ميقات الحج-المجلد 27

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ملاحظات

ص: 4

يرجى من العلماء والمحققين الأفاضل الذين يرغبون في التعاون مع المجلة أن يراعوا عند إرسال مقالاتهم النقاط التالية:

1- أن تقترن المقالات بذكر المصادر والهوامش بدقّة وتفصيلٍ.

2- أن لا تتجاوز المقالة 40 صفحة وأن تكون مضروبة على الآلة الكاتبة إن أمكن أوأن تكتب بخط اليد على وجه واحد من كلّ ورقة.

3- أن تكون المادّة المرسلة للنشر في المجلة غير منشورة سابقاً وغير مرسلة للنشر إلى مجلة أخرى.

4- تقوم هيئة التحرير بدراسة وتقييم البحوث والدراسات المقدمة إلى المجلة، ولهاالحقّ في صياغتها وتعديلها بما تراه مناسباً مع مراعاة المضمون والمعنى.

5- يعتمد ترتيب البحوث والمقالات في المجلة على أسس فنيّة وليس لأسباب أخرى.

6- تعتذر هيئة التحرير عن إعادة المقالات إلى أصحابها سواء أنشرت أم لم تنشر.

7- المقالات والبحوث التي تنشر على صفحات المجلة تمثل وجهات نظر وآراءكتّابها.

8- ترسل جميع البحوث والمقالات على عنوان المجلة في طهران.

9- ترحّب هيئة التحرير في مجلة ميقات الحج بملاحظات القرّاء الكرام ومقترحاتهم.

ص: 5

توسعة المسعى

الشيخ جعفرالسبحاني

قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ. (1)

السعي أحد أركان العمرة والحج؛ فعلى المعتمر أو الحاج إذا فرغ من الطواف إتيان المسعى والسعي فيه على سبعة أشواط مبتدأً من الصفا ومختتماً بالمروة.

إنّ الصفا والمروة جبلان معروفان، فالصفا جزء من جبل أبي قبيس والمروة جزء من جبل قعيقعان (2).

وقد خص الله سبحانه المبدأ والمنتهى بعلامتين طبيعيّتين غير متغيرتين عبر العصور والقرون لكي لا يطرأ التغير على تلك الفريضة، من جهة المبدأ والمنتهى.

ذكر الفاسي أن طول المسعى (أربعمائة وخمسة أمتار) وعرضه (في بعض المواضع عشرة أمتار وفي البعض الآخر اثنا عشر متراً) (3)، هذا ما ذكره الفاسي (832 ه-) حسب ما نقله عنه رفعت باشا في كتابه «مرآة الحرمين» والذي زار مكّة بين عام 1318- 1321 ه- مرّة بعد أُخرى. وأمّا في الوقت الحاضر فإن عرضه يبلغ 20 متراً ويبلغ طوله من الداخل 5/ 394 متراً، وأمّا ارتفاع الطبقة الأولى فهو 12 متراً والطبقة الثانية 9 أمتار، ولعل الاختلاف في العرض نشأ بسبب إزالة المحلات والبيوت التي كانت موجودةً على الجانب الشرقي للمسعى، والتي كنت قد شاهدتها مقفلةً أيام موسم الحج عند تشرفنا بزيارة بيت الله الحرام عام 1375 ه-.

لا شكّ أنّه لم يطرأ على المسعى أيّ تطوّر في جانب الطول لما عرفت من أن الجبلين الشامخين ثابتان في مكانهما، إنّما الكلام في جانب العرض فهل المسعى في عصر الرسول كان محدوداً بهذا العرض المعيّن أو كان أوسع من الموجود حالياً؟

وهذا ما يطلب لنفسه التتبّع الواسع وجمع القرائن على دعم أحد الاحتمالين، خصوصاً أن الحجاج لم يزالوا على تزايد واحتشاد، فتسهيل الأمر من جانب وبيان الحكم الشرعي من جانب آخر يستدعيان البحث والتتبع والتحقيق في ذلك.

فلنذكر ما وقفنا عليه من خصوصيات المسعى في العصور السابقة، فهذا هو أبو الوليد محمّد بن عبدالله بن أحمد الأزرقي (المتوفّى بعد عام 223 ه-) يشرح لنا كيفية المسعى في ذلك العصر:

1- ذُرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا فصار 262 ذراعاً و 18 إصبعاً.

2- ذُرع ما بين المقام إلى باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا فكان 5/ 164 ذراعاً.


1- البقرة: 158.
2- تهذيب النووي على ما نقله في الجواهر 421: 19.
3- مرآة الحرمين لإبراهيم رفعت باشا 321: 1. نقلًا عن شفاء الغرام للفاسي، وهذا التقدير هو ما ذكره الفاسي مقيساً بالذراع، ثمّ حوّل إلى الأمتار باعتبار طول الذراع 49 سانتيمتراً.

ص: 6

3- وذُرع ما بين باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط الصفا، فكان 5/ 112 ذراعاً.

4- وذُرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى المروة فكان 5/ 500 ذراعاً.

5- وذُرع ما بين الصفا والمروة فكان 5/ 766 ذراعاً.

6- وذُرع ما بين العلم الذي على باب المسجد إلى العلم الذي بحذائه على باب العباس بن عبدالمطلب وبينهما عرض المسعى فكان 5/ 35 ذراعاً (1).

وفي حاشية البجيرمي ما يقرب ممّا ذكره الأزرقي فقد جاء فيها: وقدر المسافة بين الصفا والمروة بذراع الآدميّ 777 ذراعاً. وكان عرض المسعى 35 ذراعاً فأدخلوا بعضه في المسجد (2)، وهذان القولان لا يختلفان إلّا في نصف الذراع في طول المسعى وعرضه كما هو واضح.

ويظهر من كلمات المؤرخين أنّه حصل التغيير في أيّام المهدي العباسي عام 160 ه- فقد قال القطبي: أمّا المكان الذي يُسعى فيه الآن فلا يتحقّق أنّه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله أو غيره، وقد حوّل عن محلّه كما ذكره الثقات (3).

وقال صاحب الجواهر: حكى جماعة من المؤرخين حصول التغيير في المسعى في أيّام المهدي العباسي وأيّام الجراكسة على وجه يقتضي دخول المسعى في المسجد الحرام وأن هذا الموجود الآن مسعى مستجدّ، ومن هنا أشكل الحال على بعض الناس باعتبار عدم إجزاء السعي في غير الوادي الذي سعى فيه رسول الله، كما أنّه أُشكل عليه إلحاق أحكام المسجد لما دخل منه فيه.

ولكن العمل المستمر من سائر الناس في جميع هذه الأعصار يقتضي خلافه، ويمكن أن يكون المسعى عريضاً قد أدخلوا بعضه وأبقوا بعضه كما أشار إليه في الدروس (4).

وحاصل هذه الكلمات أن التضييق قد حصل في جهة المسجد لا في الجهة الأُخرى، بمعنى أن الساعي إذا وقف على الصفا متّجهاً إلى المروة فإن المسجد الحرام يقع على يساره وأمّا الجانب الشرقي فعلى يمينه فالتغيير الذي طرأ إنّما طرأ على جانبه الأيسر فدخل جزء من المسعى في المسجد، وأمّا الجانب الآخر فلم يُعلم حدوث أيّ تغيير فيه.

وبذلك يعلم مفاد ما رواه الشيخ عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله حيث قال: «ثمّ انحدر ماشياً وعليك السكينة والوقار حتّى تأتي المنارة، وهي طرف المسعى، فاسع ملأ فروجك، وقل: بسم الله والله أكبر، وصلّى الله على محمّد وآله، وقل: اللّهم اغفر وارحم واعف عمّا تعلم إنّك أنت الأعزّ الأكرم، حتّى تبلغ المنارة الأُخرى، قال: وكان المسعى أوسع ممّا هو اليوم، ولكن الناس ضيّقوه» (5).

وقد نقله العلّامة في التذكرة (6)، وفي المنتهى (7)، والبحراني (8) وصاحب الرياض (9) إلّا أنّهم لم يعلّقوا على الحديث بشي ء إلّا البحراني الذي قال: إنّ المفهوم من الأخبار أن الأمر أوسع من ذلك، فإنّ السعي على الإبل الذي دلت عليه الأخبار، وأنّ النبي كان يسعى على ناقته لا يتفق فيه هذا التضييق، من جعل عقبه يلصقه بالصفا في الابتداء وأصابعه يلصقها بالصفا موضع العقب بعد العود، فضلًا عن ركوب الدرج، بل يكفي فيه الأمر العرفي، فإنّه يصدق بالقرب من الصفا والمروة (10).

وبما أنّ الإمام الصادق قد عاصر الدولتين وتوفي عام 148 ه- أي في عصر المنصور قبل أن يتسنّم المهدي ملك بني العباس، كان التغيير قد حصل أيضاً قبل عام 160 ه-، فهذا يعرب أنّ الناس قد بنوا أبنية طول المسعى اللاصق بالمسجد فضيّقوا المسعى كما أشار إليه الإمام الصادق، وقام المهدي العباسي بتهديم البيوت وجعل أرضها جزءاً من المسجد الحرام.

ويظهر من الأزرقي أن المساحة بين المسجد والمسعى قد بنيت فيها دور لبعض المكيين.

قال: وللعباس بن عبدالمطلب أيضاً الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي إلى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان، ودار العباس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا .. ثم إنّه يقول: ولهم أيضاً دار أم هاني بنت أبي طالب التي كانت عند الحناطين عند المنارة فدخلت في المسجد الحرام حين وسّعه المهدي في الهدم الآخر سنة سبع وستين ومائة (11).

وهذا يدلّ على أنّ التوسعة التي حصلت في عهد المهدي كانت من جانب المسجد وأنّه هدم البيوت التي كانت مبنيّةً على أرض المسعى.

وقد بلغتنا الأخبار بأن السعوديين بصدد توسعة المسعى بإحداث مسيرين متحاذيين ذهاباً وإياباً، ويظهر ممّا نشره المشرفون على التوسعة أنّها مبنيّة على أن يكون القديم للآتي من المروة إلى الصفا ويكون الجديد للنازل من الصفا ذاهباً إلى المروة، وتقع التوسعة في الجانب الشرقي للمسعى لا في جانب المسجد.

وشكل الجبلين الموجود حاليّاً ربما يلازم كون المسعى الجديد خارجاً عن التحديد بما بين الصفا والمروة.

ومع ذلك كلّه فهناك قرائن تدلّ على أنّ المسعى كان أوسع حتّى من الجانب الآخر الذي يقابل المسجد وهذه القرائن عبارة عن:


1- أخبار مكّة 119: 2.
2- حاشية البجيرمي 127: 2.
3- تاريخ القطبي: 99.
4- الجواهر 422: 19.
5- الوسائل 9، الباب 6 من أبواب السعي، الحديث 1.
6- التذكرة 135: 8.
7- منتهى المطلب 411: 10.
8- الحدائق 271: 16.
9- رياض المسائل 94: 9.
10- الحدائق 265: 16. ولاحظ الرياض 94: 7.
11- أخبار مكة 233: 2- 234، ولاحظ بقية الصفحات.

ص: 7

1. إنّ الصفا جزء من جبل أبي قبيس كما أنّ المروة جزء من جبل قعيقعان، فمن البعيد أن يكون طول الجبل وامتداده حوالي 20 متراً من غير فرق بين الصفا والمروة، وهذا يدلّ على أن الامتداد الحالي ليس هو كما في السابق لحصول الحفريات على جانبيه.

2. توجد حالياً بقايا من جبل المروة خارج المسعى في الجانب الشرقي، وهذا يدلّ على امتداده سابقاً ولكنّه حفر لإيجاد الطريق.

3. يظهر من الحاكم في ترجمة الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي قوله: إنّ دار الأرقم وهي الدار التي كان النبي يدعو الناس فيها إلى الإسلام فأسلم فيها قوم كثير- إنّ داره كانت على الصفا وتصدّق بها الأرقم على ولده، فقرأت نسخة صدقة الأرقم بداره: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قضى الأرقم في ربعه ما حاز الصفا أنّها صدقة بمكانها من الحرم لا تباع ولاتورث».

إلى أن قال الحاكم: فلم تزل هذه الدار صدقة قائمة، فيها ولده يسكنون ويؤجرون ويأخذون عليها حتّى كان زمن أبي جعفر. قال محمّد بن عمر فأخبرني أبي عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم قال: «إنّي لأعلم اليوم الذي وقع في نفس أبي جعفر أنّه يسعى بين الصفا والمروة في حجّة حجّها ونحن على ظهر الدار فيمرّ تحتنا لو شئت أن آخذ قلنسوته لأخذتها، وإنّه لينظر إلينا من حين يهبط الوادي حتّى يصعد إلى الصفا» (1).

وهذه الوثيقة التاريخية تدفعنا إلى القول أنّ المسعى من الجانب الشرقي كان أوسع ممّا عليه الآن.

4. إن دار الأرقم صارت في السنوات السالفة مكاناً لما يسمى «دار الحديث المكّي» ولو بذلت جهود لسؤال المسنّين والمعمرين الذين شاهدوا دار الحديث قبل التوسعة وحدّدوا مقدار الفاصلة بينه وبين المسعى الحالي لكان ذلك دليلًا للموضوع.

هذا، وقد نشر المشرفون على التوسعة مخططاً ذكروا فيه أن دار الأرقم بن أبي الأرقم «دار الحديث» كانت تبعد عن المسعى الحالي مقدار 18/ 21 متراً.

وهذا الذي يعاني منه العلماء والمحقّقون اليوم هو أحد النتائج السلبيّة التي سببها هدم الآثار التاريخية المتعلّقة بعصر النبي وصدر الإسلام والذي تعرّضت له الكثير من المعالم الإسلاميّة في مكّة والمدينة المنوّرة.

ولو كانت التوسعة مقرونة بحفظ معالم الإسلام وآثاره لما ضاع علينا معرفة حدود المشاعر الإسلامية.

5. يحتفظ المشرفون على التوسعة الجديدة بصورة فوتوغرافيّة قديمة لمنطقة الصفا والتي تظهر- كما يقولون- أنّ هناك امتداداً شرقياً لجبل الصفا كان موجوداً قبل أعمال الهدميات وأثناء عملية الإزالة وبعد الإزالة.

6. كما ذكرنا من الدراسة يؤيد امتداد جبل الصفا حوالي 20 متراً إلى الشرق، إنّما الكلام في امتداد جبل المروة بهذا المقدار ولم نقف على ما يؤيّد امتداد جبل المروة هذا المقدار، حتّى الباحثين في السعوديّة صرّحوا بذلك وقالوا: لم يوضح المسح التاريخي للصور الامتداد الشرقي لجبل المروة وإن أثبتت أحاديث كبار السنّ والمعمرين من سكان المنطقة وجود امتداد شرقي لسفح جبل المروة يقدّر بحوالي 40 متراً بنيت عليه البيوت إلى شارع «المدعى» الموجود جزء منه حالياً.

7. بالاعتماد على المسح الجيولوجي لمنطقة جبل المروة ثبت أنّ امتداد الجبل يستمر إلى مسافة 31 متراً، وهذا ما أشار إليه المشرفون في تقريرهم حيث قالوا: إنّ هناك ردميات من البطحاء تظهر في القطاعات المرفقة. كما نجد امتداد الجبل السطحي الموضح في الخريطة الجيولوجيّة المرفقة يقارب (31 متراً) شرقاً، وهو ما تمّ تأكيد وجوده من نتائج الحفر.

8. أكدت الدراسات التاريخيّة والجغرافيّة والجيولوجيّة التي قامت بها اللجان المشرفة على توسعة المسعى أنّ هناك امتداداً سطحياً لجبل المروة بما لا يقلّ يقيناً عن 25 متراً من الناحية الشرقية، وهذا ما ثبت بعد دراسة عينات الصخور التي أخذت من الناحية الشرقيّة لجبل المروة والتي ظهرت مشابهتها لصخور المروة.

هذه معلومات ووثائق حول الموضوع أضعها في متناول المحقّقين حتّى تكون نواةً للبحث والدراسة الموسّعة، وليست الدراسة دليلًا على الإفتاء، وإنّما هي خطوة متواضعة للغرض المنشود إلى أن ينكشف الحال أكثر من ذلك (2).


1- المستدرك على الصحيحين 502: 3- 503.
2- وقد تلقينا بعض هذه المعلومات من قبل صديقنا الأستاذ عبدالوهاب إبراهيم أبوسليمان حفظه الله تعالى ورعاه، وهو أحد علماء مكّة المكرّمة.

ص: 8

ص: 9

مكة والمدينة في علوم القرآن

محسن الأسدي

تصوير لموقع دار الأرقم في المسعى وهي تبعد عن المسعى الحالي 18/ 21 متراً وقد دلّت الوثائق التاريخيّة على أنّه كان يومذاك في المسعى

لم تكتف هاتان المدينتان بما حظيتا به من مكانة كبيرة في تاريخنا الإسلامي، فهما تشكلان عاصمتي الدين الإسلامي الحنيف، فمكة عاصمة الانطلاقة الأولى لكلمة لا إله إلاالله وأن محمداً رسول الله، وكعبتها القبلة التي يتوجه إليها المسلمون في كل فرض ومستحب ودعاء وفي توجيه أمواتهم وذبائحهم ...

والمدينة عاصمة الهجرة والدولة النبوية المباركة.

كما غدا كل منهما أيضاً حرمين آمنين مباركين تشد إليهما الرحال وتأتي إليهما جموع المسلمين لأداء مناسك الحج والعمرة والزيارة.

كل هذا لم تكتف به هاتان المدينتان المقدستان و تقفا عنده، بل راحتا تحتلان مكانة متميزة في علوم القرآن الكريم، أرقى العلوم الإسلامية، وبالذات في مسألة على قدر عالٍ من الأهمية، وهي سوره وآياته وتقسيمها حسب وقت نزولها ومكانها، فكان منها ما نسب إلى مكة وهو (المكي) وبين ما نسب إلى المدينة وهو (المدني).

حتى عدّ العلم بهذه السور والآيات من أرقى الدراسات والبحوث في علوم القرآن، بل غدت منزلة المكي والمدني من أشرف علوم القرآن بما تحمله من تفاصيل وبما تتركه من آثار وبما يترتب على معرفتها من ثمار علمية وتفسيرية وفقهية وتاريخية واجتماعية وسياسية ...

ص: 10

يقول أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه: «من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي ... والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة ... وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مدني وبعضهم: مكي ..».

ثم يختم كلامه بعد تعداده لهذه العلوم القرآنية- وأنا اختصرت كلامه مكتفياً منه بما له علاقة بموضوعنا- بقوله:

«فهذه خمسة وعشرون وجهاً من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ له أن يتكلّم في كتاب الله تعالى» (1).

إذن منزلة مكة والمدينة منزلة كبيرة في ضمير الأمة وفكرها ومشاعرها إن على مستوى التاريخ والموقع والدور الذي قاما به بعد أن قدّرته السماء لهما، وإن على مستوى القرآن الكريم وكيف فصلت سوره وآياته بينهما من حيث النزول، وما يحمله هذا الأمر من معان كبيرة ومهمة ودور علمي راح يذكر لهما في كل كتب التفسير وعلومه والشريعة والتاريخ، وفي تفسير القرآن وتأويله ...

وهذه المكانة في البحوث القرآنية جعلتنا نأمل من خلال مقالتنا هذه أن نوضح ما نتمكن منها ويتيسر لنا.

فدراسة السور والآيات المكية والمدنية تحتلّ باباً واسعاً في معارف القرآن الكريم، وهو المعجزة الإلهية الخالدة؛ فمعرفة المكي والمدني من القرآن الكريم- سواء أكانت سورة أم آية- له فوائد كبيرة تتعلق بأسباب النزول وتساعد المفسر والفقيه والباحث في معرفة اتجاه الآية، إذ إن معرفة مكان نزول الآية توقفنا على الأحوال والملابسات التي احتفت بنزولها .. وما يترتب على ذلك من معرفة علوم قرآنية عديدة كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ و أن المتأخر ينسخ المتقدم، والخاص والعام والمقيد والمطلق ... فالاطلاع على مكان نزول الآية يعين لا على فهم المراد بالآية ومعرفة مدلولاتها، وما يراد منها فقط، بل يساعدنا على معرفة تاريخ التشريع وتدرّجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسموّ المنهج الإسلامي في بناء الصحابة والجماعات تربوياً واجتماعياً ... وكذلك معرفة سيرة رسول الله عبر متابعة أحواله ومواقفه بمكة المكرمة، ثم أحواله في المدينة المنورة وسيرته في الدعوة إلى الله تعالى في كل منهما، ومعرفة مدى اهتمام المسلمين وعنايتهم بالقرآن الكريم فهم لم يكتفوا بحفظ النصوص القرآنية فقط، بل راحوا يتتبعون أماكن نزولها، ما كان قبل الهجرة وما كان بعدها، وما نزل منها بليلٍ وما نزل منها بنهار، ما نزل منها في صيف وما نزل منها في شتاء، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر ..، وكان حرصهم في عملهم هذا يتسم بالجهد والدقة والضبط ... وما هذه العناية العظيمة بالقرآن وتقصي أماكن نزوله وأوقاته إلا الدليل الواضح على تلك الجهود المخلصة وعلى مدى الاهتمام الذي بذله المسلمون الأوائل بالقرآن وحبهم له، وهي بالتالي تعزز في النفوس الثقة بعظمة ما بذله الأصحاب والصالحون لحفظ القرآن وإيصاله إلى الأجيال المتعاقبة سالماً من التحريف والنقص ..

هذا ملخص ما أورده العلماء وهم يتحدثون عن أهمية هذا العلم وفوائده وأنه أمر لا يستغنى عنه في مجالات البحث العلمي و التحقيق في الأبواب المتعددة تفسيراً وفقهاً وتاريخاً ...

البداية

إن الحديث عن بداية علم المكي والمدني توجب علينا الإشارة أولًا إلى أن القران الكريم- وكما هو معروف- لم ينزله الله تعالى على نبيه الكريم دفعة واحدة أو كما في الآية جملة واحدة، بل أنزله منجماً ومفرقاً لأهداف رسمتها الآية الكريمة.

تثبيت قلب رسول الله

قال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (2).

أي: أنزلناه كذلك لتثبيت فؤادك بالوحي المتتابع فتتجدّد صلتك بالله عزوجل ..

تسهيل حفظه وفهمه تمهيداً للعمل به تبليغاً والتزاماً حيث يقرأ عليهم شيئاً فشيئاً كما قال تعالى:

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (3).

وحين تتطلّب المقتضيات والوقائع والأسباب والمصالح ...

وقد استغرق ذلك الأمر ثلاثاً وعشرين سنة تقريباً، وراح ينزل على رسول الله بأماكن متعددة؛ فبعضه كان نزوله في مكة، وبعضه الآخر بالمدينة بعد أن هاجر إليها، وأينما أقام وفي سفر كان أو في حضر، وفي حرب كان أو في سلم .. وهذا أمر طبيعي؛ فالرسول لم يكن مستقراً في مكان واحد أو في زمن واحد، والوحي يلاحقه فينزل عليه أينما حلّ وفي أي وقت كان ..

ونظراً لتعدد الأماكن والأزمنة التي نزل فيها القرآن الكريم، راح الرواة والمفسّرون يحددون أماكن الآيات والسور وأزمنة نزولها ..

ثم إن بداية هذا العلم لا تتعدّى كونها أقوالًا تناقلتها ألسنة الصحابة والتابعين، ولم يرد فيه بيان عن النبي، وقد يكون السبب أن المسلمين في العصر الأول في عهد رسول الله لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، وهم مكتفون بمعرفة الآيات القرآنية ومكان نزولها وزمانها وأسباب نزولها، وكما


1- الإتقان في علوم القرآن 36: 1 في معرفة المكي والمدني؛ والبرهان في علوم القرآن 192: 1.
2- الفرقان: 32.
3- الإسراء: 106.

ص: 11

يقال: ليس بعد العيان بيان، حتى نضج هذا الأمر كباقي المفردات الأخرى، لتشكل بدورها منظومة علوم القرآن التي هي بين أيدينا اليوم والتي لا يستغني عنها كل من يريد البحث في هذا الكتاب السماوي العظيم، معجزة الإسلام الخالدة ..

فعن ابن مسعود- كما روي- أنه قال: «والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت».

فيما يقول القاضي أبو بكر في الانتصار:

«إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة ...».

ويقول السيد الشهيد الصدر: إن لفظ المكي والمدني ليس لفظاً شرعياً حدد النبي مفهومه ... وإنما هو اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير ... (1)

الاختلاف

وسبب الاختلاف في بيان ما هو مكي وما هو مدني .. حصل نتيجةً لاختلاف آرائهم في الملاك الذي يعودون إليه في تعيين المراد من المكي والمدني؛ فصارت لهم في هذا مذاهب يمكن حصرها في ثلاثة، نذكرها والملاحظات التي سجّلوها عليها:

الأول: الملاك المكاني

فقد جاء هذا الملاك ناظراً إلى مكان نزول السورة والآيات، فما نزل بمكة وضواحيها: منى وعرفات والحديبية .. ولو بعد هجرة رسول الله إلى المدينة يعدّ مكياً. وأما ما نزل في المدينة وضواحيها: بدر وأحد وسلع، وهو جبل بسوق المدينة .. فإنه يعد مدنياً.

فالملاك في هذا القسم هو مكان نزول السورة أو الآية القرآنية.

ويلاحظ على هذا التقسيم:

1- أنه يعد ضابطاً أو ملاكاً خالياً من الدقة، لأن المكان وحدوده واتساع ضواحيه وأنحائه أمر غير واضح ولا يعرف مداه.

فقوله تعالى: أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (2).

قيل: إنها نزلت في الطائف وقد سكنتها قبائل ثقيف فبنوا عليها حائطاً مطيفاً بها فسموه الطائف. وفيها ضريح الصحابي الجليل حبر الأمة عبد الله بن عباس الذي توفي سنة ثمان وستين للهجرة ودفن في مسجدها .. فهل يصدق لفظ ضواحي مكة على الطائف حتى تكون هذه الآية مكيةً، والطائف تقع على مرحلتين من مكة وقيل: بينهما ستون ميلًا؟

وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (3).

قيل: إنها نزلت في الجحفة والنبي في طريق هجرته إلى المدينة (4).

فهل الجحفة من ضواحي مكة حتى تكون الآية مكية أو من ضواحي المدينة حتى تكون الآية مدنية، والجحفة بينها وبين مكة نحو ستة وسبعين ميلًا، وبينها وبين غدير خم المكان الذي كانت فيه خطبة الوداع التي ألقاها رسول الله بعد حجة الوداع ثلاثة أميال، وكانت تسمى مهيعة ثم سميت الجحفة بعد أن أجحفتها السيول ..؟

2- وأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما كالذي نزل بتبوك وهو:

قوله تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ(5).

وكالذي نزل ببيت المقدس ليلة الإسراء أو في السموات العلى، وهو قوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ... (6).

وبالتالي فيعدّ هذا التقسيم غير حاصر ولا يفي بالمطلوب.

وهناك قولان آخران:

- أن ما نزل خارج البلدين مكة والمدينة بعيداً عنهما لا يطلق عليه مكي ولا مدني ضارباً لهذا مثالين وهما الآية: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (7)، قيل: إنها نزلت بالحديبية حينما صالح النبي مشركي قريش، فقال رسول الله لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم ... فقال سهيل بن عمرو وسائر المشركين: ما نعرف الرحمن إلا صاحب مسيلمة الكذاب .. فنزلت الآية (8).


1- انظر علوم القرآن: المكي والمدني.
2- الفرقان: 45.
3- القصص: 85.
4- البرهان 197: 1.
5- التوبة: 42.
6- الزخرف: 45.
7- الرعد: 30.
8- أنظر: مجمع البيان، الآية.

ص: 12

وهكذا آية الأنفال الأولى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، نزلت في بدر عندما اختصم المسلمون في تقسيم الغنائم .. (1).

فهما آيتان لا مكيتان ولا مدنيتان على الاصطلاح المذكور.

إن ما نزل بالأسفار ليس من المكي ولا من المدني .. وهذا يدفعنا للقول: إن هناك ثلاثة أصناف: مكي ومدني والثالث لا مكي ولا مدني، وهو ما نزل في أسفاره، وقد أخرج الطبراني في الكبير من طريق الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان عن ابن عمر عن أبي أمامة قال:

قال رسول الله: «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام».

قال الوليد: يعني بيت المقدس، فيما قال الشيخ عماد الدين بن كثير: بل تفسيره بتبوك أحسن (2).

الثاني: ملاكيّة المخاطب

فما جاء من السور والآيات القرآنية خطاباً لأهل مكة فهو مكي، وما جاء خطاباً لأهل المدينة فهو مدني، وعلى هذا الأساس حملت كل آية صدرها يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... أو يَا بَنِي آدَمَ ... على أهل مكة؛ لغلبة الكفر عليهم، وإن كان غير أهل مكة داخلًا فيهم. فيما حملت الآية التي صدرها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... على أهل المدينة لغلبة الإيمان عليهم وإن كان غير أهل المدينة داخلًا فيهم ..

ويبدو أن هذا الاصطلاح مأخوذ من كلام ابن مسعود: «كل شي ء نزل فيه يا أيها الناس فهو في مكة. وكل شي ء نزل فيه يا أيها الذين آمنوا فهو في المدينة» (3).

فقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه في كتاب فضائل القرآن: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة: كل شي ء نزل فيه يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... فهو بمكة، وكل شي ء نزل فيه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... فهو في المدينة. وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود. فيما رواه الحاكم في مستدركه آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين، مسنداً عن عبد الله بن مسعود. ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة، وكذا رواه البزار في مسنده وابن مردويه في تفسيره في سورة الحج عن علقمة عن أبيه.

«ولأن الغالب على أهل مكة الكفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان» (4).

وقد نصّ على هذا القول جماعة من الأئمة، منهم أحمد بن حنبل وغيره، وبه قال كثير من المفسرين ونقله عن ابن عباس (5).

ولهم ملاحظات على هذا الرأي منها:

أ- أنهم لا يملكون ضابطاً دقيقاً لمعرفة الآيات التي تخاطب المكيين أو المدنيين.

ب- وأن التصدير ب- يَا أَيُّهَا النَّاسُ ليس أمراً مطرداً في جميع الموارد، فهناك أول آية من سورة النساء وهي مدنية، وقد صدرت ب- يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... (6) والآية 21 من سورة البقرة وهي مدنية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ .... وهناك سورة الحج التي وقع فيها الاختلاف في كونها مكية أو مدنية، وهي تتوفر على (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ...) (7). و يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا (8).

إن هناك آيات كريمة لا تتصدر ب- يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... أو يَا بَنِي آدَمَ ... أو يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...، مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ...، مع من ندرجها؟

وإن ردّ بعضهم على هذا بأنّ المراد من ذلك الخطاب هو الأغلبية.

فيجاب: بأن الأغلبية لا تكون ضابطاً حاصراً مطرداً.

وليس لدينا دليل على أن الخطاب المكي مقيّد بصيغة يَا أَيُّهَا النَّاسُ ... أو يَا بَنِي آدَمَ ...، فإن بعض الآيات قد تخاطب الجماعة المؤمنة بذلك في أول الإسلام دفعاً لضرر قد يحاك لهم أو لحل مشكلة خاصة بهم أو من باب التكريم لهم والإجلال والاحترام.

وأيضاً ليس هناك من دليل على أن الخطاب المدني يختص بصيغة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...، لأن الكفار هم مطالبون بالإيمان والعمل أصولًا وفروعاً كما في الآية 21 من سورة البقرة وهي مدنية يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...

الثالث: ملاكيّة الهجرة النبوية

وغدت الهجرة ووقتها في هذا القسم- الذي عد في نظرهم الأشهر- هي الملاك، أي أن مصطلح المكي يطلق على ما نزل من القرآن قبل الهجرة وإن كان نزوله ليس بمكة. والمدني ما كان نزوله بعد الهجرة سواء كان نزوله بالمدينة أم بمكة أم في أي مكان آخر.


1- ابن هشام، السيرة النبوية 666: 2.
2- للسيوطي، انظر الإتقان 38: 1.
3- الحاكم النيسابوري، المستدرك 18: 3.
4- الزركشي، البرهان 187: 1.
5- المصدر نفسه: 189.
6- النساء: 1.
7- الحج: 1.
8- الحج: 77.

ص: 13

فالملاك في هذا أو الضابط فيه أن التاريخ الفاصل بين المدني والمكي هو الهجرة؛ فما نزل بعدها- بغض النظر عن مكان النزول- فهو المدني وما نزل قبلها بغض النظر عن مكان النزول فهو المكي. وبتعبير آخر الملاك هو زمن النزول قبل الهجرة أو بعدها؛ سواء ما نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار.

وقد أخرج عثمان بن سعد الرازي بسنده إلى يحيى بن سلام قال:

ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي المدينة فهو من المكي، وما نزل على النبي في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني، وهذا أثر لطيف يؤخذ منه أن ما نزل في سفر الهجرة مكي اصطلاحاً (1).

فالآيات التي نزلت في أسفار الرسول أو في مكة حتى وإن نزلت في جوف الكعبة أو في منى وعرفات، تعد كلها آيات مدنية؛ لأنها جاءت وفق الملاك المذكور، وهو أنها نزلت بعد الهجرة، كما هو الحال في الآية 61 من سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، فإنها نزلت عام الفتح، أي بعد الهجرة وفي جوف الكعبة.

والآية 2 من سورة المائدة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... نزلت في الجحفة، وعلى رأي ثانٍ نزلت في عرفات، وفي عصر يوم عرفات من يوم الجمعة عام حجة الوداع. وآية يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... (2)، نزلت إما في عرفات على رأي أو في غدير خم على رأي آخر وفي حجة الوداع، وهي آيات مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، وهذا الرأي جعلوه أشهر الأقوال الثلاثة. وهو تفسير بني عندهم على أساس الترتيب الزماني لنزول الآيات؛ وتكون هناك مرحلتان زمانيتان تفصل بينهما هجرة الرسول.

الترجيح بين الأقوال والنظريات

وقد ذهب العديد من العلماء ومنهم السيد الشهيد الصدر إلى ترجيح الرأي الثالث، وهو يشكل كما رتبه السيد الصدر الرأي الأول في بحثه؛ إذ بعد أن يوجب طرح الرأي الذي يبنى على أساس مراعاة أشخاص المخاطبين، أي المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة؛ لأنه يقوم على أساس خاطئ، وهو الاعتقاد أن من الآيات ما يكون خطاباً لأهل مكة خاصة ومنها ما يكون خطاباً لأهل المدينة وليس هذا بصحيح، فإن الخطابات القرآنية عامة وانطباقها حين نزولها على أهل مكة أو على أهل المدينة لا يعني كونها خطاباً لهم خاصة أو اختصاص ما تشتمل عليه من توجيه أو نصح أو حكم شرعي بهم، بل هي عامة ما دام اللفظ فيها عاماً ...

ثم يقول السيد الشهيد: والواقع أن لفظ المكي والمدني ليس لفظاً شرعياً حدد النبي مفهومه؛ لكي نحاول اكتشاف ذلك المفهوم، وإنما هو مجرد اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير، وما من ريب في أن كل أحد له الحق في أن يصطلح كما يشاء.

ثم يذهب إلى أن مصطلح المكي والمدني على أساس الترتيب الزمني أنفع وأفيد للدراسات القرآنية، وسبب الترجيح هذا- كما يذهب إليه السيد الشهيد- هو أن التمييز من ناحية زمنية بين ما أنزل من القرآن قبل الهجرة وما أنزل بعدها أكثر أهمية للبحوث القرآنية من التمييز على أساس المكان- بين ما أنزل على النبي في مكة وما أنزل عليه في المدينة- فكأن جعل الزمن أساساً للتمييز بين المكي والمدني واستخدام هذا المصطلح لتحديد الناحية الزمنية أوفق بالهدف.

ثم يذكر نقطتين تبيّنان أهمية التمييز الزمني من التمييز المكاني وهما:

1- فقهية، أي أنها ترتبط بعلم الفقه ومعرفة الأحكام الشرعية، وهي أن تقسيم الآيات على أساس الزمن إلى مكية ومدنية وتحديد ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها، يساعدنا على معرفة الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ متأخر بطبيعته على المنسوخ زماناً، فإذا وجدنا حكمين ينسخ أحدهما الآخر استطعنا أن نعرف الناسخ عن طريق التوقيت الزمني، فيكون المدني منهما ناسخاً للمكي لأجل تأخره عنه زماناً.

هذه النقطة إنما تكون مهمة- والقول للسيد الشهيد محمد باقر الحكيم- بناء على المذهب المعروف في علوم القرآن الذي يقول بوجود النسخ بين الآيات القرآنية من خلال افتراض وجود حكمين متخالفين، أحدهما متأخر عن الآخر زماناً، فيفترض أن الثاني ناسخ للأول. وأما إذا التزمنا بعدم وجود النسخ بهذا الشكل وإنما موارد النسخ في القرآن مبينة من خلال نظر الآية الناسخة للآية المنسوخة في مضمونها فلا تبقى أهمية لهذه النقطة وإنما تكون مجرّد فرضية ..

2- والنقطة الأخرى التي يذكرها السيد الشهيد الصدر هي: أن التقسيم الزمني للآيات إلى مكية ومدنية يجعلنا نتعرف على مراحل الدعوة التي مرّ بها الإسلام على يد النبي، فإن الهجرة المباركة ليست مجرد حادث عابر في حياة الدعوة، وإنما هي حدّ فاصل بين مرحلتين من عمر الدعوة، وهما: مرحلة العمل في ضمن المجتمع الذي تحكمه السلطة الكافرة المهيمنة على جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، ومرحلة العمل ضمن دولة الإسلام. ولئن كان بالإمكان تقسيم كل من هاتين المرحلتين بدورهما أيضاً إلى مقاطع زمنية، فمن الواضح- على أي حال- أن التقسيم الرئيس هو على أساس الهجرة.

فإذا ميزنا بين الآيات النازلة قبل الهجرة وما نزل منها بعد الهجرة، استطعنا أن نواكب تطوّرات الدعوة والخصائص العامة التي تجلّت فيها خلال كل من المرحلتين. وأما مجرد أخذ مكان النزول بعين الاعتبار وإهمال عامل الزمن فهو لا يمدّنا بفكرة مفصلة عن هاتين المرحلتين ويجعلنا نخلط بينهما، كما يحرمنا من تمييز الناسخ والمنسوخ من الناحية الفقهية.. وسوف يتضح أيضاً مزيد من الأهمية عند دراستنا لخصائص المكي والمدني فلهذا كله- والقول مازال للشهيد الصدر- نؤثر الاتجاه الأول في تفسير المكي والمدني .. وهو الاتجاه الثالث في مقالتنا هذه، وهو القائم على أساس


1- الإتقان 37: 1.
2- المائدة: 67.

ص: 14

الترتيب الزماني للآيات، وأن الهجرة النبوية المباركة تشكل حداً زمنياً فاصلًا بين مرحلتين؛ فما نزل من القرآن قبل الهجرة يعد مكياً وما نزل بعد الهجرة يعد مدنياً بغض النظر عن مكان النزول (1).

كيفية معرفة المكي والمدني

كما ذكرنا في فقرة بداية هذا العلم، وكما يظهر من بعض ما تيسّر من أقوال عدد من العلماء، أن تحديد سور وآيات أنها مكية وأخرى مدنية، وبالتالي صار عندنا علم خاص يطلق عليه المكي والمدني، هذا لم يكن رسول الله قد أمر به، ولم يكن تحديد أن هذه السورة أو الآية مكية وهذه مدنية من وظيفة الرسول ومهامه حتى يبينه، ولكن التعرض لذلك جاء حين البحث حول القرآن، ومعرفة مكيه ومدنيه، وناسخه ومنسوخه .. فهي بحوث أثيرت بعد الرسول، واعتمدت على روايات وشواهد أعانت على هذا التحديد. وإنما يرجع في معرفة المكي والمدني- كما يقول القاضي ابو بكر في الانتصار- إلى حفظ الصحابة والتابعين ولم يرد عن النبي في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول، وقد ورد عن الصحابة وعن التابعين أيضاً ما يبين أنهم كانوا مهتمين بزمان ومكان نزول الآيات وبمن نزلت ... وهذا ما تكفلت بنقله مصادر الرواية والتاريخ عند الفرق الإسلامية، وبالتالي فقد كان للروايات والنصوص والشواهد التاريخية دور كبير في الكيفية التي تساعد على معرفة كل من المكي والمدني، فقد راحت تلك الروايات تؤرّخ للسورة القرآنية والآيات من حيث وقت نزولها ومكانه، ولاهتمام المفسرين بهذا الأمر انصبّ جزء من جهودهم لتقصّي تلك الروايات والأخبار حتى يصلوا إلى تحديد السور المكية والمدنية، وكذلك الآيات؛ حتى غدا عملهم هذا ذا أسس ومنهج مما جعله علماً مهماً لا يستغني عنه المفسر بل والفقيه والتاريخي في بحوثه وأنشطته العلمية التي تخصّ القرآن الكريم ..

إن متابعة السورة والآية يعد علماً مهماً من علوم القرآن الكريم فلا تجد كتاباً يتناول علوم القرآن إلا وتجد باباً خاصاً يسمى المكي والمدني، وتجد أيضاً تقسيماً للسور والآيات مع ذكر أسماء السور والآيات ومن أي قسم هي من المكي أو من المدني ...

ومما ذكر من الروايات قول ابن مسعود: «والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت». وكذلك ما ذكروه من أنه سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل. وأشار إلى سلع.

ثم ذكر القاضي أيضاً: «كانت العادة تقضي بحفظ الصحابة ذلك، غير أنه لم يكن من النبي في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا. وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به، ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة، وكذلك الصحابة والتابعون من بعده لما لم يعتبروا ذلك من فرائض الدين لم تتوفر الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذلك على أسماعهم، وإذا كان الأمر على ذلك ساغ أن يختلف من جاء بعدهم في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني؟ وأن يعملوا في القول بذلك ضرباً من الرأي والاجتهاد ...» (2).

وما دام الأمر ليس من الأمور الشرعية التي لا يجوز مخالفتها أو تكلّفنا البحث عن المراد منه .. وهو بالتالي ليس إلا أن يكون مصطلحاً لا غير، تواضع عليه علماء التفسير- كما يقول السيد الشهيد الصدر- وما من ريب في أن كل واحد له الحق في أن يصطلح كما يشاء ...

منهجان في المكي والمدني

ذكر علماء تفسير القرآن الكريم وعلومه أن هناك منهجين اتبعا لمعرفة كلّ من السور والآيات المكية والمدنية:

1- منهج سماعي: يقوم على النقل، أي يستند إلى روايات الصحابة الذين عاصروا النبي ومرحلة الوحي وما يأتي به من آيات يلقيها على رسول الله، وإلى ما ورد عن التابعين الذين تلقوا عن الصحابة وسمعوا منهم نزول الآيات وقتاً ومكاناً ..

2- منهج قياسي اجتهادي: يستند إلى ضوابط و خصائص كل من المكي والمدني، فإذا وردت السورة أو الآية وهي تحمل طابع التنزيل المكي بضوابطه وصفاته أو تتضمن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مكية، وإذا وردت السورة أو الآية وهي تحمل طابع التنزيل المدني، أو تتضمّن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مدنية، وهذا منهج قياسي اجتهادي، ولهذا نجدهم يقولون: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهي مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنية، وهكذا في بقية الضوابط والخصائص ..

وهذا الجعبري يحدّد ذلك بقوله:

فالسماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما. والقياسي قال علقمة عن ابن مسعود: كل سورة فيها يَا أَيُّهَا النَّاسُ فقط أو «كلا» أو أولها حروف تهجٍّ سوى الزهراوين (البقرة وآل عمران) والرعد- في وجه- أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطولى (البقرة) أو فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهي مكية. وكل سورة فيها حدّ أو فرض فهي مدنية ...

الخصائص

ولأهمية هذا العمل ولدقته ذكروا خصائص أو ضوابط لكلّ من المكي والمدني إن توفرت عليها السورة أو الآية درجت تحت واحد من النوعين ذي الخصائص المحددة له .. نعم ذكروا خصائص عديدة إلا أنهم لم يتفقوا على جلّها، فلعل بعضهم ناقش فيها، فيما فند الآخر أكثرها ورفضها غيرهم وقبلها آخرون وهذه جملة منها:


1- محمدباقر الحكيم، علوم القرآن: 75.
2- الزركشي، البرهان 190: 1- 192.

ص: 15

أولًا: إذا كان الخطاب الوارد في السورة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، فإنه أنزل في المدينة وما كان الخطاب يَا أَيُّهَا النَّاسُ أو يَا بَنِي آدَمَ فإنه أنزل في مكة المكرمة.

تقول الرواية: وكل سورة فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهي مدنية.

وفي هذا نظر؛ فإن الخطاب المدني لم يكتف ب- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بل استعمل أيضاً يَا أَيُّهَا النَّاسُ في خطاباته:

كما هو الحال في سورة البقرة وهي مدنية:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ .. (1).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ ... (2).

وفي سورة النساء وهي مدنية وفيها:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ (3).

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ (4).

وفي سورة الحج وهي مدنية الآيات 73. 49. 5. 1.

وفي سورة الحجرات المدنية:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى ... (5).

فإن أرادوا الغالب ذلك فهو صحيح، كما هو قول مكي بن حموش: هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام، وفي كثير من السور المكية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.

وهناك تفاصيل وتبريرات يرجع فيها إلى الإتقان للسيوطي (6).

إن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لم تقع في السور المكية وإن الموجود خال من النداء أو الخطاب الَّذِينَ آمَنُوا فانظر السور: ص والزمر وغافر وفصلت وغيرها أيضاً.

إلا أن الزركشي ذكر مثالًا لما يذهب إليه من وقوع الخطاب ب- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الخطاب المكي، وهو الآية 77 من سورة الحج يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وله الحق في هذا حسب مبناه من أن هذه الآية مكية، ولكن هذا خلاف المشهور من أن سورة الحج بكاملها مدنية ..

ولا بد أيضاً من الإشارة إلى أن ما ذكر في بحث المكي والمدني للسيد الشهيد الصدر عند التعرض لهذه الخاصية من أن سورة الحج تستثنى من ذلك؛ لأنها استعملت الكلمة الثانية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالرغم من أنها مكية .. ولكنّ هذه السورة- كما هو المشهور- مدنية، وإن قيل بمكيتها عن ابن عباس وعطا ومجاهد، وكما أشير في الهامش من علوم القرآن وأنها استعملت التعبيرين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ في الآيات 73. 49. 5. 1. و يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ورد مرة واحدة في الآية 77.

ضوابط ومميزات

وإضافة للضابطة أعلاه، هناك ضوابط كلية أسست على التتبع والاستقراء المبني على الغالب، ومميزات أخرى راحوا يستعينون بها لتعيين ما هو مكي وما هو مدني، وإن نوقش فيها، وقد لخصنا أقوالهم في الضوابط والمزايا، وللمزيد يراجع الإتقان في علوم القرآن وكنز العرفان والبرهان للزركشي وغيرها في علوم القرآن فقد بثت فيها هذه الضوابط والمزايا.

تلخيص ضوابط المكي

1- كل سورة فيها سجدة، وتجري هذه الضابطة على القول بأن سورة الرعد والحج مكيتان، وهو ما يذهب له عدد كابن عباس وعطاء ...

2- أو فيها لفظ كلا، كما صرح الجعبري به حتى ورد عن الدريني قوله:

وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن

ولم تأت في القران في نصفه الأعلى


1- البقرة: 21.
2- البقرة: 168.
3- النساء: 1.النساء: 1.
4- النساء: 133.
5- الحجرات: 13.
6- الإتقان 69: 1.

ص: 16

وحكمة ذلك أن نصفه الأخير نزل أكثره بمكة وأكثرها جبابرة؛ فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف لهم والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلّتهم وضعفهم.

وهذا ما ذكره صاحب الإتقان عن العماني.

3- أو فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة.

4- أو فيها قصة آدم وإبليس ما عدا البقرة.

5- وكل سورة تفتح بحروف التهجي كما عن الجعبري مثل: الم، الر، حم، سوى البقرة وآل عمران «وهما الزهراوان» والرعد.

فكل سورة فيها ضابطة أو أكثر من هذه الضوابط فهي سورة مكية.

وأما ما امتازت به السور المكية فهو:

الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، وذكر القيامة والجنة والنار، ومجادلة المشركين. وفضح أعمال المشركين من سَفْك دماء، وأكل أموال اليتامى، ووأد البنات. وقوة الألفاظ مع قصر الفواصل وإيجاز العبارة.

والإكثار من عرض قصص الأنبياء وتكذيب أقوامهم لهم للعبرة، والزجر، وتسلية للرسول.

فقد أخرج البيهقي في الدلائل وبسنده:

كل شي ء نزل من القرآن فيه ذكر الأمم والقرون فإنما نزل بمكة ...

قال الجعبري: أو فيها قصة آدم وإبليس سوى البقرة فهي مكية، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية.

مختصر ضوابط السورة المدنية

وضوابط السور المدنية هي:

كل سورة فيها فريضة أو حد أو فيها ذكر المنافقين، أو فيها مجادلة أهل الكتاب.

فكل سورة تتوفر على ضابطة من الضوابط المذكورة أو أكثر فهي مدنية

ومميزات السور المدنية هي:

بيان كل من العبادات والمعاملات والحدود والجهاد والسلم والحرب، ونظام الأسرة وقواعد الحكم ووسائل التشريع.

وتكملةً لما ذكرنا عن البيهقي في الدلائل: ... وما كان من الفرائض والسنن فإنما نزل بالمدينة. وهكذا قال الجعبري: كل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنية.

ومخاطبة أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام، والكشف عن سلوك المنافقين وبيان خطرهم على الدين.

وأخيراً طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرّر قواعد التشريع وأهدافه ومراميه.

أما السيد الشهيد الصدر فبعد أن لخّص ما ذكروه من الخصائص الأسلوبية والموضوعية للقسم المكي:

قصر الآيات والسور وإيجازها وتجانسها الصوتي.

الدعوة إلى أصول الإيمان بالله والوحي وعالم الغيب واليوم الآخر وتصوير الجنة والنار.

الدعوة للتمسّك بالأخلاق الكريمة والاستقامة على الخير.

مجادلة المشركين وتسفيه أحلامهم.

استعمال السورة لكلمة يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وعدم استعمالها لكلمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...

ص: 17

ذكر ما يشيع في القسم المدني من خصائص عامة:

طول السورة والآية وإطنابها.

تفصيل البراهين والأدلة على الحقائق الدينية.

مجادلة أهل الكتاب ودعوتهم إلى عدم الغلو في دينهم.

التحدث عن المنافقين ومشاكلهم.

التفصيل لأحكام الحدود والفرائض والحقوق والقوانين السياسية والاجتماعية والدولية.

موقف السيد الصدر من خصائص السور المكّية والمدنية

قال السيد الصدر: وما من ريب في أن هذه المقاييس المستمدة من تلك الخصائص العامة تلقي ضوءاً على الموضوع، وقد تؤدي إلى ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر في السور التي لم يرد نص بأنها مكية أو مدنية؛ فإذا كانت إحدى هذه السور تتفق مثلًا مع السور في أسلوبها وإيجازها وتجانسها الصوتي وتنديدها بالمشركين وتسفيه أحلامهم، فالأرجح أن تكون سورةً مكية لاشتمالها على هذه الخصائص العامة للسورة المكية.

ولكن الاعتماد على تلك المقاييس إنما يجوز إذا أدت إلى العلم ولا يجوز الأخذ بها لمجرد الظن، ففي المثال المتقدم حين نجد سورةً تتفق مع السور المكية في أسلوبها وإيجازها لا نستطيع أن نقول بأنها مكية لأجل ذلك، إذ من الممكن أن تنزل سورة مدنية وهي تحمل بعض خصائص الأسلوب الشائع في القسم المكي، صحيح أنه يغلب على الظن أن السورة مكية لقصرها وإيجازها ولكن الأخذ بالظن لا يجوز لأنه قول من دون علم.

وأما إذا أدت تلك المقاييس إلى الاطمئنان والتأكد من تاريخ السورة وأنها مكية أو مدنية فلا بأس بالاعتماد عليها عند ذاك، ومثاله النصوص القرآنية التي تشتمل على تشريعات للحرب والدولة مثلًا؛ فإن هذه الخصيصة الموضوعية تدل على أن النص مدني؛ لأن طبيعة الدعوة في المرحلة الأولى التي عاشتها قبل الهجرة لا تنسجم إطلاقاً مع التشريعات الدولية، فنعرف من أجل هذا أن النص مدني نزل في المرحلة الثانية من الدعوة، أي في عصر الدولة (1).

شبهات

هناك شبهات أثيرت حول المكي والمدني لأغراض سيئة ومقاصد خبيثة الغرض منها النيل من القرآن الكريم بل من الدين الإسلامي كله عبر اتهام القرآن بأنه من صنع بشري وكتب بيد بشرية هي يد محمد بن عبد الله ولهذا ترى أسلوبه وما يتصف به من صفات، يتغير وفقاً للظروف والأحوال والواقع الذي عاشه محمد في مكة ثم في المدينة ..

فشأن المكي والمدني شأن العديد من مواضيع الإسلام وأموره، عقيدةً وحوادث وأقوالًا وأحاديث، التي تعرضت للشبهات من قبل أعداء الإسلام، ونحن نتعرض لبعض ما تعرض له هذان القسمان من علوم القرآن من شبهات وباختصار شديد:

أولًا: إن الأسلوب القرآني المكي يتصف بالوعد والوعيد، بالشدة والتهديد ..، بينما يتصف الأسلوب القرآني المدني بالسماحة والعفو والليونة ...

إذا كان الأمر كما يقولون، إذاً بماذا يصفون هذه الآيات في سورة البقرة وهي مدنية:

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (2)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُم الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُم السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (3).

وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (4).

وفي سورة آل عمران وهي مدنية:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ* قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (5)

وفي سورة النساء وهي مدنية:


1- علوم القرآن: 77- 79.
2- البقرة: 24.
3- البقرة: 11- 15.
4- البقرة: 275- 279.
5- آل عمران: 10- 12.

ص: 18

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُن اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (1)

أليس في هذا شدة ..؟ وبالتالي فإن الشدة والوعد والوعيد ليس مختصاً بالقرآن المكي دون المدني.

وكذلك فإن الليونة والتسامح والصفح ليس قصراً على القرآن المدني؛ فالقرآن المكي تفيض آياته في الكثير من سوره بمثل هذه الصفات:

ففي سورة الأنعام، وهي مكية:

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2).

وفي سورة الأعراف، وهي مكية:

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (3).

وفي سورة يونس وهي مكية:

أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ* لَهُم الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (4).

وهكذا في سورة الصف 33- 35، والشورى 36- 43، والحجر 87- 88، والزمر 53، والأنعام 108.

قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً (5).

أليس في هذه الآيات لين ولطف وصفح مع أنها مكية؟

ثانياً: إن المكي تتصف سوره بالقصر فيما المدني تتصف سوره وآياته بالطول.

والملاحظة هنا تأتي مختصرة؛ فمع ملاحظة أن القسم المكي هو الأكثر، فقد تجاوز ثلثي القرآن الكريم تقريباً .. فقد احتوى القسم المكي على سور طويلة، كسورة الشعراء وآياتها 227، و الأعراف وعدد آياتها 206، والصافات وآياتها 182، والأنعام وآياتها 165، فيما احتوى القسم المدني على سور قصيرة كسورة النصر وآياتها 3، والبينة 8، وكذا الزلزلة، والجمعة وآياتها 11، وكذا المنافقون ..

ثالثاً: إن القسم المكي لم يتناول الجانب التشريعي من أحكام وأنظمة بعكس القسم المدني الذي تضمّن الأحكام والتشريعات العديدة ..

فمع ملاحظة أن الدين لم يتسنّ له الظهور على الساحة بشكل فاعل ومؤثر وصريح ولم ينج من ملاحقة المشركين له ولاتّباعه، وقد غادر كثير منهم مكة مهاجراً فضلًا عن أن يدخل في تفاصيل التشريعات والأحكام وتطبيقاتها، والرسول غير قادر على أن يحمي أتباعه، لهذا أذن لكثير منهم بالهجرة، بعكس ما حدث له في المدينة المنورة، ومع هذا نجد شيئاً من التشريع كما في الأنعام، وهي مكية:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ...* وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... (6).

هذا على فرض أن هذه الآيات مكية، كما عن أبي بن كعب وعكرمة وقتادة، وورد هذا في مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي، وأما على قولٍ لابن عباس أن هذه الآيات مدنية وباقي السورة مكية، فإنها لا تصلح رداً ..

كما نجد المكي يناقش العديد من تشريعات الديانات الأخرى، مثل الآيات 119- 122، 138- 146 من سورة الأنعام المكية.

هذا تلخيص لبعض الشبهات المثارة والرد عليها، وإلا فهناك العديد من الشبهات والردود، فانظرها فيما كتب عن علوم القرآن سيما ما كتبه الشهيد الصدر في علوم القرآن.

أسماء السور المكية وأسماء السور المدنية

هناك سور وهناك آيات قرآنية نزل بعضها في مكة، ونزل بعضها في المدينة، فيما هناك بعض ثالث وقع في مكان نزوله اختلاف بينهم، والذي يبدو أن هذا الاختلاف إنما وقع لاختلافهم في المراد من المكي والمراد من المدني أو لأن الطريق إلى كل منهما قد يعد أمراً غير متيسر أو لاختلاف في اجتهادهم .. وكما وقع إجماعهم على قسم كبير منها وقع اختلافهم في البقية .. وأيضاً اختلفوا في عدد سور كل من القسمين تبعاً لاختلاف الروايات.


1- النساء: 167- 169.
2- الأنعام: 54.
3- الأعراف: 46.
4- يونس: 62.
5- الزمر: 53.
6- الأنعام: 151- 152.

ص: 19

قال ابن سعد في الطبقات: أنبأنا الواقدي، حدثني قدامة بن موسى، عن أبي سلمة الحضرمي، سمعت ابن عباس قال: سألت أبيّ بن كعب عمّا نزل في القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكة.

قال أبو الحسن بن الحصار في كتابه الناسخ والمنسوخ: المدني- باتفاق- عشرون سورة، والمختلف فيها اثنتا عشرة سورة، وما عدا ذلك مكي باتفاق.

وقال البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو محمد بن زياد العدل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدثنا أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي، حدثنا علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة والحسين بن أبي الحسن قالا:

أنزل الله من القرآن بمكة ستاً وثمانين سورة.

ثم نظم في ذلك أبياتاً فقال:

يا سائلي عن كتاب الله مجتهداً

وعن ترتب ما يتلى من السور

وكيف جاء بها المختار من مضر

صلى الإله على المختار من مضر

وما تقدم منها قبل هجرته

وما تأخر في بدو وفي حضر

ليعلم النسخ والتخصيص مجتهد

يؤيد الحكم بالتاريخ والنظر

تعارض النقل في أمّ الكتاب وقد

تؤولت الحجر تنبيهاً لمعتبر

أم القرآن وفي أم القرى نزلت

ما كان للخمس قبل الحمد من أثر

وبعد هجرة خير الناس قد نزلت

عشرون من سور القرآن في عشر

فأربع من طوال السبع أولها

وخامس الخمس في الأنفال ذي العبر

وتوبة الله إن عدت فسادسة

وسورة النور والأحزاب ذي الذكر

ثم الحديد ويتلوها مجادلة

والحشر ثم امتحان الله للبشر

وسورة فضح الله النفاق بها

ص: 20

وسورة الجمع تذكاراً لمدّكر

وللطلاق وللتحريم حكمهما

والنصر والفتح تنبيها على العمر

هذا الذي اتفقت فيه الرواة له

وقد تعارضت الأخبار في أخر

فالرعد مختلف فيها متى نزلت

وأكثر الناس قالوا الرعد كالقمر

ومثلها سورة الرحمن شاهدها

مما تضمن قول الجن في الخبر

وسورة للحواريين قد علمت

ثم التغابن والتطفيف ذوالنذر

وليلة القدر قد خصّت بملتنا

ولم يكن بعدها الزلزال فاعتبر

وقل هو الله من أوصاف خالقنا

وعوذتان ترد الباس بالقدر

وذا الذي اختلفت فيه الرواة له

وربما استثنيت آي من السور

وما سوى ذاك مكي تنزله

فلا تكن من خلاف الناس في حصر

فليس كل خلاف جاء معتبراً

إلا خلاف له حظ من النظر

ومع هذه الاختلافات وأسبابها، فقد غدت أكثر آيات القرآن وسوره موزعةً بين هاتين النسبتين: «المكي والمدني» بعد أن بذل علماء التفسير جهدهم الكبير في تعيين السور والآيات المنسوبة إلى مكة من حيث نزولها وإلى المدينة المنورة، وذكروا آيات مكية في سور مدنية وآيات مدنية في سور مكية .. وعلى ضوء ذلك فإنهم قسموا القرآن الكريم إلى أربعة أقسام:

مكي .. ومدني .. وما بعضه مكي وبعضه مدني .. وما ليس بمكي ولا مدني.

فيما ذكر آخرون أن القرآن موزع بين قسمين: المكي والمدني، غير مكترثين بأن هناك من القرآن ما ليس مشمولًا بإحدى النسبتين، أي لا هو مكي ولا هو مدني، أو بما هو مختلف فيه؛ لهذا راحوا يوزعون القرآن الكريم- سوره وآياته- بين ما هو مكي وما هو مدني (1).

وبعد اتفاق الباحثين على أنّ المكي من السور القرآنية هو الأكثر بكثير من المدني، وأنه يعدّ بتسعة عشر جزءاً من ثلاثين جزءاً، والباقي وهو أحد عشر جزءاً نزل بالمدينة إلا أن أقوالهم في عدد سورهما تعددت بين خمس وثمانين سورة مكية، أو ست وثمانين، أو اثنتين وثمانين ..

والمدني بين ثمان وعشرين سورة أو عشرين سورة ..


1- أنظر: الإتقان والبرهان وتمهيد الشيخ معرفة.

ص: 21

فيما السور المختلف فيها اثنتا عشرة سورة ..

والذي يعنينا هو ما نزل مكياً وما نزل مدنياً من السور والآيات .. وبعيداً عن الإطالة نكتفي بما ذكره الشيخ محمد هادي معرفة في كتابه تلخيص التمهيد (1)، وقد رتب السور القرآنية مكيها ومدنيها وحسب نزولها، ثم نذكر ما ورد في الإتقان من رواية عن ابن عباس بخصوص ما نزل بمكة وما نزل بالمدينة.

1- السور المكية 86 سورة، وهي الأكثر:

العلق. القلم. المزمل. المدثر. الفاتحة. المسد. التكوير. الأعلى. الليل. الفجر. الضحى. الشرح. العصر. العاديات. الكوثر. التكاثر. الماعون. الكافرون. الفيل. الفلق. الناس. التوحيد. النجم. عبس. القدر. الشمس. البروج. التين. قريش. القارعة. القيامة. الهمزة. المرسلات. ق. البلد. الطارق. القمر. ص. الأعراف. الجن. يس. الفرقان. فاطر. مريم. طه. الواقعة. الشعراء. النمل. القصص. الإسراء. يونس. هود. يوسف. الحجر. الأنعام. الصافات. لقمان. سبأ. الزمر. غافر. فصلت. الشورى. الزخرف. الدخان. الجاثية. الأحقاف. الذاريات. الغاشية. الكهف. النحل. نوح. إبراهيم. الأنبياء. المؤمنون. السجدة. الطور. الملك. الحاقة. المعارج. النبأ. النازعات. الانفطار. الانشقاق. الروم. العنكبوت. المطففين.

2- السور المدنية 28 سورة:

البقرة. الأنفال. آل عمران. الأحزاب. الممتحنة. النساء. الزلزال. الحديد. محمد. الرعد. الرحمن. الإنسان. الطلاق. البينة. الحشر. النصر. النور. الحج. المنافقون. المجادلة. الحجرات. التحريم. الصف. الجمعة. التغابن. الفتح. براءة. المائدة.

