ميقات الحج-المجلد 31

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

رسالتان

ص: 6

السنّة المطهّرة

الاحتفال بالمولد النّبوي

آية الله الشيخ جعفر السبحاني

1- السنة المطهّرة

اتفق الفقهاء على أن السنّة المطهّرة من مصادر التشريع ومبادئه، و قد فسروها بقول المعصوم و فعله و تقريره.

أما الأولان فحجيتهما من لوازم عصمته في مجال التبليغ و السلوك، وأما الثالث فلو صدر فعل من صحابي بمرأى و مسمع من النبي (ص)، و لم ينه عنه، فهذا يلازم كون هذا الفعل سائغاً لا حراماً، وإلّا لما سكت عنه النبي (ص) بل يزجره وينهاه.

هذا كله يرجع إلى النبي الأكرم (ص)، و أمّا الصحابي فليس قوله و لا فعله و لا تقريره من السنّة، ما لم يُعلم نسبته إلى المعصوم، وذلك لافتراض أنّه غير معصوم، فربّما يخطئ و لايصيب.

يقول الشوكاني: و الحق أنّ قول الصحابي ليس بحجة، فإنّ الله سبحانه و تعالى لم يبعث إلى هذه الأُمّة إلّا نبينا محمداً (ص) و ليس لنا إلّا رسول واحد، و الصحابة و مَنْ بعدهم مكلفون على السواء باتباع شرعه و الكتاب

ص: 7

و السنة، فمن قال إنّه تقوم الحجة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لايثبت و أثبت شرعاً لم يأمر الله به. (1) و ما ربّما يقال من أن الصحابة هم الذين عاصروا رسول الله (ص) و نقلوا أقواله و أفعاله، و كانوا أعرف الناس بأسرار التشريع الإسلامي و مصادره و موارده، فمن اتبعهم كان من الذين قال الله فيهم: (وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ)، (2)

غير تام، لأن ما ذكره من أنهم أعرف بأسرار التشريع لا يلازم كون فتاواهم أو منقولاتهم هي ممّا وصلهم أو سمعوه عن النبي (ص)، إذ من المحتمل أنهم اجتهدوا فيما أفتوا به بوصف أنهم أعرف بأسرار التشريع؛ و فتوى المجتهد حجة على نفسه لا على غيره.

أضف إلى ذلك أن المقصود هو الاتباع على النمط الحسن، و هو بعدُ غير ثابت، لاحتمال كون ما رواه الصحابي رأيه، لا قول النبي (ص)، فلا يُعدّ اتباعه للمجتهد اتباعاً حسناً.

هذا كله حول السنة و قد عرفت معناه، ثم إنّه يقع الكلام فيما ظهر أخيراً من الاحتجاج بترك الرسول (ص) أمراً ما، على لزوم اتباع النبي (ص) في الترك؛ و لو صحّ ذلك لصارت مصاديق السنة أربعة:

1. القول

2. الفعل.

3. الاقرار.

4. الترك.

وهذا من عجائب القول الذي ظهر بعد أربعة عشر قرناً، و لم ينبس به


1- إرشاد الفحول: 214
2- التوبة: 100؛ و انظر: مصادر التشريع الإسلامي للدكتور شعبان محمد إسماعيل: 269.

ص: 8

أحد من القدماء، من غير فرق بين فقيه مذهب و فقيه مذهب آخر، و على هذا فهو يُعد بدعة ظاهرة في مجال التشريع، و مورثاً للجدال و النقاش في حياة المسلمين، و لأجل إيضاح المقام نبحث في موضعين:

الأوّل: الترك في مجال الأمور العاديّة.

الثاني: الترك في مجال العبادات و القربيات.

أما الأُمور العاديّة: فهي عبارة عن الأُمور الّتي يمارسها الناس في حياتهم الفردية و الاجتماعية، و هي بين سائغ و محظور، فما حرّمه التشريع فهو حرام إلى يوم القيامة لخلود الشريعة الإسلامية إلى يوم القيامة، و ذلك كالخمر، و الميسر، و الرشوة، و القتل، إلى غيرها من كبائر المعاصي و صغائرها.

و أما السائغ منها فهو كالسابق حلال إلى يوم القيامة، لا يحرمه شي ء إلّا بعنوان طارى ء، ككونه ضاراً أو غير ذلك.

ثم إنّ الأُمور العادية لاتبقى على حالها الأوّل، بل تتكامل و تتطور حسب تكامل حياة البشر وفقاً للتقدم الحضاري، و هذا واضح للعيان في لباس الإنسان و مسكنه و راحلته.

فقد تطورت و تكاملت هذه الأُمور من الحالة العادية إلى ما نشاهده الآن.

إنّ السلف الصالح و الخلف من بعدهم لم يجمدوا في حياتهم الاجتماعية على النمط الذي كانوا يعيشون عليه في عصر صدر الإسلام، بل أخذوا من الحلال حلوه، و من الجائز صفوته، دون أن يعترض عليهم أحدٌ، و يتهمهم

ص: 9

بالأخذ بمحدثات الأُمور و كل محدثة بدعة، و كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة في النار؛ و ذلك لافتراض أن هذه الأُمور سائغة و جائزة، و من الطيبات التي أحل الله سبحانه لعباده، من غير فرق بين صورتها الأُولى، و صورتها الثانية، و الثالثة.

وذلك لوجهين:

1. إن طبيعة الإنسان المتحضر هي التدرج في الحضارة و الترقي في مدارجها، و هذا أمر طبيعي فطري لا يمكن إيقافه و المنع عنه، لأنّه يضاد الفطرة التي نشأ عليها الإنسان منذ أن و طأت قدماه هذا الكوكب.

و على فرض إمكان الإيقاف و تحريم التطور، كان على الشارع إيضاح ذلك الدعوة إلى الجمهود و إيقاف الحياة على ما كانت عليه.

2. إذا كان لهذه الأُمور العادية دليلٌ في التشريع الإسلامي، و مسوغ له، فالتطورات صور طارئة عليه، فما لم يكن فيها عنصر محرم، أو ملازم للمحرم فهو حلال بلا شك، استناداً إلى أصالة الحلية في الأُمور العادية ما لم يدل دليل على حرمته.

ذكر بعض المؤرخين أن أوّل تطور ظهر في حياة المسلمين دخول المناخل، و لم يكن لهم عهدٌ بها، و هي من أدوات التنعم و الترفه في المأكل ممّا لم يكن يعرفه العرب، و لا المسلمون من قبل، و قد نظروا إلى المسألة أنها من الأعراف المرسلةعن قيود الاتباع و عدمه، و هي من مصاديق قوله سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ. (1)


1- الأعراف: 32.

ص: 10

و كانت للمكيين أعراف و عادات نشأوا عليها، فلما هاجروا إلى المدينة فوجئوا بعادات أخرى، غير ما مارسوه في بلادهم، ممّا يتعلق بالمسكن و الملبس و المأكل، فاقتبسوا من هذه الأعراف أفضلها و أكملها، و لم يدر بخلد أحد أنها من محدثات الأُمور. (1) كل ذلك يدل على أن ما يرجع إلى العادات المحلّلة بالكتاب و السنّة مطلق مرسل لا يحدد بحدّ، و إن تطورت و تكاملت، إلّا إذا انطبق عليه عنوان محرم أو كان ملازماً لأمر محرم.

إن المسلمين فتحوا البلاد، و أشاعوا التوحيد بين الأُمم المتحضرة، و قد كانت لهم أعراف في حياتهم الاجتماعية، و آلات، و أدوات في التعليم و التعلم، أو فتح البلاد و غزوها، فاستقبلوها برحابة صدر و تعلموها، و استخدموها في حياتهم غير ما كان محرماً بالذات.

أين الأزقة الضيقة في مكة المكرمة، و المدينة المنورة، من الشوارع الواسعة في عواصم العراق و الشام؟!

أين كوخ الفلاحين في الجزيرة العربية، من القصور المشيدة بعد قرن في نفس الجزيرة؟! ثم أين جشوبة العيش في صحاري الحجاز من العيش الرغيد في البلاد المفتوحة؟!

كل ذلك حصل بمرأى و مسمع من الصحابة، و التابعين، و الفقهاء، و لم يقل أحدٌ بحرمته رغم كونه من الأُمور المحدثة.

و على ذلك جرت حياةالمسلمين عبر قرون إلى أن انتهى الأمر إلى ركوب السيارات، و الطائرات، و استخدام الإذاعات المسموعة، و المرئية، و


1- السلفية مرحلة مباركة لا مذهب إسلامي: 46.

ص: 11

وسائل الإعلام الأُخرى.

و ها هم يقيمون مشاريع تجارية و ثقافية، لم يكن لها نظير في القرون السالفة، كل ذلك شريطة أن لايكون حراماً بالذات أو مقروناً به.

حكم العباديات و القربيات

أما العباديات و القربيات، فهي من صميم الدين و جوهره، و لايجوز التصرف فيها بزيادة و نقيصة، حيث إن ذلك يُعد بدعة، و من محدثات الأُمور في صميم الدين الّتي وصفها النبي الأكرم (ص)، فقال: و إيّاكم و محدثات الأُمور، فإن كل محدثةبدعة، و كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة في النار. (1) و هذا ما آمن به عامة المسلمين، أخذاً بقوله سبحانه: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ). (2)

و قال تعالى: (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ). (3) إلى غير ذلك من الآيات و الروايات التي تحرم التصرف في صميم الدين بنقص أو زيادة.

إن لازم الإيمان بالله سبحانه و رسوله هو التسليم في مقابل الشريعة الّتي جاءنا بها من عند الله، قال سبحانه: (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِ يأَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (4)

إن التصرف في التشريع الإسلامي بتحليل الحرام، أو تحريم الحلال، أو


1- مسند أحمد 126: 4؛ سنن الدارمي 45: 1
2- يونس: 59
3- النحل: 105
4- النساء: 65.

ص: 12

زيادة شي ءفي العبادات، أو النقص من الواجبات، يُعدّ تقدماً على الله و رسوله، قال سبحانه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَ يِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (1) هذا كله ممّا لا سترة عليه، فإن حرمة البدعة ثابتة عقلًا و شرعاً.

إنّما الكلام فيما إذا كان أمر ديني أو قربي مشروع بنص الكتاب و السنّة، و لكن لم يرد في الأثر أن رسول الله (ص) مارسه، فهل يكون ترك الرسول (ص) لهذا العمل دليلًا على لزوم اتباعه في ذلك، و بالتالي يصبح هذا الشي ء أمراً محرماً لازم الاجتناب، هذا ما سندرسه تالياً.

إنّ السنّة عبارة عن قول النبي (ص)، و فعله، و تقريره،- كما عرفت- و لم يقل أحد أن ترك الرسول (ص) لأمر قربي دليل على حرمته، فإدخال الترك في مصادر التشريع بدعة حصلت في هذا العصر.

و ذلك لأن الترك أمر لبيّ لايمكن الوقوف على بواعثه و دوافعه، فلعل الظروف لم تسمح له (ص) بممارسته، بعد أن لم يكن أمراً واجباً معيّناً، و إنّما أخذ من الواجب أحد أعدال التخيير، أو ترك المستحب لبعض الدوافع، و على ذلك فلا يحتج بالترك المجهول دافعه و علته، بعد وجود الدليل على جواز الشي ء و قربيته.

والذي يرشدنا إلى ذلك أنّه حصل بين المسلمين أمور قُرْبيّة، لم يمارسها الرسول (ص)، بل و لا كثير من أصحابه، و كانت مستجدة.

و إليك نماذج منها:


1- الحجرات: 1.

ص: 13

1. تنقيط القرآن و إعرابه

إنّ القرآن الكريم في عصر الرسول (ص) لم يكن منقطاً، و لا معرباً، و لا مكتوباً على الصحف.

روى المؤرخون أن أول من نقّط القرآن، هو أبوالأسود الدؤلي.

قال يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرداً في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء، و التاء، و الثاء، و قالوا: لا بأس به هو نور به، ثم أحدثوا نقطاً عند منتهى الآية، ثم أحدثوا الفواتح و الخواتم. (1) كما أن أوّل من أمر بالتعشير هو المأمون العباسي، وأول من أدخل الحركات الإعرابية في المصحف هو الخليل بن أحمد الفراهيدي.

2. التطور في بناءالمساجد

بعد أن هاجر (ص) النبي إلى يثرب، كان أول عمل قام به هو بناء مسجد للصلاة فيه، و قد بناه باللبن، و سقفه من الحصر و البواري، و ترك أرضه متربة يسجدون على التراب، و كان المسجد طول حياته الشريفة على هذه الشاكلة، و بعد رحلته (ص) ضاق المسجد بالمسلمين، فقاموا بتوسيعه و بنائه بالحجارة والجَصّ، و كما اتسعت رقعةالدولة الإسلامية، زاد التطور في بناء المسجد الحرام و المسجد النبوي، إلى أن وصل الأمر في العصر الراهن إلى ما يراه كل من يقصد الحرمين الشريفين، فهما كوكبان لامعان في قلب العالم الإسلامي، مشيّدان على أحدث طراز، و بأحسن المواد الإنشائية، و مزدانان بأحدث الفنون و الزخارف الرائعة.

و عمارة المسجد من الأُمور القربيّة، قال تعالى: (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ


1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1: 63.

ص: 14

يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). (1) 3. المناظرة مع أصحاب المقالات

اتسعت رقعة الإسلام و دخل في حظيرته أمم مختلفة الثقافة، فأثاروا- و هم في لباس الإسلام- شبهات و إشكالات في صميم العقائد في توحيده سبحانه، و عصمةأنبيائه، إلى غير ذلك ممّا ورد في الكتب الكلامية، فقام المسلمون و في مقدمهم الإمام علي (ع) بالمناظرة و الاحتجاج عليهم بالبرهان، و هذه احتجاجات الإمام علي (ع) و الأئمّة (ع) من بعده، و سائر المسلمين مبثوثةفي كتب التاريخ و الحديث و العقائد، نذكر أنموذجاً واحداً منها.

من كلام للإمام علي (ع) للسائل الشامي لما سأله: أ كان مسيرنا إلى الشام بقضاءٍ من الله أم بقدر؟ بعد كلام طويل هذا مختاره:

«وَيْحَكَ لَعَلَّكَ ظَنَنْتَ قَضَاءً لازِماً وَ قَدَراً حَاتِماً وَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ وَ سَقَطَ الْوَعْدُ وَ الْوَعِيدُ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ عِبَادَهُ تَخْيِيراً وَ نَهَاهُمْ تَحْذِيراً وَ كَلَّفَ يَسِيراً وَ لَمْ يُكَلِّفْ عَسِيراً وَ أعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً وَ لَمْ يُرْسِلِ الأَنبِيَاءَ لَعِباً وَ لَمْ يُنْزِلِ الْكُتُبَ لِلْعِبَادِ عَبَثاً وَ لَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا:


1- التوبة: 17 و 18.

ص: 15

(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار). (1)». (2)

نعم ناظر النبي (ص) و جادل أهل الكتاب، لكن بصورة قراءة الآيات الواردة في حقهم، و لم يرد في المأثور أنّه اجتمع للمناظرة مع أصحاب الأهواء و المقالات، غير أن القرآن أمرنا بالجدال بالتي هي أحسن، و قال: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). (3)

4. كتابة الحديث

اتفقت السلفيةعلى أن النبي (ص) نهى عن كتابة الحديث، و رووا في ذلك روايات مبسوطة في الصحيحين و السنن، حتى أن بعض الخلفاء أحرق ما كتبه بعض الصحابة من سنن الرسول (ص) و صارت كتابة الحديث أمراً متروكاً معرضاً عنه؛ و أما ما هو الباعث على ترك كتابة الحديث خلال أكثر من قرن فهذا ما لانخوض فيه، إنّما نتحدث في انقلاب الحال في عهد عمر بن عبدالعزيز، الذي كتب إلى أبي بكر بن حزم عالم المدينة: أنظر ما كان من حديث رسول الله (ص) فاكتبه، فإنّي خفت دروس العلم و ذهاب العلماء، و لاتقبل إلّا أحاديث النبي (ص) ولتفشوا العلم و لتجلسوا حتى يعلم من لايعلم، فإن العلم لايهلك حتى يكون سرا. (4) أفيمكن لأحد أن يمنع عن كتابة الحديث و ضبطه و تسجيله و نشره على النحو المعهود، بحجة أن النبي لم يأمر بكتابته، أو أن الصحابة لم يمارسوا كتابته؟!


1- ص: 27
2- نهج البلاغة 4: 18، رقم 78
3- النحل: 125
4- صحيح البخاري 27: 1.

ص: 16

5. النبي (ص) و حج التمتع

اعتمر النبي الأكرم (ص) عدّة مرات، و حجّ مرة واحدة، و هي حجةالوداع، و كان حجه حج قران، لأنّه ساق الهدي، و كل من ساق الهدي يكون حجه حج قران، و لذلك لم يتحلّل بعد العمرة، حتى أن علياً (ع) لما أهلّ بتهليل النبي (ص) صار حجه أيضاً حج قران.

إنّ حج التمتع ممّا أطبق المسلمون على تشريعه، و هم بين من يفضل التمتع على القسمين الآخرين: القران و الإفراد و من يعكس، و على كل تقدير فلو كان ترك النبي (ص) دليلًا على الحرمة، أو كراهة الفعل، فهل كان لمسلم أن يتفوه بكراهة حج التمتع، مع أنّه (ص) أمر المسلمين في حجةالوداع بأن يتحللو، ثم يهلوا للحج، حتى يكون حجهم حج التمتع.

6. صلاة التراويح

إنّ التهجّد في ليالي شهر رمضان سنّة مؤكدة، و قد جاء فيه في حديث الرسول (ص): «والتهجد فيها- يعني ليالي شهر رمضان- بنوافلها من أفضل القربات».

أخرج البخاري عن أبي هريرة أنّه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: .... «من قامه (يعني شهر رمضان) إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه». (1) إلّا أنّ الرسول (ص) حثّ على أن خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة


1- إرشاد الفحول: 214.

ص: 17

المكتوبة، و أنّ للمرء أن يجعل للبيت نصيباً من الصلاة.

أخرج مسلم عن زيد بن ثابت قال: احتجر رسول الله (ص) حجيرة بخصفةأو حصير، فخرج رسول الله (ص) يصلّي فيها، قال: فتتبع إليه رجال و جاءوا يصلّون بصلاته، قال: ثمّ جاءوا ليلة فحضروا و أبطأ رسول الله (ص) عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، و حصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله (ص) مغضباً، فقال لهم رسول الله (ص): «ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أنّه سيكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلّا الصلاة المكتوبة». (1) هذه هي صلاة النبي (ص) و صلاة أصحابه في حياته، وأنّه لم يصلّ معهم إلّا صلوات معدودة، فأين ما قام به النبي (ص) من صلاة التراويح الّتي تقام في الحرمين الشريفين، و في عامةالمساجد بالنحو المعلوم، حيث يختم القرآن الكريم خلال هذه الليالي في ست مأة ركعة أو أزيد.

قال الجزيري: روى الشيخان أنّه (ص) خرج من جوف الليل، ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، و الخامس، و السابع والعشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، و كان يصلّي بهم ثماني ركعات، و يكملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل.

وقال: و من هذا يتبين أنّ النبي (ص) سنّ لهم التراويح و الجماعة فيها، و لكن لم يصلّ بينهم عشرين ركعة، كما جرى عليه من عهد الصحابة، ومن بعدهم إلى الآن. (2) كل ذلك يدلّ على أن ترك الرسول (ص) لايدل على التحريم أو


1- المصدر السابق: 214
2- الفقه على المذاهب الأربعة 251: 1.

ص: 18

التشريع إلّا إذا كان في الشرع دليل على الجواز أو الاستحباب، و على ذلك جرى السلف و الخلف.

فالقول بأنّ الترك دليل على عدم الجواز، من محدثات الأُمور.

7. ترك النبي (ص) استلام الحجر بيده

اتّفق الفقهاء على استحباب استلام الحجر الأسود و تقبيله، و عليه جرت سيرة المسلمين عبر قرون في الحج و العمرة، إلّا أن الروايات قد تضافرت على أن النبي (ص) لم يستلم الحجر بيده في حجةالوداع و إنّما استلمه بمحجن معه، و قبّل المحجن (و هو العصا)، و لم يحج النبي (ص) طيلةرسالته إلّا مرة واحدة، و هي حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة، نعم اعتمر ثلاث أعمار.

هذا و مسلم يروي في صحيحه عن جابر بن عبدالله أنّه قال: طاف رسول الله (ص) بالبيت في حجةالوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس، و ليشرف، و ليسألوه، فإن الناس غشوه.

و روي أيضاً عن أبي الطفيل أنّه قال: رأيت رسول الله (ص) يطوف بالبيت، و يستلم الركن بمحجنه، و يقبّل المحجن. (1) و لو صحّ ما روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال عند استلامه الحجر: إنّك لاتضر و لاتنفع و لولا أنّي رأيت رسول الله (ص) قبّلك لما قبّلتك، فمحمول على تقبيله بواسطة المحجن، أو على تقبيله في أعماره لا في حجّه.

و على أي حال لم يقبل النبي (ص) الحجر، فهل يصح لمتفقّه- فضلًا عن الفقيه- أن يفتي بترك الاستلام باليد و تقبيله، بحجة أن النبي (ص) ترك


1- إرشاد الفحول: 214.

ص: 19

الاستلام؟

و ما ذكرناه نماذج ممّا ثبت فيها ترك النبي (ص) أمراً مندوباً ولكن المسلمون قد مارسوه.

و أظن- و ظنّ الألمعي صواب- إن وراء الكواليس شيئاً، و أن الغاية من تلك الأحودثة الّتي هي بدعة في عالم الفتوى، أمران:

1. إدعاء أن الاحتفال بمولد النبي (ص) بدعة، بحجة أنّه (ص) لم يحتفل بذلك، و لا الصحابة بعده؛ مع أنا قد أثبتنا أن الاحتفال مؤيد بالكتاب و السنة و إجماع المسلمين عبر قرون، و أن الاحتفال من مظاهر الحبّ و المودّة للرسول الكريم (ص)، كما أن في ذلك إعلاءاًلذكره (ص)، انطلاقاً من قوله سبحانه: (وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). (1) إلى غير ذلك من الأدلة الّتي سقناها على استحباب الاحتفال، بما أن له أصلًا قرآنياً و حديثياً.

2. إمحاء آثار الرسالة الّتي بقيت بعد هدم كثير منها بمعول الجهل بأحكام الإسلام و سننه، فقد هدموا كثيراً من قبور أئمة أهل البيت (ع) و صحابة الرسول (ص)، كما دمروا الآثار الباقية من عهد الصحابة، كبيت مضيّف النبي (ص)، وبعض المساجد التي صلى فيها النبي (ص) أو صحابته و أنصاره.

و من الواضح أنّ لهدم الآثار و المعالم التاريخية الإسلامية- لا سيّما في مهد الإسلام، مكةو المدينة- نتائج و مضاءفات كبيرة و خطيرة على الأجيال اللاحقة، التي سوف تأتي و لاتجد أثراً لوقائع التاريخ الإسلامي، و


1- الشّرح: 4.

ص: 20

سوف يتسرب الشك إلى نفوسهم، بأن الإسلام قضية مفتعلة، و فكرة مبتدعة، ليس لها واقع و لا جذور تاريخية، كما هو الحال في قضية السيد المسيح (ع) في نظر الكثير من الغربيين، فنراهم ينظرون إليها، و كأنها قضية أسطورية حاكتها أيدي البابوات، و القساوسة، والذي شجع على هذه العقيدة عدم وجود آثار ملموسة تدل على أصالة هذه القضية، و وجودها التاريخي.

أرجو من الله سبحانه أن يلّم الشعث، و يرأب الصدع، و يجمع كلمة المسلمين، حتى يكون الجميع يداً واحدة في مقابل الأعداء.

ألحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

2- الاحتفال بالمولد النبويّ في ضوء الكتاب والسنة

لم يزل المسلمون منذ أقدم العصور الماضية يحتفلون بمولد النبي (ص) بإلقاء الخطب والقصائد في مدحه، وذكر مناقبه في الكتاب والسنة، تجسيداً لحبّهم له (ص) الّذي أمر الله به.

يقول الديار بكري ( (ص) 60 ه-): لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، و يعملون الولائم، و يتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، و يظهرون السرور، و يزيدون في المبرّات، و يعتنون بقراءة مولده الشريف، و يظهر عليهم من كراماته فضل عظيم. (1) ويقول القسطلاني ( (ص) 23 ه-): ولازال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ... فرحم الله امرءاً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشد


1- تاريخ الخميس 323: 1.

ص: 21

علّة على من في قلبه مرض، وأعياه داء. (1) إنّ كلًا من العالمين ينسب الاحتفال بمولد النبي (ص) إلى أهل الإسلام، وكُلٌّ منهما ينصّ على أنّهم لم يزالوا يحتفلون بشهر مولده، فهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدلّ على أنَّ الاحتفال بمولده (ص) له جذور في تاريخ الإسلام والمسلمين، دون أن يرجع أصله إلى عصر المماليك الذين حكموا مصر ما بين عام 650 إلى (ص) 22 هجرية، حتّى انقرضوا على يد العثمانيّين؛ و القول بأنّ الاحتفال حدث في زمن المماليك في القرون المتأخّرة، تخرّص بلا دليل، بل كان عمل المسلمين في هذا العصر استمراراً لما كان عليه المسلمون من قبل.

ولو فرضنا أنّ المسلمين- من عصر المماليك إلى يومنا هذا- قد احتفلوا بمولد النبي (ص) عبر قرون، فهذا العمل منهم يعدّ أفضل دليل على كون الاحتفال أمراً مشروعاً، إذ أنّ اتّفاق الأُمّة الإسلامية في عصر واحد على عمل، يصير دليلًا شرعيّاً على مشروعيته، فكيف إذا كان الاتفاق عبر عصور مديدة؟!

قال الغزالي في تعريف الإجماع: إنّه (الإجماع) اتّفاق أمّة محمد (ص) بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي. (2) مستدلّين بقوله سبحانه: (وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّ بِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً). (3) ثم إنّ من يعتبر الاحتفال بمولد النبي (ص) بدعة يُسي ء الظن بالأُمّة الإسلامية، وعلى رأسها العلماء، و الفقهاء، و المحدّثون، فإنّهم كانوا يحتفلون


1- المواهب اللدنية 27: 1
2- المستصفى 110: 1
3- النساء: 115.

ص: 22

في هذه القرون بمولده الشريف، من دون أن يدور بخلدهم أنّه بدعة في الدين، و من المستحيل أن يتّفق أهل الإسلام على شي ء عبر قرون مع كونه بدعة في الواقع.

فعلى مَن يسي ء الظنّ بهم أن يقرأ أدلة القائلين بجواز الاحتفال، بل واستحبابه، ثم يحكِّم ضميره الحرّ: فهل هو من مصاديق البدعة أو لا؟

و قبل إيضاح الأدلّة نفسّر البدعة، و نميّز البدعة اللغوية من البدعة الشرعيّة.

البدعة في اللغة والشرع

البدعة في اللغة هي: ما احدث على غير مثال سابق، فتعمّ كلّ أمر أو عمل جديد لم يكن له شبيه من قبل.

قال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء.

وأمّا البدعة في الشرع فهي: عبارةعن الافتراء على الله قولًا وعملًا، وقد عدّ المفتري على الله من أظلم الناس.

قال سبحانه: (وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (1) و قال رسول الله (ص): «أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأفضل الهدى هدى محمد، و شرّ الأُمور محدثاتها، و كل محدثة بدعة، و كلّ بدعة ضلالة، و كلّ ضلالة في النار».

و قال ابن حجر العسقلاني في تفسير هذا الحديث: «المحدثات» جمع «محدثة» و المراد بها ما احدث و ليس له أصل في الشرع، و يسمّى في عرف


1- الأنعام: 21.

ص: 23

الشرع بدعة، و ما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة. (1) فإذا كانت «البدعة» هي الافتراء على الله و رسوله، و التلاعب بدينه، و إدخال ما ليس من الدين، أو ما لم يعلم أنّه من الدين، في الدين، فعلى الباحث تمييز ما ليس ببدعة شرعاً من البدعة لغة، و إن كانا يشتركان في الاسم، أعني: «البدعة» فنقول:

1. إذا كانت البدعة هي الافتراء على الله بجعل ما ليس من الدين، أو ما لم يعلم أنّه من الدين، في الدين؛ فكل عمل قام به الإنسان من دون أن ينسبه إلى الدين- وإن كان أمراً بديعاً- فهو ليس ببدعة شرعاً، كالألعاب الرياضية التي ابتدعها الإنسان، لتوفير الراحة لنفسه، بما فيها من الفوائد، فلا شك أنّها بدعة بالمعنى اللغوي، لأنّها إبداع ما ليس له مثيل في الزمن السابق، و لكنّها ليس ببدعة شرعاً، لعدم نسبتها إلى الشرع، إذ لا يقول: قال الله أو قال رسول الله: إلعبوا كذا وكذا، و إنّما ينسبها إلى منشئها؛ نعم مجرّد كونها غير بدعة لا يكون دليلًا على كونها عملًا سائغاً شرعاً، بل يُستنبط حكمها من الأدلّة الشرعيّة.

مثلًا: الاحتفال في العرائس باختلاط الرجال و النساء السافرات، أمر بديع لم يكن له مثيل في البلاد الإسلامية، فهي بدعة لغويةو لكنّه ليس بدعة شرعية، إذ القائم بهذا الأمر لا ينسبه إلى الشريعة، و مع ذلك فهو حرام بنصّ الكتاب والسنّة.


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 253: 13.

ص: 24

2. إذا أبدع الإنسان شيئاً، و أتى به باسم الدين، و لكن كان له أصل كلّي في الشريعة، و إن لم تكن الخصوصية منصوصة في الشرع، فهذا ما يسمّى بدعة لغة، و لايكون بدعة شرعاً، لأنّ الخصوصية و إن لم تكن منصوصة، لكن العنوان العامّ المنطبق عليه منصوص عليه في الشريعة المقدّسة.

مثلًا: الدفاع عن بيضة الإسلام بالأسلحة الحديثة، كالسفن الحربية و الطائرات المقاتلة، لم يرد بنفس الخصوصية في الشريعة المقدّسة، لكن العنوان المنطبق عليه و غيره منصوص في الشريعة، و هو الدفاع عن بيضة الإسلام، و صيانة حدوده من الأعداء؛ قال سبحانه: (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، فيكون العمل الحديث البديع تجسيداً لهذا العنوان الكليّ، و لم تزل الآية تتجسّد في كل قرن بوجه خاص.

3. إذا قام إنسان بأمر باسم الدين، و كان أمراً حديثاً لم يكن له مثيل في السابق، و لم يكن له أصل كلّي يعضده، و يسوّغه، ويضفي عليه الشرعيّة، فهذا هو البدعة المحرّمة التي وصفها سبحانه بالافتراء على الله، كتغيير الأذان و الإقامة بنقص أو زيادة، فمن أراد التدخل في الشريعة الإسلامية في عباداتها، و معاملاتها، و سياساتها، بأن يدخل فيها ما ليس منها، أو لم يعلم أنّه منها، و لم يكن في الشريعة أصل كلّي يستمد العمل مشروعيته منه، فقد ابتدع و افترى على الله الكذب.

إذا تُقررّ ذلك، فلندرس حكم الاحتفال بمولد النبي (ص)، و أنّه من أي

ص: 25

قسم من الأقسام الثلاثة؟ فنقول:

الاحتفال بمولد النبي (ص) له أصل في الشريعة

إنّ الاحتفال بمولد النبي (ص) هو من القسم الثاني، فإنّ الاحتفال على النحو الرائج و إن لم يرد في الشريعة بحرفيّته، و لكن هناك نصوص عامة في الكتاب و السنة، يستدل بها على أنّ الاحتفال بمولده يعتبر تجسيداً لما تتضمّنه تلك النصوص و العناوين التي يستفاد منها تسويغ هذا الاحتفال، و يُضفي الشرعية عليه وهي كالتالي:

1. حبّ النبي (ص) أصل من الأُصول

أمّا الكتاب العزيز فقوله سبحانه: (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أ زْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِ يسَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي ا لْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (1) و أمّا السنّة النبوية فقول رسول الله (ص): «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده، و ولده، و الناس أجمعين». (2) و قال رسول الله (ص): «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ الناس إليه من والده و ولده». (3) و قال رسول الله (ص): «ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله و رسوله أحب إليه ممّا سواهما، و أن يحب في الله و يبغض في الله، و أن توقد نار عظيمة فيقع فيها أحبّ إليه من أن يشرك بالله شيئاً». (4)


1- التوبة: 24
2- جامع الأُصول 237: 1- 238، برقم 20، 21، 22
3- المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 26

لا شكّ أنَّ لحبّ النبي (ص) مظاهر و مصاديق متعدّدة، و من مظاهره اتّباع النبي (ص) و اقتفاء قوله، و فعله في الحياة.

و من مظاهره أيضاً الاحتفال بمولده، و الإشادة بمنزلته التي نزّله سبحانه فيها، فمَن يحتفل في مولده فإنّما ينطلق من هذا المبدأ، أي حب النبي الذي أمر به القرآن و السنّة، و نحن نسأل من يعدُّ الاحتفال بمولده بدعة! هل المحتفلون- في نظر الأُمّة- ينطلقون من حبّ النبي (ص) و ودّه، أو ينطلقون من بغضه و عدائه؟ لا أظنّ أنّ أحداً يتفوّه بغير الأوّل بل يعدّه تجسيداً للحبّ.

نعم، الاحتفال بيوم ولادة النبي (ص) و إن لم يكن منصوصاً إلّا أنّ الآية لا تحدّد حبّ النبي و إظهاره بيوم دون يوم، أو طريقة دون طريقة، بل تُسوِّغ إظهاره كلّ يوم من أيّام السنة، إلّا أنّ اختيار ذلك اليوم من جانب المحتفلين لمناسبة خاصّة معلومة للجميع، و هو ظهور نوره (ص) للعالم في ذلك اليوم، دون سائر الأيام، فلذلك اختاروا ذلك اليوم مع إمكان اختيار سائر الأيام.

و هناك كلمة قيّمة لأحد العلماء، قال: إنّنا لا نقول بسنّيةالاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة، بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين، لأنّ ذكره (ص) و التعلّق به يجب أن يكون في كل حين، و يجب أن تملأ به النفوس، نعم: إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوى لإقبال الناس، و اجتماعهم، و شعورهم الفيّاض بارتباط الزمان بعضه ببعض، فيتذكرون بالحاضر الماضي، و ينتقلون من المشاهد إلى الغائب. (1) إنّ الاحتفال ليس عبادة للنبي (ص) و لا لغيره، فإنّ العبادة لها مقوّم


1- مفاهيم يجب أن تصحح، العلوي المالكي: 251.

ص: 27

خاص غير موجود في المقام، و هو الخضوع أمام موجود معيّن مع الاعتقاد بربوبيته، و أنّ مصير الخاضع بيده في الدنيا والآخرة.

و إنّما الاحتفال أمر قربي يورث الثواب كسائر الأُمور القربيّة، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و إعانة الضعفاء، و إعطاءالصدقات، فكل هذا أمور قربيّة لا عبادية؛ فإذا أتى به الإنسان لله سبحانه، يكون وسيلة لقربه من الله تعالى، و نيل الثواب منه سبحانه.

2. تكريم النبي (ص) أصل من الأصول

كما أنّ حب النبي (ص) أصل من الأُصول الرئيسة في الإيمان، كذلك تكريم النبي وتعظيمه.

قال سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِ يالتَّوْراةِ وَ الإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِ يُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (1) و قال سبحانه: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا). (2) فقد أمر سبحانه بالإيمان بالله و الرسول معاً، كما خصّ نفسه بالتسبيح بكرة و أصيلًا، كذلك خص نبيه بالتعزيز و التوقير، و ليس التعزير في الآيتين


1- الأعراف: 157
2- الفتح: 9.

ص: 28

إلّا التكريم و التعظيم؛ و تخصيص تكريمه بأيّام حياته تفسير بالرأي مع إطلاق الآية، و إلّا يلزم تخصيص الإيمان به بأيّام حياته فقط.

و ما ربّما يتوهم من أنّ المراد من التعزير هو النصرة، يردّه أنّه سبحانه ذكره بقوله: (وَ نَصَرُوهُ) في الآية الأُولى حيث ذكر النصرة بعد التعزير، فيكون التعزير غير النصرة، كما أردف التعزيز بالتوقير في الآية الثانية، و فسّره به.

فنحن نستنطق كل ضمير حرّ، و حتّى المخالفين- بشرط أن يتجرّدوا عن عقيدتهم المسبقة الموروثة- هل الاحتفال بمولده فيه تكريم للنبي (ص) و تعظيم له، أو إذلال له وإهانة؟!

لا أظن من له أدنى مسكة أن يتفوّه بالثاني، و هو يعلم بضميره أنّ الاحتفال تعظيم له.

نعم تعظيم النبي (ص) و تكريمه لا يختص بيوم دون يوم، و لا الآية تحدّده بيوم خاص، و إنّما اختير ذلك اليوم من بين أيام السنة، لمناسبة هذا النور في ذلك اليوم الذي حداهم إلى تخصيص ذلك اليوم بالاحتفال.

فمن نسب أصل الاحتفال إلى الشرع فقد صدق، لوجود أصل له في القرآن و السنّة.

3. رفع ذكر النبي (ص)

إنّ إحياء ذكر النبي (ص) أصل من الأُصول التي جاءت في القرآن الكريم.

ص: 29

قال سبحانه: (أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). (1) فالآية تدلّ على أنّه سبحانه رفع ذكر النبي (ص)، و من مظاهره الشهادة برسالته في الأذان و الإقامة، و في تشهد الصلاة، فيدلّ ذلك على أنّ الإشادة بذكر النبي (ص) أمر محبوب و مطلوب لله تبارك وتعالى، و ليس مبغوضاً، و يُعتبر الاحتفال بمولده، و قراءة الآيات الناصّة على عظيم منزلته، و الأحاديث الواردة في حقّه تجسيداً لهذا الآية، و إحياءاً لذكره، فهل يكون مثل ذلك بدعة؟! و من مقولة: (ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). (2) 4. ذكر نعم الله سبحانه وتعالى

الاحتفال بمولد النبي هو إعادة ذكر نعمة كبيرة من الله تعالى إلى ذاكرة الناس، و هذه النعمة هي ميلاد نور النبي (ص) الذي هو مبدأ الخير و الهداية للناس، و قد أسماه الله سبحانه وتعالى بالنور، و قال:

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ). (3)

فالتذكير بنعمة الله يُعدّ شكراً لله سبحانه في مقابل هذه النعمة التي أنجى الله سبحانه بها هذه الأُمّة من الضلالة و الغواية.

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي- عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدّد فيها نعم الله على عباده- ما هذا لفظه: إنّ من أعظم نعم الله على


1- الشرح: 1- 4
2- الأعراف: 71
3- المائدة: 15.

ص: 30

هذه الأُمّة إظهار محمد (ص) و بعثته و إرساله إليهم، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (1)، فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النعمة من الله سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، و هو من باب مقابلة النعم في أوقات تجدّدها بالشكر. (2) روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس 2 قال: لمّا قدم النبي (ص) المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هو اليوم الذي أظفر الله موسى و بني إسرائيل على فرعون، و نحن نصوم تعظيماً له، فقال رسول الله (ص): «نحن أولى بموسى» و أمر بصومه. (3) و قد استدلّ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: فيستفاد فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك نظير ذلك اليوم من كل سنة؛ و الشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود و الصيام و الصدقة و التلاوة، و أي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم. (4) و للسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصه، يقول: و قد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، و هو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنَّ النبي (ص) عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنّه قد ورد أنّ جدّه عبدالمطلب عقّ عنه في سابع ولادته، و العقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أنّ الذي فعله النبي (ص) إظهار للشكر على إيجاد الله إيّاه رحمة للعالمين، و تشريع لأُمّته كما كان يصلّي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده


1- آل عمران: 164
2- لطائف المعارف: 98
3- صحيح مسلم 149: 3، باب صوم يوم عاشوراء؛ وأخرجه البخاري في صحيحه 7: 215
4- الحاوي للفتاوي: 1: 196.

ص: 31

بالاجتماع، و إطعام الطعام، و نحو ذلك من وجوه القربات، و إظهار المسرّات. (1) أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أنّ رجلًا من اليهود قال له: يا أميرالمؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال: أيّ آية؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً). (2) فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، و المكان الذي نزلت فيه، و رسول الله (ص) قائم بعرفة يوم الجمعة. (3) و أخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه و قال: نزلت في يوم عيد من يوم جمعة و يوم عرفة. و قال الترمذي: و هو صحيح. (4) و في هذا الأثر موافقة عمر بن الخطاب على اتّخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً، لأنّ المزان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة، كان موسماً لشكر تلك النعمة، و فرصة لإظهار الفرح و السرور. (5) 5. الاقتفاء بسنّة نبي الله عيسى (ع)

يحكي سبحانه وتعالى عن المسيح- على نبينا وآله وعليه السلام- أنّ حواريّيه طلبوا منه أن يدعو الله سبحانه أن ينزّل عليهم مائدة من السماء ليأكلو منها، و تطمئن قلوبهم، و يزيد إيمانهم بصدقه فدعا لهم، و قال في دعائه:

(أللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ


1- المصدر السابق
2- المائدة: 3
3- صحيح البخاري: 8: 270، وكما أخرجه الترمذي في سننه 5: 250. والروايات متضافرة على أنّ الآية نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع في غديرخم
4- نفس المصدرين السابقين
5- بلوغ المأمول، للدكتور عيسى بن مانع الحميري: 29.

ص: 32

آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (1) ترى أنّ المسيح يجعل يوم نزول المائدة عيداً لأوّل أمّته وآخرهم جميعاً، فما كانت المائدة السماوية إلّا طعاماً يشبع بطونهم مرة واحدة في العمر، و مع ذلك اتّخذوا يوم نزول تلك النعمة عيداً للأُمّة، فما ظنّك بنعمة سماوية معنويةظهرت يوم ميلاده، و قد أشبع عقول البشر و قلوبهم، و نوّر طريقهم، و نجّاهم من الغواية إلى الهداية، إلى يوم القيامة؟!

أفلا يستحق هذا اليوم الاحتفال و التبريك و الإشادة بعظمة النعمة و مناقبها و فضائلها؟

أفلا يستحق هذا اليوم أن يكون عيداً للمسلمين، و يحتفلوا بقراءة الآيات الواردة في منزلة رسول الله (ص) التي منها قوله سبحانه: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِى أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (2) نعم يشترط أن يكون الاحتفال مجرّداً عن الغلو و الخروج عن الحقّ، كما يشترط أن يكون منزهاً ممّا لا يحلّ، حتّى يكون الاحتفال شرعياً إلهياً من عامّة الجهات.

و لا يخفي على القارئ الكريم أنّ لهذه الاحتفالات أثراً كبيراً في التعريف بالنبي الأكرم (ص) و أخلاقه، و آدابه، و سيرته، و سلوكه، فإنّ


1- المائدة: 114
2- الأعراف: 157.

ص: 33

الخطيب في الحفلات يركّز في كلماته و جمله، على ما له (ص) من الأخلاق السامية، و الآداب الكريمة، و أنّه كيف كان يتعايش مع الناس، و كيف كان يداري المخالفين و الأعداء، إلى غيرها من الفوائد الجمّة من الاحتفالات.

هذه هي أدلّة القائلين بجواز الاحتفال و استحبابه، و نحن ندعو الشيخ خالد بن سعود البليهد في الرياض، صاحب هذا العنوان على البريد الالكتروني

binbulied@ gmail. com

الذي يصر على حرمة الاحتفال- في مقال خاص- من دون أن يذكر شيئاً من أدلّة القائلين بجوازه، أن ينظر إلى ما ذكرنا من الأدلّة بنظر دقيق، دون أن يعتمد على قول فلان و فلان، بل يعتمد في نقده على الكتاب و السنّة كما اعتمدنا عليهما.

أدلّة القائل بالبدعة

أورد الشيخ خالد بن سعود البليهد وجوهاً استدلّ بها على كون الاحتفال بالمولد النبوي من البدعة، فنحن نستعرضها ثم نجيب عنها. يقول:

1. ليس في الكتاب ما يدل عليه.

الجواب: قد عرفت أنّ له أصلًا في الكتاب العزيز، و يكفي ذلك في خروجه عن البدعة.

2. و لا في السنّة أصل له.

الجواب: قد عرفت أنّ حب النبي (ص) له أصل في السنّة، كما أنّ لغيره أصل كذلك.

3. و لا يعرف فعله عن الصحابة.

الجواب: إنّ هذا عجيب جدّاً، فإنّ فعل الصحابة لا يُعدّ حجّة شرعية ما

ص: 34

لم ينسب إلى النبي (ص) فكيف تركهم؟! مضافاً إلى أنّ أحداً من الفقهاء لم يُفْت بأن عدم فعلهم أمراً ما دليلٌ على حرمته.

4. و لا يعرف الترخيص به من الأئمة المتبوعين الأربعة ومَن في طبقتهم.

الجواب: يكفي في ذلك أنّ الأُمّة الإسلامية قد احتفلت بالمولد النبوي عبر قرون، و كم من مسألة لم يذكرها الأئمة الأربعة، و مَن في طبقتهم استدركها المتأخّرون، و لو كان الملاك في الحل و الحرمة كلمة الأئمة الماضين فقط، لشُلّ الفقه عن الاستجابة لمتطلبات العصر، و إعطاء الحكم الشرعي للمسائل المستحدثة!!

5. إنّ هذه البدعة المنكرة حدثت في زمن المماليك في القرون المتأخّرة.

الجواب: قد عرفت أنّه تخرّص و رمي بالقول بلا دليل، و إن ذكره البعض؛ و على فرض صحّته فقد اعتمدوا على الأُصول القرآنيّة.

6. و لا شك في فضل رسول الله (ص) و إنّما النقاش في تخصيص يوم بعينه لذلك، و اعتقاد أنّ له مزية عند الله و فضل، تعظم فيه العبادة و المحبة و الذكر.

الجواب: أنّهم يتقربون إلى الله بنفس الاحتفال، و أمّا تخصيص يوم خاص مع جواز الاحتفال في عامة الأيّام فإنّما هو لأجل مناسبة ظهور هذا النور المبارك في ذلك اليوم.

ثم إنّ المعترض يعود إلى نقد أدلّة القائلين بجواز الاحتفال بالنحو التالي:

7. إنّ مَن يحتج بقول بعض العلماء المتأخّرين في إباحته فالكلام على

8.

ص: 35

وجوه:

أ. إنّ كلام العالم ليس دليلًا شرعياً يُحتجّ به، و تجب متابعته، بل هو اجتهاد منه، فإن وافق الكتاب و السنّة كان صواباً، و إن خالفهما كان خطأً باطلًا.

الجواب: و أنت ترى وجود التناقض بين قوله السابق- في الفقرة 4 حيث قال: و لم يعرف الترخيص من الأئمة المتبوعين الأربعة و مَن في طبقتهم- و قوله هذا، بأنّ كلام العالم ليس دليلًا شرعياً!!

فنسأله كيف تحتج بقول الأئمة و مَن في طبقتهم، و هم كانوا من العلماء، و مع ذلك تسلب الاعتماد على قول العلماء في هذا المقام وتقول: إنّ كلام العالم ليس دليلًا شرعياً؟!

ب. إنّ العبرة في معرفة الحق مجموع أقوال الأئمة المتقدّمين أهل القرون الفاضلة الذين أثنى الرسول (ص) عليهم، لا في كلام المتأخّرين الذين تكثر مخالفتهم للسلف الصالح بسبب طروء المذاهب المحدثة، و تغيّر بعض المذاهب.

الجواب: بغض النظر عن الأحداث المؤلمة، و المصائب الجليلة التي أصابت قلب الأُمّة الإسلامية خلال الفترة التي يصفها بالقرون الفاضلة، فهل القرون التي حكم فيها بنو أمية و بنو العباس هي من القرون الفاضلة، و قد دهمت المسلمين حروب طاحنة، و استبيحت أعراض الصحابة و التابعين في المدينة المنورة، خلال وقعة الحرة عدة أيام، و رميت الكعبة المشرفة بالمنجنيق أيام الحجاج الثقفي؟ أضف إلى ذلك

ص: 36

المأساة الكبرى التي حدثت في القرن الأوّل من قتل ذراري الرسول و مُهج قلبه، كالإمام الطاهر، الحسين بن علي (ع) و أولاده، و أصحابه، و ما تلته من مجازر دمويّة أخرى.

و اعطف على ما حدث أيّام الأُمويين، ما جرى أيام العباسيين، و ما كان رائجاً من شرب الخمور، و مسامرةالمغنيات و الراقصات من الغالب و الشائع في بلاط الخلافة!!

نتمنّى مَن المجيب أن يفتح عينيه على التاريخ منذ رحلة الرسول (ص) إلى أن زالت الخلافة العباسية، ليرى خلال هذه الفترة أحداثاً يندى لها الجبين، و يدمي لها القلب؟ فما من سنة خلت من الحرب أو القتل و الدمار و التلاعب بالدين، فقد قام المتاجرون بالحديث بوضع الحديث على لسان رسول الله (ص) خلال تلك (القرون الفاضلة) و أدخلوا في السنة الشريفة الإسرائيليات و المسيحيات و المجوسيات، و لم يكتفوا بذلك حتّى تقربوا إلى الله سبحانه بسبّ الصحابي الجليل و الإمام الطاهر (علي بن أبي طالب (ع)) على أعواد المنابر ستين عاماً.

فدع عنك نهباً صيح في حجراته ولكن حديثاً ما حديث الرواحل

ومع غض النظر عمّا ذكرنا- وهو شقشقة هدرت ثم قرّت- كيف يرمي المجيب المتأخّرين بكثرة مخالفتهم للسلف الصالح، و هل السلف الصالح معصومون من الخلل؟! و إذا كان عامةالمتأخّرين على غرار ما ذكره، فلم يستثن منهم ابن تيمية و ابن القيّم، و يُضفي عليهما ثوب

ص: 37

العصمة، حيث يُحتج بقولهما في عامة المواضع من دون نقد و ردود؟!

ج. إنّ بعض من نشأ في بيئة التصوف كان معظماً لأهل التصوف، و من نشأ في بيئة التشيّع صار معظماً لأئمة الشيعة، و من نشأ في بيئة الخوارج كان معظماً لأئمتهم.

الجواب: و كذلك مَن نشأ في بيئة السلفيين- و بالأخص ما ينسبه ابن تيميةإلى السلف- يكون معظماً لهم فما هو الفرق يا ترى؟! فهل يمكن أن يكون الأخير على الصراط المستقيم، و الباقون على الضلال المبين؟! (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (1) د. إنّ باب التقرب إلى الله مبناه على التوقيف الشرعي و التقيّد بقيود الشرع، و ليس مبناه على الاستحسان والاجتهاد.

الجواب: قد عرفت أنّ مَن يتقرب إلى الله بتلاوة آياته الواردة في فضائله (ص)، و ما في السنة النبوية من الإشادة بمنزلته، ينطلق من الكتاب و السنّة، لا من الاستحسان و الاجتهاد.

ه-. إنّه من العسير جداً على الإنسان أن يخالف ما نشأ عليه في مذهب قومه و آبائه و أجداده.

الجواب: إنّ ما ذكره صحيح ولكن لا يشذّ منه صاحب المقال!! فهو أيضاً متأثر ببيئته ومذهب آبائه وأجداده وقومه، فما هو وجه التفريق بينه و بين غيرهم؟! فاللائق به- قبل أن يتّهم الآخرين بتقليد الآباء والأجداد- أن يتّهم نفسه بذلك!!

نعم هناك رجال كسروا قيد التقليد، و نظروا إلى الحقائق ببصيرة، و


1- الأعراف: 157.

ص: 38

تجرّدوا عن عقائدهم المسبقة.

نسأل الله سبحانه الهداية لنا ولصاحب المقال، و لكلّ إنسان يتحرّى الحق و الحقيقة، و يتجرّد عن العصبية، و يتّبع الحق لأجله، إنّه سبحانه على الإجابة لقدير.

والحمد لله رب العالمين

ص: 39

الحج رموزٌ و حِكَمٌ (8)

آية الله الشيخ عبدالله جوادي آملي

الطواف

أدب الدخول إلى المسجدالحرام

على الحاج- طبقاً للبيان النوراني للإمام السجّاد (ع)- أن يتذكّر لحظة دخوله إلى الحرم و قبل كلّ شي ء حرمة غيبة أهل الإسلام، و عليه أن يبعث هذا القصد من أعماقه عند ما يقول: إلهي! إنّني لن أستغيب أحداً من المسلمين أو أفتّش عن عيوبه.

على الزائر عند دخوله مكة المكرمة أن يقصد هذه النيّة: إلهي! لقد أتيت إلى هنا قاصداً لك. (1) و لم آتِ لا بقصد التجارة، و لا الشهرة، و لا السياحة، و لا الفرجة، و لا النزهة، و لا أمثال ذلك.

يستحبّ لزائر بيت الله الدخول إلى المسجدالحرام من باب «بني شيبة» و من حيث كان الحج توحيداً أصيلًا خالصاً لا شرك فيه، بل تطرد عنده الأصنام كلّها، كان لهذا الاستحباب سرّ مرتبط بهذا الأمر، و هذا السرّ هو ما يذكره لنا الإمام الصادق (ع) عند ما يقول: «إنه موضع عبد فيه الأصنام و


1- أنظر حديث الشبلي.

ص: 40

فيه أخذ الحجر الذي نحن منه هُبَل الذي رمى به علي (ع) من ظهر الكعبة لمّا علا ظهر رسول الله (ص) فأمر به، فدفن عند باب بني شيبة، فصار الدخول إلى المسجد من باب بني شيبة سنّة لأجل ذلك». (1) هذا المنهج، أي وضع هبل تحت أقدام المخطين ليُداس، يمثل أنموذجاً راقياً لنسيان الشرك، و سحقه، و إسقاطه إلى أدنى الأشكال؛ فعندما يتجلّى الحق لايبقى مجال للباطل السابق أو اللاحق، قال تعالى: (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ). (2) أدب الحضور

العالم كلّه محضر الله سبحانه، فله تعالى علم شهودي حضوري بكلّ ذرّات العالم و ما هو أقلّ من ذلك، و لا أفول لأي شي ء عن مجال أفق شهوده، قال سبحانه: (وَ ما تَكُونُ فِى شَأنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ ربِّكَ مِنْ مِث قالِ ذَرَّةٍ فِى الأرْضِ وَ لا فِى السَّماءِ وَ لا أصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أكْبَرَ إِلَّا فِى كِتابٍ مُبِينٍ). (3) بل حتى أعضاء الإنسان، و جوارحه و ضميره، يعدّ شاهداً و جاسوساً عليه «إنّ الله سبحانه و تعالى لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم و نهارهم لطف به خبراً و أحاط به علماً؛ أعضاؤكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه. (4)


1- وسائل الشيعة 323: 9
2- سبأ: 49
3- يونس: 61
4- نهج البلاغة، الخطبة: 199، الفقره: 13- 14.

