المجلد الرابع والعشرون

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج : مجله نصف سنويه، تعني بالشوون الثقافيه .....محمد محمدي ري شهري.

مشخصات نشر : [بي جا: بي نا، 1417ق = 1375.

مشخصات ظاهري : 300ص.:نمونه، عكس.

شابك : 5000 ريال

وضعيت فهرست نويسي : فهرست نويسي توصيفي

يادداشت : عربي.

يادداشت : شماره پنج اين مجله بنام ميقات الحج است.

يادداشت : پشت جلد به انگليسي: Mighat al - Haj.

يادداشت : كتابنامه.

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

شناسه افزوده : قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 -

شماره كتابشناسي ملي : 1542896

ص: 1

الحج، رموز وحِكَمْ (3)

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مظهر التوحيد

ص: 5

الشيخ عبداللَّه جوادي آملي

الخلوص شرط معتبر في تمام العبادات، إلّاأنّ تجلّيه في بعضها يبدو أكثر ظهوراً، كما وطرد الشرك أكثر قوّةً ووضوحاً، ومن بين هذه العبادات الحجّ، الذي يتجسّد فيه التوحيد، ويظلّ من بدايته وحتى نهايته، أنموذجاً عن التوحيد ونفي الشرك، من هنا كان تركه كفراً (1).

ومعنى تجلّي التوحيد في الحج أن تنزّله في درجاته يصيّره حجاً، كما أنّ صعود الحجّ كذلك يبلغ به اللَّه تعالى أو يتحوّل إلى التوحيد. يقول الإمام الصادق عليه السلام فيما ينقل عنه من دعاء سفر الحجّ: «... بسم اللَّه دخلت، بسم اللَّه خرجت وفي سبيل اللَّه...» إلى أن يقول: «فإنما أنا عبدك وبك ولك» (2).

وعلى أساس هذه الرواية، يغدو الحج سيراً نحو اللَّه سبحانه، ورحلةً إلى لقائه، وسعياً للقرب منه، ومن الواضح أنّ العبد لا يقدر على التقرّب من مولاه إلّا


1- آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 8: 279.

ص: 6

بالتوحيد الدائم الأصيل، ونفي الشرك الجليّ والخفي.

الشاهد الآخر هنا كلام النبي صلى الله عليه و آله في سفر الحج بعد حمل الجهاز على الراحلة:

«هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، ثم قال: «من تجهّز وفي جهازه علمٌ حرام لم يقبل اللَّه منه الحج» (1).

وعليه، فالحج توحيد مجسّم وأنموذج من التوحيد الجامع، والتوحيد هو تلك الفطرة التي خلق اللَّه الناس عليها، والتي لا تبديل لها...

الوحي المجسّم

الحجّ تمثيل للوحي، ذلك أن مناسكه تجلّت بالوحي وظهرت، وقد أخذها الأنبياء عن الملاك الأمين على الوحي جبريل عليه السلام.

وتوضيح ذلك أنّ النبي إبراهيم عليه السلام طلب من اللَّه سبحانه بعد بناء الكعبة أن يُبدي له كيفية العبادة في هذا البيت: «وأرنا مناسكنا» (2)، وبعد هذا الطلب جاءه جبرائيل، وأنجز أمامه أعمال الحجّ، ودلّه على مناسكه بصورةٍ عينية خارجية، ليقوم الخليل عليه السلام بتكرار هذه الأعمال بعده (3).

إنّ هذه الإراءة والتعليم لم يكونا شيئاً جديداً ولا من مختصات إبراهيم عليه السلام، بل قد تقدّمه آدم عليه السلام في هذا المضمار، حيث ظهر له جبرئيل، كما ظهر أيضاً على أفضل الأنبياء وخاتمهم (4)، حيث أخذ منه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مناسكه.

يقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال: «إنّ اللَّه بعث جبرئيل إلى آدم، فقال:... إن اللَّه أرسلني إليك لأعلّمك المناسك التي تطهر بها...» (5).


1- المصدر نفسه 8: 103.
2- البقرة: 128.
3- وسائل الشيعة 8: 160- 171.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.

ص: 7

ويقول الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «كنت أطوف مع أبي، وكان إذا انتهى إلى الحجر مسحه بيده، وقبّله، وإذا انتهى إلى الركن اليماني التزمه، فقلت: جعلت فداك، تمسح الحجر بيدك وتلزم اليماني؟ فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أتيت الركن اليماني إلّاوجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه» (1).

وبعد أن اتضح أنّ الحجّ وحي ممثل، وأنّ باني الكعبة قد تعلّم مناسكه بالمشاهدة والعيان، لزم أن يكون الناس مأمورين بإقامة هذه المناسك التي ورثوها عنه، علّهم يرون بعضاً قليلًا مما كان رآه عليه السلام، قال تعالى: «وأذن في الناس بالحج يأتوك...» (2)؛ ذلك أن ما يفهم من كلمة (يأتوك) في هذه الآية هو مجي ء الناس عند إبراهيم عليه السلام، وبلوغهم ما كان عليه السلام قد بلغه من قبل، لا مجرّد السفر إلى مكّة وزيارة الكعبة، ذلك أنّ هذا التعبير لا ينحصر بدائرة عمل المناسك والقيام بها.

فالوحيدون الذين يأتون إبراهيم عليه السلام هم أولئك الذين كانوا مثله في الوقوف بوجه عابدي الهوى والأصنام (3)، والتبرّي من الكفر والنفاق وما يعبدون (4)، مهيئين لتلقي ألوان المخاطر (5)، بعقيدة حنيفية وسلوك كذلك (6)، وقلب سليم (7) حاضر في محضر اللَّه تعالى.

ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات، قال تعالى: «إنّ أولى الناس


1- المصدر نفسه 9: 419.
2- الحجّ: 27.
3- الأنبياء 67.
4- الزخرف: 26.
5- الأنبياء: 68.
6- الأنعام: 79.
7- الصافات: 84.

ص: 8

بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا» (1)

، من هنا قدّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قربانه الذي لم يقدّمه إبراهيم عليه السلام نفسه، ألا وهو الحسين بن علي عليه السلام.

ومع ملاحظة النقاط المشار إليها يتضح أمامنا سرّ عرض إمام الزمان عليه السلام نفسه في بداية نهضته ضدّ الظلم ولأجل العدل على أ نّه أولى الناس بالأنبياء سيما إبراهيم الخليل ورسول اللَّه عليهما السلام: «إن القائم إذ خرج، دخل المسجد الحرام فيستقبل الكعبة، ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلّي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس! أنا أولى الناس بآدم. يا أيها الناس! أنا أولى الناس بإبراهيم...» (2).

ومن ذلك كلّه يتضح البُعد السياسي للحج، أي البراءة من المشركين وتجافيهم وإعلان الانزجار منهم، وقطع أيديهم وتدخلاتهم، ذلك كلّه بشكل واضح وعلني هو ما يمثل المناسك السياسية للحج.

المعاد المجسّم

لا يُعثر على الحج بمناسكه الخاصة به في أ ي عبادةٍ أخرى، ولا يعلم تأويلها غير اللَّه سبحانه، فهو معاد مجسّم، وحكاية عن يوم البعث والنشور، وكاشف واضح عن يوم الحشر، ذلك أن الناس تلبي هناك نداءاً واحداً على مابينها من اختلاف في اللغات والألوان، فتجيب أمراً واحداً، وتستجيب لصرخة واحدة، ولا آمر يُصدر أوامره لهم عدا اللَّه الواحد القهار.

إن مناسك الحج أنموذج حيّ لأحداث القيامة والحشر الأكبر، وتمثُّل جلي لحشر الناس يوم القيامة عراة في يوم معاد.

ونشير هنا إلى نماذج من تجلّي المعاد في الحجّ:

1- اجتماع الحجاج في المواقيت وعند المواقف.

2- انفراد كل إنسان لوحده في ظلّ هذا الجمع، تماماً كما هو الحال يوم المعاد، فهو وإن كان «جمعاً» تلتئم الناس فيه وتلتف حول بعضها «يوم يجمعكم


1- آل عمران: 68.
2- بحار الأنوار 51: 59.

ص: 9

ليوم الجمع» (1)، «إنّ الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» (2)، إلّاأ نَّه يوم يعود الجميع فيه إلى اللَّه فرادى، كما قال تعالى: «وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً» (3).

3- فرار الناس من غير اللَّه إلى اللَّه تعالى، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: «ففرّوا إلى اللَّه» (4)

: «حجّوا إلى اللَّه عزّوجلّ» (5).

4- تعرّيهم من اللباس ومظاهر الحياة الدنيوية.

5- تجرّدهم عن زينة الدنيا وبهرجها.

6- رؤية الآيات الواضحة التي كانت مخفيةً عليهم في ديارهم.

7- خلعهم على أنفسهم لباس الإحرام، وهو لباس شبيه بالكفن، ويستحب للحاج أن تكون قطعتا الإحرام كفنه، كما كُفّن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في لباس إحرامه (6).

8- تذلّل الحجيج وتواضعهم أمام اللَّه سبحانه، حتى أ نّهم يحجون مشاةً حفاةً بأرجل عارية، ذلك أ نّه «ما عبد اللَّه بشي ء أفضل من المشي» (7).

من هنا، حجّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عشرين حجةً ماشياً (8)، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام: «جُعل السعي بين الصفا والمروة مذلّةً للجبارين» (9).

9- اعتراف الناس بذنوبهم التي ارتكبوها.


1- التغابن: 9.
2- الواقعة: 49- 50.
3- مريم: 95.
4- الذاريات: 50.
5- وسائل الشيعة 8: 5.
6- المصدر نفسه 9: 37.
7- المصدر نفسه 8: 55.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه 9: 511.

ص: 10

10- أمن الناس بل والوحوش والطيور.

11- حماية الحجاج من التعدّي والجدال، وكلّ ما يوجب أذية المحرم أو عذابه، وهو تجسيدٌ واضح لقوله تعالى: «لا ظلم اليوم» (1).

وحصيلة القول: الحج مظهر المعاد وتجسيده، وحيث كان المعاد رجوعاً إلى المبدأ كان أساساً للإسلام الكلي والخالد، لذا غدا الحج من أهم مظاهر الإسلام وأركانه.

الولاية روح الحج

لا نفع للحج بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام، ولا للأضحية في منى دون التضحية في طريق الإمامة، ولا لرمي الجمرة دون طرد شيطان الاستكبار الداخلي والخارجي، ولا للسعي بين الصفا والمروة دون السعي لمعرفة الإمام وطاعته... ذلك أ نّه وإن كان من أركان الإسلام ومبانيه، إلّاأنّ الحج والصلاة والزكاة والصوم لا يضاهون الولاية في ركنيتها الراسخة والقوية للإسلام، «ولم يُناد بشي ء كما نودي بالولاية» (2).

منشأ حرمة الكعبة وعزّتها

من جملة الأمور التي أقيمت عليها البراهين العقلية، ضرورة انتهاء كلّ ما بالعرض إلى ما بالذات، ووفقاً لهذا المبدأ الذي توافق عليه البرهان والقرآن، وكما أنّ كلّ عزّةٍ- طبقاً لتصريح النص القرآني- تنتهي إلى عزّة اللَّه سبحانه: «للَّه العزة ولرسوله وللمؤمنين» (3)

و «للَّه العزة جميعاً» (4)

... وفقاً لذلك كلّه فإن حرمة الكعبة وعزّتها لابدّ أن تنتهي إلى حرمة الحقّ سبحانه وعزّته تماماً، كما إذا دار


1- غافر: 17.
2- الكافي 2: 18.
3- المنافقون: 8.
4- فاطر: 10.

ص: 11

الأمر بين هدم الكعبة وهدم الحقّ فإن الكعبة تغدو حينئذٍ قرباناً فداءاً للحق.

ولتوضيح الأمر لابدّ من القول: للحرم أحكام تبيّن عزّته وفضيلته، وتمام هذه الأحكام ناتج عن حرمة الكعبة وعزتها، وشاهد ذلك ما جاء في الرواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام حول سرّ الوقوف في عرفات، وعدم وجوب الوقوف في الحرم حيث قال: «لأن الكعبة بيته، والحرم بابه، فلّما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرّعون»، ثم سئل الإمام عليه السلام عن جعل المشعر الحرام من الحرم فقال: «لأنّه لما أذن لهم بالدخول وقفهم بالحجاب الثاني، فلمّا طال تضرعهم بها أذن لهم بتقريب قربانهم، فلمّا قضوا تفثهم تطهّروا بها من الذنوب التي كانت حجاباً بينهم وبينه أذن لهم بالزيارة على الطهارة» (1).

وعليه، فحرمة الأرض التي احترم اللَّه كلّ ما فيها إنما جاءت من حرمة الكعبة نفسها، إلّاأنّه مع كون الكعبة القبلة الوحيدة، ومطاف العالمين، وموت المسلمين جميعهم إلى جهتها، والقصد إليها قصدٌ للهجرة إلى اللَّه سبحانه، وأيضاً رغم أنّ لمكّة خصائص فقهية وسياسية ثابتة، تفتقدها سائر الأماكن والبقاع والمدن، ورغم أن للحج ومواقفه أبعاداً سياسية- عبادية تفتقدها بقية العبادات...


1- وسائل الشيعة 8: 159- 160.

ص: 12

إلّا أن تمام هذه الخصائص والمزايا مرهونة للولاية والإمامة.

وسرّ هذا الكلام أن الإرشادات والإدارات الملكوتية للأعمال والنيات، والأدعية، ومشاهدة الآيات البينات، وفهم الأسرار المعنوية للحج، وأمثال ذلك يتمّ جميعه في ظلال الولاية التكوينية للإمام المعصوم عليه السلام، كما أنّ الإدارة والرعاية السياسية للحج ومواقفه، وتوجيه حركة هذا الاجتماع العظيم للصالحين على محور البناء الطاهر الحر، والاستفادة من أفكار أقطار العالم، وارتواء عطاشى الاستقلال والنجاة من الاستعباد والاستكبار العالمي، إنما يكون بالأصالة تحت مظلّة إمامة الإمام المعصوم عليه السلام وبالنيابة في عصر الغيبة تحت شعاع نوّابه.

ارتباط الحج وشؤونه بالولاية

ترتبط الجوانب والشؤون المختلفة للحجّ بالولاية، ونعرض هنا شرحاً لكيفية هذا الارتباط بين الكعبة والولاية، وكذلك طبيعة العلاقة بين كلّ من عرفات والمشعر ومنى وزمزم والصفا و... وبين الإمام المعصوم عليه السلام، وذلك في ثقافة الوحي ووفق ماجاء على لسان الأئمة المعصومين عليهم السلام.

1- تتمتع مدينة مكة ودائرة الحرم كلّه ببركةٍ خاصة إثر دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام، وقد جعلت بهذا الدعاء بلداً آمناً، تماماً كما يقول اللَّه تعالى: «أولم نمكّن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كلّ شي ء» (1).

إن هذا الأمن الاجتماعي، والاقتصادي وغيره، الذي جاء بيانه في آية «أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (2)

وآية: «أولم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم» (3)

إنما كان لما للكعبة من حرمة، إلّاأنّ هذا الاحترام الخاص الذي كان أساساً لقسم اللَّه سبحانه بهذا البلد إنما جاءها من


1- القصص: 57.
2- قريش: 4.
3- العنكبوت: 67.

ص: 13

بركات الوحي، والنبوة، والرسالة، والولاية.

وتوضيح ذلك، أن القرآن الكريم أقسم ببلاد وبقاع هامة وتاريخية، كما أقسم بالزمان والأوقات الحسّاسة والتاريخية، نظير عصر الوحي والرسالة (1)، قال تعالى: «لا أقسم بهذا البلد* وأنت حلّ بهذا البلد» (2).

ففي هذه الآيات يقسم اللَّه سبحانه بأرض مكّة، لكن قسماً مقيداً بكون نبي الإسلام صلى الله عليه و آله فيها، وإلّا فإن مكة من دون النبي، والكعبة من دون قائد سماوي ليستا سوى أرض عادية وبيت عادي غدا تدريجياً بيتاً لعبادة الأصنام، وأصبح أسيراً في قبضة عبدة الأوثان والسائرين خلف ميولهم وشهواتهم حتى أن «أبو غبشان» سادن الكعبة ومن بيده مفاتيحها يبيع مفتاح الكعبة وغلقها إلى رجل يدعى قصي بن كلاب مقابل بعير وزق خمر، وذلك في ليلة ثملة (3).

2- ويعرّف الإمام السجاد عليه السلام نفسه وسائر الورثة الحقيقيين الإلهيين في المسجد الجامع بدمشق، بعد الحمد والثناء الإلهيين، والسلام على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فيقول: «.. أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا» (4).

إن كلمة «ابن» وأمثالها في اللغة العربية تحكي عن علاقة شديدة وارتباط دائم ومستحكم، فالإنسان الكامل، وهو أصل حرمة المراكز العبادية، وفي الوقت عينه إبنها ووارثها، يرجع في طليعة الأمر إليها ويعمل طبق أحكامها، بل يجعل ذلك كلّه ضمن الشعارات الرسمية للموحدين، فيرغب فيها، ويرهب من الإعراض عنها أو الاعتراض عليها أو معارضتها، وفي المحصّلة النهائية: إنّه حافظ مآثرها وحارس آثارها، إن الأنبياء والأولياء الإلهيين عليهم السلام هم كذلك بالنسبة إلى مناسك الحج.


1- العصر: 1.
2- البلد: 1- 2.
3- الميزان 3: 362.
4- بحار الأنوار 45: 138.

ص: 14

وبعبارةٍ أخرى: إنهم أبناء هذه المواقف العبادية بلحاظ بعض النشآت الوجودية، وهم أمراؤها وأصلها ومصدرها بلحاظ نشآت وجودية أخرى.

ومعنى الكلام النوراني للإمام السجاد عليه السلام أن الابن الحقيقي لمكّة إنما هو حامي روح القبلة، وحارس قلب المطاف ونفسه، إن الابن الواقعي لمنى هو ذاك الذي لا يأسف على إيثارٍ بدم أو نثار، بغية حفظ الوحي وما فيه، إنّه يُحكم علاقته بأرض التضحية عبر الفداء والعطاء.

إنّ المولود الحقيقي لزمزم إنما هو الذي يرشّ أفضل الدماء تحت أقدام غرس الإسلام حتى تنمو بذلك وتكبر، كما أن الابن الواقعي للصفا هو الذي لا سبيل للرجس والنجس والرجز إلى حرم قلبه، فهو منزّه- طبقاً لآية التطهير (1)- عن مختلف أنواع الرجس، وكل قذارة ولوث ودنس.

لانفع للحجّ بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام

الإنسان الكامل هو الإمام المعصوم عليه السلام والذي بدونه لا حرمة للحرم ومواقفه، من هنا، فالزائر الذي لا يعرف الإمام المعصوم، ويضع جانباً مسألة الإمامة، ويتخذ إدارة أمور المسلمين في العالم هذواً وباطلًا، ويفصل ما بين قيادة سواد الناس وبين الحج والزيارة وسائر العبادات، ويراها أمراً عادياً يرجع إلى خيار كل فردٍ من الناس، ولا يرى كرامةً لهداية خلق اللَّه وتدبير أمورهم... لا يعرف في الحقيقة الإنسان، بل لم تطأ قدمه حريم الإنسانية، من هذا المنطلق يتحدّث الإمام الباقر عليه السلام عن مثل هذا الزائر والحاج فيقول: «أترى هؤلاء الذين يلبّون، واللَّه لأصواتهم أبغض إلى اللَّه من أصوات الحمير» (2).


1- الأحزاب: 33.
2- وسائل الشيعة 9: 57.

ص: 15

ومع الأخذ بعين الاعتبار مقولة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهلية» (1) و «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون، وكما تبعثون تحشرون» (2)، فإن حياة الإنسان الذي لا يعرف إمامه هي حياة جاهلية، وكلّ سننها وشؤونها إنما هي جاهلية في جاهلية، ومن المؤكد قهراً أن زيارة مثل هؤلاء للبيت وحجهم سيكون حجاً جاهلياً، ولن يكون لهم نصيب من الحج التوحيدي، وسيأتي مزيد توضيح.

3- لقد أعدّ اللَّه سبحانه عذاباً لكل من أراد بالكعبة ظلماً وقصداً سيئاً:

«ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذاب أليم» 7(3)

، من هنا وانطلاقاً من هذه السنّة الإلهية التي لا تبديل فيها، والحكم الإلهي الخالد، لم تكن واقعة الفيل، والتي تلقّى فيها جيش أبرهة عذاباً إلهياً، واقعةً حصرية لا تكرار فيها أو مجرد صدفة تاريخية.

الأمر الرئيس الذي لا ينبغي الغفلة عنه، وهذه الدراسة متكفلة لبيانه، هو أنّ الكعبة رغم قداستها الخاصة، وحمايتها- منذ قديم الأيام- من أذى حملات أصحاب الفيل وأمثال ذلك، إلّاأنّه عندما التجأ إليها ابن الزبير وتحصّن فيها، أقدمت حكومة ذلك العصر الجبارة، وعلى يد المنحوس الحجاج الثقفي على قصف الكعبة بالمنجنيق وتدميرها، ثم اعتقال ابن الزبير (4)، دون أن تمتدّ يدٌ من الغيب


1- المناقب 1: 246.
2- عوالي اللئالي 4: 72.
3- الحج: 25.
4- بحار الأنوار 2: 287.

ص: 16

لتفعل فعلها أو تتدخّل.

يتحدّث الشيخ الصدوق، المحدّث الشيعي الشهير، عن هذا الأمر فيقول:

«وإنما لم يجر على الحجّاج ما جرى على تبّع وأصحاب الفيل؛ لأنّ قصد الحجاج لم يكن إلى هدم الكعبة، إنّما كان قصده إلى ابن الزبير، وكان ضدّاً لصاحب الحقّ، فلمّا استجار بالكعبة أراد اللَّه أن يبيّن للناس أنّه لم يجره، فأمهل من هدمها عليه» (1).

وعليه، فاختلاف أبرهة عن الحجاج في أ نّه ظالم أراد تخريب الكعبة وتدمير القبلة، أما الحجاج فلم يكن يقصد الكعبة بسوء، بوصفها قبلةً ومطافاً، بل كان يريد- فقط- السيطرة على ظالمٍ مثله لم يكن يعرف إمام زمانه، ألا وهو سيد الشهداء والإمام السجاد عليهما السلام.

نعم، الحجاج كابن الزبير جرثومة لا تعرف الحق، وعنصر مناهض للولاية، وقد كان الطرفان ساعيين للإطاحة بنظام ولاية أهل البيت عليهم السلام، وكان خصامهم على حطام الدنيا، لا لعدم مساعدة ابن الزبير لسيد الشهداء والإمام السجاد عليهما السلام.

ومن هذا الحدث يتضح جيداً أن معارضة الولاية والإمامة أمر منبوذ جداً إلى حدّ أنّ كلّ من يخالف قيادة الإمام عليه السلام ويذره وحيداً فريداً دون أن يساعده، بل يتخذ موقفاً مضاداً له، ثم يزعم لنفسه أنه داعية الولاية، لن ينعم بالأمان الخاص الإلهي حتى لو احتمى بالكعبة وقصدها.

ومن هذه الحادثة يعلم جيداً قدر الإمام وحرمة الولاية وعزّة الخلافة الإلهية، تماماً كما يعلم قدر حقه (الإمام) ونورانيته، وجماله، وجلاله، وكبريائه، ومشيئته، وقدرته جيداً بالتحليل العقلي، ذلك أن حرمة الحرم والبلد الأمين إنما تنتهي إلى الكعبة، وحرمة الكعبة تنتهي إلى الإمام الذي اختاره اللَّه سبحانه للولاية، وحرمة الإمام تنتهي بدورها إلى الحق المطلق، أي اللَّه تعالى الذي تخضع له تمام الموجودات وتخشع في حضرته ومكانته.

وعليه، فلو أمهل اللَّه سبحانه ظالماً ليخرّب الكعبة، فلا ينتقض بذلك قوله تعالى: «ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذاب أليم» (2).


1- من لا يحضره الفقيه 2: 249.
2- الحج: 25.

ص: 17

تذكّر:

رغم أنهم قتلوا الإمام المعصوم عليه السلام وغدا على يديهم شهيداً، إلّاأنّ حقيقة الإمامة قائمة بروحه الملكوتية التي لا مجال للشهادة فيها، ولا سبيل للموت إليها، على خلاف بدنه الذي يعرف الشهادة، وهذا ما يختلف الحال فيه مع الكعبة التي لا وجود فيها إلّاللأحجار والأبعاد المادية.

4- ويشاهد الإمام الباقر عليه السلام الطائفين بالكعبة، فيقول: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية»، فلم يأت الإسلام لكي تستمرّ السنن الجاهلية، ثم يقول: «إنما أمروا أن يطوفوا، ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» ثم قرأ:

«فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم» (1).

وعليه، فثمة وظيفتان على كاهل القادمين من بعيد أو قريب للتشرّف بالكعبة المعظمة هما:

أ- أن يطوفوا ببدنهم حول الكعبة، بوصفها طيناً وأحجاراً.

ب- أن يطوفوا بأرواحهم حول «كعبة القلب» وحرم ولاية أهل بيت النبوة.

وعليه، فأولئك الذين جاؤوا بأرواحهم ليعرضوا ولايتهم على أهل البيت عليهم السلام، ويعلنوا جهوزيتهم للتضحية والفداء وتقديم النفوس والإيثار بالمال يحققون حينئذٍ «حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر» (2).

5- يقول الإمام الباقر عليه السلام: «تمامُ الحجّ لقاءُ الإمام» (3)، بعرض الولاية عليه والإعلان عن الاستعداد للفداء والتضحية؛ وعليه فالحج الذي لا ظهور فيه للإمام


1- إبراهيم: 37؛ وانظر: بحار الأنوار 65: 87.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3 الشقشقية، المقطع 16.
3- وسائل الشيعة 10: 254.

ص: 18

والقائد والمرشد سيكون حجاً ناقصاً.

نعم، ذكر الحج في هذا الحديث الشريف إنما جاء من باب التمثيل، لا التعيين، أي أنّه ليس الحج فقط حاله «تمام الحج لقاء الإمام»، بل إنّ «تمام الصلاة والصيام والزكاة لقاء الإمام» أيضاً.

ويؤيد هذا الكلام، أي أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات إنّما يتممها لقاء الإمام وتولّيه، ما جاء في قسمٍ من الحديث المعروف الذي يتحدّث عن قيام الإسلام على خمسة أسس، إذ- وفي إطار التأكيد على مبدأ الولاية- يشير الحديث إلى دور «الوالي» وكونه حجةً ودليلًا على الأركان الأربعة الأخرى، فيقول:

«والوالي هو الدليلُ عليهنّ» (1).

وهذه المسألة مستفادةٌ من الآية الكريمة: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً» (2)، فقد رضي اللَّه سبحانه لنا الإسلام مع الولاية الإلهية، وعليه، فليس الحج وحده «تمام الحج لقاء الإمام» بل يمكن القول: «تمام الإسلام لقاء الإمام».

ونشير أخيراً إلى أنّه رغم انتهاء احترام الحرم بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي والنبوّة والرسالة والولاية، إلّاأنّه- وكما أشرنا مطلع هذا البحث- تختتم تمام هذه الحرمات بالحرمة الإلهية.

من هنا ذكر اللَّه تعالى في إطار شرحه لسبب احترام الكعبة ما جعلها تنتسب إليه فقال: «بيتي» (3)، أي أنّ الحرمة الذاتية للَّه سبحانه هي السبب وراء الحرمة العرضية للبيت الذي ينتسب إليه، حتى لو كانت الكعبة هي الأصل في حرمة الأشياء اللاحقة.

الحج والوجه السياسي

الحج مظهر الحكومة الإلهية السامية

الحج- كما تبيّن- مظهر لأصول الدين المتينة وتجسّدٌ للعقائد الثلاثة:


1- الكافي 2: 18.
2- المائدة: 3.
3- البقرة: 125، والحج: 26.

ص: 19

التوحيد، والنبوّة والعدل، تلك الأصول التي تعدّ ثماراً لشجرة الإسلام الطيبة.

وأحد أطهر هذه الثمار في هذه الشجرة الطيبة هو الحكومة الإسلامية، وهي من أهمّ مظاهر الإسلام، فالمجتمع الذي لا يديره اللَّه ولا يسري فيه أمره مجتمع كفر وطغيان، ومعبود مثل هذه المجتمعات إنما هو الأهواء المختلفة والرغبات المتنوّعة.

بهذه المقدّمة، نصل إلى فهم أسرار بعض مضامين أدعية عرفة، فالمضمون المشترك لدعاء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام- وهو أهم دعاء في عرفة- مع دعاء الإمام السجّاد عليه السلام الذي اعتبر وجودَ الإمام العادل أساساً لإحياء آثار الدين... المضمون المشترك هو أهمية الولاية في النظام الإسلامي.

وثمة شواهد عدّة على أن الحجّ مظهر الحكومة الإسلامية، وأن لهذه الحكومة تأثيراً على بقائه واستمراره وتكرّره، نشير إليها هنا على الترتيب التالي:

1- كان من أدعية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند بناء الكعبة: «ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» (1).

وسرّ هذا الدعاء والطلب أن الموحدين قد دعوا للحج من تمام نقاط العالم المختلفة وفي تمام الأزمنة والعصور، إذاً فلابد أن يكون هناك من ينظم أمورهم، فعلاوةً على المناسك العبادية للحج لابد أن تكون لديهم أصول وأحكام أخرى تتعلّق بحياتهم السياسية، وهذه هي الحكومة الإسلامية عينها، التي تغدو ضرورةً لتنظيم أمور الحجيج وسياستهم وإرشادهم.

إنّ الدين الذي يقول: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم» (2)، حاشاه أن يذر الناس على حالهم هناك، ولا يضع على هذا الجمع العظيم الذي لا يحصى حاكماً أو آمراً، بل يتركهم يسيّرون أمورهم بأهوائهم ورغباتهم.


1- البقرة: 129.
2- المحجة البيضاء 4: 58.

ص: 20

وبناءً عليه، كان لزاماً أن يكون هناك من يكون القائد لهم والرائد فيهم، حتى تنظم معاملاتهم، وتصوّب نزاعاتهم، وتنتهي خصوماتهم، وترتّب أنماط معيشتهم وعلاقاتهم ببعضهم بل وعلاقاتهم بسائر الملل والشعوب.

على هذا الأساس، يقول الإمام علي عليه السلام لواليه على مكّة: «أقم للناس الحج» (1)، والمستفاد من هذا الأمر أنّ الحجّ لم يقم بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله طيلة خمس وعشرين عاماً، عنيت الحج الإبراهيمي والمحمدي (2).

2- يجب على مرشد الدولة الإسلامية وقائدها، أن ينفق قدراً من بيت المال لدفع الناس إلى الذهاب إلى مكة عندما يمتنع عامة المسلمين عن الذهاب إليها أو لا يكون ذلك في مقدورهم، فيدعم مالياً العاجز، ويجبر الممتنع على ذلك.

جاء في الحديث: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البيت إنما وضع للحج» (3).

وسرّ تعبير الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث: «إن هذا البيت إنما وضع للحج»، هو أن للكعبة خصوصيات قيمة تدفع الناس للسفر إليها، فإذا لم يسافروا إليها- لقصور أو تقصير ولم يؤدوا فريضة الحجّ عندها، كان على والي المسلمين أن يجبرهم حتى يتجهوا ناحية البيت الحرام، ويلتحقوا بدائرة الطواف، ولا يتركوا ذلك.

إن هذه هي الحكومة الإسلامية التي يديرها حاكم عادل، ويكون بيت مال


1- نهج البلاغة، الرسالة: 67، المقطع 1.
2- إقامة الحج غير أداء الحج، لذا رغم أنّ الأئمة عليهم السلام قد ذهبوا إلى الحج مراراً، كما كان الحال مع الإمام الحسن عليه السلام حيث حج ماشياً عشرين مرّة، وسائل الشيعة 8: 55، وكذا الإمام السجاد عليه السلام حيث حجّ اثنتين وعشرين مرة في الحدّ الأدنى الكافي 1: 467، إلّاأنهم لم يستطيعوا إقامة الحج أبداً إلّافي تلك الفترة التي كانت الدولة فيها والسلطة بيد أميرالمؤمنين الإمام علي عليه السلام، نظراً لعدم كون الدولة في أيديهم، ولعلّه لذلك جاء في زيارة الأئمة المعصومين عليهم السلام: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف...» دون إشارة إلى إقامة الحج.
3- وسائل الشيعة 8: 15- 16.

ص: 21

المسلمين في يده.

جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث آخر: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه و آله لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين» (1).

ويستظهر من هذه الرواية أن زيارة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بمنزلة تجديد للبيعة معه والميثاق لتحكيم الحكومة الإسلامية.

3- قال الإمام الباقر عليه السلام: «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار، فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» (2).

فإذا كانت الحكومة والولاية بغير معنى السياسة فلا حاجة لإخبار الإمام بالولاية وعرض النصرة عليه.

4- يتجلّى الإسلام الذي بعث به الأنبياء في التوحيد الذي يطرد مختلف أنواع الشرك وألوانه، «ولقد بعثنا في كلّ أمةٍ رسولًا أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت» (3).

ولا ينحصر هذا الإبعاد للشرك والطرد له في مجرّد الاعتقاد القلبي أو الذكر القالبي، بل يستوعب إعلان الانزجار، ونداء التبرّي، وصرخة البراءة من الطغاة الأراذل وكل متجبّر متمرّد لئيم، وهذا ما يتحقق في الحج، ذلك أ نّه موضع «الإعلام» و «الأذان» بتبرّي الإسلام من ألوان الشرك، وأن المسلمين بريؤون من المشركين، وأ نّه لا مودّة ولا أُلفة بين المسلمين والمشركين: «وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسوله» (4).


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه 10: 252.
3- النحل: 36.
4- التوبة: 3.

ص: 22

ومفاد هذه الآية تبلور البُعد السياسي في الحجّ، وتجلّي الاستقلال الثقافي، حتى لا تبقى سيطرة لأحدٍ من الكفار والمشركين على أيٍّ من المسلمين، فهل يمكن أن يكون ذلك غير تجسيدٍ لأرفع مراتب الحكومة الإسلامية في الحج؟ وهل يمكن طرد رؤوس الإلحاد وتدمير مواقعهم ومتاريسهم إلّافي ظلّ الحكومة الإسلامية؟!

إذا لم يكن للإسلام حضور سياسي في منى، وهي التي فسّر بها «الحج الأكبر» (1)، فلا يمكن إعلان البراءة من عمّال الجور وعبدة الطاغوت، تماماً كما لا يمكن قيام الناس والمقاومة بحجم العالم، ونشر الاستقامة وتعميمها على العالم- وهو ما بُنيت الكعبة لأجله- سوى بإقامة نظام إسلامي.

ولعلّه لهذه الأسباب أو سائر الأسرار الإلهية المستورة عنا، لم يحج سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عام 60 للهجرة رغم مجيئه إلى مكّة، فأدى عمرةً مفردةً احتراماً للكعبة (2)، ويؤيّد ذلك، ما جاء في كلامه عليه السلام في دعاء عرفة حول الحكومة


1- وسائل الشيعة 10: 61- 62.
2- كانت لدى الإمام الحسين عليه السلام عزيمة للخروج من مكّة ومنذ البداية، لا أنه شرع بعمرة التمتع، ثم أردفها بحج التمتع، فصار الحج واجباً عليه، لكنه أبدل حج التمتع بالعمرة المفردة إثر صدّه عنه، والشاهد على ما نقول، رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، جاء فيها: «.. وإن الحسين بن علي عليهما السلام خرج يوم التروية إلى العراق، وكان معتمراً». انظر: وسائل الشيعة 1: 246.

ص: 23

الإسلامية.

ولمزيد من إيضاح فكرة ظهور الحكومة في الحج وتجلّيها فيه، لابدّ من التركيز المضاعف على ما قام به الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حجة الوداع، وما قاله للناس، وما قرّره لهم من القضايا السياسية الهامة وغيرها.

المظهر التام للتبرّي من الطاغوت

بُعث الأنبياء الإلهيون جميعهم كي لا يفرش نسر الشرك وطائره ريشه فوق قلّة هرم التوحيد، وأن لا يحرموا بشيطان الطاغوت والعصيان في حرم الوحدانية السامي (1)، فالكعبة والحج والزيارة محور التقوى، وأساس الاجتناب عن الطغيان، والتمرّد في وجه الطاغوت.

لقد أظهر المولى سبحانه مناسك الحج بالوحي لخليله إبراهيم (2)، ولا ثمر لذلك ولا نتاج سوى التوحيد، وهذه المناسك التوحيدية هي التي علّمها خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله لسالكي طريقه ومتّبعيه، حيث قال: «خذوا عني مناسككم» (3).

وحيث قام بناء التقوى الفولاذي على قاعدة التوحيد التي لاتهتز أو تختلّ، وكان الحج هو التجسيد الجلي للتوحيد؛ قال اللَّه سبحانه- ضمن إصداره أوامر الحج-: «الحج أشهر معلومات... وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى» (4).

وحول الأضحية، وهي من مناسك الحج، التي كانت ممتدّة في تاريخ السنن والعادات الجاهلية مشوبةً بالشرك، يكلّمنا اللَّه تعالى في إرشاد تقوائي فيقول: «لن ينال اللَّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم» (5)، أي يناله الاجتناب عن الذنوب، والقيام ضدّ العاصي، والتورّع عن المعصية، والثورة ضدّ المذنبين المتمرّدين، والإمساك عن العصيان، والصرخة ضدّ العاصي، والاجتناب عن


1- النحل: 36.
2- البقرة: 128.
3- عوالي اللئالي 1: 215.
4- البقرة: 197.
5- الحج: 37.

ص: 24

الطغيان، والهجوم على الطواغيت و...

كلّ عبادة هي تبرؤ من الشرك وانزجار من الطاغوت، أما الحج فهو عبادة خاصة امتزجت بالسياسة واختلطت، وإن حضور مختلف شرائح المجتمع العالمي وطبقاته يمثل ظرفاً مناسباً لتجلي روح هذه العبادة- كسائر العبادات الإلهية- في هذا الجمع العظيم، وظهور هذه العبادة الممتازة في تلك الساحة ظهوراً تاماً.

من هذا المنطلق، أمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله- بأمرٍ من الوحي الإلهي- الناطقَ باسم الحكومة الإسلامية- وهو علي بن أبي طالب عليه السلام- أن يعلن البراءة من المشركين (1)، حتى تمتاز بشكل قاطع حدود التوحيد عن الطغيان والشرك، وتتخارج صفوف المسلمين المتناسفة عن صفوف الكفار، فتظهر- عبر ذلك- الصورة السياسية العبادية للحج، ويحمل زوّار الكعبة زاد التوحيد معهم مع استماعهم إلى قرار الحكومة الإسلامية الصادر بالانزجار من الشرك، وإعلان نبذ الصلح والمصالحة مع المشركين (2).

من هنا، ينتشر قرار التوحيد وإعلانه ببركة الكعبة في أقطار العالم المختلفة، تماماً كما يتوجه المسلمون كافة في الكثير من شؤون حياتهم ناحية الكعبة.

محور البراءة من المشركين

لا كمال أرفع ولا أسمى من نيل التوحيد الأصيل الخالص، ولا يمكن ذلك ولا يتسنّى إلّابالتنزه والتبرّي التام من مختلف ألوان الشرك والإلحاد، والرفض لكلّ مشركٍ وملحد.

