ميقات الحج-المجلد 29

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ملاحظات

ص: 4

يرجى من العلماء والمحققين الأفاضل الذين يرغبون في التعاون مع المجلة أن يراعوا عند إرسال مقالاتهم النقاط التالية:

1- أن تقترن المقالات بذكر المصادر والهوامش بدقّة وتفصيلٍ.

2- أن لا تتجاوز المقالة 40 صفحة وأن تكون مضروبة على الآلة الكاتبة إن أمكن أوأن تكتب بخط اليد على وجه واحد من كلّ ورقة.

3- أن تكون المادّة المرسلة للنشر في المجلة غير منشورة سابقاً وغير مرسلة للنشر إلى مجلة أخرى.

4- تقوم هيئة التحرير بدراسة وتقييم البحوث والدراسات المقدمة إلى المجلة، ولهاالحقّ في صياغتها وتعديلها بما تراه مناسباً مع مراعاة المضمون والمعنى.

5- يعتمد ترتيب البحوث والمقالات في المجلة على أسس فنيّة وليس لأسباب أخرى.

6- تعتذر هيئة التحرير عن إعادة المقالات إلى أصحابها سواء أنشرت أم لم تنشر.

7- المقالات والبحوث التي تنشر على صفحات المجلة تمثل وجهات نظر وآراءكتّابها.

8- ترسل جميع البحوث والمقالات على عنوان المجلة في طهران.

9- ترحّب هيئة التحرير في مجلة ميقات الحج بملاحظات القرّاء الكرام ومقترحاتهم.

ص: 5

الحج رموزٌ و حِكم (6)

الشيخ عبدالله جوادى آملى

الحجر الأسود

السرّ في تشبيه الحجرالأسود بمقام الرسول الأكرم 9

تضم الكعبة المطهرة أربعة اركان و ترتيبها حسب الطواف كما يلي: ركن الحجرالأسود، الركن العراقي، الركن الغربي والركن اليماني. و المسافة بين الحجرالأسود وباب الكعبة تُعرف ب- «الملتزم». قال الإمام الصادق 7: «هو الموضع الذي تاب الله فيه على آدم». (1) و «المستجار» موضع يقع إلى جانب الركن اليماني، بمحاذاة الملتزم، حيث يتعلق الزائرون بأستار لطف الله تعالى. وقد عبّر أمير المؤمنين الإمام علي 7 عن سرّ التعلق والتشبث بأستار الكعبة ومعنى ذلك بقوله: «هو مثل رجلٍ له عند آخر جناية وذنبٌ فهو يتعلّقُ بثوبه يتضرّع إليه و يخضع له أن يتجافى له عن ذنبه» (2).

يقع الحجرالأسود إلى يسار الزائر الذي بإزاء باب الكعبة ومقام إبراهيم 7 على يمينه (وإن كان مقام إبراهيم يقع الآن خلف الزائر المفترض) ولكن بالنسبة للكعبة نفسها، فلو افترضنا أن وجه الكعبة يقع قبالة الناس وجهاً لوجه من الجدار الذي يقع في باب الكعبة، فإن الحجرالأسود يقع إلى يمين بيت الله الحرام و مقام إبراهيم إلى يساره.

يقول الإمام الصادق 7 مبيناً سرَّ الأمر المذكور، مجيباً على هذا السؤال: لماذا يستلم الناس الحجرالأسود و الركن اليماني من بين أركان الكعبة فقط؟ فقال: لأنها بمنزلة يمين عرشه (3) و الله سبحانه وتعالى أمر باستلام كل ما هو على يمين عرشه.

ثم قال مجيباً عن السبب في وقوع مقام إبراهيم على الجانب الأيسر: لأن «لكل من النبي إبراهيم 7 و الرسول الأكرم 9 مقاماً خاصاً في يوم القيامة، ومقام محمد 9 عن يمين عرش ربنا عزوجل و مقام إبراهيم 7 عن شمال عرشه ...» (4).

والحجرالأسود، هو المقام الذي يستند إليه الإمام المهدي [عندما يبايعه الناس، في بداية ثورته العالمية لبسط العدالة. وكما عبر الإمام الصادق 7 عن ذلك قائلًا: «... وإلى ذلك المقام يسند القائم ظهره، و هو الحجة و الدليل على القائم، و هو الشاهد لمن وافاه في ذلك المكان، والشاهد على من أدّى إلى الميثاق والعهد الذي أخذ الله عزوجلّ على العباد» (5).

نزول الحجر الأسود من الجنّة


1- وسائل الشيعة 539: 3.
2- نفس المصدر 160 159: 8.
3- قال الرسول الأكرم 9: «ما أتيت الركن اليماني إلا وجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه». وقال الإمام الصادق 7 أيضاً: «الركن اليماني باب من أبواب الجنة لم يغلقه الله منذ فتحه». «الركن اليماني بابنا الذي ندخل من الجنة.» «الركن اليماني على باب من أبواب الجنة مفتوح لشيعة آل محمد، مسدود عن غيرهم، و مامن مؤمن يدعو بدعاء عنده إلّاصد دعاؤه حتى يلصق بالعرش ما بينه وبين الله حجاب.» وسائل الشيعة 419: 9- 422.
4- البحار 339: 7.
5- الكافي 185: 4.

ص: 6

بناءاً على ما جاء في بعض الروايات، فإن الحجر الأسود قد نزل من الجنة، وكان في البداية أبيض اللون، واسودّ تدريجياً على أثر استلامه من قبل المذنبين، حتّى أصبح كما هو عليه الآن: «... كان ملكاً من عظماء الملائكة عندالله ...»، «إنّ الحجر كان درّةً بيضاء في الجنة ...»، «... وكان أشدّ بياضاً مِنَ اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم، ولولا ما مسّه من أرجاس الجاهلية ما مسَّه ذو عاهةٍ إلا برأ» (1).

بعض المفسرين الذين يبحثون عن تبريرٍ أو تفسير ماديّ لأي ظاهرة من الظواهر، قالوا في معرض نفيهم لهذا النوع من الروايات: نزول الحجر من السماء أو الجنّة، لا معنى له!! (2).

وفي الردّ على هذا الكلام و نقده لابد من القول (3): ما يؤيد الروايات التي تدور حولها بعض الإشكالات، الآيات التي ورد الحديث فيها عن إنزال النعم الإلهية من خزائن الغيب، كقوله تعالى: (وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)، (4) (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (5) و (وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ) (6) فكلمة «الإنزال» ليست بمعنى الخلق، بل هي بمعنى التنزيل والإنزال الواقعي من وراء الطبيعة إلى عالم الطبيعة كنزول القرآن في ليلة القدر. ولكن المراد هنا، الإنزال على نحو التجلّي، و ليس بصورة التجافي، مثل نزول الثلج والمطر. أي لايعني الأمر نفاد المخازن الإلهية و خلوّها من الموجودات، بعد تنزلها إلى عالم الطبيعة من العالم الأعلى؛ لأن خزائن الله لايعتريها النقصان أو النفاد؛ (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (7). والوجود الغيبي لهذه الأشياء وجود نوراني وتحمّل ذلك أمرٌ غير ميسور للجميع. من هنا فإن ظهورها في هذه النشأة اقترن بتنزّل مرتبتها الوجودية. ولكن حرمة و كرامة الموجودات المتنزلة من الخزائن الإلهية واحدة بلحاظ تباين درجات تلك الخزائن. مثلما يعتبر الحجر الأسود حالةً خاصةً.

وبناءاً على ذلك، فإن مجرّد الاستبعاد العلمي لمسألة هبوط الحجر الأسود من الجنّة لا قيمة له؛ لأن دراسة السير الأفقي للموجودات و ماضيها و حاضرها و مستقبلها الطبيعي يتم في نطاق العلوم ا لطبيعية، ولكن السير العمودي للأشياء والموجودات والنقاش حول العلة الفاعلية و الغائية لها تقع خارج نطاق العلوم الطبيعية، مهما توصلت هذه العلوم إلى تطورات ملحوظة في هذا الجانب.

ونستنتج من ذلك أولًا: إن الحجر الأسود من أحجار الجنّة والسماء، كما ورد ذلك في العديد من الروايات المعتبرة.

ثانياً: لا يوجد دليل عقلي أو نقلي يدل على خلاف ذلك.

وبناءاً على ذلك، فإن إثبات المسائل الاعتقادية على الرغم من أنه لا يمكن أن يتحقق بالاستناد إلى الخبر الواحد، ذلك أنها تحتاج إلى القطع واليقين ولا يمكن الاكتفاء فيها بالظّن، لكن بالمقابل لايوجد أيّ وجه لإنكار تلك الروايات و رفضها.

شهادة الحجر الأسود يوم القيامة

الحجر الأسود كالمسجد، يشهد يوم القيامة لصالح البعض، و هو آيةٌ من آيات الله البيّنات إلى جانب الكعبة (8)، ويمين الله عزّ وجلّ في الأرض واستلامه بمنزلة البيعة لله تعالى؛ «هو يمين الله عزّ و جلّ في أرضه يبايع بها خلقه» (9).

وكما قال أميرالمؤمنين الإمام علي 7 في ردّه على من قال عند استلام الحجر: أعلم بأنك لا تضر و لا تنفع ولكني أحبك لحب رسول الله 9 لك، فقال 7: والحجر الأسود من الشهداء أيضاً يوم القيامة؛ «فوالله ليبعثنَّه اللهُ يومَ القيامة و له لسانٌ و شفتان فيشهد لمن وافاه» (10)، كما أكّد الإمام الصادق 7 في ردّه على ذلك الظنّ فقال: «كَذِبَ ثمَّ كذب ثمَّ كذب. إنَّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة» (11).

تنبيه: هذا النوع من الأحاديث المأثورة، والتي تصرّح بمنفعة الحجر الأسود ونحوه، يعود إلى كونه وسيلة ذات تأثير معين و الذي تجسّد بلطف الله و بركاته على هذا الحجر، و عدا ذلك فإن أيّاً من أحجار الكعبة وأمثالها ليست ضارّة بذاتها أو نافعة، كما عبّر أميرالمؤمنين 7 بشأن سلب تأثيرها الذاتي فقال 7: «... أحجار لاتَضُرُّ و لا تنفَع و لا تبصر و لا تسمع» (12).

ألحطيم و حجرُ إسماعيل

«الحطيم» منطقة محدّدة بين الحجر الأسود، وباب الكعبة و مقام إبراهيم 7، ولكن قيل في بعض الروايات، بأنها المسافة بين الحجرالأسود وباب الكعبة فقط (13). وحول السرّ في تسمية هذا المكان بالحطيم، قال الإمام الصادق 7: «لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً» (14).

والحطيم أفضل الأماكن حول الكعبة؛ فبعد أن ذكر الإمام الباقر 7 حدوده قال موضحاً هذه القضية المتعلقة بالحطيم: «إنَّ أفضلَ البقاع ما بين الركن الأسود و المقام وباب الكعبة، و ذاك حطيم إسماعيل، ووالله لو أنَّ عبداً صفَّ قدميه في ذلك المكان و قام الليل مصلِّياً حتى يجيئه النَّهارُ و صامَ النهار حتى يجيئه الليل و لم يعرف حقَّنا و حرمتنا أهلَ البيت، لم يقبل الله منه شيئاً أَبَداً» (15).

والحطيم محل نزول جبرئيل 7 و وقوفه بين يدي بقية الله الأعظم إمام العصر والزمان [. كما ورد ذلك عن الإمام الصادق 7 قال: «عندما يأذن الله سبحانه وتعالى بخروج القائم [... يبعث إليه جبرئيل 7؛ فيهبط جبرئيل على الحطيم ... و يقول: أنا أوّل من يبايعك ...» (16).

ويقول الأستاذ العلامة الطباطبائي 1 كغيره من المحققين: الحطيم هو ذلك الجدار المقوس إزاء الميزاب الذهبي (17). كما يُفهم من بعض الروايات أن جماعة يسمّون «حجر إسماعيل» الذي يقع بين الركن العراقي و الركن الغربي بالحطيم. و هذا ما ورد عن الإمام الصادق 7 في جوابه للسائل الذي سأل عن حجر إسماعيل، فقال 7:


1- وسائل الشيعة 403: 9- 407.
2- البحار 466: 1- 468.
3- الميزان 190: 2- 195.
4- الحجر: 21.
5- الزمر: 6.
6- الحديد: 25.
7- النحل: 96.
8- وسائل الشيعة 346: 9.
9- المصدر نفسه: 405- 406.
10- المصدر نفسه: 406.
11- المصدر نفسه: 406.
12- نهج البلاغة، الخطبة 192، الفقرة 54 53. و قد مرَّ ذكر نص هذا الحديث الشريف و ترجمته في الفصل الثالث من القسم الأول في موضوع «صورة الحج في الروايات». فراجع.
13- الكافي 525: 4؛ وسائل الشيعة 539: 3.
14- وسائل الشيعة 539: 3.
15- وسائل الشيعة 123: 1.
16- البحار 337: 52- 338.
17- الميزان 360: 3.

ص: 7

«إنَّكم تسمونَهُ الحطيمَ، وَانّما كان لغَنَم إسماعيلَ، وَانَّما دَفَنَ فيه أمَّهُ و كرهَ أن يُوطَأَ قَبرها فحجَر عليه، و فيه قبورُ أنبياء» (1).

ومن بين الوجوه المحتملة بشأن السرّ في تسمية الحطيم بهذا الإسم، والذي اشير اليه أيضاً في الرواية المذكورة، أن النبي إبراهيم 7 كان يهشّم (2) التبن والعلف هناك لإطعام أغنامه، ويسمّون العلف بالحطيم والتبن بالحطام؛ لأن المحطوم هو الذي تم تهشيمه وتكسيره. ونقلت في بعض الكتب اللغوية وجوه أخرى أيضاً في سبب تسمية حجر إسماعيل بالحطيم. وفيها: أن هذا الجزء قد فُصِلَ و كُسِرَ عن البيت. والآخر أن الأعراب في الجاهلية، كانوا يلقون الملابس التي كانوا يلبسونها حال الطواف في ذلك المكان و كانت تتحطم و تبلى تدريجياً (3).

«حجر إسماعيل» الذي يعدّ من آيات الله البينات (4)، هو مدفن إسماعيل ومجموعة أخرى من أنبياء الله (5)، و هو مدفن أم إسماعيل و بناته:، و قد حجر 7 أطراف قبر أمه هاجر كي لا يطأه الطائفون (6)، و حجر إسماعيل ليس قبلة ولكنه في ضمن المطاف كالكعبة، احتراماً لتلك القبور، و الطواف في داخله باطل.

وحجر إسماعيل من أفضل الأماكن في المسجد الحرام لأداء الصلاة فيها (7). كما كان المكان الذي يصلي فيه شبر و شبير أولاد هارون 7 (8)، وصلّى فيه الأئمة المعصومون: أيضاً (9)، وكانوا يدعون الله فيه بخالص الدعاء (10). كما كانوا يستقبلون الناس هناك ويجيبون على أسئلتهم واستفساراتهم (11). و قد نصب ميزاب الكعبة فوق حجر إسماعيل. وقد ورد الحديث في بعض الروايات، عن الشفاء بماء المطر الذي ينزل من هذا الميزاب (12). وآخر الكلام عن حجر إسماعيل أنه يستحب للحاجّ أن يُحرم منه.

مقام إبراهيم 7

إحدى العلامات والآيات البيّنات لله تعالى في مكة «مقام إبراهيم». مثلما أشار الإمام الصادق 7 في بيان المراد من كلمة «بيّنات» في الآية المباركة: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ (13)، فقال 7: «مقام إبراهيمَ حيث قامَ على الحجر فأثَّرت فيه قدماه، و الحجر الأسوَدُ، و منزِلُ إسماعيل 7» (14). و كان هذا الحجر موضوعاً في البداية على وجه الأرض بشكل طليق إلى جوار الكعبة. ثم وضعوه في الملتزم لكي لاينقل من مكانه. و موضع المقام الآن مُبرَّزٌ أيضاً وموضوع بداخل صندوق معدني، ومنقوش على جبهة الشريط المعدني الذي وضع الحجر على حافته جملة نورانية تقول: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (15) حيث يمكن رؤيتها و قراءتها من قبل الجميع بكل وضوح، مما يدلل على حُسن تدبير المسؤولين عن الحرم.

مسألة تغيير مقام إبراهيم وردت في بعض الأحاديث؛ حيث قال الإمام الباقر 7:

كان المقام في البدء، بالقرب في جدار الكعبة. و قاموا بنقله قبل الإسلام إلى موضعه الحالي. وأعاده الرسول الأكرم 9 بعد فتح مكة إلى موضعه الأصلي، ولكن تغيّر مكانه مرةً أخرى في عصر الخلفاء: «كانَ مَوضعُ المقام الذي وَضَعَهُ إبراهيم 7 عِندَ جِدارِ البيتِ فلم يزل هناكَ حَتّى حَوَّلَهُ ...». ولكن بما أنَّ الوضع الموجود اقِرَّ من قبل الأئمة المعصومين: ولم ينتقد أهل بيت النبوة: ما يترتب على هذا الوضع من حكمٍ فقهي، نفهم من ذلك أن إقامة صلاة الطواف عند الموضع مبرءة للذمة.

وقد قال الإمام الباقر 7 في صدر الرواية المذكورة: في السنة التي جرف فيها السيل المسجد الحرام كنت في مكة مع الإمام الحسين 7 (16). و خاطب الإمام الحسين 7 الناس الذين كانوا خائفين من زوال مقام إبراهيم 7 قائلًا: اعلموا! أنّ السيل لن يجرف مقام إبراهيم أبداً؛ لأن الله قد جعله عَلَماً وآيةً له؛ «أنَّ الله قد جَعَلَهُ علماً لم يكن ليذهَبَ به» (17).

الملاحظة الجديرة بالإشارة هنا، أنه لايمكن اعتبار جميع الآيات التي وردت بشأن مكة على أنها وردت من باب المعجزة وخلافاً للعادة و الطبيعة، استناداً إلى هذه الآية المباركة في قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ بما فيها هذه الآية الشريفة؛ لأن المراد بالآية، ليس فقط المعجزة من قبيل معجزة ناقة صالح 7، و شقّ القمر و نحو ذلك، بل الآية بمعنى العلامة والأمارة التي تدلّ على الحق وتذكّر الناس بذلك، سواء كانت تكوينية أم تشريعية أم كليهما معاً. وكما قال بعض المفسرين: إن جملة وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً هي من باب التفصيل بعد الإجمال ومصداق لآيات بينات مذكِّرَةً بالحق و من العلامات الإلهية، دون أن يكون في البين أمرٌ خارقٌ للعادة.

فإذا صارَ «مقام إبراهيم» بياناً لقوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ، فإن المستفاد منه ما يلي: كما أن إبراهيم 7 كان لوحده أمة؛ إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلهِ حَنِيفاً (18)، فإن آثار أقدامه و مقامه أيضاً لوحدهما آيات بيّنات و «أمة واحدة» في موضوع الإعجاز (19).

ولعل السرّ في التعبير بصيغة الجمع يتمثل في أنّه:

أوّلًا: إن الحجر الصلد والقوي أصبح كالعجين في تغيير شكله.

ثانياً: المكان المحدد لذلك أصبح على شكل العجين، و ليس كل الحجر.

ثالثاً: تقبّله لآثار الأقدام إلى عمق معين والبقيّة بقيت بحالتها الصخرية.

رابعاً: بقي محفوظاً من سرقة جميع الطغاة الذين أرادوا إخفاء هذا الأثر ومحوه.

خامساً: بقي محفوظاً من سرقة سرّاق القطع الفنية والأثرية الذين هم بصدد سرقة المواد النفيسة ذات القدم و القدامة (20).


1- وسائل الشيعة 431: 9.
2- البحار 86: 65.
3- لسان العرب 137: 12- 140 حطم.
4- الكافي 223: 4.
5- وسائل الشيعة 430: 9.
6- الكافي 210: 4.
7- الكافي 525: 3؛ وسائل الشيعة 539: 2.
8- وسائل الشيعة 539: 2.
9- الكافي 188: 4؛ وسائل الشيعة 274: 5.
10- الكافي 21: 7.
11- المصدر نفسه 260: 1، 379، و 21: 7 و 232: 8 و 271؛ وسائل الشيعة 419: 13.
12- الكافي 387: 6.
13- آل عمران: 97.
14- الكافي 223: 4.
15- البقرة: 255.
16- كما مرَّ، فإن هذه الرواية بحاجة إلى تحقيق تاريخي من حيث مقدار عمر الإمام الباقر 7.
17- الكافي 223: 2.
18- النحل: 120.
19- الكشاف 387: 1.
20- المصدر نفسه: 387- 388، مع قليل من التصرف.

ص: 8

والذين يقولون بأن قوله تعالى: آياتٍ بَيِّناتٍ إنما هو إشارةٌ لآياتٍ أخرى متعددة، وبالإضافة إلى مقام إبراهيم وجعل هذا البلد آمناً بسكانه و زائريه، فإنهم ذكروا أموراً أخرى أيضاً من الآيات العلنية لله سبحانه وتعالى في مكة و الحرم الإلهي، والتي لم يتم ذكرها بشكل منفصل بسبب وضوحها وعدم تصريح الله سبحانه وتعالى بها (1)؛

أموراً من قبيل: 1- عدم تحليق الطيور فوق الكعبة و انحرافها أثناء الطيران عن فضاء الكعبة، 2- عدم تلويث الطيور للكعبة، 3- تعايش أنواع الحيوانات في الحرم و عدم تعرض الحيوانات المفترسة لغيرها، 4- تورط الظلمة الذين أرادوا سوءاً بالكعبة و قهرهم من قبل الله تعالى، مثل أصحاب الفيل، 5- عدم إصابة الحجيج بالتعب والإرهاق النفسي، على الرغم من مجيئهم من أماكن بعيدة و بصعوبة بالغة و بشكل متكرر أيضاً.

وبناءاً على ذلك، ولغرض بيان أهمية مقام إبراهيم خاصة، فإن الله سبحانه وتعالى يذكر مقام إبراهيم 7 بشكل مستقل، من باب ذكر الخاص بعد العام، بعد ذكر الآيات الأخرى على وجه العموم.

كيفية تكوّن مقام إبراهيم

هناك عدة احتمالات بشأن كيفية تكوّن مقام إبراهيم 7 ومنها:

1- وقوف النبي إبراهيم 7 على هذا الحجر أثناء القيام ببناء الكعبة. وعن طريق الإعجاز الإلهي أصبح الحجر آنذاك ليناً و قابلًا لبروز الآثار عليه؛ فبقي أثر الأقدام عليه (2).

2- عندما عاد للمرة الثانية إلى مكة قالت زوجة إسماعيل 7: ترجّل كي أغسل رأسك، وعندما ترجّلَ 7، وضع قدمه على الحجر وأحدث أثراً في ذلك الحجر (3).

وعلى أية حال، فإن حقيقة وضع إبراهيم 7 قدمه على الحجر الصلد وانغماس أثر قدمه المباركة و بقاء هذا الأثر في ذلك الحجر.. يعدّ من الأمور المسلّم بها والتي اعتبروها معجزة له 7 (4).

وقد ورد ذكر مشابهٍ لهذه الخاصيّة، بشأن النبي داود 7، إذ إن الله سبحانه وتعالى جعل الحديد البارد الصلد بيده ليّناً كالشمع؛ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (5). والملاحظة التي يجدر الإشارة لها هنا، أنه ورد حديث عن التعليم في مسألة صناعة الحديد؛ قال تعالى: وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ (6)؛ لأن صناعة الدروع يمكن تعليمها و نقلها للآخرين كما هو الحال في سائر العلوم والمهن الأخرى، على العكس من عملية إلانة الحديد البارد و القوي بواسطة اليد. ومن هنا لم يقل تعالى: «وَعلّمناه إلانة الحديد». ويصدق هذا الأمر بشأن مقام إبراهيم 7 أيضاً، مع وجود هذا الفرق حيث إن الحديث هنا يتعلق ب- «وألنّا له الحجر».

وبقيت «آثار» كلتا قدمي إبراهيم 7 المباركتين محفوظتين في مقام إبراهيم 7 (7) كما كان الحديد يحافظ على «بدن» داود 7.

ملاحظة

قال الإمام السجاد 7: «أفضل البقاع ما بين الركن و المقام ...» (8) أي إن المسافة ما بين الركن (الحجر الأسود) إلى مقام إبراهيم، هي من أفضل الأماكن، و روي عن الإمام الباقر 7 أنه قال: «أنَّ ما بين الركن و المقام لمشحونٌ من قبور الأنبياء» (9). و هذا المكان، هو منطلق حركة الإمام الحجة [العالمية. ويقول الإمام الباقر 7 بهذا الشأن: «كَأنّي بالقائم يومَ عاشورا يوم السبت، قائماً بين الركن و المقام، بين يديه جبرئيلَ 7 ينادي: البيعة لله. فيملأها عدلًا كما مُلِئَت ظلماً وجوراً» (10).

تنبيه

ومقام إبراهيم 7 يطلق أيضاً على قطعة الأرض التي يقع فيها مقام إبراهيم 7 في المسجد الحرام، وهي محل صلاة الطواف (11). مثلما يطلق أحياناً على الكعبة أيضاً (12).

زمزم

تدفّق ماء زمزم ببركة ذريّة إبراهيم الخليل 7؛ لأنه 7 ترك وليده وأمه هاجر بوادٍ غير ذي زرع وضرع في أرض مكة بأمر الله سبحانه و تعالى. و على أثر عطش الوليد، أخذت أمه تبحث عن الماء و تدعو و تنادي: «هل بالوادي من أنيس؟»، فأخذت تسعى بين الصفا و المروة سبع مرات ذهاباً وإياباً. وفجأةً رأت تحت أقدام الوليد عيناً ينبع فيها الماء (13)

ولا زال ذلك الماء يتدفق لحد الآن بعد مضي آلاف السنين عليه، على الرغم من أنه تمّ حفر آبار إضافية أخرى في ذلك الوادي، هذا أولًا،

وثانياً: إن مكة ليس بلداً تسقط عليها الثلوج، كما أن أمطارها ليست غزيرة، لكي يصبح تدافع الماء من زمزم على أساس قوله تعالى: فَسلكه ينابيع في الارض (14). وبناءاً على ذلك، فإن تدفّق ماء زمزم واستمراره آلاف السنين على ذلك في بلدٍ مثل مكة، وما فيه من صفة الشفا وصيانته من الفساد (15)، كل واحدة من هذه الأمور هي معجزة بحد ذاتها، لذا يمكن القول بأن زمزم هو مصداق ل- آياتٍ بَيِّناتٍ لوحده؛


1- روضة المتقين 113: 4- 114.
2- المصدر نفسه: 114.
3- البحار 116: 12- 117.
4- التبيان 452: 1؛ التفسير الكبير 50: 3.
5- سبأ: 10.
6- الأنبياء: 80.
7- نقل عن أنس به مالك أنه قال: رأيت أثر أصابع و عمق القدم في الحجر، ولكن مُسح واستوى بسبب المسح بأيدي الناس التحرير و التنوير 681: 1.
8- من لايحضره الفقيه 245: 2.
9- الكافي 2. 214: 4.
10- البحار 290: 52.
11- المصدر نفسه 241: 96.
12- التحرير و التنوير 681: 1.
13- استناداً لبعض الروايات، فإن إبراهيم 7 هو الذي حفر بئر زمزم بأمر الله سبحانه وتعالى الكافي 203 202: 4.
14- الزمر: 21.
15- من مجموع التجارب الفردية وما كان يقوم به المؤمنون و بخاصة خاتم الرسل 9 تجاه ماء زمزم و تقديمه كهدية، نلاحظ أن ذلك الماء غالباً ما كان يبقى لفترة طويلة من الزمن، لذا يمكن القول بأن ماء زمزم لايفسد بسرعة.

ص: 9

وقال الرسول الأكرم 9: «ماء زمزم، أفضل ماءٍ على وجه الأرض» (1)، و قال أيضاً:

«ماء زمزم لما شُرِبَ له؛ من شربه لمرضٍ شفاه الله أو لجوعٍ أشبعه الله أو لحاجةٍ قضاها الله» (2). و كان يقول بعد شرب ماء زمزم: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كل داءٍ و سقمٍ» (3).. و قال الإمام الصادق 7 بشأن الشفاء من ماء زمزم: «ماء زمزم شفاءٌ من كل داءٍ» (4).

من هنا، يستحب استحباباً مؤكداً أن يشرب حجاج بيت الله الحرام من ذلك الماء، والتأسي برسول الله 9 بقراءة هذا الدعاء: «اللهم اجعله علماً ...» (5).

وكان الرسول الأكرم 9 يستعمل ماء زمزم في مكة، وبعد أن هاجر إلى المدينة المنورة كان يستهدي ماء زمزم من الآخرين لشدة تعلقه به. ولهذا السبب كان الزائرون يجلبون معهم ماء زمزم عند عودتهم من مكة هدية للرسول الأكرم 9 وكان يقبل منهم الهدية (6).

ملاحظة

من أسماء زمزم الأخرى، حفيرة عبدالمطلب، المضنونة والمصونة (7). والسرّ في تسمية بئر زمزم بالمضنون (8) أو المصون أنه في برهةٍ من التاريخ و منذ أن استولت قبيلة خزاعة على مكة، دفنوا هذا البئر وأخمدوه، إلى أن تولّى عبدالمطلب شؤون مكة و أمر بإعادة حفره (9) غارت البئر و لم ينبع منها الماء.

إذن، فالسرّ وراء اشتهارها ببئر عبدالمطلب يعود إلى أن عبدالمطلب هو الذي أعاد فتح البئر وترميمه.

الصفا و المروة

الصفا و المروة اسمان لجبلين بالقرب من الكعبة. وهذان الجبلان من شعائر الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ (10).

والسرّ في تسمية الصفا بهذا الاسم أنه اكتسب تسميته من وصف الأنبياء وبخاصة آدم 7، و هم الذين اصطفاهم الله تعالى: إِنَّ اللهَ اصْطَفي آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَي الْعالَمِينَ (11).

قال الإمام الصادق 7: بعد أن هبط آدم 7 على جبل الصفا وهو من صفوة الله تعالى، فإنّ الجبل صفا من صفوة الله واصطفاء آدم 7 (69).(12).

وعليه؛ فإن الذي يكسب الصفا من هذا الجبل هو ممن اصطفاه الله تعالى: اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَ مِنَ النَّاسِ (13).

وقال الإمام الصادق 7 بشأن السرّ في تسمية المروة بهذا الاسم: بعد أن نزلت حواء 3 وهي امرأة على جبل المروة، سمي ذلك الجبل «المروة» (14).

وقال بعض اللغويين: إن الصفا حجر أملس (15)، والمروة يطلق على الحجر الناعم البرّاق، وتسمية الجبلين بالصفا و المروة إنّما هو بلحاظ نوع أحجارهما (16).

ونصب في الجاهلية اثنان من الأصنام على قمة الصفا والمروة، و اسمهما «أساف» (أثاف) و «نائلة» (17) حيث كان الناس يتمسحون بهما تبركاً أثناء السعي (18). ولهذا السبب كان بعض المسلمين في صدر الإسلام يتجنب السعي بين الصفا و المروة. و لغرض إزالة هذا الوهم وتحاشيه قال الله سبحانه و تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.

ومن هذا المنطلق فإن الصفا والمروة كالكعبة؛ لأنهم جعلوا الكعبة في الجاهلية مقراً لأصنامهم غصباً، ولا ينبغي اعتبار ذلك مانعاً للطواف حول بيت الله.

والصفا و المروة من الرموز العبادية كسائر أماكن الحج ومناسكه؛ إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِاللهِ، والشعائر جمع «شعيرة» بمعنى العلامة. ولكن ليس معنى ذلك أن الصفا والمروة، هما من العلائم و الرموز التكوينية للحق تعالى فقط؛ لأنه بلحاظ التكوين، تكون جميع الموجودات من شعائر الله. فالصفا والمروة مثلها كمثل الكعبة وعرفات والمشعر و منى، شعائر جعلية و تشريعية و علائم عبادية.

عرفات

عرفات، منطقة خارج دائرة الحرم و بالقرب من المشعر الحرام الذي يقع فيه «جبل الرحمة» و «مسجد نمرة». والوقوف في هذه البقعة من ظهيرة اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام إلى غروبه واجب على الذين عقدوا الإحرام لأداء حج التمتع، و هو من أركان الحج.

وهناك عدة وجوه وردت حول السرّ في تسمية هذه البقعة باسم عرفات:

1- أنّ آدم و حواء 8 تعرّفا على بعضهما البعض بعد الهبوط في تلك البقعة (19).


1- الكافي 246: 3.
2- البحار 45: 57.
3- الكافي 250: 4.
4- المصدر نفسه 387: 6.
5- المصدر نفسه 430: 4.
6- وسائل الشيعة 350: 9- 351.
7- المصدر نفسه: 351 و 515- 516.
8- «ضنَّ» بمعنى بخل و الشي ء الثمين والنفيس إذا بخل به يسمى مضنوناً.
9- الكافي 220 218: 4.
10- البقرة: 158.
11- آل عمران: 33.
12- الكافي 190: 4؛ البحار 162: 11 و 169.
13- الحج: 75.
14- الكافي 190: 4.
15- لسان العرب 462: 14- 464 صفا.
16- لسان العرب 275: 15- 276 مرا.
17- البحار 235: 96.
18- الكافي 435: 4 «البقرة: 158».
19- البحار 242: 44 و 245: 57.

ص: 10

2- أنهما اعترفا بذنبهما في تلك البقعة (1).

3- أن جبرئيل 7 عند تعليمه مناسك الحج لإبراهيم 7، قال له: اعترف بذنوبك بين يدي الله في هذه البقعة (2).

4- عندما طلب النبي إبراهيم 7 من الله سبحانه و تعالى أن يُريَهُ مناسك الحج و يتعلّمها، أرِنَا مَنَاسِكَنا (3)، نزل جبرئيل 7 إلى أرض عرفات وكان مأموراً بتعليم إبراهيم الخليل 7 مناسك الحج، فقال له: «هذه عرفاتٌ فاعرف بها مناسكك واعترف بذنبك» (4).

وبناءاً على هذا الوجه، فإن سبب تسمية تلك الأرض بعرفات أن جبرئيل 7 أشار إلى تلك الأرض باسم عرفات.

5- أن إبراهيم 7 قد رأى في المنام قبل يوم التاسع من ذي الحجّة أنه يذبح إسماعيل 7. وبعد أن أفاق من نومه اعترته حالة من التروّي والتفكير، فيما إذا كانت هذه الرؤيا من الله و بمنزلة الأمر السماوي أم لا؟!

من هنا يسمى اليوم الثامن ب- «يوم التروية». وإن كان من المحتمل أن يكون السرّ في تسميته بيوم التروية أنه في ذلك اليوم كانوا يخزنون الماء لسقاية الحاج، لكي يسقون الحجيج بالماء في عرفات والمشعر ومنى. وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق 7 فقال: «إنّ إبراهيم أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية فقال: يا إبراهيم! ارتو من الماء لك و لأهلك. و لم يكن بين مكَّةَ و عرفاتِ يومئذٍ ماء، فسُمِّيت التروية لذلك» (5).

وتكررت الرؤيا المذكورة لإبراهيم 7 في ليلة التاسع من ذي الحجة مرة أخرى. وعليه فقد أصبح لزاماً عليه أن يذبح ابنه إسماعيل 7. وتحققت هذه المعرفة في اليوم التاسع وفي أرض عرفات؛ ولهذا السبب سمي ذلك اليوم بيوم «عرفة» وسميت تلك الأرض ب- «عرفات» (6).

المشعر الحرام

يقع المشعر الحرام ومنى ضمن حدود الحرم في الحد الفاصل بين مكة و عرفات. و يفيض الجميع من عرفات باتجاه المشعر الحرام بعد غروب الشمس في اليوم التاسع من ذي الحجة في نهاية نصف يومٍ من الوقوف في عرفات ويمضون الليل هناك.

ويسمّون المشعر ب- «المزدلفة» و «جمع» أيضاً، وطبقاً لما ذكره الإمام الصادق 7 فإن السرّ في تسمية تلك البقعة ب- «المزدلفة» يعود إلى أنّ جبرئيل 7 في استمراره بتعليم المناسك لإبراهيم 7 قال له: «يا إبراهيم! إزدلف إلى المشعر الحرام» (7). كما قال 7: «وسميت هذه البقعة ب- «جمع» ذلك أن آدم 7 جمع بين صلاة المغرب و العشاء فيها، وصلّى المغرب والعشاء فيها، وصلّى كلاهما في وقت واحد» (8).

وعلى طول القرون الماضية يتوجه آلاف الزائرين إلى تلك البقعة، و كل زائر يأخذ على الأقل تسعاً وأربعين حصاة من ذلك المكان لرمي الجمرات. من هنا كان من آيات الله البينات في أرض المشعر أنّ المنطقة على الرغم من أنها ليست مكاناً لحدوث الفيضانات و عبور السيول لكي يظهر بواسطتها الحصى الناعم، لكن مع ذلك توفر كل ذلك الحصى الناعم دائماً، ولم ينفد لحد الآن.

منى

مع شروق شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، يرد الحجيج إلى منطقة «منى» لأداء بعض المناسك الخاصة. و حدود منطقة منى تمتد من «العقبة» إلى «وادي محسَّر».

وحول مصدر تسمية هذه المنطقة باسم منى قال الإمام الصادق 7: «إنّ جبرئيلَ 7 أتى إبراهيم 7 فقال: تمنّ يا إبراهيم!» (9). و قال الإمام علي بن موسى الرضا 7: «كانت أمنية إبراهيم 7 والتي أعطاه الله إياها ابتداءً بأن يأمره الله سبحانه و تعالى بذبح كبشٍ بدلًا عن إسماعيل 7» (10).

وطبقاً لما نقله الطريحي/ فإن منشأ تسمية منى بهذا الاسم، يعود إلى أن الدماء تمنى وتراق في هذه البقعة. وكذلك فإن جبرئيل 7 عند مفارقته لآدم 7 قال له: تمنّ شيئاً. فقال آدم 7: أتمنّى الجنّة (11).

وتقع أماكن الجمرات الثلاث، ومكان التضيحة ومسجد الخيف، في منى، و استناداً إلى بعض الروايات فإن سبعمائة نبي صلّى في هذا المسجد (12). ويقع في مكان مرتفع نسبياً، ولهذا السبب سمي ب- «الخيف» طبقاً لما جاء في قول الإمام الصادق 7؛ حيث إنّ الأرض المرتفعة نسبياً عن الأراضي المحيطة بها، تسمى خيفاً (13).

يقول الفخر الرازي عن آيات الله سبحانه و تعالى في أرض مكة وبخاصة في منى: في كل عام يقوم ستمائة ألف شخص (في ذلك الوقت) برمي سبعين حصيّة في الجمرات، ولكن من كرامات هذه الأرض أنه لا يمضي وقت طويل حتى يعود التقاط الحصيات منها بعد أن تكون قد خلت منها (14). ولكن في السنوات الأخيرة يقوم موظفوا الدولة بتنظيف أطراف الجمرات وتسويتها، بينما لم يكن الأمر كذلك آنذاك.

ويوجد في منى مسجدٌ يعرف باسم مسجد الكبش. والسرّ في تسميته بالكبش أن كبش الأضحية وفداء إسماعيل 7 قد ذبح في ذلك المكان (15).

وكان إلى جانب هذا المسجد صخرةٌ ذبح عليها الفداء المذكور (16). و نقل عن أميرالمؤمنين الإمام علي 7 أنَّ ذبح الفداء كان بين الجمرة الأولى و الجمرة الوسطى على سفح الجبل المقابل، أي «جبل ثبير»، وليس في المكان السابق. وما يؤيد هذا النقل، رواية عن ابن عباس أنّه قال: ضحّى


1- المصدر نفسه 168: 11.
2- المصدر نفسه 307: 4.
3- البقرة: 128.
4- الكافي 207: 4.
5- المصدر نفسه.
6- الدر المنثور 111: 7.
7- البحار 266: 96.
8- المصدر نفسه.
9- البحار 271: 96- 272.
10- المصدر نفسه.
11- مجمع البحرين 214: 3.
12- الكافي 214: 4.
13- البحار 271: 96- 272.
14- التفسير الكبير 159: 8.
15- مرآة الحرمين 326: 1.
16- المصدر نفسه.

ص: 11

الرسول الأكرم 9 في الموضع الذي ضحّى فيه إبراهيم 7 فاتخذوه موضعاً للذبح، وكلّ أرض منى هي موضعٌ للذبح. وكان موضع ذبح أضحية الرسول الأكرم 9 بين الجمرة الأولى والوسطى (1).


1- المصدر نفسه.

ص: 12

ص: 13

ص: 14

ص: 15

حجة الوداع ... خطب و إرشاد

الشيخ جعفر السبحانى

المقدّمة

في السنة العاشرة للهجرة عزم رسول الله 9 على أن يحج بيت الله الحرام، فخرج لخمس بقين من ذي القعدة، و وصل مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة. (1)

و كان رسول الله 9 قد حرّض المسلمين على الحج، و قال: «من أراد الحج فليتعجّل، فإنّه قد يمرض المريض، و تضلّ الضالّة، و تعرض الحاجة» (2).

و بعد أن أمر الله تعالى نبيه بالأذان و الإعلان للحج، أمر النبي 9 المؤذّنين أن يؤذّنوا بذلك بين المسلمين، و كتب إلى علي بن أبي طالب 7 و جنده، و إلى أبي موسى الأشعري و أتباعه في اليمن أن يلتحقوا به 9 في مكة المكرّمة.


1- السيرة النبويّة لابن هشام 248: 4.
2- مسند أحمد بن حنبل 458: 1؛ سنن ابن ماجة 962: 2؛ المعجم الكبير للطبراني 296: 18؛ السنن الكبرى للبيهقي 463: 6.

ص: 16

و الظاهر أنّ بداية هذا الإخبار والإعلام كانت في أوائل ذي القعدة الحرام، فقد قال ابن إسحاق: فلمّا دخل على رسول الله 9 ذو القعدة تجهّز للحج، و أمر الناس بالجهازله (1).

وخرج النبي الأكرم 9 من المدينة مغتسلًا متدهناً و خرجت معه نساؤه كلهنّ، و تبعه جمّ غفير من المسلمين الذين حرصوا على مرافقته من المدينة ليتشرّفوا بصحبته.

قال الإمام جعفر الصادق 7: «فعلم به من حضر المدينة و أهل العوالي والأعراب فاجتمعوا، فحجّ رسول الله 9، وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه (2).

وروي عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله 9 و يعمل مثل عمله (3).

وكان المسلمون يتوقعون هذا السفر، ليتعلّموا مناسك الحج، فأيّ منسك أدّاه رسول الله 9 فهو من الحج الإبراهيمي، و ما تركه فهو من أعمال الجاهلية الأُولى.

ويتجلّى هذا التهيّؤ و الانتظار في رغبتهم و شوقهم و اجتماعهم العظيم حتّى سلكوا طريق مكة رجالًا و ركباناً، طريقاً يقرب من ألف كيلومتر ذهاباً و إياباً.

وقد اختلف المؤرّخون والمحدّثون في عدد المسلمين آنذاك، فمنهم من قال: إنّهم كانوا مئة و عشرين ألفاً (4).

وقال المقريزي في وصف خطبة النبي 9 في يوم عرفة: فإنّه شهد الخطبة نحو من أربعين ألفاً (5).

وقال الطبرسي: وبلغ من حج مع رسول الله 9 من أهل المدينة و أهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون (6).

ثم إنّ رسول الله 9 بعد أن أتم الحج غادر مكة المكرمة متوجّهاً إلى المدينة في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة الحرام، فدخلها في الثالث و العشرين منه.

وخلال مسيرته هذه، كانت له وقفات في العديد من الأماكن التي مر بها و شهدت له إلقاء الخطب الرائعة و التوجيهات التربوية و الحضارية السامية، والإرشادات التعليمية حيث إنّه كان يجسّد عملياً أهداف الحج التي أرادها الله تعالى من هذه الفريضة الإسلامية الهامة.

وسوف نشير في هذه الرسالة بالإيعاز الموجز و الإشارة العابرة إلى خطبه و كلماته التي ألقاها في هذه الرحلة التاريخية، و ننوّه إلى ما تضمّنته كلّ منها إلى مبادئ الإسلام و أُصوله و مقاصد الشريعة و أهدافها.

عدد خطبه 9 في حجة الوداع

اختلف أصحاب السير و المؤرّخون في عدد الخطب التي ألقاها النبي الأكرم 9 في حجة الوداع.

فقد قال الحلبي في السيرة: خطب رسول الله 9 في الحجّ خمس خطب: الأُولى يوم السابع من ذي الحجّة بمكّة، و الثانية يوم عرفة، و الثالثة يوم النحر بمنى، و الرابعة يوم القرّ (7) بمنى، و الخامسة يوم النفر الأوّل بمنى أيضاً (8).

ويقول المقريزي: خطب 9 في حجّته ثلاث خطب: الأُولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكّة، و الثانية يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، و الثالثة يوم النحر بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء. و قيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النحر.

ثم قال: و قال المحب الطبري: دلّت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمسة؛ خطبة يوم السابع من ذي الحجة، و خطبة يوم عرفة، و خطبة يوم النحر، و خطبة القرّ، و خطبة يوم النفر الأوّل (9).

و مهما كان الحال فعلينا أن نورد ما ذكرته كتب التاريخ و الحديث من خطبه و كلماته 9، وقد رتّبناها حسب زمانها و مكانها، فكانت كما يلي:

1- خطبته 9 في اليوم السابع و الثامن من ذي الحجة

قال الواقدي في مغازيه: خطب رسول الله 9 قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة (10).

وقال الحاكم النيسابوري في مستدركه: كان رسول الله 9 إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم (11).

وجاء في صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام جعفر الصادق 7: «فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر 9 الناس أن يغتسلوا و يهلّوا بالحجّ، و هو قول الله عزّ و جلّ الذي أنزل على نبيّه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنيِفاً (12) فخرج النبيّ 9 وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتوا منى، فصلّى الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الفجر، ثمّ غدا و الناس معه» (13).


1- السيرة النبوية لابن هشام 248: 4.
2- الكافي للكليني 245: 4؛ تهذيب الأحكام للطوسي 454: 5.
3- صحيح مسلم 724: 2؛ المغازي للمقريزي 1088: 2.
4- تذكرة الخواص: 30.
5- إمتاع الأسماع 112: 2.
6- الاحتجاج للطبرسي 134: 1.
7- مراده من يوم القرّ اليوم الحادي عشر من ذي الحجّة.
8- السيرة النبوية للحلبي 333: 3.
9- إمتاع الأسماع 117: 2.
10- المغازي 1100: 2.
11- المستدرك على الصحيحين 632: 1؛ و جاء مثله في السيرة النبويّة لابن كثير 337: 4، و إمتاع الأسماع للمقريزي 117: 2- 118؛ و نيل الأوطار للشوكاني 307: 3، و السيرة النبويّة للحلبي 227: 3، 333.
12- آل عمران: 95.
13- الكافي للكليني 246: 4- 247.

ص: 17

2- كلماته 9 في يوم عرفة

وردت لرسول الله 9 كلمات وأحاديث كثيرةخلال تواجده في يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة) في عرفات نذكر منها:

1- جاء في تهذيب الأحكام بسنده عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن محمّد بن سماعة الصيرفي، عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق 7 قال: «... إنّ رسول الله 9 وقف بعرفات فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته، يقفون إلى جانبها، فنحّاها رسول الله 9، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس! إنّه ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه موقف، و أشار بيده إلى الموقف و قال: هذا كلّه موقف، فتفرّق الناس، و فعل ذلك بالمزدلفة ...» (1).

2- و في صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق 7 أنّه قال: «ثمّ غدا 9 و الناس معه و كانت قريش تفيض من المزدلفة و هي جَمْع (2) و يمنعون الناس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول الله 9 و قريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل الله تعالى عليه: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللهَ (3) يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق: في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم. فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول الله 9 قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شي ء للذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم، حتّى انتهى إلى نمرة و هي بطن عرنة بحيال الأراك فضرب قبّته، وضرب أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس خرج رسول الله 9 و معه قريش، و قد اغتسل و قطع التلبية حتّى وقف بالمسجد، فوعظ الناس و أمرهم و نهاهم، ثمّ صلّى الظهرو العصر بأذان و إقامتين، ثمّ مضى إلى الموقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جنبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس! ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه و أومأ بيده إلى الموقف فتفرّق الناس، و فعل مثل ذلك بمزدلفة، فوقف الناس حتّى وقع القرص قرص الشمس ثمّ أفاض وأمر الناس بالدّعة حتّى انتهى إلى المزدلفة» (4).

3- وفي الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، و محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام جعفر الصادق 7، مثله (5).

4- و في رواية جابر في صحيح مسلم: و أمر بقبّة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله 9 و لا تشكّ قريش إلّا أنّه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله 9 حتّى أتى عرفة، فوجد القبّة قد ضُربت له بنمرة، فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى بطن الوادي، فخطب الناس ... ثمّ أذّن ثمّ أقام فصلّى الظهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، و لم يصلِّ بينهما شيئاً، ثمّ ركب رسول الله 9 حتّى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، و جعل حبل المشاة بين يديه (6) واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتّى غربت الشمس و ذهبت الصفرة قليلًا حتّى غاب القرص، و أردف أسامة خلفه و دفع رسول الله 9 (7).

5- و روى الشيخ الطوسي عن جماعة عن أبي المفضل عن عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم بن حمّاد الخطيب المدائني قال: حدّثنا عثمان بن عبدالله بن عمرو بن عثمان قال: حدّثنا عبدالله بن لهيعة، عن أبي الزبير، قال: سمعت جابر بن عبدالله يقول: بينا النبيُّ بعرفات، و عليّ 7 تجاهه، و نحن معه، إذ أومأ النبيُّ 9 إلى علي 7 فقال: ادن منّي يا عليُّ، فدنا منه، فقال: ضع خمسك يعني كفّك في كفّي، فأخذ بكفّه، فقال: يا عليّ! خلقت أنا و أنت من شجرة، أنا أصلها، و أنت فرعها، و الحسن و الحسين أغصانها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها أدخله الله الجنّة برحمته (8).

6- روى الشيخ الطوسي بإسناده عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّ رسول الله 9 ألقى كلمة بعرفة، و إن كانت هذه الكلمة جاءت في خطبته المشهورة بالإجمال، لكن ننقلها تأكيداً و تكميلًا.

ثمّ روى أيضاً رواية أُخرى تؤكد أنّ هذه الكلمة أُلقيت بمنى: أخبرنا جماعة، عن أبي المفضّل قال: أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قراءةً، و عليّ بن محمّد بن الحسن بن كاس النخعي و اللفظ له قالا: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريا الأودي الصوفي قال: حدّثنا حسن بن حسين يعني العرني قال: حدّثني يحيى بن يعلى، عن عبدالله بن موسى التيمي، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال: سمعت رسول الله 9 في حجّة الوداع و ركبتي تمسّ ركبته يقول: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، أما إن فعلتم لتعرفنّي في ناحية الصف» (9).

7- وروى البيهقي بسند ذكره عن عبد الرحمن بن يعمر الدّيلي قال: أتيت رسول الله 9 و هو بعرفات، فأتاه نفر من أصحابه فأمروا رجلًا فنادى: يا رسول الله! كيف الحجّ؟ كيف الحجّ؟ قال: فأمر رجلًا فنادى: الحجّ يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جمع فقد تمّ حجّه، أيّام منى ثلاثة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ (10) ثمّ أردف رجلًا من خلفه فنادى بذلك (11).

3- خطبة رسول الله 9 يوم عرفة

في الضحى من اليوم التاسع استقرّ رسول الله 9 في قبّته التي ضُرِبت له بنمرة قرب عرفات، و قد اغتسل و تهيّأ لأداء أعمال هذا اليوم، و بعد أن زالت الشمس خرج رسول الله 9 من خيمته و توجّه ليخطب في الناس.

ففي صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام الصادق 7 بما يتعلّق بمناسك حج رسول الله 9 وردت إشارة إلى هذه الخطبة، فقد قال 7: فوعظ الناس و أمرهم و نهاهم (و لم يذكر متن الخطبة) (12).

وقد وردت هذه الخطبة مختصرة في صحيح مسلم و مصادر أُخرى حسب رواية جابر الطويلة (13).

إنّ هذه الخطبة هي المشهورة والمعروفة في كتب الفريقين، وفي عالم الأدب لها شأن عظيم، لجزالة ألفاظها، و عظم معانيها.


1- تهذيب الأحكام للطوسي 180: 5؛ من لا يحضره الفقيه 464: 2.
2- وهو اسم آخر للمشعر.
3- البقرة: 199.
4- الكافي 247: 4؛ تهذيب الأحكام 456: 5.
5- الكافي 463: 4.
6- في النهاية 333: 1 جعل حبل المشاة بين يديه: أي طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. و قيل: أراد صفّهم و مجتمعهم في مشيهم تشبيهاً بحبل الرمل.
7- صحيح مسلم 726: 2؛ و نحوه في دعائم الإسلام 319: 1.
8- أمالي الطوسي: 611؛ عنه بحار الأنوار 20: 15 و ج 65؛ و رواه ابن المغازلي في المناقب: 90، 297؛ و عنه في الطرائف: 111؛ و رواه ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق 64: 42- 66.
9- أمالي الطوسي: 503؛ عنه بحار الأنوار 294: 32، و نحوه في ص: 363؛ مجمع البيان للطبرسي 72: 9؛ تفسير فرات: 280.
10- البقرة: 203.
11- السنن الكبرى 378: 7.
12- الكافي 247: 4؛ تهذيب الأحكام 456: 5.
13- صحيح مسلم 726: 2؛ سنن أبي داود: 294- 296؛ سنن ابن ماجة 1022: 2؛ السنن الكبرى للبيهقي 14: 6- 19؛ المصنف لابن أبي شيبة 423: 4- 426.