هذا، وقد ذكروا أن هناك آيات مدنية ضمن سور مكية، ومكية ضمن سور مدنية، وأيضاً اختلفوا فيها .. وإتماماً للفائدة نكتفي بذكر ما أورده السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، اخترت مما ذكره رواية واحدة عن ابن عباس دوّنها أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ، عما نزل من السور والآيات في مكة والمدينة:

حدثني يموت بن المزرع أو زرع، حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني، أنبأنا أبو عبيدة معمر بن المثنى، حدثنا يونس بن حبيب، سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: سألت مجاهداً عن تلخيص آي القرآن المدني من المكي، فقال: سألت ابن عباس عن ذلك فقال:

سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة فهي مكية إلا ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ... (2) إلى تمام الآيات الثلاث، وما تقدم من السور مدنيات.

ونزلت بمكة سورة الأعراف ويونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر، والنحل سوى ثلاث آيات من آخرها؛ فإنهنّ نزلن بين مكة والمدينة في منصرفه من أحد.

وسورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج سوى ثلاث آيات هَذَانِ خَصْمَانِ ... (3) إلى تمام الآيات الثلاث؛ فإنهن نزلن بالمدينة.

وسورة المؤمنون والفرقان، وسورة الشعراء سوى خمس آيات من آخرها نزلن بالمدينة وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (4) إلى آخرها.

وسورة النمل والقصص والعنكبوت والروم، ولقمان سوى ثلاث آيات منها نزلن بالمدينة وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ... إلى آخرها.

وسورة السجدة سوى ثلاث آيات: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً ... (5) إلى تمام الآيات الثلاث.

وسورة سبأ وفاطر ويس والصافات وص، والزمر سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا ... (6) إلى تمام الثلاث آيات.

والحواميم السبع وق والذاريات والطور والنجم والقمر والرحمن والواقعة والصف، والتغابن إلا ثلاث آيات من آخرها نزلن بالمدينة.

والملك ون والحاقة وسأل وسورة نوح، والمزمل إلا آيتين: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... إلى آخرهما.

والمدثر إلى آخر القرآن إلا إذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، فإنهن مدنيات.

ونزل بالمدينة سورة الأنفال وبراءة والنور والأحزاب وسورة محمد والفتح والحجرات والحديد وما بعدها إلى التحريم.

هكذا أخرجه بطوله وإسناده جيد، رجاله كلّهم ثقات من علماء العربية المشهورين.

وانظر أيضاً ما ذكره أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ، والبيهقي في دلائل النبوة.

آخر ما نزل في مكة وفي المدينة


1- تلخيص التمهيد: 97- 101.
2- الأنعام: 151- 153.
3- الحج: 19- 21.
4- الشعراء: 224.
5- السجدة: 18.
6- الزمر: 53.

ص: 22

قبل أن نتعرض إلى الفقرة الأخيرة، نشير بإيجاز إلى آخر السور نزولًا في مكة وفي المدينة، فقد وقع الاختلاف بينهم في آخر ما نزل بمكة:

فابن عباس نسب إليه أنه قال هي (العنكبوت) فيما نسب إلى كل من الضحاك وعطاء أن آخر ما نزل هو سورة (المؤمنون)، أما مجاهد فنسب إليه أنها سورة (ويل للمطففين).

وأن آخر ما نزل في المدينة هي سورة المائدة، حتى ورد أن رسول الله قال في خطبته يوم حجة الوداع: «يا أيها الناس! إن آخر القرآن نزولًا سورة المائدة، فأحلّوا حلالها وحرموا حرامها» (1).

ما حمل من مكة إلى المدينة وبالعكس

تحت هذا العنوان ضبط العلماء آيات نزلت في مكان ثم حملها أحد من الصحابة فور نزولها لإبلاغها في مكان آخر فقالوا: ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة.

1- فما حمل من مكة إلى المدينة

أول سورة حملت من مكة إلى المدينة سورة «يوسف»، حملها عوف بن عفراء في الثمانية الذين قدموا على رسول الله مكة، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وهو أول من أسلم من الأنصار، قرأها على أهل المدينة في بني زريق فأسلم يومئذ بيوت من الأنصار. هذه الرواية عن ابن عباس. ثم حمل بعدها سورة «الإخلاص» كاملة، ثم حمل بعدها من سورة الأعراف قوله تعالى:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (2). فأسلم عليها طوائف من أهل المدينة ..

وسورة الأعلى حملها مصعب بن عمير وابن أم مكتوم.

فقد أخرج البخاري عن البراء بن عازب أنه قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي: مصعب بن عمير، وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن، ثم جاء عمار وبلال وسعد، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين، ثم جاء النبي فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشي ء فرحهم به، فما جاء حتى قرأتُ: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، في سور مثلها، وهذا المعنى يصدق على كل ما حمله المهاجرون من القرآن وعلّموه الأنصار.

2- وما حمل من المدينة إلى مكة

من ذلك الآية 217 في سورة البقرة:

يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ....

وذلك حين أورد عبد الله بن جحش كتاب مسلمي مكة على رسول الله: بأن المشركين عيّرونا قتل ابن الحضرمي، وهو أول مشرك يسقط بين المشركين قتله الصحابي واقد بن عبد الله اليربوعي ... وأخذ الأموال والأسارى في الشهر الحرام .. وكتب عبد الله بن جحش قائد السرية إلى مسلمي مكة: إن عيروكم فعيروهم بما صنعوا بكم.

فقد روي أن وفداً من المشركين قدموا على النبي بعد سرية عبد الله بن جحش وقتلهم ابن الحضرمي من المشركين، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة، وأرجف المشركون، وقالوا: إنهم قتلوه في الشهر الحرام أي رجب، فأنزل الله الآية وكانت دفاعاً عن السرية، واعتذاراً عمّا بدر منها، وأنه شي ء قليل بجانب ما يصدر عن المشركين من إجرام في حقّ الله ودينه وبيته والمسلمين، فيكون الوفد لما قرئت عليه حملها معه، أو أرسل النبي من حملها إليهم في مكة.

ومن ذلك صدر سورة براءة، فقد أرسل النبي به علياً ليقرأه على الناس في الموسم سنة تسع، كما في الصحيح ..

ومن ذلك آية الربا في سورة البقرة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (3).

فقد اختلف بنو عمرو بن عمير من ثقيف مع بني المغيرة بن عبد الله، ورفعوا الأمر إلى أمير مكة عتاب بن أسيد، فرفع الأمر إلى رسول الله، فنزلت، فأرسل بها النبي إلى عتاب بن أسيد فقرأها عليهم .. فأقروا بتحريمه وتابوا وأخذوا رؤوس الأموال، ثم حملت مع الآيات من أول سورة براءة من المدينة إلى مكة قرأهنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم النحر على الناس ...

ثم حملت من المدينة إلى مكة الآية التي في سورة النساء:


1- أنظر: البرهان والإتقان.
2- الأعراف: 158.
3- البقرة 278.

ص: 23

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا* فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً (1) ...

وهناك آيات حملت من مكة إلى الحبشة ومن المدينة إلى الروم ... أعرضنا عن ذكرها؛ لأن مقالتنا مختصة بمكة والمدينة فقط.


1- النساء: 98- 99؛ وانظر: البرهان: 290: 1- 292، بحث المكي والمدني؛ وكذا أسباب النزول للواحدي؛ والسيرة النبوية لابن هشام، باب بدء إسلام الأنصار .. وغيرهما.

ص: 24

ص: 25

الحجّ رموزٌ وحِكم (5)

الشيخ عبدالله جوادي آملي

المسجد الحرام

الحرمة الخاصّة للمسجد الحرام

تتمتّع المساجد كافّة لاسيما منها المسجد الحرام بحرمة خاصّة (1)؛ فالمسجد الحرام يحوي بيت الله الحرام، والمكان النهائي لذلك البيت الشريف (2)، ونقطة انطلاق الإسراء والمعراج (3).

إنّ مكان الحجّ والزيارة، كموسمهما وزمانهما، حرامان محترمان، من هنا حرّم القتال الابتدائي فيه، لكن حيث إنّ القصاص لا يختصّ بالنفس أو الطرف، وإنّما هناك قصاص في نقض الحرمات وهتك احترامها وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ (4)، يقول الله تعالى: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (5).

ومن الواضح أنّ حرمة المسجد الحرام كانت من احترام الكعبة، تماماً كما كان احترام الكعبة والمسجد سبباً في حرمة مكّة، واحترام الثلاثة معاً سبباً في حرمة الحرم الإلهي، لكن حيث كانت هذه الحرمات كافّة لأجل الإسلام نفسه صدر أمرٌ بضرورة قتل المشركين هناك عندما يتعرّض المسلمون في المسجد الحرام من جانبهم للهجوم بغية إبادة الإسلام.

لقد تقدّم توضيح هذه المسألة في الفصل الخامس من القسم الأوّل، لدى الحديث عن «منشأ الحرمة وعزّة الكعبة» وشرحنا أنّ الحرمة التي كانت للحَرَم ومكّة والمسجد الحرام والكعبة إنّما هي من الإمام الذي اختاره الله للولاية، ومنه ينتهي الأمر إلى الحقّ المطلق تعالى.

إدارة المسجد الحرام وولايته

لا يحقّ لغير المتّقين الشجعان والمدبّرين الواعين أن يديروا المراكز الدينيّة المهمّة، فنظراً للأهمّية الخاصّة للكعبة، وكذلك المسجد الحرام وحرم الأمن الإلهي، فقد بيّن القرآن الكريم بصراحة مَن يتصدّى امورها وشروطه، وما يمنع ذلك، بحيث جعل الصالحين اللّائقين في هذا المنصب وطرد الطالحين غير المناسبين عنه، فأودع الأمانات الإلهيّة أهلها.

إنّ تعيين ولاة البيت الإلهي من صلاحيّات الله سبحانه وحده فقط، فقد جاء في الآية الكريمة: مَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (6)، وفي ذلك إشارة إلى عزل، بل انعزال العاصين عن تولّي شؤون المسجد الحرام، لصالح نصب المتّقين لذلك؛ ذلك أنّ العُصاة منصرفون عن المعبد الإلهي، كما أنّهم صارفون عنه، فهم ناؤون وناهون، أمّا الأتقياء فهم في رحاب معبد الله عبيد حقّ، وهم دُعاةٌ إليه أيضاً.

إنّ تولّي امور المساجد ليس من حقّ الناس، بل حكم إلهي وحقّ خاصّ بالله سبحانه، جُعل على كاهل الرجال المتّقين وأُلزموا به؛ من هنا كان لزاماً لتولّي شؤون الحرم، والتي حصرها الله بأفراد أو فريق خاصّ، أن يمتثل المتّقون في مختلف البلدان الإسلاميّة لأمر الله وقراره الغيبي في إدارة الحرم ويكون لهم دورٌ في ذلك.

والسرّ الرئيس في هذا الأمر هو أنّ الكعبة التي هي منشأ حرمة واحترام المسجد الحرام والحرم الإلهي ليست مثل سائر الآثار القديمة للأقوام والشعوب والملل، حتّى ينفرد بإدارتها فريق خاصّ يحرسونها ويهتمّون بها؛ فلو كانت الكعبة مثل سور الصين، وأهرام مصر، وما شاكل ذلك، لم تكن لتتحوّل إلى نقطة تجمّع روحي للمسلمين جميعاً في مختلف أقطار العالم على امتداد التاريخ.


1- انظر: سورة الجنّ: 18؛ والحجّ: 40؛ والأعراف: 29، 31؛ والبقرة: 114، 187؛ والأنفال: 34؛ والتوبة: 28.
2- البقرة: 144.
3- الإسراء: 1.
4- البقرة: 194.
5- البقرة: 191.
6- الأنفال: 34.

ص: 26

إنّ الذي يُستنتج من الآية الشريفة: بَوَّأْنَا لِابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ (1)، ومن الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة (2)، أنّ بناء الكعبة ومكانه وسائر ما يتعلّق بها كان أمراً من جانب الوحي الإلهي، إضافةً إلى ذلك، لم يكن للبشر العاديّين أي حضور حتّى يشارك مهندس أو بنّاء في أمرها، بل كان إبراهيم هو المتعهّد لذلك بالوحي الإلهي؛ وعليه فالكعبة في تمام أبعادها الفنّية والصناعية، وفي الأدوات، والأرض، والخارطة، مرتبطة بالله ومنزّهة عن غيره، ومبرّأة عن سائر الناس، فهذا البناء المقدّس هو أوّل بناء بُني للبشر بوصفه معبداً (3)، ولذلك كان جائزاً لتوسعة المسجد الحرام غصب الأمكنة المجاورة والتي هي في الحقيقة حريم للكعبة، وتخريبها، تماماً كما قال الإمامان الصادق والكاظم، لرفع توهّم غصبية مثل هذا التخريب: «إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلين بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها» (4).

وخلاصة الكلام: إنّ الكعبة لا ترتبط بشخص بعينه أو فريق كذلك، وهي لا تتبع أيّ قانون من القوانين البشريّة المجعولة، وإنّما هي تبلور الإسلام، وذلك:

أوّلًا: أنّها مثل القرآن الكريم والرسول الأكرم لا تعتمد إلّا على الله تعالى.

ثانياً: كما أنّ القرآن الكريم كتاب الله وكلامه، وليس نتيجاً فكريّاً لأيّ إنسان، ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، وكما كان الرسول الأكرم غير متلمّذ على يد أحد، وليس لأيّ إنسان حقّ التعليم والتزكية عليه، من هنا كان عبد الله ورسوله ... كذلك الكعبة- ملكاً وخارطةً وبناءً ومعماريّة و ...- متعلّقة بالذات الإلهيّة.

ثالثاً: كما أنّ الله تعالى ضمن حقيقة القرآن من تطاول الطواغيت عليها، وحفظها من سهام التحريف وصانها من ذلك، وكما ثبّت رسالة الرسول الأكرم بالمعجزات المختلفة، وأبقاها ثابتةً، كذلك صان الكعبة دوماً من جبابرة وأباهرة الماضي والحاضر والمستقبل.

رابعاً: كما يجب على كافّة مسلمي العالم حماية القرآن وحراسته وأن يكونوا جادّين في صيانة الشخصيّة الحقوقيّة للنبيّ الأكرم ورسالته، كان واجباً عليهم الجهاد لحفظ أمن الحرم وتقديسه.

خامساً: كما أنّ مجرّد عربيّة القرآن أو نزوله في الحجاز ليس دليلًا على اختصاصه بقوم خاصّين، ومجرّد كون النبيّ الأكرم قد عاش في الحجاز وتوفّي فيها وكان مزاره الشريف فيها ... ليس دليلًا على اختصاص هذا الرجل العظيم بالعرب أو بشعب الحجاز، كذلك مجرّد وقوع بناء الكعبة في الحجاز وتأمين موادّها الخام من تلك الديار ليس سبباً لاختصاصها بالعرب أو بشعب الحجاز أو بدولة تلك البلاد؛ ذلك أنّه حتّى لو كانت الكعبة قد بُنيت من الأحجار ولها جسم ظاهري مثل سائر الأحجار، إلّا أنّها حيث كانت محاذية لعرش الله، ومبنيّةً جدرانها الأربعة على خارطة التسبيحات الأربع، أي حقيقة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وكلّها ترجع إلى التوحيد (5)، وكانت متحرّرة من كافّة السلطات والقوى الكبرى العتيقة ... فإنّه لا مثيل لها ولا نظير.

إنّ تولّي هذا البناء المقدّس القائم على الإخلاص والطهارة إنّما هو في عهدة المسؤولين الصالحين الورعين، فلو كان الإمام المعصوم ماسكاً بزمام الزعامة والحكومة فإنّ الكعبة تُدار حينئذ تحت الولاية المعصومة لهم، وإلّا كانت تحت ولاية النائب الخاصّ، وإلّا فالنائب العام للإمام، وهو الفقيه جامع الشرائط المطلوبة في القيادة، وإذا لم يتوفّر فقيه مدير ومدبّر لتولّي هذا الشأن وصل الدور لعدول المؤمنين.

الكعبة المشرّفة

الموضع المركزي للكعبة

ليس الإنسان من ناحية تجرّد الوجود كالملائكة حتى يستغني عن التنسيق والتعاون مع بني جنسه، كما أنّه ليس مادّياً كالحيوانات حتّى لا يكون محتاجاً لتبادل الرأي والتعاون، كما أنّه- أيضاً- غير قادر أن ينتهي أمره إلى التشتّت والتمزّق والتلاشي اعتماداً على معتمد تكويني، ويفهم سرّ اتّحاده مع أبناء نوعه ورمز ذلك، فيتحرّك عبر سلوك خاصّ ومناسب للوحدة، فيصل بشعار قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (6) للتحرّر من كلّ عيب ونقص وبلوغ مرتبة الكمال الإنساني.

إنّ الإنسان بحاجة إلى المجتمع، ولا يمكنه من دون التنسيق والتعاون أن يرسم الخطوط الأساسيّة والمعالم الكبرى لسعادته؛ من هنا كان لزاماً عليه الاتّحاد مع أبناء نوعه، كما يلزمه أن يجعل ارتباطه بالآخرين قائماً على محاور عينيّة وتكوينيّة، يكون لها حظّ من الخلود والأبدية.

للإنسان في ذاته وأعماقه مادّة السعادة الحقيقيّة من كافّة الجوانب، والوحدة الشاملة مع مختلف المجتمعات البشرية، بوصف هذه المادّة الكامنة في أعماقه أصلًا ثابتاً وعامّاً ودائماً ذا جهة واحدة، بحيث لا يوجد أيّ فرد إنساني في أيّ عصر وزمان وفي أيّ موضع ومكان خالياً عن هذا الأصل الكامن في داخله؛ إنّه المادّة الرئيسة للتكامل التكويني، إنّه لغة الفطرة التوحيديّة (7) التي يمكنها الربط بين أبناء البشر دون حاجة إلى أيّ اعتبار أو تعاقد أو تصويب، وكلّ ارتباط وعلاقة لا تنسجم مع الجذر التوحيدي للبشر فهو زائل اعتباري لا قرار له.

وعلى هذا الأساس، فالإنسان- في منطق الوحي- ينسجم فقط مع الإسلام العالمي الإلهي، فهذا الدِّين هو الذي يجعل الجميع منسجمين، موحِّدين، متناغمين، مترافقين، ويوصلهم إلى كمالهم النهائي.

من هنا اعتبر الله سبحانه الإسلام ديناً عالميّاً، ودعا العالمين إلى قبوله، وبيّن معالمه الأصيلة العامّة والدائمة والشاملة لتمام الجهات والنواحي، محذّراً من الانفصال عنه، ومعلناً خطر الإعراض عنه أو الاعتراض عليه أو معارضته، إنّه يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا


1- الحج: 26.
2- بحار الأنوار 96: 57، وراجع: المصدر نفسه، هامش صفحة 86.
3- آل عمران: 96.
4- وسائل الشيعة 9: 331- 332.
5- بحار الأنوار 96: 57؛ روي عن الصادق أنّه سُئل لِمَ سمّيت الكعبة؟ قال: «لأنّها مربّعة»؛ فقيل له: ولِمَ صارت مربّعة؟ قال: «لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع»، فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: «لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع»، فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: «لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر».
6- الأعلى: 14.
7- الروم: 30.

ص: 27

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (1).

المحاور الأصيلة للوحدة

يتمكّن الإنسان من الحصول على براعم الفطرة المشتركة والمزايا المشتركة للدين العالمي عندما يكون في هذا الدين عناصر الوحدة الأصيلة والثابتة والتوحيديّة.

من هنا أعلن الله سبحانه القرآن الكريم كتاب الجميع ومحوراً فكريّاً وعمليّاً للعالمين، كما قدّم لنا الرسول الأكرم بمثابة تعيّن لأحكام القرآن بوصفه اسوةً وقائداً عامّاً وعالميّاً، كما جعل الكعبة المقدّسة نقطةً لاجتماع أطراف العالم الإسلامي وقبلةً ومطافاً للعالمين، حتّى يتّحد المسلمون بالحصول على هذه المحاور الأصيلة التوحيديّة، نحاول هنا- وبشكل مختصر- الحديث عن عالميّة هذه المحاور المذكورة:

1- عالميّة القرآن الكريم

الإنسان الكامل سِمَة الرسالة الإلهيّة وحامل النداء الربّاني، وإذا كان مظهراً للاسم الأعظم وأكمل الناس فإنّه يتلقّى كتاباً يكون أكمل الكتب، يستوعب سعة الأرض وامتداد الزمان وانبساط التاريخ؛ لذلك أنزل الله سبحانه القرآن لهداية الجميع على القلب المطهّر للرسول الأكرم. وإضافةً لآيات التحدّي الذي تدلّ على عالميّة القرآن، ثَمّة آيات في هذا الكتاب نفسه تجعله مذكّراً وذكرى للمجتمعات البشرية كافّة، حتّى يتذكّر الجميع عَهْد فطرتهم، كما اعتبر هذا الكتاب إنذاراً سماويّاً كي يظلّ البشر على حذر بأجمعهم من مختلف المعاصي والذنوب (2).

وكما كانت أدلّة عالميّة القرآن ثابتةً وهو تمظهر دعوة النبيّ الأكرم ومعجزته الخالدة، كذلك هي بنفسها دليلًا على عالميّة رسالته أيضاً، فكلّ دليل يدلّ على عالميّة رسالة الرسول الأكرم يدلّ أيضاً على عالميّة القرآن المجيد؛ ذلك أنّهما متلازمان، ودليل كلّ واحد منهما يمثل دليلًا- بالملازمة- على إثبات الآخر.

2- عالميّة رسالة الرسول الأكرم

إنّ رسالة الإنسان الكامل، والذي هو- بنحو مطلق- خليفة الله ولا أكمل منه في عالم الإمكان، وسيعة شاملة إلى حدّ لا نبيّ بعده على امتداد التاريخ ولا على اتّساع جغرافيا العالم؛ ولا مقارناً له أيضاً؛ من هنا لم يكن من أنبياء أُولي العزم فحسب، بل هو خاتم الأنبياء جميعاً، وخاتمة أصل النبوّة والرسالة، وكلّ الأدلّة الدالّة على خاتميّته دالّة تلقائياً على عالميّة رسالته أيضاً.

إضافة إلى الموارد المذكورة، ثمّة في آيات القرآن ما يتحدّث عن كلّية رسالة النبيّ ودوامها (3)، وأنّها جاءت وبُيّنت لكافّة البشر في تمام الأعصار والأمصار دون اختصاص بفريق خاصّ بعينه.

3- المركزية العالمية الخالدة

لابدّ للناس المعتقدين بالدِّين العالمي والكتاب الكوني، وهم أتباع النبوّة العامّة والدائمة، أن يكون لديهم مركز عام وثابت لا تغيير فيه، يكون محوراً لتبادل الآراء من مختلف المناطق، حتّى يلتقي الجميع من القريب والبعيد مع بعضهم بعضاً ويطرحوا القضايا العلميّة والعمليّة فيما بينهم، فيعيدوا قراءة مشاكلهم السياسيّة والاجتماعيّة ويقومون بحلّها، كما يوثّقون عُرى العلاقات الثقافيّة والأخلاقيّة ... إلى غيرها من الفوائد الاخرى التي يمكن فهمها من إطلاق الآية الكريمة: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات (4).

لهذا خصّص الله سبحانه الكعبة المعظّمة، كي يرتبط بها المسلمون في العالم في السنين كافّة، وكذا الأشهر، والأسابيع، والأيّام، والساعات، والدقائق و ... وفي مناسبات مختلفة، في شؤون حياتهم كافّة؛ من هنا نقول: «والكعبة قبلتي ..» (5) لتعظيم الكعبة وتقديسها وإعلان الارتباط الذي لا ينفكّ بها في الموت والحياة.

إنّ الارتباط العالمي بالكعبة لا ينقطع ولا للحظة واحدة؛ ذلك أنّه وبسبب كرويّة الأرض واختلاف جهة القبلة في البلدان والمدن، ولعدم اتّحاد أوقات الصلوات والأدعية و ... في المناطق بالنسبة لسكّان الأرض، فإنّ كلّ لحظة تشهد وجود شخص متّجه إلى القبلة في حال صلاة ودعاء.

وسوف يأتي مزيد من التوضيح حول الأبعاد المختلفة للكعبة المعظّمة في المبحث القادم، كما سنتحدّث عن بعض أوجه الشبه بين الكعبة والقرآن الكريم والرسول الأكرم.

خصائص الكعبة

إنّ البشر الذين يتّجهون إلى جهة واحدة، ويدورون حول محور ومطاف واحد، سوف يعرفون بشكل أفضل معبودهم عندما يتعرّفون على المزايا المعنوية لهذا المعبد، فيعبدون الله دون أيّ شائبة أكثر فأكثر، من هنا ذكر الله تعالى جملةً من الخصائص لقبلة العالمين ومطاف الزائرين، أي بيت الله الحرام، وسوف نشير في مطاوي هذا البحث إلى بعضها.


1- آل عمران: 103.
2- البقرة: 2، 185؛ والأنعام: 19، 90؛ والزمر: 27، 41؛ والمدثر: 31؛ والفرقان: 1.
3- الأنبياء: 107؛ سبأ: 28؛ والنساء: 170؛ والأعراف: 158 و ...
4- الحج: 28.
5- بحار الأنوار 6: 175، 228- 229، 237- 238.

ص: 28

ومع ملاحظة هذه الخصائص سوف تتّضح أسرار بعض الكلمات التي قالها الرسول الكريم والأئمّة المعصومون حول الكعبة، مثل هذا البيان النوراني للرسول الأكرم: «من أيسر ما يُعطى من ينظر إلى الكعبة أن يعطيه الله بكلّ نظرة حسنةً، وتُمحى عنه سيّئة، وتُرفع له درجة» (1).

ومثل قول الإمام الصادق: «النظر إلى الكعبة عبادة» (2)، وقوله: «يصلح] ثياب الكعبة [للصبيان والمصاحف والمخدّة يبتغي بذلك البركة إن شاء الله» (3).

وقول الإمام الباقر: «الدخول فيها دخول في رحمة الله، والخروج منها خروجٌ من الذنوب، معصومٌ فيما بقي من عمره، مغفورٌ له ما سلف من ذنوبه» (4).

وما جاء: «الداخلُ الكعبةَ يدخل والله راض عنه، ويخرج عُطلًا من الذنوب» (5)، أي طاهراً منها.

والجدير بالذِّكر هنا، أنّنا قد شرحنا بعض خصائص الكعبة كمنشأ حرمتها وعزّتها، وكذا مركزيّتها للبراءة من الطغيان والشرك، في الفصل الخامس والسادس من القسم الأوّل.

1- تجلّي العرش

لكلّ شي ء عند الله خزائن ثابتة لا تفنى ولا تنفد، وينزل من تلك الخزائن الغيب، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْ ء إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَر مَعْلُوم (6)، لا على نحو التجافي المستلزم للعدم والزوال، وإنّما على نحو التجلّي، وعليه فموجودات عالم المادّة بأجمعها لها أصل محفوظ عند الله تعالى، ويرسل من هذا الأصل إلى الأسفل طبقاً لهندسة خاصّة، وكلّ ما ينزل يكون له علاقةً لله ومرآةً له، قال: «والحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه» (7)، تماماً كما يرجع إليه: أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْامُورُ (8).

ومن جملة هذه الامور أجزاء الكعبة وأركانها، وهي التي لها أصل طاهر في المحضر الإلهي، وكلّ هذه الامور تنزل من ذاك الأصل الطيّب (9).

وشاهد هذا الكلام رواية وردت في سرّ تربيع الكعبة وقد جاء فيها:

«لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟ قال: لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع، فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟ قال: لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر» (10).

ومضمون الكلام الرفيع والنوراني للإمام الصادق هو أنّ التسبيحات الأربع التي يقوم عليها نظام الوجود هي السبب في تحقّق العرش المربّع، وتكوّن العرش هو الأساس في تحقّق البيت المعمور، وهو ما يفضي في النهاية إلى تحقّق موجود طبيعي في عالم الطبيعة، ألا وهو الكعبة والجدران الأربعة، ومعنى ذلك أنّ ما هو في عالم الطبيعة انموذج لما في عالم المثال، وعالم المثال هو الآخر انموذج لعالم المجرّدات التامّ، وعالم المجرّدات التامّ أُنموذج للأسماء الإلهيّة الحسنى، التي هي في أعلى التمام، والخلاصة أنّ ذاك النظام الربّاني بترتيب درجات وجوده يعدّ أساساً لتحقّق النظام العقلي والمثالي والطبيعي.

المراحل الأربع لأركان الدِّين ومعارفه

وكما انتظمت الكعبة على نسق العوالم الفوقيّة، كان القرآن والصلاة والصوم والحجّ والعمرة وسائر العبادات والآيات الإلهيّة كذلك، وعلى هذا الأساس، كانت للولاية مراحل أربع كالتي تقدّمت؛ ذلك أنّ الولاية من المباني المهمّة للإسلام، فالولاية والقيادة في عالم الطبيعة وفي المجتمع الإنساني بمنزلة الكعبة، تماماً كما يقول أمير المؤمنين عليّ: «مَثَلُ الإمام مثل الكعبة؛ إذ تُؤتى ولا تأتي» (11).

وعليه فالوجود الطبيعي والعنصري للولاية بمنزلة الكعبة الطبيعيّة، تماماً كما أنّ الوجود المثالي لها بمنزلة البيت المعمور، ووجودها العرشي بمنزلة الوجود العرشي للكعبة، وكذلك فالولاية لها باطن يقف أمام التسبيحات الأربع؛ من هنا قال الأئمّة المعصومون: «سبّحنا وسبّحت الملائكة» (12)، أي أنّهم كما قالوا للناس في النشأة الطبيعيّة: «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي» (13)، و «خذوا عنّي مناسككم» (14)، كذلك في العالم العلوي يعدّ أهل البيت إمام الملائكة، ومن التلقائي أنّ الولاية كالصلاة معراجٌ للمؤمن يتحلّى بصبغة التولّي للأولياء الإلهيّين، وعليه، فكما يُقال لقارئ القرآن: «إقرأ وارق» (15)، كذلك يُقال للمصلّي: «صلِّ وارق»، ويقال لمتولّي الأولياء الإلهيّين: «تولّ وارق»، وللحاج والمعتمر: «حجّ واعتمر وارق».

إنّ الذي يطوي المراحل الأربع المذكورة سيكون قلبه عرش الرحمن، «قلب المؤمن عرش الرحمن» (16).

وإذا أخذنا بعين الاعتبار الرواية التي تبيّن سرّ تربيع الكعبة سوف يتّضح معنى الحديث القائل عن الكعبة: «إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» (17)؛ ذلك أنّه وإن كان ظاهر هذا الحديث التأكيد على الانتباه للبُعد العمودي بوصفه حكماً فقهيّاً؛ إلّا أنّه بقرينة الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة (18) يحكي لنا بدلالته الباطنية عن الارتباط الوجودي ما بين عوالم الطبيعة والمثال والعقل، وهو الطريق الذي يبدو طيّه لنيل الحقائق ممكناً، فالتأمّل والتدبّر في المعارف مستفاد من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.


1- وسائل الشيعة 9: 365.
2- المصدر نفسه: 364.
3- المصدر نفسه: 359.
4- المصدر نفسه: 370.
5- المصدر نفسه.
6- الحجر: 21.
7- نهج البلاغة، الخطبة 108، الفقرة: 1.
8- الشورى: 53.
9- وسائل الشيعة 9: 386- 388، 402- 407.
10- بحار الأنوار 96: 57، وراجع المصدر نفسه، هامش صفحة 86.
11- المصدر نفسه 36: 353، 357.
12- المصدر نفسه 26: 345.
13- عوالي اللئالي 1: 197.
14- المصدر نفسه: 215.
15- الكافي 2: 606.
16- بحار الأنوار 55: 39.
17- وسائل الشيعة 3: 247.
18- بحار الأنوار 96: 57، وانظر المصدر نفسه، هامش صفحة: 86.

ص: 29

إنّ الروح الطاهرة لزوّار الكعبة ستصل بالإمداد الإلهي ونيل توفيق المتعالي والصعود والرقيّ إلى المقام الشامخ للبيت المعمور ثمّ إلى مقام العرش، قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (1)، وكما أن تنزل العرش الإلهي، وكذلك البيت المعمور على نحو التجلّي لا التجافي، كذلك في الإنسان وتعاليه نحو المقام الأعلى يكون في صورة الصعود الروحاني، لا الترقّي المكاني أو التجافي الأرضي، وعليه فإذا لم يدرك الزائر هذا المعنى الراقي ولم يكن هدفه من الطواف حول الكعبة هو التعالي الروحي، ولم يرَ هذا البيت معادلًا للبيت المعمور، ولم يفهم أنّ هذا البيت المكعّب كالعرش في الأرض، فلن يدرك المكانة الرفيعة للكعبة، ولن يعقد طرفاً لنفسه للقبول بمصطلح علم الكلام، رغم أنّه استفاد من الصحّة والقبول السائدين في علم الفقه.

إنّ المقيم للحجّ والمعتمر الذي يفكّر تفكيراً أرضيّاً يطوف حول الكعبة، إنّه محدود التفكير في أن لا يتخطّى الحدود الفقهيّة للمطاف (5/ 26 ذراعاً أو 13 متراً وزيادة)، إلّا أنّ الذي تكون همّته وفكره أعلى وأرفع يطوف بالكعبة والبيت المعمور، فيما الطائف الأعمق نظراً يتخطّى الآخرين فيطوف حول الكعبة والبيت المعمور والعرش، ومثل هذا الحاج والمعتمر يصير قلبه عرش الرحمن، إنّه الأوحدي من المعتمرين والحجّاج الذي يدور حول التسبيحات الأربع، فمن وجهة نظر هذا الزائر لا تكمن قيمة الكعبة وشموخها في ارتفاع جدرانها وإنّما في رفعة الله تعالى لإسمها وذكرها وهو الأساس في رفعة الطائفين، تماماً كما كان الرسول مرفوع الذكر وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (2)، وإلّا فالكعبة وسط الأبنية والأبراج العالية المحيطة بها لا يظهر منها ولا يبرز شي ء سوى منارات المسجد الحرام.

2- قيام أُسس الكعبة على التوحيد المحض

إنّ بناء الكعبة وتعيين أبعادها وشكلها إنّما هو بهداية من الله سبحانه، قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً (3)، فهذه الآية تعني أنّ مكان الكعبة وهندستها مع رعاية الموضع الخاص لها إنّما حصل بهداية إلهيّة، على أساس التوحيد الصرف، بحيث ليس ثمّة شرك إطلاقاً أعمّ من الشرك الجليّ والخفي بمكّة يمكنه أن يلوّثها.

وانطلاقاً من أنّ «كلّ أثر هو مظهرٌ للمؤثّر وكلّ مؤثّر متجلّي في أثره»، فإنّ أيّ وصف ممتاز لحقّ الشخصيّة البارزة، للنبيّين الكبيرين والبانيين العظيمين للكعبة؛ أي الخليل والذبيح، وجاء في النقل حولهما، يعدّ سنداً دالًّا على رسم خطوط المظهر المعنوي للكعبة، وهو بمثابة شرح لمصالح بنائها، وعليه فكما لم يكن إبراهيم يهوديّاً ولا نصرانيّاً، وإنّما كان حنيفاً، وسطاً، مسلماً، موحِّداً، ومنقاداً محضاً، ذائباً في التوحيد، معصوماً من تأثير أيّ نوع من أنواع الشرك، يمكن أن تكون أوصاف الاعتدال والتوحيد والانقياد من عناصر هندسة الكعبة، كما يظهر في بنائها خلوص وصفاء بنّائيها، فقد مزجت هندستها بقداسة الخلوص.

من هنا، فكلّ من كان أكثر قرباً لإبراهيم وأليق به كان أكثر لياقة لأن يكون حامياً للكعبة ولعمرانها الصوري والمعنوي، وهذا الفريق- غير أنصار إبراهيم في عصره- هم الرسول الأكرم والمؤمنون الأصيلون الخالصون الذين لا ينتمون إلى اليهوديّة ولا إلى الانحراف، وإنّما إلى الاعتدال في العقيدة والخلق والعمل الصالح، وهم غير مبتلين بالشرك الاعتقادي ولا الأخلاقي ولا العملي.

وانطلاقاً من أنّ الأثر مظهرٌ للمؤثّر وأوصافه لها أثر فيه، نلاحظ كيف قام مسجد قبا على أساس التقوى والرضوان الإلهي، فيما أُسّس مسجد ضرار على أساس الشرك والجرف الهار الذي ينهار به في نار جهنّم (4).

وعلى أيّة حال، فالكعبة بهذه الهندسة الإلهيّة موضوع ومتعلّق للكثير من الأحكام والفروع الفقهيّة، ومن بينها الحجّ، وكلّها تدور حول الأخلاق الصحيحة، وترتهنّ تلك الأخلاق الصحيحة بالعقيدة السالمة التوحيديّة، وكما كان التوحيد شجرة طوبى والتقوى ثمرة من ثمارها، كذلك الكعبة بُنيت على أساس التوحيد الخالص المنزّه عن مختلف أشكال الشرك، فكانت أصلًا لكافّة الأبنية المؤسّسة على التقوى، ومن بينها بناء مسجد قبا المقام على التقوى، حيث كان فرعاً من فروع هذا الأصل، وثمرةً من بذوره.

ومن نماذج هذا التجلّي للتوحيد الخالص عند الموحّدين الحقيقيّين ما نقل من أنّه: «قيل للزهري: من أزهد الناس في الدُّنيا؟ قال: عليّ بن الحسين حيث كان، وقد قيل له- فيما بينه وبين محمّد بن الحنفيّة من المنازعة في صدقات عليّ بن أبي طالب-: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبة لكشف عنك من عزر شرّه وميله عليك بمحمّد فإنّ بينه وبيني خلّة، قال: وكان هو بمكّة والوليد بها، فقال: ويحك أفي حرم الله أسأل غير الله عزّ وجلّ؛ إنّي آنف إذ أسأل الدُّنيا خالقها، فكيف أسألُ مخلوقاً مثلي؟» (5).

3- تشييد أركان الكعبة على الخلوص الأصيل

إنّ بناء الكعبة ورفع بنيانها عبادة خالصة قام بها إبراهيم الخليل وإسماعيل، حيث لم يفعلا ذلك إلّا لله، ولم يطلبا جزاءً ولا شكراً على ذلك من أحد، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6).

ولم يكن هذا الإخلاص والخلوص لفظيّاً، وإنّما كان قلبيّاً كامناً في أرواحهم كما هو ظاهر على ألسنتهم؛ ذلك أنّ الذي يأتي الله تعالى بقلب سليم (7) فإنّ قلبه لن يطلب ولن ينوي غير الله سبحانه، وأنّ قوله: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (8) يعني أنّ طهارة ضميره لن تتلوّث بما ينافي خلوصه وإخلاصه.

لقد قامت الكعبة على أساس الخلوص، ولأجل تقوى البنّاء وقعت موقع القبول من الله تعالى؛ وحيث كانت هندسة الكعبة على أساس التوحيد وعمرانها على أساس التقوى والخلوص .. لذا نالت شرف الانتساب إلى الله سبحانه فصارت بيت الله، وتحوّلت إلى شجرة طوبى أعطت ثمارها في مختلف أنحاء العالم على صورة المساجد والمشاهد المشرّفة، فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ (9).


1- فاطر: 10.
2- الانشراح: 4.
3- الحج: 26.
4- التوبة: 107- 109.
5- بحار الأنوار 42: 75.
6- البقرة: 127.
7- الصافات: 84.
8- الصافات: 102.
9- النور: 36.

ص: 30

4- مركز الطهارة ومطاف الطاهرين

لقد كان تطهير الكعبة من الشرك واللوث، وتنزيهها من غبار الطغيان والتمرّد، بأمر من الوحي الإلهي، قال تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (1)، فقد أمر إبراهيم وإسماعيل بذلك، قال سبحانه: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (2)، لقد كانوا ملتزمين تطهير البيت الحرام على نحو الدفع والرفع، أي أنّهم يزيلون آثار الشرك الباقية من الآخرين، كما لا يسمحون بآثار الشرك والانحراف الجديد أن ترسخ وتظهر وتتعاظم.

لقد أحيل تأمين طهارة الكعبة في البداية إلى النبيّ إبراهيم بوصفه المسؤول الرئيس عن تأسيسها، قال تعالى: طَهِّرْ بَيْتِي، وفي مرحلة البقاء، عهد الأمر إلى كلّ من إبراهيم وإسماعيل، قال سبحانه: طَهِّرْا بَيْتِي، وسرّ هذا الأمر بالتطهير قبل الوجود، وإفراد الخطاب، ثمّ إعادة الأمر بعد الوجود وتثنية الخطاب هو أنّ الطهارة أساس للكعبة، ووجود الأساس ضروري في مرحلة الحدوث وفي مرحلة البقاء، ولا يمكن أن يقوم بناء دون أساس، كما أنّه إذا كان الأساس خرباً هزيلًا لم يبق البناء.

إنّ حذف متعلّقات الأوامر المذكورة دليل على العموم، أي أنّه لابدّ أن يكون حريم الكعبة من الداخل والخارج وكذا فضاء حرمها المتعلّق بها مصفّى منقّى مطهّر من كلّ رجس ورجز ظاهري أو باطني، فقهي أو طبّي.

وبهذا الميثاق الإلهي في الطهارة:

أوّلًا: ليس هناك من يليق بإدارة الكعبة إلّا الطاهرين، قال تعالى: وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (3)، وليس للمشركين على أساس إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (4) حقّ الدخول إلى هذا الحرم الآمن.

ثانياً: لا يبقى بذلك أيّ مجال لتسافل وتلوّث الشرك والمشركين، ولا لقبح ولوث الصنم وعبادة الأصنام، من هنا كان أوّل ما أقدم عليه الإسلام بعد الانتصار على الإلحاد وعبادة الأصنام هو تطهير الكعبة بأمر من رسول الله وبيد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من لوث الأصنام وكدر الوثنيّة، وعليه فإذا ما صارت الكعبة بعد الخليل والذبيح إلى أيدي صناديد الجاهلية فصارت معبداً للأصنام، إلّا أنّها عادت للطهارة على اليد المقتدرة لرسول الله والعضد المتين العلوي، وإذا ما لوّثت يوماً برجس التحجّر والرجز القائمين على تغطية الدِّين (5) عبر شعار «حسبنا كتاب الله» فإنّ حضور الشعب المؤمن والمتديّن والملتزم والمنتظر واقعاً لفرج أهل بيت النبوّة سوف ينزّهها مرّةً جديدة.

وكما أنّ القرآن الكريم في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون (6)، فإنّ حقيقة الكعبة وسرّها مطهّران من لمس الأيدي الملوّثة، وليس لغير الطاهر معنويّاً قبل التوبة من توفيقٍ للوصول إليها، ولن يجتمع حولها للطواف سوى الطاهرون، فيجعلونها محور شؤونهم كلّها في حياتهم، حيث إنّ الطيّب من الطيّب والخبيث من الخبيث (7)، وذلك كلّه لسببين:

الأوّل: الحجر الأسود الموجود في الكعبة والذي هو بمنزلة يد الله تعالى (8)، وعلى يديه- وليس له يد- يمنى (9).

الثاني: لأنّ هناك شخصيتين دينيّتين كبيرتين ونبويّتين كانتا مسؤولتين عن تطهيرها، وليس المقصود من الأمر بالتطهير خصوص التطهير من النجاسات الظاهريّة.

تعدّ آية: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ صغرى لقياس كبراه الكلّية موجودة في آية لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (10). رغم أنّ الآية الثانية جاءت في مسجد قبا، إلّا أنّها أصلٌ كلّي أبرز مصاديقه الكعبة والمسجد الحرام، ذلك أنّ تمام المساجد فروع للكعبة، ولأداء احترام الكعبة تعدّ المساجد الاخرى محترمة؛ ذلك أنّ لكلّ مسجد محراب يمثِّل مظهره ومَعلَمه، وهذا المظهر يتّجه ناحية الكعبة دوماً، قال تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (11).

وتوضيح هذه النقطة أنّ في الإسلام الكثير من الامور المشروطة باستقبال الكعبة، إلى حدّ أنّ حياة وممات كلّ مسلم مربوطة بالكعبة، إلّا أنّ الصلاة عمود الدِّين، والمسجد حتّى لو وضع لأهداف اخرى إلّا أنّ أهمّ أهدافه إقامة الصلاة فيه، وهي أمر مشروط بالقبلة، ومن هنا فتمام المساجد لها جهة معيّنة وهي جهة الكعبة، وبهذا التحليل يظهر أنّ تمام المساجد متّجهة إلى امّ المساجد الموضوعة في امّ القرى، وهكذا أُسّست.

نعم، القبلة الرسميّة للمسلمين عموماً في العالم هو ذاك البُعد الموجود في الكعبة، والمسجد الحرام إلى جوار الكعبة، فيكون من هذه الناحية مورد توجّه المسلمين في الصلاة، كما أنّ مكّة امّ القرى، بمعنى أنّها من الناحية المادّية أصل المدن كافّة وكذا القرى، كما أنّها من الناحية المعنوية كذلك، ومسألة القبلة من هذا القبيل.

وعلى أيّة حال، فقد بُيّن في ذيل الآية الشريفة المذكورة وظيفة أهل المسجد حيث جاء: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وإذا ما صار شخص طاهراً صار محبوباً لله تعالى، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، وإذا ما صار محبوباً لله صار مجرى فيض الحقّ، ويجري الله في مقام العمل والفعل أعماله على يديه.

يقول الله تعالى بصراحة حول الكعبة أنّها بُنيت على الطهارة أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، ومع الالتفات إلى هذا الأمر من تعليق الحكم على الوصف وأنّه مشعر بالعلّية يستفاد من الآية أنّ المصلّين غير الطاهرين يجب في الحقيقة ألا يتّجهوا إلى الكعبة، وكذلك الطائفون لا يطوفون بها، بمعنى أنّهم لا يصلّون ولا يطوفون الصلاة والطواف الحقيقيّين، ذلك أنّه لا يمكن نيل سرّ وحقيقة بيت الله دون طهارة، كما أنّه لا يمكن الحصول على معارف من القرآن دونها.


1- الحج: 26.
2- البقرة: 125.
3- الأنفال: 34.
4- التوبة: 28.
5- الحجر: 91.
6- الواقعة: 77- 79.
7- النور: 26.
8- وسائل الشيعة 9: 406.
9- بحار الأنوار 5: 159.
10- التوبة: 108.
11- البقرة: 144.

ص: 31

وكما أنّ القرآن الكريم مرآة صافية لا يرى الناظر فيها إلّا جماله أو قبحه، كذلك الكعبة مرآة لا غبار عليها يرى فيها الناظر وجهه الجميل أو البشع، من هنا فغير الطاهرين الذين تلوّثوا برجس الشرك ولوث الطغيان والتمرّد، لن يتمكّنوا من إدراك الكعبة بوصفها بيت الله المنزّه عن الحلول في المكان والمبرّأ عن الحصر في الزمان، والمقدّس عن الحاجة، والمسبّح عن الفقر والفاقة لأحد أو شي ء، ولن يستطيعوا النجاح في الصلاة في حريمها؛ من هنا وصف الله عبادتهم في أطهر بقع العبادة بأنّه صفير وتصفيق، حيث قال: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (1)، وسوف نبيّن في الفصل الرابع من القسم الثالث، عند الحديث عن «الطواف الجاهلي» السرّ في ورود هذا التعبير بحقّ عبادة المشركين.

5- محور القيام والقيامة

الكعبة محور القيام والمقاومة والثبات الإنساني على امتثال الأوامر الإلهيّة وتجنّب الباطل ومحاربة الظلم والجور، قال تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ (2)، والمراد من القيام هنا هو ما جاء في الآية الشريفة الاخرى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَة أَنْ تَقُومُوا للهِ (3)، والقيام في هذه الآية هو المقاومة والاستقامة- لا الوقوف واستقامة البدن، وفي مقابله القعود بمعنى الذلّة والقبول بالظلم والجور.

إنّ القيام والجهاد محور الدِّين الأصلي، وهو لا يعرف أبداً القعود والخنوع، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (4)، ومعتمد هذا القيام وعمود هذه المقاومة وأساس هذه الاستقامة الباعثة على قيام الناس ومقاومتهم أمام الجبّارين، في قيام الكعبة وحياتها، ودوام أمرها، تماماً كما قال الإمام الصادق: «لا يزال الدِّين قائماً ما قامت الكعبة» (5)، والكعبة حيث كانت أساساً لقيام الناس وقوامهم وضعت في وسط الأرض حتّى يكون التكليف متساوياً بين أهل المشرق والمغرب (6).

إنّ حياة الكعبة حياة الدِّين، والناس تحيى بحياة الدِّين، ومع خراب الكعبة وانعدامها وتركها يموت الدِّين وبموته يموت الناس، إنّ الكعبة بمثابة عظم فقرات الظهر بالنسبة لدين الله، فإذا كانت قويّةً سالمة كانت مقاومة الإنسان ووقوفه وذهابه وسرعته في الوصول إلى المغفرة الإلهيّة والسبق في امور الخير أمراً ممكناً، أمّا إذا كان هذا العظم عاجزاً وضعيفاً وهزيلًا فإنّ الوقوف يغدو غير ممكن، واستقامته لا تكون ممكنةً، وسرعته وسبقه و ... متوقّف على قيامه فتكون محالًا.

وعلى هذا الأساس، قال أمير المؤمنين: «والله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن تُرك لم تناظروا» (7)، ذلك أنّ ترك بيت الله وتخليته بمثابة سقوط العمود الذي يتكئ عليه الإنسان فإذا ما هُجر بيت الله فإنّه ينقطع الاتّصال بمركز القدرة، ومع قطعه سيغدو القيام بالقسط والمقاومة أمام الظلم والجور غير ممكنة، وهنا يكون خير الدُّنيا والآخرة ممنوعاً مقطوعاً؛ ذلك أنّ الكعبة هي عامل قيام الناس للدِّين والمعاش (8).

من هنا يقول رسول الله: «من أراد دنيا وآخرة فليؤمّ هذا البيت» (9)، ومن أهمّ موارد أمّ الكعبة إنجاز الحجّ بآدابه ومناسكه العظيمة.

وأساس هذه الكلمات كلّها هو الآية الشريفة: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ (10).

من هنا يعمد إمام الزمان، قائم آل محمّد، في بداية قيامه إلى جعل محور القيام والقوام بالنسبة للمجتمعات البشرية، أي الكعبة، معتمداً ومتّكأً له، فيسارع أنصاره إليه، كما يقول الإمام الباقر: «.. إذا تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال ... وركب ذوات الفروج السروج .. وأُكل الرِّبا .. فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلًا ...» (11).

دور الاعتقاد والاقتصاد في قوام المجتمعات الإنسانيّة

يذكر القرآن الكريم الكعبة بوصفها عامل قيام الناس (12)، كما يذكر القدرات الاقتصادية بهذه الصفة أيضاً، حيث يقول: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً (13)؛ وعليه فالمسألة الاعتقادية والأمر العبادي للكعبة والحجّ والعمرة هي قوام المجتمع في الامّة الإسلاميّة، وكذلك الاقتصاد، وهو أمر مادّي، إلّا أنّ ثقافة القرآن لا تضع هذين الأمرين في مستوى بعضهما، بل الاعتقاد دائماً هو الأصل والبنية التحتيّة، فيما الاقتصاد فرع وبناء فوقي، وعندما يتزاحم الأصل والفرع يقدّم الأصل، من هنا لم تترك حادثة الحصار في شِعب أبي طالب أيّ أثر في الحدّ من انتشار الإسلام وقبوله في السنوات الاولى لظهوره على المسلمين المعتقدين، كذلك لم يترك الحصار الاقتصادي الحالي من جانب الغرب الناهب أيّ أثر في اضمحلال الصحوة الإسلاميّة.

6- بيت الأحرار ومحور الحرّية

الكعبة بناء عتيق وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (14)، لم يكن تحت سلطان أيّ سلطة أو ملكيّتها، وقد كانت محميّةً على امتداد التاريخ من تطاول الطواغيت وتناول الملّاك، وتداول رجال الدولة والسلطة، كما كانت متحرّرةً- وما تزال- من أي سلطة بشريّة أو ملكيّة إنسانية، فلا تختصّ بشخص أو فريق أو قوم أو قوميّة أو عرق أو دولة أو حكومة، تماماً كما يقول الإمام الباقر حول سرّ وصف الكعبة بالبيت العتيق: «هو بيت حرّ عتيق من الناس لم يملكه أحد» (15)، فالله سبحانه لم ينسب هذا البيت من الأوّل لأحد غيره، فقال: طَهِّر بَيْتِي (16)، كما أنّ باني الكعبة لم يملكها من حيث إنّه هو المأمور ببنائها، لذا لم ينسبها لغير الله تعالى، حيث قال: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (17).

وعليه، فالكعبة عتيقة من حيث قدمها التاريخي ونفاستها، فذات قيمة وسبق، كما أنّها عتيقة من حيث تحرّرها وانعتاقها من كلّ سلطة مالكة وقهر سلطاني، والطواف حول مثل هذا البناء يعطي درساً في الحرّية، ويحرّر الإنسان من كلّ أنواع العبودية عدا لله تعالى، وهذه العبودية هي


1- الأنفال: 35، فمن سنن الجاهلية أنّ المشركين كانوا يرون أنفسهم ملزمين بالتصدّق باللّباس الذي كانوا يلبسونه حال الطواف، وكذلك على أساس الوهم الجاهلي كانوا يعتقدون بأنّ اللّباس الذي يرتكب الإنسان فيه معصيةً لا يمكن الطواف فيه، وبسبب هذين الاعتقادين كانوا يطوفون عُراةً، من هنا كان أمير المؤمنين- بأمر من رسول الله- مأموراً بإبلاغ الأمر الإلهي القاضي فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا التوبة: 28، كما أنّه لا يسمح لأحد بالتعرّي. ويقول عليّ في هذا المجال: «إنّ رسول الله أمرني عن الله أن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد هذا العام» وسائل الشيعة 9: 463.
2- المائدة: 97.
3- سبأ: 46.
4- الحديد: 25.
5- وسائل الشيعة 8: 14.
6- المصدر نفسه 9: 348، رغم أنّه يمكن في الجسم الكروي اتّخاذ نقاط متعدّدة بمثابة المركز، إلّا أنّه وطبقاً لبعض النصوص، وبلحاظ أغلب الذين يعيشون على وجه الكرة الأرضية، ومع الأخذ بعين الاعتبار الأراضي المعمورة، فإنّ الكعبة تقع في القسم المركزي من الأرض.
7- نهج البلاغة، الرسالة رقم: 47، الفقرة: 6.
8- وسائل الشيعة 8: 40- 41.
9- المصدر نفسه.
10- المائدة: 97.
11- بحار الأنوار 52: 191- 192.
12- المائدة: 97.
13- النساء: 5.
14- الحج: 29.
15- الكافي 4: 189.
16- البقرة: 125.
17- إبراهيم: 37.

ص: 32

الفضيلة الوحيدة للإنسان، كما أنّ إرسال الأضحية إلى البيت العتيق وذبحها في داخل الحرم هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ (1) و ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (2) يعطي درساً في التحرّر من التعلّقات.

إنّ الذين يرزقون زيارة هذا البناء ليسوا عبيداً لأنفسهم وحرصهم ولا مماليك للمستعمرين والمستثمرين الخارجيّين، تماماً كما كان بنّاء الكعبة سيّدنا إبراهيم مبرّأً من الميول والتعلّقات ومحميّاً من الحرص والخوف و ... ذلك أنّ العبودية لا تنسجم مع مدار الحريّة والتحرّر.

وبناءً عليه، لا يمكن لغير المتحرّرين من قبضة سلطة المتسلّطين أن يطوفوا طوافاً حقيقيّاً حول هذا البيت، أو أن يجعلوه قبلتهم على نحو الحقيقة، وليس سوى الأحرار الحقيقيّين من قبضات الهوى العاصين عليه والمتّجهين نحو القلب والروح من يتمكّن من الدوران حولها.

إنّ هذا الإقبال على الكعبة يجعل سلوك الإنسان ملائكيّاً، ويحرّره من الشهوة والغضب والرذائل الأخلاقيّة.

إذا جاهدت وسعيت غدوت مَلَكاً

فالحرير لا يأتي إلا من ورق التوت (3)

إنّ الذي يطوف حرّاً حول البيت لا يغدو عبداً ولا ذليلًا، كما أنّه لا يرى نفسه سوى عبداً لله تعالى، تماماً كما يقول أمير المؤمنين: «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً» (4).

7- مظهر المساواة

من أبرز مظاهر شموليّة الإسلام وعالميّته واستيعاب دعوته وندائه العالمي حول الكعبة هو الحجّ، حيث كان إعلانه عند بناء الكعبة موجّهاً للجميع، قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق (5).

إنّ الكعبة بنيان إلهي لكلّ الناس على امتداد التاريخ، لا تختصّ بأحد أو قوم أو عصر أو إقليم، من هنا يجب على أهل المدن والقرى والأرياف، وعلى المتمدّنين وأهل البادية، وعلى القريب والبعيد، والغابر والقادم، وبشكل واحد أن يستفيدوا من نعمة الحجّ، قال تعالى: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ... (6)؛ وعليه، تغدو الكعبة والمسجد الحرام مظهراً بارزاً للمساواة بين الناس.

لقد دعا الله تعالى الجميع إلى أرض المساواة كي يتعلّموا ويتمرّنوا على التساوي والمساواة، ودعاهم إلى الطواف في أطراف الكعبة جميعاً حيث قال: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ؛ وعليه فإذا حصل الطواف حول الكعبة، ودائرة المساواة، فلابدّ من إلقاء كلّ معاني الامتياز الفردي والعرقي والقومي واعتبار كلّ القوميات والأعراق قوميّته وعرقه، وكما يأخذ درس الطهارة من الطواف حول البيت الطاهر: طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (7)، كذلك لابدّ أن يكون حاصله من الحضور في موضع تجلّي المساواة هو درس المساواة أيضاً، حتّى لا يرجّح فرداً على آخر، وعرقاً على آخر، اللّهمَّ إلّا على أساس التقوى تتملك الفضيلة المعنوية غير المادّية.

8- الكعبة مرجع الخلق جميعاً

الكعبة مرجع عامّة الناس ومثابتهم، ومأمن جماهير الخلق، قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً (8)، وكما هو ظهور كلمة «الناس»، كذلك لم يجعل الله تعالى الكعبة مبنيّةً للمسلمين فقط.

تعني كلمة «ثاب» رجع (9)، و «مثاب» و «مثابة» بمعنى المرجع، وتاء المثابة تاء المبالغة، بمعنى أنّ البيت هو مرجع مكرّر للناس، ويطلق المرجع على المكان الذي يأتي منه الإنسان ويعود إليه مجدّداً، وعلى هذا الأساس فالكعبة هي الوطن الأصلي للناس، فعندما يزور الإنسان الكعبة يبدو وكأنّه عاد إلى أهله، وبناءً عليه فالكعبة مظهر الفطرة، والحالة الأصليّة للناس تتمثّل في رجوعهم إلى الكعبة، وكلّ من ينصرف عن الكعبة يكون قد انحرف عن حالته الأصليّة.

وحيث كان كلّ مسلم على ارتباط مستمرّ بالكعبة- تماماً كما تقتضيه أفضل حالة الأدب الإسلامي في الجلوس، وهي حالة التوجّه إلى الكعبة «خير المجالس ما استُقبل به القبلة» (10)، وهكذا كان رسول الله في جلوسه (11)- كان بالإمكان استظهار معنى آخر للمثاب وهو أنّ الكعبة مرجع الناس في تمام اللحظات، في الليل والنهار.

9- مركز الاتّحاد

توفّر وحدة المرجع الأرضيةَ لاتّحاد الراجعين؛ ذلك أنّ إحساس وحدة المقصد والمأوى وسيلة مناسبة لتضارب آراء الراجعين، وعلاقاتهم الفكرية، وهذا بنفسه مقدّمة مناسبة لإدراك ضرورة العودة المتّحدة، كي تتهيّأ عناصر عالميّة الإسلام وأصول المجتمع المهدوي، ورغم أنّه من وجهة نظر الملكوت أيّ جهة يتّجه إليها أحد فهو يتّجه إلى الله تعالى، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (12)، إلّا أنّه على مستوى الملك ونطاق الطبيعة لا مفرّ من التوجّه إلى نقطة مركزية ومتكئ محوري.


1- المائدة: 95.
2- الحج: 33.
3- سنائي غزنوي.
4- نهج البلاغة، الرسالة 31، الفقرة: 87.
5- الحج: 27.
6- الحجّ: 25.
7- البقرة: 125.
8- المصدر نفسه.
9- الراغب الإصفهاني، المفردات: 80، مادّة: ثوب.
10- وسائل الشيعة 8: 475.
11- المصدر نفسه؛ والكافي 2: 661.
12- البقرة: 115.

ص: 33

لقد خلق الله سبحانه الكعبة للوحدة العالميّة حتّى يتمكّن الجميع من عيش حياة سلميّة هانئة مع الاهتمام بالاصول القيّمة للتوحيد، ومركز إجراء هذه الفكرة ليس سوى الكعبة التي جعلها الله سبحانه تجمّعاً لأطراف العالم الإسلامي عبر اعتبارها قبلةً ومطافاً للعالمين، حتّى يتّحد مسلمو العالم بامتلاكهم المحور الذي يعطي الوحدة ويتعرّفون بذلك على بعضهم.

وبناءً عليه، فالكعبة مركز عام ومحور رئيس لتبادل وجهات النظر من الأطراف كافّة حتّى يلتقي المسلمون من القريب والبعيد إلى جانب بعضهم، يطرحوا هناك القضايا العلميّة والعمليّة والمشكلات السياسيّة والاجتماعية كي يقوموا بحلّها ويُحكموا بذلك العلاقة فيما بينهم.

لقد بُنيت الكعبة على يد قويّة لنبيٍّ عظيم حتّى تكون مركزاً لنشر التوحيد، وعندما احتاجت في عصر خاتم الأنبياء إلى التجديد، وبعد انهيار قسم من جدار الكعبة وحصول خلاف بين القبائل العربية في نصب الحجر الأسود في من هي القبيلة التي ستنال شرف نصب هذا الحجر ... اتّفق الجميع على اختيار محمّد الأمين بوصفه العاقل المحايد والناظر غير المتحيّز ولا المغرض .. حتّى يقبلوا بأيّ قرار يتّخذه .. هناك طلب منهم الرسول أن يفترشوا رداءً ليضعوا الحجر الأسود فيه، فتأخذ كلّ قبيلة طرفاً من الرداء، وبهذا عاد الحجر الأسود إلى مكانه الخاصّ، وجعله الرسول بيده المباركة في محلّه الموجود اليوم (1).

لقد ارتفعت أرضية الخلافات الجاهلية القوميّة والعرقيّة إلى حدّ ما على هدي إرشادات خاتم الأنبياء، وقد دعا الرسول الأكرم بهذا الابتكار التاريخي .. دعا الشعب إلى الاتّحاد، مقدِّماً الكعبة منادياً للاتّحاد ومركزاً للوحدة.

إنّ هذا الوصف الممتاز يتلألأ إلى جانب سائر الأوصاف البارزة للكعبة، وهو أنّها تكوّن مدرسة التوحيد والاتّحاد والوحدة، ذلك أنّ البيت الذي تقدّسه امّة من الناس ويشارك الجميع في بنائه وعمارته، وأهمّ جزء منه قد نصب في موضعه الخاصّ مع حفظ تمام الحقوق، وكان للإنسان الكامل الأطهر دورٌ في نصب هذا الجزء المقدّس، وذلك الإنسان الذي تعدّ الوحدة الشعبيّة من أهمّ رسائله الهامّة .. إنّ هذا البيت له دور فاعل في أن يكون مركزاً للوحدة.

