ميقات الحج-المجلد 28

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الاتّحاد والانسجام الإسلامى

ص: 5

فى كلام قائد الثورة الإسلامية الإيرانية

الأمر المهم الذي أودّ التأكيد عليه هو مسألة: الانسجام الإسلامي، حيث ذكرنا أنّ الانسجام الإسلامي يعني عدم إثارة العصبيات الدينية بين المذاهب الإسلامية، فعليكم الابتعاد عن كل ما يحرك عصبيات المسلمين من غير الشيعة ضدكم، وفي المقابل فإنّ على أولئك أيضاً أن لا يقوموا بأيّ عمل من شأنه أن يحرّك عصبيّاتكم ضدّهم، لأنّ ذلك هو ما يتمنّاه أعداؤنا، أنظروا إلى النزاع القائم بين فريقين كبيرين في فلسطين .. أيّ شي ء أفضل لإسرائيل من هذا؟! فالبندقية الفلسطينية بدلًا من أن تتوجّه إلى العدوّ الإسرائيلي باتت تستخدم في صراع داخلي .. هذا الأمر مناسب جدّاً للإسرائيليين وهم مستعدّون لإنفاق المبالغ الطائلة في سبيل حصول وضع كهذا.

ولنفترض أنّ هذا الأمر تكرّر في لبنان أيضاً بحيث وجد فريق لبناني يتبنّى إشعال حرب داخلية مع فريق لبناني آخر ..

أيّ نعمة ستكون أكبر من هذه بالنسبة لإسرائيل وأمريكا؟ وهل هذا أفضل لهم أن يتقدم فريق مثل (حزب الله) ويسير الجميع خلفه- البعض عن اعتقادٍ وإيمان والبعض الآخر خوفاً من الرأي العام- ليكسر شوكة إسرائيل ويلحق بها الهزيمة؟ لاشك أنّ النزاع والفرقة هي الوضع الذي يناسبهم.

وهذه هي مشكلة العالم الإسلامي اليوم، فنحن بين خيارين: أحدهما أن تتضامن الشعوب الإسلامية، ومعنى ذلك أن تخرج الشعوب المسلمة، في مصر والأردن والهند وباكستان، تأييداً للجمهورية الإسلامية- مثلًا- في قضية من القضايا المحقة. والآخر أن تموت حالة التضامن وتسكت هذه الشعوب عندما ترفع صرخة حقٍّ من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بل وربما يتبنى البعض فيها موقف العدوّ نفسه، ولاشك أنّ أمريكا تسعى وراء تحقيق الخيار الثاني.

ولكن كيف لهم أن يصلوا إلى ذلك؟ .. الأمر سهل جدّاً، فما عليهم إلّا أن يحيوا الفتن والعصبيات بين السنّة والشيعة، ليقولوا للسنة: إنّ الشيعة يسبّون الصحابة وأنهم يسيئون إلى مقدساتكم، كلّ ذلك بهدف بثّ روح الفرقة بين المسلمين.

لقد أخذ دعاة الوحدة بين الشيعة والسنة، هذه السياسة بعين الاعتبار منذ بدايتها الأولى، فلماذا لايريد أن يفهم البعض ذلك؟!

إمامنا الخميني الكبير 1 كان من دعاة الوحدة الإسلامية، وكانت ولايته واعتقاده وتعلقه وحبّه للأئمّة: أكثر من كلّ أولئك المدّعين.

هل الإمام الخميني/ يفهم معنى ولاية أهل البيت: بشكل أفضل، أم أولئك العوام الذين يرتكبون المخالفات ويتحدثون بشكل غير مسؤول في المجالس العامة والخاصة باسم الولاية؟

حافظوا على الوحدة بين المسلمين، وإذا رأيتم في المجتمع من يعمل على خلاف ذلك، فاعزلوهم، وأعلنوا مخالفتكم لهم، لأنهم أناس مضرّون، يسيئون إلى الإسلام، ويسيئون إلى التشيع، ويسيئون إلى المجتمع الإسلامي ...

الوحدة الإسلامية اليوم هي لمصلحة النظام الإسلامي، ولمصلحة الجمهورية الإسلامية، والتحرك ضد هذا التوجه هو لمصلحة أمريكا ولمصلحة الصهاينة، ولمصلحة أولئك النفعيين الذين يملأون جيوبهم من أموال النفط، ولا يرغبون بوجود عنصر كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكالمجتمع الإسلامي في إيران.

ص: 6

نص كلمة ممثل الإمام الخامنئي في الحج

في ندوة «أهل البيت: وانسجام الأمة الإسلامية»/ مكة المكرمة- ذي الحجة 1428

بسم الله الرحمن الرحيم

«عن مولانا أبي الحسن الرضا 7 أنه قال: رحم الله عبداً أحيا أمرنا»

أرحب بالعلماء والمفكرين والمثقفين من أتباع مدرسة أهل البيت: في هذه الندوة المباركة التي تعقد سنوياً بجوار بيت الله الحرام؛ لإحياء أمر أهل البيت:، وأسأل الله تعالى أن يشملكم وإيانا بدعاء ثامن الحجج:.

موضوع هام ينبغي أن نتداوله في هذه الندوة وهو: ما المراد من أمر أهل البيت؟ وماذا يعني إحياؤه؟ وكيف يتم ذلك في العصر الحاضر؟

وللإجابة على هذه التساؤلات أقول: إن أمر أهل البيت هو تحكيم قيم الدين الحنيف بقيادة آل بيت الرسالة، كما ورد في قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ.

إذن، فالمراد من إحياء أمرهم- سلام الله عليهم- في عصر إمامة كل منهم هو التمهيد ثقافياً واجتماعياً لتحقق إمامتهم وقيادتهم. فإحياء أمر أهل البيت: في العصر الحاضر، يعني- بناء على ذلك- التمهيد للحكم الإسلامي العالمي بقيادة المهدي من آل محمد 9.

من جهة أخرى، إن التشتت والاختلاف بين المسلمين يشكّل أهم عائق يحول دون حاكمية القيم الإسلامية في العالم، ويعرقل عملية التمهيد الثقافي لحكومة إمام العصر والزمان [العالمية. ولذلك بذلت أجهزة الاستخبارات العالمية منذ أمد طويل جهداً كبيراً لزرع بذور الشقاق في صفوف المسلمين وصعّدت مؤامراتها بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وانتشار مدّها في العراق ولبنان وأفغانستان، حيث أصبحت هذه المؤامرات

ص: 7

في الآونة الأخيرة أكثر تعقيداً ووصلت إلى ذروتها، مما دعا قائد الثورة الإسلامية سماحة آيةالله الخامنئي أن يسمّي العام الحالي عاماً للوحدة الوطنية والانسجام الإسلامي؛ وذلك لمواجهة مؤامرات الاستكبار العالمي.

ولكن، يبقى السؤال: كيف يمكن في هذا العصر إحياء أمر أهل البيت: والتمهيد للحكم الإسلامي العالمي بقيادة الإمام المهدي [؟

إن ما نقل عن الإمام الرضا 7 في مطلع الحديث يتضمن الإجابة على هذا السؤال، فالراوي يسأل الإمام 7: وكيف يحيي أمركم؟ فيردّ الإمام 7 قائلًا: يتعلّم علومنا ويعلمها النّاس؛ فإن النّاس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا.

وبما أن معارف أهل البيت: تتطابق مع العقل والفطرة الإنسانية، فإن قول الإمام 7 يدلّ على أن التعرف على هذه المعارف يمهّد الطريق أمام الناس لاتّباع أهل البيت: وتحقيق حكومتهم العالمية.

ومن أبرز معارفهم ما يرتبط بتوحيد كلمة الأمة الإسلامية والتحذير من خطر التفرقة.

وها هو أبو الأئمة أميرالمؤمنين علي 7 يقول في كتابه الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري في قضية التحكيم: وليس رجل- فاعلم- أحرص على جماعة أمة محمد وألفتها مني.

وهنا أشير إلى ثلاثة من جهود الإمام علي 7 في تحقيق الوحدة الإسلامية لتشكل رسالة من هذه الندوة المباركة نوجهها إلى جميع أتباعه ومحبّيه من جوار بيت التوحيد في هذا العام وهو عام الانسجام الاسلامي:

1- جهوده في الدعوة

إستثمر الإمام علي 7 كل فرصة لبيان سلبيات التفرقة وخطرها على أساس الحكومة الإسلامية. وجاء في ما روي عنه أنه خاطب المسلمين من معاصريه قائلًا: وأيم الله، ما اختلفت أمة قط بعد نبيها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقها.

فالإمام يرى أن الباطل ينتصر باتحاد أهله والحق يهزم بتفرق أتباعه، حيث ورد في الخطبة الخامسة والعشرين من نهج البلاغة قوله:

والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم.

كما وينقل الإمام 7 للمسلمين في خطبة القاصعة تفاصيل تجربتين تاريختين مهمتين ليلقنهم عبر التاريخ ودروسه:

«واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذميم الأعمال. فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم. فإذا تفكرتم في تفاوت حاليهم فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء له عنهم ومدت العافية به عليهم، وانقادت النعمة له معهم ووصلت الكرامة عليه حبلهم من الاجتناب للفرقة، والتحاضّ عليها والتواصي بها.

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم ... فاعتبروا بحال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل. فما أشدّ اعتدال الأحوال، وأقرب اشتباه الأمثال.

تأملوا أمرهم في حال تشتتهم وتفرقهم ليالي كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم، يحتازونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخضرة الدنيا إلى منابت الشيح، ومهافي الريح، ونكد المعاش.

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولًا فعقد بملته طاعتهم وجمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ...

فهم حكام على العالمين، وملوك في أطراف الأرضين. يملكون الأمور على من كان يملكها عليهم. ويمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم. لا تغمز لهم قناة، ولا تقرع لهم صفاة ... فإن الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمة فيما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلها، ويأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة؛ لأنها أرجح من كل ثمن وأجل من كل خطر».

وبعد ذلك يحذّر الإمام من أن الوحدة تهدّدت وتعرّضت أواصرها للخطر في عصره.

2- جهوده قبل خلافته

رغم إيمانه بأن الخلافة بعد رسول الله 9 من حقه، إلّا أن الإمام علياً 7 كان يرى الخطر في تشتت صفوف المجتمع الإسلامي أكبر من خطر تركه للساحة السياسية. ولذلك قال 7:

وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنّا على غير ما كنا لهم عليه.

وقال 7 أيضاً:

ص: 8

قد جرت أمور صبرنا عليها وفي أعيننا القذى تسليماً لأمرالله تعالى فيما امتحننا به ورجاء الثواب على ذلك، وكان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون وتسفك دماؤهم.

3- جهوده بعد خلافته

ولقد بذل الإمام علي 7 بعد خلافته كل الجهود لصيانة وحدة الأمة الإسلامية. وممّا يثير الانتباه في هذا المجال أن الإمام 7 فصل بين الإصلاحات الإدارية والاقتصادية وبين الإصلاحات الثقافية التي أجل قسماً هاماً منها حفاظاً على وحدة الأمة. وقال 7:

لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت أشياء.

وحول اهتمامه بتوحيد الكلمة بين أبناء الأمة الإسلامية يقول شريح القاضي:

بعث إليّ عليّ أن اقض بما كنت تقضي حتى يجتمع أمر الناس.

وهناك الكثير ممّا ينبغي قوله في هذا المجال، وهذا ما أوردناه بتفصيل في موسوعة الإمام علي 7 عند ذكر سياساته 7.

إن سيرة هذا الإمام العظيم وسائر أئمة أهل البيت: من قول وفعل، ينبغي أن تكون النبراس لحركة أتباعهم في العصر الراهن وللعمل على التقريب بين أبناء الأمة الاسلامية تمهيداً للحكومة الإسلامية العالمية بقيادة إمام العصر [.

اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أعوانه وأنصاره.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ص: 9

الاتحاد الوطني والانسجام الإسلامي

الشيخ جعفر السبحاني

جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس وجعل الحج موسماً للعبادة وفرصة للقاء بين المسلمين من كل صقع وصوب ليتعارفوا ويطلعوا على أحوال بعضهم بعضاً وهذا ما يشير إليه سبحانه بقوله: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) وأي منفعة بعد العبادة أكبر من أن يلتقي الأخوة في الله في مكان واحد بعيداً عن جميع الاعتبارات الشخصية والاجتماعية والحواجز القومية والاقليمية والعرقية تغمرهم مشاعر المحبة والمودة وتجمعهم روح الأخوة الصادقة الصافية.

وأي مسألة أهم من أن يتعرف المسلمون على الأخطار والمشاكل المحدقة بهم ويتدارسوا حلولها المناسبة ويعملوا معاً بيد واحدة وعزيمة صارمة.

وانطلاقاً من هذا المبدأ قمنا بإلقاء كلمة حول الاتحاد الوطني والانسجام الإسلامي شرحنا فيها ما للاتحاد والوحدة من المنافع وما للفرقة والاختلاف من المضار وأتينا بدلائل على التلاحم الموجود بين السنة والشيعة في الأزمنة السابقة.

الحديث عن الاتحاد والوحدة لايحتاج إلى برهنة واستدلال، فكلّ إنسان- وإن كان يتمتع بمعلومات محدودة حول القضايا الاجتماعية- يعرف أن تلاحم أمّةٍ ما وتضامنها سبب للكثير من الفوائد والخيرات، كما أنّه يعلم أنّ الاختلاف والانشطار لا ينتجان سوى الإخفاقات المتزايدة.

إن ضرورة وحدة الأمّة- أيّ أمة- من القضايا التي قياساتها معها حسب الاصطلاح المنطقي، أي أنها ادّعاءٌ يحمل دليله معه، ومن ثم لا يحتاج إلى برهان أو دليل.

ص: 10

المقطع الأول من مقطعي العنوان أعلاه عبارة عن «الاتحاد الوطني»، ومن الواضح أنّ الوحدة القومية والوطنية تختلف عن النزعة القومية، فالقومية مرفوضة في الإسلام، وقد ذمّ القرآن بشكل واضح هذه النزعة، فقد جاء فيه قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ). (1)

وتحمل النزعة القومية معها معطيات مرفوضة وسلبية، إنها تعني أفضلية قومٍ على آخرين؛ للغتهم أو دمهم أو أرضهم أو قوميتهم، إنهم يفتخرون بذلك، ويمارسون الإذلال والتحقير بحق الشعوب الأخرى.

إن هذا اللون من التفكير مذموم من جانبي العقل والشريعة الإسلامية المقدسة، فهو يمثل نوعاً من التفكير اليهودي الذي يرى بني إسرائيل أمةً مختارةً، ولهذا فهم ينسبون إلى الله أشياء لطالما ردّها القرآن، منها- على سبيل المثال-: (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصاري) (2)، و (قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصاري عَلي شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصاري لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلي شَيْ ءٍ) (3) و (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآْخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (4).

إن هذه القومية نوع من عبادة العِرق، ومع الأسف فقد تفشت هذه النزعة في العالم في القرنين الأخيرين وأفضت إلى نزاعات واضطرابات وحروب عدّة، بينما نرى أن منطق الإسلام لا يعطي للقومية والعِرقية أيّ قيمة ولا يعيرها أيّ اهتمام.

والنتيجة أن النزعة القومية مرفوضة قرآنياً وعقلياً؛ لما تحمله من مضمون سلبي.

أما الاتحاد القومي والوطني، فهو مفهوم إيجابي لا يحمل في طيّاته أيّ آثار سلبية، إنّه يعني أن الأمة التي تعيش على أرضٍ واحدة وتشرب من مياه واحدة، تستفيد منها طوال سنين، فإن لهذه الأرض حقاً عليهم، وهذا الحق يتمثل في أن يتحد البشر الساكنين على سطحها ويضعوا يدهم بيد بعضهم بعضاً، يرفعون بذلك نقائص حياتهم، ويتغلبون على المشاكل والأزمات، دون أن يمارسوا تحقيراً للشعوب الأخرى أو يقوموا بأذيتها والإضرار بها، إن الاتحاد القومي والوطني بهذا المعنى الآنف الذكر فكرٌ فطري؛ فكل إنسان تربطه بوطنه علاقة عاطفية.

عندما هاجر النبي الأكرم 9 من مكة، وقعت هذه المدينة في ذاكرته وهو في وسط الطريق عند «الجحفة»، فلم يتمكّن من إخفاء مشاعره وحبّه لمسقط رأسه، فامتلأت عيناه بالدموع، وهنا نزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلي مَعادٍ) (5)

كذلك وعندما فتح النبي 9 مكة بعد عشر سنوات من البُعد عنها ومفارقتها، وطهّر بيت التوحيد من لوث عبادة الأصنام، نزل لدى دخوله إليها نقطةً مرتفعة فيها تسمّى «أذاخر» وعندما وقعت عيناه على الكعبة كما ورد في كتب التاريخ: اجتاحت قلبه عاصفة من الهم والحزن، وقال: «إني أحبك ولولا أنّي هُجّرتُ لما تركتك».

يتبين من هذا أنّ بين الاتحاد الوطني والقومي والنزعة القومية فاصلة كبيرة، بل لا يمكن- من الأساس- الجمع والمقارنة بينهما.

مدح القرآن للاتحاد وذمّه للانشطار والتشظي

كلّما وصل القرآن الكريم إلى الحديث عن الوحدة والاتحاد أردفه بمدحهما، وكلّما مرّ بالحديث عن الاختلاف والانقسام ذمّهما، يقول في الاتحاد: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)، (6) ولتحقيق هذا الاتحاد اعتبر القرآن المؤمنين إخوةً فيما بينهم، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (7)، وفي الحقيقة فإنّ أقرب علاقة بين شخصين من مستوى واحد هي علاقة الأخوة، لهذا اعتبر المؤمنون إخوة، فعلاقة الأبوة والبنوة رغم كونها أقوى من علاقة الأخوة إلا أنّ طرفي هذه العلاقة ليسا بمستوى واحد، لهذا لم يوظف القرآن هذه العلاقة، وإنما استعاض عنها بعلاقة الأخوة.

أما لدى حديثه عن الفرقة والانقسام، فنجده يقول: (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلي أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيْاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (8)؛ فقد عرضت هذه الآية المباركة ثلاثة أنواع من العذاب هي:

1- العذاب من فوق، كحجارة السماء أو الصاعقة التي تحرق مدينةً كاملة.

2- العذاب من أسفل، كالزلزلة المدمرة والبراكين.

3- عذاب الأمة الواحدة التي تتشتت إلى فرق مختلفة تعزف كل واحدةٍ منها على منوال خاصّ بها، وهذا العذاب أسوأ من العذابين السابقين، بشهادة أنه بعد ذكر العذاب الثالث المشؤوم يذكر نتيجته ألا وهي تعذيب كل واحدٍ بالآخر.

وأُنهي هذا القسم من الموضوع بتحليل آية الاعتصام، حيث أن القرآن دعا إلى الوحدة والتمسّك بالحبل الواحد؛ فبدلًا من أن يقول: تمسّكوا بالقرآن والإسلام، نراه يقول: تمسّكوا بحبل الله، وكأن الهدف من ذكر (الحبل) الإشارة إلى أن الإنسان عندما يكون في قعر البئر فإن سبيل نجاته الوحيد هو أن يُلقى إليه حبل إلى داخل البئر ليتمسك به ويصعد عليه، وإلا فإن موته في الداخل يغدو محتماً، إن الأمة المضطربة التي يعزف كل واحدٍ فيها على منواله تشبه ذاك الذي سقط في البئر، ذلك أن موتها قطعي ونهايتها محتومة، فما أروع أن نعمل على أن تتوحّد هذه الإيقاعات ونمسك خير إمساك بحبل الوحدة كي نحظى بالنجاة وننعم بالخلاص.

كانت هذه كلمات موجزة وإجمالية حول المقطع الأول من العنوان (الاتحاد الوطني)، ولننتقل الآن إلى شرح المقطع الثاني.


1- الحجرات: 13.
2- البقره: 111.
3- البقرة، 113.
4- البقرة، 94.
5- القصص: 85.
6- آل عمران: 103.
7- الحجرات: 10.
8- الأنعام: 65.

ص: 11

الانسجام والتضامن الإسلامي

تعني كلمة الانسجام النظم والانضباط، وهو أحد المحسّنات البديعية في البلاغة، فذاك الكلام الذي تتسم مفرداته بالجمالية وتخلو من التعقيد يطلق عليه اسم الكلام المنسجم. والانسجام الإسلامي يختلف عن وحدة المذاهب، وهو معادل- بمعنى من المعاني- للتقريب بين المذاهب، فوحدة المذاهب أمر غيرممكن التحقق؛ ذلك أن الاختلافات التي مضى عليها أربعة عشر قرناً لا يمكن بأسبوع واحد أو شهر واحد أو سنوات عدة أن تزول أو تتلاشى، إلا أنه في الوقت عينه الذي تختلف فيه المذاهب يمكنها استخراج مجموعة من المشتركات الكثيرة فيما بينها لتنطلق منها في تعاون ضروري وتحصل من خلال ذلك على نتائج مبهرة، دون أن تمتنع في الوقت عينه عن تداول القضايا الخلافية في المحافل العلمية- لا في مقبرة البقيع (1)- عبر حوارات مثمرة لتحلّ العالق منها أو تجعل الأفكار متقاربة.

الانسجام الإسلامي في ظلال المذاكرة والحوار

من المناسب أن أنقل هنا قصّةً تتصل بموضوعنا، فقبل سبعة وعشرين عاماً انطلق مجلس الخبراء من هذه النقطة بالذات، والتقى نيّف وسبعون شخصاً هنا، وكنت أنا آنذاك في لجنة (الأحوال الشخصية)، التي تشكّل الفصل الأول من الدستور.

وقد كان في لجنتنا المولوي عبدالعزيز؛ فسألني: هل تقولون- أنتم الشيعة- بالبداء؟ فأجبت: نعم، قال: والبداء بمعنى الظهور بعد الخفاء، لا يمكن نسبته إلى الله فلا يقال: بدا لله؟

فأجبت: البداء كلمة تستخدم في موردين:

1- البداء في مقام الثبوت.

2- البداء في مقام الإثبات.

أما الذي في مقام الثبوت فيعني أن كل إنسان يتمكن من تغيير مصيره بأعماله الصالحة والطالحة، وأن لا يظن بأنه ليس له سوى مصير واحد، وإنما يرى أن له مصائر عدّة، كي يعرف كيف يحوّل مصيره عبر العمل، فمثلًا هناك عمر محدود للإنسان في لوح المحو والإثبات، إلا أن هذا المصير غير حتمي، إذ بإمكانه تغييره عبر ممارسة صلة الأرحام، فيتمكن من زيادة عمره أو الإنقاص منه بالأعمال التي يقوم بها. وقد يُكتب في مصير الإنسان بلاء أو مرض إلا أنه لايكون حتمياً، إذ يمكنه أن يرفع هذا البلاء عنه بالصدقة.

وهناك عدة آيات وروايات تدلّ على هذا النوع من البداء ذي البُعد الثبوتي، كما أن الآية الكريمة: (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (2) ناظرة إلى هذا الأمر. وقد أورد جلال الدين السيوطي في تفسير «الدر المنثور» عدداً من الروايات بهذا المضمون.

إنّ أكبر أثر للاعتقاد بالبداء متصل بعالم الثبوت، في مقابل اليهود الذين يعتقدون بعدم إمكان تغيير المصير البشري حتى بالنسبة لله تعالى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (3)

أما البداء في مقام الإثبات، فيحمل معنى آخر، وهو أن يُخبر نبيّ أو ولي من أولياء الله بخبرٍ ما، غير أنه لا يتحقق، وهنا لابد أن نعرف أن هذا المخبر الإلهي لم يكن كاذباً في خبره، فقد كان مطلعاً على المقتضيات التي تدفع إلى تحقق الظاهرة أو الحدث، دون أن يكون مطلعاً على المانع اللابث في البَيْن، وفي هذا المورد يقال: بدا لله، تماماً كما في قصة قوم يونس، حيث أخبر بنزول العذاب، وبدت آثاره، وعبر ذلك ثبت قول هذا النبي، غير أن قوم يونس سلكوا سبيل التوبة بإرشاد من أحد العباد الزاهدين، وتمكنوا بذلك من إبعاد شبح العذاب الإلهي عنهم، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: (فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلي حِينٍ) (4)

وللبداء في مقام الإثبات موارد معدودة، أحدها ما جرى لقوم يونس، أما أنه لماذا يقولون: بدا لله، فيما كان سبحانه وتعالى مطلعاً على تمام زوايا الحدث وأطرافه، أي أنه كان يعلم بتكذيب قوم يونس وبلعنة يونس عليهم وتهديد مظاهر العذاب لحياتهم وعمرانهم .. كما أنه سبحانه يعلم بأنهم يسلكون سبيل التوبة، وتنزل الرحمة الإلهية عليهم، وفي هذه الحالة لماذا يقال: بدا لله؟ فيما يفترض أن نقول: أبدى الله ما أخفاه؟ فالجواب: هو أن البشر يتحدثون عما يرونه، فحيث كان هذا الواقع بنظرهم ظهوراً بعد الخفاء، فإن الاستنتاج الأولي لهم يصوغونه في جملة: بدا لله، وإلا لابد من القول- انطلاقاً من العقائد والأصول المسلّمة-: بدا من الله.

إن هذا النوع من الاستعمالات كثير في القرآن الكريم، ونذكر هنا مورداً واحداً؛ حيث يتحدث القرآن عن المنافقين، فيقول: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (5)؛ فمن المسلّم أن عمل المشركين كان حيلةً، فيما لا يكون عمل الله حيلة والعياذ بالله، وإنما يبطل سبحانه حيلهم، لكن حيث جرى التعبير عن عملهم بالمكر، بيّن فعل الله باستخدام الكلمة نفسها، كي يكون هناك نوع من التناغم والتناسق في الحوار والمجادلة، وهذا ما يسمّى في الاصطلاح البلاغي بالمشاكلة التي تعطي الكلام جماله ورونقه.

ومن هذا المنطلق، عندما تحدث رسول الله 9 عن الأشخاص الثلاثة من بني إسرائيل الذين كانوا يتعذبون: واحد بالقرع وآخر بالعمى، وثالث بالبرص، وأن الله رفع عن كل واحد منهم بلاءه؛ فأعطى الأول شعراً جميلًا، والثاني عيوناً ناظرة مبصرة، والثالث جلداً نابضاً نضراً، وعندما لم يشكر بعضهم هذه النعمة الإلهية أخذها الله منه؛ لأنه لم يكن ليقوم بواجباته ومسؤولياته مقابل هذه النعم الربانية، في هذه القصة نجد رسول الله 9 يعبّر: «بدا لله في الأقرع والأبرص ...» (6)، والعلّة في هذا التعبير هو ما قلناه قبل قليل.


1- إشارة إلى دعايات الوهابيين التي تطرح من قبل البعض في مقبرة البقيع، على أسماع حجاج بيت الله الحرام و زائري قبر رسول الله 9 و أهل بيته:.
2- الرعد: 39.
3- المائدة: 64.
4- يونس: 98.
5- الأنفال: 30.
6- صحيح البخاري 208: 4، كتاب الأنبياء، الباب 51.

ص: 12

... عندما سمع عبدالعزيز هذا البيان كلّه قال: آتني بكتاب من قدماء الإمامية يفسّر البداء بهذا الشكل الذي ذكرته الآن، وفي تلك الأيام، أتيته بكتاب «أوائل المقالات» مع «تصحيح الاعتقاد» للشيخ المفيد، وذلك عاريةً من مكتبة مسجد چهل ستون (الأربعون عموداً)، في طهران، وقدّمته له، وبعد ستة أيام أرجع الكتاب لي، وقال: إنّ البداء بهذا المعنى الذي يقوله (المفيد) متفق عليه بين علماء أهل السنة كافة.

استنتج من هذا كلّه، أن الحوارات الحميمة الصادقة التي تحكمها الصداقة يمكنها أن تقلّص المسافات وترفع الكثير من الستر التي تحجب رؤية الحقيقة.

تعاون علماء الفريقين في العصور السابقة

إن هذا البُعد والقطيعة الموجودين اليوم بين علماء الشيعة والسنّة كانا أقلّ حجماً في الماضي، وقد ضاعفت العناصر الخارجة عن الأجواء العلمية منها، ووسعت من الانشطار والتشظي، ونمرّ هنا على تاريخ هذا التعاون بين علماء الفريقين:

عصر الصادقين 8 المنير والانسجام الإسلامي

يعدّ عصر الإمامين: الباقر والصادق 8 عصر الصراع والتصادم بين الدولتين: الأموية والعباسية، فحينما كان رجال السياسة مشغولين ببعضهم، كان الجو العلمي مفتوحاً أمام التعاون المعرفي، وقد استفاد منهما 8 عدد كبير من أعظم شخصيّات فقهاء ذلك العصر، نذكر بعضاً منها:

1- أبوحنيفة (150 ه-) إمام الحنفية، فقد كان ملازماً للإمام الصادق 7 لعامين كاملين في المدينة المنورة، وهو بنفسه يتحدث عن تأثير هذين العامين عليه، حيث يقول: «لولا السنتان لهلك النعمان» (1)

2- مالك بن أنس (179 ه-) فقيه المالكية، حيث يقول عن الإمام الصادق 7: لقد رأيت جعفر بن محمد، وكانت الابتسامة على شفتيه، كان عندما يذكر اسم رسول الله 9 يتغير لونه ويصفر، ولم ينقل حديثاً عن رسول الله 9 إلا وكان على وضوء، لقد كنت لمدة أكرر الذهاب عنده والتردد عليه، فلم أره إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصليّاً وإما صائماً وإمّا يقرأ القرآن، وكان من العبّاد الزهاد الذين يخشون الله تعالى (2).

3- سفيان الثوري (161 ه-) صاحب مذهب فقهي يُنسب إليه، وقد استمرّ مذهبه قائماً حتى القرن الرابع الهجري، وقد نقل الكثير من الروايات عن الإمام الصادق 7.

4- سفيان بن عيينة (198 ه-) أحد رؤساء المذاهب التي انقرض أنصارها، وكان ينقل روايات عن الإمام الصادق 7.

كانت هذه نماذج لما أردنا ذكره، وكتب الرجال والتراجم حافلة بالمزيد (3).

ولم تكن هذه العلاقة لتربط الفقهاء المعاصرين للإمام الصادق والباقر 8 وتجعلهم يحملون رواياته وأحاديثه، وإنما امتدّت لتشمل الفقهاء الكبار في علاقتهم بتلامذة هذين الإمامين، حيث كانت بين الطرفين علاقات علمية وفكرية، فابن أبي ليلى قصد محمد بن مسلم كي يطلع من خلاله على فتاوى وآراء الإمام الصادق 7، ليتمكّن عبر ذلك من حلّ مشكلاته الفقهية (4).

وفي سفره من المدينة إلى مرو، كان على مسير نيسابور آلاف المحدّثين ينتظرون الإمام الثامن 7 وفي أيديهم القلم والكاغذ، وهناك بالذات سمعوا حديث السلسلة الذهبية حيث ألقاه الإمام الرضا 7 عليهم.

ويشير الإمام الفخر الرازي في تفسيره لسورة الكوثر إلى نسل السيدة الزهراء 3، ويقول: في أيّ أسرة نجد علماء كبار مثل الباقر والصادق والكاظم والرضا؟! وفي المجلّد الأول من تفسيره، ولدى بحثه عن جزئية البسملة من كل سورة ولزوم الجهر بها، ينقل الفخر الرازي رأي الإمام علي بن أبي طالب 7 ويقول: «كل من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى»، ودليله على ذلك قول رسول الله 9: «اللهم أدر الحق معه حيثما دار» (5).

أكتفي هنا بهذا المقدار للتدليل على التعاون المعرفي الذي كان قائماً بين المذاهب في عصر الأئمة الأربعة، وأسعى- لاحقاً- لبيان هذا التعاون بين علماء الفريقين في عصر الغيبة، منذ عام 260 ه- فما بعد.

1- الكليني في طرابلس

محمد بن يعقوب الكليني، أحد المحدّثين الشيعة البارزين، ولد حوالي عام 255 ه- وتوفي عام 329 ه-، وقد كتب «الكافي» في حوالي عشرين سنة، وأخذ عنه القميّون الحديث، ثم عزم السفر إلى بغداد، ليعرض هناك كتابه على المحدثين.

في تلك الأيام، كانت بغداد والكوفة مركز التشيع، ومع ذلك لم يكتف الكليني بما فعل، بل واصل سيره نحو دمشق وبعلبك، وهناك في بعلبك بالذات نقل الحديث عن أستاذين هما: أبوالحسن محمد بن علي السمرقندي، ومحمد بن أحمد الخفاف النيسابوري.

يكتب ابن عساكر في تاريخه أن مشايخه ضبطوا الحديث عن الكليني، ويعمد من ثم إلى نقل حديث عنه بسنده إلى أميرالمؤمنين 7: «إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله» (6).


1- التحفة الاثنا عشرية: 8.
2- ابن شمسية، التوسل والوسيلة: 52.
3- لمزيد من الاطلاع انظر كتاب: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 71: 1- 73.
4- وسائل الشيعة، ج 12، أبواب أحكام العيوب، الباب 1، الحديث 1.
5- التفسير الكبير، للفخر الرازي، 204: 1.
6- تاريخ ابن عساكر 298: 56.

ص: 13

لقد كان الجو في بعلبك منفتحاً إلى حدّ أن محدّثي الفريقين كانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم، وقد أخذوا الحديث من هذا الشيخ الجليل، دون أن يروا أن تشيّعه مانع من أخذ الحديث عنه.

2- الشيخ الصدوق في بلاد ما وراء النهر

يمّم الشيخ محمد بن علي بن بابويه (306- 381 ه-) المعروف بالشيخ الصدوق، شطره- لأخذ الحديث- ناحية المشرق الإسلامي، وأقام لسنوات عدة في بلخ وبخارى، ونقل الحديث عن 260 شيخاً من شيوخ الحديث، وقد كان بعضهم من محدثي أهل السنّة، مثل أبي نصر أحمد بن الحسين الضبّي المرواني (1)، كما نقل عددٌ من محدّثي أهل السنّة عنه الأحاديث، وقد كان بعض مشايخ الخطيب البغدادي، مثل محمد بن طلحة النعّالي من تلامذة الشيخ الصدوق، ليس هذا الرجل فحسب، بل هناك آخرون من أهل السنّة أخذوا الحديث عنه (2).

3- الشيخ المفيد في بغداد

محمد بن محمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (336- 413 ه-) أحد العلماء المشهورين في بغداد، لقد كان مشعلًا يضيئ على المحيطين به، وقد استفادت الفرق عامتها منه، يقول ابن الجوزي عن درسه: «كان له مجلس بداره بدرب رباح يحضره كثير من العلماء من سائر الطوائف» (3)؛ وما يرشد إلى عمق العلاقة التي كانت تربط الفرق كافة- من الشيعة والسنّة- به وحبهم له، ما يقوله عنه كل من الشيخين: الطوسي والنجاشي، وهما من تلامذته، يقول النجاشي: «وكان يوم وفاته مشهوراً، وصلى عليه الشريف المرتضى بميدان الإشنان، وضاق على الناس مع كبره» (4). ويصف الشيخ الطوسي يوم وفاته فيقول: «كان يوم وفاته يوماً لم يُرَ أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف والمؤالف» (5)

لقد كان الشيخ المفيد وكافة علماء بغداد من الفرق المختلفة يكرّمون العلم رغم اختلافهم فيما بينهم. وكانت تربطهم علاقات وطيدة، فذرف شخص سنّي الدموع على موت عالم شيعي كاشف عن عمق العلاقة والارتباط الروحيين.

4- الشريف المرتضى زعيم أهل العراق

يعدّ الشريف المرتضى، علي بن الحسين (355- 431 ه-) من أركان العلم في العراق، وقد اعترف الجميع له بالإمامة في الكلام والفقه والتفسير والأدب، فابن بسام الأندلسي يمتدحه في أواخر كتاب (الذخيرة) فيقول: «كان هذا الشريفُ إمام أئمة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها، وعنه أخذ عظماؤها» (6).

5- الشيخ الطوسي وكرسيّ التدريس

ومما أنتجته يراع الأستاذين البارزين: المفيد والمرتضى، الشيخ محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460 ه-)، إننا نجده ينقل في أسانيده عن عالمين سنيين أخذ عنهما الرواية، وهما: أبوعلي بن شاذان، وأبو منصور السكّري (7).

ويصف الذهبي بيته بمعقل السبّاقين إلى العلم، ويكفينا للإشارة إلى عظمته العلمية أن أعطاه الخليفة العباسي (القائم بأمر الله) كرسي الكلام الإسلامي (8).

6- ابن إدريس الحلّي والتعاون مع الفقيه الشافعي

يخبرنا محمد بن منصور الحلي، المعروف بابن إدريس (543- 598 ه-)- وهو عالم بارز مرموق صاحب رأي ومدرسة في الفقه- في كتابه القيّم (السرائر) عن علاقته وتعاونه مع أحد فقهاء الشافعية: «كتب إليّ بعضُ فقهاء الشافعية، وكان بيني وبينه مؤانسة ومكاتبة: هل يقعُ الطلاق الثلاثُ عندكم؟ وما القول في ذلك عند فقهاء أهل البيت؟ فأجبته ...».

لقد عاش ابن إدريس في مدينة الحلّة فيما كان مسكن هذا الفقيه الشافعي هو بغداد أو شمال العراق، إلا أنّ بُعد المسافة لم يشكل مانعاً من استفادة هذين الفقيهين من بعضهما، ليرجّحا المشتركات على نقاط الخلاف.

7- الشيخ منتجب الدين الرازي ومديح الرافعي القزويني

منتجب الدين أحد علماء القرن السادس، وقد كتب تكملةً على فهرست الشيخ الطوسي، وفي الحقيقة فقد أكمل فهرست الشيخ الطوسي شخصان في وقتٍ واحد: منتجب الدين في الري، وابن شهر آشوب في بغداد أو دمشق.

يعدّ الرافعي القزويني- صاحب كتاب (التدوين)- من المحدّثين الرفيعين لأهل السنّة، ومن مؤرخي القرن السادس، وقد لازم الشيخ منتجب الدين وظل في خدمته فترة طويلة، وأخذ عنه الحديث والعلم، ومن المناسب هنا أن نطالع مكانة هذا العالم الشيعي على لسان تلميذه، إنه يعرّف أستاذه في كتاب (التدوين) كما يلي: «شيخ ريّان من علم الحديث سماعاً وضبطاً، يكتب ما يجد ويسمع ممن يجد، ويقلّ من يدانيه في هذه الأعصار في كثرة الجمع والسماع والشيوخ الذين سمع منهم وأجاز لهم، وله كتاب الأربعين، وقد قرأته عليه بالريّ سنة 584 ه-» (9).

8- فخر المحققين ومديح صاحب القاموس


1- انظر: علل الشرائع.v
2- الصدوق، كمال الدين: 170.
3- المنتظم 157: 15.
4- رجال النجاشي، الرقم: 1067.
5- الفهرست للشيخ الطوسي، الرقم: 711.
6- وفيات الأعيان 313: 3، الرقم: 443، نقلًا عن ابن بسام.
7- مقدّمة التبيان: 7.
8- سير أعلام النبلاء، للذهبي 334: 18.
9- التدوين في أخبار قزوين 372: 3.

ص: 14

فخر المحققين محمد بن الحسن بن يوسف، أحد فقهاء القرن الثامن الكبار، إنه ابن الحسن بن يوسف المعروف بالعلامة الحلّي، وقد كان هذا الولد عزيزاً ومحترماً جداً عند والده، لهذا كتب الوالدُ جملةً من مؤلفاته بناء على طلبٍ منه ورغبة، وفي آخر كتاب (قواعد الأحكام) سجّل وصيّته لولده وهي وصية تحوز على قدر عالٍ من الأهمية من الناحية الاجتماعية والأخلاقية.

هذا من جانب و من جانب آخر، يصنّف الفيروزآبادي، صاحب كتاب (القاموس المحيط) من الأدباء اللامعين في القرن الثامن الهجري، ويصنّف كتابه هذا مرجعاً لكتّاب القواميس اللغوية الذين جاؤوا بعده.

أجاز الفيروزآبادي لأحد تلامذته- المعروف باسم ابن الحلواني- نقل كتاب (التكملة)، ويخبره بأنه أخذ هذا الكتاب عن أستاذه ورواه عنه، ذاكراً سنده لمؤلّف التكملة.

وفي هذه الحال، يصف الفيروزآبادي فخر المحققين بالقول: «بحر العلوم وطودُ العلى، فخر الدين محمد بن الشيخ الإمام الأعظم برهان علماء الأمم، جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر بحقّ روايته عن والده».

هل هناك تبادلًا علمياً وتعاوناً معرفياً أكثر من هذا؟ وهل يمكن أن يكون هناك أوضح من هذا في واقعية تقييم الآخرين؟

9- الخواجه نصير الدين الطوسي ونجاة العلماء

نفذ المغول من المشرق إلى داخل البلاد الإسلامية، وشرعوا بحملتهم عام 606 ه-، واحتلوا بغداد عام 656 ه-، ومنذ بداية الحرب خربوا المدن والقرى التي مرّوا بها وارتكبوا فيها المجازر الجماعية، وعلى امتداد مسيرهم أبادوا مظاهر الحضارة الإسلامية، ولذا اختفى الكثير من العلماء والمفكرين ولجأوا إلى أماكن ونقاط بعيدة قاصية، وعندما وصل المغول إلى بغداد لم يرحموا الصغير ولا الكبير ولا السني ولا الشيعي، ولم تمض أيام إلا وغرقت المنطقة في مسلسل إعدامات واسع النطاق، ورموا بكتب علماء الإسلام في نهر دجلة حتى غدا ماؤه أسود.

وفي هذه الفترة كان نصير الدين الطوسي أسيراً في يد الإسماعيليين عند فتح قلعة أَلَموُتْ، وسقط أسيراً في يد المغول، وحيث بلغهم علمه بالنجوم والرياضيات، وكانت هذه العلوم مرغوبة لدى هولاكو، حفظوه تحت أيديهم في بغداد، وقدّموا له الاحترام، وقد تمكّن بخبرته ودرايته من دعوة الكثير من العلماء من أماكن اختبائهم، وأعاد بناء الحضارة الإسلامية بتأسيسه مرصداً في مراغة.

لم يكن نصيرالدين يعرف في العلاقات العلمية والفكرية سنياً ولا شيعياً، لأنه كان لا يميّز بينهما، فقد أخذ العلم من أستاذٍ سنّي المذهب اسمه: كمال الدين بن موسى، كما تعلّم العديد من علماء أهل السنّة على يديه فبلغوا مكانةً مرموقة في سماء المعرفة، ويكفينا أن نعرف أن قطب الدين الشيرازي، وشهاب الدين الكازروني، وأبا الحسن علي بن عمر الكاتبي القزويني- مؤلّف كتاب الشمسية- من خريجي مدرسة الطوسي.

وقد حظي كتابه «تجريد الاعتقاد» باهتمام مختصّي علم الكلام الإسلامي، وبعد العلامة الحلي الذي يعدّ أوّل شارحٍ لهذا الكتاب، قام عدد من العلماء السنّة بشرحه أيضاً، مثل شمس الدين البيهقي، وشمس الدين الإصفهاني، وعلاء الدين القوشجي.

ويكتب ثالث هؤلاء الشراح في مقدّمة شرحه يحدّثنا عن هذا الكتاب بشكل مثير للدهشة، مما يجدر بطلاب المعرفة والراغبين مراجعته، وهذه بعض كلماته.

يقول: «تصنيف مخزون بالعجائب، وتأليف مشحون بالغرائب، فهو وإن كان صغير الحجم وجيز النظم، لكنه كثير العلم، عظيم الاسم، جليل البيان، رفيع المكان، حسن النظام، مقبول الأئمة العظام، لم يظفر بمثله علماء الأعصار، ولم يأت بمثله الفضلاء في القرون والأدوار، مشتمل على إشارات إلى مطالب هي الأمهات، مشحون بتنبيهات على مباحث هي المهمات، مملوّ بالجواهر كلّها كالفصوص، ومحتوٍ على كلمات يجري أكثرها مجرى النصوص، متضمّن لبيانات معجزة في عبارات موجزة ...» (1).

10- العلامة الحلي ومختصر ابن الحاجب

يصنّف ابن الحاجب (646 ه-) من أدباء القرن السابع ومن أُصوليي عصره، وقد غدت ثلاثة من كتبه محاور للتدريس والشرح، وهي:

1- الشافية، في الصرف.

2- الكافية، في النحو.

3- مختصر الأصول، في علم أصول الفقه.

وقد شرح الكتابين الأولين رضي الدين الاسترآبادي، وكان شرحاه لامعين في سماء اللغة والأدب، يقول جلال الدين السيوطي: بعد الرضي كل من جاء كان يعتاش على فتاته.

أما الكتاب الثالث لابن الحاجب فقد ظل كتاباً دراسياً في الحوزات الشيعية، وقد درّسه المغفور له المحقق الأردبيلي لتلميذيه: صاحب المدارك، وصاحب المعالم، ووقع الكتاب موقع القبول والترغيب من جانب علماء أصول أهل السنّة، وتعدّت شروحاته الأربعين شرحاً. ومن الوسط الشيعي


1- علاء الدين القوشجي، شرح التجريد: 1.

ص: 15

كانت للعلامة الحلي مساهمة علمية كريمة، فقد كتب شرحاً علمياً تحقيقياً عليه، يقول فيه ابن حجر: «في غاية الحسن في حلّ ألفاظه، وتقريب معانيه ...» (1).

إلى هنا، نكون قد مررنا سريعاً على بعض جوانب التعاون العلمي بين الفريقين، حتى القرن السابع، وقد كان هذا التعاون على مستوى العلماء والمفكرين، رغم أنه على مستويات أخرى ثمة من أوقد نار الفتنة فأوجد المشكلات للعلماء أنفسهم.

ونكون بما عرضناه قد عرضنا جانباً من مشهد التعاون بين علماء السنّة والشيعة، إلا أن شرح حال هذه العلاقة المتبادلة في القرون اللاحقة يطيل بنا المقام ويزيد في الكلام، لهذا نصرف- فعلًا- النظر عنه؛ لنطلّ على هذا التعاون المعرفي بين الفريقين القرن الرابع عشر الهجري، وبشكل موجز.

شرف الدين العاملي والشيخ سليم البشري

من مظاهر التعاون على مستويات عالية بين الفريقين ... اللقاءات والحوارات العلمية بين زعيمين: شيعي وسنّي، فالمرحوم عبدالحسين شرف الدين العاملي (1290- 1377 ه-)، سافر إلى مصر أواخر عام 1329 ه-، وكانت رئاسة الأزهر في ذلك الزمان بيد الشيخ سليم البشري، وبعد تعارف وتذاكر خاص، قرّرا القيام بسلسلة من الحوارات المنتجة والأساسية، وذلك كي تتحدّد للزعيم السنّي مكانة الشيعة من وجهة نظر الكتاب والسنّة، وقد جمعت حصيلة الحوارات التي وقعت بين الزعيمين الدينيين في 110 مراجعة، ليقرّ الشيخ البشري الجليل باتباع الإمامية لمذهب أهل البيت:، وهذه المكاتبات برمتها تشكل مادة كتاب (المراجعات).

دار التقريب ودورها في تقارب المذاهب

وفي القرن الرابع عشر، برزت بشكل واضح مظاهر هذا التعاون، وفكّر الفريقان: السني والشيعي منذ عام 1325 ه-/ 1946 م بمسألة التقريب، وهذا ما أبرز مقولة الانسجام الإسلامي، وكان أعمدة هذا المشروع كل من المرحوم آيةالله الشيخ محمدحسين كاشف الغطاء في العراق (1294- 1373 ه-)، والمرحوم آيةالله البروجردي (1292- 1380 ه-) في إيران، من الطرف الشيعي، وأما من الطرف السني فكان الشيخ عبدالمجيد سليم، شيخ الأزهر، والشيخ محمود شلتوت، لقد رفع هؤلاء الأساطين في المعرفة شعار التقريب، وكانوا من رجال الإصلاح، ودعوا عبر تأسيس «دارالتقريب بين المذاهب الإسلامية» العلماء والكتّاب إلى التمسّك بالمشتركات، وقد كرر هؤلاء الرواد أنه ليس هدفهم توحيد المذاهب أو دمجها، وإنما التقريب بينها في الرؤى ووجهات النظر، وقد أدى رجال العلم هؤلاء رسالتهم بإخلاص تام وخطوا خطوات كبيرة في مجال التقريب، إلى أن طبع ونشر في القاهرة كتاب «مجمع البيان» بتصحيح قليل النظير، وكذلك كتاب «المختصر النافع» للمحقق الحلي، حتى أن الكتاب الثاني قد نفد من الأسواق خلال شهرين.

لقد خطت دارالتقريب في القاهرة خطوات كبيرة على طريق تقريب المذاهب من بعضها، كانت من إفرازاتها الفتوى التاريخية لشيخ الأزهر فيما يخصّ الفقه الجعفري، وأنّ هذا الفقه معتبرٌ ورسمي وشرعي كسائر المذاهب الفقهية.

وهذا هو نصّ الفتوى الشهيرة:

«قيل لفضيلته: إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم- لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح- أن يقلّد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مثلًا؟ فأجاب فضيلته:

1- إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معين، بل يقول: إنّ لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادي ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلًا صحيحاً والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره- أيّ مذهب كان- ولا حرج عليه في شي ء من ذلك.

2- إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلّصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، ويجوز لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات» (2).

وقام المغفور له آية الله البروجردي، بطبع كتاب (الخلاف) للشيخ الطوسي، وأثبت عبر ذلك أنّ 99 من المسائل الفقهية يوافق فيها الرأي الشيعي رأي أحد المذاهب الفقهية السنّية، وليست سوى مسائل معدودة تلك التي تفرّد الشيعة بها، تماماً كما هو الحال في كل مذهب حيث له متفرّداته.

وما زلت أذكر عندما وردت إلى مدينة قم هيئة من علماء مصر، أذعنوا بأن ما نقله الشيخ الطوسي في هذا الكتاب عن علماء المذاهب كان صحيحاً تماماً.

ومن النتائج ذات البركة التي أفرزتها دارالتقريب أن الفقه الشيعي أثرّ في وضع بعض القوانين في مصر ممّا يرجع إلى الأحوال الشخصية، كما أثر في الآراء الفقهية لبعض المفتين، كما هو الحال في المسائل التالية:


1- الدرر الكامنة 71: 2.
2- مجلّة رسالة الإسلام، السنة الحادية عشرة، العدد الثالث.

ص: 16

1- إن الطلاق المتعدد في مجلس واحد ولو بلغ الثلاث يكون في حكم طلاق واحد.

2- عدم صحّة الطلاق الذي يقع في طهر قارب الزوج زوجته فيه، كما أن الطلاق في حال الحيض غيرصحيح.

3- لزوم وجود شاهدين عند إجراء صيغة الطلاق.

نعم، من الممكن أن تكون السياسات اللاحقة قد تلاعبت في هذه القوانين فأخرجتها عن حالتها السابقة.

وفي الوقت الذي كان فيه المرحوم آيةالله البروجردي يمسك بزعامة الشيعة كان الشيخ عبدالمجيد سليم رئيساً للأزهر، وعندما اطلع الأخير على مرض البروجردي أرسل إليه رسالة مليئة بالأدب ممهورةً بالإخلاص والصدق، وهذا نصّ ما جاء في هذه الرسالة:

حضرة صاحب السماحة آية الله الحاج آقا حسين بروجردي:

سلام الله عليكم ورحمته

أمّا بعد: فقد بلغنا- عن طريق المذياع- أن صحتكم الغالية قد ألمّ بها طارئ من المرض، فأسفنا لذلك أشد الأسف لما نعرفه فيكم من العلم والفضل والإخلاص للحق، وإنا لنسأل الله جلت قدرته أن يعجل بشفائكم، ويلبسكم لباس العافية، حتّى تتمكنوا من العود الحميد إلى نشاطكم المعهود في خدمة الإسلام والمسلمين.

ولقد شاءت إرادة الله أن أكون أنا أيضاً في هذه الفترة مريضاً معتكفاً في بيتي أحمل همّين ممّضين: همّ نفسي وهمّ قومي، وأطيل التفكير خالياً في حال أمتنا العزيزة، فيأخذني من القلق والحزن ما الله به عليم، فأرجو أن تسألوا الله لي العافية كما أسأله لكم، والله يتولانا جميعاً برحمته.

إن الأمة الإسلامية الآن أحوج ما تكون إلى رجال صادقي العزم، راجحي الوزن، يجاهدون في الله حق جهاده، ليدرءوا عنها غوائل الفتن، ونوازل المحن، فقد تألبت قوى الشر، وتجمعت عناصر الفساد، وزلزل المؤمنون في كل قطر من أقطارهم زلزالًا شديداً، وكأن قد أتى الزمان الذي أنبأ الصادق الأمين:- صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه- أن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وإنما مثل أهل العلم من المؤمنين الصادقين كأطواد راسية أو حصون منيعة ألقاها الله في الناس أن تميد بهم الأرض من فتنة أو جهالة، أو كنجوم ثاقبة في ليل داج، ترشد السارين، وتهدي الحائرين. فادع الله معي أن يحفظ هؤلاء ويكثر في الأمة منهم، وينشر عليهم رحمته، وينزل عليهم سكينته، ويؤيد بهم الحق والدين، ويهزم بهم المبطلين والملحدين والمفسدين، إنّه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

14 من شعبان سنة 1370 ه-

وقد تأثر صاحب السماحة العلامة الأكبر بهذا الكتاب الذي يدل على ما تنطوي عليه نفس فضيلة الأُستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وكبير علماء السنة من عواطف كريمة نحو إخوانه المؤمنين، وحرصٍ على نهوض الأُمة الإسلامية نهضة تعيد إليها سابق مجدها وعزها، فأجاب بهذا الكتاب:

حضرة صاحب الفضيلة الأكبر الشيخ عبدالمجيد سليم شيخ الجامع الأزهر- دامت إفاضاته.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد- قد بلغنا كتابكم الكريم الحاوي للعواطف الإسلامية السامية، يحكي لنا أنّه لما بلغكم عن طريق المذياع أن صحة هذا العبد قد ألمَّ بها طارى ء من المرض، أسفتم لذلك، ودعوتم الله تعالى أن يعيد له الصحة.

فأشكركم على ذلك، وأسأل الله تعالى أن يبدّل التعارف والتعاطف بين المسلمين، مما كان بينهم من التناكر والتدابر والتقاطع، إنّه على ما يشاء قدير.

ويحكي كتابكم أيضاً، أنّه قد ألم بصحتكم الغالية طارى ء من المرض، كما ألم بي، فاعتكفتم في البيت حاملين لهمين ممضين: همِّ نفسكم، وهمِّ قومكم، وأن إطالة التفكير في حالة الأمة، توجب لكم من القلق والحزن، ما الله به عليم.

هكذا ينبغي أن يكون رجال العلم ورجال الإسلام، مهما حاقت بالمسلمين زلازل الفتن، وأحاطت بهم نوازل المحن، فأسأل الله عز سلطانه، أن يلبسكم لباس العافية، ويوفقكم لخدمة الإسلام والمسلمين، ولما يوجبه الاهتمام بأمر الأمة في مثل هذا الزمان، من أمثال جنابكم الذي وقفوا أنفسهم لخدمة هذه الأمة، ودرء عوادي المفسدين والملحدين عنها. إنّه قريب مجيب.

إنّ هنا أموراً كنت أحب إبداءها لكم، لكن حالي لا تساعدني على ذلك.

والسلام عليكم وعلى من أحاط بكم من المؤمنين الصادقين ورحمة الله وبركاته.

ص: 17

17 من رمضان سنة 1370 ه-

رسالة العلامة الآلوسي إلى الشيخ الزنجاني

إنّ السيد محمود الآلوسي هو أحد أعلام عصره في بغداد وهو حفيد مؤلّف «روح المعاني» في تفسير القرآن الكريم، وقد كتب رسالة إلى العلامة الشيخ أبي عبدالله الزنجاني مؤلف «تاريخ القرآن الكريم» المطبوع بمصر، والذي قدّم له الدكتور أحمد أمين. وهذه الرسالة تعرب عن مدى العلقة الأخوية بين العلمين في عصرهما، وإليك نصّ الرسالة.

إلى فخر العلماء وعمدة الفضلاء حضرة الشيخ أبي عبدالله الزنجاني

أمدّه الله بفيض لطفه الربّاني

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أمّا بعد فقد شرّفنا كتابكم، وسرّنا خطابُكم، وحمدنا الله على بشرى سلامتكم وكمال صحتكم، لازلتم كذلك على الدوام موفوري الآلاء والانعام، وقد ابهجني ما أخبرتم عنه من فحصكم عن كتاب النبات، ووعدكم بتبشيرنا بالعثور عليه، حقق الله تعالى ذلك بمساعيكم المشكورة وهممكم المذكورة.

وقد سرني أيضاً ما تفضلتم به من أسماء نوادر الكتب والمصنفات السلفية التي هي من تحف الزمان ونوادره وفي الحقيقة أنّه لا غنى لطلاب العلم عن جميعها غير أنّها مما لا يلقاها إلّا ذو حظ عظيم ونحن نكتفي منها إذا أمكن باستكتاب مقاييس اللغة فقط بواسطة كاتب مجيد على شرط أن نقدم ما يصرف عليه من الأجرة وإن كان في ذلك كلفة على ذلك الجناب وإتعاب لفكركم.

وأمّا ما أخبرتم به أنّكم بذلتم السعي لإلقاء محاضرات في شؤون القرآن العظيم وإنكار التحريف، فجزاكم الله عن ذلك خير الجزاء وأمدّكم بالتوفيقات الإلهية عسى أن يكون في مجاهدتكم هذه جبران لما تركه كتاب «فصل الخطاب» فإنّه أضحى مدار مطاعن أعداء الإسلام من البروتستان وغيرهم، فإنّ جمعيتهم التي في مصر نشرت كتاباً في المطاعن مستندة إليه، وسمعت أنّ بعض أفاضل النجف ردّ عليه أيضاً.