ص: 18

و قد وقع كلام بينهم في مكانها و زمانها، فهل ألقاها رسول الله 9 في عرفة أو منى؟ و في أيّ يوم من أيام منى؟

فبعضهم أوردها و لم يذكر في أيّ مكان تكلّم بها رسول الله 9، كابن شعبة الحرّاني في تحف العقول (1)، و الجاحظ في البيان و التبيين (2)، وابن عبد ربّه الأندلسي في العقد الفريد (3)، بل أوردوها بعنوان «خطبة رسول الله 9 في حجّة الوداع».

و بعض آخر أوردها و ذكر أنّها خطبة رسول الله 9 بعرفة، كابن هشام في السيرة النبويّة و النسائي في السنن الكبرى (4)، ومسلم في صحيحه كما ذكرناها، ولم يذكر له 9 خطبة بمنى.

وثالث أوردها وذكر أنّها خطبة رسول الله 9 أيّام منى، كالبخاري في صحيحه عن ابن عبّاس، قال: إنّ رسول الله 9 خطب الناس يوم النحر (5) و هكذا البغوي في مصابيح السنّة (6)، ولم يذكر له 9 خطبة بعرفة.

وقد أوردها الهيثمي بطرق عديدة بعنوان «باب الخُطب في الحجّ» (7).

وروى ابن كثير روايات في خطبته يوم العيد، و ذكر الخطبة الشريفة الطبري أيضاً و ابن الأثير (8).

وفي كنز العمّال و الطبقات الكبرى قد وردت الخطبة بروايات مختلفة (9).

وروى ابن ماجة بأنّه 9 خطب في حجّة الوداع، و أُخرى بأنّه خطب بعرفات، و ثالثة بأنّه خطب يوم النحر بين الجمرات (10).

وفي بعض الروايات: نزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ (11) على رسول الله 9 في أوسط أيّام التشريق، فعرف أنّه الوداع، فركب راحلته العضباء فحمد الله و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس كلّ دم كان في الجاهلية فهو هدر (12).

وأوردها ابن كثير مختصراً مرّة بعنوان خطبة رسول الله 9 بعرفة على رواية مسلم وأُخرى بعنوان خطبة رسول الله 9 بمنى برواية البخاري (13).

وأورد الواقدي في المغازي بعض فقرات هذه الخطبة في ضمن خطبة النبي 9 بمكّة يوم الفتح (14). و كذلك المقريزي في إمتاع الأسماع (15).

واعلم أنّه بالرغم من الاختلاف بين من ذكر متن الخطبة مطوّلًا أو مختصراً بعنوان أنّها خطبة النبي 9 في حجّة الوداع أو بعنوان خطبته بعرفات، أو ذكرها بعنوان أنّها خطبته 9 بمنى يوم النحر، أو أوسط أيّام التشريق إلّا أنّ كلّها قريبة المفاد و المعنى.

و الذي يبدو جلياً أنّ رسول الله 9 خطبها بعرفة، ونظراً لأهميتها و عظيم ما تضمنته من معان جليلة و مطالب هامّة فقد أعاد رسول الله 9 محتوياتها و فقراتها في مناسبات ومواقف عديدة و أماكن أُخرى في يوم النحر أو اليوم الحادي عشر، فهي تُعدّ بحق خطبة كاملة و كلمة جامعة وأساساً متيناً لوحدة المسلمين وتبياناً لشؤون دينهم ودنياهم.

و هي وإن اختلفت المصادر التي ذكرتها في بعض ألفاظها، فإنّ هذا الاختلاف لا يضرّ بالمعنى و المفاد، و إليك نصُّها:

ألْحَمْدُ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُهُ وَ نَسْتَغْفِرُهُ وَ نَتُوبُ إِلَيْهِ وَ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ.

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ وَ أَسْتَفْتِحُ اللهَ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ.

أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي أُبَيِّنْ لَكُمْ فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فِي مَوْقِفِي هَذَا.

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَ أَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ

فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا وَ إِنَّ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَبْدَأُ بِهِ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَ إِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَبْدَأُ بِهِ دَمُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ إِنَّ مَآثِرَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ غَيْرَ السِّدَانَةِ وَ السِّقَايَةِ وَ الْعَمْدُ قَوَدٌ وَ شِبْهُ الْعَمْدِ مَا قُتِلَ بِالْعَصَا وَ الْحَجَرِ وَ فِيهِ مِائَةُ بَعِيرٍ فَمَنْ زَادَ فَهُوَ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ.

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ وَ لَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ وَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَ وَاحِدٌ فَرْدٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ وَ رَجَبٌ بَيْنَ جُمَادَى وَ شَعْبَانَ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ


1- تحف العقول: 30- 34.
2- البيان و التبيين: 228.
3- العقد الفريد 57: 4- 58.
4- السيرة النبوية لابن هشام 250: 4- 252؛ السنن الكبرى 421: 2.
5- صحيح البخاري 231: 2؛ فتح الباري في شرح صحيح البخاري 2260: 4.
6- مصابيح السنّة 272: 2.
7- مجمع الزوائد 585: 3- 599.
8- البداية و النهاية 185: 5- 189؛ تاريخ الأُمم و الملوك 150: 3- 152؛ الكامل في التاريخ 302: 2.
9- كنز العمال 286: 5- 297؛ الطبقات الكبرى لابن سعد 183: 2- 186.
10- سنن ابن ماجة 1015: 2- 1016.
11- النّصر: 1.
12- الخصال: 486؛ عنه بحار الأنوار 118: 74.
13- السيرة النبويّة لابن كثير 387: 4- 392. و انظر أيضاً جمهرة خطب العرب 155: 1- 158 الخطبة 13؛ و تاريخ اليعقوبي 109: 2- 112؛ و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 126: 1- 128؛ و السيرة النبويّة للحلبي 327: 3؛ و السنن الكبرى 17: 7 و 111: 8؛ و دلائل النبوّة للبيهقي 441: 5- 442؛ و تفسير القمي 171: 1؛ و بحار الأنوار 113: 37.
14- المغازي 836: 2.
15- إمتاع الأسماع 392: 1 و 111: 2- 112.

ص: 19

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً وَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقّاً حَقُّكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ وَ لا يُدْخِلْنَ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ بُيُوتَكُمْ إِلّا بِإِذْنِكُمْ وَ أَنْ لا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَعْضُلُوهُنَّ وَ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَ تَضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبْرِحٍ فَإِذَا انْتَهَيْنَ وَ أَطَعْنَكُمْ فَعَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ وَ اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكِتَابِ اللهِ فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ وَ اسْتَوْصُوا بِهِنَّ خَيْراً

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَ لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ مَالُ أَخِيهِ إِلّا مِنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ فَلا تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ فَإِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا؛ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي أَلا هَلْ بَلَّغْتُ اللّهُمَّ اشْهَدْ

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَ إِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ كُلُّكُمْ لآدَمَ وَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ وَ لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى أَلا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَ لا يَجُوزُ لِمُورِثٍ وَصِيَّةُ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ وَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ وَ لا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لا عَدْلًا وَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَةُ اللهِ.

هذا هو متن الخطبة النبوية القدسية كما ورد في كتاب «تحف العقول» (1). و الذي يجب علينا هنا هو الإشارة إلى النقاط المهمة التي وردت فيها، و هي:

1. حمد الله و ثناؤه و الاستغفار و الاستعاذة و ذكر الشهادتين.

2. إيصاء عباد الله تعالى بتقواه و العمل بأوامره و التجنّب عن معاصيه.

3. حثّ المسلمين على الاستماع لكلامه و فهمه.

4. حرمة دماء المسلمين و أعراضهم و أموالهم، و أداء الأمانة.

5. تحريم الربا و إلغاء دماء (ثارات) الجاهلية، و إبطال مآثر الجاهلية الرثة.

6. تثبيت بعض الأحكام و الحدود و الديات في الشريعة الإسلامية و إبلاغ الناس بها.

7. إبطال النسي ء، و التذكير بحقوق النساء، و النهي عن الظلم في الوصية.

8. تثبيت مبدأ الأُخوة الإسلامية.

9. إيجاب التمسّك بالثقلين.

10. رفض التمييز العنصري و إقرار مبدأ التفاضل بين المسلمين على أساس التقوى.

و بالإضافة إلى هذه الخطبة فقد ورد أنّ رسول الله 9 قد ألقى كلمة قصيرة حين غروب الشمس و هو بعرفات، و قد أجمعت كافة المصادر التي روتها على أنّه 9 دعا عشيّة عرفة لأُمته بالمغفرة و الرحمة فأكثر الدعاء، فأوحى الله تعالى إليه (2) أنّي قد فعلت، إلّا ظُلم بعضهم بعضاً. (3)

كما وردت في بعض الكتب خطبة ألقاها رسول الله 9 بعرفة في كرامة الحاجّ عند الله تعالى، و نحن نوردها تتميماً للفائدة. و يظهر من صدر هذه الخطبة أنّه ألقاها عشيّة عرفة بعد ما وقف بالموقف، و الحال أنّ خطبته الشهيرة ألقاها بعد الزوال ببطن عرنة، و هي مكان آخر بجنب عرفة.

ورد في دعائم الإسلام: عن عليّ 7 أنّ رسول الله 9 لمّا حجّ حجّة الوداع وقف بعرفة و أقبل على الناس بوجهه و قال: «مرحباً بوفد الله ثلاث مرّات الذين إن سألو أُعطوا، و تخلف نفقاتهم، و يجعل لهم في الآخرة بكلّ درهم ألف من الحسنات» ثمّ قال-: «أيّها الناس ألا أُبشّركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: «إنّه إذا كانت هذه العشيّة باهى الله بأهل هذا الموقف الملائكة فيقول: يا ملائكتي! أُنظروا إلى عبادي و إمائي أتوني من أطراف الأرض شعثاً غبراً هل تعلمون ما يسألون؟ فيقولون: ربّنا يسألونك المغفرة، فيقول: أُشهدكم أنّي قد غفرت لهم، فانصرفوا من موقفهم مغفوراً لهم ماسلف» (4).

وفي المستدرك عن القطب الراوندي في لبّ اللباب، عن النبيّ 9 قال: «إذا كانت عشيّة عرفة يقول الله لملائكته: أُنظروا إلى عبادي و إمائي شعثاً غبراً جاءُوني من كلّ فجٍّ عميق لم يروا رحمتي و لا عذابي يعني الجنّة و النار- أُشهدكم ملائكتي إنّي قد غفرت لهم الحاجّ و غير الحاجّ.

فلم يُرَ يوماً أكثر عتقاء من النار من يوم عرفة وليلتها» (5).

ثم إن رسول الله 9 قد أكثر من الدعاء و التضرّع إلى الله تعالى في عرفات، و لم يكتف بدعائه، بل راح يحثّ المسلمين و يحضّهم على الدعاء و الذكر و الإنابة إلى الله تعالى.


1- تحف العقول: 34 30.
2- وفي رواية أُخرى: فأجابه عز و جل.
3- السنن الكبرى 118: 5 و 257: 7.
4- دعائم الإسلام 293: 1؛ و عنه بحارالأنوار 49: 96؛ و مستدرك الوسائل 36: 8؛ و رواه الشجري في أماليه 58: 3.
5- مستدرك الوسائل 32: 10.

ص: 20

4- خطبته 9 يوم النحر

عبّر بعض المصنفين منهم البخاري و النسائي عن خطبة رسول الله 9 بعرفة بخطبة يوم النحر. كما ذكر بعض المؤرّخين خطبة رسول الله 9 بمنى، ومفادها يقرب من خطبته بعرفة، ولكن نصّوا على أنّها خطبته بمنى.

من هؤلاء محمّد بن سعد في الطبقات، قال: أخبرنا عبدالوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله 9 بمنى و إنّي لتحت جران ناقته، و هي تقصع بجرّتها، وإنّ لعابها ليسيل بين كتفيّ، فقال: «إنّ الله قسم لكلّ إنسان نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصيّة، ألا و إنّ الولد للفراش و للعاهر الحجر، ألا و من ادّعى إلى غير أبيه أو تولّى غير مواليه رغبةً عنهم فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين».

وقال أيضاً: أخبرنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا هشام بن الغاز، أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ النبي 9 وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجّة التي حجّ، فقال للناس: «أيّ يومٍ هذا:؟ فقالوا: يوم النحر.

قال: «فأيّ بلدٍ هذا»؟

قالوا: البلد الحرام.

قال: «فأيّ شهرٍ هذا»؟

قالوا: الشهر الحرام.

فقال: «هذا يوم الحجّ الأكبر، فدماؤكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة هذا البلد في هذا الشهر في هذا اليوم». ثمّ قال: «هل بلّغت؟»

قالوا: نعم.

فطفق رسول الله 9 يقول: «اللّهمَّ اشهد». ثمّ ودّع الناس، فقالوا: هذه حجّة الوداع.

وروى ابن سعد مثله بسند آخر، فقال: أخبرنا خلف بن الوليد الأزدي، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدّثني أبو مالك الأشجعي، حدّثني نُبيط بن شريط الأشجعي، قال: إنّي لرديف أبي في حجّة الوداع إذ تكلّم النبي 9، فقمت على عجز الراحلة و وضعت رجلي على عاتقي أبي، قال: فسمعته يقول: «أيّ يومٍ أحرم»؟

قالوا: هذا اليوم.

قال: «فأيّ شهرٍ أحرم»؟

قالوا: هذا الشهر،

قال: «فأيّ بلدٍ أحرم»؟ قالوا: هذا البلد.

قال: «فإنّ دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، هل بلّغت»؟

قالوا: اللّهمَّ نعم. قال: «اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد، اللّهمَّ اشهد».

وقال أيضاً: أخبرنا يونس بن محمّد المؤدّب، أخبرنا ربيعة بن كلثوم بن جبر حدّثني أبي، عن أبي غادية رجل من أصحاب رسول الله 9 قال: خطبنا رسول الله 9 يوم العقبة، قال: «يا أيّها الناس إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا و ألا هل بلّغت»؟ قال: قلنا: نعم، قال: «اللّهمَّ اشهد، ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بضعكم رقاب بعض».

ثم إنّ ابن سعد قال: أخبرنا هاشم بن القاسم، أخبرنا عكرمة بن عمّار، حدّثني الهرماس بن زياد الباهلي قال: كنت ردف أبي يوم الأضحى و نبيّ الله 9 يخطب الناس على ناقته بمنى.

وقال: أخبرنا هشام أبوالوليد الطيالسي، أخبرنا عكرمة بن عمّار، أخبرنا الهرماس بن زياد قال: انصرف رسول الله 9 و أبي مُرْد في ورائه على جملٍ له، و أنا صبيّ صغير، فرأيت النبيّ 9 يخطب الناس على ناقته العَضْباء يوم الأضحى بمنى (1).

ولا يخفى أنّ مفادها نفس مفاد الخطبة التي ذكرناها سابقاً، و استظهرنا بأنّه أوردها بعرفة، و يمكن إيرادها مرّة ثانية بمنى.

و في المصنّف لابن أبي شيبة بسندين عن مجاهد و مسروق أنّ النبيّ 9 خطبهم يوم النحر(2).


1- الطبقات الكبرى 183: 2- 186؛ و نحوه في كنز العمّال 291: 5- 297.
2- المصنّف لابن أبي شيبة 339: 4.

ص: 21

وفي السنن الكبرى عن رجلين من بني بَكرٍ قالا: رأينا رسول الله 9 يخطبُ بين أوسط أيّام التشريق، و نحن عند راحلته و هي خطبة رسول الله 9 التي خطب بمنى (1).

وقال أيضاً: أخبرنا عليّ بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد الصفّار، [حدّ] ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبدالله. وأخبرنا أبو نصر عمر بن عبدالعزيز بن عُمر بن قتادة النعمانيّ، أنبأ أبو عمرو إسماعيل بن نُجيد السُّلمي، أنبأ أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري، [حدّ] ثنا أبوعاصم، عن ربيعة بن عبدالرحمن بن حصن الغنويّ، حدّثتني سرّاءُ بنت نبهان و كانت ربَّة بيتٍ في الجاهلية قالت: سمعت رسول الله 9 يقول في حجّة الوداع: «هل تدرون أيُّ يومٍ هذا؟».

قال: و هو اليوم الذي يدعون يوم الرؤوس.

قالوا: الله و رسوله أعلم.

قال: «هذا أوسط أيّام التشريق، هل تدرون أيّ بلدٍ هذا؟».

قالوا: الله و رسوله أعلم.

قال: «هذا المَشْعَرُ الحرام». ثمّ قال: «إنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد هذا، ألا و إنّ دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا حتّى تلقوا ربّكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فليُبَلِّغْ أدناكم أقصاكم، ألا هل بلّغتُ؟» فلمّا قدمنا المدينة لم يلبث إلّا قليلًا حتّى مات 9. ثمّ قال: رواه محمّد بن بشّار عن أبي عاصم بهذا الإسناد و قال: قالت: خطبنا رسول الله 9 يوم الرؤوس (2).

وفي مسند أحمد بن حنبل عن أبي نضرة قال: حدّثني من سمع خطبة النبي 9 في وسط أيّام التشريق فقال: «يا أيّها الناس! إنّ ربّكم واحد، و إنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ، و لا لعجميّ على عربيّ، و لا لأحمر على أسود، و لا لأسود على أحمر إلّا بالتقوى. أبلّغت؟» قالوا: بلّغ رسول الله 9 ... إلى آخر الحديث (3).

و قد روى في دعائم الإسلام عن الإمام جعفر الصادق 7، عن الإمام عليّ 7 قال: سمعت رسول الله 9 يخطب يوم النحر و هو يقول: «هذا يوم الثجّ و العجّ. و الثجّ: ما تهريقون فيه من الدماء، فمن صدقت نيّته كانت أوّل قطرة له كفّارة لكلّ ذنب. و العجّ: الدعاء، فعجّوا إلى الله، فوالّذي نفس محمّد بيده لا ينصرف من هذا الموضع أحد إلّا مغفوراً له إلّا صاحب كبيرة مصرّاً عليها لا يحدِّث نفسه بالإقلاع عنها» (4).

ويُعتقد أنّ هذه الخطبة قد قالها 9 بمنى يوم النحر في حجّة الوداع، كما يدلّ على ذلك لفظة «هذا الموضع».

ولكن يحتمل أن يكون قد ألقاها يوم عيد الأضحى بالمدينة المنوّرة في عام من الأعوام، و مراده من «هذا الموضع» مصلّى العيد و مكان الخطبة و مجمع المسلمين، ولكن روايات البيهقي صريحة في أنّه أوردها بمنى يوم النحر في حجّة الوداع.

فقد روى البيهقي بسنده عن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله 9 يوم النحر فقال: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

و فيه أيضاً بسنده عن الهرماس بن زياد قال: رأيت النبيّ 9 و أنا صبيّ أردفني أبي يخطب الناس بمنى يوم الأضحى على راحلته.

و فيه أيضاً بسنده عن أبي أمامة سمعت أبا أمامة يقول: سمعت خطبة رسول الله 9 بمنى يوم النحر.

و فيه أيضاً بسنده عن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله 9 يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلةٍ شهباء، و عليّ يُعَبّرُ عنه، والناس بين قائم و قاعد (5).

و روى الصدوق بسنده عن أبي أمامة يقول: سمعت رسول الله 9 يقول: «أيّها الناس إنّه لا نبيّ بعدي، ولا أُمّة بعدكم، ألا فاعبدوا ربّكم، و صلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجّوا بيت ربّكم، و أدّوا زكاة أموالكم طيّبة بها أنفسكم، و أطيعوا ولاة أمركم تدخلوا جنّة ربّكم» (6).

فهذه الرواية وإن لم تكن فيها دلالة على أنّ هذا الكلام صدر من النبيّ 9 في حجّة الوداع، لكن الروايتين الأُخريين تدلّان على ذلك، فإنّ أحمد بن حنبل في مسنده و الحاكم في المستدرك قد زادا فيما روياه: يقول أبو أمامة: سمعت رسول الله 9 يخطب الناس في حجّة الوداع، و هو على الجدعاء واضع رجله في غراز الرحل يتطاول يقول: ألا تسمعون؟ فقال رجل من آخر القوم: ما تقول؟ قال: اعبدوا ربّكم ... إلى آخر الحديث (7).

5- خطبته 9 في مسجد الخيف

روى الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله 7: أنّ رسول الله 9 خطب الناس في مسجد الخيف فقال: «نَضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها و حفظها و بلّغها من لم يسمعها، فربّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، و ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئٍ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لأئمّة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، و يسعى بذمّتهم أدناهم».


1- السنن الكبرى 330: 7.
2- المصدر نفسه 330: 7.
3- مسند أحمد بن حنبل 127: 9؛ نيل الأوطار 82: 5، باب الخطبة أوسط أيّام التشريق، ح 3.
4- دعائم الإسلام 184: 1؛ بحار الأنوار 301: 96؛ الجعفريات: 46.
5- السنن الكبرى 308: 7؛ سنن أبي داود: 302- 303.
6- الخصال: 322.
7- مسند أحمد بن حنبل 274: 8؛ المستدرك على الصحيحين 547: 1.

ص: 22

ثمّ قال: و رواه أيضاً عن حمّاد بن عثمان، عن أبان، عن ابن أبي يعفور مثله، وزاد فيه: «وهم يد على من سواهم». وذكر في حديثه أنّه خطب في حجّة الوداع بمنى في مسجد الخيف. (1)

ورواها الشيخ أبو عبدالله المفيد في الأمالي بسند آخر ذكره عن الإمام الصادق 7 أنّه قال: «خطب رسول الله يوم منى فقال ... إلى آخره» (2).

ورواها أيضاً الشيخ الصدوق عن محمّد بن موسى بن المتوكّل قال: حدّثنا علي بن الحسين السعد آبادي قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبدالله 7، ورواها بسند آخر في الخصال (3)، و أيضاً وردت في جمهرة خطب العرب (4).

ورواها ابن ماجة في السنن بسند ذكره عن جبير بن مطعم (5)، أنّه قال: قام رسول الله 9 بالخيف من منى فقال: «نضّر الله إلى أن قال فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم». وأمّا صدر الحديث فقط، فقد ذكره في ضمن أحاديث متعدّدة (6).

وقال الفيروز آبادي: رجع 9 إلى منزله بالقرب من مسجد الخيف، و خطب خطبة بليغة، بلغ صوته إلى جميع أهل الخيام في خيامهم، و هذا من جملة المعجزات النبويّة (7).

وفي سنن أبي داود بسنده عن عبدالرحمن بن معاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله 9 و نحن بمنى ففتحت أسماعنا، حتّى كنّا نسمع ما يقول و نحن في منازلنا، فطفق يعلّمهم مناسكهم حتّى بلغ الجمار، فوضع إصبعيه السبّابتين، ثمّ قال: بحصى الخذف، ثمّ أمر المهاجرين فنزلوا في مقدّم المسجد، و أمر الأنصار فنزلوا من وراء المسجد، ثمّ نزل الناس بعد ذلك (8).

وفي الكافي عن محمّد بن الحسن، عن بعض أصحابنا، عن عليّ بن الحكم، عن الحكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكّة قال: قال سفيان الثوري: اذهب بنا إلى جعفر بن محمّد 7 قال: فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابّته، فقال له سفيان: يا أبا عبدالله حدّثنا بحديث خطبة رسول الله 9 في مسجد الخيف، قال: دعني حتّى أذهب في حاجتي فإنّي قد ركبت فإذا جئت حدّثتك، فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله 9 لمّا حدّثتني، قال: فنزل، فقال له سفيان: مُر لي بدواة و قرطاس حتّى أثبته، فدعا به ثمّ قال: اكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله 9 في مسجد الخيف: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، و بلّغها من لم تبلغه، يا أيّها الناس! ليبلّغ الشاهد الغائب، فربّ حامل فقهٍ ليس بفقيه، و ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، و النصيحة لأئمّة المسلمين، و اللزوم لجماعتهم، فإنّ دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، و هم يد على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم».

فكتبه سفيان ثمّ عرضه عليه، وركب أبو عبدالله 7. (9)

و قد ذكر القمّي هذه الخطبة المباركة وزاد في آخرها: و صيّة النبي 9 في التمسّك بالثقلين (10)، وليس ببعيد؛ لأنّه قد أمر المسلمين بالتمسّك بالثقلين مرّات عديدة و في مواطن شتّى.

6- خطبة رسول الله 9 عند الكعبة

عندما قضى رسول الله 9 حجّته أتى مودِّعاً للكعبة الشريفة، فلزم حلقة الباب و نادى:

أيّها الناس! فاجتمع من في المسجد الحرام و من في السوق حوله، فخطب هذه الخطبة البليغة و ذكر الفتن التي تحدث بعده و الفساد الذي يتعرّض له الناس في أخلاقهم و أعمالهم و عقائدهم، و تحقّق أشراط الساعة.

وجدير بالذكر أنّ لهذه الخطبة المباركة روايات متعدّدة مختلفة فيما بينها في بعض الألفاظ، و مشتركة في الأكثر. فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور ذيل الآية الكريمة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها (11) وقال: أخرج ابن مردويه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: حجّ النبي حجّة الوداع ثمّ أخذ بحلقة باب الكعبة فقال: أيّها الناس ألا أخبركم بأشراط الساعة إلى آخره (12).

ورواها أيضاً محيي الدِّين ابن العربي في محاضرة الأبرار و مسامرة الأخيار مرسلًا عن عبدالله بن عبّاس، عن النبي 9 (13).

وأمّا في كتب الشيعة الإماميّة فرويت في جامع الأخبار مرسلة عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: حججت مع رسول الله 9 حجّة الوداع، فلمّا قضى النبي 9 ما افترض عليه من الحجّ أتى مودِّعاً الكعبة، فلزم حلقة الباب و نادى برفيع صوته: أيّها الناس! فاجتمع أهل المسجد و أهل السوق، فقال: اسمعوا إنّي قائل ما هو بعدي كائن ... إلى آخره (14).

وجاء في تفسير القمي في ذيل الآية المباركة: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ قال: حدّثني أبي، عن سليمان بن مسلم بن الخشّاب، عن عبدالله بن جريج المكّي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبدالله بن عبّاس قال: حججنا مع رسول الله 9 حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال:

«ألا أُخبركم بأشراط الساعة؟» و كان أدنى الناس منه يومئذٍ سلمان رحمة الله عليه، فقال: بلى يا رسول الله!


1- الكافي 403: 1.
2- الأمالي للمفيد: 186؛ بحار الأنوار 148: 2.
3- الأمالي للصدوق: 431؛ الخصال: 149.
4- جمهرة خطب العرب 151: 1، خطبة النبيّ 9 بالخيف، رقم 5.
5- سنن ابن ماجة 1015: 2.
6- سنن ابن ماجة 84: 1- 85.
7- سفر السعادة: 181.
8- سنن أبي داود: 303، و نحوه في الطبقات الكبرى 185: 2.
9- الكافي 403: 1؛ بحار الأنوار 365: 47.
10- تفسير القمي 447: 2؛ بحار الأنوار 114: 37.
11- محمّد: 18.
12- الدرّ المنثور: 412: 7.
13- محاضرة الأبرار و مسامرة الأخيار 60: 1- 62.
14- جامع الأخبار: 395- 397؛ بحار الأنوار 262: 52.

ص: 23

فقال 9: «إنّ من أشراط الساعة إضاعة الصلوات و اتّباع الشهوات، و الميل إلى الأهواء، و تعظيم أصحاب المال، و بيع الدين بالدنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يُذاب الملح في الماء ممّا يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره».

قال سلمان: وإنّ هذا لكائن يا رسول الله؟!

قال: «إي والّذي نفسي بيده يا سلمان! إنّ عندها يليهم أُمراء جَوَرَة و وزراء فسقة، و عرفاء ظلمة، و أُمناء خونة».

فقال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول الله؟!

قال 9: «إي و الذي نفسي بيده يا سلمان! إنّ عندها يكون المنكر معروفاً، و المعروف منكراً، و يؤتمن الخائن، و يخوّن الأمين، و يصدَّق الكاذب، و يكذَّب الصادق ... إلى آخر الخطبة الشريفة» (1).

7- خطبته 9 في غدير خُم

بعد أن أتم رسول الله 9 و المسلمون حجّهم و قضوا مناسكهم خرجوا من مكة المكرمة في ضحى اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الحرام متوجّهين إلى المدينة المنوّرة، و كان موكب الرسول 9 يسير نحو المدينة منزلًا بعد منزل و مرحلة بعد مرحلة، حتّى مضى اليوم الخامس عشر و السادس عشر و السابع عشر، و في ضحى اليوم الثامن عشر و حينما بلغ الموكب الشريف قريباً من الجحفة بغدير خمّ و قد ابتعد 185 كيلومتراً عن مكة، و قبل تفرّق الحجاج في مسيرهم و ذهابهم إلى أوطانهم، نادى منادي الرسول 9: الصلاة جامعة.

فارتجّ الحجاج من هذا النداء، إذ لم تكن هذه الساعة زمان نزول، و لم يكن هذا المكان منزلًا و موقفاً للاستراحة، فتوقّف الموكب، فلحق من كان في آخر القافلة، ورجع من كان في مقدّمها، فاجتمعوا في الحرّ الشديد ليسمعوا الخبر الهامّ، حتّى وضع كثير منهم رداءه على رأسه من شدّة حرارة الشمس، ووضع البعض رداءه تحت قدميه اتّقاءً لِلَهيب الرمضاء.

فصلّى رسول الله 9 بالمسلمين صلاة الظهر، ثمّ صنعوا من أقتاب الإبل منبراً رفيعاً لرسول الله 9، فصار الأُلوف من البشر آذاناً صاغية لكلامه 9 ليسمعوا و ليعوا كلام خطيب الله تعالى، فرقى المنبر و فتح فمه الطيّب و تكلّم بكلام بلّغ فيه المسلمين ما أمره الله تعالى بتبليغه.

و نحن نورد الخطبة الشريفة عن كتاب المناقب لابن المغازلي الشافعي بسند ذكره، فقال رسول الله 9:

الحمد لله نحمده و نستعينه، و نؤمن به و نتوكّل عليه، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضلّ، و لا مضلّ لمن هدى، و أشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّ محمّداً عبده و رسوله.

أمّا بعد أيّها الناس! فإنّه لم يكن لنبيّ من العمر إلّا نصف من (2) عمّر من قبله، و إنّ عيسى بن مريم 7 لبث في قومه أربعين سنة، وإنّي قد أسرعت في العشرين، ألا وإنّي يوشك أن أُفارقكم، ألا وإنّي مسؤول و أنتم مسؤولون، فهل بلّغتكم؟ فماذا أنتم قائلون؟

فقام من كلّ ناحية من القوم مجيب يقولون: نشهد أنّك عبدالله و رسوله، قد بلّغت رسالته، و جاهدت في سبيله، و صدعت بأمره، و عبدته حتّى أتاك اليقين، جزاك الله عنّا خير ما جزى نبيّاً عن أمّته.

فقال: «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا وحده لاشريك له، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، و أنّ الجنّة حقّ، و أنّ النار حقّ، و تؤمنون بالكتاب كلّه؟ قالوا: بلى، قال: فإنّي أشهد أن قد صدقتكم و صدّقتموني، ألا و إنّي فرطكم و إنّكم تبعي، توشكون أن تردوا عليَّ الحوض، فأسألكم حين تلقونني عن ثقليَّ كيف خلفتموني فيهما»؟

قال: فأُعيل علينا (3) ما ندري ما الثقلان، حتّى قام رجل من المهاجرين و قال: بأبي و امّي أنت يا نبيّ الله ما الثقلان؟

قال 9: «الأكبر منهما كتاب الله تعالى، سبب طرفه بيدالله و طرف بأيديكم، فتمسّكوا به، ولا تضلّوا، و الأصغر منهما عترتي. من استقبل قبلتي و أجاب دعوتي، فلا تقتلوهم و لا تقهروهم و لا تقصروا عنهم، فإنّي قد سألت لهم اللطيف الخبير فأعطاني، ناصرهما لي ناصر، وخاذلهما لي خاذل، ووليّهما لي وليُّ، وعدوّهما لي عدوٌّ.

ألا و إنّها لم تهلك أُمّة قبلكم حتّى تتديّن بأهوائها، و تظاهر على نبوّتها، و تقتل من قام بالقسط، ثمّ أخذ بيد عليّ بن أبي طالب 7 فرفعها ثمّ قال: مَنْ كنتُ مولاه فهذا مولاه، و مَنْ كنتُ و ليّهُ فهذا و ليّهُ، اللّهمَّ والِ من والاهُ، وعادِ مَنْ عاداهُ». قالها ثلاثاً (4).

ثمّ توّج رسول الله 9 عليّاً 7 بعمامته «السحاب» أمام جموع حاشدة من المؤمنين بيده الشريفة، فسدل طرفها على منكبه، و أمر المهاجرين و الأنصار أن يسلِّموا على عليّ 7 بإمرة المؤمنين ويهنّئونه بهذه الفضيلة العظيمة. فسلّم وجوه المسلمين (5) عليه بإمرة المؤمنين و هنّأوه (6).

ومن يراجع أغلب المصادر التاريخية و كتب الحديث يجد أنّ هذه الخطبة قد احتلّت العديد من الصفحات، و أبرزوا و جوهها المختلفة، و من هؤلاء الطبري الّذي ألّف كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلّدين ضخمين. (7)


1- تفسير القمي 303: 2- 307، عنه بحار الأنوار 305: 6- 309، و تفسير البرهان 183: 4 ذيل الآية الكريمة فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها محمّد 18: 9.
2- في العمدة: 105 و البحار 184: 37: «ما» بدل «من».
3- يقال: علت الضالّة أُعيل عيلًا و عيلاناً فأنا عائل: إذا لم تدر أيّ وجهة تبغيها؛ عن أبي زيد، و قال الأحمر: عالني الشي ء يعيلني عيلًا و معيلًا: إذا أعجزك، و المراد أي: عجزنا عن فهم الثقلين.
4- المناقب لابن المغازلي: 16، عنه العمدة لابن البطريق: 104؛ و بحار الأنوار 184: 37؛ وانظر الأمالي للطوسي: 227.
5- أخرج الطبري في كتاب الولاية 214- 216 حديثاً بإسناده عن زيد بن أرقم، أن رسول الله 9 قال بعد خطبته تلك: معاشر الناس! قولوا: أعطيناك على ذلك عهداً، عن أنفسنا ... إلى أن قال: قولوا ما قلت لكم، و سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين، و قولوا: الحمد لله الّذي هدانا لهذا ... قال زيد بن أرقم: فعند ذلك بادر الناس بقولهم: نعم سمعنا و أطعنا على أمر الله و رسوله بقلوبنا. وكان أوّل من صافق النبي 9 و علياً: أبوبكر و عمر و عثمان و طلحة و الزبير و باقي المهاجرين و الأنصار و باقي الناس إلى أن صلّى الظهرين في وقت واحد، وامتدّ ذلك إلى أن صلّى العشائين في وقت واحد، وأوصلوا البيعة والمصافقة ثلاثاً.
6- مسند أبي داود: 23؛ كنز العمال 482: 15؛ الرياض النضرة 170: 3؛ فرائد السمطين 75: 1؛ الفصول المهمة: 41؛ السيرة الحلبية 341: 3.
7- البداية و النهاية 157: 11.

ص: 24

و قال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في ينابيع المودّة: حُكي عن أبي المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين أستاذ أبي حامد الغزالي أنّه قال: رأيت مجلّداً في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خمّ مكتوباً عليه المجلّدة الثامنة و العشرون من طرق قوله 9: من كنت مولاه فعليّ مولاه، و يتلوه المجلّدة التاسعة و العشرون (1).

ومتن الخطبة الشريفة يختلف في الروايات الحاكية لها، و كلّها تشتمل على قول رسول الله 9 مخاطباً هذا الجمع العظيم:

«ألست أولى بكم من أنفسكم»؟

قالوا: بلى، فأخذ بضبع عليّ بن أبي طالب و رفعها حتّى رُئيَ بياض إبطيهما،

فقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهمَّ و الِ من والاه، و عادِ من عاداه، وانصر من نصره، و اخذل من خذله».

و في الاحتجاج و روضة الواعظين و العدد القويّة و اليقين (2) ذكروا خطبة طويلة جدّاً للنبيّ العظيم في هذا المشهد العامّ، و بعض المؤلِّفين ذكر نصّاً متوسّطاً بين القصير و الطويل لهذه الخطبة؛ كابن المغازلي (483 ه) في المناقب كما مرّ، و ابن الأثير في أُسدالغابة (3)، و الشيخ أحمد أبوالفضل بن محمّد باكثير المكّي الشافعي (المتوفّى 1047 ه) في وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل (4)، والشيخ العاملي في ضياء العالمين عن كتاب الولاية للطبري المؤرِّخ (5)، و المتّقي الهندي في كنز العمّال (6)، والحمويني في فرائد السمطين (7)، و ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة (8)، و ابن كثير في البداية و النهاية (9)، و ابن حجر في الصواعق المحرقة (10)، و الحلبي في السيرة النبوية (11)، و الهيثمي في مجمع الزوائد (12)، و القرماني في أخبار الدول (13)، و بعض المحدِّثين و الرواة ذكروا فقط نقطة هامّة من هذه الخطبة؛ و هي قول رسول الله 9: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه.

و بعد إيراد هذه الخطبة قال الشاعر الشهير حسّان بن ثابت لرسول الله 9: ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليّ أبياتاً تسمعهنّ، فقال 9: قُل على بركة الله، فأنشد حسّان بن ثابت شعره المعروف:

يناديهمُ يوم الغدير نبيّهم

بخمّ و اسمع بالرّسول مناديافقال: فمن مولاكمُ و نبيّكمفقالوا و لم يبدوا هناك التعامياإلهك مولانا و أنت نبيّناو لم تلق منّا في الولاية عاصيافقال له قم يا عليّ فإنّنيرضيتك من بعدي إماماً و هاديافمن كنت مولاه فهذا وليّهفكونوا له أتباع صدقٍ موالياهناك دعا: اللّهمّ والِ وليّهوكُن للّذي عادى عليّاً معادياو قد روى هذه الأبيات الستّة العلامة الأميني في كتابه الغدير (14) عن اثني عشر من علماء أهل السنّة و عن اثنين و عشرين من علماء الإمامية، و نقلها عن كتاب سليمان بن قيس الهلالي و المولى محسن الفيض الكاشاني في «علم اليقين» (15) بزيادة أبيات أربعة، و قال بعد البيت الأوّل: وقد جاء جبريل عن أمر ربّه

بأنّك معصوم فلا تكُ وانياو بلّغهم ما أنزل الله ربّهم إليكو لا تخش هناك الأعاديافقام به إذ ذلك رافع كفّهبكفّ عليٍّ مُعلن الصوت عالياو زاد بعد البيت السادس: فياربّ انصر ناصريه لنصرهم

إمام هدى كالبدر يجلو الدياجياثمّ قال العلامة الأميني: و الذي يظهر للباحث أنّ حسّاناً أكمل هذه الأبيات بقصيدة ضمّنها نبذاً من مناقب أميرالمؤمنين 7 (16). وفي ختام حديثنا عن هذه الخطبة الهامة، ولكي نرفع ما قد يتسرّب إلى نفوس البعض من الشك فيها نذكر شيئاً عن رواتها من الصحابة و التابعين، و ماأُلِّفَ في حديث الغدير، فنقول:

أوّلًا: روى حديث الغدير من الصحابة مئة و عشرون صحابياً منهم:

1. أبوبكر بن أبي قحافة التيمي: (المتوفى 13 ه).

2. أبوهريرة الدوسي: (المتوفّى 57- 59 ه).


1- ينابيع المودّة 113: 1- 114.
2- الاحتجاج 133: 1- 162؛ روضة الواعظين: 89- 101؛ العدد القويّة: 169؛ اليقين: 343- 361. و راجع ما نقله العلامة المجلسي عن واقعة الغدير في بحار الأنوار 108: 37- 253.
3- أُسد الغابة 33: 3- 34.
4- وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل: 116- 118.
5- قال ابن كثير في تاريخه 146: 11 في ترجمة الطبري: إني رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين. انظر: الغدير، للعلامة الأميني 424: 1- 426.
6- كنز العمال 104: 13- 105.
7- فرائد السمطين 62: 1- 78.
8- الفصول المهمة: 40.
9- البداية و النهاية 197: 5- 205 و 328: 7- 331.
10- الصواعق المحرقة: 42- 49.
11- السيرة النبوية 336: 3- 337.
12- مجمع الزوائد 259: 9.
13- أخبار الدول: 102.
14- الغدير 65: 2.
15- علم اليقين: 343- 361.
16- الغدير 73: 1

ص: 25

3. أبوليلى الأنصاري: إستشهد بصفين مع الإمام علي 7 سنة 37 ه.

4. أبو زينب بن عوف الأنصاري.

5. أبو فضالة الأنصاري: بدري استشهد بصفين مع الإمام علي 7.

6. أبو قدامة الأنصاري.

7. أبو عمرة بن عمرو بن محصّن الأنصاري.

8. أبو الهيثم بن التيِّهان، إستشهد بصفين مع الإمام علي 7 سنة 37 ه.

9. أبو رافع القبطيّ.

10. أبو ذؤيب خويلد أو خالد- ابن خالد بن محرث الهذلي.

ثانياً: و رواه أيضاً اثنان و ثمانون من التابعين، منهم:

1. أبو راشد الحبراني الشامي، إسمه أخضر، نعمان.

2. أبو سلمة عبدالله بن عبدالرحمن بن عوف الزّهري المدني (المتوفّى 94 ه).

3. أبو سليمان المؤذّن.

4. أبو صالح السمّان، ذكوان المدني (المتوفّى 101 ه).

5. أبو عنفوانة المازني.

6. أبو عبد الرحيم الكندي.

7. أبو القاسم الأصبغ بن نُباتة التميمي، الكوفي.

8. أبو ليلى الكندي.

9. إياس بن نُذَير.

10. جميل بن عمارة.

ثالثاً: و قد أيّده و رواه من العلماء و أعلام الحفاظ والمؤرّخين ثلاثمئة و ستون، نذكر منهم:

1. الحافظ أبو عيسى الترمذي (المتوفّى 279 ه). (1)

2. الحافظ أبو جعفر الطحاوي (المتوفّى 279 ه). (2)

3. الحافظ ابن عبد البرّ القرطبي (المتوفّى 463 ه). (3)

4. الفقيه أبو الحسن بن المغازلي الشافعي (المتوفّى 483 ه). (4)

5. حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (المتوفّى 505 ه). (5)

6. الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبليّ (المتوفّى 597 ه).

7. أبو المظفر سبط ابن الجوزي الحنفي (المتوفّى 654 ه). (6)

8. ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفّى 655 ه (. (7)


1- سنن الترمذي 591: 5.
2- مشكل الآثار 308: 2.
3- الاستيعاب 373: 2.
4- مناقب علي بن أبي طالب: 27 برقم 39.
5- سرالعالمين: 21.
6- تذكرة الخواص: 29.
7- شرح نهج البلاغة 166: 9.

ص: 26

9. الحافظ أبو عبدالله الكنجي الشافعي (المتوفّى 658 ه). (1)

10. الشيخ أبو المكارم علاء الدين السمناني (المتوفّى 736 ه). (2)

11. شمس الدين الذهبي الشافعي (المتوفّى 748 ه). (3)

12. شمس الدين الجزري الشافعي (المتوفّى 833 ه). (4)

13. الحافظ ابن حجر العسقلاني (المتوفّى 852 ه). (5)

14. جمال الدين أبوالمحاسن يوسف بن صلاح الدين الحنفي. (6)

15. نور الدين الهروي التازي الحنفي (المتوفّى 1014 ه). (7)

16. زين الدين المناوي الشافعي (المتوفّى 1031 ه). (8)

17. نور الدين الحلبي الشافعي (المتوفّى 1044 ه). (9)

18. السيد محمد البرزنجي الشافعي (المتوفّى 1103 ه). (10)

19. السيد ابن حمزه الحراني الدمشقي الحنفي (المتوفّى 1120 ه). (11)

20. ميرزا محمد البدخشي. (12)

21. مفتي الشام العمادي الحنفي الدمشقي (المتوفّى 1171 ه). (13)

22. أبو العرفان الصبان الشافعي (المتوفّى 1206 ه). (14)

23. محمود الآلوسي البغدادي (المتوفّى 1270 ه). (15)

24. الشيخ محمود الحوت البيروتي الشافعي (المتوفّى 1276 ه). (16)

25. المولوي وليّ الله اللكهنوي. (17)

26. الحافظ المعاصر شهاب الدين الغماري المغرب. (18)

27. الشيخ عبدالعزيز محمد بن الصدّيق المغربي. (19)

رابعاً: من ألف في حديث الغدير.

و إليك قائمة بأسماء بعض من ألف في حديث الغدير و اسم كتابه أو رسالته و لا ندّعي هنا أننا سنذكر كل ما أُلّف بهذا الصدد لأنّ ذلك لا ولن يتوقف إن شاء الله تعالى:

1. أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري، الآملي، (المتوفّى 310 ه) له كتاب «الولاية في طرق حديث الغدير».

2. أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، الحافظ المعروف بابن عقدة (المتوفّى 333 ه) له «كتاب الولاية في طرق حديث الغدير».

3. أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سالم التميمي، البغدادي، المعروف بالجُعابي (المتوفّى سنة 355 ه) له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».

4. أبو طالب عبدالله بن أحمد بن زيد الأنباري، الواسطي (المتوفّى 356 ه) له كتاب «طرق حديث الغدير».

5. أبوغالب أحمد بن محمد بن محمد الزّراري (المتوفّى 368 ه) له جزء في خطبة الغدير.

6. أبو المفضّل محمد بن عبدالله بن المطّلب الشيباني (المتوفّى 372 ه) له كتاب «مَنْ روى حديث غدير خم».


1- كفاية الطالب: 60- 61.
2- العروة لأهل الخلوة: 422.
3- تلخيص المستدرك 613: 3.
4- أسنى المطالب: 48.
5- فتح الباري 74: 7.
6- المعتصر من المختصر 301: 2.
7- المرقاة في شرح المشكاة 464: 10.
8- فيض القدير 218: 6.
9- السيرة الحلبية 274: 3.
10- النواقض للروافض: الورقة 8.
11- البيان و التعريف 75: 3.
12- نزل الأبرار: 54.
13- الصلات الفاخرة: 49.
14- إسعاف الراغبين في هامش نورالأبصار: 153.
15- روح المعاني 195: 6.
16- أسنى المطالب: 461.
17- مرآة المؤمنين في مناقب أهل بيت سيد المرسلين: 40.
18- تشنيف الآذان: 77.
19- مجلة الموسم: 74، م 2- 1190 م، مهرجان الغدير/ لندن.

ص: 27

7. الحافظ علي بن عمر الدارقطني، البغدادي (المتوفّى 385 ه) قال الكنجي الشافعي في كفايته عند ذكر حديث الغدير: جمع الحافظ الدارقطني طرقه في جزء.

8. الشيخ محسن بن الحسين بن أحمد النيسابوري، الخزاعي، له كتاب «حديث الغدير».

9. علي بن عبدالرحمن بن عيسى بن عروة بن الجراح القناني (المتوفّى 413 ه) له كتاب «طرق خبر الولاية».

10. أبو عبدالله الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري المتوفّى (411 ه) له كتاب «يوم الغدير».

11. الحافظ أبوسعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجستاني (المتوفّى 477 ه) له كتاب «الدراية في حديث الولاية».

12. أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي (المتوفّى 449 ه) له كتاب «عدة البصير في حجج يوم الغدير».

13. علي بن بلال بن معاوية بن أحمد المهلبي: له كتاب «حديث الغدير».

14. الشيخ منصور اللائي، الرازي، له كتاب «حديث الغدير».

15. الشيخ علي بن الحسن الطاطري، الكوفي، صاحب كتاب «فضائل أميرالمؤمنين 7» له «كتاب الولاية».

16. أبو القاسم عبيد الله بن عبدالله الحسكاني: له كتاب «دعاة الهداة إلى أداء حق الموالاة»، يذكر فيه حديث الغدير.

17. شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (المتوفّى 748 ه) له كتاب «طرق حديث الغدير».

18. شمس الدين محمد بن الجزري، الدمشقي، المقري، الشافعي (المتوفّى 833 ه) أفرد رسالة في «إثبات تواتر حديث الغدير».

19. المولى عبدالله بن شاه منصور القزويني، الطوسي له: «الرسالة الغديرية».

20. السيد سبط الحسن الجايسي، الهندي، اللكهنوي: له كتاب «حديث الغدير» بلغة الأردو طبع في الهند.

21. السيد مير حامد حسين ابن السيد محمد قلي الموسوي، الهندي، اللكهنوي (المتوفّى سنة 1306 ه)، ذكرحديث الغدير و طرقه و تواتره و مفاده في مجلّدين ضخمين في ألف و ثمان صحائف. و هما من مجلّدات كتابه الكبير «العبقات».

22. السيد مهدي ابن السيد علي الغريفي، البحراني، النجفي (المتوفّى 1343 ه (له كتاب «حديث الولاية في حديث الغدير».

23. الحاج الشيخ عباس بن محمدرضا القمي (المتوفّى 1359 ه).

24. السيد مرتضى حسين الخطيب الفتحبوري، الهندي: له كتاب تفسير التكميل في آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ النازلة في واقعة الغدير.

25. الشيخ محمدرضا ابن الشيخ طاهر آل فرج الله، النجفي: له كتاب «الغدير في الإسلام».

26. العّلامة الشيخ عبدالحسين بن أحمد الأميني النجفي (المتوفّى 1390 ه)، له: «الغدير في الكتاب و السنة و الأدب» في 11 جزءاً. (1)

هذا ما استطعنا أن نعرضه للقارئ الكريم من خطب رسول الله 9 في حجة الوداع، عسى أن نكون قد ساهمنا في رسم صورة لما بذله رسول الله 9 من جهود و تضحيات في سبيل إرشاد أُمتّه و توضيح معالم الدين الإسلامي الحنيف لأجيال الأُمّة الإسلامية.

نسأل الله أن يوفقنا للاستنان بسنّته و أن يرزقنا شفاعته في الآخرة و زيارته في الدنيا، والشكر لله، و له الحمد على توفيقه للصالحات.


1- يعد هذا الكتاب موسوعة شاملة لكل ما يتعلّق بخطبة النبى 9 في غدير خم في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام عام حجة الوداع. و هو شامل لمناقشات تتعلّق بأسانيد الخطبة و دلالتها و ما تثبته و تنفيه.

ص: 28

ص: 29

ص: 30

ص: 31

ص: 32

ص: 33

رسالة «نيات الحج»

الأثر المكتشف حديثاً لابن فهد الحلّي

المقدمة

جمال الدين أبوالعباس أحمد بن محمد بن فهد الأسدي الحلي (756- 841 ه-) الفقيه والعارف الشيعي البارز في القرن الثامن والتاسع الهجري، ترك هذا الفقيه أعمالًا متعددة في مختلف مجالات العلوم الإسلامية، سيما في الفقه الشيعي.

انظر حول حياته، وأعماله المنابع والمصادر والمخطوطات والنسخ على الشكل التالي:

1- موسوعة مؤلفي الإمامية، ج 5، صص 83- 109، ط قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1423 ه-.

2- نسخه پژوهشي، ج 3، صص 335- 398، مقالة: «راهنماى پژوهش درباره ابن فهد الحلي/ مرشد بحثي حول ابن فهد الحلي». طهران، مكتبة ومتحف ومركز وثائق مجلس الشورى الإسلامي، 1385 ش، 2006 م.

ففي هذه المصادر هناك حديث عن أكثر من 50 مؤلّفاً لابن فهد، ورسالة «نيات الحج» التي عثر عليها حديثاً لابن فهد الحلي، موجودة بنسخة واحدة مع تسع رسائل أخرى له في مكتبة جامعة لوس انجلس تحت رقم. 1313 M وهناك صورة لها في مكتبة آيةالله المرعشي النجفي/ تحت رقم: 1119.

ص: 34

وهذه المجموعة كتبت بيد عبدالمحمود بن محمد بن علي الحسيني في شوال 811 ه-، أي في حياة المؤلف، وقد ذكر فيها المؤلف مع دعاء «أدام الله أيامه» و «أدام الله فضائله».

وفي الورقة 32 من هذه المجموعة توجد رسالة نيات الحج، وقبلها «رسالة وجيزة في واجبات الحج ونياته»، وبعدها «كفاية المحتاج في مناسك الحاج»، وربما لصغر حجم هذه الرسالة واقتراب موضوعها من الرسالتين السابقة واللاحقة عليها لم يلحظها المفهرسون وعلماء المصنفات؛ فظلّت بعيدة عن التناول. (1)

وعلى أي حال، فتحقيق وتصحيح هذه الرسالة القيمة في هذه الأيام المضطربة منحت هذا العبد الأقل ساعات أنس وسعادة، وأرجو أن تمنح أهل البحث والتحقيق ذلك في عملهم. والسلام.

أبوالفضل حافظيان

30 مهر 86 ش/ 2007 م

1. انظر: نشرية نسخه هاي خطي 724: 11.