تذكّر:

لقد خصّصنا البحث الأوّل من هذا الفصل للحديث عن المكانة المحورية للكعبة في توحيد الامّة الإسلاميّة.

10- أقدم المعابد العامّة

كلّ الأرض مسجد، قال رسول الله: «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (2)، وقد عبد الإنسان منذ القدم السحيق الله سبحانه في زوايا الأرض وأطرافها، إلّا أنّ أوّل مكان مخصّص للعبادة الجماعيّة كان الكعبة، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ (3).

إنّ الكعبة- ومع هذا الماضي المقدّس والتاريخ المبارك- متقدّمة في الشرف على بيت المقدس، فصارت قبلةً للعالمين، وقد استند إلى هذا التاريخ السحيق عندما نزل الوحي الإلهي حول تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المعظّمة واعترض اليهود على الإسلام بقداسة البيت المقدّس وقدمه، حيث ذكر أنّ الكعبة المطهّرة كانت أوّل بيت وأقدم بيت وضع للناس.

لعلّه من هذا المنطلق أطلق على الكعبة عنوان «البيت العتيق»، ذلك أنّ العتيق يُطلق على القديم والنفيس، والشي ء الذي لا قِدَم له أو هو قديم لكنّه ليس بنفيس لا يسمّى عتيقاً.

نعم، كما كان مدار الكرامة في النظام الإنساني الإلهي هو التقوى لا غير، كذلك محور قداسة الظواهر المادّية والنظام الخارج عن الإنسان كالأزمنة والأمكنة وأمثالها هو تجلّي الأمر الإلهي، كنزول الوحي فيه أو بسط الوحي عنده، وهذا الأمر الإلهي هو الموجب الوحيد لقداسة الكعبة، والتي غدت بيتاً عتيقاً نظراً إلى انضمام قدمها التاريخي إلى ذلك.

وتوضيح هذا الأمر أنّ حرمة الحرم ومكّة إنّما هي بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي الإلهي والإنسان الكامل والمعصوم الذي يغدو الخليفة التامّة لله سبحانه على أثر الاتّصال به وتلقّيه الوحي، أعمّ من الوحي التشريعي والوحي التسديدي الغيبي، كما أنّ الكلام والكتاب الإلهي- أي القرآن الكريم الحكيم- يأخذ حرمته من حرمة المتكلِّم والكاتب، أي الله سبحانه، تماماً كما هي حرمة الخليفة- أي الإنسان الكامل- تكون بالمستخلف عنه، أي الله الحكيم، إنّ حرمة الله تعالى بالذات، وعلى أساس الأصل القاضي بأنّ كلّ ما بالعرض لابدّ أن يرجع إلى ما بالذات، تكون الحرمة الإلهيّة هي المرجع الحصري لكافة الحرمات المذكورة.

وبناءً عليه، فكافة الامور المذكورة من نزول الوحي إلى هبوط الكتاب السماوي ووجود الإنسان الكامل الذي يكون قلبه المطهّر مهبطاً للوحي (4)، لها دور فاعل في قداسة الكعبة، تماماً كما أنّ لبنّاء البيت العتيق وكيفيّة تطهيره من لوث الوثنيّة والمعصية دوراً أيضاً في قداسة الكعبة.

وللبيت العتيق معنى آخر سبق التعرّض له وبيانه.

11- أفضل المعابد


1- وسائل الشيعة 9: 329- 330.
2- وسائل الشيعة 2: 969.
3- آل عمران: 96.
4- الشعراء: 193- 194.

ص: 34

كما أنّه لا يوجد عند الله أحبّ من الإسلام المتمثّل بالكعبة، كذلك ليس هناك من بقعة أحبّ إلى الله تعالى من الكعبة، من هنا يقول الإمام الصادق: «إنّ الله اختار من كلّ شي ء شيئاً واختار من الأرض موضع الكعبة» (1)

لقد انتشر في صدر الإسلام تفكير إسرائيلي مصحوب بترسّبات جاهليّة على يد أفراد مثل كعب الأحبار، كمرض ووباء معدٍ، وقد وقفت العترة الطاهرة- وهي عدل القرآن- وبكلّ قوّة وصلابة في وجه هذا المرض وإبطاله، وهذا أُنموذج لذلك:

يقول زرارة: «كنت قاعداً إلى جنب أبي جعفر وهو محتب مستقبل الكعبة، فقال: أما أنّ النظر إليها عبادة، فجاءه رجل من بجيلة يُقال له: عاصم بن عمر، فقال لأبي جعفر: إنّ كعب الأحبار كان يقول: إنّ الكعبة تسجد لبيت المقدس في كلّ غداة، فقال أبو جعفر: فما تقول فيما قال كعب الأحبار؟ فقال: صدق القول ما قال كعب، فقال أبو جعفر: كذبت وكذب كعب الأحبار معك، وغضب، وقال زرارة: ما رأيته استقبل أحداً يقول: كذبت، غيره. قال: ما خلق الله عزّ وجلّ بقعةً في الأرض أحبّ إليه منها، ثمّ أومئ بيده نحو الكعبة، ولا أكرم على الله عزّ وجلّ منها ...» (2).

لم يُسند إليه تعالى البيت المقدّس- رغم كلّ قداسته- إلى نفسه، وإنّما اطلق هذا التعبير بحقّ الكعبة حين قال: بَيْتِي (3)، نعم أسندت الكعبة- من جهة- للناس حيث قال تعالى: ... وُضِعَ لِلنَّاسِ (4)، إلّا أنّ هذا الإسناد المرفق بحرف اللّام يدلّ على أنّ الكعبة جعلت- من حيث التشريع- معبداً وقبلةً ومطافاً للناس.

12- منشأ البركة

الكعبة منشأ البركات الكثيرة ووسيلة هداية العالمين، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ (5)، فالله سبحانه ثابت دائم بنفسه، وخيراته شاملة للعالم كثيرة حول الكعبة وثابتة، من هنا كان وصف «مباركة» الذي يُطلق على الشي ء الثابت الدائم.

ومن علامات «المبارك» في الكعبة استمرار العبادة في أطرافها، حتّى لا ينقطع الطواف ولا للحظة واحدة من حولها باستثناء حالة صلاة الجماعة، كما أنّ الثواب على العبادات عندها مضاعف، وكذلك غفران الذنوب إلى جانبها (6)، والظاهر أنّه لا يوجد دليل على تقييد هذه البركة.

13- الكعبة وسيلة الهداية

الكعبة وسيلة هداية العالمين، قال سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فكلّ العباد والسالكين يتوجّهون إلى الكعبة، ومن هناك انطلقت دعوة الحقّ على يد الكثير من الأنبياء حتّى بلغت مسامع العالمين، من هنا قال سبحانه عنها: وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ تماماً كما دعا خاتم الأنبياء أصل الناس إلى التوحيد من هناك، وكذا خاتم الأوصياء سيكون منطلقه وظهوره من تلك النقطة أيضاً نحو العالمين، وهناك الآيات الإلهيّة الواضحة، قال سبحانه: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ (7) ووسائل اخرى كثيرة لهداية الناس إلى الحقّ.

ومن مصاديق الهداية الإلهيّة في تلك الأرض معرفة الله تعالى بدلالة الآيات البيّنة في الكعبة وأطرافها، وكذلك دلالة الكعبة على الجهة التي لابدّ من الصلاة نحوها، وهي الطريق إلى الجنّة الذي يتمّ العثور عليه عبر إقامة الحجّ والطواف حولها (8). لكن وكما أُشير آنفاً .. لا دليل على تقييد البركة والهداية المذكورين، كما لا تفصيل بينهما وتمييز.

14- حماية الكعبة

اسّست الكعبة حتّى يتّجه إليها العابدون، وحيث كانت العبادة لازمةً للإنسان وضروريّة، ولا تقبل هذه السنّةُ القديمة الإلهيّة الزوالَ، كذلك الحجّ- كالصلاة- من الاصول الرئيسة للإسلام، وأحد أبرز الوجوه العبادية للشرع عموماً ودوماً حماية الكعبة وحفظها من الهجوم والسهام الحاقدة، ولهذا كان ذلك جزءاً من البرامج الإلهيّة الحتميّة، وعلى هذا الأساس هلك أصحاب الفيل بمعجزة غيبيّة لمّا أرادوا هدم الكعبة وإعدامها (9).

والذي يُستفاد من الآية الشريفة: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم (10) أنّ التصميم على القيام بالظلم في الحجّ والزيارة للكعبة، وإن لم يكن يبلغ حدّ العمل، إلّا أنّه يوجب الانتقام الإلهي أيضاً، وكلّ شخص يريد الظلم بإلحاد، أو يسدّ هذا السبيل الإلهي، ويصرف الناس عن زيارة الكعبة والعبادة .. فإنّه سوف يكون مشمولًا لهذا التهديد المرعب المخيف، والله سبحانه سوف يذيقهم عذاباً أليماً، وإذا ما وقعت الكعبة في بعض فترات التاريخ موقع الظلم وإرادة إلحاق الضرر معها ولم يلحق المهاجمين المعتدين العذاب فوراً، فإنّ ذلك كان لسبب سوف يأتي ذكره عند الحديث عن العلاقة بين الكعبة والإمامة وأهمّية مقام الإمامة الرفيع.

أمّا عن حماية الكعبة ومصونيّتها فقد تقدّم الحديث عن ذلك مفصّلًا نسبيّاً في الفصل الثالث من القسم الأوّل، لا سيما في الفرع الثالث عند الحديث عن «علاقة الحجّ وشؤونه بالولاية» (11).

15- الولاية روح الكعبة

تحاذي الكعبة البيت المعمور، وهو في مقابل العرش الإلهي، وقد بني البيت المعمور حتّى يحصل الملائكة الذين لم يعرفوا لمقام الإنسانية الخلافة ويجعلون التسبيح والتقديس الصادر منهم سنداً مناسباً لصيرورتهم خلفاء لله، وتعرّفوا بالتنبيه الإلهي على أوج مقام الإنسان الكامل، وأعلنوا الندم على ما اقترفوه، كاتبين استقالتهم، معلنين ندمهم عبر الاستفهام التعجّبي والاستخبار والاستعلام والاستسفار ... حتّى يطوف هؤلاء به، فيرمّمون


1- وسائل الشيعة 9: 348.
2- وسائل الشيعة 9: 363.
3- البقرة: 125؛ والحج: 26.
4- آل عمران: 96.
5- آل عمران: 96.
6- الطبرسي، مجمع البيان 1- 2: 798.
7- آل عمران: 97.
8- الطبرسي، مجمع البيان 1- 2: 798.
9- الفيل: 1- 5.
10- الحجّ: 25.
11- ثمّة روايات في هذا المضمار عن الأئمّة المعصومين جاءت في بعض المجاميع الروائية تحت عنوان «باب مَن أراد الكعبة بسوء» فانظر: من لا يحضره الفقيه 2: 248، والوافي 12: 53.

ص: 35

بذلك نقص عملهم (1) .. كما كان البيت المعمور قد صنع لذلك، كذا الكعبة صنعت للطواف حولها حتّى يرمّم الجميع قصورهم ويجبروا تقصيرهم سيّما الغفلة عن مقام الإنسانية والسهو والنسيان أو العصيان في محضر خليفة الله.

من هنا، فأفضل تنبّه للطائفين الغافلين والحجّاج الذاهلين هو تدارك الجهل وجبران غفلتهم بأنفسهم وعدم معرفتهم للمقام الشامخ للإنسان الكامل وخليفة العصر بقيّة الله، حتّى يغدو كالملائكة مقبول الطواف ومشكورَ السعي.

بناءً عليه، رغم أنّ النظر إلى الكعبة محمود وممدوح، والناظر إليها مُثاب ومأجور (2)، إلّا أنّه كما هي كلمة التوحيد مشروطة بالولاية، حصن الأمن ودرع النجاة (3)، كذلك النظر العرفاني- المنسجم مع الولاية- إلى الكعبة هو أيضاً أساس غفران الذنب، وأصل نيل الجاه، والتحرّر من حفرة الطبيعة وغمّ الدنيا والآخرة، تماماً كما يقول الإمام الصادق: «من نظر إلى الكعبة بمعرفة، فعرف من حقّنا وحُرمتنا مثل الذي عرف من حقّها وحرمتها، غفر الله ذنوبه وكفاه همّ الدُّنيا والآخرة» (4). وشاهد ذلك عدم قبول عبادات منكري الولاية.

من هذا المنطلق يتّضح معنى الحديث الوارد في محبوبيّة أرض مكّة وكلّ ما كان في فضائها وعليها، أعمّ من التراب، والحجارة، والأشجار، والجبال والماء (5)، أي أنّ منطقة الحرم التي يعدّ إدراك حقّها ومعرفة حرمتها معرفةً مندمجةً بعرفان حقّ الولاية وامتثال آثار الولاء أحبّ الامور، ولا شي ء مثله في المحبوبيّة، ذلك أنّ القرآن عدل الثقل الأصغر (الولاية) وهو محبوب العارفين بالثقلين ومعروفهم، وأرض الوحي أساس انبعاث هذا الإقدام الممزوج بالامتثال، وهذه المعرفة المتناغمة مع العمل، من هنا كانت أكثر الأراضي محبوبيّةً.

فإذا كانت الكعبة مدينةً بتمام ألوان الشرف، وقد قدّرت وظائف لذلك، فروح هذه المراسم والمناسك هي الولاية والإمامة ومعرفة الإمام والخضوع له والتسليم أمامه، على هذا الأساس تطرح فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويتوهّم فريق أنّه أفضل منه، فيبيّن الله تعالى أفضليّته بوصفه أبرز مصاديق أهل الإيمان والجهاد، قال سبحانه: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ (6).

إنّ حرمة الكعبة- التي يوجب هتكها والإساءة إليها العذاب الإلهي الأليم- منطلقة من حرمة الولاية التي هي باطن المقامات النبويّة الشامخة ومقامات الرسالة والإمامة، من هنا فمن لم يعرف إمامه، وكانت حياته كموته جاهليّين (7) إذا احتمى بالكعبة فلا يأمن بالأمن الإلهي، بل يُعطى عدوّه مهلةً حتّى يلقي القبض عليه، حتّى لو كان ذلك في إطار تخريب الكعبة، ذلك أنّه: «لم يناد بشي ء كما نُودي بالولاية» (8).

وقد تقدّم مزيد من التوضيح حول العلاقة بين شؤون الحجّ المختلفة وعين الولاية في الفصل الخامس من القسم الأوّل.

16- علامة القبلة

تكمن أهمّية القبلة ومكانتها في أنّها علامة على كيان الدِّين والامّة، تماماً كما يسمّى المسلمون «أهل القبلة» ويُعرفون أيضاً بأهل القرآن؛ ولهذا اعتبر الله سبحانه القبلة امتحاناً كبيراً، حيث قال: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً (9).

لقد كان بيت المقدس قبلة المسلمين قبل الهجرة ومقداراً بعدها، رغم أنّ رسول الله كان يسعى- حدّ الإمكان- أثناء الصلاة أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس حتّى يتمكّن في آن واحد من الصلاة إلى الكعبة وإلى بيت المقدس (10).

نعم، هذا العمل لم يكن ممكناً في المدينة المنوّرة، من هنا تغيّرت القبلة بعد سنة وبضعة أشهر من الهجرة إلى المدينة بأمر من الله لتتحوّل من بيت المقدس إلى الكعبة، وهنا قال أعداء الإسلام اللجوجون والمعاندون: إذا لم يكن التوجّه إلى بيت المقدس حقّاً فلماذا كانت الصلاة إليه لأكثر من أربعة عشر عاماً- طبقاً لكون الصلاة قد فرضت في أوّل البعثة- وإذا لم يكن استقباله حقّاً فلماذا تحوّل محمّد عنه؟!

وبالأخذ بعين الاعتبار في القبلة عنصر الجهة لا المكان، على خلاف الطواف حيث العبرة فيه بالمطاف والمكان لا الجهة، أجاب الله سبحانه اعتراضهم هذا بالقول: للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (11)، بمعنى أنّ جميع الجهات لله تعالى، إذ كلّ شي ء مِلكه ومُلكه (12)، وزمام الأشياء بيده وإليه (13). وانطلاقاً من كرويّة الأرض وحركتها الوضعيّة نرى:

أوّلًا: أنّ تمام نقاط الأرض تعدّ مشرقاً ومغرباً بملاحظة طلوع الشمس وغروبها.

ثانياً: إذا لم يكن هناك مشرق ومغرب فلا شمال ولا جنوب أيضاً، وعليه فتمام الجهات متساوية في ملك الحقّ سبحانه، ولا مزيّة لأحدها على الاخرى، فبيت المقدس ليس بأشرف من الكعبة حتّى يكون العدول عنه مستحيلًا عقلًا وممنوعاً؛ فلا رجحان ذاتيّ لأيّ من هذه الجهات، فكلّها لله، وهو المبدأ الفاعلي لجعل هذه أو تلك قبلةً.

وبناءً عليه، فكلّ جهة يتّجه إليها الإنسان هي وجه الله، قال سبحانه: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (14)، من هنا لا خصوصيّة للكعبة من هذه الناحية، أي أنّ الأمر ليس بحيث لو لم يستقبل الإنسان الكعبة فلا يكون مستقبلًا لله سبحانه، حتّى لو كان رسول الله يجلس بنحو القبلة (15).

إنّ وجوب الاتّجاه نحو الكعبة في بعض الامور، مثل: الصلاة والذبح، وحرمة ذلك أو حرمة استدبار الكعبة في موارد اخرى إنّما هو منحصر في نطاق الأحكام الفقهيّة، وإلّا فلا جهة من الجهات يمكنها أن تحدّد الله تعالى.


1- جاء في الكافي 4: 187- 188، باب بدء البيت والطواف، حديثان مختلفان قليلًا في السند وبعض العبارات في المتن إلّا أنّ الذي يبدو أنّهما من أصل واحد، وقد جاء في الروايتين أنّ الإمام الصادق ينقل جواب والده الإمام الباقر عن سؤال وجّهه إليه شخص يريد أن يعرف علّة تشريع الطواف، وفي الرواية الاولى صرّح ب-: «. فأمر الله ملكاً في الملائكة أن يجعل له بيتاً في السماء السادسة يسمّى الضراح بإزاء عرشه ..»، كما كان القسم الأخير من الرواية الثانية على الشكل التالي: «. إنّ الله عزّ وجلّ لمّا أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، ردّوا عليه، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قال الله تبارك وتعالى: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ البقرة: 30، فغضب عليهم، ثمّ سألوه التوبة، فأمرهم أن يطوفوا بالضراح، وهو البيت المعمور، ومكثوا يطوفون به سبع سنين] و [يستغفرون الله عزّ وجلّ ممّا قالوا. ثمّ تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضي عنهم، فهذا كان أصل الطواف، ثمّ جعل الله البيت الحرام حذو الضراح توبةً لمن أذنب من بني آدم وطهوراً لهم». لابدّ من الانتباه في ورود تعابير مثل ردّ الملائكة، غضبهم ثمّ ندمهم واستغفارهم، سخط الله وغضبه، حجبهم عن النور الإلهي، وهو ما جاء في بعض الروايات في ذيل الآيات 30- 34 من سورة البقرة، فهذه التعابير: أوّلًا: بحاجة إلى توجيه وتبيين على تقدير صحّة سندها تماماً كما هي الحال في بعض الآيات المتعلّقة بالتوحيد والنبوّة. ثانياً: ليس عالم الملائكة منطقة للتشريع والأحكام الفقهيّة، وإلّا كانت لديهم شريعة ورسالة وحدود وعقوبات وثواب و ... ثالثاً: إنّ احتفاف حوار الملائكة لله بكلمات مثل التسبيح والتقديس والعلم والحكمة دليل على اعتقادهم واعترافهم بنزاهة عمل الله تعالى وقداسته من كلّ عيب ونقص، وإذعان منهم بالعلم والحكمة الإلهية، وهذا الاعتقاد والإذعان قرينة كافية على استفهاميّة سؤالهم. رابعاً: رغم أنّ ظاهر بعض الروايات كراهة الملائكة لجعل الخلافة لآدم إلّا أنّ الملائكة المعهودين في القرآن معصومون جميعاً، فأدلّة عصمتهم تأبى عن التخصيص. خامساً: إنّ ثناء الملائكة وتنزيههم لا وثيقة تدارك للموقف، لأنّ سيرة المَلك وسريرته هو التسبيح المنسجم مع الثناء والتقديس الإلهيّين. سادساً: جاء في بعض الروايات أنّ الملائكة غضبوا لرضا الله تعالى وتأسّفوا على أهل الأرض بحار الأنوار 11: 103، فغضب الملائكة وتأسّفهم له صبغة عبادية.
2- وسائل الشيعة 9: 364.
3- بحار الأنوار 3: 7.
4- وسائل الشيعة 9: 364.
5- المصدر نفسه: 349.
6- التوبة: 19، وانظر: بحار الأنوار 22: 288.
7- المناقب 246: 1.
8- الكافي 2: 18.
9- البقرة: 143.
10- بحار الأنوار 4: 105؛ و 81: 59، و 92: 218.
11- البقرة: 115.
12- الملك: 1.
13- يس: 83.
14- البقرة: 115.
15- الكافي 2: 661.

ص: 36

ويؤيّد هذا الأمر أنّه إذا لم يكن القيام واجباً في أصل الصلاة أمكن للمصلّي في داخل الكعبة أن ينام على ظهره ويصلّي متّجهاً نحو السماء، ذلك أنّ داخل الكعبة ومن تمام جهاتها الأعمّ من الأضلاع والزوايا يعدّ قبلةً ومصداقاً بارزاً لقوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.

وعلى أيّ حال، لم تجعل الكعبة أوّل قبلة للمسلمين حتّى زال التعصّب الجاهلي وعلم المتّبع من المنقلب، قال سبحانه: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ (1)، ذلك أنه لو جعلت الكعبة قبلةً منذ انطلاقة البعثة فسوف تحيا ترسّبات الجاهلية العربية والتعصّبات القوميّة، وبعد أن تأمّن الهدف المذكور ولمواجهة تعصّب يهود المدينة وأطرافها وطعنهم حيث قالوا: لم يكن المسلمون مستقلّين في القبلة بل تابعين لقبلتنا، من هنا حوّل الله القبلة مرّةً اخرى إلى الكعبة.

لقد أدّى توهّم التبعيّة لليهود في أمر القبلة إلى ظهور إحساس الحقارة والذلّة في نفوس المسلمين، حتّى أنّ الرسول كان ينتظر الوحي لحلّ هذا المعضل، قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ (2) رغم أنّ الله تعالى عدّ رسوله الأكرم أكمل مصداق للهداية حيث قال: إِنَّكَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (3)، مصرّحاً في أمر القبلة بقوله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ (4)، لكن مع ذلك كان انتظار النبيّ من ناحية الطعن والتحقير الذي مارسه معوجّو الفكر وسيّئو اللِّسان ضدّ الإسلام والمسلمين، لا أنّه انطلق من أساس شخصي أو عرقي أو قبلي، من هنا قال تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (5)، على أساس أنّ الإنسان الكامل الذي وصل إلى مقام الرضا ورضي الله عنه كما رضي هو عنه رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (6)، ليس عنده رضا نفسي أو قومي بل «رضى الله رضانا أهل البيت» (7)، فمثل هذا الإنسان يطلب ما يرضاه الله وبإذنه، ولهذا قبل القبلة حيث كانت مرضيّةً عند الله، والله تعالى رضي بالقبلة حيث تكون مصونةً من الطعن.

القبلة هي البُعد الذي لا يتغيّر للكعبة

الكعبة هي ما يتّجه إليه المسلمون في حياتهم ومماتهم ويرتبطون به ارتباطاً دينيّاً مباشرةً، لهذا عُلّمنا أن نقول: «الكعبة قبلتي» (8)، إنّ الارتباط المباشر بين المسلمين والكعبة في حياتهم ومماتهم يظهر في بعض الحالات بالاتّجاه نحو القبلة واجباً، مثل حال الصلاة والذبح، واخرى مستحبّاً، وفي بعض الحالات يكون استقبال الكعبة أو استدبارها حراماً أو مكروهاً، وفي هذا المجال ثمّة نقاط تستحقّ الانتباه وهي:

1- إنّ الاستقبال غير القبلة، تماماً كما أنّ المراد من استقبال القبلة أو استدبارها هو الاستقبال بمقاديم البدن لا خصوص الوجه.

2- لاستقبال الكعبة بالنسبة لسكّان المناطق البعيدة امتداد واسع وملاكه الصدق العرفي لا الصدق الرياضي، ففي نظر العرف يعدّ استقبال المسجد الحرام من خارج الحرم استقبالًا حقيقيّاً للقبلة لا مجازيّاً، حتّى لو لم يكن كذلك من ناحية الحسابات الهندسيّة.

3- لقد أشار بعض العلماء الكبار إلى أمر ظريف هنا يكمن في أنّ الكعبة ليست قبلةً في نفسها، وعليه فإذا جرف الكعبة سيلٌ أو ما شابه فخرّبها فلا يعني ذلك زوال القبلة وانعدامها، بل إنّ فضاءها وبُعدها الخاصّين لا يقبلان التغيير والتبديل، حيث يمتدّان من أعماق الأرض وتخومها إلى أوج السماء وعنانها (9).

فالكعبة وضعت في مكان القبلة، من هنا فمن هو في أعماق الأرض أو في مرتفعات الجبال يمكنه أن يتّجه إلى الكعبة ويصدق عليه استقبال القبلة.

قبلة الأنبياء

لقد كان الأنبياء وأتباعهم أهل الصلاة والسجود، قال تعالى: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (10)، وقال سبحانه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (11).

وحيث كان للصلاة والسجود جهة وقبلة، وجب إمّا القبول بجهة خاصّة بوصفها قبلةً أو أن نقول- طبقاً لقوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (12): إنّ تمام الجهات متساوية في الشريعة ولا ترجيح لأحدها في الاستقبال على الاخرى، وهو فرض بعيد؛ حيث يستفاد من ظاهر الآية الشريفة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ (13) بمعونة الأحاديث المأثورة أنّ الكعبة كانت محلّ تكريم واحترام من جانب الأنبياء جميعهم، ورغم أنّ ظاهر الآية ليس ناظراً إلى ناحية بُعد القبلة في الكعبة، لكن على فرض انعقاد ظهور إطلاقي فيها لانحصار القبلة في الكعبة يمكن تقييد الإطلاق المذكور بدليل معتبر آخر إذا كان موجوداً.

وعلى أيّة حال، فحرمة الكعبة محرزة منذ قديم الأيّام إلى حدّ أنّها كانت محلّ تقدير وتكريم منذ آدم حتّى الخاتم تماماً، كما هو بُعد المطاف فيها مستمرّاً، نعم لبُعد القبلة في الكعبة أحكام فقهيّة مختلفة يمكن تصوّرها عبر الأعصار والقرون، تماماً كما نشاهد هذا التنوّع في صدر الإسلام إلى أن جاء الحكم الدائم للقبلة.

ملاحظة: كان بيت المقدس الذي بناه داود وسليمان (14) ومنذ بنائه قبلةً لبني إسرائيل، وما يزال حتّى الآن كذلك، كما أنّ المسلمين قبل تحويل القبلة كانوا يصلّون إليه، ورسول الله كان في مكّة يصلّي إليه وإلى الكعبة معاً قدر الإمكان، بحيث يتّجه إليهما في آن واحد (15).

الكعبة أشرف من بيت المقدس

1- يشكّل المسجد الحرام والمسجد الأقصى مبدأ المسير الأرضي للمعراج النبوي ومنتهاه، قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْاقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (16)، فطبقاً لهذه الآية الشريفة أطراف المسجد الأقصى مليئة بالبركة، كما أنّ مكّة المكرّمة هي


1- البقرة: 143.
2- البقرة 2: 144.
3- الزخرف: 43.
4- البقرة: 143.
5- البقرة: 144.
6- المائدة: 119.
7- بحار الأنوار 44: 366.
8- المصدر نفسه 6: 175، 228- 229، 237- 238.
9- وسائل الشيعة 3: 247.
10- مريم: 31.
11- مريم: 58- 59.
12- البقرة: 115.
13- آل عمران: 96.
14- بحار الأنوار 14: 77.
15- المصدر نفسه 4: 105، و 81: 59، و 92: 218.
16- الإسراء: 1.

ص: 37

الاخرى، وعلى إثر دعاء النبيّ إبراهيم مليئةٌ أيضاً بالنِّعم الإلهيّة، يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ ء (1)، رغم أنّها أرض ليس فيها طرق الانتاج الزراعي، فصارت نقطة تساقط الثمرات والمحاصيل المختلفة من سائر أنحاء العالم في تمام الفصول، وهي أرض غير ذي زرع، وهذا كلّه من الآيات الإلهيّة الواضحة (2).

2- قيل: يكفي شرفاً للكعبة أنّ الآمر ببنائها هو الله تعالى، ومهندسها جبرئيل وبنّاءها الخليل ومساعده إسماعيل (3)، ومثل هذا الشرف غير ثابت في حقّ بيت المقدس.

3- بُنيت الكعبة على يد إبراهيم الخليل، وهو من أنبياء اولي العزم، أمّا بيت المقدس فبناه سليمان وهو من حفظة شريعة أنبياء أُولي العزم وليس واحداً منهم.

4- لم يثبت في بيت المقدس أيّ وعد إلهي بحفظه من تهديد الأعداء، أمّا الكعبة فقد جاء فيها هذا الوعد، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم (4)، كما تمّ إنجاز هذا الوعد أيضاً، قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ... (5)، أمّا بختنصّر فقد خرّب بيت المقدس وهدّمه دون أن يواجه عقبةً أو تهديداً.

الخصوصيّات الفقهيّة للكعبة

1- بيّن وجوب الحجّ وزيارة الكعبة بقوله تعالى: وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (6)، ولم يرد مثل هذا التعبير في حقّ أيّ عبادة اخرى، وقد سبق أن شرحنا هذه النقطة من قبل.

2- لقد عُدّ زوّار الكعبة من شعائر الله سبحانه، فهتك حرمتهم يقف في صفّ هتك سائر الحرمات الدينيّة، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ (7).

3- إذا نجّس شخص الكعبة- والعياذ بالله- عامداً متعمِّداً معانداً، كان حكمه الإعدام، أمّا مَن ينجّس المسجد الحرام عمداً فيُحكم عليه بالضرب الشديد.

4- كما أنّ الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه (8)، كذا الحال في الإسلام الممثَّل، أي الكعبة، لا ينبغي أن يكون هناك بناء أعلى منها، إنّ الخضوع في ساحة الكعبة المقدّسة يستدعي ليس فقط عدم وجود شخص أعلى منها، كما هو كذلك، بل وأيضاً من ناحية الصورة لا يفترض أن يكون أرفع منها لتكون تحته، كما يقول الإمام الباقر: «لا ينبغي لأحد أن يرفع بناءً فوق الكعبة» (9)، وعليه فبناء بيت يستر بناء الكعبة مكروه.

5- يُستفاد من الآية الكريمة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ (10)، وكذلك من الإعلان العمومي للنبيّ إبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ (11)، أنّ الكعبة بُنيت للناس، وهذا معناه أنّ حريمها يسع الناس كلّهم، ومن الممكن أن يمتدّ لكيلومترات عديدة، من هنا، وكما أوضحنا من قبل، يمكن تخريب البيوت الواقعة في أطراف الكعبة حتّى لو لم يرضَ أصحابها بذلك.

6- لا تخضع إدارة الكعبة للتقسيمات الجغرافية ولا تُحكم للقوانين الدولية الاعتبارية أو المناطقيّة أو الإقليميّة؛ ذلك أنّ الكعبة ليست ملكاً لشخص وكلّ الورعين والمتّقين هم أولياؤها، لا خصوص الشعب الحجازي، قال تعالى: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (12).

7- إنّ قبلة المسلمين ومطافهم تعبّر عن بُعد خاصّ يمتدّ في العمق والأسفل حتّى الأرض السابعة ويرتفع في الأعلى حتّى السماء السابعة (13)، وتقع الكعبة في هذا البُعد، وإلّا فإذا لم يكن الأمر كذلك لزم زوال القبلة والمطاف عندما قصف الحجّاج بناء الكعبة بالمنجنيق أو عندما يأتيها سيل فيخرّبها.

من هنا لا يجوز لغير الطاهرين العبور من فوق الكعبة بالطائرة، ومنطلق هذا التحريم كون هذا الفضاء قبلةً، لا أنّ القبلة هي المسجد، ذلك أنّه وإن لم يجز عبور غير الطاهرين في المسجد الحرام إلّا أنّ المسجدية محدودة، أمّا بُعد القبلة في الكعبة فهو أوسع من ذلك، ومن نطاق المسجد الحرام، وعليه يمكن التمييز في الفضاء بين المسجد الحرام والكعبة.

ملاحظة: لقد جرى توفير حفظ البُعد الخاص الذي تقع الكعبة فيه؛ أمّا سائر الأماكن الاخرى والأبنية فهي وإن كانت لها أبعاد فضائية، إلّا أنّه في حال عرض عليها الخراب فلا تحفظ أبعادها الاخرى ولم تحفظ.

عبقٌ من تاريخ الكعبة

الكعبة أوّل معبد شعبي وعالمي لتمام البشر، قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً ... (14)، وقد جرى تعيين محلّه وخارطته بإرشاد وأمر من الله سبحانه، قال تعالى: وإذْ بَوَّأْنَا لِابْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ... (15).

وبناءً عليه، كانت الكعبة أوّل معبد (لا أوّل بيت) بُني على وجه الأرض، كما أنّه على أساس الرواية التي تبيّن دحو الأرض، فإنّ مكان الكعبة هو أوّل مكان خرج من تحت الماء (16).


1- القصص: 57.
2- آل عمران: 97.
3- الفخر الرازي، التفسير الكبير 8: 159.
4- الحج: 25.
5- الفيل: 1- 5.
6- آل عمران: 97.
7- المائدة: 2.
8- وسائل الشيعة 17: 376، 460.
9- وسائل الشيعة 9: 343.
10- آل عمران: 96.
11- الحج: 27.
12- الأنفال: 34.
13- وسائل الشيعة 3: 248.
14- آل عمران: 96.
15- الحج: 26.
16- وسائل الشيعة 7: 331- 332، و 9: 347- 348.

ص: 38

لقد كان للكعبة تاريخ وحضور في عهد الأنبياء السابقين، وشاهد هذا الكلام أنّ النبيّ إبراهيم ذكر لله سبحانه عندما أسكن هاجر وإسماعيل في أرض مكّة: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ (1)، وعندما ودّعهم، وقالت له هاجر: لمن تتركنا؟ قال: «إلى ربّ هذه البنيّة» (2).

ويستوحى من جملة: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أنّ الكعبة كانت مشهورةً قبل عهد إبراهيم بأنّها البيت الحرام، وأنّ موضعها كان محدّداً.

ويحتمل أن يكون بناء الكعبة قد هدم أو أصابه الضرر عدّة مرّات نتيجة الأحداث الطبيعيّة والوقائع المختلفة، ثمّ أُعيد بناؤها من جديد، تماماً كما حصل مع بنّائها إبراهيم حينما أعاد بناءها بيده القويّة، لكن حيث تكفّل الله سبحانه بتدبير أُمور الكعبة ورعايتها، فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)، فلم يذهب إطلاقاً مكان الكعبة وموقعيّتها وكذلك آياتها البيّنات مثل الحجر الأسود، ومقام إبراهيم، و ... كما أنّها بقيت مصونة من سهام الأحداث المزعجة المؤلمة، وفي حديث عن الإمام الحسين يشير إلى حماية هذه الآيات البيّنات، يقول الإمام الباقر في هذا الحديث: «نعم، أذكر وأنا معه] الحسين [في المسجد الحرام، وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل، ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه. قال: فقال لي: يا فلان ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك الله يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام، فقال: نادِ: إنّ الله تعالى قد جعله علماً لم يكن ليذهب به، فاستقرّوا ...» (4).

وعلى أيّة حال، فظهور الإعجاز الإلهي في خضمّ الأحداث الخطيرة هو ما يضمن صيانة الآيات للحرم بل وضمنها.

لقد كان ارتفاع الكعبة في زمان بُناته: إبراهيم وإسماعيل 9 إلى 12 ذراعاً، كما كان لها بابان، أمّا ارتفاعها في عهد قريش أو ابن الزبير فقد بلغ ثمانية عشر ذراعاً (9 أمتار)، وقد صارت ذات سقف، بعد ذلك، وفي واقعة الحجّاج وابن الزبير بلغت سبعة وعشرين ذراعاً (5)، إلى أن بلغت ارتفاعها الحالي.

أمّا أُسسها المعنوية، فتصل- حسب البيان النوراني للإمام الصادق- إلى نهاية الطبقة الثامنة للأرض، فيما ارتفاعها الحقيقي يبلغ منتهى السماء السابعة (6).

ويُعلم من أنّه عند تطهير الكعبة من الأصنام ووضع الإمام أمير المؤمنين عليّ قدميه على كتفي رسول الله ثمّ إلقاء الأصنام من على ظهر الكعبة أرضاً .. أنّ ارتفاع الكعبة آنذاك- حسب الظاهر- كان تقريباً بحجم قامة رجلين متوسّطي القامة، نعم، ثمّة حساب آخر لما أشار إليه أمير المؤمنين من البُعد المعنوي لهذه الحادثة حيث قال: «فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لمسكتها» (7).

وواحدة من الأحداث المرّة التي عرضت على الكعبة، أي القبلة والمعبد ومطاف الأنبياء والأولياء الإلهيّين .. أنّها كانت لمدد عدّة بيتاً للأصنام، أي أنّ عَبَدَة الأصنام في الحجاز كانوا يضعون الأصنام فوق الكعبة، وفي بعض الأحيان يضعونها داخلها، ولهذا كانوا يفتخرون بخزانة الكعبة وإدارتها، وأحد الذين حملوا سمة خازن الكعبة كان أبو غبشان وهو- كما اشير من قبل- قد باع وهو ثمل مفاتيح الكعبة وخزانتها بقدحين من الشراب والخمر.


1- إبراهيم: 37.
2- بحار الأنوار 12: 116.
3- قريش: 3.
4- الكافي 4: 223؛ نعم هذا النقل يحتاج إلى المزيد من البحث التأريخي من حيث سنّ الإمام الباقر عليه السلام.
5- المصدر نفسه: 203، 207.
6- وسائل الشيعة 3: 248.
7- بحار الأنوار 38: 76، وفي صفحة 78، جاء هذا النصّ في نقل آخر كالتالي: «والذي بعثك بالحقّ، لو هممتُ أن أمسّ السماء بيدي لمسستها».

ص: 39

ص: 40

ص: 41

ص: 42

ص: 43

ص: 44

ص: 45

المسعى قديماً وحديثاً وحدّه في الشريعة

الشيخ محمّد القائني

تقدّم منّا في بعض البحوث- وطبع- بحث عامّ يتعلّق بحكم الشبهات المفهوميّة لما هو موضوع الأحكام أو متعلّقاتها أو قيودها؛ وقد وقع الابتلاء أخيراً ببعض مصاديقه وتطبيقاته في الحجّ وهو توسعة المسعى عرضاً بعدما سبق مثلها ارتفاعاً؛ حيث كان بني طابقان فوق المسعى لهذا الغرض، ولذا كان المناسب عرض ذاك البحث المتقدِّم عرضاً تطبيقيّاً. وليكن حكم هذه المسألة الخاصّة من ثمار ذاك البحث أيضاً. كما تحقق البحث عن حكم التوسعة الحديثة للمسعى وما بحكمها فنقول بعد التوكّل على الله:

من الواجب على الحجّاج والمعتمرين السعي بين الصفا والمروة كما يجب عليهم الطواف بالبيت، والعنوان الواجب المدلول عليه في الكتاب والسنّة هو الطواف بالصفا والمروة أو الطواف والسعي بينهما.

قال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (1).

والشعائر جمع شعيرة بمعنى العلامة، ومنه شعار القوم والعسكر وهو العلامة الجامعة لهم.

وكون الصفا والمروة من شعائر الله وعلائمه لابدّ أن يكون باعتبار خاصّ غير الخلق التكويني؛ وإلّا فجميع المخلوقات هي معلولة له تعالى ومخلوقة لله، وكلّ معلول فهو دليل علّته وعلامة عليه، فالمراد من كونهما شعيرة لله كونهما من قيود متعلّقات عمل الحجّ والعمرة اللذين هما من العبادات، والعبادات صلتها بالله ظاهرة، وكونها من شعائر الله واضحة، وكذا ما كان من قيودها من قبيل البيت، وصفا ومروةومشعر وعرفة ومنى وسائر مشاعر العبادات كالمساجد ونحوها.

وإن شئت قلت: المراد من شعيرة الله ما له صلة واضحة بالله تعالى بحيث يكون ذكره أو رؤيته مذكِّراً لله تعالى؛ وذلك كالنبيّ والرسول فإنّه من شعائر الله لكونه رسول الله ومبعوثه، وكذا الإمام المعصوم فإنّه من شعائر الله لكونه منصوباً من قِبله على العباد، وكذا كلّ ما شرّعه الله تعالى من صلاة أو صوم وما شاكل ذلك فإنّها شعائر إلهيّة؛ ومن ذلك قيود العبادات كبيت الله الحرام وعرفات ومنى ومزدلفة وأرض المسعى وحدّها أعني نفس صفا والمروة.

ومن هذا المنطلق كانت ناقة صالح من شعائر الله وكذا البُدن والاضحية في الحجّ والعمرة وقد قال تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ (2).

ومن هذا المنطلق تكون قبور الأنبياء والأوصياء والأئمّة بل والأولياء والصلحاء من شعائر الله، وقد ورد الحثّ على تعظيم شعائر الله، قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (3).

فبناء القبور وتعظيم أصحابها وتقبيل تلك الأبنية ورعاية حرمتها تعظيمٌ لشعائر الله، وفي الحقيقة تعظيم لله تعالى؛ وذاك محض التقوى بنصّ الكتاب، والوجدان شاهد على ذلك والارتكازات العقلائيّة موافقة عليه. والمخالفة مع ذلك معارضة مع العقل السليم والكتاب والسنّة والسيرة الجارية بين المسلمين من دون عصر النبي والأئمة من أهل بيته حتى اليوم. بل على ذلك جرت سيرة سائر الأديان والعقلاء.

ثمّ إنّ ظنّي أنّ الناس كان سعيهم في الجاهليّة بالطواف حول الصفا والمروة؛ بمعنى إدخالهما في السعي فكان الساعي يأتي بعد الطواف بالصفا إلى المروة ويدور حولها ولو بالطواف ببعضهما بالصعود عليهما والدوران فوقهما ولو باعتبار وجود الأصنام على الشعيرتين ثمّ يرجع إلى الصفا مرّةً اخرى، وهذا وإن لم يكن واجباً حسب النصوص والروايات حيث يجوز الاكتفاء بالسعي بين الصفا والمروة ولكنّه لا يخلّ بالسعي الواجب.

ومنشأ ظنّي بذلك هو تعبير الآية عن نسك السعي بقوله عزَّ من قائل: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا، والطواف بالشي ء غير الطواف إلى الشي ء؛ فإنّ الطواف بمعنى الدوران حول الشي ء، يُقال: طاف بالبيت إذا دار حوله؛ ومنه طاف الناس به إذا أحاطوا به، ومنه طاف الماء إذا أحاط بالمكان.

ثمّ لمّا كان الطواف بالشي ء يستدعي الإحاطة بالشي ء ربّما يُكنّى به عن العسّ الذي يحافظ ويدور على البيوت ليلًا ويطوف في الشوارع فطوافه وإن لم يكن بالدوران حول الشي ء ولكنّه بالتحفّظ والمراقبة كأنّه يحيط بالشي ء ويدور حوله فهو كناية أو حقيقة.

وقوله تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ (4) إمّا هو تطعيم للطواف معنى التردّد بتجريده عن معنى الدوران أو يكون الطواف فيه بمعنى الإحاطة نظير: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (5).


1- البقرة: 158.
2- الحج: 36.
3- الحج: 32.
4- النور: 58.
5- الواقعة: 17.

ص: 46

وكيف كان، فالطواف بالشي ء لا يصدق فيما نفهم- بمناسبة الاستعمالات- بمجرّد الحضور عند الشي ء بدون الدوران حوله.

كما أنّ التطوّف مبالغة في الطواف يستدعي تكرّر الطواف والدوران ولا يصدق بطواف واحد التطوّف، ولعلّه لذا قال تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا يريد تعدد الطواف حيث إنّه سبعة أشواط.

ثمّ لمّا كان المتعارف من فعل السعي هو فعله بالدوران حول الجبلين أو عليهما بعد المشي بينهما إمّا لوجود الأصنام على الصفا والمروة أو لغير ذلك جاء التعبير موافقاً لذلك وإن كان لا يجب إلّا السعي بين الجبلين لا أكثر.

وكيف كان، فالسعي بمعنى الطواف بالصفا والمروة غير ميسّر فعلًا بسبب البنيان المحيط بالمسعى وإنّما الممكن ما هو الواجب من السعي بينهما لا بهما. وكذا يمكن الصعود على الشعيرتين.

ولكن هذا الأمر- أعني الطواف- كان ممكناً قبل البنيان الفعلي للمسعى.

ويحتمل كون التعبير عن السعي بالطواف مجاراةً للطواف بالبيت.

وقد تواترت النصوص على التعبير عن السعي بالسعي بين الصفا والمروة، ففي صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله في حديث قال: «إنّ السعي بين الصفا والمروة فريضة» (1).

ونحوه في التعبير عن السعي بكونه بين الصفا والمروة غير واحد من النصوص.

والصفا والمروة إسمان لجبلين صغيرين معروفين أو هما الربوتان. والسعي هو مشيٌ خاصّ أو مطلقه. وفي النص التعبير عن الهرولة بالسعي وأنّه يترك السعي ويمشي بعد موضع الهرولة.

والواجب بضرورة فقه المسلمين هو مطلق المشي وإن فسّر السعي بالإسراع في المشي كما يظهر من بعض النصوص أيضاً حيث دلّ على الكفاية لمن ترك السعي وأتى بالمشي.

إنّما الكلام والغرض الصميم هو بيان حدّ المسعى ومقدار ما بين الربوتين أعني الصفا والمروة من حيث صدق السعي والمشي بينهما؛ وليعلم أنّا لم نعثر على رواية تعبّر عن الصفا والمروة بالجبل، ولعلّ الوجه فيه عدم بلوغهما حدّ الجبل وإنّما هما ربوتان أو هما جزءان من الجبل المتّصل بهما وهما جبل أبي قبيس في ناحية الصفا وجبل قعيقعان في جانب مروة، فلا ينبغي الاستناد في سعة عرض الصفا والمروة بأنّ الجبل لا يكون جبلًا حتّى يعظم في عرضه ولا يطلق على مجرّد الربوات؛ فإنّهما ليسا جبلين؛ وجزء الجبل كأنفه يمكن أن يكون أصغر ممّا عليه الصفا والمروة فعلًا، والتعبير في بعض الكتب عنهما بالجبل ربما كان باعتبار أبي قبيس وقعيقعان حيث إنّ الصفا والمروة من أجزائهما وإن اختصّا باسم.

قال في الجواهر: فالصفا أنف من جبل أبي قبيس بإزاء الضلع الذي بين الركن العراقي واليماني.

وعن تهذيب النووي: إنّ ارتفاعه الآن إحدى عشرة درجة وفوقها أزج كأيوان وعرصة فتحة هذا الأزج نحو خمسين قدماً.

وفي كشف اللِّثام: والظاهر من ارتفاعه الآن سبع درج؛ وذلك لجعلهم التراب على أربع منها. كما حفروا الأرض في هذه الأيّام فظهرت الدرجات الأربع.

وعن الأزرقي أنّ الدرج اثنتا عشرة، وقيل: إنّها أربع عشرة.

قال الفاسي: وسبب هذا الاختلاف أنّ الأرض تعلو بما يخالطها من التراب فتستر ما لاقاها من الدرج.

قال: وفي الصفا الآن من الدرج الظواهر تسع درجات، ومنها: خمس درجات يصعد منها إلى العقود التي بالصفا والباقي وراء العقود، وبعد الدرج التي وراء العقود ثلاث مساطب كبار على هيئة الدرج ويصعد من يصعد من الاولى إلى الثانية منهنّ بثلاث درجات في وسطها.

والمروة أنف من جبل قعيقعان (2) كما عن تهذيب النووي.

وعن أبي عبيد البصري إنّها في أصل جبل قعيقعان.

وعن النووي: هي درجتان.

وعن الفاسي: إنّ فيها الآن درجة واحدة.

وعن الأزرقي والبكري: إنّه كان عليها خمس عشرة درجة.


1- الوسائل 9: 511، الباب 1 من السعي، الحديث 1.
2- في شفاء الغرام: قعيقعان 1: 583، الباب 22، الأماكن التي لها تعلّق بالمناسك، لغة مروة. وراجع لصفا نفس المصدر 1: 575.

ص: 47

وعن ابن جبير: إنّ فيها خمس درج.

وعن النووي: وعليها أيضاً أزج كأيوان، وعرصتها تحت الأزج نحو أربعين قدماً، فمن وقف عليها كان محاذياً للركن العراقي، وتمنعه العمارة من رؤيته (1).

ثم إن البحث في المسعى تارةً من حيث الصدق في الارتفاع وأنّه هل يصدق السعي على من مشى في مرتفع من الأرض سواء حاذى شيئاً من الجبلين أو لم يحاذ كما لو ارتفع عنهما فكان مشيه فوق الجبلين بحسب الارتفاع كما في الطابق العلوي المبني حديثاً للمسعى.

واخرى من حيث الصدق في العرض وأنّ العرض الموجود فعلًا للمسعى ما يقرب من عشرين متراً فهل يتحدّد العرض بهذا المقدار أو لا؟

والبحث في حكم العرض تارةً من حيث صدق السعي المطلوب لو بدء السعي بالصفا وختم بالمروة وإن لم يكن جميع المشي بين الجبلين وبحذائهما؛ بحيث يكون السعي في خطّ مستقيم بين الجبلين، فلو مشى بين الشعيرتين بحركة كالقوس أو خط منكسر فهل يجوز ذلك؟

واخرى: من حيث تعيين مقدار عرض صفا والمروة بعد فرض تعيّن كون الحركة بخطّ مستقيم بينهما؛ لا خط مستقيم هندسي، بل بحيث لا يخرج الساعي عن محاذاة الربوتين في شي ء من سعيه.

والكلام في الثاني تارةً من حيث تعيين مقدار العرض الموجود للشعيرتين فعلًا وأنّه بمقدار عرض المسعى الفعلي أو أنّه أعرض أو دونه؟

واخرى: من حيث تعيين مقدار عرض الشعيرتين قبل العمارات الجديدة التي استلزمت حذف بعض الجبال وإزالتها لإيجاد الطرق وغير ذلك من الأبنية الحديثة.

وثالثة: من حيث حكم الشكّ في مقدار صفا والمروة لاحتمال كون بعض الطرق ومواضع الأبنية مأخوذة من جبل أبي قبيس أو غيره كاحتمال كونه من جبل صفا والمروة.

ورابعة: من حيث كفاية محاذاة جذور صفا والمروة أو كون العبرة فيهما بالناتئ منهما على الأرض.

وخامسة: من حيث اشتراط وجود الجبل أو الربوة فعلًا عند السعي فلا يكفي وجوده قديماً ما دام أنّه ازيل فعلًا لبناء طرق وشوارع؛ ولا أقلّ من وجوب إعادة بناء الجبل للحكم بجواز السعي في مواضع المحاذاة للقسم الزائل.

وسادسة: من حيث إمكان توسعة المسعى بتعريض حدّه- أعني الصفا والمروة- نظير توسعة المسجد الحرام وغيره، فيزاد في بناء صفا والمروة ويضمّ إليهما في العرض بضمّ صخور إليهما نظير توسّع البلد مثل مكّة ببناء دور فيه؟

وهناك نقاط أخرى للبحث نتطرق إليها إن شاء الله تعالى. فالكلام يقع ضمن مسائل:

المسألة الاولى:

في إمكان توسيع المسعى بتعريض صفا والمروة نظير توسعة المسجد الحرام وغيره. فضمّ صخور إلى جبل هل يوسعه عرفاً نظير بناء بيوت في البلد موجب لوسعته حقيقةً. ومثله تعريض الوديان كوادي منى ووادي محسر؟ أو أنّ الجبل هو ما يتولّد بصورة طبيعيّة فما يتحقّق بصناعة البشر لا يكون جبلًا، ولو كان لا يكون داخلًا في العناوين الخاصّة كعنوان صفا والمروة وجبل الرحمة وما شاكل ذلك.

الذي ينبغي أن يقال: إن البحث تارة بحسب صدق العناوين بعد طروّ الحالة الجديدة؛ وأخرى بحسب شمول الحكم المرتب على العناوين الخاصة لحالاتها الحديثة.

أمّا البحث في مرحلة الصدق اللغوي والمعنى الوضعي فيستدعي تمهيد مقدمة وهي:

أنّ العبرة في مفاهيم الألفاظ إنّما هو بالأوضاع اللغويّة المعاصرة لصدور النصوص والروايات، ولا عبرة بما حدث من الأوضاع بعد ذلك؛ وهذا جدّ واضح؛ والوجه فيه أنّ المشرّع إنّما حاور الناس بعرفهم ولغتهم، والأوضاع الحادثة بعده هي لغة جديدة وعرف حادث. والإطلاق المقامي القاضي بحمل كلام الشارع على المعاني العرفيّة يقضي بتعيين العرف المعاصر للمشرّع لا ما يحدث بعده وهذا لا مرية فيه.

كما لا ينبغي الشكّ في عدم قصور المفاهيم اللغويّة المعاصرة للشارع عن شمول المصاديق الحديثة حسبما فصّلنا القول فيه في محلّه؛ وذكرنا أنّ المعيار في شمول المفاهيم والإطلاقات هو أن لو نشر من العرف القديم بعضهم وعرض عليه بعض الحوادث عدّها مصداقاً للمفاهيم التي كانت الألفاظ موضوعة لها عندهم؛ مثل النور والسفر بالنسبة إلى النور المصنوع بقوّة الكهرباء وغيره من الأسباب الحديثة وبالنسبة إلى السفر بالوسائط الحديثة التي لا تقاس في سرعتها بالمعاصرات لعهد التشريع.

وبعد ذا وذاك نقول: لا يبعد أن يكون مثل الوحدة الاتّصالية التي هي وحدة حقيقيّة- وإن لم تكن وحدة بالهويّة- كافية في إدراج الحديث من حالات الجبال والتلال في المفاهيم العامّة اللغويّة.


1- الجواهر 19: 421، الحجّ.

ص: 48

فالجبل أو التلّ الذي له وحدة- ولو عرفاً- لا يمنع حصول تغيّر فيه بالزيادة مثلًا عن صدق عنوانه اللغوي الخاصّ كعنوان صفا كما لا يمنع عن صدق عنوانه اللغوي العام، أعني عنوان الجبل؛ فإذا ضمّ إلى صفا مثله في المقدار والطول عدّ عرفاً صفا كما يعدّ عرفاً- بل عقلًا- جبلًا واحداً. نعم، هذا الجبل الواحد كان سابقاً أصغر ممّا صار إليه لاحقاً، فكما أنّ عنوان الجبل يصدق بتغيّره بزيادة لصدق المفهوم العام للجبل بعد التغيير، إذ لم يكن صدق الجبل عليه قديماً لحدّه الخاصّ فكذا يصدق عليه عنوان صفا؛ بحيث لو نشر بعض أصحاب النبيّ والأئمّة لقالوا إنّ صفا صار أكبر ممّا كان عليه في عصرهم لا أنّه ليس هذا صفا؛ نظير ما إذا فرض تغيّر صفا بالزيادة بصورة طبيعيّة لا بصنع البشر كما لو أثّر زلزال في زيادة الجبل ونتوئه أكثر ممّا كان عليه.

فلاحظ حال نفسك لو كان في بلدك جبل اسمه كذا ثمّ رأيته بعد سنة وقد تغيّر- ولا سيما بصورة طبيعيّة- فكبُر أو طال أو عظم فهل تشكّ في صدق الاسم القديم عليه، أو تحتاج في التعبير عنه بالإسم السابق إلى وضع جديد؟ أو ترى أنّ الصدق بعد التغيّر يكون بعناية؟

وهذا نظير أسماء البلدان؛ فإنّ اختلاف البلد صغراً وكبراً في زمانين لا يمنع من صدق اسم واحد عليه في الحالين؛ وكون الحالين من قبيل اختلاف المصداق لمفهوم واحد؛ فهو بلد كان صغيراً فصار وسيعاً وكبيراً؛ وهي بلدة مكّة كانت في حدّ فصارت في حدٍّ آخر وهي بلدة المدينة أو كربلاء وغيرهما كانت في مقدار وانتهى حدّها إلى غيره، ونظيره أيضاً توسيع دار أو بيت أو شارع أو نهر أو وادي.

وبالجملة: لا فرق بين أسماء البلدان وأسماء الجبال ونحوها، ولا ينبغي الشكّ في أنّ صدق مكّة على البلدة الجديدة ليس بوضع جديد بل هو بعين الوضع القديم، غايته أنّه لمّا لم تكن البيوت الجديدة مبنيّة قديماً لم يصدق الاسم على المواضع الجديدة، وبعد البناء صدقه يكون بعين الوضع القديم حيث لم يكن وضع الإسم لخصوص الأبنية القديمة بخصوصها بل باعتبار عنوان البلد المقتضي لصدق ذاك الإسم بوضعه القديم مهما اتّسع البلد.

بل لو انعكس الأمر وتحوّلت بعض البيوت إلى صحراء زال الإسم القديم؛ ولا يكون صدق الإسم قديماً كافياً في اندراج تلك البقعة في العنوان فيما كان موضوعاً لحكم؛ فما دلَّ على وجوب الإحرام من مكّة لا يقتضي جواز الإحرام من مواضع بيوت مكّة القديمة إذا لم تكن تلك المواضع مبنيّة ومسمّاة باسم بلدة مكّة فعلًا.

كذلك لا ينبغي الشكّ في أنّ صدق صفا والمروة ونحوهما على الشعيرتين بهيئتهما الفعليّة- وإن كانت مختلفة عن هيئتهما القديمة- يكون باللغة والوضع القديم المعاصر للنصوص.

إذن فالإحساس بالمفاهيم والأوضاع اللغويّة يشهد بصدق العناوين الخاصّة من صفا والمسجد الحرام والمسجد النبويّ وبلدة مكّة وغيرها من البلدان ونحوها من العناوين، مع حدوث تغييرات بالزيادة.

لا بمعنى مناسبات العناوين للصدق على الموجود بالحالة الجديدة ليكون من قبيل الوضع الجديد المناسب للوضع القديم بحيث لو كان أهل اللغة القدماء أيضاً حضوراً لفعلوا ذلك ووضعوا تلك الألفاظ لما فعله المتأخّرون؛ بل بمعنى صدق العناوين بما لها من المفاهيم على الموجود القديم بما له من الحالة الجديدة، نظير صدق العناوين على المصاديق الحديثة كصدق السفر على السفر بالوسائط الحديثة؛ وإن افترق عنه في كون المصداق في المقام هو المصداق القديم بما له من الحالة الجديدة وليس مصداقاً جديداً مبايناً للمصداق القديم. ففرق بين صفا إذا زيدَ فيه وبين السفر إذا اختلف عن الأسفار القديمة، ومع ذلك فصدق اللّفظ في المقامين بمناط واحد وباعتبار مفهوم جامع بين المصداقين هناك وبين الحالتين في المقام.

وبما ذكرنا يظهر حكم تعريض الوديان كوادي منى ومحسّر بنحت الجبال والأخذ منها ما دام يصدق الوادي، فإنّ اللغوي القديم لو حضر الحالة الجديدة للوادي والسعة الحديثة لعبّر عن ذلك بنفس العنوان القديم كوادي منى ويعتبر الحالة الحادثة حالة لنفس الوادي لا وجوداً لواد جديد. هذا كلّه من حيث صدق العناوين كعنوان صفا والمروة ووادي منى والمسجد الحرام وما شاكل ذلك.

وأمّا البحث من حيث شمول الحكم المعلّق على تلك العناوين فالذي تقتضيه القاعدة- وإن كانت المسألة بحاجة إلى مزيد تأمل ومراجعة- هو أنّ ما كان مثل الوادي والجبل بعنوانه الخاصّ كمنى وصفا موضوعاً أو قيداً لمتعلّق الحكم كان إطلاق الدليل شاملًا لحالته الجديدة ما دام أنّ هذه الحالة لا تنافي صدق العنوان؛ بل تكون- كما تقدّم- نظير المصداق الجديد للمفاهيم، وحالة جديدة لنفس المفهوم.

فكما أنّ الدليل يعمّ الحالات الطارئة الاخرى ككون منى مبنيّاً أو مضروباً فيه الخباء أو مستعملًا فيه الكهرباء وغير ذلك من الأحداث؛ كذلك يعمّ حالة التوسعة المفروضة. وكذا الكلام في مثل صفا والمروة.

هذا كلّه إذا كانت القضايا حقيقيّة، كما هو مقتضى الأصل.

وأمّا إذا كانت مشيرة فيمكن قصورها عن الحالات الجديدة، لاحتمال اختصاص الحكم بوادي منى في حالته القديمة وكذلك المسعى في هيئته السابقة. ولكنه خلاف الأصل.

ومثله الكلام في عناوين المساجد الخاصّة وغيرها من الأماكن.

ويؤكّد ما ذكرناه من سعة الحكم بسعة المساجد ما روي في طرق أهل السنّة عن أبي هريرة وعمر.

فعن تاريخ المدينة أنّ عمر لمّا فرغ من الزيادة في مسجد النبيّ قال: لو انتهى إلى الجبّانة لكان مسجد رسول الله.

ص: 49

وفي رواية اخرى: لو مدّ إلى ذي الحليفة لكان منه.

وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: لو زيدَ في هذا المسجد ما زيدَ لكان الكلّ مسجدي.

وفي رواية اخرى: أو بنى إلى صنعاء.

وفي اخرى: ما زيد في مسجدي فهو منه ولو بلغ ما بلغ (1).

وفي التاريخ القويم: ونقل الشيخ وليّ الدِّين العراقي في شرح تقريب الأسانيد أنّ التضعيف- يعني مضاعفة الثواب- في المسجد الحرام لا يختصّ بالمسجد الذي كان في زمن النبيّ بل يشمل جميع ما زيدَ فيه؛ لأنّ المسجد الحرام يعمّ الكلّ (2).

ثمّ إنّ ممّا يؤكّد انطباق العناوين الخاصّة على الحالات المستحدثة كصدق مسجد النبيّ على التوسعة الجديدة وترتّب أحكام تلك العناوين عليها بما لها من الحالات الحادثة هو وقوع التغيير في مثل تلك العناوين في عصور الأئمّة فقد وسّعوا المسجد الحرام ومسجد النبيّ ونحوهما؛ فلو فرض أنّ المسجد الحرام كان مخطّطاً من زمن إبراهيم بما يشمل التوسعات في عصر المعصومين إلّا أنّ مسجد النبيّ لم يكن كذلك؛ بل الحدّ الذي بناه رسول الله مرّة بعد اخرى هو معلوم وقد زاد رسول الله في سعة المسجد بعد ضيقه لزيادة المسلمين وكثرتهم، وقد وسّع المسجد بعده، فلو كان حكم المسجد النبويّ خاصّاً بالقسم المبني في حياته ولم يعمّ سائر المسجد لنبّه على ذلك في النصّ ليقتصر الناس في درك الفضائل الخاصّة بالمسجد وترتيب الأحكام المخصوصة على خصوص القسم المبني أيّام حياة النبيّ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما ذكرناه هو ما تقتضيه القاعدة؛ ولا ينافي قيام الدليل على خلافه أحياناً. كالذي ورد في تحديد مكّة بلحاظ بعض الأحكام لاختصاصها بمكّة في حالتها القديمة ومقدارها في زمان خاصّ؛ وأنّ المحرم بالحجّ من المواقيت البعيدة- غير أدنى الحل- إذا نظر إلى بيوت مكّة قطع التلبية منبّهاً على أنّ الناس قد أحدثوا بمكّة ما لم يكن وأنّ العبرة بالبيوت السابقة لا المبنيّة بعد ذلك كالأبطح الذي هو جزء من مكّة الفعليّة؛ فإنّ هذا النصّ يؤكّد ما ذكرناه من القاعدة؛ وإنّما يدلّ على حكم خاصّ على خلاف القاعدة؛ فيختصّ بمورد النصّ وهو حدّ التلبية ولا يتعدّى منه إلى سائر الأحكام والتي منها الإحرام للحجّ حيث كان ميقاته مكّة فيرجع فيه إلى ما اقتضته القواعد.