من هنا، جعل اللَّه سبحانه الكعبة بيت التوحيد، واعتبرها محوراً للبراءة من الذنوب والعصيان والتهاوي، بل مهّد لذلك وهيأ سبله عبر الأمور التالية:


1- بحار الأنوار 35: 303.
2- التوبة: 3

ص: 25

أولًا: أصدر المولى سبحانه وتعالى أوامر لخليله إبراهيم عليه السلام بعد إتمام بناء البيت العتيق الطاهر، بيت المواساة والمساواة، وبعد تشريع قرار الأمن للحرم أمام الضيوف والزوار والركع السجود والعاكفين والطائفين، فقال: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق» (1).

والهدف من هذا الإعلان العام دعوة أولئك القادرين على الحضور بشكل طبيعي ومتعارف.

ثانياً: عندما يأتي الجميع، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، ومن القريب والبعيد... فيشتركون في هذا الملتقى الشامل الواسع، تصل النوبة للإعلان المحمدي والأذان، من هنا قال تعالى: «وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسوله» (2).

كان هذا الإعلان الذي سبق مقدّمةً للإعلان الثاني، الذي هو الهدف النهائي لبناء الكعبة، وإعلامه هذا الهدف النهائي يعني الوصول إلى التوحيد متبلوراً على صورة إعلان براءة اللَّه ورسوله الأكرم صلى الله عليه و آله من المشركين، ومادام الإنسان حياً يرزق على وجه البسيطة فإن الحج والزيارة يبقيان في عهدته وضمن مسؤولياته، ومادام ثمة مشرك في هذا العالم مادام إعلان البراءة منه جزءاً من أهم وظائف الحج.

من هنا، تتضح مسؤولية نهوض الأمّة لتطهير الكعبة المقدّسة من ولاية الطغاة والنفعيين الوصوليين، أولئك السرّاق الذين قال عنهم الإمام الصادق عليه السلام:

«أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم، فقطع أيديهم، وطاف بهم، وقال: هؤلاء سرّاق اللَّه» (3)


1- الحج: 27.
2- التوبة: 3، ومن مصاديق أيام الحج الأكبر الواردة في هذه الآية الكريمة يوم عرفة، ويوم عيد الأضحى، تماماً كما الحج الأكبر قياساً بالعمرة، والعمرة قياساً إليه حج كبير.
3- وسائل الشيعة 9: 355.

ص: 26

إنّ القيام لتطهير الكعبة وتخليصها من يد الأشرار شريعة إبراهيمية، لا يصرف النظر عنها سوى فاقد العقل، «ومن يرغب عن ملّة إبراهيم إلّامن سفه نفسه» (1).

وحيث كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن اتبعه وآمن به أولى الناس بإبراهيم، وهو الذي طهّر الكعبة من ألوان اللوث والنجاسة والخسّة و... (2) فعلى الأمة الإسلامية اليوم أن تطهّر بيت اللَّه سبحانه من مختلف القبائح والدنائس والنجاسات.

نعم، ليس المقصود مجرّد إبعاد الجسم المادي للمشرك حتى يُقال: لا مشرك في الحجاز اليوم كي يحصل التبرّي منه في موسم الحج! بل المراد من البراءة إعلان الرفض والتنديد والانزجار من كل فكر مشوب بالشرك، وكلّ تمدّن باطل لأولئك الذين تأثروا بهذا الشرك، وكل استعمار ظالم للملحدين، وكل استثمار طاغ للماديين، وكل استعباد قاسٍ مجحف للمستكبرين، وكلّ استعمار سامريّ (3) للإسرئيليين، وكل استضعاف ماكر للدول العظمى.

والحج أهم الأمكنة التي يتجلّى فيها هذا الأمر، وقمم هذه النهضة، حيث يلزم على المسلمين فيه حفظ حرمة اللَّه تعالى، والسعي لرفع عزة الحقّ عالياً، والتقوّي بقوّته، وأخذ المدد والعون منه، والتخلّق بالأخلاق الإلهية، حتى لا يصيروا موضعاً لظلم الظالمين وبطشهم، فالحج هجرة إلى اللَّه تعالى، يقصده الناس لأداء مناسكه من مختلف نقاط الدنيا.


1- البقرة: 130.
2- آل عمران: 68.
3- نسبة إلى السامري الذي جاء ذكره في القرآن الكريم.

ص: 27

حجّ أهل الشريعة والطريقة والحقيقة

اشارة

حجّ أهل الشريعة والطريقة والحقيقة (1)

السيّدحيدر الآملي

تحقيق: السيّد أبوالحسن المطلبي

المؤلف في سطور

السيد حيدر بن علي بن حيدر بن علي العلوي الحسيني الآملي المازندراني، كما ذكره القاضي نور اللَّه في مصائب النواصب، في مدحه من أصحابنا الإمامية المتألهين، وأنّه السيد العارف المحقق الأوحدي، وأنّه من علماء الشيعة، والمعاصر للشيخ فخر المحققين ولد العلامة الحلّي، والحسين بن حمزة الهاشمي، ويروي عنهما قدّس سرّهما (2).

كانت ولادة السيد المؤلف في بلدة آمل، حوالي سنة 719 أو سنة


1- الجدير بالذكر أننا أخذنا هذا العنوان و ما يبحث تحته من أحد الآثار العرفانية القيمة، الموسوم ب «أسرار الشريعة وأطوار الطريقة وأنوار الحقيقة» ص 221- 244 للعارف المتأله السيد حيدر الآملي، والذي صحّحه محمد خواجوي، ونشرته مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگى، في طهران، دون تاريخ. استند المؤلف في هذه الكلمات الثلاث: «الشريعة» و «الطريقة» و «الحقيقة» لتسمية كتابه من قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الشريعة أقوالي، والطريقة أفعالي، والحقيقة أحوالي»، وقوله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً» النساء: 52.، وقوله تعالى: «وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً» الواقعة: 7.. ورد الحديث في كتاب «الإنسان الكامل» لعزيز الدين النسفي: 3..
2- راجع: رياض العلماء 2: 218.

ص: 28

720 للهجرة، والحقبة الممتدة من هذا التاريخ حتى سنة 751، أي ما يزيد قليلًا على ثلاثين عاماً، يمكن تسميتها بالدور الفارسي الأول لنشأته الزمنية، خلال هذه الفترة المحدّدة أتمّ تكوينه الفكري وثقافته الإسلامية في المراكز العلمية الفارسية، ولاسيّما بإصبهان، إحدى عواصم الفكر الإسلامي الخالد، على مرّ الأجيال.

وفي هذه الفترة أيضاً- و بتعبير أكثر دقة في مستهل شبابه المتفتح- مارَس بعض الوظائف الاجتماعية المرموقة، وهي- على حد قوله- تصدر الرياسة و الوزارة، ومن المحتمل أن يكون هذا في حدود 740- 751 للهجرة.

وأما بعد هذا العام (751) فقد ترك السيد المؤلف الوزارة والرياسة و... كما يحدّثنا عن نفسه بنفسه:

«إن اللَّه تعالى لمّا أمرني بترك ما سواه، والتوجه إليه حقّ التوجه، ألهمني بطلب (كذا) مقام و منزل أسكن فيه، وأتوجه إلى عبادته و طاعته، بموجب أمره وإشارته (مكان) لايكون أعلى منه، ولاأشرف في هذا العالم.

فتوجّهت إلى مكة شرّفها اللَّه تعالى- بعد ترك الوزارة والرياسة و المال والجاه والوالد والوالدة، وجميع الأقارب والإخوان والأصحاب- وخرجت من بلدي الذي هو الآمل والطبرستان من طرف خراسان.

وكنت وزيراً للملك الذي (هو) بهذا البلد، وكان من أعظم ملوك الفرس؛ لأنّه كان من أعظم أولاد كسرى، وكان اسمه الملك السعيد فخر الدولة بن الملك المرحوم شاه كتخدا- (طيّب) اللَّه ثراهما و جعل الجنّة مثواهما- وكان عمري في هذه الحالة ثلاثين سنة.

وقد جرى عليّ إلى حين الوصول إلى مكّة، في هذه الصورة أنواع

ص: 29

من البليّات، وأصناف من المجاهدات، لا يمكن شرحها إلا بمجلّدات.

ومع ذلك كان (في) أكثر الحالات جارياً على لساني قول اللَّه جلّ ذكره:

«وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (1)، وقول العارف المشتاق مثلي وهو قوله:

تركت الخلق طراً في رضاكا وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني إرباً فإرباً لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

وعلى الجملة (مازال هكذا شأني)، حتى وصلت إلى مكة وحججت وجوباً، وقمت بالفرائض والنوافل، من المناسك وغيرها، سنة إحدى وخمسين و سبع مائة من الهجرة. وأردت المجاورة بها، فحصل لي شوق إلى المجاورة بالمدينة؛ فإنّي ما كنت زرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولا أولاده وأصحابه.

فتوجهتُ إلى المدينة وزرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعزمت على المجاورة، فحصل لي أيضاً مانع من الموانع، أعظمها المرض الصوري، بحيث وجب الرجوع إلى العراق، والمكان المألوف الذي هو المشهد الغروي المقدس سلام اللَّه على مشرّفه.

فرجعت بالسلامة إليه، وسكنت فيه، مشتغلًا بالرياضة والخلوة والطاعة والعبادة، التي لا يمكن (أن يكون) أبلغ منها، ولا أعظم؛ ففاض على قلبي من اللَّه تعالى، و (من) حضراته الغيبية، في هذه المدّة...» (2).


1- النساء: 100.
2- جامع الأسرار ومنبع الأبرار، الشيخ حيدر الآملي. الطبعة الثانية، طهران، شركة انتشارات علمى وفرهنگى وانجمن ايران شناسى فرانسه، 1368 شمسى، ص 10- 12.

ص: 30

مؤلفاته

1- الأركان في فروع شرائع أهل الإيمان.

2- أسرار الشريعة وأنوار الحقيقة.

3- اصطلاحات الصوفية.

4- أمثلة التوحيد وأبنية التجريد، فارسي.

5- البحر الخضم في تفسير القرآن.

6- تلخيص اصطلاحات الصوفية.

7- جامع الأسرار ومنبع الأبرار.

8- جامع الحقائق. فارسي.

9- رسالة الأركان؛ موضوعها: بيان الأركان الدينية الخمسة: الزهد، الصلاة، الصوم، الزكاة، والحج، والجهاد، شريعة وطريقة وحقيقة.

10- رسالة الأسماء الإلهية.

11- رسالة الإمامة الإلهية في يقين الخلافة الربانية.

12- رسالة التنزيه، فارسي.

13- رسالة التوحيد.

14- رسالة الجداول الموسومة بمدارج السالكين في مراتب العارفين.

15- رسالة الحجب و خلاصة الكتب.

16- رسالة رافعة الخلاف عن وجه سكوت أمير المؤمنين عن الاختلاف، ألّفها الشيخ السيد الآملي في العراق، إثر مجيئه إليها؛ إجابة لرغبة الشيخ فخر المحققين محمد بن بن الحسن بن المطهر الحلي (771 ه).

ص: 31

17- رسالة العقل والنفس.

18- رسالة العلم وتحقيقه.

19- رسالة العلوم العالية.

20- رسالة الفقر وتحقيق الفخر.

21- رسالة كنز الكنوز وكشف الرموز.

22- رسالة المعاد في رجوع العباد.

23- رسالة منتخب التأويل في بيان كتاب اللَّه وحروفه وكلماته وآياته.

24- رسالة النفس في معرفة الرب.

25- رسالة نقد النقود في معرفة الوجود.

26- رسالة الوجود في معرفة المعبود.

27- كتاب الأصول والأركان في تهذيب الأصحاب والإخوان.

28- كتاب تعيين الأقطاب والأوتاد.

29- الكشكول فيما جرى على آل الرسول.

30- المحيط الأعظم والطود الأشمّ في تأويل كتاب اللَّه العزيز الحكيم.

31- المسائل الآملية.

32- منتخبات أنوار الشريعة.

33- منتقى المعاد في مرتقى العباد.

34- نص النصوص في شرح الفصوص.

35- نهاية التوحيد في بداية التجريد (1).


1- جامع الأسرار ومنبع الأنوار: 19- 35.

ص: 32

وفاته

لم نعثر على تاريخ وفاته، ولكن وردت ترجمته في المصادر الآتية:

مجالس المؤمنين للقاضي نور اللَّه الشوشتري، ج 2، ص 51- 54؛ روضات الجنّات لمحمد باقر الخوانساري، ج 2، ص 377- 380؛ أعيان الشيعة لمحسن العاملي، ج 6، ص 271- 273؛ ريحانة الأدب لمحمد علي التبريزي، ج 1، ص 64؛ فوائد الرضوية للمحدّث القمّي، ج 1، ص 165- 166؛ معجم بروكلمان، الذيل 2، ص 259؛ الأعلام للزركلي، ج 2، ص 290 و....

ص: 33

وأمّا حجّ أهل الشريعة

فالحجّ عندهم من حيث اللغة القصد، ومن حيث الاصطلاح الشرعي القصد إلى بيت اللَّه الحرام؛ لأداء مناسك مخصوصة متعلّقة بوقت مخصوص، وهو واجب ومندوب، فالواجب على ضربين:

مطلق ومقيد، فالمطلق هو حجّة الإسلام، وهي واجبة بشروط ثمانية:

البلوغ، وكمال العقل، والحرية، والصحّة، ووجود الزاد والراحلة، والرجوع إلى كفاية من المال أو الصناعة أو الحرفة، وتخلية السرب من الموانع، وإمكان المسير، ومتى اختلّ واحد من هذه الشروط سقط الوجوب، ولم يسقط الاستحباب.

ومن شروط صحة أدائها: الإسلام وكمال العقل، وعند تكامل الشروط تجب في العمر مرةً واحدة، ومازاد عليها فمستحب، ووجوبه على الفور دون التراخي.

وأمّا المقيّد فهو يجب عند سبب، وذلك ما يجب بالنذر أو العهد، وهو بحسبهما إن كان واحداً فواحداً، وإن كان أكثر فأكثر، ولايتداخل الفرضان على الأقوى، وإذا اجتمعا لا يجزي (1) أحدهما عن الآخر، وقد روي أنّه إذا حجّ بنية النذر أجزأ عن حجّه الإسلام (2)، والأول أحوط، ولاينعقد النذر به إلا من كامل العقل الحرّ، ولا يراعى باقي الشروط.

وأما أقسامه، فالحج على ثلاثة أضرب: تمتع، وقران، وإفراد، فالتمتع هو فرض من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، والإفراد والقران فرض من كان (كانوا) حاضريه، وحدّه من كان بينه و بين المسجد الحرام اثنا عشر ميلًا من أربع جوانب البيت، أعني أربع فراسخ؛ لأن كل فرسخ ثلاثة أميال، وكل ميل أربعة


1- يجوز.
2- عوالي اللآلي 3: 152، ح 8.

ص: 34

آلاف ذراع، وكل ذراع أربعة وعشرون إصبعاً، فيكون المجموع أربعة فراسخ.

وأما أفعاله، فأفعال الحج على ضربين: مفروض، ومسنون، والمفروض على ضربين: ركن وغير ركن في الأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأركان التمتع عشرة:

أربعة منها للعمرة، وستة للحج، أمّا التي للعمرة: فالنيّة، والإحرام، من الميقات في وقته، وطواف العمرة، والسعي بين الصفا والمروة، أما التي للحج، فالنيّة بالحج، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، وطواف الحج، والسعى للحج، وما ليس بركن فثمانية أشياء: التلبيات الأربع مع الإمكان أو ما يقوم مقامها مع العجز، وركعتا طواف العمرة، والتقصير بعد السعي، والتلبية عند الإحرام بالحج أو ما يقوم مقامها، والهدي أو ما يقوم مقامه من الصوم مع العجز، وركعتا طواف الحج، وطواف النساء، وركعتا الطواف له.

وأما أركان القارن والمفرد فستة: النية، والإحرام، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، وطواف الزيارة، والسعي، وما ليس بركن فيهما أربعة أشياء:

التلبية أو ما يقوم مقامها من تقليد أو إشعار، وركعتا طواف الزيارة، وطواف النساء، وركعتا الطواف له، ويتميّز القارن من المفرد بسياق الهدي، ويستحب لهما تجديد التلبية عند كلّ طواف.

وأما المسنونات فتلك كثيرة تعرف من مظانها، والسلام على من اتبع الهدى، هذا حج أهل الشريعة على طريقة أهل البيت عليهم السلام.

ص: 35

وأمّا حج أهل الطريقة

بعد القيام بالحج المذكور والاعتقاد فيه، فهو القصد إلى بيت اللَّه الحقيقي والكعبة المعنوية بحسب السير والسلوك، ولبيت اللَّه عندهم اعتبارات، اعتبار في الآفاق واعتبار في الأنفس، أما الآفاق فهو عبارة عن قلب الإنسان الكبير المسمى بالنفس الكلّية والبيت المعمور واللوح المحفوظ، وأما الأنفس فهو عبارة عن قلب الإنسان الصغير المسمّى بالفؤاد والصدر والنفس الناطقة الجزئية، وغير ذلك من الأسماء الواردة فيهما، والأول يتعلّق بأهل الحقيقة؛ لأنّه قبلتهم، والثاني يتعلق بأهل الطريقة فإنه أيضاً قبلتهم، أما أهل الحقيقة وكيفية قصدهم وتوجههم إلى قبلتهم فستعرفها بعد هذا البحث إن شاء اللَّه تعالى.

وأما أهل الطريقة وكيفية قصدهم و توجههم إلى قبلتهم التي هي قلبهم، فهي موقوفة على تقرير مقدمة، وهي أنه ورد في الخبر: أن أوّل بيت مدت على الماء وظهرت على وجهه كانت الكعبة، قبل الأرض وماعليها من البيوت، وهو قوله عليه السلام: «الكعبة أول بيت ظهرت على وجه الماء عند خلق السماء، خلقه اللَّه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته» (1)، وقد شهد بصحة ذلك قوله تعالى:

«إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (2).

والمراد من إيراد الخبر والآية أنّك تعرف أن هناك كعبة صورية وكعبة معنوية، وكل واحدة منهما تنقسم إلى قسمين: أما الصورية فقسم منها المسجد الصوري المسمّى ببيت اللَّه الحرام، وقسم آخر القلب الصوري المسمّى أيضاً ببيت اللَّه


1- راجع: مستدرك الوسائل 9: 335، باب 12، ح 2.
2- آل عمران: 96- 97.

ص: 36

الحرام، وأمّا المعنوية فقسم منها قلب الإنسان الكبير المعبر عنه بالنفس الكلية، وقسم آخر قلب الإنسان الصغير المعبر عنه بالنفس الناطقة الجزئية، فكما أن يصدق الخبر والآية من حيث التطبيق على القسمين الأولين، كذلك يصدق على القسمين الأخيرين، لأن أول حقيقة ظهرت في العالم الروحاني من روح الإنسان الكبير المعبر عنه بأول ما خلق اللَّه الروح أو العقل، كانت قلبه الحقيقي المعبر عنه بالنفس الكلية؛ لقوله تعالى: «يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ» (1)

كما أن أول صورة ظهرت في العالم الجسماني المعبر عنه بالأرض كانت صورة البكة الصورية؛ لقوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ» (2)

وأول حقيقة ظهرت في العالم الروحاني من روح الإنسان الصغير المعبر عنه بقوله: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» (3)

كانت قلبه الحقيقي المعبر عنه بقوله: «لا يسعني أرضي ولاسمائي، ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن» (4)، كما أن أول صورة ظهرت في العالم الجسماني المعبر عنه بالبدن كانت صورة القلب الصوري المعبر عنه بالصدر لقوله: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» (5)

فكما أن من الكعبة الصورية يستدلّ على الكعبة المعنوية التي هي قلب الإنسان الكبير، فكذلك في الصورة القلبية يستدلّ على الكعبة المعنوية التي هي قلب الإنسان الصغير، بحكم قوله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (6)

وهذا بيان إجمالي محتاج إلى بيان تفصيلي، وهو أن نقول:

إعلم أن قوله عليه السلام: «الكعبة أول بيت ظهرت على وجه الماء عند خلق


1- النساء: 1.
2- آل عمران: 96.
3- الحجر: 29.
4- علل الشرائع 1: 36، باب 32، ح 7.
5- الشرح: 1.
6- فصلت: 53.

ص: 37

السماء...» (1) الحديث، بالنسبة إلى الإنسان الكبير أول بيت يكون نفسه الكلية المسماة بيت اللَّه الأعظم، وظهورها على وجه الماء يكون إشارة إلى العوالم الروحانية التي صدرت منها قبل العوالم الجسمانية، فإن كل شي ء يكون فوق شي ء يكون هو عليه، ولا شك أن النفس الكلية فوق النفوس الجزئية والعوالم الروحانية، فتكون هي عليهما، وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (2)

هذا معناه أيضاً، يعني كان العرش قبل خلق السموات وأرض الجسمانيات على الروحانيات من العقول والنفوس، إن أراد بالعرش العرش المعنوي الذي هوالعقل الأول، وإن أراد بالعرش العرش الصوري على قول بعض المفسرين (3)؛ لأنهم قالوا: إن بين العرش والماء حيث لم يكن في أول الحال حايل يجوز أن يقال: إنه عليه، وهذا القائل ناصر الدين البيضاوي، هذا وجه.

أمّا حج أهل الطريقة.. فهو القصد إلى بيت اللَّه الحقيقي والكعبة المعنويّة بحسب السير والسلوك

ووجه آخر، أن الماء هو العلم الإلهي الذي عليه كلّ شي ء من حيث الثبوت فيها دائماً أبداً، وتخصيصه بالعرش يكون لعظمته، أعني إذا كان قيام العظيم وبقاؤه به فالصغير بالطريق الأولى، والغرض أنا إذا فرضنا هذا الماء الذي عليه العرش نطفة الإنسان الكبير من حيث الصورة، كما هو مقرر عند أهل اللَّه، فيكون الماء بمعنى الماء الصوري، ويكون ظهورها عليه بمعنى تعلّقها بالنطفة التي يوجد منها صورة العالم بأسرها، فإن أهل الشرع قد اتفقوا على أن ابتداء العالم كان من الماء، بحكم ورد عن النبي صلى الله عليه و آله في هذا الباب، وهو قوله: «أول ما خلق اللَّه تعالى جوهرة، فنظر إليها فذابت حياء أو قهراً»- على اختلاف الروايتين- فصارت نصفها ناراً ونصفها ماءاً، فخلق من الماء السماوات، ومن النار الأرضون، أو خلق من الماء الجنة، ومن النار الجحيم، أو خلق من الماء الروحانيات، ومن النار الجسمانيات، ولا مشاحة في الألفاظ.

وبرهانهم على ذلك التطابق بين العالمين الآفاقي والأنفسي، فإن ابتداء العالم الصغير وإيجاده بحسب الصورة (4)كان من الماء الذي هو النطفة، والصغير أنموذج (5) الكبير من جميع الوجوه، فيجب أن يكون هو أيضاً كذلك، وهذا أقرب الوجوه، لأن إيجاد الإنسان الصغير الذي هو نسخته وأنموذجه (6) حيث كان على هذا الوضع، لأنه أوله كان نطفة، ثمّ صار مضغة، ثمّ صار علقة إلى آخر الأطوار، فيجب أن يكون هو كذلك.

وقوله: «عند خلق السماء» يكون إشارة إلى تقديم الروحانيات على الجسمانيات، بناءاً على هذا الترتيب الأول لا الثاني، أعني من حيث النزول من العلويات إلى السفليات لا العكس.

وقوله: «قبل الأرض بألفي عام» يكون إشارة إلى أنّ النفس الكلية المسماة بالكعبة الحقيقية خلقها اللَّه قبل الأجسام المعبّر عنه بالأرض بألفي عام، يكون المراد بألفي عام طورين كاملين: الأول طور العقل، ثمّ طور النفس؛ لأنهما سابقان على الأرواح و الأجسام بمدة مديدة، وأما دورين من أدوار الكواكب؛ لأنّ لكل كوكب منها دور خاص، وهو ألف سنة، ودور مشترك، وهو ستة آلاف سنة، ويكون المراد أنّ عالم الأجسام خلق بعد خلق الأنفس والأرواح بدورين كاملين، وقد سبق أيضاً هذا البحث مبسوطاً، وقد تقرّر أنّ في مدة دور زحل يكون العالم


1- مرّ تخريجها.
2- هود: 7.
3- تفسير البيضاوي 2: 253
4- بحسب الصورة ساقطة.
5- كذا في النسختين.
6- كذا في النسختين.

ص: 38

ص: 39

خراباً، وفي ابتداء دور المشتري يبتدي بالعمارة، وفي آخرها توجه الحيوانات حتى ينتهي إلى الإنسان، فيكون المراد بألفي عام دور هذين الكوكبين على الوجه الذي قررناه، أو طوري العقل والنفس، وعندي هذا أنسب، وإن كان الوجهين [الوجهان] من عندي، وتقديم الأرواح على عالم الأجسام أظهر وأبين من أن يحتاج إلى بيان وبرهان، وسيّما قد شهد به الخبر والقرآن، فإن النبي صلى الله عليه و آله قال:

«خلق اللَّه تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»، والقرآن قد نطق بأنّ الأرواح قبل الأجسام في مواضع شتى، منها قوله: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (1)

الآية، قوله: «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (2)، وثمّ لا يكون إلّاللتراخي.

«وكان زبدة بيضاء على وجه الماء»، إشارة إلى صفاء النفس الكلية ولطافتها بالنسبة إلى الروحانيات الأخر التي كانت تحتها المشار إليها بالماء، لأنّ كل ما هو أعلى من الروحانيات فهو ألطف، وكذلك من الجسمانيات أيضاً. وقوله: «فدحيت الأرض تحته» يكون إشارة إلى إيجاد عالم الأجسام بعدها، لأنّ عالم الأجسام وجد بعد عالم الأرواح بمدة مديدة، وفيه قيل: إن عالم الأمر والأرواح هو الذي لا يحتاج إلى مدة ومادة، وعالم الخلق والأجسام هو الذي يحتاج إلى مادة و مدة.

هذا من حيث الخبر، وأما من حيث المعنى (3) يمكن هذا المعنى بعينه لكن يطول، فالإعراض عنها اعتماداً على أهلها أولى وأحسن.

وأما تطبيق الخبر بالنسبة إلى الإنسان الصغير، فقوله عليه السلام: «الكعبة أول بيت ظهرت على وجه الماء عند خلق السماء...» الحديث، البيت بالنسبة إليه يكون القلب الحقيقي المسمّى ببيت اللَّه الحرام، وظهوره على وجه الماء يكون بمعنى تعلّق


1- الأعراف: 172.
2- المؤمنون: 14.
3- الآية.

ص: 40

روحه بالنطفة من حيث التدبير والإيجاد إن قلنا بالتجرّد، وإن لم نقل بالتجرّد فذلك ظاهر، وخلقه عند خلق السماء يكون عبارة عن خلق الروح الإنساني المعبر عنه بالقلب قبل الروح الحيواني المعبر عنه بالسماء، وقبل الأرض بألفي عام يكون إشارة إلى خلق روحه قبل بدنه بالطورين الكاملين المذكورين أو الدورين المعلومين، أعني كان إيجاد روحه قبل إيجاد بدنه ومادته الصورية بالطورين الكاملين من طوري العقل والروح، أو الدورين اللذين هما دور زحل والمشتري المتقدم ذكرهما.

وقوله: «زبدة بيضاء»، يكون إشارة إلى صفاء جوهريته و لطافته قبل تعلّقه بالبدن المعبر عنه بالأرض، وعلى وجه الماء يكون إشارة إلى النطفة التي هي مادة البدن وصورة الإنسان، ويكون المراد تعلق الروح بإيجاده وإظهاره في عالم الغيب وعالم الأمر.

وقوله: «فدحيت الأرض تحته» يكون إشارة إلى البدن، ويكون معناه أن الروح إذا توجهت إلى النطفة من حيث التدبير والتعلّق، دحيت وبسطت البدن بحسب حكمه وأمره؛ لينتظم حال الصورة الإنسانية باجتماعهما واتحادهما، وذلك تقدير العزيز العليم، وبناءاً على هذا فمعنى الآية وهو أن يقول: «أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» (1)

البدن، الذين هم قواه وجوارحه وأعضاؤه كان (2) صورة القلب الصوري دون المعنوي، ليتوجهوا إليه في تحصيل مقاصدهم ومعارفهم.

و «بِبَكَّةَ مُبَارَكاً» يكون إشارة إلى صدره الذي يحيط به كمكّة بالمسجد والمسجد بالكعبة، لأنّ الكعبة بمثابة القلب، والصدر بمثابة المسجد، والبدن بمثابة الحرم أو مكة، ومباركاً، يكون صفة للبركات التي تحصل منها من (3) المعارف


1- آل عمران: 96.
2- كانت.
3- ساقطة.

ص: 41

الإلهية والحقايق الربانية.

و «وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ» أي هذا البيت هدى للطوايف التي (1) حواليه من أهل عالمه، أي من قواه الروحانية والجسمانية والأرواح الحيوانية والنفسانية والنباتية وغير ذلك، والطائفين والقائمين والركّع السجود إشارة إليهم، كما سبق بيانه في معنى الشكر الحقيقي والحديث النبوي: «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته».

«فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» يكون إشارة إلى حضرة العقل المستفاد التي هي حضرة القدس ومقام التداني، فإنّه من أعظم آيات اللَّه وأعلاها (2).

«وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً» يكون (3) تقديره أن من دخل هذا البيت المسمّى بالقلب على ما ينبغي أمن من إغواء الشياطين النفس (4) الأمارة، وإغواء عفريت الخيال، واختطاف جنود الوهم، وتصرّف صعاليك (5) الجنّ والإنس.

«وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»، معناه أي وللَّه على الناس التي ذكرناهم حجّ هذا البيت، أي القصد إليه والطواف له؛ ليطّلعوا على آياته وأسراره وحقايقه، ويصلوا به إلى اللَّه وإلى جنّاته وحضراته، لكن من استطاع إلى هذا سبيلًا، أي من استطاع إلى هذه الطريقة والقيام بها طريقاً وتمكّناً، أي يتمكّن من سلوك هذا الطريق بقوّة الزاد الحقيقي الذي هو العلوم اليقينية والفناء الكلي والموت الإرادي المعبر عنهما بالعلم والعمل، لأن كل من لم يكن له هذه الاستطاعة


1- الذي من.
2- أعلاه.
3- فيكون.
4- والنفس.
5- سعاليك.

ص: 42

يسقط عنه هذا الحج، كما تقرّر في الحج الشرعي الظاهر، ومن كفر بهذا الحج وخالف أمر اللَّه وانتكس عن طريقه وانحرف عن استقامته، فإن اللَّه غني عنه وعن العالمين الذين هم من أهل مدينته وبلده المعبّر عنهما بالقوى والأعضاء والأرواح وأمثال ذلك، ومن يعتصم باللَّه في سلوك هذا الطريق والسير فيه، بالانقطاع إليه والتمسك بعنايته وهدايته، فقد هدي إلى صراط مستقيم، أي قد هدي إلى صراط مستقيم توحيد حقيقي الذي هو المقصود من السلوك والتوجه إلى بيت اللَّه المعنوي، هذا بالنسبة إلى الأنفس والحج الحقيقي المعنوي السلوكي.

وأما بالنسبة إلى الآفاق والحج الآفاقي، والاطلاع على حقايق الملكوت والجبروت والطواف بهما، فقس على كل واحدة من هذه القوى عالم (1) من العوالم ومظهر (2) من المظاهر، فإنّك تجده حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة.

وإذا تقرر هذا وتحقق، فاعلم: أن كل من يريد أن يحج هذا الحج وأن يقصد هذا البيت يجب عليه أولًا أن يحرم من الميقات الذي هو الإحرام من مقام النفس وحظوظها، بمعنى أن يحرم عليه جميع الملذات والمشتهيات من المحرمات والمحللات، إلا بقدر الضرورة؛ لقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ»، ويمنعها عن إيذاء كل حيوان وإنسان (3) قوة وفعلًا ونية وعزماً، ثمّ يتوجه إلى الحرم الحقيقي والبيت المعنوي الذي هو البدن وقواه؛ ليشاهد حاله وما حواليه من القوى المعبر عنها بالآيات والمشاعر، ويحصّل له من ذلك علوماً ومعارف، لأن كل واحدة من قواه ومشاعره مشحونة بمعارف لا يطلع عليها إلا الكامل الفرد من أفراد العالم.

ويجب له الاشتغال في هذه الحالة بالتلبيات الأربع، ومعناها التي هي الإقرار باستغناء مالكه عن طاعته وعبادته وطاعة كل أحد وعبادته، واحتياج كلّ موجود إليه ذاتاً ووجوداً وحولًا وقوة، بحيث يسمع منه هذا النداء بسمع الحال، ويستقبل عليه بلبيك لبيك على لسان الحال دون المقال، ليتحقق له حقيقة العبودية


1- عالماً.
2- مظهراً.
3- ساقطة.

ص: 43

وكمال الربوبية.

ثمّ يدخل مسجد الصدر الذي هو المسجد الحرام، حول القلب الذي هو الكعبة الحقيقية، ويطوف به سبعة أشواط، أعني يطلع عليه سبع مرات؛ ليعرف حاله ويرتفع عنه حجابه الذي هو أخلاقه الذميمة وأفعاله الردية المعبرة عنه بسبعة حجب (1) عدد أبواب الجحيم التي هي: العجب، والكبر، والحسد، والحرص، والبخل، والغضب، والشهوة، بحيث تزول منه هذه السبعة بسبعة من الطواف، ويكون كلّ واحدة منها علّة إزالة كلّ واحدة منها، وعلّة اتصاف القلب بما يقابلها من الأخلاق الحميدة، كالعلم، والحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة، والكرم، والتواضع.

ثم يصلّي في مقام إبراهيم العقل صلوة (صلاة) الشكر؛ لاتصاله إلى هذا المقام بمحض الطاقة وعين إشفاقه، وقد عرفت حقيقة الصلوة (الصلاة) قبل هذا، وتحققت أن المراد بها الإقرار بالعبودية الصرفة والأُلوهية المحضة بعد فنائه في السجود الأول فيه ورجوعه إلى القيام وبقائه به.

ثم يسعى بين الصفا والمروة، أي يسير بين عالمي الظاهر والباطن؛ ليشاهد محبوبه فيهما، ويطلع على الآيات التي يتعلّق بهما بحكم قوله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (2)، وتحصل له هذه المشاهدة الحقيقية والمعارف اليقينية ويتحقق معنى قوله: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ» (3).

ثم يقصّر في المروة، أي يسقط عن رأسه ما بقي فيه من الأنانية والإثنينية، ليخرج بهذا عن الإحرام وأفعال العمرة التي هي بمثابة الوضوء إلى


1- أشواط حجب.
2- فصلت: 53.
3- فصلت: 53.

ص: 44

الصلوة (الصلاة)، ويحل عليه كلّ ما حرّم به قبل ذلك، لأن العبد في مقام الأنانية والغيرية لا يحل له شي ء أصلًا بمذهب العارفين، فإذا خرج منها وصار فانياً فيه باقياً به حلّ عليه كلّ شي ء، وبل بقوله: يحرّم ويحلّ، لأنه الخليفة والآمر والناهي، فافهم ذلك جداً؛ ليحصل لك معرفة مقام النبوة ثمّ الولاية، لأنّه ليس غيرهما بعد الحقّ متصرف في الوجود.

ويشهد بذلك قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ثم يحرم إحراماً (1) آخر من حضرة العقل تحت ميزاب القلب، لأن العقل كالميزاب بالنسبة إلى القلب، لأن من بحر القلب تجري الحكمة والمعارف على ميزاب العقل، ويصل إلى ما تحته من القوى، لقوله عليه السلام: «مَن أخلص للَّه أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»، أي لسان العقل الذي هو المترجم بالنسبة إلى القلب.

ثمّ يتوجه إلى عرفات الدماغ وجبل العرفان؛ للوقوف به والاطلاع على ما حواليه من الآيات والمعارف والحقايق، لأن الدماغ بالنسبة إلى البدن تارة كجبل أبوقبيس أو جبل هراة (2)، وتارة كعرش المجيد أو عرش الكريم المتقدم ذكره، وفي هذا المقام يقع العارف بين آدم الحقيقي الذي هو الروح وبين النفس الكلية (3) التي هي حواء، وما سمى تلك الحضرة بعرفة إلّالهذا، ويشهد به قوله عليه السلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ثمّ يرجع إلى المشعر، أي (4) الوقوف بمشاعره الصورية والمعنوية المعبرة عنها بالحواس العشرة، ليطلع على أحوال كلّ واحدة منها، ويخرجها من حكمه ويجعلها مطيعة لخالقه وربه بحكم «كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله...» الحديث،


1- إحرام.
2- كذا وفي النسخة الاخرى هرات، والظاهر حراء.
3- الكلي الذي هو.
4- إلى.

ص: 45

لأن الحواس ما دامت في حكم العبد فهي مطيعة للنفس الأمارة متابعة لشيطان الهوى المردي، فأمّا إذا صارت بحكم الربّ مطيعة لما أمر به من الأوامر والنواهي، فهي مطية للنفس المطمئنة متابعة للعقل الذي هو الأمير والحاكم في مدينتها وبلدها.

ثمّ يرجع إلى منى عالم الصدر لرمي أحجار أخلاقه الذميمة وأوصافه الردية عند الجمار الثلاث التي هي المعدن والنبات والحيوان، أعني في عالم المركبات وما يتعلّق به، وسبب ذلك أن هذا مقام الإخلاص ومقام الخطر العظيم؛ لقوله عليه السلام:

«العالمون كلّهم هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم»، فصاحب هذا المقام إن خلص عند الإحرام من أخلاقه وأوصافه، لكن إذا رجع إلى مقام التكميل وحالة البشرية بحكم قولهم: النهايات الرجوع إلى البدايات، يجب الاحتراز أيضاً عن رجوعه إلى تلك الأخلاق، لأن بهذا ورد: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

ثمّ يتوجه إلى حلق رأسه، أي رأس نفسه من الأنانية، ورؤية الفعل والحول والقوّة منه الذي هو الأعظم من الأول، والحجب والموانع من الاستقامة على ما هو عليه من الكمال والتكميل.

ثمّ يتوجه إلى ذبح نفسه مرة اخرى، بحيث لا يبقى منها اسم ولا رسم لقوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» (1).

ثمّ يرجع إلى الكعبة للطواف الثاني، أي يرجع إلى الكعبة الحقيقية التي هي القلب للطواف الثاني، أي للاطلاع مرّة أخرى عليه ليطهرها من دنس مشاهدة الغير بالكلية، وهذا مقام قوله عليه السلام: «وأنّه ليغان على قلبي وإنّي لأستغفر اللَّه في اليوم والليلة سبعين مرة»؛ لأن النّبي المعصوم ما له ذنب شرعي حكمي حتى يستغفر من


1- البقرة: 54.

ص: 46

ذلك الذنب، بل ذنبهم في طريق سلوكهم وتوجههم إلى اللَّه تعالى هو مشاهدة الغير ولو طرفة عين، وذلك من غلبة عالم البشرية وقوة النفس الحيوانية بمقتضاها، وقد مرّ تفصيل ذلك أيضاً.

ثمّ يصلّي في مقام إبراهيم عليه السلام ركعتي طواف الحج، أي ركعتي صلوة الشكر بوصوله إلى محبوبه ومقصوده في توجهه وقصده في صلوته (صلاته) الحقيقية.

