ميقات الحج-المجلد 26

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

ص: 6

الرسول الرحمة والحج نموذجاً

ص: 7

محسن الأسدي

قضت إرادة اللَّه تعالى وحكمته سبحانه أن يبعث محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله رسولًا ونبياً في أمة عشعشت في مفاصلها فوضى جاهلية جهلاء، وفي عهد عمّت فيه ضلالة عمياء، وفي زمن كانت دنياه تموج بآلهة عديدة وأرباب متفرقة تعبد عبر شركٍ مقيت وعبودية ذليلة و ظلم صارخ وتخلف وانحدار في ظلمات قاتلة للأرواح كما للقلوب والمشاعر لما يترتب عليها من بعد عن «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها».

خصوصاً بعد أن استولى عمرو بن لحي على مكة وما والاها واستطاع أن يشيع الوثنية بين أهل مكة والقبائل حولها عبر عبادة الأصنام التي جاءهم بها، وهو بعمله هذا بدّل ديانة نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام التوحيدية الخالصة للَّه وحده، والتي كان أهل الجزيرة العربية ومن حولها يدينون بها، وعلى إثر ذلك التبديل تكاثرت الآلهة فنشر الشرك بين أهل مكة وخارجها، حيث كان أهل الحجاز يستمعون إلى أهل مكة ويتبعون ما يرونه ويعتقدونه، لأنهم أهل الحرم المبارك والبيت الكريم وولاته وسدنته والقائمون على شؤونه، فانتشرت الوثنية في هذه البلاد، واستتبع ذلك تفشي الانحرافات العبادية والخرافات الدينية والأمراض

ص: 8

الأخلاقية والمفاسد الاجتماعية، وتجذر الجهل والتسلط والاستغلال والظلم والتعسف.. وجميعها وجدت مكاناً لها بين طبقات مجتمعهم وأبنائهم، ثم انتقلت إلى أجيالهم وأعقابهم..

«.. إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ...» (1).

فترك كل هذا وغيره بدوره آثاره السيئة على مجمل حياتهم الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى الأخلاقية والنفسية...

فأخلاقياً واجتماعياً- وإن حافظوا على جملة من الأخلاق التي تميزوا بها عن الآخرين كالوفاء بالعهد والكرم وعزة النفس والمروءة والشجاعة.. امتلأت بها قصائدهم ونواديهم فخراً وزهواً- كان فيهم ما ينكره العقل السليم وما يقشعرّ منه الخلق السليم والأدب القويم، فقد كانوا يرتكبون الخطايا ويردون مجالس اللهو والطرب، ويمارسون الرذيلة بأنواعها كالزنا، حتى لم تعد المرأة عندهم إلا سلعة مهينة معاملة ومعاشرة ونكاحاً وطلاقاً وإرثاً، ويدمنون على تعاطي الخمرة في بيوتهم ومجالسهم.. والجهل يستمرئونه، ويحتكمون إلى ما ورثوه من عادات وتقاليد وإن فسدت..

وهناك ظاهرتان مؤلمتان، فقد كان فيهم أناس يئدون البنات خشية العار وسبيهنّ، ويرون في وجودهن والإبقاء عليهن ذلة لهم.. ويقتلون الأولاد خوف الفقر والفاقة والافتقار.. وقد حكى لنا القرآن الكريم هاتين الظاهرتين:

«وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (2)


1- الزخرف: 22.
2- النحل: 58- 59.

ص: 9

«وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» (1).

وأما ثروتهم فقد استأثر بها فريق دون الآخرين، راح يملك الأسواق والأنشطة التجارية والنواحي الاقتصادية في الحجاز وبالذات في مكة، وكان صناديد قريش هم المتحكمون بهذه النواحي وتلك الأنشطة، وكانت مكة مركز البيت الحرام والعبادات خالصة لهم لا يستطيع أحد- مهما تمكن واقتدر- أن ينازعهم سلطانهم هذا. وبجانب هذه الطبقة هناك طبقة متوسطة الحال وأخرى سيطر عليها الفقر والحرمان، وهناك الرقيق أيضاً، وهم يشكلون ظاهرة واسعة وقد أسقط الكبار الظالمون المتعجرفون كل حقوق هذه الطبقة في الحياة المناسبة، وجعلوهم يعيشون بين تلك الطبقات الثلاث عيشةً ذليلة يستخدمونهم أبشع استخدام خَدَمَة وعمالًا وأجراً...

وكانت القبائل العربية مفكّكة الأوصال، تغلب عليها الأنانية وحب الذات..

ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً!

والنزعة القبلية والطبيعة العنصرية متفشية فيهم..

وهل أنا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد؟!

وكان ديدنهم القتل والغزو والسلب، يُغير بعضهم على بعض، فيقتل قويهم ضعيفهم ويسبي، وكانت الحروب تطحنهم ويتقاتلون فيها قتال ذئاب مسعورة لأتفه الأسباب..، وحتى تضع الحرب أوزارها يحتاجون لسنين طويلة جداً.. ولم يكن لهم من يعودون إليه من زعيم يلوذون به أو مرجع يلجئون إليه أو دولة قوية


1- الإسراء: 31.

ص: 10

يركنون إليها وقت الشدائد لتحلّ مشاكلهم ويرضخوا لحكمها فيهم، وتدعم وحدتهم وتدافع عن استقلالهم ومكانتهم.. فتوالت فيها حروب طاحنة ومعارك دامية تذكيها الأحقاد والضغائن وتقودها ثارات قبلية ونعرات عصبية، حتى غدت أمة سيوفٍ مشهورة ورماح مشرعة ودماء نازفة وأعضاء مقطعة وأرامل، وأمهات ثكلى، وأطفال يتامى.. ونكبات وآلام..

أمة كانت تتقاتل بسبب جَمَل يملكه ضيف إحدى القبائل اقتحم مراعي قبيلة أخرى، أو ناقة قتلت، فما كان منهم إلا أن يدخلوا حرباً ضروساً و يتقاتلوا أربعين سنة تفيض فيها أرواح ودماء سبعين ألف إنسان من كلا القبيلتين: بكر وتغلب وحلفائهما، حتى كادوا ليفنوا عن آخرهم. إنها حرب البسوس تلك المرأة التميمية التي علا صراخها.. واذلاه.. فكانت الحرب ووقع القتال وزهقت الأنفس وسبيت الأمة ودمرت الحياة...

وهناك أمة أخرى لا تقل تمزقاً وفرقة وتشتتاً عن تلك الأمة، إنها قبيلتا الأوس والخزرج، وقد سجل لنا التاريخ أياماً مريرة كانت بينهم:

فبعد أول يوم فتنة وقع بينهما (حرب سمير) وانضمّت كل بطون القبيلتين إليها واقتتلوا فيها عبر جولتين شرستين قتالًا شديداً، توالت أيامهم القاسية الأخرى:

يوم الرحابة، ويوم السرارة، ويوم الحصين، ويوم فارع، ويوم الحسر الذي لم تنفع فيه تلك الجهود الكبيرة للإصلاح من قبل رجلين فزاريين بعد أن شاهدا من قتالهم ما آيسا معه من الإصلاح بينهم.. ويوم الربيع وهو حائط في ناحية السفح اقتتلوا فيه قتالًا شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً وقد انهزم فيها الأوس ولم ينفعهم فرارهم، فقد تبعهم الخزرج حتى بلغوا دورهم لينزلوا بهم أشد العذاب قتلًا وتدميراً.. ويوم البقيع وفيه رجحت كفة القتال لصالح الأوس.. ويوم الفجار الأول وقد اصطبغت فيه ساحة المعركة بالدم الأحمر، هدف كلٍ من المتقاتلين إفناء الآخر.. ويوم معبس أقاموا فيها أياماً يخوضون قتالًا عنيفاً ضارياً فانهزمت الأوس هزيمة قبيحة حتى لاذت ببيوتها وآكامها.. ويوم الفجار الثاني وقد اتحدت به الأوس واليهود قريظة والنضير ضد الخزرج... وبغاث كان يوم حرب ضروس فرّ فيها الأوس أمام الخزرج قبل أن تدور الدائرة على الخزرج

ص: 11

حتى علا الصياح: «يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب: أي اليهود..» إلا أن غضب الأوس لم يهدأ حتّى أضرموا النّار اللاهبة في دور الخزرجيين ونخيلهم.. إنها أيّام عصيبة وحروب رهيبة قد كادت تفني القبيلتين وتهلك الحيين ولم يشفع أنهما ينتميان لأب واحد وأم واحدة، ولم تقف الحرب وتنته بل ظلت سجالًا فما أن تضع واحدة أوزارها حتى تبدأ أخرى أشد منها عنفاً وضراوة ونزفاً..

وأما المستوى الاقتصادي، فوضعهم فيه ليس بأقل سوءاً من أوضاعهم السابقة؛ فقد تأثر بأحوالهم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية.. وبانعدام الثقة والأمن والسلامة الاقتصادية والوعي بالأحكام والقوانين.. ولأنهم كانوا أبعد الأمم عن ذلك وعن نواحي التنمية كالصناعة لغلبة البداوة عليهم، وعن الزراعة وإن وجد شي ء منها في بعض الأماكن عندهم وراجت التجارة في الأشهر الحرم، إلا أن الحروب الطاحنة والإغارات المستمرة وما يستتبعها من السلب والنهب كانت تلقي بظلالها القاتلة على أيّ مظهر من مظاهر التنمية.. فساد الاستغلال والتسلط ثم الفقر والجوع والعوز والتخلف الاقتصادي..

كل هذا وغيره مظاهر تنخر في بنية مجتمع الحجاز وكيانهم وتسي ء إليهم حتى غدوا في الحضيض الأسفل من الضعف والعماية والتخلف.. هذا أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً.

وأما سياسياً فلا شك في تبعية الوضع السياسي لوضعهم الاجتماعي الردي ء والأخلاقي الوضيع والاقتصادي الظالم، إلا أنهم كانوا يتمتعون بشي ء من الاستقلال النسبي إذا ما قيست حياتهم السياسية بما عليه جيرانهم والمتاخمون لدول كبيرة تحيطهم، التي كانت حياتهم أقرب للعبودية لغيرهم بل العبودية بعينها غالباً، فقد حكم الفرس العراق، وغلبت الروم على بلاد الشام، والأحباش على اليمن.. وعاشت هذه البلدان انحطاطاً مقيتاً، ومورست مع أهلها ألوان مختلفة من الظلم والاستبداد والقهر والإذلال، لأن هذه الدول الكبرى المتسلطة يومذاك

ص: 12

كانت ترى العرب عبيداً همجيين لا حضارة لهم ولا مدنية عندهم، وبالتالي لا يستحقون الحياة العزيزة الكريمة، وإلا أن يكونوا تابعين..

لقد كان ذلك الواقع المتخلّف والفاسد والضعيف تحيط به حضارتان عظيمتان ودولتان كبيرتان: دولة الفرس ودولة الروم، ويهود وغيرهم هنا وهناك، وجميعهم يحلّون ما حرم اللَّه تعالى ويحرمون ما أحل، وصدّهم عن سبيل الهدى ترف حكامهم وتسلطهم وكان لدياناتهم المنحرفة أثر واضح على معالم حياتهم..

وغدت شعوبهم بسبب ذلك تتخبط في حيرتها وشقائها وسط مدنيات مزيفة، قوامها أسس مادية فقط بعيدة عن الروح، ودون أن يكون لها أي تعلق بنور الوحي الإلهي، إلا بقايا أهل الكتاب تتمثل في أفراد أبت أن تنزلق في أوحال الشرك والجاهلية، وظلّت ثابتة على منهج التوحيد منتظرةً خروج نبي جديد بشرت به كتبهم وأنبياؤهم، وتعلقت به نفوسهم و آمالهم..

ص: 13

هناك حكم عديدة تصلح أن تسجل لنا أموراً وتجيب عن تساؤلاتنا حول سبب اختيار هذه الأمة دون غيرها من الأمم لأعظم رسالة حملها رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله فإضافة الى أنها أمة توسطت الدنيا موقعاً فنورها يمكنه أن يعم الجميع ويصل إليه.. حيث إن موقعهم الجغرافي المتميز بين دول العالم سهّل انطلاق الرسالة إلى جميع الشعوب والدول المحيطة.

وأنها ظلت ملاذاً ومكاناً لعدد من الأنبياء والرسل والرسالات وأصحابها، فإن التدبر والتأمّل في تلك المرحلة قبل البعثة النبوية الشريفة يضعنا أمام واقعين مختلفين أو حالتين مختلفتين:

واقع الأمة المختارة لحمل الرسالة السماوية الخاتمة.

وواقع الأمم الأخرى من غيرها.

وبمعرفة هذين الواقعين يمكننا أن نستخلص أسباباً أو حكماً أخرى تصلح لأن تكون مبرراً لاصطفاء هذه الأمة لأمر عظيم يتمثل بتشرفها بحمل الأمانة الربانية العظيمة، وبالتالي هداية المجتمع الإنساني إلى أكمل الدين وأعظم الرشد وأبين الهدى وأتم النعم.. ولتكون معجزة الرسالة والنبوة التي ضمّها القرآن الكريم وتوفرت عليه شرائع الدين الجديد وأحكامه ومفاهيمه جليةً واضحة في الأذهان والنفوس لا لُبس فيها ولا غموض ولا مجال للطعن والاتهام، ولعلّ من تلك الحكم:

«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ..» (1).

«لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ...» (2).

«إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» الحديث.

نسب شريف لم تجد قريش فيه ما تطعن على النبي صلى الله عليه و آله، وقد أجاب


1- التوبة: 128.
2- آل عمران: 164.

ص: 14

أبو سفيان، وهو يومئذ أشد أعداء النبي صلى الله عليه و آله حين سأله هرقل عن نسب النبي صلى الله عليه و آله فقال: هو فينا ذو نسب.

لقد كانت أمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقل أمم ذلك الزمان حضارة ومدنية فهم قوم أميون كما وصفتهم الآية:

«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (1).

«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2).

بل شاء اللَّه أن يكون رسوله محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله لهذه الأمة الأمية أمياً أيضاً.

«مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» (3).

كل هذا جاء تأكيداً لحكمته تعالى ودفعاً لمزاعم قد تثار و تنطلي على كثير من الناس وتصدّق بها نفوسهم فتكون مبرراً تحتجّ به فتبعدهم عن الهدى والخير..

وحقاً لو كانوا أمة قارئة متعلّمة متحضرة تعرف المدنية وأصولها والحضارة ومعالمها كما هو عليه حال كل من اليونان والفرس والرومان وربما هناك غيرهم وهم أهل حضارات مجاورة لهم، لوقع الارتياب ولقال قائلهم:

إن ما حدث لهذه الأمة من تغيير وحمل الرسالة وما يترتب على ذلك هو نتيجة تأثر علمي واحتكاك ثقافي وانفعال حضاري مدني..

إن الأخلاق القيمة التي أشرنا اليها كالوفاء بالعهد وعزةالنفس ومضاء العزيمة، لم تكون معروفة عند الأمم المجاورة لها وإن عظمت حضارة وتقدماً، وهي أخلاق


1- الجمعة: 2.
2- آل عمران: 164.
3- العنكبوت: 48.

ص: 15

تحتاجها تلك الأمانة السماوية ومسيرتها وتبليغها وأيضاً قيادة الأمة، فبدون هذه الخصائص لا يمكن لأي أمة أن تحمل أمانة أو تتحمل مسؤولية حتى سادوا الدنيا بأخلاقهم قبل سيوفهم.. وهو ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وطالما افتخر واعتز صلى الله عليه و آله بمشاركته في تعزيز كل مبادئ الحق وإقرار مكارم الأخلاق، فقد شهد صلى الله عليه و آله حلف الفضول وكان عمره عشرين سنة، لأنّه رأى فيه قيماً ومبادئ سامية.. ويأتي الحجر الأسود وقصته عند تجديد بناء الكعبة، وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين؛ ليكون علامة مضيئة على حبّ هذه الأمّة للصدق والأمانة رغم ما تتصف به من فساد أخلاقي، ويكشف عما وصل إليه النبي صلى الله عليه و آله من منزلة عظيمة بين قومه، فقد اختلفت قريش فيمن يستأثر بشرف وضع الحجر الأسود في مكانه فاتفقوا- بعد أن كاد السيف يقع بينهم فيدميهم ويمزقهم- على تحكيم أول داخل من بني شيبة، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعمره 35 سنة، فلما دخل هتفوا جميعاً: إنه محمد بن عبداللَّه.. إنه الصادق الأمين. وبصوت واحد: هذا الأمين قبلناه حكماً بيننا.. هذا الصادق رضينا بحكمه.. فأمر بثوب فأخذ الحجر ووضعه في وسطه، و أمرهم جميعاً برفعه، ثم أخذه بيده الشريفة فوضعه مكانه، فحقن بهذا الدماء من أن تراق وحفظ الأرواح من أن تزهق، ووحّد بهذا صفهم وأشعرهم بقيمة وحدتهم!

الاختيار والبشرى!

وفعلًا تحققت البشرى ووقع اختيار السماء لهذه الأمة أن تكون حاضنةً للنبوة والرسالة الخاتمة والإمامة، فغدت الأمة المختارة.. وغدا محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله النبي المصطفى والرسول الخاتم والإمام المختار..

لقد أرسلت السماء محمداً صلى الله عليه و آله رسولًا ونبياً وهادياً ومرشداً وموحداً لمثل هؤلاء العرب ولمثل تلك الأمة، ليعلمهم معنى الحياة وتطورها على كل الأصعدة المعنوية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية.. وليبث فيهم الحياة الجميلة التي ترتضيها لهم السماء.. الحياة الخالية من الكراهية، المليئة بالحب..

ص: 16

البعيدة عن الرذيلة والفرقة والنزاع والتسلّط والظلم..

وأوجد فيهم منابع للتسامح والمحبة والصبر والتحمل وكظم الغيظ حتى وهم يخوضون غمار الحرب، وراح يبث فيهم تعاليم صارمة ترفض وتشجب الفساد والإتلاف ونقض المواثيق والعهود، وتدعو إلى عدم انتهاك الحرمات وعدم التمثيل بالقتلى، وعدم قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وعدم قطع النخل والشجر أو حرقه، وعدم تهديم الدير والكنائس، وعدم التعرض للرهبان و المشغولين بالعبادة. ولم يلجأ صلى الله عليه و آله إلى القتال إلا اضطراراً، ولم يتجاوز عدد القتلى بضع مئات...

كما راح يعلّمهم ويدربهم على ضبط النفس وقوة الانضباط إلى درجة جعلهم يقيمون الصلاة في ساحات الوغى و القتال ليتعلموا الصبر والالتزام والطاعة وليتزوّدوا السمو والرفعة والتعالي على الأذى والجراح والقروح التي يتعرضون لها حتى وسط غبار العواصف والقتال.. لقد أمرهم في تلك الأوقات العصيبة بالصلاة للَّه تعالى جماعةً لا فرادى، وكلما حان وقت الصلاة وهو يحين خمس مرات في كل يوم يجب ألا تترك أو تؤجل صلاة الجماعة، فينبغي أن تصلي طائفة فتركع وتسجد بين يدي ربها بينما تشتبك الأخرى مع العدو، فإذا قضيت الصلاة فينبغي أن تغيّر كلتا الطائفتين موقعهما:

«وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ...» (1).

إن في سيرته صلى الله عليه و آله الكثير الكثير من الأمثلة السامية نجدها واضحةً في حياته الكريمة، وهنا نقف عند شي ء منها، ففي معاملته صلى الله عليه و آله لألدّ أعدائه؛ نجده وهو في أوج قوّته عند فتح مكة، قريته التي آذاه أهلها واضطهدوه وقاطعوه وعذبوا أنصاره


1- النساء: 102.

ص: 17

وأخرجوهم بقسوة حتى حينما لجأوا إلى يثرب.

وإذا ما اطلعنا على بعض ما تعرض له المسلمون الأوائل سنجد المعاملة الوحشية للرجال والنساء الأبرياء؛ فقد مزقوا بقسوة سميّة تلك المرأة البريئة كل ممزق، بالطعن في موضع العفة بالحراب. أما زوجها ياسر فقد شدوا ساقيه إلى ناقتين وسيقتا في اتجاهين متعاكسين.. وبلال هو الآخر عرضوه لأبشع صور العذاب على رمضاء مكة الملتهبة.. وهكذا خباب بن الأرت الذي جعلوه على سرير من الجمرات المحترقة وظلّ الطغاة عديمو الرحمة يركلونه بأرجلهم وجثموا بوحشية فوق صدره لينصهر الشحم تحت جلده.

وهكذا غيرهم حاصروهم وضيّقوا عليهم وعذبوهم بطرق وحشية ومثلوا بأجسادهم وانتهكوا حرمتهم... هذا إضافة إلى ما شنّوه من ملاحقات وحروب ضدهم بعد هجرتهم وتركهم بلدتهم مكة، وكان منها: بدر، وأحد، والخندق...

إذن كان يحقّ له أن يثأر منهم، حينما تمكن منهم بعد فتح مكة، لما أنزلوه به وبأصحابه وبالمؤمنين به، لكنه عفا عنهم وحتى عن أولئك الذين قتلوا عمّه حمزة وانتهكوا حرمة جسده ومثلوا به فشقوه ولاكوا جزءاً من كبده. أيّ معاملة قابلهم بها! إنها معاملة قلب يفيض بفطرة حب ورحمة لا مثيل لها وهو يردد:

«يا معشر قريش! ويا أهل مكة! ما ترون أني فاعل بكم؟»

ص: 18

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. ثم قال:

«لا تثريب عليكم اليوم. اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وهم يسمعون وينظرون إليه، ويستشعرون بما يقول ويأمر ويعطيهم أمانهم وسلامهم وحياتهم..

وهناك أمثلة عديدة على ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبذله لانتشال تلك الأمة من آثار الجاهلية وسيئات أخلاقها وموبقات أعمالها وينقلها إلى عالم حب وتآلف ومودة..

الأذان الذي كان يعدّ عملًا عظيماً ويدعو للاحترام والتقدير.. لقد أعطي هذا الشرف لمن؟ إنه لبلال العبد الحبشي دون غيره من المسلمين حتى تلغى تلك الفوارق المدمرة، لقد أمره النبي صلى الله عليه و آله في عمرة القضاء أن ينادي للصلاة، فوقف هذا العبد الحبشي ذو البشرة السوداء والشفتين الغليظتين على سطح الكعبة المشرفة أكثر الأماكن عراقةً وقداسة وفضيلة، وما إن رأوا بلالًا يصدح بالأذان حتى صرخ عكرمة بن أبي جهل أحد العرب المستكبرين المشركين بصوت عال متألماً:

لقد أكرم اللَّه أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول. فيما قال مشرك آخر:

الحمد للَّه الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة. وآخرون لما سمعوه غطوا وجوههم عنفةً وكبرياء وسخرية منه..

إنها رائحة الكبرياء والعنصرية والهوى تفوح منهم، وقد عزم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقرآنه المجيد على استئصالها:

«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ» (1).

لقد راح صلى الله عليه و آله يواكب الناس حتى بعد إسلامهم ويسددهم ويقومهم ويقتلع ما فيهم من آثار تلك الجاهلية وما تركته في نفوسهم، والإنسان ابن بيئته، ليبدلها


1- الحجرات: 13.

ص: 19

بأخلاق إسلامية وآداب قرآنية بعيدة عن التعصب والعنصرية وطالما كان يقول:

دعوها فإنها نتنة دعوها فإنها نتنة..

سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبا ذر حدثان إسلامه يقول لابن عمه: يا بن الأمة، فقال له صلى الله عليه و آله: «ما ذهبت عنك جاهليتك بعد».

وقال صلى الله عليه و آله: له في قضية مشابهة: «إنك امرؤ فيك جاهلية».

وعودهم التعامل الطيب مع أعدائهم والرحمة بأسرائهم، فقد مرّ بلال بامرأتين يهوديتين أسيرتين على قتلى من اليهود، وما أن رأت إحداهما جثث القتلى حتى صاحت وصكّت وجهها وحثت التراب على رأسها. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له حين ورده خبر ما فعله: انزعت منك الرحمة يا بلال؟! حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما (1)!!

إنها أمثلة كثيرة، اخترت ما يحضرني منها، تنبع من تعاليم الإسلام وأحكامه وتكاليفه وكلها رحمة للعالمين ونجاة لهم من سيئات الدنيا وعذاب الآخرة، وهدفها حياة خالدة:

«.. اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ..» (2).

الحج نموذجاً حياً

ونكتفي هنا بنموذج واحد من تلك التكاليف وبما يتناسب مع منهج مجلتنا هذه التي احتلت مكانة مرموقة في عالم المكتبة العلمية والمعرفية والثقافية، وراحت تؤدي دورها في بيان أعظم الفرائض الإسلامية تربية وتهذيباً وبناء للروح الإيمانية والنفس الإنسانية والآداب والأخلاق... إنّها فريضة الحج، الدعوة الربانية العظيمة، والنداء السماوي الخالد، والمؤتمر الإسلامي الكبير،


1- أنظر السيرة النبوية لابن هشام، وكتاب المغازي للواقدي، عمرة القضاء، وتاريخ الطبري، غزوة خيبر، سنة 7.
2- الأنفال: 24.

ص: 20

والتظاهرة الإيمانية الرائعة، التي تضم بين صفوفها أجناساً متعددة، ومذاهب وطبقات وقوميات شتى، بزيّ واحد لا يميز غنيهم عن فقيرهم ولا حاكمهم عن محكومهم ولا أبيضهم عن أسودهم... إنه زي موحد قطعتا قماش أبيض اللون غير مخيط يأتزر الرجل بأحدهما حول سوءته، فيما يرتدي الأخرى فوق كتفيه، حاسر الرأس في غير خيلاء ولا تكلف، مرددًا نداء واحداً:

«لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».. إنهم جميعاً على موعد واحد، وواد واحد، وحرم واحد، وبيت واحد، ومنسك واحد...

إن عالمنا- كما العوالم السابقة واللاحقة- يشاهدون في كل عام في موسم الحج مشهداً رائعاً واستعراضاً عظيماً للإسلام الموحد، بعيداً عن فروقات الجنس واللون والمكانة... عبر صف واحد يشد بعضه بعضاً، وأسرة ربانية واحدة ترفرف عليها رحمة السماء.. وكلهم مدعوون «.. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ...».

منافع دنيوية ومنافع أخروية مفتوحة لهم أبوابها ينالها كل واحد منهم بقدر إخلاصه وصدقه..

إن الحج محراب عبادة ما أعظمه! وميدان وحدة وأخوة وتعارف ومسؤولية ما أروعه! وموسم خير وتجارة ما أنفعه!

ص: 21

معجزة النبيّ في كونه قارءئا أو اميّاً

الشيخ محمد القائيني

تمهيد

اشتهر أن من معاجز الإسلام ما ظهر على يد النبي صلى الله عليه و آله من العلوم والمعارف، ومن جملتها ما حواه القرآن الكريم وتضمّنه الفرقان العظيم مع كونه صلى الله عليه و آله رجلًا أمّياً حسبما صرّح به الكتاب المجيد ونطقت به نصوص الروايات، فكان ذلك آية نزول هذه العلوم من مصدر الوحي وصدورها من مورده، بعد أن أبطل برهان القرآن قولهم: إنّما يعلمه بشر،

بقوله: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» (1).

والكلام في هذه المعجزة ومعنى كون النبي صلى الله عليه و آله أميّاً يتطلّب البحث- على سبيل الإجمال- عن حقيقة المعجزة ومعناها، وربطها بإثبات الدعاوي ومنها النبوّات، ثمّ البحث عن إعجاز القرآن ووجوه ذلك، ومن جملتها نزوله على يد رجل امّي.

فلذا نورد البحث في فصلين:

الفصل الأول:

في المعجزة وحقيقتها والفرق بينها وبين السحر وكذا الكرامات


1- النحل: 103.

ص: 22

وغير ذلك.

الفصل الثاني:

في إعجاز القرآن على العموم وخصوص صدوره على يد النبيّ الأمّي صلى الله عليه و آله.

الفصل الأوّل: والكلام فيه في جهات:

الجهة الأولى:

المعجزة من باب الإفعال مشتق من العجز.

والمراد بها في الاصطلاح عجز البشر عن تحقيق ما يأتي به صاحب المعجزة وعدم تمكّنهم من الإتيان بما أتى به، مع اقتران ذلك بدعوى مثل النبوة والرسالة والإمامة. ولا أخفيك أن بعض الشبهات المطروحة في الإعجاز لا تختصّ بما كان الفعل المعبر عنه بالمعجزة مقروناً بالدعوى، بل تشمل ما كان من قبيل الكرامات للأولياء والتي لا تقترن بدعوى، وسنوافيك بذلك إن شاء اللَّه تعالى.

ثمّ إن العامل الأساس للإعجاز هو عجز الناس عن مجاراته وعدم تمكّنهم عن مضاهاته سواء كان ذاك الفعل غير ممكن للناس أصلًا أو كانوا لا يتمكّنون من فعله بالوجه الذي حقّقه صاحب المعجزة، من تحقيقه في زمان أو مكان خاصّين وإن كان فعله على وجه آخر داخلًا ممكناً لهم و مقدوراً.

وإن شئت فاصطلح على القسم الأول بالإعجاز المطلق، وعلى القسم الثاني بالإعجاز النسبي.

فإحياء الموتى- حيث فرض عدم تمكّن الناس العاديين من فعله بوجه- يعتبر معجزة مطلقة، وأمّا إنبات الزرع وإثمار الشجر في غير الموسم المناسب ومكانه فمعجزة نسبيّة، ونريد بذلك أن تحقيق هذا الفعل على الوجه الخاص معجزة وإن كان تحقيقه على وجه آخر لا يعد إعجازاً.

الجهة الثانية:

هل العبرة في المعجزة بعجز طائفة من الناس عن فعله أو أنّه لا تكون المعجزة معجزةً حتى يعجز كل الناس وفي كل الأزمنة عن تحقيقه والإتيان به؟

ص: 23

وهناك احتمال ثالث وهو اعتبار عجز السابقين و المعاصرين للإعجاز والمقاربين لعصره بمقدار تسمح الطفرة في تقدّم العلوم عادة. وهذا بحث هامّ جدّاً حيث يترتب على ذلك أنّه إذا كانت العبرة في الإعجاز بعجز الكلّ وإلى الأبد فربما لم يمكن إثبات كون أمرٍ معجزة، حيث يحتمل مجي ء زمان يتمكّن الناس أو بعضهم من فعل ذلك فيه، ومعه فلا يمكن للنّبي أن يثبت دعواه بالإعجاز؛ لعدم ثبوت كون فعلٍ معجزة إلّابانقضاء زمانه بل بانقضاء كل زمان يحتمل صدور ذلك الفعل فيه.

وهذا نقض للغرض من الإعجاز الذي هو إثبات دعوى الرسالة ونحوها.

وهذه الشبهة تتزايد قوّةً في هذه الأعصار التي نال العلم فيها تقدّماً وسيعاً في مجالات شتّى وتمكّن الناس من نيل امور كانت تعدّ دعوى نيلها سابقاً من الأوهام، بل كان الناس لا يصدقونها في مطلع تحققها وربّما لا يصدق بعض الناس تحققها حتى الآن وبعد مضي زمان طويل من ذلك.

والذي ينبغي أن يقال هو: أن المناط في كون الشي ء معجزة هو أن يكون صدورها على يد صاحبها على غير الوجه الطبيعي بحيث لا يحتمل أن يكون نالها بصورة طبيعية ولا يحتمل أن ينالها غيره كذلك، سواء عجز الناس المعاصرون له عن فعله أو لا، وسواء تمكن من تأخّر عن عصره من فعله أو لا.

وربّما يكون الإعجاز في صدور الفعل ابتداءً وإن كان صدوره ثانياً بعد ما صدر أوّلًا من صاحب المعجزة لا يعدّ إعجازاً.

فمعنى الإعجاز هو عجز غير صاحب المعجزة عن تحقيق فعلها على الوجه الذي تحقق من صاحبها وقد تقدّم تأكيد هذا في تقسيم المعجزة إلى المطلقة والنسبيّة.

والعبرة في إمكان التوصّل إلى فعل شي ء بصورة طبيعية وأنّه صادر كذلك أولا بحكم العقلاء؛ حيث لا يحتملون كون صاحب المعجزة نال ما أتى به بصورة عادية؛ ولا يعتنون باحتمالات ضعيفة موهومة في هذا المجال كما لا يعتنون بأمثالها في ساير شؤون حياتهم.

ص: 24

فتكلّم الطفل في بعض مراحل الطفولة خرق للعادة وإن كان هذا الطفل لو باشر وليّه تعليمه النطق في نفس تلك المرحلة فتكلّم لا يعدّ إعجازاً، وربّما يكون تكلّم الطفل في بعض المراحل معجزة مطلقة لا يمكن في العادة وفي أيّ ظرف وشروط تحقّقه.

نعم عجز البشر كلّهم طريق واضح إلى معرفة كون الفعل الصادر على وجه الإعجاز قد صدر بغير الوجه الطبيعي والمعتاد، وإلّا فلا موضوعية لعجز الكلّ عن فعله. وربّما لا يتيسر الجزم بالإعجاز ما دام لم يحرز عجز الكلّ أو يحتمل تمكّن البعض لولا ما ذكرناه.

وفي هذا المجال يواجهنا إشكال اشير إليه في كلام للراوندي صاحب كتاب الخرائج أيضاً؛ وهو أنّه كيف يمكن الحكم بعجز البشر عن معارضة المعجزة بمثلها مع عدم الإحاطة بهم في طول الزمان ولا عرضه سيما الأزمنة البعيدة الماضية والأمكنة القاصية، بل لا يمكن الإحاطة بمن يأتي في الأزمنة المتأخرة وقدرتهم وبدون ذلك لا يحرز الإعجاز؟!

ويمكن الإجابة عن ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل:

إنّه لو اعتبر في الإعجاز عجز البشر- كلّهم حتى الناس الذين يأتون بعد زمان المعجزة- إلّاأن العقلاء يعتبرون عجز معاصريهم ومصاحبيهم طريقاً إلى معرفة باقي القدرات ويحصل لهم الوثوق بعدم اختلاف ساير الناس ممن يتواجدون في ساير الأمكنة، ولا من كان في ساير الأزمنة عن معاصريهم في المكنة والقابليّات.

لا أقول: بعدم اختلاف الناس في التطور والتقدم بحسب الأزمان المتأخرة، فإن الوجدان شاهد بتمكّن الناس من امور لم يتصورها الناس القدامى؛

بل أقول: بعدم اختلاف الناس في القدرة الطبيعيّة وإن كانت القدرة المعتادة تتجلّى في امور مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة فليس قدرة بعض البشر على بعض الأمور التي كان يعجز عنه غيره من السابقين خارجاً عن القدرة الطبيعية،

ص: 25

ولا أن تمكّنه من بعض الأشياء بعد عجز الغابرين خارج عن المعتاد.

بل العادة قاضية بسيرٍ في العلوم يقتضي اموراً وأحداثاً لو كان الناس القدامى مكان المتأخرين لواكبوا ما واكبه المتأخرون من التقدم والوقوف على الجديد من الأحداث. إذن لا يعتني العقلاء في شؤونهم الدنيوية بهذه الاحتمالات كما تشهد بذلك سيرتهم في الأعصار السابقة على قبول المعاجز.

وليس هذا استدلالًا في المسائل العقلية بالإجماع التعبّدي ليكون مردوداً.

بل الغرض جعل الإجماع العقلائي منبّهاً على أمر قاطع. وهذا دليل شريف يأتي نحوه في كثير من المسائل العقائديّة فيما يتعلّق بالمبدأ والمعاد والرسالات وغيرها من المسائل العقلية.

مثلًا: لا يحتمل وجود حجر طبيعي يوجب أخذه الحياة الأبديّة مع إمكان الاستيلاء عليه بصورة طبيعيّة، وكذلك ما كان من هذا القبيل من الاحتمالات.

وهذا لا يعني- كما تقدم- توقف العلوم الطبيعية عن الازدهار والتقدّم وانحصارها بما سبق؛ ولذا ترى جهد العلماء في التطلع وجدّهم في التقدم.

الوجه الثاني:

إن المعاجز صدرت على أيدي أشخاص عاديين في الاستعدادات الطبيعيّة والعلوم البشريّة وإن كانوا ممتازين في الصفات الإنسانية والخلق والقيم بل كانوا في العلوم الطبيعية دون المعتاد أحياناً. فترى أن نبي الإسلام- وهو أفضل أنبياء اللَّه- كان امّياً حسب النصوص ولم ينقطعوا عن اممهم زماناً يحتمل وقوفهم على العلوم الطبيعية بما يمكّنهم من الامور الخارقة.

الوجه الثالث:

إن المعاجز تصدر على أيدي أصحابها بدون تكلّف، حتى التكلّف بمقدار لا بد منه في الأفعال الطبيعيّة فضلًا عمّا يتكلّفه الناس في الأفعال الغريبة والأشياء النادرة من سرعة الحركات التي لا بد منها أحياناً في السحر وما بحكمه من الأفعال الغريبة ومن التخفي على بعض الأعمال التي لامناص منها عادة في كثير من الأفعال غير المتعارفة؛

ولهذا كان الإعجاز في كل عصر مسانخاً للعلوم والفنون الرائجة في كل

ص: 26

عصر، ليثق الناس بعدم كون المعاجز من شؤون علومهم ولا هي من نتائج فنونهم. ولا يشق عليهم معرفة ذلك ولا يصعب على من له الأهليّة الوقوف عليه فيرتابون.

الوجه الرابع:

إن الأنبياء وأصحاب المعاجز كانوا- باعتراف معاصريهم- امناء في قومهم صلحاء في بلادهم صادقين في مقالهم معروفين بالصلاح والسداد، وهذا ما يوجب الوثوق بصدقهم في دعواهم وفي فعل الإعجاز. وقد استند الأنبياء في دعوتهم الأمم- حسب ما يحكيه القرآن الكريم- إلى هذه الجهة- أعني وثاقتهم وأمانتهم- فكان الرسول يدعو الناس إلى قبول رسالته لكونه أميناً وثقة. وهذا استناد إلى مبنى عقلائي مقبول لديهم، وممّا يؤكد أنّهم اعتمدوا على مبنى عرفي وعقلائي أنّهم ضمّوا إلى ذلك ما يدفع التهمة عنهم، وذلك هو عدم مطالبتهم بأجرة على عملهم فلا ينتفعون بقبول دعوتهم بل ينتفع الناس بالإجابة؛

فإنّ هذه الوجوه تبعث على الوثوق بصدق الإعجاز ومدّعيه والاطمئنان بذلك.

وقد استدللنا بهذه الآيات في مباحث اصول الفقه على حجيّة أخبار الثقات.

وقد ورد في بعض النصوص حجّية خبر المدّعي الثقة إذا لم يعارضه حجّة اخرى.

وكيف كان فالآيات التي أشرنا إليها عدة نكتفي بذكر بعضها:

قال تعالى: «وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ... أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ» (1).

وقال تعالى: «كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» (2).

وقال تعالى: «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي


1- الأعراف: 68.
2- الشعراء: 106- 109.

ص: 27

لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» (1).

وقال تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» (2).

وقال تعالى: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» (3).

وقال تعالى: «كَذَّبَ أَصْحابُ اْلأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» (4).

وقال تعالى: «وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (5).

ثمّ إنّه تجدر الإشارة إلى أن تشخيص الإعجاز عن السحر أمر صعب لا يقف عليه الناس العاديون مباشرة، بل لابد في ذلك من الخبرة والدقّة والمهارة ويكون اعتراف الخبراء الثقات سبباً لعلم غيرهم من الناس وموجباً لقطع ساير الناس كما حصل لهم القطع. ولا يجب أن يباشر الناس تشخيص المعاجز بأنفسهم بل يكفيهم أن يثقوا عبر مباشرة أهل الخبرة.

كما لا يجب وقوف الناس على المعاجز مباشرةً، بل يكفي الوقوف عليها عبر


1- الشعراء: 123- 127.
2- الشعراء: 141- 145.
3- الشعراء: 160- 165.
4- الشعراء: 176- 180.
5- الدخان: 17- 18.

ص: 28

إخبار الثقات ممن عاصروا المعجزات، فإذا جاز الاعتماد على الأخبار في المعجزات السابقة جاز الاعتماد على أهل الخبرة في المعجزات المعاصرة؛ فيكون الوقوف على الإعجاز لأهل الخبرة مباشريّاً ولغيرهم بواسطتهم، كما يكون الوقوف على المعاجز لمعاصريها مباشرة وللمتأخرين عنها بإخبار معاصريها عنها.

مثلًا: قد لا يتيسّر للأعجمي المباشرة في تشخيص الإعجاز في الكلام العربي وفصاحته والحدّ الطبيعي من الفصاحة فيه، ولكنّه إذا وقف على اعتراف فصحاء العرب بل عظماء فصحائهم ممن يعترف لهم بذلك بإعجاز القرآن علم بالأمر.

والغرض من الإشارة إلى هذا الأمر هو تنبيه الناس على عدم الانخداع بمجرد دعوى الإعجاز من أناس لا حقيقة لدعواهم، وإنّما وقفوا على أمور لغرض التأمر عليهم، وقد كانت المعجزات مسانخةً لفنون أعصارها حتى لا يشتبه الأمر على أهل الخبرة وتقوم الحجّة عليهم، كما صرح بذلك في بعض النصوص.

فقد روى الكليني في الكافي بإسناده عن أبي يعقوب البغدادي قال: قال ابن

ص: 29

السكيت عن أبي الحسن عليه السلام: لماذا بعث اللَّه موسى بن عمران عليه السلام بالعصا؟ (1) ويده البيضاء وآلة السحر وبعث عيسى عليه السلام بآلة الطب وبعث محمداً صلى الله عليه و آله على جميع الأنبياء بالكلام والخطب؟!

فقال أبوالحسن عليه السلام: إنّ اللَّه لما بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند اللَّه ممّا لم يكن في وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ اللَّه بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب وأتاهم من عند اللَّه ممّا لم يكن عندهم مثله وممّا أحيا لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص بإذن اللَّه وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ اللَّه بعث محمّداً صلى الله عليه و آله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام وأظنّه قال: الشعر، فأتاهم من عند اللَّه من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم. فقال ابن السكيت: تاللَّه ما رأيت مثلك قط.

قال العلامة المجلسي بعد ذكر الخبر: بيان: قوله: آلة السحر، أي ما يشبهه أو يبطله. والأوّل أظهر بقرينة الثاني. يعني الشطر الثاني من الخبر فيما يتعلق بمعجزة عيسى (2).

الجهة الثالثة:

في علة صدور المعاجز على يد الأنبياء والأئمة؛ وبعبارة جامعة:

مدعي المنصب الإلهي، والربط بين الإعجاز وصدق مدعيه.

ثمّ على تقدير الربط بين المعجزة وصدق صاحبها فهل ينحصر طريق إثبات الدعوى بالإعجاز أو يمكن إثباتها بوجه آخر؟

ويمكن تحليل الربط بين الإعجاز وصدق صاحبه بأنّه راجع إلى الفطرة والعقل الغريزي؛ فإن تمكين خصوص مدعي منصب خاص بأمر يستلزم الاعتراف بدعواه في بناء العقلاء وفهمهم، ويكون التخلّف عن هذه الطريقة بدون الإعلام إغراء للناس. فالربط بين المعجز وبين الصدق إنّما هو في حد اللزوم لا مجرد


1- أصول الكافي 1: 24- 25 ورواه في البحار عن العلل والعيون والاحتجاج 17: 210.
2- نفس المصدر.

ص: 30

المناسبة غير الملزمة. ألا ترى أنه إذا ادعى شخص الوكالة عن أحد بحضرته وجعل الدليل على ذلك تخصيص الموكل له بشي ء دون الآخرين كالاستيلاء على مورد الوكالة، وسكت المدعى عليه عن الرد، يكون ذلك دليلًا واضحاً على إمضاء الوكالة وصحّتها.

ويشهد بما ذكرنا تعبير القرآن عن المعجزة بالبرهان والبيّنة والآية:

قال تعالى في معجزة موسى عليه السلام: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ» (1).

وقال تعالى في معجزة عيسى عليه السلام: «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ اْلأَكْمَهَ وَ اْلأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (2).

وقال تعالى: «وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ... فَقَدْ جائَكُمْ بَيِّنَة» (3).

وأمّا البحث عن إمكان إثبات الدعوى بغير الإعجاز، فالظاهر أنّه كذلك حيث إنّه يمكن تصديق المدعي، بسبب الإلهام أو إخبار صادق محقق؛ ولذا بَشّر بعض الأنبياء ممن سلف بمن يأتي بعده مشفوعاً ببيان علائم تعيّن من بشّر به. نعم الإلهام وإخبار الصادق قد ينتهيان إلى الإعجاز.

وهناك من يدعي أن طريق إثبات النبوّة هو موافقة أحكام الشريعة مع النظام والفطرة، بل يعتبرون ذلك هو الإعجاز، وأمّا ما يصدر على أيدي أصحاب الرسالات من خوارق فهي امور لا حاجة إليها بل ربّما قيل: إنّها لاغية غير عقلانيّة. وهذه الدعوى وإن أمكن الموافقة عليها فى شطرها الأوّل؛ إن لم يكن المقصود منها الحصر استطراقاً إلى إبطال المعاجز. ولكنها باطلة فى شطرها الأخير.


1- القصص: 32.
2- آل عمران: 43.
3- الأنعام: 158.

ص: 31

وهناك بحث في إمكان صدور المعجزة من غير الصادق في دعواه لايهمّ التعرض له، والحق أنّه لا محذور في تمكّن غير الصادق ممّا لا يتمكّن منه الناس عموماً إذا لم يستلزم إغراءً للناس ولا إغوائهم حسبما حققناه آنفاً من ملاك اعتبار الإعجاز؛ لكون دعوى غير الصادق مشفوعة بحجّة عقلية تبطل دعواه. وإن كان في التعبير عن مثل هذا الخارق بالمعجزة مسامحة. ويشهد لما ذكرنا قصّة السامري واستجابة بعض الدعوات وغير ذلك ممّا شهد به القرآن وغيره.

الجهة الرابعة:

في إمكان الإعجاز و تعقّله وهل أن المعجزة توافق قانون العلّة والمعلول واحتياج المعلول إلى العلّة أو أنّها تخالفها وتضادّها؟

وقبل البحث عن موافقة الإعجاز لقانون العلّة لابد من بحث إجمالي عن هذا القانون ومضمونه ومدى صحته ثمّ مقايسة الإعجاز معه فنقول:

إن قانون العلّة أمر بديهي فطري مسلّم قبل أن يكون مؤيداً بحكم العقل.

ويعترف به كلّ ذي عقل سليم بل كلّ ذي شعور كالحيوانات وإن لم تكن ذوات عقول. وحقيقة هذا القانون هو امتناع تحقّق الحادث والممكن في ذاته بدون علّة تحدثه وتفيض وجوده- ولا تفيض الوجود عليه- فإن الممكن ليس شيئاً قبل تحقّقه ليكون قابلًا لفيض، بل هو عدم محض كالممتنع، إلّاأن الممتنع لا يمكن تحققه أصلًا والممكن يتحقّق بسبب العلّة، فنسبة الوجود والعدم إلى الممكن إذا كانت واحدة لا يعقل ترجّح الوجود على العدم إلّابعلّة من خارج الذات. وأمّا ترجح العدم فيكفي له عدم وجود مرجح الوجود فعدم علة الوجود علّة العدم. فليس العدم أيضاً فاقداً للعلّة فما ظنّك بالوجود.

فقانون حاجة الممكن إلى العلّة في وجوده أمر ضروري لا مجال لإنكاره بعد بداهته وكونه مفطوراً لدى الناس بل غريزياً لذوي الشعور.

ولا مناص من تحليل المعجزة وتصويرها بما لا يتنافى مع هذا القانون. وتجدر الإشارة إلى أن القرآن الكريم مع تصديقه الإعجاز يصدّق القانون المتقدم، بل هذا القانون هو من جملة ما يعتمد عليه القرآن بجدّ وأصالة في إثبات حاجة العالم

ص: 32

والسماوات والأرض إلى مبدأ وعلّة. ونحن- رعايةً للاختصار- نشير إلى بعض الآيات المشيرة إلى قانون العلّة والتي تعترف به صراحة:

1- قال تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ» (1).

ومفهوم الآية أنّه كيف تنكرون العلّة وقانونها مع وضوح الحدوث فيكم وأنّكم لم تكونوا ثمّ وجدتم.؟!

2- وقال تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ اْلأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ» (2).

والمعنى أنّهم هل وُجدوا بدون علّة توجدهم أم أنّهم العلة لوجود أنفسهم فباشروا إيجاد نفوسهم. ثمّ السماوات والأرض هي أيضاً بحاجة إلى علة، فهل إنّهم خلقوها؟ وإذا لم يكونوا خالقين للسماوات فلا مناص لهم من الاعتراف بوجود خالقٍ لها وهو اللَّه. وقد نبّه اللَّه على هذا القانون بمجرد السؤال ولم يباشر بالإجابة إحالةً للجواب إلى الوضوح كما في قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» فالقرآن لايعترف بقانون العلّة فقط، بل بوضوحه وبداهته أيضاً.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض الأخبار الدالة على الاعتراف بقانون العلّة:

ففي رواية عن عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال في الربوبيّة العظمى ثم الإلهية الكبرى: «لا يكون الشي ء لا من شي ء إلّااللَّه...» (3).

والاستثناء في الخبر ليس عن قانون العلّة فإنّها لا تقبل الاستثناء، بل هو استثناء عمّا هو أعم من القانون فيكون استثناء وجود اللَّه بغير علّة من الاستثناء المنقطع فلا تغفل.

إذا تمهد شأن قانون العلّة نأتي إلى مسألة المعجزة وشأنها مع القانون الآنف


1- البقرة: 28.
2- البقرة: 164.
3- البحار 4: 148، الحديث 2.

ص: 33

فنقول: الإعجاز من الحوادث والوجودات الممكنة فلا مناص له من الاندراج في القانون المتقدم، وبالنتيجة لا يجوز وقوع الإعجاز بدون علّة. ولم يدّع أصحاب المعاجز ولا المعترفون لهم بها أن المعجزات تصدر بلا علّة، وإنّما الذي يدعى هو:

اختلاف علّة المعاجز عن ساير العلل وأن علّة المعجزة في انحصار وليس في يد عامّة الناس.

فالمعجزة توسعة لموضوع قاعدة العلّة وقانونها، لا توسعة للحكم بدون موضوع. وليس هناك في العقل ما يحصر العلّة في خصوص شي ء. بل وجود علل متعددة لحادث واحد في الكون دليل واضح على عدم لزوم انحصار العلّة في شي ء واحد.

فإذا وجدت علل متعددة كونية عامّة لبعض الأحداث، فما المانع من وجود علّة أو علل كونيّة خاصّة لذلك الحادث؟ ولا ضرورة لكون العلل بأسرها في يد عامة الناس، فالحرارة لها علّة ينالها الناس هي النار ولها علّة خارجة عن منالهم هي الشمس. وتوليد الأمثال في الإنسان بصورة وفي النبات بصورة اخرى وفي بدء الخلق كان بصورة غير دوامه.

والصعود لبعض الأشياء بالسلالم ولبعضها بالطيران ولبعضها بالطفرة ولا مانع أن يكون لبعض بإرادة.

فاتضح أن المعجزة لا تخرق قانون العلّة وإنّما توسّع موضوعها.

وما في بعض الكلمات من أن الواحد لا يصدر إلّامن واحد، يراد بذلك أنّه لابد من مسانخة بين المعلول والعلّة، وتكون جهة مشتركة بين العلل المختلفة لتأثيرها في معلول واحد، ولا يراد بذلك عدم إمكان صدور واحد من أشياء متعددة مختلفة بالصورة.

ثم إنه لو فرض إمكان التخلّف في المعاجز عن قانون العلّة لم تفعل المعجزة أثرها المطلوب، فإن المعجزة لا تؤثر في إثبات الدعوى إلّاإذا انضم إليها قانون العلّة، وتوضيح ذلك:

ص: 34

إن المعجزة إنّما تثبت صدق صاحبها إذا كان التأثير في الكون ثابتاً عبر العلل والضوابط، وإلّا فلو أمكن الهرج فلا يمكن الاستناد إلى المعجزة في صدق صاحبها بعد احتمال صدور ما يسمّى بالمعجزة بدون ضابط وقاعدة.

إذن، فإنكار الإعجاز لا يستند إلى إثبات قاعدة العلّة، بل هو مستند إلى دعوى انحصار العلّة في العلل المأنوسة وهذا غير قاعدة العلّة. وربّما كان تفسيراً لها ولكنّه تفسير باطل. وكأن هذا التفسير هو مقصود الكفّار في قضيّة ولادة المسيح عليه السلام، حيث إن العلّة المتعارفة لتوليد النسل هو الولادة من الأب، فردّ عليهم في القرآن الكريم: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (1)

وكأنّه على التفسير الموهوم المتقدّم لقانون العلّة أنكر الكفّارُ المعادَ حيث ذكروا أنّه: «أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ولم يكن ذلك بدعاً منهم «بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ اْلأَوَّلُونَ قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ اْلأَوَّلِينَ» (2).

وقد ردّ عليهم بوجوه:

الوجه الأوّل:

عدم انحصار قانون العلّة في خصوص العلل المأنوسة ليستلزم إنكار المعاد.

الوجه الثاني:

تعدد نظام العلل المأنوسة في الحياة المادّية، ولهذا قيس المعاد والحياة الأخرى على الحياة النباتيّة التي تختلف عن الحياة الحيوانية.

قال تعالى: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (3).

«وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ


1- آل عمران: 59.
2- راجع سورة الحج: 81 وما بعدها، وغير هذه السورة أيضاً.
3- الروم: 50.

ص: 35

اْلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» (1).

وقال تعالى: «وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» (2).

وقال تعالى: «وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى اْلأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (3).

الوجه الثالث:

اعتبار التمكن من أمر دليلًا على التمكّن من إعادته وتكراره.

قال تعالى: «وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» (4).

وقال تعالى: «أَيَحْسَبُ اْلإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً* أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى* ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ اْلأُنْثى* أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» (5).

الوجه الرابع:

الاستدلال لإثبات المعاد بالتمكّن والقدرة الزائدة على إيجاد الحياة الأولى.

قال تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ اْلأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (6).

وقد جمع بين الوجهين الثاني والثالث في سورة الحج (7).

فاتضح بما قررناه بطلان حسبان منافاة الاعتراف بالمعجزة للاعتراف بقانون العلّة التي لا مناص منها في إثبات المبدأ وغيره.

وربما ايدت دعوى بطلان المعاجز بأن المعجزة تنافي بعض الآيات عدا عن


1- الفاطر: 9.
2- ق: 11.
3- فصلت: 49.
4- يس: 78 و 79.
5- القيامة: 36- 40.
6- الأحقاف: 33.
7- الحج: 5.

ص: 36

منافاتها لقانون العلّة، قال تعالى: «وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اْلأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اْلأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (1).

فزُعم أن المراد من قوله: هل كنت إلّابشراً، هو إنكار إمكان المعجزة وكونها تخلّفاً عن نظام الكون والعلل.

وربما زيد لإثبات الدعوى المتقدمة، الاستدلال بقوله تعالى: «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (2).

ويرد على هذه المغالطات أن آية سورة الإسراء لا ربط لها بإنكار المعجزة، وإنما هي بصدد الردّ على شهوات الكفّار واقتراحاتهم وأهوائهم، وأن الرسول بشر لا يقدر على ما يريده الناس وتهواه نفوسهم (3).

وأمّا آية سنّة اللَّه فواضحٌ عدم إنكارها للمعجزة بعد كون المعجزة أيضاً من سنن اللَّه في إثبات الرسالات فكانت الآية مثبتة لها لانافية إيّاها.

الجهة الخامسة:

في صدور المعجزة ووقوعها خارجاً من الأنبياء والأولياء بعد ما تقدم من إمكانها وعدم المحذور فيها.

لا ينبغي الريب في صدور امور خارقة للعادة لا توافق القوانين العامّة الطبيعيّة، على مرّ الدهور السالفة، من اناس عرفوا بالنبوّة والصلاح والسداد، وقد كثر النقل والحكاية على أيدي الثقات والصلحاء بما لا يبقي الشك ولا يدع الترديد،


1- الإسراء: 90- 93.
2- الفتح: 23 وغيرها.
3- وهناك بحث قرآني وروائي في كون المعاجز من أفعال أصحاب الرسالات أو هي فعل اللَّه مباشرة مقارنة لدعواهم لايهمّنا؛ حيث لا يؤثر في الجهات المقصودة في المقام، وظاهر الآيات والنصوص هو وقوع الأمرين، وقد فصّلنا الكلام في بعض الرسائل.

ص: 37

وهذا ما يصطلح عليه بالتواتر الإجمالي؛ فإن المعجزات لو فرض عدم تواترها بأشخاصها لفظيّاً أو معنويّاً ولكنّها متواترة إجمالًا بمعنى أنّه يمتنع تواطؤ هذا العدد الكبير على الكذب في الأمور المختلفة والمتباينة بغض النظر عن وثاقة الرواة والنقلة، فكيف مع فرض وثاقتهم وصلاحهم؟!

هذا، مع أنّه يمكن أن يقال: إن شأن نبيّ الإسلام والقرآن وأهل بيته لدى المنصفين هو شأن يفيد الوثوق بما يخبرون به بعدما عرفوا لدى عامّة الناس بالوثاقة والأمانة حتى لمن لا يعترف لهم بالنبوة والإمامة.

وقد أسمعناك اعتماد الأنبياء- حسب حكاية القرآن- في إقناع الامم على كونهم امناء ثقات لدى الناس بغض النظر عن دعوى الرسالة التي أورثتهم التهمة.

وبناء العقلاء في مثل ذلك على الاعتماد والركون لولا التعنّت والعناد.

وعلى هذا الأساس تفيد إخبارات القرآن وأخبار نبي الإسلام والأئمة من أهل بيته العظام، الوثوق بما أخبروا به بالغض عن ضمّ أخبار سائر الأنبياء والامناء فلا يكاد يقلّ الوثوق الحاصل من ذلك لليهود والنصارى عمّا يحصل لهم من التوراة والأناجيل الموجودة؛ هذا. سيّما وقد صدّق القرآنَ والنبيَّ والأئمّةَ من أهل بيته المنصفون من اليهود والنصارى وساير النحل في أخبارهم وحكاياتهم، وليس هنا مجال تفصيلها فراجع كتاب عيون أخبار الرضا وغيره.

ثمّ إن أخبار الأنبياء والأوصياء وإن لم تصل إلينا مباشرةً لكنّها وصلتنا بواسطة الثقات من الناس ممن عرفوا بالصلاح والأمانة- هذا بالغض عن التواتر في أسانيد الأخبار- حتى أنك ترى أن من يخالفهم في الدين أو المذهب يعترف لهم بالصدق والأمانة كما كان يعترف لسادتهم ومواليهم من الأنبياء والأوصياء من لا يصدّقهم في دعوى النبوة والإمامة.

وقد جمع الإمام شرف الدين العاملي في كتاب المراجعات طائفةً من الشيعة ممن استند إليهم أهل السنّة في الروايات لصدقهم وورعهم بعد أن رموهم بالرفض والتشيع واتهموهم بالغلوّ والإفراط وما شابهها، ولو أنّهم كانوا يرمونهم بالكفر

ص: 38

والزندقة كان أهون عليهم، ومع ذلك اعتمدوا عليهم لما لم يجدوا بُدّاً من ذلك لأمانتهم وورعهم، وذكر في المراجعات أن هذا العدد- وقد أنهاه إلى مائة- هم بعض الشيعة ممّن يعتمد عليهم أهل السنّة، وإلّا فهناك غيرهم ممن يعتمدون عليهم من الشيعة. ونظير ما في المراجعات ما ذكره العلامة الأميني صاحب الغدير.

والغرض من هذا البيان هو أنّه لا ينحصر الاعتماد على أرباب الأديان لمن يوافقهم في الدين والملّة، ولا يتوقف التعويل على أهل مذهب على موافقتهم في النحلة بل يجوز لغيرهم الاعتماد عليهم بعدما كان يعتمد المخالف لهم في المذهب عليهم؛ لكونهم ثقات في القول متورّعين عن الكذب، فلا يكون إثبات المعاجز بإخبار أصحاب المذاهب دوريّاً ولا أن حكايتها بواسطة منتحلي الأديان لغواً؛ هذا.

وهناك بعض المعجزات خالدة حيّة يمكن الوقوف عليها بالمباشرة بلا حاجة إلى نقل أو حكاية، ولا تتوقف الإحاطة بها على إخبار أو رواية، وقد تقدّم أن بعضهم أنكر الحاجة إلى الامور الخارقة للعادة من قبيل إحياء الموتى واعتبر الإعجاز ما كان من قبيل نظم الأحكام الثابتة في الشريعة وموافقتها للفطرة.

ومن جملة المعاجز المعاصرة للأجيال هو القرآن الكريم الذي «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»، وهي معجزة خالدة بحفظ اللَّه، حيث قال: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ

ص: 39

لَحافِظُونَ»، وقد تحدّى البشر في دعوته حيث قال: «وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». وسيأتي بعض الكلام في ذلك في الفصل الآتي إن شاء اللَّه تعالى.

الفصل الثاني: في إعجاز القرآن الكريم

وتفصيل البحث فيه محوّل إلى مجال آخر والذي نحن بصدده هو أنّ من جملة وجوه إعجاز القرآن هو صدوره على يد رجل أمّي معروف هو وقومه بذلك مع ما اشتمل عليه القرآن من المعارف التي تنبى ء عن علم صاحبه، بل قد حوى حقائق تحكي عن عظيم علومه.

وقد وُصف النبيّ صلى الله عليه و آله بالامّية في القرآن وغيره من الحديث والسير، بل هو من أوصافه المعروفة وقد تكرّر في القرآن ذكره:

1- قال تعالى: «قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍفَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ اْلأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَاْلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اْلأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ اْلأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ اْلأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ» (1).

2- وقال تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» (2).


1- الأعراف: 156- 158.
2- الجمعة: 2.

ص: 40

3- وقال تعالى: «وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ* وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» (1).

والمعروف أن الأمّي هو الذي لا يعرف الكتابة ولا قراءة الكتب ويحتمل أن يكون معناه هو من لا يعرف العلوم المفتقرة إلى الكسب والتعلّم الموقوفة عادة على القراءة والكتابة، ويكون عدم معرفة الكتاب والقراءة أمارة على الأمّية.

قال ابن منظور: الأمّي الّذي لا يكتب. قال الزجاج: الأمي الذي على خلقة الأمة، لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته. قال أبو إسحاق: معنى الأمي، المنسوب إلى ما عليه جبلته أمّه، أي الذي لا يكتب فهو في أنّه لا يكتب، أمي؛ لأنّ الكتابة هي مكتسبة فكأنّه نسب إلى ما يولد عليه أي على ما ولدته أمّه عليه. وكانت الكتابة في العرب من أهل الطائف تعلّموها من رجل من أهل الحيرة وأخذها أهل الحيرة عن أهل الدينار.

وفي الحديث: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، أراد أنّهم على أصل ولادة أمهم، لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الاولى.

وفي الحديث: بعثت إلى امّة أمية. قيل للعرب: الأميون؛ لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة. ومنه قوله: «في الاميين رسولًا منهم...».

وقيل لسيدنا محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الامّي؛ لأنّ أمة العرب لم تكن تكتب ولا تقرأ المكتوب وبعثه اللَّه رسولًا وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الحالة إحدى آياته المعجزة لأنّه صلى الله عليه و آله تلا عليهم كتاب اللَّه منظوماً تارة بعد اخرى


1- العنكبوت: 47- 49.

ص: 41

بالنظم الذي أنزل عليه فلم يغيره ولم يبدل ألفاظه؛ وكان الخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثمّ عادها زاد فيها ونقص فحفظه اللَّه عز وجل على نبيه كما أنزله وأبانه من سائر من بعثه إليهم بهذه الآية التي باين بينه وبينهم بها ففي ذلك أنزل اللَّه تعالى:

«وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ»، الذين كفروا ولقالوا: إنّه وجد هذه الأقاصيص مكتوبة حفظها من الكتب (1).

وقال الطريحي: الأمّي في كلام العرب الذي لا كتاب له من مشركي العرب (2).

وقال الراغب: ويقال لكل ما كان أصلًا لوجود شي ء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه: أمّ وقيل: سمّي بذلك لنسبته إلى امّ القرى (3).

وعن القاموس: أمّ القرى مكّة؛ لأنّها توسطت الأرض فيما زعموا، أو لأنّها قبلة الناس يؤمّونها أو لأنّها أعظم القرى شأناً (4).

وفي المصباح: الأمّي في كلام العرب الذي لا يحسن الكتابة، فقيل: نسبة إلى الأمّ، وقيل: نسبة إلى أمّة العرب؛ لأنّه كان أكثرهم أمّيين (5).

وفي دائرة المعارف الإسلاميّة: الأمّي عند العرب هو الذي لا يكتب... قال أبو حيّان في تفسير البحر المحيط: الأمّي الّذى لا يقرأ في كتاب ولا يكتب... وقد ثبت بالتواتر الذي لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه و آله كان امّياً بمعنى أنّه لا يعرف القراءة والكتاب (6).

وقال العلّامة المجلسي في البحار: «ومن أسمائه صلى الله عليه و آله الرسول النبي الأمّي، إلى قوله: وأمّا الأمّي فقال قوم: إنّه منسوب إلى مكة وهى أم القرى كما قال تعالى:

«بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا»، وقال آخرون: أراد الذي لا يكتب؛ قال ابن فارس:

وهذا هو الوجه لأنّه أدل على معجزة إلى قوله: وروي عنه: نحن أمة أمية لا نقرأ


1- لسان العرب.
2- مجمع البحرين.
3- المفردات.
4- القاموس.
5- المصباح.
6- دائرة المعارف، محمد بن جرير الطبري، التفسير 1: 296؛ بولاف.

ص: 42

ولا نكتب. وقد روي غير هذا» (1).

وقال في موضع آخر: وقيل: أمّي منسوب إلى أمّة يعني جماعة عامة؛ والعامة لا تعلم الكتابة. ويقال: سمي بذلك لأنّه من العرب وتدعى العرب الأميون. وقوله تعالى: «هو الذي بعث في الأميين»؛ وقيل: لأنه يقول يوم القيامة: أمتي أمتي.

وقيل: لأنه الأصل وهو بمنزلة الأم التي يرجع الأولاد إليها، ومنه أم القرى. وقيل:

لأنّه لأمته بمنزلة الوالدة الشفيقة بولدها فإذا نودي يوم القيامة: يوم يفر المرء من أخيه، تمسك بأمته. وقيل: منسوب إلى أم وهي لا تعلم الكتابة لأنّ الكتابة من أمارات الرجل. وقالوا: نسب إلى أمّة يعني الخلقة قال الأعشى:

وإنّ معاوية الأكرمين حسان الوجوه طوال الأمم

قال المرتضى في قوله تعالى: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ»: ظاهر الآية تقتضي نفي الكتابة والقراءة بما قبل النبوة دون ما بعدها، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوة لأنّهم إنّما يرتابون في نبوته لو كان يحسنها قبل النبوة فأمّا بعدها فلا تعلق به بالريبة فيجوز أن يكون تعلمها من جبرئيل بعد النبوة ويجوز أن لم يتعلم فلا نعلم. قال الشعبي وجماعة من أهل العلم: ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى كتب وقرأ. وقد شهر في الصحاح والتواريخ قوله صلى الله عليه و آله: إيتوني بدوات وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً (2).

وقال في موضع ثالث: قال الطبرسي رحمه الله: الأمي، ذكر في معناه أقوال: أحدها الذي لا يكتب ولا يقرء. وثانيها: إنّه منسوب إلى الأمّة والمعنى أنّه على جبلة الأمّة قبل استفادة الكتابة وقيل: إنّ المراد بالأمة العرب لأنّها لم تكن تحسن الكتابة.

وثالثها: إنّه منسوب إلى الامّ والمعنى أنّه على ما ولدته أمه قبل تعلم الكتابة.

ورابعها: إنّه منسوب إلى امّ القرى وهو مكة وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.


1- بحارالأنوار 16: 119.
2- بحارالأنوار 16: 135.

ص: 43

وفي قوله تعالى: «إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» أي ولو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى الشك في أمرك ولقالوا: إنّما يقرأ علينا ما جمعه من كتب الأولين.

قال السيد المرتضى قدس سره: هذه الآية نزلت على أنّ النبي صلى الله عليه و آله ما كان يحسن الكتابة قبل النبوة، وأمّا بعدها فالذي نعتقده في ذلك: التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع على أحد الأمرين. وظاهر الآية تقتضي النفي بما قبل النبوة لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوته صلى الله عليه و آله لو كان يحسن الكتابة قبل النبوة فأمّا بعد النبوة فلا تعلق بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون قد تعلمها من جبرئيل عليه السلام بعد النبوة (1).

أقول: يظهر من هذا الكلام أنّ ما نسبه بعض المتأخرين إلى السيد المرتضى من كون النبيّ صلى الله عليه و آله أمّياً بعد البعثة أيضاً ليس تامّاً وأنّ السيد متوقّف في المسألة.

ثمّ إن صاحب البحار ذكر روايات يدعى ظهورها في أن النبيّ صلى الله عليه و آله كان لا يكتب ولا تنفي القراءة. وأيضاً ذكر روايات تنفي كونه صلى الله عليه و آله أمّياً في القراءة والكتابة ثمّ قال:

«بيان: يمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجهين: الأوّل: أنّه صلى الله عليه و آله كان يقدر على الكتابة، ولكن كان لا يكتب، لضرب من المصلحة. الثاني: أن نحمل أخبار عدم الكتابة والقراءة على عدم تعلمها من البشر وسائر الأخبار على أنّه كان يقدر عليها بالإعجاز.

وقال: وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين أن هذه النقوش موضوعة لهذه الحرف (2).

وقال الرازي في تفسيره: قال الزجاج: معنى الأمّي الذي هو على صفة أمّة


1- المصدر نفسه: 83- 84.
2- المصدر نفسه: 134.