رسالة نيّات الحجّ لابن فهد

أتوجَّهُ إلى بيت الله تعالى بمكة لأداء حَجّ التمتع حجّ الإسلام، لوجوبه قربةً إلى الله.

أُحْرِم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام وأُلبّي التلبيات الأربع لأعقد بها الإحرام المذكور؛ لوجوب ذلك كلّه قربةً إلى الله.

أطوف طواف العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أُصلي ركعتي طواف العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام أداءً؛ لوجوبهما قربةً إلى الله.

أسعى سعي العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أُقَصِّرُ للإحلال من عمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أُحْرِمُ بحجّ التمتّع حجّ الإسلام وأُلبي التلبيات الأربع لأعقد بها الإحرام المذكور؛ لوجوب ذلك كلّه قربةً إلى الله.

أَقِفُ بعرفة لحجّ التمتّع حجّ الإسلام، لوجوبه قربةً إلى الله.

أَقِفُ بالمشعر لحجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أرمي جمرة العقبة الرمي الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أذْبَحُ الهديَ الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

آكُلُ من الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

اهدي ثلث الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أتصدَّق بثلث الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أحْلِقُ رأسي حلق حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أُطوف طواف حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربة إلى الله.

أُصلي ركعتي طواف حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربة إلى الله.

أسعى لحجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أطوف طواف النساء الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

ص: 35

أُصلّي ركعتي طواف النساء الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبهما قربةً إلى الله.

أبيت الليلة بِمنى المبيت الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

أرمي هذه الجمرة الرمي الواجب عليّ في حجّ التمتّع حجّ الإسلام؛ لوجوبه قربةً إلى الله.

وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبي وآله الطيبين الطاهرين. والحمدلله وحده. ربّ اختم بالخير إنّك على كل شي ءٍ قدير.

فليكن هذا آخر الرسالة حذر الإسهاب بالإطالة وصلى الله على محمد و آله و سلم تسليماً والحمد لله ربّ العالمين ربّ يسّر و اختم بالخير إنك على كل شي ءٍ قدير و بالإجابة جدير.

ص: 36

توسعة المسعى دراسة فقهية تاريخية بيئية جيولوجية

أ. د. عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان

بعد أن بادرت مجلة «ميقات الحج» لنشر أوائل الدراسات الفقهية حول مشروع توسعة المسعى، أسهم فيها بعض الفقهاء وأساتذة الحوزة العلمية المحترمين، على رأسهم سماحة آية الله العلامة الشيخ جعفر السبحاني، فشارك المجلة هذه المرّة في هذا البحث بمساهمة مشكورة من سماحة الأستاذ الدكتور عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان، الذي اعتنى بالدراسات التي نشرت في المجلة، واستفاد من إفادات العلامة السبحاني، فإلى القارئ الكريم نقدم هذه الدراسة الشيّقة.

التحرير

الصفا والمروة في اللغة والتفسير

جاء شرح كلمة (الصفا) في كتب اللغة لدى العلامة مرتضى الزبيدي:

«الصفا: من مشاعر مكة المكرمة شرفها الله تعالى جبل صغير بلخف جبل أبي قبيس ومنه قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ، وابتنيت على متنه داراً فيحاء، أي واسعة، وبها ختم المصنف كتابه هذا» (1).

«المروة (بهاء): جبل بمكة المكرمة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ، قال الأصمعي: سمي لكون حجارته براقة». (2)

ذكر الإمام القرطبي فيما يخص الصفا والمروة قوله:

«أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس، وهو هنا جبل بمكة المكرمة معروف، وكذلك المروة جبل أيضاً» (3).

ذكر العلامة الفقيه المؤرخ القاضي تقي الدين الفاسي أن:

«الصفا الذي هو مبدأ السعي وهو في أصل جبل أبي قبيس على ما ذكره غير واحد من العلماء، ومنهم أبو عبيد البكري، والنووي، وهو موضع مرتفع من جبل له درج، وفيه ثلاثة عقود، والدرج من أعلى العقود، وأسفلها، والدرج الذي يصعد من الأولى إلى الثانية منهن بثلاث درجات وسطها، وتحت العقود درجة، وتحتها فرشة كبيرة، ويليها ثلاث درجات، ثم فرشة مثل الفرشة السابقة تتصل بالأرض، وربما أهيل التراب عليها فغيب ...». (4)

يذكر العلامة الفقيه فضيلة الشيخ عبدالفتاح بن حسين راوه المكي وهو من علماء مكة المكرمة المعاصرين (1424 ه-)، وعلى معرفة كبيرة بأحيائها وجبالها، في التعريف بهذين الجبلين: جبل الصفا، وجبل المروة قائلًا:

«الصفا: طرف سفح جبل أبي قبيس...


1- تاج العروس، مادة صفو.
2- تاج العروس، مادة مرو.
3- الجامع لأحكام القرآن، الطبعة الثانية، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 179: 1.
4- شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام، الطبعة الأولى، تحقيق لجنة من العلماء والأدباء مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة، عام 1956 م 279: 1.

ص: 37

جبل لعلع: هو الجبل الذي بسفحه المروة، وعلى سطحه محلة القرارة وشارع الفلق، وأول محلة النقاء، وجبل لعلع: هو جزء من سفح جبل قعيقعان كأنف له كجبل الصفا لجبل أبي قبيس ...». (1)

هذه التعريفات (للصفا والمروة) تفيد أنهما جبلان، أما جبل الصفا فممتد إلى جبل أبي قيس ويقع جبل الصفا في سفحه، وجبل المروة ممتد إلى جبل (لعلع)، ويقع في سفحه، وكل جبل له قاعدة من العرض تمتد على جميع جهاته، وما ظهر على وجه الأرض أصغر مما اختفى منه تحت الأرض، وقد علتهما المساكن في أجزاء كبيرة منهما من قديم الزمن، يشهد لهذا ما ذكره العلامة مرتضى الزبيدي أنه بنى على جبل الصفا داراً فيحاء.

يدرك هذه الحقيقة كل من شاهد هذين المشعرين قبل أن تمتد إليهما يد التغيير قبل التوسعة السعودية للحرم المكي قبل عام 1375 ه-، وتخطيط الشوارع من جهتهما.

استوجبت التوسعة السعودية للحرم الشريف، وإعادة تخطيط ما حوله من شوارع إلى تكسير الكثير من أجزاء الجبلين: الصفا والمروة تمهيداً لتسوية سطحهما بالأرض، واتساع الشوارع من حولهما، وقد أبرز هذه الحقائق العلامة المؤرخ فضيلة الشيخ محمد طاهر كردي الخطاط في العبارة التالية:

«ومما يشبه ما ذكره الإمام القطبي في تاريخه عن ما أخذ من أرض المسعى وأدخل في المسجد الحرام ما أحدث في زماننا في التوسعة السعودية للمسجد الحرام، وتكسير شي ء من جبل الصفا إلى جبل المروة زيادة في عرض المسعى، وليكون منظره جميلًا في رأي العين وذلك في سنة 1377 هجرية ...» (2)

أيد هذه الحقائق التي كانت مشاهدة للعيان، وعاصرها شيوخ الحاضر، وأدلى بها الشهود الثقات من أعيان مكة وكبارها، من الذين كانوا يقطنون تلك المنطقتين، والمعاصرين الذين عاشوها منذ صباهم ووثقت شهادتهم المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة، تؤيد الخرائط والصور القديمة قبل أعمال التوسعة السعودية ما أدلى به أولئك الشهود العدول قبل التغييرات التي طرأت على منطقة ما حول الحرم المكي الشريف.

تميزت العمارة السعودية فيما يخص جبل الصفا، بقطعه عن أصله جبل أبي قبيس، وأبقت على بعض الصخرات في نهايته، علامة على موضع المشعر، وكذلك بالنسبة لجبل المروة، بيد أن وجود مستويين للحرم الشريف في جهة المروة أُحدث له مدخلان: مدخل أعلى للدور الأعلى وهو مساو لارتفاع جبل المروة في اتجاه الصاعد إلى القرارة، ومدخل أسفل بقي لاتصال المروة المشعر بأصله جبل قعيقعان واضحاً مؤدياً إلى المدعى وقد نال حظه من القطع والتكسير، والاختزال من جانبيه الشرقي والغربي، وأعلاه.

النصوص الفقهية فيما يخص حدود المسعى

تمثل النصوص الفقهية حقيقة قضية البحث: (المشكلة: وهي مدى امتداد جبلي الصفا والمروة عرضاً في الساحة الشرقية للحرم الشريف) وصحة السعي في الإضافة الجديدة، مما يراد إثباته في هذا البحث.

الصفا والمروة في التراث الإسلامي (جبلان)، والجبل معناه في اللغة العربية «اسم لكل وتد من أوتاد الأرض إذا عظم وطال من الأعلام والأطواد والشناخيب، وأما ماصغر وانفرد فهو من القنان والقور، والأكم، والجمع أجبل، وأجبال، وجبال» (3)

تتضح حقيقة (الصفا، والمروة) هل هما جبلان، أو أكمتان، أو مرتفعان من النصوص التالية:

جاء في كتاب القرى لقاصد أم القرى للحافظ أبي العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر محب الدين الطبري المكي (615- 694 ه-) (في الباب السادس عشر في السعي 1 ما جاء في سبب شرعية السعي):

«ثم نظرت [هاجر] إلى المروة فقالت لو مشيت بين هذين الجبلين، تعللت حتى يموت الصبي فمشت بينهما ثلاث مرات، أو أربع مرات، لا تجيز بطن الوادي إلا رملًا، ثم رجعت إلى ابنها فوجدته ينشغ فعادت إلى الصفا، ثم مشت إلى المروة حتى كان مشيها سبع مرات ...» (4)

جاء في كتاب تفسير التحرير والتنوير للعلامة سماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر بن عاشور:

«والصفا والمروة اسمان لجبلين متقابلين، فأما الصفا: فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المروة فرأس هو منتهى جبل قعيقعان ...»

تنص كتب الفقه في جميع المذاهب على أن من واجبات السعي استيفاء المسافة بين جبلي الصفا والمروة، ويتعرضون أحياناً إلى تحديد المسافة الطولية دون العرضية، وهذا يوضح أن مناط الحكم، ومتعلقه في استيفاء المسافة الطولية هو أداء شعيرة السعي بين جبلي الصفا والمروة بصرف النظر عن السعة العرضية مادام يصدق على الساعي أنه أدى شعيرة السعي بين الجبلين المذكورين، وفي حدودهما، ومن ثم يحكم بالصحة على السعي إذا أكمل الحاج، أو المعتمر الشعيرة بتلك المسافة حسبما قررها علماء المناسك، أو عدم الصحة إذا لم يستوف تلك المسافة بين الجبلين المذكورين. فالواجب على الساعي كما هي نصوص كافة الفقهاء تحري كمال المسافة الطولية بين جبلي الصفا والمروة لا غير، وندر من نوه من الفقهاء عن المساحة العرضية، وإذا ذكر الانحراف في بعض نصوص الشافعية، أو غيرهم فإنما يتحقق بالخروج عن عرض الجبلين الصفا والمروة، ذلك لأنه لم يذكر أحد من الفقهاء نصاً، أو أثراً (فيما أحاط به العلم) يحدد عرض المسعى، وما ورد ذكره هو تقرير للواقع ليس إلا، وليس


1- الإفصاح على مسائل الإيضاح على مذاهب الأئمة الأربعة، الطبعة الثانية مكة المكرمة: المكتبة الإمدادية، عام 1414/ 1994: 191، 252.
2- يضيف فضيلة الشيخ طاهر قائلًا: «فإن هذه الحادثة تشبه ما ذكره الإمام القطبي، لكن مع الفارق، فما ذكره القطبي عبارة عن إدخال جزء من المسعى في المسجد الحرام، وأما ما نذكره فهو عبارة عن إدخال جزء من جبل الصفا إلى حدود المسعى. فمما لاشك فيه أن هذا الجزء المأخوذ من جبل الصفا في زماننا هذا، والمدخول في حدود المسعى لم يكن رسول الله 9 قد سعوا في هذا الجزء المستحدث اليوم» هذا صحيح، ولكن الامتداد لعرض المسعى لم يخرج عن حدودها الطبيعية. يتضح من عبارة العلامة الشيخ محمد طاهر كردي أنه لم يلتفت إلى مناط الحكم في السعي وهو أن يتم سعي الحاج، أو المعتمر بين جبلي الصفا والمروة وبقدر ما يمتد عرضهما من الناحيتين الشرقية والغربية، ولهذا فمن كان سعيه في حدود عرض الجبلين فهو ليس خارجاً عنهما إطلاقاً فإن حدود الجبلين هو مناط أحكام السعي ومتعلقها.
3- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، الطبعة الثالثة، بيروت: دار صادر، عام 1414/ 1994، 96: 11.
4- عارضه مصطفى السقا، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 360.

ص: 38

هو في معرض الاستدلال للعرض ولا يحتج بمثل ذلك في إثبات عرض المسعى؛ إذ لم يذكره أحد من الفقهاء استدلالًا، بل تحديد لواقع العرض في زمانه، وهو تحديد تقريبي، وفيما يلي اقتباس لنماذج مختارة من نصوص فقهية من الكتب المعتمدة:

الصفا والمروة في كتب المناسك في المذاهب الأربعة

المذهب الحنفي:

«شرائط صحة السعي.. الأول: (كينونته بين الصفا والمروة) أي بأن لا ينحرف عنهما إلى أطرافهما سواء كان بفعل نفسه، أو بفعل غيره بأن كان مغمى عليه، ولو بغير أمره.. محمولًا، أو راكباً صح سعيه أي لحصول سعيه كائناً بينهما أي بين المكانين». (1)

المذهب المالكي:

«وأما الواجب فيحصل بدخوله بنفسه، أو بدايته تحت العقد المشرف على المروة، وبوقوفه بنفسه، أو بدايته على الأرض ملاصقاً لأسفل ما ظهر من الدرج، أو قريباً من ذلك، لأنه يصدق عليه أنه استوعب ما بين الصفا والمروة» (2)

المذهب الشافعي:

«أما واجبات السعي: فالأول منها أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة على أي صفة من المشي والسير حتى لو أبقى من المسافة بعض خطوة، أو أقل لم يصح». (3)

يقول العلامة شمس الدين الرملي الشافعي: «ويشترط قطع المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولابد أن يكون قطع ما بينهما من بطن الوادي، وهو المسعى المعروف الآن، وإن كان في كلام الأزرقي ما يوهم خلافه فقد أجمع العلماء وغيرهم من زمن الأزرقي إلى الآن على ذلك، ولم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة بين الصفا والمروة كل مرة، ولو التوى في سعيه عن محل السعي يسيراً لم يضر كما نص عليه الشافعي» (4)

المذهب الحنبلي:

«ويجب استيعاب ما بين الصفا والمروة لفعله 9، فإن لم يرقهما ألصق عقب رجليه بأسفل الصفا، وألصق أبعدهما بأسفل المروة ليستوعب ما بينهما، وإن كان راكباً لعذر فعل ذلك بدابته، وهذا كان أولًا، أما بعد العمارة الجديدة فالظاهر أنه لا يكون مستوعباً إلا إذا رقى على المحل المتسع، وهو آخر درجة والله أعلم». (5)

وقد جاء في نص القرار 1184 الوارد من الهيئة المشكلة من: السيد علوي المالكي، وعبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله بن دهيش رقم 35، في 23/ 9/ 1374 ه- مايأتي:

«ولم نجد للحنابلة تحديداً لعرض المسعى، وجاء في المغني صحيفة 403، جلد 3: أنه يستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه، فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة، ثم يستقبلها، قال في الشرح الكبير صحيفة 405، جلد 3: فإن ترك مما بينهما شيئاً (أي ما بين الصفا والمروة) ولو ذراعاً لم يجزئه حتى يأتي به انتهى، هذا كلامهم في الطول، ولم يذكروا تحديد العرض» (6)

وقد جاء ضمن هذا التقرير: «وحيث إن الأصل في السعي عدم وجود بناء، وأن البناء حادث قديماً وحديثاً، وأن مكان السعي تعبدي، وأن الالتواء اليسير لا يضر؛ لأن التحديد المذكور بعاليه العرضي تقريبي بخلاف الالتواء الكثير كما تقدمت الإشارة إليه» (7)

ذكر العلامة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي عن بعض اجتماعات الشيخ محمد بن إبراهيم أيام الحج بالعلماء من بلاد الحرمين والمملكة العربية السعودية وناقشوا كثرة الحجاج والحلول لكثرة الزحام وتعرضوا من بين المسائل:» لمسألة توسعة المسعى منهم من قال:

«إن عرضه لا يحد بأذرع معينة، بل كل ما كان بين الصفا والمروة فإنه داخل في المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب، والسنة، وكما هو ظاهر فعل الرسول 9 وأصحابه ومن بعدهم، ومنهم من قال يقتصر فيه على الموجود، لا يزاد فيه إلا زيادة يسيرة، يعني في عرضه وهو قول أكثر الحاضرين».

يعلق فضيلة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي قائلًا:

«ويظهر من حال الشيخ محمد أن يعمل على قول هؤلاء؛ لأنه لا يحب التشويش واعتراض أحد» (8)

التحولات التاريخية لمشعر المسعى

جاء في تاريخ العلامة أبي الوليد محمد بن عبدالله الأزرقي فيما يتصل بالتحولات التاريخية لمشعر المسعى تحت عنوان: (ذكر زيادة المهدي الآخرة في شق الوادي من المسجد الحرام) قوله:


1- حسين عبد الغني، إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري، 117.
2- المالكي، حسين بن إبراهيم، توضيح المناسك، 129.
3- ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق محمد بن عبيد، مكة المكرمة: معهد خادم الحرمين الشريفين، عام 1422/ 2001، 132.
4- الرملي، شمس الدين محمد، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 291: 3.
5- عبد الرحمن بن جاسر، مفيد الأنام في تحرير الأحكام لحج بيت الله الحرام، الطبعة الثالثة الرياض: طبع على نفقة الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عام 1412/ 1992،: 272.
6- الشثري، سعد بن ناصر بحث في مشعر المسعى، نقلًا من مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: 3.
7- الشثري، نقلًا من ديوان رئاسة مجلس الوزراء، 6.
8- الأجوية النافعة عن المسائل الواقعة، الطبعة الثالثة، الرياض: دار المعالي ودار ابن الجوزي، عام 1420 ه-، 284.

ص: 39

«وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر عند حد ركن المسجد الحرام اليوم عند موضع المنارة الشارعة في نحر الوادي فيها علم المسعى، وكان الوادي يمر دونها في موضع المسجد الحرام اليوم». (1)

كما ذكر العلامة الأزرقي تحت عنوان: (ذكر ذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا، وذرع ما بين الصفا والمروة) قوله:

«وذرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب دار العباس ابن عبدالمطلب، وبينهما عرض المسعى خمسة وثلاثون ذراعاً ونصف، ومن العلم الذي على باب دار العباس إلى العلم الذي عند باب دار ابن عباد الذي بحذاء العلم الذي في حد المنارة وبينهما الوادي مائة ذراع وواحد وعشرون ذراعاً». (2)

ما ذكره الأزرقي هنا يقرر فيه واقع المسعى بعد توسعة محمد المهدي في موضعين:

أولًا: المسافة العرضية بين دار العباس، وباب المسجد مقابله خمسة وثلاثون ذراعاً.

ثانياً: المسافة بين العلم على باب دار العباس إلى العلم الآخر الذي عند دار ابن عباد بحذاء العلم الذي في حد المنارة، مائة ذراع وواحد وعشرون ذراعاً، وهذا مقدار المسافة بين العلمين طولًا.

يؤكد المؤرخ الفقيه العلامة قطب الدين محمد بن أحمد الحنفي المكي المتوفى عام 988 ه- ما ذكره الفقهاء المؤرخون قبله: الأزرقي، والفاكهي، والفاسي (832 ه-) وغيرهم لما حدث قبله، وظل واقعاً قائماً حتى عصره في قوله:

«كان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم، وكان باب دار محمد بن عباد بن جعفر العبادي عند حد ركن المسجد اليوم عند موضع المنارة الشارعة في نحر الوادي عن دونها في بعض المسجد الحرام اليوم، فهدموا أكثر دار محمد بن عباد بن جعفر العبادي، وجعلوا المسعى والوادي فيها، وكان عرض الوادي من الميل الأخضر اللاصق للمئذنة التي في الركن الشرقي، وكان هذا الوادي مستطيلًا إلى أسفل المسجد الآن يجري فيه السيل ملاصقاً لجدر المسجد إذ ذاك، وهو الآن بطن المسجد من الجانب اليماني ... ويجعل مسيلًا محلًا للسعي ...» (3)

ثم أضاف العلامة الفقيه المؤرخ قطب الدين الحنفي قوله:

«وأما المكان الذي يسعى فيه الآن فلا يتحقق أنه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله 9، أو غيره فكيف يصح السعي فيه، وقد حوّل عن محله كما ذكر هؤلاء الثقات؟

ولعل الجواب عن ذلك: أن المسعى في عهد رسول الله 9 كان عريضاً، وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى القديم فهدمها المهدي، وأدخل بعضها في المسجد الحرام، وترك بعضها للسعي فيه، ولم يحول تحويلًا كلياً، وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين مع توفرهم إذ ذاك، فكان الإمامان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والإمام مالك بن أنس رضي عنه موجودين يومئذ، وقد أقروا ذلك، وسكتوا، وكذلك من صار بعد ذلك الوقت في مرتبة الاجتهاد كالإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وبقية المجتهدين، فكان إجماعاً منهم على صحة السعي من غير نكير نقل عنهم». (4)

البيئة الطبيعية للصفا والمروة وما طرأ عليهما من تغييرات عبر التاريخ

تقديم:

من المسلّمات في الشرع الإسلامي أن أماكن المشاعر المقدسة، ومنها الصفا والمروة تعبدية، توقيفية لا تقبل التبديل، وعلى الرغم من هذا طال التغيير موضع المسعى المشعر عبر التاريخ، وبالتحديد في زمن الخليفة المهدي، ولم يثر هذا اعتراض أحد من الأئمة في ذلك الوقت، على الرغم من وجود كبار أئمة الإسلام وفقهائه، موضحاً هذا في النص التالي:

«وهاهنا إشكال ما رأيت من تعرض له وهو: أن السعي بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التي أوجبها الله تعالى علينا في ذلك المحل المخصوص، ولا يجوز لنا العدول عنه، ولا تعتبر هذه العبادة إلا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى رسول الله 9، وعلى ما ذكره هؤلاء الثقات أدخل ذلك المسعى في الحرم الشريف، وحول المسعى إلى دار ابن عباد كما تقدم.

وأما المكان الذي يسعى فيه الآن قلا يتحقق أنه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله 9 أو غيره فكيف يصح السعي فيه، وقد حول عن محله كما ذكر هؤلاء الثقات، ولعل الجواب عن ذلك: أن المسعى في عهد رسول الله 9 كان عريضاً وبنيت تلك الدور بعد ذلك في عرض المسعى القديم فهدمها المهدي، وأدخل بعضها في المسجد الحرام وترك بعضها للسعي فيه ولم يحول تحويلًا كلياً، وإلا لأنكره علماء الدين من الأئمة المجتهدين مع توفرهم» (5)

إن ما توصل إليه العلامة الفقيه قطب الدين النهروالي صحيح، وأن المسعى، كان عريضاً في عهد الرسول 9، ولذلك لم يبد الأئمة اعتراضاً على ذلك التحويل، بل هو تحويل في حدود ما يسمى بالمسعى، ومن أجل تقعيد هذه العبارة وتأصيلها لابد أن تستند إلى حقائق علمية موضوعية، ووضع طبيعي لتشكل ضابطاً فقهياً في هذا الموضوع، كما هي عادة الفقهاء، وأن لا يترك الموضوع للعموميات، فلا بد لمثل هذه الأمور من ضابط، وهذا ما اعتنى به هذا البحث وتوصل إليه.


1- الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، الطبعة الثالثة، تحقيق رشدي الصالح ملحس، مكة المكرمة: مطابع دار الثقافة، عام 1398/ 1978، 79: 2.؛ وانظر: الفاكهي، أبو عبد الله محمد إسحاق، أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق عبد الملك بن عبد الله بن دهيش، مكة المكرمة: مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، عام 1407/ 1986 170: 2.
2- الأزرقي، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار، 119: 2.
3- قطب الدين الحنفي، كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام في تاريخ مكة المشرفة، الطبعة الأولى، تقديم السيد محمد أمين كتبي، مكة المكرمة: المكتبة العلمية لصاحبها عبد الفتاح قدا وأولاده، ت. د.: 98.
4- الإعلام بأعلام بيت الله الحرام: 99
5- المصدر نفسه

ص: 40

الصفا جبل متصل بجبل أبي قبيس أقيمت عليه المنازل عبر العصورحتى حجبت جزءاً كبيراً منه، يتجلى هذا في الصور الفوتوغرافية قبل مشروع توسعة الحرم الشريف عام 1375 ه-.

كان جبل الصفا يفصل شمال مكة عن جنوبها، وبالجانب الغربي منه يقع وادي إبراهيم، وفيه الطريق الذي يوصل شمال مكة بجنوبها، ولما بدأت توسعة الحرم المكي الشريف عام 1375 ه- وضم المسعى إلى الحرم الشريف، اضطرت الدولة السعودية إلى إيجاد طريق يصل شمال مكة بجنوبها تسلكه السيارات فبدأت بقطع الجبل من جهة أبي قبيس، والجبل من جهة الصفا، واستعملت في ذلك الوقت الآلات المتاحة فقامت باستعمال منشار حديدي استغرق شهوراً طويلة حتى تمكنت من شق طريق يتسع للسيارات، ومر على جبل الصفا في فترات مختلفة تكسير وتمهيد وتسوية بالأرض حتى بلغ إلى الحد الذي اختصر فيه الجبل من أعلاه ما نشاهده في الوقت الحاضر في مشعر الصفا من بقايا الجبل، أما قاعدة الجبل فهي أكبر بكثير من المشاهد على سطح الأرض.

أما جبل المروة فظاهر عرضه، وامتداده في الوقت الحاضر بما يدل على قاعدة عريضة جداً؛ ذلك أن الهابط من شارع المدعى في الوقت الحاضر يطلع صعوداً إلى جبل المروة، وامتداده شرقاً وغرباً وشمالًا، واضح للعيان بما لا يحتاج إلى دليل.

أصاب الجبلين عبر التاريخ الكثير من التغييرات: تكسيراً، وقطعاً، وإزالة من جميع جوانبهما، وبنيت عليهما البيوت، والقصور الشامخة، وتعرض عرض المسعى إلى التعديات وبناء المساكن مما أدى إلى ضيقه من جميع جوانبه، ومن ثم فرض على ولاة البلد الأمين في ذلك الوقت إحاطة الصفا والمروة بالبناء من جوانبهما الثلاثة كما هو مشاهد في صورهما القديمة؛ حتى لايطول التعدي المساحة الطولية لها، وأصبح واضحاً أن العقود في واجهة الصفا، والعقد الكبير في واجهة المروة لاتمثل بحال عرض المسعى، وإنما شيدت حماية للمشعر من التعدي، وليس معناها أنها استوعبت عرض المسعى، هذا ما جاء صريحاً في قرار اللجنة المكونة من كل من:

«الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ عبد الله الجاسر، والشيخ عبد الله بن دهيش، والسيد علوي مالكي، والشيخ محمد الحركان، والشيخ يحي أمان، بحضور صالح قزاز، وعبد الله بن سعيد مندوبي الشيخ محمد بن لادن ... وقرروا ضمن الكلام على (مساحة الصفا والمروة واستبدال الدرج بمزلقان، ونهاية أرض المسعى في قرار مشايخ): ولكون العقود الثلاثة القديمة لم تستوعب كامل الصخرات عرضاً، فقد قررت اللجنة أنه لامانع شرعاً من توسيع المصعد المذكور بقدر عرض الصفا» (1)

وهذا ما سيقف القارئ عليه في العنصر التالي المتعلق بالجانب التاريخي تفصيلًا.

توّجت واجهة الصفا قديماً بعقود ثلاثة، وواجهة المروة بعقد واحد كبير ممتد من الطرف الشرقي حتى نهاية الطرف الغربي، وقد حرص الخلفاء عبر التاريخ الإسلامي على المحافظة على هذه الحدود بإحاطتهما بالبناء؛ لما لاحظوه من كثرة التعدي بالبناء على جانبيهما الشرقي والغربي، والشمالي، والجنوبي، وليحافظوا على ما تبقى حتى لا يتعدى على فضائهما، وقد أحاطت بهما المنازل من جهاتهما، تحدث عن هذا المؤرخون بالتفصيل (2).

مشعر الصفا قبل توسعة الحرم عام 1375 ه-

في وصف تفصيلي للصفا قبل الهدميات التي تمت لتوسعة الحرم الشريف، وقد كان البدء به من جهتهما، يقول الزميل الدكتور عويد بن عياد المطرفي، وهو ممن درج في رحاب هذه الأماكن الطاهرة منذ الصبا، ومرحلة الشباب، وتابع بدقة ما جرى في المسعى وبخاصة الصفا والمروة وما طرأ عليهما من تغيرات:

«وهنا أقول: إن الصفا الوارد ذكره في قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ (3)، جبل في سفح جبل أبي قبيس معروف بذاته وصفاته يمتد ارتفاعاً في سنده (4)، ويمتد في أصله وقاعدته الغربية جنوباً إلى منعرجه نحو أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم)، ويمتد شمالًا إلى منعطفه نحو البطحاء (موضع الساحة الواقعة اليوم أمام باب العباس).

وليس الصفا مقصوراً على الحجر الأملس الذي كان موجوداً هنالك، ولا على ما هو مشاهد اليوم في الموضع الذي يبدأ منه الساعون سعيهم كما يتبادر إلى بعض الأذهان من مشاهدة العيان؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستدعى الحال أن نضيِ ق من عرض المسعى!!!.

وهذا مما لايقول به عاقل».

وكانت أحداب ومرتفعات جبل الصفا الغربية مما يلي أجياد تمتد ظاهرة للعيان قبل أن تبدأ الهدميات لتوسعة المسعى والمسجد الحرام من ناحيته الجنوبية وغيرها في شهر صفر عام 1375 ه- في عهد الملك سعود، وكان على أحد أكتافه الممتدة جنوباً المتصلة بأجياد الصغير ثنية يصعد إليها من أجياد الصغير، ثم تنحدر منها طريق تمر وسط سقيفة مظلمة، ومنها تنزل الطريق من فوق هذا الجبل متعرجة بين البيوت المنتشرة على تلك المنطقة من جبل الصفا حتى تصل إلى الصفا الذي يبدأ الساعون منه سعيهم في غربه.

كما كانت البيوت السكنية شابية على جبل الصفا من كل ناحية تفترش قمته وأكتافه، وظهره، وسفحه الشمالي والجنوبي ووسطه، وما يحيط بموضع ابتداء السعي منه فغطت معالمه ومنحدراته التي تعلوها في الجبل أصلًا صخور جبل أبي قبيس التي استعصى كثير منها على التسهيل لبناء الناس عليها يوم ذاك.


1- الشثري، سعد بن ناصر، بحث في مشعر المسعى، نقلًا من مجموع فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم: 24
2- انظر: الفاسي، شفاء الغرام 299: 1.
3- المطرفي، عويد بن عياد، رفع الأعلام بأدلة توسيع عرض المسعى المشعر الحرام: 4، مخطوط.
4- السند هنا ما قابلك من الجبل وعلا سفحه. القاموس المحيط، مادة سند المطرفي، عويد،: 5.

ص: 41

ولما ابتدأت هدميات هذه التوسعة ظهر للعيان جبل الصفا على حقيقته الجغرافية الطبيعية التي خلقه الله عليها يوم خلق السموات والأرض، وأن امتداد طرفه الغربي الجنوبي المحاذي لمسيل البطحاء من جنوبها كان يصل قبل إزالته في التوسعة إلى موضع الباب الشرقي للسلم الكهربائي الصاعد اليوم إلى الدور الثاني من المسجد الحرام من ناحية أجياد، وإلى موضع قصر الضيافة الملاصق للبيوت الملكية من الجهة الجنوبية الذي موضعه الحالي جزء مرتفع من جبل الصفا.

فلا تعجب والحال ما ذكرت لك من تسمية كل هذه المنطقة من هذا الجبل باسم (جبل الصفا)؛ لأن أهل مكة في إبان أرومتهم العربية في الجاهلية والإسلام هم الذين سموه بهذا الاسم، وتبعهم في ذلك سكانها من بعدهم؛ إذ كان من عادة واضعي اللغة الذين يحتج بكلامهم في بيان المراد بمعاني الألفاظ في تفسير القرآن، وغريب الحديث النبوي، أن يسموا بعض أجزاء جبل ما، أو واد ما باسم خاص به يميز ما سموه منه عن اسم أصله لوصف قائم بذلك الجزء من الجبل أو الوادي، كما هو الحال في تسميتهم أصل جبل أبي قبيس من ناحيته الغربية، والغربية الجنوبية، وما بينهما من امتداد بالصفا الذي جعله الله عز وجل من شعائره في قوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ...

وذكر أبو إسحاق الحربي في وصفه لمكة يوم أن حج إليها في كتابه (المناسك): جبل الصفا، وذكر أن امتداده أمام جبل أبي قبيس من طرف باب الصفا إلى منعرج الوادي ... وأن طرفا من جبل أبي قبيس يتعرج خلف جبل الصفا) (1)

وتعرج جبل أبي قبيس الذي يحتضن جبل الصفا من خلفه، والصفا أسفل منه من أول منعرجه من ناحية البطحاء (الساحة الشرقية للمسعى اليوم) إلى منعطفه إلى أجياد الصغير (موضع قصر الضيافة اليوم) تغطيه الدور التي كانت تجثم على قاعدته، وعلوه، وأسفله إلى موضع السعي من الصفا المعروف اليوم كما سبق أن ذكرت آنفاً قد أزيل من موقعه بقصد توسعة المسجد الحرام على مرحلتين:

أولاهما: عام 1375 ه- حين قطعت أكتاف جبل الصفا، وفتح عليها شارع لمرور السيارات يصل بين أجياد والقشاشية التي لم تبق لها اليوم عين أيضاً.

وثانيتها في عام 1401 ه- أزيل هذا الشارع وقطع الجبل من أصله، وفصل موضع الصفا عن الجبل، وفتح بينه وبين الجبل الأصل طريق متسع للمشاة بين ما بقي من أصل الجبل وبين جدر الصفا من خارجه الشرقي تسهيلًا للحركة والمشي حول المسجد الحرام، يسّر على الناس عناء صعود الجبال والهبوط منها في ذلك الموضع.

وبهذا أزيل ظاهر جبل الصفا من الوجود، ودخل في ذمة التاريخ في هذا العام 1401 ه- بيد أن أصله وقاعدته موجودة تحت أرض الشارع المذكور، ممتدة إلى منعطفه الشمالي الشرقي المواجه لساحة المسعى الشرقية تثبت امتدادته قبل نسفه، وفصله عن أصله، وإزالة الظاهر على وجه الأرض منه.

كما أن قول أبي إسحاق في تحديده لجبل الصفا (إلى منعرج الوادي) ينص صراحة على اتساع هذا الجبل شمالًا إلى منعطفه من واجهته الغربية إلى منعطفه نحو الشمال المقابل للبطحاء (الساحة الشرقية للمسعى).

ولاريب أن ما بين طرفه الغربي الجنوبي، وطرفه الشمالي عند منعرج الوادي إلى الشرق من ناحية الشمال تشمله التسمية المقصودة بالخطاب في هذه الآية الكريمة ...

ويترتب على هذا أن المنطلق (أي الساعي) بنية السعي من أي موضع مما يشمله اسم الصفا لغة وعرفاً يكون داخلًا في عموم المراد بالخطاب بهذه الآية الكريمة ساعياً بحق وحقيقة بين الصفا والمروة إذا ما انتهى به سعيه مما ذكرت إلى مسامت له من جبل المروة المقابل له من ناحية الشمال» (2).

انتهى فضيلة الدكتور عويد المطرفي إلى القول:

«وإنما ذكرت هذا بياناً لمجمل ما أردت إيضاحه من أن الصفا متسع التكوين عريض الامتدادات من جنوبه الغربي، وشماله المحاذي للامتداد الشرقي والغربي لجبل المروة، وليس مقصوراً على الموضع الذي حجز اليوم بالبناء عليه لبدء الساعين منه سعيهم، كما يتبادر لعين المشتغل بأداء شعيرة السعي فيه ليعلم أن ما يصل بين موضعين متقابلين من هذين الجبلين مشمول بخطاب ما شرعه الله تعالى من التطوف بهما للحاج والمعتمر». (3)

مشعر المروة قبل توسعة الحرم عام 1375 ه-

وصف فضيلة الدكتور عويد عياد المطرفي جبل المروة وصفاً دقيقاً لطبيعة الجبل والإحداثات التي كانت موجودة عليه، وأسماء السكان الذين أقاموا منازلهم عليه بما يثبت معرفته التامة بالمنطقة، وأهلها، نلخص منه الآتي:

«وأما المروة المرادة بالخطاب في قول الله عز وجل: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فهي كما قال ابن منظور في كتابه لسان العرب: «جبل بمكة شرفها الله تعالى»، وقال الفيروز آبادي في القاموس المحيط، والزبيدي في شرحه تاج العروس: «المروة بهاء جبل بمكة يذكر مع الصفا، وقد ذكرهما الله تعالى في كتابه: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ثم قال الزبيدي أيضاً: قال الأصمعي: سمي (أي الجبل) لكون حجارته بيضاً براقة ...» (4)


1- المطرفي، عويد، رفع الأعلام: 9، الحربي، أبا إسحاق كتاب المناسك: 479.
2- المطرفي، عويد، رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام: 8، 9، 10، 11؛ وانظر: الحربي، أبا إسحق، كتاب المناسك: 479.
3- المطرفي، عويد، رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام: 12.
4- المطرفي، عويد، رفع الأعلام: 13.

ص: 42

ثم انتهى بعد ذكر النصوص على أن المروة جبل إلى القول:

«وكل هذا يدل صراحة على أن المروة جبل قائم بذاته وصفاته، ممتد الجوانب، واسع الوجهة المقابلة من الشمال لجبل الصفا، وامتداده إلى منعطفه نحو الوادي المواجه من الشمال الشرقي لبطن المسعى ...»

يؤيد ما أقول من اتساع جبل المروة في تكوينه الطبيعي الكبير الممتد شرقاً وغرباً عما هو عليه الآن إذ قد أزيلت معالمه الشرقية، وقطعت متونه وأكتافه، وامتداداته العضوية التي خلق عليها في التوسعة للحجاج والمعتمرين والقاطنين عام 1375 ه-.

وقد كان معروفاً قبل نسف ارتفاعات هذا الجبل وإزالتها أن جميع المباني والبيوت التي كانت قائمة في هذه المنطقة كانت مبنية على الجبل، وأن ارتفاعاته التي كانت تحت تلك البيوت قد أزالتها معاول النسف والتفجير تسهيلًا لسير الناس من حجاج وعمار ومواطنين عليها دون إعاقة ولا عنت.

وكانت تلك البيوت السكنية التي لا يزال بعض سكانها أحياء يرزقون والحمد لله أعرف كثيراً منهم تفترش بيوتهم واجهة جبل المروة الممتدة شرقاً إلى الطريق النازل اليوم من المدّعى إلى ساحة المسعى، كما تفترش سفحه ومنحدراته وارتفاعاته الواقعة على واجهته الجنوبية المطلة على المسعى، وعلى الوادي الفاصل بين جبل الصفا وجبل المروة الذي انتطحته البيوت السكنية هو الآخر قبل التوسعة السعودية فأذهبت معالمه، وقطعت ظاهر ما كان بين الصفا وجبل المروة من اتصال متسع ينجو به الساعون من مخاطر ومحاذير الازدحام؛ إذ كانت الجهة الشرقية للمسعى فضاء غير محدود ببناء قبل أن يزحف عليها الناس، ويضيقوا سعته بما أقاموا عليها من دور ومنازل قبل أن تفك التوسعة السعودية ضائقته، وتطلق أسره من المعتدين عليه.

ومن ثم عاد مهندسو التوسعة السعودية فضيقوا على المسعى ما انفسح به عرضه، ولو تركوه دون أن يقيموا عليه جدراً من الشرق لما ضاق المسعى اليوم بأحد من الساعين، ولما احتاج الأمر منا إلى بيان، ولا إلى رجاء توسيع عرضه.

وأعود فأقول: إن الواجهة الجنوبية الشرقية لجبل المروة المواجهة لجبل الصفا من الشمال كانت مغطاة بالبيوت السكنية منقادة متراصة بعضها بجانب بعض على طول متن الجبل من ملاصقة جدر المروة الشرقي إلى الطريق الصاعد من شرقي الطرف الشمالي للمسعى إلى المدعى.

وقد كانت بيوت السادة المراغنة التي كان يستأجرها صالح بن محمد سابق على جبل المروة ملاصقة جدرانها جدر المروة الشرقي، وعرض بيتهم الملاصق لجدر المروة من الشرق ممتداً نحو الشرق حوالي خمسة عشر متراً.

ويتصل به ملاصقة من الشرق حوش المحناطة الذي كان بائعو الحبوب بالمدعى ينخلون فيه حبوبهم قبل بيعها، وامتداده من دار المراغنة على جبل المروة أيضاً إلى جهة الشرق باتجاه طريق المدعى حوالي خمسة وعشرين متراً.

فهذا بعض عرض واجهة مرتفعات جبل المروة من ناحية الشرق من ملاصقة المروة التي يسعى منها الناس على خط مستقيم نحو الشرق إلى شارع المدعى على متن جبل المروة كان مرتفعاً جبلياً عن مستوى المسعى ارتفاعاً ظاهراً يعرفه العام والخاص قبل تكسيره وتسويته بالأرض، ويلاصق بيت المراغنة الآنف الذكر من الجنوب على امتداد طول المسعى على واجهة المسعى الشرقية على يسار النازل من المروة منحدراً إلى المسعى متجهاً إلى الصفا وقف المراغنة يفتح بابه على داخل المسعى.»

ثم تعرض في بحثه القيم إلى ذكر أسماء سكان الجهة الشرقية للمسعى وترتيب منازلهم بدقة كاملة، ثم انتهى إلى النتيجة التالية فيما يتعلق بجبل المروة قائلًا:

«والحاصل الذي لا مين ولا مراء فيه، أن المرتفعات الجبلية الصخرية لواجهة جبل المروة الشرقية الجنوبية تمتد شرق موقع المروة الحالي الذي يقف عليه الساعون اليوم زيادة عما هو عليه الحال الآن بما لا يقل عن أربعين متراً من ناحية الشرق حتى تلاقي الطريق النازل من المدعى إلى ساحة المروة الشرقية ...» (1)

تقرير هيئة المساحة الجيولوجية

أيد العلم الحديث الحقائق السابقة فقد قامت هيئة المساحة الجيولوجية، وكشفت عنها في تقريرها العلمي المقدم لمعهد خادم الحرمين لأبحاث الحج عندما قامت باختبار العينات في جبلي الصفا والمروة في منطقة السعي الحالية، والمنطقة المستهدفة للتوسعة، واستخدمت آلياتها الثقيلة من حفارات نزلت إلى أعماق الصخور في الأرض لاختبار عينات من جبلي الصفا والمروة في مكانهما الحالي، والامتداد الشرقي المطلوب التوسعة فيه فتوصلت إلى النتيجة التالية في (تقرير دراسة الامتداد الشرقي لجبلي الصفا والمروة) مقدم لمعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج جاء فيه مايلي:

التوصيات: الدراسة الجيولوجية:

قدمت هيئة المساحة الجيولوجية السعودية خريطة جيولوجية لمنطقة المسعى تم إعدادها قبل عشرين عاماً موضحاً عليها الامتدادات السطحية لجبلي الصفا والمروة قبل مشروع التوسعة السعودية الأولى مرفق نسخة الخريطة حيث أثبتت:


1- المطرفي، عويد، رفع الأعلام بأدلة جواز توسيع عرض المسعى المشعر الحرام: 18، 21.

ص: 43

أن جبل الصفا لسان من جبل أبي قبيس، وأن لديه امتداداً سطحياً بالناحية الشرقية مسامتاً للمشعر بما يقارب 30 متراً.

1- أن جبل المروة يمتد امتداداً سطحياً مسامتاً للمشعر الحالي بما يقارب 31 متراً» (1)

وقد أرفقت في تقريرها الخرائط المتنوعة تحت العناوين التالية:

«صورة توضح الامتداد الطبيعي لجبل الصفا باتجاه دار الأرقم ولا تزال العقود في مكانها بعد إزالة المباني.

صورة أخرى لنفس المنطقة بعد بدء عمليات إزالة المباني في السبعينات الهجرية.

مواقع الحفر لجسات الصخور في المنطقة الممتدة شرق جبل المروة.

خارطة تبين الامتداد الشرقي لمحلة المروة قبل هدميات 1373 ه-

شهادة أهل الخبرة من المكيين

صدق المثل القائل: (أهل مكة أدرى بشعابها)، يؤيد هذا ماهو معروف شرعاً وعرفاً أن:

«النقل بالتوارث من طرق الإثبات، كما بينه العلماء، وحرره ابن القيم في إعلام الموقعين فقال:

(وأما نقل الأعيان وتعيين الأماكن، فكنقلهم الصاع والمد، وتعيين موضع المنبر، وموقفه للصلاة، والقبر، والحجرة، ومسجد قباء، وتعيين الروضة، والبقيع، والمصلى ونحو ذلك.

ونقل هذا جار مجرى نقل مواضع المناسك كالصفا والمروة، ومنى، ومواضع الجمرات، ومزدلفة، ومواضع الإحرام كذي الحليفة والجحفة، وغيرهما، فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتباعها، وسنة متلقاة بالقبول على الرأس والعين» (2)

اتخذ التأكد والتثبت لامتداد المسعى من الجهة الشرقية مسارين في قناتين رسميتين:

أحدهما: هيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة برئاسة معالي الدكتور ناصر بن محمد السلوم.

ثانيهما: معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج برئاسة عميده السابق معالي الدكتور أسامة بن فضل البار. فيما يلي تفصيل ذلك:

أولًا: بناءاً على الأمر السامي الكريم رقم 8020/ م ب وتاريخ 15/ 6/ 1426 ه-، المتضمن تكليف هيئة تطوير مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة بدراسة توسعة المسعى.

قامت الأمانة العامة للهيئة بعقد حلقات نقاش علمية بمقر معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج بمكة المكرمة مع مجموعة من المشايخ وكبار السنّ المعمرين ومن سكان منطقة المسعى والباحثين والمهندسين لاستقراء وجهة النظر الشرعية والتاريخية حيال موضوع الدراسة وهم:

1- معالي الشيخ عبدالملك بن عبدالله بن دهيش.

الرئيس العام لتعليم البنات سابقاً ورئيس المحاكم الشرعية الكبرى بمكة سابقاً.

2- فضيلة الأستاذ الدكتور عويد بن عياد المطرفي.

الأستاذ بالدراسات العليا الشرعية بجامعة أم القرى والباحث بتاريخ المناسك.

3- سعادة الدكتور عبدالله بن صالح شاووش.

الباحث في تاريخ مكة المكرمة وأحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر.

4- سعادة الدكتور معراج بن نواب مرزا.

الباحث في تاريخ مكة المكرمة وأحد مؤلفي الأطلس التاريخي لمكة والمشاعر.

5- سعادة الدكتور درويش بن صديق جستنية.


1- تقرير دراسة الامتداد الشرقي لجبلي الصفا والمروة، تقديم الدكتور أسامة بن فضل البار،: 8.
2- العبد المنعم، عبد العزيز بن محمد، المسعى تحقيقات تاريخية وشرعية، بحث مقدم لمجلس هيئة كبار العلماء: 5.

ص: 44

الباحث في مركز الاقتصاد الإسلامي ومن سكان المسعى.

كما كلفت الأمانة العامة الباحثين سعادة الدكتور عبدالله بن صالح شاووش وسعادة الدكتور معراج بن نواب مرزا بمعهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج بإعداد دراسة تاريخية وجغرافية عن منطقة المسعى إضافة إلى مسح كافة الصور والخرائط التاريخية. واستضافت مجموعة من كبار السن المعمرين من ذوي الخبرة بمنطقة المسعى وسكانها ضمت كلًا من:

1- معالي الدكتور محمد بن عمر الزبير.

مدير جامعة الملك عبدالعزيز الأسبق وأحد سكان المسعى.

2- معالي المهندس محمد سعيد بن حسن فارسي.

المشرف على مكتب تخطيط المدن في فترة الثمانينات الهجرية وأمين محافظة جدة الأسبق.

3- الشيخ عبدالرحمن عمر خياط.

من كبار السن والمعمرين.

4- الشيخ محمد نور بن محمد سعيد عيد.

مدير عام الميزانية الأسبق بوزارة المالية وأحد سكان منطقة الصفا.

5- المهندس محمد بن حسين جستنية.

أحد سكان منطقة المسعى.

6- الأستاذ أحمد بن محمد سعيد عيد.

المراقب المالي بمنطقة مكة المكرمة سابقاً وأحد سكان منطقة الصفا.

حيث تم عقد عدد من الاجتماعات حضر بعضاً منها، إضافة إلى أصحاب الفضيلة والسعادة ومعالي أمين عام الهيئة الدكتور ناصر بن محمد السلوم وعدد من مسؤولي الهيئة وخبرائها.

كما قامت اللجنة بجولات ميدانية على منطقة المسعى يوم الأحد 12/ 7/ 1427 ه-، ويوم الاثنين 8/ 10/ 1427 ه-، بالاجتماع مع المشايخ والمعمرين من كبار السن من سكان منطقة المسعى في مقر المعهد بالعزيزية.

واستمعت اللجنة إلى عرض مقارن بين منطقة المسعى قبل مشروع التوسعة السعودية الأولى عام 1375 ه-، والوضع الحالي من المهندس عبدالله بن محمد فوده، من معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج، وشاهدت فلماً تاريخياً عن مشروع التوسعة والهدميات التي تمت عام 1375 ه-، قدمه المهندس بكر بن محمد بن لادن الرئيس التنفيذي لمجموعة بن لادن السعودية.

وفيما يلي عرض لأهم نقاط الدراسة والمقابلات الشخصية مع كبار السن من سكان المسعى:

أن المصادر التاريخية لم تشر مباشرةً إلى عرض الصفا والمروة وإن أشارت إلى تزاحم المساكن حولها منذ بداية القرن الثاني الهجري.

أن الصفا والمروة لم يكن عليهما درج أو بناء وكان الساعي يسند فيهما حتى عهد الوالي عبدالصمد بن عبدالله بن العباس (146- 149 ه-) حيث أمر ببناء درج عليهما.

لم يشر كل من الأزرقي والفاكهي وهما من أوائل مؤرخي مكة إلى العقود المقامة على الصفا والمروة. وأول من ذكر ذلك هو الرحالة بن جبير عندما حج عام 578 ه-، عند وصف أقواس الصفا وعددها ثلاثة أقواس وقوس واحد على المروة وحدد عرض عقود الصفا بحوالي أحد عشر متراً وعقد المروة بحوالي تسعة أمتار.

أشار المحب الطبري في كتابه شرح التنبيه وهو من مؤرخي القرن السابع إلى كثرة الأبنية حول الصفا والمروة حتى سترتها بحيث لا يظهر منها غير يسير في الصفا.

لم يتغير الوضع الطبيعي لمنطقتي الصفا والمروة خلال القرون الماضية لصعوبة إزالة وتكسير الجبال، وعلى سبيل المثال فقد ظلّت المسالك والأزقة في منطقة الصفا منذ عهد الأزرقي (وهو في القرن الثالث) إلى ما قبل التوسعة السعودية الأولى (1375 ه-) لم تتغير، حيث يوجد شعيب

ص: 45

من الناحية الغربية وهو الزقاق الصاعد إلى جبل أبي قبيس، ومن الناحية الشرقية يوجد زقاق غير نافذ يؤدي إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم وما بعده.

عند تنفيذ التوسعة السعودية ببناء المسعى عام 1376 ه-، تم تحديد خط رابط على استقامة واحدة بين المشعرين بما أضاف حوالي تسعة أمتار من جهة الشرق ناحية الصفا وعندما رأى بعض العلماء اجتهاداً عدم جواز السعي في المساحة المضافة تم وضع حاجز خشبي بعد تنفيذ المشروع عام 1376 ه- و 1377 ه-، إلا أنه قد تمت إزالة الحاجز وإجازة السعي في تلك المنطقة بناءاً على قرار اللجنة المشكلة من عدد من العلماء.

الاجتماع مع المشايخ والمعمرين من كبار السن من سكان منطقة المسعى في مقر المعهد بالعزيزية.

