خرج (ص) إلى مناسك الحج...

وقد أخبر النبي (ص) الناس عند مسجد الخيف، ومن خطبته هناك: «أيها الناس، إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا ولن تزلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير، انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض كإصبعي هاتين»، وجمع بين سبابتين، (ولا أقول كهاتين، وجمع بين سبابته والوسطى) فتفضل هذه على هذه. (2)


1- بحار الأنوار 391: 21؛ فروع الكافي 233: 1؛ أما في صحيح مسلم عن الصادق والباقر عن جابر: فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة.
2- تفسير القمي 173: 1 و 446: 2- 447، وأسنده النعماني في الغيبة: 27- 28، إلى الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق، وأسنده الكافي للكليني 403: 1 إلى الإمام الصادق، وأسنده الصدوق في الخصال 149: 1 إلى الصادق أيضاً وكذا المفيد في أماليه 186: 2 بطرق أخرى.

ص: 290

(7/ ذو الحجة/ السنة 95 ه-)

4. استشهاد الإمام محمد الباقر (ع)

أبو جعفر، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو الإمام الخامس من أئمة أهل البيت (هم).

ولد بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة. وقبض في المدينة أيضاً سنة أربع عشرة ومائة، فعمره الشريف سبع وخمسون سنة وهو أول علوي من علويين، أبوه الإمام زين العابدين (ع) وأمّه فاطمة بنت الحسن السبط (ع) وقبره في البقيع في مدينة الرسول (ص). (1) كانت شهادة الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) على يد هشام بن عبدالملك؛ وفي بعض الروايات قيل: إنّ عبدالملك بن مروان بعث بسرج مسموم إلى الإمام (ع) وعندما وضعوه فوق الفرس وجلس عليه الإمام أحس بحرارة السم، فتورم جسده الشريف وظهرت عليه آثار الموت.

روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنه قال: «في أحد الأيام طلبني أبي وقال لي: يا جعفر إذا أنا متُّ فغسلني وكفّني وارفع قبري أربع أصابع ورشه بالماء (وكان عنده قوم من أصحابه) فلما خرجوا قلت: يا أبت لو أمرتني بهذا صنعته، ولم ترد أن أدخل عليك قوماً تشهدهم، فقال: يا بني أردت أن لا تنازع (أي في أمر الإمامة). (2)


1- الإرشاد 158: 2.
2- الخرائج: 197.

ص: 291

والحادثة تشير إلى أنه (ع) أوضح للحاضرين من شيعته وأتباعه من هو الإمام من بعده؛ لأن الشيعة يعرفون من خلال أئمتهم أنّ المعصوم لا يتولى تغسيله وتجهيزه ودفنه إلّا خليفته المعصوم من بعده.

والإمام الباقر (ع) يمثل حلقة الوصل في استكمال الخطة التي بدأها الإمام زين العابدين (ع) وذلك بالسعي الدؤوب في بثّ علوم آل البيت (هم) ومواجهة مخططات التحريف ونشر الشبه والضلالات والأفكار الإلحادية من قبل الزنادقة والمخطط الأموي في الطمس والتعتيم على أحقية آل البيت (هم) في الإمامة السياسية والفكرية للأمة الإسلامية.

لقد أنشأ الإمام زين العابدين (ع) حلقات الدرس والمناظرات في مسجد جدّه رسول الله (ص) وتوسعت هذه الحركة الفكرية في زمن الإمام الباقر (ع) وبلغت ذروتها في زمن ولده الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) حيث كانت الدولة الأموية قد أوشكت على الانهيار.

وقد نقلت التفاسير وكتب الحديث والتاريخ عن الإمام محمد الباقر (ع) أحاديث وحوارات كثيرة حصلت بينه وبين رجال الفكر والعلماء المعاصرين له من أمثال نافع مولى عمر بن الخطاب، حيث التقى به في داخل البيت الحرام، وكان نافع قد ذهب إلى الحج مع الخليفة هشام بن عبد الملك، فنظر نافع إلى الإمام الباقر (ع) في ركن البيت وقد اجتمع عليه الخلق وقال: يا أميرالمؤمنين من هذا الذي قد تكافأ عليه الناس. فقال: هذا محمد بن علي، قال: لآتينه ولأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبي أو وصي نبي، قال الخليفة هشام: فاذهب إليه لعلك تخجله؛ وذهب نافع والتقى الإمام

ص: 292

الباقر (ع) وسأله عن مسائل كثيرة لا يتسع هذا البحث المختصر لإيرادها، ولكن نكتفي بسؤال واحد هو عن قول الله تبارك وتعالى: وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ.

قال نافع: من الذي سأل محمداً (ص) وكان بينه وبين عيسى (ع) خمسمائة عام؟

فأجابه الإمام الباقر (ص) بأن ذلك كان من الآيات التي أراها الله عزّوجل لنبيه الكريم (ص) في الإسراء إلى بيت المقدس؛ قال تعالى: سُبْحَانَ الّذِي أسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ حيث حشر الله الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، ثم أمر جبرئيل فأذّن شفعاً وأقام شفعاً، وقال في أذانه حي على خير العمل، ثم تقدم رسول الله (ص) فصلى بالقوم، فلما انصرف قال الله تعالى: وَاسْئَلْ مَنْ أرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُلِنَآ أجَعَلْنَا مِن دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ. فقال النبي (ص): على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا اله إلّا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله، أخذت على ذلك عهودنا ومواثيقنا.

قال نافع: صدقت يا أبا جعفر.

وللإمام (ع) حوارات كثيرة مع الحسن البصري وطاووس اليماني، ومن أراد التوسعة والاطلاع فليراجع الاحتجاج، للمرحوم الطبرسي؛ وبحارالأنوار، للعلامة المجلسي 125: 6؛ والارشاد، للشيخ المفيد: 244.