ص: 41

فعلى الإنسان في كلّ حالاته أن يراعي أدب الحضور في المحضر الإلهي و كما يراعي الأدب في مستحبات دخول المساجد و المكوث فيها (1)، كذلك لابدّ أن يراعي الأدب أكثر فأكثر في المساجد ذات الحرمة الخاصّة، و بالأخص في حريم الكعبة التي هي أصل المساجد كافة، و التي تسند إلى الله تعالى بالإسناد التشريفي، حيث لم يسند أيّ بيت إليه غيرها، حين قال: (بيتي). (2) ينقل أهل المعرفة عند بيانهم لبعض أسرار الحج، قصصاً قد لاتكون لها واقعية و حقيقة خارجية، إلّا أن روحها و جوهرها حقّ، و من ذلك ما قيل عن أحد أهل القلوب، أنّه دخل على أحد الزعماء بلباس عتيقة متسخة فقالوا له: أتدخل بهذا اللباس على شخص بهذا المقام و المنزلة؟ فأجاب: إنّ الحضور أمام الكبار بلباس متسخة ليس عيباً، إنما العيب لو عاد شخصٌ من عند هذا إلى الكبير بلباس بالية قذرة، ذلك أن هذا يعني أنه لم يره لائقاً بل ردّه، و لم يمنعه من عطاياه و هداياه شيئاً.

إنّ مقصود قاصّ هذه القصّة أنّ المشكلة ليست في الحضور بين يدي الله تبارك و تعالى محمّلين بالذّنوب، مادّين له أيدينا الخاطئة، إنّما العود من محضره سبحانه غير مقبولين لديه، و لا مغفوري الذنوب، بل ملطّخين بالآثام لما فعلناه في سالف الأيام.

كذلك قالوا: دخل عارفٌ على صاحب منصب و مكانة، فسألوه: ما الّذي أتيت به؟ فأجاب: لايسأل القادم على العظيم: ماذا حملت معك؟ و إنّما يسأل: ما الذي تريد؟ فلو كان لديه شي ء لم يأت إليه.


1- بحارالأنوار 1: 81- 27؛ لقد كان الإمام المجتبى 7 كلّما قام إلى الوضوء ارتعدت فرائصه و تغيّر لونه، و كان يبرّر ذلك بأنه لابدّ أن يكون الإنسان كذلك في المحضر الإلهي، و عندما كان يصل إلى المسجد كان يقول: «إلهي ضيفك ببابك، يا محسن قد أتاك المسي ء، فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك يا كريم». بحارالأنوار 339: 43
2- البقرة: 125؛ الحج: 26.

ص: 42

لا يمكن لأحد أن يقول: لقد أتيتُ إلى الله تعالى مليئاً بالعلم و العمل، ممتلئةً جعبتي بالعمل و الجهد، لأنّ ذلك كلّه ملك له، قال سبحانه: (وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (1)، فلايذهب أحد إلى المحضر الإلهي بيد ممتلئة، من هنا لايسأل الذاهب إلى بيت الله الحرام- بيت الضيافة و الكرم الإلهي، (2)-: ما أحضرت؟ و إنّما يقال له: ماذا تريد؟ و لو قالوا له السؤال الأول لكان المقصود ما هو مقدار حاجتك؟ و ما الذي أحضرته من حاجتك حتى تأخذ مقداره؟

و مع الانتباه إلى أن الزائر يطلق لسانه عند حضوره في بيت الحق قائلًا: «أللهم إنّ البيت بيتك، و الحرم حرمك، و العبد عبدك، هذا مقام العائذ بك من النّار» (3)، تماماً كما يقول الإمام السجّاد (ع) بين يدي الله: «سيدي عبدك ببابك، أقامته الخصاصة بين يديك». (4) الطواف

الطواف أحد أركان الحج الهامة، و مظهرٌ من مظاهر تجسّد التوحيد في الحج، لأنّ الطواف حول الكعبة و إن كان بمنزلة الصلاة، «الطواف بالبيت صلاة» (5)، إلّا أنه تتجلّى فيه العبادة الخاصة (فَأيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (6)، على خلاف الصلاة التي يتحتم فيها الأمر الإلهي: (وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). (7) الكعبة تنزّل العرش و تمثله، تقع في محاذاة العرش الإلهي و البيت المعمور (8)، فإذا طاف بها العبد بشكل لائق فإنّه يصعد إلى البيت المعمور في


1- النحل: 53
2- وسائل الشيعة 84: 3، و 458: 10
3- بحارالأنوار 342: 96، و بالمضمون عينه ما في الكافي 401: 4- 402
4- مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي
5- عوالي اللئالي 214: 1
6- البقرة: 115
7- البقرة: 149
8- بحارالأنوار 57: 96؛ و انظر: المصدر نفسه، هامش صفحة 86.

ص: 43

عالم المثال، وإذا ما أتمّ وظائف تلك المرحلة و وفى بحقوقها، فإنّه يرقى إلى مقام العرش الإلهي.

و الأرفع من ذلك، مقام العترة الطاهرة (ع) الّتي تمنح الفخار لحقيقة الكعبة، لأنّ عبادتهم و طوافهم يدور حول «سبحان الله» و «الحمد لله» و «لا إله إلّا الله» و «الله اكبر».

و لكن يرفع الله تعالى الإنسان إلى مستوى الملائكة، لتظهر عليه آثارهم، طلب منهم الصيام كي يتزهوا- كالملائكة- و يحذروا الأعمال الحيوانية ...

إذا كان هذا هو الحال ... فإنه جعل الكعبة موازيةً في الأرض للبيت المعمور، و تمثلًا لعرشه سبحانه، فأمر العباد بالطواف حولها، و الهمهمة في ذلك بذكره سبحانه، و طلب المغفرة منه لنفسه و الآخرين، و بهذا تحصل المشابهة مع ملائكة العرش الإلهي و الاقتداء (1)؛ لأنّ الملائكة تطلب المغفرة للمؤمنين و التسبيح للذات المقدسّة، بطوافها حول عرش الحق سبحانه (2)، و لا سيّما بعد الاختبار الذي خضعت له عند خلق آدم (ع) و السجود له. (3) ملاحظة: لكل اسم من أسماء الله الحسنى ظهور خاص به، يكون موجداً لأثر خاصّ بتلاقح الأسماء الأخرى، إنّ العدد و الرقم و الكميّة المتجلّية في ركعات الصلاة، و تلبية الإحرام، و أشواط الطواف و السعي و رمي الجمرات ... كلّ واحدٍ من هذه يمكن أن يكون مظهراً لتزاوج الأسماء الإلهية بحيث يعطي أثراً ضمن هندسة خاصّة، تماماً كما كان في عدد الأربعين رسالة خاصّة، فإذا كان لرقم 7 شواهده الخاصّة، مثل تكبيرة بداية الصلاة، و عدد


1- المصدر نفسه 96: 6- 97، و انظر كذلك: 29- 30، كذلك صفحة 113 بمتنها و هامشها
2- سجود الملائكة لآدم لم تكن طاعة له و لا عبادة، و إنّما طاعة لله تعالى و عبادة، و تكريماً و تحيّة و تعظيماً لآدم
3- بحارالأنوار 77: 65؛ مع الإرشارة لقوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... غافر: 7.

ص: 44

أشواط الطواف و السعي، فإن لعدد ثمانية، الذي تغلب عليه الصبغة الرحمانية علائمه الخاصة به أيضاً؛ بمعنى أنه إذا كانت أبواب جهنّم ثمانية (1)، و حملة العرش يوم القيامة ثمانية: وَيحَمِلُ عَرشَ ربِّكَ فَوقَهُمْ يَوْمَئذٍ ثمَانِيَةٌ (2)

، و أمثال ذلك، فإنّه لا شكّ في وجود سرّ و رمز في ذلك، مختفٍ و مستور عن المحجوبين في نشأة الكثرة، مع انكشافه لشاهدي ساحة الوحدة.

كما أنّ وضع الكعبة على الجانب لا في المقابل عند الطواف، وكذلك جعل هذا الجانب هو الأيسر لا الأيمن مستنداً أيضاً إلى سرّ يمكن أن يكون الإطلاع عليه صوم الزائرين أو رزق كتاب أسرار الحج و رموزه.

الطواف الجاهلي

كان المشركون في العصر الجاهلي يطوفون حول الكعبة، إلّا أنّ القرآن وصف عبادتهم في أطراف الكعبة بالصفير و ضرب الكفّ، حيث قال: (وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَة). (3) إنّ من يضع الكتاب الإلهي خلفه، و يضع الأصنام مكان الله سبحانه، هو مصداق (كَالأنْعامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ) (4)، و كلام البهائم مبهم لا مبيّن، لهذا فكلّ ما يصدر من فمهم إنّما هو بمثابة الصفير، و حيث إنّ تمتمة الشرك ليست بياناً إنسانياً، عبّر القرآن عن طوافهم المشوب بالشرك بالصفير لا البيان، من هنا فالصفير الواقعي و القولي كلاهما مصداق للآية الشريفة.

إنّ الجاهلين بأسرار الحج يدورون حول الكعبة، كما كان أهل الشرك في الجاهلية يدورون كثيراً حولها، و عندها الأصنام و الأوثان، و كما يدور


1- بحارالأنوار 39: 8، 131، 144، 170
2- الحاقّة: 17
3- الأنفال: 35
4- الأعراف: 179.

ص: 45

الكثير من العصاة حولها، فالزائر الذي لايلتفت إلى سرّ الطواف، قد يرتكب في تلك الحال معصيةً، كما قال الإمام الصادق (ع): «إن امرأة كانت تطوف و خلفها رجل، فأخرجت ذراعها، فنال بيده حتى وضعها على ذراعها، فأثبت الله يده في ذراعها حتى قطع الطواف و أرسل إلى الأمير و اجتمع النّاس، و أرسل إلى الفقهاء فجعلوا يقولون: اقطع يده، فهو الذي جنى الجناية، فقال: هاهنا أحد من ولد محمد رسول الله (ص)؟ فقالوا: نعم، علي بن الحسين (ع) قدم الليلة، فأرسل إليه فدعاه، و قال: أنظر ما لقيا ذان، فاستقبل القبلة و رفع يده، و مكث طويلًا يدعو، ثمّ جاء إليهما حتّى خلّص يده من يدها، فقال الأمير: ألا نعاقبه بما صنع؟ فقال: لا». (1) ففي هذا المورد الخاصّ رغم أن فقهاءالجمهور حكموا بقطع اليد إلّا أنّ الرجل و المرأة فتحت أيديهما و نال الرجل العاصي شفاعة الإمام زين العابدين فنجى من الحدّ.

إنّ تفاوت مراتب الطائفين يمكنه أن يكون مصداقاً لهذا الكلام النيّر للإمام الصادق (ع) في ذيل الآية الشريفة: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإذْنِ اللَّهِ) (2) حيث يقول (ع): «الظالم يحوم حوم نفسه، و المقتصد يحوم حوم قلبه، و السابق يحوم حوم ربّه عزّوجلّ». (3) لأنّ دين أيّ إنسان، ينظمه له ربّه و يشرّعه، فمن يكون إلهه هواه فسيكون نبيّه رسول هذا الهوى و جنته و ناره صنائع لهذا الهوى أيضاً؛ و ما قاله رسول الله (ص): «يأتي على النّاس زمان، بطونهم آلهتهم، و نساؤهم قبلتهم، و دنانيرهم دينهم» (4)، ناظر إلى هذا الأمر، حيث لا يمكن أن يكون


1- وسائل الشيعة 338: 9
2- فاطر: 32
3- بحارالأنوار 214: 23
4- المصدر نفسه 453: 22.

ص: 46

هناك شخص بلا دين.

استلام الحجر الأسود

لقد رغّب كثيراً في استلام الحجر الأسود، نظراً للخصوصيات المعنويّة التي فيه، لهذا يستحب وصول يد الطائف إليه، و من اللائق و الجدير بالطائفين طوافاً مستحباً أن يفسحوا في المجال لمن يطوف طوافاً واجباً أن يستلموا الحجر الأسود، و يقبّلوه، و يقدّمونهم على أنفسهم، و لايشكّلون مانعاً أمامهم. (1) يقول الحكيم المتألّه الأستاذ إلهي قمشه اي 1 في هذا المضمار: إنّ الحجر الأسود هو الخال الذي على شفتي المحبوب، فقبّل هذا الخال لحظة الوصال و الحضور بين يدي المحبوب.

شعر:

چون جان شود مَحرم، به تن احرام گيرى كز وعده ديدار، جانان كام گيرى

وز زمزم چاه زنخدان جام گيرى بوسى حَجَر، خال لب لعل نگاران.

(2) إنّ الحجر الأسود يمين الله في الأرض، (3) و «كلتا يديه يمين» (4)، فالله ليست له يدٌ كأيدي الناس حتى نفرض له يميناً وشمالًا، إنه مجرّدٌ محض، منزّه عن الجسم و الجسمانيات، و هذا الكلام إنّما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.


1- وسائل الشيعة 402: 9- 422
2- كليات ديوان إلهي قمشه اي، قسم أسرار الحج: 956
3- وسائل الشيعة 406: 9
4- المصدر نفسه 432: 11.

ص: 47

إنّ المولى سبحانه و تعالى أمر- لكي يكون له محلّ ميثاق في نشأة الحسّ و الطبيعة- بوضع حجر خاصّ في أحد أركان الكعبة، تحت عنوان: «يمين الله عزّوجلّ في أرضه- و- في خلقه»؛ فالزائر عند ما يستلم الحجر يبايع الله سبحانه بيده اليمين؛ تماماً كما عندما سأل الإمام السجّاد (ع) الشبلي عن مصافحة الحجر الأسود، كيف اضطرب حاله، مشيراً إلى أنّ من يستلم الحجر الأسود فإنّما يصافح الله تعالى. (1) و النتيجة: إنّ سرّ ملامسة الحجر الأسود أن يتعهّد الحاج و الزائر بذلك بعهده مع الله سبحانه، أن لايضع يده في حرام أو معصية، فلا يأخذ الرّبا و الرشوة، و لايعطيهما، و لا يمضي أمراً باطلًا، و لا يخون بعلاقته بالغرباء و الأجانب و الأعداء و ...

صلاة الطواف

لابدّ بعد الطواف- وفقاً للترتيب الواجب في أعمال الحج و العمرة، و مناسكهما، من أداء الطواف، التي تحدّت القرآن عن مكانها بقوله: (وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). (2) الكعبة مرجع البشر؛ لهذا كانت العودةلها كثيرة و الطواف حولها أكثر و لما كان الطواف متلوّاً دوماً بصلاته، عبّر عن مكان هذه الصلاة- و هو الموضع الذي وقف فيه النبي إبراهيم (ع)- بالمصلّى، في تعبير مشير إلى الحضور المتواصل للمصلّين فيه، و هذا ما يرشد إلى أن انعقاده للصلاة صار ملكةً فيه، إذ لايقال: مصلّى، إلّا للمكان الذي تقام فيه الصلاة دائماً.


1- تقدم حديث الشبلي فيما مضى، فليراجع
2- البقرة: 125.

ص: 48

و لابدّ في صلاة الطواف- انطلاقاً من روايات أهل بيت النبوة (ع)، أن تكون إما إلى جانب مقام إبراهيم أو خلف المقام (1)، بل التقدّم على المقام كما لو فرض المقام مأموماً يعدّ هتكاً لحرمته، لهذا تحرم صلاة المصلّين و المقام خلفهم.

إنّ النبي إبراهيم (ع) هو أسوة سالكي حيّ الحق (2)، و الاقتراب من موضع قدمه و الحضور المادي إلى جانب مقامه الظاهري يشكل أرضيةً لإدراك مقاماته المعنوية التي منها: (وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (3)، (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوَّاهٌ مُنِيبٌ) (4)، (كانَ امَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (5)، و الأوضح هنا قوله تعالى: (إِنِّى جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). (6) ف- (ظاهر) صلاة الطواف هو أن يقف الإنسان في المكان الذي وقفه إبراهيم (ع)، يصلّي عنده، أما (الباطن) فإدراك مكانةخليل الله و الاستقرار فيها، و الصلاة كصلاته، و كما يفهم من الكلام النيّر للإمام السجاد (ع)، يجب الانفتاح على كلّ طاعة، و الانزجار عن كلّ معصية. (7) إنّ من يقيم الحج أو العمرة عارفاً بأسرار العبادة، إنّما يضع قدمه موضع قدم الأنبياء و الأئمة (ع) و مع الالتفات إلى ما وجّهه الإمام زين العابدين (ع) للشبلي من سؤال حول ما إذا صلّى كما صلّى إبراهيم و مرّغ أنف الشيطان في التراب ... هناك يصل إلى مقام إبراهيم (ع) و يقف في مكانته، و يصلّي صلاته و يذلّ الشيطان.

أما من يفقد عند الصلاة الخلوص و الخضوع و حضور القلب، و يقع


1- وسائل الشيعة 478: 9- 482
2- الممتحنة: 4
3- النجم: 37
4- هود: 75
5- النحل: 120- 121
6- البقرة: 124.
7- تقدّم الحديث سابقاً عن خبر الشبلي، فراجع.

ص: 49

فريةً للوساوس و الدسائس و ... فلم يقف في حقيقة الحال في مقام إبراهيم (ع)، بل كان طعمةً للشيطان، قد مرّغ الشيطان أنفه في التراب!!

التبرّك بماء زمزم

يستحب لزائر بيت الله، بعد الطواف و صلاته، التوجه إلى جانب بئر زمزم و الشرب منه، و أن يصب مقداراً منه على رأسه و يتبرّك به. (1) و بعد شرب ماء زمزم يسأل الله تعالى العلم و غيره متّبعاً في ذلك رسول الله (2)، في دعائه الذي يقول فيه: «أللهم اجعله علماً نافعاً و رزقاً واسعاً و شفاء من كلّ داء و سقم». (3) لقد سأل الإمام السجاد (ع) الشبليَّ: هل تحدّث مع الله عند بئر زمزم و عاهده أن يقبل بكلّ طاعة له و يترك كلّ معصية؟ و عندما أجاب الشبليّ بالنفي، أجابه الإمام بأنه لم يشرف- إذاً- على ماء زمزم. (4) و بناءاً عليه، فعلى الزائر العارف بأسرار الحج أن يقصد عندما يصبّ ماء زمزم على رأسه و صدره كأنه ينادي الله قائلًا: إلهي! لقد شربت من كأس طاعتك، و تركت كؤوس المعصيةكلّها.

السعي

السعي بين الصفا و المروة أحد مناسك الحج و العمرة، فالسعي هرولة خاصّة من الله و إلى الله، هي فرار و هجرة و التجاء من الله إليه و به، تماماً


1- وسائل الشيعة 350: 9- 352، 514- 515، و 206: 17- 207
2- الكافي 25: 4
3- المصدر نفسه: 430
4- أنظر حديث الشبلي فيما تقدّم.

ص: 50

كما يقول الإمام الباقر (ع) حول الآية الشريفة: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) (1): «حجّوا إلى الله عزّوجلّ»، (2) و هذا هو التوحيد الخالص.

لقد نصب العرب الجاهليون على جبلي الصفا و المروة أصناماً، و هذا ما دفع ببعض المسلمين أن يتجنّبوا السعي بين الصّفا و المروة على أساس أنه سعي بين صنمين و هو غير صحيح (3)، فأنزل الله تعالى ما يرفع هذا التوهّم، و الحذر، فقال: (إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (4)، فالسعي بينهما كسائر الشعائر الإلهية علامة لتقوى القلب (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ). (5) و ليس للسعي بين الصفا و المروة استحباب نفسي، و ربّما من هنا كان جزءاً من الحج أو العمرة، لا مستحباً بنفسه، قال تعالى: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ).

أسرار السعي

1. السعي بين الصفا و المروة هرولة نحو الله تعالى، كما أنّ التردّد بين هذين الجبلين تعني الحالة الممدوحة في الوقوف بين الخوف و الرجاء (6)، فالمؤمن دائماً يعيش بين الخوف و الرجاء، حتّى مع اختلاف نسبته إليها في مراحل حياته المختلفة، و هذا ما يجلي لنا السرّ في السعي بين الصفا و المروة.

2. على الحاج عندما يكون مستقبلًا في سعيه الصفا أن يصفي نفسه، و يتحلّى بالصفاء الإلهي، و عندما يستقبل المروة

3.


1- الذاريات: 50
2- وسائل الشيعة 5: 8
3- الكافي 435: 4؛ و بحارالأنوار 235: 96
4- البقرة: 158
5- الحج: 32
6- راجع حديث الشبلي المتقدم.

ص: 51

فهو يسعى للإتصاف بالمروّة و الشهامة و النبل؛ لأنّ المروة من المروّة، و الصفا علامة التصفية، و تهذيب الروح، كما قال الإمام الصادق (ع): «و اصف روحك و سرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، و كن ذا مروّة من الله نقياً أوصافك عند المروة». (1) إن أصل و منشأ تشريع الذهاب و الإياب هذا هو ما حدث مع هاجر 3، عندما سعت سبع مرّات بين الجبلين، آملةً الحصول على ماء لولدها الصغير (2)، إلّا أنّ سرّ السعي هو ما أشرنا إليه من تحصيل الصفاء و المروّة.

و بناءاً عليه، فعندما يحقق الحاج أو المعتمر سرّ السعي و يناله، فإنه لا يمدّ يده بعد ذلك إلى الأعمال المذلّة الدنيئة، لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، و لا أفرّ فرار العبيد». (3) التقصير

التقصير أحد أعمال الحج و العمرة، مع اختلاف أنه واجب تعييني في حالات، و تخييري في حالات أخرى، و تفصيله موكول إلى كتب الفقه.

إنّ الحلق و التقصير أثناء الإحرام يعدّان من محرّمات الإحرام، إلّا أنهما من الواجبات في نهايته، إذ بإنجازه تحلّ الكثير من الأمور التي كانت محرّمة على المحرم، فالحلق أو التقصير في مناسك الحج كالتسليم في فريضة الصلاة، فالتسليم الابتدائي و العمدي في أثناء الصلاة حرام لكن في نهايتها يصبح


1- بحارالأنوار 124: 96
2- جاء في بعض الروايات تفسير آخر لأصل هذا التشريع، و هو أن الشيطان ظهر بصورة متكررة لإبراهيم الخليل 7 في الوادي بين الصفا و المروة، و كان إبراهيم كارهاً للحديث معه، فكان يفرّ إلى هذه الناحية تارةً و إلى تلك أخرى. أنظر: وسائل الشيعة 170: 8؛ و بحارالأنوار 108: 12
3- بحارالأنوار 191: 44، و في 7: 45، لم ترد الجملة الأخيرة بهذه الطريقة، بل «لا أقرّ لكم إقرار العبيد».

ص: 52

واجباً، و بالإتيان به يخرج المصلّي من حالةالصلاة، و تحلّ كلّ تلك الأمور التي كانت واجبةً عليه بهذا التسليم الخاص.

إنّ وجوب التقصير في عمرة التمتع تعيينيّ، فيما هو تخييري في العمرةالمفردة، نعم الحلق للرجال أفضل من التقصير، أما التقصير للنساء فهو تعييني.

و دليل رجحان الحلق على التقصير في الرجال في العمرة المفردة هو قول رسول الله (ص) في الذين اعتمروا عمرة مبتولة مفردة: «أللهم اغفر للمحلّقين» و لما طلب منه أن يطلب المغفرة للمقصّرين كرّر «أللهم اغفر للمحلّقين»، و في الثالثة أجاب: «و للمقصّرين». (1) يقول صاحب الفتوحات المكية معلّقاً على هذا الحديث: «الغفر الذي هو الستر للمحلّقين، و هم الذين حسروا عن رؤوسهم الشعر فانكشفت رؤوسهم، فطلب من الله سترها، ثواباً لكشفها، و المقصّر ليس له ذلك، فلما لم يفهموا عنه، قال: و للمقصّرين، خطاباً لهم، إذ قد قال (ص): «خاطبوا النّاس الناس على قدر عقولهم ...». (2) تساوي الرجل و المرأة في تحصيل الكمال

الروح الإنسانية ليست مذكرةً و لا مؤنثة؛ لأنّها موجود ملكوتيّ مجرّد، و هو منزّه عن الخصوصيات الماديّة من الذكورة و الأنوثة، من هنا تساوت الأحكام الإسلامية بين الرجل و المرأة في كلّ الجهات المرتبطة بالروح الإنسانية، سواء من ناحيةتعليم الكتاب و الحكمة، أم تزكية الروح و


1- وسائل الشيعة 543: 9
2- ابن عربي، الفتوحات المكيّة 755: 1.

ص: 53

تهذيبها، و لا يوجد هنا أيّ امتياز لأحد صنفي البشرية في تحصيل الكمالات النفسانية، فلا يوجد أيّ كمال وجودي- من حيث هو كمال- مشروط بالذكورة أو ممنوع بالأنوثة.

نعم، هناك أمور تنفيذية تستدعي التواصل المباشر مع أفراد المجتمع- الأعم من الرجال و النّساء- مثل قيادة الأمة، لها حساباتها الخاصّة، و إلّا فالولاية التكوينية التي هي أرفع مقام منيع للإنسانية يتساوى فيها الرجل و المرأة.

و غرضنا من ذلك أنّ الكمالات الروحية متساوية في الصنفين، لكنّ الوظائف البدنية لكلّ منهما تتناسب مع بنيتهما الجسديّة، و من أشكال الاختلاف البدني بين الرجل و المرأة ما يظهر في بعض أعمال الحج والعمرة، مثل قضية الحلق و التقصير، حيث الرجل مخيّر أحياناً بينهما و متعيّن عليه أحياناً أخرى، فيما المرأة مكلّفة دائماً بالتقصير و لاتكلّف أبداً بالحلق أو تخيّر بينه و بين التقصير، حيث الحلق صعب جداً على النساء و لايتناسب معهنّ.

ص: 54

الرحمة الهابطة على عرفة

آية الله الشيخ محمدمهدي الآصفي

عرفة روح الحج

يتميز عرفة من بين سائر أعمال الحج امتيازاً واضحاً.

وقد روي عن رسول الله (ص): (الحج عرفة). (1) ومعنى الحديث بلسان الفقه: إنّ عرفة من أركان الحج، يبطل الحج بترك مسمى الوقوف فيها عمداً، و على من تركه عمداً، من غير عذر، أن يعيد الحج ...

و معنى الحديث بلسان العرفان: أنّ عرفة روح الحج، و كل ما يسبقه من أعمال و مناسك، إنما شرح لإعداد الحاج لحضور عرفة، على مائدة الرحمة الإلهية، و ما يلحق عرفة من مناسك و أعمال يأتي في امتداد عرفة.

عرفة يوم الاعتراف و المعرفة

في عرفة يتجرّد الناس عن كل غرورهم و خيلائهم، و يعترفون لله تعالى بذنوبهم و آثامهم، و يسألون الله تعالى أن يهبهم معرفة مناسكهم


1- مستدرك وسائل الشيعة، الباب 18 من أبواب إحرام الحج، والحدائق الناضرة، 15: 367، و سنن البيهقي، 216: 15، والجامع الصغير 1:، ومسند أحمد بن حنبل 38:، وسنن النسائي 2: 424 و 432 و 463، والمستدرك على الصحيحين 4: و 6:.

ص: 55

(وَأرِنَا مَناسكَنا وَ تُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أنْتَ التَّوابُ الرحِيمُ). (1) يوم عرفة، إذن، يوم اعتراف و معرفة.

و لا فرق بين الأنبياء (ع) و عامة النّاس، في الاعتراف و المعرفة في هذا اليوم المبارك، إلّا أنّ الأنبياء (ع) ليست لهم ذنوب يؤاخذهم الله تعالى عليها، و هم معصومون، منزهون عنها، ولكنهم يعترفون لله تعالى بما ارتكبوا من الغفلات و التقصير، و ما كان ينبغي لهم و مثلهم، أن يتنزهوا و يترفعوا عنها، ثم يسألون الله تعالى أن يلهمهم و يعلّمهم مناسكهم، ليس بوجهها الفقهي فقط، و إنما بما تحمل من أسرار المعرفة و التوحيد و العبودية.

عن فضالة بن أيّوب، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (ع): «إنّ إبراهيم (ع) أتاه جبرئيل (ع) عند زوال الشمس من يوم التروية، فقال: يا إبراهيم، إرتو من الماء لك و لأهلك، فسميّت التروية لذلك ... حتّى إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات، فلمّا زالت الشمس، مضى إلى الموقف، فقال (جبرئيل): يا إبراهيم، إعترف بذنبك، و أعرف مناسكك، ولذلك سميت عرفة». (2) عن ابن أبي عمير، عن معاوية عن عمار، قال: سألت أباعبدالله (ع) عن عرفات، لم سميت عرفات؟ فقال (ع): إنّ جبرئيل (ع) خرج بإبراهيم (ع) يوم عرفة، فلما زالت الشمس قال له جبرئيل: يا إبراهيم إعترف بذنبك. (3) فإذا كان الأنبياء (ع) يعترفون لله، و هم معصومون منزهون عن المعاصي و الآثام، فأحرى بعامة الناس أن يعترفوا لله تعالى في هذا اليوم، و في هذا الوادي بذنوبهم، و يبثوا بين يدي الله تعالى ذنوبهم و آثامهم، معترفين بجهلهم


1- البقرة:
2- بحارالأنوار 12:
3- بحارالأنوار 108: 12.

ص: 56

و ظلمهم لأنفسهم، راجين من الله أن يغفر لهم بكرمه و عفوه ما ارتكبوه بجهلهم و طينتهم، طالبين من الله تعالى أن يرزقهم الوعي و المعرفة بمناسكهم و عباداتهم، و يرزقهم المعرفة، و التوحيد، و التقوى، و الطاعة.

عرفة من منازل الدعاء و المغفرة

أبرز خصال عرفة أنها من منازل (الدعاء و الاستجابة) و (الاستغفار و المغفرة) فيها يستجاب الدعاء، و تغفر الذنوب و قد استفاضت الروايات بذلك.

عن أبي الحسن الرضا (ع): «ما وقف أحد بتلك الجبال (وادي عرفة) إلّا استجيب له». (1) و عن الرضا (ع) قال: «كان أبوجعفر (الباقر (ع)) يقول: ما من برّ و لا فاجر يقف بجبال عرفات، فيدعو الله إلّا استجاب الله له». (2) عرفة من منازل الرحمة

رحمة الله تعالى تفيض في كل مكان و زمان، و لايخلو منها مكان و لا زمان، ولكن لرحمة الله تعالى منازل خاصة، تصب فيها رحمة الله تعالى من غيرحساب؛ و من هذه المنازل منازل مكانيّة، و منها منازل زمانية، و منها منازل نفسية، و منها منازل اجتماعية، و منازل أخرى.

فمن المنازل المكانية وادي عرفة بعد الزوال من يوم عرفة، و أما في غير هذا الوقت، فهو واد كسائر الوديان، فإذا حلّ الزوال من يوم عرفة، نزل على هذا الوادي من رحمة الله ما لايعرف حجمها و وزنها إلّا الله، و من المنازل


1- المصدر نفسه، 99: و عدة الداعي لابن فهد الحلي: 70
2- بحارالأنوار، 251: 99؛ و قرب الاسناد، 166.

ص: 57

المكانية المسجد الحرام، و المسجد النبوي، و حرم أهل البيت (ع) في البقيع في الحجاز، و المسجد الأقصى في فلسطين، و الحائر الحسيني و مسجد الكوفة في العراق.

و من منازل الرحمة الزمانية ليلة الجمعة، و ليلة النصف من شعبان، و ليلة القدر التي يقول عنها الله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ و يوم عرفة بعد الزوال.

و من منازل الرحمة النفسية، حالة انكسار القلب، فإنّ القلب في حالة الانكسار أقرب شي ء إلى الله، و قد ورد في الحديث: «إنّ الله في القلوب المنكسرة»، و من هذه المنازل حالة الاضطرار، فإن الإنسان في حالة الاضطرار قريب من الله تعالى ... يقول تعالى: أمَّنْ يجُيِبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ.

ومن منازل الرحمة تجمّع المؤمنين للدعاء و الصلاة، و كلما كان اجتماع المؤمنين أعظم، كان أقرب إلى رحمة الله ... و من ذلك تجمّع المسلمين يوم عرفة للدعاء و الاستغفار، ومن ذلك اجتماع المسلمين لصلاة الجمعة و الجماعة، فإنهما من منازل رحمة الله.

و وادي عرفة بعد زوال يوم عرفة من أعظم منازل رحمة الله على وجه الأرض.

و قد روي عن رسول الله (ص): «إن لله باباً في السماء يقال له: باب الرحمة، و باب التوبة، و باب الحاجات، و باب التفضّل، و باب الإحسان، و باب الجود، و باب الكرم، و باب العفو، و لا يجتمع بعرفات أحد إلّا استأهل

ص: 58

من الله في ذلك الوقف هذه الخصال ... و لله رحمة ينزلها على أهل عرفات، فإذا انصرفوا، أشهد الله ملائكته بعتق أهل عرفات من النار، و أوجب الله تعالى لهم الجنة، و نادى منادٍ انصرفوا مغفورين، فقد أرضيتموني، رضيت عنكم». (1) و اجتماع المسلمين في وادي عرفة من أعظم اجتماعات المسلمين، و أكثرها بركة، و كلّ شي ء في هذا الوادي يستنزل يومئذ رحمة الله تعالى؛ (يوم عرفة، و وادي عرفة، و اجتماع المسلمين العظيم للدعاء و الصلاة، و تجردهم عن ملابسهم و إقبالهم على الله بالتذلل، و الانكسار، و الاستغفار) ... كل ذلك يستنزل رحمة الله، و تهبط الرحمة الإلهية يومئذ بدون حساب على وادي عرفة، إلّا أن الناس ينالون من هذه الرحمة النازل، بقدر أوعية نفوسهم.

إنما ينال الإنسان من الرحمة في عرفة على قدر وعاء نفسه

تفيض رحمة الله على عرفة من غير حساب، و لسنا نستطيع أن نتصور بحواسنا المحدودة، الرحمة الهابطة على عرفة، ولكن كلّ واحد منا ينال من هذه الرحمة حسب وعاء نفسه ... فمن اتسع وعاء نفسه يأخذ منها الكثير، و من يضيق وعاء نفسه يأخذ القليل على قدر ما يسعه وعاؤه، و أوعية الناس مختلفة، فمن الناس من يسع وعاء نفسه ما تتسع له أرض عرفة و سماؤها، و من الناس من يتسع لما دون ذلك، و مراتبها لاتحصى.

واختلاف أوعية الناس في النيل من رحمة الله، ليس في أصل التكوين، و


1- أمالي الصدوق: 187؛ و بحارالأنوار:؛ و وسائل الشيعة 13:، ط آل البيت.

ص: 59

إنما الإنسان هو الذي يحدد وعاء نفسه بعمله.

فكلما يكون عمل الإنسان و جهده لله أعظم، يتسع وعاء نفسه أكثر، و كلما يتسع وعاء نفسه، يعظم حظّه من رحمة الله.

عرفة منزل الدعاء و الاستجابة

فيها يصعد الدعاء إلى الله، و إليها تنزل الاستجابة من عند الله ... و الدعاء في كل مكان يصعد إلى الله، و الاستجابة في كلّ مكان تنزل من عند الله إلى العباد.

لا شك أن الذنوب تحبس الدعاء، و تقطع الرجاء من عند الله ... و قد ورد في دعاء كميل، للإمام أميرالمؤمنين (ع):

«أللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ... أللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء».

و عن أميرالمؤمنين (ع): «المعصية تمنع الاستجابة».

عن علي بن الحسين (ع): «الذنوب التي تردّ الدعاء و تظلم الهواء عقوق الوالدين». (1) فيدعو الانسان، فيحبس الدعاء عن الصعود إلى الله، أو تقطع رجاء العبد بالله تعالى، فلايدعو العبد ربه سبحانه و تعالى، و هو أشدّ و أعظم من الأول، و في الرواية: «إن الذنوب التي تردّ الدعاء سوء النيّة، و خبث السريرة، و النفاق، و ترك التصديق بالإجابة، و تأخير الصلوات المفروضات، و ترك التقرب إلى الله بالبر و الصدقة، و استعمال البذاء و الفحش». (2) ولكن العبد إذا تاب إلى الله، واستغفر من ذنوبه، تتساقط الحجب بينه


1- معاني الأخبار: 270
2- المصدر نفسه: 271.

ص: 60

و بين الله، فيصعد دعاؤه إلى الله، و يتفتّح قلبه على الله تعالى، و تنفتح عليه أبواب الرجاء، و تنزل عليه الاستجابة من عند الله في كل مكان، في عرفة و غير عرفة ... و هذا كله لا ريب فيه.

إلّا أنّ لوادي عرفة يوم عرفة بعد الزوال إلى الغروب، خصوصيةً و امتيازاً، لاتوجد في غيرها إلّا نادراً.

ففي وادي عرفة بعد الزوال من يوم عرفة، تتساقط كل الحجب بين العبد و بين الله، و يصعد الدعاء إلى الله، و تتفتح القلوب على الله، و تنزل الاستجابة من عند الله على عباده بدون حجاب.

روى البزنطي عن الإمام الرضا (ع) قال: «كان أبوجعفر (الباقر) (ع) يقول: ما من برّ و لا فاجر يقف بجبال عرفات، فيدعو الله إلّا استجاب الله له، أما البرّ ففي حوائج الدنيا و الآخرة، و أمّا الفاجر ففي أمر الدنيا». (1) و قد سمع علي بن الحسين (ع) يوم عرفة سائلًا يسأل الناس، فقال له: «ويحك! أغير الله تسأل في هذا اليوم؟ إنه ليرجى لما في بطون الحبالى في هذا اليوم أن يكون سعيداً». (2) كيف ندعو الله؟ و ماذا نطلب من الله؟

و لاشك أنّ لكيفية الدعاء تأثيراً فيما ينال الإنسان من رحمة الله، كما أنّ لما يدعو الله تعالى، له تأثير في ذلك.

فإذا حضر الإنسان منازل الدعاء و الاستجابة، كان عليه أن يعرف كيف يدعو الله، وماذا يطلب من الله في الدعاء؟

فإنَّ الرحمة الهابطة على عرفة، إذا كانت عظيمة لاحدّ له، فإنّ فرصة


1- بحارالأنوار 251: 99 و قرب الاسناد: 166؛ و وسائل الشيعة، 13:، ط آل البيت
2- وسائل الشيعة 13:، ح 18431؛ بحارالأنوار 99:، ح 9.

ص: 61

الدعاء من الزمان محدودة ... فينبغي أن يعرف الإنسان كيف يدعو و ماذا يدعو؟ لئلا يخسر هذه الفرصة الزمانية المحدودة و لايهدرها.

كيف ندعو الله؟

و أول ما يجب على الإنسان أن يعرفه: كيف يدعو الله؟ ... فإن لكيفية الدعاء أثراً مباشراً، كما قلنا فيما ينال الإنسان من رحمة الله.

الاجتهاد في الدعاء:

جاءفي فقه الرضا (ع): «فإذا زالت الشمس فاغتسل، أو قبل الزوال، ثم ائت الموقف، فادع بدعاء الموقف، واجتهد في الدعاء و التضرع، و ألحّ قائماً و قاعداً إلى أن تغرب الشمس». (1) اللواذ بالله:

عن حماد بن عيسى قال: «رأيت أباعبدالله (الصادق) (ع) بالموقف على بغلة، رافعاً يده إلى السماء حتى انصرف، و كان في موقف النبي (ص)، و ظاهر كفيه إلى السماء، و هو يلوذ ساعة بعد ساعة، بسبابتيه». (2) التحضير للدعاء و الاستعاذة:

ساعات عرفة بعد الزوال محدودة، و الرحمة الهابطة على عرفة غير محدودة، فلكي يتمكن الحاج أن ينال من رحمة الله أكثر ما يسعه وعاؤه النفسي، عليه أن يحضّر نفسه لاستيصال هذه الرحمة الإلهية الواسعة الهابطة ... و أفضل ما يحضّر الإنسان لاستقبال هذه الرحمة العظيمه الهابطة، القرآن و


1- فقه الرضا: 26؛ و بحارالأنوار 99:
2- قرب الإسناد: 22؛ و بحارالأنوار 99:، ح 3.

ص: 62

الذكر، فإنّ القرآن و الذكر يفتحان القلوب المغلقة، و يعدّان الإنسان لاستقبال رحمة الله بأوسع ما يتحمله وعاء نفس المؤمن.

كما أن الاستعاذة بالله من الشيطان، يحصن الحاج من وساوس الشيطان و خطراته، و مكره، و كيده ... فإن الشيطان لايهرع إلى صدّ المؤمن و حجبه عن الله، و إشغاله عن الدعاء و الاستغفار، كما يهرع في عرفة ... ففيها يحسّ الشيطان بأن الخطر يهدد كلّ ما عمله و جاء به، خلال مدة طويلة، في تحريف المؤمن و صدّه عن الله ... و لذلك يبذل كلّ ما في وسعه لإشغال المؤمن عن الذكر و الدعاء و الاستغفار.

و من أجل ذلك يجب الاستعاذة بالله في عرفة كثيراً من الشيطان، لئلايصحب الشيطانُ المؤمنَ في حرم أمن الله في عرفة، و في الساعات العزيزة الغالية، فيسلبه توفيق الدعاء و الاستغفار و الذكر.

عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: «إنما تعجل الصلاة و تجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء، فإنه (يوم عرفة) يوم دعاء؛ ثم تأتي الموقف، و عليك السكينة و الوقار؛ فاحمد الله و هلّله، و مجّدْه، وأثن عليه، و كبّره مأة مرة، واحمده مأة مرة، و سبّحه مأة مرّة؛ و اقرأ قل هو الله أحد مأة مرّة، و تخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت، و اجتهد فإنّه يوم دعاء و مسألة، و تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قطّ أحب إليك من أن يذهلك في ذلك الموطن، وايّاك أن تشتغل بالنظر إلى الناس، واقبل قبل نفسك، وليكن فيما تقوله: أللهمّ إنّي عبدك فلا تجعلني من أخيب وفدك، و ارحم مسيري إليك من الفج العميق». (1)


1- وسائل الشيعة 13:، ح 18394.

ص: 63

و عن أبي بصير عن أبي عبدالله (الصادق) (ع) قال: «إذا أتيت الموقف فاستقبل البيت و سبح الله مأة مرّة، و كبّر الله مأة مرّة، و تقول ماشاء الله لاقوة إلّا بالله مأة مرّة ... ثم تقرأ عشر آيات من أول سورة البقرة، ثم تقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرّات، و تقرأ آية الكرسي حتى تفزع منها ...». (1) التحضير لعرفة بالصلاة

الصلاة من مفاتيح الرحمة ... و قد كان الإمام الصادق (ع) يصلي بعرفة مأة ركعة ب- (قل هو الله أحد) و يختمها بآية الكرسي ... و كان (ع) يقول: «ما شهد هذا الموضع نبي و لا وصي إلّا صلّى هذه الصلاة». (2) حسن الظنّ بالله في الدعاء و المغفرة

عن أبي عبدالله الصادق (ع) قال: «سأل رجل أبي بعد منصرفه من الموقف. فقال: أترى يخيّب الله هذا الخلق كله... فقال أبي: ما وقف بهذا الموقف أحد إلّا غفر الله له؛ إلّا أنهم في مغفرتهم على ثلاث منازل ...». (3) أعظم الناس ذنباً

روى محمد بن علي بن الحسين (ع)، قال: روي: «إن أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفات ثمّ ظنّ أنّ الله لم يغفر له». (4) و روى الصدوق في الفقيه: «أعظم الناس جرماً من أهل عرفات الذي ينصرف من عرفات، و هو يظنّ أنه لم يغفر له، يعني الذي يقنط من رحمة الله». (5) ليس في عرفة دعاء موقت


1- المصدرنفسه 13:، ح 18397
2- المصدر نفسه 13:، ح 18398
3- المصدر نفسه 13: 549، ح 18406
4- المصدر نفسه 13:، ح 18407
5- من لايحضره الفقيه 2:، 587.

ص: 64

و قد ورد في عرفة عن طريق أهل البيت (ع) أدعية، موقّتة، منظمة، هي من غرر الدعاء و الذكر، و سوف نتحدث عنها إن شاءالله.

و لكن للحاج عندما يقف في عرفة أن يدعو الله تعالى لحاجاته الخاصة بلسانه و لغته، من غير أن يتقيد بدعاء موقّت.

فإنّ الله يحبّ أن يسترسل العبد في حاجاته مع ربّه، بلغته و لسانه، و بالطريقة التي يحبها في الدعاء مع الله تعالى.

و قد ورد في الحديث عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: «سبعة مواطن ليس فيها دعاء موقّت، منها الوقوف بعرفات». (1) و ليس معنى ذلك النهي عن الدعاء الموقّت، و إنما المعنى أن للعبد أن يسترسل في الدعاء مع الله في عرفة، من غير أن يلتزم بدعاء موقّت.

ماذا نطلب من الله تعالى في الدعاء؟

أ- التعميم في الدعاء

ينبغي في الدعاء أن نطلب من الله تعالى كلّ شي ء مما نحتاج إليه، وكلّما يهمنا في دنيانا و آخرتنا، و نطلب منه أن يكفينا كلما نحترز منه من سوء و شرّ في ديننا و دنيانا، فإن مفاتيح الخير و أسبابه كلها بيد الله، و لا يمتنع عن إرادته شي ء، و لا يعجزه شي ء، و لا يبخل على عباده بشي ء من الخير و الرحمة.

و إذا كان الله تعالى لايبخل بالعطاء والإجابة، فمن المعيب، و من القبيح


1- بحارالأنوار 99:- 252.

ص: 65

أن يبخل العبد بالسؤال و الدعاء.

في الحديث القدسي: «لو أنّ أولكم و آخركم وحيّكم و ميّتكم اجتمعوا فتمنى كل واحد ما بلغت أمنيته فأعطيته، لم ينقص ذلك من ملكي». (1) و أيضاً عن رسول الله (ص) من الحديث القدسي: «لو أن أهل سبع سماوات و أرضين سألوني جميعاً، و أعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك من ملكي، و كيف ينقص ملك أنا قيّمه؟!». (2) و في الحديث عن رسول الله (ص): «سلوا الله و أجزلوا، فإنّه لايتعاظمه شي ء». (3) و روي: «لاتستكثروا شيئاً مما تطلبون، فما عند الله أكثر».

و أمثلة التعميم و التوسعة في الدعاء في طلب كل خير، والاحتراز من كل شرّ، كثيرة في النصوص المروية من الدعاء عن أهل البيت (ع)، نذكر منها بعض النماذج.

منها الدعاء المعروف:

«يا من يعطي الكثير بالقليل، يا من يعطي من سأله، يا من يعطي من لم يسأله، و من لم يعرفه، تحنّناً منه و رحمة، أعطني بمسألتي إيّاك جميع خير الدنيا و جميع خير الآخرة، و اصرف عنّي بمسألتي إيّاك جميع شرّ الدنيا و شرّ الآخرة، فإنّه غير منقوص ما أعطيت، و زدني من فضلك يا كريم».

و في الدعاء: «أللهم إنّي أسألك مفاتح الخير و خواتمه، و سوابغه و فوائده و بركاته، و ما بلغ علمه علمي، و ما قصر عن إحصائه حفظي».

و في الدعاء: «يا من هو في علوّه قريب، يا من هو في قربه لطيف، صلّ


1- المصدر نفسه 293: 93
2- المصدر نفسه 303: 93
3- المصدرنفسه 302: 93.

ص: 66

على محمّد و آل محمّد، أللهم إنّي أسألك لديني و دنياي و آخرتي من الخير كله، و أعوذ بك من الشر كله».

و في الدعاء: «وأدخلني في كلّ خير أدخلت فيه محمّداً و آل محمّد، و أخرجني من كلّ شرّ أخرجت منه محمّداً و آل محمّد».

و في الدعاء: «و اكفني ما أهمّني من أمر دنياي و آخرتي».

و في الدعاء: «أللهم لا تدع لي ذنباً إلّا غفرته، و لا همّاً إلّا فرجته، و لا سقماً إلّا شفيته، و لا عيباً إلّا سترته، و لا رزقاً إلّا بسطته، و لا خوفاً إلّا آمنته، و لا سوءاً إلّا صرفته، و لا حاجةً هي لك رضاً، و لي فيها صلاح إلّا قضيتها يا أرحم الراحمين».

و في الدعاء: «يا من بيده مقادير الدنيا و الآخرة، و بيده مقادير النصر و الخذلان، و بيده مقادير الغنى و الفقر، و بيده مقادير الخير و الشرّ، صلّ على محمّد و آل محمّد، و بارك لي في ديني الذي هو ملاك أمري، و دنياي التي فيها معيشتي، و آخرتي التي إليها منقلبي، و بارك لي في جميع أموري ... أعوذ بك من شرّ المحيا و الممات، و أعوذ بك من مكاره الدنيا و الآخرة».

و في الدعاء: «أسألك بنور وجهك الذي أشرقت به السماوات، و انكشفت به الظلمات، و صلح عليه أمر الأولين و الآخرين، أن تصلي على محمّد و آل محمّد، و أن تصلح لي شأني كله، و لاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً».

و في دعاء الأسحار للإمام زين العابدين (ع): «اكفني المهم كلّه، و اقض لي بالحسنى، و بارك في جميع أموري، و اقض لي جميع حوائجي، أللهم يسّر

ص: 67

لي ما أخاف تعسيره، فإن تيسير ما أخاف تعسيره عليك يسير، و سهّل لي ما أخاف حزونته، و نفّس عني ما أخاف ضيقه، و كفّ عني ما أخاف غمّه، و اصرف عني ما أخاف بليته».

و في دعاء الأسحار أيضاً: «وهب لي رحمة واسعة جامعة أطلب بها خير الدنيا و الآخرة».

ب- و لا تحجبنا جلائل الحاجات عن صغارها

قد يكون من المعيب أن يطلب بعضنا من بعض حاجاته الطفيفة و الصغيرة، ولكن عندما يكون وجه العبد إلى الله تعالى في الطلب و السؤال يختلف الأمر، فلا يكون الطلب معيباً، مهما صغرت الحاجة، و خفّت.

فإن العبد مكشوف لربّه سبحانه و تعالى بكل حاجاته، و نقصه، و ضعفه، و بكل سوآته و عوراته، و لا يخفى عليه سبحانه شي ء من فقرنا و نقصنا حتى نخجل أن نعرض عليه سبحانه ضعفنا، و عجزنا، و حاجاتنا التي نخجل أن نعرضها على غيره سبحانه.

فلاينبغي أن تحجب جلائل الحاجات و الطلبات عنه سبحانه صغار الحاجات و خفافها.

والله تعالى يحب أن يرتبط به عبده في كلّ حاجاته و شؤونه، صغارها و كبارها، حتى يكون ارتباطه به ارتباطاً دائماً، و لن يدوم هذا الارتباط، و يستمر و يتصل بين العبد و ربّه، إلا إذا كان العبد يشعر بالحاجة إلى ربّه، في كلّ شؤونه و حاجاته في جلائل الحاجات و صغارها، حتى في مثل شسع نعله إذا انقطع.

ص: 68

عن رسول الله (ص): قال: «سلو الله عزّوجلّ ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع النعل، فإنّه إن لم ييسره لم يتيسر».

و عنه (ص) قال: «ليسأل أحدكم ربّه حاجته كلّها، حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع». (1) و عنه (ص): «لاتعجزوا عن الدعاء، فإنّه لم يهلك أحد مع الدعاء، و ليسأل أحدكم ربّه حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع، واسألوا الله من فضله، فإنّه يجب أن يسأل». (2) و عن سيف التّمار قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «عليكم بالدعاء؛ فإنّكم لاتتقربون بمثله، و لاتتركوا صغيرة لصغرها أن تسألوها، فإنّ صاحب الصغائر هو صاحب الكبائر». (3) و في الحديث القدسي: «يا موسى، سلني كلّ ما تحتاج إليه، حتّى علف شاتك و ملح عجينك». (4) و لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن هذا المبدأ في الدعاء لايعني التخلي عن العمل و الحركة و السعي، ولكن على الإنسان في حركته وسعيه أن لايضع أولًا ثقته و رجاءه في عمله و حركته، بل يحافظ على رجائه و ثقته بالله تعالى، و على الإنسان ثانياً أن لايقطع علاقته و ارتباطه و إحساسه بالحاجة إلى الله تعالى في زحمة تحركه و عمله و سعيه.

و هذا و ذاك يتطلبان من الإنسان، أن يسأل الله تعالى كل حاجاته و شؤونه، حتى شسع نعله، و علف دابته، و ملح عجينه، كما ورد في الحديث القدسي.


1- مكارم الأخلاق: 312، بحارالأنوار 295: 93
2- بحارالأنوار 300: 93
3- المصدرنفسه 293: 93؛ المجالس: 19، وسائل الشيعة 1090: 4، ح 8635، أصول الكافي: 516
4- عدة الداعي: 98.

ص: 69

ج- نسأل الله تعالى النعم الجليلة و الكبرى

كما نسأل الله تعالى كل شي ء، نسأله النعم الجليلة و الكبرى، و لانستكثر نعمةً مهما جلّت و عظمت أن نسألها من الله، إن كان ذلك في الإمكان، فلا يعظم شي ء على الله، و لا يعجز الله تعالى شي ء، و لا ينقص من خزانته، مهما كان عطاؤه جليلًا و عظيماً.

و كما ينبغي أن لانخجل من الله تعالى أن نطلب منه صغائر الأمور، من نحو علف الدابة، و شسع النعل، و ملح العجين، كذلك ينبغي أن لانستكثر على الله تعالى أن نسأله النعم العظيمة الجليلة، مهما عظمت و جلّت.

روي عن ربيعة بن كعب قال: قال لي ذات يوم رسول الله (ص): «ياربيعة، خدمتني سبع سنين، أفلاتسألني حاجة؟ فقلت: يا رسول الله، أمهلني حتى أفكّر، فلمّا أصبحت و دخلت عليه قال لي: يا ربيعة، هات حاجتك، فقلت: تسأل الله أن يدخلني معك الجنة، فقال لي: من علّمك هذا؟ فقلت: يا رسول الله، ما علّمني أحد، لكني فكّرت في نفسي وقلت: إن سألته مالًا كان إلى نفاد، وإن سألته عمراً طويلًا و أولاداً، كان عاقبتهم الموت، قال ربيعة: فنكس رأسه ساعة، ثمّ قال (ص): أفعل ذلك، فأعنّي بكثرة السجود؛ قال: و سمعته يقول (ص): ستكون بعدي فتنة، فإذا كان ذلك، فالتزموا عليّ بن أبي طالب (ع)». (1)... الخبر بتمامه. (2) د- الدعاء للمؤمنين

و ممّا ينبغي من الدعاء يوم عرفة الدعاء للمؤمنين؛ و قد ورد في ذلك تأكيد كثير في النصوص الإسلامية، و أنّ الله تعالى يرزق العبد بالدعاء


1- بحارالأنوار 327: 93
2- الدعاء: 151- 155 محمدمهدي الآصفي، الطبعة الأولى.

ص: 70

للمؤمنين ضعف الدعاء لنفسه، أو أضعافه، حسب اختلاف الروايات.

و إن الدعاء للمؤمنين دعاء مضمون الإجابة لهم وضعفه أو أضعافه له (للداعي) بخلاف دعاءالإنسان لنفسه، فقد لايعلم الإنسان أحياناً أن دعاءه لنفسه هل يبلغ مبلغ الإجابة أم لا؟

و الدعاء للمؤمنين على نحوين:

1. المؤمنون و التعميم في الدعاء لهم

2. المؤمنون و التخصيص في الدعاء لهم

المؤمنون و التعميم في الدعاء لهم

و هو مما علّمنا الله تعالى في كتابه في آيات كثيرة، كما ورد هذا النوع من الدعاء، فيما بلغنا من أدعية أهل البيت (ع)، و في هذا النحو من الدعاء يخرج الإنسان في دعائه بين يدي الله من نطأ الذات الضيقة، إلى رحاب الأمّة الواسع ... و هذه نقلة كبيرة من الأنا و الذات، إلى الأمّة التي اختارها الله لحمل رسالته، و جعلها أمة وسطى شاهدة على الناس.