ثانياً: وثقت شهادة الشهود بالمحكمة العامة بمكة المكرمة لدى القاضي الشيخ عبد الله بن ناصر الصبيحي، وصدر بها صك شرعي برقم 158/ 44/ 11 تاريخ 25/ 12/ 1427 ه- جاء فيه:

«في يوم الأحد الموافق 24/ 12/ 1427 ه-، حسب تقويم أم القرى حضر عميد معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج الدكتور أسامة بن فضل البار وأحضر معه فوزان بن سلطان بن راجح العبدلي الشريف حامل البطاقة رقم 100164066 وهو من مواليد عام 1349 ه-، فقرر قائلًا: إنني أذكر أن جبل المروة يمتد شمالًا متصلًا بجبل قعيقعان وأما من الجهة الشرقية فلا أتذكر، وأما موضوع الصفا فإنني أتوقف، كما حضر الدكتور عويد بن عياد بن عايد الكحيلي المطرفي حامل دفتر العائلة رقم 1001787769 وهو من مواليد عام 1353 ه-، وقرر قائلًا: إن جبل المروة كان يمتد شرقاً من موضعه الحالي بما لا يقل عن ثمانية وثلاثين متراً، وأمّا الصفا فإنّه يمتدّ شرقاً بأكثر من ذلك بكثير، كما حضر (فضيلة كبير سدنة البيت الشيخ) عبد العزيز بن عبدالله بن عبدالقادر شيبي حامل البطاقة رقم 1007139940 وهو من مواليد عام 1349 ه-، فقرر قائلًا: إن جبل المروة يمتد شرقاً وغرباً وشمالًا ولا أتذكر تحديد ذلك بالمتر، وأما الصفا فإنه يمتد شرقاً بمسافة طويلة حتى يقرب من القشاشية بما لا يزيد عن خمسين متراً.

كما حضر حسني بن صالح بن محمد سابق حامل البطاقة رقم 1004080568 وهو من مواليد عام 1357 ه-، وقرر قائلًا: إن جبل المروة يمتد غرباً ويمتد شرقاً بما لا يقل عن اثنين وثلاثين متراً. وكنا نشاهد البيوت على الجبل ولما أزيلت البيوت ظهر الجبل وتم تكسيره في المشروع، وأما جبل الصفا فإنه يمتد من جهة الشرق بأكثر من خمسة وثلاثين أو أربعين متراً. كما حضر (مدير جامعة الملك عبد العزيز السابق معالي الأستاذ الدكتور) محمد بن عمر بن عبدالله زبير حامل البطاقة رقم 1050640554 وهو من مواليد عام 1351 ه-، وقرر قائلًا:

إن المروة لا علم لي بها، وأما الصفا فالذي كنت أشاهده أن الذي يسعى كان ينزل من الصفا ويدخل في برحة عن يمينه، وهذه البرحة يعتبرونها من شارع القشاشية ثم يعود إلى امتداد المسعى بما يدل على أن المسعى في تلك الأماكن أوسع.

كما حضر (الدكتور) درويش بن صديق بن درويش جستنية حامل البطاقة رقم 1019559580 وهو من مواليد عام 1357 ه-، فقرر قائلًا: إن بيتنا سابقاً كان في الجهة الشرقية من نهاية السعي في المروة وكان يقع على الصخور المرتفعة التي هي جزء من جبل المروة، وقد أزيل جزء كبير من هذا الجبل بما في ذلك المنطقة التي كان عليها بيتنا وذلك أثناء التوسعة التي تمت في عام 1375 ه-، وهذا يعني امتداد جبل المروة شرقاً في حدود من خمسة وثلاثين إلى أربعين متراً، شرق المسعى الحالي، وأما الصفا فإنها كانت منطقة جبلية امتداداً متصلًا بجبل أبي قبيس ويعتبر جزءاً منه وكنت أصعد من منطقة السعي في الصفا إلى منطقة أجياد خلف الجبل.

كما حضر محمد بن حسين بن محمد سعيد جستنية حامل البطاقة رقم 1001770203 وهو من مواليد عام 1361 ه-، وقرر قائلًا: إن جبل المروة كان يمتد من الجهة الشرقية والظاهر أنه يمتد إلى المدعى، وأما جبل الصفا فإنه يمتد شرقاً أيضاً أكثر من امتداد جبل المروة، فأمرت بتنظيم صك بذلك، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حرر في 24/ 12/ 1427 ه-.

القاضي عبد الله بن ناصر الصبيحي

القاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة

تحليل المعلومات السابقة

في ضوء السابق من الحقائق اللغوية، والطبيعية، والتاريخية، ونصوص الفقهاء، وشهادة الثقات من كبار السن من السادة أهل مكة المكرمة يتبين الآتي:

أن عرض جبلي الصفا والمروة في أصلهما الطبيعي أكبر مما هو ظاهر على وجه الأرض، وأن امتدادهما في القاعدة أكبر بكثير مما هو على وجه الأرض خصوصاً وقد طالت قممهما وجوانبهما الظاهرة الكثير من التكسير والتشذيب والتسوية مع سطح الأرض.

1- أن عرض المسعى لم يحدد نصاً، ولم يتعرض له الفقهاء، ومن حدده من المؤرخين، أو الفقهاء نزر يسير جداً يعدون على أصابع اليد، وقد عبر عن هذه الحقيقة العلامة شمس الدين الرملي، إذ يقول: «ولم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى، وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإن الواجب استيعاب المسافة بين الصفا والمروة كل مرة» (1)، فلزم أن يكون مناط الحكم في تحديد العرض هو مدلول كلمة (جبل الصفا) و (جبل المروة) بكامل المدلول اللغوي لهذين الاسمين.


1- نهاية المحتاج 291: 4

ص: 46

أن مسافة عرض المسعى التي ذكرها بعض المؤرخين أو الفقهاء تقرير للواقع في ذلك الوقت بصورة تقريبية ليس إلا، لم يرد فيها نص من السنة، أو الأثر، يقول العلامة ابن حجر الهيتمي المكي: «ولك أن تقول: الظاهر أن التقدير لعرضه المسعى بخمسة وثلاثين، أو نحوها على التقريب، إذ لا نص فيه يحفظ عن السنة فلا يضر الالتواء اليسير بحيث لم يخرج عن سمت العقد المشرف على المروة لم يضر».

2- ذكر الفقهاء والمؤرخون المكيون أن المسعى في الوقت الحاضر منذ العهد بتوسعة الخليفة المهدي العباسي عام ستين ومائة ليست في الموقع الذي سعى فيه رسول الله 9، وصحابته من بعده، فمن ثم أبرز العلامة قطب الدين بن علاء الدين النهروالي المكي الحنفي هذا الإشكال وأجاب عليه، كما تقدم ذكر هذا سابقاً. علماً بأن المقصود بكلمة (الموقع الذي سعى فيه رسول الله 9) هو مكان الهرولة بين الميلين الأخضرين.

الخاتمة

من خلال ما تقدم عرضه من العناصر توصل البحث إلى النتائج التالية:

أولًا: خصت الصفا والمروة بالذكر في النصوص الشرعية: الكتاب والسنة، ضمن شعائر الحج والعمرة لتكون علامات طبيعية ثابتة لهذه الشعيرة على مدى العصور، وكما هي عادة الشرع الشريف أن يحد المشاعر بعلامات طبيعية.

ثانياً: الصفا: يطلق هذا الاسم على جبل يبدأ من نهاية جبل أبي قبيس وهو أكبر مما هو عليه الآن، حيث يمتد شرقاً في العرض إلى سور قصور الصفا الملكية القائمة على نهاية جبل الصفا في امتداد جبل أبي قبيس.

ثالثاً: الصخر البارز الموجود الآن في مشعر الصفا ليس هو كل الجبل وإنما هو جزء منه، وقد أبرزت جريدة عكاظ في الصفحة الحادية عشرة، في عددها الصادر يوم الثلاثاء 17 ربيع الأول عام 1429 ه-، الموافق 25 مارس 2008 م، السنة الخمسون العدد 15186 جبل الصفا على طبيعته في صورتين فوتوغرافيتين فأصبح واضحاً للعيان (بعد تواريه عقوداً طويلة).

رابعاً: تمتد حدود جبل الصفا العرضية قدر امتداده الطبيعي، ذلك أن جبل الصفا يمتد عرضاً من جهتيه الغربية والشرقية، بأكثر مما هو موجود حالياً، وهذا معروف بداهة.

خامساً: قد عبر العلامة الفقيه، المؤرخ تقي الدين الفاسي المكي عن هذا بتعبير دقيق جداً فقال:» وهو الصفا موضع مرتفع.. من جبل «فليس الصفا الحالي، ولا السابق قبل التوسعة السعودية الذي يقف عليه الناس هو كل جبل الصفا.

سادساً: المروة: رأس هو منتهى جبل قعيقعان، أما الجزء البارز الواضح من هذا الجبل في المروة في الوقت الحاضر فهو جزء بسيط من أصل الجبل.

سابعاً: يمتد جبل الصفا عرضاً من طرفيه، وكذلك المروة بأكثر من الأجزاء الموجودة في الوقت الحاضر.

حيث لم يرد في السنة المطهرة تحديد للصفا والمروة فإن مناط الحكم الشرعي وتعلقه هو ما يطلق عليه جبل الصفا وجبل المروة بقدر امتدادهما. و أن يكون أداء السعي بينهما وفي حدودهما، وهو ما قرره بعض العلماء المعاصرين في مجلس العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ونقل هذا العلامة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، كما تقدم.

ثامناً: أن ما بين ضفتي هذين الجبلين الشرقية والغربية واد عريض جداً، كانت تدخل منه السيول إلى الحرم، ومن أجل أن ينحرف السيل عن دخول الحرم وضع الخليفة عمر بن الخطاب ما يسمى تاريخاً ب- (الردم) في المدعى المعروفة اليوم، ولا زال هذا الارتفاع علامة طبيعية بارزة حتى وقتنا الحاضر.

تاسعاً: إن اتساع الوادي عرضاً كان هو المبرر لتحويل المسعى عما كان على عهد رسول الله 9، والتابعين حتى عهد المهدي الخليفة العباسي، ولا يعد هذا تغييراً لموضع شعيرة السعي.

عاشراً: المهم الأساس في أداء شعيرة السعي هو نقطة البداية لما يطلق عليه جبل الصفا، ونقطة النهاية فيها هو ما يطلق عليه جبل المروة.

حادي عشر: السعي بين جبلي الصفا والمروة، واستيفاء المسافة بينهما هو مناط الحكم الشرعي ومتعلقه، وهو أحد واجبات السعي الذي أكد الفقهاء على المحافظة عليه في أداء شعيرة السعي، واهتموا به الاهتمام الكامل، حتى أنهم ذرعوا الطول بصورة دقيقة، واجتهدوا كثيراً في تحديد بدايتها ونهايتها قديماً وحديثاً.

ثاني عشر: ليس من الافتئات على الشريعة دعوى إجماع الفقهاء أن الواجب في السعي هو استيفاء المسافة بين الصفا والمروة طولًا، أما العرض فإن السعي صحيح ومتحقق في جميعه ما دامت المسافة التي يقطعها الساعي متحققة بين الجبلين الصفا والمروة. ولهذا لم يتعرض الفقهاء للكلام عن العرض، ذلك أن العرض رهين بمحدودية الجبلين عرضاً في كليهما.

ثالث عشر:

ص: 47

1. قد عرف عن الشرع الإسلامي الشريف من طريق الاستقراء أن الحدود للمشاعر هي الحدود الطبيعية من وديان، وجبال، وأكمات. هذه القاعدة تنطبق تماماً على جبلي الصفا والمروة بحدودهما الطبيعية من الجهتين العرضيتين الشرقية والغربية،

2. استيفاء المسافة في السعي بين الصفا والمروة في حدودهما الطبيعية تحقيق للمطلوب الشرعي في المكان المحدد شرعاً في كل من الشعيرتين.

ليس هذا بدعاً في هذه الشعيرة، بل يمتد هذا المعنى في كافة المشاعر، مثلًا: الوقوف بعرفة، والمزدلفة، ومنى المقصود من ذلك هو الكينونة في محدود مسماها، والسعي بين الصفا والمروة ليس بدعاً من تلك المشاعر مادام الأداء متحققاً في حدود العرض الطبيعي لمسمى الجبلين.

آخراً وليس أخيراً، فإنه من الواجب أن أنوه هنا بالإضافة المهمة المفيدة التي دونها العلامة الفقيه المحقق الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله بعد اطلاعه على البحث المبدئي لتوسعة المسعى؛ لتأييد ماسبق ذكره من حقائق وتأكيدها قائلًا:

«ومع ذلك كله فهناك قرائن تدل على أن المسعى كان أوسع حتى من الجانب الآخر الذي يقابل المسجد، وهذه القرائن عبارة:

1. أن الصفا جزء من جبل أبي قبيس كما أن المروة جزء من جبل قعيقعان فمن البعيد أن يكون طول الجبل وامتداده حوالي 20 متراً من غير فرق بين الصفا والمروة، وهذا يدل على أن الامتداد الحالي ليس هو كما في السابق لحصول الحفريات على جانبيه.

2. توجد حالياً بقايا من جبل المروة خارج المسعى في الجانب الشرقي، وهذا يدل على امتداده سابقاً، ولكنه حفر لإيجاد الطريق.

3. يظهر من الحاكم في ترجمة الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قوله: إن دار الأرقم وهو الدار التي كان النبي 9 يدعو الناس فيها إلى الإسلام، وأسلم فيها قوم كثير أن داره كانت على الصفا، وتصدق بها الأرقم على ولده، فقرئت نسخة صدقة الأرقم بداره: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا أنها صدقة بمكانها من الحرم لاتباع، ولا تورث). إلى أن قال الحاكم: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة فيها ولده يسكنون ويؤجرون، ويأخذون عليها حتى كان زمن أبي جعفر: قال محمد بن عمر: فأخبرني أبي عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم أنه يسعى بين الصفا والمروة في حجة حجها ونحن على ظهر الدار فيمر تحتنا، لو شئت أن آخذ قلنسوته لأخذتها، وإنه لينظر إلينا من حين يهبط الوادي حتى يصعد إلى الصفا) (1)

وهذه الوثيقة التاريخية تدفعنا إلى القول: أن المسعى من جانبه الشرقي كان أوسع مما عليه الآن.

4. أن دار الأرقم صارت في السنوات السالفة مكاناً لما يسمى (دار الحديث المكي)، ولو بذلت جهود لسؤال المسنين والمعمرين الذين شاهدوا دار الحديث قبل التوسعة، وحددوا مقدار الفاصلة بينه وبين المسعى الحالي لكان ذلك دليلًا للموضوع. (2)

هذا وقد نشر المشرفون على التوسعة مخططاً أوضحوا فيه أن دار الأرقم بن أبي الأرقم (دار الحديث) كما ورد في المصادر التاريخية كانت تقع في المسعى، وهي الآن تبعد عن المسعى الحالي 18/ 21 متراً، وبما أن مشروع التوسعة الجديد يمتد إلى شرق المسعى 20 متراً فيكون الامتداد ضمن المسعى الواقعي.

وهذا الذي يعاني منه العلماء والمحققون اليوم هو أحد النتائج السلبية التي سببها هدم الآثار التاريخية المتعلقة بعصر النبي 9، وصدر الإسلام، والكثير من المعالم الإسلامية في مكة والمدينة المنورة.

ولو كانت التوسعة مقرونة بحفظ معالم الإسلام وآثاره لما ضاع علينا معرفة حدود المشاعر الإسلامية».

ثم انتهى حفظه الله إلى القول:

«ما ذكرنا من الدراسة يؤيد امتداد جبل الصفا حوالي 20 متراً إلى الشرق» ثم انتقل إلى القول:

«8. أكدت الدراسات التاريخية والجغرافية والجيولوجية التي قامت بها اللجان المشرفة على توسعة المسعى أن هناك امتداداً سطحياً لجبل المروة بما لا يقل يقيناً عن 25 متراً من الناحية الشرقية، وهذا ما ثبت بعد دراسة عينات الصخور التي أخذت من الناحية الشرقية لجبل المروة والتي ظهرت مشابهتها لصخور المروة» (3).

النتيجة:

يعلم مما تقدم من عرض العناصر السابقة: أن جبلي الصفا والمروة يمتدان عرضاً من جانبيهما بأكثر مما هما عليه في الوقت الحاضر حتى بعد توسعة المسعى، هذا مؤكد لدى كل من عاصر مكة المكرمة قبل أن تبدأ التوسعة السعودية الأولى للحرم الشريف عام 1375 ه-، ودرج على ترابها الطاهر طفلًا وشاباً، فالأمر بالنسبة لكل من عاصر الفترة الزمنية قبل التخطيط الحديث والتغيير للمنطقة التي يقع عليها الجبلان، أن الساعي بينهما في التوسعة الجديدة لم يخرج عن حدودهما العرضية الطبيعية.

في ضوء ما سبق من النصوص الفقهية، والحقائق التاريخية، والنتائج العلمية الجيولوجية، وشهادة أهل الخبرة الثقات من كبار رجال مكة المكرمة الذين عاشوا في تلك المنطقة قبل إزالتها، فإني أرى والله أعلم بالصواب أنه لا مانع من توسعة المسعى من الناحية الشرقية للمسجد الحرام،


1- المستدرك على الصحيحين 502: 3- 503.
2- قد أخذت حكومة المملكة العربية السعودية على عاتقها المبادرة في هذا، ووثقت شهادة الشهود في المحكمة الشرعية الكبرى بمكة المكرمة، وصدر بهذا صك شرعي برقم 158/ 44/ 11، وتاريخ 25/ 12/ 1427 ه-، كما سبق تقرير هذا في هذا البحث تحت عنوان شهادة أهل الخبرة فقد استنفدت حكومة المملكة العربية السعودية كل الطاقات والإمكانات للتحقق والتثبت من سلامة الإجراءات التي اتخذتها لتوسعة عرض المسعى بما لايدع شكاً لأحد في سلامة إجراءاتها تقديراً لمسؤوليتها الدينية.
3- الحج في الشريعة الإسلامية الغراء، الطبعة الأولى مكتبة التوحيد، عام 1428 592: 5؛ ميقات الحج، العدد 10: 27- 12.

ص: 48

ليس هذا من قبيل الترخيص، بل هذا هو الأصل، وكما يعبر عنه الفقهاء (عزيمة) لا (رخصة) فإن الحكم لم يتغير، ذلك أن التوسعة التي يجري تنفيذها على أرض المسعى، وبمساحة تقدر بنفس المساحة القديمة، وقدرها كما عرفت عشرون متراً لا تعد خروجاً عن حدود المسعى المقررة شرعاً لهذه الشعيرة بل لازالت داخل حدود جبلي الصفا والمروة.

بدء السعي في التوسعة الجديدة للمسعى

تم بحمد الله وعونه افتتاح توسعة المسعى في التوسعة الجديدة من الناحية الشرقية في موسم حج عام 1428 ه-، وقد وفقني الله لأداء شعيرة الحج فشاهدت التوسعة الجديدة للمسعى وقد هيئت للساعين من الحجاج والمعتمرين، وقد جزئت التوسعة إلى مسارين للذاهب من الصفا إلى المروة، ومسار آخر من المروة إلى الصفا، وقد فصل بين المسارين بصف من الحواجز البلاستيكية ذات اللون الأحمر، وظل المسعى القديم كحاله ممتلئاً بالساعين.

لوحظ في نهاية توسعة المسعى بالمروة عمل ارتفاع مصطنع من الاسمنت مسامت لارتفاع جبل المروة في المسعى القديم لإعطاء الساعي انطباعاً بجبل المروة في تلك الناحية.

شيد المسعى في امتدادها الجديد بطراز من الديكور مختلف عنه في القديم، ولكنه ليس بعيداً عنه.

جاءت التوسعة مطابقة في بدايتها ونهايتها للمسعى القديم على الرغم من أن في الشريعة متسعاً؛ ذلك أنه يمكن أن يمتد جدار بداية الصفا، ونهاية جدار المروة إلى الوراء بأكثر من الحدود القديمة مادام أن الساعي وصل بداية كل من الصفا والمروة فتأخره وقوفاً في المروة يوسع للساعين ليتموا سعيهم في راحة واطمئنان من دون مضايقة لهم ما دام أنه استوفى المسافة الكاملة للسعي بين الجبلين.

وقد تابعت الصحافة المحلية العمل الجاري في المسعى الجديد والقديم فنشرت جريدة عكاظ في الصفحة الحادية عشرة، الثلاثاء 17 ربيع الأول عام 1429 ه- الموافق 25 مارس عام 2008 م مقالًا بعنوان: (المسعى الجديد نقطة تحول في تاريخ الحرم المكي) جاء فيه:

«بعد أيام قليلة يدخل الحرم المكي الشريف مرحلة تاريخية جديدة بإنجاز واحد من المشاريعه التوسعية المتمثلة بإنشاء المسعى الجديد الذي سيغير كثيراً من ملامح الحرم وخصوصاً ما يتعلق منها بجبل الصفا الشهير الذي أبرزت عمليات البناء ملامحه بعد أن ظلت متوارية لعقود طويلة.

الشركة المنفذة للمشروع وضعت اللمسات الأخيرة عليه بعد تركيب ممرات للعربات وفتح الأبواب من جهة المروة تسهيلًا لخروج المعتمرين، وهي آخر مراحل المشروع الذي بلغت تكلفته نحو ثلاثة مليارات ريال.

ويستخدم الزوار والمعتمرون الآن المسعى الجديد لأداء شعائرهم ريثما يتم الانتهاء من إنجاز المسعى القديم، ومن ثم يتم استخدام الاثنين معاً.

كما شارفت عمليات إزالة المسعى القديم على الانتهاء حيث لم يتبقّ سوى جزء يسير في منتصفه.

يذكر أنه يواصل أكثر من ألفي عامل ومهندس العمل بالليل والنهار من خلال فترتين، وتشير مصادر عكاظ أنه سيتم الانتهاء من الدور الأول قبل بداية شهر رمضان القادم لتمكين المعتمرين من السعي فيه إضافة إلى المسعى الجديد المستخدم حالياً.

وتتيح التوسعة لنحو 4 ملايين معتمر وزائر لبيت الله الحرام فرصة السعي على مدار اليوم، ويتوقع أن ترتفع الطاقة الاستيعابية حال إنجاز كافة مراحل المشروع لتصبح قادرة على استيعاب 118 ألف شخص لكل ساعة للسعى، و 115 ألفاً و 600 مصل وهو الأمر الذي أسهمت فيه زيادة الرقعة المساحية للمسعى، فمساحة المسعى قبل التوسعة كانت تقدر 29 ألفاً و 400 متراً مربعاً، أما بعد التوسعة فسترتفع لتبلغ 78 ألف متراً مربعاً شاملة كل الطوابق الأرضي والأول والثاني».

والله أعلم بالصواب، وهو الموفق، ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 49

ص: 50

ص: 51

قراءة في سورة الحج

محسن الأسدى

تعدّ هذه السورة المباركة من السور القرآنية العجيبة لأنها وسورة الجمعة تحملان اسماً يدل على فريضة عبادية، وإذا تمعنا أكثر لوجدنا أن سورة الجمعة تتحدث عن صلاة الجمعة وهي فريضة واحدة من فرائض الصلاة لا عن الصلاة ككل، وعندئذ نعرف أن سورة الحج التي نحن بصددها تفردت بأنها السورة الوحيدة التي سميت بهذا الاسم «الحج»، تخليداً لدعوة الخليل إبراهيم 7 وندائه للناس لحج بيت الله الحرام، وذلك بعد انتهائه وابنه إسماعيل 7 من بناء البيت العتيق وتطهيره كما يأتينا في الآيات التي ذكرناها ضمن المقالة هذه:

فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه من هم في الأصلاب والأرحام وأجابوا النداء «لبيك اللهم لبيك ..» كما تذكره كتب المفسرين. ولأن الحج فريضة عبادية ذات مكانة كبيرة ومنزلة رفيعة بمناسكه العديدة وبمبادئه الجليلة في الشريعة الإسلامية وفي الساحة الإيمانية.. فنالت اهتماماً كبيراً من قبل المسلمين وحظيت باهتمام واسع من قبل العلماء والفقهاء والمؤرخين والمفكرين والأدباء والشعراء والكتاب، وتوفرت على الكثير من المدونات والمصادر والمؤلفات المتحدثة عنها فقهاً وأحكاماً ومفاهيم وتاريخاً وأهدافاً ومنافع.. قد لا نجد مثيلًا لها في الفرائض العبادية الأخرى ...

وهذا ما جعل لسورة الحج قيمة مضاعفة، فإضافة إلى أن لسورة الحج قيمة بذاتها حالها حال أي سورة قرآنية، تبرز قيمة أخرى لها من خلال موضوعها لأن الموضوع الأساسي للسورة كما هو واضح هو الحديث عن هذا الواجب العظيم من واجبات الإسلام. وأهمية الحج أنه من أسمى العبادات التي يترك فيها المسلم كثيراً من عاداته التي تعوّد عليها في حياته، ليبني نفسه من جديد ويعودها على الالتزام والجدية والصبر واقتحام الصعاب وتحمل المتاعب، وأن يجعل نفسه تتذوق معاني العبودية المطلقة الخالصة لله وحده تبارك وتعالى ..

وهنا نحاول أن نعيش أجواء بعض آياتها، وهل هناك من ارتباط بين ما تتضمّنه هذه السورة القرآنية من مواضيع متعددة وفريضة الحج وأجوائها وغاياتها، من خلال تعرّضنا لبعض آيات الحج في السور: البقرة وآل عمران والمائدة، وفيما تتوفر عليه هذه السورة المباركة من آيات تشكل موضوع الحج فيها والتي كانت كما يبدو السبب في تسميتها بالحج، وقد كانت مصدر استفادة العديد من أحكام الحج وأحكام مناسكه وآدابه وأهدافه وما يتعلق به. فشأن هذه السورة شأن سائر السور المدنية التي تُعنى بأمور التشريع ..

ومن الأمور اللافتة الأخرى لهذه السورة أنها مع مدنيتها إلا أنها يغلب عليها جوّ السور المكية وموضوعات السور المكية كالتوحيد والإِيمان، والإِنذار والتخويف من الساعة وإثبات البعث والجزاء وإنكار الشرك ومشاهد القيامة وأهوالها وآيات الكون المبثوثة في صفحات الكون كلها بارزة في السورة، حتى ليكاد يُخيل للقارئ أنها من السور المكية..

ص: 52

فيما هناك الموضوعات التي يغلب عليها الطابع المدني التشريعي من الإِذن بالقتال والأمر بالجهاد في سبيل الله، فالمسلمون لم يؤذن لهم بالقتال والقصاص إلا بعد الهجرة، لردّ أذى المشركين والدفاع عن حرية العبادة.. كما أنها تتضمن أحكام الحج والهدي وحماية الشعائر وما وراءها من إثارة مشاعر التقوى في القلوب لبناء الحاج بناءاً أخلاقياً صلباً.. ثم تذكر الوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان، وغير ذلك من المواضيع التي هي من خصائص السور المدنية، حتى لقد عدها بعض العلماء من السور المشتركة بين المدني والمكي.

نزلت هذه السورة بعد سورة النور، ترتيبها في القرآن 22 بعد سورة الأنبياء، عدد آياتها 78، عدد كلماتها 1279، وعدد حروفها 5196، وهي تشكل مع سورة الأنبياء الجزء 17، ويضمّها حزب واحد وهو الحزب 34.

فضلها

عن أبي بن كعب أنه قال: قال النبي 9: من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي.

قال أبو عبد الله 7: من قرأها في كل ثلاثة أيام لم يخرج من سنة حتى يخرج إلى بيت الله الحرام وإن مات في سفره دخل الجنة.

وهي تعدّ أيضاً من أعاجيب السور القرآنية كما يقول الغزنوي: «وهي من أعاجيب السور نزلت ليلًا ونهاراً، سفراً وحضراً، مكياً ومدنياً، سلمياً وحربياً، ناسخاً ومنسوخاً، محكماً ومتشابهاً، مختلف العدد» (1).

إن آيات هذه السورة توزعت بين ما هو مكي وما هو مدني، فمنهم من يقول: كلها مكية إلا بعض الآيات، فيما يقول غيرهم: إنها مدنية إلا بعض الآيات، وهذا يعني أن الاختلاف وقع بينهم في أصل السورة بين كونها مكية إلا بعضها وكونها مدنية إلا بعضها فهناك إذن آيات منها نزلت في مكة فيما نزلت أخرى في المدينة، وفيها آيات نزلت ليلًا وآيات أخرى نزلت نهاراً، وآيات نزلت في السفر وآيات نزلت في الحضر ...

ابن عباس في قول ومجاهد يذهبان إلى أن السورة مكية سوى ثلاث آيات:

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ.

وعن ابن عباس أنهنّ أربع آيات أي بإضافة الآية التالية:

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ.

وفي مجمع البيان عن ابن عباس وعطاء أنها مكية إلا آيات. ولم يذكر هذه الآيات.

وفي قول آخر منسوب إلى ابن عباس ومعه الضحاك وقتادة إلى أنها مدنية إلا أربع آيات:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ .... عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ، فهنّ مكيات.

أخرج ابن المنذر، عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن الحج، غير أربع آيات مكيات:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ .... عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (2)

وقال الحسن كما عن مجمع البيان: هي مدنية غير آيات نزلت في السفر، وقال بعضهم: غير ست آيات، وقال بعضهم: غير أربع.

وعد النقّاش ما نزل بالمدينة عشر آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني.

يقول القرطبي في جامعه: وهذا هو الأصح لأن الآيات تقتضي ذلك، لأن يا أَيُّهَا النَّاسُ مكي و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مدني (3).

آيتا السجود

ذكرت بعض الروايات أن سورة الحج تتضمن آيتين يسجد عند قراءتهما، وقد تميزت بهما هذه السورة بل وفضلت بوجودهما على غيرها من السور القرآنية، وهاتان الآيتان هما:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (4).

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (5).


1- انظر: أحكام القرآن للقرطبي، السورة.
2- الحج: 52- 55.
3- انظر كلًا من أحكام القرآن للقرطبي ومجمع البيان للطبرسي: سورة الحج.
4- الحج: 18.
5- الحج: 77.

ص: 53

ومن هذه الروايات:

وجاء في فضلها ما رواه الترمذي وأبو داود والدارقطني عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله فضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟

قال: نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما.

أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي في سننه وابن مردويه، عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟

قال: «نعم. فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما».

وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي، عن خالد بن معدان: أن رسول الله 9 قال: فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين.

وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والإسماعيلي وابن مردويه والبيهقي، عن عمر أنه: كان يسجد سجدتين في الحج. قال: إن هذه السورة فضلت على سائر السور بسجدتين.

وأخرج ابن أبي شيبة، عن علي وأبي الدرداء: أنهما سجدا في الحج سجدتين.

وأخرج ابن أبي شيبة من طريق أبي العالية، عن ابن عباس قال: في سورة الحج سجدتان.

فيما أخرج ابن شيبة من طريق أبي العريان المجاشعي، عن ابن عباس أنه قال: في الحج سجدة واحدة. وهو قول سفيان الثوري ..

إذن وقع الاختلاف بينهم بسبب الروايات المختلفة في كونها تتضمن سجدتين أو سجدة واحدة. ولكن يبدو أن فيها سجدتين وهو ما عليه المصحف الشريف. لكنهما سجدتان غير واجبتي السجود، كما عليه الإمامية الذين حصروا السجود الواجب فقط بآيات سور العزائم الأربع:

السجدة: 15. فصلت: 37. النجم: 62. العلق: 19.

فالسجدة في سورة العلق كانت أول آية سجدة في القرآن وهي خاصة بالرسول 9 وحده، أما آية السجدة في آخر سورة الحج فهي آخر آية سجدة نزلت وهي موجهة للمؤمنين جميعاً.

إن أول ما تتكلم عنه هذه السورة هو التقوى ثم عن يوم القيامة، فنراها تركّز من البداية على التقوى عبر خطاب عام لكل الناس، كما أن خطاب الحج للناس كافة، ثم تنص على خطورة الساعة و زلزلتها التي تنتظرهم جميعاً وأنه ذلك اليوم العظيم «البعث والنشور والقيامة» قبل أن تنتقل إلى موضوع آخر، وهو الجهاد في سبيل الله، لتنتقل بعده إلى العبودية والخضوع لله تبارك وتعالى، وتبين بعد ذلك أن الله تعالى يسجد له من في السماوات والأرض وأن السجود ليس مختصاً بالإنسان وحده وإنما يعم جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى.

فما هي تلك العلاقة التي تربط بين هذه الأمور ببعضها؟ وما علاقتها بالحج ومناسكه؟

هناك سرّ في هذه المناسك العظيمة التي شرعها لنا الله تعالى في مخزون علمه سبحانه وتعالى، ولكن يمكننا أن نستجلي من خلال قراءتنا لأنشطة هذه الفريضة وما ورد فيها من آيات وروايات وأقوال وآراء وكتابات بعض ذلك السرّ.

فالواقع أن الحج هو العبادة التي تبني الأمة؛ لما فيه من عبر لا يعلمها إلا من حج واستشعر كل معاني الحج الحقيقية.

إن المسلم عندما يؤدي هذه العبادة العظيمة، أو يعيش مع الحجاج أو يتخيل نفسه معهم إن لم يكن فعلًا معهم يؤدي ما يؤدونه من مناسك الحج، سيفهم ما يريده الله تعالى ربنا من السورة، شريطة أن نفهم أن الحج عبادة لها دور أساسي في بناء الفرد الذاتي والعقيدي و بناء الأمة وتثبيت وتعميق عقيدتها. وكأن السورة تقول لقارئيها: حجوا حجة صحيحة، كما هي الحجة التي حجها رسول الله 9 فهو القدوة والأسوة وهو القائل: «خذوا عني مناسككم».

لتبنوا أنفسكم البناء الصحيح وتدربوها على حمل المعاني الرائعة والمفاهيم الأساسية، لأن هذه الأمور جميعاً تعد عاملًا أساسياً لبناء الأفراد والمجتمعات وبالتالي الأمة كلها ...

فما أنزل الله تعالى الآيات إلا في مكانها المناسب بتدبير وحكمة لا يعلمها إلا هو، ولكن إذا ما تمعنا في الآيات وتدبرناها واجتهدنا في التقصي والتحري لمعانيها فلعلنا نصيب حكمها ونفهم أهدافها ومراد الله تعالى منها ... وعندئذ قد نوفق بلطف من الله سبحانه لمعرفة تلك العلاقة..

فقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.

إذن الخطاب في بداية السورة جاء إلى الناس:

ص: 54

يا أَيُّهَا النَّاسُ ...

وقد ذكرت لفظة (الناس) في السورة خمس عشرة مرة، وهذه تعد أعلى نسبة في سور القرآن الكريم بعد سورة الناس التي ذكرت فيها لفظة الناس خمس مرات، والمقصود بأعلى نسبة نسبة تكرار كلمة (الناس) إلى عدد كلمات السورة.. إذن هذا خطاب للناس بأن يتقوا الله تعالى لا إلى فئة معينة دون غيرها..

فيما جاءت الآية 97 من سورة آل عمران وهي توجب فريضة الحج:

... وَ لِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.

وقوله تعالى في سورة الحج الآية 27:

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ....

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُديً لِلْعالَمِينَ ... (1).

إن خطاب الإيجاب للحج في آية الحج المذكورة من سورة آل عمران وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ .. يدل على أن فريضة الحج هي العبادة الوحيدة التي عبر عنها بهذه الصيغة، وهذه الصيغة لا نجدها في إيجاب فريضتي الصلاة والصيام وأيضاً الزكاة، فقد توجه الخطاب فيهما إلى المؤمنين في سورتي النساء والبقرة:

إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (2).

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (3).

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَي الزَّكاةَ .. (4).

وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ... (5).

ولم يأت الخطاب: لله على الناس إقامة الصلاة أو إيتاء الزكاة أو لله على الناس أن يصوموا..

كما أن تقديم اللفظ (لله) على المبتدأ المؤخر يدل على أن السياق يفيد معنى الحصر، أي إن هذه العبادة هي لله وحده، وهذه خصوصية انطوت عليها هذه العبادة من بين سائر العبادات، ولهذا نجد بعض الروايات تبين أن الحج فرار إلى الله وحده، فعن أبي جعفر 7 في قوله تعالى:

فَفِرُّوا إِلَي اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.

قال: «حجوا إلى الله» (6).

فالحاج أسلم نفسه وحياته بكل حالاتها ولحظاتها لله تعالى وحده لا شريك له، يأمره فيأتمر وينهاه فينتهي، وجوده كله يصرفه في سبيل الله وقربة إليه وبالتالي فهو يصوغ حياته كلها وفق هدى الله ومنهجه ويبعدها عن كل ما يصرفه عن ذلك، وحتى يصل الحاج إلى هذه النتيجة عليه أن يلتزم بما يقوله الإمام الصادق 7: «إذا أردت الحج فجرد قلبك لله عز وجل من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب حاجب، وفوض أمورك إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ودع الدنيا والراحة» (7)

أو كما في تفسير للآية الكريمة 26: وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ أي طهر قلبك لدخول السكينة فيه ولتحل فيه الأنوار الإلهية ..

وقد قال القرطبي: والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة وأعظمها وهو القيام والركوع والسجود (8).

فبمثل هذه الحالة والتجريد النفسي والتطهير القلبي والتوجه الخالص والتسليم الكامل والتفويض المطلق يدخل الحاج الذي يريد أن يستفيد من فريضة الحج ويبني بها كيانه بجدّ وصدق، يدخل أيام الحج وموسمه وبمثل ذلك يخرج ليستقبل حياته من جديد وبتاريخ جديد يستأنف نشاطه.. لهذا ورد عن رسول الله 9: «للحاج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى، وإما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإما أن يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك وهي أخسهنّ».

أو كما جاء في الحديث الذي يذكره الطبراني عن ابن عمر عن رسول الله 9: «... وأما وقوفك بعرفة ... فلو كان عليك مثل رمل عالج أي متراكم أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك. وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك. وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة. فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك» ..


1- آل عمران: 96.
2- النساء: 102.
3- البقرة: 183.
4- البقرة: 177.
5- حم السجدة: 7.
6- سفينة البحار: 210.
7- المصدر نفسه: 211.
8- انظر: تفسير وبيان مفردات القرآن د. الحمصي. أحكام القرآن: الآية.

ص: 55

أو وكما تحمله لنا رواية أخرى عن الإمام الصادق 7: «من أمّ هذا البيت حاجاً أو معتمراً مبرءاً من الكبر رجع من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، والكبر هو أن يجهل الحق ويطعن على أهله، ومن فعل ذلك فقد نازع الله رداءه» (1).

فالإنسان المؤمن يخرج من الحج ومن مناسكه إنساناً آخر بحياة أخرى، وكأنه يبدأ عمراً جديداً وشوطاً جديداً يحمل كل معاني الخير والعطاء لنفسه ولأسرته ولمجتمعه وأمته ولدنياه وآخرته ..

ونلاحظ أن الخطاب في آية الحج جاء للناس دون سائر الأركان العبادية الأخرى، وهذا يدل على أن فريضة الحج كما يظهر هي استحقاق رباني، حيث إن التعبير عام كما في الآية يقول تعالى:

لِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ... (2).

وهكذا

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ.

.. وَ هُديً لِلْعالَمِينَ.

وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.

وحتى البيت نفسه مركز فريضة الحج هو مثابة للناس كما في الآية:

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً ..

وحتى الأذان بالحج كان للناس كما في الآية: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ... (3).

فهو للناس وللعالمين وعلى الناس وعن العالمين.. كلها ألفاظ تميزت بها هذه الفريضة مكاناً وزماناً وتاريخاً ودعوة، وتدل على عمومية الخطاب وهي فضيلة اختصّت بها دون سواها..

يقول الشيخ السيوري في كنزه: (على الناس) عام أبدل منه (من استطاع) بدل بعض من الكل للذكور والإناث والخناثي، خص بمنفصل إما عقلًا وهو اشتراط الفهم للخطاب لاستحالة تكليف غير الفاهم، أو نقلًا وهو قوله 9:

«رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى ينتبه».

ولما كان العبد محجوراً عليه لا قدرة له على التصرف في نفسه لم يكن مستطيعاً فخرج أيضاً من العموم (4).

إنه استحقاق، وهو دَين على الناس، كل الناس، كيف لا والمسجد الحرام هو أول بيت وضع لعبادةالله؟! كيف لا ومكة هي أم القرى، أي أمّ الأمم، فمنها كان انطلاق الإنسان في خلافته الأرض؟! من هنا كان الخطاب للناس كل الناس.

فكما خوطب الإنسان أن يعبد ربه وحده، وفق ما بيّنه الله تعالى في رسالاته، خوطب أيضاً بأن يقصد البيت الحرام الذي فيه عبد الآباء الأوائل ربهم، والذي منه انطلقوا ليكونوا خلفاء الأرض، ومن أراد أن يستجيب إلى هذا الأذان فعليه أن يقبل شروط أداء هذا الاستحقاق. من هنا ندرك بعض أسرار ختم الآية (97) من آل عمران بقوله تعالى: ... وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.

ثم إذا عدنا إلى قراءة الآية (96) من سورة آل عمران، والتي تسبق الآية (97) تقول:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُديً لِلْعالَمِينَ نلاحظ:

وُضِعَ لِلنَّاسِ ... هُديً لِلْعالَمِينَ.

والآية (97) ... وَ لِلَّهِ عَلَي النَّاسِ ... غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ.

ونرجع إلى الآية (27) من سورة الحج وهي آخر آية ذكر فيها لفظ الحج في القرآن الكريم نجد أن أذان إبراهيم 7 بالحج كان أذاناً عالمياً عاماً للجميع بعد أن هيأته له السماء ووطأته كما في الآية الكريمة 26 من السورة نفسها: وَ إِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ.

و أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً.

فهو بيت لله وحده دون سواه.


1- انظر: من لا يحضره الفقيه 136: 2.
2- آل عمران: 97.
3- الحج: 27.
4- انظر: كنز العرفان في فقه القرآن، كتاب الحج؛ وانظر السراج المنير 317: 2، من حديث عائشة وعمر وأخرجه في الوسائل عن الخصال الباب 4 من أبواب العبادات ح 11 ...

ص: 56

ثم يأتي التطهير وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ فلهؤلاء أنشئ البيت، الذين يعبدون الله تعالى ولا يشركون في عبادتهم له أحداً في طوافهم بالكعبة وفي قيامهم وركوعهم وسجودهم.. كل هذا كان تمهيداً للأذان المبارك.

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.

يأتون يسعون على أقدامهم من طرق بعيدة وعلى كل إبل وقد جهدها السير والبعد والجوع فهزلت وضمرت حتى ورد أنه لا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا وقد هزل ..

وفي ثواب السعي إلى البيت المبارك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال لبنيه: يا بني حجوا من مكة مشاة حتى ترجعوا إليها مشاة فإني سمعت رسول الله 9 يقول: للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة (1).

وبدلالة وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ ... و ... مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ..

أي ناد في الناس وأعلمهم بوجوب الحج وإن تعددت أماكنهم وتباعدت بلدانهم وتناءت أمصارهم ..

ولا بأس بنقل هذا الخبر: قال محمد بن ياسين: قال لي شيخ في الطواف: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان. قال: كم بينكم وبين البيت؟ قلت: مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال: فأنتم جيران البيت. قلت: أنت من أين جئت؟ قال: من مسيرة خمس سنوات وخرجت وأنا شاب فاكتهلت. قلت: والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة. فقال:

زر من هويت وان شطت بك الدار

وحال من دونه حجب وأستار

لا يمنعنك بُعد عن زيارته

إن المحب لمن يهواه زوار (2)

وسواء أكان المخاطب نبي الله إبراهيم أم رسول الله محمد صلوات الله عليهما، فقد وقع الاختلاف بين المفسرين في من الذي يؤذن بالحج؟

فجمهور المفسرين ذهب إلى أن المخاطب هو نبي الله إبراهيم 7 وقالوا: أسمع الله تعالى صوت إبراهيم كل من سبق علمه بأنه يحج إلى يوم القيامة ... عن ابن عباس قال: لما أمر الله سبحانه إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج صعد أبا قبيس «وهو جبل» ووضع إصبعه في أذنيه وقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأول من أجابه أهل اليمن.

فيما ذهب غيرهم إلى أن المخاطب بالآية هو نبينا محمد 9 أي وأذن يا محمد في الناس بالحج فأذن 9 في حجة الوداع، أي أعلمهم بوجوب الحج (3)..

إن الحج إلى البيت العتيق كما يبدو لمن تتبع تاريخ الحج كان في شريعة الأنبياء والرسل وأنه كان عبادة مألوفة منذ عصور قديمة، فقد صحت آثار على ذلك، منها:

ما ورد من أن هوداً وصالحاً 8 قد مروا بوادي عُسفان يلبون ويحجون البيت العتيق... ومن أن يونس وموسى 8 قد حجا أيضاً (4).

وأيضاً يمكن الاستفادة من الآية (27) من سورة القصص التالية على أن الحج كان معروفاً لهم حيث اعتادوا أن يعدوا السنين بالحج، وفي ذلك يقول نبي الله شعيب لموسى الكليم 8:

قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَي ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلي أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ....

المقصود هنا ثمانية أعوام، وإنما سمي العام حجة على اعتبار أن في كل عام حجة إلى بيت الله الحرام، وهذا قد يصح أن يكون دليلًا على أنهم كانوا يحجون. ويقال في لغة الشهور: «ذو الحجة»؛ لوقوع حج البيت في هذا الشهر ..

وإذا ما نظرنا إلى الحديث النبوي الشريف:

«الحج عرفة».

وإلى ما عليه الناس من الاجتماع في صعيد واحد أرض عرفة وزمن واحد يوم عرفة، ندرك عندئذ الطابع الجماعي وهو ما يحمله الخطاب الجماعي لهذه الشعيرة والعبادة المباركة الوارد في آياتها، بل إن مناسك الحج وأعماله ترمز بأجمعها إلى السنن الفاعلة في الاجتماع الإنساني أو


1- انظر: مجمع البيان للشيخ الطبرسي: الآية.
2- هامش تفسير وبيان مفردات القرآن: الآية الكريمة. إعداد د. الحمصي.
3- هذا تلخيص ما ورد في مجمع البيان للطبرسي: الآية.
4- انظر: مسند أحمد و صحيح مسلم.

ص: 57

البشري. وإذا كان بالإمكان أن يصلي الإنسان أو يصوم وحده فقد لا يكون بالإمكان أن يحج الإنسان وحده أو لا يجد نفسه إلا وهو محاط بالكثير ممن يحجون معه، ولم يحدثنا تاريخ هذه العبادة إلا عن الحج وهم مجتمعون، فالحج عبادة جماعية يرجى أن تحقق آثاراً تتعلق بالمجموع الإنساني، وهو نفير عام في جميع المواقف والمناسك في الإحرام وفي التلبية والطواف والسعي والوقوف في المشاعر المقدسة عرفات والمزدلفة ومنى والجمرات، يعلن فيه الجميع استجابته لمتطلبات رسالة الإسلام وأحكامه وقيمه، ورفضه لغير الإسلام من الكفر والانحراف ومناهج الشياطين من الإنس والجن.

يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر+: ألا ترى أنّ أهم ما يبدو للإنسان في هذا المنسك الرائع منسك رمي الجمار هو هذا الرمي المجموعي لرموز الشيطان واحداً بعد الآخر تعبيراً حسياً عن لزوم نفي الشر من الأرض بعد اتباع طريق الخير، والطواف حول رمز الخير الكعبة، والجميل في الأمر أن المسلم يشعر إذ يطوف حول مركز واحد، ويرمي رموزاً للشر ثلاثة بأن طريق الله واحد في حين أن طرق الشيطان متعددة، وباستحباب التكبير له عند كل رمية يشترك اللفظ في الموقف ليؤكد في شعور الإنسان عهده لله تعالى بأن يرمي الشر والشيطان ولا يتبعهما، ويبقى وفياً لعقيدته بأن الله خالق كل شي ء وفوق كل قوة (1).

إنه بحق مؤتمر إيماني إنساني كبير لا نظير له تحت شعار واحد ونداء واحد واستجابة واحدة:

«لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ...».

ويأمل المخلصون من أبناء الإيمان أن يساعد تطور الوعي والمعرفة عند الناس خصوصاً الأمة الإسلامية على إدراك جوهر الحج ومراميه وأهدافه، لتعود فعالية هذه الأمة كما بدأت في حمل رسالة الإسلام الحق إلى البشرية جمعاء.

هذا فيما يتعلق بالخطاب الأول لسورة الحج يا أَيُّهَا النَّاسُ ... فهو خطاب عام وخطاب الحج خطاب عام أيضاً.

التقوى

إن أول ما بدأت به هذه السورة المباركة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ .. وفي الآية الثانية والثلاثين التي تتوسط تقريباً آيات الحج في هذه السورة ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ وللشعائر تفاسير منها:

إنها معالم دين الله والأعلام التي نصبها لطاعته، ثم اختلف في ذلك فقيل: هي مناسك الحج كلها.. وقيل: هي البدن.. وقيل: دين الله كله، وتعظيمها التزامها (2) ..

وسواء هي معالم دين الله أم هي مناسك الحج ومنها البدن أم هي دين الله كله وتعظيمها يعني التزامها، فإن الغاية منها هو هذا الأمر العظيم والذي هو أساس كل شي ء في حياتنا «التقوى» أن لا يراك الله تعالى حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك. أو احترسوا بطاعته عن عقوبته ... وكل ما نجده في عرصات وميادين هذه الفريضة من مناسك كلها طاعة لله تعالى ومواضع عبادة تحب السماء وجودنا فيها وتثيبنا عليه.. وهي تؤسس للتقوى وتبنيها في النفوس وتثبتها في القلوب عبر طاعة خالصة لأوامر وأحكام على جميع الحجيج الالتزام بها وإلا ترتبت على مخالفتها عقوبات.. إن الحج مدرسة نتيجتها التقوى وهو الفوز الكبير.. وإضافة التقوى إلى القلوب فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ لأن حقيقة التقوى تقوى القلوب ..

وتربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب إذ إن التقوى والقول لسيد قطب هي الغاية من مناسك الحج وشعائره. وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم 7 وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة، فهي والدعاء والصلاة سواء (3)..

ثم تأتي التقوى أيضاً في الآية الخاتمة لآيات الحج، وهي السابعة والثلاثون: لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوي مِنْكُمْ ....

وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها، فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة (4) ...

وجاءت الآية تذكيراً للناس جميعاً وتحذيراً لهم من هول تلك الساعة وعظيم حدوثها وشدة خطرها، وأنه لا بد لهم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحساب الأكبر، إنه يوم القيامة. فمن أول آية نقرأ قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ.

إن فريضة الحج المباركة في أغلب مناسكها ومفاصلها تذكرنا مشاهدها بذلك اليوم العظيم وهذه المشاهد تجسّد لنا العلاقة بين الحج والحديث عن القيامة..

فلباس الإحرام والغسل الذي قبله يذكرنا برحلة الموت وقد بدأت بالتغسيل ثم التكفين.. لباس الحج البسيط يذكرنا بالكفن الذي يلبس للموتى ...

يذكرنا بأننا لا نخرج من الدنيا إلا بهاتين القطعتين.. وندع كل شي ء خلف ظهورنا، كل ما جهدنا أنفسنا للحصول عليه وكل ما اختلفنا من أجله أو تنازعنا عليه أوتقاتلنا بسببه وتقاطعنا نذره وراءنا..

إن الحج ولباسه يطلب منا العودة إلى حيث البداية، بل إن الحاج يتمثل الحالة التي كانت أولًا من البساطة في المظهر واللباس..


1- انظر: نظام العبادات في الإسلام. الحج.
2- انظر: مجمع البيان: الآية.
3- انظر: في ظلال القرآن: الآية.
4- المصدر نفسه.

ص: 58

وزحمة الحج والناس يملأون أرجاء أرض المناسك وكلهم متجهون إلى مكان واحد في لباس واحد في حر الشمس، والنزول من عرفة والنفرة من مزدلفة والتوجه لرمي الجمرات تذكرنا بزحمة ذلك اليوم يوم القيامة. الشمس الضاربة المحرقة والحر الشديد والعرق والزحام الخانق وما يترتب على هذا كله من متاعب وحرج وضيق و أذى.. يذكرنا ببأس يوم القيامة وهوله..

والطواف بالبيت المبارك والسعي بين الصفا والمروة وما يرافق ذلك من الزحام الخانق والضغط الشديد، والانتظار الطويل والصبر والتحمل والتقيد بالتعليمات الخاصة بكل منسك والابتعاد عما يسبب الأذى للآخرين ومراعاة مريضهم وكبيرهم وصغيرهم.. يذكرنا بيوم القيامة .. بل إن القيامة لتتجسّم بمثل هذه المواقف المهابة في عمرة الحج ومتعته حيث الصحاري المملوءة بالحجيج والمشاعر المكتظة بهم ... تعلو أجسامهم ثياب بيض كالأكفان وتصهرهم أشعة الشمس وترى وجوههم تفيض عرقاً وأجسامهم كادحة وقد عنت للحي القيوم.. كما هي حالتهم حينما يقفون بين يديه تعالى للحساب وهم ينظرون إلى رحمته ولطفه بهم وهم شعث غبر، قد أخذ الجهد والإرهاق منهم مأخذه والعرق يتصبب منهم ينتظرون مغفرته ورضوانه وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (1) منتشراً يخشون أن يصيبهم بشرّه وضرره ويختم أمرهم إلى نار وقودها الناس والحجارة.. لكن هذه العبادة والصدق فيها تعطي الأمل لهؤلاء وهم يجوبون عرصاتها وهم يحرمون يلبون يطوفون يصلون يسعون يقصرون يدعون يذبحون يحلقون يرجمون ... فلا يقنطون كما تعطيهم رحمة الله تعالى هناك في عرصات يوم القيامة الأمل والرجاء والبشرى بالمغفرة والرضوان والجنة التي وعدهم إياها رب العزة رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلي رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ وحاشا لله أن يخلف ميعاده لأوليائه ..

عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله 9 يقول:

«إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق فأشهدهم أني قد أجبت دعاءهم وشفعت رغبتهم ووهبت مسيأهم لمحسنهم وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم ...».