وختاماً نشير إلى ما روي عنه (ع) من أنه أوصى بثمانمائة درهم تعطى لإقامة المآتم عليه بعد موته؛ روي عن الصادق (ع) أنه قال: قال لي

ص: 293

أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب يندبني عشر سنين بمنى أيام منى. (1) والحكمة من هذا الأمر الذي أمره الإمام الباقر (ع) لولده الإمام جعفر الصادق (ع) أنه أراد أن يعرّف المسلمين عامة والشيعة خاصة بأهمية إقامة الشعائر وبالأخص إحياء مجالس أهل البيت (هم)؛ لأنّ إحياء مجالسهم وذكرهم هو إحياء للإسلام، والقرآن؛ فأهل البيت (هم) هم عدل القرآن ولا يفترقا أبداً كما صرح بذلك نبي الإسلام محمد (ص) في حديث الثقلين المعروف.

(8/ ذو الحجة/ السنة 60 ه-)

5. يوم التروية- خروج الإمام الحسين (ع) من مكة إلى العراق

سمي اليوم الثامن من شهر ذي الحجة بيوم التروية؛ لأن الحجاج يخرجون فيه من مكة محرمين إلى منى وهم يتروون من الماء، أي يحملونه معهم في الروايا إلى عرفات، لأنه لم يكن في الزمن السابق بعرفة ماء.


1- الكافي 117: 5.

ص: 294

وفي هذا اليوم من ذي الحجة يوم التروية سنة ستين أعلن مسلم بن عقيل حركته في الكوفه قبل الأجل الذي بينه وبين الناس، وذلك بسبب استشهاد هانئ بن عروة، واجتمع إليه أربعة آلاف ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت).

وقد نجحت حركته في بدايتها وأقبل الثوار نحو قصر الإمارة، فتحرز عبيد الله بن زياد، وغلّق الأبواب لعدم قدرته على المواجهة، لأنه لم يكن معه إلّا خمسون رجلًا من الشرطة وبعض الأشراف والموالي، لكنه عمد إلى حيلة استطاع من خلالها تفتيت القوة المجتمعة حول مسلم بن عقيل، إذ صاح الخائفون المتحصنون معه في القصر: يا أهل الكوفة اتقوا الله ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم وجربتموهم، فتفرق الأربعة آلاف، ولم يبق منهم إلّا ثلاثمائة مقاتل؛ و روى أنّ الرجل كان يأتي ابنه أو أخاه أو ابن عمه فيقول له: انصرف، والمرأة تأتي زوجها فتتعلق به حتى يرجع.

وفي اليوم نفسه- الثامن من ذي الحجة سنة ستين- توجه الحسين (ع) من مكة إلى العراق بعد مقامه بمكة من اليوم الثالث من شعبان؛ و كان قد اجتمع إليه مدة مقامه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة، وكان (ع) قد طاف وسعى وأحل إحرامه وجعلها عمرة لمّا بلغه أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجده، فكره الإمام الحسين (ع) أن تستباح به حرمة البيت.

ص: 295

وخطب الإمام الحسين (ع) في مكة خطبته الشهيرة التي قال فيها: «ألحمد لله وما شاء الله ولا قوة إلّا بالله وصلى الله على رسوله، خُطّ الموت على وُلد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خط بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حظيرة القدس، تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا من كان فينا باذلًا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى». (1) وروي أنه (ع) قال لعبد الله بن الزبير: «إنّ أبي حدثني أن بمكة كبشاً به تستحل حرمتها فما أحب أن أكون ذلك الكبش، ولئن أقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أن أقتل فيها، وأيم الله لو كنت في ثقب هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم، والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!». (2)


1- اللهوف: 33.
2- الكامل لابن الأثير 16: 1، عن الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف، وانظر وقعة الطف لأبي مخنف.

ص: 296

(9/ ذو الحجة/ من كل عام)

6. يوم عرفة

اليوم التاسع من ذي الحجة من كل سنة هو يوم عرفة، وهو يوم دعا الله عباده فيه إلى طاعته وعبادته وبسط لهم موائد إحسانه وجوده. والشيطان فيه ذليل حقير طريد غضبان أكثر من أيّ وقت سواه، ولهذا اليوم عدة أعمال:

قال الكفعمي في المصباح: يُستحب صومُ عرفة لمن لا يضعف عن الدعاء، والاغتسال قبل الزّوال، وزيارة الإمام الحسين (ع) فيه وفي ليلته، ومن أعمال هذا اليوم قراءة الأدعية المأثورة عن الأئمة (هم) وهي كثيرة والمشهور منها دعاء عرفة لأبي عبد الله الحسين (ع) وكذلك دعاء الإمام السجاد (ع) في هذا اليوم. (1) عرفات- جبل الرحمة:

هضبة تبعد عن الكعبة حوالي (21) كيلومتر، يقصدها الحجيج لأداء حج التمتع، بعد ارتدائهم لملابس الإحرام، ويقفون في هذه المنطقة من ظهر يوم التاسع من ذي الحجة إلى غروب الشمس، منهمكين بالدعاء والتضرع، لينزل الله تعالى عليهم رحمته، ويعطيهم الرخصة مرة أخرى للدخول إلى الحرم.


1- مفاتيح الجنان- أعمال شهر ذي الحجة.

ص: 297

في رواية عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبدالله (ع) عن عرفات: لِمَ سميت عرفات؟ فقال: «إنّ جبرئيل (ع) خرج بإبراهيم (ع) يوم عرفة، فلما زالت الشمس قال جبرئيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف مناسكك، فسميت عرفات لقول جبرئيل اعترف فاعترف». (1) وهناك أسباب أخرى للتسمية أعرضنا عنها لضرورة الإيجاز.

الوقوف بعرفة:

قبل الإسلام كانت جرهم تتأسى بإبراهيم (ع)، فيطوفون بالبيت ويقفون على عرفات، وجاء الإسلام فجعل الحج عرفة، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج.

الأزرقي: عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال: أضللت بعيراً لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه حتى جئت عرفة، فإذا رسول الله (ص) واقف بعرفة مع الناس، فقلت: هذا رجل من الحمس، فما له خرج من الحرم؟ يعني قريشاً كانت تسمي الحمس والأحمسي المشدد في دينه، فكانت قريش لا تجاوز الحرم تقول: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقف بعرفة، وذلك قول الله عزّوجل: ثُمّ أفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النّاسُ. (2) أرض المغفرة وقبول الدعاء:

إحدى أهم الألطاف التي يحصل عليها الحجاج من رحلة الحج المعنوية، هو غفران الذنوب، ففي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام،


1- مستدرك الوسائل 26: 10 الباب 14، الحديث رقم 1372.
2- أخبار مكة، للأزرقي 195: 2، البقرة: 199.