هذا مع احتمال كون الحكم في حدّ التلبية بمكّة القديمة طبقاً للقواعد؛ وذلك لعدم كون موضوع الحكم أو قيده عنوان مكّة ليكون مقتضى القاعدة شموله لمكّة بحالتها الجديدة؛ بل كان موضوع الحكم قضيّة خارجيّة والتي لا إطلاق فيها؛ مثلًا: كان الحكم: أنّ رسول الله لمّا نظر إلى بيوت مكّة قطع التلبية فإنّ هذا لا يستدعي كون الموضوع بيوت مكّة كقضيّة حقيقيّة؛ لأنّ ما كان من النبيّ قضيّة خاصّة، فلعلّ الموضوع هو البُعد الخاص عن المسجد الحرام والذي لا يختلف باختلاف مكّة سعةً وضيقاً.

فهو نظير نزول النبيّ بالأبطح، فربّما كان ذلك باعتبار كونه خارج مكّة لا لكونه الأبطح وهكذا.

وممّا يدلّل على عدم موضوعيّة بيوت مكّة، معتبرة أبي خالد مولى عليّ بن يقطين قال: سألت أبا عبدالله عمّن أحرم من حوالى مكّة من الجعرانة والشجرة من أين يقطع التلبية؟ قال: «يقطع التلبية عند عروش مكّة، وعروش مكّة ذي طوى» (3).

فكان النظر إلى بيوت مكّة طريقاً إلى عروش مكّة وذي طوى، فالموضوعيّة لذي طوى لا لمكّة.

ونحوها معتبرة البزنطي عن أبي الحسن الرضا أنّه سُئل عن المتمتّع متى يقطع التلبية؟ قال: إذا نظر إلى عراش مكّة: عقبة ذي طوى. قلت: بيوت مكّة؟ قال: «نعم» (4).

وعلى هذا كان ما تضمّن تعليق الحكم على بيوت مكّة من قبيل المشير لا القضيّة الحقيقيّة كما في معتبرة الحلبي عن أبي عبدالله قال: «المتمتّع إذا نظر إلى بيوت مكّة قطع التلبية» (5).

ونحوها غيرها.

والرواية المشار إليها المتضمّنة للحكم المتقدّم هي معتبرة معاوية بن عمّار. قال: قال أبوعبدالله: «إذا دخلت مكّة وأنت متمتع فنظرت إلى بيوت مكّة فاقطع التلبية؛ وحد بيوت مكّة التي كانت قبل اليوم عقبة المدنيين؛ فإن الناس قد أحدثوا بمكة ما لم يكن». الحديث (6).

هذا مع أنّ ما ذكرناه من قضيّة القاعدة في البلاد من أنّه باختلاف البلد سعة في الأزمنة يختلف الحكم إنّما هو إذا لم تكن الوسعة موصوفة بعنوان بلد آخرونحوه، فلو اتّصل بلدان أحدهما بالآخر لا يعمّهما عنوان كلّ منهما، بل يكون كلّ من العنوانين خاصّاً بموضعه القديم وقبل الاتّصال.

وربما يظهر من بعض النصوص أنّ قصور مكّة عن المحدثات لذلك؛ ففي معتبرة زرارة عن أبي عبدالله قال: سألته أين يمسك المتمتّع عن التلبية؟ فقال: «إذا دخل البيوت بيوت مكّة، لا بيوت الأبطح» (7).

ونظير ذلك في كونه على خلاف الأصل ما ورد في كراهة النوم في المسجد الحرام وتخصيص الحكم بالحدّ القديم للمسجد وعدم شموله للتوسعة الحديثة.


1- التاريخ القويم، المجلّد الثاني، الجزء الرابع: 387.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر: الحديث 8.
4- نفس المصدر: الحديث 4.
5- نفس المصدر: الحديث 2.
6- الوسائل 9: 57، الباب 43 من الإحرام، الحديث 1.
7- نفس المصدر: الحديث 7.

ص: 50

ففي معتبرة زرارة بن أعين قال: قلت لأبي جعفر: ما تقول في النوم في المساجد؟

قال: «لا بأس به إلّا في المسجدين: مسجد النبيّ والمسجد الحرام».

قال: «وكان يأخذ بيدي في بعض الليل فيتنحّى ناحية ثمّ يجلس فيتحدّث في المسجد الحرام فربّما نام هو ونمت»، فقلت له في ذلك فقال: «إنّما يكره أن ينام في المسجد الحرام الذي كان على عهد رسول الله فأمّا النوم في هذا الموضع فليس به بأس» (1)

ونفس هذا الخبر شاهد عرفي من زرارة على تصديقه بكون المسجد بعد التوسعة مصداقاً للمسجد الحرام ولذا أشكل عليه الأمر في منام الإمام في قسم الزيادات.

وربّما كان اختصاص الحكم بالمسجد القديم لضيقه ومزاحمة الطائفين وأمّا الزيادات فلا محذور في النوم فيها لعدم المزاحمة مع الغرض.

ثمّ إنّ ما تقدّم من مقتضى القاعدة هو بالغضّ عمّا ورد في تحديد المسجد الحرام بما يعمّ التوسعة الجديدة كالذي تضمّن تحديد المسجد بالمسعى. ولا بأس بالتعرض لذلك لمناسبة بحث المسعى.

ففي معتبرة جميل بن درّاج قال: قال له الطيّار وأنا حاضر: هذا الذي زيدَ هو من المسجد؟ فقال: «نعم، إنّهم لم يبلغوا بعد مسجد إبراهيم وإسماعيل» (2).

وفي معتبرة حمّاد بن عثمان عن الحسين بن نعيم- وهو أيضاً ثقة- قال: سألت أبا عبدالله عمّا زاد في المسجد الحرام عن الصلاة فيه؟ فقال: «إنّ إبراهيم وإسماعيل حدّا المسجد ما بين الصفا والمروة فكان الناس يحجّون من المسجد إلى الصفا» (3).

وفي معتبرة حمّاد بن عثمان عن الحسن بن النعمان قال: سألت أبا عبدالله عمّا زادوا في المسجد الحرام؟ فقال: «إنّ إبراهيم وإسماعيل حدّا المسجد الحرام ما بين الصفا والمروة» (4).

وفي معتبرة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله قال: «كان خطّ إبراهيم بمكّة ما بين الحزورة إلى المسعى فذاك الذي كان خطّ إبراهيم» يعني المسجد (5).

وظاهر تحديد إبراهيم المسجد الحرام بما بين الصفا والمروة هو كون المسعى حدّ المسجد والحدّ خارج ظاهراً فيكون المسجد إلى المسعى.

ولا يبعد كون المفهوم العرفي من بيان ضلع واحد للمسجد دون بقيّة الأضلاع كون الشكل مربّعاً؛ فإنّ المقصود بالتحديد المتقدِّم إمّا حساب المسجد من الكعبة إلى المسعى فيكون بياناً لنصف ضلع المسجد وشعاعه من الكعبة محسوباً منها إلى جهة المسعى والنصف الآخر هو حساب المسجد بما يساوي ذلك إلى الجهة المقابلة للمسعى ثمّ محاسبة الجهتين الاخريين على حساب ذلك.

أو يكون المراد بيان ضلع كامل هو عبارة عن خطّ المسعى فيكون المسجد محدوداً في جانب المسعى به ويكون حساب سائر الأضلاع حيث اطلق على حساب الضلع المذكور. وإلّا كان إجمالًا في البيان منافياً للغرض. ولا أقلّ من الإطلاق المقامي.

وهذا نظير ما ورد في تحديد الكرّ بذراع ونصف.

ويحتمل كون المراد بيان مقدار ضلع المسجد وأنّه مساو للمسعى من دون أن يكون نفس المسعى حدّاً للمسجد. لكنّه خلاف الظاهر.

والمراد من حجّ الناس من المسجد إلى الصفا هو أنّ خروجهم من المسجد كان بدخول صفا والحضور عنده.

ولكن العلّامة المجلسي نحا نحواً آخر في بيان هذه الأحاديث حيث قال ذيل صحيح الحسين بن نعيم:

وظاهر هذا الخبر أنّ المسجد كان في زمنهما أوسع منه الآن بحيث كان المسعى داخلًا فيه؛ فكانوا يحجّون أي يقصدون من نفس المسجد إلى الصفا، إذ كان المسعى داخلًا فيه (6).

أقول: ما ذكره غير واضح؛ بعد احتمال خروج الحدّ كما في قوله تعالى: أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ (7).

ثمّ قال بعد العبارة المتقدِّمة: أو المراد سعة المطاف؛ والمراد بقوله يحجّون أي يطوفون حول الكعبة إلى الصفا. أو المراد كانوا يحرمون للحجّ من المسجد إلى الصفا كما قيل.

وقيل: أي كان المسجد الحرام بشكل الدائرة وكانت مسافة المحيط بقدر ما بين الصفا والمروة فيكون من مركز الكعبة إلى منتهى المسجد من كلّ جانب بقدر سدس ما بينهما، لأنّ قطر الدائرة قريب من ثلث المحيط. ولا يخفى ما فيه.


1- الوسائل 3: 496، الباب 18 من أحكام المساجد، الحديث 2.
2- الوسائل 3: 541، الباب 55 من أحكام المساجد، الحديث 1.
3- نفس المصدر: الحديث 4.
4- نفس المصدر: الحديث 2.
5- نفس المصدر: الحديث 3.
6- ملاذ الأخيار 8: 493.
7- البقرة: 187.

ص: 51

وقال في الدروس: روي أنّ حدّ المسجد ما بين الصفا والمروة، وروي أنّ خطّ إبراهيم ما بين الحزورة والمسعى. وروى جميل أنّ الصادق سئل عمّا زيدَ في المسجد أمن المسجد؟ قال: نعم، إنّهم لم يبلغوا مسجد إبراهيم وإسماعيل، وقال: الحرم كلّه مسجد (1).

وقال المحقق المجلسي في الملاذ ذيل معتبرة عبدالله بن سنان المتقدِّمة:

في بعض النسخ والكافي: إلى المسعى. وعلى ما في الكتاب- يعني ما في نسخته من كلمة السعي بدل المسعى- لعلّ المراد مبدء السعي أي الصفا.

وفي النهاية: الحزورة موضع بمكّة عند باب الحنّاطين وهي بوزن قسورة.

قال الشافعي: الناس يشدّدون الحزورة والحديبيّة، وهما مخفّفتان، انتهى.

وقال والد العلّامة: لا يظهر من هاتين الروايتين أنّ المسعى الحالي داخل في المسجد بحيث يكون له حكم المسجد، بل الظاهر أنّ المراد بهما طول المسجد فيكون المسعى خارجاً. أو لم يكن لمسجد إبراهيم- يعني في شرعه- هذه الحرمة التي كانت لمساجدنا- يعني في شرعنا- سيّما المسجد الحرام من عدم جواز دخول الجنب والحائض وإدخال النجاسة فيها كما يظهر من جواز سعي الجنب والحائض وإزالة النجاسة في المسعى وغيرهما. بل لا يظهر أنّ جميع المسجد الذي الآن مسجد يكون له حرمة المسجد الحرام (2).

وقال والده تعليقاً على معتبرة عبدالله بن سنان: وعلى هذه الرواية يكون طوله- يعني المسجد- أنقص- يعني ممّا ذكر في الرواية الاخرى- لأنّ الحزورة ما بين الصفا والمروة، والمراد من المسعى هنا مبدء السعي وهو الصفا (3).

وقال تعليقاً على معتبرة الحسين بن نعيم عند قول: فكان الناس يحجّون؛ أي يطوفون حول الكعبة إلى الصفا أو يحرمون منه. والظاهر أنّ هذه الزيادة المخلّة من الصدوق لما رواه الكليني عن الحسن بن النعمان، ثمّ ذكر الرواية (4).

ثمّ إنّ هناك بعض النصوص تضمّنت أنّ المهدي إذا ظهر ردّ المسجد إلى حالته الأساسيّة وحدّه السابق.

ففي قويّة أبي بصير المرويّة عن غيبة الشيخ عن أبي عبدالله قال: القائم يهدم المسجد الحرام حتّى يردّه إلى أساسه، ومسجد الرسول إلى أساسه، ويرد البيت إلى موضعه وأقامه على أساسه وقطع أيدي بني شيبة السرّاق وعلّقها على الكعبة (5).

ورواها في البحار عن الإرشاد قال: روى أبو بصير قال: قال أبو عبدالله: إذا قام القائم هدم المسجد الحرام حتّى يردّه إلى أساسه وحوّل المقام إلى الموضع الذي كان فيه وقطع أيدي بني شيبة وعلّقها على باب الكعبة، وكتب عليها: هؤلاء سرّاق الكعبة (6).

وكأنّ المنصرف من هذا النقل أنّ المهدي يرجع المسجد كحالته قبل التوسعة؛ وقد وجّهنا ذلك في بعض ما كتبناه بأنّه ربّما كان ذلك لئلّا يستلزم وسعة المسجد وجوب الحجّ على عدد أكبر ممّن يجب الحجّ عليهم على تقدير صغر المسجد؛ بعد عدم صدق الاستطاعة للحجّ على تقدير ضيق المشاعر والشعائر عن أداء النسك؛ وأداء الغرض من وجوب الحجّ بحجّ عدد خاصّ يبلِّغون الناس في مرجعهم ما تلقّوه من المعارف والأخبار في الحجّ وملاقاة الإمام.

وقد ذكرنا أنّ الظاهر من مثل هذا النصّ هو الاعتراض والنقمة على الوضع الموجود وأنّه لو ظهر المهدي وكان الأمر مثل ما كان لغيّره الإمام، فلا ينافي حصول التغير بفعل غيره قبل ظهوره. ولذا ذكرنا أنّه لا يبعد دلالة مثله على جواز مباشرة غير المهدي لذلك.

ولكن الذي أظنّه قويّاً أخيراً هو إنّ المقصود: أنّ المهدي إذا ظهر يردّ المسجد الحرام بعد هدم الحدّ الذي كان في زمن الصادق إلى أساسه الذي وضعه إبراهيم، وقد سمعت في نصوص عدّة أنّ حدّ المسجد أوسع من الزيادات التي حصلت في زمن الصادق وأنّهم لم يبلغوا بعد في زمنه الحدّ الذي خطّه إبراهيم، فكان هناك مجال لتوسعة المسجد آنذاك ليبلغ حدّه الأساسي؛ لا أنّه سيهدم الحدّ الذي بني في زمانه ويصغّر المسجد عن الوسعة التي حصلت؛ كيف؟ والمسجد بعد التوسعة لو فرض زيادته عن المسجد الأصلي فأيّ محذور في سعته؟

واحتمال كون السعة بدعة إنّما يتمّ لو كانت الوسعة بعنوان تحديد منسوب إلى معصوم، لا مجرّد توسعة مشروعة في المساجد كلّها.

إلّا أن يُقال: إنّ للمسجد الحرام حكماً خاصّاً وهو كونه بحدّ خاصّ وتكون الزيادة عليه بدعة كما أنّ نقل مقام إبراهيم عن موضعه الأصلي ووضعه في موضع آخر بدعة فتأمّل.

وربّما يؤيّده زيادة ردّ مسجد النبيّ إلى أساسه.

وكيف كان، وممّا يؤكّد ما ذكرناه من احتمال كون المراد أنّ المهدي يبلغ بالمسجد حدّه الأصلي لا أنّ المراد تصغير المسجد بردّ الزيادات: مع قصور دلالة رواية أبي بصير المتقدِّمة عن خلافه، ما ورد في بعض النصوص من هدم بعض المساجد حتّى يبلغ أساسها بدل ردّها إلى أساسها؛ وإن كان المظنون أنّ في ذاك الحديث وهماً حيث ذكر فيها: أمر بهدم المساجد الأربعة حتّى يبلغ أساسها؛ وظنّي أنّ المساجد الأربعة هي مساجد أربعة بالكوفة بنيت على النصب فيأمر بهدمها كما في بعض النصوص، ولعلّ الحديث كان هكذا: أمر بهدم المساجد الأربعة وبهدم المسجد الحرام حتّى يبلغ أساسه (7).


1- ملاذ الأخيار 8: 493.
2- ملاذ الأخيار 8: 494، وروضة المتّقين 4: 107.
3- روضة المتّقين 4: 107.
4- نفس المصدر.
5- البحار 52: 332، تاريخ الإمام الثاني عشر، باب سيره، الحديث 57.
6- نفس المصدر: 338، الحديث 8.
7- راجع البحار 52: 332- 333 و 338- 339، الأحاديث 57 و 61 و 80 و 84 وما ورد في هدم مساجد أربعة بالكوفة. ويحتمل كون المراد من الأربعة مسجد الحرام ومسجد النبيّ ومسجد الكوفة والقدس الأقصى.

ص: 52

ويؤكّد ما ذكرناه أيضاً أنّ في الرواية: ردّ البيت إلى موضعه وإقامته على أساسه، والظاهر أنّ المراد به توسعة البيت لا تضييقه لما ورد من أنّ الشاذروان أو غيره كان جزءاً من البيت وإنّما اختصرها العرب في البناء القديم لقصور نفقاتهم عن بناء الزيادة؛ ففي رواية في الوسائل قال: روى جماعة من فقهائنا منهم العلّامة في التذكرة حديثاً مرسلًا مضمونه: بأنّ الشاذروان كان من الكعبة (1).

وفي رواية الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة: من المتّفق عليه أنّ النبيّ قال لها: يا عائشة لولا أنّ قومك حديثوا عهد بجاهليّة. وفي رواية: حديثوا عهد بكفر. وفي رواية: حديثوا عهد بشرك- وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما اخرج منه ولزقته بالأرض وجعلت له باباً شرقيّاً وباباً غربيّاً فبلغت به أساس إبراهيم (2).

ومثله روى في الطرائف قال: من المتّفق عليه من عدّة طرق قالت: إنّ النبيّ ... الحديث (3).

أقول: الظاهر أنّ مدركه هو المصدر المتقدِّم أو نحوه. والمتّفق عليه في الاصطلاح عند أهل السنّة يريدون به ما اتّفق عليه البخاري ومسلم في صحيحهما؛ فما في الطرائف من ذكر المتّفق عليه الظاهر في غير هذا الاصطلاح كأنّه وهم.

وفي رواية عن عبدالله بن الزبير يقول: حدّثتني خالتي- يعني عائشة- قالت: قال النبيّ: يا عائشة لولا أنّ قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقيّاً وباباً غربيّاً وزدت فيها ستّة أذرع من الحجر فإنّ قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة (4).

أقول: ما فيه من كون بعض الحجر من الكعبة مردود عليه في رواياتنا وأنّه ليس فيه من الكعبة ولا قلامة ظفر كما في صحيح معاوية بن عمّار (5) المروي في الكافي والفقيه وزرارة المروي في التهذيب (6).

ثمّ إنّ الذي ورد في النصوص من حدّ المسجد الحرام حسب تخطيط إبراهيم وإسماعيل لا ينافي جواز اتّساع المسجد زائداً على ذاك التخطيط كما اتّفق في هذه الأعصار، فإنّه ليس المفهوم من عدم بلوغ الزيادات في عصر الصادق ما خطّه إبراهيم وكون تلك الملاحق داخلًا في ما خطّه إبراهيم أنّه لا يكون الزيادة على خطّ إبراهيم قابلًا للدخول في المسمّى؛ بل المقصود أنّ ما خطّه إبراهيم فهو مسجد وإن لم يبلغه البناء المعاصر للصادق، وهذا لا ينافي جواز بناء المسجد أوسع ممّا بناه إبراهيم بل لا ينافي صدق عنوان المسجد الحرام، وترتيب الأحكام الخاصّة به عليه.

كما أن جواز توسيع المسجد الحرام لا يعني جواز إدخال المسعى فيه حسبما نشير إليه.

المسألة الثانية:

هل يجب كون السعي بين الصفا والمروة بخطّ مستقيم أو لا؟ بل يجوز السعي على خطّ منكسر أو محدّب.

لا شكّ في عدم محذور من الانحراف عن الاستقامة في السعي بما لا يُخرج الناسك عن محاذاة المشعرين فلا يجب استقامة السير بخطّ هندسي، فلو انحرف عشرين درجة حال سيره بحيث لو خرج خطّ مستقيم من وجهه لم يوافق أحد المشعرين لم يضرّه ما دام أنّ الناسك واقع بين الجبلين، ولذا كان المتعارف الانحراف أثناء السعي عند مواجهة مانع كإنسان أو غيره.

ومثله الكلام في الطواف حول الكعبة فإنّه لا يجب كون الحركة دائرية هندسيّاً بل لو طاف بيضويّاً ونحوه صحّ بلا كلام.

إنّما الكلام لو خرج الناسك في السعي عن المتعارف في سيره كما إذا فرض أنّه خرج من بعض أبواب المسعى المبني حاليّاً ناوياً السعي في خروجه واستمرّ في الحركة إلى أن دخل من باب متأخّر حتّى انتهى إلى الجبل، فهل يصحّ السعي؟

فالمسعى فعلًا ما يقرب من عشرين متراً، فلو سار من الصفا مائة ذراع نحو المروة ثمّ خرج عن العرض المتقدّم وسار إلى جهة مروة مائة ذراع ثمّ رجع إلى العرض المفروض واستمرّ في سعيه حتّى انتهى إلى المروة ناوياً بذلك كلّه أداء الوظيفة فهل يجزي مثل ذلك؟

وليفرض عدم وجود الجدار المحيط بالمسعى فعلًا؛ حيث إنّ عمدة الغرض من طرح هذه المسألة هو ما وقع الابتلاء به هذه الأيّام من عزم حكومة الحجاز على تعريض المسعى بما يحتمل كون مقداره زائداً عن محاذاة الجبلين.

ويمكن التعبير عن المسألة بكلمة اخرى وهي أنّه لو فرض الصفا والمروة نقطتين فقد يكون السير بينهما بخطٍّ مستقيم وقد يكون بخطّ محدّب كالقوس فتكون الحركة بين الجبلين من قبيل البيضوي، فهل يجزي الثاني كالأوّل؟

لا ريب في عدم الكفاية إذا كان الانحراف فاحشاً لا يعدّ عرفاً سعياً بين المبدء والمقصد الخاصّ كما لو بعد عن المسعى الحالي بفرسخ ونحوه.

إنّما الكلام فيما إذا كان الإنحراف والخروج يسيراً سيّما إذا كان الخروج لمانع ولو كان هو الحكومة أو الزحام ولا يبعد صدق السعي في مثله كما ذكره بعض مشايخنا دام ظلّه وكذا السادة دام ظلّه (7).

وممّا كان يستدلّ به لذلك هو تنظير المسألة بالسير بين البلدين حيث لا ينحصر صدقه فيما إذا كان خطّ السير مستقيماً هندسيّاً، فلو خرج من أحد البلدين ثمّ انحرف أثناء الجادّة المستقيمة وصار إلى قرية قريبة من الجادّة لا تبعد عنها كثيراً واستمرّ منها في سيره إلى المقصد صدق السير بين البلدين كما لو كان سائراً على الجادّة المستقيمة.


1- الوسائل 13: 355، الباب 30 من الطواف، الحديث 9.
2- نهج الحق: 320، قضية الإفك.
3- الطرائف: 390، من أنّ النبيّ لم يترك امتّه بغير وصيّ.
4- العمدة: 317، حديث طريق الكعبة.
5- الوسائل: الباب 54.
6- الوسائل: الباب 30 من الطواف.
7- آية الله السيّد موسى الشبيري دام عزّه.

ص: 53

والذي يهوّن الخطب أيضاً ما تكرّر منّا من أنّه لو شكّ في أمثال ذلك فحيث إنّ الشبهة مفهوميّة راجعة إلى الشكّ في التعيين والتخيير وكان المختار عندنا فيها هو الحكم بالبراءة والتخيير كان المكلّف مرخّصاً في ذلك.

وبالجملة ربّما كان المعروف تعيّن السير في المسعى بخطّ مستقيم يتحدّد بصفا والمروة في طوله؟

وهناك احتمال بل قول آخر وهو كفاية السير بخطّ مستدير كالقوس محدود بصفا والمروة.

نعم، يعتبر في مسير السعي أن يكون طريقاً متعارفاً فلا يجوز الخروج من الصفا إلى الكعبة والعود منها إلى المروة أو الخروج إلى بعض شعاب مكّة والعود؛ وليس المراد من المتعارف هو الوقوع فعلًا؛ بل المقصود ما يعدّ في العرف طريقاً لذاك المقصد وإن كان قد يوصف بالبعد كما يوصف أحياناً بالقرب ولكنّه لا يوصف بعدم كونه طريقاً لذاك المقصد. فالسير بين حدّي صفا والمروة نظير السير بين بلدين فإنّ السائر بينهما على الجواد المتعارفة يعتبر ماشياً بينهما وإن لم تكن الجادّة خطّاً مستقيماً محدوداً بالبلدين؛ ولا موازياً في كلّها للبلدين، بل لو انحرفت الجادّة من جهة البلد المقابل لجبل أو وادي أو غير ذلك من الموانع لم يكن السائر فيها خارجاً عن السير بين البلدين.

ألا ترى أنّ الماضي إلى مكّة قد ينحرف في الجادّة عن جهة القبلة وتكون الجادّة منحرفة عن تلك الجهة، ومع ذلك فما دام المقصد والمنتهى في تلك الجادّة هي مكّة يكون السائر إلى مكّة بين بلده وبين مكّة.

نعم، لا يكفي في كون الشخص بين بلد وبين مكّة مجرّد كون قصده النهائي مكّة إذا لم يكن طريقه إليها ممّا يعدّ طريقاً متعارفاً إلى مكّة، كما لو خرج إلى جهة غير مكّة لتجارة أو غيرها، أو بدون غاية وكان قصده الرواح إلى مكّة من ذاك الطريق. ولذا كان المعروف بين الفقهاء عدم وجوب الحجّ على من يتوقّف حجّه على الدوران في البلاد ممّا لا يكون طريقاً متعارفاً للحجّ، بل يكون مثله غير مخلّى السّرب الذي لا يجب عليه الحجّ؛ فإنّ سرب الحجّ ما يعدّ في العرف طريقاً للحجّ لا ما ينتهي بالشخص إلى مكّة ولو بالدوران في البلاد كالخروج من العراق إلى بلاد الصين والتعرّج منها عبر البحار إلى الحجاز، فإنّ هذه المسافة لا تعتبر طريق الحجّ للعراقي ويكون الذهاب إلى الحجّ عبره من الحجّ عن غير طريقه وبسبب انسداد طريقه وعدم خلوّ سربه.

فيتحصل أن صدق الطريق المتعارف يكون بأمرين:

أحدهما: الطريق المستقيم.

ثانيهما: الطريق المشتمل على الانحراف إذا كان مقدار الانحراف يسيراً، أو كان الانحراف فاحشاً ولكن كان سبب الإنحراف ما يمنع من استقامة السير كجبل أو وادٍ أو غير ذلك حتى الزحام ونحوه.

وعلى هذا فالمنطلق من صفا إلى جهة مروة في خطّ مقوّس يكون ساعياً بين صفا والمروة وإن لم يكن في بعض النقاط محاذياً لهما كما في وسط الخطّ حيث إنّ القوس في وسطه أوسع من عرض المشعرين.

وهذا نظير النهر الجاري بين بلدين أو قريتين مع عدم محاذاته في بعض النقاط لهما.

ونحوه أيضاً من تردّد بين بيته وبيت صديق له عبر الشوارع مع عدم محاذاته في بعض الأزقّة والشوارع لأحد المكانين مع أنّه يصدق في مورده المشي بين البيتين والتردّد بينهما، وكذا السعي.

وقد لاحظت بعض الصور الحاكية عن المسعى المصوّرة قديماً وحديثاً قبل البناية الأخيرة فوجدت المسعى فيها خطّاً مقوّساً يخرج الساعي من الصفا منحرفاً إلى اليمين متوجِّهاً إلى مروة وكأنّه يدور في سيره إلى مروة.

هذا كلّه بالغضّ عن أنّه إذا كان هناك مانع كبناية أو نحوها في الخطّ المستقيم المحاذي للمشعرين وانحصر الطريق في سلوك خط منحرف كالقوس فإنّه يصدق السير بين المشعرين فهو كما لو وجد جبل مانع من السير المستقيم وتوقّف السير المتعارف على الاستدارة في السير.

ومن جملة الموانع ما إذا كان المنع بسبب الزحام، ألا ترى أنّ من سلك طريقاً إلى مقصده منحرفاً عن الطريق الأقرب بسبب زحامه يعدّ سائراً بين المبدء والمقصد وإن كان لو سلك ذاك الطريق بدون زحام الطريق الآخر لم يصدق عليه الكون بين المبدء والمقصد أحياناً.

نعم، لابدّ أن لا يكون الانحراف شديداً كالذي مثّلنا به من الحجّ الدوراني وإلّا فيكون السلوك بين المبدء والمقصد بغير طريقه. والمنصرف من دليل السعي وغيره أن يكون السلوك بما يعدّ طريقاً لما بين المبدء والمقصد وهو الذي يعبّر عنه بالطريق المتعارف؛ لا ما لا يعدّ طريقاً لذاك المقصد كالحجّ الدوراني.

والناتج مما بينّاه:

أوّلًا: هو صدق السعي بين الشعيرتين مع السير في خط منكسر أو محدّب يتحدّد بالشعيرتين حتّى اختياراً مع التمكن من السير مستقيماً. نعم يشترط أن لا يكون الانحراف عن الطريق المستقيم فاحشاً وبعيداً بما يمنع من صدق الطريق العرفي ولو البعيد لما بين الشعيرتين وما في الكلمات من

ص: 54

لزوم كون السلوك من الطريق المعهود لا يريدون به الطريق المستقيم وعلى تقديره فما ذكر في دليله لا يلتزمون بلوازمه في مشابهاته في الفقه وقد صرح بالموافقة على ما ذكرناه بعض مشايخنا دام بقاه وغيره.

وثانياً: لو فرض المنع من صدق السير بين المشعرين مع عدم استقامة خط السير في فرض الاختيار ولكنه لا شك في صدقه مع وجود مانع من المشي على خط مستقيم ولو كان المانع هو الزحام أو الحكومة لمصالح مادام أنّ المبدء والمختم في كل شوط هو الشعيرتان.

ويؤيّد ما ذكرنا ما رواه ابن الوليد الأزرقي عن جدّه عن مسلم بن خالد عن ابن جريج قال: قال عطاء: من طاف بين الصفا والمروة راكباً فليجعل المروة البيضاء في ظهره ويستقبل البيت وليدع الطريق- طريق المروة- وليأخذ من دار عبدالله بن عبدالملك وهي (بين) دار منارة المنقوشة وبين المروة البيضاء في طريق دار طلحة بن داود حتى يجعل المروة في ظهره (1).

والظاهر أن المراد من المروة البيضاء هو حجر أبيض كان منصوباً في جبل صفا علامة على مبدء السير لا المروة المقابلة للصفا.

والذي يتحصل مما بحثناه أن الساعي إذا بدأ بالصفا وختم بالمروة وكان في أثناء سيره خارجاً عن مقدار عرض الشعيرتين بمقدار يسير لم يكن به بأس؛ لصدق السعي بين الشعيرتين مضافاً إلى البدء بالصفا والختم بالمروة وبالعكس. نعم ليس الواجب مجرد المشي بادئاً بإحدى الشعيرتين وخاتماً بالأخرى، بل الواجب مضافاً إلى ذلك التواجد في جميع السير بين الشعيرتين ولكن الكلام في مصداق البين وأنّه يتحدد بعرض الشعيرتين أو كونه أوسع؛ نعم لا يصدق التواجد في البين لو خرج عن العرض بمقدار فاحش؛ وأمّا إذا كان الخروج يسيراً ففي عدم الصدق تأمل بل منع، كما صرح بذلك غير واحد من فقهائنا المعاصرين.

ومما يؤكد بل يدلل على صدق الكون فيما بين الشعيرتين استدلال جمع من الفقهاء- كما حكينا- لعدم جواز الخروج عن المسعى بدخول سوق الليل أو المسجد الحرام بأنّه يشترط كون السير في الطريق المعهود، لكونه المتعارف؛ فلو كان السير في الخارج عن العرض المذكور مما لا يصدق معه المشي بين الصفا والمروة، كان هذا الوجه أولى بالاستدلال مما ذكر؛ فإنّه أشبه بالاستدلال بأمر خارج مع وجود الدليل على تقوّم ماهية العمل بالشي ء.

ثم إن هذا الذي ذكرناه من جواز السعي في العرض الزائد هو بالغض عن احتمال زيادة عرض صفا والمروة بتعريض الربوتين؛ وبالغض عن احتمال كون عرض الشعيرتين قديماً أوسع مما عليه الآن وقد أزيل بعضه بجعله طريقاً أو غيره؛ ومما يؤكّد عدم تحديد عرض المسعى بقدر عرض الشعيرتين هو أنّ صفا أعرض من المروة بحسب الوضع الموجود حالياً وإطلاق النصوص يقتضي جواز البدء في الصفا من أي نقطة منه؛ ومن جملة مواضعه ما يكون خارجاً عن محاذاة المروة إلا إذا كان الساعي منحرفاً في سيره عن الاستقامة؛ أو يكتفي في المحاذاة بما يجزي في عنوان استقبال القبلة كما أشرنا إليه؛ فلو كان التواجد في العرض الدقيق للشعيرتين شرطاً لكان اللازم التواجد في المقدار المشترك من الصفا والمروة ولاحتاج إلى التنبيه على ذلك في النصوص.

فلو لم يكن الإطلاق اللفظي نافياً لهذا الشرط فلا أقل من الإطلاق المقامي.

ومما يؤكد عدم اعتبار شرط التواجد في مقدار عرض الشعيرتين ما ورد في بعض نصوص أهل السنة؛ فإنّه وإن لم يسند الأمر فيه إلى المعصوم ولكنّه يشهد بكون المفهوم عرفاً من السعي لم يكن أمر يتنافى مع الخروج اليسير عن عرض الشعيرتين.

والخبر المشار إليه ما ذكره الأزرقي عن جدّه عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج قال: قال عطاء: من طاف بين الصفا والمروة راكباً فليجعل المروة البيضاء في ظهره ويستقبل البيت وليدع الطريق- طريق المروة- وليأخذ من دار عبدالله بن عبدالملك وهي (بين) دار المنارة المنقوشة وبين المروة البيضاء في طريق دار طلحة بن داود حتى يجعل المروة في ظهره (2).

ويمكن تقريب جواز السعي في حدّ خارج عن عرض الشعيرتين بأن المطلوب هو السعي بين الصفا والمروة وهذا العنوان يصدق متى كان الساعي مستقبلًا إحدى الشعيرتين في سيره وإن كان في عرض أوسع منهما نظير استقبال القبلة؛ فكما أن الجهة تتسع بالبعد، وكلّما زاد البعد زاد عرض الاتجاه، فكذلك في اتجاه الصفا والمروة. فالمتجه إلى المروة إذا كان قريباً منها لا يكون متجهاً إليها إلا إذا كان في عرض خاص؛ وإذا بعد عن المروة كما إذا كان قريباً من الصفا متجهاً نحو المروة فإن عرض الاتجاه يكون أعرض من الفرض السابق. ولا يشترط في الكون بين الصفا والمروة إلا الكون في عرض يصدق معه الاتجاه نحو شعيرة واستدبار الأخرى. وهذا الأمر كما يصدق في مقدار عرض الشعيرتين يصدق فيما يزيد على ذلك في الجملة؛ وأوسع نقطة العرض وسط المسعى.

وممّا يؤكد عدم تحديد العرض بقدر الشعيرتين هو أن المسعى لم يكن مشتملًا على جدار موازٍ للشعيرتين كما هو موجود الآن فلو كان عدم الخروج عن مقدار عرض الشعيرتين شرطاً لنُبّه على ذلك في النصوص ولأمر بالاحتياط في العرض مع اشتباه الموضوع فالإطلاق المقامي للنصوص ناف لهذا الشرط.

ثم إن المعروف بين الفقهاء اشتراط السعي بكونه في الطريق المعهود والمتعارف؛ وقد يقال: إن مقتضاه عدم جواز الانحراف عن الخط المستقيم.

ويردّه أن مقصودهم (قدست أسرارهم) هو الاحتراز عمّا نصوا عليه من الانحراف بمثل استطراق سوق الليل والمسجد الحرام وما شاكل ذلك مما لا يعدّ طريقاً عرفياً للسعي بين الشعيرتين، لا الاحتراز عن الخط المنكسر والتقييد بالخط المستقيم.


1- أخبار مكّة 2: 665.
2- نفس المصدر

ص: 55

قال النراقي في واجبات السعي التي ذكر أنها ستة: الخامس: الذهاب من كلّ من الصفا والمروة إلى الآخر بالطريق المعهود؛ بغير خلاف كما صرّح في شرح المفاتيح؛ فلو اقتحم المسجد ثم خرج من باب آخر أو سلك سوق الليل لم يصحّ سعيه؛ لأنّه المعهود من الشارع؛ ولوجوب حمل الألفاظ على المعاني المتعارفة؛ وهذا المعنى هو المفهوم عرفاً من السعي بين الصفا والمروة.

السادس: استقبال المطلوب بوجهه بغير خلاف أيضاً كما في الكتاب المذكور؛ فيستقبل المروة عند الذهاب إليه من الصفا والصفا عند الذهاب إليه من المروة؛ فلومشى عرضاً أو قهقرى لم يصحّ- (لما تقدّم- ظ) في سابقه بعينه؛ بل يظهر منه وجوب المشي بالطريق المتعارف راجلًا أو راكباً؛ فلو تدحرج إلى المطلوب لم يصح. بل الظاهر الإشكال فيما لو سعى بينهما بالمشي بالصدر أو الركبتين واليدين فتأمل (1).

وقال المحقق الكركي فيما يعتبر في السعي: الخامس: الذهاب في الطريق المعهود (2).

وقال الشهيد الثاني في عداد فروض السعي: والحركة بعدها- النية- في الطريق المعهود بوجهه (3). وقال في موضع آخر: فإذا فرغ من الصلاة خرج إلى السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط بادئاً بالصفا خاتماً بالمروة مستقبلًا للمطلوب بوجهه ذاهباً بالطريق المعهود (4).

وقال في الحدائق: ويجب في السعي الذهاب في الطريق المعهود؛ فلو اقتحم المسجد الحرام ثم خرج من باب آخر لم يجزئ. قال في الدروس: وكذا لو سلك سوق الليل. قالوا: ومن الواجبات أيضاً استقبال المطلوب بوجهه فلو مشى القهقرى لم يجزئ لأنّه خلاف المعهود وهو جيّد (5).

وفي الجواهر: ويجب في السعي الذهاب بالطريق المعهود فلو اقتحم المسجد الحرام ثمّ خرج من باب آخر لم يجز، بل في الدروس: وكذا لو سلك سوق الليل.

ويجب فيه أيضاً استقبال المطلوب بوجهه، فلو اعترض أو مشى القهقرى لم يجز كما في الدروس وغيرها؛ لأنّه خلاف المعهود فلا يتحقّق به الامتثال. نعم، لا يضرّ فيه الالتفات بالوجه قطعاً كما هو واضح (6)

ونحوه ذكر في نجاة العباد (7)، والرياض (8)، ومناهج الأخيار (9)، والمدارك وزادفي الأخير: والمشي على طرفيه (10).

وفي المفاتيح عدّ من الواجبات الذهاب بالطريق المعهود واستقبال المطلوب بوجهه لأنّه المعهود من الشارع (11).

وقال سيّدنا الاستاذ: يجب استقبال المروة عند الذهاب إليها كما يجب استقبال الصفا عند الرجوع من المروة إليه، فلو استدبر المروة عند الذهاب إليها أو استدبر الصفا عند الإياب من المروة لم يجزئه ذلك؛ ولا بأس بالالتفات إلى اليمين أو اليسار أو الخلف عند الذهاب.

ولا ريب أنّ المتفاهم من الآية الكريمة إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ (12) أن يكون الطواف والسعي بينهما من الطريق المعهود المتعارف بالخطّ الموازي بينهما، فلو مشى بينهما لا بالخطّ الموازي كما لو سلك سوق الليل بأن نزل من الصفا وذهب إلى سوق الليل ثمّ ذهب إلى المروة فنزل منها لا يصدق عليه أنّه طاف بينهما؛ فإنّ المأمور به ليس مجرّد المشي على الإطلاق وإنّما الواجب هو المشي بينهما، فلو مشى بالخطّ المنكسر أو المستدير ونحو ذلك فلا يصدق عليه الطواف بينهما.

نعم، لا يعتبر المشي على نحو الخطّ المستقيم الهندسي قطعاً فلا يضرّ المَيل يميناً أو شمالًا فالمعتبر عدم الخروج عن الجادّة المعهودة والدخول إلى جادّة اخرى كسوق الليل والشارع الملاصق للمسعى.

كما أنّ المعتبر هو المشي العادي المتعارف، فلا عبرة بالمشي على بطنه أو متدحرجاً أو معلّقاً أو على أربع ونحو ذلك (13).

أقول: ويظهر من الشرح الصغير لمختصر النافع المخالفة لهذا الشرطمن أصله؛ حيث ذكر أنّ الواجب من السعي أربعة امور.

ثمّ قال: وزاد جماعة على الأربعة وجوب الذهاب بالطريق المعهود واستقبال المطلوب بوجهه، فلو اقتحم المسجد الحرام ثمّ خرج من باب آخر لم يجز (14).

ويظهر منه ومن غيره أن هذا الشرط ليس متفقاً عليه بينهم ولذا قال في الرياض بعد ذكر الشروط: وزيد في الدروس وغيره على الأربعة وجوب الذهاب بالطريق المعهود واستقبال المطلوب بوجهه؛ فلو اقتحم المسجد الحرام ثم خرج من باب آخر لم يجز. وكذا لو سلك سوق الليل وكذا لو أعرض أو مشى القهقرى لم يجز. قيل: لأنهما المعهود من الشارع؛ ولا بأس به.

أقول: كون المعهود من الشارع شي ء لا يستدعي تعينه بعد وجود إطلاق لفظي يشمل غيره بعد أن لم يكن الفعل مخصصاً للدليل اللفظي إلا إذا كان الفعل بصدد التعيين لا مجرّد التطبيق. ومثلما دل على الأمر بأخذ المناسك من الشارع يشمل أخذها من قوله وليس متعيناً في خصوص ما يباشر فعله. ولذا ورد عن النبي حينما كان الناس يتبعون أخفاف ناقته في مواقف الحج أنه أمرهم باتخاذ المشاعر بسعتها موقفاً، وعدم الاقتصار على نقطة خاصّة منها.

المسألة الثالثة:


1- المستدرك 239: 2، الطبعة الحجرية، كتاب الحج.
2- رسائل الكركي 157: 2.
3- رسائل الشهيد الثاني 379: 1.
4- نفس المصدر 342: 1.
5- الحدائق 268: 16.
6- الجواهر 19: 423؛ وراجع الدروس 411: 1.
7- نجاة العباد: 136.
8- رياض المسائل 7: 119.
9- مناهج الأخيار في شرح الاستبصار 3: 520.
10- المدارك 8: 208.
11- مفاتيح الشرائع 1: 376.
12- البقرة: 158.
13- المعتمد في شرح المناسك 3: 71.
14- الشرح الصغير 1: 440.

ص: 56

إنّه حيث قيل بوجوب كون السعي بين الصفا والمروة بحيث لا يخرج عن محاذاتهما لم يكف محاذاة جذور الجبلين إذا زاد عرضه عن عرض الناتئ من الجبلين كما هو كذلك طبيعة.

والسرّ في ذلك أنّ جذور الشي ء لا يعدّ من الشي ء، فلذا لا يعدّ جذور الشجر من أجزائه وإن كان من قبيل الأساس له، ولذا لا تكون العلّة من أجزاء المعلول وإن كان وجود المعلول متقوّماً بها.

والتعبير عن بعض الجبال بالمعادن مع عدم اختصاص المعدن بالقسم الظاهر من الجبل يعنون به اشتمال ذاك الجبل على المعدن واستبطانه له ولو اطلاقاً مجازيّاً.

نعم، لو حفرت الأرض حتّى بدت الجذور صدق بعده عليها عنوان الجبل فما دامت الجذور مطمورة مطموسة لا تكون من الجبل وإن كان بعد الظهور تكون داخلة في أجزاء الجبل.

إلّا أن يُقال: إنّ العبرة بالقسم الظاهر من الجبل قديماً لا ما يتحقّق ظهوره بالحفر، وهذا مبنيّ على كون عنوان الصفا والمروة من قبيل القضيّة الخارجيّة مشيرين إلى معيّن.

المسألة الرابعة:

إنّ مقتضى الجمود على عنوان ما بين الصفا والمروة هو لزوم كون الحركة بين ربوتين موجودتين بالفعل، كما أنّ مقتضى الجمود على عنوان الطواف بالبيت هو اشتراط وجود البنية حال الطواف، فلو فرض- لا سمح الله- انهدام الكعبة لم تكن الحركة الدورية على موضع البيت طوافاً بالبيت؛ لأنّ البيت اسم للبنيان لا للموضع، ففرق بين الطواف بالبيت وبالكعبة وبين الطواف بموضع أو مكان، والواجب حسب تعبير النصوص من الكتاب وغيره هو الأوّل.

وكذا الكلام في السعي؛ فإنّ العنوان المطلوب حسب النصوص هو السعي بين عنواني الصفا والمروة اللذين هما اسما الجبلين أو الربوتين لا اسم موضعهما.

ولعلّه لذا قد يستفاد من بعض النصوص وجوب بناء الكعبة لو انهدمت؛ قال في الوسائل: باب وجوب احترام الكعبة وتعظيمها وتحريم هدمها (1).

ثم إنه لا ينافي ما ذكرنا عدم سقوط الطواف والسعي لو فرض انعدام البيت وربايا صفا والمروة.

مع أنّه يكفي للدلالة على وجوب بناء الكعبة ما دلّ على وجوب الطواف بها بعد كون بنائها مقدّمة للامتثال؛ وليس بناء الكعبة من قبيل شرط الوجوب بل هو شرط الواجب فيجب تحصيله.

وعلى هذا الأساس فلا يبعد وجوب بناء ربوتي الصفا والمروة لو انهدمتا- لا سمح الله- بنفس البيان المتقدّم في بناء الكعبة. ولعلّه إنّما لم يرد التعرّض له في النصّ الخاصّ لعدم كون انهدامهما فرضاً متعارفاً بعد كون الجبل أمراً محكماً لا يزول على مرّ الأزمنة؛ بخلاف البنيان مهما كان مستحكماً.

ولو زيدَ في طول ما بين الصفا والمروة بهدم بعضهما من قبل وجههما ففي كون العبرة بمحلّ الشعيرتين قبل الهدم أو كون العبرة بهما حسب وجودهما فعلًا؟ احتمالان؛ مقتضى الصناعة مراعاة الحالة الفعليّة فيجب استيعاب ما بين الشعيرتين بالمشي؛ ولا يكفي رعاية الشعيرة قبل هدم بعضها.

ويترتّب على ذلك أنّه لو طمّ بعض الجبلين برفع أرض المسعى كانت العبرة بالجبل بعد الطمّ لا قبله.

كما أنّه يكفي المشي إلى أن تأخذ الأرض في الارتفاع فإنه مبدء الربوة والجبل ولا يجب الصعود.

المسألة الخامسة:

لو فرض اشتراط محاذاة السعي للجبل وفرض شهادة بعض الناس بأنّ عرض الجبل كان أكثر من المقدار الموجود فعلًا، فالظاهر كفايتها وجواز الاعتماد عليها إذا كان الشاهد ثقة ولا يعتبر فيه التعدّد، بل يكفي شهادة واحدة ولو من امرأة فضلًا عن شهادة الرجل.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى السيرة في قبول شهادة الثقة مطلقاً، ولذا كان بناء الفقهاء على العمل برواية الثقة في الأحكام حتّى المرأة الواحدة فضلًا عن الرجل، وليس بناء العقلاء على اعتبار قول الثقة في خصوص رواية الأحكام، بل ذكرنا في محلّه أنّ رواية الحكم عند العقلاء يعدّ من الشهادة على الموضوعات وهو الشهادة بصدور القول، وأمّا أنّ هذا القول له ظهور وله مضمون كذائي فهذا لا موضوعيّة له عند العقلاء.


1- الوسائل 9: 344، الباب 18 من مقدّمات الطواف.

ص: 57

وكيف كان، فالدليل على كفاية الشهادة الواحدة مضافاً إلى ما تقدّم: بعض النصوص المعتبرة المتضمن لقبول خبر الثقة حتّى فيما يدّعيه من ملك شي ء بدون يد له عليه مع عدم المعارض له. ويمكن الاستدلال لذلك بما ورد في مراجعة الناس والأعراب لمعرفة بعض المواقيت في الحج كما في صحيح معاوية بن عمار؛ وما ورد في جواز التعويل على أذان أهل السنة معللًا بشدّة مواظبتهم على الوقت.

ثمّ إنّه ربّما يجوز الإكتفاء في إثبات مثل هذه الموضوعات بالشياع كما في حدود البلاد. وتفصيل الكلام فيه في غير المقام.

وأمّا ما ورد من اعتبار التعدّد في الشهادة فهو مخصوص بباب القضاء والمرافعات؛ بل لا عموم له لمطلق باب القضاء، ولذا تقدّم أن في النصّ أنّ المدّعي للملك إذا لم يعارضه منكر صدّق في قوله بلا حاجة إلى شاهد سوى قوله فضلًا عن اعتبار التعدّد في الشاهد.

وأمّا حديث مسعدة: «والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين غير ذلك أو تقوم به البيّنة» فقد ذكر سيّدنا الاستاذ أنّ المراد من البيّنة فيها معناها اللغوي وهو الحجّة لا البيّنة الاصطلاحيّة التي هي بمعنى الشاهدين ونحوهما.

هذا كلّه لو فرض ثبوت اصطلاح متشرّعي بل شرعي بل عرفي في إطلاق البيّنة على الشاهدين كما هو غير بعيد وإلّا فالأمر أوضح.

وبالجملة: فإذا فرض للبيّنة اصطلاحان ومعنيان: أحدهما مطلق الحجّة، والآخر: الشاهدان، كان اللفظ مجملًا كما في سائر المشتركات.

المسألة السادسة:

إنّ الواجب من السعي من حيث الطول هو ما بين الجبلين فلا يجب استيعاب الجبلين في السعي بحيث يصعد عليهما فضلًا عن أن يبلغ الناسك نهايتهما.

كلّ ذلك لأنّ الواجب هو السعي بين الجبلين لا أكثر.

بل لو أتى بأكثر من ذلك بعنوان الواجب كان زيادة في السعي مبطلة على القاعدة، إلّا أن يكون مشتبهاً في تصوّره الوجوب وكان قاصداً للوظيفة التي هي الاستحباب في الجملة.

والمراد من الاستحباب في الجملة هو استحباب الصعود على الجبل لا استحباب السعي والحركة التي هي مقدّمة الصعود.

ثمّ إنّه حيث فرض طمّ الأرض ودفن بعض الجبلين برفع المسعى فالظاهر أنّ العبرة بالجبل الموجود فعلًا كما تقدّم؛ ويكون القسم المطموم من الجبل من قبيل الجذور التي لا عبرة بها فيجب استيعاب السعي بين القسم الناتئ من الصفا والمروة فعلًا لا ما كان ناتئاً وظاهراً قبل الطمّ.

نعم الظاهر كفاية الوصول إلى نهاية الأرض المستوية وعدم وجوب الأخذ في الارتفاع من البنيان الموجود متّصلًا بحائط الجبل المبني بأحجار خاصّة تسهيلًا على الناس للارتفاع على الجبل، وذلك إمّا لصدق الجبل فعلًا عن البنيان الموجود أو لكونه بحذاء الجبل الطبيعي الموجود تحت هذا البنيان والذي صار فعلًا من الجذور- ولا أقلّ من احتمال محاذاة البنيان للجبل الطبيعي-. ويحتمل عدم صدق مبدء الجبل على الأرض المفروشة بالرخام وإن كانت غير مستوية بل آخذة في الإرتفاع فتأمل.

ومع الشكّ فقد تقدم ما ينبغي القول فيه.

المسألة السابعة:

في تحديد المسعى بحسب ما هو الموجود فعلًا من الصفا والمروة.

قد حدّد المسعى في عصرنا ببناء جدارين بطول المسعى يحيطان به، وعرض ما بينهما يقرب من عشرين متراً، ومن الواضح جدّاً أنّ هذا البنيان لا قدم له بل هو حادث.

وأنّه كان المسعى أرضاً خالية من البنيان سوى نفس ربوتي صفا والمروة، وكان بين المسجد الحرام وبين المسعى فاصل فقد كان المسجد مُحاطاً بجدار وكان المسعى على فاصل من جدار المسجد.

وقد صُرّح في السير بوجود دور أو بيوت بين المسجد والمسعى؛ والآن قد اتّصل المسجد في بنائه بالمسعى فيخرج الإنسان من المسجد بالدخول إلى المسعى.

ويلوح لي أنّ جملة من بناء المسجد الأخير قد وقع في أرض المسعى وهذا بدعة لا تجوز؛ لأنّ المشاعر لا يجوز البناء فيها بما يمنع من أداء النسك المقرّر فيها.

ص: 58

وتوضيح الأمر: أنّ ربوة صفا أعرض من عرض بنيان مسعى الفعلي من الطرفين- أعني من جهة المسجد ومن الجهة الاخرى- فشطر من محاذاة الصفا داخل في بناء المسجد وخارج عن بنيان المسعى الفعلي، كما أنّ شطراً من الصفا ناتئ إلى الجهة الاخرى أعني الجهة المقابلة للمسجد، فلو كان عرض المسعى الفعلي عشرين متراً فعرض صفا يقرب من ثلاثين متراً.

كما أنّ عرض المروة بحسب وضعها الموجود أكثر من عرض المسعى الفعلي؛ حيث إنّ شطراً منها بعد عرض المسعى محاذ للصفا من جهة المسجد. وظاهر ارتفاع مروة عن أرض الجهة المقابلة للمسجد كونها أعرض من تلك الجهة أيضاً مما هي عليه فعلًا.

وبالجملة البنيان الموجود للمسعى يمنع من فعل السعي في قسم من الأرض بحيث لولا البنيان كان العرض للمسعى أكثر مما هو عليه الآن، فكان هذا البناء منافياً للغرض من مشعر مسعى.

ولا يجوز البناء في المشاعر كعرفة وغيرها ومنها مشعر مسعى بما ينافي العبادة المشرعة فيها ولو ببناء مسجد يضيّق بنائه تلك الشعيرة ويمنع ولو بعض الناس ولو في بعض السنين من العبادة المقرّرة هناك.

وظنّي أنّ هذا الأمر ممّا لا ينبغي الاختلاف فيه. وهذا غير مسألة البناء في المشاعر كبناء بيوت في منى لا تمنع من نسكها، وقد بحثنا حكم ذلك على حدة، وذكرنا أنّ ما يدور على الألسن من أنّ «منى لا يبنى» لا أساس له.

ولا يجوز إنشاء المسجدية للمسعى حتّى إن لم يناف السعي فضلًا عمّا كان البناء مانعاً عن ذلك؛ والسرّ في ذلك أنّ السعي جائز حتّى للحائض وإنشاء المسجديّة يمنع من لبث الحائض فيه ولو سائراً. فتأمّل.

هذا مضافاً إلى أنّ المشاعر مقرّرة لعبادة خاصّة ولا دليل على جواز إنشاء المسجديّة لها بعد عدم صدق إحيائها ممّن يريد إنشائها مسجداً كما فصّلنا الكلام فيه في محلّه؛ وستأتي في عبارة الجواهر حكاية الإشكال في ترتّب أحكام المسجد لما دخل من المسعى في المسجد الحرام.

وعن حاشية البجيرمي: كان عرض المسعى 35 ذراعاً فأدخلوا بعضه في المسجد (1).

وقد تعرّضنا لبعض الكلام فيما يناسب المسألة عند التعرض لحكم بناء المشاعر وحكينا بعض كلمات الأصحاب هناك ومنها عبارة العاملي في مفتاح الكرامة، حيث قال: وعدم جواز إحياء هذه المواضع- يعني مشاعر العبادة كعرفة- كلّها أو الكثير منها كأنّه من ضروريّات الدين وإن لم يذكر ذلك كلّه أكثر المتقدمين (2).

أقول: تقييد عدم الجواز في كلامه بإحياء الكل أو الكثير هو باعتبار إسناد الحكم إلى ضرورة الدين فلا ينافي ثبوت الحكم مطلقاً.

وعلى أيّة حال فربما يظهر من بعض النصوص أنّ تضييق المسعى كان محقّقاً في تلك الأعصار أيضاً ولعلّه ببناء الدور أو الدكاكين أو نحوهما وقد أدرك معاصرونا أيضاً بعضاً من ذلك.

ففي معتبرة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله قال في حديث: «ثمّ انحدر ماشياً وعليك السكينة والوقار حتّى تأتي المنارة وهي طرف المسعى فاسع ملأ فروجك، إلى أن قال: حتّى تبلغ المنارة الاخرى، قال: وكان المسعى أوسع ممّا هو اليوم ولكنّ الناس ضيّقوه» (3).

قال في الحدائق: قوله فاسع ملأ فروجك، جمع فرج وهو ما بين الرجلين؛ يقال للفرس: ملأ فرجه وفروجه إذا عدا وأسرع. ومنه سمّي فرج الرجل والمرأة لأنّه ما بين الرجلين (4).

وقال: المراد بالسعي الهرولة وهو الإسراع في السير دون العدو وهو المشار إليه في الخبرين المتقدمين. بقوله: فاسع ملأ فروجك (5).

قد أورد صاحب الحدائق على التضييق في المسعى بمعنى آخر حيث قال: إنّ المفهوم من الأخبار أنّ الأمر أوسع من ذلك؛ فإنّ السعي على الإبل الذي دلّت عليه الأخبار وأنّ النبيّ كان يسعى على ناقته لا يتّفق فيه هذا التضييق من جعل عقبه ملصقة بالصفا في الابتداء وأصابعه يلصقها بالصفا موضع العقب بعد العود فضلًا عن ركوب الدرج، بل يكفي فيه الأمر العرفي؛ فإنّه يصدق بالقرب من الصفا والمروة (6).

أقول: الأمر وإن كان كما ذكره في الحكم ولكن حمل التضييق المذكور في النصّ على ما ذكره تكلّف لا داعي له بعد إمكان حمله على معناه الظاهر من بناء الناس أشياء كالدكّة سيّما أيّام الموسم يضيّق من أرض المسعى التي يجوز السعي فيها لولا المانع من البنيان ونحوه.

وفي الدروس بعد ذكره اشتراط السير في الطريق المعهود: وقد روي أن المسعى اختصر (7).

وقال في سداد العباد: وقد روي أن المسعى قد اختصر على ما في مرسل الكافي. المراد باختصاره في جهة العرض (8).

قال الأزرقي: وللعبّاس بن عبد المطّلب أيضاً الدار التي بين الصفا والمروة التي بيد ولد موسى بن عيسى التي إلى جنب الدار التي بيد جعفر بن سليمان؛ ودار العبّاس هي الدار المنقوشة التي عندها العلم الذي يسعى منه من جاء من المروة إلى الصفا ... ولهم دار امّ هاني بنت أبي طالب التي كانت عند الحنّاطين عند المنارة فدخلت في المسجد الحرام حين وسّعه المهدي في الهدم الآخر سنة سبع وستّين ومأة (9).


1- حاشية البجيرمي 2: 127.
2- مفتاح الكرامة 23: 7 إحياء الموات.
3- الوسائل 9: الباب 6 من السعي، الحديث 1.
4- الحدائق 270: 16.
5- نفس المصدر: 271.
6- الحدائق 16: 265. الرياض 7: 94.
7- الدروس 411: 1.
8- سداد العباد ورشاد العباد: 322.
9- أخبار مكّة 2: 233.

ص: 59

ويخطر بذهني احتمال آخر وهو كون المراد بتضييق المسعى تضييق موضع الهرولة والظاهر أن المراد تضييقه في الطول لا في العرض حيث ذكر عليه السلام المنارة الأولى أنّها طرف المسعى وأمّا المنارة الأخرى فلم يذكر إنّه الطرف الآخر بل قال: إن المسعى كان أوسع سابقاً. والمعنى أن مقدار الهرولة كان أطول وأهل السنة جعلوه أقصر بحسب نصب العلائم.

ويؤكد هذا الاحتمال أن الإمام وصف موضع الهرولة والسعي ببعض الأوصاف الأخر كبعض الدور والأزقّة كما في معتبرة سماعة قال: سألته عن السعي بين الصفا والمروة قال: إذا انتهيت إلى أوّل زقاق عن يمينك بعد ما تجاوز الوادي إلى المروة فإذا انتهيت إليه فاكفف عن السعي وامش مشياً. وإذا جئت من عند المروة فابدء من عند الزقاق الذي وصفت لك فإذا انتهيت إلى الباب الذي من قبل الصفا بعد ما تجاوز الوادي فاكفف عن السعي وامش مشياً. وإنّما السعي على الرجال وليس على النساء سعي (1).

أقول: المراد من السؤال عن السعي هو السؤال عن الهرولة بقرينة الجواب؛ صدراً وذيلًا في مواضع منه، لا السؤال عن أصل مشروعية السعي والمشي بين الصفا والمروة.

وبما ذكرنا من وسعة المسعى وأنّ هناك كانت أبنية وموانع تضيّقه كما هو موجود الآن أيضاً وهي سنة 1428 ه- ق ومنذ سنين فيما رأينا حيث إن بناية المسعى والجدر المحيطة به مانعة من السعي في بعض المواضع التي يجوز السعي فيها بلا ريب، يظهر الإشكال فيما ذكره صاحب الجواهر حيث قال:

حكى جماعة من المؤرِّخين حصول التغيّر في المسعى في أيّام المهدي العبّاسي وأيّام الجراكسة على وجه يقتضي دخول المسعى في المسجد الحرام وأنّ هذا الموجود الآن مسعى مستجدّ. ومن هنا أشكل الحال على بعض الناس باعتبار عدم إجزاء السعي في غير الوادي الذي سعى فيه رسول الله، كما أنّه أشكل عليه إلحاق أحكام المسجد لما دخل منه فيه، ولكن العمل المستمرّ من سائر الناس في جميع هذه الأعصار يقتضي خلافه، ويمكن أن يكون المسعى عريضاً قد أدخلوا بعضه وأبقوا بعضه كما أشار إليه في الدروس. قال: وروي: إنّ المسعى اختصر (2).

وعن تاريخ القطبي: أمّا المكان الذي يسعى فيه الآن فلا يتحقّق أنّه بعض من المسعى الذي سعى فيه رسول الله أو غيره، وقد حوّل عن محلّه كما ذكره الثقات (3).