ص: 44

العرب، قال عليه الصلوة والسلام: إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون والنبي عليه الصلوة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه أمياً (1).

وقال في تفسير نمونه (الأمثل) ما ترجمته:

والخطأ الّذي ينبغي التجنب عنه هو أنّ عدم الدراسة لا يعني عدم العلم والذين يفسّرون لفظة الأمّي بعدم العلم كأنّهم لم يلتفتوا إلى الفرق بين الأمرين، فإنّه لا مانع من علم النّبي صلى الله عليه و آله- بتعليم إلهي- بالقراءة أو بها وبالكتابة من دون أن يكون تعلّم ذلك من إنسان... إلى أن قال:

1- لم يتعلم النّبي صلى الله عليه و آله القراءة والكتابة من إنسان قطعاً.

2- لا دليل صحيح أو معتبر فيما بأيدينا على أن النّبي صلى الله عليه و آله كتب شيئاً أو قرأ قبل النّبوة ولا بعدها.

3- لا ينافي هذا كون النّبي صلى الله عليه و آله قادراً على القراءة والكتابة بتعليم إلهي (2).

إذا عرفت ما مهّدناه، فالبحث عن كون النّبي صلى الله عليه و آله امّياً تارة بملاحظة حاله صلى الله عليه و آله قبل البعثة وأخرى بعدها فالكلام في مقامين:

وتمهيداً للبحث ننقل بعض كلمات أصحاب التاريخ فيما يتعلّق بالوضع العام لثقافة العرب بشأن العلم والكتابة؛ قال جرجي زيدان:

لم يكن العرب في جاهليتهم يعرفون الكتابة إلا نفراً قليلين ولم يكن كتابتهم بالأحرف العربية المعروفة اليوم وإنّما كانوا يكتبون بالأحرف العبرانية أو بالأحرف النبطية. ولما ظهر الإسلام، لم يكن يكتب بالعربية إلا بضعة عشر إنساناً كلهم من الصحابة، ومنهم علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وطلحة، وعثمان، وأبوسفيان، وولداه، ومعاوية و يزيد وغيرهم، فكان علي وعثمان وزيد بن ثابت وعبداللَّه بن الأرقم، ممن كتب للنبي، لأنّه لم يكن يكتب ولا يقرأ، فكتبوا له سور


1- تفسير الرازي، سورة الأعراف: 157.
2- تفسير الأمثل: ذيل سورة الأعراف: 157.

ص: 45

القرآن والكتب التي خاطب بها الملوك يدعوهم إلى الإسلام. وكان بعضهم يكتب له حوائجه والبعض الآخر يكتبون بين الناس في المدينة والبعض الآخر يكتبون بين القوم في مياههم وقبائلهم وفي دور الأنصار من الرجال والنساء. ولما تولى أبوبكر، كان عثمان بن عفان كاتبه يكتب له الكتب إلى العمال والقواد وصارت الكتابة من مناصب الحكومة (1).

وقال أيضاً: ليس في آثار العرب بالحجاز ما يدل على أنّهم كانوا يعرفون الكتابة قبل الإسلام مع أنهم كانوا محاطين شمالًا وجنوباً بأمم من العرب خلّفوا نقوشاً كتابية كثيرة وأشهر تلك الامم حِمْيَر في اليمن، والأنباط في الشمال، والسبب في ذلك أنّ الحجاز أو عرب مضر كانت البداوة غالبة على طباعهم والكتابة من الصنايع الحضرية... فجاء الإسلام والكتابة معروفة في الحجاز ولكنها غير شائعة فلم يكن يعرف الكتابة في مكة إلا بضعة عشر إنساناً أكثرهم من كبار الصحابة (2).

وقال في تاريخ الجاهلية: والجاهليون كانوا اميين لا يخطون ولا يقرأون الخط وخصوصاً في البادية. على أن هذا لا يعني أنّ القراءة والكتابة كانتا مجهولتين لقد كانتا معروفتين في القرى وفي البادية ولكن لم تكونا شائعتين (3).

إذا عرفت ما تمهّد فالكلام يقع في المقام الأوّل وهو فيما يتعلق بشأن النّبي صلى الله عليه و آله قبل البعثة فهل كان أمّياً أبجدياً آنذاك أو لا؟

المعروف بين أصحاب السير- بل الظاهر أنّه متفق عليه بينهم- أنّه صلى الله عليه و آله قبل النبوة كان أمّياً لا يقدر على قراءة ولا كتابة وكان كعامّة قومه في هذا الوصف وإن كان بارزاً عنهم في أوصاف نفسية كمالية كالصدق والأمانة والخلق العظيم، وكان يعترف له بذلك الناس. وقد تقدم بعض الكلمات فيما يرتبط بذلك.

وربما نسب إلى بعضٍ خلاف ذلك، وأن النّبي صلى الله عليه و آله في هذا المقطع من عمره


1- تاريخ تمدن اسلامى 1: 253.
2- تاريخ آداب اللغة العربية 2: 197.
3- تاريخ الجاهلية: 164.

ص: 46

الشريف لم يكن أمياً أبجدياً بل كان قادراً على القراءة والكتابة.

ونحن لا نتابع هذه المسألة لمجرد معرفة التاريخ، بل الذي يدفعنا إلى هذا البحث والتنقيب هو أهمية المسألة من حيث ارتباطها الوثيق بشأن إعجاز القرآن ومعارف الإسلام ودفع الشبهة عن حقيقة هذا الدين الحنيف، فلذا يكون البحث عن ذلك بحثاً كلامياً وممارسة ذلك مسألة عقائدية.

والّذي يدلل على كونه صلى الله عليه و آله أمياً أبجدياً قبل البعثة أمور:

الأمر الأوّل:

عدم حكاية قدرة النبي صلى الله عليه و آله على القراءة والكتابة في تاريخ صحيح ولا غيره مع ما ذكر فيه بشأن من كان من العرب يقرأ ويكتب وحصرهم في عدد قليل لا يتجاوز عدد الأصابع معينين بأسمائهم ليس هو صلى الله عليه و آله منهم؛ ومع هذا الوصف لو كان صلى الله عليه و آله غير أمّي لكانت سنّة التاريخ تقتضي ذكره مع وجود دواعي كثيرة على ذلك، ومن جملتها دواعي المخالفين لنبوّته، حتى أنّهم ذكروا في هذا المجال بعض أسفاره إلى الشام وأنّه لقي بعض علماء أهل الكتاب في سفره أو غيره فتعلم منه ما جاء به من القرآن، كما اشير إليه في الكتاب قال تعالى: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ».

ص: 47

وقد عدّ هذا الدليل بعضهم شاملًا لما بعد البعثة واستدلّ به لإثبات كونه صلى الله عليه و آله أمياً بعد البعثة إلّاأنّه سيأتي البحث عن ذلك.

قال فى المحكي عن ويل ديورانت:

الظاهر أنه لم يكن أحد يفكِّر فى تعليمه- أي تعليم النبي صلى الله عليه و آله- القراءة والكتابة، فلم تكن صناعة الكتابة والقراءة ذات أهميةٍ في نظر الأعراب؛ ولهذا لم يكن يتجاوز الذين يعرفون القراءة والكتابة السبعة عشر شخصاً؛ ولسنا نعلم أن محمداً صلى الله عليه و آله قد كتب شيئاً بنفسه، لقد كان له كاتب خاص بعد النبوّة، ومع ذلك فقد جرى على لسانه أعرق الكتب العربية وأشهرها، وقد عرف دقائق الأمور أفضل بكثير من المتعلمين (1).

الأمر الثاني:

قوله تعالى: «وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» (2).

روى في تفسير الصافي عن تفسير القمي أن هذه الآية معطوفة على قول اللَّه تعالى في سورة الفرقان: «وَ قالُوا أَساطِيرُ اْلأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (3). فرد اللَّه عليهم بما في هذه الآية.

وكيف كان، فظاهر عدم التلاوة وعدم الخط هو عدم القدرة فإنّه المناسب لنفي الارتياب.

الأمر الثالث:

وصف النبي صلى الله عليه و آله بالامّي في الكتاب وغيره؛ فإنّه يناسب اتصافه بنفسه بذلك لا باعتبار اتصاف قومه به. قال تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ اْلأُمِّيَّ» (4)، وقال تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ اْلأُمِّيِّ» (5).


1- قصة الحضارة حكاها الشهيد المطهري فى كتاب: النبي الأمي: 7.
2- العنكبوت: 48.
3- الفرقان: 5.
4- الأعراف: 157.
5- الأعراف: 158.

ص: 48

ولكن الاستدلال مبنيّ على كون الأمّية بمعنى عدم العلم بالكتابة والقراءة، وسيأتي إن شاءاللَّه تعالى بعض الاحتمالات الأخرى في معناه، وناهيك في هذا المجال صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» قال: «كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند اللَّه ولا بعث إليهم رسولًا فنسبهم إلى الأميين» (1).

الأمر الرابع:

بعض النصوص:

منها: ما رواه في تفسير الصافي عن العيون بإسناده عن الرضا عليه السلام في حديث:

«ومن آياته أنّه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثمّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً بحرف وأخبار من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة».

بناء على أن المراد من عدم تعلّم كتاب هو ما يشمل الكتابة والقراءة ولا أقل من ظهور عدم اختلافه إلى معلّم في إثبات المقصود.

ومنها: رواية مشهورة عند أهل السنّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «إنّا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب». وسيأتي شأن هذا الحديث ودلالته إن شاء اللَّه تعالى.

ومنها: ما روي في التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام: قال العالم موسى بن جعفر عليه السلام: فلمّا ضرب اللَّه الأمثال للكافرين إلى قوله: «بسورة من مثله» من مثل محمّد صلى الله عليه و آله من مثل رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ولم يدرس كتاباً ولا اختلف إلى عالم ولا تعلم من أحد؟ وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره حتّى بقي كذلك أربعين سنة ثمّ أُوتي جوامع العلم حتّى علّم الأولين والآخرين... وقال علي بن الحسين:

من مثله، مثل محمّد أمّي لم يختلف قط إلى أصحاب كتب وعلم ولا تلمذ لأحد ولا تعلم منه وهو من قد عرفتموه في حضره وسفره؟ (2).


1- بحار الأنوار 16: 132.
2- بحار الأنوار 1: 214.

ص: 49

وقد يستدل لاحتمال عدم أمّيته صلى الله عليه و آله قبل البعثة بأمور، كقوله تعالى: «وَ قالُوا أَساطِيرُ اْلأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا» (1). وقوله تعالى: (وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ» (2).

فإنه لو كانت أمّية النبي صلى الله عليه و آله أمراً مسلماً لم يكن هناك مجال لاتهامه بما في الآيتين.

وردّ على ذلك: أوّلًا: بأن الاكتتاب أعم من مباشرة الكتابة. وثانياً: إنّه لا حدّ للمكابرة والعصبيّة.

وأمّا البحث في المقام الثاني، أعني ما بعد البعثة وأنّه كان أمّياً أبجدياً في هذا المقطع من عمره الشريف أو لا؟

المعروف على الألسن، بل ومال إليه بعض العلماء من الفريقين، أن النبي صلى الله عليه و آله كان بعد البعثة أيضاً أمّياً أبجدياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة إلى آخر حياته صلى الله عليه و آله، وربّما ادعي على ذلك الإجماع في بعض الكلمات.

ولكن الإجماع لو كان لا اعتبار به في مثل هذه المسألة التي هي عقائديّة كالمسائل العقلية، مع أنّه لا إجماع في البين بعد تصريح جمع من العلماء بخلاف ذلك.

وكيف كان فقد صرح بالخلاف جمع أو نسب الخلاف إليهم وربّما نسب إلى بعضهم التفصيل بين القراءة فأثبتوها والكتابة فأنكروها. وقد لا ينافي هذا القول تمكّنه صلى الله عليه و آله من الكتابة. وتوقف السيد المرتضى في المسألة حسبما حكاه العلّامة المجلسي واحتمل زوال الأمية الأبجدية عنه صلى الله عليه و آله بعد البعثة وإن نسب إليه في بعض الكلمات غير ذلك سهواً. وممّن صرح بنفي الأمية عنه صلى الله عليه و آله هو العلامة المجلسي فإنّه بعد أن أشار إلى بعض النصوص الّتي ربّما تنافي ذلك وأوَّلَها قال: وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين أن هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف؟! (3).

أقول: وهذا القول عندي هو الحقّ الحقيق بالقبول.


1- الفرقان: 5.
2- الأنعام: 105.
3- بحارالأنوار 16: 134.

ص: 50

فإنّ الشواهد والحجج توازرت على قدرته صلى الله عليه و آله على القراءة والكتابة بعد النبوّة، ومما يدل بوضوح على اختصاص عدم القراءة والكتابة بما قبل البعثة وأنّه صلى الله عليه و آله كان قادراً على ذلك بعد البعثة أمور؛ كما وأنّ هناك أموراً قد يستند إليها في إثبات كونه صلى الله عليه و آله أمّياً بعد البعثة كما كان قبلها بمعنى أنّه لا يقرأ ولا يكتب. ونحن نذكر هذه الأمور أوّلًا ثمّ نتبعها بما يدل على اختصاص الأمية بما قبل البعثة.

فنقول- بعد التوكّل على اللَّه-: ما استدل أو يمكن أن يستدل به لكون النبي صلى الله عليه و آله أمّياً أبجدياً بعد البعثة أمور، وعمدة الوجه هو: وصف النبي صلى الله عليه و آله بالأمّية بعد البعثة وقد تحقق أن المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدأ مجاز في ما انقضى عنه؛

قال تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ اْلأُمِّيَّ» (1). وقال تعالى: «فآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ اْلأُمِّيِّ» (2).

والاستدلال مبني على كون معنى الأمّي هو الأمية الأبجديّة وإذا ثبت بل واحتمل وجود معنى آخر له يكون الاستدلال ساقطاً، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ما يدل بوضوح على كون الأمّي بمعنى آخر.

وقد يستدل لكون النبي صلى الله عليه و آله أمياً بعد الرسالة ببعض الأخبار مثل رواية الحسن الصيقل قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: «كان ممّا منّ اللَّه عزّوجلّ به على نبيّه صلى الله عليه و آله أنّه كان أمّياً لا يكتب ويقرأ الكتاب» (3).

وفي معنى الخبر احتمالان: الأوّل: أن تكون الواو في قوله: ويقرأ الكتاب، حاليةً عطفاً على النفي لا على خصوص المنفي. والمعنى عليه: أن من منن اللَّه على النبي صلى الله عليه و آله أنّه مع كونه أمياً لا يكتب مع ذلك كان يقرأ الكتاب.

وعلى هذا التقرير يبتني الاستدلال بالخبر على زعم من ذهب إلى أن


1- الأعراف: 157.
2- الأعراف: 158.
3- رواه الصدوق في العلل.

ص: 51

النبي صلى الله عليه و آله كان يقرأ ولا يكتب.

الثاني: عطف ويقرأ على المنفي أعني قوله: يكتب، والمعنى أنّه صلى الله عليه و آله كان لا يكتب ولا يقرأ.

والاستدلال بالخبر لكون النبي صلى الله عليه و آله أمياً أبجدياً يبتني على هذا التقرير.

ولكن كلا المعنيين بعيدان، لعدم مناسبة الأمية على التقديرين مع الامتنان على النبي صلى الله عليه و آله بسببها.

ولذلك يحتمل في الخبر احتمال ثالث ربّما كان هو المتعيّن وهو الامتنان على النبي صلى الله عليه و آله بسبب اشتماله على العلوم ومنها القراءة والكتابة بعد ما كان أمّياً قبل الرسالة لم يتعلم القراءة والكتابة من أحد.

ويؤكد هذا الاحتمال أنّه لم يعهد إطلاق الأمّي على القارى ء إذا لم يتمكّن من الكتابة خاصة. كما ويؤكد هذا الاحتمال أيضاً الحديث الآتي.

كما أنّ الامتنان يستدعي زوال الأمّية عنه صلى الله عليه و آله بعد الرسالة وإلّا فلا موجب للمنّة إلّاعلى بعض الوجوه المشتملة على الكلفة.

وقد يوجّه الامتنان في الحديث بما تضمّنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ» ولكن الآية تتضمن الامتنان على الأمّة لا على الرسول نفسه. مع أن المنّة باعتبار كون النبي صلى الله عليه و آله منهم وأين هذا من كون المنّة باعتبار كونه اميّاً مثلهم؟

ومن الروايات معتبرة هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان النبي صلى الله عليه و آله يقرأ الكتاب ولا يكتب».

ولا يبعد اتحاد الخبر مع سابقه فيجري فيه ما جرى في الخبر المتقدم.

وقد وقع الاشتراك في عدة من وسائط الرواة في الخبرين، ولا يحتمل فيه نفي قراءة الكتاب بعد تقديم القراءة على الكتابة هنا، مع أن الخبر هذا مصرح بأنّه كان يقرأ الكتاب وهو ينافي الأمّية. فالاستدلال بالخبر على نفي الأميّة أولى.

ونظير معتبرة هشام رواية أخرى في العلل بإسناده عن البزنطي، عن بعض

ص: 52

أصحابه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان مما منّ اللَّه به عز وجل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه كان يقرء ولا يكتب فلما توجه أبوسفيان إلى احد كتب العباس إلى النبي صلى الله عليه و آله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم» (1).

ولا يبعد وحدة الأخبار الثلاثة، وقد عرفت قصور ها عن الدلالة على كون النبي صلى الله عليه و آله أمياً.

وقد يستدل لدعوى كون النبي صلى الله عليه و آله أمياً بالرواية المعروفة عن النبي صلى الله عليه و آله: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب».

وقد صرح في بعض الكلمات بضعفها، وهي على تقدير اعتبارها سنداً قاصرة دلالة على الدعوى بعد احتمال كونها ناظرة إلى مجموع الأمّة وعمومها لا آحادها، وقد صرح في التاريخ والسير بوجود عدد قليل ومحدود في العرب لم يكونوا أميين.

هذا كلّه مع وضوح الروايات النافية للأمّية بعد الرسالة دلالة وسنداً وكثرتها عدداً، بل وصراحتها بما لا يقبل التأويل فلا تصلح هذه الروايات لمعارضتها. هذا مضافاً إلى موافقة النصوص النافية للُامية الأبجدية مع القرآن بناءاً على ما تقدم تقريبه من دلالة بعض الآيات على ذلك.

وعدم منافاتها لوصفه صلى الله عليه و آله بالأميّة في بعض الآيات بعد كون الكلمة من الألفاظ المشتركة.

وقد تقدّم بيان العلامة المجلسي في الجمع بين هذه الأخبار، فراجع (2).

ثم إنّ ما يدل على عدم كونه صلى الله عليه و آله أمياً أبجدياً بعد البعثة فهو وجوه:

الوجه الأوّل:

إن الكتابة والقراءة علم من العلوم والخبرة بهما من الكمالات العالية وفقدها نقص كبير بل هو عيب فاحش، وقد ورد في روايات واضحة


1- بحارالأنوار 16: 133.
2- المصدر نفسه: 134.

ص: 53

اشتمال النبي صلى الله عليه و آله وأهل بيته على جميع علوم الأنبياء.

فلنا في المقام دعويان: إحداهما أن الكتابة والقراءة علم وفضيلة.

ثانيتهما: اشتمال النبي صلى الله عليه و آله على جميع علوم السلف.

أمّا الدعوى الأولى: فهي واضحة لا تحتاج إلى إثبات ومن الغريب ما في بعض الكلمات من إظهار الترديد فيها أو دعوى خلافها. وكيف لا تكون القدرة على القراءة والكتابة فضيلة بعد ما كان العلم بساير اللغات ولغة الحيوانات من معاجز الأنبياء والأولياء.

وكيف كان: فقد أنكر فضل العلم بالكتابة والقراءة بعض مقاربي عصرنا (1) واستظهر ذلك من ابن خلدون حيث ذكر في المقدمة: كان النبي صلى الله عليه و آله أمّياً وكان ذلك كمالًا له لأنّه كان يتلقى العلم من السماء. نعم الأمّية نقص لنا لاستلزامها الجهل بالنسبة إلينا (2). وهذه الدعوى مكابرة مع الوجدان.

وقد ورد في بعض النصوص أن أوّل من خط بالقلم هو إدريس النبي عليه السلام.

روى الصدوق في الخصال والمعاني فيما حكاه في سفينة البحار عن أبي ذر رحمه الله قال: قلت يا رسول اللَّه كم النبيّون؟ قال: مأة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي؛ قلت: كم المرسلون منهم؟ قال: ثلاثمأة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً؛ قلت: من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم عليه السلام؛ قلت: وكان من الأنبياء مرسلًا؟ قال: نعم خلقه اللَّه عزّ وجلّ بيده ونفخ فيه من روحه؛ ثمّ قال يا أباذر! أربعة من الأنبياء سريانيون: آدم وشيث و أخنوخ وهو إدريس، وهو أوّل من خط بالقلم ونوح عليه السلام... (3).

ولا يبعد ظهور هذا الخبر في كون الخط كان إلهاماً إلهياً لنبيّه، كما ويظهر من بعض الأخبار كون التكلّم ومنه العربيّة أيضاً كان إلهاماً، ويؤكده- بعيداً عن


1- الشيخ مرتضى المطهري في كتابه المترجم النبي الأمّي. فإنه ذهب إلى ذلك وذكر أن النبي صلى الله عليه و آله لم يكن يقرأ أويكتب فى عصر البعثة، صرّح بذلك في الصفحة 10 و 15 وغيرها.
2- نامه هدايت: 19.
3- سفينة البحار: مادة نبأ عن المعاني والخصال.

ص: 54

الأخبار- النظم في اللغات سيما في العربيّة.

فعن النّبي صلى الله عليه و آله: «ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً» (1).

وعن الباقر عليه السلام: «أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان لسانه على لسان أبيه وأخيه، فهو أوّل من نطق بها وهو الذبيح» (2).

وفي حديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «أوّل من فتق لسانه بالعربيّة المبينة إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن سنة» (3).

وفى بعض الروايات تعلّم آدم للعربيّة، وربما كانت في جملة الأسماء التي علّمها اللَّه تعالى إيّاه، وفي بعضها: إنها لغة أهل الجنة.

وأمّا اشتمال النبي صلى الله عليه و آله على جمع العلوم بل وكونه صلى الله عليه و آله أعلم من سائر الأنبياء، فقد ورد في روايات عدّة نشير إلى بعضها:

1- عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام وعنده أبو بصير فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّ داود عليه السلام ورث علم الأنبياء وإنّ سليمان عليه السلام ورث داود عليه السلام وإنّ محمداً صلى الله عليه و آله ورث سليمان عليه السلام وإنّا ورثنا محمّداً صلى الله عليه و آله... (4).

2- صحيحة (ظ) أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال لي: يا أبا محمّد إنّ اللَّه عز وجل لم يعط الأنبياء شيئاً إلّاوقد أعطاه محمّداً صلى الله عليه و آله. قال: وقد أعطى محمّداً صلى الله عليه و آله جميع ما أعطى الأنبياء. الحديث (5).

3- عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: قلت له جعلت فداك أخبرني عن النبي صلى الله عليه و آله ورث النبيين كلهم؟ قال: نعم قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه. قال: ما بعث اللَّه


1- ميزان الحكمة عن كنز العمّال مادة «عرب».
2- المصدر نفسه: عن تحف العقول.
3- المصدر نفسه.
4- بحار الأنوار 17: 132، الطبعة الجديدة، وفي تعليقة أصول الكافي 1: 225.
5- بحار الأنوار 17: 133، الطبعة الجديدة.

ص: 55

نبيّنا إلّا ومحمّد صلى الله عليه و آله أعلم منه (1).

4- مفضل بن عمر، عن أبي عبداللَّه عليهم السلام قال: كل نبي ورث علماً أو غيره فقد انتهى إلى آل محمّد عليهم السلام (2).

5- صحيح (ظ) زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لولا أنّا نزداد علماً لأنفدنا. قال: قلت: تزدادون شيئاً لا يعلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قال: أما إنّه إذا كان ذلك، عرض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثمّ على الأئمة ثمّ انتهى الأمر إلينا (3).

6- الهروي قال: كان الرضا عليه السلام يكلم الناس بلغاتهم وكان واللَّه أفصح الناس وأعلمهم بكل لسان ولغة فقلت له يوماً: يابن رسول اللَّه: إنّي لأعجب من معرفتك بهذه اللغات على اختلافها فقال: يا أبا الصلت أنا حجةاللَّه على خلقه، وما كان اللَّه ليتخذ حجة على قوم وهو لا يعرف لغاتهم. أوَ ما بلغك قول أمير المؤمنين عليه السلام:

اوتينا فصل الخطاب فهل فصل الخطاب إلّامعرفة اللغات (4).

7- عمار الساباطي قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: يا عمار أبو مسلم فطلله وكسا وكسيحه سباطورا (5) قال: فقلت له ما رأيت نبطياً أفصح منك بالنبطية. فقال: يا عمار: وبكل لسان.

8- حسين بن علوان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ اللَّه خلق اولي العزم من الرسل، وفضلهم بالعلم، وأورثنا علمهم، وفضلنا عليهم في علمهم. وعلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما لم يعلموا وعلمنا علم الرسول وعلمهم (6).

9- عبداللَّه بن الوليد السمان قال: قال لي أبو عبداللَّه عليه السلام: يا أبا عبداللَّه! ما تقول الشيعة في علي وموسى وعيسى عليهم السلام؟ قال: قلت: جعلت فداك ومن أيّ الحالات


1- بحار الأنوار 17: 133، الطبعة الجديدة، وفي تعليقة أصول الكافي 1: 226.
2- بحار الأنوار 17: 135، الطبعة الجديدة، وفي تعليقة أصول الكافي 1: 232.
3- بحار الأنوار 17: 136، الطبعة الجديدة، وفي تعليقة أصول الكافي 1: 255.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق 1: 251.
5- لغة الجملة نبطية والعمار كان نبطياً.
6- بحار الأنوار 17: 145، چاپ جديد. و در حاشية بصائر الدرجات: 62.

ص: 56

تسألني؟ قال: أسألك عن العلم. فأمّا الفضل فهم سواء. قال: قلت: جعلت فداك فما عسى أقول فيهم؟ فقال: هو واللَّه أعلم منهما ثمّ قال: يا عبداللَّه أليس يقولون: إنّ لعلي ما للرسول من العلم؟ قال: قلت: بلى، قال: فخاصمهم فيه، قال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى قال لموسى عليه السلام: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي اْلأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» (1)

فأعلمنا أنّه لم يبين له الأمر كلّه، وقال اللَّه تبارك وتعالى لمحمّد صلى الله عليه و آله: «وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (2)

و «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ» (3).

ثمّ إنّه تجدر الإشارة إلى نقطة، وهي أن الأفضل أولى بالإمامة من غيره، وهذا ما يحكم به العقل الصريح والوجدان السليم. ولكن الفضيلة المرجّحة للإمامة ليست هي مطلق الفضيلة وإنّما هي الفضيلة فيما يتعلّق بالإمامة التي يتصداها الشخص، فمن كان إماماً في سبيل الهداية إلى المعارف فينبغي أن يكون أفضل في العلوم المرتبطة بذلك لا في غيرها، ولذا لا يجب أن يكون النّبي عالماً بالعلوم


1- الأعراف: 145.
2- النساء: 41.
3- النحل: 89.

ص: 57

الطبيعيّة كالطبّ والكيمياء ونحوهما.

لا أقول: إن الأنبياء لم يكونوا عالمين بعلوم العلماء في غير ما يتعلق بالمعارف وإنّما أقول: إن العقل لا يحكم بلزوم اشتمال الأنبياء على تلك العلوم، وهذا لا يعني عدم اشتمالهم على الكمالات.

نعم، لابد عقلًا من كون النبي والإمام أفضل من ساير أهل عصره فيما يتعلّق بشأن هداية الأمّة وأعلم منهم في هذا المجال، والنقل أيضاً يؤكد ذلك قال تعالى:

«أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

فيتحصّل مما تقدم أنّه لا يحكم العقل بلزوم كون النّبي صلى الله عليه و آله قادراً على الكتابة والقراءة؛ حيث لا مدخل لهما في الفضيلة على فاقدهما بعد أن كان الفاقد محيطاً بكل العلوم المرتبطة بهداية الناس وأفضل من غيره في هذا المجال، ولعله لهذا اشتبه الأمر على من أنكر فضيلة الكتابة والقراءة فلا ينبغي الخلط.

الوجه الثاني:

جملة من النصوص تضمّنت صريحاً قدرته صلى الله عليه و آله على القراءة والكتابة.

1- منها: رواية الصدوق في العلل والمعاني ورواها المفيد في الاختصاص والصفّار في بصائر الدرجات وحكاها المجلسي في البحار والبحراني في البرهان وغيرهم. ونحن نحكي رواية الصدوق عن البحار فقد قال: حدثني أبي قال:

حدّثني سعد بن عبداللَّه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي عبداللَّه محمد بن خالد البرقي عن جعفر بن محمد الصيرفي (الصوفي- خ) قال: سألت أباجعفر، محمد بن علي عليهما السلام فقلت (1): يابن رسول اللَّه، لم سُمّي النبي الامّي؟ فقال: «ما يقول الناس؟» قلت: يزعمون أنّه صلى الله عليه و آله سمّي الأمي، لأنّه لم يحسن أن يقرء؛ فقال: «كذبوا لعنة اللَّه عليهم. أنّى ذلك واللَّه يقول في محكم كتابه: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا


1- ورد هذا الخبر ظاهراً في المجمع عن أبي جعفر بقيد الباقر، وليس من البعيد أن يكون من سهو القلم أو من الناسخ.

ص: 58

مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» (1)

كيف كان يعلمهم ما لا يحسن. واللَّه لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقرء ويكتب باثنين وسبعين أو بثلاثة وسبعين؛ وإنّه سُمّي الامّي لأنّه كان من أهل مكة ومكة من امّهات القرى وذلك قول اللَّه عز وجل: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» (2).

وهذه الرواية معتبرة سنداً ورجالها من أجلاء الفقهاء، وإسنادها عال قريب إلى المعصوم زماناً، قليل الواسطة، وحصول القطع بسببها ليس جزافاً ودلالتها على المدعى واضحة.

هذا مع أن الرواية- لولا صحتها- تشتمل على خصوصية تمنع من الالتزام بكون النبي صلى الله عليه و آله أمّياً أبجدياً، وذلك لكون العمدة في إثبات الأمية الأبجدية له صلى الله عليه و آله هو ورود وصف الأمّية له في الكتاب والسير، فإذا احتمل كون الوصف باعتبار غير الأبجدية سقط الاستدلال بذلك لإثبات الأمّية من حيث الأبجديّة، وهذه الرواية لو لم تُثبت بوجه قاطع ذلك فلا أقل من فتحها باب الاحتمال.

وهناك رواية أخرى قريبة من هذه الرواية لا يبعد اتحادهما، رواها الصدوق في العلل؛ متنها: عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: إن الناس يزعمون انّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكتب ولا يقرء. قال: «كذبوا لعنهم اللَّه أنّى يكون ذلك وقد قال اللَّه عز وجل: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي اْلأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (3)

فكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرء الكتاب؟!» قال: قلت: فلِمَ سُمّي بالامّي؟ قال: «نسبة إلى مكة وذلك قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» فقيل: امّي، لذلك» (4).

وربما يشكل صحّة الروايتين من حيث المتن بجهات:


1- الجمعة: 2.
2- بحارالأنوار 16: 132.
3- الجمعة: 2.
4- بحارالأنوار 16: 133.

ص: 59

الأولى: إن «أمّ القرى» ليست علماً لمكّة، بل هي وصف عام لها ولغيرها من مراكز البلاد والقرى قال تعالى: «وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» (1). هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى لما كان الغرض من الوصف والإضافة هو التمييز والتخصيص بل التعيين والتوضيح لم يناسب النسبة إلى وصف عام بل كان ذلك لغواً.

الثانية: إنّه قد أطلق الأمّي في القرآن على غير المكّي قال تعالى: «وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ اْلأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ» (2)؛ فإن المراد بالامّيين ما يقابل معنى أهل الكتاب، وقال تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ» حيث إن المراد من الأميين عوام اليهود ممن كانوا يسكنون يثرب وحواليها لا مكّة.

الثالثة: مقتضى قواعد الأدب النسبة إلى المركبات تركيب إضافة هو النسبة إلى المضاف إليه بعد حذف المضاف دون العكس، فيقال في النسبة إلى أبي طالب وأم علي وبني تميم: طالبي وعلوي وتميمي، فكان المفروض على هذا أن يقال في النسبة إلى أم القرى: قرويّ لا أمّي.

وهذه الشبهات كلّها مردودة. وبداراً ينبغي الاعتذار عن صاحب الإشكالات بأنّه لم يطّلع على الرواية وإلّا فالإشكال على الرواية بأمثال ما ذكر يعدّ من الغرائب. ومع الغض عن ذلك فما ذكر من وجوه القدح كلّها مردودة:

أمّا القدح الأوّل فيرد عليه: أوّلًا: أنّه لم يعلم كون أم القرى وصفاً عامّاً فربما كان مشتركاً لفظياً بينه وبين غيره؛ لاحتمال وجود وضع آخر له خاص فكان علماً لمكّة بعد كونه وصفاً عامّاً. وهذا أمر شائع وليس هناك ما ينفي هذا الاحتمال بالغضّ عن الخبر.

وثانياً: لا مانع من إطلاق لفظ موضوع لمعنى على مصداق منه بالخصوص


1- القصص: 59.
2- آل عمران: 20.

ص: 60

إطلاقاً مجازياً بحيث يراد الخصوصية بذلك اللفظ لا مجرد الجري باعتبار المعنى العام.

وثالثاً: لا دليل على عدم صحة النسبة إلى الوصف العام، ودعوى كونها لغواً يدفعها الوجدان؛ فإن الإضافة والنسبة يحققان التمييز والاختصاص، وربّما يحصل الغرض بمجرد الإضافة والنسبة إلى الوصف العام، بل ربّما كان التوضيح بما يزيد على ذلك لغواً أو مخالفاً للغرض. ألاترى أنّه يقال في العرف: فلان قروي وفلان بلديّ وفلان بدوي فهل تكون هذه النسب لغواً؟!

وصحة الاستعمال يكفي لها استساغة الطبع وطباع العرف- في شتّى اللغات- تصحح النسبة إلى الوصف العام ولا تمنع منه.

وأمّا القدح الثاني فهو أغرب من غيره؛ فإنّه لو سلّم إطلاق الأمّي على معنى سوى ما تضمّنه الخبر من مكّة وفرض كون الإطلاق حقيقيّاً فهل يعني ذلك اختصاص المعنى به؛ وعدم صحة إطلاقه على معنى آخر؟ لعمري ينبغي أن يعدّ ذلك من الطرائف.

وأمّا القدح الثالث: فيرد عليه أنّه ليس هناك ما يعيّن في النسبة إلى المركب بتركيب الإضافة أن تكون النسبة إلى المضاف إليه، وقد أسمعناك أن العبرة في صحة الاستعمال باستساغة الطبع العرفي والتحقيق جواز النسبة إلى المضاف أيضاً.

قال السيوطي وماتنه: أنسب لصدر جملة إسنادية، فقل في تأبط شراً...

وصدر ما ركب مزجاً فقل في بعلبك: بعلى، وانسب لثان تمما إضافة إمّا مبدوّة بابن أو أب أو أم كعمري وبكري وكلثومي في ابن عمرو أبي بكر وأمّ كلثوم (1).

وكيف كان: لا ندور في صحة الاستعمال مدار وقوعه، بل يكفي لها استساغة الطباع المستقيمة، مع ما أشير إليه من صحة النسبة إلى المضاف في كلام شارح الألفيّة، بل وعدم صحّة الإضافة إلى المضاف إليه أحياناً لكونه موجباً للّبس وإفهام الخلاف.


1- البهجة المرضية.

ص: 61

2- ومنها: الحديث المتواتر بين الفريقين من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما حضرته الوفاة: إيتوني بدوات وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً (1).

ولولا ذكر الدوات والكتف لاحتمل أن يكون المراد بالكتابة الفرض والتقدير أو الجعل والتشريع كما في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً»؛ إلّاأنّه بعد طلب الدوات والكتف ينتفي هذا الاحتمال رأساً.

واحتمال كون المراد من ذلك مباشرة غيره صلى الله عليه و آله الكتابة ولكنّها بأمره ربّما لا يساعده ظاهر الكلام، حيث إن المفهوم منه هو مباشرته صلى الله عليه و آله للكتابة.

ثمّ إن هذه الرواية لا تدلّ على مجرد قدرته صلى الله عليه و آله على الكتابة، بل تدل على عدم كون ذلك أمراً غير معهود لدى الصحابة حيث لم ينقل استغرابهم لما أراده صلى الله عليه و آله من الكتابة عند وفاته، ولا عدّ ذلك من جملة خوارق العادة والمعجزات؛ ولا أن من ذكر الحديث في عداد أدلّة الإمامة خطر بباله سوى مباشرة النبي صلى الله عليه و آله للكتابة، وإن كان هذا الأمر قد يخطر بالبال في باب ذكر الحديث في مسألة كون النّبي صلى الله عليه و آله أمّياً أو لا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الرواية تصلح دليلًا لقدرته صلى الله عليه و آله على الكتابة حتى لو لم يثبت سندها- مع أن صدورها قطعيّ- والسرّ في ذلك أنّه لو كان المعهود منه صلى الله عليه و آله الأمّية الأبجديّة بعد كون اتصافه صلى الله عليه و آله بالأمّية أمراً قطعياً حسبما دلّ عليه الكتاب وغيره كان جعل الحديث بمضمون واضح الكذب غير معقول بعد كون المقصود بالحكاية أمراً آخر يستلزم أمراً كذباً. فإن المقصود الأصيل بالحكاية هو ما يدلّ على نصب الإمام والمدلول بالتبع هو عدم الأمّية الأبجديّة فتأمل جيّداً، فإنه حريّ بذلك، وله آثار في الروايات وتطبيقات في الآثار. ولذا كان إثبات اللغات بالروايات الضعيفة أمراً جايزاً لكون المقصود بالأصالة في الحديث والخبر


1- وممّن استدل بالحديث هذا للمدعى السيد المرتضى فيما حكي عنه، بعد أن حكى عن الشعبي وجماعة من أهل العلم أنه ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى كتب وقرأ، حكاه المطهري في كتاب النبي الأمّي: 16.

ص: 62

هو حكاية المضمون لا إثبات اللغة والأوضاع.

3- ومنها خبر البصائر عن عبدالرحمن بن الحجاج قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام:

«إن النّبي صلى الله عليه و آله كان يقرء ويكتب ويقرء ما لم يكتب» (1).

ولعل المراد من قراءة ما لم يكتب هو غير العربيّة من ساير اللغات كما في الحديث الآتي.

4- ومنها خبره الآخر عن الثمالي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال في قول اللَّه تعالى لما أنزل ألواح موسى عليه السلام أنزلها عليه وفيها تبيان كل شي ء كان وهو كائن إلى أن تقوم الساعة... فأخرجوها إليه (يعني إلى محمد صلى الله عليه و آله) فنظر إليها وقرأها وكتابها بالعبراني، ثمّ دعا أميرالمؤمنين عليه السلام فقال: دونك هذه ففيها علم الأوّلين وعلم الآخرين، وهي ألواح موسى عليه السلام، وقد أمرني ربّي أن أدفعها إليك؛ قال: يا رسول اللَّه لست أحسن قراءتها (2).

5- وفي رواية أخرى قريب بمضمونها و فيه: أين الكتاب الذي توارثتموه...

فأخذه النبي صلى الله عليه و آله، فإذا هو كتاب بالعبرانية دقيق فدفعه إليّ (3).

6- ومنها: رواية أبي الصباح الكناني قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي يده اليمنى كتاب، وفي يده اليسرى كتاب. فنشر الكتاب الذي في يده اليمنى فقرء: بسم اللَّه الرحمن الرحيم كتاب لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد. قال: ثمّ نشر الذي بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم لا يزاد فيهم واحد ولا ينقص منهم واحد.

7- ومنها: جملة من النصوص وردت في قراءة النبي صلى الله عليه و آله كتابات في المعراج على أبواب الجنان وغيرها.

ففي رواية عبدالصمد ص 138.


1- بحارالأنوار 16: 136 عن البصائر: 63.
2- البحار 16: 137، عن البصائر: 38.
3- بحارالأنوار 17: 139 عن البصائر: 39.

ص: 63

وفي رواية أخرى له ص 139.

وفي رواية جابرالأنصاري

وفي رواية للصدوق رواها بإسناده عن سلمان الفارسي.

وفي رواية أبي بصير.

وفي رواية تفسير القمي.

وفي رواية حكاها العلّامة الأميني عن جمع من الحفّاظ منهم الخطيب البغدادي بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال النّبي صلى الله عليه و آله: «لما عرج بي رأيت على ساق العرش مكتوباً: لا إله إلّااللَّه محمد رسول اللَّه أيدته بعليّ نصرته بعليّ» (1).

وكذا روى محب الدين الطبري في الرياض عن أبي الحمراء من طريق الملّا في سيرته وفي ذخائر العقبى ومناقب الخوارزمي.

وفي رواية الحويني في الفرائد روايتها بطريقين نحوه.

وبإسناد آخر عن أبي الحمراء خادم النبي صلى الله عليه و آله نحوه.

ومثله روى الحافظ السيوطي بأسانيد عن أبي الحمراء كما في كنز العمّال (2) وبطريق آخر عن جابر.

و الهيثمي في مجمع الزوائد والسيوطي في الخصائص.

هذا ما عثرت عليه من النصوص على عجل، ولعل المتتبع يجد مزيد روايات ويعثر على غير ما ذكرناه من النصوص.

نعم، هناك كلام في حقيقة الكلام العرشي الذي وجده النّبي صلى الله عليه و آله مكتوباً لما أسري به. وإذا كان النّبي صلى الله عليه و آله يقرء مثل ذلك ولو بإعجاز فما ظنّك بكلمات أرضيّة لا مؤونة فيها.


1- الغدير 2: 50 و 51.
2- نفس المصدر وراجع كنزالعمال 6: 158.

ص: 64

ومنها ما ذكر في تاريخ الطبري وابن الأثير فيما يتعلّق بالسنة السادسة للهجرة وكتاب صلح الحديبية ما يفيد أن النبي صلى الله عليه و آله رفع العهد وكتب كلمة بيده، رغم أنه لم يحسن الكتابة.

والمحتمل قوياً أن يكون قول: ليس يحسن يكتب، من اجتهاد بعض الرواة في بعض الطبقات.

الوجه الثالث: قوله تعالى: «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» (1)، فإن تلاوة الصحف ظاهرة في قراءتها عن نظر إليها لا عن ظهر القلب؛ فإنه فرق بين تلاوة الآيات كما في غير هذه الآية وبين تلاوة الصحف.

ويمكن الاستدلال لقدرته صلى الله عليه و آله على القراءة بما تضمّن استحباب قراءة القرآن من المصحف حتى لمن حفظه ويتمكّن من قراءته عن ظهر الغيب، فكيف كان النبي صلى الله عليه و آله تاركاً لهذا الأمر، مع أن التكلّم للقراءة أمر بسيط سهل لا يحتاج إلى مؤونة كثيرة.

فقد تحصّل مما تقدّم أن الأسناد والمدارك المعتبرة ومنها النصوص الكثيرة واضحة الدلالة على أن النّبي صلى الله عليه و آله بعد الرسالة كان يقرأ ولم يكن أُمّياً، سواء فرض أنّه باشر الكتابة كما في بعض النصوص أو لم يباشرها.

هذا ما تيسّر لنا إيراده في هذه المسألة منذ زمن بعيد وأسأله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم وذخراً، وأن يجعل ثوابه لوالديّ اللذين لهما عليّ الحق العظيم، وقد أردف اللَّه تعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته، غفر اللَّه لنا ولجميع المؤمنين بمحمد وآله الطاهرين، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.


1- البيّنة: 3، 4.

ص: 65

حجية الفعل النبوي

دراسة في الاستناد إلى فعل النبي وسيرته

في ضوء أصول الفقه الإسلامي

حيدر حب اللَّه

تمهيد

يمثل فعل المعصوم- من النبي والإمام- أحد أوجه السنّة ومظاهرها، وكما استند العلماء المسلمون إلى أقوال النبي في الاحتجاج بها والاعتماد عليها، والأخذ بها مصدراً من مصادر المعرفة الدينية على غير صعيد ومجال، كذلك شكّلت سيرة النبيّ وأفعاله، سيما سيرته في الحرب والتعامل مع الكافرين، مستنداً رئيساً في الاجتهاد الفقهي؛ لتصبح هذه السيرة وتلك الأفعال مرجعاً للفقيه وغيره.

وقد وقع بحثٌ بين أصوليي المسلمين في حجيّة فعل المعصوم، ثم أشكل الأمر بينهم في أن الفعل لو كان حجّةً فما معنى حجيّته؟ وكيف يفيد الفعل في الاستدلال على الدين والشريعة؟

وقد ظلّ هذا البحث رائجاً في الوسط السنّي حتى عصرنا الحاضر؛ حيث ألّفت دراسات مستقلّة فيه، من أشهرها دراسة الدكتور محمد سليمان الأشقر، ومن قديمها كتاب في أفعال النبي، لأبي الحسن الأشعري (324 ه)، (1) ولعلّه مضمون


1- انظر: إسماعيل باشا، هدية العارفين 1: 677.

ص: 66

كتاب أفعال النبي لعلي بن عبد العزيز بن محمد الدولابي (335 ه)، وهو من أعلام مذهب الإمام الطبري (1)، أما في الوسط الشيعي، فقد تمّ تناول الموضوع إلى قريب القرن العاشر الهجري، لينحسر تدريجياً البحث فيه بعد ذلك، وليتحوّل إلى مبادئ واضحة تقريباً.

لكننا نعتقد بأن تغييب هذا البحث لم يكن دقيقاً، فالمسألة في دراسة الفعل النبوي لا تقف عند حدود مبدأ الحجيّة، وربما لذلك- أي إيقافها عند حدود مبدأ الحجية وغيره- انحسر دور هذا البحث في أصول الفقه الإمامي مؤخراً، انطلاقاً من وضوح نظرية العصمة في المدرسة الكلامية الشيعية، الأمر الذي ظلّ مفتوحاً على احتمالات في الوسط الذي يُنكر العصمة أو لديه مواقف من دائرتها.. بل تتعدّى حدود مبدأ الحجيّة إلى مجالات أخرى في الفعل النبوي، كتحديد مؤدّيات الفعل ومعطياته، وكذا ألوان دلالاته، وعلاقاته بأشكال الأدلة الأخرى.

وعلى هذا الأساس، سوف ندرس في البداية أصل حجية الأفعال النبوية، ثمّ نتعرّض لمؤدّى الفعل ومعطياته، وكيفية ومعوّقات توظيفه في الاجتهاد، لنختم بعد ذلك بالحديث عن دلالاته المختلفة، إن شاء اللَّه تعالى، مشيرين سلفاً إلى أنّ بعض المباحث التفصيليّة في الأفعال كثرت فيها الأقوال وطالت بها الآراء، سيما في الوسط السنّي، وكثيرٌ منها لا داعي له، ولا حاجة إلى الإطالة فيه إلى هذا الحدّ، لهذا سنعرض عنه، بل إن بعض التقسيمات لأفعال النبي وأنواعها بلغت حدّاً مبالغاً فيه لا ينفع الأصولي في شي ء معتدّ به، مثل تقسيم ابن حبان في صحيحه أفعال النبي إلى خمسين نوعاً (2).


1- راجع: ابن النديم، الفهرست: 292؛ وإسماعيل باشا، هدية العارفين 1: 678.
2- صحيح ابن حبان 1: 145- 149.

ص: 67

حجيّة الفعل النبوي، المستند والدليل

لابدّ لكي ننظر في الدليل على حجية الفعل من استعراض أدلّة حجيّة السنّة؛ لنرى شمولها له أم لا، وهل هناك وجهٌ آخر يمكن إضافته في المقام أم لا؟

وحيث كنّا قد استعرضنا سابقاً هذه الأدلّة، في دراسة أخرى (1)، ولكي لا نغرق في التكرار والإطالة، نشير إليها بإيجاز، محيلين القارئ إلى أصل البحث في حجية السنّة.

أ. أمّا دليل العصمة:

مع شموله لتمام الأفعال، فهو يثبت حجيّة الفعل؛ لفرض عدم إمكان صدور الحرام منه أو ترك الواجب، مما يكشف- في الحدّ الأدنى وفي الجملة- عن الإباحة، فهذا الدليل تام، بل مع القول بعدم صدور المكروه منه يستفاد أيضاً في عدم كراهة الفعل الذي ثبت صدوره عنه، وهكذا.

ب. أما الآيات القرآنية:

1- فما دلّ على لزوم الإيمان بالنبي والتصديق به- وهو آيات الطائفة الأولى المتقدّمة هناك- لا يشمل الفعل؛ إذ من الواضح أنّ الإيمان يصدق حتى لو لم يكن فعله حجةً، ولا ملازمة لا عقلًا ولا عقلائياً ولا شرعاً بين الأمرين، فإذا كان المطلوب التصديق بالنبي والإيمان به، فهذا لا ينافيه عدم كون فعله حجّةً، كما لا إطلاق في تلك الآيات يفيد الشمول لمثل الفعل النبوي حتى لو سلّمنا أصل دلالتها على حجية السنّة.

2- وأما ما دلّ على تنزيل القرآن ليبيّنه الرسول صلى الله عليه و آله، فإن الظاهر عرفاً من البيان- بعد تسليم أصل دلالة الآيات على حجيّة السنّة- هو البيان اللفظي، أما غيره فيحتاج إلى إشارة وتوضيح، وليس منسبقاً من الآيات، فالتبيين في اللغة العربية ينصرف إلى القول والكلام، ولا مانع من الشمول للفعل إذا كان هناك معطيات مسبقة تشير إلى إدخاله في دائرة التبيين لا مطلقاً، ولهذا لو قلت: إنّ زيداً من الناس يريد أن يبيّن كتاب القانون لابن سينا، فلا ينصرف من ذلك سوى البيان


1- انظر: حيدر حب الله، التأسيس القرآني لحجية السنّة النبوية، قراءة وتقويم، مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 1: 245- 296، شتاء 2006 م.

ص: 68

القولي، وأما أن يكون قيامه بفعل الطبابة شرحاً بنفسه لكتاب القانون فهذا ما يتطلّب قرينةً وشاهداً إضافيّاً، كما هو واضح.

3- وأما ما دلّ على تعليم الكتاب والحكمة، وأنّ ذلك من وظيفة الرسول صلى الله عليه و آله، فهو غير واضح في الشمول لمثل الفعل إلا بقرينة، مثل ما لو قال النبي صلى الله عليه و آله: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» (1)، فمن الممكن أن يكون فعله ذا دور في التعليم، أما مع عدم نصب قرينة خاصّة فإنّ العرف لا يفهمون التعليم من الفعل إلا بقرينة مسبقة، نعم قد يفهمون السلوك العام الأخلاقي ذا دورٍ في التعليم، أما غير ذلك فغير واضح، تماماً كما قلنا في النقطة السابقة.

4- وأما ما دلّ على مدح النبي صلى الله عليه و آله بألوان المدح وغير ذلك، فلم نقبل دلالته على حجيّة السنّة هناك، لكن على تقدير دلالته يمكن استظهار حجيّة الفعل في الجملة من مثل «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، فإنّ من يرى أنّ مثل هذه الآية ينفع في حجيّة السنّة، من الطبيعي له أن يجعل الفعل النبوي حجّةً؛ لأن الآية تركّز نظرها على جانب الخُلق المنتمي إلى دائرة الفعل، كما أنّ ما دلّ على اتباع الرسول للدين و.. يفيد ذلك، فإنّ من يرى دلالة مثل هذه الآية على حجيّة السنّة لا يسعه إنكار دلالتها على حجيّة الفعل؛ لأنّ مركز الدلالة فيها هو اتّباع النبي لأوامر اللَّه، مما ينتمي إلى مسألة الفعل لا القول فقط، فهذه الطائفة تدلّ على حجية الفعل النبوي.

5- وأما ما دلّ على وحيانية السنّة، وأنّه لا ينطق عن الهوى، وأنه لو تقوّل على اللَّه لعاقبه، وهي الطائفة التي قبلنا- ببعض آياتها- دلالتها على حجيّة السنّة، فلا يفيد حجيّة الفعل؛ لأنها ظاهرة في القول، بل كأنها صريحة به، بقرينة «ينطق» و «تقوّل علينا»، فلا وجه لدلالة مثل هذه الآيات على حجيّة الفعل، ما لم تنضم إليها شواهد إضافيّة.


1- عوالي اللئالي 1: 198، و 3: 85، 102؛ وبحار الأنوار 82: 279؛ وصحيح البخاري 1: 155؛ ومسند الشافعي: 55؛ وسنن البيهقي 2: 345، و 3: 196؛ وسنن الدار قطني 1: 280؛ وسنن الدارمي 1: 286.

ص: 69

6- وأمّا ما دلّ على لزوم طاعة النبيّ صلى الله عليه و آله، فقد قدّمنا هناك أن مسألة الطاعة تستبطن الأمر والنهي وما في قوّتهما، فالعرف يفهم- عندما يأمرنا المولى بطاعة شخصٍ ما- أن نلتزم أوامره وننزجر عن نواهيه، والأوامر في الغالب من شؤون الأقوال لا الأفعال، فالفعل لوحده لا يدلّ على أمر إلا مع قرينة، اللهم إلا في مثل ما هو في قوّة اللفظ كالإشارات الدالّة، فيكون حجّةً لا لحجيّة الفعل بل لحجية الأمر، فلا معنى للطاعة بناءً على صدور فعل، نعم إذا كان محفوفاً بأمرٍ لفظي بالمتابعة يصير حجةً، لكن لا لنفسه بل لحجية ذلك الأمر اللفظي، كما لو أمر بالاقتداء به في مناسك الحج، ثم أقامها أمامنا فيكون هذا الفعل حجةً لأمره الأوّل لا لنفسه.

7- وأما ما دلّ على لزوم التأسّي، فهو ظاهر ظهوراً واضحاً في الفعل، فأن يكون أسوةً بمعنى صيرورة أفعاله قدوةً ومثالًا، وكذا آية الزواج من زينب بنت جحش زوجة ابن النبيّ بالتبنيّ، فإنها حصرية في دلالتها على الفعل، فبعض نصوص هذه الطائفة ظهوره حصريّ في الفعل تقريباً، بل لا دلالة له على حجيّة القول إلا بواسطة، فهذه من أقوى الآيات دلالةً على حجية الفعل النبوي، ولذلك

ص: 70

وجدنا البحث عن هذه الآية في مباحث الأفعال النبوية من علم أصول الفقه، وقد كنّا أدرجنا المواقف حولها لدى البحث عن الدليل القرآني على حجية السنّة، فلا نعيد.

8- وأمّا آية: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (الحشر:

7)، فإذا فسّرنا الإتيان بالأمر كانت خاصّةً بالقول، أما مع إطلاقها فتكون ظاهرةً فيه، أما ظهورها في غيره فغير واضح، فإنّ العرف لا يفهم من مثل هذا التعبير حجيّة الفعل، إلا إذا كانت لديه معطيات مسبقة عن شخص النبي صلى الله عليه و آله كعصمته.

وبهذا يظهر أن بعض طوائف الآيات- كآيات التأسّي- ظاهرة في حجيّة الفعل، إلا أن الطوائف التي تبنّينا هناك دلالتها على حجيّة السنّة، وهي ما دلّ على حجيّة قوله ناسباً إياه إلى اللَّه ولزوم طاعته، فلا ظهور لها في حجيّة الفعل إطلاقاً، إلا إذا نصّ النبيّ صلى الله عليه و آله لفظاً على لزوم اتباعه في فعلٍ ما، كما فيما ورد في الصلاة، أو قامت قرينة حافة تشير إلى أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يقصد من الفعل الخاص كالعبادات تعليم أمرٍ ديني، مما يكوّن ظهوراً حالياً في النسبة إلى اللَّه تعالى.

كما أنّ الدليل القرآني لا يشمل أفعال أهل البيت عليهم السلام أيضاً، كما تقدّم لدى بيان أصل حجيّة سنّتهم عليهم السلام، على خلاف دليل العصمة، سواء كان هذا الدليل على العصمة عقلياً أو قرآنياً.

ج. أمّا طوائف الروايات:

1- فما دلّ على أنّ الرسول أوتي مثل القرآن، وأنه يشرّع منه، لا يفيد حجيّة الفعل، بل هو أقرب إلى الاختصاص بالقول، وهي تتحدّث عمّا حلّله الرسول وحرّمه، فلا ظهور لها في الأفعال؛ إلا بقرينة إضافية.

2- وأما الطائفة الدالّة على أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لا يأمر الناس إلا بما أمره اللَّه تعالى، فهي ظاهرة- ولو بقرينة الأمر- بالقول، ولا أقلّ من أنه ليست فيها أيّ إشارة للفعل النبوي، وقد كنّا علقنا هناك أيضاً فيما يخصّ هذا الأمر، فليراجع.

3- وأما الطائفة الدالّة على النهي عن تفسير القرآن وتأويله، فهي أجنبية؛

ص: 71

لأنّ أقصى ما تفيده لزوم الرجوع إلى النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام لكي يوضح لنا مدلول القرآن، وهذا المقدار أقرب إلى البيان القولي منه إلى الفعل، بحيث يُشبع البيانُ القولي- وهو القدر المتيقّن- الحيثية التي فيه.

4- وأما ما دلّ من الروايات على لزوم إطاعة الرسول صلى الله عليه و آله، فحاله حال الآيات القرآنية، وقد بيّنا هناك أنّ الآيات لا يتحقّق مضمونها إلا عبر الأمر والنهي، وهما في الأصل من مقولة البيان القولي.

5- وأما ما دلّ على لزوم اتباع سنّة الرسول صلى الله عليه و آله وإحيائها، فهو يدلّ على حجيّة الأفعال النبوية التي تتحوّل إلى سيرة قائمة، لا مطلق الأفعال، لظهور السنّة في السيرة لا مطلق القول والفعل والتقدير، كما أشرنا إلى ذلك في محلّه.

6- وأما ما دلّ على الاستماع إلى حديث النبي ونقله وحفظه.. فكلّه ظاهر في خصوص القول، ولا أقل من عدم ظهوره في الفعل.

وبهذا ظهر أنّ طوائف الروايات لا تدلّ على حجيّة الأفعال، نعم قد يدلّ بعضها- مثل الطائفة الخامسة- على حجيّة ما تحوّل إلى سيرة نبوية، إلا أنه رغم ذلك كلّه لا ينفع؛ لعدم وجود أخبار تفيد الوثوق بالصدور، وروايات الطائفة الخامسة ليست بهذه المثابة، فلا دليل في الحديث على حجيّة الفعل النبوي.

د. وأما دليل تعذّر العمل بالقرآن وحده:

فهو لا ينفع هنا؛ لأن تمام المحاذير التي أبديت هناك ترتفع بالعودة إلى السنّة القولية، مثل عدم إمكان فهم القرآن، أو عدم إمكان استخراج العبادات منه وأمثال ذلك، فالسنّة القولية، وهي القدر المتيقن من حجيّة السنّة، تُشبع حيثية هذا الدليل، مما لا يجعله ملزماً في مجال السنّة الفعلية، بعد أن كانت السنّة القولية المقدارَ المتيقّن في الحجية.

ه. وأما الدليل الخامس:

فقد ذكرنا هناك أنه لا يقدّم جديداً غير ضمّ عصارة الأدلّة السابقة عليه، فلا يُعطي أزيد منها، فيرد عليه ما يرد عليها، فلا نعيد.

ص: 72

و. وأما دليل الإجماع (1):

فبغضّ النظر عن سلسلة الانتقادات التي سجّلناها عليه سابقاً، لا يفيد أزيد من أعمال النبي صلى الله عليه و آله التي تحوّلت إلى سنّة عملية له، ككيفيّة الصلاة مثلًا، لا مطلق أفعاله، فالمتيقّن من الإجماع هذا المقدار لا مطلق الفعل.

ز. وأما دليل السيرة المتشرعيّة:

فالمتيقن منه الأفعال التي تندرج ضمن سيرة النبي صلى الله عليه و آله سيما في العبادات لا مطلقاً، لكننا بيّنا سابقاً أنّ المتيقّن من دليل السيرة ما كان هناك ظهورٌ حالي فيه يقتضي صدوره على وجه بيان حكم اللَّه تعالى كالعبادات مما فيه نسبةٌ إلى اللَّه تعالى، ولا يُحرز انعقاد السيرة على أكثر من ذلك.

وعليه، فجملة الأدلّة العامة على حجيّة السنّة لا تفيد حجيّة فعل النبي صلى الله عليه و آله عدا دليل العصمة، ولولاه لما ثبت منها حجيّة الفعل، إلا ما كان احتوى ظهوراً حالياً في تعليم الدين وأمثال ذلك، كما في باب العبادات، أو قام دليل لفظي على لزوم الاقتداء به فيه، كما ورد في الصلاة، نعم بعض الأدلّة غير الثابتة كالإجماع قد يفيد ما هو أزيد قليلًا، لكنه غير ثابت.

وبهذا يستبين أيضاً أنّ المصادرة على المطلوب بالقول: لا يمكن بعد إثبات حجيّة السنّة النبوية عدم حجيّة الأفعال، لأنها من السنّة، فكيف تكون السنّة حجةً والفعل ليس بحجة؟! غير صحيحة؛ وذلك أنّنا بصدد البحث عن كون الفعل جزءاً من السنّة أم لا، ولا يوجد تلازم عقلي ولا عرفي ولا شرعي بين حجيّة القول وحجية الفعل، لهذا كنّا محتاجين إلى دليل خاصّ في المقام على حجيّة الأفعال النبوية.

هذا فيما يخصّ سنّة النبي صلى الله عليه و آله، وأما ما دلّ على حجيّة سنّة أهل البيت عليهم السلام، فمثل دليل الثقلين وغيره لا يفيد إلا عبر تأسيس مفهوم العصمة، فإن ثبتت


1- ذكر دليل الإجماع في خصوص الأفعال الشيخ الطوسي في كتاب العدة 2: 572- 573.

ص: 73

عصمتهم عليهم السلام مطلقاً كان فعلهم حجة، وإلا فسائر الأدلّة الدالّة على الرجوع إليهم يتمّ الاقتصار فيها على مراجعتهم والرجوع إليهم، والقدر المتيقن هو السنّة القولية، وغيرها يحتاج إلى دليل.

فدليل العصمة هو الدليل الوحيد لإثبات حجيّة السنّة الفعليّة، وقد لاحظنا أبا الصلاح الحلبي يستند إلى هذا الدليل في باب الأفعال بالخصوص (1)، وما فعله جملة من أصوليي السنّة- سيما الظاهرية- من تتبّع أخبار الآحاد للاستدلال بها على حجية السنّة العملية غير وجيه، لكثرة الضعف السندي والدلالي في هذه الروايات، وقد كان السيد المرتضى (436 ه) رفض هذه الطريقة لاعتمادها على الآحاد التي كان يرفض الاستناد إليها (2).

وعليه، فأفعال النبيّ صلى الله عليه و آله حجّة.

مؤدى حجيّة الفعل

بعد البناء على حجيّة الفعل وأنّه من السنّة، يُنظر في كيفية الاحتجاج به والتوصّل إلى الحكم الشرعي عبره، وهنا ظهرت اتجاهات بين المسلمين، أبرزها:

الاتجاه الأول:

ما ذهب إليه جماعة من أصوليي المسلمين، كبعض المالكية والشافعية ونسب إلى أبي العباس، وأبي سعيد، وابن خيران، من أنّ أفعال النبي صلى الله عليه و آله تقع على الوجوب إلا ما خرج بالدليل (3).

وقد انتقد بعض العلماء، مثل ابن حزم وابن عربي، هذا القول بأنّه يلزم منه التكليف بما لا يطاق، لاستلزامه التأسي بالنبي بكل شي ء فَعَلَه، حتى لو وضع يده


1- أبو الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه: 104.
2- المرتضى، الذريعة 2: 576.
3- انظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 4: 458؛ والشنقيطي، أضواء البيان 3: 457- 458؛ والمرتضى، الذريعة 2: 578؛ والطوسي، العدّة 2: 575؛ وقد رفض الطوسي هذا القول إلا أنّه نصّ على تبنّيه له في كتاب الخلاف 1: 570؛ ولعلّه عدل عن رأيه في أحد الكتابين إلى الآخر، وراجع: العيني، عمدة القاري 9: 251؛ والشيرازي، التبصرة: 242- 243؛ والإسنوي، التمهيد: 439.

ص: 74

في موضع لزم أن نضعها فيه (1).

إلا أنّ هذه الملاحظة يمكن لأنصار الاتجاه الأول تفاديها بالقيد الذي وضعوه في نظريتهم، وهو قيد إلا ما خرج بالدليل، بحيث يدّعى أنّ الكثير من هذه الموارد العادية يتيقّن بعدم لزوم التأسي بها، وهو ادّعاء يلقى قدراً كبيراً من الصحّة، انطلاقاً من السيرة الإسلامية المتصلة ومن استلزام التكليف بما لا يُطاق.

الاتجاه الثاني:

ما ذهب إليه أهل الظاهر وبعض الشافعية وأبو بكر الصيرفي والقفال والقاضي أبو حامد، فيما نسب إليهم، وتبنّاه بعض علماء الإمامية، من أنّ أفعال النبي تقع على الندب والاستحباب إلا ما خرج بالدليل (2).

والذي يبدو مستنداً لهذا الفريق هو آية التأسي بعد حملها على الاستحباب (3)، وسيأتي الحديث عن طبيعة دلالة الآية وأمثالها هنا.

الاتجاه الثالث:

القول بحمل فعله صلى الله عليه و آله على الإباحة، إلا ما خرج بالدليل.

الاتجاه الرابع:

ما اختاره المحقق الحلي في معارج الأصول وأبو إسحاق الشيرازي في التبصرة، ونسب إلى أكثر الشافعية، وأبي بكر الدقاق وأكثر المتكلّمين، من التوقف في المسألة وعدم البت فيها (4)، وكأن المبرّر في ذلك تساوي الاحتمالات التي تفسّر لنا فعله (5).

وقد ذهب بعضهم كالإسنوي إلى أنّه كلّما أمكن حمل فعل نبوي على العبادة أو العادة حمل على العبادة؛ معلّلين ذلك بغلبة التعبّد في أفعاله (6)، مع أنّ التعبّد لا


1- انظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 4: 471؛ وابن عربي، الفتوحات المكية 2: 165 دار صادر.
2- انظر: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 4: 458؛ والنبذ في أصول الفقه الظاهري: 70؛ والنراقي، مستند الشيعة 19: 247؛ وهو الظاهر من علي بن يونس العاملي، الصراط المستقيم 3: 291؛ والشيخ الطوسي، التبيان 8: 328؛ والجصّاص، أحكام القرآن 3: 465- 466؛ والشيرازي، التبصرة: 242.
3- انظر: الشيرازي، التبصرة: 243، وقد ردّ عليه في الصفحة التالية.
4- انظر: المحقق الحلي، معارج الأصول: 170؛ والشيرازي، التبصرة: 243.
5- المحقق الحلي، معارج الأصول: 170؛ والشيرازي، التبصرة: 242، وانظر: هذه الأقوال عند الجصاص في الفصول في الأصول 3: 215.
6- الإسنوي، التمهيد: 440.

ص: 75

يساوق عباديّة الفعل؛ فإن الرسول يمكنه أن ينوي قصد القربة من الأكل والشرب وغيرهما فيصير في فعله هذا متعبّداً، كما يمكن ذلك لأيّ متشرّع آخر، دون أن يعني ذلك عبادية هذا الفعل أو ذاك، فلا ملازمة بين التعبّد قلّةً وكثرة وبين عبادية الفعل الذي صدر منه.

والصحيح

أن الفعل على حالتين:

الأولى:

أن لا تُحرز جهته ولا ملابساته، بل يظلّ غامضاً لا نفهمه ولا ندرك وجهه، فهنا لا يُستفاد منه شي ء، على بحثٍ سيأتي.

الثانية:

أن نفهمه ونحرزه، فهنا يجب التأسّي، وهذا التأسّي مشروطٌ بأمرين كما ذكر الطوسي والمرتضى وغيرهما (1):

أحدهما:

صورة الفعل، فإذا صلّى على كيفية معينة فلا معنى للتأسّي إلا بالإتيان بالصورة عينها بما تحويه من أجزاء وشرائط، نعم، إذا أحرزنا من دليلٍ خارجي أن بعض الأجزاء أتى به النبي على وجه الاستحباب لم يكن في مخالفة الصورة مخالفةً جزئيةً ضررٌ؛ لما سيأتي في الأمر الثاني، فيكون التعديل حاصل الجمع بين حجيّة الفعل وحجية الدليل الآخر الدالّ على التعديل.

ثانيهما:

وجه الفعل، بمعنى أن نقوم بالفعل على الوجه والمنطلق الذي قام النبي صلى الله عليه و آله بالفعل على أساسه، فلو صدر الفعل من النبي صلى الله عليه و آله على وجه الوجوب وبنيّته كان معنى ذلك وجوب الفعل، ومؤداه أنه لو أتي بالفعل لكان الاقتداء غير حاصل إلا على نية الوجوب، وهكذا لو أتى النبي صلى الله عليه و آله بالفعل على وجه الاستحباب لم يحصل التأسّي إلا بالإتيان على الوجه عينه، وهكذا.


1- راجع: المرتضى، الذريعة 2: 572- 573؛ والطوسي، العدّة 2: 569- 570؛ والمحقق الحلي، معارج الأصول: 169؛ والجصاص، الفصول في الأصول 3: 215- 217؛ والعلامة الحلي، تهذيب الوصول: 175- 176؛ والإسنوي، زوائد الأصول: 321؛ والشيرازي، التبصرة: 244.