ص: 298

يأتي الحجيج من كل فج عميق ويجتمعون في عرفات، ويطلبون من الله تعالى أن يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم ويطهرهم من الأدران، فهم في دعاء وبكاء وتوسل.

عن علي (ع) قال: «إنّ رسول الله (ص) لما حج حجة الوداع، وقف بعرفة فأقبل الناس بوجهه فقال: مرحباً بوفد الله- ثلاث مرات- الذين إن سألوا أعطوا، وتُخلف نفقاتهم، ويجعل لهم في الآخرة بكل درهم ألفاً من الحسنات، ثم قال: يا أيها الناس ألا أبشركم؟! قالوا: بلى يا رسول الله: قال: إنه إذا كانت هذه العشية باهى الله بأهل هذا الموقف الملائكة، فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبيدي وإمائي أتوني من أطراف الأرض، شعثاً غبراً، هل تعلمون ما يسألون؟ فيقولون: ربنا يسألونك المغفرة، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فانصرفوا من موقفكم مغفوراً لكم ما سلف». (1) الصوم في يوم عرفة:

ورد النهي عن الصوم في يوم عرفة في بعض الروايات من الفريقين، ولعل السبب في ذلك يعود إلى ضرورة أن يكون الفرد نشيطاً أثناء الدعاء والتضرع، لأن الفرد الصائم، يستحوذ عليه الضعف ولا يجد القدرة على الدعاء وكان رسول الله (ص) لا يصوم عرفة، وفعل ذلك الخلفاء وبعض الصحابة أيضاً تأسياً به (ص). (2)


1- مستدرك الوسائل 36: 8.
2- أخبار مكة، للفاكهي 24: 5.

ص: 299

(9/ ذو الحجة/ السنة 60 ه-)

7. استشهاد مسلم بن عقيل و هاني بن عروة (ره)

هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب بن عبدالمطلب، وهو ابن عم الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، ولد مسلم في المدينة واستشهد في الكوفة عام ستين، وروي أنّ عمره 34 أو 38 سنة، وربما كان أكثر من ذلك، وقد نشأ في بيت عمه أميرالمؤمنين (ع) وحضر معه وقائع الجمل وصفين والنهروان، وكان لنشأته مع ابني عمه الحسن والحسين (ما) أثره البالغ في سلوكه وتربيته الرسالية، وتحمّله مسؤولية السفارة بين الحسين (ع) وأهل الكوفة، ورفضه التخلي عنه، وأدائه الرائع لرصّ الصفوف حوله، ومواجهته الشجاعة للطاغية ابن زياد ودولة الأموية الظالمة.

وقد كانت زوجته رقية الصغرى بنت أميرالمؤمنين (ع) مع الحسين (ع) في ركبه مع بنتها وأولادها الذين استشهدوا في واقعة الطف وبعدها.

ولعلّ ميزاته الشخصية الفريدة جعلت الإمام (ع) يرى فيه الشخص المؤهل الوحيد القادر على القيام بالمهمة التي قام بها.

مسلم على مستوى المهمة الموكلة إليه:

ص: 300

عندما وردت كتب أهل الكوفة إلى الحسين (ع) تستدعيه، وتعلن ولاء العراقيين له، واستعدادهم ليكونوا خلفه جنداً مجنّدة، دعا (ع) مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعُمارة بن عُبيد السلولي، وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين، مستوثقين عجّل إليه بذلك. (1) لقد بعثه إلى الكوفة ليكشف له حقيقة هذا الأمر والاتفاق، فإن كان متحتماً، وأمراً حازماً محكماً، بعث له ليركب في أهله وذويه ويأتي الكوفة. (2) أجل، أرسله الإمام الحسين (ع) إلى أهل الكوفة بعدما تواترت عليه كتبهم ورسائلهم، وأنفذ معه كتاباً إليهم: «وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي. (3)

وقد أوصاه قائلًا: «إني موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحب ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامض ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليّ بالخبر حتى أعمل على حسب ذلك إن شاء الله تعالى».


1- الطبري 108: 6؛ وابن الأثير 386: 3.
2- ابن كثير 154: 8؛ وبحار الأنوار، 335: 44.
3- بحار الأنوار 334: 44.

ص: 301

وقد مضى مسلم في مهمته دون أن يتردّد أو يجبن، وليس كما زعم من ذكر أنه أرسل رسالة اعتذار إلى الإمام عن إنجاز المهمة، وأنه طلب إليه أن يكلف شخصاً آخر بها.

إنّ ما ورد بهذا الخبر يتناقض وما عرف عن مسلم وصلابته في الحق، وما عرف عن مواقفه القوية، وليس أدلّ من ذلك تصديه بمفرده لأعداد كبيرة من أعدائه، وعدم استطاعتهم التغلب عليه إلّا بمكيدة غادرة، ثم موقفه الشجاع بوجه ابن زياد وهو أعزل.

كما أنه يتناقض مع ما عُرف من استعداداته الخلقية والنفسية التي جعلت الإمام (ع) يختاره من بين كل أصحابه وأهله لهذه المهمة الشاقة.

في بيت المختار الثقفي:

ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن عبيدة، وهي التي تدعى اليوم دار مسلم في المسيب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه. (1) وكان اختيار مسلم لدار المختار صائباً وموفقاً، فالمختار من الشخصيات النادرة القوية التي التزمت خط أهل البيت (هم).

وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين (ع) فيبكون، ويعدونه من أنفسهم القتال والنصرة. (2) وقد ألقيت خطبة حماسية أمام الوفود التي جاءت لتقديم البيعة، وكان الخطباء بمستوى أقوالهم، وقد استشهد بعضهم مع الإمام (ع) فعلًا.


1- الطبري 279: 3؛ وابن الأثير 267: 3؛ والإرشاد: 226.
2- ابن الأثير 386: 3؛ والطبري 279: 3.

ص: 302

قال عابس بن أبي شبيب الشاكري موجهاً الخطاب لمسلم: فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله لأحدثنّك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله.