ثمّ يسعى مرّة أخرى بين صفاء العالم الروحاني ومروة العالم الجسماني، أو بين صفاء القلب ومروة النفس، ليشاهده (1) فيهما آيات كمال مظاهره ومشاهدة علامات جماله وجلاله.

إنّ العبد في مقام الأنانيّة والغيريّة لا يحل له شي ء أصلًا بمذهب العارفين

ثمّ يقصر في مروة العالم الجسماني أو مروة النفس بحذف ما بقي فيه مشاهدة الكثرة في عالم الوحدة.

ثمّ يرجع إلى منى لرمي الجمار الثلاث في أيام التشريق، أي يرجع من كعبة القلب مرة أخرى إلى منى الصدر في أيام التشريق التي هي أيام التوحيد التفصيلي المعبّر عنه بالفعلي والوصفي والذاتي، لحذف كلّ ما سواه في المراتب الثلاث بحيث لا يبقى عنده إلا الحقّ تعالى جلّ ذكره، ويرتفع عن نظره الخلق بأسره، بحيث لا يبقى لهم وجود أصلًا عنده ولا له أيضاً، ويشاهد الحق من حيث هو الحق تارةً في عالم وحدته مجرّداً عن جميع الاعتبارات، وتارةً في عالم كثرته تحت ملابس أسمائه وصفاته وجماله وجلاله، وتارةً في عالم الجمع بينهما المتقدم ذكره عند التوحيد


1- ليشاهد فيهما وآيات كمال مظهره وعلامات مشاهدة جماله وجلاله.

ص: 47

الجمعي المحمدي، وهذا هو المقصود من الحج المعنوي عند أرباب الطريقة.

وإذا عرفت هذا، فلنشرع في حج أهل الحقيقة وبيانه، وهو هذا:

وأمّا حجّ أهل الحقيقة

فالحج عنهم بعد قيامهم بالحجين المذكورين عبارة عن القصد والتوجه من حيث السير المعنوي إلى قلب الإنسان الكبير، الذي هو بيت اللَّه الأعظم المسمّى بالبيت المعمور وحضرة القدس والنفس الكلية وأمثال ذلك، كما أن حج أهل الطريقة عبارة عن قصدهم وتوجههم إلى قلب الإنسان الصغير، وبيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمات.

منها: قول بعض العارفين في تطبيق العالمين:

إعلم أن سلطان الروح الجزئي الذي هو روح الإنسان الصغير كما لا يكون إلا في الدماغ، فكذلك سلطان الروح الكلي الذي هو روح الإنسان الكبير المسمى بالعالم لا يكون إلا في العرش الذي هو بمثابة الدماغ منّا، وكما أن مظهره الأول في الإنسان الصغير هو القلب الصوري الذي هو منبع حيوة (حياة)، فكذلك مظهره الأول في الإنسان الكبير هو الفلك الرابع، الذي هو فلك الشمس ومنبع حيوة (1) العالم، فإنّه بمنزلة الصدر فيه، والشمس بمنزلة القلب الصوري.

وأما القلب الحقيقي فهو النفس الكلي المسماة باللوح المحفوظ والكتاب المبين و آدم الحقيقي المشار إليه في قوله تعالى: «يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيراً وَنِسَاءً» (2)

الآية، وروح الفلك الرابع بمثابة الروح الحيواني الذي في القلب: إذ به تحيا جميع الأعضاء، وهو البيت المعمور المشهور في الشريعة أنّه في السماء الرابعة، المقسم به في التنزيل حيث قال: «وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ


1- حياة.
2- النساء: 1.

ص: 48

الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ» (1)

ولهذا جعلت (2) مقام عيسى روح اللَّه، وكانت معجزته إحياء الموتى، والطور هو العرش، والكتاب المسطور هو النفس الكلية التي هي قلب العالم، والرق المنشور هو الفلك الثامن الذي هو مظهره، والسقف المرفوع يجوز أن يكون العرش، ويجوز أن يكون سماء الدنيا، والبيت المعمور يجوز أن يكون الفلك الرابع، ويجوز أن يكون النفس الكلية، والفلك الثامن أيضاً (3) الذي هو مظهر النفس الكلية، والبحر المسجور هو بحر الهيولى السيالة المملوّة بالصور، ويجوز أن يكون عالم البرزخ الأول المركب من العالمين الروحاني والجسماني المسمى بالخيال المطلق المملوّ بصور الموجودات كلّها، ومع ذلك نشرع في تفصيله بحكم الحديث النبوي والآية المذكورة مرّة أُخرى، ليتحقق عندك ما قررناه.

أما الحديث، فقوله عليه السلام: «الكعبة أول بيت ظهرت على وجه الماء عند خلق السماء، خلقه اللَّه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ودحيت الأرض تحته».

وأما الآية فقوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً» إلى آخرها (4).

وبيان الحديث وهو أنّه يكون المراد من قوله: الكعبة أول بيت ظهرت على وجه الماء عند خلق السماء، ما تقدم ذكره عند حج أهل الطريقة، وهو أن الكعبة هي النفس الكلية المسماة ببيت اللَّه الأعظم، وظهورها على وجه الماء يكون إشارة إلى العوالم الروحانية التي صدرت منها قبل العوالم الجسمانية، فإن كل شي ء يكون فوق شي ء يكون هو عليه، ولا شك أن النفس الكلية فوق النفوس الجزئية والعوالم


1- الطور: 1- 6.
2- جعل.
3- ساقطة.
4- آخره.

ص: 49

الروحانية فتكون هي عليها.

وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» (1)

هذا معناه أيضاً، يعني كان العرش قبل خلق (2) السموات والأرض الجسمانيان [الجسمانيين] على الروحانيان [الروحانيين] (3) من العقول والنفوس إن أردنا بالعرش العرش المعنوي الذي هو العقل الأول، وإن أردنا بالعرش العرش الصوري الذي هو الفلك الأعظم الأطلس أعني التاسع، يكون المراد بالماء الماء الصوري على قول بعض المفسرين، لأنهم قالوا: إن العرش والماء حيث لم يكن في أول الحال حايلًا وكان بينهما خلاء يجوز أن يقال: إنه عليه، وهذا ذكره ناصر الدين البيضاوي في تفسيره (4)

وهاهنا أبحاث:

ويجوز أن يكون الماء إشارة إلى الهيولي الكلية التي هي بمثابة الماء بالنسبة إلى النفس الكلية التي فوقه بمراتب، ويجوز أنْ يكون ذلك قبل الفتق في حالة الرتق الذي هو إجمال المادة كلّها في حالة كانت العقل والنفس والعرش والكرسي حقيقة واحدة ومادة كلية، لقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا» (5)

الآية.

وهكذا ورد في اصطلاح العارفين في تعريف الفتق والرتق وهو قولهم: الرتق إجمال المادة الوحدانية المسماة بالعنصر الأعظم المطلق المرتوق قبل السموات والأرض، المفتوق بعد تعيّنها بالخلق، وقد يطلق على نسب الحضرة الواحدية باعتبار لا ظهورها، وعلى كلّ بطون وغيبة كالحقايق المكنونة في الذات الأحدية


1- هود: 7.
2- ساقطة.
3- الروحانيات.
4- تفسير البيضاوي 2: 253.
5- الأنبياء: 30.

ص: 50

قبل تفاصيلها في الحضرة الواحدية مثل الشجرة في (1) النواة، والاستشهادات في ذلك كثيرة.

هذا وجه ووجه آخر:

إن الماء هو العلم الإلهي الأزلي عليه كل شي ء من حيث فيه دائماً أبداً، وتخصيصه بالعرش يكون لعلوّ شأنه وعظمة جلاله وكبريائه، أعني إذا كان قيام العظيم الذي هو العرش به وبوجوده فالصغير بالطريق الأولى، والغرض أنا إذا فرضنا هذا الماء الذي عليه العرش نطفة الإنسان الكبير من حيث الصورة، كما هو مقرر عند أهل اللَّه، فيكون الماء بمعنى الماء الصوري، ويكون ظهورها عليه بمعنى تعلّقها بالنطفة التي توجد منها صورة العالم بأسرها، فإن أهل الشرع قد اتفقوا على أن ابتداء العالم وإيجاده كان من الماء، وتمسكوا في ذلك بقوله بالحديث النبوي بعد القرآن والبحث الذي في سورة الدخان كقوله عليه السلام: «أول ما خلق اللَّه تعالى جوهرة، فنظر إليها فذابت تلك الجوهرة حياء أو قهراً- على اختلاف الروايتين- فصار نصفها ماءاً ونصفها ناراً، فخلق من الماء السموات و من النار الأرضون، أو خلق من الماء الجنّة ومن النار الجحيم، أو خلق من الماء الروحانيات و من النار الجسمانيات ولا مشاحة في الألفاظ، واستدلوا بذلك (2) التطابق بين العالمين، فإن ابتداء العالم الصغير وإيجاده بحسب الصورة كان من الماء الذي هو النطفة، والصغير أنموذج (3) الكبير من جميع الوجوه، فيجب أن يكون هو أيضاً كذلك، وهذا أقرب الوجوه، لأن إيجاد الصغير الذي هو نسخته وأنموذجه (4) حيث كان على هذا الوضع، لأن أوله كان نطفة، ثمّ صار علقة، ثمّ صار مضغة إلى آخر الأطوار، فيجب


1- و.
2- على ذلك بالتطابق.
3- هكذا في النسختين.
4- كذا في النسختين.

ص: 51

أن يكون هو كذلك.

وقوله: عند خلق السماء، يكون إشارة إلى تقديم الروحانيات على الجسمانيات بناءاً على الترتيب الأول لا الثاني، أعني من حيث النزول من العلويات إلى السفليات لا العكس.

وقوله: «قبل الأرض بألفي عام» يكون إشارة إلى أن النفس الكلية المسماة بالكعبة الحقيقة خلقها قبل الأجسام المعبر عنها (1) بالأرض بألفي عام، ويكون المراد به طورين كاملين: الأول طور العقل ثمّ طور النفس، لأنهما سابقان على الأرواح والأجسام بمدة مديدة، أو دورين من أدوار الكواكب السبعة، لأنّ لكل كوكب منها دور خاص و هو ألف سنة، ودور مشترك وهو ستة آلاف سنة، ويكون المراد بذلك أن عالم الأجسام خلق بعد خلق الأنفس بدورين كاملين من أدوار الكواكب السبعة.

وقد سبق هذا البحث أيضاً، وقد تقرّر هناك أن في مدّة دور زحل يكون العالم خراباً، وفي ابتداء دور المشتري يبتدي بالعمارة، وفي آخرها توجد الحيوانات حتى تنتهي إلى الإنسان، فيكون المراد بألفي عام دوري (2) هذين الكوكبين على الوجه الذي قررناه أو طوري العقل والنفس، وعندي هذا أنسب، وإن كان الوجهان من عندي.


1- عنه.
2- دورين.

ص: 52

وتقديم عالم الأرواح على عالم الأجسام أظهر وأبين من أن يحتاج إلى بيان وبرهان، وسيّما قد شهد به الخبر والقرآن، فإن النّبي صلى الله عليه و آله قال: «خلق اللَّه تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»، والقرآن قد نطق بأنّ الأرواح قبل الأجسام في مواضع شتى، منها قوله: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (1)

الآية، وقوله: «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (2)، وثمّ لا يكون إلّاللتراخي.

«وكان زبدة بيضاء على وجه الماء»، إشارة إلى صفاء النفس الكلية ولطافتها بالنسبة الى الروحانيات الأخر التي كانت تحتها المشار إليها بالماء، لأن كل ما هو أعلى من الروحانيات فهو ألطف، وكذلك من الجسمانيات أيضاً.

قوله: «فدحيت الأرض تحته» يكون إشارة إلى إيجاد عالم الأجسام بعدها، أي بعد الأرواح، لأنّ عالم الأجسام وجد بعد عالم الأرواح بمدة مديدة، وفيه قيل:

إن عالم الأمر والأرواح هو الذي لا يحتاج إلى مدة ومادة، وعالم الخلق والأجسام هو الذي يحتاج إلى مادة ومدة، هذا تأويل الخبر.

وأما تأويل الآية على سبيل البسط فيطول ويخرج المبحث من المقصود، وأما على سبيل الاختصار فاعلم:

أن في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» (3).

«أَوَّلَ بَيْتٍ» إشارة إلى البيت المذكور الذي هو النفس الكلية ومظهرها الذي هو الفلك الثامن.


1- الأعراف: 172.
2- المؤمنون: 14.
3- آل عمران: 96- 97.

ص: 53

و «وُضِعَ لِلنَّاسِ» إشارة إلى مطلق الإنسان من حيث العموم وتكليف الكلّ بالتوجه إليه، وإلى أشرف الناس منهم الذين هم الأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء والعارفين من أمة كل نبي على الخصوص.

و «بِبَكَّةَ مُبَارَكاً» إشارة إلى الفلك الثامن الذي هو مظهرها المعبر عنه بالكرسي، «مُبَارَكاً» إلى البركات التي هي حواليها من المعارف والحقايق النازلة منها إلى ما دونها من المخلوقات والموجودات.

و «وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ» إشارة إلى فيضانه وتجلياته لجميع العالمين، فإن فيضان (1) جميع العالمين من جنابه القدسي وحضرته العليا، والمراد بالفيضان إما الوحي وإما الكشف وإما الإلهام، فإن حصول (2) العلوم والفيض من اللَّه غير هذه الوجوه الثلاث [الثلاثة] مستحيل.

و «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» إشارة إلى مشاهدة آيات الملكوت والجبروت بواسطتها، فإنها محل تفصيل المعلومات والموجودات، كما أن العقل الأول محلّ تجميل المعلومات والموجودات.

و «مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ» إشارة إلى وصول السالك بواسطتها إلى مقام التوحيد الجمعي الحقيقي الإبراهيمي الذي لم يكن منشأه في عالم الشهادة إلا منه، ولهذا أمر نبينا صلى الله عليه و آله بمتابعته في قوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (3)

ولقوله: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّيً» (4).

ولولا خصوصية إبراهيم عليه السلام بهذا المقام ما قال تعالى في حقه: «وَكَذَلِكَ نُرِي


1- فيضانها.
2- ساقطة.
3- آل عمران: 68.
4- البقرة: 125.

ص: 54

إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» (1).

وقوله: «وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً» إشارة إلى أن من دخل البيت المذكور على الوجه المذكور أمن من جميع الشبهات والشكوك، وعلى الخصوص من المشركين (2) المذكورين أعني الجلي والخفي، وعلى الجملة عن حجب رؤية الغير مطلقاً.

وقوله: «وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» أي وللَّه على الناس المستعدين لهذا المقام حج هذا البيت، أي قصد هذا البيت على الوجه المذكور، أي من حيث المعرفة والمشاهدة والكشف والشهود.

وقوله: «مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» دليل على تخصيصه بطائفة متمكنين منه مستطيعين لسبيله بقوتي العلم والعمل، فإن زاد هذا الحج وراحلته المسمّى بالاستطاعة العلم والعمل، أي العلم النافع والعمل الصالح.

والعلم النافع يحصل بوجهين: إما من اللَّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر، وهو المعبّر عنه بالوحي والإلهام، والكشف، وإما منه بواسطة بعض عبيده من العارفين كالأنبياء والأولياء (3) والرسل، وإليهما أشار بقوله في الأوّل:

«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» (4).

وفي الثاني بقوله: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ» (5).

والعمل الصالح أيضاً يكون على قسمين:


1- الأنعام: 75.
2- الشركين.
3- وأولياء.
4- العلق: 3- 5.
5- آل عمران: 187.

ص: 55

قسم يختص بأهل الشريعة والطريقة، وهو الذي لا يدخل فيه الرياء والسمعة والشك والشبهة وأمثال ذلك، بل يكون خالصاً مخلصاً للَّه تعالى لقوله:

«قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (1)

، ولقوله: «أَلَا للَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» (2).

وقسم يختص بأهل الحقيقة وأهل الوصول، وهو الذي لا يشاهد صاحبه في الوجود غير الحق تعالى جلّ ذكره، وقد عرفت تحقيقه مراراً.

وإليه أشار بقوله: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (3).

وقوله: «وَمَنْ كَفَرَ» أي بهذا الحج ولم يفعل ولايقر به فهو من المشركين المحجوبين ليس الخطاب إليه، فإن اللَّه غني عنه وعن أمثاله من العالمين إنساناً كان أو جناً، وإنّ اللَّه لغنيّ عن العالمين وعن طاعتهم وعبادتهم من حيث هو هو، فإن الطاعة والعبادة فايدتهما عايدتان إلى المكلّف لا غير، ولا الحق تعالى فإنّه غنيّ عن العالمين وطاعتهم وعبادتهم؛ لأنه لا يجوز أن يستكمل هو بغيره، والغرض العايد إليه نوع استكمال فلا يجوز، فحينئذ لا يكون عايداً إليه، والعلة في ذلك أنّه لا يقع فعل الحكيم الكامل (4) عبثاً، فإن كل فعل يصدر من فاعل لالغرض يكون عبثاً والعبث على اللَّه تعالى محال، لقوله: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوات وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ» (5)، ولقوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَاتُرْجَعُونَ» (6)، فيجب أن يكون لغرض، وحوالة الغرض إليه كما ذكرنا محال، فيجب أن يكون إلى


1- الأنعام: 162.
2- الزمر: 3.
3- الكهف: 110.
4- العامل.
5- الدخان: 38.
6- المؤمنون: 115.

ص: 56

العبيد وهو المطلوب.

ولهذا قال في مواضع كثيرة من القرآن: «مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا» (1)، وقال: «قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» (2).

وهاهنا أبحاث كثيرة نختصر (3) على ذلك، وإذا تقرر هذا، وعرفت هذه المقدمات والضوابط والقواعد التي فيها بحكم الآية والخبر، فلنشرع في الترتيب والتفصيل، وكيفية ترتيب هذا الحج، والوصول إلى المقصد، وهو هذا:

إعلم أنه من أراد أن يتوجه إلى هذا البيت ويقصد زيارته، أعني الوصول إليه، يجب عليه أولًا أن يأخذ الإحرام من مشاهدة عالم المحسوسات مطلقاً، بمعنى أن يحرم على نفسه مشاهدة عالم الجسمانيات ومايتعلق به من اللذات، ثم يتوجه إلى عالم الروحانيات التي هي بمثابة الحرم ومكة وبكة وغير ذلك من الاعتبارات حتى يصل إليهم بالفعل، ويتصف بصفاتهم ويتخلق بأخلاقهم، ويحصل له معارف ذواتهم وخواصهم ولوازمها، ثم يتوجه إلى الكعبة الحقيقية التي هي النفس الكلية ومعارفها وحقايقها، ويطوف بها سبعة أشواط ليحصل له بكل شوط معرفة كلّ فلك من الأفلاك السبعة أو العلوم السبعة القرآنية (4) المشار إليها بقوله عليه السلام: «إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن».


1- فصلت: 46.
2- الأنعام: 104.
3- نقتصر.
4- هاهنا حاشية للمؤلف قدس سره في النسخة الأولى، وليست في الثانية، ولهذا نذكرها، وهي: هذه: أي في العلوم السبعة القرآنية: وهي علم التوحيد، والتجريد، والفناء، والبقاء، وعلم الذات، والصفات والأفعال، وعلم النبوة والرسالة والولاية، والمروة، وعلم الوحي والإلهام والكشف، وعلم المبدأ والمعاد والحشر والنشر، وعلم الأخلاق والسياسة والتهذيب والتأديب، وعلم الآفاق والأنفس والتطبيق بينهما، فإنه أعظم العلوم وأشرفها، وقيل: المرادبالعلوية السبعة غيرما ذكرنا آنفاً، وإلاصحّ ما ذكرناه، لأنه مناسب لما نحن بصدده في هذا الكتاب.

ص: 57

ثمّ يتوجه إلى مقام إبراهيم الذي هو مقام الوحدة والحضرة الواحدية المعبرة عنها بالعقل الأول والروح الأعظم، ويصلي فيه ركعتي الشكر بوصوله إلى تلك الحضرة، والركعتان عبارتان عن فنائه أولًا عن عالم الظاهر، وثانياً عن عالم الباطن وما اشتمل عليهما من المخلوقات والموجودات حتى نفسه.

ثمّ يتوجه إلى السعي بين الصفا والمروة، أي بين عالمي الظاهر والباطن؛ ليطلع عليهما بسعيه واجتهاده مرة اخرى، ويقطع النظر عن الكثرة بمطالعة ما في ضمنها من الوجود الواحد الحق، ويستقرّ في المقام الجمعي المقصود بالذات، كما قال عليه السلام:

«الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا، وهما حرامان على أهل اللَّه».

ويعرف هذا أيضاً من تقسيم أهل الشمال وأهل اليمين والمقربين المتقدم ذكرهم، وإليه أشار العارف بقوله: وعليكم بهما، فإن جامعهما موحد حقيقي جامع للجميع، وله المرتبة العليا والغاية القصوى.

ثم يقصّر بمروة عالم (1) الظاهر التي هي نهاية الكثرة بإسقاط ما بقي عنده من الأنانية ورؤية الغير.

وهذا تمام أفعال العمرة المتمتع بها إلى الحج.

ثمّ يتوجه إلى الكعبة مرةً اخرى إلى مشاهدة النفس الكلية والاطلاع على حقائقها؛ ليأخذ إحرام الحج من عندها تحت ميزاب العقل على الترتيب المعلوم.

ثم يتوجه إلى مقام عرفات النفس والعقل عند الجبل الحقيقي الذي هو العرش الصوري مظهر العقل الأول، ليتحد بهما بقوة المعرفة الحاصلة له بأن الكل واحد، ولهذا سمي هذا المقام عرفاتاً، لأنه مقام المعرفة الحقيقية، وليس وراء هذا الحضرة حضرة اخرى إلا حضرة الذات الممتنع الوصول إليها لأحد، والمراد بالوصول


1- العالم.

ص: 58

الاتصاف، والاتصاف بالحضرة الأحدية الذاتية مستحيل، وفيه قيل: ليس وراء عبادان قرية، وفي هذا المقام يحصل الوصول إلى التوحيد الجمعي الحقيقي المعبر عنه بالتوحيد المحمدي مرة اخرى.

ويذبح نفسه مرّةً أخرى ذبحاً لا تكاد تعيش أبداً، أي بالحياة الدنيوية المجازية، لأنّه صار حيّاً بالحياة الحقيقية.

والفايدة والفرق بينهما أن في التوحيد الأول يرتفع الخلق عن نظره بالكلية لقوله: «كُلُّ شَيْ ءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1)، وفي التوحيد الثاني يرتفع الصفات كلّها، لقول العارف الرباني صلوات اللَّه عليه: «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» (2) بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، وفي هذا المقام يصير الإنسان إنساناً، والكامل كاملًا، والعارف عارفاً، ولهذا يجب الرجوع إلى التكميل وعالم الكثرة لقوله تعالى:

«وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» (3) ، ولقول الجنيد رضى الله عنه لما سئل عن النهايات:

الرجوع إلى البدايات، وهذا هو سرّ رجوع الحاج من عرفات إلى منى وفيه ما فيه من الأسرار أيضاً.

ثمّ يرجع إلى منى عالم الكثرة الذي هو عالم المشاعر الإلهية والمناسك الربانية من الأفلاك والأجرام والعناصر والمواليد، وينظر إليهم بنظر الوحدة الحقيقية دون الأول، ويشاهدهم على أنهم مظاهر إلهية ومشاعر ربانية والمظهر عين الظاهر والظاهر نفس المظهر، فيشاهدهم عيناً من وجه، غيراً من وجه، خلقاً من وجه،


1- القصص: 88.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 1؛ بحار الأنوار، 4: 247، باب 4، ح 5.
3- التوبة: 122.

ص: 59

حقاً من وجه كما سبق ذكره من كلام العارف.

ثمّ يشتغل بأداء المناسك فيه، أي في منى عالم الظاهر، من الرمي والذبح والحلق.

ويرمي أولًا في جمرة العقبة التي هي الدنيا ومتاعها سبع طبقات، عالمها العنصرية والطبيعية من المواليد، رمياً لا يمكن الرجوع إليها، وهذا رمي عرفان لا رمي عيان، أعنى رمي نظر لا رمي تصرف، فإنه إذا رجع من العوالم المذكورة يجب له التصرف في الكل تصرّف تمليك وتحقيق.

ثمّ يذبح نفسه مرةً أخرى ذبحاً لا تكاد تعيش أبداً، أي بالحيوة (بالحياة) الدنيوية المجازية، لأنه صار حياً بالحيوة (الحياة) الحقيقية المشار إليها في قوله:

«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (1)، وفي قوله: «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا» (2).

ثمّ يحلق رأسه، أي رأس النفس عن محبة الدنيا ومتاعها، حلقاً لا يكاد يرجع إليها أبداً رجوع نفساني لا غير، فإن حذف الدنيا نفسك يحكم بالتصرف فيه بقدر الحاجة للناقص وبالمجموع للكامل، والمراد إسقاطها عن درجة الاعتبار بالكلية، لأن الدنيا وما فيها ليس عند التحقيق إلا عدم صرف وخيال محض قائمة بأوهام كاذبة لقوله عليه السلام: «الدنيا قائمة بالوهم»، ولقول الإمام عليه السلام: «محو الموهوم مع صحو المعلوم»، لهذا قال: «قد طلقتك ثلاثة لا رجعة فيها» (3)، وقال عيسى عليه السلام: «يا طالب الدّنيا ليبر بها تركك لها أبر أبر و أبر (4)».

ثمّ يرجع من هذا المقام إلى مقام البقاء الذي هو البقاء بعد الفناء، ويطوف


1- آل عمران: 169.
2- الأنعام: 122.
3- نهج البلاغة، الحكمة 77.
4- لتبر.

ص: 60

بالكعبة المذكورة طواف (طوافاً) آخر، أي يطلع عليها مرّة أخرى بسبع توجهات بمقتضى نشأته التي هي سبعة أطوار، لقوله تعالى: «خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً» (1)

ليحصل بذلك التصرف في سبعة أقاليم الأرض وسبعة أقاليم الأفلاك المعبرة عنهما بالملكوت والجبروت.

ثمّ يصلّي في مقام ابراهيم الوحدة الحقيقية ركعتي الصلوة (صلاة) العيدين الأضحى والفطر، لأن اتصافه بالفناء عن الكل عيد، وبقاؤه بعد الفناء عيد آخر، ويجب صلوة (صلاة) العيد سيّما هذا العيد في مقام المخصوص (2) بها، وهو مقام الوحدة الحقيقية، فافهم جداً فإنّه دقيق.

ثمّ يرجع إلى منى عالم الكثرة في المراتب الثلاث التي هي المعدن والنبات والحيوان، ويكون فيه ثلاثة أيام الإلهية لتكميل الغير، فإنه نهاية (3) مقام المرام وغاية مقاصد الكرام، وفيه ورد: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِيناً» (4).

واللَّه أعلم وأحكم وهو يقول الحق وهو يهدي السبيل، رزقنا اللَّه الوصول إلى مثل هذا الحجّ بحق الحق.


1- نوح: 14.
2- الخصوص.
3- مقام نهاية.
4- المائدة: 3.

ص: 61

كفاية المحتاج إلى مناسك الحاج

اشارة

للشيخ جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي

المتوفى 841 ه

تحقيق: عبدالهادي العاملي

مقدمة التحقيق:

لا يخفى ما في فريضة الحجّ والعمرة من الأهمية البالغة لدى المسلمين، وما فيها من المضامين العالية التي لا يبلغ حدّها إلّامن أعطي مقاماً شامخاً ومرتبة عالية من الإيمان والتقوى والورع، ومن المعلوم أنّ الحجّ ليس لنزهة، ولإمضاء وقت، ولا لأداء حركات معينة، بل هو إنابة وتوبة وحديث العبد مع ربه (جلّ وعلا)، لأنّ المؤمن إذا انتهى من فريضة الحجّ عاد كيوم ولدته أمّه كما في الحديث، فحريّ بنا أن نهتم بهذه الفريضة بقدر مالها من الأهمية والفضل والمكانة، ولابد من إتقان أحكامها لئلا يشملنا قول الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام حيث قال: «ما حججت إلّاأنا وناقتي وعلي بن يقطين».

وبعد، بين يديك عزيزي القارى ء، واحدة من عشرات الرسائل والكتب في الحجّ التي ألفها علماؤنا الأبرار وبذلوا جهوداً متضافرة لإيصالها إلينا ولأجيالنا القادمين، ألا وهي «كفاية المحتاج إلى مناسك الحاج»، وهي مشتملة على واجبات الحجّ والعمرة، وكلّ باب منها إلى فصول، والفصول إلى بحوث، ليتسنى للمكلف أخذ أحكامه بسهولة، وبذلك تكون أعمالنا عن علم ومعرفة، وهو

ص: 62

المطلوب من كل مكلف.

اسمه ونسبه:

هو الشيخ جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمّد بن فهد الأسدي الحلي (1)، وهو غير أحمد بن فهد المقري الأحسائي، وقد وقع التباس للبعض بينهما ووجهه اتحاد الاسم والمعاصرة، وكل منهما له شرح على إرشاد العلّامة وقد اشتهر ب أحمد ابن فهد، إلّاأنّ مترجمنا اسم جده فهد والآخر اسم لأبيه.

ولادته ونشأته:

ولد سنة 757 هجرية (2)، نشأ في الحلّة التي سلمت من سطوة الجزار وبعد وصوله إلى بغداد، بادر علماء الحلّة وعلى رأسهم والد العلّامة رحمه الله فاجتمع بمن بقي من علمائها وأهلها وأنفذوا كتاباً يطلبون فيه الأمان. وفعلًا صدر الفرمان بإعطاء الأمان لأهل الحلّة وعلمائها، وعلى أثرها تحولت الحلّة إلى مركز علميّ، فاستقطبت الفقهاء والطلاب النازحين من بغداد، فبرز فيها فطاحل وجهابذة، كالمحقق الحلّي، والعلّامة الحلي، وولده فخر المحققين، والشهيد الأوّل، وابن طاووس وغيرهم من الأعلام.

وفي هذه الأجواء العلمية نشأ وترعرع شيخنا المترجم على يد جمع من أعلامها ليرتقي إلى المراتب العالية، فتلمّذ على الشيخ نظام الدين علي بن عبد الحميد النيلي، والشيخ علي بن الشهيد الأوّل، والسيد بهاء علي بن عبدالكريم إلى أن بلغ المراتب العليا، فارتقى كرسي الدرس والبحث، هذا وهو منشغل بالكتابة والتحقيق، فخلّف وراءه جمعاً غفيراً من المحصلين والفضلاء، ومجموعة علمية ثمينة هي مصدر من مصادر الفقهاء (3).


1- روضات الجنات 1: 75، الكنى والألقاب 1: 269.
2- الفوائدالرجالية 2: 111، الكنى والألقاب 1: 369، إلّاأن الأمين ترددفي الأعيان 3: 147، بين 756 و 757.
3- نامه دانشوران 1: 372.

ص: 63

أقوال العلماء فيه

قال الحر العاملي: فاضل عالم ثقة صالح زاهد عابد ورع جليل القدر (1).

وقال الشيخ يوسف البحراني: الفاضل العالم العلّامة الفهامة، الثقة الجليل، الزاهد العابد الورع العظيم القدر (2).

وقال أيضاً: فاضل فقيه، مجتهد زاهد، عابد ورع، تقي نقي (3).

وقال الميرزا الأفندي والرجالي الشهير المعروف ب (أبو علي) عين ما قاله الشيخ الحر العاملي في الأمل والشيخ يوسف البحراني في الكشكول (4).

وقال الشيخ أسد اللَّه التستري: الشيخ الأفخر، الأجلّ الأوحد، الأكمل الأسعد، ضياء المسلمين، برهان المؤمنين، قدوة الموحدين، فارس مضمار المناظرة مع المخالفين والمعاندين، أسوة العابدين، نادرة العارفين والزاهدين (5).


1- أمل الآمل 2: 21.
2- الكشكول للبحراني 1: 304.
3- لؤلؤة البحرين: 155.
4- رياض العلماء 1: 64، منتهى المقال: باب الألف.رياض العلماء 1: 64، منتهى المقال: باب الألف.
5- مقابيس الأنوار: 18.

ص: 64

وقال السيد الخوانساري: الشيخ العالم العامل العارف الملي، وكاشف أسرار الفضائل بالفهم الجبلّي، أحمد بن محمّد بن فهد الأسدي الحلي، له من الاشتهار بالفضل والإتقان، والذوق والعرفان، والزهد والأخلاق، والخوف والإشفاق وغير أولئك من جميل السياق ما يكفينا مؤنة التعريف، ويغنينا مرارة التوصيف، وقد جمع بين المعقول والمنقول، والفروع والأصول، والقشر واللب، واللفظ والمعنى، والظاهر والباطن، والعلم والعمل بأحسن ما كان يجمع ويكمل (1).

وقال المحدث النوري: صاحب المقامات في العلم والعمل، والخصال النفسانية التي لا توجد إلّافي الأقل (2).

وقال الشيخ عبد اللَّه المامقاني: له من الشهرة بالفضل والعرفان، والزهد والتقوى، والأخلاق والخوف والإشفاق، ما يغنينا عن البيان، وقد جمع بين المعقول والمنقول، والفروع والأصول، واللفظ والمعنى، الحديث والفقه، الظاهر والباطن، العلم والعمل بأحسن ما كان يجمع (3).

هذا بعض ما قيل فيه من مدح وثناء وبيان لمقاماته ومراتبه العلمية والعملية.

أساتذته ومشايخه:

1- الشيخ علي بن عبدالحميد النيلي، وهو تلميذ فخرالمحققين، فاضل صالح فقيه.

2- الشيخ علي بن خازن الجابري الحائري، وهو تلميذ الشهيد الأوّل، فاضل عابد صالح.

3- السيد بهاءالدين علي بن عبدالكريم النسابة الحسيني، الفقيه الشاعر صاحب المقامات، وهو تلميذ فخر المحققين.

4- الشيخ علي بن محمّد بن مكي، ابن الشهيد الأوّل يروي عن أبيه، فاضل محقق صالح.


1- روضات الجنات 1: 71.
2- خاتمة مستدرك الوسائل 2: 292.
3- تنقيح المقال 1: 92، رقم 510.

ص: 65

فإذا كانت هذه الثلة الكريمة والكوكبة المباركة قد تلمذ عليها شيخنا المترجم فحريّ به أن يزهو نجمه ويشتهر اسمه في المحافل العلمية.

وهناك جمع من أعلام عصره ممن روى عنهم وأجازوه، منهم:

5- الشيخ علي بن يوسف النيلي.

6- الفاضل المقداد بن عبداللَّه السيوري.

7- الشيخ أحمد بن عبداللَّه بن المتوج البحراني.

تلامذته والراوون عنه:

1- الشيخ زين الدين علي بن هلال الجزائري، عالم فاضل، متكلم.

2- الشيخ زين الدين علي بن محمّد الطائي. الفاضل العالم الفقيه.

3- الشيخ عبد السميع بن فياض الأسدي الحلي، عالم فاضل فقيه متكلم.

4- الشيخ علي بن فضل بن هيكل.

5- الشيخ مفلح بن حسن الصيمري، فاضل علامة فقيه.

6- الشيخ رضي الدين القطيفي.

7- السيد محمّد نور بخش.

8- الشيخ حسن بن علي المعروف ب (ابن العشرة)، فاضل عالم زاهد فقيه.

9- السيد محمّد بن فلاح الموسوي الحويزي، أول سلاطين بني المشعشع في خوزستان.

مصنفاته:

1- اختصار العدة.

2- استخراج الحوادث.

3- أسرار الصلاة.

4- التحصين في صفات العارفين.

ص: 66

5- الحاوي لتحرير الفتاوي.

6- الدر الفريد في التوحيد.

7- الدر النضيد، في فقه الصلاة.

8- رسالة في تعقيبات الصلاة والمسائل الشاميات.

9- رسالة غاية الإيجاز لخائف الإعواز.

10- رسالة كفاية المحتاج في مناسك الحاج. وهي الرسالة التي بين أيدينا.

11- رسالة في معاني أفعال الصلاة وترجمة أذكارها، وتسمى بالوجيزة.

12- رسالة في منافيات نية الحجّ.

13- رسالة نبذة الباغي فيما لابدّ منه من آداب الداعي.

14- رسالة في نيات الحجّ.

15- رسالة في واجبات الصلاة.

16- شرح الإرشاد.

17- شرح الألفية للشهيد.

18- عدّة الداعي ونجاح الساعي.

19- الفصول في الدعوات.

20- اللمعة الجليّة في معرفة النيّة.

21- المحرر في فقه الاثني عشر.

22- المسائل البحرانيات.

23- المسائل الشاميات.

24- مصباح المبتدي وهداية المقتدي.

25- المصباح في واجبات الصلاة ومندوباتها.

26- المقتصر في شرح المختصر.

27- المهذب البارع في شرح المختصر النافع.

ص: 67

28- الموجز الحاوي.

29- الهداية في فقه الصلاة.

30- الأدعية والختوم.

31- تاريخ الأئمة.

32- ترجمة الصلاة في بيان معاني أفعالها وأقوالها.

33- التواريخ الشرعية عن الأئمة المهدية.

34- الخلل في الصلاة.

35- رسالة إلى أهل الجزائر.

36- رسالة في تحمل العبادة عن الغير من الصلاة والصيام والحجّ وغيرها.

37- السؤال والجواب.

38- رسالة في السهو في الصلاة.

39- اللوامع.

40- رسالة في كثير الشك.

41- المقدمات.

42- رسالة في العبادات الخمس، تشتمل على أصول وفروع.

43- رسالة في فضل الجماعة.

44- مسائل ابن فهد.

45- التحرير.

وفاته ومدفنه:

اتفق المؤرخون على أنّ وفاته سنة 841 ه، منها ما قاله السيد بحر العلوم في رجاله: وجدت في ظهر كتاب عدّة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد هكذا: تاريخ تولد ابن فهد 757... تاريخ وفاة ابن فهد 841.

وفي هامشه: قال: وقبر ابن فهد هذا بكربلاء معروف مشهور يزار، وكان

ص: 68

وسط بستان بجنب المكان المعروف بالمخيم، وعليه قبة مبنيّة بالقاشاني، وقد جدد بناؤه في عصرنا، وفتح بجنبه شارع باسمه، وبنيت حوله دور ومساكن، ويقال: إنّ السيد صاحب الرياض الطباطبائي الحائري قدس سره كان في عصره كثيراً ما يتردد إلى قبره ويتبرك به (1).

هذا وقد رثاه جماعة منهم:

الشيخ علي بن جمال الدين بن طي العاملي الفقعاني المتوفى سنة 855 ه.

نحن والرسالة:

هي رسالة في واجبات الحجّ تشتمل على بابين في العمرة والحجّ، تمتاز باختصارها وسلاستها والدقة في التعبيرات العلمية مع الوضوح، ظهرت فيها آراء المصنف، التي تبين عن عمقه العلمي وتبنيه لبعض الآراء التي قد تخالف المشهور أحياناً.

تبيّن هذه الرسالة آراء المصنّف، وعمقه العلمي، وما خالف فيه المشهور أحياناً.

منها ما ذكره في واجبات الإحرام «يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر أو يتوشح به»، وقد ذكرنا في محلّه أنّ النصوص وردت بالارتداء لا التوشح.

ومنها ما ذكره في الطواف: «الاختتان في الرجل المتمكن خاصة»، مع أ نّه لم يرد في النصوص قيد التمكن، وإنّما ذكر هذا القيد قياساً على الصلاة، وقد ذكرنا في محله وجه الفرق بين الصلاة والحجّ.