ص: 76

نعم، محض قيام النبي صلى الله عليه و آله بفعلٍ ما لا يدلّ على أزيد من إباحة الفعل؛ لأن القيام بالفعل متساوي النسبة إلى احتمال الوجوب والاستحباب والإباحة بالمعنى الأخص، بل الكراهة إذا لم يناف صدورُها العصمةَ، ومعه فيقع الفعل مجملًا لا حكاية فيه عن شي ء، فلا يستفاد منه سوى الجامع، وهو جواز الفعل بالمعنى الأعم المقابل للحرمة، ومن الواضح أنّ الأفعال تخالف الأقوال من حيث الصمت في الدلالة فيها، فليس فيها إطلاق وعموم وفق ما يراه العرف والعقلاء، ولهذا لا يؤخذ منها سوى الدلالة المتيقنة، فتندرج في الأدلّة اللبية لا اللفظية، من هنا نبقى فيها مع الجامع إلا مع قيام دليل.

وهذا الدليل هو ما نسمّيه قرينة الفعل، التي تخرجنا من حدّ الإباحة إلى حدّ الوجوب أو الاستحباب.. ولا ضابط لهذه القرينة، بل هي تابعة لمناسبات المسألة وظروفها، فالأمر العبادي يدلّ عادةً على الاستحباب في الحدّ الأدنى (1)؛ وذلك لأخذ قصد القربة فيه، وهي- أي القربة- إما متفرّعة على وجود أمر مسبق أو لا أقلّ على المحبوبية والمرغوبية والحُسن، مما يوجب ظهوراً عند الفقيه في الاستحباب، وإلا كانت العبادة بدعةً.

وتكرار فعلٍ ضمن ظروف قد يعطي الاستحباب أيضاً، وربما أعطى الوجوب، بحسب الشواهد الحافة، وربما لا يعطي أيّ شي ء، ومعه فالفعل في أزيد من دلالة الإباحة بالمعنى الأعم يحتاج إلى قرينة خاصّة لا ضابط أصولي لها بشكل قاطع، بل تبقى خاضعةً للموارد الفقهية المختلفة من جهة، ولسعة نظرية العصمة عند الفقيه المتكلّم من جهةٍ أخرى.

وعليه، فتحقيق صورة الفعل ووجهه هو ما يحقّق مصداق الاتّباع والتأسّي، ولا يرى العرف والعقلاء غير ذلك تأسّياً، فلا يقول العرف أنني- لو أتيت بفعل أتاه النبي صلى الله عليه و آله على نحو الوجوب أتيته على نحو الاستحباب- تأسيت بالنبي كما هو


1- إنما قلنا: بالحدّ الأدنى، لذهاب بعضهم كما يظهر إلى الوجوب، كما نصّ على أنه ظاهر المذهب المالكي أبوالوليد الباجي في كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج 20: 128؛ وذكر القرافي في شرح تنقيح الفصول: 226، نسبة هذا القول إلى مالك والأبهري وابن القصار والباجي وبعض الشافعية، نعم، نسب للشافعي نفسه استفادة الاستحباب، وإلى القاضي أبي بكر وعن الإمام مالك وأكثر المعتزلة الوقف.

ص: 77

واضح؛ وعليه فإذا دلّ الفعل على الإباحة جاز الفعل والترك، وكذا إذا دلّ على الاستحباب جاز الترك، أما الفعل فلا بّد أن يطابق الكيفية، من هنا فعندما نقول:

صورة الفعل نقصد الكيفية التي أتى بها النبي على تقدير إرادتنا الإتيان بالفعل، لا الإتيان بالترك على تقدير جوازه.

ومعنى ما قلناه هو عدم التمييز بين العبادات وغيرها، فما قيل (1) من جريان قانون التأسي هذا في العبادات فقط لا غير، لا وجه له؛ لعدم وجود ميزة خاصّة تميّزها عن غيرها في هذا القانون.

وعلى خط الفعل عينه، يأتي الترك، فترك النبي صلى الله عليه و آله لأمرٍ ما لا يدلّ- بدايةً- سوى على جواز الترك بمعنى عدم الوجوب، إلا إذا قامت قرينة على الحرمة أو الكراهة.. فيؤخذ بها، وتمام ما قلناه في الفعل يجري في الترك، لكن بحسبه، ومن هنا يُعلم أنّه لو دلّ دليل على فعل النبي لأمرٍ وتركه له معاً في زمانين، ولم تُحرز خصوصية لزمان أو حال فرضت الفعل تارةً والترك أخرى، دلّ ذلك على الجواز بالمعنى الأخص، بناءً على عدم تركه المستحب أو فعله المكروه، أو دلّت على سقوط الحرمة والوجوب معاً، وهذا معطى إضافي يقدّمه لنا الفعل أيضاً.

ومن هذا كلّه، ظهر أن حجيّة الفعل تعبّر عن درجة من الكشف عن الحكم الشرعي أنقص مما في الأدلّة اللفظية بكثير، فلا معنى للقول بوجوب فعل كلّ ما فعله أو استحبابه ليتحقق مفهوم التأسّي كما ذهب إليه- وفق ما تقدّم- بعض أصوليي أهل السنّة؛ فإن وجوب الإتيان بفعلٍ صدر عن النبي على وجه الاستحباب سيغدو وجوباً ثانوياً، أي وجوب التأسّي لمحض التأسّي، مع أن المراد من التأسّي استطراق الفعل النبوي لمعرفة أحكام اللَّه في حقنا لا لمحض التأسّي، فإنّ هذا هو الظاهر من الأدلّة؛ إذ يُفهم من القرآن ونصوصه أن النبي صلى الله عليه و آله سبيل لمعرفة


1- راجع: الإسنوي، زوائد الأصول: 321؛ وانظر ما تقدّم.

ص: 78

أحكام اللَّه تعالى الثابتة بقطع النظر عنه، فيكون فعله وقوله سبيلًا لتحديدها علينا أو لاكتشافها في حقنا بعد أن ثبتت سلفاً، لا ظهور تكليفٍ في حقنا بعد معرفة فعل النبي اسمه التأسّي، حتى لو لم يكن في الواقع حكم للأمر في حدّ نفسه، ومعه فالفعل النبوي طريق وكاشف كالقول لا غير.

أنواع الفعل النبوي وحالاته

ونستعرض هنا بعض أنواع الفعل النبوي، وحكمها، مدخلًا لفهم الموضوع وإشكاليّاته:

1- الأفعال الجبليّة

النوع الأوّل:

ما كان من أفعال الجبلّة الطبيعية، كحركات البدن والقيام والقعود والأكل والشرب والنوم واليقظة و..

وربما نقف هنا أمام ثلاثة اتجاهات أو مسارات في التعاطي مع الأفعال الجبليّة، وهي:

الاتجاه الأول:

إنّ هذا النوع من الأفعال لا يدلّ على أزيد من الإباحة، وقد ادّعي الاتفاق على ذلك (1)، حتى مع تكرره كثيراً طيلة حياته، وهذا هو التعاطي الصحيح مع هذا اللون من الأفعال؛ إذ جبليّته وطبيعيّته تمنعان عن افتراض أو الجزم بمدركٍ آخر لصدور هذه الأفعال، فوجود الجبلّة يمكنه أن يفسّر لنا ظهور هذه الأفعال بل وتكرارها البالغ هذا، نعم يحتمل وجود أمرٍ آخر، لكن محض الفعل وتكراره هنا لا يعطينا دلالة، فنبقى مع القدر المتيقن وهو الإباحة بالمعنى الأعم، ومحض الاحتمال لا يقدّم شيئاً.

الاتجاه الثاني:

ما نقله القاضي أبو بكر الباقلاني- فيما نُقل عنه- من ذهاب


1- نصّ على استفادة الإباحة أبو يحيى الأنصاري الشافعي في غاية الوصول شرح لبّ الأصول: 163؛ والخضري بك، أصول الفقه: 237.

ص: 79

جماعةٍ هنا إلى استحباب الاقتداء، ونقل ذلك الغزالي أيضاً وغيره (1)، كما نسب ذلك إلى عبد اللَّه بن عمر وتتبّعه هذه الظواهر من النبي صلى الله عليه و آله، كما تفيده كتب الحديث والسنن (2)، وتبنّاه الزركشي في تشنيف المسامع (3)، وغيره (4). ولعلّه الظاهر من الشهيد الأوّل؛ حيث حمل الفعل على الشرعي (5).

ولم يظهر وجهٌ لهذا الاتجاه سوى دليل التأسّي الذي بيّنا أمره آنفاً، وهو لا يفيد هنا سوى الإباحة؛ لعدم إحراز صدور الفعل عن النبي على غير وجه الطبيعة أو على أيّ وجهٍ شرعي، وقد شرطنا في التأسّي تحقيق وجه الفعل إلى جانب صورة الفعل، ولعلّه لذلك أو غيره تردّد في مسألة دوران الفعل بين الجبلّي والشرعي مثل ابن اللحام في المختصر (6)، وإن حكم غيره بالاستحباب.

الاتجاه الثالث:

وهو الاتجاه الذي يرى عدم إمكان الاستفادة التشريعية من الأفعال الجبليّة، كما أشرنا لدى البحث عن تعريف مصطلح السنّة فى دراسة أخرى، وقد طرح هذه الفكرة في الأفعال العادية الأعم ظاهراً من الجبليّة، الشيخُ البهائي (1030 ه) في زبدة الأصول (7)، ثمّ تبنّاها الشيخ عبداللَّه المامقاني (8) في القرن الرابع عشر الهجري، ولا مبرّر لذلك ما دام يمكن توظيف هذا الفعل الجبلّي في إثبات عدم التحريم في الحدّ الأدنى، أي استفادة الإباحة كما بيّنا، فلا يصحّ قول بعضهم بأنّه لا يُتّبع النبي في شي ء في هذه الأفعال (9).


1- انظر: أبو يحيى الأنصاري الشافعي، غاية الوصول شرح لبّ الأصول: 163.
2- راجع في ذلك كلّه: إرشاد الفحول 1: 198؛ ومحمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: 112؛ وابن حجر، فتح الباري 10: 3؛ والمباركفوري، تحفة الأحوذي 5: 79.
3- نقلًا عن التحبير للحنبلي المرداوي 3: 1456.
4- انظر: أبويحيى الأنصاري الشافعي، غاية الوصول شرح لبّ الأصول: 163.
5- الشهيد الأول، القواعد والفوائد 1: 211- 212؛ القاعدة رقم: 61؛ والسيوري، نضد القواعد الفقهية: 156.
6- ابن اللحام، المختصر في أصول الفقه: 74.
7- البهائي، زبدة الأصول: 87.
8- المامقاني، مقباس الهداية 1: 68- 69.
9- انظر: عبد الكريم النملة، الجامع لمسائل أصول الفقه: 136.

ص: 80

2- الأفعال الجبليّة ذات الهيئات الخاصّة

النوع الثاني:

ما كان من أفعال الجبلّة على هيئة مخصوصة، كما لو كانت له هيئة خاصّة في قعوده يداوم عليها، أو طريقة خاصّة في أكله وشربه يداوم عليها كذلك، فالاقتداء هنا ليس في أصل القعود بل في الهيئة الخاصّة، وهذا ما يميّز هذا النوع عن النوع الأوّل.

وقد ذهب الشوكاني هنا وجماعة إلى إفادة الندب، وحكي عن أكثر المحدّثين (1)، إلا أنّ الأصح عدم إفادة الاستحباب هنا إلا نادراً، إذ كما يمكن أن يكون الطبع مقتضياً لأصل القعود، كذا يقتضي المزاج قعوداً خاصاً، فنحن نرى الناس تعتاد- بحكم الطبع أيضاً والمزاج- على طريقة خاصّة في الأكل دون أن يكون ذلك ناشئاً عن وجهة نظر عقائدية أو ثقافية، والخصوصية وإن كانت محتملة إلا أنّه لا دليل على المنطلق الديني في فعل النبي صلى الله عليه و آله هنا، ما لم تقم قرينة أو شاهد خاصّ على ذلك.

نعم، يتصوّر بعضهم أن تمام ما يفعله النبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام نابع عن الكمال


1- الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 199.

ص: 81

المطلق الإنساني، فإذا وجدت رواية تدلّ على أنّه شوهد أحد الأئمة عليهم السلام يطعم أولاده موزاً حكموا باستحباب إطعام الموز للأطفال، وكأنه لا مباح في حياة المعصوم، أو كأن تمام الأفعال صادرة في انتقائها على وجه ديني، مع أنّ الأمور الطبيعية هنا لا تنافي العصمة ولا غيرها حتى لو تكرّرت، وما هو غير ذلك فهو المحتاج إلى دليل، إذ هو مجرد احتمال يستأنس به الذهن المتشرّعي عادةً.

من هنا، كانت أهمية دراسة مسألة الأفعال؛ لكثرة الخطأ والاشتباه الذي يقع فيها لدى استنباط الأحكام الشرعية.

3- الأفعال الحكومية الولائية

النوع الثالث:

ما صدر على نحو القرار الحكومي الولائي، أو على نحو القضاء، وهنا حالات:

الحالة الأولى:

أن يُحرز السبب وتبين العلّة، كأن نعرف أن عقاب النبي صلى الله عليه و آله لزيدٍ من الناس كان لسرقته مالًا، وأنه لا توجد خصوصيات أخرى، أو نحرز أنّ أمر النبي صلى الله عليه و آله بالحرب والجهاد كان لكذا وكذا، ولا توجد خصوصيات خافية، وهنا من الواضح أنه يمكن التمسّك بالفعل لإفادة الجواز والإباحة، إلا مع قرينة على أكثر من ذلك، لعدم وجود احتمالٍ آخر ما دام الفعل لا يُلحق بطبائع التصرّفات.

الحالة الثانية:

أن نُحرز أنّ هناك عناصر أخرى في الموضوع لكنها لم تصلنا بالتأكيد، وهنا لا يمكن الحكم وفق الفعل النبوي في شي ء إلا على نحو الجامع، كأن نقول: يجوز كذا وكذا في بعض الحالات غير المحدّدة المعالم، لا أكثر، وإفادة ما هو أزيد يحتاج إلى قرينة خاصّة، كما هو واضح.

الحالة الثالثة:

أن تحرز العناصر الدخيلة، لكن يستظهر أنّ الحكم النبوي لم يصدر على نحو الحكم الإلهي، بل بالعنوان الولائي الثانوي، الكثير ظهوره عادةً في قضايا الحكم والسياسة والسلم والحرب، فهنا يؤخذ الحكم بهذا العنوان وتُحصر قيوده.

الحالة الرابعة:

أن تحصل حالة شك، فلا نعرف هل هذه هي تمام الخصوصيات أو توجد خصوصيات أخرى؟ أو يشك في أنّه هل الخصوصية الفلانية دخيلة أو ليست بدخيلة؟ وهذا من أهمّ مباحث تاريخية السنّة، التي

ص: 82

درسناها مفصلًا في موضع آخر.

والفرق بين الحالة الثانية والحالة الرابعة أنه في الثانية يوجد يقين بوجود عناصر أخرى مجهولة لدينا، على خلاف الحالة الرابعة فهي حالة شك، لانحرز فيها ما كنا أحرزناه في الحالات الثلاث الأولى من سمات وخصوصيات.

4- الأفعال العادية والعرفية

النوع الرابع:

الفعل العادي، ونقصد به ما صدر على أساس العادات والأعراف آنذاك، كأنواع اللباس ونحوها، أو أنواع التزين وقصّ الشعر و.. أو أنواع الطبابة وطرائقها و..

وهذا النوع من الأفعال إن قام شاهد على خصوصية دينية فيه أخذ بهذا الشاهد وبمقدار دلالته، وإلا أفاد الإباحة في ظرف تلك العادات، إذ لا نُحرز أنه كان سيفعلها لو تغيّرت عادات المجتمع أم لا، إلا مع شاهد إضافي، من هنا يكون دليل الفعل صامتاً يفيد الإباحة المقيّدة، إذ هي القدر المتيقّن من الدليل اللّبي هنا.

5- الأفعال النبوية العبادية

النوع الخامس:

الفعل العبادي، وهو الذي يظهر للعرف أنّه طقسٌ من الطقوس أو عبادةٌ من العبادات، وقد قلنا سابقاً: إنه في مثل هذا اللون من الأفعال يستفاد الاستحباب، وقد بيّنا ذلك، بل قد يستفاد الوجوب في بعض الحالات، إذا قام شاهد إضافي.

الفعل النبوي ومسألة الخصوصيّة

لا شك عند المسلمين في أنّ هناك تشريعات دينية اشترك فيها النبي صلى الله عليه و آله مع غيره من المسلمين مثل الصلاة والصيام، وأنّ هناك أفعالًا كانت من مختصّاته، كوجوب صلاة الليل عليه كما قيل (1)، وهذا التنويع للفعل النبوي على أساس


1- انظر: المحقق النجفي، جواهر الكلام 29: 126؛ والحلي، شرائع الإسلام 2: 497.

ص: 83

الخصوصية وعدمها يفتح أمام البحث الأصولي نافذةً كبيرة على توظيف الفعل النبوي في الاجتهاد الفقهي، وقد أدّى هذا الموضوع إلى سجالات بين علماء أصول الفقه الإسلامي، ونحاول هنا رصد البحث والخروج بموقفٍ ما منه في ضوء المعايير الأصوليّة.

يقع الفعل النبوي- من حيث مسألة الخصوصية وعدمها- على أنحاء بالنسبة إلينا، هي:

النحو الأوّل:

الفعل الخاصّ المحرز الخصوصية، حيث ذهب جمهور المسلمين إلى أنّ هناك أفعالًا للنبي صلى الله عليه و آله ثبتت له بخصوصه، كالزواج من أكثر من أربع نساء، ووجوب السواك، وتحريم نكاح الإماء بالعقد، أو وجوب صلاة الليل عليه و..

وقد صنّفت كتب عديدة مختصّة برصد خصائص النبي صلى الله عليه و آله أبرزها: الخصائص الكبرى للسيوطي، كما استعرضتها كتب أخرى مثل «الشفا» للقاضي عياض اليحصُبي، والوفا لابن الجوزي، وكذلك كتاب خصائص النبي صلى الله عليه و آله لأحمد بن محمد القمي (350 ه) (1) و.. وعادةً ما كانت تبحث في باب النكاح من علم الفقه الإسلامي عند الشيعة والسنّة، على أساس أن أكثرها- من الثابت فيها- إنّما هو في هذا الباب على ما أشار إليه الشيخ النجفي (2).

وقد اتخذت مواقف إزاء هذا النوع من الأفعال، أبرزها:


1- انظر: النجاشي: 89- 90؛ وإسماعيل باشا البغدادي، إيضاح المكنون 1: 430، وهدية العارفين 1: 63؛ والطهراني، الذريعة 7: 175.
2- النجفي، جواهر الكلام 29: 119؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 69؛ وانظر ما ذكروه في الفقه الإسلامي حول خصائصه: الكركي، جامع المقاصد 12: 52- 66؛ والعلامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 3: 417- 419؛ والشهيد الأول، ذكرى الشيعة 2: 287- 288؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 69- 84؛ والشيخ محمد علي الأنصاري، الموسوعة الفقهية الميسّرة 1: 354- 362؛ ومحمد بن يوسف المواق، مختصر خليل 5: 98؛ والحطاب الرعيني، مواهب الجليل 5: 4- 18؛ والبهوتي، كشاف القناع 5: 23- 38؛ والصالحي الشامي، سبل الهدى والرشاد 10: 274- 492، وهو أكثر من ذكر الخصائص، فقد استعرض 213 خاصية له، ثم ذكر مئات الخصائص الأخرى له في أمته و..

ص: 84

الموقف الأوّل:

إنّ هذا النوع من الأفعال لا ينفع في باب الحجيّة؛ حيث لا يُستفاد منه حكمٌ شرعي لعامّة المسلمين، بعد إحراز خصوصيّتها وعدم قابليّتها للتعميم، وإلا لو كان يتسنّى تسرية الحكم لغير النبي لكان ذلك خُلف كونه خاصّاً به صلى الله عليه و آله، وهذا هو الموقف الصحيح؛ لما قلناه وسيأتي.

الموقف الثاني:

ما ذكره الشيخ أبو شامة المقدسي (665 ه) من التمييز بين ما أبيح للنبي صلى الله عليه و آله وما كان واجباً عليه أو حراماً، ففي الأول كالزيادة على الأربع، ليس لأحد الاقتداء به، وفي الثاني يستحبّ الاقتداء في الواجب كصلاة الوتر، وترك المحرّم كما قيل في أكل ذي الرائحة الكريهة (1).

وهذا الكلام غير واضح؛ لأنّه إذا كان واجباً عليه أو مستحباً فلا معنى للاقتداء به، إذ إن دلّ دليل خاص على حكم المسألة في حقّنا كان المتبع هو هذا الدليل، فقد يكون حراماً علينا ما كان واجباً عليه، وإذا لم يقُم دليل، فإن أريد وجوب الاقتداء أو استحبابه فلا مدرك له سوى دليل التأسّي، وهو إما لا نقول به من رأس كدليل لفظي، أو كما بيّنا مشروطٌ تحقّقه بصورة الفعل ووجهه، ومن الواضح هنا أنّه بعد إحراز الخصوصيّة لا يمكن أن نقوم بالفعل على وجهه؛ لأنّه إذا كان الفعل مستحباً عليه صلى الله عليه و آله لم يكن معنى لإتياننا به على نحو الوجوب، فهو خُلف شرطية الوجه، وهكذا لو كان واجباً عليه لا معنى لاستحباب الاقتداء؛ لانخرام شرطية الوجه، وأما مع اتحاد الوجه بأنْ يكون واجباً عليه وحكمنا بوجوب الاقتداء أو مستحباً عليه وحكمنا بالاستحباب، فهو:

أ. مضافاً إلى صيرورة دليل التأسّي دالًا على الوجوب والاستحباب وهو خلاف الظاهر منه عرفاً، إن لم نقل بالاستحالة على تقدير القول بتباين مفهومي الوجوب والاستحباب، مع القول باستحالة استخدام اللفظ الواحد في أكثر من معنى، وكلامنا هنا في وجوب أو استحباب التأسي، لا في وجوب التأسي الذي قد ينتج وجوب هذا الفعل أو استحباب ذاك، فهما أمران متغايران.


1- انظر: الشوكاني، إرشاد الفحول 1: 199- 200.

ص: 85

ب. إنه خُلف الخصوصية؛ إذ بعد افتراض اختصاص النبي صلى الله عليه و آله بحكم كيف يمكن القول بثبوت عين الحكم على غيره على نفس الصورة والوجه؟ فما معنى الخصوصية حينئذٍ، إلا خصوصية الخطاب لا خصوصية الحكم؟ ولا يُدرى يُلتزم به هنا أم لا؟!

الموقف الثالث:

ما ذهب إليه إمام الحرمين الجويني في البرهان، من أنّه لا يوجد ما يمنع عن الاقتداء، كما ليس هناك نقلٌ لفظي أو معنوي يفيد اقتداء الصحابة بالنبي صلى الله عليه و آله في هذه الأمور، لهذا كان الأرجح التوقف.

وهذا الكلام ظهر الجواب عليه مما قدّمناه في مناقشة ما نُسب إلى أبي شامة المقدسي؛ وذلك:

أ. كيف يُطلق القول بعدم وجود ما يمنع عن الاقتداء إذا أراد الشمول لما أبيح له، فإنّ المباح له لا معنى لصيرورته من خصوصياته إلا أن يكون حراماً على غيره، وإلا كان خلف كونه خاصّاً به، ومع حرمته على غيره، كيف يقال في هذا القسم: إنه لا يوجد ما يمنع عن الاقتداء به فيه؟!

ب. أما في غير المباح، كما في الحرام عليه أو الواجب أو المستحب، فلا معنى للقول بعدم وجود ما يفيد اقتداء الصحابة؛ لأنّه حتى لو لم يصلنا ما يفيد الاقتداء منهم، ينبغي أن لا يظلّ حكمنا مقصوراً على ما جاء في سيرتهم، بل المطلوب مراجعة دليل التأسّي وما هو مقدار دلالته؟ فإذا كنّا نعتقد- كما اعتقد بعضهم- أنّ دليل التأسي شامل لمثل ذلك، كان لوحده كافياً في المقام، سواء بلغنا أنّ الصحابة اقتدوا به فيها أم لم يصلنا شي ء.

وعليه، فالصحيح هنا هو الموقف الأوّل، وهو إخراج هذه الأفعال عن دائرة حجية الفعل النبوي، من هنا لا تدخل في تعريف السنّة النبوية (1).

النحو الثاني:

الأفعال النبوية العامّة التي يُحرز مشاركة النبي للمسلمين في


1- انظر حول الخلاف في دخولها في تعريف السنّة النبوية: طه جابر العلواني، أصول الفقه الإسلامي: 15.

ص: 86

أمرها وحكمها، كوجوب الصلاة اليومية والصوم والحج و.. فإنّ هذه الأفعال، لا ريب في حجيتها- بناءً على حجيّة الفعل- ما دمنا أحرزنا فيها عدم الخصوصية لأنّ فعل النبيّ لها إنّما هو فعلٌ لها بما هو فردٌ من آحاد المسلمين؛ فيكون لفعله دلالة على الموقف منها بالنسبة لغيره من آحادهم.

ومن هذا النوع ما جاء من الأفعال على سبيل التعليم والبيان، مثل ما لو صلّى النبي صلى الله عليه و آله أمام المسلمين بغرض تعليمهم الصلاة، مما يسمّى بالأفعال البيانية، أو لو صدر أمرٌ لفظي بالتأسّي بالنبي في فعلٍ ما، نحو ما جاء في الصلاة.

النحو الثالث:

الأفعال النبوية التي لا يُحرز فيها لا الخصوصية ولا العمومية، فهل تشملها أدلّة حجيّة الفعل النبوي؟ فلو تزوّج النبي من أكثر من أربع نساء، وشككنا شكاً حقيقياً في الخصوصية، فهل يمكن التمسّك بدليل حجيّة الفعل للشمول لهذا المورد أم لا؟

ويسمّى هذا النوع من الأفعال في عُرف الأصوليين بالأفعال المجرّدة، أي تلك التي تتجرّد عن قرينة الخصوصية والعمومية معاً، إلى جانب التجرّد عن سائر ألوان الفعل، بحيث أحرزنا خروجها عن الأفعال الجبلّية ونحوها.

وهذا البحث مع جريانه في حقّ النبي صلى الله عليه و آله قد لا يجري في حقّ أهل البيت عليهم السلام؛ لعدم وجود خصائص معتدبها لهم، كما يصرّح بذلك بعض علماء الإمامية (1)، إلا ما


1- يفهم من السيد الشيرازي، الفقه 47: 113؛ ويفهم من بحثهم في خصائص النبي أن هذه الخصائص لا تجري في حقّ الأئمة عليهم السلام، حيث ناقشوا في بعضها بانتقاضها بالإمام عليه السلام؛ فانظر على سبيل المثال: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 7: 72؛ وقد لاحظنا في دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام أنهم ذكروا الكثير من خصائص الأئمة عليهم السلام ولم يذكروا شيئاً يرجع إلى ما يرتبط ببحثنا، رغم استقصائهم في البحث عادةً، فقد ذكروا مثل وجوب الاعتقاد بإمامتهم، ووجوب محبتهم، ووجوب طاعتهم، والصلاة عليهم، واحترام أسمائهم، والتوسّل والتبرّك بهم، والتسمّي بأسمائهم، وما يتصل ببعض مسائل صلاة الجمعة والعيدين والجهاد الابتدائي.. وكلّها خصائص لا علاقة لها بما نبحثه هنا، كما لا يخفى، فانظر: موسوعة الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت عليهم السلام 1: 183- 202.

ص: 87

قيل من بعض الأمور، مثل جواز الجنابة لعلي عليه السلام و.. في المسجد وما شاكل ذلك (1)، إلا أنّ مراجعة خصائص النبي صلى الله عليه و آله في باب النكاح من مصنّفات الفقه الإمامي تؤكّد لنا أنّ السائد بين الإمامية عدم وجود خصائص شرعية لهم، اللهم إلا خصائص في مقام الإمامة والولاية، وهذا بحثٌ آخر، وأما بعض الكتب المسمّاة بخصائص الأئمة عليهم السلام فهي تحتوي- ككتاب خصائص الأئمة للشريف الرضي- على درر كلماتهم وروائع مقالاتهم (2) لا أنها تذكر الخصائص بالمعنى الفقهي والأصولي الذي نبحث عنه هنا، نعم، الخصائص التكوينية كالعصمة والعلم والكرمات و... خارج عن إطار بحثنا، وهذا من القضايا الخارجة عن الإطارات التشريعية.

وعلى أية حال، فقد حصل انقسام بين العلماء المسلمين في هذه المسألة، وحصيلة مهمّ اتجاهاتهم ترجع إلى موقفين:

الموقف الأوّل:

إن ما دلّ على لزوم أو استحباب التأسّي بالنبي صلى الله عليه و آله يشمل الفعل المجرّد، سيما إذا علمنا أنّ النبي صلى الله عليه و آله فعل الفعل على نحو الوجوب أو الاستحباب أو.. فيحكم بوجوب التأسّي في هذا الفعل على مبنى من يوجب التأسّي مطلقاً إلا ما خرج بدليل، كما تقدّم، أو يحكم بالاستحباب تبعاً لمن قال به، وهناك من تحدّث عن الحمل على الوجوب عملًا لا اعتقاداً، ونسب ذلك إلى مشايخ سمرقند (3).

الموقف الثاني:

عدم شمول دليل التأسّي لمثل هذا النوع من الأفعال، على


1- نصّ الإمام الخميني على قلّة مختصات الأئمة عليهم السلام في كتاب الاجتهاد والتقليد: 54؛ ولعلّه أراد مثل صلاةالجمعة والعيدين والجهاد الابتدائي و... ممّا لا يدخل في المختصات التى نبحث فعلًا عنها؛ وحول مسألة الجنابة لمحمد وعلي و... راجع: وسائل الشيعة 2: 207- 208؛ كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، باب 15، ح 11، 12، 13، 14، 21؛ وراجع: مستدرك الوسائل 1: 459- 462.
2- انظر كلام الشريف الرضي نفسه في مقدّمة الكتاب: 3.
3- نسب ذلك إليهم أبو الثناء الماتريدي، كتاب في أصول الفقه: 154؛ وانظر القول بالوجوب عند الأنصاري الشافعي، غاية الوصول شرح لبّ الأصول: 163، ذاكراً في المصدر عينه وجود القول بالندب.

ص: 88

أساس احتمال كونه من خصائص النبي صلى الله عليه و آله، فتحمل على الإباحة، لأنّها المتيقنة، كما ذهب إلى ذلك مشايخ العراق فيما ينسبه إليهم الماتريدي (1).

الموقف الثالث:

التوقف في المسألة نظراً لتعارض الأدلة (2).

الموقف الرابع:

إخراج هذا النوع من الفعل النبوي عن دائرة المجال التشريعي، بمعنى أنّه شرعاً لا يكون لنا إلا بدليل خاص، وهذا ما نسب إلى الكرخي، بل إلى عموم الأشعرية، وتبنّاه أبو إسحاق الشيرازي في اللمع، دون التبصرة (3)، وقد عللّه الأنصاري الشافعي بأنّه الأحوط (4).

وفي الحقيقة، فما يذهب إليه الدكتور محمد سليمان الأشقر (5) من اضطراب كتب أصول الفقه في نسبة الأقوال هنا إلى رجال المذاهب السنّية، حقيقة واقعة، فقد نُسب إلى الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل (6) القول بالوجوب والاستحباب والإباحة، ولعلّ من أسباب هذا الاضطراب- كما يقول الأشقر أيضاً- أن بحثاً أصولياً سنّياً هنا انقسم إلى قسمين:

الأوّل: تحديد صفة الفعل المجرّد في حقّ النبي صلى الله عليه و آله، بمعنى أنّ هذا الفعل هل صدر عن النبي صلى الله عليه و آله على نحو الوجوب أو الاستحباب أو الإباحة؟ أي ما هو حكم هذا الفعل في حقّه صلى الله عليه و آله؟

الثاني: تحديد الحكم أمام المكلّفين، بمعنى هل يشملهم دليل التأسّي على نحو الوجوب أو الندب أم لا؟


1- أبو الثناء الماتريدي، كتاب في أصول الفقه: 153- 154؛ والأنصاري الشافعي، غاية الوصول: 163.
2- راجع: أبو يحيى الأنصاري الشافعي، غاية الوصول شرح لبّ الأصول: 163؛ ولعله مراد السيد الصدر في الحلقة الثانية: 155- 156.
3- انظر: الشيرازي، اللمع: 144؛ والتبصرة: 240؛ والجصّاص، الفصول في الأصول 3: 215؛ والإسنوي، زوائد الأصول: 321.
4- الأنصاري الشافعي، غاية الوصول: 163.
5- محمد سليمان الأشقر، أفعال الرسول 1: 327.
6- لمزيد من الاطلاع، انظر: ابن اللحام، المختصر في أصول الفقه: 74؛ حيث أشار إلى وجود روايتين عن أحمدفي ذلك هما: الوجوب والندب.

ص: 89

وقد وقع خلط واضطراب في معرفة أنّ جهابذة المذاهب السنّية كانوا يبدون موقفاً على الصعيد الأوّل أم الثاني.

وعلى أيّة حال، نذكر هنا ما يمكن أن يشكّل عائقاً عن الاستدلال بهذا النوع من الأفعال النبوية، وهو احتمال الخصوصية، فلعلّ الفعل من خصائص النبيّ صلى الله عليه و آله، ومعه لا معنى للاقتداء به فيه، من هنا، توقف فريق في حجيّة الفعل النبوي المجرّد؛ لاحتمال حرمة الفعل علينا وهو واجب عليه صلى الله عليه و آله، أو العكس، فحتى القول بالإباحة لا معنى له.

وهنا:

أ. تارةً نسقط حجيّة الفعل على أساس احتمال كون تمام أفعاله صلى الله عليه و آله خاصّة به، وهذا الاحتمال سبق أن ضعّفناه في البحث القرآني، وفاقاً لابن حزم والسيد الصدر، حيث قلنا: إن آية التأسّي بنفسها دليلٌ على بطلان هذا الاحتمال؛ إذ ستصبح لغواً مع افتراض كون تمام أفعاله إلا نادراً من خصائصه، حتى لو لم نجعلها دليلًا على حجية السنّة بالشكل المتداول، فإنّها على أيّ حال تجعل السائد في حياته صلى الله عليه و آله مورداً للتأسّي به، وهو مفهوم لا ينسجم مع افتراض الخصوصية الشمولية المدّعاة في هذا الافتراض.

ص: 90

ولعلّه من هنا ردّ أبو إسحاق الشيرازي وغيره على من قال بعدم إمكان الأخذ بأفعال النبي إلا بدليل، بالتمسّك بآية الأسوة ورجوع الصحابة إلى أفعاله فيما أشكل عليهم (1).

ب. وأخرى نسقط حجيّة الفعل على أساس أننا لا نعرف ظروف صدوره؛ فيعود كالمجمل، وهذا الاحتمال ألمحنا إليه آنفاً وناقشناه، وقد عالجناه عند الحديث عن تاريخية السنّة في دراسة أخرى.

ج. وثالثة نشك في فعلٍ ما أنه من خصائصه أو لا؟ وهذا هو محلّ البحث، وقد أجيب هنا عن شبهة الخصوصية بأمور:

أولًا:

ما تداول بين أصوليي أهل السنّة كالآمدي، وابن الهمّام و.. من أنّ التحقيق أن خصائص النبي صلى الله عليه و آله نادرة، ومعه فأيّ موردٍ نضع إصبعنا عليه يكون احتمال العمومية فيه كبيراً جداً نسبةً لاحتمال الخصوصية، ومعه فيحمل على الأعمّ الأغلب (2).

إلا أنّ الغزالي (505 ه) الذي يرى الأصل في عدم تعميم فعل الرسول لغيره، رفض هذا الاستدلال؛ على أساس أنه لا دليل يفرض الحمل على الأغلب، ويمثل الغزاليّ لذلك باشتباه أخت الرجل بعشرة أجنبيات، فهل يعتبرهنّ حلالًا عليه لقانون الأعمّ الأغلب؟ (3).

وقد أجاب الدكتور محمد سليمان الأشقر عن كلام الغزالي بأنّ الطرف الآخر يدّعي ندرة الخاص لا قلّته، فالنسبة ليست العُشر، بل لو أراد التشبيه لشبّه باحتمال وجود أخته بين نساء بلدٍ أو مدينة، وهنا يحكم الفقهاء بجواز نكاحه لإحداهنّ في هذه الحال، لا بالحرمة كما يريد الغزالي (4).


1- الشيرازي، اللمع: 144.
2- انظر: الأشقر، أفعال الرسول 1: 334.
3- الغزالي، المستصفى من علم الأصول 2: 226.
4- الأشقر، أفعال الرسول 1: 335.

ص: 91

والذي ينبغي التعليق به هنا أنه:

1- يلزم في الشك هنا أن لا يكون شكاً حقيقياً له معطياته، ففي مثل حالة الشك الافتراضي تتوفر معطيات إجراء حساب الاحتمال؛ ذلك أنه عندما نضع يدنا على فعلٍ نبوي، ونشك أنه من خصوصياته شكاً افتراضياً فإننا نقيس نسبة خصائص أفعاله إلى ما هو العام المشترك منها، وستكون النسبة، بعد سبر أبواب الفقه والأخلاق والتشريع، نسبةً ضئيلةً جداً، سيما بقرينة ما سيأتي مما يجعل عدم الخصوصية في عداد المطمأن به عقلائياً، وإن لم يحصل يقين عقلي بذلك، والاطمئنان حجة عقلائية ممضاة شرعاً، بل هي العلم في اللسان العربي تشملها- لا أقل- بعض نصوص العلم الواردة في الكتاب والسنّة.

أما مع وجود شك حقيقي قائم على معطيات تحقّق شكاً، فإن هذا الإجراء لحساب الاحتمال سوف يضعف، وذلك أن معطيات الشك هذه سوف تقف بوجه الكثرة الكمية لصالح الاحتمال الآخر، وقد تعيق تكوين اطمئنان بعدم الخصوصية.

فالمفترض في معالجة هذا الموضوع الجمع بين العنصر الكمي ودرجة احتمال الخصوصية المنطلقة من معطيات، فلا صحّة لإطلاق كلام الآمدي ولا أبي حامد الغزالي.

2- لا نريد الخوض في تحديد خصائص النبي صلى الله عليه و آله، إلا أن إطلالةً عابرة عليها تفضي إلى الشك في ثبوت كثيرٍ منها، حتى بلغ بها بعضهم- كالمحقق الحلي- الخمسة عشرة خصوصية (1)، ذلك أنّ الكثير من الخصائص إنما ورد بروايات ضعيفة السند لم تصحّ، ولم نجد مع الأسف من اهتمّ بجديّة- إلا نادراً- بتحقيق حال هذه الخصائص، وإنما أطلقت دون نقد متني أو سندي للمصادر التي اعتمد عليها، وهذا


1- انظر: الحلي، شرائع الإسلام 2: 497؛ وراجع: الأشقر، أفعال الرسول 1: 334.

ص: 92

ما يبسّط مسألة خصائص النبي صلى الله عليه و آله، ويضعفها أكثر فأكثر، كما أن بعض من ذكر خصائص للنبي تعرّض لخصائص تكوينية، كأن يبصر وراءه كما يبصر أمامه، وتعرّض لخصائص ترجع إلى حقوقه على المسلمين، كأن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته، وحرمة سؤال زوجاته إلا من وراء حجاب و... ولهذا ينخفض كثيراً العدد الكبير الذي ذكره الصالحي الشامي والسيوطي والعلامة الحلي في التذكرة لخصائص النبي صلى الله عليه و آله بعد إخراج غير الثابت، وما كان من التكوينيات، وما كان من حقوقه على أمته.

ثانياً:

ما ذكره أبو شامة المقدسي من أنّ لازم هذا الكلام- أي التوقف عند احتمال الخصوصية- هو التوقف في أكثر الأحكام الشرعية، الأمر الذي تناقضه سيرة السلف وفقهاء الأمصار (1)، وقد أضاف المازريّ إلى هذا الكلام أنّ سيرة الصحابة انعقدت على اتّباع الرسول صلى الله عليه و آله في أفعاله، فإذا شككنا في شرعية خطوتهم هذه لشككنا في أمور أخرى عرفنا شرعيّتها من سيرتهم، مثل القياس وخبر الواحد، وفيه ما فيه (2).

ويجاب عن ذلك:

أ. إنّه لا يلزم من رفع اليد عند احتمال الخصوصية التوقّف في أكثر الأحكام، فهذا الافتراض غير مطابق للواقع؛ لأن أكثر الأحكام على الإطلاق مأخوذ من الأدلّة اللفظية من كتاب وسنّة، وليس موقوفاً التعرّفُ عليه على الفعل النبوي، ففي هذا الكلام نوعٌ من التهويل.

ب. حتى لو استلزم ذلك التوقف المذكور لا يكون ذلك دليلًا على إلغاء احتمال الخصوصية منطقياً، فهذا أشبه بمنطق الغاية تبرّر الوسيلة، وقد وقع في مثل هذا الأمر بعض أصوليي الإمامية، فقالوا بانسداد باب العلم والعلمي بالأحكام، لكن الانسداد لم يجعلهم يقولون بحجية خبر الواحد أو يتنازلون عن مبرّرات نظريتهم في التشكيك بحجية الظهور لغير المشافهين أو المقصودين بالإفهام، كما حصل مع


1- انظر: الأشقر، أفعال الرسول 1: 335.
2- المصدر نفسه.

ص: 93

الميرزا القمي (1)، فالمفترض بالمازري والمقدسي اتّباع نهج القمي في نظريته في باب الانسداد؛ حيث ظلّ وفيّاً لهذه النظرية حتى النهاية، بقطع النظر عن الموقف من نظريّته نفسها.

ويمكن القول بأنّ هذا النوع من المعالجة سائد في أوساط بعض العلماء؛ إذ يقال لك: يلزم على هذا القول الفلاني عدم بقاء حجر على حجر، وكأنّ المطلوب إبقاء الأحجار على بعضها ولو من دون أساسٍ علمي.

ج. وأما الاحتجاج بسيرة الفقهاء، فليست بدليلٍ يحتج به، فسيرتهم إما إجماع أو شهرة أو سيرة متشرعيّة، ولا بد من تحقّق الشروط فيها بناءً على الحجيّة، لا إطلاق التمسّك بسيرة الفقهاء، كأنها دليل حاسم مطلقاً، مع أننا لا نعرف هذه السيرة، فلعلّهم أخذوا بالعمومية لأنهم لم يشكّوا، فيما حصل عندنا شك، ولا نحرز انعقاد سيرةٍ لهم في حال الشك كما هو المطلوب هنا.

د. أما الاستدلال بسيرة الصحابة كما فعله المازري، فسيرتهم فعلٌ لا إطلاق فيه، ولو ثبت اقتداؤهم به لدلّ على المقدار المتيقّن، وهو حالة العلم بعدم الخصوصية، وليس بأيدينا مورد يكشف عن انعقاد سيرتهم- بوصفها ظاهرة- على إلغاء احتمال الخصوصية عند الشك، فهذا ما نريده هنا، لا مبدأ اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه و آله.

ثالثاً:

ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر- متابعاً في أصل الفكرة بعض العلماء المحققين كصاحب الجواهر (2)- من أنّ مقتضى عموم أدلّة الاشتراك أن يكون النبي مكلّفاً بما كلّفنا نحن به إلا ما خرج بالدليل، فهو بشرٌ مثلنا تجري عليه أحكامنا، فنطبّق عليه قاعدة التمسّك بالعام في الدوران في التخصيص بين الأقل والأكثر (3).


1- انظر: نظريات القمي في القوانين المحكمة 1: 227- 239، 424.
2- انظر: النجفي، جواهر الكلام 29: 129.
3- المظفر، أصول الفقه 2: 67.

ص: 94

وهذا الكلام يلاحظ عليه، أنّه:

أ. إذا كان يريد التمسك بعمومات الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة، فهذا بنفسه طاردٌ لاحتمال الخصوصية؛ إذ ما دام النص عاماً لجميع الناس فيتمسّك بعمومه للشمول للنبي وغيره، فليس هناك حاجة لقاعدة الاشتراك ولا غيرها، مع أنّ فرضنا عدم وجود مدرك آخر غير الفعل النبوي.

ب. وإذا كان يريد أن يتمسّك بقاعدة الاشتراك في مورد حكم لفظي ظاهره التوجّه إلى النبي، ولا نعلم أنه موجّه إلينا أم لا؟ فهو ضعيف؛ لأن الحديث ظاهر في النبي ولا ظهور له في غيره، فلا يكون قادراً على الشمول لغيره، وقاعدة الاشتراك: إمّا دليلها لبّي مثل الإجماع والسيرة المتشرعية فلا يحرز انعقادها في هذا المورد، وهذا النوع من الشكوك؛ لأنّ ظاهر كلام الأصوليين والفقهاء اشتراك الأحكام بين الرجل والمرأة والعبد والحرّ والماضين واللاحقين، ولا يوجد فيها ما يدلّ على اشتراكها بين النبي وغيره عند الاحتمال، وإمّا دليل لفظي، وقد راجعنا الأدلّة اللفظية ولم نجد فيها إطلاقاً لهذه الصورة، فهي واردة في الحاضر والغائب وفي الرجل والمرأة وفي اللاحق والسابق، وليس فيها مورد يوجّه فيه الخطاب للنبي، ولا نعرف أنّه من مختصّاته أم لا.

ج. وأمّا إذا أريد أنّنا أمام الفعل النبوي، لا أمام دليل لفظي، ولا ندري هل يفعل ذلك لحكم خاص به أم شامل له ولنا؟ فهذا أجنبي عن نصوص قاعدة الاشتراك لمن راجعها، وقد أتينا على بحث هذه القاعدة مفصّلًا في مباحث تاريخية السنّة النبوية، وأثبتنا هناك ضعف تمام روايات هذه القاعدة من الناحية السندية بهذا اللحاظ لها لابتمام دوائرها.

وبهذا يظهر أن حجيّة الفعل النبوي تظلّ ساريةً حتى في حال الشك الافتراضي وفق ما قلناه، بل بعض حالات الشك الحقيقي أيضاً، لا

ص: 95

مطلق الحالات.

الدور الدلالي للأفعال

كما الأقوال، تلعب الأفعال دوراً دلالياً أيضاً، فكما تدل على الإباحة قد تدلّ على ما هو أزيد منها، كما أشرنا سابقاً، وذلك نوجزه (1) ضمن نقاط:

أ. تشرح الأفعال أحياناً المراد من الألفاظ (2)، إذ هي تجسيد للنص اللفظي وتطبيقٌ له، فتصلح مبيّناً لمجمل القول، بل رأى بعضهم كالمحقق الحلي أنه أكثر بياناً، كما لو تردّد نصّ بين إفادة الوجوب والاستحباب، ثم أحرزنا ترك النبي صلى الله عليه و آله في موردٍ ما للفعل المطلوب دون وجود عذرٍ في المقام، فهذا يكشف عن الاستحباب وعدم الوجوب وإلا لما تركه النبي صلى الله عليه و آله، وهكذا لو تردّد نصّ لفظي بين الحرمة والكراهة ثم فعله النبي صلى الله عليه و آله، فهذا يكشف عن الكراهة، لعدم صدور الحرام منه.

وقد نقل الآمدي في الإحكام عما وصفها بالطائفة الشاذة، وكذا صاحب فواتح الرحموت عمّن أسماهم بالشرذمة (3)، أنّ الفعل لا يكون بياناً، مستنداً للنقل كخبر:

صلّوا كما رأيتموني أصلّي، والعقل أيضاً، والظاهر أن المراد بهذه الطائفة الكرخي وبعض الشافعية، كما نسب إليهم ابن اللحام في المختصر (4)، وغيره (5).

ومن أبرز ألوان بيان الفعل ما يسمّى بالأفعال البيانية، كتعليمه الصلاة والحج


1- لأنّ بحثنا ليس في باب الدلالات بهذا المعنى، وإنّما يتعرّض لها في محلّه من مباحث التعارض وأمثالها.
2- أشار لذلك سريعاً بعضهم، مثل الشيخ حسن، معالم الدين: 157؛ والمرتضى، الذريعة 1: 339- 342 وج 2: 586؛ مستدلًا بالإجماع على بيانية الفعل؛ والشاطبي، الموافقات 3: 275؛ وأبي الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج: 20؛ وأبي الثناء الماتريدي، كتاب في أصول الفقه: 153؛ ومحمد مصطفى شلبي، أصول الفقه الإسلامي: 109؛ ومصطفى الزلمي، أصول الفقه الإسلامي: 32؛ ومحمد أبو زهرة، أصول الفقه: 114؛ وعبد الكريم النملة، الجامع لمسائل أصول الفقه: 136؛ والمحقق الحلي، معارج الأصول: 159- 160 و 173؛ والأنصاري، فواتح الرحموت 2: 82؛ وابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 4: 458؛ والشيرازي، التبصرة: 247؛ والعلامة الحلي، تهذيب الوصول: 163؛ وذكر الشيخ البهائي أن بيانية الفعل للمجمل من النص هي ما ذهب إليه الأكثر فيما بيانية القول إجماعية، فانظر له: زبدة الأصول: 145.
3- الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 3: 24؛ وعبد العلي الأنصاري، فواتح الرحموت 2: 82.
4- ابن اللحام، المختصر في أصول الفقه: 167.
5- الفراء، العدة في أصول الفقه 1: 362.

ص: 96

بالعمل والممارسة.

ب. قد تشرح الأفعال طبيعة التشريع من حيث كونه إلهياً ثابتاً أو حكومياً ولائياً، وقد مثل بعضهم (1) لذلك بفكرة الخمس في أرباح فاضل المؤونة؛ حيث فهم من عدم جبي النبي صلى الله عليه و آله الأخماس أن نصوص الوجوب الواردة فيما بعد عن الأئمة عليهم السلام إنما جاءت تشريعات ولائية لا إلهية ثابتة، وإلا لما تركها النبي صلى الله عليه و آله، وبقطع النظر عن صوابية المثال، فلا شك في أن الأفعال تساعد على ذلك أحياناً.

ج. تقوم الأفعال- خلافاً لما نسب إلى الكرخي (2)- أحياناً بدور التخصيص أو التقييد، كما لو صدر عام أو مطلق ثم وجدنا النبي صلى الله عليه و آله يخالفه في موردٍ له اعتباراته وحيثياته، فهنا قد يستكشف الفقيه التخصيص وأمثاله إذا توفرت العناصر المطلوبة (3).

والذي يفهم من القاضي أبي يعلى الفراء أن حجّة من رفض تخصيص العموم بالفعل، هي الشك في اختصاص الفعل بالنبي أو عمومه لغيره، مما تعرّضنا له سابقاً، بحيث بنوا على عدم إمكان التخصيص بالشك (4)، وهذا إشكال مبنائي خاص بحالة الشك التي قلنا: إنها لا تعّطل الاستدلال بفعل النبي صلى الله عليه و آله إلا في بعض الحالات، لا تمامها.

من هنا، إذا بدا أنّ هناك تعارضاً بين القول والفعل أمكن تطبيق قواعد الجمع


1- علي حب اللَّه، دراسات في فلسفة أصول الفقه: 598.
2- ابن عقيل الحنبلي، الواضح في أصول الفقه 3: 394؛ والسيد المرتضى، الذريعة 1: 306؛ والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 2: 530.
3- انظر في تخصيص الفعل وتقييده: القرافي، العقد المنظوم في الخصوص والعموم: 681- 687؛ ونفائس الأصول 3: 16- 20؛ وابن اللحام، المختصر في أصول الفقه: 151؛ ناسباً له إلى أئمة المذاهب، وابن عقيل الحنبلي، الواضح في أصول الفقه 3: 394- 396؛ وأبا يعلى الفراء، العدّة في أصول الفقه 1: 307، 361- 362؛ والشيرازي، اللمع: 144- 146؛ والأنصاري، فواتح الرحموت 1: 605- 606؛ والآمدي، الإحكام في أصول الأحكام 2: 530- 532.
4- القاضي الفراء، العدة في أصول الفقه 1: 362.

ص: 97

العرفي بينهما طالما لم يكن ذلك غريباً عن الذوق العرفي، فما ذكره بعضٌ (1) من أنّ تعارض القول والفعل يقع دائماً لصالح القول، بحيث ينبغي تفسير الفعل على أساس القول، انطلاقاً من أنّ الفعل مجملٌ في دلالته فيقتصر فيه على القدر المتيقن، فيما الأصل في القول البيان.. كلام صحيح، طالما لم يمكن الجمع بينهما، لا مطلقاً، إضافةً إلى أنّ القدر المتيقن نفسه قد يكون هو المعارض للقول، فلا معنى للاستناد إلى الإجمال الموجود في الأفعال كي نقدّم الأقوال عليها دائماً.

هذا، وهناك من تحدّث عن أنّ تأخر الفعل عن القول يعني نسخه له (2)، إلا أنّ الفعل ليس نسخاً للأحكام ولا من أساليبه عرفاً وعقلائياً، اللهم إلا في ظروف نادرة، لجريان الاحتمالات فيه.


1- لاحظ: المحقق الحلي، معارج الأصول: 174؛ واختار فيه التوقف في المسألة؛ والشيرازي، اللمع: 146؛ والتبصرة: 249؛ ومحمد حسين فضل اللَّه، كتاب الجهاد: 246، الهامش رقم: 1.
2- انظر على سبيل المثال: ابن حزم، الإحكام في أصول الأحكام 4: 468- 469.

ص: 98

د. قد تساعد الأفعال على تحديد الحكم الوضعي (1)، وليس التكليفي فقط، كأن يمسّ النبي زوجته فيتوضأ أو ينام فيتوضأ، إذ ذلك في بعض الأحيان يكشف عن الناقضيّة والبطلان، أو نجده يوجّه الذبيحة إلى القبلة حال الذبح، ولا يأكل من ذبيحةٍ غير مستقبلة، فنستفيد الشرطية، أو يجعل يساره للبيت حين الطواف فنستفيد الشرطية أيضاً، إذا التقت القرائن.

وبهذا تكون الأفعال دالةً حيناً بالمطابقة وأخرى بالتضمّن وثالثة بالالتزام.

لكن الإنصاف مع ذلك كلّه أن دائرة الاستفادة المذكورة من الأفعال قليلة جداً؛ لكون الدلالة صامتة؛ فتحتاج إلى حشد شواهد غير عادية، ولهذا نُصّ على عدم العموم في دلالة الأفعال (2)، فأن يمسّ النبي زوجته ثم يتوضأ ليس دليلًا على الناقضية، لاحتمال الاستحباب في ذلك، أو صدور ناقض آخر منه هو الذي أوجب عليه الوضوء، لهذا صرّح الأصوليون كالشاطبي بقصور دلالة الفعل، لتعدّد الاحتمالات والأسئلة حوله، وصعوبة تبيّن أجوبتها منه لوحده. نعم، انضمام الفعل إلى القول يمنحه قوّةً ودلالة (3).


1- انظر: الشاطبي، الموافقات 3: 299- 300.
2- الجصاص، الفصول في الأصول 1: 36.
3- الشاطبي، الموافقات 3: 278- 279 و 283؛ وانظر تفصيل دلالات الأفعال عنده في المصدر نفسه: 280-/ 285.

ص: 99

إيمان أجداد الرسول صلى الله عليه و آله

السيّد محمود المدني

تمهيد

يتفق جميع المسلمين، والشيعة منهم على الأخصّ، على أنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه و آله بن عبد اللَّه هو أفضل مخلوقات اللَّه سبحانه وأشرفهم على الإطلاق (1).

وقد حرص علماء الدين على مرّ العصور الإسلامية على تدوين وكتابة كلّ النواحي المتعلقة بسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه و آله، وذلك للغور في بحور عظمته، بحيث لم تتسنّ كتابة سيرة أيّ نبيّ آخر أو أيّ شخصيّة تأريخية بهذا الشكل المفصّل الدقيق.

واليوم، وبعد مضيّ أربعة عشر قرناً، يُمكننا الاطلاع حتى على أسماء وسائل النبيّ صلى الله عليه و آله وأدواته بشكل دقيق، إضافة إلى تاريخ ولادته وهجرته وجهاده ووفاته وعدد زوجاته، ذلك كلّه نجده ماثلًا أمامنا في النصوص التأريخية.

إلا أنّ ذلك لا يعني- بالضرورة- عدم جدوائيّة إجراء أيّ تحقيق أو بحث في المجالات المذكورة، فلا زال هناك مجال واسع للتحقيق الأمر الذي يتطلب من المفكرين والعلماء الغوص والبحث عن كنوز تلك السيرة العطرة. وما موضوع إيمان


1- راجع الكافي 1: 440، عن علي عليه السلام: ما برء اللَّه نسمة خيراً من محمّد صلى الله عليه و آله.

ص: 100

وتوحيد آباء وأجداد النبيّ صلى الله عليه و آله إلا واحداً من تلك الكنوز التي يُمكن الحصول عليها من قِبل الفرق الإسلاميّة المختلفة، وقد كان، وما يزال، موضوع جدال بين تلك الفرق، وما فتئ البعض من المُغرضين يعتمد تلك البحوث والدراسات منشأ لإثارة الاختلافات والطعون.

وسنتطرق في بحثنا هذا، بصورة موجزة لكن دقيقة، إلى الموضوع المذكور، وسنقوم أولًا بالإشارة إلى النظريات المتعددة ذات العلاقة بموضوعنا، ثم نقوم ببيان النظرية التي استقرّ عليها رأي الموالين لآل البيت عليهم السلام وأنصارهم، مع بيان الأدلّة على تلك النظرية.

النظريات

أ نظرية الشيعة:

يعتقد الموالون لآل البيت عليهم السلام بأنّ أجداد الرسول صلى الله عليه و آله جميعهم كانوا مؤمنين، مُستندين في ذلك إلى ما استقوه من الأئمة الأطهار عليهم السلام. وقد تمكّن بعضهم من إظهار إيمانه علناً، فعُرفوا لدى المحيطين بهم بهذه الخصيصة، إلا أنّ بعضهم الآخر ظلّ يخفي إيمانه بالرّغم من رسوخ إيمانه هذا في السرّ، إذ يرجع السبب في ذلك إلى الفترة الحرجة التي كان يمرّ بها وتفضيلهم اتباع التقيّة في حينها.

فقد كتب المحدّث الكبير أبو جعفر علي بن الحسين بن بابويه المشهور بالصدوق رحمه الله والمتوفى في (381 ه)، كتب بهذا الصدد يقول:

«في آباء النبي صلى الله عليه و آله، اعتقادنا فيهم أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبداللَّه» (1).

وأمّا الشيخ المفيد رحمه الله فيوضح ما قاله الصدوق، بقوله:

«آباء النبي صلى الله عليه و آله إلى آدم عليه السلام كانوا موحّدين على الإيمان باللَّه حسب ما ذكره


1- تصحيح الإعتقادات: 117.

ص: 101

أبوجعفر (الصدوق)، وعليه إجماع عصابة الحق» (1).

ويقول الشيخ المفيد في كتاب آخر له:

«واتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من لدن آدم إلى عبداللَّه بن عبدالمطلب مؤمنون باللَّه عزوجل، موحدون له» (2).

أما شيخ الطائفة، الطوسي رحمه الله- المتوفى سنة 460 ه-، فكتب يقول:

«ثبت عند أصحابنا أن آباء النبي صلى الله عليه و آله إلى آدم كلهم كانوا موحدين، لم يكن فيهم كافر، وحجتهم في ذلك إجماع الفرقة المحقة، وقد ثبت أن إجماعها حجة، لدخول المعصوم فيها، ولاخلاف بينهم في هذه المسألة».

وكتب المفسّر الشيعيّ الجليل أبو علي الطبرسيّ رحمه الله- المتوفى سنة 548 ه- كذلك- في مَعرض تفسيره للآية الشريفة «يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ ...» (3)

وبيانه لهذا الأمر، وأنّ هذا الخطاب موجّهٌ إلى جدّ النبيّ إبراهيم عليه السلام لأمّه، وإنّما اسم والد إبراهيم عليه السلام الحقيقيّ هو (تارُخ)- كتب يقول:

«لإجماع الطائفة على أن آباء نبينا صلى الله عليه و آله إلى آدم كلّهم مسلمون موحدون، ولما روي عنه صلى الله عليه و آله ...» (4).

أمّا العلامة محمّد باقر المجلسيّ رحمه الله- المتوفى سنة 1111 ه- فكتب يقول:

«اتفقت الإماميّة رضوان اللَّه عليهم على أن والدَي الرسول صلى الله عليه و آله وكل أجداده إلى آدم عليه السلام كانوا مسلمين ... ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو مصلحة دينية» (5).

وقال في مكان آخر: «تظافرت الروايات وإجماع الشيعة على إيمان أجداد الرسول صلى الله عليه و آله» (6).


1- المصدر نفسه.
2- أوائل المقالات: 51.
3- مريم: 45.
4- مجمع البيان: 3: 516.
5- بحارالأنوار 15: 117.
6- المصدر نفسه: 119.

ص: 102

وقد اشتهر الشيعة بهذه العقيدة، وعُرفوا بها، حتى علّق الفخر الرازي في تفسيره على هامش الآية الشريفة «وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...» (1)

بقوله:

«المسألة الرابعة: قالت الشيعة: إن أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً، وأنكروا أن يقال: إن ولد إبراهيم كان كافراً» (2).

ب- نظريّة أهل السنة:

ويعتقد بعض علماء أهل السنة كذلك بإيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله وتوحيدهم، حيث ذكر العلامة الآلوسيّ البغداديّ (المتوفى سنة 1270 ه) على هامش تفسير الآية الشريفة «وتَقَلُّبَك فِي السَّاجِدِينَ» (3)

ما يلي:

«أبونعيم عن ابن عباس أنّه رضى الله عنه فسّر التقلّب فيهم بالتنقل في أصلابهم حتى ولدته أمّه على الصلاة، وجوّز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يراد بالساجدين المؤمنون، واستدل بالآية على إيمان أبويه عليه السلام كما ذهب إليه كثير من أجلّة أهل السنة، وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما (رضي اللَّه تعالى عنهما) على رغم أنف القارئ وأضربه بضد ذلك ...» (4).

وذكر في مكان آخر ما يلي:

«والذي عوّل عليه الجمّ الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم، وادّعوا أنه ليس في آباء النبيّ كافر أصلًا، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشئ من قلّة التتبع» (5).


1- الأنعام: 84.
2- تفسير الكبير 13: 38.
3- الشعراء: 219.
4- روح المعاني 19: 137.
5- تفسير روح البيان 7: 194.

ص: 103

أمّا الكتاني، فقد ذكر في كتاب (النظم المتناثر) ما نصّه:

«أحاديث أنّ جميع آبائه عليه السلام وأمهاته كانوا على التوحيد لم يدخلهم كفر ولا عيب ولا رجس ولا شي مما كان عليه أهل الجاهلية ... ذكر الباجور ... أنّها بالغة مبلغ التواتر» (1).

وينبغي أخيراً، وليس آخراً، أن نشير إلى العالم الكبير والموثوق لدى أهل السنة، عنيت به جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى سنة 910 ه)، الذي يعتقد بإيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله بكلّ ماللكلمة من معنى، لابل أكد ذلك في الكثير من مؤلفاته؛ ففي كتاب (مسالك الحنفاء)، قام السيوطي بالاستدلال بالقرآن الكريم والروايات المتوافرة، ناقلًا كذلك عن الفخر الرازي الذي أكّد على هذه المسألة في كتابه (أسرار التنزيل) (2).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفخر الرازي لم يؤمن بهذه المسألة في تفسيره ولم يُشر إلى صحّتها، بل ادّعى الإجماع على أنّ بعض أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله لم يكونوا مؤمنين موحّدين (3).

أمّا الكتب التي ألّفها السيوطي بهذا الشأن، أي التأكيد على إيمان آباء النبي صلى الله عليه و آله فهي:

1- مسالك الحنفا في نجاة آباء المصطفى.

2. الدرج المنيفة في الآباء الشريفة.

3. المقالة السندسية في النسبة المصطفوية.

4. التعظيم والمنة في أن أبوي رسول اللَّه في الجنة.

5. السبيل الجليّة في الآباء العلية.

6. نشر العلمين في إثبات عدم وضع حديث إحياء أبويه صلى الله عليه و آله وإسلامهما


1- النظم المتناثر: 202.
2- مسالك الحنفاء: 17.
3- التفسير الكبير 13: 40.

ص: 104

على يديه (1).

وكتب المحقق المعاصر جعفر مرتضى العاملي يقول: «صرّح الماورديّ والرازي في كتاب أسرار التنزيل، والسنوسيّ والتلمساني كذلك، صرّحوا بإيمان آباء النبيّ صلى الله عليه و آله الكرام» (2).

وقد وقف بعض علماء السنة بشدّة وحزم بوجه من كفّر أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله، حيث نقل جلال الدين السيوطي عن أستاذه قائلًا: «سُئل القاضي أبو بكر بن العربي: ما تقول فيمن يدّعي أنّ أبا النبيّ صلى الله عليه و آله في النار؟! قال: ملعون من يقول هذا، لقول اللَّه سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّه ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّه فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ ...» (3)، ولا أذىً أعظم من أن يُقال عن أبيه صلى الله عليه و آله: إنّه في النار» (4).

وقد نقل السيوطيّ عن أبي نعيم الإصفهانيّ قوله:

«أتي إلى عمر بن عبد العزيز كاتب كان أبوه كافراً، فقال عمر في شأنه: لو كان من أبناء المهاجرين لكان أفضل. فأجاب الكاتب: لقد كان أبو النبيّ صلى الله عليه و آله كافراً أيضاً! فغضب عمر بن عبد العزيز لذلك وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يعمل في ديوان الخلافة أبداً!» (5).

ونُقِل عن شيخ الإسلام الهرويّ قوله: «قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد: إنّ عاملنا في المكان الفلاني كان أباً لك كافراً. فأجاب سليمان: وكان أبو النبيّ صلى الله عليه و آله كافراً أيضاً! فغضب عمر بن عبد العزيز لذلك بشدّة وأمر بعزله عن الديوان في الحال!» (6).

ورغم أنّ العجلونيّ- المفسّر والمحدّث المعروف- كان يعتقد بذلك، فقد


1- نقلًا عن بحار الأنوار 15: 124؛ الصحيح من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله 2: 186.
2- الصحيح من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله 2: 186.
3- الأحزاب: 57.
4- الدرج المنيفة: 17.
5- المصدر نفسه: 18.
6- المصدر نفسه: 19.

ص: 105

كتب يقول:

«و قد ألّف كثير من العلماء في إسلامهما شكراللَّه سعيهم منهم الحافظ السخاوي، فإنه قال في المقاصد: قد كتبت فيه جزاءً» (1).

ثم نسبَ هذا الاعتقاد إلى عدّة أخرى، إذ قال:

«و هذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة من حفّاظ المحدثين وغيرهم، منهم ابن شاهين، والحافظ أبوبكر البغدادي، والسهيلي، والقرطبي، والمحب الطبري، وغيرهم» (2).

وكتب السيوطي:

«قد أخرج ابن حبيب في تاريخه من ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة و مضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم، فلا تذكروهم إلا بخير ... وفي روض الأنف حديث: لاتسبّوا إلياس فإنه كان مؤمناً».

و في دلائل النبوة لأبي نعيم:

«إن كعب بن لؤي أوصى ولده بالإيمان بالنبي صلى الله عليه و آله وكان ينشد إعلاناً:

ياليتني شاهد نجواه دعوته إذا القريش تبقى الحق خذلاناً» (3).

وفي مقابل هذه الجماعة، يعتقد الكثير من أبناء أهل السنة أنّ جميع أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله كانوا كافرين! (4).

أدلّة النظريّة الشيعيّة:

استند علماء الشيعة- في إثبات إيمان أجداد الرسول صلى الله عليه و آله- إلى القرآن الكريم وإلى السنة والعقل والإجماع والشواهد التأريخيّة الأخرى.


1- كشف الخفاء: 62.
2- كشف الخفاء: 65.
3- المقامة السند سية: 9.
4- راجع التفسير الكبير 13: 40؛ تفسير المنار 7: 545.

ص: 106

الأدلة القرآنيّة:

1- قوله تعالى: «وتَقَلُّبَك فِي السَّاجِدِينَ».

وردت روايات كثيرة- من طريق علماء الشيعة وأهل السنة- أنّ المراد من هذه الآية هو انتقاله صلى الله عليه و آله في الأصلاب والأرحام المؤمنة الموحّدة.

وفيما يلي نورد نصّين دالّين لإثنين من مفسّري الشيعة الكبار وآخريْن لأهل السنة حول ذلك:

يقول الشيخ الطوسيّ: «في رواية أخرى عن ابن عباس: أن معناه أنه أخرجك من نبي إلى نبي حين أخرجك نبياً ... وقال قوم من أصحابنا: إنه أراد تقلّبه من آدم إلى أبيه في ظهور الموحدين، لم يكن فيهم من يسجد لغيراللَّه» (1).

وكتب الطبرسيّ يقول: «قيل: معناه تقلّبك في أصلاب الموحدين من نبيّ إلى نبي حتى أخرجك نبيّاً، عن ابن عباس في رواية عطا وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام» (2).

ويُحتمل أن تكون الرواية التي أشار إليها الطبرسيّ هي نفس الرواية التي أوردها عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره بسند متصل إلى الإمام الباقر عليه السلام، وهذا نصّها:

«عن أبي جعفر عليه السلام: قال: « «الذي يريك حين تقوم و تقلّبك في الساجدين» قال: في أصلاب النبيّين» (3).

أو قد يكون مُشيراً إلى رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام التي قال فيها:

سألنا الإمام الباقر عليه السلام حول تفسير الآية الشريفة: «وتَقَلُّبَك فِي السَّاجِدِينَ»؟

فأجاب:

«يرى تقلّبه في أصلاب النبيين من نبي إلى نبي حتى أخرجه من صلب أبيه من


1- التبيان 8: 68.
2- مجمع البيان 4: 207.
3- تفسير القمي؛ وتفسير البرهان 3: 192.

ص: 107

نكاح غير سفاح من لدن آدم عليه السلام (1)».

وقد نقلت روايات مشابهة لما ذكرنا عن طريق أهل السنة بأسناد مختلفة، وسوف نوردها في الأدلة الروائية فيما بعد إن شاء اللَّه.