قال الأزرقي الذي كان يعيش في النصف الأوّل من القرن الثالث وقد قيل: إنّه توفّي سنة مائتين وخمسين فهو كان يعيش قبل الغيبة وفي عصر الأئمّة المعصومين، قال في كتابه في ذكر زيادة المهدي العبّاسي في المسجد الحرام:

أخبرني جدّي أحمد بن محمّد قال: سمعت عبد الرحمن بن القاسم بن عقبة يقول: حجّ المهدي سنة ستّين ومأة وأمر بعمارة المسجد الحرام وأمر أن يُزاد في أعلاه ويشترى ما كان في ذلك الموضع من الدور وخلف تلك الأموال؛ وكان الذي أمر بذلك محمّد بن عبد الرحمن بن هشام الأوقص المخزومي وهو يومئذ قاضي أهل مكّة، قال: فاشترى الأوقص تلك الدور فما كان منها صدقة- يعني وقفاً- عزل ثمنه واشترى هو لأهل الصدقة بثمن دورهم مساكن في فجاج مكّة عوضاً عن صدقاتهم، إلى أن قال: فاشترى جميع ما كان بين المسعى والمسجد من الدور فهدمها ووضع المسجد على ما هو عليه اليوم شارعاً على المسعى- يعني بعدما كان شارعاً على البيوت التي كانت بين المسجد والمسعى-.

إلى أن قال في ذكر الزيادة الاخرى للمهدي:

قال أبو الوليد: قال جدّي: لمّا بنى المهدي المسجد الحرام وزاد فيه الزيادة الاولى اتّسع أعلاه وأسفله وشقّه الذي يلي دار الندوة والشامي؛ وضاق شقّه اليماني الذي يلي الوادي والصفا؛ فكانت الكعبة في شقّ المسجد؛ وذلك أنّ الوادي كان داخلًا لاصقاً بالمسجد في بطن المسجد اليوم، قال: وكانت الدور وبيوت الناس من ورائه في موضع الوادي اليوم إنّما كان موضعه دور الناس (4)؛ وإنّما يسلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي ثمّ يسلك في زقاق ضيّق حتّى يخرج إلى الصفا من التفاف البيوت فيما بين الوادي والصفا، وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم ...

إلى أن قال أبو الوليد: فلمّا حجّ المهدي أمير المؤمنين سنة أربع وستّين ومأة ورأى الكعبة في شقّ من المسجد كره ذلك وأحبّ أن تكون متوسّطة في المسجد الحرام فدعا المهندسين فشاورهم في ذلك ...

إلى أن قال: فابتدؤوا عمل ذلك في سنة سبع وستّين ومأة واشتروا الدور وهدموها، فهدموا أكثر دار ابن عبّاد بن جعفر العائذي وجعلوا المسعى والوادي فيها؛ فهدموا ما كان بين الصفا والوادي من الدور ثمّ حرّفوا الوادي في موضع الدور حتّى لقوا به الوادي القديم بباب أجياد الكبير (5).

ونحوه ما حكى في تحصيل المرام، تأليف محمّد بن أحمد المالكي المكّي المعروف بالصبّاغ المتوفّي 1321 ه-. ق حاكياً عن تاريخ القطب أعني إعلام الناس، وغيره. وفيه عنه: وكان المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم فهدموا أكثر دور محمّد بن عبّاد وجعلوا المسعى والوادي فيها ...

وقال في آخره: هذا ملخّص ما ذكره الأزرقي والفاكهي والحافظ نجم الدِّين ابن فهد والقطب الحنفي في إعلام الناس لأهل بلد الله الحرام (6).

وقال الصبّاغ: قال الحافظ نجم الدِّين ابن فهد في حوادث سنة أربع وستّين ومأة وما ملخّصه: فيها هدمت الدور التي اشتُريت لتوسعة المسجد الحرام والزيادة فيه- الزيادة الثانية للمهدي- فهدم أكثر دور محمّد بن عبّاد وجعل المسعى والوادي فيها، وهدموا بين الصفا والوادي من الدور وحرّفوا الوادي في موضع الدور حتّى وصلوا إلى موضع الوادي القديم في أجياد الكبرى (7).


1- الوسائل: الباب 6 من السعي.
2- الجواهر 19: 422.
3- تاريخ القطبي: 99.
4- في العبارة سقط ووهم؛ وكأنّها كانت: في موضع الوادي اليوم؛ وكان موضعه- يعني الوادي الفعلي- دور الناس.
5- أخبار مكّة، للأزرقي 1: 602- 612. وراجع تاريخ الغازي: 388.
6- تحصيل المرام 1: 337- 342.
7- تحصيل المرام 1: 344 وراجع إتحاف الورى 2: 217 قيل: وذكره في حوادث سنة 167، وانظر الإعلام للقطب: 106- 107، وراجع تاريخ الغازي: 378، والتاريخ القويم 3: 116.

ص: 60

وفيه عن القطب: من أعجب ما نقل في التعدّي على المسعى الشريف ما وقع قبل عصرنا بنحو مأة سنة في أيّام الجراكسة في سلطنة الأشرف قايتباي، ومحصّله: أنّه كان له تاجر يخدمه قبل سلطنته في أيّام إمارته، اسمه شمس الدِّين ابن الزمن؛ وهو أنّه كان بين الميلين- لعلّه يعني ميلي الهرولة في المسعى- مياض أمر بعملها الملك الأشرف شعبان ابن الناصر قلاوون، وكانت تلك المياضي في مقابلة باب، على حدّها من المشرق بيوت للناس ومن الغرب المسعى ومن الجنوب مسيل وادي إبراهيم الذي يؤدّي إلى سوق الليل ومن الشمال دار العبّاس الذي هو الآن رباط، فاستأجر الخواجة ابن الزمن هذه المياضي وهدمها وهدم من جانب المسعى ثلاثة أذرع وحفر الأساس ليبني عليه رباطاً يسكنه الفقراء فمنعه من ذلك القاضي إبراهيم بن ظهيرة فلم يمتنع؛ فجمع القاضي محضراً من العلماء وفيه من علماء المذاهب الأربعة وطلبوا الخواجة وأنكر عليه جميع الحاضرين وأحضروا له النقل بعرض المسعى من تاريخ الفاكهي وذرعوا له من جدار المسجد إلى المحلّ الذي وضع فيه ابن الزمن الأساس فكان عرض المسعى ناقصاً ثلاثة أذرع؛ وأرسل- القاضي- عرضاً فيه خطوط العلماء إلى قايتباي وكتب ابن الزمن أيضاً إليه، وكانت الجراكسة لهم تعصّب وقيام في مساعدة من يلوذ بهم ولو على الباطل، فلمّا وقف السلطان على تلك الأحوال وتغيير ابن الزمن، أرسل عزل القاضي وولّى غيره؛ وأمر أمير الحجّ أن يضع الأساس على مراد ابن الزمن؛ فبنوا إلى أن صعدوا به على وجه الأرض وجعل ابن الزمن ذلك رباطاً وسبيلًا وبنى في جانبه داراً صغيرة وصغّر المياضي جدّاً وجعل لها باباً من جهة سوق الليل. هذا ملخّص ما ذكره القطب الحنفي في تاريخ الإعلام (1).

قال الكردي: وممّا يشبه ما ذكره الإمام القطبي في تاريخه عمّا اخذ من أرض المسعى وادخل في المسجد الحرام ما حدث في زماننا في التوسعة السعوديّة للمسجد الحرام وتكسير شي ء من جبل صفا إلى جبل مروة زيادة في عرض المسعى وليكون منظره جميلًا في رأي العين وذلك في سنة (1377) هجرية، فإنّ هذه الحادثة تشبه ما ذكره الإمام القطبي لكن مع الفارق؛ فما ذكره القطبي عبارة عن إدخال جزء من المسعى في المسجد الحرام، وأمّا ما نذكره فهو عبارة عن إدخال جزء من جبل صفا إلى حدود المسعى.

فممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الجزء المأخوذ من جبل الصفا في زماننا هذا والمدخول في حدود المسعى لم يكن رسول الله وأصحابه الكرام قد سعوا في هذا الجزء المستحدث اليوم؛ فعلى هذا لا يجوز السعي في هذا الجزء المأخوذ الآن من هذا الجبل كما لا يجوز السعي من الدرج الجديدة المستحدثة الآن وبين المروة، فلابدّ للساعي من المروة أن يصل إلى درج الصفا القديمة المقابلة للحجر الأسود، فمن أراد الاحتياط لدينه والبراءة لذمّته فليترك من جدار المسعى فيما بين الصفا والمروة نحو مترين (2).

وقال: أبو البقاء المكي الحنفي المتوفى 854 ه- ق. في ذكر زيادة المهدي الثانية للمسجد الحرام: وإنّما كان يسلك من المسجد إلى الصفا في بطن الوادي ثم يسلك في زقاق ضيق حتّى يخرج إلى الصفا من التفاف البيوت فيها بين الوادي والصفا وبحال المسعى في موضع المسجد الحرام اليوم فلما حج المهدي سنة أربع وستين ومائة الخ ... (3)

وقال ابن أخ القطبي فيما اختصره من تاريخ عمّه فيما يتعلق بزيادة المهدي الثانية:

وكانوا يسلكون من المسجد في بطن الوادي ثم يسلكون زقاقاً ضيقاً ثم يصعدون إلى الصفا وكان السعي في موضع المسجد الحرام اليوم عند موضع المنارة الشارعة في نحر الوادي فيها علم المسعى وكان الوادي يمر دونها في بعض المسجد الحرام اليوم فهدموا أكثر دار محمد بن عباد المذكور وجعلوا المسعى والوادي فيها (4).

وقال حسين عبد الله باسلامة في كتاب تاريخ عمارة المسجد الحرام: فلما كانت سنة 1345 ه- أمر جلالة ملك المملكة السعودية الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن فيصل آل سعود خلد الله ملكه، بفرش شارع المسعى من الصفا إلى المروة، فابتدأ العمل أولًا بهدم عموم النواتئ التي على ضفّتي شارع المسعى من مبتدئه إلى منتهاه، فلمّا تمّ إزالة النواتئ، ابتدأ العمل بالرصف من الصفا وكان انتهاء رصف شارع المسعى في أواخر ذي القعدة من سنة 1345 ه- فصار يعد ذلك الشارع في غاية الإستقامة وحسن المنظر (5).

أقول: ذكرنا هذه العبارة لتضمنها ضم مواضع النتوء بعد هدمها إلى المسعى.

ثم أقول: قد ذكر في كتب التواريخ جملة من الأقيسة ربما يتمكن على أساس محاسبتها تحديد عرض شعيرتي صفا والمروة وإن كان لم يتيسر لي ذلك فعلًا ولكن نذكرها عسى أن يقف غيرنا على ما لم نقف عليه وذلك على أساس محاسبة بعض أضلاع المثلث بعد تعيين بعضها.

قال الأزرقي: وذرع ما بين الركن الأسود إلى الصفا مأتا ذراع واثنان وستّون ذراعاً وثمانية عشر إصبعاً.

وذرع ما بين المقام إلى باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا مأة ذراع وأربع وستون ذراعاً ونصف.

وذرع ما بين باب المسجد الذي يخرج منه إلى الصفا إلى وسط الصفا مأة ذراع واثنتا عشرة ذراعاً ونصف.

ومن المقام إلى الصفا مأتا ذراع وسبع وسبعون ذراعاً.

ومن الركن الأسود إلى المقام ومن المقام إلى الصفا ومن الصفا إلى المروة سبع، ستة آلاف ذراع وخمسمأة وثماني وثلاثون ذراعاً وسبع عشرة إصبعاً.

وذرع ما بين الصفا والمروة سبعمأة ذراع وست وستون ذراعاً ونصف (6).

وللفاسي في شفاء الغرام كلام حول بعض هذه الأقيسة راجعه واجمع بينهما (7).


1- تحصيل المرام 1: 346- 348، والإعلام: 104- 106.
2- التاريخ القويم 3: 144.
3- تاريخ مكة المشرفة: 153.
4- إعلام العلماء الأعلام ببناء المسجد الحرام: 78 وكتاب عمّه: الإعلام بأعلام بيت الله الحرام.
5- تاريخ عمارة المسجد الحرام: 295.
6- أخبار مكة 665: 1- 668.
7- شفاء الغرام 555: 1.

ص: 61

وربما يحصل من فرض زيادة ضلع مثلث من باب صفا إلى وسط عقد صفا على ضلعه الآخر من الباب إلى بداية الصفا- كما لعله ظاهر عبارة الأزرقي- بعشرة أذرع تقريباً إمكان تحديد شعيرة صفا فحاسب وتأمل.

أقول: المتراءى من صاحب الجواهر فيما حكينا من عبارته نوع من التردّد في تعيين المسعى؛ واحتمال نقله من محلّه الأصلي إلى موضع آخر؛ وكأنّه عوّل في ردّ هذا الاحتمال وإسقاطه عن الاعتبار على ما يشبه أصالة عدم النقل المعتبرة في اللغات في ردّ احتمال نقل الألفاظ من معنى إلى غيره مع تعيّن المعنى فعلًا واحتمال تجدّده وكون المعنى في عصر النصوص غيره.

فكأنّ صاحب الجواهر اعتبر سيرة الناس على السعي في المسعى الفعلي كاشفة عن سبقها إلى عصر النصوص وثباتها وعدم تجدّدها.

مع أن من لاحظ ما تقدّم من عبارات السير إن لم يثق بحدوث تغيّر ما في المسعى فلا أقل من احتماله بما لا يدفعه أصالة الثبات المشابهة لأصالة عدم النقل في اللغات أو هي أعم منها بعد كون مدركها البناء العقلائي الذي لو لم يجزم بعدمه في المقام فلا أقل من عدم إحرازه.

ثم لما كان ما حكي من تغيير المسعى في عصر المهدي العباسي معاصراً للإمام الصادق من أئمة أهل البيت ومن بعده فلو كان ذلك عملًا مغيراً للشرع وبدعة منكرة لصرخ الأئمة في وجوه العامّة وأئمّتهم وأنكروا ذلك عليهم أشد الإنكار وكان في حكم تغيير الكعبة والمطاف عن موضعهما كما صرحوا بأن تغيير المقام كان بدعة من عمر ولم يمنعهم من ذلك تقية أو نحوها فكان سكوت النصوص عن إنكار أهل البيت والنقمة على ما حدث، دليلًا على عدم صدور الإنكار وحجة على التقرير.

ثم لم يحدث بعدهم تغيير في المسعى سوى ما فعله أخيراً حكام الحجاز من تطويق المسعى بالجدر وضم ما بين المسعى والمسجد إلى المسجد بل وضم بعض المسعى إلى المسجد.

ثمّ المتراءى من صاحب الجواهر احتمال كون المسعى المعاصر له بعضاً من المسعى المعاصر للنبيّ والذي معه يكون السعي مجزياً فيه.

وياليت صاحب الجواهر اعتمد في تعيين المسعى على ما يقتضيه ظواهر النصوص من وجوب كون السعي بين الصفا والمروة، والمفروض أنّ الصفا والمروة ليسا معدومين ليعتمد في تعيين مواضعهما على إخبار الناس أو سيرتهم، فلا يحتاج تعيين ما بين الصفا والمروة في هذا العصر فضلًا عن عصر صاحب الجواهر إلّا إلى الوقوف على الصفا مثلًا والنظر إلى المروة أو بالعكس.

والتغيير في المسعى لا يمكن بنقله إلى مكان مباين مع وجود شعيرتي الصفا والمروة.

ولو كان التشكيك في تعيين المسعى صادراً ممّن لم يحجّ ولا رأى المسعى وشعيرتيه لربّما كان له مجال.

وعلى أيّة حال فالأصل في تعيين المسعى وحدّه طولًا وعرضاً هو النظر العرفي بعد كونه المعيار في مطلق الأبواب والأحكام في تحديد الموضوعات والمتعلّقات؛ ولا إجمال في النصوص في كون الواجب هو السعي بين الصفا والمروة، وهذا الأمر لا خفاء فيه ليحتاج إلى الرجوع إلى السيرة ونحوها.

نعم، ربّما يشكل الأمر في عصرنا من ناحية احتمال حذف بعض الشعيرتين من قبل الحكّام المتأخّرين فيقع الإجمال في حدّ عرض المسعى بعد عدم الإجمال في أصله، والله العالم.

ولعمري إنّ كلام صاحب الجواهر ليذكّرني بالرواية التي تضمّنت أنّ النبيّ كان يرشد أصحابه إلى سعة الموقف في عرفات وغيرها، وأنّه ليس الموقف خصوص مواضع أخفاف ناقته.

فإنّه هَبْ أنّ رسول الله سعى بين الصفا والمروة في طريق خاصّ ولكن المسعى بحسب نصوصهم ليس خصوص مسير النبيّ بعينه؛ بمعنى مواضع أخفاف ناقته؛ بل كلّ ما يصدق عليه السير بين الصفا والمروة، كما أنّه لم يكن الموقف خصوص مواضع أخفاف ناقته في مشاعر عرفات وغيرها بل كانت عرفة ومزدلفة ومنى كلّها مواقف بلا اختصاص بموضع رحل النبي.

وعلم صفا والمروة ليس شيئاً مطموساً غير قابل للمشاهدة ليشكّ في صدق السعي بينهما سيّما في عصر صاحب الجواهر الذي لم يحدث ما حدث في الأعصار الأخيرة على أيدي حكام الحجاز.

والذي أراه أنّ هذه البنية الموجودة في هذه الأعوام الأخيرة- والآن سنة 1428 ه-- والذي يتحدّد عرضه بما يقرب من عشرين متراً بخطّ مستقيم بين صفا والمروة ممّا لا مجال للريب في صحّة السعي فيه بتمام أجزائه لمحاذاة هذا الطريق بأجمعه للمشعرين.

فما يظهر من بعض المحتاطين أو ينقل من الوسوسة في جواز السعي في بعض هذا المقدار والتحرّز من بعض عرضه الواقع في الجانب المقابل للمسجد لا المتّصل بالمسجد محتجّاً بأنّ المسعى قد وسّع من ذاك الجانب وادخل فيه ما لم يكن منه، فإنّ مثل هذه الوسوسة في غير محلّها بعد وضوح أعلام المسعى وعدم انطماس ما يحاذي كلّ العرض الموجود للمسعى.

بل وجود المجال لتعريض المسعى أكثر ممّا عليه الآن واضح لمن نظر إلى شعيرتي صفا والمروة؛ فإنّ عرضهما أكثر من عرض المسعى الفعلي ومعه فيتّسع المسعى باتّساع عرض الشعيرتين لا محالة.

ص: 62

وتوسعة المسعى بإدخال بعض الأماكن فيه إنّما هو إرجاع للحقّ إلى أهله؛ وليس من ضمّ غير الحقّ إليه؛ ولذا قد ورد في النصّ المعتبر أنّ الناس ضيّقوا المسعى كما سبق، وكذا وقع التصريح به في الآثار والسير؛ وإن تقدّم منّا التشكيك في دلالة الخبر والله العالم.

ونحو هذا النصّ ما تضمّن أنّ الناس وردوا على المسجد لا أنّه ورد عليهم؛ تعليلًا لجواز هدم البيوت المبنيّة حوالي الكعبة والمسجد الحرام وضمّ أراضيها إلى المسجد. والذي يؤكده ما تضمن من النصوص التي تقدّمت من أن إبراهيم حدّ المسجد الحرام بما بين الصفا والمروة- يعني المسعى- فكانت البيوت المبنيّة حول الكعبة داخلة في المسجد ومبنيّة في أرضه. واحتمال كون الشعيرتين بحسب وجودهما الفعلي زيد عليهما من غيرهما بأن زيد من أبي قبيس إلى الصفا ومن قعيقعان إلى المروة.

يردّه أن الصفا مثلًا بحسب وجوده الفعلي له وحدة عرفيّة يفصله عن غيره ولا يعقل كون بعضه من غير صفا بعد اعتبار أن يكون صفا ممتازاً بصورة طبيعية عن أصل جبل أبي قبيس لا بتقدير تعبدي وقد ذكروا أن صفا أنف من جبل أبي قبيس كما سمعت حكايته في الجواهر أيضاً.

نعم لو كان المعنون لصفا- بحسب وجوده الحالي- مؤلفاً من ربوات عدّة بعضها بجانب بعض احتمل كون بعضها خارجاً من العنوان؛ وليس كذلك.

كما أن احتمال كون الصفا بوجوده الفعلي مبايناً لما كان كذلك واقعاً فهو وهم لا أساس له؛ فإنّه أي داع للمسلمين على تحويل الصفا إلى إمكان مباين لواقعه؛ ولو وقع لثبت في الأثر والنصوص وعلم والمفروض عدمه.

هذا مع أن أصالة عدم النقل والثبات في اللغة ونحوها حاكمة لو فرض طروّ الشك في مثل ذلك.

ثمّ إني بعد ما قررت الإشكال في توسيع المسجد الحرام بما يشمل قسماً من المسعى بمعنى ما يصح السعي فيه عثرت على كلام لبعض فقهاء أهل السنة في هذا المجال متضمناً أيضاً لحكاية تغيير المسعى.

قال القطب الحنفي في المحكي عنه بعد حكاية تغيير المسعى عن أهل السير:

وهاهنا إشكال ما رأيت مَن تعرّض له وهو: أنّ السعي بين الصفا والمروة من الامور التعبّدية التي أوجبها الله تعالى علينا ولا يجوز العدول عنه؛ ولا تؤدّى هذه العبادة إلّا في ذلك المكان المخصوص الذي سعى فيه وعلى ما ذكر هؤلاء الثقات إدخال ذلك القدر من المسعى في الحرم الشريف وتحويل المسعى إلى دار محمّد بن عبّاد- كما تقدّم- والمكان الذي يسعى فيه الآن لا يتحقّق إنّه بعض المسعى الذي سعى فيه رسول الله أو غيرهُ، فكيف يصحّ السعي فيه وقد حوّل عن محلّه كما ذكره هؤلاء الثقات؟

ولعلّ الجواب عن ذلك: أنّ المسعى في عهد رسول الله كان عريضاً وبنيت تلك الدور بعد رسول الله في عرض المسعى القديم فهدمها المهدي وأدخل بعضها في المسجد الحرام وترك بعضها للسعي فيه؛ ولم يحوّل تحويلًا كلّياً؛ وإلّا لأنكر ذلك علماء الدِّين من الأئمّة المجتهدين رضي الله عنهم أجمعين، مع توفّرهم إذ ذاك، فكان موجوداً في ذلك الوقت الإمامان أبو يوسف ومحمّد بن الحسن والإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة (رضي الله عنه)، وقد أقرّوا ذلك وسكتوا؛ وكذا من بعدهم مثل الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وبقيّة المجتهدين، فكان اجتماعهم على صحّة السعي في هذا المحلّ الموجود الآن من غير نكير نُقل عنهم.

وبقي إشكال آخر في جواز إدخال شي ء من المسعى في المسجد وكيف يصير ذلك مسجداً؟ وكيف حال الاعتكاف فيه؟

وحلّه: بأن يجعل حكم المسعى حكم الطريق العام؛ وقد قال علماؤنا بجواز إدخال الطريق في المسجد إذا لم يضرّ بأصحاب الطريق فيصير مسجداً ويصحّ الاعتكاف فيه حيث لا يضرّ بمن يسعى. فاعلم ذلك وهذا ممّا تفرّدت ببيانه. انتهى ما ذكره القطب (1).

أقول: إنّ الذي ورد في بعض السير من تغيير المسعى وتحويله من محلّه الأصلي إلى الموضع الجديد وأنّ هذا المسعى الفعلي هو مستجدّ، أو زيد فيه.

قد يكون المراد به أنّ الموضع الذي كان يقع فيه السعي خارجاً- لا ما يصحّ فيه السعي- قد حرّف، فالمقدار الذي كان الناس يسعون فيه ادخل في المسجد وقد جعل محلّ السعي الموضع الجديد بعدما لم يكن هذا الموضع مسعى عملًا لوجود موانع فيه من بنايات ودور ومجرى السيل وغير ذلك.

وبالجملة: عدم كون الموضع الجديد المسعى في الأعصار القديمة شي ء، وعدم صحّة السعي فيه شي ءٌ آخر؛ والمنظور في الكلمات قد يكون هو الأوّل، وإلّا فلا مجال لصحّة غيره بعدما ذكرنا من أنّ العبرة في صحّة السعي بما يصدق عليه السعي بين الشعيرتين، وهما بحمد الله قائمتان حتّى الساعة وإلى آخر الدُّنيا إن شاء الله تعالى.

فإدخال زيادة في المسعى نظير إحداث زيادة في المطاف بتوسيع المسجد بعد هدم البيوت المحيطة به ممّا لا ينافي جواز الطواف في الزيادات وإن لم يكن رسول الله طاف فيها.

وأمّا ما أفاده القائل من تجويز الأخذ من مشعر المسعى فقد تكلّمنا حوله إجمالًا آنفاً.


1- تحصيل المرام للصبّاغ 1: 342- 344، والإعلام: 103- 104، التاريخ القويم 3: 144.

ص: 63

ويكفي في صدق السعي الواجب ملاحظة الشعيرتين ووقوع السعي بين الربوتين وهذا ما يصدق بوضوح في المسعى الموجود في هذه الأزمنة وحتّى الآن وهو جمادى الاولى من سنة 1426 ه-. ق.

المسألة الثامنة:

إذا شكّ في عرض المسعى لشبهة مفهوميّة كالشكّ في اعتبار محاذاة الصفا والمروة حين المشي إليهما في قبال جواز المشي في عرض أوسع من عرض الشعيرتين مثل السعي في خط منكسر أو محدّب يكون وسطه خارجاً من عرض الشعيرتين، ومن جملة موارد الشبهة المفهوميّة الشكّ في مقدار عرض الشعيرتين بعد احتمال حذف بعضهما بسبب إحداث الشوارع والأبنية حول المسعى، فما هي وظيفة المكلّف؟ وهل يجوز له السعي في مواضع الشكّ والاكتفاء به في أداء الوظيفة؟

ومن جملة الشبهة المفهوميّة ما لو احتمل ارتفاع صفا والمروة زائداً على الحدّ الموجود الآن بحيث احتمل محاذاة الطابق العلوي للشعيرتين بحسب وضعهما القديم بناءً على كفاية محاذاة مواضع صفا والمروة وعدم اشتراط وجود بناء فعلي لهما أو كفاية وجود أصل الربوتين وعدم اشتراط محاذاة لبناء زائد على أصلهما.

ومن موارد الشبهة المفهوميّة للسعي ما لو شكّ في صدق صفا والمروة بإنشاء تعريضهما وضمّ صخور إليهما؛

كما أنّه لو اعتبر في المسعى أن يكون المشي بحذاء صفا والمروة أعني الربوتين وشكّ في حدّه من جهة تردّد مقداره بين الأقلّ والأكثر أيضاً دخلت المسألة في الشبهة المفهوميّة وكان الحكم فيها هو ما تقدّم.

ومرجع ذلك كلّه إلى الشكّ في التعيين والتخيير، وقد وقع الخلاف في كون المرجع في ذلك هو البراءة والتخيير أو هو الاحتياط والتعيين؛ وقد فصّلنا الكلام في ذلك في بعض البحوث بما أثبتنا به الحكم بالبراءة وفاقاً لعدّة من المحقّقين (1)، وذكرنا أنّ لذلك مصاديق عدّة في الحجّ وغيره؛

منها: كفاية الوقوف في موضع يشكّ في كونه من عرفات أو مزدلفة.

ومنها: كفاية المبيت بمنى في موضع يشكّ في كونه من منى أو خارجاً عنه.

ومنها: كفاية المبيت في موضع يشكّ في كونه من وادي محسر إذا ضاق الناس بمنى وتبدّلت الوظيفة إلى الارتفاع إلى وادي محسر.

ومنها: كفاية الطواف في موضع يشكّ في صدق الطواف بالبيت كالطواف في الطابق الأعلى بناءً على الشكّ في صدق الطواف بالبيت فيه، لاحتمال اعتبار محاذاة البيت في مفهوم الطواف وعدم صدقه بدون ذلك.

ومنها: كفاية الطواف عند الزحام اختياراً مع استناد الحركة إلى دفع الزحام للطائف لو شكّ في استناد الطواف إليه معه.

إلى غير ذلك من موارد الشبهة المفهوميّة في نسك الحجّ والعمرة وغيرهما.

وكيف كان فالنتيجة التي انتهينا إليها هي الحكم بالبراءة؛ إلّا أنّه فاتنا هناك التنبيه على مقال للمحقّق الإصفهاني نتعرض له نذكره في المقام استدراكاً لما فات. فنقول بعد التوكّل على الله:

ذكر المحقّق الخراساني أنّ الموضوع له أسماء العبادات- بناءً على وضعها الصحيح- هو معنى بسيط لكنّه ينطبق على المركّب الخارجي انطباق الكلّي على فرده؛ فالترديد في تعيين ذاك المعنى لا يوجب كون الشكّ فيه من الشكّ في المحصّل؛ بل الترديد في تعيينه يحقّق الترديد في نفس العمل الخارجي من حيث كونه الأقلّ أو الأكثر، فحيث إنّ المعنى منطبق على العمل لا مسبّب عنه فالحكم على المعنى راجع إلى الحكم على منطبقه فيكون الشكّ في المعنى من حيث كونه موضوعاً أو متعلّقاً للحكم راجعاً إلى الشكّ في تعيين منطبق المعنى الذي هو في الحقيقة موضوع الحكم أو متعلّقه.

ولازمه أنّ المعنى وإن لم يكن ممّا يقبل الانحلال إلى معلوم ومشكوك- لكونه بسيطاً ولذا لا مجرى للأصل بلحاظه- ولكن لمّا كان المنطبق عين المعنى لا محصِّله فالانحلال فيه إلى معلوم ومشكوك معقول فيدخل في مسألة الأقلّ والأكثر والاختلاف فيه من حيث البراءة والاشتغال.

وأورد عليه المحقّق الإصفهاني- بالغضّ عن تعقّل انطباق البسيط المقولي على المركّب الذي يلزمه كون شي ء مركّباً وبسيطاً وهو من اجتماع الضدّين- بأنّ:

كون النسبة بين المأمور به وما يباشره المكلّف اتّحادية أو بنحو السبب والمسبّب لا دخل له في لزوم الاحتياط وعدمه كما رامه الآخوند، بل الملاك في لزوم الاحتياط والعدم كون ما هو مأمور به بالحمل الشائع مجملًا ينحلّ إلى معلوم ومشكوك فيدخل في مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيّين والخلاف في حكمها من براءة أو احتياط أو كونه مبيّناً فيتعيّن فيه الإحتياط سواء كان الإجمال في سببه ومحققه ليندرج في السبب والمسبّب، أو كان الإجمال في منطبقه ومصداقه إذا كان نسبة المأمور به إلى عمل المكلّف نسبة الكلّي والمصداق؛ وإنّما يجب الاحتياط في ذلك لعدم انحلال المأمور به- بالحمل الشائع- إلى معلوم يتنجّز ومشكوك يجري فيه البراءة (2).


1- نشر في عدد سابق من مجلّة الميقات.
2- نهاية الدراية 1: 112.

ص: 64

أقول: يمكن الإيراد على المحقّق الإصفهاني- نقضاً- بأنّ لازم كلامه تعيّن الاحتياط في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطي دائماً؛ والوجه في ذلك أنّه ما من عمل يتردّد الواجب منه بين الأقلّ والأكثر إلّا ويشكّ في تحقّق الغرض المقوّم لوجوده بمجرّد فعل الأقلّ؛ فإنّ الواجبات وإن تعلّق الوجوب فيها بفعل المكلّف ولكن المطلوب إنّما هو الفعل المحقّق للغرض بعدما كانت الأحكام تابعة للمصالح في متعلّقاتها والغايات المقصودة من الأمر بالمتعلّقات وإن كانت تلك الغايات لصالح المكلّفين ولا تعود بالنفع على الله تعالى؛ فالمأمور به من الصلاة هو الصلاة المحقّقة للغرض من الأمر بها، غاية الأمر أنّ الغرض قد يكون معلوماً تفصيلًا وفيما لا يعلم كذلك فهو معلوم على الإجمال لاستحالة الأمر بما لا غاية للأمر به.

فكما أنّه لو أمر الله بالصلاة الناهية عن الفحشاء وشكّ في منطبقه- حسب تعبير الإصفهاني- يجب الاحتياط؛ كذلك لو أمر بالصلاة ونعلم أنّ له غرضاً من انتهاء المكلّف عن الفحشاء أو غيره على الإجمال فما لم يحرز تحقّق الغرض بالأقلّ يتعيّن الاحتياط لأنّ العلم الإجمالي كالتفصيلي منجّز.

ويمكن الدفاع عن الإصفهاني بأنّ مجرّد العلم باشتمال المأمور به على الغرض لا يجعل المأمور به أمراً بيّناً في العهدة ما لم يكن الغرض أمراً بيّناً، بل هذا العلم عين الإجمال، والمعلوم بالإجمال إنّما يتنجّز بمقدار العلم لا بأكثر فيما إذا انحلّ- ولو حكماً- إلى متيقّن وإلى زيادة عنه مشكوكة؛ والعلم الإجمالي بالغرض لا يحتّم على المكلّف ما كان مجملًا.

وربما كان الغرض على تقدير بيانه منطبقاً على تقدير فعل الأقلّ؛ وعلى تقدير عدم انطباقه ربّما كان من الأقلّ والأكثر الاستقلاليين وإن فرض وجوب الأكثر، إذ ربّما كان للغرض مراتب.

وكيف كان فيرد على المحقّق الإصفهاني أنّه لا قصور في أدلّة البراءة النقليّة- على الأقلّ- لو فرض قصور البراءة العقليّة عن شمول ما فرضه؛ فإنّ العناوين المتّحدة مع أفعال المكلّفين هي عبرة إليها وواسطة في التعبير عنها، فالصلاة وإن كانت موضوعة لمفهوم ولكنّها موضوعة لواقع ذاك المفهوم، وقد اخذ المفهوم مرآة لذاك الواقع، فما هو بالحمل الشائع وفي الخارج مصداق الصلاة هو الذي وضع له لفظة الصلاة حقيقة؛ وإلّا فالصورة الذهنيّة من الصلاة التي هي المفهوم ليست صلاة وإنّما هي كيف نفساني عارض على النفس وليس هو ممّا وضع له هذا اللفظ، بل له لفظ آخر كصورة ذهنيّة ونحوها.

إذن، لمّا كانت الألفاظ موضوعة لواقع المعاني ووجوداتها، بل الوجودات هي المعاني، وعناوينها طريق إليها فحيث كان العنوان المأمور به متّحداً مع فعل المكلّف ولم يكن فعله مقدّمة لتحقّقه كان الأمر متعلّقاً في الحقيقة بالفعل الذي يباشره المكلّف لا بعنوانه.

لا أقول: إنّ الأمر متعلّق بالفعل المتحقّق خارجاً ليُقال: إنّ ظرف تحقّق الفعل ظرف سقوط الأمر فكيف يكون مقوّماً للأمر؟!

بل مقصودي أنّ متعلّق الأمر هو العنوان الخاصّ لفعل المكلّف في قبال العنوان الآخر له.

مثلًا المأمور به في الحقيقة في مثل الأمر بالصلاة هو عنوان التكبير والركوع والسجود والقراءة والتسليم التي هي فعل المكلّف وإن تعلّق الأمر بعنوان الصلاة؛ فإنّ الصلاة ليست شيئاً في قِبال هذه الأفعال بل هي متّحدة معها؛ بخلافه في التوليديّات حيث إنّ فعل المكلّف سبب وعلّة لها لا متّحداً معها؛ ويكفي لصحّة جعل التوليديّات على عهدة المكلّف تمكّنه من الأسباب؛ والقدرة عليها قدرة على المسبّبات.

إذن فلفظ الصلاة تعبير عن الركوع والسجود وسائر الأجزاء، ولا محالة يكون الإجمال في معنى الصلاة حقيقته الإجمال فيما هو المطلوب من الأجزاء المقوّمة لها لا أنّه يستلزمه بل هو عينه.

والإجمال فيما يحقّق العنوان عين الإجمال في العنوان فلا يعقل كون العنوان معلوماً ومنطبقه مجملًا.

وظنّي أنّ الذي حدا بالإصفهاني إلى الحكم بالاحتياط على تقدير كون العنوان معلوماً مع تردّد منطبقه هو قياس المقام على التوليديّات، فكما أنّ الأمر التوليدي إذا كان معلوماً وكان الشكّ في سببه لا يكون الإجمال في السبب مانعاً من لزوم الاحتياط بعد كون المسبّب المطلوب أمراً معلوماً، فكذلك في موارد العنوان والمعنون.

وهذا غفلة عن الفرق بين الموردين؛ فإنّ الإجمال في السبب لا يوجب الإجمال فيما هو متعلّق التكليف.

وهذا بخلاف المقام حيث إنّ الإجمال في المعنون وما يباشره المكلّف يكون عين الإجمال في العنوان- لا ناشئاً منه- بعد اتّحاد العنوان والمعنون في الوجود ومجرّد الاختلاف بينهما في اللفظ والعبارة.

وربّما كان المنشأ لما ذهب إليه الإصفهاني غفلة عن أمر آخر هو ضابط الأمر التوليدي كما ربّما يلوح من بعض عبائره؛ وذلك حيث إنّه قد يتخيّل أنّ مثل الأمر بإبراء المريض وعلاجه أو إحراق الشي ء أو طبخه من الامور التوليديّة والمسبّبات، مع أنّ الأمر ليس كذلك.

والوجه في ذلك أنّه: لا فرق بين الأمر بالصلاة والصوم وبين الأمر بالطبخ أو الإبراء في كون متعلّق التكليف فعل المكلّف؛ وكون الفعل في أحدهما إمساكاً أو ركوعاً أو سجوداً وفي الآخر جعل القدر على النار وغيره من الأسباب والشرائط المقوّمة للطبخ الذي هو فعل المكلّف لا يكون فارقاً فيما هو المهمّ؛ وأيضاً إسقاء الدواء ونحوه من الامور هي بعينها العلاج والمعالجة والإبراء، نعم هي غير سلامة المريض وبرئه، كما أنّ إيقاد النار وجعل القدر عليه غير نضج الغذاء وصيرورته مطبوخاً قابلًا للأكل فعلًا.

ص: 65

نعم، الأمر التوليدي هو أن يكون مطلوب المولى نتيجة فعل العبد ومعلوله كسلامة المريض ونضج الغذاء وطبخه بالمعنى الاسم المصدري لا معناه المصدري الذي هو متّحد مع فعل المكلّف لا أنّه معلول له؛ بخلاف المعنى الاسم المصدري؛ فإنّه أثر فعل المكلّف.

فضابط الأمر التوليدي المقصود في بحث الاشتغال والذي يعبّر عن موارده المشكوكة بالشكّ في المحصّل هو: مغايرة المطلوب مع ما هو فعل المكلّف مغايرة المعلول للعلّة والمسبّب للسبب. وإلّا فالأمر بفعل المكلّف مقيّداً بترتّب غرض عليه كإسقاء الدواء الرافع للمرض والذي يُعبّر عنه بالعلاج والمداواة، راجع إلى العنوان والمعنون لا المحصِّل والمحصَّل، فلا تغفل.

إن قلت: يلزم على ما ذكر جواز الاكتفاء بما يشكّ كونه علاجاً للمريض وهذا لا يساعده الارتكازات العقلائية فلا مناص من عدّ مثل الأمر بالعلاج تكليفاً بأمر توليدي.

قلت: حيث ثبت عدم جواز الاكتفاء بما يشكّ معالجته للمريض يعلم أنّ المطلوب والمأمور ليس هو فعل المكلّف الذي هو العلاج، بل المطلوب هو حصول براءة المريض وزوال علّته الذي هو معلول فعل المكلّف وكان الأمر بالعلاج تعبيراً- في مقام الإثبات- عن مطلوبيّة برء المريض وكناية عنه؛ لا أن يكون هو متعلّق الأمر حقيقةً؛ وإلّا فلو كان الأمر بالمعالجة أمراً بفعل المكلّف لا بالمسبّب عنه فلا فرق بينه وبين الأمر بالطواف مع الشكّ في صدقه راكباً على دابّة أو نحو ذلك، فكما أنّ الثاني من الأمر بالعنوان المتّحد مع فعل المكلّف فكذا الأوّل.

وبالجملة: فما ذكرنا كان ضابط الأمر التوليدي بحسب الثبوت؛

وأمّا إثباتاً فربما يكون التعبير بحسب معناه الحقيقي مساعداً مع العنوان المتّحد مع فعل المكلّف ولكنّه قصد الكناية به عن الأمر التوليدي؛ وقد يكون الأمر بالعكس فيطلب الأمر التوليدي ويحمل على الأمر بفعل المكلّف. نظير ما ذكره بعضهم (1) من أنّ الأمر بالطهارة- بناءً على كونها مسبّبة حقيقةً عن فعل المكلّف من الغسل والمسح- محمول على الأمر بنفس فعل المكلّف أعني الغسلات والمسحات بعد كون الطهارة أمراً لا يكشف عنها إلّا الشارع؛ وليس للعرف سبيل إليه إلّا ببيان نفس الشريعة؛ فيكون الأمر المتعلّق بها أمراً بسببها الذي هو فعل المكلّف؛ بخلاف الامور التوليديّة العرفية كالطبخ حيث يجوز الاتّكال في بيانها على العرف فلا يكون الإجمال في سببها موجباً لصرف الأمر منها إلى سببها.

وهذا الكلام وإن كان مورداً للتأمّل عندي ولكنّه يصلح مثالًا لما رمناه.

ثمّ إنّا قد ذكرنا في بعض الأبحاث أنّ الشبهة المفهوميّة من أهل اللغة تساوق الجزم بعدم الوضع؛ إذ لا مجال لتحكّم الشكّ في الوضع من أهل اللغة؛ إمّا لكون الوضع متقوّماً بتعهّد أهل اللغة أو بكونه متقوّماً بارتكاز المعنى بحيث يتبادر من إطلاق اللفظ ذاك المعنى؛ ومع اشتباه المفهوم وعدم التبادر يلزم عدم ارتكاز المعنى المقوّم للوضع ولازمه عدم الوضع فعلًا.

نعم المعقول من الشبهة المفهوميّة هو الشكّ في الوضع سابقاً؛ وإن كان لا وضع فعلًا لكون الشكّ بدواً ملازماً للجزم بعدمه.

وبعد فرض تعيّن المعنى فعلًا يحكم بثبوته كذلك سابقاً بضمّ أصالة عدم النقل المتسالم عليه عند العقلاء وعليه بناء الفقهاء.

إلّا أنّه ينقدح في المقام إشكال تقريبه أنّ المعروف عند الاصوليّين هو كون المرجع في الشبهات المفهوميّة هو الاصول العمليّة، مع أنّه كان ينبغي بما قرّرناه أن يكون المرجع بعد تعيّن الوضع فعلًا وضمّ أصالة عدم النقل هو الدليل الاجتهادي لا الأصل العملي.

وإن شئت قلت: إنّه يقع الإشكال في مجرى أصالة عدم النقل بعد عدم تطبيقها في المورد.

ويمكن حلّ إشكال تطبيق أصالة عدم النقل بوجهين:

أحدهما: إنّ أصالة عدم النقل إنّما تجري في إثبات الوضع لا في نفيه؛ فإنّه إذا فرض كون الأمر موضوعاً للوجوب فعلًا وشكّ في سبق الوضع كان أصل عدم النقل مثبتاً لقدمه؛

وأمّا إذا شكّ في وضع اليوم لما بعد استتار القرص قبل ذهاب الحمرة المشرقيّة وكانت نتيجة عدم إحراز الوضع الجزم بعدم وضع اليوم فعلًا لما يعمّ زمان استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة ولكن حيث يشكّ في وضع اليوم قديماً للأعمّ فلا أصل ينفي ذلك؛ وليس بناء العقلاء على أصالة عدم النقل في مثل ذلك.

ثانيهما: إنّ أصالة عدم النقل لمّا كان مدركه بناء العرف والعقلاء- وهو دليل لبّي لا إطلاق له- يقتصر فيه على القدر المتيقّن؛ والمتيقّن من مجاريها هو ما إذا كان الوضع ثابتاً بغير ترديد ولو بدوي؛ والمقصود أنّ الوضع قد يكون واضحاً باعتبار أصله وحدّه وقد يكون الوضع ولو باعتبار حدّه ثابتاً بعد إعمال المنبّهات، ولذا يعبّر بالشبهة المفهوميّة وإن انتفت الشبهة وتعيّن المعنى في المآل.

والمتيقّن من جريان أصالة عدم النقل ما كان المعنى بحدّه ثابتاً بوضوح وبغير شبهة ولو في الابتداء وإلّا فلا يقين بجريانه.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول: الشكّ في صدق السعي بين الصفا والمروة قد يكون للترديد في عرض الشعيرتين واحتمال هدم بعض عرضهما بعد كون الواجب هو السعي في واقع ما بين الشعيرتين لا عنوانه.


1- السيّد الصدر قدس سره.

ص: 66

فمع اشتباه الموضوع وحدّ الجبل يكون المرجع الاصول العمليّة والذي اخترناه اقتضاؤها البراءة وعدم تعيّن السعي في القدر المتيقّن.

وقد يكون الشكّ للترديد في صدق الصفا بعد تعريضه صناعيّاً بضمّ صخور إلى الربوة يوجب زيادة عرضها فمثل هذا يلازم الجزم بعدم صدق صفا- فعلًا- على الزيادة؛ بعد عدم الجزم بالصدق؛ ولا واسطة بين الجزمين.

وقد يُقال: إنّ لازمه عدم إجزاء السعي في غير القسم الأصلي لا للأصل العملي بل لمقتضى الدليل الاجتهادي؛ حيث إنّ الواجب هو السعي بين الصفا والمروة، ومع عدم صدق صفا على الزيادات والملاحق لا موجب لكفاية السعي في ذاك الموضع؛ ومقتضى الأمر تعيّن السعي في موضع يصدق عليه السعي بين الشعيرتين.

ولكن يردّه: أنّه وإن فرض الجزم فعلًا بعدم صدق صفا مثلًا على الزيادات الملحقة ولكن لا جزم بعدم الصدق لغةً في عصر التشريع؛ لاحتمال تغيّر الوضع؛ وقد سبق أنّ أصالة عدم النقل لا مجرى لها لنفي الأوضاع وإنّما مجراها إثبات الوضع ولو لكونه المتيقّن من مجاريها بعد كون دليلها لبّياً.

وعليه فحيث يشكّ في صدق السعي بين الشعيرتين بحسب المفهوم والمعنى المعاصر للمشرّع، ولا أصل لفظي يعيّنه، كان المرجع الاصول العمليّة تجاه وظيفة المكلّف، وقد قرّرنا أنّ مقتضاها البراءة في مثل المقام وفاقاً لسيّدنا الاستاذ وغيره من بعض مشايخنا وغيره.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض تطبيقات مشايخنا للحكم بالبراءة على الشبهات المفهوميّة المماثلة للمقام. قال شيخنا التبريزي في مسألة حدود عرفة ومشعر: ومع الشك في بعض الحدود فيها يجب الاقتصار على القدر المتيقن؛ لقاعدة الإشتغال؛ وإن كان لجريان أصالة البراءة مجال. إلا أنها على خلاف الاحتياط المراعى في مسائل الحج (1).

أقول: غرضه من الإحتياط في الحج ما كان يصر عليه سيدنا الأستاذ من التأكيد على رعاية الإحتياط في الحج معلّلًا بأنه غالباً يقع مرة في العمر فلا ينبغي ترك الإحتياط فيه؛ ولذا كان هو يحتاط في الفتوى في مسائل الحج بمجرد بعض الأقوال مع أن مبناه في عدم الإعتناء بالشهرات في الفقه بل بالإجماعات معروف.

ثم إنّ هناك إشكال عام في تطبيق أصالة البراءة على جملة من موارد الأقل والأكثر الإرتباطيين التي منها موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، مثل الشبهات المفهوميّة في نسك الحج والعمرة التي يتوقف عليها الخروج عن الإحرام مضافاً إلى وجوبها؛ كالشك في صدق الطواف بالبيت مع كون المطاف أرفع من بناء الكعبة المشرفة وكالشك في صدق السعي بين الصفا والمروة مع خروج الساعي أثناء سعيه عن الخط الموازي كما لو كان خط السعي منكسراً أو محدّباً بناءً على تحقق الشك في ذلك ونحو ذلك جملة من موارد أخر.

تقريب الإشكال أن المكلّف قبل أداء النسك موضوع لأحكام المحرم التي منها حرمة جملة من الأمور يعبر عنها بتروك الإحرام؛ فهو مخاطب بالنسك ومخاطب بأحكام المحرم قبل الخروج عن الإحرام بأداء النسك، فإذا أتى المكلّف بالنسك على الوجه الصحيح فلا شبهة في تحقق الوظيفة والخروج عن عهدة التكليف كما أن مقتضى أدلة الخروج عن الإحرام بأداء النسك انقطاع أحكام المحرم بعد أدائها على الوجه الصحيح.

وأمّا إذا أتى المحرم بالنسك بناءً على أصل البراءة فاقتصر على القدر المتيقن من التكليف وترك الإحتياط فإنه وإن خرج عن عهدة التكليف المنجز وليس عليه الاحتياط من ناحية التكليف بالنسك كما في سائر موارد الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين، إلا أنّه حيث لم يحرز بما فعله صحة عمله كما صرح بذلك عدة من المحققين في تلك المسألة كان بعد العمل شاكّاً في الخروج عن موضوع الإحرام أو في استمرار حكم التروك عليه ومقتضى الاستصحاب هو عدم انقطاع تلك الأحكام حينئذ.

كيف لا؟ وقد صرحوا بأن البراءة عن الجزء المشكوك لا يثبت أن ما أتى به المكلّف من العمل هو الواجب إلا بنحو الأصل المثبت الذي لا اعتبار به؛ فإن غاية مقتضى أصل البراءة عدم تنجّز الجزء المشكوك لا كون ما عداه هو المكلّف به.

ونتيجة هذا الإشكال هو عدم تأثير أصل البراءة في موارد التكاليف المشكوكة المرددة من الأقل والأكثر الارتباطيين إلا في عدم تنجز التكليف المشكوك لو كان متعلقاً بالأكثر، فلا يؤثر في انقطاع استمرار الأحكام الثابتة قبل أداء التكليف التي هي كالأثر للموضوع لو كان استمرارها محتملًا كما لو احتمل توقف انقطاع تلك الأحكام على أداء العمل على الوجه الصحيح مثل احتمال استمرار أحكام الإحرام بالإتيان بالنسك بدون الإحتياط حيث يحتمل توقف انقطاع تلك الأحكام على الإتيان بالنسك على الوجه الصحيح، لا مجرد العمل على وجه يسقط التكليف عن الباعثيّة.

ومثله ما لو احتمل وجوب التسليمة الأخيرة في الصلوات فإنّه يشكّ المكلف في جواز استدبار القبلة حيث يحتمل كون عمله نقضاً للصلاة ومقتضى الاستصحاب بقاء حرمة نواقض الصلاة التي منها الاستدبار قبل الاتيان بالتسليمة المشكوك وجوبها.

ومن قبيله ما ورد من أن المسافر إذا صلى أربعاً بتمام، بعد نية الإقامة ثم عدل عنها استقر عليه التمام مادام لم يسافر؛ فإنّه لو كانت صلاته من قبيل الصلاة المجتزي بها على أساس أصل البراءة في الأجزاء المشكوكة يشكل الاكتفاء بها في ترتب الحكم المتقدم بعد ما كان مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة، فيندرج في عموم ما دل على أن المسافر غير المقيم عشراً يقصّر.

ومن قبيله ما لو كان التلبس بالصوم مبنيّاً على أصل البراءة ونحوه كما لو استمر في الأكل إلى أن قطع بطلوع الفجر فإنّه لا يجوز كون إمساكه بعد القطع بطلوع الفجر من الصوم الصحيح وإن جاز الاكتفاء به في مقام الإمتثال، بعد حجّية استصحاب الليل؛ ومعه فيشك في كون الأكل بعد هذا الإمساك مصداقاً لإفطار الصوم الموجب للكفارة. وإن كان لا يجوز لكونه موجباً لإحراز المخالفة والقطع بترك الواجب، وكذا لو صام مبنياً على


1- التهذيب في مناسك العمرة والحج 153: 3 ونحوه ذكر في حكم الشك بمنى، صراط النجاة 204: 4.

ص: 67

أصل البراءة غير ناوٍ للاجتناب ولا مجتنباً عن بعض ما يشك في وجوب الاجتناب عنه وفرض عدم إطلاق نافٍ لوجوب الإمساك عمّا عدا الأمور القطعيّة فإنّه لا يحرز كون أكله أثناء صومه ذاك إفطاراً موجباً للكفارة وقد ذكر هذا الإشكال صاحب الجواهر قدس سره في بعض تطبيقاته في الحج ويمكن الإجابة عنه بوجوه بعضها راجع إلى الكبرى وبعضها صغروي.

الوجه الأول: إنّ هذا الإشكال بعد فرض اعتبار الاستصحاب مبني على حجيته في الشبهات في الأحكام الكلية الإلهية وهو واضح. فمن لا يرى اعتبار الاستصحاب في ذلك لا يمكنه الالتزام به.

الوجه الثاني: ما يظهر من كلمات سيدنا الأستاذ في الشبهات المفهومية، من أن الآثار إذا كانت مترتبة على العناوين، فمع الشك في بقائها لا يمكن الحكم باستمرار الآثار على أساس الاستصحاب، لرجوعه إلى الشبهة الموضوعية لدليل الاستصحاب. توضيح ذلك: أنّ المحكوم بتروك الإحرام هو المحرم، فإذا شك في استمرار الإحرام كان الحكم باستمرار تلك الأحكام من الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب، لعدم العلم بتحقق الإحرام، وهذا نظير الشك في وجوب الإمساك بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة، حيث أفاد أن وجوب الإمساك مع الشك في بقاء النهار من الشبهة المصداقية لدليل الاستصحاب، إلا أن يفرق بين المقامين بالفرق حيث إن أحكام الإحرام وإن كانت متقوّمة بالإحرام المشكوك بقاؤه، فلا يجري فيها الاستصحاب ولكن الإحرام بنفسه حكم شرعي قابل للتعبد، فيجري فيه الاستصحاب.

بخلاف مثل النهار حيث إنّه أمر وضعي عرفي ولا معنى للاستصحاب فيه إلّا باعتبار الأكثر المترتب عليه.

هذا، مع أن في المنع من جريان استصحاب حكم النهار كوجوب الإمساك إشكالًا لمنع تقوّم الحكم بموضوعه الشرعي في دليل الاستصحاب بل العبرة في الاستصحاب بالموضوع العرفي لا ما أخذ في النص والدليل الشرعي كما قرر في محلّه.

الوجه الثالث: المنع من جريان مثل استصحاب الإحرام ولا أحكامه بعد الإتيان بالنسك ولو مبنياً على أصل البراءة في أجزائها المشكوكة؛ والسرّ في ذلك هو إطلاق ما دلّ على أن الحاج والمعتمر يتحلل بالطواف والسعي والتقصير أو بالرمي والذبح والحلق أو بها وبالطواف والسعي بعدها؛ فإن غاية ما يعلم بخروجه عن مثل هذه الأدلة هو الإتيان بها على الوجه الفاسد بمعنى ما لا يجوز الاجتزاء به لتنجّز التكليف، وأمّا بعد الإتيان بها على وجه يجوز الاكتفاء بها في مقام الامتثال وإن لم يحكم بصحّتها إلا على وجه الأصل المثبت غير المعتبر، فلا قصور في هذه الإطلاقات عن شموله.

نعم، في موارد الشبهة المفهومية كالشك في صدق الطواف بالبيت أو السعي بين الشعيرتين وما شاكل ذلك ربما يشكل الإطلاق. ويمكن ردّه بقوة احتمال كون ما ذكر من المفاهيم في النصوص كالطواف والسعي تعبيراً عمّا هو وظيفة المكلّف في مقام العمل ولو على أساس الأصول العملية التي منها أصالة البراءة.

وقد فصّلنا الكلام فيما يتعلّق بهذا الأمر ضمن بعض النقاط التي تعرّضنا لها في بحث حكم الشبهات المفهومية وقد نشر في عدد سابق من مجلّة الميقات كما أشرنا إليه فراجعه إن شئت.

المسألة التاسعة:

إذا قلنا بوجوب السعي في خط مستقيم بين الشعيرتين ولم يمكن ذلك بسبب بناء المسعى من قبل الحكومة على وجه لا يمكن للحاج العمل بوظيفته حسب تشخيصه ففي سقوط وجوب الحج والعمرة بسبب العجز عن جزئهما بل ركنهما أو تبدل الوظيفة في السعي بالميسور منه حيث يمكن الإتيان ببعض الأشواط في المحل المقرر وذلك بدليل قاعدة الميسور.

أو عدم سقوط وجوب الفرضين وإنما يسقط وجوب السعي لكونه سنّة واجبة، والسنة لا تنقض الفريضة حسبما دلت عليه معتبرة زرارة المتضمنة لقاعدة «لا تعاد الصلاة إلا من خمس» وقد ذكرت قاعدة عدم انتقاض الفريضة بالسنة ككبرى لتلك القاعدة في ذيل الخبر. أو وجوب السعي في مكان قريب من المسعى لقاعدة الميسور إحتمالات؛ مقتضى القاعدة لولا الدليل على خلافها هو الأوّل.

والإحتمال الثاني لا دليل عليه بناءً على المعروف في مدرك القاعدة.

وأمّا الإحتمال الثالث فإن مقتضى تلك القاعدة هو أن الإخلال بالفريضة متى كان بسبب الإخلال بالسنّة لا بأس به ولا دلالة فيها على صورة ثبوت الفريضة ووجوبها. نعم، في الصلاة حيث لا تسقط بحال فلا يكون الإخلال بها بالسنن فيها بسبب الاضطرار وغيره إخلالًا مفسداً للصلاة؛ وللكلام فيما يتعلق بذلك ذيل طويل محوّل إلى غير المقام.

وقد أفاد بعض السادة المحققين (1) أن ما دل على توسعة مواقف عرفات ومشعر ومنى بضيقها وكذا ملاحظة غير تلك الأدلة يفيد القطع بعدم سقوط وجوب الحج بتعذر السعي.

المسألة العاشرة:

قال الكردي: جاء في تاريخ الغازي ما نصّه: وذكر المحب الطبري أن العقد الذي بالمروة جعل علماً لحد المروة؛ ثم قال: فينبغي للساعي أن يمر تحته ويرقى على البناء المرسوخ. انتهى. إلى أن قال الغازي: لم نقف على من بنى العقد الذي بالصفا والعقد الذي بالمروة ... وسبب بناء العقدين بعد عهد أبي جعفر المنصور هو معرفة حدّ الصفا وحدّ المروة فلا يتكلّف الساعي الرقى لما بعدهما من الدرج. والظاهر- والله تعالى أعلم- أن العقدين


1- آية الله الشبيري الزنجاني.

ص: 68

بنيا لأول مرة قبل القرن الثالث، فإن العقدين كانا موجودين في زمن ابن بطوطة، كما صرّح بذلك في رحلته، وقد ولد ابن بطوطة سنة ثلاث وسبعمأة (1).

وقد باشروا في هدم عقد الصفا يوم الثلاثاء 24/ 10/ 1377. أما الدرجات القديمة جدّاً والتي كانت مدفونة منذ عصور عديدة فقد ظهرت عند حفر أرض الصفا وذلك في رجب سنة 1377 ه- ثم إنهم في شوال من السنة المذكورة أخرجوا الدرجات القديمة وبنوا فوقها الدرجات الجديدة بالإسمنت (2).

أقول: قد سبق أن مقتضى وجوب السعي بين الشعيرتين هو عدم وجوب الصعود عليهما وجواز الاكتفاء بالوصول إلى مبدئهما أعني بداية الأخذ في الارتفاع الذي هو بداية الجبل.

ولكن ليعلم أن الملاك بحسب القاعدة هوالوصول إلى مبدء الجبل بحسب وجوده فعلًا فلو طمّ بعض المسعى وارتفع فصار بعض الشعيرتين مدفوناً لا يكفي الوصول إلى مبدء الشعيرتين بحسب وضعهما قبل الطمّ بل العبرة بالوجود الفعلي.

كما أنّه لو حذف بعض الشعيرتين من وجههما بحيث زيد في طول المسعى لم يجز الاقتصار في السعي على موضعهما قديماً.

كل ذلك لظهور السعي بين الصفا والمروة في دخل عنوان الصفا والمروة لا موضعهما.

نعم لو فرض انعدام الشعيرتين- لا سمح الله- فعدم سقوط الواجب حيث لا يمكن بناء الربوتين لا يستلزم عدم موضوعية للشعيرتين على تقدير وجودهما.

وليعلم أن الزيادة المحظورة في السعي كالطواف لا يشمل ما يؤتى به من المشي بعنوان مقدمة الواجب، بل هي خاصة بمثل زيادة شوط أو بعضه لا كذلك.


1- التاريخ القويم 121: 2.
2- التاريخ القويم 123: 2.

ص: 69

ص: 70

ص: 71

ص: 72

نظرية الترابط بين الأفعال في ضوء علم أُصول الفقه الإسلامي

حيدرحبّ الله

استعراض لنماذج في باب الحجّ

تمهيد

ثمّة أهمّية كبيرة لدراسة العلاقة بين إنجاز الواجبات وإنجاز المستحبّات، وكذلك بين ترك المكروهات وترك المحرّمات و .. فقد يفضي فعل نقوم به يكون واجباً إلى ترك مستحبّ، وقد يفضي فعل المستحبّ إلى تركنا الواجب، ليس هذا فحسب، بل قد يؤدّي فعلنا للمستحبّ إلى ترك الآخرين للواجب، أو العكس، وهكذا في باب المحرّمات والمكروهات، ممّا يستدعي دراسة أوجه العلاقة والارتباط بين هذه الإنجازات المتنوّعة.

وتتخطّى هذه القضية البُعد الفردي في الأمر إلى بُعد اجتماعي، كما سوف نركّز على بعض الأمثلة في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى؛ فمثلًا قد يؤدّي تقديم الآلاف ممّن أنجزوا سابقاً حجّة الإسلام الواجبة .. تقديمهم طلبات للحجّ، إلى الحيلولة دون حصول الآلاف ممّن وجبت عليهم حجّة الإسلام، نتيجة نظام التحديد والقرعة المستخدَمَين في الجملة في أيّامنا هذه على الحجيج، طبقاً للقوانين التي سنّتها وأجرتها المملكة العربية السعودية في العقدين الأخيرين، فهل يوجب هذا الأمر تحريم تقديم الطلبات للحجّ المستحبّ لأنّه يحول دون أداء الآخرين للواجب الشرعي فيكون صدّاً عن سبيل الله أم أنّ الموقف يندرج ضمن معايير أُخرى؟!

وكفى هذه المسألة الكثيرة الابتلاء لبيان أهمّية هذا الموضوع وضرورة دراسته.

ويجب أن نشير في بداية هذه المقالة المتواضعة إلى أنّ بحثنا هنا سوف يدور حول ما يمكن أن تقدِّمه لنا القواعد والأصول والمعايير العامّة في الشريعة الإسلاميّة والفقه الإسلامي، أمّا التطبيقات ووجود أدلّة خاصّة في هذا المورد هنا أو هناك يمكنها أن تغيّر مسار القاعدة أو القواعد، وكذلك تحديد هل هذه القاعدة أو تلك تجري في هذا المورد أو ذاك، فهذا أمرٌ يرجع إلى الأبحاث الفقهيّة الفرعيّة التي قد تختلف في معطياتها ونتائجها.

كما تجدر الإشارة هنا إلى عدم إفراد الأصوليّين والفقهاء بحثاً مستقلًّا لدراسة طبيعة علاقة الأفعال ببعضها بعضاً؛ إلّا أنّ أغلب هذه الصور معلومٌ قواعديّاً في كلماتهم، يمكن التعرّف عليه بتحليل نظرياتهم في أُصول الفقه وفي الفقه أيضاً.

الهيكلية العامّة لافتراضات الدراسة

ويمكن تصوّر أصل الموضوع في صورتين اثنتين جامعتين:

الصورة الأُولى: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى تركه التكليف الثاني، فالفاعل والتارك في هذه الصورة شخصٌ واحد، لا اثنين، كما لو أدّى فعله لواجب شرعي مثل الصلاة إلى ترك مستحبّ وهكذا ..