ومهما يكن فالأمر سهل، وتراث علمائنا الأعلام ملي ء بالأسرار والفوائد الغنيّة، ولا نزال إلى عصرنا هذا عيال عليهم، قدس اللَّه أسرارهم.


1- الفوائد الرجالية 2: 111.

ص: 69

نسبتها وتسميتها:

كل من تعرض لترجمة ابن فهد الحلي ذكرها في مصنفاته، كالسيد الخوانساري (1)، والشيخ يوسف البحراني (2)، والميرزا الأفندي (3)، والسيد الأمين (4)، والشيخ عباس القمي (5).

نعم ربما عبّر بعضهم عنها: بالمناسك الكبير في قبال وجود مناسك صغير، وهو ما قاله آغا بزرك الطهراني في الذريعة (6) في مقام التعريف بمناسك الحجّ الصغير، قال: وهو غير المناسك الكبير الموسوم ب «كفاية المحتاج» ولم يعقد له عنواناً مستقلًا.

نعم عنونه مستقلًا السيد إعجاز حسين النيسابوري في كشف الحجب والأستار: رقم 2662 قائلًا: كفاية المحتاج في مناسك الحاج للشيخ جمال الدين أحمد بن فهد الحلي، المتوفى سنة إحدى وأربعين وثمانمائة. واكتفى بهذا القدر ولم يتعرض إلى بداية ونهاية النسخة.

النسخة المعتمدة:

النسخة الموجودة والتي تم العثور عليها هي واحدة فريدة وهذا مقدار تتبعنا فلم نجد سواها، وهي محفوظة في خزانة مكتبة السيد المرعشي النجفي رحمه الله في قم المقدسة ضمن مجموعة رقم 5601 الفقرة الأخيرة منها، حسنة الخط قليلة الأخطاء، والظاهر أنّ المجموعة بخط واحد، وقد ظهر على فقراتها إجازات لبعض الأكابر مؤرخة ب 851 و 853 تحتوي على 13 ورقة بقياس 5/ 18* 14. مذكور


1- روضات الجنات 1: 72.
2- الكشكول 1: 305، لؤلؤة البحرين: 157.
3- رياض العلماء 1: 66.
4- أعيان الشيعة 3: 148.
5- الفوائد الرضوية: 33.
6- الطهراني، الذريعة 22: 255.

ص: 70

في فهرسها 15/ 3. لم يظهر في نهايتها ما يدلل على اسم ناسخها وتاريخ نسخها.

وقد طبعت ضمن الرسائل العشر في مكتبة السيد المرعشي رحمه الله، 1409 ه.

منهجيّة التحقيق: وبما أ نّها نسخة فريدة فقد اعتمدتها مراجعة وتصحيحاً، وكنت أرجع إلى باقي مصنفات ابن فهد في حلّ بعض الكلمات التي لم تكن واضحة.

وقطّعت النص إلى فقرات مراعياً القواعد المتعارفة لتحقيق النصوص القديمة. ثم تعميقاً للفائدة العلمية علقت على الموارد التي فيها خلاف وبيّنت وجهه، وذكرت بعض الأدلة ليعلم مدركه العلمي الذي أفتى به.

والحمد للَّه أولًا وآخراً أن وفقني لإنجاز هذا العمل، لأكون ممن ساهم في نشر تراث علمائنا الأعلام، وأشكر كلّ من ساعد في إخراجها وأخص بالذكر إدارة مكتبة السيد المرعشي رحمه الله، ومجلة ميقات الحجّ التي آثرت طبع هذه الرسالة مشكورة.

ص: 71

صورة عن الصفحة الأولى من النسخة المعتمدة

ص: 72

صورة عن الصفحة الأخيرة من النسخة المعتمدة

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصلاة على سيّد المرسلين محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فهذه مقدمة تشتمل على الواجبات في الحجّ، وسمّيتها كفاية المحتاج إلى مناسك الحاجّ، وفيها بابان.

الباب الأوّل في العمرة

اشارة

، المتمتع بها، وصورتها: أن يحرم بها من الميقات، ثم يمضي إلى مكة فيطوف بالبيت سبعة أشواط، ثم يصلي ركعتيه في مقام إبراهيم عليه السلام،

ص: 73

ثم يخرج إلى الصفا والمروة فيسعى سبعاً، ثم يقصّر، وبه يحلّ من كلّ شي ء أحرم منه، حتى النساء.

فالبحث حينئذٍ في الأمور الخمسة:

الفصل الأوّل الإحرام:

ولا يصح إلّافي أشهر الحجّ، وهو شوال وذو القعدة وذوالحجة، من أحد المواقيت، وهي:

لأهل العراق العقيق (1) وأفضله المسلخ (2)، وأوسطه غمرة (3)، وآخره ذات عرق (4).

ولأهل المدينة مسجد الشجرة اختياراً، واضطراراً الجحفة (5)، وهي (6) لأهل الشام اختياراً.

ولأهل اليمن يلملم (7).

وللطائف قرن المنازل (8).

ولمن منزله دون الميقات منزله، وهذه المواقيت لأهلها وللمجتاز عليها سواءً كان الإحرام للحج أو العمرة المتمتع به.

وواجباته خمسة: نزع المخيط، وكشف الرأس للرجل، ولبس ثوبين مباحين


1- وهو في اللغة كل وادٍ عقّه السيل، أي شقه فأنهره ووسّعه، وسمّي به أربعة أودية في بلاد العرب، أحدهاالميقات، وهو وادٍ يندفق سيله في غوريّ تهامة. تهذيب اللغة 1: 59.
2- وهو موضع نزع الثياب، وضبطه بعض الفقهاء المسلح ومعناه الموضع العالي. انظر المسالك 1: 103.
3- وهي منهلة من مناهل طريق مكة، وهي فصل ما بين نجد وتهامة. تهذيب اللغة 8: 129.
4- وهو الجبل الصغير، وبه سميت كما في نهاية ابن الاثير 3: 219.
5- منزل بين مكة والمدينة قريب من رابغ بين بدر وخليص، المصباح المنير: 91.
6- والجحفة ميقات اختياري لأهل الشام كما في الصحاح المستفيضة.
7- جبل يقال له: يلملم؛ وهو على مرحلتين من مكة كما في القاموس وغيره. القاموس 4: 179، المصباح المنير، 19.
8- وهو جبل مشرف على عرفات على مرحلتين من مكة، وفي القاموس: إنّه قرية من الطائف.

ص: 74

يصح فيهما الصلاة للمحرم، يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر، أو يتوشح به (1)، ولا يعقدهما، ولا يكفي الواحد مع القدرة (2).

ويشترط فيه الطهارة لا استدامتها بل يستحب أن يطوف فيهما (3).

ويكره غسلهما قبل الطواف، وبيعهما.

ويلحق بالمخيط ما شابهه، كالدرع المنسوج وجبة اللبد (4).

والتلبيات الأربع، وصورتها (5): لبيك اللهمّ لبيك، لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.

والنيّة وصورتها: أحرم بالعمرة المتمتع بها إلى عمرة الإسلام، والبّي التلبيات الأربع لأعقد بها الإحرام المذكور؛ لوجوب ذلك كلّه قربة إلى اللَّه، لبيك اللهمّ لبيك، إلى آخره.

ويحرم عليه الصيد البريّ، وهو كلّ حيوان يبيض ويفرّخ في البرّ، ممتنع محلّل.


1- اتفق فقهاء الطائفة على أنّ المحرم يأتزر بأحد الثوبين، وأما الثوب الآخر فهل يرتديه أم هو مخير بين الارتداءوالتوشح، ذهب العلامة الحلي إلى الأوّل، والشهيدان إلى الثاني. والمراد بالتوشح كما عرفوه، هو تغطية أحد المنكبين. وبالارتداء تغطية كلا المنكبين معاً. وذكر ابن حمزة في الوسيلة: أ نّه لابد في الإزار من كونه ساتراً لما بين السرة والركبة، وبه صرح الشهيد الثاني في المسالك أيضاً. هذا تعريف التوشح اصطلاحاً. وأما لغة: هو عبارة عن إدخال الثوب تحت اليد اليمنى وإلقاء طرفيه على المنكب الأيسر، قال في المغرب: توشح الرجل، وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقيه على منكبه الأيسر، كما يفعل المحرم، وكذلك الرجل يتوشح بحمائل سيفه، ومثله في المصباح المنير. والذي ورد في النصوص هو الرداء لا الوشاح، وقد جرت به العادة في لبسهما هو شد الإزار من السرة ووضع الرداء على المنكبين، والظاهر أ نّه في حال الإحرام كذلك أيضاً. إذن، لا وجه للقول بالتوشح بالرداء، ومجرد ذكر أهل اللغة في بيان التوشح أ نّه كما يفعل المحرم لا يصلح دليلًا، إذ لعله مخصوص بمذهب أبناء العامة المصرحين بذلك.
2- وفي الصحيح: «إذا اضطر المحرم إلى القباء ولم يجد ثوباً غيره فيلبسه مقلوباً ولا يدخل يديه في يدي القباء» الوسائل 12: 486، باب 44 من تروك الإحرام ح 2.
3- أي في الثوبين الذين عقد الإحرام فيهما.
4- لم يرد فيه نص بالخصوص وإنما ألحق بالمخيط لأنّه بمعنى المخيط ومشابه له.
5- وقد أورد المصنف في المهذب البارع صيغ كثيرة للتلبية، والسبب يعود إلى اختلاف النصوص الواردة.

ص: 75

ويلحق به الثعلب، والأرنب، والضب، واليربوع، والعضاة، والقنفذ، وعميد الزنبور، وهوام الجسد، كالقمل، ويجوز نقله لا إلقاؤه.

وكذا يحرم الطيب والنساء وطئاً، ولمساً ونظراً بشهوة، وعقدٌ له ولغيره، وشهادة عليه، وإقامة. والادهان بالدهن، ويجوز أكله مع خلوّه عن الطيب، وإزالة الشعر، وحلق الرأس، وقلع الضرس. وقول لا واللَّه، وبلى واللَّه مطلقاً (1).

وتظليل الرجل سائراً، وقلع شجر الحرم وحشيشه، ويجوز ترك الإبل ترعاه، وتغطية الرأس باليد.

ولابد أن يكون حالة النية عارفاً بأفعاله ومعناه وهو كونه مدخلًا في العمرة مانعاً من المحرمات، وهو ملزم لأحد الفرضين.

الفصل الثاني في الطواف:

وإذا أحرم المعتمر بعمرة التمتع دخل مكة لطوافها. وواجباته اثنا عشر:

الطهارة من الحدث والخبث عن الثوب عدا الاستحاضة.

وستر العورة، والختان في الرجل المتمكن (2) خاصة، والبدأة بالحجر الأسود


1- صادقاً كان أم كاذباً؛ لصحيح أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام: «إذا حلف بثلاثة أيمان متتابعات صادقاً فقد جادل وعليه دم، وإذا حلف بيمين واحدة كاذباً فقد جادل وعليه دم». الوسائل 13: 146 باب 1 من أبواب بقية كفارات الإحرام، ح: 4 و 7.
2- المتفق عليه لدى فقهاء الطائفة أ نّه لا يصح الطواف من غير اختتان، ويدل عليه النصوص الكثيرة، منها صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الأغلف لا يطوف بالبيت، ولا بأس أن تطوف المرأة» الوسائل 13: 270 باب 23 من أبواب مقدمات الطواف حديث 1. إلا أنّ الشهيد الثاني في المسالك 2: 329: جزم بأن الختان إنّما يعتبر مع الإمكان، ولو تعذر ولو بضيق الوقت سقط، وقال سبطه في المدارك 8: 118: ويحتمل قوياً اشتراطه مطلقاً كما في الطهارة بالنسبة إلى الصلاة، هذا ولم يذهب المصنف إلى هذا القول في كتابه المهذب البارع 2: 203، بل اكتفى باشتراط الاختتان في صحة الطواف. وقيد التمكن لم يرد في شي ء من النصوص، وإنّما كان مرجع الشهيد في المسالك إلى أنّ الختان من شروط الصحة كالطهارة وستر العورة بالنسبة للصلاة، وقد تقرر في محله أنّ شروط الصحة إنّما تجب مع الإمكان، لهذا تجب الصلاة عارياً مع تعذر ستر العورة، وفي النجاسة مع تعذر الإزالة. بقي شي ء وهو: أنّ الأخبار بالنسبة إلى شروط الصلاة المذكورة قد صرحت بالوجوب مع عدمها، وأما هنا في الحجّ فلم تصرح بذلك بالنسبة إلى الختان.

ص: 76

والختم به، وجعل البيت على يساره وإدخال الحجر وإخراج المقام وخروجه بجميع يديه عن البيت، فلو وضع يده على جدار الحجر أو الكعبة في موازاة الشاذروان وهو طائف بطل.

والطواف سبعة أشواط، فلو نقص ولو خطوة بطل إن كان عامداً، وإن كان ساهياً أتمه في ا لحال، وإن انصرف فإن تجاوز النصف رجع فأتمه؛ ويستنيب لو رجع إلى أهله، ولو لم يتجاوز النصف استأنفه، ولو عاد إلى أهله وتعذّر الرجوع أمر من يطوف عنه، وكذا يبطل لو زاد عمداً، وإن كان خطوة، ولو كان سهواً فإن كان قبل بلوغه الركن قطع، وإن ذكر عنده أكمله أسبوعاً ندباً.

ويصلي للفريضة قبل السعي (1)، وللندب بعده. ولو شك في عدده بطل. ولو دفعه إنسان فتقدم خطوة أو خطوتين لم يعتد بها ووجب أن يعود إلى حيث كان.

والنية: أطوف طواف العمرة المتمتع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

وتجب مقارنتها لأوّل جزء من الحجر الأسود بحيث يكون أوّل بدئه بأزاء أوّل الحجر حتى يمرّ عليه كلِّه بجميع بدنه مستديماً حكمها إلى الفراغ، ولابد أن يعرف واجباته ويقصدها حال النية.

الفصل الثالث صلاة الركعتين:

بعد الطواف في مقام إبراهيم عليه السلام، ولا يجوز في غيره ولا قدّامه، ولو منعه زحام صلّى وراءه أو في أحد جانبيه (2).


1- أي ويصلي صلاة الطواف قبل السعي إن كان طواف فريضة.
2- دل على جوازه من غير زحام الصحيح والحسن المروي في الكافي 10: 282، الوسائل 13: 433، باب 75 من أبواب الطواف، حديث 2. قال: «رأيت أبا الحسن موسى عليه السلام يصلي ركعتي طواف الفريضة بحيال المقام قريباً من ظلال المسجد». والأصحاب حملوه على كثرة الناس والضرورة خصوصاً إذا لاحظنا الأخبار الناهية عن الصلاة إلّاخلف المقام، منها صحيحة صفوان عمن حدثه عن الصادق عليه السلام قال: «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلّاخلف المقام، لقول اللَّه عزّوجلّ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، فإنّ صليتهما في غيره فعليك إعادة الصلاة». الوسائل 13: 296 باب 72 من أبواب الطواف، حديث 1.

ص: 77

ويجب في كلّ منهما الحمد وسورة كاملة، ويستحب الحمد في الأولى والتوحيد في الثانية، ويتخير في الجهر والإخفات.

ونيّتهما: اصلي ركعتي طواف العمرة المتمتع بها إلى عمرة الإسلام أداءً لوجوبهما قربة إلى اللَّه.

الفصل الرابع في السعي:

ويجب بعد الركعتين، وواجباته أربعة:

البدأة بالصفا: بحيث يلصق عقبيه به (1)، والختم بالمروة بحيث يلصق أصابع قدميه بها.

والنية: أسعى سعي العمرة المتمتع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام لوجوبه


1- هذا مذهب علماء الطائفة في مقابل مذهب بعض أبناء العامة حيث أوجبوا الصعود على الصفا، والدليل على بطلان قولهم أن النبي صلى الله عليه و آله كان يسعى على راحلته، انظر الوسائل 13: 442 باب 81 من أبواب الطواف حديث 2. وذهب الشيخ يوسف البحراني في الحدائق 16: 265 إلى أنّ إلصاق العقبين أيضاً فيه شي ء من التضييق فقال: المفهوم من الأخبار أنّ الأمر أوسع من ذلك، فإن السعي على الإبل الذي دلت عليه الأخبار، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يسعى على ناقته لا يتفق فيه هذا التضييق، من جعل عقبه ملصقة بالصفا في الابتداء، وأصابعه يلصقها بالصفا موضع العقب بعد العود، فضلًا عن ركوب الدرج، بل يكفي فيه الأمر العرفي.

ص: 78

قربة إلى اللَّه.

والسعي: سبعة أشواط من الصفا إليه شوطان، فلو نقص أو زاد ولو خطوة بطل، وكذا لو شك في عدده أو تيقنه وشك فيما به بدأ وهو في المزدوج على المروة.

ولو زاد سهواً تخير بين إلغاء الثامن وتكميل أسبوعين.

ويستحب الطهارة والدعاء خلاله، والمشي طرفيه، والهرولة ما بين المنارة وزقاق العطارين.

ولابد أن يعرف الواجب منه وعدده وقدر المسافة بينهما، ويقصد ذلك حال النية.

الفصل الخامس في التقصير:

ويجب بعد السعي، وواجباته ثلاثة:

النية وصورتها: اقصّر للإحلال من إحرام عمرة المتمتع بها إلى الحجّ عمرة الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

وإيقاعه في محلّه وهو الحرم وأفضله المروة، وأخذ شي ء من أظفاره أو شعر رأسه ولو قدر الأنملة، أو شعر لحيته أو حاجبيه، قصّاً أو قرضاً أو نتفاً أو طلياً بالنّورة.

ولو حلق وجب عليه شاة، ويمرّ يوم النحر الموسى على رأسه وجوباً.

الباب الثاني في الحجّ

اشارة

وصورته: أن يحرم من مكة ثم يمضي إلى عرفات فيقف بها من زوال الشمس يوم عرفة إلى غروبها، ثم يفيض إلى المشعر، فيقف به بعد الفجر، ثم يمضي إلى منى، فيرمي جمرة العقبة، ثم يذبح هديه، ثم يحلق رأسه، ثم يمضي إلى مكة في يومه أو غده، ولا يجوز التأخير عنه للمتمتع اختياراً، ويجزي لو فعل. ويجوز للقارن والمفرد طول ذي الحجة على كراهية، فيطوف للحج ويصلّي ركعتيه، ويسعى للحج ثم يطوف للنساء ويصلّي ركعتيه، ثم يمضي إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق، وهي:

ص: 79

ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ويرمي في هذه الأيام الجمار الثلاث، كلّ جمرة بسبع حصيّات.

فههنا مباحث:

البحث الأوّل في الإحرام:

ويجب بعد فراغ الحاجّ من عمرة التمتع إذا بقي من الزمان ما يحصل فيه الاختياريين (1)، أو أحدهما و الاضطراريين، ويتضيّق مع تضيّقه.

والأفضل أن يكون يوم التروية عقيب فريضة الظهر.

ومحلّه مكة، وأفضلها المسجد وأفضله المقام (2). وواجباته وشروطه ما مرّ في باب العمرة.

ونيّته: احرم بالحج حج التمتع حجّ الإسلام وألبّي التلبيات الأربع لأعقد بها الإحرام المذكور لوجوب ذلك كلّه قربة إلى اللَّه.

ويجب أن يعرف واجباته ويقصدها حال النيّة ولو إجمالًا، ومعناه وهو كونه مدخلًا في الحجّ مانعاً من المحرمات، وهو ملزم لإتمام أحد الفرضين.

البحث الثاني في الوقوف بعرفات:

ولعرفة وقتان:

اختياري، وهو من زوال الشمس يوم عرفة إلى غروبها، وذلك طرف للوقوف، أيّ وقت حضر فيه أدرك الحجّ، فإن حصل بها حين الزوال حرم عليه المفارقة حتى الغروب، فيجب عليه بدنة إن لم يعد قبله.


1- أي الوقوفين الاختياريين.
2- وكذا حِجر إسماعيل، كما يدل عليه قوله عليه السلام في صحيحة عمار: «إذا كان يوم التروية- إن شاء اللَّه تعالى- فاغتسل ثم البس ثوبيك، وادخل المسجد حافياً وعليك السكينة والوقار، ثم صل ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام أو في الحِجر، ثم اقعد حتى تزول الشمس، فصلّ المكتوبة، ثم قل في دبر صلاتك كما قلت حين أحرمت من الشجرة، فأحرم بالحج» الوسائل 12: 408 باب 52 من أبواب الإحرام حديث 1.

ص: 80

ولو عجز صام ثمانية عشر يوماً، ويجوز في السفر، وليس مجموع الكون ركناً، بل الزمان الذي يحصل فيه النيّة، وإن سارت به دابته، ولو مكث إلى الغروب ولم ينو أو نوى قبل الزوال ولم يعده بعده (1)بطل.

واضطراري إلى يوم النحر، فلو فاته نهاراً تداركه ليلًا، والكون الواجب هنا زمان النيّة وحدّها من بطن عُرَنة (2) وثوية (3) إلى ذي المجاز (4)، فلا يجزي الوقوف بغيرها كالأراك (5) ولا بهذه الحدود.

والنيّة: أقف بعرفة وقوف حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

البحث الثالث في الوقوف بالمشعر:

من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس يوم النحر طرف للوقوف، أيّ وقت حضر فيه أدرك الحجّ.

والركن المعتبر زمان الكون الذي يحصل فيه النيّة، ولو رحل قبل طلوع الشمس بعد النيّة في وقته أثم وتمّ حجّه، ولو رحل قبل طلوع الفجر بعد أن كان به ليلًا ناوياً صح حجه إن كان وقف بعرفة، وجبره بشاة، ولو كان ناسياً أو خائفاً أو امرأة لم يكن عليه جبر.

ولو لم يقف به ليلًا ولا بعد الفجر عامداً بطل، وغيره يتدارك إلى الزوال.


1- أي لم يعد الوقوف المتقوم بالنية بعد الزوال.
2- هذا أحد حدود عرفة وقد ورد في الأخبار أ نّها بطن عُرَنة، وفي اللغة قال المطرزي: وادٍ بحذاء عرفات، وبتصغيرها سمّيت عرينة، وهو قبيلة ينسب إليها العرنيون، وقال السمعاني: إنّها وادٍ بين عرفات ومنى. انظر الرياض 6: 344.
3- المعروف والثابت لدى فقهاء الطائفة أ نّه حدّ لعرفات وليس منها، وأمّا معناه فلم نعثر له على معنى في كتب اللغة، نعم عبر عنه في الصحاح أ نّه موضع.
4- قيل: هو سوق كانت على فرسخ من عرفة بناحية كبكب. الرياض 6: 344.
5- فعرنة وثوية ونمرة وذي المجاز والأراك كلها حدود لعرفات وليست منها، فلا يجزي الوقوف فيها، وعليه إجماع الطائفة ويشهد له عدة نصوص منها موثق...: «واتق الأراك، ونمرة وهي بطن عرنة وثوية، وذا المجاز، فإنّه ليس من عرفة فلا تقف فيه». الوسائل 13: 532 باب 6 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة حديث 6.

ص: 81

ويستحب النّية ليلًا وينوي بها الوجوب، ويجب إعادتها بعد الفجر، وفائدتها الثواب والأجر ولو أفاض ناسياً أو عامداً.

وصفتها: أقف بالمشعر وقوف حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه وحده، ما بين المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر.

ويكره الارتفاع إلى الجبل مع عدم الزحام.

ويدرك الحجّ بإدراك الاختياريين والاضطراريين، وبإدراك الاختياري الواحد خاصة.

البحث الرابع في مناسك منى يوم النحر:

وإذا أفاض من المشعر وجب عليه المضي إلى منى ليقضي مناسكه بها يوم النحر، وهي ثلاثة: رمي جمرة العقبة، ثم الذبح، ثم الحلق، مرتباً ويأثم لو خالف ويجزي.

أما الرمي فيجب فيه النية، وصفتها: أرمي جمرة العقبة في حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

وإصابة الجمرة بفعله بما يسمى حجراً، من الحرم، أبكاراً، بأقل ما يسمى رمياً.

ويستحب التباعد من عشرة أذرع إلى خمسة عشر ذراعاً، والطهارة، والدعاء.

وأمّا الذبح: فيجب على المتمتع من الأنعام الثلاثة ثنياً وهو من الإبل ما دخل في السادسة، ومن البقر والمعز ما دخل في الثانية، ومن الضأن ما كمل له سبعة أشهر، تام الخلقة، فلا تجزي العوراء ولا العرجاء ولا العضباء ولا المقطوعة الأذن- ويجزي مشقوقها- ولا الخصي ولا المهزول- وهو ما ليس على كليتيه شحم- نعم لو ظنه سميناً فخرج هزيلًا أجزأ (1) بخلاف ما لو ظهر ناقصاً.


1- وإنّما يجزي لو ظهر هزيلًا بعد الذبح لورود النصّ فيه ولولاه لما أجزأ، وقد دلت عليه الصحاح منها: «إن اشترى الرجل هدياً وهو يرى أ نّه سمين أجزأ عنه وإن لم يجده سميناً، ومن اشترى هدياً وهو يرى أ نّه مهزول فوجده سميناً أجزأ عنه، وإن اشتراه وهو يعلم أ نّه مهزول لم يجز عنه» الوسائل 14: 113 باب 16 من أبواب الذبح حديث 2.

ص: 82

ويأثم لو أخره عن يوم النحر، ويجزي طول ذي الحجة (1).

ونيّته: أذبح هذا الهدي عن الواجب عليّ في حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ويجوز أن يستنيب، فيقول النائب: أذبح هذا الهدي عن فلان عن الهدي الواجب عليه في حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه، ولو كان المنوب حاضراً نوى أيضاً احتياطاً.

ويقسّم ثلاثة أقسام، قسم يأكله، وقسم يهديه، وقسم يتصدق به، ولا يجزي لو أهدى أو تصدق بأقلّ من الثلث، ويجزي في الأكل.

ونيته: آكل من الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ونيّة الإهداء: أهدي ثلث الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ونيّة الصدقة: أتصدق بثلث الهدي الواجب عليّ في حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ويجب شراؤه وإن كان غالياً ما لم يتضرر ببذل ثمنه، وحينئذٍ يلزم الصوم عوضاً عنه، وهو ثلاثة أيّام الحجّ متواليات (2)- ويتضيق في ذي الحجة، ولو خرج ولم يصمها تعين الهدي في القابل- وسبعة إذا رجع إلى أهله، ولا يشترط


1- فيمن أخره لعذر يجزي ء للصحيح: «في رجل نسي أن يذبح بمنى حتى زار البيت فاشترى بمكة ثم ذبح، قال: لا بأس قد أجزأ عنه» الوسائل 14: 156 باب 39 من أبواب الذبح حديث 5.
2- إجماعاً مصرحاً به كما في المنتهى 2: 743، وغيره للنصوص، منها موثق إسحاق بن عمّار: «لا يصوم الثلاثةالأيام متفرقة» الوسائل 14: 198 باب 53 من أبواب الذبح حديث 1، والصحيح المروي عن قرب الأسناد انظر الوسائل 14: 196 باب 52 من أبواب الذبح حديث 4.

ص: 83

فيها التتابع (1).

والنية في كلّ يوم: أصوم غداً عوضاً عن هدي حج التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ولو وجد ثمنه وفقد عينه خلّفه عند من يذبحه عنه طول ذي الحجّة (2)، وعلى النائب قسمته كالمالك، في الأكل والصدقة والإهداء.

وأمّا الحلق: فيجب بعد الذبح، وهو أفضل للرجل، ويجزيه التقصير، ويتعين على المرأة أصالة ونيابة، ويتخير النائب عنها، ويجزي قدر الأنملة، وبه يحل من كلّ شي ء أحرم منه إلّاالطيب والنساء، وهو التحلل الأوّل للمتمتع، ومحلّه منى، ولو رحل قبله عاد له، فإن تعذر حلق أو قصر مكانه.

ونيته: أحلق أو أقصّر حلق أو تقصير حج التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ويجب تقديمه على طواف الحجّ، ولو أخره عامداً جبره بشاة (3)، ولا شي ء على الناسي بل يعيد الطواف (4).


1- في المنتهى: لا يعرف فيه خلاف، وللأصل، وإطلاق الأمر، وصريح الخبر قال: «إني قدمت الكوفة ولم أصم السبعة الأيام حتى فزعت في حاجة إلى بغداد، قال: صمها ببغداد، قلت: أفرقها؟ قال: نعم». الوسائل 14: 200، باب 55 من أبواب الذبح حديث 1.
2- للصحيح الصريح عن أبي عبداللَّه عليه السلام «في متمتع يجد الثمن ولا يجد الغنم، قال: يخلف الثمن عند بعض أهل مكة ويأمر من يشتري له ويذبح عنه وهو يجزى ء عنه، فإن مضى ذو الحجة أخر ذلك إلى قابل من ذي الحجة». الوسائل 14: 176 باب 44 من أبواب الذبح، حديث 1.
3- للصحيح: «في رجل زار البيت قبل أن يحلق، فقال، إن كان زار البيت قبل أن يحلق وهو عالم أنّ ذلك لا ينبغي فإنّ عليه دم شاة». الوسائل 14: 215 باب 2 من أبواب الحلق والتقصير حديث 1.
4- هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب كما في المدارك 8: 93 مشعراً بدعوى الوفاق، إلّاأنّ ظاهر عبارة المحقق في الشرائع والعلّامة في المختلف وغيرهما تشير إلى وجود الخلاف من الصدوق في الفقيه 2: 505، حديث 3091 في وجوب إعادة الطواف لروايته الصحيح: «عن الرجل يزور البيت قبل أن يحلق، قال: لا ينبغي إلّاأن يكون ناسياً ثم قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتاه أناس يوم النحر، فقال بعضهم: يا رسول اللَّه إني حلقت قبل أن أذبح، وقال بعضهم: حلقت قبل أن أرمي، فلم يتركوا شيئاً كان ينبغي أن يؤخروه إلّاقدموه، فقال: لا حرج». الوسائل 14: 155 باب 39 من أبواب الذبح حديث 4. وهذا لا يفهم منه وجوب الإعادة بل ظاهر في عدم وجوبها.

ص: 84

البحث الخامس في طواف الحجّ:

ويمضي بعد الحلق أو التقصير إلى مكة لطواف الزيارة وواجباته ما تقدم (1).

ونيّته: أطوف طواف حجّ التمتع حجّ الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه، ثم يصلي ركعتيه في مقام إبراهيم عليه السلام.

وصورة نيتها: اصلّي ركعتي طواف حجّ التمتع حج الإسلام لوجوبهما قربة إلى اللَّه، وكيفيتهما كما تقدم.

وبهذا الطواف يحلّ من الطيب وهو التحلّل الثاني.

البحث السادس في السعي:

ويسعى بعد الطواف للحجّ، فيقول: أسعى سعي حجّ التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه، وواجباته ما مرّ.

البحث السابع في طواف النساء:

ويجب بعد سعي الحجّ، فيقول: أطوف طواف النساء الواجب عليّ في حجّ التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه، ثم يصلّي ركعتيه في المقام.

ونيتهما: اصلي ركعتي طواف النساء الواجب عليّ في حجّ التمتع حج الإسلام


1- في أحكام العمرة.

ص: 85

لوجوبه قربة إلى اللَّه، وبه يحلّ من النساء، وهو التحلّل الثالث.

البحث الثامن في العود إلى منى:

ويجب بعد طواف النساء الرجوع إلى منى ليبيت بها ليالي التشريق، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وهو النفر الثاني. ولكلّ أحد أن ينفر فيه مطلقاً، ولا ينفر في الأوّل إلّا المتقي (1) بعد الزوال قبل الغروب، فيدفن حصى الثاني ندباً.

ولو أهمل المبيت في الليلة الواجبة لزمه شاة، إلّاأن يكون بمكة مشتغلًا بالعبادة أو يخرج من منى بعد انتصاف الليل.

والنية في كلّ ليلة: أبيت هذ الليلة بمنى المبيت الواجب عليّ في حجّ التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ويجب رمي الجمار الثلاث في كلّ يوم، يبدأ في الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة.

وينوي فيقول: أرمي هذه الجمرة الرمي الواجب عليّ في حج التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ووقت الإجزاء من طلوع الشمس، وللفضيلة من الزوال، ويمتدان إلى الغروب، ولو غربت أخّره وقضاه من الغد مقدماً له على الحاضرة وجوباً ولو حصاة، والأفضل أن يكون قبل الزوال.

ونيّته: أرمي هذه الجمرة قضاءً عن الرمي الواجب عليّ في حج التمتع حج الإسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

وللعبد والراعي والخائف الرمي ليلًا، ورُمي عن المعذور. ولو نسيه رجع فأتى به فإن فات زمانه فلا شي ء ويقضيه في القابل ويستنيب إن لم يحج.

وشرائط الرمي هنا كما مر.

وليكون هذا آخر المقدمة والحمد للَّه رب العالمين (2).


1- أي في الثاني عشر من ذي الحجة، لمن اتقى الصيد والنساء.
2- هذا آخر النسخة ولم تذيل بما يدل على اسم كاتبها وتاريخ كتابتها.

ص: 86

مصادر التحقيق:

1- أعيان الشيعة- للسيد محسن الأمين، دار التعارف، بيروت.

2- أمل الآمل- للشيخ الحر العاملي، مكتبة الأندلس، بغداد.

3- تهذيب اللغات- لمحي الدين النووي، دار الكتب العلمية، بيروت.

4- تنقيح المقال- للشيخ المامقاني، دار الكتب الإسلامية، طهران.

5- الحدائق الناضرة- للشيخ يوسف البحراني، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم.

6- خاتمة المستدرك- للمحقق النوري الطبرسي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

7- روضات الجنات- للميرزا باقر الخوانساري، مؤسسة إسماعيليان، قم.

8- رياض العلماء- للميرزا الأفندي، مكتبة المرعشي النجفي، قم.

9- شرائع الإسلام- للمحقق الحلي، مؤسسة الوفاء، بيروت.

10- الفوائد الرجالية- للسيد مهدي بحر العلوم، مكتبة الصادق، طهران.

11- الفوائد الرضوية- للشيخ عباس القمي، نشر كوكب، طهران.

12- كشكول البحراني- للشيخ يوسف البحراني، منشورات الشريف الرضي، قم.

13- الكنى والألقاب- للشيخ عباس القمي، قم.

14- لؤلؤة البحرين- للشيخ يوسف البحراني، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

15- مختلف الشيعة- للعلامة الحلي، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم.

16- مدارك الأحكام- للسيد محمّد العاملي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

17- مسالك الأفهام- للشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم.

18- المصباح المنير- للفيومي، دار الهجرة، قم.

19- مقابيس الأنوار- للمحقق التستري، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

ص: 87

20- منتهى المطلب- للعلامة الحلي، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد.

21- منتهى المقال- لأبي علي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

22- من لا يحضره الفقيه- للشيخ الصدوق، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين، قم.

23- المهذب البارع- لابن فهد الحلي، مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين.

قم.

24- نامه دانشوران- للملا أبو الحسن الطهراني، طهران.

25- النهاية في غريب الحديث- إبن الأثير، مؤسسة، إسماعيليان، قم.

26- وسائل الشيعة- للشيخ الحر العاملي، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.

ص: 88

التصرف المعجز عن بقاء الاستطاعة

اشارة

الشيخ جعفر السبحاني

إنّ لفتح الذارئع في الفقه السني، والحيل الشرعية في الفقه الشيعي، دوراً بارزاً في إثبات الحكم الشرعي ونفيه، وقد طرحه فقهاء السنة في فصل خاص باسم «فتح الذرائع»، كما طرحها فقهاء الشيعة في آخر كتاب الطلاق (1)، والنزاع بين المجوّزين والمانعين من كلا الفريقين على قدم وساق.

والتصرف في المال، تصرفاً معجزاً عن بقاء الاستطاعة للحجّ من فروع هذه القاعدة، ونحن ندرسها على ضوء الأدلة الشرعية فنقول:

يقع الكلام في مقامات ثلاثة:

1. حرمة التصرف المعجز وجوازه تكليفاً.

2. لو قلنا بالحرمة فما هو حد التصرف المعجز الحرام، تكليفاً؟

3. صحّة التصرّف أو بطلانه وضعاً.

وإليك الكلام فيها، واحد تلو الآخر.


1- انظر الشرائع وشرحه مسالك الأفهام، والحدائق والجواهر، آخر كتاب الطلاق، ترى فيها بحثاً ضافياً حول القاعدة.

ص: 89

الأوّل: هل يحرم التصرّف المعجز؟

إذا حصلت الاستطاعة بعامة شرائطها، فهل يجوز للمستطيع أن يُعجز نفسه بالتصرّف في ماله، بنحو الهبة والوقف وغير ذلك أو لا؟ الظاهر كون الحرمة أمراً مفروغاً عندهم.

ولكن هنا إشكالًا وهو: أنّ وجوب الحجّ وجوب مشروط، والواجب المشروط لايقتضي حفظ شرطه، فكما لا يقتضي إيجاده حدوثاً، لا يقتضي وجوب إبقائه بقاءاً.

وقد أجيب عن الإشكال بالفرق بين قول: «المستطيع يجب عليه الحجّ»، وقول: «من استطاع إليه سبيلًا»، فإنّ الأوّل ظاهر في إناطة الحكم بالوصف حدوثاً وبقاءً، دون الثاني فهو ظاهر في كفاية وجود الشرط حدوثاً، ونظيره ما إذا قيل: «إذا سافر وجب عليه القصر»، فإنّه يكفي في ترتب الحكم، تحقّق السفر آناً ما فيبقى الحكم وإن زال السفر، بخلاف ما إذا قيل: «المسافر يجب عليه القصر»، إذ عندئذٍ يكون الحكم منوطاً بالسفر حدوثاً وبقاءً (1).

يلاحظ عليه: أنّ ما استظهره من أنّه إذا تعلّق الحكم بالمشتقّ، يشترط في حمل المحمول بقاء الموضوع حدوثاً وبقاءً، منقوض بقوله سبحانه: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ» (2)

و «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» (3)، وغيرهما من عناوين الضارب، والقاتل، والسالب التي يكفي في صحّة إطلاقها، تلبّس الذات حدوثاً لابقاءً، وادّعاء وجود القرينة على كون التلبس فيها بالحدوث دون البقاء، غير صحيح في عامة الموارد، كآكل مال الغير وشارب مائه، أو لابس ثيابه، وهاتك حرمته، إلى غير ذلك من الموارد التي يكفي فيها التلبّس حدوثاً ولا يلزم التلبّس بقاءً.


1- المستمسك: 10: 106- 107 بتصرف.
2- المائدة: 38.
3- النور: 2.

ص: 90

والأولى أن يقال: إنّه إذا حصل عنده ما يكفيه للحجّ، فوجوب الحجّ عندئذٍ إمّا وجوب معلّق أو وجوب مشروط.

فعلى الأوّل، الوجوب فعليّ منجّز، غاية الأمر زمان الواجب متأخّر، ومعه كيف يمكن له تعجيز نفسه بعد فعلية الوجوب وتنجزه؟!

