ميقات الحج-المجلد 25

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

اشارة

ص:2

ص:3

ص:4

الحج، رموز وحِكَمْ (4)

ص: 5

الشيخ عبداللَّه جوادي آملي

وجوب الإحرام من الميقات

من الأمور الهامّة في الحجّ والعمرة (1)، معرفة مواقيت الإحرام، ذلك أن عقد


1- الحجّ في اللغة، القصد المكرّر، أما في الإصطلاح، فيُقصد به إنجاز الأعمال الخاصة في أيّام محدّدة في أرض مكة المكرّمة. أما العمرة، فتعني في اللغة الزيارة، واعتمرَ أي زار مجمع البحرين 2: 1270، مادة: عمر، وحيث كانت الزيارة باعثةً على عمران مكانها ومحلّها، سمّيت زيارة بيت اللَّه الحرام عمرةً واعتماراً. والحجّ والعمرة أعمالٌ تعبّدية، لا توصلية؛ حيث يستفاد ذلك من تعبير «للَّه» الوارد في قوله تعالى: «وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ...» البقرة: 196، نعم، لهذه الأعمال العبادية منافع أيضاً، قال سبحانه: «وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» الحج: 27- 28، و هو أمرٌ لا ينافي العبادية، كما لا يستلزم التوصلية. ويقع الحجّ على أنواع ثلاثة: التمتّع، والقران، والإفراد؛ فحجّ التمتّع مركّب من عبادتين: إحداهما عمرة التمتّع، وثانيتهما حج التمتّع، أمّا عمرة التمتّع فتقدّم على حجّ التمتّع، وتتألّف من خمسة أجزاء هي: 1- الإحرام 2- الطواف حول الكعبة. 3- صلاة الطواف. 4- السعي بين جبلي الصفا والمروة. 5- التقصير، أي أخذ مقدارٍ من شعر الرأس أو الأظافر. ويتألّف حج التمتّع من ثلاثة عشرة عملًا هي: 1- الإحرام من مكّة. 2- الوقوف بعرفات. 3- الوقوف بالمشعر الحرام. 4- رمي جمرة العقبة في منى. 5- ذبح الأضحية في منى. 6- حلق الرأس في منى أو تقصيره. 7- طواف الزيارة في مكّة. 8- صلاة الطواف. 9- السعي بين الصفا والمروة. 10- طواف النساء. 11- صلاة طواف النساء. 12- المبيت في منى ليلتي الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجّة، وبعض الحجّاج يجب عليه المبيت ليلة الثالث عشر أيضاً. 13- رمي الجمرات الثلاث في يومي: الحادي عشر والثاني عشر، وعلى من بات في منى ليلة الثالث عشر أن يرجم صبيحتها أيضاً. أمّا العمرة المفردة، فإضافةً إلى الأعمال المتقدّمة في عمرة التمتّع، هناك عملان آخران واجبان فيها هما: طواف النساء، وصلاة طواف النساء، ويجب إنجاز هذين العملين بعد الحلق أو التقصير. وللتعرّف على أجزاء هذه العبادات وشرائطها تراجع كتب مناسك الحج.

ص: 6

الإحرام من مصاديق إتمام الحج والعمرة، وهو- أي الإتمام- ما جاء الأمر الإلهيّ به، (1) جاء في الحديث: «من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت...» (2).

والميقات مكانٌ خاص، والمواقيت أماكن محدّدة عيّنها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أساس الوحي الإلهي لأهل الأقاليم، والجدير ذكره أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حدّد مواقيت لأهل أفريقيا، وأهل الشام والعراق، يُحرمون منها عند ورودهم الحرم الشريف مع أنّه لم يكن بعدُ قد تشرّف أحد في تلك الديار بشرف الإسلام، بل إنّ المدن الرسمية والمعروفة في العراق لم تكن- وفق بعض المنقولات- قد ظهرت بعدُ عند تحديد النبي صلى الله عليه و آله للمواقيت (3).

والمواقيت الخاصّة المحدّدة خمسة أو ستة، إلّاأنّ المواضع التي يصحّ فيها الإحرام للحجّ والعمرة تبلغ العشرة تقريباً، وللمواقيت المعينة خصوصية أنّها المكان الوحيد المناسب لحدوث الإحرام فيه، فلا يجوز تقديم الإحرام عنها أو تأخيره، اللهم إلا في حال الضرورة أو النذر أو لإدراك إحرام شهر رجب.

والجدير ذكره أن الدخول إلى الحرم لا يجوز إلا محرماً، ليس هذا فحسب، بل إن العبور عن المواقيت لمن يقصد الحرم لا يجوز له إلا في حال الإحرام أيضاً.

والميقات لا يقبل التغيير، تماماً كسائر المواقف مثل عرفة والمشعر ومنى، وإذا


1- البقرة: 196.
2- وسائل الشيعة 8: 222.
3- يقول الإمام الصادق عليه السلام: «فإنّه وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذٍ عراق» انظر: وسائل الشيعة 8: 222.

ص: 7

ما صار جزءاً من قريةٍ أو مدينةٍ نتيجة حصول توسعةٍ فيهما بقي له حكمه دون تعديل، فالتنعيم مثلًا- وهو أحد مواقيت العمرة- كان سابقاً خارج حدود مكّة، إلّا أنّه غدا اليوم- بعد اتساع المدينة- داخلها، ومع ذلك لم يخرج عن صفة الميقات التي كان يملكها.

وثمّة أفكار كثيرة يمكن استفادتها من النصوص الواردة في بيان المواقيت، نحاول هنا الإشارة إلى بعضها وهي:

1- إنّ تعيين الميقات المكاني إنما نشأ- كالميقات الزماني- من جانب الشارع المقدّس وطبقاً للسنّة الدينية، لا من ناحية عادات الناس.

2- إنّ تعيين مواقيت لأبناء بعض البلدان والمدن التي لم تكن قد ظهرت بعدُ، أو لأناسٍ لم يكونوا قد دخلوا في الإسلام هو- كما أشرنا من قبل- إعجاز ديني.

3- للأحكام الشرعية كافة أصل في الوحي الإلهيّ، مع أنّه لم تبيّن الأصول السماوية لكلّ حكم معه، إلّاأن بعض المواقيت، مثل ذي الحليفة قد جاء فيه:

«قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: لأيّ علّة أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجد الشجرة ولم يُحرم من موضع دونه؟ فقال: لأنّه لما أسري به إلى السماء وصار بحذاء الشجرة نودي يا محمد! قال: لبيك، قال: ألم أجدك يتيماً فآويتك، ووجدتك ضالًا فهديتك؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ الحمد والنعمة والملك لك كلها لا شريك لك، فلذلك أحرم من الشجرة دون المواضع» (1).

ورغم ما للميقات من حرمةٍ خاصّة، إلا أن تلك المكانة إنّما أخذها من كونه موضعاً للإحرام، وحيث قام الإسلام على السهولة والسماحة، لا سيّما في الحجّ والعمرة حيث لا تكرار فيهما يومياً كالصلاة حتى تكون أحكامه عند الجميع.. من هنا فلو تجاوز شخص عن غفلةٍ أو قصور أو ذهول أو سهو ونسيان عن موضع


1- وسائل الشيعة 8: 225.

ص: 8

الإحرام وميقاته دون أن يحرم، ثمّ دخل الحرم وهو على هذه الحال، وأنجز تمام أعمال الحجّ والعمرة طبقاً للضوابط المعهودة، ثمّ التفت آخر العمل أنّه لم يعقد الإحرام، كانت أعماله بتمامها صحيحةً، فلا حاجة له إلى الإعادة أو القضاء.

الحرم الإلهي

الحرم موضع مكاني محدّد، يختلف بُعد حدوده عن الكعبة من الجهات المتعدّدة، فيحدّه من ناحية الشمال والشمال الغربي مسجد التنعيم على طريق المدينة، ومن الجنوب والجنوب المائل إلى الشرق «إضاءة اللبن» على مسير اليمن، ومن الشرق والشرق المائل إلى الجنوب «الجعرانة» القريبة من منى والمشعر الحرام على طريق الطائف، ومن الغرب والغرب الشمالي «الحديبية» على مسير جدّة.

وقد وُضعت لتعيين حدود الحرم من الأطراف كافّة علائم وعلامات.

ويجيب الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن سؤالٍ وجّه إليه عن سبب اختلاف حدود الحرم في بعدها عن الكعبة من الجهات المتعدّدة، ففي بعضها قريبة وفي بعضها أبعد؟: «إنّ اللَّه عزّ وجلّ لمّا أهبط آدم من الجنّة هبط على أبي قُبيس، فشكا إلى ربّه الوحشة، وأنّه لا يسمعُ ما كان يسمعه في الجنّة، فأهبط اللَّه عزّ وجلّ عليه ياقوتةً حمراء، فوضعها في موضع البيت، فكان يطوف بها آدم، فكان ضوؤها يبلُغُ موضع الأعلام، فيعلّم الأعلام على ضوئها وجعله اللَّه حرماً» (1).

وقد نقل هذا المطلب بطريقةٍ أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام، وطبق هذا النقل، فإنّ اللَّه تعالى أمر جبرئيل؛ لتسكين آدم عليه السلام وحواء، بالذهاب إليهما، «فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنّة.. وأنصب الخيمة على التُرعة..»، ويضيف الإمام الباقر عليه السلام ما هو قريب من الرواية السابقة: «الترعة مكان البيت.. وكان عمودُ


1- الكافي 4: 195- 196.

ص: 9

الخيمة قضيب ياقوتٍ أحمر، فأضاء نوره وضوؤه جبال مكّة وما حولها.. فهو مواضعُ الحرم اليوم من كلّ ناحية من حيث بلغ ضوءُ العمود.. فجعله اللَّه حرماً لحُرمة الخيمة والعمود؛ لأنّهما من الجنّة..» (1).

أمن الحرم

لقد أحيا النبي إبراهيم عليه السلام، وهو شيخ الأنبياء الإبراهيميين، سنّةً وسيرةً، إلا أنّ بعض أعماله وبعض مناجاته تعدّ من جوامع الكلم، فطلبه صيرورة هذا المكان بلداً، وأمناً مطلقاً، ومجمعاً لثمار مختلفة من أقطار العالم، والتنبؤ بصيرورة- مكانٍ غير ذي زرع أمَّ القرى.. من الكلمات الجامعة له عليه السلام، تقع في صراط تأسيس نظام التوحيد، ونشر الإيمان والعمل الصالح، والقيام بتنمية شاملة للمعارف العقائدية، والأخلاقية، والاجتماعية، والسياسية، ذلك أنّها إذا كانت موضعاً لسكان أرضها الآمنة فحسب لم تكن- أبداً- أمّ القرى، ذلك أنّ نواحيها ليست بالمكان الآمن، فقطّاع الطرق في عمق الصحراء المحيطة سوف يقطعون أيّ نوعٍ من أنواع الارتباط، مما سيمنع تردّد أبناء الأطراف المحيطة إليها، كما لن تصل محاصيل أطرافها من القريب والبعيد إليها، ولن تكون سوقاً رسمية.

يمكن للحرم الإلهي وأرض مكّة أن تحمل على عاتقها مسؤولية العالمية بل العولمة الصحيحة، وذلك:

أولًا: توفّر جانب كونها أمّ القرى، وتبعيّة نواحيها لها، ورغبة الناس وشوقهم للمجي ء إليها.

ثانياً: إنها مركز التوحيد، أي أنّها تستوعب بين جنباتها الكعبة، وهي القبلة والمطاف أيضاً.

ثالثاً: وصول نداء باني الكعبة، نبينا إبراهيم عليه السلام الذي بناها بأمرٍ من اللَّه تعالى،


1- المصدر نفسه.

ص: 10

وهو صاحب البيت، ذاك النداء الداعي للحضور إلى ساحة هذا البيت بغية الحج والعمرة... وصوله إلى أسماع العالم بأقطاره ونواحيه، ومن الثابت أنّ فضيلةً عظيمةً معدّة لامتثال هذا الأمر الإلهي الإلزامي.

إن سرّ تقديم الأمن على الدعوة إلى الحجّ والعمرة، وعلى جلب أنواع الثمار من النواحي القريبة والبعيدة إلى هذه الأرض الطيبة هو أن الأمن أطيب النعم الفردية والإجتماعية للإنسان وأجملها وأحبّها إلى قلبه، ففي ظلّ الأمن تتحقق سائر البركات المفقودة، كما أن فقدانها يصاحبه زوال هذه النعم الموجودة.

ومن أبرز مصاديق الأمن ومظاهره، الأمن الثقافي والفكري، ووجود مناظرات ثقافية سليمة؛ ذلك أن الحوار وتضارب الآراء والصبر على آراء الآخرين العلمية المنصفة يلعب دوراً رئيساً في وضوح الحق وجلائه ومحو الباطل واندثاره.

لقد كان إبراهيم عليه السلام رائداً في الحوارات العلمية، وفي الجدال بالتي هي أحسن، بل في تمام الخصال والسجايا الأخلاقية الكبرى، وقد كان الأئمة المعصومون من نسل طه وأسرة ياسين صلى الله عليه و آله يعتبرون جوار الكعبة مدرسةً للحكمة ومعهداً للجدال بالتي هي أحسن.

إشارة: كانت الكعبة في بنائها الأصلي موجودةً منذ عصر آدم الصفي عليه السلام، لكنّها انهدمت تدريجياً وتركت، وتمّ تجاهلها إلى أن بناها إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، وما حصل على صعيد بنائها وبنيانها حصل أيضاً- كما تشهد به بعض المعطيات الروائية- على صعيد الأمن فيها والأمان، فقد كانت الكعبة مكان آمناً في البداية، ثمّ فقدت أمنها تدريجياً، ليعود لها مرّةً أخرى مع النبي إبراهيم عليه السلام.

وهنا، يجدر الاهتمام بأنّ دعاء النبي إبراهيم عليه السلام قد حقّق لأرض مكّة أمنها وأمانها، لا للكعبة وحدها، وإلّا فأمن الكعبة لم يتحقق بطلب إبراهيم عليه السلام وإنّما صار أن جعلها اللَّه منذ البداية مثابةً ومطافاً، وقبلةً، وأمناً.

ص: 11

وأمن الحرم على قسمين: تشريعي، وتكويني، وسوف يتكفّل ببيان هذين النوعين من الأمن المبحثان التاليان.

1- الأمن التكويني

وفقاً لظواهر الأمور، يفترض بأرض مكة أن تكون أرضاً غير آمنة، ذلك أن طبع أبناء الحجاز من جهة كان على الاعتداء والغارة، كما أنّهم- من جهة أخرى- ما كانوا ينعمون بالعلم، والثقافة، والزراعة، وتربية المواشي، والصناعة و.. بل إن الشعب الفاقد للثقافة والجائع في الوقت عينه من الطبيعي أن يكون عدوانياً يعيش على الهجمات والغارات.

إلا أنّه، رغم ذلك كلّه، قال تعالى: «أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» (1)

وقال: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» (2).

وطبقاً للمبدأ عينه، عاشت قريش النعمة والأمن من الجوع والخوف، قال سبحانه: «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (3).

ويحدّثنا اللَّه تعالى عن الأمن التكويني للحرم فيقول: «وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» (4). كما أنّ اللَّه تعالى يحدّثنا عن مكّة كيف كان خطف الناس رائجاً في أطرافها، لكنّ اللَّه جعل أرضها حرماً آمناً، لا لأنّ سكّان الحرم الإلهي ومدينة مكة قد غدوا أناساً صالحين، بل لأنّ الناس تفهم حرمة الحرم وتقوم بحقه، قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (5)، وحيث كان الخطف أمراً تكوينياً فإن الأمن الذي


1- القصص: 57.
2- آل عمران: 97.
3- قريش: 4.
4- القصص: 57.
5- العنكبوت: 67.

ص: 12

يقابله سيكون تكوينياً أيضاً.

ويستفاد جيداً من الآيات المذكورة المرتبطة بعصر الجاهلية أن خطر الهجمات والغارات والخطف وقطع الطرق كان قائماً خارج نطاق الحرم، أمّا في الحرم فلم يكن كذلك، فحكم الأمن تشريعاً إنما جاء بعد الإسلام، والقرآن الكريم عندما يذكر الأمن في الحرم في العصر الجاهلي إلى زمان الإسلام وإلى ما بعده أيضاً فإنما يقدّم ذلك شاهداً ومستنداً له.

يقول الإمام الصادق عليه السلام حول أمن الحرم: «من دخل الحرم من الناس مستجيراً به فهو آمن، ومن دخل البيت مستجيراً به من المذنبين فهو آمن من سخط اللَّه، ومن دخل الحرم من الوحش والسباع والطير فهو آمنٌ من أن يُهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم» (1).

ولابدّ من الالتفات إلى أن الإعلان عن أمن الحرم المكي لا يعني حرية أي إنسان في أن يقوم بما يشاء فيه، ذلك أنّ اللَّه تعالى يحدّثنا عن أناسٍ كانوا يعيشون بأمنٍ في بلادهم غير أنّ اللَّه أغرقهم بالخوف والجوع والاضطراب إثر كفرهم بنعمه، قال تعالى: «وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (2).

وعليه، فالأمن التكويني للحرم لا يعني أنّه لا تقع فيه مذابح ومظاهر قتل، بل بمعنى أنّ اللَّه سبحانه جعل هذه الأرض- على أساسٍ من لطفه- مأمناً، أمّا لو ضلّ الناس فيها سبيلهم، فإن اللَّه ينزل عليهم العذاب.


1- وسائل الشيعة 9: 339.
2- النحل: 112.

ص: 13

طويلة، نعم، من الممكن لدولةٍ في الحجاز مع عاصمة مثل الرياض أن تقوم ببعض ألوان الظلم الفردي أو الاجتماعي، إلّاأنّه لا يمكن في مكّة ممارسة ظلمٍ إلحادي ذي صبغةٍ كافرة، ذلك أن الآية الشريفة: «وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (1)، تهدّد من يقوم بذلك، أي بالظلم الإلحادي، لا غيره، وفي خصوص الحرم لا خارجه، والظلم الحقوقي بالأشخاص الحقيقيين أو الحقوقيين مغايرٌ للظلم الإلحادي الذي يصاحبه كفرٌ وإلحاد.

وحصيلة الكلام، ليست مكّة كالجنة لا يقع فيها معصية أو انحراف (2)، إلا أنّها- مع جريان أحكام الدنيا عليها- تمتاز عن كثير من البقاع في الأرض، ومن جملة هذه الامتيازات أنّه لو أراد بها شخص سوءاً عن ظلم وكفر فسوف يلقى عذاباً شديداً (3).

ومن الجدير ذكره، أنّ الأمن التكويني للحرم نسبيّ بلحاظ مكّة، ونفسيّ بلحاظ الكعبة، بمعنى أنّه من الممكن للَّه تعالى أن يعاقب في مكة لينبّه الكافرين والمذنبين، إلّاأنّه لا يمكن لأحد أن يواجه أصل الكعبة- وهي قبلة المسلمين ومطافهم- وإذا ما خرّب بعض المعاندين في بعض حقب التاريخ البشري الكعبة فهو لكي يلقوا القبض على بعض المتحصّنين بها، لا لمواجهتها ومحاربتها نفسها، من هنا أقدموا مرّتين على إعادة بنائها.

2- الأمن التشريعي

يجمع دعاء النّبي إبراهيم عليه السلام، والذي طلب فيه من اللَّه سبحانه الأمن والخير الإقتصادي لمكّة وساكنيها، بين التكوين والتشريع، قال تعالى: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» (4).


1- الحج: 25.
2- الطور: 23.
3- الحج: 25.
4- البقرة: 126.

ص: 14

إن الأمكنة والأزمنة المرتبطة بالدين هي المعتمد الوحيد لأمن البشر، والأشياء، والأفراد، من هنا جعل اللَّه سبحانه بعض البلاد، والأزمنة، والأشخاص، والأشياء معالم أمن، تماماً كما أعلن احترام الحجّ بأطرافه عادّاً له من الشعائر الإلهية بغية بيان هذا الأمن وتثبيته شاملًا لأطراف الحرم وسكانه وزوّاره.

قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً» (1).

وعلى هذا الأساس، أصدرت قوانين عديدة لحفظ الأمن ومطابقة التشريع للتكوين، مثل حرمة حمل السلاح حال الإحرام، إلا مع الضرورة، وكذا حرمة إظهار السلاح في غير حال الإحرام بحيث يسبّب ذلك إحساساً بعدم الأمن لدى زوار بيت اللَّه الحرام.

والأمن التشريعي للحرم محفوظ دوماً، فلا يجوز خرق حرمة الحرم إلّافي فترة محدودة هي فتح مكّة، اللّهمّ إلا إذا هاجم الآخرون المسلمين وكسروا حرمة الحرم فيجوز عندها سلب الأمن عنهم، على أساس قوله تعالى: «وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ» (2)، وقوله سبحانه: «وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ» (3).

ولتوفير أفضل السبل لتربية الناس وإقامة السلام والأمن وإقرارهما، أكّدت التشريعات على الحدّ من بعض التصرّفات، وأعلنت حرمةً شاملة للحرم وأمناً


1- المائدة: 2.
2- البقرة: 194.
3- البقرة: 191.

ص: 15

واسعاً له ولحال الإحرام أيضاً، من هنا أعلنت الأشهر الأربعة الحرم أمناً شاملًا، سواء كان هناك حج أو عمرة أو لم يكن، وكذلك في الأشهر التي يسافر فيها الحجّاج، وهي أشهر قد تطول- سابقاً- أحد عشر شهراً.

والجدير ذكره هنا، أن نعمة الأمن والأمان وإن كانت عظيمة القيمة، إلّاأن هذا الإصرار على إقامتهما يلفت نظر الباحث الحصيف إلى أنّه لا بدّ في تلك المنطقة من إنجاز أعمال لا تُنجز- على ما يبدو- سوى مع وجود إحساسٍ بالأمن والهدوء والطمأنينة، فإذا ما كانت هذه الأعمال مجرّد المناجاة والزيارة والطواف وأمثالها دون إعلان الغضب والتنديد بوجه الطغاة والمعتدين والعاصين، فلن يعيق هؤلاء عن تحقيق الأمن، ومن ثمّ ستكون كلّ هذه النصوص المصرّة على مسألة الأمن لغواً وعبثاً.

تذكّر: سوف نتحدّث- بإذن اللَّه تعالى- عن قسمٍ آخر لمبحث الأمن التشريعي، لدى الحديث عن «الخصائص الفقهية للحرم».

ص: 16

ساحة أمن ولاية المعصومين عليهم السلام

استناداً إلى بعض الروايات، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما تقدّم عند الحديث عن قوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» (1)، فإن كل داخلٍ في الاعتقاد بالامامة والالتزام بالولاية هو في أمنٍ وأمان، وطبقاً لهذا النمط من الروايات لايراد الإطلاق من الآية الشريفة المشار إليها، ذلك أنّه من الممكن أن ينفذ الكفّار والملحدون وأصحاب العقائد الباطلة إلى داخل الكعبة، والحال أنّهم ليسوا في أمان.

وعليه، فالمراد- كما يقول الإمام الصادق عليه السلام-: «من دخله- وهو عارف بحقّنا كما هو عارف له- خرج من ذنوبه وكفي همّ الدنيا والآخرة» (2).

وفي روايةٍ أخرى للإمام الصادق عليه السلام وضمن مناظرةٍ جرت بينه وبين أبي حنيفة جاء فيها: «.. فأخبرني عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» (3)، أين ذلك من الأرض؟ قال: أحسبه ما بين مكّة والمدينة، فالتفت أبو عبداللَّه إلى أصحابه فقال: تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكّة، فتؤخذ أموالهم ولا يأمنون على أنفسهم ويقتلون؟ قالوا: نعم، قال: فسكت أبوحنيفة، فقال: يا أباحنيفة! أخبرني عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» أين ذلك من الأرض؟ قال: الكعبة... فقال أبوبكر الحضرمي: جعلت فداك الجواب في المسألتين الأولتين؟ فقال: يا أبابكر! «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ» مع قائمنا أهل البيت، وأمّا قوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» فمن بايعه ودخل معه، ومسح على يده، ودخل في عقد أصحابه، كان آمناً» (4).

نعم، المراد هنا الأمن المطلق: التشريعي، والتكويني.


1- آل عمران: 97.
2- تفسير العياشي 1: 190.
3- سبأ: 18.
4- بحارالأنوار 2: 292- 294.

ص: 17

الخصائص الفقهيّة للحرم

لمنطقة الحرم خصوصيات فقهية كثيرة، نشير هنا إلى بعضها:

1- لا يوجد على سطح المعمورة مكان غير هذا المكان يُشترط لوروده، حتى في غير موسم الحج، الإحرامُ من أحد المواقيت المقرّرة، من هنا، فدخول غير المسلم إلى الحرم ممنوع؛ ذلك أنّه يلزمه الإحرام، وإحرام الكافر غير صحيح، والموارد الاستثنائية لهذا الحكم الكلّي العام بالغة القلّة.

2- لا يقتصر منع دخول المشركين على الكعبة والمسجد الحرام، بل يتعدّى ليشمل مكّة والحرم كلّه، قال سبحانه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» (1)، فيجب على المسلمين تنزيه هذا المكان وطرد هؤلاء المشركين منه (2).

3- يحرم تعذيب أيّ شخص يدخل الحرم أو إيذاؤه، اللّهمّ إلا إذا جنى جنايةً خارجه ثمّ احتمى بالحرم والتجأ إليه، وفي هذه الحالة تحرم مبايعته، وكذا حمايته وإجارته وعاريته البيوت، كما يحرم إعطاؤه الطعام أو بيعه له.

ومثل هذه الضغوطات والمتاعب عليه إنّما تهدف إلى إجباره على الخروج من الحرم كي تقام عليه الحدود الإلهية.

لقد بلغ الاهتمام بحريم الحرم الإلهي حدّاً، أن يسأل سماعة بن مهران الصادق عليه السلام فيقول: «سألته عن رجل، لي عليه مال، فغاب عنّي زماناً، ثمّ رأيته يطوف حول الكعبة، أفأتقاضاه مالي؟ قال: لا، لا تسلّم عليه، ولا تروّعه حتّى يخرج من الحرم» (3).

4- لو ارتكب شخص جناية في الحرم أو جرماً جرى عليه الحدّ فيه، ذلك أنّه لم يرع حرمة الحرم، لذا لزمه قصاصه من هذه الناحية، قال سبحانه:


1- التوبة: 28.
2- وسائل الشيعة 9: 344.
3- المصدر نفسه: 365.

ص: 18

«وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (1).

وقد قال الإمام الصادق عليه السلام حول من قتل في الحرم أو سرق: «يُقام عليه الحدّ في الحرم صاغراً؛ لأنّه لم يَرَ للحرم حرمةً، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (2)، فقال: هذا هو في الحرم، وقال: «فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» «3»» (3).

إن ما يقتضيه قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» أنّ إعدام القاتل واجب، بيد أنّ إهانته حرام، أمّا هنا فتغدو إهانته راجحة؛ ذلك أنّه تجاهل الحرمات والمقدّسات ولم يقدّرها أو يحترمها، ومعه فلا يصح أن يحترم هو أيضاً.

إن الكعبة بمنزلة كرامة المسلم وشرفه؛ من هنا كان الجميع مكلفين بحفظ حرمتها، فحرمة الكعبة هي الأساس لحرمة الحرم إلى حدّ تجنّب الفقهاء- حذراً وخوفاً- من السكن فيه؛ والسبب في ذلك خوفهم من أن يرتكبوا فيه أيّ ذنب، يحتملون كونه «إلحاداً»، ممّا يخيفهم من نتائج التعذيب الإلهي: قال تعالى: «وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (4).

ولا يعني ذلك كراهة العيش في ذلك المكان المقدّس، وإنّما يعني الخوف من عدم مراعاة حقوق الحرم الإلهي الرفيع.

مكّة، أنموذج المدينة الفاضلة

قد تكون لبعض الأزمنة والأمكنة خصوصيات استناداً إلى جذور ترجع


1- البقرة: 194.
2- البقرة: 194.
3- وسائل الشيعة 9: 336- 337.
4- الحج: 25.

ص: 19

إليها في المخزن الإلهي، ممّا لا تملكه أزمنة أخرى أو أمكنة، إلّاأنّ الظاهر أن احترام الزمان يكون بمن فيه، واحترام المكان يكون بالمتمكّن فيه.

من هنا، يمكن أن تكون مكّة أفضل البقاع؛ ذلك أنّها كانت منذ قديم الأيام مهداً للتوحيد، ومركزاً للوحي، ومحلًا لتربية الكثير من الأنبياء والأولياء وكذا لظهورهم و... حيث تمثلت الحلقة الأخيرة من هذه السلسلة الذهبية بالتوحيد الخالص، وهبوط القرآن، وصعود خاتم الرسل صلى الله عليه و آله لمقام النبوّة النهائي المنيع ومركز الرسالة الخاتمة.

إضافةً إلى ذلك، فقد احتوت مكّة بيت اللَّه الشريف ومكانه النهائي، من هنا كانت مقدّسةً منذ قديم الأيّام، وعليه فالمدينة المنورة- كمكة المكرّمة- مهبط الوحي ومحل نزول الكثير من سور القرآن الحكيم، كما أن الدولة الإسلامية شهدت قيامتها وانتظام أمرها هناك، وقد عدّ القرآن الكريم أبناء هذه المنطقة وشعبها أنصاراً لدين اللَّه وإخوةً للمهاجرين في سبيل اللَّه (1)، لهذا كانت المدينة لائقةً بدعاء خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله (2)، لتكون حرماً خاصاً. نعم، بركة المدينة المنوّرة مستمرّة ما دام أبناؤها حافظين للأصول العقائدية، والأسس الأخلاقية، والفروع الفقهية.

مكّة أمّ القرى (3)، وأنموذج المدينة الفاضلة، فقد أسّس إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام باني الكعبة ومؤسّس الحضارة، أسّس المدينة الفاضلة على أركان أربعة، نظمها حول محورٍ مركزي، ثمّ طلبها من اللَّه تعالى. كان دعاء إبراهيم في هذا المجال على الشكل التالي:

1- «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً» (4).


1- الحشر: 9.
2- السيوطي، الدرّ المنثور 1: 297.
3- الأنعام: 92، والشورى: 7، ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «أسماء مكّة خمسة: أمّ القرى، ومكّة، وبكّة، والبسّاسة، كانوا إذا ظلموا بها بسّتهم، أي أخرجتهم وأهلكتهم، وأم رحم، كانوا إذا لزموها رحموا»، انظر: بحار الأنوار 96: 77.
4- البقرة: 126.

ص: 20

2- «آمناً» (1).

3- «وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» (2).

4- «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» (3).

ذلك أنّ قيام المدينة الفاضلة يكون على أساس ميل قلوب الرعية لقادتها العارفين بالسياسة، فصِرْف الأمن وزيادة النعمة الكثيرة، مع ضرورتهما، إلا أنهما ليسا كافيين للناس؛ إذ هذا الأمن ووفور النعمة قد نجدهما في أقاليم أخرى وبلدان، إنّما الأساس هو ميل قلوب الرعية وعطف جانبها وجذب أرواحها وجلب ثمار قلوبها، وتلك هي المحبّة (4).

على هذا الأساس، طلب إبراهيم عليه السلام في أدعيته السالفة من اللَّه تعالى، إلى جانب الأمن والاقتصاد، جذب الأفئدة والقلوب إليهم.

5- أما المحور الأساس الذي تدور حوله الأركان الأربعة السابقة، وهو الذي يضمن الأمن ويحقق الهدوء والطمأنينة ويوفر السلامة الاقتصادية للمجتمع، فهو الدولة والحكومة القائمة على أساس الوحي الإلهي، وفي ظلّ إشراف وإدارة الإنسان الكامل.

من هنا، طلب النبي إبراهيم عليه السلام من اللَّه تعالى أن يبعث في نسله نبياً منهم.. قال سبحانه: «رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (5).

إنّ إبراهيم عليه السلام كان قبل ذلك قد شاهد بأمّ عينه تحقق ظاهرةٍ تبدو في الظاهر


1- البقرة: 126.
2- البقرة: 126.
3- إبراهيم: 37.
4- الطبرسي، مجمع البيان 1- 2: 387- 388؛ وتفسير القمي 1: 62.
5- البقرة: 129.

ص: 21

غير ممكنة، وهي أن يصير صاحب ولد في كبره وشيخوخته، من هنا كان معتقداً بهيمنة الإرادة الإلهية على الأمور كافّة، لهذا قال: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» (1).

وبعد مضيّ مدّة، اجتمع فيها من القريب والبعيد عديدٌ من الناس لتظهر إثر ذلك مدينة مكّة على سطح الأرض، كرّر إبراهيم عليه السلام دعاءه السابق بشكل آخر فقال: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» (2).

وقد لازمت صفة الأمن والأمان مدينة مكّة حتّى اشتهرت بها، إلى حد أنّ اللَّه سبحانه يذكرها بهذا الاسم، فيقول: «وَ هذَا الْبَلَدِ اْلأَمِينِ» (3).

والجدير ذكره أن تعبير «غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» مغاير للأرض الموات البائرة التي لم تزرع؛ إذ الموات قابلة للإحياء عادةً، تماماً كما الأرض البائرة تقبل القيام، وما لم يزرع يقبل الزرع، أما الأرض غير ذات الزرع فتعني التي لا يوجد فيها اقتضاء الزرع، كما لا يمكن توفير الأسباب والإمكانات لتعميرها؛ فهي لا تبدو- بحسب ظاهرها- متمتعةً بأيّ عنصر مساعد طبيعياً على زراعتها.

نعم، عدم إمكان زراعة هذه الأرض غير ذات الزرع إنّما هو بالنسبة إلى العلل والأسباب الطبيعية، أمّا بالنسبة إلى الإرادة الإلهية فإن غير الممكنات العادية كافة قابل للوجود والتحقّق.

إن اللَّه تعالى يتحدّث عن ظروف توفير الحياة الاقتصادية لمكّة عبر بيان أنّ ذلك ليس عن طريق الغيب ولا سبيل الإعجاز، فحاجات المؤمنين الاقتصادية لا تؤمّن عبر هذا السبيل، بل «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا» (4).

واليوم تتقاطر الثمرات تترى على أرض مكّة غير ذات الزرع والضرع حتى أنّ المحاصيل المتنوّعة في تمام أرجاء العالم تُحضر إلى مكّة في فصول الحجّ والعمرة كافّة.


1- البقرة: 126.
2- إبراهيم: 35.
3- التين: 3.
4- القصص: 57.

ص: 22

وتوضيح ذلك:

أولًا: إن أشهر الحج قمرية وليست شمسية، وهذا ما يجعلها متنوعةً على امتداد السنين.

ثانياً: إن الأرض كرويّة، وتتنوّع أقاليمها الحارة والباردة.

ثالثاً: تختلف أذواق الناس في المدن والبلدان، وكذا إبداعاتها ومخترعاتها وفنونها المسكوبة في نتاجاتها المصنوعة.

من هنا، تظهر المحاصيل المتنوّعة الكثيرة في تمام مناسبات الحج والعمرة في مكّة، بدعاء إبراهيم عليه السلام، وكذا المدينة بدعاء الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وكما يصل زوّار مكّة على أيّ مركب ضامر أو غيره، ومن أيّ إقليم فج وقريب، ينقل أصحاب البضائع التجارية، أعمّ من الزراعة، والحيوانات، والصناعة، محاصيلهم ومنتوجاتهم إلى مكة أيضاً.

وعليه فكما يراد من الأكل في مثل: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» (1)

و «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» (2)

مطلق التصرّف في المأكول وغيره، لا خصوص الأكل بمعناه المصطلح، كذا يكون المراد من «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» (3)، حيث لا يقصد تأمين الحاجات الغذائية التي ترفع حدّ الجوع فحسب، بل يتعداه إلى تأمين مطلق الحاجات الاقتصادية أيضاً، ذلك أنّه إذا تمتعت أمة بغذائها اللازم لها، لكنّها ظلّت محرومةً من نواحي أخرى كالمسكن والدواء والعلاج واللباس والأثاث، وسائر حاجات الحياة الأخرى، فستبقى دائماً خائفة مغمومة، ومثل هذا الوضع لا ينسجم مع الرسالة التي تريدها الآية الكريمة المذكورة.


1- البقرة: 188.
2- النساء: 10.
3- قريش: 4.

ص: 23

وعليه فالمقصود من الآية توفير الجانب الاقتصادي وما شابهه توفيراً تاماً، تماماً كما ألمحت الجملة الأخرى في الآية، وهي: «آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (1)

إلى جانب الاستقرار الأمني الشامل وتوفير الأمن والأمان.

تذكير:

1- إن أساس الأمن الاقتصادي والاجتماعي لمكّة، وكذا نعمها الوفيرة، أمر تكويني لا تشريعي فحسب.

والشاهد والمؤيّد لذلك ما جاء في سور القصص والعنكبوت وقريش، وهي من السور المكية، فيما الحج الإسلامي الذي يمكنه أن يكون سبباً لحلول الأمن ونزول البركة إنّما جاء تشريعه في العصر المدني، أي بعد سنين طويلة من نزول السور المذكورة.

2- إن الأنبياء والأولياء الإلهيين عليهم السلام كافة أرفع وأفضل من مجرّد سلطة البطن على الطعام والشراب، ذلك أن بعض تلامذتهم- وهم الذوات المقدّسة- «كان خارجاً من سلطان بطنه» (2)، إلّاأنّهم كانوا دائماً مهتمّين بحال الضعفاء وأواسط الناس، من هنا، كانوا يطلبون من اللَّه تعالى لهم النعم الوفيرة ورخص الأرزاق، ويسألون لهم الاقتصاد السالم حتى تتوفّر بذلك أرضيةٌ لبناء الأمن الداخلي من جهة ولحصولهم على استقلالهم واستغنائهم عن الآخرين من جهةٍ أخرى، ليكون ذلك كلّه في خدمة الدين نفسه؛ ذلك أن مبدأ الهوية في الإنسان إنّما يصنعه الدين، لا الاقتصاد، وعدم وجود اقتصاد صحيح لأواسط الناس يعدّ مرضاً عضالًا صعب العلاج بالنسبة إلى تحصيل عقيدة أصيلة أو حفظها بعد حصولها.

نعم، الأوحدي من الناس هو من يرى أن محورية العقيدة والحق أفضل من


1- قريش: 4.
2- نهج البلاغة، الحكمة: 289.

ص: 24

الرفاه العادي، أمّا على صعيد الحسابات الاجتماعية فلا بدّ من ملاحظة الأكثرية ليحكم على طبق وضعها.

3- لقد أنعم اللَّه على الكفار، أعمّ من ذرية إبراهيم عليه السلام وغيرهم، ببركة الكعبة وبحرمة الحرم، إن دعاء النبي إبراهيم عليه السلام كي يستفيد مؤمنو مكة «وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ» (1)

لم يضيّق على غير المؤمنين ولم ينف الرزق عنهم، إنّما لم يشملهم فحسب، فهناك قصور في المشمول، لا أنّه يوجد منع عنه، أي أنّه لم يدع للكافرين، لا أنّه دعا عليهم.

بعض الخصوصيات الفقهيّة لمكّة

1- يكره إجارة بيوت مكّة لزوّارها (2)، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المجال لعامله على مكة: «ومُر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكنٍ أجراً، فإنّ اللَّه سبحانه يقول: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ» (3)

، فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله» (4).

ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ معاوية أوّل من علّق على بابه مصراعين بمكّة فمنع حاجّ بيت اللَّه ما قال اللَّه عزّ وجلّ: «سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ»، وكان الناس إذ قدموا مكّة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجّه» (5).

2- يكره البقاء في مكّة لمدّة طويلة، إذ يكون ذلك باعثاً على قساوة القلب، من هنا، يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته، وليلحق بأهله، فإنّ المقام بمكّة يقسي القلب» (6).


1- البقرة: 126.
2- وسائل الشيعة 9: 367.
3- الحج: 25.
4- نهج البلاغة، الرسالة: 67، الفقرة: 5.
5- وسائل الشيعة 9: 367- 368.
6- المصدر نفسه: 343.

ص: 25

وسرّ كراهة الإقامة لمدة طويلة في مكّة، هو ما جاء في الرواية الآنفة من أن ذلك يغدو سبباً لقساوة القلب، وحسب الظاهر فإن هذا الإنسان لا يراعي الحقوق العظيمة لتلك الأرض، ما يفتّت- تدريجياً- ويضعف العهد، كما يميت القلب.

نعم، بالنسبة للزوار المجاورين للحرم المراعين حقوقه يستفيدون من الفيض العظيم النازل عليهم، إذ إن الإقامة في الحرم أفضل من الخروج منه (1).


1- المصدر نفسه: 341.

ص: 26

صلاة الطواف ومكانها

الشيخ جعفر السبحاني

اتّفق الفقهاء على وجوب ركعتين بعد الطواف في العمرة والحجّ إلّاما يحكى عن الشافعي في أحد قوليه (1)، والكلام في المقام في مكانها عند الزحام وغيره، والأصل في ذلك قوله سبحانه: «واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» أي اتّخذوا من مقام إبراهيم موضع صلاة تصلّون فيه.

والمعروف حسب النصوص والروايات وكلمات العلماء أنّ المقام- الذي هو موضع وقوف إبراهيم عند بنائه للبيت- هو صخرة على شكل مكعّب متساوي الأضلاع وطول الضلع ذراع واحد، بذراع اليد، أي ما يساوي 50 سانتمتراً تقريباً، وهذا المقدار لا يتسع لأداء الصلاة، لأنّ ما يشغله المصلّي المستوي الخلقة- عادة- من المساحة الكافية لوقوفه وركوعه وسجوده وجلوسه هو 50 سم عرضاً في 100 سم طولًا، وأين هذا من مساحة الحجر؟ (2) فيقع الكلام في تفسير الآية وسوف يوافيك معناه.


1- الخلاف 2: 327.
2- مبادئ علم الفقه 3: 210.

ص: 27

إنّ تعبير المحقّق «يجب أن يصلّي في المقام» أثار بحثاً بين الشرّاح، قال في «المدارك»: إنه غير جيّد أمّا لو قلنا بأنّ المقام نفس العمود الصخري فواضح وامّا إن أريد به مجموع البناء الذي حوله فلأنه يتعيّن وقوع الصلاة فيه قطعاً (1).

وقريب منه في المستند (2).

يرد على الاحتمال الثاني، أنّ البناء كان أمراً مستحدثاً ولم يكن في عصر الرسول حين نزول الآية حتّى تفسر به. وقد أزيل السنين الأخيرة وكان موجوداً أوائل العقد الثامن من القرن الرابع عشر، أعني سنة 1381.

وقد وافقه صاحب الجواهر، فقال إنّ تعبير بعض الفقهاء بالصلاة في المقام مجاز تسمية لما حول المقام باسمه، إذ القطع بأنّ الصخرة التي فيها أثر قدمي إبراهيم لا يصلّى عليها (3).

ثمّ إنّ بعض المفسرين من أهل السنّة حاول حفظ ظهور الآية وهو أنّ كون الصلاة في المقام حقيقة فقال: المراد من مقام إبراهيم هو عرفة والمزدلفة والجمار، لأنّه قام في هذه المواضع وسعى فيها، وعن النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم (4).

واحتمل بعضهم أن المراد من المقام هو المسجد الحرام، ولكنّه محجوج بفعل النبي؛ حيث إنّه بعد ما طاف سبعة أشواط أتى إلى المقام فصلّاهما وتلا قوله تعالى:

«وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»، فأفهم الناس أنّ هذه الآية أمر بهذه الصلاة وهنا مكانها (5).

وفي صحيح مسلم بسنده عن جابر في بيان حجّ النبي صلى الله عليه و آله: حتّى إذا أتينا البيت


1- المدارك 8: 181
2- المستند 12: 139.
3- الجواهر 5: 318.
4- الكشاف 1: 287.
5- سنن الترمذي 3: 211 رقم الحديث 856؛ سنن النسائي 5: 235.

ص: 28

معه، استلم الركن ثلاثاً فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثمّ نفذ إلى مقام إبراهيم وقرأ:

«وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (1).

توضيح مفاد الآية

المهم هو توضيح مفاد الآية فهناك فرق بين قولنا: «فاتّخذوا مقام إبراهيم مصلّى» وقوله: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى». وإنّما يلزم المحال عند الجمود على ظاهر الأوّل، لعدم التمكّن من الصلاة في المقام الذي هو الصخرة.

وأمّا الثاني فقد ذكروا في الجار «من» احتمالات، من كونها للتبعيض، أو بمعنى في، أو للابتداء، أو بمعنى عند. والأولى الرجوع إلى الآيات التي ورد فيها هذا النوع من التركيب حتّى يتعيّن أحد الاحتمالات.

قال سبحانه: «وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» (2).

وقال سبحانه: «تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً» (3).

هذا كلّه فى مورد المكان، وأمّا في غيره فمثل قوله سبحانه:

«لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» (4).

«وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً» (5).

«تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً» (6).

ومثّل في «الجواهر» وقال: «اتّخذت من فلان صديقاً ناصحاً، ووهب إليه لي من فلان أخاً مشفقاً» (7).


1- صحيح مسلم: 49، باب حجّة النبي صلى الله عليه و آله: 42.
2- النحل: 68.
3- الأعراف: 74.
4- النساء: 118.
5- النساء: 89.
6- النحل: 67.
7- الجواهر 19: 319.

ص: 29

ترى في هذه الموارد أنّ شيئاً عامّاً يؤخذ منه جزء لغرض، فالنحل تتخذ من الجبال جزءاً بصفة البيت، أو أنّهم كانوا يتّخذون من سهول الأرض قصوراً، أو أنّ الشيطان يتّخذ من عباداللَّه نصيباً، إلى غير ذلك.

فإذا كان هذا ظاهر هذه التراكيب، فالآية منزّلة على هذا النمط من الكلام، فيراد من المقام ما يجاوره ويقاربه تسميةً لما حول المقام باسمه، ضرورة أنّ المقام لا يتبعض لأخذ المصلى منه، فعلى الطائف أن يأخذ جزءاً من هذا المقام المجازيّ مصلّىً يصلّي فيه، وإطلاق الآية يعمّ الخلف وما حوله من اليمين واليسار، ولا يختصّ مفاده بالخلف؛ لأنّ المقام- حسب ما استظهرناه- هو المكان المتّسع قرب المقام الحقيقي، المسوّغ لتسمية ذلك المكان مقاماً أيضاً، فالموضوع هو الصلاة قربه.

فخرجنا بتلك النتيجة: أنّ المقام أُطلق وأُريد منه ما يجاوره ويليه، وأنّ «من» تبعيضيّة لا غير، وسائر الاحتمالات الاخرى غير تامّة.

وعلى ضوء ما ذكرنا، فاللازم هو التصرّف في لفظ «المقام» على ما عرفت،

ص: 30

وأمّا التصرف في الجار أعني «من» وجعله تارة بمعنى «في» وأُخرى بمعنى «عند» فغير وجيه.

وذلك لأنّ مجرد جواز استعمال «من» مكان «في» أو «عند»- على فرض صحّته- لا يسوّغ تفسير الآية بهما؛ لأنّ مادّة الفعل «الأخذ» لا يتعدى لا ب «في» ولا ب «عند»، ولو فرض صحّة استعماله فهو استعمال شاذ، لا يحمل عليه الذكر الحكيم.

هذا هو مفاد الآية، فإن دلّت الروايات على أوسع من الآية أو أضيق منه، نأخذه، وإلّا فمفاد الآية هو المتّبع.

وسيوافيك أنّ المستفاد من الروايات كفاية إتيان الصلاة قريباً من المقام، من غير فرق بين الخلف وأحد الجانبين، فما دام يصدق على العمل كونه «عنده» فهو مسقط للفريضة، وأمّا التركيز على كونها خلف المقام كما في طائفةٍ من الروايات، فالظاهر أنّه بصدد الرد على تقديم الصلاة على المقام، ولزوم تأخّرها عنه. لا لزوم كونها خلفه لا جنبه، وهو يصدق مع إتيانها يميناً ويساراً وخلفاً.

العناوين الواردة في كلمات الفقهاء

إذا عرفت ذلك، فلنذكر العناوين الواردة في كلمات فقهائنا، ثمّ ما هو الوارد في لسان الروايات.

أمّا الأُولى: فقد اختلفت كلمة الفقهاء في التعبير عن موضع الصلاة على الشكل التالي:

1. الصلاة في المقام.

2. الصلاة خلف المقام.

3. الصلاة عند المقام.

أمّا الأوّل: فقد عبّر عنه كثير من الفقهاء.

قال المحقّق في الشرائع: يجب أن يصلّي ركعتي الطواف في المقام (1).


1- الشرائع 1: 268.

ص: 31

وقال العلّامة: وتجبان- الركعتان- في الواجب بعده في مقام إبراهيم عليه السلام حيث هو الآن ولا يجوز في غيره (1).

وأمّا الثاني: أي خلف المقام، فقال ابن الجنيد: ركعتا طواف الفريضة فريضة عقيبه خلف مقام إبراهيم، وكذا قال ابن أبي عقيل (2).

وبذلك عبّر الشهيد في «الروضة» (3)، والأردبيلي في «مجمع الفائدة» (4)، والبحراني في «الحدائق» (5).

وأمّا الثالث: أي عند المقام، فقال ابن البراج: والصلاة- ركعتا الطواف- عند مقام إبراهيم (6).

والظاهر أنّ الجميع يرشد إلى معنى واحد وهو الصلاة قرب مقام إبراهيم، ولذلك نرى أنّ الصدوق بعدما قال: ثمّ ائت مقام إبراهيم فصلّ ركعتين، قال:

واجعله أمامك (7).

هذا كلّه ناظر إلى كلمات الفقهاء.

وأمّا النصوص الواردة في تحديد موضع صلاة الطواف فهي على طوائف، وتتلخّص في العناوين التالية:

1. خلف المقام.

2. جعل المقام إماماً.


1- قواعد الأحكام 1: 427.
2- المختلف 4: 201.
3- الروضة البهية 2: 250.
4- مجمع الفائدة 7: 87.
5- الحدائق 16: 135.
6- المهذب 1: 231.
7- الهداية: 58.

ص: 32

3. في المقام.

4. عند المقام.

والظاهر رجوع العنوان الثاني إلى الأوّل، فإن من جعل المقام إماماً، يقع خلف المقام، فليس هذا عنواناً جديداً، ففي صحيحة معاوية بن عمار قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك فائت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين واجعله إماماً» (1). ومعنى ذلك: لا تتقّدم عليه وكن خلفه.

ولنقتصر على نقل ما يدلّ على لزوم الإتيان بها في موقع خاص من هذه المواقع، على نحو ينفي في بدء النظر جواز إتيانها في موقع آخر، فتكون النتيجة وجود المنافاة بين الروايات. وأمّا ما يدلّ على الجواز في بعض هذه المواقع، كفعل النبي أو الإمام الذي لا يستفاد منه التعين، أو ما لا يدلّ على المطلوب، لكون الرواية في مقام بيان أمر آخر، فنتركه للقارئ الكريم.

الطائفة الأولى: تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام

1. صحيحة معاوية بن عمّار الماضية قال: «فائت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين، واجعله إماماً، واقرأ في الأُولى منهما سورة التوحيد «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وفي الثانية: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ»، ثمّ تشهّد واحمد اللَّه واثن عليه، وصلّ على النبي صلى الله عليه و آله واسأله أن يتقبّل منك» (2).

وقد مرّ أن مفاد الحديث هو إتيان الصلاة خلف المقام، والأمر ظاهر في التعين، واشتمال الرواية على قسم من المندوبات لا يضرّ بظهورها فيه، إذ المتبع هو الظهور ما لم يدلّ دليل على الخلاف.

2. مرسلة صفوان، عمّن حدّثه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ليس لأحد أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة إلّاخلف المقام، لقول اللَّه عزّوجلّ: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ


1- الوسائل: 9، الباب 71، من أبواب الطواف، الحديث 3.
2- الوسائل: 9، الباب 72 من أبواب الطواف، الحديث 3.

ص: 33

مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»، فإن صلّيتها في غيره فعليك إعادة الصلاة» (1).

ودلالتها على تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام واضحة، وإن كانت دلالة الآية عليه (خلف المقام)، غير واضحة لنا.

3. خبر أبي عبداللَّه الأبزاري قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل نسي فصلّى ركعتي طواف الفريضة في الحِجر، قال: يعيدهما خلف المقام، لأنّ اللَّه تعالى يقول: «وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» عنى بذلك ركعتي طواف الفريضة» (2).

ودلالتها على تعيّن إتيان الصلاة خلف المقام واضحة، وإن كانت دلالة الآية عليه غير واضحة لنا.

4. معتبرة سليمان بن حفص المروزي، عن الفقيه عليه السلام قال: «إذا حجّ الرجل فدخل مكّة متمتّعاً فطاف بالبيت وصلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة وقصّر، فقد حلّ له كلّ شي ء ما خلا النساء، لأنّ عليه لتحلّة النساء طوافاً وصلاة» (3).

ودلالته بظاهره على لزوم إتيانها خلف المقام لا غبار عليها.

5. مرسل جميل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه قال: «يصلّي الرجل ركعتي طواف الفريضة خلف المقام» (4).

6. صحيح الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال: «إنّما نسك الذي يقرن بين الصفا والمروة مثل نسك المفرد ليس بأفضل منه إلّابسياق الهدي، وعليه طواف بالبيت، وصلاة ركعتين خلف المقام، وسعي واحد بين الصفا والمروة، وطواف


1- الوسائل: 9، الباب 72 من أبواب الطواف، الحديث 1.
2- الوسائل: 9، الباب 72 من أبواب الطواف، الحديث 2.
3- الوسائل: 9، الباب 82 من أبواب الطواف، الحديث 7.
4- الوسائل: 9، الباب 1 من أبواب الطواف، الحديث 9.

ص: 34

بالبيت بعد الحجّ» (1).

ودلالته على لزوم الإتيان بها خلفه في التمتّع، لأجل اشتراك الأقسام: التمتّع، والقران والإفراد في الحكم إلّاما خرج.

7. صحيح زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام في تعريف المتعة؟ فقال: «يهلّ بالحجّ في أشهر الحجّ، فإذا طاف بالبيت فصلّى الركعتين خلف المقام وسعى بين الصفا والمروة وقصّر وأحل...» (2).

فالحديث في مقام بيان مقدّمات حجّ التمتّع، وأنّ منها الصلاة خلف المقام.

ولعلّ هذا المقدار من النصوص كاف والروايات أكثر ممّا نقلت، وإنّما تركت بعضها لعدم وضوح دلالتها على التعيين. وسيوافيك أنّ التأكيد على الصلاة خلف المقام لأجل ردّ جواز الصلاة بين البيت والمقام. فانتظر.

الطائفة الثانية: وجوب إتيان الصلاة عند المقام

هناك روايات تدلّ على لزوم الإتيان بها «عند المقام» نذكر منها ما يلي:

1. حديث جميل بن دراج، عن أحدهما عليهما السلام أنّ الجاهل في ترك الركعتين عند مقام إبراهيم بمنزلة الناسي (3).

2. صحيح أبي الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن امرأةٍ طافت بالبيت في حجّ أو عمرة، ثمّ حاضت قبل أن تصلّي الركعتين؟ قال: «إذا طهرت فلتصلّ ركعتين عند مقام إبراهيم، وقد قضت طوافها» (4).

3. صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «القارن لا يكون إلّا بسياق الهدي، وعليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم، وسعي بين الصفا


1- الوسائل: 8، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ، الحديث 7.
2- الوسائل: 8، الباب 5 من أبواب أقسام الحج، الحديث 3.
3- الوسائل: 9، الباب 74 من أبواب الطواف، الحديث 3.
4- الوسائل: 9، الباب 88 من أبواب الطواف، الحديث 2.

ص: 35

والمروة، وطواف بعد الحج، وطواف النساء» (1).

4. صحيحته الأُخرى في بيان ما يعتبر في حجّ التمتّع عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «على المتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ثلاثة أطواف- إلى أن قال:- وركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام» (2).

5. صحيحه الثالث قال: «المفرد للحجّ عليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم» (3).

والأحاديث الثلاثة لابن عمار، بصدد بيان أجزاء الحج بأقسامه الثلاثة:

القران، والتمتع والإفراد، ومن أجزاء الحج بأقسامه الثلاثة الصلاة عند المقام.

6. موثّقة سماعة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «المجاور بمكّة إذا دخلها بعمرة في غير أشهر الحج- إلى أن قال:- فليخرج إلى الجعرانة فيحرم منها، ثمّ يأتي مكّة ولا يقطع التلبية حتّى ينظر إلى البيت، ثمّ يطوف بالبيت ويصلي الركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام...» (4).

إلى غير ذلك من الأحاديث المبثوثة في أبواب أقسام الحج والطواف.

الطائفة الثالثة: الصلاة في المقام

وهناك ما يدلّ على أنّ المعتبر هو الصلاة في المقام، ففي صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «سُئل عن رجل طاف الفريضة ولم يصل الركعتين- إلى أن قال:- ويرجع إلى المقام فيصلّي الركعتين» (5). أي فيه.

2. خبر أحمد بن عمر الحلّال قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل نسي أن


1- الوسائل: 8، الباب 2 من أبواب الطواف، الحديث 12.
2- الوسائل: 8، الباب 2 من أبواب أقسام الحج، الحديث 8.
3- الوسائل: 8، الباب 2 من أبواب أقسام الحج، الحديث 13.
4- الوسائل: 8، الباب 8 من أبواب أقسام الحج، الحديث 2.
5- الوسائل: 9، الباب 74 من أبواب الطواف، الحديث 5.

ص: 36

يصلّي ركعتي طواف الفريضة فلم يذكر حتّى أتى منى؟ قال: «يرجع إلى مقام إبراهيم فيصلّيهما» (1). أي فيه.

3. وفي صحيح معاوية بن عمار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك فائت مقام إبراهيم فصلّ ركعتين» (2). أي فيه.

الجمع الدلالي بين الروايات:

هذه عمدة الروايات الواردة، وقد مرّ أنّ ما ذكر لفظ «الأمام» يريد به كون المصلّي خلف المقام، وأمّا الصنف الأخير، الدال على الإتيان بها في المقام، فقد مرّ أنّ الصلاة فيه غير ممكنة فلابدّ أن يراد به حول المقام، فلم يبق من العناوين إلّا العنوانان التاليان:

1. خلف المقام.

2. عند المقام.

وأمّا الجمع بينهما فهو: أنّ التأكيد على الإتيان بها خلف المقام، لغاية نفي التقدّم على المقام، كما إذا صلّى بين البيت والمقام على نحو يكون المقام خلفه، ولعلّ الإصرار على ذلك هو اشتهار أنّ المقام كان ملصقاً بالبيت ثمّ أتي به إلى المكان المعهود فكان ذلك سبباً لإتيان الصلاة قبل المقام، فتأكيد أئمّة أهل البيت عليهم السلام على الإتيان بالصلاة وراء المقام، كان ردّاً لتلك الفكرة، ويشهد على هذا صحيح إبراهيم ابن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام: أُصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة، أو حيث كان على عهد رسول اللَّه قال: «حيث هو الساعة» (3).

وفي صحيح محمّد بن مسلم: «كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطوفون بالبيت والمقام وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت، فكان الحدّ موضع


1- الوسائل: 9، الباب 74 من أبواب الطواف، الحديث 12.
2- الوسائل: 9، الباب 3 من أبواب الطواف، الحديث 1.
3- الوسائل: 9، الباب 71 من أبواب الطواف، الحديث 1.

ص: 37

المقام اليوم» (1).

وحاصل الكلام: كان المعروف في عصر صدور الروايات، أنّ المقام كان ملصقاً بالبيت، وكان ذلك سبباً لتوهم جواز الإتيان بالصلاة بين البيت والمقام، وجعله أمامه لا خلفه، وعند ذلك يكون الموضوع «كون الصلاة عند المقام» أي حوله. وهو يصدق على الصلاة خلفه أو أحد جانبيه.

والحاصل: كما أنّ للآيات شأنَ نزول، كذلك للروايات أيضاً سبب صدور، وبالرجوع إليه يرتفع الإبهام عن وجوبها.

وعلى ضوء ذلك، يمكن أن يقال: إنّ سبب التركيز على وقوع الصلاة خلف المقام لا لأجل اعتبار الخلفيّة في مقابل اليمين واليسار، بل التركيز لأجل نفي التقدّم، ولذلك أمر الإمام أن يجعل المقام إماماً، أي لا يتقدّم عليه.

فيكون الموضوع حسب الآية والروايات «الصلاة عند المقام ولديه» سواء كان خلف المقام أو اليمين أو اليسار، لكن بشرط عدم التقدّم عليه.

وأمّا على مختار الأصحاب من التركيز على شرطية الخلف وعدم كفاية الصلاة في أحد الجانبين فالموضوع عندهم مركب من أمرين:

1. كون الصلاة خلف المقام.

2. كون الصلاة عند المقام.

وعلى ذلك لو صدق كون الصلاة خلف المقام ولم يصدق كونها عنده، فلا يكفي ذلك كما إذا صلّى خلف المقام لكن بعيداً عنه.

كما أنّه لو صلّى عند المقام دون خلفه، فلا يكفي كما إذا صلّى في أحد الجانبين:

اليمين واليسار.

نعم ورد في خبر أبي بلال المكّي، قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السلام طاف بالبيت ثمّ صلى فيما بين الباب والحجر الأسود ركعتين، فقلت له: ما رأيت أحداً منكم صلّى في


1- الوسائل: 9، الباب 28 من أبواب الطواف، الحديث 1.

ص: 38

هذا الموضع، فقال: «هذا المكان الذي تيب على آدم فيه» (1).

فلو كان المراد من الباب باب الكعبة كما هو الظاهر لزم أن يكون الإمام صلّى ركعتين والمقام خلفه لا أمامه.

واحتمال أنّ الإمام صلى عند المقام محاذياً بين الباب والحجر الأسود غير صحيح، لأنّ هذا لا يثير تعجّب الراوي، إذ يكون عملًا عاديّاً.

كما أنّ حمل الصلاة على التطوّع غير صحيح، لأنّ الظاهر أنّ الإمام صلى في الموضع الذي صلى فيه لأجل طوافه بالبيت حيث قال: طاف بالبيت ثمّ صلى فيه.

فالرواية لا يُحتج بها لأنّها معرض عنه.

اللّهمّ إلّاأن يحمل على الطواف المجرّد عن سائر الأعمال فيجوز إتيان صلاته من حيث شاء ويدل عليه خبر زرارة (2).

ومن ذلك يعرف النظر في بعض الكلمات على ما عرفت، وأنّه ليس للخلفية موضوعيّة، وإنمّا الموضوعية لعند المقام ولديه.

حكم الصلاة عند الزحام

ما ذكرنا من الحفاظ على عنوان «العنديّة» فقط أو «الخلفيّة» و «العنديّة» راجع إلى حال الاختيار وعدم الزحام، وأمّا عند كثرة الطائفين فكثيراً ما يكون خلف المقام مطافاً للطائفين فيأتون زرافاتٍ ووحداناً والمصلّون من الشيعة خلف المقام بين قائم وراكع وساجد، وعند ذلك يقع التدافع وتثور ثورة الطائفين من جانب ومنع المصلّين من جانب آخر، وينتهي الأمر إلى الجدال الممنوع في الحجّ فما هو الواجب في هذه الحالة؟

وبما أنّ المسألة ليست حديثة الابتلاء، بل لها جذور في تاريخ الحجّ تعرّض لها الفقهاء في كتبهم، وقد اختلفت كلمتهم في هذا الموضع بالنحو التالي:


1- الوسائل: 9، الباب 73 من أبواب الطواف، الحديث 3.
2- الوسائل: 9، الباب 73 من أبواب الطواف، الحديث 1.

ص: 39

1. مخيّر بين وراء المقام أو أحد جانبيه

قال المحقّق: فإن منعه زحام صلّى وراءه أو إلى أحد جانبيه (1).

2. تقدّم الخلف على الجانب مع الإمكان

قال صاحب الرياض: الأحوط تقدّم الخلف على الجانب مع الإمكان (2).

3. تحرّي الأقرب فالأقرب

واختار الفاضل الإصبهاني تحرّي القرب منه ما أمكن، وإذا تعذّر لزحام جاز البعد بقدر الضرورة (3).

وعلى كلّ تقدير يقع الكلام تارة في حكمها من حيث القواعد، وأُخرى من حيث النصوص.

أمّا مقتضى القواعد فهناك احتمالان:

أ. سقوط وجوب الصلاة عند تعذّر الشرط.

ب. سقوط وصف «العندية» أو «الخلفية» لا نفس الصلاة.

أمّا الأوّل: فهو ضعيف جدّاً بشهادة أنّه لو نسي صلاة الطواف يقضيها أينما تذكر إذا شق عليه الرجوع وإلّا يرجع فيصلّي في المقام كما سيوافيك.

بقي الثاني: ولكن سقوط العنديّة على وجه الإطلاق بمجرّد الزحام غير صحيح، بل يتربّص إلى الحد الذي لا يفوت معه الموالاة بين الصلاة والسعي.

فإذا لم يسقط الواجب ولم يتمكّن من الصلاة عند المقام حتّى بعد الصبر والتربّص يلزم- على المختار عندنا- عليه الصلاة في كلّ نقطة أقرب إلى المقام بشرط أن لا يتقدّم عليه، من غير فرق بين الخلف والجانبين، بل الموضوع هو


1- شرائع الإسلام 1: 268.
2- رياض المسائل 6: 540.
3- كشف اللثام كما في الرياض 6: 540.

ص: 40

حفظ «العندية» مهما أمكن، أي الأقرب فالأقرب، وعلى ذلك ينزل ما روي عن حسين بن عثمان بسندين: أحدهما نقيّ والآخر غير نقيّ.

أمّا الأوّل، فقد رواه الكليني في «الكافي». قال: رأيت أبا الحسن موسى عليه السلام يصلّي ركعتي طواف الفريضة بحيال المقام قريباً من ظلال المسجد.

وأمّا الثاني فقد رواه الشيخ وقال: رأيت أبا الحسن عليه السلام يصلّي ركعتي الفريضة بحيال المقام قريباً من الظلال لكثرة الناس (1).

والتعبير في كليهما واحد غير وجود التصريح بالسبب في رواية «التهذيب» دون «الكافي»، وما ذكر فيه السبب، وإن كان ضعيف السند، لكن وحدة المتن يكشف عن صدق الراوي في الحديث، ومن البعيد أن يزيد من جانبه شيئاً.

وبذلك يعلم أنّ ابتعاد الإمام عليه السلام عن حول المقام لأجل كثرة الناس، وأمّا انتخابه قريباً من ظلال المسجد وفي الوقت نفسه حيال المقام لأجل أنّه كان في ذلك الوقت أقرب من سائر الأمكنة.

هذا على المختار، وأمّا على مختار الأصحاب فبما أنّ المعتبر عندهم رعاية أمرين: الخلفية والعندية، فقد فصّلوا في ذلك كالتالي:

ففي نجاة العباد: يختار عند الزحام الأقرب إلى المقام من الخلف، وإلّا فيختار أحد الجانبين، وإلّا فحيث يشاء مع رعاية الأقرب إلى الخلف (2).


1- الوسائل: 9، الباب 75 من أبواب الطواف، الحديث 1 و 2.
2- نجاة العباد: 33.

ص: 41

فقهيات معاصرة في الحج «3»

موضع مقام إبراهيم (2)

الشيخ محمد القائيني

إنّ الذي تقتضيه ملاحظة النصوص والأدلّة المتقدّمة [في القسم الأوّل] أن الموضع الفعلي للمقام ليس متعيّناً، سواء قلنا بأنه جائز أن تكون الصخرة فعلًا في موضعه الفعلي أو لا.

والوجه في عدم التعيّن أن هذا الموضع لم يكن الموضع الأصلي لحجر المقام، ولم يضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هنا، بل وضعه ملاصقاً للبيت.

ثم جَعْلُ عمر لصخرةٍ هنا اجتهادٌ منه لو كان سائغاً، لكنه غير متعين حسب اجتهاده، بل ربما كان مقتضى اجتهاد الحاكم نقله إلى موضعٍ أبعد من الموضع الفعلي.

حيث ينقل أن نقل الحجر إلى موضعه الفعلي كان لمصلحة الطائفين أو المصلّين بسبب الزحام، وكلما كان الزحام أكثر اقتضت المصلحة تبعيد المقام أكثر.

بل ربما اقتضت المصلحة تثبيت المقام خارج المسجد؛ ليفرغ البيت للطائفين حيث لا يمكن تحويل البيت إلى موضع آخر ليفرغ المقام للمصلّين.

وقد صرّح بعض بعدم تعيّن المكان الفعلي للمقام، وأنه يجوز نقله إلى

ص: 42

موضعٍ ثالث غير الموضع الأصلي وغير الموضع الفعلي، كالنقل إلى داخل الحجر حيث يكون الحجر محاطاً بجدار لا يتزاحم بسببه المصلّي والطائف؛ نعم لا يجوز التصرّف ظلماً وعدواناً في المقام.

ولكن الذي يقتضيه التحقيق أن نقل المقام إلى موضعه الأصلي بلصق البيت جائز؛ وأمّا نقله إلى موضعٍ ثالث فلا يبعد منعه وحرمته.

أمّا الأوّل: فالوجه فيه عدم المانع؛ بل تضمَّنت النصوص أنّه المكان الأصلي، وأن المهدي عليه السلام إذا ظهر يردّ المقام إلى هناك، وأن علياً عليه السلام اعتذر من عدم ردّ المقام إلى موضعه الأصلي بالعجز بسبب مخالفة الناس.

إن قلت: إن ما تضمّن أن المهدي عليه السلام هو الذي يباشر ردّ المقام ينافي جواز نقل المقام لغيره.

قلت: لا منافاة له مع جواز النقل لغيره؛ وإنما غاية مدلول الرواية- ولو بالالتزام- هو عدم تحقق النقل من غيره إخباراً عن أمر تكويني لا عدم جواز النقل تشريعاً.

مع أنه ربما كان المراد بالخبر أن المهدي عليه السلام يباشر الردّ لو كان المقام باقياً في موضعه الفعلي إذا ظهر.

مع أنه ربما كان المراد أن الموضع الفعلي لو كان المهدي عليه السلام ظاهراً في ذاك العصر لغيرّه ولردّ المقام منه إلى موضعه الأصلي. وهذا تعبير عن النقمة على الوضع الموجود وتدليل على وجوب الردّ تكليفاً.

وكيف كان، فلا ينبغي الشك في دلالة النصوص المشار إليها والتي ذكرنا تفصيلها على جواز مباشرة نقل المقام من موضعه. ولا أقل من كون أصالة البراءة قاضية بجواز ذلك بعد أن لم تكن صخرة المقام ملكاً لأحد فعلًا كالصفا والمروة.

وأمّا تعين النقل إلى الموضع الأصلي وعدم جواز غيره فلنفس النصوص المشار إليها، المتضمنة للأخذ على عمر في فعله وعدّه بدعة؛

ص: 43

فإن نقل المقام إلى موضع ثالث هو مصداق للبدعة أيضاً، كنقله إلى موضعه الفعلي؛ فإن ملاك عدّ فعل عمر أمراً غير مرغوب فيه- حسب المتفاهم من النص- ليس إلّامخالفته لما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهذا موجود في نقل الصخرة إلى موضع ثالث كداخل حجر إسماعيل.

هذا كلّه- أعني حكم موضع الصخرة- مع الغضّ عن حكم صلاة الطواف واشتراط كونها في المسجد الحرام مع كون الصخرة في قبلة المصلّي، كما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى في مسألة الصلاة على تقدير نقل المقام.

وبالجملة، فمقتضى ما تقدم من الرواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام من إظهار عدم التمكنّ من ردّ المقام إلى موضعه الأصلي، وما تقدم من النصوص المشار إليها في أن المهدي عليه السلام إذا ظهر ردّ المقام إلى موضعه، وما تقدّم من الأخذ على عمر في فعله ومخالفته لما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، مقتضى ذلك كلّه وجوب ردّ المقام إلى موضعه الأصلي، واللَّه العالم بحقيقة الحال.

ويمكن أن يستدل لجواز نقل صخرة المقام- حتى عن موضعه الأصلي فضلًا عن موقعه الفعلي- بما تضمن اشتراط كون صلاة الطواف عند المقام وخلفه؛

بتقريب أنه كما لا يجوز الصلاة في موضع آخر اختياراً كالصلاة في حجر إسماعيل؛ لكونه إخلالًا بشرط الصلاة ولا يجوز الإخلال بهذا الشرط كسائر الشرائط من الطهور والقبلة وغيرهما، كذلك يجب تحقيق شرط الصلاة ولو بنقل المقام حيث لا يتيسّر الشرط إلّابذلك.

فيكون الدليل على جواز نقل المقام تكليفاً هو الدليل على اشتراط الصلاة بمجاورة المقام؛ فإن المجاورة إذا وجبت وجبت مقدّمتها أو حلّت على الأقل؛ والمراد بالمقدّمة نقل المقام حيث يتوقف تحقيق الشرط عليه.