و من نماذج ذلك في كتاب الله:

(إِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ). (1)

(ربَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (2)


1- الفاتحة: 6- 7
2- البقرة: 127.

ص: 71

(ربَّنا آتِنا فِى الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ). (1)

(ربَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (2)

(ربَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أوْ أخْطَأْنا ربَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ). (3)

(ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أنْتَ الْوَهَّابُ). (4)

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِى لِلإِيمانِ أنْ آمِنُوا بِربِّكُمْ فآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الأَبْرارِ ربَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ). (5)

(رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ). (6)

المؤمنون والتخصيص في الدعاء لهم

و هو نوع آخر من الدعاء للمؤمنين.

في هذه الأدعية يعمد الداعي إلى ذكر المؤمنين الذين يعرفهم بأسمائهم و يخصّهم واحداً بعد آخر بالذكر، و يستغفر الله تعالى لهم، و يدعو لهم في حاجاتهم بين يدي الله، و الله تعالى يحب أن يسمع دعاء عباده، بعضهم


1- البقرة: 201
2- البقرة: 250
3- البقرة: 286
4- آل عمران: 8
5- آل عمران: 193- 194
6- الأعراف: 125.

ص: 72

لبعض بالتخصيص و الإسم ... و إنَّ هذا اللون من الدعاء يزيل ما في نفوس المؤمنين من الكدر أحياناً، و يطهّر قلوبهم تجاه بعض عن الكره، والحسد، و ما يكدر صفو النفوس مما لاينبغي أن يحمله مؤمن لمؤمن في نفسه.

عن أبي عبدالله (الصادق) (ع): «دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب، يدرّ الرزق، و يدفع المكروه». (1) و عن أبي جعفر الباقر (ع): «أوشك دعوة، و أسرع إجابة، دعاء المرء لأخيه بظهر الغيب». (2) و عن أبي خالد القماط، قال: قال أبوجعفر (الباقر) (ع): «أسرع الدعاء نحجاً، دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب، يبدأ بالدعاء، فيقول له ملك موكّل به: آمين و لك مثلاه» (3).

روى محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه، قال: رأيت عبدالله بن جندب بالموقف، فلم أر موقفاً أحسن من موقفه، ما زال مادّاً يده إلى السماء، و دموعه تسيل على خدّيه، حتّى تبلغ الأرض، فلمّا انصرف الناس قلت: يا أبامحمد، ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك. قال: والله ما دعوت إلّا لإخواني، و ذلك لأنّ أبالحسن موسى بن جعفر (ع) أخبرني أنه: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش: ولك مأة ألف ضعف مثله»؛ فكرهت أن أدع مأة ألف ضعف مضمونة لواحدة، لا أدري تستجاب أم لا؟. (4) و روى ثقة الإسلام الكليني أيضاً بسنده عن ابن أبي عمير، قال: كان عيسى بن أعين، إذا حج فصار إلى الموقف أقبل على الدعاء لإخوانه، حتى


1- أصول الكافي 435؛ و وسائل الشيعة 1145: 4، ح 8867
2- أصول الكافي: 435
3- المصدر نفسه
4- وسائل الشيعة 13:، ح 18402؛ و رواه الصدوق مرسلًا في الفقيه 2: 137/ 589.

ص: 73

يفيض الناس؛ قال: فقلت له: تنفق مالك و تتعب بدنك، حتّى إذا صرت إلى الموضع الذي تبثّ فيه الحوائج إلى الله عزّوجلّ، أقبلت على الدعاء لإخوانك، و تركت نفسك، فقال: إني على ثقة من دعاء الملك لي، و في شك من الدعاء لنفسي. (1) عن إبراهيم بن أبي البلاد (أو عبدالله بن جندب) قال: كنت في الموقف فلمّا أفضت، لقيت إبراهيم بن شعيب، فسلمت عليه، و كان مصاباً بإحدى عينيه، وإذا عينه الصحيحة حمراء، كأنه علقة (علقة دم)، فقلت له: قد أصبت بإحدى عينيك، و أنا والله مشفق على الأخرى، فلو قصرت عن البكاء قليلًا، قال: لا والله يا أبامحمد، ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة، فقلت: فلمن دعوت؟ قال: دعوت لإخواني، فإني سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، وكّل الله به ملكاً يقول: و لك مثلاه»؛ فأردت أن أكون أنا أدعو لإخواني، و يكون الملك يدعو لي، لأني في شك من دعائي لنفسي، و لست في شك من دعاء الملك لي. (2) عرفة منزل المغفرة

عرفة منزل مغفرة، و من أعظم منازل المغفرة على وجه الأرض، و ما من مسلم يقف الموقف يوم عرفة من زوال الشمس إلى الغروب، إلّا ويغفر الله تعالى له ما تقدّم من ذنبه.

روى ابن أبي عمير عن عمر بن يزيد، قال: سمعت أباعبدالله (الصادق) (ع)، يقول: «الحاج إذا دخل مكة، وكّل الله به ملكين يحفظان عليه طوافه، و صلاته، و سعيه، فإذا وقف بعرفة، ضربا على منكبه الأيمن، ثمّ قالا


1- الكافي 465: 4/ 8؛ التهذيب 185: 5- 616؛ وسائل الشيعة 13:، ح 18403
2- وسائل الشيعة 13:، ح 18404.

ص: 74

له: أمّا ما مضى فقد كفيته، فانظر كيف تكون فيما تستقبل». (1) و عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله الصادق (ع)، قال: «قال علي بن الحسين (ع): أما علمت إذا كان عشية عرفة يقول (الله): أنظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ... قد شفعت محسنهم في مسيئهم، و قد تقبّلت من محسنهم، فأفيضوا مغفوراً لكم، ثمّ يأمر ملكين، فيقومان بالمأزمين فيقولان: أللهم سلّم سلّم». (2) و روى ابن فهد الحلّي في عدة الداعي: إنّ من الذنوب ما لايغفر إلّا بعرفة و المشعر الحرام. (3) عن جابر بن عبدالله: ما من مسلم يقف عشيّة عرفة بالموقف، فيستقبل القبلة بوجهه، ثمّ يقول: لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ... ثمّ يقرأ: (قل هو الله أحد) مأة مرّة، ثم يقول: أللهم صلّ على محمد و على آل محمد ... ألا قال الله تبارك و تعالى: «يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟! سبّحني، و هلّلني، و كبرني، و عظمني، و عرفني و أثنى عليّ، و صلّى على نبييّ ... أشهدوا ملائكتي، إني قد غفرت له، و شفعته في نفسي، و لو سألني عبدي هذا، لشفعته في أهل الموقف كلهم». (4) عن علي (ع) أنه قال بعرفات: «لا أدع هذا الموقف ما وجدت إليه سبيلًا، لأنه ليس في الأرض يوم فيه عتقاء من النّار، و ليس يوم أكثر عتقاً للرقاب فيه من يوم عرفة، فأكثروا في ذلك اليوم أن تقولوا: أللهم أعتق رقبتي من النار، و أوسع لي في الرزق الحلال ...». (5) عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله (ع) في حديث:


1- بحارالأنوار 99:؛ ثواب الأعمال للصدوق: 128
2- بحارالأنوار 254: 99؛ المحاسن: 65
3- عدة الداعي: 35؛ بحارالأنوار 261: 99
4- فضائل الأوقات، للبيهقي 1:
5- جامع الأحاديث، للسيوطي، مسند علي بن أبي طالب 30:، ح 32839.

ص: 75

«إنّ النّبي (ص) قال للأنصاري قبل أن يسأله: جئت تسألني عن الحج و عن الطواف بالبيت ... و يوم عرفة؟ فقال الرجل: إي والذي بعثك بالحق (فقال (ص))، فيما قال له: ... و يوم عرفة يباهي الله عزّوجلّ به الملائكة، فلو حضرت ذلك برمل عالج ذنوباً، فإنه تبتّ ذلك اليوم ...». (1) عن عبدالله عن سنان عن أبي عبدالله (ع) قال: «يوكّل الله عزّوجلّ ملكين بمأزمي عرفة، فيقولان: سلّم سلّم». (2) و عن علي بن مزيد قال: سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «ما أحد ينقلب من الموقف ... إلّا برحمة و مغفرة، و يقال له: قد غفر لك، و طهرت من الدنس، فاستقبل العمل». (3) و عن عبدالله عن سنان، قال: سمعت أباعبدالله (الصادق) (ع) يقول: «إنّ الله ينظر إلى أهل عرفة من أول الزوال، حتّى إذا كان عند المغرب، و نفر الناس، وكّل الله ملكين بحيال المأزمين، يناديان عند المضيق الذي رأيت: يا ربّ سلّم سلّم». (4) و عن إدريس بن يوسف عن أبي عبدالله (الصادق) (ع) قال: «قلت: أيّ أهل عرفة أعظم جرماً؟ قال (ع): المنصرف من عرفة، و هو يظنّ أن الله لم يغفر له». (5) و عن أبي عبدالله (ع)، قال: سأله رجل في المسجد الحرام من أعظم وزراً؟ فقال (ع): «من بهذين الموقفين، عرفة و المزدلفة، و سعى بين هذين الجبلين، ثم طاف بهذا البيت، و صلّى خلف مقام إبراهيم (ع)، ثمّ قال في نفسه و ظنّ أنّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم وزراً». (6)


1- وسائل الشيعة 225: 11، ح 14659 آل البيت، فإنّه تبتّ يعني تنقطع
2- المصدر نفسه، ح 18452
3- بحارالأنوار 261: 99
4- المصدر نفسه 261: 99، كتاب زيد النرسي: 54 بتصرف
5- المصدر نفسه 263: 99- 265
6- وسائل الشيعة 96: 11، ح 14333.

ص: 76

عرفة قريبة من الله

في عرفة يشعر الإنسان أنه قريب من الله، يدعو الله تعالى فيستجيب له ... فإنّ استجابة الدعاء من أقوى أمارات قرب العبد إلى الله ...

(وَ إِذا سَألَكَ عِبادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَ لْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). (1)

هكذا: (قَرِيبٌ أجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ)

إنّ الإجابة عند الدعاء أمارة قرب العبد إلى الله ... هذه الأمارة الأولى، والأمارة الثانية لقرب العبد إلى الله في عرفة: إنّ الله تعالى يغفر لأهل عرفة ذنوبهم إذا تابوا، و يتقبل منهم التوبة إذا استغفروا ... و الاستغفار و التوبة أمارة ثانية لقرب العبد من الله.

(فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُجِيبٌ). (2)

وهذان دليلان على قرب العبد من الله تعالى في عرفة.

ففي عرفة تصبّ رحمة الله على أهل عرفة من غير حساب، و نزول الرحمة إمارة القرب:

(إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). (3)

إذن، عرفة قريبة من الله، و أهل عرفة قريبون من الله، يدعون الله فيستجيب لهم، و يستغفرون فيغفر لهم، و يتوبون إليه فيتقبل توبتهم.


1- البقرة: 186
2- هود: 61
3- الأعراف: 56.

ص: 77

وكأنَّ الحجب التي تحجب العبد عن الله، تتساقط في عرفة حجاباً بعد حجاب، فلا يكون بين العبد و بين ربّه حجاب في عرفة، فيدعوه فيستجيب له، و يتوب إليه فيتقبل توبته.

و ما أجمل السجود، و إطالة السجود على رمال عرفة، و ما أروع البكاء، و إطالة البكاء بين يدي الله تعالى في السجود في عرفة.

فإنّ العبد لن يكون أقرب إلى الله في حال من السجود و البكاء و النحيب بين يدي الله، فإنّ هذا يضاعف هذا القرب.

... فإذا كان السجود، والبكاء والنحيب والاستغفار بين يدي الله في السجود، في عرفة حيث يكون العبد قريباً من الله تعالى ... فلن يكون للعبد حال أقرب إلى الله منه في هذا الحال.

فليغتنم لحظات هذه الساعات المحدودة، و آناتها في الدعاء، و السجود، و البكاء، و التضرع، و الخشوع، و التذلل بين يدي الله، و رفع اليدين إلى الله على هيئة السائل الذليل، فإنّ هذه الساعات و الآنات و اللحظات من أفضل ساعات عمر الإنسان و لحظاته، و لن يكون في حال أقرب منه إلى الله تعالى، و لا نستثني من ذلك حالًا إلّا الذين يتعرفون في الحائر الحسيني في هذا اليوم.

كيف تستقبل عرفةُ ضيوف الرحمان و كيف تودعهم؟

تستقبل عرفةُ الناس بركام من الذنوب و الآثام، فإذا أفاضوا من عرفة إلى المشعر الحرام بعد غياب الشمس، تركوا ركام ذنوبهم في عرفة، و أفاضوا خفافاً إلى المشعر الحرام.

ص: 78

و سبحان الله! ... إنّ الإنسان ليشعر بالثقل حين يقدم إلى عرفة، و الخفة حين يغادر عرفة إلى المشعر الحرام، و كأنه ترك في وادي عرفة عبثاً كان يثقل ظهره من قبل، تركه في عرفة، و تخفف عنه، و ها هو الآن، و هو يفيض إلى المشعر الحرام، يشعر بهذه الخفّة، و هو مُجْهَدٌ أشد الجهد، و متعب أكثر التعب، لا شك في ذلك، و مع ذلك يشعر أنه قد تخفّف عند الإفاضة كثيراً ... و ليس هذا العيّ من نوع الثقل المادي الذي نقيسه بمعاييرنا في الأوزان، و لكنّه على كلّ حال أمر محسوس لكلّ من يفيض من عرفة إلى المشعر الحرام، و إن بين الإحساس و معاناة النفوس و الأرواح علاقة حميمة، كما أن بين النفوس و الأجسام علاقة ينعكس كلّ منهما على الآخر.

و عندما يفيض الناس من عرفة يتركون وراءهم ركامين، كأنهما التلال الكبيرة: ركام من القمامة، و الفضلات، و الأوساخ، و ركام من الذنوب، و المعاصي، و الآثام.

يشتغل عمال البلدية بتنظيف الركام الأول، و يشتغل الملائكة بتنظيف عرفة من الركام الثاني، حتّى تستقبل عرفة ضيوف الرحمان من الحجيج للعام القابل، فيمرون من خلال مصفاة عرفة.

و هكذا تتجدد هذه العملية في كل عام، تستقبل عرفة ضيوف الرحمان، شعثاً غبراً، قد أضرهم الجهد و التعب، و أرهقتهم المناسك، و لكنّهم يخرجون من مصفاة عرفة، كيوم ولدتهم أمّهاتهم، مطهّرين منزهين، ليبدأوا حياتهم من جديد.

و الحمد لله على عفوه بعد قدرته، و الحمد لله على طول أناته في غضبه،

ص: 79

و الحمد لله الذي لا يهتك حجابه، و لا يغلق بابه، ولا يردّ سائله، و لا يخيب آمله.

و الحمد لله الذي تحبب إليّ، و هو غني عنّي، و الحمد لله الذي يحلم عنّي حتّى كأني لا ذنب لي، فربي أحمد شي ء عندي، و أحق بحمدي.

ص: 80

حدّ مسجدالحرام

الشيخ محمد القائني

من المسائل التي يهمّ الفقيه هو حدّ المسجدالحرام و ذلك من نواحي:

إحداها: ما هو المسجدالحرام فعلًا حتى يجب ترتيب الأحكام العامّة للمسجد بل أحكام المسجد الخاصّة عليه؟

فهناك أحكام لعامة المساجد كتحريم التنجيس، و حرمة بنائه داراً أو حانوتاً أو غير ذلك ممّا لايناسب البناء عنوان المسجد و الغرض منه؛ كما هناك بعض الأحكام تخصّ بعض المساجد، كالمسجد الجامع أو خصوص المسجدالحرام، و المسجد النبوي الشريف، كحرمة مرور الجنب و الحائض في الأخيرين، و كاشتراط صحّة الإعتكاف بكونه في المسجد الجامع، فلايصح في مسجد المحلّة و نحوها.

ثانيها: أنّه هل يجوز الزيادة في المسجد عن حدّه الاصلي بضمّ زيادات عليه أو لا؟ و معناه أنّه هل مقدار المسجدالحرام و حدّه تعبّد لايجوز التخطّي منه بالإضافة إلى سعته، كما لايجوز توسيع الكعبة المشرّفة بضعف مساحتها مثلًا؟

ثالثها: أنّه على تقدير الجواز فهل يلحق الزيادات حكم المسجدالحرام أو لا؟

ص: 81

رابعها: أنّه على تقدير عدم جواز الزيادة في المسجدالحرام فهل إنّ عدم الجواز مجرّد تكليف، أو أنّه حكم وضعي؟ بمعنى أنّه لايصح مسجديّة الزائد عن الحدّ الأصلي، فإنّه لا ملازمة بين الحكمين التكليفي و الوضعي.

تنبيهٌ: أمّا الطواف بالبيت، فالظاهر أنّه لا أثر للبحث عن هذه المسألة في ذلك، لكون الطّواف إمّا مشروطاً بحدّ المقام حسب دلالة بعض النصوص، و قد أفتى به جماعة، و نسب إلى المشهور، و لم تثبت صحّة النسبة، أو غير مشروط بذلك الحدّ، فيجوز ما صدق الطواف بالبيت كان محلّ الطواف المسجدالحرام أو لم يكن، بل و إن لم يكن من المسجد أصلًا.

أمّا البحث عن الناحية الأولى أعني حدّ المسجدالحرام فعلًا- بالغضّ عن مباشرة غير المعصوم لضمّ شي ء أو بناء- فالذي يظهر من روايات أهل البيت (ع) أنّه لم يكن المسجد محدوداً بما كان يعرف بعنوان المسجدالحرام في زمن النبي (ص)، بل كان أوسع من ذلك حتى إنّهم (ع) عدّوا الزيادة الحادثة بعد حياة النبي (ص) و في زمانهم (ع) من المسجد الأصلي، و ورد في نصوصهم أن حدّ المسجد الأصلي أوسع حتى من الزيادات التي بلغت آنذاك؛ لكون المسجد الذي حدّه إبراهيم (ع) و جعله كان أوسع؛ و قد تظافرت الروايات الصحيحة بذلك.

و يقع الكلام في الحدّ المستفاد من هذه النصوص للمسجد، و أنّ حدّ المسجدالحرام الذي وضعه النبي إبراهيم (ع) أيّ موضع؟

ففي معتبرة جميل بن درّاج قال: قال له الطيّار و أنا حاضر: هذا الذي زيد هو من المسجد؟

ص: 82

فقال: «نعم إنّهم لم يبلغوا بعد مسجد إبراهيم و إسماعيل». (1) و في معتبرة الحسين بن نعيم قال: سألت أباعبدالله (ع) عمّا زاد في المسجدالحرام عن الصلاة فيه؟ فقال: «إنّ إبراهيم و إسماعيل حدّا المسجد ما بين الصّفا و المروة فكان النّاس يحجّون من المسجد إلى الصفا». (2) و في معتبرة حمّاد، عن الحسن بن نعمان قال: سألت أباعبدالله (ع) عمّا زادوا في المسجدالحرام؟

فقال: «إنّ إبراهيم و إسماعيل حدّا المسجدالحرام ما بين الصفا و المروة». (3) فالذي يظهر من النّص أنّ حدّالمسجد من طرف المسعى هو المسعى نفسه، فإنّه ما بين الصفا و المروة، و أمّا نفس المسعى فهو خارج من المسجد، إمّا لخروج الحدّ عن المحدود أو لإجمال المحدود بالنسبة إلى الحدّ،

مضافاً إلى ما ورد في النصوص من أنّه لابأس للحائض أن تسعى، و إنّما تؤجل طوافها، ممّا يدلّ على أنّ المسعى ليس داخلًا في المسجد، و لذا يجوز كون الحائض فيه. (4) و أيضاً ورد من أنّ الصفا و المروة حيطان كما أنّ الجمار حيطان و لذا لايشترط في السعي و الرمي الطهارة، فهذا معناه- كما حقّقناه في محلّه- نفي المسجديّة عن المسعى، و أنّه مكان محوّط للسعي كما أن المرمى كذلك؛ ففي رواية أبي غسّان حميد بن مسعود قال: سألت أباعبدالله (ع) عن رمي الجمار على غير طهور قال: «الجمار عندنا مثل الصفا و المروة حيطان إن طفت بينهما على غير طهور لم يضرّك، و الطهور أحبّ إليّ فلا تدعه و أنت قادر


1- الوسائل، 276: 5، كتاب الصلاة
2- المصدر السابق، 277: 5
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق، 497: 9، الباب 84- 89 من أبواب الطواف.

ص: 83

عليه». (1) فحدّ المسجدالحرام من ناحية المسعى واضح حسب المستفاد من النص، و يقع الكلام بعده في حدّ المسجد من سائر النواحي.

و المتفاهم من ذكر حدّ واحد و من جانب واحد لمكان، هو عطف سائر الجوانب و قياس سائر الحدود عليه، فيؤول الأمر إلى كون المكان محسوباً مربّعاً متساوي الأضلاع، لا مستطيلًا، و لا مدوّراً، و لا زائداً أضلاعه على أربعة، نعم معرفة كون المكان غير مدوّر هي لخصوصية في المقام، و لذا لا دافع لاحتمال المدوّر في بعض المقامات.

توضيح ذلك: إنّه إذا ورد أنّ الكرّ ثلاثة أشبار، فيحتمل فيه المربّع و يحتمل المدوّر أعني الأسطوانة فيدور الأمر بين المكعّب و بين الأسطوانة و لا تعيّن لأحدهما في حدّ نفسه، نعم لايحتمل سائر الأشكال لعدم تعيّنها، بخلاف المربّع و المدوّر، فإنّهما متعيّنان، بمعنى صحّة ذكر حدّ واحد اعتماداً على قياس سائر الحدود عليه، أمّا المربّع فيكون المذكور ضلعه، و أمّا المدوّر فالمذكور قطره، و هو أطول خطّ مستقيم داخل حدوده.

و أمّا كون المقدار المذكور بياناً لأطول خط داخل المربع، و هو الخطّ الوهمي بين زاوية و ما يقابلها، فهو خلاف الظاهر، لأنّ ظاهر المذكور أنّه بيان لخطّ الحدّ لا غيره.

نعم خرجنا عن هذا الظهور في المدوّر حيث حمل المقياس على القطر، و هو خطّ وهمي، و يقابله احتمال إرادة المحيط و لا موجب له في المربّع، ثمّ إنّه إنّما يحمل المقياس في المدوّر على الخط الوهمي لتعيّنه، حيث إنّه لو حمل


1- الوسائل 70: 10، الباب 2 من أبواب رمي جمرة العقبة، الحديث 5.

ص: 84

على المحيط لم يتعين بذلك عمق الأسطوانة، لعدم معهوديّة تعيين العمق بقدر المحيط.

و على أيّ تقدير فحيث إنّ المذكور في حدّ المسجدالحرام هو ضلع المسجد لا مجرّد ذكر المقدار، فينتفي احتمال المدوّر.

و حيث إنّ المنساق من إطلاقه كون جوانبه مربّعاً إمّا مطلقاً أو في خصوص المسجدالحرام لكون الكعبة المحوّطة بالمسجد مربّعاً، فيتعيّن تحرير سائر الجوانب بالمربع و المتساوي الأجزاء، فلايحتمل المستطيل؛ و ذلك لعدم التعيّن له سيّما مع عدم تعيّن المستطيل في متعيّن بعد تعدد مساحة المستطيل باختلافه.

ثمّ إنّ لإحالة الأمر إلى التعيّن مصاديق، من جملتها حمل اللفظ غير المقيّد على الإطلاق لتعيّنه بخلاف المقيّد، فإنّه لاتعيّن له ما لم يكن له قدر متيقن بحسب مقام التخاطب.

و قد يقال: إنّه لا موجب لتعيّن مقدار المسعى في ساير جوانب المسجد، و إنّما مدلول الخبر إنّ الزيادات المحدثة في المسجدالحرام هي داخلة في حدّ المسجد بل حدّ المسجد أوسع من تلك الزيادات، و أمّا مقدار الحدّ فالرواية قاصرة عن تعيينه.

ويردّه: إنّه لو فرض احتمال ذلك في بعض النصوص فهو مردود في الخبر المتضمّن للجواب عن السؤال عن الزيادات، بأنّ حدّ المسجد هو ما بين الصّفا و المروة، فإنّ هذا الجواب إنّما هو بصدد الإبهام عن الزيادات التي لم تختصّ بجانب المسعى بل حدثت في غير جانبه، و إنّما يتحقق رفع الإبهام

ص: 85

إذا كان خط المسعى سارياً إلى سائر الجوانب.

فإنه لو كانت الزيادة في المسجد حاصلة في خصوص جانب المسعى من المسجد أمكن قصور الجواب عن إفادة حدّ المسجد عن سائر الجوانب.

و لكن الزيادة- كما سبق- كانت حادثة في غير هذا الجانب، فإذا لم يكن مقدار الخطّ في جانب المسعى هو المقدار في سائر الجانب، فكيف يصحّ الجواب عن السؤال عن الزيادات بدخولها في المسجد و حدّه، لكون حدّ المسجد في جانب المسعى هو المسعى، فإنّه إذا جاز كون الحدّ في الجهات الأخرى أقصر من الحدّ في جهة المسعى فلا تعيّن له، و معه فيجوز كون الزيادات خارجاً عن حدّ المسجد.

ثمّ إذا كان المراد من أنّ النّاس كانوا يحجون من المسجد إلى الصفا هو أنّهم كانوا يطوفون إلى هذا الحدّ، فدلالة الخبر على كون المسجد في جوانبه بمقدار طول المسعى أوضح.

و لكن يحتمل كون المراد من حج النّاس هو قصدهم، و دخولهم من المسجد إلى الصّفا، كناية عن عدم وجود فاصل بين المسجد و بين الصّفا.

و لعلّ هذا الاحتمال هو المتعيّن، فإنّه لم يعهد سعة المسجد بحسب الوضع الخارجي و كثرة الحجيج في العصور السابقة بمقدار يستوعب الطائفون بالبيت ما بين الكعبة المشرفة و الصفا.

و قال العلّامة المجلسي ذيل صحيح الحسين بن نعيم: ظاهر هذا الخبر ان المسجد كان في زمانهما (ع) أوسع منه الآن بحيث كان المسعى داخلًا فيه؛ فكانوا يحجّون أي يقصدون من نفس المسجد إلى الصفا، إذ كان المسعى

ص: 86

داخلًا فيه. (1) و قد أشكلنا عليه بأنه غير واضح بعد احتمال خروج الحدّ عن المحدود- على الأقل- كما في: أتِمُّوا الصِّيامَ إلىَ الّليْلِ، ثمّ قال بعد العبارة المتقدّمة: أو المراد سعة المطاف، و المراد بقوله: يحجون إي يطوفون حول الكعبة إلى الصفا، أو المراد كانوا يحرمون للحج من المسجد إلى الصفا كما قيل.

و قيل: أي كان المسجدالحرام بشكل الدائرة و كانت مسافة المحيط بقدر ما بين الصفا و المروة، فيكون من مركز الكعبة إلى منتهى المسجد من كلّ جانب بقدر سدس ما بينهما، لأنّ قطر الدائرة قريب من ثلث المحيط؛ و لايخفى ما فيه.

و قال في الدروس: روي إنّ حدّ المسجد ما بين الصفا و المروة؛ و روي إنّ خط إبراهيم ما بين الحزورة و المسعى. و روى جميل: إنّ الصادق (ع) سئل عمّا زيد في المسجد أ من المسجد؟ قال: «نعم إنّهم لم يبلغوا مسجد إبراهيم و إسماعيل؛ و قال: الحرم كلّه مسجد». (2) و قال ذيل معتبرة عبدالله بن سنان: في بعض النسخ و الكافي إلى المسعى- بدل السعي- و على ما في الكتاب لعلّ المراد مبدء السعي، أي الصفا.

الكلام في الناحية الثانية

و هو أنه هل يجوز تكليفاً إلحاق زيادات على الحدّ الإبراهيمي بالمسجدالحرام، أو يكون ذلك بدعة في الشريعة؟ فكما أنّ تحديد شهر


1- ملاذ الأخيار 493: 8؛ روضة المتقين 107: 4
2- المصدر السابق.

ص: 87

رمضان بما بين الهلالين عرفاً يقتضي عدم جواز ضمّ يوم إليه من شهر آخر و يكون فعله بدعة، و أيضاً أن تحديد مكّة بحدّ خاص و لو بلحاظ موضوعيّتها لبعض الأحكام يقتضي عدم جواز إلحاق ماعدا ذاك الحدّ به، و يكون فعله بدعة، كذلك يكون إلحاق ماعدا الحدّ الخاص بالمسجدالحرام بدعة غير مشروع، لو فرض صدق العنوان على تقدير الإلحاق، فإنه لا منافاة بين ترتّب أحكام العنوان على تقدير تحققّه، و بين حرمة تحقيق العنوان خارجاً، و إن كان على تقدير التحقق، يترتب الأحكام عليه لا محالة.

و كيف كان، فالذي تقتضيه القاعدة هو جواز توسيع المسجد وضعاً و تكليفاً، و ترتيب الأحكام العامّة للمساجد عليها بلا ريب، و ذلك لإطلاق الأدلة، و منها أدلّة الوقف التي تضمنت أنّه بحسب ما يوقفها أهلها؛ (1) و منها ما تضمّن الترغيب و الحثّ على بناء مسجد و لو كمفحص قطاة. (2) و إنّما الكلام في قيام الدليل على ما يخالف القاعدة و المنع من توسيع المسجدالحرام و ضمّ زيادات إليه.

كما يقع الكلام في ترتّب آثار العنوان الخاصّ أعني المسجدالحرام زيادةعلى شمول أحكام مطلق المساجد.

و ما يمكن الاستدلال به لعدم جواز التصرّف في المسجدالحرام بتوسيعه بالغضّ عن ترتب الآثار على تقدير التوسعة وجوه:

الوجه الأول:

ربّما تقرّر دلالة نصوص تحديد المسجدالحرام على المنع من الضمّ إليه زيادة على حدّه، بكون النصوص بصدد تحديد المسجدالحرام، و مقام التحديد


1- راجع الوسائل، كتاب الوقف
2- راجع الوسائل 485: 3، الباب 8 من أحكام المساجد.

ص: 88

كلفظه يقتضي عدم التجاوز عن الحدّ، فإذا قيل حدّ المطاف كذا متراً، كان معناه عدم جواز الطواف زائداً على ذاك الحدّ، بعد كونه بصدد أقصى الحدّ؛ و بالجملة: التعبير بالحدّ يقتضي وجوب رعايته.

و هذا نظير ما ورد في حدّ الكعبة و البيت، فهل ترى جواز التخطي من ذلك و توسيع الكعبة بضعفها، ثمّ ترتيب آثار الكعبة على الوجود الحادث و حالته الجديدة، كوجوب الطواف به، و عدم جواز الطواف في داخله، و لاجواز الدخول إليه أثناء الطواف.

و يردّه: أنّ الحدّ يقتضي لزوم الرعاية بلحاظ المقام الذي هو بصدده، فقد يكون التحديد بلحاظ الأدنى، و قديكون بلحاظ الأقصى، و قد يكون بلحاظ ما هو كذلك فعلًا، و لاينافي الأخير جواز الضمّ إلى الحدّ تكليفاً كما لاينافي ترتّب أحكام المحدود على تقدير الضميمة.

فمثل حدّ الشهر هو أمر لايقبل الضميمة، كما أنّ التحديد بلحاظ الأدنى لاينافي الضميمة، فلو قال: الكرّ لاينفعل، لم يناف ضمّ مقدار كالضعف، و يكون محكوماً بحكم الكرّ، لكون دليله في مقام التحديد بلحاظ الأقل.

و مثل تحديد المسجد الجامع في البلد بسعةخاصّة فعلًا، لاينافي ضمّ ضعفه إليه، كما لاينافي ترتّب أحكام المسجد الجامع على الضمائم لو تحققت.

و حيث إنّ نصوص تحديد المسجدالحرام يحتمل- على الأقل- كونها بصدد بيان حدّ المسجد بحسب الوضع الفعلي، لا بلحاظ جواز الضميمة، فلا تدلّ على المنع من الضميمة.

الوجه الثاني:

ص: 89

دعوى المنع من الزيادة في المسجدالحرام، بلحاظ ما ورد في فعال الإمام المهدي (عج) و هدمه المسجد، و ردّه إلى حدّه الأصلي.

والكلام فيه تارة من حيث مدلول الرواية في خصوص ردّ المسجد إلى حدّه الأصلي، و أخرى من حيث شمول ما ورد في فعال الإمام المهدي (عج) لغيره، و جواز مباشرتهم، لما ورد في الروايات من فعاله (عج)؛ فقد ورد في جملةمن الروايات جملة من فعال المهدي (ع) سوى ردّ المسجد إلى حدّه الأصلي؛ و دلالتها على عموم الحكم و عدمه ممّا يهمّ الفقيه جدّاً.

و الرواية مروية في عدة كتب من جملتها ما روي عن الشيخ في كتاب الغيبة، بإسناده عن الفضل، عن عبدالرحمن، عن ابن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (ع) قال: «القائم يهدم المسجدالحرام حتّى يردّه إلى أساسه، و مسجدالرسول (ص) إلى أساسه، و يردّ البيت إلى موضعه و أقامه على أساسه و قطع أيدي بني شيبة السرّاق، و علّقها على الكعبة». (1) وفي رواية الإرشاد روى أبوبصير (قال:) قال أبوعبدالله (ع): «إذا قام القائم هدم المسجدالحرام حتّى يردّه إلى أساسه، و حوّل المقام إلى الموضع الذي كان فيه، و قطع أيدي بني شيبة، و علّقها على باب الكعبة، و كتب عليها: هؤلاء سرّاق الكعبة». (2) أمّا مدلول الخبر في خصوص المقام، فربّما يتوهم: أنّه لما كان المسجدالحرام في زمن النبي (ص) جزءاً ممّا صار إليه في الزمن المتأخّر عنه في عصر الأئمّة (ع) و قد زيد في المسجد أضعافاً ممّا كان عليه أيّام النبي (ص) في العصور المتأخرّة و المعاصرة لنا، كان معنى الخبر أنّه إذا ظهر الإمام


1- بحار الأنوار 332: 52، تاريخ الإمام الثاني عشر، الباب 27، سيره و أخلاقه، الحديث 57
2- المصدرالسابق، الحديث 80.

ص: 90

المهدي (عج) ردّ المسجد إلى المساحة التي كانت في عصر النبي (ص)، كما يردّ المقام إلى الموضع الذي كان فيه في حياة النبي (ص)؛ و كما يعيد الشريعة و يجدد الأحكام بعد الاندراس، فإنّ الإمام حافظ الشريعة و متولّي الدين و صائن الاسلام.

ثمّ بعد هذا قد يستهزئ بهذا المضمون، و أنّه مع شدّة الحاجة إلى سعة المسجد، كيف ينبغي تضييق المسجد بعد السعة؟

بل ربّما يزاد في الطّين بلّة، فيقال في تبيين هذا الخبر: إنّ مهديّ الشيعة هو من يهدم المسجد الحرام حسب رواياتهم!

و لكن هذا التوهّم بحذافيره من أعظم الأغلاط، بل هو أضعف الأوهام على ما بيناه في بعض المقامات.

توضيح ذلك: أن الذي تضمّنته هذه الرواية، هو أن الإمام المهدي (عج) يردّ المسجد إلى حدّه الأصلي، و ليس فيه ردّه إلى ما كان عليه في عصر النبي (ص)، و كان تحديد المسجد بما كان عليه في زمن النبي (ص) تبرّعاً من المتوهم، و اجتهاداً منه خارجاً عن مدلول النصّ و تحميلًا عليه؛ و قد تظافرت نصوص الشيعة بأنّ المسجد الذي وضعه إبراهيم النبي، على نبيّنا و آله و عليه السلام، كان أوسع من الزيادات التي حدثت بعد النبي (ص) و في عصر المعصومين (ع)، بل قد ساعد أئمّتنا (ع) في توسيع المسجد عند بعض المزاحمات و الجهالات، و سيأتي بيان ما تضمّن ذلك.

فالذي توهمه المتوهّم هو أنّ الإمام المهدي (عج) يرد المسجد إلى حدّه الذي كان في عهد رسول الله (ص)، فأورد ما أورد مع أن مضمون النص هو

ص: 91

ردّ المسجد إلى حدّه الأصلي، و المعيّن في النصوص بما هو أوسع ممّا هو موجود في عصرنا، بعد ما زادوا في المسجد أضعاف ما كان عليه في عصر النبي (ص).

و أمّا حديث ردّ الإمام المهدي (عج) للمقام إلى ما كان عليه في عصر النبي (ص) فهو يختلف عن حديث ردّ المسجد إلى حدّه الأصلي، و ذلك لأنّ جعل المقام في الموضع الفعلي بدعة صنعها عمر اجتهاداً، بعد ما ردّ النبي (ص) المقام من موضعه الجاهلي الموافق لموضعه الفعلي إلى لصق البيت؛ فردّالمقام إلى لصق البيت موافق لفعل النبي (ص)، و ليس مجرّد توافق لما كان في عهده (ص)، حتّى يقاس ردّ البيت إلى حدّه في عصر النبي (ص) على ردّ المقام، فإنّ حدّ المسجد في عصر النبي (ص) لم يكن يفعله، و إنّما كان أمراً واقعاً منذ الجاهليّة، و لم يباشر النبي (ص) في هذا المجال فعلًا، و هذا بخلاف موضع المقام، فإنّ النبي (ص) قد فعل فيه فعلًا، حيث حوّل المقام من موضعه في الجاهلية إلى لصق البيت، كما ورد في نصوص أهل البيت (ع) متظافراً، و قد حقّقنا الكلام فيه في بعض رسائلنا، ثمّ اجتهد عمر في تعيين الموضع الفعلي للمقام توسعة على الحجيج، لئلّا يقع التزاحم بين المصلّين و الطائفين، فكان التحفّظ على سنّة النبي (ص) و فعله حريّاً من الإمام المهدي (عج)، كما أنّ المناسب لذلك أيضاً توسيع المسجد ردّاً له إلى حدّه الإبراهيمي، لا هدم حدّ المسجد و ردّه إلى حدّه في زمن رسول الله (ص)، بعد ما لم يكن ذلك هو الحدّ الأصلي للمسجد.

فإن قلت: إنّ مضمون الحديث هو أنّ الإمام المهدي (عج) يرد المسجد

ص: 92

إلى الأساس الذي وضعه إبراهيم (ع)، و هذا يقتضي هدم الزائد على ذلك المقدار كما يقتضي هدم الأدنى منه، كما كان في زمن النبي (ص) و الأئمّة (ع)، فيدلّ الخبر على عدم جواز توسيع المسجد لا محالة.

فالمستفاد من الخبر أن المسجدالحرام محدود بحدّ لا يجوز التعدّي عنه بزيادة و لا نقيصة.

قلت: لم يعلم المقام الذي هذا الحديث بصدده، فإن كان في مقام تحديد المسجد بلحاظ الزيادة و النقيصة كان الأمر كما ذكر، و لكن نحتمل كون الحديث بلحاظ الاعتراض على الوضع المعاصر للأئمّة (ع)، الذي كان بناءالمسجد دون الحدّ الذي حدّه إبراهيم (ع) فإنّه المتيقّن.

و أمّا إرادة هدم الزائد عن ذلك الحدّ فهي غير واضحة.

نعم، ربّما كان عطف مسجدالنبي (ص) على المسجدالحرام في الحكم بالهدم و الردّ إلى حدّه الأصلي قرينة على كون الحدّ بلحاظ الأمرين، أعني الزيادة و النقيصة؛ حيث إنّ مسجدالنبي (ص) قد زيد فيه بعده على الحدّ الذي كان بناه رسول الله (ص) مسجداً، لكن مع عدم ثبوت هذا الخبر و احتمال وقوع الوهم في نقله بقرينة بعض الأخبار الاخر، لايمكن الاعتماد عليه.

نعم، يبقى الكلام في أنّه هلّا باشر النبي (ص) توسيع المسجد لردّه إلى حدّه الأصلي كما باشر ردّ المقام إلى لصق البيت؟ و هلّا كان سكوته (ص) إمضاءاً لذلك الحدّ المعاصر له؟

و لكن لا دلالة في سكوت النبي (ص) عن حدّ المسجد في عصره على

ص: 93

تقرير ذلك الحدّ، بعد ما كان كلام أهل بيته (ع) كلامه (ص)، و قولهم قوله، و قد حدّوا المسجد حسب تحديد إبراهيم (ع) بأضعاف ما كان عليه في عصر النبي (ص).

فربّما كان سكوت النبي (ص) في عصره من حيث عدم الحاجة إلى الزيادات أيّامه، فأحيل الردّ إلى زمان الحاجة لكثرة المسلمين، و حاجتهم إلى سعةالمسجد.

و قد يكون عدم التعرّض لعدم التمكن أو بعض الظروف الخاصّة، نظير ما ورد عن النبي (ص) في شأن بناء الكعبة و البيت، و أنه ضيق في الجاهلية و أنّ الشاذروان من جملة البيت.

ففي رواية مرسلة رواها في الوسائل قال: روى جماعة من فقهائنا منهم العلّامة في التذكرة حديثاً مرسلًا مضمونه:

«إنّ الشاذروان كان من الكعبة». (1) و في روايةالحميري في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة:

«من المتفق عليه أنّ النبي (ص) قال لها: يا عائشة لولا أنّ قومك حديثوا عهد بالجاهلية- و في رواية: حديثوا عهد بكفر، و في رواية: حديثوا عهد بشرك- و أخاف أن تنكر قلوبهم، لأمرت البيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، و لزقته بالأرض، و جعلت له باباً شرقيّاً و باباً غربيّاً فبلغت به أساس إبراهيم». (2) و مثله روى في الطرائف قال: من المتّفق عليه من عدّة طرق قالت: إنّ النبي (ص)... الحديث. (3)


1- الوسائل 355: 13، الباب 30 من أبواب الطواف، الحديث 9
2- نهج الحق: 320 قضية الإفك
3- الطرائف: 390، إنّ النبي 9 لم يترك أمته بغير وصيّ.

ص: 94

و في رواية عن عبدالله بن الزبير عن عائشة نحو من ذلك. (1) لكن يبقى في المقام أنّه كان موضع الزيادات بيوت السكن، و أبنيةلاتناسب المسجد، و المعهود في الفقه عدم جواز بناءالمشاعر و المساجد، فلو كانت الزيادات الحادثة بعد النبي (ص) من جملة المسجد، كان على النبي (ص) التنبيه على ذلك، تبييناً للشرع أو نهياً و ردعاً عن المنكر.

و يمكن ردّه بأنه لا موجب للتنبيه لا بملاك بيان الحكم و لا بملاك النهي عن المنكر.

أمّا الثاني فواضح؛ حيث إنّ التنبيه على الموضوع ليس من وظائف المعصوم و لا غيره، و لم يعلم علم الناس بكون أبنيتهم في حدّ المسجد.

و أمّا ذكره بملاك بيان الحكم فهو محوّل إلى ظرفه المناسب كظرف الحاجة لكثرة المسلمين و نحوهما، و قد حان وقته في عصر أئمّة أهل البيت (ع)، و لذا دافعوا عن فعل الخلفاء في هذا المجال و ساعدوا على فعلهم هذا، مع أنّ نقمتهم و اعتراضهم على بدع الخلفاء و أفعالهم المردودة معروفة يعرفها علماء المذاهب و غيرهم،

و ممّا يدلل على دفاع أئمّة أهل البيت (ع) عن فعل توسيع المسجد، ما رواه العيّاشي في تفسيره عن عبدالصمد بن سعد قال: طلب أبوجعفر من أهل مكّة أن يشتري بيوتهم، ليزيد في المسجد الحرام فأبوا، فنازعهم- فأرغبهم- فامتنعوا، فضاق بذلك فسئل أبا عبدالله (ع) عن ذلك، فقال: إنّي سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم و أفنيتهم لنزيد في المسجد و قد منعوني فقد غمتني ذلك غمّاً شديداً، فقال أبوعبدالله (ع): «لم يغمّك ذلك و


1- العمدة: 317 حديث طريق الكعبة.

ص: 95

حجّتك عليهم فيه ظاهرة؟!».

قال: و بما أحتجّ عليهم؟ قال: «بكتاب الله تعالى» فقال: في أيّ موضع؟ فقال: «قول الله: (إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُباركاً)، قد أخبرك الله: إنّ أوّل بيت وضع للنّاس للّذي ببكّة، فإن كانوا هم نزلوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، و إن كان البيت قديماً قبلهم فله فناؤه».

فدعاهم أبوجعفر فاحتج عليهم بهذا، فقالوا له: اصنع ما أحببت. (1) قال اليعقوبي في تاريخه: أراد أبوجعفر أن يزيد في المسجدالحرام و شكا النّاس ضيقه، فكتب إلى زياد بن عبيدالله الحارثي أن يشتري المنازل التي تلي المسجد حتّى يزيد فيه ضعفه، فامتنع النّاس من البيع فذكر ذلك لجعفر بن محمد (ع) فقال: «سلهم أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فكتب بذلك إلى زياد، فقال لهم زياد بن عبيدالله ذلك فقالوا: نزلنا عليه؛ فقال جعفر بن محمد (ع): «فإنّ للبيت فناءاً»، فكتب أبوجعفر إلى زياد بهدم المنازل التي تليه، فهدمت المنازل، و أدخلت عامة دار الندوة فيه حتى زاد فيه ضعفه، و كانت الزيادة مما يلي دار الندوة، و ناحية باب جمح، و لم يكن مما يلي باب الصفا و الوادي، فكان البيت في جانبه. (2) و روي العياشي عن الحسن بن علي بن النعمان قال: لما بني المهدي في المسجدالحرام، بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسئل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له إنّه لاينبغي أن تدخل شيئاً في المسجدالحرام غصباً، فقال له علي بن يقطين: يا أميرالمؤمنين: لو كتبت إلى موسى بن جعفر (ع) لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن سئل


1- جامع أحاديث الشيعة 58: 10، الباب 10 من بدء مشاعر الحج، الحديث 1 و الوسائل 331: 9، الباب 11، مقدمات الطواف، ص 15
2- تاريخ اليعقوبي، ذكره ضمن تاريخ أيام أبي جعفر المنصور 105: 3؛ و ذكر في تاريخ المهدي زيادته في المسجد، و جعله الكعبة في الوسط بسبب الزيادة، و اشترائه الدور 128: 3.

ص: 96

موسى بن جعفر (ع) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجدالحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن (ع) فقال أبوالحسن: «ولابدّ من الجواب؟» فقال له الأمير: لابدّمنه فقال له: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالنّاس فالنّاس أولى بفنائها و إن كان النّاس هم النازلين بفناء الكعبة، فالكعبة أولى بفنائها».

فلمّا أتى الكتاب المهدي أخذ الكتاب فقبّله، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (ع)، فسئلوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم، فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فأرضاهم. (1) ثمّ إنّه لا تنافي هذه الأخبار ما تضمّن تحديد المسجدالحرام حسبما تقدّم و أنّه يجوز إلحاق البيوت بالمسجد لكون أراضيها من جملة المسجد؛ إذ ربّما لايقبل الخصم هذا التحديد، و لكن هذه النصوص تضمّن تعليل الحكم بما يعترف به الخصم، فيكون من قبيل الإلزام، و يؤكده التعبير بالرضخ لأصحاب البيوت، و لو كانوا مالكين للأراضي، استحقّو الثمن لا العطيّة. ويشهد بذلك تسليم الخصم له، و كم له من نظير في نصوص الأئمة (ع) و رواياتهم.

و أمّا البحث الآخر، و هو وظيفة النّاس تجاه ما ورد من فعال الإمام المهدي (عج) و ما هو وظيفتهم من مباشرة ذلك، لو قدروا عليها و فعلها لو تمكّنوا منها؟

فالذي بيناه في بعض رسائلنا أنه لايبعد كون مدلول هذه النصوص بيان ما ينبغي فعله، لا ما هو من خصائصه (ع)، فهي بصدد النقمة على الوضع


1- جامع أحاديث الشيعة 58: 10، الباب 10 من بدء مشاعر الحج، الحديث 2؛ و الوسائل الحديث 16.

ص: 97

الموجود و الاعتراض على تلك الحالة.

بل و لم يعلم دلالةهذه النصوص على مباشرة الإمام المهدي (عج) لذلك حتّى ينافي وقوع ذلك قبل ظهوره و عدم مباشرته لذلك، فيكون مدلول هذه النصوص بيان الحكم و الوظيفة، و أنه لو ظهر الإمام المهدي (عج) و الأمر على ما كان، لغيّرذلك، و فعل كذا و كذا.

بل حتى ما تضمّن أنّ الإمام المهدي (عج) أوّل ما يظهر يفعل كذا، لم يعلم دلالته على مباشرته لذلك حتّى ينافي مباشرة غيره لذلك قبل ظهوره، و إنّما مدلوله أهميّة الأمر بحيث يقوم بالقضيّة لو كان الأمر على ذلك بمجرّد الظهور، حيث إنّ الاصلاح يكون بالتدريج و حيث إنّ بعض الأمور أولى من بعض إمّا لأهميّتها أو لوضوح الأمر و المقبولية فيها فيقدّم على غيرها.

و بالجملة: لايبعد أن يكون المتفاهم من هذه النصوص عدم اختصاص ما ورد فيها بخصوص الإمام المهدي (عج)، بحيث لايجوز أو لايجب على سائر المسلمين أو الحاكم العدل القيام بذلك.

نعم لا محذور في اختصاص بعض الأمور بخصوص الإمام المعصوم كما لا محذور في اختصاص بعض الأمور بخصوص الحاكم العدل و عدم كون وظيفته محولًا إلى عامّة المسلمين، و لكن الغرض أنّه لم يعلم اختصاص ما ورد في هذه النصوص بالمعصوم (ع).

أترى أن قطع أيدي السرّاق من وظائف خصوص المعصوم (ع)؟! و كذا توسيع الطرقات و إقامة السنن و إبطال البدع.

و لعلّ التعبير بالإمام المهدي (عج) مع أنّ سائر الأئمة (ع) بل و غيرهم

ص: 98

بحكمه باعتبار الكناية عن الإمام المتصدّي للأمر في قبال المغلوب عليه، فإنّ الأئمّة (ع) غالباً كانوا يعيشون ظروف التقيّة، و السلطة بيد غيرهم، فلم يتيسر لهم إقامة الحق، و إجراء الأمور على أساس تشخيصهم، و القضاء بحكمهم (ع)، كما أنّهم (ع) صرّحوا بأنّ الإمام الذي لايعيش ظروف التقيّة بل يظهر، و يملأ الأرض قسطاً و عدلًا بعد ما ملئت ظلماً و جوراً، هو الإمام المهدي (عج)، فالتعبير بفعال الإمام المهدي (عج) يكون تعبيراً كنائياً عمّن يتمكّن، و يكون أمره نافذاً، و لايتقي أحداً، فليس الإمام (ع) خارجاً عن قواعد الشريعة و الأحكام، و إنّما يختلف موضوعاً عن غيره أحياناً، فيقدر على ما لايقدر عليه غيره،

و ممّا يصرّح بكون الإمام المهدي (عج) كغيره من المسلمين مكلّف، و لا يختلف حكم الشريعة فيه عن غيره، عدّة من النصوص ذكرت أنه يقتل ذراري قتلة الحسين (ع) و عدم منافاته للكتاب العزيز النافي لتحمل أحد وزر عمل غيره.

ففي رواية الهروي، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (ع): يا ابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادق (ع) أنه قال: «إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين (ع) بفعال آبائها؟ فقال (ع): هو كذلك. فقلت: وقول الله عز وجل: وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرَى ما معناه؟ قال: صدق الله في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين (ع) يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها، و من رضي شيئاً كان كمن أتاه، و لو أنّ رجلًا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب، لكان الراضي عند الله عز وجل شريك القاتل، و إنما يقتلهم

ص: 99

القائم (ع) إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم، قال: قلت له: بأي شي ء يبدأ القائم منكم إذا قام؟ قام: يبدء ببني شيبة فيقطع أيديهم لأنهم سراق بيت الله عز وجل». (1) و كيف كان: فقد تواترت النصوص بل فاقت هذا الحدّ على أنّ الإمام المهدي (عج) إذا ظهر ملأ الأرض قسطاً و عدلًا، فهل ترى أنّه لاتكليف لغيره بالقسط و العدل، بلى و لكنّه لايتيسر لغيره، لعدم القدرة، و لايعني هذا اختصاص التكليف بحيث لو قدر غيره عليه لم يكن مكلّفاً.

و يؤكد ما ذكرنا من عدم اختصاص ما ينسب فعله إلى الإمام المهدي (عج) به و شموله لغيره ممّن يتمكن، ما فهمه صاحب الجواهر من بعض النصوص، في مسألة تظليل المساجد الّذي ورد المنع منه، و أنّ أوّل ما يبدء به القائم (ع) سقوف المساجد فيكسّرها و يأمر بها، فتجعل عريشاً كعريش موسى، (2) وكأنّه اقتداء بالنبي (ص) حيث لم يطيّن سقف مسجده، مع أنّه زاد في توسعة المسجد لحاجة المسجد حيث زادوا، كما في معتبرة ابن سنان، (3) و قد رخّص في الصلاة في المساجد المظللة في عصر الأئمّة (ع) بقولهم: «لايضركم اليوم و لو قد كان العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك»؛ (4) قال في الجواهر:

نعم ظاهر الحسن السابق عدم الكراهة في الصلاة الآن في المساجد التي ظلّلها أهل الخلاف، لعدم قيام العدل و إفضائها إلى ترك المساجد رأساً؛ و كأنّه (ع) لمعروفيّة المساجد في ذلك الزمان لهم، و أنّه ليس للشيعة مسجد يعرفون به، أطلق الحكم المزبور.


1- بحار الأنوار 313: 52، الحديث 6
2- الوسائل، 487: 3، الباب 9 من أحكام المساجد
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق 207: 5.

ص: 100

أمّا في مثل زماننا هذا، الذي قام فيه بحمدالله في الجملة دين الشيعة، و كانت لهم مساجد لايعارضهم بها أحد، خصوصاً بلاد الأعاجم، فالظاهر كراهة تظليلها بغير العريش و كراهة الصلاة فيها أيضاً تحت الظلّ، كما عن الأستاذ الأكبر التصريح به في الثّاني. (1) و أمّا ما في رواية أبي خديجة عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا قام القائم جاءبأمر غير الذي كان». (2) فلعلّ المراد به مجيئه بالحق بعد شيوع البدع، لا أنّه يأتي بخلاف ما جاءت به الشريعة.

و كذا روايةأبي خديجة الأخرى، عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا قام القائم (ع) جاء بأمر جديد كما دعى رسول الله (ص) في بدو الإسلام إلى أمر جديد». (3) فيكون المراد الجديد في العمل لا في التشريع.

و في رواية رفاعة عن عبدالله بن عطا قال: سألت أباجعفر الباقر (ع) فقلت له: إذا قام القائم (ع) بأي سيرة يسير في النّاس؟ فقال: «يهدم ما قبله كما صنع رسول الله (ص) و يستأنف الإسلام جديداً». (4) و في رواية أبي بصير... عن أبي جعفر (ع) أنه قال: «إنّ قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله (ص) و إنّ الإسلام بدا غريباً و سيعود غريباً كما بدا، فطوبى للغرباء». (5) و قد ذكر صدره و بدون شرحه في رواية أخرى.