الظاهر عدم وجوب حفظ المال للسنة القادمة مع عدم تمكّنه في العام الأوّل وفاقاً للمشهور

وعلى الثاني، فالوجوب وإن كان مشروطاً، لكن الواجب المشروط- بعد حصول شرطه- ينقلب إلى واجب مطلق، وليس المراد أنّ الحكم الكلّي، أعني قوله سبحانه: «وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» (1)، ينقلب إلى الواجب المطلق، لوضوح بطلانه، بل الحكم الجزئي في حقّ من استطاع، يكون منجزاً، فلا يخاطب بقوله: إذا استطعت فحجّ، بل يقال له: أيّها المستطيع حجّ.

بل لو أنكرنا انحلال الحكم الكلي إلى أحكام جزئية، كما هو المختار، فهو يكون عند العقل محكوماً بوجوب الحجّ، بلا شرط، ويكفي ذلك في عدم جواز التعجيز؛ لأنّه يهدم ما يستقلّ به العقل بلا شرط.

الثاني: ما هو حدّ حرمة التعجيز؟

قد عرفت أنّ حرمة التعجيز أمر مفروغ عنه، فعندئذٍ يقع الكلام في حدّها، فهناك أقوال:

1. يجوز قبل خروج الرفقة ولايجوز بعده. وهذا هو المعروف.

2. يجوز قبل التمكّن من السير ولايجوز بعده. وهذا هو خيرة السيد اليزدي في العروة الوثقى، والسيد الحكيم، وإن تردّد في آخر كلامه.


1- آل عمران: 97.

ص: 91

3. ما حكاه السيد الحكيم عن بعض الأعاظم [المحقّق النائيني] في حاشيته على العروة، من أنّه لا يجوز إذهاب المال في أشهر الحج وإن لم يتمكّن من المسير.

4. لا يجوز مطلقاً، لاقبل خروج الرفقة ولا بعده، لا قبل التمكّن من السير ولابعده، لاقبل دخول أشهر الحجّ، ولا بعده. وهو خيرة المحقّق الخوئي، ويمكن إرجاع القول الأوّل إلى الثاني، لأنّ التمكّن من المسير في الأزمنة السابقة كان مقروناً بخروج الرفقة.

كما أنّ القول الثالث غير واضح، لأنّه إذا دخل شوال ولم يتمكّن من السير- على القول بأنّ الميزان هو التمكّن في عام الاستطاعة- يكشف عن أنه لم يكن مستطيعاً، فلا يجب عليه الحجّ ولايجب حفظ الاستطاعة.

والمهم هو القول الثاني والرابع.

ولنذكر كلمات القوم، وهم بين من عنون المسألة مستقلةً، كالعلّامة في المنتهى والتذكرة، والشهيد في الدروس؛ وبين مَن أشار إليها في مورد خاص، وهو فيما إذا دار الأمر بين الحجّ والنكاح، كالأردبيلي في شرح الإرشاد، وصاحب المدارك، وصاحب كشف اللثام، وصاحب الجواهر. وإليك ما وقفنا عليه من الكلمات:

1. قال العلّامة: لو كان له مال فباعه قبل وقت الحجّ مؤجّلًا إلى بعد فوته، سقط الحجّ؛ لأنّه غير مستطيع، وهذه حيلة يتصور ثبوتها في إسقاط فرض الحج على الموسر، وكذا لو كان له مال فوهبه قبل الوقت، أو أنفقه، فلما جاء وقت الخروج كان فقيراً، لم يجب عليه وجرى مجرى من أتلف ماله قبل حلوله (1).

2. وقال في «التذكرة»: لو كان له مال فباعه نسيئة، عند قرب وقت الخروج إلى أجلٍ يتأخر عنه، سقط الفور في تلك السنة عنه؛ لأنّ المال إنّما يعتبر وقت خروج الناس، وقد يتوسّل المحتال بهذا إلى دفع الحج (2).


1- المنتهى 2: 653.
2- التذكرة 7: 59- 60.

ص: 92

3. وقال في «الدروس»: ولا ينفع الفرار بهبة المال أو إتلافه أو بيعه مؤجلًا، إذا كان عند سير الوفد (1).

4. قال المحقّق الأردبيلي في شرح قول العلّامة: «ولا يجوز صرف المال في النكاح وإن شق تركه»: واعلم أنّ الظاهر أنّ المراد بذلك وجوب الحجّ وتقديمه على النكاح، وعدم استثناء مؤونته من الاستطاعة، وكون ذلك في زمان وجوبه وخروج القافلة وتهيّؤ أسبابه، وإن كان قبله يجوز (2).

5. وقال في «المدارك» في نفس المسألة: ولا يخفى أنّ تحريم صرف المال في النكاح إنّما يتحقّق مع توجّه الخطاب بالحجّ وتوقّفه على المال، فلو صرف فيه قبل سفر الوفد- الذي يجب الخروج معه- أو أمكنه الحجّ بدونه، انتفى التحريم (3).

6. قال في «كشف اللثام عن قواعد الأحكام»: (ويصرف المال) الكافي لمؤونة الحجّ (إلى الحجّ، لا إلى النكاح) عند خروج الوفد (4).

7. قال في «الجواهر» في نفس المسألة: ولا يخفى أنّ تحريم صرف المال في النكاح إنّما يتحقّق مع توجّه الخطاب بالحجّ وتوقّفه على المال، فلو صرف فيه قبل سير الوفد الذي يجب الخروج معه أو أمكنه الحجّ بدونه انتفى التحريم قطعاً (5).

إذا عرفت ذلك فلندرس الأقوال:

أمّا القول الثالث، أعني: كون الميزان هو «أشهر الحجّ»، فهو غير تام؛ لأنّ أشهر الحجّ ظرف الواجب حيث لا تصحّ عمرة التمتع إلّافي هذه الأشهر الثلاثة، كما لا يصحّ الإتيان بمناسك الحجّ إلّافي الشهر الأخير من هذه الثلاثة.


1- الدروس 1: 267.
2- مجمع الفائدة والبرهان 6: 74.
3- المدارك 7: 45.
4- كشف اللثام 5: 98، والعبارة ممزوجة مع متن القواعد، وقد فرزنا المتن عن الشرح بالأقواس الصغيرة.
5- الجواهر 17: 261.

ص: 93

كما أنّ القول الثاني يرجع إلى الأوّل، فيدور الأمر بين تحديده بنفس السنة، أو عدم تحديده بزمان خاص، فلو حصل عنده مال يكفيه للحج، ولا يتمكّن من المسير في نفس السنة، لكن يتمكّن منه في السنة الثانية أو الثالثة، فهل يجوز تفويت المال، أو لا؟ المشهور على الأوّل، والسيد المحقّق الخوئي على الثاني.

الظاهر هو الأول، لأنّ تكرار العمل في كلّ سنة، يشكّل قرينة على تحديد وجوب الحفظ بنفس السنة، من غير فرق بين كون الوجوب مشروطاً أو معلّقاً؛ فإنّ إيجاب مناسك العمرة والحجّ في كلّ سنة يصير قرينة على لزوم حفظ الاستطاعة بالنسبة إلى نفس السنة، لا السنوات الأُخرى، نعم الأحوط حفظها بلاتحديد بسنة خاصة.

الثالث: في صحّة التصرّف وعدمه

لا شكّ أنّ التصرّف في المال الذي حصلت الاستطاعة به حرام؛ لاستلزامه تعجيز النفس عن إتيان واجب فعلي منجّز، إنّما الكلام في الحرمة الوضعيّة، بمعنى بطلان التصرّف، فقد اختار السيد في العروة الوثقى بطلانها إذا كانت الغاية الفرار

ص: 94

من وجوب الحجّ.

لكن التفصيل المذكور ليس بتام، لأنّ التوصّل إلى الحرام لايوجب بطلان المعاملة، لأنّ النهي متعلّق بأمر خارج عن المعاملة سبباً ومسبباً، وهو التفويت أو التعجيز، وهذا نظير النهي عن البيع وقت النداء، فإنّه في الحقيقة متعلّق بتفويت صلاة الجمعة، سواء أكان بالبيع أم بغيره.

حتّى ولو افترضنا تعلّق النهي بالبيع بما أنّه الجزء الأخير من مقدّمة الحرام، فالنهي لا يكشف إلّاعن المبغوضية وهو لا يكون دليلًا على الفساد.

نعم لو كان النهي إرشاداً إلى الفساد كما في قوله: «لا تبع ما ليس عندك»، أو كان متعلّقاً بأثر المعاملة كالتصرف في الثمن والمثمن، على نحو لاتجتمع حرمة التصرف في أحدهما، مع صحّة المعاملة، يكون دليلًا على الفساد، نحو قوله: ثمن العذرة سحت، أو ثمن المغنية سحت.

وأما في غيرهما، فلا دليل على البطلان.

ص: 95

فقهيات معاصرة في الحج «2» موضع مقام إبراهيم (1)

الشيخ محمد القائيني

من جملة المسائل المطروحة- وإن كانت بعدُ غير داخلة في ابتلاء المكلفين- وظيفة المسلمين في صلاة الطواف إذا غيّر المقام من موضعه الفعلي؛ فهل الواجب هو الصلاة خلف المقام حيثما كان؟ أو أن الواجب هو الصلاة في الموضع الفعلي للمقام؛ حتى أنه لو ازيل المقام من موضعه الفعلي وجبت الصلاة في موضعه؛ لا حيث نقل إليه؟

وهناك احتمال ثالث يجمع بين الأمرين، وهو كون الواجب هو الصلاة في موضعه الفعلي مع اشتراط كون المقام فيه بنحو شرط الواجب لاشرط الوجوب؛ استناداً إلى ما تضمن الأمر بجعله إماماً فلو ازيل المقام من موضعه وجب ردّه إليه.

واحتمال رابع وهو وجوب الصلاة في موضعه الأصلي مع اشتراط ردّ المقام إلى ذلك الموضع بنحو شرط الواجب؛

وحيث يكون الاحتمال الثالث مساوقاً لاحتمال عدم جواز تغيير المقام من موضعه ولو بجعله في ناحية من نواحي المسجد فلا مناص من دراسة هذه المسألة أوّلًا، أعني حكم تغيير المقام من موضعه الفعلي؛ ثم البحث عن حكم الصلاة على

ص: 96

تقدير التغيير. كما أنه بالغض عن حكم الصلاة هي في نفسها مسألة ينبغي البحث عنها كما سنشير إن شاء اللَّه إلى حكم اشتراط الطواف بكونه بين البيت والمقام أو أن الشرط- على تقديره- هو الطواف بين البيت وموضع المقام. فنقول- بعد التوكل على اللَّه-:

المقام الذي ورد في النصوص والروايات هو: الصخرة الّتي عليها أثر قدمي إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه السلام؛ وعلى أساس هذا ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام وجوب صلاة الطواف خلف المقام أو عنده؛ خلافاً لأهل السنّة أو بعضهم حيث لا يعتبرون كون الصلاة عند المقام، بل يكتفون بالصلاة في أيّ موضع من المسجد وكأنّهم يوسّعون المقام الّذي قال تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى»؛ ويرون أن المسجد بتمامه مقام إبراهيم؛ لا خصوص الصخرة المشار إليها؛ وعليه فلا موضوعيّة في الصخرة عندهم للصلاة؛ وإنما الصّخرة هي مجرد شعيرة شأنها للصلاة شأن الصفا والمروة.

ثم إن المستفاد من التواريخ والآثار أن الموضع الفعلي للصخرة التي هي المقام كان بفعل عمر، وأنّه حوّل الصخرة إليه بعد أن كانت الصخرة قبله ملاصقة للبيت أو كان بينها وبين البيت ممرّ عنز أو كانت مشدودةً بأستار البيت؛ حسب اختلاف النقل.

والظاهر اتفاق المؤرخين على ذلك، أعني كون الوضع الفعلي للمقام بفعل عمر بعد أن كان المقام قبله ملاصقاً للبيت؛ وفي شفاء الغرام نسبه إلى المشهور.

وإنّما اختلفوا في أن المقام أعني الصخرة حينما كان ملاصقاً للبيت هل كان ذلك موضعه الأصلي وأن النبي إبراهيم عليه السلام جعله هناك وكذلك كان في عصر النبي محمد صلى الله عليه و آله وأبي بكر وشطر من خلافة عمر ثم أمر عمر بتغيير موضع المقام، فموضعه الفعلي ليس هو موضعه الأصلي بل هو موضعه في عصر الجاهلية، وقد ردّه النبي صلى الله عليه و آله لاحقاً للبيت إلى أن حوّله عمر إلى موضعه الفعلي.

ص: 97

أو أن الموضع الأصلي للمقام منذ عهد إبراهيم وحتى عصر النبي محمد صلى الله عليه و آله كان هو موضعه الفعلي وإنّما ذهب السيل بالمقام في عهد عمر فاخذ والصق بالبيت حفاظاً عليه حتّى ردّه عمر إلى موضعه الفعلي في بناء محكم.

أو أن موضعه الفعلي هو محلّه منذ زمن إبراهيم إلّاأن أهل الجاهلية ألصقوه بالبيت خوفاً من السيل حتى حوّله عمر إلى موضعه الفعلي؟

وقد صرح في جملة من التواريخ والنصوص من الفريقين بالأوّل. ولكن المتراءى من التاريخ السنّي هو الانحياز إلى الثاني والإصرار على كون فعل عمر مطابقاً لجعل المقام في موضعه الأصلي، وأنه موضعه فعلًا حتى لا يؤخذ على عمر أنه خالف ما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من جعل المقام ملاصقاً للبيت؛ خلافاً لعدّة من محققيهم قديماً وحديثاً حيث اختاروا ما تضمنته نصوص الشيعة، وإليه ذهب علماؤهم من أن عمر هو الّذي حوّل المقام من موضعه إلى موضعه الحالي.

وقد صرح غير واحد من أهل الخبرة بالتاريخ والسير من علماء الفريقين بكون الموضع الفعلي للمقام إبداعاً من عمر.

قال الشهيد الثاني في المسالك: قد كان- يعني المقام- في زمن إبراهيم عليه السلام ملاصقاً بالبيت بحذاء الموضع الّذي هو فيه الآن ثم نقله النّاس إلى موضعه الآن؛ فلما بعث النّبي صلى الله عليه و آله ردّه إلى موضعه الّذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام؛ فما زال فيه حتّى قبض وفي زمن الأوّل وبعض زمن الثاني؛ ثمّ ردّه بعد ذلك إلى الموضع الّذي هو فيه الآن (1).

وقال العلّامة المجلسي في البحار في عداد ما يطعن به على عمر أنه أبدع في الدين بدعاً كثيرة ... ثم ذكر أموراً؛ إلى أن قال:

ومنها: تحويل المقام من موضعه كما ورد في كثير من أخبارنا. وقال ابن أبي الحديد: قال المؤرخون: إن عمر أوّل من سنّ قيام شهر رمضان في جماعة وكتب به


1- المسالك 22: 337.

ص: 98

إلى البلدان. وأوّل من ضرب في الخمر ثمانين. وأحرق بيت رويشد الثقفي- وكان نباذاً- وأوّل من عسّ في عمله بنفسه وأوّل من حمل الدرّة وأدّب بها وقيل بعده:

كان درّة عمر أهيب من سيف الحجّاج. وأوّل من قاسم العمّال وشاطرهم أموالهم.

وهو الذي هدم مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وزاد فيه، وأدخل دار العباس فيما زاد وهو الذى أخّر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت...

وقد أشار إلى تحويل المقام صاحب الكشّاف (1).

وممن صرح بكون وضع المقام في المكان الفعلي هو من عمر مخالفاً لما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والد العلّامة المجلسي في الروضة؛ قال: لكن أتباع عمر ضبطوا بدعته وعلّموا على الموضع الذي كان في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن جعلوا موضع المقام منخفضاً في الأرض ويسمّونه الجهلة الآن بمقام جبرئيل عليه السلام، روي في أخبار كثيرة وأن صاحب الأمر صلوات اللَّه عليه حين يخرج يجعله في المكان الذي وضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقبله إبراهيم عليه السلام (2).

ومن المصرّحين من كبار علماء أهل السنّة بكون موضع المقام ملاصقاً للبيت في عهد النبي صلى الله عليه و آله وأن موضعه الفعلي من صنع عمر هو ابن كثير في تفسيره قال:

قد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً؛ ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب ممّايلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلّة هناك؛ وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة؛ أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا- واللَّه أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخّره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أحد الأئمّة المهديين والخلفاء الراشدين الذين امرنا باتباعهم... إلى أن قال: ولهذا لم ينكر أحد من الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين (3).


1- بحارالأنوار 31: 32؛ وفي تعليقه الإشارة، إلى الكشاف، 1: 185 ذيل آية المقام في سورة البقرة: 125.
2- روضة المتقين 4: 133، كتاب الحج، فضل الكعبة والحرم.
3- تفسير ابن كثير 1: 170 ضمن قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. البقرة: 125.

ص: 99

ثم استدل ابن كثير لما ذهب إليه بجملة من النصوص تعرضنا لها ضمن الأدلة؛ ثم قال: فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه واللَّه أعلم.

وقال ابن كثير في بيان وجه تأخير عمر للمقام: وقد كان المقام ملتصقاً بجدار البيت حتى أخّره عمر بن الخطاب في أمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطوّاف منه ولا يشوّشون على المصلّين عنده بعد الطواف؛ لأن اللَّه قد أمرنا بالصلاة عنده (1).

وممن ذهب إلى كون المقام ملصقاً بالبيت في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأن عمر هو الذي أبدع في تحويله، ابن حجر في فتح الباري؛ قال:

وكان المقام من عهد إبراهيم لزق البيت إلى أن أخّره عمر عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن؛ أخرجه عبد الرزّاق في مصنّفه بسند صحيح عن عطاء وغيره وعن مجاهد أيضاً.

وأخرج البيهقي عن عائشة مثله بسند قويّ؛ ثم ذكر الخبر ثم قال: وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه و آله هو الذي حوّله. والأوّل أصح.

وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحوّله عمر، فجاء سيل فذهب به فردّه عمر إليه. قال سفيان: لا أدري أكان لاصقاً بالبيت أم لا؟

ثم قال ابن حجر: ولم تنكر الصحابة فعل عمر ولا من جاء بعدهم؛ فصار إجماعاً. وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلّين فوضعه في مكان يرتفع به الحرج وتهيّأ له ذلك لأنّه الذي كان أشار باتخاذه مصلّى؛ وأوّل من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن (2).


1- المصدر نفسه 1: 384.
2- فتح الباري 8: 169، باب قوله: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى.

ص: 100

وممن صرح بتحويل عمر للمقام ابن سعد في الطبقات الكبرى في ترجمة عمر على ما حكي قال: وهو أخّر المقام إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت (1).

وقال السيوطي في ترجمة عمر بن الخطّاب على ما حكي: هو الذي أخّر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم وكان ملصقاً بالبيت (2).

ومثله ذكر الدميري في محكي حياة الحيوان (3).

وقال الكردي في التاريخ القويم بعد سرد الأقوال في موضع مقام إبراهيم: رأينا أن نأتي هنا بأرجح الأقوال على رأينا ومانميل إليه فنقول- وباللَّه العون والتوفيق-:

«إذا لاحظت ما تقدّم عن حد المسجد الحرام قديماً، وأن مكان البيت كان ربوة مرتفعة عن الأرض ذات الرمال والحصى، وأن إبراهيم عليه السلام ما بنى الكعبة بالطين ولابالجص وإنما رضمها رضماً ولم يسقفها، وتصورت أن أهل الجاهلية كانوا يجلسون في ظل الكعبة ويقعدون حولها يتذاكرون شؤونهم العامة، وأنه لم يكن حينئذ للمسجد الحرام على صغره سور ولاحائط حتى بنى عمر بن الخطاب جداراً قصيراً بعد أن زاد فيه ووسعه.

ظهر لك أن أرجح الأقوال المتقدمة وأقربها إلى الصواب هو ما رواه البيهقي في سننه من أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه و آله وزمن أبي بكر ملصقاً بالبيت حتى أخّره عمر بن الخطاب وما ذكره أيضاً ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بأن المقام كان في عهد إبراهيم عليه السلام لزق البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، وما قاله أيضاً ابن كثير في تفسيره بأن المقام كان ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، وأنه أخره عن جدار الكعبة عمر بن الخطاب ... الخ. وتابع الكردي قائلًا: وهو


1- الطبقات الكبرى 3: 284.
2- تاريخ الخلفاء: 137.
3- حياة الحيوان 1: 331 مادة ديك.

ص: 101

كلام حسن جيد للغاية، وماذكره ابن كثير أيضاً في تفسيره من رواية ابن مردويه أن مقام إبراهيم كان في الكعبة فأخرجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فألزقه في حائط الكعبة وذلك حينما دخل الكعبة يوم فتح مكة.

ولقد رجحنا هذه الأقوال الأربعة مما تقدم، لأن المعقول أن إبراهيم عليه السلام لابد أن يضع الحجر الذي قام عليه في بناء البيت الحرام بلزقه وجواره لا أن يضعه بعيداً عن البيت حينما اتفق، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ومقامه الذي كان يقوم عليه وأيضاً لابد أن اللَّه تعالى أمره بحفظه وعدم التفريط فيه حيث يأتي في آخر الزمان خاتم النبيين محمد صلى الله عليه و آله فيؤمر هو وأمته بالصلاة عنده وقبلتهم البيت المعظم. ويؤيد كلامنا هذا ما جاء في الجزء الثاني من تاريخ الأزرقي أن إبراهيم عليه السلام قام على المقام حينما أذن في الناس بالحج، فلما فرغ من التأذين أمر بالمقام فوضعه قبلة فكان يصلي إليه مستقبل الباب، ثم كان إسماعيل بعده يصلي إليه إلى باب الكعبة ....

فلدى التأمل في هذه النقطة يظهر جلياً أن ابراهيم عليه السلام جعل الحجر الذي قام عليه لبناء الكعبة بلصقها ولايبعده عنها بمسافة أذرع مخصوصة إلا لسبب وأي سبب لذلك في أيامه وأيضاً أن أهل الجاهلية كانوا ألصقوا المقام بالبيت خيفة السيل بل وضعوه في جوف الكعبة حتى أخرجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منها فألزقه في حائطها كما تقدم بيان ذلك، فما الذي يدعو أهل الجاهلية إلى إبعاد ذلك الحجر الأثري المحترم عن الكعبة ووضعه في هذا المحل الذي هو عليه الآن كما في رواية السنجاري المتقدمة ولاأحد منهم يتعبد عنده، بل لو أبعدوه عن البيت لكان المعنى أنهم لم يعتبروه ولم يحترموه حيث رموه في آخر ساحته عند أبواب بيوتهم المحيطة بالبيت، وكيف يقع ذلك منهم وهم الذين يعتقدون أنه ذلك الحجر المقدس الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد قال أبو طالب فيه وفي الحجر الأسود:

وبالحجر المسود إذا يمسحونه إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطى ء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل

فلما جاء الإسلام أكد احترامهما وجعل لهما مغزى خاصاً ورمزاً تعبدياً وإن كان الحجر الأسود أعظم حرمة من المقام، فإنه يمين اللَّه في الأرض وإنه يبعث يوم القيامة وله عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بالحق كما ورد ذلك.

وقد تقدم أن الحجر الأسود والمقام هما من ياقوت الجنة».

ومن الغريب أن الكردي بعد ما انتهى من البحث وولج في غيره من شؤون المقام كأنه لم يرقه ما تحقق له من مخالفة عمر لما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ وربّما كان اخذ عليه في ذلك فرجع مرّة اخرى إلى البحث وقال:

«لقد تقدم من الكلام ما فيه الكفاية عن مقام خليل اللَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، غير أن اللَّه سبحانه و تعالى فتح علينا فهم مسألة دقيقة عنه وهي: أن المشهور لدى المؤرخين وجميع الناس أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه هو الذي وضع المقام في هذا المحل الآن الذي هو أمام باب الكعبة بجوار بئر زمزم، وذلك عندما ذهب سيل أم نهشل بالمقام. وهذا كلام صحيح لا شك فيه، غير أن عمر رضي اللَّه عنه ما وضع المقام إلا في نفس المحل الذي كان فيه قبل أن يذهب به سيل أم نهشل، أي وضعه في الموضع الذي كان المقام فيه في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي عهد خليفته أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه بدليل ما رواه الإمام الأزرقي» (1).

وممن صرّح بتحويل عمر للمقام خلافاً لما كان عليه في عصر النبي صلى الله عليه و آله المحدّث العلّامة عبدالرحمن بن يحيى المعلّمي اليماني؛ وهو من متأخّري أهل السنة ومن مقاربي عصرنا؛ وقد أقرّه على ذلك صاحب السماحة مفتي الديار السعوديّة الشيخ محمّد بن إبراهيم آل الشيخ ودافع عنه حتى أنه كتب في الدفاع عن مقالته رسالة.

قال المعلّمي: أين كان موضعه- المقام- في عهد النبي صلى الله عليه و آله؟ في هذا ثلاثة أقوال:


1- التاريخ القويم، للكردي 3: 313- 317.

ص: 102

ص: 103

الأوّل: أنه كان في موضعه الذي هو به الآن؛ والأدلّة الصحيحة الواضحة تردّ هذا القول كما يأتي في القول الثالث.

الثاني: قال بعضهم: كان المقام لاصقاً بالكعبة في عهد النبي صلى الله عليه و آله حتى أخّره هو صلى الله عليه و آله إلى موضعه الآن. ثم ردّ عليه بضعف المستند والمعارضة بما قد صحّ عن مجاهد أن عمر هو الذي حوّل المقام كما سيأتي.

الثالث: قال آخرون: كان المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله وبعده لاصقاً بالكعبة حتى حوّله عمر؛ ثم تعرّض لبعض الوجوه التي ربما يستدل بها لكل من الأقوال الثلاثة؛ ثم قال: قد أغنانا اللَّه- وله الحمد- عن هذا الضرب من الاحتجاج بثبوت النقل عمن لا يمكن أن يظن به التوهم- يعني الدلالة على القول الثالث- ثم استدل لذلك بحديث عائشة وغيرها؛ وذكر أن جملة من السابقين ذهبوا إلى هذا القول وهم أئمّة مكّة عطاء ومجاهد وابن عيينة؛ وقال: الإنصاف يقضي بأن قولهم مجتمعين يكفي وحده للحجة في هذا المطلب (1).

أقول: ينبغي أن يضم إلى ما ذكره من الأقوال الثلاثة قول رابع لا ينافي ما ذهب إليه وهو المستفاد من آثار الشيعة والتواريخ ومحصّله:

أن المقام في زمن إبراهيم عليه السلام كان بلصق البيت وقد جعله عليه السلام هناك ثمّ حوّل في الجاهليّة إلى موضعه الفعلي حتى فتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكّة، فردّ المقام إلى موضعه الأصلي بلصق الكعبة؛ وكان على هذا بقية حياة النبي صلى الله عليه و آله وبعده مدة خلافة أبي بكر وشطر من خلافة عمر، حتى حوّل عمر المقام إلى موضعه الجاهلي.

إذن لا نختلف مع المعلمي في كون المقام في آخر حياة النبي صلى الله عليه و آله وبعده إلى زمان عمر كان لصق البيت وأن عمر هو الذي حولّه إلى موضعه الفعلي؛ وإنّما نختلف معه في أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الذي كان باشر وضع المقام بلصق البيت بعدما كان في الجاهلية منفصلًا- وهذا ما نذهب إليه- أو أن المقام كان في حياته صلى الله عليه و آله وفي أيام


1- رسالة مقام إبراهيم: الفصل الرابع: 55 وما بعده.

ص: 104

الجاهليّة لصق البيت- وهذا ما ذهب إليه المعلّمي.

وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ما يدل على ما اخترناه- وهو القول الرابع- وعذر المعلّمي في اختلافه معنا في هذه النقطة هو مذهبه؛ حيث لا يسمح له بالأخذ بما ثبت من روايات أئمّة أهل البيت- أولا يراجعها على الأقل- كما يأخذ أو يراجع بروايات ساير الناس من الصحابة وغيرهم؛ وهذا هو العمدة في الاختلاف بين الشيعة وبين ساير المسلمين من أهل السنة، وإن كان هناك بعض الأسباب الأخرى أيضاً؛ ولا ينبئك مثل خبير.

ص: 105

ومثل المعلمي في تصريحه بما تقدم في أمر المقام هو آل الشيخ مفتي الحجاز الشيخ محمد بن إبراهيم؛ قال في رسالته التي ألّفها في مجال حكم تأخير المقام عن موضعه الفعلي ما نصّه:

«ثبت عن السلف الصالح أن مقام إبراهيم عليه السلام كان في عهد النّبي صلى الله عليه و آله وعهد أبي بكر في سقع البيت وأن أوّل من أخّره من ذلك الموضع عمر بن الخطاب.

وممن ثبت ذلك عنه من أعيانهم المذكورون فيما يلي: ثم عدهم: 1- أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر. 2- عروة بن الزبير. 3- عطاء وغيره من أصحاب ابن جريج.

4- مجاهد. 5- بعض مشايخ مالك، ففي المدوّنة: قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخّر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم وكان ملصقاً بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه و آله وعهد أبي بكر وقبل ذلك؛ وكان قدموه في الجاهلية مخافة أن يذهب به السيل، إلى أن قال: فأخرجه- يعني عمر- إلى موضعه اليوم فهذا موضعه الذي كان فيه في الجاهليّة وعلى عهد إبراهيم عليه السلام. 6- سفيان بن عيينة 7- الواقدي. 8- مشايخ ابن سعد.

ثم قال: هذه جملة من أعيان السلف الذين صرّحوا بأن المقام كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله في سقع البيت وأن أوّل من أخّره عمر بن الخطاب.

وقد جزم بما صرّحوا به غير واحد من أئمّة المتأخرين، منهم: الحافظ ابن الحجر في فتح الباري؛ والحافظ ابن كثير في التفسير والبداية والنهاية، والشوكاني في فتح القدير؛ وقد جمع آل الشيخ بين كلماتهم المتنافية وما استقر عليه رأيهم أخيراً» (1).

أقول: وينبغي أن يضم إلى من عدّه من أئمة المتأخرين موسى بن عقبة صاحب المغازي حسبما يأتي من العبارة عنه، فإنه مشعر- إن لم يكن دالًا- بأنّه لا يوافق على أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الذي أخر المقام عن الكعبة حيث قال: وكان


1- الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم: 4 وما بعده.

ص: 106

زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخّره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مكانه هذا (1).

يبقى في المقام مبهمة: وهي أنه بحسب نصوص الشيعة كان المقام في عهد إبراهيم ملصقاً بالبيت وكذلك فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولكن الجاهلية فرقت بين البيت وبين المقام؛ بينما نصوص أهل السنّة تضمنت أن المقام في الجاهلية كان ملصقاً بالبيت ولو خوفاً عليه من السيل. وطبع القضيّة يساعد على ذلك أيضاً لأنه لم يكن في الجاهلية نسك الصلاة عند المقام ليكون وضع المقام ملصقاً بالبيت مزاحماً لنسك الطواف فيكون لهم داع لتأخير المقام عن لصق البيت فكيف الحل؟

والحلّ أنّه يحتمل أن يكون تأخير المقام عن البيت في الجاهليّة لداع آخر غير مزاحمة الصلاة للطواف؛ ككون المقام في حدّ المسجد بعد عدم كون المقام من أجزاء الكعبة؛ وربما كان لهم داع آخر لا نعلم به بعد طول الزمن وتقادم العهد؛ وقد أخبر الثقة الصادق بوقوع الفعل ولا يهم بعد ذلك الجهل بالداعي على الفعل. وقد عثرت أخيراً على توجيه لفعل الجاهلية في موثق عمرو بن سعيد- وستأتي الرواية بتمامها- وموضع الشاهد منها قوله: فلمّا كثر الناس وصاروا إلى الشرّ والبلاء ازدحموا عليه فرأوا أن يضعوه من هذا الموضع الّذي هو فيه اليوم ليخلوا المطاف لمن يطوف بالبيت فلمّا بعث اللَّه عزوجل محمداً صلى الله عليه و آله ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم...

الحديث.

و كيف كان فإن المستفاد من النصوص والأثر أن المقام في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان ملاصقاً بالبيت وأن النبي صلى الله عليه و آله جعله كذلك بعد ما كان أيام الجاهلية في موضعه الفعلي، ولكن عمر غيّر المقام من موضعه الذي وضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه وردّه إلى موضعه الجاهلي؛ وإليك نص الروايات وفيها المعتبرة سنداً، فتكون ساير الروايات على تقدير ضعف السند مؤيدة:

1- ففي موثق زرارة- الذي هو كالصحيح- المروي في الكافي قال: قلت لأبي


1- شفاء الغرام 1: 306.

ص: 107

جعفر عليه السلام: قد أدركت الحسين عليه السلام؟ قال: نعم أذكر وأنا معه في المسجد الحرام وقد دخل فيه السيل والناس يقومون على المقام يخرج الخارج يقول: قد ذهب به السيل ويخرج منه الخارج فيقول: هو مكانه؛ قال: فقال لي:

يا فلان: ما صنع هؤلاء؟ فقلت: أصلحك اللَّه يخافون أن يكون السيل قد ذهب بالمقام فقال: ناد إن اللَّه تعالى قد جعله علماً لم يكن ليذهب به فاستقرّوا.

وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت؛ فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهليّة إلى المكان الذي هو فيه اليوم؛ فلمّا فتح النبي صلى الله عليه و آله مكّة ردّه إلى الموضع الّذي وضعه إبراهيم عليه السلام فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس؛ من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا؛ قد كنت أخذت مقداره بنسع؛ فهو عندي؛ فقال: ائتني به؛ فأتاه به فقاسه ثم ردّه إلى ذلك المكان (1).

ورواه الصدوق في الفقيه بإسناده عن زرارة في الصحيح (2)، وفيه: والناس يتخوفون على المقام. وفيه: قال: إن اللَّه قد جعله علماً.

أقول: قوله: قال: فقال لي: يا فلان، الظاهر أن فاعل القول الأوّل هو زرارة و فاعل الثاني هو أبو جعفر عليه السلام. فما عن التستري في الأخبار الدخيلة أن في الخبر سقطاً أو تصحيفاً؛ لأن خطاب الإمام ابن ابنه وهو ابن أقل من أربع سنين بيا فلان، وجوابه هو أيضاً بأصلحك اللَّه في غاية البعد؛ والظاهر أن الأصل فقال لرجل: يا فلان الخ فصحّف في غير محلّه.

2- وفي موثق عمرو بن سعيد عن موسى بن قيس ابن أخي عمّار عن مصدّق عن عمّار الساباطي عن أبي عبداللَّه صلى الله عليه و آله أو عن عمّار عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللَّه، قال: لمّا أوحى اللَّه عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام أن أذّن في الناس بالحج أخذ


1- الكافي 4: 223، كتاب الحج، باب في قوله تعالى: منه آيات بينات، الحديث 2.
2- الفقيه، 2: 243، كتاب الحج، باب ابتداء الكعبة، الحديث 13، 2308.

ص: 108

الحجر الذي فيه أثر قدميه- وهو المقام- فوضعه بحذاء البيت لاصقاً بالبيت بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم، ثم قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره اللَّه عز وجل به فلمّا تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعاً. فلمّا كثر الناس وصاروا إلى الشرّ والبلاء ازدحموا عليه فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الّذي هو فيه اليوم ليخلوا المطاف لمن يطوف بالبيت فلمّا بعث اللَّه عز وجل محمّداً صلى الله عليه و آله ردّه إلى الموضع الّذي وضعه فيه إبراهيم، فما زال فيه حتّى قبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي زمن أبي بكر وأوّل ولاية عمر، ثم قال عمر: قد ازدحم الناس على هذا المقام فأيكم يعرف موضعه في الجاهليّة؟ فقال له رجل: أنا أخذت قدره بقدر، قال: والقدر عندك؟ قال: نعم؛ قال: فائت به؛ فجاء به؛ فأمر بالمقام فحمل وردّ إلى الموضع الذي هو فيه الساعة (1).

3- وفي رواية أبي بصير عن الباقر عليه السلام: كان المقام في موضعه الذي هو فيه اليوم فلمّا لقي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكّة رأى أن يحوّله من موضعه، فحوّله فوضعه ما بين الركن والباب وكان على ذلك حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإمارة أبي بكر وبعض إمارة عمر؛ ثم إن عمر حين كثر المسلمون قال: إنه يشغل الناس عن طوافهم... الحديث وفيه أن الرجل الذي كان عنده قدر موضع المقام هو المطّلب بن أبي وداعة السهمي (2).

وكان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت

4- وقريب منه حديث آخر عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الاستغاثة، إلّا أن فيه أنّ الرجل الذي عين موضع المقام في الجاهلية هو المغيرة بن شعبة. وفيه:

فردّ عمر المقام إلى الموضع الذي كان في الجاهليّة فهو إلى اليوم هناك، وموضعه الذي وضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه معروف لا يختلفون في ذلك (3).

5- في زيارة الجامعة لأئمة المؤمنين في عداد المطاعن والبدع بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله:

وعقت سلمانها وطردت مقدادها ونفت جندبها وفتقت بطن عمّا رها وحرّفت القرآن وبدّلت الأحكام وغيرت المقام وأباحت الخمس للطلقاء وسلّطت أولاد اللعناء على الفروج والدماء وهدمت الكعبة وأغارت على دار الهجرة يوم الحرّة...

6- في بعض الروايات أن المهدي عليه السلام إذا ظهر ردّ المقام إلى موضعه الأصلي؛ فعن أبي بصير قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إذا قام القائم هدم المسجد الحرام حتّى يردّه إلى أساسه؛ وحوّل المقام إلى الموضع الذي كان فيه... الحديث (4).

وقد تقدم عن والد شيخنا المجلسي قدس سره أنّه: روي في أخبار كثيرة أن صاحب الأمر صلوات اللَّه عليه حين يخرج يجعله في المكان الذي وضعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقبله إبراهيم عليه السلام (5).

وعلى أساس الروايات المتقدّمة لا يتعين الموضع الفعلي للمقام؛ ولئن كان هناك موضع يحتمل تعين كون المقام فيه فهو موضعه على عهد إبراهيم عليه السلام والنّبي صلى الله عليه و آله (6).

ثم إنا لم نعثر في موضوع ردّ المهدي عليه السلام للمقام إلى موضعه الأصلي على رواية سوى رواية أبي بصير المتقدّمة والتي رواها الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد.

والظاهر أن من عداه روى نفس هذه الرواية؛ فقد رواها الطبرسي في إعلام الورى، والأربلي في كشف الغمّة، والنيسابوري في روضة الواعظين والشيخ الطوسي في الغيبة (7).


1- مستدرك الوسائل 9: 428، كتاب الحج، الباب 63 من الطواف، النوادر، حديث 9.
2- المصدر نفسه، الحديث 15.
3- المصدر نفسه، الحديث 16.
4- إرشاد المفيد 2: 383 عنه البحار 52: 338 ح 880.
5- روضة المتقين 4: 133، كتاب الحج، فضل الكعبة والحرم.
6- مفاتيح الجنان: 1066 عن مصباح الزائر للسيد ابن طاووس.
7- البحار 52: 339، الحديث 84؛ وإعلام الورى: 461، الفصل الثالث. وكشف الغمّة 2: 465، باب ذكر علامات قيام القائم، روضة الواعظين 2: 265، والغيبة للطوسي: 472 والبحار، 52: 332 الحديث 57. أعلام.

ص: 109

ص: 110

ولكن سمعت ما حكيناه عن والد العلّامة المجلسي قدس سره من كثرة الأخبار بذلك؛ ومن البعيد أن يكون عنده أخبار لم تصل إلينا فلا يبعد أن يكون مراده قدس سره من كثرة الأخبار هو الروايات المطلقة في شأن القائم عليه السلام إذا ظهر من أنه يبطل البدع ويردّ الأشياء إلى السنن.