وقد اختلف المؤرخون حول عدد الذين بايعوا مسلم للإمام الحسين (ع) فذكر أغلبهم أنهم كانوا ثمانية عشر ألفاً. (1) وهو عدد كبير يشكّل جيشاً قوي الشكيمة لو أنهم استمروا على مواقفهم خلف مسلم.

لذلك كتب مسلم إلى ابن عمه الحسين (ع) في رسالة له، وهو يقول فيها: «أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام». (2) مضت الدعوة إلى الحسين تتسع في الكوفة وجوارها، وأصبح الناس يهتفون باسمه حتى ضاق الأمر على النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة؛ فكتب أنصار الأمويين إلى يزيد بن معاوية بالشام، وعرّفوه إقبال الناس على مسلم ودعوته، وبيعة الحسين (ع)، وضعف الوالي النعمان.


1- الإرشاد: 205؛ والطبري 290: 3.
2- الطبري 290: 3.

ص: 303

فجمع يزيد أنصاره ومستشاريه وعلى رأسهم سرجون الرومي، وسألهم ما العمل؟ فأشاروا عليه بتولية عبيد الله بن زياد وعزل النعمان بن بشير. (1) دخول عبيد الله بن زياد إلى الكوفة:

خرج عبيد الله بن زياد من البصرة، وأقبل إلى الكوفة حيث عُيّن والياً عليها بدلًا من الوالي السابق النعمان، ولما قدم ابن زياد الكوفة انفضّ أنصار مسلم بن عقيل من حوله، لأن ابن زياد استخدم بحكم نفسيته الخبيثة الترهيب تارة والترغيب أخرى.

عظمت الرشاوى، واستمال الذين في قلوبهم مرض، وأرهب الضعفاء، فتوارى مسلم عن الأنظار لكن ابن زياد استطاع العثور على موضع اختفائه بواسطة جواسيسه، فقبض على هاني بن عروة الذي كان يخفيه في داره، فاضطرّ مسلم إلى إعلان ثورته قبل موعدها المقرّر، وحاصر ابن زياد في قصر الإمارة.

وكانت الخيانة، فانقلب الأشراف والرؤساء الذين عظمت رشوتهم وملئت جيوبهم من الدرهم والدينار، فمالوا إلى جانب ابن زياد وخذلوا مسلماً.

مسلم لا يغدر:


1- أنساب الأشراف، للبلاذري؛ أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين 589: 1.

ص: 304

أقام مسلم بن عقيل في دار هاني بن عروة متكتماً لا يعلم بوجوده سوى خواص الشيعة، وتشاء الصدف أن يأتي شريك بن الأعور من البصرة فينزل ضيفاً على هاني، ويجتمع بمسلم، وتشاء الصدف أن يمرض شريك.

جاءت الأخبار لابن زياد: أنّ شريك بن الأعور مريض في بيت هاني فسارع لعيادته، لأنّ شريكاً من كبار الأشراف والوجهاء.

لما علم شريك أنّ ابن زياد قادم لاحت بفكره خطة، فقال لمسلم بن عقيل: إنّ غايتك وغايتي هلاك الظالمين وهذا عبيد الله قادم لزيارتي فاقتله وأرح البلاد والعباد من جوره. فقال مسلم: وكيف ذلك؟ فقال شريك: أقم في هذه الخزانة- وأشار بيده إلى خزانة في الحائط- حتى إذا دخل ابن زياد وأخذ في الحديث أخرج أنت إليه فاقتله وأرح الناس من شره، وضع يدك على زمام الحكم ريثما يحضر مولانا الحسين (ع).

اختبأ مسلم في الخزانة، دخل ابن زياد منزل هاني بن عروة وجلس بالقرب من شريك وراح يستفسر عن صحته.

كانت عين شريك ترمق الخزانة بين الحين والآخر يتوقع خروج ابن عقيل شاهراً سيفه يضرب ابن زياد ضربة واحدة ويقتله. لكن مسلماً لم يخرج وطال الانتظار، ونادى بأعلى صوته:

ما الانتظار بسلمى لا تحيّوها حيّوا سليمى وحيّوا من يحيّيها

وإن تخشيت من سلمى مراقبة فلست تأمن يوماً من دواهيها.

(1)


1- الطبري، وابن الأثير.

ص: 305

ثم صاح شريك بصوت رفيع ليسمع مسلماً: اسقونيها ولو كان فيها حتفي.

ولما خرج ابن زياد من دار هاني، التفت شريك إلى مسلم بن عقيل وقال له معاتباً: بالله عليك يا ابن عقيل ألا أخبرتني لماذا لم تقتله؟ وما الذي منعك من قتله؟ فقال مسلم: لقد منعني من قتله حديثان:

الأول: حديث أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) حيث قال: «إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن»؛ والثاني: امرأة هاني، فإنها تعلّقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها، وبكت في وجهي.

فقال هاني: يا ويلها من حمقاء جاهلة، قتلتني وقتلت نفسها، والذي فرّت منه وقعت فيه.

مسلم في دار طوعة:

استطاع ابن زياد من السيطرة على أوضاع الكوفة بالإغراء والوعيد، وفرض عليها من الخوف والرعب، فتفرق أصحاب مسلم من حوله، وظل وحيداً غريباً بالكوفة بلا مأوى، فما زالوا يتفرقون حتى لم يبق من الأربعة آلاف الذين كانوا معه إلّا ثلاثمائة رجل، ولما أمسى المساء صلّى مسلم بن عقيل المغرب والعشاء بالمسجد فلم يبق معه سوى ثلاثين رجلًا، ولما خرج من المسجد لم يبق معه غير عشرة نفر، وبعد برهة رأى خلفه وإذا به وحيداً ليس معه أحد يدلّه على الطريق، مشى في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، واستبد بمسلم العطش والتعب، حتى وصل على باب دار امرأة يقال لها طوعة.

ص: 306

شاهد مسلم طوعة واقفة على باب دارها وكان قد أعياه المسير، فاتجه نحوها وقال لها: السلام عليك يا أمة الله، فردّت طوعة بلطف وأدب: وعليك السلام يا عبد الله.

فقال مسلم: يا أمة الله هل لك أن تسقيني شربة ماء، فلساني قد تشقق من العطش.