1- جواهر الكلام 77: 14
2- بحار الأنوار 332: 52، الحديث 59
3- المصدر السابق 338: 52، الحديث 82
4- المصدر السابق 354: 52، الحديث 112
5- المصدر السابق، الحديث 147، 148 و 150.

ص: 101

و في رواية محمد و هو ابن مسلم ظاهراً، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن القائم إذا قام بأي سيرة يسير في الناس؟ فقال: «بسيرة ما سار به رسول الله (ص) حتى يظهر الإسلام قلت: و ما كانت سيرة رسول الله (ص)؟ قال: أبطل ما كانت في الجاهلية، و استقبل الناس بالعدل، و كذلك القائم (ع) إذا قام يبطل ما كان في الهدنة مما كان في أيدي الناس و يستقبل بهم العدل». (1) و في رواية الإرشاد عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «إذا أذن الله عزّوجلّ للقائم في الخروج صعد المنبر و دعا النّاس إلى نفسه و ناشدهم بالله و دعاهم إلى حقّه، و أن يسير فيهم بسيرة رسول الله (ص) و يعمل فيهم بعمله ... الحديث. (2) و في رواية علي بن أبي نصير قال: قال أبو جعفر (ع) و أتاه رجل فقال له: إنكم أهل بيت رحمة اختصكم الله تبارك وتعالى بها، فقال له: «كذلك و الحمد لله لا ندخل أحداً في ضلالة، و لا نخرجه من هدى إنّ الدنيا لا تذهب حتى يبعث الله عزّوجلّ رجلًا منا أهل البيت يعمل بكتاب الله لا يرى منكراً إلّا أنكره». (3) و في رواية دعوات الراوندي، قال المعلّى بن خنيس قلت لأبي عبدالله (ع): لو كان هذا الأمر إليكم لعشنا معكم، فقال: «و الله لو كان هذا الأمر إلينا لما كان إلّا أكل الجشب و لبس الخشن».

و قال (ع) للمفضّل بن عمر: «لو كان هذا الأمر إلينا لما كان إلّا عيش رسول الله (ص) و سيرة أميرالمؤمنين (ع)». (4)


1- المصدر السابق، الحديث 192
2- المصدر السابق، الحديث 78
3- المصدر السابق، 378، الحديث 182
4- المصدر السابق، الحديث 88.

ص: 102

و في رواية معمر قال: ذكر القائم عند الرضا (ع) فقال: «أنتم [اليوم] أرخى بالًا منكم يومئذ، قال: و كيف؟ قال: لو قد خرج قائمنا (ع) لم يكن إلّا العلق و العرق، [و] القوم على السروج، و ما لباس القائم (ع) إلّا الغليظ، و ما طعامه إلّا الجشب». (1) و في رواية المفضّل قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: «إذا قام قائم آل محمد (ع) بنى في ظهر الكوفة مسجداً له ألف باب، و اتصلت بيوت الكوفة بنهر كربلا». (2) و في رواية عمرو بن شمر و قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) في بيته، و البيت غاص بأهله، فأقبل الناس يسألونه فلا يسأل عن شي ء إلّا أجاب فيه، فبكيت من ناحية البيت فقال: ما يبكيك يا عمرو؟ قلت: جعلت فداك، و كيف لا أبكي، و هل في هذه الأمة مثلك، و الباب مغلق عليك، و الستر لمرخى عليك؟ فقال: لا تبك يا عمرو نأكل أكثر الطيب، و نلبس اللين و لو كان الذي تقول لم يكن إلّا أكل الجشب، و لبس الخشن، مثل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) و إلّا فمعالجة الاغلال في النار». (3) و في رواية عبدالأعلى الحلبي عن أبي جعفر (ع) في حديث: «ثمّ ينطلق يعني صاحب الأمر (ع)، فيدعو النّاس إلى كتاب الله و سنة نبيّه عليه و آله السلام و الولاية لعليّ بن إبي طالب و البراءة من عدوّه...». (4) و في رواية عبدالله بن عطا عن شيخ من الفقهاء يعني أباعبدالله (ع) قال: سألته عن سيرة المهدي (ع) كيف سيرته؟ قال: «يصنع ما صنع رسول الله (ص)، يهدم ما كان قبله كما هدم رسول الله (ص) آثار الجاهلية، و يستأنف


1- المصدر السابق، الحديث 126
2- المصدر السابق، الحديث 76
3- المصدر السابق، الحديث 128
4- المصدر السابق، الحديث 91.

ص: 103

الإسلام جديداً». (1) و أمّا ما ورد في بعض النصوص من سير الإمام المهدي (عج) بسيرة غير سيرة النبي (ص) فكأنّ المراد به العمل المختلف عن عمل النبي (ص) لاختلاف الموضوع، لا أنّه يعمل بخلاف عمل النبي (ص)، فإن العمل إنّما يكون مخالفاً مع وحدة الموضوع و إلّافمع الاختلاف لايعتبر العمل المختلف عن غيره مخالفاً و لا مخالفة.

فيا ترى أن من صلّى قصراً في السفر يكون مخالفاً لمن صلّى تماماً في الحضر و بالعكس!

و كيف كان ففي معتبرة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: قلت له: صالح من الصالحين سمّه لي- أريد القائم (ع)- فقال (ع): «اسمه اسمي قلت: أيسير بسيرة محمد (ص)؟ قال: هيهات، هيهات، يا زرارة! ما يسير بسيرته، قلت: جعلت فداك لِمَ؟ قال: إنّ رسول الله (ص) سار في أمّته باللين كان يتألف النّاس؛ و القائم (ع) يسير بالقتل، بذلك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل و لا يستتيب أحداً، ويل لمن ناواه». (2) و في معتبرة محمد- و الظاهر أنه ابن مسلم- قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: «لو يعلم الناس ما يصنع القائم إذا خرج لأحب أكثرهم أن لا يروه مما يقتل من الناس، أما إنه لا يبدء إلّا بقريش، فلا يأخذ منها إلّا السيف و لا يعطيها إلّا السيف حتى يقول كثير من الناس: ليس هذا من آل محمد، لو كان من آل محمد لرحم». (3) و في معتبرة أبي بصير قال: قال أبو جعفر (ع): «يقوم القائم بأمر


1- المصدر السابق، الحديث 108
2- المصدر السابق، الحديث 109
3- المصدر السابق، الحديث 113.

ص: 104

جديد، و كتاب جديد، و قضاء جديد على العرب شديد، ليس شأنه إلّا بالسيف، لا يستتيب أحداً، و لا يأخذه في الله لومة لائم». (1) و في رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «ما تستعجلون بخروج القائم؟ فوالله ما لباسه إلّا الغليظ، و لا طعامه إلّا الجشب، و ما هو إلّا السيف، و الموت تحت ظل السيف». (2) و في روايته الأخرى، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «إذا خرج القائم لم يكن بينه و بين العرب و قريش إلّا السيف، [ما يأخذ منها إلا السيف] و ما يستعجلون بخروج القائم؟ و الله ما طعامه إلّا الشعير الجشب، و لا لباسه إلّا الغليظ، و ما هو إلّا السيف، و الموت تحت ظل السيف». (3) و لمزيد اتّضاح المطلب ينبغي سرد نصوص فعال الإمام المهدي (عج) حتّى يعلم ما حققناه و قدّمناه.

فعن الشيخ في كتاب الغيبة، بإسناده عن سعد عن أبي هاشم الجعفري- و الرواية معتبرة- قال: كنت عند أبي محمد (ع) فقال: «إذا قام القائم أمر بهدم المنار و المقاصير التي في المساجد»، فقلت في نفسي: لأي معنى هذا؟ فأقبل عليّ فقال: «معنى هذا أنّها محدثة مبتدعة لم يبنها نبيّ و لا حجّة». (4) فيا ترى أن نقل هذا التعليل يوافق اختصاص الحكم المذكور به (ع).

و عن الشيخ في الغيبة بإسناده عن الفضل عن عبدالرحمن بن أبي هاشم عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير (في حديث له اختصرناه- البحار) قال: «إذا قام القائم دخل الكوفة و أمر بهدم المساجد الأربعة حتّى يبلغ أساسها


1- المصدر السابق، الحديث 114
2- المصدر السابق، الحديث 115
3- المصدر السابق، الحديث 116
4- المصدر السابق، الحديث 32.

ص: 105

و يصيرها عريشاً كعريش موسى و يكون المساجد كلّها جماء لاشرف لها، كما كان على عهد رسول الله (ص) و يوسع الطريق الأعظم فيصير ستّين ذراعاً و يهدم كلّ مسجد على الطريق، و يسدّ كلّ كوّة إلى الطريق، و كلّ جناح و كنيف و ميزاب إلى الطريق...». (1) و ظنّي أن في نقل الحديث وهماً و سقطاً، بقرينة سائر الأحاديث الواردة في هدم المساجد الأربعة بالكوفة، فكان الحديث هكذا: «أمر بهدم المساجد الأربعة و بهدم المسجد الحرام حتّى يبلغ أساسه».

و قد روى المفيد في الإرشاد هذه الرواية هكذا: «فهدم بها أربعة مساجد و لم يبق مسجد على الأرض له شرف إلّا هدمها، و جعلها جمّاء، و وسع الطريق الأعظم، و كسر كلّ جناح خارج عن الطريق، و أبطل الكنف و الميازيب إلى الطرقات، و لايترك بدعة إلّا أزالها، و لا سنّة إلّا أقامها ...». (2) و قد ورد في علّة هدم المساجد الأربعة بالكوفة أنّها بنيت على النصب.

و في رواية الطوسي في الغيبة بسنده عن أبي بصير عن أبي عبدالله (ع) قال: «القائم يهدم المسجدالحرام حتّى يردّه إلى أساسه، و مسجدالرسول (ص) إلى أساسه، و يردّ البيت إلى موضعه، و أقامه على أساسه، و قطع أيدي بني شيبة السرّاق و علّقها على الكعبة». (3) و في رواية الإرشاد: روى جابر عن أبي جعفر (ع) إنّه قال: «إذا قام قائم آل محمد (ص) ضرب فساطيط لمن يعلّم النّاس القرآن على ما أنزل الله جلّ جلاله، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنّه يخالف فيه التأليف». (4)


1- المصدر السابق، الحديث 61
2- المصدر السابق، الحديث 84
3- المصدر السابق، الحديث 57
4- المصدر السابق، الحديث 85.

ص: 106

و في رواية حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين (ع): «كأني أنظر إلى شيعتنا بمسجد الكوفة، و قد ضربوا الفساطيط يعلّمون الناس القرآن كما أنزل، أما إنّ قائمنا إذا قام كسره و سوى قبلته». (1) و في رواية الإرشاد: روى عليّ بن عقبة عن أبيه، قال: إذا قام القائم حكم بالعدل، و ارتفع في أيّامه الجور، و أمنت به السبل، و أخرجت الأرض بركاتها، و ردّ كلّ حق إلى أهله، و لم يبق أهل دين حتّى يظهروا الإسلام، و يعترفوا بالايمان، أما سمعت الله سبحانه يقول: وَ لَهُ أسْلَمَ .. و حكم بين النّاس بحكم داود (ع) و حكم محمد (ص). (2) و في معتبرة حريز قال: سمعت أباعبدالله (ع) يقول: «لن تذهب الدّنيا حتّى يخرج رجل منّا أهل البيت، يحكم بحكم داود و آل داود، لايسأل النّاس بيّنة». (3) و في رواية عبدالله بن عجلان عن أبي عبدالله (ع) قال: «إذا قام قائم آل محمد (ع) حكم بين النّاس بحكم داود لانحتاج إلى بيّنه، يلهمه الله تعالى فيحكم بعلمه، و يخبر كلّ قوم بما استنبطوه، و يعرف وليّه من عدوّه بالتوسّم؛ قال الله سبحانه: إنَّ فىِ ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتوَسِّمِينَ؛». (4) و في رواية سعيد بن عمر الجعفي عن رجل من أهل مصر عن أبي عبدالله (ع) قال: «أما إنّ قائمنا لو قد قام لغد أخذ بني شيبة و قطع أيديهم و طاف بهم، و قال: هولاء سرّاق الله ...». (5) و في رواية معاوية الدهني عن أبي عبدالله (ع) في قول الله تعالى: يُعْرَفُ المجُرِمُونَ بِسيِمَاهُمْ في حديث: «لو قام قائمنا أعطاه الله السيماء فيأمر


1- المصدر السابق، الحديث 139
2- المصدر السابق، الحديث 83
3- المصدر السابق، الحديث 21 و راجع الأحاديث 22 و 24 و 25 و 74
4- المصدر السابق، الحديث 86
5- المصدر السابق، الحديث 14 و 168.

ص: 107

بالكافر فيؤخذ بنواصيهم و أقدامهم ثم يخبط بالسيف خبطاً». (1) هذا يشبه نصوص قضاء القاضي بعلمه.

و في معتبرة أبان بن تغلب قال: قال أبوعبدالله (ع): «إذا قام القائم (ع) لم يقم بين يديه أحد من خلق الرحمن إلّا عرفه، صالح هو أم طالح؛ ألا و فيه آيةً للمتوسمين و هي السبيل المقيم». (2) نعم يظهر من بعض الأخبار اختصاص بعض أفعال الإمام المهدي (عج) به، و ذلك لعلّة مذكورة في النصوص أو غير مذكورة.

ففي رواية غيبة النعماني بإسناده عن أبي خديجة عن أبي عبدالله (ع): «إنّ عليّاً (ع) قال: كان لي أن أقتل المولّي، و أجهز على الجريح، و لكن تركت ذلك للعاقبة من أصحابي إن خرجوا لم يقتلوا؛ و القائم له أن يقتل المولّي و يجهز على الجريح». (3) و في روايته الأخرى بإسناده عن الحسن بن هارون، قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) جالساً، فسأله المعلى بن خنيس: أيسير القائم (ع) إذا سار بخلاف سيرة علي عليه السلام؟ فقال: «نعم و ذاك أن علياً سار بالمن و الكف، لأنه علم أن شيعته سيظهر عليهم من بعده، و أنّ القائم إذا قام سار فيهم بالسيف و السبي، و ذلك أنه يعلم أن شيعته لم يظهر عليهم من بعده أبداً. (4) و في رواية ابن زياد عن جعفر عن أبيه (ع) قال: «إذا قام قائمنا اضمحلّت القطائع فلا قطائع». (5) و في رواية عن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي عبدالله و


1- المصدر السابق، الحديث 26
2- المصدر السابق، الحديث 38
3- المصدر السابق، الحديث 110 و راجع الحديث 7 و 18
4- المصدر السابق، الحديث 111
5- المصدر السابق، الحديث 1.

ص: 108

أبي الحسن (ع) قالا: «لو قد قام القائم لحكم بثلاث لم يحكم بها أحد قبله: يقتل الشيخ الزاني، و يقتل مانع الزكاة، و يورث الأخ أخاه في الأظلّة ...». (1) و احتمل أنّ في السند سقطاً و تصحيفاً و الصحيح: الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه ...

ربّما يحتمل كون المراد من حكمه (ع) بذلك وقوع الموضوع المنتهي إلى حكمه بذلك في عصره، و أنه لم يتفق في الأعصار السابقة عليه الحكم بقتل الشيخ للزنا، لا لعدم ثبوت الحكم سابقاً، بل لعدم القضاءبذلك، و لو لعدم وقوع القضيّة على وجه يرفع إلى الحاكم العدل، فلاينافي كون الحكم الفقهي القضائي هو ذلك منذ أوّل الشريعة، و قبل عصر ظهوره (ع).

و أمّا قتل مانع الزكاة فهو المعهود نصّاً و عملًا و فتوى، و هذا يؤكّد ما سبق من أنّ الرواية بصدد الردّ على الحكم السائد من الولاة.

و أمّا التوريث المذكور في النّص فلم يعلم القول به من أحد؛ و يحتمل أن يكون المراد به عدم الاكتفاء في عصر الظهور بمجرّد إظهار الاسلام لظهور الحقائق يومذاك و انقضاء ظرف التقيّة.

و في معتبرة أبان بن تغلب قال: قال أبوعبدالله (ع): «دمان في الإسلام حلال من الله عزّوجلّ لايقضي فيها أحد بحكم الله عزّوجلّ، حتّى يبعث الله القائم من أهل البيت (ع)، فيحكم فيهما بحكم الله عزّوجلّ لايريد فيه بيّنة: الزاني المحصن يرجمه، و مانع الزكاة يضرب رقبته». (2) ثمّ إنّه قد يقال بأنّ جملة من روايات فعال الإمام المهدي (عج)، تنافي ثبات الشريعة و أحكامها؛ و هذه شبهة قديمة و إشكال ليس بجديد، فنحن


1- المصدر السابق: الحديث 2
2- بحارالأنوار 325: 52، الحديث 39 و 163؛ الوسائل 19: 6، الباب 4 ممّا يجب فيه الزكاة، الحديث 6.

ص: 109

ذاكرون لها مع الردّ عليها، حسب ما ذكره الشيخ الطبرسي في إعلام الورى قال:

فإن قيل: إذا حصل الإجماع على أن لا نبي بعد رسول الله (ص)، و أنتم قد زعمتم أنّ القائم (عج) إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب، و أنه يقتل من بلغ العشرين و لم يتفقه في الدين، و أمر بهدم المساجد و المشاهد، و أنه يحكم بحكم داود (ع)، لا يسأل بينة، و أشباه ذلك مما ورد في آثاركم، و هذا تكون نسخاً للشريعة، و إبطالًا لأحكامها، فقد أثبتم معنى النبوة، و إن لم تتلفظوا باسمها، فما جوابكم عنها؟

الجواب: أنا لم نعرف ما تضمنه السؤال من أنه (عج) لا يقبل الجزية من أهل الكتاب، و أنه يقتل من بلغ العشرين و لم يتفقه في الدين، فإن كان ورد بذلك خبر فهو غير مقطوع به، فأما هدم المساجد و المشاهد، فقد يجوز أن يختص بهدم ما بني من ذلك، على غير تقوى الله تعالى، و على خلاف ما أمر الله سبحانه به، و هذا مشروع قد فعله النبي (ص). و أما ما روي من أنه (عج) يحكم بحكم آل داود لا يسأل عن بينة، فهذا أيضاً غير مقطوع به، و إن صح فتأويله أن يحكم بعلمه فيما يعلمه، و إذا علم الإمام أو الحاكم أمراً من الأمور فعليه أن يحكم بعلمه، و لا يسأل عنه، و ليس في هذا نسخ الشريعة؛ على أنّ هذا الذي ذكروه: من ترك قبول الجزية، و استماع البينة إن صح لم يكن نسخاً للشريعة، لأنّ النسخ هو ما تأخر دليله عن الحكم المنسوخ، و لم يكن مصطحباً، فأما إذا اصطحب الدليلان، فلا يكون ذلك ناسخاً لصاحبه و إن كان مخالفه في المعنى، و لهذا اتفقنا على أن الله سبحانه

ص: 110

لو قال:" ألزموا السبت إلى وقت كذا ثم لا تلزموه" لا يكون نسخاً لان الدليل الرافع مصاحب الدليل الموجب، و إذا صحت هذه الجملة، و كان النبي (ص) قد أعلمنا بأن القائم من ولده يجب اتباعه و قبول أحكامه، فنحن إذا صرنا إلى ما يحكم [به] فينا، و إن خالف بعض الأحكام المتقدمة، غير عاملين بالنسخ، لانّ النسخ لايدخل فيما يصطحب الدليل. (1) الوجه الثالث:

قد يوجّه المنع من توسيع المسجد بأنّ مكّة فتحت عنوةً، فهي للمسلمين عامّة و لايجوز التّصرف في ملكهم بما يبطل الملك؛ و إنّما يجوز العمل فيها مضموناً بالخراج.

ففي صحيح الحلبي قال: سئل أبوعبدالله (ع) عن السواد ما منزلته؟ فقال: «هو لجميع المسلمين» إلى أن قال: «و لمن لم يخلق بعد» فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: «لايصلح إلّا أن يشترى منهم على أن يصيّرها للمسلمين فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها». قلت: فإن أخذها منه؟ قال: «يردّ عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل». (2) و راجع روايات أبي الربيع الشامي، (3) و أبي بردة بن رجاء، (4) و مرسلة حماد. (5) و هذا البحث له ذيل طويل و فذلكة الكلام فيه: أنّ سيرة المسلمين على بناء المساجد و غيرها من الأوقاف، في الأراضي المفتوحة عنوةً، بل التصرّف فيها بالبيع و نحوه و لو تبعاً للآثار، و التصرّف بمثل المصالح العامّة لاتنافي مصلحة المسلمين و الله العالم.


1- بحارالأنوار 381: 52- 382
2- الوسائل 12: الباب 21 من عقد البيع، الحديث 4
3- المصدر السابق: الباب 41، الحديث 5
4- الوسائل 11: الباب 71 من أبواب جهاد العدو، حديث 1
5- المصدر السابق: الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

ص: 111

و أمّا الكلام من الناحية الثالثة و ذلك حول انطباق عنوان المسجدالحرام على الزيادات، حتّى في فرض زيادتها على الحدّ الأصلي الذي وضعه إبراهيم (ع) بمعنى ترتيب الآثار المترتبة في النصوص على هذا العنوان الخاصّ، و منه و مما تقدّم يتّضح الكلام في الناحية الرابعة فلا نعيد.

ثمّ إنّا قد أشرنا إلى شطر من الكلام حول هذه الناحية في رسالة ألفناها لحكم السعي بعد تعريض المسعى، و هذا البحث لا يختص بخصوص هذه المسألة، بل يجرى في جملة من الموارد كتعريض سائر المساجد، كمسجد كوفة، بناءاً على كونه موضوعاً للحكم بالتخيير في الصلاة للمسافر، و مسجد الشجرة بناءاً على اختصاص محل الإحرام بذلك.

فحيث كان المسجد الحرام موضوعاً لبعض الأحكام، فلابدّ من التعرض لحكمه من هذه الجهة.

و من جملة أحكام المسجد الحرام التخيير بين القصر و التمام للمسافر، بناءاً على عدم شمول الحكم لمكة.

و من جملتها حرمة مرور الحائض و الجنب في المسجدين فضلًا عن مكثهما.

و الكلام في هذه المسألة تارةً بحسب الوضع و اللغة، ثمّ على تقدير ثبوت الوضع ينبغي التكلّم في شمول الأحكام المرتبة على العناوين، لحالاته الطارية بما فيها التوسعة، لاحتمال ثبوت الحقيقة الشرعية في مثل هذه العناوين، أو انصراف أدلّة آثار العناوين إلى الحالة السابقة منها؛ فالكلام في هذه الجهة في أمرين.

ص: 112

و اخرى بحسب القاعدة من الأصل العملي و غيره لو شكّ في المعنى اللغوي و المفهوم العرفي للعناوين، أو شكّ في ترتّب آثار العناوين على الحالة الجديدة.

أمّا البحث من الجهة الأولى، فالكلام فيه في أمرين:

الأمر الأول:

الكلام بحسب المعنى العرفي و اللغوي، و قبل التكلّم فيه ينبغي التمهيد بأمر: هو أنّ العبرة في مفاهيم الألفاظ بالأوضاع و المعاني المعاصرة لصدور النصوص و الروايات، و لا عبرة بالمعاني و الأوضاع الحادثة بعد ذلك العصر، و هذا لا ريب فيه حسب ما فصّلنا الكلام فيه في مواضع شتّى؛ و محصّله أن الموجب لحمل الألفاظ على المعاني العرفيّة، و دفع احتمال وضع شرعي لها إنّما هو الإطلاق المقامي، و هو إنّما يقتضي حمل الألفاظ على اللغة المعاصرة لصدور النصّ، لا على اللغة مهما كان عصرها، و بتعبير آخر: إنّما ينتفي احتمال الحقيقة الشرعية بسبب أنّ المفهوم من اللغات هو شي ء سواها، و هو المعنى العرفي و اللغوي المعاصر للنصوص، لا الحادث متأخّراً، هذا من ناحية.

و من ناحية أخرى: إنّ المفاهيم غير المصاديق و إن كانت متّحدة معها، و نسبةالمفهوم إلى المصداق نسبة الكلّى إلى الفرد، أو فقل نسبة المطلق إلى الحصّة، فلذا لايعتبر في صحّة وضع المطلق الالتفات إلى الحصص إلّا بمقدار الالتفات إلى الجامع دون الخصوصيات، و لذا يكون الإطلاق رفض القيود لا جمعها، و بذلك يندفع الإشكال عن شمول الأوضاع للمصاديق الجديدة بأنّ

ص: 113

الوضع متقوم بالالتفات، و المصداق الجديد مغفول عنه فكيف يعمّه الوضع؟

توضيح الاندفاع، أن الوضع متقوم بالالتفات إلى ما هو الموضوع له، لا إلى ما يلازمه أو يقارنه، و خصوصيات الحصص ليست داخلة في المعنى ليقصر الوضع عن المصاديق الجديدة، فالواضع القديم لو نُشر يرى السفر بالوسائل الحديثة مصداقاً لوضعه، و لم يشذّ عنه وضعه، و إن لم يخطر بباله.

ثمّ إنّ الذي يقضي بحمل اللفظ على المفاهيم العرفية المعاصرة للنص لايقتضي تخصيصها بالمصاديق المعاصرة للنصّ.

فإن قلت: لما كان الوجه في تخصيص الألفاظ بالمفاهيم المعاصرة لصدور النصوص هو الإطلاق المقامي، فإنه كما يقتضي تخصيص اللفظ بالمفهوم العرفي المعاصر لصدور النصّ، فهو يقتضي تخصيصه بالمصداق المعاصر للنصّ، و ذلك فإنّ نكتة الإطلاق المقامي هو استلزام سكوت الشارع عن التنبيه على إرادة معنى مغاير للمعنى العرفي، لحمل العرف و المخاطب ألفاظه على المفاهيم العرفيّة، و هو مستلزم لتفويت الأغراض اللزوميّة المنافي لغرضه من التكلّم، فيعلم بكون مراده هو المفاهيم العرفيّة، و حيث إنّ المتيقّن من المفاهيم العرفيّة هو مصاديقها المعاصرة لعصر النصّ، يتعيّن حمل النصوص عليها، إذ لايعلم إرادة ما يعمّ المصاديق الحادثة بعد عصر النّص، و الإطلاق المقامي ليس بنكتة مقدمات الإطلاق اللفظي ليستدعي السريان و الشمول، بل نكتته أمر آخر هي قد تستدعي الشمول و قد لاتستدعيه؛ فإنّ الإطلاق المقامي ليس هو الإطلاق المصطلح اللفظي لا مفهوماً و لا دليلًا.

قلت: نكتة الإطلاق المقامي ليس أمراً واحداً، و إن كانت التي ذكرناها

ص: 114

في الإشكال هي واحدة منها، فلو قصرت بعض نكات الإطلاق المقامي عن إثبات شي ء لايلزم قصور غيرها، و هذا البحث له ذيل طويل، و لكن لا مناص من الإشارة الإجمالية إليها في المقام فنقول:

قد يثبت الإطلاق المقامي بنكتة الإغراء، و هي التي تقدّمت، فإن سكوت الشارع عن إرادة حقيقة شرعية في لغاته موجب لحمل المخاطب ألفاظه بصورة عفويّة غير إرادية على المعاني العرفيّة، و هو مستلزم لفوت الغرض اللزومي.

و قد يثبت الإطلاق المقامي بنكتة الإجمال، و الذي هو الأساس في باب الإطلاق اللفظي، و الوجه في ذلك أنه إذا استعمل اللفظ و لم يذكر فيه قيد، و المفروض أنّ اللفظ موضوع للطبيعي المجامع للقيد، فيكون المعنى الوضعي أعمّ من المقيّد، و لذا لايكون استعمال اللفظ في موارد المقيّد مجازاً، و هناك قيود متباينة متعدّدة، و ليس بعضها أولى في بعض، فلو لم يُلغ احتمال التقييد يكون اللفظ مجملًا لا محالة، و هذا مناف للغرض من التكلّم، فيكون إلغاء احتمال التقييد بنكتة استلزام عدمه، لإجمال الخطاب المنافي للغرض من التحاور نوعاً، و إن كان قد يتعلّق الغرض في المحاورات بالإجمال.

و لذا ترى أنّ المحقق الخراساني ذهب إلى أنّ من جملة مقدّمات الإطلاق اللفظي هو عدم وجود قدر متيقّن بحسب مقام التخاطب، فإنّ الوجه فيه أنه مع وجود القدر المتيقّن لايستلزم رعاية احتمال التقييد بالمقدار المتيقّن إجمالًا في الخطاب.

و هذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك قدر متيقّن، أو كان و لم يكن القدر

ص: 115

المتيقّن بحسب مقام التخاطب، بل كان اليقين به بحسب العلم الخارجي، فإنه على التقديرين يكون الكلام في حدّ نفسه مجملًا لو لم يحمل على الإطلاق.

و بالجملة يدور الأمر بين الإطلاق و الإجمال، و الثاني خلاف الغرض العقلائي من التكلّم غالباً، فيتعيّن الأول.

و هناك نكتة ثالثة للإطلاق المقامي، و هي الظهور الحالي في موافقة المتكلّم مع العرف، في طور إرادة المعاني، و عدم تخلّفه عنهم في الطريقة، و لذا يحمل ألفاظه على المعاني الحقيقيّة مع احتمال إرادة المجاز مع كون المعنيين عرفيّين، و ليس ذلك إلّا من جهة أنّ الإطلاق المقامي كما يقضي بإرادة المعنى العرفي، يقضي بإرادة المعنى الحقيقي عند التجرّد عن القرينة أيضاً؛ و ظاهر حال المتكلّم أنّه ليس متخلّفاً عن العرف، لا في أصل المعنى و لا في نوعه.

و هذه النكتة هي أساس الإطلاق اللفظي- و لو ارتكازاً- عند المعروف، حيث لايقتصرون في المطلقات على القدر المتيقّن منها، بل يحملون الألفاظ على الإطلاق، حيث لا تقوم قرينة على التقييد، و إن كان المقيّد قدراً متيقّناً بحسب مقام التخاطب، كموارد اشتمال الكلام على السؤال، فإن المتيقّن من الإطلاق هو مورد السؤال، و مع ذلك لايقتصرون في الإطلاقات على موارد الأسئلة، بل يطبّقونها في غيرها أيضاً.

و لعمري إنّ لزوم الاقتصار على القدر المتيقّن مستلزم لإلغاء الإطلاقات في عامّة الموارد، إذ قلّما ينفك مورد عن السؤال، فيكون موارد السؤال هي القدر المتيقّن لا محالة.

ص: 116

و هذه النكتة كما يقضي بحمل الألفاظ على المفاهيم العرفيّة، كذلك يقتضي الأخذ بإطلاق المفهوم و عدم الاقتصار على المصاديق المعاصرة لعصر صدور المطلق، كما هو ديدن العرف في محاوراتهم.

إذا عرفت ما مهّدناه تعرف أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع محمولة على المفاهيم العرفيّة بما لها من مصاديق، و إن كانت مصاديق أو حالات حادثة، ما لم تقم قرينة على خلاف ذلك.

و لذا يشمل السفر- حيث كان موضوعاً لحكم شرعي كالإفطار في الصوم، و التقصير في الصلاة- للمصاديق الجديدة للسفر، كشموله للمصاديق المعاصرة لصدور النصوص.

و لا فرق في المصداق الجديد بين أن يكون حادثاً بكلّ حقيقته و وجوده، أو كان حدوثه باعتبار حدوث جزئه؛ و من ذلك البلد حيث يتوسّع و يكون حدوثه باعتبار جزئه، و منه أيضاً الجبل حيث يضمّ إليه أجزاء فيعظم، و منه أيضاً المسجد الأعظم حيث يوسع؛ كما أنّ منه المسجدالحرام حيث يزاد فيه.

ثمّ إنّ بعض المصاديق الجديدة ممّا لايحتمل قصور العناوين عنها كمسجد جامع البلد و بلد الإقامة حيث يزاد في بناء البيوت فيه، بل و لايحتمل قصور أحكام العناوين عن المصداق الجديد، و إنّما المحتمل قصور العنوان أو الحكم في بعض المصاديق كالمسجد الحرام و مسجدالنبي (ص) و مسجدالكوفة و المسعى.

و منشأ الاحتمال في مثل هذه الأمور أحد أمرين:

ص: 117

الأول: احتمال الوضع الخاص الشرعي، فالمسجد الحرام ليس عنواناً عرفيّاً ليكون توسيعه من قبيل المصداق الجديد، بل هو ما جعله الله مسجداً يوم خلق السموات و الأرض، أو الذي حدّه إبراهيم (ع) و كذا مسجدالنبي هو ما خطّه النبي (ص) بيده الشريفة و باشر في بنائه.

الثاني: احتمال اختصاص أحكام مثل هذه العناوين ببعض مصاديقها أو حالاتها و لو للإنصراف، أو كونه القدر المتيقّن بحسب مقام التخاطب لو فرض صدق العنوان على الحالة الحادثة.

فالذي يهمّ الفقيه لإثبات شمول أحكام العناوين الخاصّة لحالاتها الجديدة نفي الأمرين معاً، و لايكفي مجرد نفي الحقيقة الشرعيّة و إن كان نفي الانصراف و نحوه بعد انتفاء احتمال الحقيقة الشرعيّة هيّناً.

فإذا تحقق ما هو الأساس للبحث قلنا: إنّ الدافع لاحتمال ثبوت حقيقة شرعيّة للعناوين المبحوثة كالمسجدالحرام، هو ما يدفع احتمالها في سائر الألفاظ، و ذلك أنّه ما لم يثبت للشارع اصطلاح خاصّ في لفظ كان المحكم في مراده من الألفاظ العرفيّة، هو المفاهيم و الحقائق العرفيّة، و دليله الإطلاق المقامي بعدّة تقريبات، تقدّم بيانها ضمن بيان نكت الإطلاق المقامي.

و من جملة الألفاظ، ألفاظ العناوين الخاصّة كالمسجد الحرام، فإنّه إذا كان العرف يعتبر هذه الألفاظ من قبيل أسماءالأعلام، و كان يرى إطلاقها على الشي ء بعد طروّ الحالات الجديدة، و لم يثبت للشارع اصطلاح خاصّ فيها، كان احتمال الحقيقة الشرعية منتفياً كغيرها من الألفاظ.

و العرف يعتبر المسجدالحرام بعد التوسيع هو المسجد السابق موسّعاً

ص: 118

حتّى لو كانت التوسعة أضعاف ما كان عليه سابقاً، كما في أسماء البلدان، فإنها مهما عظمت و كبرت، يصدق عليها الإسم السابق بوضعه السابق، و لايكون من قبيل الوضع الجديد، و يكون اختلاف الحالة الفعليّة و القديمة من قبيل اختلاف صفات الأشخاص كالسمن، و الهزال، و الصغر، و الكبر، التي لا دخل لها في صدق أسماء الأعلام.

و لولا أن المسجديّة لاتتقوّم في بقائها كالحدوث بالبناء بل يكون المكان مسجداً بإنشاء المسجديّة له، لكنّا نقول بزوال المسجديّة إذا غيّر المكان بالتضييق في المسجد، لأنّ العبرة بحالته الفعليّة، لا الحالة السابقة.

و لذا كما أنّ البلد يصدق مع سعة البلد و بلوغ الأبنية حدّاً زائداً على الحدّ السابق، كذلك يزول صدق البلد بخراب الأبنية، و زوال البيوت، و لذا لايصدق أسامي البلدان على البلاد التى أفناها السيول و الزلازل، و بقي منها بعض الآثار، و ليس هذا إلّا لكون البلد متقوّماً بالعمران حدوثاً و بقاءاً، بخلاف المسجد فإنّ المسجديّة تحدث بالتحرير و إن لم يشتمل على البناء.

و لذا لو هدم المسجد و جعل في شارع أو طريق، لايجوز تنجيسه كما لايجوز تنجيس المسجد المحوّط.

و بعد ذا نقول: لايبعد القول بصدق الألفاظ الموضوعة للأماكن، مهما كان التغيير و التوسيع غير موجب لاختلال وحدتها، فكما أنّ الوحدة العرفية تصدق مع حدوث الزيادة، كذلك عنوانه الخاصّ، فمسجد البلد و الجامع إذا وُسّع كان مسجداً واحداً، و المسجد الجامع يصدق على الزيادات بعنوان جزئه كما يصدق على أصله السابق؛ بل بعد الزيادة لايصدق العنوان

ص: 119

على أصله، لكونه فعلًا جزءاً من العنوان، فهو بعض المسجد فعلًا و إن كان سابقاً منطبق العنوان.

و أوضح من ذلك صدق عنوان بلدةمكّة المكرمة، و الكوفة، و المدينة المنورة، و نحوها على هذه الأماكن بسعتها الحديثة، و يترتب على ذلك ترتّب الأحكام الخاصّة للبلدان و الأحكام العامّة، كالإقامة عشراً في البلد و إن كان يظهر التردّد في ترتّب الأحكام الخاصّة من بعض الفقهاء، و لذا استشكلوا في جواز الإحرام في حج التمتّع من غير مكّة القديمة، و إن كان الذي يظهر من سيّدنا الأستاذ 1 أنّ وجه الإشكال هو ما ورد في بعض النصوص من تحديد استحباب تكرار التلبيه لمن أحرم من المواقيت البعيدة حتّى ينظر إلى بيوت مكّة، ثمّ ذكر في النّص أنّ النّاس أحدثوا بمكّة ما لم يكن ثمّ ذكر أنّ حدّ مكّة كذا و كذا و سيأتي الخبر قريباً.

و قد أشكلنا سابقاً في دلالة هذه الرواية على اختصاص أحكام مكّة بخصوص مكّة القديمة، و أنّ مدلوله تحديد هذا الحكم الخاصّ بذلك لا مطلق أحكام مكّة، و منها جواز الإحرام لحج التمتّع من بلدة مكّة. (1) فإذا كان يصدق عنوان المسجد الجامع على المسجد الخاص، مهما زيد فيه، فلِمَ لايصدق المسجد الحرام على ذلك المسجد عند إحداث زيادات فيه، بعد كون المجموع مكاناً واحداً، متّصل بعض أجزائه ببعض.

فما لم يقم دليل على اختصاص حكم عنوان بخصوص مصداقه القديم الذي يعدّ جزءاً من مصداقه الفعلي، كان مقتضى الظهور شمول الحكم لمصداقه الفعلي.


1- و قد يمكن دفع هذا الإشكال بأنّ ظاهر النصّ هو بيان حكم موافق للقاعدة، لا ما يكون ثابتاً و لو على خلاف القاعدة؛ حيث إنّ ظاهر الرواية تفريع انقطاع التلبية في الموضع الخاصّ على بلوغ مكّة هناك، لا على اختصاص الحكم بموضع خاصّ من مكّة، فتأمّل. فموضوع الحكم بلوغ مكّة، و مع ذلك فاعتبر كون المعيار مكّة القديمة مفروغاً عنه، و إنّما نبّه على حدّها معلّلًا بحدوث زيادات في مكّة. ففي صحيح معاوية بن عمّار قال: قال أبوعبدالله 7: «إذا دخلت مكّة و أنت متمتّع فنظرت إلى بيوت مكّة فاقطع التلبية، و حدّ بيوت مكّة التي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين؛ فإنّ النّاس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن». الوسائل 57: 9، الباب 43 من أبواب الإحرام. و يمكن الايراد عليه بأنّ صدق عنوان البلد على الزيادات إنّما يكون حيث لايكون لمحلّ الزيادات عنوان آخر، وإلّا فهو من قبيل اتّصال بلدين لايطلق اسم أحدهما على المجموع، بل يكون كلّ من المحلين باقياً على عنوانه. و قد يؤيّد هذا الاحتمال معتبرة زرارة عن أبي عبدالله 7 قال: سألته: أين يمسك المتمتع عن التلبية؟ فقال: «إذا دخل البيوت بيوت مكّة لا بيوت الأبطح». المصدر السابق.

ص: 120

و بالجملة: فاختلاف المعنون في حالته الجديدة و القديمة من قبيل المصداقين لمفهوم واحد.

فهو نظير أسماء الأعلام، فإنّه مهما اختلف مصداقها بحسب الحالات كالكبر، و الصغر، و السمن، و الهزال، و نحو ذلك، لايختلف العنوان، فإنه موضوع للذّات الواحد مهما اختلفت حالاته و صفاته، و منها حجمه أو طوله.

و هذا نظير ما حقّقناه في محلّه من اقتضاء القاعدة سريان حكم العناوين على مصاديقه الجديدة، في المسائل المستجدة كالسفر، فكما يصدق العنوان و بتبعه يترتّب الحكم المترتّب عليه على مصداقه القديم بجميع حالاته في ذلك العصر، كذلك يصدق العنوان بما له من المفهوم اللغوي و العرفي القديم على مصداقه الحديث، الذي لم يكن متصوّراً وجود بالتفصيل في عصر اللغة القديمة، و لذا كان السفر بالوسائط الحديثة موجباً للقصر و الإفطار، كالسفر بالأسباب القديمة، نعم هناك كلام في حدّ المسافة، و هذا أمر آخر.

وأمّا الأمر الثاني:

فالبحث فيه عن قيام الدليل على تخصيص أحكام المسجدالحرام بخصوص الحدّ القديم الذي وضعه إبراهيم (ع)، و ذلك باعتبار دلالة النصوص المتضمّنة لتحديد المسجدالحرام، فإنها تصلح دليلًا حاكماً لأدلّة أحكام المسجدالحرام، لأنها تضمّنت تحديد المسجدالحرام بذاك الحدّ الخاصّ، و مقام التحديد بل الاشتمال على لفظ الحدّ يقضي بخروج ما عداه عن المحدود فما عدا الحدّ- و منه الزيادات على الحدّ- ليس من المسجدالحرام

ص: 121

لا محالة، فلاتترتّب عليه أحكامه، و لو فرض ترتّب الأحكام العامّة للمساجد عليه.

و يردّه أنه لو كان المسجدالحرام في زمن صدور هذه النصوص أوسع من الحدّ المذكور فيها، فربّما كان لدعوى حكومة نصوص تحديد المسجد بما ذكر فيها من الحدّ على أدلّة أحكام المسجدالحرام وجه؛ و حيث إنّ المسجدالحرام في عصرنا الحاضر- بعد طروّ زيادات فيها بعد عصر النصوص، فضلًا عن سعته حال صدور نصوص التحديد- لم يبلغ الحدّ المذكور في النصوص، لم يكن في هذه الروايات دلالة على الحكومة المطلقة على أدلة أحكام المسجدالحرام، بل غاية ما فيها أنها بصدد عدم انحصار المسجد في الحدّ الذي كان عليه في عصر النبيّ (ص)؛ و أنّ الزيادات التي حدثت في عصر النصوص داخلة في الحدّ، و الحكم الثابت للمسجدالحرام و أنهم لم يبلغوا بعد تلك الزيادات، المسجد الذي حدّه إبراهيم (ع)، و أين هذا من الدلالة على عدم جواز إلحاق شي ء بالمسجد، أو عدم شمول أحكام المسجد للزيادة على حدّه الذي وضعه إبراهيم (ع).

و إن شئت قلت: إنّ هذه النصوص واردة في مقام التحديد بلحاظ الأدنى لا النهاية.

هذا مضافاً إلى منع حكومة هذه النصوص حتّى لو فرض زيادةسعة المسجد في عصر صدور الروايات على الحدّ الإبراهيمي، و الوجه في ذلك أنه يكفي لدفع لغويّة هذه النّصوص كونها بصدد بيان الحدّ الإبراهيمي، و أمّا أنّ ما زاد عليه فهو خارج عن أحكام المسجد الحرام فضلًا عن خروجه عن

ص: 122

أحكام مطلق المسجد، فليس فيها أية دلالة عليه، فإنّ بيان أنّ وضع المسجد على يد إبراهيم (ع) كان كذا مقدار، فترتب أحكام العنوان الخاص و العام عليه من حرمة التنجيس أو مرور الجنب عليه حتّى في فرض بناء ذاك الحدّمساكن و نحوها كما كان سابقاً، لاينافي ترتّب أحكام العنوان الخاص و العام لو زيد في حدّالمسجد، و ضمّ إليه مقدار غير المقدار الذي هو ثابت، و لو من دون مراعاة النّاس له، و لذا كانوا قد بنوا فيها بنايات لا تناسب المسجد فضلًا عن المسجدالحرام.

و قد يستدلّ لتخصيص أحكام المسجدالحرام و آثاره بغير الزيادات على الحدّ الأصلي، بما ورد في النصّ من تعليل عدم كراهةالنّوم في زيادات المسجد بأنها زيدت في المسجد. (1) و لكن هذا الخبر شاهد على شمول الأحكام حسب القاعدة للزيادات لولا الردع؛ و مضمون الخبر الردع بملاحظة حكم خاصّ و هو النّوم و لايشمل سائر الأحكام، و ليس في الخبر التعليل بأنّ المواضع زيدت بل ذكر في الخبر: «إنّما يكره أن ينام في المسجدالحرام الذي كان على عهد رسول الله (ص)».

و أمّا الجهة الثانية، فالبحث فيه عن مقتضى القاعدة عند قصور الظهور.

فقد يكون الشك في حكم دلّ عليه إطلاق أو عموم، ثمّ تضمّن دليل خاص خلافه في خصوص المسجدالحرام.

و قد يكون الشك في حكم وارد في خصوص المسجدالحرام بحيث يكون


1- الوسائل 496: 3 الباب 18 من أحكام المساجد، الحديث 2.

ص: 123

المرجع مع الشك فيه الأصول العمليّة.

أمّا في الفرض الأول، فالمرجع عند الشك في ثبوت الحكم الخاصّ- لإجماله باعتبار إجمال موضوعه أعني المسجدالحرام، و تردده بين شمول الزيادات و عدمه- هو إطلاق دليل الحكم الأول أو عمومه لو كان.

و يترتّب على ذلك تعيّن القصر في الصلاة في الزيادات، و اختصاص التخيير بالمقدار المتيقّن، و ذلك لدلالة الدليل على وجوب التقصير في السفر فكان الأصل الأوّلي في وظيفة المسافر و هو القصر في الصلاة إلّا فيما تحقق خلافه، فيخصص دليل القصر به أو يقيد إطلاقه، و حيث إن الدليل على التخصيص و التقييد منفصل لايكون إجماله سارياً إلى غيره، فلابدّ من الاقتصار في رفع اليد من الإطلاق و العموم، على المقدار الذي يكون الدليل المقيّد و المخصّص حجةفيه، و هو القدر المتيقّن، حيث يتردد مدلوله بين الزيادة و عدمها، و المفروض أنّ المتيقّن من صدق المسجدالحرام هو ما عدا الزيادات، و لايكون الدليل الخاصّ حجّة بالنسبة إليها، فيكون المرجع بعد قصور الدليل الخاص على حكم المسجدالحرام هو الإطلاق و العموم في حكم المسافر.

و من قبيله ما ورد في جواز مرور الجنب و الحائض في المسجد، و اختصاص الحرمة بالمكث، ثمّ دلّ دليل آخر على حرمة دخول الجنب و الحائض، و لو بقصد المرور و التجاوز في المسجدالحرام، فإنّ المحكّم بعد إجمال عنوان المسجدالحرام بلحاظ الزيادات الحادثة، هو إطلاق دليل جواز مرور الجنب و الحائض.

ص: 124

و أمّا في الفرض الثاني، فالمرجع لما كان هو الأصل العملي، فربّما يختلف الأصل في الموارد المختلفة، فإن كان المشكوك حكماً إلزاميّاً، و لم يكن هناك حالةسابقة في ثبوت الإلزام، فالمرجع هو أصل البرائة و هو موافق لقصور العنوان عن الحالة الجديدة، و مع ثبوت الحالة السابقة فالمحكم هو الاستصحاب، بناءاً على جريانه في الشبهات الحكميّة.

ففي مثال عبور الجنب و الحائض حيث لايكون لدليله إطلاق، فمقتضى أصالة البرائة جواز العبور في الزيادات المحدثة.

كما أنه إذا شكّ في جواز الطواف في الزيادات حيث يقال باختصاص جواز الطواف بالمسجدالحرام، و عدم كفاية مجرّد الطواف بالبيت، تكون المسألة من دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين، فإن قلنا فيها بالبرائة كانت النتيجة موافقة مع شمول العنوان للحالة الجديدة، و إن قلنا بالاحتياط وافق الأصل قصور العنوان عن الحالة الحادثة.

ص: 125

التزاحم بين الحج والفرائض الأُخرى دراسة وعلاج (1)

أحمد المبهوتي

1- تزاحم الحج والدَّين

تزاحم الحج بالديون المالية لم يطرح في كلمات الفقهاء القدماء مفصلًا، بحيث يستوعب جميع صور الديون وأحكامها مورداً فمورداً، بل اكتفوا بذكر إجمالها، لكنّ المتأخرين بحثوها مفصلًا، وذكروا لها أقساماً بما يلي:

- إن الدَّين إمّا معجّل، أو مؤجّل.

- والمعجّل إمّا مطالب به، أو غير مطالب.

- والمؤجّل إمّا لايسع الأجل لإتمام المناسك والعود، أو يسعه.

- والمديون إمّا يملك ما يقضي دينه، زائداً على نفقة الحج أو لا.

- وعلى الثاني إمّا يظن له طريق للوفاء به بعد الرجوع عن الحج أو لا.

لايخفى أن الصورة التي يملك المديون فيها ما يقضي دينه زائداً على نفقة الحج، فهو مستطيع إجماعاً، ولم يقع بين الفقهاء موقع نقاش، فصارت الصور

ص: 126

ثمانيةً.

كلمات الفقهاء في المسألة

قال المحقق الحلي (رحمة الله): لو كان له مال وعليه دَين بقدره، لم يجب إلاأن يفضل عن دينه ما يقوم بالحج. (1) قال صاحب المدارك (رحمة الله) في شرحه: إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق بين أن يكون حالًاأو مؤجلًا. (2) قال العلامة (رحمة الله): لو كان له مال وعليه دَين بقدره، لم يجب عليه الحج سواء كان الدَّين حالًاأو مؤجلًا؛ لأنّه غير مستطيع مع الحلول، والضرر متوجه عليه مع التأجيل، فيسقط فرض الحج. (3) قال الشهيد الأول (رحمة الله): والمديون ممنوع إلاأن يستطيع بعد قضائه، مؤجلًا كان أو حالًا. (4) قال المح دث البحراني (رحمة الله): قد صرّح الأصحاب بأنه لو كان له مال وعليه دَين، فإنه لايجب عليه الحج. (5) قال الفاضل الهندي (رحمة الله) في كشف اللثام: وللشافعية في المؤجل بأجل مؤجل وجه بالوجوب، ولايخلو من قوة، كان ما عليه من حقوق الله كالمنذور وشبهه، أو من حقوق الناس؛ لأنّه قبل الأجل غير مستحق عليه، وعند حلوله إن وجد ما يفي به أدّاه، وإلاسقط عنه مطلقاً أو إلى ميسرة. (6) قال المحقق النراقي (رحمة الله): المديون (الذي له مال يسع أحد الأمرين، من الحج و الدَّين) داخل في الخطابين، خطاب الحج و خطاب أداء


1- المحقق الحلي، جعفربن الحسن، شرائع الاسلام 165: 1
2- العاملي السيد محمد، مدارك الأحكام 43: 7
3- العلامة الحلي، الحسن بن مطهر، منتهى المطلب 653: 2
4- الشهيد الأول، الدروس 311: 1
5- البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة 90: 14
6- الفاضل الهندي، محمد، كشف اللثام 98: 5.

ص: 127

الدَّين، و إذ لامرجح في البين فيكون مخيّراً بين الأمرين، فالوجه أن يقال:

إن مع التعجيل أو عدم سعة الأجل، هو مخيّر بين الحج ووفاء الدَّين، سواء علمت المطالبة أم لا.

نعم، لو علم رضا الدائن بالتأخير، فلايكون مأموراً بالوفاء، فيبقى خطاب الحج خالياً عن المعارض فيكون واجباً. (1) ق ال السيد اليزدي (رحمة الله): والأقوى كونه مانعاً إلامع التأجيل، والوثوق بالتمكن من أداء الدَّين إذا صرف ما عنده في الحج، ذلك لعدم صدق الاستطاعة في غير هذه الصورة، وهي المناط في الوجوب. (2) قال الإمام الخميني (رحمة الله): لو كان عنده ما يكفيه للحج، وكان عليه ديَن، فإن كان مؤجلًا وكان مطمئناً بتمكّنه من أدائه زمان حلوله، مع صرف ما عنده وجب، بل لايبعد وجوبه مع التعجيل، ورضا دائنه بالتأخير، مع الوثوق بإمكان الأداء عند المطالبة، وفي غير هاتين الصورتين لايجب (3).

الأقوال في المسألة

ذُكر في المسألة آراء مختلفة يمكن حصرها في خمسة:

القول الأول:

الدَّين مانع عن وجوب الحج مطلقاً، من دون تفصيل في أنواع الديون و شرائطها، كما قاله المحقق الحلي (رحمة الله) في شرائع الإسلام، والعلامة الحلي (رحمة الله) في منتهى المطلب، والشهيد الأول (رحمة الله) في الدروس، والمحدّث البحراني (رحمة الله) في الحدائق الناضرة.


1- النراقي، أحمد، مستند الشيعة 44: 11
2- اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة: 17 من شرائط وجوب الحج
3- الإمام الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة 354: 1.

ص: 128

القول الثاني:

لايمنع الدَّين عن وجوب الحج مطلقاً، كما حكى النراقي (رحمة الله) في مستند الشيعة عن الأردبيلي (رحمة الله) الوجوب، واستظهر أنّه مذهب القدماء.

القول الثالث:

إن الدَّين مانع عن الحج مطلقاً بشتى أنواع الدَّين و حالاته، إلافي الدَّين المؤجل الواسع للحج و العود.

وقد مال إليه صاحب كشف اللثام (رحمة الله)، وأيده صاحب الجواهر (رحمة الله) بقوله: لايخلو من قوة (1).

القول الرابع:

الدَّين غير مانع عن الحج إلافي صورتين:

أحدهما: إذا كان الدَّين حالًاو مطالباً به.

ثانيهما: إذا كان الدَّين مؤجلًا، مع عدم سعة الأجل للذهاب و العود، فيقع التزاحم بين الدَّين و الحج، وهذا هو الذي اختاره النراقي في مستنده.

القول الخامس:

الدَّين مانع عن وجوب الحج إلافي صورتين:

أحدهما: إذا كان الدَّين حالًا، و رضي الدائن بالتأخير، وكان المديون واثقاً بإمكان الأداء عند المطالبة.

ثانيهما: إذا كان الدَّين مؤجلًا، و كان المديون متمكناً من الأداء بعد الحج عند حلول أجله؛ و هذا ما اختاره السيد اليزدي (رحمة الله) في العروة الوثقى، و جلّ الفقهاء المعاصرين، منهم:


1- الفاضل الهندي، محمد، كشف اللثام 98: 5.

ص: 129

السيد البروجردي (رحمة الله) (1)، و الإمام الخميني (رحمة الله) في تحرير الوسيلة، والسيد الخوئي (رحمة الله) في معتمد العروة الوثقى (2)، والشيخ التبريزي (رحمة الله) في التهذيب (3)، والسبحاني في كتاب الحج في الشريعة الإسلامية الغراء (4) وغيرهم.

تحرير محل النزاع

لايخفى أن المديون لو كان له مال يكفي لدينه و مصارف الحج كليهما، فهو مستطيع للحج بالاتفاق كما أشرنا إليه، و هذا خارج عن محل النزاع.

و أمّا لو كان له مال يكفي إمّا للحج وإمّا للدَّين فقط، بحيث لو دفعه للحج لايبقى شي ء من المال إزاء الدَّين، و لو دفعه لدينه لايبقى مال لمصارف الحج كلها، فهو محل النزاع بشتى أنواع التصوير في المسألة كما مرّت صورها.