وقال السيوطي في (الدرّ المنثور):

«وأخرج ابن أبي العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» قال:

من نبي إلى نبي أخرجت نبياً» (2).

«و أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبونعيم في الدلائل، عن ابن عباس في قوله: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» قال: ما زال النبي يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته امّه» (3).

وقد أورد بهذا الخصوص روايات أخرى، سنذكرها في الأدلة الروائية فيما بعد.

أمّا أبو عبد اللَّه محمّد بن أحمد الأنصاريّ القرطبيّ، فقد كتب يقول: « «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» قال ابن عباس: في أصلاب الآباء: آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبياً» (4).

وقد نسب الفخر الرازي التفسير المذكور إلى الشيعة حيث قال:

«واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي كانوا مؤمنين، وتمسّكوا في ذلك بهذه الآية فقالوا: أو قوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»، يحتمل الوجوه التي ذكرتم، ويحتمل أن يكون المراد أن اللَّه تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل؛ ضرورة أنّه لامنافاة ولا رجحان ...» (5).


1- تفسير القمي؛ مصدر سابق، تفسير البرهان 3: 193، ح 5.
2- الدرالمنثور 5: 98.
3- المصدر نفسه.
4- جامع الأحكام في القرآن 13: 144.
5- التفسير الكبير 24: 173.

ص: 108

وأورد الحلبيّ بالتفصيل في (السيرة) جميع الروايات التي دلّت على هذا المضمون (1).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلماء قد ذكروا احتمالات أخرى ووجوه ثانية في تفسير الآية الشريفة المذكورة، كتقلّبه صلى الله عليه و آله في الليل للتعرّف على أحوال أصحابه، أو تقلبه صلى الله عليه و آله في صلاة الجماعة بين الساجدين والمُصلّين، أو تقلّب بصره صلى الله عليه و آله وملاحظته المصلين أثناء الصلاة، وغير ذلك. لكن مع قبول تلك الاحتمالات، لا ينفى بها المعنى الأوّل- وهو إيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله-، لأننا نعلم أنّ الآية الشريفة في القرآن الكريم تحتمل المعاني المتعدّدة بحيث تكون كلها صحيحة، وقد ترد روايتيْن بخصوص آية واحدة، تذكران لها معانٍ ومقاصد مختلفة ومتنوعة، ولهذا ورد في الأحاديث: أنّ القرآن ذو بطون (2).

ولهذا، فلا يخرج عن السياق كون المعنى المقصود من الآية الكريمة إيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله، أو المعنى الوحيد للآية الذي دلّ عليه شخص الرسول الكريم صلى الله عليه و آله وأهل بيته المعصومين، أو على الأقلّ أحد المعاني أو البطون المتعدّدة لها، والتي بيّنها النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل بيته، وهم المفسرون الحقيقيّون للقرآن والثقل الأصغر.

2- قوله تعالى: «رَبَّنَا واجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَك ومِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك ... رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ...» (3).

وقوله تعالى: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَوةِ ومِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وتَقَبَّلْ دُعَاءِ» (4).


1- السيرة الحلبية 1: 29.
2- راجع: الميزان 3: 74؛ رُوي هذا المضمون مستفيضاً من العامّة والخاصّة.
3- البقرة: 128.
4- إبراهيم: 40.

ص: 109

وقوله تعالى: «وجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ...» (1).

في الآيتيْن الأولتيْن، هناك دلالة صريحة وواضحة على طلب إبراهيم عليه السلام من ربّه أن يجعل في ذريّته جماعة مُسلمة، وبالنظر إلى حرف الجرّ (مِنْ) في الآيتيْن المذكورتيْن، نلاحظ أنّ الطلب المُشار إليه لا يشمل إلا فئة مُعيّنة من ذريّة إبراهيم عليه السلام، وهو ما تمّت الإستجابة إليه في الآية الثالثة.

وبعبارة أكثر وضوحاً إنّ الدّعاء المذكور لم يكن حصرياً على وُلد إبراهيم المباشرين، بل كان ممتدّاً إلى زمان خاتم الأنبياء، ويكفي أن نذكر تكملة الآية الأولى و هي: «رَبَّنَا وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ...» لتأكيد ذلك، وقد وردت روايات عديدةبطرق الشيعة وأهل السنّة تفيداعتبار النبيّ صلى الله عليه و آله نفسه مصداقاً لتلك الدعوة (2).

وعلى هذا، لا غرو في إفادة تلك الآيات هذا المعنى بشكل واضح، وهو وجود جماعة مُسلمة على الدوام في ذريّة إبراهيم عليه السلام.

والآن لنضع هذه المقدّمة القرآنية إلى جانب الروايات العديدة، والتي جاء فيها عن النبيّ صلى الله عليه و آله:

«أنا من خير سلالة وأشرف عصبة».

فإذا قلنا: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد انحدر من أسرة كافرة- ولو لجيل واحد-، فإمّا أن نقرّ بعدم وجود فئة مؤمنة في ذلك الزمان، وهو ما يتناقض مع المقدّمة القرآنية المستنتجة من الآية؛ وإمّا أن نقرّ بوجود الفئة المؤمنة لكن النبيّ صلى الله عليه و آله لم يكن في أحسنها أو أشرفها، مُنكرين بذلك المقدمة الثانية والروايات النبويّة، أو الإقرار بأفضليّة الكافر على المؤمن وهو ما لا يتناسب والآية الشريفة «ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك ...» (3)

وعلى هذا، وبعد دحضنا للاحتمالات الثلاثة السالفة لا نجد مفراً من الاعتراف بكون جميع أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله مؤمنين.


1- الزخرف: 28.
2- راجع الميزان 1: 286؛ روح المعاني 2: 386.
3- البقرة: 221.

ص: 110

ولتأكيد ماقلناه نقوم بعرض بعض تلك الروايات في بحث الأدلّة الروائيّة إن شاء اللَّه، لكننا نشير هنا إلى نماذج:

الترمذي في صحيحه بإسناده قال: «جاء العباس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكأنّه سمع شيئاً، فقام النبي صلى الله عليه و آله على المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول اللَّه عليك السلام.

قال: أنا محمد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب، إن اللَّه خلق الخلق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً» (1).

القندوزي عن الترمذي والطبراني والبيهقي وأبونعيم الحافظ بإسنادهم عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إن اللَّه خلق الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ... وجعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً (2).

الإمام أحمد بن حنبل، بإسناده عن أبي هريرة: إن النبي قال: بعث من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه. (3) الأدلّة الروائيّة

روايات الشيعة:

1- الكليني: «بأسانيده عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: نزل جبرئيل على النبي فقال:

يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، ويقول: إنّي قد حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك وحجر كفلك ...» (4).

2- الطوسي: «بسنده إلى جابر بن عبداللَّه الأنصاري، عن النبي صلى الله عليه و آله- حديث-:

إنّ اللَّه تعالى لما أحب أن يخلقني خلقني نطفة بيضاء طيبة فأودعها صلب ابن آدم، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم إلى نوح وإبراهيم عليهما السلام، ثم كذلك إلى


1- صحيح الترمذي 5: 244، ح 3608؛ ينابيع المودة 1: 11.
2- ينابيع المودة 1: 14؛ وعن الثعلبي أيضاً بتفاوت يسير عن حذيفة بن اليمان وسلمان، المصدر نفسه 1: 15.
3- مسندالإمام أحمد بن حنبل 2: 373؛ السيرة الحلبية 1: 27؛ ينابيع المودة 1: 15.
4- الكافي 1: 446، ح 21.

ص: 111

عبدالمطلب فلم يصيبني من دنس الجاهلية ...» (1).

3- الطبرسي: «بإسناده عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و آله: يا علي، إن عبدالمطلب كان لايستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولايأكل ما ذبح على النصب، ويقول: أنا على دين أبي إبراهيم عليه السلام» (2).

4- قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام في صفات المرسلين:

«فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرّهم في خير مستقر، تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهرات الأرحام، كلّما مضى سلف قام منهم بدين اللَّه خلف، حتى أفضت كرامة اللَّه سبحانه وتعالى إلى محمد صلى الله عليه و آله فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً، وأعزّ الأرومات مغرساً من الشجرة التى صدع منها أنبياءه، وانتجب منها أمناءه، عترته خير العِتر، وأسرته خير الأسر، وشجرته خير الشجر، نبتت في حرم وبسقت في كرم، لها فروع طوال وتمر لا ينال» (3).


1- أمالي الطوسي 499: 1095.
2- مكارم الأخلاق: 468.
3- نهج البلاغة، الخطبة 94.

ص: 112

5- الصدوق، بإسناده عن علي عليه السلام: «واللَّه ما عبد أبي ولاجدّي عبدالمطلب ولا هاشم ولاعبد مناف صنماً قط. قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به» (1).

6- الصدوق بإسناده المتصل عن جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، قال سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: كنت في صلبه هبط إلى الأرض وأنا في صلبه، وركبت السفينة في صلب نوح، وقذف بي في النار في صلب أبي إبراهيم. لم يلتق أبوان على سفاح قط. لم يزل ينقلني في الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة، هادياً مهدياً» (2).

7- الصدوق، بإسناده عن أبي ذر قدس سره قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد ... فلم يزل ينقلنا اللَّه عزوجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة ...» (3).

روايات السنّة:

8- الطبراني بإسناده عن ابن عباس: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» قال: «من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجت نبياً» (4).

9- الهيثمي بإسناده عن ابن عباس: «من صُلب نبي إلى صلب نبيّ حتى صرت نبياً (5)».

10- النويري عن الرسول: «لما خلق اللَّه آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض


1- كمال الدين: 174 ح 32.
2- تفسير البرهان 13: 192، ح 2.
3- تفسير البرهان 3: 192، ح 3.
4- المعجم الكبير 11: 287؛ السيرة الحلبية 1: 47.
5- مجمع الزوائد 7: 86.

ص: 113

حملني في صلب نوح بالسفينة، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، ثم لم يزل ينقلني من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتى أخرجني من أبوين لم يلتقيا على سفاح قطّ (1)».

11- السيوطي: أخرج البيهقي وابن عساكر من طرق مالك عن الزهري عن أنس: أن النبي صلى الله عليه و آله قال: «ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني اللَّه في خيرهما، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شي ء من عهد الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم، حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً (2)».

12- أخرج ابن سعد: عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه ما افترق فرقتان منذ خلق اللَّه إلّا كنت في خيرهما».

13- الرازي: ومما يدلّ أيضاً على أن أحداً من آباء محمد ما كان من المشركين قوله صلى الله عليه و آله: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»، وقال تعالى:

«إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» وذلك يوجب أن يقال: إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين (3).

14- الحلبي: عن ابن عباس، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إن اللَّه خلقني حين خلقني جعلني من خير، ثم حين خلق القبائل جعلني من خيرهم قبيلة، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم بيتاً وأنا خيرهم نسباً (4)».

15- الهندي: قال: «كنت وآدم في الجنة في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح، ولم يزل اللَّه ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة، صفي، مهدي، لايتشعب


1- نهاية الإرب 1: 362؛ الخصائص الكبرى 1: 32 بتفاوت يسير.
2- الخصائص الكبرى 1: 38.
3- التفسير الكبير 13: 39.
4- السيرة الحلبية 1: 46.

ص: 114

شعبتان إلّا كنت في خيرهما» أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس (1).

16- الترمذيّ: روى بإسناده أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«إن اللَّه خلق الخلق فجعلني من خيرهم في خير فرقهم، وخير الفريقين ثم تخيّر القبائل فجعلني في خير قبيلةٍ، ثم تخّير البيوت فجعلني في خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً» (2).

17- نقل القندوزي عن الطبراني بإسناده، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

«لم أزل خياراً من خيار» (3).

18- نقل ابن أبي الحديد عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة» (4).

وقال صلى الله عليه و آله كذلك: «أنا ابن الأكرمين» (5).

أدلّة الروايات

تنقسم الروايات التي أوردناها إلى خمس مجاميع، هي:

أ الروايات التي تدلّ صراحةً على إيمان أجداد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا مجال للخوض فيها؛ مثل الروايتين رقم (3) و (5).

ب الروايات التي تدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله قد انتقل عَبر الأصلاب والأرحام الطاهرة؛ مثل الروايات رقم (2؛ 6؛ 7؛ 10؛ 13؛ 15؛ و 18). ويحمل البعض معنى (الطهارة) على أنّها طهارة من الزنا والسفاح، إلا أنّ هذا الرأي خاطئ بدليل كون الشرك هو أنجس النجاسات، وهو ما صرّح به القرآن الكريم بقوله تعالى: «إِنَّمَا


1- كنز العمال 6: 106؛ الدرّ المنثور 5: 98 بتصرّف.
2- سنن الترمذي 5: 544، ح 3607؛ ينابيع المودة، القندوزي 1: 11.
3- ينابيع المودة 1: 15.
4- شرح نهج البلاغة 7: 63.
5- المصدر نفسه: 64.

ص: 115

الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (1).

لذا، فيجب حَمل الطهارة في تلك الروايات إمّا على كونها تضمّ جميع المَصاديق، أو على المرتبة العُليا والمصداق الأظهر كذلك، وهي الطهارة من الشرك؛ وخصوصاً تطرّق بعض الروايات بصورةٍ منفصلة إلى عفاف آباء الرسول صلى الله عليه و آله وأمّهاته، بعد بيان طهارتهم، وهو ما يدلّ على كون هاتين المسألتين منفصلتين عن بعضهما البعض. وقد تمّ نقل وتوارد هذه الروايات، باستثناء ما ذكرنا، في مصادر أخرى لن نتطرّق إليها لمراعاة الإيجاز.

كتب الشيخ الطوسي يقول:

«روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نقلني اللَّه من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات لم يدنسني بدنس الجاهلية»، وهذا الخبر لا خلاف في صحته، فبيّن النبي أنّ اللَّه نقله من أصلاب الطاهرين فلو كان فيهم كافر لما جاز وصفهم بأنّهم طاهرون، لأن اللَّه وصف المشركين بأنّهم أنجاس فقال: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (2)» (3).

وقال الآلوسيّ في تفسيره الكبير، بعد نقله لتلك الرواية:

«وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعوّل عليه، والعبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب» (4).

ت الروايات التي تدلّ على أنّ اللَّه سبحانه قد أقرّ النبيّ صلى الله عليه و آله في أفضل الزّمر وأشرف الأسر، إضافة إلى عدم خلوّ الأرض من الجماعات المؤمنة، ولو كان النبيّ صلى الله عليه و آله قد انحدر من أسرة كافرة وصُلب مُشرك، فمعنى ذلك أنّه لم يكن صلى الله عليه و آله من أفضل الأسر ولا أشرفها.


1- التوبة: 28.
2- التوبة: 28.
3- التبيان 4: 175.
4- تفسير روح المعاني 7: 195.

ص: 116

نُقِلَ عن جلال الدين السيوطيّ أنّه استدلّ بالروايات المذكورة على الشكل التالي:

«بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه».

من ناحية أخرى، هناك بعض الروايات تدلّ على وجود سبعة أنفار أو أكثر من المسلمين المؤمنين في الأرض في كلّ زمان، كما روى عبد الرزاق ابن منذر، بسند صحيح على شرط الشيخين، عن أمير المؤمنين عليه السلام، ما يلي:

«لم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعداً، ولولا ذلك لهلكت الأرض ومن عليها».

ونقل الإمام أحمد بن حنبل بسند صحيح على شرط الشيخين (كذلك) عن ابن عباس، قال:

«ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة، يدفع اللَّه بهم عن أهل الأرض».

والآن، لو وضعنا هاتين المقدّمتين معاً وجنباً إلى جنب، سنستنتج إمّا أنّ أجداد الرسول صلى الله عليه و آله جميعاً كانوا ضمن الزمرة المسلمة، وهي النتيجة المطلوبة التي نتوخّاها، أو أن ندّعي بأنّ أجداده صلى الله عليه و آله كانوا مُشركين، وفي هذه الحالة لا بدّ لنا من أن نقول بأنّ الآخرين لم يكونوا مُشركين، وكان هؤلاء أفضل وأشرف من أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله، وهو ما لا يتفق والحديث النبويّ الشريف، أو أن ندّعي أنّ أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله بالرغم من كونهم مُشركين، إلا أنّهم كانوا أفضل من المسلمين، وهو ما يتنافى وما صرّح به القرآن الكريم:

«ولَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك ...» (1)

إذن، نستنتج من كلّ ذلك، بأنّ أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله كانوا مؤمنين ومُفضلين على أهل زمانهم (2).


1- البقرة: 221.
2- راجع: حياة النبيّ وسيرته 1: 53.

ص: 117

ث- وهناك روايات أخرى تقول بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد انتقل بين أصلاب الأنبياء، مثل الروايتين (5) و (6).

والآن، هل يُمكن القول بأنّ جميع آباء وأجداد الرسول صلى الله عليه و آله كانوا أنبياء؟

في البدء، يجب الانتباه إلى أنّ هناك بَوناً شاسعاً بين كلمتي: (نبي) و (رسول)، فقد تُطلق كلمة (نبي) أحياناً على الراعي والحارس لشريعة الرسول؛ إذن، يُمكن القول بأنّ مراد هذه الآية هو أنّ آباء وأجداد الرسول صلى الله عليه و آله كانوا يُراعون واجباتهم الدينيّة وأنّهم كانوا مُحافظين ورُعاة شريعة ودين الأنبياء والمرسلين الذين سبقوهم، وإن لم يُؤمروا في الظاهر بتبليغ تلك الحقائق.

كتب العلامة المجلسيّ يقول:

«اتفقت الإمامية على أن والدي الرسول وكل أجداده إلى آدم كانوا مسلمين، بل كانوا من الصديقين، إما أنبياء مرسلين أو أوصياء معصومين، ولعل بعضهم لم يظهر الإسلام لتقية أو لمصلحة دينية» (1).

ويُمكن أن تُحمَل تلك الروايات على الغلبة، أي يغلب انتقال النبيّ صلى الله عليه و آله في أصلاب الأنبياء.

ج الروايات التي تصرّح بأنّ الصلب الذي جاء منه النبيّ صلى الله عليه و آله يُحرَم على جهنم، الرواية رقم (1) التي تدلّ بوضوح على إيمان جدّ النبيّ صلى الله عليه و آله، بل وأجداده صلى الله عليه و آله جميعاً- بعد الأخذ بنظر الاعتبار الآيات الشريفة في القرآن التي صرّحت بدخول المشركين جهنم وتعرّضهم للعذاب، مثل الآية (73) من سورة الأحزاب، والآية (6) من سورة الفتح، والآية (6) من سورة البيّنة.

الإجماع


1- بحار الأنوار 15: 117.

ص: 118

يُعتبر إيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله أمراً مُجمَعاً عليه لدى الشيعة، حيث صرّح بعض علماء الشيعة بهذا الإجماع. وقد ذكرنا في السطور السابقة وأثناء بياننا لنظرية الشيعة، كلام المحدّث الكبير الشيخ الصدوق، والمتكلّم والفقيه الأجلّ الشيخ المفيد، وشيخ الطائفة الطوسيّ، والمفسّر الكبير الطبرسيّ، والمحدّث المعروف العلامة المجلسيّ رحمهم الله، حول مسألة الإجماع على إيمان آباء الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، ونكتفي بهذا القدر من النقل عنهم.

العقل

اتجه البعض إلى الاستدلال العقليّ لإثبات إيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله، ويعتقدون، وكما برهن عليه في علم الكلام، بوجوب زوال الأمور التي تنفّر الناس من النبيّ ودعوته، وأنّها لا ينبغي أن تتواجد في النبيّ، وكفر الآباء أحد تلك الأمور.

ولهذا، ومن أجل إبقاء شرف مقام النبوّة وجلب اهتمام الناس إليها وعدم تنفّرهم من النبي ومما يدعو إليه، يتوجّب على النبيّ أن يولد من أبوين لا يُعرَف عنهما الكفر. ويُمكن بالتالي وَضع هذا الكلام في إطار سائر الاستدلالات المؤيدة لما نقول.

وهذا ما أيّده أبو الفتوح الرازي (1).

وفي حاشية السيرة الحلبيّة عن الفخر الرازي، نقرأ ما يلي:

«إنّ أبوي النبيّ صلى الله عليه و آله كانا على الحنيفيّة، دين إبراهيم، كما كان زيد بن عمرو بن نفيل وأضرابه، بل إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، تشريفاً لمقام النبوّة، وكذا أمّهاتهم ...» (2).

وكتب الماورديّ في (أعلام النبوّة) ما يلي:

«لمّا كان الأنبياء صفوة عباده وخيرة خلقه لما كلّفهم من القيام بحقه والإرشاد لخلقه، استخلصهم من أكرم العناصر واجتباهم بمحكم الأوامر، فلم يكن لنسبهم من قدح ولمنصبهم من جرح؛ لتكون القلوب أصفى والنفوس لهم أوطأ ... إن اللَّه


1- تفسير روح الجنان 4: 461.
2- السيرة الحلبية 1: 62.

ص: 119

استخلص رسوله من أطيب المناكح، وحماه من دنس الفواحش، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزّهة» (1).

الشواهد التأريخيّة

يتفق جميع المؤرّخين على وجود جماعات موحّدة بين العرب قبل الإسلام، حيث كانوا يُعرَفون أحياناً ب (الحنفاء)، وأحياناً أخرى ب (الموحّدين). ومن بين أولئك الذين وردت أسماؤهم في صفحات التأريخ هم: ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نُفيل، والنابغة الجعديّ، وقسّ بن ساعدة الإيادي، وآخرين غيرهم (2).

وقد تمّ ذكر أسماء بعض أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله ضمن هذه الجماعة من الحنفاء والموحّدين، وسيّدنا عبد المطلب هو أحد أولئك المذكورين.

ولعلّ أبلغ شاهد على إيمان هذا الرجل العظيم هو دوره وكلامه ودعاؤه في حادثة أصحاب الفيل، وكذلك استسقاؤه برسول اللَّه صلى الله عليه و آله والاستشهاد بكلماته وأبياته الشعريّة.

روى المحدّث الكبير الكليني عن الإمام الصادق عليه السلام، والمؤرّخ المشهور اليعقوبيّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما يلي:

«إن اللَّه يبعث جدي عبدالمطلب أمةً واحدة في هيئة الأنبياء وزيّ الملوك» (3).

ويقول اليعقوبيّ بخصوص سيّدنا عبد المطلب:

«عبد المطلب يومئذ سيّد قريش غير مدافع ... رفض عبادة الأصنام ووحّد اللَّه عزوجل ووفى بالنذر ...» (4).

ونقل محمّد بن يوسف الشاميّ عن أستاذه، حول إيمان أمّ النبيّ صلى الله عليه و آله ما يلي:


1- المصدر نفسه.
2- راجع: آيتي، تاريخ النبيّ: 13- 19.
3- الكافي 1: 446، ح 22، 23 و 24؛ وتاريخ اليعقوبي 2: 14.
4- تاريخ اليعقوبي 2: 10.

ص: 120

«ظفرت بأثر يدلّ على أنها (أمّ النبي صلى الله عليه و آله) ماتت موحّدة ... إذ ذكرت دين إبراهيم وبعث ابنها بالإسلام ونهيه عن عبادة الأصنام ... وهذا القدر كاف في التبري من الكفر ... فقد كانوا جماعة تحنّفوا وهو التوحيد، فلا بدع أن تكون أمّ النبي منهم ... وشاهدت في حمله وولادته من آياته الباهرة، ورأت النور الذي يخرج منه، قالت لحليمة حين جاءت وقد شق صدره: أخشيتما عليه من الشيطان؟ كلّا واللَّه ما للشيطان عليه سبيل، وإنّه لكائن لابني هذا شأن. وقدمت به المدينة وسمعت كلام اليهود فيه وشهادتهم له بالنبوة، فهذا كلّه يؤيد أنّها تحنف في حياتها ...».

ثم يواصل محمّد بن يوسف الشاميّ حديثه، حيث يسرد الروايات المخالفة لذلك، ويعمد إلى إضعافها (1).

وكتب ابن أبي الحديد حول إيمان سيّدنا عبد اللَّه وسيّدنا عبد المطلب وآخرين، يقول:

فأمّا الذين ليسوا بمطلة فالقليل منهم، وهم المتألهون أصحاب الورع والتحرّج عن القبائح، كعبد اللَّه وعبدالمطلب وابنه أبي طالب، وزيد بن عمرو بن نفيل؛ وقسّ بن ساعدة (2).

وفي هذا الصدد، قال الفخر الرازي في ذيل الآية الشريفة: «ومِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَك ...»: وقد أشكلوا على أنّه لم يكن في زمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله مِن العرب مَن هو بمُسلم، وكذلك من غير العرب في ذريّة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام.

ثمّ يُجيب الفخر الرازي على ذلك بقوله:

«قال القفال: إنّه لم يزل الرسل من ذرية إبراهيم وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة، ويقال: عبد المطلب بن هاشم جدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، عامر بن الظرب، كانوا على دين الإسلام يقرّون بالإبداء والإعادة والثواب


1- السيرة النبوية 2: 126.
2- شرح ابن أبي الحديد 2: 126.

ص: 121

والعقاب، يوحدون اللَّه تعالى، ولا يأكلون الميتة ولايعبدون الأوثان» (1).

أمّا فيما يتعلق بعظمة سيّدنا (هاشم)، أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله، فقد بيّن العديد من المؤرّخين شواهد تشير إلى مجده وعظمته وجوده وكرمه، وكذلك إيمانه الراسخ، وتوحيده البيّن.

ومن جملة تلك الشواهد، الخطبة التي كان يُلقيها في بداية شهر ذي الحجة من كلّ عام.

كتب الحلبيّ في (السيرة) ما يلي:

«كان هاشم يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف، وإذا أهلّ هلال ذي الحجة قام صبيحته وأسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها، ويخطب ويقول في خطبته: يا معشر قريش! إنّكم جيران بيت اللَّه تعالى، أكرمكم اللَّه تعالى بولايته، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوّار اللَّه يعظمون بيته فهم أضيافه ...».

ثمّ كان يكرّر من قوله: «لقد هيّأتُ من المال أحلّه وأطيبه؛ فلم يأت عن ظلم ولا قطع رَحم ولا غصب، ولو كان بمقدوري لأخذت جميع النفقات على عاتقي، ولكن قوموا أنتم الآن بعزل أحلّ أموالكم وأطيبها لهذا الأمر المهمّ ...» (2).

وقد ورد ذكر هذه الخطبة في مصادر أخرى مع اختلاف بسيط (3).

ولإثبات إيمان أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله الآخرين، طبقاً للشواهد التأريخيّة، يُمكن الاستناد إلى جملة منها، والتي تبيّن شيوع دين التوحيد في أرض مكة قبل (عمرو بن لحيّ)، وهكذا يتّضح إيمانهم طبقاً لتلك الشواهد التأريخيّة.

يقول الحلبيّ:

«تظافرت نصوص العلماء على أنّ رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي، فهو أوّل من غيّر دين إبراهيم وشرّع للعرب الضلالات» (4).


1- التفسير الكبير 4: 68.
2- السيرة الحلبية 1: 7.
3- راجع: السيرة النبويّة، السيد أحمد زيني دحلان: 19؛ السيرة النبويّة، لابن هشام 1: 143.
4- المصدر نفسه: 10.

ص: 122

وقد ورد هذا المضمون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كذلك (1).

وقد عرفت العرب قبل زمان الرسول صلى الله عليه و آله شعار (لبّيْك) على النحو التالي:

«لبيّك، اللهمّ لبيّك، لبّيك لا شريك لك لبّيك ...».

وواضح تماماً أنّ شعار كلّ الناس كان شعار التوحيد والدين الواحد وعبادة الإله الواحد ونبذ الأصنام، وأنّ رؤساء القوم وكبراءهم كانوا من التابعين لهذه الطريقة وذلك المَسلك، وأنّ أجداد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غالباً ما كانوا من كبار القوم ورؤساء العشيرة.

وقد نُقل عن (كعب بن لؤي)، الجدّ الآخر للنبيّ صلى الله عليه و آله، والذي عاش قبل النبيّ صلى الله عليه و آله بخمسة قرون، نُقل عنه ما يلي:


1- المصدر نفسه.

ص: 123

فكانت القريش إلى كعب، ثم يعظم ويذكّرهم بمبعث النبي، ويعلمهم بأنّه من ولده، ويأمرهم باتباعه ويقول: سيأتي لحرمكم نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم ينشد أبياتاً آخرها:

على غفلة يأتي النبي محمد فيخبر أخباراً صدوق خبيرها (1)

وكتب السيوطي يقول:

«قد أخرج ابن حبيب في تاريخه من ابن عباس قال: كان عدنان ومعد وربيعة ومُضَر وخُزيمة وأسد على ملّة إبراهيم، فلا تذكروهم إلّابخير ... وفي الروض الأنف حديث: لا تسبّوا إلياس فإنه كان مؤمناً» (2).

الأدلّة المخالفة

ولإثبات كفر آباء النبيّ صلى الله عليه و آله، استند البعض إلى جملة من الآيات والروايات، وسنقوم أدناه ببحث ودراسة بعض تلك الأدلة:

1- الآيات الدالة على كفر أبي النبيّ إبراهيم عليه السلام:

«ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوللَّه تَبَرَّأَ مِنْهُ ...» (3).

«وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاك وقَوْمَك فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» (4).

«واذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ ولَا يُبْصِرُ ولَا يُغْني عَنْك شَيْئًا» (5).

وتواصل الآيات الأخيرة (من سورة مريم) حيث تشير إلى وَعد إبراهيم لأبيه (آزر) بالاستغفار له، وتشير الآية (86) من سورة الشعراء إلى إنجاز إبراهيم


1- السيرة الحلبيّة: 15؛ السيرة النبويّة، زيني دحلان 1: 9؛ وورد مضمون ذلك في نهاية الإرب 1: 33.
2- المقامة السندسيّة: 9.
3- التوبة: 114.
4- الأنعام: 74.
5- مريم: 41- 42.

ص: 124

لوعده تجاه أبيه، حيث تقول الآية الشريفة: «واغْفِرْ لِأَبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ».

وقد فسّر بعض المفسرين هذا العمل دعاءاً ظاهرياً، حيث تشير تكملة الدعاء المذكور إلى كونه (أي الأب) كان ضالًا، وأنّه لن يُفلح يوم القيامة: «إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وتخبرنا الآية الشريفة (114) في سورة التوبة أنّ إبراهيم وبعد تأكّده من إصرار أبيه على الكفر والضلال، تبرّأ منه قائلًا: «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ولَوكَانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ* ومَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوللَّه تَبَرَّأَ مِنْهُ».

وتتضمّن تلك الآيات شواهد وقرائن تدلّ على حدوث كلّ تلك الأمور في بداية حياة النبيّ إبراهيم عليه السلام، حيث تشير التكملة في الآية الشريفة قائلةً: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وأَلْحِقْني بِالصَّالِحِينَ» (1).

و يُخبرنا القرآن الكريم أنّ إبراهيم عليه السلام لما اعتزل قومه و تبرّأمنهم، و هبه اللَّه سبحانه الذريّة «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه وَهَبْنَالَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ ...» (2).

إلا أنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام وفي أواخر سنيّ عمره الشريف، وبعد بنائه للكعبة الشريفة، دعا لأبيه إذ قال: «الْحَمْدُ للَّه الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ»؛ «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ...» (3).

وبالاستناد إلى ما قيل، يتضح لنا بجلاء أنّ الشخص الأوّل الذي أطلق عليه لقب (الأب) يختلف عن الشخص الثاني الذي سُمي ب (الوالد)، وذلك لأنّ القرآن يُخبرنا بصريح العبارة بأنّه ليس من صفات الأنبياء أن يدعو للكفار، وأنّ الاستغفار الذي قام به إبراهيم عليه السلام عندما كان في مُقتبل العُمر لم يكن إلا عن موعدة وعدها


1- الشعراء: 83.
2- مريم: 49.
3- ابراهيم: 41.

ص: 125

إبراهيم عليه السلام لأبيه، وهو دعاء صوريّ كما قلنا (1).

ويبيّن هذا الاستدلال القرآنيّ بوضوح على أنّ المقصود بكلمتي: (أبي) و (أبتِ) ليس أبا إبراهيم. إضافة إلى هذا، هناك العديد من الشواهد والقرائن التأريخيّة التي أشار إليها المفسّرون، نذكر منها على سبيل المثال:

يقول شيخ الطائفة الطوسيّ:

«قال الزجاج: لاخلاف بين أهل النسب أن اسم أبي إبراهيم تارخ، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر ... والذي قاله الزجاج يقوي ما قاله أصحابنا أنّ آزر كان جدّه لأمه أو كان عمّه؛ لأن أباه كان مؤمناً ...».

ثم يعرض بعد ذلك بعض الأدلة على إيمان والد إبراهيم، مشيراً إلى وجود أدلَّة عند الشيعة لا يذكرها من لا يخرج عن تفسير الآيات (2).

أمّا المفسر الكبير الطبرسيّ فيذكر شبيه كلام الطوسي (3).

وذكر العلامة الآلوسيّ في تفسيره:

«والذي عوّل عليه الجمّ الغفير من أهل السنّة أنّ آزر اسمٌ لعمّ إبراهيم، وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ ...» و عن محمد بن كعب القراظي أنّه قال: الخال والد، وتلا هذه الآية، وفي الخبر: ردّوا عليّ أبي العباس».

ثم قام ببيان الاستدلال القرآني السابق بالتفصيل، وفي مَعرض توضيحه للآية الشريفة: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ...» قال:

«فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمّه، حيث صرّح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمّه، ودلّ الأثر الثاني على أن الاستغفار


1- مجمع البيان 2: 322.
2- التبيان 4: 175.
3- مجمع البيان 2: 322.

ص: 126

لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة، فلوكان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه هذا الاستغفار أصلًا فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبّر عنه بالأب مجازاً، و ذلك لم يستغفر له بعدالموت، وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغاير؛

و من الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم بأن هذه دالة على أنّه شافهه بالغلظة والجفاء ومشافهة الأب بالجفا لايجوز» (1).

وقد بيّن الفخر الرازي كذلك هذا الاستدلال في (التفسير الكبير)، الجزء (24)، صفحة (174)، والجزء (13)، صفحة (38).

أمّا السيوطيّ، فقد أورد في تفسيره ما يلي:

«أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبي جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السّدي قال: اسم أبيه تارخ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ»، قال: ليس آزر أباه ... وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس ... يقول: إنّ أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر، وإنّما اسمه تارخ» (2).

واستدلّ الحلبيّ أيضاً في سيرته بالآية الشريفة: «وتَقَلُّبَك فِي السَّاجِدِينَ» على إيمان آباء النبيّ صلى الله عليه و آله، حيث قال:

«لا يقال: يعارض جعل الساجدين عبارة عن المؤمنين أنّ من جملة آبائه آزر والد إبراهيم وكان كافراً لأنا نقول: أجمع أهل الكتابين على أن آزر كان عمّه، والعرب تسمّي العم أباً، كما تسمي الخالة أمّاً، فقد حكى اللَّه عن يعقوب أنّه قال:

آبائي إبراهيم وإسماعيل، ومعلوم أنّ إسماعيل إنما هو عمّه».

ثمّ بيّن الحلبيّ أنّ إبراهيم كان قد استغفر لأبيه في أواخر عمره، ممّا يدلّ على أنّ (آزر) لم يكن أباً لإبراهيم (3).


1- تفسير روح البيان 7: 195.
2- الدر المنثور 3: 23.
3- السيرة الحلبية 1: 29.

ص: 127

الروايات المخالفة

نقل مُسلم في صحيحه حادثةً، حيث قال: «سأل أحد أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله عن وَضع أبيه الكافر، فأجاب النبيّ صلى الله عليه و آله: «إنّ أبي وأباك في النار» (1).

وذُكر حمّاد بن سلمة ضمن سلسلة سند تلك الروايات، وهو شخص قال عنه علماء الرّجال الكثير فيما يتعلّق بحفظه ودقته في نقل الرواية، وقالت عنه جماعة:

«وقع في أحاديثه مناكير دسّها ربيعة في كتبه» (2).

أمّا المشكلة الأخرى التي توجد في هذه الرواية، فهي أنّه، وبموجب هذا الحديث، يُعتبر كلّ الذين عاشوا في ما يُسمى ب (الفترة) من أصحاب النار، في حين يقول القرآن الكريم بصراحة: «... ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (3).

وما أجمل ما أشار إليه السيوطي في أبياته الشعرية التي سنوردها في نهاية المطاف، حيث بيّن زيف ما ادّعي بكفر آباء النبيّ صلى الله عليه و آله وأنّ الجميع، سواء منهم الشافعيّة أو الأشاعرة، يؤمنون بأنّ كلّ من عاصر الفترة لم يكن اللَّه ليعذبه، بل هم مغفور لهم، لأنهم لم يتمكنوا من معرفة الوحي أو الدين الحقّ ولم تصلهم أخبار الأنبياء، وليس ذلك لإصرارهم على الكفر على الإطلاق (4).

وقد بيّن العجلونيّ كذلك هذا الاستدلال في (كشف الخفاء)، قائلًا:

لقد ذهب المتكلّمون والأشاعرة وعلماء الأصول كافّة إلى المغفرة لمن عاش قبل البعثة ومات، إضافةً إلى الأدلة الكثيرة الدالّة على إيمان أجداد النبي صلى الله عليه و آله،


1- صحيح مسلم؛ صفة الصفوة 1: 172؛ مجمع الزوائد 1: 315.
2- المصادر نفسها.
3- الإسراء: 15.
4- كشف الخفاء 1: 61.

ص: 128

وكذلك الروايات الدالّة على أنّ اللَّه يعيد أب النبي صلى الله عليه و آله وأمّه إلى الدنيا كي يؤمنوا. (1) وهناك رواية أخرى تشبه تلك، حيث ذكر بعضهم أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «أمّي وأمّك في النار» (2)، ولا حاجة بنا للجواب على هذه الرواية نظراً إلى أننا استوفينا الجواب على الرواية الأولى، فيكون الجواب على هذه الرواية واضحاً وجليّاً.

وذكر الثعالبيّ في مَعرض بيانه وتفسيره للآية الشريفة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه ...» (3)

ما شرحه: أنّ (عديّ بن حاتم) سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن وَضع أبيه (حاتم الطائي) خصوصاً أنّه كان من أهل الكرم والجود، وأنّه كان يُعيل الفقراء والمساكين والمحرومين. فأجابه النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ أباك وأبي وأبي إبراهيم الخليل في النار! فنزلت الآية الشريفة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّه ...».

وفي هذه الرواية كذلك إشكالات كثيرة في مُختلف الوجوه، وآثار الوَضع والدسّ والتحريف بائنة فيها بشكل لا يقبل الجدل.

أمّا وجوه الإشكال فيها فأولًا، وكما أورد محقق الكتاب في حاشيته، أنّ هذه الآية لا تنطبق بأيّ شكل من الأشكال على والد النبيّ صلى الله عليه و آله أو (حاتم الطائي)، لأنهما لم يكونا في عصر الإسلام حتى يُقال عنهما: كفرا وصدّا عن سبيل اللَّه، ولم يورد أيّ واحد إليهما هذا الإتهام. وواضح تماماً أنّ الآيات إنما تشير إلى مَن كان يُعاصر الإسلام وزمن البعثة النبويّة الشريفة وكانوا في صفّ الُمحاربين للَّه ولرسوله.

أمّا الأمر الثاني، فقد أثبتنا فيما سبق، وبالأدلة الدامغة، أنّ والد إبراهيم الخليل عليه السلام لا يدخل النار، وأنّ (آزر) كان جدّ إبراهيم لأمّه أو عمّه، ولهذا، فلو ثبت أصل الرواية، لجاز إطلاق لفظة (الأب) على العمّ، وهو أبو لهب.

وتوجد هناك روايات أخرى بهذا الصدد تمّ ذكرها في الكتب بالتفصيل، وجرى عليها البحث والنقاش، ولم نوردها هنا خوفاً من الإطناب.

لكن مما يُثير العجب، أنّ الفرق والأديان جميعاً تسعى إلى بيان فضائل ومناقب الأنبياء وكذلك الأشخاص الذين تعتبرهم أولياء للَّه سبحانه، وتبالغ في تحسين صورهم، وحتى المحدثين المسلمين يسعون في كتب الفضائل وخاصة ما


1- المصدر نفسه.
2- مجمع الزوائد 1: 313.
3- الجواهر الحسان 3: 194.

ص: 129

يتعلق منها بالصحابة، بالذود عن مناقبهم واستنكار واستهجان الطعن بهم، لكننا مع ذلك نجد طائفةً أخرى تنسب العيب الأكبر- وهو الشرك والكفر- إلى أجداد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، رغم وجود الأدلة والشواهد التي تفنّد ذلك، وتجاهد في سبيل إثبات ذلك على أولئك الأطهار. بل وإنّ البعض يكتفي بالنقل عن بعض المؤرّخين لإثبات إيمان الحنفاء، من أمثال ورقة بن نوفل ونظرائه. والحق أنّه ليس هناك ما يُمكن قوله بشأن مخالفة كلّ تلك الأدلة والشواهد، والإصرار على مُعاندة الحقيقة فيما يتعلّق بإيمان آباء الرسول صلى الله عليه و آله. وأيّ دليل أو برهان يمتلكه من لا يُقرّ لأولئك بالإيمان؟

وأخيراً، نورد الأبيات الشعريّة الرائعة التي أنشدها العالم السنيّ الكبير (جلال الدين السيوطي)، والتي يؤكّد من خلالها على إيمان أجداد الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، مُشيراً كذلك إلى الأدلة المتعلّقة بتلك المسألة، ومُجيباً على بعض التّهم والافتراءات حول ذلك.

وأمّا الأبيات الشعريّة فهي:

إن الذى بعث النبي محمداً أنجى به الثقلين مما يجحف

و لا وأبيه حكم شائع أبداه أهل العلم فيما صنّفوا

فجماعة أجروهما مجرى الذي لم يأته خير الدعاء المسعب

و الحكم فيمن لم تجئه دعوة أن لا عذاب عليه حكم مؤلف

فبذاك قال الشافعية كلهم و الشعرية ما بهم متوقف

و بسورة الإسراء فيها حجة و بنحو ذا في الذكر آي تعرف

و لبعض أهل الفقه في تعليله معنى أرقّ من النسيم وألطف

إذ هم على الفقر الذي ولدوا ولم يظهر عنادٌ منهم وتخلّف

و نحا الإمام الفخر رازي الورى معنى به للسامعين تشنف

قال الأولى ولدوا النبي المصطفى كل على التوحيد إذ يتحفف

هو من آدم إلى أبيه عبداللَّه ما فيهم أخو شرك ولا مستنكف

فالمشركون كما بسورة توبة نجس وكلّهم بطهرٍ يوصف

ص: 130

و بسورة الشعراء فيه تقلّب في الساجدين فكلّهم متحنف

هذا كلام الشيخ فخرالدين في أسراره هطلت عليه الأزرف

فجزاه رب العرش خير جزائه و حباه جنات النعيم تزخرف

فلقد تديّن في زمان الجاهلية فرقة دين الهدى وتفوا (1)

و جماعة ذهبوا إلى إحيائه أبويه حتى آمنا لا خوفوا

هذا مسالك لو تفرد بعضها لكفى فكيف لها إذا تتآلف

و بحب من لا يرتضيها صمة أدباً ولكن أين من هو منصف


1- نقلًا عن كتاب كشف الخفاء، العجلوني.

ص: 131

سيرة المصطفى صلى الله عليه و آله

حسن الحاج

«اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (1).

لقد بعث اللَّه سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه و آله رحمةً للناس جميعًا «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ». (2) «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً...» «3»(3).

وختم اللَّه به الأنبياء والرسل

«ما كانَ مُحَمَّدٌ أَباأَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ...» (4).

وقضى ببقاء واستمرار رسالته إلى نهاية الدنيا وحلول يوم القيامة. كما أن الرسول محمداً صلى الله عليه و آله هو اللبنة الأخيرة في مشروع البناء العظيم الذي يمثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لبناته. وقد أخبر صلى الله عليه و آله بأنه اللبنة الأخيرة وأنه الذي ختمت


1- الأنعام: 124.
2- الأنبياء: 107.
3- سبأ: 28.
4- الأحزاب: 40.

ص: 132

به الأنبياء والرسل، حيث قال: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأجمله إلا موقع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (1).

إن اختيار الرسول محمد صلى الله عليه و آله للرسالة كان بمشيئة اللَّه تعالى الذي خلق الناس جميعًا، وهو العليم بذواتهم وخصائص كل منهم فوقع اختياره على عبده ذي الخصائص والملاكات المناسبة لرسالته تعالى دون غيره من العالمين، يقول تعالى في كتابه المجيد:

«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (2).

يقول الآلوسي في تفسير هذه الآية: إنّ منصب الرسالة ليس مما ينال مما يزعمون من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب، وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها اللَّه تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده.

ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقول به الفلاسفة؛ لأنه سبحانه إن شاء أعطى وإن شاء أمسك، وإن استعدّ المحل (3).

لهذا فقد اختار اللَّه لدينه الذي ختم به كل رسالاته مكاناً ملائماً، واختار لحمله خير أمة أخرجت للناس، كما اختار أعظم رجالها رسولًا ونبياً صلى الله عليه و آله بملاكات وخصائص جعلته خير من يتلقى الوحي ويبلغه للناس ويتحمل في سبيل ذلك كل اضطهاد وعنت، كما هي سنّة اللَّه مع كل رسالاته ورسله..

ولولا أن النبوة اصطفاء وإحسان لقلنا إن الرسل بصفاتهم يستحقونها كسباً، لكنّ جمهور المسلمين أجمعوا على أن الرسالة لا تكتسب فلا بد أن يخلق اللَّه لها استعدادًا خاصًا عند صاحبها بحيث يجعله أهلًا لحملها وإبلاغها، وبعد ذلك يصطفيه للرسالة.. (4)


1- صحيح البخاري، المناقب، باب خاتم النبيين 2: 270.
2- القصص: 68.
3- الآلوسي، روح المعاني 8: 122.
4- الدكتور أحمد غلوش، الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها: 114.

ص: 133

لقد خلقه اللَّه وهيأه وكفل اللَّه له التربية السليمة حتى يكون أهلًا لتحمّل أمانة الرسالة وتبليغها، وحتى يصطفيه اللَّه تعالى مرّ بمرحلتين: مرحلة نشأة وتهيئة، ومرحلة تكليف وإبلاغ.

وأنا، وقبل أن أتحدث هنا في هذه المقالة عن عوامل استعداد الرسول صلى الله عليه و آله لحمل الرسالة الخاتمة وإبلاغها إلى الناس كافة، أقول: وإن كان لهذه العوامل أثر في بناء الرسول صلى الله عليه و آله روحياً ونفسياً وجسمياً وبناء ملاكاته- كما يذكرون- إلا أن الإعداد الرباني المختصّ به دون العالمين والصناعة السماوية الخاصة له أيضاً دون العالمين والعناية الفائقة به من قبل اللَّه تعالى دون العالمين، يبقى كلّ هذا هو الأساس في بنائه وهو العامل الرئيس في إعداده؛ لأنه النبي المعد والرسول المهيؤ لحمل الأمانة العظمى والرسالة الكبرى التي تحتاج إلى إناء خاص وبوتقة تصهرها فيه ويصهرها هو الآخر، فيكون النموذج التطبيقي الأول لها والمبلغ الأول لها والمسؤول عنها مسؤولية كاملة أمام اللَّه وأمام الناس جميعاً، ولا يحصل هذا إلا مع توفر الصفات والمقومات التي تضفيها السماء عليه...

ص: 134

ومع هذا، فإن هذه المقالة تتعرض لتلك العوامل المؤثرة في بنائه صلى الله عليه و آله حتى نكون على علم بما يتوفر عليه صلى الله عليه و آله من أصل ونسب كريم ونشأة حسنة وخصائص طيبة، صاغت مرحلة نشأته وبنائه النفسي والجسمي أيضاً:

نسبه وأصله

كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من بني هاشم، وهم سادات قريش وأشرافها، وقد عرفوا أنهم سلالة طيبة وعائلة كريمة.. امتازوا على غيرهم من قبائل العرب بخصائص فريدة وشمائل نادرة تركت بصماتها عليه صلى الله عليه و آله.

ولعلماء الوراثة كلام يدور حول تأثر كل شخص بما يحمله نسبه من خصائص جسمية وعقلية وفكرية وعقيدية...

«ولا تكون الوراثة عاملًا هامًا في نقل الصفات الحسية فحسب، وإنما كذلك عن طريقها تنتقل الصفات الأدبية كالأمزجة والميول والغرائز، والصفات العقلية كالذكاء والبلادة وحسن تقدير الأمور أو سوء أو شدة الانتباه أو ضعفه إلى غير ذلك من صفات يكون لها الأثر الأقوى في تكوين أخلاق المرء وتكييفها وطبعها بطابع معيّن خيراً كان ذلك الطابع أو شراً حسناً أو قبيحاً».

روت أم المؤمنين عائشة أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخل عليها مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: «ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إنّ بعض هذه الأقدام من بعض» (1).

وهو الذي تدل عليه الآية: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (2).


1- الدكتور محمد البيطار، في العقيدة والأخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع: 240؛ وصحيح البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي 2: 272.
2- نوح: 26- 27.

ص: 135

وابن كثير في تفسير هذه الآية يقول: أي فاجراً في الأعمال كافر القلب، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلّاخمسين عاماً..

«فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» (1).

و قوله صلى الله عليه و آله: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء».

على الفطرة: على معرفة اللَّه فليس هناك واحد إلا ويقرّ بأن له صانعاً وإن سماه بغير اسمه أو عبد غيره.

جدعاء: مقطوعة الأطراف (2).

وبهذا يثبت أنّ الولد يتأثر بأبويه من ناحية الجسم والبنية، والعقل والذكاء، والفكر والعقيدة، قليلًا أو كثيراً، سلباً أو إيجاباً، وذلك بإرادة اللَّه وقدرته.

إذا عرف هذا ننظر إلى نسب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومدى تأثره به.

لقد هيأت العناية الربانية سلسلة ممتازة من الآباء والأجداد للنبي صلى الله عليه و آله ليرث منها أدباً عظيماً وشمائل جميلة...

وقد وردت في هذا المضمار نصوص كثيرة تدل على أنّ نسب النبي صلى الله عليه و آله هو أفضل النسب.

ففي تفسير الآية: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» (3).

عن مجمع البيان:... وقيل: معناه وتقلبك في أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبياً عن ابن عباس في رواية عطا وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه صلوات اللَّه عليهما، قالا: في أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى


1- الروم: 30.
2- صحيح مسلم، كتاب القدر، باب: كل مولود على الفطرة 4: 2047؛ و غريب الحديث لابن الجوزي 2: 199؛ و النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1: 247.
3- الشعراء: 219.

ص: 136

أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم..

وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».

وقد أشار النووي إلى أنّ بني هاشم أفضل العرب لا يدانيهم في الأفضلية إلّا بنو المطلب، مستدلًا بهذا الحديث (1).

ويقول المبارك فوري عند شرحه لهذا الحديث: قوله: «إن اللَّه اصطفى» أي اختار. يقال: استصفاه واصطفاه، إذا اختاره وأخذ صفوته، والصفوة من كل شي ء خالصه وخياره (2).

وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«إنّ اللَّه خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم وخير الفريقين، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة، ثم خص البيوت فجعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم نفساً وخيرهم بيتاً» (3).

أي: أصلًا، إذ جئت من طيّب إلى طيب إلى صلب عبد اللَّه بنكاح لا سفاح (4).

وشهادة أعدائه دليل على مكانته صلى الله عليه و آله عند قومه، فقد ورد في قصة أبي سفيان وهو مشرك ومن ألد أعدائه آنذاك مع هرقل ملك الروم عندما وجّه هذا الأخير لأبي سفيان عدداً من الأسئلة حول الرسول صلى الله عليه و آله ونسبه وكان من بينها:

كيف نسبه فيكم؟

قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب.

ثم قال هرقل في آخر القصة: سألتك عن نسبه فذكرت أنّه فيكم ذو نسب


1- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه و آله 4: 1782؛ والترمذي في سننه، أبواب المناقب عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه و آله 5: 245؛ وشرح النووي على صحيح مسلم 15: 36.
2- تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي 10: 74.
3- أخرجه الترمذي في سننه في أبواب المناقب، باب ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه و آله، انظر 5: 244.
4- انظر: تحفة الأحوذي 10: 76.

ص: 137

فكذلك تبعث الرسل في أنساب قومها.. (1) يقول النووي: أي في أفضل أنسابهم (2)

ومما يدلّ على ذلك أيضاً ما جاء على لسان مفوّض مشركي قريش عتبة بن أبي ربيعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حيث قال عند افتتاح كلامه مع الرسول: يا ابن أخي إنّك منّا حيث قد علمت من السطة- أي عن أوساطهم حسباً ونسباً، أو الشرف- في العشيرة، والمكان في النسب...

وتشهد هاتان القصتان بما للرسول صلى الله عليه و آله من منزلة عظيمة في النسب عند قومه لإقرار أعدائه وأعداء رسالته حيث لم يستطيعوا أن يخفوا هذه الحقيقة مع أنهم كانوا يتهمونه بتهم باطلة، مرة بالسحر، ومرة بالجنون، ومرة بالشعر والكهانة. ومع هذا لم ينقل إلينا عن أحدهم تهمة واحدة يقدحون بها الرسول صلى الله عليه و آله من جهة النسب، كما أن النصوص الأخرى التي أوردناها تدل على أن العرب أفضل الناس من ناحية النسب، وأنّ الرسول صلى الله عليه و آله من أفضلها نسباً. فقد كان صلى الله عليه و آله من سلالة ذرية طيبة وعائلة كريمة وأسرة نبيلة في الصفات والخصائص صالحة في أخلاقها وسيرتها، محمودة في خصالها، رفيعة في شمائلها، متميّزة في رجالها وسيادتها، فبنو هاشم سادة قريش، بل سادة الدنيا، فهم كما يقول الجاحظ: «ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسرّ كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...» (3)

حقاً هذه سنّة اللَّه في اختيار رسله جميعاً كما جاء في قول هرقل السابق.

يقول الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: الظاهر أن إخبار هرقل


1- صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 1: 8؛ وصحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه و آله إلى هرقل ليدعوه إلى الإسلام 3: 1394؛ واللفظ للبخاري.
2- شرح النووي على صحيح مسلم 12: 105.
3- انظر: زهرة الآداب: 59.

ص: 138

بذلك بالجزم كان على العلم المقرّر في الكتب السالفة.

والحكمة في ذلك- كما قال النووي- أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له؛ لأن الناس يأنفون من الانقياد إلى رجل وضيع من جهة، وكذلك الوضيع لا تسوّل نفسه له قيادة الناس من جهة أخرى (1).

ولهذا كان لنسب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذي الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة تأثير كبير ورائع على شخصيته تارة وعلى قومه أخرى..

وقول عمّه أبي طالب لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما أراد إظهار دعوته وكان هذا في السنة الرابعة من البعثة النبوية المباركة يلقي الضوء الساطع على منزلة نسبه:

يا ابن أخي! إنك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً، واللَّه لا يسلقك لسان، إلا سلقته ألسنٌ حداد، واحتدمته سيوف حداد، واللَّه لتذلنّ لك العرب، ولقد كان أبي يقرأ الكتب جميعاً، ولقد قال: إن من صلبي لنبياً، لوددت أنّي أدركت ذلك فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

كما أن لرضاعته في بني سعد آثاره عليه صلى الله عليه و آله، فبنو سعد قبيلة معروفة عند العرب في طيبتها وسموّ خلقها، وقد أسلم أبوه من الرضاعة على يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو الحارث بن عبد العزى.. حينما قدم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمكة حين أنزل عليه القرآن، فقالت له قريش: ألا تسمع يا حارث ما يقول ابنك هذا؟

فقال: وما يقول؟

قالوا: يزعم أن اللَّه يبعث الناس بعد الموت، وأن للَّه دارين يعذب فيهما من عصاه ويكرم من أطاعه، فقد شتت أمرنا وفرّق جمعنا.

فأتاه فقال: أي بني، مالك ولقومك يشكونك، ويزعمون أنّك تقول: إن الناس


1- انظر في هذا كله: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4: 91: وحسّن الألباني هذه القصة في تعليقه على فقه السيرة للغزالي. انظر هامش الصفحة: 113؛ وفتح الباري شرح صحيح البخاري 1: 36؛ وشرح النووي على صحيح مسلم 12: 35.

ص: 139

يبعثون بعد الموت، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أنا أزعم ذلك، ولو قد كان ذلك اليوم ياأبت لقد أخذت بيدك حتى أعرفك حديثك اليوم.

فأسلم الحارث بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان يقول حين أسلم: لو قد أخذ ابني بيدي فعرفني ما قال لم يرسلني إن شاء اللَّه حتى يدخلني الجنة.

«هذا النسب له أثره في رسول اللَّه وكان له أثر فيمن يبلّغهم رسول اللَّه شريعةاللَّه، أمّا أثره في رسول اللَّه فقد شبّ عليه الصلاة والسلام مرفوع الرأس رغم يتمه لا يعرف الذل ولا الخنوع، جريئاً في إعلان رأيه، تملأ الثقة نفسه، أما أثره فيمن دعاهم رسول اللَّه إلى الإيمان والانضواء تحت راية الإسلام فإن أكبر شخصية في العرب لا تجد غضاضة من الانضواء تحت راية الإسلام، وقبول محمد صلى الله عليه و آله رسولًا وحاكماً؛ لأنهم يعترفون بأن محمداً صلى الله عليه و آله من أعرق بيوت قريش نسباً» (1).

إن هذا لأمر واضح وإن من يعارضه من قومه لم يكن ذلك لأصله و لنسبه، ولا طعناً أو رفضاً لشخصيته، وإنما المعارضة مبنية لردع ما يدعوهم إليه.

«فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (2).

ومما يؤيد ذلك ما جاء على لسان أبي جهل عدو اللَّه وعدو رسوله، إذ قال للنبي صلى الله عليه و آله: قد نعلم يا محمد أنك تصل الرحم وتصدق الحديث ولا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به فأنزل اللَّه عز وجل:

«قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (3).

إذن، فالممانعة القرشية ورفضها وعنادها، لم يكن موجهاً لشخص الرسول صلى الله عليه و آله ولا لخلقه وأدبه وسيرته فيهم، بل كان موجهاً إلى ما حمله من رسالة


1- انظر: محمد قلعت، التفسير السياسي للسيرة.
2- الأنعام: 33.
3- المصدر نفسه، وانظر: الحاكم، المستدرك 2: 315؛ وابن كثير، تفسير القرآن العظيم 4: 91.

ص: 140

وما جاء به من دعوة وما طالبهم به من الدين، وهو ما يدل عليه ما ذكرناه من آيات وأقوال وما يفيده منطوق قول أبي جهل السابق.

لقد عرضوا عليه كل شي ء: المال والجاه والسلطان والسيادة والملك والمغريات الأخرى إن ترك دعوته هذه ودينه هذا كلياً أو جزءاً منه كحل وسط..

وهذا قوله صلى الله عليه و آله لعمه أبي طالب رداً على ما قدمته قريش له من دنيا:

«يا عم، واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه، أو أهلك فيه، ما تركته..».

وأما ماعرضه عتبة بن ربيعة موفد قريش على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:... وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قل يا أبا الوليد أسمع.

قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا، حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا...

حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يستمع منه قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟

قال: نعم.

قال: فاسمع مني.

قال: أفعل.

فراح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقرأ له سورة فصّلت: «حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ* وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ...»

ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها منه عتبة، أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى

ص: 141

السجدة منها، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك (1).

فعاد من حيث أتى بعد أن خاب مسعاه كما خابت جهودهم من قبل وباءت بالفشل الذريع..

إن عرض هذه الأمور عليه يدل على اعترافهم بسموّ مكانته النَّسَبية عندهم ورفعة أخلاقه وهو يتيم بني هاشم، وهو الصادق الأمين كما يعرفونه، لهذا قدموا له كل ذلك ومنها السيادة عليهم، وإلا فهم يأنفون- كما عرف عنهم ذلك- أن يخضعوا للوضيع مهما كان الأمرالذي يتمسك به، وخاصة إذا جاء بأمر يخالف عاداتهم وتقاليدهم، مثل ما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الدين الحنيف والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك والأوثان، وما كان سائداً في مجتمع مكة من عادات قذرة وتقاليد جاهلية ومظالم..

نشأته وتربيته

هناك مراحل كثيرة مرّت بها حياة الرسول صلى الله عليه و آله قبل بعثته نبياً ورسولًا، أشارت إليها آيات من سورة الضحى، وهي نعم عظيمة حظي بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى» «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» «وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى»

فبعد أن ولد النبي صلى الله عليه و آله عام الفيل، ولد يتيماً حيث مات أبوه وهو في بطن أمّه وقيل: إنه مات بعد ولادته بمدة قليلة، وقد سخّر اللَّه له جده عبد المطلب فآواه ورباه، ثم ماتت أمّه وهو ابن ست سنوات، ولهذا لم يتنعم بحنين الأبوين، و مات جده عبد المطلب وهو ابن ثمانِ سنوات.. (2) وبعد وفاة جده عبد المطلب، قيّض اللَّه له عمه أبا طالب وهو أخو والده


1- السيرة النبوية 1: 293- 294.
2- انظر: سيرة ابن هشام 1: 156، وما بعدها.

ص: 142

عبد اللَّه لأمه وأبيه، فأحسن تربيته وراح يبذل كل ما في وسعه في رعايته في زمن طفولته وشبابه، وكذلك بعد البعثة حيث دافع عنه دفاعاً عظيماً أمام ضغوط قريش ومؤامراتهم. وهناك معنى آخر في الآية «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى»: ألم يجدك واحداً مثيل لك في شرفك وفضلك فآواك إلى نفسه واختصّك برسالته، من قولهم درة يتيمة إذا لم يكن لها مثيل قال:

لا ولا درة يتيمة بحر تتلالأ في جؤنة البياع

الجؤنة: سلة مستديرة مغشاة أدماً يجعل فيها الطيب والثياب.

وقيل: فآواك أي جعلك للأيتام بعد أن كنت يتيماً وكفيلًا للأنام بعد أن كنت مكفولًا، عن الماوردي..

«وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» فيها أقوال سبعة يذكرها صاحب مجمع البيان، نكتفي بأربعة منها:

وجدك ضالًا عما أنت عليه الآن من النبوة والشريعة، أي كنت غافلًا عنهما فهداك إليهما.. ونظيره «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا اْلإِيمانُ» (1).

وقوله «وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» فمعنى الضلال على هذا هو الذهاب عن العلم، مثل قوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اْلأُخْرى».

ثانياً: وجدك متحيراً لا تعرف وجوه معاشك فهداك إلى وجوه معاشك...

ثالثاً: وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه بإتمام العقل ونصب الأدلة والألطاف حتى عرفت اللَّه بصفاته بين قوم ضلال مشركين...

رابعاً: وجدك ضالًا في شعاب مكة فهداك إلى جدك عبد المطلب، فروي أنه صلى الله عليه و آله ضلّ في شعاب مكة وهو صغير فرآه أبو جهل وردّه إلى جده عبد المطلب، فمنّ اللَّه سبحانه بذلك عليه، إذ ردّه إلى جده على يد عدوه، عن ابن عباس.

رابعاً: وجدك مضلولًا عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك


1- الشورى: 52.

ص: 143

وأرشدهم إلى فضلك والاعتراف بصدقك، والمراد إنك كنت خاملًا لا تذكر ولا تعرف فعرفك اللَّه حتى عرفوك وعظموك.

«وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى»

أي فقيراً لا مال لك، فأغناك بمال خديجة والغنائم، وقيل: فأغناك بالقناعة ورضاك بما أعطاك، عن مقاتل. واختاره الفراء قال: لم يكن غنياً عن كثرة المال لكن اللَّه سبحانه أرضاه بما آتاه من الرزق وذلك حقيقة الغنى... (1) فبعد أن واجه صلى الله عليه و آله حياة كدح صعبة وشاقة حيث عاش طفولته يتيماً وشبابه فقيراً، هداه اللَّه تعالى فاتجه إلى غار حراء للعبادة و ترك قومه وما يعبدون من دون اللَّه...

فلقد كان صلى الله عليه و آله في صباه يشتغل برعاية الغنم كما هو سنّة الأنبياء، وقد ثبت أنه صلى الله عليه و آله كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط، وهو صلى الله عليه و آله القائل: «ما بعث اللَّه نبياً إلّا ورعى الغنم».

فقال له أصحابه: وأنت؟


1- الطبرسي، مجمع البيان، الآية.

ص: 144

فقال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».

قراريط: مفردها قيراط وهو جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشر في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين. والياء فيه بدل الراء فإن أصله من قراط (1).

فكان صلى الله عليه و آله يعتمد على نفسه في فترة مبكرة من عمره الشريف. وإضافة إلى عمله هذا كان مع عمّه أبي طالب إلى الشام للتجارة.

أخرج الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: «خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه و آله في أشياخ من قريش، فلمّا أشرفوا على الراهب هبط فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب...» (2).

هذا ما ورد في فترة صباه.

وأمّا بعد بلوغه، فقد ورد أيضاً أنّه كان صلى الله عليه و آله يذهب إلى الشام للتجارة بأموال خديجة (رضي اللَّه عنها) قبل اقترانه بها.

يقول ابن إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشي ء وتجعله لهم، وكانت قريش قوماً تجاراً، فلما بلغها عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما بلغها من صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام (3).

فقام صلى الله عليه و آله بوظيفته في تجارة السيدة خديجة خير قيام حتى كانت سبباً في زواجه


1- انظر النهاية في غريب الحديث 4: 42؛ و صحيح البخاري في كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط 2: 3233.
2- سنن الترمذي 5: 520.
3- سيرة ابن هشام 1: 178- 188.

ص: 145

إياها إثر رجوعه من ذلك السفر بعدما عرضت نفسها عليه بناءاً على ما رأته فيه من صدق وأمانة، وما سمعته من ميسرة في شأن الرسول صلى الله عليه و آله من خيرٍ طوال مرافقته له في تلك الرحلة الميمونة.

يقول ابن كثير في السيرة: «فلمّا أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إنّي قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك [أي شرفك] في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، فلمّا قالت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ذكره لأعمامه فخرج معه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام. وبعد اقترانه صلى الله عليه و آله بخديجة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها استغنى بمالها عن الكسب والضرب في الأرض؛ لأنّه لم يرد في كتب السيرة أنّه زاول نشاطاً اقتصادياً بعد ذلك، بل ورد أنّه كان يذهب إلى غار حراء ليتعبد فيه فترة يرجع بعدها إلى خديجة ليتزوّد بمثلها، حتى جاءه الملك بأول آيات من القرآن، وهي صدر العلق من قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» (1)

إلى قوله تعالى: «عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (2).

عن عائشة أنّها قالت: «أول ما بدئ رسول اللَّه من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: إقرأ.. إلى قوله: «عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (3).

قال قتادة في هذه الآيات: «كانت هذه هي منازل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل أن


1- العلق: 1.
2- العلق: 5.
3- السيرة النبوية 1: 263؛ وأخرجه البخاري في صحيحه: باب بدء الوحي على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 1: 6.

ص: 146

يبعثه اللَّه عز وجل» (1).

وقد ذكر أكثر المفسرين هذه المراحل التي مرّ بها الرسول صلى الله عليه و آله عند تفسيرهم هذه الآيات من سورة الضحى، إلّا أنهم يذكرون في كل مرحلة عدة أقوال محتملة ومعان متقاربة لا يتسع لذكرها هذا المقام؛ لأن القصد هنا ليس ذكر أقوال المفسرين قاطبة وإنّما ذكر ما يشير إلى هذه المراحل.

سيد قطب في معنى هذه الآيات يقول: «لقد ولدت يتيماً فآواك إليه وعطف عليك القلوب.. ولقد كنت فقيراً فأغنى اللَّه نفسك بالقناعة كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك خديجة (رضي اللَّه عنها) عن أن تحسّ الفقر أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء. ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد منحرفة السلوك والأوضاع فلم تطمئن روحك إليها ولكنّك لم تكن تجد لك طريقاً واضحاً مطمئناً، لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرّفوا وبدّلوا وانحرفوا وتاهوا، ثم هداك اللَّه بالأمر الذي أوحى به إليك وبالمنهج الذي يصلك به.

والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنّة الكبرى التي لا تعدلها منّة، وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق، ومن التعب الذي لا يعدله تعب، ولعلها كانت بسبب مما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعانيه في هذه الفترة من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب، فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه، وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه...» (2).

ويفهم من تفسير سيد قطب للآيات الثلاث من سورة الضحى كغيره من


1- تفسير ابن كثير 4: 523.
2- سيد قطب، في ظلال القرآن، الآيات.

ص: 147

المفسّرين أن المراحل الثلاث ليست على ترتيب الآيات من المصحف، حيث إنّ مرحلة الإغناء مقدمة على مرحلة الهداية.

يقول الدكتور محمد عزت دروزة ملخصاً ما ذكره المفسرون في هذا الصدد:

«إن الآية تحتوي إشارة إلى حادث تيهان وقع للنبي صلى الله عليه و آله في طفولته أو في إحدى رحلاته، ورووا في ذلك روايات كما قالوا: إنّها تعني أنّه كان غافلًا عن الشريعة التي لا تتقرر إلا بالوحي الرباني، أو أنّه كان حائراً في أسلوب العبادة للَّه، ونفوا عنه أي حال أن يكون ضالًا، أي مندمجاً في العقائد والتقاليد الشركية والنفس لا تطمئن إلى رواية تيهان النبي صلى الله عليه و آله مضموناً وسنداً، بل إنّها ليست متسقة مع ما تضمّنته الآية من منّ اللَّه على النبي صلى الله عليه و آله بأعظم أفضاله عليه، وتفسير ضال بحائر يحمل معنى الآية على أن المقصود الحيرة في الطريق التي يجب أن يسار فيها إلى اللَّه وعبادته على أفضل وجه. وهو المعنى الذي نراه» (1).