هذا غاية ما يمكن أن يُقرّب به جواز نقل المقام على هذا الأساس.

ولكن يرد عليه:- بعد تسليم كون الشرط للصلاة هو الصخرة لا موضعها،

ص: 44

بحيث لو نقلت الصخرة انتقلت الصلاة، وهذا بحث يأتي مفصلًا إن شاء اللَّه في مسألة حكم الصلاة- أوّلًا: إن النصوص الدالّة على تخصيص المقام بموضعه الأصلي تقتضي الردع عن ما تقتضيه القاعدة من جواز نقل المقام فضلًا عن وجوبه.

وثانياً: إن وجوب تحصيل هذا الشرط فيما إذا توقف تحقيقه على نقل المقام أوّل الكلام؛ فهو من قبيل وجوب تحصيل وقت الصلاة كالزوال والغروب والفجر إذا لم تتحقق هذه الأوقات إلّابمغادرة المكلّف موقعه والتحوّل إلى بلدٍ آخر، لكون موقعه الفعلي مما يطول ليله ستة أشهر ونهاره كذلك.

وإن شئت قلت: إن ما يقتضي وجوب تحصيل الشرط في شرط الواجب- لا شرط الوجوب- لايستدعي وجوب تحصيل الشرط بمثل ذلك؛ ففي الحقيقة تحقق الأمر الفلاني من شرط الوجوب، وإنما شرط الواجب هو الإتيان بالفعل مقروناً بالأمر الفلاني إذا كان ذاك الأمر متحققاً اتفاقاً. فالواجب هو الصلاة مجاوراً للمقام إذا كان المقام بوضعه الخاصّ مما يمكن الصلاة عنده؛ أمّا قلع المقام ونصبه في محلّ آخر تمكيناً من مجاورة الصلاة له فغير لازم. فإذا قال: صل عند المقام فهم منه وجوب تحصيل الشرط، أعني مجاورة الصلاة للمقام بحسب الوضع الفعلي للمقام وموضعه الخاص، وأنه لايجوز فعل الصلاة في جانب آخر من المسجد كحجر إسماعيل؛ وأمّا أنه إذا توقفت مجاورة الصلاة للمقام على تحويل المقام إلى موضع آخر فهذا غير مفهوم من الدليل.

ونظير ذلك ما إذا قال: صلّ في مسجد القبيلة، فهم منه أنه إذا كان هناك مسجد القبيلة تجب الصلاة فيها، أمّا إذا فرض عدم التمكّن من ذاك المسجد للزحام الشديد فوجوب توسعة المسجد فضلًا عن إيجاد مسجد آخر غير مفهوم من الدليل؛ فاشتراط الصلاة بالمسجد الخاص وإن كان من شرط الواجب لاشرط الوجوب، ولذا لا يجوز الاكتفاء بالصلاة في الدار مع التمكّن من المسجد بلا حرج وشدة ضيق، تحصيلًا للشرط كالطهارة وغيرها، ولكنه شرط الواجب على هذا

ص: 45

التقدير، وأمّا بلحاظ عدم التمكين من فعله إلّابتوسعة المسجد ونحوها فهو شرط الوجوب، ومعناه أنه لا يجب تحقيق الشرط بتوسعة المسجد وإن كان على تقدير التوسعة يجب الكون في المسجد والصلاة فيه ولو في التوسعة الحادثة.

والغرض أن المتفاهم من إطلاق دليل الوجوب ليس أكثر من ذلك؛ وإلّا فإطلاق وجوب الشي ء بنحو يستتبع وجوب تحصيل المكنة بمثل المقدّمات المتقدمة كتوسعة محلّ الواجب وما شاكلها- فيما لو صرّح بالإطلاق- معقول ولا محذور فيه. وإنما المقصود أنه لا يُفهم من الإطلاق وجوب ذلك.

ويظهر ذلك بملاحظة سائر الأمثلة العرفيّة؛ فإذا قيل: يجب على الناس عيادة المريض أو يستحب فلا يفهم منه مطلوبية العيادة فيما إذا توقفت على توسعة دار المريض أو إخراج المريض من مسكنه إلى مكان وسيع يتيسّر عيادته لعامّة الناس، وسرّه حصول الغرض من العيادة المطلوبة بعيادة من يتيسّر له ذلك حسب الوضع الفعلي للمريض.

وهكذا إذا قيل: يجب على كل متمكّن الحضور في المجلس وكان يتوقف حضور الزائد عن عدد على بناء مكان أو توسعة المكان الموجود؛ وهكذا.

ومن هذا القبيل أمر الشارع بالحج والمشتمل على الطواف والسعي والوقوفات؛ فإن الحج مشروط الوجوب بالاستطاعة، وأمّا شرط كون الطواف في المسجد والسعي بين الجبلين والوقوف في المشاعر، فكلّ ذلك من شرط الواجب لاشرط الوجوب فيجب تحصيلها؛ ولكن على حسب الوضع الموجود؛ بمعنى أنه إنما يجب الطواف إذا أمكن بحسب سعة المسجد فعلًا، وأمّا إذا توقف الطواف بوجوب مقدمته- أعني توسعة المسجد- فغير معلوم.

ومن هذا القبيل بناء طابق فوق المسعى يتحقق معه التمكّن من السعي بين الجبلين لعددٍ أكثر من الحجّاج.

ومن هذا القبيل بناء طوابق في المواقف، أعني عرفة ومزدلفة ومنى، يتحقق

ص: 46

معها التمكّن من نسك الحج والعمرة لعدد أكثر، فإن كل ذلك غير معلوم الوجوب وإن كان على تقدير تحقيقها، أعني تحقق التوسعة والبنايات، يجب على عدد أكبر من المسلمين الحج.

وبالجملة جواز البنايات والتوسعات من باب تحصيل شرط الوجوب هذا أمر ووجوبها من باب تحصيل شرط الواجب مسألة أخرى.

والقول بوجوب نقل المقام إلى موضع يمكن الصلاة خلفه بدون مزاحمة الطائفين- تحصيلًا لشرط الصلاة- يستلزم وجوب توسعة المسجد الحرام عرضاً وارتفاعاً، ولو ببناء طوابق عليها بمقدار لا يخرج عن صدق الطواف بالبيت، وكذا المسعى.

ويستلزم وجوب توسعة المواقف عرفة ومنى ومزدلفة ارتفاعاً ببناء طوابق فيها، بل عرضاً فيما أمكن كتعريض منى بنحت الجبال فيها بمقدار لا يخرج عن صدق الوادي.

وهذا كلّه غير واضح؛ ولذا لم ترد الإشارة إليه في شي ء من النصوص مع ترقّب زيادة عدد الحجاج في عصر الأئمّة عليهم السلام ولما بعدهم.

وربما تكون المصلحة في اجتماع عدد خاص في المشاعر لا أكثر؛ وذلك لحصول الغرض من ذاك الاجتماع- كنشر المعارف والاطلاع على مآسي الأمّة ونحو ذلك- مباشرة من الحجاج وبواسطتهم للآخرين ممن تخلّف عن الحج لعدم التمكّن بسبب ضيق المشاعر. واللَّه العالم.

فلذا لا تستوحش مما قد ورد أن المهدي عليه السلام إذا ظهر ردّ المسجدالحرام إلى سعته الأصليّة وأبطل الزيادات؛ فإن الزيادات ربما توجب زحمة الناس ومفاسد ممّا لا موجب لها؛ فإن الزيادات تستتبع وجوب الحج على البقية لحصول المكنة لهم بسبب بناء الزيادات والتوسعات وهذا مستلزم لمشقّات لا داعي لها؛ فإن الداعي على الحج أمرٌ يحصل الغرض منه بوجوب الحج على العدد الذي يستوعبهم

ص: 47

المسجد الحرام حسب بنائه الأصلي، فلا داعي لتمكين عدد أكبر وأكثر ليسبّب مشاكل لا داعي لها كالزحام الموجب لقتل النفوس وغيره.

ثم إنه لو قيل بوجوب توسعة المسجد والمواقف، تمكيناً للمكلّفين من أداء نسك الحج والعمرة، فالظاهر توظيف الحاكم والمتولي للأمر بذلك.

والسرّ في ذلك أن التكاليف التي لا يمكن لعامّة الناس التصدي لها، لاستلزام تصدّي العامة لها اختلال النظم والتشاجر وعدم الانضباط، فالمكلّف بها في الحقيقة هو إمام المسلمين ومتولّي أمرهم؛ وذلك جمعاً بين وجوب الشي ء وبين عدم إمكان تصدي الأفراد له؛ فيكون الدليل الدال على وجوب مثل هذه الأمور دليلًا على وجوبها على الحكّام؛ وإن كان المتصدّي للأمر يأخذ مؤونة تلك الأعمال من أفراد المكلّفين؛ ولكن المتصدّي للواجب هو الحاكم لا أفراد المكلّفين؛ دفعاً للهرج واختلال النظم وغير ذلك من المفاسد.

ومن هذا القبيل توسعة المشاعر للحج لو قيل بوجوبها.

ولكن تقدم أنه لا موجب لوجوب ذلك؛ إذ لم يعلم ثبوت غرض للشارع في تمكين عدد أكبر ممن تسعهم المشاعر بوضعها الفعلي؛ ولا أنه يساعد على الدلالة على وجوب ذلك إطلاق أدلة وجوب الحج بعد كونه مقيداً بتمكّن المكلّف ومشروطاً بذلك كاشتراط كل واجب سواه بالتمكّن من العمل.

هذا بالغض عمّا دل على أن المهدي عليه السلام إذا ظهر يردّ المسجد إلى وضعه الأصلي مما يدل أو يشعر بعدم جواز توسعة المشاعر فضلًا عن وجوبها.

وقد ظهر بما ذكرنا الوجه في اختصاص بعض التكاليف بالحكّام بعد إطلاق الأدلة- لو كان- كالحدود، فإنها لو كانت مسوقة لبيان إطلاق الوجوب- لا أصل الوجوب خاصّة- فلابد أن تحمل ولو تقييداً على خصوص الحكّام؛ دفعاً لمحذور اختلال النظم ووقوع المفاسد العظيمة بالمشاجرات وغيرها لو كان المباشر لتلك التكاليف عامّة الناس.

ص: 48

وبما ذكرنا من البيان يتضح أنه لا مجال لما ذهب إليه سيدنا الأستاذ قدس سره من وجوب الهجرة على ساكني القطبين وأمثالهما من الأمكنة التي ليس لها الأوقات الخاصّة في كل أربع وعشرين ساعة من الزوال والغروب والفجر كعدم جواز السفر إليها للمكلّفين.

أمّا الوجه في هذه الفتوى فهو أن الأوقات الخاصّة كالزوال والغروب والفجر وإن كانت شرطاً لوجوب الصلوات على المكلّفين لا شرطاً للواجب، ولكنها شرط للوجوب في حق المكلّفين الذين يقطنون الأقطار المشتملة على هذه الأوقات؛ فلا يجب على المكلّف أن يغادر بلده قبل الزوال ليصل إلى مكانٍ تزول الشمس فيه قبل بلده؛ فإن الزوال شرط وجوب الصلاة لا شرط صحتها ليجب تحصيله؛ ولو كان شرطاً للصحّة فليس مما يجب تقديمه على زمان تحققه في بلد سكنى المكلّف بالسفر؛ ولكن كون هذه الأوقات شرطاً في الوجوب لا يشمل مثل سكنة القطب؛ فإن اشتراط الوجوب في حقهم بهذه الأوقات يستلزم سقوط الصلاة عنهم رأساً؛ أو وجوب خمس صلوات في مدة سنة واحدة.

وهذا غير محتمل بضرورة الدين وأنه لا تسقط الصلاة عن أحد من المكلّفين غير النائم ونحوه؛ ولازم ذلك عدم اشتراط وجوب الصلوات الخمس في حق مثل أهل القطبين بالأوقات الخاصة؛ فإذا وجبت عليهم الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة- لا في السنة مرّة- فتجب عليهم مغادرة سكناهم والتوطن في مكان يتمكّنون فيه من فعل

ص: 49

الصلوات في الأوقات الخاصّة؛ وإلّا فلا تصح الصلاة بدون ذلك؛ لأن الأوقات الخاصّة هي شرط للصحّة؛ وإنما كانت الأوقات شرطاً للوجوب زائداً على الصحّة في حق غير القطبي.

وإنما نقول بكون الأوقات الخاصّة شرطاً للصحّة؛ لأنّ الواجب هو صلاة الفجر لا مطلق ركعتين، والواجب صلاة الزوال والعصر لامطلق ثمان ركعات أو أربع؛ والواجب صلاة المغرب والليل [العشاء] لا مطلق سبع أو خمس ركعات؛ فلا يمكن امتثال الأمر الصلاتي في قوله تعالى: «أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر» إلّابالتحول إلى بلد يشتمل على الأوقات الخاصّة.

وبهذا البيان يندفع احتمال كون الواجب هو فعل خمس صلوات في القطب؛ وكذا احتمال كون العبرة بأفق مكّة وأوقاتها؛ أو كون العبرة بآخر بلد مشتمل على الأوقات يتحول منه المكلّف إلى القطب ونحوه من البلاد التي ليس لها في كل أربع وعشرين ساعة الأوقات الخاصّة.

وجه الاندفاع أمّا الأوّل: فما تقدم من أن الواجب ليس هو مطلق خمس صلوات، وإنما هو صلوات خمس عند أوقات خاصّة.

وأمّا الثاني: فلأن العبرة في الأوقات التي تضاف الصلوات إليها إنما هو بموقع المكلّف وبلده لا ساير الأماكن؛ فكما لا يجوز لغير المكّي- كالصيني من البلاد المشتملة على الأوقات الخاصّة- أن يراعي أوقات مكّة فكذا لا وجه لوجوب مراعاة أوقات مكّة على القطبي؛ لعدم كون صلاته مضافةً إلى بلدة مكة كعدم إضافة صلاة الصيني إليها.

وبما ذكرنا في الثاني يندفع الاحتمال الثالث من كون العبرة بآخر بلد ارتحل المكلّف منه مما كان مشتملًا على الأوقات الخاصّة، وجه الاندفاع: أن الواجب هو إضافة الصلاة إلى الأوقات الخاصّة بلحاظ موقع المكلّف حين الصلاة، لا إضافة الصلاة إلى موقع المكلّف سابقاً. فكما أنه لا يجوز للمسافر أن يصلّي بأوقات بلده

ص: 50

ووطنه، ولا أنه يجوز للمكلّف أن يصلّي في وطنه بأوقات بلد سافر منه إلى وطنه فكذا شأن المسافر إلى القطب.

والتمسك لهذا الاحتمال الثالث بالاستصحاب غريب مردود: أوّلًا: بأنه من الاستصحاب بعد اختلال الموضوع؛ لكون الوقت من مقوّمات المتعلق.

وثانياً: إنه من الاستصحاب التعليقي.

هذا، ولكن بما ذكرنا سابقاً يظهر أنه لاتصل النوبة إلى ما صار إليه سيدنا الأستاذ قدس سره؛ وذلك لانصراف أدلة اشتراط صحّة الصلاة بالأوقات الخاصّة إلى خصوص من تمرّ عليه هذه الأوقات بصورة طبيعيّة؛ لا من كان مرور هذه الأوقات عليه بحاجة إلى تكلّف سفر وارتحال عن بلده.

ومعه، فالدليل إنما يقتضى وجوب صلاة مّا على المكلّف في مثل القطب في كل أربع وعشرين ساعة؛ وأما اشتراط صحة الصلاة بالأوقات الخاصّة فلا إطلاق له في شأن هذا المكلّف؛ وإنما يحتمل وجوب الصلاة عليه حسب أوقات أخرى كمكة أو غيرها، أو كونه مخيّراً في فعل الصلوات الخمس كيف كان؛ والأصل يقتضي الثاني.

ومن هذا القبيل ما إذا توقف فعل الصلاة في الأوقات الخاصّة أداءاً على السفر من البلاد المتعارفة عندنا المشتملة على الأوقات الخاصّة كما لو ضاق الوقت عن صلاة ثماني ركعات وأمكن فعل أربع ركعات في الوقت، ولكن يتوقف انقلاب التكليف من ثماني ركعات إلى أربع على السفر.

فإنه لا موجب لذلك؛ إذ التكليف بثماني ركعات أدائية موقوف على تمكّن المكلّف من ذلك؛ فإذا لم يتمكّن سقط التكليف بالأداء؛ لا أن التكليف بالأداء يبقى متبدّلًا من ثماني ركعات إلى أربع ركعات بفعلها في السفر ليكون السفر واجباً مقدّمياً لفعل الصلاة أداءاً.

وإن شئت قلت: إن السفر من قبيل شرط الوجوب لا شرط الواجب؛ فيجب

ص: 51

على الحاضر ثمان ركعات ويجب على المسافر أربع ركعات؛ فالحاضر والمسافر كالمستطيع وفاقده؛ فكما أن الاستطاعة شرط للوجوب فكذا الحضر شرط لوجوب التمام والسفر شرط لوجوب القصر.

نعم، لو فوّت المكلّف الحاضر على نفسه اختياراً حتّى ضاق الوقت عن ثماني ركعات فلا يبعد وجوب السفر عليه عقلًا- لا شرعاً- تحصيلًا للصلاة الأدائيّة الاختياريّة وإلّا فقد فوّتها فيعاقب عليه؛ فلدفع العقاب يجب السفر؛ وهذا بخلاف من فاته الوقت عن ثماني ركعات بلا اختيار.

كما أنه لو كان الجامع بين القصر في السفر والتمام في الحضر واجباً على المكلّفين وجب السفر إذا توقف عليه الأداء في الصلاة؛ وذلك لعدم كون السفر والحضر من شرط الوجوب على هذا التقدير بل هما من شرط الواجب. وتفصيل البحث عمّا هو التحقيق من كون السفر والحضر من شرط الوجوب أو الواجب محوّل إلى غير المقام.

فقد تحقق مما حرّرناه وقررناه في هذا المقام الأمر في بحث اصولي عام لم يعنون في محلّه المناسب من مباحث الأصول؛ وإن كان ربما يظهر من بعض الكلمات في مجالات تطبيقية لهذا البحث في الفقه بعضُ الإشارات؛ وحصيلة هذا البحث ومحلّه المتناسب من الأصول هو: أن الواجب ينقسم إلى مطلق ومشروط؛ وواضح أن الواجب المطلق هو ما لا يكون الوجوب فيه منوطاً بسبق أو تحقق ما فرض إطلاق الوجوب بالنسبة إليه؛ بل إطلاق الوجوب يدفع نحو تحقيقه ولو بتحقيق ذاك الأمر إذا لم يكن متحققاً.

ويقابله الواجب المشروط وهو ما يكون الوجوب متعلقاً على فرض تحقق الشرط، والأمر الذي فرض الوجوب مشروطاً بالنسبة إليه، من دون أن يكون للوجوب دعوة أو دفع نحو إيجاد ذاك الأمر والشرط. وواضح أن الإطلاق والاشتراط أمران نسبيّان؛ فرب واجب مطلق يكون مشروطاً في نفس الوقت

ص: 52

بالنسبة إلى أمر غير ما فرض الواجب مطلقاً بالنسبة إليه؛ وكذا العكس وهذا واضح جدّاً، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى إذا شك في اشتراط وجوب الواجب بشرط وبأمر ولم يكن اخذ ذاك الشرط قيداً في القضية المطلقة المتضمنة لوجوب الواجب فلا محالة يكون إطلاق القضيّة نافياً للشرطيّة ودالّاً على إطلاق الوجوب.

وعلى أساس هاتين الناحيتين ينفتح المجال للبحث عن الناحية الثالثة والتي أشرنا إليها- والبحث مرتبط بمجال الإثبات- وهو أن اقتضاء إطلاق القضيّة لكون الوجوب مطلقاً هل يعمّ مثل هذه الموارد ليكون الوجوب بلحاظ هذه المقدمات أيضاً مطلقاً فيجب على المكلّف تحصيل المقدّمة التي هي من هذا القبيل كتوسعة المطاف والمسجد وبناء طوابق في المشاعر وما شاكل ذلك كالذي أشرنا إليه من السفر في ضيق الوقت للتمكين من الصلاة الأدائيّة، وهكذا أو لا يشمل الإطلاق ما كان من هذا القبيل؟

ذكرنا أن الظاهر هو عدم الشمول ولا أقل من الإجمال.

ثم لا اخفيك أنه ربما تكون بعض المقدمات مشكوك كونها من أي القبيلين؛ فبعض المقدمات واضح أنه من قبيل ما يجب تحصيله كالوضوء للصلاة والسير إلى الحج وما شاكل.

وظنّي أن بعض المقدمات واضح أنه لا يجب تحصيلها، وبالتالي يكون الوجوب مشروطاً بالنسبة إليها، وذلك من قبيل توسعة المسجد الحرام وبناء الطوابق فوق المشاعر وشراء ماء للوضوء بميليارات؛ وهذا بالغض عن أدلة الحرج والعذر؛ وهناك بعض المقدمات يشك في كونها في أيّ القبيلين؛ ولذا يقع الخلاف أو وقع فيها؛ وذلك مثل الحج الدوراني، وذلك فيما إذا توقف التمكن من الحضور في المشاعر لأداء مناسك الحج على الدوران في البلاد؛ والمسألة مطروحة في العروة الوثقى، وقد اختلف فيها وربما كان المعروف من المعلّقين عدم الوجوب، وببالي أن

ص: 53

سيدنا الأستاذ أفتى بالوجوب إن لم يستلزم الحرج.

ويخطر ببالي أنه لاتصل النوبة في نفي الوجوب إلى الحرج؛ بل مقتضى الأدلة- مع الغض عن الحرج- عدم الوجوب؛ وذلك لكون وجوب الحج مشروطاً بالاستطاعة المفسّرة بخلوّ السرب؛ والسرب الدوراني لا يعد سرب الحج، وإنما هو ذهاب إلى الحج من غير سربه، فلذا لا يكون الحج واجباً.

بل لو لم تكن الاستطاعة مفسّرة بخلوّ السرب، فإطلاق وجوب الحج بالنسبة إلى مثل هذا الفرض مما يعدّ عرفاً غير متمكّن، ويعدّ الدوران من قبيل تحصيل المكنة مبنيّ على البحث المشار إليه في المقام من أن إطلاق الوجوب بالنسبة إلى مقدّمات في هذا القبيل، هل هو شامل أو هو منصرف عن مثل ذلك؟ وهذا ما يجعل المثال مندرجاً في المقام وإلّا فبحسب العمل ذكرنا أن النص المفسّر للاستطاعة بخلوّ السرب مانعٌ من وجوب الحج في الفرض المشار إليه.

وهناك في الفقه مسائل عدّة مناسبة لهذا البحث الذي أشرنا إليه، كوجوب الجماعة في الصلاة على الأعجمي والملحن بالقراءة ومن يضيق وقته عن القراءة.

ويكفينا في المقام الإشارة إلى هذا المقدار؛ وتفصيل الكلام زائداً عنه محوّل إلى الأصول.

كما اتضح بما ذكرنا الأمر في بحث اصولي آخر غير معنون في محلّه المناسب من الاصول وهو حكم الواجبات التي لا يمكن مباشرة عموم الناس لها؛ لاستلزامه اختلال النظم ونحوه؛ وأنها محوّلة- حسب الفهم العرفي من دليل الوجوب أو الاستلزام العقلي بضم امتناع توظيف العموم بها لمحذور اختلال النظم ونحوه- إلى الحكّام.

فظهر بما ذكرنا حكم وجوب نقل المقام عن موقعه إلى موقع آخر يتمكّن فيه المصلّون من الصلاة خلفه بلا تزاحمٍ بينهم وبين الطائفين، وأنه لا موجب لذلك.

هذا كلّه، مع الغض عن أنه لو سلّم اقتضاء إطلاق الوجوب لوجوب تحصيل

ص: 54

مقدّمات من هذا القبيل واقتضاء إطلاق وجوب مجاورة الصلاة للمقام لوجوب نقل المقام فهو إنما يتمّ حيث لا دليل على عدم جواز النقل؛ ومعه- كما تقدّم بيانه وتفصيله- يعلم بسقوط الشرطية، أعني شرطية المجاورة لا محالة.

ثم إنّه يبقى في المقام شي ء، وهو أنّه ربما كان وجوب نقل المقام إلى محلّه الأصلي المجاور للكعبة- حسبما يستفاد من النصوص- في جملة سائر الأحكام المفروضة في فقه أهل البيت عليهم السلام والتي منها وجوب إرجاع المسجد الحرام إلى حدّه القديم بحذف التوسعات. فلا يمكن استفادة وجوب نقل المقام إلى الموضع الأصلي في فرض وسعة المسجد؛ والسرّ في ذلك أن الدليل على وجوب ردّ المقام إذا كان هو مباشرة المهديّ عليه السلام له إذا ظهر فيكون سراية الحكم إلى غيره عليه السلام بملاك إلغاء الخصوصيّة لا محالة، والمتيقن من إلغاء الخصوصيّة هو مورد فعله عليه السلام. وفعله عليه السلام إنما هو في فرض ساير أفعاله التي ربما يكون لها مدخل ولو احتمالًا حسب الفهم العرفي.

وأمّا إلغاء الخصوصية عن فعله عليه السلام لنقل المقام بإلغاء ظروف فعله عليه السلام فهذا مما لايجوز، بعد ما لم يحرز عدم دخل ما يقارن ذلك الفعل من فعل ردّ المسجد إلى الحالة القديمة في الحكم.

نعم لو كان المدرك لوجوب ردّ المقام إلى مكانه الأصلي ما روي عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام، فلا يبعد دلالته على كون ردّ المقام واجباً مستقلًا غير مرتبط بأمرٍ آخر كردّ المسجد إلى حالته السابقة؛ فلاحظ وتأمل في المقام فإنه حقيق به.

وبه يتضح الشأن في التعدّي عمّا تضَمّن أفعالًا للمهدي عليه السلام للحكم بوجوبها على سائر الناس أو الحكّام؛ فإنه منوط بإحراز عدم كون فعل آخر مرتبطاً بما يراد الحكم بوجوبه على أساس مباشرة المهدي عليه السلام له إذا ظهر.

وبالجملة: إلغاء خصوصية المهدي عليه السلام في لزوم ما يباشره عليه السلام من الأفعال شي ء وإلغاء خصوصية ما يكتنف فعله من فعل آخر والحكم بعدم دخله في حكم الفعل الآخر شي ء آخر.

ص: 55

نعم، حيث يكون فعل المهدي واقعاً روايته في كلام ساير الأئمّة عليهم السلام وكأنّهم عليهم السلام بصدد النقمة على الوضع الموجود المعاصر لهم والاعتراض على ذلك، فلا يبعد دلالة إطلاق كلامهم عليهم السلام على كون الفعل المحكي مطلوباً على الإطلاق بلا دخل لفعلٍ آخر في مطلوبيّته. وهذا البحث بحاجة إلى مزيد تحقيق.

إن مما يمكن الاستدلال به لوجوب ردّ المقام إلى موضعه الأصلي ما تضمّن أن المهدي عليه السلام إذا ظهر ردّ المقام إلى ذاك الموضع.

ولكن قد يقال: إن النصوص المتضمّنة لفعال المهدي إذا ظهر لا تُخَصّ بما يكون واجباً، بل هي مشتملة على ما لا يجب، كتوسعة الطرق وهدم المناير والمنابر في المساجد، وإن كان فيها ما هو واجب كإحياء السنن وإبطال البدع.

ولكن يمكن أن يقال: إن عامّة ما ورد من فعال القائم المهدي عليه السلام إذا ظهر هي واجبات وامور لازمة، إمّا أصالةً من الشرع أو ولايةً من الحاكم والمتولي للأمر بعنوان كونه مسؤولًا عن الوضع العام والنظم الاجتماعي؛ ولم يعلم أن يكون شي ء منها أمراً مطلوباً لكونه مجرّد راجح؛ فإن توسعة الشوارع وما شاكلها امور لا بد منها في الحياة الاجتماعيّة المبتنية على الحاجة إلى تسهيل أمر الطرق؛ بل هي ضرورة لا مناص منها؛ وهذا واضح لمن مارس التردد في البلاد المبتلاة بزحمة الشوارع بالوسائط النقليّة وغيرها من أسباب ضيق المسالك والطرق؛ وعلى هذا الأساس فلا نستبعد أن يكون مثل هذه الأمور في النص إشارة إلى الجهة لا تحديداً لمقدار الحاجة؛ فتوسعة الشارع ثلاثين ذراعاً ونحوها لا يعني هذا العدد بالتحديد؛ بل هي نقض للوضع الموجود حال صدور النص من ضيق الشوارع وأنه لا ينبغي الاقتصار في الطرق على ذلك المقدار، وأن للحاكم هدم الدور والمساجد لغرض توسعة الطرقات حسبما تقتضيه المصلحة؛ ولو مع التعويض عنها للملاك وغيرهم.

هذا في جملةٍ من الأمور.

ثمّ جملة منها امور لازمة بأصل الشرع؛ فإن هدم المنائر في المساجد- إذا

ص: 56

كانت المنائر مبنيّةً في المساجد لا على جانبها- أمر غير جائز على القاعدة؛ لكون المسجد محرّراً شرعاً للمصلّين في المسجد فكلّما زاحم الصلاة لم يجز، ومن جملة المزاحمات إشغال شطرمن المسجد بما لا يمكن معه الصلاة في ذلك الشطر، كبناء حوضٍ للماء أو بنية المنارة؛ وأمّا الجدار المبني حول المسجد للإحاطة به ولبناء السقف عليه فهو لمصلحة المصلّي، ولابد أن يكون ما يشغله الجدار والأساس للسقف بمقدار الحاجة والضرورة لا أزيد.

وكذا ما ورد من هدم المهدي عليه السلام المنابر، وكأنه يشير إلى المنابر التي كانت مبنيّةً حتى زمان متأخر في المسجد الحرام وكذا هي مبنيّة في ساير المساجد، فإنها تشغل شطراً من المسجد ولا يجوز ذلك. وقد هدمت الحكومة الحجازيّة هذه المنابر في المسجد الحرام في العمارة الأخيرة، وكذا المقاصير التي ورد أن المهديّ يهدمها؛ وهذا يؤكد ما ذكرناه سابقاً من أن مدلول هذه الروايات، ليس هو الإخبار بهذه الأفعال بنحوٍ تصدر فعلًا من المهدي؛ وإنما هي من قبيل المعلّق؛ وإرشاداً إلى أنه ليس الوضع الموجود أمراً مقبولًا شرعاً، وأن المهدي إذا ظهر وكانت هذه الأمور باقية وموجودة أزالها؛ لأنها منكرات.

ثم ذِكْرُ المهدي؛ لأنه عليه السلام لا يتّقي أحداً إذا ظهر، وأما باقي الأئمّة عليهم السلام فلم يكن لهم القدرة على مواجهة تلك الأوضاع، بل كانوا في ظروف التقيّة؛ وعلى هذا الأساس لاتنافي هذه النصوص وجوب إبطال هذه الأمور على غير المهدي عليه السلام حيث يمكن ويقدر عليه.

كما أن هذه النصوص لا تستلزم بقاء هذه المنكرات إلى زمان ظهوره عليه السلام ليكون لها مصداق ويباشر المهدي عليه السلام إبطالها وإزالتها، بعد أن كانت مشيرةً وإرشاداً إلى الإنكار على الوضع القائم آنذاك.

على أنه ربما تعود هذه المنكرات مرّةً اخرى بعد مرّ الزمان بحيث يكون الإمام عليه السلام إذا ظهر هو المباشر لإزالتها أيضاً. وما تضمّن أن ظهور المهدي يكون بعد

ص: 57

امتلاء الأرض جوراً وظلماً، ظاهر في تحقق هذه الحالة قبل الظهور، كما أن ذلك لا يستدعي عدم وجوب إقامة المعروف ودفع المنكرات قبل ظهوره عليه السلام، وهذا ظاهر.

إذن، فما تضمّن أن المهدي عليه السلام يردّ المقام إلى موضعه الأصلي ظاهر بوضوح في عدم كون وضعه الفعلي أمراً مقبولًا، إمّا بأصل الشرع أو باعتبار مصلحة الحجّاج حسبما أشرنا إليه من أن شأن المقام شأن الحجر الأسود. أو باعتبار أنه سبق وأن النبي صلى الله عليه و آله جعل المقام في موضع خاص، ولو لم يكن النبي صلى الله عليه و آله هو الذي باشر ذلك لم يكن في تغيير المقام عن موضعه الأوّل أي محذور.

وعلى أيّ تقدير، فلا يجوز لأحد أن يخالف الحالة التي كانت عليها الصخرة قبل أن يباشر عمر نقلها.

وربّما كان المنشأ في مواجهة المهدي لبعض الأمور أن المباشر لفعلها كان شخصاً ضالًاّ وإمام سوء يكون في إمضاء عمله مفسدة بملاحظة خصوص عمله ذاك بل بملاحظة ساير أعماله.

هذا كلّه بالغض عن دلالة ما عدا هذه الطائفة من النصّ على ذلك؛ كالذي تضمّن أن علياً عليه السلام قال: إن الولاة قد عملوا قبله بأعمال خالفوا السنّة فيها، وعدّ منها نقل المقام.

ثم إنّي بعد ما أنهيت الرسالة هذه في حكم نقل المقام، وقفت على بعض الرسائل من أهل السنّة في هذا المجال، وقد كانت مشتملة على جملة من النقاط التي بحثناها تفصيلًا كما أنها تخالفنا في نقاط اخرى أحببت أن أوردها هنا بالاختصار وانبّه على ما يمكن الايراد عليها على أساس القواعد والمباني المقبولة.

وقد توصل صاحب الرسالة على أساس ما نقّحه في هذه الرسالة إلى جواز نقل المقام من موضعه الفعلي إلى أبعد من ذلك، ولكن بشروط عبّر عنها بحقوق المقام وهي: القرب من الكعبة، والبقاء في المسجد الذي حولها والبقاء على سمت

ص: 58

الموضع الذي هو عليه.

ومراده من القرب من الكعبة ليس هو القرب بلحاظ الموضع الفعلي؛ بل يعني أن لا يبعد من الكعبة بُعداً مفرطاً، كجعله قريباً من المسعى في المسجد. واستنتاجه لهذه الحصيلة عبر مقدمة وفُصول نلخصها فيما يلي:

ذكر في المقدّمة قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود» (1)، وقوله تعالى: «وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطّائفين والقائمين والركع السّجود» (2). ثم ذكر أنه فسّر التطهير فى الآيتين بالتطهير من الشرك والأوثان، وأن هذا من باب ذكر الأهم، وإلّا فالمأمور به أعم من ذلك، مستشهداً ببعض الاستظهارات من السلف.

ثم ذكر أن ذكر العلّة والغاية من الأمر بالتطهير يبيّن أن التطهير المأمور به لا يخصّ الكعبة بل يعمّ ما حواليها، حيث تؤدى هذه العبادات من الطواف وغيره هناك. ثم ذكر أن في معنى التطهير إزالة كل ما يمنع من هذه العبادات ويعسّرها أو يخلّ بها، كأن يكون في موضع الطواف ما يعوق عنه من حجارة أو شوك أو حُفَر، فالمأمور به تهيئة المسجد لما يتّسع لهذه العبادات مع اليسر.

ثم لما كان المسلمون قليلين في عهد النبي صلى الله عليه و آله كان يكفيهم المسجد القديم؛ وكثرتهم في حجّة الوداع لم تكن منتظرة ولا متوقع استمرارها في السنوات التي تليها، فلذا لم يوسّع المسجد في زمانه صلى الله عليه و آله بعد حجّة الوداع، مع ما كانت بيوت قريش ملاصقةً للمسجد لا تمكن توسعته إلّابهدمها؛ وهدمها ينفّرهم وعهدهم بالشرك قريب؛ ولمّا زال المانع في عهد عمر وسّع المسجد، وهكذا من بعده من الخلفاء بحسب كثرة المسلمين في أزمنتهم؛ وكذا استمرّ إلى زمن ملك الحجاز.


1- البقرة: 125.
2- الحج: 25.

ص: 59

ثم استظهر من تقديم الطائفين في الآيتين المتقدمتين أن حقّ الطائف مقدّم- عند التعارض- على غيره من العاكفين والمصلّين.

ثم ذكر كثرة الطائفين في هذه الأزمنة وأنه ينتظر استمرار الزيادة على مرّ الزمن بأسباب طبيعيّة، فلا محيص من توسعة المطاف، وإن أضيق موضع من المطاف هو ما بين المقام والبيت وإن صحّ الطواف في غير هذا الموضع- لكون شرطه المسجد لا هذا الحدّ- فإذا كانت توسعة المطاف مشروعة فتوسعة ذلك الموضع- يعني ما بين البيت والمقام- مشروعة؛ و ما لا يتمّ المشروع إلّابه- ولا مانع منه- فهو مشروع، يعني بما لا يتم إلّابه تأخير المقام؛ لأن ما عدا ذلك من وجوه توسعة المقام مبتلاة بمحاذير، ومن جملة تلك الوجوه تحديد موضع للمصلّين خلف المقام في الموضع الفعلي، وتوسعة المطاف وراء ذلك، فإن مثل هذا مختل من وجوه:

منها: أنها مخالفة لعمر الذي عمله حجّة؛ فإن موضع المقام في الأصل كان بلصق الكعبة- وقد أثبت ذلك كما أثبتناه- وأقرّه الصحابة فكان إجماعاً وهو حجّة. ولو كان النبي صلى الله عليه و آله هو الذي أخّر المقام إلى موضعه الفعلي لعلّة الزحام المذكورة في فعل عمر فهو أيضاً حجّة.

ص: 60

وكان ممكناً أن يبقى المقام بجنب الكعبة ويحجّر موضع للصلاة خلفه. فإذا ساغ لعلّة الزحام تأخير المقام من موضعه الأصلي فتأخيره عن موضعه الثاني أولى. ثم أشار إلى وجوه اخرى من المحاذير.

ثم تعرّض بالتفصيل في مجال أنه لا مانع من تحويل المقام بعد وجود المقتضي له؛ فما تقدم كان بيان المقتضي. وأمّا عدم المانع فلأن ما يتصوّر مانعاً امور لا تصلح مانعاً.

منها: ما ذكره جمع من المفسّرين من أن المقام ليس هو الحجر فقط بل المقام هو الحجر والبقعة التي هو فيها الآن؛ وتأخير البقعة غير ممكن.

ثم ذكر أن تحقيق هذا الأمر يستدعي تفصيلًا من المقال في فصول:

الفصل الأوّل: تعرّض فيه لمعنى المقام وأنه الحجر أو المشاعر كالحرم أو غير ذلك. واختار أنه الحجر. وذكر خلافه عن الزمخشري وقال: الزمخشري- على حسن معرفته بالعربيّة- قليل الحظّ من السنّة، ورأى أنه لا يكون الحجر مصلى على الحقيقة إلّاإذا كانت الصلاة عليه، وذلك غير مشروع ولا ممكن؛ لصغره؛ ولو وفق الزمخشري للصواب لجعل هذا قرينة على أن المراد بكلمة (مصلّى) قبلة كما قاله السلف؛ أي يصلّي إليه لا عليه، إمّا بعلاقة المجاورة أو أنه اسم مفعول. فقول الزمخشري مقام إبراهيم الحجر والموضع الذي كان فيه الحجر... يردّه أيضاً أن المذكور في الآية مقام واحد لا مقامان.

الفصل الثاني: نكتة إطلاق مقام إبراهيم على الحجر حسبما ذُكر امور، واختار أن الثابت في وجه تسمية الحجر بالمقام هو القيام الحقيقي لإبراهيم على الحجر الذي يناسب مزيّة له؛ وهو ما وقع من إبراهيم من قيامه عليه لبناء الكعبة، ثم للأذان بالحج؛ لا ما يحكى- ولو ثبت- من وضعه رجله على الحجر وهو على دابّته.

الفصل الثالث: وضع إبراهيم عليه السلام الحجر أخيراً لاصقاً بالبيت عند جدار الكعبة في الموضع المسامت له الآن؛ وإقرار النبي صلى الله عليه و آله له هناك وصلاته هو وأصحابه

ص: 61

خلفه هناك. قال: ولم أجد ما يخالف هذا من السنّة والآثار الثابتة عن الصحابة، ولا ما هو صريح في خلافه من أقوال التابعين.

الفصل الرابع: حقّق فيه أن موضع حجر المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله لم يكن هو موضعه الفعلي؛ وذكر فيه أقوالًا ثلاثة:

القول الأوّل: أن موضعه في عهد النبي صلى الله عليه و آله هو موضعه الفعلي قال: والأدلة الصحيحة الواضحة تردّ هذا القول؛ وقد ذكر في وجه هذا القول روايات عن الأزرقي في تاريخ مكّة.

وأورد على ذلك بأمور: منها: أن الأزرقي لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل لا البخاري ولا ابن أبي حاتم؛ بل قال الفاسي في العقد الثمين: لم أر من ترجمه فهو مجهول الحال، وقد تفرّد ببعض الحكايات. ثم ذكر ضعف عدة من وسائط روايات الأزرقي بالتدليس وغيره (1).

ثم ذكر عن الفاسي أن الفاكهي روى بعض الروايات التي رواها الأزرقي ثم قال: ليته ساق خبر الفاكهي؛ فإن الفاكهي وإن كان كالأزرقي في أنه لم يوثقه أحد من المتقدمين ولا ذكره ولكنه أثنى عليه الفاسي في العقد الثمين ونزّهه عن الجرح، وفضل كتابه على الأزرقي تفضيلًا بالغاً ثم قال:


1- قال آل الشيخ في رسالة الجواب المستقيم: أبو الوليد الأزرقي مؤرخ مكّة لم نر شهادة أي معاصر له، ولم يرها قبلنا الفاسي على سعة اطلاعه. وأمّا الذين لم يعاصروه فأقدم من رأيناه تعرض له منهم ابن النديم صاحب الفهرست، قال فيه بعد ذكر نسبه: أحد الأخباريين وأصحاب السير؛ وله من الكتب كتاب مكّة وأخبارها وجبالها وأوديتها كتاب كبير... إلى أن قال: ثم بعد ابن النديم الحافظ عبد الكريم السمعاني صاحب الأنساب ذكر فيه: الأزرقي صاحب كتاب أخبار مكّة أحسن في تصنيف ذلك الكتاب غاية الإحسان، ثم بعد السمعاني الإمام النووي. وقد بحثنا عن قول النووي في الأزرقي فوجدناه يعتقد في مؤرخ مكّة أنه هو جدّه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي حيث عدّة في المجموع 7: 412 من أصحاب الشافعي، ونبّه الفاسي في العقد الثمين على وهمه والدليل عليه، وأن السبب للوهم أن أحمد الأزرقي جد أبي الوليد صاحب التاريخ أيضاً يكنى بأبي الوليد فظنّه النووي هو. أقول: هذه الشهادات التي نقلها آل الشيخ في شأن الأزرقي لا تدلّ على وثاقته فضلًا من أن تدل على جلالته بما يعادل أو يكون أدنى من جلالة عبد الرزاق وابن أبي حاتم وأمثالهما.

ص: 62

أحسب أن الذي يحمل الفاسي ومن قبله المحبّ الطبري على نقل رواية الأزرقي دون الفاكهي- إلا بإشارة- هو حسن سياق الأزرقي قال: ويريبني من الأزرقي حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين. ويريبني أيضاً منه تحمّسه لهذا القول- يعني للقول بأن الموضع الفعلي للمقام هو الموضع الأصلي. حتّى أنه أبدل بعض التعابير في الأحاديث بما يناسب مقالته.

القول الثاني: ما قاله بعضهم: كان المقام لاصقاً بالكعبة في عهد النبي صلى الله عليه و آله حتّى أخّره هو صلى الله عليه و آله إلى موضعه الآن، واستشهد له ببعض الروايات وردّ عليها بضعف السند.

القول الثالث: كان المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله وبعده لاصقاً بالكعبة حتى حوّله عمر واستشهد له بنصوص.

ثم قال: وقد ينتصر للقول الأوّل بأن عمر لم يكن ليخالف النبي صلى الله عليه و آله؛ وما معنى تقدير المطلب لموضع المقام وتحرّي عمر؟

وينتصر للقول الثاني بأن أولئك الأئمّة لم يكونوا ليتوهموا بدون أصل؛ فلعلّ النبي صلى الله عليه و آله حوّل المقام أخيراً ولم يبلغهم ذلك.

وينتصر للثالث بأنه قد يقع من عمر ما هو في الصورة مخالفة للنبي صلى الله عليه و آله وهو في الحقيقة موافقه بالنظر إلى مقاصد الشرع واختلاف الأحوال؛ وقد يخفى علينا وجه ذلك، ولكن الصحابة لا يجمعون إلّاعلى الحق.

ثم قال: قد أغنانا اللَّه عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمّن لا يمكن أن يظنّ به التوهم. ثم ذكر الروايات التي تدل على القول الثالث وقال: فقد ثبت بما تقدم- لاسيما حديث عائشة- صحة القول الثالث الذي عليه أئمة مكّة؛ عطاء ومجاهد وابن عيينة.

مع أن الإنصاف يقضي بأن قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجّة في هذا المطلب.

ص: 63

الفصل الخامس: علّة تحويل عمر المقام من موضعه الأصلي هو علم عمر بأن أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين، ليتمكّنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج؛ وعلم أن المسلمين كثروا وينتظر أن يزدادوا كثرةً فلم تبق التهيئة التي كانت كافية قبل ذلك كافية في عهده؛ ورأى عمر أن عليه أن يجعلها كافية؛ فإن كان ذلك لا يتمّ إلّابتغيير يتم به المقصود الشرعي ولا يفوت به مقصود شرعي آخر فقد علم أن الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير؛ فليس ذلك بمخالفة للنبي صلى الله عليه و آله بل هو عين الموافقة؛ وشواهد هذا كثيرة وأمثلته من عمل عمر وغيره من أئمة الصحابة معروفة (1).

ثم ذكر من جملة الموانع لتغيير المقام فعلًا أن ذلك مما تنكره قلوب الناس فينبغي اجتنابه؛ كما روى أن النبي صلى الله عليه و آله قال لعائشة أن قومها أو قريشاً اقتصروا في بناء الكعبة عن قواعدها التي بنى عليها إبراهيم- يعني أن الكعبة قواعدها أوسع ممّا بنتها قريش- فقالت له: «ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت. وفي أخرى: لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم».

ثم ردّ على هذا المانع بأنه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه و آله حاجة في تأخير المقام، كما لم يكن ضرورة في ردّ بناء الكعبة إلى قواعدها الأصلية، بخلاف وضع المقام في هذا اليوم.

مضافاً إلى أنه إذا ظهرت مصلحة تغيير المقام انقلب الإنكار رضا وشكراً.

مع أن المقام نفسه اخّر في صدر الإسلام عن موضعه الأصلي- يعني بفعل عمر كما اختاره أو بفعل غيره- ولم يلتفت إلى احتمال إنكار القلوب له.


1- أقول: يظهر من بعض النصوص التي تقدّمت من طرق الشيعة أن علة تأخير عمر للمقام من موضعه الأصلي كان هو تشاغل الطائفين به عن الطواف وازدحامهم عليه الموجب للزحمة على ساير الناس، ولصلاة المصلّين، وكأنه كان نظير تشاغل الطائفين بالحجر الأسود- استلاماً أو تقبيلًا- أثناء الطواف، وكذا تشاغل ساير الناس، وهذا أمر غير بعيد.

ص: 64

ثم ذكر من جملة الموانع لتغيير المقام أنه استقرّ المقام في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرناً، ولا شك أن الحجاج كثروا في بعض السنين وازدحموا في المطاف، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد تأخير المقام، ولو كان جائزاً لما غفل عنه الناس طول هذه المدّة مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام. ولا أقل من استحباب اختصاص المقام بموضعه الفعلي.

وردّ عليه بأنّه بعد تحقق علة تأخير الصحابة للمقام عن موضعه الأصلي وأنه تهيئة المسجد للطائفين والمصلين خلف المقام الذي هو مأمور به فإعراض مَنْ بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرّة ثانية محمول على أنه لعدم تحقق العلّة؛ كما أن إعراض النبيّ صلى الله عليه و آله عن تأخير المقام في زمانه لعدم تحقق العلّة في عهده، لم يمنع الصحابة من التأخير عند تحقق العلّة بعده؛ فكذلك هذا.

مع أنه لم يكن عدم تأخير المقام بعد الصحابة على مرّ القرون إجماعاً صحيحاً يمنع من العمل بما يأمر به القرآن أو أجمع عليه الصحابة.

ثم لخّص رسالته بأن: الآيتين المصدّرتين في رسالته- وغيرهما من الأدلة- تأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين- مبدوءاً بهم- وللعاكفين والمصلّين؛ وأن المراد من التهيئة لهذه الفرق تمكينها من أداء تلك العبادات على وجهها بدون خلل ولا حرج؛ وأن هذه التهيئة تختلف باختلاف قلّة تلك الفرق وكثرتها، وقد كثر الحجاج والعمّار في عصرنا كثرةً لا عهد بها وينتظر استمرارها وأصبح المطاف- يعني ما بين البيت والمقام بموضعه الفعلي- يضيق بالطائفين في موسم الحج ضيقاً شديداً، يؤدي إلى الحرج والخلل، إذن لا تتم التهيئة المأمور بها إلا بتأخير المقام. وإن الحكم المتعلق بالمقام- وهو الصلاة إليه- لو كان يختص بموضع لكان هو موضعه الأصلي الذي انتهى إليه إبراهيم في قيامه عليه لبناء الكعبة وقام عليه فيه للأذان بالحج ونزلت الآية: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» وهو فيه وصلّى عليه النبي صلى الله عليه و آله مراراً تلا في بعضها الآية وهو فيه؛ ومع ذلك فلمّا أجمع الصحابة على تأخيره

ص: 65

وانتقال الحكم- وهو الصلاة إليه- معه ثبت قطعاً أن الحكم يتعلق به لا بالموضع، هذا بالنسبة إلى الموضع الأصلي فكيف بالموضع الفعلي؟!

فتأخير المقام هذا اليوم أيضاً قطعاً عمل بكتاب اللَّه تعالى الآمر بالتهيئة للطائفين أوّلًا وللعاكفين والمصلّين بعدهم، واتّباع لسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حق الاتّباع بالنظر إلى المقصود الشرعي الحقيقي؛ وإنه لا يخدش في ذلك أن فيه مخالفة صوريّة؛ وكذلك هو اتّباع لسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديين وإجماع المسلمين؛ لأن الحكم يدور مع علّته، ولكن لابدّ أن يكون تأخير المقام بمثل عمل الصحابة مع ما راعوه، يعني بالشروط الثلاثة: عدم إخراجه عن المسجد، وعن المحاذاة للموضع الأصلي، وعدم البعد المفرط عن البيت إلّابمقدار الحاجة.

هذا آخر ما لخصناه من رسالة المحدّث العلّامة عبدالرحمن بن يحيى المعلّمي اليماني المتوفى سنة 1386 ه، والتي قرّظها واستحسنها ووافق على مضامينها العلّامة الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعوديّة.

أقول: بالرغم من أن النتيجة التي انتهى إليها المعلّمي في رسالته لا نرتضيها حسبما تقدم منّا أيضاً، ولكن الرسالة هذه حاكية عن فضل مؤلّفها وقوّة قريحته وحسن فهمه؛ فهو على مباني أهل السنّة جيّد المشي قويّ الاستدلال، فلذا كانت رسالته أهلًا للإيراد؛ ونحن إنما لا نقول بالنتيجة التي توصل إليها من جواز نقل المقام إلى موضع ثالث غير الموضع الأصلي والموضع الفعلي؛ لأن جواز كون المقام في الموضع الفعلي أيضاً لا نقول به حسب مبانينا ونصوصنا. ولو كان الموضع الفعلي أمراً جائزاً فالنقل الثاني بما ذكر له من الشروط لم يكن أمراً بعيداً.

فعمدة الخلاف بيننا وبين المعلّمي ومن هو على مذهبه هو هذه النقطة وهو أن كون المقام في الموضع الفعلي الذي كان بفعل عمر حسبما اعترف به هو وغيره من منصفي أهل السنّة هل كان جايزاً ويجوز إبقاؤه الآن أيضاً أو لا؟

وقد سبق أن نصوصنا صرّحت بأن نقل المقام كان بدعةً في لغة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله،

ص: 66

حسبما تقدمت الرواية عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام، وأنه لولا العجز لردّ المقام إلى الموضع الأصلي؛ وأن المهدي إذا ظهر وكان المقام يومذاك في الموضع الفعلي لردّه؛ لتمكّنه وزوال التقيّة.

والمعلّمي لما كان فعل عمر حجّة عنده فمشيه على أساس ذلك المبنى في الحكم بجواز النقل مجدداً في محلّه؛ ولكن نحن لا نرى حجّة في ذلك الفعل لوجوه:

الأوّل: أن شأن الصحابة- على جلالتهم وفضلهم لصحبتهم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله- شأن ساير الناس في حجيّة اجتهادهم؛ وربما كان اجتهاد غير الصحابي أقوى وأكثر اعتباراً من اجتهاد صحابي.

وأمّا حكمنا في شأن علي عليه السلام وساير أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فليس بملاك الصحبة؛ ليكون الأمر في قضائهم كساير الناس، وإنما نقول باعتبار حديثهم وحكمهم لحديث الثقلين وغيره مما تضمن حجيّة قولهم على المسلمين قاطبة، وأن الحق معهم كما أنهم مع الحق، وأنهم باب علم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى غير ذلك من المضامين التي تواترت في كتب أهل السنة فضلًا عن كتب الشيعة، واعترف بها أفاضل علماء السنّة فضلًا عن علماء الشيعة.

الثاني: أن اجتهاد الصحابي لو كان حجّة فإنما هو حيث لا يكون هناك نص بخلافه، فالاجتهاد في قبال النصّ لا عبرة به من صحابيٍّ كغيره. هذا من جهة.

ومن جهة اخرى، إن النص الذي يرويه أئمة أهل البيت لا يقلّ اعتباراً عن ما يرويه غيرهم في الصحابة لو ثبت وثاقة الصحابي، فإن شأن أهل البيت في روايتهم لا ينبغي أن يقلّ عن شأن ساير المسلمين بل أدناهم؛ فكيف يكون خبر أدنى المسلمين- إذا كان ثقة- حجّة ولا يكون خبر آل محمد صلى الله عليه و آله حجّة وهم سادات المسلمين وأئمتهم وعدل القرآن وأهل بيت الوحي؛ فأيّ ظلم أفحش من أن لا يرى لآل محمّد صلى الله عليه و آله ما يرى لأدنى المسلمين من حق وحكم، أعني حجيّة الخبر؟!

ومن جهة ثالثة، إن أهل البيت صرّحوا بأن كل ما لهم من حديث وحكم فهو

ص: 67

رواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسند متصل ينتهي إلى علي أميرالمؤمنين عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فيا ترى أن وسائط النقل بين النبي صلى الله عليه و آله وبيننا لو كان أمثال أبي هريرة كان الخبر حجّة، وأمّا إذا كان واسطة النقل عليّ وبنوه فلا يكون الخبر حجّة. إنّ هذا الأمر لعجيب!

وعلى هذا الأساس نقول: روي عن علي أمير المؤمنين عليه السلام أن نقل المقام بدعة مخالفة لسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

الثالث: هب أن اجتهاد الصحابة حجّة كما عليه أهل السنّة، ولكن اجتهاد علي وساير أهل بيت النّبي صلى الله عليه و آله- من الصحابة على الأقلّ- لا ينبغي أن يقلّ عن اجتهاد ساير الصحابة؛ فما بال اجتهاد ساير الصحابة يكون حجّة مقدّماً على اجتهاد الصحابي من أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟!

ثم ما أراده المعلّمي من تجويز نقل المقام إلى موضعٍ أبعد، إن كان لقضيّة صلاة الطواف- كما هو مقصوده- فهو مبني على اشتراط صلاة الطواف بالمقام على الإطلاق؛ لِمَ لا تكون الشرطيّة مخصوصة بفرض التمكن وعدم الحرج والزحمة؛ وأمّا مع الحرج فتسقط الشرطيّة وتجب الصلاة في محاذي المقام ولو بعيداً عنه، كما روي عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنهم صلّوا صلاة طواف الفريضة في الزحام بحذاء المقام قريباً من الظلال.

وبالجملة: إذا كان اشتراط مجاورة الصلاة للمقام باقياً في تمام الظروف والحالات، فحيث لا يمكن عادةً التحفظ على الشرط إلّابنقل المقام كان النقل جايزاً بل واجباً، كوجوب تحصيل ساير شروط الواجب كالوضوء وغيره من شروط الصلاة.

ولكن لِمَ لا يكون اشتراط مجاورة الصلاة للمقام في الزحام من قبيل شرط الوجوب؛ بمعنى أنه تجب المجاورة مع التمكن لعدم الزحام؛ وأمّا إذا كانت المجاورة لا

ص: 68

تتحقق إلّابنقل المقام فهذا الشرط ليس مما يجب؛ بل الشرط هو ما يتيسّر للناس من محاذاة المقام بدل المجاورة.

هذا، وكان على المعلّمي- على أساس استدلاله لجواز نقل المقام بآيتي الأمر بتهيئة ما حول البيت للطائفين والمصلّين- أن يقول بجواز نقل الحجرالأسود من موضعه لنفس النكتة التي على أساسها حوّل المقام في عهد عمر وأراد المعلّمي تحويله ثانياً إلى أبعد؛ ويجري الكلام في ذلك طابق النعل بالنعل والقذة بالقذّة.

وإذا رجع المعلّمي فقال: إن الحجر لم ينقل في عهد الصحابة ولكن المقام نقل؛

قلنا له: أوّلًا: ربما كان عدم نقل الحجر في عصر الصحابة كعدم نقل المقام في عصر الرسالة وحياة النبي صلى الله عليه و آله؛ فكما أن الثاني لم يمنع الصحابة من نقل المقام بعد النبي صلى الله عليه و آله، فما المانع من نقلنا نحن الحجر بعد عصر الصحابة؟!

وثانياً: ربما كانت العلّة في عدم نقل الصحابة للحجر عدم الحاجة والضرورة آنذاك وكانت ضرورتهم تتأدّى بنقل المقام خاصّة؛ بخلاف هذا العصر؛ وبالجملة:

لا مناص للمعلّمي وغيره من أهل السنّة إذا جوّزوا نقل المقام الذي صنعه عمر، وجوّزوا أيضاً نقله ثانياً فعلًا أن يرخصوا في نقل الحجر الأسود. ولو كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واضعاً الحجر الأسود في موضعه الفعلي، فقد وضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 69

المقام في موضعه الأصلي غير الفعلي فما بال مخالفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الأوّل ممنوعة وفي الثاني جائزة؟!

ثم إن ما ذكره من أن الأمر في الآيتين مردّه إلى الأمر بتهيئة البيت للطائفين والمصلّين، فالأمر كما ذكره، ولذا يستفاد من الآيتين عدم جواز فعل ما ينافي ذلك كبناء منابر في المسجد الحرام، وكذا بناء مقصورات حسبما ينقل أنه كان سابقاً؛ وكذا التكلّم على المنابر بما ينافي تمكّن الطائف والمصلي من العبادتين بحضور قلب؛ ولذا ورد في روايات الشيعة أن المهدي إذا ظهر يهدم المنابر في المسجد الحرام، وقلنا: إن المراد هو هدمه لها لو كانت موجودة كل هذا صحيح؛ ولكن لا ينبغي أن يفهم من ذلك تقديم الطواف على الصلاة حسبما رامه المعلّمي؛ سيما صلاة الطواف التي هي من تبعات الطواف؛ فإنه ليس في تقديم الطائفين في الآية دلالة- لو كان فيها إشعار- على كون الطائف أحقّ بالبيت من المصلّي.

بل لم يعلم كون الطائف أحقّ من المصلّي لغير الطواف كالمشتغل بصلاة يوميّة بل حتّى من المشتغل بالنافلة. فإنه ليس في ذكر الطائف أوّلًا دلالة على أحقيته من المصلي المذكورثانياً؛ فإنه لو كانا في عرض واحد لم يكن مناص من ذكرهما متعاقبين.

لا أقول: إن الصلاة والطواف متساويان في الحق؛ بل أقول: إن تقديم الطائف لا ينافي تساويه مع المصلي في الحق؛ وإطلاق المصلي في الآية يشمل المصلي نافلة فضلًا عن مصلي الفريضة لغير الطواف أو للطواف.

كما أن إطلاق الطواف في الآية يشمل الطائف ندباً وغيره ولم يفرض في الآية أن المشتغل بطواف الواجب أحقّ من غيره.

نعم، يستفاد من النصوص- غير الآيتين- أن المشتغل بطواف الفريضة في الموسم أحق من غيره بالمطاف؛ وذلك أن المهدي عليه السلام إذا ظهر يخصّ المطاف بالطائف للفريضة في الموسم- على ما ببالي-.

ص: 70

وكان على المعلّمي- إذ كان تقديم الطائفين عنده دليلًا على تقدمهم على المصلّين في الحق- أن يعتبر ذكر الطّواف من دون ذكر الحجر الأسود في الآيتين أوضح دلالة على تقدّم الطواف على استلام الحجر وتقبيله؛ وعلى أساسه فتدل الآية على وجوب تهيئة البيت للطائفين بتحويل الحجر للاستلام والتقبيل إلى خارج المطاف؛ ليتمحّض البيت للطائفين ويسهل الطواف لهم؛ كما دلت الآية- حسب فهم المعلّمي- على جواز بل وجوب نقل المقام إلى موضعٍ أبعد من البيت.

وأمّا نحن، فلا نقول بذا ولا بذاك؛ فلا أن الآية- بسبب تقديم الطائف على المصلّي- تدلّ على جواز تأخير المقام إلى موضع بعيد من البيت فضلًا عن دلالتها على الوجوب؛ ولا أن الآية تدل- بسبب ذكر الطواف والصلاة دون استلام الحجر وتقبيله- على جواز تأخير الحجر الأسود من موضعه إلى مكان منفصل عن الكعبة المشرفة.

بل مكان الحجر الأسود والمقام هو لصق البيت حسبما تضمّنته روايات أهل البيت عليهم السلام. هذا ما يخطر ببالي القاصر على ما دوّنه المعلّمي وأقرّه عليه مفتى الديار السعوديّة الشيخ محمد إبراهيم آل الشيخ.

وقد عثرت على رسالة لآل الشيخ تضمّنت الردّ على رسالة لمن يسمى بابن حمدان، وقد تضمّنت رسالة ابن حمدان تحاملًا على المعلّمي، وردّاً عليه بامور تُنبى ءُ عن قصور الفهم وتعصب في الاعتقاد وحمية لرأي؛ حتى بلغ حدّاً جاوز الأدب مرّات وتجاسر على عدة من العظماء والعلماء من أهل مذهبه، بل من هو من ساداتهم أمثال عطاء وغيره من سادات التابعين وغيرهم، فاتّهم جمعاً منهم كعطاء بالكذب، واتّهم مالك بن أنس بأن ما تكلّم به على سبيل الظن، وقد أخطأ فيه، وصرّح بأن عبدالرزّاق- صاحب المصنّف- تصرف تصرفاً محرّماً محيلًا للمعنى في بعض نصوص المقام، وبأن النسائي متساهل، وطعن في ابن كثير بأنه مقلّد

ص: 71

للمؤرخين الذين لا يعرفون الصحيح من السقيم، وفي ابن حجر صاحب الفتح بأنه مقلّد لابن كثير تقليداً أعمى، وغير ذلك من القدح والتحامل على أجلّة أرباب السير.

وقد ردّ عليه آل الشيخ في رسالة مستقلّة باسلوب متين ودافع عن المعلّمي ومن قبله كعطاء ومالك وعبدالرزاق بطريقة علميّة.

وقد غاب عن ابن حمدان أنه لو صحّ القدح فيمن قدح فيهم- وغيرُهم أمثالهم- لم يبق لمذهبه عماد؛ ولا سَلم له حديث في باب؛ ولعل الذي حمله على هذا التطرّف والإفراط هو تعصّبه لإمام مذهبه عمر، فأراد بذلك أن يزيل الشين عنه، حيث إن مخالفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صنعه وفعله ليس مما يهون والجرأة على نقض ما عمله صلى الله عليه و آله ليس بسهل ولا يسير؛ وقد رأى أن ما ذكره المعلّمي في توجيه عمل عمر في مخالفته لما فعله رسول اللَّه ليس أمراً مقبولًا، فاضطرّ إلى أن يحفظ كرامة سيده عمر بالقدح في ساير ساداته ممن هم دونه في الفضل عند أهل السنّة.

ولكنه غفل عن أن فتح هذا الباب من القدح، والموافقة على هذا النمط من الجرح لا يبقي للمذهب من باقية، ولا يذر للأحاديث والنصوص المروية في كتب أهل السنّة من سالمة.

فكان توجيه فعل عمر بعد مخالفته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ولو كان التوجيه بعيداً- ضرورةً لا مناص منها، وهو أولى من القضاء على اصول المذهب وأساسه.

فإنه لا مناص من ارتكاب أحد المحذورين: إمّا القضاء على تمام المذهب وأصله؛ أو الإلتزام بتوجيه- ولو بعيد مردود- حفاظاً على أصل المذهب، ولا ريب أن الثاني أهون.

ويا ليت ابن حمدان حيث تعصّب لما فعله عمر علم أن ما ثبت عن عمر في مخالفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- ولو في الصورة كما ذكره المعلّمي وغيره- ليس محصوراً في هذا المورد؛ ليردّ عليه بالإنكار، فلا محيص من قبول وقوع المخالفة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 72

من عمر، ثم التكلّم في توجيه ذلك وكونه مخالفة في الصورة أو في الباطن والحقيقة؛ وإلّا فلو فتح لابن حمدان وأمثاله المجال في قدح من نقل عن عمر مخالفاته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسيرته وأقواله- أمثال تحريم المتعتين خلافاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وغير ذلك- لقضوا على كل سادات أهل السنّة وعظمائهم ولأتوا على جذور المذهب وأصوله وأساسه؛ والحكم إليك!

إن قلت: ألم يقدح المعلّمي في الأزرقي بل الفاكهي ممن رووا روايات تنافي مقالته؛ فابن حمدان أيضاً إنما قدح في رواة ما ينافي مقالته فهذه واحدة بواحدة.

قلت: فرق بين القدحين، فإن القدح في مثل الأزرقي لا يبطل أصل المذهب وأساسه، وهذا بخلاف القدح فيمن قدح فيه ابن حمدان.

ثم إنّي لا أظن أن المعلّمي وآل الشيخ وغيرهما من علماء السنّة لا يهمهم الحفاظ على كرامة الخليفة عمر وصونه من أن يناله شبهة مخالفة الرسول؛ ولكن الذي حدا بهم إلى الالتزام بأن عمر هو الذي حوّل المقام إلى موضعه الفعلي خلافاً لما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمران؛ والعمدة منهما واحد.

والأمران هما:

الأمر الأول: ثبوت الشواهد القطعيّة من التاريخ والنصوص على ذلك بحيث لا يبقى للمنصف شك في هذا المجال. وهذا الأمر وإن كان ثابتاً؛ ولكنه لا يستدعي الاعتراف؛ فكم له من نظير لا يعترف به.

والأمر الثاني- وهو الّذي حمل المعلّمي وآل الشيخ ويحمل غيرهما أيضاً على الاعتراف بأن تحويل المقام هو فعل عمر خلافاً لما كان المقام عليه في عهد النبي صلى الله عليه و آله- هو: ما يبتغونه من وراء ذلك وهو تجويز التحويل في المقام مرّة اخرى، تسهيلًا للأمر على الحكّام المتولّين لأمر بيت اللَّه وتعبيداً للطريق لهم، وأنه ليس تحويل المقام أمراً بدعاً، بعدما فعله عمر، ولا شيئاً جديداً بعد ما باشره الخليفة.

ولمّا لم يكن الأمر في ذلك يتم إلّابالاعتراف بكون المقام في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 73

على غير موضعه الحالي الذي صار بفعل عمر لم يكن لهم مناص من الاعتراف بكلا الأمرين؛ فإنه لو كان المقام في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في موضعه الفعلي وكان عمر ردّ المقام إلى ذاك الموضع لم يكن في فعل عمر تأييد لجواز نقل المقام فعلًا إلى مكان أبعد من البيت عما عليه فعلًا.

فليس اعتراف المعلّمي وأضرابه في هذا العصر بمخالفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من عمر ثم توجيه ذلك بأنه مخالفة في الصورة لا في اللبّ والحقيقة بل ما فعله عمر في الحقيقة عين الموافقة لرسول اللَّه باعتبار الغرض، ليس لأجل الاعتراف بالحقيقة؛ وإنما هو لأجل التوصّل به إلى غرض آخر كما ألمحنا إليه. واللَّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 74

فقه الجدال في الحج

دراسة فقهية استدلالية حول مفهوم الجدال وأحكامه

(القسم الثاني)

حيدر حبّ اللَّه

المبحث الثالث: اختصاص الحكم بالصيغتين أو الشمول لمطلق الحلف

وقع خلاف في أنّه بناءً على التقيّد بالصيغة في مفهوم الجدال، فهل الحرام هو مطلق الحلف، أم خصوص الصيغتين المذكورتين في النصوص، وهما: لا واللَّه، وبلى واللَّه؟

ظاهر عبارات الفقهاء (1) ذكر الصيغتين ممّا يفيد الاختصاص، بل قيل: هو المشهور (2)، إلا أنّ بعضهم كالمحقّق الكركي والشهيد الأوّل وغيرهما (3) صرّحوا بأنّ موضوع الحكم في المسألة هو مطلق الحلف.


1- من العبارات المصرّحة كلام فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 295؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295، وهو ظاهر السبزواري في كفاية الأحكام 1: 299؛ وصريح الفاضل الهندي في كشف اللثام 5: 370؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362.
2- المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 131؛ والسيد محمود الشاهرودي، كتاب الحج 3: 182.
3- الصدوق، المقنع 332؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 184؛ والشهيد الأوّل، الدورس 1: 386- 387؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 2: 258؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314.

ص: 75

أدلّة القول بالاختصاص:

وقد ذكرت للاختصاص وجوه أبرزها:

الوجه الأوّل: ما ذكره السيّد الخوئي وغيره من التمسّك بصحيحة معاوية بن عمّار (الرواية الثالثة)، حيث يستفاد منها ترتّب الحكم على القول المذكور خاصّة، لا على معناه أو مضمونه، ولا حتّى على مطلق اليمين أو الحلف، فيلتزم بظاهر الصحيحة (1)، بل عمّم بعضهم الاستدلال عبر القول بأنّ ظاهر النصوص تفسير الجدال بهما دون غيرهما، ولا دليل على الشمول لغيرهما (2)، والأصل في العناوين الواردة في ألسنة النصوص هو الموضوعيّة لا الطريقية، إلّابقرينة (3)، ومن ثمّ فلا دليل تعبدي على التعميم كما لا إحراز للمناط في المقام (4).

وقد أورد المحّقق الكركي على الاستدلال بهذه الصحيحة بأنّ الحصر الوارد فيها عبر كلمة «إنّما» هو حصر إضافي لا حقيقي، إذ ورد قبله الحديث عن عدم صدق الجدال على مثل «لا لعمري»، فلا يكون مفيداً للاختصاص التام الذي يمنع التعدي إلى مطلق اليمين (5)، وكلامه وجيه.

الوجه الثاني: الأصل، كما ذكره المحقّق الأردبيلي وغيره (6).

ومن الطبيعي كونه موقوفاً على عدم وجود دليل على التعميم، وإلّا فلا يصمد أمام الأمارات.


1- الخوئي، المعتمد 4: 164؛ وانظر: فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 295، والأردبيلي، مجمع الفائدةوالبرهان 6: 295؛ والفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 370.
2- المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 131؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 114.
3- الفياض، تعاليق مبسوطة 1: 221.
4- الشاهرودي، كتاب الحج 3: 183.
5- الكركي، جامع المقاصد 3: 183- 184.
6- الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295؛ وانظر: الفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 370؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362.

ص: 76

أدلّة القول بالتعميم:

أمّا القول بالتعميم، فقد يستدلّ له بعدّة وجوه أيضاً أهمّها:

الوجه الأوّل: التمسّك بصحيحة معاوية بن عمّار نفسه، إذ جاء فيها بعد بيان حقيقة الجدال أنّه إذا حلف الرجل بثلاثة أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم فقد جادل و.. وهذا ما يشهد على أنّ المراد بالصيغتين الإشارة بنحو المثالية إلى مطلق الحلف، لأنّه رتب الحكم فيما بعد على عنوانه.

وقد أورد على هذا الوجه:

أوّلًا: بأنّه وإن ذكرت هذه المسألة في الرواية على نحو الاستقلال إلّاأنّها جاءت عقيب الصدر الذي حدّد الجدال بالصيغتين، ممّا يعلم منه أنّ المراد بالحلف في الذيل هو الحلف الخاص لا مطلق الحلف، فالذيل ليس في مقام بيان الجدال ومعناه، بل في مقام بيان التفصيل بين الكاذب والصادق (1).