تحرير المباني

الأول: المعيار في الاستطاعة تملّك الزاد والراحلة، و على حسب ما تدل عليه بعض الروايات، أن المراد من الاستطاعة هو تملّك الزاد و الراحلة؛ لأننا نتبع النصوص، و هو المصرح به في الروايات الكثيرة.

الثاني: المعيار في الاستطاعة هو الاستطاعة العرفية.

إن الروايات في تفسير الاستطاعة تختلف اختلافاً شديداً، فمنها ما يصرّح بأن المراد من الاستطاعة هو الزاد و الراحلة، و منها ما يصرّح بأنّها


1- اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، كتاب الحج، ذيل المسألة 17 من شرائط وجوب الحج
2- الخوئي، أبو القاسم، معتمد العروة الوثقى 118: 1
3- التبريزي، جواد، التهذيب 78: 1
4- السبحاني، جعفر، الحج في الشريعة الإسلامية الغراء 138: 1.

ص: 130

السعة و اليسار و القوة، و منها ما يفسّر الاستطاعة بأن يكون عنده ما يحج به، و ...

إن النتيجة الحاصلة بعد دراسة الروايات و تحليلها هي الاستطاعة العرفية، و هي بمعنى أن استطاعة السبيل إلى السفر تصدق على من كان له زاد السفر و راحلته، زائداً على حوائجه الحضرية؛ إذن، فهو موسر و متمكن من السفر، وإلافمجرد امتلاك الزاد والراحلة، أو توفر المال بمقدار أن يحج به، أو جواز التصرف فيه مع أنّه مديون، أو له حوائج في المعيشة اليومية، أو نقصان في دفع الديون، لايجعله موسراً ولامتمكناً بمعنى الاستطاعة العرفية.

نكتفي بهذا المقدار من البيان، ومن أراد المزيد، فعليه مراجعة أدلة اختيار الاستطاعة في مبحث الاستطاعة في مظانّه.

تقدُّم حقّ الناس

إذا تزاحم حق الناس بحق من الحقوق الإلهية فأيّهما مقدم لأهميته؟

قال السيد الحكيم (رحمة الله) في المستمسك:

فما اشتهر من أهمية حق الناس من حق الله تعالى، دليله غير ظاهر .... و إن كان تساعده مرتكزات المتشرعة، لكن في بلوغ ذلك حدّ الحجية تأمل. (1) ثم قال: و إن كان الظاهر التسالم على عدم وجوب الحج، أو الصلاة، أو الصوم، إذا توقف أداؤها على التصرف في مال الغير، لكن لم يثبت أن ذلك


1- الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى 100: 10.

ص: 131

لأهمية حق الناس على حق الله تعالى، فإن الظاهر المتسالم أيضاً على عدم وجوب أداء الزكاة أو الخمس أو الكفارات، إذا توقف على ذلك، مع أنّها من حق الناس، وكذا الحال في وفاء الدَّين إذا توقف على ذلك. (1) بعد ما سنذكره من الشواهد و القرائن و الأدلة التي تدل على أهمية حق الناس، سينكشف أن مرتكزات المتشرعة لها أصول و مبادى ء دينية مصطادة من الكتاب و السنة.

أدلة تقدّم حقّ الناس

أوّلًا: الأدلة العامة لترجيح الدَّين:

يمكن الاستدلال على تقدم حق الناس إذا تزاحم بحق الله تعالى بأمور:

1. قوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ... وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فإن لم يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأتان مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أن تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الأخْرى وَ لايَأْبَ الشُّهَد اءُ إِذا ما دُعُوا وَ لاتَسْئَمُوا أن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أو ك بِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أدْنى ألاتَرْتابُوا ...). (2) هذه أطول آية في القرآن الكريم، تختص بالدَّين وأحكامه، و قد بُيِّن فيها ما يقرب من عشرين حكماً من أحكام الدَّين، و جدير بالدقة والتأمل كي نعرف الدَّين وأحكامه في الشريعة الإسلامية الغراء أن نقف على أمور:

الأول: أ صل الدَّين و فرض أدائه لايحتاج إلى بيان وتشريع، لأنه من


1- المصدرالسابق 101: 10
2- البقرة: 282.

ص: 132

الأحكام العامّة، و متسالم عليه عند عموم الناس و معترف به.

الثاني: تركز الآية الشريفة على دَين مؤجّل سيأتي أجله بعد مدة طويلة، و تأمر بالكتابة كي لايترتب عليه نزاع و لامشاجرة عند المطالبة و الأداء، و طروّ الإبهام في الأجل.

الثالث: بعد الأمر بالكتابة يقول سبحانه وتعالى: (وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)، إن اتخاذ الشهيدين إضافة إلى الكتابة، تأكيد آخر على أهمية الموضوع، و تشديد للدائن على المديون، كي لايواجه بالمعاذير في الأداء، ثم قال: (فإن لم يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأتانِ)، هذا اهتمام على موارد شاذة في الدَّين.

الرابع: بما أنّه لو اختلّ التداين بين الناس، لاختلّ نظام المعيشة والاقتصاد، لأن السوق والمعاملات السوقية كثيراً مّا تدور بالتداين، وهذا في غاية الأهمية من حيث التجارة.

إن الله سبحانه وتعالى وحفاظاً على النظام السوقي، وتأ كيداً على الناس كي يطمئنوا بأن أموالهم في التداين لايتوجه إليها أي ضرر وخطر، يوصي الشهداء ويقول: لَايَاْبَ الشُهَداءُ إذَا مَا دُعُوا.

الخامس: بما أن الدَّين حق الناس، و كل شخص يهتم بحقه و ماله، و لايبذله من غير سبب، و إن كان صغيراً، يصرح في الآية بلزوم الكتابة و فيقول: لَاتَسْئَمُوا أنْ تَكْتبُوهُ صَغيراًأو كَبيراً، أي لايختلج في صدوركم أن الدَّين الصغير لايحتاج إلى الكتابة، لما فيه من مصلحة المجتمع، و سلامة العلاقات في التجارات و السلوك الاجتماعي.

ص: 133

بعد بيان الحكم في الدَّين والأحكام المتعلقة به من الكتابة، واتخاذ الشهيدين، و عدم إباء الشهداء إذا ما دعوا، و عدم السأم و الملالة في الكتابة، كلّ ذلك يشير إلى الغاية و الهدف، و الحكمة من جعل الأحكام على المؤمنين و تقنينها بأنّها أقسط عند الله، و بها تستقيم الأُمور، و تجري في مجراها الصحيح، و تكون الشهادة ميسورة للشهداء، و لايتمسك الشهداء بالمعاذير، تخلصاً و امتناعاً عن الشهادة.

فالهدف المهم هو حصول الطمأنينة في النفس، و المهيمنة على أصول الريب و الشبهة و الوسوسة، و هي الغاية القصوى، و المقصد الأعلى في العلاقات الاجتماعية و التجارية، و عليها يبتني قوام المجتمع و علاقاته.

فتحصّل من هذه الآية، أن الدَّين له موقع مهم في الإسلام، وهو أساس من الأُسس الاجتماعية، ولهذا اهتم الشارع اهتماماً بليغاً بهذا الأساس والبناء، رغبة في حفظ النظام المجتمعي.

2. قوله تعالى: (وَ إن كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لم تَجِدُوا كاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ). (1) إن الأمر باتخاذ الرهائن في التداين، إذا لم يمكن الكتابة، تأكيد آخر على الاهتمام بالدَّين، و شرائط أخذه و دفعه صحيحاً، و تشديد على حفظ المال كي لايقوم المديون بالتبريرات الباردة، والامتناع عن دفع المال، وليس لهذا الحكم نظير في الإسلام من حيث التشدد.

3. لو أمعنّا النظر في آيات الإرث، لشاهدنا أن للدَّين موقعاً خاصاً، ما ليس لسائر الفرائض مثله:

الآية الأُولى: بعد بيان سهم الأولاد من الإرث ذكراً كان أو أنثى،


1- البقرة: 283.

ص: 134

يقول تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِها أو دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أبْناؤُكُ مْ لاتَدْرُونَ أيُّهُمْ أ قْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إن اللَّهَ كان عَلِيماً حَكِيماً). (1) الآية الثانية: بعد بيان سهم الأزواج من إرث نسائهم في الآية التالية يقول سبحانه: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أو دَيْنٍ). (2) ثم بعد بيان سهم الأزواج من الإرث من بعولتهن يقول تعالى:

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أو دَيْنٍ). (3)

ثم بعد بيان حكم الكلالة يقول تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أو دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ). (4) هاتان الآيتان وردتا في الإرث، فقد صرّح سبحانه وتعالى بعد بيان أسهم الوارثين في أربعة مواضع في الآيتين، بأن ما يورّث الميت فهو للوارث، لكن يُستثنى منه الدين، و مصارف الوصية، وهما يتقدمان على قسمة الإرث، ثم يتقدم إخراج الديون من التركة على الوصية، كما صرح به الفقهاء، إذ قيل: «إن الوصية إن كانت بواجب مالي، كأداء ديونه و أداء ما عليه من الحقوق كالخمس و الزكاة ... يخرج من أصل المال بلغ ما بلغ، بل لو لم يوص به، يخرج منه و إن استوعب التركة، ويلحق به الواجب المالي المشوب بالبدني كالحج ...». (5) فتحصّل أن إخراج الدَّين من الإرث يتقدم على كل شي ء، حتى على الثلث الذي اختص بوصية الميت. فلو بقي شي ء من التركة يعمل بالوصية بمقدار الثلث ثم يقسم الباقي بين الورثة.


1- النساء: 11
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه
4- النساء: 12
5- الإمام الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، 97: 2 مسألة 23، ط. دارالتعارف، بيروت 1401 ه-.

ص: 135

4. إنّ الكافر إذا دخل الإسلام لايقضي صلاةً، ولاصوماً، ولافريضة أخرى، إلّاالدَّين، فإنه لايسقط عنه.

ويدل عليه حديث مروي عن النبيّ (ص) قال: «الإسلام يجبّ ما قبله».

قيل في مفاد هذا الحديث وشموله:

أمّا بالنسبة إلى الواجبات البدنية التي انعدمت شرائطها فعلًا، كالحج بعد زوال الاستطاعة، فالظاهر أنّها أيضاً مشمولة بحديث الجبّ، ويوافقه السيرة المستمرة؛ فمن كان مستطيعاً في الأزمنة البعيدة، ثم أسلم بعد سنين حال كونه غير مستطيع، لايلزم بالحج. (1) وأمّا الديون المالية التي استدانها في حال الكفر و الضمانات، فلاإشكال في بقاء هذه الأُمور على حالها، والإسلام لايجبّها أبداً. (2) إنّ وجه عدم شمول القاعدة للديون و أمثالها، ثبوتها قبل الإسلام، أي أنّها ليست بأحكام مترتبة على الإسلام، سواء أكان من استدان كافراً أم مسلماً يجب عليه الأداء.

5. القتل في سبيل الله سبب لغفران الذنوب كلها إلّاالدَّين؛ فعن أبي جعفر (ع) قال: «كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل الله إلّاالدَّين، لاكفارة له إلاأداؤه أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق». (3) وقال (ع): «أول قطرة من دم الشهيد كفارة لذنوبه إلّاالدَّين، فإنّ كفارته قضاؤه». (4) و روي من طرق أهل السنة عن محمد بن جحش قال: «كنا جلوساً عند رسول الله (ص) فرفع رأسه إلى السماء، ثم وضع راحته على جبهته، ثم


1- الشيرازي، ناصر مكارم، القواعد الفقهية 182: 2
2- المصدر نفسه، 13: 2 بتصرف و تلخيص
3- الوسائل 13: الباب: 4 من أبواب الدَّين، ح 1
4- المصدرالسابق، ح 5.

ص: 136

قال: سبحان الله! ماذا نزل من التشديد!؟

فسكتنا و فزعنا.

فلمّا كان من الغد؛ سألته: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل؟

فقال (ص): والذي نفسي بيده، لو أنّ رجلًاقُتل في سبيل الله، ثم احيي ثم قُتل، ثم احيي ثم قُتل، و عليه دَين، ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه». (1) 6. اهتمام النبيّ بالدَّين في الصلاة على الميت.

ألف: عن أبي سعيد الخدري، قال: كنّا مع رسول الله (ص) في جنازة، فلما وضعت، قال (ص): «هل على صاحبكم من دَين؟ قالوا: نعم، درهمان.

فقال: صلوا على صاحبكم.

فقال عليّ (ع): هما عليَّ يا رسول الله، وأنا لهما ضامن، فقام رسول الله (ص)، فصلى عليه.

ثم أقبل على عليّ (ع) فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، وفك رهانك، كما فككت رهان أخيك». (2) ب: عن جابر بن عبدالله أن النبي (ص) كان لايصلي على رجل عليه دَين؛ فاتي بجنازة، فقال (ص): «هل على صاحبكم دَين؟

فقالوا: نعم، ديناران.

فقال: صلوا على صاحبكم.

فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسول الله، قال: فصلّى عليه». (3)


1- النسائي، أحمد، سنن النسائي 314: 7؛ البيهقي، علي، السنن الكبرى 355: 5
2- الوسائل 13: كتاب الضمان، باب 3 من أبواب أحكام الضمان، ح 2
3- المصدر نفسه، ح 3.

ص: 137

هذا الحديث رُوي مضموناً ومفاداً في مصادر أهل السنة أيضاً. (1) 7. تقدم أداء الدين على نفقة العيال.

عن سماعة قال: قلت لأبي عبدالله (ع): الرجل منا يكون عنده الشي ء يتبلّغ به، وعليه دين، أيطعمه عياله حتي يأتي الله بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على نفسه في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟

قال (ع): «يقضي مما عنده دينه، و لايأكل أموال الناس إلاوعنده ما يؤدي إليهم حقوقهم ...». (2) فتحصّل من جميع ما ذكرنا أن الدَّين له موقع ممتاز و مهم فوق الفرائض الأُخرى، وهو من القوانين الدولية المعترف بها عند الناس، مع غضّ النظر عن عقائدهم، و أن الشريعة الإسلامية الغراء أمضته على ما هو عليه من الأهمية، إلّافي القرض الربوي، و هو خارج عن موضوعنا؛ لأن الإسلام قَبِلَ التداين و استحسنه، و ردّ الربا و القرض الربوي.

يمكن أن يُستفاد من هذا البحث، أن الدَّين مقدم على الحج، لأهمية حق الناس كما شاهدنا و ذلك:

أولًا- إنّ الحج لايبلغ إلى موقعية الدَّين؛ لأن الإسلام يوجب الحج و لايوجب الدَّين.

ثانياً- إن القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها إلّاالدَّين، وكفارته قضاؤه.

ثالثاً- كان النبي (ص) يهتم بأمر الدَّين في الصلاة على الجنائز، وماكان يسأل عن فريضة من الفرائض الأُخرى.


1- البخاري، محمد، صحيح البخاري 57: 2، و سنن ابن ماجة 804: 2
2- الوسائل 84: 13، الباب 4 من أبواب الدين والقرض، ح 3.

ص: 138

رابعاً- تقدم نفقة العيال على الحج، فلايجوز لفاقد نفقة العيال أن يحج حجة الإسلام، ولكن يجوز، بل يجب عليه أن يقضي من بُلغته دينه.

كلّ هذه الأُمور تدلّ على رجحان حق الناس في التزاحم مع الحج، ومع الالتفات إلى هذه الأدلة والأمارات في الاهتمام بأداء الدَّين، لاموقع لما استظهره بعض الأعلام قائلًا:

و لكن الظاهر أنّه لامجال لدعوى جريان احتمال الأهمية في خصوص الدَّين، بل يجري هذا الاحتمال في الحج أيضاً بلحاظ ما مرَّ من الأدلة الدالة على تقدمه، فإن تلك الأدلة و إن لم تنهض لإثبات الأهمية، لكن اقتضاءها لثبوت الاحتمال لامجال لنفيه، و عليه فيجري احتمال الأهمية في الحج أيضاً. (1) السرّ في تشبيه الحج و تنزيله منزلة الدّين

قوله تعالى: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًاوَ مَنْ كَفَرَ فإن اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).

إنّ الله سبحانه وتعالى اتخذ أسلوباً خاصاً في بيان فريضة الحج، غير ما اتخذه في الفرائض الأُخرى، و هو أسلوب الدَّين في التعبير عن وجوب الحج، كما أن الناس يعبرون عن ديونهم بعبارة: (له عليَ درهمان).

و قد اتُّخذ نفس هذا الأُسلوب في الحج، وهو يفيد التأكيد و التشدد، وكأنّ الحج دَين على الناس، فلابد من أدائه، لأن الدَّين متسالم على أدائه عند الناس، و لاينكر أحد قضاءه إلى صاحبه، فالحج كالدَّين مطلوب من الناس التسليم للحكم من دون عذر وسبب، و يجب أداؤه بالفور دون


1- الفاضل اللنكراني/، الشيخ محمد، تفصيل الشريعة، كتاب الحج 137: 1.

ص: 139

تراخي.

أمّا الروايات الدالة على أن الحج مثل الدَّين فهي كثيرة:

* عن امرأة خثعمية، أنّها أتت إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله! إنّ فرض الحج قد أدرك أبي، و هو شيخ لايقدر على ركوب الراحلة أيجوز أن أحج عنه؟

قال: «يجوز. قالت: يا رسول الله! ينفعه ذلك؟ قال: أرايت لو كان على أبيك دَين فقضيته أما كان يجزي؟ قالت: نعم. قال: فدَين الله أحقّ». (1) و الرواية أخرجها في دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (ع)، عن رسول الله (ص) بما يقرب من هذا اللفظ.

* عن الصادق (ع)، في رجل توفي وأوصى أن يحج عنه، قال (ع): «إن كان صرورة فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدَّين الواجب، وإن كان قد حج فمن ثلثه ...». (2)* و في رواية أخرى عنه (ع): «إن كان صرورة فهي من صلب ماله، إنّما هي دَين عليه، و إن كان قد حج فهي من الثلث». (3) و ما في معناها من أن مصارف الحج تخرج من صلب المال فكثير. (4) فهذه الأحاديث تقول:

إن من ترك الحج و هو موسر، و استقر الحج عليه ثم مات، تخرج مصارف الحج من صلب ماله، لأنّه بمنزلة الدَّين الواجب، ويعامل معاملة الدَّين إلحاقاً للحج بالدَّين، هذا فيما إذا كان الحج مستقراً عليه.

ولايخفى أن الآية و الأحاديث المروية المشار إليها يرتكز عندها أمر


1- النوري، مستدرك الوسائل 26: 8
2- الوسائل 8: الباب 25 من أبواب وجوب الحج، ح 4.
3- المصدر نفسه، ح 5.
4- المصدر نفسه، ح 1، 3، 6، و الباب 28 من أبواب وجوب الحج، ح 3، 4 و ...

ص: 140

مهم ومتسالم عليه، وهو أن الدَّين أعلى شأناً وإلزاماً، وأرفع درجة في التكاليف، بل مركوزٌ عند الناس و متسالم أنّه واجب الدفع و الأداء، ولايجوز الإغماض عنه مطلقاً، ثم إذا أراد الناس أن يفهموا أنّ لهذا الأمر- مثلًا- موقعاً ممتازاً لارخصة فيه، فلابد من الالتفات إليه و الالتزام به، و السعي في أدائه.

و هنا نذكر هذا المثال:

سأل حفص بن غياث النخعي القاضي أباعبدالله (ع) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً، واللص مسلم، هل يردّه عليه؟ قال: «لايردّه عليه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلا كان في يديه بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولًا، فإذا أصاب صاحبها، و إلّاتصدّق بها». (1) إن المال المودع عند الانسان بواسطة اللص ليس من كل الجهات لقطة حتى يترتب عليها أحكام اللقطة، لأن اللص يعرف صاحب المال وهو نفسه قد سرقه، والمال المسروق يختلف اختلافاً كثيراً عن اللقطة؛ وأمّا هاهنا إذا أودع المال المسروق عند المسلم، فعليه أن يتعامل معه معاملة اللقطة، فهذا تنزيل بمنزلة اللقطة، و يمكن أن لايترتب عليه أحكام اللقطة كلها، بل كل ما هو منصوص عليه فهو حجة علينا، ولايجوز التعدي عنه.

و أمّا نوع البيان في الحج، فهو:

أولًا: يثبت أن للدَّين موقعاً خاصاً لايبلغه شي ء آخر في الأهمية.

وثانياً: العبارات الواردة في الروايات مثل: «الحج بمنزلة الدَّين، أو إنّما


1- الصدوق، محمد، المقنع: 282.

ص: 141

هو مثل دَين عليه» (1)، تُنزِّل الحج منزلة الدَّين، وتجعل الحج في موقع الدَّين في الأهمية و الإلزام، كما أن بعض الأحكام تُعْلَم من نفس الأحاديث، فكما أن الدَّين يخرج من صلب مال الميت، كذلك الحج الواجب على الميت أيضاً يخرج مصارفه من صلب المال لامن الثلث.

وأمّا هل أن هذا الجعل في الحج وتنزيله منزلة الدَّين تام ومن كل الجهات ويجعل الحج عين الدَّين، بل متقدماً عليه؟

أولًا: إن الدَّين له شأن خاص في الإسلام، والقرائن التي تتبعناها في الكتاب والسنّة تدفع هذا الجعل التام، فيبقى الدَّين متقدماً وأعلى موقعاً ورتبة.

ثانياً: لو سلمنا أن التنزيل المذكور يجعل الحج عين الدَّين، والملحق به عين الملحق منه في الأحكام والأهمية، فلانسلم أن يتقدم الحج على الدَّين في الأهمية، إذا وقع التزاحم بينهما، لأنّه خلاف التشبيه و التنزيل.

ثانياً: الأدلة الخاصة لترجيح الدَّين

هناك روايات خاصة تدل على رجحان الدَّين وتقدمه على الحج، منها:

1- خبر أبي همام قال: قلت للرضا (ع): الرجل يكون عليه الدَّين و يحضره الشي ء، أيقضي دينه أو يحج؟ قال (ع): «يقضي سنة و يحج سنة». (2) يُفهم من إجابة الإمام (ع)

أولًا: كان وصول المال سيستمر مدى السنوات المتوالية.


1- الوسائل 8: الباب 29 من أبواب وجوب الحج، ح 1
2- الوسائل 8: الباب 50 من أبواب وجوب الحج، ح 8.

ص: 142

وثانياً: تقديم الدَّين على الحج، ولكن دون التخلّي عن الاهتمام بالحج والإيماء إلى عدم الغفلة عنه، حيث يقول (ع): «يقضي سنة»، أي في السنة الأُولى، وهذا دليل على تقدم الدَّين، ثم يحج سنة، و هذا دليل على ما للحج من مكانة عالية بين الفرائض.

2- موثقة عبد الملك بن عتبة قال: سألت أبالحسن (ع) عن الرجل عليه دين و يستقرض و يحج؟ قال (ع): «إن كان له وجه في مال فلابأس». (1) لايخفى أن في مفهوم الرواية احتمالين، أحدهما: يمكن أن يكون السؤال عن إجزاء الحج الاستقراضي عن حجة الإسلام، بمعنى إذا كان الحج عن استقراض هل يجزيه عن حجة الإسلام أم لا؟

كما تدل عليه موثقة موسى بن بكر الواسطي، حيث قال: سألت أبالحسن (ع) عن الرجل يستقرض و يحج؟ فقال (ع): «إن كان خلف ظهره مال إن حدث به أدّى عنه، فلابأس». (2) وهذا الاحتمال خارج عن محل النزاع و ليس شاهداً لتقدم الدَّين على الحج، ولكن لو كان السؤال عن الدَّين السابق على الاستقراض ومع الاستقراض يصير الدَّين دينان، فيكون الجواب شاهداً على المقام (3)، أي أن الدَّين لو كان له وجه في مال إن حدث به حدث أدّى عنه، فلابأس بالحج، وأمّا لو لم يكن له مال آخر، فالدَّين مانع عن الحج ومقدم عليه.

3- عن سماعة، قلت لأبي عبدالله (ع): الرجل منا يكون عنده الشي ء يتبلّغ به وعليه دين، أيطعمه عياله حتى يأتي الله بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على نفسه في خبث الزمان وشدة المكاسب، أو يقبل الصدقة؟


1- الوسائل 8: الباب 50 من أبواب وجوب الحج، ح 5
2- المصدر نفسه، ح 7
3- السبحاني، الشيخ جعفر، الحج في الشريعة الإسلامية الغراء 140: 1 اقتباساً.

ص: 143

قال (ع): «يقضي مما عنده دينه، ولايأكل أموال الناس إلاوعنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم». (1) إن نفقة العيال من مستثنيات الاستطاعة، والذي ليس عنده نفقة ليقوت عياله، ليس مستطيعاً؛ وهذه الرواية تدل على أن دفع الدَّين، و لو كان من نفقة العيال، أهم و مقدم عليها، فتقدم الدَّين على الحج يكون بطريق أولى.

أدلة تقدم الحج على الدَّين

وهناك روايات تدلّ على عدم مانعية الدَّين عن الحج ابتداءاً، نذكر بعضها:

1- صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أباعبدالله (ع) عن رجل عليه دَينٌ أعليه أن يحج؟ قال (ع): «نعم، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين، ولقد كان أكثر من حج مع النبي مشاة». (2) و يفهم من الرواية:

أولًا: إن المشهور قد أعرضوا عن الإفتاء بمضمونها، لما فيه مخالفة صريحة بالاستطاعة المعروفة والمصرحة في الروايات، بأنّها هي توفّر الزاد والراحلة، و تخلية السرب، وصحة البدن.

ثانياً: إن الرواية تدل على وجوب الحج لمن أطاق المشي، وإن كان عليه دَين، وهو لايقدر على أدائه، فالدَّين غير مانع عن الحج إذا أطاق المشي، فهذا بعيد عمّا نحن فيه، من أنّه إذا كان عليه دَين ووقع في يده


1- الوسائل 13: الباب 4 من أبواب الدين و القرض، ح 3
2- الوسائل 8: الباب 11 من أبواب وجوب الحج، ح 1.

ص: 144

شي ء من المال، يقدر إمّا أن يصرفه في الحج، وإمّا أن يؤدّي دينه، فالرواية قاصرة عن إفادة عدم مانعية الدَّين فيما نحن فيه. (1) ثالثاً: يمكن حمل الرواية على الدَّين المؤجل الذي يثق المديون بالتمكن من أدائه، أو على الديون التي يتمسك بها بعض الناس، تخلّصاً من إتيان الحج كالصحيحة التالية.

2- صحيحة أبي الصباح الكناني، عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوّف الحج كل عام وليس يشغله عنه إلّاالتجارة أو الدَّين؟ فقال (ع): «لاعذر له يسوّف الحج، إن مات وقد ترك الحج، فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». (2) هذه الديون المتصورة غير مانعة عن الحج؛ لأنها معاذير يتمسك بها بعض الناس فراراً عن إتيان الحج، أو تسويفاً و اهتماماً بالأُمور الدنيوية، مع أن المديون له أموال كثيرة، ولايعتبر عند الناس أنّه مديون حقيقة، فالرواية بعيدة عن محل النزاع.

3- موثقة عبد الرحمن البصري قال: قال أبوعبدالله (ع): «الحج واجب على الرجل وإن كان عليه دَين». (3) والرواية مطلقة، ويمكن أن تُحمل على بعض المحامل، كما حملنا الرواية السابقة على أن الدَّين على الرجل لايخرجه عن الاستطاعة عرفاً.

4- خبر معاوية بن وهب، عن غير واحد قال: قلت لأبي عبدالله (ع): يكون عليَّ الدَّين، فتقع في يدي الدراهم، فإن وزّعتها بينهم لم يبق شي ء، فأحج بها أو أوزّعها بين الغرّام؟


1- السبحاني، الشيخ جعفر، الحج في الشريعة الإسلامية الغراء 140: 1
2- الوسائل 8: الباب 6 من أبواب وجوب الحج، ح 4
3- المصدر نفسه، الباب 50 من أبواب وجوب الحج، ح 4.

ص: 145

فقال (ع): «تحج بها، وادع الله أن يقضي عنك دينك». (1) هذه الرواية ظاهرة في الوجوب، مع أنّه لم يقل به أحد، ولايمكن حملها على بعض المحامل، بل الأولى طرحها و إرجاعها إلى أهلها.

5- إن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله! أن أبي أدركته فريضة الحج شيخاً زمناً لايستطيع أن يحجّ، إن حججتُ عنه أينفعه ذلك؟

قال (ص) لها: «أرايت لو كان على أبيك دَين فقضيته، أ كان ينفعه ذلك»؟

قالت: نعم.

قال (ص): «فدين الله أحقّ بالقضاء». (2) و هكذا في رواية أخرى عن ابن عباس قال: قال رجل: إن أختي نذرت أن تحج، وإنّها ماتت. فقال النبيّ (ص): «لو كان عليها دَين أ كنت قاضيه»؟ قال: نعم. قال (ص): «فاقض دَين الله فإنه أحقّ بالقضاء». (3) إن الذي يُفهم من السؤال، والمتبادر إلى الذهن من الجواب، أن التكاليف الإلهية لم يكن يعبأ بها الناس عامة، فالرواية تصرّح بأن التكاليف الإلهية ليست كما تزعمون، بل هي فرائض تليق بالاهتمام بها؛ لأنّها حق الله، وهو أحق بالقضاء، بل إن الفرائض بمنزلة الدَّين الواجب، فدَين الله أحقّ بالقضاء، لعظمة صاحبه.

هذه الأحاديث تدفع شبهة مركوزة في الأذهان، بأن دَين الله لايجوز أن يقضيه الآخرون.

دراسة الصور على حسب المباني


1- الوسائل 8: الباب 50 من أبواب وجوب الحج، ح 10
2- المجلسي، محمدباقر، بحار الأنوار 315 316: 85
3- المصدر نفسه، 305 308: 85.

ص: 146

لو كان المناط في الاستطاعة هو الاستطاعة الشرعية- أعني الزاد والراحلة، كما جاء في بعض الروايات مثل: رواية حفص الكناسي، والسكوني، والفضل بن شاذان، وهشام بن الحكم- لكان المديون مستطيعاً، لما عنده من الزاد والراحلة، لأن المديون الذي له مال يسع أحد الأمرين من الحج والدَّين، داخل في الخطابين:

الخطاب الأول، وهو قوله تعالى: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

والخطاب الثاني، و هو قوله تعالى: (أوْفُوا بِالْعُقُودِ)

فإذا اجتمع تكليفان في زمان واحد لشخص، مع أنّه لايمكن أن يقوم بامتثال كلاالأمرين، ويتطلب كل واحد منهما امتثالًامستقلًا، وقع التزاحم في مقام العمل و الامتثال.

وهذا الرأي مال إليه صاحب المستند (رحمة الله)، حيث قال:

إن مع التعجيل أو عدم سعة الأجل، مخيّر بين الحج و وفاء الدَّين، سواء عُلمت المطالبة أم لا.

نعم، لو علم رضاء الدائن بالتأخير، فلايكون مأموراً بالوفاء، فيبقى خطاب الحج خالياً عن المعارض، فيكون واجباً.

وأمّا اذا كان مؤجلًابأجل يسع الحج و العود، سواء ظنَّ له طريق للوفاء بعد العود أم لا ... وعن المحقق الأردبيلي (رحمة الله): الوجوب ... وهو الحق؛ لصدق الاستطاعة عرفاً. (1) و لو ركزنا على هذا المبنى في الاستطاعة؛ لكان المكلف المديون


1- النراقي، أحمد، مستند الشيعة 44: 11.

ص: 147

مستطيعاً في عامة الصور، إمّا لصدق الاستطاعة من دون تزاحم، وهو إذا كان وجوب الحج فعلياً دون أداء الدَّين، كما في الصور المستثنية، أي إذا كان الدَّين مؤجلًامع سعة الوقت للحج و العود، أو كان الدائن راضياً بالتأخير سواء ظنَّ له طريق للوفاء بعد الحج أم لا، فالحج فقط واجب معيّن دون أداء الدَّين؛ و إمّا لصدق الاستطاعة مع التزاحم، وهو إذا كان الحكمان من وجوب الحج وأداء الدَّين فعليين، كما إذا كان الدَّين حالًامع المطالبة أم بدونها، أو مؤجلًامع عدم سعة الأجل للحج و العود، فيكون مخيّراً بين العمل بأحد الحكمين.

لايخفى أن ما قدّمناه من ترجيح جانب الدَّين إذا تزاحم مع الحج من أدلة وأمارات يثبت أن للدَّين موقعاً خاصاً بين الفرائض فهو أعلى مرتبة من الحج، ولاتناله يد الحج.

فعلى هذا، سيكون الدَّين مقدماً، وإذا دفع المال للدَّين فلايكون للحج موضع، لفقدان الاستطاعة المالية.

وأمّا لو ركزنا على الاستطاعة العرفية، وهو المختار، فلاوجه للتخيير؛ لأن المديون بأجل يسع الحج و العود إذا لم يظن له طريق للوفاء بعد الحج، لايحسب مستطيعاً عند العرف، فلو حج في هذه الصورة و وقع في العسر و الحرج، لعدم التمكن من أداء الدَّين، لايكون معذوراً عند العرف، لأنّه كان يعلم لو دفع هذا المال لمصارف الحج، لصارفقيراً ومحتاجاً عند المطالبة بعد الحج، فالمديون غير مستطيع عرفاً، ولايتوجه إليه خطاب الحج، ولايتصور التزاحم بين الحكمين.

ص: 148

وأمّا من قال: إنه قبل الأجل غير مستحق عليه، وعند حلوله إن وجد مايفي به أدّاه، وإلاسقط عنه مطلقاً، أو إلى ميسرة (1)؛ فهذا الكلام غيرتام ولايَعبأ به العقلاء؛ لأنه تعجيز من عند نفسه باختياره و قدرته، ولايكون معذوراً عند العرف، والعرف في هذا الحال لايعتبره مستطيعاً، و لو كان كذلك لاختل النظام الاقتصادي والمعاملات السوقية؛ لأنه إذا استقرض شخص مبلغاً مؤجلًايفي لمصارف الحج سيكون مستطيعاً، ويلزم عليه إتيان الحج.

وتعليله أنّه غير مستحق عليه فعلًا، وعند حلوله إن وجد ما يفي به أداه، وإلاسقط عنه مطلقاً أو إلى ميسرة.

أين هذا الاستدلال مما روي من علامات المؤمن، من تقدير المعيشة.

وأمّا الآية الشريفة: (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَة) فأجنبية عن المقام؛ لأن الحج واجب مشروط بالاستطاعة، والدَّين واجب مطلق، ولايقع التزاحم بينهما، فتبين أنّه كما لاوجه للتعيين، فلاوجه للتخيير.

لايقال: إن الحج واجب مشروط بالاستطاعة، فإذا حصلت الاستطاعة انقلب الواجب المشروط إلى الواجب المطلق، ويكون الحج والدَّين كلاهما واجبين مطلقين ويقع التزاحم بينهما على السواء.

لأنا نقول: إذا كان الدَّين حالًاومطالباً به، ولايرضى الدائن بالتأخير وعند المديون أموال تكفي إمّا لأداء الدَّين فقط وإمّا لمصارف الحج فقط، فلو دفع المديون هذه الأموال لدينه لحلوله وانتهاء أجله، لايكون مستطيعاً.

بعبارة أخرى: إن الواجب المشروط وأداء الدَّين ليسا في عرض واحد


1- الفاضل الهندي، محمد، كشف اللثام 98: 5.

ص: 149

مطلقين، بل الدَّين مطلق لاقيد له ولاشرط، وحل زمانه، لكن الحج له شرط و قيد و هوالاستطاعة، ويتصور الاستطاعة العرفية إذا كان الشخص واجداً لمصارف السفر زائداً على ما يحتاج إليه في الحضر.

وأمّا من كان في مصارف سفره محتاجاً، واستقرض مالًاللمعيشة، ثم حصل عنده مال يكفي إمّا لدينه السابق الحال المطالب به أو المؤجل، ولايظن له طريق للوفاء، وإمّا للحج فقط، فلايعتبر هذا الشخص مستطيعاً عند العرف أبداً.

فعليه لو قام المديون بأداء الدَّين لانتفى موضوع الحج، ولكان أداء الدَّين وارداً على الحج.

وأمّا ما قيل في نقد كلام بعض الأعلام- من أنّه: لو كان الملاك اعتبار السعة في المال (الاستطاعة العرفية) فلايكون المكلف مستطيعاً في عامة الصور، والتفصيل بين الصور بوجود الاستطاعة في بعضها وعدمها في البعض الآخر غير تام، (1)- فليس بصحيح؛ لأن القائل نفسه اختار هذا المبنى، حيث قال: وقد عرفت أن الأقوى- وهو قول القدماء- عدم وجوب الحج مطلقاً؛ لعدم صدق الاستطاعة إلّاإذا كان الأجل وسيعاً، ولايضر في نظر العرف بصدقها، لكونه متمكناً من أدائه في وقته، كالزارع الذي ينتهي أجل دَينه بعد سنتين أو أكثر، إذ من البعيد أن يتوالى الجفاف على الهواء ولاينبت شي ء عدة سنين. (2) وقد صرّح الناقد بصحة التفصيل بين الصور، لصدق الاستطاعة في بعضها و عدمها في بعض آخر، وهذا تهافت في الكلام.


1- السبحاني، الشيخ جعفر، الحج في الشريعة الإسلامية الغراء 136: 1
2- المصدر نفسه: 138.

ص: 150

فرعٌ:

يترتب على اختلاف المبنيين نتيجة عملية، وهي أنّها لو حج المديون و لم يقم بأداء الدَّين، هل يكون حجه مجزياً عن حجة الإسلام أم لا؟

على حسب المبنى الأول يكون حجه مجزياً عن حجة الإسلام؛ لأنّه كان يتوجه إليه خطابان: الخطاب الاوّل: إتيان الحج.

و ال خطاب الثاني: الوفاء بالدين.

لكن الترجيح كان مع الخطاب الثاني لأهمية الدَّين وموقعه الخاص. فلو خالف المديون الواجب الأهم (أداء الدَّين) بتركه، وأتى بالواجب المهم (الحج)، فحجه صحيح و مجزٍ عن حجة الإسلام، لوجود الملاك على نحو الترتب.

وأمّا على حسب المبنى الثاني، فحجه لايجزي عن حجة الإسلام، لفقدان الملاك و هو الاستطاعة العرفية؛ لأنّه كان مكلفاً بأداء الدَّين فقط ولايتوجه إليه إلاخطاب واحد، وهو الوفاء بالدَّين، ولايتوجه إليه خطاب الحج، لعدم تحقق الاستطاعة العرفية.

2- تزاحم الحج البذلي و الدَّين

ص: 151

لاإشكال و لاخلاف في أن بذل نفقة الحج ذهاباً و إياباً ونفقة العيال سبب لوجوب الحج، ومصداق لتحقق الاستطاعة، كما تدل عليه النصوص الواردة فيه؛ لكنه لو كان عليه دَين وعرض عليه الحج، فهل الدَّين مانع عن الوجوب أم لا؟

تحريرمحل النزاع في المسألة

للمسألة فرضان:

أحدهما: لوكان عليه دَين ولايتمكن من أدائه لقلّة المال، وخبث الزمان، وعرض عليه الحج، سواء ذهب إلى الحج أم لم يذهب، لايقدر على الوفاء به، لوجب عليه الحج في هذا الفرض.

ثانيهما: لو كان عليه دَين، ويتمكن من أداء دينه دفعة أو تدريجاً، إمّا بالزراعة في الصيف مثلًاأو بالتجارة في عامة الفصول، فعرض عليه الحج، بحيث لو قام بإتيان الحج البذلي إمّا لايتمكن من أداء دينه مطلقاً، لفقد الموقعية التجارية في السوق أو لبواعث أخرى، سواء كان الدَّين حالًاأو مؤجلًا، مطالباً به أو غير مطالب، أو في الزمن المقرر له؛ فهل الدَّين في هذا الفرض مانع عن الوجوب أم لا؟

وبعبارة أخرى إذا تزاحم الحج البذلي فالدَّين هاهنا، فأيهما يقدم على الآخر؟

كلمات الفقهاء

ص: 152

قال الشهيد الأول (رحمة الله) في الدروس: لايمنع الدَّين الوجوب بالبذل، وكذا لو وهبه مالًايشترط الحج به، أمّا لو وهبه مالًامطلقاً، فإنه يجب قضاء الدَّين به. (1) و قال صاحب المدارك (رحمة الله): لايشترط في الوجوب بالبذل عدم الدَّين أو ملك مايوفيه به، بل يجب عليه الحج وإن بقي الدَّين. (2) و قال الفاضل الهندي (رحمة الله): واعلم أن الدَّين لاينفي الوجوب بالبذل، كما ينفيه بإيهاب ما لايفي به مع نفقة الحج والإياب والعيال. (3) و قال صاحب الجواهر (رحمة الله): ولايمنع الدَّين الوجوب بالبذل، وإن منعه في غيره. (4) و قال السيد اليزدي (رحمة الله): لايمنع الدَّين من الوجوب في الاستطاعة البذلية؛ نعم، لو كان حالًا وكان الديّان مطالباً مع فرض تمكنه من أدائه لو لم يحج و لوتدريجاً، ففي كونه مانعاً أو لا؛ وجهان. (5) و قال الشيخ التبريزي (رحمة الله): فعليه اختيار أداء الدَّين؛ لكونه حق الناس، ولو لم تكن أهميته محرزة، فلاأقل من احتمالها. (6) و قال المحقق الخوئي (رحمة الله): لم يجب عليه الحج. (7) و قال الشيخ ضياءالدين العراقي (رحمة الله): الأقوى تقديم أداء دينه، لأن القدرة فيه شرط عقلي بخلافه في طرف حجه.

و قال السيد البروجردي (رحمة الله): أقواهما الأول، إن كان لايتمكن من أدائه مع الحج. (8) و قال العلامة النائيني (رحمة الله) و كاشف الغطاء (رحمة الله): أقواهما


1- الشهيد الأول، الدروس 310: 1
2- العاملي، السيد محمد، مدارك الأحكام 47: 7
3- الفاضل الهندي، محمد، كشف اللثام ط. ج 103: 5
4- النجفي، الشيخ محمدحسن، جواهر الكلام 266: 17
5- السيد اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، كتاب الحج، الفصل الثاني، المسألة: 35؛ تحريرالوسيلة كتاب الحج، القول في شرايط وجوب حجة الإسلام، المسألة: 30
6- التبريزي، الشيخ جواد، التهذيب 99: 1
7- الخوئي، أبوالقاسم، معتمد العروة الوثقى 78: 3
8- السيد اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى ط. ج 400: 4 و قد جاءت الأقوال في التعليقة.

ص: 153

وأوجههما عدم المنع. (1) الأقوال في المسألة

فتحصل من كلمات الفقهاء وفتاويهم أن في المسألة قولين:

أحدهما: تقديم الحج البذلي على الدَّين.

ثانيهما: تقديم الدَّين على الحج البذلي.

أدلة تقديم الحج البذلي على الديَّن

يمكن الاستدلال للقول الأول بما يلي:

ألف: إن النصوص الواردة في الحج البذلي مطلقة تشمل عامة الفروض، من دون فرق بين ما إذا كان عليه دين، وبين ما إذا لم يكن عليه دين؛ وكذا بين ما إذا كان له الدين" سواء عليه ذهب إلى الحج أم لم يذهب" لايتمكن من أدائه، وبين ما إذا كان له الدين، ويتمكن من أدائه لو لم يحج، فالمعيار الوحيد في وجوب الحج هو العروض، فالدين لايمنع عن وجوب الحج.

إن النصوص الواردة في الحج البذلي تنقسم إلى طائفتين:

الطائفة الأُولى: ما يدل على أن الحج البذلي مصداق للاستطاعة الواردة في الآية الشريفة، بمعنى أنّه كما أن الآية الشريفة: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) تشمل من له الزاد والراحلة، مع تخلية السرب، وصحة البدن، كذلك تشمل من بُذل له زاد و راحلة.


1- المصدر نفسه.

ص: 154

منها: روى الصدوق بسند صحيح عن العلاء بن رزين قال: سألت أباعبدالله (ع) عن قول الله عزّ و جلّ: (وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا). قال (ع): «يكون له ما يحج به»؟ قلت: فمن عُرض عليه فاستحيى؟ قال (ع): «هو ممن يستطيع». (1) فهذا الحديث يصرّح بأن عروض الحج على الإنسان مصداق لما يحج به، طبقاً للآية الشريفة، وكذلك وردت روايات أخرى. (2) الطائفة الثانية: ما يدل على أن الحج البذلي حج تام يجزي عن حجة الإسلام.

منها: روى الشيخ بإسناده عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبدالله (ع): رجل لم يكن له مال، فحجّ به رجل من إخوانه أيجزيه ذلك عنه عن حجة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال (ع): «بل، هي حجة تامة». (3) و الأحاديث تدلّ على أن عروض الحج على الإنسان يوجب الاستطاعة التامة، ولافرق بين حالات الإنسان أن يكون له دَين أو لايكون، بل البذل محقق للاستطاعة.

ب: إن كثيراً من الفتاوى الصادرة من الفقهاء العظام مطلقة، ولم يتعرضوا للفروض المختلفة، بل قالوا: لايمنع الدَّين عن الوجوب في الاستطاعة البذلية، فيشمل عامة الفروض.

أدلة تقديم الدَّين على الحج البذلي


1- الوسائل: 8، الباب 8، من أبواب وجوب الحج، ح 2؛ ولكن في توحيد الصدوق: 349، برقم 10 عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم و في مفاده الحديث 10
2- الوسائل 8: الباب 10، ح 1 و 4 و 5 و 7 و 8 و 9
3- المصدر نفسه، ح 2 و 6.

ص: 155

يمكن الاستدلال للقول الثاني بالأُمور التالية:

1- الدَّين واجب الوفاء، ووجوبه مطلق، أي غير مشروط بشي ء، وأمّا الحج فهو واجب مشروط، فالواجب المطلق مقدم على المشروط.

لايقال: إن الحج البذلي إذا تحقق وقع واجباً مطلقاً ولم يشترط فيه شي ء، ولايعتبر فيه مايعتبر في تحقق الاستطاعة لنفس الإنسان.

لأنا نقول: لو أوجب الذهاب إلى الحج بالبذل خللًابأساس المعيشة، وأوقع الحاج في عسر وحرج، فقاعدة العسر والحرج حاكمة على الاستطاعة بالبذل، ولايجب عليه الحج.

2- العذر الشرعي كالعذر العقلي، فإذا كان أداء الدَّين لازم الوفاء، فهو عذر شرعي مانع عن تحقق الاستطاعة الشرعية؛ لأن الحج واجب مشروط بعدم العذر الشرعي.

لايخفى أن كون الحج مشروطاً بعدم العذر الشرعي غير تام كما مضى، بل الحج واجب مشروط بالاستطاعة المفسَّرة في الروايات، بتوفر الزاد والراحلة، وتخلية السرب، وصحة البدن، ولايعتبر فيه ما عدا الاستطاعات الأربع قيد آخر.

3- إن التزاحم متحقق بين الحج والدَّين، وكلاهما واجبان، كما أن التزاحم كان متحققاً إذا كان له مال، إمّا يفي لمصارف الحج، وإمّا لأداء الدَّين فقط، ولايكفي كليهما كما مضى بحثه، كذا يتحقق التزاحم هنا، لكنّ منشأ التزاحم عدم التمكن من صرف الوقت في كليهما، بل إمّا لإتيان الحج أو للتكسب لأداء الدَّين مع ترك الحج، ولايمكن الجمع بين الأمرين. (1)


1- الفاضل اللنكراني، الشيخ محمد، تفصيل الشريعة، كتاب الحج، 286: 1.

ص: 156

إن الحج البذلي واجب منجز لانقصان فيه، وكذا أداء الدَّين واجب منجز أيضاً، وبهذا قد توجّه التكليفان للمديون، وهو لايقدر على صرف الوقت في كليهما، فلابدّ أن يقدم الأهم على المهم، كما هو مقتضى العقل عند التزاحم بين الواجبين، وقد مضى البحث عن الدَّين وأهميته وأن له موقعاً ممتازاً لاتناله أي فريضة من الفرائض، وبما أنّه واجب معترف به عند الناس طرّاً، وقد أمضاه الشارع على ما هو عليه من الأهمية، فتحصّل أن الوفاء بالدَّين واجب أهم والحج واجب مهم، والواجب الأهم مقدم على المهم، فالوفاء بالدَّين مقدم على الحج.

وأمّا لو ترك الأهم وذهب إلى الحج، فهو لاينجو عن ملامة الناس حقاً لقصوره في أداء الدَّين، وعدم اهتمامه بحقوق الناس، مع أنّه واجب قد اهتم به القرآن في آيات متعددة، وأما حجه فهل وقع صحيحاً، ويجزي عن حجةالإسلام أم لا؟

إن الحج البذلي مجز عن حجة الإسلام، و إن كان الحاج مديناً، وترك أداء الدَّين مع ما كان له من التمكن من صرف الوقت في الوفاء به، لكنه ترك الأهم و أتى بالمهم، وهو أيضاً وقع صحيحاً بإحدى الطرق المقررة في الأُصول على نحو الترتب، وبما أن كل واحد من الواجبين كان له أمر في طول الآخر لو ترك الأهم فالأمر بالمهم يليق بالامتثال.

كأنه قيل: أيّها المكلف لو تركت الوفاء بالدَّين (الأهم)، أو لو عصيت و لم تف بالدَّين، فأت بالحج.

4- يستفاد من الأدلة أن الحج البذلي مصداق للاستطاعة، فهو استطاعة

ص: 157

إعطائية، لاحصولية، وأمّا لوحصل للمبذول له بإتيان الحج اختلال في المعيشة، و نقصان في الأُمور العادية الضرورية، لايجب الحج، لانصراف الإطلاقات عن هذا المورد، لأن الإطلاقات في الحج البذلي تدلّ على أنه لو أن أحداً عرض عليه الحج، وليس له مال ليحج به، لوجب الإتيان بالحج، وهذا العروض محقِّق للاستطاعة العرفية، وعلى حسب العادة أن الذي ليس له مال، يحسب له الحج البذلي إعطاء حج من دون التفات إلى حاله.

لكنّها، لاتدل على أن من أعطي له زاد، وراحلة، ونفقة عياله، يجب عليه الحج، وأن من يختل أمور معاشه بالذهاب إلى الحج، لاتشمله الإطلاقات أبداً.

فتحصّل أيضاً أن الإطلاقات منصرفة عن المدين الذي لو حج لكان عاجزاً عن الوفاءبالدَّين، عاجلًاأو آجلًا.

5- العسر و الحرج، فإن الإتيان بالحج البذلي لو أوجب الإخلال بمعاشه لأجل غيبته، و لعدم القيام بأداء دينه، فالحج يستلزم تحقق الحرج والعسر، ومقتضى القاعدة في المقام نفيه، فلامجال للحكم بوجوب الحج البذلي، كما أشار إليه بعض الفقهاء بقوله: يعتبر أن لايكون الحج البذلي موجباً لاختلال أمور معاشه فيما يأتي لأجل غيبته. (1) تكملةٌ: قديكون عروض الحج كاملًامع أن عليه دَيناً كما مضى، وقد يكون عروض الحج ملفقاًومركّباً، أي أن الباذل يقوم بتتميم نفقة الحج على المديون، والدَّين باقٍ على حاله، فلو فُرض أن للمديون مقداراً من المال،


1- الإمام الخميني، روح الله، تحريرالوسيلة، كتاب الحج، المسألة 30.

ص: 158

وقيل له: عليَّ باقي مصارف الحج، من دون تعرّض لدينه، هل هذا مصداق من عروض الحج أم لا؟

الأقوى أن هذا ليس من عروض الحج على المديون، بل مساعدة لتكميل استطاعته الظاهرية، ويأتي فيه كل ما بحثناه من تزاحم الحج والدَّين في عام الاستطاعة.

3- تزاحم الحج والخمس والزكاة والدَّين

مع قصور التركة

تحرير المسألة

لو كان على الميت حجة الإسلام، ودين، وخمس، وزكاة، وقصرت التركة عن الوفاء بالجميع، فأيّها يقدم على الآخر؟

يقع البحث في مرحلتين:

المرحلة الأُولى: إذا كانت التركة المتعلق بها الخمس و الزكاة موجودة بعينها، يجب تقديم الحقوق الواجبة، من زكاة، أو خمس على الحج، ولايجوز صرف أي مقدار من التركة في الحج، إن قلنا: إنّ تعلّق الزكاة بالعين على نحو الإشاعة، والشركة، أو الكلي في المعيّن كما إذا قال مثلًا: بعتك صاعاً من هذه الصبرة، فالمبيع قد تقيد بالخصوصيات النوعية أو الجنسية دون الفردية (1)؛ أو


1- السبحاني، الشيخ جعفر، كتاب الخمس: 363.

ص: 159

على نحو تعلّق حق المرتهن بالعين المرهونة، وهو فيما إذا تعلق الحق بماليتها القائمة بالعين، لأن التركة بتمامها ليست ملكاً للميت، بل هو شريك مع أصحاب الحقوق، وإنّما الحج يخرج من المال المتعلق بالميت خاصة، لامن الأموال المشتركة بين الميت وأصحاب الحقوق.

أمّا العين المرهونة و إن كانت متعلقة بالميت بأجمعها، لكنّه لايجوز له التصرف فيها إلابعد فكّها من الرهن، وأمّا مصارف الحج فتخرج من المال المطلق للميت الذي لايتعلق به حق الغير. (1) و كذلك الحال في الديون، فلو كان المال المأخوذ ديناً موجوداً بعينه، فإنه يُردّ عين المال على صاحبه (الدائن)، قبل الصرف أو البيع، وأمّا إن قلنا: إن الزكاة و الخمس يتعلقان بالذمة لابالعين، فحكمهما سيأتي في المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: إذا لم يكن المال (التركة) المتعلق به الخمس و الزكاة موجوداً، أو كان موجوداً، ولكن لم نقل بتعلقه بالعين، وكذا لو لم يكن نفس المال المأخوذ بالدَّين موجوداً، بل تعلق الخمس أو الزكاة و الدَّين بذمة الميت، وكان عليه حج أيضاً مع قصور التركة عن الوفاء بالجميع فأيّها يقدم على الآخر؟

كلمات الفقهاء في قصور التركة

قال الشيخ الطوسي (رحمة الله): من مات وكان قد وجب عليه الحج، وعليه دَين، نظر فإن كانت التركة تكفي للجميع، أخرج عنه الحج، ويُقضى


1- المصدر السابق، كتاب الحج 448: 1.

ص: 160

الدَّين من صلب المال، و إن لم يسع المال، قسم بينهما بالسوية، والحج يجب إخراجه من الميقات دون بلد الميت.

وللشافعي فيه ثلاثة أقوال:

أحدهما: مثل ما قلناه.

والثاني: أنّه يقدم دين الآدميين.