ويبدو أن هناك حكمة فيما مرّ به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مراحل، وهي أنّ اللَّه سبحانه وتعالى كان يربّيه ويدربه حتى يستطيع أن يتحمل عب ء الرسالة الخاتمة وشؤونها وإبلاغها إلى الناس الذين دبّ الفساد في كل مفصل من مفاصل حياتهم وصدق قوله تعالى:

«ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» (2).

يقول صاحب كتاب «دراسة في السيرة» مشيراً إلى الحكمة من تلك المراحل:

«ومن مرارة اليتم ووحشية العزلة وانقطاع معين العطف والحنان قبس الرسول صلى الله عليه و آله الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل... وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيداً عن ترف الغنى وميوعة الدلال.. وعبر رحلته إلى الشام في رعاية عمّه فتح الرسول صلى الله عليه و آله عينيه ووعيه تجاه العالم الذي يتجاوز حدود الصحراء وسكونها إلى حيث المجتمعات المدنية التي تضطرب نشاطاً وقلقاً... وفي رحلته الثانية إلى الشام مسؤولًا عن تجارة للسيدة خديجة تعلّم الرسول الكثير الكثير، عمّق في حسّه معطيات المرحلة الأولى وزاد عليها إدراكاً أكثر لما يحدث في أطراف عالمه العربي من علاقات بين الغالب والمغلوب... كما علّمه الانشقاق الأخلاقي عن


1- محمد عزت دروزة، سيرة الرسول صلى الله عليه و آله: 32.
2- الروم: 41.

ص: 148

الوضع المكي القدرة على مجابهة الأحداث» (1).

والآن لا بد لنا من التحدث عما يتوفر عليه صلى الله عليه و آله من شمائل وصفات انبهر بها مناوئوه قبل أحبائه وأعداؤه قبل أصدقائه، وقد جعلت منه نموذجاً ربانياً رائعاً:

صفاته وأخلاقه

نشأ الرسول صلى الله عليه و آله في محيط جاهلي وبيئة وثنية تعبد فيها الأصنام والأوثان، ويستعبد القوي منهم الضعيف حتى أصبح الظلم أمراً مألوفاً وشيئاً معروفاً، وهو ما تحمله قصائدهم كقول زهير بن أبي سلمى في الصفحة 88 من ديوانه:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم

هذا إضافة إلى عاداتهم الفاسدة وسلوكهم السي ء كوأدهم البنات خوفاً من العار والفقر، وأكلهم أموال اليتامى بحجة أنهم ضعفاء لا قدرة لديهم على حمل السلاح والدفاع عن الأهل والعشيرة، وأكلهم الربا واستحلاله حتى اختلط عندهم البيع والربا ولا يفرقون بينهما «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا» (2).

وهذا الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه يصف بدقة للنجاشي ملك الحبشة أثناء الهجرة الثانية إلى الحبشة المجتمعَ المكي آنذاك فيقول:

«أيها الملك! كنّا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسبي الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، حتى بعث اللَّه إلينا رسولًا منّا نعرف نسبه وأمانته وعفافه، فدعا إلى توحيد اللَّه وأن لا نشرك به شيئاً، ونخلع ما كنّا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل أموال اليتيم...» (3).


1- الدكتور عماد الدين خليل، دراسة في السيرة: 4749، بتصرّف قليل.
2- البقرة: 275.
3- انظر: سيرة ابن هشام.

ص: 149

هذا وضع الساحة المكية يوم ذاك، وقد حفظ اللَّه تعالى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أن يتأثر بأحوال مجتمعه مع أنه شارك مع قومه في بعض الأعمال.

أنشطته صلى الله عليه و آله

هناك أعمال اشترك فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع قومه قبل بعثته، أنشطة لا تخدش نبله و لا تسي ء إلى سمعته وأخلاقه الطيبة:

1- حلف الفضول

اشترك صلى الله عليه و آله قبل البعثة في حلف الفضول الذي وقع بين بطون من قريش لدفع الظلم وردّ المظالم إلى أهلها. يروي ابن هشام بسنده عن ابن إسحاق قال:

«تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد اللَّه بن جُدعان لشرفه وسنّه... فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا في مكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممّن دخلها من سائر الناس إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته، فسمّت قريش ذلك الحلف حلف الفضول» (1).

سمي هذا الحلف بالفضول إما نسبةً إلى الأشخاص المتحالفين الثلاثة الذين سمي كل واحد منهم بالفضل أو للسبب الذي من أجله تحالفوا، وهو أن ترد الفضول على أهلها (2).

ويقول ابن كثير بعد إيراده ذلك الحلف: «وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب وكان أوّل من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب» (3).


1- انظر حوله ما جاء في سيرة ابن هشام.
2- انظر السيرة النبوية لابن كثير.
3- السيرة النبوية 1: 259.

ص: 150

وعلى هذا فكان اشتراكه صلى الله عليه و آله في ذلك الحلف شيئاً مهماً جداً، لأنّ ردّ المظالم إلى أهلها من الأمور المحببة وقد جاء بها الإسلام فيما بعد؛ ولهذا أثنى الرسول صلى الله عليه و آله كما نسب إليه، على ذلك الحلف بعد البعثة:

«لقد شهدت في دار عبد اللَّه بن جُدعان حلفاً ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت» (1).

2- حرب الفجار:

اشترك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع قومه في حرب الفِجار التي وقعت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان، وكان عمره صلى الله عليه و آله عشرين سنة كما ذكر ابن إسحاق صاحب السيرة..

وسببها كما ذكر ابن هشام في سيرته: أنّ عروة الرحال بن عتبة من هوازن أجار لطيمة (2) للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة: أتجيرها في كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق، فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض لطلب غفلته، حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض، فقتله في الشهر الحرام؛ فلذلك سمي حرب الفجار.

وكان دوره صلى الله عليه و آله في تلك الحرب أن يردّ على أعمامه نبل عدوهم إذا رموهم بها؛ وقد نسب إليه أنه قال: «كنت أنبل على أعمامي» (3).

وكان هناك مبرر لاشتراكه، وهو أنّ القتال لم يكن جائزاً في الأشهر الحرم يومذاك، حتى أنّهم إذا أرادوا القتال في الأشهر الحرم أخّروها إلى شهرٍ آخر لكي يستحلوا فيها القتال، كما بينها اللَّه سبحانه وتعالى في القرآن معيباً عليهم:

«إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّه» (4).


1- انظر سيرة ابن هشام.
2- اللطيم تحمل العطر والبزّ غير الميرة، انظر: النهاية في غريب الحديث 4: 251.
3- انظر سيرة ابن هشام 1: 168- 169، بتصرف. وانظر السيرة النبوية لابن كثير 1: 256.
4- التوبة: 37.

ص: 151

وعلى هذا فما دامت تلك الحرب دفاعاً عن انتهاك حرمة الأشهر الحرم فلا بأس في اشتراكه صلى الله عليه و آله فيها.

وقد أقرّ اللَّه ذلك في قوله تعالى:

«إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» (1).

3- وضع الحجر الأسود:

قام صلى الله عليه و آله بوضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة حين بناء قريش لها بعد ما اختلفت بطونها في ذلك، حيث كانت كل قبيلة تريد أن تنفرد بمزية وضع الحجر الأسود في مكانه، وكادوا أن يقتتلوا لولا مجي ء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحكمه فيهم حكماً يرضي كل الأطراف المتنازعة على ذلك.

عن عبد اللَّه بن السائب قال: كنت فيمن بنى البيت وأخذت حجراً فسوّيته ووضعته إلى جنب البيت.. وأن قريشاً اختلفوا في الحجر حيث أرادوا أن يضعوه حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف فقال: اجعلوا بينكم أوّل رجل يدخل من الباب، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: هذا الأمين وكانوا يسمّونه في الجاهلية الأمين، فقالوا: يا محمد! قد رضينا بك، فدعا بثوب فبسطه ووضع الحجر فيه ثم قال لهذا البطن، ولهذا البطن، غير أنّه سمى بطوناً: «ليأخذ كل بطن منكم بناحية من الثوب»، ففعلوا ثم رفعوه وأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فوضعه بيده (2).

وما قام به صلى الله عليه و آله يدل على مدى فطانته ورجاحة عقله؛ حيث حلّ المشكلة بسهولة ويُسر بعدما كادت أن تؤدي إلى إسالة الدماء والحرب، كما أنّه يدل على


1- التوبة: 36.
2- انظر: الحاكم، المستدرك 1: 458.

ص: 152

مكانته صلى الله عليه و آله عند قومه بحيث إنّهم رضوا بحكمه دون تردّد.

هذه أهم الأعمال التي اشترك فيها قبل البعثة مع قومه، وهي ترفع مكانته وشأنه بين أهله وعشيرته، لأنها من أعالي الأمور ومن مكارم الأخلاق، خصوصاً أن بيئته انتشر فيها الفساد و الرذائل التي عصمه اللَّه سبحانه وتعالى منها وأبعده عنها لينشأ خالياً من الدنايا والشوائب.

وقد عثرت على رواية يرويها أبو نعيم في دلائله، بسنده عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمّون بها إلا مرتين كلتاهما يعصمني اللَّه عز وجل منها، قلت ليلةً لفتى من قريش بأعلى مكة في أغنام لأهلنا نرعاها: أنظر غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان. قال: نعم، فخرجت فجئت أدنى دار من دور مكة فسمعت غناء وضرب دفوف وزمراً، فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسّ الشمس ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مسّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: فواللَّه ما هممت بعدهما بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني اللَّه بنبوّته» (1).

ولكن مع ما في نفسي من هذه الرواية، إلا أنها تدل بشكل واضح على نزاهته صلى الله عليه و آله عن قضايا الجاهلية وأمورها التي كانت سائدةً في المجتمع المكي بعناية من اللَّه سبحانه، وبجانب ذلك كان صلى الله عليه و آله متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة أقرّ له بها المؤيدون والمعاندون على السواء.

وقد أوجزت لنا خديجة أم المؤمنين (رضي اللَّه عنها) صفاته وأخلاقه بقولها بعد فزعه إليها من شدة بدء الوحي:


1- أبو نعيم، دلائل النبوّة: 54؛ والهيثمي، مجمع الزوائد 8: 226.

ص: 153

«كلا، أبشر فواللَّه لا يخزيك اللَّه أبداً، فواللَّه إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل (العيال والثقل) وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (1).

وتكسب المعدوم، يقال: فلان يكسب المعدوم إذا كان مجذوذاً محظوظاً أي يكسب ما يحرمه غيره، وقيل: أرادت- أي خديجة رضي اللَّه عنها- تكسب الشي ء المعدوم الذي لا يجدونه مما يحتاجون إليه، وقيل: أرادت بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته كالمعدوم نفسه (2).

وفي مكارم الأخلاق- نقلًا من كتاب النبوة- عن علي عليه السلام أنه كان إذا وصف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه».

وخديجة (رضي اللَّه عنها) أقرب شخصية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله تصفه بهذه الصفات بناء


1- ابن الجوزي، غريب الحديث 2: 293.
2- غريب الحديث 3: 191- 192؛ وصحيح البخاري في كتاب التفسير، باب تفسير سورة العلق 3: 218.

ص: 154

على تجربة دقيقة وممارسة طويلة ابتداء من ائتمانها له أن يتاجر في مالها ثم اقترانها به ومعاشرته فترةً تبلغ خمس عشرة سنة.

وشهادة من علي عليه السلام هي الأخرى من لسان أقرب شخص لازمه حياته المباركة، يتعلم منه ويأخذ عنه ويتربى بين يديه منذ نعومة أظفاره..

وعن ابن عباس رضي اللَّه عنه قال: لما نزلت:

«وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ» (1)،

خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى صعد الصفا، فهتف «يا صباحاه»، فقالوا: من هذا؟

فاجتمعوا إليه، فقال:

«أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلًا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا:

ما جربنا عليكَ كذباً، قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»، قال أبو لهب:

تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام، فنزلت:

«تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» (2).

ففي قولهم: ما جربنا عليك كذباً دليل واضح على اتصافه صلى الله عليه و آله بالصدق التام قبل الرسالة بشهادة أعدائه الذين وقفوا في وجه دعوة السماء على يديه المباركتين.

إنها شهادة من المؤمنين بدعوته صلى الله عليه و آله وهي شهادة حق وصدق أقرّ بها وبحقيقتها من لم يتبعوا الرسول صلى الله عليه و آله ويؤمنوا بدعوته؛ فقد صدرت من مجموع المشركين ومثلها صدرت من أفرادهم، وقد قالها أبو سفيان وهو مشرك عند هرقل ملك الروم الذي وجّه إليه عدة أسئلة تتعلق بأحوال الرسول صلى الله عليه و آله من بينها قول هرقل:

«فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟» قلت: لا، ثم قال هرقل في آخر القصة لأبي سفيان:

«وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فزعمت أن لا،


1- الشعراء: 214.
2- انظر مكارم الأخلاق وصحيح البخاري، كتاب التفسير باب تفسير سورة: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» 2: 222؛ وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اْلأَقْرَبِينَ» 1: 194.

ص: 155

فعرفت أنّه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على اللَّه» (1).

تلك شهادة المؤمنين والخصوم، تنطق صريحةً في أنّ الرسول صلى الله عليه و آله لم يكذب أبداً قبل البعثة، بل كان صادقاً دائماً.

والصدق أساس الفضائل الأخلاقية وعنوان الإنسانية الكريمة، وقد انطبعت شخصية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بها بفضل من اللَّه تعالى ورحمة. وهكذا بقية الصفات الأخلاقية ومنها الأمانة.

وخير ما يدلّ على ذلك قصة وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة أثناء تجديد بنائها، حينما اختلفت قريش في ذلك حيث أتفقوا على تحكيم أول رجل يدخل من الباب فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكانوا يسمّونه في الجاهلية الأمين، فقالوا:

«قد دخل الأمين، فقالوا: يا محمد! رضينا بك» (2).

وهذه شهادة صدرت من مجموع المشركين وإن لم يكن بينه وبينهم عداوة حين نطقوا بذلك القول؛ لأنّ ذلك كان قبل البعثة، إلا أنّها تشهد على اتصافه صلى الله عليه و آله بالأمانة حتى أصبحت لقباً له.

وعلى هذا نجزم أن الرسول صلى الله عليه و آله كان متصفاً بصفات فاضلة وأخلاق حميدة قبل البعثة اعترف بها أعداؤه وآمن بها أصحابه مع شيوع الظلم والعدوان وسوء الأخلاق في المجتمع المكي يومذاك. وذلك بفضل اللَّه وعنايته ورعايته.

أخلاقه بعد البعثة

وأمّا بعد البعثة فقد كان خُلُقه صلى الله عليه و آله القرآن كما ورد في حديث عائشة أم المؤمنين حيث قالت: «... فإن خلق نبي اللَّه صلى الله عليه و آله كان القرآن».

وهذه الأخلاق الكريمة كانت سبباً في تقريب قلوب أصحابه رضوان اللَّه


1- انظر صحيح البخاري، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول صلى الله عليه و آله 1: 8، وصحيح مسلم في كتاب الجهاد، باب كتابه صلى الله عليه و آله إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام 3: 1394.
2- الحاكم، المستدرك 1: 458.

ص: 156

عليهم له، ولولا اتصافه بها لما تمكّن من تأثير دعوته عليهم وخاصة في أيامها الأولى في مكة.

وقد أشار اللَّه سبحانه وتعالى إلى تأثير اتصافه صلى الله عليه و آله بالأخلاق الفاضلة على أصحابه بقوله تعالى:

«فَبَما رَحْمَةٍ مِن اللَّه لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» (1).

وكما أن الأخلاق الفاضلة لها تأثير كبير على الأصحاب، كذلك أيضاً لها تأثير كبير على الأعداء، كما يدل عليه قوله تعالى:

«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (2).

وقد شهد اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه و آله بالخلق العظيم بقوله:

«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (3).

وعن علي عليه السلام قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول: بعثت بمكارم الأخلاق ومحاسنها.

والإمام علي عليه السلام يتحدث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويصفه كما في نهج البلاغة:

كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفةً أحبه، لم أر قبله ولا بعده مثله.

وقال عنه أيضاً: «فأعرضَ عن الدنيا بقَلبه، وأمات ذكرَها عن نفسه، وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينيه لكيلا يتخذ منها ريشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس وأشخصها عن القلب وغيّبها عن البصر. وكذلك


1- آل عمران: 159.
2- فصلت: 34- 35.
3- القلم: 4.

ص: 157

من أبغض شيئاً أن ينظر إليه وأن يُذكرَ عنده».

وقال عنه أيضاً:

«كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأكل على الأرض، ويجلس جِلسَة العبد، ويخصفُ بيدِهِ نَعله، ويرقّع ثوبَه، ويركبُ الحمارَ العاري، ويردفُ خلفه، ويكون الستر على بابه فيكون عليه التصاويرُ فيقول: يا فلانة!- لإحدى زوجاته- غيِّبيه عنّي، فإني إذا نَظَرْتُ إليه ذكرتُ الدنيا وزخارفها..».

هذا وقد كان له آداب تفرّد بها مع خالقه ومع نفسه ومع زوجاته ومع أصحابه وعامة الناس ومع النساء ومع الصبيان والضعفاء وخادمه ومناوئيه... تحدثت عنها وعن صفاته الكثير من الروايات، وهذه طاقة جميلة منها، وكل آدابه جميلة جليلة رائعة:

منطقه صلى الله عليه و آله

كان صلى الله عليه و آله متواصل الأحزان، دائم الفكر ليس له راحة، طويل الصمت لا يتكلّم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، يتكلّم بجوامع الكلم فصلًا لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين، يعظم عنده النعمة وإن دقّت، لا يذم منها شيئاً غير أنه كان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا تغضيه الدنيا وما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شي حتى ينتصر له، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجّب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، فضرب راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وانشاح، وإذا غضب غضّ طرفه، جلّ ضحكه التبسم، يفتر عن مثل حب الغمام.

قال الصدوق: إلى هنا رواية القاسم بن المنيع عن إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد، والباقي رواية عبد الرحمن إلى آخره: قال الحسن عليه السلام: فكتمتها الحسين عليه السلام زماناً ثم حدثته به فوجدته قد سبقني إليه فسألته عنه فوجدته قد سأل أباه عليه السلام عن مدخل النبي صلى الله عليه و آله ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئاً.

ص: 158

قال الحسين عليه السلام: «قد سألت أبي عليه السلام عن مدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: كان دخوله في نفسه مأذوناً له في ذلك، فإذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء:

جزء للَّه، وجزء لأهله، وجزء لنفسه، ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس، فيرد ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدخر عنهم منه شيئاً».

لسانه صلى الله عليه و آله

وسألته عن مخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف كان يصنع فيه؟ فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخزن لسانه إلا عما كان يعنيه، ويؤلّفهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم و يوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم، من غير أن يطوى عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عن الناس ويحسّن الحسن ويقويه، ويقبّح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا ويميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، أفضلهم عنده أعمّهم نصيحةً للمسلمين، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنهم مواساة وموازرة.

مجلسه صلى الله عليه و آله

قال عليه السلام: فسألته عن مجلسه صلى الله عليه و آله فقال: كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، لا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحد من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف، من سأله حاجة لم يرجع إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه خلقه فصار لهم أباً، وكانوا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصدق وأمانة، ولا ترفع فيه الأصوات، ولا يؤبن فيه الحرم، ولا تثنى فلتاته، متعادلين، متواصلين فيه بالتقوى متواضعين، يوقّرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.

ص: 159

فصاحته صلى الله عليه و آله

كان صلى الله عليه و آله أفصح الناس منطقاً وأحلاهم... وكان يتكلّم بجوامع الكلم، لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضاً، بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه، كان جهير الصوت أحسن الناس نغمة.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع ربِّه

يقول أميرالمؤمنين علي عليه السلام: كان لا يُؤثر على الصلاة عشاءً ولا غيرَه، وكان إذا دخل وقتها كأنّه لا يعرف أهلًا ولا حميماً.

وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أيضاً: كان إذا تثاءب في الصلاة ردَّها بيده اليمنى.

وعن الحسين بن علي عليه السلام: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبكي حتى يبتلّ مصلّاه خشيةً من اللَّه عزَّ و جلَّ من غير جُرمٍ..

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يصلّي من التطوُّع مِثلَي الفريضة، ويصوم من التطوُّع مِثْلَي الفريضة.

وعن عائشة: كان يحدّثنا ونحدّثه فإذا حضرتِ الصلاةُ فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرِفه.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان لا يُؤثرُ على صلاة المغرب شيئاً إذا غربت الشمس، حتى يُصلِّيها.

وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: كان إذا رأى ما يحبُّ قال: الحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

وكان يتضرع عند الدعاء حتى يكاد يسقطُ رداؤه.

وعن عائشة: كان يذكر اللَّه تعالى على كل أحيانه.

وكان ينتظر وقت الصلاة ويشتدُّ شوقُه ويترقب دخوله، يقول لبلال: أرحنا يا بلال.

ص: 160

وقال أبو أمامة: كان إذا جلس مجلساً فأراد أن يقوم استغفرَاللَّه عشرة إلى خمس عشر مرة.

وكان لا يجلس ولايقوم إلّا على ذكر اللَّه جلّ اسمه.

وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوبٌ ملقى.

وعن حذيفة: كان إذا حزبه أمر صلّى.

وكان إذا مرّ بآية خوفٍ تَعَوَّذَ، وإذا مرّ بآية رحمةٍ سأل، وإذا مرّ بآيةٍ فيها تنزيه اللَّه سبَّح.

وكان يقول: قرة عيني في الصلاة و الصوم.

وعن عائشة: كان إذا صلّى صلاة أثبتها.

وقال أبوبكرة: كان إذا جاءهُ أمر يُسَرُّ به خرَّ ساجداً شكراً للَّه.

وعن أنس خادم النبي: كان أكثر دعوة يدعو بها: «ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار».

وعن عائشة: كان إذا دخل شهر رمضان تغيَّر لونه وكثرت صلاته، وابتهل في الدعاء، وأشفق لونه.

وعن ابن أبي رواد: كان إذا شهد جنازة أكثر الصُّمات وأكثر حديث نفسه..

وعن ابن عباس: كان إذا شهد جنازة رؤيت عليه كآبة، وأقلَّ الكلام وأكثر حديث النفس.

ويقول أبو هريرة: «كان أكثر ما يصومُ يوم الإثنين والخميس، فقيل له: لماذا؟

قال: الأعمال تُعرض كلّ إثنين وخميس، فيُغفَرُ لكل مسلم إلّا المتهاجرَيْن، فيقول: أخِّروهما.

وعن عائشة: كان لا يدعُ قيام الليل، وكان إذا مرضَ أو كسلَ صلّى قاعداً.

وعنها: كان لايقرأُ القرآن في أقلّ من ثلاث.

وعن ابن مسعود: كان لايكون في المُصلين إلّا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلّا كان أكثرهم ذكراً.

ص: 161

وعن أنس: كان لا ينزل منزلًا إلّا وَدعَهُ بركعتين.

وعن البراء بن عازب: كان لا يصلي مكتوبةً إلّا قنتَ فيها.

كان صلى الله عليه و آله عبداً رسولًا

عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يذكر أنه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ملك فقال: إن اللَّه يخيّرك أن تكون عبداً رسولًا متواضعاً أو ملكاً رسولًا.

قال: فنظر إلى جبرئيل وأومأ بيده أن تواضع فقال: عبداً رسولًا متواضعاً، فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربك شيئاً، قال: ومعه مفاتيح خزائن الأرض.

وعن الحسن بن علي عن أبيه علي عليهما السلام في خبر طويل: «وكان صلى الله عليه و آله يبكي حتى يبتلّ مصلاه خشية من اللَّه عزوجل من غير جرم..».

وكان صلى الله عليه و آله يبكي حتى يغشى عليه فقيل له: أليس قد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ وكذلك كان غشيان علي بن أبي طالب وصيّه في مقاماته.

ولما نزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً» (1).

اشتغل رسول اللَّه- كما عن أبي سعيد الخدري- بذكر اللَّه حتى قال الكفار: إنه جنّ.

وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتوب إلى اللَّه في كل يوم سبعين مرة، قلت: أكان يقول: أستغفراللَّه وأتوب إليه؟ قال: لاولكن كان يقول: أتوب إلى اللَّه، قلت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتوب ولا يعود، ونحن نتوب ونعود، قال: اللَّه المستعان.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع نفسه

عن عائشة: كان خُلُقهُ القرآن.

وعن أبي سعيد: كان أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها..


1- الأحزاب: 41.

ص: 162

وعن عائشة: كان أبغضُ الخُلقِ إليه الكذب.

وعن عائشة: كان إذا عمل عملًا أثبته.

وعن ابن عمر: كان لا يأكلُ متكئاً.

وعن أنس: كان لا يدّخر شيئاً لغدٍ.

وعن بريدة: كان لا يتطيَّر ولكن يتفاءلُ.

وعن عائشة: كان لا يرقُدُ من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوَّك..

وعن جابر بن سمرة: كان لا يضحك إلا تبسّماً.

وعن جابر بن سمرة: كان لا ينبعث في الضحك.

وعن ابن عمر: كان لا ينام إلّا والسّواك عند رأسه، فإذا استيقظ بدأ بالسواك.

وعن أم عياش: كان يحفي شاربه.

وعن عائشة: كان يعجبه الريحُ الطيبة.

وعن إبراهيم: كان يُعرَف بريح الطيب إذا أقبلَ.

وعن أبي هريرة: كان يقلّم أظفارَه ويقصّ شاربَه يوم الجمعة قبل أن يروح إلى الصلاة.

ويقول أبو سعيد: كان إذا تغدّى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد.

ويقول أبو الدرداء: كان إذا حدّث بحديث تبسَّم في حديثه.

و يقول الإمام جعفرالصادق عليه السلام: كان ينفق على الطِّيب أكثر مما ينفقُ على الطعام.

و عن حفصة: كان فراشه مسحاً.

وعن ابن عباس: كان فيه دعابة قليلة.

وكان لا يأكل الثوم والبصل والكراث.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع زوجاته

يقول أبو ثعلبة: كان إذا قدِم من سفَر بدأ بالمسجد فَصلّى فيه ركعتين، ثم يُثنّي بفاطمة، ثم يأتي أزواجه.

ص: 163

وعن حابس: كان يأمر نساءه إذا أرادت إحداهُنَّ أن تنامَ أن تحمد ثلاثاً وثلاثين، وتسبّح ثلاثاً وثلاثين، وتكبّر ثلاثاً و ثلاثين.

وعن عائشة: كان إذا خلا بنسائه ألينَ الناس، وأكرم الناس، ضَحّاكاً بسّاماً..

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يحلب عنزَ أهله.

وعن عائشة: كان إذا دخل بيته بدأ بالسِّواكِ.

وعن أنس: كان رحيماً بالعيال.

وعن عائشة وأم سلمة: كان يخيط ثوبَه ويخصفُ نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم.

وعن عائشة: كان يعمل عمل البيت وأكثر ما يعمل الخياطة.

وعن عائشة: كان يَقسِمُ بين نسائه فيعدل..

وكان يقرع بين نسائه إذا أراد سفراً.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع أصحابه

يقول أبوذر: كان يجلس بين ظهرانيّ أصحابه فيجي ءُ الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى النبي أن يجعل مجلساً يعرفُه الغريبُ إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبيه.

وعن أنس: كان إذا لقيه أحدٌ من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجلُ هو الذي ينصرفُ عنه، و إذا لقيه أحدٌ من أصحابه فتناول يده

ص: 164

ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكونَ الرجلُ هو الذي ينزعُها عنه.

و إن كان ليصافحه الرجلُ فما يتركُ رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله يدَه حتى يكونَ هو التاركُ، فلما فَطِنوا لذلك كان الرجلُ إذا صافحَهُ مالَ بيده فنزعَها من يده.

وعن علي عليه السلام قال: ما صافح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحداً قط فنزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، وما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه أحد قط الحديث فيسكت حتى يكون هو الذي يسكت، وما رئي مقدماً رجله بين يدي جليس له قط.

وعن قرة بن إياس: كان إذا جلس جلس إليه أصحابه حَلَقاً حَلَقاً.

وعن أنس: كان إذا فقَد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام، سأل عنه فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زارَه وإن كان مريضاً عاده.

وكان يتجمّل لأصحابه فضلًا عن تَجَمّله لأهله.

وعن جندب: كان إذا لقي أصحابَه لم يصافحهم حتى يُسلّمَ عليهم.

وعن عائشة: كان إذا بلغه عن الرّجل، لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقول: ولكن كان يقول: ما بال أقوامٍ يقولون: كذا وكذا.

وعن أنس: كان لا يأخذ بالقَرف ولا يقبَل قول أحدٍ على أحدٍ.

وعن حذيفة: كان إذا لقيه الرجلُ من أصحابه مسَحَهُ و دَعا له.

وعن جارية الأنصاري: كان إذا لم يحفظ اسم الرجل قال: يا ابن عبد اللَّه.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: كان يقسّم لحظاتِه بينَ أصحابه فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسويّة.

و لم يبسط رجليه بين أصحابه قط.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يداعب و لا يقول إلا حقاً.

وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: كان يَستشيرُ أصحابَه ثم يعزمُ على ما يريدُ.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يداعب الرَّجل يريد به أن يسرّه.

ص: 165

وعن أنس: كان صلى الله عليه و آله يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم و استمالةً لقلوبهم، ويكنّي من لم يكن له كنية فكان يُدعى بما كنّاه به.

وعن أنس: كان لا يدعوه أحد من أصحابه و غيرهم إلا قال: لبيك.

وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: كان ليسرّ الرجل من أصحاب إذا رآه مغموماً بالمداعبة، وكان صلى الله عليه و آله يقول: إن اللَّه يبغض المعبِّس في وجه إخوانه.

وعن زيدبن ثابت: كنّا إذا جلسناإليه صلى الله عليه و آله إن أخذنا في حديث الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشرابِ أخَذَ معنا.

وسأل الإمام الحسين أباه الإمام علياً عليه السلام: كيف كانت سيرته صلى الله عليه و آله في جلسائه؟

كان صلى الله عليه و آله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهى، فلا يؤيس منه ولا يخيب منه مؤمليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجى ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده الحديث، من تكلّم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوّلهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه حتى أن كان أصحابه يستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد كلامه حتى يجوز فيقطعه بنهي أو قيام.

وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقسّم لحظاته بين أصحابه؛ فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، قال: ولم يبسط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجليه بين أصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده.

وفي المكارم قال:

كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه.

ص: 166

مداعبته صلى الله عليه و آله

وعن يونس الشيباني قال: قال لي أبو عبد اللَّه عليه السلام: كيف مداعبة بعضكم بعضاً؟ قلت: قليلًا.

قال: هلّا تفعلوا؟ فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لتدخل بها السرور على أخيك، ولقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يداعب الرجل يريد به أن يسرّه.

وعن الصادق عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا وفيه دعابة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يداعب ولا يقول إلا حقاً.

وفي الكافي بإسناده عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام فقلت:

جعلت فداك، الرجل يكون مع القوم فيمضي بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟

فقال: لا بأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش.

ثم قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يأتيه الأعرابي فيأتي إليه بالهدية، ثم يقول مكانه: أعطنا ثمن هديتنا، فيضحك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكان إذا اغتمّ يقول: ما فعل الأعرابي، ليته أتانا.

سكوته صلى الله عليه و آله

قال: فسألته عن سكوت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال عليه السلام: كان سكوته صلى الله عليه و آله على أربع:

على الحلم والحذر والتقدير والتفكير: فأما التقدير ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكّره ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر فكان لا يغضبه شي ولا يستفزه، وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسن ليقتدى به، وتركه القبيح لينتهى عنه، واجتهاده الرأي في صلاح أمته، والقيام فيما جمع له خير الدنيا والآخرة.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع الناس جميعاً

قد وسع الناسَ منه خُلُقُهُ فصارَ لهم أباً، وصاروا عنده في الخَلق سواء، مجلسُه مجلسُ حلمٍ وحياء وصدق وأمانة، لاتُرفَعُ عليه الأصوات، ولا تؤبَنُ فيه الحُرَم،

ص: 167

ولا تُثَنى فلتاتُه، مُتعادلين، متواصلين فيه بالتقوى، متواضعين، يوقِّرون الكبيرَ، ويَرحمون الصَّغير، ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.

كان إذا ودّع المؤمنين قال: «زوّدكم اللَّه التقوى ووجّهكم إلى كل خير، وقضى لكم حاجة، وسلّم لكم دينكم ودنياكم وَرَدّكم إليَّ سالمين».

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخزن لسانه إلّا عمّا كان يعنيه، ويؤلفهم ولا ينفّرهم، ويُكرمُ كريمَ كلّ قوم ويوليه عليهم، ويحذَرُ الناس ويحترسُ منهم من غيرِ أن يطوي عن أحدٍ بِشره ولا خُلُقه

ويتفقَّد أصحابَه.

ويسأل الناسَ عمّا في الناس،

ويحسّنُ الحسنَ ويقوّيه،

ويقبّحُ القبيحَ ويوهنُه،

معتدلَ الأمر غير مختلف فيه،

لايغفَل مخافةَ أن يغفلوا ويميلوا.

ولا يقصّرُ عن الحقِ ولا يجوِّزُهُ.

الذين يَلُونه من الناسِ خيارُهم.

وأعظمهُم عنده منزلةً أحسنُهم مواساةً وموازرة،

كان لا يجلس ولا يقومُ إلّا على ذكرٍ.

لا يوطّن الأماكن وينهى عن إيطانها.

وإذا انتهى إلى قومٍ جَلَسَ حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك.

ويعطي كلَّ جلسائه نصيبَه، ولا يحسب أحدٌ من جلسائه أنَّ أحداً أكرمُ عليه منه.

مَن جالسَهُ صابره حتى يكونَ هو المنصرف.

مَن سأله حاجةً لم يرجع إلّا بها، أو ميسورٍ مِنَ القول.

ويقول أبو واقد: كان أخفَّ الناس صلاةً على الناس، وأطول الناس

ص: 168

صلاةً لنفسه.

وعن عبد اللَّه بن بسر: كان إذا أتى باب قومٍ لم يستقبل الباب من تلقاءِ وجههِ، ولكن من ركنِه الأيمن أو الأيسر، ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم.

وعن عكرمة مرسلًا: كان إذا أتاه رجلٌ فرأى في وجهِه بشراً أخذ بيدِهِ.

وعن عقبة بن عبد: كان إذا أتاه الرجل وله الاسمُ لا يحبُّهُ حوّلَه.

وعن عوف بن مالك: كان إذا أتاه الفي ءُ قسَّمه في يومه فأعطى الآهِلَ حظّين وأعطى العَزَبَ حظاً.

وعن أبي موسى: كان إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بَشِروا ولا تُنَفِّروا، ويَسِّرُوا ولا تُعَسّروا.

وعن عائشة: كان يُغيّر الاسمَ القبيحَ.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يخرج في مَلأ من الناس من أصحابه كلِّ عشيّةِ خميسٍ إلى بقيع المدنيين، فيقول ثلاثاً: السلام عليكم يا أهلَ الديار- وثلاثاً- رحمكم اللَّه.

وعن أنس: كان رحيماً ولا يأتيه أحدٌ إلّا وَعَدَ وأنجز له إن كان عنده.

وعن جابر: كان يتخلّف في السير فيزجي الضعيفَ ويردفُ، ويدعُو لهم.

وعن ابن عباس: كان إذا دخلَ على مريض يعوده قال: لا بأس، طهورٌ، إن شاء اللَّه.

ويقول أبو هريرة: كان إذا عطسَ وَضَعَ يده أو ثوبه على فيه وخفّض بها صوته.

وكان أصبر الناس على أقذار الناس.

وعن ابن عمر: كان إذا صلّى بالناس الغداةَ أقبلَ عليهم بوجهه، فقال: هل فيكم مريضٌ أعودُه؟ فإن قالوا: لا، قال: فهل فيكم جنازةٌ أتبعُها؟

وعن حنظلة بن حذيم: كان يحبُّ أن يُدعى الرجل بأحبّ أسمائِه إليه وأحبّ كناه.

ص: 169

وعن ابن عمر: كان يكرهُ أن يَطَأ أحدٌ عقِبَهُ ولكن يمينٌ وشمالٌ.

وعن أنس: كان ينزلُ من المنبر يوم الجمعة فيكلّمُهُ الرجل في الحاجة فيكلّمُه، ثم يتقدمُ إلى مصلّاه فيصلّي.

وعن أنس: كان لا يواجهُ أحداً بشي ء يكرهُه.

وعن الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام: كان يحمِّلُ الناس من خَلفه ما يطيقون.

وكان يُؤثر الداخلَ عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عَزَم عليه حتى يفعل.

وكان لا يدع أحداً يمشي مَعه إذا كان راكباً حتى يحمله معه، فإن أبى، قال:

تقدَّم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان من رأفته صلى الله عليه و آله لأمّته مداعبته لهم لكيلا يبلغ بأحد منهم التعظيمُ حتى لا يُنظَرَ إليه.

وكان يقول: لا يبلّغُني أحدٌ منكم عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحِبُّ أن أخرج إليكم وأنا سليمُ الصدر.

وعن أنس: كان إذا بايعه الناس يُلَقنهم: فيما استطعتُ.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع الصبيان

عن الإمام محمد الباقر عليه السلام: كان يسمع صوتَ الصبي يبكي وهو في الصلاة فيخفف الصلاة فتصير إليه أمُه.

وعن أنس: كان إذا اتي بباكورة الثمرة وضعَها على عينيه ثم على شفتيه، وقال:

اللّهم كما أريتَنا أوّلَه فأرنا آخره، ثم يعطيه مَن يكونُ عنده مِن الصبيان.

وكان إذا يؤتى بالصغير ليَدعوَ بالبركة، أو يسمّيه، فيأخذُه فيضعُه في حجره تكرمةً لأهله، فربما بالَ الصبيُ عليه فيصيحُ بعضُ من رآه حين يبول، فيقول صلى الله عليه و آله:

لا تَزرِمُوا بالصبيّ، فيدعُه حتى يقضي بولَه، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميَته ويبلغُ

ص: 170

سرورُ أهلِه فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيّهم، فإذا انصرفوا غَسَلَ ثوبه.

وعن أنس: كان أرحمَ الناس بالصبيان والعيال.

وعن عبد اللَّه بن جعفر: كان إذا قدم من سفر تُلقّيَ بصبيان أهل بيته.

وعن أنس: كان يزور الأنصار ويسلّم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم.

وعن أنس: كان يمرُّ بالصبيان فيسلّم عليهم.

وعن عائشة: كان يؤتى بالصبيان فيبرّكُ عليهم ويحنِّكُهُم ويدعُو لهم.

وعن أنس: كان يكنّي الصبيان فيستلين به قلوبَهم.

وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: كان إذا أصبح مَسَحَ على رؤوس ولده، و ولد ولده.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع النساء

وعن جرير: كان يمرّ بنساءٍ فيسلّم عليهن.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان يسلّم على النساء ويردُّون عليه السلام.

وعن أنس: كان يكنّي النساء اللاتي لَهُنَّ الأولاد، واللاتي لم يلدنَ.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع ضعفاء الناس

عن أمية بن عبد اللَّه: كان يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين.

ويقول أبو سعيد وأبن أبي أوفى: كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشى مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي حاجته.

وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: كان آخر كلامه: «الصلاة، الصلاة، اتقوا اللَّه فيما ملكت أيمانكم».

وعن سهل بن حنيف: كان يأتي ضعفاء المسلمين ويزوّرهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.

وعن ابن عباس: كان يجلس على الأرض، ويعتقل الشاة، ويجيبُ دعوة

ص: 171

المملوك على خبزِ شعير.

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كان إذا أكلَ مع القوم طعاماً كان أوَّلَ من يضعُ يَدَه، وآخرَ من يرفعُها ليأكلَ القومُ.

وعن عبد اللَّه بن سنان عن أهل البيت عليهم السلام: كان يذبح يوم الأضحى كبشين أحدهما عن نفسه والآخر عمّن لم يجد من أمَّتِهِ.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع خادمه

عن أنس قال: خدمت النبي صلى الله عليه و آله تسع سنين فما أعلم أنه قال لي قط: هلا فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب علي شيئاً قط.

وقال أيضاً: والذي بعثه بالحق ما قال لي في شي قط كرهه: لم فعلته؟ ولا لامني نساؤه إلا قال: دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر.

كان مما يقولُ للخادم: ألك حاجة؟

وأجاب الإمام علي عليه السلام عن سؤال الإمام الحسين عن سيرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع أهل الفضل: وكان من سيرته صلى الله عليه و آله في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بأدبه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألته عنهم، وبإخبارهم بالذي ينبغي، ويقول: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يقدر على إبلاغ حاجته، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يقدر على إبلاغها ثبّت اللَّه قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره، يدخلون رواداً، ولايفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة.

أدبُه صلى الله عليه و آله مع أعدائه ومناوئيه

ويقول عمرو بن العاص: كان يُقْبِلُ بوجهه و حديثه على شر القوم يتألَّفه بذلك.

ص: 172

وعن عمر بن علي عن أبيه عليه السلام قال: كانت من أيمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا وأستغفر اللَّه.

وفي إحياء العلوم:

كان صلى الله عليه و آله إذا اشتدّ وجده أكثر من مسّ لحيته الكريمة.

سخاؤه

وكان صلى الله عليه و آله أسخى الناس لا يثبت عنده دينار ولا درهم، وإن فضل شي ولم يجد من يعطيه وفجأ الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ مما آتاه اللَّه إلا قوت عامه فقط، من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل اللَّه.

لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم يعود إلى قوت عامه فيؤثر منه، حتى أنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شي، قال: وينفذ الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه، قال: ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس، قال: لا يهوله شي من أمور الدنيا.

قال: ويجالس الفقراء، ويؤاكل المساكين، ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم، ويتألف أهل الشرف بالبرّ لهم، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، لا يجفو على أحد، يقبل معذرة المعتذر إليه.

وكان له عبيد وإماء من غير أن يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس، لا يمضي له وقت من غير عمل للَّه تعالى أو لما لا بد منه من صلاح نفسه، يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره أو زمانته، ولا يهاب ملكاً لملكه، يدعو هذا وهذا إلى اللَّه دعاءاً مستوياً.

وكان صلى الله عليه و آله أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضى، وكان أرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وأنفع الناس للناس.

وكان صلى الله عليه و آله إذا سرّ ورضى فهو أحسن الناس رضى، فإن وعظ وعظ بجد، وإن

ص: 173

غضب- ولا يغضب إلا للَّه- لم يقم لغضبه شي، وكذلك كان في أموره كلها، وكان إذا نزل به الأمر فوّض الأمر إلى اللَّه، وتبرأ من الحول والقوة، واستنزل الهدى.

من سننه وأدبه صلى الله عليه و آله في العشرة

وفي إرشاد الديلمي قال:

كان النبي صلى الله عليه و آله يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويأكل مع العبد، ويجلس على الأرض، ويركب الحمار ويردف، ولا يمنعه الحياء أن يحمل حاجته من السوق إلى أهله، ويصافح الغني والفقير، ولا ينزع يده من يد أحد حتى ينزعها هو، ويسلّم على من استقبله من غني وفقير وكبير وصغير، ولا يحقر ما دعي إليه ولو إلى حشف التمر.

وكان صلى الله عليه و آله خفيف المؤنة، كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوس، متواضعاً من غير مذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب، رحيماً بكل مسلم، ولم يتجش من شبع قط، ولم يمدّ يده إلى طمع قط.

ص: 174

وفي مكارم الأخلاق عن النبي صلى الله عليه و آله:

أنه كان ينظر في المرآة ويرجل جمته ويتمشط، وربما نظر في الماء وسوّى جمته فيه، ولقد كان يتجمّل لأصحابه فضلًا على تجمّله لأهله، وقال صلى الله عليه و آله: إن اللَّه يحب من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيأ لهم ويتجمّل.

وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خمس لا أدعهنّ حتى الممات:

الأكل على الأرض مع العبيد، وركوبي مؤكفاً، وحلبي العنز بيدي، ولبس الصوف، والتسليم على الصبيان لتكون سنّة من بعدي.

وفي الفقيه عن علي عليه السلام أنه قال لرجل من بنى سعد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة- إلى أن قال- فغدا علينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ونحن في لحافنا فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال صلى الله عليه و آله: السلام عليكم فسكتنا، ثم قال صلى الله عليه و آله: السلام عليكم فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللَّه، أدخل فدخل، الخبر.

و عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسلم على النساء ويرددن عليه، وكان أمير المؤمنين عليه السلام، يسلّم على النساء، وكان يكره أن يسلم على الشابة منهنّ، ويقول: أتخوّف أن يعجبني صوتها فيدخل عليّ أكثر مما أطلب من الأجر.

وعن عبد العظيم بن عبد اللَّه الحسني رفعه قال:

كان النبي صلى الله عليه و آله يجلس ثلاثاً: القرفصاء، وهو أن يقيم ساقيه ويستقبلهما بيده، ويشدّ يده في ذراعه، وكان يجثو على ركبتيه، وكان يثني رجلًا واحدة ويبسط عليها الأخرى، ولم ير متربعاً قط.

ولا خيّر بين أمرين إلا أخذ بأشدّهما، وما انتصر لنفسه من مظلمة حتى ينتهك محارم اللَّه، فيكون حينئذ غضبه للَّه تبارك وتعالى، وما أكل متكئاً قط حتى فارق الدنيا، وما سئل شيئاً قط فقال: لا، وما ردّ سائل حاجة قط إلا أتى بها أو بميسور من القول، وكان أخفّ الناس صلاة في تمام، وكان أقصر الناس خطبةً

ص: 175

وأقلهم هذراً، وكان يعرف بالريح الطيب إذا أقبل، وكان إذا أكل مع القوم كان أول من يبدأ وآخر من يرفع يده، وكان إذا أكل أكل مما يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده، وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس، وكان يمصّ الماء مصاً ولا يعبّه عباً، وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وعطائه فكان لا يأخذ إلا بيمينه، ولا يعطي إلا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه، وكان يحب التيمّن في جميع أموره في لبسه وتنعّله وترجله.

وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا تكلم تكلم وتراً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً، وكان كلامه فصلًا يتبيّنه كل من سمعه، وإذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، وإذا رأيته قلت: أفلج وليس بأفلج.

وكان نظره اللحظ بعينه، وكان لا يكلم أحداً بشي يكرهه، وكان إذا مشى كأنما ينحطّ في صبب، وكان يقول: إن خياركم أحسنكم أخلاقاً، وكان لا يذم ذواقاً ولا يمدحه، ولا يتنازع أصحاب الحديث عنده، وكان المحدث عنه يقول: لم أر بعيني مثله قبله ولا بعده صلى الله عليه و آله.

وهناك آداب للرسول صلى الله عليه و آله مع الجميع:

فعن أنس: وكان صلى الله عليه و آله لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك.

و عنه: ولقد كان صلى الله عليه و آله يدعو أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم، ويكنّي من لم يكن له كنية فكان يُدعى بما كنّاه به، ويكني أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن، ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم.

وكان صلى الله عليه و آله يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته، فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى يفعل.

و عن عجلان قال: كنت عند أبي عبداللَّه عليه السلام، فجاء سائل فقام عليه السلام إلى مكيل فيه تمر فملأ يده فناوله، ثم جاء آخر فسأله، فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فسأله فقام فأخذ بيده فناوله، ثم جاء آخر فقال عليه السلام: اللَّه رازقنا وإياك.

ثم قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان لا يسأله أحد من الدنيا شيئاً إلا أعطاه، فأرسلت

ص: 176

إليه امرأة إبناً لها فقالت: انطلق إليه فاسأله فإن قال: ليس عندنا شي فقل: أعطني قميصك، قال: فأخذ قميصه فرمى به- وفي نسخة أخرى فأعطاه- فأدبه اللَّه على القصد فقال: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً». وفيه روي: أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان لا يدع أحداً يمشي معه إذا كان راكباً حتى يحمله معه فإن أبى قال: تقدم أمامي وأدركني في المكان الذي تريد.

وعن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق: وجاء في الآثار: أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم ينتقم لنفسه من أحد قط بل كان يعفو ويصفح.

و كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

وفيه عن موسى بن عمران بن بزيع قال: قلت للرضا عليه السلام: جعلت فداك، إن الناس رووا أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان إذا أخذ في طريق رجع في غيره! كذا كان؟ قال:

فقال: نعم فأنا أفعله كثيراً فافعله، ثم قال لي: أما إنه أرزق لك.

و عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج بعد طلوع الشمس.

و عن عبد اللَّه بن المغيرة، عمّن ذكره قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا دخل منزلًا قعد في أدنى المجلس إليه حين يدخل.

و عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يرجل شعره، وأكثر ما كان يرجل بالماء، ويقول: كفى بالماء طيباً للمؤمن.

ص: 177

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كلمات الشعراء

سعيد المهاجر

المديح من أبواب الشعر العربي المعروفة، وتعدّ المدائح النبوية، وهي التي بدأت مع الخيوط الأولى للدعوة النبوية الخالدة وظلت وما زالت وستبقى متوهجة، من أروع فروعه وأصدقها وأجملها لفظاً وأحسنها وأثراها معنى..

لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقصداً وقبلة ومثابة لجميع الناس، مؤمنيهم ومجاهديهم وعلمائهم ومفكريهم ومثقفيهم وسياسييهم وأدبائهم وشعرائهم...

هؤلاء جميعاً ومنهم الشعراء بالذات وعلى مرّ التاريخ، قد أسرتهم شخصية نبي اللَّه العظيمة بما تتوفر عليه من خصائص عالية وشمائل جليلة وصفات جميلة ومناقب رفيعة، لا تجد نظيراً لها لدى أحد من العالمين، وكيف نجد لها نظيراً ومثيلًا وقد تولّت السماء بناءه وشيدت كيانه وصنعته كما أرادت ليكون نبياً ورسولًا وشاهداً وبشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللَّه تعالى وسراجاً منيراً...

وإذا كان الشاعر يستعين بما يشاء من مناقب تتسم بالجلالة وصفاتٍ كلها عظمة و تكريم ليردف بها أدواته الشعرية في وصف من يريد مدحه والثناء عليه، فإذا بممدوحه هذا يصبح أجمل من غزال وأبهى من شمس وأنور من قمر وأكثر منه ضياءً وأكرم من سحاب وأسخى من غمام... وهو الخالي من كل ذلك بل ومن أقل

ص: 178

منه، ولكنه الشعر.. والشعر ما أكذبه!!..

إلا أن هذا الشعر وذاك الشاعر وهذا القصيد يكون مختلفاً جداً حين يكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله موضوع القصيد، حينما يكون ممدوحهم خاتم الأنبياء وسيدَ الأنام، عندما يصبح موضوعهم ومحور أدبهم وشعرهم من وصفته السماء:

«وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (1).

وحقاً ماقالوه:

أثنى العظيمُ عليك في آياته بعظيمِ خُلقك ما أجلّ وأروعا

الناسُ إنْ مدحوا استطاروا فرحةً والمادحُ المصنوعُ ليس الصانعا

ومدحُ ربّك وهو أنفسُ مدحةٍ قد زاد فيك تعبّدًا وتواضعاً

ومهما يقول فيه الشعراء يبقى ما يقولونه- وإن علا وسما- دون وصف السماء له، ودون ما حمّلته إياه بمراتب عظيمة جداً، ودون ما يتحلى به من خلق عالٍ وسيرة عطرة وجهاد دؤوب.. ويبقى الشاعر- مهما كان قديراً- مقصّراً في وصف ما يستحقه رسول الرحمة والخير والعطاء والمغفرة.. مهما أجهد نفسه وفكره ولسانه وقلمه في مدحه صلى الله عليه و آله، ويقف الجميع وكل ما ينشدونه و يتفوّهون به شعراً أو نثراً عاجزاً عن إيفاء جزء مما يمتاز به ويتحلّى به ممدوحهم رسول السماء من آداب سامية وأخلاق عظيمة وشمائل نادرة ومواقف كبيرة وتضحيات جسام..

وعليه، فإن هذا النوع من مديحهم يأتي دائماً بعيداً عن المزاعم الكاذبة والادعاءات الباطلة، ونجده خالصاً من الشوائب والمطامع الرخيصة المرجوة من مدح سلطان أو زعيم أو ثري، بل ولا مكان فيه لزخارف الأقوال، إنه كلمات خالصة بعواطف صادقة وألفاظ دقيقة ومعاني رائعة وجمال تصوير وحسن سبك وبراعة نظم..

لهذا ولغيره، سجل هذا النوع من المديح مكانةً مرموقة ومنزلة رفيعة


1- القلم: 4.

ص: 179

ومستقلة، فهو المديح النبوي الصادق، وهي المدائح النبوية الخالصة، وهي القصائد الرائدة وكلها تنأى عن الشوائب، وتترفع عن الأقاويل، وما أكثرها في دواوين الشعر والشعراء!!

1- من مدائح النبي صلى الله عليه و آله

نقف عند مقاطع مقتبسة مما جاء من هذه المدائح والقصائد:

شعر ورقة بن نوفل

فممّا قاله ورقة بن نوفل:...

بأن محمداً سيسود فينا ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية أن تموجا

فيلقى من يحاربه خسارا ويلقى من يسالمه فلوجا

فياليتي إذا ما كان ذاكم شهدت فكنت أوّلهم ولوجا

ولوجاً في الذي كرهت قريش ولو عجت بمكّتها عجيجا

أرجى بالذي كرهوا جميعاً إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا

أبوطالب و مدح النبي صلى الله عليه و آله

وكان لأبي طالب عم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عدة قصائد في مدحه منها:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر فعبد مناف سرّها وصميمها

وإن حصلت أشراف عبد منافها ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإن محمداً هو المصطفى من سرّها وكريمها

أَنتَ الرَسولُ رَسولُ اللَّه نَعلَمُهُ عَلَيكَ نُزِّلَ مِن ذي العِزَّةِ الكُتُبُ

ص: 180

لَقَد أَكرَمَ اللَّه النَبِيَّ مُحَمَّداً فَأَكرَمُ خَلقِ اللَّه في الناسِ أَحمَدُ

وَشَقَّ لَهُ مِن اسمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذو العَرشِ مَحمودٌ وَهَذا مُحَمَّدُ

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل

يلوذ به الهلاف من آل هاشم فهم عنده في رحمةٍ وفواضل

فمن مثله في الناس أي مؤمل إذا قاسه الحكام عند التفاضل

حليمٌ رشيد عادل غير طائش يوالي إلاها ليس عنه بغافل

لقد علموا أن ابننا لا مكذّب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل

فأصبح فينا أحمد في أرومة تقصر عنه سورة المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته ودافعت عنه بالذرا والكلاكل

فأيده رب العباد بنصره وأظهر ديننا حقه غير باطل

ألا أبلغا عني على ذات بيننا لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً نبياً كموسى خط في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة ولا خير ممن خصّه اللَّه بالحب

أعشى بني قيس وشعره في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

أعشى بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، خرج إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يريد الإسلام، فقال يمدح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقصيدة (داليَّة) وقد جاء فيها:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا (1)


1- مهدد: اسم امرأة.

ص: 181

ثم يقول:

آليت لا آوي لها من كلالة ولا من حفي حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخى عند ابن هاشم تراحى وتلقى من فواضله ندى

نبياً يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغب ونائل وليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حيث أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على أن لا تكون كمثله فترصد للأمر الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنّها ولا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ولا تعبد الأوثان واللَّهَ فاعبدا

ولا تقربنّ حرّة كان سرها عليك حراماً فانكحن أو تأبداً

وذا الرحم القربى فلا تقطعنّه لعاقبة ولا الأسير المقيّدا

وسبّح على حين العشيّات والضحى ولا تحمد الشيطان واللَّه فاحمدا

ولا تسخرا من باس ذي ضرارة ولا تحسبنّ المال للمرء مخلّدا (1)

آية اللَّه الهاشمي وشوق الشاعر إلى نبي الرحمة صلى الله عليه و آله

وللسيد آية اللَّه جما ل الدين الهاشمي رائعة، راح ينظمها وهو في المدينة المنورة عام 1976 ميلادي، حين زيارة الضريح الطاهر لرسول الرحمة محمد صلى الله عليه و آله، نقتبس شيئاً منها:

أتيتك بالأشواق أطفو وأرسب وكلّي آمال وكلّك مطلب


1- السيرة النبوية 1: 386- 387.

ص: 182

ملكت على بعد الديار مشاعري فأنت إلى ذهني من الفكر أقرب

إلى أن دنت مني الديار وأصبحت قبابك في عيني تهلّ وتغرب

تلاشت حدودي في حدودك والهوى توحد أشتات به وتذوب

فعدت وماآلاك عند مشاعري فأنت بها فكر ودين ومذهب

***

ولما وطأت المسك من أرض طيبة وهب عبير من شذى الخلد أطيب

وأقحمت طرفي لجّة النور لوحت شمائل أشهى من خميل وأعذب

تخيّلت عشراً من قرون وأربعا ستبعد طرفي عن رؤاك وتحجب

ولكن رأيت الأمس عندي بسحره ثري كما يهوى الجلال ويطلب

كأن السنين الذاهبات وبعدها مرايا بها تدنو إليّ وتقرب

ولملمت طرفي من سناك ولمعه كذا الشمس تعشو العين منها وتتعب

وراودت فكري أن يعيك فاده بأنك أوفى من مداه وأرحب

***

سماحاً أبا الزهراء إن جئت أجتلي سناك وأستهدي الجلال وأطلب

إذا لم تؤمّل فضل نورك ظلمتي فمن أين يرجو جلوة النور غيهب

وإن لم يلج ذنبي ببابك خاشعاً فمن أين يرجو رحمة اللَّه مذنب

ومثلك من أعطى ومثلي من اجتدى فإن السما تنهل والأرض تشرب

وما عند باب الأنبياء معرّة فليس على من أمّ بابك معتب

أهبت بنقصي فاستجار بكامل إلى ذاته ينمي الكمال وينسب

وأغرى طلابي أنّ فيض معينه مدى الدهر ثرّ ما يجفّ وينضب

وعفّرت خدي في ثرى مس عفره لجبريل من جنحيه ريش مزغب

وفيه محاريب لآل محمد بهنّ ضراعات إلى اللَّه تنصب

وآثار أقدام صغار ومهجع إلى الحسنين الزاكيين وملعب

وصوت رحى الزهراء تطحن قوتها إلى جلد كبش حيث تحبس زينب

رؤى سوف يبقى الدهر يروي جلالها وتبقى على رغم البساطة تأشب

***

ص: 183

عهدتك والقرآن نور وحكمة يشد إليه التائهين ويجذب

وأنت عطاء كلما احتاجت الدنا إلى مكسب منه تولد ومكسب

وأنت طموح نال كل ممنع ولم يرضه من غارب لنجم منكب

وأنت شموخ في النوائب مرقل على عزمات كلّهن توثب

وأنت إذا التاث رأي اصابة مسدّدة عن صائب الرأي تعرب

فما بالنا لا نجتليك بتيهنا وأنت لنا نبع وروض مخضب

فقد يكتفي في تافه الزاد كاسل لأن كريم الزاد ماتاه متعب

من قصائد حسّان بن ثابت

وهناك مدائح حسان بن ثابت ومنها قوله في إحدى قصائده:...

أَلَم تَرَ أَنَّ اللَّه أَنزَلَ نَصرَهُ عَلى عَبدِهِ خَيرِ العِبادِ مُحَمَّدِ

وَأَرسَلَهُ في الناسِ نوراً وَرَحمَةً فَمَن يَرضَ ما يَأتي مِنَ الأَمرِ يَهتَدِ

كعب بن زهير والقصيدة اللاميَّة

ومما قاله كعب بن زهير في قصيدته اللامية المشهورة التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول متيّم إثرها لم يفد مكبول

يسعى الغواة جنابيها وقولهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقال كل صديق كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول

فقلت خلوا طريقي لا أبا لكم فكل ما قدّر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول

نبّئت أن رسول اللَّه أوعدني والعفو عند رسول اللَّه مأمول

مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة ال قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل

إنّ الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللَّه مسلول

كعب بن مالك يمتدح النور النبوي

وقصائد كعب بن مالك التي يقول في إحداها:

فَإِنْ يَكُ مُوسى كَلَّم اللَّه جَهْرَةً عَلَى الطُّورِ المُنِيفِ المُعَظَّمِ

فَقَدْ كَلَّم اللَّه النبيَّ محمَّداً عَلَى المَوْضِعِ الأَعْلَى الرَّفِيعِ المُسوَّمِ

وَإِنْ تَكُ نَمْلُ البَرِّ بالوَهْمِ كَلَّمتْ سُلَيْمانَ ذا المُلكِ الذي ليس بالعَمِي

فهذا نَبيُّ اللَّه أحْمدُ سَبَّحتْ صِغَارُ الحَصَى في كَفِّهِ بالتَّرنُّمِ

*** من شعر عبداللَّه بن رواحة

وقصائد عبد اللَّه بن رواحة ومن أبياته في إحداها:

وَفينا رَسولُ اللَّه يَتلو كِتابَهُ إِذا انشَقَّ مَعروفٌ مِنَ الصُبحِ ساطِعُ

أَرانا الهُدى بَعدَ العَمى فَقُلوبُنا بِهِ موقِناتٌ أَنَّ ما قالَ واقِعُ

يَبيتُ يُجافي جَنبَهُ عَن فِراشِهِ إِذا استُثقِلَت بِالكافِرينَ المَضاجِعُ

وتوالت قصائد المديح منذ ذلك الوقت، وكان في كل عصر من العصور شعراء مدحوا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لا يتسع المقام في هذه المقالة لذكر أسمائهم، وقد اشتُهر بعضهم بالمدائح النبوية كشرف الدين البوصيري، صاحب القصيدة المشهورة التي يقول في مطلعها:

أمِنْ تَذَكُّرِ جِيران بِذِي سَلَمٍ مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

وهي القصيدة المعروفة بالبردة

ولحسان بن ثابت نماذج عديدة من الشعر مدحاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورثاء، نختار بضعة أمثلة منها:

نصرناه لمّا حلّ وسط رحالنا بأسيافنا من كل باغ وظالم

جعلنا بنينا دونه وبناتنا وطبنا له نفساً بفي ء المغانم

ص: 184

ص: 185

وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

ويذبّ حسان عن عرض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

هجوت محمداً فأجبت عنه وعند اللَّه في ذاك الجزاء

هجوت محمداً برّاً تقيّاً رسول اللَّه شيمته الوفاء

فإنّ أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء

ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع من كنفي كداء

يبارين الأعنّة مصعدات على أكتافها الأسل الظماء

تظلّ جيادنا متمطّرات تلطمهنّ بالخمر النساء

فإن أعرضتمو عنا اعتمرنا وكان الفتح وانكشف الغطاء

هذا في المدح..

2- من رثاء الرسول صلى الله عليه و آله

أما في الرثاء، فاننا نجد حسّان بن ثابت يرثي الرسول بمجموعة من القصائد تنم عن حزن صادق وألم مرير:

بطيبة رسمٌ للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد

ولا تمتحي الآيات من دارحرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد

وواضح آثار وباقي معالم وربع له فيه مصلّى ومسجد

بها حجرات كان ينزل وسطها من اللَّه نور يستضاء ويوقد

معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدّد

عرفت بها رسم الرسول وعهده وقبراً بها واراه في الترب ملحد

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت عيون ومثلاها من الجفن تسعد

يذكرن آلاء الرسول وما أرى لها محصياً نفسي فنفسي تبلد

ص: 186

مفجعة قد رشفها فَقْد أحمد فظلّت لآلاء الرسول تعدّد

أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها على طلل الذي فيه أحمد

فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشيد المسدّد

وبورك لحدٌ منك ضمّن طيباً عليه بناء من صفيح منضد

تهيل عليه التُرب أيد وأعين عليه وقد غارت بذلك أسعد

لقد غيّبوا حلماً وعلماً ورحمة عشية علوه الثرى لا يوسد

وراحوا بحزنٍ ليس فيهم نبيّهم وقد وهنت منهم ظهورٌ وأعضد

يبكون من تبكي السماوات يومه ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد؟!

فابكي رسول اللَّه يا عين عبرة ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد

وما لك لا تبكين ذا النعمة التي على الناس منها سابغ يتغمّد

فجودي عليه بالدموع وأعولي لفَقْد الذي لا مثله الدهر يوجد

وما فَقَد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يُفقد

وليس هواي نازعاً عن ثنائه لعلي ربه في جنة الخلد أخلد

مع المصطفى أرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد

وقال في قصيدة أخرى:

تا للَّه ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول نبيّ الأمّة الهادي

من الذي كان فينا يستضاء به مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد

يا أفضل الناس إني كنت في نهر أصبحت منه كمثل المفرد الصادي

وقال أحد الشعراء:

وإلا شهِدَتْ بِفَضْلِ مَقَامِكَ الأَكْوَانُ وَتَرَنّمتْ فَرَحاً بِكَ الأَزْمَانُ

ص: 187

وَتَبَاشَرَتْ كُلّ السّمَاءِ وَكَبّرتْ وَالأرْضُ فِي عُرْسٍ كَذا الأَرْكَانُ

وَتَزَلْزَلَ الطّغْيَانُ في أَرْجَائِهَا فَبسَيْفِ دِينِكِ يُهْزَمُ الطّغْيانُ

وَتَثَقّفَ الإنْسَانُ أَعْلَامَ الهُدَى لَوْلَاكَ ضَلّ بِجَهْلِهِ الإنْسَانُ

كَمُلَتْ صِفَاتُكَ في الأنَامِ فَكُلّهَا نُورٌ تُضِي ءُ يَمُدّها الإِيْمَانُ

سَبْحَانَ مَنْ أَلْقَى إِلَيْكَ مَحَاسِناً منْ نُورِ نُورِكَ يَنْبُعُ السّبْحانُ

وَعَلَا بِذِكْرِكَ حَامِداً وَمُحَمّداً وَبِاسْمِ أَحْمَدَ تَشْهَدُ الرّهْبَانُ

جِبْريلُ يَشْهَدُ وَالملائِكَةُ العُلَا وَالأَنْبِيَاءُ بِصِدْقِهْمْ قَدْ دَانوا

أَنْتَ الذِي أُوُتِيتَ كُلّ فَضَيلةٍ وَالمُعْجِزُاتِ عَظِيْمُها القُرْآنُ

أَنْتَ المُقَرّبُ وَالمُشَفّعُ للوَرَى يَوْم الشفاعّةِ أَحْمَدُ العُنْوَانُ

أَنْتَ الخَلِيلُ وَأنْتَ أَعْظَمُ نِعْمَة وَالآيَةُ العُظْمَىَ كذَا الفُرْقَانُ

وقال اللَّه: قد أرسلت عبداً يقول الحق ليس به خفاء

وقال اللَّه: قد يسّرت جنداً هم الأنصار عرضتهااللقاء

لنار في كل يوم من معد سباب رأو قتال أو هجاء

فمن يهجو رسول اللَّه منك ويمدحه وينصره سواء

وجبريل رسول اللَّه فينا وروح القدس ليس له كفاء

وَبِنورِ وِجْهِكَ تُمْطِرُ نَار السّمَا وَبِفَضْلِ جُودِكَ عَمّنا الإحْسَانُ

عَرْشُ الإلَهِ يَرَى مَقَامكَ عَالِياً وأَدْنَاكَ مِنْهُ بِفَضْلِهِ الرّحْمَنُ

فأنتَ مؤتمنُ الرحمنِ إذ خُتمت بكَ الرسالاتُ واستهدت بك البشرُ

جاهدْتَ في اللَّه إذ بلّغتَ دعوَتَهُ فالكفرُ مندحرٌ والشركُ منكسرُ

صلّيتَ بالرُسلِ في مسراكَ كنتَ بهم كما يزيّنُ ضوءَ الأنجمِ القمرُ

تركتَ فينا كتابَ اللَّه ننهجهُ وسُنّةً فُسّرَتْ في ضوئِها السُوَرُ

ففي جبينكَ «نورٌ يُشرقُ القمرُ» وفي حديثِكَ ذاكَ الهديُ ينهمرُ

وفي سجاياكَ يا خيرَ الورى مثَلٌ وفي حياتِكَ ذاكَ المقتدى الأثرُ

قد كنتَ قلباً لنشرِ الدينِ مجتهداً وكنتَ كفّاً لبذلِ الخيرِ تبتدرُ

إذا وهبتَ فلا مَنٌّ ولا قَتَرٌ وإن دُعيتَ فلا مَطْلٌ ولا ضجرُ

وكنتَ قرءاننا يمشي بخيرِ هدىً ماذا نقولُ وماذا فيكَ نختصرُ؟!