أو كما في رواية أخرى عن رسول الله 9 يذكرها الطبراني: «أما خروجك من بيتك تؤم البيت الحرام، فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنك بها سيئة. وأما وقوفك بعرفة، إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ ...».

جاء ذلك بسبب الدعاء المتواصل والدموع المنحدرة والقلوب المشدودة إلى بارئها والأعناق المشرئبة إلى ربها.. آلاف يتضرعون إلى الله يتوسلون إليه، أن ينجيهم من هول المطلع ونداؤهم يعلو يؤكدون استجابتهم: «لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك لبيك ...». يعترفون له أن كل شي ء فانٍ إلا وجهك الكريم وأن كل شي ء هو ملكك وحدك لا شريك لك ليست النعمة و المال إلا لك وليست القوة إلا بك وليس السلطان إلا لك وإنك المالك الحقيقي الذي يستوجب منا الحمد و الشكر دون أن يكون هناك أحد سواك.. وهو مشهد يحكي لنا وقوفنا بين يديه تعالى وحده وحده.

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَي اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (2).

وأكثر الروايات تؤكد أن التلبية تعبر عن استجابة بشرية كبرى لنداء تاريخي عظيم طلب من إبراهيم شيخ الموحدين أن يعلنه في الأرض وأعطي وعداً بأن يستجيب له المؤمنون. وهو ما وقع بالفعل منذ أول أذان بالحج وإلى يومنا هذا ..

أما مشاهد ذلك اليوم ووصف أهواله فنترك الآية تصوره لنا وهل هناك تصوير أبلغ منها وأدق وأصدق حتى كأنك تراها أمام عينيك:

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَي النَّاسَ سُكاري وَ ما هُمْ بِسُكاري وَ لكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ.

وما مشاهد الحج إلا صورة عملية ومصغرة نحياها كل عام من مشاهد القيامة.

ثم تنتقل الآيات إلى البعث يوم الفزع الأكبر حين نفخة البعث لتقرّر بلا أدنى شك ولا ريب أن تلك الساعة واقعة لا محالة، وأن الله العزيز القدير سيبعث الموتى ويخرجهم من أماكنهم التي طال انتظارهم فيها والتراب يعلو وجوههم وأجسادهم.

وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

لتذكرنا أن أمر الساعة والبعث واقع لا محالة، وإن ارتبنا في قدرة الله تعالى أن يبعث أشلاءنا وهي رمة أو رميم فإن الله القادر يذكرنا أن أصلنا كان من تراب، وأن خلقنا الأول كان من ذلك التراب وأننا أبناء الأرض التي تكونّا من ترابها ومنها نشأنا وكذلك عليها عشنا ومن عناصرها استفدنا وما زلنا ..

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ.

إن انتابكم الشك في بعثكم ونشوركم فإنا خلقنا أباكم وهو آدم 7 من تراب، فمن قدر على أن يصيّر التراب بشراً سوياً حياً في الابتداء، قدر على أن يحيي العظام وهي رميم ويعيد الأموات ويحشرهم إليه.. أيها الناس وإن من كان قادراً على الابتداء فهو قادر على الإعادة ..

وفي الحج أيضاً، تذكرة لنا في الدنيا عن ذلك اليوم عندما تنظر لنفسك بعد يوم أو يومين من ارتداء ملابس الإحرام، ترى أنك أصبحت شعثاً وقد علاك التراب والغبرة. فإذا نويت المبيت في مزدلفة، ترى الكثير من الناس تعباً، لا بل كأنه من التعب والمشقة والإعياء ميت فعلًا. فمنظر


1- الإنسان: 7.
2- الشعراء: 88- 89.

ص: 59

الحجيج في مزدلفة وهم نيام بعد وقوفهم في عرفة وأداء أعمالها ثم إفاضتهم منها بذلك الزحام الشديد وعليهم آثار التعب ويعلوهم التراب والغبار والضنك. وما أن يؤذن لصلاة الصبح في المزدلفة حتى تراهم يقومون وينفضون عنهم التراب وينشطون من جديد كما لو أنهم بعثوا من قبورهم يوم البعث. نعم إذا أتى وقت الفجر يستيقظ الناس كأنهم يبعثون من القبور: الكل بالثياب البيض يتحرك هنا وهناك يستعد إلى حركة أخرى وهي رمي الجمرات وما يرافقها من أعمال منى ...

لذلك تأتي الآية السابعة لتذكرنا بالبعث من القبور:

وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

وهكذا نرى أول أثر من آثار الحج في تربية الأمة: تربيتها على اليوم الآخر والاستعداد له، بأن يعيش أفراد الأمة بعض لحظاته ومعالمه العملية أثناء أيام الحج..

الكل ساجد لله

ومن روعة الحج أنه يجعلك تستشعر أن الكون كله عبد لله وأنك خاضع لله مع من حولك. ففي يوم عرفة تشعر أنك لست وحدك من يسجد لله في هذا الكون ويدعوه، بل تشعر أن كل شي ء ساجد فالخيمة التي تستظل تحتها ساجدة، وأن جبل عرفات الذي تعلوه ساجد، بل الكون كله ساجد، فتنضم أنت أيها الإنسان الضعيف إلى هذه المخلوقات وتشاركها في سجودها وخضوعها لله تعالى. وهذا ما نراه بوضوح في الآية 18:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ.

في عرفة الجميع في الحج يدعون إلهاً واحداً حتى الشجر والدواب والطير والسموات والأرض كلهم يدعون ربهم ويسبحونه لكن لا نفقه تسبيحهم..

.. وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ....

إن الحج يذكرنا بالعبودية الخالصة لله تعالى فهذه حياة الأمة المسلمة تقع بين سجدتين في سورة الحج، فأول سورة نزلت فيها سجدة مع بداية البعثة كانت سورة العلق، التي جاء فيها قوله تعالى:

كَلَّا لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ بينما آخر سورة نزلت فيها سجدة كانت سورة الحج، التي نزلت مع نهاية البعثة، والتي ترى فيها قوله تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

والفرق بين السجدتين يظهر النقلة العظيمة التي انتقلتها الأمة، من السجدة الأولى الموجهة للنبي 9 وحده في سورة العلق، إلى السجدة الأخيرة التي وجهت للأمة كلها في سورة الحج. فهي نقلة نوعية في فترة محدودة، من النبي وحده في غار حراء يعبد الله تعالى ويتفكر في ملكوته وفي أوضاع قومه وما آلت إليه أمورهم من عبادة الأصنام والأوثان والظلم والطغيان والتسلط والقهر والحروب، فاعتزلهم وما يعبدون، فنقلوا نقلة نوعية إلى أمة مؤمنة عابدة مجاهدة ..

ثم تنتقل الآيات (26- 37) إلى ذكر مناسك الحج المختلفة، لتأتي خلالها الآية المحورية: ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ.

وإذا عدنا إلى سورة البقرة إلى الآية 197 التي تنص على أن خير ما يتزود به العبد المؤمن لآخرته هو التقوى ... وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الأَلْبابِ خصوصاً إذا عرفنا أن العرب تطلق كلمة الزاد على طعام السفر لا طعام الحضر، ولهذ نجد الإمام علياً 7 يتأوه:

«آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق وهول المطلع ..».

وقد جاء هذا بعد أن نفت الآية نفسها كلًا من الرفث و الفسوق والجدال، وأن لا تكون هذه الأمور حاضرة في ساحة الحج لما تسببه من إفساد للحج وآثام ومخالفات حيث قالت:

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الأَلْبابِ.

ولورود هذه الكلمة في سورة الحج نحن نقف فقط عند (ولا جدال) الذي يعني فيما يعنيه أنه لا خصام في الحج ولا مماراة في الحج ولا ملاحاة في الحج ولا مشادة في الحج؛ لما فيه من مخالفة للتقوى وإفساد لهذا العمل العظيم.. إذن فلا جدال في الحج. الجدال المنبوذ الذي يترك البغضاء والحقد في القلوب والسوء في العلاقات والغضب الذي تمتلأ به النفوس ...

والجدال مصدر جادل.. والجدال: أشد الخصام وهو مشتق من الجدالة، وهي الأرض فكأن كل واحد من الخصمين أو المتجادلين يقاوم صاحبه حتى يغلبه فيكون كمن ضرب به الجدالة أو يرميه بالجدالة قال الشاعر:

ص: 60

قد أركب الآلة بعد الاله

وأترك العاجز بالجداله

منعفراً ليس له محاله

ومنه الأجدل: الصقر لشدته. والجدل فتل الحبل، ومنه زمام مجدول أي محكم الفتل (1).

وتأتي الآية نفسها لتحبب إلينا فعل الجميل عبر: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ثم راحت الآية تدعو الجميع إلى الزاد الأكبر النافع عبر: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الأَلْبابِ.

ومن اللافت أن سورة الحج تتعرض إلى الجدال الخالي من الدليل والمعرفة.. جدال التطاول المجرد من البرهان، جدال الضلال والانحراف المتبع لشيطان عاتٍ متبجح بعيد عن الحق مخالف له.. وقد جاء هذا النوع من الجدال مرتين في الآية الثالثة وفي الآية الثامنة من هذه السورة:

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ...

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُديً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ ...

يقول صاحب مجمع البيان في الآية الأولى التي تحمل رقم 3: هذا إخبار عن المشركين الذين يخاصمون في توحيد الله سبحانه ونفي الشرك عنه بغير علم منهم، بل للجهل المحض وقيل: إن المراد به النضر بن الحرث بأنه كان كثير الجدال وكان يقول: الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين، وينكر البعث ...

وكأن السورة باعتبارها سورة الحج تحذرنا من الجدال وتبين خطورته على هذه الفريضة وعلى من يؤديها وإن أخذ شكلًا آخر ومنحى آخر، وأنه منبوذ في كل الأوقات ومحرم إلا أنه في موسم الحج أكثر خطورة وأشد حرمة حتى لا يشغلنا عن مناسكه وأدائها بالشكل السليم وحتى لا يمنعنا من الاستزادة من معاني الحج الجميلة ولا يبعدنا عن قيمها وحلاوتها شي ء.. ولهذا جاءت الآية: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا ... وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ.

إن مناسك الحج تعدّ غاية الطاعة لله تعالى.. إنك في خلال الحج، تنفذ أوامر وتعليمات محددة ومشددة من الله تعالى، إن لم تنفذها بدقة تفسد الحج. فالمسلم في الحج يطوف سبع مرات حول حجر، ويسعى سبع مرات بين حجرين الصفا والمروة، ثم عند رمي الجمرات، فهو يرمي بحجر على حجر ويكبر مع كل حصاة يرميها ... فهو يطبق مناسك عديدة قد لا يفهم الحكمة من ورائها، لكنه ينفذها فقط طاعة لله تعالى، واستسلاماً لأوامره، وانقياداً لأحكامه مع صبر رائع وتحمل كبير لا يداخله ملل ولا ريب.. وفي هذا قمة العبودية والطاعة لله تعالى، وقد شاركت الألفاظ الأعمال، ففي كل موقف كان اللفظ يشترك مع العمل والحركة توكيداً للطاعة والتزاماً بعهده لله تعالى، بأن يرمي الشر والشيطان ولا يتبعهما ويبقى وفياً لعقيدته بأن الله خالق كل شي ء وفوق كل قوة.. إن الحج باختصار شديد وبنظرة إجمالية وبنظرة تفصيلية يشكل أروع الأساليب التربوية التي جاء بها الإسلام لتهذيب النفوس وتأكيد سيرها على خط التكامل.. إن الحاج يطوف بتلك المشاهد يستقرؤها ويتملّى فيها ويعاهدها على البقاء والثبات ويرجم كل ما عداها شياطين الإنس والجن ..

إن الحج يعد دورة تدريبية لأداء فريضة أخرى من فرائض الإسلام تحتاج إلى الصبر والحكمة والتحمل، إنه الجهاد:

والمتدبر لكتاب الله العزيز يدرك أن مفهوم الجهاد يشمل كل جهد يبذل من أجل إعلاء كلمة لا إله إلا الله ..

الجهاد في سبيل الله، الجهاد الذي يستوجب الطاعة وبدونها لا يؤدي الجهاد دوره ولا ينتج لنا نتائجه المرجوة.

لذلك تأتي بعد آيات الحج مباشرة آيات الجهاد في سبيل الله، فنلاحظ أن الحديث حول الحج في سورة الحج يبدأ بالآية السادسة والعشرين وينتهي بالآية السابعة والثلاثين، ومن اللافت للانتباه أن الآية التي تليها مباشرة هي:

إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (2).

تمهيداً كما يبدو للإذن بالقتال وقد جاء لأول مرة في التشريع الإسلامي:

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللهَ عَلي نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (3).

سبب نزول آية الإذن بالقتال

قال المفسرون: كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله 9 فلا يزالون يجيئون من مضروب ومشجوج فشكوهم إلى رسول الله 9 فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال، حتى هاجر رسول الله 9 فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس: لما أخرج رسول الله 9 من مكة قال أبو بكر: إنا لله لنهلكن فأنزل الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ الآية. قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال.


1- انظر: الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، الآية.
2- الحج: 38.
3- الحج: 39.

ص: 61

وفي مجمع البيان: وهي أول آية نزلت في القتال (1).

ومن هم الذين ينص القرآن على أنهم مظلومون؟

إنهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ (2).

وفي الذين أخرجوا احتمالان كما يذكر صاحب مجمع البيان:

أخرجوا إلى المدينة فتكون الآية مدنية. ويحتمل إلى الحبشة فتكون الآية مكية، وذلك بأنهم تعرضوا لهم بالأذى حتى اضطروا إلى الخروج ... لم يخرجوا من ديارهم إلا لقولهم: ربنا الله وحده، وقال أبو جعفر 7: نزلت في المهاجرين وجرت في آل محمد: الذين أخرجوا من ديارهم وأخيفوا..

ثم يأتي الكلام عن سنّة التدافع التي شرعت للدفاع عن الحق وحفظ معالمه:

... وَ لَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة بين الخير والشر والهدى والضلال والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان.. والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان والبيع للنصارى عامة وهي أوسع من الصوامع، والصلوات أماكن العبادة لليهود والمساجد أماكن العبادة للمسلمين، وهي كلها معرضة للهدم على قداستها وتخصيصها لعبادة الله لا يشفع لها في نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ويعتدون على أهلها (3)..

وبعد وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ هذا وعد من الله بأنه سينصر من ينصر دينه وشريعته إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف يأتي لأهل الصلاح في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ (4).

«والتمكين إعطاء ما يصح معه الفعل ...» والقول لصاحب مجمع البيان.

فجهاد معسكر الإيمان يكون لأهداف سامية تتعلق برفع الظلم، وإحقاق الحق، وإصلاح الأرض. ولا يجوز أن يكون من أجل التسلط والاستضعاف.

أمّا خاتمة سورة الحج فهي الآية 78:

جاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلي وَ نِعْمَ النَّصِيرُ.

لقد جاءت آيات الجهاد في السورة بعد آيات الحج لأن الحج تدريب أساسي وقاس على الجهاد في سبيل الله، لأنه عبارة عن حركة شاقة وانتقال من مكان إلى آخر، والحاج كالمجاهد تماماً كثير الارتحال بين الأماكن والمناسك دون أن يعرف الاستقرار، وفي هذا تعب ومشقة والتزام بأوقات ومشاعر أمر بها الله تعالى وعلمنا إياها رسولنا الكريم 9 ..

وختاماً إن من يريد أداء هذه الفريضة العظيمة، أو على الأقل العمرة، عليه أن يعدّ نفسه ويربيها على المعاني التي أتت في هذه السورة الكريمة. وأن يقرأ سورة الحج بنية من يريد أن يستفيد من دروس الحج ومعانيه، حتى لو لم تتح له الفرصة بعد.

وتلك هي ملامح قراءة بعض آيات هذه السورة المباركة وارتباطها ببعضها وبأنشطة فريضة الحج المعطاء.


1- انظر: الواحدي في أسباب النزول لمزيد من الاطلاع.
2- الحج: 40.
3- انظر: في ظلال القرآن: الآية.
4- الحج: 41.

ص: 62

ص: 63

فقه الحج الضرورات و الحاجات (1)

حيدر حب الله

تمهيد

تعدّ فريضة الحج من الفرائض الكبرى في الإسلام، و هي أحد الأركان الخمسة التي بني عليها هذا الدين، فقد جاء في الرواية التي تعدّدت طرقها عند السنّة و الشيعة: «بني الإسلام على خمس: الصلاة، و الزكاة، و الحج، والصوم، والولاية ...» (1).

أو «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّا الله و أن محمداً رسول الله، و إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، و صوم رمضان» (2).

ومهما اختلفت صيغ هذا الحديث عند السنّة و الشيعة، و هو حديث دعائم الإسلام، فإن الحج إلى بيت الله الحرام، يمثل القاسم المشترك بين صيغه إلى جانب بعض الفرائض الأخرى، و هذا ما يعطي للحج أهمية إضافية، إذ تجعله بمثابة العمود الذي يقوم عليه البناء، كما يقوم على الشهادتين و الصلاة والولاية و ...

و من منطلق الأهمية التي يحظى بها الحج في النصوص الإسلامية و التراث الإسلامي، يبدو من الضروري أن يكون للفقه الإسلامي دوره في الاهتمام بهذه الفريضة العظيمة، و أن تكون للفقه مساهمةتعطي هذه الفريضة مكانتها الطبيعية التي يخبرنا عنها حديث الدعائم، كما نفهمها قبل هذا الحديث من ذيل الآية الكريمة التي تشرّع هذه الفريضة، وحيث قال تعالى: (... وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (3).

وكأنني أريد هنا أن أضع ميزاناً لقيمة فقه الحج الذي يمارسه الفقيه المسلم؛ فإذا قدّم الفقه حجاً مفرّغاً من كل قيمة يساعد على تهاوي الإسلام و المسلمين، و يعزّز من تخلّف الأمة الإسلامية؛ فلن يكون هذا الحج هو الحج الإبراهيمي المحمدي؛ لأن هذه الحالة التي يعاني منها لن تضعه في مصاف العبادات التي يقوم عليها الإسلام الذي قدّم الإنسان و حرّره، وصنع منه حضارةً كبرى في تاريخ الإنسانية؛ و هذا ميزان و مؤشر لصواب حركة الفقه الإسلامي في نتائجه.

ونحاول هنا أن نتحدّث عن حاجات الدراسات الحجية المعاصرة؛ و نقدّم بعض الملاحظات العابرة، رغبةً في المساهمة بتفعيل دور هذه الدراسات لخدمة الأهداف الكبرى للشريعة الإسلامية.

الحج وفقه النوازل والمستحدثات

يواجه الفقه الإسلامي على الدوام طوارئ و مستجدات تحصل في الواقع؛ و تلحّ عليه أن يجيب عنها، و تسمّى هذه المستجدات في الفقه الشيعي بمستحدثات المسائل، فيما يغلب في الفقه السني تسميتها بفقه النوازل، و في العصر الحديث و نتيجة التحوّلات الكبرى في العالم على مختلف الصعد و المجالات، ظهرت مستحدثات كثيرة، ولكثرتها تكاد تكون أرهقت الفقه الإسلامي و أتعبته، ففي المجال الطبي تظهر كل سنة وقائع جديدة تطالب الفقهاء بالجواب عنها، و في المجال الاقتصادي لاتكاد تقف كرة الثلج المتدحرجة لتكبر يوماً بعد يوم في حجمها وإيقاعها و هكذا ...

و لم يكن الحج و العمرة بمعزل عن هذا الواقع الجديد، فالكثرة السكانية في العالم فرضت واقعاً جديداً على الحج، وحاجات حماية الحجيج استدعت هي الأخرى جملة من الأحداث التي لم تكن من قبل و هكذا ... من هنا دخل فقه الحج إطار المستحدثات و ظهرت فيه مسائل من نوع الجمرات، و حدود الذبح، و الإحرام من الطائرة، و غير ذلك الكثير.

وهذا يعني ليس أن يقوم الفقيه بالجواب عن الاستفتاء في هذا المستجدّ الحادث فحسب، بل الأهم من ذلك أن تقدّم دراسات حقيقية تكشف عن اهتمام جاد بهذه الموضوعات، و إذا قلت: «اهتمام جاد» فقد أكون تسامحت في التعبير، حيث كان المقصود ما هو أزيد من ذلك، وهو إعطاء هذا النوع من الموضوعات الأولوية الأولى في الأبحاث الفقهية المتخصّصة، فإذا استجدّ أن وسّع المسعى كان من المطلوب التسارع لتوجيه دعوات إلى الفقهاء والفضلاء كي يلتقوا لتقديم دراسات تستعين بوثائق التاريخ و الجغرافيا كي ينجم عن تضارب الآراء في هذه الجلسات و عن عصف الأفكار شي ء مركز مدروس، و لا يكتفى بأن يقوم فقيه واحد أو عالم واحد هنا أو هناك بكتابة دراسة في كتاب أو مجلّة، فإذا كان هذا العالم جزاه الله خيراً قد قام بواجبه فإن المطلوب أن تشكّل لجان تتابع مستجدات المسائل في فقه الحج، كي تعرضها بشكل دوري متواصل على الفقهاء والمختصّين ليساهموا في بحثها بشكل جماعي؛ لأن هذا الشكل يساعد على تنضيج الأفكار و رقيّها.

ما هي أهمية أن أجلس عشر أو عشرين سنة أدرّس فقه الحج و في داخل هذا الدرس التكرار للماضي و البحث في قضايا لا تأخذ أولويةً اليوم؟! فلماذا لا تكون دروسنا قائمة على مستجدات المسائل، ليكون هناك الجواب العلمي المدروس لكل نازلةٍ في أقرب وقت ممكن؟ فلو سرنا اليوم في


1- انظر هذا الخبر بصيغه في: المحاسن 286: 1- 287؛ والكافي 18: 2- 21، 31؛ و 62: 4؛ و دعائم الإسلام 2: 1؛ و أمالي الصدوق: 340؛ و الخصال: 277- 278، 447؛ و فضائل الأشهر الثلاثة: 86- 87، 119؛ و من لايحضره الفقيه 74: 2؛ و تهذيب الأحكام 151: 4 و روضة الواعظين: 42؛ و شرح الأخبار 277: 2؛ و أمالي المفيد: 353 و ...
2- انظر صيغ هذا الخبر عند أهل السنّة في: صحيح البخاري 8: 1؛ و صحيح مسلم 34: 1- 35؛ وسنن الترمذي 119: 4؛ و سنن النسائي 107: 8- 108؛ و سنن البيهقي 358: 1، و 81: 4، 199؛ ومسند ابن حنبل 26: 2، 93 و ...
3- آل عمران: 97.

ص: 64

الكثير من الأبحاث الفقهية عند المذاهب الإسلامية سنجد حجماً لايستهان به من الدراسات المكرورة، فيما دراسات هامة ما تزال غائبة أو حجم المساهمة فيها أقلّ.

لو أخذنا مسألة ذبائح منى وهي مسألة هامة جداً اليوم، وصرفنا النظر عن الفتاوى، فكم دراسة جادة قدّمت في هذا المجال؟ فربما تجد ما كتب في حج الصبي أضعاف ما كتب في هذا الموضوع!

من هنا الحاجة إلى تشكيل حلقات دائمة تعرض عليها المستجدات في فقه الحج مستعينة بالخبراء، وتكون وظيفتها وفي أقرب فرصة ممكنة إصدار مجموعة دراسات في هذا الأمر المستجدّ، وخلق جوّ فكري وعلمي يضاعف من الاهتمام بهذه الموضوعات؛ علّنا بهذه الطريقة نستطيع أن نعطي للفقه بحقّ وجدارة صفة المواكبة للعصر في بعض أشكالها.

الحج بين النظرية التجريدية و المعايشة الميدانية

كثيراً ما يجلس الباحث حول الحج سواء على صعيد فقه الحج أم غيره- يجلس في بيته و يبدأ بدراسة تطال هذا الموضوع أو ذاك فيما يخصّ مكة أو المدينة أو الحج أو العمرة أو الزيارة أو ... و يبدأ يغوص في النصوص أو الوثائق التي بين يديه، دون أن يعايش المناخ الميداني لهذه النصوص، و هذا ما قد يورّطه في أحكام تجريدية و مواقف غير واقعية ناتجة عن غيابه عن مسرح الأحداث، و لو أنّه اقترب قليلًا من أرض الواقع لربما تبلورت لديه تصوّرات مختلفة أو تراءت له احتمالات في تفسير النصوص ما كان ليلتفت إليها لولا ذلك.

وفي هذا السياق، يتناقل أن بعض الفقهاء الكبار غيّر رأيه في بعض الموضوعات الفقهية والنتائج الاجتهادية التي كان توصّل إليها بعدما سافر إلى الحج بنفسه؛ لأنه رأى على أرض الواقع بعض المعطيات التي تركت أثرها في تعديل فهمه للنص أو لظرف صدوره.

والسبب في هذه الظاهرة في كثير من الأحيان أن الباحث أو الفقيه يحاول تصوّر النصوص كما لها من تطبيق في عصره بحسب طبيعة المحيط الذي يعيشه؛ فيعمّم هذه الصورة إلى سائر الأماكن و الأزمنة بظنّ التشابه أو عدم وجود عنصر إضافي قد يغيّر الصورة، أما عندما يعايش النص في المناخ نفسه الذي جاءت فيه النصوص أو يحاول الاقتراب منه قدر الإمكان فإن رؤيته للحدث أو الصورة ستكون أقرب للواقع.

ولكي أقترب من طرح الموضوع، آخذ الفكرة التي كان يتحدّث عنها سيد قطب (1967 م) سيما عند تفسيره لآية التفقه في الدين: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة: 122)

إن سيد قطب يرى أن الجهاد ساحة تفقّه حقيقي؛ إذ في الجهاد يرى الإنسان العناية الإلهية، أي بهذا السبيل يفهم الدين و يرى التجليات الإلهية فيه، لهذا لا يقدر على تفسير القرآن عند سيد قطب و العلامة فضل الله إلا الحركيون (1)، أي أولئك الذين عايشوا الواقع و خاضوا التجارب واقتربوا من طبيعة الحياة بألوانها وتمظهراتها ليفهموا المناخ الذي جاء هذا النص أو ذاك ليحلّ مشكلةً فيه أو يرفع التباساً ما.

إنّ هذه الفكرة صحيحة إلى قدر كبير؛ فالإنسان الذي لايفهم معنى السياسة و لايعرف طبيعة الملك والإدارة لايقدر على فهم النصوص السياسية في الكتاب و السنّة كما يفهمها الفقيه و المفسّر الذي يعايش واقع الحياة السياسية و إدارة البلاد أو يقترب من ذلك إلى حدّ بعيد، أما الفقيه الذي يريد أن يضع حلولًا للاقتصاد و يدير بالفقه الحياة الاقتصادية للناس، ويظنّ أنّه بجلوسه في البيت وتشقيقه الشقوق الافتراضية للمسائل والإجابة عن كل افتراض بشكل تجريدي ... يستطيع أن يقدّم أجوبة الفقه الإسلامي لأعقد القضايا، فهو غير مصيب في تصوّراته، و التجربة كفيلة بتصويب أخطائه.

إذن، فالذي يبدو لنا أن فقه الحج و فقيه الحج يجب أن يقتربا من الواقع و يدرسا الحج والواقع الجغرافي والمناخي والتاريخي والعرفي و ... للمنطقة هناك؛ لأن ذلك يساعد على اقتراب الفقه من أرض الواقع، و لتتسم أجوبته بالواقعية لاتتصادم مع الواقع و حقائقه.

حج فقهي أم حج روحي؟!

قد يوحي هذا العنوان بأن الفقه يناقض الروح و الروحانية، أو يختلف عنهما، فهناك حج فقهي و هناك حج روحي، ولكن الذي نريده هنا أن نثبت أن الحج الفقهي يجب أن يكون روحياً تربوياً تطهيرياً، وأن الحج الروحي والتطهيري الذي يعيد الإنسان إلى وطنه كيوم ولدته أمه ... هذا الحج لايتجاوز الضوابط الفقهية و الشرعية ولا يستهين بها، ولايتخطاها.

إننا نجد على أرض الواقع ظاهرتين نعتقد أنه يجب تصحيحهما:

الظاهرة الأولى: أشخاص يذهبون للحج و العمرة و يحاولون الاقتراب من المدرسة الروحية لهذه الفريضة العظيمة، فيملؤون أوقاتهم بالدعاء والصلاة و التوبة والتطهّر، صادقين مخلصين، يهدفون بفعلهم هذا أن يرتقوا في مدارج الروحانية أو أن يشطبوا على تاريخ حياتهم السابق الملي ء بالذنوب والمعاصي، و كثير من عامة الناس يعيشون قدراً من هذا الجو الروحي في رحلة الحج، ويحاولون أن يعيشوا معاني الحج الروحانية، لكن المشكلة أنهم لا يراعون لسبب أو لآخر الأحكام الشرعية للحج، فبعضهم يعيش حالة جهل حقيقية بفقه الحج؛ ولهذا ربما يقع هؤلاء في أحيان كثيرة في أمور توجب بطلان الحج نفسه، أو يترتب عليها كفارات شرعية يجب أداؤها، من هنا كان من الضروري ترشيد عمل الناس من خلال نشر ثقافة التفقه في أحكام الحج، كي يضمن هؤلاء أن يكون الحج صحيحاً مجزءاً و في الوقت عينه مقبولًا عند الله تعالى.


1- انظر: سيد قطب، في ظلال القرآن 1734: 3- 1736، دار الشروق، بيروت والقاهرة، الطبعة العاشرة، 1982 م.

ص: 65

الظاهرة الثانية: وفي مقابل الحالة الأولى المتقدمة نجد الكثير من الناس سيما من المتشرّعة والمؤمنين الملتزمين بخط الإسلام يغرقون في متابعة الجانب الفقهي لقضايا الحج حتى تراه يغيب عن روح الحج و عن رسالته المعنوية الكبرى؛ ففي الطواف تجده يعيش عقدة أخذ الكعبة على يساره، و يركز كل همّه و طاقاته على أن لاينحرف كتفه الأيسر عن الكعبة الشريفة، و لا يخرج من هذا الهم و الغم إلا في الشوط السابع؛ حيث يكون قد أتم أعمال الطواف، ليبتلي بهمّ آخر حيث يصارع في عدم الالتفات المخل عن الصفا أو المروة أثناءالسعي، و هكذا في سائر المناسك.

إن هذا الاستغراق في البعد الفقهي للحج على حساب البُعد الروحي، يشبه ما يتحدّث عنه علماء الأخلاق والعرفان عن الاستغراق في مسائل تجويد القرآن والاهتمام بمخارج الحروف في الصلاة على حساب حضور القلب، و كأن عمود الدين يكمن في التلفظ الصحيح فقط بالكلمات و في جعل تركيز الإنسان كلّه في كيفية إخراج الألفاظ من مخارجها وما شاكل ذلك، وقد أشار الإمام الخميني (1410 ه-) إلى هذا الأمر في إفاداته الأخلاقية والعرفانية (1).

وإذا أردنا أن نتعمّق أكثر في هذه النقطة، نحاول أن ندخل إلى الهيكلية التي جاءت في الفقه الإسلامي لأداء فريضة الحج؛ ففي الفقه الإسلامي بمذاهبه اليوم، وعلى غالب الآراء، يمكن للإنسان أن يذهب إلى الحج دون أن يتزوّد روحياً و معنوياً منه؛ فلا يجب حضور القلب في أيّ فعلٍ من أفعال الحج، ويمكن للحاج أن ينام طيلة الوقت في عرفة والمزدلفة و منى؛ بل بإمكانه أن يقضي وقته بالمسامرات والضحك واللهو و اللعب والتسوّق دون أن يبطل حجه أو حتى أن ينخدش ... إن خلوّ العديد من الكتب الفقهية من البُعد الروحي للحج و من ثم عدم تحرّك الرسائل العملية لتنشيط هذا البعد الهام، ترك و يترك الكثير من الأثر على أن يصبح المتشرّعة والمتديّنون مستغرقين في قضايا من نوع وضع الكعبة على اليسار دائماً و أمثال ذلك.

بينما لو نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا التركيز على ذكر الله تعالى في الحج كذكرنا آباءنا أو أشدّ ذكراً، و قد استعرضنا هذا الموضوع في دراسة فقهية مستقلة متواضعة لتأكيد أن الذكر الكثير لله تعالى في الحج فريضة و واجب، وعلى الإنسان أن يعيش الذكر الإلهي في هذا السفر العظيم إلى الله تعالى ... دون أن يكلّف الناس ما لايطيقون أو أن نطلب منهم أن يصبحوا عرفاء وفلاسفة في عيشهم للحج و دركهم لرسالته و معانيه السامية (2).

من هنا، تكمن الضرورة في إعادة ترتيب البحث الفقهي والرسالة العملية الفقهية بما يخدم مقاصد الحج و رسالته المعنوية الكبرى، و أن لا نضع هذه المسؤولية فقط على عاتق علماء الأخلاق الذين لم يقصّروا في محاولاتهم العديدة لاستخراج المدلولات المعنوية للحج. بل هذه وظيفة الجميع لأنها تمثل المقصد الأساس لفريضة الحج إلى جانب مقاصده الأخرى الهامة على الصعيد السياسي و الاجتماعي و ...

فقه الحج القرآني

من أهم الملفات البحثية في فقه الحج، فتح ملفّ الفقه القرآني للحج، و نقصد بذلك أن تجمع الآيات القرآنية حول الحج و العمرة وأمثال ذلك لتدرس بشكل مستقل، و تتحدّد الأطر التي وضعها القرآن الكريم في هذا المجال، و فائدة هذا النوع من الدراسات أنه يقدّم لنا تصوّراً علوياً للخطوط التي طرحها القرآن الكريم في مسألة الحج، حتى إذا حملها الفقيه معه إلى البحث الفقهي التفصيلي استطاع أن يعتبرها بمثابة المبادئ القرآنية الحاكمة على مجمل النصوص و القواعد والتفصيلات الجزئية لقضايا الحج.

ولا نطرح هذا الموضوع في فقه الحج و حده، وإنما نأخذ الحج أحد تطبيقات هذا الموضوع؛ وذلك أنه من المؤسف غياب الفقه القرآني كما يشير إليه العلامة الطباطبائي في الميزان حين يستنكر غياب الدرس القرآني عموماً فيقول: «وذلك أنّك إن تبصرّت في أمر هذه العلوم و جدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلًا، حتى أنه يمكن لمتعلّم أن يتعلمها جميعاً: الصرف و النحو، و البيان، و اللغة، و الحديث، و الرجال، و الدراية، و الفقه و الأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلّع بها ثم يجتهد فيها وهو لم يقرأ القرآن، و لم يمسّ مصحفاً قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان، فاعتبر إن كنت من أهله» (3).

إذن، فالمطلوب تنشيط فعل الاستنتاج الفقهي من القرآن نفسه حتى لو كانت بعض النتائج التي نحصل عليها من البحث القرآني موجودة في الأدلّة الأخرى، فالمفترض إذا اشتركت الأدلّة في إيصالنا إلى نتيجة أن نأخذ بأقواها و أوّلها و هو كتاب الله الذي يتمتع بالقطعية السندية إلى جانب وضوح في الدلالة في كثير من الأحيان.

ولأخذ شاهد و مثال ننظر في بحث المحقق النجفي (1266 ه-) لمسألة الإيلاء، فإنه يصرّح في مطلع البحث بأن الأصل في الإيلاء هو الآية القرآنية المعروفة الواردة في سورة البقرة؛ ثم يقول: «بل منها يستفاد الوجه في جملة من أحكامه الآتية» (4)، إذاً فبعض أحكام الإيلاء يمكن أخذها من هذه الآية الكريمة التي هي الأصل في هذا الموضوع الفقهي، لكن لما نواصل مطالعتنا لبحث الإيلاء في كتاب «جواهرالكلام» لا نجد حضوراً لهذه الآية في عمليات الاستدلال، بل الحاضر هو سائر الأدّلة كالروايات و غيرها، فما دامت الآية قادرة على أن تعطينا أجوبة عن بعض أحكام الإيلاء فلماذا غابت في البحث الفقهي حول هذه الأحكام؟

هذا هو الواقع الذي نحاول هنا الإشارة إليه، و هو الذي يستدعي إعادة إحضار الفقه القرآني للحج، ليشكّل الأساس في دراسة موضوع الحج في الفقه الإسلامي بأدلته المتنوّعة.

إننا بحاجةٍ إلى تكوين ثقافة قرآنية حجية مهيمنة؟ تحرّك رؤية الفقيه لأحكام الحج و تشكل المفاصل الأساسية التي يتحرك عبرها و يتنقل، و لا نقصد تفسيراً تجزيئيّاً بجمع الآيات القرآنية فقط وإنما بحث موضوعي متكامل يكوّن الصورة القرآنية لهذه الفريضة العظيمة.

فتاوى الحج والحاجات العملية


1- أنظر: الآداب المعنوية للصلاة: 362، تعريب: السيّد أحمد الفهري، دار الكتاب الإسلامي.
2- انظر: حيدر حب الله، الذكر في الحج: هل ذكر الله في المشاعر واجب أو مستحب؟ مجلة ميقات الحج، العدد 107: 23- 132.
3- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 276: 5.
4- النجفي، جواهر الكلام 297: 33.

ص: 66

وفي سياق الحديث عن فقه الحج نركّز على نقطة جوهرية، وهي مسألة فتاوى الحج؛ فتعدّد المرجعيات الدينية و حصول حالة تحوّل في الرأي عند بعض الفقهاء وكلاهما أمرٌ غير معيب بل هو حالة صحيّة في الجملة يؤدي إلى تذبذب الناس أحياناً وضياعهم في أمر الفتاوى؛ فلو أردت أن تطبع كتاباً جامعاً لفتاوى أبرز المراجع المعاصرين لوجب عليك أن تعيد طبعه كل عام؛ لأن قسماً من الفتاوى سيتغيّر و يتبدّل، من هنا من الضروري وضع حلول عملية لتسهيل هذا الأمر ميدانياً، ولا نقصد تغيير الفقه أو آراء المجتهدين دون استناد إلى دليل والعياذ بالله، لكن فلتؤخذ هذه المشاكل الميدانية بعين الاعتبار.

ومما يتصل بهذا الشأن ظاهرة الاحتياط الوجوبي في فقه الحج، فالحج ليس كالصلاة يتمكن الإنسان من إقامته دون عناء كبير، وإنما هو تكلفة مالية وجهود بدنية واستعداد نفسي وتنظيم للأوقات و ... لهذا من العسير أن نكثر من الاحتياطات الوجوبية في بحث كفارات الأحكام، أو في إعادة الحج أو ما شابه ذلك، لذلك يرجَّح أن تسعى الجهات المعنيّة لبت أمر الفتوى و رفع حالة الاحتياط الوجوبي قدر الإمكان والتخفيف على الناس في حجها حيث يمكن، دون تجاوز قيد أنملة للخطوط الشرعية والأدلّة المعتبرة في هذا المجال.

فقه الحج وآليات الإشراف على الحرمين الشريفين

وفي سياق فتاوى الحج يأتي عدم إلزام الناس بفتوى مذهب معيّن، إلا ما يخص تنظيم أعمال الحج بحيث يلزم من عدم الأخذ بفتوى خاصّة لمذهب معيّن أو لمرجع ديني معيّن.. يلزم الفوضى أو بعض الآثار السلبية.. فتعدّد الاجتهادات نعمة وفتح باب الاجتهاد والحرية للناس في انتخاب مرجعها ومفتيها ليس نقمة بل فسحة وإباحة؛ فلماذا التشديد على الناس لإلزامهم بشخص معيّن وإلا تعرّضوا للمضايقة أو إلزامهم بمذهب معين وإلا تم التعامل معهم كأنهم خارج الأسرة الإسلامية؟!

من هنا، نهيب بالقيمين على الأماكن المقدسة في الحجاز وسائر بلاد المسلمين ألا يفرضوا فتوى خاصة على عامة المسلمين، مادام المسلمون ينتهجون في طريقة أدائهم للعبادات منهج الرجوع إلى القرآن والسنّة كلّ حسب نظريته واجتهاده، فلتحترم هذه الاجتهادات ولا يتم التعامل مع من يسير وفقها على أساس أنّه فاسق أو يجب أن يعدل عن موقفه لصالح اجتهاد فقهي آخر.. وأعتقد أن القيمين على الحرمين الشريفين وعامة الأماكن المقدّسة يمكنهم أن يستفيدوا من تجربة الإمام مالك بن أنس (179 ه-) عندما عرض عليه الخليفة العباسي أن يجعل كتابه «الموطأ» كتاباً قانونياً مرجعياً ملزماً للمسلمين في الآفاق والأقطار، فأجابه بالقول بوجود آراء واتجاهات، وكل واحد له علمه وفضله (1).

نحن لا نقف هنا عند حدود أن يحترم القيمون على الأماكن المقدسة في الحج والعمرة والزيارة أفكار واجتهادات المذاهب الإسلامية الأخرى.. مادامت هذه الاجتهادات تحتكم لكتاب الله وسنّة نبيّه.. بل وأيضاً أن لا يتمّ التعاطي في موسم الحج والعمرة مع أتباع المذاهب الأخرى ومقلّدي مفتين آخرين بمنطق من يريد أن يهديهم للحق والدِّين، وكأنّهم خارج إطار الإسلام، فمن أراد أن يهدي المسلمين فعليه أن يفعل ذلك بالوسائل المنطقية الأخلاقية الهائدة غير المتشنّجة، لا أن يلاحق الناس ويتهمهم بالشرك والكفر والضلالة والفسق والانحراف هنا وهناك، حتّى أن الحاج عندما ينتمي إلى بعض المذاهب لا يشعر بالأمان منذ دخوله بلاد الحجاز الكريمة الطيبة، كأنّه مستهدف في دينه وأخلاقه!!

إن هذه الطريقة في هداية الناس من أشدّ الطرق تمزيقاً للمسلمين وتخويفاً لهم، فخدمة الحرمين الشريفين تكتمل وتتمّ بخدمة حجاج هذين الحرمين وزوارهما، لا بالتعامل مع هؤلاء الحجاج بمنطق التكفير والتخوين و ... مع تقديرنا التام واحترامنا الكامل للجهود الطيبة التي قامت وتقوم بها غير جهة في المملكة العربية السعودية، حكومة وشعباً ومؤسسات، لخدمة الزوار والحجاج، لكن هذا لا يمنع على الدوام من أن يقوم النقاد المسلمون بتصويب بعض الأخطاء والإشارة إلى بعضها الآخر بالكلمة الحسنة والحوار الهادئ، علّ ذلك يقرّب المسلمين من بعضهم ويخلق جوّ احترامهم لبعضهم بعضاً رغم الاختلاف في المذهب وفي الاجتهاد الفقهي.

فقه الحج المقارن، خطوة عملية للتقريب الإسلامي

إذا طالعنا التراث الإسلامي القديم نجد المذاهب، على ما حصل بينها من تخاصم واختلاف.. تتناول أفكار بعضها بعضاً بالنقد والتأييد.. خصوصاً على الصعيد الشيعي، فقد ألّف الشيخ الطوسي (460 ه-) في القرن الخامس الهجري كتاب «الخلاف» في الفقه المقارن؛ وفعل ذلك على نطاق أوسع بعده العلامة الحلي (725 ه-) في كتابه الشهير «تذكرة الفقهاء»، ولم يتحفظ العلماء المسلمون أن يحضروا دروس بعضهم بعضاً، فكان يحضر مجلس المفيد (413 ه-) والمرتضى (436 ه-) والطوسي (460 ه-) في بغداد عدد كبير من أبناء المذاهب الأخرى، كما حضر الشهيدان الأول والثاني عند علماء كبار من أهل السنّة في أقطار وبلاد المسلمين ..

لكن المؤسف أنّنا نجد غياب الفقه المقارن غياباً تاماً، ففي الوسط الشيعي هناك اطلاع على الفقه السني، ولا نقول: إنّه بالمستوى الذي نأمله، لكن في الوسط السنّي والحق يقال هناك غياب تام أو شبه تام للفقه الشيعي الإمامي، بل نحن نجد من يتعالى على هذا الفقه وكأنه لا قيمة له، وهذا أمر فيه قدر كبير من عدم الإنصاف.. فكيف ننادي بالتقريب بين المسلمين سنّة وشيعة وهناك مثل هذه النظرة لفقه أهل البيت:؟! فبدل أن نُحضِر الفقه الشيعي في الأبحاث الفقهية السنية، والفقه السني في الأبحاث الفقهية الشيعية.. نكتفي بإطلاق شعارات التقارب بين المسلمين دون القيام بخطوات عملانية.

سأعطي مثالًا مبسطاً.. عندما ألفت الموسوعة الفقهية في مصر والمعروفة بموسوعة جمال عبدالناصر.. استحضرت المذاهب الفقهية الثمانية بما فيها مذاهب المسلمين الشيعة والإباضية، وكانت هذه الخطوة طيبة يشكر عليها القيمون.. لكننا وجدنا تراجعاً في تجربة لاحقة أخذت شهرة، وهي موسوعة الفقه الإسلامي المعروفة بالموسوعة الكويتية.. حيث اقتصرت هذه الموسوعة الضخمة على المذاهب الأربعة السنية المعروفة، مستبعدة مذاهب الشيعة والإباضية.. فهل يمكن قراءة ذلك تراجعاً في العقل المقارن والتقريب أم لا؟!


1- أنظر القصّة ولها عدّة صيغ بعضها لا يدل على رفض مالك في: الرازي، الجرح والتعديل مقدّمة المعرفة 12: 1؛ والذهبي، تاريخ الإسلام 321: 11؛ وتاريخ ابن خلدون المقدمة 17: 1؛ ووضوء النبي 354: 1.

ص: 67

في المقابل، وجدنا في الوسط الشيعي موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت:، تختصّ بالفقه الشيعي، لكنها تنجز إلى جانب ذلك اليوم، ضمن فريق عمل، موسوعة الفقه المقارن أيضاً مستحضرةً المذاهب السنية، ووجدنا المشروع الذي أطلقه المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وهو موسوعة الفقه المقارن التي صدر المجلد الأول منها، ويتوقع أن تزيد عن الستين مجلداً ..

إنّنا نأمل أن يتنامى الفقه المقارن وتتعرف الأوساط ببعضها، سيما الوسط السني بالفقه الإمامي شبه المغيب فيه، وفي الحج تبدو هذه القضية بالغة الأهمية جداً، لأن الحج مركز تلاقي المسلمين جميعاً وقضاياهم وهمومهم هناك مشتركة، فيفترض أن يشكلوا لجاناً مشتركة من فقهاء المذاهب الثمانية كافة لتدارس كل مستجد في فقه الحج أو طارئ ينزل، بدل أن ينفرد هذا المذهب أو ذاك بهذه القضية، مع إعطاء الحق للدولة في أن تكون لها صلاحياتها الراجعة للتنظيم ورفع الفوضى والاضطراب و ..

وفي هذه المناسبة نرى أن أيّ مشروع تريد الجهات المسؤولة في بلاد الحجاز إنجازه لخدمة الحجيج والزوار كإصلاح الجمرات وتوسعة المسعى ونحن نشكرها على ذلك يفترض أن يكون بالتشاور وضرب الآراء ببعضها وإشراك علماء وفقهاء المذاهب الأخرى في إبداء الرأي، بصرف النظر عن إلزامية هذه المشورة.. إن الاستفادة من آراء الآخرين لا تُعدم الإنسان نضج الأفكار وتنميتها.. ونحن لا نقصد أخذ رأي المذاهب غير السنية فقط، بل الأمر يشمل آراء المذاهب السنية الأخرى مثل الأحناف والشوافع والمالكية إلى جانب الزيدية والإسماعيلية والإمامية والإباضية.. خصوصاً إذا بلغ الموضوع حد أعمال الهدم والردم والتغيير الجغرافي في أماكن الحج والعمرة والزيارة ... وفي ذلك تقارب المسلمين واستفادتهم من بعضهم.. وعلى علماء المذاهب الأخرى أن لا يبخلوا في تقديم كل مقترحاتهم للجهات المعنية سألتهم أم لم تسألهم فإن في ذلك للطرفين مصداق النصيحة وتبادل الرأي ومشاورة العقول وغير ذلك من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال.

إن هذا الذي نطرحه لا يهدف سحب الإشراف من يد جهة معينة، حتّى لا يثير هذا الأمر قلق أحد؛ وإنّما نتحدّث في الجوانب العلمية والتقريبية بين المسلمين.. علّ ذلك يشكل مصداقاً لقوله تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا (آل عمران: 103)

كانت هذه بعض الملاحظات و المقترحات المدخلية المفتاحية في فقه الحج، أقدّمها بين يدي الفقهاء و الباحثين والأساتذة في هذا المجال، لترشيد عملنا إلى ما فيه الخير للإسلام و المسلمين إن شاءالله تعالى؛ ونكمّل بعض الأفكار الأخرى في الحلقة الثانية بعون الله سبحانه.

ص: 68

وُلد الهدى

أحمد شوقى و مدح الرسول 9

وُلد الهدى فالكائنات ضياء

وفمُ الزّمان تبسُّم وثناء

الرّوح والملأ الملائكُ حَولهُ

للدين والدُّنيا به بُشَراءُ (1)

والعرش يزهو والحظيرة تزدهي

والمنتهى والسِّدرةُ العصماء (2)

وحديقةُ الفرقان ضاحكةُ الربى

بالتَّرجُمانِ شَذّيةٌ غنّاءُ (3)

والوحي يقطر سَلسَلًا من سَلسل

واللوح والقلم البديعُ رواءُ (4)

نُظِمَتْ أسامي الرُّسْلِ فهي صحيفةٌ

في اللوح واسمُ محمّد طُغرَاءُ (5)

اسمُ الجلالة في بديع حروفِهِ

ألِفٌ هنالك واسم طه الباءُ

يا خير من جاء الوجود تحيَّةً

من مُرْسَلين إلى الهدى بك جاؤوا

بيتُ النبيين الذي لا يلتقي

إلا الحنائفُ فيه والحُنفاءُ (6)

خيرُ الأبوّةِ حازَهم لك آدم

دونَ الأنام وأحرزَتْ حَوّاءُ

هم أدركوا عِزَّ النبوّةِ وانتهت

فيها إليكَ العزَّةُ القعساء

خُلِقت لبيتكَ وهو مَخلوقٌ لها

إن العظائِم كفؤها العظماءُ

بكَ بَشّرَ اللهُ السّماء فزُيِّنَت

وتضَوَّعت مسْكاً بك الغبراءُ (7)

وبدا محيّاك الّذي قَسماتُه

حَقٌّ وغرتُه هدًى وحياءُ (8)

وعليه من نورِ النبوّةِ رونقٌ

ومن الخليل وهَدْيهِ سيماءُ (9)


1- الروح: هو الروح الأمين جبريل الملائك: أي الملائكة، والملأ: أشراف القوم البشراء: جمع بشير، والبشير الذي يحمل البشرى وهي كلّ نبأ سارّ.
2- العرش يزهو: أي يشرق ضياءً السدرة: هي سدرة المنتهى ويقال: إنها شجرة نبق على يمين العرش العصماء: مثنى الأعصم وهو الظبي الذي في ذراعيه بياض.
3- الفرقان: القرآن الكريم الربى: جمع ربوة وهي المرتفع من الأرض الشذيّة: ذات الشذى العطر والطيّب.
4- الرواء: حسن المنظر، والسلسل: الماء العذب.
5- الطغراء: هي الطرّة عند العامّة مأخوذة من طغرى بالقصر، وهي صحيفة تصدر بها الأوامر التي تكتب بالقلم العريض.
6- الحنفاء: جمع الحنيف وهو من كان على دين إبراهيم 7 أي الدين الصحيح، والحنيف أيضاً: الذي ميله إلى الإسلام صحيح لا شبهة فيه، والجمع حنفاء.
7- تضوّعت مسكاً: أي انتشرت فيها رائحة المسك الغبراء: الأرض.
8- قسماته: القسمة ما بين الوجنتين والأنف والمحيّا: الوجه.
9- الخليل: أي إبراهيم 7 السيماء: العلامة.

ص: 69

أثنى المسيحُ عليه خلفَ سمائه

وتهلَّلت واهتَزتِ العذراءُ (1)

يومٌ يتِيهُ على الزّمان صَبَاحه

ومَساؤه بمحمّد وضّاءُ

الحقُّ عالي الركنِ فيه مُظَفَّرٌ

في المُلكِ لا يعلو عليه لواءُ

ذعِرَت عروشُ الظالمين فزُلزِلت

وعلَت على تيجانِهم أصداءُ

والنّار خاوية الجوانب حولَهُمْ

خَمَدَتْ ذوائِبُها وغاص الماءُ (2)

والآي تَتْرى والْخَوَارقُ جَمَّة

جبريلُ رَوَّاحٌ بها عَدّاءُ (3)

نِعْمَ اليتيمُ بَدَت مَخايلُ فضلِهِ

واليُتمُ رزق بعضُهُ وذكاءُ (4)

في المهد يُستَسْقى الحيا برجائه

وبقصْدِهِ تستدفع البأساءُ (5)

تسوِي الأمانة في الصّبا والصدق لم

يعرفْهُ أهل الصدق والأمناءُ

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا

منها وما يَتَعَشَّقُ الكبراءُ

لو لم تُقِمْ ديناً، لقامت وحدَها

ديناً تُضِي ءُ بنُورِهِ الآناءُ

زانتك في الخلقِ العظيم شمائلٌ

يُغرَى بهنّ ويولعُ الكُرماءُ

والحسنُ من كرم الوجوهِ وخيرُه

ما أوتي القُوّادُ والزعماءُ

فإذا سَخَوْتَ بلغت بالجود المدى

وفعلت ما لا تفعلُ الأنواءُ (6)


1- أثنى عليه: مدحه وأطراه العذراء: السيدة مريم.
2- الذوائب: جمع ذؤابة وهي هنا ألسنة النار أو اللهب خمود النار: سكون لهيبها وانطفاؤه.
3- الآي: جمع آية، وهي العلامة أو العبرة، والمقصود بقوله: تترى، توالي نزول آيات القرآن وحياً على النبيّ الخوارق: المعجزات جمّة: عظيمة.
4- مخايل: جمع المخيلة، وهي المظنة، أي ظهرت مخايل فضله.
5- يستسقي الاستسقاء: طلب السقي، والحيا: المطر تستدفع البأساء: أي يدفع الفقر والشدّة.
6- سخوت: السخاء الجود الأنواء: جمع نوء وهو المطر.