إلّا أنّ هذا الكلام قابلٌ للمناقشة، فإذا كان الذيل في غير مقام بيان الحلف من حيث طبيعة صيغه وأيّها الجدال، فإنّ الصدر أيضاً ليس في هذا المقام؛ لأنّ المفروض أنّ المنصرف من الجدال لغةً بإقرار الجميع هو المخاصمة، فحديث الصدر في مقام بيان الجدال بمعنى الحلف مقابل المعنى اللغوي، ومن غير المعلوم أن يكون في مقام بيان نوع الحلف، وكأنّ أصل كون معناه هو الحلف واضحاً، ولا أقلّ من الشك في كونه في هذا المقام فلا يتمّ الاستظهار المذكور من الرواية، ومعه فكما يحتمل قرينية الصدر للذيل يحتمل العكس أيضاً، فلا يتم القول المذكور، وإن لم تتمّ مناقشته.

ثانياً: لو سلّمنا انعقاد الإطلاق، إلّاأنّه لابد من حملها على الروايات التي فسّرت الجدال بالصيغتين على وجه الخصوص، لتقييدها بها، وبعد حمل المطلق


1- الطباطبائي، رياض المسائل 6: 314؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362؛ والخوئي، المعتمد 4: 165؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3: 183- 184؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 115.

ص: 77

على المقيد يكون القول بالتعميم لمطلق الحلف من الاجتهاد في مقابل النص (1).

ويجاب عنه: إنّه بعد أن كانت صحيحة معاوية بن عمار معمّمة، فكما يحتمل التقييد، مع أنّهما مثبتين، يحتمل كذلك- وبقوّة- أخذ الصيغتين على نحو المثالية، فما هو المرجّح- على تقدير الأخذ بإطلاق صحيح معاوية- لتقديم قرينيّة غيره في التقييد على قرينيّة هذا الصحيح في المثالية؟!

نعم، طرح بعض الفقهاء التعارض بطريقةٍ أخرى، حيث جعل النسبة بين المطلق وبين مثل صحيحة معاوية بن عمار هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنّ الصحيحة تدلّ بدلالة الحصر التي فيها على عدم مؤثرية غير الصيغتين، سواء كان حلفاً أو غيره، فيما المطلقات تدلّ على المنع عن الحلف سواء كان بالصيغتين أو غيره، فيقع التعارض في الحلف باللَّه غير الصيغتين ويقع التساقط بمقتضى قواعد التعارض بين العامّين من وجه، فيرجع إلى أصالة البراءة في مورد الاجتماع (2).

الوجه الثاني: الاستناد إلى موثقة أبي بصير (الرواية الثامنة) المقاربة في مضمونها لذيل خبر معاوية، بتقريب أنّها ترتب الحكم على مطلق الحلف دون تقييده بصيغةٍ خاصّة (3).

ونوقشت بأن الرواية ليست بصدد بيان الجدال، بل في مقام التفصيل بين الكاذب والصادق في التعدّد وعدمه، ومعه يصعب التمسك بها في المقام (4).

الوجه الثالث: ما ذكره النراقي من أنّ الأصل في الألفاظ إرادة معانيها، دون خصوص اللفظ، ومعه فيشمل الحكم تمام أوصاف الباري تعالى غير كلمة «واللَّه»


1- السبزواري، ذخيرة المعاد 1، ق 3: 593؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3: 184؛ وانظر: العاملي، مدارك الأحكام 7: 342؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 463؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314.
2- الخوئي، المعتمد 4: 165- 166.
3- المصدر نفسه: 165.
4- اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 115.

ص: 78

مثل الرحمن والخالق (1).

إلّا أنّ هذا الوجه تام على غير مبنى التعبدية والموقوفية في المقام، وإلّا فلا ريب في دخالة بعض الألفاظ الخاصّة في العبادات، كما لا يخفى، ومعه لا يُحرز إرادة المعنى وحده، إذ لعلّ في اللفظ خصوصية.

وبهذا ظهر، أنّ أدلّة الاختصاص والتعميم مناقش فيها، عدا الأصل، والقول بأنّه على التعبدية في المقام بالمعنى الشرعي الخاص لمصطلح الجدال، لا دليل على التعميم، فيقتصر على ما جاء في النص وهو الاختصاص.

هذا كلّه مبني على المعروف من فتوى الأصحاب، من أنّ المراد بالجدال معنى شرعي خاص، أمّا على ما تقدّم سابقاً من أنّ المراد به مطلق الخصومة والخصام والتنازع، فلا فرق فيه بين الحلف وغيره، ولا بين هذه الصيغ وغيرها.

نعم، لو التزمنا بالحلف فالخروج إلى غيره ممّا يسمّى حلفاً تسامحاً لا حقيقةً مثل «لا لعمري» غير واضح، لعدم الدليل عليه، حينئذٍ.

المبحث الرابع: اشتراط العربية وعدمه

هل يختصّ موضوع الحلف- مطلقاً أو بالصيغتين- باللغة العربية أو يشمل غيرها؟

استشكل بعض الفقهاء في الأمر محتاطاً (2)، بل جزم به آخرون (3)، ومنطلق الأمر هو الوقوف على النص حيث الظاهر منه خصوص الصيغتين، وقد ورد باللغة العربية، ولا أقلّ من الشك في الشمول، فتجري أصالة البراءة عن غير العربية، سواء كان لفظ الجلالة بالعربية دون غيره أو العكس أو كان كلّه عربياً مطلقاً (4).


1- النراقي، مستند الشيعة 11: 387.
2- المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 132- 133.
3- النجفي، جواهرالكلام 18: 363، مخصّصاً ذلك بلفظ الجلالة، وانظر: الفاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 119.
4- اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 119.

ص: 79

إلّا أنّ الصحيح- وفاقاً لمثل المحقّق النراقي (1)- أنّ مثل هذه الشكوك لا ينبغي الوقوف عندها؛ إذ من الطبيعي أن يبيّن أهل البيت عليهم السلام الحكم باللغة العربية، وكلّ الأحكام على هذا المنوال، فالمفترض أنّه لو كان الحكم مختصّاً بالعربية أن يُبرزه الإمام عليه السلام، والحال أنّنا لم نجد مثل ذلك في أيّ نصّ ولا حتّى في سؤال السائلين، فالعربية هنا لا تؤخذ على نحو الموضوعيّة بل على نحو الطريقيّة، سيّما بناءً على القول بمطلق الحلف.

نعم، بناءً على التعبّدية الشديدة في هاتين الصيغتين قد يحصل شك حقيقي في شمول هذه التعبّدية حتّى لتلك اللغة التي تنطق بها الصيغتان، فمن يذهب إلى مزيد توقيفٍ في التعامل مع هذا الموضوع من الطبيعي حصول الشك عنده، دون غيره.

من هنا، وبناءً على ما تقدّم من أنّ المراد بالجدل مطلق التنازع، لا معنى لهذا


1- النراقي، مستند الشيعة 11: 387.

ص: 80

البحث، حيث لا يختصّ الأمر بلغةٍ دون أخرى، بل يتمسّك بإطلاقات دليل تحريم الجدال للشمول لمطلق اللغات.

المبحث الخامس: شرطية «لا» و «بلى» في الصيغتين

هل يتحقّق الجدال بقول: «واللَّه»، دون إضافة: «لا» أو «بلى» أو استبدالها بغيرها مثل ما فعلت، أم لابدّ من إضافة إحدى اللفظتين؟

أ- أمّا إذا بنينا على القول بأنّ المراد بالجدال مطلق المنازعة والخصومة، فلا إشكال في عدم أخذ هذه القيود كما تقدّم، وإنّما تحمل برمّتها على المثالية.

ب- وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد به المنازعة المقرونة بهذا اللفظ أو الموقوفيّة على هذا اللفظ، فقد يقال بعدم كفاية «واللَّه»، انطلاقاً من الاقتصار على مفاد الدليل، سيّما وأن النصوص بصدد بيانه، فيكون غيره مورداً للبراءة (1).

وفي مقابل هذا القول، قد يتمسّك بوجوه:

أوّلًا: صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة)؛ حيث إنّ تعليلها نفي الجدال في صورة قول أحد الطرفين لصاحبه: «واللَّه لا تعمله»، بغير فقدان جزء من الصيغة، دليل واضح على أنّه لولا إرادة الإكرام لثبت الجدال بمطلق «واللَّه»، وإلّا لعلّل الأمر بفقدان الصيغة بشكلها التام (2).

لكن هذا الكلام أورد عليه:

أ- بأنّه يمكن أن يكون في هذا الفرض مانعان: أحدهما عدم توفّر الصيغة بصورةٍ صحيحة، وثانيهما صورة الإكرام، فأراد الإمام عليه السلام بيان أحد المانعين؛ لكفايته في هذا المورد، وليس من الواجب بيان الخلل الثاني الموجود في الصورة المفروضة (3).

ب- إن الصحيحة ليست في مقام بيان الحلف بأيّ صيغة، وإنّما هي في مقام بيان نفي البأس عن الحلف التكريمي، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها من تلك الجهة.


1- الخوئي، المعتمد 4: 167- 169؛ والمدني الكاشاني، براهين الحج 3: 132؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 114، 117- 119.
2- أنظر: النجفي، جواهر الكلام 18: 363.
3- المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 132؛ وانظر: الشاهرودي، كتاب الحج 3: 185، 186.

ص: 81

ثانياً: ما ذكره صاحب الجواهر من أنّ صيغة القسم في هذه الجملة هي لفظ الجلالة، أما ما يسبقها فهو المقسوم عليه، فلا دخل له بحقيقة القسم، فيجوز وجوده وعدمه، ويجوز أن يكون بغير العربية أيضاً (1).

لكن هذا الكلام يجري على غير مبنى خصوصية الصيغتين، مع رفض مطلق الحلف أو مطلق المخاصمة، أمّا على هذا المبنى، فيصعب الخروج من حرفية الصيغة؛ لأنّه من غيرالمعلوم أن يكون الحلف هو المقصود حتّى نجعل المعيار عليه دون على ما قبله من المقسوم عليه، فلعلّ المقصود تركيب الجملتين، وفق هذا المبنى.

المبحث السادس: الحلف الصادق والكاذب

هل يشترط في ترتيب آثار الجدال أن يكون الحلف (مطلقاً أو المخصوص بالصيغتين) كاذباً أم يشمل الحلف الصادق أيضاً؟

ذهب بعضهم إلى الشمول (2)، وبعضهم إلى الاختصاص.

ظاهر بعض النصوص الشمول لصورتي الكذب والصدق غايته التفريق بينهما في الكفارة، مثل خبر أبي بصير وابن عمار وأبان بن عثمان عن أحدهما (الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة)، بل في صحيحة محمّد بن مسلم (الرواية الحادية عشرة) ثبوت الكفارة على المجادل صادقاً أيضاً، غايته أنّ كفارة الكاذب بقرة، فيما كفّارة الصادق شاة، الّا إذا قيل بعدم الملازمة بين الكفارة والحرمة.

نعم، في صحيحة يونس بن يعقوب (الرواية الثانية عشرة) ورد أنّه ليس على من جادل صادقاً شي ء، إلّاأنّ الظاهر منها أنّها في مقام الحديث عن الكفارة، لا عن أصل الجدال.

من هنا، فالظاهر شمول الحكم للصادق والكاذب، بل هو مقتضى إطلاق بقية


1- النجفي، جواهر الكلام 18: 363.
2- الصدوق، المقنع: 322؛ وابن سعيد الحلّي، الجامع للشرائع: 184؛ والگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 196.

ص: 82

النصوص سيما التي في مقام البيان من هذه الجهات، كما أنّ مقتضى القول بأنّ المراد بالجدال مطلق المخاصمة لا فرق بين الصدق والكذب، حيث يستفاد من اللغة ومن إطلاق الآية ذلك أيضاً.

لكن على القول بخصوصية الصيغة، قد يمكن تخصيص الحكم بالكاذب لوجوه:

أوّلًا: التمسك بأصالة البراءة في الصادق.

وجوابه واضح، فإنّه بعد وجود الدليل المحرز لا مجال للأخذ بالأصل العملي (1).

ثانياً: التمسك بقاعدتي نفي الحرج والضرر.

وهذا واضح الدفع، إذ لا يحرز وجود حرج نوعي في هذا المجال، في مدّة بسيطة هي فترة الإحرام، كيف وسائر المحرمات الإحرامية يلزم منها ذلك إذا قيل به هنا، وخروج حالة الحرج والضرر الشخصي لاتستلزم تغيير الحكم أساساً، كما هي الحال في سائر الأحكام الشرعية.

فالصحيح الشمول للصادق والكاذب مطلقاً.

المبحث السابع: إختصاص الحكم بوجود مخاطَب وعدمه

هل قول: لا واللَّه، وبلى واللَّه من غير أن يوجّه إلى أحد محقّق للجدال المحرم في الحج أم لا بدّ من فرض حوار أو حديث جرى فيه التلفظ بالكلمة المذكورة؟

صريح بعض الكلمات الاختصاص بمخاطبة الغير (2).

أ- أمّا على الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة المتقدّمة، وهو حصر الجدال بهذه الصيغة دون علاقة للخصومة، فإن ظاهر جملة من الروايات المحدّدة لمفهوم الجدال على هذا المبنى، الإطلاق من هذه الجهة، كصحيحة معاوية بن عمار،


1- الشاهرودي، كتاب الحج 3: 187.
2- راجع: العلّامة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 35؛ وتذكرة الفقهاء 7: 393.

ص: 83

وصحيحة علي بن جعفر وغيرهما، حيث لم تقيّد بوجود حوار بين طرفين.

إلّا أنّ مقتضى الجمع والضمّ للنصوص ظهورها في أنّ هذه الجملة قد قيلت لطرفٍ آخر لا بين الإنسان ونفسه، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع، وطبيعة مثل هاتين اللفظتين هو كونهما في سياق حوار لا مطلقاً، ومجرّد السكوت عن هذه المسألة وعدم ذكر قيد لا يدلّ على انعقاد إطلاق، ما دامت هذه القضيّة بنفسها تصرف الذهن إلى صورة حوار أو كلام بين طرفين، ولا أقلّ من عدم الظهور في غير ذلك.

والغريب ما ذهب إليه بعضهم من أخذ الخصومة في الجدال، ثمّ القول: إنّ مطلقات النصوص لا تستدعي كونه موجهاً إلى أحد، مستدركاً ذلك بفرضية الانصراف (1)، مع أنّه كيف يتحقّق مصداق الخصومة ثمّ يكون الحلف غير موجّه إلى أحد، إلّاعلى افتراض عقلي غير عرفي أبداً.

ب- وأما على الاحتمال الثاني، وهو صيرورة الجدال ذا فردين: أحدهما واقعي هو النزاع والآخر تعبّدي هو الحلف، فيرجع فيه الكلام إلى ما تقدّم في الاحتمال الأوّل؛ لوحدة المورد والمناط.

ج- وأمّا على الاحتمال الثالث، وهو كون هاتين الصيغتين تعبيراً عن اشتداد الخصام، أو الاحتمال الرابع وهو كونهما كناية عن أبسط أنواع الجدال والخصام، أو الاحتمال الخامس وهو الخصومة المرفقة باليمين، فمن الواضح اشتراط صدق الجدال بوجود طرف ثانٍ، لأخذ الخصومة في هذه الاحتمالات الثلاثة جميعها.

د- وأمّا على القول بالمفهوم اللغوي البحت فالأمر واضح جدّاً، إذ يتقوّم هذا التفسير للجدال المحرم بوجود طرفٍ ثانٍ كما صار واضحاً.

فالأقرب اشتراط توجه الخطاب والجدال إلى طرف ثانٍ على تمام المباني في المسألة.


1- الشاهرودي، كتاب الحج 3: 182، 186.

ص: 84

المبحث الثامن: اشتراط المعصية في الجدال المحرّم وعدمه

هل يشترط في تحقّق الجدال المحرّم كونه وقع في معصية أم مطلقاً؟

ظاهر النصوص والآية على تمام التفاسير المحتملة هو الشمول لصورة المعصية وعدمها؛ إذ هي مطلقة غير مقيّدة بقيد رغم تعدّدها.

نعم، ورد في خبر زيد الشحام (الرواية الرابعة) تفسير الجدال بالصيغتين وبسباب الرجل للرجل، ممّا يعني أنّ أحد فرديه معصية حيث يُبنى على حرمة السباب، لكن هذه الرواية لا تقيّد الشكل الأوّل للجدال وهو الصيغتين- مهما فسّرناهما- بصورة المعصية، كما هو واضح، فيبقى التمسك بالإطلاق سارياً، ونحو هذا الخبر- بل أخف منه دلالةً- خبر إبراهيم بن عبدالحميد (الرواية الثالثة عشرة)، مع أنّ هذين الخبرين ضعيفا السند، كما مرّ.

والمقيّد الوحيد في المقام هو صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة) حيث حصرت- بصيغة الحصر (إنّما)- مسألة الجدال بما إذا كان للَّه فيه معصية، أمّا غيره كصورة إكرام الأخ فيجوز.

وقد ذهب بعض الفقهاء (1) إلى إخراج بعض أنواع الجدال بطريقة أخرى، حاصلها أنّ الجدال المحرّم يخرج عنه موردان:

المورد الأوّل: أن يكون لإثبات حقّ أو إبطال باطل أو لحفظ النفس أو حفظ المؤمن، ويلوح منه أن مدرك هذا الاستثناء هو الضرورة، ومن ثمّ فلا ينبغي إفراده هنا بهذه الطريقة بل ينبغي القول- كما في أيّ حكم شرعي آخر-: إنّ هذا الحكم ساري المفعول إلّاإذا طرأ عنوان ثانوي حاكم مثل الضرورة، أو الحرج، أو الضرر، أو نحو ذلك، فلا خصوصيّة لإحقاق الحقّ و...


1- الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 222؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3: 188؛ وانظر: مدارك الأحكام 7: 342؛ والشهيد الأوّل، الدروس الشرعيّة 1: 387؛ والشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 240؛ ومسالك الأفهام 2: 258؛ والبهائي، جامع عباسي: 117؛ والفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 371؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 469؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 386.

ص: 85

وقد استدلّ بعض الفقهاء على إخراج صورة الجدال لإحقاق الحقّ في القضايا العقائديّة ونحوها ممّا يرجع إلى الدين، لا القضايا الشخصية و.. بانصراف الأدلّة عن مثل ذلك (1).

إلّا أنّه لم يظهر الوجه في هذا الانصراف ما دامت النصوص مطلقة في حدّ نفسها، ولا شاهد على إخراج الجدال في قضايا الدين، ولم نفهم مبرّر الانصراف، وليس هناك كثرة استعمال أو كثرة وجود و...، فالصحيح إطلاق النصوص الشامل لمطلق الجدال في الدين وغيره، سواء فسّرناه بالمعنى اللغوي أو غيره.

المورد الثاني: أن يكون الحلف لإكرام المؤمن واحترامه وتعظيمه.

والمدرك الذي ذكر هنا لهذا الاستثناء هو:

أ- صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة)، حيث جاء فيها: إنّما أراد بهذا إكرام أخيه، وهذا ما يستفاد منه أنّ إكرام الأخ يجوز في مورده الحلف.

والأصحّ في التعامل مع صحيحة أبي بصير عدم الاقتصار على إكرام الأخ، ذلك أنّ الرواية إنّما ذكرت ذلك بمناسبة طبيعة سؤال السائل، وإلّا فهي صرّحت في خاتمتها بحصر الحكم بالحرمة بما كان للَّه فيه معصية، ممّا يعني أنّ الحلف الذي لا يقع في سياق معصية جائز، ولا يكون مشمولًا لحكم الحلف أو الجدال في الحج، فلا ينبغي الاقتصار في الاستثناء.

وقد حاول بعض الفقهاء تفسير المعصية هنا بالجدال نفسه أي الصيغتين بشروطهما، لا وقوع الجدال في سياق معصية كالكذب والغيبة ونحوهما (2)، لكنّه غير واضح، فإن الظاهر أنّ الحديث عن وقوع الكلام في سياق الإكرام الذي قابلته الرواية بسياق المعصية، لا أنّ هذه العبارة هي معصية وتلك إكرام كما هو واضح.

ب- اقتران مفهوم الخصومة بالجدال الشرعي، فإذا بُني على هذا الاقتران، لم


1- اللنكراني، تفصيل الشريعة 3: 131- 132.
2- اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 132.

ص: 86

يعد يمكن شمول الحكم لغير مورد الخصومة (1).

وهذا المدرك يختلف في طبيعته عن غيره، فإن نتيجته- لو بقي لوحده- استثناء ما لم يكن فيه خصومة سواء كان فيه معصية أم لم يكن، على خلاف النتيجة التي خرجنا بها من صحيحة أبي بصير، حيث صار الاستثناء لكلّ ما ليس فيه معصية سواء كانت فيه الخصومة أم لم تكن؛ فالنسبة بين النتيجتين هي العموم والخصوص من وجه.

من هنا، فمن تمسّك بهما معاً في مسألة الإكرام- كالسيّد الشاهرودي- يلزمه أخذ القدر المتيقّن الجامع بينهما، وهو الجدال بالصيغة مع خصومةٍ في غير معصية، وهذا هو الصحيح بناءً على ما ذكرناه سابقاً، نعم، لو بنينا على محض المعنى اللغوي للجدال، كان حراماً في غير معصية، سواء حصلت الصيغة الخاصّة أم لا، أمّا الخصومة فتدخل في المعنى اللغوي حينئذٍ.

المبحث التاسع: الاكتفاء بإحدى الصيغتين

هل يتوقّف تحقّق الجدال على التلفظ بالصيغتين معاً أم تكفي واحدة منهما؟

قد يلتزم بكفاية إحدى الصيغتين- كما ذهب إليه مثل النجفي والمدارك وكشف اللثام (2) و...- وذلك لوجوه:

الأوّل: ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الظاهر من الروايات كفاية تحقّق إحدى الصيغتين، سيّما وأنّه لا إشارة في أي رواية إلى عدم تحقّقه بواحدة من الصيغتين،


1- الشاهرودي، كتاب الحج 3: 186.
2- انظر: الخوئي، المعتمد 4: 167؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 364؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 342؛ والعلّامة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية 2: 69؛ وتذكرة الفقهاء 8: 27؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 296؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد: 593؛ والجزائري، التحفة السنية: 182؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 462- 463؛ والخوانساري، جامع المدارك 2: 406؛ والگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 195- 196؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 387.

ص: 87

فيتمسّك بهذا الظهور (الإطلاقي) لإثبات الحرمة لهما (1).

إلّا أنّ هذا الكلام غير واضح على مسلك من يرى التوقّف والتعبديّة بالصيغتين، إذ مع ضمّهما إلى بعضهما في أكثر من رواية كيف يمكن التأكّد من كفاية واحدةٍ منهما، نعم على مسلك من يرى الجدال مطلق المخاصمة أو ما شابه ذلك مثل تعميمه إلى مطلق اليمين لاضير عليه في الالتزام بذلك؛ لا لأنّ الروايات ظاهرة في التفكيك بل لعدم البناء على التعبّدية والتوقّف فيما جاء في ألسنتها.

الثاني: إنّ التأمّل في الصيغتين كفيلٌ لوحده في الجزم بعدم أخذهما معاً، فإن المتكلّم لا يتلفظ بهما، إذ أخذهما معاً أخذ للمتناقضين، «فبلى واللَّه» جملة مثبتة موجبة، فيما «لا واللَّه» جملة نافية، ولا يمكن للإنسان الحلف لإثبات شي ء ونفيه معاً، وهذا خير دليل على أنّ الصيغتين مأخوذتان على نحو الانفصال لا الاتصال (2).

وهذا كلام وجيه ودقيق، إلّاإذا قيل بأنّ النفي يتوجّه لما قاله الخصم والإثبات لما قاله هو نفسه (3)، وهو غير ظاهر عرفاً.

الثالث: إنّ الروايات المفصّلة بين الحلف الصادق والكاذب يستفاد منها أنّ موضوع الحكم هو الحلف، ولو بصيغةٍ خاصة، ولا شك في أنّ الحلف يصدق على كلّ منهما حتّى لو لم ينضمّ إليه الآخر، فيكفي أحدهما (4).

إلّا أنّ هذا الوجه قابلٌ للمناقشة؛ فإن أخذ الحلف موضوعاً للحكم، ولو بصيغةٍ خاصة، يستبطن احتمال كون هذه الصيغة هي مجموع الجملتين، فكيف تمّ


1- الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ والخوانساري، جامع المدارك 2: 406.
2- الشاهرودي، كتاب الحج 3: 187؛ والخوئي، المعتمد 4: 167؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 463؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 387.
3- الگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 196.
4- الخوئي، المعتمد 4: 167.

ص: 88

القفز من هذاالاستبطان إلى الاكتفاء بإحداهما؟! وكيف عرفنا أنّ الصيغة الخاصّة ليست مجموع العبارتين وإنّما إحداهما؟!

المبحث العاشر: إختصاص الحكم بالجملة الخبرية أو الشمول للإنشائية

هل يختصّ الحكم بالجملة الخبريّة أو يعم الجملة الإنشائيّة؟

ذكر السيد الخوئي أنّه لم يرَ من تعرّض لهذا الموضوع قبله، ذاهباً إلى أنّ الظاهر من الروايات عدم شمول الحكم للحلف في الجملة الإنشائيّة، والوجه في هذا الأمر أنّ مثل صحيحة معاوية فصّلت بين الصادق من الجدال والكاذب، ومعنى ذلك أنّ الحلف الممنوع يجري في حالةٍ يصدق فيها عنوانا: الصدق والكذب، وبما أنّ مفهومي الصدق والكذب من شؤون الجملة الخبرية لا الإنشائيّة، نستفيد من ذلك اختصاص الحكم بمورد الإخبار دون غيره.

وبهذا السبيل فسّر السيّد الخوئي معتبرة أبي بصير الواردة في إكرام الأخ، إذ فهم منه مجرّد وعدٍ للمؤمن، فلا تكون فيه معصية.

وعبر ذلك، ذهب المحقّق الخوئي إلى عدم شمول الحكم للحلف الوارد في التعارفات الدارجة بين الناس؛ لعدم صدق الإخبار عليها، وبهذا يكون إخراجها على نحو التخصّص لا التخصيص (1).

وقد تابع السيّد الخوئي في أصل فكرته هنا بعض تلامذته (2).

ويعلّق على هذا الكلام:

أوّلًا: إنّ الروايات- غير معتبرة أبي بصير الواردة في إكرام الأخ- تتحدّث عن تحقّق الجدال والكفارة في مورد الصدق والكذب، لكنّها لا تنفي الجدال في موردٍ لا يكون فيه صدقٌ وكذب، ومبرّر التركيز على حالتي الصدق والكذب موجود، وهو أنّ الجدال بالمعنى اللغوي- وكذا بالمعنى الشرعي الخاصّ الذي اختاره بعض


1- الخوئي، المعتمد 4: 166- 167.
2- الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 222.

ص: 89

الفقهاء- يقع في الأغلبية الساحقة من مصاديقه في سياق الإخبار لا الإنشاء، فإنّ سياقات الإنشاء قليلة جدّاً نسبةً للإخبارات في هذا المجال، لذا كان من الطبيعي أن يتركّز الحديث عليها، دون نفي لغيرها، وسيأتي تعليق ختامي.

ثانياً: إنّ معتبرة أبي بصير بيّنت أنّ العلّة في سقوط الحكم هو الإكرام، وهذا كما يحتمل أن يكون بملاك كون الإكرام منفصلًا عن الإخبار، كذا يمكن أن يكون بنفسه ملاكاً بقطع النظر عن مسألة الخبرية والإنشائية، فلو فرضنا أنّ الحكم شامل لصورتي: الإخبار والإنشاء، لكن مسألة الإكرام أو عدم المعصية دخيلة في سقوط الحكم لكان يصحّ هذا القول الموجود في صحيحة أبي بصير، إذاً فلا تمثل الصحيحة دليلًا لصالح مسألة الإخبار والإنشاء، سيّما وأنّ المأخوذ في لسانها مسألة المعصية والإكرام، فإدّعاء الاستطراق منهما إلى غيرهما مع كونهما ممّا من شأنهما دوران الحكم مدارهما يحتاج إلى قرينة إضافية، وهي غير موجودة.

فالصحيح أنّ الحكم شاملٌ لصورتي الإخبار والإنشاء، إلّاأنّه إذا بنينا على المعنى اللغوي للكلمة طبقاً لنصّ الكتاب العزيز يمكن أن يدّعى أنّ كلمة الجدال التي تستبطن الخصومة يفهم منها عرفاً صورة الخلاف على قضية، ممّا يغلب جدّاً فيه حالة الإخبار، بحيث يلحق غيره بالعدم لشدّة ندرته، فلا يبعد حينئذٍ تخصيص الحكم بذلك، تبعاً لما تنصرف إليه الكلمة بين الناس.

ص: 90

هذا تمام الكلام في مباحث فقه الجدال في الحج، أمّا الكفّارة فتدرس في مباحث كفّارات تروك الإحرام على حدة، فلا نتعّرض لها هنا، ويجب أن يعرف نهايةً أنّ الجدال كما فسّرناه بمعنى النزاع والخصومة لا يشمل الحوار والحوارات العلميّة والفكريّة و... الهادئة حتّى لو لم نأخذ الصيغتين بعين الاعتبار، فلا ينبغي الخلط بين مفهوم الجدال في اللغة العربية وبين مفهوم الحوار الهادئ الذي يضارعه في المصطلح القرآني الجدال بالتي هي أحسن من بعض الوجوه.

وطبقاً لمجمل ما توصّلنا إليه، نجد أن القرآن الكريم طلب في الحج تجنّب تمام الصراعات والمجادلات والمنازعات الصاخبة بمختلف أشكالها سواء جاء معها حلف أم لا، على بعض المباني، وسواء جاءت الصيغة الخاصّة أم لا، على مباني أخرى؛ فالحجّ مظهر التآلف والتوادد وترك الخصومات والمنازعات.

هذا ما فهمناه من هذا البحث، واللَّه العالم بحقيقة أحكامه.

ص: 91

حكايات من مكّة المكرّمة

الشيخ رضا أستادي

قد وفّقت في المدينة المنوّرة لمطالعة قسم من كتاب «إتحاف الورى بأخبار امّ القرى»، لمحمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن فهد القرشي الهاشمي المكّي المشتهر بعمر بن فهد (885- 912 ه) المطبوع بمصر في خمسة مجلدات في سنة (1405 ه) واختيار بعض الحكايات والوقائع البديعة منه، وإليك مااخترناه بترتيب السنين الهجريّة القمريّة. قال:

مقام إبراهيم:

سنة 17- فيها جاء سيل عظيم فدخل المسجد الحرام، واقتلع مقام إبراهيم وذهب به من موضعه حتّى وجد بأسفل مكّة وعفّى مكانه الذي كان فيه عفّاه السيل، فأتي به فربط بلصق الكعبة بأستارها في وجهها... فدخل عمر بعمرة في شهر رمضان، فقال: انشد اللَّه عبداً عنده علم في هذا المقام، فقال المطلّب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك، فقد كنت أخشى عليه هذا، فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى

ص: 92

زمزم بمقاط وهو عندي في البيت... فأتى بها فمدّها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا اليوم وذلك كان في سنة ثمان عشرة.

وفيها وسّع عمر بن الخطّاب المسجد بدور اشتراها، وهدم على من أبى البيع، وترك ثمنها لأربابها في خزانة الكعبة حتّى أخذوها بعد.

توسعة المسجدالحرام:

سنة 26- فيها اعتمر عثمان، وأمر بتوسيع المسجد الحرام، فوسّع بدور اشتراها ودور هدمها على من أبى البيع وترك ثمنها لأربابها في خزانة الكعبة، وأمر بهم فحبسوا وقال: قد فعل ذا بكم عمر فلم تصيحوا به، فكلّمه عبد اللَّه بن خالد بن أسيد فأطلقهم.

أوّل من خطب...:

سنة 44- فيها قدم من الشام منبر صغير على ثلاث درجات، فخطب عليه معاوية، وهو أوّل من خطب بمكّة على منبر، وكانت الخلفاء والولاة يخطبون يوم الجمعة على أرجلهم قياماً في وجه الكعبة وفي الحجر.

سيل عظيم:

سنة 80- أتى سيل عظيم كان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال والنساء مالأحد فيه حيلة ودخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، وبلغ الركن، وخرّب دوراً كثيرة شارعة على الوادي، وقتل الهدم ناساً كثيراً، ورقى الناس الجبال واعتصموا بها...

وفي سنة 84 و 184:

وفي سنة 84 وأيضاً 184- وقع سيل عظيم دخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة، وأصاب الناس عقبه مرض شديد في أجسامهم وألسنتهم، أصابهم منه

ص: 93

مثل الخبل...

تفريق الرجال والنساء في الطواف

سنة 93- كان الرجال والنساء يطوفون معاً مختلطين، حتّى ولّي خالد بن عبداللَّه القسري بمكّة، ففرّق بين الرجال والنساء في الطواف، فأجلس عند كلّ ركن حرساً معهم السياط، فيفرّقون بين الرجال والنساء، وهو أوّل من فرّق بينهما.

لعن اللَّه السياسة الكاذبة

وكان خالد في إمرته على مكّة في زمن الوليد بن عبد الملك يذكر الحجّاج (لأ نّه كان سبباً لإمرته على مكّة) في خطبة في كلّ جمعة إذا خطب ويقرّظه، فلما توفّي الوليد وبويع لسليمان بن عبد الملك أقرّ خالداً على مكّة، وكتب إلى عمّاله فأمرهم بلعن الحجّاج بن يوسف، فلمّا أتاه الكتاب قال: كيف أصنع؟ كيف اكذّب نفسي في هذه الجمعة بذمّه وقد مدحته في الجمعة التي قبلها؟ ما أدري كيف أصنع؟

فلمّا كان يوم الجمعة خطب الناس ثم قال في خطبته:

أمّا بعد أيّها الناس إنّ إبليس كان من ملائكة اللَّه في السماء وكانت الملائكة ترى له فضلًا بمايظهر من طاعةاللَّه وعبادته، وكان اللَّه عزوجل قداطلع على سريرته، فلما أراد أن يهتكه أمره بالسجود لآدم عليه السلام فامتنع فلعنه، وإنّ الحجّاج بن يوسف كان يظهر من طاعة الخلفاء ما كنّا نرى له في ذلك فضلًا وكنا نزكّيه وكان اللَّه قد أطلع سليمان أمير المؤمنين من سريرته وخبث مذهبه على ما لم يطلعنا عليه، فلمّا أراد اللَّه تبارك وتعالى هتك ستر الحجّاج أمرنا أمير المؤمنين سليمان بلعنه فالعنوه لعنه اللَّه.

اشتراء الدور التي كانت في المسجد والمسعى

سنة 161- فيها اشترى قاضي مكّة بأمر من المهديّ (العبّاسي) جميع ما كان في المسجد والمسعى من الدور، فما كان منها صدقة عزل ثمنه واشترى هو لأهل

ص: 94

الصدقة بثمن دورهم مساكن في فجاج مكة عوضاً من صدقاتهم، فاشترى كلّ ذراع في ذراع مكسراً مما دخل في المسجد بخمسة وعشرين ديناراً، وما فضل من الوادي بخمسة عشر ديناراً....

شهيد الفخ

سنة 169- فيها قتل الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ ابن أبي طالب الحسني يوم التروية في أزيد من مائة نفر من أصحابه...

آخر حجّ الخلفاء

سنة 188- فيها حجّ بالناس هارون الرشيد، وهي آخر حجّة حجّها في قول بعضهم، وآخر حجّة حجّها خليفة والى وقتنا هذا. (القرن التاسع).

سيل والمقام والركن

سنة 208- فيها في شوّال جاء سيل عظيم والناس غافلون... وأحدق بالكعبة وبلغ الحجر الأسود والباب، وذهب بناس كثير وهدم دوراً كثيرة مشرفة على الوادي، أكثر من ألف دار، ومات نحو ألف إنسان، ورفع المقام من موضعه خوفاً عليه من ذهابه...

سنة 240- قال محمّد بن جرير الطبري في سنة ثلاثمائة: كنت في مكّة سنة أربعين ومائتين (وهو شابّ) فرأيت خراسانيّاً ينادي: معاشر الحاجّ من وجد همياناً فيه ألف دينار فردّه عليّ أضعف اللَّه له الثواب، فقام إليه شيخ من أهل مكّة كبير من موالي جعفر بن محمّد (من الشيعة ظ) فقال: يا خراساني! بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيّامه معدودة ومواسمه منتظرة، لعلّه يقع بيد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالًا يأخذه ويردّه عليك. قال الخراساني: بابا (كلمة فارسية ظ) وكم يريد؟ قال: العشر مائة دينار فقال: لا بابا ولكن نحيله على اللَّه عزّوجلّ قال وافترقا.

ص: 95

قال محمّد بن جرير: فوقع لي أ نّ الشيخ صاحب القريحة هو الواجد للهميان فاتبعته- وكان كما ظننت- ونزل إلى دار خلقة الباب والمدخل، فسمعته يقول:

يالبابة! قالت له: لبّيك يا أبا غياث قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقاً فقلت له: قيّده بأن يجعل لواجده العشر فقال: لا واللَّه ولكنّا نحيله على اللَّه فأيّ شي ء نعمل؟ ولابدّ لي من ردّه فقالت له لبابة: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة ولك أربع بنات واختان وأنا وأمّي وأنت تاسع القوم أشبعنا واكسنا ولعلّ اللَّه يغنيك فتعطيه أو يكافئه عنك ويقضيه. فقال لها: لست أفعل ولا احرق حشاشتي بعد ستّ وثمانين سنة بالنار.

فلمّا كان من الغد على ساعات من نهار، سمعت الخراساني يقول: معاشر الحاجّ ووفد اللَّه من الحاضر والباد! من وجد همياناً فيه ألف دينار وردّه أضعف اللَّه له الثواب، فقام إليه الشيخ فقال له: يا خراساني! قد قلت لك بالأمس ونصحتك وبلدنا واللَّه بلد فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعلّه أن يقع بيد من يخاف اللَّه فقلت: لا فالآن أقول لك: هل تدفع لواجده عشرة دينار فيردّه عليك ويكون له في العشرة دنانير ستر وصيانة؟ فقال الخراساني: بابا لا نفعل، ولكن نحيله على اللَّه عزّوجلّ ثمّ افترقا.

قال محمد بن جرير الطبري فلمّا كان من الغد سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه فقام إليه الشيخ فقال له: يا خراساني! قلت لك أوّل أمس العشر منه وقلت لك أمس عشر عشره فاعطه الآن ديناراً عشر عشر العشر...

قال: بابا لا نفعل، ولكن نحيله على اللَّه. قال فجذبه الشيخ وقال له: تعالِ إلى داري خذ هميانك ودعني أنام الليل وأرحنا من محاسبتك وظلمك، فمشى الشيخ وتبعه الخراساني فتبعتهما فدخل الشيخ وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت، فلمّا أخذ الهميان وأراد الخروج من دار الشيخ فلمّا بلغ باب الدار تأمّل أمر الشيخ الخراساني فرجع وقال له: يا شيخ مات أبي رحمه اللَّه وترك ثلاثة آلاف دينار وقال

ص: 96

لي: اخرج ثلثها ففرّقه على من هو أحقّ الناس عندك وتبيع رحلي واجعله نفقة لحجّك ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار وشددتها في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى هاهنا رجلًا أحقّ به منك، فخذه بارك اللَّه لك فيه ثم ولّى وتركه...

سنة 253- جاء سيل إلى مكّة المشرّفة وأحاط بالكعبة وبلغ قريباً من الركن الأسود ورمى بالدور بأسفل مكّة وذهب بأمتعة الناس وخرب منازلهم...

ترك الحجّ للخوف من الظالم

سنة 312- لم يحجّ في هذه السنة أحد..

سنة 313- لم يحجّ أحد في هذه السنة، خوفاً من القرمطي...

سنة 315- فيها لم يحجّ أحد من العراق ولا من خراسان، للخوف من القرمطي.

سنة 316- فيها لم يحجّ أحد من العراق؛ للخوف من القرمطي...

سنة 323- فيها بطل الحجّ من بغداد؛ لاعتراض القرمطي لهم في الطريق فيما بين القادسيّة والكوفة واستيلائه على أمتعة الناس وأحمالهم...

أخذ المكس (باج) لسفر الحجّ

سنة 327- كان الحجّ قد بطل من سنة 317 إلى هذه السنة، فكاتب أبو عليّ عمر بن يحيى العلويّ الفاطمي من العراق أبا طاهر القرمطي، وكان يحبّه لشجاعته وكرمه أن يخلّي سبيل الحاجّ على مكسٍ يأخذه ويعطيه على كلّ جمل خمسة دنانير وعن المحمل سبعة دنانير، فأجابه إلى ذلك فخرج من العراق فرقتان: إحداهما على طريق الكوفة، والاخرى على طريق البصرة، وأخذ أبو طاهر منهم من كلّ محمل عشرين ديناراً، ومن كلّ جمل خمسة دنانير، ومن كلّ راحلة عشرين درهماً، وهي أوّل سنة مكس الحاجّ فيها، ولم يعهد ذلك في الإسلام فنفذ الحاجّ وليس

ص: 97

معهم أحد من أصحاب السلطان إلّا رجل علويّ من أهل الكوفة، وهو أبو عليّ عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب بكتاب القرمطي إليه وذمامه، وكان أمير القافلة يسيرون بسيره وينزلون بنزوله إلى أن عادوا سالمين.

وكان خرج في هذه السنة مع الركب القاضي أبو عليّ بن أبي هريرة الشافعي، فلمّا طولب بالخفارة- اسم مكان- لوّى رأس راحلته، ورجع، وقال: لم أرجع شحّاً على الدراهم، ولكن سقط الحجّ بهذا المكس.

الحجر الأسود

سنة 339- فيها أعاد القرمطي الحجر الأسود في مكانه... وكانت مدة كينونته عند القرامطة اثنين وعشرين سنة إلّا أربعة أيام...

قصّة تخريب الركن الأسود

سنة 363- فيها بينما الناس في وقت القيلولة وشدّة الحرّ وما يطوف إلّا رجل أو رجلان، فإذا رجل... دنا من الركن الأسود ولا يعلم ما يريد (ومعه معول عظيم)، فأخذ المعول وضرب الركن ضربة شديدة، ثمّ رفع يديه ثانياً يريد ضربه، فابتدره رجل من أهل اليمن حين رآه وهو يطوف، فطعنه طعنة عظيمة بالخنجر، حتّى أسقطه، فأقبل الناس من نواحي المسجد فنظروه، فإذا هو رجل روميّ جاء من أرض روم، وقد جعل له مال كثير على ذهاب الركن، وكفى اللَّه شرّه، فاخرج من المسجد الحرام، فاحرق في النار...

حجّ يضرب به المثل

سنة 366- فيها حجّت جميلة بنت الملك ناصر الدولة صاحب الموصل، وكانت حجّاً يضرب به المثل في التجمّل وأفعال الخير كان معها أربعمائة كجاوة، ولم يدر في أيّها هي... وأفردت للرجالة والمنقطعين ثلاثمائة جمل- وقيل: خمسمائة-

ص: 98

ونثرت على الكعبة حين شاهدتها أو دخلتها عشرة آلاف دينار من ضرب أبيها وما يناب هذا، واعتقت ثلاثمائة عبد وثلاثمائة أمة... وأعطت المجاورين عشرين ألف دينار... وخلفت على طبقات الناس خمسين ألف ثوب.

نحر رجلين من الأفرنج

سنة 578- فيها نحر بمنى- كما تنحر البدن- رجلان من الإفرنج، وهما من الإفرنج الذين توجّهوا إلى المدينة المنورة.

مزار شهيد الفخّ

سنة 605- فيها عمّر السيّد قتادة بن إدريس المشهد الذي به قبر الحسين بن عليّ بن الحسن الحسني صاحب وقعة فخّ، ظاهر مكّة بطريق العمرة.

ص: 99

كان أبو فراس الحلّي ابن أخي الشيخ ورّام أمير الحاج

607- فيها حجّ بالناس محمّد ولد الأمير مجاهد الدين ياقوت، وكان أبوه قد ولّاه الخليفة خوزستان وجعله هو أمير الحاجّ، ومعه ابن أبي فراس الحلّي؛ لأنّه كان صبيّاً.

سنة 610- فيها حجّ بالناس أبو فراس بن جعفرٍ بن أبي فراس الحلّي نيابةً عن أمير الحاجّ ابن ياقوت.

سنة 613- فيها حجّ بالناس حسام الدين أبو فراس بن جعفر بن أبي فراس، نيابةً عن محمد بن ياقوت خادم أمير المؤمنين. (أي الخليفة).

سنة 618- فيها حجّ بالناس من العراق حسام الدين أبو فراس بن جعفر بن أبي فراس ولم يحجّ فيها أحد من بلاد الأعاجم ولا من همذان ولا إصفهان؛ لخوف الطرق من انتشار التتار الكفرة في البلاد وما يليها.

سنة 610 و 621- فيهما حجّ بالناس ابن أبي فراس.

موت جماعة من الحاجّ من الزحام في المسعى

سنة 619- فيها مات بالمسعى جماعة من الزحام؛ لكثرة الخلق، حجّوا في هذه السنة من العراق والشام.

فرار أمير الحاجّ

سنة 622- فيها هرب أمير الحاجّ العراقي حسام الدين أبو فراس الحلّي، وهو ابن أخي الشيخ ورّام، وكان عمّه من الصالحين الأخيار من أهل الحلّة السيفيّة، فارق الحاجّ من مكّة والمدينة وسار إلى مصر، وحمله على ذلك الضائقة وكثرة الخرج في الطريق وعدم الدخل، ولما فارق الحاجّ خافوا خوفاً شديداً فأمّن اللَّه تعالى خوفهم ولم يذعرهم ذاعر في جميع الطريق، ودخلوا آمنين إلّاأنّ كثيراً من الجمال هلكت وفنيت منهم، ولم يسلم منها إلّا قليل.

ص: 100

مولد جعفر

سنة 623- فيها في صفر عمّر بعض المجاورين مولد (جعفر) الصادق رضي اللَّه عنه.

مولد علي عليه السلام

سنة 625- فيها عمّر الخليفة المستنصر العباسي... مولد سيّدنا عليّ بن أبي طالب.

ترك الحج من العراق

سنة 634- فيها لم يحجّ العراقيون بسبب أ نّ التتار قصدوا بغداد، فجمع المستنصر العلماء فسألهم في ترك الحج فأفتوه بذلك، وبطل الحج، وجمع مائة ألف فارس للمرابطة ببغداد إلى أن تمّ أمر اللَّه في تفرقتهم.

سنة 640- فيها حجّ الحاجّ العراقي بعد أن أقام سبع سنين لم يحجّ.

سنة 650- فيها حجّ الناس من بغداد بعد عشر سنين بطل الحجّ فيها منذ مات المستنصر إلى هذه السنة (قاله سبط بن الجوزي في مرآته).

سنة 666- توجّه الحاجّ العراقيون من بغداد إلى مكة، وهي أوّل سنة حجّوا فيها بعد غلبة التتار على بغداد في سنة خمس وخمسين.

مولد الرسول صلى الله عليه و آله

سنة 666- فيها عمّر المظفر مولد الرسول صلى الله عليه و آله.

ألف جنازة

سنة 671- فيها كان بمكّة فناء عظيم.. وعدّ أهل مكّة ما بين العمرتين من أوّل الرجب إلى السابع والعشرين منه ألف جنازة.

ص: 101

كثرة الحاجّ

سنة 677- فيها كان الحاجّ المصري أربعين ألفاً، سوى الشامي والعراقي.

العروة الوثقى المصنوعة

سنة 701- فيها أزيلت البدعة التي كانت بالكعبة الشريفة يقال لها: «العروة الوثقى»، وهي أ نّ بعض الفجرة المحتالين عمدوا إلى موضع عالٍ من جدار البيت المقابل لباب البيت، فسمّوه بالعروة الوثقى، وأوقعوا في قلوب العامّة أ نّ من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى، فأحوجوهم إلى أن يقاسوا في الوصول إليها شدّة، وعلى أن يركب بعضهم فوق بعض، وربما صعد النساء فوق الرجال ولامسوا الرجال ولامسوهنّ، فلحقهم بذلك أنواع من الضرر- دنياً ودين- وسبب ذلك أ نّ الصاحب زين الدين أحمد بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن حِنّا (م 704) قدم إلى مكة في أثناء هذه السنة، فرأى هذه البدعة، فأمر بقلع ذلك المثال، وازيلت تلك البدعة، وللَّه المنّة.

حيّ على خير العمل

سنة 702- فيها سُعِيَ عند الملك الناصر صاحب مصر بأ نّ بمكة المشرّفة جملة من البدع، منها الأذان بحيّ على خير العمل، ومنها إمام زيديّ بالمسجد الحرام، ومنها بعض الفجرة جاؤوا إلى موضع عالٍ من جدار الكعبة المقابل لباب البيت فسمّوه بالعروة الوثقى وأوقعوا في نفوس العامّة أن من ناله بيده فقد استمسك بالعروة الوثقى، فكتب صاحب مصر صحبة أمير الركب بأمر الأشراف امراء مكة ألّا يمكّنوا من الأذان بحيّ على خير العمل، ولا يتقدم في الحرم إمام زيديّ، وألّا يهبط الحاج حتى ينقضوا ما كان في الكعبة ممّا سمّوه العروة الوثقى، ولا يمكن أحد من مسّ المسمار الذي في الكعبة الذي يقال له: «سرّة الدنيا». وكان

ص: 102

يحصل من التعلّق بالعروة ومن التسلّق إلى المسمار عدّة مفاسد قبيحة، فترك ذلك كله، وقد تقدم في السنة قبلها إزالة العروة.

إمام الزيديّة

وإمام الزيدية المشار إليه رجل شريف، كان يصلّي بالزيدية بين الركنين اليماني وحجر الأسود فإذا (كان) صلّى صلاة الصبح دعا بدعاء مبتدع وجهر به صوته وهو: اللّهم صلّ على محمّد وعلى آل بيته المصطفين الأطهار المنتخبين الأخيار الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، اللّهم انصر الحقّ والمحقّين واخذل الباطل والمبطلين ببقاء ظلّ أمير المؤمنين ترجمان البيان وكاشف علوم القرآن الإمام محمّد بن المطهّر بن يحيى بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي بالدين أحيا إمام المتقين وحجاب الضالين، اللّهم انصره وشعشع أنواره واقتل حسّاده، واكبب أضداده- مع زيادات على هذا- وكان إذا صلّى صلاة المغرب دعا أيضاً بهذا الدعاء وجهر به صوته في هاتين الصلاتين.

الاختلاف في رؤية الهلال

سنة 725- فيها وصل عسكر من مصر متوجّهاً إلى اليمن... وعند وصولهم خرج إمام الزيدية من مكّة وأقام بوادي مرّ، وما رجع إليها إلى وقت الحاجّ وعاد بعد الموسم إلى ما كان يفعله.

وفيها (725) وقف الناس بعرفة يومين: السبت والأحد؛ لاختلافٍ في هلال ذي الحجّة، وكان الركب المصري قليلًا والعراقي كثيراً.

خدابنده ملك التتار

سنة 726- فيها لحق الشريف حميضة بن أبي نما الحسني بخدابنده ملك التتار، وأقام ببلاده أشهراً وطلب منه جيشاً يغزو به مكّة، وساعده جماعة من الرافضة على ذلك، وجهّزوا له جمعاً من خراسان، وكانوا مهتمّين بذلك، وكان مقدّمهم

ص: 103

درقندي- وقيل: دقلندي- وهو رافضي من أعيان دولة التتار، وكان قد قام بنصر الشريف حميضة، وجمع له من الأموال والرجال على أن يأخذ له مكّة ويقيمه بها، وأنّهم ينقلون الشيخين: أبا بكر وعمر من جوار النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ إنّ الأمير محمّد بن عيسى... قاتلهم ونهبهم وكسب العسكر منهم أموالًا عظيمة من الذهب والدراهم...

عدم الحجّ من العراق سنين كثيرة

سنة 736- فيها لم يحجّ العراقيّون؛ لموت سلطانهم أبي سعيد بن خدابنده، واختلاف الكلمة بعده، ودام انقطاعهم سنين كثيرة.

الاختلاف في رؤية الهلال ونزاع الفقهاء والقضاة

سنة 747- وفيها كانت الوقفة الجمعة؛ لأنّه ثبت ذلك عند قاضي مكّة بحضور قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة وغيره من حجّاج مصر والشام والعراق، وكان يوم عرفة بمصر والاسكندرية يوم الخميس، فأنكر الشيخ علاء الدين علي بن عثمان التركماني الحنفي على القاضي عزّ الدين بن جماعة، وأفتى أنّ حجّ الناس فاسد ويلزم من وقف بالناس يوم الجمعة بعرفة جميع ما أنفقه الحاج من الأموال، وأنّه يجب على الحجاج كلّهم أن يقيموا محرمين لايطؤوا نساءهم، ولا يمسّوا طيباً، حتى يقفوا بعرفة مرّة أخرى، وشنّع بذلك عند الأمراء، فشقّ ذلك على الأمير من أجل أنّ زوجته حجّت فيمن حجّ... فغضب الشافعية وأنكروا مقالته وردّوها، وقصد ابن جماعة أن يعقد مجلساً في ذلك ويطلب التركماني ويدّعى عليه بما أفتى به، مما لا يوجد في كتب الحنفية، فرجّعه الناس عن ذلك مخافة الشناعة.

سنة 748- فيها حجّ الركب العراقي بعد انقطاعه عن الحج إحدى عشرة سنة، وكان الحجاج كثيراً من العراق بخلاف مصر والشام.

ص: 104

استتابة إمام الزيدية

سنة 755- فيها في رمضان عقد لكبير الزيديّة أبي القاسم بن محمّد بن حسين بن الشُقيف مجلسٌ بحضرة القاضي عزّ الدين بن جماعة واستتيب فيه، وكتب خطّه أ نّه يبرأ إلى اللَّه عزّوجلّ من اعتقاد أهل البدع من الزيديّة والإماميّة وغيرها، وأ نّه يواظب على الجمعة والجماعة، وإن خرج عن ذلك فعل به ما تقتضيه الشريعة المطهّرة، وذلك بعد سؤاله لأهل السنّة وخضوعه لهم، وكان سبب ذلك خوفاً حصل له من ضرب الأمير عمر شاه لعليّ مؤذّن الزيدية حتى مات في موسم السنة التي قبلها.

وفيها حضر أبو القاسم محمّد بن أحمد اليمني إمام الزيدية المطلوب في السنة الخالية إلى قاضي القضاة عزّ الدين بن جماعة، تائباً مما كان عليه من مذهب الزيدية، فعقد له مجلس بالحرم، حضره أمير الركب وعامّة أهل مصر ومكّة، وأشهدهم أنه رجع عن مذهب الزيدية وتبرأ إلى اللَّه من إباحة دماء الشافعية وأموالهم، وأ نّه يواظب على صلاة الجمعة والجماعة مع أئمة الحرم، وإن خرج عن ذلك فعل به ما تقتضيه الشريعة وكتب خطه بذلك.

الاختلاف في رؤية الهلال

سنة 757- فيها وقف الناس بعرفة يومين.

وفيها حجّ بعض العجم، وتصدّق بذهب كثير في الحرمين على أهلهما.

تيمور لنگ

سنة 803- فيها لم يحجّ أحد من الشام على طريقتهم المعتادة لخرابها، ولما أصاب أهل دمشق من القتل والعذاب والأسر وإحراق دمشق بعد أن صودر أهلها وكانوا مسلمين البلاد بأمان، والفاعل لذلك أصحاب تيمورلنگ صاحب الشرق، ودام انقطاع الحجاج الشاميّين من هذا الطريق سنين ثمّ حجّوا.

ص: 105

مزار شهيد الفخّ

سنة 805- فيها في صفر عمّر السيّد حسن بن عجلان المشهد الذي به قبر الحسين بن عليّ بن الحسن الحسني بفخّ ظاهر مكّة بطريق التنعيم.

وفيها لم يحجّ أحد من الشام ولا العراق ولا اليمن.

صلاة المغرب والأئمّة الأربعة

سنة 811- فيها في الموسم أبطل الناصر فرج صلاة المالكي والحنبلي والحنفي في صلاة المغرب؛ لأنّهم كانوا يصلّونها في وقت واحد، وبسبب اجتماعهم في هذه الصلاة يحصل للمكيّين لبس كثير بسبب التباس أصوات المبلّغين واختلاف حركات المصلّين، وهذا الفعل ضلال في الدين، وصار الشافعي يصلي بمفرده الناس المغرب، واستمرّ إلى موسم سنة 816.

الاختلاف في رؤية الهلال

سنة 813- وقف الناس بعرفة يومين؛ لاختلافٍ وقع في تاريخ أوّل الشهر، وأوقفت المحامل في اليوم الأوّل يوم التروية على مقتضى رؤية أهل مكّة بعرفة على العادة، ونفروا بها وقت النفر الأوّل المعتاد إلى قرب العلمين، ثمّ ردّت إلى مواضعها.

عدم الحج من العراق سنين

سنة 813- فيها لم يحجّ أحد من العراق، لأنّ فيها- على ما يقال- قتل صاحب بغداد أحمد بن أويس ... ودام انقطاع الحجّاج بمحمل بغداد سنين بعد هذه.

من شيراز

سنة 814- فيها لم يحجّ العراقيون، وحجّ من العراق ناسٌ قليل من شيراز وغيرها على طريق الحسا (الأحساء) والقطيف..

ص: 106

سنة 815- فيها أيضاً لم يحجّ ركب العراق وحجّ ناس من العراق من شيراز وغيرها على طريق الحسا (الأحساء) والقطيف.

الجمل والحجر الأسود

سنة 815- فيها قيل في جمادى الآخرة: كان جملٌ لرجل وكان يكلّف فوق طاقته فلمّا كان يوماً هرب إلى المسجد الحرام ودخله ولم يزل يطوف بالبيت حتّى كمل له ثلاثة أسابيع مع أ نّ الناس يريدون إمساكه وإخراجه من المسجد فما قدروا على ذلك، وكان إذا دنا منه شخص دقّه وغلبه، فلمّا قضى الثلاثة الأسابيع، قال الناس بعضهم لبعض: اتركوه، فتركوه فجاء إلى الحجر الاسود فقبّله ساعة، ثمّ راح إلى عند مقام الحنفية تجاه الميزاب فبرك عنده، ثمّ بكى ساعة وألقى نفسه على الأرض، فمات فحمل إلى ما بين الصفا والمروة.

اختلاف كثير في رؤية الهلال

سنة 817- فيها حصل اختلاف كثير في تعيين الوقفة؛ لأنّ جمعاً كثيراً من القادمين إلى مكّة في البرّ والبحر وبعض من بمكّة المشرّفة ذكروا أ نّهم رأوا الهلال لذي الحجّة ليلة الإثنين، ولم ير ذلك أهل مكّة ولا غالب الركب المصري، فوقع الاتّفاق على أ نّ الناس يخرجون إلى عرفة في بكرة يوم الثلاثاء تاسع ذي الحجّة على مقتضى قول من قال: إنّه رأى بالاثنين، وأن يقيموا بعرفة ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء، ففعل ذلك، وسار معظم الحاجّ إلى عرفة بعد طلوع الشمس من غير نزولٍ بمنى، فبلغوها بعد دخول وقت العصر، فتخلّف غالب المكّيين وأهل اليمن بمكّة إلى وقت الظهر، وتوجّهوا إلى عرفة من غير نزولٍ بمنى... فوصلوا إلى عرفة وأقاموا بها ليلة الأربعاء ويوم الأربعاء إلى الغروب، ونفروا مع الحجّاج إلى المزدلفة، وباتوا بها إلى قرب الفجر، ثمّ رحلوا إلى منى بعد رحيل المحامل، والمعهود أ نّها لا ترحل إلّابعد الفجر، وكذا غالب الناس ففاتتهم الفضيلة... وانتهوا إلى منى في بكرة يوم الخميس...

ص: 107

مطر عظيم

سنة 825- فيها في آخر ليلة السبت سابع عشر ذي الحجّة وقع مطر عظيم بقوّة عظيمة، فلمّا كان وقت صلاة الصبح صلّى الإمام الشافعي بالناس أمام زيادة دار الندوة بالجانب الشامي من المسجد الحرام؛ لتعذّر الصلاة عليه بمقام إبراهيم وما يليه هنالك... وصار المسجد الحرام مغموراً بالماء الكثير المرتفع نحو قامته بحيث قارب عتبة باب الكعبة... وما مات فيه أحد فيما علمناه، ولكن مات في هذه الليلة أربعة نفر بمكان بأسفل مكّة بصاعقة وقعت عليهم هناك...

وباء عظيم

827- فيها كان وباء عظيم عامّ دام أشهراً لعلّ الموتى فيه ممن يعرف اسمه ومكانه يزيدون على ألفين أو يقاربون ذلك، وكان كثيراً ما يجمع من الجنائز عقيب صلاة الصبح أو العصر سبع أو أكثر، وكان يموت في كثير من الأيّام بضع وعشرون في كلّ يوم أو أكثر، غير الموتى الذين يؤتى بهم من بادية مكّة إليها، وكان ابتداء كثرة الموتى بهذا الفصل يوم الثامن من صفر.

الحج من مشهد علي عليه السلام

سنة 831- فيها حجّ محمل من العراق ومعه ركب قليل، أربعمائة جمل تحمل الحاجّ من مشهد عليّ، والمجهّز له سلطان الحلّة حسين بن عليّ بن السلطان أحمد بن اويس، بعد أن انقطع محمل العراق قبل هذه السنة مدّةً تزيد على عشر سنين..

سنة 832- فيها في ليلة عاشوراء وجدت نجاسة في مقام إبراهيم- إمّا عذرة أو خرا- فغسّل المقام ونظّف وطيّب (1).


1- روى السنجاري في حوادث سنة 1087 أنّه لما كان يوم الخميس ثامن شوّال من السنة المذكورة أصبح الناس فإذا الكعبة المشرّفة ملطّخة بعذرة أو بأشبه العذرة عن جميع جوانبها، وكذلك الحجر الأسود والركن اليماني، فاتّهم بهذا الفعل الشيعة، فاشتدّت حمية الأتراك المجاورين، فأخذوا من الحرم خمسة أنفس من العجم بعد شروق الشمس، و أوقعوا فيهم الضرب والرجم بالحجارة، ثمّ الضرب بالسيوف، وألقوهم على بعضهم ولم يطالب فيهم أحد.

ص: 108

الموت من الحرّ والعطش

سنة 833- فيها أصاب الحاجّ في قدومهم بين الإزلم وينبع (في طريق المصري إلى الحجّ) شدّةً عظيمة من الحرّ والعطش، مات فيها ثلاثة آلاف نفس، ويقال:

خمسة آلاف.

موت نحو الألف

سنة 834- فيها في يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة، وصلت الرجبية إلى مكّة المشرفة في جماعة كثيرة ممن يريد الحج والعمرة، منهم شيخنا العلامة تقيّ الدين أحمد بن علي المقريزي رحمه اللَّه، وكانت عدّة أحمالهم نحو ألف وخمسمائة حمل، ومقدّمهم سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدّة، فوجدوا ما بين الوجه واكرة (هما في طريق المصري الى الحجّ) عدة موتى ما بين رجال ونساء ممن هلك بالعطش من الحاجّ، فدفن منهم نحو الألف.

مولد جعفر عليه السلام

سنة 835- فيها في جمادى الآخرة عمّر الخواجا جمال الدين محمّد بن عليّ الرومي مولد جعفر الصادق (الصحيح جعفر بن أبي طالب) بدار أبي سعيد.

السيل العظيم

سنة 837- فيها في ليلة الجمعة سادس عشر جمادى الاولى حصل مطر قويّ سالت منه الأودية... فداخل المسجد الحرام صار الماء بحراً إلى عتبة باب إبراهيم... وتهدم في هذه الليلة دور كثيرة فقول الكثر ألف وزيادة ومات تحت الردم إثنا عشر إنساناً وغرق ثمانية أنفس ودلف (أي انصبّ منه الماء) سقف الكعبة، فابتلّت الكسوة التي بداخلها وامتلأت القناديل التي بها.

وحدث عقيب هذا السيل بمكّة وأوديتها وبأطراف اليمن وباءٌ واشتعل الوباء في شعبان حتّى بلغ بمكّة في اليوم عدّة من يموت خمسين.

ص: 109

الاختلاف في رؤية الهلال

سنة 850- فيها وقع الاختلاف في الوقفة، شهد شخص من المغاربة- ذكر أ نّه من أهل العلم والدين وزكّي- أ نّه رأى الهلال لذي الحجّة ليلة الخميس، وقال القاضي كاتب السرّ أ نّ اخته- زوجة الملك الظاهر- رأت الهلال ليلة الخميس، فقال القاضي الشافعي لكاتب السرّ: ينبغي أن تتوجّهوا من مكّة صبح يوم الجمعة، ولا تبيتوا بمنى ليلة السبت، بل تكونوا ليلة السبت بعرفة فامتنع من ذلك وقال: لا يسعني ذلك أبداً، ثمّ لمّا وصل الركب الشامي ذكروا أنّ قاضي محملهم ثبت عنده بشهادة من يثق به أنه رأى هلال ذي الحجّة ليلة الخميس، فوقف الناس يوم الجمعة ولم تطمئن قلوب غالب الناس بالوقوف يوم الجمعة. واللَّه أكرم من أن يردّ هذا الوفد العظيم خائبين.

الوقوف يومان

سنة 859- فيها وقف الناس بعرفة يومين، لاختلافٍ وقع في تاريخ الشهر وأوقفت المحامل في اليوم الأوّل يوم الأربعاء يوم التروية على مقتضى رؤية أهل مكة بعرفة على العادة، ونفروا بها وقت النفر المعتاد إلى مواضعها، وباتوا بعرفة وأقاموا بها يوم الخميس، ووقفوا بها عصر يوم الخميس ونفروا.

ص: 110

الحجّ بعد سبعة عشرة سنة

سنة 871- فيها حجّ العراقيون بمحمل على العادة بعد انقطاعهم سبع عشرة سنة وكان وصولهم من المدينة الشريفة وقدومهم إلى مكّة في اليوم السابع من ذي الحجة، وعادوا إلى المدينة أيضاً.

السيد تاج الدين

سنة 875- فيها مات السيّد تاج الدين عبد الوهّاب بن عمر بن الحسين بن أحمد بن الحسن بن حمزة بن محمّد بن ناصر بن علي بن الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الحسيني الدمشقي، في عصر يوم الأحد ثاني جمادى الاولى، وصلّي عليه صبح يوم الإثنين ودفن بالمعلاة. (راجع الضوء اللامع 5: 106).

العمرة الرجبية

سنة 848- فيها لمّا كان في ظهر يوم الإثنين تاسع عشر شعبان، وصل السيّد أبو القاسم من وادي الآبار إلى مكّة المشرّفة، ووصل معه قاصده الشريف صعيب الينبعي، وأخبر أ نّ الرجبية كبيرة أربعة آلاف جمل، وهي ركبان، مقدّمها الأمير كُزُل المعلم أمير الترك بمكّة...

شابّ من التركمان

سنة 850- فيها حجّ محمل من بغداد في هيئة عظيمة... في ركبٍ نحو ألف راحلة (إبل أو غيرها)، لم يكن فيها كجاوة ولا محارة (صندوق كالهودج)، وأميرهم شخص شاب من التركمان المغل يسمّى جعفراً، وكانوا لما وصلوا ركبة (بين مكة والطائف) خرج عليهم عرب يسمّون: مطير، في مائة وخمسين فارساً ونحو ألفي راجل، أرادوا أخذ الحاجّ فجادلهم الأمير، وكان في نحو خمسمائة، فظهر

ص: 111

من الأمير شجاعة عظيمة ظهر بها أ نّه من فرسان الإسلام فنصرهم اللَّه على العرب وردّ كيدهم في نحورهم.

طاعون في جدة

سنة 882- في أوائلها وقع بجدّة- ساحل مكّة- طاعون، مات به جماعة كثيرة من أهلها، حتّى غلقت أبواب كثيرة، وكان يصلّى في بعض الأيّام على الستين ميّتاً في الجامع، وبلغ عدّة من يموت في كلّ يوم مائة وأكثر.

أيضاً الاختلاف في رؤية الهلال

سنة 883- فيها في يوم الخميس سابع ذي الحجّة اجتمع الشريف والقضاة عند أمير الحاجّ المصري مرتين؛ بسبب رؤية هلال ذي الحجّة ما هو؟ أو متى تكون الوقفة؟ وزعم أمير الحاجّ وبعض الجهّال أ نّ بعض الشاميين رآه ليلة الخميس فتكون الوقفة الجمعة وأهل مكّة يقولون: إنّه لم يره بمكّة أحد ليلة الجمعة، لكن رؤي في بعض الآفاق، فتكون الوقفة السبت- وكان من كلام الغرباء في غير المجلس أ نّ أهل مكّة لا يحبّون وقفة الجمعة فإنّ الغلاء عندهم بل ويغرم السلطان... قاتلهم اللَّه فإنّ هذا افتراء لا يعرف- وانفضوا في المرّة الاولى من عند أمير الحاجّ من غير فصل، وفي المجلس الثاني رسم أمير الحاجّ أن يقفوا مرّتين: يوم الجمعة ويوم السبت، ويتوجّه الناس منه إلى يوم الخميس، فتوجّه كثير من الناس يوم الخميس، وبعضهم يوم الجمعة، وخطب الخطيب بمكّة يوم الجمعة ولم يكن بها إلّا اناس قليل ووقف من حضر الموقف يوم الجمعة ويوم السبت مرّتين، كما رسم أمير الحاج، فلا قوّة إلّا باللَّه العلي العظيم.

ص: 112

أسماء بنت عميس

شخصيات من الحرمين الشريفين (21)

أسماء بنت عميس داعية تحتذى

حسن محمّد

إنّ للنساء المؤمنات الصالحات تاريخاً رائعاً لم تنسه أقلامه ومصادره، وكيف ينسى وقد غدا تاريخاً مثمراً متواصلًا جعل منهنّ أمثلةً تحتذى، ونماذج تقتدى؟!

ومن تلك النساء، مؤمنة صابرة حصلت على أوسمة متعددة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منها وسام الإيمان حيث قال:

«الأخوات الأربع مؤمنات: ميمونة، وأمّ الفضل، وسلمى، و أسماء».

صحابية جليلة، بعد أن عرفت بصبرها، وثباتها، ووعيها، وعبادتها، وبصيرتها، ومعرفتها في تأويل الرؤيا، وحفظها لكثير من الأحاديث النبوية وروايتها، وتسجيلها للعديد من المواقف النبيلة، نالت لقباً كبيراً ووساماً رفيعاً، طالما اشرأبت له الأعناق، إنه (لقب الهجرتين) وهو من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً، حيث إنها عرفت بأنها صاحبة الهجرتين، فهي أول النساء المهاجرات إلى ديار الحبشة، حيث ملكها العادل، ثم يثرب مدينة رسول الرحمة محمد صلى الله عليه و آله.

غدت هذه المرأة أنموذجاً يقتدى، ومثالًا يحتذى، كما قلنا بحق وجدارة، فهي زوجة وفية صالحة، عرفت بصبرها ووفائها، لبيوت حلّت فيها زوجة وأمّاً...

ص: 113

وهي أمّ مدرسة نقالة أينما كانت، وحلّت في مكة، وفي الحبشة، وفي يثرب، بكل ما تحمله هذه المدرسة، من دروس قيمة، ومفاهيم صادقة، ومبادئ عالية...

وهي داعية مخلصة، هنا وهناك، حفلت حياتها بمفاصل قيمة، وألوان زاهية، وأغصان مؤرقة، راحت تثمر دروساً في بناء المؤمنة الداعية، والأسرة المسلمة الصادقة، والأبناء الصالحين، الذين أحاطتهم ببيئة نظيفة، وتربية سليمة...

وإن قراءة حياتها، كما حياة الأخريات من الصالحات المربيات، يؤكد ضرورة وأهمية التواصل الإيجابي بينهنّ ومجتمعهن، بل ومجتمعات أجيال أخرى جاءت بعدهن، وإن دل هذا فإنه يدل على عظم الرسالة السماوية، التي صنعتهنّ بعد أن وفقن للإيمان بها، وصرن أعضاء عاملات في مدرسة النبوة المقدسة، والصحبة المباركة، وما أعظمها من صحبة خرّجت نخباً صالحة من الرجال والنساء.

نسبها:

هي أسماء بنت عميس بن معد بن تيم بن الحارث- أو معد بن الحارث بن تيم- بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن سعد بن مالك بن نسر- أو بشير- بن وهب اللَّه بن شهران بن عفرس بن خلف بن أفتل وهو خثعم (1).

هذا نسبها من أبيها.