يا ناصرَ الدينِ.. يا وحيَ الإلهِ بهِ يرفرفُ القلبُ والأرواحُ والفِكَرُ

يا مَن أضاءَ بنورِ اللَّه سنّتَهُ للمقتدينَ فتلكَ الأنجمُ الزُهرُ

مناقبُ النصرِ في أرجاءِ دعوتِهِ ال غرّاءِ فيها قلوبُ الشركِ تنبهرُ

هُداكَ زلزلَ كسرى في مدائنِهِ وخرَّ قيصرُ إذ لم تُغنِهِ النُذرُ

وأنّكَ المصطفى البشرى النذيرُ وقد ذُكرتَ إذ أُنزلَ الإنجيلُ والزُبرُ

أدّيتَ فينا أماناتٍ وقد شهدت لكَ القلوبُ وذاكَ السمعُ والبصرُ

عزاؤنا أنَّ عقبى الدارِ موعدُنا طوبى لمَن آمنوا.. بُشرى لِمَن صبروا

***

ريح الصّبا تزكي الصّبابة في الحشا عند الهبوب وتحرّك الأشواق تطوي بالمنى بُعدَ الدّروب

ص: 188

ص: 189

فإذا الحياة بمرّها تحلو وتنساها الكروب و تهون في الدّرب الصّعاب و ينجلي ليل الخطوب

يا أحمدَ الهادي ويا نوراً أطلّ على القلوب من كلِّ شي ءٍ حُسنَهُ آتاك علام الغيوب

فالشّمسُ حُزْتَ ضياءها والغيمُ مدمعه السّكوب والطّيرُ أهدت شدوها والزّهرُ أهداك الطّيوب

أهدى الصّباح حياته وسكينةً أهدى الغروب يا منذراً ومبشّراً من عند علّام الغيوب

يا داعياً وسراجَ نورٍ قد أضاء لنا الدّروب ذكراك تحيينا وحبّك غيثنا يروي القلوب

وحديثك الهادي رياضٌ ليس فيها من لغوب صلّى عليك اللَّه يا من ذكره يمحو الذّنوب

ص: 190

عمرة القضاء

في ذي القعدة سنة

(7 ه.- 627 م)

محمد سليمان

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» (1).

العمرة لغة- بضم العين وسكون الميم وفتح الراء-: الزيارة.. جمعها عمر بضم العين وفتح الميم، وعمرات بضم كل من العين والميم. ومنه المعتمر بضم الميم وسكون العين وفتح التاء وكسر الميم الثانية: الزائر والقاصد للشي ء ومن يؤدي العمرة، ومنه اعتمر فلان أي زار وقصد وأدى العمرة.. (2) وهذه أي العمرة شرعاً: قصد الكعبة للنسك المعروف.. (3) عُمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

تحدثنا بعض المصادر التاريخية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اعتمر أربع مرات (وفي من لا


1- الفتح: 27.
2- أنظر مصادر اللغة والقاموس الفقهي.
3- نفس المصادر.

ص: 191

يحضره الفقيه: واعتمر عليه السلام تسع عمر..) كلها كانت في ذي القعدة من أشهر الحج التي هي شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو داخل إلى مكة، وإنه لم يحفظ عنه أنه اعتمر في السنة إلّامرة واحدة، وأنه لم يحج إلّامع عمرته الأخيرة في حجة الوداع:

إحداها: عمرة الحديبية، وكانت في ذي القعدة عام الحديبية سنة ست من الهجرة فَصَدَّهُ المشركون عن البيت، فنحر وحلق حيث صُدَّ، وحلَّ. وحسبت له ولمن معه عمرة.

والثانية: عمرة القضاء، وكانت في ذي القعدة سنة سبع؛ حيث قضاها في العام المقبل من صلح الحديبية.

والثالثة: عمرته التي قرنها مع حجته في ذي القعدة سنة ثمان عند فتح مكة.

والرابعة: عمرته من الجِعْرَانة مع حجته وكان إحرامها في ذي القعدة وأعمالها في ذي الحجة.. وقول: إنّ عمرته من الجعرانة حيث قسم فيها غنائم حنين. وعمرة مع حجته..

وقال بعضهم: إنما اعتمر النبي صلى الله عليه و آله هذه العمر في ذي القعدة لفضيلة هذا الشهر ولمخالفة الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا يرونه من أفجر الفجور... ففعله صلى الله عليه و آله مرات في هذه الأشهر ليكون أبلغ في بيان جوازه فيها وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه واللَّه أعلم (1).

وبما أنّ عمرة القضاء هي محل كلامنا نقف عندها تفصيلًا.

أسماء عمرة القضاء

وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء، لأن المشركين صدّوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عام الحديبية عن البيت الحرام، فكان مجيئه في العام التالي قضاءً عما فاته من عمرة


1- صحيح البخاري 4148؛ صحيح مسلم 1253؛ وانظر النووي في شرحه وصحيح الترغيب. من لا يحضره الفقيه 2: 159.

ص: 192

الحُدَيْبِيَّة. أوسميت بعمرة القضاء، لأنها وقعت حسب المقاضاة و صدور القضاء بين الطرفين وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت- بناءً على اشتراط الطرفين- أن يأتي النبي صلى الله عليه و آله في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام.

وسميت بعمرة الصلح للمصالحة التي وقعت في الحديبية.

وسميت بعمرة القضية أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين،

وسميت بعمرة القصاص، لأنهم صدوا رسول صلى الله عليه و آله في ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ست، فاقتصّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منهم فدخل مكة في ذي القعدة في الشهر الحرام الذي صدّوه فيه من سنة سبع. وبلغنا- والقول لابن هشام في سيرته- عن ابن عباس أنه قال: فأنزل اللَّه في ذلك «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (1).

وفي المغازي عن ابن عباس: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ذي القعدة سنة سبع بعد مقدمه بأربعة أشهر، وهو الشهر الذي صدّه المشركون، لقول اللَّه عز وجل «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» يقول: كما صدوكم عن البيت فاعتمروا في قابل.

وفي أسباب النزول للواحدي عن قتادة أنه قال: أقبل نبي اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه في ذي القعدة حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون، فلما كان العام المقبل دخلوا مكة فاعتمروا في ذي القعدة، وأقاموا بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردّوه يوم الحديبية فأقصه اللَّه منهم، فأنزل: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ..» الآية.

وفي مجمع البيان: «إنه الشهر الحرام على جهة العوض لما فات في السنة الأولى، ومعناه الشهر الحرام ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكة واعتمرتم وقضيتم


1- البقرة: 194.

ص: 193

منها وطركم في سنة سبع بالشهر الحرام ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم عن مرادكم في سنة ست «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» قيل فيها قولان: أحدهما إن الحرمات قصاص بالمراغمة بدخول البيت في الشهر الحرام قال مجاهد: لأن قريشاً فخرت بردها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عام الحديبية محرماً في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله اللَّه مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه، وهو معنى قتادة والضحاك والربيع وعبد الرحمن بن زيد، وروي عن ابن عباس وأبي جعفر الباقرمثله..».

فهي عمرة القصاص كما جاء به التنزيل، وهي أولى بها لقوله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرامُ..» (1).

إذن فهذه العمرة تسمى بأربعة أسماء: القضاء، والقَضِيَّة، والصُّلح، والقصاص.

وعدان مباركان!

إن عمرة القضاء كانت- ولا شك- تصديقاً إلهيّاً لوعدين، وهي أيضاً بشرى عظيمة بصدق هذين الوعدين ووقوعهما، تزفها السماء للمؤمنين بتحقيق آمالهم بدخولهم المسجد الحرام آمنين ملبين... ثم تحقق وعد اللَّه وبشرى السماء الكبرى «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» وهو ما تحقق فعلًا؛ فقد ظهر لا في المدينة ومكة ولا في الجزيرة العربية وما حولها وقبل أن ينتهي نصف قرن حتى ظهر الإسلام في امبراطوريتين كبيرتين تحيطان الجزيرة العربية، كل بلاد الفرس و القسم الأعظم من بلاد الروم، وفي الهند والصين وفي غير هذه البقاع...:

الوعد الأول: وعد رباني، فقد وعد اللَّه به رسوله الكريم صلى الله عليه و آله من دخول مكة المكرمة والطواف بالبيت الحرام..


1- الروض الأنف 2: 254.

ص: 194

الوعد الثاني: وعد نبوي، فقد وعد به النبي صلى الله عليه و آله صحابته من دخول مكة والطواف بالبيت الحرام..

بعد أن رأى صلى الله عليه و آله في منامه أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه وكان هذا سنة 6 هجرية في ذي القعدة.. وما أن علم المشركون بمجيئهم حتى استكثروا على أنفسهم أن يدخل محمد صلى الله عليه و آله وأتباعه عليهم مكة عنوة وبدون إذن ولا علم منهم، وعدّوا ذلك تجاوزاً لهم ولهيبتهم ومكانتهم عند العرب وعدم مبالاة بوجودهم وسيادتهم...، فخرجوا ليصدوا المسلمين عن البيت الحرام، فلما علم صلى الله عليه و آله أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود قال:

«من رجل يدلّنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟»

فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة، والحديبية تبعد عن مكة تسعة أميال، وهي اسم بئر قريبة من طريق جدة وبقرب من البئر شجرة تمت تحتها بيعة الرضوان بعد أن صدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن العمرة وصالح كفار قريش وعلى أن يعتمر من العام المقبل، وتقع الحديبية على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلّون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير..

«فَتْحاً مُبِيناً» و «فَتْحاً قَرِيباً» (1).

وصلح الحديبية ينطبق عليه هذان الوصفان «مُبِيناً، قَرِيباً»

هذا ما ذهب إليه بعض المفسرين بل أكثرهم، فعن الفتح الأول- كما يذكر القرطبي في تفسيره- نسب القول إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال عن صلح الحديبية:

«بل هو أعظم الفتوح قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا»

ويقول قتادة: الحديبية. وقال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية،


1- الفتح: 1، 27.

ص: 195

وقال مجاهد: هو منحره بالحديبية وحلقه رأسه.. وكان فتح الحديبية آية عظيمة.

والصلح من الفتح كما قاله الضحاك..

ويقول محمد عزة دروزة: «ولا ريب في أن هذا الصلح الذي سماه القرآن بالفتح العظيم يستحق هذا الوصف كل الاستحقاق، بل إنه ليصح أن يعدّ من الأحداث الحاسمة العظمى في السيرة النبوية، وفي تاريخ الإسلام وقوته وتوطده، أو بالأحرى من أعظمها، فقد اعترفت قريش بالنبي والإسلام وقوتهما وكيانهما، واعتبرت النبي والمسلمين أنداداً لها، بل دفعتهم عنها بالتي هي أحسن، في حين أنها غزت المدينة في سنتين مرتين، وكانت الغزوة الأخيرة قبل سنة من هذه الزيارة وبحشد عظيم مؤلف منها ومن أحزابها لتستأصل شأفتهم، وبعثت هذه الغزوة في نفوس المسلمين أشد الاضطراب والهلع لضعفهم وقلّتهم إزاء الغزاة. ولهذا شأن عظيم في نفوس العرب، الذين كانوا يرون في قريش الإمام والقدوة، والذين كانوا متأثرين بموقفهم الجحودي كل التأثر. وإذا لوحظ أن الأعراب كانوا يقدرون أن النبي والمسلمين لن يعودوا سالمين من هذه الرحلة، وأن المنافقين كانوا يظنون أسوأ الظنون، بدت لنا ناحية من نواحي خطورة هذا الفتح وبُعد مداه.

وقد أثبتت الأحداث صدق إلهام النبي صلى الله عليه و آله فيما فعل، وأيده فيه القرآن، وأظهرت عظم الفوائد المادية والمعنوية والسياسية والحربية والدينية التي عادت على المسلمين منه. وإذ قووا في عيون القبائل، وبادر المتخلفون من الأعراب إلى الاعتذار، وازداد صوت المنافقين في المدينة خفوتاً وشأنهم ضآلة، وإذ صار العرب يفدون على النبي صلى الله عليه و آله من أنحاء قاصية، وإذ تمكن من خضد شوكة اليهود في خيبر وغيرها من قراهم المتناثرة على طريق الشام، وإذ صار يستطيع أن يبعث بسراياه إلى أنحاء قاصية كنجد واليمن والبلقاء، وإذ استطاع بعد سنتين أن يغزو مكة ويفتحها، وكان في ذلك النهاية الحاسمة، إذ جاء نصر اللَّه والفتح، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً».

وأختصر ما يفصله سيد قطب عن صلح الحديبية حيث يعبر عنه بأنه:

ص: 196

الفيض الإلهي على رسوله صلى الله عليه و آله: فتح مبين، ومغفرة شاملة، ونعمة تامة، وهداية ثابتة، ونصر عزيز...

يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها، وتبرك الناقة، ويتصايح الناس: خلاءت (بركت) القصواء

فيقول: «ما خلاءت. وما هو لها بخلق. ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة.

لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياه»..

ويسأله عمر بن الخطاب في حمية: فلم نعطي الدنية في ديننا؟

فيجيبه: «أنا عبد اللَّه ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»...

ويعبر عنه أيضاً أنه: كان فتحاً في الدعوة.. وكان فتحاً في الأرض... وكان فتحاً في الموقف بين المسلمين في المدينة وقريش في مكة وسائر المشركين حولها.

يقول الزهري: فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه. إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه. ولقد دخل في تينك السنتين (بين صلح الحديبية وفتح مكة) مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.

ويقدّم ابن هشام الدليل حيث يقول: والدليل على قول الزهري أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج إلى الحديبيّة في ألف وأربعمئة في قول جابر بن عبد اللَّه. ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف..

وأما عن «فَتْحاً قَرِيباً» يقول القرطبي في تفسيره:... قال مجاهد: هو صلح الحديبية، وقاله أكثر المفسرين. ثم يذكر قول الزهري: ما فتح اللَّه في الإسلام أعظم من صلح الحديبية...

يقول السيد صاحب الميزان عن هذين الفتحين:

«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»: كلام واقع موقع الامتنان، وتأكيد الجملة ونسبة الفتح إلى نون العظمة وتوصيفه بالمبين كل ذلك للاعتناء بشأن الفتح الذي

ص: 197

يمتنّ به.

ثم يواصل كلامه مرجحاً الرأي القائل: إنه صلح الحديبية حيث يقول: والمراد بهذا الفتح على ما تؤيده قرائن الكلام هو ما رزق اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله من الفتح في صلح الحديبية...

وإن كان هذا واحداً من الأقوال في المراد من الفتح الوارد في الآية: فبعض ذهب إلى أن المراد به فتح مكة، وبعض ذهب إلى أنه فتح خيبر، وقيل: الفتح المعنوي.

ولكن السيد لا يرجح هذه الأقوال؛ لأن سياق الآيات والقرائن لا تساعد ها..

«ومن هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية (27 الفتح) فتح الحديبية؛ فهو الذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسّر لهم ذلك ولولا ذلك لم يمكن لهم الدخول إلا بالقتال وسفك الدماء ولا عمرة مع ذلك، لكن صلح الحديبية وما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل. ومن هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد عن السياق، وأما القول بأنه فتح مكة فأبعد» (1).

لقد أنزل اللَّه سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والاتفاق بين المسلمين والمشركين، وكانت بنود هذا الصلح هي أهم معالمها، وما عمرة القضاء إلا النتيجة الأهم أو الحدث الأهم الذي أعقب ذلك الصلح وهي نتيجة لبند من بنوده.

ففي السنة السابعة للهجرة النبوية الشريفة وفي شهر ذي القعدة الحرام وبعد انتظارٍ دام قرابة سبع سنوات، وبعد أن أبرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلح الحديبيَّة مع قريش في أواخر سنة ست للهجرة، على مشهد من الصحابة، على يقين من بعضهم


1- انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، و تفسير الميزان: الآية من سورة الفتح. والكلام مفصل وطويل؛ وسيرة الرسول 2: 292- 293. محمد عزة دروزة. في ظلال القرآن لسيد قطب؛ والسيرة النبوية لابن هشام.

ص: 198

واستغراب من بعضهم، وتشكيك من آخرين، لما تضمنته بنود ذلك الصلح من فقرات بدت للوهلة الأولى أنها ليست في صالح المسلمين أو كما تصور عدد منهم، كانت عمرة القضاء وتحقق الوعد وصدقت الرؤيا..

لقد راحت- إضافة إلى بشائر القرآن الكريم- أقوال متعددة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبشر فيها أن عاقبة هذا الصلح إلى خير ونصر أكيدين.. وهو ما حدث بالفعل.. و كما نجد ذلك في قوله صلى الله عليه و آله لعمر بن الخطاب الذي بدا أكثرهم استغراباً و تشكيكاً واعتراضاً، وقوله صلى الله عليه و آله إلى أبي جندل ولغيرهما.. خصوصاً بعد أن دخل على من حوله ممن معه من الصلح وبنوده أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.. وسنرى أقواله صلى الله عليه و آله طي بحثنا هذا.

وحتى نرى هذا وغيره لا بد لنا- إذن- من العودة قليلًا إلى بنود هذا الصلح، وطريقته دون التعرض إلى مقدماته كما ذكرها غير واحد من المؤرخين، وخصوصاً الواقدي في مغازيه خوف الإطالة، لأن فتح مكة- وهو نصر كبير وقبله عمرة القضاء وحتى بيعة الرضوان ثم فتح خيبر وهما الأقرب زمناً من صلح الحديبية- كلها من نتائج ذلك الصلح الذي سمته السماء فتحاً مبيناً، وفتحاً قريباً، وما كان في

ص: 199

الإسلام فتح أعظم مما وقع في الحديبية بما تمخض عنه من نتائج عادت بالخير على الإسلام والمسلمين كما نرى ذلك آتياً فيما عدّده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ردّه على المشككين..

يقول الخبر:.. ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو، أخا بني عامر بن لؤي، إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقالوا له: ائت محمداً فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا، فواللَّه لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً.

فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقبلًا، قال:

«قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل».

فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تكلم فأطال الكلام وتراجعا، ثم جرى بينهما الصلح.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني بريدة بن سفيان عن محمد بن كعب:

أن كاتب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا الصلح كان علي بن أبي طالب، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

اكتب «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه سهيل بن عمرو» فجعل يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد، فكتب ما قالوا (1).

وفي قول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله محاه بنفسه، وهو يقول: «اللهم إنك تعلم أني رسول اللَّه»

لقد حدث هذا حين دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام فقال:

اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اكتب باسمك اللهم. فكتبها.

ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه سهيل بن عمرو؛


1- انظر: الميزان في تفسير القرآن، سورة الفتح.

ص: 200

فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول اللَّه لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

فقال رسول صلى الله عليه و آله: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهنّ الناس ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.

فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا:

نحن في عقد قريش وعهدهم..

فلما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الكتاب أشهد على الصلح رجالًا من المسلمين ورجالًا من المشركين...

وفي رواية أخرى لا تختلف كثيراً عن السابقة، أفاد الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد في فصل خصّه بصلح الحديبية فقال:...

نزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك، وأن يجعل أمير المؤمنين عليه السلام كاتبه يومئذ والمتولي لعقد الصلح بخطّه.

فقال لعلي عليه السلام: اكتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: ما أدري ما الرحمن.. إلّا أنّي أظنّه هذا الذي باليمامة، ولكن أُكتب كما نكتب: باسمك اللهم فكتب: باسمك اللّهمّ.

فقال: واكتب: هذا ما قاضى عليه رسولُ اللَّه سهيلَ بن عمرو.

فقال سُهيل: فعلام نقاتلك يا محمد؟!

ص: 201

فقال صلى الله عليه و آله: أنا رسول اللَّه وأنا محمد بن عبد اللَّه.

فقال الناس: أنت رسول اللَّه.

فقال سهيل بن عمرو: لو علمنا أنك رسول اللَّه ما حاربناك. اكتب: هذا ما تقاضى عليه محمد بن عبد اللَّه، أتأنف من نسبك يا محمد؟!

فقال رسول اللَّه: أنا رسول اللَّه وإن لم تُقرّوا. ثم قال: امحُ يا علي واكتب: محمد بن عبد اللَّه.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أمحو اسمك من النبوة أبداً! فمحاه رسول اللَّه بيده. ثم كتب علي عليه السلام:

«هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللَّه والملأ من قريش وسهيل بن عمرو، اصطلحوا على:

وضع الحرب بينهم عشر سنين على أن يكفّ بعض عن بعض، وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا وبينهم غيبة مكفوفة. وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، وأنّ من أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها، فعل.

وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليّه يردّوه إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يردّوه إليه.

وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة، لا يُكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يُعيّر.

وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا، وأصحابه، ثم يدخل في العام القابل مكة، فيقيم فيها ثلاثة أيام. ولا يدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر: السيوف في القِراب.

وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار، وكتب علي بن أبي طالب.

وقال عبد اللَّه بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «أهدى عام الحديبية في هداياه جملًا لأبي جهل في رأسه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين».

هذه هي شروط الصلح التي ذكرت في المصادر التاريخية.... ثم انصرف

ص: 202

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من وجهه ذلك قافلًا، حتى إذا كان بين مكة والمدينة، نزلت سورة الفتح:

«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً...».

مواقف بعض الصحابة:

لقد خرج أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المدينة قاصدين مكة، وهم لا يشكّون في وصولهم وتحقيق هدفهم، أداء العمرة وزيارة البيت الحرام للرؤيا التي رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لقد رأى في النوم- ورؤيا الأنبياء صادقة- أنه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ مفتاح الكعبة...

ولما بلغ المشركين خروج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى مكة راعهم ذلك، واجتمعوا له وشاوروا فيه ذوي رأيهم فقالوا: يريد أن يدخل علينا في جنوده معتمراً فتسمع به العرب وقد دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا! واللَّه، لا كان هذا أبداً ومنّا عين تطرف، فارتاؤا رأيكم... فانتهى الأمر إلى أن يتفاوضوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان الصلح وفقراته..

وإذا بالصحابة وقد انقسموا في مواقفهم بين مؤيد لما يقوم به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومسلّم له، وبين مغتم ومغتاظ ومشكك بل ومعترض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبين من انتابته الهواجس والأوهام وظلّ حبيساً لها:

لقد سمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يحدثنا عن رؤياه أنّه يدخل مكّة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة! وقد سررنا جميعاً بها!

إن تعبير الرؤيا سيتحقق وها نحن نجهز أنفسنا ونسوق هدينا بأمرٍ من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!

لقد صددنا عن مكة! إذن سندخلها عنوة لأن رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا تتخلف.

ماذا جرى؟ هو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتفاوض معهم؟

ص: 203

ألم يكن البناء أن نؤدي العمرة هذا العام؟

يبدو أننا لا ندخل مكة!

ولا نعتمر!

انظر هاهو الصلح يكاد يتم بينهم!

ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا رسول اللَّه غير صادقة؟

فأين هذا الوعد؟

وأين صارت رؤياه؟!

ألم نسمع؟

بلى سمعنا!

إنه رسول اللَّه وهو أعلم بما يفعل، إنه مسدّد من السماء!

وما علينا إلا الاتباع لما يريد والتسليم بما يراه! وهذا هو الإيمان..

وتوالت هذه الهواجس وراحت تقلقهم وتقضّ عليهم مضاجعهم وتسلب الراحة من نفوسهم...

وهم يسمعون أجوبة رسول اللَّه وأقواله:

هل قلت لكم: إنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!

لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها..

والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات اللَّه تعالى إلا أعطيتهم إياها..

إني رسول اللَّه ولست أعصيه وهو ناصري..

أنا عبد اللَّه ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني..

يقول الخبر:

فلما التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، أي الصلح، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر فقال:

ص: 204

يا أبا بكر، أليس برسول اللَّه؟

قال: بلى.

قال: أو لسنا بالمسلمين؟

قال: بلى.

قال: أو ليسوا بالمشركين؟

قال: بلى.

قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟

قال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه فإني أشهد أنه رسول اللَّه.

قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول اللَّه.

ثم أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللَّه ألست برسول اللَّه؟

قال: بلى.

قال: أو لسنا بالمسلمين؟

قال: بلى.

قال: أو ليسوا بالمشركين؟

قال: بلى.

قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟

قال: «أنا عبد اللَّه ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني».

فكان عمر يقول ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتى رجوت أن يكون خيراً.

وكان له كلام آخر، وهو مما جرى في أثناء هذا الصلح أن عمر بن الخطاب سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

أَوَ لستَ كنتَ تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟

فأجابه: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟

قال: لا.

ص: 205

قال: فإنك آتيه ومطوّف به.

وكلام ثالث لعمر بن الخطاب: واللَّه ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه و آله فقلت: ألست نبي اللَّه؟

فقال: بلى.

قلت: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟

قال: بلى.

قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذن؟

قال: إني رسول اللَّه ولست أعصيه وهو ناصري.

قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف حقاً؟

قال: بلى، أفأخبرتك أن نأتيه العام؟

قلت: لا.

قال: فإنك تأتيه وتطوف به.

فبينا رسول صلى الله عليه و آله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم، حتى كادوا يهلكون، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، ثم قال: يا محمد! قد لجت (تمت) القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا؛ قال: صدقت فجعل ينتره بتلبيبه ويجره ليرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين! أأردّ إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن اللَّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا

ص: 206

عهد اللَّه وإنا لا نغدر بهم».

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مضطرباً في الحلّ وكان يصلي في الحرم، فلما فرغ من الصلح قدم إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه فيما بلغني، في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي؛ فلما رأى الناس أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.

وفي رواية الزهري: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه:

قوموا فانحروا ثم احلقوا.

قال: فواللَّه ما قام منهم رجل، حتى قال صلى الله عليه و آله ذلك ثلاث مرات.

فلما لم يقم منهم أحد، دخل صلى الله عليه و آله على أم سلمة رضي اللَّه عنها، فذكر لها ما لقي من الناس.

قالت (أم سلمة) رضي اللَّه عنها: يا نبي اللَّه! أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك.

فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلم يكلّم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بيده، ودعا حالقه فحلقه

فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.

وفي رواية: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه- بعد ما كتب الكتاب-: انحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم فامتنعوا، وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة؟! فاغتم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وشكا ذلك إلى أم سلمة فقالت: يا رسول اللَّه انحر أنت واحلق. فنحر رسول اللَّه وحلق، فنحر القوم على حيث يقين وشك وارتياب (1).

وعن مجاهد، عن ابن عباس، قال: «حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون.


1- راجع: الميزان للطباطبائي، فقد ذكر المصادر هناك.

ص: 207

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يرحم اللَّه المحلّقين.

قالوا: والمقصّرين يا رسول اللَّه؟

قال: يرحم اللَّه المحلقين.

قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟

قال: يرحم اللَّه المحلقين.

قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟

قال: والمقصرين.

فقالوا: يا رسول اللَّه فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟

قال: لم يشكوا».

وهنا موقف آخر لبعض المسلمين يضاف إلى موقف عمر بن الخطاب، موقف ينطوي على عدم قبول بما أجراه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأن ما وقع لم يحقق لهم ما جاؤوا من أجله فلا خير فيه لهم وما حصل ليس فتحاً..

«وفي الدر المنثور: أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

واللَّه ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا وعكف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالحديبية وردّ رجلين من المسلمين خرجا.

فبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قول رجال من أصحابه: أن هذا ليس بفتح.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بئس الكلام. هذا أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإياب، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم اللَّه عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين، فهذا أعظم الفتح.

«ثم أقبل على عمر (1) فقال:


1- انظر: المغازي 2: 609.

ص: 208

أنسيتم يوم أحد «إِذْ تصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وأنا أدعوكم فِي أُخْراكُمْ»؟

أنسيتم يوم الأحزاب «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ اْلأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا»؟ أنسيتم يوم كذا، وجعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يذكرهم أموراً.

قال المسلمون: صدق اللَّه ورسوله هو أعظم الفتوح، واللَّه يا نبي اللَّه ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم باللَّه وبأمره أو بالأمور منا. فأنزل اللَّه سورة الفتح».

فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي صلى الله عليه و آله عائد من الحديبية إلى المدينة، وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة...

تقول الآية: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» فما رآه النّبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.

ثمّ تضيف الآية قائلة: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا»، وكان في هذا التأخير حكمةٌ:

«فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً».

فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم.

فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: اي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: اي رسول اللَّه، ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، وقالها أبو بكر.. ولكن الناس يعجلون- والكلام ما زال لأبي سعيد الخدري كما في مغازي الواقدي- واللَّه تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد اللَّه... (1)


1- انظر: في ظلال القرآن وكتاب المغازي، وما أخرجه البيهقي عن عروة في الدر المنثور، و الميزان في تفسير القرآن، في السورة والآية، والأحاديث في قصة الحديبية كثيرة...

ص: 209

وكانت العمرة

وفعلًا كانت عمرة القضاء، ووقعت طبقاً لإحدى مواد معاهدة الحديبيّة، وهو البند القائل:

«وإنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها».

إذن أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا. هذا من شروط الصلح المهمة.

وأصبح من المقرر أن يؤدّي المسلمون العمرة وزيارة بيت اللَّه في العام المقبل على أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الوقت ذاته يخرج المشركون من مكّة ورؤساء قريش أيضاً، لئلا يقع نزاع محتمل بين الطرفين، ولئلا يروا المسلمين

ص: 210

يؤدّون المناسك فيثيرهم منظر عبادتهم للواحد الأحد بعيداً عن آلهتهم المتعددة، التي بلغت- كما في بعض الأخبار- 360 صنماً ووثناً في ساحة المسجد الحرام وفي المسعى وعلى الصفا والمروة وهنا وهناك من المسجد الحرام..

ما إن انتهى عامٌ على بنود الصلح، إنه عام واحد، عام لا غير من صلح الحديبية، حتى أصبح للمسلمين الحق في دخول مكة للعمرة حسب اتفاقهم مع قريش في العام السابق، فأمر رسول اللَّه المسلمين أن يستعدوا لزيارة الكعبة، فالمهاجرون كانوا يتمنّون هذا اليوم بعد سبع سنوات بعيدين فيها عن مكة، أما الأنصار فكانوا يتمنون أيضاً زيارة الكعبة كما كانت لهم تجارة مع قريش وأموال لعلهم ينتفعون بها من تلك التجارة..

وذلك أنه لما أهلّ هلال ذي القعدة يعني في سنة سبع من الهجرة النبوية المباركة، أمر صلى الله عليه و آله أصحابه أن يعتمروا وفقاً للبند المكتوب في الصلح، وأن لا يتخلّف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف عنهم أحد منهم إلا رجالٌ استشهدوا بخيبر ورجال ماتوا..

فخرج صلى الله عليه و آله بعد أن استعمل على المدينة أباذر الغفاري، وقال ابن هشام:

واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الديلي، وعند الواقدي: إن الذي استعمل على المدينة أبو رهم.. وأما الحاكم فيذهب إلى أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي، أو أبا رُهْم الغفاري (1).

وخرج مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوم من المسلمين للعمرة، فكان مجموع من خرج في عمرة القضاء ألفين من المسلمين،

فقال رجال من حاضر المدينة من العرب:

واللَّه يا رسول اللَّه، ما لنا من زاد وما لنا من يطعمنا. فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المسلمين أن ينفقوا في سبيل اللَّه، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. قالوا:

يا رسول اللَّه! بم نتصدّق وأحدنا لا يجد شيئاً؟


1- انظر: السيرة النبوية لابن هشام والهامش 4: 12، والمستدرك للحاكم..

ص: 211

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بما كان، ولو بشق تمرة، ولو بمشقص (فصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض) يحمل به أحدكم في سبيل اللَّه. فأنزل اللَّه عز وجل في ذلك:

«أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1)

نزلت هذه الآية في ترك النفقة في سبيل اللَّه تعالى.

وساق صلى الله عليه و آله ستّين بدنة، وقد قلّدها، وأحرم من مسجد المدينة، وأحرم معه المسلمون، ولبّى ولبّى معه المسلمون، واتّجهوا بتلبيتهم نحو مكّة، وذلك بعد أن جعل على هديه ناجية بن جندب الأسلمي.

وحيث إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يكن يأمن مباغتة قريش وغدرهم به وبأصحابه في أرض مكة، أمر مائتي رجل من المسلمين بأن يحملوا معه السلاح والدروع والرماح، وحملهم على مائة فرس، وأمّر عليهم محمد بن مسلمة وأمرهم أن يتقدّموه إلى منطقة (مرّ الظهران) قريباً من الحرم وينتظروا قدومه هناك.

فلمّا علمت قريش بذلك أرسلوا من يقول لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن من شروطهم عليه: أن لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر.

فأجابه صلى الله عليه و آله: «نعم لا ندخلها إلا كذلك، ولكن يكون هؤلاء قريبين منّا» وبذلك سدّ صلى الله عليه و آله طريق الغدر على قريش.

ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن معه بسلاح المسافر وهم يلبّون. وفعلًا ما إن علمت قريش بقدوم الرسول و الصحابة و المهاجرين و الأنصار إلى مكة حتى أسرعت بالخروج من مكة إلى رؤوس الجبال وأخلوا لهم مكة، وقيل: إنه كان ذلك لئلّا يروه، عداوةً للَّه ولرسوله واحتاطت لنفسها و عسكرت أيضاً فوق التلال المحيطة بمكة وتجمّع رجالهم ونساؤهم وصبيانهم في مكة وتزاحموا؛ ليروا هذا النبي القائد يحيط به المهاجرون والأنصار، وأثار هذا التجمع الحسد والبغض والغيظ لدى بعض أئمة الكفر، فخرج عدد منهم إلى الجبال حتى لا يروا هذا الموقف العظيم،


1- البقرة: 194.

ص: 212

وتناقل بعض المغرضين أخباراً كاذبة عن أحوال المسلمين، وزعموا أن حُمّى يثرب وهنتهم وغيرها من الشائعات المغرضة التي بثوها هنا وهناك؛ ليوهنوا أمر المسلمين ويصوروهم على أضعف حال وانهم لم يجنوا من اتّباعهم لمحمد إلا الضعف والهوان والفقر..

وراحت قريش تتحدث فيما بينها أن محمداً صلى الله عليه و آله وأصحابه في عسرة وجَهْد وشدة، حتى إذا دخل مكة صفَّ له المشركون عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه وأحوالهم، فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المسجد اضطبع بردائه وأخرج عضده اليمنى، ثم قال:

«رحم اللَّه امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوة».

ثم استلم الركن والحجر الأسود، وخرج يهرول هو ويهرول معه أصحابه.

و طاف بهم الرسول صلى الله عليه و آله في عزّ وقوة حول الكعبة، حتى إذا واراه البيت من المشركين المحدقين به واستلم الركن اليماني مشى حتى الحجر الأسود.

حتى قال أهل مكة من الكفار- كما ذكرنا ذلك- وهم ينظرون في دهشة إلى المسلمين وقوتهم: هؤلاء هم الذين قلتم: إن حُمَّى المدينة أضعفتهم؟!

فوسوس لهم الشيطان!!

في مؤامرة خطط لها المشركون بعد أن أوحى لهم الشيطان كيده حيث تجمع كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف، جاء الشيطان إلى هؤلاء الكفرة المردة وقال لهم:

أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم.

وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه الغدرة للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان.. وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم للأسباب التالية:

ص: 213

- لأن موقع الكعبة والمسجد الحرام منخفض بل في أخفض مكان في مكة، ترتفع الجبال من حوله، وتأتيه السيول من كل جانب، فلو أن المشركين نفذوا مخططهم لقضوا عليهم..

- ولأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القراب.. ثم ليس هناك موالٍ قريب ليمدّ المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه و آله كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضّوا عليهم فلن يجد المسلمون وقتاً ليأتوا بالسلاح!

- وهنا أمر مهم، وهو ما كان يعتقده المشركون فيزيد في معنوياتهم: أن المسلمين ضعاف وأنهم أصابهم الهزال والضعف من آثار حمّى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذن الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها. إذاً كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى.

أروهم اليوم من أنفسكم قوة

فكان الحلّ من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان.. بعد أن جاءه جبريل عليه السلام وأخبره أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا..

وانطلاقاً مما يتمتع به صلى الله عليه و آله من فكر ثاقب، ونور النبوة، قال لأصحابه:

إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنّهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم

ص: 214

الفكرة، وبماذا تعكس؟ قال: «أروهم اليوم من أنفسكم قوة».

وليس المراد الدخول معهم بمعركة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة وأنتم تؤدون عمرتكم..

الاضطباع والرمل

فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالرمل، أي بالهرولة من بداية الطواف التي تكون من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند ه ويطوفون بالبيت من وراء حجر إسماعيل إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أعين أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في الأشواط السبعة لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة أشواط.

وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملًا، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء. وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين.

فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يلبّي حتى استلم الركن بمحجنه، وكان دخوله مكة من الثنيّة التي تطلعه على الحجون، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم،

ص: 215

وعبداللَّه بن رواحة آخذ بزمام راحلته وهو يقول:

خلوا بني الكفار عن سبيله إني شهدت أنه رسوله

حقاً وكل الخير في سبيله (نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله)

هذان نسبا خطأ لابن رواحة، لأنهما لعمار بن ياسر قالهما في صفين، والمشركون في مكة بعد لم يقروا بالتنزيل حتى يقتلوا على التأويل:

قد أنزل الرحمن في تنزيله بأنّ خير القتل في سبيله

يا رب إني مؤمن بقيله إني رأيت الحق في قبوله

ثم طاف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالبيت الحرام على راحلته، وطاف المسلمون معه، وأمر عبداللَّه بن رواحة أن يردّد هذا الدعاء والمسلمون يردِّدونه معه ويقولون:

«لا إله إلّا اللَّه وحده وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده».

وكانت الكعبة على موعد مع الأذان

فما أن قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نسكه حتى دخل البيت الحرام وما أن حان وقت الظهر، حتى أمر بلالًا ليرتقي ظهر الكعبة مؤذناً.. وأقام صلى الله عليه و آله الصلاة بأصحابه على مسمع ومرئ من المشركين وزعمائهم الذين هالهم هذا الموقف وأربكهم في عقر دارهم... إنه حقاً لأعظم موقف و فتح في الإسلام...

وما أن سمع كرمة بن أبي جهل بلالًا يصدح صوته بفصول الأذان حتى قال:

لقد أكرم اللَّه أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! فيما قال صفوان بن أمية: الحمد للَّه الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا!

وقال خالد بن أسيد: الحمد للَّه الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم. حين يقوم

ص: 216

بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! وأما سهيل بن عمرو ورجال معه فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.

حقاً بان غيظهم وبدت أضغانهم واستغشوا ثيابهم وازدادوا غماً....

ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما أراد السعي بين الصفا والمروة ورأى قريشاً قد اصطفوا له لينظروا إليه وإلى أصحابه قال لأصحابه:

رحم اللَّه امرءاً أراهم اليوم من نفسه قوّة، ثم أخذ يهرول في سعيه في المكان المعلوم الآن في المسعى، وأخذ المسلمون يهرولون معه فيه؛ ليرى المشركون جلدهم وقوّتهم.

فسعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن معه سبعاً، حتى إذا فرغ من السعي أتمّ نسكه ثم خرج من إحرامه، وكذلك فعل المسلمون.

وبعد ذلك أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مائتين من أصحابه الذين قضوا مناسكهم أن يذهبوا إلى أصحابهم بمرّ الظهران، فيقيموا على السلاح حتى يأتي الآخرون فيقضون نسكهم، ففعلوا.

ولم يسمح المشركون لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بدخول الكعبة، وقد أرسل صلى الله عليه و آله إليهم فأبوا وقالوا: لم يكن من شرطك.

الرحيل من مكة

ولما مضى على دخوله صلى الله عليه و آله مكة ثلاثة أيام- وهي المدة التي تمّ الاتفاق عليها مع قريش- قضى فيها المسلمون عمرتهم، وزار فيها المهاجرون ديارهم و ذويهم في مكة.. فلما انقضت المدة المتفق عليها بين الطرفين في صلح الحديبية، أتت قريش عليّاً عليه السلام فقالوا له: قل لصاحبك أخرج عنَّا فقد مضى الأجل.

وفي رواية: فلما كان عند الظهر من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو، وفي قول:

حويطب بن عبد العزى ونفر آخرون معه وقالوا: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنّا.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم

ص: 217

طعاماً فحضرتموه؟

قالوا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا! ننشدك اللَّه يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا، فهذه الثلاث قد مضت.

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم ينزل بيتاً، وضربت له قبة من الأدم بالأبطح فكان هناك حتى خرج منها. لم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها..

فغضب سعد بن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عليه و آله فقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك! واللَّه لا يبرح منها إلا طائعاً راضياً.

فتبسّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا...

فأمر أبا رافع ينادي بالرحيل، وقال:

لا يمسينّ بها أحد من المسلمين.

فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وخلّف أبا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها بسرف، وهي على بُعد عشرة أميال من مكّة، فبنى بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هنالك، ثم أدلج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى قدم المدينة في ذي الحجة.

والسيدة ميمونة شقيقة زوجة عمه العباس.. وأمر الزواج هذا وقع بعد أن عزم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ترك مكّة والعودة إلى المدينة فأقبل إليه عمّه العبّاس في رسالة من شقيقة زوجته ميمونة بنت الحارث اخت ام الفضل زوجة العباس، وكانت أرملة من أقرباء بعض رؤسائهم المعروفين، حيث قد أعجبها ما شاهدته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأرسلت إليه عبر العباس تعرض عليه رغبتها في الزواج منه، فوافق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ذلك، فلعله يقوّي عبر زواجه هذا أواصره بقريش ويستميل قلوبهم إليه، ويخفّف من غلوائهم وبغضائهم.. ولو كان تمّ ذلك لكان له أثره في نفوذ أمر النّبي في قلوبهم غير أنّهم لم يقبلوا ذلك منه.

وقد خلّف أبا رافع ليحمل إليه ميمونة حين يمسي، وأقام بسرف، وتتام الناس، و حتى قدمت ميمونة ومن معها، وقد لقوا أذى وعناء من سفهاء المشركين وصبيانهم، حيث لاموا ميمونة على رغبتها في الزواج من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأرادوا

ص: 218

منها أن تنصرف عن ذلك، لكنها أبت عن إجابتهم وأصرّت على إرادتها، وكانت على ما قيل: هي آخر من تزوّجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآخر من مات من أزواجه.

وبينما الرسول صلى الله عليه و آله وحوله أصحابه عائدون، إذا بفتاة تخرج من مكة، تجري خلفهم وتنادي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلة: يا عم. يا عم.

إنها ابنة حمزة سيد الشهداء الذي استشهد في أحد، فأخذها علي بن أبي طالب، وسلّمها إلى السيدة فاطمة زوجته، وإذا بزيد بن حارثة وجعفر يتنافسان على أيهما أحق بكفالتها.

فقال جعفر: ابنة عمي وخالتها زوجتي.

وقال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي.

وقال زيد: ابنة أخي؛ لأن النبي صلى الله عليه و آله قد آخى بين زيد وحمزة.

فحكم النبي بأن تكون مع جعفر وزوجته.

وقال: «الخالة بمنزلة الأم»..

و قد أسلم بعد هذه العمرة المباركة مباشرة جمعٌ من المشركين ممن بهرت أنظارهم قوة الإسلام و المسلمين..

و صدق اللَّه رسولَه بما وعد به المسلمين، وقد تحقّقت رؤياه التي أراه اللَّه تعالى في منامه قبل عام تقريباً، وكتب اللَّه له ولمن معه دخول البيت والطواف به..

فنزلت الآية الكريمة 27 من سورة الفتح، وهي تحمل بشائر عديدة، وهو ما سنراه عبر أقوال بعض المفسرين بعد قليل.

الرمل والاضطباع بين اللغة والفقه الإسلامي

الرمل لغة: الهرولة.. وفي الطواف: هو أن يمشي سريعاً يهز في مشيته الكتفين كالمبارز بين الصفين.

والاضطباع من اضطبع بالثوب ونحوه: أدخله من تحت إبطه الأيمن، وردّ طرفه، فألقاه على عاتقه الأيسر، وبدا منكبه الأيمن وتغطى الأيسر. وكان يفعل

ص: 219

ذلك من يريد أن ينشط للعمل (1).

مع أن سبب الرمل قد زال وهم يقولون بذلك إلا أنهم جعلوا من سنن الطواف عندهم أن يرمل الطائف في الأشواط الثلاثة الأولى في كل طواف، بأن يسرع مشيه مقارباً خطاه، ويمشي في الباقي من طوافه على هينته، ويروون أن رجلًا سأل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شي ء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أوّل ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟

قال: يا ابن أخي! حج رسول اللَّه، وطاف ورمل فرملنا.

ولما رواه الشيخان عن ابن عمر: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا طاف بالبيت طواف الأول خبّ ثلاثاً، ومشى أربعاً، وليقل أثناء الرمل: اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً».

ويضطبع الذكر- ولو صبياً- في الطواف والسعي على الصحيح اتّباعاً للسنة، وهو جعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن وطرفيه على الأيسر. ولا ترمل المرأة ولا تضطبع. ومن سنن السعي أن يمشي ثم يرمل بين الميلين الأخضرين.. (2).

والرسول صلى الله عليه و آله حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهلّ بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف، رمل ومكة فتحت في العام الثامن، وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول اللَّه وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل.

إذن، العلة كانت موجودة في أوّل رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، أي لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرّت مشروعيته. وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في


1- انظر: القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً لسعدي أبو جيب.
2- انظر: وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته 3: 104- 105، وغيره.

ص: 220

الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملًا، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج، ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف، وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعيٌ ففي طوافه رمل.

وأما طواف الإفاضة، فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه.

وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه.

وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته، إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفعله مع انتفاء العلة، وهو الذي يقول الأصوليون فيه الاعتراض أو الإيماء، وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.

ص: 221

موقف الإمامية

وأما ما ورد من أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رمل في الطواف، فهو قضية في واقعة لإظهار جلادة أصحابه في الجملة، ولا يستفاد منها الاستحباب، وفي نوادر ابن عيسى عن أبيه قال: «سئل ابن عباس فقيل: إن قوماً يروون أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بالرمل حول الكعبة فقال: كذبوا وصدقوا. فقلت: وكيف ذلك؟

فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دخل مكة في عمرة القضاء وأهلها مشركون وبلغهم أن أصحاب محمد مجهودون، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رحم اللَّه امرأً أراهم من نفسه جلداً، فأمرهم فحسروا عن أعضادهم ورملوا بالبيت ثلاثة أشواط، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ناقته، وعبد اللَّه بن رواحة اخذ بزمامها والمشركون بحيال الميزاب ينظرون إليهم، ثم حج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد ذلك فلم يرمل ولم يأمرهم بذلك، فصدقوا في ذلك، وكذبوا في هذه».

وعن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن الطواف: أيرمل فيه الرجل؟

فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما أن قدم مكة وكان بينه وبين المشركين الكتاب الذي قد علمتم، أمر الناس أن يتجلّدوا وقال: أخرجوا أعضادكم، وأخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثم رمل بالبيت ليريهم أنه لم يصبهم جهد، فمن أجل ذلك يرمل الناس، وإني لأمشي مشياً، وقد كان علي بن الحسين عليه السلام يمشي مشياً».

وفي نوادر أحمد بن عيسى عن أبيه عن جده قال: «رأيت علي بن الحسين عليه السلام يمشي ولا يرمل».

والمراد من الرمل: الهرولة على ما يستفاد من أقوال اللغويين (1).

وقفة

لم أجد فيما تيسّر لي من مصادر تاريخية وتفسيرية وروائية إلا الشروط التي ذكرت فيما تضمنته لائحة الصلح بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومشركي مكة، والتي ذكرناها


1- انظر: وسائل الشيعة، باب 29 من أبواب الطواف، الأحاديث 2، 5، 4.

ص: 222

أعلاه، إلا خبراً ذكره تفسير العياشي- وهو من تفاسير الإمامية- عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هو أو سنّة؟ قال: فريضة، قال: قلت: أليس اللَّه يقول: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» قال: كان ذلك في عمرة القضاء، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان شرطه عليهم أن يرفعوا الأصنام، فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الأصنام فجاؤا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فسألوه وقيل له: إن فلاناً لم يطف وقد أعيدت الأصنام، قال:

فأنزل اللَّه «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما»، أي والأصنام عليهما (1).

قال الفيض (رحمه اللَّه) في الوافي: يعني شرط على المشركين أن يرفعوا أصنامهم التي كانت على الصفا والمروة حتى ينقضي أيام المناسك، ثم يعيدوها، فتشاغل رجل من المسلمين عن السعي حتى انقضت الأيام وأعيدت الأصنام، فزعم المسلمون عدم جواز السعي حال كون الأصنام على الصفا والمروة.

والذي يبدو لي أن هذا الشرط لم يكن مع بنود الصلح، وإنما جاء بعد ذلك عندما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يسعى بين الصفا والمروة طلب من قريش أن يرفعوا أصنامهم، ويمكن أن يستفاد هذا مما جاء في تفسير القمي: «فإن قريشاً كانت وضعت أصنامهم بين الصفا والمروة وكانوا يتمسّحون بها إذا سعوا فلما كان من أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما كان في غزاة الحديبية وصدّه عن البيت، وشرطوا له أن يخلوا له البيت في عامٍ قابل حتى يقضي عمرته ثلاثة أيام ثم يخرج عنها، فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكة وقال لقريش: ارفعوا أصنامكم من بين الصفا والمروة حتى أسعى، فرفعوها فسعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين الصفا والمروة وقد


1- بحار الأنوار 21: 54؛ والبرهان 1: 170.

ص: 223

رفعت الأصنام، وبقي رجل من الطواف ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة، فجاء الرجل الذي لم يسع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: قد ردّت قريش الأصنام بين الصفا والمروة ولم أسع، فأنزل اللَّه عزوجل: «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» والأصنام فيه...

فهذه العبارة تبيّن أن طلب الرفع كان ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مكة: «فلما كان عمرة القضاء في سنة سبع من الهجرة دخل مكة وقال لقريش: ارفعوا أصنامكم من بين الصفا والمروة حتى أسعى، فرفعوها فسعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله..»

إذن هو طلب متأخر. وإلا لو كان موجوداً ومتفقاً عليه لذكرته لائحة الصلح، وليس هناك مصلحة في إخفائه وفي عدم تدوينه ونقله، بل بالعكس هو شرط لصالح المسلمين..

ثم إن الكلام يقع في مدى استجابتهم، والذي أميل إليه أنه حتى لو طلب ذلك منهم فإنهم لم يستجيبوا له، لأنه طلب منهم أن يسمحوا له بدخول الكعبة، وهو أمر أيسر عليهم من قلع أصنامهم وإخلاء البيت أو المسعى منها لتعلقهم بها وأنها رمزعبادتهم وقدّموا في سبيلها كل غال من دماء وأموال فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك.. ورفضوا طلبه الآخر: «وما عليكم لو تركتموني فأعرس بين أظهركم وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه؟ قالوا: لا حاجة لنا في طعامك...».

ثم إن رفعها ثم إعادتها ليس أمراً سهلًا خصوصاً وأن عددها ليس بالقليل (360 صنماً) في المسجد والمسعى مرصّصة بالرصاص، كما تذكر بعض مصادر التاريخ (1). وأيضاً لو طلب منهم رفعها لنقلت الأخبار ذلك كما نقلت لنا طلبه لدخول البيت فهو أمر ليس بالهيّن والبسيط حتى يتغافل عنه.

ثم هناك رواية أخرى تقول: قال أبوعبداللَّه في خبر حماد بن عثمان: إنه كان


1- منها المغازي 2: 832.

ص: 224

على الصفا والمروة أصنام فلما أن حج الناس لم يدروا كيف يصنعون، فأنزل اللَّه هذه الآية، فكان الناس يسعون والأصنام على حالها، فلما حج النبي صلى الله عليه و آله رمى بها (1).

والأمر إما يحتاج إلى معالجة. وإما إلى الأخذ بهذه الرواية، خصوصاً وهي مؤيدة بما لم تختلف عليه المصادر في نقلها لبنود الصلح ولم تذكر شرط رفع الأصنام كبند من البنود المتفق عليها بين الطرفين..

وفي تفسير التبيان للشيخ الطوسي:

وإنما قال: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» وهو طاعة، من حيث إنه جواب لمن توهّم أن فيه جناحاً، لصنمين كانا عليه: أحدهما إساف، والآخر نائلة، في قول الشعبي، وكثير من أهل العلم. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام..

وكان ذلك في عمرة القضاء ولم يكن فتح مكة بعد، وكانت الأصنام على حالها حول الكعبة، وقال قوم: سبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بينهما، فكره المسلمون ذلك خوفاً أن يكون من أفعال الجاهلية، فأنزل اللَّه تعالى الآية. وقال قوم عكس ذلك:

إن أهل الجاهلية كانوا يكرهون السعي بينهما، فظنّ قوم أن في الإسلام مثل ذلك، فأنزل اللَّه تعالى الآية. وجملته أن في الآية رداً على جميع من كرهه، لاختلاف أسبابه. ومثله في مجمع البيان: «.. فكان الناس يسعون والأصنام على حالها فلما حجّ النبي صلى الله عليه و آله رمى بها».

وفي أسباب النزول للواحدي يذكر ابن عباس في ذيل رواية عنه:

... فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما- بين الصفا والمروة- لأجل الصنمين؛ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ...».

أي إن كرههم وقع بعد فتح مكة وتكسير الأصنام لأنهما كانا مكاناً لها.


1- بحار الأنوار 21: 55؛ والبرهان 1: 170.

ص: 225

مع تفسير الآية المباركة

«لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» (1).

هذه الآية المباركة جاءت مصدقةً لرؤيا النبي صلى الله عليه و آله، ولترسم نتيجة مهمة من نتائج قصة الحديبيّة، فحملت بشائر طالما اشرأبت لها الأعناق فاستيقنتها نفوس وانتظرتها أخرى واستعجلها قوم آخرون...

إن عمرة القضاء (هذا الوعد الرباني النبوي) التي أداها رسول الرحمة صلى الله عليه و آله والمسلمون، ما كانت إلا تمهيداً لبيعة الرضوان ولفتح مكة فيما بعد، ولفتح خيبر قبلها... فقد ترك هذا الحدث آثاراً كبيرة على الوضع النفسي والاجتماعي وأيضاً السياسي لكلا الطرفين، فالوضع الإسلامي صار يتمتع أبناؤه بالقوة والتفاؤل بانتشار دينهم والقضاء على الشرك والمشركين وعلى أعدائهم المنتشرين من القبائل العربية وآخرين يحيطون بهم، وبالعودة إلى بلدهم الذي هجّروا منه قسراً وهو مكة المشرفة، وهم رافعو الرؤوس ينشدون أناشيد النصر والخلاص من الكفر والشرك والظالمين وأصنامهم وأوثانهم وطغيانهم.. هذا من جانب.

ومن جانب آخر، إنّ مشاهدة قريش للعدد الكثير من المسلمين الأنصار والمهاجرين وهم محدقون برسول اللَّه صلى الله عليه و آله في طوافهم وسعيهم وباقي مناسكهم، وما كانوا عليه من حماس ونشاط، لم يكن يتوقعه المشركون رغم كل محاولاتهم إجهاض مظهر العز والقوة اللتين يتمتع بهما المسلمون، وكان لذلك أبلغ الأثر في نفوسهم، فقد داخلتهم الرهبة والهيبة من المسلمين، إذ فوجئوا بأمر لم يكونوا يألفوه، بل لم يكونوا يتوقعوه..

حتى ورد عن ابن عباس: «أن المشركين لما رأوا رمَل المسلمين (والرَمَل هو


1- الفتح: 27.

ص: 226

الإسراع في المشي مع مقاربة الخُطا) حول الكعبة، قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمّى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا وكذا».

إذن، كان ولا ريب لعمرة القضاء- وبالشكل الذي تمت به وبالصورة التي انتهت إليها وما تركته من ثمار وانتصارات توالت بعدها- آثار بالغة في نفوس المشركين في الجزيرة العربية وما حولها، مهَّدت لفتح مكة فيما بعد ذلك..

إن صلح الحديبية- وكما وصفه الكتاب العزيز ووصف نتائجه عبر سورة سمّيت بسورة الفتح- كان فتحاً مبيناً وفوزاً عظيماً ونصراً عزيزاً ومغفرة وهداية ونعمة تامة...: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً* هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَللَّه جُنُودُ السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً* لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اْلأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً* وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً* وَللَّه جُنُودُ السَّماواتِ وَاْلأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً* إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (1).

كما أن هناك دلالات وأهداف وبصمات كبيرة من هذا الحدث تركه على مسيرة الدين وأهله من خلال الإعداد الصحيح للمسلمين، ليثمر هذا الإعداد عن قوة معنوية وقوة مادية على حد سواء تثبت قواعد المؤمنين، وإبرازهما في الوقت المناسب لتتحقق لهم هيبة ورهبة في قلوب أعدائهم المتربصين بهم، وتغيظ جميع أعدائهم والمتآمرين عليهم وتضعف معنوياتهم...


1- الفتح 1- 9.

ص: 227

هذا وإن ما أصاب بعض الصحابة ممن سمعوا رؤيا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد كانوا مستبشرين بتحققها من تشكيك وارتياب آذى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد الذي حدث في الحديبية من الصلح، وعدم تحقق الرؤيا في سنتها، وهم قد استعدوا لدخول مكة لولا منع المشركين، وما حصل من اتفاق وإبرام صلح، ومنه أن لا يدخلوا المسجد الحرام إلا في عامهم القادم. يؤكد اللَّه تعالى لهم أن هذه الرؤيا منه وهي صادقة، وأنها لا تتخلف بل هي واقعة بعد حين، وأنها تحمل نتائج كبيرة وانتصارات، وأن خوفهم وهلعهم لا مبرر له إلا ضعف إيمانهم وعدم وعيهم لخطوات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولما يأتيهم به فثقلت على نفوسهم تفاصيلها وما انتهت إليه من بنود.. فأعادوا النظر بوضعهم الإيماني هذا، وهي درس بليغ لهم يربيهم على الطاعة المطلقة للَّه تعالى ولرسوله وعلى الامتثال البعيد عن التردد، وعلى الاستسلام الخالي من الارتياب.. وأعلنوا ندمهم على ما ظهر منهم وما سبّبوه من ألمٍ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وأن الطاعة الصادقة يجب أن تتجذر في قلوبهم ونفوسهم، وأنها من أهم واجبات الإيمان بغض النظر عن العواقب ودون النظر إلى ما يترتب من ربح أو خسارة...

فيما تلقى المنافقون الذين أضمروا السوء وأن لا عودة للرسول ولمن معه إلى المدينة وإلى أهليهم فهم ذاهبون إلى حتفهم.. ولم يعلموا أن اللَّه تعالى ناصرٌ نبيه، وهو الحامي له وللصادقين من عباده. تلقى هؤلاء ضربةً موجعة أفقدتهم صوابهم وخيّبت تقديراتهم وآمالهم وأفشلت خططهم...

مع أقوال بعض المفسرين

إن لصلح الحديبية دوراً كبيراً ورائداً في تهيئة الأجواء لدخول المسلمين مكة والمكوث فيها ثلاثة أيام يؤدون مناسك عمرتهم بطمأنينة وسلام، ثم يعودون أهليهم ويتفقدون منازلهم...، كل هذا كان يجري على مسمع ومرأى من مشركي مكة، وهم صاغرون.. وهو ما نراه في أقوال عدد من المفسرين..

ولنبدأ مع ما ذهب إليه صاحب الميزان حيث يقول:

ص: 228

... اللام في «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ» للقسم، وقوله: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ» جواب القسم.

وقوله: «بِالْحَقِّ» حال من الرؤيا والباء فيه للملابسة، والتعليق بالمشية في قوله: «إِنْ شاءَ اللَّهُ» لتعليم العباد

والمعنى:

أقسم لقد صدق اللَّه رسوله في الرؤيا التي أراه لتدخلن أيها المؤمنون المسجدَ الحرام إن شاء اللَّه حال كونكم آمنين من شرّ المشركين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين، لا تخافون المشركين.

وقوله: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» ذلك إشارة إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، والمراد بقوله: «من دون ذلك» أقرب من ذلك والمعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه ولم تعلموه، ولذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحاً قريباً ليتيسّر لكم الدخول كذلك.

ومن هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية؛ فهو الذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين ويسّر لهم ذلك، ولولا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلا بالقتال وسفك الدماء، ولا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية وما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.

ويأخذ السيد الطباطبائي من هذا دليلًا على أن المراد بالفتح الوارد في الآية هو صلح الحديبية لاغيره، حيث يقول:

ومن هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، وأما القول بأنه فتح مكة فأبعد.

وسياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي صلى الله عليه و آله، فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي صلى الله عليه و آله من دخولهم المسجد آمنين

ص: 229

محلّقين رؤوسهم ومقصرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك، فلما خرجوا قاصدين مكة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية وصدّوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال اللَّه ريبهم بما في الآية.

ومحصله: أن الرؤيا حقة أراها اللَّه نبيه صلى الله عليه و آله وقد صدق تعالى في ذلك، وستدخلون المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، لكنه تعالى أخّره وقدم عليه هذا الفتح، وهو صلح الحديبية ليتيسّر لكم دخوله؛ لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون إلا بهذا الطريق.

قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، وقوله: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» أي شاهداً على صدق نبوته والوعد أن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة (1).

أما صاحب تفسير الأمثل، فمما يقوله عند تفسير الآية: ينبغي الالتفات إلى أنّ «اللام» في «لَتَدْخُلُنَّ» هي لام القسم، وأنّ «النون» في آخر الفعل هي للتوكيد، بأنّ هذا هو وعد إلهي قطعي في المستقبل وتنبؤ معجز صريح عن أداء المناسك والعمرة في كامل الأمان ومنتهى الطمأنينة، وكما سنبيّن كان هذا التوقّع والتنبّؤ صادقاً في شهر ذي القعدة ذاته من السنة المقبلة، وهكذا أدّى المسلمون مناسك العمرة بهذه الصورة!

التعبير ب «فَتْحاً قَرِيباً» كما يعتقد كثيرٌ من المفسّرين هو إشارة إلى صلح الحديبيّة الذي عبّر عنه القرآن بالفتح المبين، ونعرف أنّ هذا الفتح كان السبيل إلى دخول المسجد الحرام في السنة التالية.

على حين أنّ جماعة آخرين يعتقدون أنّ «فَتْحاً قَرِيباً» إشارة إلى «فتح خيبر».


1- انظر: الطباطبائي، الميزان، سورة الفتح، الآية 27.

ص: 230

وبالطبع فإنّ كلمة «قَرِيباً» فيها تناسبٌ أكثر مع «فتح خيبر»؛ لأنّه كان «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمناً من فتح مكّة بعدها، ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يقول في الآية (18) من هذه السورة ذاتها عند الكلام على بيعة الرضوان:

«فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً». وكما قلنا ويعتقد بذلك أكثر المفسّرين أيضاً أنّ المراد من هذا الفتح هو «فتح خيبر» والقرائن الموجودة... وفي تفسير علي بن إبراهيم رواية تشير إلى هذا المعنى أيضاً.. (1) جملة: «مُحَلِّقِينَ رُؤوُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» إشارة إلى واحد من مناسك العمرة وآدابها وهو «التقصير»، و به يخرج المحرم من إحرامه، وقد استدل بعضهم بالآية في التخيير عند الخروج من الإحرام بين التقصير في تقليم الأظافر والحلق، لأنّ الجمع بينهما ليس واجباً قطعاً.

جملة: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا» إشارة إلى مسائل مهمّة مطوية في صلح الحديبيّة، وقد انكشفت بمرور الزمن إذ قويت قواعد الإسلام وانتشر صوته وترامت أصداؤه في كلّ مكان وطُويت نزعة الحرب عند المسلمين، واستطاعوا أن يفتحوا «خيبر» بفارغ البال وقرار البلبال، وأرسلوا المبلّغين إلى أطراف الجزيرة العربية، وبعث النّبي صلى الله عليه و آله رسائله إلى أعاظم رؤساء الدول آنئذ، فهذه مسائل كان الفرد المسلم لا يعرفها لكنّ اللَّه كان يعلمها...

نواجه في هذه الآية الكريمة موضوع الرؤيا، وهي رؤيا النبي صلى الله عليه و آله الصادقة التي تعدّ (غصناً من غصون) الوحي، وهي مشابهة لقصة رؤيا إبراهيم عليه السلام وذبح ولده، الآية تحكي عن هذا الفتح أيضاً، ومع الالتفات إلى أنّ الآية محل البحث تنسجم مع تلك الآية يبدو أنّ الآيتين بمعنى واحد.. (2).

والآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن، وهي شاهد على أنّ هذا الكتاب سماويّ، وأنّه من معاجز النّبي الكريم حيث يخبرُ قاطعاً


1- لاحظ: نور الثقلين 5: 76.
2- انظر: الصافات: 102.

ص: 231

عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضاً، وكما نعلم فإنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلًا..

وحول هذا المقطع من الآية المباركة «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ...» وتعلّق الوعد على المشيئة الإلهية رغم أن اللَّه تعالى هوالخالق للأشياء كلها وهو العالم بها قبل وقوعها وهو المخبر بوقوع العمرة، أي ما وجه دخول «إِنْ شاءَ اللَّهُ» في إخبار اللَّه عز وجل؟

وهنا أقوال:

1- إنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه و آله.

2- إن هذا التعليق تأدب بآداب اللَّه تعالى، وإن كان الموعود به محقق الوقوع.

أو أن يعلّق اللَّه تعالى عدته بالمشيئة تعليماً لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب اللَّه ومقتدين بسنته «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ».

3- استثنى اللَّه فيما يعلم ليستثني الناس فيما لا يعلمون.

4- «إن» هنا بمعنى «إذ» التي تذكر لتعليل ما قبلها- وهو زعم الكوفيين- أي إذ شاء اللَّه حين أرى رسوله ذلك، وعن أبي عبيدة ومثله قوله: وأنتم الأعلون إن

ص: 232

كنتم مؤمنين، قال معناه: إذ كنتم.. وقالوا: وليست شرطية؛ لأن الشرط مستقبل وهذه القصة قد مضت.

5- إن الاستثناء من الدخول، وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة، وقد مات منهم أناس في السنة، فيكون تقديره لتدخلن كلكم إن شاء اللَّه، إذ علم اللَّه أن منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها، فأدخل الاستثناء لأن لا يقع في الخبر خلف. وقيل: إن الاستثناء داخل على الخوف والأمن، فأما الدخول فلا شك فيه، وتقديره لتدخلن المسجد الحرام آمنين من العدو إن شاء اللَّه. وهذه الأقوال الثلاثة كما يذكرالطبرسي في تفسيره مجمع البيان للبصريين.

ويقول سيد قطب في ظلاله:

ولكن اللَّه سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان وهو يقول لهم:

«لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ...» فالدخول واقع لأن اللَّه أخبر به، ولكن المشيئة يجب أن تظلّ في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيّدها شي ء حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية.

والقرآن يتكئ على هذا المعنى ويقرّر هذه الحقيقة، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد اللَّه. ووعد اللَّه لا يخلف. ولكن تعلق المشيئة به أبداً طليق. إنه أدب يلقيه اللَّه في روع المؤمنين، ليستقرّ منهم في أعماق الضمير والشعور.

أما صاحب تفسير الأمثل فيقول:

ولعلّها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة اللَّه عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة اللَّه، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه. وربّما هي إشارة للظروف التي يهيّؤها اللَّه لهذا التوفيق «توفيق اللَّه المسلمين لزيارة بيته في المستقبل القريب» والبقاء على خط «التوحيد والسكينة والتقوى»...

كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض المسلمين الذين تنتهي أعمارهم في هذه

ص: 233

الفترة والفاصلة الزمانية ولا يوفّقون إلى زيارة بيت اللَّه، والجمع بين هذه المعاني كلها لا مانع منه أبداً...

وختاماً هذا تلخيص لما ورد عن بعض المفسرين إضافة لما ذكرناه طي المقالة من أقوالهم:

لقد رأى النّبي صلى الله عليه و آله في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكّة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة، فحدّث أصحابه بذلك، غير أنهم أصيبوا بإحباط وارتياب بعد أن منعتهم قريش ووقع الصلح.

فكان جواب النّبي لهم: هل قلت لكم: إنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟

فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنبي عائد من الحديبية إلى المدينة، وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة... تقول الآية: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ»، فما رآه النّبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.

ثمّ تضيف الآية قائلةً: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» وكان في هذا التأخير حكمةٌ: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً».

اللام في «لَتَدْخُلُنَّ» هي لام القسم، و النون للتوكيد، وهو وعد إلهي قطعي الوقوع ويتضمن نبوءة عن أداء المناسك والعمرة بأمان وطمأنينة.. وهو أمر غيبي وبالتالي فهو شاهد على أنّ هذا الكتاب سماويّ وأنّه من معاجز النّبي الكريم حيث يخبرُ قاطعاً عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب «صلح الحديبية أو فتح خيبر»، و أنّ هذين التنبّؤين قد وقعا فعلًا..

جملة «محلّقين رؤوسكم ومقصّرين» إشارة إلى واحد من مناسك العمرة وآدابها، وهو «التقصير» وبه يخرج المحرم من إحرامه، وقد استدل بعضهم بالآية في التخيير عند الخروج من الإحرام بين التقصير في تقليم الأظافروالحلق، لأنّ الجمع بينهما ليس واجباً قطعاً.

ص: 234

«فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا» مالم تعلموا من الخير والصلاح وما ستثمر هذه الخطوة وهذا الحدث من خير عميم ونصر كبير وعزة للإسلام والمسلمين..

وأما عمرة القضاء فهي العمرة التي أدّاها النّبي صلى الله عليه و آله مع أصحابه بعد صلح الحديبيّة بعام، أي في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة (على وجه الدقّة بعد عام من منع المشركين أن يدخل الرّسول وأصحابه مكّة).

وجاءت هذه العمرة طبقاً لإحدى مواد كتاب صلح الحديبيّة التي أصبح من المقرر بموجبها أن يؤدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ومعه المسلمون- العمرة وزيارة بيت اللَّه الحرام ليس في عامهم هذا عام الصلح بل في العام المقبل، على أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الوقت ذاته يخرج المشركون ورؤساؤهم من مكّة أيضاً.

حتى لا يرى المشركون شيئاً قد يثيرهم وعبادة قد تغيظهم ونداء أو شعاراً قد يغضبهم.. ودرءاً لما قد يقع من احتكاك بينهم و اختلاف، وبالتالي قد يكون ذلك كله سبباً لنزاع مسلّح بين الفريقين...