الصورة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل للتكليف الأوّل مؤدّياً إلى ترك طرف آخر للتكليف الثاني، سواء كان هذا الترك عمدياً أو قسريّاً أو .. فالفاعل والتارك هنا اثنان كما صار واضحاً.

ويجب أن نشير إلى أنّ قصدنا بكلمة «ترك» و «فعل» في الصورتين، يشمل صورة ترك واجب أو مستحبّ أو فعل حرام أو مكروه، وبعبارة جامعة: المراد بالترك مطلق التخلّف عن مفاد تكليف شرعي، فقد يكون في فعل الطرف الأوّل لحرامٍ مّا ما يؤدّي إلى فعل الطرف الثاني لحرام، وكذا الواجب، وبهذا يتبيّن أنّ صور هذه المسألة كثيرة جدّاً، كما سوف نلاحظ بعضه.

1- الترابط بين أفعال المكلّف نفسه

والبحث في الصورة الأُولى فيه عدّة حالات:

الحالة الأُولى: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى تحقيق موضوع حكم آخر في حقّ نفسه، كأن ينذر شكراً لله أن يوفّر لنفسه مبلغاً ماليّاً لصرفه في وجوه الخير والطاعة، ثمّ يفي بهذا النذر، فتتحقّق الاستطاعة منه فيجب عليه الحجّ، فهنا كان فعل الواجب محقّقاً لموضوع واجب آخر. وكذلك الحال في جمعه المال بوصف ذلك فعلًا مباحاً فيحصل بذلك سبب الاستطاعة، فيكون من باب إنجاز المباح المفضي إلى تحقيق موضوع الواجب.

وصور هذه الحالة كثيرة جدّاً والحكم فيها واضح؛ فإنّ فعليّة الحكم الثاني منوطة بتحقّق موضوعه، بصرف النظر عن مبرّرات هذا التحقّق، أي سواء جاء هذا التحقّق من إطاعة واجب آخر أو غيره. نعم، لو أخذ في تحقّق موضوع الحكم الثاني قيد أن لا يكون ذلك عبر طريق خاصّ، كالحرام مثلًا، لم يتحقّق موضوع التكليف الثاني حينئذ، لانعدام أحد قيوده وأركانه.

وفي صور الحالة الأُولى هذه، يظلّ التكليف الأوّل على حاله، فإنّ إفضاء امتثاله إلى تحقّق موضوع تكليف آخر لا يغيّر من حكمه شيئاً؛ وذلك أنّه لن يصير بذلك مقدّمةً لواجب ولا لحرام، لفرض أنّه صار بامتثاله مقدّمةً وجوبيّةً لا وجوديّة، فلا يشمله قانون التلازم بين المقدّمة وذيها، لا في طرف الحرمة ولا في طرف الوجوب.

ص: 73

الحالة الثانية: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى عدم انعقاد موضوع حكم آخر، بمعنى الحيلولة دون انعقاده، فقد كان لولا الفعل الأوّل في طريق الانعقاد لكنّ حدوث هذا الفعل حال دون انعقاده لسببٍ أو لآخر، كما لو قدّم مقداراً من المال لأحد أقربائه أو أصدقائه على نحو الهديّة المستحبّة التي تليق بشأنه، فأدّى ذلك إلى حلول الحول عليه وهو لا يملك فاضل المؤونة، الأمر الذي يلغي- أي يحول دون تحقّق- موضوع وجوب الخمس في أرباح المكاسب عليه، أو قدّم هذه الهدية قبل حلول أشهر الحج، وبنينا على أنّ الاستطاعة يُشرط فيها أن تكون متحقّقةً ولو في أوّل هذه الأشهر، فإنّ فعله لمستحبّ الصدقة أو الهدية أو الانفاق على العيال على نحو التوسعة، قبل مجي ء أشهر الحج حال دون انعقاد الاستطاعة بالنسبة إليه.

وفي هذه الحالة لا إشكال في بقاء فعله الأوّل على حكمه الطبيعي ولا يغيّر من حكمه صيرورته سبباً للحيلولة دون انعقاد موضوع الحكم الآخر؛ وذلك أنّه لا يجب على المكلّفين أن يحقّقوا موضوعات الأحكام؛ لأنّ الحكم لا يبعث نحو موضوعه كما تقرّر، وهذا معناه أنّه لا يوجد خطاب متّجه نحو المكلّف يحمّله مسؤوليّة تحقيق الموضوع حتّى يعارض أو يزاحم الخطاب الموجّه في التكليف الأوّل الذي حال دون تحقّق موضوع التكليف الثاني، فيظلّ التكليف الأوّل على حاله حينئذٍ بلا معارض ولا مزاحم، كما لا يتحقّق التكليف الثاني ممّا يرفع مسؤوليّته عن كاهل المكلّف على نحو الدفع؛ لأنّ المفروض أنّ موضوعه لم ينعقد بسبب حيلولة امتثال التكليف الأوّل دون تحقّقه.

نعم، إذا كان موضوع الحكم الثاني ممّا تعلّق به- لا بوصفه موضوعاً- حكمٌ شرعي خاصّ، كما لو نذر أن يجمع المال للحجّ، عارض هذا الحكم الخاصّ مفاد الحكم الأوّل أو زاحمه، فدليل استحباب الهدية يطالب المكلّف بالإهداء، فيما دليل وجوب الوفاء بالنذر يُطالبه بالحرص على المال كي يتسنّى له تحقيق مقوّمات السفر هذا العام، فيقع التزاحم، ويقدَّم الأهمّ، وفي مثالنا هو الواجب لتقدّمه على المستحبّ، وتجري قواعد باب التزاحم حينئذ.

الحالة الثالثة: أن يؤدّي فعل الفاعل إلى إعدام موضوع الحكم الثاني، بمعنى أن يكون موضوع الحكم الثاني متحقّقاً، لا يوجد ما يحول دون أصل انعقاده، إلّا أنّ بقاء تحقّقه منوط بجملة عناصر موضوعيّة، فالإقدام على الفعل الأوّل وفاءً للتكليف الأوّل سوف يؤدّي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني، ومثال ذلك أن تتحقّق الاستطاعة لكنّه يقوم بالتصدّق المستحبّ على الفقراء قبل حركة القوافل ممّا يُعدم قدرته على السفر، أو يكون عنده الماء ويدخل وقت الصلاة فيريق الماء ويُعدم موضوع التكليف بالوضوء، ممّا يجعله يُعجّز نفسه عنه.

ومن هذه المسألة ما يسمّى في أُصول الفقه بالتعجيز، إلّا أنّ صورة بحثنا لا تختصّ بحالة العجز، كما في مثال الوضوء المتقدّم، وإنّما تشمل حالة انعدام الموضوع للحكم الثاني مع قدرة المكلّف على الإتيان بالمتعلّق، كما لو فرضنا قدرته على الذهاب إلى الحجّ ماشياً متسكّعاً لا زاد ولا راحلة معه، فهنا لا يوجد تعجيز عن امتثال متعلّق التكليف، وإنّما انعدام الاستطاعة، طبقاً لاعتبارها الزادَ والراحلة.

وفي هذه الحالة تارةً يفرض الفعل الأوّل الموجب لانعدام الموضوع مباحاً، واخرى يفرض تعلّق حكم شرعي به من الأحكام الأربعة الأُخرى، وفي المقابل تارة نفرض موضوع الحكم الثاني قد أخذ في تنجيزه التكليف الثاني البُعدُ الحدوثي فيه، وأُخرى يفرض ضرورة البُعدين الحدوثي والبقائي.

أ- فعلى تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، فإن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي فقط، بمعنى أن يكون حدوث الموضوع- ولو انعدم بعد ذلك- كافياً في التنجيز، ظلّ الحكم الثاني على حاله، لفرض تحقّق مبرّر تنجّزه وفعليّته وهو البُعد الحدوثي لموضوعه، إلّا أنّ الكلام في الفعل الأوّل فهل يتغيّر حكمه من الإباحة بعد لحاظ أدائه إلى ما أدّى إليه؟

والجواب بالعدم، إلّا إذا أوقع المكلّف في أمر لا يجوز إيقاعه فيه، فيصبح حراماً على تقدير القول بحرمة مقدّمة الحرام وهكذا ...

ب- وأمّا على تقدير كونه مباحاً بالإباحة بالمعنى الأخصّ، لكن أخذ تنجيز الموضوع بوجوده الحدوثي والبقائي معاً، فهنا يسقط التكليف الثاني لفرض انعدام موضوعه بانعدامه في مرحلة البقاء، إذا لم يكن قد حان زمن التكليف الثاني، وإلّا فإنّ هذا التعجيز وإعدام الموضوع يصدق عليه عنوان التخلّف عن أداء الواجب؛ فالمفروض أنّ الواجب قد صار فعليّاً وأنّه قد تحقّق وقته وتوجّه خطابه التنجيزي إلى العبد، وهو لم يمتثل، وبدلًا من أن يطيع أعدم الموضوع، فهنا حتّى لو كان الخطاب لا يتوجّه إليه بعد ذلك لانعدام الموضوع، إلّا أنّ العقاب على مخالفة الحكم يجري في حقّه على تقدير التنجيز، وهذا معنى القاعدة التي أصّلها الأصوليّون، والتي تقول: إنّ الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً وإنّما ينافيه خطاباً، فهذا العبد إذا أمكنه الإتيان بالفعل الثاني من بعد سقوط موضوعه، فلا دليلُ يلزمه بهذا الإتيان، لفرض انعدام فعليّة الحكم حينئذ، إلا على بعض النظريات الأصوليّة التي تميّز بين الفعليّة والفاعلية في المقام، كما يذكره السيد محمد باقر الصدر (1).

ومعنى ذلك انقلاب الإباحة في الفعل الأوّل إلى حرمة، لتعنونه بعنوان المقدّمة للتخلّف عن الواجب الآخر الذي تحقّق موضوعه حسب الفرض، فيكون هذا العنوان الثانوي مقدّماً على العنوان الأوّلي الذي كان يحكم بالإباحة في هذا الفعل.

هذا على تقدير كون التكليف الثاني إلزاميّاً، وإلّا فلا حرمة كما هو واضح.

ج- أمّا إذا كان الفعل الأوّل المفضي إلى انعدام موضوع التكليف الثاني محكوماً بأحد الأحكام الأربعة، فإن أخذ البُعد الحدوثي والبقائي فلا محذور وترتّبت الآثار التي تحدّثنا عنها سابقاً، وظلّ الحكم الأوّل على حاله، أمّا لو أخذ البُعد الحدوثي فقط، ترتّب ما تقدّم إذا كان الحكم الأوّل هنا غير إلزامي لتقدّم الثاني بملاك الأهمّية عليه إذا كان إلزاميّاً، وأمّا إذا كان إلزاميّاً أو لم يكن الثاني إلزاميّاً أيضاً، وتنجّز التكليف الثاني ودخل وقته، جرت قاعدة التزاحم بين التكليفين، لأنّ حفظ أحدهما سوف يلغي الآخر، فيُقدَّم الأهمّ منهما عند الشارع، ويعمل به، لفرض عدم إمكان امتثالهما معاً. نعم، إذا كان أحدهما في فسحة من الوقت وأمكن إجراء الثاني في هذه اللحظة ولو مع عدم القدرة على الأوّل فيها، ثمّ تجدّدت الاستطاعة للذي فات، وذلك ضمن الوقت، فهنا يمكن الجمع بينهما بلا أيّ محذور حينئذ.


1- انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، القسم الأوّل: 308- 309.

ص: 74

الحالة الرابعة: أن لا يؤثر الفعل الأوّل في موضوع الفعل الثاني، لا إيجاد ولا إعداماً ولا دفعاً ولا رفعاً، فيكون حيادياً تجاهه، على مستوى موضوع الحكم، ومن الواضح في هذه الحالة أنّه لا يؤثر عليه، نعم، قد يعلم المكلّف أنّه لو فعل الفعل الأول فسوف ينبعث عنده داعي الفعل الثاني، بحيث لو لم يُقدم على الفعل الأوّل يحتمل أن لا يقدم على الثاني، والعكس هو الصحيح فلو أقدم على الفعل الأوّل فلن يقدم على الفعل الثاني، وهنا على تقدير إلزامية الفعل الثاني في وقته، قد يغدو واجباً عليه تحقيق الفعل الأوّل حتى لو كان مباحاً أو مستحباً، أو يحرم عليه حتى لو كان كذلك، وذلك من باب مقدّمة الواجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب، أو من باب مقدّمة الحرام، إذ هو يعلم أنّه لو لم يقم بالفعل الأوّل فلن يقوم بالفعل الثاني، أو العكس بحيث لو قام بالأوّل قام بالثاني، والمفروض وجوبه عليه أو حرمته، فيجب عليه الفعل الأوّل، لتقوّم الفعل الثاني به، حتى لو كان هذا التقوّم على مستوى انعقاد النيّة وحصول الشوق إلى تحقيق الفعل الثاني.

وهذه الحالة لها أمثلة كثيرة، فقد يعلم المكلّف أنّه إذا صادق زيداً من الناس فسوف تضمحلّ في نفسه بواعث الإيمان، ويقصر عن فعل الواجبات، أو إذا عمل في الوظيفة الفلانية فسوف تعوقه- ولو في المستقبل- عن تحصيل سائر الواجبات، أو أحرز أنّه بذهابه إلى المسجد ورفقته للمؤمنين فيه، سوف تشتعل في نفسه جذوة الإيمان، ويقوم بفعل الواجبات الأخرى بحيث إنّه لن يفعلها لو لم يحصّل مثل هذه المقدّمة، فلا يبعد في هذه الحالات- ولو كان التأثير مستقبليّاً- أن يجب عليه أو يحرم هذا الفعل الآني الذي سيترك أثراً على أفعاله المستقبلية.

ويكفي هنا الصدق العرفي في مفهوم المقدّمية بحيث يرى العقلاء أنّه مسؤول عمّا فعله، لا ما إذا رأى العرف والعقلاء وجود الفاصلة بين الفعل الأوّل والثاني، بحيث لم ينسبوا التقصير في الثاني إلى الأوّل، بل إلى نية الفاعل أو عزيمته، كما لو أحرز- بالإحراز الإجمالي- أنّه سوف يقع في الحرام لو تزوّج، بحيث قد يؤذي زوجته، ففي هذه الحالة لا يرى العرف- إلا في حالات نادرة- أنّه بزواجه قد حقّق مقدّمة عصيانه أو إحدى معاصيه، بل ينسبون ذلك إلى تقصيره بعد زواجه، وإلا لو أخذ بمثل هذه الإحرازات الإجماليّة للزم تحريم أمور كثيرة يُعلم من الشريعة عدم تحريمها.

ويمكن القول: إنّ العرف والعقلاء يوازنون هنا بين المصالح والمفاسد وبين صور المعاصي، فيرون أنّه لو لم يقدم على الزواج أو الوظيفة- مثلًا- فسوف يقع في معاصي أو مفاسد أخرى، لهذا يرون أنّه يجوز- أو قد يجب عليه- الزواج أو العمل الفلاني مع إلزامه برعاية نفسه فيما بعد الدخول في هذا العمل، أو يقولون: إنّ هذه الإحرازات المستقبلية لا يعتدّ بها في مثل هذه الموارد لعدم ضبطها؛ إذ يلزم منها تعطيل الحياة، والإخلال بالنظام، مادام يحرز كلّ فردٍ ذلك، لهذا لم يتصوّر أحد من الفقهاء التحريم هنا، إلا في حالات خاصّة لها ظروفها الاستثنائية في العرف وعند العقلاء.

2- الترابط بين أفعال المكلّفين مع بعضهم البعض

أمّا الصورة الثانية التي يترك فيها فعل أحد الشخصين تأثيره على الشخص الثاني، كما في مثال الحجّ الذي فرضناه مطلع البحث، فيقع الحديث عنها في حالات عديدة، ففعل كلّ من الطرفين قد يكون إلزاميّاً، وقد يكون غير إلزامي، كما أنّ تأثير فعل الطرف الأوّل قد يكون إيجابيّاً، بمعنى أن يساعد على امتثال الطرف الثاني للتكليف، وقد يكون سلبيّاً، بمعنى أن يساهم في تخلّفه عنه، كما أنّ تخلّف الثاني قد يكون عن اضطرار وقد يكون عن عناد تتوسّطه النيّة والإرادة أو لا تتوسّطه، كما قد يلغي فعل الطرف الأوّل موضوع الثاني وقد يحقّقه وقد يحول دون انعقاده، كذلك قد يكون فعل الطرف الأوّل في نفسه جائزاً وقد يكون حراماً .. إلى ما شاء الله تعالى من الصور والفروض التي تخرج عن طاقة هذه المقالة، لكنّنا سنحاول رصد معالم الموضوع منهجيّاً في رؤية أُصوليّة مستوعبة إلى حدٍّ ما، فهنا عدّة حالات:

الحالة الأُولى: أن يكون ما قام به الطرف الأوّل معصيةً لله تعالى، إمّا بتخلّف عن واجب أو بفعلٍ لمحرّم، ويترك هذا الفعل تأثيره على فعل الآخرين، فهنا:

أ- أمّا فعله لنفسه، فقد كان معصيةً حسب الفرض فيكون غير جائز، لعدم موجب للخروج عن مقتضياته، إلّا في حالة واحدة، وهي أن يتحوّل هذا الفعل إلى مقدّمة واجب على الفرد نفسه بلحاظ فعل الآخرين، ويكون ذلك الواجب أهمّ من هذا الواجب أو الحرام، كما لو فرضنا أنّ تخلّف زيد عن الحجّ سوف يؤدّي إلى إقلاع عَمرو عن قتل أحد المؤمنين، ففي مثل هذه الحالة يمكن تصوّر تغيّر حالة الفعل بالنسبة للطرف الأوّل، ليصير جائزاً أو واجباً تبعاً لقانون التزاحم وتطبيقاته، نعم قد يُضاف إلى حيثيّة العصيان في هذا الفعل إفضاؤه إلى عصيان الآخرين، كما لو كان تخلّفه عن أحد أعمال الحجّ باعثاً لتخلّف الآخرين عن عمد، فإنّه وإن لم يكن الجزء الأخير للعلّة التامّة لعصيان الآخرين إلّا أنّه يصدق عليه عرفاً المساعدة على الحرام والإعانة عليه مع التفاته، وقد لا يكون عدم امتثال الطرف الثاني عن عمد حتّى يكون إعانةً على الحرام، بل عن اضطرار؛ فهنا يصدق أنّ فعل الطرف الأوّل للمعصية كان صدّاً عن سبيل الله سبحانه، كما لو استؤجر لإيصال الحجيج من بلده إلى مكّة لكنّه تخلّف عن هذا الواجب الشرعي الملزم به بمقتضى عقد الإجارة، وفُرض أنّه لا سبيل لهؤلاء الحجيج للذهاب إلى مكّة غيره، فيكون عصيانه لوجوب الوفاء بعقد الإجارة ممّا يصدق عليه الصدّ عن سبيل الله، لأنّ المفروض أنّ الحجيج قد تعلّقت الأحكام بهم، فالحيلولة دون وصولهم صدّ عن سبيل الله، اللهم إلّا إذا قيل: إنّ الصدّ أخذ فيه حيثيّة المانع لا انعدام المقتضي والوسيلة.

ب- وأمّا بالنسبة للطرف الثاني، فالمفترض أنّه غير معني بعصيان الآخرين، لكن:

1- قد يكون هذا العصيان موجباً لتحقّق موضوع واجب آخر على الطرف الثاني، كما في حالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنّ عصيان الطرف الأوّل قد يحقّق تمامية موضوع هذا الوجوب، فيصبح الثاني ملزماً شرعاً بأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقّ الأوّل، وهذا معناه أنّ تحقيق معصية الآخرين لموضوع تكليف شرعي على الطرف الثاني وارد.

2- وقد يكون عصيان الطرف الأوّل دافعاً للتكليف عن الطرف الثاني، كما لو كان الطرفان معاً قد شرطا في تسليم الثمن أن يحجّ الطرف الأوّل هذا العام، فإنّ عدم حجّه سوف يحول دون تحقّق موضوع وجوب التسليم على الطرف الثاني.

ص: 75

3- كما قد يكون عصيان الطرف الأوّل رافعاً لموضوع التكليف عن الطرف الثاني، فهنا يسقط التكليف عن كاهل الطرف الثاني لفرض انعدام موضوعه، ولا معنى للحديث هنا عن فرضيّة التعجيز؛ لأنّ المفروض أنّ الطرف الثاني لم يعجّز نفسه وإنّما أُعجز عن أن يقوم بالواجب، فلا مسؤوليّة عليه ولا عقاب ولا خطاب.

4- وقد يكون عصيان الطرف الأوّل موجباً لتعمّد الآخرين المعصية ولو عن تقصير منهم، كما في الشخص الذي يتخلّف عن أداء فريضة الحجّ، ويكون له أنصاره وأتباعه- من أهل عشيرته أو حزبه- فيتّخذون موقفه عناداً ولجاجاً، فهنا تصدق المعصية على الطرفين معاً، ولا تختصّ بالطرف الأوّل حتّى لو تعنون- كما قلنا سابقاً- بالإعانة على الإثم، لأنّ عصيان الآخرين- كائناً مَن كانوا- ليس مبرّراً لعصيان الإنسان نفسه ما دام التكليف منجّزاً في حقّه، نعم إذا كانت معصية الأوّل موجبةً لتوهّم الآخرين عدم توجّه تكليفٍ ما إليهم فتركوه لا عن عناد بل عن جهل وقصور، لم يكن عليهم في ذلك حرج إلّا إذا كانوا مقصّرين في التعلّم، ويلحق الطرف الأوّل العاصي حرمة إضافية على تقدير معرفته بجهلهم وتوهّمهم حيث كان يجب عليه تعليمهم وإرشادهم إلى عدم الترابط بين فعله وفعلهم، فعدم قوله هذا لهم مع التفاته للأمر معصيةٌ اخرى ناشئة عن إيهام الآخرين وإبقائهم في الجهل، مع أنّ وظيفة تعليم الجاهلين ثابتة شرعاً إلى جانب وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الحالة الثانية: أن يكون فعل الطرف الأوّل مباحاً أي غير إلزامي، بمعنى أنّه لا هو بالمعصية ولا هو بأداء الواجب الشرعي، فهنا تارةً يعكس أثراً إيجابيّاً على أفعال الآخرين، وأُخرى أثراً سلبيّاً، وثالثة يكون حياديّاً بالنسبة إليها لا يؤثّر فيها لا سلباً ولا إيجاباً.

كما أنّه تارةً يحقّق موضوعاً وأُخرى يُعدمه وثالثة يحول دون تحقّقه بالنسبة لأفعال الآخرين.

أ- فإن ترك أثراً إيجابيّاً فبها ونعمت، يظلّ على الإباحة حينئذ، إلّا إذا صار مقدّمةً لواجب فتلحقه قواعد مقدّمة الواجب، فإن كان الفاعل ملتفتاً قاصداً كان مطيعاً على الكلام الموجود في أصول الفقه في الإطاعة والثواب في باب الوجوب الغيري.

ب- وإن ترك الفعل أثراً سلبيّاً على الآخرين، بأن أوقعهم في معصية أو تخلّف عن واجب، فإن لم يكن الفاعل ملتفتاً إلى ذلك فلا شي ء عليه، أمّا إذا كان ملتفتاً فإن كان فعلهم لا عن عناد بحيث توجد علاقة اضطرار أو إلجاء إلى الفعل ولو عرفاً، صار الفعل حراماً لكونه إمّا صدّاً عن سبيل الله أو إعانةً على الإثم، أمّا إذا توسّط بين الفعل المباح لزيد والحرام لعمرو نيّة عمرو وعناده بحيث لا يُنسب الفعل الحرام إلى زيد لا بالمباشرة ولا بالواسطة ولا بالإعانة و .. فإنّه لا يغدو المباح حراماً بذلك كما هو واضح، بل تكون الحرمة لاحقة لفعل الطرف الثاني، نعم قد يُلزم الفاعل للمباح بتركه مع علمه بالأمر من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تحقّق سائر شروطه، ولم يكن هناك سبيل آخر للأمر يُعمل به.

ج- أمّا إذا كان الفعل حياديّاً إزاء أفعال الآخرين، فلا محالة يظلّ على حكمه الأوّلي بالإباحة، لعدم عروض عنوان يغيّر حكمه، فيما تظلّ الأحكام على الآخرين على حالها.

د- وأمّا إذا أثّر الفعل في موضوع حكم يلحق أفعال الآخرين:

1- فإذا حقّق موضوعاً لحكم آخر- كائناً ما كان- ثبت الحكم الآخر على صاحبه، لتحقّق موضوعه، ولا شي ء على الفاعل الأوّل. نعم، للطرف الثاني أن يسعى دون فعل الأوّل لفعله المباح حسب الفرض كي يحول دون تحقّق الموضوع؛ لأنّه لا يكون عاصياً بذلك ما دام الحكم لم يصر فعليّاً بعدُ.

2- أمّا إذا حال دون تحقّق موضوع، فالأمر كذلك أيضاً؛ يظلّ على حاله فيما لا يلحق الحكم الثاني الطرف الثاني لفرض عدم تحقّق الموضوع في حقّه، والحيلولة دون فعليّة الأحكام على الآخرين لا دليل يثبت حرمتها ما لم تكن الحيلولة نفسها- كفعل بقطع النظر عن وصف الحيلولة- متعنونةً بعنوان المعصية، فيلحقها حكمٌ آخر خارج عمّا نحن فيه.

3- أمّا إذا أعدم موضوع حكم كان موجوداً وفعليّاً، فمقتضى القاعدة عدم وجود أي مشكلة، إلّا من ناحية الصدّ عن سبيل الله، ومثال ذلك أن تحصل الاستطاعة للمكلّف لكنّ المطارات توقف إقلاع طائرة هذا المكلّف بحيث لا يمكنه السفر بعد ذلك، ونبني في باب الاستطاعة على أنّ تخلية السرب مفهوم مقوّم للاستطاعة نفسها، ففي هذه الحال امتناع المطار عن السماح للطائرة بالإقلاع إعدامٌ لموضوع الحكم وهو تخلية السرب حيث كانت متحقّقةً حسب الفرض، فهذا يوجب سقوط وجوب الحجّ عن المكلّف من جهة، كما أنّ إقفال المطار في حدّ نفسه ليس محرّماً، لكنّه قد يصدق هنا التحريم من باب الصدّ عن سبيل الله، إذ بهذا الفعل سيُصدّ عددٌ من الحجيج عن سبيل الله ويمنعون عن أداء فرائضهم، فبقطع النظر عن القواعد الموجودة في باب الحكم والموضوع، قد يصدق عرفاً هنا أنّه إذا لم يكن هناك مبرّر شرعي بمنع إقلاع الطائرة يكون هذا المنع حراماً، وكذلك مسألة إعطاء تأشيرة الدخول وغير ذلك إلّا إذا قيل بأنّ عنوان الصدّ عن سبيل الله من العناوين القصدية بمعنى أنّه لابدّ للفاعل- حتّى يصدق عليه أنّه صادٌّ عن سبيل الله- أن يكون قاصداً لذلك ملتفتاً إليه متعمّداً راغباً في أن لا يحجّ هذا النفر من الحجيج فيحول دون إقلاع الطائرة، أو لا يعطي تأشيرة الدخول، وهكذا، فبناءً على أخذ القصدية يصبح هذا الفعل المباح- وهو الحيلولة دون إقلاع الطائرة- حراماً مع هذا القصد لا بدونه.

ولا يخفى أنّ المثال الذي مثّلناه غير مأخوذ فيه وجود أيّ عقد بين شركة الطيران وبين الركّاب، وإلّا لحقت الأمر أحكام إلزاميّة أخرى تتّصل بباب العقود والمعاملات.

الحالة الثالثة: أن يكون الفعل الذي قام به الطرف الأوّل أداءً لواجب أو تركاً لحرام، ومن الواضح أنّ هذا الفعل في حدّ نفسه إطاعةٌ للمولى سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك قد يترك تأثيراً على أفعال الآخرين وسلوكهم، فتارةً يكون إيجابيّاً وأُخرى سلبيّاً وهكذا ..

ص: 76

1- قد يؤثّر أداء الإنسان لبعض الواجبات على تشجيع الآخرين وحثّهم على فعلها والتقيّد بها، ومن الواضح في مثل هذه الحالة أن يكون فعله على حاله، بل لو قصد بفعله هذا أيضاً حثّ الآخرين والتفت ربّما يتضاعف الثواب من ناحية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ لا شكّ أنّه سوف يكون بفعله آمراً ناهياً، بل إنّ بعض الفقهاء القدامى كان يفسّر «اليد» في روايات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بامتثال الآمر الناهي للتكاليف الشرعيّة ليكون قدوةً لغيره، كما يظهر- على ما قيل- من سلار الديلمي في «المراسم العلوية» (1)، ومعه فلا إشكال في بقاء كلّ شي ء من طرف الفاعل الأوّل على حاله، بل قد يصبح عمله هذا مجمعاً لأداء وظيفتين شرعيّتين، هما: الحجّ والأمر بالمعروف، أو الصلاة والأمر بالمعروف و ... كما أنّ الطرف الآخر المنفعل تبقى الأحكام في حقّه على حالها، بل يشتدّ الأمر عليه بعد ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من طرف الآخرين في حقّه، ممّا فيه المزيد من إلقاء الحجّة عليه.

2- وقد يفعل الإنسان الواجبات ويترك المحرّمات دون أن يكون لذلك أيّ تأثير على أفعال الآخرين لا سلباً ولا إيجاباً، فمن الواضح أنّه لا موجب من طرف الآخرين لإيجاد تغييرات في الفعل وأحكامه وموضوعه، إذ لا يعارضه شي ء ولا يزاحمه، وهذا واضح.

3- إلّا أنّ القضيّة في أنّ بعض التكاليف الشرعيّة التي ينجزها الإنسان قد تدفع في الطرف المقابل إلى معصية الله تعالى؛ وأعطي مسبقاً مثالًا من باب المستحبّات، فقد يُحرز الإنسان أنّه لو تزوّج امرأةً ثانيةً مع زوجَته فسوف يوقع ذلك زوجته في غير محرّمٍ من المحرمات، وكذا الحال في الواجبات، فقد يكون ارتداء الحجاب أو التعلّم في المدرسة- وأحدهما واجب والثاني مستحبّ في الحدّ الأدنى- موجباً لدفع الآخرين لخلع حجاب الفتاة ظلماً وعدواناً؛ ممّا يوقعهم في الحرام، أو يعلم الإنسان أنّه لو حاور شخصاً آخر حواراً، لنفرض أنّه واجب أو مستحبّ، فإنّ الطرف الآخر سوف تصدر عنه مواقف غير شرعيّة بوصفها ردّ فعل سلبي على أداء المؤمن لوظيفته، وهذه قضية عظيمة البلوى.

وهنا، لا موجب للخروج عن عنوان الوجوب والحرمة أو الإطاعة والامتثال، لمجرّد أنّ الآخرين لا يعجبهم ذلك، فإنّ هذا ما تعنيه آية: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم (2)، فإنّ روح هذه الآية يدلّ على أنّ الإنسان لا ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار آراء الآخرين ومواقفهم من إيمانه وتديّنه، بل عليه أن يكون في شخصيّته الإيمانية قويّاً عصاميّاً لا تهزّه رياح آراء الآخرين فيه ومواقفهم، وهذا ما تعطيه بعض الآيات الدالّة على أنّ القرآن يزيد الظالمين انحرافاً وفساداً وهلاكاً، بعنادهم وكفرهم.

نعم، قد تطرأ عدّة عناوين ثانوية توجب تغيير هذا المبدأ الأصيل في الشريعة الإسلامية، وهذه العناوين هي:

العنوان الأوّل: عنوان حفظ حرمة المؤمنين، وهو من العناوين الفقهيّة الأساسيّة، فإذا لزم من أداء واجب أو ترك حرام هتك حرمة المؤمنين، بحيث يصل الأمر إلى حدّ يتعدّى الفرد نفسه إلى حفظ حرمة الجماعة المنتسبة إلى الدِّين الإسلامي، فهنا تحسب المصالح والمفاسد، فإن وصل الأمر إلى حدّ أهمّية ملاك حرمة المؤمنين على الواجب الآخر سقط الوجوب والعكس هو الصحيح.

ويختلف تشخيص الموارد، ففي القضايا العامّة التي إذا أوكلت إلى آحاد الناس لزم الهرج والمرج في التطبيق يكون المرجع في التحديد هو الحاكم الشرعي المطّلع على حيثيّات الموضوع والحكم معاً، وفي غير هذه الموارد يوكل الأمر إلى الفرد نفسه، شريطة أن يكون دقيقاً في حسابه، فلا يبرّر الفرار من التكليف الشرعي بعناوين وأغلفة دينية كما حصل ويحصل كثيراً.

العنوان الثاني: عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما لو كان ترك الواجب أو فعل الحرام يساعد على ذلك، وكانت شروط الأمر والنهي متحقّقة، فهناك يقع التزاحم بين واجب الأمر بالمعروف والواجب الآخر، على تقدير عدم وجود سبيل آخر للأمر بالمعروف غير هذا السبيل، وهنا تلحظ الأهمّية، فقد تكون أحياناً لصالح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد لا تكون.

العنوان الثالث: عناوين الاضطرار والحرج والتقيّة، فقد يُلحق أداء الواجب بالإنسان عندما يدفع الآخرين كردّ فعل سلبي إلى أذيّته .. قد يلحق به الضرر أو بأحد المؤمنين الآخرين، وكذا قد يكون الإتيان بالواجب نتيجة ردّ فعل الآخرين حرجيّاً، وهكذا، وهنا تطبّق قواعد باب الحرج والتقيّة والاضطرار، شرط أن يكون التطبيق في غاية الدقّة والأمانة، حتّى لا يجري التذرّع بوهم الحرج أحياناً للتفلّت من التكاليف الشرعيّة الإلهيّة.

وإذا لم توجد هذه العناوين الطارئة وأمثالها لم يجز التخلّف عن الإلزامات لعناد الآخرين، قال تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (3)، وقال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ... (4)، فوجود الحقّ قد يدفع الآخرين إلى الباطل، ولا يكون ذلك مبرّراً- ما لم تطرأ مثل العناوين المشار إليها- للتخلّي عن الحقّ، وإلّا كان القرآن حينئذ مسبّباً للضلالة والغواية والعياذ بالله سبحانه، نعم، قد يكون فعل واجب على شخص موجباً لوهم شخص آخر يوقعه في الحرام الواقعي، وهذا أمرٌ آخر.

من هنا، يظهر الحال في المستحبّات والمكروهات؛ فإنّها قد تؤدّي إلى ردّات فعل على طرف آخر، وما دامت ردّة الفعل ناشئة عن عناد وقصد للباطل مع علم بكونه باطلًا، فإنّ هذا لا يبرّر التخلّي عنها ما لم تطرأ مثل العناوين السالفة الذِّكر، والتي قد تجمعها قوانين التزاحم العقلائية، نعم إذا أوجبت سقوط الآخرين في الوهم قد تكون مشكلةً من ناحية تغرير الجاهلين، إلّا مع الإلفات بعد فعلها.

نظريّة ترابط الأفعال ودورها في الربط بين الفقه الفردي والمجتمعي

وانطلاقاً من مجمل ما تقدّم، لا يصحّ للإنسان أن يظنّ- من الناحية الشرعيّة- أنّ أفعاله التي يقوم بها، سواء كانت واجبات أم محرّمات أم مستحبّات أم مكروهات أم مباحات، بمعزل عن الآخرين وردّات فعلهم، بل إنّ الآخر في أيّ فعل من الأفعال له دور أحياناً في عنونة الفعل بعناوين قد تغيّر الحكم، أو تقوّيه، أو تنجزه، أو تقيّده أو .. وهذا ما يؤكّد تواشج الحياة الفردية والحياة الاجتماعية، وصعوبة فصلهما عن بعضهما البعض، فالأصحّ- وما نبحثه أنموذج بسيط لهذا التداخل- عدم وجود فقه فردي وفقه اجتماعي، بل- وهو ما يظهر من النظريات الأخيرة التي طرحها الإمام الخميني


1- أنظر: سلار الديلمي، المراسم العلوية: 263؛ والعلامة الحلّي، مختلف الشيعة 474: 4- 475؛ والشيخ الطوسي، النهاية: 299- 300؛ وابن البراج، المهذب 341: 1.
2- المائدة: 54.
3- البقرة: 26.
4- آل عمران: 7.

ص: 77

- هناك تداخل بين فقه الفرد وفقه المجتمع، فأبسط قضايا الفردية لها بُعد اجتماعي، فأحكام الطهارة تترك أثراً على صرف المياه في الدولة الإسلاميّة لا ينبغي الاستهانة بها، يعرفها مَن يقرأ المشهد من الأعلى، لا مع هذه التجربة الفردية الجزئية أو تلك، وهذه نقطة مهمّة، يفيدنا البحث الذي نحن فيه في أحد تطبيقاتها فقط.

ولعلّ هذا هو ما قصده الإمام الخميني من أنّ تعقيدات الحياة الجديدة يجعل الموضوع الذي يبدو في نظر الفقيه للوهلة الأولى منتمياً إلى دائرة معينة .. يجعله منتمياً إلى دائرة أخرى مختلفة تماماً، عندما يكون الفقيه مطلعاً بدقة على واقع الحال في الحياة الخارجية، فما لم يكن الفقيه حاضراً في الوعي على مستوى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية .. كيف يمكنه أن يتصوّر المشهد بدقّة ليعطي حكمه الحقيقي الملامس للواقع بالنسبة للمكلّف؟!

وهذا ما يجرّنا إلى موضوع أكثر خطورةً، وهو موضوع المرجعية والتقليد؛ فالفقيه غير المطلع على تعقيدات موضوعات الأحكام في الحياة المعاصرة .. كيف يمكنه أن يكون مرجعاً في التقليد للملايين من الناس؟! وهذا بالضبط ما عناه الإمام الخميني عندما تحدّث عن عدم القبول بعد اليوم بمرجع تقليد يقول بأنه لا علاقة له بالسياسة والاجتماع والاقتصاد وتحدّيات المرحلة على مختلف الصعد؛ فمحض الأعلمية الفنّية الصناعية لا يكفي للتصدّي للمرجعية وإن كان جيداً للغاية لفقيه متضلّع يجيد تحريك القواعد وتوظيف الأصول الاجتهادية.

هذا، وقد اتّضح موضوع الترابط بين الأفعال على مستوى تحقيق موضوع حكم آخر في حقّ الطرف الثاني، أو الحيولة دون حكم آخر أو انعدام موضوع حكم آخر، في مختلف الصور؛ فلا نكرّر ولانعيد، آملين أن تكون هذه المقالة محاولة أولى لانتباه الباحثين في الفقه أكثر إلى تأثيرات الأفعال على بعضها البعض.

ص: 78

رسالة في الطواف

الشيخ لطف الله العاملي الميسي

تحقيق: هادي القبيسي

لم يكن الحج شيئاً جديداً، ولا تشريعاً غريباً، بل هو من المناسك القديمة ومن عادات الأمم السابقة، فمن قبل كان الناس يحجون إلى بيت المقدس، وكذا إلى الكعبة الشريفة، وإنّما اختلفت الأعمال والأركان، والأجزاء والشرائط، وكلّ الخصوصيّات المتعلّقة به.

فلمّا كان فريضة من الفرائض الدينيّة وشعيرة من الشعائر الإسلامية، كان من الطبيعي جدّاً أن يهتمّ علماؤنا الأعلام بأحكامها ومسائلها بحثاً وتنقيباً عن أصولها في مظانّها من الآيات والروايات، وارجاع الفروع إلى أصولها.

فقد صُنّف الكثير في هذا الباب من أبحاث مفصّلة ومختصرة فكان منها هذه الرسالة الصغيرة في حجمها، الكبيرة في محتواها، لعلم من أعلام الطائفة ورموزها الذي نذر نفسه لخدمة هذا المذهب الذي طالما كان مؤيّداً ومسدّداً بقاءً ودواماً أمام الرياح العواتي؛ لأنّه مستند إلى ركن ركين وعماد حصين، مستمداً قواه من حُماة الوحي والرسالة، بقيّة الله الأعظم وآباءه وأجداده إلى النبيّ الأكرم.

ص: 79

اسمه ونسبه:

الشيخ لطف الله بن عبدالكريم بن إبراهيم بن علي بن عبدالعالي العاملي الميسي ثمّ الإصفهاني. وكان مولده بميس من قرى جبل عامل، وقد توجّه في أوائل عمره منها إلى زيارة مشهد الرضا وأقام به مدّة، وكان يشتغل فيه بتحصيل العلوم وأخذ الفقه فيه من خدمة المولى عبدالله التستري وغيره من علماء تلك البلاد، وانتظم في سلك مدرسي تلك الحضرة، وقد فوض إليه خدمة تلك الروضة أيضاً في زمن سلطنة السلطان شاه عباس الصفوي، وعيّن له الوظيفة من أوقاف الروضة، وقد تخلص من مخمصة مجي ء الأوزبكية إلى تلك الروضة المقدّسة ... وكان يدرس بقزوين برهة من الزمان، ثمّ انتقل منها بأمر ذلك السلطان إلى إصفهان وأقام بجوار المسجد الذي يُنسب إليه في ميدان نقش جهان، وقد بناها ذلك السلطان، وكان يؤم الناس فيه ويشتغل بالتدريس في الفقه والحديث والعبادة في لباس الفقر وخدمة الصلحاء، ثم عين له وظائف من أوقافه (1). فهو من أسرة علمية برز منها كوكبة من العلماء الأعلام والعظماء الكرام نذكر منهم:

والده: الشيخ عبدالكريم بن الشيخ إبراهيم، من علماء المائة العاشرة، تخرج على والده العلّامة وكتب له إجازة قال فيها: طلب الفاضل الكامل، التقي، عبدالكريم(2).

جدّه الأوّل: الشيخ إبراهيم بن علي، فقيه عالم جليل من علماء دولة السلطان شاه طهماسب الصفوي، يروي عنه الشهيد التستري والمولى أحمد الأردبيلي وغيرهما، وهو مجاز من الشيخ علي الكركي مع والده فقال فيها: إجازة عامّة لنجله الأسعد الفاضل الأوحد ... إبراهيم أبقاه الله في ظلّ والده الجليل دهراً طويلًا. وهو من مشاهير علماء جبل عامل (3).

جدّه الثاني الشيخ علي بن عبدالعالي: قال عنه الحر في الأمل: كان فاضلًا عالماً متبحراً محقّقاً مدقّقاً جامعاً كاملًا ثقة زاهداً عابداً ورعاً جليل القدر عظيم الشأن، فريداً في عصره، روى عنه الشهيد الثاني بغير واسطة ويروي هو عن الشيخ علي الكركي- المحقّق الكركي-. وأثنى عليه ثناءً جميلًا في إجازته له قائلًا: ... علّامة العلماء ومرجع الفضلاء ... متسنّم ذُرى المعالي بفضائله الباهرة ... له شرح رسالة صيغ العقود والإيقاعات، توفّي سنة 933 ه- (4).

جدّه الثالث الشيخ عبدالعالي: قال الحرّ العاملي: والد شيخنا الشيخ علي الميسي المعروف ... وقد أثنى عليه الشيخ علي- المحقّق الكركي في إجازته لولده- الشيخ علي- فقال عند ذكره: المرحوم المبرور المقدّس المتوّج المحبور الشيخ الأجل العالم الكامل تاج الملّة والحق والدين عبدالعالي الميسي (5).

أخو جدّه الأوّل وهو الشيخ جعفر بن الشيخ علي: قال الأفندي: كان عالماً محقّقاً فقيهاً، شريك الشهيد الثاني في الدرس والإجازة من أبيه (6).

وولده الشيخ جعفر بن لطف الله: قال السيّد الصدر: كان فاضلًا عالماً تقيّاً نقيّاً صفيّاً، بل أنموذج السلف وزبدة الخلف. ووصفه الشيخ البهائي في إجازته: الفاضل التقي النقي الزكي الذكي ذو الذهن الوقاد والطبع النقّاد؛ فهو من تلامذة الشيخ المذكور (7).

أقوال العلماء

الحرّ العاملي: كان عالماً فاضلًا فقيهاً متبحراً محقّقاً عظيم الشأن جليل القدر، أديباً شاعراً معاصراً لشيخنا البهائي، وكان البهائي يعرف له بالعلم والفضل والفقه، ويأمر بالرجوع إليه (8).

الميرزا الأفندي: الفاضل الورع التقي العابد الزاهد المقبول قوله وفتواه في عصره، العالم العامل الكامل الفقيه الجليل المعروف. وكان من العلماء الزهاد والفقهاء العُبّاد والصلحاء من بين العباد. وبالجملة هذا الشيخ ممن فاز بعلوّ الشأن في الدنيا والآخرة، وكان معظّماً مبجّلًا عند السلطان الشاه عباس الصفوي (9).

مؤلّفاته

مؤلّفات شيخنا المترجم كثيرة وأغلبها رسائل في مواضيع متعدّدة إلّا أنّ من ترجم له لم يذكر أسماء هذه الرسائل، وما وصل إلينا فهو النزر القليل، وكأنّه لم يكن دأبه على التصريح بتسمية الرسالة في المقدّمة كما هو الحال في رسالتنا، فما تعرفنا عليه هو:

1- ماء الحياة وصافي الفرات في رفع التوهمات ودفع واهي الشبهات، ويسمى ب- الاعتكافيّة، كتبه في آداب الاعتكاف وأحكامه. توجد نسخة خط المصنف في ضمن مجموعة نفيسة من رسائل المصنف نفسه، وفيها رسالة أخرى له ... كما في الذريعة 19/ 11- 12.

وقد ذكر الآغا بزرك في الذريعة 2/ 230، الاعتكافيّة وقال: توجد النسخة في الخزانة الرضوية من موقوفات ابن خاتون سنة 1067. أولها الحمد لله الذي جعلني من المهتدين. ولم يشر إلى اتّحادها مع ماء الحياة، فلا أدري هل هما عنوانان لمعنون واحد أم لا؟


1- رياض العلماء 417: 4.
2- تكملة الأمل: 367.
3- رياض العلماء 19: 1 تكلمة الأمل: 82.
4- أمل الآمل 123: 1، رياض العلماء 116: 4، الظاهر أنّها الميسيّة التي ينقل عنها الشيخ الأعظم الأنصاري في المكاسب.
5- أمل الآمل 110: 1، رياض العلماء 129: 3.
6- رياض العلماء 108: 1.
7- تكملة الأمل: 120.
8- أمل الآمل 136: 1.
9- رياض العلماء 417: 4.

ص: 80

2- رسالة في حكم عرق الخل المتنجس قال الميرزا الأفندي: وهذه الرسالة لا تخلو من فوائد وقد رأيت قطعة منها باسترآباد. كما في رياض العلماء 4/ 418.

3- رسالة في تحقيق مسألة الوصية بالمال من الإرشاد للعلّامة، قال الأفندي: رأيتها بخطّه في قرية خسروشاه، من أعمال تبريز، وقد تعرض فيها لفوائد جليلة وعليها تعليقات كثيرة منه أيضاً. الرياض: 418.

4- تعليقات على شرح القواعد لجدّه الشيخ علي، قال الأفندي: رأيت في إصبهان نسخة منه وكانت بخط الشيخ لطف الله هذا وكان عليه تعليقات كثيرة من هذا الشيخ بخطّه أيضاً. الرياض: 418.

5- الوثاق والعقل للعشواء في ليلة الظلماء يقوى الحبال، وهي رسالة في جواز فسخ البنت بعد كبرها عقد الولي عليها في حال الصغر مع عدم المصلحة الظاهرة، وهي رسالة ضمن مجموعة موجودة في مكتبة أميرالمؤمنين كتب بخطّه على ظهرها الوثاق. الذريعة 25/ 26.

6- مجموعة رسائل محفوظة في مكتبة الإمام أميرالمؤمنين في النجف الأشرف تحتوي على عدّة رسائل، بعضها بخطّ المصنّف.

وله أيضاً فوائد ومؤلّفات وتعليقات أخر، قال الأفندي: رأيتها بخطّه الشريف، (الرياض: 419) ولا يبعد أن تكون هي المجموعة الموجودة في مؤسسة آية الله العظمى السيّدالبروجردي المذكور في فهرستها الدفتر الأوّل، ص 208- 215 المرقمة ب- 355.

1- حاشية مختلف الشيعة.

2- فسخ البيع.

3- الصيام بدل الهدي، وقد سقطت من المفهرِس الكريم.

4- الصحيح في عقد النكاح.

5- الاعتكاف، أو الاعتكافيّة المذكورة آنفاً.

6- تحريم الموطوءة شبهة.

7- إعادة الصلاة للمصلي.

8- قصر الصلاة في المواضع الأربعة.

9- نزهة الناظر في ردّ القاصر.

10- الردّ على أجوبة الهادي.

11- حكم الاستنجاء بالعظم والروث.

12- استبراء الأمة الباكرة.

13- الطواف من دون إدخال الحجر فيه، وهي رسالتنا.

14- شرح حديث علي بن رئاب.

15- مسائل شتّى.

16- إعادة نماز. فارسية.

17- اختلاف الزوجين في المهر.

18- تحقيقات حول الخمس والزكاة.

وفاته ومدفنه

والذي يظهر من تاريخ عالم آرا أن وفاته بإصبهان في أوائل سنة اثنتين وثلاثين وألف قبل وفاة ذلك السلطان بخمس سنين تقريباً (1).


1- رياض العلماء 419: 4.

ص: 81

وقال في الروضات، وفي بعض المواضع المعتبرة أنّه توفي سنة ثلاث وثلاثين وألف ونقل منها إلى مشهد الحسين (1).

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستغيث ونستعين على كلّ لعين رجيم.

الحمد لله هادي المتّقين والعالمين إلى نور الحقّ المبين ومنقذ العارفين من بحار الجهل إلى ساحل النجاة واليقين.

والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطاهرين.

وبعد:

فقد سألني بعض الحجّاج الواردين عمّن طاف بالبيت ولم يدخل الحِجْر في طوافه جهلًا في شوط واحد وكان من [النائين] (2) ورجع إلى وطنه من دون تلاف فما الذي يلزمه ويُبرئ ذمّته عند ربّ العالمين؟

فلم أجبه بشي ء جازماً به في الحين بل قلت له: يَحتمل الأمر إعادة الحجّ من رأس أو الطواف أو ذلك الشوط فقط إن كان الأخير، وإلّا فذلك الشوط وما بعده إن كان بعد النصف، وإن كان قَبْلَهُ فالطواف بأجمعه، إذ وجدت في نفسي لكلٍّ وجهاً وواعدته بالإجابة جازماً في اليوم الثاني.

فقال لي: على تقدير لزوم إعادة الطواف كلًّا أو بعضاً يلزمني أن آتي بذلك بنفسي؟

فقلت له: يحتمل ذلك قويّاً مع القدرة وعدم المشقّة الشديدة، ويحتمل جواز الاستنابة اختياراً، أمّا مع عدم القدرة أو معها لكن مع المشقّة الشديدة فتجوز الاستنابة.

فقال لي: الرواح متعذّر عليَّ، ولقد أرسلت من بلادي كتاباً- وهي أردستان- إلى إصفهان فأجابني المجتهد الجديد بالبطلان وأوجب عليَّ الرجوع إلى مكّة للحجّ بأيّ عنوان كان، فمن شدّة تألّمي واصطدامي جئت بنفسي إليه وقصصت القصّة مشافهةً عليه فأجابني بالجواب الذي سطّره في الكتاب فخرجت من عنده إلى مجلس الشيخ الأجلّ المتين بهاء الملّة والحقّ والدِّين مدّ ظلّه العالي على رؤوس المؤمنين، وعرضت عليه الحال فسهّل عليَّ وقال:

إنّه لا يجب عليك إلّا الطواف ومع تعذّر الرواح عليك فاستنب من يأتي به عنك. فخرجت من مجلسه وتوجّهت إلى مجلس السيّد الأجلّ الأعظم باقر علوم أجداده باللِّسان والبيان (3) وعرضت ذلك عليه فأفتاني كالشيخ وسلّاني فرجعت إلى الأوّل فرحاً وأخبرته بما ذكروا لي مصرّحاً، فشنّع عليَّ وعليهما وقال لي:

لِمَ رحتَ إليهما ولقد غلطا في ذلك يقيناً؛ فراجعهما وقل لهما ما الدليل على ذلك، مع أنّ الطواف من الأركان وتركه عمداً مبطل من غير نكران، والجاهل ملحق بالعامد وليس بمعذور إلّا في موضعين على ما هو المشهور في جميع الموارد، فتوجّهت إليهما وعرضت ذلك عليهما فقالا لي:

الجاهل معذور في كثير من المواضع سيّما في الحجّ، والموضعان المشهوران إنّما هو في الصلاة لا في غيرها فإنّه كثير، مع أنّ الأصل عدم إلحاق الجاهل بالعامد إلّا في موضع عليه دليل وشاهد، وأين الدليل لِيَتُمَّ به ما قيل؟

[المصنف:] فلمّا استيقظت في السحر خطر ببالي ووقع بخيالي ما واعدته به من الجواب والوفاء به على الصباح كما هو شيم الكرام واولي الألباب. والذي كان يرجحه بالي ويعقله خيالي حين السؤال وبعده. قبل المراجعة والاطّلاع على تمام الحال أوّل الاحتمالات في ترديدي؛ لا لما قال بل لغلبة الظنّ بأنّ أكثر الفقهاء ألحق الجاهل بالعامد في الطواف ولا يكون ذلك إلّا لدليل أو ارتكابهم لخلاف الأصل من غير دليل محال، فتوجّهت ساعة من الليل نحو النظر في الأحاديث والأخبار عسى أن نظفر بشي ء يكون دليلًا كالنهار، فوجدنا أحاديث صحيحة وحِسان معنونة بالاختصار، أي اختصار الطواف بالدخول إلى الحِجْر، وهو عين ما نحن فيه من دون شكّ، وشبهة تعتريه، منها:

[1] صحيح الحلبي عن أبي عبدالله قال: قلت: رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحِجْر؟ قال: يُعيد ذلك الشوط (4).

[2] وصحيح الحلبي قال: قلت لأبي عبدالله: رجل طاف بالبيت واختصر شوطاً واحداً في الحِجْر كيف يصنع؟ قال: يعيد الطواف الواحد (5).

[3] وصحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله قال: مَنْ اختصر الحِجْر في الطواف فليُعد طوافه من الحَجَر الأسود (6).

[4] وحسن حفص بن البختري عن أبي عبدالله في الرجل يطوف بالبيت [فيختصر في الحِجْر]، قال: يقضي ما اختصر في طوافه (7).

[5] وحسن معاوية بن عمّار عن الصادق قال: مَن اختصر في الحِجْر في الطواف فليُعد طوافه من الحَجَر الأسود إلى الحَجَر الأسود (8).

[6] ورواية ابن بابويه عن الحسن بن سعيد عن إبراهيم بن سفيان قال:


1- روضات الجنات 382: 5.
2- من الناين كذا وردت، والظاهر أن المراد بها النائين بقرينة قوله: ورجع من وطنه.
3- الظاهر أنه السيد محمد باقر ميرداماد.
4- وسائل الشيعة 356: 13؛ أبواب الطواف باب 31 حديث 1.
5- من لا يحضره الفقيه 398: 2 باب ما يجب على من اختصر شوطاً في الحجر، حديث 1.
6- المصدر السابق حديث 2، وكذا وسائل الشيعة حديث 3.
7- المصدر السابق: 356 حديث 2، ومابين المعقوفين زيادة من المصدر.
8- المصدر السابق: 357 حديث 3، الكافي 419: 4، باب من طاف واختصر في الحجر، حديث 1.

ص: 82

كتبت إلى أبي الحسن الرِّضا: امرأة طافت طواف الحجّ فلمّا كانت في الشوط السابع اختصرت وطافت في الحِجْر، وصلَّت ركعتي الفريضة وسعت وطافت طواف النساء ثمّ أتت منى. فكتب: تُعيد (1).

أقول: فالحديث الأوّل صريح في إعادة الشوط المختصر فقط سواء كان أخيراً أو غيره، والثاني أيضاً دالّ على ما دلَّ عليه الأوّل بقرينة الواحد، فالمراد من الطواف الشوط، وذلك ظاهر.

وإذا عبّر عن الشوط بالطواف فالمراد- من «فليعد طوافه من الحَجَر الأسود» في الثالث- الشوط أيضاً للجمع بين الأخبار، وكذا في الخامس، ومن «يعيد» في السادس إعادة الشوط.

والظاهر أنّ المعنى في الرابع من السؤال أنّه طاف بالبيت فقط، أي لم يدخل الحِجْر الذي هو معنى الاختصار، وحينئذ فدلالته صريحة على المطلوب كالأوّل، وفيه زيادة دلالة على أنّ المراد من الإعادة في الأحاديث هي الإتيان بالفعل ثانياً من دون ملاحظة الوقت وعدمه؛ لأنّ ذلك اصطلاح جديد، كما أنّ المراد من القضاء فيه ذلك، إذ من المعلوم أنّه لو كان الوقت باقياً لكان الحكم الإتيان به كما لو كان خارجاً، فكذا البحث في الإعادة.

فلا يقال: إنّ الأحاديث إنّما تدلّ على الإعادة فلا دلالة لها على القضاء.

ولقد جاءني شخص معتمد- من أصحاب الأوّل (2) وأصحابنا ليلة القدر وهي ليلة الثالث والعشرين في الأخبار وقال لي: الأخبار التي يقولون إنّها مذكورة في هذا الكتاب ما وجدناها بعد التفحّص والتفتيش إنّما وجدنا حديثاً واحداً غير معتمد في باب الزيادات في التهذيب وفيه الإعادة، والمراد منها الإتيان في الوقت، وما نحن فيه من المسألة هو القضاء؟

فأجبته بأنّ ما ذكر ممّا في التهذيب في باب الزيادات فلم أره، نعم بعضها مذكور في غير باب الزيادات (3) في التهذيب، وفي الفقيه عقد لذلك (4) باباً، وكذا في الكافي (5). فالعجب العجب من عدم الاطّلاع على ذلك. وذكرت أنّه من الظاهر كون الإعادة ما المراد بها على ما فصّل.

فقيل لي (6) عنه إنّه استدلّ على أنّ الجاهل حكمه حكم العامد فيما نحن فيه جواباً عمّا ذكره الشيخ والسيّد بقوله: رُفع عن امّتي الخطأ والنسيان (7). فإنّه يدلّ على أنّ الجهل ليس مرفوعاً كالعمد، فمن قال برفعه احتاج إلى دليل.

فقلت: سبحان الله وأيّ دلالة في ذلك، إذ يجوز أن يكون الجهل داخلًا تحت الخطأ، نعم العمد خارج.

على أنّه قد يُقال: إنّ قوله: رُفع عن امّتي الخطأ والنسيان دليل لهما موافق لأصل عدم إلحاقه بالعمد، وذلك لأنّ الخطأ شامل له عرفاً كما هو ظاهر على أهل اللِّسان من إطلاق المخطئ كثيراً على جاهل المسألة، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

ولقد اتّفق الاجتماع مع السيّد والشيخ دام ظلّهما في بيت الشيخ فذكرت لهما ما كان خطر ببالي أوّلًا من بطلان الحجّ من حيث إنّ بطلان الركن مبطل للحجّ، وإذا كان الجهل كالعمد فكما أنّ العمد يبطل الحجّ ولو بترك بعض الركن ولو خطوة واحدة فضلًا عن شوط؛ لأنّ المركّب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه، فكذا في الجهل.

فقال السيّد: إنّ الجاهل كالعامد في ترك الطواف جميعه لا في أبعاضه، وذكر أنَّ الشهيد في الدروس ذكر ما يدلّ على ذلك ففتّشت عليه فلم أجده، بل كان يقول: إنّه متى ما أتى بمعظم الطواف وهو الأكثر من النصف كان كوقوع الكلّ في عدم البطلان بالنسبة إلى الجاهل، ولم يُظْهِر على وجه ذلك.

ثمّ قال: أما ترى الوقوف مع كونه ركناً عظيماً يبطل بتركه الحجّ عمداً ولا يبطل بترك بعضه جهلًا؟

فقلنا له: إنّ الركن في الوقوف هو مسمّاه بخلاف الطواف فإنّ الركن جميع الأشواط السبعة فترك الوقوف لا يتحقّق إلّا بتركه بالكلّية بخلاف الطواف، ولأجل ذلك لو ترك بعض الوقوف عمداً لا يبطل الحجّ.

والشيخ أجاب أوّلًا: بأنّ الركن هو الطواف بالبيت، والحِجْر ليس من البيت على ما هو التحقيق، ويدلّ عليه الأحاديث الصحيحة من طرقنا وإنّما هو منه عند بعض منّا، وعند العامّة وهو مشهور عندهم لا عندنا، فقول الشهيد إنّه مشهور عندنا غير جيّد، وإذا كان كذلك فمن اختصر لم ينقص من الركن شيئاً، لأنّ الطواف بالبيت قد تحقق، فلا يلحق بالعامد. وهو كلام جيّد متين لو تم، لأنّا لم نرَ أحداً من الفقهاء صرّح بذلك، وظاهر بعض العبارات غير كافٍ، ويلزم أنّه لو فعل أحد ذلك عمداً لم يبطل حجّه، وفيه نظر منّي.

وأجاب ثانياً: بأنّ إلحاق الجاهل بالعامد خلاف الأصل فيحتاج إلى دليل، وقول بعض الفقهاء ليس حجّة، على أنّ مثل هذا الركن جعل لا ينتفي بانتفاء بعض أجزائه كما في الصلاة فإنّها تبطل بترك بعض أجزائها جهلًا.

فقلنا له: التمثيل بالصلاة ليس كما نحن فيه؛ لأنّها ليست جزءاً لشي ء آخر تبطل بتركها جميعها ولا تبطل بترك بعضها، وترك بعضها جهلًا أو نسياناً إن سلّم أنّه غير مبطل فإنّما هو بدليل من خارج، ولم أدرِ ما معنى الركن الجعلي؟! وبعد النظر وجدنا أنّ من قال بإلحاق الجاهل بالعامد وهو أكثر الفقهاء ولهم على ذلك دليل.


1- من لا يحضره الفقيه 399: 2 باب ما يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، حديث 3، وسائل الشيعة 357: 13 أبواب الطواف، باب 31، ح 4.
2- إشارة إلى المجتهد الجديد.
3- التهذيب 109: 5 باب 9 في الطواف.
4- وهو باب ما يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر 398: 2.
5- وهو باب من طاف واختصر في الحِجْر 419: 4.
6- أي ذلك المجتهد الجديد.
7- وسائل الشيعة 369: 15، أبواب جهاد النفس، باب 56، ح 1.

ص: 83

وهو صحيح عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة؟ قال: إذا كان على جهة الجهالة أعاد الحجّ وعليه بدنة (1).

ورواية علي بن أبي حمزة قال: سُئل عن رجل جهل أن يطوف بالبيت حتّى رجع إلى أهله؟ قال: إن كان على جهة الجهالة أعاد الحجّ وعليه بدنة (2).

وصحيحة عليّ بن جعفر قال: سألت أبا الحسن موسى عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة؟ قال: إن كان عن وجه جهالة عليه إعادة الحجّ (3). على ما ذكر الشيخ علي في موضعين (4).

فنقول حينئذٍ: قد وقع التعارض بين الروايات السابقة الدالّة على إعادة الشوط فقط وهي ما ذكر من الروايتين ولمّا كانت هذه الصحيحة واحدة والاخرى ضعيفة، والصحيح في الأوّل متعدّداً لم يُعَارَضُ بما سبق، فيبقى السابق على عمومه ويكون الجاهل كالعالم فيما سوى ذلك، وإن تَمَّ ما ذكره الشيخ البهائي مدّ ظلّه من كون الطواف بالبيت هو الركن لم يقع تعارض أصلًا.

وأيضاً ... الروايتين ... أنّ المجهول ... جميع الطواف تعارض الجهة البعض، وعليه ... الأمر إلى ... ممّا قال ... السيّد مدّ ظلّه العالي ... (5).