ففى رواية الشيخ في الغيبة بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي محمد عليه السلام فقال: إذا قام القائم أمر بهدم المنابر (1) والمقاصير التي في المسجد، فقلت في نفسي: لأيّ معنى هذا؟ فأقبل عليّ فقال: معنى هذا أنها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجّة.

وفي رواية الإرشاد قال: روى أبوبصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل أنه قال: إذا قام القائم ... إلى أن قال: لا يترك بدعة إلّاأزالها ولا سنة إلّاأقامها...

الحديث.

7- ومن الروايات المصرّحة بكون موضع المقام في عهد رسول اللَّه مختلفاً عما صار إليه بعده، صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام: اصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة أو حيث كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

قال: حيث هو الساعة (2).

8- ورواية محمد بن مسلم قال: سألته عن حدّ الطواف الذي خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت؟ قال عليه السلام: كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطوفون بالبيت والمقام وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام والبيت... الحديث (3).

9- وصحيح الحسن بن علي عن جعفر بن محمد عن عبداللَّه بن بهلول عن


1- في بعض النصوص المنائر بالهمزة بدل الباء الموحّدة.
2- الوسائل 9: 478، أبواب الطواف الباب 71، الحديث 1.
3- المصدر نفسه، الباب 28، الحديث 1.

ص: 111

جعفر عن أبيه عليه السلام قال: كان المقام لازقاً بالبيت فحوّله عمر (1).

10- وما روي من مسائل داود الصرمي عن الإمام الرضا عليه السلام قال: وسألته عن الصلاة بمكّة في أيّ موضع أفضل؟ فقال: عند مقام إبراهيم الأوّل؛ فإنّه مقام إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه و آله (2).

11- وصحيح حماد بن عيسى عن إبراهيم بن عثمان- والظاهر أنه أبو أيوب الخزّاز- عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام وقال:... قد عملت الولاة قبلي أعمالًا خالفوا فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيرين لسنّته؛ ولو حملت الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي في كتاب اللَّه عز وجل وسنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله... إذن لتفرقوا عنّي. الحديث (3).

لكن يبقى أنه إذا ردّ المقام إلى جنب البيت وكان هو موضع صلاة الطواف استلزم مزاحمة الطائفين.

ولكن يردّه أن الطواف إذا أمكن بين البيت وموضع المقام فعلًا فهو وإلّا فمع الزحام- ولو بسبب المصلين للطواف أو غيرهم- لا ينبغي الريب في عدم اشتراط الحدّ- على تقدير اشتراطه اختياراً- بل يجوز الطواف خارج الحدّ حسبما صرح به في معتبرة الحلبي.

فيكون حال المقام والمصلّين عند الزحام حال الحِجْر وكذا حال


1- تهذيب الأحكام 5: 454 ح 1586 وعنه الوافي 12: 64، ح 11511.
2- الوسائل 3: 540 كتاب الصلاة الباب 53 من أحكام المساجد، الحديث 8.
3- الكافي 8: 58، الحديث 21، عنه البحار 34: 172 الحديث 978.

ص: 112

الحَجَر الأسود.

والقياس في مذهب العامّة كان يقتضي قلع الحجر الأسود من موضعه وبنائه في موضع آخر كما حوّل عمر المقام.

ثم إنّه بالغض عن أن الاعتبار يساعد على كون المقام بمعنى الصخرة ملاصقاً للبيت وأنه موضعه الأصلي حيث كانت البيوت مبنيّة حول الكعبة ولم يكن المسجد على وضعه الفعلي ولا كان للمسجد حائط وجدار بل كانت الكعبة محاطة ببيوت الناس ودورهم، هناك شواهد تاريخية مضافاً إلى نصوص من طرق أهل السنّة تدلّل على كون المقام في عصر النبي صلى الله عليه و آله ملاصقاً للبيت، بالغض عن ما تقدم في عدّة من روايات الشيعة وفيها المعتبرة كمعتبرة زرارة وغيره.

1- منها: ما رواه في شفاء الغرام قال: ونقل المحبّ الطبري في القرى عن مالك في المدوّنة أنه قال: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه اليوم وكان أهل الجاهلية ألصقوه بالبيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه و آله وعهد أبي بكر فلما ولّى عمر ردّه بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة قيس بها حين أخّروه (1).

أقول: نحن وإن لم نرتض أن المقام في عهد الخليل عليه السلام كان في موضعه الفعلي؛ لما ثبت في النصوص أن موضعه في عهد الخليل كان لصق البيت، ولم نرتض أن موضعه في الجاهلية كان لصق البيت- لما ثبت في النصوص أن موضعه الجاهلي هو موضعه الفعلي،

ولكن هذا النّص من المدونة يوافق ما اخترناه من أن المقام في حياة النبي صلى الله عليه و آله إلى وفاته وبعده إلى زمان خلافة عمر كان لصق البيت، وإنما حوّله عمر خلافاً لما كان المقام عليه في عهد النبي صلى الله عليه و آله.

غاية الأمر أنا نقول: إن كون المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله بلصق البيت كان بفعله صلى الله عليه و آله


1- شفاء الغرام 1: 392 عن القرى: 345 ونقله عن المدوّنة صاحب التهذيب مختصر المدوّنة، وهو البراذعي فيما حكي.

ص: 113

خلافاً لما كان عليه في الجاهلية، وهذا الأثر يتضمن أن كون المقام في عهده صلى الله عليه و آله بلصق الكعبة كان استمراراً لما كان عليه في الجاهلية.

2- وقال المحب فيما حكي عنه: قال الفقيه سند بن عنان المالكي في كتابه المترجم به «الطراز» وهو شرح للمدوّنة: وروى أشهب عن مالك قال: سمعت من يقول من أهل العلم، إن إبراهيم عليه السلام أقام هذا المقام وقد كان ملصقاً بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وقبل ذلك، وإنما الصق إليه لمكان السيل مخافة أن يذهب به، فلما ولي عمر أخرج خيوطاً كانت في خزانة الكعبة وقد كانوا قاسوا بها ما بين موضعه وبين البيت في الجاهليّة، إذ قدّموه مخافة السيل فقاسه عمر وأخّره إلى موضعه إلى اليوم (1).

3- ومنها: ما رواه في شفاء الغرام عن أبي عروبة أنه قال: حدّثنا سلمة قال:

حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال: كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه من السيول وكان الناس يصلون خلفه...

انتهى باختصار لقصة ردّ عمر للمقام إلى موضعه الآن وما كان بينه وبين المطلب بن أبي وداعة السهمي في موضعه الّذي حرّره المطلب (2).


1- القرى: 309.
2- المصدر نفسه: 392 وما بعد.

ص: 114

4- وفي شفاء الغرام: قال أبو عروبة أيضاً: حدثنا سلمة قال حدّثنا عبد الرزاق قال أنبأنا ابن جريج: قال: سمعت عطاء وغيره من أصحابنا يزعمون أن عمر أوّل من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن وإنما كان في قبل الكعبة (1).

5- وفيه: روى الفاكهي بسنده إلى عبداللَّه بن سلام خبراً فيه أذان إبراهيم على المقام للناس بالحج، وفيه: فلما فرغ أمر بالمقام فوضعه قبلته فكان يصلّى إليه مستقبل الباب (2).

6- وفيه عن الفاكهي: أن النبي صلى الله عليه و آله قدم مكّة من المدينة فكان يصلّى إلى المقام، وهو ملصق بالكعبة حتّى توفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).

7- وفيه: قال الفاكهي: حدّثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدّثنا يحيى بن محمد بن ثوبان عن سليم عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير أنه قال: كان المقام في وجه الكعبة وإنما قام إبراهيم عليه حين ارتفع البنيان فأراد أن يشرف على البناء قال: فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطّاب أن يطؤوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه الذي هو به اليوم حذاء موضعه الّذي كان قدام الكعبة (4).

8- وفيه: قال الفاكهي: حدّثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن هشام بن عروة عن أبيه قال عبد العزيز: أراه عن عائشة: أن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه و آله إلى سقع البيت (5).

9- وفيه: قال الفاكهي: وقال بعض المكيين: كان بين المقام وبين الكعبة ممرّ


1- المصدر نفسه: 393.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه، وسقع البيت: ناحيته.

ص: 115

العنز (1).

10- وفيه: ذكر ابن جبير في أخبار رحلته ما يقتضي أن الحفرة المرخمة التي في وجه الكعبة علامة موضع المقام في عهد الخليل عليه السلام.

11- وروى عن الفاكهي والأزرقي عن نوفل بن معاوية الديلي قال: رأيت المقام في عهد عبد المطلب ملتصقاً بالبيت مثل المهاة.

سئل أبو الوليد الأزرقي عن المهاة؛ قال: خرزة بيضاء (2).

12- وروى ابن حجر في الفتح في روايات بناء البيت:

وزاد في حديث عثمان: ونزل عليه الركن والمقام؛ فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه؛ ويرفعه له إسماعيل؛ فلمّا بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه يومئذ موضعه؛ وأخذ المقام فجعله لاصقاً بالبيت (3).

ومع الشواهد المتقدمة التي نقلها الفاسي في شفاء الغرام يكون تحيّزه إلى تصويب فعل عمر وأن موضع المقام الفعلي مطابق لزمان النبي صلى الله عليه و آله أو لزمان إبراهيم عليه السلام واضح.

قال في شفاء الغرام بعد حكاية عبارة ابن جبير الأخيرة راداً عليه: وفي هذا نظر؛ لأن موضع المقام الآن هو موضعه في عهد الخليل عليه السلام، من غير خلاف علم في ذلك.

وأمّا الخلاف ففي موضعه اليوم هل هو موضعه في زمن النبي صلى الله عليه و آله كما ذكر ابن أبي مليكة، أو لا كما قال مالك واللَّه أعلم (4).

وقال: روينا عن الأزرقي قال: حدثني جدّي قال: حدّثنا عبدالجبّار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: موضع المقام هو هذا الذي هو به اليوم وهو


1- المصدر نفسه.
2- كتاب فضل الحجر والمقام لسائد بكداش: 132 عن الفاكهي 1: 442 والأزرقي 2: 30.
3- فتح الباري 6: 406، باب يزفّون النسلان في المشي.
4- شفاء الغرام 1: 397.

ص: 116

موضعه في الجاهليّة وفي عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وعمر، إلّاأن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فردّه بمحضر من الناس.

وذكر الأزرقي ما يوافق قول ابن أبي مليكة في موضع المقام عن عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة.

وروى الفاكهي عن عمرو بن دينار وسفيان بن عيينة مثل ما حكاه عنهما الأزرقي بالمعنى (1).

أقول: ما ذكره الفاسي من عدم الخلاف في كون موضع المقام فعلًا هو موضعه في عهد الخليل عليه السلام ينافي ما ذهب إليه جملة من أهل السنّة والشيعة إلى خلاف ذلك.

13- ومن النصوص المصرّحة بأن عمر هو الذي نقل المقام من موقعه الأصلي، ما رواه عبدالرّزاق عن ابن جريج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا قالوا: إن عمر أوّل من رفع المقام فوضعه موضعه الآن وإنما كان في قبل الكعبة (2).

وقد صحّح ابن حجر هذه الرواية كما نقلناه ضمن كلامه.

14- ومن جملة النصوص رواية عبدالرزّاق الأخرى عن مجاهد قال: أوّل من أخّر المقام إلى وضعه الآن عمر بن الخطّاب (3).

وقد صحّحها أيضاً ابن حجر كما نقلناه في كلامه.

15- ومن جملة النصوص رواية عبدالرزّاق عن معمر عن حميد عن مجاهد:

كان المقام إلى جنب البيت وكانوا يخافون عليه غلبة السيول وكانوا يطوفون خلفه فقال عمر للمطلب بن أبي وداعة السهمي: هل تدري أين كان موضعه الأوّل؟

قال: نعم قدّرت ما بينه وبين الحجر الأسود وما بينه وبين الباب وما بينه وبين زمزم وما بينه وبين الركن عند الحجر، قال: فأين مقداره؟ قال: عندي؛ قال: تأتي بمقداره فجاء بمقداره فوضعه موضعه الآن (4).


1- شفاء الغرام 1: 391.
2- المصنف 5: 48.
3- المصدر نفسه.
4- المصنف 5: 47، باب المقام وفي تعليقه: أخرجه الأزرقي.

ص: 117

16- ومن جملة النصوص رواية البيهقي عن عائشة: إن المقام كان زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وزمان أبي بكر ملتصقاً بالبيت، ثم أخّره عمر بن الخطّاب (1).

وصححه البيهقي وكذلك ابن الحجر قال: إن سنده قوي كما حكيناه. وعن ابن كثير روايته لها في تفسيره بسند البيهقي ورجاله ثقات وقال: هذا إسناد صحيح؛ وقد تقدّم الحديث عن شفاء الغرام بسنده عن عايشة.

17- ومن جملة النصوص رواية ابن أبي حاتم- وقد حكينا الإشارة إليها في كلام ابن حجر وقد صحّحها- عن سفيان بن عيينة إمام المكيين في زمانه قال: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه و آله وبعد قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى».

قال: ذهب به السيل بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه.

وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين البيت قبل تحويله؟ وقال سفيان: لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا (2)؟

18- ومن جملة النصوص ما رواه عبدالرّزاق عن معمّر عن هشام بن عروة عن أبيه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأبابكر وعمر- بعض خلافته- كانوا يصلّون صقع البيت حتّى صلّى عمر خلف المقام (3).

19- وفي رواية أخرى لعبدالرّزاق عن ابن جريج عن محمّد بن عباد بن جعفر وعمرو بن عبداللَّه بن صفوان وغيرهما: أنّ عمر أمر عبد اللَّه بن السائب أن يجعل المقام في موضعه الآن (4).


1- السنن الكبرى 5: 75 نقله بكداش.
2- كتاب فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم: تأليف سائد بكداش؛ حكاه عن ابن كثير في تفسيره في قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى البقرة: 125.
3- المصنف 5: 48، باب المقام الحديث 8954.
4- المصدر نفسه، الحديث 8956.

ص: 118

20- وفي رواية رواها ابن كثير عن ابن مردويه أنه روى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله تعالى: «إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» (1)، إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما فتح مكّة وأخذ من عثمان بن أبي طلحة مفتاح الكعبة وفتح بابها وغمس بالماء التماثيل التي كانت فيها، أخرج مقام إبراهيم وكان في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال: يا أيها الناس هذه القبلة (2).

وكيف كان: فهذه الروايات والآثار المروية في كتب السنّة تدلّ على:

أوّلًا: أن المقام كان في عهد الخليل إبراهيم عليه السلام بلصق الكعبة؛

وهذا موافق لروايات الشيعة.

ثانياً: أن المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله إلى وفاته وبعده مدة خلافة أبي بكر وشطر من خلافة عمر كان بلصق الكعبة، وأن عمر هو الّذي حوّل المقام إلى موضعه الفعلي؛

وهذا أيضاً موافق لروايات الشيعة.

وهناك نقطة ثالثة تختلف فيها روايات الشيعة مع روايات أهل السنّة وهي: إن المقام في العهد الجاهلي كان في موضعه الفعلي وأن النبي صلى الله عليه و آله هو الّذي ردّ المقام إلى جنب البيت ولصقه حتى كان فعل عمر مخالفاً لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهذا ما تضمنته روايات الشيعة.

أو أن المقام في العهد الجاهلي أيضاً كان في موضعه الأصلي الملاصق للبيت واستمر الأمر عليه إلى نهاية حياة النبي صلى الله عليه و آله وبعده إلى زمان خلافة عمر حتّى كان عمر هو الّذي حوّل المقام إلى موضعه الفعلي فكان فعل عمر مخالفاً لما كان المقام عليه في حياة رسول اللَّه لا مخالفة لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهذا ما تضمنته روايات أهل السنّة.

وفي رسالة للمعلمي عثرت عليها بعد تصنيف الرسالة استدل فيها لكون الموضع الفعلي للمقام مغايراً لموضعه في عهد النبي صلى الله عليه و آله بوجوه من النقل تقدم منا


1- النساء.
2- نقلها عن تفسير ابن كثير ملخصة في التاريخ القويم للكردي 3: 314.

ص: 119

بعض ذلك؛ ومن جملة ما استدل به هو حديثان رواهما البخاري في شأن صلاة النبي صلى الله عليه و آله لطوافه بعد ما فرغ منه:

أحدهما حديث ابن عمر وفيه: ثم خرج فصلّى في وجه الكعبة ركعتين (1).

وثانيهما: حديث ابن عباس وفيه: فلمّا خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة (2).

قال: والمراد بوجه الكعبة في الأخبار- كما يقضي به سياقها- تارة: جدارها المقابل لموضع المقام الآن؛ وتارة: ما يجانب هذا الجدار من المطاف- يعنى جنب الجدار-.

إنّ المقام كان في العهد الجاهلي في موضعه الفعلي وردّه النبيّ إلى جنب البيت

والأخبار التي أطلقته على هذا تبيّن أنه ليس منه موضع المقام الآن؛ بل هو الموضع الذي كان فيه المقام قبل أن يحوّله عمر إلى موضعه الآن.

ولفظ قبل الكعبة في حديث ابن عباس هو أيضاً ذاك الموضع.

وابن عباس إنما سمع هذا الحديث من أسامة كما بيّنه ابن حجر في الفتح، والراوي عن ابن عباس عطاء، كما أن عطاء يروي الخبر عن اسامة أيضاً بلا واسطة، وكأن ابن عمر لمّا لم يتحقق له أن النبي صلى الله عليه و آله ءَإلى المقام صلّى أم عن يمينه أو عن يساره اقتصر على قوله: في وجه الكعبة.

وأمّا الوجه في تعبير حديث اسامة ب «قبل الكعبة» فيظهر أن ذلك مراعاة لقوله عقب ذلك: هذه القبلة. لئلا يتوهم أن الإشارة إلى المقام نفسه مع قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» فعدل إلى التعبير بقبل الكعبة؛ ليعلم أن الإشارة إلى الكعبة أو إلى ذلك الموضع منها.


1- صحيح البخاري، أبواب القبلة، باب قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى». فتح الباري 1: 499.
2- صحيح البخاري، أبواب القبلة، باب قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى». فتح الباري 1: 499.

ص: 120

ثم إن المعلّمي في رسالته ذكر أنه يمكن الاستدلال لهذا القول- أعني كون المقام في عهد النبي صلى الله عليه و آله بلصق البيت وأن عمر هو الّذي حوّله إلى موضعه الفعلي- بأن ذهاب أئمة مكّة عطاء ومجاهد وابن عيينة مجتمعين يكفي وحده للحجّة في هذا المطلب.

أقول: وقد أجاد فيما أفاده من التدليل والحجّة.

بقي الكلام فيما قد يعارض ما اخترناه وربما يستدل به على خلاف ما قويناه.

وهو أمور:

الأوّل: إنه قد ورد في بعض الكلمات من أهل السنّة أن في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه و آله بعد ما فرغ من الطواف جعل المقام بينه وبين البيت حين أراد الصلاة؛ قال:

وفي هذه دلالة على أن موضع المقام حينذاك كان موضعه الفعلي؛ فإنه لا يصح أن يقال ذلك القول إلّاإذا أمكن الصلاة متقدماً على المقام وإلّا فلو كان المقام ملصقاً بالبيت كان جعل المقام بين البيت وبين المصلي متعيّناً لا يمكن غيره؛ فيدل هذا التعبير على عدم كون المقام ملصقاً بالبيت وأنه كان بحيث يمكن التقدم عليه؛ ولازمه أن موضعه آنذاك كان هو الموضع الفعلي.

ويردّه- على تقدير صحّة السند- أوّلًا: احتمال أن يكون ذلك قبل ردّه المقام إلى موضعه الأصلي؛ حيث كان المقام في العهد الجاهلي في موضعه الحالي حسب النصوص المشار إليها.

وثانياً: ما ذكره المعلّمي في رسالته التي عثرنا عليها أخيراً قال: في صحيح مسلم عن جابر في حجّة الوداع بعد ذكر الطواف: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم... فجعل المقام بينه وبين القبلة (1). هكذا في عدة نسخ من الصحيح وكتب اخرى.

وذكره الطبري في القرى بلفظ: ثم تقدّم (2)؛ وكذا نقله الفاسي (3).


1- صحيح مسلم: ذكره برقم 1218.
2- القرى: 310.
3- شفاء الغرام، 1: 217- 223.

ص: 121

وزعم الطبري: أنه يشعر بأن المقام لم يكن حينئذ ملصقاً بالكعبة.

وأورد عليه بأن كلمة تقدّم- إن صحّت- دلالتها على الملاصقة أقرب؛ لأنه صلى الله عليه و آله أنهى الطواف عند الركن فإذا واصل مشيه بعد ذلك إلى يمنة الباب- حيث المقام- فهذا تقدّم. ولو كان المقام في موضعه الآن لكان المشي إليه مشياً عن الكعبة وحقّه أن يقال: تأخّر. وأمّا قوله: فجعل المقام بينه وبين الكعبة، فلا يخفى أن المصلي إلى المقام إذا كان بلصق الكعبة إمّا أن يكون عن يمينه أو يساره أو خلفه فإذا كان خلفه فقد جعله بينه وبين الكعبة.

الثاني: رواية رواها الأزرقي عن ابن أبي مليكة قال: موضع المقام هذا الذي هو به اليوم هو موضعه في الجاهليّة وفي عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وعمر؛ إلّاأن السيل ذهب به في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فردّه بمحضر من الناس (1).

أقول: يرد عليه: أوّلًا: إن هذه الرواية مع شذوذها معارضة بالروايات الكثيرة المتقدمة، والتي لا يبعد دعوى تواترها؛ ولا ريب أن الترجيح لتلك الروايات.

وثانياً: ما ذكره المعلّمي فيما عثرنا عليه أخيراً من أن الأزرقي لم يوثقه أحد من أئمة الجرح والتعديل ولم يذكره البخاري وابن أبي حاتم؛ بل قال الفاسي في ترجمته في العقد الثمين: لم أر من ترجمه وقد تفرد بهذه الحكاية.

وثالثاً: ما ذكره المعلّمي أيضاً قال: ويريبني من الأزرقى حسن سياقه للحكايات وإشباعه القول فيها؛ ومثل ذلك قليل فيما يصح عن الصحابة والتابعين؛ وقد قيل لشعبة: ما لك لا تحدث عن عبد الملك ابن أبي سليمان- وقد كان حسن


1- تاريخ مكّة 2: 35.

ص: 122

الحديث-؟ قال: من حسنها فررت.

قال المعلّمي: ويريبني أيضاً من الأزرقي تحمسه لهذا القول؛ حتى أنه تصرف في النصوص بإسقاط ما ينافي مقالته، وغيره؛ فقد روى عن ابن أبي عمر بسند واهٍ إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و آله أنه صلى إلى الميزاب وهو بالمدينة، ثم قدم مكّة فكان يصلي إلى المقام ما كان بمكّة.

وقد روى الفاكهي هذا الخبر كما ذكره الفاسي في شفاء الغرام وفيه: أن النبي صلى الله عليه و آله قدم مكّة من المدينة فكان يصلي إلى المقام وهو ملصق بالبيت أو بالكعبة حتى توفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛

فأسقط الأزرقي في روايته قوله: وهو ملصق بالبيت حتى توفي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وجعل موضعها: ما كان بمكّة.

وروى الأزرقي رواية عن عبداللَّه بن سائب: فكنت أوّل من صلّى خلف المقام حين حوّل إلى موضعه.

ولم ترق للأزرقي كلمة «حوّل» فعقبه برواية اخرى عن عبداللَّه بن سائب وفيها: أنا أوّل من صلّى خلف المقام حين ردّ في موضعه هذا.

ورابعاً: ما ذكره آل الشيخ في شأن بعض وسائط الرواية من أنه غير ضابط؛ حكاه عن البخاري وأنه لذا عدّه العقيلي في الضعفاء وذكر أن ابن حجر أيضاً قدح فيه.

وخامساً: ما ذكره أيضاً من أن ابن أبي مليكة- على فرض ثبوته عنه- لم يأخذه عن الصحابة فيما يرى المحب الطبري صاحب (القرى)، وإنما فهمه من سياق رواية كثير عن أبيه في قصّة احتمال سيل أم نهشل المقام؛- وهو الحديث الثالث فيما ذكرناه هنا- ومعه فلا مجال للأخذ به بعد تصريح عائشة بأن المقام كان ملصقاً بالبيت في عهد النبي وبعده إلى زمان عمر وأن عمر هو الذي أخّره.

وسادساً: ما ذكره أيضاً من أن فهم ابن أبي مليكة نشأ من سؤال عمر أين موضعه؟- في الرواية الثالثة- ولكن يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى موضعه قبل

ص: 123

احتمال السيل له، وأما أن موضعه قبل احتمال سيل أم نهشل هو موضعه في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو أن عمر كان حوّله قبل السيل فسأل عن ذلك الموضع فكل محتمل.

ويدل على الثاني رواية صحيحة لابن عيينة صرح فيها بذلك، بعد التصريح بأن المقام كان في سقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه و آله (1).

الثالث: رواية اخرى للأزرقي بسنده عن ا لمطلب بن أبي وداعة السهمي قال: كانت السيول تدخل المسجد الحرام... وربما دفعت المقام من موضعه وربما نحّته إلى وجه الكعبة حتى جاء سيل في خلافة عمر يقال له: سيل امّ نهشل...

فاحتمل المقام من موضعه، فذهب به حتى وُجد في أسفل مكّة، فأتي به فربط إلى أستار الكعبة في وجهها؛ وكتب في ذلك إلى عمر، فأقبل عمر فزعاً فدخل بعمرة في شهر رمضان وقد غمّي موضعه، وعفاه السيل فدعا عمر بالناس فقال: أنشد اللَّه عبداً عنده علم في هذا المقام؛ فقال المطّلب بن أبي وداعة السهمي: أنا يا أميرالمؤمنين عندي ذلك؛ فقد كنت أخشى عليه فأخذت قدره من موضعه إلى الركن ومن موضعه إلى باب الحجر ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهو عندي في البيت؛ فقال له عمر: فاجلس عندي وأرسل إليها، فاتي بها فمدّها فوجدها مستوية إلى موضعه هذا؛ فسأل الناس وشاورهم فقالوا: نعم هذا موضعه؛ فلما استثبت ذلك عمر وحق عنده، أمر به فأعلم ببناء ربضه تحت المقام، ثم حوّله فهو في مكانه هذا إلى اليوم (2).

ويرد عليه أوّلًا: ما تقدم في الخبر السابق من احتمال كون المراد بالموضع المذكور في هذا الخبر الموضع الّذي وضعه فيه عمّر أوّل مرة فسأل عنه ليجعله فيه مرة أخرى؛ فقد روى ابن أبي حاتم بسند صحيح- عند أهل السنّة- عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان المقام في صقع البيت على عهد النبي صلى الله عليه و آله فحوّله عمر إلى مكانه


1- الجواب المستقيم: 26.
2- نفس المصدر.

ص: 124

بعد النبي صلى الله عليه و آله وبعد قوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» الآية. قال:

ذهب السيل به بعد تحويل عمر إيّاه من موضعه هذا فردّه عمر إليه (1).

فيظهر من هذا أن جعل المقام في الموضع الفعلي صدر من عمر مرّتين: إحداهما قبل ذهاب السيل وذلك بنقله من لصق البيت إلى هذا الموضع، واخرى: بعد ما ذهب به السيل وأخذه من موضعه الفعلي.

ثانياً: يرد عليه مثل ما تقدم الإيراد به في الأمر الثاني.

وثالثاً: جهالة بعض وسائط الخبر مثل كثير بن المطلب كما قيل، وقيل أيضاً باشتمال الخبر على الإرسال.

الرابع: رواية اخرى للأزرقي بسنده عن حبيب بن أبي الأشرس قال: كان سيل امّ نهشل قبل أن يعمل عمر الردم بأعلى مكّة، فاحتمل المقام من مكانه فلم يدر أين موضعه؟! فلما قدم عمر سأل من يعلم موضعه؟ فقال المطلب بن أبي وداعة: أنا يا أمير المؤمنين! قد قدرته بمقاط- وتخوفت عليه هذا- من الحجر إليه من وجه الكعبة إليه؛ فقال: ائت به، فجاء به ووضعه في موضعه هذا، وعمل عمر الردم عند ذلك.

قال سفيان: فذلك الّذي حدثنا هشام بن عروة عن أبيه: أن المقام كان عند سقع البيت؛ فأمّا موضعه الذي هو موضعه، فموضعه الآن. وأمّا ما يقوله الناس: إنه كان هنالك موضعه فلا.

قال سفيان: وقد ذكر عمرو بن دينار نحواً من حديث ابن الأشرس هذا، لا اميز أحدهما من صاحبه (2).

ويرد عليه مضافاً إلى ما تقدم في الأمر الثاني؛

وأيضاً ما تقدم من احتمال كون المراد ردّه إلى الموضع الذي كان عمر قبل


1- الجواب المستقيم: 31.
2- نفس المصدر.

ص: 125

حوّله إليه أوّلًا على ما يستفاد من رواية سفيان، فراجع ما ذكرناه في الجواب عن الحديث السابق.

مضافاً إلى ذلك كلّه ما قيل من أن ابن أبي الأشرس لا يحتج بروايته وأنه متروك منكر الحديث جدّاً، وأنه ليس بشي ء وليس بثقة (1).

الخامس: رواية ذكرها ابن كثير أن ابن مردويه روى بسنده عن مجاهد: كان المقام عند البيت فحوّله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى هذا (2). قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن.

ويرد عليه: أوّلًا: معارضته بروايات متواترة دلّت على خلافها كما تقدم.

وثانياً: إنها ضعيفة باعتراف أهل السنة؛ فقد أشار ابن كثير إلى ضعفها وضعّفها ابن حجر في الفتح (3)، وأشار إلى ضعف بعض وسائطه المعلمي (4).

وثالثاً: إنه روى عن مجاهد- راوي هذا الخبر- أن عمر هو الذي حوّل المقام، وهو الذي رواه عبد الرزّاق في المصنف. قال آل الشيخ: هذا أصح من طريق ابن مردويه.

السادس: عن شفاء الغرام للفاسي أنه ذكر موسى ابن عقبة في مغازيه: وكان زعموا أن المقام لاصق في الكعبة فأخّره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مكانه هذا (5).


1- راجع التاريخ الصغير للبخاري والضعفاء والمتروكين للنسائي والضعفاء للعقيلي والجرح والتعديل لابن أبي حاتم والمجروحين لابن حبان ولسان الميزان لابن حجر وغيرها. وماذكره الأزرقي في ذيل الخبر عن سفيان عن هشام عن أبيه، فمع ارتباكه في نفسه حيث ذكر أن المقام كان عند سقع البيت وظاهره أنه موضعه الأصلي ثم ذكر أنّه موضعه الآن؛ فمعارض برواية عبدالرزّاق في المصنف كما سبق بسند صحيح عن هشام عن أبيه بخلافه. وكذا رواية ابن أبي حاتم المتقدّمة بسنده عن هشام عن أبيه. بل لا يعدل وثاقة الأزرقي وثاقة عبد الرزاق وابن أبي حاتم عند أهل السنّة.
2- تفسير ابن كثير 12: 315 عنه المعلمي في رسالة: 66 وآل الشيخ في رسالته: 22.
3- فتح الباري 8: 29.
4- مقام إبراهيم: 67.
5- شفاء الغرام 1: 206.

ص: 126

ويرد عليه- مضافاً إلى المعارضة التي قدّمناها- ما ذكره المعلّمي من أنهم ذكروا أن موسى بن عقبة تتبع المغازي بعد كبر سنّه، فربما يسمع ممن هو دونه وقد قال: زعموا.

مع أنّ تعبير ابن عقبة في النسبة إلى القائل بزعمهم مشعر إن لم يكن دالّاً على أنه لا يرتضيه هو.

السابع: ما رواه الأزرقي في تاريخ مكّة بسنده عن عبد اللَّه بن السائب- وكان يصلي بأهل مكّة- قال: أنا أوّل من صلّى خلف المقام حين ردّ في موضعه هذا (1).

وجه الاستدلال أن قول عبداللَّه بن السائب: حين ردّ في موضعه، يفهم منه أن ذاك الموضع كان موضعاً للمقام سابقاً أيضاً، إلّاأنه فصل عنه برهة فكان جعله فيه ردّاً إليه.

ويرد عليه أوّلًا: أن عبدالرّزاق في مصنّفه نقل القضية هكذا: كنت أوّل من


1- نفس المصدر.

ص: 127

صلى وراءه حين وضع؛ فكلمة حين وضع في رواية عبدالرّزاق هو الّذي غيرها راوي النقل المتقدم، وهو سليم بن مسلم الذي روى عنه الأزرقي؛ وهذا الراوي قدحوا فيه بأنه غير مأمون لا على عقيدته ولا على الحديث؛ وعدوه واهياً متروك الحديث؛ بل قيل: لا يساوي حديثه شيئاً (1).

وثانياً: إن هذه الرواية لو تمت سنداً ومتناً فهي معارضة بالروايات المنافية لها، وهي أصح سنداً وأوضح متناً ودلالة وأقوى مضموناً.

الثامن: رواية الأزرقي بسنده عن ابن جريج يشير إلى الموضع الملاصق للبيت وأنه الذي صلّى فيه النبي صلى الله عليه و آله، وأنه الموضع الذي جعل فيه المقام حين ذهب به سيل امّ نهشل إلى أن قدم عمر فردّه إلى موضعه الذي كان فيه في الجاهليّة وفي عهد النبي صلى الله عليه و آله وأبي بكر وبعض خلافة عمر إلى أن ذهب به السيل (2).

أقول: يرد عليه- مع الغض عن سنده ومعارضته- أن ظاهره أن النبي صلى الله عليه و آله صلى بجنب الكعبة وكان المقام غير موجود هناك وإنما كان متأخّراً عنه وفي موضعه الفعلي؛ وهذا القول غريب لم يعهد من أحد.

- يتبع-


1- راجع الضعفاء للعقيلي والضعفاء والمتروكين للنسائي ولسان الميزان لابن حجر والذهبي في المشتبه وغيرها.
2- الجواب المستقيم: 29.

ص: 128

فقه الجدال في الحجّ

دراسة فقهيّة استدلالية حول مفهوم الجدال وأحكامه (القسم الأول)

حيدر حب اللَّه

تمهيد

من جملة تروك الإحرام في الحج «الجدال»، وقد دلّت على حرمته نصوص الكتاب والسنّة:

أ- أمّا الكتاب، فقوله تعالى: «الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ» (1).

ب- وأمّا السنّة، فجملة من الروايات، ومنها ما هو معتبر السند مثل:

خبر عبداللَّه بن سنان، في قول اللَّه عزوجلّ: «وأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه» (2)، قال: «إتمامها أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج» (3).

كما استدلّ على الحكم بالإجماع أيضاً، وهو وإن كان منعقداً بين المسلمين قاطبةً، إلّاأنّه مدركيّ، فلا يكون بنفسه دليلًا، بل المدرك هو الآيات والروايات.

والبحث في الجدال يقع ضمن مباحث:


1- البقرة: 197.
2- البقرة: 196.
3- وسائل الشيعة 12: 466، كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح 6.

ص: 129

المبحث الأوّل: مفهوم الجدال المحرّم

اشارة

ما هو الجدال الذي حرّمته الآية؟ ما معناه؟ وما المراد به؟

الذي يبدو أنّ المسلمين انقسموا إزاء هذا الأمر، فقد ذهب مشهور فقهاء أهل السنّة (1)، إلى أنّ المراد بالجدال معناه اللغوي، وهو النزاع والمخاصمة و.. ممّا هو معروف، أمّا فقهاء الشيعة (2) فقد ذهبوا- أكثرهم- إلى أنّ المراد به قول: «لا واللَّه وبلى واللَّه»، فكأنّ الجدال عندهم اتخذ معنى شرعياً جديداً، خرج به عن معناه اللغوي، فبعد أن كان يعني النزاع والخصومة لغةً، صار يعني شرعاً هاتين الكلمتين، سواء كان هناك نزاع وخصومة أم لا؟


1- انظر: النووي، المجموع 7: 140، والإمام مالك، الموطأ 1: 389؛ والمغني لابن قدامة المقدسي 3: 265؛ والشرح الكبير 3: 329؛ وابن حزم، المحلّى 7: 196؛ وقد لاحظنا أنّهم استعملوا كلمة «لا واللَّه بلى واللَّه» لدى حديثهم عن لغو اليمين لا في باب الحج، فراجع الشافعي، كتاب الأم 7: 66، 257، ومختصر المزني: 290؛ والمجموع للنووي 18: 4، 7، 8؛ والحجاوي، الإقناع 2: 253؛ والشربيني، مغني المحتاج 4: 325؛ وحواشي الشرواني 10: 12؛ والدمياطي، إعانة الطالبين 4: 359، والمدوّنة الكبرى للإمام مالك 2: 101؛ والرعيني، مواهب الجليل 4: 399، والسمرقندي، تحفة الفقهاء 2: 295؛ والكاشاني، بدائع الصنائع 3- 4؛ وابن نجيم المصري، البحر الرائق 4: 468؛ والحصفكي، الدر المختار 4: 7؛ وحاشية ابن عابدين 4: 8؛ والمغني 11: 179؛ والشرح الكبير 11: 183؛ والبهوتي؛ كشاف القناع 6: 300؛ والعسقلاني، سبل السلام 4: 107؛ والشوكاني، نيل الأوطار 9: 132- 133 و... وورد تفسير اللغو بالأيمان في بعض الروايات الشيعية بلا واللَّه وبلى واللَّه. فانظر: الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 361.
2- راجع: الصدوق، المقنع: 223؛ والطوسي، النهاية: 219؛ والمبسوط 1: 320؛ والرسائل العشر: 228؛ وابن البراج، المهذب 1: 221؛ والحلّي، الجامع للشرائع: 184؛ والعلّامة الحلّي، مختلف الشيعة 4: 87، والتذكرة 7: 393- 394؛ و 8: 27، وإرشاد الأذهان 1: 317، وتحرير الأحكام 2: 17، وتبصرة المتعلّمين: 90؛ وفخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 296؛ والشهيد الأوّل الدروس 1: 386، واللمعة: 59؛ وابن فهد، الرسائل العشر: 321؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 183- 184؛ ورسائل الكركي 2: 154؛ والشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 240، ومسالك الأفهام 2: 258؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 6: 293- 296؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 341- 342؛ والبهائي، جامع عباسي: 117؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد: 589، 593- 594، وكفاية الأحكام 1: 299، والجزائري، التحفة السنية: 182؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 462- 463؛ والأنصاري، مناسك الحجّ، سلسلة مصنفات الشيخ الأعظم 13: 37؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة، كتاب الحج 4: 112- 114؛ والسرائر 1: 545؛ والجناحي، كشف الغطاء 4: 573؛ والروحاني، فقه الصادق 10: 461- 463؛ وابن زهرة، غنية النزوع: 160، والمرتضى، الانتصار: 242.