وكتاب الجمعية المصرية قد ردّ عليه بعض أفاضل مصر بكتاب سمّاه «تنزيه القرآن الرشيف عن التغيير والتحريف» وقد عثرت على نسخة منه، وها هي مقدّمة إليكم صحبة الكتاب مع الفائدة السادسة من الفوائد التي في مقدمة تفسير روح المعاني، ورأيت المجلد الثاني من كتاب تاريخ أدب العرب لأبي السامي مصطفى صادق الرافعي، مشتملًا على شؤون القرآن من أوّله إلى آخره، والكتاب مطبوع في مصر يمكنكم أن تستجلبوا منه نسخة فإنّ نسخه التي وردت إلى بغداد نفدت، ولو كنت عثرت على نسخة منه لاشتريتها وقدّمتها إليكم وهو ممّا يلزم احضاره بين يديكم.

وأختم الكلام بتقديم وافر الاحترام، وعليكم منا التحيّة والسلام.

6 جمادى الآخرة سنة 1341

محمود شكري الآلوسي

وبهذا نكون قد أطللنا إطلالة سريعة وواضحة على تعاون زعماء الطائفتين، وهو ما يمكنه أن يشكّل أنموذجاً واضحاً لما أشرنا إليه، ويستطيع الباحث أن يعثر على الكثير من النماذج الأخرى.

إلا أن الشي ء الذي نئنّ منه اليوم هو ذاك النوع من الإفراط المسمى بالسلفية، والذي تجلّى في «الوهابية»، وهو اتجاه خدش صورة السلف من جهة وعذّب الخلف من الناحية الأخرى.

السلفية الوهابية

رسم أحمد بن تيمية في القرن الثامن الإسلامي مدرسةً في أرض العلم والمعرفة، أرض الشام، كانت نتيجتها تقليص مقامات الأنبياء والأولياء، وإفناء الآثار الباقية عن المسلمين السابقين، وقد دفنت هذه المدرسة بموت مؤسّسها عام (728 ه-) في مسقط رأسه، حيث شنّ علماء الشام ومصر الكبار من الذين كانوا يتمتعون بمكانة رفيعة في الحديث والكلام والتفسير ... شنّوا عليه هجوماً نقدياً جاداً، ووقف الجميع على اشتباهاته وأخطائه.

لكن، ومرةً أخرى، جدّدت هذه المدرسة بعد عدة قرون، عام 1160 ه- على يد محمد بن عبدالوهاب، وتمكنت من بسط نفوذها على قطرٍ معين من أقطار المسلمين، والسرّ في هذا الأمر حرمان مسقط رأسه عن حواضر العلم والمعرفة، فقد كان سكان منطقته من أبناء الصحراء وأهل البادية، لذا وقعوا في خداع كلماته التي كانت تبدو في ظاهرها جميلة رشيقة، فأعلنوه حاملًا للواء التوحيد.

في هذه الأثناء، كتبت ضدّه ردود مفصّلة في بلاد نجد والحجاز وسوريا والعراق، وقلّصت من نفوذه وتناميه، لكن مدرسته استطاعت بعد الحرب العالمية الأولى- بالتعاون والاتفاق مع الامبريالية العالمية- أن تطيح بحكومة الأشراف في مكة والمدينة، وهي حكومة استمرّت قرابة الألف عام، ليتسلط أنصاره على الحرمين الشريفين، وفي هذه الفترة شهدت سياسته صعوداً وهبوطاً، فكانوا يظهرون الرفق والعاطفة حيناً وأخرى يردون الميدان بالخشونة والعنف.

ص: 18

وفي السنتين الأخيرتين، بلغت خشونة الوهابية حدّها الأعلى، فأهانت الزوار، فحوّلت المقبرة التي يفترض بها أن تكون محيطاً هادئاً لقراءة الفاتحة والقرآن وزيارة أولياء الله الإلهيين وأنصار رسول الله 9 وأصحابه، إلى مركز للدعوة إلى الوهابية، دعوة من طرف واحد بحيث لو أجاب أحد أو ناقش يجازى ويعتقل ويضرب ويشتم، أفهل يتّبع هؤلاء السلفَ وسيرتهم؟! حاشا أن يكون السلف كذلك؟ فأحمد بن حنبل (186- 241 ه-) غسل قميص الشافعي (204 ه-) عندما مات وأخذ يتبرّك بمائه، أفهل يتبرّك إمامهم بقميص الشافعي وهم لا يتبركون بضريح النبي 9 بل يرون ذلك ممنوعاً ومحظوراً؟!

إن زوّار بيت الله يدخلون السعودية بتأشيرة دخول رسمية ويفترض أن يكونوا محل احترام الدولة الحاكمة، إلا أن أغلب هؤلاء الزوار يخشون على أنفسهم وأموالهم، ويقومون بالواجبات والمستحبات بقلق واضطراب وخوف، بل يتعرّض أكثرهم لإهانة رجال الشرطة الدينية.

إن الحرمين الشريفين حرم آمن لله تعالى، فكل الطوائف الإسلامية من حقها أن تقوم بأعمالها في حريةٍ تامة في الوقت عينه الذي تكون فيه الأمور التنظيمية والإدارية بيد الدولة. فالنظم والانضباط مسألة، وإرغام الجميع على اتباع مذهبٍ واحد ظهر في القرن الثامن الهجري، واتهام الناس- عبر ذلك- بالكفر والشرك .. ذلك كلّه أمرٌ آخر.

إن أعمال العنف التي يقوم بها هذا الفريق سبّبت عرض الإسلام في الغرب بشكل دين العنف، وأعاق مجال التبليغ لدى الطبقة الشابة عند هؤلاء أنفسهم.

من الجيد أن تستفيد هذه الشريحة من الملك السعودي الثاني (سعود بن عبدالعزيز)، ذلك أنه استضيف في إيران عام 1334، وقد أهدى- احتراماً- عدة نسخ من القرآن الكريم وبعض القطع من ستائر الكعبة، وعدد آخر من الهدايا عبر السيد يوسف أبوعلي للسيد آيةالله البروجردي. وقد قبل السيد البروجردي القرآن وقطعة ستار الكعبة وأهدى بقية الهدايا إلى حاملها له، وقد كتب رسالة أشار فيها: اليوم والحج في يد جناب الملك أرسل إليكم حديثاً حول حج رسول الله، ونقله البخاري في صحيحه وأبو داوود في سننه، فاسعوا أن يطابق الحج مفادَ هذه الرواية (1).

من المؤسف جداً أن تباد بالجرافات تمام الآثار الإسلامية التي هي علائم على أصالتنا وجذورنا، عبر حديث واحد لايدل أبداً على مقصودهم، واليوم غدت مكة والمدينة مدينتان غربيّتان لا مظاهر تعرّف بهما مدينتان شرقيتان، أما ذاك الحديث وكيف دلّ على مقصودهم فنوضح أمره باختصار، حيث روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عن علي 7 أنه قال له: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله 9: أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته» (2).

لا نتحدّث فعلًا عن سند هذا الحديث، حيث لا يخلو بعض رواته من الإشكال والخدشة؛ إنما المهم هو إيضاح مدلوله، ولا بد من التذكير أن فعل «سوّى» فعلٌ متعدٍّ، ويتطلّب مفعولًا واحداً فقط، تماماً كما في قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (3). إلا أنها قد تأخذ أحياناً مفعولين اثنين، فتحتاج في هذه الحال إلى حرف جر، تماماً كما يقول تعالى: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (4)، وكلّما أخذت مفعولًا واحداً تكون التسوية صفة لذلك الشي ء، تماماً كما جاء في الآية بمعنى: عندما أكمل خلق الإنسان، لكن عندما تأخذ مفعولين وينال المفعول الثاني حرف الجر، فلا تكون التسوية صفةً للشي ء نفسه، بل صفةً قياساً وإضافةً إلى شي ء آخر، تماماً كما جاء في الآية الثانية: إننا نعدّكم- أيّتها الأصنام- شيئاً واحداً مع الله.

وانطلاقاً من هذا المبدأ لابد أن نرى أن فعل «سوّيت» في الحديث له مفعول واحد أم مفعولان؟ الوارد في تعبير الإمام علي 7- على تقدير صحة الحديث-: «ولا قبراً مشرفاً إلا سويّته»، وفي هذه الحال تكون التسوية صفة للقبر نفسه، لا صفةً له بالنسبة إلى شي ء آخر، وإذا كانت صفةً للقبر نفسه فالمقصود منها جعل القبر مسطحاً غير مسنّم، وإلا فإذا كان المراد تخريب القبور كان لا بد من مفعول ثانٍ بحرف الجر، إذ يقول: «إلا سويته بالأرض».

والنتيجة أنه لابد في متن الحديث من إعمال الدقة لمعرفة هل هذه التسوية صفة للقبر نفسه أو صفة له بالنسبة إلى شي ء آخر؟ ونص الحديث يعطي شهادة على كون التسوية صفةً للقبر نفسه، بمعنى إخراج القبر من حالة الإعوجاج وعدم الانتظام أو التسنيم أو الانحناء، لا أن المراد تخريب القبر وتسويته بالأرض.

كيف يمكن أن يكون المعنى الثاني صحيحاً والحال أن تمام فقهاء الإسلام يفتون باستحباب أن يرتفع القبر عن الأرض بمقدار أربعة أصابع؟! ومن حسن الحظ أن شرّاح صحيح مسلم فسروا الحديث المذكور بالمعنى الذي ذكرناه (5).

إننا نصرف النظر عن تمام هذه الأمور ونفترض تمامية دلالة الحديث إلا أنه يقول: سوّوا القبور بالأرض، لكنه لا يتحدّث عن حرمة البناء على القبر ورفع القباب عليه وتدمير الصروح المشادة عليه، فبورك هذا الاجتهاد الذي لا يقوم لا على كتاب ولا على حديث ولا على اتفاق العلماء!!

وأوضح شاهد على جواز البناء على القبور هو قبر الرسول الأكرم 9، فمنذ اليوم الأول دفن 9 في بيته، وللبيت بناء، وقد حفظ هذا البناء عبر القرون كلّها إلى يومنا هذا.

حفظ الأصالة

إن حفظ التراث والأصالة من الوظائف الإسلامية الملقاة على عاتقنا، والمقصود منها الأشياء التي تحكي عن واقع الإسلام واستمراره عبر العصور. فالدين الإسلامي دينٌ عالمي، وسيظل إلى يوم القيامة أكمل الأديان السماوية، حيث من الممكن أن تفصلنا عن القيامة آلاف السنين، فنحن ملزمون بحفظ ما يدلّ على أصالة الإسلام من غدر الزمان وتخريبه، لنحفظه سالماً إلى الأجيال اللاحقة.


1- رسالة الإسلام، السنة الثامنة، العدد الأول.
2- صحيح مسلم 61: 3، كتاب الجنائز؛ وسنن الترمذي 256: 2، باب ما جاء في تسوية القبور؛ و سنن النسائي 88: 4، باب تسوية القبر.
3- الحجر: 29.
4- الشعراء: 98.
5- شرح النووي على صحيح مسلم 36: 7، الطبعة الثالثة، طبعة دار إحياء التراث العربي.

ص: 19

إن وجود المسيح وديانته أمرٌ قطعي اليوم عند المسلمين وفي نظرهم، إلا أن ذلك بدأت تغلب عليه الحالة الأسطورية في رؤية الشباب الغربي، إذ لا يوجد أثر ملموس للمسيح 7 بين أيديهم، فكتابه طالته التحريفات، ولم يبق لديهم شي ء عنه ولا من أثر لأمه ولا لحواريّيه، لهذا يقلص مرور الزمان من قطعية هذا الدين ويذره في هالة من الإبهام والترديد. وهكذا فإن وجود الآثار والمآثر الإسلامية التي منها مرقد النبي 9 حاكية عن واقعية وجوده وأصالة مدرسته، كما أن تدمير الآثار يعرّض أصالة الإسلام واعتباره وقادته وأئمته لخطر الضياع أيضاً.

من هنا، ولكي يحول المسلمون دون هذا الخطر الكبير، لابد لهم من حفظ كل الآثار المتصلة بالرسالة، والتذكير بها دوماً، كما يجب عليهم زيارة مراقد هؤلاء المعصومين حفاظاً عليها من الفناء التدريجي، وفي هذه الحال لا يمكن التغاضي عن هذه المزية الكبيرة، وإقفال باب اللقاء الروحي والمعنوي مع هؤلاء العظماء أمام المسلمين.

نعم، الحديث عن موضوع هدم الآثار كبير وطويل، لكننا نكتفي بهذا المختصر ونحيل التفصيل إلى فرصةٍ أخرى.

ص: 20

ص: 21

تجليات الأمّة الواحدة في مشاهد الحج

الشيخ محمّدمهدي الآصفي

واحد من أعظم منافع الحج لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (الحج: 28) ولا نعرف مشهداً للأمّة الواحدة أعظم وأروع من مشاهد الحج.

هنالك يشهد المسلم الأمة الواحدة بكل تجلياتها.

من إسقاط الفوارق وملأ الفواصل والفجوات والوقوف جميعاً في موقف واحد وفي وقت واحد.

وهذه المشاهد التي تكرر كلّ سنة ويحضرها نخبة من المسلمين من كلّ فجّ عميق ... تعتبر أفضل تجسيد للأمة الواحدة، التي تضيع أحياناً وتختفي بسبب تراكم الخلافات المذهبية والوطنية.

وأوّل ما يتجلّى هذا المشهد التوحيدي والوحدوي العظيم في (الميقات) حيث ينتزعهم الميقات من أزيائهم الوطنية ويلبسهم لباساً موحداً في غاية البساطة، وبعيداً عن مظاهر الترف، ثمّ يوحّد الميقات خطابهم الرباني: «لبّيك اللهم لبّيك، لبيك لا شريك لك لبّيك». وهذا هو الخطاب التوحيدي والوحدوي الذي يرفعه الحجاج جميعاً في الميقات ...

ص: 22

يوحّد الميقات خطابهم الذي هو جوهر هذه العبادة وهي (التوحيد) ويوحّد مظهرهم، وينتزعهم من حالة التشتت في الخطاب، وتمايز المظاهر والأزياء، فيكون مثل الميقات مثل جداول متمايزة من أقاليم شتى، تدخل في الميقات على شكل نهر عظيم من الحجاج، يقبلون على الله بمظهر واحد وخطاب واحد وغاية واحدة حتّى يَصُبّ هذا النهر في بحر عظيم من البشر بجوار بيت الله الحرام لا تكاد تميز فيه العراقي عن اليماني واليماني عن الحاج الجزائري والحاج الجزائري عن الإيراني والتركي.

ثم يأتي دور الكعبة الشريفة في توحيد هذه الأمة وإخراجها إخراجاً واحداً.

وللكعبة المعظمة دوران في توحيد هذه الأمة: (القبلة والطواف)، وكلّ واحد من هذين الدورين يوحّد وجهة هذه الأمة العظيمة، المتفرقة في بلاد شتّى من القارّات الخمس.

(القبلة) توحّد جهة حركة المسلمين في كلّ مناطق الأرض (الطواف)، يوحّد حركة الحجّاج إلى الله حول الكعبة، وكأنّ الطواف حول الكعبة يرمز إلى حركة التوحيد في التاريخ والمجتمع حول مركز واحد منه يتحرك الإنسان وينطلق في آفاق الحياة، وإليه يعود مرة أخرى إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ وتبقى هذه النقطة هي مركز كلّ نشاط الإنسان وحركاته وخطابه ومواقفه وجهده في الحياة قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ليس فقط في صلاته ونسكه، وإنّما في محياه ومماته أيضاً ...

والأثر الآخر للطواف توحيد مسيرة الحجاج في هذه الدائرة التوحيدية الكبرى ... كل من الحجاج يأخذ نفس المسير وينطلق من الحجر الأسود كرمه الله، وينتهي إليه في حركة منظمة رائعة، من أروع مشاهد توحيد الأمّة الواحدة في مسار الحركة إلى الله.

ثم ينطلق الحاج من الطواف إلى السعي في حركة مستقيمة واحدة غادياً ورائحاً من الصفا إلى المروة، وبالعكس.

وهكذا تتصل تجليات الأمة الواحدة في مشاهد الحج الكبرى من الميقات إلى الطواف، ومن الطواف إلى السعي، ومن البيت الحرام إلى عرفة حيث يجتمع ملايين المسلمين في وادي عرفة، توحدهم عرفة، وتوجههم إلى الله تعالى بالدعاء والصلاة، وتصفيهم من كلّ ذنوبهم، بلا استثناء إلا الشرك والقتل وحقوق الناس، والبدعة في دين الله فإنّها لا تغتفر.

ويفيض الحجاج من عرفة إلى المشعر الحرام وقد تركوا وراءهم ركام ذنوبهم ومعاصيهم في هذا الوادي الشريف.

ثم مشهد المشعر الحرام ومشاهد رمي الجمرات في وادي منى، وهو يرمز إلى جهد جمعي من جانب الحجاج كلهم لإقصاء الشيطان عن حياتهم ورجمه وإبعاده منهم.

ثمّ يأتي في نهاية هذه الجولة الصعبة من الميقات إلى منى العيد الأكبر الذي يحتفل به الحجاج جميعاً في منى وفي رحاب بيت الله، وهو عيد الأضحى المبارك.

يوحّد فرحتهم بنجاحهم في إقامة هذه الفريضة الصعبة في هذا البلد القفر الذي اختاره الله لبيته الحرام.

إن أبرز شي ء في الحركة العظيمة من الميقات إلى منى أمران: (توحيد) الله تعالى بالعبادة و (توحيد) حركة الأمة على خط توحيد الله. ولا يحسّ الإنسان بهذه الأمة المباركة العظيمة، كما يحسّ بها في مشاهد الحج العظيمة، وكما يوحّد الحج خطاب هذه الأمة وحركتها ومظهرها ومضمونها، كذلك يوحّد جهد هذه الأمة في مكافحة العوامل المعيقة لوحدة الأمة، والفتن الطائفية التي تجعل من هذه الأمة الواحدة، أمماً شتى متقاطعة ومتنافرة، على خلاف ما يريده الله تعالى من عباده المؤمنين.

الإضاءات الثلاث في طريق وحدة الأمة

إن مكافحة الفتن الطائفية والسعي إلى التقريب والتفاهم والتضامن والتعاون بين المسلمين من ثوابتنا السياسية والحضارية والاقتصادية. وتدخل في تكوين الأمة الإسلامية الواحدة. ومن دونها لا تتحقّق الأمة الواحدة التي جعلها الله أمة وسطاً، وشاهدة على سائر الأمم.

ويتوقف عليها انتصارنا في المعترك السياسي والحضاري والثقافي والعسكري ومن دونها لا يتحقق النصر الذي نسعى إليه في مسيرتنا السياسية والثقافية.

وتتوقف عليها حركتنا الثقافية والعلمية .. فإن التقاطع الطائفي والعزلة والانكفاء على الذات يؤدي بالضرورة إلى الضمور الثقافي والعلمي، وبعكس ذلك التواصل واللقاء والحوار الإيجابي يؤدي إلى التكامل العلمي والثقافي في حوزاتنا وجامعاتنا العلمية.

إنّ هناك ثلاث قضايا رئيسية، لابد فيها من الوعي والوضوح:

ولابد من السعي لنشر وعي سياسي- ثقافي، تجاه هذه النقاط في أوساط الجمهور.

وهذه النقاط هي:

ص: 23

1- وعي الأمة الواحدة.

2- الصراع الحضاري الذي تخوضه هذه الأمة.

3- وعي ضرورة الترافد الثقافي والعلمي في حياة هذه الأمة.

واليك إيضاحاً سريعاً لهذه النقاط الثلاث:

1- الأمة الواحدة

هذه الأمة أمة واحدة، وليست أمماً شتى.

وقد ورد هذا المعنى بصراحة في آيتين من القرآن يقول تعالى:

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (1).

وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (2).

وليس معنى وحدة الأمة التطابق الكامل في الرأي والاجتهاد، فإن ذلك مما لا يكون .. وإنما معنى ذلك الاتفاق والتفاهم على الأصول والانسجام والتفاهم والتعاون على المواقف السياسية، وتوحيد الولاء والبراءة والطاعة والنصرة.

2- الصراع الحضاري

سواءًا أردنا أم لم نرد، نحن ندخل اليوم في صراع حضاري عسير ... والمواجهة العسكرية شكل من أشكال التعبير عن هذا الصراع.

وهذا الصراع صراع شرس .. وخصومنا في هذا الصراع جبهة واحدة، مهما تعددت توجهاتهم.

وليس من الصدفة أن تتفق أمريكا والاتحاد الأوروبي على دعم إسرائيل في كل أعمالها العدوانية تجاه المسلمين، وأن تقف إلى جانبها من غير أن تأخذ بنظر الاعتبار حاجتها إلى المسلمين وعلاقاتها الاقتصادية الواسعة بالعالم الإسلامي.

نحن نواجه اليوم صراعاً حضارياً، سياسياً، اقتصادياً، عسكرياً، من أشرس ما يكون الصراع، وإذا خسرنا الحرب في هذه المعركة المصيرية، فسوف نعود مرة أخرى إلى دورة جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية للغرب التي طالتنا من بعد سقوط الدولة العثمانية إلى اليوم.

والانتصار والهزيمة في هذا الصراع- في كل أبعاده- قضية مصيرية في حضارتنا وتاريخنا. ولا نشك أننا نكسب هذا الصراع إذا واجهنا خصمنا أمة واحدة، وصفاً واحداً، وموقفاً واحداً، وذلك أن يد الله تعالى مع الجماعة وعلى الجماعة، وإذا كانت يد الله معنا فلا يتخطانا النصر بإذن الله.

ولا نشك أنّا إذا واجهنا خصومنا مقتسمين على أنفسنا، متقاطعين في مواقفنا وإرادتنا، متخالفين في توجهاتنا، فلا نكسب هذا المعترك الحضاري الصعب.

3- الترافد الثقافي

الترافد الثقافي من نتائج التقريب بين المذاهب الإسلامية ومن عوامله في نفس الوقت ...

وقد كان علماء المسلمين وطلبة العلم يتوافدون على مدارس فقهية من مذاهب واتجاهات مختلفة، وكانوا يتبادلون الإجازات في رواية الحديث. فكان طلبة العلم من العراق- ومعظمهم من الشيعة- يفدون إلى الحجاز ومصر والشام ومعظمهم من أهل السُنة، وكان يفد إلى العراق، على مدرسة الحلة، وهي حوزة شيعية عريقة طلبة من الحجاز ومصر والشام والمغرب العربي للدراسة، كما كان لعلماء المسلمين زيارات للأقاليم الإسلامية وكان طلبة العلوم الدينية يلتمسون منهم أن يلقوا عليهم دروساً في الفقه والأصولَين: (أصول الفقه وأصول العقائد).

واليوم تحتضن الحوزة العلمية في قم، وهي حوزة علمية عريقة تابعة لمدرسة أهل البيت طلبة العلوم الدينية من أكثر من مائة قطر في العالم من القارات الخمس، وجملة من هؤلاء الطلبة الوافدين إلى هذه الجامعة من أهل السنّة، ولا يجدون حرجاً في الدراسة في حوزة شيعية، كما لا تجد هذه الحوزة حرجاً أن تحتضن طلبة من المدارس والاتجاهات الفقهية الأخرى، وتجري دراسة فقه المذاهب الإسلامية الأربعة في هذه الحوزة كما تجري دراسة الفقه الإمامي.

ولهذا الترافد الثقافي والعلمي أثر بالغ في التكامل العلمي والثقافي في المراكز العلمية الإسلامية.


1- الأنبياء: 92.
2- المؤمنون: 52.

ص: 24

فإن الجهود العلمية والثقافية المختلفة عندما تلتقي مع بعض على صعيد موضوعي علمي، غير متشنّج، يكون هذا اللقاء سبباً للإثراء والتكامل العلمي والثقافي لكل من هذه الروافد العلمية والثقافية. ويؤدي هذا الترافد إلى التقارب والتعارف بين المذاهب المختلفة، كما أن التقارب والتعارف بين هذه المذاهب يؤدي بالضرورة إلى الترافد العلمي والثقافي.

إن ظاهرة الترافد تؤدي إلى مكافحة وإبطال الفتن الطائفية .. والعكس أيضاً صحيح، فإن الفتن الطائفية تقلل من فرص الترافد الثقافي، وتحوّل الثقافة والعلم إلى دوائر مغلقة غير مترابطة، وهذه الحالة من أسباب ضمور العلم والمعرفة دائماً.

وعلى كل حال، ظاهرة الترافد الثقافي ظاهرة مباركة في حياة هذه الأمة يجب أن نستعيدها ونجدّدها ونشجعها وندعمها، وهي من أفضل وسائل علاج الفتنة.

وفيما يلي سوف نتحدث إن شاء الله عن أبرز النقاط التي تساهم في علاج الفتنة الطائفية وإخمادها. وهذه النقاط الثلاث هي:

1- الوعي والخطاب.

2- اللقاء والحوار.

3- العمل المشترك.

وإليك تفصيل هذه النقاط:

أولًا: الوعي والخطاب

الفتنة الطائفية، كأية فتنة أخرى، تنشأ وتنمو في غياهب الجهل والجهالة .. والفتن في حياة الناس كثيرة، وكلها تتكون وتظهر وتنمو في ظلمات الجهل.

وأفضل العلاج لها ولأمثالها من الفتن هو المعرفة والوعي، فإن النور يكسح الظلمة، والمعرفة والوعي نور يزيل ما يعترضه من الظلمات، والفتن تراكم من الظلمات بعضها فوق بعض.

الوعي والتقوى

إن تحصين المجتمع من الفتن يتم بعاملين اثنين مع بعض، وهما: عامل التقوى والمعرفة، فإذا اجتمعتا فإنهما يحصّنان المجتمع من أمثال هذه الفتن.

ومهما واجهنا فتنة من هذه الفتن التي تمحق دين الناس، وتثير الشغب والفوضى، وتحرق الأخضر واليابس فلابد أن يكون من وراء هذه الفتنة عجز في (التقوى) أو (الوعي) أو فيهما معاً.

فهما يحصّنان المجتمع من كل فتنة، ويمنحان صاحبهما بصيرة وفرقاناً، إذا ادلهمت الخطوب والظلمات على الناس.

الوعي السياسي

ومن أهم وجوه الوعي اليوم الوعي السياسي، فإن عامل الاستكبار العالمي والمخابرات والمنظمات الجاسوسية العالمية تكمن خلف هذه الفتن.

والمؤسسات الإعلامية (الصحف والفضائيات ودور النشر) تبثّ هذه الفتن بين الناس، وتقوم بتأجيج حرائق الفتنة الطائفية بين المسلمين.

وتجد أنظمة الاستكبار العالمي في هذه الفتن الطائفية فرصة ذهبية لبسط نفوذها في العالم الإسلامي، وتمكّنها من أسواق المسلمين ومصادر الثروة النفطية والمعدنية والمائية والزراعية في العالم الإسلامي ... وسوف نبسط الحديث في هذا الجانب إن شاء الله.

والأداة المفضّلة لمواجهة هذه الفتن هي الوعي السياسي الذي يمكّن الناس من معرفة خلفيات هذه الفتن وجذورها، والمنظمات الجاسوسية التي تخطط لها هناك في الغرب عبر المحيطات.

ومن واجب العلماء والخطباء والمثقفين الإسلاميين نشر الوعي السياسي بين الناس، وتمكين الناس من اختراق الغطاء الإعلامي وتمكينهم من الدرك الصحيح لما يحصل في الساحة العالمية من فنون اللعبة السياسية، وتحذير الناس من أن يكونوا ضحايا هذه اللعب والخطط التي تنتجها باستمرار العقلية الغربية تجاه العالم الإسلامي.

وعي الجمهور

ص: 25

ولست أعني ب- (الوعي السياسي) هنا وعي النخبة، ولست أنفي ضرورة الوعي السياسي عند النخبة، وأهميتها، ولكن وعي النخبة لا يغني عن وعي الجمهور، وإذا حلّ الوعي في الشارع الذي يتحرك فيه الجمهور وتسلّح الجمهور بالوعي، لم تعد هذه اللعب السياسية والفضائيات المضللة قادرة على تضليل الناس، وتفجير الفتن في وسط الناس، كالذي يحصل اليوم في العراق وفي بعض الأقطار الإسلامية.

فإن الوعي عندما ينزل إلى مستوى الشارع ويثقف الجمهور يحصّنه من أمثال هذه الفتن ... والجمهور الذي يمتلك درجة عالية من الوعي السياسي يمتلك درجة عالية من الحصانة تجاه العوامل الإعلامية والسياسية المضللة، ولا تحتوشه الفتن.

والجمهور غير الموجّه، وغير الراشد، هو الوسط الخصب، والتربة الصالحة لأمثال هذه الفتن. وعن طريق التوعية والتثقيف السياسي يمكننا أن نحافظ على سلامة الجمهور ورشده.

والجمهور كما هو تربة صالحة للفتن والضوضاء، كذلك هو وعاء صالح للوعي والعقل والسداد والتقوى .. ويمتلك أعماقاً سليمة من الفطرة لم ينفذ إليها الفساد، والقادة الحقيقيون هم الذين يدركون هذا العمق الفطري السليم للجمهور، ويقودون الجمهور إلى صراط الله المستقيم والتقوى، ويحذرونه من مغبّة الوقوع في أمثال هذه الفتن، ويفلحون في ذلك.

إن الثقة بالجمهور، وكفاءاته الكثيرة، وسلامة فطرته، هو رأس مال أولئك القادة الذين يعرفون كيف يخاطبون الجمهور، وكيف يكسبونه .. بعد الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه والاطمئنان إلى وعده بالنصر وتأييده للقلّة المؤمنة في مواجهة أمثال هذه الفتن والتحديات.

الوعي والخطاب

ولابد للوعي من خطاب، كما أن للتضليل السياسي خطاب، ولإثارة الفتنة بين الناس خطاب، ولتغرير الناس وتجهيلهم خطاب، كذلك للوعي خطاب.

ولغة هذا الخطاب لغة العقل، وهي اللغة المفضّلة في خطاب الوعي ... إن العاطفة جزء ضروري من خطاب الجمهور لاشك في ذلك، ولكن من الخطأ الاقتصار على العاطفة في خطاب الجمهور .. ولابد من استخدام لغة العقل في خطاب الناس، إلى جانب لغة العاطفة، ولابد أن تكون لغة العقل هي الحاكمة وهي الأصل، ولغة العاطفة تأتي في امتداد لغة العقل، ولإسناد العقل عندئذ يكون الخطاب العاطفي خطاباً صالحاً للجمهور ... وأمّا عندما يتمحّض خطاب الجمهور في الخطاب العاطفي فلا يكون مثل هذا الخطاب خطاباً راشداً أميناً غالباً، ولا يكون قادراً على توجيه الجمهور إلى الوجهة الصحيحة ...

إن مشكلة الخطاب الإسلامي المعاصر لدى أصحاب التوجهات الطائفية المعاصرة هي الحالة العاطفية الطاغية على هذا الخطاب والحالة الشعارية، ورفض لغة العقل، وحالة الانغلاق على الرأي الآخر، ورفض الطرف الآخر، رفضاً مطلقاً إلى حدود التكفير واستباحة الدماء التي حرّمها الله تعالى إلا بحقها، وقد يكون استجابة الجمهور أحياناً إلى الخطاب الشعاري والعاطفي أسرع من استجابتهم للخطاب العقلاني الرافض للعاطفة .. ولكن يبقى استخدام لغة العاطفة والشعار محضاً وحصراً في خطاب الجمهور- خيانة للجمهور مهما كانت استجابتهم لهذا الخطاب، واستخدام لغة العقل ومحكمات الدين في خطاب الجمهور هو الموقف الناصح الأمين من الجمهور، وإن واجهه الجمهور أحياناً بالرفض.

وعلى علماء المسلمين أن يتقوا الله في الخطاب، ولا يبتغوا مرضاة الناس في ذلك، فقد يكون في الناس من يستجيب للشعار والعاطفة، وقد يكون الخطاب العاطفي والشعاري أسرع قبولًا في وسط الجمهور .. ولكنه على كل حال خيانة يجب أن يحذرها العلماء الراشدون.

والجمهور الذي يتثقف من خلال الخطاب العقلائي اكثر ثباتاً وصلابة في الموقف، والجمهور الذي يتلقى الخطاب العاطفي الشعاري جمهور متقلب في الرأي، لا يثبت على موقف ورأي، ومسؤولية هذه الحالة المتقلّبة على عهدة الخطاب العاطفي والشعاري الذي يتلقاه هذا الجمهور من حملة الخطاب الطائفي المتشنّج.

مصدر الخطاب

وكما يجب الاهتمام بلغة الخطاب في حياتنا الثقافية والسياسية المعاصرة، كذلك يجب الاهتمام بمصدر الخطاب ... هناك خطابات سياسية وثقافية كثيرة معاصرة صادرة من (الولاءات) المنتحلة الوهمية، كالولاء للقوم والوطن والعشيرة، وهي ولاءات منتحلة كاذبة في مقابل الولاء لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وللمؤمنين، وهو الولاء الراشد الصحيح الذي جاء به الوحي من عند الله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (1) ... وهذا هو الولاء الحق الذي جاء به رسول الله 9 من عند الله، وهو الولاء الذي يوحّد صف المسلمين، ويجعل منهم أمة واحدة في صف مرصوص، مقابل أعداء هذه الأمة.

وللقضاء على هذا الولاء بادر أعداء هذا الدين إلى طرح ولاءات أخرى في مقابل الولاء لله ولرسوله ولأولياء الأمور وللمؤمنين، كالولاء للقوم والوطن والعشيرة، وبذلوا أموالًا طائلة لتثبيت هذه الولاءات في ثقافة المسلمين المعاصرة، من خلال المدرسة، والصحافة، والإذاعة، والتلفاز، وإحياء المآثر الفرعونية والبابلية والكسروية والفينيقية .. إلى غير ذلك.

من خلال هذه الثقافات عملوا على زرع ولاءات وهمية، قومية ووطنية .. مقابل الولاء لله ولرسوله.


1- المائدة: 55.

ص: 26

ونحن عندما نتحدث عن الخطاب السياسي الذي يجب أن نلقيه إلى جمهورنا يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار مصدر هذا الخطاب ... هذا الخطاب يجب أن يكون صادراً عن الولاء لله ولرسوله في قوله تعالى:

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا (1)

وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (2).

وقوله تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (3).

وقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (4).

وقوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (5).

وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ (6).

وقوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ (7).

وقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَي اللهِ وَالرَّسُولِ (8).

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (9).

أمّة واحدة، وطاعة واحدة، وولاء واحد.

إن لكل ولاء خطاب، وخطاب كل ولاء يختلف عن الخطاب الآخر، ونحن ولاؤنا لله ولرسوله ولأولياء الأمر وللمؤمنين وليس للوطن والقوم والعشيرة .. ولهذا الولاء خطاب يختلف عن خطاب الولاء للقوم والوطن.

ونحن لا نرفض الارتباط بالقوم والوطن إلا أن هذا الارتباط من الانتماء وليس من الولاء، والولاء يحكم الانتماء .. فقد حارب المسلمون صدر الإسلام أهلهم وآباءهم وإخوانهم من مكة في الله.

وخطابنا إلى جمهور أمتنا- في السراء والضراء- يجب أن ينطلق من هذا المصدر، وهو الخطاب الذي يجمع الشمل، ويزرع المحبة والمودة في القلوب، ويؤسس التفاهم والتعاون في الأفكار والأعمال.

الصدق والنصح في الخطاب

ويجب أن يكون الخطاب صادقاً ناصحاً .. وفي خطابنا المذهبي الطائفي المعاصر الكثير من الكذب والافتراء .. ومن يقرأ بعض أدبيات الفتنة الطائفية المعاصرة يجد نماذج كثيرة من هذا الافتراء والكذب، ومن أمثلة هذا الافتراء: الافتراء على الشيعة الإمامية بأنهم يقولون بتحريف القرآن، وهم ينفون عن أنفسهم هذه التهمة، ويصرحون ويكتبون عن صيانة القرآن عن التحريف.

ولو أنك سبرت بلاد المسلمين في كل العالم لا تجد غير هذا القرآن قرآناً يتلوه الناس ويتعبدون به في مشارق الأرض ومغاربها.

وكم يتبادل المسلمون من المذاهب المختلفة الافتراءات فيما بينهم من غير هدى ولا بيّنة.

ولا تختصّ هذه الافتراءات بين الشيعة والسنة، وإنما يتم بين الشيعة أنفسهم، والسنة أنفسهم بما لا يقلّ عما يجري بين الشيعة والسنة ...

وهذا الخطاب الطائفي ينقصه الصدق والنصح ..

ينقصه الصدق؛ لأن علماء المسلمين من جميع المذاهب يكتبون ويعلنون ويصرحون أن ليس لله على وجه الأرض كله قرآن غير هذا القرآن، الذي يتلوه المسلمون صباحاً ومساءً.

وينقصه النصح؛ لأن المسلم الذي يهمه أمر وحدة المسلمين وانسجامهم، والذي يأمر الله تعالى به ورسوله لا ينال مذاهب المسلمين بهذا اللون القاسي من الجرح والتشهير والتسقيط، من دون تثبت علمي، بل مع إعلانهم البراءة عما ينسب إليهم من الافتراء.

الشجاعة والصراحة في الخطاب


1- المائدة: 55.
2- الأنبياء: 92.
3- المؤمنون: 52.
4- آل عمران: 103.
5- التوبة: 71.
6- الحجرات: 10.
7- الأنفال: 46.
8- النساء: 59.
9- الأنفال: 72.

ص: 27

إن مواجهة ظروف الفتنة الطائفية اليوم تستدعي شجاعة وصراحة في الخطاب وما لم يمتلك حَمَلَةُ الخطاب الإسلامي هذه الشجاعة والصراحة لا يتمكنون من مواجهة الفتنة الطائفية المعاصرة واستئصالها.

إن الحالة التكفيرية المعاصرة واستباحة دماء المسلمين بغير الحق عودة للحالة الخارجية التي ظهرت صدر الإسلام في حرب صفين والنهروان في أيام خلافة أمير المؤمنين 7، وولادة جديدة لنفس الحالة.

وهذه الحالة آخذة بالتوسع والنفوذ إلى داخل الحركة الإسلامية المعاصرة .. ولابد أن يمتلك تجاه هذه الحالة علماء المسلمين الجرأة والشجاعة والصراحة الكافية في بيان موقف الإسلام من هذه الجماعة ومن هذه الحالة التي تُعدّ انزلاقاً خطيراً للحركة الإسلامية المعاصرة.

والتردد والتريث في مثل هذا البيان يؤدّي إلى استشراء هذه الحالة وتوسعها، وإلى حدوث انزلاقات خطيرة في الحركة الإسلامية المعاصرة بهذا الاتجاه.

وقد حرّم الإسلام دم المسلم وماله إذا كان يشهد بالتوحيد لله والنبوة لرسول الله قولًا واحداً بين فقهاء المسلمين.

روى مسلم في الصحيح في فضائل علي 7: عندما دعا رسول الله 9 علياً في فتح خيبر فأعطاه الراية وقال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، قال: فسار علي شيئاً ثم وقف ولم يلتفت فصرخ:

يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟

قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم (1).

وفي الصحيحين بالإسناد إلى مقداد بن عمرو: أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار، فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، فأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله 9: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال (2).

وأخرج البخاري في بعث علي 7 وخالد إلى اليمن: أن رجلًا قام فقال: يا رسول الله! اتق الله، فقال 9: ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، فقال خالد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ فقال 9: لا، لعله أن يكون يصلي (3).

وعن أمير المؤمنين 7 أنه قال: «قال رسول الله 9: أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد حرم عليّ دماءهم وأموالهم» (4).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله 9:

«أُمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (5).

وعن أبي عبدالله الصادق 7 أنه قال: «الإسلام يُحقن به الدم» (6).

وعنه 7 أنه قال: «شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله 9 به حُقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث» (7)

وعن رسول الله 9 أنه قال: «من وحّد الله وكف بما يعبد من دونه حَرُم ماله ودمه وحسابه على الله» (8).

وعن أبي عبدالله الصادق 7 أيضاً عن رسول الله 9 أنه قال: «أيها الناس! إنّي أمرت أن أقاتلكم حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله، فإذا فعلتم ذلك حقنتم بها أموالكم ودماءكم إلا بحقّها وكان حسابكم على الله» (9).

وروى الدارمي عن رسول الله 9 أنه قال: «إنّي أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها حرمت عليّ دماؤهم وأموالهم إلا بحقّها، وحسابهم على الله» (10).

عن أبي سعيد الخدري قال: وجد قتيل على عهد رسول الله 9 فخرج مغضباً حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «يقتل رجل من المسلمين لا يُدرى من قتله، والذي نفسي بيده لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على قتل مؤمن أو رضوا به لأدخلهم الله في النار» (11).

وروى مسلم بن الحجاج في (الصحيح) روايتين عن رسول الله 9 نعرف منهما عظيم حرمة «لا إله إلا الله» وحرمة القائل بها، ولو كان القائل بها قد تظاهر بها ليحمي نفسه من القتل، وأنّ هذه الكلمة تعطي قائلها وحاملها من الحرمة ما لا يجوز لأحد انتهاكه إلا بحقه.

روى مسلم أن رسول الله 9 بعث بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين، وأنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، وإن رجلًا من المسلمين قصد غفلته، قال: وكنا نحدّث أنه أسامة بن زيد، فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله فقتله، فجاء البشير إلى النبي 9، فسأله فأخبره، حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع، فدعاه فسأله قال: لِمَ قتلته؟ قال: يا رسول الله! أوجع في المسلمين وقتل


1- صحيح مسلم 1871: 4- 1872 كتاب فضائل الصحابة.
2- صحيح البخاري 1581: 4 ح 4094؛ وصحيح مسلم 95: 1 كتاب الإيمان ح 155، عدا الجملة الأخيرة.
3- صحيح البخاري 1581: 4 ح 4094؛ ومسند أحمد 10: 4- 11.
4- بحار الأنوار 242: 68.
5- صيحح مسلم 52: 1، كتاب الإيمان، الباب 8، ح 25.
6- المحاسن: 285، وبحار الأنوار 243: 68.
7- الكافي 25: 2، وبحار الأنوار 248: 68.
8- مسند أحمد بن حنبل 472: 3.
9- المحاسن: 284، بحار الأنوار 282: 68.
10- سنن الدارمي 218: 2، ورواه بلفظ قريب منه عن رسول الله 9 البخاري في 57: 1 من الصحيح في فضل استقبال القبلة، وأبو داود في السنن 41: 2- 42 باب على ما يقاتل المشركون، وأحمد بن حنبل في المسند 199: 3، و 445: 2، 339: 3، و 8: 4- 9، وابن ماجة في السنن 1285: 2- 1286، والنسائي في السنن 109: 8.
11- بحار الأنوار 150: 75.

ص: 28

فلاناً وفلاناً وسمّى له نفراً، وإنّي حملت عليه فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، قال رسول الله 9: أقتلته؟ قال: نعم، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، قال: يا رسول الله! استغفر لي، قال: وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة، قال: فجعل لا يزيد على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة (1).

وروى مسلم أيضاً عن أسامة بن زيد أنه قال:

«بعثنا رسول الله 9 في سرية فصبحنا الحرقات (2) من جهينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي 9 فقال رسول الله 9: أقال لا إله إلا الله وقتلته! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا، فمازال يكررها عليَّ حتى تمنّيت أني أسلمت يومئذ» (3).

ورغم أن القتيل كان مقاتلًا يقاتل المسلمين في صفوف الكافرين حتى اللحظة الأخيرة، ونطق بكلمة التوحيد في اللحظة الأخيرة عندما وجد السيف على رأسه، وواضح من كل القرائن أن الرجل شهد ب- لا إله إلا الله خوفاً من القتل وليس عن إيمان، كما قال أسامة بن زيد .. إلا أن رسول الله 9 غضب غضباً ظاهراً، وأنكر على أسامة بشدة وقوة، وكرّر إنكاره على أسامة حتى تمنى أسامة أن يكون قد أسلم في ذلك اليوم حتى يكون الإسلام قد جب من ذنوبه ما سبق.

خطبة رسول الله 9 بمنى

وهذه الخطبة ألقاها رسول الله 9 في جموع المسلمين الغفيرة بيوم النحر بمنى، وقد روى هذه الخطبة ثقات المحدثين بألفاظ متقاربة، ونحن ننقل الخطبة برواية الإمام أبي عبدالله الصادق 7 ونشير إلى جملة من المصادر التي تروي هذه الخطبة:

عن زيد الشحّام عن أبي عبدالله الصادق 7 أنه قال:

«إن رسول الله 9 وقف بمنى حين قضى مناسكها في حجة الوداع فقال: أيها الناس! اسمعوا ما أقول لكم واعقلوه عني فإني لا أدر لعلّي لا ألقاكم في هذا الموقف بعد عامنا هذا، ثم قال: أيُّ يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم، قال: فأيّ شهر أعظم حرمة؟ قالوا: هذا الشهر، قال: فأيّ بلد أعظم حرمة؟ قالوا: هذا البلد، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه فيسألكم عن أعمالكم، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: اللّهم اشهد، ألا من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه، ولا تظلموا أنفسكم، ولا ترجعوا بعدي كفّاراً» (4).

ثانياً: الجماعة، واللقاء، والحوار

هذه ثلاثة عناوين يحبها الله تعالى، وهي أساس التقريب والتفاهم وجمع الشمل وهي:

(الجماعة) و (الاجتماع واللقاء) و (الحوار والتفاهم).

وهذه الثلاثة هي الأداة المفضلة في دين الله لمكافحة الفتن الطائفية، وإزالة التقاطعات، والوصول إلى الانسجام والتفاهم والتعاون.

وسوف نشرح هذه الثلاثة، ونقف وقفات قصيرة عند كل واحدة منها:

الجماعة (الأمّة)

نقصد بالجماعة: الأمّة الإسلامية الواحدة، وتتميز هذه الأمّة من سائر الأمم في العقيدة والشريعة والرسالة، ورسالتها التعاون والتضامن الاجتماعي على أداء هذه الرسالة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَي اللهِ عَلي بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي (5)

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (6).

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (7).

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (8).

هؤلاء، جماعة هذه الأمة، يحملون هماً واحداً، ومسؤولية واحدة، هي الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم أُسرة واحدة، متعاونة ومتفاهمة ومتعاطفة بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وهم يؤمنون جميعاً بالله ورسوله، ويطيعون الله ورسوله، فإن الدعوة إلى الله ورسوله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا مع الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله.


1- صحيح مسلم 68: 1- 69.
2- الحرقات بضم المهملة والراء وقاف بعدها من جهينة، هم بنو حميس بن عمرو بن ثعلبة بن مودوعة بن جهينة، كما في جمهرة ابن حزم: 446.
3- صحيح مسلم 67: 1.
4- روى هذه الخطبة جمع غفير من الحفاظ والمحدّثين من الفريقين، ولشهرتها نعرض عن ذكر مصادر الخطبة.
5- يوسف: 108.
6- آل عمران: 104.
7- آل عمران: 110.
8- التوبة: 71.

ص: 29

إذن، هذه الجماعة تحمل ثلاث خصال:

1- الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله.

2- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة ..

3- التفاهم والتعاون والتعاضد والتواصي بالحق والصبر فيما بينهم.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (1)

وعليه فإن مفهوم (الجماعة) بهذا التوضيح يلتقي مع مفهوم (الأمة).

وهذه الأمة أمة واحدة، وليست أمماً شتى، لا ريب في ذلك.

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (2).

وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (3).

وهذه الأمة بعرضها العريض أمّة واحدة، لها عقيدة واحدة وشريعة واحدة ومنهاج واحد، ودعوة واحدة، وسبيل واحد، ورسالة واحدة، يؤدّونها مجتمعين.

وهذه الوحدة والاجتماع في الأداء، وتحمّل المسؤولية، والعقيدة والشريعة والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي تجعل من هذه الأمة جماعة واحدة.

وقد ورد التأكيد على هذا الاجتماع والوحدة في الأداء والوحدة في الموقف والعمل في آيات عديدة من القرآن.

منها قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً فإن الآية الكريمة تحمل معنيين:

الاعتصام بحبل الله، وهذا هو المعنى الأول، وأن يكون هذا الاعتصام من قبل الجميع (جميعاً) وهذا هو المعنى الثاني.

ومنها قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (4).

والآية الكريمة كذلك تحمل معنيين:

1- الدخول في السلم.

2- وأن يكون هذا الدخول من قبل الجميع (كافة).

وقد ورد التأكيد في أحاديث كثيرة متظافرة على لزوم الجماعة، منها ما رواه الفريقان عن رسول الله 9 في الخطبة التي خطبها في مسجد (الخيف) بمنى عام حجة الوداع، واليك هذا الخطاب النبوي الشريف:

«نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم تبلغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم، المؤمنون أخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم» (5).

وهذا خطاب شريف يتضمن ثلاث دعوات، وأية دعوات؟

1- الإخلاص في العلاقة بالله.

2- والنصيحة في العلاقة بأئمة المسلمين وأولياء الأمر:.

3- واللزوم لجماعة المسلمين في العلاقة بالأُمة.

وسلامة الفرد والمجتمع بسلامة هذه العلاقات الثلاث:


1- العصر: 3.
2- الأنبياء: 92.
3- المؤمنون: 52.
4- البقرة: 208.
5- بحار الأنوار 69: 27، ح 7.

ص: 30

1- العلاقة بالله.

2- والعلاقة بأئمة المسلمين.

3- والعلاقة بجماعة المسلمين.

فإذا سلمت علاقة الفرد بهذه المحاور الثلاثة يسلم الفرد وتسلم الأمة.

اللقاء والاجتماع

ورد في النصوص الإسلامية التأكيد على اللقاء والاجتماع والنهي عن الاختلاف والتفريق والتقاطع داخل الجماعة المسلمة، والنهي عن الخروج عن جماعة هذه الأمة والشذوذ عنها.

عن رسول الله 9: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة» (1).

وعنه 9: «اثنان خير من واحد وثلاثة خير من اثنين وأربعة خير من ثلاثة. فعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ولم يجمع الله أمتي إلا على هدى، واعلموا أن كل شيطان (: البعيد من الحق) هوى في النار» (2).

وعنه 9 أيضاً: «لا يجمع الله أمر أمتي على ضلالة أبداً، اتبعوا السواد الأعظم، من شذّ في النار» (3).

وعن أمير المؤمنين 7: «الزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب، فلا تكونوا أنصاف الفتن، وأعلام البدع، والزموا ما عقد عليه حبل الجماعة، وبنيت عليه أركان الطاعة» (4).

وعن الإمام الصادق 7 أنه قال: «إن قوماً جلسوا عن حضور الجماعة فهمّ رسول الله 9 أن يشعل النار في دورهم حتى خرجوا وحضروا الجماعة مع المسلمين» (5).

وقد جعل الله تعالى في لقاء المؤمنين رحمة وبركة وخيراً، وجعل اللقاء والحوار من منازل رحمته وبركاته ...

كما أن الشيطان يجعل من التباعد سبباً للنفور والقطيعة والخلاف.

واللقاء لا يتمّ من غير حوار عادة، فهما متلازمان من ناحية اللقاء. وقد رأينا بركات كثيرة في اللقاءات الأخيرة المعاصرة التي تمت في إيران بعد قيام نظام الجمهورية الإسلامية ... بين المذاهب الإسلامية، فقد كانت هذه اللقاءات مصدر خير كثير في حياة هذه الأمة، تعارف خلالها بعضهم على بعض، وتحاببوا، ووجدوا فرصاً واسعة للتفاهم والتعاون، لم يكونوا يعرفوها من قبل ... في هذه اللقاءات ارتفع كثير من اللبس والغموض الذي كان ينظر من خلاله بعضهم إلى بعض من قبل، واكتشفوا مساحات مشتركة واسعة جداً في الفكر والثقافة والمعرفة، كانوا يعدونها من قبل مما ينفرد بها بعضهم عن بعض.

(الجماعة) و (الجمعة)

إن اجتماع المؤمنين واللقاء بينهم أمر يحبّه الله تعالى، وما يحبّه الله يجعل فيه البركة والخير، ويجعله من منازل رحمته.

وهذا اللقاء، وما يستتبعه من الحوار يدخل في صلب التشريع .. فقد شرَّع الله في هذا الدين للمسلمين (الجماعة) و (الجمعة) و (الحج) ..

ويدخل في (الجمعة) صلاة العيدين: الفطر والأضحى.

وهذه الثلاثة: (الجماعة، والجمعة، والحج) تجمعات إسلامية ثلاثة تجمع المسلمين من مختلف المذاهب والاتجاهات والاجتهادات .. ولاشك أن الحالة العبادية والذكر جزء لا يتجزأ من هذه الثلاثة ... إلا أن حالة اللقاء والاجتماع أمر مقصود في هذه التشريعات الثلاثة من دون شك.

ورغم أن الإنسان يُقبل على صلاته في الخلوات أكثر من الإقبال عليها في الاجتماعات ... مع ذلك كله يفضّل الإسلام إقامة الفرائض اليومية جماعة على الانفراد، وذلك نظراً لأهمية التقاء المؤمنين وتواجدهم في ساحة واحدة.

وقد بلغ من اهتمام الإسلام بالجماعة أن رسول الله 9 هدد أقواماً كانوا مقاطعين لصلاة الجماعة في المدينة بأن يحرق بيوتهم، كما في الرواية.

روى الشيخ الطوسي في التهذيب عن الصادق 7: «أن أناساً كانوا على عهد رسول الله 9 ابطؤوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول الله 9: ليوشك قوم يدعون للصلاة (يَدَعون الصلاة ظ) في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم النار فنحرق عليهم بيوتهم» (6)

وكذلك الاهتمام بأمر (الجمعة) في الإسلام وتحشيد المؤمنين من كل منطقة في جامع عام لإقامة الجمعة، وقد روي عن الإمام الباقر 7:


1- ميزان الحكمة 765: 1.
2- كنز العمال 205: 1 ح 1025.
3- ميزان الحكمة 406: 1.
4- نهج البلاغة، الخطبة 127.
5- مستدرك الوسائل 450: 6.
6- التهذيب 25: 3، ووسائل الشيعة 376: 5، نقلًا عن ميزان الحكمة 410: 5.

ص: 31

«صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع ثلاث فرائض، من غير علة إلا منافق» (1).

واجتماع الحج هو الاجتماع الأوسع للأمة كلها، تجتمع في موعد واحد ومكان واحد، لإقامة هذه الفريضة، وهو أوسع اجتماع يعرفه الناس على وجه الأرض .. يقيمه المسلمون في كل عام تلبية لأذان أبيهم أبي الأنبياء إبراهيم 7 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (2).

الجماعة والجمعة تجمعان كل الشرائح والمذاهب

وقد حرص الإسلام أن يحضر المسلمون بكل مذاهبهم واتجاهاتهم هذه الاجتماعات الثلاثة لأداء الفريضة اليومية وصلاة الجمعة وفريضة الحج مجتمعين.

وكان أئمة أهل البيت: يؤكدون لشيعتهم حضور الجماعات والجمعات لأهل السنة.

عن الإمام الصادق 7: «من صلّى خلفهم كان كمن صلّى خلف رسول الله 9».

وفي حديث آخر عنه 7: «إذا صليت معهم غُفِرَ بعدد من خالفك في قراءة البسملة وحضر الصلاة في المسجد».

وذلك أن الأحناف من أهل السنة يلغون البسملة في القراءة، على خلاف مذهب أهل البيت: في اعتبار البسملة جزءاً من كل سورة، إلا سورة التوبة.

ويشكو أحد الرواة إلى الإمام الصادق 7 حاله في حضور صلوات جماعة أهل السنّة يقول: إن لنا إماماً مخالفاً، وهو يبغض أصحابنا كلهم، فقال 7: «ما عليك من قوله، والله لئن كنت صادقاً لأنت أحق بالمسجد منه، فكن أنت أول داخل وآخر خارج، وأحسن خلقك مع الناس، وقل خيراً».

ويقول الإمام الصادق لإسحاق بن عمار: «يا إسحاق! أتصلي معهم في المسجد؟ قال: قلت: نعم، قال: صلّ معهم فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله».

إن من الضروري تعبئة الجماعات والجمعات بحضور الشرائح الإسلامية المختلفة من كل المذاهب والطوائف الإسلامية، وكسر الحواجز الطائفية والمذهبية فيهما.

ومن الضروري أن يكون خطاب أئمة الجمعات والجماعات خطاباً تقريبياً وحدوياً توحيدياً، يكسب كل الفرق والطوائف الإسلامية، ولا يفرّقهم ولا يُنَفِّرُهم.

ومن الضروري تعبئة الحج بالحوار الهادف الموجّه بين المسلمين في شؤونهم السياسية والثقافية والاقتصادية.

مساحات اللقاء والحوار

أهم مساحات اللقاء والحوار هي المساحة الثقافية والمعرفية والمساحة السياسية والمساحة الاقتصادية.

المساحة الثقافية والمعرفيّة

اللقاء، والحوار الموجّه في شؤون الثقافة والمعرفة يؤدي إلى تقريب وجهات النظر من المذاهب الإسلامية في شؤون المعرفة والعلم، كالفقه واصول الفقه والكلام والتفسير.

ويؤدي إلى اكتشاف مساحات مشتركة بين المذاهب الإسلامية في مختلف أبواب المعرفة، ويتبين لهم أن الخلاف في ما بين المذاهب الإسلامية في هذه المسائل لم يكن إلا خلافاً لفظياً، وهم متفقون على جوهر هذه المسائل.

كما يؤدي إلى التكامل والتلاقح العملي لدى الجميع.

وقد كانت هذه الطريقة مألوفة لدى العلماء وطلبة العلوم من المذاهب الإسلامية المختلفة في التردد على المدارس والحوزات العلمية المختلفة لتلقي العلم، رغم اختلاف المذاهب .. وكان لهذا الترافد العلمي والثقافي أثر كبير في إثراء المعرفة والثقافة الإسلامية وتكامل العلوم والمعارف لدى المسلمين.