أجابت طوعة: حباً وكرامة، ودخلت الدار بسرعة وجاءت بالماء، شرب مسلم وأعاد إليها الإناء شاكراً، ثم جلس ليستريح واضعاً رأسه بين يديه مهموماً.

أدخلت طوعة الإناء، ثم رجعت لتجد مسلماً ما زال جالساً على بابها، فقالت له باستنكار وتعجّب: يا عبد الله ألم تشرب الماء؟ أجابها مسلم: بلى، فقالت: إذن قم فاذهب إلى أهلك.

سكت مسلم، فعادت طوعة تكرر وتقول له: يا عبد الله اذهب إلى أهلك فإنه لا يصحّ لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك.

عندها قام مسلم بتثاقل يجر رجليه ثم وقف وقال: يا أمة الله ما لي في هذا البلد أهل ولا عشيرة فهل إلى أجر ومعروف؟ ولعلّي أكافئك به بعد هذا اليوم.

فقالت طوعة بدهشة وتعجب: يا عبد الله ما هذه المكافأة وكيف ذلك؟ ومتى بعد هذا اليوم؟ فقال: يا أمة الله أنا مسلم بن عقيل من آل بيت رسول الله وأنا سفير الحسين إلى أهل الكوفة.

ص: 307

لكن طوعة ما إن سمعت باسمه حتى صاحت بلهفة: أحقاً أنت مسلم؟ أحقاً أنت سفير الإمام الحسين (ع)؟ أجاب مسلم: نعم، يا أمة الله؛ فقالت: سيدي يا مسلم اغفر لي خشونتي وما بدر مني أدخل بأبي أنت وأمي إلى داخل الدار.

رحبت به وامتلأ قلبها سروراً، وأدخلته بيتاً غير الذي يأوي إليه إبنها وعرضت عليه الطعام فأبى؛ ولما وافى ابنها المنزل ورآها تكثر الدخول لذلك البيت استراب منه فاستفهمها عنه فأعرضت وألحّ عليها فلم تخبره إلّا بعد أن أخذت عليه العهود لا يعلم أحداً بمن في البيت فبات الغلام فرحاً بجائزة ابن زياد. (1) وما كاد الصبح يتنفس حتى أسرع ولدها إلى القصر وأخبر بمكان مسلم، وفور وصول النبأ إلى ابن زياد أرسل قوة كبيرة إليه، وما أن سمع مسلم بالضجة حتى أدرك أنّ القوم يطلبونه، فخرج إليهم بسيفه وكانوا قد طوّقوا الدار من كل جهاتها فانهزموا بين يديه وهم أكثر من مائتي مقاتل، وبعد معارك ضارية بينه وبينهم في الشوارع استعملوا فيها النار والحجارة من أعلى السطوح استسلم لهم بعد أن أمنه ابن الأشعث وأعطاه العهود.

ومضى معهم إلى القصر فأدخل على ابن زياد ولم يسلّم عليه، وجرى بينهما حوار طويل كان فيه ابن عقيل رضوان الله عليه رابط الجأش منطلقاً في بيانه، قوي الحجة، حتى أعياه أمره وانتفخت أوداجه وجعل يشتم علياً والحسن والحسين، ثم أمر جلاوزته أن يصعدوا به إلى أعلى القصر ويقتلوه، ويرموا


1- مقاتل الطالبيين: 41.

ص: 308

جسده إلى الناس، ويسحبوه في شوارع الكوفة، ثم يصلبوه إلى جانب هانئ بن عروة، هذا وأهل الكوفة وقوف في الشوارع وكأنهم لا يعرفون من أمره شيئاً، وقد صوّر الفرزدق الشاعر هذه المأساة بقوله:

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري إلى هانئ في السوق وابن عقيل

إلى بطل قد غيّر الموت لونه وآخر يهوي من طمار قتيل

فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا نساء أرضيت بقليل.

(1) (10/ ذو الحجة/ من كل عام)

8. عيد الأضحى المبارك (يوم النحر)

وهو ثاني أعياد المسلمين بعد عيد الفطر المبارك، وفيه يقوم الحجاج بالإحلال من إحرامهم في منى بعد الإفاضة من المزدلفة وأعمال هذا اليوم هي على الترتيب: رمي جمرة العقبة الكبرى، وذبح الهدي، والحلق أو التقصير.

ويحرم في عيد الفطر والأضحى الصيام، ويستحب فيهما صلاة العيد، ويستحب لغير الحاج الأضحية في يوم عيد الأضحى المبارك.

وفي يوم الأضحى المبارك يتذكر المسلم التسليم المطلق لله من قبل النبي إبراهيم وولده إسماعيل (ما)، فالأب يصارح ولده البالغ من العمر 13 عاماً بالرؤيا التي رآها بأن يذبحه قرباناً لله تعالى، والولد يسلم لأمر الله بإخلاص، والقرآن الكريم ينقل لنا هذا التخاطب الجميل بينهما بقوله تعالى:


1- سيرة الأئمة الاثني عشر 62: 2.

ص: 309

فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أرَىَ فِي الْمَنَامِ أنّي أذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصّابِرِينَ. (1) وبهذا يقدم إبراهيم وابنه إسماعيل أعظم درجة في الحب والعشق الإلهي والتضحية والفداء في سبيل الله وإعلاء كلمة لا إله إلا الله.

(18/ ذو الحجة/ السنة 10 ه-)

9. يوم الغدير (نصب الإمام علي (ع) وصياً من قبل النبي (ص))

أجمع رسول الله (ص) الخروج إلى الحجّ في سنة عشرٍ من الهجرة، وأذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمّون به في حجّته تلك التي يطلق عليها حجّة الوداع، وحجّة الإسلام، وحجّة البلاغ، وحجّة الكمال، وحجّة التمام. (2) ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله سبحانه.

فلما قضى مناسكه، وانصرف راجعاً نحو المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات، وصل إلى غدير خُم من الجحفة التي تتشعّب فيها طرق المدنيّين والمصريّين والعراقيّين، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي


1- سورة إبراهيم: 102.
2- الغدير، للأميني 9: 1، إنّ الوجه في تسمية حجة الوداع بالبلاغ هو نزول الآية 67 من سورة المائدة، كما أنّ الوجه في تسميتها بالتمام والكمال هو نزول الآية الثالثة من سورة المائدة.