ص: 130

وقد وقع جدل بين فقهاء الإماميّة، انطلاقاً من التفسير المذكور، حول نقطتين:

الأولى: هل المحرّم هو هاتان الكلمتان معاً، أم أنّ الواحدة منهما تكفي؟

الثانية: هل المحرّم هو خصوص هاتين الكلمتين، أم المراد بهما الإشارة إلى مطلق اليمين حتّى لو كان بغير الصيغتين المذكورتين؟

بدورنا، سنركّز بحثنا على النقطة التالية: أيّ من التفسيرين هو الصحيح لمفهوم الجدال؟ هل المعنى اللغوي أم اليمين؟ ما هو مدرك النظرية الثانية؟ وهل يمكن تصوّر نظريّة ثالثة أو رابعة في البين أم لا؟

ونتعرّض- بدايةً- لمدرك النظرية الأولى، ثمّ نعرّج على مدرك النظريّة الثانية، لنخرج بنتيجة نهائيّة في الموضوع بعون اللَّه سبحانه.

مستند نظرية التفسير اللغوي للجدال

الذي يبدو أنّ المستند الرئيس للنظرية القائلة بأنّ الجدال المحرّم في الحجّ هو النزاع والمخاصمة، هو اللغة العربية، فالمصادر اللغوية تُجمع- حسب الظاهر- على أنّ الجدال في اللغة يعني النزاع والخصومة والحوار الصاخب وأمثال ذلك (1)، حتّى أنّ أصحاب النظرية الثانية أنفسهم أقرّوا بأنّ المعنى اللغوي قائم على ذلك، وأنّ نصوص السنّة هي التي دفعت إلى تبنّي القول الثاني، ولولاها لأخذنا بهذا المعنى في تفسير الآية الكريمة (2).

ولا شك في صحّة هذا الكلام، وأنّ هذا التفسير هو المتعيّن، غير أنّ المفروض


1- راجع: ابن منظور، لسان العرب 11: 105، و 15: 278، والقاموس المحيط 3: 346- 347؛ ومجمع البحرين 1: 351- 353؛ وتاج العروس 7: 254، و 10: 341؛ وأبوهلال العسكري، الفروق اللغوية: 158- 159؛ والتبيان 2: 164- 165؛ ومجمع البيان 2: 43؛ والميزان 2: 79 و..
2- انظر- على سبيل المثال-: الخوئي، المعتمد في مناسك الحج 4: 162- 163؛ والشيخ كاشف الغطاء، كشف الغطاء 4: 573.

ص: 131

مراجعة نصوص السنّة قبل البتّ بالموضوع، انطلاقاً من كونها مرجعاً ثانياً مع القرآن الكريم، لننظر: هل في السنّة الشريفة ما يفرض- منطقيّاً- العدول عن هذا التفسير الصائب في حدّ نفسه أم لا؟

ومعنى ذلك أن صحّة النظريّة الأولى صحّة معلقةٌ على الفراغ عن رصد مستندات النظرية الثانية، وهو ما سنقوم به الآن إن شاء اللَّه تعالى.

مستند نظرية التفسير الشرعي للجدال

الظاهر أنّ المستند الوحيد الذي ينبغي التعرّض له للتفسير الشرعي للجدال هو الروايات الشريفة، فإنّ الإجماع هنا واضح المدركية، فلا يعتمد عليه، كما أنّ النص القرآني لا يدلّ عليها وفق ما أشرنا، ولا سبيل لدليل العقل في الميدان حسب ما يبدو لنا.

المستند الرئيس لتفسير الجدال في الآية بالنزاع هو اللغة العربية

وعليه، فلا بدّ من استعراض نصوص السنّة الواردة في المقام للوصول منها إلى نتيجة، وهذه النصوص هي:

الرواية الأولى: صحيحة معاوية بن عمّار قال: «قال أبوعبداللَّه عليه السلام: إذا أحرمت فعليك بتقوى اللَّه، وذكر اللَّه، وقلّة الكلام، إلّابخير، فإنّ تمام الحجّ والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلّامن خير، كما قال اللَّه عزّوجلّ، فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول:

«فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ» (1)؛ فالرفث:

الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل: لا واللَّه وبلى واللَّه» (2).

ومن الواضح أنّ الرواية بصدد بيان معنى ما ورد في الآية، أي أنّها ناظرة إليها


1- البقرة: 197.
2- وسائل الشيعة 12: 463- 464، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح 1.

ص: 132

نظرةً تفسيرية، وتريد أن تشرح معناها، وليست في مقام بيان الحكم الشرعي فقط بقطع النظر عن الآية، بل الرواية ناظرة إلى الآية، فهي تحوي- إضافة إلى بيان الحكم الشرعي- تفسيراً للآية ونظراً إليها، ممّا يفرض جعل مدلول الآية بالمعنى الذي تنصّ عليه الرواية، فالخبر تامّ السند والدلالة.

الرواية الثانية: صحيحة علي بن جعفر قال: «سألت أخي موسى عليه السلام عن الرفث والفسوق والجدال ما هو؟ وما على من فعله؟ فقال: الرفث: جماع النساء، والفسوق: الكذب والمفاخرة، والجدال: قول الرجل: لا واللَّه وبلى واللَّه...» (1).

وحال هذه الرواية كحال سابقتها وإن لم يرد فيها ذكر الآية، ذلك أنّ السؤال عن هذه الثلاث بهذا الترتيب ظاهر في أنّ نظر علي بن جعفر إلى الآية نفسها، وأنّ الإمام لمّا فسّر الثلاث يكون قد فسّر الآية، وتكون النتيجة مطابقة لما استفدناه من الرواية الأولى.

الرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمّار، وهي مثل الرواية الأولى، إلّاأنه جاء في آخرها: «وسألته عن الرجل يقول: لا لعمري وبلى لعمري؟ قال: ليس هذا من الجدال، وإنّما الجدال: لا واللَّه وبلى واللَّه» (2).

وهذه الرواية يبدو أنّها عين الرواية الأولى، وليست روايةً ثانية؛ لاشتراكها معها في مقطع كبير، مع وحدة الراوي، لكن المهم فيها أنّ الإمام عليه السلام نفى أن يكون من الجدال قول: «لا لعمري وبلى لعمري»، مستخدماً لحصره في لا واللَّه وبلى واللَّه كلمة «إنّما»، وهذا ما يفيد كون الجدال- حصراً- خاصاً بهذين التعبيرين، وأنّ الموضوع ليس موضوع نزاع ومخاصمة، وهذه دلالة إضافية، أي دلالة الحصر، تعطينا إيّاها هذه الرواية، أللهم إلّاإذا قيل: إنّ الحصر هنا إضافي بلحاظ ما سبق،


1- المصدر نفسه: 465، ح 4، و 13: 115.
2- المصدر نفسه: 465- 466، ح 5.

ص: 133

لا حقيقي لنفي المفهوم اللغوي (1).

الرواية الرابعة: خبر زيد الشحّام قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرفث والفسوق والجدال؟ قال: أمّا الرفث فالجماع، وأمّا الفسوق فهو الكذب، ألا تسمع لقوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة» (2)، والجدال هو قول الرجل: لا واللَّه وبلى واللَّه، وسباب الرجل الرجل» (3).

ونواجه مع هذه الرواية:

أوّلًا: إنّ الرواية ضعيفة السند بالمفضل بن صالح الضعيف (4)، فلا يحتجّ بها.

ثانياً: إنّها تخالف غيرها من الروايات العديدة التامة السند، التي فسّرت الفسوق بالسباب، فإنّنا لم نجد رواية فسّرت الجدال بالسباب، كهذه الرواية، وهذا ما يجعلها معارضةً لمثل صحيحتي معاوية بن عمّار وعلي بن جعفر وغيرهما.

الرواية الخامسة: خبر العياشي في تفسيره عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، في قول اللَّه: «الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ» (5)، والرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل: لا واللَّه وبلى واللَّه» (6).

وهذه الرواية من حيث الدلالة كسابقاتها، إلّاأنّها:

أوّلًا: ضعيفة السند بالإرسال، فلا يحتجّ بها.

ثانياً: إنّ الظاهر منها أنّها عين صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة، فهي


1- أشار إليه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 3: 183.
2- الحجرات: 6.
3- وسائل الشيعة 12: 467، ح 8.
4- راجع: الخوئي، معجم رجال الحديث 18: 286- 287.
5- البقرة: 197.
6- وسائل الشيعة 12: 467، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح 9.

ص: 134

متطابقة الألفاظ، مع وحدة الراوي، ولا دليل على تعدّد الرواية، فلا تقدّم لنا شيئاً إضافياً.

الرواية السادسة: صحيحة معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل يقول: لا لعمري وهو مُحرم؟ قال: ليس بالجدال، إنّما الجدال قول الرجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه، وأمّا قوله: لاها، فإنّما طلب الإسم، وقوله: يا هناه، فلا بأس به، وأمّا قوله: لا بل شانيك، فإنّه من قول الجاهلية» (1).

ومن الواضح أنّ الرواية مستغرقة في تفسير الجدال بكلمات، لا بالنزاع والخصومة، فإنّه لو كان الجدال بمعناه اللغوي، لم يكن معنى لهذه الموضوعات مطلقاً، سيّما مع استخدامها أداة الحصر «إنّما»، فهي تامّة الدلالة مضافاً إلى تماميّة السند.

الرواية السابعة: صحيحة أبي بصير- ليث بن البختري- قال: «سألته عن الُمحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه: واللَّه لا تعمله، فيقول: واللَّه لأعملنّه، فيخالفه مراراً، يلزمه ما يلزم الجدال؟ قال: لا، إنّما أراد بهذا إكرام أخيه، إنّما كان ذلك ما كان [للَّه] فيه معصية» (2).

والرواية تركّز على مفهوم اليمين في الدلالة، غايته أنّها تحصر ذلك باليمين الذي فيه معصية، وهذا يثبت المبدأ، وهو صيرورة مفهوم الجدال منحصراً في اليمين، وإن كان وقع بحث في تفصيله، وهو قضية المعصية وعدمها (3).

إلّا أنّ الإنصاف أنّ هذه الرواية لا دلالة لها على المطلوب وذلك:

أوّلًا: إنّ أقصى ما تفيده دخول بعض الأيمان في مفهوم الجدال، لكنّها لا تنفي المفهوم اللغوي، على خلاف الحال من الروايات السابقة التي التزمنا دلالتها على


1- المصدر نفسه: 465، ح 5.
2- المصدر نفسه: 466، ح 7.
3- راجع: الخوئي، المعتمد 4: 163- 164.

ص: 135

التحوّل المفهومي شرعاً للكلمة، إما من خلال ظهورها في النظر إلى الآية لتفسيرها بما يصرفها عن المعنى اللغوي، أو استخدام أدوات تفيد المؤدّى نفسه إن لم نقل بإضافية الحصر بلحاظ مثل «لا لعمري» ونحو ذلك.

فنحن نريد هنا، تأكيد تأسيس معنى جديد لكلمة الجدال، كما هي النظرية المشهورة، لا اعتبار المعنى اللغوي مع إضافة، فهذا ما لم يذهب إليه المشهور، كما هو ظاهر كلماتهم.

ثانياً: إنّ الرواية ليست ظاهرة في أخذ خصوصيّة اليمين، بل يحتمل فيها جدّاً أن يكون المراد السؤال عن هذه الحالة بوصفها جدالًا بالمعنى اللغوي، أو ممّا يحتمل فيه شبهة الجدال، سيّما بقرينة قوله: «فيخالفه مراراً»، ممّا يحتمل معه صرف مفهوم الجدال والخصومة لغةً، ومعه فلا يحرز أنّ المراد منها اليمين وإن استخدمته الرواية، وإنّما فسّرت الرواية بما ينسجم مع سائر الروايات للأنس بالمعنى، وإلّا لو بقينا وإيّاها وحدنا لأمكن جعلها منسجمةً تماماً مع المعنى اللغوي، سيّما وأنّها تنفي الحكم في موردٍ لا خصومة فيه، وإنّما سأل السائل لشبهة كون المورد مخاصمة.

فهذه الرواية لا يصحّ التمسّك بها لإثبات ما ذهب إليه المشهور.

الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة: خبر أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: «إذا حلف بثلاثة أيمان متتابعات صادقاً فقد جادل، وعليه دم، وإذا حلف بيمين واحدة كاذباً فقد جادل، وعليه دم» (1).

وتقريب دلالتها أنّها تركّز على مفهوم اليمين، حتّى أنّها تميز بين اليمين الصادقة والكاذبة، ممّا يجعلها تنظر إلى الانصراف عن موضوع المعنى اللغوي بحكم الأمر المفروغ منه.

إلّا أنّه مع ذلك يمكن القول بأنّ الرواية لا تنفي المعنى اللغوي، بل توسّع دائرة الجدال، بما يشمل اليمين، فيمكن القول: إنّها ساكتة عن الدلالة اللغوية الموجودة في


1- وسائل الشيعة 13: 146، كتاب الحجّ، أبواب بقية كفّارات الإحرام، باب 22، ح 4.

ص: 136

الآية، غايته أنّها توسّع- بالتعبّد والاعتبار على سبيل الحكومة- المراد من الجدال المحرّم شرعاً بما يشمل اليمين.

ونحو هذه الرواية خبران آخران لمعاوية بن عمّار ولأبان بن عثمان عن أبي بصير (1).

الرواية الحادية عشرة: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«سألته عن الجدال في الحجّ؟ فقال: من زاد على مرّتين فقد وقع عليه دم، فقيل له:

الذي يجادل وهو صادق؟ قال: عليه شاة، والكاذب عليه بقرة» (2).

إلّا أنّ هذه الرواية لا تدلّ على رأي المشهور أبداً، فهي لا تبيّن حقيقة الجدال، بل تشير إلى أنّه لو وقع كانت كفّارته كذا وكذا، ومجرّد التعبير بصادقاً وكاذباً لا تدلّ على مسألة اليمين، لأنّ الجدال قد يكون صادقاً وكاذباً، فقد يجادل في أمر يرى نفسه على حقّ فيه، وقد يجادل في أمر يعلم أنّه غير محقّ فيه، فتعبير: «صادقاً وكاذباً» كما يصحّ في مورد اليمين، كذا يصح في المعنى اللغوي للجدال، فترجيح احتمال اليمين لا معنى له.

الرواية الثانية عشرة: صحيحة يونس بن يعقوب قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المحرم يقول: لا واللَّه وبلى واللَّه وهو صادق، عليه شي ء؟ قال: لا» (3).

وتقريب الاستدلال بالرواية أنّها سألت عن الكفّارة، ممّا يرشد إلى مفروغية الحكم بكون هذا التعبير من محرمات الإحرام، وحيث لا مجال لإدخال هذا المورد إلّا في الجدال بقرينة سائر الروايات، كانت هذه الرواية داعمةً لتلك النصوص المناصرة لقول المشهور.

لكن مع ذلك يناقش بأن أقصى ما تفيده الرواية- بالتقريب المتقدّم- اندراج اليمين في الجدال، لا تحوّل مفهومه إلى معنى جديد كما عليه المشهور؛ فلا تكون


1- المصدر نفسه: 146- 147، ح 5، 7.
2- المصدر نفسه: 147، ح 6.
3- المصدر نفسه: 147، ح 8.

ص: 137

الرواية دالّةً على القول المشهور هنا.

الرواية الثالثة عشرة: خبر إبراهيم بن عبدالحميد عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: «من جادل في الحجّ فعليه... والفسوق الكذب، والجدال: قول لا واللَّه وبلى واللَّه، والمفاخرة» (1).

وهذه الرواية مردودة وذلك:

أوّلًا: بضعفها السندي بالإرسال، دون وجود عامل بها، بل الظاهر أنّ الأصحاب هجروها لمخالفتها لروايات كثيرة في صدرها، لا في المقطع الذي نقلناه وهو موضع شاهدنا (2)، وما ذكره صاحب الرياض والجواهر و... من أن سقوط بعضها لا يسقط حجّية البعض الآخر (3) مردود أصوليّاً؛ لأنّ دلالة البعض الساقط لم تسقط لتقية ونحوها ممّا يحتمل معه التبعيض الدلالي في الحجّية.

ثانياً: إنّها فسّرت الجدال بالمفاخرة، وهذا ما لم يرد في الروايات الأخرى، نعم ورد في خبر زيد الشحّام المتقدّم تفسير الجدال- إضافة إلى الجملتين المعروفتين- بسباب الرجل الرجل، وهذا مخالف لدلالة الحصر والسياق الحصري


1- المصدر نفسه: 148، ح 10؛ وتفسير العياشي: 95.
2- لمزيد من الاطلاع، راجع: النراقي، مستند الشيعة 13: 292؛ والخوانساري، جامع المدارك 2: 630- 631؛ والخوئي، المعتمد 4: 172؛ والروحاني، فقه الصادق 11: 214، والحكيم، دليل الناسك: 219.
3- الطباطبائي، رياض المسائل 7: 426، والنجفي، جواهر الكلام 20: 422.

ص: 138

الوارد في الروايات الأخرى، فلعلّه يكون مضعّفاً.

هذه هي الروايات الواردة في المقام قد بلغت ثلاثة عشرة رواية، الذي ثبت منها سنداً ودلالة ثلاث روايات فقط، فالرواية الأولى والثالثة واحدة، كما أنّ الرواية الرابعة والخامسة والثالثة عشرة ضعيفة السند، أمّا الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة فهي قاصرة دلالة، بمعنى أنّها تفيد شمول مفهوم الجدال القرآني لمثل بعض الأيمان على أبعد تقدير، على سبيل الحكومة الموسعة بالتعبد والاعتبار، لا أنّها تخلق تحوّلًا جذرياً في مفهوم الجدال كما عليه المشهور، وفق ما تقدّم، على أنّ الرواية الأولى والسادسة مشتركة في راويها، وهو معاوية بن عمّار، وفي حالٍ من هذا النوع لا ينبغي ادّعاء الاستفاضة فضلًا عن التواتر، نعم ثمة دليل صحيح ومعتبر.

إلّا أنّه مع ذلك كلّه قد يقدّم تصوّر آخر عن مفهوم الجدال المحرّم في الحجّ، نعرضه ضمن نظرية ثالثة- ذات وجوه- هي:

نظرية الجدال بالمعنى الأخصّ

قد يقال: إن مراجعة نصوص الكتاب والسنّة في موضوع الجدال المحرّم على المحرم في الحج تدلّ على أنّ الحرام نوع خاصّ من الجدال، هو ذاك الجدل الذي يتّسم بالشدّة والازدياد عرفاً بحيث يستخدم فيه الطرفان الأيمان والحلف لتأكيد موقفهما، أمّا الجدال العادي الهادئ أو العابر فليس مشمولًا لحرمة الجدال، بعد البناء على حجّية الخبر الواحد.

وتقريب ذلك أنّ الآية القرآنيّة ركّزت مفهوم الجدال، ولم يرد أيّ معنى لغوي للجدال يفسّره باليمين، فضلًا عن نوع خاصّ من اليمين، والتمثيل بكلمتي: لا واللَّه، بلى واللَّه، وحيث كان القرآن عربياً لزم تفسير الآية وفق المعنى اللغوي العرفي لدى أبناء اللسان العربي، وليس إلّاما سبق وأسلفناه من المعنى اللغوي.

ص: 139

والتحقيق في فهم الروايات الواردة في المقام، أن أمامنا في تفسيرها احتمالات خمسة هي:

الاحتمال الأوّل: أن يراد بها تأسيس معنى شرعي للجدال، مباين تماماً للمعنى اللغوي والعرفي، وهذا الاحتمال- رغم أنّه المنصرف عرفاً من الروايات- مردود، إذ لو كان مراد الروايات ذلك لكانت مناقضةً للقرآن، فيجب طرحها حتّى لو كانت صحيحة السند، وإلّا فما معنى مخالفة القرآن؟ وطرح النصوص التي تعارضه؟ فإن المورد من أوضح مصاديق المخالفة، لأنّ النصّ القرآني يعطي معنى في ظهوره الذاتي، فيما تنفيه تماماً- حسب الفرض- الدلالة الالتزامية لمفاد الحصر الوارد في الروايات، فإنّ الأحاديث بحصرها معنى الجدال في اليمين بقطع النظر عن النزاع والخصومة، تريد بالدلالة الالتزامية نفي النزاع والخصومة، وهو ما يساوق نفي الظهور القرآني، فتكون الرواية مخالفةً للقرآن، لا بنحو التخصيص أو التقييد، بل بنحو المباينة، مع الأخذ بعين الاعتبار الدلالة الالتزامية المشار إليها، وإذا أريد حذف هذه الدلالة لبطل الاحتمال الأوّل الذي يساوق القول المشهور بين الإماميّة، فإنّ هذا الاحتمال قائم على الحصر ونفي الجدل بالمعنى اللغوي.

إذن، فحصر الجدال ببعض أنواع اليمين فقط، مخالف للظهور القرآني للآية فتطرح الروايات أو يردّ علمها إلى أهلها، ولا معنى لمقارنة كلمة «جدال» بكلمة «غائط» في أن الشرع أكسبها معنى جديداً (1)، فإنّ هذا لا ضير فيه، لو كانت الآية قد نزلت بعد هذا التحوّل وحصول الحقيقة الشرعية، وليس كذلك، فتحمل الآية على المعنى اللغوي، إذ لم يرد ما يدلّ على حصول التحوّل قبل عصر الصادقين عليهما السلام، فقد تمّ هنا الخلط بين أمرين.

قد يقال: إنّ هذا يتمّ لو لم تكن الروايات بصدد الإشارة إلى الآيات وتفسيرها، وقد تقدّم أنّها في هذا الصدد، لا أقلّ الرواية الأولى والثانية المتقدّمتين،


1- ابن زهرة، غنية النزوع: 160.

ص: 140

ومعه يؤخذ بدلالة الرواية في تفسيرها للآية الكريمة.

وهذا الكلام قد يبدو بظاهره جيّداً، إلّاأنّه قد وقع فيه خلط بين الحديث الواقعي والحديث المنقول، فلو أنّنا سمعنا المعصوم عليه السلام يفسّر لنا الآية باليمين، لوجب علينا قبول تفسيره، ولا مجال للنقاش معه، وهذا واضح، إلّاأنّه خاص بالعلم اليقيني بصدور الرواية، وقد أسلفنا أنّ هذه الرواية لا استفاضة فيها فضلًا عن التواتر، وعمل الأصحاب بها لا يصيّرها قطعية الصدور، وعهدة القطعيّة على مدّعيها.

أمّا لو لم يحصل لنا يقين بصدور الحديث عن المعصوم عليه السلام، فلا يمكن أن نتعامل معه معاملة الصادر الواقعي مطلقاً، بل إنّ حجّيته تكون حينئذٍ مشروطة بعدم مخالفته للكتاب، ومجرّد ادّعاء الخبر أنّه يفسّر القرآن لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً، فإنّ هذه الخصوصيّة لا ترفع عنوان معارضة الكتاب، ومع تحقّق هذا العنوان ينبغي تطبيق قواعد الحجّية القاضية بسقوط اعتبار الأخبار.

وكلّي ظنّ بأن الخلط بين السنّة الواقعيّة والسنّة الظنّية المحكيّة هو ما يفضي عادةً إلى توهّم حاكميّة نصّ السنّة المحكيّة على نصّ الكتاب، وافتراض أنّنا قد خفي علينا شي ء في نص القرآن الكريم.

نعم، لو كانت الرواية بصدد بيان بطون القرآن أو معان لم تظهر لنا منه لم يمكن ردّها لمجرّد أنّنا لم نفهم هذا المعنى عينه من الكتاب، إلّاأنّ المقام ليس كذلك بل هو مقام أن ما أعطتنا إيّاه الرواية ينافي الظهور العرفي، فهذا الظهور ليس بساكت عن مدلول ما أفادته الرواية، وهو الحصر باليمين، بل هو نافٍ له، وهذا هو المصداق البارز لمعارضة الكتاب، وإلّا فلم يُشترط إطلاقاً في معارضة الكتاب أن تكون الدلالة القرآنيّة صريحةً أو قطعيّة، كما لم يشرط في تطبيق قاعدة الطرح أن لا تكون الرواية ذات لسان تفسيري، وإلّا أمكن لأيّ وضّاع نسبة مخالفة الكتاب إلى المعصوم، إذا صاغ قوله بلغةٍ تفسيريّة، فلاحظ.

ص: 141

وبهذا ظهر فساد القول المشهور، الذي لا معنى لدعمه بالاحتياط كما فعله في الغنية (1)، فإنّ الاحتياط يقتضي تجنّب الجدال والحلف معاً، لا الترخيص في الجدال الذي نصّت الآية على حرمته، وتحريم الحلف فقط، كما هو واضح، كما لا معنى لدعمه بالإجماع (2) بعد كونه واضح المدركية.

هذا، وقد ردّ السيّد الگلپايگاني على من تمسّك- لدعم القول المشهور- بإطلاق الحلف دون ذكر المخاصمة، بأنّ الروايات مسوقة لبيان الآية، وهذا بنفسه يشهد على أنّ المراد بالجدال الجدلُ المؤكّد باليمين. بل يمكن القول: إنّ احتفاف نصّ الروايات بمثل هذا الجوّ يصلح بنفسه مانعاً عن انعقاد إطلاق فيها للحلف مطلقاً، ولو بدون جدال (3).

إن حصر الجدال بأيّ معنى لا يحتوي مخاصمة فيه معارضة للكتاب الكريم

وكلامه في غاية المتانة، ويمكن دعمه أيضاً بأنّه لو كان المراد محض الحلف لا غير، وكان المعنى اللغوي محض المخاصمة بقطع النظر عن الحلف، لكان ينبغي أن نجد ولو تساؤلًا واحداً من المتشرّعة طيلة ثلاثة قرون حول: كيف أريد من الآية معنى لا تمّت إليه بصلة ولا تتحمّله اللغة العربيّة؟ ألم يكن يستدعي ذلك إثارة علامات تساؤل من جانب الرواة أو من جانب فقهاء أهل السنّة المعاصرين للإمام عليه السلام؟ والحال أنّنا لم نعثر على أيّ رواية- ولو ضعيفة- تشير ولو إشارة عابرة إلى هذا الموضوع، ممّا يكشف عن أن السامعين إنّما فهموا من الروايات ما يتضمّن معنى الجدال، لا ما يخرج عنه إلى الحلف دون مخاصمة.


1- ابن زهرة، غنية النزوع: 160.
2- المصدر نفسه؛ والمرتضى، الانتصار: 242.
3- الگلپايگاني، كتاب الحج 2: 142.

ص: 142

والمتحصّل: أن هذا الاحتمال يصعب الأخذ به جداً.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد توسعة مفهوم الجدل لما يشمل اليمين الصرف، بمعنى أن تكون الروايات حاكمة على الآية، موسّعة لها توسعةً تعبّدية، فبعد أن كان الجدال واقعاً هو النزاع والخصومة والمراء و... صار الآن- ببركة الروايات- ذا فردين، أحدهما: الفرد الواقعي وهو النزاع، وثانيهما: الفرد التعبدي الذي قدّمته لنا الحكومة، وهو صرف اليمين أو اليمين الخاص المذكور في النصوص.

وهذا الاحتمال لا يمكن القول بأنّه معارضٌ للكتاب، إذ هو لا ينفي الدلالة القرآنيّة بل يقرّها ويثبتها، غايته أن يضيف فرداً تعبّدياً على الجدال، هو اليمين، وهذا ممّا لا ضير فيه.

إلّا أنّ هذا الاحتمال يعاني من ضعف إثباتي، وهو أنّ الروايات الواردة كانت بصدد الإشارة إلى الآية، وشرحها، ومعه فشرحها الآية- سيّما مع دلالة الحصر في بعضها- بالفرد التعبدي الجديد خلاف الظاهر، إذ لو كانت تريد هذا الاحتمال لكان عليها أن تبيّن الفرد الواقعي والفرد التعبّدي، لأنّها في مقام التفسير، فكيف غضّت الطرف عن المعنى الأولي وهي ظاهرة في التفسير، لتشير فقط إلى التعبّدي، فإن هذا خلاف الظاهر، سيّما وأنّنا لم نجد تساؤلًا لدى المتشرّعة عن الفرد الواقعي، ومعه لابد من افتراض أنّه كان مفروغاً عنه عندهم، وهو خلاف ظاهر السائل في الروايات.

نعم، الروايات الأخرى مثل الرواية السادسة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والثانية عشرة، ليس فيها هذا الضعف الإثباتي، فيمكن الأخذ بها فعلًا، لإثبات أن اليمين من المحرّمات دون نفي الجدال بالمعنى اللغوي.

الاحتمال الثالث: أن يقال: إنّ المراد ب «لا واللَّه وبلى واللَّه» مرتبة من الجدال، عندما يشتدّ الخصام فيبلغ بالطرفين حدّ الحلف واليمين، وعليه فتكون الروايات التي تشير إلى هاتين الجملتين إنّما تمثلان تعبيراً كنائياً عن اشتداد الخصام بين

ص: 143

الطرفين، فلا تزيد الروايات عن المعنى اللغوي للكلمة، غايته أنّها تضيّق من دائرة الجدال الحرام، فبعد أن كان يشمل مطلق الجدال، صار يراد منه جدال خاص، وهذا ما يفهم ممّا نقله في التذكرة عن ابن عباس، جاعلًا ما قاله الأئمّة بمعناه.. (1).

وهذا الاحتمال قريب إلى الفهم العرفي لمجموعة النصوص الواردة في المقام، ولا يلزم منه أيّ تكلّف، لا تكلّف الحكومة، ولا غيرها، وقد مال إلى هذا الاحتمال الفاضل الهندي في كشف اللثام (2)، والطباطبائي في رياض المسائل (3)، والخوانساري في جامع المدارك (4)، والگلپايگاني في كتاب الحج (5) وغيرهم.

ويعزّز هذا الاحتمال- كما قيل (6)- مضافاً إلى أصالة عدم الحرمة في غير مورد الخصومة هذه، صحيحةُ أبي بصير المتقدّمة (الرواية السابعة)، حيث نفت الجدال في مورد إكرام الأخ، ممّا يدلّ على الحصر بمورد الخصومة.

لكنّ هذا الاحتمال يواجه مشاكل أيضاً، ففي الرواية الثالثة نفى الإمام أن يكون قول مثل: لا لعمري من الجدال، حاصراً إيّاه بلا واللَّه وبلى واللَّه، فلو كانت المسألة مسألة نزاع شديد لم يكن لخصوصيّة التعبير معنى، والأمر نفسه تفيده الروايةالسادسة، وكلتاهما صحيحة السند، ومعه كيف يمكن تفسير الآية مع الروايات بهذا المعنى؟!

وأمّا التمسّك بالأصل هنا فهو جيّد؛ لولا أنّه لم يحن وقته بعد، إذ نحن نبدأ


1- العلّامة الحلّي، تذكرة الفقهاء 7: 393.
2- الهندي، كشف اللثام 5: 369.
3- الطباطبائي، رياض المسائل 6: 313.
4- الخوانساري، جامع المدارك 2: 405- 406.
5- الگلپايگاني، كتاب الحجّ 2: 141، وتقرير الحجّ 1: 195.
6- المدني الكاشاني، براهين الحجّ 3: 132؛ كما يصلح كلامه لدعم الاحتمال الخامس الآتي؛ وانظر: المرتضى، الانتصار: 242.

ص: 144

بالأمارات لكي نعرف ماذا تعطينا، فإذا أجمل الأمر عُدنا إلى الأصل، وسيأتي، وأمّا خبر أبي بصير فهو لا يدلّ على أن متعلّق الحكم هو الخصومة، بل يدلّ على اشتراط وجودها، لا كفايتها، وفرق واضح بينهما.

الاحتمال الرابع: أن يقال: إن «لا واللَّه وبلى واللَّه» يراد منه أبسط أنواع الحلف، فتكون كناية عن التشدّد في إطلاق حرمة الجدال، فكأنّه يقول: إنّ الحرام مطلق الجدال، حتّى هذا الذي فيه أبسط أنواع الحلف العابر غير المقصود.

ويدعم هذا الاحتمال أمران:

الأوّل: ما استفاض في مصادر الفقه والرواية السنّية، وكذا بعض المصادر الحديثيّة الشيعية، وقد أسلفنا نقل قسم منها، من أخذ «لا واللَّه وبلى واللَّه» أبرز أنموذج للغو اليمين، وهو اليمين التي تقع من المتكلّم بلا قصد الحلف، فإن ارتكاز هذا المثال، يدلّ على أن العرف آنذاك يرى مثل هذا التعبير سائداً في أوساط الناس، وأهل السوق وغيرهم، بحيث يصدر من المتحاورين عن غير قصد، لشدّة شيوع استخدامه في المحاورات، فعندما يذكر الإمام عليه السلام هذا المثال في باب الحجّ، فهو يريد التشدّد في أمر الجدال لا التخفيف، خلافاً لمفاد الاحتمال الثالث المتقدّم.

الثاني: ما نقله جماعة منهم ابن حجر والعظيم آبادي من أنّه نقل عن عطاء والشعبي وطاووس والحسن وأبي قلابة أن «لا واللَّه وبلى واللَّه» لغة من لغات العرب، لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام (1)، فهذا يؤكّد- رغم أنّها يمين- أنّها تحوّلت- من كثرة استعمالها- إلى أداة وصل في الكلام، ممّا يرشد إلى ما ذكرناه.

وهذا الاحتمال- رغم لطافته- يواجه المشاكل عينها التي واجهها الاحتمال السابق، فلو كان المراد مطلق الجدال فلماذا لم تحكم بذلك الرواية الثالثة التي ورد فيها: لا لعمري؟! وهكذا غيرها.

ولعلّ هذا ما يضطرّنا للذهاب إلى الاحتمال الخامس وهو:


1- ابن حجر، فتح الباري 11: 476؛ والعظيم آبادي، عون المعبود 9: 113.

ص: 145

الاحتمال الخامس: أن يراد مطلق الخصومة المرفقة باليمين، سواء كانت شديدة أم خفيفة، ولعلّ هذا أيضاً هو مراد الفقهاء الذين ذكرنا أسماءهم في الاحتمال الثالث، مضافاً إلى أنّه ظاهر آخرين (1)، وميزة هذا الاحتمال أنّه:

أوّلًا: لا يعارض النصّ القرآني، بل يخصّصه، فبعد أن كان المراد ظاهراً مطلق الجدال صار المراد الجدال المصحوب باليمين، أو بحصّة خاصّة منه.

ثانياً: لا يفترض نحواً من الحكومة، كما في الاحتمال الثاني، فلا تكون هناك غرابة في تفسير الإمام عليه السلام، وعدم ذكره للفرد الواقعي إنّما هو لوجوده ضمن الفرد الجديد، فإن المفروض أن الفرد الذي تحرّمه الروايات هو جدال حقيقي غايته مرفق بمطلق اليمين أو بيمين خاص.

ثالثاً: إنّ هذا الاحتمال لا يواجه مشكلة الرواية الثالثة، كما واجهها الاحتمال الثالث، لأنّ سلب الحرمة عن مثل: لعمري و... إنّما هو من باب عدم كون ذلك حلفاً، وإنّما لم نقل هذا الكلام في الاحتمال الثالث؛ لأنّ المفروض هناك أن تكون الحرمة منصبّة على النزاع الشديد، والحلف إنّما يكون طريقاً ومشيراً إلى ذلك، ومعه فتغيّر التعبير المشير أو الدالّ على تحقّق متعلّق الحرمة لا ينبغي أن يضرّ شيئاً، على خلاف الحال هنا، فإنّ المفروض ثبوت الحرمة على مطلق الجدال، غايته شريطة أن يرفق بحلف خاص أو مطلق الحلف باللَّه تعالى.

وبهذا كلّه، يردّ على مثل السيّد الخوئي (2)؛ حيث تمسّك بصحيحة معاوية (الرواية السادسة) لإثبات الاحتمال الأوّل.

نعم، يبقى على هذا الاحتمال تفسير مثل الرواية السادسة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والثانية عشرة، ومنها ما هو الصحيح السند؛ إذ تقدّم أنّها لا


1- انظر: المدني الكاشاني، براهين الحجّ 3: 132، 133، والسيّد محمود الشاهرودي، كتاب الحجّ 3: 181- 182.
2- الخوئي، المعتمد 4: 162- 163.

ص: 146

تأبى الاحتمال الثاني، فما هو المرجّح؟

وقد يقال هنا: إن دوران الأمر بين التخصيص لا بلسان الحكومة- كما عليه الاحتمال الخامس- والتخصيص بلسانها، كما هو الاحتمال الثاني، يفرض تقديم لسان التخصيص بدون الحكومة، إذ يراه العُرف أقلّ مؤونةً، وأسرع انسباقاً إلى الذهن العرفي، ولاحظ ذلك من نفسك.

لكن مع ذلك كلّه، نلاحظ على هذا الاحتمال الأخير الخامس أنّه لو صحّ نسأل: هل هذا البيان الوارد في مجمل هذه النصوص هو بيان عُرفي واضح للكشف عن أنّ حرمة الجدال مخصوصة بالجدال المرفق باليمين؟! هل قول: «الجدال هو لا واللَّه وبلى واللَّه» يستفاد منه عرفاً هذا المعنى، سيّما بقرينة الحصر في بعض النصوص؟! لماذا لم يرد في أيّ نصّ حديثي أيّ لسان آخر أوضح في الدلالة؟! أليس الاحتمال الأوّل هو المنسبق إلى الذهن وقد أحرزنا بطلانه؟ ألا يشهد لذلك- من باب التأييد- أنّه هو ما فهمه جلّ العلماء المتقدّمين؟!

إنّ هذا- وللإنصاف وعند النظر بعرفيّةٍ إلى النصوص- ما يفقدنا الوثوق بالدلالة المذكورة، رغم لطافتها في الاحتمال الخامس، فليراجع القارئ الروايات بروح عرفيّة بعيدة عن التصوّرات المسبقة ليتأكّد ممّا نقول.

نعم، لو كان هذا اللفظ منصرفاً عند العرب إلى معنى خاص أوجب اتكال الإمام عليه السلام عليه، لأمكن ذلك، لكنّنا لا نحرز هذا الأمر، ومعه فلا يكفي مجرّد الافتراض.

وعليه، يظهر أنّ كلّ احتمالٍ من الاحتمالات التفسيرية السابقة فيه جهة ضعف، وأضعفها الأوّل، وأفضلها الأخير، لكن لا ترجيح قاطع يجمع بين الروايات جميعها، وعليه تتعارض القرائن والشواهد، ويُرجع إلى العمومات الفوقانيّة، وهي الآية الكريمة الدالّة على نفي مطلق الجدال، الذي يعني النزاع ونحوه، وإلّا فيرجع إلى أصالة عدم الحرمة ويؤخذ بالقدر المتيّقن، وهو الذي يجمع

ص: 147

فيه بين شدّة الخصومة مع اليمين، أي الجمع بين الاحتمال الثالث والخامس، فهذا قدرٌ متيقّن للحرمة، وتجري البراءة عن غيره إذا لم يدخل ضمن دائرة المتيقّن.

نتيجة البحث:

وعليه فإذا بنينا على حجّية خبر الواحد، وبنينا كذلك على إمكان تخصيص القرآن بالآحاد فالتفسير الأخير- بعد الأوّل- هو الأوفق بالقواعد والأقرب للعرفية، لو لا ما فيهما من محاذير، وإلّا لزم الأخذ بالآية لتدلّ على حرمة الجدال مطلقاً، بما يصدق عليه الجدال عرفاً، وهذا هو الأقوى، واللَّه العالم.

هذا كلّه من حيث المبدأ، وأمّا كون الجدال في معصية، أو تكرّر الحلف، أو الحلف الكاذب والصادق، أو الحوار الذي لا نزاع فيه، فهذا سيأتي معنا لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.