والثالث: يقدم دَين الله تعالى. (1) وقال أيضاً في النهاية: فإن كان عليه شي ء من الزكاة، وكان قد وجب عليه حجة الإسلام، ففرط فيها، وخلّف دون ما تُقضى عنه به الحجة والزكاة، حُجّ عنه من أقرب المواضع، ويجعل ما بقي في أرباب الزكاة. (2) و قال القاضي ابن البراج (رحمة الله): إذا مات وكانت حجة الإسلام قد وجبت عليه، وعليه دَين، ما الحكم في ذلك؟

الجواب: إن كان ما خلّفه فيه الكفاية للجميع، حُجّ عنه، وقُضي عنه الدَّين أيضاً، فإن فضل بعد ذلك شي ء كان ميراثاً، وإن لم يفضل من ذلك شي ء فلاميراث؛ وإن كان ماخلّفه لايتسع لذلك قُسّم بينهما، لأنّهما دينان قد وجبا عليه، و ليس أحدهما أولى من الآخر، وإن قلنا بتقديم الحج؛ لأن حق الله سبحانه أولى من حق غيره، كان جائزاً. (3) و قال المحقق الحلي (رحمة الله): إذا استقر الحج في ذمته ثم مات، قُضي عنه من أصل تركته، فإن كان عليه دَين و ضاقت التركة، قُسّمت على الدَّين وعلى أجرة المثل بالحصص. (4) و قال العلامة الحلي (رحمة الله) لو ضاقت التركة عن الدَّين وأجرة المثل


1- الشيخ الطوسي، الخلاف 255: 2
2- الشيخ الطوسي، النهاية: 620
3- القاضي ابن البراج، جواهر الفقه: 40
4- المحقق الحلي، شرائع الإسلام 167: 1.

ص: 161

من أقرب الأماكن، قُسّطت عليهما بالنسبة، فإن قصُر نصيب الحج صُرف في الدَّين. (1) و قال صاحب المدارك (رحمة الله): وأمّا أنه مع ضيق التركة، يجب قسمتها على الدَّين، وأجرة المثل بالحصص فواضح، لاشتراك الجميع في الثبوت، و انتفاء الأولوية. (2)

و قال صاحب مستند الشيعة (رحمة الله): لو كان له دَين، وكان المال بقدر لايفي إلّابأحد الأمرين من الحج و الدَّين، فالظاهر التخيير، لأنهما واجبان تعارضا، ولامرجح لأحدهما، و احتمال التوزيع إنّما يكون إذا وفت حصة الحج به، وأمّا مع عدمه فلافائدة في التوزيع. (3)

و قال السيد الخوانساري (رحمة الله): وأمّا صورة عدم الوفاء بالحج والدَّين، فيشكل الأمر من جهة أنه وإن كان مقتضى القاعدة- مع عدم إحراز الأهمية- التوزيع والتقسيم، كما لو كان عليه ديون، ولم يف التركه بأداء الجميع، لكن فيما نحن فيه لايبعد أهمية الحج، ولعلّ الاحتمال يكفي لترجيح الحج. (4) و قال المحقق الخوئي (رحمة الله): من مات وعليه حجة الإسلام، وكان عليه دَين، وخمس، وزكاة، وقصرت التركة، فإن كان المتعلق- الخمس أو الزكاة- موجوداً بعينه، لزم تقديمهما، و إن كان في الذمة يتقدم الحج عليهما. (5) و قال السيد اليزدي (رحمة الله): وقد يقال بتقديم الحج على غيره و إن كان دَين الناس ... وربّما يحتمل تقديم دَين الناس لأهميته، والأقوى ما


1- العلامة الحلي، قواعد الأحكام 407: 1
2- السيد محمد العاملي، مدارك الأحكام 83: 7
3- النراقي، أحمد، مستند الشيعة 82: 11
4- السيد الخوانساري، جامع المدارك، 284: 2
5- الخوئي، أبو القاسم، كتاب الحج 126: 3.

ص: 162

ذكر من التحصيص. (1) الأقوال في المسألة

يمكن تلخيص الأقوال المهمة مما ذكرنا من كلمات الفقهاء فيما يلي:

1. تقديم الحج على الديون مطلقاً.

2. توزيع التركة بالحصص على الحج و الديون، وهذا هو المشهور.

3. التخيير بين الحج و الدَّين.

القول الأول: تقديم الحج على الديون مطلقاً

الديون على قسمين: فقد يكون الدَّين دَيناً إلهياً، كالخمس والزكاة، وقديكون ديناً شخصياً:

أولًا: أدلة تقديم الحج على الخمس والزكاة

يمكن الاستدلال لتقديم الحج على الخمس والزكاة بروايتين صحيحتين: أحدهما: ما رواه محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، قال: قلت له: رجل يموت وعليه خمس مأة درهم من الزكاة، وعليه حجة الإسلام، وترك ثلاثمأة درهم، فأوصى بحجة الإسلام وأن يُقضى عنه دَين الزكاة. قال (ع): «يُحجّ عنه من أقرب ما يكون، ويخرج البقية في الزكاة». (2) لاإشكال في السند بما أن الرواة كلهم ثقات عدول، إلاأن الرواية


1- السيد اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى: 2، كتاب الحج، الفصل الثاني، المسألة: 83
2- الوسائل، 6:، أبواب المستحقين للزكاة، الباب 21، ح 2.

ص: 163

مضمرة في (قلت له)، لكنّه أيضاً لايضر بالاستدلال بما أن معاوية بن عمار لايروي إلّاعن الإمام الصادق أو الكاظم (ع). (1) ثانيهما: ما رواه الشيخ (محمد بن الحسن الطوسي) بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال، عن محمد بن عبدالله، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (ع)، في رجل مات وترك ثلاثمأة درهم، وعليه من الزكاة سبعمأة درهم، وأوصى أن يُحجّ عنه. قال (ع): «يُحجّ عنه من أقرب المواضع، ويُجعل ما بقي في الزكاة». (2) وقد وقعت بعض المناقشات في الاستدلال بالرواية عند بعض الأعلام (3) بما يلي:

1. قصور السند.

2. إختصاصها بالزكاة.

3. مفاد الروايتين يقتضي التوزيع.

4. إعراض الأصحاب.

دراسة المناقشات الأربع:

1- قصور السند

أمّا ما قيل في قصور السند من أنه ضعيف من جهة محمد بن عبدالله بن زرارة، لأنه مجهول الحال فغير تام، لأن النجاشي (رحمة الله) نقل في ترجمة الحسن بن علي بن فضال بن علي بن الريان في قصة عدول الحسن بن فضال إلى الحق وقال:

(وكان- والله- محمد بن عبدالله أصدق عندي لهجة من أحمد بن


1- البروجردي، السيد علي، طرائف المقال 607: 1
2- الوسائل،: 13، كتاب الوصايا، الباب 42، ح 1؛ الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام 170: 9
3- النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام 315: 17 مضموناً.

ص: 164

الحسن، فإنه رجل فاضل ديِّن)

ومنه تظهر وثاقته، فالرواية صحيحة، هذا أولًا.

وثانياً: إن هاتين الروايتين كليهما صدرتا عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن الإمام الصادق (ع) ولايخفى أن الاختلاف في النقل عن الراوي لايوجب تعدد الرواية، وإن كان بعض الإسناد مختلفاً.

إن محمد بن أبي عمير يروي عن معاوية بن عمار، وهذا يروي عن الإمام (ع). هذا في كلتا الروايتين على السواء.

وقد سأل معاوية بن عمار في مجلس واحد من الإمام، وصدر منه الجواب، فهذه رواية واحدة قد نقلها عن محمد بن أبي عمير راويان إثنان، أحدهما: أبو هاشم، وثانيهما: محمد بن عبدالله بن زرارة؛ فالاختلاف في النقل لايوجب ولايقتضي تعدد الرواية.

فتحصّل مماذكرنا أن هاتين الروايتين رواية واحدة، وإذا كان سند أحدهما صحيحاً كما نقله الكليني (رحمة الله)، فإنه يدفع الإشكال عن السند الثاني على تقدير ثبوته، فالرواية صحيحة سنداً، ولاشبهة في السند؛ و أما كلام صاحب الجواهر ففي غيرموقعه بما قدمنا إيضاحاً، في إرجاع الروايتين إلى رواية واحدة، وتوثيق رواتها.

2- اختصاصها بالزكاة

وأمّا ما قيل: إن الرواية قد وردت في تقديم الحج على الزكاة عند التزاحم وقصور التركة، فكيف يمكن أن يُستنبط منها أن الحج مقدم على الخمس أيضاً كتقديمه على الزكاة؟ إن تعميم الحديث يحتاج إلى دليل،

ص: 165

ولادليل.

فيدفع: بأن الخمس عوض عن الزكاة، على ما يستفاد من الروايات كنايةً، كقول الإمام الصادق (ع): «إن الله لاإله إلاهو لما حرّم علينا الصدقة، أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة». (1)

أو صريحاً، كقوله (ع): «... وإنّما جعل الله هذا الخمس لهم خاصة دون مساكين الناس وأبناء سبيلهم، عوضاً لهم من صدقات الناس، تنزيهاً من الله لهم لقرابتهم برسول الله (ص)، وكرامة من الله لهم عن أوساخ الناس». (2) فلو كان الحج أهم من الزكاة، ورُجّح تقديمه عند التزاحم على الزكاة، لكان الحج بطريق أولى أهم من الخمس، إمّا لكون الخمس عوضاً عن الزكاة وإمّا لكون الزكاة أهم من الخمس على ما يستظهر من عطف الزكاة في الآيات الشريفة على الصلاة كقوله تعالى: وَ أقيمُوا الصّلاةَ وَ آتُوا الزكاةَ (3)

و غيرها.

وكقوله في وصف المشركين: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكينَ الّذينَ لايُؤْتُونَ الزكاةَ وَ هُمْ بِاْلآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ). (4)

ولايخفى أن الزكاة قد وردت في آيات كثيرة تقرب من ثلاثين مورداً، وعطفت على الصلاة في أكثرها، لكن الخمس لم يرد في القرآن إلامرة واحدة وهذا دليل على أهمية الزكاة.

فلو كان الحج متقدماً على الزكاة عند التزاحم، لدلالة صحيحة معاوية بن عمار، فهو بطريق أولى أهم بالنسبة إلى الخمس، فالإشكال في قصور دلالة الرواية بأنّها مختصة بالزكاة دون الخمس، ليس في محله.


1- الوسائل: 6، كتاب الخمس، الباب 1، ح 2
2- الوسائل: 6، أبواب قسمة الخمس، الباب 1، ح 8، و في معناه ح 9.
3- البقره: 110.
4- فصلت: 7.

ص: 166

3- مفاد الروايتين يقتضي التوزيع

وأمّا ما قيل (1): إن مفاد الروايتين يقتضي التوزيع؛ لأن لزوم إبقاء شي ء من المال لأجل الزكاة ظاهر في التوزيع، أي قسم منه يُصرف في الحج، وقسم يجعل في الزكاة، فهذا غير تام أيضاً، لأن إطلاق الرواية لايقتضي التوزيع، بل يقتضي خلافه، لأنها تصرّح بأن يُحجّ عنه من أقرب المواضع، ويُجعل ما بقي في الزكاة، أي بعد دفع مصارف الحج من التركة، ولو بقي شي ء من المال يجعل في الزكاة، فلامجال لحملها على التوزيع أبداً. (2) 4- إعراض الأصحاب

وأمّا إعراض الأصحاب عن الفتوى بمقتضى الروايتين، والعمل على وفقهما، فمعلوم؛ لأن الأصحاب قريبو عهد بزمن المعصوم، وكان المتعارف لديهم نقل الرواية في مقام الفتوى، وكانت متون الروايات فتاويهم. (3) هاتان الروايتان كانتا في متناول أيديهم، لكنّهم أفتوا بالتوزيع بين الديون والحج، ولم يقدموا الحج على الديون، وهذا هو الإعراض عن مفاد الروايتين.

وأمّا ما قيل: إن إعراض الأصحاب لم يثبت، وقد عرفت من القاضي ابن البراج (رحمة الله)، تجويزه في (جواهر الفقه) (4) فغير تام، لأن المشهور أولًا، قد أفتوا بالتوزيع مع وجود الروايتين الصحيحتين الدالتين على تقديم الحج، وكانتا على مسمع و مرأى منهم، ولم يفتوا بتقديم الحج على الديون، وهذا هو الإعراض عن الروايتين الصحيحتين.

ثانياً: إن ما نقل عن القاضي ابن البراج (رحمة الله) من الخلاف، لايضر


1- النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام 315: 17 بعبارة و توضيح منا
2- الفاضل اللنكراني، الشيخ محمد، تفصيل الشريعة 361: 1، و العبارة منا.
3- الفاضل اللنكراني، الشيخ محمد، تبيان الأصول 142: 3، بتصرف.
4- السبحاني، الشيخ جعفر، كتاب الحج 451: 1.

ص: 167

بالمشهور، لأن القاضي نفسه أفتى بالتقسيم أولًاوقال: لأنهما دَينان قد وجبا عليه، وليس أحدهما أولى من الآخر (1)، ثم احتمل أن يكون القول بتقديم الحج على الدَّين أيضاً جائزاً.

هذا بمعنى أن القول الصحيح والمشهور، هو القول بالتوزيع، لكن هناك قول شاذ وهو تقديم الحج على الدَّين.

فتحصّل ممّا ذكرنا أن أدلة تقديم الحج على الدَّين قاصرة، مع أن فيها حديثين صحيحين، لكن المشهور لم يفتوا على وفقهما.

ثانياً: أدلة تقديم الحج على الدَّين الشخصي

وأمّا تقديم الحج على الدَّين الشخصي فيدل عليه ما رواه محمد بن يعقوب الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن بريد العجلي قال: سألت أبا جعفر (ع) عن رجل خرج حاجاً ومعه جمل ونفقة وزاد، فمات في الطريق؟ قال (ع): «إن كان صرورة ثم مات في الحرم فقد أجزأ عنه حجة الإسلام، و إن كان مات وهو صرورة قبل أن يُحرم، جُعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دَين ...». (2) مناقشة الرواية سنداً و دلالة

سند الرواية تام لانقاش فيه، وأمّا من حيث الدلالة، فلو كان «إن لم يكن عليه دَين» متعلقاً بقوله (ع): فهو للورثة، فمفاده تقديم الحج على الدَّين، والدَّين على الإرث كما استندوا إليها، وأمّا لو كان متعلقاً


1- القاضي ابن البراج، جواهر الفقه: 40
2- الوسائل 8: الباب 26، من أبواب وجوب الحج، ح 2.

ص: 168

بقوله (ع): «جُعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجة الإسلام»، فمفاده تقديم الدَّين على الحج. (1) دراسة دلالة الرواية

أولًا: كلاالوجهين- تقديم الحج على الدَّين وتقديم الدَّين على الحج- مخالفان مفاداً ومعنى لقول المشهور، وهم أعرضوا عنها وافتوا بالتوزيع كما في غرماء المفلس.

ثانياً: ليس بين الرواية والمسألة المبحوثة عنها علاقة.

إذ نحن نبحث عن قصور التركة في الوفاء بالحج والدَّين أو الخمس والزكاة، وأمّا الرواية فلاتتعرّض لقصور التركة، بل الإمام (ع) يقول:

«لو مات الحاج في الطريق وهو صرورة قبل أن يُحرم، جُعل جمله وزاده وما معه في حجة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دَين»، أي يجعل الزاد والراحلة وما معه في حجة الإسلام، ثم يُدفع ديونه، ثم لو كان هناك فضل فهو للورثة، فلم يُفرض في الرواية عدم وفاء تركته للحج ودَينه على تقديره.

ثالثاً: لم يفرض انحصار تركته على ما معه، بل ظاهرها فرض عدم انحصارها.

رابعاً: اختصاص الرواية بالتركة التي كانت في سفر حجه. (2) القول الثاني: التوزيع بالحصص بين الحج و الدَّين و الخمس و الزكاة

استُدل على القول الثاني بما يلي:


1- الفاضل اللنكراني، الشيخ محمد، تفصيل الشريعة، كتاب الحج 361: 1.
2- التبريزي، الشيخ جواد، التهذيب، 150: 1.

ص: 169

1. روى الشيخ الطوسي (رحمة الله) بإسناده عن محمد بن سماعة، عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن زرارة قال: سألت أباجعفر (ع) عن رجل مات وترك عليه ديناً وترك عبداً له مال في التجارة، و ولداً، و في يد العبد مال ومتاع، وعليه دَين استدانه في حياة سيده في تجارة، فإن الورثة وغرماء الميت اختصموا فيما في يد العبد من المال والمتاع و في رقبة العبد، فقال (ع): «أرى أن ليس للورثة سبيل على رقبة العبد، ولاعلى ما في يده من المتاع والمال، إلاأن يضمنوا دَين الغرماء جميعاً، فيكون العبد وما في يده للورثة، فإن أبوا كان العبد وما في يده للغرماء، يقوّم العبد وما في يديه من المال ثم يقسم ذلك بينهم بالحصص، فإن عجز قيمة العبد وما في يديه عن أموال الغرماء، رجعوا على الورثة فيما بقى لهم إن كان الميت ترك شيئاً، و إن فضل من قيمة العبد وما كان في يديه عن دَين الغرماء رده على الورثة». (1) إن الحديث ورد في الديون المالية وتقديمها على الإرث، كما تدل عليه الآيات الشريفة في باب الإرث، كما مضى في البحث عن أهمية الدَّين وتقدمه، لكنّ الحديث أفاد الحكم فيما إذا كانت التركة قاصرة عن الوفاء بالديون، فإنها تقسّم بالحصص، كما هو الحال في غرماء المفلس، و بما أن الحج دَين أو بمنزلة الدَّين، كما صرّحت به الروايات، فالحج أيضاً دَين ماليّ يتعامل معه في قصور التركة كما يُتعامل مع الدّيون في تقسيط التركة عليها جميعاً بالحصص، كما في غرماء المفلس.

2. إن التوزيع مقتضى بطلان قاعدة الترجيح بلامرجح، لأن الحج،


1- الشيخ الطوسي، التهذيب 199: 6.

ص: 170

والدَّين، والزكاة، والخمس كلّها ديون على ذمة الميت، والمفروض أن تركته لاتفي بالجميع، و لو قلنا باختصاص التركة بالحج دون الديون أو العكس، لكان هذا ترجيحاً بلامرجح، وهو باطل؛ فمقتضى دليل العقل أن توزّع التركة على الجميع بالحصص.

إن قلت: إذا كانت الحصة الراجعة إلى الدَّين لاتفي به، فلابدّ من وفاء بعض الدَّين وبقاء بعضه، فيلزم أيضاً الترجيح بلامرجح.

قلت: لاتعيّن لبعض الدَّين في مقابل البعض الآخر نظير ما لو نذر صوم يومين، فإنه لاتعيّن لصوم أحد اليومين في مقابل صوم الآخر، فلايكون وفاء بعض الدَّين دون بعض ترجيحاً بلامرجح. (1) لايخفى أن الأساس في الاستدلال على القول بالتوزيع هو أصل متسالم عليه عند المشهور، بأنّهم فرضوا الحج ديناً مالياً كديون الناس، ثم عاملوا معه معاملة الديون.

قال صاحب الجواهر (رحمة الله): إن ضاقت- أي التركة-، قسّمت على الدَّين وأجرة المثل بالحصص، كما تُقسّم في الديون، لاشتراك الجميع في الثبوت وفي التعلق بالمال، لاتفاق النص والفتوى على كونه ديناً أو بمنزلته (2).

يلاحظ عليه: إن كون الحج ديناً أو في عرض الدَّين حكماً، كما لو كان على الميت حجة الإسلام قال الإمام (ع): «يقضى عن الرجل حجة الإسلام من جميع ماله»، أو «من وسط المال»، أو «فهي من صلب ماله»، أو «من جميع المال أنّه بمنزلة الدَّين الواجب» (3)، على حسب النصوص والتعابير الروائية.

وعليه، فالروايات وردت كلها في مورد خاص، وهو ما إذا ترك الميت


1- الحكيم، السيد محسن، مستمسك العروة الوثقى 248: 10.
2- النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام 314: 17.
3- الوسائل 8: الباب 25، من أبواب وجوب الحج، ح 1، 3، 4، 5.

ص: 171

أموالًاكثيرةً، يخرج الحج من جميع ماله عند الوفور، لاعند القصور.

ثم إن الروايات نزّلت حجة الإسلام بعد ما مات الإنسان منزلة الدَّين، فيخرج من صلب المال كالدَّين، كما تدل عليه آيات الإرث في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِها أو دَيْنٍ).

وأمّا إذا قصرت التركة ولم تف بالديون، فتنزيل الحج منزلة الدَّين غير معلوم، ولاأقل من الشك، فلاتشملها الأحاديث المذكورة، لأن حالة قصور التركة مغايرة لمورد الروايات.

ومن العجب اختيار صاحب الوسائل (رحمة الله) العنوان التالي للباب:

(باب أن من أوصى بحجة الإسلام وجب إخراجها من الأصل، و إن كان عليه دَين وقصرت التركة قسّمت عليهما بالحصص و ...)

فهذا خطأ، لأنه لم يرو في هذا الباب- حول قصور التركة وتقسيمها على الحج والدَّين بالحصص- حديثاً، ولابدّ من الدقة في الأحاديث الواردة دلالةً و مفاداً، حيث إن عنوان الباب يوجب الوقوع في الخطأ، بل يستفاد من ذيل روايةٍ، عدم وجوب الحج عند قصور التركة عن الحج، حيث قال الإمام (ع): «من مات ولم يحج حجة الإسلام، ولم يترك إلّاقدر نفقة المحمولة وله ورثة فهم أحق بما ترك، فإن شاؤوا أكلوا و إن شاؤوا حجوا عنه». (1) وأمّا الدليل العقلي فهو مبتن أيضاً على أن الحج دَين مالي كسائر الديون، ومقتضى العقل عند قصور التركة التوزيع، لبطلان الترجيح بلامرجح.

وفيه أيضاً بحث صغروي، وهو: ما الدليل على أن الحج دَين مالي؟


1- الوسائل 8: الباب 25، من أبواب وجوب الحج، ح 4.

ص: 172

لو استُدل على مالية الحج بما أن له مصارف، ومن جملة شرائط الحج كما هو المعروف، الاستطاعة المالية، وإتيان الحج لايخلو من دفع الأموال لمصارفه، لقلنا: إن بعض العبادات والفرائض أيضاً قد يكون لها مصارف، كشراء الماء للوضوء، والطعام للصائم عند إفطاره، لكنها خارجة عن نفس الفريضة، بل هي مصارف للمقدمات، وقد يحتاج الاستيجار لإقامة الصلاة والصوم عن الميت إلى مصارف أيضاً، فهل أن هذه المصارف تصيّرها واجبات مالية؟!

كلابالطبع! فإن الحج واجب بدني مالي، ومركب من أجزاء منها الإحرام، والطواف، والصلاة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوفين في عرفات، والمشعر الحرام، و ...، هذه كلّها أفعال عبادية لاتحتاج بنفسها إلى مال، وأمّا مقدماتها فهي بحاجة إلى الأموال، ولايتأتى إلاببذل المال في طريقها.

نعم، لو كان الحج واجباً مالياً محضاً، كالزكاة، والخمس، بحيث يقوم على المال، لكان يحسب من الديون، لكنه ليس كذلك.

وأمّا قاعدة التوزيع في غرماء المفلس، فتقتضي أن تكون الديون كلها ماليةً حقيقة، لامايعبر عنها بالدَّين استعارة، كما ورد في الحج؛ لتشجيع الناس بالاهتمام به.

تأييدٌ

اختلف الفقهاء في الحج النذري على الميت، بأنه يخرج من صلب المال، أو من الثلث إلى قولين:

ص: 173

1- ذهب جماعة إلى أن الحج النذري كحجة الإسلام يخرج من صلب المال، على حسب النصوص الواردة.

2- و ذهب جماعة أخرى إلى أنه يخرج من الثلث.

فلو كان الحج ديناً مالياً كسائر الديون، فلابدّ من القول في الحج النذري بأنه دَين مالي، فليخرج من صلب المال، ولامجال لاختلاف الآراء فيه، إلاأنّه وردت روايتان، (1) تدلان على إخراج الحج النذري من الثلث، ولادليل على إخراجه من صلب المال، إلاما ورد في حجة الإسلام.

كما لايجوز تعميم الحكم في حجة الإسلام في وفور التركة على قصورها، ولايجوز تعميمها على الحج النذري أيضاً.

القول الثالث: التخيير بين الحج و الدَّين

استُدل على القول بالتخيير بين الحج و الديون عند قصور التركة، بأنّه إذا تحقق الحج والدَّين ولاتكفي التركة كليهما، سيكون الإنسان مخيراً بينهما لفقدان الترجيح، ولقبح الترجيح من غير مرجح، كما مال إليه صاحب مستند الشيعة (رحمة الله)، حيث قال: الظاهر التخيير، لأنهما واجبان تعارضا، ولامرجح لأحدهما. (2) وأمّا مقتضى الدليل العقلي (بطلان الترجيح من غير مرجح)، فهو يقتضي عدم التخيير؛ لأن التخيير فيما لم يخالف الدليل العقلي الآخر، كما إذا وقع المكلف بين الامتثالين، ولايقدر إلّاعلى أحدهما، لكنّ المسلم من العقل


1- الوسائل 8: الباب 29 من أبواب وجوب الحج، ح 1 و 3.
2- المحقق النراقي، مستند الشيعة، 82: 11.

ص: 174

والنقل، (1) التوزيع على الديون خاصة، لاعلى الحج والديون، فلو اختار الحج خالف دليل العقل و النقل مخالفة قطعية، فالرجحان مع دفع التركة على الديون، لأن فيها موافقة قطعية.

فقد تبين بما قدمناه من الأدلة، في الإجابة عن القول الأول والثاني، ردّ هذا القول وأن القول بالتخيير أسوأ حالًامن القول بالتوزيع بالحصص، وسيأتي مزيد إيضاح في الاستدلال على القول المختار.

القول المختار

بعد تفصيل الكلام في النقض والإبرام، فيما استدل على الأقوال الثلاثة المتقدمة، ينكشف أن القول المختار والمبرهن هو ترجيح جانب الدَّين، لما بيّناه أن للدَّين موقعاً خاصاً معترفاً به عند الناس طراً، و الأدلة الدالة على أهمية الدَّين وتقدمه على الحج، تساعدنا لاختيار هذا القول.

إن المشهور لم يقدموا الحج على الدَّين، بل اختاروا التوزيع بالحصص، وفيه ما فيه فلا نعيده.

فإننا لو قلنا بتقديم الدَّين على الحج، كما يستفاد أهميته من الأدلة المذكورة، لكانت النتيجة قريبة إلى التوزيع، من دون ما ورد من الوهن إلى القول بالتوزيع، و أن حصة الحج تُصرف في الديون غالباً، لأن حصة الحج عند القصور لاتكفي، فتسقط عموماً.

دراسة أخرى على حسب المباني


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 119: 13.

ص: 175

بعد دراسة الروايات الواردة في قصور التركة، و تحقيق مقتضى الروايات و إعراض الأصحاب عنها، نتعرض لتحليل المسألة على حسب المباني، والتأمل في مقتضاها، فنقول:

إمّا أن الأمر يدور مدار القول بالشهرة الفتوائية، والقول بأن إعراض الأصحاب عن رواية يُوجب الوهن والقدح فيها، ويُخرجها عن مدار الحجية ولو كانت الرواية المُعرض عنها في كمال الصحة من حيث السند و الدلالة.

و إمّا أن الشهرة ليست بحجة، وإعراض الأصحاب عن الفتوى وفق رواية لاتوجب الوهن والقدح فيها، فلابدّ من الإفتاء طبقاً للرواية الصحيحة.

إن الفقهاء في هذه المسألة ساروا على حسب المباني، فعدة من المعاصرين اعتبروها حجة، و قالوا: إن إعراض الأصحاب قادح وموهن للرواية، و إن كانت الرواية صحيحة؛ كالسيد اليزدي (رحمة الله) في العروة الوثقى، فإنه بعد التصريح بإعراض الأصحاب، قال: فالأقوى أن التركة توزع على الجميع بالنسبة كما في غرماء المفلس.(1) وقال الإمام الخميني (رحمة الله) في تحرير الوسيلة: فالأقوى توزيعه على الجميع بالنسبة. (2) وكذلك أفتى جملة من الفقهاء، كالسيد حسين البروجردي (رحمة الله)، و الميرزا النائيني (رحمة الله)، و الشيخ عبدالكريم الحائري (رحمة الله)، و أبي الحسن الموسوي الإصفهاني (رحمة الله)، و الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رحمة الله)، و السيد محسن الطباطبايي الحكيم (رحمة الله)، و السيد أحمد


1- العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة: 83، من أبواب وجوب الحج
2- الخميني، روح الله، تحرير الوسيلة، كتاب الحج، المسألة: 55، من أبواب وجوب الحج.

ص: 176

الخوانساري (رحمة الله) و ... (1) وأمّا الذين لم يعتبروا الشهرة الفتوائية حجة، ولم يقولوا بأن إعراض الأصحاب عن رواية يوجب الوهن و القدح فيها، فقد أفتوا وفاقاً لمدلول رواية (معاوية بن عمار)، بأن الحج مقدم على الديون كلها؛ كالسيد الخوئي (رحمة الله)، حيث قال: و إن كان (الخمس و الزكاة) في الذمة، يتقدم الحج عليهما كما يتقدم على الدَّين. (2) لايخفى أن بعض الفقهاء مع القول بالشهرة الفتوائية، ومع أنهم قالوا بأن إعراض الأصحاب يُوجب الوهن والقدح في الرواية، فقد أفتوا بتقديم الحج أيضاً؛ لأنّهم أنكروا تحقق الصغرى، وقالوا: إن إعراض الأصحاب (3) لم يثبت.

وهذا بعيد جداً مع ما نرى من أن قول المشهور هو التوزيع.

تنبيهان

التنبيه الأول: ما هو المراد من توزيع التركة بالنسبة، عند قصورها؟

يستظهر عن بعض العبارات المنقولة من الأصحاب، أن المراد تقسيم التركة بالسوية بين الحج والديون، كما يستفاد من كلام الشيخ الطوسي (رحمة الله) في الخلاف، حيث قال: من مات وكان قد وجب عليه الحج، وعليه دَين، نُظر؛ فإن كانت التركة تكفي للجميع، أخرج عنه الحج، ويُقضى الدَّين من صلب المال، وإن لم يسع المال قُسّم بينهما بالسوية، والحج يجب إخراجه من


1- العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة: 83، من أبواب وجوب الحج 4: 457
2- الخوئي، أبوالقاسم، معتمد العروة 8: 3- 127
3- ومنهم: الشيخ جعفر السبحاني في كتاب الحج 451: 1، و السيد محمد رضا الگلپايگاني/ في تعليقته على العروة الوثقى، ذيل المسألة: 83.

ص: 177

الميقات دون بلد الميت. (1) ولعل التفريع على هذه المسألة مبتن على المعنى المذكور (التوزيع بالسوية)، حيث قال السيد اليزدي (رحمة الله): والأقوى ما ذكر من التحصيص، وحينئذٍ فإن وفت حصة الحج به فهو ... (2) وإن كانا (الخمس و الزكاة) في الذمة فالأقوى توزيعه على الجميع بالنسبة، فإن وفت حصة الحج به فهو، وإلافالظاهر سقوطه. (3) لو كان المراد من التوزيع بالنسبة، التحصيص، لايمكن أن يتصوّر بعد التوزيع وفاء حصة الحج به، بعد فرض قصور التركة، لأنها قاصرة، ولاتفي بالحج في التوزيع بالحصص أبداً، وأمّا لو كان التوزيع بالسوية فتفرض هناك فروض، وهنا نذكر لذلك مثالًا:

لو مات رجل و ترك خمسين ألف دينار، وكان عليه حج ومصارفه تبلغ عشرة آلاف، ودَين مقداره أربعون ألفاً، وزكاة مقدارها ثلاثون ألفاً وخمس مقداره عشرون ألفاً، فلو توزع التركة بالسوية بينها لوفت حصة الحج به؛ لأنّا فرضنا مصارف الحج عشرة آلاف دينار، وحصته من التوزيع بالسّوية إثناعشرة ألفاً وخمس مأة دينار، وهي تزيد على مصارف الحج، وأما لو توزع التركة بالحصص، ويلاحظ مقدار الديون و مصارف الحج بالنسبة المئوية، لكانت حصة الحج خمسة آلاف دينار في المثال المذكور، وهي ناقصة.

بناءاً على التوزيع بالحصص، لاتكفي مصارف الحج أبداً، وهذا يعني سقوط الحج من الأساس، لأن في التوزيع بالحصص عدم كفاية حصة الحج به، ولو فُرض ما فُرض.


1- الشيخ الطوسي، الخلاف 255: 2
2- السيداليزدي/، محمد كاظم، العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة: 83 من الفصل الثاني
3- الإمام الخميني/، روح الله، تحرير الوسيلة، المسألة: 55 من مسائل وجوب الحج.

ص: 178

إلاأن التوزيع بالسوية غير مراد لهم؛ لأن العبارات والتشبيه يدفع هذا الاحتمال، فلاحظ جملة منها:

قال السيد اليزدي (رحمة الله): فالأقوى أن التركة توزع على الجميع بالنسبة كما في غرماء المفلسة. (1) و قال صاحب الجواهر (رحمة الله): إن ضاقت، أي التركة، قُسّمت على الدَّين وأجرة المثل بالحصص، كما تُقسّم في الديون. (2) شُبّه التوزيع بالتقسيم بالحصص في الديون بين غرماء المفلس، وهذا أصل عقلائي يقتضيه العقل والإنصاف، مثل ما لو كان على الميت لزيدٍ خمسون ديناراً، ولشخص آخر مأة دينار، وكانت التركة مثلاخمسة و سبعين ديناراً، يوزع بينهما بالنسبة، و يدفع على الأول خمسة و عشرون ديناراً، و على الثاني خمسون ديناراً و هكذا يوزّع بالحصص بين أجرة المثل في الحج و بين الديون.

بناءاً على هذا، ففرض بقاء حصة الحج به في غير محله، لأن حصة الحج بعد فرض قصور التركة، والفتوى بالتوزيع بالحصص، قاصرة عن مصارف الحج أبداً.

التنبيه الثاني: إن النتيجة حسب قول المشهور هي التوزيع على الجميع بالنسبة، ويترتب عليه سقوط الحج أبداً، لأن حصة الحج تكون قاصرة دائماً ويصرف حصته في الديون إلافيما تفي حصة الحج- العمرة أو الحج فقط- وهذا لايكون إلافي حج القران والإفراد؛ لأنهما مركبان من عمرة وحج مستقلين لاعلاقة ولاربط بينهما، لكنّ التمتع عمل واحد، ولاينفصل الحج


1- السيد اليزدي، محمد كاظم، العروة الوثقى، كتاب الحج، المسألة 83 من الفصل الثاني
2- النجفي، الشيخ محمد حسن، جواهر الكلام 314: 17

ص: 179

عن العمرة.

وأمّا وفاء حصة الحج ببعض الأعمال كالسعي والوقوف بعرفة والمشعر، فهو أيضاً غير مفيد، لأن التبعّض في أعمال الحج لم يثبت مشروعيته، إلّاالطواف، بما أنه طواف مستقل عن الحج، وأمّا كونه عملًاو جزءاً من الحج أو العمرة لم يثبت مشروعيته أيضاً.

ص: 180

هكذا ولد الأذان!!

محسن الأسدي

من رحمة الله سبحانه وتعالى بخلقه، ومن مظاهر لطفه بعباده أن جعل لهم مواسمَ للطاعة ومحطاتٍ للمغفرة، فما أن انقضى شهر رمضان، وتزوَّد الناس الصيام، والقيام، والنفقة في وجوه الخير، حتى جاءت محطة أخرى، وموسم آخر لمغفرة الذنوب، وتكفير السيئات، والاستزادة من الحسنات .. إنه موسم الحج، إنه سوق من أسواق الخير، وتجارته لن تبور؛ لأنها مع الله تعالى، طرفها عبد فقير محتاج ضعيف، وطرفها الآخر هو

ص: 181

السماء بكل عطائها وكرمها ورحمتها، وجوائزها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ..، وستظل هذه الفريضة في ارتباطها بالبيت الحرام، وفي استجماعها لفرائض الإسلام، و في تعويدها المسلم الانخلاع من بلاده، و أرضه، و ماله، و أهله، و أصدقائه، و دنياه، نموذجاً عالياً للتّجرد لله سبحانه، و التضحية في سبيله بكل العلائق الأرضية الدنيوية.

إنّ الحج سياحة إيمانية، و رحلة مليئة بعناوين عديدة، أهمها توحيدالله عزوجل، و وحدة الصف و الهدف، و منافعها كثيرة، أولها حبّ الله، و العشق الواسع لمقدساته، و البر و الإخلاص لعباده؛ و تذوق حلاوة الإيمان حتى يكون الله و رسوله أحبّ مما سواهما، و هذا الحبّ يجعل المسلم يتحمل الصعاب في سبيل الوصول إلى الله؛ لذلك ترى العاجزالمقعد يذهب للحج، و الأعمى يطوف بالبيت، و الأعرج و المريض يسعى بين الصفا و المروة، فحينما تمتلئ القلوب بحبّ الله و الإخلاص له، يهون كل شي ء في سبيله تعالى.

و قد ذكر أن الأصمعي ذهب ذات سنة للحج، و رأى مُقعداً أثناء سيره ببلاد العراق فقال له الأصمعي: أيها الرجل من أين أنت؟ قال: من سمرقند، فقال له: أين تذهب؟ قال: إلى بيت الله الحرام لأحج، قال: فكم لك في الطريق؟ قال خمس سنين، فتعجب الأصمعي، و ضرب كفّاً بكفٍّ، فقال له الرجل: لِمَ تتعجَّب؟! فقال: أعجب من ضعف صحتك، و بدنك، و طول رحلتك، فردَّ عليه الرجل و قال: أمَّا ضعفُ بدني فمولاي يحمله، و أما طول رحلتي فالشوق يقربه، ثم أنشديقول:

ص: 182

زر من هويت وإن شطت بك الدار وحال من دونها حجبٌ وأستار

لا يمنعنك بُعدٌ عن زيارته إنّ المحبّ لمن يهواه زوَّار

و قدر لهذه الفريضة أن ينشئها نداء هز الأرجاء، و أيقظ النفوس، فاستجابت له الأرواح... إنه: (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ ...). (1) أذان خليل الله و نبيه إبراهيم (ع)، و نحن هنا نقف عند الأذان فقط: (وَ أذِّنْ ... بِالْحَجِّ ...) دون بقية الآية، أي أعلم و ناد في الناس بالحج، و قبل أن يؤذن نبي الله إبراهيم بالحج، هذه الفريضة المباركة.. كانت هناك مراحل أو مقدمات سبقت ولادة الأذان، تتمثل بالأرضية، و الأجواء المناسبة، و أيضاً النفوس المتلقية، لابد من توفرها حتى يقع: (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ ...)، وهذه المقدمات أو المراحل هي:

المرحلة الأولى:

(رَبَّنا إِنِّى أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ...). (2) فقد شاءت السماء أن يولد أذان مبارك، و يصدح في واد مجدب، لا طائر يطير في سمائه، و لا نبات ينمو في ترابه، و لا قوافل تمر به و منه .. بعد أن ترك أبو الأنبياء و شيخهم إبراهيم (ع)، زوجته" هاجر" و ابنه إسماعيل في حفظ الله الرحمن الرحيم، و لم يترك لهما إلّا قليلًا من تمر و ماء، لا يكفيهما إلّا أياماً معدودات.

إنها حادثة مع آلامها و المعاناة التي تتضمنها، شاء الله أن تكون سبباً في تشكيل نسل جديد، ذرية صالحة يأتي منها النبي الخاتم و الرسول


1- الحج: 27
2- ابراهيم: 37.

ص: 183

الأعظم، سيد البشر، محمد (ص).

قال الله تعالى في كتابه العزيز، على لسان نبيه إبراهيم (ع)، مبتهلًا وداعياً:

(رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (1) إذن هناك سبق لحادث الأذان عبر وجود امرأة و طفل صغير، تركا وسط أرض منبسطة تكتنفها تلال قاحلة، و جبال جرداء، و في واد يكاد ينعدم فيه مقوم الحياة و طعمها، حيث لا مأوى فيه، و لا نبات، و لا ماء، و لا ذوق لدنيا و لا أمل.. و لكن مع هذا كله تبقى تلك النفوس تشكل فطرة سليمة، و دخائل نفوس كبيرة، تعبرعن الإيمان بالله سبحانه وتعالى، و سيرة صادقة تحكي التوكل عليه تعالى، و الإذعان له، و جذوة أمل ظلت تواكبها.. تمثل هذا كله كأصدق تمثيل امرأة صالحة قدرت لها السماء أن تعيش، و تحتل دور البطل على خشبة مسرح ما زال إلى الآن يؤدي دوره كأحسن ما يؤدى، في محيط مكة ذات الشعاب و التلال.

إنها امرأة فاضلة، و أم وحيدة لطفل وحيد، تسعى بين الجبلين.. شاءت السماء أن تكرمها بخلود هذين الجبلين، الصفا و المروة، في قلوب المؤمنين، و كمنسكين كبيرين يفتقد الحج معناه و كماله و أداءه بدونهما.. لم يكن هدفها ذلك، لعدم علمها بماسيؤول إليه عملها، بل كانت تفتش عن قطرات ماء لطفلها الظمآن.. و قد تعلق قلبها بالرحمن الرحيم القادر.. تأمل أن يهديها إلى نبع ماء قراحٍ، إلى عين ماء تنجيها و طفلها من الموت


1- ابراهيم: 37.

ص: 184

.. إلى حفرة تختزن و لو قطرات ماء.. غدت هذه الصابرة، مهرولة بين الصفا و المروة، يأخذها سراب هناك، ثم سراب آخر مشابه هناك، و قضت وقتها و جهدها و كدحها بين سرابين.. و بكاء طفلها يقطع نياط قلبها، يبست شفتاه، و غارت عيناه كلما أكل الظمأ أحشاءه... و ليس لها سواك يا رب، يا من رحمته وسعت كل شي ء، يا رحيم، يا رحمن، يا رب أنت المغيث، و لا أحد غيرك يغيث، يا الله.. يا غوثاه..

لم تفقد الأمل.. و بصرها يتنقل بين السماء و الأرض.. و إذا بهاجس يدفعها لتسرع إلى وليدها الحبيب، و قد تفجرت عين ماء تحت ضربات قدميه الناعمتين..، ليحيا بها ذلك الوادي، بل الحياة كلها..

يقول سيد قطب في الآية 28 الحج:" و طيف هاجر، و هي تستروح الماء لنفسها و لطفلها الرضيع في تلك الحرة المتلهبة حول البيت، و هي تهرول بين الصفا و المروة، و قد نهكها العطش، و هدّها الجهد، و أضناها الإشفاق على الطفل؛ ثم ترجع في الجولة السابعة، و قدحطمها اليأس، لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضي ء؛ و إذا هي زمزم، ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب".

و كأيّ إنسان يأخذه الحرص، خافت الأم على الماء أن يتسرب بين ذرات رمال، تضيعه، فأحاطت حواف الحفرة و أطرافها برمال و زمتها، و لو تركته يسيل لملأ الوادي بسعته المترامية الأطراف، و الله أعلم بغزارتها، و الدليل أنها" بئر زمزم" المعروفة التي يستقي منها الملايين كل عامٍ و لا تنضب ..

ص: 185

المرحلة الثانية:

(وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ). (1) عاد نبي الله إبراهيم (ع) إلى حيث ترك زوجته هاجر، و طفله إسماعيل، ففوجئ بالوادي آهلًا بأناس كثر، جاؤوا طلباً لكلإ، أو ماء وحياة ...

و هنا بدأت الرحلة الأخرى، الأكثر خلوداً و بقاءاً.. إنها مبادرته إلى بناء الكعبة المشرفة، بيت الله الحرام، بالقرب من زمزم، يعاونه ولده إسماعيل (ع).

في الوقت الذي كان سيدنا إسماعيل يحمل حجارة الكعبة المشرفة، كان سيدنا إبراهيم يقوم ببناء جدرانها.. كان يقوم بنحت الحجارة على شكل مربع، و عندما ارتفع الجدار قام نبي الله إبراهيم (ع)، باستخدام حجر للوصول إلى أعلى الجدار، هذا الحجر الذي مازال يحمل أثرين ظاهرين لقدميه المباركتين، و لم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، و لهذا قال أبوطالب في قصيدته المعروفة اللامية:

ومَوْطِى ءُ إِبراهيمَ في الصَّخْرِ رَطْبَةٌ على قَدَمَيْهِ حافِياً غيرَ ناعِلِ

و حتى أصبح يعرف موقعه بمقام إبراهيم، و غدا آية للعالمين: (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) ولتكون هذه البنية بيتاً معظماً، يحتل الموقع الأول، يتوفر على الصفات الأعظم، و الأهداف الأجل: (إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ). (2)


1- البقره: 127
2- آل عمران: 96.

ص: 186

تهفو إليه القلوب، و تشتاق إليه الأفئدة: (فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ) (1)، فليس أحد من أهل الإسلام إلّا و هو يحن إلى رؤية الكعبة و الطواف بها، تحِنُّ القلوب إلى بيت الله، و تتحرَّق شَوْقاً إليه، و كأن شيئاً يجذبها لزيارته، و لأداء فريضة الحج؛ لأن الله تعالى أمر بها، و به تتطهر الأرواح، و تتزود منه النفوس، و يتوجه إليه الناس، فهو قبلتهم حيث كانوا، كلهم يتجهون نحوه؛ لأنه مركز الكون الفسيح: (وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (2) و هنا و في جبل أبي قبيس، أو قريباً منه، و في مكان يغيب عن الأنظار- و الله العالم به- تسلم سيدنا إبراهيم الحجر السماوي..، الحجر الأسود من أحد الملائكة، و قام بوضعه في إحدى زوايا الكعبة، و مازال حتى الآن، و سوف يبقى إلى أن تقوم القيامة، و منه يبدأ طواف الطائفين حول الكعبة.

المرحلة الثالثة:

التطهير، و حدث هذا بعد أن جاء الأمر الإلهي لإبراهيم و إسماعيل (ع) في آية، و لإبراهيم في آية أخرى: (وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أنْ طَهِّرا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ) (3)، (وَ طَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ). (4) و الشي ء العظيم بل الأعظم، أنّ الله تعالى في الآيتين أضاف البيت إليه (بَيْتىِ) تشريفاً و تكريماً و تفضيلًا له على سائر البقاع، و تمييزاً و


1- ابراهيم: 37
2- البقره: 144
3- البقره: 125
4- الحج: 26.

ص: 187

تخصيصاً.

أما التطهير فقد اختلف في المراد منه على أقوال:

أحدها: أنّ المراد طهّراه من الفرث و الدم الذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد إبراهيم وإسماعيل (ع)؛ عن الجبائي.

و ثانيها: أنّ المراد طهّراه من الأصنام التي كانوا يعلقونها على باب البيت قبل إبراهيم (ع) عن مجاهد وقتادة.

و ثالثها: أنّ المراد طهراه بنياناً بكماله على الطهارة، كما قال سبحانه: (أَفَمَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) (1)، أو بلا إِله إِلا الله من الشرك، كما في تفسير ابن كثير: الآية 125 البقرة.

و قال السُّدّي: أبنياه وأسّساه على طهارة و نية طهارة؛ فيجي ء مثل قوله: (أسِّسَ عَلَى لتَّقْوَى). (2) إذن فذكر يارسول الله هؤلاء المشركين الذين يدَّعون اتِّباع إبراهيم (ع)، و يتخذون من البيت الحرام مكاناً لأصنامهم، أذكر لهم قصة إبراهيم (ع)، و البيت الحرام حين أرشدناه إلى مكانه، و أمرناه ببنائه و قلنا له: لاتشرك بي شيئاً ما في العبادة، و طهّر بيتي من الأصنام و الأقذار، ليكون مُعدّاً لمن يطوف به، و يقيم بجواره، و يتعبد عنده؛ فلا تلوثوا مكانه بشرككم، و بما يحيط به مما لايليق به، حتى يكون معداً للقاصدين إليه، و الملبين نداء السماء على لسان نبي الله إبراهيم (ع)؛ لتحصلوا أنتم و هم على منافع دينية لهم بأداء فريضة الحج، و منافع دنيوية.. إن تلويث الكعبة بالشرك و مظاهره و آثاره


1- التوبة: 109، كما في مجمع البيان، الآية: 125 البقرة
2- التوبة: 108، تفسير الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، الآية: 125 البقرة.

ص: 188

أمر محرّم، تبغضه السماء، و يجب تطهير البيت الحرام منه، و هذا لايعني أن غيرالبيت الحرام يصح فيه معالم الشرك، لا أبداً، فالشرك يجب تطهير الأرض كل الأرض منه، و لكن هذا التطهير و وجوب القيام به آكد و أشد في هذه البقعة، و حرمة الشرك فيها أبلغ و أعظم.. فإنّ الشرك بالله أمر خطير، و هو رجس يلوث كل شي ء يصيبه، و يفقده دوره، و يسلبه خصائصه و مقوماته، و بالتالي يعطله و يعجزه و يسقطه في الهاوية، أنظر إلى الآية القرآنية، كيف تصور مصير الإنسان المشرك: (وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأنّمَا خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكانٍ سَحِيقٍ). (1) إنّه مشهد الهويّ من شاهق (فَكَأنمّا خَرَّ مِنَ السَّماءِ)؛ و في مثل لمح البصر يتمزق (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) أو تقذف به الريح بعيداً بعيداً عن الأنظار: (أوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) في هوة ليس لها قرار! و الملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها، و تعاقب خطواتها في اللفظ" بالفاء" و في المنظر بسرعة الاختفاء.. على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير؛ و هي صورة صادقة لحال من يشرك بالله، فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء و الانطواء، إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها، قاعدة التوحيد، و يفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه، فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح، و تتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح، و هو لايمسك بالعروة الوثقى، و لايستقر على القاعدة الثابتة، التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه". (2) فكيف يترك هذا الدور للشرك، و يفعل فعلته هذه في الناس، و قد خلق الله تعالى الإنسان و أسند له دور الخلافة، و ليس هناك في الدنيا دور


1- الحج 31
2- سيد قطب في ظلاله: الحج 31.

ص: 189

أعظم منها، إنّ الشرك إذا ما ترك دون علاج، و دون تطهير الأرض منه، يحول الإنسان الخليفة لربه إلى دائرة العداء لمنهج السماء، و الصدود و الإعراض عن الله تعالى..

و كذلك الحال مع الكعبة، المحطة الربانية التي يتزود منها الناس قيم التوحيد و الإيمان، و مبادئ الخير و العطاء، فإذا أصابتها لوثة الشرك، أفقدتها خصائصها التربوية و بركاتها، و دورها الريادي الكبير في حياة الناس الإيمانية..، و يكون مصيرها مصير أي مشرك كما تصفه الآية 31 من سورة الحج.

و حتى لايقع هذا المحذور و الأمر الخطير الذي يؤدي بالدور الذي رسمته السماء للإنسان المؤمن، و هو دور الخلافة، و حتى يبقى خير الكعبة، و بركتها، و دلالتها على توحيد الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) (1) و حتى يتم الإبقاء على دور الكعبة في الحياة و تفعيلها باستمرار (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (2)، و القيام ما يقوم حياة الناس و معايشهم في الدنيا، كما تقوم آخرتهم، فيستقيم بها دينهم، و دنياهم، و آخرتهم، و تدفع عنهم العذاب.. حتى روي: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»، «لو ترك الناس الحج أنزل عليهم العذاب». (3) و حتى تبقى منطلقاً لعروج المؤمنين إلى بارئهم، و قد صفت أرواحهم..، يقول سيد قطب في ظلاله: الحج 28" و هو موسم عبادة تصفو فيه


1- آل عمران: 96
2- المائدة: 97
3- وسائل الشيعة 13: 8- 14.

ص: 190

الأرواح، و هي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، و هي ترف حول هذا البيت، و تستروح الذكريات التي تحوم عليه، و ترف كالأطياف من قريب و من بعيد."

و لا يتم ذاك العروج إلى الله تعالى من الطواف حول البيت، و الركوع و السجود بين يدي الله تعالى في رحاب البيت الحرام، و لا النقاء و الصفاء للنفوس الطائفة و العابدة، إن لم تطهر الكعبة من الشرك، فجاء العهد من الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل (ع) بتطهيرها من الشرك و أدرانه، و وسائله عبر الآيتين: 125 البقرة و 26 الحج.

المرحلة الرابعة:

مرحلة الأذان (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ)، حلت بعد أن حملت المراحل الثلاث قصة بناء البيت الحرام، بدءاً بوجود ذرية صالحة تحيي وادياً وصفه الله تعالى بأنه (غَيْرِ ذِى زَرْعٍ)، ثم برفع أسس و قواعد البيت فتطهيره، بيت أمر الله تعالى خليله إبراهيم (ع)، بإقامته على التوحيد، و تطهيره، و أمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه: (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَاْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). (1) والله أعلم متى كان ذلك التطهير؛ هل وقع قبل الأذان أو بعده؟

و الذي يبدو كما هي طبيعة الأشياء- والله العالم- أنه بعد الانتهاء من بناء الكعبة، و وضع الحجر الأسود، و بعد أن تم تطهير البيت من قبل نبي الله إبراهيم و ابنه إسماعيل (ع)، طهراه من الأوساخ.. أو الأصنام التي وضعها


1- الحج 28- 29.

ص: 191

الناس من حوله لعبادتها.. أو مما قد يتنافى و أداء الحج.. أمرته السماء بالأذان، و هو ما قد يستفاد من عبارة سيد قطب أيضاً في تفسيره للآية 28 الحج:"... تلك قصة بناء البيت الحرام، و ذلك أساسه الذي قام عليه.. بيت أمر الله خليله إبراهيم (ع)، بإقامته على التوحيد، و تطهيره من الشرك، و أمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه، ليذكروا اسم الله- لا أسماء الآلهة المدعاة- على ما رزقهم من بهيمة الأنعام".

لكن كما في روح المعاني للآلوسي، أن ابن أبي شيبة أخرج في «المصنف»، و ابن جرير، و ابن المنذر، و الحاكم و صححه، و البيهقي في «سننه» عن ابن عباس قال: «لما فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت، قال: رب قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج..».

فقد يستفاد من هذا الخبر أنه أذن بعد فراغه من البناء مباشرةً.. المهم أمرالله تعالى سيدنا إبراهيم (ع) أن يدعو الناس إلى الحج.

(وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَاْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). (1) الأذان لغةً و اصطلاحاً

الأذان لغةً: الإعلام، ومنه قولهم: آذنه، إذا أعلمه، قال تعالى: (وَ أذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ) والمراد بذلك أعلِمهم به.

وقال الشاعر اليشكري في معلقته:

آذنتنا ببينها أسماءُ رب ثاوٍ يمل منه الثواء


1- الحج 27.

ص: 192

أي: أعلمتنا و أخبرتنا؛ فأصل الأذان: الإعلام.

فما كان من سيدنا إبراهيم إلّا أن يلبي ما أرادته السماء و ما عهدت له، فصعد إلى جبل أبي قبيس، أو من المقام نفسه، و وضع أصبعيه في أذنيه.. صاح بأعلى صوته في جميع اتجاهاته:

" أيها الناس! لقد فرض الله عليكم الحج، و زيارة هذا البيت العتيق" أو" يا أيها الناس أجيبوا ربكم" فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال و أرحام النساء". (1) و في تفسير معالم التنزيل، البغوي (ت 516 ه-) أقبل بوجهه يميناً، و شمالًا، و شرقاً، و غرباً، و قال:" يا أيها الناس ألا إنّ ربكم قد بنى لكم بيتاً و كتب عليكم الحجَّ إلى البيت فأجيبوا ربكم" فأجابه كل من كان يحج من أصلاب الآباء، و أرحام الأمهات: لبيك الّلهم لبيك..