المساحة السياسية

المساحة السياسية مساحة واسعة ... وهذه المساحة اليوم أصبحت مساحة لهواة السياسة والانتهازيين واللاعبين الدوليين في السياسة، وأن للسياسة لاعبين، يلعبون في هذه الساحة كما يلعب اللاعبون من هواة الشعبذة والمسرح .. ويقيسون العمل السياسي ويفهمونه ويقيّمونه بنفس المقاييس التي


1- وسائل الشيعة 4: 5 نقلًا عن ميزان الحكمة 426: 5.
2- الحج: 27.

ص: 32

يفهم فيها الناس ألعاب التمثيل السينمائي والشعبذة .. يكذبون ويُكَذّبون حتى يصدقهم الناس، ويستخدمون بيوت أموال المسلمين بسخاء لكسب آراء الناس، ويبطلون الحقائق، ويحققون الزيف والكذب والباطل، بأدوات الكذب والتضليل والتغرير.

وللأسف، الساحة السياسية في العالم اليوم تحكمها هذه العصابات، إلا ما ندر وشذّ، ولا نطيل في هذا الحديث، وسوف يطول موقفنا بين يدي الله تعالى يوم السؤال الأكبر والمحاسبة الكبرى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (1) تجاه هذه القضية.

فقد عرف الناس الظالمين، وسكتوا عنهم، وجاروهم وتعاونوا معهم، ولم يحركوا ساكناً، ولم يزعجوهم بموقف أو كلمة، وتركوهم يمرحون ويلعبون بمصالح هذه الأمة وقضاياها الكبرى، وينهبون ثرواتها، ويمكّنون أنظمة الاستكبار العالمي من بلاد المسلمين، إلا القليل النادر، الذين نهضوا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجابهوهم بكلمة الحق، وكسروا كبرياءهم وأذلوا غرورهم .. وهؤلاء قلة في هذه الأمة، ولكنّها قلة مباركة.

والسبيل الوحيد إلى طرد هذه العصابات السياسية الانتهازيّة من الساحة الإسلامية السياسية هو حضور جمهور المسلمين في هذه الساحة، حضور إيمان ووعي وعطاء.

إنّ حضور الجمهور في الساحة يغيّب هذه العصابات، ويسلب منهم الأضواء التي يتألّقون بها، ويكشفهم ويعرّيهم.

وهذا الحضور عبادة، بحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنّه يطرد حملة المنكر من الساحة، ويفتح المجال للمعروف والعاملين به.

هذا الحضور عبادة، كما أن الصلاة والصيام عبادة، وهو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

شريطة أن يكون هذا الحضور عن وعي وبصيرة، وليس حضوراً غوغائياً انفعالياً، وبشرط أن يحمل هذا الحضور خصلة المقاومة والعطاء، وليس حضوراً واهياً ضعيفاً انفعاليّاً تفرّقه طلقات من الرصاص والغازات المسيلة للدموع.

وبشرط أن يكون هذا الحضور حضوراً وحدوياً، تتجسّد فيه وحدة الصف.

ويتم الحوار فيه على أساس مصلحة الإسلام الكبرى، ويتعامل الجمهور في هذه الساحة من منطلق (الأمة الواحدة)، ويتفقون فيها على موقف واحد ورأي واحد.

إنّ مثل هذا الحضور واللقاء والحوار عندما يعمّ الساحة الإسلامية وينتشر في العواصم والحواضر والمراكز الإسلامية، يكون له دور كبير في توجيه قضايانا السياسية ... ولست أريد أن أَشُطَّ في الخيال وأقول: إن حضور الناس في الساحة سوف يؤدي إلى تغيير شامل لأوضاعنا السياسية الفاسدة في العالم الإسلامي، ولكنني أقول: إنّ هذا الحضور الواحد الشامل سوف يُعدّل كثيراً من قرارات الأنظمة السياسية الكبرى، مثل قرار (التطبيع)، وتبادل السلام بالأرض في فلسطين، والموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، والموقف من المسألة النووية الإيرانية، والموقف السلبي الذي اتخذته الأنظمة العربية من (حماس) في خلافها مع (منظمة التحرير الفلسطينية)، تبعاً للموقف الأميركي- الأوروبي- الإسرائيلي، والموقف من التأييد الأمريكي لإسرائيل والرفض الأمريكي للمقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين (حزب الله وحماس والجهاد)، والتفكيك بين (المقاومة) و (الإرهاب)، واحترام الأول وتبنّيه ونبذ الثاني ورفضه ...

إنّ مثل هذا اللقاء والحوار في الساحة الإسلامية العريضة من أهم ضرورات المرحلة، شريطة أن نحصّن هذا اللقاء والحوار من نفوذ الأنظمة واختراقاتها، فإن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي، تملك من وسائل اختراق الساحة ما يهدّد وحدة الساحة ووعيها، ويؤدي إلى تفريقها وتضليلها، وقد شاهدنا في حياتنا السياسية المعاصرة نماذج كثيرة من هذا الاختراق والتضليل والتجهيل والتفريق.

شروط اللقاء والحوار

ولكي يكون هذا اللقاء والحوار نافعين يجب أن تتوفر فيهما الشروط التالية:

1- تقديم مصلحة الإسلام العليا ..

فقد تتدافع الأطراف الإسلامية فيما بينها، ولا يصلون إلى قناعة مشتركة، عند ذلك يجب عليهم أن يقدّموا المصلحة الإسلامية العليا على كل مصلحة .. وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب 7 قدوة لكل المسلمين في ذلك .. يقول 7 فيما جرى عليه من بعد رسول الله 9 في تقديم الآخرين عليه في أمر الولاية والخلافة وتنحيته عن حقه في هذا الأمر:

«فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تُزعج هذا الأمر من بعده 9 عن أهل بيته، ولا أنهم مُنحّوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي (عن البيعة)، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدْعُون إلى محق دين محمد 9، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة بها عليّ أعظم من فوت ولايتكم» (2).

2- حسن الظن في التعامل والحوار


1- الصافات: 24.
2- نهج البلاغة، كتاب رقم: 62.

ص: 33

إن سوء الظن إذا استولى على الناس في علاقة بعضهم ببعض أفسد اللقاء، وكانت نتائج اللقاء سلبية .. وإن سوء الظن آفة كل لقاء وحوار وعمل مشترك ... وقد نهانا الله تعالى عن سوء الظن في دائرة العلاقات التي تربط المسلمين بعضهم ببعض، بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ (1).

إن تعاطي سوء الظن في العلاقة يفسد العلاقة ويلغيها.

3- العقلائية في اللقاء والحوار:

عندما نكون في منعطف تاريخي حساس، كالمنعطف الذي تعيشه الأُمّة الإسلامية اليوم.

وعندما تكون الأمة الإسلامية ناهضة، وتخوض صراعاً مريراً في مواجهة الأنظمة المرتبطة بعجلة الاستكبار العالمي وأنظمة الاستكبار العالمي التي تقف خلف هذه الأنظمة.

وعندما تُحشّد أنظمة الاستكبار العالمي كل إمكاناتها لمواجهة التيار الإسلامي العظيم الذي يعم كل العالم الإسلامي.

وكان الموقف بيننا وبين الاستكبار العالمي موقفاً تاريخياً مصيرياً فاصلًا ...

أقول: عند ذلك فإنّ من أفدح الأخطاء في ظروف صعبة وعسيرة مثل هذه الظروف أن تغلب العاطفة والانفعال والشعار على مواقفنا السياسية ولقاءاتنا وخطابنا لجماهيرنا وحواراتنا المتبادلة داخل البيت الإسلامي الكبير.

إن لغة العاطفة والانفعال والشعار، كما هي نافعة في إثارة الهمم وإنهاض الجمهور يُمكنُ أن تتحول في بعض الحالات إلى ألغام سريعة الانفجار تُحَوّل الساحة إلى ساحات للسجال والجدال العقيم الضار.

ونتمنى، لو أن طرفاً أو جهة أو شخصاً أراد أن يستخدم هذه اللغة في إثارة التشنج في صفوف المسلمين، ويعكر صفو العلاقات الإسلامية داخل الصف الإسلامي ... نتمنى أن يواجهه الآخرون بالعقلانية الإسلامية والدعوة إلى ما يأمرنا الله تعالى به من الاعتصام بحبل الله وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ والنهي عن التفرقة وَلا تَفَرَّقُوا.

4- الوعي السياسي

إن الحالة السياسية والإعلامية في العالم، والعلاقات السياسية والاقتصادية بين أنظمة الاستكبار العالمي، والأنظمة التابعة لها في العالم الإسلامي، والعلاقة بين السياسة والإعلام ... حالات معقدة شديدة التعقيد، ويدخل في تكوينها عوامل غير مرئية كثيرة، وما يظهر على السطح من التصريحات والعلاقات لا يعبّر عن كل شي ء ...

أذكر في المصالحة التي تمت بين نظام عربي وإسرائيل بالوساطة الأمريكية وتصافح زعيما الطرفين أمام أضواء الكاميرات في حضور الرئيس الأمريكي، فاجأ الرئيس الأمريكي المسؤول العربي بالسؤال التالي:

منذ كم كانت لكم علاقة وارتباط ولقاءات مع المسؤولين في إسرائيل؟

فقال المسؤول العربي الكبير مأخوذاً بهذه المفاجأة ممتعضاً من هذا الإحراج: منذ عشرين عاماً.

إن هذا السؤال والجواب يكشف عن الاحتقار الأمريكي لجملة من زعماء الأنظمة العربية الذين تحميهم أمريكا نفسها، ويحمون مصالحها، كما تكشف عن عمق الفساد السياسي في طائفة من الأنظمة العربية.

منذ عشرين عاماً يتعامل مع إسرائيل، ويتعاطى معها، ويلتقي بقادتها في لندن وواشنطن .. ولا يعرف الناس على سطح الإعلام السياسي عنه إلّا لغة الشجب والتهديد لإسرائيل ..!!

إن هذه الأنظمة السياسية، بين الواقع والتصريحات التي يقدمونها للإعلام، تشبه الكتل الثلجية العائمة على مياه البحار تسع أعشار منها غاطسة في الماء لا تُرى وعُشْرٌ منها فقط يظهر على سطح الماء ...

إنّ هذه الأنظمة بين واقعها الغاطس في مستنقع العلاقة بأنظمة الاستكبار العالمي، والشطر الظاهر المسموع والمرئي منها في الإعلام تشبه هذه الكتل الثلجية .. ومن أفدح الخطأ أن نتعامل مع هذه الأنظمة من خلال الإعلام المرئي والمسموع، ومن خلال الخطب والتصريحات السياسية التي يطلقونها بين حين وآخر.

إن لقاءاتنا السياسية وخطابنا السياسي يجب أن يمتلك خلفية غنية من الوعي السياسي والإحاطة بالظروف السياسية المعقدة، والمعرفة بالخلفيات السياسية التي تقع خلف المواقف والقرارات والتصريحات السياسية.


1- الحجرات: 12.

ص: 34

ومن دون هذا الوعي السياسي سوف يقع جمهورنا وساحتنا في تخبّط سياسي واسع ... ونحن قد تحدثنا عن ضرورة الوعي السياسي وأهميته الكبيرة في هذه المرحلة ... وعلى علماء المسلمين وخطبائهم ومثقفيهم والحركات الإسلامية إشاعة الوعي السياسي ونشره في الأوساط الإسلامية الشعبية.

5- الحوار بالتي هي أحسن

قد ينقلب الحوار إلى جدال عقيم، بل ينقلب إلى عائق يعيق حركة الأمة، وحجاب يحجب المسلمين بعضهم عن بعض، وقد يكون الحوار جسراً للتفاهم والتعاون والتلاقي في المساحات المشتركة السياسية والثقافية والاقتصادية لهذه الأمة، وذلك عندما يكون الحوار بالأسلوب الذي علّمنا الله تعالى ب- (التي هي أحسن)، وأقوم للعلاقة الحسنة والتفاهم بين المسلمين، يقول تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

ويقول تعالى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ (2).

ولا سبيل لدفع (نزغ الشيطان) في العلاقة بين أطراف هذه الأمة إلا أن يخاطب بعضنا بعضاً بأحسن ما نستطيع عليه من القول.

6- تحصين اللقاء والحوار:

إن علينا أن نحصّن هذه اللقاءات والحوارات الإسلامية من نفوذ الأنظمة التي تقع تحت سلطان أنظمة الاستكبار العالمي واختراقها، فإنّ هذه الأنظمة تملك من وسائل الإعلام والاستخبار ما يمكّنها من اختراق هذه اللقاءات والحوارات، وإحباطها وإفسادها ... ولكي نتمكن من تفعيل هذه اللقاءات واستثمارها يجب علينا أن نحصّن هذه اللقاءات من نفوذ هذه الأنظمة واختراقاتها.

أحاديث أهل البيت: في ضرورة اللقاء والحوار

كان أهل البيت: يوجهون شيعتهم وأتباعهم دائماً إلى اللقاء والاجتماع بأهل السنّة، والحضور معهم في جوامعهم، واجتماعاتهم، ومجالسهم، وندواتهم، وينهونهم عن الابتعاد عنهم، ويؤكدون لهم بضرورة التواجد في الساحة الإسلامية العامة، وحضور الجمعات والجماعات، وتوحيد المواقف في الحج، ولم يردنا- ولا حديث واحد- عن انفراد أئمة أهل البيت: في موقف من مواقف الحج عن الموقف العام الذي كان يحدده الحكام في تلك البرهة، لعامة المسلمين.

وقد تصدى بعض المنحرفين عن أهل البيت: للدسّ في أحاديثهم: لعزلهم وعزل شيعتهم عن الوسط الإسلامي الكبير .. وكانت هذه الأحاديث على أنحاء، منها أحاديث الغلو، ومنها أحاديث التحريف، ومنها أحاديث فيها تخليط في الفقه، ومنها أحاديث فيها انتقاص وتسقيط لأهل البيت:، ومنها أحاديث في الطعن واللعن على خصومهم.

وكانوا يعملون لإشاعة هذه الأحاديث عنهم، وقد روي عن الإمام الصادق 7 في هذا المعنى: «إنا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا، فيسقط صدق كلامنا بكذبه» (3).

وعنه 7 أيضاً: «إن المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا» (4).

وروي عن يونس عن أبي الحسن الرضا 7، قال: «إن أبا الخطاب كذّب على علي بن أبي طالب 7. لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبدالله 7 فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن» (5).

وعن أبي الحسن الرضا 7 في حديث إلى ابن أبي محمود: «يابن أبي محمود! إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، جعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا، ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا» (6).

وقد كان أئمة أهل البيت: يعملون لكسر هذا الطوق عنهم وعن شيعتهم بتكذيب هذه الأحاديث وفضح الوضّاعين الذين كانوا يضعون عليهم من الحديث ما لم يتحدثوا به والتأكيد على رفض كل حديث يروى عنهم يخالف القرآن.

فكانوا يقولون: «فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبينا»، «فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن» (7).

وكانوا يطلبون من فقهاء شيعتهم ورواة أحاديثهم أن يتحرّوا الأحاديث الصادقة المروية عنهم: ويحذروا ما وضعه النواصب والمنحرفون عنهم عليهم من الأحاديث المنتحلة، وكانوا يضعون لهم الأصول والقواعد العلاجية لمعرفة الأحاديث الصادقة، وكانوا يدعون شيعتهم للتعايش مع سائر الطوائف الإسلامية، والانفتاح عليهم، والتعاطي العلمي والثقافي معهم وحضور اجتماعاتهم وصلواتهم.

وكانوا لا يرضون لشيعتهم أن يعتزلوا الوسط الإسلامي العام، فهم جزء من هذه الأمة الكبيرة، واختلافهم عن أهل السنّة في بعض الفروع والأصول، ومقاطعتهم للحكام الظلمة الذين كانوا يحكمون المسلمين في العصر الأموي والعباسي لم يكن يحمل معنى الاعتزال عن الساحة والانقطاع عنها.


1- النحل: 125.
2- الإسراء: 53.
3- رجال الكشي: 305 الرقم 549.
4- رجال الكشي: 195 ترجمة المغيرة بن سعيد.
5- رجال الكشي: 224 الرقم 401.
6- عيون أخبار الرضا 303: 1.
7- بحار الأنوار 250: 2 ح 62.

ص: 35

وقد كان أئمة أهل البيت: يعيشون معهم وفي أوساطهم، ويجتمع إليهم المسلمون من كافة المذاهب والاتجاهات، ويحضرون مجالسهم، ويأخذون منهم العلم، ولو أحصينا أهل العلم الذين أخذوا العلم عن الإمام الباقر والصادق 8 لوجدناهم امة كبيرة من أهل العلم، وكانت مجالسهم ومحاضرهم عامرة بفقهاء المسلمين وحملة الحديث النبوي وأهل العلم من كل اتجاه ومن كل بلد ... وهذه الحالة يعرفها جيداً من يعرف حديث أئمة أهل البيت: وسيرتهم، وهي تعبّر عن حالة الانفتاح والتعايش المذهبي الإيجابي السليم لكل الاتجاهات والمذاهب الإسلامية. في الوقت الذي كان أهل البيت: يرسمون ويوضحون لشيعتهم وللمسلمين عامة الخط الفكري الصحيح في الاصول والفروع بوضوح وصراحة وبشكل دقيق.

وفي أحاديث أهل البيت: دعوة واضحة وصريحة إلى هذا الانفتاح مع المسلمين والتعايش الإيجابي والتواصل والتعاطف والتعاون معهم، وإليك نماذج من أحاديث أهل البيت: في هذا الشأن:

روى محمد بن يعقوب الكليني بسند صحيح في الكافي عن أبي اسامة زيد الشحّام قال: قال أبو عبدالله 7: «أقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم، ويأخذ بقولي السلام، أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث وأداء الأمانة وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد 9 وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، وأن رسول الله 9 كان يأمر بأداء الخيط والمخيط.

صِلُوا عشائركم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري، فَيسُرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل: هذا أدب جعفر، والله لحدثني أبي 7 إنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ فيكون زينها، أدّاهم للأمانة وأقضاهم للحقوق وأصدقهم للحديث، وإليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان إنّه أدّانا للأمانة وأصدقنا للحديث» (1).

وأيضاً بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبدالله الصادق 7: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟ قال: فقال 7: «تؤدون الأمانة إليهم وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم» (2).

وأيضاً بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: قلت له (الصادق 7): كيف ينبغي أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ومن ليسوا على أمرنا؟ فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويؤدون الأمانة لهم» (3).

وفي رواية اخرى للكليني في الكافي بسند صحيح عن حبيب الحنفي قال: سمعت أبا عبدالله الصادق 7 يقول: «عليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى، وأحضروا مع قومكم مساجدهم، وأحبّوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حقّ جاره» (4).

وبسند صحيح عن مرازم قال: قال أبو عبدالله الصادق 7: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس، أن أحداً لا يستغني عن الناس في حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض» (5).

ثالثاً- الأعمال والمشاريع المشتركة

قرأنا فيما سبق أن النقاط الثلاث التالية من أفضل المناهج لمكافحة الفتنة الطائفية .. وهذه الثلاث هي:

1- الوعي والخطاب.

2- اللقاء والحوار.

3- العمل المشترك.

وقد تحدثنا فيما مضى عن النقطة الأولى والثانية، وها نحن نتحدث إن شاء الله عن النقطة الثالثة، وهي العمل المشترك، سواءً كان العمل في المجال العملي والثقافي أم في مساحة العمل السياسي، أم في المساحة الاقتصادية.

والتجارب العديدة التي مارسها المسلمون في الآونة الأخيرة في المشاريع الاقتصادية والفقهية تؤكد هذا المعنى.

ونظراً للتحديات العظيمة التي يواجهها المسلمون اليوم لابد من مواجهة هذه التحديات بالمشاريع الإسلامية السياسية والاقتصادية والثقافية التي يشترك فيها عامة المسلمين من كل المذاهب والشرائح الإسلامية. فلم تعد الأعمال الفردية والتي تقوم بها طائفة من المسلمين كافية لمقابلة هذه التحديات، فإن التحديات التي تواجهنا في ساحتنا أكبر من أن نقابلها بمثل هذه المشاريع.

إن مشاريعنا السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية يجب أن تكون بحجم الأمة كلها .. عندئذ تكون يد الله مع هذه المشاريع، وعليها، إن شاء الله تعالى.

وعندئذ تكون هذه المشاريع والأعمال قادرة على مقابلة التحديات القويّة التي تواجهنا في ساحة عملنا.


1- وسائل الشيعة 398: 8، كتاب الحجّ، آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 1.
2- المصدر نفسه، كتاب الحجّ، آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 2.
3- المصدر نفسه، كتاب الحجّ، آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 3.
4- المصدر نفسه، كتاب الحجّ، آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 4.
5- وسائل الشيعة 399: 8، كتاب الحجّ، آداب أحكام العشرة، الباب الأوّل، ح 5.

ص: 36

جدلية الشرعية والواقع:

وسوف أتحدّث عن واحدة من هذه التحدّيات التي تواجهنا في حياتنا السياسية والثقافية، ولا يتأتّى لنا مقاومتها وإحباطها إلّا ضمن مشروع سياسي وثقافي كبير، وبتضامن إسلامي واسع على قدر سعة هذه الأمة.

أمامنا قضيتان متخالفتان ومتقاطعتان في ساحة حياتنا، ويتوجّب علينا أن نتعامل معهما بالضرورة، وليس بوسعنا التشكيك في أي منهما، وليس بوسعنا الإعراض عن أي منهما أو كليهما ومقابلته باللامبالاة.

القضية الأولى: وحدة الأمة الإسلامية

وليس بوسع أحد أن يشك في هذه الحقيقة، وقد تلوت عليكم قريباً قوله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.

وقوله تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.

وهذه حقيقة من حقائق الوحي.

ووحدة الأمة بوحدة ولائها وبراءتها من غير شك ولا ترديد، وإذا تعددت الولاءات والبراءات تتعدد الأمة، ولا تبقى الأمة واحدة، كما تخبرنا بذلك سورة (الأنبياء) و (المؤمنون).

ولا يمكن فصل القيادة السياسية والنظام والقرار السياسي عن مسألة الولاء.

كما لا يمكن فصل التقاطعات والصراعات السياسية والعسكرية بين الأنظمة عن مسألة البراءة ...

أقول: إنّ وحدة الأمة بوحدة ولائها وبراءتها، فإن الولاء للقيادة السياسية الصالحة للأمة تأتي في امتداد الولاية لله ولرسوله ولأولي الأمر .. يقول تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ (1).

ووجود ولائين أو أكثر من ذلك- في عرض بعض- ينافي وحدة الأمة ... فضلًا عما إذا كانت هذه الولاءات متعارضة فيما بينها، كما هو حاصل عادة في الأنظمة السياسية المتعددة الواقعة على خطوط سياسية متعددة.

فلا يمكن أن يتّصف ولي أمر المسلمين بالولاية والطاعة لمجموعة من الأمة، ولا يكون كذلك لمجموعة أخرى من أمة واحدة، وتجب على طائفة من الأمة طاعته ولا تجب طاعته على طائفة أخرى.

أما الولاءات السياسية الطولية (التي يقع بعضها في امتداد بعض) فلا تنافي وحدة الأمة مهما تعددت وكثرت.

إذن لهذه الأمة، طبقاً لهاتين الآيتين الكريمتين من سورتي الأنبياء والمؤمنون، قيادة واحدة صالحة .. وهذه هي الحالة الشرعية التي نطلبها في نظام الحكم والقيادة السياسية للعالم الإسلامي.

هذه هي القضية الأولى: (الشرعية).

القضية الثانية: قيام أنظمة متعددة من الحكم في طول العالم الإسلامي وعرضه ...

وهذه الأنظمة- في الأغلب- لا تمثّل الحالة الشرعية لأنها غير صالحة، وغير مؤتمنة على دين الناس ودنياهم، وغير منتخبة من قبل الناس، وإنما تُفرض على الناس بآليات عسكرية، أو عبر وسائل أنظمة الاستكبار العالمي ... وهذه الأنظمة تفرض طاعتها والالتزام بقراراتها على الناس بالنار والحديد والعنف .. والتغرير والتجهيل الإعلامي.

ولابد للناس من الالتزام بقرارات هذه الأنظمة: وهذا هو (الأمر الواقع) اللاشرعي.

وبين هذا (الأمر الواقع) و (الشرعية) تقاطع شديد ولكل منهما ثقافة، وسياسة، وقوانين، وأنظمة، وآليات، وقوة للتنفيذ.

هذه هي الجدلية القائمة بين (الشرعية) و (الأمر الواقع).

ما هو تكليف المسلم تجاه هاتين القضيتين (الشرعية المحظورة) و (الواقع المفروض)؟

(فلا يجوز) الاستسلام للأمر الواقع المفروض، وإلغاء الحالة الشرعية، و (لا يمكن) تجاوز الأمر الواقع المفروض بالقوة من قبل الأنظمة ..

هذه هي الجدلية بين (ما لا يجوز) و (ما لا يمكن) وهي جدلية قديمة في التاريخ الإسلامي.


1- النساء: 59.

ص: 37

فما هو موقف (الفقه الإسلامي) تجاه هذه الجدلية الصعبة؟

منهج أهل البيت: الفقهي

إن منهج أهل البيت: الفقهي تجاه هذه الجدلية في الفترة الطويلة التي عاشوها في العصر الأموي والعباسي، تتلخص في ثلاث نقاط:

1- النهي عن إسناد هذه الأنظمة ودعمها، وتحريم (التعاون مع الظلمة)، فلا يجوز للمسلم أن يقوم بأي عمل فيه إسناد ودعم لهذه الأنظمة غير الصالحة بأي شكل، ولو كان ذلك بإعداد ليقة دواة للحاكم الظالم .. وقد وردت روايات كثيرة عن أهل البيت: في هذا المعنى. (راجع أبواب حرمة التعاون مع الظلمة في مباحث المكاسب المحرمة). وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في وسائل الشيعة وسائر كتب الحديث والفقه.

2- الأمر بمعايشة الواقع السياسي الاجتماعي؛ لأن الانفصال عنه بمعنى الخروج من ساحة الحياة والانتحار السياسي والاقتصادي.

ولا مناص للمسلمين من أن ينتظم أمر معاشهم ومعادهم ضمن هذا الواقع ولا مناص لهم، من أن يعايشوا هذا الواقع لتستقيم لهم أمور معاشهم ودينهم .. حتى لو يتطلب الأمر أن ينضمَّ المؤمنون إلى مواقع المسؤولية من هذه الأنظمة الفاسدة، ولكن لا لغاية إنعاشها ودعمها، وإنما لغاية تحقيق الضمان لمعيشة المؤمنين وخدمة الناس في معايشهم ومكاسبهم. (راجع الروايات الواردة في مستثنيات التعاون مع الظلمة و أبواب التقية).

فلا يستغني الناس عن المدارس والجامعات وجهاز الشرطة والمستشفيات والمؤسسات الخدمية وغيرها، وكل هذه المؤسسات مؤسسات قائمة ضمن هذه الأنظمة الفاسدة ... لا حيلة للناس عنها فيجوز الدخول في هذه المؤسسات لخدمة الناس ويجوز الاستفادة من هذه المؤسسات، ومن دون ذلك تتعطل حياة الناس، والله تعالى لا يريد تعطيل حياة الناس.

وبين الأمر الأول (المحظور) والأمر الثاني (السائغ) فرق واضح.

3- العمل على تحويل هذا الواقع الفاسد إلى نظام صالح وقيادة صالحة وقوانين وتشريعات صالحة.

وهذه النقطة الأخيرة تختلف من مجتمع إلى مجتمع؛ فقد يتم ذلك عن طريق ثورة مسلحة، وقد يكون ذلك عن طريق الترحيل الثقافي والتبليغي للناس، وقد يكون بالوسائل الديمقراطية الحديثة، التي تمكّن الأكثرية الصالحة من الوصول إلى مواقع الحكم وتغيير الحكم إلى نظام صالح وقيادة صالحة، بصورة سليمة، أو غير ذلك من الوسائل والآليات. (راجع روايات باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأبواب الجهاد)

وهذه ثلاثة مشاريع عمل إسلامية سياسية تتطلب مشاركة عامة من المسلمين، من كل المذاهب والفرق والشعوب الإسلامية التي تعاني من سلطة الحكومات الظالمة.

1- مقاطعة الأنظمة الفاسدة وتحريم دعمها وإسنادها، ووجوب عزل هذه الأنظمة عن الأمة والتشهير بها وتسقيطها.

2- المشاركة الإيجابية في كل مسالك الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والنفوذ إلى مواقع مختلفة من الحكم بهذه الذهنية ولهذه الغاية.

3- مشاريع أسلمة الأنظمة وإقامة الدولة الإسلامية على أسس شرعية وترحيل الحالة السياسية إلى قيام حكومة عالمية إسلامية صالحة، كما وعدنا الله تعالى في كتابه .. وهذا المشروع يختلف من بلد إلى بلد ومن حالة سياسية إلى حالة أخرى، ولا يخضع لوصفة سياسية أو حركية واحدة.

المشروع السياسي الإسلامي

الأنظمة في العالم الإسلامي- في الغالب- غير صالحة، ولا يمكن الاعتماد عليها في تقرير الموقف الإسلامي من القضايا السياسية الكبرى في العالم الإسلامي .. ومن الواضح أن المواقف الرسمية للأنظمة تجاه القضايا الكبرى تبقى خاضعة لتأثير الدول الكبرى، وليس بوسع هذه الأنظمة أن تتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها دول الاستكبار العالمي ...

نعم، هناك مساحات صفراء يتحرك عليها هؤلاء الحكام .. وقد تكون هذه الحركة مخالفة لقرارات الدول الكبرى ...

أما الخطوط الحمراء، فليس بوسع هذه الأنظمة تجاوزها، مهما كان الثمن الذي تدفعه هذه الأنظمة .. مثل النفط، فليس بوسع هذه الأنظمة أن تستخدم «النفط» في قضايا الأمة السياسية، والعكس حاصل فعلًا، فإن الدول الكبرى ومجلس الأمن يستخدمان العامل الاقتصادي سلاحاً قاطعاً في قراراتها السياسية، وفي عقوبة الأنظمة التي تتجاوز الخطوط الحمراء، في حين لا يجرأ حكامنا، أو لا يملكون، في أكثر مناطق العالم الإسلامي، تجاوز الخطوط الحمراء، فيما يتعلق بأنظمة الاستكبار العالمي.

ومهما يكن السبب، فإن الساحة الإسلامية الواسعة لا تمتلك اليوم مقومات القرار والموقف السياسي الراشد الإسلامي، إلا ما يصدر بصورة عفوية من مواقف وقرارات يتبناه جمهور المسلمين في مختلف أقاليم العالم الإسلامي، كما رأينا ذلك في التعاطف الشديد لمواقف المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان (حزب الله)، من جانب جماهير المسلمين في كل أقاليم العالم الإسلامي، وفي المهاجر الغربية، ورغم أن الأنظمة العربية- في الغالب- كانت ممتعضة من انتصار المقاومة وما سجلته من انتصارات باهرة خلال 33 يوماً، إلا أن تيار التضامن والتعاطف الإسلامي مع حزب الله كان أقوى من أن تعاكسه الأنظمة وأدواتها الإعلامية المسخرة لخدمة مواقفها السياسية ... ولكن هذه الأنظمة تمكّنت أخيراً من إبراز كراهيتها لانتصار

ص: 38

حزب الله في الاصطفاف الواسع الذي قامت به إلى جانب فؤاد السنيورة وجعجع والحريري وجنبلاط في إفشال مشروع حكومة الوحدة الوطنية التي دعت إليها المعارضة .. وفي مقدمتهم حزب الله. ولولا التصرف العقلائي لحزب الله في هذا الموقف المعارض لاستئثار الأقلية بالحكم في لبنان، لكانت العاقبة حرباً أهلية واسعة في لبنان، إلا أن (حزب الله) آثر ممارسة الاعتراض بصورة سلمية، حتى عندما كانت الحكومة تقابل المعارضة بالعنف .. وكفى الله اللبنانيين القتال.

ومهما يكن من أمر، فلابد للساحة الإسلامية الكبرى من أدوات نابعة من إرادة الأمّة ومن عمق الساحة لتنضيج القرار السياسي الذي يهم الأمة- كلها- ولتوحيد الرأي والموقف السياسي في القضايا الكبرى، وتعميمها على كل الساحة الإسلامية وتحشيد الرأي العام الإسلامي لإسناده والوقوف إلى جانبه، وتفعيله في الساحة من خلال المسيرات والاحتجاجات والهتافات والإعلاميات والآليات المشاعة التي يمتلكها الشارع للتعبير عن موقفه ورأيه واعتراضه واحتجاجه وحبه وبغضه.

ومن دون وجود مشروع سياسي- مثل هذا المشروع- ينضّج الرأي السياسي الراشد الناضج الموحّد، تبقى الساحة معرضة لأمواج الفتن السياسية، وضغوط وسائل الإعلام الرسمية التي تجعل من الحق باطلًا ومن الباطل حقاً، وتقرّب البعيد، وتبعّد القريب.

وتبقى الساحة الإسلامية تتخبط بين اختلاف الآراء والمواقف، والفتن، والضغوط الإعلامية.

ولكي تسلم الساحة الإسلامية الكبرى من هذا التخبّط لابد من مشروع سياسي إسلامي كبير، خارج مجال نفوذ هذه الأنظمة، يمارس هذه المسؤولية في تنضيج القرار والموقف الإسلامي وتوحيده وتعميقه وتفعيله في الساحة.

ولابد أن يمثّل هذا المشروع السياسي كل الشرائح والمذاهب والأقاليم الإسلامية تمثيلا صادقاً حقيقياً، ليكون لرأي هذا التجمع الإسلامي، النفوذ والتأثير الفعلي على كل الساحة الإسلامية.

ويكون مركزاً لتنضيج القرار الإسلامي الراشد الذي تتبناه الساحة الإسلامية كلها، في المسائل الأم الكبرى في العالم الإسلامي، مثل قضية القدس والمسجد الأقصى، والقضية الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من أراضي الوطن الإسلامي من سورية ومصر والأردن ولبنان، ومثل المشكلة الصومالية، وتدخل القوى المتعددة الجنسيات في دارفور، والمشروع الإيراني النووي السلمي. والاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، والموقف الأمريكي المعادي للقضية الفلسطينية، والداعم لإسرائيل، والموقف البريطاني، بل الاتحاد الأوروبي من دعم المرتد سلمان رشدي، والموقف الروسي المتعنت من الولايات الإسلامية كالشيشان، وقضية الصحراء المغربية، واضطهاد الأنظمة في العالم الإسلامي لأبناء الحركة الإسلامية، كما في الجزائر وتونس ومصر، وكما في العراق في عهد الطاغية، ومثل الصراع الفلسطيني- الفلسطيني بين حماس وفتح، والدعم الإسرائيلي والأوروبي والأمريكي والعربي لفتح، وتضييق الحصار على غزة وحماس اقتصادياً وسياسياً، وعزل حماس عزلًا سياسياً كاملًا ... وأمثال ذلك، والتخريب الواسع الذي قامت به إسرائيل للبنان، انتقاماً لانتصار حزب الله عليها في الحرب التي دارت بينها وبين حزب الله في جنوب لبنان، وسكوت الدول الغربية- الأوروبية والأمريكية برمتها تجاه هذا العدوان السافر على لبنان ودعم الموقف الإسرائيلي بشكل مطلق بكل أشكال الإسناد والدعم ... وأمثال ذلك.

وقد يتساءل أحد عن الصيغة العملية لهذا المشروع السياسي ... فأقول: إنني لست بصدد عرض صيغة محددة لهذا المشروع السياسي ... يمكن أن يكون على هيئة مؤتمر دوري لأهل الحل والعقد من المسلمين، ويمكن أن يكون بصيغة أخرى ... وأيّاً ما تكون الصيغة العملية لهذا المشروع، فهو مركز سياسي، يمثل الأمّة الإسلامية بعرضها العريض، في تنضيج القرارات والتوصيات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، وبلورتها وتقديمها، في الأمور التي تهمّ الأمّة، ويكون هذا المركز في مقابل مراكز القرار الرسمية للأنظمة، يعبّر عن إرادة الناس وانتمائهم وهويتهم الإسلامية ... وهو أمر قائم فعلًا، في بعض الحدود، ولكن يحتاج إلى تثبيت، وتطوير، وتوسعة، وتعديل، وتقنين، وتبني من قبل المسلمين.

تساؤلات حول هذا المشروع

وقد يثير أحد حول هذا المشروع التساؤلات التالية:

1- أين يمكن إقامة هذا المشروع السياسي المستقل عن الإرادة الأمريكية- الغربية، وأمريكا تقول اليوم للسحاب: أينما تذهبين فانك تمطرين في مساحة نفوذي وسلطاني؟

2- ما جدوى رأي هذا المركز السياسي إذا كان لا يملك آلية التنفيذ في مقابل قرارات الأنظمة التي ينفذها أصحابها بالإرهاب والإعلام؟

3- وكيف يمكن عزل رأي هذا المركز أو توصياته عن تأثير ونفوذ الأنظمة ودول الاستكبار العالمي، في هذه الدنيا المتشابكة المتداخلة؟

والجواب عن السؤال الأول:

إن أرض الله واسعة ونحن لدينا مناقشات جوهرية في صدقية النفوذ الأمريكي الكوني المطلق، ليس هنا مجال بسط الكلام فيها.

وعن السؤال الثاني:

ص: 39

أقول: إن رأي هذا المشروع وتوصياته يكون مدعوماً بالرأي العام الإسلامي، وسوف يكون له دور واضح في تعديل القرارات السياسية للأنظمة إن لم تكن قادرة على إلغائها.

وعن التساؤل الثالث: لا ننفي إمكانية نفوذ الأنظمة ومن ورائها أنظمة الاستكبار العالمي إلى صلب هذا المركز وآرائه وتوصياته، ولكنه على كل حال إمكانية محدودة وليست مطلقة، ولا يمكن أن يحقق أي مشروع سياسي في هذه الدنيا المتداخلة المتشابكة غايته بصورة مطلقة.

وبعد، فإننا نرى أن أمثال هذه المشاريع طموحات سياسية واقعية، يمكن أن نسعى إليها وليست ضرباً من الأحلام في واقعنا السياسي المعاش.

المرجعية السياسية للعالم الإسلامي

نحن اليوم أمة فاعلة قوية على وجه الأرض. ولهذه الأمة ثقل كبير في المعادلات السياسية، وحضور واسع في القضايا السياسية ذات الشأن بالحالة الإسلامية خصوصاً، وبالحالة الكونية عموماً.

ورغم أن أكثر الأنظمة الحاكمة على العالم الإسلامي تعمل لتشتيت هذه القوة الكبرى على وجه الأرض، لكن تبقى الأمة الإسلامية التحدي الأكبر للغرب. والذين يقرؤون التاريخ والمستقبل من المنظّرين في الغرب يفهمون هذه الحقيقة، وينذرون أنظمة الاستكبار الغربي من هذا العملاق الذي بدأ ينهض من سباته في القرن العشرين.

وفي ضوء هذا الفهم نقول:

1- إن الحقائق المتقدمة في نهضة الأمة بعرضها العريض لا يمكن أن تخفى على مراكز الرصد الاستكباري في الغرب.

2- ولابد أن تلقى هذه الأمة تحديات صعبة من ناحية الغرب لإحباط المشروع الإسلامي الكوني الكبير.

3- ولا تخصّ هذه التحديات إقليماً أو قوماً و مذهباً من المذاهب، وإنما تعم الأمة الإسلامية برمتها؛ لأن هذه الأمة هي التربة الصالحة للمشروع الكوني الذي يخبرنا به الله تعالى في كتابه: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ والذي يتنبّأ به المنظرون في الغرب.

4- إذن، المسلمون جميعاً في مواجهة صراع حضاري وعسكري وسياسي وثقافي، قاس، من أقسى ما يعرفه تاريخ الإنسان من الصراعات الحضارية السياسية، والعسكرية، شئنا ذلك أم أبينا.

والمطالبة بالمعايشة السلمية وشجب الحروب والصراعات لا يعفينا من هذه المعركة .. ولسنا نحن الذين ندفع الغرب إلى مثل هذا الصراع، وإنما العكس هو الصحيح، الغرب هو الذي يدفعنا إلى مثل هذه المعركة ... فإن الكيانات السياسية والعسكرية والثقافية في الغرب يرون أنهم قد وصلوا إلى نهايات التاريخ، والعاقبة التي آل إليها أمر الاتحاد السوفياتي ليس ببعيد عنهم، والقوانين والسنن التي آلت إلى سقوط الاتحاد السوفياتي هي التي تؤول بهم إلى تلك العاقبة. وهم يدافعون عن أنفسهم في معركة مصيرية بالنسبة لحضارتهم وكيانهم الاقتصادي والسياسي والعسكري، ومن الطبيعي أن يكون هذا الصراع أشرس صراع يعرفه الإنسان، لأنه صراع على الموت والحياة.

5- ومن أفدح الخطأ أن ندخل هذا الصراع من غير الإعداد المكافئ لهذه المعركة الحضارية، ومن غير الإعداد لآليات هذا الصراع .. والدخول في مثل هذه المعركة من غير الإعداد المكافئ لها يعادل الفشل والهزيمة فيها ... يقول تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ (1) وليست القوة كلها السلاح وإن كان السلاح من مقومات ساحة القتال إلا أن دائرة الإعداد الذي يأمرنا به الله تعالى أوسع من السلاح.

6- ومن أهم الآليات التي تُعِدُّ هذه الأمة لدخول مثل هذه المعركة التي نتوقعها كل حين، بل نعايشها اليوم، دون أن ننتبه لها .. في مقدمة هذه الآليات (المرجعية السياسية الواحدة للأمة الإسلامية) ... فليس من الممكن أن تدخل هذه الأمة صراعاً سياسياً وحضارياً واسعاً، وتواجه تحديات كثيرة، دون أن تمتلك الأمّة (مرجعية سياسية)، توحّد قرارها وموقعها وصفّها.

إن وحدة الأمة ووحدة القرار السياسي لا تتحقق إلا من خلال الآليات التي أعدّها الله تعالى لذلك، وفي مقدمة هذه الآليات المرجعية السياسية التي يسميها الفقهاء ب- (ولاية الأمر).

يقول تعالى: أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ.

7- و (الموقع الأول) و (الموقع الثاني) اللذين تحدّثنا عنهما مؤسستان إسلاميتان للأمة الإسلامية كلها تتكاملان، تؤدي الأولى دور الشورى وتنضيج القرار السياسي الذي تشير إليه آية الشورى وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ (2) وتقوم الثانية بدور (الولاية السياسية) في حياة المسلمين .. تنفيذاً لقوله تعالى:

أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (3).


1- الأنفال: 60.
2- الشورى: 38.
3- المائدة: 55.

ص: 40

في الساحة الاقتصادية

إن عملًا واسعاً يجري اليوم لإلحاق أسواق العالم الإسلامي ومصادر ثرواته الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية، وهو أمر حاصل بالفعل، ولكن الحركة التي تقوم بها الأنظمة في العالم الإسلامي هي إلحاق أسواقنا في العالم الإسلامي وثرواتنا الطبيعية بشبكة العولمة الاقتصادية بشكل كامل .. وهذا الأمر إذا تم يجعل من حركتنا الاقتصادية حركة تابعة لاقتصاد الدول الصناعية الكبرى، وتجعل من أسواقنا معرضاً ومحلًا لاستهلاك ما تنتجه المصانع في الدول الصناعية الكبرى، وتجعل مصادرنا الطبيعة للثروة مثل النفط والكبريت والصلب والحديد والقطن وقصب السكر والمطاط والتمور مصدراً لتموين المعامل والمصانع في الغرب.

ونتحول من موقع الإنتاج والاكتفاء الاقتصادي إلى مركز لتموين المصانع في الدول الصناعية الكبرى بالمواد الخام التي تحتاجها هذه المصانع ومحلًا لاستهلاك ما تنتجه هذه المعامل.

وهذه العاقبة أسوأ عاقبة اقتصادية للعالم الإسلامي، وتؤدي هذه التبعية الاقتصادية إلى تبعية سياسية خالصة، وانهيارات اقتصادية واسعة كما حصل لجنوب شرق آسيا قبل سنين، وتفقدنا حالة الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد بشكل كامل.

وكما يستخدم الغرب الآلة الصناعية والاقتصادية في تحقيق (التبعية السياسية) في العالم الإسلامي، بشكل واسع، كذلك يستخدم الغرب المقاطعة الاقتصادية والحظر الاقتصادي لإخضاع أنظمة العالم الإسلامي لإرادته السياسية، كما حصل ذلك لإيران وليبيا وسوريا والسودان ... عندما امتنعت من تنفيذ إرادته.

وقد كان بوسع العالم الإسلامي أن يستخدم الآلة الاقتصادية، مثل تصدير النفط في تعديل بعض المواقف الغربية المتطرفة عموماً والأمريكية خصوصاً تجاه العالم الإسلامي، مثل الجنوح المتطرف إلى جانب إسرائيل، والوقوف إلى جانب إسرائيل في كل مراحل عدوانها على فلسطين ولبنان. والتشديد على إيران بسبب محاولاتها لتخصيب اليورانيوم والوصول إلى مرحلة استخدام الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء وسائر الغايات السلمية، والسكوت عن إسرائيل ومفاعلاتها النووية وترساناتها التي تختزن 200 رأس نووي جاهز للتفجير والعدوان، كما تقول بعض المؤسسات العسكرية.

لو أن المسلمين كانوا يستخدمون الآلة الاقتصادية في تعديل المواقف السياسية الغربية المتطرفة تجاه العالم الإسلامي لتغير وجه العلاقات الإسلامية- الغربية، ولم يتمكن الغرب من أن يمارس هذا النفوذ الواسع في العالم الإسلامي، ولم يسع الغرب أن يستهتر بهذه الصورة بكل القيم الدبلوماسية والسياسية في علاقاتها بالعالم الإسلامي.

ولكن ما الحيلة إذا كان حكام العالم الإسلامي في الغالب لا يجرؤون على التطاول على الإرادة السياسية الغربية، وبشكل خاص الإرادة السياسية الأمريكية، ولا يمتلكون الشجاعة الكافية لاتخاذ أي قرار سياسي أو اقتصادي يعارض مصالح أنظمة الاستكبار العالمي، ويتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة لهم؟!

إن حركة غاضبة عفوية قامت بها جماهيرنا في مقاطعة البضائع الدنماركية، عندما أساءت صحيفة دانمركية إلى رسول الله 9، وامتنعت الدانمارك من الاعتذار إلى المسلمين ومعاقبة الصحيفة، كان لها تأثير كبير في تعديل موقف الحكومة الدانمركية والحكومات الاسكندنافية، التي وقفت إلى جانب الدانمارك في حينه.

إن الموقف الصحيح في هذه المسألة الخطيرة هو الحضور المليوني الموحّد في الساحة، والهتاف بمقاطعة العولمة الاقتصادية الزاحفة إلى العالم الإسلامي، والمطالبة باستخدام الآلة الاقتصادية في قضايانا السياسية الأُم، والمناداة بتحرير أسواقنا من سيطرة البضاعة التي تصدرها إلينا الدول الصناعية الكبرى. والدعوة إلى تحرير مصادرنا الطبيعية للثروة وإنتاجنا الزراعي والحيواني من نفوذ الدول الكبرى، والمناداة بالوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي، والتشهير بالأنظمة والحكام الذين يستخدمون مواقعهم في الحكم لتمكين النفوذ الاقتصادي الغربي والشرقي (الاستكباري) من أسواقنا ومصادرنا الطبيعية، ودعوة الجمهور إلى استخدام المقاطعة الاقتصادية عندما يتطلب الأمر، ويتقاعس الحكام ويجبنون عن اتخاذ القرار الاقتصادي المناسب.

إن الحضور الواعي القوي للأمة في الساحة الإسلامية، في كل المراكز والحواضر والعواصم الإسلامية يؤدي بالضرورة إلى تعديل قرار كثير من الأنظمة والحكام الذين يحكمون العالم الإسلامي، كما يؤدي إلى تعديل القرارات الاقتصادية والسياسية لدول الاستكبار العالمي تجاه العالم الإسلامي وتخفيف الضغوط السياسية والاقتصادية عليه.

ص: 41

ص: 42

ص: 43

ص: 44

المشروع الوحدوي .. رواداً ومواقف

محسن الأسدي

نتعرض باختصار إلى المشروع الوحدوي في الساحة الإسلامية في بصماته الأولى عبر مؤسّسيه الأوائل، والذين شغلهم أمره وراحوا يبذلون جهودهم وإمكانياتهم لتحقيقه والدفاع عنه، لأنه يعدّ الخط الأول في الدفاع عن الدين الحنيف وعن ساحته والمسلمين جميعاً، وقد انطلق عمل المؤسسين هؤلاء من التأسيس الشرعي والأحكام الشرعية، لهذا المبدأ المتين الذي جاءت من أجل تحقيقه كل الديانات السماوية من خلال كتبها وجهود رسلها وأنبيائها والصالحين ..، وهو ما نراه واضحاً في مواقف رسول الله 9 وأحاديثه، ومواقف أئمة أهل البيت: وسيدهم أمير المؤمنين الإمام علي 7، وهو الذي كان يعد- بعد رسول الله 9- أول رائد لوحدة المسلمين وقد سبق الجميع في هذا المضمار بما يملكه من إيمان ثابت، وإسلام وثيق، وجهاد مرير، وعلم غزير، وحرص على الرسالة والمؤمنين بها وعلى أهدافها ومستقبلها، وبما يتوفر عليه من وعي عميق بالساحة المسلمة ومعرفة بما فيها وما يحيطها من مخاطر جسام مع كل ما عاناه من مصادرة لحقه وتجاوز عليه .. فمع أنه 7 كان يرى أحقيّته بمنصب الخلافة بلا فصل بعد رحلة رسول الله 9 إلى ربه تعالى، إلا أنه غض النظر عن حقه، ووقف ممن تولاها من الخلفاء الثلاثة بكل ما تمليه عليه مصلحة الدين ووحدة الأمة وحفظ كيانها، فلم يكتف بمسالمتهم وإنما تجاوز ذلك إلى نصيحتهم وإرشادهم ومؤآزرتهم فيما تعرضت له الساحة الإسلامية من مخاطر، فكانت مواقفه تحددها المصلحة الإسلامية ومن أجل وحدة الساحة الإسلامية فقط وفقط، ولم تكن مواقفه من أجل الأشخاص، فكان خير ناصح للخلفاء وللمسؤولين، وكان أميناً على الرسالة ووحدة الأمة .. وهذه نماذج من أقواله التي تحكي مواقفه:

فقد عبر الإمام عن موقفه الحريص على الوحدة الإسلامية مع إشارته بل تصريحه بحقه .. بقوله:

«إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حق نحن أحقّ به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، ويفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف» (1).

وقوله كما في كتابه إلى أهل مصر عندما ولّى مالك الأشتر عليها:

«فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

ويقول في هذا المجال المتعال الصعيدي أحد كبار علماء الأزهر:

«حبس الإمام علي 7 رأيه في أنه أحق من أبي بكر بالخلافة في نفسه، فأخلص له في سره وجهره ولم يضمر حقداً عليه ولا ضغينة ولم يحاول أن يكنّ له أو يأتمر به، بل وقف منه في حرب الردة موقفاً يدل على كمال الإخلاص، ويعلن تمام الود، فإن أبا بكر حين خالفه المسلمون في حرب المرتدين ومانعي الزكاة خرج وحده شاهراً سيفه فلحق به علي 7 فأخذ بزمام راحلته، وقال له: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ لا تفجعنا في نفسك فوالله لو أصبنا بك لا يكون للإسلام نظام. فرجع أبو بكر فمكث في المدينة وسمع هذه النصيحة الخالصة لعلي 7.


1- انظر شرح نهج البلاغة 95: 6.

ص: 45

والشي ء نفسه أيضاً حدث لما استشاره الخليفة الثاني في الخروج إلى غزو الروم فنصحه أن لا يخرج إليهم بنفسه وقال له: «إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلًا محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى، كنت ردأ للناس ومثابة للمسلمين» (1).

وأيضاً كان موقفه الآخر في مسألة الشورى التي عينها الخليفة الثاني لاختيار الخليفة من بعده، وجاء اختيار عثمان بن عفان خليفةً وفق القاعدة التي وضعها الخليفة الثاني لعمل دائرة الشورى وإن كان شرطاً مؤلماً. لكن الإمام علياً 7 لما رأى النتيجة هكذا آلمته كثيراً إلا أنه أعلن موافقته تلبية للمصلحة الإسلامية ولما تقتضيه وحدة الساحة المسلمة وخوفاً من وقوع الفتنة والفرقة ولم تكن استجابة لشخصية بذاتها أو لمصلحة ذاتية يبتغيها أبداً .. وهذا هو خطابه 7 لأهل الشورى أنفسهم يبين رأيه بشكل جلي:

«ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلي ما تَصِفُونَ) (2)

وخاطبهم أيضا بقوله: «لقد علمتم أني أحق بها من غيري، ووالله لأسالمنَ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (3).

وطالما قدم للخليفة عثمان النصيحة ولم يبخل عليه بكلمة تنفعه، وعمل ينجيه، وقد تفاقمت عليه الفتنة التي أودت أخيراً بحياته، وأوضح له أسباب الفساد، وعليه أن يقتلع هذه الأمراض التي انتابت حكومته .. وكان يقول له:

«أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً، وأسهل إليها سبيلًا، ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك إلى الرشد، ألا تنهي سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم، والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك». وكان يحذره من مروان بن الحكم رأس الفساد، ومن الأخذ برأيه فيقول له: «فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء» .. (4)

ثم راحت مواقفه تترى معهم على جميع المستويات مقدماً مصلحة الإسلام العليا في قوته ووحدته وبقائه على أيّ مغنم أو مكسب آني أو ذاتي ..

وهكذا ظل الإمام علي 7 في كل مواقفه وهي كثيرة، وقد تعالا فيها على جراحه وآلامه ولم يسع وراء السلطة وحطامها، مؤثراً الإسلام ووحدة الأمة المسلمة وبقاءها موحدة قوية، وقد دفع حياته 7 ثمناً لها ..

الإمام زين العابدين

وهذه المواقف الوحدوية لم تتوقف وراحت تستمر عبر أئمة المسلمين وهي تنبع عن مبدأ أكيد يعيشه أهل البيت: يأتي من حرصهم على الإسلام وبيضته ووحدته، فليس الأمر مختصاً بالإمام علي 7 فهذا حفيده الإمام علي بن الحسين زين العابدين 7 وهو الإمام الرابع من أئمة أهل البيت: (وفاته سنة 95 هجرية)، فقد برز هذا المشروع الوحدوي واضحاً في حياته المباركة، فقد كان يدعو الله ويطلب من المسلمين أن يدعوا الله تعالى طلباً لنصر جيش إسلامي ذاهب إلى قتال الروم رغم أن قيادة هذا الجيش لبني أمية المستقرة في الشام ارتكبت تلك المجزرة الرهيبة البشعة في كربلاء في شهر محرم سنة 61 هجرية بحق أبيه الإمام الحسين 7 وأهل بيته وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

وقد تجاوز هذا كله وما تركه الأمويون في قلبه من جراح، راح يضغط عليها، ويؤازر ذلك الجيش ويرفع يديه بالدعاء له بالنصر وهو دعاء الثغور المعروف، وهذه مقاطع منه:

«اللهم صل على محمد وآله وحصن ثغور المسلمين بعزتك وأيد حماتها بقوتك وأسبغ عطاياهم من جدتك ... وكثر عدتهم واشحذ أسلحتهم ... وأفرغ عليه الصبر وسهل له النصر ...».

وذلك كتأكيد من الإمام زين العابدين 7 على القضية الإسلامية الأساس، وهي انتصار المسلمين الذي كان يهمه ووحدتهم التي كانت تؤرقه ..

الإمامان الباقر والصادق 8

وقد تمثل هذا المشروع الوحدوي أيضاً في علاقة الإمامين الباقر 7 المتوفى سنة 114 هجرية، والصادق 7 المتوفى سنة 148 هجرية، وهما الإمام الخامس والسادس من أئمة أهل البيت:، وكانا أصحاب مدرسة فكرية كبرى كانت ساحاتها مليئة بالكثير من طلبة العلم وأساتذته وهم من مختلف المذاهب الإسلامية وخصوصاً في زمن الإمام الصادق 7 وبعد أن اتسع ميدان نشاطه وصار أكثر حرية وخفت عليه ضغوط حكام عصره لانشغالهم بما وقع بينهم من خلاف ونزاع .. راح 7 يستغل هذه الفرصة النادرة بأن يوسع من مدرسته ويبث جهوده وأفكاره ويحث الآخرين على طلب العلم ويحترمهم وإن اختلف معهم في الرأي، ويحض أصحابه على حسن الحوار ومعرفة المنهج الصحيح في النقاش مع المختلف .. حيث كانت له مع أئمة المذاهب الإسلامية والمدارس الفكرية في زمانه لقاءات ولا سيما مع إمام المذهب الحنفي والمالكي، بحيث ما كانا يشعران بالحرج من التردد على الإمام الصادق والاستفادة منه .. كما كان 7 يحرص على الانفتاح عليهما ..

روّاد الوحدة الإسلامية


1- نهج البلاغه: 192 صبحي الصالح.
2- يوسف: 18؛ وانظر: الكامل في التاريخ 71: 3.
3- نهج البلاغه: 102.
4- شرح نهج البلاغه 15: 9، 262.

ص: 46

وانطلاقاً من النصوص التالية التي تحدد الحكم الشرعي، ومن تلك المواقف الشرعية لأئمة المسلمين ومن غيرها وهي كثيرة لمن أراد تتبعها، بقي موقف الدعوة إلى الوحدة والتقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، نهجاً واعياً سار عليه الواعون المصلحون من علماء ومفكري الأمة ودعاتها قديماً وحديثاً، ودعائم ذلك لا بد من الاعتراف والالتزام بها، وتتمثل هذه الأسس أو الدعائم بالنقاط التالية:

النقطة الأولى: الاهتمام الكبير والواعي بمصالح الأمة الإسلامية عموماً، وهي تتوقف على وحدتها، ووحدتها هدف مركزي لا يصح التخلي عنه أبداً، لأنه غاية التشريعات الإسلامية بل هو هدف البعثة النبوية الشريفة .. وتهون من أجله كثير من الأمور. فوحدة الأمة مطلب ديني، أكد عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة كقوله تعالى:

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (1).

وقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ) (2).

وأقوال رسول الله 9 في موارد مختلفة، ومنها:

«مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (3).

وقوله 9: «لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» (4).

ثم إن الوحدة إضافة إلى كونها مبررة شرعاً ولا يجوز مخالفة ما جاء به الشرع المقدس، فإن فيها مصلحة للأمة وحفظاً لها، وأن تماسك أبنائها ورصّ صفوفهم يعد إعزازاً لدين الأمة وتثبيتاً لها أمام أعدائها والمتربصين بها، وهذه أمور يهتدي إليها كل إنسان بعقله.

وانطلاقاً من هذين الأمرين «الشرعي والعقلي» غدت قلوب علماء الأمة تتألم لواقع تمزقها وتفرقها، وهم يرون أن ما من أمة قويت شوكتها وبنت كيانها وقارعت أعداءها إلا بوحدتها .. لهذا راحوا يتطلعون لإنقاذها وتخليصها من كل ما يعيق وحدتها ويعكر صفو حياتها .. وهم بهذا يرون أنهم يتعبدون الله تعالى بموقفهم هذا، ويتقربون إليه بالسعي لوحدة الأمة، والعمل من أجل تماسكها، وتجنيبها الفتن والصراعات. ويرون التقصير في ذلك ذنباً من كبائر الذنوب وموجبات الإثم والعقاب.

النقطة الثانية: لا بد من الاعتراف بالتعدد المذهبي القائم في الساحة المسلمة. فهو أمر واقع لا يمكن الفرار منه أو التغافل عنه وله أسسه وجذوره وتراثه وعلماؤه ومريدوه .. وليس هناك أحسن من التعامل معه واحترامه والاستفادة منه وتحويله إلى عنصر إيجابي ينفع دين المسلمين ومسيرتهم ووحدتهم ..

النقطة الثالثة: التركيز على مساحات التوافق الواسعة الواردة في هذه المذاهب، وهي كثيرة يمكن أن تكون هذه المشتركات دافعاً مشجعاً بل قوياً لبناء أواصر المحبة والمودة والتفاهم والأخوة بين أبناء الأمة ..

النقطة الرابعة: تشخيص موارد الخلاف في هذه المذاهب، ثم الاتفاق على أن لا تشكل مانعاً للحوار وأن لا تكون عائقاً أمام وحدتهم وبأن تحيد ريثما تتم دراستها تمهيداً للحوار العلمي الهادئ فيها ..

لم يجد هؤلاء المصلحون في دعوتهم للوحدة والتقريب طريقهم الوحدوي هذا بلا عوائق ومصاعب، من جهات متعددة، منها الجهات السياسية التي ترى في وحدة الأمة تقويضاً لكيانها، لهذا راحت تخالف الوحدة لأنها تخالف أغراضهم، وهناك جهات دينية وقوى اجتماعية تتبنى خط التشدد المذهبي لسوء فهمها أو أنها ترى ارتباط مصالحها بمعادلات الخلاف المذهبي الطائفي. إلا أن المصلحين من الفرق الإسلامية لم يفت في عضدهم كل تلك الموانع والأذى، الذي يلحق بهم، لإخلاصهم في مسيرتهم ودقة معرفتهم بخدمة الدين وأهدافه والأمة ومسيرتها، وهو ما يجعلهم أكثر استقامة وثباتاً وتحملًا للآلام والصعاب ..

نعم، استمر التأكيد على هذا المشروع الوحدوي من خلال العلماء من المسلمين الشيعة والسنة، الذين كانوا يحرصون على تأكيد التواصل والحوار وتعريف السنة بما عند الشيعة والشيعة بما عند السنة، والتأكيد على الوحدة في القضايا الكبرى والأساسية .. وهو ما نجده عند كثيرين- رضوان الله تعالى عليهم- قديماً وحديثاً، نأتي في مقالتنا هذه على ذكر عدد منهم وموقف من سيرتهم، أو نبذة مما كتبوه ودونوه، وفي طليعتهم:

الشيخ المفيد (413 ه) وتلامذته

نعم هذا ما نلمسه عند الشيخ «أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد» وهو أحد أبرز علماء الشيعة الإمامية في القرن الثالث للهجرة، وكان عصره عصر النهضة العلمية، فأدرك كثيراً من أعاظم علماء عصره من الفريقين من المحدثين والمتكلمين والفقهاء وسمع منهم وقرأ عليهم، فقد كان له الكثير من الأساتذة والتلامذة من علماء السنّة.

ومن الطريف أن أحد علمائهم وهو علي بن عيسى الرماني المعتزلي (296- 384 ه) هو الذي أطلق اسم المفيد عليه .. انظر ترجمة الشيخ المفيد (اسمه ولقبه) في مقدمة كتاب الجمل ولعل في غيره موجودة قصة تسميته بالمفيد وهي قصة لطيفة نافعة علمياً تتضمن نقاشاً علمياً بين الشيخ المفيد والعالم المعتزلي المذكور، وعلى أثرها لقبه باللقب الذي اشتهر به.


1- الأنبياء: 92.
2- آل عمران: 103.
3- صحيح مسلم: 1396، ح 2586.
4- صحيح البخاري 101: 2.

ص: 47

لقد كانت مدينة بغداد يومذاك عاصمة الدولة الإسلامية وتعدّ المركز الثقافي للعالم الإسلامي ومملوءة بكثير من العلماء أصحاب المذاهب الإسلامية المختلفة، وكانت مجالس المناقشة والمناظرة والمباحثة قائمة فيها وتنعقد بحضور الخلفاء والملوك وسائر أرباب النفوذ فكان للشيخ المفيد حضور متميز فيها شهد به الجميع .. المفيد، الذي راح يدرّس فقه المذاهب الإسلاميّة الأخرى إلى جانب الفقه الجعفري في بغداد، وظلّ مرجعاً للسنّة والشيعة ..

السيدان المرتضى والرضي

واستمرت هذه العلاقة المتبادلة والتواصل بين علماء السنة والشيعة بعد الشيخ المفيد من خلال تلميذيه السيد الشريف المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي (436 ه) وأخيه السيد الشريف الرضي محمد بن الحسين الموسوي (406 ه) حيث كانت لهما علاقات أخوية وعلمية مع كثير من علماء السنة، وقد صنف السيد الرضي كتاباً اسمه «حقائق التأويل» وكان أغلب الذين ينقل عنهم هم من أهل السنة حتى أن الذي يقرأ الكتاب لا يستطيع أن يميز فيما إذا كان مؤلفه شيعياً أو سنياً، الأمر الذي أثار حالة من الشك لدى بعض المترجمين لسيرته ..

الشيخ الطوسي

ومن هؤلاء أيضاً الذين كان همهم وحدة الساحة واحترام آراء الآخرين من الفريق الثاني بكل رحابة صدر ومنهم:

الشيخ الطوسي أبو جعفر محمد بن الحسن (450 ه) والملقب بشيخ الطائفة الإمامية، وهو من تلامذة الشيخ المفيد والسيد الشريف المرتضى، وتذكر الروايات التاريخية أن الخليفة العباسي الذي عاصره منحه كرسي علم الكلام في بغداد، وهو أعلى منصب علمي آنذاك، وكان يجلس عليه ويلقي دروسه على تلامذته، وكان الغالب عليهم أنهم من أهل السنّة.

ويقول في هذا الصدد المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم وهو من مؤسسي دار التقريب القاهرية وكبار المفتين في القرن الماضي: إنه وبعد عشرة قرون من وفاة الشيخ الطوسي لم يكن يفتي بشي ء في لجنة الإفتاء ما لم يراجع المسألة الفقهية في كتاب المبسوط الذي هو درة الكتب الفقهية التي اشتملت على آراء مذاهب أهل السنّة وآراء علمائهم كما أورد آراء علماء الشيعة. ومروراً بالشيخ الطوسي وكتابه «الخلاف» الذي تضمّن فتاوى المذاهب الإسلاميّة المختلفة مشيراً فيه إلى مواطن الاتّفاق والاختلاف بين المذاهب ..

الحلي (726 ه)

وهو الشيخ الحسن بن يوسف بن علي بن المطهّر الحلي المتوفى سنة 726 هجرية والمعروف بالعلّامة الحلي ..

لقد استمر هذا الجهد الوحدوي بعد عصر الشيخ الطوسي، ففي القرن السابع الهجري برز العلّامة الحلي وهو من علماء الفقه والتاريخ الإسلامي حيث عمل في كتابه «منتهى المطلب» على إبداء الآراء الفقهية استناداً إلى المراجع الفقهية المعتبرة لدى المسلمين الشيعة والسنة.

الخواجه نعيم الدين الطوسي

وأيضاً كان للخواجه نعيم الدين الطوسي المتكلم والفيلسوف الشهير المتوفى سنة (672 ه-) كتاب سمي «بتجريد الكلام» وهو من المتون الكلامية المعروفة، وقد عكف على شرحه العديد من العلماء الكبار للفريقين من السنة والشيعة ..

العلامة الطبرسي (584 ه-)

ومن العلماء البارزين أيضاً في هذا المجال، العلامة الطبرسي الذي ألّف مصنفات في الفقه والتفسير، منها كتاب «مجمع البيان في علوم القرآن» والذي ذكر فيه الآراء المختلفة للمسلمين السنة والشيعة في تفسير القرآن الكريم. وقد كتب الشيخ محمود شلتوت مقدمة لهذا التفسير في طبعته القاهرية التي نشرتها التقريب، وقد أشاد فيها بموضوعية العلامة الطبرسي ونزاهته وإسلاميته وإنكاره للتعصب واعتبر هذا التفسير أفضل ما صنف المسلمون عامة.

وليس الشيعة فقط، كما أثنى عليه مفتي الديار المصرية وشيخ جامع الأزهر الأسبق الشيخ عبد المجيد سليم ووصفه بأنه طليعة كتب التفسير ومرجع العلوم والبحوث القرآنية ..

ولم يشذ علماء ما يسمى بعصر النهضة عن هذه القاعدة .. إن الأنشطة الوحدوية وكل التحركات الخاصة بهذا المبدأ، لم ولن تتوقف وستستمر من قبل العلماء المسلمين الواعين على مرّ الأزمنة والعصور دون يأس أو كلل، وهي تعمل على نبذ الفرقة والتشتت، ثم التركيز والتأكيد على الجو الوحدوي، الذي تحكمه القاعدة المعروفة «اللقاء على ما اتفقنا عليه والحوار فيما اختلفنا عليه».

وها نحن هنا نشير بإيجاز لبعض هؤلاء الأعلام الذين سجلوا أروع الأمثلة في جهودهم الوحدوية المخلصة المتمثلة فيما حرّروه عبر كتاباتهم ومحاوراتهم وخطبهم وأعمالهم وجهودهم ..

السيد جمال الدين الأفغاني (1314 ه-)

ص: 48

فقط كانت حركة السيد جمال الدين الأفغاني تصب في تأكيد الوحدة الإسلامية في مواجهةالتحدي السياسي الذي كان يواجه العالم الإسلامي عندما دعا إلى تشكيل جبهة واحدة موحدة في وجه المستغربين .. وقد أثرت أفكاره في تلميذه الشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد عرابي باشا وغيرهم ..

الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني (1355 ه-)

وفي بدايات عمره كان على علاقة وثيقة بالسيد جمال الدين الأفغاني منذ أيام دراسته في أصفهان، ولم تلبث هذه العلاقة أن توثقت عراها فيما بعد، وكان من الأنصار الأقوياء للحركة الدستورية في إيران، وقد ألف كتابه المشهور «تنبيه الأمة وللشهيد مطهري رأي في الكتاب والأسباب التي دعت النائيني إلى جمع نسخه ومؤاثرة السكوت والصمت حيث يقول:

«لم يفسر التوحيد العلمي والاجتماعي والسياسي في الإسلام، تفسيراً دقيقاً أفضل من تفسير العلامة والمجتهد الفذ المرحوم الميرزا محمد حسين النائيني المستدل والمستشهد بإتقان من القرآن ونهج البلاغة في كتابه القيم «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، وإنّ كل ما كان يقصد من أمثال الكواكبي حول التوحيد فإن المرحوم النائيني أثبته في ذلك الكتاب بأدلة إسلامية، ولكن مع الأسف إن محيط الجهل الذي عمّ مجتمعنا هو الذي دفع المرحوم النائيني إلى السكوت والصمت بعد نشره الكتاب».

محمد حسين كاشف الغطاء (1372 ه-)

وقد استمرت مسيرة الدعوة الوحدوية أيضاً من خلال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي أكد أن الخلافات بين المسلمين في القضايا الفقهية والعقيدية، لا تؤثر في الانتماء الإسلامي، فيمكن التعارف والتعاون بشأن القضايا الراهنة في العالم الإسلامي في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية وترسيخ الأخوة فيما بين المسلمين والذين يتمسكون بالأصول العامة انطلاقاً من قوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

لذا راح يقول: إن الذين لا يؤمنون بالإمامة طبق العقيدة الشيعية ويصلون ويصومون ويؤمنون بالتوحيد والقرآن هم مسلمون وإخوة لنا تجمعنا بهم هذه الأصول المشتركة.

ثم نقل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الأحاديث الشريفة التي تصرح بأن كل من شهد الشهادتين هو مسلم فلم يحصر الانتماء للإسلام بالشيعة الإثني عشرية.

وقد كان للشيخ كاشف الغطاء الدور العملي البارز في التقارب والوحدة الذي عبر عنه من خلال حضوره الفعال في المؤتمر الإسلامي الذي انعقد في مدينة القدس الشريف حيث أمَ المصلين في مسجد الأقصى المبارك. كما سافر أيضاً لهذه الغاية إلى دمشق وبيروت والقاهرة وفلسطين وكراتشي وطهران إضافة إلى الديار المقدسة ..

السيد عبد الحسين شرف الدين (1377 هجرية)

وفي سنة 1328 هجرية وكذا في سنة 1340 هجرية كانت للسيد عبدالحسين شرف الدين أنشطة عديدة وهو في زيارته لدول عربية والديار الحجازية المكرمة ومنها ذهب إلى فلسطين ومصر حيث الأزهر الشريف، وهناك اجتمع بعلماء الأمة وعلى رأسهم إمام الأزهر الشريف آنذاك الشيخ سليم البشري وجرت بينهما حوارات مهمة صبت جميعها في خدمة الوحدة الإسلامية ...

وهو أول عالم شيعي أم الجماهير الضاغطة المزدحمة في المسجد الحرام بمكة المشرفة، وهي أول مرة تقام فيها الصلاة وراء إمام شيعي على هذا النحو العلني تجتمع فيه الألوف .. لقد أم المصلين في الحرم المكي وخطب فيهم .. (1)

الشيخ محمد الخالصي (1963 م)

وفي مصلحة التقارب بين المذاهب الإسلامية، عززت هذه المواقف أيضاً تحركات وحدوية مماثلة لمرجع شيعي هو الشيخ محمد الخالصي حيث سعى إلى لقاء ضمّه مع علماء الشام الأعلام، ومن بينهم الشيخ محمد سعيد المعرفي الذي كان رئيساً للمجلس الأعلى في سوريا وقد دارت بينه وبين الإمام الخالصي حوارات مهمة تكللت بزيارة قام بها الشيخ المعرفي لمدينة الكاظمية في بغداد، حيث زار المدرسة الخالصية وقد ألقى فيها الشيخ المعرفي خطبة صلاة الجمعة، وكانت من أروع الخطب وذلك يوم 30- 12- 1951 م. حيث كانت دعوة صادقة للتخلص من التفرقة وإقامة الوحدة الإسلامية ..

الشيخ محمد أمين زين الدين (1419 ه-)

وبموازاة تحرك الشيخ الخالصي كان هناك تحرك وحدوي لمرجع آخر، وهو الشيخ محمد أمين زين الدين، وذلك من خلال الرسائل التي كان يتبادلها مع فضيلة العلامة الشيخ أحمد حسن الباقوري، وكان من أبرز أساتذة علماء الأزهر الشريف، وقد أصبح فيما بعد وزيراً للأوقاف في مصر، وقد نقل فضيلته هذه الرسائل في مقدمة كتاب «المختصر النافع في فقه الإمامية» للمحقق الحلي المتوفى سنة 676 هجرية والمطبوع في مصر عام 1954 م والتي كانت تدور بينه وبين الشيخ زين الدين، وجميعها كانت تدعو إلى التقارب والتآخي بين أبناء المذاهب الإسلامية ..


1- انظر: مقدمة المراجعات: 42، بقلم آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين.

ص: 49

السيد هبة الدين الشهرستاني (1386 ه)

وهو من كبار رواد التقريب بين المذاهب، وللسيد هبة الدين علاقة طيبة ومتينة بالعالم الإسلامي، فقد عاش الرجل للإسلام كله وللمسلمين كلهم. كانت تصل إليه من مختلف الأقطار الإسلاميّة استفتاءات وأسئلة واسترشادات وكان يرد عليها.

وله كتابات في مجال التقريب بعنوان: «رمضان رمز تقريب القلوب وتأليف الشعوب» (1).

محمد رضا المظفر (1384 ه-)

إضافة إلى نشاطه العلمي والكتابة والتأليف، كان هم التقريب بين المذاهب وبالتالي وحدة الصف المسلم يشكل جزءاً مهماً وكبيراً من دائرة نشاطه، وراح يصبو إليه ويعمل، وهو القائل في مجال التقريب:

وإني لواثق بأن فكرة التقريب بين المذاهب أصبحت اليوم حاجة ملحة وهدفاً رفيعاً لكل مسلم غيور على الإسلام مهما كانت نزعته المذهبية ورأيه في المخلفات العقائدية، وليس شي ء أفضل في التقريب من تولي أهل كل عقيدة أنفسهم كشف دفائنها وحقائقها وهذه الطريقة فيما أعتقد أسلم في إعطاء الفكرة الصحيحة عن المذهب وأقرب إلى فهم الصواب من الرأي الذي يعتنقه جماعته.

ولا يجهل خبير مقدار الحاجة اليوم خاصة إلى التقريب بين جماعات المسلمين المختلفة ودفن أحقادهم إن لم نستطع أن نوحد صفوفهم، وجمعهم تحت راية واحدة، أقول ذلك، وإني لشاعر مع الأسف أنّا لا نستطيع أن نضع شيئاً بهذه المحاولات مع من جربنا من هؤلاء الكتاب كالدكتور أحمد أمين وأضرابه من دعاة التفرقة فما زادهم توضيح معتقدات الإمامية إلّا عناداً وتنبيههم على خطاهم إلّا لجاجاً، وما يهمنا من هؤلاء وغير هؤلاء أن يستمروا على عنادهم مصرين لولا خشية أن ينخدع بهم المغفلون فتنطلي عليهم تلك التخرصات وتورطهم تلك التهجمات في إثارة الأحقاد والحزازات.

إن من أعظم وأجمل ما دعا إليه الدين الإسلامي هو التآخي بين المسلمين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم ومنازلهم. بلى إن المسلمين لو وقفوا لإدراك أيسر خصال الأخوة فيما بينهم وعلموا بها لارتفع الظلم والعدوان من الأرض، ولرأيت البشر إخواناً على سرر متقابلين قد كملت لهم أعلى درجات السعادة الاجتماعية، ولتحقق حلم الفلاسفة الأقدمين في المدينة الفاضلة، فما احتاجوا حينما يتبادلون الحب والمودة إلى الحكومات والمحاكم ولا إلى الشرطة والسجون، ولا إلى قانون للعقوبات، وأحكام للحدود والقصاص، ولما خضعوا لمستعمر ولا خنعوا لجبار، ولا استبدّ بهم الطغاة ولتبدلت الأرض غير الأرض وأصبحت جنة النعيم ودار السعادة (2).

السيد الشهيد محمد باقر الصدر (1400 ه-)

لقد كان السيد الشهيد الصدر يؤكد في خطاباته أن لا يكون هناك صراع موجه ضد أيّ مذهب من المذاهب الإسلامية، وبما أن العراق يعتبر مجتمعاً متنوعاً في مذاهبه وطوائفه، فقد راعى الشهيد الصدر هذه الخصوصية وهي نموذج للساحة الإسلامية الأكبر والأوسع ذات المذاهب المتعددة، وهو يبين أن الوحدة الإسلامية لا بد لها من أن تقوم على هذا التنوع، فتراه وهو يصارع الاستبداد والطغيان يخاطب المسلمين في العراق دون أن يلغي هذا التميز والانتماء والتلون:

«يا أخي السني ويا أخي الشيعي»، ومبيناً أنه ليس لفئة دون فئة أو لمذهب دون مذهب أو لقومية دون أخرى بل هو للجميع عبر دفاعه عن رسالة الإسلام الخالدة «إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة، بذلت وجود ي من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تهمهم جميعاً». إنها رسالة الإسلام التي توحدهم، ولهذا نراه يصرح بأن الوحدة التي يدعو لها يجب أن ترتكز على الإسلام دون سواه «أنا معكما يا أخي السني والشيعي بقدر ما أنتما مع الإسلام».

أما في داخل إيران فالذي يبدو أن موضوع الوحدة الاسلامية كان موضع اهتمام واضح وأكيد وأمراً معمولًا به عند العلماء الإيرانيين حتى منذ زمن نادرشاه أفشار (1747) عندما استرد إيران من الأفغان وسيطر على الأفغان ووصل إلى باكستان ونيودلهي وتحدث مع الدولة العثمانية على أساس الصلح بين الدولتين باعتبار أن حجمه الجغرافي والسياسي والعسكري يوازي حجم الدولة العثمانية وتعامل على هذا الأساس حتى أنه حاول داخلياً أن يتبنى مذهباً توفيقياً بين الشيعة والسنّة ..

ونشير هنا إلى عدد من علماء الإمامية ممن كان همه الأول وحدة المسلمين، وراح يبذل قصارى جهوده عبر أنشطته وكتاباته وخطاباته وفتاويه ومن خلال علاقاته الطيبة مع علماء من أهل السنة:

السيد حسين البروجردي (1380 ه)

وهو المعروف بأنه صاحب الأفكار الخلاقة في مجالات عديدة وأنشطة متنوعة .. وخصوصاً في توحيد الساحة المسلمة بالتقريب بين مذاهبها المتعددة.

ولا بد لنا من الإشارة إلى بعض الأفكار الوحدوية التي يمكننا استفادتها من مواقف السيد من خلال ما كتب عنه.


1- انظر في هذا كله كتاب هكذا عرفتهم 195: 2 ومجلة رسالة الإسلام 250: 1.
2- انظر عقائد الإمامية: 27، 120.

ص: 50

فمسألة الوحدة بين فرق المسلمين نالت اهتماماً كبيراً من قبله، ونتيجة لسعة اطلاعه بتاريخ المسلمين فإنه كان يعلم بأن تلك التفرقة التي زرعت بين مذاهب المسلمين وفرقهم، كانت من صنع الحكام الذين تسلّطوا على رقاب المسلمين في السابق، وقد اقتفى الاستعمار الأجنبي أثر ذلك النهج في العصر الحاضر، حيث قام بإشعال نار التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين، ليتسنى له حكمهم، والسيطرة على ثرواتهم.

أما المسألة الأُخرى التي كان يعتقدها السيد البروجردي، فهي أن عزل الشيعة عن بقية المذاهب الإسلامية، حدا بطوائف المسلمين أن تجهل الشي ء الكثير عن مذهب الشيعة وأفكارها ومعتقداتها، ولهذا أكد على ضرورة التفاهم بين مذهب الشيعة والمذاهب الأربعة لأهل السنّة، باعتبار أن الإسلام هو دين الوحدة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن أكثرية المسلمين هم من أهل السنة، فلا بد إذن من تعريف المذاهب الأُخرى بمعتقدات الشيعة وأفكارها .. ونتيجةً لتظافر جهود علماء من الفريقين، تم تبادل وجهات النظر بينهم حول ما تعانيه الأمة، ووضع أسس للتعاون والتفاهم .. وقد أثمرت الجهود التقريبية بشكل متميز عن إصدار شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت فتواه التاريخية بجواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية، هذه الفتوى التي أزاحت ركاماً كثيفاً من المقاطعة بين أهم فريقين يتقاسمان العالم الإسلامي.

ولا بد لي من الإشارة إلى ما ذكره الشهيد الشيخ المنتظري في فصل من مذكراته إلى الاتصالات التي جرت بين المرجع الأعلى البروجردي في الخمسينيات مع كبار علماء السنة، لاسيما مشايخ الأزهر، لإزالة سوء التفاهم القائم بين الشيعة والسنة والعمل سوياً لتعزيز أسس الوحدة بين المسلمين من جميع المذاهب، حيث يقول:

كان المرجع الراحل البروجردي مهتماً بصورة جدية بقضية الوحدة بين المسلمين بحيث كان يأمل في زوال الخلافات وحصول التقارب بين أبناء الأمة الواحدة. ولما علم بتشكيل دار للتقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة من قبل الشيخ محمد تقي القمي (مندوب البروجردي المتجول في العالم الإسلامي) ارتاح كثيراً. ودائماً كان سماحته يشير إلى مساعي القمي. كما كان يتابع باهتمام بالغ مطالب مجلة «رسالة الإسلام» التي كان القمي يصدرها من القاهرة. وكنت شاهداً في يوم ما حين مجي ء القمي إلى مكتب البروجردي بحيث أصغى البروجردي إلى تقريره، وقد علت وجهه مظاهر الإعجاب والتقدير والارتياح ..

الشيخ محمد تقي القمي (1990 م)

سنة (1368 ه-- 1947 م) انطلق المشروع الوحدوي على يد الشيخ محمد تقي القمي، وهو يرى ضرورة استمرار مابدأه السيد جمال الدين الأسدآبادي المعروف بالأفغاني في كسر الحواجز الإقليمية والمذهبية بين المسلمين، فانطلق من إيران متجهاً إلى حيث كان أتباع السيد الأفغاني، ووجد من شاركه الهموم والآمال نفسها من كبار علماء الازهر، فكان بحق مؤسس «دار التقريب بين المذاهب الإسلامية» بالقاهرة وكانت داراً مباركة ..

وهناك حديث مفصل جرى بينه وبين الإمام الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر، وكان موضوع الحديث هو المشكل الخطير الذي على المسلمين أن يعالجوه إذا أرادوا نهضة موحدة تشمل جميع شعوبهم وبلادهم، وهو توحيد المسلمين ثقافياً ..

وللشيخ القمي في مجال التقريب مقال قيم تحت عنوان: (أمة واحدة وثقافة واحدة) (1).

وقد أشار شيخ الأزهر محمود شلتوت إلى هذا العمل التقريبي بقوله:

«لقد كان الجو السائد عند بدء الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية مليئاً بالطعون والتهم ومشحونة بالافتراءات حتى تكونت جماعة التقريب بين المذاهب بأعضائها من المذاهب المختلفة السنية الأربعة والإمامية والزيدية، والتي شكلت نصراً مبيناً أهاج نفوس الحاقدين، وقد كانت إنجازاً مهماً للإسلام والمسلمين والأمة، ورغم ذلك فقد هوجمت من المتعصبين المتزمّتين من كلا الطرفين».

ويشير الشيخ شلتوت إلى الاجتماعات في دار التقريب حيث يجلس المصري إلى الإيراني، أو اللبناني أو العراقي أو الباكستاني، أو غير هؤلاء من مختلف الشعوب الإسلامية، وحيث يجلس الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي بجانب الإمامي والزيدي، حول مائدة واحدة، تدوي أصوات فيها علم، وفيها أدب، وفيها تصوف، وفيها فقه، وفيها مع ذلك كله روح الأخوة، وذوق المودّة والمحبة، وزمالة التعليم والعرفان» (2).

وعن مؤسس الدار الشيخ القمي، يتحدث الشيخ محمود شلتوت:

«ذلك العالم المجاهد الذي لا يتحدث عن نفسه، ولا عما لاقاه في سبيل دعوته، وهو أول من دعا إلى هذه الدعوة، وهاجر من أجلها إلى هذا البلد، بلد الأزهر الشريف .. فعاش معها وإلى جوارها منذ غرسها بذرة مرجوة على بركة اللّه، وظل يتعهدها بالسقي والرعاية بما آتاه اللّه من عبقرية وإخلاص، وعلم غزير، وشخصية قوية، وصبر على الغِيَر، وثبت على صروف الدهر، حتى رآها شجرة سامقة الأصول، باسقة الفروع، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ويستظل بظلها أئمة وعلماء ومفكرون في هذا البلد وفي غيره ...» (3).

فيما تحدث الشيخ محمد تقي القمي عن حالة العالم الإسلامي التي دعت المفكرين إلى حركة «التقريب» فيقول:

«كان الوضع قبل تكوين جماعة التقريب يثير الشجن، فالشيعي والسني كل كان يعتزل الآخر. وكل كان يعيش على أوهام ولّدتها في نفسه الظنون أو أدخلتها عليه سياسة الحكم.


1- انظر أعداد رسالة الإسلام 1، 2، 3 وأعداد أخرى منها.
2- انظر دعوة التقريب تاريخ ووثائق طبعة وزارة الأوقاف المصرية، 1412 ه-- 18: 1991- 19.
3- دعوة التقريب تاريخ ووثائق، طبعة وزارة الأوقاف المصرية، 1412 ه-- 18: 1991.

ص: 51

أجل لقد ظلت الفرقة بين المسلمين غذاء مناسباً للحكم والحكام قروناً عدة، دأب فيها كل حاكم على استغلالها لتثبيت سلطانه، ولتحطيم عدوه، ثم جاءت السياسات الأجنبية فوجدت في هذه الفرقة خير وسيلة لتدخلها، وبث نفوذها ودعم سلطانها وفرض سيطرتها» (1).

وبعد أن يفصل الشيخ القمي في الظواهر المؤلمة التي عجت بها الساحة الإسلامية يومئذ، والحوافز التي دفعت إلى التفكير في التقريب يقول:

«هكذا بدأنا التفكير في التقريب، ثم سلخنا بعد ذلك شهوراً نبحث في سبل العلاج، فدرسنا الدعوات التي سبقتنا وأفدنا منها كثيراً. ودرسنا المشاكل الطائفية برمتها، والكتب المعتمدة عند كل فريق لنحدد الطوائف التي تتفق في الأصول الإسلامية، ودرسنا الخلافات الفرعية الفقهية ومبلغ ما وصلنا إليه ثم حددنا أنجح الطرق للوصول بفكرتنا إلى الأعماق.

وقد أدى بنا التفكير إلى أن هذه الدعوة يجب أن تقوم بها جماعة بدل أن يقوم بها فرد يتعرض لكثير من الأخطار، وأن تكون الدعوة إلى التقريب بين أرباب المذاهب لا إلى جمع المسلمين على مذهب واحد، فيبقى الشيعي شيعياً والسني سنياً، وأن يسود بين الجميع مبدأ احترام الرأي الذي يؤيده الدليل، وأن تكون الجماعة ممثلة للمذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة ومذهبي الشيعة الإمامية والزيدية، وأن يمثل كل مذهب علماء من ذوي الرأي والمكانة فيه، وأن تكون الجماعة بمعزل عن السياسة، وأن تكون محددة الأهداف وأن يكون سعيها على أساس البحث والعلم كي تثبت أمام المعارضة وتكسب الأنصار عن سبيل الإقناع والإقتناع، ولكي تستطيع بسلاح العلم محاربة الأفكار الخرافية الطفيلية التي لا تعيش إلا في ظل الأسرار والأجواء المظلمة. ولكي تتمكن في الوقت نفسه من مقاومة الطوائف والنحل التي ليست من الإسلام في شي ء، والتي يحسبها الشيعي سنية والسني شيعية، بينما هي في حقيقتها حرب على الإسلام ...».

ويقف الشيخ عند أكبر عقبة واجهت الجماعة، وهي رواسب الماضي، وما أثارته من ضجيج وإرجاف، وكيف واجهت الجماعة كل ذلك فيقول:

«لكن الجماعة هيأت نفسها لهذا من أول الأمر؛ لأنها تعلم أنها تواجه رواسب قرون، وكانت تتوقع حملات فيها الطعن والتجريح، وبدل أن تضعف الهجمات العزائم شحذت الهمم وقوت الجماعة على السير بالفكرة إلى النهاية ...

وكانت هذه الهجمات نفسها دليلًا على ضرورة فكرة التقريب للمجتمع الإسلامي كي يتخلص من العناصر البغيضة ذات التفكير السقيم الذي يبلبل الخواطر ويصرف الأذهان عما ينفع الناس ويمكث في الأرض» (2).

مجلة رسالة الإسلام

من أبرز آثار دار التقريب مجلتها «رسالة الإسلام» هذه المجلّة كانت تنشر الفكرالتقريبي بين المسلمين، وتجمع العلماء على صعيد الحوار العلمي البناء في مختلف المجالات، وقد صدر عددها الأول في ربيع الأول سنة 1368 ه- (يناير 1949 م)، وراحت تتواصل أعدادها بالصدور كل ثلاثة أشهر، ومع تعثر صدورها أعواماً، فقد صدر عددها الستون والأخير في رمضان 1392 ه- (اكتوبر 1972 م)، ومجموعة ما تضمنته من مقالات ودراسات وأخبار يشكل سفراً هاماً من أدبيات التقريب في عالمنا المعاصر، إذ إن المجلة انفتحت على كُتّاب أهل السنة والشيعة، وانعكست فيها مسيرة دار التقريب، ومسيرة التقريب في العالم الإسلامي. ومن هنا فإنها تشكل رصيداً هاماً للتقريب ومعلماً لمسيرته .. وهو أمر يكفي أصحابها والقائمين عليها فخراً ..

وقد كتب فيها عدد من علماء الشيعة الإمامية، من أمثال:

الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، والشيخ عبد الحليم كاشف الغطاء، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والسيد صدر الدين شرف الدين، والسيد هبة الدين الشهرستاني، والشيخ محمد تقي القمي، والشيخ محمد جواد مغنية، والسيد مسلم الحسيني الجلبي. ومحمد صادق الصدر، وغيرهم،

وعدد من علماء أهل السنة من أمثال:

الشيخ عبد المجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، وكلاهما من أئمة الأزهر وشيوخه، والشيخ محمد محمد المدني رئيس تحرير المجلة، والشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور محمد البهي، والشهيد الشيخ حسن البنا، والأستاذ محمود فياض، والشيخ محمد علي علوبه باشا، والشيخ محمد عبداللّه دراز، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، والاستاذ محمد فريد وجدي، والأستاذ أحمد أمين، والأستاذ علي عبد الواحد وافي، والأستاذ عباس محمود العقاد ..

وكذلك شارك فيها إمام الشيعة الزيدية في اليمن علي مؤيد، وأمجد الزهراوي وهو من كبار علماء العراق، والحاج أمين الحسيني من فلسطين، والشيخ الآلوسي وغيرهم الكثير.

وكان من نتائج هذه الأنشطة أن أصبح الفقه الإمامي الشيعي يدرس بجامعة القاهرة، والفقه الحنفي يدرس بجامعة طهران. وكان كتاب أصول الفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم يدرس في جامعة القاهرة وهذا كان من قبل خمسين سنة ...

وبعد هذا الاستعراض السريع لعدد من رموز الوحدة والتقريب بين المذاهب الإسلامية، ننتقل إلى مفخرة هذا العصر، وصاحب الرؤية الواعية لتقريب المسلمين بعضهم من بعض، وذي الريادة الفذة لتوحيد صفوفهم، وبناء قوتهم وتثبيت كيانهم ..، إنه

الإمام روح الله الخميني


1- دعوة التقريب تاريخ ووثائق، طبعة وزارة الأوقاف المصرية: 24.
2- دعوة التقريب، تاريخ ووثائق: 27.

ص: 52

الإمام الخميني هو الآخر الذي دعا المسلمين جميعاً إلى الوحدة والتلاحم حول محور الإسلام، وكان همه الرئيس هو التقريب بين أبناء المسلمين وتمتين العلاقات بينهم بغض النظر عن مذاهبهم، وهو صاحب الشعار المعروف الواضح ذي المضامين العالية الذي أطلقه:

«ياأيها المسلمون اتحدوا اتحدوا»

والمشاريع التي تؤسس لبناء أواصر المحبة والمودة بين المسلمين والتي دعا إليها السيد الإمام عديدة، منها أسبوع الوحدة المتضمن للولادة النبوية بتاريخيها 12 ربيع الأول و 17 ربيع الأول، وأيضاً يوم القدس آخر جمعة من شهر رمضان، إضافة للمؤتمرات العديدة المهتمة بتوحيد الصف المسلم التي عقدت في إيران وشارك فيها الكثير من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم .. وأسس جماعة التقريب بين المذاهب وأعطى لهذه الجماعة ميزانية تستطيع أن تقوم بدورها اليومي طوال أيام السنة وتتسع لإقامة مؤتمرات تارة في مصر وتارة في إيران ...

ونظراً إلى ما يتمتع به السيد الإمام من نظرة واعية إلى فريضة الحج التي يقول فيها:

«الجميع يعلم أنه ليس بمقدور أي إنسان وأية دولة عقد مثل هذا المؤتمر الكبير، وأن الله تعالى هو الذي صنع هذا الاجتماع العظيم، إلا أنه مع الأسف لم يستطع المسلمون على مرّ التاريخ أن يستفيدوا من هذه القوة السماوية، وهذا المؤتمر الإسلامي كما ينبغي لصالح الإسلام والمسلمين ..».

نكتفي نحن هنا بإلقاء الضوء على ما أصدره السيد الإمام من كلمات وفتاوى في موسم الحج، لأن موسم الحج، هذا التجمع الذي يخفق على ربوعه لواء التوحيد، يرى السيّد الإمام فيه قوة عظمى تتحطم على صخرتها دسائس ومخططات ومؤامرات كل الأعداء المتربصين بهذه الامة سوءاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرى فيه تحقيقاً لطموحات الامة وآمالها في امة كريمة واحدة متفاعلة مكتفية ذاتياً في كل مجالات وأصعدة تطورها، الثقافية والاقتصادية والعلمية .. وما تجمّع المسلمين في الحج إلا صورة مصغرة لها .. وللرؤية الواضحة التي يمتلكها ووعيه الدقيق للواقع الإسلامي الذي يضمّ شعوباً مظلومة مقهورة تحت سياط حكّام طغاة ظالمين.

وشعوراً منه بالمسؤولية الشرعية الملقاة على عاتقه وهو مرجع كبير وزعيم باتت أنظار كثير من المسلمين متوجّهة صوبه، منتظرةً كلمته ملبيةً دعوته، راح السيد الإمام الخميني يوجّه نداءاته الكثيرة ووصاياه المتعدّدة؛ لتوثيق الوحدة بين المسلمين- التي حظيت من وقته وجهده واهتماماته بالكثير، فكانت له رؤى خصبة في هذا المضمار- ونبذ الخلاف ويحذر من التفرقة والتشتت. بدءاً بالتحذير من إثارة النعرات القومية التي تنخر في جسم الامّة والتزاماً منه بنهي النبي 9 «دعوها إنها (العصبية) نتنة». «وليس منّا مَن دعا إلى عصبية». وقد راحت أقواله تترى عبر خطاباته العديدة التي كانت ترافق أداء فريضة الحج، ويوصي بها المسلمين جميعاً، وهذه نبذ قيمة منها:

- إنّ النعرات القومية- هذه المسألة التي عارضها الإسلام والقرآن الكريم والنبيّ الأعظم- تثير العداء بين المسلمين والشقاق بين صفوف المؤمنين، وهي بالتالي تهدد مصالح المسلمين، وهي من مكائد الأجانب الذين يزعجهم الإسلام وانتشاره ..

- وتأكّدوا أنكم إخوة متساوون مع جميع الشعوب بغض النظر عن اللون والقومية والمحيط والمنطقة، تتبادلون الهموم والآلام، وتؤكّدون الوحدة بينكم، وتنهضون يداً واحدةً ضد أعداء البشرية والمزوّرين ومصاصي الدماء.

- يجب أن تعلموا أنّ الطريق الأساس إنّما هو في ظلّ وحدة جميع المسلمين، واجتماعهم على قطع أيادي القوى العظمى من الدول الإسلامية.

- ينبغي على الحجّاج المحترمين لبيت الله الحرام لأي مذهب أو قومية انتموا، أن يرضخوا لأحكام القرآن الكريم، ويقفوا في مواجهة سبل الشياطين الذين يريدون اقتلاع الإسلام، الذي طهّر الشرق والغرب منهم ومن عملائهم الذين لا إرادة لهم سوى إرادة أسيادهم. ويمدّوا يد الأخوّة الإسلامية بعضهم لبعض، وينتبهوا للآيات الكريمة التي تدعوهم إلى الاعتصام بحبل الله، وتنهاهم عن الاختلاف والتفرقة ..

لم يكن الإمام الخميني يرى أنّ الاختلافات المذهبية مسوغة للفرقة بين أبناء الامّة الإسلامية الواحدة، وكان يؤكّد أنّ الأخوّة الإسلامية لا يضرّها اختلاف الآراء .. ويضع اللوم على من أسماهم بوعاظ السلاطين بإثارة النعرات المذهبية وتأجيج نيران الخلافات بين أهل السنّة والشيعة.

لهذا انبرى السيّد الإمام قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وبعدها إلى تثبيت رؤاه وتحقيق الوحدة الإسلامية، يقول سماحته:

- هناك ما هو أخطر من النعرات القومية وأسوأ منها، وهو إيجاد الخلافات بين أهل السنّة والشيعة، ونشر الأكاذيب المثيرة للفتن والعداء بين الإخوة المسلمين ..

ثم راح يوصي الإخوة المسلمين بأن هؤلاء المأجورين المرتبطين بالقوى الشيطانية الكبرى لا يريدون خيراً للإسلام والمسلمين، وعلى المسلمين أن يتبرأوا منهم ويعرضوا عن إشاعاتهم المنافقة ..

ثم راح يبيّن خطورة تقسيم الامّة الإسلامية إلى مذاهب وحذّر منها:

- إنّ طرح مسألة تقسيم المسلمين إلى سنّي وشيعي وحنفي وحنبلي وأخباري لا معنى لها أساساً ..

- المجتمع الذي يريد أفراده جميعاً خدمة الإسلام والعيش تحت ظلال الإسلام لا ينبغي أن يثير هذه المسائل.

ص: 53

- كلّنا إخوة، وكلنا نعيش قلباً واحداً، غاية الأمر أنّ الحنفي يعمل بفتاوى علمائه، وهكذا الشافعي، وثمّة مجموعة أخرى هي الشيعة تعمل بفتاوى الإمام الصادق 7، وهذا لا يبرّر وجود الاختلاف، لا ينبغي أن نختلف مع بعضنا، أو أن يكون بيننا تناقض. كلّنا إخوة، على الإخوة الشيعة والسنّة اجتناب كلّ اختلاف، فالاختلاف بيننا اليوم هو لصالح الذين لا يؤمنون بالسنّة ولا بالشيعة ولا بالمذهب الحنفي ولا بسائر الفرق الإسلامية. وهؤلاء يريدون القضاء على هذا وذاك، فهدفهم بثّ الفرقة بينكم. عليكم أن تنتبهوا جيداً أننا جميعاً مسلمون وأتباع القرآن وأهل التوحيد ..

ويبادر سماحته بالدعوة الصادقة إلى الوحدة والتآلف لإحباط المؤامرات فيقول:

- إنني أمدّ يد الأخوّة إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة بصفتهم إخوة أعزّاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة.

ثم يواصل حديثه ووصاياه للمسلمين يستنهضهم من سباتهم ومن تمزّقهم:

- أيّها المسلمون المؤمنون بحقيقة الإسلام، انهضوا ووحّدوا صفوفكم تحت راية التوحيد وفي ظلّ تعاليم الإسلام، واقطعوا أيدي الدول الكبرى الخائنة عن بلدانكم وثرواتكم الوفيرة، وأعيدوا مجد الإسلام، وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسية، فإنكم تملكون كلّ شي ء. اعلموا أن قدرتكم الروحية ستتغلّب على جميع الطواغيت، وتستطيعون بعددكم البالغ مليار إنسان، وبثرواتكم الطائلة غير المحدودة أن تحطموا جميع القوى .. انصروا الله كي ينصركم.

- أيّتها الجموع الغفيرة من المسلمين، انتفضوا وحطّموا أعداء الإنسانية، فإن اتجهتم إلى الله تعالى، والتزمتم بالتعاليم السماوية، فالله تعالى وجنده العظام معكم.

.. ولنصل إلى النصر من خلال الاجتماع على الحق، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد، التي هي أساس ومنبع عظمة الامّة الإسلامية.

- يا مسلمي العالم! ماذا جرى لكم في صدر الإسلام؟ على قلتكم هزمتم القوى العظمى، وحققتم وجود الامّة الإسلامية الإنسانية الكبرى، وأنتم اليوم تعدّون ما يقارب المليار نسمة وتملكون الثروات الكبيرة، التي تعتبر رأس الحربة، وتعانون إلى هذا الحدّ من الضعف والانسحاق في مقابل الأعداء؟!

- أيّها المسلمون ويا مستضعفي العالم! مدّوا أيديكم بعضكم لبعض وسيروا في سبيل الله ..

- يجب أن نعلم أنّ إحدى الفلسفات الاجتماعية لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام، أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم، وإذا لا سمح الله أوجد بعض الحجّاج من خلال أعمالهم خللًا في هذه الوحدة أدّت إلى التفرقة، فذلك سيوجب سخط رسول الله 9 وعذاب الله القادر الجبّار.

وفي عبارة اخرى له: وأن ترتفعوا عن الفرقة والتنازع (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

- انهضوا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم، واستلهموا أوامر الله تعالى حتى تعيدوا مجدكم وعظمة الإسلام العزيز، تعالوا استمعوا إلى موعظة واحدة من الله حيث يقول:

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْني وَفُرادي).

- انهضوا جميعاً وقوموا لله، قوموا فرادى على جنود وشياطين أنفسكم الباطنية، وقوموا جميعاً على القوى الشيطانية، إذا كانت الثورة والنهضة إلهية ولأجل الله فهي منتصرة.

وراح يوصي الحجاج بالتزام الأخوة في تعاملهم:

- الحجّاج المحترمون الموجودون في جوار بيت الله ومحل رحمته، تعاطوا برفق ومروءة وأخوة إسلامية مع جميع عباد الله، واعتبروا الجميع- ودون النظر إلى اللون واللسان والمنطقة والمحيط- منكم.

ثم دعاهم جميعاً إلى شي ء عظيم ألا وهو:

أن تكونوا جميعاً يداً قرآنية واحدة حتى تسيطروا على أعداء الإسلام والإنسانية ... (1)

ما أجمله من تعبير: يداً قرآنية واحدة!

نعم، يمكننا نحن أن نتجنّب ما يثير الخلاف والنزاع والفرقة دون أن نصادر الرأي الآخر إذا ما قام عليه الدليل، وبذلك نستطيع أن نصون الوحدة لأمّتنا الإسلامية، هذا الأمل الكبير الذي يُراود كلّ المؤمنين والعلماء المصلحين .. تحت ظلال القرآن الكريم.


1- انظر في هذا نداءات الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه.

ص: 54

الفتاوى الشرعية

لم يكتف السيد الإمام بهذا الذي هو على مستوى الخطاب، بل راح يعززه بالفتاوى الشرعية وهو يخطو خطوات كبيرة في توحيد صفوف المسلمين، فبادر إلى إصدار فتواه بتجنّب ما يثير الفتن، ويثير الضغائن بين الإخوة.

- على الإخوة الإيرانيين وجميع الشيعة في العالم أن يتجنّبوا الأعمال الجاهلة، التي تؤدّي إلى تفرّق صفوف المسلمين، كنصب مكبّرات الصوت بدون انتظام، وإلقاء النفس على القبور الطاهرة، والأعمال المخالفة للشرع ..

كما أصدر فتوى أخرى للشيعة بالاشتراك في الصلوات، حيث يقول:

- وعليهم أن يشتركوا في جماعات أهل السنّة، وأن يتجنّبوا عقد صلاة الجماعة في البيوت.

لقد راح الإمام يدعو وكثير من فقهاء الإماميّة أتباعهم إلى أن يشاركوا في صلاة الجمعة والجماعة لأهل السنّة خصوصاً في الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة، مراعاةً للوحدة، وأن يتّبعوهم في تحديد أوّل الشهر والوقوف في عرفات والمشعر ومناسك منى، كما أفتوا بصحّة جميع عباداتهم التي يخالفون في بعض أجزائها وشروطها فتاوى الفقهاء الشيعة ولاضرورة لإعادتها.

ولا بد لنا من أن نشير أخيراً إلى أنه، وعلى هدى دار التقريب، نشأت مؤسسة تحمل نفس الدور التقريبي والهم الوحدوي .. لكن هذه المرة من طهران من خلال المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أسس سنة 1411 ه- بأمر من قائد الجمهورية الإسلامية في إيران السيد الخامنئي دام ظله؛ لإقامة علاقات طيبة بين المذاهب الإسلامية وإيجاد قنوات ارتباط سليمة بين علمائها وزعمائها وتبنّي الوحدة على أساس المشتركات الإسلامية الثابتة التي يتفق عليها المسلمون كافة، وفتح باب الحوار وتبادل وجهات النظر بينهم في المسائل الخلافية واحترام جميع الآراء القائمة على أساس الدليل الشرعي، ويعتمد المجمع على لجان علمية متخصّصة تضم علماء من مختلف المذاهب ...

وختاماً

حقاً إن فقهاء الشيعة أصحاب نداء تقريبي توحيدي هدفه الإسلام والسلام والوئام بين أتباع المذاهب الإسلاميّة، ولطالما دعوا إلى غلق باب الاختلاف وأسبابه، الذي قد يفضي في بعض مواقفه إلى النزاع والاقتتال، وخير دليل على ندائهم ذلك ما ذكرناه وهو غيض من فيض .. وأمامكم سيرتهم ومؤلفاتهم ومواقفهم ودعواتهم الجادة لردم كل ممزق ومفرق ومشتت .. والتوجه المخلص والجاد والمثمر نحو لمّ الشمل المسلم على جميع الأصعدة تمهيداً للوحدة الكبرى ..

لقد بقيت فكرة توحيد الصف المسلم منهجاً يترسمه العلماء والدعاة الواعون، وأملًا يراود المخلصين من الفريقين: السنّة والشيعة، ومعلماً هاماً من معالم إرادة الأمة المسلمة في الوحدة والتعاضد .. والتي لن تتوقف حيث ستبقى هذه تعمل على التأكيد على الجو الوحدوي الذي يعني اللقاء على ما اتفقنا عليه والحوار فيما اختلفنا عليه والوقوف صفاً منيعاً تحت الشعار القرآني العظيم: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

ص: 55

ص: 56

المبادئ القرآنية للعلاقات الإسلامية- الإسلامية، مطالعة تفسيرية فقهية

حيدر حب الله

تمهيد

تظلّ دراسة المبادئ التي وضعها الإسلام للعلاقات الداخلية بين المسلمين هامّةً وضرورية، ونحاول في هذه الوريقات المتواضعة أن نتناول التأسيس القرآني لعلاقة المسلمين بعضهم ببعض في الداخل الإسلامي، وكيف تقوم هذه العلاقة؟ وما هي أبرز المعايير التي تحكمها؟

ولن نتطرّق إلى السنّة الشريفة، ولا إلى ما يعطيه العقل والمنطق العقلاني، أو العناوين الثانوية أو الولائية في هذا المجال؛ خوفاً من الإطالة، لهذا ستكون دراستنا بحت قرآنية، وسنعرض- بعون الله تعالى- الآيات القرآنية التي تؤصّل مبدأ العلاقة الإسلامية- الإسلامية، ونحاول تفسيرها وفقهها لاستخراج مبادى ء منها وقواعد وأسس، إن شاء الله تعالى.

1- مبدأ عدم التنازع

يقرّر القرآن الكريم مبدأ عدم التنازع الداخلي ضمن النصّ التالي: (وَأَطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (1).

فهذه الآية تدلّ على تحريم التنازع، ومن ثم تدعو إلى الاتفاق والوحدة، كما فسّرها بذلك بعض الفقهاء أيضاً (2).

والتعرّض لفقه هذه الآية يكون من خلال نقاط:

أولًا: قد يقال بتخصيص النهي عن التنازع في هذه الآية بحالة الحرب، بمعنى أنّ هذا الخطاب موجّه فقط للجيش المسلم الذي يواجه الأعداء (3)، والشاهد على ذلك:

1- السياق؛ فإنّ الآيات السابقة واللاحقة كلّها تتحدت عن القتال، فالآية السابقة تقول: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا واذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (4)، وسورة الأنفال- كما نعلم- سورة جهادية قتالية أغلبها واردٌ في قضايا القتال والحرب، وعليه، فلا يحرز أنّ النهي عن التنازع في هذه الآية يتخطّى مجال المقاتلين المسلمين.

2- قوله في داخل الآية نفسها: (فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)؛ فإنّ الفشل وذهاب الريح تعبيرٌ آخر عن ذهاب القوى وضعف الجيش، وذهاب الصولة والنصرة والدولة ..


1- الأنفال: 46.
2- الروحاني، فقه الصادق 393: 11، 421، و 196: 13؛ وسيد سابق، فقه السنّة 12: 1، و 600: 2؛ وشرف الدين، المراجعات: 9؛ والنص والاجتهاد: 553.
3- راجع: الطريحي، مجمع البحرين 237: 2.
4- الأنفال: 45.

ص: 57

3- ما جاء في أسباب نزول هذه الآية من أن خباب (حباب) بن المنذر أشار على النبي أن ينتقل من مكانه على الماء، ويجيئهم من الخلف، فرفض بعض الصحابة، وتنازعوا، ثم عمل الرسول بقول خباب (1).

ولعلّه لهذه الشواهد وجدنا بعض من أدرج الآية في قضايا الاختلاف داخل الجيش؛ فالبخاري (256 ه-) جعل الآية في مطلع الباب الذي عنونه: «باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب وعقوبة من عصى إمامه» (2)، كما جعل النووي (676 ه-) هذه الآية وما حولها، من الآيات التي جمعت آداب القتال في الإسلام (3)، بل صريح كلمات الطبرسي أنّ التنازع في الآية يراد به التنازع في لقاء العدو، كي لايضعفوا عن مقاتلته (4).

ولا نرتاب في أنّ ذلك كلّه صحيح، وأنه من الصعب جداً تعميم النهي عن التنازع لغير حال الحرب والقتال، فالخطاب خاص؛ إلا أنه يمكن الاستناد إلى التعليل الوارد في الآية الكريمة: (فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)؛ فإن الفشل وذهاب الريح سيقا هنا مساق التعليل، أي لا تتنازعوا كي لا تفشلوا .. وهذا معناه- حيث إن العلّة تعمّم وتخصّص كما قرّر في أصول الفقه- أن المهم عدم الوصول إلى مرحلة الضعف والوهن وذهاب القوّة والمنعة والدولة؛ فأيّ تنازع يبلغ بالمسلمين هذه الحال يكون مشمولًا للتحريم، تماماً مثل: لا تأكل الرمان فإنه حامض؛ فكل تنازع يفضي لذلك يكون حراماً، وإن لم يكن تنازعاً بين المقاتلين في جبهة الحرب، فتفيد الآية مبدأ عدم التنازع بهذا المعنى، والتنازع المضعِف لا يختصّ بتنازع المقاتلين كما هو جليّ.

ثانياً: ما هو المراد من التنازع؟ هل هو اختلاف الرأي أم شي ء آخر أبعد من ذلك؟

الذي يبدو من بعض الفقهاء والأصوليين أنهم استندوا إلى هذه الآية لتحريم العمل بالقياس؛ لأنه يفضي إلى اختلاف الرأي (5)، كما استدلّوا بها أيضاً لإثبات مذهب التخطئة في أصول الفقه مقابل التصويب، ولعلّ أقدم من فعل ذلك هو ابن حزم الأندلسي (456 ه-) في المحلّى (6)، وكذلك فعل الحرّ العاملي (1104 ه-) في الفصول المهمّة (7)، كما استدلّوا بها لتحريم الجدال (8).

لكنّ الصحيح أنّ النهي عن التنازع لا علاقة له باختلاف الآراء، ومن ثم فالاستدلال به على مسألة التخطئة أو قضية القياس ونحوهما غير صحيح؛ لأنّ في كلمة التنازع- بحسب دلالتها اللغوية- نوعٌ من التجاذب والتشاجر والتخاصم، وهو ما يفهم أيضاً من كلمات اللغويين (9)، فمجرّد اختلاف الرأي بشكل هادى ء وعلمي وأخلاقي دون تجاذب ومنافرة وتخاصم وحقد وضغينة وتشنّج .. لا يشمله مفهوم التنازع الوارد في الآية الكريمة.

يضاف إلى ذلك، أن الآية حرّمت التنازع من حيث الإفضاء إلى الضعف والوهن؛ أما تعدّد الآراء والاجتهادات داخل الدائرة الإسلامية؛ فهذا يمكنه أن يقوّي المسلمين وينضج أفكارهم ويطوّر علومهم. إذا أحسنّا تنظيم هذا الاختلاف وضبطه علمياً وأخلاقياً وأدبياً أيضاً.

وعليه، فالآية خاصّة بالمخاصمات والمصارعات، ولا تشمل اختلاف الرأي بحسب الظاهر، ولا أقلّ من عدم إحراز هذا الشمول؛ فنأخذ بالقدر المؤكّد من الدلالة.

ثالثاً: الظاهر من فقه الآية الكريمة أن التنازع مسبّب دوماً للضعف، لا أنّ له حالتين: تارةً ينتج الضعف فيهما وأخرى لا ينتجه، فإنتاج الضعف من الخصوصيات التي تكفّل بها المولى، ولم تلقَ إلى العبد كي يعيّنها، فهذا تماماً كقول المولى: تزوّج من فلانة فإنّ في الزواج منها الخير؛ إذ خيرية الزواج من الأوصاف التي بيد المولى وقد أخبر هو عنها، فيكون وجوب الزواج مطلقاً حتى لو ظنّ العبد أنه لا خير في الزواج من هذه المرأة. وهذا بخلاف: تزوّج فلانة إذا كان في الزواج منها الخير، فإنّ تحديد الخيرية هنا يمكن أن يكون بيد العبد.