ص: 310

الحجّة، نزل إليه جبرئيل (ع) عن الله تعالى: يا أيّها الرَّسُولُ بَلغ ما انزل إليك من ربّك .... (1) وأمره أن يقيم عليّاً عَلَماً للناس، ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ونهى عن سَمُرات. (2) خمس متقاربات دَوْحات عظام أن لا ينزل تحتهنّ أحد، حتى إذا أخذ القوم منازلهم، فقمّ ما تحتهنّ، حتى إذا نودي بالصلاة- صلاة الظهر- عمد إليهنّ، فصلى بالناس تحتهنّ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه، وبعضه تحت قدميه، من شدّة الرمضاء؛ وظُلّل لرسول الله (ص) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف (ص) من صلاته، قام خطيباً وسط القوم. (3) على أقتاب الإبل. (4) وأسمع الجميع، رافعاً عقيرته، فقال (ص):

«ألحمد لله ونستعينه ونؤمن به، ونتوكّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ، ولا مُضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله.

أما بعد: أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير: أنه لم يُعمّر نبيّ إلا مثل نصف عمر الذي قبله. وإنّي أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟


1- سورة المائدة: 67.
2- سَمُرات، جمع سمرة: شجرة الطلح.
3- الهيثمي، مجمع الزوائد 106: 9؛ تاريخ آل زرارة، ابن غالب الزراري 84: 2.
4- ثمار القلوب 511- 636 رقم 1068؛ المستدرك، للحاكم 533: 3.

ص: 311

قالوا: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت، فجزاك الله خيراً.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته حق وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث مَن في القبور؟

قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: أللهم اشهد، ثم قال: أيها الناس ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي فرط. (1) على الحوض، وأنتم واردون عليّ الحوض، وإنّ عرضه ما بين صنعاء وبُصرى. (2) فيه أقداح عدد النجوم من فضّة، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين. (3) فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟

قال: الثقَل الأكبر كتاب الله طرفٌ بيد الله عزّوجل وطرفٌ بأيديكم، فتمسّكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد عليّ (ع) فرفعها حتى.. عرفه القوم أجمعون، فقال: أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، يقولها ثلاث مرات- وفي لفظ أحمد أربع مرات- ثم قال: أللهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من


1- الفَرَط: المتقدم قومه إلى الماء، راجع غريب الحديث، لابن سالم 45: 1.
2- صنعاء: عاصمة اليمن اليوم، وبُصرى: قصبة كورة حوران من أعمال دمشق.
3- الثقل: كل شي ء خطير نفيس، تاج العروس، للزبيدي 245: 7.

ص: 312

أبغضه وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب.

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. (1) فقال رسول الله (ص): الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الربّ برسالتي، والولاية لعليّ من بعدي».

ثم طفق القوم يهنِّئون أميرالمؤمنين (ع)، وممّن هنّأه في مُقدّمة الصحابة الشيخان: أبو بكر وعمر كلّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. قال ابن عباس: وجبت واللهِ في أعناق القوم.

فقال حسان: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً تسمعهنّ، فقال (ص): قل على بركة الله.

فقام حسّان فقال: يا معشر مشيخة قريش أتبعها قولي بشهادةٍ من رسول الله (ص) في الولاية ماضية، ثم قال:


1- سورة المائدة: 3.

ص: 313

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخمّ وأسمع بالرسول مناديا

وقال: فمن مولاكم ووليّكم؟ فقالوا: ولم يبدوا هناك التعاديا

إلهك مولانا وأنت ولينا ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا: اللهم وال وليه وكن للذي عادى علياً معاديا

فقال له رسول الله (ص): «لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك».

هذا مجمل القول في واقعة الغدير. (1) عيد الغدير في التاريخ الإسلامي


1- الغدير، العلامة الأميني المجلد الأول.

ص: 314

إنّ أبناء المجتمع الإسلامي في العصور السالفة، لاسيّما أتباع أهل البيت (هم)، كانوا يعتبرون هذا اليوم عيداً من الأعياد الإسلامية الكبرى.

وقد عدّه أبو ريحان البيروني في كتابه (الآثار الباقية) ممّا استعمله أهل الإسلام من الأعياد. (1) وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: من صام يوم الثامن عشر من ذي الحجة؛ كتب الله له صيام ستين شهراً (أو سنةً)، وهو يوم غدير خم؛ لمّا أخذ النبي (ص) بيد علي (ع) فقال: «مَن كنت مولاه فعلي مولاه، أللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره»؛ فقال عمربن الخطاب: بخٍ بخٍ لك يابن أبي طالب! أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة. (2) والثعالبي أيضاً قد اعتبر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين. (3) يقول زيد بن أرقم: كان أول من صافق النبي (ص) وعلياً (ع)، أبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير ثم باقي المهاجرين والأنصار، ثم باقي الناس. (4) ويكفي لأهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة من الصحابة. (5)


1- ترجمة الآثار الباقية: 395؛ الغدير 267: 1.
2- تاريخ دمشق 75: 2 و 575- 577؛ تاريخ بغداد 290: 8.
3- ثمار القلوب: 511.
4- الغدير 270: 1، رواه عن أحمد بن محمد الطبري الشهير بالخليلي.
5- الغدير 61: 1 و 314.

ص: 315

(22/ ذو الحجة/ السنة 60 ه-)

10. استشهاد ميثم التمار (رضوان الله عليه)

وهو من خلّص أصحاب أمير المؤمنين (ع)، وكان الإمام (ع) يخرج من جامع الكوفة ويجلس عند ميثم فيحادثه؛ وروي أنه كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين (ع) وأعتقه، وقال له: ما اسمك، قال: سالم، قال: أخبرني رسول الله (ص) أنّ اسمك الذي سماك به أبوك في العجم ميثم، قال: صدق الله وصدق رسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لاسمي، قال فارجع إلى اسمك الذي سماك به رسول الله (ص) ودع سالماً، فرجع إلى ميثم و اكتنى بأبي سالم.