و عند أهل التفسير قوله: (وَأذِّن فِى لنَّاسِ بِلْحَجِّ) أي: ناد في الناس بالحج، داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب! و كيف أبلغ الناس، و صوتي لاينفذهم؟ فقال: ناد، و علينا البلاغ، فقام على مقامه، و قيل: على الحجر، و قيل: على الصفا، و قيل: على أبي قبيس.

هذا، و قد كان النبي إبراهيم (ع) رحّالة، فلعله كان ينادي في الناس في كل مكان يحل فيه؛ و قال:" يا أيها الناس إنّ ربكم قد اتخذ بيتاً، فحجوه" فيقال: إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، و أسمع من في الأرحام و الأصلاب، و أجابه كل شي ء سمعه من حجر، و مدر، و شجر،


1- الدر المنثور 354: 4.

ص: 193

ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك الّلهم لبيك.. و إذا بجميع من سمع نداء سيدنا إبراهيم يستجيب، و إنما قال: (يأتوك) و إن كانوا يأتون الكعبة، لأن المنادَى إبراهيم (ع)، فمن أتى الكعبة حاجاً فكأنما أتى إبراهيم (ع)؛ لأنه أجاب نداءه، و فيه تشريف إبراهيم (ع)، فالأجسام تلبي، الأرواح تلبي، الأجنة في أرحام أمهاتها تلبي، جميع من في الكون يعلنها واضحةً صريحةً مدويةً.

و راحت هذه التلبية، و منذ أن بدأت يرددها جميع من يقصد مكة لأداء مناسك العمرة أو الحج، تلبيةً لنداء سيدنا إبراهيم (ع).

" لبيك الّلهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك".

يا الله .. لقد جئت من أجلك .. سمعاً و طاعةً لك ..

جئت إليك بلا حول و لا قوة، متجرداً من هذه الدنيا و حطامها، لا أريد علواً في الأرض و لا فساداً، جئت طامعاً برحمتك الواسعة ..

الروايات:

في الكافي، و العلل عن الصادق (ع)، قال: «لمّا أمر إبراهيم وإسماعيل (ع)، ببناء البَيت، و تمّ بناؤه، قعد إبراهيم (ع) على ركن، ثم نادى: هلمّ الحجّ، فلو نادى هلمّوا إلى الحج لم يحجّ إلّا من كان يومئذ إنسيّا مخلوقاً، و لكن نادى: هلمّ هلمّ، الحجّ الحجّ، فلبّى الناس في أصلاب الرّجال: لبيّك داعي الله، لبيّك داعي الله، فمن لبّى عشراً حجّ عشراً، و من لبّى خمساً حجّ خمساً، و من لبّى أكثر فبعدد ذلك، و من لبّى واحدة حجّ واحدة، و من لم

ص: 194

يلبّ لم يحجّ».

و في العلل عن الباقر (ع)، قال: «إنّ الله جلّ جلاله لما أمر إبراهيم (ع)، ينادي في الناس بالحجّ، قام على المقام فارتفع به، حتّى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرّجال، و أرحام النّساء، إلى أن تقوم الساعة».

و القمّي قال: لما فرغ إبراهيم (ع)، من بناء البيت، أمره الله أن يؤذن في الناس بالحج، فقال: ياربّ مايبلغ صوتي، فقال الله: أذّن، عليك الأذان، و عليّ البلاغ؛ و ارتفع على المقام، و هو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتى كان أطول من الجبال، فنادى، و أدخل إصبعه في أذنه، و أقبل بوجهه شرقاً و غرباً يقول: أيّها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم، فأجابوه من تحت البحور السّبع، و من بين المشرق و المغرب، إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلّها، و من أصلاب الرّجال، و من أرحام النساء بالتلبية، لبّيك اللّهم لبّيك، أو لاترونهم، يأتون يلبّون، فمن حجّ من يومئذ إلى يوم القيامة، فهم ممّن استجاب الله.

و قد ذكرت كتب التفسير الأخرى؛ كتفسير جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت 310 ه-) العديد من الروايات، منها:

عن ابن عباس، قال: لمّا فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت، قيل له: (أذّنْ فِى النَّاسَ بالحَجّ) قال: ربّ وَ ما يبلغ صوتي؟ قال: أذّنْ، و عليّ البلاغ، فنادى إبراهيم (ع): أيها الناس كُتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق، فحجوا قال: فسمعه ما بين السماء و الأرض، أفلا ترى

ص: 195

الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبّون؟

و عنه قال: لمّا بنى إبراهيم (ع) البيت، أوحى الله إليه، أن أذّن في الناس بالحجّ قال: فقال إبراهيم (ع): ألا إن ربكم قد اتخذ بيتاً، و أمركم أن تحجوه، فاستجاب له ما سمعه من شي ء، من حجر، و شجر، و أكمة، أو تراب، أو شي ء: لبَّيك اللهمّ لبَّيك.

و عنه في قوله تعالى: (وأذّنْ فِى النَّاسَ بالحَجّ) قال: قام إبراهيم خليل الله (ع) على الحجر، فنادى: يا أيها الناس كُتب عليكم الحجّ، فأسمع من في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة: لبَّيك اللهمّ لبَّيك.

و عن أبي الطفيل، قال: قال ابن عباس: هل تدري كيف كانت التلبية؟ قلت: و كيف كانت التلبية؟ قال: إن إبراهيم (ع) لمّا أمر أن يؤذّن في الناس بالحجّ، خفضت له الجبال رؤسها، و رُفِعَت القُرى، فأذّن في الناس.

و كان ابن عباس يقول: عُنِي بالناس في هذا الموضع: أهل القبلة؛ ذكر الرواية بذلك: عن ابن عباس، قوله: (وأذّنْ فى النَّاسَ بالحَجّ) يعني بالنّاس أهل القبلة، ألم تسمع أنه قال: (إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة مُباركاً ...)

إلى قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كان آمِناً) يقول: و من دخله من الناس الذين أمر أن يؤذن فيهم، و كتب عليهم الحجّ، فإنه آمن، فعظّموا حرمات الله تعالى، فإنها من تقوى القلوب.

ص: 196

عن سعيد بن جُبير: (وأذّنْ فِى النَّاسَ بالحَجّ يَأتُوكَ رِجالًا) قال: و قرت في قلب كلّ ذكر و أنثى.

عن سعيد بن جُبير أيضاً، قال: لما فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت، أوحى الله إليه، أن أذّنْ في الناس بالحجّ قال: فخرج فنادى في الناس: يا أيها الناس إنّ ربكم قد اتّخذ بيتاً فحجوه، فلم يسمعه يومئذٍ من إنس، و لا جنّ، و لا شجر، و لا أكمة، و لا تراب، و لا جبل، و لا ماء، و لا شي ء إلّا قال: لبَّيك اللهم لبَّيك.

و عن مجاهد، في قوله: (وأذّنْ فى النَّاسَ بالحَجّ) قال: قام إبراهيم (ع) على مقامه، فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فقالوا: لبَّيك اللهمّ لبيك فمن حَجّ اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم يومئذٍ.

و عنه في قوله تعالى: (وأذّنْ فى النَّاسَ بالحَجّ) قال إبراهيم (ع): كيف أقول يا ربّ؟ قال: قل: يا أيها الناس استجيبوا لربكم قال: و قَرَّت في قلب كلّ مؤمن.

و عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: لما فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت، قام على المقام، فنادى نداءاً سمعه أهل الأرض: إنّ ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجّوه قال داود: فأرجوا من حجّ اليوم من إجابة إبراهيم (ع).

إذن فكانت" لَبَّيك اللهمّ لبيك" أوّل التلبية، أو أول تلبية بصيغتها هذه عرفتها البشرية الموحدة، و راحت تحفظها، و ترددها طيلة حياتها الإيمانية...

ص: 197

و قد صارت هذه الآية و بالأذان الذي جاءت به آية يستدل بها على وجوب فريضة الحج، و الآية الأخرى هي:

(إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُباركاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ... وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). (1) و حتى يبقى الحج وسيلةً لتجديد العهد بين العبد و ربه، و محاولةً للحصول على رضاه، و درساً في التربية و البناء الروحي..، شرعت له شعائر و أحكاماً و آداباً يقوم الإنسان المؤمن بها في كل سنة، في وقت محدد، و في مكان معين.

يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره للآية:

أمر الله نبيه إبراهيم (ع) بعد أنْ رفع القواعد من البيت، أنْ يُؤذِّن في الناس بالحج، لماذا؟ لأن البيت بيت الله، و الخَلْق جميعاً خَلْق الله، فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدِّر له أنْ يمرّ به، أو يعيش إلى جواره؟

فأراد الحق- سبحانه وتعالى- أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعاً، فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم، و إنْ كانت المساجد كلها بيوت الله، إلّا أن هذا البيت بالذات هو بيت الله باختيار الله؛ لذلك جعله قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق.

إنّ من علامات الولاء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء و عِلْية القوم، ثم يُسجل الزائر اسمه في سِجلِّ الزيارات، و يرى في ذلك شرفاً و رفْعة، فمابالك ببيت الله، كيف تقتصر زيارته و رؤيته على أهله، و المجاورين له، أو


1- آل عمران: 96 أنظر كنزالعرفان، للسيوري: كتاب الحج، في وجوبه.

ص: 198

مَنْ قُدِّر لهم المرور به؟

و معنى (أذِّن ..) الأذان: العلم، و أول وسائل العلم السماع بالأذن، و من الأذن اخذ الأذان؛ أي: الإعلام، و من هذه المادة قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) (1) أي: أعلم؛ لأن الأذن وسيلة السماع الأولى، و الخطاب المبدئي الذي نتعلَّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلَّم لابُدَّ أنْ تسمع.

و حينما أمرالله إبراهيم بالأذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم و ولده و زوجته، فلمَنْ يُؤذِّن؟ و مَنْ سيستمع في صحراء واسعة شاسعة، و واد غير مسكون؟ فناداه ربه:" يا إبراهيم عليك الأذان، و علينا البلاغ"؛ مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالأذان، و علينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس، في كل الزمان، و في كل المكان، سيسمعه البشر جميعاً، و هم في عالم الذَّرِّ، و في أصلاب آبائهم بقدرة الله تعالى، الذي قال لنبيه محمد (ص): (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ للَّهَ رَمىَ). (2) يعني: أدِّ ماعليك، و اترك مافوق قدرتك لقدرة ربك؛ فأذَّنَ إبراهيم في الناس بالحج، و وصل النداء إلى البشر جميعاً، و إلى أن تقوم الساعة، فَمنْ أجاب و لَبَّى: لبيك اللهم لبيك، كُتِبَتْ له حجة، و مَنْ لبَّى مرتين كتِبت له حجَّتيْن و هكذا، لأن معنى لبيك: إجابةً لك بعد إجابة.

و يواصل كلامه: فإنْ قُلْتَ: إنّ مطالب الله و أوامره كثيرة، فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول: أركان الإسلام تبدأ بالشهادتين: لاإله إلاالله، محمدرسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، لو نظرتَ إلى هذه الأركان، لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه، و


1- إبراهيم: 7
2- الأنفال: 17.

ص: 199

إنْ لم يكُن مستطيعاً له، فتراه يوفر و يقتصد حتى من قُوته، و ربما حرمَ نفسه لِيُؤدِّي فريضة الحج، و لا يحدث هذا، و لا يتكلفه الإنسان إلّا في هذه الفريضة، لماذا؟

قالوا: لأنّ الله تعالى حكم في هذه المسألة، فقال: أذِّن، يأتوكَ، هكذا رَغْماً عنهم، و دون اختيارهم، ألَا ترى الناس ينجذبون لأداء هذه الفريضة، و كأنّ قوة خارجة عنهم تجذبهم.

مَن المؤذن؟

هناك قولان في من المأمور بأن يؤذن بالحج؟

القول الأول: هو نبي الله إبراهيم (ع).

القول الثاني: رسول الله محمد (ص).

السيد العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان، استبعد أن يكون الخطاب موجهاً لرسول الله (ص) بل لإبراهيم (ع)، لمقتضى السياق، حيث قال: وقوله: (وَأذِّنْ فِى النَاسِ بِالحَجِّ) أي نادِ الناس بقصد البيت، أو بعمل الحج، و الجملة معطوفة على قوله: (لَا تُشْرِكْ بِى شَيئاً)، و المخاطب به إبراهيم (ع)، و ما قيل: إن المخاطب نبينا محمد (ص) بعيد من السياق.

الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: الآية: (وَأذِّنْ فِى النَاسِ بِالحَجّ) أي ناد في الناس، و أعلمهم بوجوب الحج، و اختلف في المخاطب به على قولين، أحدهما: أنه إبراهيم (ع) عن علي (ع)، و ابن عباس، و اختاره أبومسلم. قال ابن عباس: قام في المقام فنادى: يا أيها الناس إن الله دعاكم

ص: 200

إلى الحج، فأجابوا ب-:" لبيك اللهم لبيك" والثاني: أن المخاطب به نبينا محمد، عليه أفضل الصلوات، أي و أذن يا محمد في الناس بالحج، فأذن صلوات الله عليه في حجة الوداع، أي أعلمهم بوجوب الحج؛ عن الحسن و الجبائي.

و جمهور المفسرين على القول الأول، و قالوا: أسمع الله تعالى صوت إبراهيم (ع) كل من سبق علمه بأنه يحج إلى يوم القيامة، كما أسمع سليمان مع ارتفاع منزلته، و كثرة جنوده حوله، صوت النملة، مع خفضه و سكونه، و في رواية عطاء عن ابن عباس قال: لما أمر الله سبحانه إبراهيم (ع) أن ينادي في الناس بالحج صعد أبا قبيس، و وضع إصبعه في أذنيه، و قال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، و أول من أجابه أهل اليمن.

الشعراوي في تفسيره:

و بعض أهل الفَهْم يقولون: إنّ الأمر في: (وَأذِّن فِى لنَّاسِ بِلْحَجِّ) ليس لإبراهيم (ع)، و إنما لمحمد (ص)، الذي نزل عليه القرآن، و خاطبه بهذه الآية، فالمعنى (وَإِذْ بَوَّاْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ لْبَيْتِ) (1) يعني: أذكر يا مَنْ انْزل عليه كتابي، إذْ بوأنا لإبراهيم مكان البيت، اذكر هذه القضية: (وَأذِّن فِى لنَّاسِ بِلْحَجِّ)، فكأن الأمر هنا لمحمد (ص).

و في زبدة البيان يذكر المقدس الأردبيلي: (وَأذِّن فِى لنَّاسِ)، أي ناد يا إبراهيم بينهم بالحج بأن تقول: حجوا أيها الناس، أو عليكم بالحج؛ و روي أنه صعد أبا قبيس فقال: أيها الناس حجوا بيت ربكم، و عن الحسن أنه خطاب لرسول الله (ص) أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، يعني أعلمهم


1- الحج: 26.

ص: 201

بوجوب الحج، فحينئذ دلالتها على الأحكام واضحة؛ و على الأول لابدّ من انضمام أن ليس هذا منسوخاً، و أنه من اجتماع الشريعتين مع أنه (ص) على شريعة ملة أبيه إبراهيم (ع). (1) و قد ذكر الشيخ السيوري: قيل الخطاب لإبراهيم (ع)، قال ابن عباس قام في المقام- و عنه أنه قام على جبل أبي قبيس- و وضع أصبعيه في أذنيه و قال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال، و أرحام النساء؛ و قال الحسن و الجبائي: الخطاب لرسول الله (ص). (2) و كذلك روي عن الصادق (ع): «أن النبي (ص) أقام بالمدينة عشر سنين لم يحج، فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله (ص) مناديه أن يؤذن في الناس بالحج، فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب و غيرهم، و أكثر أهل الأموال من أهل المدينة، وخرج لأربع بقين من ذي القعدة، فلما انتهى إلى مسجد الشجرة، و كان وقت الزوال، اغتسل و نوى حج القِران بعد أن صلى الظهرين. (3) و الفخر الرازي في تفسيره يقول:

المسألة الثانية: في المأمور قولان: أحدهما: و عليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم (ع) قالوا: لما فرغ إبراهيم (ع) من بناء البيت قال سبحانه: (وَأَذّن فِى لنَّاسِ بِلْحَجّ)، قال يارب و ما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان، و عليّ البلاغ.

فصعد إبراهيم (ع) الصفا، و في روايةأخرى أباقبيس، و في رواية


1- زبدة البيان: 223- 224
2- الدرّ المنثور 354: 4
3- الوسائل، الباب: 2 من أبواب أقسام الحج ح 4؛ كنزالعرفان: 268.

ص: 202

أخرى على المقام، قال إبراهيم (ع): كيف أقول؟ قال جبريل (ع): قل: لَبّيك الّلهم لَبّيك، فهو أول من لبى.

و في رواية أخرى أنه صعد الصفا، فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء و الأرض، فما بقي شي ء سمع صوته إلّا أقبل يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك.

و في رواية أخرى: إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام، ليثيبكم به الجنة، و يخرجكم من النار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال، و أرحام النساء، و كل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، و مدر، و أكمة، أو تراب، قال مجاهد: فما حج إنسان، و لا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلّا و قد أسمعه ذلك النداء، فمن أجاب مرة حج مرة، و من أجاب مرتين أو أكثر؛ فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار.

و عن ابن عباس قال: لما أمر إبراهيم (ع) بالأذان، تواضعت له الجبال، و خفضت و ارتفعت له القرى.

قال القاضي عبدالجبار: يبعد قولهم إنه أجابه الصخر و المدر، لأن الإعلام لايكون إلّا لمن يؤمر بالحج دون الجماد، فأما من يسمع من أهل المشرق و المغرب نداءه، فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى، و رفع الموانع، ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء (ع). القول الثاني: أن المأمور بقوله: (وَأذِّن) هو محمد (ص) و هو قول الحسن، و اختيار أكثر المعتزلة، و احتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن، و أمكن حمله على أن محمداً (ص) هو المخاطب به، فهو أولى و تقدم قوله: (وَإِذْ بَوَّاْنَا لإِبْرهِيمَ مَكَانَ لْبَيْتِ) لا يوجب أن يكون قوله: (وَأذِّن)

ص: 203

يرجع إليه، إذ قد بينا أن معنى قوله: (وَإِذْ بَوَّاْنَا)، أي: و اذكر يا محمد (إِذْ بَوَّاْنَا) هو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: (وَأذِّن) فإليه يرجع الخطاب.

و على هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى: (وَأذِّن) وجوهاً: أحدها: أن الله تعالى أمر محمداً (ص) بأن يعلم الناس بالحج. وثانيها: قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية، فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه، قال: و في قوله: (يَأتُوكَ) دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به. وثالثها: أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول (ص).

الأذان له معاني وأهداف وآليات:

للأذان بالحج معاني كبيرة، و أهداف جليلة أيضاً: (لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ سْمَ للَّهِ فِى أيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ لأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأطْعِمُواْ لْبَآئِسَ لْفَقِيرَ)* (ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِلْبَيْتِ لْعَتِيقِ). (1)

و قد تحدثنا في مقالة سابقة عن هذه المنافع الدينية و الدنيوية. (2) و آليات لتحقيق تلك المعاني و الأهداف، تتمثل بالمناسك مواقع و أحكاماً، و آداباً، لكي تعرف تلك المعاني و الأهداف، أو نقترب منها؛ لأن معانيها الكلية و تفاصيلها، لا يحيط بها إلّا الله تعالى.. نعم، حتى نقترب مما يحمله الأذان المبارك للحج، و يفيضه علينا من مراداته و استحقاقاته، فنكون بحق ممن يشمله الحديث النبوي الشريف: «من حجّ، فلم يرفث، و لم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»؛ لابد لنا من معرفة الجوانب الأدبية، و الأبعاد


1- الحج 28- 29
2- أنظر ميقات الحج، العدد: 16، الصفحة: 75.

ص: 204

الفلسفية التربوية، و البعد التشريعي، و البعدين الجغرافي و التاريخي لهذه الفريضة المترتبة على ذلك الأذان المبارك، و لعلنا نشير إلى شي ء من هذه الأبعاد في هذه العجالة.

علينا أن نعرف أن كل خطوة نخطوها، و نحن محرمون لأداء مناسك ذلك الأذان، هي كخطوة سيدنا إبراهيم (ع).. فالكعبة تكون همّنا كما هي همّ إبراهيم و إسماعيل (ع)، الهواء الذي نستنشقه بين أركانها، و في فضائها، و بين الصفا و المروة، مسعى هاجر المرأة المؤمنة الصابرة، هو نفسه الذي استنشقه النبيان الجليلان، و السيدة هاجر.

جميع مواقفنا ينبغي أن تكون هي المتصفة بالتسليم المطلق، و الصبر، و التحمل، كما هي الحالة التي مرت بها حياة إبراهيم (ع)، و هو يترك أعز عياله في ذلك المكان المقفر، و أيضاً أن نتمثل الحالة التي مرت بإسماعيل (ع)، بقبوله تحقيق رؤيا والده بذبحه ..

إذا اتصفنا بذلك، و بأن نعي التسليم المطلق لله تعالى، و الإذعان الكامل لأوامره، و إذا عشنا في ضوء هذا المختصر خلال أدائنا لفريضة الحج، فإننا نكون- حقاً- قد ولدنا من جديد.

مكة:

إنه البعد الجغرافي التاريخي.. كانت هي مركز لأذان إبراهيم (ع)، هي ميدان لأداء فريضة الحج، ملتقى للحضارات و الشعوب، مدينة تضم مؤتمراً ثقافياً متنقلًا في شوارعها، تزدحم بالحجاج الذين جاؤوا من شتى

ص: 205

أنحاء المعمورة، من جميع الأعراق و الألوان .. اجتمعوا في مكة؛ لقد التقوا في منطقة الحرم على أساس الأخوة في الله تعالى .. فالمسلمون إخوة في الله .. هذه الأخوة هي الشعار الذي يحمله ملايين الحجاج، الذين يأتون إلى هذه المدينة في كل عام ...

و هم في طريقهم للحرم يشاهدون جنة المعلاة، فتذكرهم هذه المقبرة الواقعة في نهاية شارع يعرف اليوم بشارع غزة، الذي يمتد باتجاه شمال مكة، و تحكي لهم أكبر شاهد على تاريخ هذه المدينة، ينظرون و إذا بقبر أم المؤمنين خديجة (ع)، زوجة الرسول (ص)، و أول من آمن بدعوة النبي المصطفى (ص)، المرأة المؤمنة الصادقة، و المخلصة لربها، و لرسول الله (ص)، و التي بذلت كل شي ء في سبيل الله تعالى.

و في هذه المنطقة أيضاً قبر جد الرسول (ص) عبد المطلب، و قبر عمه أبي طالب، رضوان الله عليهما، و قبور الرعيل الأول من شهداء الإسلام ..

كما أنّ الحرم المكي هو البعد و الساحة الأولى لهذا الأذان، هو الاسم الذي يطلق على المنطقة التي تغطي ما مساحته خمسة و عشرون كيلومتراً، و مركزه الكعبة.

و إذا ما نظر إليها من الجو، و للوهلة الأولى، يعتقد بأنها منطقة صحراوية ذات تلال بركانية.. لا حياة فيها.

لقد قام جبريل (ع) بإطلاع سيدنا إبراهيم (ع) على حدود هذه المنطقة، و قام فيما بعد سيدنا محمد (ص) بتحديد حدود منطقة الحرم من جديد.

هذه المنطقة القاحلة المغطاة بالأحجار السود، شكلت منذ سيدنا

ص: 206

آدم (ع)، مروراً بسيدنا إبراهيم (ع)، و انتهاءاً بسيدنا محمد (ص) أكبر ساحة صراعٍ بين أقطاب الشرك من جهة، و أقطاب التوحيد في تاريخ الإنسانية .. إنه أقدم موقع أثري في العالم.

الكائنات الحية و الجماد يتمتعون هنا بالحماية، فالحرم منطقة مشمولة بحماية إلهية، حتى إن نقل الحجارة و التراب من منطقة الحرم، غير مسموح به.. هنا لا يجوز الاعتداء على الإنسان، بل إن قتل نملة، له ثمن، إن قطع غصن شجرة جناية، فلابد أن يحل الأمان في هذا المكان مسرح عمليات عبادية؛ لهذا و حتى تؤدى العبادات بشكل سليم، ينبغي أن يتوفر عنصر الأمان، فجاء دعاء سيدنا إبراهيم (ع): (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً). (1) و يبدو أنّ دعاء إبراهيم (ع) هذا أن يجعل الكعبة أو البيت بلداً آمناً، لأنه لم يكن غير الكعبة، و لم يسكن الناس حولها وقت دعائه هذا، ثم جاء الدعاء الثاني: (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (2)؛ بعد أن حل الناس بجوار البيت.

لكي يعم الأمن و السلام و الثقة على كل من جاء محرماً من أجل الحج، أن يثق بغيره من الحجيج، و أن يثق به إخوانه حجاج بيت الله الحرام؛ و لا ثقة إلّا بعنصر الأمن، و السلامة، و الطمأنينة.

إذن، الحرم وسيلة تعليمٍ ذات أبعاد فلسفية و تربوية، لكل من جاء حاجاً من جميع بقاع الأرض، وسيلة تعليم ترشدهم، و تعلمهم أن يكونوا أكثر بلوغاً و نضجاً في سائر مراحل حياتهم.

و لا غرابة أن تبقى هذه الفلسفة التي بدأت بأذان إبراهيم (ع)، و عاشت في هذه الأرض المقدسة، حتى راح رسول الله (ص) و قد أمره الله


1- البقره: 126
2- إبراهيم: 35.

ص: 207

تعالى بالقراءة، في المكان الذي يمكن رؤيته من جميع أنحاء منطقة الحرم؛ إنه غار حراء، الذي يقع في قمة جبل النور، و هو الغار الذي نأى فيه النبي (ص) بنفسه عن مظاهر الشرك و الباطل، و ما يعبد الناس من دون الله تعالى.

لبث فيه أياماً و ليالي يعبد ربه، و يطهر نفسه، و يرقى بروحه، و يتسامى على طين الأرض و لوثاته، يعطي هذا الوادي قدسية أكبر، و هو يردد ما ينطق به جبرائيل:

(خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَاْ وَ رَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). (1) و بهذه الكلمات نفسها بدأت رسالة السماء، رسالة التوحيد، و بدأت معها النبوة و الرسالة و الإمامة لسيد الكون محمد (ص) التي تم نقشها في قلب الإنسانية الصالحة.

إنّ فريضة الحج هي العنوان و المصداق لهذا الأذان، و ما الحج إلّا واحدة من مفردات كبرى لرسالة ربانية، عبر عنها في القرآن الكريم، يتم تطبيقها عملياً في هذا الميدان.

الحج هو ركن من أركان الإسلام، جمع الله سبحانه وتعالى فيه ما أراد أن يعلمه للبشر من هذه الفريضة.

الميقات:

المواقيت هي الأمكنة التي عينها النبي (ص)، ينوي و يحرم منها من أراد الحج أو العمرة، ثم يكون الدخول منها إلى منطقة الحرم المكي؛ هذه


1- العلق: 1- 4.

ص: 208

الأماكن المعروفة يعلن الحاج عن نيته، و هو يحرم لأداء فريضة الحج، و من يأتي من المدينة المنورة، أو من طريقها، يحرم من منطقة ذي الحليفة.

فالميقات هو المكان الذي يتجرد فيه الإنسان من الدنيا، و من ملابسه الدنيوية، ليغتسل و يلبس الثياب البيض التي تشبه الكفن، وسيلةً للتقرب إلى ربه.

يبدأ منها الحاج أو المعتمر بإعداد نفسه للإحرام، قبل دخول منطقة الميقات، و يقوم بصلاة ركعتين، يخلع الرجال ملابسهم، و يلتفون فقط بقطعتين من القماش هما: الإزار و الرداء؛ أما النساء فيحرمن بملابسهن العادية، مع تغطية رؤوسهن، و الإبقاء على وجوههن مكشوفة.

إنه استعداد أولي، و قبل دخول حدود الميقات ..

الكعبة- و هي صرح الأذان الأول- الآن بانتظار الجموع المحرمة الملبية، كلما اقتربت هذه الجموع كلما زاد شوقها، لقد ملأ قلوبها حب الكعبة ... سيل من البشر يسير نحو المسجد الحرام، يبدأ بالسرعة، و الاتساع، و الازدياد، كلما اقترب منها، نعم كلما اقتربنا زادت عظمة المكان، ازداد خفقان القلب، و تنهمر الدموع، و قد تغلق الجفون كأننا ننظر إلى أشعة الشمس التي تتكشف عنها الغيوم، يبقى القلب، الوسيلة الوحيدة لرؤية المكان.

الكعبة دليل البقاء، و قبلة الإيمان، نتجه إليها في كل صلواتنا، من بيوتنا، من جوامعنا، و حتى و نحن في قبورنا نوجه إليها، ننام و نصحو معها، هنا قلب الإنسانية، و بيتها، و حرمها، إنه أول قلب ينبض بحياة عزيزة

ص: 209

طيبة: (إِنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ) هنا بيت الحرية و الاستقلالية، نحيا فيه أياماً، بعيدين عن كل مظاهر الأبهة، و الفخفخة الفارغة.

فصاحب البيت هو الله، و المستأجرون هم العابدون التائبون، هنا حتى و لو أنك جئت من آخر الدنيا، فلك أن تؤدي الصلاة كاملةً دون قصرٍ، فأنت لست مسافراً.. أنت جئت للوفاء بوعدك لسيدنا إبراهيم (ع) ملبياً دعوته، و جئت قاصداً دار التوحيد، فلقد كنت غريباً في وطنك، و الآن أصبحت صاحب مكان، لقد عتقت نفسك، هنا لك حرية التصرف في كل حركاتك داخل المسجد الحرام.

الكعبة أمامنا، وسط حلقة بشرية، الحلقة تأخذ بالاتساع و التشكل، عند الالتقاء بهذه الجموع الغفيرة، التي جاءت شاقةً طريقها، عبر شوارع مكة الضيقة.

حلقةٌ أشبه بالفراشة التي تحوم حول الضوء، بل هي مثل ضوء القمر الذي يحيط بالأرض، مثل الشمس التي تدور دون توقف، هذا هو الطواف.

كل شي ءٍ يتحرك ما عدا الكعبة المشرفة، فهي وحدها شامخةً ثابتةً في مكانها، حركة تبدأ من عند الحجر الأسود، و بها و به يفتح الطريق للدخول في مسار الموكب، الحافل بالأدعية و التوسل و المناجاة، إنه بداية لإلقاء السلام، و تجديد العهد مع رب هذا البيت، و طلب المباركة منه سبحانه وتعالى في بداية طوافنا.

باسم الله و الله أكبر، عبارة يرددها كل من يلتقي هذا الحشد الغفير،

ص: 210

ليدخل إلى نظام الجذب المركزي للكعبة، من الشمال إلى اليمين، نطوف بعكس عقارب الساعة، و بعكس الزمن، يذوب الإنسان المؤمن في مركز الجذب هذا، تماماً مثلما كان عليه حال السيدة هاجر التي سلمت أمرها لله سبحانه وتعالى.

تخرج الجموع من الطواف بعد الشوط السابع، و تستمر جموع أخرى و أشواط، و تتواصل حلقات الطواف، و سبعة هو عدد أشواط السعي بين الصفا و المروة، و سبعة عدد الحجارة التي يرجم بها إبليس، و اليوم السابع هو اليوم الذي أتم به الله القدير خلق السماوات و الأرض.

بعد انتهاء الطواف نصلي ركعتين في مقام سيدنا إبراهيم (ع)، و هذه الصلاة تعني انتهاء الطواف، ليبدأ بعده السعي.

السعي:

و قبله يمشي الحجيج إلى بئر زمزم في ساحة الكعبة المشرفة، يشرب من مائه الذي وصفه الرسول (ص):" بأنه شفاءٌ لكل داء". لم يذهب سعي السيدة هاجر (ع) سدًى، فقد وجدت الماء لابنها إسماعيل (ع)، بل وجدت ماء زمزم الذي لايجف و لاينضب، و مازال يسيل حتى الآن بمياه مباركة.

السعي وسيلة للبحث عن الماء، عن القدر، عن الذات، عن الحياة .. إنه التسليم التام لله تعالى، مع التوكل عليه، و ليس التواكل.

تتجه مواكب الحجيج للسعي بين الصفا و المروة، يدخل الحاج في سيل هذه الجموع الغفيرة، بقلب يخفق مثلما خفق قلب السيدة هاجر.

نحن الآن وسط هذه الجموع التي تسعى بين الصفا والمروة سبع

ص: 211

مرات، ثلاثة في الصفا و أربعة في المروة؛ و كما فرحت السيدة هاجر (ع) بعد سعيها بين التلال، بعد أن وجدت الماء، فإنّ الحاج هو الآخر، يفرح أن يتقبل منه الله سعيه هذا.

غداً هو اليوم الثامن من ذي الحجة .. اليوم الذي يسبق يوم الوقوف في عرفة، إنه يوم التروية، فيه يخرج الحجاج إلى منى.

سمي بهذا؛ لأنهم كانوا يتروون فيها إبلهم، و يتروون من الماء؛ لأن تلك الأماكن لم تكن إذ ذاك فيها آبار و لا عيون؛ و جاء في كتاب لسان العرب: تروى القوم و رووا: تزودوا بالماء، و يوم التروية: يوم قبل يوم عرفة، و هو الثامن من ذي الحجة، سمي به لأن الحجاج يتروون فيه من الماء، و ينهضون إلى منى، و لا ماء بها، فيتزودون ريهم من الماء، أي يسقون و يستقون.

و نسب إلى الإمام الصادق (ع): «يخرج الناس إلى منى من مكة يوم التروية، و هو اليوم الثامن من ذي الحجة، و أفضل ذلك بعد صلاة الظهر، و لهم أن يخرجوا غداةً أو عشيةً إلى الليل، و لا بأس أن يخرجوا ليلة يوم التروية، و المشي لمن قدر عليه في الحج فيه فضل، و الركوب لمن وجد مركباً فيه فضل أيضاً، و قد ركب رسول الله (ص)».

و روي عنه (ع) أيضاً: «صوم يوم التروية كفارة سنة ..».

هنا في منى خطب الرسول (ص) في الصحابة في حجة الوداع .. قال للمسلمين: «خذوا عني مناسككم».

يقضي الحاج اليوم كاملًا أو نصفه في هذا المكان، و يصلي فيه الظهر

ص: 212

و العصر، و المغرب و العشاء، يقضي ليله في منى، ثم يصلي الفجر فيها.

تحت أشعة الشمس الساطعة، يخرج الحجاج من خيامهم، في محاولة للبحث عن المكان الحقيقي للحياة.. هذا هو الشعور الذي ينتاب كل حاج، و هو في طريقه إلى عرفات.

في أبعد مكان عن مكة .. مكان واسع جاف و ملي ء بالحجارة و الرمل، حتى أن وصف هذا المكان بالفسيح و الواسع قد لا يليق به.. هذا الميدان الذي له تأثير كبير، قادر على جمع هذه الأمم من مختلف أنحاء الأرض، التي تتوحد في حركات متناسقة من رفع الأيدي إلى السماء، لطلب الرحمة و المغفرة، كأنه جزء من مكان يوم الحشر.

في هذا المكان الذي شرح فيه الرسول (ص)، رسالة الإسلام الإنسانية في خطبة الوداع، و سأل الصحابة ثلاث مرات.. و كان في كل مرة، يشهد الله على ما فعل أو ما قاله:

ألا هل بلغت؟

أللهم فاشهد ..

عرفات:

عرفات، و هو جمع عرفة، لعلها جمعت إكراماً و تعظيماً ..

فبعد بزوغ شمس اليوم التاسع من ذي الحجة، يتوجه إلى صعيد عرفات،.. شرق مكة.. و هو أبعد مكان عن المسجد الحرام، جبل على مسافة اثني عشر ميلًا من مكة.. نتجه للبحث عن جنة فقدناها ..

ص: 213

يبدأ الحاج بالتوجه إلى صعيد عرفات، بعد أن ترك الوطن و الأهل و البنين، يتجه بقطعتين من القماش وسط هذا الغبار، بعد أن يكون قد ترك جميع مظاهر الحياة بكل أشكالها، كل ذلك في سبيل الله، و ليبدأ خطوةً بعد خطوة من أجل الاقتراب من رحمته سبحانه وتعالى، فهو يوم يتضرع فيه كل مؤمنٍ و عابد، هو يوم استغفار تفتح فيه أبواب الرحمة لجميع التائبين في جميع أنحاء هذه المعمورة ..

عرفات .. نقطة البداية لكل حاج؛ لكي يعيد حساباته في جميع مراحل حياته.

عرفات ساحة رحمةٍ لا تنتهي، هنا في عرفات .. فرصةٌ لأن يتعرف الإنسان على نفسه.

جبل الرحمة في صعيد عرفات، إنه المكان الذي أعلن رسول الله (ص)- عند سفحه- تبليغ رسالته، و هو المكان الذي أحس فيه بأنه اقترب من لقاء وجه ربه، الوقوف في عرفات هو الركن الثاني بعد الإحرام، وقفةٌ تبدأ وجوبها عند الزوال من اليوم التاسع من ذي الحجة، فيبدأ معها منعطف حياة جديدة، تحمل الكثير من المعاني و العبر، يوم حرية، و يوم بحث عن الذات، هذه الوقفة التي ليس لها شكل معين، هذا المكان الذي بدا، و كأن إسرافيل (ع) قد نفخ في الصور، و كأن هذه الجموع قد خرجت من قبورها، و أكفانها على أكتافها.

يوم عرفة تذرف الدموع من العيون طلباً للرحمة و المغفرة، فالكل يبكي رجالًا كانوا أو نساءاً، كباراً كانوا أو صغاراً، أغنياء كانوا أو فقراء،

ص: 214

حكاماً كانوا أو محكومين، تماماً مثلما طلب سيدنا آدم (ع) و أمنا حواء (ع) المغفرة و الرحمة من رب العالمين، حيث قالا: (رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ). (1) في هذه اللحظة يتجرد الإنسان من مظاهر الدنيا، و يتم وقفته في ظل هذا الشعور، لحظة النفرة من صعيد عرفات تذكرالحجيج بيوم المحشر أيضاً، تتوقف جموع منهم لحظةً أخرى، تحاول شق الطريق وسط هذا السيل من البشر، هي لحظة العودة إلى الدنيا، مثل بزوغ الشمس بعد غياب.

المزدلفة:

(فَإِذا أفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ)، حان الآن الاتجاه إلى المزدلفة المشعر الحرام، في اليوم التاسع من ذي الحجة.

تبعد ثلاثة كيلومترات عن منى، وادٍ يقف فيه مليونا حاج في ظلام دامس، و بدون خيام .. قمر يشهد لنا وقفة المزدلفة، كما شهدت الشمس وقفة عرفة، و المشعر الحرام .. مثله مثل الطواف، و السعي، و الوقوف في عرفات، كلها شعائر فريضة الحج، و الوقوف في المزدلفة محاولة لفهم العبرة من الوقوف في عرفات، محاولة لإدراك سرّ هذه الوقفة.

يبدأ الحاج بجمع الحصى، و عددها تسع و أربعون جمرة، أو سبعون جمرة، أي حصاة، استعداداً لرمي الجمرات في أيام عيد الأضحى، و بعد المبيت في المزدلفة، يعود إلى منى، التي تبدو للوهلة الأولى، و كأنها غطيت بالثلوج، منظر رائع يتمثل بالإعداد الجيد للخيام ذات اللون الأبيض، لإبعاد


1- الأعراف: 23.

ص: 215

حرارة الشمس الملتهبة، يقضي فيها مليونا حاج أو أكثر ثلاثة أيام، يكثرون فيها من العبادة.

دعاء و انتظار إلى اليوم الثاني، اليوم الذي تبدأ فيه رحلة جديدة إلى منى، و سنمر من الطريق التي سلكناها قبل يوم في محاولة للصعود إلى صعيد عرفات، لكننا نعود إلى منى هذه المرة أكثر نضجاً و بلوغاً أيضاً، هذه الحجارة التي جمعناها.

منى:

منى، على موعد مع الحجيج في العاشر من ذي الحجة، أول أيام العيد، يبدأ سيل الحجاج القادمين من صعيد عرفات مروراً بالمزدلفة بالتوجه إلى منى، في صباح أول أيام عيد الأضحى، هذه السيول الغفيرة التي صعدت إلى عرفات بصبر، و بعيون أغرقتها الدموع، و تبردت بالنسيم العليل في المزدلفة و المشعر الحرام، تزيد الحاج الذي نزل من عرفات بقرارات لا رجعة عنها، شوقاً لإتمام استحقاقات ذلك الأذان.

الجمرات:

هنا بات الجميع رجالًا و نساءاً، شيوخاً و أطفالًا، يتصرفون بحركة و بشعور مماثل، شعور الكراهية لأكبر عدو للإنسان، هنا يبدأ الجميع برجم و لعن الشيطان برمي هذا المكان الذي يرمز إلى الشيطان.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ

ص: 216

أصْحابِ السَّعِيرِ). (1) في أول أيام العيد ترمى جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات فقط، هنا رجم سيدنا إبراهيم (ع) الشيطان الذي ظن أنه قادر على حمله على معصية الله.

الهدي:

بعد رمي جمرة العقبة الكبرى، يقدم الحاج القارن و المتمتع الهدي كشرط لإتمام فريضة الحج، في هذا الموقع الذي يرمز إلى المكان الذي أراد أن يضحي فيه سيدنا إبراهيم بابنه إسماعيل (ع)، بأمر من الله سبحانه وتعالى.

الحلق:

بعد ذلك يقوم الحاج بحلق شعره أو تقصيره.

مكة مرةً أخرى:

يعود الحاج مرة أخرى إلى مكة، و في نفسه هذه المرة قرار بمحاربة الشر و الشيطان، عهد و ثقة بينه و بين ربّه عزّوجلّ، يعود و هو مرفوع الرأس، و مفعم القلب بالإيمان.

الطواف:


1- فاطر: 6.

ص: 217

مرة أخرى نعود إلى الكعبة، نعود إلى هذا المكان الذي لامثيل له، المكان الذي تطوف فيه الملائكة في سماء خالقها.

نأخذ مكاناً لنا إلى جانب الحجرالأسود، لنبدأ طوافاً من سبعة أشواط، كل شوطٍ بثلاث مأة و ستين درجةً، نعود للطواف مرة أخرى، و لكننا هذه المرة نكون أكثر تسليماً لله.

و بعد أن نكون قد قررنا التطهر من ذنوبنا، ندور في هذا الفلك بأقدامٍ عاريةٍ، معلنين تجديد العهد مع الله، و التوبة وثيقةٌ لهذا الإعلان.

و الطواف مثل الصلاة، فهو بحاجة لأن نكون على وضوءٍ، بعكس الشعائر الأخرى التي لاتشترط الوضوء.

بعد الانتهاء من الطواف نصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم (ع)، لنتوجه بعد ذلك إلى السعي.

السعي:

نبدأ سعينا بين الصفا والمروة، سعياً بين هاتين الهضبتين اللتين سعت بينهما السيدة هاجر (ع)، بحثاً عن الماء لإطفاء ظمأ ابنها، هذا المكان الذي شهد صراعاً ضد الجوع و العطش، و ضد وسوسة الشيطان.

هذا الركن من أركان الحج يحمل في طياته الكثير من العبر، فبعد الانتهاء من السعي بين الصفا و المروة سبع مراتٍ، يكتسب الحاج مرةً أخرى، مفاهيم كان قد فقدها أو نسيها، و هو في خضم تيار الحياة الدنيا الصاخبة .. مفاهيم التسليم لله عزّوجلّ، و العفو عند المقدرة، و حب الآخرين.

ص: 218

بعد الانتهاء من الطواف، و السعي بين الصفا و المروة، يطوف الحاج طوافاً آخر هو طواف النساء، و يصلي ركعتيه خلف المقام.

نعود إلى منى؛ لنقضي فيها ليلتنا، وفقاً للسنة النبوية، و إن كنا قد أتممنا فرائض الحج، إلا أن رحلتنا لم تنته بعد، فغداً و بعده هو يوم آخر لرمي الجمرات.

كأننا بالأمس و اليوم قد شهدنا يوم المحشر.

جموع غفيرة تسير فوق هذا الجسر العملاق و تحته، و إلى جوانبه، إنه لمنظر يستحق المشاهدة، منظرلأكبر مظاهرة تبدأ منذ ساعات الصباح الأولى في أيام منى، و حتى المساء، ظاهرة احتجاج يلعن فيها إبليس، في كل مرة ترمى فيها هذه الحصيات، لعنة الشيطان إلى الأبد، و تعبر عن حالة من الحرب المعلنة ضد الشيطان فيما تبقى من حياتنا.

هنا يبدأ الحاج ينظر إلى الدنيا نظرةً مختلفةً، فقد جعل من حياته مكاناً محرماً على الشيطان لايقوى على اقتحامه.

هذه الجمرات الثلاث تبدأ بالنزول على المكان المرموز به لإبليس تماماً، مثل حجارة السجيل في حادثة الفيل، يجتمع الحجاج كلٌ تحت علم بلاده، فيبدو المشهد كأنه منظرٌ لجيشٍ منتصرٍ، يقف مرفوع الرأس بعد الحرب التي أعلنها على إبليس- رمز الشر- في هذا المكان.

فرحلة الحج التي طالما أعددنا- لسان حال الحجيج- لها العدة، كأنها يوم المحشر .. بعد هذا الاختبار نعود إلى خيامنا، لنأخذ قسطاً من الراحة من تعب مزج بحلاوة التمتع بأداء هذه الفريضة.

ص: 219

نعود إلى خيامنا لنتوجه بالدعاء إلى الله.

و بين التضرع و الانتظار فرصةٌ للالتقاء بإخواننا المسلمين الذين جاؤوا من مختلف بقاع الأرض.. فرصةٌ لتبادل الثقافات و التعرف على العادات، و التباحث في قضايا المسلمين.

طواف الوداع:

طواف الوداع .. هو الطواف الذي ننهي به رحلة الحج، و جوّاً ربّانياً، روحانياً فريداً من نوعه.

و مع الابتعاد عن هذا المكان بكل ما فيه من قداسة و ذكريات، ينتابنا الشعور بالحزن و الأذى؛ فقد انتهت رحلةٌ كأنها كانت حلماً.

وأخيراً إنها المدينة المنورة!

هناك للأذان المبارك أثر كبير، و ثمرة عظيمة، هي زيارة المدينة المنورة، لعل زيارتها تخفف من ذلك الحزن، الذي ينتاب نفوس الحجيج، لمغادرتهم مكة المكرمة؛ تتوجه طوائفهم إلى هذه المدينة المباركة، بأرضها، و مائها، و هوائها، و عطائها النامي، و تمورها الطيبة، ترافقهم تلك الروح العالية التي أحاطت بالصحابة أثناء الهجرة إليها، يتوجه الحاج، الذي أنهى طواف الوداع، إلى المدينة، مهاجر رسول الله (ص)، و مدينته المنورة بوجوده حياً و ميتاً؛ لزيارة الأضرحة المباركة، و التبرك بأصحابها، و أعظمها ضريح رسول الله (ص).

ص: 220

إذن جئنا إلى الحج لنلبي دعوة سيدنا إبراهيم (ع)، و نرحل عن هذا المكان الطاهر بعد أداء مناسك الحج، و بعد زيارة رسول الله (ص)، و أولاده المعصومين (ع) في البقيع؛ و بهذا نكون قد وجدنا أنفسنا، و هو معنى كبير من معاني الأذان، الذي صدر منذ قرابة 4000 سنة على لسان نبي الله إبراهيم (ع)، و ما زال حياً بيننا، و سيبقى ما دامت السموات و الأرض.

ص: 221

شخصيات من الحرمين الشريفين (25) أبو رافع، مولى رسول الله (ص) (

محمد سليمان

إن هذا الصحابي الجليل سجل وجوداً متميزاً في مدرسة الصحبة المباركة لرسول الله (ص) وراح يستفيد منها بجد وإخلاص وتفان، إيماناً، و جهاداً، و علماً، و معرفة وصدقاً، حتى غدا موضع رضا عند المسلمين، يتضح هذا من خلال اتفاق مذاهبهم على أنه من الثقات الذين تسمع رواياتهم وأقوالهم و علومهم، وهذا لا يعني أن المشتركات معدومة بين مذاهب المسلمين، وأن ما ذكرناه هو المشترك الوحيد بل هناك العديد من المشتركات، وهي كثيرة مما يسهم في تثبيت أواصر العلاقة الطيبة، وبالتالي إرساء الوحدة الإسلاميّة، ودعائم التقريب بينهم ...

ص: 222

إن أبا رافع كما غيره من الصحابة كجابر الأنصاري، وأبي سعيد الخدري، وأبي بن كعب ... يشكلون قواسم مشتركة بين المسلمين، فهم شخصيات حظي كل واحد منهم بصحبة مباركة في مدرسة رسول الله (ص) ورواة وثقوا من قبل مختلف الأطراف، وراح يعتمدهم علماء الرجال، والحديث، والفقهاء الأعلام من المسلمين جميعاً ...

إن هذا الصحابي- أبا رافع- مع أنه اختلف في اسمه، أهوأسلم، وهوالأشهر، أم إبراهيم، وقيل هرمز، أو ثابت، أو سنان، أويسار، أوقرمان، أوعبدالرحمن، أويزيد، فالأقوال في أسمائه عديدة كماوردت في كتب التاريخ والرجال، إلا أن كنيته (أبو رافع) يبدو أنها موضع اتفاق، وقد غلبت عليه في حياته، وفيما كتب عنه، أو فيما نقل عنه من آراء، وأقوال، وروايات، وأحاديث ... علماً أنه كان من السابقين إلى الرواية، والتأليف، والتدوين، والعلم ...

وقدآمن برسول الله (ص) وأسلم في مكة المكرمة، وقد كان من الصحابة المميزين لرسول الرحمة محمد (ص) ثم راح أبو رافع يشهد حروب النبي (ص) كلها إلا بدراً، لأنه كما في الخبر أنه آمن وأسلم قبل معركة بدر، وكتم إسلامه مع عم النبي (ص) العباس بن عبد المطلب ...

و في خبر آخر أنه قدم بكتاب قريش إلى المدينة على رسول الله (ص) و أظهر إسلامه ليقيم بها، فرده رسول الله (ص) و قال: (إنا لا نحبس البرد ولا نخيس العهد). (1) فيما كان حاضراً في معركة أحد، وفي معركة الخندق، وما بعدهما من المشاهد ...


1- أنظر حلية الأولياء، 183: 1- 184.

ص: 223

قال رسول الله (ص) فيه:

خرج رسول الله (ص) إلى الناس فقال: يا أيها الناس من أحب أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي، فهذا أبو رافع أميني على نفسي وأهلي.

وفيه قول القائل من قصيدة:

وحسبك من قومٍ كرامٍ أصادقٍ أبو رافع القبطي منهم أسلم

وكان ممن أخبره النبي (ص) أنه يصيبه بعده فقر، ونهاه أن يكنز فضول المال، وأعلمه عقوبة من يحوز المال ويكثره ...

عن الزهري، عن سليم مولى أبي رافع، عن أبي رافع مولى النبي (ص)، قال النبي (ص): كيف بك يا أبا رافع! إذا افتقرت؟

قلت: أفلا أتقدم في ذلك؟

قال: بلى ما مالك؟

قلت: أربعون ألفاً وهي لله عزوجل.

قال: لا، أعط بعضاً وأمسك بعضاً، وأصلح إلى ولدك.

قال: قلت: أولهم علينا يا رسول الله حق كما لنا عليهم؟ قال: نعم، حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتاب.

وقال عثمان بن عبد الرحمن: كتاب الله عزوجل، والرمي، والسباحة، زاد يزيد: وأن يورثه طيباً.

قال: ومتى يكون فقري؟

قال: بعدي.

ص: 224

قال أبو سليم: فلقد رأيته افتقر بعده، حتى كان يقعد فيقعد فيقول: من يتصدق على الشيخ الكبير الأعمى، من يتصدق على رجل أعلمه رسول الله (ص) أنه سيفتقر بعده، من يتصدق فإن يد الله هي العليا، ويد المعطي الوسطى، ويد السائل السفلى؟ ومن سأل عن ظهر غنى كان له شية يعرف بها يوم القيامة، ولا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوى.

قال: فلقد رأيت رجلًا أعطاه أربعة دراهم، فرد منها درهماً، فقال: يا عبد الله لا ترد على صدقتي.

فقال: إنّ رسول الله (ص)، نهاني أن أكنز فضول المال.

قال أبو سليم: فلقد رأيته بعد استغنى، حتى أتى له عاشر عشرة. وكان يقول: ليت أبارافع مات في فقره- أو وهو فقير- قال: ولم يكن يكاتب مملوكه إلا بثمنه الذي اشتراه به. (1) حبه وولاؤه للامام علي (ع)

لقد كان أبو رافع من الرواد الاوائل الذين وقفوا إلى جانب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وهو ثابت العقيدة، ولم يفارقه، وظل من الذين لم يغيروا، ولم يبدلوا موقفهم القوي الواعي من إمامة علي (ع)، وحقه المشروع في إمامة الأمة على الأصعدة كافة.

وما أن بويع الإمام علي (ع) بالخلافة سنة

35

هجرية، وخرج من المدينة المنورة إلى العراق، توجه معه أبو رافع، وكان ملازماً إياه ملازمة الظل لصاحبه، وشهد مع الإمام (ع) أيضاً جميع مواقفه و حروبه، وعدّ من أبرار الشيعة وصالحيهم، وكان عمره يوم توجه إلى العراق خمساً وثمانين سنة. وعينه الإمام كاتباً له بالكوفة، كما كان صاحب بيت مال المسلمين


1- أنظر حلية الأولياء، لأبي نعيم الأصفهاني، 184: 1- 185.

ص: 225

بالكوفة والمسؤول عنه.

وكان ولداه علي وعبيد الله من أصفياء علي (ع)، وكانا كاتبين أيضاً عنده.

وبعد استشهاد الإمام أميرالمؤمنين (ع)، ذهب أبو رافع مع الإمام الحسن (ع) إلى المدينة، ووضع الإمام الحسن المجتبى (ع) نصف بيت أبيه تحت تصرفه.

حقاً لقد كان أحد الصحابة الأبرار لرسول الله (ص) ومن مواليه المخلصين، وكان أيضاً من الوجوه البارزة في دائرة التابعين للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، فحظي من خلال ذلك بهاتين الصحبتين، مماجعله ذا منزلة كبيرة ومكانة عالية، وذكرطيب واستقامة يمدح عليها الرجل.

لقد كان أبو رافع قبطياً من مصر وكان في سني حياته الأولى غلاماً للعباس عمّ النبي (ص).

وقيل و كما في تاريخ الطبري عند ذكره موالي رسول الله (ص) ويسميه رويفع، وهو أبو رافع مولى رسول الله (ص) اسمه أسلم، وقال بعضهم: اسمه إبراهيم، واختلفوا في أمره، فقال بعضهم: كان للعباس بن عبد المطلب، فوهبه لرسول الله (ص)، فأعتقه رسول الله (ص).

وقال بعضهم: كان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر، فورثه بنوه، فأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم منه، وقتلوا يوم بدر جميعاً، وشهد أبو رافع معهم بدراً، و وهب خالد بن سعيد نصيبه منه لرسول الله (ص)، فأعتقه رسول الله (ص).

والمشهور أن العباس هو الذي وهبه للنبي (ص)، ولمّا أسلم العباس، وبلغ أبورافع رسولَ الله (ص) وبشره بإسلام عمه العباس، أعتقه، وكان إسلام أبي

ص: 226

رافع بمكة مع إسلام أم الفضل، فكتموا إسلامهم فترة، وكان على ثقل النبي (ص)، أي على متاعه، والثقل هو متاع المسافر كما في لسان العرب.