ص: 70

وإذا عَفَوْتَ فقادراً ومقدّراً

لا يستهِين بِعفوِك الجُهلاءُ

وإذا رحمْتَ فأنت أُمٌّ أو أبٌ

هذان في الدُنيا هما الرُّحَماءُ

وإذا غَضِبْتَ فإنما هي غضبةٌ

في الحق لا ضِغنٌ ولا بغضاءُ (1)

وإذا رضيتَ فذاك في مرضاته

ورِضَى الكثير تَحلُّمٌ ورِياءُ (2)

وإذا خَطبْتَ فللمنابر هِزَّةٌ

تَعْرو النَّدِيّ وللقلوب بكاءٌ (3)

وإذا قضيتَ فلا ارتيابَ كأنّما

جاء الخصومَ من السماء قضاءُ

وإذا حَمَيْتَ الماء لم يُورَدْ ولو

أن القياصِرَ والملوكَ ظِماءُ

وإذا أجَرتَ فأنت بيت الله لم

يدخل عليه المستجير عداءُ

وإذا ملكت النفسَ قمْتَ ببرّها

ولو أن ما ملكت يَداك الشاءُ

وإذا بنيتَ فخيرُ زوْج عِشرة

وإذا ابْتَنَيْتَ فدونكَ الآباءُ (4)

وإذا صحبت رأى الوفاءَ مجسماً

في بردك الأصحابُ والخلطاءُ

وإذا أخذتَ العهدَ أو أعطَيْتَهُ

فجميعُ عَهْدِكَ ذمّةٌ ووفاءُ

وإذا مَشَيْتَ إلى العدا فغضَنفَرٌ

وإذا جريْتَ فإنكَ النّكباءُ (5)

وتَمُدُّ حِلْمَكَ للسفيهِ مُدارياً

حتّى يضيقَ بِعرضِكَ السُفهاءُ


1- الضغن: الحقد البغضاء: الكراهية.
2- التحلّم: تكلف الحلم أي السماحة الرياء: التملق والخداع.
3- النديّ: النادي.
4- بنيت: من بنى بأهله أي زفّ إليهم، وابتنى: صار له بنون يمتدح سيرة النبيّ مع أهله ورفقه بهم.
5- العدا: الأعداء الغضنفر: الأسد كناية عن شجاعة النبيّ في قتال أعدائه النكباء: ريح يقول: إن النبيّ 9 مقدام في مواجهة أعدائه وسريع كالريح النكباء.

ص: 71

في كل نفْسٍ من سُطَاكَ مهابةٌ

ولكل نفس في نداكَ رجاءُ (1)

والرأي لم يُنْضَ المُهَنّدُ دونه

كالسّيفِ لم تَضرب به الآراءُ (2)

يا أيّها الأمِّيُ حسبُك رتبةً

في العلمِ أنْ دانَتْ بكَ العلماءُ

الذكرُ آية ربّكَ الكبرى التي

فيها لباغي المعجزاتِ غناءُ (3)

صَدْرُ البيانِ لَهُ إذا التقت اللغى

وتقدّم البلغاءُ والفصحاءُ (4)

نُسِخَتْ به التوراةُ وهي وضيئة

وتخلَّف الإنجيلُ وهو ذُكاءُ (5)

لما تمشَّى في الحجاز حكيمُه

قضّت عكاظُ به وقام حراءُ (6)

أزرى بمنطِقِ أهلِهِ وبيانهم

وحيٌ يقصِّرُ دونه البلغاءُ (7)

حسدوا فقالوا شاعرٌ أو ساحرٌ

ومن الحسود يكون الاستهزاءُ

قد نال بالهادي الكريم وبالهدى

ما لم تَنَلْ من سؤددٍ سيناءُ

أمسى كأنك من جلالك أمةٌ

وكأنه من إنسِه بَيداءُ

يُوحي إليك الفوْزُ في ظلماته

متتابعاً تُجْلَى به الظلماءُ

دينٌ يشيّدُ آيةً فِي آيةٍ

لبنائه السُوراتُ والأضواءُ

الحقُّ فيه الأساسُ وكيف لا

واللهُ جلَّ جلاله البنّاءُ


1- سطاك: جمع سطوة وهي الغلبة والقهر نداك: جودك وعطاؤك.
2- لم ينض: أي لم يسلّ المهنّد: السيف.
3- باغي المعجزات: طالبها الغناء: ما يغنى.
4- التقت اللغى: أي اجتمع أصحاب اللغات البلغاء: أصحاب البيان والفصاحة.
5- ذكاء: من أسماء الشمس يشير في الأبيات 10 و 11 و 12 إلى إعجاز القرآن وشمول معانيه وكيف جمع شؤون الدين والدنيا.
6- حراء: هو غار حراء الذي كان النبي 9 يتعبّد فيه، وفيه نزل الوحي عليه، وإليه لجأ حين غادر مكّة إلى المدينة.
7- أزرى به أو بمنطقه: عابه البيان: بلاغة القول وفصاحة الكلام.

ص: 72

أما حديثُكَ في العقول فمشْرَعٌ

والعلمُ والحِكَمُ الغوالي الماءُ (1)

هو صِبْغةُ الفرقان نفحةُ قُدْسِهِ

والسين من سُوراته والراءُ (2)

جَرتِ الفصاحةُ من ينابيع النُهى

من دوْحِهِ وتفجَّر الإنشاءُ (3)

في بحرِهِ للسابحين به على

أدبِ الحياةِ وعلمِها إرساءُ

أتتِ الدُّهُورُ على سُلافته ولم

تَفْنَ السُّلافُ ولا سَلا الندماءُ (4)

بك يابن عبدالله قامت سمحةٌ

بالحقِّ من مِلَلِ الهدى غراءُ (5)

بُنيت على التوحيد وهي حقيقةٌ

نادى بها سُقراطُ والقدماءُ (6)

وجد الزعافَ من السُّموم لأجلها

كالشُّهْدِ ثم تتابَعَ الشُّهَداءُ (7)

ومشى على وجه الزّمان بنورها

كهَّانُ وادي النيل والعُرَفاءُ (8)

إيزيسُ ذاتُ الملك حين توحدتْ

أخَذتْ قِوامَ أمورها الأشياءُ (9)

لما دعوت النّاسَ لبّى عاقل

وأصَمَّ مِنْك الجاهلين نداءُ

أبو الخروجَ إليك من أوهامهم

والنّاسُ في أوهامهم سُجناءُ

ومِن العُقول جداول وجلامِدٌ

ومن النُفوس حرائر وإماءُ (10)

داءُ الجماعةِ من أرسطاليس لم

يوصَف له حتى أتيْتَ دواءُ


1- المشرع: المورد الذي يستقي منه الحكم الغوالي: أي الحكم الجليلة الغنية بمراميها.
2- صبغة الفرقان: نوعه.
3- النّهى: العقل الدوح: جمع دوحة، وهي الشجرة العظيمة.
4- سلافته: السلافة: أجود الخمر الندماء: جمع نديم المنادم على الشراب، جمع ندماء وندمان.
5- السمحة: الملّة ذات الجود والسماحة الغراء: مؤنث الأغرّ وهو السّيد الشريف، وهو الحسن والكريم الأفعال.
6- سقراط: أحد كبار فلاسفة الإغريق الثلاثة، والآخران هما أفلاطون وأرسطو.
7- الزعاف: السمّ القاتل يشير إلى شرب سقراط السم دفاعاً عن الحقيقة، وكان بوسعه أن ينجو من الموت ولكنه آثر أن يقدم حياته من أجل توعية الشباب والنهوض بمجتمعه فكان من أوائل شهداء الواجب في تاريخ البشرية.
8- العرفاء: جمع عرّاف وهو المنجم.
9- إيزيس: من آلهة قدماء المصريين.
10- يقول: إن بعض العقول متحررة وهي أشبه بالجداول الرفرافة، ولكن هناك بالمقابل عقول جاهلة وهي صلبة كالجلامد أي الصخور، والنفوس مثل العقول بعضها حرّ وبعضها الآخر راغ في العبودية كالإماء. الجلامد: الصخور جمع جلمد، الإماء: الجواري جمع أمة.

ص: 73

فرسَمْتَ بعدَك للعِبَادِ حكومةً

لا سوقةٌ فيها ولا أمراءُ (1)

الله فوقَ الخلق فيها وحدَهُ

والناسُ تحت لوائها أكفاءُ (2)

والدِّينُ يُسْرٌ والخلافةُ بَيعةٌ

والأمرُ شُورَى والحقوقُ قضاءُ

الإشتراكيون أنتَ إمامُهم

لولا دَعاوى القوم والغُلوَاءُ (3)

داويْتَ مُتَّئِداً وداوَوْا طَفْرةً

وأخفُّ من بعض الدواءِ الدّاءُ (4)

الحربُ في حقٍّ لديْكَ شريعةٌ

ومن السُّمومِ الناقعاتِ دواءُ (5)

والبرُّ عِندكَ ذِمّةٌ وفريضةٌ

لا مِنَّةٌ ممنونةٌ وجباءُ (6)

جاءتْ فوحّدَت الزكاة سبيله

حتّى التقى الكُرَماءُ والبخلاءُ (7)

أنصفتَ أهلَ الفقر من أهل الغنى

فالكلُّ في حقِّ الحياة سواءُ

فلو أن إنساناً تخيَّرَ ملةً

ما اختار إلا دينكَ الفقراءُ (8)

يا أيّها المُسْرَى به شرفاً إلى

ما لا تنالُ الشّمسُ والجوْزاءُ

يتساءلون وأنتَ أطهَرُ هيكل

بالروح أم بالهيْكل الإسراءُ (9)

بهما سَموْتَ مُطهَّرَيْن كلاهما

نورٌ وريحانية وبهاءُ

فضل عليك لذي الجلالِ ومِنةٌ

واللهُ يفعلُ ما يرى ويشاءُ


1- السوقة: الرعية من الناس، سمّوا كذلك لأن الملك يسوقهم ويصرفهم إلى ما شاء من أمره.
2- الأكفاء: المتساوون في الحقوق والواجبات.
3- الدعاوى: كناية عن المزاعم الباطلة الغلواء: الغلو والمكابرة.
4- المتئد: المتأني الذي يطيل الرويّة ويتمهّل في تصريف الأمور الطفرة: نقيض التّأني من طفر يطفر أي وثب، والطفرة الوثبة إلى الارتفاع، وقد كنّي بالطفرة في سياق البيت عن التصرف الأرعن غير المسؤول.
5- يقول: إن محمّداً جعل الحرب مشروعة في سبيل الحقّ، وهي في هذه الحال كالسم الذي يكون منه دواء وإن كان قاتلًا.
6- البرّ: الإحسان الذمّة: العهد المنّة: العطيّة، والمنّة الممنونة: العطية التي تؤذي، لأنها متّبعة بالمنّ.
7- الزكاة: مقدار معلوم يقدمه المرء من ماله ليطهره به، والزكاة من أركان الإسلام.
8- يقول: إن فريضة الزكاة إنصاف للفقراء من مال الأغنياء وبها يتساوى الفقير والغني في الحياة.
9- المسرى به: من الإسراء وهو السير ليلًا الجوزاء: برج في السماء يقول: إن القوم يتساءلون هل كان إسراؤك بالروح أم بالهيكل أي الجسم؟ ويستطرد في البيت التالي ليقول بأن الإسراء كان بهما معاً، أي بالروح والجسم.

ص: 74

تغشى الغُيُوبَ من العوالم كلّما

طُوِيت سماء قُلِّدَتْك سماءُ (1)

في كلّ مِنطقةٍ حواشي نورها

نونٌ وأنت النقطةُ الزهراءُ

أنت الجمال بها وأنت المجتلى

والكفُّ والمِرْآةُ والحسناءُ

اللهُ هَيَّأ من حظيرةِ قُدسِهِ

نزلًا لذاتك لم يَجُزْهُ علاءُ

العرشُ تحتكَ سُدّةً وقوائماً

ومناكبُ الرُّوحِ الأمينِ وطاءُ

والرُّسل دون العرشِ لم يؤذَنْ لهمْ

حاشا لغيركَ موعد ولقاءُ

الخيلُ تأبى غيرَ أحمد حامياً

وبها إذا ذُكِر اسمه خيلاءُ

شيخُ الفوارسِ يعلمون مكانَه

إن هيجت آسادَها الهيجاءُ (2)

وإذا تصدّى للظُبَى فمُهنّدٌ

أو للرّماح فصعْدة سمراءُ (3)

وإذا رَمى عن قوسِهِ فيمينُهُ

قدَرٌ وما تَرْمي اليمينُ قضاءُ

مِنْ كلِّ داعي الحقّ همةُ سيفه

فلِسيفه في الرّاسيات مَضاءُ (4)

ساقِي الجريح ومُطعمُ الأسرى ومن

أمِنَت سنابكَ خيله الأشلاءُ (5)

إنّ الشجاعَةَ في الرِّجال غلاظةٌ

ما لم تزنها رأفةٌ وسخاءُ

والحربُ من شرف الشّعوب فإن بغوا

فالمجدُ مما يدّعون براءُ


1- تغشى الغيوب: من غشي المكان أي أتاه.
2- الآساد: الأسود الهيجاء: الحرب.
3- الظّبي: جمع ظبّة وهي حدّ السيف المهنّد: السيف الصعدة: القناة المستوية.
4- المضاء: مصدر مضى السيف مضاء أي قطع.
5- الأشلاء: جمع شلو وهو العضو من الأعضاء، والأشلاء أيضاً: أعضاء الإنسان بعد البلي والتفرّق.

ص: 75

والحربُ يَبعثُها القويّ تجبُّراً

وينوءُ تحت بلائِها الضعفاءُ (1)

كَمْ من غَزاةٍ للرّسول كريمةٍ

فيها رضىً للحقِّ أو إعلاءُ

كانت لجند الله فيها شِدّةٌ

في إثرِها للعالمين رَخاءُ

ضَرَبُوا الضلالةَ ضربةً ذهبت بها

فعَلى الجهالة والضلال عفاءُ

دَعموا على الحرب السلامَ وطالما

حقنت دِماءً في الزّمان دِماءُ

الحقُّ عِرضُ اللهِ كلّ أبيَّةٍ

بين النّفوس حمىً له ووِقاءُ

هل كان حول محمّد من قومه

إلّا صبيّ واحد ونساءُ

فدعى فلَبَّى في القبائل عُصبةٌ

مُستَضعفونَ قلائلٌ أنضاءُ (2)

رَدُّوا ببأس العزم عنه من الأذى

ما لا تَرُدُّ الصخرةُ الصماءُ

والحقُّ والإيمانُ إن صُبَّا على

برد ففيه كتيبةٌ خرساءُ (3)

نَسفوا بناءَ الشرْك فهو خرائبٌ

واستأصلوا الأصنام فهي هباءُ (4)

يمشونَ تُغضي الأرضُ منهم هيبةً

وبهم حيال نعيمها إغضاءُ

حتّى إذا فُتِحتْ لهم أطرافُها

لم يُطغِهِم تَرَفٌ ولا نعماءُ

يا مَنْ لَهُ عِزُّ الشفاعةِ وحدهُ

وهُو المنَزّهُ ماله شُفعاءُ


1- ينوء تحتها: يرزح.
2- العصبة: الجماعة الأنضاء: جمع نضو وهو المهزول من الإبل ونحوها.
3- البرد: الثوب، الرداء الكتيبة الخرساء: التي لا يسمع فيها صوت.
4- نسفوا بناء الشرك: هدموه استأصل: اقتلع الشي ء من جذوره الهباء: الغبار.

ص: 76

عرشُ القيامَة أنتَ تحت لوائه

والحَوْضُ أنت حيالهُ السَّقاءُ

تروي وتسقي الصالحين ثوابهم

والصالحات ذخائر وجزاءُ (1)

ألمثل هذا ذُقتَ في الدّنيا الطّوى

وانشَقَّ مِنْ خلَقٍ عليكَ رداءُ (2)

لي في مديحك يا رسُولُ عرائسٌ

تُيِّمن فيك وشاقُهنّ جلاءُ

هُنّ الحسانُ فإن قبلت تكرماً

فمُهُورُهُنّ شفاعَةٌ حَسناءُ

أنت الذي نَظَمَ البريَّة دينُهُ

ماذا يَقولُ وينظم الشُعراءُ

المُصلِحون أصابعٌ جُمِعت يَداً

هي أنت بل أنت اليَدُ البيضاءُ

ما جئتُ بابكَ مادحاً بل داعياً

ومن المديح تضَرُّعٌ ودعاءُ

أدعُوك عن قومي الضِّعافِ لأزمةٍ

في مثلها يلقي عليك رجاءُ

أدرى رسُولُ اللّهِ أن نفوسَهم

ركبت هَواها والقلوب هواءُ

مُتفكِّكون فما تضمُّ نفوسُهم

ثقةً، ولا جَمع القلوب صفاءُ

رقدُوا وغرَّهُمُ نعيمٌ باطلٌ

ونعيمُ قومٍ في القُيودِ بلاءُ

ظَلَمُوا شريعتك التي نلنا بها

ما لم ينل في رومة الفقهاءُ

مشتِ الحضارةُ في سَناها واهتدى

في الدِّين والدُّنيا بها السُّعداءُ


1- الذخائر: المؤن، جمع ذخيرة.
2- الطوى: الجوع الخلق: من خلق الثوب أي بلي.

ص: 77

صلى عليك الله ما صحِب الدُّجى

حادٍ وحنّت بالفلا وجناءُ (1)

واستقبل الرضوان في غُرفاتهم

بجنان عدن آلُكَ السُّمحَاءُ

خيرُ الوسائل مَن يقع منهُمْ على

سَبب إليك فحسبي الزهراءُ


1- الحادي: سائق الإبل الوجناء: الناقة الشديدة الوثيقة الخلق.

ص: 78

ص: 79

ص: 80

علماء الحرم الشريف، نشر النور والزهر نموذجاً

أ. د. أبوبكر أحمد باقادر

مصادر التاريخ المكي

ربما كانت مدينة مكة من أكثر مدن العالم التي حظيت بالتواريخ والاهتمام بتدوين ما جرى ويجري فيها. والكتابات التاريخية عن المدن الإسلامية عموماً ومكة خصوصاً ليست على طراز أو أسلوب واحد. بل يمكننا الادعاء بأن هناك أكثر من «جنس كتابي» للتأريخ عن المدن العربية المسلمة. فهناك ما يمكن أن نسميه تاريخ المدينة عبر تاريخ سكانها وهو فن طوره المسلمون واعتنوا به وحظيت مكة بالعديد من كتب التاريخ التي تناولت رجالات وسكان ومجاوري مكة المكرمة. بعض هذه الكتابات يدخل في كتب التاريخ مباشرة وبعضها في مجالات قريبة مثل المغازي والسير

وكتب رجالات الحديث والطبقات العلمية عموماً. لكن مكة حظيت مع ذلك بكتب «تاريخية» سجلت أهم رجالاتها، ولعل كتاب «العقد الثمين» وما تلاه من مصنفات تاريخية تواصلت حتى قرون متأخرة جداً لتنتهي بنشر النور والزهر وإفادة الأنام للغازي تمثل هذا «الجنس الكتابي» الهام. وفي هذه المتون التاريخية الهامة، تورد أسماء الشخصيات مبوّبة بحسب الترتيب الأبجدي للاسم الأول مع تفاصيل عن سيرة صاحبها، وتقصر بحسب المتوافر من معلومات.

وهناك ما يمكن أن يسمى بالسجل التاريخي السنوي، وفيه رصد بأهم الوقائع والأحداث والأسماء تذكر مفصلة في كل عام، وهذا النوع من التسجيل يقدم صورة دينامية حية للوقائع والأحداث التاريخية وربما علّل أسبابها المحلية والدولية، من أمثلة هذه الكتابات كتاب «إتحاف الورى بأخبار أم القرى» وما تلاه من كتب على منواله. وكما أوضحنا فإن هذا الجنس الكتابي يمكن أن يكون مكمّلًا وموضحاً لجوانب تتخطى مسألة الترجمة للأعيان من علماء ومفكرين وفقهاء، كما هو اهتمام الجنس السابق. ويصور جوانب تفصيلية من حياة المدينة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية مفصلة من عام لآخر، ومن ثم فإنها توفر معلومات عن التحولات والتغيرات التي مرت وتمر بها المدينة.

وهناك جنس كتابي ثالث يهتم بالتأريخ للسياسة ورجالاتها ومن ثم الأحداث السياسية في حياة المدينة المقدسة، ومن هذه الكتابات كتب «غاية المرام بأخبار سلطنة البلد الحرام». وهنا نجد بسطاً للسياقات والأوضاع السياسية التي ربما فسرت وجود أشخاص معينين أو قيام مؤسسات ما ونحو ذلك في مكة.

بالإضافة إلى وجود العديد من الكتابات التي قدمت تراجم لمن تولوا سدة الحكم في مكة، لعل من أحدثها ما كتبه الدحلان «حكام مكة»، والعديد من الكتب التي لم تكتف بذكر ولاة مكة وإنما أوردت معلومات عن من ولي إمارة الحج من أوطانهم إلى مكة ومن حج من أمراء المؤمنين والخلفاء والسلاطين المسلمين على مر التاريخ. وبذلك يمكن للمطلع على هذه الكتابات التاريخية أن يتزوّد بنظرة تفصيلية تؤكد على حيوية هذه المدينة وحيوية ما يدور فيها، ولو أثناء الموسم.

ومن الكتابات التاريخية ما يمكن تسميته الكتابة التاريخية الشاملة، ومن أبرزها ما دبجته أقلام الأزرقي والفاكهي، انتهاء بالسباعي من تواريخ عامة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في مكة. ولقد سعى العديد من الأدباء في مكة في العقود الأخيرة إلى تسجيل جوانب ثقافية من حياة مكة والمكيين غدت أثراً بعد عين من هؤلاء الرفيع والسباعي والمغربي وسواهم.

ومكة حاضرة بقوة في العديد من التواريخ الخاصة، مثل كتب الطبقات، وبالذات في كتب طبقات الفقهاء والمفسرين. فهناك مدارس علمية هامة قامت ولا يزال إشعاعها مستمراً بإذن الله في هذه العلوم الإسلامية.

ولقد توافرت في كافة لغات العالم، ومن أبرزها العربية، كتابات شخصية حميمة عن مكة، أسميتها بأدب الحج وهي تدور في فلك أدب الرحلة الحجازية، يصور فيها أصحابها رحلتهم «حجهم» إلى هذه المدينة العظيمة. ولن نكون مبالغين إن قلنا: إن هذا الجنس الأدبي/ لثقافي لا يزال جنساً مجهولًا وما نعرفه من أدب الرحلات هو أقل القليل وينبغي بذل جهود كبيرة لاكتشاف ما يمكن أن يقدمه هذا المنجم بالمعلومات. ولا يقتصر الأمر على الكتابة الفصحى الرفيعة، فالأدب الشعبي غني جداً بما ذكر من أحاسيس ومشاعر ومعلومات عن هذه المدينة الخالدة.

ورغم أن العقود الثلاثة الماضية شهدت نشاطاً مشكوراً لنشر العديد من هذه المدونات التاريخية في طبعات محققة وتقدم الفهارس الميسرة للباحث أو الدارس، إلا أن هذه الجهود، مع تقديرنا الكبير لها، لاتزال في أول الطريق والحاجة ماسة جداً لمزيد من التبويب والفهرسة ومن ثم تسهيل توافر المعلومات للباحثين. فكما هو معروف هذه المتون التاريخية بالصورة التي كتبت بها تشكل فقط مادة أولية غنية، لكنها مادة أولية تتطلب التحليل والسير والحفر والأبحاث التاريخية التي تنطلق من أسئلة إشكالية هذه المتون تقدم لها المادة العلمية للإجابة عنها.

وهذه المعلومات، تشتكي كما هو واقع الحال في حال أي بيانات أولية من النقص وتضارب المعلومات أو تناقضها أحياناً. كذلك بوصفها بيانات أولية، الحاجة ماسة لمقارنتها وضبطها من أجل الوصول إلى ما يسمى «بيانات نوعية» يمكن اعتمادها في أي تحليل. ولا مانع للوصول إلى ذلك عبر النصوص الواردة في مظان عديدة أو بالإحالة إلى الشواهد المادية الإشارية ونحو ذلك. وربما كانت الحاجة ماسة من أجل سرعة الحصول على البيانات والمعلومات، أن تدخل في الحاسوب، بحيث يمكن للباحثين استرجاعها بسهولة عند الطلب من ناحية ومراجعتها في العديد من المصادر العلمية، ومن ثم الخروج ببيانات موثقة تاريخياً.

تاريخ مكة الثقافي والاجتماعي

رغم وجود العديد من المحاولات لتقديم دراسات تاريخية حديثة عن مكة المكرمة، لكن مع ذلك بإمكاننا القول: إن المكتبة التاريخية المكية لم تظفر بعد بالدراسات الحديثة التي تقدم لمكة نصوصاً تستخدم الأساليب التاريخية الحديثة. وعمليات التحقيب التاريخي، بحيث يمكننا الحديث عن فترات تاريخية قديمة وأخرى وسيطية وحديثة، لا تزال مناطة بالأفكار العامة عن التاريخ الإسلامي، وهي في ذلك افتراضية وليست دقيقة، تعتمد على شواهد ووثائق تاريخية علمية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الدراسات التاريخية الكمية لم تعرف طريقها بعد بشكل واضح لمعالجة هذه النصوص والمتون التاريخية. فكما هو معروف هناك أساليب ووسائل علمية جديدة تسعى إلى تحويل البيانات والمعلومات الواردة في المتون التاريخية العامة إلى أرقام، حتى يسهل تبويبها ومن ثم معالجتها. فمثلًا يقدم لنا المؤرخ والباحث الأمريكي في التاريخ الإسلامي المبكر روبرت بوليه؛ دراسات كمية عن فتوحات بلاد الشام ومصر، وعن طريق هذه المحاولات التاريخية الكمية تمكّن من إبراز العديد من الأسئلة والقضايا من ناحية وتمكن أيضاً من لفت النظر إلى أن عملية الأسلمة تمت تدريجية وأوضح كيفية انتشار اللغة العربية وأمور أخرى عديدة.

ص: 81

وتقدم دراسات مونتجمري وات في كتابيه: «محمد في مكة» و «محمد في المدينة» واستخدامه لبعض هذه المتون والتراجم لدراسة الولاءات القبلية والصلات الشخصية في تفسير بعض جوانب ما جرى في السيرة النبوية من ناحية وما تم من تحولات في المجتمع العربي في فترة الرسالة. لقد أمدت البيانات وات بمعلومات مهمة لاختيار العديد من الفروض والآراء.

وبغض النظر عن النتائج التي توصل إليها هؤلاء العلماء، تبقى مسألة الفائدة من استخدام هذه البيانات ملحة للتعرف على جوانب عديدة من حياة المكيين وتاريخ مكة شرفها الله. فهذه البيانات لا يمكن التعامل معها بوصفها بيانات فردية غير قابلة للتراكم، أو أن هذه المعلومات عند تراكمها لا يمكن أن تقدم لنا صورة أكثر غنى وعمقاً عما تقدمه من تراجم للأفراد كلًا لوحده!

بالإضافة إلى ذلك، فإن أدوات تصنيف البيانات وترميزها ومن ثم تحويلها إلى بيانات كمية أصبح من الأمور الميسورة، بل وهي تستخدم بشكل واسع في الدراسات التاريخية. وكما أوضحت في دراسة سابقة عن السجلات العدلية بوصفها منهلًا غنياً وهاماً لكتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي، يمكننا أن نعيد التأكيد نفسه. بل إننا نشهد في الفترة المتأخرة العديد من الدراسات الرائدة لبعض جوانب حياة المدن: دراسة الأعيان أو العلماء أو الحياة الأسرية أو جوانب من الحياة الاقتصادية اعتماداً على السجلات العدلية أو كتب التراجم. ومما يؤسف له أن من يقومون بهذه الدراسات هم في غالبيتهم من المستشرقين أو العلماء المحدثين، فلقد وقفوا على العديد من الدراسات التاريخية التي قام بها زملاؤهم في دراساتهم التاريخية عن أوروبا وخلافها. ولعل مدرسة الحوليات، وبالذات كما هو الحال في كتابات مؤسسها فردناند جرويل وكتاباته عن البحر الأبيض المتوسط، أو كتابات جوانين عن جنيز العاهرة ومن ثم كتاباته عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية ليهود مصر ومن حولهم، من الأمثلة المشهورة والرائدة عن إمكانيات إعادة الفائدة من البيانات الأولية وأحياناً المعلومات المتناثرة. إن عملية إعادة التبويب والتصنيف ومن ثم ربط هذه البيانات ببعضها يفتح آفاقاً واسعة وكبيرة لمزيد من التحليل ومن ثم الإجابة على أسئلة كبرى كان يعتقد لفترة متأخرة جداً أنه لا توجد معلومات أكيدة للإجابة عنها، ومن ثم مال بعض للتخمين أو إصدار أحكام انطباعية.

ويوضح لنا هارلود موتسكي في دراسة حديثة، كيف أن الدراسة الكمية التفصيلية، يمكن أن تحسم جدلًا وآراء انطباعية استمرت قروناً، عندما عالج مسألة مساهمة بعض الموالي في تأسيس علم الفقه، وكذلك دحض الآراء القائلة بتأثير الفقه الروماني عبر النصارى واليهود على الفقه الإسلامي، انطلاقاً من دور مزعوم لبعض الموالي. وكانت المعالجة متميزة بالدقة والأناقة والبساطة معاً، لكنها فوق كل ذلك حاسمة.

«نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة» مصدر لدراسة دور العلماء

نسعى في هذه المداخلة لتقديم كتاب الشيخ عبدالله مرداد أبو الخير، قاضي مكة والمتوفي عام 1343 ه-، «نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة»، وكيف أنه باستخدام أساليب التاريخ الكمية يمكن تحويل هذا المصدر التاريخي إلى منجم معلومات هام عن أعمال علماء الحرم المكي تخصيصاً من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر.

والنص الذي سنعالجه هنا هو المختصر الذي قام بتبويبه وتحقيقه كلٌ من محمد سعيد العامودي وأحمد علي، ولقد تم التحقيق عن مخطوطة لكتاب بمكتبة الشيخ عبدالوهاب الدهلوي. ويحتوي الكتاب على تراجم (605) من علماء مكة المكرمة ومن بين هؤلاء (30) سيدة! وينتمي هؤلاء العلماء الأفاضل إلى المذاهب الفقهية الأربعة وتعود أصولهم الإثنية إلى كافة الأعراق الإسلامية، فهم من العرب والأفارقة ومن كافة أصقاع آسيا شرقاً وجنوباً ووسطاً بل وأقاصي جنوبها وكذلك الحال في أفريقيا!

والكتاب قدم تراجم مختصرة عن هؤلاء العلماء، وتتفاوت التراجم المقدمة من حيث المادة المقدمة من حيث التفاصيل التي قد تقدم لهذا العالم عن غيره، لكن إجمالًا هناك انتظام في تقديم معلومات أساسية عن الجميع. وحتى نفيد من هذه المعلومات أو بالأصح البيانات الأولية، سعينا إلى تحديد (14) مدخلًا للمعلومات قمنا بإعداد البرنامج الحاسوبي لترميزها وإدخالها فيه.

وهذه المداخل أو المتغيرات بلغة العلوم الرياضية تشمل: اسم العالم وتاريخ ميلاده ومكان الميلاد، تاريخ الوفاة ومكانها، اللقب، الكنية، المذهب، قائمة المصنفات التي ألفها، العلوم التي تعلمها، العلوم التي قام بتدريسها، أشهر أساتذته كما ورد في المتن، أشهر تلاميذه كما ورد في المتن، أعماله العامة، أهم الصفات التي اشتهر بها وأخيراً سفريّاته.

بطبيعة الحال قد تغيب في المتن بعض هذه المتغيرات أو قد لا تنطبق على المترجم له. لكن بحسب اطلاعنا على تراجم الكتاب كان هناك حرص من المؤلف على ذكر كافة هذه البيانات. ولقد عملنا على إعداد البرنامج الحاسوبي على إدخال كافة التفاصيل الممكنة، لكن بشكل معياري، فمثلًا قد نكتفي في ذكر الاسم بالاسم الرباعي فقط، وفي حالة عدم توافر هذه المعلومة أو أن المؤلف قدم تفاصيل أطول فإننا سنسعى إلى إكمال النقص من مصادر أخرى، وفي حالة تقديم معلومات أطول نكتفي بأربعة أسماء فقط! وفي حالة عدم توافر معلومة ما، مثلًا عدم تقديم المذهب أو اللقب أو الكنية صراحة، فإننا سنسعى إلى توفيرها من مصادر أخرى، إن أمكن، وفي حالة عدم توافرها سنترك ذلك بدون بيانات.

أما بخصوص المصنفات، فإن المؤلف غالباً ما يقدم معظم مصنفات المترجم له، وهي في مجالات علمية عديدة، لذا فإن البرنامج مصمم على ذكر كل عنوان لوحده ثم الإشارة إلى العلم الذي ينتمي إليه: فقه، توحيد، تفسير، أدب، نحو، سيرة (تاريخ)، تصوف، ونمط، حتى يأخذ أسماءهم الرباعية منعاً لأي التباس، ومن ثم قد نستعين بالكتاب نفسه في إكمال ما قد ينقص في أسماء الأساتذة أو الطلاب.

ولقد كانت لبعض العلماء مشاركات مهمة في الحياة الاجتماعية أو السياسية ولقد أخذنا بهذه المعلومات وقمنا بتبويبها إلى نشاطات مختلفة تعكس ما كان يجري في الساحة الفكرية والسياسية العامة. وكذلك يذكر المؤلف بعض الصفات الشخصية للمترجم لهم، عرفوا بها على نطاق واسع في الأوساط المكية أو العالم الإسلامي أبرزتها لتوضيح الأدوار الثقافية والسياسية لعلماء الحرم الشريف على المستويين الشخصي والعام.

ص: 82

أما رحلات وسفريات هؤلاء العلماء وهي سفريات قام بعضهم بها فقط فكانت مهمة للتعرف على شبكات العلاقات العلمية والسياسية لهؤلاء العلماء الذين كانوا يتنقلون بين أوطانهم التي ولدوا فيها ومكة وعبرها إلى أجزاء مختلفة من العالم، كما هو حال العديد من العلماء الحضارمة مثلًا.

ونظراً لأن المشروع في مراحله الأولية، فإنني سأقدم وصفاً موجزاً لما يمكن أن يحققه المشروع بإذن الله للدراسات المكية التاريخية. أولًا قمنا بإعداد أداة جمع المعلومات وهي كما ذكرنا في (14) مدخلًا بحسب ما أوردنا من تفاصيل. وسيقوم فريق البحث بإدخال هذه المعلومات في الحاسوب ثم مراجعة البيانات التي تم إدخالها للتأكد من صحتها ومطابقتها لما ورد في المتن الأساس، وهذا يُعرف باختيار جودة البيانات من حيث الصدق والثبات.

بعد ذلك، سنتمكن من الحصول على بيانات تفصيلية عن المترجم لهم بشكل عام من حيث سنوات الميلاد والوفاة وتوزيعهم على المذاهب الفقهية وقائمة بألقابهم وكنياتهم وغير ذلك من معلومات. لكن هذه المعلومات ما هي سوى فهرسة للبيانات الواردة وتبويب وترتيب لها، لكن وجودها الآن بهذه الصورة المنظمة والرقمية سيساعدنا بإذن الله على الإجابة على العديد من الأسئلة، من خلال ما يعرف بالمقاربات والمقابلات بين البيانات noitalubatssorC وهي أمور سهلة ومتعارف عليها عند المختصين، كذلك سنتمكن من التعرف على مشجرات الأسماء والكتب التي قام هؤلاء العلماء بتصنيفها أو دراستها، كما سنوضح.

فمثلًا، سنتمكن من خلال معرفة تواريخ الوفيات وربطها بمتغيرات أخرى معرفة معلومات في غاية الطرافة والأهمية، فمثلًا بالربط بين تواريخ الوفيات والمذهب الفقهي، يمكننا معرفة أي علماء المذاهب كانوا الأكثر انتشاراً ووجوداً في عقود مختلفة في الحرم الشريف عموماً. بمعنى مثلًا بإمكاننا عن طريق هذه التواريخ في كل قرن: العاشر، الحادي عشر، الثاني عشر، الثالث عشر، الرابع عشر، معرفة الحرم كم كان عدد علماء السادة الأحناف، الشافعية، المالكية، الحنبلية، في هؤلاء العلماء.

وانطلاقاً من ذلك يمكنناً تقدير تبعات ذلك الفكرية والسياسية والعلمية وأثر ذلك على التفاعل والتنافس بين هؤلاء العلماء. بل يمكننا أن نقدر الأمر حتى بحسب العقود ومن ثم معرفة هذه الأعداد في تفاوتها بين فترة وأخرى ومن ثم إمكانية تفسير ذلك بحسب تاريخ مكة وما وقع فيها من أحداث أو النظام السياسي السائد، وكذلك نوعية التدخلات الخارجية والسياسية الدولية، خاصة وأننا نتناول حقبة كان الاستعمار وتدخله فيها معروفاً في أحوال العالم الإسلامي!

ويمكننا فعل الشي ء نفسه بخصوص العلاقة بين مذهب المترجم له ونوعية المصنفات التي ألفها وكذلك التي تعلمها أو قام بتدريسها، ومن خلال المقارنات يمكننا التعرف على اهتمام علماء المذاهب المختلفة العلمية، بحيث يمكننا الإجابة على أسئلة مثل: هل كان الأحناف أكثر العلماء اهتماماً بالدراسات الفقهية؟ وما هي أهم المصادر العلمية التي يقبلون عليها عبر القرون؟ وما هي المصنفات التي صنفوها؟ بل يمكننا إجمالًا الربط بين نوعية الكتب المصنفة أو المدروسة أو المدرّسة بحسب تواريخ الوفيات، لتقدير فترات الانتعاش الفكري أو انحساره في حياة الحرم الشريف العلمية ومحاولة تفسير ذلك بحسب الظروف السياسية والثقافية والاقتصادية السائدة آنذاك على المستويين: المحلي والدولي.

ويمكننا الربط بين اللقب والكنية والمذهب لمعرفة من أي الخلفيات الاجتماعية والإثنية هؤلاء العلماء؟ هل الأحناف في غالبيتهم من شبه القارة الهندية ووسط آسيا والأناضول؟ هل السادة الشافعية من اليمن وإندونيسيا ومصر؟ وهكذا. والعمل على معرفة دلالات ذلك على المستوى الاجتماعي والثقافي. بل أحياناً قد تساعدنا البيانات نفسها كما وجدت إلى أنه داخل المذهب الواحد هناك تفاصيل تستحق الدراسة والتفصيل. فمثلًا بين الشافعية نجد نوعاً من تقسيم العمل. فالسادة العلويون من الشافعية الحضارمة يميلون إلى الاهتمام بتدريس السيرة والمواعظ الدينية والتصوف، بينما يميل الحضارمة الشافعية من غير السادة العلويين إلى الفقه والقضاء، ينافسهم في ذلك الشافعية المصريون، أما الشافعية الأندونيسيون فإنهم يهتمون في الغالب بدراسة وتدريس اللغة والأدب العربي، وهكذا نجد إذن تفاصيل يمكن أن تفسر ديناميات الاهتمامات التي يقوم العلماء بتدريسها والاهتمام بها.

أما الربط بين المترجم لهم وأساتذتهم فإن هذا الربط سيساعد جداً على التعرف على ما يمكن أن يسمى سلاسل العلماء ومدارسهم، وهي ستمكن من الإجابة عن من علّم منه؟ وبربطها بالمذهب يمكننا الإجابة عما إذا كان التعليم مقتصراً في مجال معرفي أو كافة المجالات المعرفية داخل مذهب واحد أم أكثر؟!

بل وبالإمكان التعرف على مدى استمرارية حلقة أو سلسلة تعليمية عبر الزمان، والإجابة على الكيفية التي تواترت فيها هذه السلسلة من العلماء وما هي العوامل التاريخية: الاجتماعية أو السياسية التي حالت أو ساعدت على الاستمرار. وفي هذا الخصوص تصبح العوامل الداخلية والخارجية مهمة في فهم ما يجري على الساحة العلمية الفكرية والتفاعلات المستمرة بين هذه الآفاق.

أما مهام العلماء وهي وإن كانت محدوة في معظم الأحيان بمهام تدريسية أو قضائية أو لعب بعض الأدوار في الحياة السياسية والثقافية المحلية، لكن في بعض الأحيان قد تأخذ شكل سفارات للتدخل في سياسات بعض الدول العربية أو الإسلامية. فإن هذه المهام ستوضح الأدوار التي لعبها العلماء في حياة مجتمعهم وتأثيرهم فيه وأهمية هذا التأثير. فكما هو معروف للعديد من هؤلاء العلماء طلاب ومريدون من أصحاب المهن والتجار وهؤلاء يشكلون بشكل ما جمهور المثقفين في تلك الفترات التاريخية، ومن المفيد معرفة المعلومات لفهم ومعرفة ما يجري على الساحة الفكرية والاجتماعية المكية.

أما سفريات العلماء وشبكات العلاقات فيما بينهم فإنها إن ربطت بالمذهب والكنية فإنها ستوضح مجالات التأثير السياسي والثقافي لهؤلاء العلماء في حياة الأمة آنذاك، وكذلك ربما قدمت لنا معلومات عن أدوارهم في معارك الاستقلال والتحرير من ربقة الاستعمار. كذلك توضح من هذه الارتباطات مدى التداخل بين مدرسة الحرم الشريف مع غيرها من مدارس فكرية في العديد من الأقطار الإسلامية وأهمية ذلك في معرفة ودراسة الحركة العلمية والفكرية العامة.

ص: 83

أما ما يقدمه كتاب «نشر النور والزهر» عن الفاضلات من علماء الحرم الشريف فإنه يشكل صفحة ناصعة ومشرفة من تاريخنا العلمي والاجتماعي تستحق الإشادة والفخر. فلقد توافر في المسجد الحرام ومكة إجمالًا زمن كانت فيه حلقات علم ودرس للمرأة ولقد توصلت بعضهن إلى مستويات رفيعة من العلم والمعرفة جعلت مؤرخاً مثل السيد عبدالله مرداد أبو الخير يضع لهن مكانة ومنزلة في تراجمه للعلماء وأفاضل مكة. وبطبيعة الحال ربط هؤلاء النساء من حيث تواريخ الوفيات أو المذهب أو الكنية سيساعد على معرفة أي المذاهب عنيت بتعليم المرأة وتشجيعها على النبوغ والتبريز؛ وكذلك أي الخلفيات الإثنية، هل للعربيات دور أم كل الدور لغير العرب؟ إن وجود الطبريات وبهذا الزخم يدل إضافة إلى كل ذلك على وجود تقاليد عائلية ربما امتدت لقرون في شأن تعلم المرأة ورقيها.

أما معرفة ما اهتمت المرأة بتعلمه وتعليمه وأشهر التلاميذ والأساتذة فإن هذه الارتباطات تمكننا من إبراز وفهم ما يمكن أن نسميه المدرسة النسائية المكية. وكيف أن أوضاع المرأة في القرون الماضية على قلة المعلومات المتوافرة لم تكن كلها جهلًا وأمية كما هو سائد، وربما مزيد من البحث والتنقيب ستفرج عنه تفاصيل أوسع وأكبر عن المرأة وأدوارها العلمية والفكرية المختلفة.

وهكذا فإن عملية تكميم البيانات يمكن أن تساعد على فتح آفاق جديدة والإفادة القصوى من بيانات فردية متقطعة مجزأة.

نأمل أن نتمكن من إتمام مشروعنا هذا، الذي لا تقف في طريقه سوى بعض الصعاب المالية والفنية التي نرجو أن نتجاوزها في القريب. آملين بعرضنا المتواضع هذا أن نكون قد أبرزنا جانباً من جوانب خدمة تراث مكة، وأملنا أن توسع المشاريع لتشمل الموسوعات الكبرى في تاريخ مكة كالعقد الثمين.

ص: 84

أوّل بيت

رافد الفاضل

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ). (1)

إنه الأول في الموقع الأهم، والأول في الخير والعطاء، والأول في أماكن العبادة وبيوتها، إنه المسجد الحرام، ذلك المكان المقدس الواقع في قلب الدنيا في قلب مكة المكرمة، قلب الحرم المكي، القلب النابض الذي تتوسّطه الكعبة المشرفة، قبلة المسلمين أينما كانوا، ومركز شعائرالله الأخرى التي يقوم بها الناس في الحج والعمرة.. إنه أرض الله الحرام المباركة وآياته البينات التي راحت تشكل بمجموعها بيت الله المخصّص للعبادة للطائفين والعاكفين والركع السجود حيث فرض الله الحج إليه لمن استطاع إليه سبيلًا.. وجعله مباركاً وجعله هدى للعالمين، وهو بالتالي بيت مبارك تضاعف فيه الحسنات، وتتنزل فيه الرحمات، وتتعاظم فيه الدرجات وبيت صلاح وهداية للناس أجمعين.. وهو مثابة الأمن للخائفين (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) منذ أن بناه خليل الله إبراهيم وإسماعيل 8.

«فهذا هو البيت كما يقول سيد قطب الذي اختاره الله للمسلمين قبلة.. وهو بيت الله الذي جعل له هذه الكرامة. وهو أول بيت أقيم في الأرض للعبادة. وهو بيت أبيهم إبراهيم، وفيه شواهد على بناء إبراهيم له. والإسلام هو ملة إبراهيم. فبيته هو أولى بيت بأن يتجه إليه المسلمون. وهو بمثابة الأمان في الأرض. وفيه هدى للناس، بما أنه مثابة هذا الدين ...».

وأما الشيخ المكارم فيقول: «فلا عجب إذن أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحّد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، وملتقاهم ...».

إن المصادر الإسلامية والتاريخية والقول ما زال للشيخ تحدثنا بأن الكعبة تأسّست على يدي آدم 7 ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي نوح، ثمّ جدد بناءها النبي العظيم إبراهيم الخليل 7؛ فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري.

ولاشكّ أن اختيار أعرق بيت اسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى وأفضل من اختيار أية نقطة أُخرى وأي مكان آخر.

هذا، وممّا يجدر الانتباه إليه هو أن (الكعبة) والتي تسمى في تسمية أُخرى ب- (بيت الله) وصفت في هذه الآية بأنها (بيت للناس)، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

كما تتضح ضمن ما نستفيده من هذه الآية قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق، ولذلك نجد القرآن يشير في هذه الآية إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا ...» وسنذكر بعض أقوال المفسرين في الآتي. (2)

و يقول الكاتب الحجازي عمر المضواحي ذو الاهتمام بالكتابة عن الأماكن المقدسة وتاريخها:


1- آل عمران: 96.
2- انظر في ظلال القرآن وتفسير الأمثل: الآية.

ص: 85

إن من أسرار الكعبة أنها صرة الأرض وموصولة بالبيت المعمور في السماء السابعة، وأول بيت وضع للناس بناه إبراهيم وابنه إسماعيل 8، وليس هناك في الكون بقعة أكثر مهابة وقدسية من هذه الحجرة المكعبة..

وعن موضوع العبادة والكعبة يقول:.. لم تعبد في تاريخها من دون الله قط، فقد كان العرب يعبدون الأصنام والأوثان حولها ولم يخصوها أبداً بالعبادة، حجّ إليها كل الأنبياء، ومجرد النظر إليها عبادة تعادل أجر عابد في غير مكة.

ثم يضيف المضواحي عما سجله قلمه عن هذه البقعة التي توصف بأنها قدس الأقداس الإسلامية:

حول الكعبة ثلاثة أسرار لا يوجد مثيل لها في الأرض، الحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وهما ياقوتتان من يواقيت الجنة، وبئر زمزم وهو نهر من أنهار الجنة ينبع عينه المتدفق من تحت أعتاب الحجر الأسود.

بحث لغوي في الآية الكريمة

اللغة: بكة: لغة في مكة وسميت مكة لأنها قليلة الماء تقول العرب: مك الفصيل ضرع أمه وأمكه إذا امتص ما فيه من اللبن. وفي القاموس ما يدل على أنها سميت بذلك لأنها تمك الذنوب أي تمحوها وتزيلها. وذكروا أيضاً: أن أصل بكة البك وهو الزحم، يقال: بكه يبكه بكاً إذا زحمه ويباك الناس إذا ازدحموا فيها قال:

إذا الشريب أخذته الاكه

فخله حتى يبك بكه

فبكة مزدحم الناس للطواف وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام. وقيل: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تذلهم وتهلكهم إذا ألحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا.

هذا وإن اشتقاق مكة يجوز أن يكون كاشتقاق بكة وإبدال الميم من الباء كقوله: «ضربة لازب ولازم»، ويجوز أن يكون من قولهم: أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة إذا مص مصاً شديداً حتى لا يبقى منه شي ء، ومك المشاش مكاً إذا تمشش بفيه فسميت مكة بذلك لقلة مائها ..

وأصل البركة الثبوت من قولهم برك بروكاً أو بركاً إذا ثبت على حاله، فالبركة ثبوت الخير بنموّه، ومنه البركة شبه الحوض يمسك الماء لثبوته فيه، ومنه قول الناس: تبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال وحده.

وقفة إعرابية مع الآية:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ).

كلام مستأنف مسوق للدلالة على أن أول مسجد وضع للناس هو المسجد الحرام ثم البيت المقدس، وأول من بناه إبراهيم 7.

وإنّ واسمها وبيت مضاف إليه، ووضع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: هو، وللناس جار ومجرور متعلقان بوضع، والجملة صفة لبيت، وللذي اللام المفتوحة هي المزحلقة، والذي اسم موصول في محل رفع خبر إن، وببكة جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول، ومباركاً حال من اسم الموصول أو من الضمير المستكن في متعلق الجار والمجرور، وهدى عطف على مباركاً، وللعالمين جار ومجرور متعلقان بهدى، أي هادياً لهم (1)..

وذكروا في أسباب النزول

تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله تعالى هذه الآية (2)

الآية وأقوال المفسرين

قبل أن نتعرض إلى بعض أقوال المفسرين نلقي ضوءاً بسيطاً على مفردات الآية المباركة؛ فالآية تتوفر على خصائص رائعة هي صفات للبيت فإضافة إلى أنه وصف بأول بيت ظهر على وجه الأرض فيما يحمله من مزايا عالية وأهداف سامية وفضائل عظيمة، راح يتحلى بمزايا أخرى وهي كونه (مباركاً) والبركة تعني لغةً النماء والخير والزيادة والسعادة والرفعة، ونظراً لعدم وجود تحديد لها فهي واسعة ولعدم وجود ما يخصصها بنوع فهي تشمل المعنوية والمادية.. وكونه (هدى للعالمين) والهدى لغة الرشاد والطريق والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب، وهنا يجد الإنسان ما يدلّه على دين الله ومغفرته ورضوانه ...


1- انظر: تفسير مجمع البيان وإعراب القرآن الكريم.
2- انظر: أسباب النزول للواحدي: الآية.

ص: 86

وقد اختلفت الأقوال بين كونه أول بيت وضع للناس، يعبد الله فيه مباركاً وهدى للعالمين ببكة وبين أنه هو أول بيت وضع في الأرض، وقيل: قبلها بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة. وبين أنه خلق قبل جميع الأرضين، أو عند خلق السماء والأرض، ثم دحِيت الأرضون من تحته. أو هو موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.

فقد روي عن علي بن الحسين 7: أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثاله وقدره، فبنوا واسمه الضراح، وأمر مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.

وروي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجّونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة: بر حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، ويرُوى عن ابن عباس أنه قال: أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض، وقيل: هو أول بيت مبارك وضع في الأرض هدى للناس، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب 7، قال الضحاك: أول بيت وضع فيه البركة. وقيل: أول بيت وضع للناس يحج إليه. وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس. وقال الحسن والكلبي: معناه: أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) يعني المساجد.

وبعد هذه الإشارات المختصرة نقرأ ما يقوله كل من صاحب الميزان وتفسير الأمثل بخصوص أنه أول بيت وكونه مباركاً وهدى للعالمين.

السيد الطباطبائي في ميزانه

و المستفاد من الآية إن أول بيت أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ وبين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة، وهل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالًا باطلًا؟

و الجواب: إن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك ووضعها للعبادة، وفيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، وأما بيت المقدس فبانيه سليمان وهو بعد إبراهيم بقرون.

قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) إلى آخر الآية، البيت معروف، والمراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم وهو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، ويستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، وبقصده والمسير إليه وغير ذلك، والدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركاً وهدى للعالمين وغير ذلك، ويشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحاً إلى ازدحام الناس عنده في الطواف والصلاة وغيرهما من العبادات والمناسك، وأما كونه أول بيت بني على الأرض ووضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.

و المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، وربما قيل: إن بكة هي مكة، وأنه من تبديل الميم باء كما في قولهم: لازم ولازب وراتم وراتب ونحو ذلك، وقيل: هو اسم للحرم، وقيل: المسجد، وقيل: المطاف.

و المباركة مفاعلة من البركة وهي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه وجعله فيه، وهي وإن كانت تشمل البركات الدنيوية والأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: (هُديً لِلْعالَمِينَ) أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية وعمدتها وفور الأرزاق وتوفر الهمم والدواعي إلى عمرانه بالحج إليه والحضور عنده والاحترام له وإكرامه فيؤول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم:

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (1).

وكونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، وإيصاله إياهم إلى الكرامة والقرب والزلفى بما وضعه الله للعبادة، وبما شرع عنده من أقسام الطاعات والنسك ولم يزل منذ بناه إبراهيم مقصداً للقاصدين ومعبداً للعابدين ...

فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين.

على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الأمة وشهادة منافعهم، ويهدي عالم غيرهم بإيقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.

ومن هنا يظهر أولًا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا والآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.

وثانياً: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص وجماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين؛ وذلك لما فيه من سعة الهداية.

الشيخ المكارم الشيرازي في أمثله

«المبارك» يعني كثير الخير والبركة، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيراً، سواء الخير المادي، أم المعنوي.


1- إبراهيم: 37.

ص: 87

وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من اجتماع الحجيج فيها، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد.

ولو أن المسلمين لم يقصروا اهتمامهم في موسم الحج على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها، والتفتوا إلى فلسفتها، لاتضحت حينذاك البركات المعنوية، وتجلت للعيان أكثر فأكثر، هذا من الناحية المعنوية.

وأما من الناحية المادية، فإن هذه المدينة رغم أنها أقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمراناً وحركة، وكانت دائماً من المناطق المؤهلة خير تأهيل للحياة، بل وللتجارة أيضاً.

أجل، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم، وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدى بجلال عظيم منذ عهد الخليل 7.

ولقد كانت هذه البنية معظمة أبداً حتّى من قبل العرب الجاهليين، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة، إلَّا أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة، والخليطة أحياناً بالخرافات الجاهلية، أثرها في سلوكهم، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت، وهكذا كانت الكعبة سبباً للهداية حتّى للوثنيين ...

إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ.

إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده، وفي تلك النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب. وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لَمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.

الكعبة والروايات

هذه مجموعة من الروايات التي تلقي بظلالها على هذا المكان المبارك رأينا ذكرها كما هي من مصادرها الحديثية:

1- روي أنه إنما سميت كعبة لأنها مربعة، وصارت مربعة لأنها بحذاء البيت المعمور وهو مربع، وصار البيت المعمور مربعاً لأنه بحذاء العرش وهو مربع، وصار العرش مربعاً، لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أربع وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

2- ووضع البيت في وسط الأرض لأنه الموضع الذي من تحته دحيت الأرض، وليكون الفرض لأهل المشرق والمغرب في ذلك سواء.

3- وفي الدر المنثور، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب 7، في قوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)، قال: كانت البيوت قبله ولكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.

وعن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين 7، في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ...) فقال له رجل: أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم، ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.

4- عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي 7 فقال: ألا تحدِثني عن البيت: أهو أول بيت وضع في الأرض؟

قال: لا، ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً. وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت.

5- عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ 7 فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟

فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً.

6- وفي رواية عن أبي عبدالله الصادق 7 قال: موضع البيت بكة، والقرية مكة.

وفي العلل، عن الصادق 7: موضع البيت بكة، والقرية مكة.

وفيه، أيضاً عنه 7: إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها.

أقول: يعني يزدحمون.

وفيه، عن الباقر 7: إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال والنساء، والمرأة تصلي بين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك ومعك ولا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.

ص: 88

و فيه، عن الباقر 7 قال: لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلًا من زبد ثم دحى الأرض من تحته، وهو قول الله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة، ثم مدت الأرض منها.

7- عن أبي ذَر، رضي الله عنه، قال: «قلت: يا رسول الله، أي مسجِد وضع في الأرض أول؟

قال: «المسجِد الحرام».

قلت: ثم أَي؟ قال: «الْمسجِد الأقصى». قلت: كم بينهما؟

قال: «أربعون سنة».

قلت: ثم أي؟

قال: ثُم حيث أدركت الصلاةَ فَصل، فكلها مسجد».

8- أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، قال سمعت أبا ذر يقول: قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أولًا؟

قال: «المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعد فصل، فإن الفضل فيه».

9- عن ابن عباس قال: مكة من الفج إلى التنعيم، وبكة من البيت إلى البطحاء.

وأما بخصوص ما ورد في بعض الروايات عن دحو الأرض من تحت الكعبة، فالسيد الطباطبائي يذهب الى عدم مخالفتها للكتاب حيث يقول: والأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أن هناك برهاناً يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم، وقد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.

ثم يقول: «و هذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت، أي بقعة في الأرض، وإن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان.. أي رواية ابن شهر آشوب ورواية الدر المنثور المذكورتان أعلاه».

الكعبة والطواف

في أخبار مكة حديث منسوب إلى محمد بن علي بن الحسين: وفي الأعلام حدثنا الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: أنه قال: «كنت مع أبي علي بن الحسين بمكة فبينما هو يطوف بالبيت وأنا وراءه إذ جاءه رجل شرجع من الرجال يقول طويل، فوضع يده على ظهر أبي، فالتفت أبي إليه فقال الرجل: السلام عليك يا ابن بنت رسول الله، إني أريد أن أسألك، فسكت أبي وأنا والرجل خلفه حتى فرغ من أسبوعه، فدخل الحجر، فقام تحت الميزاب، فقمت أنا والرجل خلفه فصلى ركعتي أسبوعه ثم استوى قاعداً، فالتفت إليّ، فقمت فجلست إلى جنبه، فقال: يا محمد! فأين هذا السائل؟ فأومأت إلى الرجل، فجاء فجلس بين يدي أبي فقال له أبي: عم تسأل؟ قال: أسألك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت لم كان وأنى كان وحيث كان وكيف كان؟ فقال له أبي: نعم من أين أنت؟ قال: من أهل الشام، قال: أين مسكنك؟ قال: في بيت المقدس قال: فهل قرأت الكتابين؟ يعني التوراة والإنجيل قال الرجل: نعم قال أبي: يا أخا أهل الشام! احفظ ولا تروين عني إلا حقاً؛ أما بدء هذا الطواف بهذا البيت فإن الله تبارك وتعالى قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً فقالت الملائكة: أي رب أخليفة من غيرنا ممن يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون، ويتباغضون ويتباغون؟ أي رب اجعل ذلك الخليفة منا فنحن لا نفسد فيها، ولا نسفك الدماء، ولا نتباغض، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك، ونقدس لك، ونطيعك، ولا نعصيك. فقال الله تعالى: إني أعلم ما لا تعلمون قال: فظنت الملائكة أن ما قالوا رداً على ربهم عز وجل وأنه قد غضب من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا رؤوسهم، وأشاروا بالأصابع يتضرعون، ويبكون إشفاقاً لغضبه وطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر الله إليهم فنزلت الرحمة عليهم، فوضع الله تعالى تحت العرش بيتاً على أربع أساطين من زبرجد وغشاهن بياقوتة حمراء، وسمى ذلك البيت الضراح، ثم قال الله تعالى للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، قال: فطافت الملائكة بالبيت وتركوا العرش وصار أهون عليهم من العرش، وهو البيت المعمور الذي ذكره الله عز وجل، يدخله في كل يوم وليلة سبعون ألف ملك لا يعودون فيه أبداً، ثم إن الله سبحانه وتعالى بعث ملائكة فقال لهم: أبنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره، فأمر الله سبحانه من في الأرض من خلقه أن يطوفوا بهذا البيت كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فقال الرجل: صدقت يا ابن بنت رسول الله 9 هكذا كان» (1).

الكعبة موقعاً وتأريخياً

نبدأ أولًا بذكر موقع الكعبة المشرفة، فهي أصل مدينة مكة المكرمة، وتقع في وسط المسجد الحرام على شكل حجرة كبيرة مرتفعة البناء مربعة الشكل، ويبلغ ارتفاعها خمسة عشر متراً، ثم نشأت حول البيت الحرام مدينة مكة المكرمة التي صارت موطن قبيلة قريش الكبرى التي تضم ثلاثاً وعشرين قبيلة عربية ذرية إسماعيل 7، كما تقع الكعبة المشرفة في المركز الوسط للكرة الأرضية، ويعلوها في السماوات العلى البيت المعمور الذي تطوف حوله الملائكة.


1- انظر: أخبار مكة للأزرقي 33: 1- 34

ص: 89

إن مكة المكرمة تقع غرب الحجاز في أرض محاطة بالجبال من جميع جهاتها، ولا يوجد لها سوى أربع مداخل، هي المدخل الشمالي الشرقي، ويفضي إلى وادي منى، والمدخل الشمالي الغربي ويفضي إلى وادي فاطمة، والمدخل الجنوبي ويؤدي إلى اليمن، والمدخل الغربي ويؤدي إلى سيناء جدة.

وتحدث المصادر الإسلامية والتاريخية أن الكعبة أسسها آدم 7 وهناك من يذهب إلى أن الملائكة التي لم تنقطع عن زيارتها أبدأ منذ بذرتها الأولى واستمرت زياراتها لهذه البقعة الطاهرة حتى ورد عن ابن عباس:

«أن جبريل 7 وقف على رسول الله 9 وعليه عصابة حمراء قد علاها الغبار فقال له رسول الله 9:

ما هذا الغبار أرى على عصابتك أيها الروح الأمين؟

قال: إني زرت البيت فازدحمت الملائكة على الركن، فهذا الغبارالذي ترى مما تثير بأجنحتها» (1).

فالملائكة هم الذين قاموا ببناء الكعبة في هذا المكان بأمر السماء وبعد أن أذن لهم الله تعالى بذلك قبل خلق الإنسان مما يدل على عراقة تاريخها وأنها تعرضت للتهديم بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي نوح 7 فجددها إبراهيم الخليل 7. ومن الجدير ذكره أن الكعبة جدد بناؤها اثنتي عشرة مرة.

لقد ظلت الكعبة المباركة مندثرة زمناً تحت الرمال، حتى عيّن الله سبحانه وتعالى موقع البيت لسيدنا إبراهيم 7 وساعده في عمارتها سيدنا إسماعيل 7، وكان ذلك منذ قرابة أربعة آلاف عام، وبناء سيدنا إبراهيم يعتبر البناء الثاني للكعبة المشرفة، حيث ورد في القرآن الكريم أن سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل رفعا قواعد البيت، مما يدل على أنه كان موجوداً من قبل ذلك، وهو البناء الذي شيده الملائكة المكرمون؛

ويصف أبو الوليد محمد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي الكعبة التي بناها إبراهيم 7 بأنها كانت بناء ذا جوانب أربعة، ارتفاعها تسعة أذرع وكان بابها إلى الأرض، وجعل سيدنا إبراهيم 7 في جدارها حجراً أسود علامة على بداية الطواف حولها، ثم أمر الله تعالى نبيه إبراهيم 7 بأن يؤذن في الناس بالحج، وقد أسمع الله تعالى جميع خلقه هذا النداء.. وتفضل الله سبحانه وتعالى فجعل هذا البيت حرماً طاهراً آمناً يلجأ إليه الناس ويأمنون فيه على أنفسهم. وأصبحت الكعبة بعد السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة قبلة المسلمين، يتجهون إليها في صلاتهم.

هذا، وإن اختيار أعرق البيوت وأقدمها ليكون قبلة للمسلمين، يعد أفضل من اختيار أي مكان وأي موقع آخر.. فالآية تشير إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأُخرى، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبراً ذلك أول وأهم ما تتسم به الآية المذكورة، وأن هدفها أن تكون للناس، وهي بيت الله كما تسمى وضعت لأجل الناس، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي: أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له، يجب أن يكون فى خدمة الناس من عباده، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

وقدم الكعبة وأنها أول بيت وضع في هذه الأرض يجعل لها فضيلة وميزة على غيرها من البيوت الأخرى.

ويتضح هذا مما دار بين الإمام الصادق 7 وأبي جعفر المنصور الخليفة العباسي، وبين الإمام موسى الكاظم 7 والمهدي العباسي حينما أرادوا توسعة المسجد الحرام بعد أن أخذ عدد المسلمين في الازدياد، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة.

فقد جاء في تفسير العياشي أن أبا جعفر المنصور طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبدالله الصادق 7 فقال له: إني سألت هؤلاء شيئاً من منازلهم، وأفنيتهم لنزيد في المسجد، وقد منعوني ذلك فقد غمّني غماً شديداً، فقال أبو عبدالله 7: «أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟» فقال: وبما أحتج عليهم؟ فقال: «بكتاب الله»، فقال: في أي موضع؟ فقال: «قول الله عزّوجلّ:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ)

قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه». فدعاهم أبو جعفر المنصور فاحتج عليهم بهذا، فقالوا له: اصنع ما أحببت.

وقد جاء في ذلك التفسير أيضاً أن المهدي العباسي لما بنى في المسجد الحرام بقيت دارٌ احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا، فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً، فقال له علي بن يقطين: يا أميرالمؤمنين! لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر 7 لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر 7 عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟ فقال ذلك لأبي الحسن 7، فقال أبو الحسن 7: ولابدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لابدّ منه، فقال له: اكتب:

«بسم الله الرحمن الرحيم، إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها».

فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله لفرحه الشديد، ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن 7 فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فأرضاهم.


1- المصدر نفسه 35: 1.

ص: 90

يقول الشيخ المكارم الشيرازي:

«إن في هاتين الروايتين استدلالًا لطيفاً يتفق تماماً مع المقاييس والموازين القانونية المعمول بها أيضاً، فإن الاستدلال يقول: إن لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته، وحيث إن الحاجة يوم اسّس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض» (1).

وجاء الإسلام

حظيت الكعبة المشرفة في ظل الإسلام ورسالته الخالدة ورسوله العظيم على مكانة كبيرة تتناسب وما أعدته لها السماء من دور مهم وخطير في بناء الإنسان المؤمن والمجتمع المؤمن والأمة المؤمنة نفسياً وروحياً ودينياً ووعياً ومعرفة ... لهذا كان همّ الرسول 9 وكان هدفه الأول بعد الانتصار على أعدائه مشركي مكة هو إعادة دورها المرسوم لها منذ أذان نبي الله إبراهيم 7 والذي غيبه المشركون وشوّهوه.. فأصدر 9 أوامره بعد فتح مكة بتطهير الكعبة من الأصنام والأوثان والتماثيل، وراح يكسو الكعبة بكسوة من اليمن، وأمر بتطييبها.

ومن الثابت أن حدود المسجد الحرام هي الدائرة المعروفة، دائرة المطاف نفسها، وهذه الدائرة لم يكن لها سور ولا جدار معين متميز وإنما كانت بيوت قريش التي تحيط بدائرة المطاف تشكّل دور السور. وقد جعلوا بين كل بيتين أو ثلاثة ممراً ومنفذاً يدخل الناس منه إلى المسجد.

إذن لم يكن للكعبة في عهد النبي 9 سور متميز يحيط بها، بل كانت بيوت قريش المجاورة له تحيط بها وتفتح على المطاف الذي يحيط بجسم الكعبة، ولم يحدث تغيير يذكر في عمارة الكعبة في عهد الرسول 9 ولا في عهد الخلافة الأولى.

ولما كان عهد الخلافة الثانية، ضاقت مساحة المطاف حول الكعبة بسبب زيادة أعداد المسلمين الآتين للحج، فطلب الخليفة عمر بن الخطاب من أهل قريش أن يفسحوا مكاناً لتوسيع المطاف، وذلك بشراء منازلهم المطلّة على الكعبة، فلما رفضوا ذلك نزع ملكيتها ووضع الأموال في بيت المال لمن يطلبها، وهدمت البيوت المحيطة بالمطاف القديم ووسعت مساحة المطاف الذي يحيط بالكعبة، وحتى لا تزحف بيوت قريش مرة أخرى على المطاف الذي يحيط بالكعبة قام ببناء سور حول المطاف من الخارج بارتفاع قامة الإنسان، وجعل فيه عدداً من الأبواب وكان ذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة النبوية الشريفة.

وفي عام 26 ه-، أجرى الخليفة عثمان بن عفان توسعة أخرى حول الكعبة المشرفة وسورها حيث تم توسيع المطاف بعد هدم عدد آخر من بيوت أهل قريش المحيطة بسورها الخارجي الذي بناه الخليفة الثاني من قبل، كما أنه بنى لأول مرة سقائف ثلاثة حول مساحة المطاف خصّصها للصلاة، وكانت هذه السقائف تؤدي إلى أروقة؛ وبهذه التوسعة يكون الخليفة عثمان بن عفان أول من بنى مسجداً محاطاً بسور حول بناء الكعبة المشرفة.

ولم يكن لهذا المسجد منبر حتى أحضر معاوية بن أبي سفيان منبراً معه حين حضوره لأخذ البيعة لابنه يزيد من أهل مكة، ووضع المنبر في المسجد وكان ذلك عام 47 ه-.

وفي الفترة التي سيطر فيها عبدالله بن الزبير على مكة المكرمة أجرى بعض التعديلات على عمارة الكعبة، وعندما سيطر الأمويون مرة أخرى على مقاليد الحكم أعادوا بناء الكعبة على ما كانت عليه وقت الرسول 9 وكان ذلك على يد الحجاج بن يوسف، من قبل الخليفة عبد الملك بن مروان.

وظلت الكعبة المشرفة على هذا الشكل لمدة لا تقل عن ألف عام بدون تغيير يذكر، اللهم إلا الإضافات التي قام بها الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أجرى عمارة كبيرة في المسجد الحرام، وكذلك الإضافة التي تمت في عهد الخليفة المهدي العباسي، وأصبحت الكعبة تتوسط صحن المسجد الحرام.

في عهد المماليك

ولما جاء حكم المماليك اهتمّ سلاطينهم بالمسجد الحرام، واعتنوا به ووالوه بالإصلاح والتجديد، فأوقفوا عليه الأراضي الزراعية والعقارات في مصر وبلاد الشام، وكان ذلك في عهد السلطان بيبرس البندقداري والمنصور قلاوون، والناصر محمد بن قلاوون والأشرف شعبان ..

ومن العمارات الهامة تلك التي قام بها السلطان الناصر فرج بن برقوق عام 802 ه-، ففي يوم السبت 28 شوال عام 802 ه-، اجتاحت النيران رباطاً عند باب الحَزْوَرَة بالجانب الغربي من المسجد الحرام، ولم تلبث النيران أن انتقلت إلى سقف المسجد نفسه وعمت الجانب الغربي وأجزاء من الرواقين المقدمين من الجانب الشامي، وأدى الحريق إلى تخريب ثلث المسجد وتدمير مائة وثلاثين عموداً من أعمدة المسجد، فقام السلطان الناصر فرج بإصلاح ما فسد من البناء.

ومن أهم العمارة الأخرى التي قام بها السلطان الأشرف برسباي، فقد شملت المسجد كله تقريباً، إذ تم فيها إقامة عشرات من العقود الحجرية وتجديد الكثير من الأبواب وتعمير السقوف وطلائها وإصلاح سقف الكعبة المشرفة ورخامها وأخشابها وحلقات الحديد التي تربط كسوة الكعبة المشرفة، ثم كانت عمارة السلطان قايتباي عام 885 ه- وشملت أجزاء كبيرة من المسجد الحرام وأبوابه ومآذنه.

في العهد العثماني


1- الأمثل في التفسير: الآية.

ص: 91

وانتقلت السيادة على الحجاز إلى العثمانيين، وبالتالي رعاية الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وصار السلطان العثماني يلقب بخادم الحرمين الشريفين، وعلى الرغم من السيادة العثمانية على الأمصار كافة إلا أن بلاد مصر كولاية عثمانية ظلّت تتولى عمارة المسجد الحرام بأموال ومواد بناء ومهندسين وعمال مصريين، أجريت العمارة الأولى بعد زوال دولة المماليك على المسجد الحرام عام 979 ه-/ 1571 م، حين رأى السلطان سليم الثاني أن يجدّد سقف الأروقة الأربعة للمسجد الحرام، وفي عهد السلطان أحمد (1012 ه- 1022 ه-) حدث تصدع في جدران الكعبة وكذلك في جدار الحجر، وكان من رأي السلطان هدم بناء الكعبة وإعادة بنائها من جديد، إلا أن المهندسين أشاروا عليه بدلًا من ذلك بعمل نطاق من النحاس الأصفر المطلي بالذهب، واحد علوي وآخر سفلي، ورغم ذلك لم تصمد الكعبة طويلًا وتهدمت جدرانها عقب أمطار غزيرة عام 1039 ه-، فأمر السلطان مراد الرابع بتجديدها على أيدي مهندسين مصريين عام 1040 ه-.

وكنتيجة للعمائر المختلفة التي تمت بالكعبة المشرفة في العهد العثماني، صار الحرم مستطيلًا أقرب إلى التربيع، وأصبحت المظلات التي تحيط بالمطاف من ثلاثة أروقة مقامة على صفوف من العقود والأعمدة الرخامية، ويغطي كل تربيع قبة ضحلة مقامة على مثلثات كروية، وتقوم الكعبة في وسط المسجد الحرام من الخارج في المتوسط 192 متراً وعرضه 132 متراً، وكان بخارج المطاف سقائف ثلاث على أعمدة من الرخام تواجه إحداها الجانب الغربي وكان يصلي بها إمام المالكية، والثانية تواجه الجانب الشمالي ويصلي بها إمام الحنفية، والثالثة تواجه الجانب الجنوبي ويصلي بها إمام الحنابلة، أما إمام الشافعية فكان يصلي خلف مقام إبراهيم.

وبجوار المطاف في شرقي الكعبة نجد المنبر الرخامي، وكان قد بعث به السلطان سليمان عام 966 ه- إلى المسجد الحرام حيث أقيم بدلًا من المنبر الخشبي، وكان هذا المنبر مصنوعاً بدقة وإتقان يشعران برقي الصناعة في ذلك العصر.

الأسماء

هناك أسماء كثيرة ذكروها لمكة المكرمة، ولكثرتها ذكر قطب الدين النهرواني أن الفيروزآبادي قد صنف رسالة مفصلة في ذكرها كما في الإعلام بأعلام بيت الله الحرام، وأن النووي قال في هذا الخصوص: إننا لا نعرف من بين المدن ما يضاهي مكة والمدينة بكثرة الأسماء، ورد هذا في معجم البلدان، وجامع اللطيف. وحتى أن محمد مهدي فقيهي انتهى به التقصي للوقوف على سبعين اسماً من أسماء مكة كما في مقالته في العدد الأول من مجلة ميقات الحج «أسماء مكة» صفحة 187.

وهنا نكتفي بذكر عدد من أسمائها:

مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، والمقدسة، والناسّة بالنون، وبالباء أيضاً والحاطمة، والنساسة والرأس، وكوثى أو كوثاء، والبلدة، والبَنِيَّة، والكعبة.

وقد ورد منها أربعة في القرآن الكريم:

مكة كما في سورة الفتح 24:

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).

وكذلك وردت بصيغة بكة، كما في الآية 96 من آل عمران:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وهُديً لِلْعالَمِينَ).

ووردت باسم أم القرى في الآية 92 من سورة الأنعام:

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُري وَمَنْ حَوْلَها).

كما وردت باسم البلد الأمين كما في الآية 3 من سورة التين:

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ).

وفي سبب تسميتها ببكة وجوه إضافة إلى ما ذكرناه في اللغة أعلاه:

1- لقلة مائها وزرعها وقلة خصبها، فهي مأخوذة من مككت العظم إذا لم تترك فيه شيئاً. وهو قول الأنباري.

2- لأن من ظلم فيها مكّه الله، أي استقصاه بالهلاك.

3- لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم. وهو قول الخليل بن أحمد.

ص: 92

وبكة قيل: إنها المسجد، ومكة الحرم كله يدخل فيه البيوت عن الزهري وضمرة بن ربيعة، وهو المروي عن أبي جعفر 7 وقيل: بطن مكة عن أبي عبيدة. وقيل: بكة موضع البيت والمطاف ومكة اسم البلدة وعليه الأكثر. وقيل: بكة هي مكة والعرب تبدل الباء ميماً مثل سبد رأسه وسمده عن مجاهد والضحاك (1).

والكعبة في اللغة العربية تسمّى لتكعيبها وهو تربيعها. وقيل: لعلوها ونتوئها.. وأكثر بيوت العرب مدورة لا مربعة. وقد وردت أسماؤها في الآيات القرآنية التالية:

الكعبة: (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (2).

البيت: قال عز من قائل:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ) (3).

وقال الله تعالى:

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (4).

البيت العتيق: قال الله تعالى:

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (5).

وقال سبحانه وتعالى:

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلي أَجَلٍ مُسَمّيً ثُمَّ مَحِلُّها إِلَي الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (6).

البيت الحرام: قال الله جل جلاله:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) (7).

وقال عز من قائل:

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (8).

البيت المعمور: كما في قوله تعالى:

(وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (9).

البيت المحرم: قال تعالى:

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) (10).

أما لفظة «الكعبة» فقد ذكرت في القرآن الكريم في موضعين هما:

قال الله تعالى:

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُوانْتِقامٍ).

أركان الكعبة

أربعة أركان للكعبة المشرفة، جاء ترتيبها حسب بداية الطواف فيما جاءت تسميتها باعتبار اتجاهاتها الأربعة تارةً، وتارة أخرى باعتبار خصوصية فيها.


1- انظر: الدر المصون في علوم القرآن للسمين الحلبي 315: 3، ومجمع البيان للطبرسي: الآية.
2- المائدة: 97.
3- آل عمران: 96.
4- آل عمران: 97.
5- الحج: 29.
6- الحج: 33.
7- المائدة: 2.
8- المائدة: 97.
9- الطور: 1- 4.
10- إبراهيم: 37.

ص: 93

الركن الشرقي: وهو الركن الذي يكون بجوار باب الكعبة ويُقابلُ بئر زمزم تقريباً، ويُسمى بالركن الشرقي لكونه باتجاه المشرق تقريباً، ويُسمَّى أيضاً بالركن الأسود لأن الحجر الأسود مُثَبَّتٌ فيه.

الركن الشمالي: وهو الركن الذي يلي الركن الشرقي حسب جهة الحركة في الطواف، ويُسمَّى بالركن الشمالي لمواجهته للشمال تقريباً، وهو الركن الذي يكون على الجانب الشرقي من حِجْرِ إسماعيل، ويُسمَّى أيضاً بالركن العراقي لكونه باتجاه العراق.

الركن الغربي: وهو الركن الذي يلي الركن الشمالي حسب جهة الحركة في الطواف، ويُسمَّى بالركن الغربي لمواجهته للمغرب تقريباً، وهو الرُكن الذي يكون على الجانب الغربي من حِجْرِ إسماعيل.

الركن الجنوبي: وهو الركن الذي يلي الركن الغربي حسب جهة الحركة في الطواف، ويُسمَّى بالركن الجنوبي لمواجهته للجنوب تقريباً، ويُسمَّى أيضاً بالمُستجار.

إضاءة

ومن الحوادث المهمة التي حدثت في الكعبة المشرفة، الولادة المباركة في جوفها لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7، ومن الواضح أن لهذه الحادثة دلالات واضحة على منزلة الإمام أمير المؤمنين 7 ومكانته المميزة، وهي فضيلة خصّه الله تعالى بها دون غيره.

فقد روى الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي المتوفى سنة: 658 هجرية وآخرون من العلماء أنه: «عليٌ بن أبي طالب 7 لم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام سواه، إكراماً له بذلك وإجلالًا لمحله في التعظيم».

وهناك العديد من المصادر تنقل هذه الحادثة توفر عليها كتاب علي وليد الكعبة، للشيخ الحجة الميرزا محمد علي الغروي الأردوبادي رحمه الله وقد تكفل بدراسة هذا الأمر ومصادره الكثيرة وما ورد فيها (1).

هناك أجزاء هامة تحتل مكانها بالمسجد الحرام وحول الكعبة، منها:

المطاف: وهو البقعة التي تحيط بالكعبة، وهو مكسو بالرخام، ويبدأ الطواف من الحجر الأسود، ثم يجعل الكعبة على يساره ويمضي ويطوف سبعة أشواط حول الكعبة.

الحجر الأسود: وموقعه بالركن الجنوبي الشرقي من الكعبة، وأهمية هذا الحج، أنه يمين الله في الأرض يصافح بها عباده المؤمنين، كما ورد وهو حجر ثقيل بيضاوي الشكل أسود اللون يميل إلى الحمرة وقطره 30 سم ويحيط به، وأنه من وضع سيدنا إبراهيم 7 جعله بالكعبة ليبدأ الحجاج الطواف من عنده، فلا يحدث تقابل أو اضطراب بين الطائفين، وقد اختلف العلماء والمؤرخون حول حقيقة الحجر الأسود، فنقل النويري عن ابن عباس قوله: ليس في الأرض من الجنة إلا الركن الأسود فإنه جوهرة من جواهر الجنة، ومن التقاليد العامة بين المسلمين أن هذا الحجر المقدس أصله من الجنة وكان لونه أبيض، فاسودّ نتيجة ارتكاب أهل الأرض للمعاصي والآثام، وعلى كل أن من يعرف معنى العبادة يقطع بأن الملين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة، ولكن يعبدون الله تعالى باتباع تعاليم شرعه وأداء مناسك أمرهم بها في هذه البقعة المباركة ذات المعالم القيمة والآثار المباركة ..

أما الإطار الفضي فيقال: إن عبدالله بن الزبير أول من ربط الحجر الأسود بالفضة، ثم تتابع الخلفاء في عمل الأطواق من فضة كلما اقتضت الضرورة لذلك.

الشاذروان: وهو جدار يلاصق جدار الكعبة مكسو بالرخام ارتفاعه حوالي 50 سم، وأصل الشاذروان هو الأرض التي أنقصتها قريش من عرض جدار أساس الكعبة حين أعيد بناؤها وقت قصي بن كلاب.

الملتزم: وهو مكان يقع بين الحجر الأسود وباب الكعبة المعظمة ومقداره نحو مترين ويسمى بالملتزم، وسمي بهذه التسمية لأن الحاج يلتزم هذا المكان للدعاء فيه، فهو موضع مبارك لإجابة الدعاء حيث يسنّ به الدعاء مع إلصاق الخدين والصدر والذراعين والكفين.. وكان الرسول 9 يدعو عنده وعند الحطيم.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن ما بين الحجر والباب لا يقوم فيه إنسان فيدعو الله تعالى بشي ء إلا رأى في حاجته بعض الذي يحب ..

الحطيم: وإنما سمي بالحطيم إما لكثرة ازدحام الناس والطائفين فيه وإما لكونه موضع غفران الذنوب، وغفرانها بمنزلة تحطيمها، وهو موضع توبة آدم.

ويقول الكاتب عمر المضواحي عن الحطيم: على يسار باب الكعبة المهيب وبين الملتزم والحجر الأسود إلى الداخل منها يقع مكان (حطيم السيئات) حيث يتم فيه التضرع بالدعوات.


1- راجع أيضاً: ميقات الحج، العدد 168: 14.

ص: 94

باب التوبة: وفي الجهة الشمالية والكلام ما زال للمضواحي من الكعبة، على يمين الداخل، باب صغير يعرف بباب «التوبة» وهو في الصنعة والإتقان، يمتاز بمقاساته العادية وهو بنسبة قياس واحد إلى ثمانية مقارنة بباب الكعبة الخارجي الوافر البهاء والضخامة، ويؤدي باب التوبة المصنوع من أندر قطع الأخشاب المكسوة بصفائح الذهب والفضة المشغولة، إلى درج حلزوني من الزجاج السميك يصل إلى سطح الكعبة.

حجر إسماعيل: هو محل بني فيه جدار هلالي الشكل عند الضلع الشمالي الغربي من الكعبة، وقد يكون من ضمن مساحته جزء من الكعبة.

الميزاب: للكعبة ميزاب وضعته قريش حين بنتها سنة 35 من ولادة النبي 9 على سطح الكعبة في الجهة الشمالية بين الركن الشمالي والركن الغربي حين عملت لها سقفاً وكانت قبل ذلك بلا سقف، ويمتد نحو حجر إسماعيل 9 ليسكب ماءه المتجمع على سطح الكعبة عند سقوط الأمطار أو غسل سطحها في بطن الحجر.

قال الأزرقي: وذرع طول الميزاب أربعة أذرع، وسعته ثمانية أصابع في ارتفاع مثلها. والميزاب ملبس بصفايح ذهب داخله وخارجه، وكان الذي جعل عليه الذهب الوليد بن عبد الملك (1).

وقد وقع تغيير وتبديل في ميزاب الكعبة المشرفة، وذلك لسببين: أحدهما كان إذا اعتراه خراب عمل غيره، والثاني كان بعض الملوك أو الأغنياء من عظماء المسلمين يهدي للكعبة المعظمة ميزاباً فيركب في الكعبة المشرفة، وينزع الذي قبله.

والميزاب الموجود في الكعبة المشرفة إلى العصر الحاضر هو الميزاب الذي عمله السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان، عمله في القسطنطينية، ثم جي ء به وركب سنة 1276 ه-، وهذا الميزاب مصفح بالذهب. وقد أدخلت عليه ترميمات جزئية في المسامير العلوية المانعة لوقوف الحمام عليه.

مقام إبراهيم: وهو مكان الحجر الذي قام عليه سيدنا إبراهيم عند بنائه للكعبة وصلّى عنده وتركه ملاصقاً لجدار الكعبة ثم غير مكانه بعيداً عن الجدار، وقد ورد في القرآن الكريم:

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلّيً).

ويقع إلى جهة الشرق من الكعبة، وقد قام الخليفة المهدي العباسي بإحاطته بحليات ذهبية. وإنما أشرت إلى المقام هنا لكونه كان في بدايته ملاصقاً لجدار الكعبة وإلا فهو ليس جزءاً من بناء الكعبة الآن.

المآذن: وللمسجد الحرام سبع مآذن إلى جانب مآذن حديثة أضيفت له:

مئذنة باب العمرة: وتقع في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الحرام، وبناها الخليفة العباسي في عمارته للمسجد عام 139 ه-، ثم جددها صاحب الموصل عام 551 ه-، ثم أصلحت مرة ثالثة عام 843 ه- زمن السلطان حقمق المملوكي، ثم هدمها السلطان سليم خان وأعاد بناءها.

مئذنة باب الوداع: وقد أنشأها الخليفة المهدي العباسي ثم جددها السلطان المملوكي شعبان، وكانت قد سقطت عام 771 ه- فجددها عام 772 ه-.

مئذنة باب علي: أنشأها الخليفة المهدي العباسي عام 168 ه- ثم أعاد بناءها السلطان العثماني سليمان خان.

هذا بالإضافة إلى مئذنة قايتباي التي تجاور باب السلام.

ومئذنة باب الزيارة: التي أنشأها الخليفة المعتضد العباسي عام 248 ه- ثم جددها السلطان الأشرف أبو النصر برسباي سلطان مصر وبلاد الشام والحجاز عام 826 ه-.

والمئذنة السليمانية: التي بناها السلطان سليمان العثماني.

وكان يؤذن من على جميع المآذن في الصلوات الخمس قبل إدخال الكهرباء، وكان المؤذنون يرددون ما يقوله رئيس المؤذنين أو شيخهم الذي كان يؤذن من فوق قبة بئر زمزم ويتبعه الجميع.

الأبواب

نبدأ أولًا بباب الكعبة المشرفة الذي يرتفع عن أرض المطاف بحوالي 5. 2 وارتفاع الباب 06. 3 متر وعرضه 68. 1، متر والباب الموجود اليوم هدية الملك خالد بن عبدالعزيز وقد تم صنعه من الذهب حيث بلغ مقدار الذهب المستخدم فيه للبابين حوالي 280 كيلو جرام عيار 99. 99 بتكلفة إجمالية بلغت 13 مليوناً و 420 ألف ريال عدا كمية الذهب.

هذا، وللمسجد الحرام أبواب كثيرة تغير اسم بعضها على مرّ العصور، وبقيت بعض الأسماء كما هي دون تغيير، ويبلغ عدد أبواب المسجد الحرام 25 باباً في الإجمالي، منها ثمانية في الشمال وسبعة في الجنوب وخمسة في الشرق وخمسة في الغرب.


1- أخبار مكة 291: 1.

ص: 95

ومن المعلوم أن أبواب الحرم المكي خضعت لمجموعة من التغيير والتطوير، وإضافة أبواب جديدة حتى صارت أبواب المسجد الحرام «112» باباً، وصنعت الأبواب من أجود أنواع الخشب، وكسيت بمعدن مصقول ضبط بحليات نحاسية حتى بدت في كثير من الأحيان تحفة فنية رائعة.

وهذه بعض الأبواب المطلة على الشوارع العمومية من الجهات الأربع، وتوجد أبواب رئيسية معروفة في الجهات الأخرى منها: باب الملك عبد العزيز، يقع في الجنوب الشرقي.

أبواب الجهة الغربية

باب الحزورة: والحزورة اسم لسوق في الجاهلية كانت في هذا المكان وأدخلت في مساحة المسجد الحرام وله أسماء أخرى مثل باب البقالية وباب الوداع؛ لأن الناس يخرجون منه عند سفرهم، وعليه نص تأسيس باسم السلطان الناصر فرج بن برقوق مؤرخ بعام 804 ه-.

وباب العمرة: ويحمل هذا الاسم لأن المعتمرين من التنعيم يخرجون ويدخلون منه.

باب إبراهيم: نسبة إلى رجل اسمه إبراهيم الخياط كان يزاول عمله عند هذا الباب.

باب مدرسة الشريف غالب.

باب مدرسة الداوودية.

أبواب الجهة الجنوبية

باب بازان: يقع هذا الباب بأقصى الجهة الجنوبية، وسمي بهذا الاسم لقربه من عين ماء بازان.

باب البغلة: وعرف أيضاً بباب بني سفيان، ثم باب الصفا، سمي بذلك؛ لأنه يلي الصفا، ويعرف أيضاً ب- «باب بني مخزوم»؛ لأنهم كانوا يسكنون في تلك الجهة.

وباب أجياد الصغير المعروف أيضاً ب- «باب الخلفيين».

وباب المجاهدية: ويقال له: باب الرحمة، ويسمى الآن باب أجياد؛ لأنه يقع في مواجهة شارع أجياد.

وباب الحميدية: نسبة إلى السلطان عبد الحميد، واسمه القديم باب أم هانئ بنت أبي طالب.

وباب بني تميم: ويعرف أيضاً بباب التكية لمواجهته للتكية المصرية التي كانت مبنيةً أمامه، ويعرف أيضاً باسم باب عجلان أو باب مدرسة الشريف عجلان أو باب بني تميم.

أبواب الجهة الشرقية

باب السلام: ويعرف أيضاً بباب بني شيبة، وهو الباب الذي يدخل منه الحجيج لأداء الطواف، وهذا الباب من تجديد السلطان سليمان خان عام 931 ه-.

ثم باب قايتباي أو باب النبي؛ حيث كان الرسول 9 يخرج ويدخل منه أو من جهته إلى دار زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، وكان في الموضع المعروف بمولد فاطمة الزهراء 3 في زقاق الصوع أو في زقاق العطارين، كما سمي أيضاً بباب الجنائز لخروج الجنازات منه.

ثم باب العباس: وكان يقابل دار العباس بن عبد المطلب، وعليه نص باسم السلطان الأعظم مراد خان بن السلطان سليم عام 988 ه-.

ثم باب علي: ويعرف أيضاً بباب بني هاشم، كما عرف أيضاً باسم البطحاء، وعليه نص تجديد باسم السلطان مراد خان عام 984 ه-.

ومنها «باب الحريريين»: لأن الحرير كان يباع إلى جواره.

باب مدرسة السلطان قايتباي: وهذا الباب نافذ من المسجد الحرام إلى شارع المسعى.

الكعبة في عصرنا

باختصار نشير إلى التطور الذي جعل المسجد الحرام كما هو عليه الآن، فالمسجد الحرام يتكون حالياً من مساحة مستطيلة 192* 132 متراً أي بمساحة إجمالية قدرها 25344 متراً، ويتوسط هذه المساحة الكعبة المشرفة ويحيط به من الجهات الأربع ظلات بها أروقة مغطاة بقباب ضحلة مقامة على مثلثات كروية محمولة بدورها على عقود وأكتاف من الحجر.

ص: 96

ونتيجة لتزايد أعداد المسلمين الوافدين لأداء فريضة الحج وتجديد مباني الحرم كله ليصبح على الشكل الذي نراه اليوم فقد تمت توسعة ساحة المسجد في عام 1377 ه- 1958 م وتجديد مباني الحرم الشريف ليصل عدد المصلين والطائفين به الآن لأكثر من مليونين.

ويحيط بالحرم شارع عرضه ثلاثون متراً وهو من مظاهر تعظيم الكعبة المشرفة. وللمسجد الحرام 25 باباً في الإجمالي، منها ثمانية في الشمال وسبعة في الجنوب وخمسة في الشرق وخمسة في الغرب.

سدنة الكعبة ومفتاحها وكسوتها

وختاماً هذه وجيزة بسيطة أراها مناسبة عن موضوع سدانة الكعبة وعما يتعلق بمفتاحها وكسوتها:

فالسدانة لغة من سدن سدناً وسدانة وسداناً: خدم الكعبة. والسادن هو خادم الكعبة والجمع: سدنة. وتأتي بعدة معان في معجم اللغة العربية مثل الأمين والحاجب.. وهو المسؤول عن أمور المسجد الحرام وما يرتبط به رعاية ونظافة وحفظاً ..

وسدانة الكعبة ترجع إلى تاريخ بنائها وتعني القيام بجميع أمورها من فتحها وإغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها وإصلاح هذه الكسوة إذا تمزقت واستقبال زوارها وكل ما يتعلق بذلك، فقد كان يقوم بأمر السدانة إسماعيل 7 ثم من بعده ذريته، إلى أن كان عهد قصي بن كلاب فأخذ قصى سدانة الكعبة من خزاعة التي كانت قد استولت على السدانة بالقوة مدة ليست بالطويلة، وهي قبيلة هاجرت من اليمن بعد انفجار سد مأرب واتجهت إلى مكة وأقامت بها.

وقد ولد لقصي عبدالدار وعبد مناف وعبدالعزى وعبد قصي، وبعد وفاة قصي انحصرت السدانة في عبدالدار وأبنائه حتى كان منهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة. وينتهي نسب سدانة الكعبة المشرفة الحاليين إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وقد أسلم عام الفتح على أصحّ الروايات وله صحبة ورواية عن النبي 9.

وجميع آل الشيبي في هذا العصر هم من أبناء الشيخ محمد بن زين العابدين، وينقسمون إلى أبناء الشيخ عبدالقادر بن علي، وهم عائلة عبدالله، وحسن آل الشيبي، وأبناء عبدالرحمن بن عبدالله الشيبي، وهم محل احترام وإكرام كما دلت على ذلك الأخبار الواردة في حقهم، ولا يزالون في موضع الإكرام والرعاية عند عموم المسلمين، ولايزال وجودهم من معجزات رسول الله 9 التي أخبر أمته بها وأن المفتاح سيبقى بأيديهم كما يبيّن القول المنسوب إلى جبريل أو إلى رسول الله 9 حينما نزلت الآية الكريمة 58 من سورة النساء:

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَماناتِ إِلي أَهْلِها ...).

يقول الخبر كما في أسباب النزول للواحدي-: عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار، كان سادن الكعبة، فلما دخل النبي 9 مكة يوم الفتح، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله 9 المفتاح، فقيل: إنه مع عثمان، فطلب رسول الله 9 المفتاح منه فأبى وقال: لو علمت أنه رسول الله لما منعته المفتاح، فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله 9 البيت وصلى فيه ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسدانة، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله 9 علياً أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي، فقال له عثمان: يا علي! أكرهت وأذيت ثم جئت ترفق! فقال: لقد أنزل الله تعالى في شأنك، وقرأ عليه هذه الآية فقال عثمان: أشهد أن محمداً رسول الله وأسلم، فجاء جبريل 7 وقال:

«ما دام هذا البيت فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان. وهو اليوم في أيديهم».

وفي رواية أن رسول الله 9 حين أعاد المفتاح لعثمان قال:

«خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله، لا ينزعها منكم إلا ظالم. أو خذوها يابني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلا ظالم».

وهنا ندع الكلام لأحد سدنة بيت الله لحرام، وهو نزار الشيبي ليحدّثنا عن شي ء من تاريخ السدانة:

آلت إلينا السدانة منذ أيام جدنا قصي، وانتقلت بين أبناء ابنه عبدالدار الذي كان له خمسة أولاد، وكان لا يخرج في رحلة الشتاء والصيف فيعايره إخوانه بسبب ذلك، فسمعهم أبوه قصي فقال: والله لأشرفنك عليهم، فأعطاه سقاية الكعبة والسدانة والرئاسة والندوة والرفادة ولواء الحرب، وعندما جاء إخوانه، قالوا له: إنك أخذت كل الشرف، وما تركت لنا شيئاً، فقال: خذوها كلها إلا السدانة والرئاسة حيث كان هو رئيس قريش.

إن كبير سدنة بيت الله الحرام هو الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الشيبي، وهو الذي يوجد لديه مفتاح الكعبة، ويقال له: (الحجبي) أي الذي يحجب البيت، فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون للكعبة المشرفة سدنة، أي من هم مسؤولون عنها، وأن يكون لها مفتاح.

ويواصل الشيبي حديثه قائلًا: إن الكعبة المشرفة تفتح مرتين في السنة لغسلها، ويسمح بدخولها حينئذ لبعض كبار ضيوف الدولة وبعض العلماء والمشايخ، وأيضاً القائمون بغسلها.

ويضيف: تعلّق في داخل الكعبة الهدايا التي قدمت لها، وبعض الموجودات بداخلها ربما تعود إلى ما بعد أن ضربها الحجاج بن يوسف الثقفي بالمنجنيق، يعني تقريباً تعود إلى 1200 سنة، لكن هناك بلا شك أشياء تعود إلى عصور لاحقة، وأشياء أخرى حديتة ..

ص: 97

وبعد هذا كان ختام كلامه عن كسوة الكعبة.

كسوة الكعبة

أثناء فريضة الحج وبعد أن يتوجه الحجاج إلى صعيد عرفة، يتوافد أهل مكة إلى المسجد الحرام للطواف والصلاة ومتابعة تولي سدنة البيت الحرام تغيير كسوة الكعبة المشرفة القديمة، واستبدالها بالثوب الجديد استعداداً لاستقبال الحجاج في صباح اليوم التالي الذي يوافق عيد الأضحى.

وقبل هذا الوقت وفي منتصف شهر ذي القعدة تقريباً، يتسلم كبير السدنة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الشيبي في حفل سنوي الثوب الجديد من الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بقاعة المناسبات الرئيسية في مصنع كسوة الكعبة المشرفة بضاحية أم الجود بمكة. وبعد إحضار الثوب الجديد تبدأ عقب صلاة العصر مراسم تغيير الكسوة حيث يقوم المشاركون في عملية استبدال الكسوة عبر سلّم كهربائي بتثبيت قطع الثوب الجديد على واجهات الكعبة الأربع على التوالي فوق الثوب القديم.

وتثبت القطع في عرى معدنية خاصة (47 عروة) مثبتة في سطح الكعبة، ليتم فك حبال الثوب القديم ليقع تحت الثوب الجديد نظراً لكراهية ترك واجهات الكعبة مكشوفة بلا ساتر.

ويتولى الفنيون في مصنع الكسوة عملية تشبيك قطع الثوب جانباً مع الآخر، إضافة إلى تثبيت قطع الحزام فوق الكسوة (16 قطعة جميع أطوالها نحو 27 متراً) و 6 قطع تحت الحزام، وقطعة مكتوب عليها عبارات تؤرخ إهداء خادم الحرمين الشريفين لثوب الكعبة وسنة الصنع، ومن ثم تثبت 4 قطع صمدية (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) توضع على الأركان، و 11 قطعة على شكل قناديل مكتوب عليها آيات قرآنية توضع بين أضلاع الكعبة الأربعة.

هذا وأن آخر قطعة يتم تركيبها هي ستارة باب الكعبة المشرفة وهي أصعب مراحل عملية تغير الكسوة، وبعد الانتهاء منها تتم عملية رفع ثوب الكعبة المبطن بقطع متينة من القماش الأبيض، وبارتفاع نحو مترين من شاذروان (القاعدة الرخامية للكعبة) والمعروفة بعملية إحرام الكعبة. ويرفع ثوب الكعبة لكي لا يقوم بعض الحجاج والمعتمرين بقطع الثوب بالأمواس والمقصات الحادة للحصول على قطع صغيرة طلباً للبركة والذكرى.

ويتم تسليم الثوب القديم بجميع متعلقاته للحكومة السعودية التي تتولى عملية تقسيمه كقطع صغيرة وفق اعتبارات معينة لتقديمه كإهداء لكبار الضيوف والمسؤولين وعدد من المؤسسات الدينية والهيئات العالمية والسفارات السعودية في الخارج.

ويستهلك الثوب الواحد للكعبة نحو 670 كيلو جراماً من الحرير الطبيعي و 150 كيلو جراماً من سلك الذهب والفضة، ويبلغ مسطحه الإجمالي 658 متراً مربعاً، ويتكون من 47 لفة، طول الواحدة 14 متراً وبعرض 95 سنتيمتراً. ويكلف الثوب الواحد نحو 17 مليون ريال سعودي.

ويعود إنشاء المصنع إلى بداية شهر محرم عام 1357 ه- بجوار البيت العتيق ليكون أول مصنع لكسوة الكعبة ..

ولمزيد المعلومات حول الكعبة انظر المراجع التالية:

- مجمع البيان، للشيخ الطبرسي

- تفسير الميزان، للسيد الطباطبائي

- التفسير الأمثل، للشيخ المكارم

- في ظلال القرآن، لسيد قطب

- أسباب النزول، للواحدي

- تاريخ الرسل والملوك، للطبري.

- مرآة الحرمين، إبراهيم رفعت.

- بدائع الزهور في وقائع الدهور.

- أخبار مكة، للأزرقي

- إعلام الأعلام ببناء المسجد الحرام، للقطبي.

شؤون الحرمين الشريفين في العهد العثماني، عبد اللطيف هريدي.

ص: 98

ص: 99

شخصيات من الحرمين الشريفين (23) أبو سعيد الخدري

محمد سليمان

مازال حديثنا عن مدرسة الصحبة المباركة لرسول الله 9 من خلال الترجمة لرموزها، الذين خلد ذكرهم بعد أن صدقوا ما عاهدوا الله عليه فما أن ننتهي من رمز حتى ندخل مع رمز آخر ونموذج رائع لها.. مع صحابي وابن صحابي، إنه هذه المرة الصحابي الجليل الخدري الخزرجي

الأنصاري، المولود في السنة العاشرة قبل الهجرة النبوية الشريفة، والمعروف بكنيته أبوسعيد الخدري، ولشهرته بها طغت على اسمه، وهو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر، وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج الأنصاري.. وعن ابن هشام اسمه سنان. وخدرة وخدارة بطنان من الأنصار، وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج. وزعم بعض الناس أن خدرة هي أم الأبجر.

أما أمه، فهي أنيسة بنت أبي حارثة من بني عدي بن النجار.

وأخوه لأمه قتادة بن النعمان (1).

لقد كان هذا الصحابي وجهاً بارزاً مشهوراً من الأنصار ومن أفاضلهم، وكان من المحدِثين الكبار، وكان ذا علم ومعرفة وفقه، وله من الروايات الكثيرة مستقلًا في روايتها أو مشاركاً مع غيره، و رواياته وأقواله تميزت بأنها جاءت في أمهات الأمور التي شكلت أساساً عظيماً وصرحاً كبيراً في البناء العقائدي والتشريعي في الإسلام وتاريخه ومبادئه وقيمه ..

ممن شهد بيعة الرضوان

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ...) (2).

في السنة الثامنة للهجرة النبوية وقعت البيعة المعروفة ببيعة الرضوان انطلاقاً من الآية المباركة وما تحمله من رضاء الله تعالى عمن بايع رسوله 9 في الحديبية تحت الشجرة وهي شجرة السمرة، ولهذا تسمى بيعة الحديبية وبيعة الشجرة، وقلوبهم مملوءة بصدق النية واليقين والصبر والوفاء بما عقدوا البيعة عليه.. فكان هذا الصحابي الجليل أبو سعيد الخدري واحداً من أولئك الصادقين حين شهد بيعة الرضوان، حين جاء رسول الله 9 إلى الشجرة، فاستند إليها وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفروا.. وكان قد أرسل رسول الله 9 عثمان بن عفان إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً البيت معظماً لحرمته، فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله 9 والمسلمين أن عثمان قد قتل، فاطلق رسول الله 9 قوله: لا نبرح حتى نناجز القوم ..

وهذا سبب البيعة ونصها، كما قال ابن اسحاق في السيرة: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن رسول الله 9 قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم، فدعا رسول الله 9 الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون، بايعهم رسول الله 9 على الموت، وكان جابر بن عبدالله يقول: إن رسول الله 9 لم يبايعنا على الموت، ولكنا بايعنا على أن لا نفرّ.