قال له علي (ع) ذات يوم: ألا أبشرك يا ميثم؟ قال: بماذا يا مولاي؟ قال: بأنك تموت مصلوباً، قال: يا مولاي وأنا على فطرة الإسلام؟ فقال: نعم يا ميثم، فقال له: تريد أريك الموضع الذي تصلب فيه، والنخلة التي تعلّق عليها وعلى جذعها؟ قال: نعم يا علي، فجاء به إلى رحبة الصيارفة فقال له: هاهنا؛ ثم أراه النخلة فكان يتعاهدها ويصلي عندها حتى قطعت وشقت

ص: 316

نصفين فنصف تنصف منها وبقي النصف الآخر، فما زال يتعاهد هذا النصف ويصلي في الموضع ويقول لبعض جوار الموضع: يا فلان إني أجاورك عن قريب فأحسن جواري؛ فيقول ذلك الرجل في نفسه يريد ميثم: يشتري داراً في جواره.

وحج في السنة التي قتل فيها فدخل على أمّ المؤمنين أمّ سلمة فقالت: من أنت؟ قال: أنا ميثم، قالت: والله لربما سمعت رسول الله (ص) يوصي بك علياً (ع) في جوف الليل، فسألها عن الحسين (ع)، قالت هو في حائط له، قال: أخبريه أني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله، فدعت له بطيب فطيب لحيته، وقالت له: أما إنها ستخضب بدم.

فقدم الكوفة فأخذه جلاوزة عبيد الله بن زياد فأدخل عليه فقيل: هذا كان من آثر الناس عند علي (ع)، قال: ويحكم، هذا الأعجمي! قيل له: نعم، قال له عبيد الله: أين ربك؟ قال: بالمرصاد لكل ظالم وأنت أحد الظلمة؛ قال: إنك على عجمتك لتبلغ الذي تريد، ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟ قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة، قال: لنخالفنه، قال: كيف تخالفه؟ فوالله ما أخبرني إلّا عن النبي (ص) عن جبريل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عرفت الموضع الذي أصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أول خلق الله ألجم في الإسلام، فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيد، فقال ميثم للمختار: إنك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين (ع) فتقتل هذا الذي يقتلنا.

ص: 317

فلما دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله يأمره بتخلية سبيله، فخلاه وأمر بميثم أن يصلب، فأخرج. فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم! فتبسم وقال وهو يؤمي إلى النخلة: لها خلقتُ ولي غُذِيَتْ.

وكان مقتل ميثم رضوان الله عليه قبل قدوم الحسين (ع) العراق بعشرة أيام، فلما كان اليوم الثالث من صلبه، طُعن ميثم بالحربة، فكبر ثم انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً.

فسلام عليك يا ميثم في الخالدين.

(24/ ذو الحجة/ السنة 10 ه-)

11. يوم المباهلة مع نصارى نجران

إنّ يوم 24 من شهر ذي الحجة السنة العاشرة هو يوم المباهلة على الأشهر. (1) والقضية كما يلي:


1- المشهور أنَّ يوم المباهلة كان بعد فتح مكة واختلف العلماء في سنة الواقعة ويومها.

ص: 318

لما انتشر الإسلام بعد فتح مكة وقوى سلطانه، وفد إلى النبي (ص) الوفود، فمنهم من أسلم ومنهم من استأمن ليعود إلى قومه برأيه (ص)، وكان ممن وفد عليه أبو حارثة أسقف نجران في ثلاثين رجلًا من النصارى، منهم العاقب والسيد وعبد المسيح، فقدموا المدينة وقت صلاة العصر، وعليهم لباس الديباج والصلب، فلما صلى النبي (ص) العصر توجهوا إليه يقدمهم الأسقف، فقال له: يا محمد ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبي (ص): «عبد الله اصطفاه وانتجبه» فقال الأسقف: أتعرف له- يا محمد- أباً ولده؟ فقال النبي (ص): «لم يكن عن نكاح فيكون له والد» قال: فكيف قلت: إنه عبد مخلوق، وأنت لم تر عبداً مخلوقاً إلّا عن نكاح وله والد؟ فأنزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران إلى قوله: إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ* الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلَا تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ* فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأنْفُسَنَا وأنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. (1) فتلاها النبي (ص) على النصارى، ودعاهم إلى المباهلة.

وقال (ص): «إنّ الله عز اسمه أخبرني أنّ العذاب ينزل على المبطل عقيب المباهلة، ويبين الحق من الباطل بذلك». (2)

فاجتمع الأسقف مع عبدالمسيح والعاقب على المشورة، فاتفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غد من يومهم ذاك، فلما رجعوا إلى رحالهم قال لهم الأسقف: انظروا محمداً


1- سورة آل عمران: 59- 61.
2- الإرشاد 166: 1.

ص: 319

في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنه على غير شي ء، فلما كان من الغد جاء النبي (ص) وقد اكتسى بعباءة، وأدخل معه تحت الكساء علياً وفاطمة والحسن والحسين (هم)، وقال: «أللهم إنه قد كان لكل نبي من الأنبياء، أهل بيت هم أخص الخلق إليه، أللهم وهؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»، فهبط جبرئيل بآية التطهير في شأنهم، ثم خرج النبي (ص) بهم للمباهلة، فلما بصر بهم النصارى، ورأوا منهم الصدق، وشاهدوا أمارات العذاب، لم يجرؤوا على المباهلة، فطلبوا المصالحة، وقبلوا الجزية عليهم.

فصالحهم النبي (ص) على ألفي حلة من حلل الأواقي قيمة كل حلة أربعون درهماً جياداً، فما زاد أو نقص كان بحساب ذلك، وكتب لهم النبي (ص) كتاباً بما صالحهم عليه.

والخلاصة: إنّ هذا اليوم يوم شريف، وفيه عدة أعمال: الأول الغسل، الثاني الصيام، الثالث الصلاة ركعتان كصلاة عيد الغدير، وقتاً وصفة وأجراً، ولكن فيها تقرأ آية الكرسي إلى هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، والرابع أن يدعو بدعاء المباهلة. (1)


1- مفاتيح الجنان: أعمال شهر ذي الحجة، أعمال يوم المباهلة.