وأمّها: هند بنت عوف بن زهير بن الحارث الكنانية، أو هي هند بنت عوف بن الحارث، وهو حماطة بن ربيعة بن ذي جليل بن جرش، واسمه منبه بن أسلم بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن


1- أنظر: تاريخ الطبري 2: 351، أحداث سنة: 13؛ ومقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الإصفهاني 35، ترجمة محمد بن جعفر.

ص: 114

عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن غريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير، وهو العرنجج بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، كما في مقاتل الطالبيين، أو هي بنت عوف بن زهير بن الحارث ابن حماطة... كما في الطبقات.

وهند هذه التي هي أم أسماء بنت عميس التي قيل فيها:

الجرشية أكرم الناس أحماء. و جرش من اليمن.

وابنتها أسماء بنت عميس، تزوجها جعفر بن أبي طالب، ثم أبوبكر، ثم أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

وابنتها الأخرى، ميمونة أمّ المؤمنين، زوجة النبي صلى الله عليه و آله، وهي آخر امرأة تزوجها صلى الله عليه و آله.

وابنتها الأخرى، لبابة أمّ الفضل أخت ميمونة، أم ولد العباس بن عبدالمطلب.

وابنتها الأخرى، سلمى بنت أم ولد، حمزة بن عبدالمطلب، وقد ولدت له ابنته عمارة.

إذن، فأحماؤها، أي أحماء هذه الجرشية هم: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب، والحمزة، والعباس، وجعفر، وأبوبكر، ومن أحمائها أيضاً الوليد بن المغيرة المخزومي، فأمّ خالد بن الوليد، أمّ الفضل الكبرى بنت الحارث أخت أسماء لأمها.

وميمونة أمّ المؤمنين، أبوها الحارث بن الجون بن بجير بن الهرم بن رويبة بن عبد اللَّه بن هلال بن عامر، وأم المؤمنين هذه هي أخت أسماء من أمّها.

وأخوات ميمونة لأمها، هنّ عشر أخوات، وست أخواتها لأبيها (1).


1- أنظر: مقاتل الطالبيين 36- 35، ترجمة محمد بن جعفر؛ و ابن سعد في الطبقات 8: 94، 205، 6: 86؛ والإصابة 8: 202- 191، 18: 78، وفي غيرها من المصادر التاريخية.

ص: 115

زواجها:

وقع اختلاف بينها وأختها سلمى، حيث قيل: إن أسماء بنت عميس كانت قبل الإسلام تحت حمزة بن عبد المطلب ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، أنجبت له ابنة «أمة اللَّه»، ثم من بعده كانت تحت شداد بن الهادي الليثي، وأنجبت له «عبداللَّه وعبد الرحمن» ولكن ردّت هذه الدعوى بأنّ المرأة التي كانت تحت حمزة وشداد هي سلمى بنت عميس أختها، وليس أسماء.

والشي ء المتيقن أنها تزوجت ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، جعفر الطيار بن أبي طالب رضى الله عنه، والذي كان شبيهاً به صلى الله عليه و آله، فقد كان صلى الله عليه و آله يقول لجعفر: «أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي» (1).

فكان ذلك يسرّ أسماء، ويسعدها عندما ترى زوجها شبيهاً بأحسن الخلق وأفضلهم وأحبهم إليها، فكان يحرّك فيها مشاعر الشوق لرؤية النبي الكريم صلى الله عليه و آله..

وقد أسلمت مع زوجها جعفر- الذي ظلّ طيلة حياته معها يبادلها المحبة والوفاء والرفقة الصالحة حتى في مسيرتهما الإيمانية- في وقت واحد ومبكر من عمر الدعوة، حتى يقال: إن إسلامهما كان قبل دخول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دار الأرقم بمكة.

أسماء في بلاد الهجرة الأولى:

ما إن قرّر زعماء ومشركو قريش معاقبة المؤمنين، حتى أذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكانت أسماء وبرفقة زوجها جعفر، وبعد فترة قليلة من زواجهما، واحدةً ممن شدّ الرحال هجرةً في سبيل اللَّه تعالى، و تنفيذاً لطلب الرسول صلى الله عليه و آله، و فراراً بدينهم وأنفسهم، فوثقت هجرتهما الحياة بينهما، وملأت عليهما أجواء إيمانية، جعلت منهما نعم الزوجين، المؤمنين،


1- مختصر تاريخ دمشق 6: 69 ترجمة جعفر بن أبي طالب.

ص: 116

المهاجرين، المجاهدين، الصابرين، الصادقين، بعد أن أدركا أن الآخرة خير من الأولى.

إذن، ما إن وصل المهاجرون إلى بلاد الحبشة، حتى كانت أسماء وزوجها جعفر، وهو أمير المهاجرين، وابنهما عبد اللَّه على قول، في مقدمة ذلك الركب العظيم، وكانت واحدة من ست عشرة امرأة مهاجرة... ليقيموا في بيت بسيط تكتنفه آلام الغربة، والبعد عن الرسول صلى الله عليه و آله وصحبته المباركة، وعن الوطن والأحبة، وتملؤه المودة، والمحبة، والاحترام، لتجعل منهما مثالًا للزوجين الصالحين؛ حقاً لقد ملأ هذا الصحابي الجليل، حياة زوجته أسماء بكل معاني الخير، مما حداها أن تكون شريكته الصالحة في حمل مسؤولية هذا الدين الحنيف، ونشر دعوته في مهجرهما الجديد؛ إضافةً إلى تحملها تربية أولادها الثلاثة الذين منّ اللَّه تعالى عليهما بهم، فقد أنجبت لجعفرفي بلاد الحبشة: عبداللَّه، و محمداً، وعوفاً، وكان ولدها عبد اللَّه أكثر شبهاً بأبيه الذي كان شبيهاً بالنبي الكريم صلى الله عليه و آله فكانا كلما اشتاقا لرؤية رسول الرحمة صلى الله عليه و آله ملئآ عيونهما منه.

بقيت هذه الصحابية المؤمنة الصابرة وزوجها في الحبشة خمس عشرة سنة أو أقلّ من هذا بقليل، وقعت فيها أمور عديدة واصل فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعمه لهم، عبر موفده عمرو بن أمية الضمري رضى الله عنه يتفقدهم، ويستوضح ما عندهم، ويعلمهم أحكام اللَّه، وما ينزل من آيات قرآنية.

وفي المقابل كانت قريش هي الأخرى، ترسل وفودها إلى ملك الحبشة، لتحثه على تسليمهم وإعادتهم إليه، فقد جاء وفد من قريش إلى ملك الحبشة (النجاشي) يطالبونه بإعادة المسلمين إلى مكة، وكان يضم عمرو بن العاص، وكانوا يقولون له:

«قد ضوي إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم

ص: 117

أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم».

فما كان من النجاشي إلّا أن أرسل بطلب وفد المسلمين، يسألهم بشأن هذا الأمر، فتقدم جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه، زوج أسماء، فقال:

«أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، حتى بعث اللَّه إلينا رسولًا منا، فدعانا إلى اللَّه لنوحّده ونعبده، ونخلع الأوثان، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده، لانشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام...»

فتشوّق النجاشي لسماع المزيد؛ فسأله عما جاء به النبي صلى الله عليه و آله من عنداللَّه، فما كان من جعفر إلّا أن أسمعه من سورة مريم...

فبكى النجاشي حتى أخضلّت لحيته، وبكت معه أساقفته، فقال النجاشي:

«إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، إنطلقا، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما ولا يكيدهم أحد».

فكان ذلك سبباً في إسلام النجاشي، وكان النجاشي سبباً في إسلام وفد قريش، والذي كان من بينهم عمرو بن العاص.

وقد سمّى النجاشي ولده (عبد اللَّه) على اسم ابن جعفر وهو عبد اللَّه، وليس هذا فقط، بل إنّ أسماء قد أرضعته مع ولدها عبد اللَّه بن جعفر، وبالتالي فهما أخوان بالرضاعة، وهذا دليل على عمق العلاقة بين العائلتين: عائلة النجاشي وعائلة جعفر.

إنّ ذلك كان اختباراً عظيماً لهذه الفئة المؤمنة، وأسماء منها تؤدي رسالتها كأفضل داعية قولًا وعملًا وسلوكاً...

هجرتها الثانية:

كم كان سرور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عظيماً حين عادت أسماء وجعفر من الحبشة إلى المدينة المنورة، وهو يعيش فرحة فتح خيبر، وقد عبّر عن فرحتيه، فقال صلى الله عليه و آله بعد

ص: 118

أن قبّل بين عيني جعفر:

«ما أدري بأيّهما أنا أسرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!!» (1).

هي و الخليفة الثاني:

ما إن عادت من هجرتها إلى الحبشة، التي تأخرت فيها، حتى وفقت وزوجها وأولادها إلى هجرة أخرى، وهذه المرة إلى حيث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة، وما إن التقت بحفصة زوج النبي صلى الله عليه و آله حتى دخل عليهما عمر بن الخطاب قائلًا:- «لقد سبقناكم بالهجرة فنحن أحقّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله منكم أو: يا حبشية، سبقناكم بالهجرة!

فغضبت رضى الله عنه وقالت:

«أي لعمري لقد صدقت! كنتم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطعم جائعكم، ويعلّم جاهلكم، وكنّا البعداء الطرداء. أما واللَّه لآتين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلأذكرن ذلك له، ولا أنقص ولا أزيد في ذلك» فذكرت ذلك له، فقال صلى الله عليه و آله:

«لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي! وهاجرتم إلّي»،

أو «للناس هجرة واحدة، ولكم هجرتان».

وعن البخاري في صحيحه عن أبي موسى، أنه قال:

بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و آله ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، فركبنا فالقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب، فأقمنا معه، حتى قدمنا جميعاً، فوافقنا النبي صلى الله عليه و آله حين افتتح خيبر، وكان أناسٌ من الناس يقولون لنا- يعني أهل السفينة-:

سبقناكم بالهجرة!

ودخلت أسماء بنت عميس- وهي ممّن قدم معنا- على حفصة زوج النبي صلى الله عليه و آله


1- السيرة النبوية لابن هشام 3: 4.

ص: 119

زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر:

الحبشية هذه، البحرية هذه؟

قالت أسماء: نعم.

قال: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحقّ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله منكم!

فغضبت وقالت: كلّا واللَّه، كنتم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في الدار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في اللَّه وفي رسوله صلى الله عليه و آله وأيم اللَّه، لا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى أذكر ما قلت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأسأله، واللَّه لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.

قال: «فما قلت له؟»

قَالَت: قلت له: كذا وكذا.

قَال صلى الله عليه و آله: «ليس بأحق بِي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

قَالَت: فَلَقَد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالًا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شي ء هم به أقرح ولا أعظم في أنفسهم، مما قال لهم النبي صلى الله عليه و آله.

فقد قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لها- رضوان اللَّه تعالى عليها- ولمن كان معها في الهجرة بالسبْق على عمر وهجرته، وهكذا جاهدت أسماء لتثبت حقها الشرعي

ص: 120

وحقّ إخوانها الذين صحبوها في المشوار الطويل هجرةً ودعوة، وها هي تبشِّر وتَنْشُر هذا الأمر بين من كانوا، يأتونها جماعات للسؤال عن حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقضائه لهم بالسبْق في الهجرة والجهاد.

فسرّت بقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذا وأثلج صدرها، ولم يكن ذلك من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تطييباً لخاطرها، وإراحةً لنفسها فقط، بل كان منه صلى الله عليه و آله توضيحاً للحقيقة، وتبييناً للواقع العظيم الذي عاشوه، والهدف الكبير الذي حملوه، وقطعاً لدابر الفتنة، فهم تركوا مكة فارّين بدينهم إلى الحبشة، فكانت هجرة، وهم كذلك انتقلوا من بلاد الحبشة إلى المدينة المنورة، فهذه هجرة أخرى!!!

الامتحان الكبير:

حلّت أسماء في بيت النبوة مع زوجات النبي صلى الله عليه و آله وبناته، فيما راح جعفر يشهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مواقفه الجهادية... إنه ابتلاء آخر لإيمان أسماء، وصبرها، وصمودها، وثباتها، إنه يوم مؤتة ووقعتها، يوم الشهادة، شهادة من؟! شهادة زوجها جعفر، وهو يقارع أعداء الإسلام ونبيه...

حزن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حزناً شديداً حين وصله خبر استشهاد عزيزه وحبيبه جعفر، الذي كان يحظى بمعزة خاصة، ومنزلة رفيعة عنده صلى الله عليه و آله، فهو شبيهه وداعيته الثابت الواعي والمجاهد الواعد، فكان يستحق منه ذلك الألم والحزن...، جاء صلى الله عليه و آله أسماء، وهو يحمل إليها نبأ استشهاد حبيبها، ورفيق إيمانها وهجرتها، وها نحن نقرأ ما قالته رضوان اللَّه تعالى عليها.

«أصبحتُ في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولقد هنأت (أي دبغت أربعين إهاباً من أدم) وعجنت عجيني، وأخذت بنيّ فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال:

«يا أسماء: أين بنو جعفر؟» فجاءت بهم، فقبّلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبكى، فأحست أسماء بحدوث شي ء لزوجها، فسألت النبي صلى الله عليه و آله، فقال لها:

ص: 121

«قتل جعفر اليوم»

فقامت تصيح وتنحب، حتى اجتمع عليها الناس يهدؤنها من روعها.

فقال صلى الله عليه و آله:" يا أسماء! لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً"، فكان حزنها عظيماً وبكاؤها مريراً...

وفي خبرٍ آخر، إنه لما نعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جعفراً إلى زوجه أسماء بنت عميس، قامت وصاحت وجمعت الناس، فدخلت عليها فاطمة بنت النبي صلى الله عليه و آله وهي تبكي وتقول: وا عمّاه!

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: على مثل جعفر فلتبك البواكي!!!

فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطمئنها قائلًا:

«يا أسماء! هذا جعفر بن أبي طالب، قد مرّ مع جبريل وميكائيل»، فرد عليه السلام، ثم قال صلوات اللَّه عليه: فعوّضه اللَّه عن يديه جناحين يطير بهما حيث شاء.

وورد إنه صلى الله عليه و آله توجه بالدعاء قائلًا: أللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبداللَّه.

ثم رجّع- بتشديد الجيم- وقال: إصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم.

وقد نقل الصدوق عن الإمام الصادق عليه السلام: إنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر فاطمة أن تأتي أسماء بنت عميس، ونساؤها وأن تصنع لهم طعاماً ثلاثة أيام، فجرت بذلك السنّة.

وما إن ذكرت أسماء يتم أولادها حتى قال صلى الله عليه و آله لها:

«العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة». رواه أحمد.

ثم رثته رضوان اللَّه عليه ببيتين من الشعر، وهو ما عثرت عليهما:

فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك و لاينفك جلدي أغبرا

فللَّه عيناً من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهياج وأصبرا

وهي القائلة: ما رأيت شاباً من العرب، كان خيراً من جعفر.

ظلّت أسماء صابرة وفية لذكرى زوجها، وحبيبها، ورفيق دربها، يظهر كل هذا وغيره من خلال انكبابها على رعاية أولادها، وتنشئتهم تقرؤهم القرآن، وتعلّمهم مبادئه، ومفاهيمه، وأحكامه، ولم يشغلها أولادها عن الدعوة إلى اللَّه تعالى بين أخواتها المؤمنات... وبقيت مجالسها عامرة بذكراللَّه تعالى.

وفاؤها لفاطمة الزهراء عليها السلام:

كانت تتوفر على حبّ كبير، ومودة عالية لسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء عليها السلام، ونورد هنا بعض ما روي في حبّها وتعلقها المتواصل بسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام:

فقد روي في تزويج فاطمة عليها السلام: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر النساء بالخروج، فخرجن مسرعات إلّا أسماء فقد تأخرت، فدخل النبي صلى الله عليه و آله.

وهنا تقول أسماء:

" فلما خرج رأى سوادي، فقال: مَن أنتِ؟

فقلت: أسماء بنت عميس.

قال: ألم آمرك أن تخرجي؟!!

فقالت: بلى يا رسول اللَّه، وما قصدت خلافك، ولكن كنتُ قد حضرت وفاة خديجة، فبكتْ عند وفاتها، فقلتُ لها: تبكين وأنت سيدة نساء العالمين، وزوجة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومبشّرة على لسانه بالجنة؟!

فقالت: ما لهذا بكيتُ.. ولكنّ المرأة ليلة زفافها لابدّ لها من امرأة، وفاطمة حديثة عهد بصبا، وأخاف أن لا يكون لها مَن يتولّى أمرها.

فقلت لها: يا مولاتي، لك عهد اللَّه عليّ إن بقيت إلى ذلك الوقت، أن أقوم مقامك في ذلك الأمر.

ص: 122

ص: 123

فبكى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

" أسأل اللَّه أن يحرسك يا أسماء من فوقك، ومن تحتك، ومن بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، من الشيطان الرجيم".

وروي أيضاً أنها كانت حاضرة عند سيدة نساء العالمين فاطمة، في ولادة الإمام الحسن عليه السلام كما في الرواية التالية...

تذكير مهم:

وهنا لابدّ لي من تسجيل هذا التذكير حول حضور كلّ من أسماء بنت عميس وزوجها جعفر زفاف سيدة نساء العالمين لعليّ عليه السلام، وهي أن أسماء هاجرت إلى الحبشة مع رفاق دربها، وعلى رأسهم زوجها جعفر الطيار، بعد البعثة النبوية، وقبل الهجرة النبوية إلى المدينة، في السنة الخامسة، وكانوا آخر العائدين هي وزوجها وصحبه إلى المدينة دار هجرتهم الثانية، سنة 7 هجرية، فيما كانت سنة زواج سيدة نساء العالمين من الإمام عليّ عليه السلام سنة 2 أو 3 هجرية، أو في السنة الأولى للهجرة، كما عليه بعض الروايات. والمفروض أنّ أسماء وأيضاً جعفر، كانا في هذا الوقت في الحبشة! فكلّ هذا وغيره من الأخبار وقع فيه اشتباه، انتبه إليه بعضهم:

كمحمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتابه «كفاية الطالب» حيث قال:

إنّ ذكر أسماء بنت عميس في خبر تزويج فاطمة عليها السلام غير صحيح، لأنّ أسماء التي حضرت في عرس فاطمة إنما هي بنت يزيد بن السكن الأنصارية، ولها أحاديث عن النبي صلى الله عليه و آله، وأسماء بنت عميس كانت مع جعفر بن أبي طالب بالحبشة، وقدم بها يوم فتح خيبر سنة سبع، وكان زواج فاطمة عليها السلام بعد بدر بأيام يسيرة.

أما في كشف الغمة، فقد احتمل أن تكون سلمى بنت عميس هي التي حضرت زفاف فاطمة الزهراء.

ص: 124

وهنا لا بد لي من القول:

1- إنّ هذه الأنصارية كانت من أهل يثرب وتسكن فيها.

2- لم تكن مسلمةً حين وفاة أم المؤمنين خديجة في مكة، وقد توفيت قبل هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة.

والرواية تذكر أنّ أسماء حضرت وفاة خديجة، وراحت هذه الأخيرة تبكي وتشكو لها خوفها على ابنتها السيدة فاطمة، فيما تعهدت أسماء إن بقيت إلى ذلك الوقت، أن تقوم مقامها، أي مقام السيدة خديجة، في رعاية ابنتها...

فكيف لهذه الأنصارية أسماء بنت يزيد بن السكن- وهي في المدينة، وهي لم تكن بعدُ مسلمة- تأتي إلى مكة لتحضر وفاة أم المؤمنين خديجة، وتعطي ذلك العهد؟!

والنتيجة التي يبدو لي أنها قد تكون الأقرب إلى الصحة، ما احتمله صاحب كشف الغمة، من أنّ الحاضرة ذلك الزفاف، هي سلمى أخت أسماء بنت عميس، وكانت سلمى زوجةً لحمزة بن عبد المطلب رضوان اللَّه عليه.

وماوقع هو اشتباه من الرواة في أسماءبنت عميس، وفي وجود جعفر أيضاً (1).

وعلى أيّة حال، فقد كانت العلاقة وطيدةً بين سيدة نساء العالمين وأسماء، فهي التي تشرّفت بتمريضها أيضاً حتى نفسها الأخير، وقد أوصتها بوصاياها في تكفينها وتشييعها، وهي التي نعتها إلى الإمام عليّ عليه السلام، وشاركته في تغسيلها، وتكفينها، وترحيلها، إلى مثواها الأخير... (2) فلما رأت عليها السلام دنوّ أجلها، وأنها تسرع الخطى للّحاق بأبيها صلى الله عليه و آله، طلبت من أسماء بنت عميس أن تحضر لها ماءاً لتغتسل به، فاغتسلت، و لبست أحسن


1- أنظر: تاريخ هجرتهم وعودتهم في المصادر التاريخية، ومنها مختصر تاريخ دمشق، ترجمة جعفر بن أبي طالب 6: 74- 62.
2- أنظر: تاريخ الطبري 2: 253، سنة 11 وغيره من المصادر.

ص: 125

ثيابها... و طلبت من أسماء أن تضع لها فراشاً وسط البيت، فاضطجعت في فراشها، و هي مستقبلة القبلة، ثم دعت أسماء و أم أيمن، وطلبت إحضار علي بن أبي طالب عليه السلام، فحضر عليّ عليه السلام وراحت عليها السلام توصيه بوصاياها...

«يا ابن العم! إنه قد نعيت إلى نفسي، و إنني لا أرى ما بي إلّا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، و أنا أوصيك بأشياء في قلبي».

قال لها علي:" أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللَّه".

فجلس عند رأسها، و أخرج من كان في البيت، ثم قالت:" يا ابن العم! ماعهدتني كاذبة، و لا خائنة، و لا خالفتك منذ عاشرتني".

فقال:" معاذ اللَّه، أنت أعلم، و أبرّ، و أتقى، و أكرم، و أشدّ خوفاً من اللَّه، من أن أوبخك بمخالفتي، و قد عزّ عليَّ مفارقتك و فقدك، إلّا أنه أمر لابدّ منه، و اللَّه لقد جددت عليَّ مصيبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد عظمت وفاتك و فقدك، فإنّا للَّه و إنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أفجعها و آلمها و أحزنها، هذه واللَّه مصيبة لا عزاء عنها، و رزية لا خلف لها"...

ومن ضمن ما قالته عليها السلام في وصيتها للإمام عليه السلام مما له علاقة بمقالتها هذه:

... أوصيك يا ابن عم أن تتخذ لي نعشاً... (1) و فعلًا، فقد قام الإمام عليّ عليه السلام بتغسيلها، ولم يشاركه أحد من النساء إلّا أسماء بنت عميس، و كان الحسنان يحملان الماء، و يدخلانه إلى المغتسل، ولم يشارك في الغسل، و لم يحضرها غيره، و غير الحسنين، و زينب و أم كلثوم، و فضة جاريتها، وأسماء بنت عميس، ثم صلّى عليها عليّ عليه السلام و كفنها...

ثم وضعها على نعش، صنعته أسماء بنت عميس لفاطمة عليها السلام...

وقد ذكر المؤرخون، أنّ أول من حُمل على نعش، هي فاطمة عليها السلام، صنعته لها


1- أنظر: المجالس السنيّة للسيد الأمين 2: 123؛ وفاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: 609 من روضةالواعظين؛ وبحارالأنوار 78: 256.

ص: 126

أسماء بنت عميس، على النحو الذي شاهدته في الحبشة، أيام هجرتها (1).

وقد روي عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام قال:

أول نعش أحدث في الإسلام نعش فاطمة، إنها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها، و قالت لأسماء:

إني نحلت، و ذهب لحمي، ألا تجعلين لي شيئاً يسترني؟ قالت أسماء:

إني إذ كنت بأرض الحبشة، رأيتهم يصنعون شيئاً أفلا أصنع لك؟ فإن أعجبك أصنع لك.

قالت: نعم.

فدعت بسرير، فأكبته لوجهه، ثم دعت بجرائد فشددته على قوائمه، ثم جلّلته ثوباً، فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون.

فقالت فاطمة: إصنعي لي مثله، أستريني سترك اللَّه من النار

كما ظلّت وفية لبيوت أخرى شاءت السماء أن تحلّ فيها زوجة، بعد أن راح يتمنى الاقتران بها رجال رأوا فيها صدق الإيمان، وعمق الوعي، ونفاذ البصيرة والعقل والحكمة، فكان الخليفة الأول أوّل المتقدمين إليها، بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب، ورزقها اللَّه منه محمداً، نعم العبد الصالح، المطيع للَّه ورسوله وأهل بيته، والمتفانين في سبيلهم...

تعهّدت مسؤولية تربية أبنائها من جعفر، ضمّت إليهم ابنها محمد من أبي بكر، وهي تدعو اللَّه أن يصلح بالهم، وأن يجعلهم على الصراط المستقيم...

مع الإمامة:

وقدّر لهذه المرأة الصالحة، أن تحل في بيتٍ ارتضاه اللَّه تعالى أن يكون من بيوته، بيت إيمان و طهر، بيت إمامة وصدق، فتشرفت بأن تقترن بمن عرف بقرابته


1- أنظر: مثلًا تاريخ المدينة المنورة، لعمر بن شبة 1: 108؛ والاستيعاب لابن عبد البر.

ص: 127

القريبة، من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبقدمه في الإسلام، ونصرته، وجهاده، و بمن وصفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بصفات عظيمة، لم تتوفر لغيره كالأخوة، والوصية، والخلافة، والولاية...، وقد عصت على الجميع وأبت إلّا أن تكون لعليّ وعليّ فقط. وهو رفيق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وصهره لابنته الراحلة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وهو شقيق جعفر الطيار زوجها الشهيد، وهو عمّ أولادها الثلاثة. وهو فوق كل هذا وغيره، أروع شخصية صنعتها السماء بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبدخولها هذا المنزل المبارك تكون قد دخلت أفضل وأعظم مصداق لمدرسة النبوة والإمامة، و من أوسع أبوابها، لتكون أنموذجاً حياً لأخلاق القرآن والإسلام...

لقد تزوج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بأسماء بنت عميس، وانتقلت إليه برفقة أولادها الأربعة، ليتذوقوا مفاهيم وقيم النبوة والإمامة، من أصدق منابعها؛ وعاشت معه، فكانت صورةً رائعة للمرأة المسلمة، والداعية المؤمنة، وقد أولدها يحيى و عوناً، فكانت مثالًا حياً للزوجة الصالحة، والأم المربيّة، فجعلت الإمام عليه السلام معجباً برجاحة عقلها، وهو ما تنطق به سيرتها، و ماتجده واضحاً حينما اختلف كل من ولديها:

" محمد بن جعفر و محمد بن أبي بكر" وراح كل منهما يتفاخر بأبيه، فقال كلّ منهما للآخر:" أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك".

وأحال الإمام عليّ هذا الأمر إليها- رضوان اللَّه تعالى عليها- لتقضي بينهما، إذن، كيف استطاعت أن ترضيهما؟!

وقفت أسماء بينهما، و قالت غير مترددة ولا منتظرة طويلًا:" ما رأيت شاباً من العرب خيراً من جعفر، ولا رأيت كهلًا خيراً من أبي بكر". فسكت الولدان، وتصالحا.

فقال عليّ مداعباً:" فما أبقيت لنا أو ما تركت لنا شيئاً، ولو قلت غير الذي قلت لمقتك!

ص: 128

قالت: إن ثلاثة أنت أحسنهم خياراً!!! (1).

لقد كبرت في عين عليّ، حتى أصبح يردد في كل مكان:

«كذبتكم من النساء الخارقة، فما ثبتت منهنّ امرأة إلّا أسماء بنت عميس».

و أخيراً رحلت رضوان اللَّه تعالى عليها، وأحداث جسام تعاقبت عليها، كتمت آلامها، وتعالت على جراحها، حين جاءها مصرع ولدها محمدبن أبي بكر، فراحت تتلوى مما تركه نبأ استشهاده من أثر مؤلم على قلبها، فحبست دمعها، وكتمت حزنها، وعكفت في مصلّاها، حتى شخب ثديها ونزفت، ثم فجعت بمقتل زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فلم تعد بَعْدَ مصابه قادرةً على تحمّل الألم الذي يعتصر بقية قلبها الذي انهكه المرض، حتى فاضت روحها إلى العليّ العظيم، في سنة أربعين للهجرة، رضوان اللَّه تعالى عليها.


1- أنظر ما رواه زكريا بن أبي زائدة، عما سمعه عن عامر.

ص: 129

الرحلة الحجيّة

للعلامة السيد محسن الأمين العاملي قدّس سره

عبد الخالق الصائغ

في كل عام، ومنذ أن أطلق نبينا إبراهيم عليه السلام نداءه بالحج، والمؤمنون يتوافدون على البيت العتيق لأداء هذا الفرض، ولم يُعِق الناس عن المجي ء إليه تقلّبات الزمان وتقادم السنون، فالبيت الطاهر لم يخلُ من الحجاج منذ ذلك الحين، وحتى في زمن الجاهليّة بقيت هذه الشعيرة بعنوانها العام دون مساس؛ إلا اللهم ما شابها من إضافات أهل الشرك في بعض نداءات التلبية أو ما كان من بعض رسوم الطواف، أو ترك الحمس للوقوف بعرفات، لأنهم أهل الحرم كما ادعوا، وكانوا يرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، وهم يعرفون ويقرّون أنها من المشاعر، والحج دين إبراهيم عليه السلام (1).

قال ابن الكلبي في كتابه الأصنام: وفيهم [العرب على ذلك] الشرك وعبادة الأصنام بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسّكون بها من تعظيم البيت والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت نزار تقول إذا ما أهلّت: لبيك


1- ابن هشام 1: 162.

ص: 130

اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك؛ إلا شريك هو لك؛ تملكه وما ملك!. ويوحّدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم ويجعلون ملكها بيده... وكانت تلبية عك إذا خرجوا حجاجاً، قدّموا أمامهم غلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم.

فيقولان: نحن غرابا عك! فتقول عك من بعدهما: عك إليك عانيه، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية! وكانت ربيعة إذا حجت فقضت المناسك ووقفت في المواقف، نفرت في النفر الأول ولم تقم إلى آخر التشريق (1).

ثم جاء الإسلام؛ فأعاد الأمور إلى نصابها الإبراهيمي، حيث بيّن النبي صلى الله عليه و آله كل شؤون الحج كما يريدها اللَّه تعالى؛ أضف إلى ذلك إلغاءه النسي ء وعودة مواقيت الحج والعبادات الزمانية إلى حيث شاء الله تعالى أن تكون.

وقد كان لرحلة الحج في الإسلام نكهتها الخاصّة، رغم المعاناة غير العاديّة التي يتكبّدها المؤمنون فيها، وخاصّة بعد عقد الإحرام، حيث يحرم على الحاج أمور كثيرة عدّها الفقهاء في محلّها، ولم تكن رحلة المحرم رحلة يوم أو بعض يوم كما هو الحال في زماننا، حتى يسهل عليه أمر السفر وهو كذلك، وقد حَرُمَ عليه جملة من الأمور.. لا بل كان سفر الحج عموماً يعني رحلةً في المجهول من المخاطر، لذا كان من أكثر ملازمات هذه الرحلة كتابة الوصيّة.

وعلى ما وصف بعض مؤرخي السيرة، فقد استغرقت رحلة النبي صلى الله عليه و آله من المدينة إلى مكة أسبوعاً، وليس بين المدينة ومكة غير قرابة الخمسمائة كيلومتر، فكيف حال أهل الشام والعراق، ثم فارس وما بعدها من بلاد الإسلام، وأفريقيا وما والاها؟ لذا قلت: إن رحلة الحج كانت ذات نكهة خاصة، فهي مغامرة ملؤها القصص، فالحاج إن كتب له العودة بالسلامة إلى بلده، بعد أداء فرضه، يكون لديه من القصص والحكايات ما يشدّ المستمعين.

واليك قصة رحلة من هذه الرحلات، قام بها واحد من كبار علماء المسلمين


1- ابن الكلبي الأصنام: 1- 4.

ص: 131

من جبل عامل، وهو المرجع المقدّس السيد محسن الأمين العاملي؛ لكن، وقبل الخوض في وصف تلك الرحلة، إليك أيها القارئ العزيز هذه النبذة من سيرته، مع ملاحظة أن جميع التواريخ الواردة هنا هي بحسب التاريخ الهجري القمري:

المجتهد الكبير المرجع السيد محسن الأمين، بن السيد عبد الكريم، بن السيد علي، ينتهي نسبه الشريف إلى زيد الشهيد بن الإمام زين العابدين عليه السلام، ولد سيدنا الأجل كما ذكر هو (1) في قرية شقراء من بلاد جبل عامل سنة 1284؛ وقد أكّد ذلك من خلال قرائن، حيث لم يكن تدوين المواليد سائداً في زمانه لاسيّما في القرى.

وعندما كان في السابعة، التحق بكتّاب لتعليم القرآن ليوم واحد، فلم يرق له البقاء فيه لما رأى من معاناة الطلبة، فقامت والدته بتعليمه القرآن حتى ختمه، وتعلّم الخط عند بعض شيوخ العائلة، وبعد ذلك رغب بالدراسة الدينية فتابع دراسة ما ينبغي درسه لطالب العلم من العلوم، كالنحو والصرف أولًا في قريته؛ ثم في قرية عيتا الزط، وبقي في عيتا إلى أن سافر شيخهم إلى العراق، وكانوا يقرؤون عليه المغني؛ فقصد رحمه اللَّه بلدةً أخرى فلم يستفد من شيخها، فقصد الشيخ موسى شرارة في بنت جبيل، التي اضطر لتركها بعد وفاة الشيخ موسى رحمه اللَّه عام 1304؛ والتحق بدرس أستاذ كان قدم من العراق حديثاً فلم يرق له درسه، فتركه، وقال عن نفسه رحمه اللَّه: ولم تكن نفسي تميل إلى عشرة العوام، وكنت أقضي أوقاتي في التدريس والمطالعة والعزلة عن الناس، ونفسي تتوق للهجرة إلى العراق، فلا أستطيع ذلك.

وفي هذه الأثناء، طلبوه للخدمة العسكرية، فاضطر لمغادرة بلده إلى قرية الغور، وهي قريبة من حمص، بقي فيها فترة ثم عاد إلى وطنه، حيث توفيت والدته وأصيب والده بنزول الماء على عينيه فكفّ بصره، وكان للسيد رحمه اللَّه شقيقتان لا كافل لهما غيره فاضطر للعمل، وبقي ينتظر الفرصة المؤاتية للسفر إلى العراق.


1- معادن الجواهر 4: 21.

ص: 132

وطُلب للعسكرية مرّةً أخرى، وقدّر اللَّه تعالى له أن يُعفى، بعد أن أشار عليهم البعض بتأسيس مدرسة وتسجيلها رسمياً، ومن خلالها يتم تسجيل الطلاب ويتقدّموا بامتحان للحصول على الإعفاء، وفعلوا ذلك ورخّصت المدرسة، وقدّم السيد الامتحان في بيروت مع جماعة من الطلبة أمام لجنة خاصة، ونجح، فأعفي كطالب علم؛ وبقي حلم السفر إلى العراق يراوده رغم صعوبة الأحوال، لكنه عزم أخيراً على ذلك متوكلًا على اللَّه، فسافر إلى العراق سنة 1308.

كان خلال إقامته في النجف يدرس ويدرّس، وكان أساتذته في العراق كما ذكر رحمه اللَّه: السيد علي الأمين، والسيد أحمد الكربلائي، والشيخ محمد باقر النجمابادي، والشيخ ملا فتح اللَّه الإصفهاني، والشيخ ملا كاظم الخراساني صاحب الكفاية، والشيخ آقا رضا الهمداني صاحب مصباح الفقيه، والشيخ محمد طه نجف.

بقي رحمه اللَّه في العراق إلى سنة 1319؛ حيث كتب له الشيعة في دمشق يطلبون حضوره إليهم والسكن عندهم، فكانت مدّة إقامته في العراق عشر سنوات ونصف كما ذكر هو في غير موضعٍ من ترجمته في كتابه معادن الجواهر (1)؛ وقد ورد السيد رحمه اللَّه دمشق في أواخر شعبان 1319، وقام بمجموعة إصلاحات كان لا بد من القيام بمثلها لرجل مثله؛ بدأ بالتعليم، حيث لاحظ تفشّي الأميّة، فأسس مدرسةً للبنين وأخرى للبنات، وتطوّرت هاتان المدرستان حتى صارتا من أكبر المدارس وأكثرها امتيازاً، وهما مستمرتان حتى يومنا هذا، وقد جعل لهما بعض الأوقاف.

أما مدرسة الذكور فكان اسمها العلويّة، واسمها اليوم المحسنيّة، ومدرسة


1- معادن الجواهر 4: الصفحات 101 و 103 وغيرها، وكانت ترجمته رحمه اللَّه في هذا الجزء من المفروض أن تطبع ضمن كتاب أعيان الشيعة، الجزء الأربعون، لكن السيد رحمه اللَّه قال في مقدمته: وقدّمناه للطبع قبل الوصول إلى محلّه من الكتاب خوفاً من مفاجئة الأجل. وترجمة السيد رحمه اللَّه هنا هي ملخص عن 145 صفحة وردت في هذا الكتاب بقلمه أعلى اللَّه مقامه.

ص: 133

الإناث سميّت باليوسفية. وقد أطلق السيد رحمه اللَّه اسم اليوسفية عليها تقديراً منه للحاج يوسف بيضون رحمه اللَّه، الذي تبرّع بثمن الدار الذي أقيمت فيه المدرسة، وكان ثلاثة آلاف وثمانمائة ليرة عثمانية ذهبية، وعيّن ألف ليرة أخرى يصرف ريعها لنفقات المدرسة..

ثم إن سيدنا المترجم رحمه اللَّه، كان يتنقّل بين بلدته شقراء ودمشق، و اضطر في الحرب العالمية الأولى أن يسكن عياله شقراء، وظلّ هو يتردد على دمشق؛ فكان يقوم بأداء رسالته الدينية في كل من سوريا ولبنان؛ فكان لوجوده المبارك الأثر الكبير في حلّ كثيرٍ من عويصات المشاكل في حينه؛ وامتد تأثيره المباشر إلى بعض الأحداث السياسية التي وقعت في تلك الفترة في سوريا، وقد نظر الوطنيون السوريون بعد الثورة إليه نظر التبجيل والاحترام، لذا تمّ تغيير اسم المنطقة التي كان يسكنها إلى" حي الأمين"، وقد كان اسمها قبل ذلك" الخراب"؛ كما أن الشارع الذي كان يقطن فيه حمل اسمه أيضاً.

رفض رحمه اللَّه تقسيم الحكومة السورية المسلمين إلى سنة وشيعة، وكتب إلى الحكومة أن الشيعة تعتبر المسلمين طائفةً واحدة، ولا تريد الافتراق عن إخوانها السنّة، فكان لذلك الوقع الحسن عند الوطنيين، فقرّرت الحكومة أن المسلمين طائفة واحدة لا فرق بين سنيّهم وشيعيّهم؛ ولمّا أصدر الفرنسيون قانون الطوائف كان من المحتجّين عليه.

وفي وقت لاحق عزم الفرنسيون على إحداث منصب رئيس علماء للشيعة في سوريا ولبنان، وأصدروا مرسوماً بتعيينه لكنه رفض المرسوم.

اهتم السيد رحمه اللَّه بجمع تراث عاملة الذي سلم من أيدي العابثين، وعلى رأسهم الجزار، واشتغل في غالب وقته بالكتابة والتأليف إلى أواخر حياته وقد ناهز التسعين من العمر؛ ولم يكن ليترك الكتابة حتى في السفر، فكان يصطحب بعض كتبه معه، لا بل كان ينشئ أسفاراً لأجل بعض المعلومات التي يحتاج إليها

ص: 134

لبعض كتبه، لاسيّما حين كان يشتغل بكتابه «أعيان الشيعة».

ترك السيد الأمين عشرات الكتب في مختلف المواضيع والعلوم، كانت وما زالت من غرر ما كُتب في مواضيعها، و يعدّ كتابه «أعيان الشيعة» واحداً من أهم آثاره المميزة التي تركها بعد رحيله في جملة من نفائس المؤلفات.

كان للسيد الأمين رحمه اللَّه من القداسة ما جعله ملاذاً في الشدائد، وقد روي أنّه استسقى للناس مرتين، بعد قحط وجدب أرهق العباد، حيث إنّ مورد رزق العامليين في ذلك الزمان كان يعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة، فخرج بالناس كما ورد في السنّة، صغارهم وكبارهم بعد صيام، ثم صلى بهم صلاةً جامعة، وتضرّع للَّه تعالى، وما مرّ على ذلك إلا سويعات حتى أمطروا..

كان يوم وفاته رحمه اللَّه مشهوداً، فقد انتقل إلى جوار ربه الكريم قرابة منتصف ليلة الأحد 4 رجب 1371، الموافق 30 آذار 1952، وكان لخبر وفاته صدى مسموعاً في أنحاء العالم الإسلامي، وأقيمت المآتم ومجالس الفاتحة عن روحه الطاهرة في مختلف العواصم والمدن الإسلامية.

دفن رحمه اللَّه بجوار السيدة زينب سلام اللَّه عليها في دمشق في غرفة خاصّة عند مدخل الحرم، وذلك بعد أن أجري له أعلى اللَّه مقامه في بيروت تشييع رسمي وشعبي قلّ نظيره، ونُقِل الجثمان الطاهر إلى دمشق بموكب عظيم، واستقبلته الحكومة السورية عند الحدود استقبالًا رسمياً وشعبياً إلى مثواه الأخير.

ص: 135

رحلة الحج

في وصف رحلة حجّ سيدنا الأجل، اعتمدت على ما ذكره هو في الجزء الثاني من كتابه معادن الجواهر ونزهة الخواطر، مع تعليقتين أخذتهما من كتابه أعيان الشيعة، أشرت إليهما في الهامش.

قال السيد الأمين رحمه اللَّه متحدّثاً عن رحلته من البداية، بعد أن عزم على الحج إلى بيت اللَّه الحرام، وكان ذلك سنة 1321:

خرجنا من دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة الحرام سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وعشرون بقصد الحج إلى بيت اللَّه الحرام، فركبنا القطار الحديدي من دمشق قاصدين بيروت في الدرجة الثانية، بأجرة أربعة مجيديات (1) عن الشخص؛ ودخلنا بيروت بعد غروب الشمس بربع ساعة، فبتنا بها ليلة الثلاثاء، وفي مساء يومها ركبنا في الباخرة الفرنسية من شركة الميساجيري في الدرجة الثالثة، وفيها أربعة درجات، والأجرة ثلاثة أرباع ليرة فرنسية إلى بور سعيد، فتحركت بنا من بيروت في الساعة الثانية تقريباً من ليلة الأربعاء، فوصلنا بور سعيد في الساعة الثامنة من يوم الأربعاء...

وبتنا في بور سعيد ليلة الخميس، وخرجنا منها يومه في الساعة الخامسة


1- المجيدي عملة تركية من الفضة، وهنا ربّما يكون من المفيد ذكر العملات التي كانت تتداول هناك وما تعادله بالنسبة للعملات الأخرى، ونذكر هنا ما كان في القطيف قريباً من تلك الفترة، فالعملات التي كانت سائدة في القطيف خلال القرن التاسع عشر الميلادي قبل الاحتلال التركي الأخير، كان منها القران بفتح أوله وثانيه، وهو عملة فارسية فضية، تساوي 40 وجميع تلك العملات اضمحل التعامل بها بعد سيطرة الأتراك على البلاد، حيث حلت العملة التركية محلها، ومن بينها الليرة العثمانية الذهبية التي تساوي 12 روبية، والمجيدي وهو عملة فضية تساوي 3 روبيات، وينقسم إلى فئات منها: الجرخي بالجيم المخففة ويساوي 1/ 16 من المجيدي، والمتليك والقمري، وهي أسماء لعملة تساوي 14 من الجرخي، وهي بدورها تساوي 100 بارة، والبارة أصغر عملة تركية.

ص: 136

والدقيقة الخامسة في القطار الحديدي الضيق (1)، وهو بقدر عرض الخط الذي بين دمشق وبيروت، قاصدين الإسماعيلية، وكانت العملة تشتغل بإبدال ذلك الخط الضيّق بخط عريض؛ فوصلنا الإسماعيلية في الساعة الثامنة من يوم الخميس.

والإسماعيلية بلدة في طريق القاصد من بور سعيد إلى مصر، أحدثها إسماعيل باشا أحد الخديويين، فنسبت إليه؛ وانتقلنا في الإسماعيلية إلى القطار الحديدي ذي الخط العريض، وهو أسرع من الأول و أتقن، ولا تسل عن شطط الحمالين الذين ينقلون الأمتعة من قطار بور سعيد إلى قطار مصر في طلب الأجرة، وبين القطارين بضعة أقدام؛ فدخلنا مصر قبل غروب الشمس بنصف ساعة من يوم الخميس، وكانت الأجرة من بور سعيد إلى مصر أربعين قرشاً صحيحاً مصرياً ونصف قرش (2) فبقينا في مصر ستة أيام.

كان السيد رحمه اللَّه مشغولًا في بعض تلك الفترة بتصحيح ملازم رسالته «الروض الأريض في حكم تصرفات المريض»، وقد أرسلها إلى مصر لتطبع هناك نتيجةً لتشدد الحكومة العثمانية في أمر المطبوعات، حيث كان الأمر يستلزم ترخيصاً من الأستانة بعد تقديم نسختين من المؤَلَّف، وما يكلّف ذلك من العناء والمال، وأيضاً التشدد غير العادي في مراقبة المحتويات.

مصر

ثم تطرق السيد رحمه اللَّه إلى وصف عظمة مصر، ورخص أسعارها، ووفرة الأشياء فيها، وعظيم محبة المصريين لآل البيت عليهم السلام، واحترامهم للسادة الأشراف، وتحدّث عن حسن نظم الأمور فيها في كلّ شي ء، فجميع الناس في راحة خيِّرهم وفاجرهم، وتطرّق إلى سهولة التنقل فيها لانتشار خطوط السكّة


1- خطوط القطار على قسمين: الضيق القديم وهو النظام المتري ويبلغ عرض السكة فيه 1067 ملم، والحديث القياسي ويبلغ عرض السكة فيه 1435 ملم.
2- و كان كل قرش مصري يعادل قرشين ونصف رائج الشام.

ص: 137

الحديد، حيث فيها محطة عظيمة فخمة، ليلها كالنهار من الأنوار الكهربائية، وما ليس فيه سكّة من المناطق، فالعربات تصل إليه، وهي كثيرة؛ ثم ذكر الأهرامات وعظمتها وما جاورها من آثار، ومرّ على ذكر حديقة الحيوانات وما فيها من صنوف الحيوان؛ وقلعة الجبل ومسجد محمد علي باشا؛ و الأنتيكة خانة (1)؛ ثم تحدّث عن الجامع الأزهر ومشهد رأس الحسين عليه السلام، قال: وعنده مسجد كبير فخم متقن البنيان.. وتصنع فيه كسوة الكعبة الشريفة التي يبعث بها المصريون كلّ سنة.

ثم ذكر مشهد السيدة زينب وتعظيم أهل مصر للمشهدين، وشبّه تعظيمهم بتعظيم العراقيين لمشاهد أئمة أهل البيت عليه السلام.. وذكر من المشاهد: مشهد السيدة نفيسة، والإمام الشافعي.. ثم عاد لذكر بعض أهم معالم مصر، وهي القناطر الخيرية؛ ثم ذكر لقاءه بالشاعر الشهير الشيخ عبد المحسن الكاظمي الذي زار السيد بصحبة نقيب الأشراف، وكان بينهما كلام حول نظام التعليم في النجف، ومقارنة ذلك بالنظام المتبع في الأزهر..

السويس وبور توفيق

قال رحمه اللَّه: وبعد أن أقمنا بمصر ستة أيام، ركبنا القطار الحديدي إلى الإسماعيلية، فالسويس، فبقينا فيها يومين، ثم ركبنا البحر في مركبٍ يسمى عبد المنعم، من المراكب الخديوية، وأكثر عمّاله من المصريين، بأجرة 250 قرشاً مصرياً صحيحاً في الدرجة الثانية و 150 في الدرجة الثالثة الأخيرة.

وأطرى السيد على ما رأى من حسن الترتيب في السويس، فقال: إن ميناءها التي تسمى «بور توفيق» نسبةً إلى توفيق باشا الخديوي، وتبعد عن البلد مسافة، ولها قطار حديدي مخصوص يذهب ويجي ء كل ساعة مرة، وقد جعل لها مرفأ تصل إليه المراكب العظام إلى جنبه (2)، فتخطوا الركاب من البر إلى المركب


1- المتحف.
2- يريد بذلك رصيف الميناء.

ص: 138

بدون حاجة إلى زورق، وعند مدخل المرفأ باب كبير، وعلى جانبه جنديان ينظمان الدخول بالدور، فأول ما تؤخذ أمتعة الركاب، يأخذها الحمالون بالعدد، ويحفظ صاحبها نمرة الحمّال، وذهبت مع بعض رفقائنا لعلّنا نتمكن من الدخول فنختار مكاناً موافقاً، لأننا أخذنا مكاناً في الدرجة الثانية، وليس في المركب درجة ثانية، فجعلوا ظهر الدرجة الأولى بدل الدرجة الثانية، وكان خيراً من الدرجة الأولى.

قال رحمه اللَّه: فلما وصلنا الباب رأينا جماعة من المغاربة معمّمين، عليهم البرانس يحاولون الدخول، فمنعهم الحرس فلم يمتنعوا، فأعملوا فيهم ضرب السياط، فوقفت مع رفيقي ناحية، فلما رآني الحرسيان أشارا إلي أن تعال، فأتيت، فقالا: يا شريف! تريد أن تدخل؟ قلت: نعم؛ قالا: تفضل؛ قلت: ورفيقي؟ قالا:

ورفيقك؛ فدخلنا قبل كل أحد، وفي أيدينا أوراق المركب والكرنتينا والجواز؛ واخترنا لأنفسنا ولمن معنا من النساء والرجال أمكنةً حسنة واسعة، ثم جاء رفقاؤنا؛ وأقلع بنا المركب من السويس مساءً، فوصل الطور ضحوة الغد، وبقي هناك ينقل ما حمله إلى الطور من آلات البناء، لأجل بناء محجر في الطور بقية ذلك اليوم والليلة التي بعده وفي غدها إلى الليل.

ثمّ أقلع من الطور قاصداً جدّة، فوصلناها بتمام الراحة؛ لأن البحر كان ساكناً إلا في موضعٍ يدعى ببركة فرعون ورأس أم محمد، فهاج البحر، وهاجت المرّة الصفراء بأكثر الحجاج، وذلك بعدما أحرمنا بيسير، وكنا في الليلة التي أحرمنا في صبيحتها اغتسلنا في حمّام في المركب، منارٍ بالكهرباء، يجي ء ماؤه من البحر، ويغسل فيه الإنسان منفرداً بأجرة قليلة؛ ولبسنا ثوبي الإحرام بعدما خلعنا المخيط.

نذر الإحرام قبل الميقات

ص: 139

في الصباح، نذرنا الإحرام قبل محاذاة الميقات، تخلّصاً من الإشكال [معرفة محاذاة الميقات للإحرام وعدم تجاوزه] بناءً على ما هو الحقّ من جواز الإحرام قبل الميقات بالنذر... وتحدّث أعلى اللَّه درجاته عن مسألة النذر للإحرام، ثمّ تطرّق للكلام عن كيفيّة تعيين محل الوفاء من خلال الساعة؛ لعدم إمكان تشخيص الأماكن في البحر، لذا لا يمكن الاعتماد على غير الوقت للدقّة؛ لذلك قال رحمه اللَّه:

وعيّنا مكان الإحرام حين النذر بالساعة، على أننا إن بقينا إلى المكان الذي تكون فيه الساعة كذا نحرم من ذلك المكان، فلما صارت تلك الساعة عقدنا الإحرام بالتلبية، وبقينا مستحضرين للنية مكرّرين للتلبية حتى وصلنا المكان الذي قال الربان: إنه يحاذي الميقات، وهو «الجحفة» القريبة من رابغ، وآذن الربان بذلك بصفير المركب، وتجاوزناه كثيراً ونحن نلبي مستحضرين للنية، ولكن ظهر لنا بعد ذلك أنّ من يريد الاحتياط التام، فلينذر الإحرام من السويس...

إجراءات الوقاية من الأمراض والأوبئة في ذلك الزمان

قال رحمه اللَّه: ولما وصلنا جدّة، نزلنا في سفينة أقلّتنا إلى جزيرة في البحر، مسافة ساعة عن جدّة تقريباً، لأجل تبخيرنا وتبخير الفراش والدثار فقط، ليموت ما فيها من الميكروب، خوفاً من سراية الأمراض الوبائية، وذلك بسبب مرورنا على مصر، مع أنها خالية من كل مرض وبائي، وكل من يحضر من الديار المصرية يأخذ ورقة من إدارة الصحة بأنه سالم من كل مرض، فيدفع رسماً عن ذلك ثلاثة قروش صحيحة وكسراً؛ فسرنا محرمين والبحر هائج، والشمس تصهرنا، والبحر يقذف علينا من مياهه، حتى وصلنا الجزيرة بغاية المشقة، فوجدنا السفن حولها مملوءةً بالحجاج، والشمس على رؤوسهم، ومنعوا الناس من دخول الجزيرة تحكّماً بلا فائدة مظنونة ولا موهومة، إلى أن أخذوا الفراش، ووضعوه في المبخرة ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة حتى دخل البخار في أعماقه، ورشوه بالفينيك، ثم أذنوا للركاب بدخول الجزيرة من باب مخصوص، وأوقفوهم في مكان مخصوص، ثم أمروهم بالخروج من باب آخر، كأنهم قطيع غنم يصرفه الراعي كيف يشاء، وهذه الجزيرة لا ماء فيه ولا كلأ، فأضرّ العطش بهذا الجمع

ص: 140

المحتشد.. وبعد هذا أعطوا ورقةً بأسماء الراكبين في السفينة، ليأذن لهم أهل الميناء بدخول البلد.

الوصول إلى جدة

ثم سرنا من الجزيرة قاصدين جدّة في حرّ الظهيرة، والأمواج تفيض على الوجوه والرؤوس والأبدان والأردية والأزر، والسفينة تصعد تارةً وتهبط أخرى، ونحن في خوف من الغرق لشدّة الأمواج، ولولا الذهاب إلى الجزيرة لوصلنا الميناء بسهولة.. وعند الوصول إلى الميناء، أخرجونا من السفينة وأدخلونا من باب، ونحّوا السفينة إلى باب آخر، وفيها الأمتعة مع الملاحين، ثم أتوا بنا إلى شبّاك، والمأمور داخل الشباك، فقال إنسان: ادفعوا عن كل شخص نصف مجيدي، فدفعنا؛ وأخذنا أوراقاً، فمشوا بنا قليلًا وأخذوا الأوراق، وقرضوها بمقراض، ثم أتوا بنا إلى مكان قريب من هذا المكان، وأخذوا جوازات السفر وقالوا: ادفعوا عن كل جواز غرشين وربعاً صحيحة، فدفعنا، وأعطوا كل واحد ورقة علامة على أنه دفع ما عليه، ليأذن له البوّاب بالخروج؛ فخرجنا، ووجدنا السفينة واقفة، فأخذنا منها الأمتعة؛ وبسبب قلّة الركاب، لم يسرق منها شي ء، ولكن لا تسل عن الذين جاءوا بعدنا عصراً، ولم يصلوا إلى أمتعتهم إلا بعد ظلام الليل، ماذا جرى عليهم؟! وكم فقد من أمتعتهم؟ وكم باكية لفقد نفقتها التي وضعتها داخل خرجها.

وبعد فراغنا من مزاولة هذه المشاق دخلنا البلد، ونزلنا داراً عالية البنيان متسعة البيوت، فيها أربعة طبقات، كما هو الحال في أكثر بيوت جدة، والأجرة عن كل نفس ثلاثة قروش صحيحة يومياً، فبقينا في جدّة ستة أيام ننتظر أمتعتنا المشحونة من بيروت، فبعد وصولها ومعاناة مشقة التفتيش في الكمرك، سافرنا قاصدين مكة المكرمة؛ وفي جدّة زرنا قبر أمّنا حواء، وقبرها خارج البلدة، مفرط في الطول.

ص: 141

مدينة جدة

وجدّة مدينة مسوّرة، لها ثلاثة أبواب، وفيها قناصل الدول، ولا يؤذن لغير المسلمين في الخروج خارج السور، ويوجد فيها كثير من السودان الغُبر الألوان، وما فيها إلا الجائع العريان، وأسعارها غالية، وماؤها أجاج منتن، يتجرّعه الشارب ولا يكاد يسيغه، والسقاء الصغير منه بقرش واحد صحيح، ولكن ظهر لنا بعد ذلك أن فيها ماء حلواً في الصهاريج من ماء المطر لم نعلم به.

الخروج من جدّة

وعن الذهاب من جدّة إلى مكة قال رحمه اللَّه: وكانت أجرة البعير من جدّة إلى مكة تسع مجيديات وربعاً وغرشين صحيحين، ولكن لا يصل إلى الجمّال منها إلا اليسير، والباقي يأخذه المخرج باسم الحكومة؛ وقطع الأجرة بأمر من الحاكم، وكل جمّال يأخذ كوشاناً بعدد ما معه من الأباعر، بعد دفع الرسم المفروض عليه، والذي ليس معه كوشان لا يدعونه يدخل مكّة حتى يؤخذ منه الرسم، والذي يركب مع الأعراب خارج جدّة يأخذون منه نصف هذه الأجرة أو ثلثها، وهم يصيحون في الطريق: يارويجب، يارويجب. وعند الخروج من باب جدّة أخذوا عن كل بعير غرشين صحيحين، وبسبب الوقوف بالباب، سرقت أمتعة لكثير من الحجاج، وأكثر سرّاقها أفراد العساكر النظاميّة الموضوعين لحفظ الأمن؛ وسُرق لنا إبريق نحاس.

وسرنا من جدّة إلى بحرة فوصلناها بعد الغروب؛ وأدركتنا صلاة الظهرين في الطريق، لأننا خرجنا من جدّة قبل الظهر، فنزلت أنا وزميلي من الخشب (1) وتوضئنا أولًا، ثم سرنا قليلًا وصلّينا الظهر، ثم سرنا كذلك وصلّينا العصر؛ لأنّه لا يمكن الانقطاع عن القافلة لحظةً من خوف الطريق، مع أن العساكر النظاميّة


1- و هو مركب طويل له شقتان يركب فيه اثنان على بعير واحد.

ص: 142

منتشرة من جدّة إلى مكة، في السهول وعلى رؤوس الجبال، ينفخون في بوقاتهم، فيجيبهم الآخرون؛ ولكن هؤلاء العساكر لا يفترون عن سرقة ما يمكنهم من أمتعة الحجّاج؛ وصادف أنّه بينما نحن نسير، إذا بامرأتين من رفقائنا راكبتين في خشب شامي وقف بهما البعير عجزاً عن السير، وأباعر الحجاز دقيقة الساق لا تقوى على حمل الخشب الشامي، فنزلت أنا ورفيقي نمشي وأركبناهما مكاننا إلى بحرة، فوصلناها بعد الغروب.

بحرة

وهي في وسط الطريق بين جدّة ومكة، وكلّها قبائج مملوءة من القراد الذي يلتصق بالأجساد، وماؤها كماء جدّة، وليس فيها مسكن إلا أرض محاطة بقصب ونحوه ينزل فيها الحجاج، ويبذل لهم أهلها الماء والضياء والحطب لقاء دراهم يأخذونها، وقد أتونا قريباً من نصف الليل بوجوههم السوداء الكالحة، بأيديهم المشاعل، وعلى متونهم البنادق، وجعلوا يوقظون الحجّاج بعنف وإزعاج، وقد أخذهم النعاس، وأضناهم التعب، ويطلبون منهم أجرة ويشتطّون في المقدار، ويعنّفون بالناس كأنّهم يأخذون جزية، وكأنّهم زبانية جهنم أو منكر ونكير؛ ومن لم يدفع لهم كما طلبوا، وهو أضعاف ما فُرض لهم، أوسعوه شتماً، بل وضرباً إن تمادى في الامتناع؛ وإذا هدّدهم بالحاكم، سبّوه وسبّوا الحاكم، فقبحوا من قوم سوء.

ثم سرنا من بحرة صباحاً، فوصلنا مكّة عند العصر، وقد سلبت في هذا الطريق قوافل قبلنا وبعدنا ومعنا، وجرى قتل ونهب في أكثر الأوقات، أما نحن فلم نر شيئاً من ذلك، والحمد للَّه.

حدود الحرم

هناك أحكام تتعلق بحدود الحرم والمشاعر، منها حرمة الدخول لغير المحرم، ولزوم الوقوف في نفس عرفات والمكث في المزدلفة والمبيت في منى، وكلّها لها

ص: 143

حدود معلومة منذ القدم، ويحدّثنا السيد الأمين رحمه اللَّه عن هذه العلامات التي كانت واضحة، عندما خرجوا من جدّة ووصلوا إلى مكة، قال رحمه اللَّه: وقبل الوصول لمكّة المشرّفة رأينا العلامات الموضوعة في أوّل الحرم من جهة جدّة، فقرأنا الأدعية الواردة عند دخول الحرم، ولم نتمكّن من الغسل.

مكّة المكرّمة

ونزلنا في مكة في شعب عامر، في دار رجل يماني قاطن في مكة، في دار جيدة، وكان وصولنا إليها قبل هلال ذي الحجة بيومين، ورأينا الهلال ليلة الجمعة خفيفاً جداً قبل مغيبه بيسير، وكان ذلك من جملة نعمه تعالى علينا، فكان الوقوف بعرفة في يوم واحد لجميع المسلمين.

وبعد أن أدّوا عمرة التمتع، قال رحمه اللَّه: وفي يوم التروية ثامن ذي الحجة، اغتسلنا وأحرمنا للحج من مقام إبراهيم عليه السلام، وخرجنا قاصدين منى، فوصلناها مساءاً، ونزلنا قرب مسجد الخيف، وصلينا فيه تلك الليلة المغرب والعشاء، وخرجنا منها صباحاً إلى عرفات، وقد وضعت علامات بآخر الحرم من جهة عرفات، فنوينا الوقوف بعرفات من الزوال إلى الغروب، وكنا في مجموع هذه المدّة مشغولين بالدعاء والتضرّع إلى اللَّه تعالى لنا ولإخواننا المؤمنين، وزرنا الإمام الحسين عليه السلام... وبعد الغروب نفرنا من عرفات راجعين إلى المزدلفة وهي المشعر، وتسمى جمعاً أيضاً، وهي بين منى وعرفات، وقد وضعت علامات لحدود عرفات من جهة المشعر، لأنّه لا يجوز الخروج من حدود عرفات قبل الغروب...

والمأزمان بالهمز أيضاً في تلك الأماكن تثنية مأزم، والمأزم الطريق الضيّق بين جبلين، والمأزمان أحدهما مضيق بين جمع وعرفة والآخر بين مكة ومنى...

قال رحمه اللَّه: وبذلك النفر يتذكّر الإنسان يوم النشور، فبتنا في المشعر، والتقطنا منه الحصيّات حسب الاستحباب.

ص: 144

يوم عيد النحر

وفي الغد رجعنا إلى منى، وهو يوم عيد النحر [الأضحى] وبعد الوصول بيسير ذهبنا إلى مكان بيع الأضاحي، فاشترينا هدياً بليرة عثمانية، حسب ما طلب بائعه، ولم نساومه لكراهة المساومة فيه، وذبحناه وتصدّقنا بثلثه، وأهدينا ثلثه، وكانت الجنود تمنع من حمل اللحوم إلى الخيم، خوفاً من انتشار الروائح الكريهة، على أنه لم يكن منعاً شديداً، فأخذنا شيئاً من الهدي لنأكل منه حسب الاستحباب؛ ومن لم ير ذلك المكان، لا يعلم حقيقة معنى قول القائل «مجزّرين كالأضاحي»، وبعد الزوال عمدت جنود الحكومة إلى جمع ما بقي من تلك اللحوم والأوساخ المطروحة في مكان الذبح، فدفنتها في حفر أعدّت لذلك، ولم يحدث في الحاج مرض في تلك السنة في منى وعرفات، وكانوا بتمام الصحّة، وكان الحاجّ متوسط العدد.

ويبدو من وصف السيد رحمه اللَّه أنّه لم يكن هناك زحام كالذي نشهده اليوم، ولو نسبياً، حيث لم يتحدّث عن تدافع ولا اختناقات ولا غيرها، حتى في أعمال الحج من الرجم والطواف عندما تطرّق لها، كما سنرى، فإنّه أتمّها بسهولة ويسر في نفس اليوم، حيث في رحلته الثانية سنة 1341 ه ذكر الزحام الذي كان ضمن طيات الكلام تلميحاً.

الجمرات الثلاث

وبعد النحر ذهبنا لرمي جمرة العقبة [هكذا أورد السيد رحمه اللَّه الترتيب] وهي أوّل جمرة من جهة مكّة، وبعدها جمرة تسمى الوسطى، وبعدها جمرة تسمى الأولى لأنها ترمى أولًا في الأيام التي ترمى فيها الجمرات الثلاث، وجمرة العقبة تسمى الأخيرة، لأنها آخر ما يرمى إذا رُميَت الجمرات الثلاث، وذلك في الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة... أما في يوم النحر، فلا ترمى إلا جمرة العقبة فقط، وأصل الجمرة مجتمع الحصا.

وجمرة العقبة بناء في سفح الجبل، ظهرها إلى الجبل ووجهها إلى الطريق الذي

ص: 145

بين مكّة ومنى، والوارد استقبالها في الرمي، أي رميها من قبل وجهها لا رميها من أعلاها، بحيث يصعد في الجبل ويرميها من فوقها، وسميت جمرة العقبة لوجود عقبة هناك ليست بعالية، فإن الطريق من مكّة إلى منى يأخذ في علوّ يسير، لا يدرك حتى يصل إلى قريب منى، فهناك ترى عقبة يسيرة، تصعدها فتصل إلى منى؛ وهي سهل فسيح تكتنفه جبال شاهقة من الجنوب والشمال، وكذلك عرفات، وأكثر بلاد الحجاز طرقها في سهول تكتنفها جبال.

بئر زمزم

ولم يكن بمكة قديماً غير ماء بئر زمزم، التي هي قرب الكعبة المشرّفة، وماؤها لا يخلو من مجوجة يسيرة، وكان الحجّاج يحملون الماء معهم من مكّة إلى منى وعرفات عند خروجهم إليها يوم الثامن من ذي الحجّة، ولذلك سمّي يوم التروية.

العودة إلى مكّة

وبعد أن رمينا جمرة العقبة يوم العيد حلقنا، وفي اليوم الثاني رجعنا إلى مكّة، وطفنا طواف الحج، وسعينا بين الصفا والمروة، وطفنا طواف النساء، وصلّينا صلاة الطوافين، وذلك لأنّ المستحب الرجوع إلى مكّة يوم العيد بعد الرمي والحلق، لأجل طواف الحج، الذي يسمى طواف الزيارة، أي زيارة البيت، ولأجل السعي وطواف النساء... فإن لم يتمكّن من الرجوع إلى مكة يوم العيد ففي الذي بعده، وحيث لم يمكننا الذهاب يوم العيد ذهبنا في الحادي عشر، ثم عدنا إلى منى فبتنا بها ...

الزينة بمنى

يبدو من خلال ما ذكره سيدنا المقدّس رحمه اللَّه أنّ هناك طقوساً كانت تجري للاحتفال بالعيد في منى، ونقل أعلى اللَّه درجاته بعض ما كان يجري بقوله: وفي

ص: 146

تينك الليلتين، كانت منى في زينةٍ عظيمة، تضرب بها المدافع من مكان المحملين الشامي والمصري، فيتردد صداها في تلك الأودية والجبال، وتعلو الحرّاقات في الجوّ بألوانها المختلفة البديعة الشكل.

ثم قال رحمه اللَّه عن باقي أعمال الحج: ورمينا الجمرات الثلاث في ذينك اليومين ثمّ عدنا إلى مكّة يوم الثاني عشر بعد الظهر.

وكما في كل عام، يكون في الحج بعض الزعماء، وذوي الجاه، وفي تلك السنة كان منهم جماعة ذكر منهم رحمه اللَّه: امرأة من ملوك الهند، وبعض ملوك الغرب، ووزير الصدر في إيران ميرزا علي أصغر خان الملقب أمين السلطان.

المزارات بمكّة

وتشرّفنا في أثناء إقامتنا بمكّة بزيارة قبور: أبي طالب، وعبد المطّلب، وعبد مناف عليهم السلام، وخديجة بنت خويلد أم المؤمنين عليها السلام، ومولد النبي صلى الله عليه و آله ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام وغيرها من الأماكن المشرّفة. وصعدنا إلى جبل أبي قبيس، وهو مشرف على الكعبة المشرّفة.

ص: 147

الدخول إلى الكعبة المشرّفة

ودخلنا ليلًا إلى الكعبة المشرّفة، وصلّينا في جوانبها الأربعة، وعلى الرخامة الحمراء، وهي ما بين العمود الأخير الذي يلي حجر إسماعيل، والذي قبله، فإن فيها ثلاثة أعمدة من خشب، ممتدة من وسط الحائط الذي بين الركن اليماني ... إلى وسط الحائط الذي يلي حجر إسماعيل وباب الكعبة المشرّفة، قريب من الركن الذي فيه الحجر الأسود، عال عن الأرض بأزيد من قامة، يُصعد إليه بدرجٍ منقول، وقوّام الكعبة الذين بيدهم مفاتيحها هم بنو شيبة منذ عهد الجاهليّة إلى اليوم، ورأينا داخل الكعبة حرّاً شديداً لعدم المنافذ، مع أن ذلك كان في وسط الشتاء، لكنّ شتاء الحجاز كقيظ الشام، وقرأنا في حائطها الداخل، الذي بين الركن اليماني والركن الذي يلي حجر إسماعيل تاريخ تجديد رخامها الداخل من أبي جعفر المنصور المستنصر باللَّه في حدود الستمائة، وهذا هو أبو جعفر منصور بن الظاهر ويلقّب بالمستنصر، وهو والد المستعصم آخر ملوك بني العبّاس، وتاريخ آخر بتجديده من السلطان محمد خان في حدود الثمانمائة، وآخر من بعض الملوك.

الشريف عون

وكان حج السيّد رحمه اللَّه في إمارة الشريف عون، وولاية أحمد باشا والي الحجاز. أما عن علاقة أمير مكة بأهلها فقال رحمه اللَّه: وكان أهل مكة يخافون الشريف عوناً ويبغضونه، خوفاً وبغضاً شديدين، ويميلون إلى ابن أخيه الشريف علي، الذي تولّى إمارة مكة بعد وفاته. ووالي الحجاز من قبل الدولة العثمانيّة ليس له مع الشريف من الأمر شي ء، وعنده عساكر نظاميّة؛ وعند الشريف عسكر يسمّى البيشة.

وبقي سيدنا رحمه اللَّه في مكّة إلى الثامن والعشرين من ذي الحجّة الحرام، حيث خرج منها بطريق البر مع أمير الحج الشامي عبد الرحمن باشا اليوسف، من

ص: 148

أمراء أكراد صالحيّة دمشق.

قال رحمه اللَّه: فخرجنا من مكّة إلى الشيخ محمود، وهو بمسافة ساعة عن مكّة، وكانت أجرة الخشب الشامي من مكة المكرّمة إلى دمشق اثنين وأربعين ذهباً عثمانياً في حمل الحاج علي آغا الشيرازي، وذلك مع أجرة الذهاب والإياب إلى عرفات. وأجرة الكجاوى اثنين وثلاثين ذهباً، والراكب أحد عشر ذهباً.

والشيخ محمود مسمى باسم ولي مدفون هناك، قال رحمه اللَّه: ثم ارتحلنا صباحاً من الشيخ محمود إلى وادي فاطمة كما يسميها أهل الشام، وأهل العراق يسمونها وادي الشريف، وهو الذي كان يسمى بمرّ الظهران، أو بطن مرّ، وهو مكان فيه نخل ونهر جار وهو [على] مسافة أربعة فراسخ عن مكة تقريباً، يباع فيه لحم الضأن الجيّد، والبيض والبطيخ الأخضر والطماطم والليمون الحامض الصغير الأخضر... وغير ذلك، فبتنا فيه ورحلنا منه صباحاً إلى عُسفان، فوصلناه مساءاً، وهو مكان مشهور، له ذكر، وهو الذي حبس فيه هشام بن الحكم الفرزدق الشاعر لمّا مدح الإمام زين العابدين عليه السلام بالميميّة المشهورة.

والمسافة بين عسفان ووادي فاطمة نحو من اثنتي عشرة ساعة، وريّضوا نحواً من ساعة عند منتصف النهار كما هي العادة، ويسمونها راضة الظهر؛ فيبقون الأحمال على الجمال، ولا ينصبون الخيام، فيتغدّون ويصلّون ثم يسيرون.