والآية التي نحن فيها نصّت على حرمة التنازع، وأخبرت- بالعطف بحرف الفاء- أنّ فيه الفشل وضعف القوى، أي أن الله العليم الحكيم يخبر بأنّ نتيجة التنازع هو الضعف، ومعه فيحرم التنازع مطلقاً، حتى لو رأينا- بنظرنا الشخصي- أنّ بعض موارده لا تفضي إلى الضعف، نعم تقيّد هذه الآية بمثل آية مقاتلة أهل البغي الآتي الحديث عنها؛ لأنّ النسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق، ونسبة الحالة الثانوية إلى الحالة الأوليّة، وفي هذين الموردين يقدّم الخاص والثانوي على العام والأوّلي. هذا كلّه على تقدير استفادة العموم من دلالة الآية، لا البناء على خصوص التعليل كما تقدّم.

رابعاً: الظاهر من الخطاب الوارد في الآية، وكذا من طبيعة التعليل، أنه موجّه إلى الأمة لا إلى الأفراد، أي أنه خطاب مجتمعي؛ فلا تدلّ الآية على تحريم تنازع فردين اثنين من المسلمين في قضية شخصية؛ إذ هي منصرفة عن هذه الحالة، سيما بقرينة السياق وعدم إفضاء النزاع الشخصي المحدود لضعف المجتمع، إلا إذا تنامت النزاعات الشخصية والعائلية في المجتمع حتى صارت تهدّد استقراره، ولا أقلّ من عدم إحراز مثل هذا الاستيعاب في دلالتها.

خامساً: إذا أجرينا مقارنة ومقاربة بين هذه الآية التي تؤسّس لمبدأ عدم التنازع، وبين قوله تعالى: (فإنْ تَنَازعْتُمْ فِي شَي ء فَرُدّوهُ إلَى اللّه والرَسُولِ ..) (10)، نجد أنّ مفتاح حلّ النزاعات الداخلية في الأمّة يقوم على مرجعيّة القرآن والسنّة، أي أنّنا لو رجعنا إلى الكتاب والسنّة سوف نرفع هذا التنازع، ولمّا كان التنازع مغايراً لمفهوم الاختلاف وتعدّد الاجتهادات، لم يقصد من الرجوع للقرآن توحيد الرأي؛ فإنّ ذلك قد لا يحصل، بل رفع حالة التخاصم والبتّ فيها، إلا إذا حصل أن بغت فرقةٌ على فرقةٍ أخرى أو قصّر المسلمون في العمل بكتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، فيكون المورد من موارد البغي والاعتداء، فتشمله آية البغي القادمة بإذن الله سبحانه.

2- مبدأ الاعتصام الديني وعدم التفرّق

تشير إلى هذا المبدأ الآيات الكريمة التالية:


1- انظر: التبيان 133: 5؛ والراوندي، فقه القرآن 340: 1- 341.
2- صحيح البخاري 26: 4.
3- النووي، شرح مسلم 46: 12؛ وانظر أيضاً: يحيي بن شرف النووي، الأذكار النووية: 208.
4- الطبرسي، مجمع البيان 476: 4؛ ولعلّه يستوحى أيضاً من الكاشاني، التفسير الأصفي 441: 1؛ والصافي 307: 2؛ وما نقله عن المفسّرين الطبريُّ في جامع البيان 21: 10- 22؛ وابن أبي حاتم في تفسيره 1712: 5؛ وراجع: تفسير السمرقندي 24: 2؛ وتفسير الرازي 36: 9.
5- تفسير الرازي 174: 8.
6- ابن حزم، المحلّى 70: 1.
7- الفصول المهمة في أصول الأئمة 543: 1.
8- انظر: تفسير الفخر الرازي 183: 5.
9- راجع: العين 359: 1؛ والصحاح 1289: 3؛ ولسان العرب 352: 8؛ ومختار الصحاح: 335؛ والقاموس المحيط 88: 3؛ ومجمع البحرين 295: 4؛ وتاج العروس 476: 11 و ..
10- النساء: 59.

ص: 58

1- (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وكُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَي الْخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (1).

2- (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَي اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (2).

3- (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلي أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (3).

4- (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ ولا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (4).

5- (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّي بِهِ نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ومُوسي وعِيسي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ* وما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلي أَجَلٍ مُسَمّي لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (5).

وهذه الآيات الكريمة واضحة في النهي والنكير على التفرقة والتشرذم والتشظي والانقسام، ويمكن أن نستفيد منها جملة نقاط أساسية أبرزها:

1- 2- بين التفرّق عن الدين والتفرّق داخل الدين

إذا أخذنا الآية الأولى دلّت على لزوم الاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرّق، وقد فسّر عدم التفرّق هنا بعدم التفرّق عن الحبل نفسه أو عن رسول الله 9 (6)، وهذا يوحي بأنه ليس المراد الانقسام داخل الدين، بل الخروج عن الدين، تقول: تفرّق القوم عن فلان، أي تركوه، وتقدير الآية: اعتصموا بحبل الله ولا تتفرّقوا عنه وتذروه، وهذا يُخرج الآية التي اشتهر توظيفها في مجال الوحدة بين المسلمين عن دخالتها في هذا الموضوع.

وربما يقال بإمكان توظيف الآية الكريمة في المجال الذي نحن فيه، فإنّها لم تقل: لا تتفرّقوا عنه، بل أطلقت النهي عن التفرّق وأعقبته- مباشرةً- بالحديث عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من أوسٍ وخزرج و .. قبل الإسلام، وأن الإسلام أنهى هذه الانقسامات، وهذا كلّه يؤكّد أن التفرقة المرادة هنا هي مطلق الفرقة، وهذا يربط بين الوحدة وبين الالتزام بالحبل الإلهي، فكأنّ الآية تريد أن تقول: اعتصموا بحبل الله؛ فإن الاعتصام بالإسلام يحوّلكم من أعداء إلى إخوان، ويدفع عنكم الفرقة.

إذن، فهذه الآية- بناء على ما تقدّم- يمكن الاستناد إليها هنا بلا محذور، وحتى لو تركنا المقطع الأول منها، واستندنا- فقط- إلى قوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَة ...)، كفى ذلك؛ لأنّها بهذا المقطع الثاني تؤكّد أن الإسلام حوّل الجماعات المتناحرة- لأسباب عدّة- إلى إخوة متوادّين؛ إذاً فهو يفرض مبدأ عدم الفرقة بالتضمّن أو الاستلزام؛ إذ لو كانت الفرقة موجودةً في الإسلام لبطلت هذه النعمة التي يمنّ الله بها على الأوس والخزرج وأمثالهم؛ إذ سيكون الإسلام هو الآخر مدعاةً أو غير رافضٍ لفُرقةٍ من نوعٍ آخر، فيلزم الكرّ إلى ما فرّ منه كما يقولون.

وبالإجمال، يمكن الاستناد إلى هذه الآية لتأسيس مبدأ عدم الفُرقة والانقسام.

2- 2- بين الفُرقة الدينية والفُرقة غير الدينية

تركّز هذه الآيات على مفهوم الفُرقة الدينية، أي أنها لا تتحدّث- فقط- عن التمزق الاجتماعي الناتج عن أسبابٍ قبلية أو عشائرية أو قوميّة أو عرقية أو حزبية أو ... بل تسلّط الضوء أيضاً على العنصر الديني في التمزّق؛ لأنّ (فرّقوا دينهم) تستبطن حصول الاختلاف المفضي إلى الابتعاد عن الدين بسبب عنصر ديني، أو لا أقلّ تحت شعار ديني، ففرّق الدين أي جعله فرقاً وقطعاً، فعندما تقول: (فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً) فهذا معناه قطّعوا الدين وجزّؤوه وصاروا فرقاً، فتمزّقهم على أساس الدين هو تفرقة للدين.

ولعلّ هذا ما تريده الآية الأولى: (ولا تكُوْنُوا كالّذيْنَ تَفَرّقُوا واخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَاْ جَاءَتْهُمُ البَيّنَات).

وربما يريد هذا النوع من الآيات- والله العالم- أن يضع معادلة تقول: كلّ تمزق في الأمة يضارعه تشظّي في الدين نفسه، وهذه المعادلة كأنّ لها طرفاً يمثل السبب، وطرفاً آخر يمثل النتيجة، وتصوير هذين الطرفين في المعادلة يمكن أن يكون على شكلين:

الشكل الأول: إنّ الاختلاف بين المسلمين- لأيّ سبب كان- سيؤدّي إلى حالة تمزّق في الدين نفسه، بمعنى أنّ بعض الدين سوف ينفكّ عن بعضه الآخر، أشبه شي ء بقوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْض) (7)، أي كل فرقة سوف تأخذ ببعض الدين وتترك بعضه، مما سيعدم الانسجام والتلاؤم بين أجزاء الدين نفسه، فيقرأ الدين قراءة مجتزأة وتغيب هنا بعض مقاطعه، فيما تغيب هناك مقاطع أخرى منه.

ومعنى هذا الكلام أن الفرقة الإنسانية تؤدي إلى تمزّق الدين وتقطّعه وتفريق أجزائه عن بعضها بعضاً، ويكون معنى الآية: الذين فرّقوا دينهم وقطّعوه وباعدوا بين أجزائه وأخفوا بعضها وأظهروا بعضاً آخر، بسبب تمزّقهم هم فيما بينهم واختلافهم وتفرّقهم في حياتهم الإنسانية.


1- آل عمران: 103- 105.
2- الأنعام: 159.
3- الأنعام: 65.
4- الروم: 30- 32.
5- الشورى: 13- 14.
6- انظر: التبيان 546: 2؛ ومجمع البيان 356: 2.
7- البقرة: 85.

ص: 59

الشكل الثاني: وهو يقع على العكس تماماً من الشكل الأوّل، بحيث يكون تبعيض الدّين وتفريق أجزائه عن بعضها البعض، وقراءته قراءة مجتزأة، وعدم ربط مقولاته ومفاهيمه ببعضها، سيكون ذلك بنفسه مؤدّياً إلى أن يأخذ كل فريق بمقولةٍ ويترك أخرى، أو يركّز على مقولة ويستبعد أخرى، أو يسلّط الضوء على آية قرآنية أو حديث نبوي ويتغافل عن آية أخرى أو حديث آخر، وهو ما سينتج عنه تمزّقٌ ديني بشكل تلقائي، لأنّ كلّ فريق سيقرأ جزءاً من الدين ويذر الآخر؛ وسيؤدي ذلك إلى انقسامهم فيما بينهم وصيروتهم شيعاً يحارب بعضهم بعضاً ويشايع بعضهم بعض الأشخاص أو بعض المقولات ويترك الأخرى، فالمجبرة تقرأ آية ربط كل شي ء بمشيئة الله والمفوّضة تقرأ آيات الاختيار الإنساني، والمنزّه يقرأ آيات التنزيه والمشبّه يقرأ فقط آيات التشبيه وهكذا، ولا تضمّ أبعاض الدين وأجزاؤه إلى بعضها كي تكتمل الصورة ويتّحد الموقف.

ولعلّ الذي يؤكد مقولتنا في هذه المعادلة بشطريها وشكليها، ما ألمحنا إليه من قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ولا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والْعُدْوانِ وإِنْ يَأْتُوكُمْ أُساري تُفادُوهُمْ وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ ...) (1).

فإذا أرجعنا آخر الآية إلى مجمل الفقرات السابقة، لا إلى خصوص مسألة الأسرى، كان معنى ذلك أنّ الكفر والإيمان ببعض الكتاب أفضى ببني إسرائيل إلى قتل بعضهم بعضاً، والآية وإن لم تكن دالةً على ما نحن فيه لكن فيها نحوٌ من الإشارة والتأييد.

والنتيجة أن هذه الآيات تربط بين الفرقة والدين تأثيراً وتأثراً.

3- 2- علاقة الدين بإنتاج الانسجام داخل الجماعة الدينية

واستتباعاً للنقطة السابقة، تعطي هذه الآيات دلالة على أنّ الارتباط بالدين كلّما تكامل كلّما اقتربت الأمّة من الوحدة؛ وأن الفرقة توحي بوجود ابتعاد عن الدين، ولعلّ هذا ما توحيه آية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ولا تَفَرَّقُوا وَ ...) فإن الاعتصام الجميعي بحبل الله هو المفضي إلى الوحدة، كما أن صيرورة العرب متوالفين بالدين بعد التعادي في الجاهلية معناه أن الدين من عناصر التقارب والوحدة؛ فإذا أفضى إلى الفُرقة كان ذلك خلاف حقيقة التقريب التي فيه بين الناس.

وهذا يعني أن الاختلاف بعد مجي ء الدين ناتج عن تقصيرٍ من البشر أنفسهم في الالتزام بتعاليم الدين وقيم السماء الرفيعة؛ لهذا نصّت الآية على تبرّي رسول الله 9 من المفرّقين والمنشعبين فقالت: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَي ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَي اللهِ)، ولا معنى لهذا التبرّي إذا كانت الفُرقة نتاجاً دينياً؛ فهذا خير دليل على أن الفرقة نتجت عن سوء بشري في التعامل مع الدين ومع غيره، وهذا ما تؤكّده الآيات الكريمة: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (2)، و (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام ومَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (3)، و (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)، و (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (4).

ومن مجمل ما أسلفناه نعرف أنّ حصول الاختلاف والانقسام يكون نتيجة خطأ إنساني أو سوء بشري، وأنّه لا يولّد الدين الفُرقة داخل جماعته على الأقلّ.

4- 2- ألوان تأثير البغي على سلامة الوحدة الدينية

لا يعني ما تقدّم أنّ الخلاف في الأمة يعني ابتعاد كلّ مذاهبها وفرقها وجماعاتها وآحادها عن الدين، بل الذي تريد الآيات أن تؤكّده هو وجود عنصر البغي الذي أدّى إلى حصول هذا الأمر، وهذا يعني أنه من الممكن أن يكون هناك فريقٌ واحد باغٍ فتحصل الفرقة نتيجة ذلك، حتى لو كان الباقون غير باغين، وربما كان الباقون هم الأجيال اللاحقة التي أتت فيما بعد؛ فالآيات تريد تأكيد المبدأ لا الدفاع عن شموليته واستيعابه.

ويشهد لذلك أنّ القرآن الكريم نفسه ذكر في آية البغي التي ستأتي إن شاء الله تعالى، أن حرباً قد تنشب في الداخل الإسلامي، ويتحمّل مسؤوليتها فريق واحد، بل الآية تأمر بمقاتلة الباغي، فلا تحثّ الآية على الفرقة والتنازع، بل تأمر بقلع مسبّبيهما، وبالجمع بين الآيات يظهر أنّ المقصود إدخال عنصر البغي في ظاهرة التمزّق، دون أن تقول: إن كل تمزّق تنساق الأطراف كلّها فيه لأهوائها؛ فقد يبغي فريق في بدايات الدعوة الدينية، فيوقع التنازع في الأمة، وتنقسم الأمة إلى فِرَق، فالبغي هنا كان مسبِّباً للفُرقة، لكن لا يعني اتهام الجميع ولا تمام الأجيال بأنّ انقسامها كان عن بغيٍ منها.

ولعلّ ذيل الآية الأخيرة يوحي بتأثير الأجيال على بعضها، فهي تقول: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)، أي أنّ الأجيال الأولى اختلفت- بعد العلم- عن بغي وهوى، أما الذين أورثوا الكتاب بعد تلك الأجيال فقد عصف بهم الشك والرّيب، وتركت نزاعات السابقين أثرها السلبي على الأجيال اللاحقة، فبعثت فيها الشك، حتى لم تعد تؤمن بكتابها حقّ الإيمان، وهذا- في نقطة المبدأ- أحد التفسيرات المشار إليها في هذه الآية، كما يظهر من بعض التفاسير (5).

إذن، فقد يجني البغي المسبّب للفرقة الدينية على الأجيال اللاحقة؛ فيورثها الشك والريب في الدين، وليس ذنبها، بل قد تكون مستضعفةً حتى لو كانت تناصر هذا الفريق أو ذاك.

5- 2- إضفاء مفهوم العذاب على الفُرقة والتناحر


1- البقرة: 84- 85.
2- البقرة: 213.
3- آل عمران: 19.
4- البينة: 4.
5- انظر: الكشاف 464: 3؛ وجوامع الجامع 280: 3؛ والميزان 32: 18؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 175: 3؛ وتفسير النسفي 98: 4؛ وتفسير الرازي 158: 27؛ وتفسير البيضاوي 125: 5؛ وتفسير البحر المحيط 490: 7.

ص: 60

تشير الآية الثالثة المتقدّمة إلى أنّ أنواع العذاب الإلهي متعدّد، وأن واحداً منها جعل الأمة على شيع وأحزاب يقاتل بعضها بعضاً، ويبطش بعضها ببعض، وهذا معناه أنّ الفرقة والافتراق نحوٌ من العذاب الإلهي الذي ينزل بالناس، وطبيعيّ أن الآية لا تعني أن كل فُرقة كذلك، بل أقصى ما تدلّ عليه أن بعض أنواع العذاب قد يكون في فُرقة الأمة ومحاربة بعضها بعضاً، وهذا خير دليل على أنّ القرآن يرى الاختلاف والتقاتل والتصارع الداخلي مظهراً من المظاهر التي قد تكون عذاباً إلهيّاً، فما أشدّ دلالة هذه الآية على رفض الفُرقة ونبذ التنازع والتخاصم.

والجميل في تعبيرات هذه الآية أنّها لمّا تحدّثت عن العذاب الفوقي والسفلي، أي من الفوق ومن تحت الأرجل، جعلت الثالث هو الفُرقة والتصارع، وكأنّ في هذا التعبير إشارة إلى أنّ الفتنة الداخليّة بين الأمة عذابٌ يكون بين يديها، وكأنّ مبرّراته وعناصره تحت سيطرتها، ولم يأتِ من الأعلى ولا جاء من الأسفل من حيث لا يدرك الناس ذلك، وهو ما فيه إشارة إلى الدور البشري في إنتاج العذاب الثالث الذي تعطيه الآية.

6- 2- حالة التشظّي ووهم المكاسب الجزئية

من أروع التعابير في هذه المجموعة من الآيات، قوله تعالى: (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، فهذه الآية تشير إلى واقع يعيشه المجتمع في ظلّ حالة الانقسام عادةً، وهي أن كل فريق يعيش في حالة غفلة ونشوة بما يراه من انتصارات له ومكاسب يحقّقها على الفريق الآخر أو لنفسه هنا أو هناك، فيفرح بما يراه مكسباً، وينتشي بما يحقّقه من معطيات جزئية، وهو غافل عن القضايا الكبرى، وغافل عن أنّ بعض مكاسبه الجزئية هذه ما هي سوى تكريس لانقسام الأمة وتمزقها وتشرذمها، وأنه باستمراره في طلب المكاسب الفرعية هذه والفرح بها يكرّس واقع التراجع في الأمة؛ لهذا نسبت الآية الفرح إلى الأحزاب ولم تنسبه للأمة، وجعلت الفرح على ما عنده وليس على ما عند الأمة (بما لديهم)، وهذا هو الغرور المعرفي الذي يكرّس القطيعة في الأمة، فيفرح بما عنده، ولايفرح بما عند غيره.

وهذا الحصر مستفاد من تقديم (بما لديهم) على (فرحون)؛ فكأنه لا يفرح إلا بما لديه، وأما ما عند غيره من أمّة الدين والتدين، فليس بموجب فرحاً عنده.

وبممارسة التأمل في استخدام كلمة «فرحون» في اللغة العربية، نجد أنّ القرآن الكريم لم يطلقها على السرور الإيجابي، بل أطلقها في موقع الذمّ، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (1)؛ فالفرح هنا لا يقصد منه السرور؛ ولهذا فسّر بالبطر (2)؛ للجزم بعدم حرمة الفرح في الإسلام، وبناءً على ما ذكره أبو هلال العسكري (ق 4 ه-) في التفريق بين الفرح والسرور، فإنّ الفرح قد يكون بأمرٍ لا نفع فيه ولا لذّة، على خلاف السرور الذي لا يكون إلا فيما فيه نفعٌ أو لذّة على الحقيقة (3)، فيفهم أن استعمالات القرآن الكريم للفرح كانت للإشارة إلى شي ء يفرح به الإنسان لكنه قد يكون خالياً من الفائدة والمنفعة الحقيقية، فكأنّ فرحه به مصداقٌ لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (4)، تماماً كفرح ملكة سبأ بهديتها التي أرسلتها إلى سليمان، فقد ظنّت أنها سوف تستميله بها، لكنّ سرورها بما فعلت لم يكن سوى وهم، قال الله تعالى: (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِي اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) (5)، وتماماً كما حصل مع الكافرين الذين كانوا يتوهّمون أنهم يدعون شيئاً وإذ بالذي كانوا يدعونه من دون الله لم يكن سوى سراب، قال سبحانه: (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ* ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) (6).

وعليه، ففرح الأحزاب تعبيرٌ عن حالة الوهم وتصوّر وجود منفعة ومصلحة في خطواتها وأعمالها، فيما هي تفرح على عدمٍ وعبثية وسراب، وفعلًا هذا هو حال الأمة حينما تنشغل بسفاسف الأمور، وتتصارع على أشياء ثانوية؛ فيختلّ ميزان الأولويات عندها، وما حال أمتنا الإسلامية اليوم- في أكثر من موقع- عن ذلك ببعيد.

إنّ الاعتصام الديني والوحدة أصلٌ من أصول الديانة قد تقف عندها أصول أخرى، ولعلّنا نجد بعض الدلالات المعبّرة عن ذلك وعن سلّم الأولويات في قصّة هارون مع موسى في القرآن الكريم، فبعد عبادة بني إسرائيل للعجل، ورجوع موسى غضباناً من لقاء ربّه، دار بينه وبين أخيه هارون حوار، كان جواب هارون له فيه دالًا، قال تعالى: (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (7)، فإنّ هذا الجواب يفيد أن موسى 7 نفسه كان أمر أخاه هارون أن لا يفرّق أمر بني إسرائيل، وأن هارون كان يريد مواجهتهم لكنّه لم يكن قادراً على حسم الموقف لصالحه واقتلاع أساس الفتنة، وكأنّ موازين القوى بين جماعته وجماعة السامريّ كانت متعادلة أو كان أضعف منهم، سيما حسبما تشير إليه الآية الأخرى: (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي ..) (8).

من هنا، قدّم هارون وحدة بني إسرائيل على دعوتهم للحقّ، ولم يشأ إيقاع الفُرقة بينهم رغم ضلالهم، وهذا تعبير ظريف عن ترتيب الأولويات ترتيباً دقيقاً. وهذا في الجملة ما أقرّ به غير واحد من المفسّرين المسلمين (9).

واللطيف أننا لو ضممنا هذا الحدث إلى أمر موسى لهارون لما استخلفه على القوم، لوجدنا القرآن يعبّر عنه بقوله: (وَقالَ مُوسي لأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وأَصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (10) ... ولفهمنا أنّ عدم تفريق بني إسرائيل هو حُسن خلافة وإصلاح وعدم اتّباع لسبيل المفسدين، أو لا أقلّ يصدق عليه واحدٌ منها، مما يعني أنّ الحفاظ على وحدة الأمّة إصلاحٌ في الأرض وعدم إفساد، وهو حُسن إدارة للمجتمع وللمؤمنين؛ ولهذا كان من الأولويات الكبرى في تسيير أمور الأمة؛ فإذا لم يتمكّن الفريق المحقّ من قلع أساس الفتنة والانحراف فعليه أن يواجهه بطريقة لا تؤدّي إلى إحداث الفرقة والانقسام، وهذا بالضبط ما فعله هارون مع قوم موسى.

3- مبدأ وحدة الأمة

وتشير إلى هذا المبدأ القرآني الآيات التالية:


1- القصص: 76.
2- انظر: الجوهري، الصحاح 390: 1.
3- الفروق اللغوية: 277.
4- الكهف: 103- 104.
5- النمل: 36.
6- غافر: 73- 75.غافر: 73- 75.
7- طه: 92- 94.
8- الأعراف: 150.
9- انظر: التبيان 201: 7؛ وجامع البيان 253: 16؛ وجوامع الجامع 497: 2؛ ومجمع البيان 51: 7؛ والأصفى 767: 2- 768؛ والميزان 194: 14؛ والنحاس، معاني القرآن 83: 3؛ وتفسير السمرقندي 410: 2؛ وزاد المسير 318: 5.
10- الأعراف: 142.

ص: 61

1- (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ* وتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (1).

2- (وإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ* فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّي حِينٍ) (2).

والسؤال الرئيس هنا: ما هو المشار إليه بحرف الإشارة «هذه»؟ فإنّ تحديده في غاية الأهمية لمعرفة مدى دلالة الآيتين على مبدأ وحدة الأمة المسلمة بالمعنى العام للإسلام.

أ- يفهم من كلمات بعض العلماء- مثل السيد محمّد باقر الصدر (3)- أنّ المشار إليه هو أمة الإنسانية كلّها، وأن المخاطب بهذا الخطاب هم الأنبياء، فكأنّ الله يخاطب الأنبياء بأنّ البشر كلّهم أمّة واحدة، وطبقاً لهذا المعنى قد يصعب التوصّل إلى استفادة وحدة الأمة المؤمنة بوصفه مبدءاً من مبادئ العلاقات الداخلية بين المسلمين، إلا من حيث إنه إذا كان البشر أمة واحدة فالأمة المسلمة واحدة بطريق أولى.

لكننا نلاحظ على هذا التفسير أنّه:

أولًا: يخالف السياق الذي جاءت فيه بعض الآيات، فقد سبقها حديث في الأنبياء وتعريف بهم كل واحد بعد الآخر، ثم ختم الحديث بمريم في سورة الأنبياء، ثم جاء الخطاب المذكور؛ مما يفيد أن المشار إليه الأنبياء والرسل ورسالاتهم، وكأن المعنى أن موسى وعيسى ومريم وغيرهم هم جميعاً أمة واحدة تصدر عن مصدر واحد وأن الفُرقة والتمييز بين الموسوية والمسيحية و .. جاءت من الناس الذين تقطّعوا أمرهم بينهم زبراً وصاروا أحزاباً وديانات، فقسّموا الدين الواحد الذي جاء به الأنبياء كلّهم.

ولعلّ الذي أوجب تصوّر توجّه هذا الخطاب إلى الأنبياء هو ما سبق هذه الآيات في سورة المؤمنون؛ حيث كانت الآية السابقة: (يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوْا مِنْ الطَّيِّبَات واعْمَلُوا صَالِحَاً إنّيْ بِمَا تَعْمَلُوْنَ عَلِيْم) (4)، فتُصُوّر أنّ الخطاب الثاني جاء استمراراً للخطاب الأوّل، في حين أنّ ما أشرنا إليه وما سيأتي يمنع عن توجّه هذا الخطاب للأنبياء.

ثانياً: إن هذا المعنى يلزم منه أن تكون الآية اللاحقة حديثاً عن الأنبياء أنفسهم؛ فإذا كان الله يخاطب الأنبياء ويقول لهم: إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة واعبدوني، ثم يقولون: إنهم تمزّقوا وتفرّقوا، فهذا يعني أن الأنبياء هم سبب التفريق، فليلاحظ السياق جيّداً، وهو معنى غير محتمل قرآنياً كما هو واضح.

ثالثاً: إنّ هذا التفسير يعارض آيات أخرى نصّت على أنّ البشر كانوا أمّة واحدة لولا الاختلاف الذي حصل بينهم، وأنهم سيظلّون مختلفين إلى ما شاء الله، فهذا يعني أنّ وحدة البشرية- قرآنياً- أمرٌ غير مستقر، وأن الاختلاف هو الحاكم، فكيف يخاطب الأنبياء ويقول لهم: إنّ البشر أمة واحدة؟! قال تعالى: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ..) (5)، وقال: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً ولَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُم ..) (6)، وقوله: (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ...) (7)، وقال: (ولَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (8)، وقال: (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي مَنْ يَشاءُ ...) (9).

من هنا، نستبعد هذا الاحتمال في تفسير الآية الكريمة من حيث مرجع الإشارة فيها.

ب- وذهب بعض المفسّرين القدامى إلى أنّ المقصود بالأمّة هنا هو الدّين، فيكون المعنى أنّ دينكم واحد وأن هذه الديانات التي جاء بها الأنبياء السابقون كلّها دين واحد، وقد نُسب هذا التفسير إلى ابن عباس ومجاهد والحسن و .. (10).

ويبدو أنّ هذا التفسير يأخذ المضمون التفسيري للآيات، لأن معنى كون هؤلاء الأنبياء جميعاً أمتنا- وهي أمة واحدة- تعبيرٌ آخر عن وحدة الدين، وإلا فكلمة الأمة قد لا تكون منصرفةً- لغةً وعرفاً- إلى الدين والديانة، ما لم تحشد إلى جانبها شواهد وقرائن.

ج- ما نراه من أنّ الآية بعد أن استعرضت- قبلها- عدداً من الأنبياء والأولياء الصالحين وتحدّثت عنهم، استأنفت خطاباً وجّهته للمؤمنين جميعاً- باختلاف دياناتهم- بأنّ هؤلاء الأنبياء والأولياء كلّهم أمّة واحدة وجماعة واحدة هي أمّتكم، وأنهم يسيرون على خطّ واحد لا تفريق بينهم ولا تمييز بين موسى وعيسى و ... فاتقوا الله واعبدوه، ثم تتحرّك لتشير إلى سبب الفُرقة والخلاف، فقد يطرأ في الذهن سؤال: إذا كان عيسى وموسى على خطّ واحد ودين واحد، فكيف صارت ديانتهما مختلفة وأنصارهما متباعدين متناحرين أحدهما يسمّى اليهودية والثاني المسيحية وبينهما سيف ودماء وتكفير ولعن؟!

فأشارت الآية اللاحقة- فوراً- إلى أنّ أنصار هؤلاء الأنبياء هم السبب؛ حيث قطّعوا أمرهم بينهم زبراً، أي جعلوها كتُباً ذهب كل واحدٍ لكتاب، أو صاروا قطعاً- كما هو أحد معاني الزبر لغةً كما قيل- وصار كل فريقٍ يفخر بمصالحه الحزبية والفئوية، فيما كان المطلوب منهم التوحّد تحت التعاليم الحقيقية للرسالات السماوية البعيدة عن كل هذه الإضافات والتأويلات والتحريفات التي ابتدعوها فيما بعد. وبناءً عليه، تدلّ الآية الكريمة على وحدة أمّة الأنبياء والأولياء والمرسلين وأنّه لا اختلافات بينهم.

من هنا، قد يصعب الاستناد إلى هذه الآيات لتأسيس مبدأ وحدة الأمة المسلمة، حيث المقصود وحدة الرسل ورسالاتهم، لا وحدة المسلمين والمؤمنين مع اختلافهم.


1- الأنبياء: 92- 93.
2- المؤمنون: 52- 54.
3- انظر: اقتصادنا: 324.
4- المؤمنون: 51.
5- البقرة: 213.
6- المائدة: 48.
7- يونس: 19.
8- هود: 118- 119.
9- النحل: 93.
10- انظر: التبيان: 277: 7، 375.

ص: 62

لكن يمكن أن يقال: إذا كانت الآيات تحمّل المتحازبين مسؤولية تفريق الأنبياء عن بعضهم في ذهن الناس ووعيهم، فمن الدلالة الأوضح حينئذٍ أن تنهى عن تناحر الأمة المسلمة، فكما كان عيسى وموسى ومحمد على خطّ واحد وهم جماعة واحدة، كذا الداخل الإسلامي هو خطّ واحد لا ينبغي التفريق فيه ما دام يتبع هؤلاء الأنبياء جميعاً؛ فالأمّة المتديّنة أمة واحدة من حيث وحدة منطلقاتها الدينية، فبهذا المقدار- فقط- تدلّ هذه الآيات لا أكثر.

4- مبدأ الولاية المتبادلة

نقصد بهذا المبدأ أنّ المسلمين بعضهم أولياء بعض، يمثلون كياناً واحداً، وينصرون بعضهم بعضاً، فهم أمّة من دون الناس.

وتدلّ على هذا المبدأ الآيات التالية:

1- (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ) (1).

2- (وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2).

والذي يمكن أن نستنتجه من دراسة هذه الآيات- على مستوى دائرة بحثنا هنا- ما يلي:

أولًا: الولاية في الآية الأولى هنا تحتمل عدة معاني، وقد يكون الجامع بينها- على تقدير وجود جامع عرفي- هو المراد؛ فالولاية:

أ- قد تكون بمعنى النصرة والإعانة؛ فيكون المقصود بهذه الآيات أنّ المؤمنين ينصر بعضهم بعضاً ويتداعى بعضهم لمصلحة بعضهم الآخر، وقد يتعزّز هذا الاحتمال بورود مفهوم النصر والإيواء في الآية الأولى (3).

ب- وقد تكون بمعنى المحبة والمودّة، فيكون المعنى أنّ بين المؤمنين حبّاً وودّاً ورحمة وألفة في القلوب؛ فتدلّ الآيات على مبدأ الألفة الإسلامية الذي سيأتي التعرّض له قريباً إن شاء الله تعالى.

ج- ولعلّ المراد من الآية التوارث، بمعنى أنّه يرث بعضهم بعضاً، ولا يرثهم الكفار، وقد نقل هذا الكلام عن جماعة كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي و .. وأنّهم كانوا يتوارثون على أساس الدين؛ فجاءت آية: (أُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (4) فجعلت التوارث بالنسب ومثله، ونسخت الآيةَ التي نحن فيها (5).

د- وربما كان المراد الولاية بمعنى أنّ كل واحد منهم متكفّل ومتولّي لشؤون غيره؛ فهو موظّف أن يتعهّد مصالح سائر المسلمين وحاجاتهم، فتكون أمور الأمّة المسلمة في رقبة كلّ واحد من المسلمين، عليه أن يقوم بما يمكنه القيام به تجاهها.

ه-- وقد يكون المراد الإشارة إلى عنصر القرب والالتحام والاندكاك حتى أنّ بعضهم من بعض، فتكون معبّرةً عن وحدة الملّة والتمايز عن سائر الملل، ولهذا عبّرت الآيات الأخرى بأنّ الكافرين أيضاً بعضهم أولياء بعض، أي أنّهم ملّة أخرى، فالآيات تريد بيان القطيعة- بهذا المعنى- بين الملّة المسلمة والملّة الكافرة، في مقابل بيان عنصر الوحدة الجمعية داخل الوسط الإسلامي، فتكون من آيات مبدأ وحدة الأمّة الذي تقدّم الحديث عنه آنفاً.

وقد يكون المرجّح من هذه الاحتمالات- على مستوى الآية الأولى- هو الاحتمال الأوّل؛ لأنّ السياق كلّه حديثٌ عن النصر، وفرضٌ لصور وحالات استنصار فريق مسلم ضدّ فريق كافر، ثم التعليق أخيراً بأنّ عدم نصر المؤمنين سيؤدي إلى فتنة، فأقرب الاحتمالات في هذه الآية هو الأوّل حسب الظاهر، وهو المقدار المتيقّن منها.

إلا أنّ هنا ملاحظة، وهي أنّ الآية نفسها سلبت سلباً شديداً علاقة الولاية بين المسلمين المهاجرين والأنصار من جهة وبين الذين لم يهاجروا، ثم أردفت ذلك فوراً بوجوب نصرهم لو استنصروهم، فلو كان المراد بالولاية النصرة لكان هناك تناقض في الآية الواحدة، وهذا ما يضعّف احتمال النصرة، إلا إذا قيل- كما هو ظاهر بعضهم- أنّ النصر هنا مختص فيما إذا استنصروهم في الدين لا مطلق الاستنصار (6)، كما في نزاع قبلي أو غيره، فيكون سلب الولاية سلب مطلق الإعانة والنصر لهم ثم أخرجت الآية خصوص الاستنصار للدين. لكنّ هذا الكلام غير واضح فنحن نستقرب جداً أن يكون المراد بمسألة الاستنصار في الدين مقابل الاستنصار في القرابة أو العشيرة، أي أنّ هؤلاء استنصروكم فيما بينهم وبينكم من ديانة لا من باب قرابة، فلو استنصروكم من جهة قرابة بينكم وبينهم أو لاعتبارات أخرى فلا يجب عليكم النصر؛ لأنّ المسلمين لا ينطلقون في نصر بعضهم من معايير من هذا النوع فيحشدون لبعضهم على أسس قبلية أو قومية أو غيرها كما كانت عليه الحال في الجاهلية، وهذا لا يخلّ بحالة التناقض الداخلي الذي قد تبتلي به الآية على تقدير تفسيرها بالنصر.

كما أنّ احتمال المحبّة والمودّة يبدو بعيداً عن سياق الآيات، حيث لا شاهد عليه فيها؛ فهو احتمال بلا شاهد، ولأجل ذلك استبعدنا ذكر هذه الآيات في مبدأ الألفة الإسلامية القادم بعون الله.


1- الأنفال: 72- 73.
2- التوبة: 71.
3- يظهر الميل لهذا الاحتمال من بعض المفسرين مثل: التبيان 162: 5- 163؛ والنحاس، معاني القرآن 173: 3- 174؛ والأصفى 279: 1؛ وجامع البيان 67: 10 و ..
4- الأنفال: 75؛ والأحزاب: 6.
5- انظر: جامع البيان 67: 10- 68؛ ومجمع البيان 497: 4؛ والنحاس، معاني القرآن 173: 3- 175؛ والقطب الراوندي، فقه القرآن 325: 2، 344- 345؛ والجصاص، أحكام القرآن 98: 2- 99، و 96: 3- 98، 261؛ والأصفى 449: 1؛ والصافي 315: 2- 316؛ وتفسير الواحدي 449: 1- 451؛ وتفسير السمرقندي 34: 2- 35؛ وتفسير ابن زمنين 189: 2؛ وتفسير الثعلبي 374: 4- 375 و ..
6- انظر: مجمع البيان 498: 4.

ص: 63

أمّا احتمال التوارث، فرغم اشتهاره بين القدماء من المفسّرين، إلا أنّنا لم نجد له شاهداً يدعمه، ولعلّ الذي دفعهم إلى ذلك هو الآية التي ذكروا أنّها ناسخة؛ فإن تعبير (أولى) وتعبير (أولياء) أوحى أنّ الفكرة واحدة، سيما وأنّ آية سورة الأحزاب قالت بعد ذلك مباشرة: (.. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ ..)؛ فكأنها تريد أن تقدّم الأولوية لصالح الأقارب على المؤمنين والمهاجرين، ممّا يوحي بنسخها لتلك الآيات.

لكنّ هذا لا شاهد عليه، ومجرد استخدام مادّة: (ولي) لا يعني وحدة المعنى وهو التوارث، فقد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مرات كثيرة واستخدمت في حقّ الله تعالى ورسوله مما لا معنى لفرض الإرث الفقهي القانوني في موردها؛ وربما لذلك لم نجد في آيات الإرث من سورة النساء- وهي من التي أسّست مفهومه وذكرت تفاصيله- أيَّ شي ء من هذا التعبير، مع أنّه كان من المناسب تقرير هذا المبدأ بهذا التعبير هناك.

من هنا؛ قد يترجّح الاحتمال الرابع، بأن يكون معنى الآية أنّ المسلمين أمّة واحدة وكيان واحد، لكلّ واحد منهم ولاية ومسؤولية وقرار ورأي وموقف من قضايا الأمّة، فهم- جميعاً- يقرّرون مصيرهم وأهدافهم وقضاياهم و .. ويشتركون فيما بينهم في أمورهم، فتكون الآية قريبة من قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُوري بَيْنَهُمْ) (1)؛ ولهذا لم يكن الذين لم يهاجروا ولم يدخلوا في رحم الدولة الإسلامية القائمة على عنصر الأرض- وهي المدينة المنوّرة- والشعب- وهو جماعة المسلمين في المدينة الذين يشكّلهم المهاجرون والأنصار وتعرّضت لهم الآية نفسها ..- هؤلاء ليس لهم المشاركة في قرار المسلمين؛ لأنّهم بعدم هجرتهم لم ينخرطوا في الاجتماع الإسلامي السياسي بحسب حالات تلك المرحلة، ولهذا لم يكن لهم ما كان لغيرهم، نعم لو استنصروا المسلمين وجب نصرهم لمكان إسلامهم؛ فهذا المعنى قد يكون أقرب الاحتمالات، ولعلّه هو المراد من كلمات بعض المفسّرين الذين أثاروا هذا الاحتمال تحت عنوان الولاية التي يكون المسلمون بها يداً واحدة في الحلّ والعقد (2).

وقد يتعزّز هذا الاحتمال بما ذكره بعض أهل اللغة عندما باشروا تفسير كلمة الولي فقالوا: إنّه من الموالاة واتخاذ المولى وعلاقة الولاية، بل بعضهم لم يأت على ذكر معنى المحبة والمودّة والنصرة وأمثال ذلك (3).

وقد ينتصر للاحتمال الخامس، بما ذكره بعض أهل اللغة في تفسير كلمة الولي مباشرة من أنّها من القرب والدنوّ، بل الأصل اللفظي فيها ذلك (4).

وعليه، فإذا فسّرت الآية بالاحتمال الرابع أو الأوّل، فهي تؤسّس مبدأ جديداً من مبادئ العلاقة بين المسلمين، وهو مبدأ النصر أو حقّ تقرير المصير، أمّا على الاحتمال الثاني أو الخامس فترجع إلى بعض المبادئ التي تقدّمت هنا أو ستأتي؛ ولهذا فصلنا مبدأ الولاية المتبادلة عن سائر المبادئ لوجود احتمال قوي في انفكاكها عنها.

ثانياً: تحذر الآية من عدم حصول الولاية المذكورة فيها، وترى أنّ عدمها سيؤدي إلى فساد كبير وإلى فتنة في الأرض، وهذا العنوان يمكن تكييفه مع أكثر الاحتمالات المتقدّمة في تفسير الولاية؛ فإذا فسّرناها بالنصرة كان المعنى أنّ عدم نصر المؤمنين لبعضهم سيخلق فتنة وحرباً وضلالًا- على حسب تفسيراتهم لكلمة الفتنة في القرآن (5)- وكذلك عدم كونهم مشتركين في أمورهم وملّة واحدة دون سواهم، أو عدم وجود التحابّ فيما بينهم، نعم احتمال الميراث قد لا يكون واضحاً بالدرجة عينها؛ فإنّه إذا لم يتوارثوا فيما بينهم فهل ستكون النتائج بهذا الحجم الكارثي الذي تبيّنه الآية بهذه اللغة الصارمة؟! ولعلّ هذا من مضعّفات هذا الاحتمال.

ثالثاً: الملاحظ من الآية الثانية أنّها مفتوحة على أكثر من احتمال في تفسير الولاية، بل قد سعى مثل الثعلبي (427 ه-) لجمع أكثر من معنى فيها كالنصرة والمحبة و .. (6)، وإن كان احتمال التعاون والمشاركة والنصرة ودعم كل فريق لآخر وارداً بقوّة أكبر هذه المرة، وذلك أنّها أعقبت تأسيس مفهوم الولاية المتبادلة بسلسلة من الواجبات والفرائض التي يشتركون في العمل بها، فكأنهم يعاونون بعضهم بعضاً فيها، وقد يبدو من كلمات المفسّرين الميل هنا إلى مسألة النصرة والتعاون (7)، وقد فسّرها الواحدي (468 ه-) بالرحمة والمحبّة (8).

5- مبدأ الألفة الإسلامية والرحمة الإيمانية

وتشير إلى مبدأ تأليف القلوب وإحلال الرحمة في العلاقات الدينية آيات:

1- (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالْمُؤْمِنِينَ* وأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (9).

2- (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ...) (10).

3- (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (11).

فالآيتان الأوليان تطرحان مبدأ مهماً جداً، هو مبدأ الألفة بين المؤمنين، وتشيران إلى أنّ الإسلام سببٌ للألفة، وأن التعادي والتباغض الذي يكون بين الناس يزول بدخولهم الإسلام، والميزة هنا أنها لا تتحدّث عن اتحاد اجتماعي في الأمة المسلمة أو سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو ... وإنما تطرح مبدأ الألفة القلبية؛ لذلك ورد في الآيتين الحديث عن تأليف القلوب، أي أننا دخلنا هنا في المشاعر والأحاسيس والعواطف التي تنقل المسلمين- بالإسلام- من مرحلة التعادي والتباغض إلى مرحلة التوالف والتحابّ؛ لأنّ الألفة- كما قيل (12)- هي الاجتماع على الموافقة في المحبّة، وقد جعلت الآية الثانية حالة التآلف القلبي هذه سبباً أو مرحلةً أسبق من مرحلة صيرورتهم إخواناً، فأخوّتهم جاءت في تآلف قلبي، وليس من علاقة مصالح أو قرابة أو نسب أو قومية.

ويمكن الاستئناس بآية قرآنية دالّة هنا تدعم الفكرة التي نقول، وهي قوله تعالى: (لا يُقَاتِلُوْنَكُمْ جَمِيْعَاً إلا فيْ قُرَىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيْدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيْعَاً وَقُلُوبُهُم شَتّى ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَوْمٌ لا يَعْقِلُوْن) (13)؛ فهذه الآية الكريمة تنتقد حال الأعداء وتصفهم بأنّهم يبدون لكم على كلمة


1- الشورى: 38.
2- انظر- على سبيل المثال-: التبيان 162: 5؛ والراوندي، فقه القرآن 344: 2.
3- انظر: العين 365: 8- 366.
4- انظر: الصحاح 2528: 6؛ ومعجم مقاييس اللغة 141: 6؛ والمفردات: 533.
5- انظر في تفسيرهم لهذه الآية- على سبيل المثال-: مجمع البيان 499: 4.
6- تفسير الثعلبي 67: 5.
7- انظر- على سبيل المثال-: مجمع البيان 87: 5؛ والجصاص، أحكام القرآن 369: 2؛ وتفسير السمرقندي 72: 2- 73؛ وتفسير السلمي 280: 1 و ..
8- تفسير الواحدي 472: 1.
9- الأنفال: 62- 63.
10- آل عمران: 103.
11- الفتح: 29.
12- انظر: الطوسي، التبيان 151: 5.
13- الحشر: 14.

ص: 64

واحدة، وصورة فاردة، وجسم واحد متراصّ، إلا انّهم متفرّقون من حيث القلوب والباطن، وهذا هو الذي أشرنا إليه، من أنّ الإسلام لا يريد لأبنائه مجرّد وجود تحالف سياسي أو عسكري أو اقتصادي بينهم، بحيث يبدون في الظاهر متّحدين في مؤسّسات أو اتحادات أو منظمات أو .. فيما هم في قلوبهم وفيما إذا خلى بعضهم إلى بعض لا يضمرون لبعضهم سوى الحقد والضغينة، ويتمنى كلّ واحدٍ منهم أن يقضي على الآخر؛ فهذه هي السلبية عينها التي تعرّضت لها هذه الآية في وصف الكافرين؛ من هنا ركّز القرآن الكريم على مفهوم الألفة والمحبة.

ووفقاً لما قلناه، فإذا أردنا أن نسير مع هذا المبدأ القرآني، فلا نطالب داخل المجتمع الإسلامي بتحالفات أو اتفاقات أو تفاهم أو عقود أو ... وإنما بما هو أعمق من ذلك وبما هو سببٌ لهذه الأمور جميعها، ألا وهو التآلف القلبي الذي يدفع المسلم لحبّ أخيه المسلم، لا لكرهه أو الحقد عليه أو التشفي منه أو الانتقام أو البغض أو التربّص أو ... فقط لأنّه مختلف معه في المذهب أو القوميّة أو العشيرة أو اللغة أو ...

وفي تقديري، فمبدأ الألفة من أهمّ المبادى ء القرآنية في علاقات المسلمين ببعضهم؛ ولست أدري ماذا سنجيب لو سُئلنا: ما دام القرآن يؤلّف- بنعمة الهداية- القلوبَ، فكيف صار الحقد والضغينة والكره أساساً اليوم في علاقات المسلمين ببعضهم؟! وكيف صارت نعمة التوالف والتآلف سبباً لنقمة التباغض والتعادي؟!

وقد نزلت الآيتان أو طبّقتا تطبيقاً بارزاً- على ما في بعض التفاسير (1)- في الأوس والخزرج، بل قيل: إنّه مذهب أكثر المفسرين (2)، لكنّهما لا تقفان عندهم- كما هو واضح- لعدم وجود خصوصية في الرسالة التي تريد الآيتان أن تعطيها، ما دامت العلّة واحدة وهي الإسلام بحسب معطى الآية الأولى نفسها سيما بقرينة ضمّها إلى الآية الثانية، وما دام عموم المؤمنين يشمل الأنصار والمهاجرين و .. فقد كانت بينهم عداوات كبيرة جداً لا تخفى على أيّ مطلع على تاريخ العرب الجاهليين، لكنّ الله- مع ذلك- صيّرهم قلباً واحداً بنعمة الإيمان؛ والملفت أنّ الآية الأولى استخفّت بالدور المادي في توليف القلوب في حين أعطت القدرة للدور المعنوي وهو الدين، فإذا كانت كلّ أموال الدنيا لا تستطيع أن تؤلّف القلوب؛ فذلك لأنّ عملية التأليف القلبي لا تقف عند حدود العلاقة الطيبة أو التحالف السياسي أو الاشتراك في المصالح، بل تتعدّاه إلى ما هو أبعد من ذلك، وهو أمر لا يمكن للعامل المادي عادةً أن يفعله؛ لهذا ركّزت الآية على أنّ الدين قادر على عملية التوحيد والتوليف أكثر من قدرة العناصر المادية على ذلك، وهذه نقطة مهمة؛ بل يمكن أن نضيف ما ذكره الفخر الرازي (606 ه-) في تفسيره من أنّ سبب عداوة العرب لبعضهم كان المال والمصالح المادية فألّف الإسلام بين قلوبهم لجعله القيم المعنوية هي المعايير في الحياة، ثم لمّا عادت هذه المصالح إلى المسلمين بعد وفاة النبي عادوا للتصارع مرّةً جديدة (3)، وهو ما تشير إليه التحليلات العرفانية لابن عربي (638 ه-) في تفسيره أيضاً (4).

ولعلّ وقوع جملة تأليف القلوب بالإسلام في سياق الآيات الحاثة والمتحدّثة عن نصر النبي وتقويته قبل هذه الآية (الأولى) وبعدها، فيه إشارة إلى الدور الذي يلعبه تأليف القلوب الإسلامية بالإسلام في تحقيق العزّة والنصر والمنعة والقوّة.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ الآية الثانية ركّزت مرّتين على وصف النعمة، وهي إشارة دالّة ومعبرة، من حيث إن الإسلام بتوحيده القلوب ونشر ثقافة الأخوّة قد ألقى نعمةً إلهيةً على الناس، وهذه النعمة سواء جعلناها الإسلام أم محمداً أم القرآن أم أيّ شي ء آخر .. فهي في نهاية المطاف ترجع إلى الدين الذي هو الظاهرة التي استجدّت في الحياة العربية آنذاك، بحيث يتصوّر نسبة التوالف المستجدّ- بقرينة قوله: (فَأصْبَحْتُم)- إليها.

والآية أيضاً واضحة في أنّ التأليف كان مقدّمةً للأخوة، وهذا معناه أنّ الأخوة لا تعني مجرّد العلاقات الطيبة أو المصالح المشتركة على أساس قبلي أو وطني أو قومي أو عشائري أو حتى ديني .. تصاحبها حالات تنافر قلبي في واقع الأمر لو خلّي كلّ فريق ونفسه، كما هي حال أمّتنا اليوم في غير موقع، بل تنتج من عملية توليف القلوب في مرحلة أولى؛ ليعقبها تحقّق مفهوم الأخوة، فكأن التلازم السببي أو تلازم السابق مع اللاحق كان شديداً حتى عبّرت الآية ب- (فَأصْبَحْتُم) مستخدمةً الفاء الدالّة على العطف بلا تراخي.

وبتحليل صيغة الأمر في مطلع النص (وَاذْكُرُوا) نفهم أنّ تذكّر هذه النعمة واجبٌ شرعي، بيد أنّه ليس مأخوذاً على نحو الموضوعية المستقلّة، بمعنى أنّ التذكّر هنا لا يهدف منه مجرّد التذكّر، وإنّما استشعار المنّة الإلهية؛ لأنّ الآية وردت في سياق الامتنان الذي أعقب طلب الوحدة وعدم الفرقة، وهذا معناه أن هذا التذكر لتحوّل حالهم من التمزّق إلى التوافق إنّما يراد منه السعي دوماً لإبقائه ضمن المناخ الإسلامي، فعندما تقول لشخص: أحسن التصرّف في مالك؛ وتعلل له ذلك بقولك: وتذكّر كيف كنت فقيراً فأعطيناك المال؛ فهذا معناه أنّ التذكّر هنا أخذ لكي يكون مقدّمةً للأمر الأوّل، وهو حسن التصرّف في المال، وهنا الأمر كذلك، يكون التذكّر مقدّمةً لتحقيق الاعتصام بالحبل الإلهي وعدم التفرّق، فالجملة خبرية الروح عن واقعهم التاريخي، إنشائية الصياغة من حيث إرادتها الحفاظ على هذه النعمة.

ويمكن تعزيز هذا المبدأ بآية قرآنية أخرى ذات صلة، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (5)، فإنّ رفع الغلّ- وهو الحقد والضغينة والعداوة- درجة من الدرجات الأولى لبلورة الألفة والمحبة، بل هذا الدعاء بنفسه تعبير عن محبة وعطف وصدق مع المؤمنين، ولعلّه لذلك ختمت الآية بأوصاف الرأفة والرحمة في الباري تعالى شأنه.

وهذا ما يجعلنا نطلّ على الآية الثالثة من آيات هذا المبدأ، تلك الآية التي تشيّد مبدأ الرحمة الإيمانية، فالمؤمنون فيما بينهم رحماء تحكم علاقاتهم الرحمة وليس المصالح، فهم يخافون على بعضهم ويشفقون على رجالهم ونسائهم، ويتحنّنون على بعضهم، فهذا هو معنى الرحمة التي تذكرها الآية، وهي تستدعي مساعدة بعضهم بعضاً في الشدائد، والوقوف إلى جانب بعضهم (6)، وتبدو هذه الرحمة بمظهر المذلّة أمام المؤمن والتواضع وخفض الجناح معه لا التكبّر والتعالي؛ قال تعالى: (أذلّةً على المؤمِنِينَ أعِزّةً عَلَى الكَاْفِرِيْن (7)، فإنّ الآيتين تتشابهان في التعبير والتركيب والغاية، وتتقاربان في الفكرة والمضمون.

والعنصر البلاغي في تعبير الآية أنّها جعلت الرحمة في مقابل الشدّة مع أنّ الشدة لا تقابلها الرحمة، وهذا ناتجٌ- كما يقول التفتازاني (792 ه-) (8)- عن كون الرحمة مسبَّبةً عن اللين؛ فهذا اللين وتلك الطراوة القلبية هما اللذان ينتج عنهما أو تلازمهما الرحمة في الوسط الإسلامي.


1- انظر: تفسير أبي حمزة الثمالي: 186؛ وتفسير القمي 108: 1، 279؛ والتبيان 546: 2، و 151: 5؛ والكشاف 451: 1، و 166: 2- 167؛ وجوامع الجامع 35: 2- 36؛ ومجمع البيان 357: 2، و 489: 4؛ وجامع البيان 45: 4- 46، و 46: 10- 47؛ وتفسير ابن أبي حاتم 1727: 5؛ والجصاص، أحكام القرآن 91: 3؛ والأصفى 446: 1؛ والصافي 366: 1؛ والميزان 118: 9؛ والأمثل 618: 2- 619، و 480: 5 مع تركيزه على التعميم بعد ذلك؛ وتفسير السمرقندي 30: 2؛ وتفسير الثعلبي 370: 4؛ وتفسير الواحدي 447: 1؛ وتفسير البغوي 260: 2؛ والنحاس، معاني القرآن 454: 1- 455؛ وتفسير النسفي 72: 2؛ وزاد المسير 256: 3؛ والتفسير الكبير 189: 15؛ وتفسير القرطبي 42: 8؛ والغرناطي الكلبي، التسهيل لعلوم التنزيل 68: 2؛ وتفسير الثعالبي 151: 3 و ..
2- تفسير السمعاني 276: 2؛ وابن عطية الأندلسي، المحرر الوجيز 548: 2؛ وأبو حيان الأندلسي، تفسير البحر المحيط 510: 4؛ والشوكاني، فتح القدير 322: 2.
3- الفخر الرازي، التفسير الكبير 190: 15.
4- ابن عربي، تفسير القرآن الكريم 282: 1- 283.
5- الحشر: 10.
6- انظر مواقف المفسّرين من الآية وهي توجز بعض ما نقول في: تفسير مقاتل بن سليمان 79: 2، و 254: 3، 327؛ وجامع البيان 141: 26- 142؛ والتبيان 336: 9؛ وتفسير السمرقندي 304: 3؛ وتفسير ابن زمنين 258: 4؛ والميزان 299: 18؛ وتفسير الثعلبي 64: 9؛ وتفسير الواحدي 1014: 2؛ وتفسير السمعاني 209: 5؛ وتفسير البغوي 206: 4؛ والأمثل 495: 16، 503؛ وتفسير النسفي 459: 1؛ وزاد المسير 173: 7؛ وتفسير القرطبي 292: 16- 293؛ وتفسير البيضاوي 209: 5؛ وتفسير أبي السعود 114: 8؛ وروح المعاني 123: 26 و ..
7- المائدة: 54.
8- سعد الدين التفتازاني، مختصر المعاني: 266.

ص: 65

6- مبدأ الأخوّة الإسلامية

وهو مبدأ هام، تعطيه الآيات التالية:

1- (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (1).

2- (.. واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ...) (2).

3- (ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامي قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ واللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ...) (3).

4- (فَإِنْ تابُوا وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ونُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (4).

5- (ادْعُوهُمْ لآِبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ومَوالِيكُمْ ...) (5).