لقد أحرم النّبي صلى الله عليه و آله في السنة المقبلة وأصحابه ومعهم جمالهم المساقة للهدي، وتحرّكوا جميعاً حتى بلغوا أطراف مرّ الظهران وضواحيها، وعندها بعث النّبي صلى الله عليه و آله ما كان عنده من أسلحة وخيول تستلفت النظر مع الصحابي محمّد بن مسلمة، فلمّا وقعت عيون المشركين عليها أصيبوا بفزع وهلع وانتابهم خوف شديد وظنّوا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يريد أن ينقض العهد بمدته عشر سنين و قتالهم وسرعان ما انتشر الخبر في مكة.

غير أنّ النّبي صلى الله عليه و آله حين وصل منطقة قريبة من مكّة، أمر أن توضع الأسلحة من السهام والرماح وغيرها من الأسلحة في منطقة تدعى يأجج، ودخل هو وأصحابه مكّة بالسيوف المغمدة في قرابها.

فلمّا رأى أهل مكّة من النّبي ما رأوا فرحوا؛ إذ وفى النبي بوعده، فكأنّ النبي بعمله هذا وجّه إنذاراً لمشركي مكة إن سولت لهم أنفسهم أمراً فنقضوا العهد وأرادوا سوءاً فسيجدون قوة عظيمة تقهرهم وتفشل عليهم تآمرهم.

ص: 235

فخرج رؤساء مكّة وأتباعهم من مكة لئلّا تتأثر نفوسهم بما يرونه من عزة المسلمين والكيفية التي يؤدون بها مناسك عمرتهم...

ومع هذا ظلّ جمع منهم- رجالًا ونساءً وأطفالًا- مجتمعين على سطوح مكة وتلالها القريبة من المسجد وفي الطرقات المؤدية إليه وحول الكعبة ليشاهدوا رسول اللَّه محمداً صلى الله عليه و آله وقد عاد إلى مدينته بقوة وانتصار في تظاهرة المسلمين الذين يحيطون به.. فعاملهم بلطف ومحبة وحنين من جهة، ومن جهة أخرى أمر المسلمين أن يسرعوا أثناء الطواف وأن يزيحوا الإحرام عن أكتافهم قليلًا لتبدو علائم القدرة والقوّة فيهم وأن تترك هذه الحالة في أفكار أهل مكّة وأنفسهم تأثيراً كبيراً ودليلًا حيّاً على قوة المسلمين وحكمتهم!

وعلى كلّ حال، فإنّ «عمرة القضاء» كانت عبادة، كما كانت في الوقت ذاته عَرضاً «للعضلات المفتولة»، وينبغي القول: إنّ «فتح مكّة» الذي تحقّق بعد سنة أُخرى كان قد نثربذره في هذه السنة وهيّأ الأرضية لاستسلام أهل مكّة للفاتحين (المسلمين).

وكان هذا الأمر مدعاةً لقلق رؤساء قريش إلى درجة أنّهم بعثوا رجلًا بعد مضي ثلاثة أيّام إلى النّبي يطلب منه أن يغادر بسرعة هو وأصحابه مكّة طبقاً للمعاهدة...

ومن الطريف هنا أنّ النّبي تزوّج أرملةً من نساء قريش وكانت من أقرباء بعض رؤسائهم المعروفين، وذلك ليشدّ أواصره بهم ويخفّف من غلوائهم وبغضائهم.

وحين سمع النبي اقتراحهم بالمغادرة قال: «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه». قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا.

ولو كان تمّ ذلك لكان له أثره في نفوذ أمر النّبي في قلوبهم، غير أنّهم لم يقبلوا ذلك منه... (1).


1- هذا موجز لما ذكر في تفسير الأمثل للشيخ مكارم ملخصاً لما جاء في ظلال القرآن ومجمع البيان..

ص: 236

قراءة في حجة الوداع

تعليم المناسك ورواية الفريقين

خطبة الغدير- ما نزل فيها من قرآن

حسن محمد

في العام العاشر من الهجرة النبوية وفي شهر ذي القعدة، راح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يجهّز نفسه وأهله وأصحابه والمسلمين عموماً من شتى البلاد طالباً منهم جميعاً الحضور في موسم الحج.

والذي يبدو من هذا الحشد والإعداد الكبير له والاهتمام العظيم به هو أنه صلى الله عليه و آله إضافة إلى أنه يريد بذلك توديعهم فهو مقبل على ربه وجواره تعالى عن قريب «أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا..» ولهذا سميت بحجة الوداع، فقد ودّع الناس بعد انتهاء خطبته في عرفات ومنى، وتأتينا أسماؤها الأخرى في فصل: ما نزل فيها من قرآن.

و أراد أن يبين لهم أموراً، غاية بالدقة والأهمية لما تتركه في حياتهم الإيمانية ومسيرتهم نحو اللَّه تعالى وهم يؤدّون ما عليهم من تكاليف وما تنتظرهم من مهام، وكان منها:

- مناسك فريضة الحج المقدسة كما رسمتها السماء، وتخليصها مما علق بها من

ص: 237

بدع وشوائب وانحرافات...

- أحكام ومفاهيم أخرى تضمّنتها خطبه في ميادين هذه الفريضة.

- قيادة المسيرة الإسلامية من بعده صلى الله عليه و آله وعلى جميع المستويات.

ونحن هنا، ولبيان ما يرتبط بالأمور المذكورة نقف عند النقاط التالية وبإيجاز نأمل أن يكون نافعاً بإذنه تعالى:

سنته صلى الله عليه و آله التي اتبعها عبر أفعاله وأقواله وغدت مدرسة تعليمية، تلامذتها المسلمون، ينهلون منها الصحيح من المناسك والسليم من الأعمال والأذكار، ورسول اللَّه في ذلك قدوتهم والأسوة التي يتأسّون بها ويأخذون عنها «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» ولقد كلفته هذه الفريضة كما غيرها جهوداً كبيرة مضنية من خلال ما قام به من دور تبليغي..

و نلقي الضوء من خلال ذلك على طريقة عمله و تبليغه صلى الله عليه و آله لفريضة مهمة من فرائض اللَّه تعالى على عباده، وهي فريضة الحج وإنما اخترناها لأنها مهمة عملية تطبيقية استغرقت منه وقتاً طويلًا وجهداً فائقاً، خصوصاً وأنه أراد من خلال ذلك الإطاحة بكل عمل مارسوه باعتقاد أنه جزء من الحج وما هو من الحج، وبكل شائبة تركها تعاقب السنين أو انحراف عن السيرة السليمة للحج أو بدعة دخلت على مناسك نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام التي بلغها من قبل كما تحمله الآية الكريمة:

«... وَ أَرِنا مَناسِكَنا...» (1)

وكيف بذل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جهده في تعليمهم مفاصلها النقية ومناسكها الخالصة وما يتعلق بها كما أرادته السماء وبلغها نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام، وكان يؤدي ذلك لا نظرياً فقط بل راح يمارسه أمامهم ويطبقه عملياً في ميادين المناسك المتعددة وهدفه العظيم يرافقه وهو تربيتهم وتعليمهم توحيد اللَّه إخلاصاً وعبادته بالطريقة التي يريدها سليمة والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباعه صلى الله عليه و آله في الأقوال والأعمال، وأن تُؤَدّى مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه اللَّه لعباده على لسانه، فهو المعلّم والمرشد والمبلغ، وبالتالي فهو القدوة والأسوة... وهكذا بعثه اللَّه تعالى رحمةً للعالمين.


1- البقرة: 128.

ص: 238

وهو القائل لهم: «خذوا عني مناسككم».

إن حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أدّاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد هجرته إلى المدينة المنورة، وقد وقعت في العام العاشر الهجري كما سبق ذكره، ونظراً لهدفها الكبير بخصوص ما يتعلق بالفريضة، وهو تعليم المسلمين الحج وتبليغهم أحكامه ومناسكه من قبل الرسول صلى الله عليه و آله؛ لهذا وجه دعوة عامة إلى المسلمين في الجزيرة العربية لحضور هذه الفريضة، للاشتراك في تلك الحجة. ومن هنا تعد حجة الوداع سفرة تعليمية ميدانية عملية يتدرب فيها المسلمون على كيفية أداء مناسك الحجّ، وهو ما أكدته مصادر التاريخ والرواية، وهذا الهدف من الأهداف الكبيرة لحجة الوداع.

وما قاله سراقة بن مالك بن جعشم الكناني دليل واضح على ما أداه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أعمال نافعة كأنها جديدة عليهم، تخص فريضة الحج وإبعادها عما اعتادوا عليه في أدائها: يارسول اللَّه! علّمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثم شبك أصابعه وقال:

دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة...

«واجتمعوا لحج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإنما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه أو يصنع شيئاً فيصنعونه..» (1).

إن لحجة الوداع في الفقه السني وفي الفقه الشيعي وفي أحاديثهم أهمية كبيرة تولدت عندهم؛ لأنها تتضمن أحكام الحج، وهو أمر مهم وجيد ومتفق عليه عندهم، وإن هذا الحديث يمكن أن يكون حكماً ومرجعاً في المسائل المختلف عليها بين فقهاء الفريقين، إلا أنها لدى الشيعة تحظى بأهمية أخرى أكبر، لإعلان نبي الرحمة ولاية ابن عمه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، بعد أن اختتم حجته


1- انظر رواية معاوية بن عمار، واللفظ لها، وكذا رواية جابر.

ص: 239

وعند عودته منها وتوقفه قريباً من «الجحفة» في «غدير خم»، وكان ذلك بأمر من اللَّه تعالى، ثم أخذ البيعة من الناس.

وفي بعض روايات مدرسة أهل البيت عليهم السلام جاءت قصة الغدير في أعقاب حديث حجة الوداع..

وهناك رواية أخرى يرويها معاوية بن عمار عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام تبيّن ما قام به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أعمال في حجة الوداع تحمل اختلافاً عن رواية الصحابي جابر، لسنا بصدد بيان ذلك، لأن ما نبتغيه من مقالتنا هنا هو تبيين الدور التعليمي التدريبي للحج الصحيح ونبذ ما تعلّق به من شوائب..

وأنا هنا أكتفي بنقل نصّ الروايتين عن حج النبي صلى الله عليه و آله وهي كما قلنا حجة تبليغية تعليمية لنلمس ذلك الدور.

نبدأ برواية للصحابي الجليل جابر الأنصاري:

كان عمر جابر يومها عشرين سنة وكان يقود ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛

فتابع تفاصيل هذه الحجة مشاهدة وسماعاً وحفظاً ونقلها بدقة.

فجاءت رواية كاملة لحجة الوداع. وهو القائل: «على يدي دار الحديث» (1).

وهي تعد نقطة التقاء بين فقه وحديث كل من أهل السنة والشيعة حول حجة الوداع.

مما قالوه عن حديث جابر

وقبل أن نذكر نصها هذه بعض الأقوال في حديث جابر لحجة الوداع:

فالإمام يحيى بن شرف أبو زكريا محيي الدين النووي الشافعي (676- 631 ه) في شرحه لصحيح مسلم يقول: هو حديث عظيم مشتمل على جملة من الفوائد والنفائس من مهمات القواعد.. حتى يقول: وقد تكلّم الناس على


1- رواه مسلم في صحيحه 8: 168.

ص: 240

ما فيه من الفقه وأكثروا.

وصنّف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً وخرّج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تقصّى لزيد على هذا القدر أو هو قريب منه.. والنووي في شرح أحاديث الحج من صحيح مسلم يستند مراراً إلى هذا الحديث، ويشرح بالتفصيل مبهماته ومشكلاته (1).

و قال صاحب التاج الجامع الشيخ ناصيف عن حديث جابر: هذا حديث جليل القدر عظيم الفضل، حوى كل ما فعله النبي صلى الله عليه و آله في حجة الوداع من أركان وواجبات ومندوبات إلا قليلًا، وهو أول حديث طويل في كتاب التاج ويليه في الطول حديثا: الإسراء والهجرة الآتيان في كتاب النبوة و... ثم يقول: وجابر رضي اللَّه عنه كان يقود راحلة النبي صلى الله عليه و آله في حجة الوداع، فلذا كان أعلم الناس بها.

ثم بدأ بذكر الرواية ونحن ننقلها مع هامشها من التاج الجامع:

عن جعفر بن محمد رضي اللَّه عنه عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبد اللَّه، فسأل عن القوم، حتى انتهى إليَّ فقلتُ: أنا محمد بن عليّ بن الحسين. فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زِرّي الأعلى، ثمّ حلّ زرّي الأسفل، ثمّ وضع كفّه بين ثدييَّ، وأنا يومئذ غلامٌ شاب. فقال: مرحباً بك يا ابن أخي، سل عمّا شئت، فسألته وهو أعمى وحضر وقت الصلاة، فقام في نساجة ملتحفاً بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه، من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلّى بنا.

فقلت: أخبرني عن حجة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال بيده، فقعد تسعاً وقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذّن في الناس في العاشرة: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حاجّ، فقدم المدينة بشرٌ كثير، كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمّد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري


1- انظر: صحيح مسلم 8: 170.

ص: 241

بثوب وأحرمي. فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المسجد، ثمّ ركب القصواء حتّى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، ما عمل به من شي ء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك. وأهلّ الناس بهذا الذي يهلُّون به، فلم يرُدَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليهم شيئاً منه. ولزم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تلبيته.

قال جابر: لسنا ننوي إلّا الحجّ، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقال:

«وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلّى»

فجعل المقام بينه وبين البيت. وكان يقرأ في الرّكعتين:

قل هو اللَّه أحد- وقل يا أيّها الكافرون، ثمّ رجع إلى البيت إلى الركن فاستلمه، ثمّ خرج من الباب إلى الصّفا، حتى إذا دنا من الصّفا قرأ:

«إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ»

ابدأوا بما بدأ اللَّه به، فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتّى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد اللَّه وكبره وقال: لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شي ء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.

ثمّ دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرّات، ثمّ نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصّفا، فلمّا كان آخر طوافه على المروة قال: لو أنّي استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهدي، وجعلتها عمرةً، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة.

فقام سراقة بن مالك فقال: يا رسول اللَّه! ألعامنا هذا أم لأبد؟

ص: 242

- فشبَّك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أصابعه واحدةً في الأخرى، وقال: دخلت العمرة في الحج مرّتين لا، بل لأبد أبد.

وقدم عليٌّ من اليمن ببُدنِ النبيّ صلى الله عليه و آله، فوجد فاطمة رضي اللَّه عنها ممّن حلّ، ولبست ثياباً صبيغاً، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا، قال:

فكان عليّ يقول بالعراق: فذهبتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مُحرّشاً على فاطمة للذي صنعت، مستفتياً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرتُ ذلك عليها، فقال: صدقت، صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قلت: اللّهمّ! إنّي أهلُّ بما أهلَّ به رسولك صلى الله عليه و آله، قال: فإنّ معيَ الهدي فلا تُحلّ.

قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن، والذي أتى به النبي صلى الله عليه و آله مائة. قال: فحلّ الناس كلّهم وقصّروا، إلّا النبي صلى الله عليه و آله ومن كان معه هدي.

فلمّا كان يوم التروية توجّهوا إلى منى، فأهلّوا بالحجّ وركب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثمّ مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبّة من شعر فضُربت له بنمرة، فسار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا تشكُّ قريش إلّا أنّه واقفٌ عند المشعر الحرام أو المزدلفة، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرُحلت له. فأتى بطن الوادي.

فخطب الناس وقال:

إنّ دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كلّ شي ء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوعٌ، ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعاً في بني سعد، فقتلتْهُ هُذيْلُ، ورِبَا الجاهلية موضوع، وأوّل رباً أضع من ربانا، ربا عبّاس بن عبد المطّلب، فإنّه موضوع كلّه، فاتّقوا اللَّه في النساء، فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللَّه، واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللَّه، و لكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضرباً غير مبرّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ

ص: 243

وكسوتهنّ بالمعروف. وقد تركت فيكم ما لم تضلّوا إن اعتصمتم به: كتاب اللَّه، وأنتم تسألون عنّي، فما أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت. فقال بإصبعه السّبابة يرفعها إلى السّماء وينكتها إلى الناس: اللّهمّ اشهد اللّهمّ اشهد ثلاث مرات. ثمّ أذّن، ثمّ أقام فصلّى الظهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئاً، ثمّ ركب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصّخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس. وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد شنق للقصواء الزّمام حتى إنّ رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول- أي يشير بيده اليمنى-: أيها الناس! السكينة السكينة كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد.

حتى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبّح بينهما شيئاً، ثمّ اضطجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتّى طلع الفجر، وصلاه حين تبيّن له الصّبح بأذان وإقامة، ثمّ ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا اللَّه وكبره وهلّله ووحّده. فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس،

ص: 244

وأردف الفضل بن عباس، وكان رجلًا حسن الشعر، أبيض، وسيماً. فلمّا دفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، مرّت به ظعن يجرين، فطفقَ الفضل ينظر إليهنّ، فوضع النبي صلى الله عليه و آله يده على وجه الفضل فحوّل الفضل وجهه إلى الشقّ الآخر ينظر، فحوّل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يده من الشق الآخر على وجه الفضل يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر، حتى أتى بطن محسّر، فحرّك قليلًا، ثمّ سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى.

حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبّر مع كلّ حصاة منها مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثمّ انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثاً وستين بيده، ثم أعطى عليّاً فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثمّ أمر من كلّ بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثمّ ركب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأفاض إلى البيت، وصلّى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطّلب يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بني عبد المطّلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم فناولوه دلواً فشرب منه (1).

- القصواء: لغة، الناقة التي قطع طرف أذنها. وقيل: اسم لناقته بلا قطع أذن.

وقيل: بل للقطع.

- النساجة- ويقال: ساجة- هي الطيلسان.

- والمشجب كمنبر، عيدان تضم أصولها وتفرج رؤوسها توضع عليه الملابس.

- استثفري بالسين والتاء والثاء والفاء، أي تحفظي بثوب من نزول الدم وأحرمي. بذي الحليفة، صلاة العصر.

ركب ناقته القصواء وأهل بالحج، أي في أيام الحج وإلا فهي معلومة وعملوها غير مرة...


1- انظر التاج الجامع 2: 153- 159؛ رواه مسلم وأبو داود بهذا اللفظ، ورواه النسائي مختصراً، وللبخاري والترمذي بعضه.

ص: 245

- استلم الركن، أي الحجر الأسود بمسحه وتقبيله.

- أي الباب القريب من الصفا ويسمى باب بني مخزوم.

- من استقبال الكعبة والتوحيد يتخلله الدعاء.

- أي لو أمكنني استدراك ما فات أو لو ظهر لي قبل الآن ما ظهر لي الآن ما سقت هدياً وعملت العمرة أولًا لأتمتع بمحظور الإحرام قبل الحج ولنفي ما يزعمه الناس من قبيحها في أشهره وتطيباً لقلب من لم يهد من الأصحاب، ولا منافاة بين ما هنا وبين ما تقدم في القرآن من الحديث القائل: وقل عمرة في حجة، فإن هذا إباحة لها بعد حظرها.

- أي هل فسخ الحج إلى عمرة وجوازها في شهر خاص بعامنا فقط أم دائماً؟

فأجابه بالثاني وأكده بتشبيك أصابعه وتكرير الجواب مرتين، وقوله: لا بل لابد أبد أي ليس جوازها خاصاً بهذا العام بل للأبد.

- أي بالورس ونحوه مما لا يجوز للمحرم.

- أي مع من أمرهم بالتمتع.

- أي بمنى وقد نزلوا وباتوا فيها.

- نمرة بفتح فكسر، موضع قبيل عرفات ليس منها، بل بين الحلّ والحرم.

- إلا زائدة ونظم الكلام، ولا تشك قريش في أنه واقف بالمشعر الحرام وهو لفظ أبي داود، وكانت قريش تقف به في الجاهلية؛ لأنه من الحرم ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج عنه، وأما سائر العرب فكانوا يقفون بعرفات، فأمر النبي صلى الله عليه و آله بالوقوف بها، وهو قوله تعالى: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ»

- وادي عرنة الذي ليس من عرفة عند كافة العلماء إلا مالكاً، وفيه استحباب الخطبة في هذا المكان، وعليه أهل العلم كلهم إلا مالكاً، ومذهب الشافعي وأحمد:

أن في الحج أربع خطب مندوبة: إحداها يوم السابع من ذي الحجة عند الكعبة، والثانية هذه التي ببطن عرنة يوم عرفات، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم النفر الأول، وكلها إفراد وبعد صلاة الظهر إلا التي يوم عرفة فإنها خطبتان، وقيل:

ص: 246

الظهر، ويعلمهم في كل خطبة ما يحتاجون إليه إلى الأخرى.

- لا قيمة له كالشي ء الذي يداس.

- اسمه إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جدّ النبي صلى الله عليه و آله.

- وهي في حرب بني سعد أصابه حجر، وهو يحبو بين البيوت فقتله.

- إنما نصّ على الدماء و الربا لعظم شأنهما، ونص على دم ابن عمه وربا عمه لأنه أدعى إلى امتثال أمره حيث بدأ بنفسه وأهله، كقول خطيب الأنبياء شعيب:

«وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا اْلإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» (1)

.

- أي بأمانته وعهده في شرعه.

- التي أمرنا بها وهي الإيجاب والقبول.

- أي في الآخرة.

- ينكتها، بالتاء وصوابه بالموحدة أي يردها إليهم.

- أي أمر بهما، وصلى الظهر والعصر جمع تقديم للنسك عند الحنفية وللسفر عند الشافعية.

- الموقف الخاص به في عرفات، وهو بجوار الصخرات، أي الأحجار المفترشات في أسفل جبل الرحمة الذي بوسط عرفات، فيستحب الوقوف فيه أو بقربه بقدر الإمكان.

- نزل من عرفة إلى مزدلفة وبيده زمام ناقته.

- الحبل: التلّ من الرمل.

- أي صلاهما جمع تأخير.

- بنحو لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شي ء قدير.


1- هود: 88.

ص: 247

- الظعن، بضمتين جمع ظعينة كسفينة، وهي المرأة في الهودج.

- مُحسِّر كمُحدِّث: مكان قبل منى نزلت فيه النقمة على الجيش الذي جاء لهدم الكعبة، وسّمي بذلك لأن الفيل حسر فيه أي تعب وكلّ، كقوله تعالى: «يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ»، أي كليل.

- وهي غير الطريق التي ذهب منها إلى عرفات تفاؤلًا بتغير الحال كما دخل مكة من علياها وخرج من سفلاها.

- بقرب مسجد الخيف وقوله: مثل حصى الخذف، صفة لسبع أي كحب الفول.

- لا من أعلاه. وعن يمينه منى وعن يساره مكة المكرمة.

- المنحر مكان النحر بقرب مسجد الخيف.

- وهي التي ساقها معه، ونحر عليّ ما غبر أي ما بقي من المائة، وهي ما جاء بها من اليمن فكان علي شريكاً في الهدي والنحر.

- أي النبي صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام، فالأكل من هدي التطوع سنّة، بخلاف الهدي الواجب فلا يجوز الأكل منه..

- أي ذهب إلى البيت فطاف طواف الإفاضة، وأما طوافه الأول فكان للقدوم.

- أولاد العباس، لأن السقاية كانت وظيفتهم.

أما رواية معاوية بن عمار في حجّة الوداع، فهي كما في كتاب الكافي:

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه؛ ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، ثمّ أنزل اللَّه عزّ وجلّ عليه: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (1).


1- الحج: 26.

ص: 248

فأمر المؤذّنين أن يؤذنوا بأعلى أصواتهم بأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحجُّ في عامه هذا، فعلم به من حضر المدينة وأهل العوالي والأعراب، واجتمعوا لحجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه أو يصنع شيئاً فيصنعونه، فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أربع بقين من ذي القعدة، فلمّا انتهى إلى ذي الحليفة (1) زالت الشمس فاغتسل، ثمّ خرج حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة فصلّى فيه الظهر وعزم بالحجّ مفرداً، وخرج حتى انتهى إلى البيداء عند الميل الأوّل فصفّ له سماطان، فلبّى بالحجّ مفرداً وساق الهدي ستّاً وستيّن أو أربعاً وستّين حتى انتهى إلى مكة في سلخ أربع من ذي الحجّة (2) فطاف بالبيت سبعة أشواط ثمّ صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام ثمّ عاد إلى الحجر فاستلمه، وقد كان استلمه في أوَّل طوافه ثمّ قال: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه. فأبدأ بما بدأ اللَّه تعالى به.

وإن المسلمين كانوا يظنّون أنّ السّعي بين الصّفا والمروة شي ء صنعه المشركون فأنزل اللَّه عزّ وجلّ: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (1)

، ثمّ أتى الصفا فصعد عليه واستقبل الرّكن اليماني فحمد اللَّه وأثنى عليه ودعا مقدار ما يقرأ سورة البقرة مترسّلًا، ثمّ انحدر وعاد إلى الصّفا فوقف عليها، ثمّ انحدر إلى المروة حتى فرغ من سعيه، فلمّا فرغ من سعيه وهو على المروة أقبل على النّاس بوجهه فحمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال:

إنّ هذا جبرئيل- وأومأ بيده إلى خلفه- يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحلّ، ولو استقبلت من أمري مااستدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم (3)، ولكنّي سقت الهدي ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه؛ قال: فقال له رجل من القوم: لنخرجنّ حجّاجاً ورؤوسنا وشعورنا تقطر (4)؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أما


1- البقرة: 153.

ص: 249

إنّك لن تؤمن بهذا أبداً، فقال له سراقة بن مالك بن جعشم الكناني: يا رسول اللَّه عُلّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم فهذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لما يستقبل؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بل هو للأبد إلى يوم القيامة، ثمّ شبك أصابعه وقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة.

قال: وقدم علي عليه السلام من اليمن على رسول اللَّه وهو بمكة فدخل على فاطمة عليها السلام وهي قد أحلّت فوجد ريحاً طيّبة ووجد عليها ثياباً مصبوغة، فقال: ما هذا يا فاطمة؟ فقالت: أمرنا بهذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخرج عليّ عليه السلام إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مستفتياً، فقال: يا رسول اللَّه! إنّي رأيت فاطمة قد أحلّت وعليها ثياب مصبوغة! فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا أمرت النّاس بذلك فأنت يا عليّ بما أهللت؟ قال: يا رسول اللَّه! إهلالًا كإهلال النبي، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قرّ على إحرامك مثلي وأنت شريكي في هديي.

قال: ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمكة بالبطحاء هو وأصحابه ولم ينزل الدّور، فلمّا كان يوم التّروية عند زوال الشمس أمر الناس أن يغتسلوا ويهلّوا بالحجّ، وهو قول اللَّه عزّ وجلّ الذي أنزل على نبيّه صلى الله عليه و آله: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» (1)، فخرج النبيُّ صلى الله عليه و آله وأصحابه مهلّين بالحجّ، حتى أتى منى فصلّى الظّهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والفجر، ثمّ غدا والنّاس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع، ويمنعون النّاس أن يفيضوا منها، فأقبل رسول صلى الله عليه و آله وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون، فأنزل اللَّه تعالى عليه: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ» (2)، يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم منها ومن كان بعدهم.

فلمّا رأت قريش أنّ قبّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد مضت كأنّه دخل في أنفسهم شي ء للّذي كانوا يرجون من الإفاضة من مكانهم حتى انتهى إلى نمرة وهي بطن عرنة بحيال الأراك، فضربت قبّته وضرب النّاس أخبيتهم عندها، فلمّا زالت


1- آل عمران: 89.
2- البقرة: 198.

ص: 250

الشمس خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد، فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان وإقامتين.

ثمّ مضى إلى الموقف فوقف به فجعل النّاس يبتدرون أخفاف ناقته يقفون إلى جانبها فنحاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال: أيّها الناس ليس موضع أخفاف ناقتي بالموقف، ولكن هذا كلّه- وأومأ بيده إلى الموقف- فتفرّق الناس وفعل مثل ذلك بالمزدلفة فوقف الناس حتى وقع القرص قرص الشمس، ثمّ أفاض وأمر الناس بالدعة حتى انتهى إلى المزدلفة وهو المشعر الحرام، فصلّى المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين، ثمّ أقام حتى صلّى فيها الفجر، وعجّل ضعفاء بني هاشم بليل وأمرهم أن لا يرموا الجمرة جمرة العقبة حتّى تطلع الشمس، فلمّا أضاء له النّهار أفاض حتى انتهى إلى منى، فرمى جمرة العقبة وكان الهدي الذي جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أربعة وستّين أو ستّة وستّين.

وجاء عليّ عليه السلام بأربعة وثلاثين أو ستّاً وثلاثين، فنحر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّة وستّين، ونحر علي عليه السلام أربعاً وثلاثين بدنة، وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يؤخذ من كل بدنة منها جذوة (5) من لحم، ثمّ تطرح في برمة، ثمّ تطبخ، فأكل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعليّ وحسيا من مرقها، ولم يعطيا الجزّارين جلودها ولا جلالها ولا قلائدها، وتصدَّق به وحلق، وزار البيت ورجع إلى منى وأقام بها حتى كان اليوم الثالث من آخر أيّام التّشريق.

ثمّ رمى الجمار ونفر حتى انتهى إلى الأبطح فقالت له عائشة: يا رسول اللَّه! ترجع نساؤك بحجّة وعمرة معاً وأرجع بحجّة؟ فأقام بالأبطح وبعث معها عبد الرّحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فأهلّت بعمرة ثمّ جاءت وطافت بالبيت وصلّت ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعت بين الصّفا والمروة، ثمّ أتت النبيّ صلى الله عليه و آله فارتحل من يومه ولم يدخل المسجد الحرام ولم يطف بالبيت ودخل من أعلى مكّة من عقبة المدنيّين وخرج من أسفل مكة من ذي طوى.

ص: 251

تعليقات وتوضيحات

1- ذو الحليفة: موضع على ستة أميال من المدينة، وقوله: مفرداً، أي من دون عمرة معه في نية واحدة، والبيداء: أرض ملساء بين الحرمين.

2- أي آخر اليوم الرابع.

3- يقصد أنه لو جاءني جبرئيل بحجّ التمتع وإدخال العمرة في الحج قبل سياقي الهدي كما جاءني بعد ما سقت الهدي لصنعت مثل ما أمرتكم، يعني لتمتعت بالعمرة وما سقت الهدي.

4- تقطر من ماء غسل الجنابة.

5- الجذوة: القطعة وهي مثلثة، والبرمة- بالضم- قدر من الحجارة.

نكتفي بهاتين الروايتين اللتين توضحان الدرس التعليمي للحج وسننه، الذي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أستاذه، والحجاج المسلمون تلاميذه، وهو أول عمل كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يهدف إليه في حجة وداعه وفي لقائه الأخير مع المسلمين..

يقول الخبر:

«إن رسول اللَّه حين وقف بعرفة، قال: هذا الموقف- للجبل الذي هو عليه- وكل عرفة موقف». وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة: «هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف». ثم لما نحر بالمنحر، قال: «هذا المنحر، وكل منى منحر».

فقضى رسول اللَّه الحج وقد أراهم مناسكهم، وعلمهم ما افترض عليهم في حجهم في المواقف ورمي الجمار والطواف بالبيت، وماأحلّ لهم في حجهم وماحرم عليهم» (1).

وقد تخلل حجه هذا ومواقفه هنا وهناك في مشاعر الحج ومنازله خطبٌ راح صلوات اللَّه عليه يلقيها يبيّن فيها أحكاماً شرعية وأهدافاً ومبادئ قيمة تحملها رسالته السماوية:

فخطب الناس فقال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام عليكم... ألا كلّ


1- تاريخ الطبري 2: 206.

ص: 252

شي ء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة... وربا الجاهلية موضوع... فاتقوا اللَّه في النساء...».

إنه حديث الغدير

وننتقل إلى دور آخر لا يقلّ أهمية عن ذلك الدور الأول إن لم نقل بأنه قد يفوقه، لما يتحمله من مسؤوليات عظيمة ينتظره المسلمون وتنتظره الرسالة. إنه دور القيادة من بعده صلى الله عليه و آله وهو يقف موقفه الأخير كما حج حجه الأخير. وكل ما صدر منه صلى الله عليه و آله كان تلبيةً لما أمرت به السماء وصاغته له إرادتها وهو ما نراه في قراءتنا هذه لما نزل من قرآن وهو يغادر منازل الحج عائداً إلى المدينة المنورة، وإذا به يفاجئ الجميع ليوقفهم في صحراء ملتهبة وتحت شمس حارقة، في غدير خم، وهو ما يبيّن عظم ما كان يريده ويهدف إليه، و ليؤدي ما بقي عليه أداؤه... إنه أمر السماء وما عليه إلا الامتثال بتبليغه..

إنه حديث عرف عند الإمامية بأنه حديث الغدير، حديث الولاية الكبرى، وحديث إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا اللَّه تعالى. إنه حديث نزل به كتاب اللَّه المبين: الآية 67 و 3 من سورة المائدة في حجة الوداع.

حديث تواترت به السنة النبوية متناً وسنداً منذ عهد الصحابة والتابعين، وحظي بالكثير الكثير كتابةً وشعراً وأجادت فيه أفكارهم وقرائحهم..

وبدءاً نعرض ما جاء به الخبر:

... فلما قضى مناسكه، وانصرف راجعاً إلى المدينة، ومعه من كان من الجموع، ووصل إلى غدير «خم» من الجحفة التي تتشعب فيها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وذلك يوم الخميس، الثامن عشر من ذي الحجة، نزل جبرئيل الأمين عن اللَّه تعالى بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...» (1).


1- المائدة: 67.

ص: 253

وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة، فأمر رسول اللَّه أن يردّ من تقدم منهم، ويحبس من تأخر عنهم، حتى إذا أخذ القوم منازلهم، نودي بالصلاة، صلاة الظهر، فصلى بالناس، وكان يوماً حاراً، يضع الرجل بعض ردائه على رأسه وبعضه تحت قدميه من شدة الرمضاء، فلما انصرف من صلاته، قام خطيباً وسط القوم على أقتاب الإبل، وأسمع الجميع رافعاً عقيرته، فقال:

«ألحمد للَّه، ونستعينه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، الذي لا هادي لمن أضل ولا مضلّ لمن هدى، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

أيها الناس، إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك قد بلّغت ونصحت، وجهدت، فجزاك اللَّه خيراً.

قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته

ص: 254

حق، وناره حق، وأن الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور؟

قالوا: بلى نشهد بذلك.

قال: اللهم اشهد. ثم قال: أيها الناس، ألا تسمعون؟

قالوا: نعم.

قال: فإني فرط على الحوض، فانظروني كيف تخلفوني في الثقلين؟

فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول اللَّه؟

قال: الثقل الأكبر، كتاب اللَّه، والآخر الأصغر، عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا.

ثم أخذ بيد علي فرفعها، حتى رؤي إباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: إن اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم.

فمن كنت مولاه، فعلي مولاه- يقولها ثلاث مرات- ثم قال: اللَّه وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب.

ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي اللَّه بقوله:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي».

فقال رسول اللَّه: اللَّه أكبر على إكمال النعمة ورضا الرب برسالتي والولاية لعليّ من بعدي».

وقال حسان بن ثابت: أتأذن لي يا رسول اللَّه أن أقول أبياتاً؟

قال: قل.

يناديهم يوم الغدير نبيهم بخمّ وأسمع بالنبي مناديا

بأني مولاكم نعم ووليكم فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا

ص: 255

فقال له قم يا علي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليه فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللهم وال وليه وكن للذي عادى علياً معاديا (1)

هذا مجمل ما جرى في واقعة الغدير وحديثه، الذي لم يبلغ أي حديث درجته في التواتر والتضافر ولا في الاهتمام نثراً ونظماً..

ونحن إذ نذكر هذا لنبين مورد نزول هاتين الآيتين، وأن الأولى جاءت لتأمر النبي صلى الله عليه و آله بتبليغ أمر ولاية علي عليه السلام، وأن الثانية نزلت بعد إتمام ذلك التبليغ...

وبالتالي فهما آيتان قرآنيتان أنزلتا على صدره الشريف في حجة الوداع، وهذه قراءة فيهما:

قراءة فيما نزل من القرآن في حجّة الوداع

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» (2).

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ اْلإِسْلامَ دِيناً» (3)

في شهر ذي القعدة من السنة العاشرة للهجرة النبوية قرر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الخروج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة حاجاً، لأنه لم يحج منذ أن هاجر من مكة إلى المدينة، وأذن في الناس بالحج، فقدم المدينة خلق كثير من المسلمين ليأتموا به في حجته التي سمّيت بعدة أسماء:

حجة الوداع، وحجة الإسلام، وحجة البلاغ، وحجة الكمال، وحجة التمام.

واستندت تسميتها بالأسماء الثلاثة الأخيرة إلى الآيتين الكريمتين من سورة


1- انظر الميزان، البحث الروائي، ومجمع البيان في تفسير الآية، وكتاب الغدير للشيخ الأميني.
2- المائدة: 67.
3- المائدة: 3.

ص: 256

المائدة اللتين نزلتا في حجته المذكورة واللتين ذكرناهما آنفاً.

وهي حجة الوداع لأنه لم يحج بعدها إلى أن توفاه اللَّه تعالى بعد ثلاثة أشهر تقريباً. فقد ودّع الناس بعد انتهاء خطبته في عرفات ومنى، ومن هنا قال الناس عنها: حجة الوداع، ويقول الطبري: إنها سميت حجة الوداع وحجة البلاغ.

ووجه التسميتين الأخيرتين يعود إلى نزول الآية التي أعلنت إتمام الدين «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» في تلك السفرة، وإلى قول الرسول صلى الله عليه و آله: «ألا هل بلّغت، اللهم اشهد» تكراراً في خطبته (1).

التفّت حول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجته هذه جموع كثيرة لا يعلم عددها إلا اللَّه تعالى. وأقل ما حملته الروايات هو تسعون ألفاً أو يزيدون بعد أن انضم إليه في حجه المقيمون في مكة والقادمون من اليمن.

وقت نزول الآية 67 من المائدة

وقع الخلاف بين المفسرين في وقت نزول هذه الآية:

فبعد اتفاقهم أنها نزلت في السنة العاشرة للهجرة وفي حجة الوداع، اختلفوا في يوم نزولها ومكانه.

رأي يقول: إن هذه الآية نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، والنبي صلى الله عليه و آله واقف بعرفات على ناقته العضباء. وهو ما عليه مشهور أهل السنة.

ورأي يقول: لما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مناسكه وانصرف راجعاً إلى المدينة المنورة ووصل إلى غدير «خم» من الجحفة، مفترق تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين، وكان ذلك يوم الخميس، الثامن عشر من ذي الحجة. نزل جبرئيل الأمين بالآية. وهو ما عليه الإمامية.


1- انظر: طبقات ابن سعد 2: 184؛ وتاريخ الطبري 2: 206.

ص: 257

وفي سند عن أبي سعيد الخدري أنه قال:

نزلت هذه الآية: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» يوم «غدير خم» في علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه.

المراد من الآية الكريمة

اختلفوا في مراد الآية وفيمن نزلت حتى تجاوز ذلك عشرة أقوال، وقبل التحدث عن أهمها أرى من المناسب أن نستخلص ما حملته الآية نفسها من خصائص أو نكات علمية يمكننا الاستعانة بها والاتكاء عليها لمعرفة أيّ الآراء هو المناسب أو الأرجح لمعرفة المراد من الآية الكريمة.

فقد استوقفتني هذه الخصائص طويلًا والذي استوقفني أكثر هو الآراء التي راح عدد من المفسّرين يذكرونها لتفسير مراد الآية الكريمة دون النظر والاعتناء بمقاطع الآية التي تتوفر على أمور مهمة لا يصح التغافل عنها أو تركها إذا ما أراد أحد معرفة مراد الآية وما تريده وما تهدف إليه.

هناك أمور خمسة تتوفر عليها الآية المباركة يمكن أن يتوكأ عليها الباحث لمعرفة مراد الآية المباركة التي ابتدأت بخطاب:

«يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» وهو أمر لم يأت في الخطابات القرآنية إلا هذه المرة و «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ...» (1).

ربما تكون الحكمة- واللَّه أعلم- في أنه ناداه بأشرف الصفات وهو «يا أيها الرسول» لأن الرسول مهمته الرئيسية هي التبليغ، ولإعطاء أهمية كبيرة للوظيفة التي كلّف بها...

بعد هذا نعود إلى ذكر الأمور أو النكات، وهي:


1- المائدة: 41.

ص: 258

أولًا:

إن الآية كانت في آخر حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد تكون الأخيرة أو آخر ما نزل من القرآن الكريم، فقد انتقل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى جوار ربه تعالى بعد واحد وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً من نزولها.

ثانياً:

إنه أمر نازل من السماء، وليس لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أي علاقة في صناعته لا من قريب ولا من بعيد. صحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (1). وأنه لا يؤسّس قراراً أو حكماً من نفسه ما لم يأته وحي السماء وأمرها وكيف ينشئ حكماً أو أمراً دون إرادة السماء «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اْلأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (2).

لكن هذا التأكيد الوارد في الآية له ما يبرره، وهو أن الآية والأمر الوارد فيها فيه مجال أو مساحة يتحرك فيها المتقولون والمتشككون الذين يلقون بدلوهم تقولًا وتشكيكاً فيما تريده الآية، وهم كثر في وقت نزولها... ولهذا راحت الآية تبعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما هوواضح من أسلوبها، عن أي مسؤولية وتبعة في تحمل ما جاءت به وليس له دور إلا في تبليغها وتبليغها فقط. ومع هذا لم ينجو من الاتهام..

ثالثاً:

إنه أمر مهم جداً وليس أمراً فرعياً أو جزئياً بل هو بدرجة أن عدم تبليغه يساوي عدم تبليغ الرسالة كاملة بما بذله النبي صلى الله عليه و آله طيلة ثلاث وعشرين سنة أو تزيد، وبما تحمّله من تضحيات جسام منه صلى الله عليه و آله وممن معه.

رابعاً:

إن هناك في الآية خطاباً أو شرطاً وجزاء يتصف بأنه شديد اللهجة «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ» ولا يخلو هذا من تهديد للرسول صلى الله عليه و آله اذا ما تأخر في تبليغ ما أنزل أو امتنع لأي سبب كان، يأتي الجزاء وهو يحمل تهديداً ووعيداً يتمثل في «فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» أي إن لم تفعل ذلك فلك ما يوجب كتمان الوحي أو الرسالة كلها من العقاب، وهو شي ء خطير.


1- النجم: 3- 4.
2- الحاقة: 44- 47.

ص: 259

خامساً:

إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يخشى الناس في تبليغه أو كان يحذر تبليغه بدليل ذيل الآية: «واللَّه يعصمك من الناس» إن كنت خائفاً منهم أو متردداً. وهذا الخوف منه صلى الله عليه و آله أو التردد لم يكن على نفسه صلى الله عليه و آله- كما يتضح من سيرته وكدحه وجهده وجهاده في سبيل الدعوة إلى اللَّه تعالى ونشر دينه وتحكيم شريعته- بل على الرسالة نفسها أو عدم تحقق الأمر ومصاديقه خارجاً وعدم استجابة الناس له وخوفه عليهم وهو الحريص عليهم من أن يؤدي عدم استجابتهم للأمر النازل دخول النار، أو حذره من التشكيك به بل وقد يكون هناك اتهام لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمحاباة كما سنرى في الوضع التاريخي إذا ما تحدثنا عنه. فكان يحتاج إلى تسديد جديد وعصمة من السماء تقلع من نفسه أسباب الخوف أو التردد و تمنع عنه كيد الآخرين ومزاعمهم ولو أثناء تبليغه الأمر أو حتى تتم الحجة فيه على الجميع...

بعد هذا نأتي إلى مناقشة أهم الأقوال في الآية التي جمعها الفخر الرازي في تفسيره الكبير، ومدى انطباق نكات الآية عليها لنصل أخيراً إلى الرأي الذي يمكن أن تنطبق عليه النكات المذكورة، فيكون هو المناسب أو الأرجح لتفسير مرادها، طبعاً هذا مع استبعاد الروايات من الفريقين، لأننا كما أسلفنا نريد أن نعيش مع الآية وأجوائها ونكاتها من داخلها فقط بعيداً عن الواقع التاريخي والروائي...

آراء في سبب نزولها

بعد هذا نأتي إلى أهم آراء المفسرين حول سبب نزول الآية الكريمة، وبالتالي تبين المراد من الآية، ونرى مدى انطباق النكات أعلاه على كل واحد منها، لنصل أخيراً إلى الرأي الذي تنطبق عليه النقاط الخمس المذكورة، ويكون هو الراجح لمعرفة سببها ومرادها من داخل الآية نفسها ومن أجوائها بالذات بعيداً كما قلنا عن الروايات من الفريقين وما تذهب إليه في تفسير الآية. نعم بعد أن نصل إلى القول المناسب لمراد الآية يمكن أن تكون الروايات وأيضاً الأمر التاريخي، أي اجتماع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمسلمين في موضع يقال له: غدير خم، وحديثه إليهم وتبليغه ما

ص: 260

أمرته السماء بقوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه...» وهو الرأي العاشر الذي دوّنه الفخر الرازي في تفسير الآية المباركة. تلك الروايات وهذه الواقعة في غدير خم وحتى ما ورد من قصائد وأشعار وآراء علماء ومؤرخين وأقوال عدد من الصحابة تؤيد وتبارك، وهي ليست قليلة يمكن أن تكون قرائن على صحة ما ذهب إليه الإمامية في تفسير الآية.

فنحن إذن أمام تفسيرات للآية وآراء متعددة في سبب نزولها، وحتى نرجّح رأياً منها لا بد لنا من الاستعانة بما تحمله الآية نفسها من قرائن وخصائص تعيننا على ذلك، والأخذ بالرأي المناسب لتفسيرها وترك غيره من الآراء التي قد تبتعد عن هذه القرائن أو لا تنطبق عليه تلك النكات الخمس التي اقتبست من داخل الآية المباركة ومن دون اللجوء إلى الروايات أو إلى كل ما يمت إلى الروايات من الفريقين.

وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره القيّم عشر أقوال ذكرها المفسرون في سبب نزول الآية نكتفي به؛ لأنه جمعها و نقف عند أهمها:

الأول:

لما نزلت آيتا التخيير وهما قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا* وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» (1)

فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا فنزلت.

الجواب:

أولًا:

هاتان الآيتان نزلتا من سورة الأحزاب قبل آيتنا المذكورة في البحث.

ثانياً:

إن هذا التخيير في الآيتين يعد أمراً جزئياً لا يكون بدرجة كبيرة من الأهمية حتى يكون عدم تبليغه عدم تبليغ للرسالة بكاملها.


1- الأحزاب: 28- 29.

ص: 261

ثالثاً:

هل الخوف من اختيارهنّ الدنيا وبالتالي طلاقهن، وهو لا يريد ذلك لهنّ، يجعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحجم عن تخييرهن، وبالتالي يحتاج إلى آية أخرى تصرّ وتؤكد عليه أن يبلغهن ويخيرهن، وهل يحتاج التخيير هذا إلى «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»؟

رابعاً:

لقد أخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أزواجه بهذا التخيير الوارد في الآيتين كما تقول التفاسير ولم يؤخره أو يتردد أو يخشى أحداً فيه.

الثاني:

نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.

«وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» (1).

الجواب:

أولًا:

جاءت هذه الآية في بيان وتوضيح المناكح، وهي نزلت قبل آيتنا المذكورة في السنة الخامسة للهجرة.

ثانياً:

تحمل أمراً جزئياً وليس له أهمية كبيرة يعادل عدم تبليغه على فرض أن لم يتم ذلك- عدم تبليغ الرسالة كاملة.

ثالثاً:

تزوج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بزينب بعد طلاقها من قبل زيد، ووقع هذا في السنة الخامسة للهجرة وقبل حجة الوداع بخمس سنوات تقريباً، وقبل نزول آية التبليغ التي نحن بصددها. كما أن الأمر لا يحتاج إلى آية أخرى تحث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على إجراء ذلك.

رابعاً:

انتهت الخشية المذكورة في الآية على فرض وجودها بعد أن انتهى كل


1- الأحزاب: 37.

ص: 262

شي ء وعرف الناس أنه صلى الله عليه و آله تزوج بزينب فلا داعي للعصمة من الناس، كما في آية التبليغ. فأي ضرورة لإنزال آية أخرى تحث الرسول صلى الله عليه و آله على إظهار ما عنده نحو زينب وقد بان كل شي ء واتضح.

خامساً:

ثم ألا يعدّ هذا في هذه الآية وآيتي التخيير أيضاً وطيلة هذه المدة حتى نزلت آية البلاغ «بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» كتماً للوحي؟!

وهذه أم المؤمنين عائشة تقول: «من زعم أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على اللَّه، واللَّه تعالى يقول: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ» ولو كتم رسول اللَّه شيئاً من الوحي لكتم قوله «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ»» (1).

الثالث:

لما نزل قوله تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (2).

سكت الرسول صلى الله عليه و آله عن عيب آلهتهم فنزلت هذه الآية، وقال «بَلِّغْ»، يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم، واللَّه يعصمك منهم.

الجواب:

أولًا:

الآية تحمل نهياً عن سبّ الذين كفروا، يعني لا تسبوهم. وقد التزم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهذا النهي ولم يسبهم فهو عمل بالآية ولم يخالفها. فما الضرورة لآية البلاغ وما تحمله. والرسول صلى الله عليه و آله لم يعمل شيئاً مخالفاً. نعم لو كان قد أمر بسبّهم وامتنع- أي لم يعمل بذلك- تأتي آية البلاغ لتأمره بسبهم. اللهم إلا أن نقول: إنها أنهت العمل بتلك الآية الناهية عن السب فأمرت الرسول صلى الله عليه و آله بأن يسبهم ولايخشاهم لأن اللَّه يعصمه منهم. وليس في آية البلاغ ما يشير إلى هذا ولو بلفظة قريبة للسباب.


1- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، تفسير الآية 67 من سورة المائدة.
2- الأنعام: 108.

ص: 263

ثانياً:

هل سبّ الآلهة وعدمه يكون مساوقاً لأصل الرسالة في الأهمية والخطورة؟!

ثالثاً:

وهل سبّ آلهتهم أهم من تهديمها وقد هدمها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فتح مكةّ؟!

رابعاً:

الآية المذكورة متقدمة على آية البلاغ.

الرابع:

نزلت في الجهاد، فإن المنافقين كانوا يكرهونه، فكان يمسك أحياناًعن حثهم على الجهاد.

الجواب:

وهو رأي عجيب وآيات الجهاد نزلت قبل آيتنا المذكورة، نزلت أثناء الدعوة، والإسلام في مسيرته كان محتاجاً إلى الجهاد ومقارعة الظالمين والمشركين والمنافقين. وآيات الجهاد عديدة نزل بها القرآن الكريم تحث المسلمين عليه وتبين أجر من جاهد وعمل به، وتفضح المتخلفين عنه وأكثرهم من المنافقين. ومن تلك الآيات: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (1).

«انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» (2)

وفيها حث عام على الجهاد.

وسورة التوبة نزلت في السنة التاسعة للهجرة، وسميت بالفاضحة لأنها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم، وسميت المبعثرة لأنها تبعثر أسرار المنافقين. فهم


1- التوبة 73، وانظر: التحريم: 9.
2- التوبة: 41- 43.

ص: 264

مطالبون بالجهاد وراحوا يلوذون بأعذار باطلة وبأيمان كاذبة...

فلم يتردد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تبليغ آيات الجهاد للمسلمين وفيهم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وكانوا يعيشون بين المسلمين، ولم يخش أحداً أبداً.

الخامس:

والفخر الرازي يذهب إلى أن الأولى حمله على أنه تعالى أمّنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم، وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها (1).

إذن ليس للرازي دليل يثبت به هذه الأولوية التي ذهب إليها إلا أن هذه الآية مسبوقة وملحوقة بآيات تتحدث عن اليهود والنصارى، فهو يستدل بسياق الآيات وحتى لا تكون هذه الآية مقحمة بينها، فلا بد من أن تكون ناظرة لمكرهم وخوف النبي صلى الله عليه و آله من ذلك.

والجواب:

أولًا:

إن الذي يناسب تفسيره أن تكون آية البلاغ نازلة أول دخول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة المنورة أو وهو في المدينة، ويمتنع من التبليغ لخشيته اليهود والنصارى.

أما أنه صلى الله عليه و آله وقبل أن ينزل المدينة مهاجراً يرسل المبلغين، ومنهم مصعب بن عمير رضوان اللَّه عليه، من مكة بعد بيعة الرضوان ليعلّموا من آمن من أهل المدينة أحكام الدين الجديد، ثم يهاجر إلى المدينة ويواصل دعوته وأنشطته ويقدم التضحيات العظيمة في معاركه، و ينزل في السنة الخامسة للهجرة بعد معركة الخندق بيهود بني قريظة حكم الصحابي الجليل سعد بن معاذ، فقتلت رجالهم


1- انظر: الرازي، التفسير الكبير، الآية.

ص: 265

وسبيت نساؤهم وقسّمت أموالهم. وبعد أن قويت دولة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة وعظمت شوكتها... تأتي الآية في السنة العاشرة للهجرة تؤمنه مكر أهل الكتاب وتأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم وهم ليسوا من القوة بحيث يخشاهم!

أما القول بأنه صلى الله عليه و آله أمر بهذه الآية: «بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» بتبليغ الرسالة أحكاماً وشرائع ومفاهيم فهو لا يصح؛ لأن الآية من أواخر ما أنزل من القرآن الكريم، وجاءت بعد ثلاث وعشرين سنة ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يدعو قومه وأمته إلى عبادة اللَّه تعالى وتحكيم شريعته والتزام أحكامه وتعاليمه. فهو بلّغ الرسالة. ولو كانت الآية نازلة في بداية الدعوة لكان هذا الكلام سليماً.

ولو قلنا: إن «... ما أُنْزِلَ...» هو تبليغ الرسالة أي «وإن لم تبلّغ الرسالة فما بلغت الرسالة» فهو كلام مختل لاتحاد الشرط والجزاء، وهذا كقولنا: «إن أتى زيد فقد جاء زيد» أو: «إن درست فقد درست». وهذا لا وجه له إلا في شواذ البلاغة.

ويحتاج إلى مزيد عناية وتأويل. والمفروض أن الشرط والجزاء متغايران فبتغايرهما تتم الفائدة، ويكون الكلام متيناً سليماً.

إذن، الشي ء المأمور به رسو ل اللَّه صلى الله عليه و آله في الآية «بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» هو:

شي ء آخر غير أصل الرسالة.

وهو شي ء اختصّت السماء به، وليس هو من اجتهاد رسول اللَّه وعندياته.

وأن هذا الشي ء ليس أمراً عادياً أو حكماً فرعياً، بل هو شي ء كبير بدرجة أن عدم تبليغه يساوق عدم تبليغ الرسالة.

وأن عدم تبليغه من قبلك يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنت في آخر حياتك يساوي عدم تبليغ الرسالة التي بلغتها واستغرقت ثلاثاً وعشرين سنة وجهوداً عظيمة وتضحيات جساماً وأموالًا كثيرة... وأن كل هذا سيذهب سدى إن لم تبلغ يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ».

وأن هذا الشي ء يثير في نفس رسول اللَّه الخوف أو التردد، أو أن يؤخره

ص: 266

إلى وقت آخر أكثر مناسبة فيحتاج معه إلى «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ». فيمنع هذا المقطع من الآية كل ذلك ويلقي الحجة عليه بتحذيره من التأخر في الأداء.

إذن هوشي ء مهم جداً يحتاج معه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى دعم خاص من السماء وتسديد خاص أيضاً «واللَّه يعصمك من الناس».

فيكون تقدير الكلام هكذا:

إن لم تبلغه فما بلغت رسالته.

فالآية جاءت وأمرته بتبليغ شي ء آخر غير الرسالة فما هو هذا الشي ء؟

إنه القول الذي ذكره الفخر الرازي في تفسيره الكبير قولًا عاشراً وهذا نصه:

القول العاشر:

نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه».

فلقيه عمر فقال: هنيئاً لك ياابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي (1).

وهذا هو قول الإمامية وتنطبق عليه النكات التي تستخلص من الآية نفسها، وهو ما أيدته روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام ومن غيرهم.

ويخلص السيد الطباطبائي في تفسيره للآية إلى القول التالي:...

«ومن جميع ما تقدم يظهر أن تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب اللَّه لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه و آله في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد الأمة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي، ويكون ذلك إكمالًا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماماً لهذه النعمة، وليس يبعد أن يكون قوله تعالى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ


1- أنظر: تفسير الرازي، الآية.

ص: 267

الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (1)

باشتماله على قوله: «حتى يأتي» إشارة إلى هذا المعنى.

وهذا يؤيد ما ورد من الروايات أن الآية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية علي عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شي من الإشكالات المتقدمة...

ثم يواصل السيد حديثه حتى يصل به إلى:

«فمحصل معنى الآية: اليوم- وهو اليوم الذي يئس فيه الذين كفروا من دينكم- أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهي الولاية التي هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيراً إلهياً، فإنها كانت إلى اليوم ولاية اللَّه ورسوله، وهي إنما تكفي ما دام الوحي ينزل، ولا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، ولا رسول بين الناس يحمي دين اللَّه ويذبّ عنه، بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولي الأمر بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله القيم على أمور الدين والأمة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمّت بنصب ولي الأمر بعد النبي، وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم- من حيث الدين- الإسلام الذي هو دين التوحيد الذي لا يعبد فيه إلا اللَّه ولا يطاع فيه- والطاعة عبادة- إلا اللَّه ومن أمر بطاعته من رسول أو ولي.

فالآية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن اللَّه رضي لهم أن يتديّنوا بالإسلام الذي هو دين التوحيد، فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً بطاعة غير اللَّه أو من أمر بطاعته...» (2).


1- البقرة: 109.
2- انظر تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، الآية، وفيه بحث قيم و نافع.

ص: 268

وختاماً نقول:

إن الواقعة التاريخية التي حدثت في غدير خم وما تعرّض له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من اتهام بمحاباة ابن عمه، كما عن بعضهم، وبعدم قبول من آخرين بعد ذلك، قد يكون كل هذا وغيره هو ما يبرر خشيته صلى الله عليه و آله.

صحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يتعرّض حينها إلى أذى عظيم منهم، إلا أنهم راحوا يحيكون المؤامرات للإيقاع بمشروعه في الإمامة بعد ذلك.

وصدق القائل:

فلم أر مثل ذاك اليوم يوماً ولم أر مثله حقاً أضيعا

فالإمامة أمر عظيم وخطير، ودورها في الأمة مسؤولية ولها آثار ليست سهلة، لأنها مكملة لدور النبوة التي ختمت برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل لا تقل أهمية عن ذلك الدور في بناء فكر الأمة وعقيدتها ومعارفها والمحافظة عليها، وتجذير التغيير النفسي والاجتماعي فيها، ومنعها من الانحراف عن الصراط المستقيم، وصيانتها من التشتت والتمزق، وذلك بتقديم النموذج الرائع للإسلام النقي الأصيل، الذي لابد أن يتم عبر شخصيات قد صيغت صياغة خاصة وبنيت بناءاً متيناً وامتلكت قدرات وملاكات تفردت بها وجعلتها قادرة على مواصلة وظيفتها بكل وعي وعلم وخلق وحرص وصدق وإخلاص...

ص: 269

مشاهد البعثة النبويّة الشريفة من خلال نهج البلاغة

الدكتور نادر الفضلي

تمهيد

نهج البلاغة: هو كتاب الحياة، كتاب الأخلاق، كتاب الإنسانية، كتاب الدين، كتاب العقيدة. وصدقاً ففي هذاالكتاب الشريف توجد الإجابة على كثير من التساؤلات، وحلولها العملية، وهو يلبي الكثير من الطلبات الفكرية والروحية في حياة الناس.

لقد لقّبوا «نهج البلاغة» بلقبٍ ممتاز: «وليد القرآن» وما أليقَهُ من لقبٍ!!

فكما أنّ القرآن هو دليل الحياة في الدنيا، ومرشد الإنسان إلى السعادة في الآخرة؛ فإنّ تعاليم نهج البلاغة كذلك تضمن فلاحنا في الدنيا و الآخرة.

وكما أنّ القرآن يؤمّن حاجات البشر إلى يوم القيامة؛ فنهج البلاغة كذلك يحتوي على تعاليم خالدة تؤمّن حاجاتٍ فكريّة وروحية للناس.

وكما أنّ القرآن أصبح بيننا- نحن المسلمين- غريباً مهجوراً وبعيداً؛ فوليد القرآن أصبح أكثر غربةً وهجراناً.

وكما أنّ من اللازم أن نتعرّف على القرآن وتعاليمه أكثر فأكثر؛ فكذلك من اللازم أن نتعرّف على نهج البلاغة ونطبّق تعاليمه الإلهيّة والسماويّة.

ص: 270

ونريد الآن أن نتقدّم إلى الأمام خطوةً فخطوة، ونتعرّف على نهج البلاغة أكثر ونستأنس به أكثر. نريد أن نجبُرَ تقصيرنا ونترك الثرثرة وندخل ميدان التطبيق.

ونريد هنا أن نتعلّم نهج البلاغة، ونتعرّف على فصول مختارةٍ من هذا الكتاب المعجب، ونطبّق تعاليمه الحيوية في حياتنا الفردية و علاقاتنا الاجتماعية.

ندعوكم إلى صُحبتنا على هذا الطريق المقدّس، معاً، سدّد اللَّه خطواتكم في السير أبداً على طريق عليّ عليه السلام.

ونتعرّف هنا على موضوع مهمّ و شيّق، وهو بحث النبوّة الخاصّة يعني حوادث نبوّة سيّدنا الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و ثمار بعثته، و اعتمادنا أساساً على ما نستفيده من كلمات الإمام عليّ عليه السلام، ونسعى أن نقدّم صورةً واضحةً وهادفة من حادثة البعثة النبويّة المثيرة.

نقدّم (رواية البعثة الشريفة) في ستّة فصول، تحتوي على ثلاثين مشهداً، قال تعالى: «لَقَد جاءَكُم رَسُولٌ مِن أنفُسُكُم عَزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حَريصٌ عليكُم بِالمُؤمِنينَ رَؤفٌ رَحيمٌ»

إنّ الوقوف على الفترة الموحشة والسنوات السوداء للعالم في عصر البعثة النبوية، وسماع رواية من كان هو يعيش تلك الفترة ويستمدّ من العلم الإلهيّ، وسماع حديث البعثة المثير من لسانه، وهو ممّن حضر ونظر ذلك الحدث المثير والوحيد في التاريخ، لهو أمرٌ شيّق ولذيذ!.

ومعرفة الحوادث التي استتبعتها البعثة، وما جرى على يد الرسول والمسلمين الصادقين الأوائل من المواقف الرجولية، في ذلك العالم المضطرب حينذاك، وبلسان ذلك الراوي العظيم نفسه، أيضاً أمرٌ ملفت وشيّق.

فلنسمع حديث البعثة الشريفة من وريثها الإمام عليّ عليه السلام؛ كي تصبح معرفتنا

ص: 271

والتفاتنا إلى هذا الحدث العجيب وآثاره مصباحاً يضي ءُ لنا في حياتنا في هذا العالم المضطرب الذي لا يعدو ذلك العصر المظلم.

الفصل الأوّل: العالم في عصر البعثة

المشهد الأوّل: الهرج و المرج العالمي

المشهد الثاني: سعة الضلال

المشهد الثالث: حكومة الشيطان

المشهد الرابع: زوال الدنيا

المشهد الخامس: من أيام العرب

المشهد الأوّل: الهرج و المرج العالمي

«أَرْسَلَهُ على حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ وَ انْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ، على حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ، وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ (1).

المشهد الثاني: سعة الضلال

بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ وَاسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ، وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلاءُ حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ وَبَلاءٍ مِنَ الْجَهْلِ (2).


1- نهج البلاغة: 121، الخطبة 89؛ اعتمدنا النص الذي حققه الدكتور صبحي الصالح، طبعة أولى، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1387- 1968.
2- نهج البلاغة: 140، الخطبة 95.

ص: 272

وَ أَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ، وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ للَّهِ بِخَلْقِهِ، أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ، أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِه (1).

ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ، وَ اسْتَغْلَقَتْ على أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ (2).

المشهد الثالث: حكومة الشيطان:

النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ، وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ، وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الأَمْرُ، وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ، فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الإِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ، أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ، فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلافِهَا وَ قَامَتْ على سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ، فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ (3).

المشهد الرابع: زوال الدنيا:

ثُمَّ إِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله بِالْحَقِّ حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الانْقِطَاعُ، وَ أَقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الاطِّلاعُ، وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ، وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا على سَاقٍ، وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا، وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا، وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلامِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ


1- نهج البلاغة: 44، الخطبة 1.
2- نهج البلاغة: 283، الخطبة 191.
3- نهج البلاغة: 46، الخطبة 2.

ص: 273

عَوْرَاتِهَا، وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا (1).

المشهد الخامس: في أيّام العرب:

إِنَّ اللَّه بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَ أَمِيناً على التَّنْزِيلِ، وَ أَنْتُمْ- مَعْشَرَ الْعَرَبِ- على شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ، وَ تَأْكُلُونَ الْجَشِبَ، وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَ الآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ (2).

فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَ لا يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لا وَحْياً (3).

الفصل الثاني: حادثة البعثة

المشهد الأوّل: الرسول المختار من اللَّه

المشهد الثاني: شاهد البعثة

المشهد الثالث: الشكّ والإنكار

المشهد الرابع: علامات النبوّة

المشهد الخامس: آية الإيمان

المشهد الأوّل: الرسول المختار من اللَّه

اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِيَاءِ، وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ، وَ ذُؤَابَةِ الْعلياءِ، وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ، وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ، وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ. طَبِيبٌ دَوَّار بِطِبِّهِ قَد أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وأَحْمَى


1- نهج البلاغة: 314، الخطبة 198.
2- نهج البلاغة: 68، الخطبة 26.
3- نهج البلاغة: 150، الخطبة 104.

ص: 274

مَوَاسِمَهُ، يَضَعُ ذلِكَ حَيْثُ الحاجَة إِليهِ، مِن قُلُوبٍ عُمْيٍ وآذانٍ صُمٍّ وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الغَفْلَةِ ومَوَاطِنَ الحَيْرَةِ، لَمْ يَسْتَضِيْئُوا بِأَضْوَاءِ الحِكْمَةِ ولَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ العُلُوْمِ الثَاقِبَةِ، فَهُمْ فِي ذلِكَ كَالأَنْعَامِ السَائِمَةِ والصُخُوْرِ القَاسِيَةِ (1).

حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً، وَ أَعَزِّ الأَرُومَاتِ مَغْرِساً، مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ، وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ، عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ، وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الأُسَرِ، وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لا يُنَالُ، فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى، سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ، وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ، سِيرَتُهُ الْقَصْدُ، وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ، وَ كَلامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ (2).

المشهد الثاني: شاهد البعثة

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِهِ صلى الله عليه و آله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلائِكَتِهِ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ، وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ، وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ؛ فَأَرَاهُ وَ لا يَرَاهُ غَيْرِي، وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عليهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟

فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى، إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ، وَ إِنَّكَ لَعلى خَيْر (3).

المشهد الثالث: الشكّ والإنكار

وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه و آله لَمَّا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ، وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ


1- نهج البلاغة: 156، الخطبة 108.
2- نهج البلاغة: 139، الخطبة 94.
3- نهج البلاغة: 300، الخطبة 192.

ص: 275

أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ صلى الله عليه و آله: وَ مَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ صلى الله عليه و آله:

إِنَّ اللَّه على كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ، فَإِنْ فَعَلَ اللَّه لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ؟ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟ قَالُوا:

نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَاتَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ، وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ، وَ مَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَابَ (1).

المشهد الرابع: علامات النبوّة

قَالَ صلى الله عليه و آله: يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ! إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّه وَ الْيَوْمِ الآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّه؛ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ، بِإِذْنِ اللَّه. فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَ جَاءَتْ، وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله مُرَفْرِفَةً، وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعلى على رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله وَبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا على مَنْكِبِي، وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ صلى الله عليه و آله، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا- عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً-: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا. فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله. فَقَالُوا- كُفْراً وَعُتُوّاً-: فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ. فَأَمَرَهُ صلى الله عليه و آله فَرَجَعَ (2).

المشهد الخامس: آية الإيمان

قال عليّ: فَقُلْتُ أَنَا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ، يَا رَسُولَ اللَّه، وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلالًا لِكَلِمَتِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ، وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا؟- يَعْنُونَنِي-.

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّه لَوْمَةُ لائِمٍ، سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلامُهُمْ كَلامُ الأَبْرَارِ، عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ، مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ، يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّه


1- نهج البلاغة: 301، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة: 301، الخطبة 192.

ص: 276

وَ سُنَنَ رَسُولِهِ، لا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لا يَعْلُونَ وَ لا يَغُلُّونَ وَ لا يُفْسِدُونَ، قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ (1).

الفصل الثالث: صعوبات البعثة

المشهد الأوّل: الجهد في سبيل الهداية

المشهد الثاني: الجهاد في سبيل اللَّه

المشهد الثالث: الصحابة الصادقون

المشهد الرابع: المقاومة والنصر

المشهد الخامس: نعمة الإسلام

المشهد الأوّل: الجهد في سبيل الهداية

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ، وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ، لا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ على تَكْذِيبِهِ وَ الْتِمَاسٌ لإِطْفَاءِ نُورِهِ (2).

وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّه كُلَّ غَمْرَةٍ، وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ، وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عليه الأَقْصَوْنَ، وَ خَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا، وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا، حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَار (3).

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ وَ شَاهِداً على الْخَلْقِ، فَبَلَّغَ رِسَالاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ، وَ لا مُقَصِّرٍ، وَ جَاهَدَ فِي اللَّه أَعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ، وَ لا مُعَذِّرٍ، إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى (4).


1- نهج البلاغة: 302، الخطبة 192.
2- نهج البلاغة: 281، الخطبة 190.
3- نهج البلاغة: 307، الخطبة 194.
4- نهج البلاغة: 173، الخطبة 116.