فإن قيل: لقائل أن يقول: يجوز الجمع بحمل الأحاديث السابقة على النسيان فإنّه لا يوجب البطلان وتبقى الرواية الواردة في أنّ الجاهل حكمه حكم العامد بحالها، فيبطل الحجّ حينئذ بالاختصار جهلًا؟

قلنا أوّلًا: إنّه خلاف الظاهر فإنّ الظاهر من الاختصار العمد الغير المنافي للجهل.

[ثانياً] وأيضاً صحيح الحسن بن عطية عن الصادق قال: سأله سلمان بن خالد وأنا معه عن رجل طاف بالبيت ستّة أشواط؟

قال أبو عبدالله: وكيف طاف ستّة أشواط؟ قال: استقبل الحجر وقال: الله أكبر وعقد واحداً.

فقال أبو عبدالله: يطوف شوطاً. فقال سلمان: فإنّه فاته ذلك حتّى أتى أهله.

قال []: يأمر مَنْ يطوف عنه (6).

يدلّ على أنّه جعل الاستقبال للحجر والتكبير شوطاً وليس إلّا عن جهل بالمسألة إذ لا معنى للنسيان هنا، فلا بدَّ من استثنائه من صورة الجهل. فالأحاديث السابقة أيضاً كذلك. وعلى قول من يلحق الناسي أيضاً بالعامد يتعيّن ما ذكرناه من الجمع بين الأحاديث ... ... (7).

وإذا كان نقصان شوطٍ بتمامه جهلًا لا يبطل ويجوز له فيه الاستنابة مطلقاً كما هو الظاهر من الصحيح المذكور، ففي نقصان البعض بطريق أولى.

فظهر من ذلك كلّه أنّ اللّازم الإتيان بشوط واحد فيما نحن فيه وتجوز في ذلك النيابة اختياراً والأحوط إعادة الطواف بتمامه؛ لأنّ ظاهر بعض الأحاديث السابقة ذلك.

وبعد إعادة الطواف فينبغي إعادة السعي أيضاً كما هو مختار الشيخ في الخلاف (8) والشهيد في الدروس (9).

ولصحيحة منصور بن حازم قال: سألت أبا عبدالله عن رجل طاف بين الصفا والمروة قبل أن يطوف بالبيت؟ فقال: يطوف بالبيت ثمّ يرجع إلى الصفا والمروة فيطوف بينهما (10).

ولو عاد لاستدراكهما بعد الخروج على وجه يستدعي وجوب الإحرام لدخوله مكّة فهل يكتفي بذلك أو يتعين عليه الإحرام ثمّ يقضي الفائت قبل الإتيان بأفعال العمرة أو بعده؟

وجهان، ولعلّ الأوّل أرجح تمسّكاً بمقتضى الأصل والتفاتاً إلى من نسي الطواف يصدق عليه أنّه مُحِرِمٌ في الجملة، والإحرام لا يقع إلّا في محلّه، والمسألة لا تخلو عن إشكال.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل الباب ونذكر عبارات بعض الأصحاب وما على بعضها من الغشاوة والحجاب.

قال في المنتقى قدّس سرّه الأعلى:

«في صحيحة محمّد بن علي بن الحسين عن أبيه، ومحمّد بن الحسن عن محمّد بن يحيى العطّار، عن محمّد بن الحسين ابن أبي الخطّاب، عن صفوان بن يحيى، عن عبدالله بن مسكان، عن الحلبي، قال: قلت لأبي عبدالله: رجل طاف بالبيت واختصر شوطاً واحداً في الحِجْر كيف يصنع؟ قال: يعيد الطواف الواحد (11)


1- التهذيب 127: 5 باب في الطواف، حديث 92. وسائل الشيعة 404: 13 أبواب الطواف، باب 56، حديث 1.
2- المصدر السابق، التهذيب، حديث 91، والوسائل حديث 2.
3- وسائل الشيعة 404: 13 أبواب الطواف، باب 56، حديث 1 و 2. إلّا أنّها رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن.
4- كما سيأتي.
5- الموارد المنقطة كلمات غير مقروء ة.
6- التهذيب 109: 5 باب الطواف حديث 26. وسائل الشيعة 357: 13 أبواب الطواف باب 32، حديث 1.
7- كلمات غير مقروء ة.
8- الخلاف 395: 2 مسألة 257.
9- الدروس 405: 1.
10- وسائل الشيعة 413: 13 أبواب الطواف باب 63 حديث 2.
11- وسائل الشيعة 356: 13، أبواب الطواف باب 31، حديث 1 بسند الصدوق في الفقيه.

ص: 84

وعن أبيه ومحمّد بن الحسن عن سعد بن عبدالله الحميري جميعاً، عن يعقوب بن يزيد، عن صفوان بن يحيى، ومحمّد بن أبي عُمير جميعاً عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله قال: من اختصر في الحِجْر الطواف فليُعد طوافه من الحَجَر الأسود (1).

محمّد بن الحسن بإسناده عن موسى بن القاسم عن صفوان وابن أبي عمير، عن ابن مسكان، عن الحلبي، عن أبي عبدالله قال: قلت: رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحِجْر؟ قال: يعيد ذلك الشوط (2).

وقال في ن (3): وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن حفص ابن البختري، عن أبي عبدالله في الرجل يطوف بالبيت (فيختصر في الحِجْر) قال: يقضي ما اختصر في طوافه (4)

قلت: كذا صورة متن هذا الحديث في نسخ الكافي، ولا يخفى ما فيه، ولعلّ المراد: يطوف بالبيت وحده من دون إدخال الحِجْر.

وبالإسناد عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبدالله قال: من اختصر في الحِجْر في الطواف فليُعد طوافه من الحَجَر الأسود إلى الحَجَر الأسود، انتهى (5).

وقال في الكافي باب من طاف واختصر في الحجْر (6)، ثمّ ذكر الأخيرين فقط (7) بأسانيدهما الحسنة.

وفي ذكره للأوّل منهما في هذا الباب دلالة على أنّ المفهوم منه والمراد ما ذكر، بل الظاهر. وإلّا لم يكن للإتيان به في هذا الباب معنى. بل قد يُقال: أن لا معنى له إلّا ذلك كما لا يخفى، فالبادية له بلعل، فيه ما فيه.

وفيه دلالة على أنّ من بعَّض من طوافه شوطاً أو أكثر يجب عليه قضاؤه فقط، إلّا ما أخرجه دليل من خارج، كالمواضع التي يجب فيها إعادة الطواف كلّه. وزيادة هذه الدلالة فيه غير مخلّة بدلالته على المطلوب.

وقال في الفقيه (8): باب ما يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، ثمّ ذكر الروايتين الأولتين ممّا في المنتقى وما رواه الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن شعبان عن أبي الحسن الرضا من المكاتبة السالفة ممّا ذكرناه أوّلًا.

أقول: وفي ذكره للأحاديث الثلاثة بعد التوصيف بما يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، دلالة على كون المراد منها المعنى المطلوب الذي هو مدّعاه، وذلك مبطل لقول من يقول: إنّ هذه المسألة لم يذكرها أحد بخصوصها، بأن ذكر موضوعها وبحث عنه.

وقال السيّد محمّد- وهو الأوّل- في شرحه على الشرائع: «وهل يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر إعادة ذلك الشوط وحده أو إعادة الطواف من رأس؟

الأصحّ الأوّل، لما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبدالله قال: قُلْتُ إلى آخره ...

ونحوه ما روي أيضاً في الصحيح عن الحسن بن عطية عن الصادق، ولا يكفي إتمام الشوط من موضع سلوك الحِجْر بل يجب البدأة بالحَجَرِ الأسود. لأنَّه المتبادر من [الأمر بإعادة] (9) إعادة الشوط، ولقوله: من اختصر في الحِجْر الطواف فليعد من الحجر الأسود.

ولا ينافي ما ذكرناه من الاكتفاء بإعادة الشوط خاصّة ما رواه ابن بابويه عن الحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن سفيان قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا ... إلى آخره.

فكتب: تعيد؛ لأنّه غير صريح في توجّه الأمر إلى إعادة الطواف من أصله، فيحتمل تعلّقه بإعادة ذلك الشوط الذي حصل فيه الإخلال [انتهى]» (10).

ولقد ذكر هذا السيّد الجليل ابن عمتي الصحيحين الأولين ممّا في المنتقى في صدر كلامه عند بيان أنّ الحِجْر ينبغي أن يدخل في الطواف ولم يستدلّ لهما على هذا المطلب هنا، وكأنّه لعدم صراحتهما في إعادة الشوط فقط (11).

والعجب منه أنّه كيف رفع المنافاة بين إعادة الشوط خاصّة وبين (تعيد) المذكورين آنفاً، ولم يرفعها بين إعادة الشوط وما فهم من الحديثين الأولين من إعادة الطواف فإنّ إعادة الطواف الواحد في الأوّل كالصريح في أنّ المراد به الشوط بقيد الواحد، فإنّ الألف واللّام للعهد الذكري على ما هو الظاهر المتبادر، إذ لولا ذلك لم يكن للإتيان بها معنى.

وإعادة الطواف من الحَجَر الأسود في الثاني ظاهر أيضاً في إعادة ذلك الشوط من رأسه لا من عند الحِجْر، وإعادة الطواف من رأسه لا يكون إلّا من الحَجَر الأسود فلا يحتاج إلى التقييد حينئذ.

وقد فهم من قوله: «ولا يكفي» (12) إلى آخره. ذلك فكأنّه اكتفى به.

ومثل ذلك قوله في الخامس: «وليُعد طوافه من الحَجَر الأسود إلى الحَجَر الأسود». فإنّ المراد به الشوط لما ذُكر.


1- من لا يحضره الفقيه 298: 2، باب ما يجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، حديث 2 ..
2- وسائل الشيعة 356: 13، أبواب الطواف باب 31، حديث 1، بسند الشيخ في التهذيب.
3- كذا، والظاهر أنّها رمز المنتقى.
4- وسائل الشيعة 356: 13، أبواب الطواف باب 31، حديث 2، وما بين القوسين زيادة من المصدر؛ وبهذه الزيادة يرتفع الإشكال إن شاء الله.
5- منتقى الجمان 316: 3.
6- الكافي 419: 4.
7- ما ذكره في المنتقى قبل قليل.
8- من لا يحضره الفقيه 398: 2 باب 218.
9- ما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
10- مدارك الأحكام 129: 8.
11- المصدر السابق: 128.
12- الذي مرّ قبل قليل من كلام المدارك.

ص: 85

والحديث الرابع دلالته على المدّعى ظاهرة، وكان ينبغي له ذكره من جملة الدليل، وكأنّه لم يذكره لعدم ظهور دلالته على المعنى المراد هنا، وقد عرفت ظهوره فيه وأنّه دليل أيضاً.

وقال العلّامة في المنتهى: ويجب أن يدخل الحجر في طوافه، فلو سلك الحِجْر أو على جداره أو على شاذروان الكعبة لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: «إذا سلك الحِجْر أجزأه».

لنا: أنّ الحِجْرَ من البيت وكذا الشاذروان.

وروى ابن بابويه في الصحيح قال: قلت لأبي عبدالله ... إلى آخره.

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار ... إلى آخره.

وعن إبراهيم بن سفيان ... إلى آخره (1)، انتهى.

فذكر جميع ما ذكره في الفقيه حجّة على أبي حنيفة القائل: «بعدم وجوب إدخال الحِجْر». فإنّه لولا الوجوب لما وجب إعادة الشوط أو الطواف بالمخالفة كما لا يخفى.

أقول: في كون الحِجْرِ من البيت منع ظاهر. إذ الدليل قائم على خروجه عنه وعدم دخول شي ءٍ من البيت فيه، كصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله قال: سألت أبا عبدالله عن الحِجْرِ أمِنَ البَيْتِ هو أو ليس شَي ءٌ من البيت؟ قال: ولا قلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن امّه فيه فكره أن يوطأ فجعل عليه حِجْراً، وفيه قبور أنبياء (2).

نعم ذكر بعضهم أنّه من البيت وأنّ ذلك هو المشهور، كالشهيد في الدروس (3)، ولا شي ء من طرق الأصحاب يدلّ على ذلك.

ولكن رويت (... ... ...) (4)عن المخالفين. وما رواه العامّة عن عائشة أنّها نذرت صلاة ركعتين بالبيت فأمرها رسول الله [أن تصلي في الحِجْر فإن ستة أذرع منه من البيت] (5) (... ...) (6).

نعم يجب إدخاله في الطواف بالنصّ والإجماع.

وقال في التذكرة: «لو طاف ستّة أشواط ماشياً وانصرف ثمّ ذكر فليضف إليها شوطاً آخر ولا شي ء عليه، وإن لم يذكر حتّى رجع إلى أهله أمر مَن يطوف عنه.

وقال أبو حنيفة: يجبره بدم.

لنا أصالة البراءة من الدم وبقاء عهدة التكليف في الشوط المنسي إلى أن يأتي به. ولرواية الحلبي- في الصحيح- عن الصادق قال: قلت ... إلى آخره» (7).

فاستدلّ بهذا الحديث على وجوب التعميم من دون شي ء آخر والعبارة المنقولة (في الحجّ) عوض (في الحِجْر) وإنّما يتمّ استدلاله بناءً على ذلك، وأمّا بناءً على ما هو أصل الرواية من الحِجْر فلا دلالة؛ لأنّها غير مطابقة لمدّعاه، أو هو النقصان من دون اختصار في الحِجْر، والحديث إنّما هو في الاختصار في الحِجْر، فلا يلزم من عدم وجوب دم هنا أن لا يجب هناك.

وأبو حنيفة حين قال بوجوب الدم في اختصار الحِجْر- لأنّ مذهبه أنّه لا يجب إدخاله في الطواف ولا يجب بالاختصار عنده- بنى أصلًا (8) إذ لم يقع منه ما يخالف المقدر شرعاً حتّى يوجب الجبران كما علم ممّا ذكر في المنتهى آنفاً.

ولو استدلّ بحسنة حفص بن البختري لكان أولى؛ لأنّها تدلّ على مدّعاه هنا أيضاً.

وقال السيّد في شرحه هنا: والمعتمد البناء إن كان المنقوص شوطاً واحداً وكان النقصان على وجه النسيان أو الجهل، والاستئناف مطلقاً في غيره. ثمّ استدلّ بصحيحة الحلبي عن الصادق كما استدلّ به في التذكرة، إلّا أنّه لم يُغيّر لفظ الحِجْر (9).

وفيه ما قد علمت.

أقول: فعلم من كلامه أنّ الجاهل هنا كالناسي لا يبطل طوافه بنقصان شوط جهلًا فلا يبطل بنقصان بعضه بطريق أولى، مع أنّه جزء مدّعاه كما لا يخفى، وهو مؤيّد لما ذكرناه من الجمع أوّلًا.

أقول: ورواية عطية يحتمل أن يكون المستعمل فيها الحِجْر- أي حِجْر إسماعيل بكسر الحاء وسكون الجيم- يعني أنّه توجّه إليه ودخل فيه وجعل ذلك شوطاً، والتكبير لا ينافيه، لأنّ الواو لا تفيد الترتيب، ويكون المعنى أنّه كبّر أوّلًا واستقبل الحِجْر ودخل فيه وعقد ذلك شوطاً، وهو بحسب


1- منتهى المطلب 320: 10.
2- وسائل الشيعة 353: 13 أبواب الطواف باب 30 حديث 1.
3- الدروس الشرعية 367: 1.
4- كلمات غير مقروء ة، أفسدتها الرطوبة.
5- ما بين المعقوفين أتممناه من المصدر لفساد النسخة.
6- كلمات غير مقروء ة.
7- تذكرة الفقهاء 133: 8، لاحظ ما سيأتي.
8- إشعارة إلى القاعدة عنده، نعبّر عنه ب- أصلًا.
9- المدارك 129: 8- 130، نقل بالمعنى.

ص: 86

المعنى أقرب ممّا هو المفهوم منه أوّلًا؛ لأنّ «عقد ذلك شوطاً» وجهه ظاهر، بخلاف استقبال الحِجْر فقط مع التكبير فإنّه كيف يجعل ذلك شوطاً أو يعقده شوطاً. وعلى ذلك فيكون نصّاً في الباب أيضاً. وفي الاستنابة اختيار كما لا يخفى.

وحينئذ الاستدلال بها- على أن من بعَّض من الطواف شوطاً يُتمّ ما لم يأت به، وإن لم يكن بطريق الاختصار كما فعله كثير منهم- لا يخلو عن إشكال.

والسيّد في الشرح قد استدلّ بهذه الرواية على إعادة الشوط فقط على من اختصر طوافه بدخوله في الحِجْر كما علمته (1).

فإن كان ذلك بناءً على الاحتمال الذي ذكرناه فوجه الاستدلال ظاهر، وإن كان بناءً على المعنى الأصل فيستدلّ به بطريق أولى؛ لأنّه إذا كان مع ترك شوط إنّما يجب إعادته، فمع نقص بعضه يجري إعادته بطريق أولى، أو بظنّ أنّه يجزي إتمامه ذلك الشوط من موضع الاختصار فقط.

واستدلّ بها أيضاً وبما رواه ابن بابويه في الصحيح والكليني في الحسن عن معاوية بن عمّار عن أبي عبدالله على وجوب البدأة بالحجر والختم به في أصل الطواف.

وفيه شي ء فإنَّ رواية ابن عمّار، إنّما يدلّ على أنّ الشوط الفائت بالاختصار يجب أن يكون ابتداؤه من الحَجَر وانتهاؤه به، والرواية المذكورة إنّما دلّت على إعادة شوط ولم تبيّن المبدأ أو المنتهى سيما على الاحتمال.

اللّهمَّ إلّا أن يقال: إنّ رواية عمّار إنّ أريد فيها المُعَاد الطواف لا الشوط، فدلالتها ظاهرة، وإن اريد الشوط دلّت أيضاً؛ لأنّه إذا علم ابتداء شوط وانتهاؤه علم ابتداء الطواف وانتهاؤه، والرواية تدلّ باعتباره معناها الأصل باعتبار الاستقبال للحَجَر والتكبير على الابتداء، وإذا دلّت على الابتداء عُلِمَ منه الانتهاء كما لا يخفى.

وفي المنتقى أورد رواية ابن عطية في (صحيحه) وقال: وأورد الصدوق (2) هذا الحديث في كتابه عن الحسن بن عطية ولم يذكر طريقه إليه في أسانيد الكتاب.

ورواه الكليني في الحسن (3) بطريق عليّ بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن الحسن بن عطية، وفي روايتيهما، «وكيف يطوف ستّة أشواط» (4).

وقال في المنتهى: «ويجب أن يبتدئ من الركن الذي فيه الحَجَر ويختم به؛ لما رواه الجمهور عن جابر أنّ النبيّ بدأ بالحَجَر فاستلمه وفاضت عيناه من البكاء.

ومن طريق الخاصّة ما رواه معاوية بن عمّار ... إلى آخره» (5).

ويأتي عليه بعض ما علمت والجواب الجواب.

ثمّ قال: ثمّ يطوف سبعة أشواط واجباً وهو قول العلماء، فلو طاف دون السبعة لزمه إتمامها ولا يحلّ له ما حرم عليه حتّى يأتي ببقيّة الطواف، ولو كان خطوة واحدة. وبه قال الشافعي ومالك وأحمد.

وقال أبو حنيفة: إذا طاف أربع طوافات فإن كان بمكّة لزمه إتمام الطواف وإلّا جبرها بدم.

لنا: أنّه طاف سبعاً، وقال: خذوا عنّي مناسككم.

ومن طريق الخاصّة ما رواه الشيخ- في الصحيح- [عن الحلبي] عن أبي عبدالله قال: قلت له: الرجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحجّ؟ قال: يعيد ذلك الشوط ....

وعن الحسن بن عطيّة ... إلى آخره، انتهى (6).

وقد علمت ما فيه من تغيير الحِجْر بالحجّ ولعلّه من قلم الناسخ.

وقال في التهذيب: «ومن طاف بالبيت ستّة أشواط وانصرف فليضف إليه شوطاً آخر ولا شي ء عليه فإن لم يذكر حتّى رجع إلى أهله يأمر من يطوف عنه. روى ذلك ثمّ ذكر رواية الحلبي عن أبي عبدالله، ورواية ابن عطية» (7).

ولا يخفى ما في الاستدلال بهما على مطلوبه.

إذا عرفت ذلك فلنذكر بعض عبارات الفقهاء الصريحة في كون الجهل في الطواف كالعمد.

قال في الدروس: «كلّ طواف واجب ركن إلّا طواف النساء فلو تركه عمداً بطل نسكه وإن كان جاهلًا».


1- المدارك 129: 8.
2- من لا يحضره الفقيه 396: 2، باب السهو في الطواف، حديث 4، وسائل الشيعة 357: 13، أبواب الطواف باب 32، حديث 1.
3- الكافي 418: 4، باب السهو في الطواف، حديث 9، الوسائل المصدر السابق: 358.
4- منتقى الجمان، 305: 3.
5- منتهى المطلب 318: 10.
6- منتهى المطلب، 322: 10.
7- تهذيب الأحكام 109: 5، باب في الطواف، حديث 25 و 26.

ص: 87

وفي صحيح علي بن يقطين: على الجاهل إعادة الحجّ» (1).

ثمّ قال: وحكم البعض المقضي من طواف النساء حكم طواف النساء في عدم وجوب العود إذا رجع إلى بلده، وفي التهذيب: يجب العود ... والأشهر جواز الاستنابة للقادر» (2). انتهى.

وقال الشيخ علي في حاشية الشرائع: «إنّ الركن ما عدا طواف النساء وأنّ الجاهل في غيره كالعامد. وعليه بُدنة لصحيحة عليّ بن جعفر عن أبي الحسن. قال في الدروس: «وفي وجوب هذه البدنة على العالم نظر من الأولوية» انتهى (3).

أي وفي خصوص النص بالجاهل، والظاهر أنَّ الصحيحة صحيحة علي بن يقطين لا عليّ بن جعفر.

وقال أيضاً في طواف النساء: «ولو تعمّد تركه وجب الرجوع له صرّح به في الدروس، وكذا لو تركه جاهلًا بوجوبه فإنّ الجاهل عامد، وجواز الاستنابة إنّما ورد في الناسي، فيبقى ما عداه على حكم الوجوب» انتهى (4).

وقد علمت وروده في الجاهل أيضاً كما تقدّم.

وقال في حاشيته على القواعد: «الجاهل كالعامد وعليه بدنة لصحيحة علي بن جعفر عن أبي الحسن، ثمّ ذكر كلام الدروس، والظاهر أنّ الصحيحة صحيحة عليّ بن يقطين» (5).

والعجب من الشيخ علي والشيخ زين الدِّين والعلّامة في المنتهى في موضعين في استدلالهم على كون الجاهل كالعامد في الطواف ووجوب البدنة لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن.

وصحيحة علي بن جعفر هذه قال: سألته عن رجل نسي طواف الفريضة حتّى قدم بلاده وواقع النساء كيف يصنع؟ قال: يبعث بهدي إن كان تركه في حج بعث به في حج، وإن كان تركه في عمرة بعث به في عمرة، ووكّل من يطوف عنه ما ترك من طوافه (6).

وأين هذه من الدلالة على أنّ الجاهل في الطواف كالعامد؟!

نعم صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن وهي ما ذكرناه قال: سألت أبا الحسن عن رجل جهل أن يطوف بالبيت طواف الفريضة؟ قال: إن كان على وجه جهالة في الحجّ أعاد وعليه بدنة (7).

فكلّ هؤلاء وهموا وهو عجيب منهم.

قال في المنتقى (8) بعد ذكر صحيحة علي بن يقطين وصحيحة علي بن جعفر: «قلت: ذكر الشيخ في الكتابين أنّ هذا الخبر- أي صحيحة علي بن جعفر- محمول على إرادة طواف النساء فإنّه الذي يجوز فيه الاستنابة لا طواف الحجّ، وأراد بذلك دفع التنافي بينه وبين صحيحة عليّ بن يقطين وخبر ابن أبي حمزة السابق.

ويرد على ما ذكره الشيخ أنّ الخبر الذي أوّله (مفروض) (9) في نسيان الطواف والخبران الآخران وردا في حكم الجهل، فأي تناف يدعو إلى الجمع ويحوج إلى الخروج عن الظاهر من اللفظ مع كونه متناولًا بعمومه- المستفاد من ترك الاستفصال- لطوافي العمرة والحجّ وطواف النساء.

وقد اتّفق في الاستبصار جعل عنوان الباب نسيان طواف الحجّ وإيراد هذه الأخبار الثلاثة فيه، مع أنّ تأويله لحديث علي بن جعفر يخرجه عن مضمون العنوان، وليس في غيره تعرّض للنسيان فيخلو الباب من حديث يطابق عنوانه.

وفي التهذيب أورد الثلاثة في الاحتجاج لما حكاه من كلام المقنعة في حكم من نسي طواف الحجّ وأنّ عليه بدنة ويعيد الحجّ. وفي ذلك من القصور والغرابة ما لا يخفى.

والجواب أنّ مبنى نظر الشيخ في هذا المقام على أنّ الجهل والنسيان فيه سواء، وتقريب القول في ذلك أنّ وجوب إعادة الحجّ على الجاهل يقتضي مثله في الناسي، إمّا لمفهوم الموافقة لشهادة الاعتبار بأنّ التقصير في مثل هذا النسيان أقوى منه في الجهل؛ أو لأنّ أعذار كلّ منهما على خلاف الأصل؛ لعدم الإتيان بالمأمور به على وجهه فيبقى في العهدة، ولا يصار إلى الأعذار إلّا عن دليل واضح.

وقد جاء الخبران على وفق مقتضى الأصل في صورة الجهل، فتزداد الحاجة في العمل بخلافه في صورة النسيان إلى وضوح الدليل. والتتبّع والاستقراء يشهدان بانحصار دليله في حديث علي بن جعفر وجهة العموم ضعيفة، واحتمال العهد الخارجي ليس بذلك البعيد عنه.

وفي ذكر مواقعة النساء نوع إيماء إليه، فأين الدليل الواضح الصالح لأن يعول عليه في إثبات هذا الحكم المخالف للأصل، والظاهر المحوج إلى التفرقة بين الأشباه والنظائر، والوجه في إيثار ذكر النسيان والإعراض عن التعرّض للجهل بعد ما عُلم من كونه مورد النصّ زيادة الاهتمام ببيان الاختلاف بين طواف الحجّ وطواف النساء في هذا الحكم، ودفع توهّم الاشتراك فيه.


1- الدروس الشرعية، 378: 1 و 379.
2- المصدر السابق 378: 1 و 379.
3- موسوعة المحقق الكركي 446: 10.
4- المصدر السابق: 448.
5- لم نعثر للمحقق الكركي على حاشية القواعد، وهي ليست جامع المقاصد كما توهم البعض، هذا ما أفاده زميلنا الشيخ الحسون في تحقيقه لموسوعة الكركي. أنظر 428: 2. وبناءً على هذا أشرنا استخراج رأي الكركي من جامع المقاصد وإن اختلفت الصيغة والكلمات. أنظر جامع المقاصد 303: 3.
6- وسائل الشيعة 405: 13، أبواب الطواف باب 58، حديث 1.
7- المصدر السابق: 404، باب 56، حديث 1.
8- منتقى الجمان 292: 3- 295، بتصرف غير مخلّ.
9- في النسخة: مذكور، وما أثبتناه من المصدر.

ص: 88

واتّفق ذلك في كلام المفيد فاقتفى الشيخ أثره، وليس الالتفات إلى ما حرّرناه ببعيد من نظر المفيد، ولخفائه التبس الأمر على كثير من المتأخّرين، فاستشكلوا كلام الشيخ واختاروا العمل بظاهر خبر علي بن جعفر، إلّا أنّ جماعة منهم تأوّلوا حكم الهدي فيه بالحمل على حصول الموافقة بعد الذكر، لئلا ينافي القاعدة المقررة في حكم الناسي، وأنّ الكفّارة لا تجب عليه في غير الصيد.

ويضعف بأنّ عموم النصّ هناك قابل للتخصيص فلا حاجة إلى التكلّف في دفع التنافي بالحمل على ما قالوه.

وسيجي ء في مشهوري أخبار السعي ما يساعد على هذا التخصيص، ولبعض الأصحاب فيه كلام يناسب ما ذكرناه في توجيه كون التقصير في وقوع مثل هذا النسيان أقوى منه في الجهل.

وفي الدروس روى عليّ بن جعفر أنّ ناسي الطواف يبعث بهدي ويأمر من يطوف عنه.

وحمله الشيخ على طواف النساء، والظاهر أنّ الهدي ندب.

وإذ قد أوضحنا الحال من الجانبين بما لا مزيد عليه فلينظر الناظر في أرجحهما وليبصر إليه.

والذي يقوى في نفسي، مختار الشيخين.

والعجب من ذهاب بعض المتأخّرين إلى الاكتفاء بالاستنابة في استدراك الطواف وإن أمكن العود أخذاً بظاهر حديث علي بن جعفر، مع وضوح دلالة الأخبار السابقة في نسيان طواف النساء على اشتراط الاستنابة بعدم القدرة على المباشرة.

وإذا ثبت ذلك في طواف النساء فغيره أولى بالحكم كما لا يخفى على مُمعن (1) النظر»، انتهى. ولقد أجاد وحقّق ودقّق.

أقول: ولكن العجب منه أنّه لم يلتفت إلى أحاديث الاختصار فإنّها منافية لكون حكم الجاهل حكم العامد فيه كما هو ظاهر على ذوي الأبصار، وحمل ذلك على الناس لا وجه، لأنّه كالجاهل والعامد المختار، وطرحها مع صحتها وحُسنها مع صحيحة علي بن جعفر المخرجة لحكم النسيان وصحيحة عطية الصريحة في أن الجاهل من ذوي الأعذار لا وجه له كما لا يخفى على مقتفي الآثار. وقوله: إن اعذار كلّ منهما على خلاف الأصل بعد ورود قوله عليه السلام: «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» عجيب غريب، إذ الأصل صار أعذارهما إلا ما أخرجه الدليل، وكون التقصير في النسيان أقوى من الجهل ممنوع وغير مسموع، فيرجع الحال.

وإن قلنا: إن النسيان يلحق بالجهل إلى ما ذكرناه من الجمع من دون اختلال، فلا يجب على المختصر إلا الإتيان بما اختصر وإن كان أمَرَ من يأتي به عنه وأن على الرجوع قدر لما ذكرناه سابقاً لا لما ذُكر. وإرجاع جميع ذلك إلى طواف النساء أبعد من البعيد كما لا يخفى على كلّ ذي رأي سديد.

فإن قيل: لِمَ لا تُحمل أحاديث الاختصار على اختصار الطواف في الحِجر بمعنى أنْ يُجعل الاستقبال والتكبير عنده شوطاً كما في رواية الحسين بن عطية؛ فإن مفادها الأصلي ذلك، واستدلال الأصحاب بها في بعض الموارد كما عرفت تؤيد ذلك، وحينئذ فلا دلالة فيها على المطلوب، ولعل صاحب المنتقى لحظ ذلك فألحق الناسي والجاهل بالعامد.

أو يقال: الإعادة في الأحاديث معناها الإتيان بالشي ء في الوقت وذلك لا ينافي البطلان بترك الركن؛ لأنّ المراد أنَّه إذا كان وقته باقياً تمم، فإذا خرج وقته بطل الحج، فلا تدلّ الأحاديث على عدم البطلان فيما لو ترك الشوط وخرج الوقت جهلًا.

قلنا في الجواب عن الأول: بأنه في غاية البُعد ... لا يكاد يُراد ويُفهم من الأحاديث، والاستدلال بظاهرها ومع ذلك فتدل على المطلوب حينئذ بطريق أولى؛ لأن مفادها جميعها حينئذ ترك شوط جهلًا فإذا لم يضر لم يضرّ ترك بعضه بطريق أولى، ويجزي ما يجزي عن الشوط الواحد كما لا يخفى.

وعن الثاني بما مرّ سابقاً فتدبّر، فإنه من المشكلات المعضلات والله ولي التوفيق، وبيده أزمة الهداية والتحقيق، وحسن الرعاية والتوفيق، وصلى الله على محمد وآله الهداة إلى سواء الطريق، المخرجين لمن يتمسك بهم في كلّ مضيق، والحمد لله على البداية والنهاية، والشكر له ما دامت الرواية والدراية والجهالة والغواية.

وكتب ذلك المؤلف لطف الله العاملي الميسي، حامداً مصلياً، في أول شوال سنة ألف وعشرين من الهجرة النبوية على مشرفها ألف صلاة وسلام وتحية. بإصبهان حسرت عن النقصان.


1- في المصدر: منعم.

ص: 89

ص: 90

ص: 91

ص: 92

مختارات شعرية

إبن أبي الحديد المعتزلي

قصيدة في فتح مكة

جللت فلما دق في عينك الورى

نهضت إلى أم القرى أيد القرى (1)

جلبت لها قب البطون وإنما

تقود لها بالقود أم حبوكرا (2)

وسقت إليها كل أسوق لو بدت

له معفر ظنته بالرمل جؤذرا (3)

يبيت على أعلى المصاد كأنما

يؤم وكون الفتح يلتمس القرى (4)

يفوق الرياح العاصفات إذا مشى

ويسبق رجع الطرف شدا إذا جرى

جياد عليها للوجيه ولاحق

دلائل صدق واضحات لمن يرى (5)

ففيها سلو للمحب وشاهد

على حكمة الله المدبر للورى (6)

هي الروض حسنا غير أنك إن تبر

لها مخبراً تسمج لعينيك منظرا (7)

عليها كماة من لوي بن غالب

يجرون أذيال الحديد تبخترا (8)

رميت أبا سفيان منها بجحفل

إذا قيس عدا بالثرى كان أكثرا (9)


1- أي عظمت فلما صغر الورى عندك نهضت إلى هذا الفتح الجليل، وهو فتح مكة، ويريد بالورى الشجعان الذين نازلهم في الوقائع وقتلهم في الملاحم وأمثالهم من الكفار، وليس عمومه في المؤمنين، ويحتمل العموم، ويريد بالصغر النقص عن كماله والضعف عن شجاعته، وأم كل شي ء أصله، ومكة أم القرى؛ لأن الأرض دحيت من تحتها حيث كانت مجموعة في مكان الكعبة ثم بسطها الله، وأيد القرى أي قوى الظهر من الخليل وغيرها.
2- أي خيلًا قب البطون، والقب جمع أقب وقبا وهي الضوامر، والقود جمع أقود وهو الطويل القوائم. والحبو كر الداهية وأم حبو كر أعظم الدواهي.
3- الأسوق طويل عظم الساق، والمعفر أم اليعفور وهو الخشف للظبية، والجؤذر بفتح الذال وضمها ولد البقرة الوحشية واليعفور ولد البقرة الوحشية أيضاً، والمعنى أنّ هذا الفرس لو بدت له البقرة الوحشية بالرمل لأدركها بالعَدْوِ حتى تظنّه ولدها لاصقاً بها ولاجياً إليها، وخص الرمل لأن العَدْوِ فيه أشقّ وأصعب، ويجوز أن يكون لشدة عدوه يصغر في عين المعفر حتى تظنه جؤذراً بالرمل؛ لأنه محله، والباء بمعنى في، وذلك لمعنى قد سمع من بعض المشايخ.
4- المصاد جبل وجمعه مصدان، ويؤم يقصد. والفتح جمع فتحاء وهي العقاب، سميت بذلك للين جناحها، والفتح اللين والقرى الضيافة عند العقاب؛ لأن محلها رؤوس الجبال وهذا مجاز.
5- الوجيه ولاحق فحلان ينسب إليهما كرام الخيل، قال الجوهري: لاحق اسم فرس كان لمعاوية بن أبي سفيان، ودلائل الصدق على هذه الخيل من الفحلين المذكورين هي النجابة والسبق والكرم.
6- سلو المحب لاشتغال قلبه بحسن هذه الخيل، وابتهاجه بها والشاهد على حكمة الله تعالى يتوجه من كونها خلقة باهرة عجيبة وفيها من المنافع والجمال ما هو ظاهر، واشتقاقها من الخيلاء، وهي الكبر؛ لأن راكبها في الأغلب لا يخلو من كبر يلحقه أو عجب يتداخله.
7- تبر من التبر تجرب وتسمج تقبح بضم الميم سماجة فهو سمج بسكون الميم وكسرها وسمج أيضاً شبه الخيل في حسنها واختلاف ألوانها بالروض المزهر، ثم قال: وإذا اختبرتها في الحلبات وجربتها في بلوغ الغايات قبح ذلك المنظر الحسن بالنسبة إلى هذا المخبر؛ لأنه أعلى وأتم، وهذا قول بعضهم: قبحت مناظرهم وحين خبرتهم حسنت مناظرهم بفتح المخبر
8- الكماة جمع كمي وهو المكمى في سلاحه؛ لأنه كمى نفسه أي سترها بالدرع والبيضة، ونسبهم إلى لوي بن غالب لشرفه.
9- الضمير في منها يعود إلى الكماة. والجحفل الجيش العظيم. والثرى تراب الندى، وأبو سفيان هو صخر بن حرب وكان من رؤساء مشركي قريش؛ فلذا خصه بالذكر.

ص: 93

يدبره رأي النبي وصارم

بكفك أهدى في الرؤوس من الكرى (1)

فطار إلى أعلى السماء تصاعداً

فلما رأى أن لا نجاة تحدرا (2)

وحاذر غربي مشرفي مذكر

هززت فألقى المشرفي المذكرا

وأعطى يداً لم يعطها عن محبة

وقول هدى ما قاله متخيرا

فكنت بذاك العفو أولى وبالعلى

أحق وبالإحسان أحرى وأجدرا

لأفصحت يا مخفي العداوة ناطقاً

بتعظيم من عاديته متسترا (3)

وحسبك أن تدعى ذليلًا منافقاً

وتبطن ضداً للذي ظلت مظهرا

وجست خلال المروتين فلم تدع

حطيما ولم تترك ببكة مشعرا (4)

طلعت على البيت العتيق بعارض

يمجّ نجيعاً من ظبي الهند أحمرا (5)

فألقى إليك السلم من بعد ما عصى

جلندى وأعيى تُبَّعاً ثم قيصرا

وأظهرت نور الله بين قبائل

من الناس لم يبرح بها الشرك نيرا (6)

وكسرت أصناماً طعنت حماتها

بسمر الوشيج اللدن حتى تكسرا

رقيت بأسمى غارب أحدقت به

ملائك يتلون الكتاب المسطرا (7)

بغارب خير المرسلين وأشرف الأنام

وأزكى ناعل وطأ الثرى


1- الهاء في يدبره للجحفل، وجعل سيف أمير المؤمنين أكثر هداية إلى الرؤوس من الكرى وهو النوم، وهذا مبالغة، وجعل مدار هذا الجيش على تدبير النبي وشجاعة الأمير.
2- الضمير في فطار يعود إلى أبي سفيان، يعني أنه بالغ في الهزيمة فلما عرف أنه لا ينجو رجع ونطق بكلمة الإسلام حقناً للدم وبايع بيده مكرهاً لا مختاراً، وكان أبو سفيان أمير المنافقين وكذا ابنه معاوية فرعون أمير المؤمنين، وقوله غربي أي حدي. والغرب الحد. المشرفي سيف منسوب إلى الشارف وهي قرية من أرض العرب تدنو من الريف، وسيف مشرفي، ولا يقال: مشارفي؛ لأن الجمع لا ينسب إليه، وسيف مذكر أي ذو ماء، قال أبو عبيدة: هي سيوف شفراتها حديد ذكر ومتونها أنثى، والأنثى خلاف الذكر يقول لما نطق أبو سفيان بكلمة الإسلام تركه أميرالمؤمنين وعفا عنه، والأولى والأحق والأحرى والأجدر كله بمعنى واحد.
3- قوله: لأفصحت اللام، جواب قسم محذوف تقديره: والله لقد أفصحت، وهي التفات إلى خطاب أبي سفيان وغيره بكونه نطق بتعظيم علي ظاهراً وهو يستر عداوته، وكفاه هذا ذلًا ونفاقاً، أما النفاق فظاهر وأما الذل فلكونه مأسوراً ومحكوماً عليه، قوله: ظلت أصله ظللت حذفت اللام للتخفيف، ويقال: ظل يفعل كذا إذا فعل فعله نهاراً.
4- قال الجوهري: يقال جاسوا خلال الديار أي تخللوها وطلبوا ما فيها، وبكة ومكة لغتان، وقيل: مكة اسم لمكان البيت وبكة اسم لباقيه والمروتين الصفا والمروة.
5- العارض السحاب المعترض، و استعاره للجيش لتراكمه وكثرته، ورشح بقوله: يمج أي يقذف، والنجيع من الدم ما كان إلى السواد، قال الأصمعي: هو دم الجوف خاصة، والسلم الصلح، والانقياد يفتح ويكسر ويذكر ويؤنث، وجلندى بضم الجيم مقصوراً اسم ملك لعمان، وتبّع واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، وقيصر وأحد القياصرة وهم ملوك الروم، يقول: أطاعك البيت من بعد ما عصى هذه الملوك وامتنع، والضمير في عصى وأعيى يعود إلى البيت.
6- قوله: نور الله يريد دين الله، واستعار النور لدين الإسلام، ومن الاستعارة مثل ذلك الشرك، ولكنه عنى بالنير الظاهر والوشيج شجر الرماح. واللدن الناعم.
7- رقيت أي صعدت، والغارب أعلى الظهر، وأحدقت أحاطت، الضمير به يعود إلى الغارب، يريد أن الملائكة أحاطت بظهر النبي حين صعد أمير المؤمنين فناله شي ء لم يبلغه أحد من كسر الأصنام، ونزول آية قل جاء الحق بشأنه وغير ذلك.

ص: 94

فسبح جبريل وقدّس هيبة

وهلّل إسرافيل رعباً وكبراً (1)

فيا رتبة لو شئت أن تلمس السها

بها لم يكن ما رمته متعذرا (2)

ويا قدميه أيّ قدس وطأتما

وأي مقامٍ قمتما فيه أنورا

بحيث أفاءت سدرة العرش ظلها

بضوجيه فاعتدت بذلك مفخرا (3)

وحيث الوميض الشعشعاني فائض

من المصدر الأعلى تبارك مصدرا (4)

فليس سواع بعدها بمعظم

ولا اللات مسجوداً لها ومعفرا (5)

ولا ابن نفيل بعد ذاك ومقيس

بأول من وسدته عفر الثرى

صدمت قريشاً والرماح شواجر

فقطعت من أرحامها ما تشجرا (6)

فلولا أناة في ابن عمك جعجعت

بعضبك أجري من دم القوم أبحرا (7)

ولكنّ سر الله شطّر فيكما

فكنت لتسطو ثم كان ليغفرا

وردت حنيناً والمنايا شواخص

فذللت من أركانها ما توعرا (8)

فكم من دم أضحى بسيفك قاطراً

بها من كمي قد تركت مقطرا

وكم فاجر فجرت ينبوع قلبه

وكم كافر في الترب أضحى مكفرا (9)

وكم من رؤوس في الرماح عقدتها

هناك لأجسام محلّلة العرا


1- قال ابن الأنباري: في جبرائيل تسع لغات جبريل بكسر الجيم وفتحها وجبرئل بكسر الهمزة وتشديد اللام وجبراييل بيائين بعد الألف وجبرائيل بهمزة بعدها ياء مع الألف وجبريل بياء بعد الراء وجبرئيل بكسر الهمزة وتخفيف اللام وجبريل بفتح الجيم وكسرها.
2- السها: كوكب صغير في غاية الصغر تمتحن العرب به أبصارها، قوله: وأي قدس وأي مقام استفهام تعظيم وإجلال لظهر النبي.
3- أفاءت ظلها ردّته. وسدرة العرش سدرة المنتهى. وضوجيه جانبيه، والضوج الجانب يقول: قمتها في مكان ألقت هذه السدرة ظلها بجانبيه فافتخرت بذلك المكان وهو ظهر النبي وكان ذلك في ليلة المعراج.
4- الوميض البرق واستعاره لنور القدرة. والشعشعاني المنبسط، والمصدر موضع الصدور وهو الرجوع. والأعلى يريد به علو الجهة بل علو الشأن. وتبارك بمعنى بارك والبركة النمو والزيادة، يقول: إن هذا المكان الشريف الذي افتخرت به سدرة المنتهى وفاض النور عليه من الحضرة الإلهية وهو ظهر النبي وطأه أمير المؤمنين بقدميه حتى رعبت الملائكة ولا شرف أعلى من هذا.
5- سواع اسم صنم كان لقوم نوح ثم صار لهذيل، واللات اسم صنم من حجارة كان لثقيف وابن نفيل وابن كعب ومقيس بن ضبابة، قال الزمخشري: قتل وهو متعلق بأستار الكعبة وكان مؤذياً للنبي، والضبابة في الأرض سحابة تغشى الأرض كالدخان والجمع الضباب. ومقيس بكسر الميم وبالياء المنقوطة التحتانية بنقطتين، ووجدت بخط بعض المشايخ الموثوق بهم مقبس بفتح الميم والباء المنقطة تحتها نقطة واحدة. والعفر والثرى كلاهما التراب وأضاف أحدهما الآخر لاختلاف اللفظين.
6- شواجر طواعن، والشجر الطعن، وقوله: ما تشجرا أي ما اختلف، ومنه قوله تعالى: فيما شجر بينهم أي فيما تنازعوا فيه، يعني أنه قطع أرحام مخالفي دين الإسلام من قريش.
7- الأناة المهلة. جعجعت بعضبك أي أمسكته وحبسته. والسطو القهر والأخذ بالقوة، والمعنى أن النبي والأمير سران لله، فالنبي فيه سر العفو وعلي فيه سر الانتقام.
8- حنين الموضع الذي كانت الوقعة فيه. وشواخص نواظر وهو استعارة. والأركان جمع ركن وهو جانب البيت الأقوى واستعارها للشجعان الذين بهم يقوم الحرب. وتوعر صعب. والمقطر الملقى على أحد قطريه أي جانبيه يقال: قطرته فتقطر أي سقط.
9- الفاجر: الفاسق والكاذب. والينبوع عين الماء والكافر بالله وهو أيضاً جاحد النعمة، فالأول ضد المؤمن والثاني ضد الشاكر. والمكفر المستور ولقد أبدع في جعل الرؤوس معقودةً في الرماح والأجسام محللة العراء، واستعار لفظ العراء لأسباب الحياة التي كانت بها أول انتظام بقاء الأجسام.

ص: 95

وأعجب إنساناً من القوم كثرة

فلم يغن شيئاً ثم هرول مدبرا (1)

وضاقت عليه الأرض من بعد رحبها

وللنصّ حكم لا يدافع بالمرا

وليس بنكر في حنين فراره

ففي أحد قد فرّ خوفاً وخيبرا

رويدك إن المجلد حلو لطاعم

غريب فإن مارسته ذقت ممقرا (2)

وما كل من رام المعالي تحمّلت

مناكبه منها الركام الكنهورا (3)

تنح عن العلياء يسحب ذيلها

همام تردّى بالعلى وتأزرا

فتى لم تعرق فيه تيم بن مرة

ولا عبد اللات الخبيثة أعصرا (4)

ولا كان معزولًا غداة براءة

ولا عن صلاة أمّ فيها مؤخرا

ولا كان في بعث ابن زيد مؤمراً

عليه فأضحى لابن زيد مؤمرا

ولا كان يوم الغار يهفو جنانه

حذاراً ولا يوم العريش تسترا

إمام هدى بالقرص آثر فاقتضى

له القرص ردّ القرص أبيض أزهرا (5)

يزاحمه جبريل تحت عباءة

لها قيل كلّ الصيد في جانب الفرا (6)

حلفت بمثواه الشريف وتربة

أحال ثراها طيب رياه عنبرا (7)

لأستنفذن العمر في مدحي له

وإن لامني فيه العذول فأكثرا


1- يريد بالنص قوله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين التوبة: 25 والمراء- ممدوداً- المجادلة وقصره ضرورة.
2- رويدك من أسماء الأفعال، والكاف حرف الخطاب لا موضع لها من الإعراب، وهو تصغير روءاد بحذف الزايد من الهمزة والألف، ومعناها مهلًا، وهو مصدر راد يراد، والممقر المر. قال له: أرفق بنفسك في طلب ما لست من أهله يحلو له من قبل أن يعرف ما يلزمه من المشاق فإذا باشر ذلك ضعف عليه ونفر منه وليس هو كأهله المعتادين على تحمل أثكاله ومكائد أهواله.
3- المناكب جمع منكب، وهو مجمع عظم العضدين والكتف. والركام السحاب المتكاثف. والكنهور العظيم منه واستعار ذلك للأثقال التي يتحملها طالب العليا.
4- الفتى السخي الكريم وجمعه فتيان وفتية وأيضاً الشاب.
5- القرص الأول قرص الشعير والقرص الأخير قرص الشمس، وإيثاره بالقرص لنذره عند مرض الحسنين، مشهورة كما نطقت به سورة هل أتى، والأحاديث في هذا الباب متواترة الطرفين وكذا قضية رد الشمس له مرتين: مرة بالمدينة عند حياة الرسول ومرة بالعراق بعد وفاته.
6- يريد بالعباء الكساء الذي ألقاه النبي على أهل البيت، وقرأ قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي حق والتفّ جبرائيل معهم بجانب الكساء، وقال: وأنا منكم، فهذا معنى قوله: يزاحمه جبريل إلخ، والحديث المذكور رواه أحمد بن حنبل، وأما قوله كل الصيد في جانب الفرا فالمثل المذكور كل الصيد في جانب الفراء، والفراء بالهمزة حمار الوحش، وبعضهم لا يهمزه حكاه المبرد، وجمعه على القولين فرا كجبل وجبال، وإنما خفف ضرورةً، وذلك أن حمار الوحش أصعب الصيد وأشقه معالجة وتحصيلًا، فكان الصيد جميعه في جوفه، إذا حصل فقد حصل الصيد كله، والصيد هنا بمعنى المصيد، فضرب هذا المثل للسيارة، لأن جميع الشرف في ضعفها.
7- المثوى الموضع، والريا الريح الطيبة، لأستنفذن يعني لأستفرغن، نفذ الشي ء بكسر الفاء إذا فرغ وفني، والمعنى ظاهر.

ص: 96

قصيدة في وصف النبي

عن ريقها يتحدث المسواك

أرجاً فهل شجر الكباء أراك (1)

ولطرفها خنث الجبان فإن رنت

باللحظ فهي الضيغم الفتاك (2)

شرك القلوب ولم أخل من قبلها

أنّ القلوب تصيدها الأشراك (3)

هيفاء مقبلة تميل بها الصبا

مرحاً فإن هي أدبرت فضناك

يا وجهها المسفوك ماء شبابه

ما الختف لولا طرفك السفاك (4)

أم هل أتاك حديث وقفتنا ضحى

وقلوبنا بشبا الفراق تشاك (5)

لصدورنا خفق البروق تحركاً

وجسومنا ما إن بهنّ حراك (6)

لا شي ء أقطع من نوى الأحباب أو

سيف الوصي كلاهما فتاك

الجوهر النبوي لا أعماله

ملق ولا توحيده إشراك (7)

ذو النور إن نسج الضلال ملاءة

دكناء فهو لسجفها هتاك (8)

علام أسرار الغيوب ومن له

خلق الزمان ودارت الأفلاك (9)

في عضبه مريخها وبغرة

الملهوب منها مرزم وسماك

فكاك أعناق الملوك فإن يرد

أسرا لها لم يقض منه فكاك (10)

طعنٌ كأفواه المزاد ودونه


1- الأرج انتثار رائحة الطيب، ونصبه على التمييز أو بإسقاط حرف الجر أي يتحدث بالأرج. والكباء بكسر الكاف والمد: العود الذي يتبخر به وبالقصر الكناسة، واستعار لفظ الحديث للمسواك لإفادته علم الأرج من ريق هذه المذكورة، لأنه طاب من نكهتها، ثم استفهم بهل استفهاماً من باب تجاهل العارف للمبالغة والتعجب، وقال: هل هو العود أم هو الأراك؟ وذلك من القلب، وقال ابن هاني المغربي شعراً: وما عذب المسواك إلا لأنه يقبلها دوني وأني لراغم
2- الخنث بضم الخاء وسكون النون التكسر والتثني، قال الجوهري: خنثت الشي ء، فتخنث أي عطفته فتعطف، ومنه سمي المخنث، ويجوز أن يكون هنا خنث بفتح الخاء والنون، والمصدر خنث والمعنى واحد والطرف العين، ورنت أي أدامت النظر، يقال: رنى يرنو رنواً، واللحظ نظر العين واللحاظ بالفتح مؤخر العين مما يلي الصدغ. واللحاظ بالكسر من لاحظته إذا رعيته، ويريد بخنث الجبان الضعف والفتور، والشعراء تصف العين بالضعف والفتور والكسل والمرض وما شاكل ذلك، ثم قال: وهذه الضعيفة إذا نظرت كانت كالأسد في فتكها. والضيغم الأسد والضيغم العض، والفتاك الكثير الفتك وهو القتل.
3- الهيفاء الضامرة الخصر، والمرح شدّة الفرح والنشاط والضناك بالفتح المرأة الكثيرة اللحم وانتصب مقابلة على الحال، أي هي هيفاء في حال إقبالها، وإذا أدبرت تنظر منها إكثار اللحم فيما يحسن ذلك فيه كالردف ففي الإقبال الضمور في البطن والخصر وفي الإدبار ضد ذلك هو الاكثار والامتلاء ولقد أحسن وأبلغ.
4- المسفوك المصبوب كأنه ماء الشباب صبّ فيه، والمسفوك صفة تشبه الموجة وما يرتفع بها، وقوله: ما الحتف استفهام تحقير للموت لو لم يكن طرفه.
5- أم هنا بمعنى بل، أضرب عن معنى وعاد إلى غيره، والشبا جمع شباة وهي حد طرف السيف وغيره، واستعاره للفراق لقتله الأنفس، وقوله: تشاك أي تدخله هذه الحدود فيها كما يدخل الشوك في الجسد، يقال: شيك يشاك إذا دخل الشوك في جسده.
6- جعل الخفقان للصدور لأنها محل القلوب فأقام الظرف مقام المظروف فالقلوب مضطربة والجسوم ساكنة لما بها من الألم. والحراك الحركة. والنوى التحول من موضع إلى موضع آخر.
7- الجوهر النبوي أي أصله؛ لأنه من أصله الشريف، وقوله: لا أعماله ملق، فالملق النفاق وهو تعريض بقوم كانوا بهذه الصفة فكانت أعمالهم نفاقاً وتوحيدهم باللسان وقلوبهم مشتركة غير صافية.
8- الملاءة الملحفة، والدكناء السوداء، والسجف بفتح السين وكسرها الستر والهتك كشف الستر، واستعار لفظ النور لإضاءة نور الحق على قلب علي واستعار لفظ النسج ولفظ الملاءة والسوداء لما يلفقه أهل الضلال من الشبه، وذكر أنه يكشف سواد تلك الشبهة ويزيلها بنور هدى الحق.
9- قوله: علام أسرار الغيوب سيأتي بيان شي ء من ذلك، وقوله: من له خلق الزمان قد مضى شي ء منه، والضمير في مريخها تعود إلى الأفلاك، وكذا في منها، والمريخ دموي أحمر اللون ولهذا جعله في السيف. والملهب الفرس قليل شعر الذنب، وجعل المرزم والسماك وهما كوكبان بغرة فرسه تشبيهاً لبياض الغرة بنور الكوكب انحط من مكانه وثبت بغرة الفرس إجلالًا وتعظيماً له.
10- المزاد جمع مزادة وهي الرواية. والمخاض الحوامل من النوق جمع لا واحد له من لفظه بل واحدة حلقة شبه الطعن بأفواه الروايا والضرب بأشداق النوق تشبيه مصيب. والدار المداركة وهي المتابعة أي ضرب يتبع بعضه بعضاً.

ص: 97

ضرب كأشداق المخاض دراك

ما عذر من دانت لديه ملائك

أن لا تدين لعزه أملاك (1)

متعاظم الأفعال لا هويتها

للأمر قبل وقوعه دراك (2)

أوفى من القمر المنير لنعله

شسع وأعظم من ذكاء شراك (3)

الصافح الفتاك والمتطول

المناع والأخاذ والثراك (4)

قد قلت للأعداء إذ جعلوا له

ضداً أيجعل كالحضيض شكاك (5)

حاشا لنور الله يعدل فضله

ظلم الضلال كما رأى الأفاك (6)

صلى عليه الله ما اكتست الربى

برداً بأيدي المعصرات تحاك (7)


1- دانت: ذلت. والملائك جمع ملك من ملائكة السماء، والأملاك جمع ملك من ملوك الأرض، أي من خضعت له ملائكة فبالأولى أن ذلّت له ملوك الأرض؛ لاستلزام انقياد الأعلى انقياد الأسفل.
2- قوله: متعاظم الأفعال أي أفعاله تعظم عند الناس، أي لا يعظم عندها شي ء.
3- شسع النعل السير الذي بين الإصبعين في النعل العربية، والشراك ما حول القدم من السيور، وذكاء اسم من أسماء الشمس جعل شسع نعله وشراكها أعظم من القمر والشمس.
4- وصفه بأنه إمام حقّ يحكم بالحق فيما يراه من المصالح فتارة يصفح وأخرى يقتل ومرة يمنع ومرة يأخذ ويترك بحسب ما تقتضيه المصلحة، وهو شأن الأئمة العدل.
5- الحضيض قرار الأرض من منقطع الجبل، والشكاكة والشكاك أعلى الهوى جعل محل علي مرتفعاً ومحل غيره منخفضاً ولا مناسبة بينهما.
6- حاشا كلمة معناها مباعدة الشي ء عن غيره. والأفاك الكثير الكذب نزهه في هذا البيت عن أن يماثله أحد واستعار للأعداء لفظ الظلم ولعليٍّ النور؛ لأنه نور الهدى والحق.
7- الربوة- بضم الراء وفتحها وكسرها- المرتفع من الأرض، والمعصرات السحائب، استعار لفظ الكسوة ولفظ البرد للربى لاشتمال النبات عليها كاشتمال الثوب على الجسد، ورشح الاستعارة بقوله: تحاك بأيدي المعصرات؛ لأن ذلك من فعلها.

ص: 98

ص: 99

ص: 100

ص: 101

شخصيات من الحرمين الشريفين (22)

محمد سليمان

مصعب بن عمير

أبوه: عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي البدري القرشي العبدري ..

أمه: خناس بنت مالك بن المضرب العامرية وهي من نساء بني مالك .. له أخ اسمه أبو عزيز، ولمصعب موقف منه في معركة بدر الكبرى، وهناك شخص من بني عبد الدار بن قصي اسمه أبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار كان مع الوجبة الثانية من المهاجرين التي التحقت بالوجبة الأولى التي هاجر فيها مصعب إلى الحبشة ولم أجد من أشار إلى هذه العلاقة أو أنه عاقبته أمه كما عاقبت مصعباً .. ولا أدري قد يكون أخاً لمصعب من أبيه .. لهذا لم تستطع خناس أن تنال منه .. وله أخت تدعى هند بنت عمير، وهند هي أم شيبة بن عثمان حاجب الكعبة جد بني شيبة ...

كنيته: كان مصعب يكنى «أبو عبد الله».

لقبه: «مصعب الخير» وهو ما أراده له المسلمون وأحبوا أن يلقبوه به.

مصعب واحد من فضلاء الصحابة وخيارهم بعد أن منّ الله تعالى عليه أن يكون من السابقين إلى الإسلام ثم من منتسبي مدرسة الصحبة الواعية المباركة لرسول الله، امتلأ إيماناً ورسالية ووعياً فريداً وحلماً كبيراً .. جعله ذلك يتدفق حيوية وحركة دؤوبة ونشاطاً كبيراً في كل مواقفه الإيمانية والتبليغية والجهادية ..

لقد تمثلت في شخصيته رجولة وشجاعة وإباء، وتجسد في قلبه يقين ثابت وفي نفسه إرادة مبدعة وفي سلوكه سيرة حسنة وأخلاق فاضلة .. فغدا يستقبل المسؤوليات العظيمة بكل ما فيها من مصاعب ومتاعب ومخاطر دون أن يتطرق الخور إلى نفسه أو يحلّ الإعياء في عزيمته .. بفضل ما يتحلى به من الحكمة التي افتقدها الكثيرون حتى الكبار ممن هم حوله .. وبفضل إيمانه الواعي وعشقه لرسالة الدين الجديد الذي حمله رسول الله إليهم، وتعلقه بالرسالة والرسول وعمق صدقه وإخلاصه .. فقدم ما قد يعجز عنه الآخرون وهم مجتمعون فنال ذكراً طيباً في الدنيا وخلوداً في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ..

يقولون عنه: إنه كان فتى قريش، وقد أوتي من الجمال والأناقة ما جعله شاباً يافعاً وضي ء الطلعة مليح الهيئة فريداً بين أقرانه ... وأوتي من المال ما جعله مترفاً متنعماً مدللًا محبباً إلى والديه الثريين اللذين راحا يغدقان عليه بما يشاءا ويحققان له كل ما يريد من أسباب الحياة الفارهة ...

كانت أمه تكسوه من الثياب أحسنها وأرقها، وتطيبه بأطيب العطور لتجعله كما تتمنى أعطر شباب أهل مكة بل أعطر أهلها، وخير دليل على هذا ما كان يقوله رسول الله حين يذكره:

«ما رأيت بمكة أحسن لمّة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير» و «لقد رأيت مُصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه».

واللمة بتشديد اللام وكسرها: شعر الرأس الذي يتجاوز شحمة الأذن.

الحلة بضم الحاء: الثوب الجديد وقد تكون ثوبين أو ثلاثة أثواب قميصاً وإزاراً ورداء.

حقاً لقد كان من أنعم أهل مكة وأجمل فتيانها وأكثرهم شباباً ...

ولكن لم يمنع مصعباً كل تلك الفتوة الفائقة وذاك النعيم وهذا الترف من الانضمام إلى قافلة المؤمنين حين طرق سمعه دين السماء الجديد الذي يحمله رسول الرحمة محمد بن عبد الله.

لم يمنعه كل ذلك ولا حتى غيره من أن يسلم ويصدق في إسلامه ويؤمن ويخلص في إيمانه ..

ص: 102

سمع عن الإسلام والمسلمين في مكة وأنهم يجتمعون برسول الله في دار الأرقم بن أبي الأرقم .. فلم يتأخر طويلًا بل أطلق ساقيه ليسجل سبقاً عظيماً وهو يعلم جيداً بحكم ذكائه ومعرفته بوالديه وبالذات أمه صاحبة الكلمة والسطوة، أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسيتبدل حاله من السعة إلى الضيق، ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الترف إلى الحرمان إن هو آمن ..

ولكنه- وكما يصفه المسلمون- مصعب الخير، آثر الحياة الآخرة ونعيمها الخالد على الدنيا ونعيمها الزائل، بعيداً عن الزهو والدلال وما يتركانه من تعال و كبرياء وطغيان ...

تِلْكَ الدَّارُ الآْخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَ لا فَساداً.

لقد انطلق مسرعاً في ذلك الصباح إلى حيث دين الله وآياته التي تتلى ورسوله الكريم إلى الصفا إلى دار الأرقم حيث كان له اللقاء المبارك مع الإسلام ..

فما أن وقع نظره على رسول الله حتى بسط يده مبايعاً، وما إن لامست يده بل يداه يد رسول الرحمة والبركة حتى تهلل وجهه وأشرق جبينه ووضح البشر بين عينيه وهو يعلن الشهادتين لينضم إلى إخوانه فينال وسام السابقين الأولين إلى الإسلام،، حتى نزلت السكينة عليه والحكمة وحتى غدت العيون لتزداد له هيبة وتمتلأ القلوب إعجاباً به وإكباراً له كلما رأته واطلعت على سيرته العطرة الواعية الواعدة ..

آمن بالله تعالى وصدق دينه ونبيه متحدياً بذلك قريشاً بعتادها وقوتها وجبروتها وعنادها، وهو يرى تعذيبها لمن آمن من قبله من المستضعفين في رمضاء مكة.