وعادة الركب الشامي أن يضرب مدفعاً عند النزول وآخر عند الرحيل؛ ولمّا لم يتحقق زوال الشمس قبل المسير صلّينا الظهرين في أثناء السير، وحملنا الماء من وادي فاطمة إلى عسفان، وقيل: إن بعسفان ماءاً، لكن يتعسّر الوصول إليه لدخول الليل، ومنع العسكر المحافظ على الحجاج من الخروج خارج «الزنجير»، أي العسكر المحيط بالحاج من العسكر النظامي والجندرمة، الذين رسمهم أن يسيروا يمين الحاج وشماله حالة السير، ويحيطون به عند النزول، فلا يدعون في الليل أحداً يخرج ولا أحداً يلج إذا لم يعرفوه، فيصيحون به ثلاث مرات، فإن لم يجب رموه

ص: 149

فقتلوه؛ كما وقع ذلك لبعض الحجاج الذين لا يعرفون العربية، وطول الليل يتصارخون، فيصيح أحدهم «كركون» فيجيبه الذي يليه «حازرون»، وهكذا دوراً حتى تنتهي النوبة إلى الأول، فلا يزال هذا دأبهم طول الليل.

وفي الأعيان ذكر السيد رحمه اللَّه هؤلاء الحرس المرافقين للحاج فقال عنهم:

و الجمال قطاران تحيط بهما العساكر السلطانية يميناً و شمالًا، ففي أحد الجانبين عسكر شاهاني على بغال، و في الجانب الآخر «جندرمة» على خيل ذكور؛ و بين كل واحد و آخر مرمى حجر، و أمام الكل قائد معه مدفع على جمل؛ فإذا وصل الحاج إلى المنزل أقام قسم من هذا العسكر بالتناوب حول الحاج ببنادقهم و بين الواحد و الآخر مرمى حجر فيصيح الأول «كركون» فيجيبه الآخر «حازرون» و يصيح للذي بجانبه كركون فيجيبه حازرون حتى ينتهي الدور و يبدأ غيره فلا يزالون كذلك إلى الصبح (1).

قال رحمه اللَّه: وفي ساقة الحاج عسكر من عرب عقيل، موظفون من طرف الحكومة لحمل الضعيف والمنقطع به؛ لكنّهم لا يفعلون ذلك إن لم يسلبوه.

النظام في القافلة الشاميّة

وجاء السيد رحمه اللَّه على ذكر النظام المتّبع في مسير قافلة الحج الشاميّة، فقال: وكان للحاج الشامي من الترتيب والنظام ما يوجب راحة الحجاج؛ من ذلك أنّ السير يكون بقطارين أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار. والحاج قوافل متعددة، ولكل واحدة رئيس، يسمى «مقوماً»، ويسميه العجم وأهل العراق «حملدار»، فيسير كل رئيس بقافلته، ميمنة وميسرة، هذا أولًا وذاك بعده، وهكذا في كل يوم، وجمال كل قافلة لا يتغيّر مكانها، فمن كان بعيره أولًا في أول يوم بقي كذلك إلى آخر يوم، ومن كان في الميمنة، لا يتحول إلى الميسرة، وبالعكس.


1- أعيان الشيعة 10: 363- 364.

ص: 150

وإذا سارت الجمال ليلًا، حمل قائد كل جمل، ويسمّى عكّاماً، فانوساً بيده؛ فيُرى لهم من بعيد صورة جميلة، فيرى الرائي مصابيح تتقد في البر سائرةً صفّين، ولا يرى غيرها. وخيام كل قافلة لها جمال مخصوصة وأناس مخصوصون يسمّون «المهاترة» يسبقون الحجّاج، وينصبونها أول يوم على ترتيب خاص لا يتعدونه إلى آخر السفر، وخيام كل قافلة في مكان مخصوص لا تتعداه، هذه أولًا، وتلك بعدها، وهكذا. وكذلك كل خيمة لها مكان مخصوص لا تتعداه؛ وخيام كل قافلة كأنها بلد بنفسها، بأزقّتها وبيوتها، لا تتغير، فلو ضلّ إنسان في حال السير أو النزول، يهتدي إلى مكانه بأيسر ما يكون، حتى كأنّه في بلده.

وفي ذلك اليوم [يوم المسير من وادي فاطمة إلى عسفان] وقع كثير من الأباعر بأحمالها في أثناء الطريق، ما يقرب من خمسين بعيراً، بعضها قضى نحبه في الحال، وتناولته شفار السودان الذين يسيرون مشاةً مع الحجاج، فقطّعته إرباً إرباً، وربّما كان ذلك قبل خروج روحه؛ وبعضها سلم بعد وضع حمله على غيره، ومداواته بالفصد في أنفه، وصبّ الماء على سنامه وبدنه، وذلك على ما قالوا بسبب سمنها واشتداد الحر، مع أن الفصل شتاء، ولكن من «البارخانة» التي نحن فيها، لم يمت بعير واحد. ورأينا هلال المحرّم بعسفان، ليلة السبت مفتتح 1322. وفي عسفان بئر يسمى بئر التفلة، يقال: إن النبي صلى الله عليه و آله تفل فيها فعذب ماؤها.

الخُليص وتعرّض بعض الحاج للسلب

قال السيد رحمه اللَّه: وخرجنا صباحاً من عسفان، قاصدين الخُليص، بوزن المصغّر؛ فوصلناها منتصف النهار، وماؤها لا بأس به، وفيها البطيخ الأخضر الجيد والقثاء والبصل واللحم وغير ذلك، وفيها بعض النخل، وهي مسكونة من الأعراب، ثم سرنا منها صباحاً، فثار بعض الأعراب على رجلين من أهل معرّة النعمان، معهما بعير وأحدهما راكب عليه، فجرحوا الماشي وأخذوا هميانه بما فيه من النقود وأخذوا الراكب وجمله، فذهبوا به، ولا يعلم رفيقه حي أم ميت؛ رأيته

ص: 151

يمشي في الطريق مضرّجاً بدمائه وقد ورم رأسه من الشمس، حتى أخفى الورم عينيه. وهؤلاء الأعراب- كما قال لنا شيخ الفراشين حينما كنا في داره في المدينة المنورة وعنده بدوي- فقال مشيراً إليه: هذا وقومه يشتغلون في وقت الحج بسلب الحجاج، فإذا انقضى الموسم اشتغلوا بالحرب والغارة بينهم؛ لا شغل لهم إلا ذلك.

فوصلنا إلى الكَظيمة- بفتح الكاف- قبل الغروب بأربع ساعات، وفيها بئر عظيمة وهي مسكونة من الأعراب، يباع فيها التمر والبطيخ واللحم وغيرها، وفيها من البنادق الدولية من كل جنس، حتى إنني رأيت فيها بندقيةً إيرانية؛ وفي مائها ملوحة ورحلنا منها ليلًا في الساعة الثامنة والنصف إلى رابغ، وإنما مشوا ليلًا لبعد المنزل، وخوف سقوط الأباعر من الحر، كما جرى بين وادي فاطمة وعسفان؛ فوصلناها عند الغروب، وهي الجحفة أو قريب منها.

وفي محلٍّ يبعد عنها بعض البعد مسجد غدير خم، وهو مسجد بُني في الموضع الذي نصب فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام وصياً وخليفةً بعده، فنزل في ذلك الموضع في حر الظهيرة، وخطب الناس فقال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا: بلى.

قال: من كنت مولاه، فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه كيفما دار، في حديث مشهور. وكان المسجد متهدّماً، فبناه بعض ملوك الهند من الشيعة، ولم يمكنّا الذهاب إليه لخوف الطريق.

ورابغ ميناء على شاطئ البحر الأحمر، عامرة وماؤها شروب، وفيها قلعة صغيرة بعيدة عن البلد، يسكنها شرذمة من العسكر العثماني، وحين وصول الحجاج رفعوا العلم العثماني، وأطلقوا عدّة مدافع كما هي العادة؛ لكن العداوة بينهم وبين أهل رابغ متأصّلة، فلا يجسرون على الخروج إلى السوق أو لجلب الماء إذا كانوا دون العشرة. وفيها من البنادق الدولية المختلفة الأجناس ما لا يحصى عدده، وهو أزيد مما في الكظيمة، وكذلك أكثر بلاد الحجاز. وجملة من الحاج يشترون

ص: 152

البنادق بثمن بخس ويخفونها في أمتعتهم خوفاً من التفتيش إذا دخلوا الشام. وفيها دهن البيلسان، الذي تداوى به الجراح والرضوض؛ يجنيه الأعراب من شجر هناك، وقد اشترينا منه قنينةً، فلما فتحناها وجدنا أكثرها ماءً؛ وشيئاً قليلًا من الدهن على وجه الماء، فكأنّ هؤلاء الأعراب أخذوا على أنفسهم النهب في كل شي ء.

وثارت فيها العواصف والعجاج الشديد، وقد وصلناها عند الغروب، فبقينا فيها تلك الليلة، ويومها إلى ما بعد العصر، ثم رحلنا منها إلى مكان ليس بمعدٍّ للنزول، فسرنا نحواً من ست ساعات، فوصلناه الساعة الرابعة ليلًا. وبعد الفجر رحلنا منه فوصلنا ضُحى إلى بئر الشيخ، وكانت هي المنزل، لكن خوف سقوط الأباعر من الحر، منع من السير رأساً إليها من رابغ، مع كون الفصل شتاءاً، فسقوا الدواب من تلك البئر، وفي أثناء الطريق آبار كثيرة ماؤها شروب...

ثم رحلنا إلى مكان ليس بمنزل ولا فيه ماء، ثم رحلنا منه إلى المستورة، ورحلنا ضحى من المستورة إلى بئر الحصان فوصلناها بعد المغرب؛ وعند الفجر رحلنا منها إلى خلص، ثم منها إلى بئر الدراويش؛ فوجدنا ماءه قليلًا، والذين تأخروا لم يستقوا شيئاً، ومات بعض الحمير والأباعر تلك الليلة من العطش، ثم رحلنا منها الساعة السادسة ليلًا إلى المدينة المنورة.

بعض صعوبات الطريق

ذكر السيد رحمه اللَّه في الأعيان أموراً لم يذكرها عندما سرد هذه الرحلة في الجزء الثاني من معادن الجواهر، لذا لزم إثباتها، لأنّها تعكس بعض مصاعب السفر في تلك الفترة، قال أعلى اللَّه مقامه: و لما وصلنا إلى مكان يدعى المضيق، وهو طريق ضيّق بين جبلين، جاء الخبر إلى أمير الحاج عبد الرحمن باشا اليوسف الكردي بأن الأعراب وقفوا ببنادقهم على أعلى الجبلين، فإذا مر الحاج تناولوه بالرصاص، فلا يفلت منهم أحد.

ص: 153

و كان لشيوخهم «خاوة» على السلطان، فكان يبعث بها من استنبول، فكان يأكلها من يتولّى إمارة الحاج مع مشاركة غيره، فأرسل أمير الحاج تلك الليلة إلى شيوخهم فأرضاهم، و جمع البيارق التي توضع عادةً فوق الحجاج و نصبها حوله ليوهم الأعراب أن معه عسكراً كثيراً، و سار الحاج في اليوم الثاني في ذلك المضيق بسلام، و لم نزل نسير حتى وردنا المدينة المنورة (1).

المدينة المنورة

دخلنا المدينة المنورة يوم الأحد بعد الظهر، وزال العناء، واشتدّ الفرح والسرور لمّا شاهدنا القبة الخضراء الشريفة والمنائر المنيفة؛ من جميع الحاج.

ودخلنا من باب رأينا في أعلاه مدفعين خارجين من كوتين، ونزلنا في بستان خارج السور، فيه دار، وفيه نخل وبركة ماء يستقي لها على الناضح؛ وهو ملك لبعض «الطواشية» خدام الحرم الشريف النبوي، ويسكنه ويقوم بأعماله بعض النخاولة، فزرنا الحضرة الشريفة النبوية، وقلّبنا الشفاه على تلك الأعتاب الشريفة، وفزنا بنعمة الدخول إلى الحجرة المطهرة بسبب أوراق مأخوذة من الأستانة، تتضمّن الإذن بخدمة الحجرة المنيفة حسب المعتاد.

الدخول إلى الحجرة الشريفة

فذهبنا أولًا إلى بيت شيخ الفراشين لتقييد أوراق الرخصة عنده، وقال لنا:

تأتون في الساعة الحادية عشرة إلى الدكّة التي في الحرم المطهّر، حيث يجي ء المحافظ وهو عثمان باشا، فحضرنا في الوقت المضروب، فوجدنا شيخ الفراشين هناك، ثم جاء ضابط عثماني يحمل نياشين كثيرة، فقال لنا شيخ الفراشين هذا خفية؛ وهو من الشام، فعرّفه بنا وقال له: هؤلاء من أقارب الشيخ أبي الهدى، فقال: ما أكثر من يقرب بأبي الهدى، ثم التفت إليّ وقال: ما اسم أقارب أبي الهدى الذين في حلب،


1- المصدر نفسه: 364.

ص: 154

وفي موضع كذا وكذا؟ فقال له شيخ الفراشين: وهل كل من كان أقارب أبي الهدى يلزمه معرفة جميع عشيرته وهم متفرقون في البلاد؟! فسكت؛ ثم جاء عثمان باشا محافظ المدينة، وشيخ الحرم لابساً العمامة البيضاء والجبّة والقباء، وهو رجل أبيض اللون، أبيض اللحية، طويل القامة، فقام الحاضرون كلّهم وقبّلوا يده، أما أنا فلم أقبّلها.

فجلس قليلًا، وأذّن المؤذن لصلاة المغرب، وكان ذلك الضابط إلى جانبي في الصف، فقال لي: أنا في كل سنة أحج وأزور عن السلطان، وجعل يعلّمني كيفيّة الدخول إلى الحجرة الشريفة، فشكرته. وبعد الفراغ من صلاة المغرب، أتونا بفرجتين بيضاوتين وأتوه بعمامة بيضاء، أما أنا فاكتفوا بعمامتي الخضراء؛ وهكذا كل من يريد الدخول يؤتى له بفرجية، وهو ثوب أبيض محيط بالبدن، يلبسه فوق ثيابه ويتعمم بعمامة بيضاء إن لم يكن متعمماً؛ فدخل محافظ المدينة لابساً الفرجية، وخلفه المأذون لهم بالدخول، وفي يد كل منهم شمعة صغيرة، فيضيئها ويشعل أحد القناديل التي داخل الحجرة الشريفة ليتشرّف بالخدمة؛ ويزور المحافظ ومن معه النبي صلى الله عليه و آله ثم صاحبيه، ثم الزهراء، يتلو لهم الزيارة بعض السدنة، وهم يتابعونه.

و هذا الدخول إنما هو بين الحاجز الحديدي الدائر حول الحجرة الشريفة وبينها، بحيث يمشي الداخل حول حائط الحجرة الشريفة، أما نفس الحجرة فبابها مسدود، ولا يمكن الدخول إليها ولا رؤية القبر الشريف.

مزارات المدينة

قال السيد رحمه اللَّه: وتشرّفنا بزيارة سيد الشهداء حمزة بأحد، وسائر الشهداء؛ والمسافة بين المدينة المنورة وأحد نحو من فرسخ، ولم نتمكّن من زيارة مسجد قبا، مع أنه لا يزيد عن هذه المسافة لشدّة الخوف، فضلًا عن مسجد الفضيخ ومشربة أم إبراهيم وغيرها؛ لكننا تشرّفنا بزيارتهما بعد ذلك، فذهبنا من

ص: 155

الشام في السكة الحديدية وزرناهما بصحبة عرب العوالي.

وبقينا في المدينة المنورة ستة أيام وخرجنا منها بعد الظهر.

طريق الرجوع إلى الشام ومحطاته

كان طريق السير من المدينة إلى الشام يمرّ بمناطق مختلفة، والمسير يتم في طريق معلوم، وهناك أماكن خاصة للنزول معدّة لذلك لأجل الراحة والتزوّد بالماء والطعام؛ وكما وصف السيد رحمه اللَّه بعض هذه المحطات في طريقه من جدة إلى مكة، ومن مكة إلى المدينة كما مر، فإنّه يستمرّ بالوصف على هذا المنوال عند الخروج من المدينة قاصداً الشام؛ قال رحمه اللَّه يذكر المناطق التي مرّ بها بعد الخروج من المدينة المنورة:

الجرف، وهو معسكر المدينة قديماً، وهو على نحو فرسخ منها، ورحلنا من الجرف الساعة السادسة ليلًا إلى بئر جبر فوصلناها أول النهار، وقبل الغروب رحلنا منها إلى اصطبل عنتر، فوصلناه قبل المغرب من اليوم الثاني، فبتنا فيه، وبعد العصر رحلنا منه إلى هدية فوصلناها صباحاً، وماؤها مالح لكنه قريب من وجه الأرض، وفي أي محل حُفر يخرج الماء، فأقمنا بها إلى ما بعد العصر، ورحلنا إلى براقة، فوصلناها بعد طلوع الشمس ولا ماء فيها، وبقينا فيها إلى الساعة التاسعة من النهار، ثم رحلنا منها إلى قلعة الحديد، فوصلناها الساعة الثالثة ليلًا، فبقينا فيها بقيّة تلك الليلة، ونهارها إلى الساعة التاسعة، ورحلنا منها إلى قلعة الزمرد، وهي على ثمان ساعات من قلعة الحديد، وفيها بعض العسكر، فلم نبت بها؛ وواصلنا السير قاصدين سهل مَطَران بالتحريك، فوصلناه عند طلوع الشمس وبقينا فيه إلى ما بعد العصر من ذلك اليوم، ثم سرنا قاصدين آبار الغنم، فوصلناها الساعة الخامسة ونصفاً من الليل، ورحلنا منها الساعة العاشرة ليلًا إلى مدائن صالح.

ص: 156

مدائن صالح

فوصلناها قبيل طلوع الشمس، وأقمنا فيها بقية ذلك اليوم والليلة التي بعده إلى الظهر، وفيها بئر عذب ماؤها وسط القلعة، وهي مدائن ثمود قوم صالح عليه السلام، وبيوتهم المنحوتة في الجبال بدرجها الظاهر للعيان باقية إلى اليوم على أبدع شكل وأتقنه؛ يراها المارّ على الطريق قبل الوصول إلى القلعة، وبعد الوصول إلى المنزل حاولنا الذهاب لرؤيتها فمنعنا عدم الأمن؛ وسمعنا ونحن بالمدائن أعرابياً راكباً على ناقة، ينادي: يا شاري العرض بالعرض، فقلت لأصحابي: ما يقول هذا؟ قالوا: لا نعلم. قلت: يريد المبادلة على ناقته بناقة أو جمل، لا بيعها بدراهم. وقريب منها بلدة تسمى العلا، وذات مياه وبساتين فجاء أهلها إلى مدائن صالح ومعهم الشعير والسمن والتمر الجيد والليمون الحلو والحامض، وهو كبير الحجم للغاية، كثير الماء شديد الحلاوة والحموضة.

ص: 157

طريق صعب.. وخرافة

ثم سرنا من مدائن صالح بعد الظهر قاصدين ظهر الحمراء، فسرنا بقية ذلك اليوم، وتلك الليلة، وساعتين ونصفاً من اليوم الذي بعده، فكانت المسافة نحواً من اثنين وعشرين ساعة، والطريق وعرة جداً، ومررنا بين جبلين على هيئةٍ واحدة وعلوٍّ واحد، كأنهما ساريتان، وبينهما مقدار ممر قطارين من الجمال فقط، والناس يسمّونها جبل أبوطاقة، تشبيهاً لما بين الجبلين بالكوة في الحائط؛ والطريق بينهما في مكان ذي رمال تغوص فيها أيدي الجمال وأرجلها، وتسير صعوداً، وأكثر الناس ينزلون من المحامل عدى العاجز والمرأة، ويعلو هناك الصياح والضجيج من أهل القوافل، وربّما ضربوا بالطبول؛ وأصل استعمال ذلك لتهييج الإبل على السير؛ خوفاً من وقوفها وسقوطها لصعوبة الطريق بسبب الرمل والصعود، لكنّه شاع بين العامة أنّ هذا الصياح لئلا تسمع الإبل حنين فصيل ناقة صالح، الذي هو متغيّب في ذينك الجبلين على زعمهم فتموت؛ والطريق بعد ذلك أكثره صخور ومزالق ورمال.

إن ما مر يعطي صورة عن صعوبة الطرق، والمخاطر التي تحف السائر عليها، وخصوصاً الطرق الصخرية، حيث يكون السائر معرّضاً للسقوط زلَقاً سواء كان راكباً أو ماشياً، عدا عن الإنهاك الحاصل من طول الركوب أو المشي.

الأخضر، واحة الطريق

ثم قال السيد رحمه اللَّه: وبقينا في ظهر الحمراء من الساعة الثانية والنصف نهاراً إلى الساعة التاسعة؛ ثم سرنا بقية ذلك اليوم، وتلك الليلة، ووصلنا في الساعة الثالثة من نهارها إلى المعظم. فكانت المسافة بينهما نحواً من سبع عشرة ساعة، والمعظم فيه قلعة عظيمة، ماؤها من المطر، لكنه لم يكن فيها ماء. وسرنا من المعظم الساعة التاسعة من نهار اليوم الذي وصلنا فيه، فوصلنا الأخضر ضحوة الغد، فكانت المسافة بينهما نحواً من إحدى وعشرين ساعة، والطريق من

ص: 158

المدائن إلى الأخضر ليس فيه ماء، وهو ستون ساعة و قطعناه في ثلاث مراحل، وحملنا الماء معنا من المدائن إلى الأخضر، وفي الأخضر قلعة فيها بعض العسكر؛ وفي وسطها بئر ماءها غزير وعذب جداً، وعليه ناعورة، تديرها دابة، فتصبّ في بركة كبيرة، فإذا جاء الحاج وجدها مملوءة، فلا يخرج حتى ينفذ ماؤها ولولا ذلك لكثر الزحام، ولعلّه يسمى بالأخضر لوجود العشب حوله بخلاف باقي المنازل التي هي قاحلة جرداء، ومن الأمثال فيه «إذا ما وصلت إلى الأخضر، فامش وتبختر» لجودة مائه وغزارته، فبقينا فيه ذلك اليوم والليلة التي بعده إلى الصباح.

إلى تبوك

ثم سرنا حتى وصلنا إلى منزل يدعى ظهر المغر، ليس فيه ماء، فوصلناه الساعة الحادية عشرة من النهار، فبتنا به تلك الليلة وخرجنا منه قبل الفجر بساعتين تقريباً، أعني الساعة الثامنة من الليل فوصلنا إلى تبوك الساعة الرابعة من النهار، وهي بلدة مسكونة بقليلٍ من الأعراب، وفيها آبار كثيرة عذبٌ ماؤها، ونخل وكروم، ونخلها للحكومة، وشرينا منها اللحم والسمن والزبد بثمن رخيص.

وجاءتنا بها بعض الهدايا من الشام، وكان حقّها حسب العادة أن تجي ء إلى مدائن صالح مع الجردة، إلا أن الجردة لاقتنا بالأخضر، والأمانات بعضها وصل في تبوك والأكثر بقي في معان. وهي التي غزاها النبي صلى الله عليه و آله ولم يلاق حرباً. وفيها مسجد يقال: إنه فيه صلّى النبي صلى الله عليه و آله؛ وقلعة مشيدة هي أحسن ما رأيناه من القلاع قبلها.

وكتب على بابها على الكاشي أنها بنيت بأمر فلان من السلطان محمد خان من بني عثمان سنة 1064. وفيها بيوت خربة ومزارع حنطة وشعير. وبقينا بها بقيّة ذلك اليوم والليلة التي بعده إلى الساعة الثامنة ونصف.

ص: 159

محطات مختلفة

ثم خرجنا قاصدين القاع، فوصلناه قبل الغروب بنصف ساعة تقريباً، وهو منزل لا ماء فيه. وخرجنا منه آخر الليل فوصلنا ذات حِج، قبيل المغرب، وهي بكسر الحاء المهملة بعدها جيم، وفيها قلعة جيدة وفيها بعض العسكر، جدّد بناؤها زمن السلطان عبد المجيد، وفيها عيون ماؤها غزير على عمق ذراعين عن وجه الأرض، ماؤها لا بأس به؛ وفيها بعض نخيلات، وتكثر فيها العقارب، أرضها صلبة لا تنزل فيها الأوتاد، وقد شدّوا أطناب الخيام فيها بالحجارة، وسكك الحديد.

وخرجنا منها عند الفجر إلى المدورة، فوصلناها الساعة الثامنة من النهار، وفيها قلعة محكمة، وفي وسطها عين ماؤها عذب جداً، تجري إلى برك ثلاث كبار أعدت للحاج.

وخرجنا منها آخر الليل إلى منزل ليس فيه ماء يسمى: تحت العقبة، فوصلناه بعد العصر، وخرجنا منه آخر الليل إلى منزل يسمى فوق العقبة، ومنه إلى معان، وهي بلدة معمورة، فيها قائم مقام، وهي تابعة لحكومة سوريا، فيها دار للحكومة وجامع قديم محكم البناء، وفيها ماء جار، ومزارع وبساتين فيها أنواع الفواكه، ورمّانها مشهور.

وسرنا منها إلى عَنَزَة، ويكثر فيها العجاج والغبار، من الرياح العاصفة التي تسفي الرمول.

المحطة الأخيرة

وسرنا منها إلى القطرانة، وهي بنواحي مؤتة التي فيها قبر جعفر الطيار عليه السلام ومن استشهد معه من الصحابة، وكانت السكة الحديدية الحجازية وصلت إليها، ومنها ركبنا القطار الحديدي إلى دمشق بعدما تأخرنا فيها عدة أيام، لعدم تيسّر قطار سوى القطارات المكشوفة وامتناعنا عن الركوب فيها.

ص: 160

ومن القطرانة إلى دمشق ست مراحل بسير الإبل، وكان السير فيها قبل السكة الحديدية هكذا على ما قيل لنا: القطرانة، المدورة، الزرقاء (1) وفيها نهر جار، ولها ذكر في التاريخ، ويسكنها الآن مهاجرو الجركس، وهي بنواحي البلقاء الشهيرة في التاريخ، القلعة، الرمثا، المزيريب، الكسوة، دمشق. والخمسة الأخيرة من بلاد حوران، أما بعد وجود السكة الحديدية، فأسماء المحطات هكذا:

القطرانة- سواقة- محجة- ضبعة- جيزة- لبن- قصر- عمان- الزرقاء- سمرا- مفرق- نصيب- ذرعا [أذرعات]- خربة غزالة- ازرع- دير علي- خبب- جباب- مسمية- الكسوة- القدم، ويقال إن فيه أثر قدم النبي صلى الله عليه و آله حين أتى الشام، وأنه وصل إلى ذلك المكان ولم يدخل دمشق- القنوات (محلة بدمشق).

هنا قال السيد رحمه الله: انتهت الرحلة الأولى الحجازية والحمد للَّه رب العالمين.


1- علق رحمه الله في الهامش فقال: وقد مر أن المدورة قبل القطرانة بأربع مراحل، إلا أن تكون هذه غيرها.

ص: 161

صفحات من تاريخ المدينة المنورة

محسن أسدي

احتلّت مكة والمدينة مكانةً مقدسة في قلوب المسلمين وضمائرهم، واهتماماً كبيراً عندهم وعند غيرهم، لما لهاتين المدينتين من موقعٍ كبير في تاريخ الدعوة الإسلامية، فعلى ساحتيهما دارت أكثر أحداثها منذ نشوئها، وإلى يومنا هذا مازالت آثارها وثمارها قائمة؛ فظهور الدين الإسلامي وترعرعه وانتشاره منهما إلى بلدان العالم الأخرى جعل الأنظار تتوجه إليهما بحثاً ودراسة، إضافةً إلى مايترتب على تتبّع تاريخهما و العناية بهما وبشؤونهما- حفظاً- وعمراناً من أجرٍ لصاحبه وثواب عظيمين.

ولأن مكة تضم الكعبة، وهي بيت اللَّه الحرام قبلة المسلمين في كل فرض أو مستحب ودعاء، والمدينة المنورة التي تضم مرقد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خلق منهما حرمان مباركان يقصدهما الحجاج، والمعتمرون، والزوار، والباحثون، من كل أقطار الدنيا.

من هنا، جاءت كتابات وبحوث تاريخية، وميدانية، وجغرافية، واجتماعية، واقتصادية، وتقصٍّ لهما ولأحوالهما في عمق التاريخ من أولى اهتمامات الباحثين

ص: 162

والمحققين، فكثرت الكتب والمجلات والبحوث والمقالات، وأقيمت المؤتمرات والأنشطة الأخرى حولهما، حتى حظيت كل منهما (مكة المكرمة والمدينة المنورة) بما لم تحظ به أيّ مدينة أخرى في العالم.

وقبل أن نتحدّث عن تلك الصفحات التاريخية، عن مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نقف قليلًا عند اشتغال مؤرّخي المسلمين بهاتين المدينتين المقدستين، وبما تضمانه من الكعبة المباركة، والضريح المبارك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، اللذين صارا الباعث الحقيقي لكتاباتهم، وبحوثهم، وأنشطتهم، إذ لولاهما لماكان كلّ ذلك وغيره، حتى نالت دراسة هاتين المدينتين المنزلة الكبرى في دراسة تاريخ المدن الإسلامية، وغدت دراساتهم معالجات دينية، و تاريخية، وجغرافية، واجتماعية، وسياسية، واقتصادية رائعة، لواقع تلك المدن ولشعوبها، وجميع مفاصل حياتها...

نعم قد تكون بعض تلك الدراسات لم تأت بشي ء ذي بال، إلا أن الحال مختلف جداً فيما تناولته بالنسبة لهاتين المدينتين مكة والمدينة، اللتين هما محل كلامنا دون غيرهما من المدن، موضحةً ما يتصل بهما دينياً و سياسياً واجتماعياً..

وما ظهر فيها من شخصيات دينية، وعلماء نحو ولغة، وقرّاء، ومفسرين، ومحدثين، وفقهاء، ومتكلمين، وشعراء، وأدباء، سواء أكانوا من الصحابة أو التابعين.

إن تاريخ هاتين المدينتين بدأ قبل بداية القرن الثالث الهجري، بل ظهر بعضها في أوائل القرن الثاني أو قبله:

كتاريخ مكة، للحسن البصري، الذي توفي سنة 110 هجرية، وفي مكتبة تيمور، بدار الكتب المصرية نسخة منه.

وتاريخ المدينة لابن زبالة، الذي كان حياً سنة 199 هجرية.

ثم تاريخ مكة للأزرقي المتوفى سنة 244 هجرية، فتاريخ المدينة لابن شبة، الذي عاش بين 173- 262 هجرية.

ص: 163

وفي مقالتنا هذه، نقف عند مدينة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة المنورة، يثرب قبل الهجرة وقديماً، وهي تعيش عمقاً تاريخياً نشأة وتطوراً، ثم قاعدةً للدين الجديد، وعاصمةً لدولة إسلامية واعدة رائدة...

يثرب في اللغة

يثرب: ثرّب بتشديد الراء، وثربه وأثرب: الكبش زاد شحمه، والثرب:

شحم قد غشى الكرش والأمعاء رقيق، وفلان قلّ عطاؤه، وفلان منّ بما أعطى.

و ثرب: أفسد وخلط، وثرب فلاناً وعليه: لامه وعيّره بذنبه.

وأثربه: لامه وعيّره بذنبه. والتثريب: التعيير والاستقصاء في اللوم.

وفي التنزيل العزيز: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ». ويقال: ثرّب عليهم- بتشديد الراء- وثرب عليهم فعلهم: قبحه.

وثرّب بتشديد الراء: أفسد وخلط.

وثرّب عليه فعله- بتشديد- الراء- ثرب تثريباً: قبح عليه فعله أو قبحه (1).

هذا في اللغة

أما يثرب قديماً:

فقد انتشر اسمها في نقوش وكتابات غير عربية، كجغرافية بطليموس اليوناني، حيث إن (يثرب) كانت باسم يثربا

وفي كتاب اسطفان البيزنطي باسم يثرب

كما ظهر اسمها في نقشٍ على عمودٍ حجري بمدينة حران (اتربو)

يثرب في القرآن الكريم والحديث:

وقد وردت لفظة يثرب مرةً واحدة إسماً قديماً للمدينة المنورة في قوله تعالى


1- أنظر: مادة ثرب في لسان العرب، والمعجم الوسيط، ومختار الصحاح.

ص: 164

في سورة الأحزاب الآية 13، و على لسان بعض المنافقين:

«وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا...»

أي لا يصحّ لكم الإقامة ههنا حول الخندق، فارجعوا إلى منازلكم.

أما إسمها الجديد، فقد ذكر في القرآن الكريم ثلاث مراتٍ، هي قوله تعالى:

«وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اْلأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ...» (1)

وقوله تعالى:

«ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اْلأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ...» (2)

وقوله تعالى:

«يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اْلأَعَزُّ مِنْهَا اْلأَذَلَّ...» (3)

وقد ورد أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غيّر اسمها من يثرب إلى المدينة، ونهى عن استخدام اسمها القديم فقال: (من قال للمدينة: (يثرب) فليستغفراللَّه...)، وأيضاً سمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأسماء أخرى في عددٍ من الأحاديث النبوية، أهمها: (طابة وطيبة) (4).

بعد هذا، نقرأ صفحات قديمة عن تاريخها، بدأ بمن سمّيت باسمه وظلّت تحمله طيلة حياتها قبل الإسلام، إنه واحد من أحفاد نبي اللَّه نوح عليه السلام.

يثرب حفيد نوح عليه السلام

وقد أجمعت معظم المراجع العربية على أن (يثرب) إسمٌ لرجل من أحفاد


1- التوبة: 101.
2- التوبة: 120.
3- المنافقون: 8.
4- أنظر: مسند الإمام أحمد 4: 285؛ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ و وفاء الوفا.

ص: 165

نوح عليه السلام، وأن هذا الرجل أسّس هذه البلدة فسمّيت باسمه، وهو أمر معروف في الحضارات القديمة أن تسمّى المدن باسم مؤسسها، مثل الإسكندرية نسبة للإسكندر.

ولكن تلك المراجع اختلفت في عدد الأجيال التي تفصل الحفيد (يثرب) عن جده نوح عليه السلام، حيث جاء في بعض أسماء سلسلة الآباء والأبناء في المراجع أنّ (يثرب) وقع في الجيل الثامن بعد نوح، فهو: (يثرب بن قاينة بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح).

فيما جاء في بعضها الآخر أنه كان في الجيل الخامس: (يثرب بن عبيل بن عوض بن إرم بن سام بن نوح).

و مع اتفاق المؤرخين على أن القبيلتين: (عبيل والعماليق) قد سكنتا يثرب على التوالي، إلّا أنهم يختلفون فيمن هي الأسبق، انطلاقاً مما تركه الخلاف في وقوع يثرب حفيد نوح عليه السلام في الجيل الثامن أو الخامس.

ولكن هناك من يرجّح أن قبيلة عبيل هي الأسبق، ثم جاء العماليق أو بعضهم فأخرجوهم منها وسكنوها؛ كما يقول الطبري:... ولحقت عبيل بموضع يثرب، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمّى صنعاء، ثم انحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيل، فنزلوا موضع الجحفة فأقبل السيل، فاجتحفهم فذهب بهم فسميت الجحفة (1).

ومن خلال قراءة المصادر التاريخية وماكتب عن هذه المدينة، نستطيع أن نلخّص ما ذكرته تلك الأقلام بالنقاط التالية، والتي يمكننا تسميتها بالمراحل التي مرّت بها قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه، حتى غدت مدينةً مقدسة ذات منزلة عظيمة وخالدة:

1- لقد ذكرت المراجع التاريخية أن أبناء نوح بعد الطوفان تكاثروا ولم تعد


1- أنظر: تاريخ الطبري 1: 128، وفاء الوفا 1: 156- 165.

ص: 166

المنطقة التي نزلوها تكفيهم، فخرجت مجاميع منهم تبحث عن مكان آخر لها، فوصل فرع (عبيل) بقيادة (يثرب) إلى هذا الموضع، ووجدوا فيه ماءاً وشجراً وجبالًا بركانية تحيط به، وتشكّل حمايةً طبيعية له و لمن يسكنه، فأعجبهم واستوطنوا فيه.

ويقول النسّابون عن (عبيل) هذا: إنه هو الحفيد الرابع أو الحفيد السادس لنبي اللَّه نوح عليه السلام (1).

وأما عبيل هذا، فهو في سفر التكوين: (عموبال) وهو أحد أولاد مقعان (2).

وقد أشار الدكتور جواد علي صاحب كتاب المفصّل- وهو يلتمس ما يثبت وجود قبيلة عبيل في الكتابات القديمة- أشار إلى وجود اسم عموبال في بعض أسفار التوراة التي تذكر أنه ابن من أبناء (يقطان)، كما أشار إلى أن المؤرخ بليتوس يذكر اسم موضع يقال له: (أباليتس) أي العبيليين.

وقد عاش عبيل وأقرباؤه من أبناء نبي اللَّه نوح عليه السلام في منطقة بابل، التي عرفت بتطوّرها زراعياً ورعوياً إلى درجة جيدة، انعكست آثارها فيما بعد على يثرب، التي حلّوا فيها بعد وفاة نوح عليه السلام حينما أصبحوا ملوكاً على يثرب؛ وحدث هذا حينما سار فرع (عبيل) بقيادة يثرب- كما قلنا- من بابل مدة عشرين يوماً حتى وصلوا إلى موضع المدينة هذا، فنزلوه وسموه (يثرب) باسم قائدهم يثرب بن قاينة.

وقد أورد السمهودي في كتابه وفاء الوفا أبياتاً في رثاء هؤلاء العبيليين نسبةً إلى عبيل؛ يستشف من هذه الأبيات مدى تقدّمهم الزراعي والرعوي آنئذ، والذي ترك بصماته وآثاره على الوضع في يثرب.

تقول الأبيات:


1- أنظر: تاريخ الطبري؛ وتاريخ ابن خلدون رواية السهيلي.
2- أنظر: الإصحاح الأول، الفقرة: 22، والاصحاح العاشر، الفقرة: 28.

ص: 167

عين جودي على عبيل وهل يرجع من فات بيضها بالسجام

عمّروا يثرباً وليس بها شفر ولا صارخ ولا ذو سنام

غرسوا لينها بمجرى معين ثم حفوا النخيل بالآجام

وإن كان هناك من يشكّك بهذه الأبيات وصحتها، ويعدّها من نحل القصاصين وأساطيرهم، إلّا أنها- ولا شك- رسمت صورةً- كما يذكرون- لاتباع عبيل تنسجم هذه الصورة مع ما جاء به، وكتبه المؤرخون عن أهل بابل وأنشطتهم الرعوية والزراعية؛ و إن أرض يثرب الخصبة، ووفرة المياه فيها، أمدّت العبيليين بما يساعدهم على زراعة النخيل، وتربية الحيوانات فيها.

إذن، يمكننا وصف الحالة يومذاك في يثرب- كما ذكرتها المراجع التاريخية- بأن هناك أسراً تسكن قريةً صغيرة كثيرة الأشجار والمياه، تربي حيواناتها المدجنة: الإبل، والخيل، والغنم، وتزرع النخيل وبعض الخضراوات، و الفواكه الأخرى، وتستمتع بمحصولٍ وافر ونتاج جيد.. وفي شبه عزلة عن العالم الخارجي البعيد والمجهول، تحميها الجبال والتلال البركانية التي تحيط بالمنطقة ولا تترك منفذاً إليها سوى بعض الدروب التي يمكن مراقبتها وتحصينها.

2- إن أحد أحفاد نوح عليه السلام (واسمه نمرود بن كوش بن كنعان بن نوح)، دعا قومه إلى عبادة الأوثان، فاستجابوا له فعاقبهم اللَّه، وخرجوا من بابل وتفرقوا في جهات مختلفة، ووصل فرع عبيل إلى هذه المنطقة.

3- إن العماليق من أحفاد نوح عليه السلام خرجوا من بابل، واستوطنوا منطقة تهامة إلى مكة، وبقوا فيها إلى زمن ملكهم السميدع، ثم جاءت قبيلة جرْهم فأخرجتهم من المنطقة وسكنت في منطقة مكة، وجاءت مجموعة منهم تسمى (عبيل) بقيادة يثرب، واستوطنت المنطقة وبنت المدينة التي سمّيت باسمه (1).


1- أنظر: المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 1: 343 وما بعدها؛ تاريخ الطبري، الجزء الأول، وفاء الوفا 1: 156.

ص: 168

وهكذا اتفقت المصادر المختلفة على أن تأسيس يثرب كان على يد رجلٍ يتزعم مجموعةً بشرية، هاجرت من موطنها الأصلي بابل في الرواية الأولى، وتهامة في الرواية الثانية، وقسم من الحجاز في الرواية الثالثة، تبحث عن موطن جديد يوفر لها حياةً كريمة، وأن هذه المجموعة وجدت في هذا الموقع أرضاً خصبة، وشجراً كثيفاً، وماءً وفيراً، ووجدت أن هذا الموقع أيضاً يوفر لها قدراً من الحماية الطبيعية، فاستقرّت فيه، وحولته إلى مدينة، وسمته باسم زعيمها: (يثرب).

4- ثم ظهرت مملكة سبأ في اليمن في عهد الدولة المعينية، وما إن قويت شوكة السبئيين حتى تمّ استيلاؤهم على معين وعلى نفوذها، وغدا سلطانهم ممتداً إلى مدينة يثرب، إلّا أنه كان شبيهاً بنفوذ من كانوا قبلهم، وأقصد المعينيين، فلا يتعدى تعيين حاكم على يثرب ويكون هذا الحاكم من أهل يثرب نفسها؛ هذه هي المهمة الأولى، وأما الثانية فكانت تتمحور حول القوافل التجارية التي تمر عبر أراضيها..

لهذا فإننا لا نعثر على تغييرات في أهلها الذين بقوا مشغولين بالزراعة ورعي مواشيهم، فيما اشتغل بعضٌ منهم بتأمين ما تحتاج إليه القوافل التجارية والاستفادة من المتاجرة معها.

ص: 169

وقد عاصرت مملكة سبأ التي كانت بلقيس ملكةً عليها نبيّ اللَّه سليمان بن داود عليه السلام ودولته، وآمنت بما يدعو إليه- بعد أن التقت به- حيث قالت ملكة سبأ كما صرّحت به الآية الكريمة: «.. رب إني ظلمت نفسي وأسلمتُ مع سليمان للَّه رب العالمين» (1).

وقد عمّرت مملكة سبأ كما أخبرنا القرآن الكريم: «لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة وربّ غفور» (2).

ثم وقع سيل العرم، حيث ضعفت وانهارت: «فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشي ء من سدر قليل» (3).

وقد خرجت من مملكة سبأ قبل السيل بقليل قبيلتا: الأوس والخزرج، وهما قبيلتان معروفتان استوطنتا في يثرب.

كان لليهود وجود واضح في يثرب في العصر الجاهلي، كما تجمع على ذلك المصادر التاريخية، وتذكر روايات مختلفة لوجودهم المذكور، وتجمع أيضاً على أنهم جاؤوا إليها من خارج الجزيرة العربية في عدة هجرات متوالية:

الأولى: وقعت في سنة 589 ق م، عندما اقتحم بختنصر البابلي أورشليم، ودمّر الهيكل وسبى معظم أهلها، فهرب جماعة منهم وساروا إلى بلاد الحجاز ونزلوا (يثرب).

الثانية: وقعت ما بين عامي 66- 70 م، عند ما هاجم القائد الروماني تيتوس فلسطين، ودمّر أورشليم ثانية، وشتتهم وأغرق عدداً كبيراً منهم في بحيرة لوط،


1- النمل: 44.
2- سبأ: 15.
3- سبأ: 16.

ص: 170

ففرّ الناجون إلى الحجاز، ووصلوا (يثرب)، وأقاموا فيها مع من سبقهم.

الثالثة: وقعت عام 132 م عندما أرسل الإمبراطور الروماني هارديان، جيشاً إلى فلسطين، فأخرج اليهود منها، ومنعهم من دخولها نهائياً، ففرّ من نجا منهم إلى جزيرة العرب.

و (يثرب) في وقت مجي ء اليهود الهاربين إليها كانت عامرةً بمجتمع يضمّ قبائل عربية، بعضها بقية من العماليق، وبعضها الآخر قبائل توافدت إليها من أطراف (يثرب) القريبة والبعيدة.

وأول من وصل (يثرب) من اليهود ثلاث قبائل هم:

بنو قريظة، ونزلوا عند وادي (مهزور).

وبنو النضير، ونزلوا عند وادي (بطحان).

وبنو قينقاع، و نزلوا في الوسط، ثم انتشروا في أخصب بقاع المنطقة.

ثم تبعت هذه القبائل الثلاث قبائل يهودية أخرى.

وقد سالم اليهود العرب المقيمين في يثرب أول الأمر، وأحسنوا التعامل معهم، وانهمكوا في زراعة النخيل، واتسعت زراعتهم وتجارتهم و الصناعات التي كانوا يتقنونها، هذا من ناحية؛ ومن ناحية ثانية راحوا يدفعون لرؤساء القبائل المجاورة لهم إتاوةً حتى يأمنوا ضررهم و مهاجمتهم، ومن ناحية ثالثة، راحوا يقيمون تجمعات مغلقة لهم، ويبنون حصونهم وآطامهم التي كثرت، وكل هذا جعلهم يستقرّون ويجمعون ثروات كبيرة، أما أحبارهم فقد كانوا يختصّون بالأمور الدينية ويحكمون فيما يقع بينهم من خصومات.

وانتشرت أنشطتهم تلك في الأطراف الشرقية والجنوبية من يثرب، ولم يتحمّسوا لنشر عقيدتهم بين القبائل العربية الوثنية، واكتفوا ببعض الأفراد والأفخاذ التي مالت إليهم ثم تهوّدت تدريجياً؛ و مالبثوا أن سيطروا على الحركة الاقتصادية، وأشاعوا القروض الربوية الفاحشة، وعندما وصلت قبيلتا الأوس

ص: 171

والخزرج المهاجرتين من اليمن، كانوا المتنفذين في يثرب، فطلبوا منهم أن يسمحوا لهم بالنزول في المناطق المجاورة لمزارعهم، وكان اليهود في حاجةٍ إلى الأيدي العاملة لاستثمار مزارعهم وثرواتهم المتزايدة، فسمحوا لهم بالنزول في المناطق غير المأهولة من يثرب، واستخدموهم في مزارعهم، وبدأت بمجي ء الأوس والخزرج مرحلة جديدة من تاريخ يثرب (1)، نتعرف عليها في الفقرة الأخيرة، رقم: 11.

5- هناك قبائل قديمة انقرضت، أطلق عليها اسم: العماليق؛ وقد ذكرت المراجع التاريخية أخباراً عنهم تمتزج بالأساطير، فإسمهم يوحي إلى الأذهان بضخامة أجسامهم، وقد دفع هذا الإيحاء بعض الرواة إلى المبالغة والتهويل، فنقل لنا السمهودي روايةً تزعم أن ضبعاً وأولادها وجدت رابضة في تجويف عين رجل ميّت من العماليق، وأنه كانت تمضي أربعمائة سنة لا يموت منهم أحد، ولا شك أن هذه الرواية وأمثالها من صنع قصّاصين يحرصون على استثارة جمهورهم بالخوارق والعجائب.

وبعيداً عن تلك المبالغات، فإن كلمة عملاق في اللغة تعني الطويل، ويبدو أن تلك القبائل كانت تتميّز بشي ء من الطول والجسامة، ويرى بعض المؤرخين الحديثيين أن سكان الجزيرة العربية كانوا حتى عام 1600 قبل الهجرة ضخاماً، وبقي لهم أحفاد إلى ما بعد ذلك وعرفوا بهذا الاسم، وإن لم يكونوا يحملون ذلك القدر من الطول ولايعمّرون ما يعمر أسلافهم.

والعماليق في كتب التاريخ العربية من أحفاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، كانوا يسكنون مع الأحفاد الآخرين لنوح في منطقة الرافدين، ثم خرجوا مع مجموعات أخرى، وتكاثر أحفاد نوح حتى زاحم بعضهم بعضاً.

وصل العماليق إلى الجزيرة العربية وانتشروا في أنحائها، وسكنت قبائلهم الكثيرة في نجد والبحرين وعمان واليمن وتهامة، وبلغوا أطراف بلاد الشام، وكان


1- أنظر: وفاء الوفا 1: 165- 159.

ص: 172

منهم فراعنة مصر أيضاً، ويذكر الطبري أن الذين سكنوا يثرب منهم هم من قبيلة جاسم.

ويذكر ابن خلدون قبائل أخرى هي: بنو لَفٍّ، وبنو سعد بن هزال، وبنو مطر، وبنو الأزرق. ولا نعرف متى استوطن العماليق في يثرب على وجه التحديد، وربما نزلوها بعد خروجهم من أرض الرافدين. وقد اختلف المؤرخون هل هم الذين أسّسوا يثرب أم قبيلة عبيل؟ وهل انتزعوها منهم؟ وهناك من يعتقد أن العماليق هم من عبيل نفسها؛ والذي يتفقون عليه هو أن وجود العماليق قديم في يثرب سواء في فترة التأسيس أو بعدها مباشرة، ومن المؤكّد أن العماليق وجدوا في يثرب قديماً، وأنهم عرب.

ويرى الطبري أن جدّهم عمليق هو أول من تكلّم العربية، كما أن أسفار التوراة ذكرتهم عدة مرات وسمتهم باسم العماليق حيناً وباسم الجبارين حيناً آخر؛ وذكرت أسماء بعض زعمائهم ومدنهم العربية، فقد عاصروا خروج بني إسرائيل من مصر، واصطدموا معهم في معارك عدة بمنطقة سيناء.

6- وقد أنشأ العماليق في يثرب مجتمعاً زراعياً ناجحاً يحقق الاكتفاء الذاتي، وانهمكوا في زراعة أراضيهم الخصبة وتربية ماشيتهم، وعاشوا حياتهم مستمتعين بوفرة محاصيلهم أول الأمر، وعندما نمت التجارة أسهموا فيها، ووصلت قوافلهم إلى غزة، ولكن تجارتهم بقيت محدودةً لا تعادل تجارة أهل مكة، وآثروا عليها الزراعة بسبب خصب أراضيهم وكثرة مياههم؛ وقد درّت عليهم أعمالهم الناجحة أموالًا طائلة، وخافوا من عدوان القبائل الأخرى التي تجدب أرضهم وتشحّ مواردهم فبنوا الآطام، وهي حصون صغيرة تتسع لعائلة أو بضع عائلات، وتحميهم من غارات الأعداء.

وقد عمّر العماليق في يثرب طويلًا، وقد وفدت عليهم قبائل أخرى سكنت معهم، فالوفرة التي وصل إليها العماليق جعلتهم يقبلون الوافدين إليهم ليستفيدوا

ص: 173

من العمالة الطارئة، فيخفف عنهم القادمون أعباء العمل في الأرض، ويجد أصحاب الأرض فرصةً للتمتع بثرواتهم، وما لبث الوافدون أن استثمروا بعض الأراضي التي لم يستثمرها العماليق في المنطقة، وتحولوا إلى ملّاك وأثروا وجاروا العماليق في حياتهم.

وخلال رحلة السنين الطويلة، حصل تزاوج وتمازج بين العماليق والقبائل الوافدة، وظهرت أجيال جديدة تحمل دماءً مختلطة، وما لبث العماليق المتميزون بضخامة الأجسام أن قلّ عددهم تدريجياً، ولكنهم لم ينقرضوا تماماً، بل بقيت منهم بقية إلى ما بعد وصول اليهود إلى يثرب، ويذكر المؤرخ العربي ابن زبالة أن بني أنيف، وهم حيٌّ أقاموا مع اليهود قبل وصول الأوس و الخزرج، كانوا من العماليق؛ وعندما وصل الإسلام إلى (يثرب) لم يكن قد بقي من هؤلاء إلا أفراد قلائل تميزوا بطول القامة.

7- الدولة الكلدانية نشأت في العراق وكانت عاصمتها بابل، وقد ازدهرت ومدّت نفوذها إلى مناطق واسعة في القرن السابع قبل الميلاد، ووصلت في فترة من الوقت إلى الحجاز؛ وقد عثر في خرائب مسجد حرّان الكبير على نقش يتحدث عن أعمال الملك الكلداني (نبونيد)، وفيها أنه خرج إلى شمالي الجزيرة العربية واستولى على تيماء واستقر بها، ثم استولى على المدن المجاورة وضمّها إليه، وهي:

ددانو (مدينة قديمة معروفة ذكرتها الأسفار العبرانية)، وبداكوا (فدك)، وخبرا (خيبر)، واتريبوا (يثرب)، وظلت خاضعة لحكم هذا الملك عشر سنوات؛ ونبونيد هو آخر ملوك الدولة البابلية الكلدانية، حكم لمدة 16 سنة (من سنة 556- 539 ق. م)، قضى عشر سنوات منها في شمالي الجزيرة العربية تاركاً عاصمته بابل تحت حكم ابنه (بلشازار)، ثم عاد إلى بابل ليدهمهم الملك الفارسي قورش (كُورُش) سنة 539 ق. م، وينهي دولتهم ويجعلها ولاية تابعة لإمبراطوريته؛ وقد صالح أهل يثرب الملك نبونيد ودخلوا في طاعته سلماً بعد أن

ص: 174

ضعف سلطان الدولة السبئية، ودفعوا الضرائب التي كان يجبيها السبئيون منهم إليه.

أحضر نبونيد معه بعض القبائل الكلدانية والأسرى اليهود إلى المنطقة، وأسكنهم فيها وأعطاهم بعض الأملاك التي نزعها من أصحابها العرب وحماهم بقطعاتٍ من جيشه، وكان يخطط لإلحاق المنطقة كلها بمملكته، ولكن الخطة لم تنجح ومات مشروعه مع عودته إلى بابل، غير أن أكثر المستوطنين الجدد بقوا في المنطقة وامتزجوا مع أهلها، ويستدل على ذلك بوجود بعض الألفاظ الكلدانية في لغة أهل يثرب والمناطق الأخرى التي تقع إلى الشمال منها، وخاصة في الزراعة.

8- من المستحيل أن نجزم بسنة محددة نؤرخ بها تأسيس يثرب، فنحن لا نعرف على وجه اليقين كم من القرون تفصل بين نوح، والهجرة النبوية، وما ذكره بعض المؤرخين روايات شفهية لا تستند إلى دليل مرجح.. وكل ما يمكن أن نتوقعه هو أنه حدث في عهود سحيقة على أيدي أمم انقرضت، فعبيل أو العماليق، هي من الأمم البائدة، وليس لدينا آثار تساعدنا على تحديد فترة زمنية معينة للتأسيس، ويضع بعضهم تاريخاً تقريبياً يمتد إلى 1600 سنة قبل الهجرة النبوية، اعتماداً على أن قبيلة عبيل كانت تتكلم العربية، وأن اللغة العربية وجدت في ذلك التاريخ؛ ويقترب هذا التحديد من الزمن الذي وجدت فيه كلمة (يثرب) في الكتابات التاريخية عند غير العرب وفي بعض النقوش المكتشفة.

فقد ورد اسم يثرب في الكتابات عند مملكة (معين)، وذكرت بين المدن التي سكنتها جاليات معينية. ومن المعروف أن المملكة المعينية قامت في جزء من اليمن في الفترة ما بين 600 و 1300 قبل الميلاد، وامتد نفوذها في فترة ازدهارها إلى الحجاز وفلسطين، وعندما ضعف سلطانها كوّنت مجموعة مستوطنات لحماية طريق التجارة إلى الشمال، وكان هذا الطريق يمرّ بيثرب.

ويتفق هذا التاريخ التقريبي أيضاً مع التاريخ الذي يذكره المؤرخون لوجود

ص: 175

العماليق وحروبهم مع بني إسرائيل في شمال الجزيرة العربية وسيناء.

9- يرجّح الباحثون أن (يثرب) قد خضعت للمملكة المعينية وأصبحت واحدة من مناطق نفوذها، وتعد المملكة المعينية من أقدم الممالك العربية الجنوبية التي وصلتنا بعض أخبارها عن طريق المكتشفات الأثرية، ظهرت في شمالي اليمن وازدهرت وامتد نفوذها في الفترة ما بين 630- 1300 قبل الميلاد، وقد ذكرها بعض الجغرافيين الغربيين، مثل (تيودورس) الصقلي (وسترابون) الروماني، أما المؤرخون والجغرافيون العرب فلم تصلهم أخبارها.

يقول عنها ياقوت الحموي: معين: اسم حصن باليمن... ومدينة باليمن تذكر في براقش... قال عمرو بن معد يكرب:

ينادي من براقش أو معين فأسمع واتلاب بنا مليع

وتدل الآثار المكتشفة أن المملكة المعينية كان لها صلات وثيقة مع جاراتها تحوّلت إلى نفوذ وسيطرة، فامتدت سلطتها من جنوبي اليمن إلى الحجاز وحتى فلسطين؛ وقد وجد المنقّبون كتابات معينية تذكر أن يثرب، ومؤان، وعمون، وغزة كانت جزءاً من المملكة المعينية وأرضاً خاضعة لها، وأن ملوك معين كانوا يعيّنون حكاماً عليها باسمهم، ويلقب الحاكم (كبر) أي كبير، ويتولى الحكم باسم الملك، ويجمع الضرائب ويحافظ على الأمن، وهذا يعني أن المعينيين سيطروا على يثرب في فترة تمدّد مملكتهم، أي منذ الألف قبل الميلاد، وعينوا عليها حاكماً من أهلها كما كانوا يفعلون في مناطق نفوذهم الأخرى لتأمين طريق تجارتهم البرية، ولم تكن سلطتهم على المدينة تتعدى الضريبة السنوية المفروضة عليهم، فضلًا عن حماية قوافلهم، ولا نجد في الكتابات القليلة عن معين أي ذكرٍ لحروب خاضوها مع أهل يثرب، ولا أحداثاً متميزة؛ وجلّ ما نجده إشارات تبين أن سيطرتهم كانت على الحجاز بأكمله، ونظراً لضعف هذه السيطرة ظل المجتمع اليثربي مجتمعاً زراعياً ورعوياً في الغالب، ولم يشهد أية تغييرات كبيرة، أللهم إلّا المزيد من

ص: 176

الاستقرار والانتعاش والفوائد التي تأتي بها قوافل التجارة العابرة.

10- الدولة الرومانية وكان ظهورها قبل الميلاد بعدة قرون، واشتدّت وتها فاستولت على ممالك الإغريق (اليونانيين القدماء) ومدت نفوذها إلى بقية أوروبا وغربي آسيا وشمالي أفريقيا، ولكن الرومان لم يستطيعوا التوغل في جزيرة العرب في فترة امتدادهم العسكري الكبير، لأن الصحراء الواسعة تشكل العقبة الكبيرة لجيوشهم النظامية الجرارة؛ ويذكر التاريخ الروماني محاولةً واحدة قامت فيها حملة رومانية باختراق الجزيرة العربية إلى جنوبها للوصول إلى مناطق الذهب في أرض اليمن، وقد جرت هذه المحاولة في عهد الإمبراطور (أغسطس) عام 25 ق. م، حيث أمر هذا الإمبراطور واليه على مصر (أوليوس غالوس) بإعداد الحملة وقيادتها، ورافق الحملة جغرافي معروف هو (سترابون)، صديق القائد (غالوس) وكتب عنها، فوصلتنا أخبارها شبه كاملة.

خرجت الحملة بعشرة آلاف محارب روماني، وألف قبطي، وخمسمائة إسرائيلي، يرشدها أحد قواد الأنباط، وأبحرت من الساحل المصري للبحر الأحمر ووصلت إلى ميناء (لويكة كومة) (يقدر دكتور جواد علي أنها ينبع، بينما يرى فؤاد حمزة أنها مويلح)، بعد أن خسرت عدداً كبيراً من السفن والرجال، وفتك المرض بعدد آخر لفساد الطعام والماء وسوء الغذاء، فاضطرّت إلى قضاء الصيف والشتاء فيه حتى استراح الجيش وتعافى من المرض، بعدها تحركت الحملة إلى نجران، واجتازت عدة مدن وحاربت أهلها حتى بلغت مدينة مرسيبا (مأرب)، ومنها عادت إلى مدائن صالح، ثم أبحرت عائدةً إلى مصر، ولم تحقق الحملة أهدافها ولم تحصل على الذهب الذي خرجت لأجله، كما أنها لم تلحق المدن التي احتلتها بالدولة الرومانية.

وقد تعددت الآراء حول الطريق التي سلكتها الحملة بعد نزولها في (ينبع) أو (مويلح)، ومن بين تلك الآراء رأي يقرر أن الحملة سارت في طريق (إضم) إلى

ص: 177

(يثرب)، لكي تتجنب الاصطدام بالقبائل التي تسكن على الطريق التجاري بين ينبع والجنوب، وأنها تابعت طريقها من (يثرب) إلى (نجد)، ومنها سارت في طريق اليمن إلى نجران.

وذكر سترابون أن ملك تلك المنطقة، ربما كان شيخ قبيلةٍ يدعى الحارث، قد رحب بالرومانيين وساعدهم في اجتياز الطريق؛ وبناءً على هذه الرواية- وهي أرجح الروايات- فإن الحملة قد مرّت بيثرب واستراحت فيها قليلًا وتزودت بما يلزمها من الماء والطعام، فسترابون يذكر أن المنطقة كانت كثيرة العيون؛ ولاشك أن ذكاء الحارث وحسن تعامله مع قائد الحملة قد أفاد (يثرب) وبقية المدن التي مرت بها، فلم يتعرض الجيش لها بسوء، وربما يكون الحارث قد تفاهم مع شيوخ المنطقة ورؤسائها كي يتجنبوا الصدام مع الحملة.

وعلى أية حال، فإن الحملة لم تترك أثراً في (يثرب) أو في حياة اليثربيين، حتى إننا لا نجد لها ذكراً في كتابات المؤرخين القدماء، بل إن الرومانيين بعامة لم يؤثّروا في حياة يثرب وأبنائها على الإطلاق. وكان مرور الجيش الروماني في هذه الحملة هو العلاقة الوحيدة والعابرة معهم.

11- يتفق المؤرخون على أن الأوس والخزرج قبيلتان قحطانيتان، جاءتا من مملكة سبأ في اليمن على إثر خراب سدّ مأرب، وعندما وصلتا إلى يثرب أعجبتا بما

ص: 178

فيها من أرضٍ خصبة وينابيع ثرّة، وقد كان سكانها- وخاصة اليهود- في حاجة إلى الأيدي العاملة لاستثمار الأراضي، فسمحوا لهم بالنزول قريباً منهم بين الحرّة الشرقية وقباء، وكانت ظروف عملهم أول الأمر قاسيةً، وبمرور الزمن تحسنت أحوالهم، فبدأ اليهود يخافون من منافستهم، فتداعى عقلاء الطرفين إلى عقد حلف ومعاهدة يلتزمان فيها بالسلام والتعايش والدفاع عن يثرب إزاء الغزاة، فتحالفوا على ذلك والتزموا به مدة من الزمن، ازداد خلالها عدد الأوس والخزرج ونمت ثرواتهم، ففسخ اليهود الحلف، وقتلوا عدداً منهم وعملوا على إذلالهم.

وبقي الأوس والخزرج على تلك الحال إلى أن ظهر فيهم مالك بن العجلان الذي استنجد بأبناء عمومته الغساسنة في الشام، فاستجابوا له وأرسلوا جيشاً كسر شوكة اليهود فعادوا إلى الوفاق، وعاشوا فترةً أخرى حياة متوازنة، فعندما هاجم تبع بن حسان (يثرب)، وأراد تخريبها وقف الجميع في وجهه حتى رجع عن قصده وصالحهم، وفي هذه المرحلة من الوفاق تحرك أبناء الأوس والخزرج خارج الحزام الذي كانوا محتبسين فيه وبنوا المنازل والآطام في سائر أنحاء (يثرب)، وتوسعوا في المزارع، وصار لكل بطن من بطونهم مواقع كثيرة، حينئذ خطط اليهود لاستعادة سلطتهم عليهم بطريقة جديدة، ترتكز على التفريق بينهم وضرب بعضهم ببعض، فأعادوا التحالف معهم، وجعلوا كل قبيلة منهم تحالف واحدة من القبيلتين الأوس والخزرج؛ تمهيداً لإيقاع الفتنة بينهم، فتحالف بنو النضير وبنو قريظة مع الأوسيين، وتحالف بنو قينقاع مع الخزرجيين، وبدأت كل فئة يهودية تسعر النار في حليفتها على الطرف الآخر وتذكي العداوة والشقاق بينهما.

وما إن نجحت الخطة الماكرة حتى نشبت المعارك بين قبيلتي الأوس والخزرج، واشتعلت الحروب الطاحنة بينهما، ودامت قرابة مائة وعشرين عاماً، وكانت بدايتها بحرب سمير، ونهايتها بحرب بعاث، قبل الهجرة بخمس سنوات، وما بين هاتين المعركتين نشبت أكثر من عشرة حروب، وكان لليهود- كما ذكرنا-

ص: 179

دور في إثارتها وإذكاء أوارها؛ ولم تنته حتى جاء الإسلام فأطفأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله العداء الخطير بينهما بعد هجرته صلى الله عليه و آله إليها كما سنرى؛ وأهم تلك الحروب والوقائع ما يلي:

حرب سمير، وحرب حاطب، و وقعة جحجبا، وموقعة السرارة، وموقعة الحصين بن الأسلت، وموقعة فارع، ويوم الربيع، وموقعة الفجار الأولى، والثانية، وموقعة معبس ومضرس، وحرب بعاث التي كانت آخر الحروب وأشدها عنفاً، حيث راح يستعد لها الفريقان: الأوس والخزرج، واستغرق هذا الإعداد أكثر من شهرين، تغذيه الأحقاد المتراكمة بينهما؛ وفي هذه الحرب تحالف الأوس مع بني قريظة وبني النضير، فيما تحالف الخزرجيون مع مزينة وأشجع، وخالفهم عبد اللَّه بن أبي بن سلول.

وكانت بعاث هي منطقة التقائهما، واقتتلوا فيها قتالًا شديداً، وتضعضع الأوسيون وحلفاؤهم، وقتل عدد كبير منهم وبدؤا بالفرار، ولكن قائدهم حضير الكتائب ثبّتهم، فقاتلوا بشجاعة وهزموا الخزرجيين وحلفاءهم، وهمّوا أن يقضوا عليهم نهائياً حتى صرخ رجلٌ من الأوس: «يا معشر الأوس انسحبوا أو أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب»، ويقصد بقوله هذا اليهود الماكرين.

وقبل هذه المعركة كان لهم لقاء برسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يستثمروه؛ وهو ماجاء في الخبر الذي يقول: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم أياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: هل لكم إلى خير مما جئتم به؟

قالوا: وما ذاك؟

قال: أنا رسول اللَّه، بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى اللَّه، أن يعبدوا اللَّه، و لايشركوا به شيئاً، وأنزل عليّ الكتاب، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

ص: 180

فقال أياس بن معاذ- وكان غلاماً حدثاً-: هذا واللَّه خير مما جئتم له... وإذا بأبي الحيسر، أنس بن رافع، يأخذ حفنة من البطحاء، ويضرب بها وجه أياس بن معاذ ويقول له: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا؛ فصمت أياس، وقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنهم وانصرفوا إلى المدينة.

وكان أياس هذا أصغر قومه إلّا أنه يتمتع بعقل كبير وأدرك ما سيؤول إليه الأمر، إذا لم يأخذوا بما عرضه عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وبه إنقاذهم من الدمار والهلاك الذي وقع فعلًا بعد عودتهم إلى يثرب، حيث وقعت حرب بعاث بين الأوس والخزرج، وقد حلّت الهزيمة بالأوس أول الأمر، ثم دارت الدائرة على الخزرج، ووضع فيهم السلاح حتى صاح من صاح: «يا معشر الأوس، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب». ويقصد بهم اليهود الذين مالبثوا يذكون نار الفتنة بين الفريقين سنين طويلة؛ ولم يسكت غضب الأوسيين حتى أضرموا النار اللاهبة في دور الخزرجيين ونخيلهم.

ويقول الطبري عن أياس: ثم لم يلبث أياس بن معاذ أن هلك.

قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته: إنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل اللَّه ويكبره ويحمده ويسبحه، حتى مات، فما كانوا يشكّون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما سمع.

وبعد تلك الواقعة سئموا الحرب، وكرهوا الفتنة، وأجمعوا أن يتوّجوا- بتشديد الواو- عبد اللَّه بن أبي بن سلول ملكاً عليهم، ليستقروا ويأمنوا، وتنتهي الفتن والمعارك بينهم.

حقاً، لقد أحب اليثربيون محمداً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ومازال هو في مكة المكرمة.

أحبوه حباً عظيماً منذ أن وفقوا لرؤيته، وشاء اللَّه أن يشارك عدد من القبيلتين في بيعة العقبة الأولى، ثم في العقبة الثانية في مكة؛ فكان ذلك بداية لتأليف قلوبهم

ص: 181

وجمعها على الدين الإسلامي الحنيف كما نرى.

فقد التقى بستة من الخزرج، وتحدّث معهم، وسمعوا منه معاني الدين الجديد، ومبادءه القيمة، ومعالمه، ثم قال بعضهم لبعض: «هذا واللَّه النبي الذي تتوعّدكم به اليهود».

كان اليهود يطلبون الفتح عليهم، بنبي يخرج بين عير واحد:

«وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللَّه على الكافرين» (1) ثم قالوا له: «إن بين قومنا شراً، وعسى اللَّه أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك، فلا رجل أعز منك».

وصاروا رسلًا للدين الجديد، يحدّثون قومهم بما فتح اللَّه عليهم عن الدين الجديد، والنبي الجديد الذي كانوا به يحلمون؛ وما إن حلّ العام المقبل حتى أتى منهم اثنا عشر رجلًا من سادة الأوس والخزرج، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينتظرهم في العقبة، فكانت البيعة الأولى، وانتدب شاباً إنه مصعب بن عمير بن هاشم يعلمهم الدين وأحكامه: «إذهب يا مصعب على بركة اللَّه».

ومصعب هذا المملوء إيماناً، و حيوية، ونشاطاً، وهجر حياته الناعمة المترفة بفضل ما عليه والداه من غنى وترف، هجر ذلك كله، والتحق بركب الصالحين المؤمنين، وكانت أولى المهمات أن كلّفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يكون مبعوثه إلى يثرب، ويكون داعيةً لمهمة رسالية، أدّاها على خير وجه... إلى أن اختارته السماء شهيداً في معركة أحد، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقف على قبره يرثيه: «لقد رأيتك بمكة وما أحد أرقّ منك حلة، ولا أحسن لمة، ثم أنت أشعث الرأس في بردة!». في أجواء من العداء التاريخي المرير بين قبيلتي الأوس والخزرج، يقف مصعب يؤدي رسالته، وهو يعلم جيداً أنّ تاريخاً مليئاً بالحروب والدماء والثارات، لا يمكن أن ينسى،


1- البقرة: 89.

ص: 182

والأعداء لا يريدون لهذا التآلف أن يتم، ولا يفرحهم الاتفاق بين العدوّين التاريخيين، حقاً كانت المسؤولية صعبة، والمهمة خطيرة، إلّا أن هذا الشاب وفّق في عمله أيّما توفيق.

كيف تركت يثرب يا مصعب؟

تركتها إسلاماً والحمد للَّه.. يا رسول اللَّه!

وأخذت الدهشة ترتسم على جباه بعضهم: وكيف ذلك، ومنذ فترة كنا بيثرب يا رسول اللَّه، ومازال اليهودي يهودياً والمشرك مشركاً والعداء بين الأوس والخزرج مستحكماً!

فيما راح مصعب يواصل إجابته: ألحمد للَّه يا رسول اللَّه! ما تركت بيتاً في يثرب إلّا ويتحدث بالإسلام ويتلو القرآن.

وخرجوا بعد مضي ثلث ليل بهم مستخفين، يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة، وبسطوا أيديهم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله مبايعين، وهم يقولون: بايعنا على السمع والطاعة في يُسرنا وعسرنا، في النشاط، والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في اللَّه لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى نصرتك إذا قدمت علينا يثرب، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا.

وهكذا راحت هذه البلدة الطيبة تبدأ حياةً جديدة، بحلة جديدة، وعهد رائع، ودين خالد؛ فما إن حلّ نهار يوم الجمعة من شهر ربيع الأول حتى علت أصواتهم رجالًا ونساءً، صغاراً وكباراً بأنشودةٍ تبشر بقدوم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتبتهج بطلعته المباركة عليهم، وتنطلق أنشودتهم الجميلة والبسمة تعلو جباههم وشفاههم:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكرعلينا ما دعا للَّه داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

إذن، هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليهم، و أطفأ العداوة بين القبيلتين نهائياً، وصاروا بفضل اللَّه إخواناً «... واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً...»، وبدأت صفحة جديدة من تاريخ يثرب، إنه تاريخ المدينة المنورة «وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن اللَّه ألّف بينهم إنه عزيز حكيم» (1).