ص: 277

المشهد الثاني: الجهاد في سبيل اللَّه

وَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً، وَ مُضِيّاً على اللَّقَمِ وَ صَبْراً على مَضَضِ الأَلَمِ وَ جِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، وَ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ وَ أَنْزَلَ علينَا النَّصْرَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ، وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَ لا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ (1).

المشهد الثالث: الصحابة الصادقون

لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً، وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ وَ يَقِفُونَ على مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ، كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ، إِذَا ذُكِرَ اللَّه هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ، وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ، خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ (2).

أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الإِسْلامِ فَقَبِلُوهُ وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلادِهَا، وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً وَ صَفّاً صَفّاً، بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا، لا يُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ وَ لا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى، مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ


1- نهج البلاغة: 91، الخطبة 56.
2- نهج البلاغة: 143، الخطبة 97.

ص: 278

مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، على وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ، أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ، فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ، وَ نَعَضَّ الأَيْدِي على فِرَاقِهِمْ (1).

المشهد الرابع: المقاومة والنصر

قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الأَبْرَارِ، وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الأَبْصَارِ، دَفَنَ اللَّه بِهِ الضَّغَائِنَ، وَ أَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ، أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً، أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ، كَلامُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ (2).

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ صلى الله عليه و آله، أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا، وَ حَمَلَ على الْمَحَجَّةِ دَالًا عليها، وَأَقَامَ أَعْلامَ الاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ، وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الإِسْلامِ مَتِينَةً وَ عُرَى الإِيمَانِ وَثِيقَةً (3).

جَعَلَهُ اللَّه بَلاغاً لِرِسَالَتِهِ، وَ كَرَامَةً لأُمَّتِهِ، وَ رَبِيعاً لأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لأَعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأَنْصَارِهِ (4).

المشهد الخامس: نعمة الإسلام

الْحَمْدُ للَّه الَّذِي شَرَعَ الإِسْلامَ، فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ على مَنْ غَالَبَهُ، فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ وَ نُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ، وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ وَ عِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ، وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ، وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ، فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ الْوَلائِجِ، مُشْرَفُ الْمَنَارِ مُشْرِقُ الْجَوَادِّ مُضِي ءُ الْمَصَابِيحِ كَرِيمُ الْمِضْمَارِ رَفِيعُ الْغَايَةِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ شَرِيفُ الْفُرْسَانِ، التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الدُّنْيَا


1- نهج البلاغة: 177، الخطبة 121.
2- نهج البلاغة: 141، الخطبة 96.
3- نهج البلاغة: 269، الخطبة 185.
4- نهج البلاغة: 315، الخطبة 198.

ص: 279

مِضْمَارُهُ وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ (1).

الفصل الرابع: ثمار البعثة

المشهد الأوّل: البيّنة الخالدة

المشهد الثاني: الطلعة الأبدية

المشهد الثالث: نهاية الرسالة

المشهد الرابع: التأسّي بالرسول

المشهد الخامس: وديعة النبوّة

المشهد الأوّل: البيّنة الخالدة

ثُمَّ أَنْزَلَ عليه الْكِتَابَ، نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَ سِرَاجاً لا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ، وَ بَحْراً لا يُدْرَكُ قَعْرُهُ، وَ مِنْهَاجاً لا يُضِلُّ نَهْجُهُ، وَ شُعَاعاً لا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ، وَ فُرْقَاناً لا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ، وَ تِبْيَاناً لا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَ شِفَاءً لا تُخْشَى أَسْقَامُهُ، وَ عِزّاً لا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ، وَ حَقّاً لا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ، فَهُوَ مَعْدِنُ الإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ، وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ، وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ، وَ أَثَافِيُّ الإِسْلامِ وَ بُنْيَانُهُ، وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ، وَ بَحْرٌ لا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ، وَ عُيُونٌ لا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ، وَ مَنَاهِلُ لا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ، وَ مَنَازِلُ لا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ، وَ أَعْلامٌ لا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ، وَ آكَامٌ لا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ، جَعَلَهُ اللَّه رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ، وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ، وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ، وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَحَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ، وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ، وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَ جُنَّةً لِمَنِ اسْتَلأَمَ، وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى، وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى (2).


1- نهج البلاغة: 153، الخطبة 106.
2- نهج البلاغة: 315، الخطبة 198.

ص: 280

المشهد الثاني: الطلعة الأبدية

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الإِسْلامَ دِينُ اللَّه الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اصْطَنَعَهُ على عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ، وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ على مَحَبَّتِهِ، أَذَلَّ الأَدْيَانَ بِعِزَّتِهِ، وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ، وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ، وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ، وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلالَةِ بِرُكْنِهِ، وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ، وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ لا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ، وَ لا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لا انْهِدَامَ لأَسَاسِهِ وَ لا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لا انْقِلاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ، وَلا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ وَ لا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ، وَلاسَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لا عِوَجَ لانْتِصَابِهِ وَ لا عَصَلَ فِي عُودِهِ، وَ لا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لا مَرَارَةَ لِحَلاوَتِهِ، فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا، وَ ثَبَّتَ لَهَا أسَاسَهَا، وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا، وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا، وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا، وَأَعْلامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا، وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا. جَعَلَ اللَّه فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ، فَهُوَ عِنْدَ اللَّه وَثِيقُ الأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِي ءُ النِّيرَانِ عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ، فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ (1).

المشهد الثالث: انتهاء عصر الرسول

اللهم اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ على مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ، الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ، وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ وَ الدَّامِغِ صَوْلاتِ الأَضَالِيلِ، كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ،


1- نهج البلاغة: 313، الخطبة 198.

ص: 281

غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَ لا وَاهٍ فِي عَزْمٍ، وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ مَاضِياً على نَفَاذِ أَمْرِكَ، حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ، وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ الآثَامِ، وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلامِ وَ نَيِّرَاتِ الأَحْكَامِ، فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ (1).

المشهد الرابع: التأسّي بالرسول

فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ الأَطْيَبِ الأَطْهَرِ صلى الله عليه و آله؛ فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَ عَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَ أَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّه الْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ، وَ الْمُقْتَصُّ لأَثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْيَا قَضْماً وَ لَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَ أَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عليه الدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ أَبْغَضَ شَيْئاً فَأَبْغَضَهُ، وَ حَقَّرَ شَيْئاً فَحَقَّرَهُ وَ صَغَّرَ شَيْئاً فَصَغَّرَهُ، وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِينَا إِلَّا حُبُّنَا مَا أَبْغَضَ اللَّه وَ رَسُولُهُ وَ تَعْظِيمُنَا مَا صَغَّرَ اللَّه وَ رَسُولُهُ لَكَفَى بِهِ شِقَاقاً للَّه وَ مُحَادَّةً عَنْ أَمْرِ اللَّه، وَ لَقَدْ كَانَ صلى الله عليه و آله يَأْكُلُ على الأَرْضِ وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ، وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ، وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ، وَ يَكُونُ السِّتْرُ على بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ فَيَقُولُ: يَا فُلانَةُ- لإِحْدَى أَزْوَاجِهِ- غَيِّبِيهِ عَنِّي؛ فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً، وَ لا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً، وَ لا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ، وَ كَذَلِكَ مَنْ أَبْغَضَ شَيْئاً أَبْغَضَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَ أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَهُ، وَ لَقَدْ كَانَ فِي رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله مَا يَدُلُّكُ على مَسَاوِى ءِ الدُّنْيَا وَعُيُوبِهَا، إِذْ جَاعَ فِيهَا مَعَ خَاصَّتِهِ وَ زُوِيَتْ عَنْهُ زَخَارِفُهَا مَعَ عَظِيمِ زُلْفَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ بِعَقْلِهِ، أَكْرَمَ اللَّه مُحَمَّداً بِذَلِكَ أَمْ أَهَانَهُ؟ فَإِنْ قَالَ: أَهَانَهُ؛ فَقَدْ كَذَبَ وَاللَّهِ الْعَظِيمِ بِالإِفْكِ الْعَظِيمِ. وَ إِنْ قَالَ: أَكْرَمَهُ؛ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ اللَّه قَدْ أَهَانَ غَيْرَهُ حَيْثُ بَسَطَ الدُّنْيَا لَهُ وَزَوَاهَا عَنْ أَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ، فَتَأَسَّى مُتَأَسٍّ بِنَبِيِّهِ، وَ اقْتَصَّ أَثَرَهُ وَ وَلَجَ مَوْلِجَهُ، وَ إِلَّا فَلا يَأْمَنِ الْهَلَكَةَ، فَإِنَّ اللَّه جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله عَلَماً لِلسَّاعَةِ، وَ مُبَشِّراً بِالْجَنَّةِ، وَ مُنْذِراً بِالْعُقُوبَةِ،


1- نهج البلاغة: 101، الخطبة 72.

ص: 282

خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا خَمِيصاً، وَ وَرَدَ الآخِرَةَ سَلِيماً، لَمْ يَضَعْ حَجَراً على حَجَرٍ حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَ أَجَابَ دَاعِيَ رَبِّه. فَمَا أَعْظَمَ مِنَّةَ اللَّهِ عِنْدَنَا حِيْنَ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِهِ سَلَفَاً نَتَّبِعُهُ وَقَائِدَاً نَطَأُ عَقِبَهُ (1).

المشهد الخامس: وديعة النبوّة

هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ، وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ (2).

لا يُقَاسُ بآلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ، وَ لا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عليهِ أَبَداً، هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ، إِلَيْهِمْ يَفِيى ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي، وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلايَةِ، وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ، الآنَ، إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ، وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ (3).

الفصل الخامس: ما بعد البعثة

المشهد الأوّل: عروجُ النور

المشهد الثاني: الردّة إلى الجاهلية

المشهد الثالث: الفتنة العمياء

المشهد الرابع: حماية وحراسة

المشهد الخامس: الامّة الجاحدة للمعروف

المشهد الأوّل: عروجُ النور

وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه و آله وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعلى صَدْرِي، وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفسهُ فِي كَفِّي،


1- نهج البلاغة: 227- 229، الخطبة 160.
2- نهج البلاغة: 47، الخطبة 2.
3- نهج البلاغة: 47، الخطبة 2.

ص: 283

فَأَمْرَرْتُهَا على وَجْهِي، وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ صلى الله عليه و آله وَ الْمَلائِكَةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الأَفْنِيَةُ، مَلأٌ يَهْبِطُ وَ مَلأٌ يَعْرُجُ، وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عليهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ، فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً؟ (1).

إِنَّ الصَّبْرَ لَجَمِيلٌ إِلَّا عَنْكَ وَ إِنَّ الْجَزَعَ لَقَبِيحٌ إِلَّا عليكَ، وَ إِنَّ الْمُصَابَ بِكَ لَجَلِيلٌ وَ إِنَّهُ قَبْلَكَ وَ بَعْدَكَ لَجَلَلٌ (2).

المشهد الثاني: الردّة إلى الجاهلية

حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّه رَسُولَهُ صلى الله عليه و آله رَجَعَ قَوْمٌ على الأَعْقَابِ، وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَ اتَّكَلُوا على الْوَلائِجِ، وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ، فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ، قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ، وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ على سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ (3).

المشهد الثالث: الفتنة العمياء

أَمَا وَ اللَّه لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلانٌ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ على طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ على هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذَى وَ فِي الْحَلْقِ شَجىً أَرَى تُرَاثِي نَهْباً (4).


1- نهج البلاغة: 311، الخطبة 197.
2- نهج البلاغة: 527، الحكمة 292.
3- نهج البلاغة: 209، الخطبة 150.
4- نهج البلاغة: 48، الخطبة 3.

ص: 284

المشهد الرابع: حماية وحراسة

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَ مُهَيْمِناً على الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى عليه السلام تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللَّه مَا كَانَ يُلْقَى فِي رَوعِي وَ لا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ صلى الله عليه و آله عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَ لا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ على فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الإِسْلامِ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الإِسْلامَ وَ أَهْلَهُ: أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عليَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ، وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ (1).

المشهد الخامس: الامّة الجاحدة للمعروف

قالَ علي عليه السلام عِندَ دَفنِ سيدَة النِّساءِ فاطِمَة عليها السلام، كَالمُناجي به رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه و آله عِندَ قَبرِه: السَّلامُ عليكَ يا رَسُولَ اللَّه، عَنّي وَ عَنِ ابنَتِكَ النّازِلَة في جِوارِكَ وَ السَّريعَة الّلِحاقِ بِكَ، قَلَّ يا رَسُولَ اللَّه عَن صَفيّتكَ صَبري، وَ رَقَّ عَنها تَجَلُّدي، إلّاأنَّ فِي التَّأسّي لي بِعَظيمِ فُرقَتِكَ وَ فادِحِ مُصيبَتِكَ مَوضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَد وَسَّدتُكَ في مَلحُودَة قَبرِكَ وَ فاضَت بَينَ نَحري وَ صَدري نَفسُكَ، فَإنّا للَّهِ وَ إنّا إلَيه راجِعُونَ، فَلَقَدِ استُرجِعَتِ الوَديعَة، وَ اخِذَتِ الرّهينَة، أمّا حُزني فَسَرمَدٌ، وَ أمّا لَيْلِي فَمُسَهدٌ، إلى أن يختارَ اللَّهُ لي دارَكَ الّتي أنتَ بها مُقيمٌ، وَ سَتُنَبِّئُكَ ابنَتُكَ بِتَضافُرِ امَّتِكَ على هضمِها، فَأحْفِها السُّؤالَ وَ استَخبِرها الحالَ، هذا، وَ لَم يطُلِ العَهدُ، وَ لَم يخلُ مِنكَ الذِّكرُ، وَ السَّلامُ عليكُما سَلامَ مَوَدِّعٍ لا قالٍ وَ لا سَئِمٍ، فَإن أنصَرِفْ فَلا عَن مَلالَة، وَ إن أقُم فَلا


1- نهج البلاغة: 451، الكتاب 62.

ص: 285

عَن سُوءِ ظَنّ بِما وَعَدَ اللَّه الصّابِرين (1).

الفصل السادس: امتداد البعثة

المشهد الأوّل: التاريخ يعيد نفسه

المشهد الثاني: فتنة آخر الزّمان

المشهد الثالث: طريق الفلاح

المشهد الرابع: الحجّة الخالدة

المشهد الخامس: طلائع الأمل

المشهد الأوّل: التاريخ يعيد نفسه

فَاعتَبِروا عِبادَ اللَّه، وَ اذكُروا تيكَ الّتي آباؤُكم وَ اخوانُكُم بِها مُرتَهنُونَ، وَ عليها مُحاسَبونَ، ولَعَمْرِي ما تَقَادَمَتْ بِكُمْ ولا بِهِم العُهُودُ، وَ لا خَلَتْ في ما بَينَكُم وَبَينَهمُ الأحقابُ وَ القُرونُ، وَ ما أنتُمُ اليومَ مِن يومٍ كُنتُم في أصلابِهم بِبَعيدٍ، وَ اللَّه ما أسمَعَهمُ الرَّسولُ شَيئاً إلَّاوَ ها أنا ذَا اليومَ مُسمِعكُمُوه، وَ ما أسماعُكُمُ اليومَ بِدوُنِ أسماعِهم بِالأمسِ، وَ لا شُقَّت لَهمُ الأَبصارُ وَ لا جُعِلَت لَهمُ الأفئِدَة في ذلِكَ الزَّمانِ إلَّاوَ قَد اعطيتُم مِثلَها في هذا الزَّمانِ، وَ وَاللَّه ما بَصُرتُم بَعدَهم شَيئاً جَهلوه، وَ لا اصفيتُم به وَحُرِمُوه، وَ لَقَد نَزَلَت بِكُمُ البَلِية جائِلًا خِطامُها، رِخواً بِطانُها، فَلا يغُرَّنَّكُم ما أصبَحَ فِيه أهلُ الغُرورِ، فَإنَّما هوَ ظِلُّ مَمدودٌ، إلى أجَلٍ مَعدودٌ (2).

المشهد الثاني: فتنة آخر الزّمان

إنَّه سَيأتي عليكُم مِن بَعدي زَمانٌ لَيسَ فِيه شَي ءٌ أخفى مِنَ الحَقِّ وَ لا أظهرَ مِنَ الباطِلِ، وَ لا أكثَرَ مِنَ الكَذبِ على اللَّهِ وَ رَسُولِه، وَ لَيسَ عِندَ أهلِ ذلِكَ الزَّمانِ سِلعَة أبوَرَ مِنَ الكتاب إذا تُلِي حَقَّ تِلاوَتِه، وَ لا أنفَقَ مِنه إذا حُرِّفَ عَن مَواضِعِه، وَ لا فِي


1- نهج البلاغة: 319، الخطبة 202.
2- نهج البلاغة: 122، الخطبة 89.

ص: 286

البِلادِ شَي ءٌ أنكَرَ مِنَ المَعروف، وَ لا أعرَفَ مِنَ المُنكَرِ، فَقَد نَبَذَ الكتابَ حَمَلَتُه وَتَناساه حَفَظَتُه، فَالكتاب وأهْلُهُ يومَئِذٍ طَريدانِ، مَنفِيّانِ، وَ صاحِبانِ مُصطَحِبان في طَريقٍ واحِدٍ، لا يؤويهما مُؤوٍ؛ فَالكِتابُ وَ أهلُه في ذلِكَ الزَّمانِ فِي النّاسِ وَ لَيسا فِيهم، وَ مَعَهم وَ لَيسا مَعَهم، لأنَّ الضَّلالَة لا تُوافِقُ الهدى، وَ إنِ اجتَمَعا فَاجتَمَعَ القَومُ على الفُرقَة وَ افتَرَقوا على الجَماعَة، كَأنَّهم أئمَّةُ الكتاب وَ لَيسَ الكتابُ إمامَهم، فَلَم يبقَ عِندَهم مِنه إلَّا اسمُه، وَ لا يعرِفُونَ إلَّاخَطَّه وَ زُبَرَه، وَ مِن قَبلُ ما مَثَّلوا بِالصّالِحينَ كُلَّ مُثلَةٍ، وَ سَمّوا صِدقَهم على اللَّه فِريةً، وَ جَعَلوا فِي الحَسَنَة عُقُوبَة السَّيّئة (1).

المشهد الثالث: طريق الفلاح

فَأينَ تَذهبُونَ؟ وَ أنّى تُؤفَكُونَ؟ وَ الأَعلامُ قائِمَة وَ الآياتُ واضِحَة، وَ المَنارُ مَنصُوبَة، فَأينَ يُتاه بِكُم؟ بَل كَيفَ تَعمَهونَ؟ وَ بَينَكُم عِترَة نَبِيّكُم وَ هم أَزِمَّة الحَقِّ وَأَعلامُ الدّينِ وَ أَلسِنَة الصِّدقِ، فَأَنزِلُوهم بِأَحسَنِ مَنازِلِ القُرآنِ وَ رِدوُهم وُرودَ الهيمِ العِطاشِ.

أيّها النّاس! خُذُوها عَن خاتَمِ النَّبيينَ صلى الله عليه و آله: إنَّه يموتُ مَن ماتَ مِنّا وَ لَيسَ بِمَيتٍ، وَ يَبْلَى مَن بَلِيَ مِنّا وَ لَيسَ بِبالٍ، فَلا تَقُولوا بِما لا تَعرِفُونَ، فَإنَّ أكثَرَ الحَقِّ فِيما تُنكِرونَ، وَ أعذِروا مَن لا حُجَّة لَكُم عليه، وَ أنَا هوَ!

ألَم اعمَل فِيكُم بِالثِّقلِ الأكبَرِ؟ وَ أَترُك فِيكُم الثِّقلَ الأصغَرَ؟ وَرَكَزتُ فِيكُم راية الإِيمانِ؟ وَ وَقَفتُكُم على حُدُودِ الحَلالِ وَالحَرامِ، وَ ألبَستُكُمُ العافِية مِن عَدلى وَ فَرَشتُكُمُ المَعروفَ مِن قَولي وَفِعلي، وَأرَيتُكُم كَرائِمَ الأخلاقِ مِن نَفسي، فَلا تَستَعمِلوا الرّأي في ما لا يُدرِكُ قَعرَه البَصَرُ وَ لا يتَغَلغَلُ إلَيه الفِكَرُ (2).

المشهد الرابع: الحجّة الخالدة

الّلهمَّ بَلى! لا تَخلُو الأرضُ مِن قائِمٍ للَّهِ بِحُجَّة، إمّا ظاهراً مَشهوراً، وَ إمّا خائِفاً مَغمُوراً؛ لِئلّا تَبطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَ بَيّناتُه، و كَم ذا؟ وَ أينَ؟


1- نهج البلاغة: 204، الخطبة 147.
2- نهج البلاغة: 119، الخطبة 87.

ص: 287

اولئِكَ- وَاللَّهِ- الأقلّونَ عَدَداً، وَالأعظَمونَ عِندَ اللَّهِ قَدراً، يحفَظُ اللَّه بهم حُجَجَه وَ بَيّناتِه، حَتّى يُودِعُوها نُظَراءَهم وَ يزرَعُوها في قُلُوبِ أشباهِهِم، هجَمَ بِهِم العِلمُ على حَقيقَة البَصيرة، وَ باشَروا رُوْحَ اليقينِ، وَاستَلانوا مَا استَوعَرَه المُترَفُونَ، وَ أنِسُوا بِمَا استَوحَشَ مِنه الجاهلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنيا بِأبْدانٍ أرواحُها مُعَلَّقَةٌ بِالمَحَلِّ الأعلى، أُولئِكَ خُلَفاءُ اللَّهِ في أرضِه، وَ الدُّعاة إلى دينِه، آهٍ آه شَوقاً إلى رُؤيتِهم (1).

المشهد الخامس: طلائع الأمل

فَلَبِثتُم بَعدَه ما شاءَ اللَّه حَتّى يطلِعَ اللَّهُ لَكُم مَن يجمَعَكُم وَ يضُمَّ نَشرَكُم، فَلاتَطمَعُوا في غَير مُقبِلٍ، وَ لا تَيأسُوا مِن مُدبِرٍ، فَإنَّ المُدبِرَ عَسى أن تَزِلَّ بِهِ إحدى قائِمَتيهِ وَ تَثبُتَ الاخرى فَتَرجِعا حَتّى تَثبتا جَميعاً. ألا إنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله كَمَثلِ نُجُومِ السَّماءِ، إذا خوى نَجمٌ، طَلَعَ نَجمٌ، فَكَأنَّكُم قَد تَكامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُم الصّنائِعُ، وَ أراكُم ما كُنتُم تَأمُلونَ (2).

لَتَعطِفَنَّ الدُّنيا علينا بَعدَ شِماسِها عَطفَ الضَّروسِ على وَلَدِها،- وَ تَلا عَقيبَ ذلِكَ-: «وَ نُريدُ أن نَمُنَّ على الّذينَ استُضعِفُوا فِى الأرضِ وَ نَجعَلَهم أئِمَّة وَ نَجعَلَهمُ الوارِثينَ» (3).


1- نهج البلاغة: 497، الحكمة 147.
2- نهج البلاغة: 146، الخطبة 100.
3- نهج البلاغة: 506، الحكمة 209.

ص: 288

مجتمع النبي صلى الله عليه و آله في الجاهلية

عبد الخالق الصائغ

تمهيد

لكي يتسنى لنا الوقوف على عظمة نبيّنا صلى الله عليه و آله يلزم أن نحيط بالظروف التي عمل فيها على نشر دعوة الحق، فنطّلع على الأحوال الاجتماعية والدينيّة التي كانت سائدة في ذلك المحيط- العبادات والعادات- والتي استطاع هذا النبي العظيم أن يغيّرها ويغيّر أهلها..

هنا وباختصار، حاولت أن أكتب عن ذلك المجتمع بما يسمح به المقام، كي يصير بإمكاننا تصوّر مدى الجهد الكبير الذي بذله صلى اللَّه عليه وآله في سبيل التغيير، ليس تغيير ذلك المجتمع فحسب، بل تغيير مسار الإنسانيّة ككل، وذلك حين أخرج الناس من الظلمات إلى النور، فانتشرت دعوته في أصقاع الأرض، فحيثما تذهب في قارات العالم الخمس تجد أمامك أثر هذا العمل ملموساً من خلال:

لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه.. فانظر إلى عظمة هذا الإنسان الاستثنائي من خلال معرفة بيئة عمله.

كان المجتمع الجاهلي الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه و آله مجتمعاً بسيطاً لا يعرف تعقيدات الحضارة، يعيش أعرافاً وتقاليد متوارثة، توارثها الأبناء عن آبائهم ولم يناقشوا

ص: 289

فيها، فكانت هذه التبعيّة من غير تدبّر، وقد عبّر القرآن الكريم عن حالهم هذه في آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة المائدة: «وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّه وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ» (1)، وفي سورة الأعراف: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْها آبَاءنَا...» (2)، وفي سورة لقمان: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّه قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ» (3).

فكانوا يرتعون في جاهليتهم الجهلاء، لا يصغون لكلمة الخلاص التي جاءهم بها سيّد الخلق صلى الله عليه و آله: قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا.

وفي هذا المجتمع الحنيفي المنشأ في عقائده، حصلت تغيّرات عديدة في مسائل العبادة والعقائد، نتجت عن تباعد الزمن عن الحنيفية، وقد جرّ هذا التباعد بالتالي إلى ظهور عبادة الأصنام التي كانت السبب في إطلاق لفظ الجاهلية عليه كما سيأتي لاحقاً، وكان سبب العبادة لها التقليد على الأكثر، حتى عندما تكلّموا عن نشوء هذه العبادة في مجتمع مكة على يد عمرو بن لحي الخزاعي قالوا: إنه جاء بها من نواحي الأردن، وسيأتي الكلام فيه تحت عنوان مستقل، وقيل عن عمرو هذا إن العرب حين غلبت خزاعة على البيت ونفت عنه جرهم جعلت منه ربّاً، لا يبتدع لهم بدعة إلا اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس ويكسو في الموسم فربما نحر في الموسم عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة (4).

والنتيجة أن القوم وجدوا آباءهم على هذا الأمر فتبعوهم بلا تدبّر، وكانت تظهر نتائج التدبر في بعض الأحيان عند التأمّل في حال هذا المعبود، وقصّة صنم عمرو بن الجموح التي رواها ابن هشام تدلّك على حالهم في ذلك وإليك القصة:


1- المائدة: 104.
2- الأعراف: 28.
3- لقمان: 21.
4- معجم البلدان، الحموي 5: 4.

ص: 290

قال ابن هشام في سيرته: كان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة وشريفاً من أشرافهم، وكان قد اتخذ في داره صنماً من خشب يقال له: مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، تتخذه إلهاً تعظمه وتطهره، فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها عذر الناس منكساً على رأسه؛ فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟ قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهّره وطيبه، ثم قال: أما واللَّه لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه! فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك؛ فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطهره ويطيبه، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك؛ فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوماً فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلّقه عليه، ثم قال: إني واللَّه ما أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع، فهذا السيف معك.

فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، ثم عدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به.. فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه وكلّمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة اللَّه وحسن إسلامه (1).

إن هذه القصّة تغنيك عن غيرها بعد أن تجعلك تسخر من عقول تلك الأقوام فيما ذهبت إليه في عبادتها لتلك الجمادات..

هل كان في الجاهلية شي ء من خير؟

قبل الخوض في وصف أهل الجاهلية، قد يكون من الملائم التعرّض لهذا العنوان، وهو الحديث عن فضائل كان يتحلّى بها أهل هذا المجتمع على ما فيه من


1- سيرة ابن هشام: 322.

ص: 291

عظائم الآثام، التي تودي بمقترفها في أسفل درك الجحيم، وعلى رأس تلك الآثام الشرك الذي ليس بعده ذنب، لذا وُصف في محكم الكتاب بقوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (1)، ولكن وبالرغم مما كان فيه القوم، فقد كان البعض منهم يتحلّى بأصناف من الفضائل والصفات الحميدة، كالكرم والشجاعة والنخوة وحفظ العهود وغيرها من جميل الصفات؛ ولا يغيب عنا حديث النبي صلى الله عليه و آله المشهور: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» الذي رواه غير واحد (2)، والذي يدلّك على وجود شي ء منها بين الناس، وجاء ليكمل ما بين أيديهم من مكارم الأخلاق. وأيضاً تجدر الإشارة هنا إلى حديث الإمام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام الذي رواه الحر العاملي في الوسائل، والذي ذكر فيه شيئاً من حال العرب في عباداتهم وقربهم من الحنيفية، واستدل على ذلك بشواهد عديدة منها أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة، والاغتسال من خالص شرائع الحنيفية، وكانوا يختتنون وهو من سنن الأنبياء، وإنّ أول من فعل ذلك إبراهيم الخليل؛ وكانوا يغسلون موتاهم ويوارونهم في القبور ويلحدونهم؛ وحرّمت العرب نكاح المحارم النسبية؛ وكانوا يعظّمون بيت اللَّه الحرام ويحجون إليه ويقولون: بيت ربّنا... (3).

وقد ورد في كتب التواريخ أنّ بعضاً من جميل صنعهم أقرّوه على شكل عهود ومواثيق كحلف الفضول الذي «تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكّة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى تردّ عليه مظلمته» (4). ثم تجدّد هذا الحلف في دار عبد اللَّه بن جدعان، قال ابن الأثير في الكامل: ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد اللَّه بن جدعان لشرفه وسنّه، وكانوا بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن


1- لقمان: 13.
2- كما في كنز العمال، المتقي الهندي 3: 16، ح 5217؛ و السنن الكبرى للبيهقي 10: 192؛ وغيرها.
3- راجع نص الحديث في وسائل الشيعة آل البيت 2: 177؛ لأن ما نقلناه هنا كان مضمون الحديث.
4- سيرة ابن هشام: 111.

ص: 292

عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة... وشهده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال حين أرسله اللَّه تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد اللَّه بن جدعان ما أحبّ أن لي به حمر النعيم [النعم] ولو دعيت به في الإسلام لأجبت (1).

وروي في سيرة ابن هشام ما يشير الى هذا الحضور (2). وقد ظل هذا الحلف سارياً حتى في الإسلام على ما ورد في بعض الكتب.

روى ابن الأثير في الكامل أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما، والوليد يومئذ أمير على المدينة لعمّه معاوية، فتحامل الوليد لسلطانه فقال له الحسين: أقسم باللَّه لتنصفني أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول اللَّه ثم لأدعون بحلف الفضول؛ فقال عبد اللَّه بن الزبير وكان حاضراً: وأنا أحلف باللَّه لو دعا به لأجبته حتى ينصف من حقه أو نموت؛ وبلغ المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك؛ وبلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد اللَّه التيمي فقال مثل ذلك؛ فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من نفسه حتى رضي (3).

وروي أيضاً أن الإمام الحسين عليه السلام دعى بهذا الحلف عند تشييع أخيه الحسن المجتبى عليه السلام وخروج بني أميّة وأحلافهم مع مروان، لمنعه من دفن أخيه بجوار جدّه المصطفى صلى الله عليه و آله، قال ابن عساكر في ترجمة الحسن عليه السلام في تاريخ دمشق: «فصاح حسين بحلف الفضول، فاجتمعت بنو هاشم وتيم وزهرة وأسد وبنو جعونة بن شعوب من بني ليث قد تلبّسوا السلاح...» (4).

وكان مما عندهم من جميل الصفات: الجوار وحسن الجوار، فإذا ما أجار شخص شخصاً، فإنّ المجير في هذه الحالة قد يكون مستعداً للتضحية بنفسه وأهله


1- الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 41.
2- سيرة ابن هشام: 112.
3- الكامل في التاريخ 2: 41- 42.
4- ابن عساكر، ترجمة الحسن عليه السلام في تاريخ دمشق: 222.

ص: 293

في سبيله، وتحكي كتب السير كيف أن النبي صلى الله عليه و آله دخل مكة بعد رجوعه من الطائف بجوار المطعم بن عدي، وكان ذلك بعد أن فقد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حاميه وكافله، عمه أبو طالب سلام اللَّه عليه الذي ما إن انتقل ابن أخيه إلى كنفه حتى فضّله على بنيه في الرعاية، وكان يحرص عليه حرصاً منقطع النظير؛ ويلمس المتتبع للتاريخ ذلك بسهولة، خاصة بعد البعثة وحين صرّح صلى الله عليه و آله أنه مبعوث من اللَّه، وكان في ذلك يتحدّى كلّ قريش في دفاعه عن النبي صلى الله عليه و آله، فلم يكن يدعهم ليصلوا إليه بسوء، وقد صرّح بذلك حين قال:

واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أؤسّد في التراب دفيناً

وبلغ الأمر أنه آثر أن يكون محاصراً مع النبي صلى الله عليه و آله الذي آمن به على أن يسلمه للقوم، حتى مات سلام اللَّه عليه في السنة العاشرة للبعثة (1)، وذلك بعد مواقف عظيمة تنم عن سموّ إيمان؛ ولشدة تأثر النبي صلى الله عليه و آله بفقده سمّى ذلك العام عام الحزن حيث فقد فيه أيضاً- إلى جانب العم العظيم- زوجته الوفيّة أم المؤمنين السيدة خديجة سلام اللَّه عليها. ولم يكن له بُد من الخروج من مكة بعد هذه الحادثة، فقد جاءه الوحي من ربه، فقال له جبرئيل عليه السلام: إن اللَّه عزوجل يقرؤك السلام، ويقول لك: اخرج عن مكة فقد مات ناصرك (2)، ما كان له أن يعود ما لم يكن له من يحميه، فاختار صلى الله عليه و آله المطعم.

وقد ورد في كتب التواريخ والسير أن المطعم لبس سلاحه ومعه بنوه وبنو أخيه ودخلوا المسجد فاستقبلهم أبو جهل، وقال للمطعم: أمجير أم تابع؟ فقال: بل مجير، فقال أبو جهل: قد أجرنا من أجرت (3). ومضى صلى الله عليه و آله يتابع دعوته في جوار المطعم


1- السيد جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة المصطفى 3: 221.
2- الشيخ المفيد، إيمان أبي طالب: 24.
3- كما في كتب السير: راجع سيرة المصطفى للسيد هاشم معروف الحسني: 224.. وقد حفظ النبي صلى الله عليه و آله ذلك للمطعم ونوّه به يوم بدر..

ص: 294

ويعرض نفسه على القبائل أيام الموسم ويسألهم النصرة. وقد حفظ النبي صلى الله عليه و آله للمطعم ما كان منه، وقال في أسرى بدر من المشركين كما روي عنه صلى الله عليه و آله: لو كان المطعم حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له (1).

وكان بوسع الرجل أن يردّ جوار من أجاره، ولكن المجير كان يفضّل أن يفعل ذلك المستجير علانية كما في قصّة رد عثمان بن مظعون لجوار الوليد (2).

وكانت النخوة والنجدة متأصّلة فيهم لاسيّما ضمن أفراد القبيلة الواحدة والتي يمكن أن يعبّر عنها بالعصبيّة القبليّة (3)؛ لذلك كانت هذه موضع تفاخر في شعر تلك الفترة حتى قال شاعرهم:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهان (4)

وقول الآخر:

إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهم إلى أيّ حيٍّ أم بأيّ مكانِ (5)

أما الكرم، فكان من دواعي الفخر عندهم، وقد بلغ فيه البعض أسمى المنازل، ويكفي ذكر حاتم الطائي وكرمه الذي ذاع في الأقطار.. حتى أن النبي صلى الله عليه و آله مدح هذه الخصلة فيه عندما حدّثته سفانة ابنة حاتم عن أبيها، وما كان فيه من الصفات، فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا جارية! هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلّوا عنها! فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، واللَّه يحب


1- ابن حجر، فتح الباري 6: 173؛ و ذكره في سبل السلام 4: 56؛ و مسند أبي يعلى 13: 412، وتجدر الإشارة هنا أن المطعم كان من المشاركين في نقض الصحيفة وفك الحصار عن المسلمين في الشعب.
2- للمزيد راجع ابن هشام: 269.
3- الدكتور علي الوردي، دراسات في طبيعة المجتمع العراقي: 57.
4- والقول لقريط بن أنيف العنبري.
5- هذا البيت لودَّاك بن ثُميل المازنيّ.

ص: 295

مكارم الأخلاق (1).

أما الوفاء فيكفي فيه حاجب بن زرارة وقوسه الذي رهنه عند كسرى (2)، وكذا السموأل الذي ضحّى بولده كي يفي لامرئ القيس فيما أودع عنده (3).

وأختم الكلام هنا بحديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي تكلم فيه عن نفسه، وأنّه صفوة الخلق عندما قال: «.. ثم خلق (اللَّه) الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار...» فهذا الحديث يدل أن هؤلاء القوم كانوا من ذوي المكانة العالية بين من عاصرهم من شعوب الأرض، ولكن الكلام يقع في أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها مخلوق وهي الشرك باللَّه العظيم، حيث هو الفيصل في التقييم، والذي أدى بدوره إلى الابتعاد عن اللَّه تعالى حيث تراكمت المعاصي، فأدت إلى حجب ما يمكن أن يتسلل من نور


1- ذكره صاحب التذكرة الحمدونية وصاحب الأغاني، كما ذكره الأبشيهي في المستطرف في كل فن مستظرف 1: 292.
2- عن العقد الفريد لابن عبد ربه قال: إن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميماً من ريف العراق، فاستأذن عليه، فأوصل إليه: أسيد العرب أنت؟ قال: لا؛ قال: فسيد مضر؛ قال: لا؛ قال: فسيد بني أبيك أنت؟ قال: لا. ثم أذن له، فلما دخل عليه، قال له: من أنت؟ قال: سيد العرب؛ قال: أليس قد أوصلت إليك، أسيد العرب؟ فقلت: لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك فقلت: لا؟ قال له: أيها الملك، لم أكن كذلك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد العرب؛ قال كسرى: آه، املؤا فاه دراً. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد، وأغرتم على العباد، وآذيتموني. قال حاجب: فإني ضامن للملك أن لا يفعلوا؛ قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا: لهذه العصا يفي! قال كسرى: ما كان ليسلمها لي لشي ء أبداً فقبضها منه، وأذن لهم أن يدخلوا الريف. ومات حاجب بن زرارة، فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه؛ فقال له: وقد وفى له قومه ووفى هو للملك. فردها عليه وكساه حلّة. فلما وفد إلى النبي صلى الله عليه و آله عطارد بن حاجب وهو رئيس تميم، وأسلم على يديه، أهداها للنبي صلى الله عليه و آله، فلم يقبلها...
3- عن التذكرة الحمدونية لابن حمدون 3: 12: والعرب تضرب المثل في الوفاء بالسموأل، وهو ابن عريض بن عادياء الأزدي... وكان من خبره أن امرأ القيس بن حجر أودعه أدراعاً مائة، فأتاه الحارث بن ظالم ويقال: الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه، فتحصّن منه السموأل، فأخذ ابناً له غلاماً وناداه: إما إن أسلمت إلي الأدراع وإما إن قتلت ابنك، فأبى السموأل أن يسلم الأدراع إليه، فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه...

ص: 296

إلى تلك القلوب.. ثم إن إلقاء نظرة إلى المجتمعات المحيطة بالعرب تجعل الناظر يشعر بالفرق بين مجتمع العرب وغيرهم، وعلى الظاهر أن العرب على ما كانوا فيه، فقد كانوا خيراً من غيرهم.

المراد بالجاهلية

نعود إلى الجاهلية وما يراد بها، فقد قيل: إن المراد بها الجهل التوحيدي الديني لا الجهل بعلم من العلوم.. فقد أفادت صلات العرب الحضارية مع العالم، وظاهرة بناء أقدم سد ركامي (مأرب)، الدخول في صفقات منتظمة وأحلاف وعقود بأنهم كانوا على دراية بقضايا عصرهم، فالجاهلية ليست سوى الجهل بتوحيد اللَّه تعالى، وذكرت دوائر المعارف والكتب بأن اليهودية أطلقت كلمة الجاهليين على الأقوام الذين سبقوا ظهورها.. وأما تحديد فترة الجاهلية، فهي في نظر المفسّرين تمتد من الجاهلية الجهلاء أو الجاهلية الأولى التي كافحها النبي إبراهيم عليه السلام إلى الجاهلية الثانية التي ناضلها النبي محمد صلى الله عليه و آله.. (1).

على أنّ بعض المؤلفين قال: إن لفظ الجاهليّة شاع بعد الهجرة إلى المدينة، كما


1- الأدب الجاهلي للسيد جعفر الحسيني: 16- 15، مع بعض التصرف.

ص: 297

أنّ آخر قال: وكانت قريش تسمى في الجاهلية العالمية لفضلهم وعلمهم. قال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:

ألسنا أهل مكة عالمياً وأدركنا السلام بها رطابا (1)

أول عبادة الأصنام

وإذا ما قلنا بأن الجاهلية تعني الجهل بتوحيد اللَّه تعالى، لزم أن نلمح إلى ما روي عن أوّل عبادة الأصنام ونشأتها؛ فقد روى ابن هشام في سيرته أنّ عمرو بن لحي الخزاعي هو أوّل من سنّ هذه العبادة؛ حيث جاء بصنم من أرض البلقاء يدعى هبل (2)؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن هذا الأمر الخطير- الشرك- لم يكن معروفاً في مكة قبل أن يأتي به عمرو بن لحي هذا، فقد جاء به من الأطراف البعيدة في شمال جزيرة العرب، وكانت تلك المنطقة أقرب إلى نفوذ الروم.

هذا، وقد ورد في كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري أن أول من غيّر الحنيفية وبحر البحيرة وسيّب السائبة وجعل الوصيلة والحام عمرو بن لحي، وهو عمرو بن ربيعة أبو خزاعة، وهو أول من ولي البيت منهم، ثم رحل إلى قومه بالشام، ورأى الأصنام تُعبد فأعجبته عبادتها، وقدم مكة بهبل، ودعا الناس إلى عبادته وإلى مفارقة الحنيفية.. (3) وكما ورد في كتاب الحور العين: وأول من دعا العرب إلى عبادة الأوثان، وغيّر دين إسماعيل: خزاعة واسمه عمرو بن لحي، واسم لحي ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي.. (4).

ولعظيم ما اقترف عمرو بن لحي، فقد ذكره النبي صلى الله عليه و آله في أهل النار في مواطن


1- أبو هلال العسكري، الأوائل 1: 73؛ والسلام الحجارة، والعرب تزعم أن الحجارة كانت رطبة لينة.
2- سيرة ابن هشام: 73.
3- الأوائل لأبي هلال العسكري 1: 66.
4- الحور العين لنشوان الحميري: 220.

ص: 298

عديدة، ولا يذهب عنّا حديث النبي صلى الله عليه و آله: «من سنّ سنّة سيئة» ففي وصية النبي لابن مسعود كما في مكارم الأخلاق (1): يا ابن مسعود: إياك أن تسنّ سنّة بدعة، فإن العبد إذا سنّ سنّة سيئة لحقه وزرها ووزر من عمل بها، قال اللَّه تعالى: «وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ»، وقال سبحانه: «يُنَبَّؤُا اْلإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ».

وفي جامع البيان عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي أن أبا صالح السمان، حدّثه أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لأكثم بن الجون الخزاعي:

يا أكثم! رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قُصْبَه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبي اللَّه؟ قال: لا، لأنك مؤمن وهو كافر، وإنه كان أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان، وسيّب السوائب فيهم (2).

وفي كنز العمال عن زيد بن أسلم، قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «.. ولقد عرفت أول الناس سيّب السوائب، ونصب النصب، وغيّر عهد إبراهيم، عمرو بن لحي، ولقد رأيته يجرّ قُصْبَه في النار، ويؤذي أهل النار جرّ قصبه» (3).

عبادة و معتقدات وعادات الجاهلية

وإذا كان الكلام كذلك، فلنلقي نظرة على بعض المعتقدات والعادات التي


1- الطبرسي، مكارم الأخلاق: 454.
2- جامع البيان لابن جرير الطبري 7: 120، وفيه قال: وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثاً ليس فيها ذكر سيّبت، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقّ أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل، فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها فهي البحيرة ابنة السائبة. والوصيلة: أن الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهنّ ذكر جعلت وصيلة، قالوا: وصلت، فكان ما ولدت بعد ذلك لذكورهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شي فيشتركون في أكله ذكورهم وإناثهم. والحامي: أن الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنّ ذكر حمي ظهره، ولم يركب، ولم يجز وبره، ويخلى في إبله يضرب فيها، لا ينتفع به بغير ذلك. يقول اللَّه تعالى ذكره: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ...- إلى قوله- وَلا يَهْتَدُونَ».
3- الهندي، كنز العمال 2: 403 الحديث 4361؛ قُصْبه: بضم القاف وسكون الصاد أي أمعاءه.

ص: 299

كانت سائدة في تلك الفترة:

العبادة

كان أكثر العرب من المشركين، فكان لكل قبيلة صنم، لا بل كان هناك أصناماً خاصة ببعض الأشخاص، منها صنم عمرو بن الجموح الآنف الذكر؛ قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنماً يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفراً تمسّح به حين يركب، وإذا قدم من سفره تمسّح به (1)، وقريب منه ما ورد في كتاب الأصنام للكلبي (2)، أما أشهر الآلهة التي عبدوها فهي كما جاء في بعض الكتب:

1- هبل:

الذي جاء به عمرو بن لحي على ما رواه ابن هشام (3)، وكان على بئر في جوف الكعبة (4)، ولكن الذي نصبه غير عمرو بن لحي، بحسب ما أورده الكلبي في كتابه الأصنام حيث قال: وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها عندهم هبل، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى. أدركته قريش كذلك، فجعلوا له يداً من ذهبٍ. وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. وكان يقال له: هبل خزيمة، وكان في جوف الكعبة.. (5) وعليه فهو معارض لما في السيرة النبوية لابن هشام.

ثم إن هناك أصناماً ذكرت أسماؤها في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:

«أَفَرَأَيْتُمُ اللّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى» وأيضاً: «وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً»، أما هذه الأصنام المذكورة فهي:


1- ابن هشام: 77.
2- الكلبي، الأصنام: 34.
3- ابن هشام: 73.
4- المصدر نفسه: 76.
5- الأصنام: 28.

ص: 300

2- مناة:

وقد كانت العرب تسمّي عبد مناة وزيد مناة. وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة. وكانت العرب جميعاً تعظمه وتذبح حوله. وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له... ولم يكن أحد أشد إعظاماً له من الأوس والخزرج (1).

3- اللات:

كان في الطائف، وهي أحدث من مناة، وكانت صخرة مربعة، وكان يهودي يلت عندها السويق. وكان سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك، وكانوا قد بنوا عليها بناءاً، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها. وبها كانت العرب تسمي زيد اللات وتيم اللات (2). وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش العزى (3).

4- العزى:

وهي أحدث من اللات و مناة كما عن ابن الكلبي في كتاب الأصنام، حيث قال: وذلك أني سمعت العرب سمت بهما قبل العزى.. كانت بوادٍ من نخلة الآشمية، يقال له: حراض، بإزاء الغمير، عن يمين المصعد إلى العراق من مكة.

وذلك فوق ذات عرقٍ إلى البستان بتسعة أميال. فبنى عليها بساً، يريد بيتاً. وكانوا يسمعون فيه الصوت. وكانت العرب وقريش تسمي بها عبد العزى. وكانت أعظم الأصنام عند قريش. وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقربون عندها بالذبح...

وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى! فإنهن الغرانيق العلى (4).

5- يغوث:

اتّخذته مذحج وأهل جرش (5).


1- النجم: 19- 20، و نوح: 23.
2- الأصنام: 11، 15.
3- كتاب الأصنام: 27، وأيضا عن اللات راجع ابن هشام: 73 الهامش.
4- كتاب الأصنام: 17- 18.
5- المصدر نفسه: 8.

ص: 301

6- سواع:

اتخذته هذيل، فكان برهاط من أرض ينبع، وكانت سدنته بنو لحيان (1).

7- ود:

اتخذته كلب بدومة الجندل (2).

8- يعوق:

اتخذته خيوان، فكان بقريةٍ لهم يقال لها: خيوان من صنعاء، على ليلتين مما يلي مكة (3).

9- نسر:

اتخذته حمير، فعبدوه بأرض يقال لها: بلخع (4)..

وكان لهم أساف ونائلة قيل: إنهما كانا مسخين (5). وكان لهم غيرها، ولكن اقتصرنا على أشهرها حتى لا نطيل..

ومن شدّة تعلّق أهل الجاهليّة بأصنامهم، فقد كانوا يستمهلون النبي صلى الله عليه و آله بعض الوقت «لتوديعها» حين كان يرسل من يحطمها؛ فيأبى عليهم ذلك.

ومن جميل ما يروى في الباب قولهم: إن أبا أحيحة، وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرض مرضه الذي مات فيه. فدخل عليه أبو لهبٍ يعوده، فوجده يبكي. فقال: ما يبكيك يا أبا أحيحة؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه؟ قال: لا. ولكني أخاف أن لا تُعبد العزى بعدي. قال أبو لهب: واللَّه ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك! فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة! وأعجبه شدّة نصبه في عبادتها(6).

وحكي أيضاً من لطائف المقام أنّه كان لمالكٍ وملكان ابني كنانة، بساحل جدة


1- المصدر نفسه: 7.
2- الأصنام: 7.
3- المصدر نفسه: 8.
4- المصدر نفسه: 9.
5- المصدر نفسه: 6؛ ابن هشام 76، وللمزيد عن أصنام العرب راجع كتاب الأصنام للكلبي وكتاب السيرة: 81- 72.
6- الأصنام: 23.

ص: 302

وتلك الناحية صنم يقال له: سعد، وكان صخرةً طويلة. فأقبل رجل منهم بإبلٍ له ليقفها عليه، يتبرك بذلك فيها، فلما أدناها منه، نفرت منه وكان يهراق عليه الدماء.

فذهبت في كل وجهٍ وتفرقت عليه. وأسف فتناول حجراً فرماه به، وقال: لا بارك اللَّه فيك إلهاً! أنفرت علي إبلي!. ثم خرج في طلبها حتى جمعها و انصرف عنه، وهو يقول:

أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا فشتتنا سعد فلا نحن من سعد!

وهل سعد إلا صخرة بنوفة من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد (1)

وعن البصائر والذخائر لأبي حيان التوحيدي: كانت بنو حنيفة اتخذوا إلهاً من حيس، فعبدوه دهراً، ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم:

أكلت حنيفة ربّها من جو ع قديم بها ومن إعواز

بعض معتقدات الجاهليّة

بعد أن تكلمنا في العبادة نذكر بعض ما كان يعتقده بعضهم في أمور منها:

المعاد:

فقد كانوا يعتقدون أن الإنسان إذا مات فنى، وليس هناك بعث، تدل عليه آيات عديدة منها قوله تعالى: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّه كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» (2).

الروح:

في مروج الذهب للمسعودي: من العرب من يزعم أنّ النّفس طائر ينبسط في الجسم، فإذا مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشاً يصدح على قبره، ويزعمون أنّ هذا الطائر يكون صغيراً ثم يكبر حتّى يكون كضرب من البوم، وهو أبداً مستوحش ويوجد في الديار المعطّلة، ومصارع القتلى والقبور، وأنّها لم تزل عند ولد الميت ومخلّفه لتعلم ما يكون بعده فتخبره (3).


1- الأصنام: 41- 40.
2- سبأ: 7- 8.
3- عن الشعائر من الجاهلية إلى الإسلام للشيخ محمد فاضل المسعودي: 122.

ص: 303

الملائكة:

قال تعالى: «وَيَجْعَلُونَ للَّه الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ» (1)

، قال العلامة الطباطبائي في الميزان: وقد قيل: إن خزاعة وكنانة كانوا يقولون: إن الملائكة بنات اللَّه (2).

الجن:

اعتقدوا أنها كانت تخالطهم في كل مكان، لذا كانوا يستعيذون بها، حتى حكي أن رجلًا حل وادياً، وكان معه ولد له، فاستعاذ بعظيم الوادي- كما جرت العادة- فعدا السبع على ولده فقال:

قد استعذنا بعظيم الوادي من شر مافيه من الأعادي

فلم يجرنا من هزبر عاد

وكان إذا مرض أحدهم وطالت علّته حسبوا أنّ الجِنّة مسّته عقوبةً له على قتله حيّة أو يربوعاً أو قنفذاً أو غزالًا أو أرنباً، وهي من مراكب الجن وأحبابها فقدّموا الدية للجن.. على جمال من طين.. وقت الغروب، فاذا أصبحوا ووجدوا الجمال على حالها قالوا: إنّ الدية لم تقبل، فزادوا فيها، وإن رأوها قد تساقط وتبدد ما عليها من حب قالوا قبلت، واستبشروا بشفاء المريض (3).


1- النحل: 57.
2- الميزان في تفسير القرآن 12: 274.
3- الميزان في تفسير القرآن 12: 274. وانظر: الشعائر من الجاهلية إلى الإسلام: 110- 108؛ وابن طباطبا العلوي، عيار الشعر: 61، 64؛ وكذا كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري: 27؛ الحيوان للجاحظ؛ 3: 135؛ والتذكرة الحمدونية 7: 205، 334؛ وسيرة ابن هشام، وقريب منه ما ورد في كتاب الأوائل؛ والبيان والتبيين للجاحظ: 589- 588؛ والوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي 24: 215؛ وابن الكلبي، الأصنام: 4- 1، 102- 103؛

ص: 304

وكانوا يزعمون أنّ من علّق على نفسه كعب أرنب لن تقربه أو تمسّه الجن بأذى (1).

شعائرهم وعاداتهم

لا بأس بالكلام عن بعض الشعائر والعادات التي كانت موجودة في الجاهلية وهي مدرجة تحت عناوين مختارة منها:

الاستسقاء:

كان لهم شعائر خاصة فيه، فكما عن كتاب الحيوان للجاحظ فقد كانوا إذا تتابعت عليهم الأزَمَات ورَكَدَ عليهم البلاءُ، واشتدّ الجَدْب، واحتاجوا إلى الاستِمْطار، استجمعوا وَجَمعُوا ما قَدَرُوا عليه من البَقَر، ثم عقَدُوا في أذنَابها وبينَ عَراقِيبها، السَّلَعَ والعُشَر، ثمَّ صعدوا بها في جبلٍ وعْرٍ، وأشعَلُوا فيها النِّيرانَ، وضجُّوا بالدُّعاء والتضرُّع، فكانوا يَرَوْن أنّ ذلك من أسبابِ السُّقيا.. (2)

التطيّر:

وقد شاع في العرب زجر الطير والوحش للتفاؤل بها، قال الجاحظ في كتاب الحيوان: وأصل التطيُّر إنما كان من الطّير ومن جهة الطير، إذا مرَّ بارحاً أوْ سانحاً، أو رآه يتفلى وينتَتِف، حتى صاروا إذا عاينوا الأعورَ من النّاس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر، زجروا عند ذلك وتطيَّروا عندها، كما تطيَّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال، فكان زجر الطّير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطيّر، ثمَّ استعملوا ذلك في كلِّ شي ء (3).

ومن عاداتهم التي ذكرها ابن طباطبا العلوي في كتابه عيار الشعر (4):

علاج الملدوغ:

فقد كانوا يعلقون الحلي والجلاجل على السليم (وهو الذي لدغ من أفعى أو غيرها) ليفيق.


1- ابن طباطبا العلوي، معيار الشعر: 64.
2- كتاب الحيوان للجاحظ، وكذا كتاب الأوائل لأبي هلال العسكري: 27؛ وابن طبا طبا العلوي، عيار الشعر: 61.
3- الحيوان: 3: 135.
4- ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر باب سنن العرب وتقاليدها: 53- 65.

ص: 305

دفع العين:

وكانوا لدفعها يفقؤون عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً، فإن زادت عن الألف فقؤوا العين الأخرى، يقولون: إن ذلك يدفع عنها الغارة والعين.

وفي ذلك يقول قائلهم يشكر ربه على ما وهب له:

وهبتها وأنت ذو امتنان يفقأ فيها أعين البعران

فعلهم خلف من لا يحبون عوده إليهم: وكانوا يوقدون خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه ناراً، ويقولون: أبعده اللَّه وأسحقه. وأوقد ناراً إثره. وفي ذلك يقول شاعرهم:

وذمة أقوام حملت ولم نكن لنوقد ناراً إثرهم للتندّم

ضرب الثور لتشرب البقر: وكانوا يضربون الثور إذا امتنعت البقر من الماء، ويقولون: إن الجن تركب الثيران فتصدّ البقر عن الشراب. قال الأعشى:

فإني وما كلفتموني وربكم ليعلم من أمسى أحق وأحوبا

لكالثور والجني يركب ظهره وما ذنبه أن عافت الماء مشربا

وما ذنبه أن عافت الماء باقر وما إن تعاف الماء إلا ليضربا

رمي السنّ للشمس: وكان من عاداتهم أن الصبي منهم يحذف سنه إذا سقطت في عين الشمس، ويقول: أبدليني بها أحسن منها، وليجر في ظلمها إياتك... قال أبو دؤاد: ألقى عليه إياه الشمس أدرانا (1).

الرتم:

وكعقدهم خيطاً يسمونه الرتم في غصن شجرة أو ساقها، إذا سافر أحدهم وتفقد ذلك الخيط عند رجوع المسافر منهم فإن وجده على حاله قضى بأن أهله لم تخنه، وإن رآه قد حلّ حكم بأنها قد خانته. قال ابن حمدون في التذكرة الحمدونية: الرتم شجرٌ معروفٌ. كانت العرب إذا خرج أحدهم إلى سفرٍ عمد إلى


1- والغريب أن هذه العادة ما زالت سائدة في بعض المجتمعات للآن حيث رأيت بعض الأطفال يفعلون ذلك..

ص: 306

هذا الشجر فعقد غصناً منه بغصنٍ، فإذا عاد من سفره إن وجده قد انحل قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حاله قال: لم تخني (1).

لدفع الوباء:

وزعموا أن الرجل إذا أراد قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل أن يدخل فعشر كما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها. وقال عروة بن الورد في ذلك، وكان خرج مع أصحاب له إلى خيبر يمتارون فخافوا وباءها، فعشروا وأبى عروة أن يفعل، فلما دخلوها وامتاروا وانصرفوا نحو بلادهم لم يبلغوا مكانهم إلا وعامتهم ميت أو مريض إلا عروة، فقال:

لعمري لئن عشرت من خشية الردى نهاق حمير إنني لجزوع

انتهى ما نقلناه عن عيار الشعر، وقد ذكر غيرها من عادات فلتراجع في محلها (2)..

النسي ء:

قال في التذكرة الحمدونية بعد ذكر قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيَادَةٌ


1- التذكرة الحمدونية لابن حمدون 7: 334.
2- ككتاب الشعائر بين الجاهلية والإسلام، وكتاب عيار الشعر، باب سنن العرب وتقاليدها، والتذكرة الحمدونية: 7.

ص: 307

فِي الْكُفْرِ..» (1)

النسي ء تأخير الشي ء، وكانوا يحرّمون القتال في المحرم، ثم إذا عزموا أن يقاتلوا فيه جعلوا صفراً كالمحرم وقاتلوا في المحرم وأبدلوا صفراً منه.

فأعلم اللَّه عز وجل أن ذلك زيادةٌ في كفرهم ليواطئوا عدة ما حرم اللَّه، فيجعلون صفراً كالمحرم في العدد، ويقولون: إن هذه أربعة أشهر بمنزلة أربعة، والمواطأة:

المماثلة والموافقة. والأشهر الحرم: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة (2).

وفي سيرة ابن هشام قال: قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلّت منها ما أحلّ وحرمت منها ما حرم القلمس؛ وهو حذيفة بن عبد بن فقيم... بن كنانة بن خزيمة ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد... ثم قام... أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم وعليه قام الإسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرّم الأشهر الحرم الأربعة رجباً وذا القعدة وذا الحجة والمحرم، فإذا أراد أن يحل شيئاً أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفر فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين الصفر الأول ونسأت الآخر للعام المقبل (3)...

وقد ورد في خطبة النبي صلى الله عليه و آله في حجّة الوداع إشارة إلى ما كان من أمرهم في النسي ء فقال صلى الله عليه و آله: «أيُّها الناس! إنّ النّسي ء زيادةٌ في الكُفْر يَضَلُّ به الذّينَ كَفَرُوا يُحِلّونه عاماً ويُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطُئوا عِدَّةَ مَا حَرّمَ اللَّه فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللَّه، إنّ الزّمانَ قد استدار كهيئته يَوْمَ خلق اللَّه السَّمواتِ والأرض، وإنّ عِدَّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللَّه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كتِابِ اللَّه يَوْمَ خَلَقَ السّمواتِ وَالأَرْض، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثة متواليات وواحدٌ فرد: ذو القَعدة وذو الحِجَّة والمحرم، ورَجب الذي بين جُمادى وشعبان، ألا هَلْ بلَّغْت؟.. (4).


1- التوبة: 37.
2- التذكرة الحمدونية.
3- سيرة ابن هشام، وقريب منه ما ورد في كتاب الأوائل.
4- البيان والتبيين للجاحظ: 589- 588.

ص: 308

وأد البنات

ومن أبشع العادات التي كانت عندهم وأد البنات، ولا أدري من أين كانت لديهم كل تلك القسوة حتى كانوا يقدمون على هذا الفعل، ولا أظنّ أن أباً يستطيع أن يفكّر في فعل كهذا لمجرد أنه يعيش الفقر، على أن القرآن وصف حالهم تلك في آيات منها قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ» (1)، وقال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً» (2)، قال ابن حمدون في التذكرة الحمدونية: وكانوا يقتلونهن كما ذكر تعالى خشية إملاقٍ، وقد ذكر أنهم كانوا يقتلونهنّ خوف العار وأن يسبين وليس يمتنع وقوع السببين، وقد جاءت أخبارهم دالةً عليهما. وكان قيس بن عاصمٍ المنقري يئد بناته، وكان من وجوه قومه له من المال ما شاء (3).

وإذا أردت أن تنظر إلى مبلغ قسوتهم في هذا الأمر فانظر الى ما رواه أصحاب المصنّفات منهم الصفدي في الوافي بالوفيات، حيث قال في ترجمة قيس بن عاصم:

قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد الحارث المنقري التميمي أبو علي، وقيل: أبو طليحة، وقيل: أبو قبيصة، والأول أشهر، قدم في وفد تميم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سنة تسع.. أقبل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: كنت أخاف سوء


1- النحل: 58- 59.
2- الإسراء: 31.
3- التذكرة الحمدونية 7: 330.

ص: 309

الأحدوثة والفضيحة في البنات، فما ولدت لي بنية قط إلا وأدتها، إلا بنيّة كانت لي ولدتها أمها وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخوالها فكانت فيهم. فقدمت فسألت عن الحمل فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولداً ميتاً. ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها، وجعلت في قرونها شيئا من الخلوق، ونظمت عليها ودعاً، وألبستها قلادة جزع، وجعلت في عنقها مخنقة بلح، فقلت: من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وكيسها، فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، كنت خبرتك أني ولدت ولداً ميتاً، وجعلتها عند أخوالها حتى بلغت هذا المبلغ. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها ثم أخرجتها فحفرت لها حفيرة وجعلتها فيها وهي تقول: يا أبه، ما تصنع بي؟ وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول: يا أبه أمغطي أنت بالتراب، أتاركي وحدي ومنصرف عني؟ وجعلت أقذف عليها التراب حتى واريتها وانقطع صوتها فما رحمت أحداً ممن واريته غيرها، فدمعت عين النبي صلى الله عليه و آله ثم قال: إن هذه لقسوة وإن من لا يَرحم لا يُرحم (1).

شعائر العبادة (الحج)

بغض النظر عن قرابين الأصنام وما كانوا يتوجهون به إليها، نذكر أهم ما بقي من شعائر دين إبراهيم عليه السلام وهو الحج، إذ لم يبق من الدين على ما يبدو غير هذه الشعيرة، لأن التزاماتهم اندثرت فصاروا يأكلون الميتة والدم ويشربون الخمر ويستحلون ما حرّم اللَّه، فلا معلم للدين في ذلك الوقت غير هذه العبادة على ما شابها من تشويه بإضافة أو حذف.

قال ابن الكلبي في كتابه الأصنام: وفيهم على ذلك (الشرك وعبادة الأصنام) بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت نزار تقول إذا ما أهلت: لبيك اللهم! لبيك!

لبيك! لا شريك لك! إلا شريك هو لك!


1- الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي 24: 215؛ وكذا التذكرة الحمدونية 2: 205.

ص: 310

تملكه وما ملك!

ويوحّدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتم ويجعلون ملكها بيده...

وكانت تلبية عك، إذا خرجوا حجاجاً، قدّموا أمامهم غلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم. فيقولان: نحن غرابا عك!

فتقول عك من بعدهما: عك إليك عانيه، عبادك اليمانيه، كيما نحج الثانية!

وكانت ربيعة إذا حجّت فقضت المناسك ووقفت في المواقف، نفرت في النفر الأول ولم تقم الى آخر التشريق (1).

قال ابن الكلبي عن حجّ الأوس والخزرج:.. فكانوا يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم. فإذا نفروا أتوه (مناة) فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده. لا يرون لحجهم تماماً إلا بذلك... وهذا الصنم هدمه علي عليه السلام في عام الفتح (2).

قال ابن إسحاق: وقد كانت قريش لا أدري أقبل الفيل أم بعده ابتدعت رأي الحمس رأياً رأوه وأداروه فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقطان مكة وساكنها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلتنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئاً من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفّت العرب بحرمتكم... فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر، والحج، ودين إبراهيم عليه السلام؛ ويرون لسائر العرب أن يفيضوا منها،... ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكن الحل والحرم مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، يحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم (3).

وعليه صار الناس أيام الجاهلية ثلاثة أقسام:


1- ابن الكلبي، الأصنام: 1- 4.
2- المصدر نفسه: 12- 13.
3- سيرة ابن هشام: 156 حديث الحمس.

ص: 311

فمنهم الحمس، و قبائل الحمس من العرب قريش كلها، وخزاعة؛ لنزولها مكة، ومجاورتها قريشاً. وكل من ولدت قريش من العرب وكل من نزل مكة من قبائل العرب (1). والقسم الآخر الطلس، وقبائل الطلس وهم سائر أهل اليمن، وأهل حضرموت، وعك وعجيب وإياد بن نزار؛ وما سواهم من العرب فهم قبائل الحلة كتميم بن مرّ كلها غير يربوع، ومازن، وضبة... (2). وقد ذكر ابن حبيب البغدادي في المحبّر أحوالهم في الحج بحسب أصنافهم بشي ء من التفصيل فقال (3):

كانت الحمس قد شدّدوا على أنفسهم في دينهم؛ فكانوا إذا نسكوا لم يسلوا سمناً ولم يطبخوا أقطاً، ولم يدخروا لبناً، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا سعراً ولا ظفراً، ولا يبتنون في حجهم شعراً ولا وبراً ولا صوفاً ولا قطناً، ولا يأكلون لحماً، ولا يمسّون دهناً، ولا يلبسون إلا جديداً، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمسون المسجد بأقدامهم تعظيماً لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات. يقولون: نحن أهل اللَّه، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر.

وكانت الحلة يحرمون الصيد في النسك، ولا يحرمون في غير الحرم، ويتواصلون في النسك، ويمنح الغني ماله أو أكثره في نسكه، فيسلا فقراؤهم السمن، ويجتَزّون من الأصواف والأوبار والشعار ما يكتفون له، ولا يلبسون إلا ثيابهم التي نسكوا فيها، ولا يلبسون في نسكهم الجدد، ولا يدخلون من باب دار ولا باب بيت ولا يؤويهم ظل ماداموا محرمين، وكانوا يدهنون ويأكلون اللحم، وأخصب ما يكونون أيام نسكهم؛ فإذا دخلوا مكة بعد فراغهم، تصدقوا بكل حذاء وكل ثوب لهم، ثم استكروا من ثياب الحمس تنزيهاً للكعبة أن يطوفوا


1- كتاب المحبر لمحمد بن حبيب البغدادي: 178، وعدّ قبائل الحمس.
2- المصدر نفسه: 179، وعدّ فيه القبائل من الحلة والطلس.
3- المصدر نفسه: 179- 181.

ص: 312

حولها إلا في ثياب جدد. ولا يجعلون بينهم وبين الكعبة حذاء، يباشرونها بأقدامهم. فإن لم يجدوا ثياباً طافوا عراة. وكان لكل رجل من الحلة حرمي من الحمس يأخذ ثيابه، فمن لم يجد ثوباً طاف عرياناً. وإنما كانت الحلة تستكري الثياب للطواف في رجوعهم إلى البيت، لأنهم كانوا إذا خرجوا حجاجاً لم يستحلّوا أن يشتروا شيئاً ولا يبيعوه حتى يأتوا منازلهم، إلا اللحم. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حرمي عياض بن حمار المجاشعي، كان إذا قدم مكة طاف في ثياب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وكانت الطلس بين الحلة والحمس، يصنعون في إحرامهم ما يصنع الحلة، ويصنعون في ثيابهم ودخولهم البيت ما يصنع الحمس؛ وكانوا لا يَتَعَرّون حول الكعبة، ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها، وكانوا لا يئدون بناتهم، وكانوا يقفون مع الحلة ويصنعون ما يصنعون.. انتهى ما نقلناه عن المحبّر.

وقد انتهى هذا التصنيف وما كان من شعائر بعد مجي ء الإسلام، حيث أرسى النبي صلى الله عليه و آله قواعد يشترك فيها كل الناس، حيث لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، ولكن لم يكن هذا بالأمر اليسير، بعد مضي أجيال وأجيال على تلك الأحوال؛ فقد كانت معاناة النبي صلى الله عليه و آله أكبر من أن توصف في سبيل التغيير، حتى قال صلى الله عليه و آله: «ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في اللَّه» (1).

هذا منتهى الكلام باختصار عن حال الجاهلية، عبادات وعادات ومعتقدات، وقد ختمنا بشعيرة الحج، لأنها بقيّة دين إبراهيم عليه السلام، والبقية الباقية منه، والحمد للَّه رب العالمين...


1- كنز العمال 3: 130، ح 5818.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.