6- (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلي الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الأُنْثي بِالأُنْثي فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ ..) (6).

7- (.. ولا يَغْتَبْ بعْضُكم بعضَاً أيُحِبُّ أحَدُكُم أنْ يأكُلَ لَحْمَ أخِيْهِ مَيْتَاً فَكَرِهْتُمُوْه ..) (7).

فهذه الآيات تقرّر مبدأ الأخوة الدينية مع اليتامى ومجهولي الوالد، ومع كلّ من دخل الإسلام وتاب إلى الله تعالى من الكفر والشرك، بل الآيتان الأخيرتان تأخذان هذا الأمر مفروغاً عنه، وتستند الأخيرة إليه للردع عن الغيبة وتشويه فعل صاحبها. ومبدأ الأخوّة يعني تساوي المسلمين فيما بينهم، فليس أحدهم أباً لأحد ولا الآخر ابناً للأوّل، بل هم إخوة لكلّ واحدٍ منهم ما للآخر، وعلى كلّ واحد منهم ما على الآخر، وهذه هي نكتة الأخوّة التي تستبطن التساوي أيضاً في المواقع والحقوق والواجبات من حيث المبدأ.

والدلالة الأهم في هذه المجموعة من الآيات أنها تفيد الحصر بحسب الآية الأولى منها، فكلمة (إنما) تفيد الحصر عند الكثير من اللغويين وعلماء أصول الفقه الإسلامي، فقد حصرت المؤمنين- ولو على نحو المبالغة- بأن يكونوا إخوة، وكأنّه لا معنى لهم سوى أن يكونوا إخوة، وقد رتّبت على هذه الأخوة المجعولة وجوب إصلاح ذات بينهم عندما يقع بينهم تنازع أو اختلاف، فليس السعي للإصلاح لمصالح وقتية أو لأهداف مرحلية، بل لأنّ حالة الأخوّة هي الحالة الطبيعية التي يفترض أن تحكم المجتمع الإسلامي بحسب النظرية القرآنية، واللطيف أنّها عبّرت بالأخوين، وهذا يدلّ على أنّ المصلح أخٌ لكلّ طرف من طرفي التنازع، وهو ما يشير إلى أخوة طرفي التنازع أيضاً؛ لقضاء العادة بأنّ من أكون أخاً لهما يكونان أخوين لبعضهما بعضاً أيضاً، فهو من أوجز الكلام وألطفه كما يقول العلامة الطباطبائي (1412 ه-) (8)، ويشير إلى تصوير بليغ للأمّة المسلمة على أنّها أسرة واحدة (9).

وتعجبني هنا عبارة الزمخشري (538 ه-) في الكشاف: حيث يقول: «والمعنى ليس المؤمنون إلا إخوة وهم خلص لذلك متمحّضون قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبية، وأبى لطف حالهم في التماذج والاتحاد أن يقدموا على ما يتولّد منه التقاطع ..» (10).

والإيمان في هذه الآية يقصد به الإسلام لا المعطى المذهبي الخاص كالتشيع الاثنا عشري؛ لأنّ إطلاق عنوان المؤمن على المسلم الإمامي، حدث فيما بعد لا في زمن الرسول، فليس حقيقةً شرعيّةً في تلك الأزمنة كما هو واضح؛ فتشمل كلّ هذه الآيات مطلق طوائف المسلمين وانتماءاتهم.

التكفير وعمليات التفلّت من المبادئ الوحدوية القرآنية

هذه المبادئ التي ذكرناها، لا إشكال فيها وهي واضحة؛ لكنّ مشكلة المسلمين عبر الزمن- رغم علمهم بهذه المبادئ بشكل أو بآخر- أنهم لما كانوا يريدون التنازع مع فريق مسلم كانوا يستبقون ذلك بتكفيره؛ وبهذه العملية كان يتمّ التفلّت والتملّص من كل الخطابات القرآنية الداعية لوحدة الصفّ وألفة القلوب؛ لأنّك عندما تخرج جماعةً من الإسلام فأنت بذلك لا تعود مخاطباً بحقوق المسلم معهم؛ بل إنك سوف ترفض التقريب والوحدة مع هذه الجماعة؛ لأنّه تقريب بين المسلمين والكافرين لا بين المسلمين أنفسهم.

من هنا، كانت ظاهرة التكفير التي عرفها تاريخ الإسلام، واشتهرت بها جماعات معروفة عبر التاريخ الإسلامي كقدامى الخوارج وغيرهم، أكبر إضعاف لمبادئ الوحدة الإسلامية، وهذا ما يستدعي من الفقهاء المسلمين دراسة جادّة لأصول الإسلام والكفر؛ حتى يتميّز الكافر من المسلم بدقة، ولا يُتسرّع في عملية تكفير المسلمين بعضهم بعضاً، والبحث في هذه النقطة خارج عن هذه الدراسة.

لكنّني- من باب الإشارة- يحلو لي هنا أن أنقل كلامين هامّين- بنظري- لشخصيتين إسلاميتين شيعيتين بارزتين، تصدّرتا أهم مواقع المرجعية والفكر الشيعي في القرن العشرين، ألا وهما: الإمام روح الله الخميني (1410 ه-)، والشهيد السعيد محمد باقر الصدر (1400 ه-)، كلامين مدوّنين في مصادر بحثهما الفقهي الداخلي، لا كلامين سياسيين، قد تمنعهما سياسيّتهما عن الدلالة والتعبير، يشيران إلى أنّ إنكار مبدأ إمامة أهل البيت:، وهو أكبر مبدأ في المذهب الشيعي بعد الشهادتين، لا يخرج الإنسان عن الإسلام، فما ظنّك بعد هذا بسائر المبادئ والأفكار، حتى لو كان المنكر مخطئاً وغير مصيب.


1- الحجرات: 10.
2- آل عمران: 103.
3- البقرة: 220.
4- التوبة: 11.
5- الأحزاب: 5.
6- البقرة: 178.
7- الحجرات: 12.
8- انظر: الميزان 315: 18.
9- انظر: الشيرازي، الأمثل 541: 16.
10- الكشاف 565: 3.

ص: 66

النص الأول: يقول الإمام الخميني في كتاب الطهارة من مباحثه الفقهية ما نصّه: «إن الإمامة بالمعنى الذي عند الإمامية، ليست من ضروريات الدين، فإنّها [أي الضروريات] عبارة عن أمور واضحة بديهية عند جميع طبقات المسلمين، ولعلّ الضرورة عند كثيرٍ على خلافها، فضلًا عن كونها ضرورة، نعم، هي من أصول المذهب، ومنكرها خارج عنه، لا عن الإسلام» (1).

النص الثاني: يقول الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «بحوث في شرح العروة الوثقى» ما لفظه: «... إن المراد بالضروري الذي ينكره المخالف، إن كان هو نفس إمامة أهل البيت:، فمن الجليّ أنّ هذه القضيّة لم تبلغ في وضوحها إلى درجة الضرورة، ولو سلّم بلوغها-- حدوثاً-- تلك الدرجة فلا شك في عدم استمرار وضوحها بتلك المثابة، لما اكتنفها من عوامل الغموض، وإن كان هو تدبير النبي وحكمة الشريعة على أساس افتراض إهمال النبي والشريعة للمسلمين بدون تعيين قائد أو شكل يتمّ بموجبه تعيين القائد يساوق عدم تدبير الرسول وعدم حكمة الشريعة، فإنّ هذه المساوقة، حيث إنّها تقوم على أساس فهم معمّق للموقف، فلا يمكن تحميل إنكار مثل هذا الضروري على المخالف، لعدم التفاته إلى هذه المساوقة أو عدم إيمانه بها» (2).

فإذن، إنكار السنّي مبدأ الإمامة الشيعي لا يصيّره كافراً، أو منكراً للبديهيات الواضحة، وإن اعتقد الشيعي أنَّ السنّي مخطئ في اعتقاده، فهذا حقّه، لكن ذلك لا يعني تكفيره لأخيه والقطيعة معه؛ ف- «ملاك الكفر والخروج من الإسلام هو الإنكار الصريح، لا الإنكار بالملازمة، والخلط بين العقيدة الصريحة والعقيدة الملازمة للعقيدة الصريحة من آفات المذاهب، ومن عوامل تراشق التهم بينها» (3).

وإذا قدّمتُ هاتين الشخصيتين البارزتين شاهداً، فهناك الكثير من رجالات العلم الشيعي تشهد بهذه الحقيقة، ولربما صحّ قول العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين حينما قال: «الفصل الرابع [من كتاب الفصول المهمة]: في يسير من نصوص أئمتنا «في الحكم بإسلام أهل السنّة، وأنّهم كالشيعة في كلّ أثرٍ يترتّب على مطلق المسلمين، وهذا في غاية الوضوح من مذهبنا، لا يرتاب فيه ذو اعتدال منّا، ولذا لم نستقص ما ورد من هذا الباب، إذ ليس من الحكمة توضيح الواضحات ...» (4).

وهكذا الحال في الطرف الآخر، فإن عدم الاعتقاد بعدالة الصحابة، أو زوجات النبي 9 أو بعض الخلفاء الأوائل لا يعني كفراً، بل حتّى لو سلّمنا بسبّهم أو لعنهم، فهو على أقصى تقدير- وفقاً لنظريات الفريق الآخر- معصية كبيرة وجرم عظيم، لكنّ فرقاً واضحاً بين هذا العنوان وعنوان الكفر الموجب للقطيعة، والإخراج عن ربقة الإسلام؛ ذلك أنّ احتمال الخطأ في الاجتهاد واردٌ، فلعلّ من فعل ذلك أخطأ في اجتهاده، وما أكثر ما تأوّل السلف وأخطأوا دون حرجٍ عليهم في ذلك، فأمر التكفير عظيم وخطره جسيم، كما يقول ذلك كلّه العلامة شرف الدين أيضاً (5).

7- مبدأ دفع البغي، وجوب الإصلاح ومجاهدة الفرقة الباغية

تكاد تتفق كلمات فقهاء المسلمين أنّ أهل البغي تجب مواجهتهم لتفتيت حركة معارضتهم، ولو كان ذلك موجباً لفتح الحرب معهم، وتعدّ هذه الحرب جهاداً في سبيل الله.

والدليل القرآني الذي أسّس هذا المبدأ هو قوله تعالى: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَي الأُخْري فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّي تَفِي ءَ إِلي أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (6).

وتقريب الاستدلال بالآية أنه على تقدير وقوع مقاتلة بين طرفين مسلمين وشجار، يجب السعي في البداية لحلّ النزاع بالصلح والوفاق، فإذا فشلت ألوان المصالحة، وبغت وظلمت إحدى الطائفتين الأخرى، وجب مقاتلة الفئة الباغية حتى ترضخ لأمر الله وحكمه، وهذا منطبق تماماً على التمرّد المسلّح ضدّ النظام الشرعي.

المعطيات الفقهية والقانونية لمبدأ مجاهدة البغاة

وهذه الآية:

1- لايوجد فيها تخصيص بزمان الحضور حتى يقال: إنها خاصة بالخروج على المعصوم، كما يفهم من كلمات الفقهاء في البغي (7)، بل عامة شاملة لتمام الأزمنة والأمكنة والجماعات، فليس فيها أيّ قيد بهذا الخصوص.

2- بل إنّ هذه الآية وإن صحّ الاستناد إليها في محاربة الخارجين عن النظام الشرعي، إلا أنّها غير خاصة بجهاد أهل البغي في التعريف الفقهي السائد؛ لأنها لا تفرض الطائفة التي بُغي عليها هي الحاكم الشرعي- سواء كان الإمامَ المعصوم أم غيره- بل تطلق لكلّ طائفتين مسلمتين حصل اقتتال بينهما سواء كان هناك نظام شرعي بين المسلمين أم لا، وسواء كان أحد الطرفين المتقاتلين هو هذا النظام الشرعي أم لا؛ فالحروب الداخلية في البلدان الإسلامية تشملها الآية، كما تشمل الحروب التي تقع اليوم بين الدول الإسلامية، حتى لو كانت الدولتان غير شرعيّتين في نفسيهما من حيث شرعية نظام السلطة، بل تشمل حتى مقاتلة الأحزاب والقبائل والعشائر وأمثالها لبعضها، وهذا المعنى الأوسع هو ما يظهر من ابن البراج الطرابلسي (481 ه-) (8)، ومن بعض كلمات السيد الخوئي (1413 ه-) (9)، ومن الشيخ محمد مهدي شمس الدين (10).

وهذا ما يقود إلى ملاحظة، وهي أن أكثر الأبحاث الفقهية ركّزت في الحروب الداخلية بين المسلمين على جهاد البغاة- بالاصطلاح الفقهي الخاص- مستندةً إلى هذه الآية الكريمة، دون أن تفتح عنواناً أوسع، تحت شعار الحرب الإسلامية- الإسلامية، أو الحروب الداخلية بين المسلمين، ربما لأن القضية في الحروب الداخلية بين المسلمين في القرون الأولى غلب عليها ثنائي: السلطة والمعارضة، وهذا ما يؤكّد ما قلناه من ضرورة تعميم العنوان؛ لأن هذه الآية العمدة هنا تصلح حكماً لما هو أبعد من فقه جهاد أهل البغي بالمعنى الفقهي المصطلح؛ سيما بقرينة أسباب النزول القادمة الإشارة إليها.


1- روح الله الخميني، كتاب الطهارة 441: 3.
2- محمد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة الوثقى 315: 3.
3- محمد واعظ زاده الخراساني، الوحدة الإسلامية عناصرها وموانعها، مجلة رسالة التقريب 11: 15.
4- عبدالحسين شرف الدين، الفصول المهمّة في تأليف الأمّة: 18.
5- راجع حول ذلك: المصدر نفسه: 44-- 131؛ وحول موقف السلف من التكفير انظر أيضاً: المصدر نفسه: 26- 38.
6- الحجرات: 9.
7- انظر: منتهى المطلب 985: 2؛ ومسالك الأفهام 91: 3؛ وجواهر الكلام 322: 21؛ ورياض المسائل 456: 7؛ وتفسير الأمثل 538: 16؛ والخوئي، منهاج الصالحين 389: 1؛ وفضل الله، كتاب الجهاد: 417.
8- المهذب 325: 1.
9- وهو ظاهر كلامه في منهاج الصالحين 361: 1؛ وإن كان تعريفه لأهل البغي عند البحث عن مقاتلتهم يدلّ على حصرهم بالخارجين على الإمام المعصوم، فانظر: المصدر نفسه 389: 1؛ وتابع الشيخُ الوحيد الخراساني السيدَ الخوئي في ذلك مستخدماً تعبيره عينه، فانظر له: منهاج الصالحين 406: 2- 407.
10- شمس الدين، فقه العنف المسلّح في الإسلام: 68.

ص: 67

3- إنّ الظاهر من هذه الآية وجوب مقاتلة الطائفة الباغية؛ لظهور صيغة الأمر فيها في ذلك: (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي)، كما أن منتهى مقاتلتهم هو ارتداعهم عما كانوا عليه وإقلاعهم عنه، وهذا ما يشهد عليه تعبير: (حَتَّي تَفِي ءَ إِلي أَمْرِ اللهِ)، فليس الهدف قتلهم، بل عودهم إلى الحقّ، وهذه نقطة مهمّة، تلمح إليها بعض الروايات الواردة في حكم البغاة الذين ليس لهم فئة.

4- إن الآية ظاهرة في وجوب البدء بالطرق السلمية في مواجهة الطرف الباغي، وأن مجرّد بغيه لا يبرّر خوض الحرب معه، فلابدّ من استنفاد تمام الطرق السلمية لوقف القتال، وإن فشلت الجهود، تمّ البدء بمحاربة الظالم من الطرفين، وقرينة ذلك أن أوّل الأوامر في الآية بعد فرض الاقتتال هو: (فأصلحوا بينهما)، وهو ظاهر في الترتيب والتقديم، وإعطاء الأولوية لمبدأ الإصلاح.

5- الظاهر من الآية- بقرينة التعبير بالطائفة- أنها تتحدّث عن معركة بين جماعتين لا عن معركة فرد مسلم مع آخر مثله، وإن قيل بالتعميم لسبب أو لآخر، مما يجعلها خاصّة بموارد صراع الجماعات لا الأفراد، وهذا ما يجعلها أكثر التصاقاً بباب الجهاد منها بباب العقوبات وما شاكل، نعم روي عن مجاهد أن نزول آية البغي كان في رجلين (1)، لكنه خلاف الظاهر من الآية، كما هو واضح، ولعلّه أراد أنّ بداية الاختلاف كانت بين رجلين، كما ستأتي الإشارة لذلك- إن شاء الله تعالى- عند الحديث عن أسباب نزولها.

نعم الآية اللاحقة التي سبق الحديث عنها (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ...) تفيد في إعطاء إطلاق لوجوب الصلح بين مطلق الأخوين دون اختصاص بالجماعتين المتقاتلتين، ففيها توسعة مقارنةً بآية البغي نفسها، وقد ألمح إلى هذا الأمر- في الجملة- الفخر الرازي (606 ه-) (2).

6- الظاهر أنّ المراد بالمؤمنين في الآية مطلق المسلمين؛ لأن ظاهرها في القرآن ذلك، وإطلاق وصف الإيمان والمؤمن على خصوص الشيعي الاثني عشري أمر لاحق- كما قلنا- إذا تمّ، ولهذا لا تختصّ الآية بمحاربة طوائف من المذهب الخاص، بل تعم تمام فرق المسلمين فيما بينهم.

وهذا ما نراه في تمام الآيات القرآنية، مثل آية النهي عن غيبة المؤمن بقرينة جعل المؤمنين إخوةً في آيات لاحقة، مما يجعل إخراج المخالف بحاجة إلى دليل أو إلى اعتباره كافراً من رأس.

وثمة بحث هنا وقع بينهم، وهو أن الشيعة تعتبر الخارج عن الإمام المعصوم كافراً، فيما تذهب الطوائف السنّية إلى اعتباره مسلماً مخطئاً في فهمه واجتهاده، وطبقاً للتفسير السنّي لا مشكلة في إطلاق وصف المؤمنين على الطائفتين معاً، لإمكان كون الإمام 7 والخارجين عليه مؤمنين عندهم، أما عند مشهور الإمامية فلابدّ من افتراض- كما حصل عند بعضهم- أن توصيفهم بالمؤمنين كان بلحاظ حالة ما قبل البغي لا ما بعده، أو كان بناءً على ظاهرهم أو على ما يعتقدون هم في أنفسهم (3).

وهذه التأويلات غير صحيحة؛ وذلك:

أولًا: إنّ الآية- كما قلنا- لا تتحدّث عن البغي المصطلح فقط، بل عن مطلق صراعات المسلمين مع بعضهم، وعليه فإذا كان المراد من المؤمنين إطلاق الوصف بلحاظ ما كان، أو بلحاظ الظاهر، أو بلحاظ اعتقادهم، فيما لو كان الطرفان هما: السلطة الشرعية والمعارضة المتمرّدة، وإطلاقه على معناه الحقيقي في سائر موارد البغي الأخرى، يكون من استعمال اللفظ وإرادة معنيين، وهو- بقطع النظر عن استحالته طبق ما بحثوه في علم أصول الفقه- خلاف الظاهر عرفاً ولا قرينة عليه.

نعم، أصل الإطلاق بلحاظ ما كان لا مانع منه، كما يقال: لو ارتدّ مؤمن وجب قتله كما يقول الشيخ الطوسي (4) وإن كان هناك فرق.

ثانياً: نحن في غنى عن هذه التأويلات برفض التحديد الزماني للآية كما قلنا، فحتى لو حصرنا الآية بالبغي على الإمام الشرعي، إلا أنّ تحديده بخصوص المعصوم لا إشارة في الآية إليه، كما لا إشارة إلى زمان الحضور، ومعه يمكن تصوّر البغي المصطلح- وهو المعارضة المسلّحة- دون حاجة إلى افتراض كون إمام المسلمين معصوماً، كما في مثل البناء على نظرية الولاية العامة للفقيه، ولا يقال بكفر الخارج على غير المعصوم، كما هو واضح.

ثالثاً: قد يتبنّى هنا رأي الإمام الخميني في النواصب (5) وأنهم فرقة دينية، ومن ثم ليس كل من حارب ونصب العداء- ولو لسبب دنيوي- يكون كافراً، بل خصوص من نصبه اعتقاداً وإيماناً، بحيث كان نصبه العداء لأهل البيت جزءاً من عقيدته الدينية، لا لمصالح سياسية، من هنا فعائشة أم المؤمنين وكذا طلحة والزبير ومعاوية و ... لا يحكم بكفرهم من هذه الزاوية، لأنهم ما جعلوا نصبهم العداء عن عقيدة وديانة، بل- وفق العقيدة الشيعية- عن مصالح دنيوية أو رغبات مادية أو مواقف سياسية، فلا يحكم بكفر مثل هذا الشخص. وتفصيل هذه المباحث نتركه إلى موضعه.

رابعاً: إنّ الآية اللاحقة نفسها حكمت بأخوّة الجميع؛ ورتبت عليها- كما تقدّم- وجوب الإصلاح بينهم، وهذا معناه أنّها تلاحظ حالهم بعد الاقتتال، وتحكم بالأخوّة في هذه الحال، وهو خُلْفُ فرض كفر هذا الفريق، إذ كان المناسب التعبير بالارتداد عن الدين، وهذا شاهد قويّ على عدم كفر مطلق الباغي.

7- الظاهر من الآية أن حالة البغي- كما يقول الشيخ الآصفي (6)- حالة مسلّحة، وليست مطلق حالة اختلاف بين الجماعتين المؤمنتين، والشاهد على ذلك التعبير ب- «فقاتلوا» ولم يقل: «فاقتلوا» أو غير ذلك، فإنّه لو لم تكن هناك حالة منعة لدى الطرف الباغي لما صحّ التعبير بالمقاتلة، بل لعبّر عنه بإيقاع الجزاء عليه كالقتل، تماماً كالمحاربين الذين حكمت الآيات بلزوم قتلهم، وهذا ما يدخل البحث هنا في إطار المعارضة المسلّحة للنظام الشرعي- عندما يكون الحديث عن انطباق مفهوم البغي على موضوع المعارضة- لا المعارضة السلمية وما شابهها.


1- الصنعاني، تفسير القرآن 230: 3، 232؛ والطبري، جامع البيان 92: 18- 93.
2- التفسير الكبير 129: 28.
3- النجفي، جواهرالكلام 323: 21؛ والآصفي، الجهاد: 127.
4- الطوسي، التبيان 346: 9.
5- الإمام الخميني، كتاب الطهارة 457: 3- 458.
6- الآصفي، الجهاد: 128- 129.

ص: 68

وهذا ما يجعل الشروط الثلاثة التي ذكرها بعضهم مفهومة؛ حيث شرطوا في تحقق مفهوم البغي أن يكون الباغي متمرّداً على سلطة الدولة، وقد ناقشنا هذا الكلام من حيث تخصيص البغي به، وأن يكون له قوّة تمنعه وتمكّنه وتحميه، وأن يمارس خروجاً مسلحّاً (1).

وعليه فما ذكره بعض العلماء من شمول الآية لمطلق الخلافات حتى غير القتالية (2) غير واضح، وربما يقصد ما يرجع لروح الآية من حيث مسألة الإصلاح، كما يلوح من كلامه.

8- ورد في الآية فرضان هما:

الفرض الأول: أن تقتتل طائفتان من المؤمنين، والحكم هنا هو المصالحة بينهما والوفاق.

الفرض الثاني: أن يحصل بغي من إحدى الطائفتين على الأخرى، فيجب المقاتلة، وهو ظاهر- كما يقول الشيخ الآصفي (3)- في مشاركة الفريق المحايد المصلح في الحرب لصدّ البغي عن الطائفة التي معها الحق، وقد ذكر هنا أنه بعد الفي ء يجب الإصلاح أيضاً، فيكون المراد بالفي ء الكفّ عن القتال والرجوع عنه، لكنّ الإصلاح اللاحق هذا شُرط في الآية بالعدل، ولعلّه لكون الطرف المصلح قد شارك في القتال هذه المرّة بنفسه، فيترقب منه الخروج عن جادة الحياد والموضوعية، وفي الآية قيم أخلاقية عالية في التعامل مع الفريق الآخر المسلم الذي نختلف معه.

9- ذهب في سبب نزول الآية مذاهب أبرزها:

أ- إن الآية نزلت في الأوس والخزرج، تقاتلا بالسعف والنعال، وهذا هو المرويّ عن مجاهد وسعيد بن جبير (4)، والآية تحتمل هذا الافتراض؛ لأن الأوس والخزرج كانوا مؤمنين في المدينة، والسورة- أي الحجرات- مدنية، ولعلّه إليه يشير ما قيل من أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار (5).

ب- إنها نزلت في رهط عبدالله بن أبي سلول من الخزرج ورهط لعبد الله بن رواحة من الأوس، وسبب ذلك أن النبي 9 وقف على عبدالله بن أبيّ، فراث حمار رسول الله 9، فأمسك عبدالله أنفه، وقال: إليك عني، فقال عبدالله بن رواحة: لحمار رسول الله 9 أطيب ريحاً منك ومن أبيك، فغضب قومه، وأعان ابن رواحة قومه، وتضارب الفريقان (6)، وهناك رواية أخرى تشبهها مع اختلافات خفيفة جاءت في مصادر السيرة والحديث والتفسير (7).

وقد تحفظ العلامة الطباطبائي في الميزان على هذا السبب، وقال بأن الآية لا تنسجم معه دون أن يبيّن مبرّر عدم الانسجام (8)، إلا أن الشيخ الآصفي الذي وافقه بيّن ذلك أنّ الآية تضفي صفة الإيمان على المقتتلين، مع أن عبدالله بن أبيّ وجماعته كانوا منافقين، فلا يصحّ إطلاق لفظ الإيمان عليهم، حتى طبق المجازات التي سلف الحديث عنها (9).

لكنّ هذه الملاحظة غير واضحة، ولعلّ سببها دخول عبدالله بن أبيّ في القصة- وهو المنافق المعروف- لكن الرواية لا تحكي عن أن الجماعة التي وقفت معه كانوا منافقين أيضاً، إذ لعلّهم كانوا مؤمنين حرّكتهم العصبية القبلية معه لا غير، لا بغضاً برسول الله، تماماً كما توحيه بعض الأخبار المتقدّمة، ومن ثم وإن كان سبب الحرب شخصاً منافقاً إلا أنّ أطراف القتال كانوا من المسلمين.

والنتيجة التي نخرج بها من مطالعة الآية هي دلالتها على حكم جهاد أهل البغي بالمفهوم العام للبغي، وذلك ضمن مسلسل الخطوات والغايات التي طرحتها، فالاستدلال بهذه الآية على جهاد أهل البغي تام، كما هو تام على مبدأ الإصلاح بين المسلمين.

وانطلاقاً من ذلك كلّه، نعرف أنّ القرآن الكريم لم يؤسّس لأيّ صراع في الداخل الإسلامي، إلا إذا صدق عليه عنوان البغي بالشكل الذي بيّناه، هادفاً من ذلك حماية الفريق المظلوم في الأمّة، أيّ فريقٍ كان، ورغبةً منه في قلع مادّة الانقسام والتمزّق والتمرّد والتعدي، وهذا المبدأ عقلانيّ لا يتعارض مع الأصول السابقة التي أصّلها القرآن نفسه، بل يمكن الجمع بينه وبينها في مثل مبادئ الرحمة الإيمانية والألفة القلبية؛ بأنّ آية البغي طلبت مقاتلة البغاة، لكنّها لم تطلب الغلظة والحقد والكره لهم، فيمكن أن يريد القرآن محاربة البغاة رأفةً بهم ومحبّة، كالطبيب المجبر- حبّاً بالمريض وإرادة خير به- أن يخضعه لعملية جراحية، ولعلّ في سيرة الإمام علي 7 في حرب الجمل وأسلوبه الرحيم في التعامل مع أهل البصرة، وكذلك في بعض خطب الإمام الحسين 7 في كربلاء .. ما يؤكّد إحساس الرحمة مع هؤلاء الذين يواجههم رغم ما فعلوه به وبأهل بيته، وهذا أشبه شي ء بكلام ابن حزم الأندلسي- بعد ذكره آية: (رحماء بينهم) عند حديثه عن حدّ القذف-: «وقد أمر مع ذلك بإقامة الحدّ على من أمرنا برحمته» (10).

هذه خلاصة موجزة ومدخل متواضع لقراءة أبرز أصول العلاقات الإسلامية- الإسلامية في القرآن الكريم.


1- محمد خير هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 63: 1.
2- ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل 536: 16.
3- الآصفي، الجهاد: 129.
4- الطبرسي، مجمع البيان 199: 9؛ والأمثل 535: 16؛ والكاشاني، الأصفى 1182: 2- 1193؛ والصافي 50: 5، 519: 6؛ مؤسسة الهادي، وتفسير مجاهد 606: 2.
5- انظر: التبيان 346: 9؛ والرواندي، فقه القرآن 372: 1؛ والأمثل 534: 16- 535.
6- الطبرسي، مجمع البيان 199: 9؛ وجوامع الجامع 403: 3.
7- راجع القصة وقريب منها في: الزمخشري، الكشاف 563: 3؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 261: 3؛ والمجموع 196: 19؛ وبحار الأنوار 53: 22- 54؛ ومسند ابن حنبل 157: 3؛ وصحيح البخاري 166: 3؛ وصحيح مسلم 183: 5؛ والسنن الكبرى 172: 8؛ وتفسير السمرقندي 309: 3- 310؛ وتفسير الثعلبي 78: 9؛ والواحدي، أسباب النزول: 263؛ وتفسير البغوي 213: 4؛ والسيوطي، الدر المنثور 90: 6؛ وسبل الهدى والرشاد 419: 3؛ والسيرة الحلبية 250: 2 و ..
8- الطباطبائي، الميزان 320: 18.
9- الآصفي، الجهاد: 128، الهامش.
10- ابن حزم، المحلّى 295: 11، 345.

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ص: 72

ص: 73

ص: 74

الوحدة، قواعد ومعالم

سعيد المهاجر

قبل أن استعرض عدداً من القواعد التي أنشئ عليها مبدأ الوحدة في الإسلام، لكي انتقل بعدها إلى ذكر معالم مهمة من معالم أعظم شعيرة عبادية إسلامية توفرت على البعدين المادي والمعنوي، ألا وهي فريضة الحج كمثال وحدوي عملي .. وفضيلة هذه الفريضة وعظمتها لم يختلف عليها اثنان من المؤمنين، لما تتركه من ثمار ومنافع في حياتنا الدينية والدنيوية ولما أعد الله تعالى لمؤديها الأداء الأوفى من الأجر الجزيل والثواب الكبير ..

فقبل أن أقف عند قواعد الوحدة التي يحبها الله تعالى ورسوله الكريم 9 والصالحون، وذكر المعالم، أذكر سطوراً عن عالم ما قبل البعثة، لأدخل مباشرة فيما أعدت السماء ورسولها المصطفى من أسس وأعمدة ومعالم لبناء وحدة الأمة المسلمة.

عالم ما قبل البعثة كان يتمثل في أمة جاهلية فرقتها الحروب ومزقتها النزاعات وشتتتها العصبيات القبلية والعنصرية، وظلت سنين طويلة بين طغاة ومستضعفين، وبين ظالمين ومظلومين، وسادة وعبيد .. تطيح بهم حروب وغارات وغزوات وثارات مدمرة أنتجت اختلافاً قاتلًا وتمزقاً مخيفاً ونزاعا دامياً أربك وضعهم الاجتماعي بكل مفاصله ..

وفي عالم هكذا مظاهره وفي أمة هذه حياتها وهذه مسيرتها، شاء الله سبحانه وتعالى أن يبعث محمد بن عبد الله 9 رسولًا .. وسراجاً:

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَي اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (1)

ورحمة:

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

وجاءت بعثته نعمة ومنقذة أنعم الله بهما على البشرية:

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلي شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (2).

فتحولوا من أعداء متحاربين إلى إخوان متحابين، ومن قبائل متفرقين إلى صفوف متراصّين ضد أعدائهم:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَي الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) (3).

وهنا تتجلى عبقرية الرسول 9 في إنقاذ هذه الأمة وتحويلها من أمة ممزقة إلى أمة موحدة تمهيداً لوحدة الإنسانية عبر إرسائه لقواعد توحيدهم بعد هدايتهم ..


1- الأحزاب: 45- 46.
2- آل عمران: 103.
3- الفتح: 29.

ص: 75

إن رسالة الإسلام الخالدة التي جاء بها نبي الرحمة محمد 9 كانت رسالة رحمة ونعمة وإنقاذ وهداية لا لأهل مكة وما حواها، ولا للأمة التي عاشت زمن الرسالة السماوية، بل جاءت لكل الأمم والشعوب وفي كل الأزمنة، وراحت تؤدي مهمتها هذه من خلال مسارين:

- تخليص الأمة من العبادة المنحرفة من الكفر والشرك المتمثلة في عبادة الأصنام والأوثان .. هذه العبادة التي هي السبب في فرقتهم وتشتتهم .. ونقلها نقلة كبرى إلى عبادة الواحد الأحد، عبادة الله تعالى دون غيره، عبادة التوحيد الخالصة .. لتكون أمة حرة عزيزة أبية عصيّة على أعدائها ..

- بذل الجهود الكبيرة لإنقاذها من كل مظاهر الفرقة والتشتت والاختلاف، ثم تقويتها لتقف شامخة عالية صامدة أمام ما يحاك ضدها من مؤامرات ومخططات سيئة، غايتها تقويض أركانها وأسس تماسكها للإطاحة بها ..

كل هذا انطلاقاً من قاعدة التخلية ثم التحلية، تخليتها من أسباب الانحراف والنزاع والتخاصم ثم تحليتها عبر بنائها البناء المتين على أسس ثابتة رصينة ..

وبما أن الوحدة هي الإطار الحامي للأمة، فقد راح رسول الله 9 يرسي دعائم الوحدة، يرسيها على قواعد صلبة وأرض متينة .. وكان توحيد العبادة عبادة الله تعالى وحده هو الأساس الأول والهدف الذي يصبو إليه رسول الله 9 كما غيره من الرسل والأنبياء الذين سبقوه .. والقاعدة هي التوحيد بمعناه الروحي والعقدي والفكري، فالتوحيد أي توحيد الله كان الأساس الأول لبناء الوحدة في الأمة والأمة الواحدة، فلا وحدة بدون توحيد ولا توحيد بدون توحد ووحدة، فإذا وحدت الأمة ربها توحدت واتحدت، وإذا كفرت وأشركت تفرقت واختلفت، فالأخوة صنو الإيمان:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (1)

والتفرق والاختلاف أخو الكفر:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (2).

وهكذا نجد أن الإيمان والتوحيد أساس الوحدة، والكفر على عكس ذلك هوعلة الفرقة والتشتت بل هو هما .. إن الاعتصام بحبل الله وتوحيد الله كانا هما الأساس الذي أقام عليه رسول الله 9 دعائم الوحدة، وكان الحجر الأساس لبناء هذه الوحدة هو ما دعا إليه 9 الناس من الإذعان والخضوع لله موحدين لا مشركين ..

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (3).

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (4).

فالناس كلهم أبناء آدم فهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدة، وهم من أصل واحد، ومن نفس واحدة هذا على مستوى الخلقة والنشأة.

وهم على مستوى العبادة يعبدون خالقهم الذي خلقهم وبارئهم الذي برأهم، وخلق كل ما حولهم وكل شي ء دون أن يكون له شريك ومعين ..

إن سعادة الأمة ورفعتها لا تكون إلا عن طريق وحدتها والتئام شملها، كما أن شقاءها وتلاشي عظمتها وذهاب ريحها إنما ينشأ عن اختلاف الكلمة وتضارب الأفكار وتباين المقاصد، ومن أجل هذا أراد الرسول 9 من المسلمين أن يقيموا وحدتهم الإسلامية على أساس يجعلهم متحدين متوافقين في كل شي ء: في العقيدة والعبادة والاتجاه والمقصد واللغة والوطن والأخلاق والثقافة والزي والعادات والتقاليد والدفاع المشترك والتضامن والتكافل حتى تصبح الأمة يداً واحدة تحقيقًا لقول الرسول:

«المسلمون أمة واحدة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم».

ولم تكن الوحدة التي دعا إليها النبي 9 مجرد شعار رفعه ليجمع حوله قبيلته أو قومه أو مجرد نظرية قومية لتحقيق طموحات شخصية، بل كانت عقيدة آمن بها ودعا إليها وأرسى مبادئها بكل الوسائل، وهنا تتجلى عبقريته 9 في بناء الوحدة، وإذا أردنا اليوم بناء وحدة إسلامية وإنسانية فلابد من تلمس خطى النبي 9 في هذا الاتجاه.

لقد كان التوحيد وإرساء العقيدة الصحيحة هما الأساس الذي أقام عليه النبي 9 صرح الوحدة، فوحدة العقيدة هي الحجر الأساس لبناء الوحدة، وهنا كان أول ما دعا إليه النبي 9 هي كلمة التوحيد التي يدخل بها الفرد إلى الإسلام ومجتمع المسلمين، فكانت الشهادة هي الرابطة الأولى لجميع المسلمين على اختلاف أجناسهم وألوانهم «أشهد أن لا إله إلا الله» فالرب واحد والخالق واحد والمعبود واحد،

والمبعوث لهم واحد

«أشهد أن محمداً رسول الله».

والرسالة واحدة


1- الحجرات: 10.
2- آل عمران: 100.
3- النساء: 36.
4- المؤمنون: 52.

ص: 76

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ) (1).

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (2).

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) (3).

فلا فرقة ولا تنازع ما دام هناك اعتصام بحبل الله ودين الله.

إذن، فلا تفرق ولا اختلاف أو هكذا ينبغي أو يجب أن يكون حال الأمة المسلمة وهي تحمل هذه المبادئ وتلك القيم والثروة العظيمة من المواقف التي تدعو لوحدتها وتماسكها ..

فكيف يتفرقون وكيف يتنازعون وكيف يتقاتلون؟

إن اختلاف الأمة وتفرقها وتناحرها إنما يكون عندما تخبو أنوار التوحيد في نفوس المسلمين، وحينما يتركوا الفكرة الواحدة والعقيدة الواحدة ويرحلوا إلى أفكار متضاربة وطرق مختلفة فتفرق بهم ..

لهذا إذا رأينا المسلمين اليوم متفرقين وأشتاتاً متباعدين فرّقتهم الأهواء والشهوات والتعصب البغيض نتألم ويداخلنا الأسى والأسف، لأن هذه الفرقة دليل وهن العقيدة في النفوس وضعف الإيمان في القلوب، كيف لأمة ربها واحد وعقيدتها واحدة، وقبلتها واحدة، ونبيها واحد، أن تختلف؟!

ولم تكن الدعوة إلى وحدة العقيدة هي فقط ما دعا إليه النبي 9 فقد بعث 9 والعرب يعتزون بعروبتهم إلى درجة التعصب البغيض والتفاخر بالأنساب والأصول، فحارب النبي 9 هذه العصبية، وهذا التحزب؛ لأن التعصب من عوائق الوحدة وأرشد الناس إلى ضرورة عدم السخرية بالآخرين رجالًا ونساءً، ونهاهم عن اللمز والتنابز بالألقاب والظن والتجسس والغيبة، ودعاهم إلى التعارف وكان القرآن هو العلاج الرباني لتلك الأمراض:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسي أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسي أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (4).

وبدأ الرسول بنفسه في تطبيق هذه المبادئ وتلك الأحكام، فصاحب الفقراء وتودّد إليهم وأمر بلالًا الحبشي أن يؤذن في الناس ويدعوهم إلى الصلاة، وقربه منه وولاه شؤون أموال الدولة، وعلى يده تجري الجوائز للوفود من كبار القوم، وأتى بزيد بن حارثة أحد مواليه فضرب به عصبية قومه في الصميم إذ اختاره صهراً له، وزوّجه بابنة عمته زينب بنت جحش، ثم ولاه قيادة جيش كان فيه الكثير من أكابر الصحابة وأعلام العرب، ثم ولى ابنه أسامة بعده قيادة الجيش، وهو شاب لم يتجاوز العشرين، وهكذا بمثل هذه الممارسات صهر النبي 9 الجميع في بوتقة الإسلام ومحضن الإيمان.

ولم يكتف الرسول بهذا، بل عمل على غرس بذور الحب المتبادل في قلوب المسلمين وإحكام روابط الأخوة العامة فيما بينهم، ونهاهم عن كل ما من شأنه أن يولد الضغائن والعداء في النفوس أو يدعو إلى التحاسد.

وجاءت الأحاديث تؤكد هذه المعاني فقال 9:

«لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يكذبه. حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».

ويقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ويقول: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر، ليس المؤمن بطعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذي ء».

ويقول: «ألا أخبركم بشراركم؟

قالوا: بلى، قال: هم المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العيب».

إن معنى الوحدة الذي أكدته آيات القرآن وأحاديث النبي 9 ومارسه النبي 9 في حياته يبني أمة واحدة متحدة على الفكرة الواحدة والشعيرة الواحدة والقبلة الواحدة والقيادة الواحدة، وحدة بناها على الأساس المتين الذي يجمع ولا يفرق، أساس التوحيد وإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى.


1- آل عمران: 19.
2- الأنعام: 153.
3- آل عمران: 103.
4- الحجرات: 13.

ص: 77

إن هذه الوحدة لهي المخرج مما يعانيه المسلمون اليوم من هوان وذلة، وما تفرق المسلمون اليوم إلا من بعد ما جاءتهم الأفكار الوضعية واتبعوا السبل وترك سبيل الله، فوجهوا سهامهم إلى صدور إخوانهم ونسوا وصية نبيهم في حجة الوداع:

«لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

ألم يحدث أن تقاتلت دول إسلامية سنين طويلة، واستنزفت قواها ودمرت ثرواتها وخربت اقتصادها؟ ألم يحدث أن كثيراً من المسلمين يضرب بعضهم رقاب بعض؟ إن لم يكن بالسلاح فبالكلمة والطعن والغمز واللمز والغيبة والنميمة والعصبية التي قال عنها النبي 9:

«ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من مات على عصبية».

وقال عندما رأى بعض أتباعه يتحدثون عنها:

«دعوها فإنها منتنة».

إن كثيرين يدعون إلى العصبية إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال، وليس هذا من هدي الإسلام ومبادئه وقيمه ولا من تعاليم النبي 9 وأخلاقه الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وخلافاً لما دعا الله تعالى إليه من المحبة والتعارف والتآلف ..

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (1).

وإذا كان هذا بين شعوب مسلمة وغير مسلمة فإنها بين المسلمين بعضهم بعضاً أوجب وآكد. إن التحديات التي تواجه المسلمين اليوم لتوجب عليهم وتفرض عليهم أن يتوحدوا، فالوحدة فريضة إسلامية ..

هذا باختصار شديد أهم الدعائم أو القواعد التي أقيمت عليها وحدة المسلمين، لننتقل إلى مثل عملي رائع لها نعيشه في حياتنا كما عشناه في ماضينا ونعيشه في مستقبلنا حتى يحكم الله تعالى وهو خير الحاكمين:

إنه فريضة الحج المباركة!

فقد جاءت شعائر الإسلام لتؤكد معنى الوحدة، ففي الصلاة يتعلم المسلمون معنى الوحدة ومعنى الجماعة ومعنى الصف الواحد المتآلف المستوي، والاستقبال الواحد لهدف وحيد حيث يتجه المسلمون على مدار اليوم والليلة إلى قبلة واحدة، فالمسلمون في الشمال والجنوب والشرق والغرب كلهم يتجهون إلى الكعبة:

(.. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ..) (2).

وهكذا في كل الواجبات العبادية وفي المستحبات وفي التوجه بالدعاء وفي دفن موتى المسلمين وفي ذبائحهم .. إنه التوجه الخالص نحو القبلة، الكعبة المباركة.

ثم كان الحج إلى بيت الله الحرام إلى المسجد الحرام إلى حيث الكعبة المباركة الجامعة، ليتخذ المسلمون منها ومن أم القرى مكة مكاناً لأداء عباداتهم ومناسكهم ومواطن لدعائهم ومناجاتهم .. وغدت سوقاً علمياً وتجارياً وميداناً لعقد مؤتمرهم سنوياً للتفاهم والتشاور وتبادل الرأي، وكل ما من شأنه أن يحكم روابط الأخوة والوحدة بين المسلمين ..

وما الأذان بالحج إلا دعوة صريحة للوحدة والتآلف والتعاون (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلي ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (3).

وشرع لهم من مناسك الحج ما يجمعهم ولا يفرقهم ويجعلهم يتعارفون في عدة أماكن: وهم يطوفون بالكعبة، وهم يسعون بين الصفا والمروة، وهم يتواجدون في عرفات، ثم المزدلفة فمنى والجمرات، وفي أماكن أخرى للزيارة حيث أضرحة الشهداء والصالحين في مكة والمدينة، وعلى رأسها الضريح الطاهر لرسول الله 9 في المدينة المنورة وأضرحة أئمة أهل البيت: في البقيع .. وزيارة الآثار الإسلامية الأخرى .. كلها تدعوهم وتدعو الأمة للوحدة والتآزر والتآلف .. وما توحيد الزي بين المسلمين في الحج، إلا وصفة أخرى تلغي المزايا وتشعر بعظمة الأمة وتمام وحدتها ..

حقاً إنها الفريضة العبادية الوحدوية المباركة الكبيرة، والتظاهرة الإيمانية الحاشدة والتجمع النادر الرائع المتوفر على أطياف وألوان يوحدهم الهتاف الواحد ويجمعهم المنسك الواحد ويحدوهم الأمل الواحد، وتأخذ بأيديهم الغاية الواحدة وهي الانقياد إلى الخالق الواحد والالتزام بأوامره والابتعاد عن نواهيه وتوحيدهم ضد أعدائهم وشياطين الإنس والجن ..

ولعل من أهم أهداف الشريعة ووظائفها الموكلة إليها من قبل السماء إزاء الساحة المسلمة هو إدخال الأمة عملياً في تجربة التوحيد والوحدة، توحيد الله تعالى ووحدة الصف، لأهميتهما وخطورة التخلّف عنهما، فجاءت فريضة الحج تجربة عملية وميداناً تطبيقياً لهما، غير مكتفية بمجرد الدعوة إلى التوحيد والوحدة وإلى مجرد الحث عليهما، وفلسفة هذا الأمر، أن الشرك وبالذات الخفي منه يمكن أن يتسرب إلى النفوس في أي وقت فتفترق الطرق وتضل القلوب ويقع المحذور في الساحة بعد أن فقدت منبع توحيدها وقوتها وسلامة موقفها ..


1- الحجرات: 13.
2- البقرة: 144.
3- الحج: 27- 28.

ص: 78

ولعل الآية المباركة: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (1) تشير إلى مسألة الشرك الخفي (2).

إذن دواعي الفرقة والاختلاف متوافرة وعلى الدوام فلا بد من استمرار مقاومة تلك الدواعي .. ومناسك الحج التي تتكرر سنوياً تعد أقوى عنصر مضاد وناف لأسباب ودواعي الابتعاد عن الدين وما يأتي تبعاً لذلك الابتعاد من فرقة وتشتت ..

فالمشاعر والمواقيت والمناسك كالطواف والسعي والإفاضتين تلغي أي مظهر من مظاهر الفرقة والتحزب المتأتية من فوارق الجنس واللون والمذهب والانتماء والمكانة السياسية والاجتماعية .. لتجعل منهم أناساً يعبدون الله تعالى ويخلصون في عبادتهم وهم يقفون على صعيد واحد وهم على مستوى واحد، وتقف السماء منهم على مستوى واحد أيضاً، فلا تفرق بينهم في عطائها وأجرها ورضاها ما داموا على مستوى واحد في التقوى، وإن تمايزوا فيها تمايزت أجورهم وهم لا يظلمون.

ومن هنا نفهم مراد وهدف العديد من الروايات عن أهل البيت: التي جاءت تنص على عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج وتحث على وجوب إجبار الناس على الحج، ويحمل بعضها وعيداً لمن عطله:

عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحجال، عن حماد، عن أبي عبد الله 7 قال: «كان علي صلوات الله عليه يقول لولده: يا بني! انظروا بيت ربكم فلا يخلون منكم فلا تناظروا».

وعنه، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن حنان بن سدير، عن أبيه قال: ذكرت لأبي جعفر 7 البيت فقال: «لو عطلوه سنة واحدة لم يناظروا». وفي حديث آخر: لنزل عليهم العذاب.

وعن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن أبي المعزا، عن أبي بصير- يعني المرادي-، عن أبي عبد الله 7 قال: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة».

عن محمد بن علي ما جيلويه، عن عمه محمد بن أبي القاسم، عن محمد بن علي الهمداني، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله 7 يقول: «أما إنّ الناس لو تركوا حج هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا».

وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن ميمون، عن أبي عبد الله 7 قال: «كان في وصية أمير المؤمنين 7 قال: لاتتركوا حج بيت ربكم فتهلكوا، وقال: من ترك الحج لحاجة من حوائج الدنيا لم تقض حتى ينظر إلى المحلقين».

محمد بن الحسين الرضي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين 7 في وصيته للحسن والحسين:: «أُوصيكما بتقوى الله- إلى أن قال- والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا».

محمد بن علي بن الحسين بن بابويه بأسانيده عن حفص بن البختري وهشام بن سالم ومعاوية بن عمار وغيرهم، عن أبي عبد الله 7 قال: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي 9 لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين» (3).

وختاماً:

لا بد لي من أن أذكر بعض معالم التوحيد- وهي تتجلى في جميع العبادات التي تعبدتنا السماء بها- في فريضة الحج، التي تعد ركناً عبادياً مهماً من أركانِ الإسلام وهي ما يدور حولها كلامنا:

- وهذه المعالم أول ما تبدأ بالنية ويشترط فيها أن تكون خالصة لله عز وجل، وعندئذ تكون بعيدة عن الرياء والجاه انطلاقاً من الآية:

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ).

ومن قول رسول الله 9 الذي أطلقه في بداية مناسكه:

«اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة».

- الإحرام، وهو معلم توحيدي ظاهر للجميع، فالكل في لباس واحد عبارة عن قطعتين إزار ورداء أبيضين لا غير، حتى لا يتميز غنيهم ولا سيدهم ولا زعيمهم ولا عالمهم عن غيرهم، كلهم جميعهم سواء، إنه مظهر عملي لتوحيدهم وإشعارهم بسواسيتهم ..

- التلبية، وهي كما قال النبي 9:

«لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ».

وقد جاء صريحاً في حديث جابر الأنصاري في صفة حج النبي 9 أنه قال: «فأهلّ بالتوحيد».


1- يوسف: 106.
2- انظر: الشيخ جوادي آملي في وجيزة في أسرار الحج: 129.
3- انظر كتاب وسائل الشيعة، الحر العاملي رحمه الله تعالى 20: 11.

ص: 79

وهذه التلبية النبوية فيها تحقيق التوحيد، حيث تجعل الله واحداً لا شريك له، بخلاف تلبية المشركين في جاهليتهم حيث كانت تلبيتهم تتضمن الشرك بالله عز وجل إذ كانوا يقولون: «لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك».

- توحيد العبادة في الحج، فقد أمرت الشريعة بالطواف بالبيت سبعة أشواط، انطلاقاً من قوله تعالى:

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

- ركعتا الطواف، فإنه يستحب للحاج أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي الثانية يقرأ سورة الإخلاص، لما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الالوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة، وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة، ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العملي العظيم.

ومن المعالم التوحيدية: السعي بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط ذهاباً وإياباً، وهي بحق مسيرة إيمانية واضحة:

(إِنَّ الصَّفا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (1).

ويسن للساعي أن يقول في بداية كل شوط كلمة التوحيد:

«لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي ء قدير ..» ويقرأ الآية: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ..).

«الحج عرفة» كما ورد، والوقوف في عرفات هذا الوقوف المهيب وفيه أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة:

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي ء قدير».

وقال رسول الله 9:

«خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي ء قدير».

في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك، يأتي هذا الإعلان الصريح لتوحيد العبادة من خلال النطق بهذه الكلمة وتكرارها؛ لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها فيؤدي أعمال حجه خالصة لله من جميع شوائب الشرك.

وهكذا الوقوف في المشعرالحرام وفي منى طيلة أيامها وعبر مناسكها، وما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق من ذكره وحده، قال تعالى:

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقي وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (2).

وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الأعمال العظيمة التي تؤدى في أيام منى، من الحلق أو التقصير وذبح الهدي ورمي الجمار الثلاث وأداء الصلوات في هذه الأيام المباركة ..

قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلي ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (3).

وقال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (4).

ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله؛ لأن الذبح عبادة وإتيان العبادة لغير الله يعدّ شركاً، ولهذا قال جل علاه:

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ) (5).

وكم يحمل هذا المشروع من بر للمحتاجين وإعانة للمستضعفين ومعروف موصول يسدى إليهم، وكم في هذا العمل الواسع الضخم من تأليف للقلوب، وتقريب للنفوس، وتطييب لها، قربت من الأماكن المقدسة أو بعدت عنها! ..

كل تلك من أصول ودعائم التوحيد الذي يستتبعه توحيد الطاقات والصفوف والمواقف، وكل هذه المعالم والمشاريع والأعمال التي تستتبعها الآثار الطيبة التي تتركها على الساحة المسلمة في حاضرها ومستقبلها .. كلها جميعاً تعد مشاريع جميلة جليلة تثمر قلوباً زكية ترفض البغضاء والحقد .. ونفوساً أبية قادرة على البناء والتطور والتوحد ..

حقاً إن الحج جاء كما وصفته سيدة النساء الزهراء 3 تشييداً للدين: «وجعل الحج تشييداً للدين ..» (6).


1- البقرة: 158.
2- البقرة: 203.
3- الحج: 28.
4- الحج: 36- 37.
5- الكوثر: 2.
6- ابن طيفور: بلاغات النساء: 28.

ص: 80

حقاً إنها فريضة ربانية هادفة رائدة، مائدتها زاد دائم، وعطاؤها عطاء غير مجذوذ! ..

ص: 81

شي ء مما قرأته عن الحج

حسن الحاج

هذه مجموعة قراءات عن الحج وحدةً وتآلفاَ وآمالًا وأنشطة وآراء وأقوالا مما وفقني ربي لقراءتها وإعادة صياغة بعضها أو تلخيصها لتكون أكثر مناسبةً وجمعاً ونفعاً، ونحن نطل على ضيافة مباركة في أمكنة مباركة وأيام معدودة، وعبر مناسك مقدسة تضمّها فريضة ربانية دائمة يقوم فيها الناس بعبادة خالصة، عبادة ما أجملها وأعظمها وأطهرها! وقد ارتضتها السماء للناس وحددتها بمفاصل موقوتة ..

إنها فريضة الحج تلك الرحلة المباركة، والمناسبة الميمونة، والسياحة المحمودة، والتجارة الرابحة .. حتى غدت ثمارها يانعة، فوائدها متعددة، بركاتها متنوعة، دروسها مفيدة، أسرارها بديعة، آدابها عظيمة، أخلاقها قويمة، قيمها جمة .. يحسن بالحاج أن يقف عليها، ويجمل به أن يأخذ بها، ليكون حجه كاملًا مبروراً، وسعيه مقبولًا مشكوراً، ونافعاً في إرساء دعائم الوحدة بينهم .. هذه طاقة مما قرأت:

وجيزة تأريخية

في قراءة تأريخ فريضة الحج يتبين لنا مدى الانحراف الذي أصاب سلوك الناس والافتراق والتنازع بينهم حينما انحرفت مسيرتهم عن المسيرة الحقة لمناسك الحج، والغاية التي كان الإسلام يهدف إليها وهو يعيد الناس إلى معرفة تلك المناسك وأدائها كما أرادها الله تعالى، والمتمثلة بوحدتهم ومنفعتهم وبقائهم .. وها نحن نشير إلى شي ء من ذلك الانحراف .. والعلاج الذي أمر به الإسلام ليعود بالفريضة إلى وضعها الطبيعي، لكي يؤدي الحج دوره السليم في تأثيره في الناس تأثيراً إيجابياً يترك بصماته في حياتهم بعيداً عن التجبر والتعالي عن الآخرين مهما كان وضعهم الاجتماعي .. وقد قرأت:

إن فريضة الحج تعود إلى عهد نبي الله إبراهيم الخليل 7، فهو أول من بنى البيت على التحقيق، وأول من طاف به مع ولده إسماعيل 8، وهما اللذان سألا ربهما سبحانه وتعالى أن يريهما أعمال الحج ومناسكه، قال تعالى:

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

إذن تعبد الله تعالى ذرية إسماعيل بهذه المناسك وظلت باقية في العرب إلى عهد الإسلام الحنيف، غير أن العرب لما نسوا التوحيد وداخلهم الشرك، وتبع ذلك تحريف وتغيير في أعمال هذه العبادة، شأنهم في ذلك شأن الأمم إذا فسدت سرى الفساد في نواحي حياتهم، ودب في كل شي ء منها وضلت عقائهم ..

ثم جاء الإسلام ليعيدهم إلى منابع هذه التشريعات ومقاصدها حتى تتحقق لهم منافعها ومنها وحدتهم، وما يستحقونه من الثواب الجزيل حيث قال:

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (1).

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (2).

وكما تدل هاتان الآيتان دلالة واضحة على أن هذه العبادة كانت موجودة قبل الإسلام، تدل أن قريشاً كانت تقف في الحج موقفاً دون موقف سائر العرب الحجاج الذي يقفونه، وكانت تفيض من مكان غير الذي يفيضون منه، وكل هذا كان ابتعاداً عن الأداء الصحيح للمناسك وتعالياً على الناس .. وبالتالي تفقد الشعيرة هدفها ويحل مكانه الفرقة والتشتت.

نعم، ما أن أقر الإسلام الحج، وتمكن من تطبيق مناسكه بعد سنة من فتح مكة (سنة 8 هجرية) أي في السنة التاسعة هجرية حتى أمر المسلمين بالعودة إلى أن يؤدوا مناسكهم بشكلها الصحيح وبالمساواة في الموقف والإفاضة، فقال تعالى:

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

وحيث كانوا يجتمعون في الحج بالموسم للفخر بالأحساب، وذكر شرف الآباء والأنساب، كانوا يذكرون أيامهم وأنسابهم تفاخراً بها .. فأمر الإسلام أتباعه أن يستبدلوا بذكر الآباء ذكر الله ذي الفضل والآلاء .. قال تعالى:

(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (3).