لقد كان أبوسعيد ممن بايعوا رسول الله 9 على أن لا تأخذهم في الله لومة لائم، كما يحدثنا سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: بايعت النبي 9 أنا وأبو ذر وعبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة وأبو سعيد الخدري وسادس على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال السادس فأقاله (3).

يوم أحد

رغبته في أن يكون مقاتلًا في معركة أحد حال دونها رفض رسول الله 9 لأنه استصغره.. يقول أبو سعيد: عرضت يوم أُحد على النبي 9 وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله! إنّه عبل ضخم العظام، و جعل نبي الله 9 يصعِّد في النظر ويصوِّبه، ثم قال 9: رُدَّهُ، فردَّني .. (4)

وإن حرمه صغر سنّه عن وسام المشاركة في هذه المعركة فقد نال أبوه رضي الله عنه وسام الشهادة الكبير، وأنه بعيد عن النار، ففي خبر كما في السيرة النبوية لابن هشام أن رسول 9 يوم أحد وقع في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون، فأخذ علي بن أبي طالب 7 بيد رسول الله 9 ورفعه طلحة بن عبيدالله حتى استوى قائماً ومص مالك بن سنان أبو سعيد الخدري الدم عن وجه رسول الله 9 ثم ازدرده أي ابتلعه، فقال رسول الله 9: من مس دمي دمه لم تصبه النار. وقد استشهد مالك بن سنان في هذه الواقعة.

ابن الشهيد!

وإن لم يمنحه سنه فرصة قتال المشركين في معركة أحد إلا أنه وتكريماً لمالك بن سنان ولابنه أبي سعيد أيضاً كان يدعوه رسول الله 9 وبعض الصحابة: «ابن الشهيد»، كما ورد في راوية طويلة يتحدث فيها أبو سعيد عن صحبته لعلي 7 إلى اليمن، ورفض علي 7 استعمال إبل الصدقة من قبل أبي سعيد ومن معه ممن كان في رفقة الإمام علي 7 قائلًا لهم:

«إنما لكم منها سهم كما للمسلمين».

إنه الحق والعدل والمساواة التي تميزت بها شخصية علي 7 ولم يدركها ويقدرها هؤلاء الأصحاب؛ مما جعل أبا سعيد يشكو ما يسمّونه غلظة علي 7 وتضييقه عليهم إلى رسول الله 9 و هو ما تضمنه قوله: يا رسول الله 9، ما لقينا من علي من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق. وهنا يقول سعيد: فانتبذ أي اعتزل ناحية رسول الله 9 وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول الله 9 على فخذي، وكنت منه قريباً، وقال:

«سعد بن مالك ابن الشهيد، مه بعض قولك لأخيك علي، فوالله، لقد علمت أنه أخشن في سبيل الله».


1- أنظر: مختصر تاريخ دمشق 272: 9؛ أسد الغابة؛ السيرة لابن هشام 132: 3؛ تهذيب الأسماء 518: 2؛ الاستيعاب في تمييز الأصحاب.
2- الفتح: 18- 21.
3- كتاب السيرة النبوية 283: 4؛ مختصر تاريخ دمشق 275: 9؛ الإصابة في تمييز الصحابة 35: 2.
4- سير أعلام النبلاء 169: 3.

ص: 100

قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك، سعد بن مالك، ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم وما أدري؟ لا جرم، والله لا أذكره بسوء أبداً سرّاً وعلانيةً (1).

وإن استصغر أبو سعيد الخدري يوم أحد فرد، إلا أنه شارك بعد ذلك مع رسول الله 9 في اثنتي عشرة غزوة، بدءاً بمعركة الخندق التي كانت أول مشاهده وبيعة الرضوان ... (2)

وعن الخدري كما جاء في أمالي الطوسي: أخبرنا الشيخ أبو جعفر الطوسي، عن أبي عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد [النعمان] عن أبي الحسن مُحَمَّد بن المظفر البزاز، عن أحمد بن عبيد العطاردي، عن أبي بشر بن بكير، عن زياد بن المنذر، عن أبي عبد الله مولى بني هاشم، عن أبي سعيد الخدري، قال: ... لما كان يوم أحد شجَّ النبيُّ 9 في وجهه وكُسِرت رباعيته، فقام 9 رافعاً يديه يقول:

إنَّ الله اشتدَّ غضبه على اليهود أن قالوا: عزيرٌ ابن الله، واشتدَّ غضبه على النصارى أنْ قالوا: المسيح ابن الله، واشتدَّ غضبه على من أراق دمي، وآذاني في عترتي (3).

ومما رواه أبو سعيد عن مجريات معركة أحد كما في مختصر تاريخ دمشق تفاصيل إصابة رسول الله 9 كما في الخبر عنه:

كان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله 9 أصيب وجهه يوم أحد، فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنته، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل أبي مالك بن سنان يملج الدم بفيه، ثم ازدرده، فقال رسول الله 9: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل لمالك: تشرب الدم؟ فقال: نعم أشرب دم رسول الله 9. فقال رسول الله 9: من مس دمه دمي لم تصبه النار. قال أبوسعيد: فكنا ممن رد من الشيخين لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار، وبلغنا مصاب رسول الله 9، وننظر إلى سلامته، فنرجع بذلك إلى أهلينا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن همة إلا النبي 9 ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم بأبي وأمي، فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه، ثم قال: آجرك الله في أبيك. ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجة في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمى، وإذا رباعيته اليمنى شظية، وإذا على جرحه شي ء أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصير محرق، وسألت: من دمى وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجّه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملًا، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكئ على السعدين: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، حتى دخل بيته.

فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة، خرج رسول الله 9 على مثل تلك الحال، يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران، يتكمدون بها من الجراح، ثم أذن بلال بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله 9، وجلس بلال عند بابه حتى ذهب ثلث الليل، ثم ناداه: الصلاة يا رسول الله. فخرج رسول الله 9 وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء، ثم رجع إلى بيته وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله 9 فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي 9 يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر .. (4)

عفته وطاعته!!

عرف هذا الصحابي بعفة النفس وشدة الامتثال لأمر رسول الله 9 والأخذ بنصحه وإرشاده ولثقته المطلقة بوعد الله ورسوله 9. لما سمع رسول الله 9 يعد المتعففين عن المسألة بأن الله تعالى سيغنيهم من فضله وإحسانه وقد جاء يسأل الرسول 9 وقد بلغت به الحاجة مبلغاً عظيماً حتى أنه ربط على بطنه الحجر من شدة الجوع إلا أنه آثر الصبر والاحتمال رجاء ما عندالله تعالى، وقد تحقق له ما وعد به رسول الله 9 فأغناه الله من فضله.

ومما قاله أبو سعيد نفسه بعد استشهاد أبيه وبعد ما ألم بأهله العوز: استشهد أبي يوم أحد، وتركنا بغير مال، فأصابتنا حاجة شديدة. قال: فقالت لي أمي: أي بني! ائت النبي 9 فاسأله لنا شيئاً. فجئته فسلمت وجلست، وهو في أصحابه جالس فقال واستقبلني: إنه من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكف أكفه الله. قال: قلت: ما يريد غيري. فانصرفت ولم أكلمه في شي ء. فقالت لي أمي: ما فعلت؟ فأخبرتها الخبر. قال: فصبّرنا الله عز وجل ورزقنا شيئاً. فبلغنا، حتى ألحت علينا حاجة شديدة أشدّ منها. فقالت لي أمي: ائت النبي 9 فاسأله لنا شيئاً. قال: فجئته وهو في أصحابه جالس، فسلمت وجلست، فاستقبلني وعاد بالقول الأول وزاد فيه: ومن سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف. قال: قلت: الياقوتة ناقتي خير من أوقية، فرجعت ولم أسأله.. فرزق الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالًا منا (5).

وعن هلال بن حصن قال: نزلت على أبي سعيد الخدري فضمني وإياه المجلس. قال: فحدث أنه أصبح ذات يوم وقد عصب على بطنه حجراً من الجوع فقالت له إمرأته أو أمه: ائت النبي 9 فاسأله فقد أتاه فلان فسأله فأعطاه وأتاه فلان فسأله فأعطاه. فقال: قلت: حتى ألتمس شيئاً، قال: فالتمست فأتيته، قال حجاج: فلم أجد شيئاً فأتيته وهو يخطب فأدركت من قوله وهو يقول:

«مَنِ اسْتَعَفَّ يُعِفَّهُ اللهُ وَمَنِ اسْتَغْنَى يُغْنِهِ اللهُ وَمَنْ سَأَلَنَا إِمَّا أَنْ نَبْذُلَ لَهُ وَ إِمَّا أَنْ نُوَاسِيَهُ ... وَمَنْ يَسْتَعِفُّ عَنَّا أَوْ يَسْتَغْنِي أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ يَسْأَلُنَا».

قال: فرجعت فما سألته شيئاً، فما زال الله تعالى يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالًا منا (6).

جرأته في الحق!!

عمَّار والفئة الباغية: الخدري يعرف جيداً أن معاوية وجنده وأتباعه هم أهل الباطل، كيف لا وهو الذي روى ما ذكره رسول الله 9 بحق عمار بن ياسر أنه هو الذي تقتله الفئة الباغية، وهو ما حدث بالفعل في معركة صفين حينما كان عمار يحمل راية الحق التي يمثلها أمير المؤمنين علي 7


1- انظر: مختصر تاريخ دمشق 351: 17.
2- انظر: السيرة النبوية 85: 3.
3- بحار الأنوار 71: 20؛ وذكر هذه الرواية ايضاً صاحب كنز العمال، غزوة أحد: 30050
4- انظر: مختصر تاريخ دمشق 275: 9- 276.
5- المصدر نفسه 276: 9- 277.
6- صحيح البخاري كتاب الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة 151: 2- 152؛ صحيح مسلم بشرح النووي كتاب الزكاة باب التحذير من الاغترار بزينة الدنيا 144: 7- 145.

ص: 101

ويخوض غمار معركة ضارية ضد جند الشام ومعاوية يقدمهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: ... كنا نعمر المسجد وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي 9 فجعل ينفض التراب عنه [عن رأس عمار خ ل] ويقول: [يا عمار] ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟

قال: إني أريد الأجر من الله تعالى.

قال: فجعل ينفض التراب عنه ويقول: ويحك تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار.

قال عمار: أعوذ بالرحمن- أظنه قال-: من الفتن (1).

ولأن أبا سعيد الخدري 2 كان قوالًا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، كان لا يضنّ بكلمة نصح حتى للظالمين أو كلمة حق يقولها في ساحتهم وفي بلاطهم، ومن مواقفه وأقواله التي هي مصداق لهذا:

موقفه من معاوية زعيم الفئة الباغية التي قتلت الصحابي الكبير عمار بن ياسر رضوان الله تعالى عليه فقد ذهب إلى معاوية بن أبي سفيان ليوصل إليه صوت الحق ولا يخاف لومة لائم، قال شعبة عن أبي سلمة: سمعت أبا نضرة عن أبي سعيد رفعه: لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه. وفي رواية: إذا شهده أو علمه. وقال أبو سعيد: فحملني ذلك على أن ركبت إلى معاوية فملأت أذنيه ثم رجعت. وفي رواية أخرى: دخل أبو سعيد الخدري على معاوية فسلم ثم جلس فقال: الحمد لله الذي أجلسني منك هذا المجلس، سمعت رسول الله 9 يقول: «لا يمنعن أحدكم، إذا رأى الحق أن يقول به»، وإنه بلغني عنك يا معاوية كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا. فعدد عليه أشياء من فعاله ومما بلغه عنه. فقال له معاوية: أفرغت؟ قال: نعم. قال: فانصرف. فخرج أبو سعيد من عنده وهو يقول: الحمدلله، الحمد لله.

موقفه من مروان بن الحكم: كان له موقف من الرجل الذي أنكر على مروان بن الحكم تقديم خطبة العيد على الصلاة، يشهد بذلك، فلم يكتف أبو سعيد الخدري بتعضيده، بل أنكر بيده حيث جذب مروان محاولًا منعه من صعود المنبر لأداء الخطبة قبل الصلاة، غير أن مروان تغلب عليه وصعد المنبر وخطب قبل الصلاة، كما جاء ذلك في صحيح مسلم.

ولم يكتف أبو سعيد الخدري بتعضيد الذي أنكر على مروان بل أنكر أبو سعيد الخدري على مروان بن الحكم تقديم الخطبة على الصلاة ولم يكتف أبو سعيد بالإنكار باللسان، بل أنكر بيده؛ حيث جذب مروان محاولًا منعه من صعود المنبر لأداء الخطبة قبل الصلاة، وكانا قد جاءا معاً، غير أن مروان تغلب عليه وصعد المنبر وخطب قبل الصلاة، كما جاء ذلك فى الصحيحين (2).

ما حدث له في واقعة الحرة

.. في مدينة رسول الله 9 وبعد أن أباحها مسلم بن عقبة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم عليه الغار. قال أبو مخنف: فحدثني الحسن بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل إليّ الشامي يمشي بسيفه، قال: فانتضيت سيفي فمشيت إاليه لأرعبه لعلّه ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قد جد شمت سيفي ثم قلت له:

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (3)

فقال لي: من أنت لله أبوك! فقلت: أنا أبو سعيد الخدري، قال: صاحب رسول الله 9؟ قلت: نعم، فانصرف عني (4).

ومن طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير، قال: خرج أبو سعيد يوم الحرة فدخل غاراً فدخل عليه شامي فقال: أخرج. فقال: لا أخرج وإن تدخل علي أقتلك فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمك قال: أنت أبوسعيد الخدري؟ قال: نعم. قال: فأستغفر لي.

وتعرض للضرب والاعتداء على يد جيش يزيد بن معاوية بعد واقعة الحرة.. يقول عن ذلك: لزمت بيتي ليالي الحرة فلم أخرج، فدخل عليّ نفر من أهل الشام فقالوا: أيها الشيخ! أخرج ما عندك. فقلت: ما عندي مال. قال: فنتفوا لحيتي وضربوني ضربات، ثم عمدوا إلى بيتي فجعلوا ينقلون ما خفّ لهم من المتاع، حتى أنهم عمدوا إلى الوسادة والفراش فينفضون صوفهما ويأخذون الظرف، حتى لقد رأيت بعضهم أخذ زوج حمام كان في البيت، ثم خرجوا (5).

مما قاله علماء الرجال في توثيقه وعلمه واستقامته

الخدري والذي كان أحد الثابتين فكرياً على معرفة الحق، وأحد الراسخين فى دعم الحقيقة، له في كتب الرجال مكانة مرموقة واحتل منزلة كبيرة في أقوالهم، ونحن هنا نتطرق باختصار إلى ما تيسر لنا من كل ذلك.

و قبل أن نذكر أقوال العلماء فيه نذكر ما قاله الإمام الصادق 7 عنه حيث ذكره بتبجيل وتكريم، ونصّ على استقامته في طريق الحق: «كان من أصحاب رسول الله 9، وكان مستقيماً».


1- كشف الغمة 358: 1.
2- مختصر تاريخ دمشق 274: 9؛ الإصابة فى تمييز الصحابة 35: 2. وغيرهما.
3- المائدة: 28.
4- تاريخ الطبري 357: 3، أحداث سنة 63.
5- مختصر تاريخ دمشق 278: 9.

ص: 102

من أصحاب رسول الله 9، رجال الشيخ (3). وعدّه في أصحاب أميرالمؤمنين 7 قائلًا: سعد بن مالك الخزرجي، يكنى أبا سعيد الخدري الأنصاري العربي المدني (2). وعده البرقي في أصحاب رسول الله 9، قائلا: «وأبوسعيد الخدري الأنصاري: عربي مدني، واسمه سعد بن مالك، خزرجي.

وفى الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنين 7 قائلًا: «أبوسعيد الخدري عربي أنصاري.

وقال الكشي في ترجمة أبي أيوب الأنصاري: «قال الفضل بن شاذان: هو من السابقين الذين رجعوا إلى أميرالمؤمنين 7».

وتقدم في ترجمة جندب بن جندب الغفاري في رواية العيون عن الرضا 7 عدّه من الذين مضوا على منهاج نبيهم 7 ولم يغيروا ولم يبدلوا. وقال الكشي في ترجمته: أبوسعيد الخدري: حمدويه، قال: حدثنا أيوب عن عبدالله بن المغيرة، قال: حدثني ذريح عن أبي عبدالله 7، قال: ذكر أبوسعيد الخدري فقال: كان من أصحاب رسول الله 9 وكان مستقيماً، فقال: فنزع ثلاثة أيام فغسله أهله ثم حملوه إلى مصلاه، فمات فيه.

محمد بن مسعود، قال: حدثني الحسين بن أشكيب، قال: أخبرنا محسن بن أحمد، عن أبان بن عثمان، عن ليث المرادي، عن أبي عبدالله 7 قال: «إن أبا سعيد الخدري كان قد رزق هذا الأمر وإنه اشتدّ نزعه فأمر أهله أن يحملوه إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه، ففعلوا فما لبث أن هلك».

حمدويه قال: حدثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن الحسين بن عثمان، عن ذريح، قال: سمعت أبا عبدالله 7، يقول: كان علي بن الحسين 8، يقول: «إني لأكره للرجل أن يعافى في الدنيا ولا يصيبه شي ء من المصائب. ثم ذكر أن أبا سعيد الخدري وكان مستقيماً- نزع ثلاثة أيام فغسله أهله ثم (حملوه) حمل إلى مصلاه فمات فيه.

وطريق الصدوق إليه في وصية النبي 9، إلى علي 7، التي أولها: «يا علي إذا دخلت العروس بيتك»: محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني 2 عن أبي سعد الحسن بن علي العدوي، عن يوسف بن يحيى الإصبهاني أبي يعقوب، عن أبي علي إسماعيل ابن حاتم، قال: حدثنا أبوجعفر أحمد بن زكريا بن سعيد المكي، قال: حدثنا عمر بن حفص عن إسحاق بن نجيح عن حصيف، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري (1).

كما شهد بمناقبه الفريق الآخر وأنه كان من فقهاء الصحابة وفضلائهم البارعين، فعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، عن أشياخه أنهم قالوا: لم يكن من أحداث الصحابة أفقه من أبي سعيد الخدري، وفي رواية: أعلم. (2)

وقال ابن كثير: كان من نجباء الصحابة، وفضلائهم، وعلمائهم.

وقال الخطيب البغدادي: وكان أبو سعيد من أفاضل الأنصار، وحفظ عن رسول الله 9 حديثاً كثيراً ..

قال الإمام الذهبي: الإمام المجاهد مفتي المدينة حدث عن النبي 9 فأكثر وأطاب.

وهو من المكثرين من الحديث وكان من أفقه أحداث الصحابة.

وقالوا عنه: إنه روى عن النبي 9 الكثير.

وروى عن الخلفاء الأربعة، وغيرهم.

روى عنه من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وجابر، وغيرهم.

روى عنه من كبار التابعين: سعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وطارق بن شهاب، ومن بعدهم عطاء، ومجاهد، وغيرهم.

وقالوا: إنه روى أبو سعيد الخدري ألفاً ومائة وسبعين حديثاً بالمكرر، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة وأربعين حديثاً، وانفرد البخاري بستة عشر حديثاً، وانفرد مسلم باثنين وخمسين حديثاً (3).

ملاحظة مهمة

كان أبو سعيد الخدري رضوان الله تعالى عليه مكثراً للرواية كما ذكرنا، ولهذا الأمر أسبابه التي منها:

إن أبا سعيد أعلن إسلامه وهو ما زال صغيراً، فكان له عند قدوم النبي 9 المدينة إحدى عشرة سنة، و هو سن صفاء الذهن والقدرة على الحفظ والتحصيل.. وكان لملازمته الطويلة للنبي 9 والتي دامت عشر سنوات وهي المدة التي قضاها 9 بالمدينة المنورة لم يفارقه أبوسعيد فيها.. وكان لتأخر وفاته، دور كبير في منحه وقتاً كافياً لتبليغ ما تحتفظ به ذاكرته من أحاديث وما يتوفر عليه من علوم، فقد عاش بعد وفاة النبي 9 فترة زمنية طويلة، نحو خمس وستين سنة، وفي هذه الفترة احتاج الكثيرون إلى علمه، فتكاثر عليه طلاب العلم ينهلون من علمه ويحفظون عنه ما سمع من رسول الله 9، وحدّث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، ويشهد بهذا أسناد رواياته، وقام هؤلاء بتبليغ ما سمعوا منه ..


1- انظر النهاية:؛ رجال الحديث للسيد الخوئي، رجال النجاشي:؛ أمالي الطوسي،؛ تاريخ بغداد:،؛ سير أعلام النبلاء:،؛ تاريخ دمشق:؛ الوافي بالوفيات:.
2- أنظر: أسد الغابة في معرفة الصحابة؛ والإصابة في تمييز الصحابة.
3- انظر في هذا كله من ترجم له، كسير أعلام النبلاء 168: 3؛ الإصابة في تمييز الصحابة 35: 2؛ ومختصر تاريخ دمشق 278: 9- 279. تهذيب التهذيب 416: 3؛ و المعارف: 153؛ الاستيعاب 489: 4؛ أسد الغابة 289: 2؛ والإصابة 35: 2.

ص: 103

هذا، ولتعدد مصادر التحمل بالنسبة لأبي سعيد أهميته في كثرة رواياته، فكما تحمل الحديث عن الرسول 9 فلقد تحمل الحديث عن كبار الصحابة.. وأيضاً لتفرغه للتحديث والفقه، مما جعله أن يكون أحد الفقهاء المحدثين ..

هذا، وأن هناك قواسم مشتركة جامعة بين الصحابة المكثرين لرواية الأحاديث عن رسول الله 9 يتمثل بطول ملازمتهم لرسول الله 9 وإن اختلفوا في مدتها، وبتأخر وفاتهم، فلقد مكثوا بعد وفاة الرسول 9 فترة زمنية كان فيها متسع لأن يحدثوا الناس ويستفيد هؤلاء من علمهم. كما أن مصادر تحملهم تعددت، فنراهم قد تحملوا عن رسول الله 9 وتحملوا عن كبار الصحابة، وإن كانوا في الأعم الأغلب يحذفون الواسطة بينهم وبين الرسول 9 لثقتهم بمن حدثوهم. ولم ينفردوا بما حدثوا به عن رسول الله 9 بل شاركهم غيرهم من الصحابة في رواية كثير مما رووا، فروايات أبي سعيد الخدري لحديث الغدير ولحديث الثقلين ولغيرهما لم ينفرد بروايتها وحده، بل هناك العديد من الصحابة رووا هذه الأحاديث .... ولهذا نجدهم يروي أحدهم عن عدد، وعدد يروي عنهم، كما هو الحال مع أبي سعيد الخدري؛ فقد روى عن النبي 9 مباشرة وعن أبيه وأخيه لأمه قتادة بن النعمان، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وزيد بن ثابت وأبي قتادة الأنصاري، وعبدالله بن سلام وأسيد بن حضير، وابن عباس وأبي موسى الأشعري، ومعاوية وجابر بن عبد الله.

وعنه ابنه عبد الرحمن وزوجته زينب بنت كعب بن عجرة، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وزيد بن ثابت، وأبو أمامة بن سهل ومحمود بن لبيد وابن المسيب، وطارق بن شهاب وأبو الطفيل وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار وعطاء بن يزيد وعياض بن عبد الله بن أبي سرح، والأغر بن مسلم وبشر بن سعيد وأبو الوداك وحفص بن عاصم، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وأخوه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ورجاء بن ربيعة والضحاك المشرقي، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن خباب، وسعيد بن الحارث الأنصاري، وعبد الله بن محيريز، وعبد الله بن أبي عتبة مولى أنس، وعبد الرحمن بن أبي نعم، وعبيد بن حنين، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وعبد الرحمن بن بشر بن مسعود، وعبيد بن عمير، وعقبة بن عبد الغافر، وعكرمة، وعمرو بن سليم وقزعة بن يحيى ومعبد بن سيرين، ونافع مولى بن عمر، ويحيى بن عمارة بن أبي حسن، ومجاهد، وأبو جعفر الباقر، وأبو سعيد المقبري، وأبو عبد الرحمن الحبلي، وأبو عثمان النهدي، وأبو سفيان مولى بن أبي أحمد، وأبو صالح السمان، وأبو المتوكل الناجي، وأبو نضرة العبدي، وأبو علقمة الهاشمي، وأبو هارون العبدي وغيرهم.

قال حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه: وروى عن خلائق غيرهم ..

حبه وولاؤه لأئمة أهل البيت النبوي

لقد عاصر هذا الصحابي الجليل من المعصومين الرسول الأعظم 9 فنال بذلك وسام الصحبة المباركة فكان ممن حمل معه الأمانة ... وممن بذل كل غال ونفيس من أجل إعلاء كلمة الحق، وكان ممن حفظ عن رسول الله 9 سنناً كثيرة وروى عنه علماً جماً، وكان من نجباء الأنصار وعلمائهم وفضلائهم ..

وقد عاصر أربعة من أئمة أهل البيت: بدءاً بالإمام علي، ثم الإمام الحسن، والإمام ا لحسين، والإمام علي بن الحسين 8 وكان واعياً صادقاً في ولائه لهم.. ويعدّ من أجلاء الصحابة الذين كانت لهم مواقف مشرفة مع أئمة أهل البيت: .. انطلاقاً من صدق حبه ومودته لهم، وتحمل الأذى في سبيله هذا.

فهو إضافة إلى أنه لم يترك مرافقة أمير المؤمنين علي 7، وكان إلى جانبه في معركة النهروان، ظل ولاؤه مستمراً مدافعاً عنه حتى بعد انتقال الإمام علي إلى جوار ربه ..

وهذه واحدة من رواياته رضوان الله تعالى عليه في حب أئمة أهل البيت:

تقول الرواية: حدَّثنا مُحَمَّد بن الفضل بن زيدويه الجلاب الهمداني، قال: حدَّثنا إبراهيم بن عمرو الهمداني، قال: حدَّثنا الحسن بن إسماعيل، عن سعيد بن الحكم، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري، قال رسول الله 9: «من رزقه الله حبَّ الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة، فلا يشكَّنَّ أحد أنَّه في الجنة، فإنَّ في حب أهل بيتي عشرين خصلة، عشر منها في الدنيا وعشر منها في الآخرة؛

أما التي في الدنيا في الزهد، والحرص على العمل، والورع في الدين، والرغبة في العبادة، والتوبة قبل الموت، والنشاط في قيام الليل، واليأس مما في أيدي الناس، والحفظ لأمر الله ونهيه عزَّ وجلَّ، والتاسعة بغض الدنيا، والعاشرة السخاء.

وأما التي في الآخرة، فلا ينشر له ديوان، ولا ينصب له ميزان، ويعطى كتابه بيمينه، ويكتب له براءة من النار، ويبيض وجهه، ويكسى من حلل الجنة، ويشفع في مائة من أهل بيته، وينظر الله عزَّ وجلَّ إليه بالرحمة، ويتوج من تيجان الجنة، والعاشرة يدخل الجنة بغير حساب.

فطوبى لمحبي أهل بيتي» (1).

ونحن هنا نكتفي بما رواه أبو سعيد في أمهات المسائل التي ابتني عليها المذهب الإمامي:

وكان في عداد رواة حديث الثقلين وحديث الغدير، وحديث المنزلة ... وهي التي شكلت أسس المذهب الإمامي، الذي يستقي علومه وأحكامه وأصول اعتقاده من مدرسة أهل البيت:، وهم العدل الثاني في حديث الثقلين المشهور.. وكان من الذين شهدوا لعلي 7 بالولاية يوم الغدير:


1- أنظر: الخصال 515: 2، ح 1.

ص: 104

روي أن علياً 7 قام فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أنشِدُ الله من شهد يوم غدير خُمٍّ إلَّا قام.. فقام سبعة عشر رجلًا، وكان أبو سعيد الخدري واحداً منهم.

وقد ذكره الشيخ المفيد في كتاب الجمل في عداد من بايع أمير المؤمنين علياً 7 قائلًا في مقدمة ذلك: ونحن نذكر الآن من جملة مبايعي أمير المؤمنين 7 الراضين بإمامته الباذلين أنفسهم في طاعته ... إلى أن قال: فممن بايع أمير المؤمنين 7 بغير ارتياب ودان بإمامته على الإجماع والاتفاق، واعتقد فرض طاعته والتحريم لخلافه ومعصيته، الحاضرون معه في حرب البصرة وهو ألف وخمسمائة رجل من وجوه المهاجرين الأولين السابقين إلى الإسلام والأنصار البدريين العقبيين وأهل بيعة الرضوان، من جملتهم سبعمائة من المهاجرين وثمانمائة من الأنصار سوى أبنائهم وحلفائهم ومواليهم وغيرهم من بطون العرب والتابعين بإحسان ...

وعد من الأنصار «أبو سعيد الخدري» واحتل في قائمة الشيخ المفيد الرقم الرابع.. (1)

فأين هذا الكلام مما أورده السيد الأمين دون رد في كتابه في رحاب أئمة أهل البيت الجزء الثاني الصفحة 4 تحت عنوان (المتخلفون عن بيعته) وبعد أن ذكر ما قالته بعض المصادر عن القاعدين عن بيعته 7 قال: ونحن نذكر أسماء المتخلفين مأخوذة من مجموع ما ذكره هؤلاء وهم: ... أبو سعيد الخدري ...

ولم أجد في مروج الذهب ولا في أسد الغابة هذا، إلا أن الطبري ذكر ذلك بسنده عن عبد الله بن الحسن قال: لما قتل عثمان بايعت الأنصار علياً إلا نفيراً يسيراً منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري و ... كانوا عثمانية (2).

وهو خبر واحد مضادّ بغيره ومخالف لسيرة الرجل ومواقفه ورواياته وشهادته للإمام بحديث الغدير ..

إلا أني لم أجد في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة 212 هجرية اسمه فيمن شارك إلى جانب الإمام علي 7 في معركة صفين، ولم أجد لغيابه عن هذه المعركة تفسيراً ..

وقد شارك في معركة النهروان، وله فيها حديث رواه عن رسول الله 9 حيث قال: سمعت رسول الله 9 يقول:

«إنَّ قَوماً يخرُجُون، يَمرُقون مِن الدِّينِ مروق السَّهم مِن الرمية ..»

وفي الخرائج والجرائح (3) روي عن أبي سعيد الخدري ... أنَّ النبيَّ 9 قسَّم يوماً قسماً، فقال رجل من تميم: اعدلْ، فقال: ويحك ومن يعدل إذا لم إعدل؟!

قيل: نضرب عنقه؟

قال: لا، إنَّ له أصحاباً يحقِّر أحدكم صلاته وصيامه مع صلاتهم وصيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، رئيسهم رجل أدعج إحدى ثدييه مثل ثدي المرأة.

قال أبو سعيد: إني كنت مع علي حين قتلهم فالتمس في القتلى [بالنهروان] فأتى به على النعت الذي نعته رسول الله 9.

وقد امتاز العديد من رواياته الكثيرة بنقل مآثر و مناقب رسول الله 9 و آل البيت: ونحن نكتفي بشي ء منها.

وبداية نذكر روايته هذه التي توضح رأيه ووصفه الذي لم يحد عنه، وهو يجيب حين سئل عن علي 7:

عن مالك المازني، قال: أتى تسعة نفر إلى أبي سعيد الخدري، فقالوا:

يا أبا سعيد! هذا الرجل الذي يكثر الناس فيه ما تقول فيه؟

فقال: عمَّن تسألوني؟

قالوا: نسأل عن عليّ بن أبي طالب 7

قال: أما إنكم تسألوني عن رجل أمرّ من الدفلى، وأحلى من العسل، وأخف من الريشة، وأثقل من الجبال، أما والله ما حلا إلا على ألسنة المؤمنين، وما خفَّ إلا على قلوب المتقين، ولا أحبه أحد قط لله ولرسوله إلا حشره الله من الآمنين، وإنه لمن حزب الله، وحزب الله هم الغالبون.

والله ما أمرَّ إلا على لسان كافر، ولا أثقل إلا على قلب منافق، وما زوى عنه أحد قط ولا لوى ولا تحزب ولا عبس ولا بسر ولا عسر ولا مضر ولا التفت ولا نظر ولا تبسم ولا تجرَّى ولا ضحك إلى صاحبه ولا قال أعجب لهذا الأمر، إلا حشره الله منافقاً مع المنافقين.

وَسَيَعْلَمُ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُوْنَ. (4)


1- انظر الصفحة 105 من كتاب الجمل.
2- تاريخ الطبري 698: 2. دار الكتب العلميةبيروت.
3- الخرائج و الجرائح 68: 1، ح 127.
4- الشعراء: 227.

ص: 105

نأتي الآن إلى أحاديث أخرى:

حديث الثقلين

وقد جاء هذا الحديث بصيغ متعددة وبطرق عديدة عن مجموعة من الصحابة والتابعين، حتى قال ابن حجر في صواعقه: ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضعه وعشرين صحابياً ... وأبو سعيد الخدري كان واحداً من الصحابة الذين قال السمهودي على ما روى عنه المناوي في فيض القدير: وفي الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة..

... عن أبي سعيد قال: قال رسول الله 9: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَليْنِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ».

... عن أبي سعيد الخدري عن النبي 9 قال: «إِنِّي أُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ وَإِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَليْنِ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَل وَعِتْرَتِي، كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَإِنَّ اللطِيفَ الخَبِيرَ أَخْبَرَنِي أَنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ فَانْظُرُونِي بِمَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا».

... عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله 9: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَليْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الآخَرِ؛ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَل حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، أَلا إِنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ».

... عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله 9: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، الثَّقَليْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الآخَرِ؛ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، أَلَا وَإِنَّهُمَا لنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَليَّ الحَوْضَ» (1).

آية التطهير و حديث الكساء

عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال حين نزلت: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ قال: «كان نبي الله يجيئ إلى باب علي الغداة ثمانية أشهر» فيقول: «الصلاة يرحمكم الله إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

عن أبي سعيد الخدري قال: «إن رسول الله جاء إلى باب علي أربعين صباحاً بعد ما دخل على فاطمة الزهراء 3 فقال: «السلام عليكم أهل البيت! ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمكم الله، إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».

عن أبي سعيد الخدري عن النبي قال حين نزلت: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها (2) كان يجي ء نبي الله 9 إلى باب علي صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة، رحمكم الله إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. قال: «نزلت في خمسة: رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين» (3).

وفي أمالي الشيخ الطوسي (4): أخبرنا أبو عمر، قال: أخبرنا أبو العباس، عن يعقوب بن يوسف بن زياد، عن مُحَمَّد بن إسحاق بن عمار، عن هلال بن أيوب الصيرفي ... عن عطية قال: سألت أبا سعيد الخدري عن قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا.

قال:

نزلت في رسول الله 9 وعلي وفاطمة والحسن والحسين:.

حديث المنزلة

رواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين، وربّما يبلغون الأربعين بين رجل وامرأة. يقول ابن عبد البر في الإستيعاب عن هذا الحديث: هو من أثبت الأخبار وأصحّها.

وأبو سعيد واحد منهم:

قال رسول الله 9 لعلي بن أبي طالب 7 في غزوة تبوك: اخلفني في أهلي.

فقال علي 7: يا رسول الله! إني أكره أنْ يقول العرب: خذل ابن عمه وتخلف عنه.

فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟

قال: بلى.


1- راجع: صحيح الترمذي 308: 2، وابن حجر في صواعقه، والمتقي في كنز العمال؛ والطبراني في الكبير؛ وراجع: فضائل الخمسة في الصحاح الستة وغيرها من كتب أهل السنة 52: 2- 60. انظر سنن الترمذي. كتاب المناقب عن الرسول. باب مناقب أهل بيت النبي. رقم: 3718. و مسند أحمد بن حنبل. كتاب باقي مسند المكثرين. باب مسند أبي سعيد الخدري. رقم: 10681، 10707، 10779، 11135.
2- طه: 132.
3- انظر: مختصر تاريخ دمشق 342: 9؛ طبقات المحدثين 149: 4، ح 915؛ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط 152: 8، ح 8127؛ الدارقطني في المؤتلف والمختلف 2121: 4؛ الخطيب في المتفق والمفترق 1158: 2، ح 723.
4- أمالي الطوسي 254: 1، ح 28.

ص: 106

قال 9: فاخلفني.

وفي رواية قوله 9 لعلي 7: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

سفينة نوح

وفي كفاية الأثر (1): حدَّثنا علي بن الحسين [الحسن خ ل] بن مُحَمَّد بن مبدة [مندة خ ل] قال: حدَّثنا أبو مُحَمَّد هارون بن موسى رضي الله عنه قال: حدَّثنا أحمد بن مُحَمَّد بن [سعيد] قال: حدَّثنا مُحَمَّد بن غياث الكوفي، قال: حدَّثنا حماد بن أبي حازم المدني قال: حدَّثنا عمران بن مُحَمَّد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه عن جده، عن أبي سعيد الخدري، قال: ...

صلى بنا رسول الله 9 الصلاة الأولى ثُمَّ أقبل بوجهه الكريم علينا فقال: معاشر أصحابي! إنَّ مثَلَ أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح وباب حطَّة في بني إسرائيل، فتمسَّكوا بأهل بيتي بعدي والأئمة الراشدين من ذريتي فإنكم لن تضلوا أبداً.

فقيل: يا رسول الله! كم الأئمة بعدك؟

فقال: اثنا عشر من أهل بيتي، أو قال: من عترتي.

معرفة المنافقين

حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي هارون، عن أبي سعيد الخدري، قال: «إنّا كنّا لنعرف المنافقين نحن معشر الأنصار لبغضهم عليَّ بن أبي طالب» (2).

خاصف النعل

وفي بحار الأنوار (3) عن أمالي الشيخ الطوسي: أبو عمر، عن ابن عقدة، عن يعقوب بن يوسف، عن أحمد بن حماد، عن فطر بن خليفة وبريد بن معاوية العجلي، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، قال: ...

خرج إلينا رسول الله 9 وقد انقطع شسع نعله فدفعها إلى علي 7 يصلحها، ثُمَّ جلس وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير.

فقال: إنَّ منكم لمن يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت الناس على تنزيله.

فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟

قال: لا.

فقال عمر: أنا يا رسول الله؟

فقال: لا، ولكنه خاصف النعل.

قال أبو سعيد: فأتينا علياً 7 نبشره بذلك فكأنه لم يرفع به رأساً فكأنه قد سمعه قبل.

يوم الغدير

حديث الغدير، هذا الحديث الذي بلغ حد التواتر عند جميع المسلمين وحفظته أمهات المصادر، من الأحاديث التاريخية الهامة و المصيرية التي أدلى بها رسول الله 9 في السنة الأخيرة من حياته المباركة، و هي من الأحاديث التي تثبت إمامة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 و توجب ولايته على جميع المؤمنين بعد ولاية الله تعالى و ولاية رسوله المصطفى 9 بكل صراحة و وضوح.

ثم إن حديث الغدير حديث متواتر رواه المحدثون عن أصحاب النبي 9 و عن التابعين بصيغٍ مختلفة، تؤكد جميعها على إمامة الإمام أمير المؤمنين 7، مراده الأصلي واحد و إن اختلفت بعض عبارات الحديث.

الخوارزمي عن أبي سعيد الخدري 2 قال: إن النبي 9 لما دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة من شوك، فقم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي فأخذ بضبعه فرفعها، حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه، ثم لم يتفرقا حتى نزلت هذه الآية:

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً (4).

فقال رسول الله 9: «الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي. ثم قال:


1- كفاية الأثر: 33- 34.
2- انظر: الترمذي، المناقب عن الرسول، ح 3650.
3- بحارالأنوار 296: 32، ح 256.
4- المائدة: 4.

ص: 107

«اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله».

فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله! أتأذن لي أن أقول أبياتاً؟

فقال: «قل ببركة الله تعالى». فقال:

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم وأسمع بالرسول مناديا

بأني مولاكم نعم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا

فقال له: قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه

وكن للذي عادى علياً معاديا.

وفي مختصر تاريخ دمشق عن أبي سعيد الخدري:

أما نصب رسول الله 9 علياً بغدير خم، فنادى له بالولاية، هبط جبريل 7 بهذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً (1).

وقال أيضاً: نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (2) على رسول الله 9 يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (3).

الراية

وعن أبي سعيد قال: أخذ رسول الله 9 الراية فهزها، ثم قال: من يأخذها بحقها؟ فجاء الزبير فقال: أنا، فقال: أمطَ أي «تنح». ثم قام رجل فقال: أنا، فقال: أمط. ثم قام آخر فقال: أنا، فقال: أمط، فقال رسول الله 9: والذي أكرم وجه محمد، لأعطينها رجلًا لا يفر بها. هاك يا علي، فقبضها، ثم انطلق حتى فتح الله عليه فدك وخيبر، وجاء بعجوتها وقديدها (4).

ولاية علي 7

وفي أمالي الشيخ المفيد: 90، مجلس 17، ح 3: حدَّثنا الشيخ الجليل المفيد، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن بلال المهلّبي، قال: حدَّثنا عبد الله بن راشد الأصفهاني، قال: حدَّثنا إبراهيم بن مُحَمَّد الثقفي، قال: أخبرنا إسماعيل بن صبيح، قال: حدَّثنا سالم بن أبي سالم البصير.

عن أبي هارون العبدي، قال: كنت أرى [رأي] الخوارج لا رأي لي غيره حتَّى جلست إلى أبي سعيد الخدري رحمه الله فسمعته يقول:

أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع وتركوا واحدة.

فقال له رجل: يا أبا سعيد! ما هذه الأربع التي عملوا بها؟

قال: الصلاة والزكاة والحج وصوم شهر رمضان.


1- المائدة: 4.
2- المائدة: 67.
3- انظر: مختصر تاريخ دمشق 259: 17؛ ينابيع المودة: 115. ومصادر أخرى.
4- مختصر تاريخ دمشق 330: 9.

ص: 108

قال: فما الواحدة التي تركوها؟

قال: ولاية علي بن أبي طالب 7.

قال الرجل: وإنَّها لمفترضة؟

قال أبو سعيد: نعم، ورب الكعبة.

قال الرجل: فقد كفر الناس إذن!

قال أبو سعيد: فما ذنبي؟

وهذه متفرقات ممّا رواه أبو سعيد الخدري:

حمل الحديث

وفي حثه على حمل الأحاديث عبر التحدث بها وتذاكرها فإن إحياء الحديث بتذاكره والعمل به، وبذلك يتم حفظ أحاديث رسول الله 9 والمعرفة بها والتوسع في فهمها خصوصاً بين أهله وترويجها وتبليغها وعدم نسيانها، لأنه وكما ورد في الحديث الشريف: «آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله».

وهو ما ورد عن الإمام علي 7 حدثنا وكيع، قال حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة أنه قال: قال علي: «تزاوروا وتذاكروا الحديث فإنكم إن لم تفعلوا يدرس».

لهذا جاءت العبارة التي أصبحت شعاراً للمذاكرة، وهي قولهم: «إحياء الحديث مذاكرته». ومنها انطلق هذا الصحابي في حثه الناس على التحدث لما في ذلك من فوائد كبيرة.. ومن فوائد التحدث والمذاكرة في الحديث أنه سبب كبير وداع عظيم للتنافس المحمود بين طلبة العلم.

فعن علي بن الجعد أنه قال: حدثنا شعبة عن سعيد بن يزيد سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد قال: تحدثوا فإن الحديث يهيج الحديث. (1)

ثواب صلاة الجماعة

وفي بحار الأنوار (2): روى الشهيد الثاني 1 في شرحه على الإرشاد من كتاب الإمام والمأموم للشيخ أبي محمد جعفر بن القمي بإسناده المتصل إلى أبي سعيد الخدري، قال:

قال رسول الله 9: «أتاني جبرئيل مع سبعين ألف ملك بعد صلاة الظهر، فقال: يا مُحَمَّد! إنَّ ربك يقرئك السلام وأهدى إليك هديتين لم يهدهما إلى نبيٍّ قبلك، قلت: وما تلك الهديتان؟

قال: الوتر ثلاث ركعات، والصلاة الخمس في جماعة.

قلت: يا جبرئيل! وما لأمتي في الجماعة؟

قال: يا مُحَمَّد! إذا كانا اثنين كتب الله لكل واحد بكل ركعة مائة وخمسين صلاة، وإذا كانوا ثلاثة كتب لكل واحد بكل ركعة ستمئة صلاة، وإذا كانوا أربعة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفاً ومئتي صلاة، وإذا كانوا خمسة كتب الله لكل واحد بكل ركعة ألفين وأربعمئة، وإذا كانوا ستة كتب الله لكل واحد بكل ركعة أربعة آلاف وثمانمئة صلاة، وإذا كانوا سبعة كتب الله لكل واحد بكل ركعة تسعة آلاف وستمئة صلاة، وإذا كانوا ثمانية كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة تسعة عشر ألفاً ومئتي صلاة، وإذا كانوا تسعة كتب الله لكل واحد منهم بكل ركعة ستة وثلاثين ألفاً وأربعمئة صلاة، وإذا كانوا عشرة كتب الله لكل واحد بكل ركعة سبعين ألفاً وألفين وثمانمئة صلاة، فإنْ زادوا على العشرة فلو صارت السماوات كلها مداداً والأشجار أقلاماً، والثقلان مع الملائكة كُتّاباً لم يقدروا أن يكتبوا ثواب ركعة واحدة.

يا مُحَمَّد! تكبيرة يدركها المؤمن مع الإمام خير من ستين ألف حجة وعمرة، وخير من الدنيا وما فيها سبعين ألف مرة، وركعة يصليها المؤمن مع الإمام خير من مئة ألف دينار يتصدق بها على المساكين، وسجدة يسجدها المؤمن مع الإمام في جماعة خير من عتق مئة رقبة.

وعن طول يوم القيامة تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3).

نسب إلى أبي سعيد أنه قال: قيل: يا رسول الله! ما أطول هذا اليوم؟!

فقال: والذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا.


1- انظر أحمد بن حنبل في مسنده؛ ومختصر تاريخ دمشق؛ وكنز العمال؛ وغيرها.
2- بحارالأنوار 14: 88- 15، ح 26.
3- المعارج: 4.

ص: 109

وأبو سعيد الخدري من رواة حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ كما في سيرة ابن هشام (1).

والحديث: أن جبريل 7 أتى رسول الله 9 حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد! من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء، واهتز له العرش؟

فقام رسول الله 9 سريعاً يجر ثوبه إلى سعد، فوجده قد مات.

«إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين». رواه الشيخان البخاري ومسلم.

وعن أبي سعيد الخدري عن النبي 9 قال:

«إن في الجنة مئة درجة، ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم».

وقال سعيد بن منصور: حدثنا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد قلنا له: هنيئاً لك برؤية رسول الله 9 وصحبته قال: إنك لا تدري ما أحدثنا بعده.

قال ابن أبي سلمة: قلت لأبي سعيد الخدري: ما ترى في ما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم؟ فقال:

يا ابن أخي كُل لله، واشرب لله، وكلّ شي ء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو رياء أو سمعة فهو معصية وسرف.

المرأة تسأل

هناك اهتمام أكيد من قبل الإسلام بالمرأة المسلمة، واهتمام متميز من قبل الرسول 9 واحترام واضح لما تريده مادام لا يخالف شريعة ولا منهجاً دينياً وأخلاقياً واجتماعياً.. وكانت المرأة في ذلك الوقت لها رأيها وهي ذات مكانة عظيمة راحت تسخرها لخدمة المشروع الإسلامي.. حتى برزت طائفة من النساء العالمات المبلغات، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: جاءت امرأة إلى رسول الله 9 فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه، تعلمنا مما علمك الله، قال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن، فأتاهنّ النبي 9 فعلمهن مما علمه الله.. وقد تبادرن النساء إلى مجالس الرسول الخاصة بهن، وقد أثنى رسول الله 9 عليهن ودعا لهن فقال: «رحم الله نساء الأنصار لا يمنعهن حياؤهن أن يسألن عن أمور دينهن».

وفاته

وحتى قبيل وفاته لم يترك الرواية عن رسول الله 9 وقد ضمن وصاياه العديدة قولًا لرسول الله 9.

فعن ابنه عبد الرحمن أن أباه قال له: يا بني! إني قد كبرت سني وحان مني، خذ بيدي، فاتكأ علي حتى جاء البقيع مكاناً لا يدفن فيه فقال: إذا أنا هلكت فادفني هاهنا، ولا تضربن علي فسطاطاً ولا تمشين معي بنار، ولا تبك علي باكية، ولا تؤذنن أحداً، وليكن مشيك بي خبباً. فجعل الناس يأتوني فيقولون: متى تخرج به؟ فأكره أن أخبرهم وقد نهاني، فقلت: إذا فرغت من جهازه، فخرجت به من صدر يوم الجمعة، فوجده البقيع قد ملئ علي ناساً.

ولما حضرته الوفاة تقول ابنته: لما حضر أبو سعيد بعث إلى نفر من أصحاب رسول الله 9 فيهم: ابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله فقال: لا يغلبنكم ولد أبي سعيد، إذا أنا مت فكفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأذكر الله فيها ...

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: دخلت على أبي سعيد الخدري عند موته فدعا بثياب جدد فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله 9 يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها. فإذا مت فلا تتبعوني بنار ولا تجعلوا علي قطيفة حمراء ولا تبك علي باكية.

ومن وصاياه أيضاً عند احتضاره: إذا حملتم فأسرعوا، أي أسرعوابي.

توفي هذا الصحابي الجليل رضوان الله عليه في خلافة عبد الملك بن مروان، وحين استولى الحجاج على الكعبة بعد قتله عبد الله بن الزبير، وكان عمر أبي سعيد الخدري 74 سنة، بالمدينة يوم الجمعة. وقال أبو الحسن المدائني: مات سنة (63)، وقال العسكري: مات سنة (65) ..

ويقال: قبره يقع في خارج البقيع في الجهة الشرقية الشمالية منه على قارعة الطريق المؤدي للحرة الشرقية، وقد اختار أبو سعيد هذا المكان ليدفن فيه في حياته، فيما يقال: إنه دفن بالبقيع نفسه، إلى جوار قبر فاطمة بنت أسد رضوان الله تعالى عليها.


1- سيرة ابن هشام 262: 3.

ص: 110

ص: 111

ص: 112

أجوبة الاستفتاءات آيةالله العظمى السيد على الخامنئى

الاقتداء بأهل السنّة

س: هل تجوز الصلاة خلف السنة جماعة؟

ج: تجوز الصلاة جماعة خلفهم إذا كانت للحفاظ على الوحدة الإسلامية.

س: محل عملي يقع في إحدى المناطق الكردية، وأكثرية أئمة الجمعة والجماعة هناك هم من أهل السنة، فما هو حكم الاقتداء بهم؟ وهل تجوز غيبتهم؟

ج: لا إشكال في المشاركة في الصلاة معهم في جمعتهم وجماعاتهم، وأما الغيبة فليجتنب عنها.

س: في أماكن المعاشرة والمخالطة مع أبناء السنة عند المشاركة في صلواتهم اليومية، نعمل مثلهم في بعض الموارد، مثل الصلاة مع التكتف، عدم رعاية الوقت والسجود على السجاد، فهل مثل هذه الصلاة تحتاج إلى إعادة؟

ج: إذا كان حفظ الوحدة يقتضي ذلك كله فالصلاة معهم صحيحة ومجزية، حتى وإن كان بالسجود على السجاد وأمثال ذلك، ولكن لا يجوز التكتف في الصلاة معهم إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك.

ص: 113

س: في مكة والمدينة نصلي جماعة مع أبناء السنة وذلك استناداً إلى فتوى سماحة الإمام الخميني 1، وفي بعض الأوقات ومن أجل إدراك فضيلة الصلاة في المسجد كأداء صلاة العصر أو صلاة العشاء بعد صلاة الظهر والمغرب نصلي فرادى في مساجد أهل السنّة من دون تربة ونسجد على السجاد، فما هو حكم هذه الصلوات؟

ج: في الفرض المذكور محكومة بالصحة.

س: كيف تكون مشاركتنا نحن الشيعة في الصلاة في مساجد البلدان الأخرى مع أبناء السنة حيث يصلون مكتوفي الأيدي؟ وهل يجب علينا المتابعة في التكتف مثلهم، أو نصلي بلا تكتف؟

ج: يجوز الاقتداء بأهل السنّة إذا كان لأجل رعاية الوحدة، والصلاة معهم صحيحة ومجزية، ولكن لا يجب، بل لا يجوز التكتف فيها، إلا إذا كانت هناك ضرورة تقتضي ذلك أيضاً.

س: عند المشاركة في صلاة الجماعة مع أهل السنة ما هو حكم التصاق خنصر القدم بخنصر قدمي الشخصين الواقفين على طرفي المصلي في حال القيام التي يلتزمون بها؟

ج: لا يجب ذلك، ولو فعله لم يضرّ بصحة الصلاة.

س: أبناء السنة يصلون المغرب قبل أذان المغرب، ففي موسم الحج أو في غيره هل يصح لنا الاقتداء بهم والاكتفاء بتلك الصلاة؟

ج: ليس معلوماً أنهم يصلون قبل الوقت، ولكن لو لم يحرز المكلف دخول الوقت لم يصح منه الدخول في الصلاة، إلا إذا اقتضت مراعاة الوحدة ذلك أيضاً، فلا مانع حينئذ من الدخول في الصلاة معهم وفي الاكتفاء بتلك الصلاة.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.