ص: 320

(24/ ذو الحجة/ السنة 10 ه-)

12. يوم تصدق الإمام علي (ع) بالخاتم

هذا يوم تصدق أميرالمؤمنين (ع) بالخاتم في حال الركوع ونزول قوله تعالى: إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ. (1)

لقد نقل هذه الواقعة الكثير من الرواة ومصادر أهل السنة، وقد صرح البعض بقصة التصدق بالخاتم واكتفى آخرون بتأييد نزول الآية في حق أمير المؤمنين (ع) ونقل صاحب «غاية المرام» 24 حديثاً عن طريق أهل السنة و 19 حديثاً عن طريق الشيعة. (2) والقضية بدرجة من الوضوح بحيث أنّ حسّان بن ثابت جاء بمضمون آية الولاية في قالب شعري من نظمه قاله في حق أمير المؤمنين (ع) حيث يقول:

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً زكاة فدتك النفس يا خير راكع

فأنزل فيك الله خير ولاية وبيّنها في محكمات الشرائع


1- سورة المائدة: 55.
2- التفسير الأمثل 4: في تفسير الآية 55 من سورة المائدة.

ص: 321

(25/ ذو الحجة/ السنة 10 ه-)

13. نزول سورة الإنسان (الدهر) في فضل أهل البيت (هم)

يوم شريف، وهو اليوم الذي نزلت فيه سورة هَلْ أتَىَ في شأن أهل البيت (هم)؛ لأنهم كانوا قد صاموا ثلاثة أيام، وأعطوا فطورهم مسكيناً، ويتيماً وأسيراً، وأفطروا على الماء، وينبغي على شيعة أهل البيت (هم) في هذه الأيام، ولا سيما في الليلة الخامسة والعشرين، أن يتأسوا بمولاهم في التصدق على المساكين والأيتام، وأن يجتهدوا في إطعامهم، وأن يصوموا هذا اليوم. (1) وفي هذه الآيات المباركة من سورة الإنسان يتحدث القرآن عن أهل البيت (هم) ويضعهم في قمة الإيثار والتقوى، ويعرضهم نماذج وقدوة للبشرية لتقتدي بهم الأجيال وتسير على نهجهم.. فالحادثة التاريخية التي نزلت بسببها الآيات المباركة تشير إلى مقام أهل البيت (هم)، وتساميهم في التطبيق والالتزام الشرعي والتجرد الكامل لله تعالى، وأنهم هم الأبرار المبشرون بالجنة، فمن اقتدى بهم وسار على نهجهم حشر معهم.


1- مفاتيح الجنان، أعمال اليوم الخامس والعشرين.

ص: 322

وقد أورد الزمخشري وغيره من المفسرين في تفسير هذه الآية رواية الإطعام بكاملها. (1) (25/ ذو الحجة/ السنة 35 ه-)

14. البيعة لعلي أمير المؤمنين (ع) بالخلافة

بقيت المدينة أياماً بعد قتل عثمان والناس يلتمسون علياً (ع) للقيام بالأمر، حتى ازدحم الناس وألحّوا عليه، وقالوا له: لا نجد غيرك ولا نرضى إلّا بك فبايعنا لا نفترق ولا نختلف؛ ثم أخذ الأشتر النخعي بيده فبايعه وبايعه الناس وكلهم يقول: لا يصلح لها إلّا علي.

وهتف الناس باسم علي (ع) على عادة الناس إذ يولون عليهم خبيراً بحاجاتهم، مؤمناً بحقهم، خالصاً لهم، عالماً حكيماً أباً كريماً.


1- الكشاف، الزمخشري تفسير سورة الإنسان، وأورد الفخر الرازي في التفسير الكبير نفس الرواية عن الكشاف، كما أوردها عن الواحدي، وروى الطبرسي في مجمع البيان نفس الرواية.

ص: 323

وقد وصف هو نفسه بيعته بالخلافة وصفاً جميلًا قال: «وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب». (1) وأعلن الإمام علي (ع) عن موقفه قائلًا: «ما لي ولقريش! والله لقد قاتلتهم كافرين ولأقاتلنّهم مفتونين! وإني لصاحبهم بالأمس كما أنا صاحبهم اليوم!». (2)

أجل .. إنّ أميرالمؤمنين (ع) قد واجه المشاكل التي اعترضت خلافته بمنتهى الحكمة والسياسة الرشيدة، وإذا لم يكتب له النجاح في خلافته فمردّ ذلك إلى عدّة أسباب، أهمها أنه تولى الخلافة من المسلمين ولكنهم لم يجتمعوا على هدف واحد وغاية واحدة، وفي هذا الجوّ المحموم، ووسط تمرّد وتحد وكره من أكثر القريشيين ومن الأمويين، وفي مناخ سادت فيه المصالح على جميع القيم، واستعملت فيه الأموال لشراء الضمائر والأنصار.

لذلك كله كان قتال الناكثين والقاسطين والمارقين؛ ولا يخفى أنّ علياً (ع) لم يهادن أحداً على حساب الإسلام، أو يستعمل قرشاً واحداً من بيت المال في غير موضعه، فكان من الطبيعي أن تعترضه المشاكل من هنا إننا نقرأ في موقفه العظيم الشجاع هذا ما يوازي مواقفه البطولية الكبيرة في الذود


1- نهج البلاغة: 229 من كلام له في وصف بيعته بالخلافة.
2- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية 194: 4 بتصرف. هدج: مشى مشية الضعيف، والكعاب جميع كاعب وهي: الجارية إذا بلغت ونهد صدرها. حسرت: كشفت عن وجهها.

ص: 324

عن الدين بين يدي الرسول (ص)، فليس الصبر في مثل هذه المواقف المصيرية الصعبة بأقل مقاماً ومنزلة من مواقفه (ع) مع عمرو بن عبد ودّ المشرك، ومرحب اليهود.

وهناك، وهو يحاول أن يحمل الناس على كتاب الله وسنّة رسوله (ص) وتأسيس خلافة جديدة لم يعهد المسلمون نظيراً لها من قبل.

إنّ الإمام علياً (ع) كان يرى أنّ أقل ما يطلب من خليفة رسول الله (ص) أن يحمي شريعة الله من التلاعب و الفساد، ويحتفظ بخيرات الأرض لا لفئة من الحاكمين، ولا لفريق دون فريق، وقد عمل على ترسيخ هذه المبادئ وتنفيذها بدون هوادة ولم ينحرف عن سيرة رسول الله (ص).

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.