بواعث طيبة

وحتى يحقق الحج غاياته وأهمها توحيد الصفوف المؤمنة وتآلفها .. وحتى يتم كل هذا وغيره من قيم الحج ومنافعه لا بد من الالتفات ثم الالتزام بما يبعث لتحقيق ذلك، ومن تلك البواعث التي قرأتها وأعجبت بها:

أولًا: أن يكون الحاج حريصاً على اصطحاب الرفقة الطيبة التي تعينه على الخير إذا تذكر، وتذكره بالخير إذا نسي، والتي يستفيد من جراء صحبتها العلم النافع، والخلق الفاضل، وأن يرفق بهم، وأن يستشيرهم، وأن يحسن عشرته لهم .. وأن يقوم الإنسان على خدمتهم بلا منَّة ولا تباطؤ،


1- البقرة: 199.
2- البقرة: 200.
3- انظر أسباب النزول للواحدي: الآيتان.

ص: 82

وأن يشكرهم إذا قاموا بالخدمة، وأن يتحمل ما يصدر من الرفقة من جفاء وغلظة ونحو ذلك، وأن يرى أن لأصحابه عليه حقاً، ولا يرى لنفسه عليهم حقاً؛ فذلك من كريم الخلال ومن حميد الخصال، ومما ترفع به الدرجات، وتحط به السيئات ..

وأن يبتعد الحاج عن مشاجرة الأصحاب، ومخاصمتهم، فإن حصل شي ء من ذلك فليبادر إلى الاعتذار، وإذا تعذر الاجتماع فالأولى أن يفترقا؛ لتسلم القلوب، ويتمكن كل واحد منهما من أداء مناسكه دونما تشوش أو قلق، وبعد ذلك تهدأ العاصفة، ويحصل الائتلاف.

وأن يحرص الحاج على ملاطفة أصحابه، وإدخال السرور عليهم خصوصاً الضعفة والنساء ..

وأن يحرص الحاج على الالتزام بالمواعيد، وأن يتلطف بالاعتذار إن حصل خطأ أو تأخير، أو خلل، وأن يتحمل ما يصدر منهم من عتاب إذا هم عاتبوا، وأن يتقبل العذر من غيره إذا هم أخطؤوا بتأخر أو خلل، فذلك دليل سمو النفس، وبُعد الهمة، وحسن المعاشرة، فالعاقل اللبيب الكريم هو من يتحمل أذى الناس، ولا يحمِّلهم أذاه .. وأن يلزم السكينة، ويستعمل الرفق معهم فقد ورد عن رسول الله 9 أنه قال: «أيها الناس! عليكم بالسكينة».

وقال 9 أيضاً: «إن الرفق لا يكون في شي ء إلا زانه، ولا ينزع من شي ء إلا شانه».

وعلى الحاج أن يحرص كل الحرص على راحة إخوانه الحجاج، وأن يبتعد عن كل ما فيه أذى لهم ويحذر أيضاً من أن يكون سبباً في أذاهم، كأن يرفع صوته، أو أن يزاحمهم، أو يضيّق عليهم، أو نحو ذلك.

ومما يجمل به أيضاً أن يحب لإخوانه الحجاج ما يحبه لنفسه، وأن يكره لهم ما يكرهه لنفسه، فيتحمل أذاهم، ويصبر على بعض ما يصدر منهم من زحام، أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة؛ فالإنسان الكريم يصبر على أذى ضيوفه حرصاً على إكرامهم، فكيف بضيوف ربه؟! إن إكرامهم أولى ثم أولى، وإنه لدليل على إجلال الله وتوقيره، وإنه لدليل على كمال العقل، ومتانة الدين؛ لأنه لا أحسن من درء الإساءة بالإحسان.

وأن يحفظ لسانه وذلك بتجنب فضول الكلام، وسيئه، والبعد عن الغيبة والنميمة، والسخرية بالناس، وبالحذر من كثرة المزاح أو الإسفاف فيه، وبصيانة اللسان من السب والشتم.

ومن ذلك أن يحذر الحاج من المماحكة، وكثرة المماكسة، وأن يحذر من المخاصمة والجدال إلا إذا كان جدالًا لإحقاق الحق، وإبطال الباطل بالتي هي أحسن.

وعليه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، كل ذلك حسب القدرة، والاستطاعة مع لزوم الرفق، واللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والرحمة بالمدعوين والتلطف بهم، والصبر على بعض ما يصدر منهم.

وإعانة الحجاج وذلك بقدر المستطاع، كأن يرشد ضالهم، ويعلّم جاهلهم، ونحو ذلك من الإعانات المتعددة.

والاستكثار من النفقة ليواسي المحتاجين، وليرفد إخوانه إذا احتاجوا، وليبادر إلى إعانتهم إذا شعر بأنهم في حاجة ولو لم يطلبوا.

ثانياً: استشعار عظمة الزمان والمكان؛ فذلك يبعث الحاج لأداء نسكه بخضوع لله، وإجلاله له تعالى:

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَي الْقُلُوبِ) (1).

ثم إن ذلك يصبره على بعض ما يلقاه من نصب أو تعب أو أذى.

ثالثاً: على الحاج أن يغتنم وقته بما يقربه إلى الله تعالى من ذكر أو دعاء، وقراءة للقرآن، وذلك في أي مكان من تلك البقاع المباركة، فذلك سبب لمضاعفة أجره، ولانشراح صدره، وإمداده بالقوة والطاقة كفرد، وبالتالي تعم هذه الصفات الجماعة المؤمنة.

حسرات وأماني صادقة!

ها هي وفود الحجيج التوحيدية قد انطلقت .. وها هي جموع الحجيج الموحدة قد حزمت حقائبها، مهاجرة إلى الله تعالى فى رحلة قدسية مباركة .. أفواج تلو أفواج تنسل من بين الأهل والأحباب موليةً وجهها شطر المسجد الحرام .. قد خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، وانخلعوا عن زينتهم متهيئين للقاء الله تبارك وتعالى عبر ضيافة طيبة كريمة، ضيافة أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، إنهم ضيوف الرحمن!! وكلما طهرت هذه المجاميع، كلما اقتربت من مقاصد هذه الفريضة، وأولى مقاصدها هو توحيد الصف الإسلامي والساحة الإسلامية والأمة الإسلامية ..

وها أنا ذا قرأت:

تحت شعار جليل تنطق به جموع الموحدين، وقد راح يدوي في فضاء ساحة الحج:

«لبيك اللهم لبيك» انطلقت القلوب محلقة في سماء الطاعة، لتخفف من أثقال الدنيا .. وما أرق القلوب والأرواح حين تقتبس من أنوار الكعبة المشرفة قبسات وقبسات .. تنفعها وهي تشق طريقها نحو فضاءات الخير والثبات والتعاون والتوحد والتآزر ..


1- الحج: 32.

ص: 83

صديقي العزيز .. أراك تنظر إليهم كاسف البال حزيناً، وقد حرمت من رفقتهم في أطهر رحلات العمر .. وكأني بك تتوق شوقاً لأن تزور بيت الله الحرام، لتتزود من معانيه الكبيرة وأنت تتحرك هنا وهناك داعياً إلى الخير والعطاء .. راغباً في الثواب والأجر .. ولكن أنّى لشاب مثلي ومثلك أن يملك الزاد والراحلة، وهو ما زال فى أوائل حياته يصارع الدنيا وتصارعه ..

نعم .. أشعر بك صديقي .. وأقرأ ما بداخلك من حسرة وألم .. أرى الحزن بادياً على قسمات وجهك .. وأسمع زفرات الأسى تتصاعد من جوفك ..

كم أشفق عليك .. وأكبر فيك حرصك على اغتنام فرص الخير، والتعرض لنفحات المولى عز وجل ..

فهل تريد حقاً أن تنال شرف الحج إلى بيت الله الحرام؟!

وهل ترجو أن تنال أجر الحجيج وأنت قاعد فى مكانك؟!

إن أردت ذلك فاسمع مني تلك البشرى .. إنها لأمثالك ممن حبسهم عذر ضيق ذات اليد، ومنعهم عدم الاستطاعة من رفقة الوافدين على الرحمن تبارك وتعالى.

لما رجع رسول الرحمة 9 من غزوة تبوك قال لأصحابه:

«إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم حبسهم العذر» أي شاركوك في الأجر! إنها النية الصادقة، والعزم المخلص الأكيد .. فلئن كان العذر قد حبسنا، ولئن كان فقدان الزاد والراحلة قد أقعدنا فإن صدق النية مع الله عز وجل هي زادنا وهي رأس مالنا الذي لا ينضب ولا يبور .. ولئن كان الحجيج قد امتطوا رواحلهم، وسافروا بأبدانهم .. فهلم صديقي نسابقهم فى تلك الرحلة النورانية بأرواحنا وهممنا وقلوبنا .. أوما علمت أن الطريق إلى الله تعالى تقطع بالقلوب لا بالأبدان؟!

صديقي ... لئن عجزت عن بلوغ البيت المطهر .. فلا تنسى أن لله بين جنبيك بيتاً لو طهرته لأشرق ذلك البيت بنور ربه وانشرح .. ولئن حبست هذا العام عن الحج .. فارجع إلى جهاد نفسك لا يحبسنّك عنه الشيطان .. ولئن كان البيت الحرام بعيداً عنك .. فاقصد رب البيت الحرام .. فهو أقرب إليك من حبل الوريد .. وعش مع الحجيج بقلبك وروحك فى كل منسك من مناسك الحج.

فإذا أحرم الحجيج من الميقات .. فليحرم قلبك عن كل ما يغضب الله تعالى من حسد وحقد وغل ورياء، واخلع مع الحجيج ثياب الزور والغش والمعصية، وتحلّ بلباس التقوى وطاعة الرحمن (وَلِباسُ التَّقْوي ذلِكَ خَيْرٌ).

وحين يطوف الحجيج بالبيت .. فليعرج قلبك وروحك لتطوف مع الملائكة الكرام حول البيت المعمور مستعلية على سفاسف الدنيا وحقارتها.

وحين يسعى الحجيج بين الصفا والمروة، لا يكفّ قلبك عن السعي على أمر الله تعالى، والقيام بحق عبوديته، متنقلًا من طاعة إلى طاعة ومن قربة إلى أخرى.

وحين يقف الحجيج على عرفات، رافعين أكف الضراعة إلى الله عز وجل، يصعد قلبك على أبواب السماء، ويخر ساجداً لله سجدة انكسار وفقر وتذلل، لا يرفع منها إلى يوم القيامة.

وحين يتزاحم الحجيج لرمي الجمرات .. يرمي قلبك كل ما علق به من وساوس الشيطان وهو أحبسه .. وتطرد روحك كل ما يطاردها من همزه ونفخه ونفثه.

صديقي الحبيب .. أراك الآن وقد تهلل وجهك، وانفرجت أساريرك .. وبرقت عيناك فرحة وسروراً، وكأني بروحك قامت تسابق الحجيج فى أداء المناسك، وتزاحمهم فى كل مشعر من المشاعر .. كأني بك هناك أتخيل شبحك بين الوافدين، أشعر بروحك تتجول في الطرقات والميادين .. أتنسم عبير أنفاسك الطاهرة في كل موقف من مواقف الزائرين.

نسأله تعالى أن يرزقني وإياك حجة مبرورة إلى بيته الحرام، فلعلها ترفع الغل من قلوبنا، وتطهر نفوسنا، وتحسن أخلاقنا، وتجمعنا مع إخوة لنا في أجواء روحية خالصة، وفي تظاهرة إيمانية صادقة على صعيد واحد، تعطي صورة مشرقة لموقف موحد، وتحرك موحد، وشعار موحد، يكون مثلًا واعداً لوحدة أكبر بعيدة عن الفوارق الطبقية واللونية والإقليمية والعرقية، كما هو حال الطائفين والقانتين والركع السجود في موسمنا المبارك هذا!

وثيقة أمن وسلام

الحج فريضة عبادية، ووثيقة أمن، ومعاهدة سلام، تستفيد الأمة منه، وتخرج منه بأكبر قدرٍ من الفوائد والمنافع التي تترك بصماتها القيمة على مختلف نواحي حياتنا، كما تنعكس آثارها ونتائجها على سلوك وعلاقات الإنسان فرداً ومجتمعاً مع من حوله ..

ولعلّ من أبرز الأبعاد لفريضة الحج في هذا الخصوص ما سجلته لكم من قراءة:

ص: 84

إن على كل مسلم يأتي حاجاً أو معتمراً إلى هذه البقاع المقدسة أن يعظم حرمات الله وأن يعرف لهذه المشاعر حقها، فيخلص العبادة فيها لله وحده لا شريك له، وأن يعلم أنه بدخوله الديار المقدسة إنما يدخل في معاهدة سلام مع الوجود كله؛ لأن الله تعالى أمر عباده بأن يكون حرمه أمناً، والمعنى أن من دخله كان آمناً على نفسه وعرضه وماله؛ وليس هذا فحسب، بل إن الحيوان والنبات وما في حكمهما له مكان في هذه المعاهدة الأمنية التي يؤكدها قوله تعالى:

(وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) (1).

وهذا فيه أكثر من بعد تربوي إنساني يفرض على الحاج والمعتمر أن يكون في رحلته إلى هذه الديار المقدسة عاقداً العزم على تعظيم حرمات الله تعالى، وعدم إيذاء من فيها من الكائنات، وما فيها من المكونات ..

لقد جاء الوعيد الشديد بالعذاب الأليم لمن يقترف الخروقات لأمن المقدسات، وما يترتب على عمله هذا من أضرار جسيمة للسلامة العامة، وهو ما جاء في قوله تعالى:

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (2)

وبتحقق الأمن والسلام تخلق أرضية مناسبة لتواد الحجاج وتحاببهم تمهيداً لوحدتهم، التي من أهم عناصر انبثاقها، وبقائها الحب والصدق والأمن والسلام ..

حسن التعامل

الحج عبادة تربوية تعليمية تدخل الإنسان الحاج كشخص وكأمة. في دورة أخلاقية رائعة ليربيّ نفسه ويروضها على كيفية التعامل الواعي مع إخوته المؤمنين، وأيضاً مع نظرائه في الإنسانية، وقد صنف الإمام علي 7 الناس الذين نعيش معهم صنفين حيث يقول: «.. فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق» (3).

وقد قرأت لكم:

في أيام الحج بُعد تربوي أخلاقي يفرض على الحاج والمعتمر والزائر أن يحسن التعامل مع إخوانه، وبالتالي مع من حوله ومع من يتعايش معهم، وأن يتخلّق معهم بالأخلاق الحسنة، وأن يحسن مصاحبتهم ومعايشتهم، وأن يتحمل ما قد يحصل منهم من أخطاء أو نحو ذلك، بأن يتعامل مع الموقف في حدود وضوابط الأخوة الإيمانية التي جمعتهم جميعاً في هذه البقاع الطاهرة ضيوفاً للرحمن في حرم الله الآمن، يطلبون رحمته ويسألونه غفرانه ..

وبعد آخر وهو تربية الحاج على حب الخير للجميع انطلاقاً من مبدأ:

«أحب لأخيك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها».

محبة المسلم لأخيه المسلم هدف فيه ما فيه من السعادة للأمة .. والعمل الدؤوب على إتاحة الفرصة لآخرين من المسلمين الذين لم يسبق أن تيسرت لهم فرصة أداء مناسك الحج والعمرة والزيارة، والذين هم في شوقٍ شديد وحاجة ماسة إلى مساهمة إخوانهم في تحقيق هذا الأمل الذي تنشده أنفسهم، وتهفوا إليه أفئدتهم.

وهذا فيه بعد تربوي ديني اجتماعي يتمثل في تحقيق انتماء الفرد المسلم إلى مجتمعه الإسلامي الذي يعيش فيه، ويتفاعل مع من فيه وما فيه، فيفرح لفرحهم ويتألم لألمهم، وينشط لمساعدتهم في بناء ما يصبون إليه من آمال .. حقاً تتجلى الأخوة الإيمانية خصوصاً في دائرة هذه الفريضة- فريضة الحج- عبر وسائل عديدة، منها تربية المسلم نفسه على حسن التعامل مع إخوانه الذين تربطه بهم رابطة الأخوة الإيمانية المتمثلة في قوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

الحج عبادة أمة

تتجدد فريضة الحج في حياتنا الإسلامية حتى قيام الساعة، ومن قبل ذلك منذ أمر تعالى نبيه إبراهيم 7 أن يؤذِّن في الناس بالحج .. وأمة الإسلام هي أمة الحج، فإذا كان الحج فرضاً على المسلم المستطيع:

(مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) مرةً في العمر، فإنه فريضةٌ سنويةٌ على الأمة في مجموعها العام، فهي أمةٌ تحج كل عام ..

وقد قرأت:


1- آل عمران: 97.
2- الحج: 25.
3- انظر: نهج البلاغه، مما كتبه لمالك الأشتر.

ص: 85

هو مؤتمر المسلمين الشعبي الأول، ولعله المؤتمر الشعبي العالمي الأوحد الذي يتكرر في سنواتنا الأخيرة بنفس العدد وحجم التجمع- بعد تحديد أعداد الحجاج سنوياً- وفي كيفية اللقاء وقدسيته، وهو مؤتمر شعبي حقيقي حاشد، تُخرج فيه الشعوب سفراءها الحجيج ليتلاقوا ويجتمعوا ويتعارفوا ويتآخوا تمسكاً بالآية الكريمة: (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (1).

وهو مؤتمر عالمي موسع، لا يقتصر على إقليم جغرافي دون إقليم، أو قارة دون قارة، يحضره سفراء الشعوب من كل قارات العالم ودوله، ويمتد التمثيل الشعبي فيه ما امتدت رقعة الإسلام في كل بقاع الأرض، ولا يقتصر في ذلك على العالم الإسلامي ودوله؛ إذ يلتقي فيه المسلم الأسترالي مع المسلم الأمريكي، وكذا المسلم الأوروبي مع المسلم الهندي والمسلم العربي .. فهو مؤتمر يتجاوز بطبيعته الآفاق السياسية؛ لأنه مؤتمر شعبي بقرار رباني، ويتجاوز الحدود والفواصل الجغرافية، ويتجاوز كذلك الإطار الإقليمي للعالم الإسلامي.

فليس الحج عبادةً فرديةً يخرج فيها كل مسلم متجرداً إلى ربه يؤدي المناسك ثم يعود من حيث أتى، ولكنه عبادة جماعية واجتماعية كبرى، ومناسبة ضخمة للتجمع؛ من أجل هذا حدَّد له المولى- عزَّ وجل- أياماً وأوقاتاً معلومةً ومحددةً بكل دقة ليجتمع كل الحجيج في لحظة واحدة في صعيد واحد .. الأمر الذي يتحقق في أجلِّ صورِه في يوم الحج الأكبر عند الوقوف بعرفة؛ ولعل هذا الاجتماع الفريد المتجدد واحدٌ من تلك المنافع الكبرى للحج التي نكَّرها المولى- عز وجل- في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (2)، لتشمل كل منفعة كبرى تعود على الأمة وعلى الحجاج فرادى وجماعات.

معادلة جميلة بين التوحيد والوحدة

موسم الحج موسم حاشد، ومؤتمر جامع، ومناسبةٌ مركزة واعية لإعلان التوحيد، هو موسم التوحيد الخالص، شعاره الخالد «لبيك لا شريك لك»، موسم تلتقي فيه الأرض قاطبةً بالسماء على التوحيد عبر ممثليها المحتشدين بالمشاعر المقدسة وعبر ذويهم المعلَّقة قلوبهم بتلك المشاعر، وبإخوانهم الذين سبقوهم إليها، ما أروعه من موسم .. وما أجملها من أيام تلك التي تنطلق فيها الألسنة من كل حدب وصوب تعلن كلمة التوحيد، وترتبط فيها القلوب بإله واحد، وتتطلع فيها العيون إلى السماوات العلى، وترتفع فيها الأكفُّ إلى خالق السماوات والأرض؛ طلباً للرضا والقبول، ليكون مؤتمر التوحيد الحاشد في مكة مركز الأرض، بينما تنطلق أشعة شمس التوحيد منها إلى دائرة محيطها ألا وهو محيط الأرض كلها ..!! لتتعلم من ذلك كيف تتوحد صفوفها، وتتفق كلمتها، وتتعاضد أيديها ..

وهذه قراءتي

ويجب أن يكون موسم التوحيد الخالص هذا موسم التوحد، محققاً لمعادلة قرآنية:

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).

لقد ربط الله تعالى بين وحدانيته وبين وحدة الأمة، فالأمة المسلمة أمة واحدة عمادها الأول توحيد الرب تعالى وإفراده بالعبادة، والأمة التي تجتمع على أسمى معنى تلتقي عليه الإنسانية، بل يلتقي عليه أقطاب الكون جميعاً .. من ملائكة وجن وإنس ودواب وشجر وحجر .. وهو معنى توحيد الله وإفراده بالعبادة:

(وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (3)

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

هي أمة يجب أن توحدها عظمة الغاية وشرفها؛ امتثالًا لأمره تعالى:

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (4).

وأن تحقق معنى الأخوة الإنسانية الإسلامية تحقيقاً لقوله تعالى:

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (5).

والوحدة والأخوة الإسلامية العالمية تتجلى في أبرز صورها وأعظم مظاهرها في فريضة الحج .. تتجلى بين الشعوب في شعاب مكة والمدينة، ولو تآكلت أو بهتت صورتها على الصعيد السياسي والرسم.

في موسم الحج نلمح معنىً من معاني قوله تعالى:

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (6).

إن الألفة الإسلامية والرباط الإسلامي حقيقة حتمية خلقها المولى عز وجل الذي أمرُه بين الكاف والنون، حقيقة كونية ثابتة، مثلها مثل حقيقة الخلق والحياة والموت .. حقيقةٌ واقعةٌ لا تحتاج إلى قانون ولا إلى جهد بشري .. انظر إلى تآخي المسلم مع المسلم في موسم الحج، ثم انظر إلى السياسات العالمية، والأموال المتدفقة لفصم تلك العلاقة الحتمية الأبدية تجد نفسك تُردد قوله تعالى:


1- الحجرات: 13.
2- الحج: 28.
3- الإسراء: 44.
4- آل عمران: 103.
5- الحجرات: 10.
6- الأنفال: 63.

ص: 86

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلي جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (1).

هكذا ينبغي أن تكون

في مناسك الحج ومواقفه حققت الأمة- وهي تؤدي تلك المناسك المباركة- وحدتها العاطفية ووحدتها العقائدية والأخلاقية وأخوّتها الإسلامية بفضل من الله عز وجل دون تعب منها ودون مشقة، فهل تستفيد الأمة من هذه النعمة الربانية الكبرى وتنطلق من هذه إلى وحدة أخرى ..؟

وقراءتي عن هذا:

هكذا ينبغي أن تكون الأمة أن تنطلق مما أنعم الله تعالى عليها من توحيد عقيدتها إلى أن تتوحد في الأهداف العليا لحياتها وفي غاياتها الكبرى وإطارها العام؛ بحيث يؤمن الناظر إلى الأمة المسلمة على امتداد جغرافيتها واختلاف حدودها ولغاتها وألوانها .. أنه أمام أمة واحدة القصد والهدف والتوجه والمصير والمصلحة، لا يمكن ضرب وحدتها ولا تضاد مصالحها ولا اختلاف منهج التلقي الأول لديها ولا تحويل أصولها وثوابتها، ولا ضرب بعضها ببعض؛ لأنها تسير في مسار واحد نحو هدف واحد وإن تعددت السبل وكثرت المنافذ واختلفت الوسائل والآليات ..

فهذا التعدد حاله حال النفرة إلى عرفة وهو نموذج رائع يعد هدفاً واحداً محدداً تتعدد له الأساليب وتكثر الطرق وتختلف الوسائل، فمن يأتي عرفات ماشياً ومن يأتيها راكباً، فالطرق إلى عرفة عديدة لكنها كلها تصب في الموقف في الهدف المراد ..

كما أن الأمة الإسلامية لا تستطيع أن تحقق وحدة الدولة والكيان تحت راية واحدة قبل أن تحقق وحدة الهدف ووحدة المصير ووحدة الشعور ووحدة الاقتصاد ووحدة الشعوب ووحدة المصالح ..

وما سقوط الدولة الإسلامية وتفرق شعوبها إلا بعد أن فقدت هدفها وتآكل النفوذ الروحي الذي يجمع المسلمين، ويوم تحقق الأمة وحدتها الفكرية ورباطها الروحي القائم- بعد وحدة العقيدة والشعور- على وحدة المصالح والمصير، تستطيع أن تحقق بذلك عودة القوامة الفكرية والاجتماعية للأمة، وهي أهم وأعمق بكثير من الخلافة السياسية الرمزية التي ترمز في النهاية إلى وحدة الكيان الإسلامي ..

وهو دور تستطيع أن تنجزه الأمة من خلال شعوبها وعلمائها وكوادرها الفاعلة في مختلف المجالات وإن اختلفت أهواء الساسة ومشاربهم .. وليس هناك مناسبة أضخم من موسم الحج لتحقيق هذا الأمل، فالأمة باعتبارها الكيان المدني الذي يقابل السلطة أو ما يعرف في العصر الحديث بمصطلح مؤسسات المجتمع المدني، هي وحدها المؤهلة للقيام بهذا الدور ..

جديد القراءة

إن الحديث عن العبادة وعن الشعائر والمناسك وما يتعلّق بها غدا حديثاً ناقصاً وقد يكون مملًا لدى الكثيرين ... لأنه حديث توقف أو كاد عند عتبة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، أو تحت مظلّة الشكليات التي تقيم هيكل العبادة دون أن تبثّ الروح فيها فهو غدا حديثاً بلا روح ... ممّا أورث تصوراً خاطئاً عن العبادة يتلخص أنها- أي العبادة وما يتعلق بها- صارت أشبه ما يكون بالطقوس في الأديان الاخرى ...

ومن هنا ينبغي إعادة قراءة هذه العبادات والشعائر، قراءة تستوحي معانيها الجميلة، وأهدافها التربوية، وأبعادها النفسية، ومفرداتها العملية، ووظيفتها التربوية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية ... وأصبحت ضرورة يلح الواقع الإسلامي بل الإنساني عليها ..

وقد قرأت لكم:

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا).

التعارف بشكله الواسع والمتصف بالديمومة سنوياً لم يكن ليقع لولا التزام المسلمين بهذه الشعائر، ولولا تلبيتهم لنداء السماء المبارك لأداء فريضة الحج؛ ذلك أنّ في تعارف الشعوب الإسلامية وتبادلها الآراء وطرحها لمشاكلها ما يقرب شقّة الخلاف إن كان هناك خلاف، وإذا انعدم الخلاف، عمّ التفاهم، ووحدت الغايات، واتحدت المناهج.

إن النهوض بالشخصية المسلمة الواعية بما تتركه من آثار في النفس الإنسانية، وبالمجتمع الإسلامي بما تمليه من قواعد تنظيمية وتكافلية وتضامنية، أمر مطلوب وملح ... فمعرفتها بالصورة المقنعة المتوازنة بين الطرح المتكرّر والمفرط لشكلياتها ... وبين الجانب الغائب ما وراء هذه الشكليات جدير بأن يعزّز المسير في اتجاه الوعي الإسلامي النهضوي المتوازن والمتكامل.

ومما يؤكد هذه القراءة وضرورتها أنها تمثّل قراءة وفهماً لركن أساسي من أركان الإسلام، إذ إن الحج يعد ثورة موظّفة لمعنى يتجلّى من وراء تقنينها بالسلوكيات والشكليات والرمزيات ... ثورة ضد التقليد الذي يسير عليه الإنسان بجميع أشكاله ليعيش نمطاً جديداً من الحياة في أيام، فحمل من إيحاءاتها ما يثقل وزنه في سلوكه ووجدانه ...

فمثلًا عبر هذه الممارسة يتأكد عنده الرغبة الجادة في فهم واع لمن حوله من أجناس البشر تمهيداً للتفاهم معهم فبناء أواصر المحبة والمودة كأسس لوحدة الكلمة والموقف، وكتعبير محسوس عن هذا الاندماج بغيره من إخوانه تخليه الواعي الممنهج عن اللباس والطيب وأسباب الزينة وملذّات الدنيا ...


1- الأنفال: 36.

ص: 87

وليس رداءً وإزاراً أبيضين غير مخيطين يمثِّلان الاستسلام لله طواعية، قبل الاستسلام له كراهية عند الموت في لباس شبيه ...

إقبال على الله بفتح صفحة جديدة من العمل محفوفة بالأمل الذي لا يلغي من حسبانه ساعة الموت، الذي هو صفحة جديدة أيضاً ولكن من حساب قديم ...

والمناسك التالية لهذه الخطوة تأكيد لها، وتسديد لمستقبلها المنشود في حياة جديدة منتظمة قائمة على منهج الله، وتكرس في نفس صاحبها روح الخير والبذل والعطاء من خلال ما يغدقه الحاج في سبيل هذه الفريضة ومناسكها، وتعود على النظام والجدية والمسؤولية في الحياة بالتزامه بنظام دقيق شامل لجميع شؤون الفرد لباساً وطعاماً وجسداً وزماناً ومكاناً ومجتمعاً ...، إنّها «حركة شمولية ذات أبعاد تربوية حقيقية، استعملت فيها أساليب الحسبة والتجريدية والممارسات التجريبية بكل ما تعني من عمق في قدرة الحج على التغيير بطريقة تخلو من كل السلبيات في العملية التربوية على العموم ... فالحج فريضة متعددة الجوانب والاطر: إجتماعية، تربوية، سياسية، علمية، عقلية، وجدانية، بدنية، فنية ..».

إن الحج تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام، فقد أراد دين الله أن لا تكون تعاليمه ومبادؤه مجرد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعبادته وشعائره ربطاً وثيقاً، حتى تكون سلوكاً تطبيقياً في حياة المسلم وفي علاقته مع الآخرين .. يتضح ذلك من خلال كل أنشطة وفعاليات هذه الفريضة، بدءاً بالإحرام ونيته مروراً وانتهاءاً بالمناسك الأخرى ..

إذن، الحج ثورة على ما اعتاده الناس القادمون لأداء هذه الفريضة، كما أنه ترسيخ لقيم التواضع والمحبة والمساواة والتعاون، وهذه كلها أعمدة الوحدة بينهم باعتبارهم شريحة واسعة جمعتها هذه المواقف والمناسك، وبالتالي يسجلون لأنفسهم أنهم النموذج لتعاون أكبر وتآلف أوسع في الإطار الإنساني الأشمل ..

لمكة وللحج والحاج كلمة

وفي ختام هذه القراءات المنتقاة والمختصرة، أرى من الضروري أن اختم هذه بقراءة أخيرة لمشهد الحج ومهامه وآفاقه المأمول تحققها أو على الأقل الإعلان عنها بشكل صريح وواضح ومسموع من قبل جميع من في الأرض، خصوصاً ونحن في عصر يكاد يكون العالم قرية واحدة بفضل وسائل الاتصالات التي دخلت كل بيت، بل ولا تترك شاردة ولا واردة إلا ووضعت يدها عليها صورة وصوتاً ..

دعوا مكة تقول كلمتها، ودعوا الحج يقول كلمته، ودعوا الحاج يقول كلمته ومن هو أكثر جدارة من مكة مكاناً، ومن الحج مناسك وأهدافاً، ومن الحاج نفسه الكادح من أجل الله تعالى وثوابه ومغفرته ورضوانه .. أن ينطق بكلمة؟! وهذه قراءتي الأخيرة أرجو أن أكون موفقاً فيها وفي قراءاتي التي خلت:

ومن أجدر من مكة أن تكون لها هذه الكلمة كل عام، وهي التي تحتضن أعظم وأقدم وأخلد مؤتمر سنوي عالمي، يتوافد إليه الناس من كل جنس وعرق ولون؛ رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، منذ أذَّن فيهم بالحج إليها أبو الأنبياء إبراهيم

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) (1).

ومن غيرها أولى وهي تضم (وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) جعله الله حراماً ليكون للناس قياماً:

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) (2).

وليكون لهم مثابة وأمناً (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) (3) يقيمون فيه مؤتمرهم السنوي، مخبتين إلى الله، متحدين تحت لواء أصلهم الإنساني الواحد، متبرئين من كل ما يمكن أن يفرق بينهم من لون أو عرق أو لسان أو مال، أو لباس، أو رياش؟! ومن غير المسلم الحاج يملك خطاباً إنسانياً شاملًا، مرتكزاً إلى قيم ربانيةٍ تهفو إليه الفطر الإنسانية السليمة، لا يصدر عن شخصٍ مهما علت مكانته الدينية أو السياسية أو الاجتماعية، ولا عن هيئة أو حزب أو سلطة مهما كانت صفتها محلية أو إقليمية أو دولية، إنما يصدر عن مؤتمر شعبي عالمي عريق راسخ لا يخضع لشي ء من مؤثرات الزمان والمكان؟ وهل يحتشد مليونا مسلم كل عام في مكة، يهرعون إليها من كل أنحاء الأرض يتكبدون لها المشاق والمتاعب والنفقات، لمجرد أداء طقوس تخصهم، بمعزل عن القضايا الإنسانية الكبرى؟! أهكذا كان حج رسول الله 9 يوم خطب الناس فحرم دماءهم وأموالهم، ووضع عنهم ربا الجاهلية، وأوصاهم بالنساء خيراً، فتناولت خطبته أخطر جوانب حياتهم التشريعية والاقتصادية والاجتماعية؟ (4)

أليس في تجاهل المشكلات التي تعاني منها البشرية- ما كان منها متعلقاً مباشرة بالمسلمين، وما لم يكن له بهم علاقة مباشرة- بعداً عن مقاصد الحج التي قدم الله تعالى فيها شهود المنافع على ذكر اسمه: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) ونكوصاً عن أداء المهمة التي أناطها الله تعالى بالمسلمين، إذ جعلهم أمة وسطاً وأشهد عليهم الرسول 9 ليكونوا بدورهم شهداء على الناس: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (5).

ثم هل تضاءلت المعاني الكبيرة للحج، والمثل العليا التي ينطوي عليها، والرموز السامية الرفيعة التي يحفل بها، لتقتصر على خبر عابر عن فريضة الحج وانعقادها لا يحرك في المشهد الدولي ساكناً، ولا يبلغ رسالة الإسلام جاهلًا، ولا يصحح من ضلالات الإعلام العالمي خطاً، ولا يحقق للإسلام والمسلمين في المحافل الدولية حضوراً؟ وتتوالى مواسم الحج عاماً بعد عام، وتنفتح الثقافات الإنسانية على بعضها إثر ثورة الاتصالات العارمة التي أخذت تغمر العالم بالمعلومات، وتضعنا على تماس مباشر مع جميع الثقافات .. فيكبر السؤال: ألم يأنِ أن يكون لنا منبر نبلغ منه رسالتنا ونوضح قضيتنا، ونصحح المفاهيم المغلوطة عن ديننا؟ وهل غير الحج ذي القيم الكثيرة والمبادئ العالية والأهداف الكبيرة التي هي


1- الحج: 28.
2- المائدة: 97.
3- البقرة: 125.
4- انظر خطبة رسول الله 9 في السيرة النبوية 25: 4؛ حجة الوداع وفي غيرها من المصادر.
5- البقرة: 143.

ص: 88

بمتناول العديد من الحجاج المفكرين والقادرين والناشطين، كما أنها متيسرة بشكل أو بآخر للكثيرين من المسلمين الحجاج وحسب مستوياتهم .. يصلح لأن يكون هذا المنبر؟ آن أوان تبليغ رسالة الإسلام إلى العالم أجمع- من أسلم نفسه منه لله ومن لم يسلم- وأن ندوة الحج هي المنبر، وأن موضوعها السنوي المتخذ- بشي ء من التطوير- هو الرسالة. لا شك أن تحقيق هذا الحلم الطموح تعترضه صعوبات جمة.

فالناس المخاطبون، تختلف ألسنتهم وألوانهم وأمزجتهم ودياناتهم، ومستوياتهم العلمية، واهتماماتهم الثقافية، وخصائصهم البيئية .. ولكن الداعية المسلم الواعي نفسه وبمؤسساته العلمية المتطورة والقدرات الواعدة يمتلك أكثر أنواع الخطاب قدرة على النفاذ إلى قلوب جميع الناس، واستنهاض فِطَرهم السليمة، للقيام بسعي إنساني مشترك من أجل إقامة العدل ورفع الظلم وتحرير الإنسان من ربقة شهواته وأثرته، انطلاقاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أناطه الله تعالى بخير أمة:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (1).

وبهذا وبغيره نعرف أي منبر نرتقيه، وأي مناسبة نعيشها ونستقي منها معارفنا .. وأي جمهور نخاطب، وأي عدد يمكن أن نبلغه رسالة الحج بالبلاغ المباشر الحي عن طريق الفضائيات، وبالبلاغ المنقول في الأثير عبر أجهزة الإعلام المتنوعة مكتوبة ومرئية ..

وعن طريق الحجاج العائدين وهم كثر إلى أوطانهم وأهاليهم أيضاً، فالحجاج قادرون على أن يكونوا مبلغين ناجحين لرسالة الحج ولرسالة الإسلام لأسرهم وأبناء بلدتهم وقبائلهم «فرب مبلَّغ أوعى من سامع ..» وعلينا أن لا نستهين بأي جهد مهما صغر ..

ولعرفنا بعد ذلك أي تفريط بحق منبر الحج نرتكبه في عدم توظيفه التوظيف الأمثل والأجدى .. وأي مسؤولية نتحملها جراء تقصيرنا في تبليغ رسالة الله تعالى إلى الإنسانية الظمأى إليها، التي لم تكن في يوم من الأيام أحوج إليها من أيامها هذه التي تغرق فيها في بحر الأنانية المادية الشهوانية وضلالاتها، التي ابتعدت بها عن طريق الله تعالى، وأبطأت بها عن وتيرة الكدح الإنساني المرسوم للإنسان في سعيه للتحرر من الفساد وسفك الدماء

(يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلي رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (2).

ونتحملها كذلك كتماناً للشهادة التي ائتُمنا عليها

(وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (3).

ونتحملها صمتاً مطبقاً إزاء الحملات الإعلامية المغرضة التي يشنها أعداء الإسلام عليه، يلبسون بها الحق بالباطل، ويستهدفون تشويه تعاليمه السمحة، وطمس حقائقه الناصعة:

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَي اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (4).

(كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) مظهر الحج نموذجاً!

إن الحجّ إذا ما أداه الحاج المؤمن كما هو مرسوم له من قبل السماء وكما هو الحج الإبراهيمي الصحيح، فلا نستغرب إذا ما استعنت بهذا التشبيه الرائع الوارد في الآية المباركة: (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).

فأقول: إنه يمكن أن يستفاد منه في وصف المؤمنين وهم في مواقف الحج وساحته بما يحملونه من قيم السماء بأن يكونوا كما هم في ميادين جهادهم لأعدائهم، وكما ينبغي أن يكونوا في ساحات القتال بنياناً مرصوصاً، بنياناً متيناً بقيمه ومبادئه أن يكونوا- هكذا- صافين أنفسهم متضامنين متكافلين متماسكين محكمين في أخلاقهم ومواقفهم وآرائهم وأهدافهم كأنهم قطعة واحدة فقط لا اثنتين أو أكثر، لا فرجة فيها تخترق، ولا ثغرة فيها تستغل من قبل الآخرين أو تعطي صورة سيئة لهذا المشهد، وهو يعيش معناه العبادي الواسع ..

إنه بنيان أخلاقي دقيق نظيف لأمناء منهج السماء في الأرض ينأى هذا البنيان المبارك بنفسه عن عصبيات عديدة عصبية اللون وعصبية الجنس وعصبية القبيلة والعشيرة والنسب وعصبية المال والجاه .. ويعد هذا حلقة من حلقات التربية الصالحة السليمة للحجاج، وهم يمثلون أمتهم الأوسع والأكبر في كل موسم حج، ففريضة الحج تجربتهم التي من خلالها يمارسون عملياً ذلك البنيان ويتدربون عليه، والحج كما نعلم دورة تدريبية لكل معاني الدين ومفاهيم الحياة ...

لعلي أكون موفقاً في اختياري واقتباسي عنواناً من الآية الكريمة الرابعة من سورة الصف- التي سميت السورة بالصف انطلاقاً من الآية المذكورة وتأكيداً على أهمية الصف المتماسك- لوصف ما هو مطلوب ويهدف إليه من قبل مناسك الحج ذات المظاهر الوحدوية العديدة، وهي ما أكثرها وأعظمها مظاهر الوحدة في موسم الحج وهي تتجلى في كل مواقيته ومناسكه وأنشطته ..

فإضافة إلى أن موسم الحج بحد ذاته أيامه رائعة جميلة وملتقى تعارفي جليل نافع فهو يبني هيبة له في النفوس، وجلالة له في القلوب، ويشكل مسيرة نادرة قلّ مثيلها بل انعدم، ويترك مظهراً رائعاً للحجيج وهم يقفون تلك المواقف المهيبة، وقد اتحدوا مكاناً وزماناً ولباساً .. وهم يتحركون جميعاً من ميقات إلى آخر، ومن منسك إلى آخر، ومن منزل إلى آخر، ومن أثر الى آخرفالمشاعر والمواضع كلها هدف لوحدة المشاعر وهدف


1- البقرة: 110.
2- الانشقاق: 6.
3- البقرة: 283.
4- الصف: 8.

ص: 89

للتوحيد. وقبل أن نستعرض ما في هذا الموسم وهذه الفريضة مما يتيسر لنا من مظاهر وعوامل توحيد الصف، لا بد من كلمة أضيفها إلى ما ذكرت:

إن مما لا ريب فيه أن الاجتماع والاتفاق توحيد للصف وسبيل إلى القوة والبقاء، وأن التفرق والاختلاف تمزيق للصف وطريق إلى الضعف والانهزام، ولا خلاف في أنه ما ارتفعت أمة من الأمم وعلت رايتها إلا بتوحيد صفوفها وتوحيد جهودها والتعاون والتلاحم بين أفرادها ..

وهنا نحاول أن نلقي أضواء على فريضة الحج، وهي- وكما نراها- خير دليل على وحدة الصف المؤمن، الذي يظهر لنا وهو يؤدي مناسك الحج المتعددة وكأنه فعلًا بنيان مرصوص لا تجد فيه خللًا ولا شائبة ولا نقصاً، ما أروعه من كيان متماسك متين، وما أجله من جمع هائل تباركه العقول، وتهابه النفوس، وتهتز له المشاعر والعواطف فخراً واعتزازاً ..

تعال معي أخي المؤمن! حتى نرى ما يحمله الحج من معان جميلة استحق معها أن يحتل المكانة الأكبر والمنزلة الأعظم دينياً وأمنياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ... ليؤسس رصانة في المواقف، وثباتاً في المبادئ، وعظمة في المظاهر الموحدة ..

فالحج بداية (نموذج) يعد مبدءاً عظيماً يدور حول إطاعة الله سبحانه وتعالى والرسول 9 لأن هذه الطاعة هي أساس كل خير للأمة، وبداية كل خير، وأول الخير هو وحدتها .. والآيات القرآنية والسنة النبوية الشريفة تدعو إلى تلك الطاعة، وتحذر هذه النصوص من الاختلاف والتنازع، لأن هذه الأمراض إن وقعت تنخر كيان الأمة وتجعله هشيماً متفتتاً، قال تعالى:

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (1).

وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال:

«كان رسول الله 9 يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم».

والحج يشكل في كل عام موسماً عبادياً عظيماً، تتجسد فيه تلك الطاعة لله سبحانه وتعالى ورسوله 9 عبادة وأخلاقاً وسيرة، وتنبثق بسببها وحدة المسلمين وقوتهم في أحسن مظاهرها وأبهى حللها، حيث تذوب الفوارق، وتتلاشى الحواجز، ويجتمع المسلمون في مشهد رائع أخاذ، يبعث على السرور، ويسعد النفوس، ويبهج الأرواح والقلوب.

والحج كما صر ح القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة، إلى جانب كونه عبادة وتقرباً إلى الله سبحانه، وإلى كون العبادة ظاهرة واضحة تحيط أجواءه وساحاته ومعالمه، فإنه لا يلغي ولا يقلّل ما يتضمنه من منافع اجتماعية وفوائد ثقافية، واقتصادية، وسياسية، وتربوية، تساهم في بناء المجتمع الإسلامي، وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حل مشاكله، وتنشيط مسيرته .. بل على العكس يوجدها وينميها ويدعو إليها ويحث عليه ..

والحج يذكرنا بمن سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله تعالى ورسله صلوات الله تعالى عليهم، ويذكرنا بعباده الصالحين وبالشهداء؛ ويتذكر الصحابة الغرّ المنتجبين رضي الله عنهم، وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين الحنيف. فيشعر كل منا بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون. ويتذكر أن هذا البيت الذي يطوف حوله، والمسعى الذي يسعى فيه، والمعالم الأخرى ما كانت لتصل إليه لولا إرادة الله عز وجل وجهود الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين ..

والحج موسماً وفريضة هو ذلك النموذج الفذ، والذي يعد مظهر وحدة المسلمين وقوتهم، فهم يشهدون في موسم الحج أروع مظاهر المساواة والتواضع والأخوة الإنسانية، عبر إلغاء كل ما من شأنه التميز والطبقية والتعالي، وعبر خلع أسباب الظهور الاجتماعي كالأزياء مثلًا ثم الظهور باللباس العبادي الموحد، حيث يحس الجميع أنهم بلا فوارق وبالتالي يحسون بوحدتهم وبالأخوة والمساواة ..

والحج تظاهرة إيمانية رائعة تشترك فيها صنوف متعددة من الأجناس والفئات والطبقات والقوميات على موعد واحد، وفي أرض واحدة، يرددون هتافاً واحداً، ويمارسون شعاراً واحداً، ويتجهون لغاية واحدة، وهي الإعلان عن العبودية والولاء لله وحده، والتحرر من كل آثار الشرك والجاهلية، بطريقة جماعية حركية، تؤثر في النفس، وتشبع المشاعر والأحاسيس بالإيمان وآثاره، وبمداليل التوحيد وثمارها ..

والحج يستشعر فيه المسلمون وحدة البشر ووحدة الأرض، فتنهار بينهم الحدود التي صنعتها الأنانيات والأطماع الإقليمية والقومية والعنصرية .. فهم يأتون من كل فج عميق، من كل طريق بعيد ومكان ناء، يقطعون آلاف الأميال، ويخترقون كل الحواجز والحدود والبحار والمحيطات، ويجتازون كل الموانع التي صنعها الأعداء على أرض الله سبحانه وتعالى، استجابة لنداء العقيدة، وتلبية لهتاف الإيمان، وتلبية لدعوة شيخ الأنبياء إبراهيم 7 الحية الباقية الخالدة ..

والحج يلتقي فيه المسلمون بمؤتمرهم الكبير، فيتذاكرون في شؤونهم، ويتشاورون في أمور حياتهم وعقيدتهم، ويتبادلون الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة، ويتعرف بعضهم على مشاكل بعض، ويطلع بعضهم على رأي بعض، ويتعرف بعضهم على أخبار بعضهم الآخر، فيزداد الوعي، وتنمو المعرفة، وتشحذ الهمم من أجل الإصلاح والتغيير والاهتمام بشؤون الأمة والعقيدة، فتخطط المشاريع، ويفكر في الأعمال، وتؤسس المراكز الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويستعين بعضهم ببعض، وكأنهم جسد واحد، وروح واحدة، وكيان واحد ..

فللحج إذن وقت محدد، ومكان معين، ومناسك وإن تعددت فهي واحدة، وزي موحد ونداء واحد، يجتمع فيه المسلمون ليؤدوا فيه مناسكهم، وقد تحدث عن هذا القرآن الكريم:


1- الأنفال: 46.

ص: 90

(أَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (1).

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ).

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

هكذا إذن حددت الآيات زمناً وعينت مكاناً لهذه الفريضة المباركة، وهما يشكلان وغيرهما مظهراً مهماً من مظاهر الوحدة، فتوحيد الزمن والموضع من توحيد الهدف.

كما أن الكل مطالب بأداء مناسك الحج من أماكن محددة بدءاً بالإحرام من المواقيت المعروفة من غير تجاوز، والطواف بالبيت المحدد دون غيره، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة، ثم المزدلفة والمبيت بمنى ليلتين أو ثلاثاً لأداء أعمالها من الذبح والحلق أو التقصير ورمي الجمار ...

لا فقط إذن الظرف الزمني محدد والظرف المكاني معين والمواقيت، بل حتى المناسك والأنشطة التي يكلف بها الحجاج هي الأخرى محددة، فكلهم يقومون بنفس الأعمال مما يجسد ويعمق المساواة بينهم، تمهيداً لبناء الأخوة والمحبة، ويجعل الوحدة بينهم متجددة في كل ساعة وفي كل مكان وفي كل عمل يقومون به ويؤدونه، وتعيش معهم في كل خطوة يخطونها وفي كل ساعة يقضونها .. وبالتالي جميع هذا يعد دليلًا على الترغيب الملح، والتشجيع في توحيد الصفوف وتحقيق ما في الوحدة من قوة وصلابة ..

الحج- كما هو واضح من وظائفه ومهامه وأهدافه- يفسح المجال ويعطي الفرصة ويهيؤها للمسلمين لمواساة بعضهم بعضاً من خلال لقاءاتهم المتكررة، وتقارب آمالهم وآلامهم وهذا مقوم مهم لقوتهم ووحدتهم .. وهذا أيضاً من مظاهر هذه الفريضة المباركة.

الحج يعد موسماً كبيراً واعياً رائداً واعداً لاجتماع العلماء والمفكرين والدعاة إلى الله والمصلحين، وهم أهل الذكر والفكر وهم القادرون على التشاور بينهم، لأنهم الأجدر في البحث بشأن هموم الدين ومشاكل الأمة والعمل على إيجاد حلول لها وجمع شملها، والبحث في الوسائل والأساليب المعينة على ذلك ..

والحج موسم لاجتماع الأغنياء بالفقراء، والعمل على مواساتهم والتعرف على آلامهم وحاجاتهم ثم التخفيف عنهم، مما يجسد مبدأ التضامن والتلاحم بين أفراد هذه الأمة المرحومة ...

الحج تواجد واعد في تلك البقاع المباركة لأيام وإن كانت قليلة، ويعد اختباراً لآمال الأمة وإرادتها وبوتقة لأنشطتها ولما يشغل بالها، حيث يتطلعون جميعاً إلى عهد زاهر تتظافر فيه جهودهم، ليشكلوا وحدة شاملة، ترفعهم فوق الأمم، وتعيد لهم تلك الريادة والسيادة التي ضاعت من أيديهم بسبب الفرقة والنزاع، ويتم الله تعالى وعده لهذه الأمة بالاستخلاف الموعود ..

والله غالب على أمره، وهو يتولى الصالحين يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز:

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضي لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (2).

انطلاقاً من بركات هذا البيت الأول والمعمور ومن هداه ومن خصائصه وآياته البينات الأخرى:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ ومَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً).

والحج تتحقق فيه وحدة العبادة ووحدة الأخوة الإسلامية بكل معانيها ومظاهر هذا واضحة جلية: فالرب واحد، والقبلة واحدة، والمشاعر واحدة، واللباس واحد، والمناسك واحدة، والزمان واحد، والمكان واحد، كل شي ء يتسم بالوحدة ويؤشر عليه. فكل هذه المظاهر تجتمع في الحج، وهي مدعاة للإحساس بوحدة الشعور، وموجبة للتآخي، والتعارف، والتعاون على مصالح الدين والدنيا، كيف لا يكون كذلك والكعبة هي الجامعة وهي عنوان التوحيد، عنوان الدين، عنوان الإسلام، وهي كما جاء في صحيح أبي بصير، عن أبي عبد الله 7 أنه قال:

«لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة».

فالكعبة تمثل العنوان الخارجي للإسلام فما دامت الكعبة المشرفة قائمة يؤمها المسلمون في جموع كبيرة في حجهم، ويطوفون بها ويعظمونها ويتوجهون إليها في عبادتهم فالدين قائم.

كما أن الكعبة أول مظاهر الوحدة فهي إضافة إلى أنها قبلة المسلمين التي يتوجه إليها في كل يوم خمس مرات أكثر من مليار مسلم، تلخص عنوان دعوة الرسل إلى توحيد الله ووحدة المسلمين أي كلمة التوحيد ووحدة الكلمة ووحدة الموقف، وحتى تظهر هذه المشابهة بين الكعبة المشرفة ودعوة الرسل هو أن الكعبة كانت ولا تزال أهم العوامل لقيام الناس في توحيد الله وتعظيمه وعبادته ..

ففي الحج يجتمع المسلمون من أقطار الأرض حول الكعبة، حول البيت العتيق، الذي يتجهون إليه- كما قلنا- كل يوم خمس مرات، بل في كل فرض ومستحب ودعاء، البيت الذي يقصدونه بقلوبهم وأفئدتهم من خلال صلواتهم وهم في بلادهم الشاسعة البعيدة، هم الآن يجتمعون حوله ويرى


1- البقرة: 197.
2- النور: 55.

ص: 91

بعضهم بعضاً، يتصافحون، ويتشاورون، ويتحابون، خلعوا تلك الملابس المختلفة والمتباينة من على أجسادهم، ووحدوا لباسهم، ليجتمع بياض الثياب مع بياض القلوب، فهو صفاء في صفاء، صفاء في ظواهرهم وصفاء في بواطنهم ..

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الفريضة فيها من المعاني الروحية التي لا تعطيها أو لا تتأتى لعبادة أخرى- وهي أيضاً من أسمى مظاهر هذه الفريضة- وأن تقديس تلك الأماكن المعظمة والاهتمام بها والتواجد فيها والاستزادة من معانيها ومضامينها له الأثر البالغ في تربية الحجاج وتطهيرهم وتوعيتهم .. وعلى رأس تلك الأماكن الشريفة، الكعبة المعظمة زادها الله شرفاً، فهي أول بيوت العبادة التي وضعها الله لعبادته:

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ) (1).

بعد أن بوأه الله تعالى لنبيه وخليله إبراهيم 7:

(وَإِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (2).

والله تعالى هو ربه:

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (3).

وهو صاحب هذا البيت دون غيره، وهي أي الكعبة أصل الأرض، كما في رواية عن أهل البيت::

«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَيْتٍ وَضَعَهُ اللهُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إِلَّا لَهُ رَبٌّ وَسُكَّانٌ يَسْكُنُونَهُ غَيْرَ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَا رَبَّ لَهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ وَهُوَ الْحُرُّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهُ قَبْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ خَلَقَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِ فَدَحَاهَا مِنْ تَحْتِهِ».

«عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ 7 قَالَ: قُلْتُ لَهُ: لِمَ سُمِّيَ الْبَيْتُ الْعَتِيقَ؟ قَالَ: هُوَ بَيْتٌ حُرٌّ عَتِيقٌ مِنَ النَّاسِ لَمْ يَمْلِكْهُ أَحَدٌ».

وقد راحت الأحاديث المباركة تبين أهمية الكعبة المشرفة وأنها أحبّ البقاع إليه تعالى، وراحت تربط الناس بالكعبة وتشدهم إليها عن طريق بيان ما للإنسان المرتبط بها بأي نوع من الارتباط، سواء في الطواف أو في غيره من الثواب العظيم، وقوة دافعة لثبات الموقف وتوحيد الصفوف. كما راحت هذه الروايات وغيرها عن أهل البيت: تؤكد بكل وضوح أن الترابط بينهم وبينها وثيق، ولا يمكن الفصل بينهما.

عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: كُنْتُ قَاعِداً إِلَى جَنْبِ أَبِي جَعْفَرٍ 7 وَهُوَ مُحْتَبٍ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ. فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ يُقَالُ لَهُ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ 7: إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ تَسْجُدُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ 7: فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ؟

فَقَالَ: صَدَقَ الْقَوْلُ مَا قَالَ كَعْبٌ.

فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ 7: كَذَبْتَ وكَذَبَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَكَ. وَغَضِبَ 7.

قَالَ زُرَارَةُ: مَا رَأَيْتُهُ اسْتَقْبَلَ أَحَداً بِقَوْلِ كَذَبْتَ غَيْرَهُ.

قَالَ: مَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بُقْعَةً فِي الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَلَا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا لَهَا حَرَّمَ اللهُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي كِتَابِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ لِلْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَشَهْرٌ مُفْرَدٌ لِلْعُمْرَةِ رَجَبٌ».

في الصحيح عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ 7 قَالَ:

«أَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللهِ تَعَالَى مَكَّةُ وَمَا تُرْبَةٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ تُرْبَتِهَا وَلَا حَجَرٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ حَجَرِهَا وَلَا شَجَرٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ شَجَرِهَا وَلَا جِبَالٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ جِبَالِهَا وَلَا مَاءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ مَائِهَا».

وفي النظر إليها جاء في الصحيح عَنْ حَرِيزٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ 7 قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْإِمَامِ عِبَادَةٌ». وَقَالَ: «مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ».

وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ 9 قَالَ: «النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ حُبّاً لَهَا يَهْدِمُ الْخَطَايَا هَدْماً».

ورُوِيَ أَنَّ «النَّظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرَ إِلَى الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرَ إِلَى الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الْعَالِمِ عِبَادَةٌ وَالنَّظَرَ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ عليهم السلام عِبَادَةٌ».

وجاء في الصحيح عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ 7 قَالَ:


1- آل عمران: 96.
2- الحج: 26.
3- قريش: 3- 4.

ص: 92

«إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتَعَالَى جَعَلَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عِشْرِينَ ومِائَةَ رَحْمَةٍ مِنْهَا سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ».

وعن الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ 7 قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ 7:

«إِذَا خَرَجْتُمْ حُجَّاجاً إِلَى بَيْتِ اللهِ فَأَكْثِرُوا النَّظَرَ إِلَى بَيْتِ اللهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ رَحْمَةً عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ».

وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْخَزَّازِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ 7 قَالَ:

«إِنَّ لِلْكَعْبَةِ لَلَحْظَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ يُغْفَرُ لِمَنْ طَافَ بِهَا أَوْ حَنَّ قَلْبُهُ إِلَيْهَا أَوْ حَبَسَهُ عَنْهَا عُذْرٌ».

وفي الترابط بينها وبين أهل البيت: ولما لهذا الترابط والصلة من جذب للناس نحوها من أهمية ووقع على النفوس وما يستحقه من الثواب جاء في الخبر عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ 7 قَالَ:

«مَنْ نَظَرَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَعْرِفَةٍ فَعَرَفَ مِنْ حَقِّنَا وَحُرْمَتِنَا مِثْلَ الَّذِي عَرَفَ مِنْ حَقِّهَا وَحُرْمَتِهَا غَفَرَ اللهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَكَفَاهُ هَمَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».

هذا، وإن للحج أسراراً بديعة، وحكماً متنوعة، وبركاتٍ متعددة، ومنافع مشهودة، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (1).

الحج ميدان فسيح يتدرب فيه الحاج عملياً على اكتساب الأخلاق الجميلة والآداب الحميدة على الحلم، والصبر، والمداراة، وكظم الغيظ من جراء ما يلقى من الزحام، والتعب، والنصب سواء في الطريق إلى الحج، أو في الطواف، أو في السعي، أو في رمي الجمار، أو غيرها من المناسك؛ فيتحمل الحاج ما يلقاه من ذلك؛ لعلمه بأن الحج أيام معدودة، ولخوفه من فساد حجه إذا هو أطلق لنفسه نوازع الشر، ولإدراكه بأن الحجاج ضيوف الرحمن؛ فإكرامهم، والصبر على ما يصدر من بعضهم دليل على إجلال الله عز وجل.

فإذا تحمل الحاج تلك المشاق في أيام الحج صار ذلك دافعاً لأن يتخلق بالأخلاق الجميلة بقية عمره.

والحج يذكر أصحابه ومريده بالآخرة؛ فازدحام الناس وهم يموج بعضهم في بعض، وهم في صعيد واحد، وبلباس واحد، وقد حسروا عن رؤوسهم، وتجردوا من ثيابهم، ولبسوا الأردية والأزر، وتجردوا من ملذات الدنيا، ومتعها، تذكر يوم حشرهم على ربه؛ فيبعثهم ذلك إلى الاستعداد للآخرة، ويقودهم إلى استصغار متاع الحياة الدنيا، ويرفعهم عن الاستغراق فيها، ويكبر بِهِمتهم ويتركوا كل ما يدعو إلى السوء والبغضاء وحب الأنا .. فيقترب كل واحد منهم من محبة إخوانه الآخرين ويستغرق بعضهم في مودة بعضهم الآخر ويتم الاطلاع على مشاكلهم وحاجياتهم، وهذا مدعاة لحب الوحدة وتقوية الصف المسلم والساحة المؤمنة ..

والحج يعد تجمعاً بشرياً ضخماً، يستقطب الملايين من المسلمين، من مختلف الأقطار والأمصار، فهو ينتج حركة بشرية هائلة، يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم، عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيات ومستلزمات الحج والإقامة والسفر والتنقل، فينتفع العديد من المسلمين بذلك، ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية وتجارية ومالية نشطة يكون هذا سبباً في تعارفهم وتآلفهم وتعاونهم.

الحج مدرسة يتعلم فيها الحاج، يتعلم الكرم، والبذل، والإيثار، والبر، والرحمة، وذلك من خلال ما يراه من المواقف النبيلة الرائعة التي تجسد هذه المعاني؛ فهذا سخي يجود بالإنفاق على المساكين، وذاك كريم بخلقه يعفو عمن أساء إليه، وأخطأ في حقه، وذاك رحيم يعطف على المساكين ويتلطف بهم، وذاك حليم يصبر على ما يلقاه من أذى، وذاك برّ بوالد ه يحمله على عاتقه، وذاك يحوط أمه العجوز بلطفه ورعايته.

بل ويكتسب الإنسان الحاج الأخلاق الجميلة عند رؤيته من لا يدركون معنى الحج، وهم الذين يغضبون لأدنى سبب، وتطيش أحلامهم عند أتفه الأمور، كيف يكون اكتسابه؟ بتجنبه ما هم عليه من خلق لا يليق بآداب وأخلاق هذا الموسم .. فإذا رأى العاقل البصير سوء فعال هؤلاء انبعث إلى ترك الغضب، وتجافى عن مرذول الأخلاق، ونأى عمّا هم عليه.

إذن، الحج إعداد وتربية لسلوك الفرد ونوازعه بل هو إعداد وتربية لسلوك الجماعة ونوازعها، وبالتالي إعداد وتربية لسلوك الأمة ونوازعها، ففيه تتعود كل هذه المفاصل بدءاً بالفرد الحاج مروراً بالجماعة الحاجة فالأمة الحاجة، الصبر وتحمل المشاق وحسن الخلق بدءاً باللطف والتواضع واللين وحسن المحادثة مروراً بالكرم والتعاطف والتراحم، وانتهاءاً بالامتناع عن الكذب والغيبة والجدال والخصومة والتكبر وغير ذلك.

والحج دورة ميدانية يتعود الإنسان الحاج- فرداً كان أو جماعة أو أمة- الألفة والتعارف عن طريق السفر والاختلاط فتنمو لديه الروح الاجتماعية وتتهذب عنده الملكات الأخلاقية، كل هذا وهو يشارك في كل الممارسات التربوية، ويساهم في التفاعل البشري الرائع، الذي يشهده في الحج في حضره وفي سفره، في سكنه وإقامته وفي ترحاله وبأرقى درجات الالتزام والاستقامة السلوكية.

وقد تحدث الإمام جعفر الصادق 7 عن منافع الحج وفوائده، بإجابته البليغة عن سؤال أحد أصحابه، وهو هشام بن الحكم، فقد سأله: ما العلة التي من أجلها كلف الله سبحانه وتعالى العباد بالحج والطواف بالبيت؟


1- الحج: 27- 28.

ص: 93

فقال 7: «إن الله خلق الخلق ... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله 9 وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى» (1).

وقول الإمام علي بن موسى الرضا 7 يتطابق مع تعليل الإمام الصادق 7 وتحليله لمنافع الحج وآثاره الاجتماعية التي يجنيها الفرد والمجتمع حين قال: «إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل، مع ما فيه من إخراج الأموال، وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذات، شاخصاً في الحر والبرد، ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلل، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر ممن يحجّ وممن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة: إلى كل صقع وناحية، كما قال الله عزّ وجل: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)» (2).

لقد شاء الله تعالى أن يكون الحج محراباً للعبادة ... ومدرسة للتربية والتوجيه، وموسماً للمنفعة وتحقيق المصالح الاجتماعية .. وساحة مباركة لتوحيد الصفوف المؤمنة والأمة المؤمنة، بما ذكرناه مما فهمناه وعرفناه وقرأناه عنه .. لتنال بذلك حب الله تعالى ورضاه، ولتحقق ما تصبو إليه من خير عميم، وكرامة وعز لا يضام .. وهكذا هو الحج وهكذا هي مظاهره وهكذا هي معانيه ومفاهيمه وأبعاده وآثاره وعطاءاته ... (... وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (3).

إنه بحق خير فريضة وأعظم ميدان وأصدق ساحة تطبيقية لمبدأ التعارف الجميل الذي صدعت به الآية الكريمة:

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) (4).


1- راجع: وسائل الشيعة.
2- وسائل الشيعة 7: 8.
3- التوبة: 72.
4- الحجرات: 13.

ص: 94

ص: 95

الحج رحلة حضارية وحدوية طيبة!

محمد سليمان

إن الرحلة إلى البقاع المقدسة- مكة والمدينة- رحلة ذات آثار طيبة في حياتنا سواء على المستوى الفردي أم الاجتماعي، ووحدة الأمة المسلمة وهي الأهم، وهو ما نجده في كل ما حملته هذه المقالة من مميزات الرحلة للحج وفي الأبعاد والحكم .. ولهذا تعد من أشرف وأنفع الرحلات، التي يقوم بها الإنسان المؤمن منذ أن راح أذان سيدنا نبي الله إبراهيم 7 يدوي في الآفاق قبل أربعة آلاف سنة تقل قليلًا أو تزيد وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ فهي رحلة الإجابة والتلبية و التزود بالتقوى فهي زاد الإنسان وهو يغادر بيته وأهله وأتباعه وما يملكه من سلطان ومال وعمل حيث فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي ليؤدي خير الأعمال وأنبل الأنشطة وأعظم المناسك وأشرفها في أطيب الأماكن وأقدس البقاع وأحبها على الله تعالى لهذا تعبد الناس بها لحكم قد ندرك شيئاً منها ويغيب الكثير الكثير منها، والله أعلم بالذي تحمله من حكم وأبعاد وصفات ..

إن الرحلات تتسم بالاستمرار لأنها حركة، والإنسان لا يكفّ عن الحركة؛ لأن التوقف عن الحركة يعني التأخر أو توقف الحياة أو الموت.

فالإنسان ليس كتلة جامدة كالجبال والمدن، فله حركة تتم بشكل طبيعي لا إرادة له فيها (مواليد ووفيات)، أو تتم بشكل يخططه الإنسان بنفسه أي

ص: 96

حركة إرادية تتمثل بسعيه الدؤوب في مناكب الأرض والضرب فيها سواء أكان هذا الإنسان فرداً أم جماعة، أم أسرة أم كياناً، أم حزباً ودولة وأمة .. وهذه الحركة هي ما تعرف بالرحلة عند الجغرافيين من أجل الاستكشافات هنا وهناك في المعمورة أو زيارة مقدس أو عزيز، أو طلب العلم، والرزق والتجارة، وللراحة والاستجمام، وأسبابها عديدة كما أن هذه الحركة التي سميتها رحلة قد تكون داخلية، بين مدن الدولة الواحدة، أوتكون خارجية لدول أخرى، وقد تكون هذه الرحلة فردية أو جماعية، وقد تكون دائمة أو مؤقتة، موسمية أو يومية، وأيضاً قد يكون الإنسان مجبراً عليها أو تتم باختياره وإرادته ..

ثم إن حركة المواليد والوفيات إذا كانت تعمل على توزيع السكان فإن الرحلات بأنواعها المختلفة تؤدي لإعادة هذا التوزيع. المهم أن الرحلات لها منافع كثيرة قد لا يمكن الإلمام بها .. ومن أفضل هذه الرحلات وأعظمها بركة وخيراً لدنيا الإنسان ولآخرته هي الرحلة التي أنعم الله تعالى بها على الناس والتي تتمثل في الانطلاق نحو بيته المبارك والمواقف المشرفة عرفة والمزدلفة ومنى .. وحيث الأضرحة المباركة لرسول الرحمة محمد 9 ولأهل بيته سلام الله عليهم، والصالحين من الصحابة والشهداء رضوان الله تعالى عليهم .. حقاً إنها رحلة مباركة طيبة لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ.

وإننا إنما اخترنا التسمية انطلاقاً من الرحلات العديدة التي قام بها العديد من العلماء الذين دوّنوا ما رأوه في رحلاتهم عبر العالم، ومن ذلك رحلتهم إلى الديار المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة ونكتفي بذكر أسماء بعضها ... وقبل ذلك وقبل التعرض لبعض مميزاتها وحكمها وأبعادها المقترنة بها أو ذكرت لها .. هذا معناها في اللغة:

الرحلة في اللغة

الرحلة لغة: من رحل عن المكان رحلًا ورحيلًا وترحالًا، ورحلة: سار ومضى ... والرحلة بتشديد الراء وكسرها: الارتحال جمعها رحل بكسر الراء وفتح الحاء وفي التنزيل العزيز: رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. والرحلة بضم الراء وتشديدها: ما يرتحل إليه، ويقال: الكعبة رحلة المسلمين، وأنتم رحلتي، وعالم رحلة: يرتحل إليه من الآفاق، كل هذا بضم الراء من رحلة، ...

والترحال والارتحال: انتقال أناس من مكان إلى مكان آخر ...

الأول: مميزات رحلة الحج

كما قلنا، إن الرحلة إلى الحج تفترق كثيراً عن باقي الرحلات الأخرى، لأنها رحلة عبادة بالمعنى الأوسع للعبادة، رحلة إلى الله سبحانه وتعالى أي للحصول على رضاه ورحمته ومغفرته وعفوه، لهذا حظيت رحلة الحج بمميزات كثيرة، فبماذا تمتاز رحلة الحج؟

الرحلة الأعظم: إن الحج مما لا شك فيه يعد رحلة من أعظم الرحلات بل وأنبلها وأشرفها، فهي رحلة ربانية تعد أساس قوام مصالح الناس في الأرض بل في الدنيا والآخرة جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ (1)، ولا بد من الإشارة إلى موسمية العمرة في شهري رجب ورمضان المباركين- وإن جاز أداؤها في باقي الأشهر- كحركة سكانية ربانية لا تقل في أهميتها واتساعها عن الحج نفسه ..

الحركة الأصدق: ليس الحج حركة اعتباطية، بل هي حركة منتظمة تسجلها جموع كثيرة من أماكن هي الأخرى كثيرة، قريبة من مكة أي داخل بلد الحرمين مكة والمدينة أو بعيدة من أطراف مترامية من فجاج وطرق بعيدة، عبّر القرآن عنها: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ تأتي إلى البقاع المقدسة يدفعها الشوق والود والصدق والإخلاص في النوايا لأداء مناسك الحج والعمرة غير مبالية هذه النفوس بما تلاقيه من أتعاب وآلام وجوع وعطش خصوصاً في تلك الأزمنة التي انعدمت فيها وسائل النقل المريحة المتوفرة في زماننا هذا ..

حتى ورد أن أحدهم وهو محمد بن ياسين قال: قال لي شيخ في الطواف: من أين أنت؟

فقلت: من خراسان، قال: كم بينكم وبين البيت؟ قلت: مسيرة شهرين أو ثلاثة. قال: فأنتم جيران البيت. قلت: أنت من أين جئت؟ قال: من مسيرة خمس سنوات، وخرجت وأنا شاب فاكتهلت: قلت: والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة. فقال:

زر من هويت وإن شطت بك الدار

وحال من دونه حجب وأستار

لا يمنعنك بعد عن زيارته

إن المحب لمن يهواه زوار (2)

إذن، الدوافع والنوايا تلعب دوراً مهماً في هذه الرحلة، فتجعلها رحلة ربانية بحق وبها يمتاز الحج وأيضاً العمرة عن الرحلات والهجرات السكانية العادية الجغرافية في الدوافع .. فلا يوجد شي ء يحرك الناس إلى الحج إلا الدوافع الدينية والروحية البحتة، فأشواق الروح وعامل الجذب الديني هو الذي يدفع بالمسلمين من كل بقاع المعمورة إلى البقاع المقدسة وهدفهم:

... وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ...


1- المائدة: 97.
2- انظر تفسير وبيان مفردات القرآن: 335 إعداد الدكتور محمد حسن الحمصي.

ص: 97

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (1).

إن صدق النية ونزاهتها من كل شائبة أو شرك في هذه الرحلة العبادية في أن تكون خالصة لوجه الله تعالى في مناسك الحج سبب أدعى للقبول وأرجى للأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى القائل:

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ (2).

و قال الرسول 9:

«فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ...».

القدوم المختلف: ويختلف القدوم إلى الحج عن الرحلات الأخرى بطبيعة الناس القادمين لأداء فريضة الحج من حيث العمر ومن حيث السلامة والصحة والقابليات ..، فهو حركة سكانية تمتاز بتقارب نسبة الذكور والإناث، لأن أفواج الحجيج لا تكون من الذكور وحدهم كما هو شأن حركات السكان غالباً بدافع العمل أو لأغراض معرفية أو سياسية واقتصادية وتجارية .. بل يشترك في الحج الذكور والإناث معاً. كما أن التركيب العمري للحاج لا يكون من الشباب وفئات السن المتوسطة القادرة على العمل والإنتاج كما هو شأن الرحلة العادية، بل تشمل حركة الحجاج الشباب والشيوخ والكهول، وبعض العجزة غير القادرين الذين يتمنون لو انتهت بهم رحلة الحياة في الأراضي المقدسة، ويفدون على الله تعالى بلباس إحرامهم .. هذه هي أمنية عباد الله الصالحين، وكم استشهد على الطريق من الحجيج في عصر كان الحاج يودعه أهله وفي حسابهم ألا يعود من هذه الرحلة.

فريضة العمر: واجب على كل مسلم يمتلك الاستطاعة من الزاد والراحلة أن يرتحل إلى مهبط الوحي ومواقع النبوة، ويعيش فترة من عمره في إطارين محددين وهما الزمان والمكان كانا وعاء لحركة الإسلام الأولى، حيث بدأت الخطوات من غار حراء وامتدت حتى تبلغ الناس كافة. والمسلمون عموماً مطالبون بين وقت وآخر بالعودة إلى المنابع الأولى للمراجعة والتصويب، وللتأكد من صحة اتجاه المسير الذي هم عليه. إن وفود الحجيج السنوية وهي تأتي من شتى أنحاء العالم الإسلامي إلى موطن الدعوة الأولى، والعيش على الأرض التي بزغ فيها فجر الإسلام تتواصل مع الجذور التاريخية الممتدة للنبوة، وتتجاوز حواجز التاريخ والجغرافيا لتشرف على خط التوحيد، بدءاً من إبراهيم 7 الذي أمره الله سبحانه ببناء البيت وتطهيره من الشرك والوثنية، ومناداة الناس إلى الحج.

الرحلة الأنفع: ولا يمنع الإسلام الحجاج من التجارة في الحج والاستفادة من هذا التجمع البشري لممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة؛ حيث يمكن للحجاج أن يمارسوا التجارة مع إخوانهم القادمين من شتى بقاع الأرض: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ

الممارسة التطبيقية: وهذا يعني أن الإسلام فرض على المسلمين وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (3). ممارسة هذه الرحلة عملياً ولو مرة واحدة في العمر، ليطبق أحكام السفر الفقهية، ويمارس المسلم خلالها تجارب متعددة، ويعايش أصنافاً من البشر ويتعرف عليهم ويتعارف معهم فيصقل خبرته وتجاربه، ويكتسب علماً ومعرفة، وهو في الطريق لأداء ركن الإسلام الخامس الحج إلى بيت الله الحرام.

والمتأمل في إحصائيات الحجيج لا يجد قارة في العالم إلا وقدم منها عدد من الحجاج من أقوام شتى، مهما بعدت المسافات أو طال زمن الرحلة، وغلت أثمانها وتكاليفها، فيتحقق الهدف الأسمى بين الناس ألا وهو التعارف بين الحضارات، وهو مصطلح قرآني جميل لا الصراع بين الحضارات ولا الحوار بين الحضارات كما يعبر عنه، إنه التعارف بين الحضارات وما أجمله من مصطلح، وخير مصداق له وميدان له هو الحج ميدان عملي للتعارف بين المسلمين، يتعلم فيه المؤمنون كيف تكون الانطلاقة نحو التعرف على حضارة الآخر المختلف والتعارف معها .. انطلاقاً من الآية الكريمة:

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثي وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (4).

إن لهذه الرحلة المباركة وهذه الهجرة إلى الله تعالى أبعاداً ومقاصد عديدة ثمينة ينبغي للإنسان المؤمن التعرف عليها، ووعيها وعياً نافعاً ليستثمرها في حياته الفردية، والأسرية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية .. ليخرج من الحج وقد ملئت روحه إيماناً وتقوى ومعرفة واطلاعاً ...

الثاني: الأبعاد

البعد التأريخي للحج

من المعروف أن الحج ركن من أركان الإسلام سبق ظهور الإسلام بحوالي خمسة وعشرين قرناً، حين فرض على إبراهيم 7 بعد أن أمره الله سبحانه وتعالى بإقامة قواعد البيت وتطهيره من رجس الأوثان، قال الله تعالى:

وَإِذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (5).

وَعَهِدْنا إِلي إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (6).


1- البقرة: 198.
2- البقرة: 196.
3- آل عمران: 97.
4- الحجرات: 13.
5- الحج: 26.
6- البقرة: 125.

ص: 98

فجاءت فريضة الحج بعد إقامة البيت، قال الله تعالى مخاطباً نبيه إبراهيم 7:

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1)

فراح الحنيفيون يتوارثون تلبية ذلك النداء، وأداء ذلك الفرض العظيم وبقي البيت طاهراً حتى جاء عمرو بن لحي الخزاعي، فدنّس طهر البيت بالأوثان، ودخلت الشوائب على عقيدة التوحيد، ومع ذلك ظل العرب يؤدون الحج، ويعظمون البيت برغم ما تسرب إلى المناسك من مظاهر الوثنية؛ وأشرق فجر الإسلام ومكث النبي 9 ثلاثة عشر عاماً يقرر التوحيد ويحارب الشرك في العصر المكي ..

إنه حقاً تقرير واتباع لملة ابراهيم 9 مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (2).

وواصل دعوته بعد هجرته 9 إلى يثرب التي سماها «المدينة المنورة برسول الرحمة 9 وبدينه السماوي الحنيف، ثم نصره الله تعالى على أعدائه المشركين، فتم فتح مكة في العام الثامن للهجرة، وأعيد التوحيد الخالص إلى رحاب البيت العتيق، ليبقى هذا البيت كما أراده إبراهيم- بل أرادته السماء- مباركاً وهدى للعالمين، مثابة للناس وأمناً، ثم قبلة ومصلى .. وفي حجة الوداع يعلن النبي 9 عالمية الإسلام في عرفات عام 10 هجرية.

وها قد مضى على الحج قرابة خمسة عشر قرناً من عمر الإسلام تضاف إلى عمر فريضة الحج في بعدها الزمني، لتشكل عمراً مباركاً مديداً لها لا يقل عن أربعين قرناً، وفي طول هذه المدة قطعت الملايين من الحجاج الأرض من كل فج عميق إلى مكة المكرمة رجالًا وركباناً على الإبل والخيل والسفن والبواخر فالسيارات و الطائرات، وبشتى الوسائل المتاحة في رحلة سنوية موسمية تحتضن فيها أم القرى أبناء الإسلام فترة من أعمارهم، يستشعرون فيها عظمة العقيدة الإسلامية، وعالمية الدين الحنيف، ودف ء الأخوة الإسلامية، وقيم التواضع والمساواة والبذل والصبر والتطهر والوفاء، والتزود من معاني التطواف بأقدس البقاع وأحبها إليه تعالى .. يسألون الله تعالى رضاه ومغفرته، وهم يؤدون ما أمروا به من مناسك في هذه الرحلة المفروضة على المسلمين مرة واحدة في العمر فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ تخصص من عمر كل مؤمن مستطيع وَلِلَّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا يقضيها في جوار ربه، متعبداً بشعائر مباركة فرضها عليه في بيته المبارك ذي الآيات المباركة وفيما حوله من مشاعر مباركة أيضاً:

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُديً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ...

وهدفهم الكبير يحدوهم: .. ليَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ وأيضاً لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ ..

البعد الحضاري للحج:

في ذلك المؤتمر العالمي الجامع بأرض المناسك، حيث يشكل أروع مجتمع بشري من كل جنس ولون، يجمعهم التوحيد في وئام ومحبة، ثم يفترقون وأعينهم تفيض من الدمع بعد أن تكونت علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية بينهم، تنبض بها شرايين الأمة، وتناقلتها دروب الحجيج التي امتلأت عبر التاريخ، وكان لها أثر لا يمكن إغفاله في حياة المسلمين، وقد اكتسبوا منافع معرفية وحضارية لا حصر لها، يشهد لها ما تركه المسلمون من تراث جغرافي وتاريخي وعمراني في ميادين المعرفة، فنشأ سجل معرفي أحدث مصاهرة بين البيئات والحضارات حتى برز العديد من الرحالة الذين أغنوا بما كتبوه المكتبات الثقافية وميادين المعرفة.

ففي الشرق من العالم الإسلامي برز من الرحالة الباحثين:

اليعقوبي، والمسعودي وناصر خسرو، وأبو إسحاق الحربي و ابن حوقل، وياقوت الحموي، والخوارزمي، والبيروني، وابن خرداذبة وابن رستة ...

وفي الغرب: ابن جبير، وابن بطوطة، والبكري، والإدريسي، والتجيبي، وابن رشيد الأندلسي، والمقريزي، والجزائري، وأبو القاسم الزياني.

وفي الجنوب: الهمداني، وعرام بن الأصبع و الينبعي.

وفي الشمال: المقدسي عبدالغني النابلسي، وابن فضلان.

هذا على مستوى الرحلات وأما اللقاءات بين علماء الفقه والتفسير والحديث واللغة والأدب والثقافة في أرض المناسك وعلى دروب الحج فلا يستطيع أحد من الناس الإحاطة بها، فقد تبودلت أفكار وآراء، وكتبت إجازات وبحوث ومؤلفات كانت تشكل ثقافات متنوعة تهب على كل ديار المسلمين في عصر ما قبل ظهور الطباعة.

إن الحج باب من أبواب ينفر إليه كل عام طائفة ممن يحمل هموم المسلمين تنقل صورة الواقع الحقيقي للأمة المسلمة بالرؤية المباشرة بعيداً عن صور الزيف والتضليل الإعلامي والسياسي. فعلى الرغم من تباين النظرة السياسية، والتفرق والتمزق خلف الحدود جعلت المسلمين شيعاً وأحزاباً، يؤكد لقاء الحج سنوياً أن العقيدة أقوى من السياسات، وأن ما يجمع المسلمين كشعوب أكثر من فلسفات الفرقة التي تبتكرها أباطيل السياسة، وتلافيف متاهاتها المظلمة.


1- الحج: 27.
2- البقرة: 135.

ص: 99

إن الحج رحلة باتجاه قراءة السيرة والتاريخ، وعودة للتزود من المنبع الأصلي، ومشاهدة لأرض النبوة، ورصد لحركة الدعوة عن قرب، واستعادة للتألق التاريخي لنقاط الارتكاز التي قام عليها المجتمع المسلم والحضارة الإسلامية مما ينشط الذاكرة ويحددها، ويعيد الفاعلية للجوانب الضامرة من عاطفة الإنسان وفكره بعد رحلة زمنية بعيدة.

إننا نسمع اليوم عن مجموعات من المؤرخين والجغرافيين وعلماء الاجتماع والأديان، يحاولون التوغل في العمق التاريخي، ويستحضرون الظروف والملابسات التي رافقت الأحداث، وذلك لتخليص المسار الحضاري مما علق به؛ في محاولة للوصول إلى الحقيقة، وبعث الأمجاد، وشحذ الهمم من خلال العيش في نفس الظروف التاريخية. فهناك عدد من الرحالة الأوروبيين يحاولون السير على نفس الطريق الذي سارت عليه الحملات الصليبية، ويلبسون لباس تلك الفترة، كما نسمع عن آخرين يشدون الرحال لاقتفاء آثار المكتشفين الجغرافيين، وما ذلك إلا ليتوفر للفكرة التي يعيشها الإنسان الظروف التي نبتت وترعرعت فيها تلك الفكرة.

ولكن هذه العودة إلى الماضي وإن كانت ضرورية فيجب أن تقدر بقدرها؛ فإذا كان التشبث بالتاريخ واللجوء إليه للوقوف أمام العواصف التي تحاول اقتلاع الجذور ضرورياً، فلا يعني ذلك الغياب في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، لأن تلك الغيبوبة تصبح موتاً مع وقف الدفن وإساءة للماضي نفسه، وحكم عليه بالعجز وعدم الصلاحية لإفادة الحاضر وتشكيل المستقبل، وتلك هي الأزمة المستعصية التي وقع فيها أولئك الذين أسقطوا الحاضر والمستقبل، فانسحبوا من الساحة نهائياً يعيشون على ذكريات الماضي وأمجاده وانتصاراته، مع إصرار شديد على تأكيد الوجود التاريخي من الحضور المعاصر.

إن المسلم عندما يتهيأ لأداء فريضة الحج ينبغي أن يعرف أن أول الحج الفهم- فهم موقع الحج من الدين- ودراسة أعمال الحج ودراسة أسرارها ورموزها حتى يشعر بالشوق والعزم وإزالة الموانع واتخاذ أسباب السفر. والمتأمل في أعمال الحج يشعر بالحكم العظيمة فيه ..

قال ابن دقيق العيد في شأن أعمال الحج وأسراره: «وفي ذلك من الحكم تذكر الوقائع الماضية للسلف الكرام، وفي تذكرها مصالح دينية، إذ يتبين في أثناء كثير منها ما كانوا عليه من امتثال أمر الله تعالى، والمبادرة إليه، وبذل النفس في ذلك، وبهذه النكتة يظهر لك أن كثيراً من الأعمال التي وقعت في الحج، ويقال فيها: إنها تعبدية فقط ليست كما قيل، ألا ترى أنا إذا فعلناها وتذكرنا أسبابها حصل لنا من ذلك تذكر الأولين، وما كانوا عليه من احتمال المشاق في امتثال أمر الله فكان هذا التذكر بامتثالنا على مثل ذلك، ومقرر في أنفسنا تعظيم الأولين، وذلك معنى معقول، مثاله:

السعي بين الصفا والمروة، إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه قصة هاجر مع ابنها، وترك الخليل لهما في ذلك المكان الموحش، منفردين منقطعي أسباب الحياة بالكلية، مع ما أظهره الله تعالى لهما من الكرامة، والآية في إخراج الماء لهما، كان في ذلك مصالح عظيمة، أي في التذكر لتلك الحال،

وكذلك رمي الجمار إذا فعلناه وتذكرنا أن سببه رمي إبليس بالجمار في هذه المواضع عند إرادة الخليل ذبح ولده، يحصل من ذلك مصالح عظيمة في النفع في الدين» (1).

البعد الوحدوي لرحلة الحج

قلنا: إن البعد الوحدوي نجده في كل أبعاد هذه الرحلة ومميزاتها وهي تصوغ الإنسان المؤمن روحياً وسلوكياً وأخلاقياً، فتجعل منه قاعدة لوحدة مجتمعه ثم أمته، ومع هذا جعلت هذه المقالة هذا البعد بعداً مستقلًا لفائدته ولتوضيحه بمقطع مختصر:

إن اجتماع الحجيج من أرجاء المعمورة وهم يهللون بالتوحيد، تجمعهم عقيدة واحدة وشريعة واحدة، أضاف الحج إليهم رابطة ثالثة حسية ملموسة هي وحدة الأرض والوطن أرض الوحي والموطن لأمة الإسلام قاطبة، فالمسلمون مهما تباعدت أقطارهم وتباينت ألسنتهم وألوانهم هم أمة واحدة تجمعهم رابطة الدين والعقيدة، وهم الأمة الوسط في موقعها الجغرافي وفي بعدها الروحي والديني، وهذه الوحدة كافية للتغلب على تلك الفوارق السطحية بين شعوب المسلمين في ألسنتها وألوانها وعاداتها لتجعل من المسلمين أمة واحدة تتجانس مناهجها وخططها وطرق تفكيرها، لتكون الأمة الأقوى والأرغد عيشاً والأتم عزة ومنعة، قال الله تعالى:

إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (2).

ففي الحج يكتسح المسلم فرديته الضيقة ينتقل إلى رحاب الإسلام التي تغطي الكرة الأرضية، مستشعراً الأخوة الإسلامية وهي تجمع الكل في أسرة واحدة وبيت واحد ومجتمع واحد يشد بعضه بعضاً، ويتيقن الحاج أن الحج هو الخطوة الأولى لبناء الوحدة الإسلامية على أساس الدين والعقيدة متجاوزين الحدود الجغرافية والقومية والإقليمية، والذي ينظر من أعلى إلى صعيد عرفات إلى تلك الجموع الهادرة تعلن التوحيد والتلبية والتكبير، لا يتخيل للحظة واحدة أن مثل هذه الأمة قد تهزم وتضعف وتذل وتكون تابعاً لغيرها من الأمم. فالحج أرغم كل مسلم في الأرض على التفكير في قوة أمته ووحدتها وخيراتها وقدراتها قال الله تعالى:

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ (3).

البعد الفردي لرحلة الحج:

إن الحج له آثاره القيمة على الفرد المسلم، وهو ما نذكره هنا وفي الفقرة الآتية فقرة حكم الحج، الإصلاح الفردي:


1- حامد بن محمد العبادى، من حكم الشريعة وأسرارها: 170- 171.
2- الأنبياء: 92.
3- الحج: 28.

ص: 100

إن الحج رحلة باتجاه الماضي على مستوى النفس للقيام بالمراجعة والمحاسبة، واستعراض الأخطاء وجوانب التقصير حيث يتاح للسلوك والعقل والفكر التوبة من المعاصي، وقطع العهد عن البيت العتيق ليولد المسلم من جديد، ويدع الماضي بكل ما فيه ويتجه إلى المستقبل نقياً من الذنوب، قال 9:

«من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». حتى قيل بهذا الخصوص: «إن الطواف بعكس عقارب الساعة لعله اتجاه إلى الماضي لمحو الآثار وتعفيتها، وطمس معالم الذنوب السابقة في النفس البشرية. إن الحج رحلة باتجاه الماضي على مستوى النفس ومحاسبتها ..

إن المسلم الذي يدرك الحج بأنه طاعة وامتثال لله وفهم لهذه الحكم إنما يدفعه الشوق والعزم لأداء هذه الفريضة لثقته المسبقة بأن أول مكاسبه هو التطهر من ذنوبه السالفة وسيرجع من رحلته إلى الحج وكأنه ولد من جديد،

قال 9: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «والحج المبرور ليس له جزاء إلّا الجنة».

يرجع المسلم بعد الحج بعيداً عن موبقات الرجس وهواجس الإثم، وتقوم نفسه اللوامة بإحصاء سيئاته والتوجه مباشرة إلى الله عز وجل بطلب المغفرة والعفو؛ وذلك لأنه في موسم الحج وصل بيت الله تائباً، وكلما وصل مشعراً من مشاعر الحج دب دبيب إيمانه، فصدع بالتلبية والتكبير وصمم بنفسه على التوبة النصوح والعهد القاطع ألا يعود إلى المعصية.

موقف عرفة وازدحام الناس فيه أعظم مشاهد الحج ومناسكه، ففي ذلك الموقف بازدحام الخلق فيه، وارتفاع أصواتهم، واختلاف لغاتهم مع اتحاد لباسهم وزيهم، يتذكر المسلم عرصات القيامة ووقوف الأمم مع أنبيائهم، واتباع كل أمة نبيها، طامعين في شفاعتهم، متحيرين بين الرد والقبول، أمم متعددة الألوان والألسنة جاؤوا من كل فج عميق، يبتهلون إلى الله عز وجل شعثاً غبراً، تجردت قلوبهم وأجسامهم من زينة الدنيا، وامتدت أعناقهم وأيديهم، وشخصت أبصارهم إلى خالقهم العظيم سبحانه الذي تجلى عليهم في ذلك الموقف، يباهي بهم ملائكته ويشهدهم أنه جل شأنه غفر لأهل الموقف.

في هذا الجو الروحي الذي لا يمكن أن تكون السماء الأقرب إلى الأرض في موضع سواه، تنكشف الهواجس عن صاحب النفس اللوامة شيئاً فشيئاً فيحس بنسيم منعش يداعب صفحة وجهه، ويدب إلى رئتيه فينشرح صدره، فإذا آنس ذلك من نفسه أحس أن طوراً ثقيلًا كان يجثم على صدره، راح يتزحزح شيئاً فشيئاً، ومع مواصلة التفرغ والخشية يتخفف الحاج من أوزاره وأثقاله ليرجع كيوم ولدته أمه حتى إذا انشرح وثب من مكانه ظافراً منتصراً فقد هزم إبليس وجنده، وهزم أشباح المعصية في حياته، ويلح في الدعاء موقناً بالآية الكريمة، قال الله تعالى: أدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1).

فيشعر الحاج بالراحة النفسية التي عجزت نظريات الطب وعلم النفس عن منحها للعصاة المذنبين فلا عجب أن نسمع دعوات علماء الاجتماع والصحة النفسية إلى توظيف العبادات- وعلى رأسها الحج- لمقاومة الانحرافات السلوكية، وسائر أنواع الإدمان من خلال إيجاد نوع من العلاج النفسي والاجتماعي ذي الوجهة الإسلامية، بعد النجاح الكبير الذي لاحظه علماء النفس والاجتماع للعبادات الإسلامية في مجال التهذيب والإصلاح والتقويم.

ومما يكتسبه الحاج في رحلته الروحية إلى الحج زيادة إيمانه بنبيه 9 حيث يرى بعينيه هذه البقاع الطاهرة التي سار عليها النبي 9 فكانت مسرحاً لجهاده في نشر الدعوة، فيتذكر عند الصفا صعوده 9 عليها داعياً قومه عندما أذن الله له بالجهر بالدعوة بعد ثلاث سنوات من السرية والكتمان، ويذكر عند العقبة اجتماعه بالأنصار في بيعة العقبة الأولى والثانية، ويرى جبل النور وقد ارتفع عليه (حراء) بشمم وسمو يستقبل أول نزول الوحي بالقرآن الكريم، وعندما يرى عرفات يتذكر حجة الوداع وجموع الصحابة رضي الله عنهم تأتم بالنبي 9 في مناسكهم، وهم يستمعون إلى حجة الوداع، حيث خطب النبي 9 أبلغ خطبة حفظت حقوق الإنسان وكرامته قبل أن تعرفها الشعوب الغربية بألف عام.

إن التأمل في غار حراء وصعوبة الارتقاء إليه في جو لاهب من الحر والريح الجافة، لتؤكد للناس عبر القرون أن النبي 9 كان مؤيداً بعناية رب العالمين، عندما ينقطع في الغار لا يعبأ بالوحشة والانفراد، ولا يتسلل إلى نفسه الشريفة خوف، مما يجعل انقطاعه 9 بالغار معجزة مستقلة تؤكد صدقه 9 وصبره على تلقي هذا الأمر العظيم من الوحي والنبوة والتبليغ.

إن أبلغ آثار الحج في نفس المؤمن التائب هو ولادته الجديدة بعد عودته الخاشعة، نظيفاً من الذنوب والآثام، يستأنف حياة جديدة من الاستقامة والسمو، فيحاسب نفسه في خواطره الصامتة إذا حدثه الشيطان بسوء قائلًا:

لقد حجيت البيت فحافظ على طهرك ونقائك، ولا تدري أتعيش لعام قادم أو لا تعيش؟! وفرصة الحج ثانية قد لا تعود فاحذر الخطيئة والإثم، ويقف الحج فاصلًا منيعاً بين الماضي والحاضر المشرق، ويدفع الحاج دفعاً كيلا ينكص على عقبيه ويحافظ على السلوك المستقيم.

وتساعد نظرة المجتمع إليه بعد عودته على المزيد من التقوى والإستقامة، فالحرص على السمعة والمروءة ليس رياء، بل هو مبالغة في التقوى والحرص على الطهر والنقاء، إن نظرة المجتمع في إيجابيتها لا تقل أهمية عن الوازع الداخلي عند المسلم في تقوية حس المراقبة والمحاسبة.

إن الحج تطهير للنفس، وغرس لبذور الفضيلة والاستقامة، وصلة قوية بمنابع الإسلام الأولى، ستظل ذكرياتها محفورة في الذاكرة تؤجج الشوق إلى تكرار الحج والعمرة عدة مرات، وإذا حالت بعض الموانع دون تكرار الرحلة سيكون العزاء الشافي هو الثبات على العهد والتزام السبيل المستقيم.

الثالث: حِكَم الحج


1- غافر: 60.

ص: 101

أما حكمة أو حكم فرض الحج، وما قصده الشارع بهذا التكليف من مصالح، وما الذي يجنيه المسلمون كل عام من احتمال هذه المشقات البدنية والمالية، فهذه موضوعات لا يكثر التساؤل عنها، ولا تلقى من الحجاج العناية التي تلقاها أحكام المناسك، مع أن الشارع الحكيم ما قصد بفرض الحج، ولا بأي فرض فرضه، مجرد هيكله الظاهري وصورته المادية، وإنما قصد الهيكل والروح والصورة والمعنى، وأراد بالعبادات وبالفرائض أن تكون وسائل لمقاصد ومصالح، والواجب على المسلمين أن يقوموا بالوسائل وأن يحققوا المقاصد، التي فرض الحج من أجلها ويجنوا ثماره ومنافعه وخيره وعطاءه السخي، وكلها جاءت لتحقق مصالح الإنسان وإلا فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (1).

إن الناظر في آيات القرآن وسنن الرسول 9 يتجلى له أن الشارع الحكيم، ما فرض على كل مكلف من المسلمين والمسلمات أن يحج البيت الحرام مرة في عمره إلا لتحقيق مصالح اجتماعية لشعوب المسلمين وجماعاتهم، وأيضاً لتحقيق مصالح فردية للحاج نفسه. فالحج من حيث ما قصد الشارع به من مصالح له ناحيتان ولا يكون أداء هذه الفريضة كاملًا إلّا إذا عمل المسلمون على تحقيق هاذين الناحيتين:

1- الإصلاح الاجتماعي

فقد أرشد الله سبحانه إليها بقوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلي كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلي مارَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعامِ.

فقوله سبحانه: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ بيان لأن المقصود من الحج وفود المسلمين من الرجال والنساء إلى مكان واحد هو الكعبة، أن يشاهدوا ما فيه نفع لهم وخيرهم ومصلحتهم، وقد أطلق سبحانه «منافع لهم» ليدل على المقصود كل ما فيه نفع لهم في دينهم ودنياهم، في العلم أو في التجارة، أو في السياسة، أو في الاقتصاد، أو في كل ناحية من نواحي النفع والإصلاح، ومن أظهرها وأهمها تقوية وحدتهم وأخوتهم، ووضع خطط تعاونهم وتناصرهم.

وذلك أن الأساس الذي بنى عليه الإسلام دعوته، والشعار الذي جعله عَلم المسلمين وعنوانهم هو وحدة المسلمين وتآخيهم وتضامنهم وتناصرهم، وتغليب جامعتهم الإسلامية على ما بينهم من فروق في الجنسية أو القومية أو اللغة أو الإقليم، ولهذا نطقت نصوص القرآن والسنّة بأن المؤمنين إخوة، وبأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وبأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وقرر علماء المسلمين أن دار المسلمين دار واحدة، وإن اختلفت ملوكهم وجيوشهم ولغاتهم وأجناسهم، وأنه لا يتحقق بين مسلم ومسلم اختلاف في الدار، وإن تباينت التبعية السياسية وتباعدت الأقطار.

ومن أجل هذا شرع الله من العبادات وفرض من الفرائض ما يقوي هذه الوحدة، ويغذي هذه الأخوة، ويمكن المسلمين من جني ثمار وحدتهم وأخوتهم، فسن الجماعة في الصلوات الخمس في كل يوم؛ ليتعارف أهل المنطقة الواحدة، وفرض الجمعة في كل أسبوع ليتعارف أهل المناطق في البلد الواحد، وفرض الحج مرة في العمر ليجتمع المسلمون من مختلف الأقطار مرة في كل عام حول بيت الله الحرام وفي مهد الإسلام ومهبط الوحي، ليتذكروا مبدأ أمرهم، وما سادت به دولتهم ودعوتهم، ويتدارسوا شؤونهم .. ويقف كل شعب على حال سائر الشعوب، وبهذا التعارف والتفاهم يضعون الخطط لمبادلاتهم التجارية والصناعية والعملية، ولتناصرهم وتعاونهم على من يعتدي عليهم أو على مصالحهم.

وقد ورد في حديث عن الإمام جعفر الصادق 7 فيما حدّث به هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبدالله جعفر الصادق 7 فقلت له:

ما العلّة التي من أجلها كلّف الله العباد الحج والطواف بالبيت؟

فقال: «إنّ الله خلق الخلق ...- إلى أن قال- وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال ولتعرف آثار رسول الله 9 وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج».

وعن الفضل بن شاذان عن الإمام علي الرضا 7 قال: «إنما أُمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى الله عزوجل، وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان، والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس [الأنفس] عن اللذات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البرّ والبحر، ممّن يحج وممّن لم يحج، من بين تاجر وجالب وبائع ومشتر وكاسب ومسكين ومكار وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقُّه ونقل أخبار الأئمة إلى كل صقع وناحية، كما قال الله عزّوجل: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ و لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ».

يقول العلامة السيد فضل الله: إننا نستوحي من هذين الحديثين، أن الإسلام أراد للحج أن يكون ملتقىً للمسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التعارف والتواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حجّ ولمن لم يحج، وتبادل التجارب والخبرات المتنوّعة، التي يملكها كل فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصة، وتسهيل حركة الدعوة إلى الله بالانطلاق من موسم الحج للاتصال بكل المناطق الإسلاميّة التي تتمثّلُ بأفرادها، الذين يقصدون بيت الله الحرام لأداء الفريضة فيما يتعلّمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمال وخطط على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا، لينطلق العمل الإسلامي من قاعدة مركزيّة واسعة، في أجواء الإسلام التاريخية التي


1- النمل: 40.

ص: 102

شهدت مولد الدعوة وعاشت حركيتها، وحقّقتْ أهدافها الكبيرة في جهادها المرير الصعب، فيكون التحرك في الخط من موقع الفكرة والجوّ والخبرة المتبادلة والمعاناة الحاضرة.

وهكذا يعيش الناس فيما يقصدونه من مزارات أجواء الإسلام الأولى، التي يعيشون معها الإحساس بالانتماء الروحي والعملي لهذا التاريخ، مما يوحي لهم بأن الإسلام الذي ينتمون إليه يمتدّ إلى تلك الجذور العميقة الطارئة في أعماق الزمن، وبأن عليهم أن يعطوا هذا التاريخ امتداداً من خلال جهادهم ومعاناتهم ... (1).

فهذا الحج هو مؤتمر إسلامي سنوي ينعقد بدعوة إلهية، وتلتقي فيه وفود الأمم الإسلامية وممثلوها، في أطهر مكان بأصفى نفوس مؤيدين بمعونة الله؛ ليرسموا خطة تعاون المسلمين، ويقرروا ما يحقق آمالهم، ويعالج أمراضهم، ويوحد كلمتهم.

ولو عنى المسلمون بهذا المؤتمر الإلهي السنوي، وأوفد كل شعب إسلامي إليه بعوثاً من خيرة ما عنده من علماء السياسة والصناعة والتجارة وسائر شؤون الدين والدنيا، وكان هناك عمل على تنظيم اجتماعات لهذه البعوث المختلفة، وتيسير السبيل لتعارفهم وتباحثهم؛ لكان للمسلمين في كل عام صوت إصلاحي إجماعي، يُسمع دويه في العالم، ويترقبه المسلمون كل عام بآذان صاغية، وقلوب واعية.

ولكن مما يؤسف أن ألوف المسلمين بمكة بالمسجد الحرام يستقبلون قبلة واحدة، ويؤمهم إمام واحد، ويؤمنون بإله واحد، ولكن لا تفاهم بينهم ولا تعارف، ولا تبادل الحديث في شأن ديني أو دنيوي، وهم في مكان واحد يلتقون، وكأنهم لا تجمعهم جامعة، ولا تربطهم أخوة؛ لأن كل واحد منهم لا يفهم لغة أخيه، ولا يستطيع مبادلته أي حديث. ولهذا أرى واجباً على كل شعب إسلامي أن يجعل اللغة العربية مادة أساسية في مدارسه يتعلمها الناشؤون، وينشؤون على النطق بها والكتابة بها، فهي اللغة التي اختارتها السماء ونزل بها الكتاب المبين القرآن الكريم، وهذه أول خطوة لتفاهم المسلمين وتعارفهم، واستثمار وحدتهم وأخوتهم ..

لا بد من الانتفاع بهذا المؤتمر الإسلامي السنوي الذي ينعقد بدعوة من الله، وتهرع إليه الوفود بإيمان وإخلاص ابتغاء مرضاة الله، فلتكن وجهة المسلمين أن ينتفعوا كل عام بقرارات هذا المؤتمر، ونتائج جهود هؤلاء البعوث وصفاء نفوسهم حول الكعبة وفي مهد الإسلام ومهبط الوحي بالقرآن.

2- الإصلاح الفردي

فقد أرشد إلى هذا رسول الله 9 بقوله: «من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وبقوله: «إذا لقيت الحاج فسلِّم عليه وصافحه ومره أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته فإنه مغفور له». فكما أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن من الخطايا، والزكاة طهرة للمزكي من الشحّ والحرص والقسوة والأنانية، والصوم طهرة للصائم من الاسترسال في الشهوات واتباع النفس الأمارة بالسوء، فالحج طهرة للحاج من ذنوبه وآثامه، يغسل نفسه، ويزيل ما ران على قلبه، ويجعله دائماً على ذكر من ربه، وذلك أن الشارع الحكيم شرع كل نسك من مناسك الحج بمثابة طور من أطوار التطهير للنفس من ذنوبها وآثامها، حتى إذا أتم الحاج مناسك حجه مرت نفسه بعدة أطوار تطهيرية، فينتهي حجه، وقد غسل نفسه، وطهر قلبه، وعفا الله عنه وغفر له.

فأول ما يبدأ به الحاج: الإحرام، وهذا أول درس رياضي تهذيبي لنفس الحاج، فإن الحاج إذا تجرّد من ثيابه ورأى نفسه عاري الرأس شبه الحافي، ورأى الملوك والسوقة والأغنياء والفقراء والمخدومين وخادميهم بزي واحد هانت في عينيه مظاهر الدنيا، وتذكر مبدأه ومعاده، وآمن بأن العظمة لله وحده، وإذ ذاك يذكر معاصيه وسيئاته، ويضرع إلى ربه، ويلهج لسانه: لبيك اللهم لبيك!.

فإذا وصل بهذه الحال إلى مكة، وصل بنفس خاشعة ضارعة باكية آسفة، فيجد الضالة التي ينشدها، والفرصة التي يغنمها وهي الكعبة، فيطوف بها داعياً مستغفراً، مهللًا مكبراً، مؤمناً بأنه في أكرم مكان عند الله، فيه تقبل التوبة وتغفر الذنوب.

وإذا انتقل من الطواف بالكعبة إلى السعي بين الصفا والمروة، كرر دعاءه واستغفاره. وإذا وقف بعرفات، وذكر وقفة الرسول 9 بحجة الوداع يخطب خطبة الوداع، وواجه جبل الرحمة .. هنالك تفيض العين بالدمع، وينبض القلب بالتوبة، ويلهج اللسان بالاستغفار، واعتقد أنه نال رضا ربه، وخرج من ذنوبه، وانتصر على هواجس نفسه، ووساوس الشيطان، فيرمز لهذا الانتصار برمي الجمرات، ويعود من مناسك الحج، وقد ألقى أوزاره، واعتقد أن الله قد غفر له.

هذه المعاني الروحية والرياضة التهذيبية لمناسك الحج تقتضي من كل حاج أن يفكر فيها، وأن يعمل على تحقيقها، فإن الشارع الحكيم ما شرط الإحرام لمجرد أن يكشف الإنسان رأسه، وأن يتجرد من ثيابه، وما فرض الطواف لمجرد أن يدور بأحجار، ويتمسح بأستار، وما أوجب السعي بين الصفا والمروة لمجرد أن يجري عدة أميال، ولا فرض الوقوف بعرفة لرحلة جبلية، وإنما شرع هذا سبحانه لإصلاح نفسي، ورياضة تهذيبية.

وعلى الحجيج أن يتركوا كل ما يلهيهم ويبعدهم عن التفكير في حكمة تشريع الحج وما يراد فيه من إصلاح النفوس، وليعلم الجميع أن الله سبحانه ما قصد بأية عبادة من العبادات مجرد صورها وأشكالها، وإنما قصد حكمها وروحها وآثارها في إصلاح الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات والأمة بكاملها ..

الرابع: البُعد التذكيري


1- انظر: مجلة ميقات الحج 27: 1- 28.

ص: 103

من منافع الحج أنه خير مذكّر للإنسان الحاج، فهو يزيح عنه الغشاوة، ويفتح عينيه على ما لم يستطع معرفته وهو بعيد عن دائرة مناسك هذه الفريضة، فكلما قرب منها وكلما عاش أجواءها وتذوق طعمها، تركت في نفسه بصماتها، وراحت تفتح له آفاقها ليستفيد منها ويعيش ذكراها وهو يؤدي مناسكها بصدق وإخلاص .. ولهذا تراها تذكّره فيتذكر:

1- يتذكر بسفره إلى الحج سفره إلى الله والدار الآخرة، وكما أن في السفر فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن؛ فإن السفر إلى الدار الآخرة كذلك.

2- فكما أن الإنسان في سفره الدنيوي يستعد له بإعداد الزاد .. فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وهو أعظم منه بمراحل يحتاج إلى الزاد الأعظم والأكثر نفعاً؛ لأن أمام الإنسان النزع والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار، وكل هذه يحتاج إلى العدة .. وأسعد إنسان هو الذي ينجو من عذاب يومئذ ولا ينجو إلا إذا أحسن زاده وأتقن عمله فهو رفيقه الوحيد في رحلته هذه.

3- الذاهب في هذا السفر يتزود من الزاد الذي يبلِّغه إلى الديار المقدسة، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه من الزاد ما يبلِّغه مأمنه، وفي هذا يقول الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوي (1).

4- ودخوله لبيت الله الحرام الذي جعله الله أمناً للناس يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأنه لا يحصله الإنسان إلا بكد وتعب، وأعظم ما يؤمن الإنسان يوم القيامة التوحيد وترك الشرك بالله، وفي هذا يقول الله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (2).

5- وفي طوافه يتذكر أباه إبراهيم 7، وأنه بنى البيت ليكون مثابة للناس وأمناً، وأنه دعاهم للحج لهذا البيت، فجاء نبينا محمد 9 ودعا الناس لهذا البيت أيضاً، وكذا كان يحج إليه موسى ويونس وعيسى:، فكان هذا البيت شعاراً لهؤلاء الأنبياء وملتقىً لهم، وكيف لا وقد أمر الله تعالى إبراهيم 7 ببنائه وتعظيمه.

6- وإذا لبس المحرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية.

7- وإذا قال في الميقات: «لبيك اللهم لبيك»، فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يستجب لربّه في تركها ويقول بلسان الحال: «لبيك اللهم لبيك» يعني: استجبت لنهيك لي عنها وهذا أوان تركها؟

8- وتركه للمحظورات أثناء إحرامه، واشتغاله بالتلبية والذكر يذكره بحال المسلم الذي ينبغي أن يكون عليه، وفيه تربية له وتعويد للنفس على ذلك، فهو يروض نفسه ويربيها على ترك مباحات في الأصل لكن الله حرمها عليه ها هنا، فكيف أن يتعدى على محرمات حرمها الله عليه في كل زمان ومكان؟!

9- وتقبيله للحجر الأسود- وهو أول ما يبدأ به من المناسك- يربي الزائر على تعظيم السنّة، وأن لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر، ويعلم أن ما شرع الله للناس فيه الحكمة والخير، ويربي نفسه على عبوديته لربه تعالى ..

10- وشربه لماء زمزم يذكره بنعمة الله تعالى على الناس بهذا الماء المبارك والذي شرب منه ملايين الناس على مدى دهور طويلة ولم ينضب، ويحثه على الدعاء عند شربه، وقد نسب إلى النبي 9 قوله: «إن ماء زمزم لما شرب له».

11- السعي بين الصفا والمروة يذكره بما تحملته هاجر أم إسماعيل وزوجة نبي الله إبراهيم الخليل 7 من الابتلاء، وكيف أنها كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثاً عن مغيث يخلصها مما هي فيه من محنة وخاصة في شربة ماء لولدها الصغير- إسماعيل-، حتى أورثتنا هذا الإرث العظيم.

إنه ركن من أركان الحج «السعي بين الصفا والمروة» فإذا صبرت هذه المرأة على هذا الابتلاء ولجأت لربها فيه فأن يفعل المرء ذلك أولى وأحرى له، فالرجل يتذكر جهاد المرأة وصبرها فيخفف عليه ما هو فيه، والمرأة تتذكر من هو من بنات جنسها فتهون عليها مصائبها.

12- الوقوف بعرفة يذكر الحاج بازدحام الخلائق يوم المحشر، وأنه إن كان الحاج ينصب ويتعب من ازدحام آلاف، فكيف بازدحام الخلائق حفاة عراة فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3)؟!

13- رمي الجمار يعوّد المسلم على الطاعة المجردة ولو لم يدرك فائدة الرمي وحكمته، ولو لم يستطع ربط الأحكام بعللها، وفي هذا إظهار للعبودية المحضة لله تعالى.

14- ذبح الهدي يذكره بالحادثة العظيمة في تنفيذ أبينا إبراهيم لأمر الله تعالى بذبح ولده البكر إسماعيل بعد أن شبّ وصار معيناً له، وأنه لا مكان للعاطفة التي تخالف أمر الله ونهيه، ويعلمه كذلك الاستجابة لما أمر الله بقول الذبيح إسماعيل: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (4).

15- فإذا ما تحلل من إحرامه وحلَّ له ما حرمه الله عليه، رباه ذلك على عاقبة الصبر، وأن مع العسر يسراً، وأن عاقبة المستجيب لأمر الله الفرح والسرور، وهذه فرحة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوة الطاعة، كالفرحة التي يشعرها الصائم عند فطره، أو القائم في آخر الليل بعد صلاته.


1- البقرة: 197.
2- الأنعام: 81.
3- المعارج: 4.
4- الصافات: 102.

ص: 104

16- وإذا انتهى من مناسك الحج وجاء به على ما شرع الله وأحب، وأكمل مناسكه، رجا ربه أن يغفر له ذنوبه كلها، كما وعد بذلك النبي 9 بقوله:

«مَن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».

ودعاه ذلك ليفتح صفحة جديدة في حياته خالية من الآثام والذنوب.

17- وإذا رجع إلى أهله وبنيه وفرح بلقائهم، ذكّره ذلك بالفرح الأكبر بلقائهم في جنة الله تعالى، وعرفه ذلك بأن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة، كما قال تعالى:

قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (1).


1- الزمر: 15.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.