1- الأنفال: 63.

ص: 183

ص: 184

مكّة المكرّمة دراسة في جغرافية المدن

الدكتور سمير الدسوقي عبدالعزيز

تعود المعلومات الواردة في هذه المقالة إلى نهايات القرن الرابع عشر الهجري (1397 ه)، وقد رأت إدارة المجلّة إدراجها لما تحويه من معلومات وفوائد قيّمة.

لا تقتصر وظيفة المدن على تقديم الخدمات الاقتصادية وغيرها لسكّانها أو لسكان المناطق المحيطة فقط، فهناك مدن ذات طابع روحي تقوم على الوظيفة الدينية (1)؛ فلقد كان الدين عاملًا هامّاً في نشأة كثير من المدن، ولا يزال أيضاً من عوامل تطورها ونموها. فالسومريون أقاموا مدنهم للعبادة أساساً، وفي مصر واليونان سميت المدن بأسماء الآلهة: (بوصير- بويسة- أثينا)، وما كان يتأتى لمدينة طنطا ذلك الحجم الكبير لولا العامل الديني.

وفي العصور الوسطى لعب الدين دوراً كبيراً في نشأة كثير من المدن الأوروبية التي ظهرت كمراكز إشعاع ونشر المسيحية، بل إنّ الذي حفظ لأوروبا


1- Beaujau - Garnier, J. and Chabot, G 1971 Urban Geography, London, p, 168.

ص: 185

مدنها خلال تلك العصور وأعاد بناءها بعدها هي الكنيسة.

وكان الإسلام بنّاءً للمدن أيضاً، فالمسجد أوّل ما يقام في المدينة الإسلاميّة الجديدة (الفسطاط- العسكر- القطائع...)، وتحوّل اسم يثرب بعد الإسلام إلى المدينة.

وفي العصر الحديث، يمكن أن نلمس الأثر المدني للدين أيضاً، ففي أمريكا الجنوبية، وفي الأقصاع الشبه قطبية، أقيمت المساكن حول الكنائس، حيث يتردد عليها أصحابها مرّة كلّ أسبوع، (مدن الآحاد).

وهكذا في كل العصور، كانت فترات النشاط المدني هي الانتفاض الديني، وعلى العكس كانت المناطق التي تأخرت كثيراً في حياة المدن هي التي تأخرت في التطور الديني، كالبربر القدماء والجرمان واليابان (1).

ومكّة المكرّمة مدينة دينية وتجاريّة منذ أقدم العصور، فقد حظيت بأوّل بيت وضع للناس، وهي على الطريق الرئيسي بين اليمن والشام، ممّا أكسبها خصائص ومميزات لا تنافسها فيها مدينة أخرى في شبه جزيرة العرب، لذلك نزلت مكّة قبائل عديدة استقرّت حول البيت الحرام الذي تفجّر إلى جواره بئر زمزم كمورد دائم للشرب في وادٍ مقفر غير ذي زرع.

ولقد عوّض البيت العتيق مكّة هذا النقص في الموارد الاقتصادية، فأصبحت مركزاً هامّاً للحياة الدينية والتجارية في الجزيرة والعالم الإسلامي فيما بعد، ونعم سكانها بالأمن والحياة المستقرة.

ولمكّة أسماء كثيرة: بكة، والباسّة، وأم القرى، وصلاح، وأم الرحم، والحاطمة. ويقال: إن بكة موضع البيت، ومكّة هي الحرم كله (2). وهي أم القرى؛ لأن كل ما حولها أتباع لها، وقد أعلن أحد العلماء أن مكة مركز اليابسة في الكرة


1- جمال حمدان، 1972 جغرافية المدن، القاهرة، ص 175.
2- الأزرقي 1965، أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار 1: 280- 282. مطبعة دار الثقافة بمكة.

ص: 186

الأرضية، وذلك في تحقيقٍ استعان فيه بالحاسب الالكتروني وبمعادلات وعمليات رياضية معقدة، أعدّ على أساسه خريطة جديدة للكرة الأرضية (1).

وفي الكتب اليونانية، سميت «مكوربا»، وهو اسم مشتق من كلمة «مكورابا» بمعنى مقدس أو محرم (2) ويرجع تاريخ عمارتها إلى عهد إبراهيم وابنه إسماعيل سنة 1892 ق. م. وفيها ولد النبي محمد، وفيها بعث وظهرت دعوة الإسلام.

الموقع والموضع

1- موقع مكة:

تقع مكة المكرمة في منطقة تحيط بها التلال القاحلة الجرداء (3) على دائرة العرض 25/ 21 شمالًا، وخط طول 49/ 39 شرقاً، وهي عاصمة الأمارة التي تعرف باسمها في غرب المملكة العربية السعودية. وترتفع مكة عن سطح البحر بحوالي 36 متراً، كما تبعد عن ميناء جدة على ساحل البحر الأحمر بنحو 73 كم.

وعلى هذا، تقع مكة ضمن سهل تهامة الساحلي (السواحل الغربية لشبه جزيرة العرب) الممتد على طول ساحل البحر الأحمر من أقصى شماله عند خليج العقبة إلى نهايته الجنوبية عند باب المندب.

ويحدّ سهل تهامة من الشرق جبال الحجاز التي تبدأ على شكل هضبة في الشمال، تأخذ في التقطّع والارتفاع بالاتجاه جنوباً. وهذه الجبال تتكوّن من صخور ما قبل الكمبري التي كثيراً ما تغطيها الطفوح البركانية حيث تعرف بالحرات (4).

ويتميز سهل تهامة بشدة حرارته وركود ريحه وبأرضه الرملية الحصوية والملحية، ولكنها لا تخلو من بعض المواضع الصالحة للزارعة، وهي تلك المواضع


1- حسين كمال الدين 1977، موقع مكة من الكرة الأرضية جريدة الأهرام، القاهرة- العدد الصادر بتاريخ 4/ 2/ 1977.
2- Encyclopedia Britannica 1965, prinded in the U.S.A., p.30
3- Moore, W.G. (1971), The penguin Encyclopedia of places, England, p. 471
4- Fisher, W.B. 1971, The Middle East, London, o. 443

ص: 187

التي غطّتها إرسابات رملية وطينية جرفتها الأودية إلى الساحل.

وسهل تهامة ضيّق في معظمه لاقتراب الجبال من البحر، ولكنه يأخذ شكلًا حوضياً وسهلياً، ويتوغل نحو الداخل لأكثر من 70 كيلو متراً في منطقة مكة ليدخلها في نطاقه.

وبذلك أصبحت مكة بساحلها على البحر الأحمر بوابةً لوسط شبه الجزيرة ومدخلًا طبيعياً إليه، هذا بالإضافة إلى أن مكة في موضع تصل المسافة فيه بين الخليج الفارسي والبحر الأحمر إلى أدناها. وكان لهذا الموقع أهمية كبرى لحياة قريش التجارية، فاستطاعت أن تتصل بسهولة بداخل شبه الجزيرة من ناحية، وبموانئ ساحل الخليج الفارسي من ناحية أخرى. ولقد زاد من أهمية هذا الاتصال ما كانت تعانيه مكة ومدن الحجاز الأخرى من عدم قدرتها على إعالة سكانها أو الوافدين إليها للحج والتجارة، ولكنها بفضل موقعها أمكنها الحصول على كميات إضافية من الطعام مقابل الخدمات التي تقدمها للقوافل المارة.

ص: 188

ولم يكن من حائل برّي يعوق اتصال منطقة مكة بإيران في الشمال الشرقي، أو بالشام في الشمال الغربي، فصحراء النفود تتدرج إلى الشمال في رفق وسهولة، كما أن الطريق الساحلي إلى اليمن سهل ومنبسط إلى حد كبير.

وكانت أهم الطرق التجارية التى سلكتها القوافل في شبه الجزيرة وتمرّ بمكة هي:

1- الطريق الممتد على طول خط الاستقرار الموازي لجبال السراة بين اليمن والشام، ويمر هذا الطريق بكل من نجران- الطائف- مكة- المدينة- مدائن صالح- تبوك، ثم إلى الشام.

2- طريق يمتد من مكة نحو الشمال الشرقي متابعاً موارد المياه في وادي الرمة إلى رأس الخليج الفارسي (1).

ولهذا كان لموقع مكة أهمية تجارية كبرى بين مناطق الاستقرار المحيطة:

فارس والروم شمالًا، واليمن وما وراءها من أرض الحبشة جنوباً (2) وكانت المنطقة حلقة اتصال بين الحضارات الشمالية والجنوبية، ولم تكن في عزلة جغرافية كالتي عاشت فيها كثير من مناطق الاستقرار الكبرى في آسيا الموسمية.

وجاءت شبكة الطرق والمواصلات المدنيّة مؤكدةً لهذا المعنى، فمن أهم الطرق البرية بالمملكة العربية السعودية طريقان، كلاهما يمر بمكة المكرمة:

1- طريق الدمام- جدة: طوله 1500 كم، ماراً بالرياض- الطائف- مكة.

وهو في مقدمة الطرق الرئيسية بالمملكة، سواء من ناحية الهيكل العام أو من الناحية الوظيفية. وأهمية هذا الطريق تعود إلى أنه يربط بين منطقة الخليج الفارسي وموانئ البحر الأحمر، هذا بالإضافة إلى أنه يربط المناطق الثلاث بالمملكة الشرقية والوسطى والغربية بعضها البعض.


1- Kammerer, A. 1929, La Mer Rouge, Le Caire, p. 47.
2- Semple, E.C. 1911, lntluences of Geogrephic Enviroment, London, p.p. 404 - 406.

ص: 189

ثم إن الطريق يصل بين أهم موانئ المملكة (الدمام- جدة) ومراكز العمران الداخلية، وعن طريقه يتم نقل الواردات إلى الداخل، كما أنه يساعد في توزيع فائض الإنتاج الزراعي- خاصة الخضر والفاكهة- بين المناطق، ويعمل في خدمة الحجاج أيضاً.

2- طريق تبوك- أبها: وطوله 2083 كم، ويربط بين الحدود الشمالية والجنوبية للمملكة العربية السعودية، ويعدّ من أعظم الطرق البرية في البلاد العربية جميعاً.

ويمرّ الطريق بعدد من أكبر مراكز العمران في المملكة وأهمها: تبوك- المدينة- جدة- الطائف- أبها- نجران- جيزان. وقد ساعد هذا الطريق على اتصال السعودية بالدول الواقعة إلى الشمال منها حتى أوروبا عبر الأردن وسوريا وتركيا، ويؤدي خدمات كبيرة في نقل المسافرين للحج والزيارة في الدول المجاورة. كما أنه خلال فترة إغلاق قناة السويس (67- 1975 م) كان بمثابة الشريان الذي تم عن طريقه نقل معظم واردات البلاد التى كانت تفرغ في ميناء بيروت، ثم تشحن إلى المملكة بواسطة سيارات خاصة (1).

وبالإضافة إلى هذين الطريقين الرئيسين يربط بين مكة والمناطق المحيطة شبكة من الطرق، تزيد من أهمية موقعها إلى حدّ كبير، ولعل أهم هذه الطرق الطريق الذي يصل بين مكة وجدة، ميناء الحج الرئيسي على البحر الأحمر.

والطريق بين مكة وجدة يتبع طريق الحج القديم، فيبدأ من جدة مخترقاً التلال الرملية الجافة وبعض الأراضي الخصبة في وادي فاطمة. وبعد الشميسي يمر الطريق تحت سفح سلسلة جبال الحجاز الرئيسية عبر وادي شريف الرملي أحد روافد وادي فاطمة، حيث يقوم شاهدان يشيران إلى بداية منطقة الحرم والتي


1- محمّد الرويثي، 1977، الانتاج الغذائي في المملكة العربية السعودية: 143- 144، رسالة ماجيستير غير منشورة قدمت لجامعة القاهرة.

ص: 190

يحرم دخولها على غير المسلمين. ثم يتابع الطريق سيره إلى أن يدخل مكة من ناحيتها الغربية. والطريق من طرق الدرجة الأولى، وطوله نحو 73 كم.

وعند «الشاهدان» يخرج طريق فرعي- طريق الخواجات- ليدور حول مكة من الجنوب إلى أن يتصل بطريق مكة- الطائف خارج منطقة الحج في منى وعرفات. ويتبع الأجانب هذا الطريق عند اتجاههم إلى مدينة الطائف.

ويربط بين مكة والطائف طريقان: الأول: الطريق الشمالي الذي يتبع وادي فاطمة ثم وادي اليمانية، وقد هجر هذا الطريق منذ عام 1965 م عندما بدأ تشغيل الطريق الثاني.

أما الطريق الآخر، فيبدأ من شرق مكة مخترقاً منطقتي منى وعرفات، ثم يصعد منطقة الجبال بين مكة والطائف في طريقٍ كثير الانحناءات، يتعرض للانقطاع عند سقوط الأمطار الغزيرة فوق «منطقة الهدا» التي ترتفع نحو 5000 قدم فوق سطح البحر قرب مدينة الطائف، فتسقط كتل من الصخر على الطريق، وتتوقف الحركة عليه. وقد يستمرّ التوقف أحياناً لعدة أيام حتى تتم إزالة الصخور وإصلاح الطريق وتأمينه للمسافرين. ويبلغ طول الطريق نحو 87 كم، منها 17 كم في المنطقة الجبلية.

والطريق الثاني- وهو المستخدم حالياً- لا تتوقف الحركة عليه وخاصة في موسم الحج أو في فصل الصيف، وهو مزوّد بوسائل الإرشاد ونقط الإسعاف، ومع ذلك فالحوادث الخطيرة كثيرة، مما دفع الحكومة لأن تعهد إلى إحدى الشركات مهمّةَ رصف الطريق الأول وإعادة تشغيله. وقد أوشكت الشركة على الانتهاء من عملها، وينتظر أن يبدأ التشغيل قريباً. والطريق طوله نحو 145 كم، ويساعد في تخفيف الضغط على الطريق المستخدم حالياً، كما أنه يمرّ في مناطق زراعية خصبة توفر لمدينتي مكة وجدة جزءاً من احتياجاتهما من الخضر أو الفاكهة.

كما يربط بين مكة والمدينة طريق مرصوف طوله حوالي 485 كم (335 كم

ص: 191

في خط مستقيم)، ويتبع الطريق من مكة وادي فاطمة إلى أن يلتقي بالطريق الموصل بين المدينة وجدة عند بدر تقريباً، ثم ينحرف نحو الشمال الشرقي مخترقاً الجبال ليدخل المدينة من ناحيتها الجنوبية الغربيّة. وظل يطلق على هذا الطريق لفترة طويلة اسم «الدرب السلطاني» (1).

هذا بالإضافة إلى عدد آخر من الطرق التي تربط بين مكة والقرى المحيطة بها في كل من وادي فاطمة أو منطقة خليص الزراعية الخصبة، وكذلك تلك التي تربط بين مكة وجعرانة، أو بين مكة ومنطقة شعائر الحج في منى وعرفات والمزدلفة.

والطرق الأخيرة متسعة وفسيحة، أزيلت بعض التلال التي كانت تقف عقبةً في طريقها خلال السنوات الأخيرة، وقد يصل عرض بعضها فقط لأكثر من مائة متر. ومنذ عام 1972 م، بلغ عدد الطرق الموصلة بين مكة ومنطقة شعائر الحج خمس طرق مزودة بجسور علوية لتسهيل حركة الحجاج وتنقلاتهم.

وعلى هذا، يمكن أن نقول بأن مكة المكرمة ذات موقع هام في غرب شبه جزيرة العرب، فهي في ملتقى طرق المواصلات بين الشمال والجنوب، وفي منطقة تبلغ المسافة فيها بين شرق الجزيرة وغربها أقلّ قدر لها، مما جعل منها مدخلًا لوسطها، كما أن توافر مصادر المياه هيأ الاستقرار لسكانها منذ آلاف السنين.

2- موضع مكة:

تتحدّد مواضع المدن الدينية في العالم غالباً بأحداث أو رؤى ومعتقدات، أو بموضع قبر كان يرى الناس في صاحبه الخير والصلاح، أي إن مواضع هذه المدن لا تخضع للمنطق الجغرافي.

ولقد تحدّد موضع مكة حيث الحجر الأسود في بطن وادي إبراهيم الذي ينحدر من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وفي شرق وادي إبراهيم يرتفع جبل


1- عبدالعزيز كامل 67/ 1968، جغرافية الإسلام في عصر النبوة: 129، مطبوعات معهد الدراسات الإسلامية، القاهرة.

ص: 192

قعيقعان، وإلى الغرب منه جبل أبي قبيس. ويطلق على الجبلين: «الأخشبان» حيث لا ينمو عليهما من النبت إلا القليل، كما أن سفوحهما جرداء تتناثر فيهما المغارات التي تتفاوت عمقاً واتساعاً، ويأوي إليها البدو خلال الشتاء.

وعند حضيض أبي قبيس ترتفع ربوة صغيرة هي الصفاء تقابلها في الجنوب الشرقي ربوة أخرى هي المروة. وفي منتصف الطريق بينهما تهبط الأرض في بطن الوادي.

وإلى جنوب قعيقعان وغرب أبي قبيس يرتفع جبل عمر، وكان اسمه العاقر في الجاهلية. ويطلق على الجزء الشمالي من قعيقعان «جبل الهندي» لسكنى الهنود فيه.

هذه هي الجبال الرئيسية المشرفة على مكة. ولكن إذا رجعنا إلى الخريطة الكنتورية لوجدنا جبالًا أخرى كثيرة أقل حجماً وأهمية، وبعضها أجزاء من الكتل الرئيسية الثلاث أو امتدادات لها. وقد أدى توزيع الكتل الجبلية حول مكة بهذا الشكل إلى تحديد مداخلها تحديداً دقيقاً، قصرها على ثلاثة، هي:

1- المدخل الغربي: بين جبلي قعيقعان وعمر، وهو الموصل إلى جدة، ويعتبر أهم مداخل المدينة.

2- المدخل الجنوبي: في مسفلة مكة، ويسمى طريق اليمن.

3- المدخل الشمالي: من المعلاة، ويوصل إلى منى وعرفات والطائف.

وتؤدي هذه المداخل- أو الطرق- الثلاث إلى بطن مكة، وبينها اتصالات حول جبل قعيقعان. فهناك طريق يتفرع من الطريق الغربي ويتجه شمالًا ماراً بالحجون إلى وادي فاطمة إلى الظهران، حيث يلتقي بطريق آخر يتفرع من الطريق الشمالي ويتصل طريق الحجون بطريق الشمال في معلاة مكة بطريق كدا شمال جبل الهندي.

وتمتدّ مكة المكرمة من الشرق إلى الغرب لمسافة ستة كيلو ونصف

ص: 193

الكيلومتر، ومن الشمال إلى الجنوب لمسافة سبعة كيلو ونصف الكيلومتر، ويبلغ إجمالي مسطح المدينة شاملًا الأراضي المستخدمة للإسكان والخدمات والمرافق العامة والجبال المأهولة بالسكان- عام 1974- نحو 1651 هكتاراً.

أما أبعاد المنطقة الحرام فغير محدّدة بمسافة معينة في كل اتجاه، فهي تتخذ شكل المعيّن أو الشكل غير قائم الزوايا الذي يبدأ من مسافة 40 كم من الشميسي- على طريق جدة- ومسافة 19 كم من التناعيم- على طريق نجد-، ونفس المسافة تقريباً على طريق اليمن. هذا بينما تبدأ المنطقة الحرام في عرفات على بعد نحو 9 كم فقط في اتجاه الشرق في وادي النعمان، وفي المنطقة الأخيرة يقع مسجد نمرة.

وهكذا يمكن القول بأن مكة المكرمة تقوم في بعض الوديان المحاطة بعددٍ من المرتفعات والتلال التي زحف عليها العمران بدورها في كثير من أجزائها. ويعتبر وادي إبراهيم الذي يضم قلب المدينة، ويحتل وسطه المسجد الحرام (ويضم بدوره الكعبة المشرفة، وبئر زمزم، ومقام إبراهيم، ومنطقة السعي بين الصفا والمروة) أهم الوديان جميعاً، وتبدأ منابعه من جبل النار (150 متراً فوق سطح البحر) ومجموعة المرتفعات الشمالية الشرقية لمكة بالقرب من جعرانة (20 كم من مكة)، حيث الروافد من الجبال المحيطة كجبل النور (560 متراً) وجبل تعبة (872 متراً) ما بين منى ومجرى الوادي الرئيسي، هذا بالإضافة إلى روافد أخرى تأتي من الجبال المحيطة بمنطقة المعابدة، مثل جبل المسكين ما بين المعابدة والروضة والملاوي، ويزيد ارتفاعه على 470 متراً.

وبمواصلة السير مع وادي إبراهيم نحو المصبّ نجد أنه يسمى بالخريق، وهي منطقة تحيط بها المرتفعات من الشرق والغرب. وتسمى المرتفعات الغربية بالحجون (وإلى جنوبها جبل المدافع). أما الشرقية فأكثر ارتفاعاً وتقطعها الشعاب، مثل شعب عامر الذي يلتقي مع وادي إبراهيم في منطقة الغزة، وشعب

ص: 194

علي الذي يلتقي معه في منطقة سوق الليل. وفي الغزة يقع جبل قعيقعان وجبل النقاء ثم جبل الهندي غرب الشامية، وجبل عمر الذي شقّ عبره طريق ليصل بين منطقتي الشبيكة والحفائر.

وإلى الشرق من الوادي- والحرم- يقع جبل أبي قبيس الذي يطلّ على شعب علي من الشمال. أما إلى الغرب والجنوب منه فهناك جبل خندمة الذي يفصل بين منطقتي أجياد والعزيزية، وفي الأول تقع جبال السبع بنات والمصافي وريع بخش وسلاسل، ويتراوح ارتفاع هذه الجبال ما بين 420- 592 م. وعلى جبال سلاسل تقوم قلعة أثرية قديمة شيّدها الأتراك لتطل على الحرم من ناحيته الجنوبية.

وفي شمال غرب الحرم- منطقة حارة الباب- تقوم عدة جبال، أهمها جبل الكعبة (467 م)، وريع الرسان (453 م)، وهما من الجبال المأهولة بالسكان؛ نظراً لقربها من الحرم وقلب المدينة التجاري.

وبعد أن يترك الوادي منطقة الحرم يخترق مسفلة مكة، حيث ينتهي في آخرها. والمسفلة تعتبر أكثر جهات مكة انخفاضاً، ولهذا تكثر فيها الآبار، مما ساعد على كثرة البساتين التي يمتلكها بعض كبار التجار، ويجد فيها سكان مكة متنفساً لهم.

وبالإضافة إلى وادي إبراهيم هناك أودية أخرى عديدة، أهمها وادي العشر الذي تكوّن من تجمّع بعض الروافد المنحدرة من مرتفعات شمال مكة، ويتجه في امتداده صوب الغرب حيث طريق مكة- جدة وأحياء الشهداء والزاهر والنزهة.

ويغذي وادي العشر أودية فرعية، منها وادي الرحا ووادي الرصيفة ووادي دبرة، ولكن أهمها وادي البحر الذي يسمى بهذا الاسم نظراً لاتساعه وغزارة المياه التي يجلبها، حيث ينبع من مجموعة جبلية يتراوح ارتفاع قممها ما بين 700- 960 م في شمال الشميسي.

ص: 195

أما وادي الرصيفة، فيمتد من العتيبية إلى جرول فالتنضباوي، حيث يصل إلى شارع منصور- أحد شوارع مكة الرئيسية-، ثم يلتقي وادي إبراهيم مع نهاية المسفلة في منطقة الرصيفة التي استمدّت اسمها من اسم الوادي، وفي وادي الرصيفة يقع بئر طوى، ويحيط به جبل أبي لهب وجبل ربع الكحل.

ومن جبال مكة ذات الأهمية الخاصة لدى المسلمين جبل النور (634 م) في الشمال الغربي، وجبل عرفات، وجبل الرحمة في الشرق (340 م)، ثم جبل ثور في الجنوب.

وجبل النور يقع فيه غار حراء، وقد أنشئ في قمته خزان لتجميع مياه الأمطار، ويصل إليه طريق معبّد. أما جبل عرفات فتصعد إليه جموع المسلمين في يومٍ عرف باسمه. وفي جبل ثور يقع غار الهجرة النبوية.

ومعظم جبال منطقة مكة مأهولة بالسكان، وخاصة القريبة من الحرم. أما ما يقع منها في منطقة شعائر الحج في منى وعرفات فتقتصر الحياة فيها على موسم الحج فقط، كما يتردد عليها الزوار في مواسم العمرة.

وكان لموضع مكة في منطقة سهلية منبسطة- أو حوض مغلق- تحيط به الجبال ذات الشعاب، بحيث تكاد تغلقه من كل الجهات إلا في مخارجه الثلاثة، بالإضافة إلى حرمتها الدينية، أن أصبح المستقرون في هذا المكان أو العابرون له في غنى عن بناء أسوار الحماية، حيث يمكن للقافلة أن تتحصّن في الشعاب بواسطة حراسها.

ومكة في هذا الأمر تنفرد بهذه الخاصية عن كل محطات القوافل ومدن التجارة على طول الطريق بين الشام واليمن، والتي تتخذ من الحصون والأسوار دروعاً واقية من هجمات المغيرين. أما في مكة فليست هناك أسوار حماية.

ومما ساعد هذا الموضع على اكتساب منزلة رفيعة مميزة تفجّر عين زمزم في وسطه، والتي تستمد منها القوافل حاجتها من المياه. والمعروف أنه حيثما وجدت

ص: 196

المياه الدائمة الوفيرة في منطقةٍ صحراوية مثل مكة تحولت إلى مدن تعمل في التجارة وخدمة القوافل، هذا بالإضافة إلى اكتساب مكة حرمةً خاصة نظراً لوجود الكعبة المشرفة بها.

وعلى هذا، لم تكن قريش والقبائل الأخرى التي استقرت بمكة في حاجةٍ إلى تخطيطها على أساس دفاعي كما لم يكن هناك ما يدعو إلى بناء حصون أو أسوار- أبواب- ضخمة تتحكم في الوافدين إليها أو الصادرين عنها. ومن هنا كان لتخطيط مكة طابع خاص، يعتمد على قداسة البيت والمركز الديني المرموق، بالإضافة إلى طبيعة الموضع.

وعند هذا الحد يمكن أن نكوّن تصوراً عريضاً لموقع وموضع مكة، فهي المنطقة التي يتقابل فيها سهل تهامة الساحلي مع مجموعة الجبال والتلال الجرانيتية الظاهرة من مجموعة القاعدة الجيولوجية والتي إليها العمران في كثير من أجزائها.

ويفصل بين التلال مجموعة من الأودية، أهمها وادي إبراهيم الذي يضم قلب المدينة التجاري والمنطقة السكنية الرئيسية، وفي مركزها المسجد الحرام.

كما يقع هنا أيضاً المنزل الذي ولد فيه النبي وعيادات الأطباء والمستشفى الرئيسي للمدينة وجبانة المعلاة والبريد والبرق.... وكانت مكة فيما مضى ملتقى القوافل المتجهة إلى الشام واليمن. يفد إليها التجار والحجاج من كل مكان في العالم الإسلامي. وفي الوقت الحاضر تأتي مكة في ملتقى أهم طرق السعودية التي تربط بينها وبين مختلف أنحاء البلاد وخاصة مداخلها الشمالية والجنوبية، حيث تصل جموع كبيرة من الحجاج عن طريق السيارات لأداء فريضة الحج أو العمرة.

مناخ مكة

نظراً لموقع مكة الداخلي في نطاق الإقليم الجاف- الصحاري المدارية وشبه المدارية- فقد تميزت بالسماء الصافية. وعظم تأثير ضوء الشمس في رفع درجات الحرارة؛ فمتوسط درجة الحرارة السنوي لا يقل عن 2712 م. والجدول التالي يبين

ص: 197

درجات الحرارة العظمى والصغرى خلال شهور السنة بمنطقة مكة:

الشهر متوسط درجة الحرارة العظمى متوسط درجة المتوسط الحرارة الصغرى

يناير 6 ر 29 2 ر 17 4 ر 23

فبراير 7 ر 30 3 ر 18 1 ر 24

مارس- ر 31 1 ر 19- ر 25

أبريل 8 ر 33 3 ر 21 5 ر 27

مايو 2 ر 34 2 ر 23 7 ر 28

يونيو 8 ر 35 1 ر 23 4 ر 29

يوليو 6 ر 37 2 ر 24 9 ر 30

أغسطس 2 ر 36 4 ر 25 3 ر 30

سبتمبر 7 ر 34 1 ر 25 9 ر 29

أكتوبر 8 ر 34 8 ر 20 8 ر 27

نوفمبر 2 ر 32 7 ر 20 4 ر 26

ديسمبر 9 ر 29 7 ر 18- ر 24

4 ر 33 5 ر 21 8 ر 27

ومن الجدول يتضح أن متوسط الحرارة خلال شهور الصيف (مايو- أغسطس) مرتفع، ويصل إلى نحو 30 م، ثم يأخذ في الانخفاض حتى يصل في شهور الشتاء إلى 2412 م. ويلاحظ أن أكثر شهور السنة حرارةً هو شهر يوليو (9 ر 30 م) وأقلّها حرارةً شهر يناير (4 ر 23 م). ولعل ارتفاع درجة الحرارة في مكة طوال معظم شهور السنة يعود إلى إحاطتها بالجبال التي تمنع عنها المؤثرات البحرية. وكان لذلك أثره على الفروق الحرارية بين الصيف والشتاء، حيث تصل إلى نحو 6 م فقط.

ومن دراسة الجدول أيضاً نلاحظ عدم وجود تغيّرات موسمية واضحة في درجات الحرارة، وخاصة درجات الحرارة العظمى، وهذا هو طابع الجهات المدارية الجافة بوجه عام. أما المدى الحراري فهو غير واضح بين الشهور، ولكنه أكثر وضوحاً بين الليل والنهار، حيث يبلغ أكثر من عشر درجات. وسبب ذلك

ص: 198

بطبيعة الحال يعود إلى الجفاف والبعد عن المؤثرات البحرية.

أما من حيث الأمطار على منطقة مكة فإنه على الرغم من قربها من البحر الأحمر والذي لا يبعد عنها أكثر من 73 كم، إلّاأنه نظراً للخصائص المناخية التي تميزه، ووجود الجبال كحاجز بينها وبينه، فإن أهميته كمصدر للأمطار محدود للغاية، بينما المصادر الحقيقية تقع فوق البحر المتوسط؛ ولذلك فإن الأمطار هنا تخضع في سقوطها لنظام هذا البحر، إنها تسقط خلال الشتاء. أما الفترة الواقعة بين شهري يونيو وأكتوبر فإنها فترة جافة عديمة الأمطار. والتباين في كمية المطر الساقطة خلال الشهور أكثر وضوحاً كلما قلّت كمية الأمطار السنوية. ويمكن أن نرجع ضآلة الأمطار أيضاً إلى الانخفاض النسبي الذي يميز الجبال المحيطة بالمنطقة، سواء في اتجاه الهضبة الداخلية أو في اتجاه البحر بوجه عام.

ومعظم مياه الأمطار تنصرف عبر الأودية، خاصة وادي إبراهيم، مما ينتج عنه أحياناً بعض السيول المدمرة، آخرها تلك التي حدثت في عام 1974 م وشهدها الباحث، وتسبّبت في وقوع خسائر جسيمة في الأرواح والأموال، وتبذل الجهود لمواجهة مثل هذه السيول المفاجئة والمدمرة بإقامة عدد من مصارف الأمطار، خاصة في منطقتي الحرم والمسفلة، أكثر جهات مكة انخفاضاً.

ص: 199

والرياح الشمالية هي الرياح السائدة خاصة في الشتاء سرعتها في هذا الفصل بين 40- 60 كم/ ساعة، ويزيد من حدة تأثيرها صفاء السماء وقت الهبوب، وكذلك اختلاف اتجاهاتها بصورة فجائية بسبب عامل التضاريس المحلية، مما يسبب أضراراً بالغة للزراعات القليلة بالمنطقة، وبخاصة زراعات الخضر والفاكهة وأشجار النخيل؛ نتيجةً لجفافها وإثارتها للغبار المتراكم فوق التلال المحيطة بالمنطقة.

وفي فصل الصيف، تهبّ على منطقة مكة نوع من الرياح المحلية تعرف برياح السموم، تشبه في خصائصها رياح الخماسين في مصر إلى حد كبير، حيث تؤدي إلى رفع درجة الحرارة بشكل واضح، ولكنها في نفس الوقت تساعد على نضج ثمار النخيل.

مصادر المياه في مكة

وهي من أهم مشكلات مكة باعتبارها مدينة حج في بيئةٍ جافة، ومع ذلك تشهد طوفاناً بشرياً في موسمٍ معين من السنة. ولما كان نمو المدن يتأثر كثيراً بمقدار ما يمكن تدبيره من مياه لاستخدامات السكان المتعددة، والتي تتمثل أساساً في الاستخدامات الشخصية، ثم في النواحي الاقتصادية- وأهمها الصناعة- فإنه بالنسبة لمكة نجد أن الاستخدامات الأولى تمتص النسبة الكبرى من مواردها المائية، بالإضافة إلى بعض الزراعات الصغيرة، في مدينة لا تضم سوى بعض الصناعات الخفيفة أو اليدوية التي لا تستهلك من الماء إلّاالقليل، ثم تأتي بعدها الأغراض الأخرى.

وتواجه مكة المكرمة مشكلة مياه متجددة مرتبطة بنموّها السكني والسكاني، خاصة وأنه قد صاحب ذلك تعدد ونمو في وظائفها، وذلك بسبب اعتمادها القديم والدائم على مجموعةٍ معينة من الآبار، ومن مستوى ماء باطني ثابت قليل العمق غالباً.

ص: 200

وتحصل مكة على المياه من مصدرين:

1- مصادر تملكها الدولة (إدارة عين زبيدة والعزيزية).

2- مصادر خاصة يتملّكها الأفراد ممثلةً في عدد من الآبار داخل مكة أو بالقرب منها.

ومعظم استهلاك مكة من الماء تحصل عليه من المصادر الأولى (عين زبيدة والعزيزية)، وتسحب المدينة نحو 600 ر 21 م 3 من المياه يومياً، أو ما يعادل 8 مليون متر مكعب في السنة حسب البيان التالي:

المصدر نوعه متوسط الكمية الوادي ملاحظات يومياً بالمتر المكعب

عين زبيدة نبع 3500 النعمان تنقل المياه إلى مكة بواسطة قناة من الحجارة مغلفة بالبلاط في بعض أجزائها.

عين العزيزية نبع 3600 فاطمة تستهلك الزارعة المحلية كمية مماثلة لاستهلاك المدينة من هذين المصدرين.

عين صلاح نبع 2000 فاطمة

عين مودي نبع 5000 فاطمة

عين القشاشية بئر 6500 فاطمة تعمل عليه مضختان.

بئر العابدية بئر 2000 النعمان تعمل عليه مضخة واحدة.

وجميع هذه المصادر تبعد عن مكة مسافة تتراوح بين 22- 28 كم.

وباستثناء عين زبيدة التي تنقل مياهها عن طريق قنوات مغطاة أنشأها الأتراك، فإن مياه العيون أو الآبار الأخرى تنقل إلى مكة بواسطة سيارات أعدت لهذا الغرض.

أما مصادر المياه الخاصة، فيبلغ عددها 206 آبار، تزوّد المدينة بمصدر إضافي للمياه يعتمد عليه نحو 15% من سكانها. وبالرغم من عدم معرفة كمية المياه التي تتدفق من هذه الآبار على وجه الدقة- لعدم وجود بيانات- إلّاأنها لا تقل بحال عن مليونين من الأمتار المكعبة سنوياً. والجدول التالي يوضح مواقع الآبار

ص: 201

الخاصة في مكة:

الموقع عدد الآبار الموقع عدد الآبار

المسفلة... 34 المعابدة... 29

جرول... 73 شارع المنصور... 23

أجياد... 20 النزهة وأم الدرج... 15

الشهداء... 12 جملة... 206

ويستفاد من بيانات مصلحة عين زبيدة والعزيزية والدراسة الميدانية أن متوسط استهلاك الفرد من المياه يومياً يقدر بنحو 68 لتراً، وهو معدل منخفض حتى إذا ما قورن بمعدلات الاستهلاك الفردي في البلدان ذات المستوى الصحي المقبول، وهو لا يقل عن 90 لتراً في اليوم للشرب والطبخ والاستحمام وغسل الأواني وفي دورات المياه.

وهذا الاستهلاك الفردي المنفخض ظاهرة تدعو إلى القلق خاصة من ناحية الصحة العامة في مدينة تشهد تزايداً سكانياً مستمراً وحركة عمران واسعة، كما يفد إليها أعداد هائلة من الحجاج والمعتمرين من مختلف البلاد والجنسيات.

ويتم توزيع المياه على سكان مكة بعدة طرق:

1- التوصيلات المباشرة بواسطة شبكة أنابيب المياه، وهي تزود ما يقرب من 53% من السكان بحاجاتهم من المياه.

2- سيارات نقل الماء (الوايتات)، وتقوم بنقل المياه لنحو 15% من سكان المدينة.

3- مراكز التوزيع للجمهور مباشرة أو عن طريق السقايين، ويحصل على المياه بهذه الطريقة باقي السكان (32%).

ص: 202

ويختلف سعر الماء في مكة حسب طريقة التوزيع:

أ- فهو يبلغ نصف ريال/ م 3 من الماء الذي ينقل بواسطة شبكة الأنابيب للمشتركين.

ب ثلاثة ريالات/ م 3 ينقل عن طريق الوايتات.

ج- خمسة ريالات/ م 3 من الماء يتم ضخّه من الآبار الخاصة.

د- أما المياه التي توزع من مراكز أو نقاط التوزيع فلا تتقاضى إدارة عين زبيدة ثمناً لها.

وتهدف المشروعات (الجاري تنفيذها حالياً) إلى تعميم نقل المياه عن طريق المواسير، والقضاء على ظاهرة السقايين بوجه خاص، منعاً للتلوث، والحفاظ على الصحة العامة. وقد بدأت شركة متخصصة في مد مواسير المياه إلى المنازل، وإنشاء عدد من الخزانات الضخمة على أطراف المدينة. وبدأت دراسات جادة للوصول إلى مصادر أخرى ثابتة للمياه لسدّ احتياجات المدينة مستقبلًا. ويبدو أن هناك اتجاهاً إلى زيادة طاقة محطة تحلية مياه البحر في جدة لإمداد مكة باحتياجاتها، أو إنشاء محطة أخرى تخصّص لمدينة مكة وحدها، كما تجري دراسة للمياه الجوفية حول مكة.

نمو المدينة وتطورها

مكة المكرمة من أهم مدن السعودية وأقدمها سكناً، وهي ثالثة مدن المملكة من حيث السكان (336801 نسمة حسب تعداد عام 1974 م) بعد كل من الرياض وجدّة.

فمنذ أسكن إبراهيم أهله في هذه المنطقة والناس يتوافدون عليها، خاصة بعد بناء الكعبة، وتفجّر بئر زمزم إلى جوارها.

وكان العرب وغيرهم يتوافدون على مكة للحج والتجارة، مما ساعد على زيادة عدد السكان واتساع مساحتها كثيراً تبعاً لذلك، وظهور أحياء عديدة في

ص: 203

مختلف العصور.

وقد عني الجغرافيون العرب بوصف مكة على عهد النبي، فذكروا أن الحرم كان مركز الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية، شأنها في ذلك شأن مدن العصور الوسطى التي كانت الكاتدرائية أو الكنيسة في وسطها، وإلى جانبها أسواق المدينة المركزية ومساكن الحرفيين ومحلاتهم (1). فكان يحيط بالكعبة منازل قريش مقسّمة على أساس النسب، فكان شعب بني هشام مثلًا في شمال شرق الحرم، وبهذا كان أقرب إلى المعلاة، وكانت المساكن تبنى على سفوح المرتفعات المشرفة على الوادي وشعابها.

ويقول القرطبي في كتابه «الإعلام»: «إن مكة كان مبدؤها المعلاة، ومنتهاها من جهة المسفلة لصق مجرى العيون، ونهايتها الشبيكة من جهة جدة، وعرضها وجه جبل يقال له- في عهده- جبل جزل، وقد سماه الأزرقي الجبل الأحمر» كما ذكر القرطبي بأن مكة لم تكن مسوّرة (2).

وعلى نحو ما ذكر ابن حوقل في كتاب المسالك والممالك: «يبلغ طول مكة من المعلاة إلى المسفلة نحو ميلين، ومن أجياد إلى ظهر قعيقعان نحو 113 ميل، والمسجد الحرام وسط مكة، والكعبة في وسط المسجد، وبهذا فقط أحاطت مكة بالبيت الحرام، وترتفع الجبال على جانبي الوادي وتحيط به بحيث تحدد مداخله، ولذا لا تشاهد أبنية مكة للقادم عليها إلّاوهو على أبوابها».

وقد تركز السكان حول الكعبة، فمعظم من سكن مكة قديماً عاش بالقرب منها حتى يسهل الاتصال بالحجاج أو الوافدين إلى المدينة، وكذلك حتى يكون قريباً من بئر زمزم مصدر المياه الوحيد تقريباً في ذلك الوقت.

ولكن ما لبث أن تضخّم حجم المدينة، وزاد اتساع رقعتها كثيراً، نظراً


1- Feeman, T.W. 1968, Geography and Planning, London, P.19.
2- أحمد السباعي 1382 ه، تاريخ مكّة: 102، الطبعة الثانية، مكّة.

ص: 204

للزيادة السكانية الهائلة والمستمرة، وكذا لاهتمام الدولة بإعادة تخطيط مكة وشق الطرق الحديثة وخاصة الموصلة منها إلى الحرم أو منطقة مشاعر الحج، وما لبثت أحياء جديدة أن ظهرت في اتجاه كل من جدة والطائف.

والكعبة أول ما شيد في مكة المكرمة، ثم ما لبثت القبائل أن توافدت عليها للإقامة أو التجارة، واتخذت كل منها مكاناً حول الكعبة وبالقرب من بئر زمزم، وعمرت مساحة محدودة من جبل هندي والقشاشية والمسعى وأجياد والسدّ والمصافي حتى المسيال وجزء من المسفلة صغير. أما الأحياء الأخرى البعيدة عن الحرم فقد تأخر تعميرها أو سكناها نظراً لصعوبة شق الطرق إليها لبعدها عن بئر زمزم.

وعندما حاول الناس البناء بجوار الكعبة خط لهم ابن كلاب خطاً حولها عليهم أن يبنوا دونه، وأمر أن تكون هناك طرق بين هذه البيوت تؤدي إلى ساحة الحرم، كما أمرهم كذلك ألا ترتفع مساكنهم عن الكعبة لتظل مشرفة.

وكانت حدود مكة في القرن الثاني الهجري كما يلي:

من جهة الشرق: القشاشية، وشعب علي، وشعب عامر، والمعلاة حتى حدود المعابدة.

ومن الشمال: الشامية والفلق وجبل هندي

وفي الغرب: حارة الباب وجزء ضئيل من المسفلة، وجبل عمر.

وفي الجنوب: حي أجياد بكامله.

ولم يطرأ على هذه الحدود تغيير يذكر في عهد الأمويين أو العباسيين، إلّاأنه في عهد الأمويين شيدت أسوار (أبواب) لمكة في المعلاة والشبيكة والمسفلة.

وفي عهد العثمانيين، لقيت مكة عناية فائقة، فمدّت إليها المياه العذبة من أماكن بعيدة كعين زبيدة مثلًا، وكذلك عني بالمسجد الحرام، وبني بناية إسلامية، وتم تزيينه بالنقوش التي لا تزال ظاهرة حتى اليوم في البناء الداخلي للمسجد.

ص: 205

وفي عهد الأشراف، ظهرت أحياء جديدة في مكة، لعل أهمها جرول والزاهر، وتزايدت مساحة كل من المسفلة والمعابدة.

وفي ظل حكم السعوديين، ساعد اكتشاف البترول في المملكة وتدفقه بكميات ضخمة على ظهور أحياء جديدة أخرى أكثر اتساعاً ورفاهية، وامتدت المدينة على الطرق المؤدية إلى كل من جدة والطائف.

ويقدر أن مكة المكرمة قد تضاعفت مساحتها خلال نصف القرن الأخير، كما تم وضع تخطيط لها أعدّه مكتب تخطيط المدن بالمملكة. وقد اتسعت المدينة بذلك إلى مشارف منى، وضمت منطقة الحوض (العزيزية) والعدل والخانسة والزهراء....

ويرى الباحث أن نمو المدينة خلال الفترة الأخيرة وخاصة منذ بداية الخمسينات من القرن الحالي وتطور العمران بها يعود إلى الأسباب الآتية:

1- العامل الاقتصادي

2- العامل الديني والثقافي

3- توافر الأمن والاستقرار بالمملكة.

أولًا: العامل الاقتصادي

كانت على طريق التجارة بين الشام واليمن (1) مدينة مكة المكرمة منذ بداية تعميرها محطة، وقد استدعى ذلك ضرورة توفير الأماكن المناسبة لسكنى التجار وإقامتهم، وعلى هذا فقد نشطت حركة العمران بالمدينة منذ نشأتها.

وفي الوقت الحاضر ازدحمت مكة المكرمة بمئات المحال التجارية وتوكيلات الشركات العالمية وفروع البنوك المختلفة، هذا بالإضافة إلى قيام بعض الصناعات


1- نعيم زكي فهمي، 1973، طرق التجارة الدولية و محطاتها بين الشرق والغرب: 115- 188، الهيئة المصريةالعامة للكتاب، القاهرة.

ص: 206

الخفيفة التي تخدم الوظيفة الدينية للمدينة. كما أدى ارتفاع دخل الفرد في المملكة، وزيادة قدرته الشرائية وإقباله الشديد على استخدام كل أجهزة العصر التي توفر له الرفاهية والتقدم، إلى اتساع رقعة المدينة واتجاه السكان إلى البناء خارجها.

ويتخذ نمط التخطيط في الضواحي الجديدة شكل الفيلات التي تحيط بها الحدائق الواسعة.

ثانياً: العامل الديني والثقافي

ويعتبر من أهم عوامل نمو المدينة وتطورها، وذلك نظراً للزيادة المضطردة في أعداد حجاج البيت والمعتمرين إليه كل عام، مما استلزم ضرورة إقامة الفنادق والمساكن لإيوائهم، وشق الطرق المرصوفة والواسعة إلى منطقة الحج في منى أو إلى جبل النور وغيره من المعالم الإسلامية بمكة.

وفي سبيل تحقيق ذلك، قامت الحكومة السعودية بنزع ملكية مساحات هائلة من الأراضي، وهدم آلاف المساكن التي كانت تعيق التخطيط الحديث للمدينة، وتعويض أصحابها عنها بمبالغ ضخمة حتى يمكنهم إنشاء مساكن أخرى في مناطق التعمير الجديدة على أطراف المدينة، والتي زوّدتها الحكومة بمختلف الخدمات التعليمية والصحية وغيرها، وشقت إليها الطرق المرصوفة.

ولما كان موسم الحج يعتبر من مصادر الدخل الهامة لسكان المدينة فقد اهتم المطوفون والتجار بصفة خاصة بإنشاء عمارات حديثة خصّصت لسكنى الحجاج خلال موسم الحج فقط، بينما تظل شبه مغلقة بقية شهور السنة. وفي هذا نلاحظ الارتباط الوثيق بين الدين والأعمال التجارية، وهو يشبه ما حدث في أوائل العصور الوسطى في أوروبا عندما كانت الهيئات التجارية تحاكي المنظمات الدينية في تنظيم قواعدها التجارية، والتي كانت قائمةً على أسس ديرية، وكانت تقتضي ذات الانقطاع الشديد ولكن ابتغاء للربح المادي، وكان من المهام الرئيسية لفرسان المعبد () أن يؤدوا عمل وكلاء النقل ورجال المصارف.

ص: 207

أما عن أثر العامل الثقافي في نمو المدينة، فلقد كان للنهضة التعليمية التي شملت المملكة، والاهتمام المتزايد بإنشاء المدارس والجامعات، أثره الكبير في اتساع رقعة مكة، لما استلزمه ذلك من إقامة مدارس ابتدائية ومتوسطة وثانوية، ثم إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز (كليتي التربية والشريعة) في منطقة الحوض، وتخصيص مساحات كبيرة لمنشآتها المختلفة، وكذلك إنشاء معهد المعلّمين بالقرب من الجامعة. وقد تبع ذلك- بطبيعة الحال- إقامة مساكن للطلبة، مما كان له أثره في ازدهار المدينة عامةً، ومنطقتي الحوض والعزيزية خاصة.

ثالثاً: توافر الأمن والاستقرار

ولا شك أن هذا العامل له أثر كبير في نمو مدينة مكة وتطوّر العمران بها، وخاصة منذ ولي السعوديون حكم البلاد، فلم تكن سيطرة السابقين لهم لتمتد إلّا على مساحات قليلة حول مراكز الاستقرار في البلاد؛ ولذلك فقد اتجه السكان- بعد أن اطمئنوا إلى حكامهم وعلى أموالهم- إلى التوسع في البناء على أطراف المدينة وعلى طول الطرق المؤدية إليها، وكان للحكومة جهد وافر في هذا المضمار

ص: 208

بمساهمتها في توفير المساكن لغير القادرين أو إنشاء مساكن للذين أزيلت مساكنهم لشق الطرق الجديدة وإتمام مشاريع توسعة الحرم الشريف.

ومن خريطة اتجاهات النمو العمراني للمدينة نستطيع أن نلمح تأثير المظاهر الطبوغرافية المحلية على شخصيتها؛ فقد اتخذت رقعة البناء الأساسية من الوديان والشعاب مستقراً لها؛ نظراً لسهولة البناء وشق طرق المواصلات، وكذلك للقرب من مصدر المياه الرئيسي (بئر زمزم) في وادي إبراهيم، ثم اتجه البناء بعد ذلك إلى التلال المحيطة بالحرم طلباً للحرارة المعتدلة والأمن، بالإضافة إلى القرب من الحرم- مصدر الرزق لمعظم سكان المدينة- وفي الفترة الأخيرة اتجه التعمير نحو الأراضي السهلية في أم الدود والحوض بسبب توافر أجهزة التكييف وانخفاض أسعار الكهرباء واستقرار الأمن؛ وهكذا نزلت المدينة هابطة من الكنتورات العالية إلى الكنتورات المنخفضة، أو من المناطق التلية إلى المناطق السهلية.

اتجاهات النمو

تتجه مكة المكرمة في توسّعها العمراني على محورين رئيسيين:

الأوّل: ويتبع الطريق إلى مدينة جدة، حيث ظهرت عدة أحياء جديدة، أهمها الزاهر والزهراء والنزهة، وتشكل مساحات هذه الأحياء حالياً نحو ثلث مساحة مكة بأكملها، رغم أنه لم يبدأ تعميرها إلّامنذ منتصف القرن الحالي تقريباً.

الثاني: ويتبع الطريق إلى الطائف ممثلًا في أحياء الششة والعزيزية والفيصلية.

وتشكل هذه الأحياء أيضاً مساحة كبيرة من المدينة.

ومن أسباب اتجاه نموّ المدينة على المحور الأول أنه المدخل الرئيسي لها من ناحية القرب، حيث ميناء مكة الهام- جدة- على البحر الأحمر، والذي يصل عن طريقه حجاج البحر الذين يمثلون غالبية الحجاج، كذلك فإن ميناء جدة من أهم موانئ المملكة، وتصل عن طريقه معظم البضائع الواردة إليها. وجدة أيضاً متنفس طبيعي لسكان مكة، وإليها يتجهون في أسفارهم إلى خارج المملكة، وكذلك

ص: 209

لزيارة الأطباء وقضاء كثير من متطلباتهم.

وكان من أسباب اتجاه نمو المدينة على هذا المحور أيضاً توافر مياه الآبار والعيون بالمنطقة، وخصوبة التربة في الوديان والشعاب الموجودة بها.

أما اتجاه نمو مكة على المحور الثاني فهو على الطريق إلى منطقة شعائر الحج، بالإضافة إلى استواء السطح بها... ووجود بعض المزارع والبساتين بالمنطقة، كذلك فإن اختيار موقع كليّتي التربية والشريعة ثم معهد المعلّمين في هذه المنطقة كان له أثر كبير في جذب العمران إليها، وما تبع ذلك من تعبيدٍ للطريق أو إنشاء خدمات، ثم تواتر أصحاب المحال التجارية إليها وإنشاء بعض المستشفيات بالمنطقة ومصنع للثلج وكثير من المقاهي والمتنزهات. هذا بالإضافة إلى أن مدينة الطائف هي مصيف لسكان مكة وللحكومة كذلك، مما زاد في أهمية الطريق إليها، وبالتالي شهد حركةً عمرانية واسعة خاصة في السنوات الأخيرة، حيث تمثل حالياً ما يقرب من ثلث مساحة مكة بأكملها.

وهكذا، فإننا نستطيع القول بأن أكثر من نصف مساحة المدينة هي بنت نصف القرن الأخير من نموها.

مورفولوجية مكة

ظهرت مكة المكرمة مع بناء البيت، وارتبط تاريخها بتاريخه، كما أن تخطيط المدينة منذ إنشائها له طابع خاص، يعتمد على قداسة البيت والمركز الديني المرموق لأهل الحرم في شبه الجزيرة.

ولا شك أن البيت الذي تجسدت فيه الوظيفة الدينية للمدينة كان بمثابة النواة التي تضبط اتجاهات نمو المدينة وامتدادات شوارعها، ويظهر أثرها واضحاً في تركيب المدينة خلال مراحل تطورها المختلفة.

وليس هناك أي موضع يمكن أن ينافس هذه النواة من حيث قوة جاذبيتها وسيطرتها على أي تخطيط يمكن أن يوضع للمدينة حالياً أو مستقبلًا.

ص: 210

وتتمثل أهمية ملامح تركيب مكة فيما يلي:

1- الكتلة السكنية للمدينة: تبدو مندمجة أقرب إلى الشكل الدائري الذي يتوسّطه الحرم، تفصل بينها الحارات الضيقة والأزقة المتعرجة، ولا تترك بينها وبين الحرم سوى رقعة صغيرة من الأرض تعرف حالياً بالمكاف. وقد حرص الناس فيما مضى على أن تكون أبنيتهم في شكلٍ دائري حتى لا تشبه بناء الكعبة المربعة، وأن تكون تلك الأبنية أقل ارتفاعاً من الكعبة، فكانت المنازل بمثابة السور الذي يحيط بالبيت.

ولم يكن للحارات من وظيفة سوى تيسير حركة المشاة، والوصل بين أحياء المدينة التي كان يمثل كل منها قسماً مستقلًا تقريباً، شأنه شأن المدينة ككل. ولما كانت صلتها بالخارج قد تحددت مع وظيفتها الدينية وتداعياتها، فقد كانت الرغبة في إبراز أهمية قلبها الديني وراء تركيبها العمراني حيث يظهر المسجد الحرام محاطاً بسلسلة من الحلقات غير المنتظمة التي تكتنف القلب وتحميه، على حيث تجعل الوصول إليه أقرب منالًا عن طريق حارات ملتوية، وتشكل محيطها مع بروزات موضعها- وإن اتخذ عامة- شكلًا مستديراً شأن مدينة العصور الوسطى عامة (1)

والمنازل تصطفّ بحيث تؤلف إطاراً لوحدة سكنية مغلقة لا تعلو عن طابقين أو ثلاثة غالباً، تستمد بنائها من التربة والصخور المحلية، فهي من الأحجار المسقوفة بجذوع النخيل، تتوزع داخلها الأسواق، متخذةً أشكالها القديمة ذاتها، ومتبعةً نمط معاملاتها الموروثة.

2- في مكة أسواق عديدة، منها اثنتان للحيوان- إبل وماعز وضأن- في المعابدة وجرول، واثنتان للخضر والفاكهة في النقا وجرول. أما أسواق الأقمشة


1- Robert, E. Dickinson 1965, "The Growth of the Historic city", in "Readings in Urban Geography", Edited by: Harold, M. Mayer and Clyde, F. kohn, The Univ. of Chicago Press, PP. 69-84.

ص: 211

والملبوسات والأدوات الكهربائية ففي المنطقة المحيطة بالحرم مباشرة في أحياء النقا والقرارة والغزة وأجياد. وأسواق الحيوان أقدمها، وكانت فيما مضى خارج المدينة قبل زحف العمران إلى المناطق الجديدة، ويباع فيها أيضاً ما يجلب إلى مكة من منتجات البادية من صوف ووبر.

3- جبانة المعلاة- مقبرة مكة الوحيدة- تنقسم إلى قسمين، بينهما شارع رئيسي، وكل من القسمين مسوّر، وفي القسم الأقرب إلى الحرم مظلة للعزاء وإدارة لخدمة الموتى.

4- الجزء القديم من المدينة يتميز بعدم الانتظام، وفوق كل هذا ليس هناك تنسيق أو تخطيط معين للطرق أو المباني التي احتشدت معاً في فوضى واختلطت بغير انتظام، وأصبحت الفراغات بينها أزقة المشاة والعربات، وارتفعت كثافة السكان.

وهناك إحساس باستمرار الازدحام والاضطراب (1)، كما لم تكن هناك حاجة إلى مراعاة مطالب مد أنابيب المياه أو المجاري أو الكهرباء. وكان من مظاهر الاتساق مع خصائص الموضع مراعاة خطوط الكنتورية بدلًا من محاولة تهذيبها، أي كأن هناك نوعاً من التخطيط العضوي وهو ذلك التخطيط الذي لا يبدأ باستهداف غرض محدد سلفاً، بل ينتقل من حاجة إلى حاجة ومن فرصة إلى فرصة في سلسلة متصلة من الملاءمة مع ظروف الموضع.

لقد كانت «وحدة الجوار» السمة الرئيسية في تركيب المدينة الداخلي، وظلت الكعبة قلبها الخافق، بينما انقسمت كتلتها إلى أحياء شبه مكتفية بذاتها، وانقسمت الأحياء إلى أحواش. وكان بالمدينة عدد من المدارس وعدد أكبر من مكاتب الصبيان ومكاتب القراءة، بالإضافة إلى عدة مكاتب لتعليم البنات. أما الأربطة والزوايا فكثيرة، وظلت بعض المكتبات عامرةً، ومن أشهرها مكتبة الحرم.


1- Lowry, J.H., 1975, "World City Growth", London, PP. 24-26

ص: 212

5- يتضح من شكل الشوارع في الأحياء القديمة أن وظيفة الشارع فيما مضى تختلف عنها في عصرنا الحالي، فكانت دروب السير على الأقدام في الداخل هي التي يسلكها السكان يومياً، ولذا فلم تكن هناك ما يمكن تسميته «شبكة طرق لحركة المرور»؛ لعدم وجود حركة مرور دائبة من ناحية، ولأن الشارع كان ضيقاً تلبية لوظيفة محددة، وهي تنقلات السائرين على أقدامهم من ناحية أخرى، ولم تكن الشوارع ضيقة وفي حالات كثيرة غير منتظمة فحسب، بل كانت تكثر بها المنحنيات الحادة والسدات، وكان من شأن ذلك أن يحدّ من قوة الريح، ويقل شدة التعرض لخطر الغرق بالفيضان (1).

لقد كنت الكتلة السكنية المتجمعة- بما فيها من مساكن وحوانيت ومبان للحرفيين- هي التي تحدد امتدادات الشوارع، وكان من شأن اتجاه المساكن نحو الالتفاف حول النواة، أن يعيق ظهور ونمو نسق الوحدات السكنية، وكانت الجبال هي الحد الذي يحدد في الأصل التكوين المادي للمدينة.

6- يتميز التركيب الحالي لمدينة مكة المكرمة بأنه أكثر تعقيداً وأقل ثباتاً مما كانت عليه في الماضي القريب، وذلك نتيجةً لمجموعة من العوامل سبق الإشارة إليها من قبل.

وقد حققت هذه العوامل نجاحاً ملحوظاً في توظيف اليد العاملة في نواحي نشاط أكثر تنوعاً، كما ساهمت وسائل المواصلات الحديثة في عملية نقل حضاري عميقة الأثر، كما ساعد تكوين المدينة القابل للامتداد على اتساع مساحتها كثيراً، بحيث تستطيع تلبية واستيعاب الحاجات المتغيرة. وكان من جراء نشوء وظائف اقتصادية ومهام اجتماعية جديدة ظهور التخصص بدرجة أوضح في وظائف مبانيها، كما أنها قد أدخلت على هذه المباني من ضروب التميز ما أكسبها- معمارياً- أشكالًا تعبر عن تباينها ومرحلة نموها.


1- جمال حمدان، بدون تاريخ، أنماط من البيئات: 88، القاهرة.

ص: 213

لقد امتدت كتلة المدينة السكنية مع محاور مواصلاتها إلى جدّة والطائف، وأصبحت هذه المحاور بمثابة إطار يحدد اتجاهات نموها وشكلها المورفولوجي في المستقبل.

7- مع نموّ المدينة المتزايد والمستمر، نجد أنها قد انقسمت إلى مناطق سكنية تحيط بالحرم، وممتدة في الفترة الأخيرة مع شوارعها الجديدة، ونامية بمعدل سريع نحو المواضع الفسيحة على الطرق المؤدية إلى الطائف أو جدة. وتظهر المنطقة التجارية مرتبطة بوسط المدينة، وهي المنطقة المحيطة بالحرم، مع امتدادات أقلّ كثافةً على طول الشوارع الحديثة، وهو ما يؤكد وظيفة القلب في هذه المدينة المقدسة، باعتباره يمثل النبض اليومي لجملة وظائفها، كما تظلّ المقبرة التاريخية في موقعها إلى الشمال من الحرم، وتبدو بقية وظائف المدينة الحديثة كمركز للخدمات الإدارية والفعلية موزعة على أبعاد متفاوتة من القلب متناثرة على طول محاور نموها الرئيسية.

8- رغم مظاهر النموّ الحديثة في تركيب مكة ووظائفها، إلّاأنها ما تزال لم تتجاوز كثيراً خصائص موضعها الطبيعية، كما أنها ما تزال أقرب للاندماج بنواتها، ويظهر وادي إبراهيم كخط طبيعي يحدّد موضعها، كما أن الجبال المحيطة تمثل حدودها. ويظهر التداخل بين مورفولوجية المدينة وطبوغرافيتها في تلك الامتدادات السكنية فوق التلال المتداخلة في منطقة مكة كرؤوس من جبالها.

والواقع أن أهم مظاهر التغير الحديثة في مكة المكرمة قد بدت في اتجاهين:

يتصل الأول بالتركيب، والثاني بالوظائف (1). وقد بدأت هذه التغيرات تخضع


1- Chauncy, D. Harris And Wdward, E. Ullman, 1965, The Nature of Cities, in Reading in Urban Geography Edited by: Harold, M. Mayer and Clyde, F. kohn The Univ. of Chicago Press Chicago, pp. 227/298 213

ص: 214

حديثاً لنوع من التخطيط لم تتضح أبعاده النهائية بعد.

9- يلاحظ أن جوهر التغيرات في تركيب المدينة المعاصر هو اتجاهها لكي تتحول إلى مدينة الشوارع التجارية، مع التمسك بالقلب الديني الذي ضبط نموّها في الماضي والحاضر من ناحية، وشبكة الشوارع التجارية العريضة من ناحية ثانية. وهناك من الدلائل التي ترجّح هذا التصور أهمها ما يتصل بعملية خلخلة المنطقة الوسطى، وخطة إنشاء شبكة الشوارع التجارية العريضة. كما تشمل أيضاً المرافق العامة وتجميل المدينة.

أ- خلخلة المنطقة الوسطى: وهي المنطقة التي تضم ما تبقى من المدينة القديمة وبؤرة التجارة المركزية وأحياء السكن الداخلية حول الحرم، ولقد أزيلت الكثير من معالم مكة القديمة، كما أضيفت أجزاء منها إلى المسجد، ودخلت في مساحاته خاصة بعد التوسعة السعودية الأخيرة، وأجزاء أخرى استخدمت في شق شوارع جديدة أو في توسيع أخرى قائمة.

ولما كانت المنطقة الوسطى تضم نسبةً كبيرة من خدمات المدينة، وأكثر من ثلث سكانها، وعدداً كبيراً من المساجد الأثرية والمباني القديمة، فإن الاتجاه إلى إزالتها قد يؤدي إلى الإخلال بالتوازن المورفولوجي في تكوين المدينة، والقائم على أساس التفاف مباني المدينة حول الحرم.

لقد تجلّت محاولات خلخلة المنطقة الوسطى في تهيئة مجموعة من أهم الشوارع، تنتهي جميعاً إلى الحرم، ونقل معظم مراكز الخدمات الموجودة بها إلى هوامشها.

ب- تجنح التصميمات الحديثة للميادين والشوارع نحو الاتساع والانبساط متميزةً بالمساحات المفتوحة والميادين المستديرة، وما يتفرع منها من شوارع وطرق عريضة، تشق اتجاهاتها وسط تراكمات سكنية قديمة.

ج- اتجه التخطيط الجديد لمكة إلى إحاطتها بالطرق العريضة المرصوفة

ص: 215

، وهذه قد حددت شكلها مورفولوجياً، وأصبحت بمثابة محاور للنمو العمراني حالياً وفي المستقبل، وهي تصب غالباً في الطرق الخارجية التي تربطها بأنحاء الدولة.

د- لقد صحب امتداد المدينة الأفقي ارتفاع واضح في مسقطها الرأسي، وظهرت الأحياء الجديدة كإطارات تحيط بنواة وأجزاء مهدّمة واطئة. وعدد طوابق المنازل لا يتجاوز أربع طوابق في المنطقة الوسطى، ويتجه إلى التزايد ليصل إلى ما بين 6- 8 طوابق على طول محاور السكن والطرق الحديثة، ثم يهبط إلى ما بين دور ودورين في هوامش المدينة. وهناك مجموعة من العوامل تراعى في هذا المجال، منها الضوابط الخاصة بوصول المياه إلى الأدوار العليا، وكذلك وظائف المباني وتوزيع مواقف السيارات في المنطقة المحيطة بالحرم. ولكن مما لا شك فيه أن ارتفاع المباني سيكون ضرورياً خاصة بالنسبة لمواجهة تزايد عدد زوار المدينة الذي وصل متوسّطه في السنين الأخيرة إلى نحو مليون زائر.

هذا، ويستخدم في البناء الأحجار التي يمكن الحصول عليها من المرتفعات المحيطة بمكة، وكذلك الرمال والزلط من الجهات المحيطة بها. وبدأ منذ سنوات قليلة استخدام المساكن سابقة التجهيز في البناء، مما يوفر جهداً ووقتاً كبيراً، كما أنها اقتصادية في استخدام الأيدي العاملة عن الطريقة التقليدية في البناء.

10- لعلّ الشكل الحاضر لشبكة الطرق والشوارع في مكة هو أبرز ما طرأ على تكوينها القديم من مظاهر التحديث والتخطيط، لقد أنشئت طرق تصل بين معظم مناطقها السكنية، ومدّت الشوارع التي تفتت القلب المندمج، وتمنحه شرايين أفضل، وهيئت الميادين، ومهدت الأزقة وعبّدت، وامتدت ضمن خطة مسبقة لتصل إلى أحياء السكن الحديثة، ولم تكن هذه التغيرات وغيرها مما هو مكمل لها إلّا انعكاساً لتغير وظائف الطرق والشوارع، وتعبيراً عن دخول المدينة ككل

ص: 216

مرحلة جديدة من حياتها.

ويعدّ الشارع العريض من أهم رموز المدينة التجارية (1)، ويمثل الحقيقة الرئيسية فيها، وليس من الميسور دائماً وضع تصميم للمدينة طبقاً لطراز معين، بيد أنه مع تخطيط بضعة شوارع جديدة عريضة كان يتسنى- عامة- إعادة تحديد طابع المدينة، لقد أتيح في التخطيط الجديد استخدام الخطوط المستقيمة، ووحدات للمباني ذات مسقط رأسي مرتفع، منتظمة الشكل متماثلة المساحة عموماً، إلا حينما كان انحراف اتجاه الشوارع سبباً في جعل أشكال الوحدات متعدّدة الأضلاع والزوايا، لقد أصبحت الشوارع العريضة تمثل الإطار الأفقي للمباني الرئيسية التي تحدّد معالم مكة، وضحّي بالكثير من خصائص المدينة القديمة من أجل أغراض حركة المرور والتجارة، وأصبح الشارع هو وحدة التخطيط وليست منطقة الجوار أو الحيّ، ووسعت وشقت عدة شوارع. وقد تم الانتهاء من توسعة الحرم، وذلك بإزالة جميع المباني التي كانت تتصل بالمسجد أو قريبة منه.

المرافق العامة:

وتعد المرافق العامة من أهم مظاهر التغير في التركيب المعاصر للمدينة، فهي تحظى باهتمام كبير، يتمثل في اعتمادات مالية ضخمة بهدف متابعة معدلات نمو عمران المدينة من ناحية، وتحقيق مستوى عال من أداء هذه المرافق من ناحية ثانية. ورغم ذلك فهي عامة تواجه عدداً من المشكلات، ويشمل مصطلح المرافق العامة: «المياه والمجاري، وتصريف مياه السيول، والكهرباء».

وقد سبق دراسة موضوع المياه عند دراسة موضع مكة، ولذلك سنركز هنا على دراسة المرفقين الآخرين:


1- Berry, B. J. L. 1963, Commercial Structure and Commercial Blight, Chicago, p. 37

ص: 217

أ- المجاري وتصريف مياه السيول:

قطع تنفيذ شبكة المجاري المدنية في مكة شوطاً كبيراً، ويسير العمل نحو إنجاز الخطوط الفرعية والتوصيلات المنزلية.

وليس من شك في أهمية مشروع المجاري الحديثة بالنسبة لرفع المستوى الصحي وحماية المباني والمنشآت العامة والمحافظة على سلامة أساساتها فضلًا عن المظهر الحضاري للمدينة.

وبالنسبة لتصريف مياه السيول فهي تشبه تماماً عملية تصريف المجاري إلّا أنها لا تحتاج إلى عملية تنقية، بل تجمع في أنابيب تسير فيها المياه بالاعذار الطبيعي إلى خارج مكة، أو تحويل مجاري السيول إلى مناطق بعيدة عنها. ويدخل ذلك أيضاً ضمن مشروعات المحافظة على الصحة العامة، حيث إن عدم تصريف السيول يجعلها تتجمع في الأجزاء الوطيئة مسببة وجود مستنقعات تصبح مباءات لتوالد البعوض، فضلًا عن إعاقتها للمرور والمواصلات، حيث يتسبب عنها تكاثر الأوحال، خصوصاً في الطرق الترابية والمنافذ الضيقة فضلًا عما تسببه من أضرار لأساسات المباني.

ب- الكهرباء:

تتركز مسؤولية توزيع القوة الكهربائية في مكة في الشركة السعودية الوطنية للقوى الكهربائية، وهي شركة خاصة (الجفالي)، تأسست عام 1371 ه.

وتأتي القوة الكهربية من محطة واحدة على طريق التناعيم خارج حدود منطقة الحرم، ويتم تزويد منى من هذه المحطة أيضاً، والتي تبلغ طاقتها الإنتاجية 39 مليون واط، وتعمل المحطة على الديزل. ويستفاد من الإحصاءات أن:

72% من مساكن مكة ومرافقها المختلفة تحصل على الكهرباء من الشركة مباشرة بواسطة عدادات المشتركين.

1% من المساكن تحصل على الكهرباء من أجهزة خاصة لتوليد الكهرباء،

ص: 218

ومعظمها يقع في أطراف المدينة.

37% من المساكن لا تحصل على الطاقة الكهربائية، وتتركز بصفة خاصة في ضواحي مكة والجبال المحيطة بها.

أسعار الأرض في مكة

لما كانت مكة في منطقة جبلية تخترقها عدة أودية ضيقة، فقد كان لهذا تأثيره الكبير على أسعار الأرض بها، فالطلب على الأرض يزداد باستمرار نظراً لنمو المدينة من جهة، وازدياد أعداد السكان من جهة أخرى عاماً بعد عام، سواء المقيمون بها أو الوافدون إليها في موسم الحج. وهذا يتطلب مزيداً من الأراضي- المحدودة أصلًا- سواء بالتوسع الأفقي أو الرأسي.

ومن دراسة ميدانية قام بها الباحث تبين أن هناك عدة عوامل تتحكم في تباين واختلاف أسعار الأراضي في مكة المكرمة هي:

1- البعد عن الحرم: يتناسب سعر الأرض تناسباً طردياً مع زيادة القرب من الحرم، فالمعلوم أن مكة قامت أصلًا لتكون مدينةً دينية حول المسجد الحرام، لذلك فإن السكان وكذلك الحجاج الذين يقدمون إلى مكة يختارون أقرب منطقة من الحرم، مما أدى إلى رفع أسعار الأراضي في المناطق المحيطة به. لذلك نجدها تمثل رأس القائمة في سعر الأرض في مكة، حيث يتراوح المتر المربع ما بين 8- 12 ألف ريال. وهذه أسعار مرتفعة جداً ليس لها مثيل في أي منطقة أخرى. ولا عزاء إذا ما ارتفعت الأسعار إلى أكثر من هذا.