مصعب وأمه

كانت أم مصعب تتمتع بقوة وصلابة ومهابة، لهذا حين أسلم مصعب اتخذ قراراً أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمراً، إلا أنها علمت بعد حين بإسلامه فقد أبصره عثمان بن طلحة مرة وهو يدخل إلى دار الأرقم ورآه أخرى وهو يؤدي الصلاة فأسرع إليها ينقل لها نبأ إسلام مصعب الذي كانت تحبه حباً شديداً وتحرص عليه حرصاً كبيراً وقد أفقدها هذا الخبر صوابها فحاولت أن تثنيه عن الإسلام إلا أنها لم تجد عنده ضعفاً أو تنازلًا أو ميلًا لما تريده منه بل لم تحدثه نفسه بخيار يكون بديلًا لإيمانه، فراحت تشتد في معاملتها له وتقسو عليه و تضيق في عيشته وحركته أكثر فأكثر ومنعته من كل نعيم كانت تقدّمه له ..

نعم لقد ضيقت عليه وحبسته وبذلت كل ما تستطيعه من جهد لترده عن دينه، لكنها واجهت من ابنها مصعب إصراراً أكبر على الإيمان. فلما آيست منه طردته من بيتها ثم حرمته من المال كثيره وقليله.

.. أما مصعب فقد واجه أمه وعشيرته وأشراف مكة المجتمعين يتلو عليهم آيات من القرآن الكريم، فهمّت أمه أن تسكته بلطمة ولكنها لم تفعل، وإنما حبسته في زاوية من زوايا دارها وأحكمت عليه الغلق، حتى علم أن هناك من المسلمين من يخرج إلى الحبشة، فاحتال على أمه ومضى إلى الحبشة وعاد إلى مكة ثم هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ولقد منعته أمه حين يئست من استجابته لها كل ما كانت تفيض عليه من النعم وحاولت حبسه مرات بعد رجوعه من الحبشة، فآلى على نفسه لئن فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه، وإنها لتعلم صدق عزمه فودعته باكية مصرّة على الكفر، وودعها باكياً مصراً على الإيمان، فقالت له وهي تخرجه من بيتها:

إذهب لشأنك، لم أعد لك أماً.

فاقترب منها وقال:

يا أمه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.

أجابته غاضبة:

قسماً بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي.

ثم قررت سجنه وهو مع هذا كله كلما ازدادت عليه أمه ضيقاً وشدة ازداد ثباتاً ورسوخاً على دينه وحرصاً على آخرته، ولقد عانى معاناة شديدة وشعر بالأذى يتضاعف عليه يومياً وهو يحرم مما تعود عليه من نعيم .. وأخيراً لم يكن أمامه إلا أن ترك النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المعطر، لا يُرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً، ويجوع أياماً. ومع هذا الألم المضاعف عليه صبر وصابر وهو يرى نفسه يعذب ويحجر عليه .. وآلامه تتضاعف لأنه عاش حياة الرفاهية والراحة بعيداً عن أسباب الألم والتعب، وهو الشاب الترف الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والعيش الرغيد قبل أن تبدأ مرحلة أخرى تغير فيها الحال وكان أمراً غريباً عليه .. لما تعرض له بعد إيمانه .. لأنه لم يعش حياة الخشونة والأذى لكنه لم يثنه شي ء من ذلك عن دينه ..

يقول عنه سعد بن أبي وقاص:

ص: 103

«وأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا من شظف العيش، لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحيّة، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا».

ترك نعيم الدنيا وخرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الفاقة، وأصبح الفتى المعطر المتأنق لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، وقد بصره بعض الصحابة يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، فحنوا رؤوسهم وذرفت عيونهم دمعاً شجياً ..

ورآه الرسول وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وقال:

«لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله».

وحين نظر رسول الله إلى مصعب وقد جاء مقبلًا وعليه إهاب كبش قال:

«انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغدوان بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون».

لقد ظلّ مصعب محتسباً كل آلامه عند الله العلي القدير ينتظر منه الفرج والنجاة والأجر والثواب ..

هجرته

ولما اشتد أذى المشركين لمصعب ولإخوته المسلمين وضاق بهم أسياد مكة ذرعاً أذن لهم رسول الله بالهجرة إلى الحبشة، وهي الهجرة الأولى لهم بعد إسلامهم.

يقول ابن إسحاق: فلما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:

«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه».

فخرج عند ذلك جمع من المسلمين من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام. ثم ذكر أسماء من هاجروا ونسب كل واحد منهم إلى قبيلته حتى وصل إلى: ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. ثم واصل ذكر غيره. فكان عدد الرجال عشرة ومعهم أربعة نساء، ومصعب كان سادسهم ..

وقد خرجوا متسللين سراً حتى انتهوا إلى الشعيبة منهم الراكب والماشي، ووفق الله المسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما إلى أرض الحبشة بنصف دينار، وكان مخرجهم في رجب في السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاؤوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً (1)

وفي قول: إنهم أمروا عليهم عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح .. ثم تواصلت هجرتهم فالتحق من قبيلة مصعب عدد آخر، وهم سويبط بن سعد وجهم بن قيس ومعه امرأته أم حرملة من خزاعة وابناه عمرو وخزيمة. وأبو الروم بن عمير- وهو أخ لمصعب كما يبدو لي- وفراس بن النضير .. فكانوا كلهم سبعة رجال من قبيلة عبد الدار، قبيلة مصعب بن عمير (2)

فهاجر مصعب الهجرة الأولى إلى الحبشة مع من هاجر وكان عددهم اثني عشر رجلًا وأربع نسوة. ثم تكاثر عدد المهاجرين الذين تعاقبوا على الحبشة حتى وصل جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلًا ..

وكان مما قيل من شعر في الحبشة وهو يصور معاناتهم وما تعرضوا من عذاب وهوان كانت السبب في هجرتهم وترك بلادهم:

كل امرئ من عباد الله مضطهد

ببطن مكة مقهور ومفتون

إنا وجدنا بلاد الله واسعة

تنجي من الذل والمخزاة والهون

فلا تقيموا على ذل الحياة وخز

ي في الممات وعيب غير مأمون

إنا تبعنا رسول الله واطرحوا


1- انظر: السيرة النبوية، الهجرة إلى الحبشة. وتاريخ الطبري 546: 1.
2- انظر السيرة النبوية لابن هشام 322: 1- 325. وتاريخ الطبري.

ص: 104

قول النبي وعالوا في الموازين (1)

لكن مصعب لم يبق طويلًا في هجرته إلى الحبشة، إذ رجع بعد هجرته بعدة أشهر عندما أشيع في الحبشة أن قريشاً قد أسلمت وكان الأمر غير ذلك.

قال ابن إسحاق: وبلغ أصحاب رسول الله الذين خرجوا إلى أرض الحبشة إسلام أهل مكة فأقبلوا لما بلغهم من ذلك حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً .. وسجل ابن هشام في سيرته العائدين من المهاجرين حتى وصل إلى من عاد من بني عبد الدار: ومن بني عبد الدار بن قصي: مصعب بن عمير بن هشام بن عبد مناف، وسويبط بن سعد بن حرملة (2)

وتمر الأيام العصيبة على المسلمين في مكة ويأتي عام الحزن العام الذي توفيت فيه خديجة أم المؤمنين زوجة رسول الله وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها .. ووفاة عمه أبي طالب وكان له عضداً وحرزاً في أمره ومنعة وناصراً على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين .. وينتهي عام الحزن هذا (3)

ولما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه راح رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب .. تأتي منهم في موسم الحج طلائع، وقد جاء من أهل يثرب سنة 11 من البعثة النبوية رهط والتقوا بالرسول عند العقبة ستة نفر من الخزرج وأسلموا على يديه وواعدوا رسول الله إبلاغ رسالته إلى قومهم .. وفعلًا ما إن عادوا إلى يثرب إلى قومهم حتى أفشوا الأمر، وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي اثنا عشر رجلًا اجتمع هؤلاء مع النبي عند العقبة بمنى، فبايعوه بيعة العقبة الأولى، وكانت بيعتهم كبيعة النساء خالية من البيعة على القتال ..

يقول ابن هشام: فبايعوا رسول الله على بيعة النساء [وقد ذكر الله تعالى بيعة النساء في القرآن، قال: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً فأراد ببيعة النساء أنهم لم يبايعوه على القتال. وكانت مبايعة النساء أنه يأخذ عليهن العهد والميثاق فإذا أقررن بألسنتهن، قال: قد بايعتكن].

عن عبادة بن الصلت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلًا، فبايعنا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء عذب وإن شاء غفر (4) ...

سفير الرسول والرسالة

لقد شاءت له السماء أن يكون من أولئك الذين شيّدوا أساس الإسلام ومجده وعزته ومنزلته في المدينة المنورة بلد الهجرة والنور والعطاء، بين أهليها من الأوس والخزرج وليجعل منهم دعاة إلى دين الله وأنصاراً لرسوله ... وأن يكون في إيمانه وحركته وجهاده واستشهاده قدوة صالحة لأنه من أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ. وحقاً كان كما لقبه المسلمون «مصعب الخير».

يأتي دور الصحابي الشاب مصعب بن عمير بعد أن تمت البيعة وقد عرف بنودها وحفظها وانتهى الموسم، بعثه النبي مع هؤلاء المبايعين أول سفير في الإسلام، ليعلّمهم والمسلمين في يثرب مفاهيم الإسلام وأحكامه، ويقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، لقد اختار رسول الله لهذه المهمة الشاقة مصعب بن عمير رضوان الله تعالى عليه، وهو فتى من شباب الإسلام من السابقين الأولين الصادقين المخلصين المتحمسين بوعي وحيوية وقدرة ...

قال ابن إسحاق في السيرة النبوية:

فلما انصرف عنه القوم، بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير ... وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فكان يسمى المقرئ في المدينة: مصعب. وكان منزله على أسعد بن زرارة بن عدس، أبي أمامة.

ثم يواصل ابن إسحاق كلامه قائلًا: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض.

وقال البراء بن عازب: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير، فهو أول مهاجر إلى المدينة حرسها الله.

إذن قبل أن يهم المبايعون من سادات الأوس والخزرج ونقبائهم بالرجوع إلى مدينتهم يثرب طلبوا من الرسول أن يبعث معهم معلماً يعلمهم الإسلام وأحكامه ويدرسهم القرآن ويفقههم في الدين، وهذا دليل وعيهم وشوقهم لمعرفة هذا الدين الذي آمنوا به وتمسكهم والتزامهم بما عاهدوا الله تعالى عليه وبايعوا عليه رسوله.

وكانوا يتوقعون أن يرسل معهم ما هم بحاجته من أصحابه المعلّمين إلا أنه اكتفى بواحد منهم ولم ينتدب لهذه الوظيفة إلا مصعباً المتدفق حيوية ونشاطاً وذكاء، المشع وجهه جمالًا وبهاء .. ليضطلع بمسؤولية كبيرة وجديدة ..

اختاره الرسول أن يكون سفيره إلى يثرب، يفقه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ يثرب ويهيؤها ليوم هجرة النبي إليها ... إن رجاحة عقل مصعب وكريم خلقه وصبره ونشاطه وزهده جعله موضع تشريف رسول الله له، ليسجل بذلك أول مبعوث للنبوة والرسالة وأول سفير للإسلام ..


1- السيرة النبوية لابن هشام 330: 1- 331.
2- انظر السيرة النبوية 365: 1.
3- المصدر نفسه 416: 2.
4- انظرالسيرة النبوية لابن هشام 431: 2.

ص: 105

وكم كانت فرحة مصعب عظيمة وهو يتلقى أمر الرسول:

اذهب يا مصعب على بركة الله ...

فراح يردد كلمات الشكر لله تعالى ويتمتم بها وهو يرى ما أولاه الرسول من الثقة العالية به، ومن فوره راح يغذ السير مع من أسلم من يثرب لينطلق بأشرف الأعمال وأحسنها

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولسانه يردد:

قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي.

وحتى نعرف عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه وخطورتها أنه دخلها ولا يوجد في يثرب إلا اثنا عشر مسلماً .. وأجواؤها كانت مشحونة بالعداوة التأريخية المريرة بين قبيلتي الأوس والخزرج اللتين خاضتا معارك دامية مليئة بالأحقاد والثارات، وخصوصاً إذا عرفنا أن في يثرب عدواً متربصاً بهم ويسوؤه وفاقهما ووحدتهما ويؤلمه اجتماعهما واتفاقهما وهو يواصل إذكاء تلك العداوات بكل ما أوتي من قوة ومال وخبث .. إنهم يهود بني قريظة وبني النضير ..

لقد كان هذا الشاب رضوان الله تعالى عليه يقدر المسؤولية التي أنيطت به، ويعلم أنه يجب عليه أن ينهي مهامه خلال سنة حتى يوافي رسول الله في الموسم القادم ومعه الكثير من الأوس والخزرج لكي تبايعه على نصرة الإسلام، فعليه إذاً أن يجتهد في الدعوة وأن لا يهنأ بطعام ولا يغمض له جفن حتى يدخل الناس في دين الله أفواجاً ..

وأما أسعد بن زرارة الذي نزل عنده مصعب فقد كان من أوائل من أسلم من الأنصار، ولأنه توفي بعد هجرة الرسول بقليل، فإننا لا نجد له ذكراً كثيراً في كتب السيرة، وأخذ كل من مصعب وأسعد بن زرارة رضي الله عنهما يبثان الإسلام بين الأوس والخزرج بجد وحماس حتى صار يدعى مصعباً بالقارئ والمقرئ.

وهو ما حصل بالفعل؛ فقد طفق هذا الصحابي الشاب منذ أن وطأت قدماه تراب يثرب يوصل ليله بنهاره ولا يعرف الهدوء والاستقرار حتى استطاع- بتسديد من الله تعالى ودعم من رسوله وخلال سنة- أن يجعل شبابها ورجالها ونساءها ينعمون بأجواء إسلامية قرآنية وحقاً ما ذكروه عنه أنه:

«لم يزل يدعو للإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الأوس والخزرج إلا وفيها رجال ونساء مسلمون». إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت وهو صيفي وكان شاعراً لهم وقائداً يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق ..

وفي رواية: إن هناك رجلًا واحداً، وهو الأصيرم تأخر إسلامه إلى يوم أحد (1).

لقد أثبت الشاب الصالح مصعب بن عمير رضي الله عنه أنه خير سفير للإسلام اعتمده الرسول الكريم لأهل يثرب، فقد قام بما عهد إليه من مهمة ومسؤولية خير قيام إذ استطاع بدماثة خلقه وصفاء نفسه أن يجمع كثيراً من أهل يثرب على الإسلام، حتى أن قبيلة من أكبر قبائل يثرب وهي قبيلة بني عبد الأشهل، قد أسلمت جميعها على يده بقيادة رئيسها سعد بن معاذ رضوان الله تعالى عليه ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة هذه القصة، التي جاء فيها:

إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن خالة أسعد بن زرارة فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر وجلسا على بئر يقال لها: بئر مرق، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم. وسعد بن معاذ وأسيد بن خضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه- فلما سمعا بذلك قال سعد بن معاذ لأسيد بن خضير: لا أبا لك!

انطلق إلى هذين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت، كفيتك ذلك. هو ابن خالي ولا أجد عليه مقدماً.

فأخذ أسيد بن خضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه.

قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: وجاء أسيد فوقف عليهما متشمتاً، فقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا! اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة.

فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟

قال: أنصفت.

ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب عن الإسلام، وقرأ عليه القرآن.


1- انظر الكامل في التاريخ 512: 1؛ وتاريخ الطبري 561: 1.

ص: 106

فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتسهله أو وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.

فقال فاغتسل، وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن خضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك. قال: فقام سعد مغضباً مبادراً تخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين، عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشمتاً ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. تغشانا في دارنا بما نكره! وقد قال أسعد لمصعب: أي مصعب! جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لم يخالف عليك منهم اثنان فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟ قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ القرآن قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله.

ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟

قالا: تغتسل فتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن خضير فلما رآه قومه مقبلًا قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال:

يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.

يقول الراوي: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة ..

والذي يبدو لي أن مصعباً حينما عرض الإسلام على سعد وقرأ عليه القرآن انشرح صدر سعد، لأن سعداً كان صاحب ضالة أو كان من الذين يبحثون عن الحقيقة بجد وما أن وجدها في هذا الدين حتى تمسك بها وأخلص لها أيما إخلاص، وهو ما تشهد به سيرته ومواقفه فيما بعد.

وأقام مصعب يدعو إلى الله حتى أنه لم يترك بيتاً للأوس والخزرج إلا وقد دخله صوت لا إله إلا الله ...

إمامة مصعب لصلاة الجمعة

هناك من يذهب إلى أن صلاة الجمعة أول ما عقدت في يثرب بعد أن وصلها الصحابي مصعب بن عمير مبلّغاًلله ولرسوله وحين كتب إليه وهو أول من أوفده من مكة مع المسلمين من الأنصار ليعلمهم، ثم قدم بعده عبد الله بن أم مكتوم:

أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين.

وعلى هذا يكون مصعب أول من صلى بهم الجمعة في المدينة، وكان عددهم اثني عشر رجلًا ..

وفي خبر عن أبي مسعود الأنصاري، بأن أول من جمع بهم هو أبو أمامة أسعد بن زرارة الذي نزل عليه مصعب بن عمير.

يقول عبد الرحمن بن كعب بن مالك- الذي كان يقود أباه كعباً إلى المسجد-: كنت أقود أبي، كعب بن مالك، حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة، أسعد بن زرارة .. ومكث حيناً على ذلك لا يسمع الأذان للجمعة إلا صلى عليه واستغفر له. فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله ما له إذا سمع الأذان للجمعة صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة؟

فخرجت به في يوم جمعة كما كنت أخرج، فلما سمع الأذان للجمعة صلى واستغفر له. فقلت له: يا أبت، مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟

فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة يقال له: نقيع الخضمات. قلت: وكم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلًا. [هزم النبيت: جبل على بريد من المدينة، أو أنه في قول آخر: المكان المطمئن من الأرض .. والنبيت أبو حي من اليمن اسمه عمرو بن مالك، وحرة بني بياضة قرية على ميل من المدينة، وبنو بياضة بطن من الأنصار والنقيع بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مُدة فإذا نضب نبت الكلأ. (1)]

ويبدو أن الجمعة نسبت إلى أسعد لأنه أمير القوم، ومصعب كان في ضيافته وأنه أطعم المُصلين غذاء وعشاء فنسب الأمر إليه ..


1- انظر: السيرة النبوية لابن هشام 435: 2؛ والطبراني؛ وأبو داود؛ وابن حِبان؛ وابن ماجة، والبيهقي وابن حجر.

ص: 107

وهناك من يقول: إن اجتماع المسلمين في يوم من أيام الأسبوع كان باجتهادهم قبل أن تفرض عليهم صلاة الجمعة، فقد جاء في حديث مرسل عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ فلنجعل يوماً نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها، وذلك لقلتهم ...

الموسم التالي

في موسم الحج التالي عاد هذا الصحابي المؤمن والداعية الواعي والشاب القرآني وكان معه سبعون رجلًا من القبيلتين الأوس والخزرج، وهم مستخفون لا يشعر بهم أحد، ومعهم امرأتان: نسيبة بنت كعب «أم عمارة» المرأة التي عرفت بثباتها يوم أحد حينما فرّ الرجال ولم يبق معه إلا قليل .. وأسماء بنت عمرو بن عدي ..

وما أن وقعت عينا رسول الله عليه حتى راح يقبله ويضمّه إلى صدره الحبيب:

كيف تركت يثرب يا مصعب؟

تركتها إسلاماً والحمد لله .. يا رسول الله.

وأخذت الدهشة بعض الحضور!!!

وراح يبين لهم دوره وما بذله من الجهود الكبيرة ليسلم عدد على يديه، كأسيد بن خضير سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، الذي جاء شاهراً حربته ويتوهج غضباً وحنقاً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم فلما أقنعه أن يجلس ويستمع، فأصغى لمصعب واقتنع وأسلم، وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وأسلم كثيراً من أهل المدينة، فقد نجح أول سفراء الرسول نجاحاً منقطع النظير ..

حقاً هذا هو مصعب فقد قام بمهمته خير قيام وقبل حلول موسم الحج عاد رضي الله عنه إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر النصر والفوز ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير وما لها من قوة ومنعة لنصرة هذا الدين، فسر النبي وبايع الأنصار في هذا الموسم في السنة الثالثة عشرة من النبوة وكانوا ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين، وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأولادهم وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى نصرة رسول الله النصرة التامة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال قائل منهم:

فما لنا يا رسول الله؟

قال: «لكم الجنة».

قالوا: رضينا، ثم انتهت البيعة ..

وأذن الرسول لأصحابه الذين بقوا في مكة بالهجرة إلى يثرب وسماها بعد ذلك المدينة النبوية.

وفي تعداد منازل المهاجرين على الأنصار بعد هجرة المسلمين من مكة إلى يثرب ذكر ابن هشام في سيرته: ونزل مصعب بن عمير بن هاشم أخو بني عبد الدار، على سعد بن معاذ بن النعمان أخي بني عبد الأشهل في دار بني الأشهل.

وكان مصعب أول المهاجرين إلى يثرب كما سيكون أول مبعوث لنبي الله إليها ليبشر أهلها بالإسلام وقد تعرض لمخاطر كادت أن تطيح به أثناء مهمته الرسالية التبليغية التعليمية لولا فطنته وذكاؤه وحكمته ..

قال عنه البراء بن عازب: «أول المهاجرين مصعب بن عمير».

المؤاخاة

راح رسول الله حين وصوله يثرب التي غيّر اسمها إلى المدينة المنورة يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل: تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: هذا أخي، فكان رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخوين (1) ...

وبعد هذه المؤخاة التي ابتدأها رسول الله بنفسه وعلي .. راح يؤاخي بين المهاجرين والأنصار حتى وصل إلى الصحابي:


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 505: 2- 506.

ص: 108

«مصعب بن عمير بن هاشم وأبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار: أخوين».

معركة بدر

وبعد هجرة الرسول وصحبه إلى المدينة، وكان هذا بعد بيعة العقبة الثانية، وقعت أولى معارك الإسلام الكبرى معركة بدر، وقد حمل مصعب بن عمير فيها راية المسلمين، وللراية في أي معركة- كما هو معروف- دور عظيم وخطير فما دامت مرفوعة تدل على صلابة وثبات وقوة من ينضوون تحتها ولهذا تكون هدفاً أساسياً لكلا المتحاربين ..

لقد دفع رسول الله اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض. فيما كانت أمام رسول الله رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار (1)

ودافع مصعب عنها وقاتل قتال الأبطال حتى انتصر المسلمون في هذه المعركة انتصاراً ساحقاً.

موقفه من أخيه

وبعد انتهاء المعركة سمع مصعب بن عمير رضي الله عنه بأن أخاه عزيز بن عمير، وكان هذا يحمل راية المشركين وقع أسيراً بيد أنصاري ..

تقول الرواية:

لما جاءوا بالمشركين الذين وقعوا أسرى بيد المسلمين في معركة بدر الكبرى فرقهم رسول الله بين أصحابه وقال:

«استوصوا بالأسارى خيراً».

يقول أحد أولئك الأسارى وهو أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه:

مرّ بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال: شدّ يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك. قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا اذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها.

وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر، وهو الذي أسره، ما قال، قال له أبو العزيز: يا أخي، هذه وصاتك بي، فقال مصعب: إنه أخي دونك، فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربعة آلاف درهم ففدته بها. وقد أسلم أبو عزيز هذا الذي كان إسمه زرارة (2)

غزوة أحد

وبعد معركة بدرالكبرى وقد أبلى فيها مصعب بلاءً حسناً .. تلتها معركة أحد، وقد حمل رايتها مصعب بأمر من رسول الله كما حمل راية بدر من قبل ... ويحتدم القتال بين الفريقين المتحاربين المسلمين بقيادة رسول الله ومشركي مكة، وراح المسلمون يجولون في ميدان المعركة وكلما ازدادت المعركة شدة ازداد مصعب ثباتاً وصموداً وبيده اللواء رغم استهدافه من الأعداء .. وفي ساعة اشتداد التلاحم هذا وكاد النصر أن يكون حليف المؤمنين إذ بالرماة الذين أمرهم رسول الله بعدم مغادرة مواقعهم في أعلى الجبل مهما كانت نتيجة المعركة ..

قال ابن اسحاق «... وتعبى رسول الله للقتال، وهو في سبعمائة رجل، أمر على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض، والرماة خمسون رجلًا، فقال: انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك، لا نؤتين من قبلك. وظاهر رسول الله بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، أخي بني عبد الدار».

وإذا بأكثرهم يخالف أمر الرسول ويترك مواقعه فيما استشهد من ثبت منهم وهم قلّة، وكان من بين الشهداء عبد الله بن جبير أمير الرماة، بعد أن انسحب أكثر الرماة ظناً منهم أن المعركة حسمت لصالح المسلمين وشاهدوا المشركين يجرّون أذيال الهزيمة وأن عليهم المبادرة للحصول على الغنائم وإلا أفلسوا منها، ولم يدركوا أن عملهم هذا حوّل النصر إلى هزيمة، وكاد أن يروح فيها رسول الله، وفعلًا فوجئ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وحلت الفوضى بين صفوف المسلمين وراح الذعر يشتتهم، وكان تركيز المشركين على رسول الله لينالوا منه ..

وختمت فتوته بالشهادة

لقد أدرك مصعب بن عمير ذلك كله، فحمل اللواء عالياً، وكبّر ومضى يصول ويجول، وكان همه أن يشغل المشركين عن رسول الله فأقبل ابن قميئة وهو فارس في جيش المشركين، فضرب مصعباً على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردد:

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.


1- انظر السيرة 612: 2.
2- انظر: السيرة النبوية 645: 2، وتاريخ الطبري، معركة بدر. و الروض.

ص: 109

وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره وهو يقول:

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.

ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء واستشهد مصعب الخير كما يلقبه المسلمون .. وهو يتمتم:

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ.

وقد نزل هذا المقطع فيما بعد ضمن آية كريمة:

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (1)

وهو ما ذكره أيضاً ابن سعد عن إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه ..

ولما قتله كان يظن كما في خبر أنه قتل رسول الله حتى أنه لما رجع إلى قريش قال لهم: قتلت محمداً (2).

قال ابن إسحاق: فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله اللواء علي بن أبي طالب، وقاتل علي بن أبي طالب ورجال من المسلمين.

وفيما ذكرته الصحابية الجليلة أم عمارة وهي تروي معركة أحد «... فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله، فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي ..

ولما سألتها أم سعد بنت سعد بن الربيع الناقلة لهذا الخبر، وقد رأت على عاتقها جرحاً أجوف له غور عمّن أصابها بهذا ..

قالت: ابن قمئة، قمأه الله! لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول: دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجى، فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله، فضربني هذه الضربة، ولكن فلقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان (3) ..

وبعد انتهاء المعركة جاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءهم .. ووجدوا جثمان مصعب وقد مثل به المشركون تمثيلًا أفاض دموع رسول الله وأوجع فؤاده، وقال وهو يقف عنده:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ...

ثم ألقى بأسى نظرةً على بردة كفن فيها مصعب وقال:

«لقد رأيت بمكة وما بها أرق حلّة ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت ذا شعث الرأس في بردة ..».

وقد وسعت نظرات رسول الله الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب الشهداء وقال مؤبّناً:

«إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة».

ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:

«أيها الناس! زوروهم، وأتوهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم مُسَلِّم إلى يوم القيامة، إلا ردّوا عليه السلام».

يقول خباب بن الأرت:

هاجرنا مع رسول الله في سبيل الله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله .. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد. فلم يوجد له شي ء يكفن فيه إلا نمرة .. فكنا إذا وضعناها على رأسه تعرت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برز رأسه، فقال لنا رسول الله:

«اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الأذخر» وهو نبات معروف طيب الريح.

وقال عنه أبو هريرة: «رجل لم أَرَ مثله كأنه من رجال الجنة».


1- آل عمران: 144.
2- تاريخ الطبري 66: 2.
3- انظر: السيرة النبوية لابن هشام 87: 3.

ص: 110

ولما تم دفن الشهداء، انصرف رسول الله راجعاً إلى المدينة، فلقيته حمنة بنت جحش .. فلما لقيت الناس نعي إليها أخوها عبد الله بن جحش، فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت واستغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير، فصاحت وولولت!

فقال رسول الله: إن زوج المرأة منها لبمكان!

لما رأى من تثبتها عند أخيها وخالها، وصياحها على زوجها (1).

لقد صارت قصة مصعب بن عمير في تاريخنا الإسلامي درساً بليغاً من دروس المؤمنين الصادقين، التي تعلّمنا حياة الرجال الصادقين وولاءهم لمبادئهم واستعلاءهم على الدنيا بما فيها من متاع مبهر أخّاذ .. إنه لنموذج رائع من أولئك الذين تركوا كل ما توفر عندهم ولهم من غال ونفيس وراحة في سبيل الله والإيمان بدينه فصدقوا ما عاهدوا الله عليه فكان لهم من الله الرضا والفوز بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ... لقد أبى هذا المؤمن الشاب إلا أن يعيش للإسلام وحده وأن يموت لا كما يموت الآخرون بل وأن ينال وسام الشهادة ويختم بها حياته ونشاطه الدؤوب، فمضى كبيراً عزيزاً مسروراً قد أعذر إلى الله بإيمانه وجهاده وأعماله، فكانت فرحته عند الله تعالى كبيرة وكان ابتهاجه عظيماً حينما قال فيه وفي إخوانه الذين استشهدوا معه:

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.


1- انظر السيرة النبوية 105: 3.

ص: 111

الحج الأفضل في السنة النبوية

د. مجيد معارف

مقدّمة

ذكرت الروايات أنّ الحجّ شرّع في الإسلام على ثلاثة أنحاء، وهي عبارة عن: (الإفراد) و (القران) و (التمتّع) (1). وبناءً على هذه الروايات فإنّ حجّ الإفراد يعني الحجّ الخالص بحيث لا يكون للحاج نيّة اخرى غير أداء مناسك الحجّ (2)

أما حجّ القران، فهو عبارة عن الحجّ الذي يصطحب الحاجّ معه فيه الهدي من موطن سكنه (3)

وحجّ التمتّع هو الحج الذي يخرج الحاج فيه عن حالة الإحرام في الفاصلة التي تقع بين أداء مناسك العمرة ومناسك الحج، ويُجاز له الإفادة والتمتّع من المتع التي كانت محرّمة عليه حال الإحرام (4)

وقد أكّدت روايات أهل البيت كثيراً على أداء مناسك الحجّ من النوع الثالث، وعبّرت عنه بأنّه الحجّ الأفضل وأنّه ذكرى لسنّة النبيّ وسيرة الأئمّة المعصومين.

على خطٍ آخر، توجد اختلافات كبيرة في المذاهب الأربعة لأهل السنّة حول النوع الأفضل للحجّ، وتوجد في روايات أهل السنّة أدلّة قويّة على كون حجّ التمتّع هو ما أوصى به النبيّ، لكن إقدام بعض الصحابة على نفي عمرة التمتّع أدّى إلى التأكيد والتشجيع على بقيّة أقسام الحجّ. ويتبنّى هذا المقال- استناداً إلى الأدلّة الروائية للفريقين (الشيعي والسنّي)- دراسة حال حجّ التمتّع من عصر النبيّ والبرهنة على أرجحيّته بالنسبة إلى القسمين الآخرين وخاصّة في الروايات الواردة عن طريق أهل البيت.

ورد تقرير حجّ رسول الله في حجّة الوداع وتشريع عمرة التمتّع، وفي خصوص كيفيّة حجّ النبيّ في حجّة الوداع وردت روايات متعدّدة ومفصّلة أحياناً في الجوامع الروائية للفريقين (5). وقد أُلّفت كتب مستقلّة أيضاً بخصوص كيفيّة حجّ النبيّ استناداً إلى هذه الروايات (6)، منها ما رواه عبدالله بن سنان في حديث عن الإمام الصادق يصف فيه سفر النبيّ في حجّة الوداع هكذا: «ذكر رسول الله الحجّ فكتب إلى من بلغه كتابه ممّن دخل في الإسلام: إنّ رسول الله يريد الحجّ، يؤذنهم بذلك ليحجّ من أطاق الحجّ، فأقبل الناس، فلمّا نزل الشجرة أمر الناس بنتف الإبط وحلق العانة والغسل والتجرّد في إزار ورداء أو إزار وعمامة يضعها على عاتقه لمن لم يكن له رداء، وذكر أنّه حيث لبّى قال: «لبّيك اللّهمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك»، وكان رسول الله يكثر من ذي المعارج، وكان يلبّي كلّما لقي راكباً أو علا أكمّة أو هبط وادياً ومن آخر الليل وفي أدبار الصلوات، فلمّا دخل مكّة دخل من أعلاها عن العقبة وخرج حين خرج من ذي طوى، فلمّا انتهى إلى باب المسجد استقبل الكعبة- وذكر ابن سنان أنّه باب بني شيبة- فحمدَ الله وأثنى عليه وصلّى على أبيه إبراهيم، ثمّ أتى الحجر فاستلمه فلمّا طاف بالبيت صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم ودخل زمزم فشرب منها، ثمّ قال: «اللّهمَّ إنّي أسألُكَ علماً نافعاً ورزقاً واسعاً وشفاءً من كلّ داء وسُقم»، فجعل يقول ذلك وهو مستقبل الكعبة، ثمّ قال لأصحابه: ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر، فاستلمه ثمّ خرج إلى الصفا، ثمّ قال: أبدء بما بدء الله به، ثمّ صعد على الصفا فقام عليه مقدار ما يقرأ الإنسان سورة البقرة» (7)

وطبقاً لرواية اخرى نقلها معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق: إنّ النبيّ بعد إتمامه للسعي بين الصفا والمروة: «أقبل على الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: إنّ هذا جبرئيل- وأومأ بيده إلى خلفه- يأمرني أن آمر مَن لم يسق هدياً أن يُحلّ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم، ولكنّي سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه، قال: فقال له رجلٌ من القوم: لنخرجنّ حجّاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر. فقال له رسول الله: أمّا إنّك لن تؤمن بهذا أبداً».

«فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: يارسول الله! علّمنا ديننا كأنّا خُلقنا اليوم فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟

فقال له رسول الله: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثمّ شبّك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة» (8)

وبعد خطاب النبيّ وبالرغم من كون الحكم الشرعي الجديد ثقيلًا على بعض الصحابة وغير قابل للقبول، لكن على أيّ حال فقد انقسم الأصحاب ومن جاء مع النبيّ إلى مجموعتين:


1- الكافي 291: 4- 294 باب أصناف الحجّ، تهذيب الأحكام 29: 5- 56 باب ضروب الحجّ، وسائل الشيعة 148: 8- 221، بعنوان أبواب أقسام الحجّ، بحار الأنوار 86: 96 باب أنواع الحجّ.
2- الحدائق الناضرة 314: 14 حيث قال في وجه تسمية حجّ الإفراد: أمّا في الإفراد فلانفصاله عن العمرة وعدم ارتباطه بها.
3- تهذيب الأحكام 51: 5 وجاء في حديث معاوية بن عمّار: أنّ الإمام الصادق قال في حجّ القران: «لا يكون قران إلّا بسياق الهدي». ولاحظ أيضاً: الحدائق الناضرة 314: 14، وأيضاً من لا يحضره الفقيه عن أبي عبدالله: الحاج عندنا على ثلاثة أوجه: «حاج متمتّع وحاج مفرد وسائق للهدي والسائق هو القارن».
4- روايات تشريع العمرة تأتي في خلال المقال.
5- لاحظ أهمّ هذه الروايات في: الكافي 244: 4- 252 باب حجّ النبيّ؛ من لا يحضره الفقيه 153: 2؛ بحار الأنوار 90: 96؛ وسائل الشيعة 164: 8؛ تهذيب الأحكام 30: 5؛ سنن النبي 51: 6- 66؛ في روايات مختلفة، حجّ الأنبياء والأئمّة: 99 و 128- 132، الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة: 281- 285، الحدائق الناضرة 311: 14 كيفيّة حجّ النبيّ. ولاحظ أيضاً: صحيح مسلم 886: 2- 892 باب حجّة النبيّ، صحيح البخاري 649: 2- 655 في روايات مختلفة، الموطأ لمالك 335: 1، سنن ابن ماجة 991: 2، سنن النسائي 151: 5، التمتّع، حجّة الوداع لابن حزم: 329، الأحاديث الواردة في أمر رسول الله بفسخ الحجّ بعمرة في حجّة الوداع، سنن أبي داود 152: 2- 161.
6- ومن هذه الكتب ما يلي: حجّة الوداع، تأليف ابن حزم الأندلسي 456 ه-، حجّة المصطفى، تأليف محبّ الدِّين الطبري 694 ه-، حجّة الوداع، تأليف محمد زكريا الكاندهلوي، أحوال النبيّ في الحجّ، لفيصل بن علي البغدادي، الحجّ والعمرة في الكتاب والسنّة، لمحمّدي ري شهري، حجّ الأنبياء والأئمّة لمعاونية التعليم للبعثة، مع النبيّ في حجّة الوداع لحسين واثقي.
7- الكافي 249: 4 و 250، منتخب الكافي رقم: 1777.
8- الكافي 246: 4، من لا يحضره الفقيه 153: 2، وسائل الشيعة 164: 8، ولاحظ ما يقارب هذا الحديث في صحيح مسلم 886: 2.

ص: 112

أ- الذين اصطحبوا معهم الهدي من المدينة مثل النبيّ وكان منهم أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وجماعة آخرون (1)، ولذا فقد بقي هؤلاء مثل النبيّ على إحرامهم ولم يمكنهم الإفادة من رخصة التمتّع.

ب- المجموعة الاخرى ممّن كان مع النبيّ وهم الأكثرية، وهم الذين لم يصطحبوا معهم الهدي وكان من هؤلاء أزواج النبيّ والصدِّيقة فاطمة الزهراء، فإنّهم قد خرجوا من لباس الإحرام وجعلوا عملهم عمرة (2)

وطبقاً لإحدى الروايات فإنّ عليّاً قد قدم في تلك الفترة من اليمن إلى مكّة «فدخل على فاطمة وهي قد أحلّت فوجد ريحاً طيّبة ووجد عليها ثياباً مصبوغة فقال: ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: أمرنا بهذا رسول الله، فخرج عليّ إلى رسول الله مستفتياً فقال: يارسول الله! إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة؟ فقال رسول الله: أنا أمرت الناس بذلك، فأنت يا عليّ بما أهللت؟ قال: يارسول الله إهلالًا كإهلال النبيّ، فقال له رسول الله: قرّ على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي، أي إنّي جئت بالهدي من المدينة نيابةً عنك» (3).

واستناداً إلى حديث الإمام الصادق: فإنّه قال «ونزل رسول الله بمكّة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدور، فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ .. فخرج النبيّ وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتى منى ... ثمّ غدا والناس معه إلى عرفات و ..» (4).

تشريع حجّ التمتّع في روايات أهل السنّة

إنّ ما تقدّم كان حول كيفيّة حجّ التمتّع استناداً إلى روايات الشيعة، أمّا تشريع هذا الحكم في روايات أهل السنّة فقد نقل بكثرة أيضاً، وبعبارة اخرى: إنّه قد نقلت كيفيّة حجّ رسول الله التي تتضمّن تشريع عمرة التمتّع أيضاً عن طريق كثير من أصحاب النبيّ، وقد سجّلت تلك الروايات في المجاميع الروائية، لكن في هذه المجاميع روايات اخرى أيضاً ملفتة للنظر وهي التي تحكي عدم رضا بعض الصحابة عن تشريع هذا الحكم الشرعي وأحكام أخرى، ولذا فقد وقع بعض الاختلافات والتعارض في روايات أهل السنّة بخصوص عمرة التمتّع، فينبغي أن نستعرض هنا نماذج من الروايات المختلفة لكي يتسنّى إصدار الحكم المناسب بينها:

أ- روايات أهل السنّة في تشريع أصل حجّ التمتّع:

إنّ روايات أهل السنّة في تشريع أصل حجّ التمتّع كثيرة ومتنوّعة، وطبقاً لبعض الأبحاث فإنّه قد نقلها أكثر من (51) صحابيّاً، وهم عبارة عن: جابر بن عبدالله الأنصاري، أبو سعيد الخدري، البراء بن عازب، عليّ، أنس بن مالك، أبو موسى الأشعري، ابن عبّاس، ابن عمر، سبرة بن معبد الجهني، سراقة بن مالك المدلجي، أبو ذر، معقل بن يسار، فاطمة الزهراء، حفصة، عائشة، وأسماء بنت أبي بكر (5)

ومن هذه الروايات ما يلي:

1- أشهر حديث في هذا الباب- وهو يشتمل على تقرير كامل عن حجّ رسول الله- هو حديث جابر بن عبدالله الأنصاري في لقائه للإمام الباقر، وهو ما رواه مسلم في صحيحه، فإنّه طبقاً لهذا الحديث؛ فإنّ الإمام الصادق ينقل عن أبيه قال: «دخلنا على جابر بن عبدالله وهو أعمى فسأل عن القوم حتّى انتهى إليّ فقلت: أنا محمّد بن عليّ بن الحسين، وبعد الترحيب قال لي: مرحباً بك يابن أخي سَلْ عمّا شئت ... فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله؟ فقال بيده فعقد تسعاً، فقال: إنّ رسول الله مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ أذّن في الناس في العاشرة، إنّ رسول الله حاج .. حتّى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال: «لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ وليجعلها عمرة».

فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يارسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله أصابعه واحدة في الاخرى وقال: دخلت العمرة في الحجّ، مرّتين، لا بل لأبد لأبد (6)

2- روى أبو سعيد الخدري قال: «خرجنا مع رسول الله نصرخ بالحجّ صراخاً فلمّا قدمنا مكّة أمرنا أن نجعلها عمرة إلّا من ساق الهدي، فلمّا كان يوم التروية ورحنا إلى منى أهللنا بالحجّ» (7)

3- سراقة بن مالك قال لرسول الله: يارسول الله! اقض لنا قضاء قوم كأنّما ولدوا اليوم، فقال: «إنّ الله قد أدخل عليكم في حجّكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوّف بالبيت وبين الصفا والمروة فقد حلّ إلّا مَن كان معه هدي» (8)

4- إنّ عبدالله بن عمر قال: تمتّع رسول الله في حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ، فأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله فأهلَّ بالعمرة، ثمّ أهلَّ بالحجّ، وتمتّع الناس مع رسول الله بالعمرة إلى الحجّ فكان من الناس من أهدى وساق الهدي ومنهم مَن لم يُهد، فلمّا قدم رسول الله مكّة قال للناس: «مَن كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ له من شي ء حرم منه حتّى يقضي حجّه، ومَن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلّل، ثمّ ليهلّ بالحجّ وليهد» (9).

5- وعن عائشة أنّها قالت: خرجنا مع رسول الله لا نرى إلّا أنّه الحجّ، فلمّا دنونا من مكّة أمر رسول الله مَن كان معه هدي أن يقيم على إحرامه ومَن لم يكن معه هدي أن يحلّ» (10)

ب- الروايات المقابلة لتشريع حجّ التمتّع:


1- ابن حزم، حجّة الوداع: 118.
2- المصدر نفسه؛ وأيضاً صحيح البخاري 649: 2- 651؛ موطأ مالك 337: 1؛ سنن أبي داود 156: 2.
3- سنن أبي داوود 158: 2؛ والكافي 246: 4؛ والكافي 246: 4؛ وطبقاً لبعض الروايات فقد ساق النبي معه من المدينة مائة من الإبل، من بينها 34 بنية علي؛ و 66 بنيّته، فانظر: من لا يحظره الفقيه 153: 2؛ ووسائل الشيعة 164: 8؛ وسنن النبي 59: 8.
4- الكافي 247: 2؛ بتلخيص طفيف.
5- ابن حزم الأندلسي، حجة الوداع: 344.
6- انظر تفصيل الحديث في: صحيح مسلم 892: 2- 886؛ باب حجة النبي، وانظر المصادر السابقة.
7- صحيح مسلم 914: 2.
8- سنن أبي داوود 159: 2.
9- المصدر نفسه: 160.
10- سنن النسائي 122: 5.

ص: 113

وممّا يلفت النظر أنّه توجد في مقابل الروايات المتقدِّمة بخصوص حجّ التمتّع، روايات اخرى أيضاً في المصادر الروائية لأهل السنّة تؤكّد على أداء حجّ الإفراد أو حجّ القران، وتقول بافتراق مراسم العمرة عن مراسم الحجّ وأنّه لا يمكن أداؤهما معاً في سفر واحد. وبعض هذه الروايات تحكي سيرة النبيّ في هذا الخصوص، وبعضها الآخر ينقل عمل بعض الصحابة وخاصّة الخلفاء الأوائل بعد رحلة رسول الله، وممّا يجدر بالملاحظة أنّ أكثر هذه الروايات تنقل مخالفة فريق آخر من الصحابة وخاصّة عليّ عملَ الخلفاء والإصرار على أداء عمرة التمتّع في أشهر الحجّ، ومن نماذج تلك الروايات ما يلي:

1- عن محمّد بن المنكدر عن جابر: «إنّ رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان أفردوا الحجّ» (1)

2- وعن ابن عمر قال: «أهللنا مع رسول الله بالحجّ مفرداً- وفي رواية ابن عون- أنّ رسول الله أهل بالحجّ مفرداً» (2)

3- وعن إبراهيم التيمي عن أبيه، أنّه التقى بأبي ذرّ في الربذة فقال له أبو ذرّ: «كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمّد خاصّة» (3)

وفي بعض الروايات الاخرى عن أبي ذرّ: إنّ متعتي الحجّ والنساء كانت رخصة لأصحاب النبيّ خاصّة (4)

4- ويقول أبو موسى الأشعري أنّه كان يفتي بعمرة التمتّع بعد رحلة النبيّ إلى أيّام خلافة عمر .. وفي أحد المواسم قال له رجل بأنّ الخليفة قد أصدر فتوى جديدة ومنع عمرة التمتّع، فسأل عن فتوى عمر فقال عمر: إنْ نأخذ بكتاب الله فإنّ الله عزّ وجلّ قالَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ (5)، وإن نأخذ بسنّة نبيّنا عليه الصلاة والسلام فإنّ النبيّ لم يحلّ حتّى نحر الهدي (6)

وفي حديث آخر: قال لأبي موسى: قد علمت أنّ النبيّ قد فعله وأصحابه ولكن كرهت أن يظلّوا معرّسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم (7)

5- وعن سعيد بن المسيب أنّه قال: اجتمع عليّ وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال عليّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إنّي لا أستطيع أن أدعك، فلمّا أن رأى عليّ ذلك أهلَّ بهما جميعاً (8)

هل كانت رخصة عمرة التمتّع خاصّة؟

تستند بعض الروايات المخالفة لعمرة التمتّع إلى أنّ تلك رخصة خاصّة لأصحاب النبيّ وأنّها كانت محصورة بعصر الرسالة، ولذلك لا يمكن اعتبارها حكماً دائميّاً! وقد وردت ادّعاءات بهذا الخصوص، وخصوصاً عن لسان أبي ذرّ، مثلًا:

1- روى إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال: كانت المتعة في الحجّ لأصحاب محمّد خاصّة (9)

2- وعنه، عن أبي ذرّ قال: لا تصلح المتعتان إلّا لنا خاصّة. يعني متعة النساء ومتعة الحجّ (10)

3- وعن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء قال: أتيت إبراهيم النخعي وإبراهيم التيمي فقلت: إنّي أهُمّ أن أجمع العمرة والحجّ العام، فقال إبراهيم النخعي: لكن أبوك لم يكن ليهُمّ بذلك ... ونقل إبراهيم التيمي عن أبيه أنّه مرَّ بأبي ذرّ (رضي الله عنه) بالربذة فذكر له ذلك، فقال: إنّما كانت لنا رخصة دونكم (11)

نقد ودراسة الروايات المعارضة لجواز عمرة التمتّع

وفي مقام تقييم الروايات المتقدّمة ونقد الروايات المعارضة لجواز عمرة التمتّع نقول: إنّ الروايات الحاكية لاجتناب النبيّ وبعض الصحابة عن أداء عمرة التمتّع في حجّة الوداع يمكن قبولها، فإنّ السبب الوحيد لذلك هو اصطحاب النبيّ وبعض الصحابة للهدي، وكما تقدّم سابقاً فإنّ أكثر مَن جاء مع النبيّ ومنهم أزواجه وفاطمة الزهراء أيضاً قد كلّفوا بأداء عمرة التمتّع، وفي يوم التروية فقط لبّوا بقصد الحجّ. وأمّا الروايات التي تجعل رخصة عمرة التمتّع خاصّة لأصحاب النبيّ فلا يمكن قبولها؛ فهي إمّا موضوعة أو أساسها التوهّم، والدليل على ذلك:

أوّلًا: إنّ الروايات تعلن أنّ تشريع العمرة وكون العمرة والحجّ متداخلان في أشهر الحجّ، وأنّه حكم أبديّ، ومنها سؤال سراقة بن مالك بن جعشم للنبيّ حيث أشار النبيّ في جوابه إلى أبديّة تشريع العمرة (12)

وثانياً: إنّه وردت روايات متعدّدة في مصادر أهل السنّة تقول: إنّ النهي وتحريم عمرة التمتّع في أشهر الحجّ بدعة أحدثها عمر، ويبدو أنّ عمر كان ينهى الناس عن أداء عمرة التمتّع ما دام حيّاً وكان نهيه متّبعاً، لكنّه ما أن توفّي حتّى وقع الخلاف مجدّداً بين الصحابة بخصوص جواز أو عدم جواز ذلك، وقد مالَ أكثر الصحابة إلى جواز عمرة التمتّع مستندين إلى أنّه لا توجد آية أو سنّة ناسخة لعمرة التمتّع، وأنّه لا يوجد سوى رأي عمر ونظره الشخصي في نهيه عن عمرة التمتّع. والروايات التالية شاهدة على هذه الموارد:

1- روى مطرف بن عبدالله، عن عمران بن حصين روايات عديدة نسبت النهي عن أداء عمرة التمتّع إلى الاجتهاد الشخصي بعد وفاة النبيّ منها: أنّه قال: إعلم أنّ رسول الله جمع بين حجّ وعمرة ثمّ لم ينزل فيها كتاب ولم ينهنا عنهما رسول الله، قال فيها رجل برأيه ما شاء (13)


1- سنن ابن ماجة 989: 2، وانظر أيضاً الروايات الأخرى لهذا الباب تحت عنوان «الإفراد بالحج»
2- صحيح مسلم 905: 2؛ وموطأ مالك 335: 1.
3- صحيح مسلم 827: 2؛ وأيضاً سنن ابن ماجة 994: 2.
4- صحيح مسلم 897: 2.
5- البقرة: 196.
6- صحيح مسلم 895: 2؛ وصحيح البخاري 650: 2.
7- المصدر نفسه 896: 2؛ وسنن ابن ماجة 992: 2.
8- المصدر نفسه 897: 2؛ وانظر أيضاً: موطأ مالك 336: 1.
9- صحيح مسلم 898: 2.
10- المصدر نفسه.
11- المصدر نفسه.
12- سنن ابن ماجة 991: 2.
13- صحيح مسلم 899: 2؛ وانظر الروايات المتعددة في المصدر نفسه من رقم: 173- 165؛ وسنن ابن ماجة 991: 2.

ص: 114

2- عن محمّد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل، أنّه سمع سعد بن أبي وقّاص والضحّاك بن قيس وهما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحّاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يابن أخي، فقال له الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه (1)

3- وسأل رجل من أهل الشام عبدالله بن عمر عن عمرة التمتّع، فقال: إنّه حلال وجائز. فقال السائل: لكن أباك نهى عنها. فقال ابن عمر: ما ظنّك لو أنّ أبي نها عن عمرة التمتّع ورسول الله أمرنا بها، هل تتّبع رأي أبي أم حكم رسول الله؟ فقال الرجل الشامي: بل المتّبع أمر رسول الله، فقال ابن عمر: فاعلم أنّ رسول الله قد أمر بذلك.

سبب تشريع عمرة التمتّع في أشهر الحجّ

اتّضح من خلال ما تقدّم إجمالًا أنّ عمرة التمتّع شُرّعت في عام حجّة الوداع وبعدها بفترة قصيرة توفّي النبيّ، وفي النتيجة بقي هذا الحكم الشرعي سنّةً وذكرى لرسول الله وهو إلى اليوم باق على قوّته واعتباره، لأنّ مخالفة عدد محدود من الصحابة ومنهم عمر وعثمان لم تستطع الإخلال بأصالة هذا الحكم ولم تشكِّل خطراً جدّياً عليه حتّى في أوساط أهل السنّة، لكن ما هو سبب تشريع هذا الحكم؟

ولكي يتّضح المطلب نقول: إنّه يظهر من الروايات التاريخيّة بأنّه كان الناس في الجاهلية يُحرمون بنية الحجّ الخالص فقط في أشهر الحجّ ويبقون في حالة الإحرام إلى يوم عيد الأضحى- الذي يحصل فيه التضحية والحلق أو التقصير- ثمّ يقصدون لزيارة بيت الله أيضاً لأداء مناسك العمرة في الأشهر الاخرى وخصوصاً شهر رجب، وكانوا يعتقدون بأنّه إذا التأم جرح ظهر الدابّة التي حجّ عليها ونبت عليها الوبر وحلَّ شهر صفر فإنّه يجوز أداء العمرة حينئذ (2). لكن أداء مناسك العمرة هذه كان يسبّب مشاكل للحجّاج من ناحيتين هما:

1- تعدّد السفر إلى مكّة؛ بمعنى أنّ الراغبين في الحجّ والعمرة يلزمهم أسفار متعدّدة، ففي أشهر الحجّ يأتون إلى مكّة بنيّة الحجّ، وفي الأشهر الاخرى وخصوصاً شهر رجب يأتون بنيّة العمرة. وبالطبع فإنّ هذا يسبّب مصاعب ومشاقّ لكثير من الحجّاج من ناحية نفقات السفر أو البُعد ومخاوف الطريق، وأنّ الاتّساع التدريجي للأراضي الإسلامية وازدياد عدد المسلمين قد زاد من حجم المشاكل، وكان يمكن في النتيجة أن يؤدّي إلى فوات مراسم العمرة، والحال أنّه يظهر من بعض الروايات إنّ أداء مناسك الحجّ والعمرة كلاهما مطلوب لله تعالى فهما قد وجبا على المسلمين في النتيجة (3).

2- البقاء على حال الإحرام مدّة طويلة؛ حيث نعلم أنّه بعد وصول الحاج إلى أحد المواقيت ولبسه للباس الإحرام وتلبيته (وخصوصاً إذا كان بقصد الحجّ الخالص) يحرم عليه (42) شيئاً، فيجب عليه مراعاة محرّمات الإحرام هذه من هذا الوقت إلى يوم عيد الأضحى، حيث إنّه بعد التضحية والحلق أو التقصير يجوز له الخروج عن الإحرام. ومن الواضح أنّ الاحتفاظ بحالة الإحرام لأيّام طويلة يسبّب مشاكل كثيرة للحاج يصعب عليه تحمّلها وقد تؤدّي أحياناً إلى فساد الحجّ أو إيجاب كفّارات كبيرة عليه. لكن ومع تشريع عمرة التمتّع والخروج عن لباس الإحرام إلى يوم التروية تقلّ هذه المشاكل إلى حدٍّ كبير فيكون الحاج مهيّئاً لأداء مناسك الحجّ باطمئنان وراحة بال. ويكون قد حصل على ثواب وفضيلة عبادتين شرعيّتين هما: الحجّ والعمرة في سفرة واحدة، وتعتبر هذه أهمّ الأسباب لتشريع عمرة التمتّع.

يقول الإمام الرضا بهذا الصدد: «إنّما أُمروا بالتمتّع إلى الحجّ؛ لأنّه تخفيف من ربّكم ورحمة لأن تسلم الناس في إحرامهم ولا يطول ذلك عليهم فيدخل عليهم الفساد وأن يكون الحجّ والعمرة واجبين جميعاً فلا تعطل العمرة وتبطل، ولا يكون الحجّ مفرداً من العمرة ويكون بينهما فصل وتمييز ..» (4)

دراسة مقارنة للحجّ الأفضل في المذاهب الإسلاميّة

إنّه وبسبب الاختلاف بخصوص حجّ التمتّع في المجاميع الروائية لأهل السنّة فقد وجدت اختلافات كبيرة بين المذاهب الأربعة حول الحجّ الأفضل، وفيما يلي نشير إلى بعض الاختلافات حول الحجّ الأفضل من الأقسام الثلاثة للحجّ:

أ- المذهب الشافعي: إنّ ترتيب أفضلية أقسام الحجّ الثلاثة في هذا المذهب بهذا النحو: حج الإفراد، حجّ التمتّع، وحج القران (5)

ب- المذهب المالكي: وترتيب أفضليّة أقسام الحجّ في هذا المذهب عبارة عن: حج الإفراد، حج القران، وحجّ التمتّع (6)

ج- المذهب الحنبلي: وجدت آراء مختلفة في هذا المذهب وطبقاً لأحد الآراء المنقولة عن أحمد بن حنبل نفسه فإنّ ترتيب أفضليّة أقسام الحجّ عبارة عن: حجّ التمتّع، حجّ الإفراد، وحج القران (7)

د- المذهب الحنفي: وفي هذا المذهب أيضاً فإنّ ترتيب أفضليّة أقسام الحجّ الثلاثة هو بهذه الصورة: «حج القران أفضل من حجّ التمتّع وحجّ التمتّع أفضل من حجّ الإفراد» (8)

وقد سبّبت هذه الاختلافات حول أفضل أنواع الحجّ وقوع الشكوك عند بعض الناس حول نوع حجّ رسول الله ونيّته حين إحرامه (9) وسؤالهم الأئمّة عن ذلك. فعن الفضيل بن عياض قال: سألت أبا عبدالله عن اختلاف الناس في الحجّ فبعضهم يقول: خرج رسول الله مهلًّا بالحجّ، وقال بعضهم: مهلًّا بالعمرة، وقال بعضهم: خرج قارناً، وقال بعضهم: خرج ينتظر أمر الله عزّ وجلّ. فقال أبو عبدالله: «علم الله عزّ وجلّ أنّها حجّة لا يحجّ رسول الله بعدها أبداً، فجمع الله عزّ وجلّ له ذلك كلّه في سفرة واحدة ليكون جميع ذلك سنّة لُامّته، فلمّا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل أن يجعلها عمرة إلّا من كان معه هدي فهو محبوس على هديه لا يحلّ، لقوله عزّ وجلّ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ، فجمعت له العمرة


1- سنن الترمذي 185: 3.
2- صحيح مسلم 910: 2؛ مع النبي في حجة الوداع: 107.
3- يقول الإمام الرضا في حديث: «... وأن يكون الحج والعمرة واجبين جميعاً فلا تعطل العمرة وتبطل ولا يكون الحج مفرداً من العمرة»؛ انظر: سنن النبي 59: 8، نقلًا عن علل الشرائع وعيون أخبار الرضا.
4- وسائل الشيعة 165: 8؛ وسنن النبي 59: 6.
5- الفقه على المذاهب الأربعة: 688؛ وحجة الوداع للكاندهلوي: 36؛ وسنن الترمذي 183: 3.
6- الفقه على المذاهب الأربعة: 690؛ وحجة الوداع: 37.
7- الفقه على المذاهب الأربعة: 692؛ وحجة الوداع: 37.
8- الفقه على المذاهب الأربعة: 693.
9- حجة الوداع وجزء عمرات النبي: 36؛ وانظر: ابن حزم، حجة الوداع: 496- 394، بعنوان: الاختلاف في كيفية إهلال رسول الله بحج مفرد أم بعمرة مفردة.

ص: 115

والحجّ وكان خرج على خروج العرب الأوّل، لأنّ العرب كانت لا تعرف إلّا الحجّ، وهو في ذلك ينتظر أمر الله تعالى، وهو يقول: الناس على أمر جاهليّتهم إلّا ما غيّره الإسلام، وكانوا لا يرون العمرة في أشهر الحجّ فشقّ على أصحابه حين قال: اجعلوها عمرة؛ لأنّهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحجّ. وهذا الكلام من رسول الله إنّما كان في الوقت الذي أمرهم فيه بفسخ الحجّ فقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه» (1)

وممّا يجدر التأكيد في ختام هذا المقام، أنّ أفضليّة حجّ التمتّع عند الشيعة كان مستنداً قطعاً إلى رأي الأئمّة، وقد أثّر أيضاً في توجيه فقه الإماميّة. فقد اعتبر أئمّة المذهب وخصوصاً الصادقين هذا الموضوع مستنتجاً من القرآن الكريم والسنّة النبويّة وكانوا يؤكّدون دوماً عليه بكونه (أفضل أنواع الحجّ). ولذا كان شيعتهم يبادرون إلى أدائه في أجواء حكم أهل السنّة، وأيضاً كان الأئمّة أنفسهم يؤدّونه بلا تقيّة. والأحاديث الآتية- وهي تمثِّل نموذجاً بسيطاً من الروايات الواردة بهذا الخصوص- تشير إلى موقف الأئمّة الحازم حول أفضل أنواع الحجّ:

1- عن أبي أيّوب إبراهيم بن عيسى قال: سألت الإمام الصادق: أيّ أنواع الحجّ أفضل؟ فقال: «التمتّع، وكيف يكون شي ء أفضل منه ورسول الله يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت مثل ما فعل الناس؟!» (2)

2- وعن حفص بن البختري وحسن بن عبد الملك، عن زرارة، عن الإمام الصادق قال: «المتعة- والله- أفضل، وبها نزل القرآن وجرت السنّة» (3)

3- وعن صفوان الجمّال قال: قلت لأبي عبدالله الصادق: إنّ بعض الناس يقول: جرّد الحجّ، وبعض الناس يقول: اقرن وسُق، وبعض الناس يقول: تمتّع بالعمرة إلى الحجّ؟ فقال: «لو حججت ألف عام لم أقرنها إلّا متمتّعاً» (4)

4- وعن عطية قال: قلت لأبي جعفر الباقر: أفرد الحجّ جعلت فداك سنة؟ فقال لي: «لو حججت ألفاً وألفاً لتمتّعت فلا تفرد» (5)

5- وعن محمّد بن الفضل الهاشمي قال: دخلت مع إخوتي على أبي عبدالله الصادق فقلنا: إنّا نريد الحجّ وبعضنا صرورة؟ فقال: «عليكم بالتمتّع فإنّا لا نتّقي في التمتّع بالعمرة إلى الحجّ سلطاناً، واجتناب المسكر، والمسح على الخفّين» (6)

6- وعن معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبدالله الصادق: «ما نعلم حجّاً لله غير المتعة، إنّا إذا لقينا ربنا قلنا: ربنا عملنا بكتابك وسنّة نبيك، ويقول القوم: علمنا برأينا، فيجعلنا الله وإياهم حيث يشاء» (7)


1- بحار الأنوار 96: 90؛ نقلًا عن علل الشرائع؛ وحج الأنبياء والأئمة ر: 128.
2- تهذيب الأحكام 35: 5؛ من لا يحضره الفقيه 204: 2؛ والكافي 291: 4.
3- من لا يحضره الفقيه 204: 2؛ وتهذيب الأحكام 35: 5؛ والكافي 292: 4.
4- الكافي 292: 4؛ وتهذيب الأحكام 34: 5.
5- تهذيب الأحكام 34: 5.
6- من لا يحضره الفقيه 205: 2؛ والكافي 293: 4.
7- الكافي 291: 4.

ص: 116

ص: 117

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.