وزوجه مولاته سلمى، وشهدت سلمى خيبر، وولدت له عبيد الله بن أبي رافع.

وفي تاريخ الطبري: له ابنان وهما من موالي رسول الله (ص)، وابنه البهي- اسمه رافع، و أخو البهي عبيدة الله بن أبي رافع- وكان يكتب لعلي بن أبي طالب (ع) فلما ولي عمرو بن سعيد المدينة دعا البهي، فقال: من مولاك؟ فقال: رسول الله (ص)، فضربه مأة سوط، وقال: مولى من أنت؟ قال: مولى رسول الله (ص)، فضربه مأة سوط، فلم يزل يفعل به ذلك كلما سأله: مولى من أنت؟ قال: مولى رسول الله (ص)، حتى ضربه خمسمأة سوط، ثم قال: مولى من أنت؟ قال: مولاكم؛ فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد، قال البهي بن أبي رافع:

صحت ولا شلت وضرت عدوها يمين هراقت مهجة ابن سعيد

هوابن أبي العاص مراراًوينتمي إلى أسرة طابت له و جدود.. (1)وقد يكون له أولاد آخرون، كما عليه بعض المصادر في ذكر من روى عن أبي رافع.

هاجر الهجرتين:

الأولى: مع جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، كما ذكر ذلك بعض علماء الرجال، إلا أني لم أجد فيما لدي من مصادر، كالسيرة النبوية لابن هشام، الذي ذكر أسماء المهاجرين إلى الحبشة، وكذا تاريخ الطبري.


1- تاريخ الطبري، 216: 2 4. مسند أحمد بن حنبل، 272: 6

ص: 227

والهجرة الثانية له: مع رسول الله (ص) إلى يثرب، المدينة المنورة فيما بعد.

وضحك النبي (ص)

ونحن نذكر سلمى، نشير إلى لطيفة أضحكت النبي (ص)، كما جاء في رواية في صحيح مسلم: فعن عائشة قالت: أتت سلمة امرأة أبى رافع مولى رسول الله (ص) إلي رسول الله (ص) تستأذنه على أبي رافع قد ضربها، قالت: قال رسول الله (ص) لأبى رافع: مالك و لها يا أبا رافع؟ قال: تؤذيني يا رسول الله!

فقال رسول الله (ص):

لم آذيته يا سلمى؟

قالت: يا رسول الله ما آذيته بشي ء، ولكنه أحدث و هو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع إن رسول الله (ص) قد أمر المسلمين إذا أخرج من أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني، فجعل رسول الله (ص) يضحك ويقول: «يا أبا رافع إنها لم تأمرك إلّا بخير».

نعم، قد يظن بعض الناس بمن يأمرهم بالخير، أنه شر يستوجب ردة فعل منهم.

معاناته:

ومما ورد عن معاناته ونقلته كتب التاريخ وعلماء الرجال ما حدث له، ونحن نكتفي باللفظ الذي نقلته سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق:

وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن

ص: 228

عباس، قال: قال أبورافع، مولى رسول الله (ص): كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل، و أسلمت و كان العباس يهاب قومه و يكره خلافهم و كان يكتم إسلامه، و كان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبولهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، و كذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلًا، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

قال: و كنت رجلًا ضعيفاً، و كنت أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، و عندي أم الفضل جالسة، و قد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبولهب يجر رجليه بشرحتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبوسفيان ابن الحارث بن عبد المطلب- قال ابن هشام: واسم أبي سفيان المغيرة- قد قدم، قال: فقال أبولهب: هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه و الناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي! أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلّا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالًا بيضاً، على خيل بلق بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شي ء.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبولهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة. قال: و شاورته فاحتملني، فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلًا ضعيفاً، فقامت أمّ الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة

ص: 229

فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلًا، فوالله ما عاش إلّا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتلته. (1) أبو رافع وعلماء الرجال:

أثنى عليه كثيراً علماء الرجال، و مدحوه، و ذكروا سيرته، و سيرة أبنائه، و ما نقل عنه من أقوال رائعة، تدل على ولائه لرسول الله (ص) و لأهل البيت (ع) و أن أبارافع بايع البيعتين، وصلى القبلتين، و هاجر ثلاث هجرات، و ما قاله رسول الله (ص) عنه ...

وهنا أنا أكتفي بما ذكره السيد الخوئي و هو يترجم لأبي رافع رضوان الله تعالى عليه، و ينقل أقوال بعض علماء الرجال، فهذا النجاشي العالم الرجالي بعد أن عدّه من السلف الصالح قال:... أبورافع مولى رسول الله (ص)، و اسمه أسلم، كان للعباس بن عبدالمطلب رحمه الله، فوهبه للنبي (ص)، فلما بشر النبي بإسلام العباس أعتقه.

أخبرنا أبوالحسن أحمد بن محمد الجندي، قال: حدثنا أحمد بن معروف، قال: حدثنا الحرث الوراق و الحسين (الحسن) بن فهم، عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، قال أبورافع: ألحمد لله الذي أكمل لعلي منيته، و هنيئاً لعلي بتفضيل الله إياه، ثم إلتفت.. و ذكر هذا الحديث.

وأخبرنا محمد بن جعفر الأديب، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد في تاريخه، أنه يقال: إن اسم أبي رافع إبراهيم، و أسلم أبو رافع قديماً بمكة، وهاجر إلى المدينة، و شهد مع النبي (ص) مشاهده، و لزم أميرالمؤمنين (ع) من بعده، و كان من خيار الشيعة، و شهد معه حروبه، و كان


1- سيرة ابن هشام، 646: 2

ص: 230

صاحب بيت ماله بالكوفة، و ابناه عبدالله و علي، كاتبا أميرالمؤمنين (ع).

أخبرنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا أبوالحسين أحمد بن يوسف الجعفي، قال: حدثنا علي بن الحسين (الحسن) بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن عبدالله بن علي بن الحسين، قال: حدثنا إسماعيل بن الحكم الرافعي، عن عبدالله بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه عن أبي رافع، قال: دخلت على رسول الله (ص) و هو نائم أو يوحى اليه، و إذا حية في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظه، فاضطجعت بينه وبين الحية، حتى إذا كان منها سوء يكون إلي دونه، فاستيقظ وهو يتلو هذه الآية:

إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون.

ثم فرآني إلى جانبه، فقال: ما أضجعك هاهنا يا أبا رافع؟ فأخبرته خبر الحية.

فقال: قم إليها فاقتلها، فقتلتها، ثم أخذ رسول الله (ص) بيدي، فقال: يا أبا رافع كيف أنت وقوماً (قوم) يقاتلون علياً، هو على الحق، و هم على الباطل، يكون في حق الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم فبقلبه، فمن لم يستطع فليس وراء ذلك شي ء، فقلت: أدع لي إن أدركتهم أن يعينني الله، ويقويني على قتالهم، فقال: أللهم إن أدركهم فقوه، وأعنه. ثم خرج إلى الناس، فقال: يا أيها الناس من أحب أن ينظر إلى أميني على نفسي وأهلي، فهذا أبو رافع أميني على نفسي.

قال عون بن عبد (عبيد) الله بن أبي رافع: فلما بويع علي، وخالفه معاوية بالشام، وسار طلحة والزبير إلى البصرة، قال أبورافع: هذا قول

ص: 231

رسول الله (ص)، سيقاتل علياً قوم يكون حقاً في الله جهادهم، فباع أرضه بخيبر وداره، ثم خرج مع علي (ع)، وهو شيخ كبير له خمس وثمانون سنة، و قال: الحمد لله لقد أصبحت لا أجد بمنزلتي، لقد بايعت البيعتين: بيعة العقبة، و بيعة الرضوان، و صليت القبلتين، و هاجرت الهجر الثلاث.

قلت: و ما الهجر الثلاث؟ قال: هاجرت مع جعفر بن أبي طالب رحمه الله إلى أرض الحبشة، و هاجرت مع رسول الله (ص) إلى المدينة، و هذه الهجرة مع علي بن أبي طالب (ع) إلى الكوفة، فلم يزل مع علي حتى استشهد علي (ع).

فرجع أبورافع إلى المدينة مع الحسن (ع)، و لا دار له بها و لا أرض، فقسم له الحسن (ع) دار علي (ع) بنصفين، و أعطاه سنح أرض أقطعه إياها، فباعها عبيدالله بن أبي رافع، من معاوية بمأة ألف وسبعين ألفاً.

و بهذا الإسناد عن عبيدالله بن أبي رافع في حديث أم كلثوم بنت أميرالمؤمنين (ع)، إنها استعارت من أبي رافع حلياً من بيت المال بالكوفة.

و لأبي رافع كتاب السنن و الأحكام و القضايا؛ أخبرنا محمد بن جعفر النحوي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا حفص بن محمد بن سعيد الأحمسي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري، قال: حدثنا علي بن القاسم الكندي، عن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده أبي رافع، عن علي بن أبي طالب (ع) إنه كان إذا صلى قال في أول الصلاة:... و ذكر الكتاب إلى آخره باباً باباً، الصلاة، و الصيام، و الحج، و الزكاة، و القضايا.

و روى هذه النسخة من الكوفيين أيضاً، زيد بن محمد بن جعفر بن المبارك، يعرف بابن أبي إلياس، عن الحسين بن حكم الحبري، قال: حدثنا

ص: 232

حسن بن حسين باسناده، و ذكر شيوخنا أن بين النسختين اختلافاً قليلًا، و رواية أبي العباس أتم.

و لابن أبي رافع كتاب آخر، و هو علي بن أبي رافع تابعي من خيار الشيعة، كانت له صحبة من أميرالمؤمنين (ع)، و كان كاتباً له، و حفظ كثيراً، و جمع كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء، و الصلاة، و سائر الأبواب.

أخبرني أبوالحسن التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا علي بن القاسم البجلي قراءة عليه، قال: حدثني أبوالحسن علي بن إبراهيم بن المعلى البزاز، قال: حدثنا عمر بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين، قال: حدثني أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن عبيدالله بن أبي رافع، و كان كاتب أميرالمؤمنين (ع)، إنه كان يقول: إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده، و ذكر الكتاب.

قال عمر بن محمد: و أخبرني موسى بن عبدالله بن الحسن، عن أبيه، أنه كتب هذا الكتاب عن عبيدالله (عبدالله) بن علي بن أبي رافع، و كان يعظمونه و يعلمونه.

قال أبو العباس بن سعيد: حدثنا عبدالله بن أحمد بن مستورد، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم النهدي، قال: سمعت موسى بن عبدالله بن الحسن، يقول: سأل أبي رجل عن التشهد، فقال: هات كتاب ابن أبي رافع، فأخرجه فأملاه علينا، و قد طرق عمر بن محمد هذا الكتاب إلى أميرالمؤمنين (ع).

أخبرنا أبوالحسن التميمي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا الحسن بن القاسم، قال: حدثنا معلى، عن عمر بن محمد بن عمر، قال: حدثنا علي بن عبيدالله بن محمد بن عمر بن علي، قال: حدثني

ص: 233

أبي، عن أبيه محمد، عن جده عمر بن علي بن أبي طالب عن أميرالمؤمنين (ع). وذكر أبواب الكتاب.

قال ابن سعيد: حدثنا الحسن، عن معلى، عن أبي زكريا يحيى بن السالم (سالم)، عن أبي مريم، عن أبي اسحاق، عن الحرث، عن علي أميرالمؤمنين (ع)، من ابتداء باب الصلاة في الكتاب، و ذكر خلافاً بين النسختين.

و قال العلامة: ثقة، شهد مع رسول الله (ص)، و لزم أميرالمؤمنين (ع) بعده، و كان من خيار الشيعة.

و عده الشيخ في رجاله في أصحاب رسول الله (ص)... (1) آثاره العلمية ومروياته:

تميز هذا الصحابي الجليل بعلميته و فضله، فقد حقق أسلم أبو إبراهيم القبطي مكاناً رائداً، و موقعاً علمياً كبيراً، و احتراماً واسعاً، حتى عد من خيار أصحاب رسول الله (ص) على مستوى العلم، فهو من أول من ألف كتاباً في الفقه الإسلامي، و هو كتاب كبير عنوانه: السُّنن والقضايا والأحكام، يشتمل على الفقه، فى أبوابه المختلفة، رواه جمع من المحدّثين الكبار، و فيهم ولده.

و له كتب اخرى، منها: كتاب أقضية أمير المؤمنين (ع)، و كتاب الديات، وغيرهما، و يعتقد بعض العلماء أنها قاطبة أبواب ذلك الكتاب الكبير، و فصوله، و هو أول من جمع الحديث النبوي الشريف...

و عن عبيد الله بن علي، عن جدته سلمى، قالت: رأيت عبد الله


1- أنظر معجم رجال الحديث للسيد الخوئي المجلد الأول رقم: 52، و انظر رجال النجاشي و غيرهما.

ص: 234

بن عباس معه ألواح يكتب عليها عن أبي رافع شيئاً من فعل رسول الله (ص).

حقاً أن صحابياً يكتب عنه حبر الأمة ابن عباس شيئاً من فعل رسول الله (ص) و لاسيما أن معه ألواحاً، قد أعدها للكتابة عنه، لهو رجل ذو نصيب وافر من المعرفة، و العلم، و الفقه، و الصدق، و الأمانة...

و لقد روى أبو رافع عن رسول الله (ص)، و علي (ع) و عبد الله بن مسعود، و روى عنه أولاده الحسن، و رافع، عبيد الله، و المعتمر، و يقال المغيرة، و سلمى، و أحفاده، كالفضل بن عبيد الله، و الحسن، و صالح، و عبيدالله، كما روى عنه علي بن الحسين (ع) و سليمان بن يسار، و عمر بن الشديد الثقفي، و أبو غطفان بن ظريف المري، و شرحبيل بن سعد، و أبو سعيد المقبري، و جماعة كثيرة، و روى عنه علي بن الحسين (ع) و كأنه شافهه...

و من مروياته:

كان أبو رافع ممن حظي بمقام كريم في عالم الرواية، و قد أخذ عنه العديد من الروايات، و كان منها:

1- حديث المنزلة، و هو قول النبي (ص) لعلي (ع): «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى».

2- حديث الغدير، و هو قول رسول الله (ص): «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟».

قالوا: بلى.

ص: 235

قال (ص): «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟».

قالوا: بلى.

فأخذ بيد علي (ع) فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهم والِ من والاه و عادِ من عاداه». و له ألفاظ أخرى، لكنها متقاربة.

أبورافع القبطي مولى رسول الله (ص)، روى حديثه ابن عقدة في حديث الولاية، و أبوبكر الجعابي في نخبه، و عدّه الخوارزمي في مقتله ممن روى حديث الغدير من الصحابة. (1) وعده الجزري الشافعي من رواة هذا الحديث. (2) 3- حديث الثقلين؛ عدّ أبورافع من رواة هذه الأحاديث، و هي تحدد للأمة طريق نجاتها، و نجاحها، و فوزها، و سلامة طريقها إلى الله تعالى و رسوله (ص) و قد روى هذه الأحاديث العديد من الرواة، و نحن هنا نقتصر على رواية أبي رافع، و حديث الثقلين.

فعنه رضوان الله عليه، إن رسول الله (ص) قال: أيها الناس أني تركت فيكم الثقلين، الثقل الأكبر، و الثقل الأصغر، فأما الأكبر، هو حبل فبيد الله طرفه، و الطرف الآخر بأيديكم، و هو كتاب الله، إن تمسكتم به لن تضلوا، و لن تذلوا أبداً، و أما الأصغر، فعترتي أهل بيتي، إن الله اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، و سألت ذلك لهما فأعطاني، و الله سائلكم كيف خلفتموني في كتاب الله و أهل بيتي.

و في رواية أخرى عن أبي رافع مولى رسول الله (ص) قال: لما نزل رسول الله (ص) غدير خم، مصدره عن حجة الوداع، قام خطيباً بالناس بالهاجرة، فقال: أيها الناس إني تركت فيكم الثقلين، الثقل الأكبر، و الثقل الأصغر، فأما الثقل الأكبر فبيد الله طرفه، و الطرف الآخر بأيديكم، و هو


1- أنظر رواة حديث الغدير من الصحابة، كتاب الغدير
2- أسنى المطالب،: 4.

ص: 236

كتاب الله إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً، و أما الثقل الأصغر فعترتي أهل بيتي، إن الله هو الخبير أخبرني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض. (أخرجه ابن عقدة).

قال أبو رافع مولى رسول الله (ص): خرجنا مع علي (ع) حين بعثه رسول الله (ص) برايته إلى خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم فضربه يهودي فطرح ترسه من يده فتناول علي باباً كان عند الحصن فتترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده، و هو يقاتل حتى فتح الله على يديه، ثم ألقاه من يده؛ فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه؛ و كان فتحها في صفر... (1) و من رواياته الأخرى: أن رسول الله (ص) بعث رجلًا من بني مخزوم على صدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا حتى أتي رسول الله (ص)، فأسأله، فانطلق إلى النبي (ص) فسأله، فقال: الصدقة لا تحل لنا، و إن مولى القوم من أنفسهم.

قدم النبي (ص) خيبر، فأصاب الناس برد شديد، فقال النبي (ص): من كان له لحاف فليلحف من لا لحاف له؛ فطلبت من يلحفني فلم أجد أحداً، فأتيت النبي (ص)، فأخبرته، فألقى علي من لحافه، فبتنا حتى أصبحنا، فوجد النبي (ص) عند رجليه على فراشه حية، قد تطوقت، فرماها النبي (ص) برجله، و قال: يا أبا رافع، أقتلها، أقتلها.

و عن السرية التي أمر بإرسالها رسول الله (ص) إلى اليمن، و كانت بإمرة الإمام علي (ع)، يقول أبورافع: لما وجهه رسول الله (ص) قال: إمض و لا تلتفت! فقال علي (ع): يا رسول الله كيف أصنع؟ قال (ص): «إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، فإن قاتلوك فلاتقاتلوهم حتى


1- أنظر سيرة ابن هشام، فتح خيبر؛ البداية و النهاية، لابن كثير، 5: 318؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 2:. 15

ص: 237

يقتلوا منكم قتيلًا، فإن قتلوا منكم قتيلًا فلا تقاتلوهم، تلومهم حتى تراهم أناة؛ ثم تقول لهم: هل إلى أن تقولوا لا إله إلا الله؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن تصلوا؟ فإن قالوا: نعم، فقل: هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة تردونها على فقرائكم؟ فإن قالوا: نعم، فلا تبغ منهم غير ذلك. و الله لأن يهدي الله على يدك رجلًا واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس، أو غربت،! (1) و عن بيع عقيل بن أبي طالب لمنزل رسول الله (ص) في مكة، يقول أبورافع: قيل للنبي (ص): ألا تنزل منزلك من الشعب؟

قال: فهل ترك لنا عقيل منزلًا؟

و كان عقيل قد باع منزل رسول الله (ص) و منزل إخوته من الرجال و النساء بمكة، فقيل لرسول الله (ص)، فأنزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فأبى رسول الله (ص)، قال: لاأدخل البيوت، فلم يزل مضطرباً بالحجون، لم يدخل بيتاً، و كان يأتي إلى المسجد من الحجون... (2) و في رجال النجاشي عن أبي رافع: دخلت على رسول الله (ص) و هو نائم، أو يوحى إليه، و إذا حية في جانب البيت، فكرهت أن أقتلها فأوقظه، فاضطجعت بينه و بين الحية، حتى إن كان منها سوء يكون إليّ دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية:

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (3) ثمّ قال (ص): «ألحمد لله الذي أكمل لعلي مُنيته، و هنيئاً لعلي بتفضيل الله إيَّاه»؛ ثمّ التفت، فرآني إلى جانبه، فقال (ص): ما أضجَعَكَ هَاهُنا يا أبا


1- المغازي، للواقدي 3: 1079 و ما بعدها.
2- المصدر نفسه، 2.: 829
3- المائدة: 55

ص: 238

رافع؟

فأخبرته خبر الحيّة، فقال (ص): قم إليها فاقتلها، فقتلتها، ثم أخذ رسول الله (ص) (بيدي فقال:) يا أبا رافع، كيف أنت و قوم يقاتلون عليّاً، هو على الحق، و هم على الباطل، يكون في حقِّ الله جهادهم، فمن لم يستطِع جهادهم فبقلبه، فمن لم يستطع فليس وراء ذلك شي ء؟ فقلت: ادعُ لي إن أدركتهم أن يُعينني الله، ويُقوِّيني على قتالهم؛ فقال (ص): «أللَّهُم إن أدركهم فقوِّه وأعِنْه»؛ ثمَّ خرج إلى الناس، فقال (ص): «يَا أيُّها الناس، مَن أحبَّ أن ينظر إلى أميني على نَفسي وأهلي، فهذا أبو رافع أميني على نفسي».

أم الفضل و أبي لهب:

و كانت لأم الفضل رضي الله عنها وقعة شهيرة يوم بدر، يرويها أبو رافع مولى رسول الله (ص)، يقول: كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، و كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت و أسلمت أم الفضل و أسلمت، و كان أبولهب- عدو الله- قد تخلف عن بدر، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبثه- أذله- الله و أخزاه، و وجدنا في أنفسنا قوة وعزاً.

و كنت رجلًا ضعيفاً أعمل القداح، أنحتها في حجرة زمزم، و عندي أم الفضل جالسة، و قد سرنا ما جاء من أنباء نصر الله للمسلمين، فجاء أبولهب و لم يصدق أنباء النصر، و جاء أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقال أبولهب: إليّ يا بن أخي ما خبر الناس؟

فقال: ما هو إلا لقينا رجال، حتى منحناهم أكتافنا، و لقينا رجال على خيل بلق بين السماء و الأرض.

فقلت: تلك الملائكة فلطمني أبولهب لطمة شديدة، و طفق يضربني،

ص: 239

فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فشجت رأسه شجة منكرة، و قالت: تستضعفه أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلًا، فوالله ما عاش إلّا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة فقتله.

أبولهب يموت كمداً!

و في حديث أبي رافع مولى العباس بن عبدالمطلب، لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر، كبت الله أبا لهب و أخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس، إذ قال الناس: هذا أبوسفيان بن الحارث بن عبد المطلب، قد قدم.

قال: فقال أبولهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه و الناس قيام، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال: و الله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، و أيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالًا بيضًا- يلبسون البياض- على خيل بلق بين السماء و الأرض، لايقوم لها شي ء، قال أبورافع:- و كان الإسلام دخلنا و سرنا ذلك- تلك و الله الملائكة، فرفع أبولهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل- زوج العباس- إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، و قالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال، حتى رماه الله بالعدسة- و هي قرحة تتشاءم منها العرب-.

أخبرنا أبو الفرج يحيى بن محمود بن سعد الأصفهاني الثقفي إجازة، بإسناده عن أبي بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن

ص: 240

مخلد، حدثنا هدبة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن أبي رافع، عن عمته سلمى، عن أبي رافع، أن رسول الله (ص) طاف على نسائه جمع، فاغتسل عند كل واحدة منهن غسلًا، فقلت: يا رسول الله (ص)، لو جعلته غسلًا واحداً، قال: هذا أزكى و أطيب.

قال بكيربن الأشج: أخبرت أنه كان قبطياً؛ شعبة، عن الحكم، عن ابن أبي رافع، عن أبيه: أن النبي (ص) بعث رجلًا على الصدقة، فقال لأبي رافع: انطلق معي فنصيب منها، قلت: حتى أستأذن رسول الله (ص)، فاستأذنته، فقال: يا أبا رافع، إن مولى القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة.

قال سليمان بن يسار: قال أبورافع: لم يأمرني رسول الله (ص) أن أنزل الأبْطَحَ حين خرج من منى، ولكني جئت فنزلت، فجاء فنزل.

الذراع:

قال الحافظ أبو يعلى، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا زيد بن الحباب، حدثني قائد مولى عبيد الله بن أبي رافع قال: أتيت رسول الله (ص) يوم الخندق بشاة في مكتل، فقال يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته، ثم قال يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته ثم قال يا أبا رافع ناولني الذراع فقلت: يا رسول الله أللشاة إلا ذراعان؟ فقال لو سكت ساعة ناولتنيه ما سألتك فيه انقطاع من هذا الوجه وقال أبو يعلى أيضا ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ثنا فضيل بن سليمان ثنا قايد مولى عبيد الله حدثني عبيد الله أن جدته سلمى أخبرته أن النبي (ص (بعث إلى ابي رافع بشاة وذلك يوم الخندق فيما أعلم

ص: 241

فصلاها أبو رافع ليس معها خبز ثم انطلق بها فلقيه النبي (ص (راجعا من الخندق فقال يا أبا رافع ضع الذي معك فوضعه ثم قال يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته ثم قال يا أبا رافع ناولني الذراع فناولته ثم قال يا أبا رافع ناولني الذراع فقلت يا رسول الله هل للشاة غير ذراعين فقال لو سكت لناولتني ما سألتك وقد روى من طريق أبي هريرة قال الامام أحمد ثنا الضحاك ثنا ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن شاة طبخت فقال رسول الله (ص (: أعطني الذراع فناولته إياه فقال أعطني الذراع فناولته إياه ثم قال أعطني الذراع فناولته إياه ثم قال أعطني الذراع فقال يا رسول الله إنما للشاة ذراعان قال أما إنك لو التمستها لوجدتها".

انظر البداية والنهاية 122: 6

أبو عبيدة عن جابر عن ابن عباس عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم] قال [: استسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً فجاءته إبل الصدقة، فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا رباعياً خياراً، فقال:" اقضه.

أنت أول من ..:

وقال أبو رافع:" أتيت أبا ذر بالربذة أودعه. فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله. وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلم (يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل. وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين. وأنت أخي ووزيري، وخير من أترك بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعدي".

ص: 242

وهو المناسب لأحاديث أخر، مثل ما عن ابن عباس، قال: لما نزلت:

(إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (

وضع (صلى الله عليه و سلم (يده على صدره فقال: أنا المنذر. ولكل قوم هاد، وأومأ بيده إلى منكب علي، فقال: أنت الهادي يا علي. بك يهتدي المهتدون بعدي ( (. وغيره.

أبو لهب ..:

يروي أبو رافع مولى العباس رضي الله عنه فيقول: كان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف منهم رجل إلا بعث مكانه رجلًا.

فلما جاء الخبر من مصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، فوجدنا في أنفسنا قوة وعزاً قال: وكنت رجلًا ضعيفاً، أعمل الأقداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخير، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشرٍّ حتى جلس. فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث قد قدم. فقال أبو لهب: هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف أمر الناس؟ فقال أبو سفيان: والله ما هو إلا أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالًا بيضاً على خيل بلق بين الناس، والأرض والله لا يقوم لها شي ء.

قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة! فرفع أبو لهب يده فضرب بها في وجهي ضربة شديدة، وكنت رجلًا ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في

ص: 243

رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده!! فقام أبو لهب مولياً ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة وهي بثرة تخرج بالبدن فتقتل وهي تشبه الطاعون- فقتلته.

الهجرة:

وهذه رواية أخرى لأبي رافع فبعد صلح الحديبية هاجر العباس وأهله إلى المدينة، فحازت أم الفضل شهادة الهجرة ..

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن الحسن عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خرجنا مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطاح ترسه من يده فتناول علي عليه السلام بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده حين فرغ فلقد رأيتني في نفر سبعة معي، أنا ثامقال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة! فرفع أبو لهب يده فضرب بها في وجهي ضربة شديدة، وكنت رجلًا ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده!! فقام أبو لهب مولياً ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة وهي بثرة تخرج بالبدن فتقتل وهي تشبه الطاعون- فقتلتهنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه.

عن خيبر:

وعن أبي رافع كما أخرج ابن إسحاق في المغازي وابن عساكر: أن

ص: 244

عليا تناول بابا عن الحصن- حصن خيبر- فتترس به عن نفسه، فم يزل في يده وهو يقاتل، حتى فتح الله علينا، ثم ألقاه، فلقد رأيتنا ثمانية نفر نجهد أن نقلب ذلك الباب، فما استطعنا أن نقلبه .. وعن المقريزي أن ابن إسحاق أخرج في سيرته، وابن عساكر في تاريخه، عن أبي رافع مولى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: .. وأن سبعة لم يقلبوه. وقال ابن هشام في السيرة: وألقى علي الباب وراء ظهره ثمانين شبرا، وفي رواية أن عليا لما انتهى إلى الحصن، اجتذب باب الحصن فألقاه بالأرض، فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا، حتى أعادوه إلى مكانه.

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الإمام علي نفسه، إنما يقول عن هذا الحادث:" والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية، ولكن بقوة ربانية".

تاريخ الخلفاء: 167، سيرة ابن هشام. 251: 3 ونهج البلاغة.

إلا كان له من أمته ..:

وفي المحلى عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن مسعود حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم يحدث من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء ذلك من الأيمان حبة

ص: 245

خردل.

المحلى (ص). 361:

استحباب التأذين:

فعن أبي رافع أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة.

رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح. و ذكره الحاكم في مستدركه

وفاته:

وتوفي أبو رافع رضوان الله عليه في خلافة عثمان ودفن في البقيع، وقيل: في

خلافة علي، وقيل توفي بالكوفة سنة اربعين هجرية.

وقيل: إنه أوصى إلى الإمام علي عليه السلام، فكان الإمام علي عليه السلام يزكي أموال بني أبي رافع وهم أيتام ..

لقد توفي هذا الصحابي الجليل رضوان الله تعالى عليه بعد أن سجل اسمه مع (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. (فرحمة الله تعالى عليه وهو (.. مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقا) النساء) 6 ص).

المصادر: انظر مختصر تاريخ دمشق) 2: 2 ص). 6

المغازي للواقدي. تاريخ الطبري. المحلى (ص) 361: السيرة النبوية لابن هشام. معجم رجال الحديث. رجال النجاشي

ص: 246

ص: 247

جولة في الصحافة السعودية

1-" أزمة" التكفير و التفسيق

جميل الذيابي

تضيق الدنيا على أناس يعيشون بيننا من مساحة الاختلاف، فيحولون مجرد الاختلاف (البسيط) إلى عنوان كبير للحقد و الكره و التكفير و التفسيق و التفجير.

أشخاص يستلذون بإطلاق التهم على الآخرين، و يرون (الكفر) و (الفسق) أقل (وصمة) يستحقها كل من يختلف معهم في وجهة النظر و طريقة التفكير.

أشخاص لاتتورع ألسنتهم و لا أقلامهم عن قدح الآخرين و

ص: 248

تكفيرأفكارهم، بدلًا من مقارعة الحجة بالحجة، و عدم الضيق بمساحة الاختلاف التي تفضي إلى اتفاق.

(شخوص) نياتهم مريضة و (ألسنتهم) أشد مرضاً.

(شخوص) يحملون وجوهاً متعددة، فيقولون ما لايفعلون.

(شخوص) لا يميزون بين حوار الحجج و ضجيج اللجج.

(شخوص) يسارعون إلى إرسال شفرات سالبة تبيح القتل و تستبيح الدماء.

(شخوص) يدعون المعرفة فيطلقون أحكاماً تكفيرية و يمررونها بنيات تفجيرية.

(شخوص) يرمون كلمات ل- (المتحمسين) المندفعين، ليستجيبوا بها دماء الأبرياء الذين حرّم الله قتلهم إلّا بالحق، بحثاً عن فتنة تطل برأسها كلما خمدت أخرى، متناسين أن ألْفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.

(شخوص) يؤمنون بعقيدة ضيقة مقيتة، يهدفون من ورائها إلى (عسكرة) المجتمعات و تقسيمها إلى فرق و جماعات متناحرة.

يبدو أن ثقافة الحوار (غائبة)، و قيم الاعتدال و الوسطية تواجه حرباً ضروساً، إذ يحاول هؤلاء الشخوص إرسال شفرات (خبيثة) لاستعادة موجة التكفير و التفسيق، لتمزيق أركان المجتمعات المستقرة و سكون شعوبها المسالمة؛ فالأُمة بأكملها تمر بمرحلة (حرجة) تستوجب من العلماء و العقلاء القيام بواجباتهم الإنسانية، تجاه فتاوى التكفير التي بدأت تطفو على السطح تدريجياً من خلال (حلب) الفتاوى و تأويل المعاني برغبة استعادة مبررات العنف و ترويح الآمنين.

هل ضاقت الأرض بما رحبت، و تحوّلت الاختلافات إلى قضايا

ص: 249

تستوجب القتل، و إيجاد المبرّرات للسفهاء، لاستخدام أساليب العنف و التجريم، بديلًا عن روح التسامح و الحوار؟!

المفتي العام للسعودية رئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، حذّر في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة قبل فترة وجيزة، ممن يمتطون صهوة التكفير بقوله:

إنّ المصيبة التي حلت بأهل الإسلام تتمثل في التسارع إلى إغداق التكفير و التفسيق، على رغم أنّ الدين الإسلامي حذّر من هذا المسلك الوخيم، (فمن قال لأخيه يا كافر رجعت إليه)؛ مؤكداً أنّ الإرهاب شرّ يجب التعاون على اجتثاثه و استئصاله، و منع أسبابه و بواعثه.

إنّ من بواعث تكفير الناس فتح المجال لشباب مندفع لارتكاب عمليات إجرامية بإزهاق أنفس بريئة، و تحويل الحياة الآمنة إلى شرّ مستطير، و فتن، و خراب، و آلام، و أحزان.

و بعد إعلان وزارة الداخلية السعودية عن إلقاء القبض على 700 شخص و واحد من الفئة الضالة يعتنقون أفكاراً تكفيرية و تفجيرية، انتقد وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ بعض أئمة المساجد، لعدم قيامهم بواجباتهم ل- (رد الفتن)، محذّراً من تحويل بيوت الله إلى ميادين للمجاملة... و من السكوت عن المنحرفين المنتسبين إلى الإسلام، موضّحاً أنّ مصيبة كثير من بلاد المسلمين تتمثل في (التكفير أو التفجير).

العنف ظاهرة تتنامى عالمياً، و لبعض المنتسبين للدين الإسلامي دور كبير في إذكائها و التحريض عليها، مايستدعي وضع حد (قاطع) لتلك الدعوات المتطرفة، عبر اتخاذ إجراءات حاسمة، من شأنها التنكيل بكل من يشجع على إذكاء الكراهية، و التعصب، و إيقاظ الفتنة، و زيادة البغضاء بين

ص: 250

المسلمين و غير المسلمين.

خادم الحرمين الشريفين قال في كلمته في افتتاح المؤتمر العالمي للحوار في مدريد: (إنّ المآسي التي مرت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، و لكن بسبب التطرف الذي ابتلى به بعض أتباع كل دين سماوي، و كل عقيدة سياسية).

إنّ جعل الحوار ثقافة مجتمع، و خريطة طريق نحو ترسيخ قيم الإنسانية البناءة من دون الانقسام و التشظي إلى فرق و جماعات، هو الحل الجامع و المانع؛ كما أنّ هناك ضرورة لسنّ تشريعات واضحة من مجمع الفقه الإسلامي بحق مثل هؤلاء، حتى لاتصبح الساحة الإسلامية كرة يتقاذفها (المكفّرون) و (المفسّقون) و (المؤدلجون) المتطرفون.

الكرة الآن في ملعب العلماء، و أهل الرأي و الفكر، للجم مثل هؤلاء قبل أن تستفحل فتاواهم لتطاول المجتمع كله.

الحياة، العدد: 16544، 18/ رجب/ 142 (ص) ه-

2- ابن جبرين: تسوير الآثار الإسلامية أمر صحيح!!!

نعيم تميم الحكيم- جدة

أيد عضو اللجنة الدائمة للإفتاء و البحوث سابقاً، العلامة الدكتور

ص: 251

عبدالله بن جبرين، الرأي القائل بضرورة إزالة بعض الآثار و تسوير بعضها الآخر «منعاً للتبرك بها، و خوفاً من حصول بدع تقود إلى الشرك و العياذ بالله».

و قال في تصريح ل- «الدين والحياة»: إن المطالبة بإزالة هذه الآثار و تسويرها أمر صحيح، لأنّ نبيّنا لم يذهب إلى تلك الأماكن، مع أنه دخل مكة مراراً، سواء المكان الذي يقولون إنه موضع مولده، و لم يصعد إلى غار ثور، و لاحراء، و لا غيرهما من الأماكن التي يدّعون أنّ فيها بركة، و البركة في ما أمر الله به من طواف البيت، و سعي بين الصفا و المروة، و وقوف بعرفةو المشاعر، هذا ما أمرنا به، و يجب أن نقوم بتنفيذه، و لاخلاف في ذلك، حتى لانقع في الشرك الذي قد يخرج من الملةو العياذ بالله.

و كانت شرارة الجدل حول هذا الموضوع قد انطلقت حينما طالبت هيئة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بتسوير أو إزالة أكثر من ستة مواقع في مكة، لما يحدث فيها من أعمال شركية و بدعية.

وقال رئيس الهيئة في منطقة مكة المكرمة، الشيخ أحمد الغامدي، إنّ الهيئة طالبت بوضع سياج عازل حول جبل ثور، و جبل الرحمة، و جبل النور، و ذلك لما يحصل فيها من أعمال شركية و بدعية، و قيام بعض الحجاج بالتبرك بها، و الصلاة باتجاهها؛ و أضاف: الهيئة طالبت بوضع سياج شائك على بعض المواقع التي يسهل منها الصعود لجبل ثور، و جبل الرحمة، وجبل النور، من أجل الحد من الممارسات الشركية التي تحدث فيها من قبل بعض الجهلة و المبتدعين.

حيث إنّ هناك بعض المعالم التي وضعت في تلك المواضع مثل

ص: 252

الشاخص الذي وضع في جبل الرحمة، للإيهام بأنه الموقف الذي وقف به الرسول، و الصحيح أنه لم يثبت ذلك، بل ثبت أنه وقف أسفل جبل عرفة و قال: «عرفة كلّها موقف».

و تابع يقول: هناك أشخاص مجهولون يقومون بطلاء الشاخص للاستفادة من الحجاج مادياً، و قد أنشؤوا له درجاً للصعود إلى أعلى، لالتقاط صور الحجاج و الزائرين بجوار الشاخص بمقابل مادي، لافتاً إلى أن هناك من يتأثرون بدعاة الخرافة.

يذكر أن المستشار في الديوان الملكي، الشيخ عبدالمحسن العبيكان، كان قد قال في تصريح سابق ل- «الدين والحياة»: إنّ إزالة الآثار الإسلامية أو تسويرها أمر باطل، مطالباً بضرورة توعية الناس و تثقيفهم، بدلًا من هدمها.

عكاظ، العدد: 2818 الخميس 8/ 3/ 1430 ه-

0 5/ مارس/ 200 (ص)

3- الباحسين: ليس هناك فقه جامد .. والأحكام لاتصدر عن هوى

عبدالله الداني- جدة

ص: 253

رفض عضو هيئة كبار العلماء، الدكتور يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين، تقسيم الفقه إلى فقه واقع و غير ذلك، مشيراً إلى أنّ الفقه كله فقه واقع، لأنّ الأحكام الشرعية إنما هي إجابات و تساؤلات عما يريد الناس معرفته من أحكام لأفعالهم وتصرفاتهم.

و قال ل- «الدين والحياة»: إنّ العلماء يقولون: إنّ تغير الأحكام يكون بتغير الأزمان، و هذه قاعدة معروفة، لكن المسألة ليست على إطلاقها، و لا ينبغي الاسترسال فيها.

فالإمام الشافعي غيّر في فتاواه بحسب اختلاف المكان، لكنه لم يغير شيئاً يحكمه نصّ شرعي، فالعادة محكمة و مراعاة، و كذلك الظروف مراعاة في مجالات معينة و محدودة.

فالإمام الشافعي كان لايرى أن تقام الجمعة في أكثر من مسجد؛ لكنه حينما ذهب إلى بغداد، و رأى أنها مدينة واسعة، و فيها أكثر من مسجد، غيّر رأيه و أجاز صلاة الجمعة في أكثر من مسجد، فمثل هذا يمكن أن نقول فيه: أنّه تغيّر بحسب الواقع وفقاً للمثال السابق.

و هناك قاعدة شرعية تنصّ على أن «المشقة تجلب التيسير»، فمثل هذه الأمور تتغيّر مثل العيوب في المبيع، فإنها قد تختلف و يكون العرف هو المحدد لها.

و أضاف قائلًا: ينبغي أن نعرف أنّ النصوص الشرعية هي الأساس، و لا يمكن أن تتغير أو تتبدل، أما مسألةاختلاف وجهات النظر و نحوها، فهذا شي ء آخر، مبيناً أن النصّ الشرعي القاطع الذي لايحتمل التأويل، لايمكن أن يتغير فيه الحكم، كما يوجد نص مرن قابل للتفسير على وجوه متعددة مع بقائه حاكماً للمسألة، أما الأمور التي بنيت أساساً على علل و

ص: 254

ظروف معينة، فإنها تتغير بتغير الظروف.

و قال الدكتور الباحسين: ليس هناك ما يسمى بالفقه الجامد، فهناك أمور ثابتة و مقررة، و تساءل: «هل يعقل أن نغير الحكم الشرعي بناءاً على رغبات الناس و تصرفاتهم، و نجعله متحركاً ليوافق مرادهم؟».

و بيّن أنّ الفقه كله شمولي، و أنه لاينبغي تجريده من الشمولية.

و مضى يقول: إنّ كل مجتهد من المذاهب يرى أن رأيه شمولي، فلا ينبغي عند اجتهاد العالم أن يرى رأيه صواباً و غيره على خطأ، و من المفترض أن يقول: إنّ رأيه صحيح يحتمل الخطأ، و رأي غيره خطأ يحتمل الصواب، مبدياً استبشاره بالتشكيل الجديد لهيئة كبار العلماء، سائلًا الله سبحانه و تعالى التوفيق والسداد لما فيه خير الأمة.

عكاظ، العدد: 2818- الخميس 8/ 3/ 1430 ه-- 0 5/ مارس/ 200 (ص)

4- ابن جبرين: الثورة على المذهبية لا تجوز وأئمتها علماء راسخون

أحمد المبارك- الرياض

قال الشيخ العلامة عبدالله بن جبرين في تصريح خاص ب- «الدين و

ص: 255

الحياة»: إنّ الدعوة اللامذهبية أو دعوة التنكر للمذاهب هي دعوة محدثة و لم تكن في العصور السابقة.

و أضاف: أن الأئمة أصحاب المذاهب من علماء الأمة و من الذين لهم سبق في الايمان، و في العلم، و في الفقه في الدين، ليسوا معصومين، و عذرهم فيما خالفوا فيه الدليل، عدم وصول ذلك الدليل إليهم..

و أضاف: كل منهم يعترف بأنه لم يحط بالعلم، و بأنه قد يقع في أخطاء، فنقول لأتباع الأئمة: إذا اتضح لكم الدليل فعليكم أن تقولوا به، و تتركوا مذهب إمامكم، حيث إنّ الحق أحق أن يتبع.

و الذين يقولون: لايجوز التمذهب بأحد المذاهب، و ينكرون على أتباع الإمام أبي حنيفة، أو أتباع مالك، أو الشافعي، أو أحمد بن حنبل، أو سفيان الثوري، أو الليث بن سعد؛ نقول لهم: لاتنكروا على أتباع هؤلاء الأئمة، فإنهم قد ذهبوا إلى هذه المذاهب عن اجتهاد، و عن تحقق بصحة ما جاء بها.

و لكن عليكم أن تنصحوا من أصر على خطأ، و تمسك بالمذهب دون أن تطعنوا في اولئك الأئمة، فإن أبا حنيفة كتبت فتاواه في مؤلفات، حيث جمعها أبو يوسف، و محمد بن الحسن، و غالب اعتماده على الرأي و النظر؛ لأنه صاحب فكرة و ذكاء و فهم ثاقب، و قد يعتمد على فقه أهل الكوفة الذي نقل عن أصحاب ابن مسعود و غيرهم من علماء ذلك الزمان، و إذا أخطؤوا فلا يجوز القدح في إمامهم، بل ننصح من اتضح له الدليل أن يعمل به، و لا يتعصب لذلك المذهب، و يرد لأجله الأدلة.

و أتباع الإمام مالك اعتمدوا على كتابه «الموطأ» و هو من أحسن الكتب و أكثرها فوائد، و مع ذلك قد فاته كثير من العلوم، و لهذا لما طلب

ص: 256

منه المنصور العباسي أن يلزم الناس بالعمل بالموطأ امتنع عن ذلك، و علل بأن الصحابة تفرقوا، و عندهم علوم ما بلغتنا، ثم إنّ أحد تلاميذه كتب أسئلة كثيرة تلحق بمذهبه في كتاب كبير يسمى: «المدونة»، اعتمد عليه أتباعه، و نحن نقول: إذا اتضح لكم دليل مخالف لما في مذهبكم فاتبعوا الدليل.

و أما الشافعي فقد كتب أحكام الفقه في كتابه «الأم» و غيرها من الرسائل، و صارت عمدة لمن تبعه، و مع ذلك فقد اعترف بأن مذهبه الحديث، فهو يقول:" إذا صح الحديث فهو مذهبي".

و أما الإمام أحمد، فقد منع كتابة مسائله، أو امتنع من أن يكتب في الفقه، و أحب أن يرجع الناس إلى كتب الحديث، و منها مسند الإمام أحمد، لكن تلاميذه كتبوا الكثير من الأسئلة التي أجاب عليها، و بلغت نحو عشرين مجلداً، بعد ما جمعت، و تبعها الذين يتمذهبون بمذهبه.

و ختم الشيخ ابن جبرين إجابته بقوله: الثورة على المذاهب لا تجوز، فإن الأئمة لهم قدم راسخ في العلم، و لا يجوز تخطئتهم، و لم يبلغ هؤلاء الذين ينكرون عليهم عشر معشار أولئك الأئمة، فقد قال أحد العلماء عن الإمام أحمد: حوى ألف ألف من أحاديث أسندت، و أثبتها حفظاً بقلب محصل، أجاب على ستين ألف قضية بأخبرنا، لا عن صحاف نقل.

و قد حرص الفقهاء على أن يؤلفوا في هذه المذاهب حسب الاختيارات، و يذكروا في المسألة قولين أو ثلاثة، إذا لم يكن فيها دليل صريح، و إنما فيها اجتهاد و نظر، و لكل مجتهد نصيب.

«عكاظ»

ص: 257

5- مدير آثار نجران يروي القصة الكاملة لحريق

«أصحاب الأخدود»

اليهود ارتكبوا أقدم «هولوكوست» في التاريخ

د. محمد الحربي

كانت الأخدود في الزمن البعيد حاضرة نجران، و مقراً للقوافل التجارية، و تعاقبت عليها عدة دول آخرها الدولة المحمدية، التي انتهت فترة حكمها في عهد الملك «ذو نواس»، الذي ارتكب مجزرة الأخدود، عند ما أراد أن يردع أهل رقمان، كما كانت تسمى عند أتباع الديانة الجديدة، بعد أن آمنوا بالله، و اعتنقوا النصرانية، و أراد أن يعيدهم إلى الديانة اليهودية، التي كان يدين بها، و عندما رفضوا ترك دينهم، غضب الملك، و أمر بحفر الأخاديد، و قتل و عذب عشرات الآلاف منهم، و أحرقهم فيها، و ما زالت آثار ذلك الحريق الكبير موجودة و شاهدة على هول ما حدث في منتصف الألف الأول الميلادي تقريباً.

و كأنما هذه الحادثة أقدم «هولوكوست» في التاريخ الإنساني ارتكبه ملك يهودي لإبادة النصارى الذين رفضوا العودة عن دينهم.

صالح بن محمد آل مريح مدير إدارة الآثار بنجران، حدثنا عن القصة الحقيقية لأصحاب الأخدود، و ليس كما هي في أذهان الكثيرين، و

ص: 258

عن انتشار الديانة النصرانية، و عن مذبحة الأخدود الشهيرة قائلًا:

كانت نجران في الغالب تمثل جزءاً من الصراع الدائر بين ممالك جنوب الجزيرة العربية، و خلال القرنين الرابع و الثالث قبل الميلاد، تأثرت بالسيطرة المعينية على طرق التجارة في الجزيرة العربية حتى البحر الأبيض المتوسط، و يعتقد بعض المستشرقين أنّ نجران انضوت بالكامل تحت حكم دولة معين خلال هذه الفترة، و خلال القرن الثاني و الثالث الميلاديين.

و أضاف آل مريح بأن نجران تأثرت أيضاً بالصراعات التي وقعت بين الأُسر السبئية الحاكمة في بداية القرن الثالث الميلادي.

كان عصر التجارة البرية قد بدأ في الاضمحلال، نتيجة للصراعات الدائرة إلى جانب كساد في التجارة.

و في حوالي سنة" 250 م" تمكنت دولة حمير بزعامة الملك «شمر يهرعش» الشهير من السيطرة على أراضي السبئيين السابقة، و أصبح الحميريون بذلك حكام جنوب الجزيرة العربية بدون منازع، و خلال هذه الفترة يبدو أن نجران كانت عضواً في تحالف يضم إلى جانبها الأحباش و كندة، تتزعمه الدولة الحميرية.

و يضيف آل مريح: من ناحية أخرى لعبت الإمبراطورية البيزنطية دوراً كبيراً في نشر الديانة المسيحية داخل و خارج مناطق نفوذها، و ذلك بعد أن قام الإمبراطور الروماني (قسطنطين) بنقل الحكم من روما إلى بيزنطة، و اعتنق الديانة المسيحية، و من ثم عمل جاهداً على نشرها داخل و خارج الجزيرة العربية، فكانت نجران واحدة من المدن التي اعتنق أهلها الديانة المسيحية، و ذلك على الأرجح خلال القرن الخامس الميلادي.

انتشار الديانة المسيحية في نجران، أثار حفيظة الملك (يوسف إسار)

ص: 259

، الذي عُرف بذي نواس، و هو آخر ملوك حمير، و كان آنذاك يعتنق الديانة اليهودية، و يحرص على نشرها داخل مناطق نفوذ دولته؛ فما كان منه إلّا أن قام بغزو المدينة (الأخدود) و ظفر بها بعد حصار استمر ستة أشهر، من سنتي 524- 525 م، ثم خيّر أهلها بين العدول عن المسيحية إلى اليهودية، أو القتل.

فاختاروا القتل، فحفر لهم الأخدود (الخندق)، و أوقد فيه النار، فأحرق بالنار، و قتل بالسيف و مثّل بهم، حتى قتل منهم ما يقارب ال- 20 ألف، و يقال (ص) 0 ألف نسمة؛ و كانت هذه الحادثة سبباً في قيام الحبشة بإيعاز من الدولة البيزنطية بغزو جنوب الجزيرة، و القضاء على الملك ذي نواس و دولته.

مشاهدات داخل الأخدود

يوجد على مدخل المدينة لوحة كبيرة تشرح القصة الكاملة لأصحاب الأخدود؛ فهناك بقايا العظام البشرية منتشرة في كل مكان، في الممرات و على الجدران الترابية، و تعود بقايا العظام هذه لأكثر من (ص) 0 ألف رجل و امرأة و طفل و شيخ، قضوا نحبهم حرقاً في ذلك الحريق الضخم، و ذلك وفق ما أكده لنا مدير الآثار، كما أنّ آثار الحريق سواء العظام أو الرماد ما زالت واضحة على جدران و حجارة الأخدود، و كأنها حدثت قريباً.

و تنتشر في ممرات الأخدود الكثير من القطع الأثرية، منها الفخاريات المحطمة، و القطع الحجرية، و الكتابات، و الرسوم الصخرية على جدران المدينة الأثرية، التي تشير إلى اللغة الحميرية التي كانت

ص: 260

مستخدمة آنذاك.

و البوابة سياج حديدي متواضع يفضي بك إلى سلم حديدي متواضع أيضاً، و ما هي إلا بضع خطوات، و تجد نفسك في قلب مدينة الأخدود الأثرية، تتجول بين أخاديدها الحجرية، و نقوشها التاريخية المكتوبة بلغة قديمة لا تفهمها إلّا بشرح مختص يقوم بالترجمة، و بين آثار الحريق الهائل، و بين بقايا العظام البشرية المنتشرة في كل مكان، في مشهد مهيب.

و تنتشر أشجار الأراك في كل أنحاء المدينة الأثرية بتوزيع طبيعي عشوائي، دون تدخل الإنسان فيها، بزراعتها أو تهذيبها.

و قريباً من المدخل توجد قلعة كبيرة مهدمة أجزاؤها، و على جدرانها نقوش و رسوم حيوانية و كتابات، بعدها مكان مرتفع يمكن مشاهدة جميع أنحاء المدينة أثناء الوقوف عليه.

و أثناء التنقل في المدينة توجد بعض أماكن التنقيب و الحفريات الحديثة التي تجري لاكتشاف بقية آثار المدينة، و آثار العظام المتفحمة و الهشة، و آثار الرماد تنتشر في كل مكان.

و رحى الأخدود، أو الرحى الكبيرة التي كانت تستخدم لطحن الحبوب، و حجمها كبير جداً، و كان من الصعب العمل عليها إلا بواسطة البغال لتدويرها لكبر حجمها، و يوجد داخل مدينة الأخدود ثلاث أرحية قديمة.

و المسجد الذي تم اكتشافه في عام 1417 ه-، يعود تاريخه إلى القرن الأول الهجري (7- 8 ميلادي)، و نظراً لأهمية هذا الموقع من الناحية التاريخية الأثرية، فقد قامت وكالة الآثار و المتاحف خلال أربعة مواسم

ص: 261

بالتنقيب؛ كان الأول في عام 1417 ه-، بإجراء حفرية داخل القلعة، أسفرت عن نتائج إيجابية ساهمت في إعطاء معلومات تاريخية و حضارية عن المواقع، تم الاعتماد عليها في العرض المتحفي بمتحف نجران، و كان الموسم الثاني في عام 1417 ه-، حيث أسفرت عن اكتشاف مسجد شمال شرق القلعة، و يعتبر أقدم مسجد في المنطقة حتى الآن.

و القلعة عبارة عن مدينة متكاملة مستطيلة الشكل، يحيط بها سور بطول 235 متراً، يمثل نظام تحصين كان معمولًا به في مدن جنوب الجزيرة العربية، و الذي يحتوي على نتوءات و تجاويف عشوائية و غير منتظمة، بمساحات متفاوتة، و يتميز هذا النظام بأن المباني الواقعة على السور تندمج في السور، لتشكل جدرانها الخارجية جزءاً من المحيط الدفاعي الخارجي للسور، على أن هذه المباني في الغالب تكون جدرانها أعرض، وتصل إلى 150 سم، بينما العرض السائد للمباني الداخلية يتراوح بين 80- 110 سم.

و داخل السور تنتشر مجموعة كبيرة من المباني التي تتفاوت حالاتها من حيث درجة تأثير عوامل التعرية و الزمن عليها، بنيت الأجزاء السفلية لها من كتل حجرية منحوتة، على شكل واجهات مستطيلة، أو مربعة، بأحجام متفاوتة، يبلغ طول واجهات بعضها حوالي 350 سم، على أنّ الأجزاء العلوية من هذه المباني على الأرجح كانت مبنية من الطين اللين، أو الطوب اللبن، و تمثل عدة أدوار، و تحولت حالياً إلى كميات من الرديم يغطي أجزاء كبيرة من جدران العديد من المباني.

«عكاظ»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.