2- الأسواق التجارية: وهو عامل مكمل أحياناً للعامل الأول، حيث تتركز معظم الأسواق التجارية في مكة حول الحرم، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأرض للفرص الكبيرة في بناء محلات تجارية عليها وتأجيرها، كما هو الحال في منطقة الغزة حيث يتراوح سعر المتر بين 4- 6 آلاف ريال. إلى جانب وجود بعض الأسواق في أحياء أخرى مثل أجياد والشبيكة والسوق الصغير، مما يضفي عليها

ص: 219

أهمية وإقبالًا يرفع من أسعار الأراضي القائمة عليها أو المحيطة بها.

3- الموقع والواجهات على الشارع الرئيسي: مما لا شك فيه أن الأراضي التي لها واجهة أو أكثر على شارع رئيسي تكون أسعارها أكبر من تلك التي ليس لها واجهة على الشارع الرئيسي. ويلاحظ ذلك من خريطة أسعار الأرض، حيث نجد أن الأراضي الواقعة على الشارع أعلى في أسعارها بكثير من تلك الأراضي الداخلية.

4- توفير الخدمات العامة: مثل الكهرباء والماء والمواصلات... ففي أطراف المدينة يتجلى أثر هذا العامل واضحاً، كما أن المواصلات بصفة خاصة لها تأثير بالغ، فالمناطق الجبلية يصل سعر المتر المربع فيها إلى أدنى حد له (من 10- 100 ريال) على الرغم من قربها من الحرم، ولكن صعوبة الوصول إليها، وقلة ورود الماء لها، وصعوبة إقامة المساكن فيها، أدى إلى انخفاض سعرها بهذا الشكل. وهنا يمكن ربط هذا العامل بعامل آخر جديد وهو طبيعة السطح، فالمناطق المستوية أعلى سعراً من المناطق العالية المتضرسة.

ص: 220

وثمة جانب آخر هو أن تحسين الطرق أدى إلى ارتفاعٍ في أسعار الأرض، فشقّ الطرق وتزفيتها وإقامة خزانات المياه يعملان على رفع السعر على جانبي الطريق، وإذا نظرنا إلى خريطة أسعار الأرض في مكة نجدها تتفق إلى حد كبير مع العوامل السابق ذكرها. وتتراوح أسعار الأرض ما بين 10 إلى 12 ألف ريال للمتر المربع. ويمثل الرقم الأول (10 ريالات) المناطق التي تحتل أعالي الجبال البعيدة عن مركز المدينة، بينما يمثل الرقم الثاني المناطق المجاورة للحرم مباشرة، حيث تتوافر العوامل المختلفة من قربٍ للحرم، وقرب للأسواق التجارية، ووجود الشوارع الرئيسية التي تشبه الشرايين الكبيرة التي تسير عليها مواصلات المدينة وتوفر الخدمات العامة الأخرى.

ويمكن التدليل على ذلك من أن سعر المتر في الشامية (أقرب الأحياء إلى الحرم) يصل إلى سبعة آلاف ريال، ولكنه ينخفض في المناطق الداخلية في الفلق والقرارة إلى ثلاثة آلاف ريال. كما أن من عوامل ارتفاع السعر في الشامية وكذلك المناطق الأخرى المحيطة بالحرم تركّز العمائر السكنية الكبيرة التي تستخدم في معظمها لسكنى الحجاج.

كما أنه في كل من الغزة والشبيكة يصل السعر من خمسة إلى ستة آلاف ريال للمتر المربع، ولكنه ينخفض بالبعد عن الحرم.

أما القشاشية وسوق الليل فإن سعر المتر فيهما مرتفع جداً نظراً للقرب الشديد من الحرم، ولوجود الأسواق التجارية بها أو بالقرب منها.

وفي شعب علي يصل سعر المتر في الأجزاء المتاخمة للشارع الرئيسي إلى 3 آلاف ريال، ولكن السعر ينخفض كلما تراجعنا نحو الداخل، حيث يصل إلى ألف ريال فقط.

أما في حي أجياد جنوب الحرم فترتفع أسعار الأرض (بين 4- 6 آلاف ريال)، وهي منطقة واسعة تمتاز بأنها منطقة سكنية إلى جانب أنها منطقة فنادق

ص: 221

ومنطقة تجارية أيضاً.

هذا بالنسبة للمناطق المحيطة بالحرم، أما إذا استعرضنا بقية أحياء مكة فإننا نلحظ تناقصاً مستمراً في سعر المتر، فيما عدا المناطق التي توافرت لها بعض العوامل وأكسبتها أهميةً ما، فارتفعت أسعار الأرض بها.

ففي حي المسفلة يبلغ متوسط سعر المتر 1500 ريال، ولكنه في بعض المناطق القريبة من الحرم أو التي تقع على شارعٍ رئيسي يبلغ سعر المتر أكثر من 3500 ريال، بينما قد يقل السعر عن ألف ريال في المناطق الداخلية من الحي أو تلك التي تتميز بوعورتها وعدم توافر الخدمات العامة بها، وفيما يلي متوسط أسعار الأرض في بعض أحياء مكة:

شعب عامر 2000 ريال الملاوي 1000 ريال

الفلق 2500 ريال الخانسة 700 ريال

القرارة 3000 ريال العدل 500 ريال

السليمانية والحلقة القديمة 2000 ريال

الروضة والششة 4000 ريال

الجميزة 1500 ريال الجعفرية 1500 ريال

ويعتبر الجزء الأوسط من المعابدة منطقة تجارية وسوقاً رئيسية هامة للأحياء المجاورة مثل الملاوي والخانسة والروضة والعدل، ولذلك فإن سعر المتر بها لا يقل عن 2500 ريال.

أما الروضة والششة فإن ارتفاع سعر المتر يعود إلى أنها من مناطق السكنى المفضلة والحديثة التعمير، والتي يُقبل عليها تجار المدينة وأثرياؤها، بالإضافة إلى قربها من منطقة شعائر الحج، وتفضيل الحجاج الإيرانيين، الإقامة بها، وارتفاع قيمة الإيجارات.

أما الأحياء الواقعة إلى الغرب والشمال الغربي من الحرم، والتي تضم كلًا من الحجون والعتيبية والأبياري وجرول والتيسير والزهراء والنزهة وشارع منصور،

ص: 222

فإننا نلاحظ بصورة واضحة انخفاض قيمة الأرض فيها عن تلك الأحياء الواقعة إلى الشرق أو الشمال الشرقي من مكة، بالرغم من تساوي المسافة عن الحرم، ووجود الأسواق والخدمات بنفس النسبة تقريباً.

ويمكن تعليل ذلك بوقوع الأحياء الأولى قريبةً من المشاعر المقدسة مثل منى والمزدلفة، وذلك بعكس الأحياء الأخرى التي تقع في الجانب الآخر، وعلى كل فإنه في لقاء مع رئيس لجنة التقديرات التابعة لأمانة العاصمة أجاب بأن أعالي مكة خير من أسافلها، حسبما ورد في بعض الأحاديث (على حدّ قوله)، ولذلك فالناس يقتدون بما وصلهم من أحاديث عن الرسول صلى الله عليه و آله.

وفي حي العزيزية، نلاحظ إقبالًا شديداً على البناء وشراء الأراضي، ويرجع ذلك إلى رصف الطرق، ووضع تخطيط جيد للمنطقة، وتوافر الخدمات بها، وخاصة بعد إنشاء خزان للمياه يكفي احتياجات الحي، هذا بالإضافة إلى قيام جامعة الملك عبدالعزيز في المنطقة وكذلك معهد المعلّمين، ووجود بعض المستشفيات الخاصة. ويقدّر سعر المتر حالياً في حي العزيزية بنحو 3000 ريال، ولم يكن يتجاوز 50 ريالًا منذ ست سنوات فقط.

عدد الطوابق: يلاحظ بأن عدد الطوابق ينحدر تدريجياً من قلب المدينة إلى الأطراف، فعدد الطوابق يصل إلى عشرة أدوار أحياناً في وسط المدينة بالقرب من الحرم، حيث الاستخدام الكثيف للأرض وسعرها المرتفع، وينخفض إلى دور أو دورين في الأحياء البعيدة عنه حيث الكثافة السكانية المنخفضة وسعر الأرض القليل نسبياً.

استخدام الأرض في مكة المكرمة

ونعني هنا استخدام الأرض في إقامة المساكن أو مراكز الخدمات العامة (تعليم- أمن- مواصلات- صناعة- زراعة- محلات تجارية- أماكن عبادة...).

ومن دراسة استخدام الأرض في مكة المكرمة يتبين لنا أنه قد طرأ عليها كثير

ص: 223

من التغيرات، خاصة بعد امتداد كتلتها السكنية مع محاور مواصلاتها الحديثة، وتضخم عدد سكانها، وزيادة الاهتمام بالتعليم والمرافق العامة وخدمة زوار البيت الحرام.

وتنقسم مكة المكرمة إلى مناطق سكنية تحيط بنواتها القديمة (الحرم الشريف)، وممتدة مع شوارعها الجديدة المرصوفة نحو أحيائها الحديثة التعمير، وهو ما يؤكد وظيفة القلب في هذه المدينة، باعتباره يمثل النبض اليومي لجملة وظائفها الرئيسية: التجارية، والدينية، والسكنية، وتظلّ مقبرتها التاريخية المعلاة في موقعها إلى الشمال من الحرم... وتبدو بقية وظائفها الحديثة كمركز للخدمات الإدارية والتعليمية موزعةً على أبعاد متفاوتة من القلب متناثرة على طول محاور نموها الحديثة.

وتستوعب المنطقة الوسطى لمكة نحو ثلث سكان المدينة، كما أن مساكنهم والمرافق التابعة لها تحتل نحو 70% من المساحة المبنية الحالية.

وبالنسبة للسكن فإن نحو 40% من جملة وحداته تحتاج لتغييرات أساسية، وهناك فرصة لنقلها إلى المساحات الفضاء في الشرق والشمال والغرب من المنطقة الوسطى وعلى طول امتدادات محاور نمو المدينة.

والمعروف أن الأصل في وظيفة المركز العمراني غالباً هو السكن، ولكن بتطور وسائل الحياة تنقسم هذه الوظيفة الأصلية إلى وظائف أخرى، تتعلق بالتخصص الحرفي مثل التجارة والصناعة والحرف الأخرى، وكذلك بالخدمات الإدارية والتعليمية والثقافية والدينية وغيرها... ومن هنا تقوم مع المساكن محلات لممارسة هذه الوظائف الجديدة التي طرأت على المدينة أو القرية... ومدينة مكة نشأت في موقع ممتاز من الناحية التجارية، كما أنها أيضاً قامت في موقع مقدس وهام... وبعد استقرار الأمن بالبلاد بدأت مساكن المدينة تنساح في مناطق جديدة، مما أدى إلى اتساع رقعتها كثيراً، وانتشرت الخدمات والأسواق

ص: 224

والمساجد وغيرها في هذه الجهات. يضاف إلى ذلك أن أجهزة التخطيط بدأت تشق الشوارع في المباني المتوسطة والقديمة باتساع واضح، وبدأت تضع مخططاً جديداً أيضاً يتلاءم مع تطورات المستقبل. ومعنى ذلك أن الأحياء القديمة المحيطة بالحرم بدأت تحدث فيها عمليات تغير واضحة من شق شوارع جديدة واسعة إلى إقامة محلات جديدة وغير ذلك.

ويمكن أن نصف استخدام الأرض في مكة كما يلي:

أولًا: المساكن: وتؤلف القسم الأعظم من المدينة القديمة وجزءاً كبيراً من المدينة الحديثة، وهناك توسّع في الوقت الحالي في عمليات البناء في الشرق والغرب والشمال نتيجةً للظروف الطبيعية والتجارية التي أشرنا إليها فيما سبق.

ولكن يلاحظ أن المباني الحديثة تسير وفق مخطط عمران وسعته البلدية، وتسير على هداه الأجهزة المختصة وكذلك الأهالي، والمساكن إما أن تكون طينية قديمة أو مسلحاً وهي ملك لأصحابها، وحوالي 5% منها بالإيجار نتيجةً لتزايد عدد العاملين في الدوائر الحكومية والقادمين من خارج مكة.

ثانياً: أماكن التجارة: وتتركز في المنطقة الوسطى القريبة من الحرم، أي في المنطقة التي تصل بين المباني القديمة (النواة) وبين المباني المتوسطة، وتتركز في شارع الغزة أساساً.

وتشمل التجارة هنا محلات الأجهزة الكهربائية والملبوسات والبقالة والسجاجيد وغيرها، كذلك يوجد أسواق للحيوانات والدواجن ومحلات بيع اللحوم في وسط المدينة. ولا يقتصر وجود المحلات التجارية على هذه المنطقة، وإنما توجد مبعثرةً في أماكن أخرى كذلك، ولكنها تتركز في هذه المنطقة الوسطى من المدينة.

ثالثاً: مناطق الصناعة: ويطلق عليها المنطقة الصناعية، ولكنها ليست صناعية بالمعنى المعروف، إذ إنها لا تعدو أن تكون مجموعة من الورش لتصليح

ص: 225

السيارات وعمليات اللحام، كذلك توجد بعض محلات النجارة، وتقع هذه في الجهة الغربية من مكة.

رابعاً: المباني الإدارية: وتنتشر في مختلف أنحاء المدينة، ولكنها تتركز في المباني المتوسطة. كما أن هناك بعض الإدارات (مثل إدارة تعليم البنات) التي توجد في الأحياء الجديدة، يضاف إلى ذلك أن الكثير من قطع الأراضي في المناطق الجديدة قد حجزت للأغراض الإدارية، ومن الملاحظ أن مكة المكرمة- باعتبارها عاصمة للأمارة- يوجد بها فروع لكافة الدوائر الحكومية فيما عدا وزارة الخارجية.

خامساً: المباني التعليمية: يوجد في مكة مدارس عديدة، تشمل كافة مستويات التعليم العام الابتدائي والمتوسط والثانوي، ويلتحق بها البنون والبنات، وكذلك يوجد بها كليتا التربية والشريعة التابعتان لجامعة الملك عبدالعزيز، ولكل منها قسم للبنات.

سادساً: المباني الخاصة بالخدمة الصحية: يوجد بمكة مستشفيان رئيسيان وثلاث مستوصفات ومنطقة تشرف على الشؤون الصحية بالأمارة. وأهم المستشفيات مستشفى أجياد بالقرب من الحرم، هذا بالإضافة إلى مستشفى للطوارئ وعدد من المستشفيات الخاصة.

سابعاً: المباني الدينية: تنتشر المساجد في كافة أحياء المدينة، ولكن الحرم هو أهم المباني الدينية جميعاً، وتقام فيه صلاة العيد. كما يوجد بالمدينة مركز لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمساجد جميعاً مبنية بالطوب أو الحجر، ومسقوفة بالمسلح أو الأخشاب وبها مراوح لتجديد الهواء،

ثامناً: المقابر: توجد بمكة مقبرة واحدة هي مقبرة المعلاة، وإن كانت مقسّمة إلى جزئين بينهما شارع مرصوف وكلاهما حوله سور.

تاسعاً: الترفيه والرياضة: وتقتصر على نادي الوحدة في غرب مكة ومتنزه

ص: 226

كبير (متنزه البلدية)، وبعض الكازينوهات والمقاهي في منطقة الحوض، ويشمل المخطط الجديد مساحات مخصصة للحدائق والمتنزهات.

عاشراً: الطرق: وأهمها الطريقان الرئيسيان إلى جدة- الطائف، ثم تأتي بعد ذلك الطرق الرئيسية داخل مكة، وأهمها: شارع الغزة (الذي يبدأ من الحرم إلى مركز البريد)، وشارع المنصور، وشارع الجفاير، وتتصل هذه الطرق الرئيسية بالطرق الأخرى الفرعية، مكونةً شبكةً داخل المدينة. وتجري الآن عمليات شق الشوارع وفق المخطط المقترح الجديد، كما أن طريق مكة- منطقة شعائر الحج أصبح من طرق الدرجة الأولى المرصوفة، مما سيكون له أثر كبير على التطور العمراني لمدينة مكة، حيث إنه يساعد على تنشيط الحركة بين مكة والطائف على نطاق واسع، هذا بالإضافة إلى الطريق الدائري حول مكة الذي يربط بين أحيائها في سهولةٍ ويسر.

حادي عشر: المزارع: وهي عبارة عن بقع متفرقة على أطراف مكة ملك للأفراد يتخذون منها متنزهات خاصة، يزرعونها بالنخيل والخضروات والفاكهة.

ثاني عشر: أراضي فضاء: توجد أراضي فضاء بجوار مكة من الناحيتين الشرقية والغربية بصفة خاصة، وكذلك داخل المدينة، وهي أراضي مقسّمة ومخططة، وتتم فيها حركة توسّع المباني على نطاق واسع في الوقت الراهن.

ثالث عشر: الفنادق: هناك عدة فنادق من الدرجة الأولى بمدينة مكة بالقرب من الحرم، بالإضافة إلى عدة فنادق أخرى من الدرجة الثانية معظمها قريب من الحرم.

مخطط مكة الجديد

أعد مخطط جديد لمدينة مكة قامت بتصميمه الشركات الاستشارية مع مهندسي البلدية، وقد أقر هذا المخطط من جانب مكتب تخطيط المدن، ويشمل كافة الخطط التي طورت، وتشمل منطقة واسعة من الأراضي في الغرب والشرق.

ص: 227

ومن التغيرات الهامة في هذا المخطط إزالة جزء كبير من المنطقة القديمة والوسطى، وشق طرق حديثة ومتنزهات بدلًا منها، وإقامة ميادين رئيسية لتسهيل حركة السكان والحجاج. وبدون شك فإن عملية التنفيذ سوف تستغرق وقتاً من الزمن، ولكن تنفيذ المخطط سوف تنعكس آثاره على التوسع العمراني نتيجةً للنشاط الاقتصادي الذي سوف يزداد بشكل واضح.

وظائف المدينة

مهما اتسعت المدينة وازداد حجمهما وتعقد تركيبها السكاني والعمراني فإنها تظل- رغم ذلك- تمثل وحدةً مركبة من مجموعة من الوظائف (1)، فالنواة القديمة للمدينة هي الأصل وهي مركزها العصبي المتمثل في شوارعها التجارية وأسواقها الرئيسية، ومع التجارة وازدهارها المستمر طال يوم العمل بالمدينة، وخاصة بعد إدخال الكهرباء، وأعربت الوظيفة التجارية عن نفسها عن طريق مضاعفة أنوار الشوارع ونوافذ عرض السلع. ومع التجارة أو قبلها أو بعدها تمثل الوظيفة الإدارية للمدينة ملمحاً من أهم ملامحها المورفولوجية، فالإدارة وظيفة للمدينة، تعني مباني ومؤسسات ومكاتب وعاملين، وهي كذلك نشاط اقتصادي يتخذ شكل الخدمات له تداعياته، وبذلك فإن التجارة والإدارة وما يتبعهما من ظهور الخدمات والصناعة تمثل الوظائف الرئيسية المؤثرة في شكل المدينة وتركيبها، فضلًا عن كونها تمثل نبض المركز اليومي في المدينة وأساس سيولتها الإقليمية التي تجعل من المدينة ومنطقتها إقليم حركة، وتحقق السيولة الإقليمية الفعالة في تجانس الإقليم و التقريب حضارياً بين المدينة و ريفها وباديتها (2).

ويسود في الوقت الحاضر تحليل التركيب الوظيفي للمدينة إلى الوظائف


1- Ernest, W. Burges, 1925, The Growth of the City in The City, ed. Robert, E. Park.
2- Robert, E. Dickinson 1947, City Region and Regionalism, London, p. 96.

ص: 228

الأولية، وهي تمثل أصل قيام المدينة ومبرر ظهورها، وهي بالنسبة لمكة تتمثل في الوظيفتين الدينية والتجارية، ثم الوظائف التالية التي نشأت بعد ذلك كتداعيات ضرورية مرتبطة بالوظائف الأولية بدرجات شتى، وتتمثل هنا في الإدارة والخدمات بأنواعها. وفيما يلي تحليل لأهم وظائف مكة المكرمة: «الدينية، التجارية، الخدمات».

أ- الوظيفة الدينية:

وهي لم تمنح المدينة مركزاً مدنياً عالمياً فحسب، بل حفظتها أيضاً مذكورةً مشهورة، وتعد الكعبة المشرفة نواة هذه المدينة وقلبها، فمع نبض حركة الحج إليها والمترددين عليها استمرت مكة تؤدي وظيفتها هذه منذ رفعت قواعد البيت. لقد تغيرت عمارة الكعبة واتسعت، وتأثرت بمجالاتها الحديثة واتجاهات نموها، فالتفّ حولها عمران مكة يكتنفها ويحميها، واتجهت إليها شوارعها وحاراتها، وتداخلت معها أحياؤها. فالحرم شكل تكوين مكة، فهو أهم مكوناتها تأثيراً ووجوداً، ولم يقتصر دور الحرم تاريخياً على مدرسته الدينية والثقافية وما تمثله، بل هو بلا شك أنموذج انتشر في العالم الإسلامي فيما بعد.

ص: 229

وتتضح أهمية الوظيفة الدينية للمدينة المقدسة من زيادة الاهتمام بها، وتخصيص إحدى الوزارات للاهتمام بوظيفتها- وزارة الحج والأوقاف- وكذلك في الاهتمام بشق الطرق إلى الحرم والمساجد الأخرى في مكة المكرمة التي أصبحت نوايات أحيائها، وأحياناً شارعاً من شوارعها، وهي تشغل من الأحياء قلبها- تكرار الصورة المدنية ككل- ومن الشوارع رؤوسها ومن الميادين وسطها، وهي معالم الأحياء وأسماء الشوارع، إليها تتجه الطرق، وحسب مواضعها توضع خطط المباني وتنظيم المداخل، فهي نوايات تخطيطية ليس من اليسير تجاوزها، وتظهر حولها الأسواق، وتتحدد أثمان الأراضي وهي عن بعد تمثل خط أفق المدينة.

وهناك نحو سبعة مساجد كبيرة في مكة، عدا عدد آخر أكبر بكثير من المساجد الصغيرة والزوايا.

كما يؤكد الأهمية الدينية للمدينة أيضاً الزيادة المستمرة في عدد الحجاج القادمين إليها، والذي بلغ في عام 1355 ه نحو 49517 حاجاً، ارتفع إلى 316226 حاجاً عام 1360 ه، ثم إلى 100578 حاجاً عام 1370 ه، 294118 حاجاً عام 1385 ه ونحو 645182 حاجاً عام 1392 ه. ويقدر بأن عددهم قد بلغ نحو مليون حاج في العام 1977 م، وذلك فإن تخطيط مكة لابد أن يراعى فيه محاولة الوصول إلى تحقيق المدينة لوظيفتها بكفاءة عالية، وأن يستوعب الحرم أكبر عدد ممكن من المصلّين. وزيادة الاهتمام بتوسعة مساحات وتهيئة أماكن لوقوف السيارات، فضلًا عن دورات المياه ومناهل لمياه الشرب.

ولا شك أن تهيئة الفنادق المناسبة والمنازل الكافية من أساسيات توفير الراحة لمئات الألوف من الزوار. وهكذا تتداعى عن الوظيفة الدينية مجموعة أخرى من المهام التي لا يجدر إغفالها عند التخطيط لمستقبل مكة.

ويمكن القول بأن أكثر من نصف سكان مكة يعيشون على الوظيفة الدينية

ص: 230

للمدينة، سواء المشتغلون منهم بتلك الوظيفة مباشرةً مثل المطوفين أو خدمة المسجد والعاملين بجمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو بالوظائف الأخرى المترتبة عليها.

ب- الوظيفة التجارية:

من أقدم وظائف مكة المكرمة، وهي قد تراوحت خلال الزمن ما بين تجارة ذات مدى إقليمي محدود يشمل نجداً والحجاز، إلى المشاركة في حركة التجارة العالمية إبان ازدهار طريق التجارة القديم بين الشام واليمن. وفي العصور الحديثة عادت إليها وظيفتها التجارية الإقليمية المحدودة، وهي الآن- ومنذ ربع قرن- قد تهيأت لتصبح سوقاً لشتى البضائع العالمية، ومن شوارعها ومحلاتها يمكن شراء مجموعات متنوعة من سلع أرقى الدول الصناعية المعاصرة.

وتستوعب هذه الوظيفة- ما بين تجارة جملة وتجزئة ووساطة ووكالات- نسبةً هامة من سكان مكة العاملين؛ فقد تبين للباحث أن مجموع المؤسسات التجارية والمتصلة بها (النقل والتخزين- العقارات وخدمات الأعمال- المؤسسات المالية والعقارية) قد بلغ 3482 مؤسسة، بنسبة 74% من جملة عدد المؤسسات بمكة. وبالنسبة لعدد العاملين فإن نسبة العاملين في التجارة تصل إلى نحو 3 ر 72% من مجموع العاملين بها، وإذا ما أضيف إليها العاملون في الأنشطة المتصلة بها والسابق ذكرها، فإنها ترتفع إلى نحو 77% كما يتضح موقف تجارة التجزئة الهام، فهي وحدها تستوعب نحو 47% من جملة العاملين في الأنشطة الاقتصادية بمكة (10986 عاملًا).

والمؤسسات المستقلة- مركزها الرئيسي مكة وليس لها فروع خارجها- هي السائدة. وهذا يتفق مع سيادة تجارة التجزئة على كافة أنواع التجارة الأخرى، كما يؤكد الدور التجاري المحدود للمدينة. ولكنها من ناحية أخرى أشد جاذبية لإنشاء فروع المؤسسات التجارية لأسباب تتصل بوظيفتها الدينية، وهذا هو

ص: 231

السبب في نقص عدد مؤسّسات تجارة الجملة وقلّة عدد العاملين بها بالنسبة لتجارة التجزئة. فمدينة مكة إذاً تتبع تجارياً مراكز أخرى في الدولة مثل جدة والرياض والدمام، فهي سوق استهلاكية أكثر منها توزيعية أو إنتاجية.

ولا شك أن لهذه الحقيقة انعكاساتها بالنسبة لأشكال الأسواق في مكة وتركيبها، فهي تتخذ من حيث الشكل والتوزع نمطين أساسيين: الأول: هو السوق بشكله التقليدي القديم في حارات النواة القديمة وأزقتها، والبواكي التقليدية والمناضد المرصوصة أمام الدكاكين الصغيرة مع العرض المزدحم للسلع.

ومن الأمثلة سوق الليل ومحال الأحياء القديمة حول المسجد الحرام.

أما النمط الثاني للأسواق فيتمثل في محلات الشوارع التجارية الحديثة، سواء في المناطق التي أعيد تخطيطها في وسط مكة أو في مناطق التعمير الحديثة بالمدينة.

وهي أكثر تخصّصاً وتنظيماً. ويمكن ملاحظة ذلك من طريقة عرض السلع بالفترينات أو بالداخل، وكذلك من الإضاءة الكهربائية والإعلانات في محاور الغزة والقرارة وأجياد وغيرها من الشوارع الحديثة الواسعة. وكان من شأن ذلك أيضاً الاتجاه نحو بسط نطاق السوق على امتداد خطوط الحركة بدلًا من توفير مواقع محلية للأسواق، أو تتخذ إحدى العمائر كسوقٍ ضخم مثل عمارة عبداللَّه الفيصل في الغزة.

وإلى جانب هذين النمطين، يطرح التخطيط الحديث للمدينة نمطاً ثالثاً يتمثل في إقامة سوق مركزية مجمعة، يقترح لها مكان المباني القديمة التي تزال في سوق الليل والقرارة. وكذلك يتضمن التخطيط إنشاء عدد من الأسواق الصغيرة في أحياء المدينة المختلفة.

ولقد ارتبط بالوظيفتين الدينية والتجارية للمدينة مجموعة من الخدمات والوظائف أهمها ما يلي:

1- الطوافة: وهي من أهم مهن السكان بمكة المكرمة باعتبارها مدينة حج،

ص: 232

ويعمل بهذه المهنة ويستفيد منها أكثر من نصف السكان. وقد نشأت مهنة الطوافة في عهد المماليك الشراكسة في عام 785 ه، والذين كانوا يجهلون اللغة العربية، ومن ثم كانوا بحاجة إلى من يلقنهم الأدعية على مشاعر الحج. وقد استشهد السباعي على ذلك عندما أورد قصة حج السلطان المملوكي قايتباي في 884 ه، حيث تقدم القاضي إبراهيم بن ظهيرة لتطويفه. ولم يذكر المؤرخون مطوفاً في مكة قبل القاضي.

ويشترط على من يمتهن الطوافة أن يكون آباؤه وأجداده قد مارسوها قبله، وأن تتوافر فيه الأمانة والمعرفة التامة بأمور الدين. والمطوّف مسؤول عن راحة الحجاج التابعين له، ويوفر لهم المسكن المناسب، ويقوم على تطويفهم وتعريفهم بمناسك الحج أو العمرة، كما يقوم على إجراءات تصعيد الحجاج إلى المشاعر المقدسة في منى وعرفات والمزدلفة، وإنهاء إجراءات سفرهم إلى بلادهم. ويكون المطوّف مسؤولًا أمام الجهات الرسمية في حالة تخلّف الحاج أو وقوع أية أضرار تلحق به. ومقابل ذلك يعطى له مبلغاً من المال تقرره الهيئة المسؤولة عن شؤون المطوّفين.

وحتى وقتٍ قريب كانت كل مجموعة من المطوفين مسؤولة تماماً عن حجاج بلدان إسلامية معينة، ولكن هذا النظام ألغي وأصبح الحاج حراً في اختيار مطوّفه، عدا حجاج الشيعة الذين لا يحق لهم النزول إلّاعند مطوفيهم الذين لا يزيد عددهم عن عشرة.

وعدد المطوّفين حوالي 900 مطوف ومطوفة، ويتركز معظمهم في الأحياء القريبة من الحرم، مثل أجياد والقشاشية والمصافي والفلق والشامية. ويواجه المطوفون بعدة مشاكل، أهمها عدم توافر السكن المناسب للحجاج بأعدادهم المتزايدة بالقرب من الحرم، ومما اضطرهم في السنوات الأخيرة إلى استئجار مساكن في ضواحي المدينة وأطرافها. كذلك يعانون من مشكلة توفير وسائل

ص: 233

المواصلات وارتفاع أسعارها، ومشكلة توفير المياه للحجاج في منى وعرفات.

ومن الطريف أن الشخص الذي يقوم بالطوافة يختلف الاسم الذي يطلق عليه من جنس إلى آخر، فالعرب يطلقون عليه اسم «مطوف»، والهنود يطلقون عليه اسم «معلم»، أما الأتراك فيدعونه «بالدليل»، بينما يطلق عليه الإندونيسيون لقب «شيخ».

2- البنوك: كان الصرافون يقومون باستبدال العملات للحجاج، بالإضافة إلى بعض أعمال البنوك في نطاق محدود. ولكنه في عام 1945 م أنشى ء فرع للبنك الأهلي التجاري بمكة يؤدي جميع الأعمال المصرفية والاقتصادية للتجار والمترددين على المدينة. وفي سنة 1952 م أنشى ء فرع مؤسسة النقد السعودية ليقوم بأعمال البنك المركزي (وهي مؤسسة حكومية للأعمال المصرفية)، ويقوم بأعمال البنوك من تمويل للمشروعات، أو قبول للودائع، وصرف الشيكات، وفتح الحسابات الجارية...، وفي سنة 1954 م أنشى ء فرع بنك الرياض بمكة، ليقوم بالأعمال المصرفية المعتادة. وتقوم جميع البنوك بالمدينة في الحي التجاري بالقرب من الحرم الشريف.

3- الفنادق: ولا تخفى أهميتها بالنسبة لمدينة مكة المكرمة. وكان أول فندق حديث بها هو فندق بنك مصر (الكعكي حالياً) في حي أجياد بالقرب من الحرم، وكان يعمل في موسم الحج فقط، ولكنه الآن يعمل طوال العام. وفي الفترة الأخيرة أنشئت فنادق أخرى من الدرجة الأولى، مثل فندق الحرم أو فندق مكة، وغيرهما، ومنذ عام تقريباً بدأ تشغيل فندق مكة أنترناشيونال المجهز بكل أسباب الراحة والرفاهية، وتعقد فيه المؤتمرات أيضاً. هذا عدا عدة فنادق أخرى من الدرجة الثانية موزعة على شوارع مكة الرئيسية: شارع الغزة وشارع المسفلة.

4- شركات نقل الحجاج: تأسست في عام 1934 م، ويبلغ عددها الآن ثلاث هي: الشركة العربية، وشركة المغربي، وشركة التوفيق. وتعمل في نقل

ص: 234

حجاج البيت الحرام إلى منطقة شعائر الحج، أو إلى المدينة المنورة بأجور محددة من قبل الجهات الرسمية. وسيارات الشركات الثلاث في حالة جيدة.

ج- الوظيفة الثقافية:

تبذل الدولة ممثلةً في وزارة المعارف جهوداً واسعة لنشر التعليم بأنواعه، فهناك 64 مدرسة نهارية، و 21 مدرسة ليلية تضم 830 فصلًا. ويهدف التعليم هنا إلى فهم الإسلام ونشر تعاليمه وتطوير المجتمع في مختلف النواحي الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها.

والمدارس الابتدائية منتشرة في جميع أحياء مكة، أما المدارس المتوسطة فهي تتركز في أحياء جرول والقرارة والششة والمعابدة والمسفلة والشبيكة وشعب علي والنزهة. وفي مكة أيضاً ثلاث مدارس ثانوية، هي: الفلاح الثانوية (مدرسة أهلية)، ومكة الثانوية (في حي الزاهر)، والعزيزية الثانوية (في حي العزيزية).

كما تهتم وزارة المعارف السعودية بمكافحة الأمية وتعليم الكبار، وتدعم هذا النوع من التعليم فنياً ومالياً وإدارياً، لذلك أنشأت العديد من المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية الليلية لكي يستطيع الكبار مواصلة تعليمهم فيها. وتعنى الدولة أيضاً بالمعوقين ذهنياً أو جسمانياً، وتعمل على رعايتهم من خلال معهد النور بمكة.

ونظراً للعادات والتقاليد التي تتميز بها السعودية، فقد أنشأت إدارة خاصة بتعليم البنات تتبع وزارة المعارف لتشرف على تعليم البنات. وفي مكة 56 مدرسة ابتدائية، وسبع مدارس متوسطة، ومدرستان ثانويتان لتعليم البنات، تضم 733 فصلًا (25347 تلميذة).

وفي مكة كليتان من كليات جامعة الملك عبدالعزيز، هما كليتا الشريعة والتربية، ولكل منهما قسم للبنات. وتضم كل كلية نحو 600 طالب وطالبة،

ص: 235

وتقدّم الجامعة مساعدات مالية للطلاب تتراوح ما بين 300- 525 ريال لكل طالب شهرياً، تشجيعاً لهم على مواصلة الدراسة. ويعمل بالجامعة عدد كبير من الأساتذة في مختلف التخصصات.

بالقرب من الجامعة معهد للمعلّمين في منطقة الحوض، يلتحق به الحاصلون على شهادة الدراسة الثانوية، ومدة الدراسة بالمعهد عامان، يتخرج بعدها الطالب معلّماً بالمدارس الابتدائية.

وفي مكة عدة مكتبات، أهمها مكتبة الحرم، وهي المكتبة الرئيسية بالمدينة (دار الكتب بالقاهرة)، وقد أنشأت في سنة 1257 ه في عهد السلطان العثماني عبدالحميد. وتتبع المكتبة الرئاسة العامة للإشراف الديني، وتضم أكثر من 25 ألف كتاب بمختلف اللغات، من بينها 2000 مخطوط نادر، وكذلك مجلدات للصحف السعودية وغيرها. ويتردد على المكتبة للاستعارة أو الاطلاع أعداد تتزايد كل يوم، معظمهم (حوالي 80% منهم) من طلبة كليتي التربية والشريعة.

د- الوظيفة الإدارية:

تنقسم المملكة العربية السعودية- إدارياً- إلى خمس مناطق هي:

1- المنطقة الشمالية.

2- المنطقة الجنوبية.

3- المنطقة الشرقية.

4- المنطقة الغربية.

5- المنطقة الوسطى.

وكل من هذه المناطق الخمس تنقسم بدورها إلى أمارات رئيسية، فأمارات تابعة. وأمارة مكة المكرمة تتبع المنطقة الغربية التي تضمها وأمارة المدينة المنورة.

ويتبع أمارة مكة مجموعة من الأمارات التابعة. وقد بلغ عدد سكان مدينة مكة في نفس الإحصاء 336801 نسمة، فيكون نحو 20% من مجموع سكان الأمارة.

ص: 236

وتضم مكة عدداً من الخدمات الإدارية على رأسها الأمارة التي تقع في شارع الروضة، وتمثل السلطة المشرفة على المصالح الحكومية بالمدينة وملحقاتها، وبها رئاسة البلدية التي تقع في حي الزاهر، وهي من أقدم بلديات الدولة، وتقوم بالإشراف على الخدمات العامة كالكهرباء والمياه والمجاري وتنفيذ المشروعات ومراقبة الطرق والترخيص، والإشراف على الأسواق والشوارع وتتبعها المطافى ء، ويمثل المجلس الإداري سلطة هامة داخل مكة.

ويتألف من أعضاء يمثلون جميع إدارات المدينة فيها. ومن إداراتها أيضاً دائرة الجوازات والجنسية، ومركز إحصاء النفوس، والأوقاف والمحكمة الشرعية... وتشمل المحكمة المستعجلة وكتابة العدل ومأمورية لبيت المال وإدارة شؤون الموتى. وأقامت الأمارة مركزاً للخدمة الاجتماعية بمكة لدراسة المشكلات الاجتماعية التي تواجه سكان المدينة. وقد ساهم المركز في إقامة عدد من المؤسسات الاجتماعية ودور للعجزة والأندية الرياضية ومؤسسات للتدريب على صناعات ومهن مختلفة، كما يشرف المركز على دار للتربية الاجتماعية التي تضم مدرسة للأيتام، ويصرف المركز مساعدات مالية للمستحقين.

ويشرف على الأمن في مكة ستة مخافر للشرطة تتوزع في مناطقها المختلفة. والمرجح أن يتزايد عدد المراكز الإدارية الحكومية بالمدينة تبعاً لإمكانيات نموها العالية ولاحتمالات تنمية منطقتها التابعة في المستقبل.

ص: 237

ولا شك أن وضع مكة كمركز إداري يتطلّب تركيزاً شديداً في الخدمات عالية المستوى، فهو يفرض توزيعاً عادلًا للخدمات حتى يتحقق الأداء بفاعلية خلال هذه المنطقة الواسعة المبعثرة السكان والسكن. وهذا يتطلب تيسير سبل الوصول من وإلى أنحاء الأمارة إلى عاصمتها، وهو هدف اتجهت برامج إنشاء الطرق إلى تحقيقه من خلال خطة لتنمية مناطق الريف والبادية في السعودية. وذلك عن طريق ربط أجزاء الدولة الواسعة بشبكة جيدة من الطرق.

ه الوظيفة الصناعية:

ولا تمثل سوى جزء ضئيل من التركيب الوظيفي للمدينة، ومعظم الصناعات هنا صناعات استهلاكية ليس لها أية دلالة إقليمية كبيرة.

ولما كانت صناعات المدن تتحدد تبعاً لعدة عوامل، منها تركيب سكان المدينة ووظائف المدينة ثم إمكانيات المدينة ومنطقتها، وهي تهدف إلى سد احتياجات سكان المدينة والإقليم التابع الذي تستمد منه المادة الخام في أغلب الأحيان. فمن الطبيعي أن تمثل صناعات السوق الاستهلاكية (الملابس- المشروبات- الطباعة- المواد الغذائية- الأثاث- البلاستيك...) المادة الأولى في قائمة الصناعات بمكة مع التأكيد على ضآلة نصيبها من جملة النشاط الاقتصادي العام وذلك بالمقارنة مع التجارة، خاصةً من ناحية المؤسسات أو عدد المشتغلين بها.

والصناعات الاستهلاكية المشار إليها يمكن اعتبارها أيضاً ضمن صناعة الخدمات، حيث يمثل التسويق جزءاً هاماً من اقتصادياتها، كما أنها تتم في السوق أو بالقرب منه، وتمثل حاجة مشتركة لجملة السكان. ومن المتوقع أن يتزايد عدد المؤسسات الصناعية الاستهلاكية بالمدينة تبعاً لتزايد دخول الأفراد وارتفاع مستوى معيشتهم.

وتمثل مؤسسات المواد الغذائية والمشروبات والتبغ أكبر عدد من المؤسسات

ص: 238

الصناعية في مكة (182 مؤسسة- 580 عاملًا)، يليها المؤسسات العاملة في المنسوجات والملابس الجاهزة والجلود (142 مؤسسة- 272 عاملًا)، ثم مؤسسات الأثاث (43 مؤسسة- 102 عاملًا)، والطباعة والنشر (16 مؤسسة- 38 عاملًا)، ثم صناعات البلاستيك (مصنع واحد- 23 عاملًا).

ويلاحظ أن صناعة الطباعة والنشر بمكة جاءت لارتباطها بوظيفة المدينة كعاصمة إدارية وكمركز تجاري وبؤرة للخدمات التعليمية والثقافية، وما يتطلبه ذلك من طبع للإعلانات والفواتير والأغلفة والمنشورات والكراسات وغير ذلك.

كما أن من الصناعات الاستهلاكية ما ظهر كضرورة لأحوال المناخ بالمنطقة أو كضرورة للعمل على راحة الحجاج مثل صناعة الثلج التي أنشأت وأنشى ء لها مصنع كبير على الطريق إلى منى. وهكذا فإننا نجد أن بعض الصناعات بمكة قد ظهرت كتداعيات لوظائف المدينة الأخرى المتعددة، وهذا بدون شك مفيد من الناحية الاقتصادية. وهذه الصناعات ترتبط في نموها بنمو وظائف المدينة كماً وكيفاً.

أما مصنع البلاستيك بمكة المكرمة فهو مصنع صغير أنشى ء في عام 1972 م في منطقة التناعيم، وينتج الأكياس البلاستيك والأكواب وجراكل المياه...

وإنتاجه لا يكفي احتياجات المدينة المتزايدة، وهناك مشروع لإنشاء مصنع آخر.

والجدير بالذكر هنا أن معظم ما يطلق عليه اسم «مصنع» في مكة ليس إلّا دكاكين صغيرة موزعة في أنحائها، ولا يزيد عدد العمال في أي منها- غالباً- عن خمسة أفراد. وهذا يجعلنا نؤكد مرة أخرى بأن الصناعة في مكة لا تمثل إلّاظلًا باهتاً في اقتصادياتها، ولا تستخدم من الأيدي العاملة إلا عدداً ضئيلًا.

سكان مكة المكرمة:

كان سكان مكة في بدء ظهورها يعملون في خدمة القوافل وزوار البيت، وكان عددهم ضئيلًا تبعاً لإمكانيات الموضع المحدودة. وعندما جاهر الرسول

ص: 239

بدعوته وهاجر وأصحابه إلى المدينة المنورة، انخفض عدد سكان مكّة بشدة، كذلك انخفض عددهم مرةً أخرى بسبب خروج معظمهم للجهاد ونشر الدعوة.

وقد مرت مكة بعد ذلك بعدة ظروف، جعلت سكانها يتأرجحون بين الزيادة والنقصان، إلّاأن عددهم بلغ حوالي مائة ألف نسمة في عام 1950 م، يتوزعون على أحيائها القديمة المحيطة بالحرم مثل أجياد والقرارة والشبيكة والمسفلة وغيرها. ثم ارتفع عددهم بمعدلات سريعة بعد ذلك، نتيجة لاهتمام الدولة بالمدينة المقدسة باعتبارها مدينة حج وعاصمة لأهم أماراتها، والتوسع السكني بالمدينة، مما ساعد على ظهور أحياء جديدة مثل العزيزية والنزهة، بالإضافة إلى توافر الخدمات والمرافق الحيوية بالمدينة.

وقد أجري أول تعداد للسكان في السعودية في عام 1974 م (1394 ه)، وكان الغرض منه وضع حد للتقديرات المختلفة عن عدد السكان، والاستفادة منه في خطط التنمية في شتى المجالات.

وقد أوضحت البيانات الأولية التي نشرت عن هذا التعداد أن سكان السعودية بلغ 7012642 نسمة (1)، إلّاأن نتائج التعداد التفصيلية لم يعلق منها سوى بيانات توزيع السكان على المدن الرئيسية والأمارات والمناطق، أما النتائج التفصيلية الأخرى عن التركيب العمري والنوعي والاقتصادي والتعليمي وغيرها فلم تعلن حتى الآن على الرغم من مرور أربع سنوات على إجرائه، الأمر الذي يخشى معه أن يحلّ به ما حدث لحصر السكان عام 1962 م.

ومن تعداد 1974 م يتبين أن عدد سكان مكة قد بلغوا 366801 نسمة، وبذلك فهي ثالثة مدن السعودية من حيث عدد السكان بعد كل من الرياض (666840 نسمة) وجدة (516104 نسمة)، ولكنها تسبق الطائف من حيث


1- المملكة العربية السعودية، مصلحة الإحصاء العامة 1396 ه، التعداد العام للسكان لعام 1394 ه، البيانات الأولية: 3، مطابع المنطقة الوسطى، الرياض.

ص: 240

عدد السكان (204807 نسمة) والمدينة (198186 نسمة).

وكانت مكة المكرمة وحتى وقت قريب أكبر مدن السعودية من حيث عدد السكان، إلّاأنّ اتخاذ مدينة الرياض عاصمةً للمملكة، وازدهار ميناء جدة تبعاً لازدياد النشاط العمراني والاقتصادي في المملكة، بالإضافة إلى أنها مقرّ البعثات الدبلوماسية، دفع بالمدينتين (الرياض وجدة) إلى المركز الأول والثاني بين مدن السعودية من حيث عدد السكان.

ومع هذا، فقد شهدت منطقة مكة زيادة سكانية ضخمة لم تشهدها منطقة أخرى في السعودية، مما جعلها إقليم النقل السكاني بالمملكة. ويعود ذلك إلى الموقع الجغرافي المميز، والمركز الديني المرموق الذي يتفرد به، بالإضافة إلى برامج التنمية ومشاريع التعمير بالمنطقة.

وحتى منتصف الثلاثينيات لم تكن هناك مدن بالمفهوم الحقيقي لمعنى حضر سوى بعض المدن الحجازية مثل: مكة، والمدينة، والطائف، وما عدا ذلك فيعد في حكم البلدان أو القرى. ولكن كان لاكتشاف بترول المنطقة الشرقية أثر في ارتفاع معدلات النمو السكاني في السعودية عامة، والمنطقة الشرقية بوجه خاص، مما أدى إلى ظهور مدن الزيت- الدمام، والخبر، والظهران، وأبقيق، والخفجي- وتحوّل أعداد كبيرة من البدو الرحّل إلى سكان مستقرين.

ص: 241

وفي أوائل الخمسينيات لم تكن هناك سوى مدينة واحدة في المملكة التي تجاوز عدد سكانها مائة ألف نسمة هي مكة المكرمة، أما الرياض وجدة فلم يكن عدد السكان في أيهما يتجاوز الثمانين ألفاً من السكان.

وقد قدر عدد سكان المدن السعودية في عام 1962 م بحوالي 969134 نسمة، وفي عام 1974 م بلغ عدد 2664220 نسمة، أي عدد سكان المدن بالمملكة ازداد خلال 12 سنة 1695086 نسمة، وكانت نسبة التغير خلال الفترة (175%) وبزيادة سنوية قدرها 5 ر 14%، وقد سجلت كل من الرياض والطائف والدمام وجدة أعلى نسبة (8 ر 20- 5 ر 24%)، ثم المدينة (6 ر 14%)، ومكة (9 ر 10%)، ونجران (6 ر 9%)، وبريدة (3 ر 8%)، وأبها (6%) أما كل من الهفوف وجيزان وحائل وعنيزة فقد سجلت كل منها أقل من 4%.

وعلى هذا، فإنه حسب إحصاء 1974 م لا تضمّ السعودية سوى مدينتين نصف مليونية، هما الرياض وجدة، كما أن المدن التي يزيد عدد سكان كل منها على 200 ألف نسمة تتركز في غرب المملكة، وتطل على البحر الأحمر أو بالقرب منه فيما عدا الرياض.

وحسب إحصاء 1974 م أيضاً فإن السعودية تضم أكبر عدد من البدو في العالم، وأعلى نسبة منهم أيضاً بالقياس إلى جملة السكان. فعددهم يصل إلى 1883987، بنسبة 8 ر 26% من جملة السكان. ولكن توجد عدة مشروعات لتوطين البدو في السعودية، يمكن أن تؤدي إلى تقليل أعدادهم ونسبتهم تدريجياً، كما يلاحظ أن حياتهم بدأت تتحول بالفعل. فوسائلهم في الحصول على المياه أدركها تغيّر كبير، وبعضهم يستخدم سيارات نقل المياه في جلب مياه الشرب اللازمة لقطعانه من الآبار، ويستخدم السيارات في الحصول على حاجته من الأخشاب بدلًا من استخدام الإبل في ذلك أو نقل قطعانه إلى موارد المياه (1).


1- أحمد علي إسماعيل، 1976، أسس علم السكان وتطبيقاته الجغرافية: 148، القاهرة.

ص: 242

ورغم أن التوزيع النوعي للسكان غير معروف إلا أن النسبة النوعية بين الذكور والإناث تتراوح بين 110- 130 في كل من الرياض وجدة ومكة والمدينة والطائف، حيث تزيد نسبة الذكور على نسبة الإناث فيها جميعاً. وهذا يرجع إلى تدفق المهاجرين إلى هذه المدن سواء من داخل السعودية أو خارجها. وكانت نسبة توزيع السكان حسب فئات العمر في مكة كما يلي عام 1974 م مقارنةً بالنسبة العامة في المملكة.

أقل من 10 سنة من 10- 29 30- 40 أكثر من 50 سنة

مكّة 5 ر 35 38 5 ر 19 7

المملكة 8 ر 37 5 ر 30 4 ر 21 10

ويرجع ارتفاع نسبة الفئتين: الأولى والثانية عن معدل السعودية إلى أن منطقة مكة المكرمة بما تشهد من مشاريع عمرانية ضخمة، وتوسع في إنشاء المعاهد والكليات، تعد من مراكز جذب الشباب للعمل أو التعلم.

وقد بلغ معدل نمو السكان السنوي في المملكة في منتصف الستينيات (1965 م) نحو 7 ر 20%، وعلى هذا قدر عدد السكان سنة 1965 م بحوالي 5362286 نسمة. ولكن معدل النمو ارتفع في أوائل السبعينيات إلى 9 ر 2%، وارتفع تبعاً لذلك عدد السكان عام 1970 م إلى 6199176 نسمة، وأصبح معدل النمو السنوي في منتصف السبعينيات 3%، ولذلك ينتظر أن يرتفع عددهم إلى نحو 8 مليون نسمة في عام 1980 م.

والسبب في هذه الزيادة المطردة للسكان يعود إلى انتهاء عصر المجاعات والأوبئة، وظهور البترول عام 1938، ثم دخول البلاد في مرحلة من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية كما أن البلاد لم تشهد خلال هذه الفترة هجرةً واسعة للخارج، وذلك لتوافر كثير من العوامل المشجعة على الاستقرار والبقاء،

ص: 243

كما أنه بالنسبة للمنطقة الغربية بالذات، فكان للرخاء الاقتصادي والنشاط العمراني الكبير بها، وقيام كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة فيها، ما جعلها عرضة لزيادة غير طبيعية كبيرة.

وتختلف نسب توزيع السكان بين مستقرين ورحّل إلى حد كبير بين مكة وجملة الأمارة، فبينما تصل نسبة السكان المستقرين في مكة إلى نحو 7 ر 99% (366012 نسمة)، فإن نسبة المستقرين في جملة الأمارة تبلغ 2 ر 86% (1513634 نسمة)، أما الرحّل فإن عددهم في قلة 789 نسمة (3%)، وفي جملة الأمارة 240474 نسمة (8 ر 13%) متوزعون على عدد من المدن الصغيرة والقرى ومحلات الرحل.

وحسب تعداد 1974 م فإن عدد الأسر في مكة يبلغ 67947 أسرة، ومتوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة 4 ر 5 فرداً. ونسبة غير السعوديين بمكة 6 ر 26% من جملة عدد السكان بها. وتشهد المدينة زيادة سكانية هائلة في موسم الحج يقدّر بثلاثة أضعاف عدد سكانها الأصليين.

ومن خلال الدراسة الميدانية (74/ 1975 م) أمكن للباحث تقدير عدد السكان والكثافة

الحي المساحة (بالهكتار) عدد السكان (بالألف) الكثافة (نسمة/ هكتار)

المعابدة.... 186 6 ر 17 6 ر 94

الفيصلية.... 962 4 ر 24 4 ر 25

الجميزة... 45 8 ر 15 1 ر 351

شعب عامر... 46- ر 27 5 ر 456

السليمانية... 45 8 ر 14 9 ر 422

سوق الليل... 25 8 ر 7- ر 312

القشاشية... 8 3 ر 3 5 ر 412

النقا... 31 2 ر 5 7 ر 167

جرول 96- ر 20 3 ر 208

التنضباوي... 230- ر 46- ر 200

الهنداوية... 127 8 ر 25 1 ر 203

ص: 244

القرارة... 6 5 ر 5 7 ر 916

الشامية... 26 2 ر 8 4 ر 315

أجياد... 105 5 ر 22 3 ر 214

المسفلة... 211- ر 43 8 ر 203

العتيبية... 124 2 ر 31 6 ر 251

الشبيكة... 16 2 ر 10- ر 600

حارة الباب... 21 7 ر 6- ر 319

الزهراء... 106- ر 4 7 ر 37

النزهة... 110 8 ر 2 5 ر 25

الزاهر... 135- ر 31 5 ر 229

ومن الجدول السابق يتضح أن أكبر عدد للسكان يتركز في أحياء التنضباوي (46 ألف نسمة)، والمسفلة (43 ألف نسمة)، والعتيبية (2 ر 31 ألف نسمة)، والزاهر (31 ألف نسمة)، والهنداوية (8 ر 25 نسمة)، أما أقل عدد للسكان ففي النزهة (2800 نسمة)، والقشاشية (3300 نسمة)، والزهراء (4000 نسمة)، والنقا (5200 نسمة)، والقرارة (5500 نسمة).

ومن الجدول أيضاً يلاحظ بأن أعلى كثافة سكانية تقع في أحياء القرارة (7 ر 916 نسمة/ هكتار)، والشبيكة (600 نسمة/ هكتار)، وشعب عامر (5 ر 456 نسمة/ هكتار)، والسليمانية (9 ر 422 نسمة/ هكتار)، والقشاشية (5 ر 412 نسمة/ هكتار)، أما أقل كثافة للسكان ففي أحياء الفيصلية (4 ر 25 نسمة/ هكتار)، والزهراء (7 ر 37)، والمعابدة (6 ر 94).

وعلى هذا، فإنه على الرغم من أن القرارة ليست أكبر الأحياء من حيث عدد السكان، إلا أنها أعلاها من حيث الكثافة السكانية (7 ر 916 نسمة/ هكتار)، وذلك يرجع إلى أن القرارة أصغر أحياء مكة مساحة (6 هكتار فقط)، وأقربها إلى الحرم في نفس الوقت. على حين أن حيّ التنضباوي أكبر أحياء مكة المكرمة من حيث عدد السكان (46 ألف نسمة) ليس كذلك من حيث الكثافة، إذ يأتي ترتيبه

ص: 245

السادس عشر (200 نسمة/ هكتار)، والسبب في ذلك يعود إلى اتساع مساحته (230 هكتار)، بالإضافة إلى أنه يضم عدداً من الجبال والتلال، وبُعده عن الحرم قلب المدينة وقوامها.

إقليم مكة المكرمة:

تميل كل مدينة كبيرة إلى تنظيم إقليمها الذي تقوم بينها وبينه علاقات مشتركة. وهناك معايير عديدة يمكن الاعتماد عليها في تحديد إقليم المدينة، يتمثل بعضها في تسهيلات النقل، وفي كثافة وحركة السكان، والمدى الذي تصل إليه خدماتها التعليمية والصحية والترفيهية والثقافية وغيرها (1).

ولا شك أن مكة المكرمة تسيطر سيطرةً تامة على إقليمها، وتقوم بينها وبينه علاقات مشتركة واسعة، فإليها يأتي أبناء المناطق المحيطة للعمل والتعلم، وإليها أيضاً يأتي المزارعون في الوديان القريبة لتسويق منتجاتهم، وشراء ما يلزمهم من أسواق المدينة، أو للتردّد على المصالح الحكومية وعيادات الأطباء.

ولكننا هنا إزاء مدينة لها شأن كبير ليس في المملكة العربية السعودية فحسب، بل في العالم كله عامة، والعالم الإسلامي والعربي بصفة خاصة نظراً لوضعها الديني كمدينة حج الإسلام. ولذلك فإننا نقصر الدراسة هنا على تحديد الإقليم الديني للمدينة اعتماداً على الإحصاء الخاص بالحجاج حسب جنسياتهم عام 1392 ه.

فمن واقع الإحصاء المذكور بلغ عدد الحجاج 645182 حاجاً، منهم 283701 من البلاد العربية، والجدول التالي يبين عدد حجاج كل دولة عربية عام 1392 ه.

اسم الدولة عدد الحجاج اسم الدولة عدد الحجاج

الأردن 12851 لبنان 5355

الجزائر 22945 ليبيا 30705


1- محمد محمد سطيحه، 1971، خرائط التوزيعات الجغرافية: 75- 76، القاهرة.

ص: 246

السودان 33222 مصر 36452

العراق 35567 الجنوب العربي 2496

الكويت 6514 أبو ظبي 806

المغرب 14923 البحرين 2056

اليمن 54082 دبي 285

تونس 8168 عمان 3384

سوريا 10448 أمارات أخرى 1008

فلسطين 1135 أمارات أخرى 343

موريتانيا 956 مجموع حجاج البلاد العربية 283701

ومن الجدول يتبين بأن أكبر عدد يأتي من اليمن (54082 حاجاً)، ثم مصر (36452 حاجاً)، والعراق (35567 حاجاً)، يليهم السودان (33222 حاجاً)، ثم ليبيا (30705 حاجاً). ولكن إذا عرفنا بأن السعودية تعمل على تشجيع اليمنيين على الحج والعمل فيها، وتعفيهم من رسوم الدخول إلى المملكة، فإن هذا يضع مصر في المركز الأول من حيث عدد الحجاج إلى مكة المكرمة.

أما أقلّ عدد من الحجاج- بالنسبة للدول العربية- فيأتي من دبي (285 حاجاً)، وأبو ظبي (806 حاجاً). ويمثل حجاج الدول العربية- قلب العالم الإسلامي- 9 ر 43% من مجموع عدد الحجاج سنة 1392 ه (1974 م).

والجدول التالي يبين أعداد حجاج أهم دول العالم سنة 1392 ه فيما عدا الدول العربية.

الدولة عدد الحجاج الدولة عدد الحجاج

اتحاد ماليزيا 12983 إثيوبيا 3659

أفغانستان 6220 السنغال 3233

الهند 19879 النيجر 2454

إندونيسيا 40668 الصومال 2842

إيران 57230 الكامرون 2245

باكستان 65866 تشاد 2798

تركيا 36258 غينيا 2802

ص: 247

دول أسيوية أخرى 5291 نيجيريا 38869

مجموع حجاج آسيا 244404 أوغندا 2774

بريطانيا 1628 جنوب أفريقيا 2840

فرنسا 502 دول إفريقية أخرى 9981

اليونان 390 مجموع حجاج إفريقيا 74497

إسبانيا 200 الدول الأمريكية 99

مجموع حجاج أوروبا 4980 مجموع الحجاج 361481

ومن الجدول السابق يتضح أن عدد الحجاج من خارج الدول العربية قد بلغ 361481 حاجاً، يمثلون 1 ر 52% من المجموع العام للحجاج في عام 1392 ه، وقد أتى معظمهم من الدول الآسيوية (244404 حاجاً، يمثلون 6 ر 67% من مجموع الحجاج خارج الدول العربية، 8 ر 37% من المجموع العام للحجاج، يليهم حجاج إفريقيا (74497 حاجاً يمثلون 6 ر 20% من مجموع الحجاج خارج الدول العربية، 5 ر 11% من المجموع العام للحجاج. هذا بينما يمثل حجاج دول أوروبا وأمريكا نسبةً ضئيلة، ولا يزيد عددهم على 5097 حاجاً.

ومن بين دول آسيا، فإن الباكستان هي أكبر الدول إرسالًا للحجاج (65866 حاجاً)، بل إنها أول دول العالم في هذا الشأن، يليها إيران (57230 حاجاً) التي تحتل المركز الثاني بين دول آسيا ودول العالم أيضاً، ثم تأتي كل من تركيا والهند في المركزين الثالث والرابع على الترتيب.

أما دول إفريقيا، فإن نيجيريا أول الدول من حيث عدد الحجاج (38869 حاجاً)، يليها كل من إثيوبيا (3659 حاجاً)، والسنغال (3233 حاجاً).

وعلى هذا، يتبين لنا أن إقليم مكة الديني يضم البلاد العربية جميعاً والدول الآسيوية المحيطة بها، حيث يأتي منها كل عام ما يزيد على 95% من عدد المترددين على المدينة لتأدية فريضة الحج أو التجارة، ويبقى منهم بالمدينة كل عام أعداد لا يستهان بها، وخاصة من الحجاج اليمنيين الذين تصرّح لهم السلطات السعودية بالعمل في أراضيها.

ص: 248

خاتمة

مما سبق يتضح لنا مدى الأهمية الدينية لمكة المكرمة، المدينة التي يفد إليها في موسم الحج من كل عام أكثر من ستمائة ألف نسمة بخلاف أعداد كبيرة أيضاً من المعتمرين على مدار السنة يقدرهم البعض بما يقرب من ربع مليون نسمة، يأتون إلى المدينة من مختلف أنحاء العالم.

وهذا دون شك ألقى مسؤولية كبيرة وعبئاً ضخماً على كاهل القائمين بالأمر في المملكة العربية السعودية، مسؤولية إعاشة الأعداد الهائلة من البشر، وتهيئة سبل الإقامة والراحة لهم، وعب ء انتقالاتهم من مكان إلى آخر داخل المملكة.

ولذلك خصّصت وزارة للحج والأوقاف، كما أنشى ء جهاز يتولّى كل ما يتعلق من مشروعات خاصة بتوسعة الحرمين (الرئاسة العامة لتوسعة الحرمين الشريفين).

وعلى الرغم من أن هناك بعض المراحل لتوسعة الحرم قد تمت بالفعل، إلّاأنه من المؤكد أن مشروعات التوسعة لن تنتهي، فهي تستأنف مرحلة بعد أخرى مع تزايد أعداد المسلمين والأفواج الهائلة من الحجاج. فعند آخر توسعة تمت بالمسجد الحرام في زمن الخليفة المقتدر باللَّه ظلّت مساحة المسجد كما هي بدون زيادة أكثر من ألف عام، واستمر البناء حوله حتى اتصلت به المنازل، لدرجة أن المباني الخاصة قد فصلت ما بين المسعى وبين المسجد نفسه، حتى أصبح المسعى عبارة عن طريق ضيقة، تقوم على جانبيها المحلات والمنازل، وكانت مساحة المسجد لا تتعدى 29 ألف متر مربع. ولكنه في عام 1955 م- 1375 ه بُدى ء في التمهيد لأعمال توسعة المسجد، وتحويل الطريق ومجرى السيل في وقت واحد، فتم هدم جميع المباني اللازمة في المرحلة الأولى، ثم حفرت أساسات الجدار الخارجي للتوسعة في القسم الأكبر من منطقة المسعى، وفي أجياد من جانب المسعى إلى ما يقابل باب أم هانى ء. ولكي تتحقق التوسعة كان لابد من ضم المسعى إلى المسجد، وإلغاء الطريق الذي يخترق المسعى وتحويله إلى ما وراء الصفا خارج

ص: 249

حدود الحرم.

ولقد بلغ طول المسعى من الداخل ما بين الصفا والمروة 395 متراً، ومن الخارج 400 م. وعرضه 20 م، وارتفاع طابقه الأول 13 م. أما الطابق الثاني للمسعى الذي خصص للصلاة تابع للمسجد، فبلغ ارتفاعه 9 م. وأما المبنى القديم فقد أبقي عليه كأثر من الآثر القديمة، وتم تنميق القديم والجديد من جميع الجهات تقريباً.

وتبلغ مساحة الحرم بعد انتهاء أعمال التوسعة حوالي 190 ألف متر مربع، ويتسع حالياً لأكثر من 600 ألف مصلٍّ. ومن المشاريع المتمّمة للتوسعة مكتبة خاصة للحرم الشريف تسمى مكتبة مكة المكرمة، أختير لها المكان المقابل لباب الملك عبدالعزيز.

وتحت الدراسة الآن عدة مشاريع، أهمها مشروع توسعة المطاف بحيث تعادل مساحته ضعفي المساحة الحالية، ومشروع تكييف المطاف، ومشروع توسعة زمزم مع تكييف منطقة البئر وتبريد مياهه.

وعلى الرغم من ضخامة المشاريع الجاري تنفيذها أو المقترحة، فإن الباحث يرى بعض الاقتراحات التي يمكن إجمالها فيما يلي:

1- فيما يختصّ بالحرم نقترح عمل توسعة جديدة له بما يعادل نصف مساحته الحالية على الأقل لمواجهة الأعداد المتزايدة من الحجاج أو المعتمرين، خاصة وأن هناك مساحات من الأراضي المجاورة التي يمكن استخدامها في التوسعة المقترحة.

كما نرى ضرورة توسعة الشوارع المحيطة بالحرم والتي تشهد في موسم الحج ازدحاماً كبيراً بسبب عرقلة حركة المرور بالمنطقة، ويمكن هنا إنشاء بعض الشوارع العلوية مما يحقق سيولة الحركة بالمنطقة.

2- فيما يختصّ بمدينة مكة المكرمة نقترح سرعة الانتهاء من إتمام مشاريع الصرف الصحي بالمدينة، وتوصيل مياه الشرب إلى المنازل عن طريق المواسير

ص: 250

بدلًا من استخدام الوايتات أو السقايين، وهذا يساعد على الحدّ من انتشار الأمراض والأوبئة خاصة في موسم الحج، حيث يأتي إلى المدينة حجاج من مختلف الجنسيات والبيئات.

كذلك نقترح إعداد تخطيط جديد للمدينة ككل، يتمشى مع متطلبات المدينة الحديثة ويحافظ على آثارها الإسلامية القديمة وطابعها المميز في نفس الوقت.

ونقترح أيضاً ضرورة البحث عن مصادر جديدة للمياه لمواجهة احتياجات السكان المتزايدة ومشاريع التعمير.

كذلك يجب الاهتمام بإنشاء الفنادق والمساكن، سواء على أطراف المدينة أو في منى؛ لاستيعاب أكبر عدد من الحجاج، والتقليل قدر الإمكان من استخدام الخيام منعاً للحرائق والأمراض.

ص: 251

رمزية حجّة إبراهيم عليه السلام في التاريخ

عبدالمجيد معاديخواه

رمزية أم القرى

كم هي حافلة بالأسرار والرموز هذه الأرض الجافة والمحرقة، أرضٌ تقع في وادٍ لا يرتفع عن سطح البحر أكثر من 30 متراً، وعلى خطّ العرض 21 درجة و 28 دقيقة، وخطّ الطول 40 درجة و 9 دقائق مكة التي سمّتها أدبيات القرآن الكريم ب «بكة» (1) ولقبتها باسم (أم القرى) وما فيه من أسرار تثير الأسئلة (2)، في وادٍ ضيّق تحيط به الجبال من كل ناحية. وكأن الطبيعة تريد أن تترك في نفس كل ناظر إظهار ما تتمتع به هذه الأرض من أمن!

قد لا نستطيع أن نجد حدثاً تاريخياً يوازي بالأهمية من بين الأحداث التي شهدتها مكّة على مرّ التاريخ، حدث نزول القرآن الكريم، على الرغم من أن كل تلك الأحداث تستحق التوقف عندها، بحيث نرى أن الزمان والمكان قد توافقا، وبتقديرٍ إلهي، لاحتضان أهم حدث يجمع بين مكة ورمضان مع المعجزة الخالدة


1- آل عمران: 96.
2- الأنعام: 92.

ص: 252

لأعز أبناء مكة وهوية الكتاب المقدس.

هنا سأسعى- وبالاستفادة من نحو مائة آية قرآنية- للإطلالة على موقع مكة ودورها من رؤيةٍ قرآنية.

رمز شرف مكة وعزتها

يمكن القول- و من دون تردد-: إن الذي ميّز مكة، هذه الأرض المليئة بالأسرار، وأعطاها الشرف الرفيع بالمقارنة مع أيّ أرض مقدسة أخرى، لم يكن سوى وجود الكعبة المكرمة فيها، إضافةً إلى أنّها المكان الذي ولد فيه خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله الذي يعدّ بنفسه ميزةً لا يمكن التغاضي عنها:

«لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ* وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا* الْبَلَدِ وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ» (1)

ولست هنا، في صدد الحديث حول ما دار من آراء وشكوك، ولكن أشير إلى دور الكعبة والمسجد الحرام في تميّز مكة، وبتعبير أوضح، العمل على تصفيتها من آراء الشك والترديد. على الرغم من أن لهذه الأرض مميزات أخرى لا يجب الاستخفاف بأيّ منها، خصوصاً ولادة حضرة الرسول صلى الله عليه و آله الذي طهّر مكة والكعبة من لوث الشرك، وأعلن الكعبة راية الإسلام الدائمة، وقد توقفت عند هذه الميزة على وجه التحديد؛ لأن القرآن الكريم قد أكد عليها بوضوح، وإذا ما أغضينا النظر عن هذه النقطة، فإنّنا لا نقلّل لأي سبب من قيمة الامتيازات الأخرى لمكة، من هبوط آدم عليه السلام، إلى هجرة إبراهيم عليه السلام وهاجر عليها السلام، وولادة إسماعيل عليه السلام، والأخبار المتعلقة بتضحيته، وصولًا إلى البعثة النبوية ونزول القرآن الكريم.

لا أريد أن أحوّل هذا الموضوع أو البحث القرآني إلى موضوعٍ سياسي، وليس لديّ دوافع فى هذه الفرصة لأربطه بتقييم الحضارة الغربية في الدفاع عن


1- البلد: 1- 3.

ص: 253

حقوق الإنسان؛ لأن بحث هذه المسائل وتقييم عمل القوى الغربية الغاشمة في هذا الإطار يختلف وله مجاله المختلف.

على الرغم من ذلك، عندما نتأمل في دور الكعبة ومكّة من وجهة نظر القرآن الكريم لا يمكننا التغاضي عن الآية التي تحدّثت بصراحة عن أنّ أول مركز قام أو أسّس على فلسفة حماية حقوق الإنسان هو بيت اللَّه وبشكل يشمل العالم كلّه.

أريد أن ألفت النظر لمسألة واضحة، حيث نرى اختلافاً واضحاً بين الآيات التي تتحدث عن المسؤوليات المتعلّقة بالكعبة، بالمقارنة مع الآيات التي تتحدث عن التكاليف، مثل الصلاة والصيام والزكاة والجهاد؛ إذ إن مخاطب القرآن الكريم في مثل هذه التكاليف هم المؤمنون، فيما المخاطب فيما يتعلّق بالحج والكعبة هم الناس:

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ...» (1)

«وَ للَّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...» (2)

«جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ...» (3)

«وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً...» (4)

لا أريد هنا أن أبني هذا البحث القرآني على الاستحسان الذوقي، لكن لابد أن أتوجّه إلى الباحثين والعلماء الإسلاميين لأسألهم: هل من الممكن عدم الاعتقاد بوجود حكمة من وراء كل هذه التأكيدات المتكررة للقرآن الكريم؟ إن البحث الدقيق حول هذه الملاحظة والجواب الأكثر إتقاناً على هذاالسؤال يكمن في التقسيم الدقيق لمخاطبي القرآن الكريم؛ فأحياناً يكون الناس هم المخاطبون، وأحياناً أخرى المؤمنون، ومرةً أهل الكتاب، وتارةً اليهود والمشركون، إلى جانب المخاطبين


1- آل عمران: 96.
2- آل عمران: 97.
3- المائدة: 97.
4- البقرة: 125.

ص: 254

الخاصّين، وخصوصاً المجموعةالعظيمة من الآيات التي تخاطب شخص الرسول صلى الله عليه و آله.

في هذه العجالة، لا يمكن التطرّق إلى الأسئلة والأجوبة، التي وضمن النظرة التطبيقية، تفترض التعاطي مع كمّ هائل من الآيات التي لكلّ مجموعةٍ منها مخاطب أو مخاطبين خاصّين، مع ذلك، أعتقد- وبالتوقف أمام الآيات المتعلقة بالكعبة ومكّة و فلسفة الحج- أننا ندرك بوضوح أن وجودهما أوسع وأبعد من مصالح و منافع العالم الإسلامي، وتدخل فيهما مصلحة الإنسان بشكل عام.

وأكتفي هنا بما تمّت الإشارة له فيما سبق، على أمل أن يستطيع العلماء الكبار والمفكرون الملتزمون في العالم الإسلامي يوماً القيام بهذا الدور اللائق بهم.

كيف يمكن القبول بهذا الهوان، بأن يتولّى آخرون الدفاع عن حقوق الإنسان وأن يحقروا العالم الإسلامي أحياناً؟ ألا يجب على العالم الإسلامي أن يعلن مرفوع الرأس أن أوّل مركز بني على أساس الدفاع عن حقوق الإنسان هو في أرضٍ مباركةٍ اسمها مكة؟ ألا يجب أن نسعى للتذكير بهذه الحقيقة المنسية وأن ندفع ضريبة ذلك حتى؟

الخبز والأمن للجميع

أتوقف هنا عند مسألة جاءت في دعاء إبراهيم عليه السلام خليل اللَّه، محطّم الأصنام الكبير وباني الكعبة، الذي طلب من ربّه في دعائه أن يوفّر الأمن والرزق لجميع المؤمنين الذين سيعيشون في مكة، وفي جوابٍ على دعائه، نتوقف عند نقطة لا يجب التجاوز عنها ببساطة:

«وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ» (1).


1- البقرة: 126.

ص: 255

في القراءة الدقيقة لهذه الآية، نرى أن إبراهيم الخليل عليه السلام قد طلب الرزق لجميع الذين يعتقدون باللَّه وباليوم الآخر، ومن دون شك، فإن اللَّه في الردّ على دعاء خليله قال: حتى الكافرين منهم، لن أمنع عنهم الرزق، وهذا ما يستدعي التأمل والتفكير الكبيرين، وهنا أكتفي بما ورد وأشير إلى أنّه كلما ذكر دور مكة تمّ التأكيد على موضوع الأمن، وحلّ مشكلة الجوع أكثر من مرة، وهذا ما نشاهده في سورة قريش بتعبير واضح:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (1).

أعتقد أن الجوع والخوف من أهم المشاكل التي تواجهها أية حضارة، والأدبيات القرآنية أكّدت على هاتين المقولتين باعتبارهما وسائل تدخل في خدمة السياسة والثقافة الشيطانية:


1- قريش: 3- 4.

ص: 256

«الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ...» (1).

إن الحكومة الشيطانية استغلّت حالات الفقر والجوع من أجل استعباد الإنسان، وإذا ما استطعنا القضاء على الفقر والخوف في العالم، فلن يعود هناك مكان للظالمين وتجبّر الفراعنة، إذ إن توفير الأمن والرزق الكثير ينتهي بالقضاء على سلطة فرعون وقوّته.

أعتقد أنّه كلّما نظرنا إلى أسباب ونتائج الفقر والخوف من رؤية قرآنية فإننا نتوقف أمام مكة الّتي امتازت بالأمن وكثرة الرزق بشكلٍ مختلف، وفي هذه النظرة، يأخذ الأمن والرزق الكثير في هذه المدينة المقدسة- حول الكعبة- مفهوماً رمزياً لا تحدّه أرض!

أبعاد الأمن في أرض مكّة وحرمها

لا بد قبل طرح مسائل أخرى حول مكة والكعبة، أن أشير إلى ضرورة عدم اعتبار أمنها مسألةً بسيطة؛ لأن أمن هذه الأرض ملي ء بالأسرار والرموز؛ إذ يشمل ما هو أبعد من الإنسان والحيوان، وبغض النظر عن كلّ الأسئلة الفقهية، أستذكر الآيات التي تحذّر كلّ محرم من صيد أيّ حيوان، وتفرض على كل مرتكبٍ لمثل هذا الجرم عقوبةً:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اْلأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لَا الْهَدْيَ وَ لَا الْقَلائِدَ وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا...» (2).


1- البقرة: 268.
2- المائدة: 1- 2.

ص: 257

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» (1).

مشاهد الحج المتكررة

في الحديث عن الشعائر المتعلقة بمكة وتمايزها عن العالم الإسلامي لاحتضانها الكعبة ماجعلهاتشهد طوال السنةحضور ملايين الأشخاص العاشقين، وأيّ مكانٍ للعبادة يمكن مقارنته بالكعبة، بحيث يطوف حوله العاشقون طوال السنة؟ ولا يترك الطائفون تطوافهم سوى خمس مرات- عند إقامة الصلوات الخمس- ليفسحوا المجال أمام المصلّين.

لاحقاً، وفي الجزء المخصص ل (القبلة)، سأذكر علاقةً أخرى بين مكة والكعبة مع العالم، إذ لا مجال لذكرها هنا.

إن الحديث هنا عن ملايين العاشقين الذين- وتلبيةً لدعوة إبراهيم عليه السلام- يبتعدون عن بيوتهم وأوطانهم ويسارعون نحو مكّة.

«وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اْلأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (2).

تأمل في التضحية

كتب الكثير عن فلسفة الحج، وقد سعى مفكّرون كُثُر لإزاحة اللثام عن الأسرار المجهولة للحج! لذلك لم أدخل هنا في هذا الجانب، لأشير إلى المشهد


1- المائدة: 95.
2- الحج: 26- 29.

ص: 258

العظيم للحج الذي تشهده مكّة كلّ سنة كما لو أنّه المحشر.

فالحضور المتكرر لملايين الموحّدين في هذه الشعائر العظيمة، يساعد على إيجاد الترابط بين الأجيال والعصور، وأحياناً يبرزه، وهو الذي استمرّ من عصر إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا، وسيستمرّ في المستقبل، احتفالٌ للدفاع عن الحق ورفض الظلم على طول التاريخ، لا يمكن أن يتراجع أو ينكسر أو يهزم، ومكّة من زاوية النظر هذه محيطٌ عظيم، تتحوّل إلى طوفان مع كلّ فصلٍ للحج، وتفتح أفقاً واضحاً أمام المفكّرين؛ أفق واضح يبشر باليوم الذي سيختبر فيه الإنسان حياةً أخرى ينتشر فيها الأمن، ولا يستسلم أيّ إنسان فيها أمام الظالمين بسبب الخوف والجوع!

أكتفي بهذا القدر عن مناسك الحج؛ لأشير إلى نقطة تتعلّق بالتضحية؛ ففي فلسفة التضحية، لا يجب أن ننسى البعد القرآني في الإشارة لموضوع التضحية في حياتنا اليومية، إذ علينا التفكير في رمزية الامتياز الذي أعطي لنا بالتضحية بالحيوانات لتأمين ما نحتاجه.

بتعبير أوضح، يجب أن نسأل أنفسنا: كيف أن الإنسان يعطي لنفسه الحق أن يضحّي بالحيوانات في سبيل تغذية نفسه؟

لا يجب العبور عن هذا السؤال عبور الكرام؛ لأن منطق أولئك الذين يرفعون شعار حقوق الإنسان ويصرّون على فصله عن علاقته بالاعتقاد الذي يتجاوز الإنسان، أعتقد أنّهم هنا يواجهون مشكلة.

من دون أن أدخل في مسائل لا علاقة لها بالموضوع مباشرةً، أشير إلى الآية الأولى من سورة المائدة التي تتضمّن عدة عبارات، لا يبدو أنّ هناك رابطاً بينها ظاهرياً:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اْلأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ...».

ص: 259

ما هي العلاقة بين التأكيد على الوفاء بالعقود وبين جواز تغذّي الإنسان من لحم البهائم؟ ألا يعتبر هذا الحدس منطقياً أو عقلياً، أي إن الأرضية لمشروعية التضحية بالبهائم- في سبيل تأمين حاجات الإنسان الغذائية- ليست سوى امتياز الإنسان المؤمن أو الملتزم؟

بتعبير أوضح، إنّه امتياز الإنسان الملتزم بالعهد الذي ارتقى به إلى مستوى أعلى جعل من التضحية بالمخلوقات الأخرى من أجله مشروعاً وعقلانياً.

أرى أنّنا- ومن أجل البحث حول مثل هذه الأسئلة والأجوبة المعقّدة- بحاجة إلى فرصةٍ أوسع، ومع ذلك، فالدافع الذي حدا بي للإشارة إلى هذه النقطة، التذكير بأسرار ورموز في فلسفة التضحية التي لم أر حتى الآن أنّ أحداً من المفكّرين قد تطرّق إليها.

كلّما نظرنا إلى العلاقة بين التزام الإنسان وامتيازه- في أكل اللحم- من هذه الزاوية، نجد فرصةً جديدة أو أخرى للنظر إلى عيد الأضحى ومراسم التضحية، وفي هذه النظرة، عيد الأضحى هو أيضاً احتفال بأكل اللحم! ليس من أجل التلذذ بطعمها، بل من أجل التذكير بالمكانة الرفيعة للإنسان.

لكن لا يجب أن ننسى أنّه إذا كنا نحتفل بمشروعية التغذية بلحم البهائم- كدليلٍ على علوّ الإنسان- فيجب أن نعلم أن هذا العلوّ مرتبط بالتزام الإنسان! الالتزام الذي يفرض عليه احترام حقوق الآخرين، وأكل اللحم لا يمكن فصله عن إطعامه للجائعين، ومن الممكن أن يكون هذا سبباً في أن الآيات القرآنية على الدوام- فيما يتعلّق بالتضحية- قد تحدثت عن أكل اللحم مقروناً بإطعامه للجائعين.

«وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اْلأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَ

ص: 260

فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» (1).

العلامات والرموز في أرض مكة

التضحية- التي ذكرت بوصفها من شعائر اللَّه- حالُها كباقي مناسك الحج الأخرى التي يعتبر إحياؤها دليلًا على القلوب المفعمة بالتقوى، بلا شك فإن كل واحدة توحي بمفاهيم سامية أبعد من أي لون من ألوان الارتباط أو التعلق، إلهيةً وغير محدودة (أو لا يمكن حدّها)! فما يجري أيام عيد الأضحى في منى يعبّر عن ثقافة تبرز في سورة المائدة؛ ثقافة الالتزام والمسؤولية في العلاقة بالآخرين والابتعاد عن النظرة الضيقة والتفرد الذي يجعل قسماً من عباد اللَّه محرومين من المائدة الواسعة لنعمه.

وكلما كنا غير غرباء عن هذه الثقافة وأدركنا منطقها جيداً، فإن علينا إعادة النظر في وضعنا الحالي، فطالما نشاهد علامات الجوع والخوف والتمييز الظالم والفشل الإنساني في العالم الإسلامي، فإن علينا الاعتراف بالغربة عن ثقافة الحج! لا يمكن القبول فقط بأن نسوق أعداداً كبيرة من الأضاحي إلى المذبح.

بلا شك، إن مراسم احتفال الأضحى العظيم من المفاخر الكبرى للعالم الإسلامي، وتعطي الدليل على الحضارة والثقافة المغايرة للخوف والجوع.

من خلال التوقف أمام سورة المائدة والرسائل المحورية لها- المنعكسة أيضاً في اسم السورة- لا يبقى مجال للتردّد أو الشك، إن مشروعية تغذية الإنسان من لحم المخلوقات الأخرى مرتبط بالالتزام، أفهل يعقل أن يوجد إنسانٌ متدين وملتزم بلا موقف في مقابل جوع الآخرين؟


1- الحج: 34- 37.

ص: 261

إن مائدة النعم الإلهية واسعة ومليئة بالنعم والخيرات، لدرجة أنّه إذا لم يتطاول عليها المتسلّطون الأنانيون ويضيّقوا المكان أمام الآخرين، فلا إمكان أن نشاهد ضائقة أبداً، أناساً إلى جانب هذه المائدة يجترّون مرارة الجوع!

نتجاوز عيد الأضحى ومنى والهدي، نقول: هناك في كل أنحاء مكة علامات جلية لا يجب العبور عن رمزيتها وأسرارها ببساطة! مقام إبراهيم عليه السلام، موطى ء أقدام باني الكعبة العظيم- في إعادة بنائها- كلّها تشي بعلوّ مكانة الإنسان؛ فعندما يتحدّث القرآن الكريم عن العلامات الجلية للَّه في أرض مكة، فإنّنا بلا شك ندرك خصوصية مقام إبراهيم عليه السلام وكأنّه أبرز العلامات التي توحي بالعلاقة الحميمة بين اللَّه وهذا البحّاثة المميز عنده، وهنا يواجه العقل سؤالًا وهو:

ما هي الحكمة والفلسفة من تأكيد القرآن على مقام إبراهيم عليه السلام؟ ولماذا نحن مطالبون- بعد الطواف حول الكعبة- بالصلاة بالقرب من هذا المقام؟

«وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» (1).

لا أريد أن أتطرق مرّةً أخرى إلى جزء من فلسفة الحج، وما أستذكره هنا مجبراً، الضرر الذي تسبّبه الغفلة والتفكير المبسط الذي نرى آثاره في تصرفاتنا، ألا يجب علينا أن ننتقد تصرفاتنا المتحجرة، التي تدفعنا إلى التكلّف والألم- نحن والآخرين- عند الصلاة بالقرب من مقام إبراهيم من دون أن يكون لدينا همّ التأمل في هذه العبارة القرآنية!

من دون شك ليس هناك خوف إذا حدث أثناء الحج- في الصلاة بعد الطواف- أن ابتعدنا عدّة أقدام عن مقام إبراهيم عليه السلام، فالخوف الكبير هو من الغفلة التي بسببها ابتعدنا فراسخ عن مقام إبراهيم عليه السلام من دون أن نهتمّ أو يكون لدينا همّ ذلك!


1- البقرة: 125.

ص: 262

التأكيد المتكرّر للقرآن الكريم في اتّباع دين إبراهيم عليه السلام، يدلّل على الاهتمام بتعميم وتعميق ثقافة إبراهيم عليه السلام:

«وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (1).

عندما أتحدّث لاحقاً عن مكّة سأركز على خاصيّة وجود قبلة المسلمين فيها، وسأذكر خصائص أخرى عن دين إبراهيم عليه السلام وثقافته، أمّا الآن فأتوقف عند الإشارة إلى نقطةٍ حول الصفا والمروة.

موطى ء أقدام السيدة الكبيرة بالقرب من الكعبة!

بالتأمل في شعيرة الصفا والمروة والسعي بينهما بعد الطواف، ألا يمكن الوقوف على محصّلة: أن القرآن الكريم في ثقافته وأدبياته لم يحصر القيم الإنسانية فقط بالرجل!

«مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً...».

إذا كان الاختلاف في الجنس قد أوجد الأرضية للاختلاف في دور المرأة والرجل، فلا يوجد أيّ اختلاف بين الجنسين إذا أردنا الاستفادة من نبع الحياة الصادق! ففي مكة، نشاهد مقام إبراهيم عليه السلام على بُعد خطواتٍ من الكعبة، وعلى بعد خطواتٍ أخرى، نشاهد الصفا والمروة التي تذكّر بسعي الأم التي ربّت إسماعيل في حضنها.

«إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما...» (2).

ألا يمكننا أن نجد في هذا التعبير القرآني الذي استخدم الطواف للتعبير عن


1- البقرة: 130- 131.
2- البقرة: 158.

ص: 263

السعي دليلًا على اهتمام القرآن الكريم واحترامه لجهد تلك السيدة العظيمة؟ وبما أنّني آليت على نفسي أن ألتزم بحدود ما جاء في القرآن الكريم، أجد نفسي مجبراً على التغاضي عن الإجابة على مثل هذه الأسئلة، وعلى الرغم من ذلك، أغتنم الفرصة لأردّ على المشكّكين الذين يتهمون الإسلام والقرآن الكريم بالتمييز الجنسي.

وللإشارة، إلى أنّه كلّما تأملنا في تاريخ الأنبياء في القرآن الكريم، نواجه حقيقةً مهمة غير معروفة في السلسلة العظيمة للأحداث، إذ نرى أن نساءاً عظيمات في لباسٍ من العفاف قد لعبن دوراً مميزاً، أليست سلسلة تاريخ الأنبياء قد أنتجت حلقةً من تاريخ الإسلام بدأ من ثورة موسى بن عمران وصولًا إلى المسيح بن مريم الذي أكملها؟ أليس أيضاً في تتبع مواطى ء أقدام موسى، قد جرى الحديث عن دور الأم التي ربته؟ (1) والأوضح من ذلك، دور زوجة عمران التي هزّت العرش الإلهي بدعائها! وكانت نتيجته وجود مريم التي أوجدت تحولًا كبيراً! (2) في خلاصة ما تمّت الإشارة إليه، يمكن القول: إن الاختلاف الوحيد بين الرجل والمرأة، هو ستر أو حجب دور النساء الكبار اللاتي لم يتواجدن على مسرح الأحداث علناً، قد يكون ممكناً من خلال التفكير العميق في هذه المسألة، أن نتوصل إلى رمز الإختلاف بين مقام إبراهيم عليه السلام ومواطى ء أقدام زوجه التي صنعت تاريخاً أيضاً. ومن دون الإطالة في هذه النقطة كثيراً، أعتبر أن البحث حول علاقة الصفا والمروة بدور هذه المرأة العظيمة من أهم ضروريات البحث والتحقيق.

الحج، رمزٌ لعلاقة الإنسان باللَّه

إذا صرفنا النظر عن الأسرار والرموز المعروفة وغير المعروفة لعرفات والمزدلفة والمشعر الحرام ومنى، في النتيجة يمكن القول: إنّه عندما نقوم بمناسك


1- القصص: 7.
2- آل عمران: 35.

ص: 264

الحج على أكمل وجه، يجب أن نرى أنفسنا- بعد إتمامها- في ظلّ الولاية الإلهية.

«ألْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي اْلأَلْبابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» (1).

لا أريد هنا أن أتناول جميع النقاط التي وردت في هذه الآيات من القرآن الكريم حول الحج، فالحديث هنا عن انتهاء مناسك الحج، عندما يبدأ حجاج بيت اللَّه بالعودة، لقد كانت قريش في الجاهلية لوّثت مراسم ومناسك الحج بالتمايز الطبقي، وإنّنا نرى بوضوح تأكيد القرآن الكريم المكرّر على المساواة- خصوصاً فيما يتعلق بالكعبة- ولندع مسألة كم لحق بمفهوم المساواة الذي كان أحد شعارات الرسول صلى الله عليه و آله الأساسية والمحورية من أضرار أثناء الفتن في التاريخ الإسلامي!

أختصر تشعبات هذا البحث في نقطة وهي: إن القرآن الكريم قد ذكّر الحجاج بكثيرٍ من الصراحة والشفافية أنّه عند الإنتهاء من مناسك الحج يجب أن يُشعِروا أنفسهم وكأنهم في فضاء ولاية اللَّه، وفي الحدّ الأدنى أن يعتبروا علاقتهم باللَّه مثل علاقة الولد بوالده، وإذا طبقنا الحج على هذا المستوى فلا يمكن تسويغ قبول العالم الإسلامي بنفوذ وتسلّط الآخرين!

كيف يمكن القبول بأن لا يعمد ممثلو الملايين من العالم الإسلامي- بعد انتهاء


1- البقرة: 197- 202.

ص: 265

مناسك الحج- إلى اختبار الولاية الإلهية، ومن دون أن يخطو خطوات جدية على طريق كسر العلاقة مع الولاية الشيطانية؟

هذا السؤال الانتقادي، لا يعني عدم القول بأيّ اعتبار لدور الحج في الظروف الحالية، نحن نفتخر حتى الآن بعظمة الحج ونرفع رؤوسنا، أنّ قبلة المسلمين- طوال السنة- تبقى كمثل الجوهرة يطاف حولها وخصوصاً في مراسم الحج، وكأن عرش اللَّه صار على الأرض، وأن ملايين المؤمنين العاشقين- كالفراشات- يدورون حوله، مع ذلك، لا يمكن الإغضاء عن الفرق بين الحج المطلوب والحج الموجود! وإذا ما قارنّا حجّنا بالمعايير القرآنية، عندها يجب أن نسأل أنفسنا، هل نحن نعيش في فضاء الولاية الإلهية؟ ألا يثقل ظلّ الولاية الشيطانية على العالم الإسلامي؟

مكة ومكانة قبلة المسلمين

بعيداً عن مناسك الحج، نجد أن أرض مكة قد امتازت بشي ء آخر- كما ورد في القرآن الكريم- فإذا اعتبرنا أن عدد الذين يطوفون حول الكعبة بالمقارنة مع مؤمني العالم الإسلامي يعتبر قليلًا، فإن للكعبة، إلى جانب الحج، علاقة أخرى مع المسلمين لا تقبل الحد!

ص: 266

كل يوم يتجه مئات ملايين المسلمين معاً خمس مرات نحو الكعبة، لا أريد هنا أن أناقش ما يتعلق بالقبلة في هذه العجالة، لكن الذي لا بد من الإشارة له هو غفلة الكثير من المسلمين المصلّين عن دور القبلة.

فإذا تأملنا في الآيات القرآنية المتعلّقة بالقبلة بشي ء من الدقة، لا شك أنّنا سنخجل وننكس الرؤوس من النظرة السطحية والبسيطة! لأن منطق القرآن الكريم يرى أن كل مجتمعٍ أو حضارة بحاجة إلى قبلة تحدّد بها هويته، قال تعالى:

«وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ...» (1).

ومع أن الحديث في هذه الآية عن قبلة المؤمنين، لكن يبدو أن هوية كلّ واحدٍ من المجتمعات يرتبط بقبلة محددة وخاصّة به، بحيث إن أيّاً منهم لا يقبل بقبلة الآخر.

ولكن عندما نتأمل في مجموع الآيات المتعلّقة بتحويل القبلة وفلسفتها، لا شك أنّه لا يمكن القبول بعدم وجود دور للقبلة في توحيد اتجاه المعتقدين بها في أيّ مجتمعٍ أو حضارة، وأعتقد أن هذا السبب هو الذي جعل القرآن يعبّر في آيةٍ أخرى عن القبلة بتعبيرٍ أشمل وهو (الوجهة):

«وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ...» (2).

من دون شك، يبدو من غير الممكن إيجاد مجتمع أو حضارة من دون توحيد أفرادهما حول هدفٍ خاص، كلّ حضارة ومجتمع لا بد أن يكون لديه أهداف مشتركة يجب تبلورها في رمزٍ ما. والآن أين نجد حضارةً في التاريخ توحّدت حول


1- البقرة: 145.
2- البقرة: 148.

ص: 267

رمز؟ إلى الآن- وبعد قرون- نجد أن الكعبة قد وحّدت نحوها أجيالًا لا يمكن إحصاؤها! أيّ أرض يمكنها أن تفخر بأن يكون لديها مثل هذه الرمزية؟

مع ذلك، يجب أن نتوافق مع هذا السؤال الانتقادي أو المنتقد: ماذا حدث لنا- وعلى الرغم من أن لدينا مثل هذا الرمز الذي نتجه نحوه- نعاني من التفرق؟

هذا الألم مع من يمكنني أن أطرحه غير نفسي، بحيث إن كل يوم ولخمس مرات يقوم أكثر من ربع سكان الأرض بالتوجه نحو القبلة من دون أن نستطيع الاستفادة أو من دون أن نبذل أي جهد في هذا التوحّد العظيم!

الثمن الكبير لتحويل القبلة

كما أسلفت الذكر، لا أعتقد أن الفرصة هنا تسمح بالتطرّق إلى الموضوعات الكثيرة حول القبلة؛ لأن الحديث عن ميزة أو امتيازات أرض مكّة في القرآن الكريم أو من خلاله، والتي يسطع فيها حرمٌ هو أفضل قبلةٍ للمؤمنين لا يتسع له الحديث هنا! ولولا عددٌ من المتصدين غير الصالحين للأديان، وما يعانون منه من العناد والانفراد أو التفرد، لن يكون أفضل من أن تجتمع كلّ الأديان والمؤمنين بها حول هذا البيت الذي يعتبر تذكاراً من إبراهيم الخليل عليه السلام، الرسول الذي يعتبر الأب الكبير لكلّ الأديان ولا يداخله أيّ لون من اليهودية أو النصرانية.

«ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّاً وَ لا نَصْرانِيّاً وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (1).

أعتقد أنّه لا يوجد في العالم الإسلامي حتى الآن دراسات وأبحاث حول القبلة بشكل ما! فمن دون شك تم إنجاز أعمال قيمة وكثيرة حول هذا الموضوع،


1- آل عمران: 67.

ص: 268

لكن مع ذلك هناك مجال لأعمال جدية أكثر، أرى أن إنجازها يتعلّق بمشاركة مفكّري العالم الإسلامي، خصوصاً وأن المواجهة بين قبلة كلّ طرف- لدى الحضارات- يهدد الآن السلام العالمي! لذا نحن بحاجة إلى حوار أشمل من العالم الإسلامي.

ما أركّز عليه في هذه الفرصة، هو السعي الذي بذله خاتم الرسل صلى الله عليه و آله على طريق منع الحرب والعنف، مداراة أهل الكتاب، والتوجه معهم نحو قبلةٍ واحدة- خلال سنوات من عصر البعثة- وهذا ما يستحق التوقف عنده؛ لأن الثمن الكبير والثقيل لتحويل القبلة كان عندما وصلت المساعي السلمية إلى طريق مسدود، وهذا ما لم يدْرَك جيداً، وهنا ألفت نظر العلماء الأجلاء إلى سؤال هو:

ألا يوجد علاقة بين آيات تحويل القبلة (1) وآيات الجهاد والشهادة؟ (2) الجواب على هذا السؤال يتعلّق بسؤالٍ وجواب آخر: هل يمكن التفتيش أو البحث عن انسجام بين موضوعات القرآن المتفرقة ظاهرياً؟

أعتقد أن كل سورةٍ من القرآن الكريم تحمل رسالةً محددة خاصة يمكن تلمّس أثرها في اسم هذه السورة، لا يمكن لي هنا أن أتطرق إلى تسويغ هذه العقيدة، وأرى نفسي مجبراً على الاكتفاء فقط بالإشارة إلى أن الجهاد في عصر البعثة كان- قبل كل شي ء- ثمناً لاختيار الكعبة كقبلة للمسلمين، ويمكن لهذا السبب أن نتوقف عند ما جاء في الآيات التي تلي آيات تحويل القبلة:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا


1- البقرة: 124- 152.
2- البقرة: 153- 157.

ص: 269

تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ»(1).

لا أصرّ على هذا الاعتقاد، وأرى أن أيّ حكم يجب أن يكون في إطار الحوار حول أسباب ونتائج تحويل القبلة، وألفت إلى أن مصير أي حضارة على علاقة أو يتبع القبلة التي تتجه نحوها. وفي حوار الحضارات أيضاً، وقبل أي شي ء، يجب تعريف قبلة كلّ من الحضارات، وهنا أعود لأشير إلى نقطة كنت قد بدأت بها هذا البحث: إنّه إذا قبلنا أنّ الكعبة هي أول مركز أو مؤسسة قامت للدفاع عن مصالح الناس، عندها يمكننا إدراك إحدى الأسرار المجهولة لتحويل القبلة!

مقارنة القبلتين

أرى أنّه لا بد هنا من الإشارة إلى نقطة تفرض نفسها كلّما تطرق الحديث لموضوع القبلة، وهي المقارنة بين الكعبة والمسجد الأقصى، ويمكن من خلال هذه المقارنة التوصل إلى عدة رموز وإشارات تكشف الاختلاف بين هاتين القبلتين، وأعتقد أنّه لو لم يكن يوجد لدى دعاة التفرد والمتعصبين العرقيين من اليهود خصلة إشعال وتسعير الحروب، فإن مصير هاتين القبلتين كان على غير ما هو عليه الآن.

من الواضح أن البحث في هذا المجال يمرّ عبر دوائر التاريخ المتعلقة باليهود، وكذلك فإن الإشارة إلى المسائل المتعلقة بهذا البحث لا يتسع لها المجال هنا، وأكتفي بالإشارة إلى أن قسماً من سعي الرسول صلى الله عليه و آله في عصر البعثة كان يصبّ في إطار منع المواجهة بين القبلتين، وبما أنّني ألزمت نفسي في هذا البحث أن أستعين بالآيات


1- البقرة: 153- 154.

ص: 270

القرآنية، فإنّني أشير إلى نقطة قرآنية هي أن القرآن الكريم قد عرّف المسجد الحرام والمسجد الأقصى على أنّهما مبدأ وانتهاء الإسراء الليلي للرسول صلى الله عليه و آله:

«سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ اْلأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (1).

أرى أن مسافة إسراء الرسول صلى الله عليه و آله- أي في البُعد الأرضي للإسراء والمعراج- قد حدّدت بالفاصلة أو المسافة بين القبلتين، فهل يمكن من خلال التأمل في مسافة الإسراء التوصل إلى أن في فلسفة الإسراء لم يتم تجاهل التجارب التاريخية للأديان؟ لا يمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة في هذه الفرصة. لكن ما أراه واضحاً هو العلاقة بين القبلتين في أدبيات القرآن الكريم والسيرة النبوية، وبلا ترديد إذا لم يكن القيّمون على الأديان يعانون من التعصب والتفرد، كان من الممكن إيجاد أرضية السلام والوحدة من خلال القبول بالكعبة على أنّها أثرٌ من إبراهيم عليه السلام.

من خلال التأمل في أكثر من 200 آية في سورتي: البقرة وآل عمران، يمكننا التوصل إلى نتيجةٍ واضحة حول السبب الذي أوصل مساعي رسول الرحمة صلى الله عليه و آله السلمية إلى طريق مسدود؟ خصوصاً إذا توقفنا عند رسالة الآيات التي تتحدث عن عمران المساجد وتخريبها.

«وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (2).


1- الإسراء: 1.
2- البقرة: 114.

ص: 271

ولا شك أن الحديث في هذه الآيات ليس عن التخريب الظاهري للمساجد، إنّما عن تلويث أماكن عبادة اللَّه بالتسلّط والتفرد الجاهلي وعبادة الأصنام، خصوصاً عندما نعيد النظر في الآيات السابقة، نرى بوضوح أن القادة الظالمين والمتعصبين يقرّرون أن سعادة الإنسان مرتبطة بهذا الدين أو ذلك؛ فهذا يقول: لا أحد يدخل الجنّة غير اليهود، وذاك يقول: النصرانية هي الطريق الوحيد للسعادة، وكل من هو غير نصراني فهو في الجحيم، والقرآن الكريم، في مقابل هذا التضاد، يطرح طريق إبراهيم ودينه الحنيف الذي يتوازن بين كلا الدينين! ألا يشكّل هذا تعبيراً عن مساعي السلام ولقطع الطريق أمام العنف وأبشع حروب التاريخ؟

ومن دون التوقف كثيراً عند هذه النقطة أعود لأؤكد على مسألة وردت في الآية السابقة، فالقرآن الكريم يصف الذين يسعون إلى تفريغ المساجد من محتواها الأصلي ويسعون إلى تخريبها، بأنّهم أشدّ الظالمين، لذا لا يجب التجاوز عن هذا التعبير العميق ببساطة! لماذا يعتبر ظلم القادة الدينيين غير الصالحين أشدّ وطأةً وأثراً من ظلم الظالمين في التاريخ؟

وهنا أذكر نقطة واحدة هي: كلّما تصفحنا أوراق تاريخ الحروب والعنف برؤية معمقة، لا يمكن مقارنة أيّ حربٍ مع الحروب الدينية! فالجروح الناتجة عن التعصب الديني والتي أصابت جسد الإنسانية أشد إيلاماً من أي جرح آخر، واليوم عندما ننظر إلى أرض فلسطين، نرى أنّها تعاني من قسوة قلبٍ وعداوة لا يمكن إيجاد نظير لها في التاريخ يمكن مقارنتها به.

قد يكون السبب الذي منع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أن يكون له قبلة واحدة مع اليهود هو جور وعداوة القيمين على المساجد، الذين أفرغوا بيت المقدس من

ص: 272

محتواه، دون التقليل من أهمية الخصائص التي تتمتع بها الكعبة، هذه الملاحظة تستحق التوقف عندها- المواجهة بين القبلتين- وكأنّها مواجهة بين خطين وثقافتين: خط وثقافة الرسول صلى الله عليه و آله الذي نادى بالعدالة، خط وثقافة قادة أنانيين استغلوا الدين للتمييز! فيما وضع القرآن الكريم مسألة النضال ضد القوى المشركة على أنّه رسالة كل الأديان الإلهية (1).

من هنا نرى أن تجار الدين قد تولوا أمور بيت المقدس واستغلوا عباد اللَّه كعبيد لهم:

«ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (2).

مكة والكعبة في نظرةٍ تاريخية

سوف أعمد هنا للحديث عن المسار التاريخي لمكة والكعبة- من رؤية قرآنية- خصوصاً مع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكرته عن الضرر الذي لحق ببيت المقدس، وهنا يتسع المجال لهذا السؤال: هل كانت الكعبة بعيدة عن الضرر؟ ألم تتحوّل في الجاهلية قبل الفتح إلى بيتٍ للأصنام؟

يمكننا من خلال التوقف عند المسيرة التاريخية للكعبة أن نوفر أرضية الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، خصوصاً مع التوقف عند التزام إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام بتطهير الكعبة، وأن نتعرف على أبعاد وجوانب أخرى من


1- آل عمران: 64.
2- آل عمران: 79- 80.

ص: 273

حصانة الكعبة.

قبل الحديث عن دور الأب والابن في تجديد بناء الكعبة، يجب الإشارة إلى أن أحد امتيازات الكعبة قِدَم البناء، وأن قدمها يعود إلى ما قبل إبراهيم- كما ورد في القرآن- وقد لقبت ب (البيت العتيق)، وهنا نشاهد الظل الثقيل للتمييز الذي يسيطر على دراسات الجامعات الغربية في مجال الآثار (الأركولوجيا)، والذي يتطلّب جهداً حثيثاً لفضحه، ومن المحزن جداً أنّ الكثير من مفكّري العالم الإسلامي أيضاً تحوّلوا إلى تابعين ومستخدمين لدعاياتٍ تقدّم تحت اسم العلم والبحث، وتصرّ على تزوير الحقائق التاريخية بشكلٍ أعمى. وهنا أكتفي بهذا المقدار من دون التوسع في شرح هذه الفاجعة الثقافية.

عندما نقارن بين مقدار الأعمال التي أنجزت- في الأكاديميات العالمية المشهورة- حول فلسطين وبيت المقدس، وبين الأبحاث التي جرت حول مكة والمدينة، ألا نشاهد دليلًا واضحاً على تآمرٍ لا يبعث فينا الإهتمام؟ وإذا ما قرّرنا يوماً أن نعمل على إبطال المؤامرات الصهيونية، فإن علينا الاستعانة بجهود العالم الإسلامي في ذلك، وإذا كنا اليوم لا نستطيع منافسة الآخرين في هذا المجال، فإنّنا على الأقل قادرون على فضح الأيدي الظاهرة والخفية للذين يسعون لفرض هويةٍ على الشعوب والحضارات تتناسب مع مصالحهم وأذواقهم.

على أية حال، إن إثبات قدم الكعبة- كعنوان لأول مركز توحيدي يدافع عن مصالح الناس وحقوقهم- (1) مرتبط ومترافق مع الجهاد العلمي والثقافي؛ لأن ما نراه في القرآن الكريم ليس أكثر من تعابير مبهمة حول قدم الكعبة قبل إبراهيم عليه السلام.


1- آل عمران: 96.

ص: 274

تجديد أو إعادة بناء الكعبة

إذا ما كانت الكعبة- ومن دون شك، قبل إبراهيم أيضاً- مكاناً لعبادة اللَّه، إلّا أن أخبارها الواردة في القرآن الكريم، يزداد عددها ووضوحها من اليوم الذي ترك خليل اللَّه عليه السلام جزءاً من عائلته وأولاده في ظلّها.

«وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اْلأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (1).

مانشاهده في هذه الآيات بوضوح اعتقاد خليل اللَّه عليه السلام بأن أرض مكة قد اختيرت كحرمٍ آمن، لكي يوفّر لأبنائه حصانة في ظلّ الكعبة في عالمٍ ملي ء بالشرك. أكتفي بهذه الإشارة لما ورد في دعاء إبراهيم عليه السلام تاركاً ما خفي منها؛ فإبراهيم عليه السلام في أرض مكة المحرقة الجافة، كان لديه رؤية واضحة خلال التاريخ، وكان يعقد الأمل على نسل إسماعيل عليه السلام- في إقامة الصلاة- وكذلك كان في رؤيته أنّ تحقّق هذا الهدف مرتبط بدعم عواطف الناس.

وفي خلاصة هاتين النقطتين، نرى بوضوح أن إقامة الصلاة أبعد من علاقة خاصة أو شخصية بين الإنسان وربّه أو اللَّه، إذ إن لها مفهوماً اجتماعياً وتاريخياً، وفي غير هذه الصورة، فما هي الحاجة إذاً للدعم والعواطف؟

لن أتطرّق هنا لقصّة الهجرة التاريخية والمؤثرة في التاريخ، والتي نرى في أماكن مختلفة في القرآن الكريم آيات تتحدّث عن أبعادها وآثارها، خصوصاً واقعة ذبح


1- إبراهيم: 35- 37.

ص: 275

إسماعيل عليه السلام. في هذه الأثناء لا يمكن المرور على دور الأب والابن في تجديد أو إعادة بناء الكعبة دون التوقف عنده.

«وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1).

مكّة والكعبة في عصر الفطرة

فجأةً نشاهد انقطاعاً في المشهد التاريخي من عهد إبراهيم عليه السلام إلى عصر البعثة- في القرآن الكريم- وكأنّنا نواجه سكوتاً يثير التساؤل حول أحداث مكة! ولا نجد في الآيات القرآنية القليلة حول وضع مكة والكعبة قبل ظهور الإسلام إلّا إشارات حول النكران؛ من قصة هجوم جيش أبرهة وإظهار قدرة اللَّه في الدفاع عن الكعبة، وانتقاد للمشركين- وبالخصوص قريش- الذين لم يحترموا حرمة الكعبة، وحرمة الأشهر الحرم، وتصرفوا بها بأسلوب غير مقبول وابتذلوا مناسك الحج:

«وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (2).

لست هنا في صدد الإكثار من الحديث عن الانحطاط الذي أصاب أهل مكّة


1- البقرة: 127- 129.
2- الأنفال: 35.

ص: 276

أيام الجاهلية، والذي ذكره القرآن الكريم في آيات متعددة، وأكتفي بالحديث عن هذا الانحطاط من خلال انعدام الأمن وانتشار الاعتداء على الحرمات حتى لأعز أبناء مكة والكعبة في الأرض المقدسة التي أكّد على حرمها وحرمتها القرآنُ الكريم، حتى للحيوانات، وخصوصاً من قبل زائري الكعبة الُمحْرمين.

والآن، وقبل الحديث عن ذكريات التضييق على المؤمنين في مكة بعد جهر الرسول صلى الله عليه و آله بالدعوة، وخصوصاً الظروف التي هيأت للهجرة، أستعيد نقطتين مفيدتين:

أمن مكة ونتائجه

إذا كانت سلسلة العداوة المثيرة مع دعوة الرسول صلى الله عليه و آله- وفي دائرة نتائج هذه الدعوة- قد وصلت إلى حدود الإقدام على قتل أعز أبناء مكّة والكعبة وانتهاك حرمة الحرم، فلا يجب أن نعتقد أن أمن مكة في أيام الجاهلية قد فقد لونه بالكامل؛ إذ إن بعض الآيات القرآنية قد أشارت بوضوح إلى ذلك، وتؤكد أن الأمن في تلك الأرض أيام الجاهلية كان له وجود واقعي وواضح:

«وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» (1).

هذه الآية تعبّر عن أن أمن مكة- كامتيازٍ واضح- واقعٌ جلي ومعروف لدى الناس، وأن الناس كانت ترى أن هذا الأمن كان مترافقاً مع رونقٍ اقتصادي جلي، وهو ما ورد في سورة قريش بشكلٍ واضح. والمؤرخون الغربيون- على رغم التمييز في اهتمامهم بتاريخ مكة والكعبة بالمقارنة ببيت المقدس- كانوا مجبرين على


1- القصص: 57.

ص: 277

الإشارة لهذا الواقع، وبأن مدينة مكة كانت تتمتع برونقٍ تجاري.

وفي تجاوزٍ للتناقضات التي لوّثت الكثير من الآثار التاريخية بالتعصّب ضد الإسلام والعرب. قدّموا تصوراً عن العرب على أنّهم بلا ثقافة، وكأنّ العرب كانوا غرباء عن الحضارة! باستثناء أجزاء من اليمن، لكنّهم عند الحديث عن موقع مكّة في التجارة يتحدثون عن أناس عرفوا العالم.

لست هنا في صدد الحديث عن كيفية تعاطي المؤرخين الغربيين مع الإسلام والعرب في هذا البحث الذي أقصره على ما يمكن أن أستند به على القرآن الكريم.

ما يمكن أن نراه في العديد من آيات القرآن هو ما تمتعت به مكة من أمن، والرونق الاقتصادي عن طريق التجارة، وبالتفكير في نتائج هاتين الميزتين ندرك خطأ الصورة المغرضة التي أشرت لها.

إن حياة الناس وعلاقاتهم في زمن الجاهلية كانت ممزوجةً بالقبائح والنواقص الكثيرة، والتي سأشير إلى بعضها بالاعتماد على عددٍ من الآيات في القرآن الكريم، والدافع هو ما أشرت له من أن الدفاع عن أهل مكة، ليس سوى تذكير بالتعصب ضد العرب المتوافق مع السياسة الصهيونية، والهادف إلى تحريف الوقائع التاريخية بشكل جلي؛ فدار الندوة في مكة وسقيفة بني ساعدة في يثرب، تدلّل على دور التشاور في القرارات الاجتماعية المهمة، وعندما يشاهدون أو يجدون مثيلًا لهذه المؤسسات أو لمثل المنافسة الأدبية في سوق عكاظ في أيّ أرضٍ أخرى، يعمدون إلى تضخيمه واعتباره أنموذجاً للديموقراطية والبلوغ الأدبي! وأنا هنا مجبر على تقصير الحديث عن الثنائية المسيّسة في الكتابة الغربية للتاريخ، على أمل أن نرى مساهمة العالم الإسلامي في محاربة هذا التحريف.

ص: 278

ثقافة الأخلاق والاعتقادات الدينية

إذا ما التزمنا في هذا المجال أيضاً بإطار الآيات القرآنية والأسلوب السابق، يمكننا القول: إن ثقافة وأخلاق أهل مكة لم تكن بعيدةً والظروف الاقتصادية التي كانت سائدةً.

وخلاصة هذه الآيات في القرآن الكريم تشير إلى مكّة بميزتين: المدينة الجافة والمحرقة التي شكلت للبعيد والمحرومين جحيماً كلّه ألم وعذاب، وكذلك مكاناً للربح والمال، وجنّةً لبعض الأشراف القلائل! خاصةً إذا توقفنا أمام آيات الربا وارتباطها بآيات النفاق (1)، والتي تذكّرنا باختلال مسيرة التاريخ.

ونتصوّر مجموعتين من الناس تعيشان في ظروفٍ مختلفة:


1- البقرة: 260- 280؛ و آل عمران: 129- 136.

ص: 279

متمولون يمتصون دماء المحرومين حتى الرمق الأخير بأرباح قروض مضاعفة! وأناس يعيشون في براثن الفقر، يدفعهم الخوف من الفقر إلى وأد وقتل أعز أولادهم (1)، على الرغم من أن قتل البنات (وأدهم) في الجاهلية كان فيه أثر من العداء لهنّ والغيرة الشديدة والمفرطة.

إلّا أن القرآن الكريم قد أكّد في سورة الإسراء على علاقة ذلك بالفقر، وفي هذا الإطار فإن كتّاب التاريخ المتوافقين مع اليهود المعادين للعرب قد صوّروا الماضي بطريقة كان لها الأثر السيّ ء في صياغة الأفكار والعقول. وكأن المرأة في حياة العرب تلك الأيام لم تكن تحسب إنساناً!

لا أنوي هنا أن أدخل في بحث مسائل فرعية، وأكتفي بالإشارة إلى أنّه إذا ما كانت مكانة جميع النساء على هذا النحو، فكيف كان لسيدةٍ مثل أم المؤمنين خديجة عليها السلام كلّ تلك الإمكانات لتستخدم وتوظّف الكثير من الرجال؟

على أية حال، في تلك الحياة الثنائية إلى جانب الاختلافات الطبقية، فإن المرأة والخمر والربا والميسر قد ساعدت على تعميق الظلم في علاقات الناس بعضهم ببعضهم الآخر.

«إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ اْلأَنْصابُ وَ اْلأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ...» (2).

وأشير إلى أنّه إذا كانت الخمر والميسر والأزلام من الشرك، فإن كل واحدٍ منها أيضاً يشكّل سبباً أو عنصراً مدمّراً، ولا يجب أن ننسى أنّ هذه الأمور كانت تشكّل جانباً من ثقافة تلك الأيام! لكن عندما يرتبط الإدمان على شرب الخمر


1- الإسراء: 31.
2- المائدة: 90.

ص: 280

مع الميسر أو القمار فإن تدميره يكون مضاعفاً! واليوم نرى أن أصحاب حانات القمار يستغلّون الخمر والسكر إلى جانب المرأة ليضفوا على القمار رونقاً! وإذا استذكرنا هنا أن القرآن الكريم في سورة المائدة قد تحدّث عن علاقة الخمر والقمار ببعض مظاهر الشرك، فإنّنا ندرك أن الرسالة الثقافية الأقرب إلى القلب من وراء ذلك هو الحديث عن أشياء تنجّس مائدة النعم الإلهية.

شعر الشعراء وسجع الكهان وأوراد السحرة

في تلك الأرض المقرونة بعنف السيف، كان للشعر والسجع مكانتهما التي تدعو للتوقّف عندها، فكلّما تأملنا في منطق المعارضين للرسول صلى الله عليه و آله، وكما ورد في كثيرٍ من الآيات القرآنية، نجد أن مكة كانت من الناحية الأدبية كالقمّة الشامخة، وعلى ضوء آياتٍ من القرآن الكريم- من ضمنها جزء من سورة المدثر- نرى أن مكان ولادة البعثة يعجّ بالمحافل الأدبية التي لم تكن غريبةً عن الأدبيات القرآنية، والأثر الذي تركه طنين رسالة وأدبيات القرآن الكريم من علامات وآثار واضحة فيها. وكذلك الحديث عن متكلّمين مدققين وما ذكر بإعجاب عن سياستهم وحيلهم في إبطال أثر ودور القرآن.

كنت أتمنّى عند كتابتي لهذا البحث أن يكون في متناولي متحفٌ كي أصوّر أدبيات تلك الأرض، لقد بقي لنا من تلك الأيام آلاف اللوحات بحاجة إلى إعادة اكتشاف دقيق وعميق، كي نكون أقدر على معرفة الآيات القرآنية بشكلٍ أفضل.

في هذه الحالة، نرى أن الكثير من التعاليم القرآنية قد نزلت لأجل إحداث تغيير في تلك الأرض، ونستطيع معها إدراك عدّة نقاط حول ما كان يجري في أرض ولادة البعثة في زمن نزول القرآن الكريم، والمثال، إذا كنا نشاهد شعار

ص: 281

الدعوة إلى الدين الحنيف في الأدبيات القرآنية، فإن ذلك يقودنا حتماً إلى واقع أن شعار الدين الحنيف في تلك الأرض كان شعاراً معروفاً وجذاباً، وإذا كنا نعتبر أن الاعتقاد الديني للناس كان مختلطاً بالخرافة، فإن علينا أن ننظر إلى الوجه الآخر للعملة.

من خلال التوقف أمام ما جاء في القرآن الكريم حول الاعتقادات والثقافة والاقتصاد والأخلاق والتغذية والصحّة والآداب والعادات، نتوصّل إلى إدراك منشئها في الجاهلية، خاصّةً إذا ما كانت نظرتنا تأخذ بعين الاعتبار ترتيب نزول الآيات.

في نظرةٍ أخرى، فإن علاقة أشراف وسادة مكة مع أهل الكتاب تستدعي التوقف عندها والتأمل، ففي تأكيد القرآن الكريم على بعث الرسول صلى الله عليه و آله من الأميين، ما يساعدنا على معرفة مدى الفساد الذي كان يضع العلم والأدب في خدمة ظالمي الجاهلية، وكأنّ الدين والقانون والأخلاق قد استغلت- كقيدٍ وسلاسل- لفرض السلطة الطبقية:

«الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ اْلأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ اْلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اْلأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (1).

إن مثل هذه الآيات هي بمثابة نافذة لرؤية المجتمع الذي نزلت فيه دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، ولذكر أو تعداد كلّ الآيات نحن بحاجةٍ إلى تأليف كتب كثيرة، لذا


1- الأعراف: 157.

ص: 282

سأكتفي هنا بذكر هذه النماذج.

وفي إدامة النظرة التاريخية حول مكة، يجب أن نتوقف عند علاقة تلك الأرض مع يثرب، العلاقة التي مهّدت للهجرة والتحوّل:

«وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا* وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً* وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اْلأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا* سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» (1)

.

الهجرة نقطة تحوّل في تاريخ مكة

لا أنوي هنا أن أناقش موضوع هجرة الرسول صلى الله عليه و آله إلى يثرب، وسأكتفي بالتوقف عند الأثر أو التحوّل الذي تركته هذه الهجرة النبوية في تاريخ مكة؛ فإذا اعتبرنا أن تلك الهجرة التاريخية تشكّل الخطوة الأولى نحو تأسيس الحضارة الإسلامية، ففي رؤية أخرى أو ثانية، كانت خطوةً مصيرية في إطار تحرير أرض مكة من سلطة الظالمين الذين لوّثوا مكة والكعبة بالشرك.

والآن، وقبل النظر إلى نتائج الهجرة النبوية وبالترافق مع مصير مكة، يجب علينا أن لا نغفل عن الدور المهمّ لموسم الحج في تبادل التجارب.

وهنا، لسنا بحاجة إلى التذكير بأن معرفة يثرب بالدعوة الإسلامية لم تكن مفصولةً عن موسم الحج؛ من هذه الرؤية، نرى أن موسم الحج يمثل مناسبةً قيمة ومهمة لما يوفره من أرضية للتبادل الثقافي ونقل المعرفة بين الناس.


1- الإسراء: 73- 74 و 76- 77.

ص: 283

وهنا، أشير إلى نقطة غير معروفة من الآية المشهورة:

«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا...». (1) مفسرو القرآن الكريم، وفي قراءتهم لمعاني هذه الآية، توقفوا عند جزء منها هو «إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتْقاكُم»، بشكل أثّر على جاذبية «لِتَعارَفُوا» فيها، وهنا أعتقد أن المعنى أو الرسالة الأساس لهذه الآية ليس سوى (التعارف)، الذي يعبّر عن تربيةٍ قرآنية.

وهنا نشاهد أن نظرية حوار الحضارات في مقابل تصادم الحضارات في الحاضر قد جذبت الكثير من محبي السلام في العالم، وهنا أتوجه بالسؤال لعلماء المسلمين، ألا نرى في تأكيد القرآن الكريم على تبادل المعرفة- كعنوان لفلسفة التعدد المرتبطة بالأرض والدم- أنّها تُبطل نظرية تسعير الحرب؟ ألم يعلن القرآن الكريم- بكل صراحةٍ وبأسلوبٍ شفاف- أن في تعدّد وتنوع الحضارات والمجتمعات أصلٌ مشترك يربط جميع الناس مع بعضهم، حتى مع وجود اختلاف في الأرض والدم والقبائل والشعوب، وأن عليهم أن لا ينسوا هذا الأصل المشترك؟ إن فلسفة هذا التعدد والتنوع ليس التفاخر الذي يحمل بعضاً من معنى التكاثر ويوفر أرضيةً لاستعادة تفاخر الجاهلية (2)، بل الأقرب إلى العقل والمنطق أن يكون هذا التنوع ذريعةً للتعارف بدلًا من التفاخر الذي يسبّب الحرب.

أختم هذه النقطة أو المسألة الإنسانية والعالمية فيما يتعلّق بشعار الاسلام بالقول: إن موسم الحج، يشكل فرصةً ذهبية منقطعة النظير لزوار الكعبة، كي


1- الحجرات: 13.
2- أنظر سورة التكاثر.

ص: 284

يستفيدوا من قطرات هذا المحيط العظيم وتلاطم أمواجه في سبيل تكامل الأفكار والتجارب المتنوعة فيما بينها.

من هذه الرؤية، أعتبر أن موسم الحج أفضل فرصة لا يجب أن ننسى الشكر عليها، تجربةً في التبادل الثقافي، في أجواء سليمة بعيدة عن الجدل والانحراف.

والمثال البارز والتاريخي هنا هو ارتباط عدد من قبائل يثرب بدعوة الرسول صلى الله عليه و آله، إذا نظرنا بهذا النحو، فإنّنا ندرك دور موسم الحج، ليس فقط كنقطة تحول في تاريخ مكة ويثرب، بل كتمهيد للحضارة الإسلامية، ونقطة تحوّل أيضاً في تاريخ الحضارات.

أسئلة حول أرضية الهجرة النبوية

إذا تجاوزنا جميع ذلك، فإنّنا نواجه أسئلةً حول أرضية الهجرة النبوية لا يمكن تجاهلها، فإذا نظرنا إلى قصّة الهجرة من نافذة الآيات في سورة الإسراء، نرى أن الحديث عن طريقين غير معروفين- قبل الهجرة- لم يتطرّق إليه أصحاب السير والمغازي، وكذلك المفسرون الكبار.

في تلك الآيات، يجري الحديث عن مساعي المشركين لجرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى منحدر صعب، «وإن كادوا ليفتنونك...»، وهناك حديث عن مساعٍ أخرى لفصل أعزّ أبناء مكة عن الكعبة «وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها...»، وحتى الآن لم أشاهد في السّيَر والمغازي وكذلك التفاسير أي أثر لرؤية جامعة أو شاملة لمجموع هذه الآيات.

لا أريد هنا أن أدخل في مناقشة مسألتين مجهولتين تعبّران عن علاقة الهجرة النبوية بطريقي: المساومة والقطيعة، مكتفياً بالإشارة التالية:

ص: 285

في إعادة قراءة تاريخ الإسلام، يجب البحث عن الفتنة التي كان بإمكانها أن تدفع الرسول صلى الله عليه و آله أمامها، ألم يكن الرسول صلى الله عليه و آله أمام ضائقةٍ أجبرته على الهجرة.

وبتعبير أوضح، ما هي المقترحات التي قدّمها مشركو قريش ودفعت الرسول صلى الله عليه و آله في ظلّ العصمة إلى رفضها؟

الجواب على مثل هذه الأسئلة يتعلّق أو يرتبط بإعادة قراءة تاريخ الإسلام على ضوء الآيات القرآنية، وبمشاركة كلّ المؤرخين الأحرار في كل العالم الإسلامي، ولا مجال هنا سوى التذكير بمثل هذه الضرورة.

وبغض النظر عن ذلك كلّه، فإنّ ما يتعلّق بتاريخ مكة في القرآن الكريم، هو العلاقة بين الجهاد في عصر البعثة مع تحرير مكة من السلطة الطبقية لأشراف وسادة مكة قبل الإسلام وتطهير الكعبة من رجس الشرك.

ص: 286

أستميحكم العذر أن أشير إلى نقصٍ آخر في إطار ضرورة إعادة قراءة تاريخ الإسلام، وهي أنّ المؤرخين الكبار قد وفروا لنا مصادر قيّمة عن السيرة والمغازي، لكنّهم لم يعتنوا أو يهتمّوا بتصنيف حروب التاريخ الإسلامي.

والنقص الأوضح، كان حول الغزوات والسرايا التي وردت في النصوص التاريخية بشكل متفرق وموزع من دون الاهتمام بانسجامها وما ترمز إليه، وأعتقد على ضوء الآيات القرآنية، أن جهود عصر البعثة كانت تتمحور حول تحرير الكعبة من سلطة ظالمي قريش.

من الواضح أنّني لا أستطيع أن أدخل في شرح مثل هذه الفرضية هنا، وأكتفي بالإشارة التالية: لقد بيّن القرآن الكريم مشروعية هذه الجهود التي أراقت الدماء في مقابل ظلم المشركين وكذبهم، وهم الذين أخرجوا أبناء مكّة من الحرم الإلهي الآمن:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (1).

تحرير مكة، في فلسفة الجهاد

إن أثر أو نور هذه الآيات يتجلّى في سورة الحج، التي تعبّر عن العلاقة بين الجهاد في عصر البعثة وبين تحرير مكة، الأرض التي أهدت لتاريخ الحضارة


1- الحج: 39.

ص: 287

الأمنَ، والتي بني فيها أول مركز قامت أو تأسّست فلسفته على الدفاع عن حقوق الإنسان ومصالحه، بحيث لا تجتمع سلطة الغرباء مع التوحيد والكعبة، أولئك الذين كانوا مدينين لأمن مكة في مختلف الظروف، من دون أن يستحقوا أو يتمتّعوا بأهلية إحياء وعمران الكعبة.

رواية وسقاية زائري الكعبة، وإطعام الحجيج، وكساء الكعبة وسدانتها، والدفاع عن تلك الأرض، كانت لبّ وجوهر حضارة مكة، كما لو أنّها قد أوجدت نظاماً فيما يتعلّق بشؤون بيت اللَّه وملجأ الناس وتذكار إبراهيم الخليل عليه السلام. مع ذلك كلّه، فإن غربة متولّي الحرم عن روح الحج وفلسفة بناء الكعبة، كانت إلى درجة يصدق عليها قول شاعر إيران وخواجة شيراز المفوّه (حافظ):

لقد ضرب الحاجب الجميع بسيف الخمرة، وأخرج من الحرم خمراً!

لقد شكّلت هذه النقطة المدخل المنطقي للقرآن الكريم للتأكيد على مشروعية الجهاد في عصر البعثة، وهنا لا نستطيع أن نتطرّق إلى الرموز والدلالات المجهولة للمعارك الدموية التي دفعت أعداء رسول الرحمة صلى الله عليه و آله لاتهامه بالعنف، والحال أن فلسفة كلّ هذه المعارك لم تكن سوى وضع حدٍّ للحرب والعنف:

«فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها...» (1).

أرى أن رسول الرحمة صلى الله عليه و آله وأصحابه قد تلقوا أمراً بالحرب من أجل تحقيق شعار ومبدأ السلام، ولكي يخلّصوا الإنسان والحضارة الإنسانية من وزر الحرب، فكيف يمكن اتهام الحرب بأنّها عنف فيما فلسفتها تقوم على السلام والعداء للعنف؟!


1- محمد: 4.

ص: 288

في الرد على أسئلةٍ من هذا القبيل يجب القبول بالاختلاف بين حروب عهد الخلافة- خاصّةً بعد انكسار قفل الفتنة- مع حروب عصر البعثة، والاعتراف بالانحرافات إلى جانب السعي لإبعاد صفة الدموية والعنف عن الإسلام المحمدي ودين رسول الرحمة صلى الله عليه و آله.

النصر الساطع وبطولة (حماسة) السلام والأخلاق

لا أستطيع أن أشرح هنا جهاد عصر البعثة في علاقته بتحرير مكة، لذا عليّ أن أتغاضى عن نقاط كثيرة واضحة وغير معروفة، لأشير إلى بطولة الأخلاق والسلام التي فكّت طلسم فهم سلام وأمن مكة، وحدّدت مصير أرضٍ هي قبلة المسلمين؛ أي الحديث عن صلح الحديبية الذي سمّاه القرآن الكريم بالفتح المبين:

«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» (1).

لو لم يكن لديّ خوف من الإطالة بهذا البحث، لكان من الممكن لي أن أشير إلى نقاط حول تقسيم الفتوحات من رؤية قرآنية، غير أنّني أكتفي بالإشارة إلى أن التجربة المرّة للرسول صلى الله عليه و آله في علاقته بالمشركين، وما كان فيها من ليونة وبطولة أخلاقية، على الرغم ممّا تعرّض من ظلم وعنف من أعدائه، لم تكن عصيةً فقط على فهم المعاصرين للبعثة، بل ما زالت عصيةً أيضاً على الفهم حتى يومنا هذا، برغم مرور قرون عليها، ما يسبّب عدم إدراك أبعاد وأسرار انتصاره الباهر والعظيم هذا.


1- الفتح: 1- 3.

ص: 289

كلّ النصوص التاريخية والسّيَر والمغازي تحدّثت عن غضب واعتراض عددٍ من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله، عندما كانوا يرون تصرّفه الرحيم في الردّ على عنف وظلم سادة قريش، وما لم يذكر في هذه النصوص تلك الأبعاد العميقة لبطولة السلام والأخلاق المحمدية.

وأشير هنا إلى بُعدٍ من أبعاد الفتح المبين لا يكمن في البُعد الظاهري الذي اهتمّ به كتّاب التاريخ حول فتح مكة، من دون الالتفات إلى نتائج صلح الحديبية.

فإذا توقفنا قليلًا أمام الأحداث المختلفة لما بعد هذه البطولة العظيمة، ندرك أن أبرز نصرٍ في تاريخ الإسلام قد تحقّق بمعجزة الأخلاق لا بحدّ السيف، ونرى أن أبرز رجال السياسة والسيف قد التحقوا بمعسكر الرسول بعد صلح الحديبية، كإسلام خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص- بعد مدةٍ قصيرة منه- وهو تعبير عن أن معجزة الأخلاق هي التي نزعت أسلحة العدو.

ولأنّه لا يمكن في هذه العجالة أن نستفيض في الحديث عن هذه البطولة التاريخية والمصيرية كما يجب، سأشير إلى نقطة من السيرة النبوية أعتبرها رمزاً لهذه البطولة، لكن قبل ذلك لا بد من التطرّق إلى نقصٍ آخر في كتابة السيرة هو:

عدم اهتمام كتّاب السيرة بالمصادر القرآنية

الكبار الذين بذلوا جهوداً للكتابة حول السيرة النبوية وتركوا لنا آثاراً قيمة، كأنّهم أغفلوا أكثر المصادر ثقةً في هذا المجال، لقد وجدت أكثر من مئتي آية في القرآن الكريم، كل واحدةٍ منها تغطّي مجالًا من السيرة النبوية، وأذكر هنا أنموذجاً يدعم بطولة صلح الحديبية الخالدة:

ص: 290

«وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (1).

فبلا شك، هذه الآيات تتضمّن أحد أبعاد المنطق الحاكم على سلوك الرسول صلى الله عليه و آله، أية ردّة فعلٍ هي أفضل في مواجهة السيئة؟ ثورةٌ بعيدة عن التصور تسقط بيد العدو، فإذا اهتممنا بسلوك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله انطلاقاً من هذه الآيات التي تزيد على المائتين، والمتعلّقة بالسيرة النبوية، فإنّنا سنجد نماذج على ذلك.

في الآيتين السالفتين، نجد علاقةً بين معجزة الأخلاق وبين الاستثمار، فالاستثمار في الأدبيات الحديثة من المقولات الاقتصادية، أي الحديث عن الاستفادة من مصادر مثل الأرض والماء والطاقات المختلفة، وقمّته ما نراه، في إعادة إنتاج الطاقة الملوّثة، لكن هاتين الآيتين تتحدّثان عن الاستثمار البعيد عن التوقع والذي فيه حظّ عظيم، أي تبديل العداوة إلى صداقة ورحمة، خلخلة مركز الحرب وإسعار النار وتحويله إلى مركز للبناء.

صلح الحديبية، أنموذج واضح لمثل هذه المعجزة في تاريخ مكة؛ فمعجزة الأخلاق كانت الردّ الأفضل على السيئات والقلوب المريضة بالتعصّب والعداوة نحو الإسلام ورسول الرحمة، وتبديلها إلى مركز للحب؛ وإسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص شهادة واضحة على هذا الواقع؛ فخالد صاحب السيف الذي هزم جيش الإسلام في معركة (أحد)، وأنزل أشدّ الألم والجراح على قلب الرسول صلى الله عليه و آله وأصحابه، لكنّه تحوّل إلى قائد فدائي في خدمة الإسلام بمعجزة الأخلاق.


1- فصلت: 34.

ص: 291

بيعة الرضوان

تجديد بيعة أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله معه- فيما يتعلّق بصلح الحديبية- يعبّر عن أهمية هذا الحدث كنقطة تحوّل في تاريخ الإسلام وتاريخ مكة:

«لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ... إلى آخر السورة» (1).

لا أنوي أن أعرض ما توصّلت له- في اعتقادي- على ضوء هذه الآية في هذه الفرصة، فالواضح هو الاختلاف بين نظرة أولئك الذين يقيّمون الوقائع من خلال حجاب الظاهر، وبين النظرة التي لا تنحبس حتى في حجاب الزمان والمكان؛ فالرسول صلى الله عليه و آله قبل صلح الحديبية رأى في المنام أنّه داخلٌ هو وأصحابه إلى مكة، غير أنّ ما حدث من تطوّرات، ومن الكذب والظلم الذي مارسه أشراف وسادة مكة في مقابل نعومة رسول الرحمة صلى الله عليه و آله قد أثر على اعتقاد الكثيرين بالشك والترديد.

لم يمرّ وقت طويل، حتى أزاح فتح مكة السلمي من دون إراقة دماء صدأ هذا الترديد والشك، وشاهدوا بالعين ما رآه رسول اللَّه في المنام أو الحلم.

وأرى نفسي هنا مجبراً على التغاضي عن نقاطٍ صغيرة وكبيرة، وأن أختم هذا القسم بالإشارة إلى أعظم حجّ في تاريخ مكة.

حجّة الوداع

في المسافة الفاصلة بين صلح الحديبية وحجة الوداع، وقعت أحداث كبيرة في تاريخ الإسلام وتاريخ مكة، مثل عمرة القضاء، وفتح مكة، والبراءة من


1- الفتح: 18.

ص: 292

المشركين، وتطهير حرم الكعبة من آثار الشرك، ونجد أنّها خصّصت بآيات في القرآن الكريم؛ لذلك أكتفي بما قلته وما كتبته حتى الآن حول «صورة مكة في القرآن الكريم».

ومن الواضح أن ما كتبته سيكون مدخلًا لأبحاث جديرة، أبحاث يجب الاهتمام والقيام بها في إطار إعادة قراءة تاريخ الإسلام وتاريخ مكة بمشاركة علماء العالم الإسلامي.

والآن أتطرّق إلى آخر حجّة تاريخية للرسول صلى الله عليه و آله، والتي تعتبر أكثر الحج ذكرياتٍ في تاريخ الكعبة ومكة، أرض مكة مكان ولادة دعوة الرسول صلى الله عليه و آله الذي دعا إبراهيم الخليل عليه السلام ربّه أن يبعثه، ولأنّ الحديث عن تلك الأرض التي شهدت أعظم مراسم حجٍّ في حجة الوداع؛ فإذا اعتبرنا هذا الحجّ حسن الختام في عصر البعثة فلا نكون قد قلنا جزافاً، خصوصاً إذا ما توقفنا أمام شأن نزول آية إكمال الدين، التي رويت مقرونةً بحجة الوداع:

«ألْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اْلإِسْلامَ دِيناً» (1).

في النظرة الأولى، قد لا نجد علاقةً بين هذه الآية والآيات التي تسبقها والتي تليها، إلا أنّني أعتقد خلاف ذلك، فبالعودة إلى النقاط المحورية التي تدور حولها سورة المائدة، أرى أن هذه الآية كضوءٍ منير يجب أن يشعّ على مائدة النعم الإلهية غير المحدودة.

إذا ما كنت لم ألتزم في هذه الكتابة بإطار الآيات القرآنية، فإنّي أضيف هنا نقاطاً حول حجة الوداع، وأشير إلى التالي:


1- المائدة: 3.

ص: 293

في تاريخ مكة وتاريخ الإسلام الحافلين، لا نجد مثيلًا لتلك الأيام التي سيطر فيها هذا النشاط والحيويّة على تلك الأرض، لكن سنّة اللَّه التي لا تتغير قضت أن تكون أعذب مدينة في حياة هذا العالم معجونةً بالمرارة؛ فقد رافقت هذه المراسم العظيمة ذكريات من ظلال الحزن، ففيما كان معظم أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله في أوج نشاطهم وحيويتهم، وكانوا يحتضنون الكعبة في وسطهم كالفصّ، ويقومون بمناسك الحج مع رسول اللَّه، في أوج هذه الفرحة التي لا يسعها الجسد، نالتهم حرقة حديث مرّ عن ألم الفراق، إن شرح تلك التجارب يجب أن نشاهدها من أقلام الفنانين بالاستعانة بالعلم والتحقيق؛ كي ينقلوا ويصوروا ذلك المشهد المثير.

مراسم الحج في سيرة الخلفاء الراشدين

كآخر قسمٍ من هذا البحث، أشير إلى أنّ عظمة حجّة الوداع شكّلت الداعم لمراسم الحج في تاريخ الإسلام، فبعد ارتحال الرسول صلى الله عليه و آله، شهد المسلمون هذه المراسم العظيمة كلّ سنةٍ بحضور خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله. وبالتوقف أمام الكثير من الأخبار، خصوصاً العائدة إلى النصف الأول من القرن الأول، نشاهد آثاراً لإقامة الحجّ في رؤية تراعي مصالح المجتمع.

فخاصّةً في أيام الخليفة الثاني- وعلى الرغم من اتساع الثروة والقدرة وأسلوب تعاطيه وارتدائه للألبسة المرقعة- في ذروة محبوبيته وأوج الثروة والاقتدار وذكره على كل لسان (1)، نشاهد آثار تجربته القيّمة في التاريخ السياسي، فقد استفاد من الحج كفرصةٍ ليطّلع ويُطْلِع قادة المسلمين في هذا الاجتماع على ما


1- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 44.

ص: 294

يجري في العالم الإسلامي، وكذلك ليجد المواطنون فرصةً ليخبروه بالحلو والمرّ من أخبارهم، وكذلك ليشاهدوا صورةً حية من صور علاقة أركان وأقسام المجتمع في التعامل البنّاء.

وفي الروايات أيضاً حديث عن غضب الخليفة الثاني مع عمّال وكوادر الدولة:

«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟»، وكذلك الحديث عن تأكيداته المتكررة حول حقوق الناس والمواطنين.

ومن جملة الأخبار، حديثه حول الإصلاحات كان قد سُمِع منه في آخر سنواته، وقد تحدّث عن الاختلاف الطبقي في المجتمع وانتقده ووعد بأنّه إذا بقي ليهدمنّ هذا الجدار أو هذه الفاصلة.

وللأسف، ومع إراقة دمه، كسر قفل رتاج الفتنة ودخل تاريخ الإسلام في أتون الفتن التي لا يتسع لها هذا البحث، ولكن السؤال هو: هل إن الإصلاحات التي كان يتطلّع إليها هي تلك الإصلاحات التي بدأ تطبيقها بعد مقتل الخليفة الثالث، أسئلة من هذا القبيل والإجابة عليها نتركها لفرصة أخرى، ودافعي من ذلك هو السعي للإشارة إلى الاختلاف بين مراسم الحج في العهد العلوي وما كان قد سبقها، ففيما كان الخلفاء الآخرون- إلا في ظروف استثنائية- يقومون بحضورهم على الاهتمام بجلال الحج، كان الإمام علي عليه السلام الذي يعتبر- وبناءً على الأخبار والروايات وليد الكعبة- محروماً من الحضور في مراسم الحج، وكان مجبراً على تكليف نائبٍ عنه كضريبةٍ كبيرة دفعها من أجل مواجهة الحرب التي فرضت عليه وعلى الإصلاحات التي بدأها، مع ذلك، فقد قال في آخر لحظات حياته حديثاً بقي معلقاً بالآذان:

«اللَّه اللَّه في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنّها إن تركت لم تناظروا».

ص: 295

مقارنة الحج في الظروف الحالية مع الحج المطلوب

أليس هناك فرق فيما نشاهده اليوم من مراسم للحج عن الحج المطلوب؟

لست في صدد أن أجيب عن هذا السؤال، لكنّني أشير إلى أن العالم الإسلامي اليوم وارثٌ لأرض وبيت ومراسم عظيمة مليئة بالأخبار والأحداث الباعثة على الافتخار، من عصر إبراهيم عليه السلام إلى عصر البعثة وصولًا إلى يومنا، وكلنا يرفع رأسه بهذا الفخر الذي لا بديل له أو نظير، مع ماضٍ ملي ء بالفخر أيضاً.

مع ذلك، يجب أن نأخذ هذا الهمّ على محمل الجدّ، وهو الحذر من أن نصاب بالتقصير أو التقاعس في استثمار هذا الكنز أو الثروة الفريدة؛ ومن دون أن أطيل أشير إلى أن على العالم الإسلامي أن يعمل على توضيح دور الكعبة في الدفاع عن حقوق الناس.

في البداية، تيمّنت بالافتتاح بآيةٍ ترى الكعبة أول مركز وضع لحماية حقوق الإنسان، وفي النهاية أيضاً أتيمّن بالآية الكريمة التالية لأختم بها كلامي:

«كنتم خير أمّة أخرجت للناس...».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.