المبحث الثاني: شمول الحكم للرجل والمرأة

أثار تكرّر كلمة الرجل في روايات الجدال استفهام بعض الفقهاء (1) في احتمال أن يكون الحكم مختصّاً بالرجال، فيكون الجدال من محرّمات الإحرام الخاصّة، لا من تلك المشتركة بين الرجل والمرأة.

والذي يبدو أن الجدال شامل في حكمه للرجل والمرأة معاً، وذلك:

أوّلًا: إنّ استخدام كلمة الرجل غالب في التعابير العربية، دون أن يراد منه الاختصاص، ومع هذه الغلبة لا تحرز القيدية في النص، بل يبقى الظهور على حاله، فيكون أخذه على نحو المثالية.

ثانياً: إذا كانت بعض الروايات مختصّة بالرجل فإنّ الآية القرآنيّة وبعض الروايات الأخرى مطلقة لا اختصاص فيها، ومعه يتمسّك بها، ودعوى تقييد


1- انظر- على سبيل المثال-: الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295- 296؛ والگلپايگاني، كتاب الحجّ 2: 147.

ص: 148

الطائفة المختصّة للمطلقة بعيد جدّاً، لأنّ ظهور الطائفة المختصة في تضيّق الدائرة إنّما يسلّم في أنّ هذه الروايات لا تفيد الشمول للمرأة، ولا يبلغ الحال بها أن تكون ظاهرة في نفي الحكم عن المرأة حتى تخصّص الأدلة الأخرى، فظهور الأدلّة الأخرى يبقى على حاله.

نعم، قد يقال: إنّ مجي الروايات في سياق تفسير الآية يعطيها قدرة التخصيص، فلا يعود هناك إطلاق حجة في الآية، وحينئذٍ ينحصر الجواب بما قدّمناه أوّلًا.

وعليه، فالظاهر شمول الحكم للرجل والمرأة معاً.

- يتبع-

ص: 149

مختارات شعرية «من ديوان الشريف الرضي قدس سره»

حيِّ، بَيْنَ النَّقَا وَبَيْنَ المُصَلّى، وَقَفَاتِ الرّكَائِبِ الأنْضَاءِ (1)

وَرَوَاحَ الحَجِيجِ لَيْلَةَ جَمْع، وَ بِجَمْعٍ مَجامِعُ الأهْوَاءِ (2)

وتَذَكَّرْ عَنِّي مُنَاخَ مَطِيّي بِأعَالي مِنى وَمَرْسى خِبَائِي (3)

وَتَعَمَّدْ ذِكْرِي، إذا كُنتَ بِالخي- ف، لِظبيٍ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الظّبَاءِ (4)

قُلْ لَهُ: هَلْ تُراكَ تَذَكرُ ما كانَ بِبَابِ القُبَيْبَةِ الحَمْراءِ

قالَ لِي صاحِبِي، غَداةَ التَقَيْنَا نَتَشاكَى حَرَّ القُلُوبِ الظَّمَاءِ:

كُنتَ خَبّرْتَنِي بَأَنَّكَ في الوَجْ- دِ عَقيدي، وَأَنَّ داءكَ دائي (5)


1- النقا: القطعة من الرمل تنقاد محدودبة. المصلى: مكان الصلاة، ولعله أراد بهما موضعين بعينهما، والانضاء، الواحد نضو: المهزول.
2- جمع: المزدلفة، وهي بين عرفات ومنى، وليلة جمع ليلة عرفة.
3- منى: موضع في مكة.
4- الخيف: ناحية من منى. غرة بيضاء في الجبل الأسود الذي خلف أبي قبيس وهو جبل في مكة.
5- عقيدي: معاهدي.

ص: 150

ما ترى النفر والتحمّل للبي نِ، فماذا انتظارنا للبُكاء

لَمْ يَقلْها حَتّى انثنَيتُ لمّا بي أتَلَقّى دَمْعِي بِفَضْلِ رِدائِي

***

لا وَالذي قَصَدَ الحَجِيجُ لِبَيْتِهِ، مَا بَيْنَ نَاءٍ نَازِحٍ وَقَرِيبِ

وَالحِجْرِ وَالحَجَرِ المُقَبَّلِ تَلْتَقي فِيهِ الشّفَاهُ، وَركنِهِ المَحْجُوبِ

لا كانَ مَوْضِعُكَ الّذي مُلِّكْتَهُ بَيْنَ الأضَالِعِ بَعْدَ ذا لحَبِيبِ

إنّي وَجَدْتُ لَذاذَةً لَكَ في الحشا لَيسَتْ لَمأكُولٍ وَلا مَشْرُوبِ

لي أنّةُ الشّاكي إذا بَعُدَ المَدَى مَا بَيْنَنَا وَتَنَفُّسُ المَكْرُوبِ

***

إنّ طَيْفَ الحَبِيبِ زارَ طُرُوقاً، وَالْمَطايَا بَيْنَ القِنانِ وَشِعْبِ

فَوْقَ أكْوَارِهِنّ أنْضَاءُ شَوْقٍ طَرَقُوا بِالغَرَامِ دُونَ الرّكْبِ

كُلّمَا أنّتِ المَطيُّ مِنَ الإعْ ياءِ أنُّوا مِنَ الجَوَى وَالْكَرْبِ

زارَنِي وَاصِلًا عَلَى غَيْرِ وَعْدٍ، وَانْثَنَى هاجِراً عَلى غَيْرِ ذَنْبِ

كَانَ قَلْبِي إلَيْهِ رَائِدَ عَيْنِي، فَعَلَى العَيْنِ مِنّةٌ للقَلْبِ

بِتُّ ألْهُو بِناعِمِ الجِيدِ غَضٍّ، وَفَمٍ بَارِدِ المُجَاجَةِ عَذْبِ

بَلَّ وَجْدِي، وَمَنْ رأى اليَوْمَ قَبْلي ناقِعاً للغَليلِ مِنْ غَيْرِ شُرْبِ

أنْتَ عَلى البُعْدِ هُمُومِي، إذا غِبْتَ، وَأشْجَانِي عَلَى القُرْبِ

لا أتْبَعُ القَلْبَ إلى غَيْرِكُمْ، عَيْنِي لَكُمْ عَيْنٌ عَلى قَلْبِي (1)

***

لا يُبْعِدَنّ اللَّهُ بُرْدَ شَبِيبَةٍ ألقَيْتُهُ بِمِنى، وَرُحْتُ سَلِيباً


1- العين: الجاسوس.

ص: 151

شَعرٌ صَحِبْتُ به الشّبابَ غُرَانقاً، وَالعَيْشَ مُخضَرَّ الجَنابِ رَطِيبَا (1)

بَعْدَ الثّلاثِينَ انْقِرَاضُ شَبِيبَةٍ، عَجَباً أمَيمَ لَقَدْ رَأيتُ عَجِيباً

قَدْ كانَ لِي قَطَطاً يُزَيّنُ لِمّتي شَرْوَى السّنَانِ يُزَيّنُ الأُنْبُوبَا (2)

فَاليَوْمَ أطّلِبُ الهَوَى مُتَكَلِّفاً، حَصِراً، وَألقَى الغَانِيَاتِ مُرِيبَا

إمّا بَكَيْتُ عَلَى الشّبَابِ، فإنّهُ قَدْ كانَ عَهْدِي بالشّبابِ قَرِيبَا

لَوْ كانَ يَرْجِعُ مَيّتٌ بتَفَجّعٍ وَجَوى شَققتُ عَلى الشّبابِ جيوبَا

وَلَئنْ حَنَنتُ إلى مِنى من بَعْدِها، فَلَقَدْ دَفَنتُ بِها الغَداةَ حَبِيبَا

***

وَرَكْبٍ تَفَرّى بينَهُم قِطَعُ الدّجى، يَسِيرُ عَلَى البَيداءِ يَنْتَهِبُ التُّرْبَا

يَصُدُّونَ عَنْ وِرْدِ الْكَرى وَعُيُونُهم خَوامِسُ حَتّى تَشرَبُ المَنْظَرَ العذبا

إذا ذَعَرَتْهُمْ نَبْأةٌ غادَرَتْهُمُ وَقَدْ أيْقَظُوا مِنْ بَيْنِ أجْفانها القُضْبا

سَرَوْا وَخُيُولُ اللّيلِ دُهمٌ وَعَرّسوا وَقَدْ غادَرُوها فىِ طِرادِ الضّحى شُهبا

يَضُوعُ هجِيرُالسّيرِ بَيْنَ رِحالِهِمْ، إذا ما نَسِيمُ اللّيلِ في ثَوْبِهِ هَبّا

***

في كُلّ يَوْمٍ لِلأحبّةِ مَطْرَحُ، وَعَلَى الْمَنازِلِ للمَدامِعِ مَسْفَحُ

شَوْقٌ عَلى نَأيِ الدّيارِ مُغالِبٌ، وَجَوى عَلى طُولِ المَطالِ مُبَرّحُ

نَفَرَتْ بَناتُ الصّبرِ مِنْكَ، وَطالَما قُصِرَتْ نَوازعُ عَنْ ضَمِيرِكَ تَطْمَحُ

يا هَلْ يُمانِعُ بَعْدَ طُولِ قِيادِهِ قَلْبٌ يُطاوِعُ فِي القِيادِ وَيَسْمَحُ

وَعَلى المَطِيّ ظِباءُ وَجْرَةَ كُلّما غَفَلَ المُراقِبُ تَشرَئِب وَتَسْنَحُ (3)


1- الغرانق: الشاب الأبيض.
2- القطط: الشعر القصير الجعد. الشروى: المثل. الأنبوب: القناة.
3- وجرة: موضع عرف بظبائه. تشرئب: تمد أعناقها. تسنح: تعرض.

ص: 152

خالَسنَنا النّظَرَ المُرِيبَ، كَما رَنَتْ بَقَرُ الجَواءِ إلى وَميضٍ يَلْمَحُ

يَبْسِمْنَ عَن بَرْدِ الغَمامِ وَبَرْدُهُ رَيّانُ يُغْبَقُ بالمُدامِ وَيُصْبَحُ

كَلّفْتَ عَيْنَكَ نَظْرَةً مَزْؤودَةً مَنَعَتْكَ لَذّتَها مَدامعُ تَسفَحُ (1)

أمْسَوْا كَأنّ لَطائِماً دارِيَةً باتَتْ تَضُوعُ مِنَ القِبابِ وَتَنْفَحُ (2)

مَلَكُوا وَلَمّا يُحْسِنُوا وَوَلُوا وَلَ مّا يَعْدِلُوا وَغَنُوا وَلَمّا يَسْمَحُوا

قُلْ للَيالي قَدْ مَلَكْتِ فَأسجِحي، وَلِغَيْرِكِ الخُلُقُ الكَرِيمُ الأسجَحُ (3)

***

مِنْ أيّ خَطبٍ مِنْ خُطوبِكِ أشتكي، وَعَنْ أيّ ذَنْبٍ مِن ذُنُوبِكِ أصْفحُ

إنْ أشْكُ فِعْلَكِ مِنْ فِراقِ أحبّتي، فَلَسُوءُ فِعْلِكِ فِي عِذارِي أقْبَحُ

ضَوْءٌ تَشَعشَعَ في سَوادِ ذَوائِبِي، لا أسْتَضي ءُ بِهِ وَلا أستَصْبِحُ

بِعتُ الشّبابَ بِهِ، عَلى مِقَةٍ لَهُ، بَيْعَ العَلِيمِ بِأنّهُ لا يَرْبَحُ

لا تُنْكِرَنّ مِنَ الزّمانِ غَرِيبَةً، إنّ الخُطُوبَ قَلِيبُها لا يَنْزَحُ

للذّلّ بَيْنَ الأقْرَبِينَ مَضاضَةٌ، وَالذّلُّ ما بَيْنَ الأباعِدِ أرْوَحُ

وَإذا رَمَتْكَ مِنَ الرِّجالِ قَوارِصٌ، فَسِهامُ ذي القُرْبَى القَرِيبَةِ أجْرَحُ


1- مزؤودة، مفزعة.
2- اللطائم، الواحدة لطيمة: وعاء المسك. دارية: نسبة إلى دارين، وهي مشهورة بمسكها.
3- اسجحي: أحسني.

ص: 153

الْبَسْ نَسيجَ الذّلّ إنْ أُلْبِسْتَهُ مُتَمَلْمِلًا، وَإناءُ قَلْبِكَ يَطْفَحُ

ما دُمْتَ تَنْتَظِرُ العَواقِبَ لابِداً لا تَغْتَدِي لِعُلى وَلا تَتَرَوّحُ (1)

وَضَجِيعُكَ العَضْبُ الذي لا يُنتضى، وَخَلِيطُكَ الزَّوْرُ الذي لا يَبْرَحُ

وَاعْلَمْ بِأنّ البَيْتَ، إنْ أوطِنْتَهُ، سِجْنٌ، وَطُولُ الهَمّ غُلُّ يَجْرَحُ

أأُخَيّ لا تَكُ مُضْغَةً مَزْرُودَةً، تَنْساغُ لَيّنَةَ القِيادِ وَتَسْرَحُ (2)

ألّا أبَيتَ، وَأنْتَ مِنْ جَمَراتِها؛ وَمِنَ الْعَجائِبِ جَمْرَةٌ لا تَلْفَحُ

كُنْ شَوْكَةً يُعيي انتقاضُ شَباتِها، أوْ حَمْضَةً يَشجى بِهَا المُتَمَلِّحُ (3)

وانفُضْ يَدَيْكَ من الثّراءِ فَكم مَضى مِنْ دُونِ ثَرْوَتِهِ البَخِيلُ المُصْلِحُ

يَبْقى لِوارِثِهِ كَرائِمُ مالِهِ، وَلَقَدْ يُرَقَّعُ عَيْشَهُ وَيُرَقِّحُ (4)


1- لابداً، من لبد بالمكان: أقام فيه.
2- المزرودة: المبتلعة.
3- الانتقاض: الاستخراج. الشباة: حد كل شي ء، وإبرة العقرب. الحمضة: ما ملح وأمر من النبات. يشجى، من الشجا: اعتراض عظم أو نحوه في الحلق. المتلمح: أراد الذي يأكلها.
4- يرقح، من الرقاحة: الكسب والتجارة.

ص: 154

قَدْ يُنْتِجُ المَرْءُ العِشارَ بِجِدّهِ، وَسِواهُ يَعْتامُ الفُحُولَ وَيُلْقِحُ (1)

لا عُذْرَ إلّاأنْ أرى سُرْباتِها سَوْمَ الجَرادِ يَثُورُ مِنْها الأبْطَحُ (2)

وَالهامُ تَعْتَصِبُ العَجاجَ كَأنّهُ في الجَوّ شُؤبُوبُ الغَمامِ الأمْلَحُ

قَوْمِي الأولى ضَمِنَتْ لَهُمْ أحْسابُهُمْ أنّ الزّمانَ بِمِثْلِهِمْ لا يَسْمَحُ

عَرَكُوا أدِيمَ الأرْضِ قَبْلَ نَباتِها، وَاسْتَفْسَحُوا أعْطانَها وَتَفَيّحُوا (3)

فَتَقُوا بشَزْرِ الطّعنِ أكمامَ العُلى، وَهُمُ جِذاعُ قَبائِلٍ لَمْ يَقْرَحُوا

إنْ أُحْرِجُوا لَمْ يَجْهَلُوا، وَإذا قَضَوْا لَمْ يَقْسِطُوا، وَإذا عَلَوْا لَمْ يَبْجَحُوا

ذَنْبِي إلى البُهْمِ الكَواذِبِ أنّني ال طّرْفُ المُطَهَّمُ، وَالأغرُّ الأقرَحُ (4) يُولُونَني خُزْرَ العُيُونِ لأنّني

غَلّسْتُ فِي طَلَبِ العُلى وَتَصَبّحُوا


1- العشار: النياق. يعتام: يختار.
2- سرباتها، الواحدة سربة: جماعة الخيل.
3- تفيحوا: توسعوا.
4- الطرف: المهر الكريم. المطهم: التام من كل شي ء. الأقرح: الذي في وجهه بياض دون الغرة.

ص: 155

وَجَذَبْتُ بالطّولِ الذي لم يَجذِبُوا، وَمَتَحْتُ بالغَرْبِ الذي لَمْ يَمْتَحُوا

مِنْ كُلّ حامِلِ إحْنَةٍ لا تَنْجَلي غَطْشى دُجُنّتُها وَلا تَتَوَضّحُ

ضَبٌّ يُداهِنُنِي، وَيُشْكِلُ غَيْبُهُ مِمّا يُرَغّي قَوْلَهُ وَيُصَرّحُ

يَغْدُو وَمِرْجَلُ ضِغْنِهِ مُتَهَزِّمٌ أَبَداً عَليّ، وَجُرْحُهُ مُتَقَرّحُ

مُسِحَتْ جِباهُ الوانِياتِ وَلُطّمَتْ مِنْ دُونِ غايَتها العِتاقُ القُرّحُ

لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُلُوب مَهابَة لَمْ يَطْعَنِ الأعْداءُ فيّ وَيَقْدَحُوا

مَنْ خِيفَ خَوْفَ اللّيثِ خُطّ لَهُ الرُّبى، وَعَوَتْ لِتُشْهِرَهُ الْكِلابُ النُّبّحُ

نَظَرُوا بِعَيْنِ عَداوَةٍ لَوْ أنّها عَينُ الرّضى لاستَحْسَنُوا ما استَقبحُوا

ما كانَ مِنْ شُعْثٍ، فإنّي مِنْهُمُ لَهُمُ أوَدّ عَلى البِعادِ وَأسمَحُ

***

ص: 156

(هذه من عُلاه إحدى المعالي)

اشارة

(هذه من عُلاه إحدى المعالي) (1)

اختلاف الشيعة والسنة

حول رؤية هلال ذي الحجة وفروع ذلك

رضا المختاري

أضحت رؤية هلال ذي الحجة في مكة، والاختلاف الواقع فيها بين الشيعة والسنة في القرون الأخيرة من المسائل المهمة والمصيرية للحجاج الشيعة، واقترنت أحياناً ببعض المصائب المريرة والمؤلمة... إن عدم اعتماد ثبوت الهلال عند قاضي أهل السنة في مكة، وبالتالي عدم ثبوت ذلك عند الشيعة، معلول لواحد من الأسباب الآتية أو أكثر:

أ- عدم حجية حكم قاضي أهل السنة، وإن لم يقم علم أو ظن على خلافه.

ب- اختلاف الأفق بين البلدان الشيعية، كإيران مع الحجاز (2)، واعتماد أبناء كل بلد على أفق بلادهم دون التفات إلى اختلاف الآفاق.

ج- إعلان ثبوت الهلال في البلدان المختلفة عن طريق وسائل الإعلام، واعتناء أبناء كل بلد بثبوته في بلادهم.


1- مصرع من هائيه الشيخ كاظم الأُزري قدس سره وقد تَمثّلت به هنا في مدح الثناء على الإمام الخمينى قدس سره، والمصرع الذي يليه كالآتي: «وعلى هذه فقس ما سواها».
2- تغرب الشمس في مكة بعد حوالي ستٍ وأربعين دقيقة من غروبها في طهران، الأمر الذي يؤثر في إمكان رؤيةالهلال فيها وعدمه في طهران.

ص: 157

د- رؤية هلال ذي الحجة في بلد الانطلاق، ثمّ شدّ الرحال إلى مكّة واحتساب الأيام في مكّة طبقاً لرؤية الهلال في البلد الذي انطُلق منه.

وسنبحث فيما يلي جوانب مختلفة لهذا الموضوع تحت عناوين عدّة:

أ- ذكر موارد لوقوع الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة في مكّة وفقاً للتسلسل التاريخي.

ب- الجهود المبذولة والحلول المقترحة لرفع هذه المشكلة.

ج- اختلاف المصادر الفقهية في ثبوت هلال ذي الحجة، وبحث هذه المسألة فقهياً على نحو الإجمال، وبيان الأقوال في المسألة ومسارها التاريخي في الكتب الفقهية، والخدمة الكبيرة التي قدّمها الإمام الخميني للحج من هذه الناحية، ومن هنا جاء عنوان هذه المقالة «هذه من علاه إحدى المعالى»، في إشارة إلى أن هذه واحدة من عشرات الأعمال العظيمة التي أنجزها الإمام الخميني قدس سره للمسلمين.

د- مبنى ثبوت وإعلان رؤية هلال ذي الحجة في مكّة المكرّمة وآليات ذلك.

أ- بيان موارد لوقوع الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة في مكّة وفقاً للتسلسل التاريخي:

يتفق في بعض السنوات أن يكون الداعي إلى الإعلان ثبوت الهلال على خلاف الواقع، وذلك في الأعوام التي يصادف فيها عرفة يوم الجمعه، فيكون الأضحى يوم السبت، وهو المسمى بين أبناء العامة بالحج الأكبر، وفيه يحصل رؤساء مكّة على أرباح مادية طائلة.

جاء في مذكرات حسام السلطنة:

«يذكر أن السنة التي يثبت فيها القاضي هذه المسألة يسمّى الحج فيها في مصطلحهم بالحج الأكبر، وتمنحه- أي القاضي- الدولة العثمانية عطيةً عامة تبقى فيه و في عقبه» (1).


1- سفرنامه حسام السلطنة رحلة حسام السلطنة، ص 105.

ص: 158

ولتحقيق ذلك: لو صادف العيد يوم الأحد، يتمّ التلاعب مسبقاً في رؤية الهلال بحيث يتم تقديم الشهر يوماً واحداً، فيقع العيد يوم السبت، وعرفة في يوم الجمعة، فيكون ذلك الحج هو الحج الأكبر.

ذكر عبد الحي الرضوي الكاشاني (متوفى بعد عام 1152 ه) في الفصل السابع:

(عزمت الحج في عام 1099، فجئت إلى إصفهان، وفي ليلة من ليالي شهر رمضان كنت في مجلس العالم الفاضل المولى الميرزا الشيرواني فسألني: «هل تروح الحج في هذا العام؟» أجبته: أجل. فقال: أخشى أن يحدث هذا الموسم محذور الحج الأكبر، إذ وفقاً للتقويم يقع عيد الأضحى في أول يوم من الأسبوع، ولذلك منعت جمعاً من تلاميذي وأقاربي من الذهاب إلى الحج، فقلت له: لا يسعني تأجيل هذا الحج، فسألني الدعاء، ثم توجهت إلى الحج، وكان هو الحج الأكبر، ولكن لم يحدث خلاف في رؤية الهلال، قال المولى الميرزا في ذلك المجلس: «إذا حدث ذلك يمكن الخروج في الإحرام بالعمرة المفردة»، وقال أحد الحاضرين: إن العلامة المجلسي قد أفتى بجواز الحل بالتضحية. قال المولى الميرزا: «هذه الفتوى خاطئة» فقلت: إنها صحيحة وذلك.. وبعد ذلك سكت الأستاذ.

سمعت أن العلماء في إصفهان وقم وشيراز كانوا يمنعون الحجاج- الذين يعودون إلى وطنهم ولم يكونوا قد أحلوا بالتضحية أو بالعمرة المفردة- من الدخول إلى منازلهم للحيلولة دون ارتكاب الحرام وأمور النكاح، وكان العلماء يطلبون منهم البقاء في المساجد ريثما يشاركون في الحج العام المقبل، كي يحلّوا فيه (1).


1- صفويه درعرصه دين فرهنگ وسياست الصفوية في الميدان الديني، الثقافي، والسياسي 3: 1084- 1083.

ص: 159

وبما أنه عند وقوع الاختلاف في ثبوت الهلال ويوم عرفة والعيد لا يستطيع الشيعة- عادة- الوقوف في الوقت الشرعي طبقاً لتشخيصهم، من هنا تحدث لهم مشاكل كبيرة أحياناً. وفيما يلي نشير إلى موارد من هذا الاختلاف:

1- ذكر عبد الحي الرضوي في كتابه المتقدّم:

لقد حدثت هذه المشكلة في أيام حياتنا مراراً، حيث يحكم قاضي مكة بثبوت رؤية الهلال بشهادة شخص مغربي مثلًا، وتحدث هذه المشكلة حين لا يسمح للشيعة بالوقوف في عرفات في الوقت الشرعي. ذات يوم ذهب سيد فاضل إلى الحج، فلاحظ أنه لم يشهد أحد برؤية الهلال، ولما كان محرماً لازم مكة إلى العام المقبل، ثم عاد الى وطنه بعد أداء الحج.

مسألة هلال ذي الحجّة غدت مسألة مصيريّة وخلافية بين المسلمين

حجّ الفاضل القزويني، ولما اشتبه الأمر، لم يجار أبناء العامة، فعلم بذلك رؤساء مكّة وأمروا بقتله، فاختبأ في تنّور وخرج من مكة، وأقام في ضواحيها إلى العام المقبل حيث حجّ متنكّراً.

و حجّ فاضل آخر اسمه المولى زين العابدين (الكاشاني)، ولما لم يتابعهم، قتلوه. (1)


1- طبعاً هناك أسباب أخرى وراء مقتل الشيعة في المدن السنية، وللوقوف على مقتل المولى زين العابدين وكيفية ذلك راجع كتاب علل برافتادن صفويان «أفول الصفويين»: 363- 365.

ص: 160

... وكان أحد علماء كاشان، وهو المولى هادي، يرى هذا الحج صحيحاً ومجزياً عن حجّة الإسلام. وقد حدثت هذه المسألة مرّة أخرى أقام فيها سيد فاضل اسمه مير عبد الغني مع جماعة في مكة، لم يتمكن العرب الذين جاؤوا الحج النيابي من الحج في الموسم، ولذلك لم يستنبهم الناس في الحج التالي، لأنهم كانوا يرونهم محرمين (1).

2- حدث مثل هذا الاختلاف في عام 1260، فقد ذكر محمد ولي ميرزا في مذكرات حجّه ذلك قائلًا:

لما ثبت عند باشا الشام الهلال يوم الأربعاء بشهادة أعرابيين بدويين، وحكم بأن الخميس هو يوم عرفة، خلافاً للقاضي والشريف اللذين كانا يذهبان إلى أنه يوم الجمعة، جئنا الى منى من خوفنا وصلينا في الليل هناك، وبعد سعي حثيث وجهد جهيد أقنعنا الشريف بإعطائه خمسمائة غازي (2)، فسمح لنا بإلمبيت في عرفات ليلة الجمعة ونهاره، فبقينا هناك وجمعنا الخمسمائة غازي بعد عناء طويل (3).

3- حجّ اعتماد السلطنة في شهر شعبان عام 1263 مع جماعة من بغداد ولما بلغ حمص في سوريا أواخر شهر رمضان من تلك السنة بدأ الخلاف في ثبوت الهلال:

كان يوم الجمعة الثامن والعشرين من شهر رمضان، فتوقف حجاج بيت اللَّه في مدينة حمص، وإذا بصوت المدفع قريب الظهر يدوّي معلناً عيد الفطر، بعد ثبوته لدى مفتي الشام، وبعد الفحص والتحقيق لم يستطع أحد رؤية الهلال ليلة السبت، ولم يُر الهلال إلا في ليلة الأحد بعد مضي يومين على أعياد السادة (4).


1- صفويه در عرصه دين، فرهنگ وسياست الصفوية في الميدان الديني، الثقافي والسياسي 3: 1083- 1084.
2- عملة نقدية من المسكوكات القديمة.
3- رحلة محمد ولي ميرزا: 245، مطبوع في كتاب به سوى أم القرى «إلى أم القرى».
4- رحلة الحاج علي خان اعتماد السلطنه: 85.

ص: 161

و يتضح في كلماته التالية أن الشيعة عملوا وفقاً لمذهبهم في ثبوت الهلال والوقوف في عرفات وسائر المناسك:

أمضى الحجاج (الشيعة) يوماً هادئاً في مكّة... وعليهم في صبيحة الثامن... ارتداء ثياب الإحرام ثانية على الحالة الأولى...

وفي الغد ذهب السنّة إلى مكة، وحتى إذا لم يشتبه الأمر في رؤية هلال ذي الحجة بين الشيعة والسنة، وقدّم العمل بمناسك الحج يوماً طبقاً لفتوى مفتي الطائف، لكان (في جانب اللَّه) وبقضاءٍ منه، وإلا لو حصل خلاف ذلك لشقّ الأمر على الشيعة بسبب كثرة الجموع (1).

4- حجّ العلامة مير حامد حسين الهندي، صاحب عبقات الأنوار، عام 1282، وقد ذكر في مذكرات حجّه في تلك السنة الخلاف في ثبوت هلال ذي الحجة بين الشيعة والسُّنة:

... في يوم الاثنين التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، كنا أثناء الطريق عند الغروب عندما رأينا هلال ذي الحجة... وفي صبيحة يوم الخميس الثالث من ذي الحجة 1282 وصلنا إلى مكّة المكّرمة. وقد اختلفنا مع السنة في يوم واحد. للأسف لا نتمكن من الإحرام في يوم التروية، لأن أبناء العامة أعلنوا اليوم السابع من ذي الحجة ثامناً وغادروا مكة، ولم نتمكن من البقاء في مكة، ولذلك أحرمنا بعد العشاء وأفضنا إلى منى. فبلغناها في بدايات الليل، فبقي بعض الحجاج وحجّاج إيران الذين كانوا معنا في منى، أما نحن فواصلنا


1- المصدر نفسه: 112- 117.

ص: 162

طريقنا و بلغنا عرفات قبل طلوع الشمس... وفي يوم الثلاثاء الثامن من ذي الحجة، وعند اللحظات الأخيرة منه، ترك السنّة عرفات، لأنهم اعتبروا الثلاثاء اليوم التاسع، إلا أن الحجاج الإيرانيين والهنود وجميع أتباع المذهب الإمامي بقوا فيها.

في ظهر الأربعاء نوينا الوقوف في عرفات وبقينا فيها حتى غروب الشمس، وبعدها توجهنا إلى المشعر الحرام... في الخميس وصلنا إلى منى... ثم تحركنا لرمي جمرة العقبة... بعد تناول الغداء مقّرنا وخرجنا في الإحرام (1).

5- حجّ فرهاد ميرزا عام 1292، وبما أنه كان عالماً وأميراً في الوقت نفسه، فحينما أحسّ بإمكان وقوع الاختلاف أوعز إلى سعيد باشا أمير الحج قائلًا:

أنا عالم وأرى الخميس غرّة، فإن اختلفتم فعسكروا، وسأبقى يوم الجمعة في عرفات، وإني لا أجعل علمي وديني تابعاً للتقويم الاسطنبولي.

لقد استفهم مني الشيعة من كافة البلدان والعجم البالغ عددهم حوالي خمسة آلاف، فقلت لهم: إنني سوف لا أذهب اليوم، كما أن العجم غير مأذونين بالذهاب، وامتثل لي الجميع، ولم يغادر مكة منهم أحد (2).

إلا أن الموكب الشامي والمصري توجه قبل يوم- يوم الأربعاء- نحو منى، ولم يذهب فرهاد ميرزا الذي كان يرى الجمعة يوم عرفة.

6- وقد وقع هذا الاختلاف عام 1279، فقد ورد:

فى ليلة الجمعة الثاني من ذي الحجة اشتهر بين علماء أهل السنة أن الليلة هي ليلة عرفة، فتوجه الجميع بحمد اللَّه نحو منى (3)، الأمر الذي


1- ميقات الحج، العدد 14: 168- 169 من الهند إلى مكة.
2- رحلة فرهاد ميرزا: 200- 210.
3- رحلة بنت فرهاد ميرزا: 282.

ص: 163

أسعد الحجاج الإيرانيين، حيث خلا لهم الجوّ في المسجد الحرام وتمكنوا من استلام الحجر الأسود. (1) كما ذكر حسام السلطنة في هذه المناسبة من تلك السنة:

منع قادة القوافل الإيرانية من التحرك في يومهم، وتعيّن عليهم الحركة في اليوم الثاني. ثم أضاف:

تابعنا أكثر الشيعة ولم يغادروا، وفي عرفات «كان المخيم الشامي والمصري مع شريف مكّة إلى اليمين، وكان مخيمنا مع جميع الشيعة إلى اليسار». أقام الشيعة تلك الليلة في منى وأقاموا الصلاة بإمامة الميرزا حبيب اللَّه الرشتي، من مراجع النجف (2).

7- ذكر الميرزا محمد حسين الفراهاني حج عام 1302 فقال:

أصرّ السنّة على وقوع عرفات في يوم الجمعة، وذلك لكي يحصلوا على الحج الأكبر، ولأجل أنه إذا وقع عرفات في يوم الجمعة سيستحق القضاة علاوة على وظائفهم من الدولة، وتكثر النذور بسبب الحج الأكبر... أما الشيعة وأكثرهم من الإيرانيين، قرابة ستة آلاف نسمة، فلم يكن هناك من رأى الهلال، لذا جعلوا السبت يوم عرفة (3).

8- في عام 1305 أعلن ثبوت الشهر قبل يوم كي يحصل الحج الأكبر، فقال نايب الصدر الشيرازي:


1- المصدر نفسه: 282.
2- رحلة حسام السلطنة: 119- 121.
3- رحلة الميرزا محمد حسين الفراهانى: 207، نقلًا عن المقالة المتقدمة.

ص: 164

حكم القاضي بأن اليوم هو الثاني، فلم يكن هناك سبيل إلا متابعته (1).

لذا توجه الجميع قبل يوم من التروية، أي في اليوم السابع، إلى منى، وفي صبيحة اليوم التالي توجهوا نحو عرفات، وفي الليل وبينما كان مئة وخمسون الف سني يتحرّكون من عرفات إلى المشعر أحيا تلك الليلة قرابة ثلاثين ألف شيعي من شيعة علي بن ابي طالب عليه السلام.

وقد أوضح نائب الصدر أنه حينما يحصل اختلاف في هذه المسألة ويتأخر الشيعة يوماً واحداً، كان شريف مكة يترك شخصين من أبناء عمومته مع الشيعة، حتى يساعداهم على المشاكل المحتملة (2).

9- قال ظهير الملك بشأن حج عام 1306:

شوهد الهلال البارحة أثناء الطريق، وكان مرتفعاً جدّاً، وبحمد اللَّه رُفع هذا الاختلاف (3).

في حين أعلن السنّة الليلة السابعة أول الشهر، ومنه اشتدّ الخلاف ووقف الشيعة في عرفات بعد السنّة بيوم، واستمر هذا التأخير حتى نهاية أعمال الحج، قال ظهير الملك:

رغم أن اليوم هو الثامن فقد اعتبره السنّة تاسعاً، ولذلك يعتزمون عصر هذا اليوم الذهاب إلى عرفات، وسنتبعهم إن شاء اللَّه بالهدوء وحدنا (4).

10- قال المولى إبراهيم الكازروني بشأن حج عام 1315:


1- رحلة نائب الصدر الشيرازي: 174، نقلًا عن المقالة المتقدمة.
2- المصدر نفسه: 179، نقلًا عن المقالة المتقدمة.
3- رحلة ظهير الملك: 275.
4- المصدر نفسه: 258.

ص: 165

رأينا الهلال في ليلة الجمعة غرّة ذي الحجة الحرام، وكان مرتفعاً جداً، مما أدّى إلى ظهور الخلاف بين الفريقين، ولذلك توقفنا في عرفات يومين، وقصدنا نية الوقوف في ظهر الأحد التاسع، الذي كان عاشراً عند أهل الخلاف، إلى غروب الشمس. (1) 11- حج المرحوم الحاج سراج الأنصاري قدس سره عام 1350، وفي هذا الشأن قال في معرض حديثه مع حمزة غوث سفير السعودية في إيران عام 1367:

... حججت عام 1350، ونزلنا أثناء الطريق بين مكة والمدينة لاحتمال كونها الليلة الأولى من شهر ذي الحجة الحرام، واستهل جميع الحجاج فلم يتمكن أحد منهم من رؤية الهلال. والذي أثار شكوكي أن أحد زعماء القوافل وكان أعور وقف إلى جانبي مستهلًا وأقر بعدم رؤيته للهلال، ولكن ما إن وصلنا إلى مكة حتى كان هذا الرجل أحد شهود الرؤية، وتم الإفتاء على طبق شهادة مثل هؤلاء الشهود (2).

12- حجّ المرحوم السيد فضل اللَّه الحجازي عام 1362 ه. الموافق ل 1322 ه. ش. مع جماعة من شهرضا، وبناءاً على ما قاله في مذكرات رحلته (الرحلة الحجازية)، وقع خلاف في رؤية الهلال بين الشيعة والسنّة في هذا العام أيضاً، وفي هذا العام نفسه حدثت واقعة القتل الفجيع للميرزا أبي طالب اليزدي قدس سره، و يظهر من بعض التقارير أن الخلاف المذكور كان دخيلًا في استشهاده، ذكر الحجازي في هذا الشأن:

كان الخامس من ذي الحجة أو السادس على رأي العامة يوم الجمعة... وفي اليوم السابع من ذي الحجة- الذي كان ثامناً


1- رحلة المولى إبراهيم الكازروني: 361، 363، مطبوع في تراث ايران الإسلامى، ج 5.
2- الحاج مهدى سراج الأنصاري: 247- 248.

ص: 166

عندهم- توجهنا إلى منى... وفي الصباح أفضنا من المشعر وجئنا إلى منى. وقد أعلن العامة هذا اليوم عيداً، وأطلقوا المدافع وجاؤوا بأعمال العيد، إلا أننا كنا على يقين من أن اليوم هو التاسع، كنا نريد الذهاب إلا أننا كنا نخاف المنع.

بقينا إلى ما بعد الظهر وعندها تحركنا نحو عرفات، وفي أثناء الطريق صادفنا سيارة فأقلتنا، ولم يمض وقت طويل حتى دخلناه، وبدت لنا الخيام من بعد وشاهدنا جمعاً غفيراً، وكان الناس جماعات جماعات منهمكين بالدعاء وتلاوة القرآن والزيارة والتوبة والإنابة، وقد سادت عرفات حالة من السعادة والحبور، وكان جلياً أن اليوم هو يوم عرفة.

وقد بقينا حتى نهاية النهار حتّى أتت قوات من الشرطة إلى عرفات، وأرغمت الناس على ركوب السيارات، وأخذوهم إلى جهة منى والمحاكم للتحقيق، وظهر ضجيج غريب. وكان الناس يفرّون إلى شتّى الجهات. أوصيت رفقتي بعدم الخروج من عرفات قبل الغروب وليكن هروبكم نحو اليمين والشمال دون تجاوز حدود عرفة.

ص: 167

وفي الأثناء اضطرب الجو وتلبدت السماء بالغيوم وهطلت الأمطار بشدّة. أخذ الشرطة جماعة وذهبوا بهم، فأصبحت عرفات آمنةً وظهرت آثار الغروب. فأذن المؤذن وخرجنا من عرفات. كان الجو بارداً بعض الشي ء والسماء تمطر، وكنا حفاة حاسرين ولم يكن علينا سوى ثوبي الإحرام، ولكننا دخلنا منى فرحين، وأمضينا الليل في الخيمة واستيقظنا سحراً، وتوجهنا نحو المشعر وصادفنا شرطياً فرشوناه، وواصلنا الطريق، وأدركنا الوقوف الإختياري في المشعر، وعدنا في الصباح إلى منى، وجئنا بأعمال العيد، وقد شاركنا بعض أبناء العامة في هذا الاحتياط.

بعد الرجوع من منى اختلفت الأوضاع، وأخذ العرب ينظرون إلى العجم بعداء، بل كانوا يغلظون القول ويشتمون، وسمع أن بعض تجار مكة لا يتعاملون مع العجم! وقد شاهدت بأم عيني بعض المصريين وغيرهم من العرب في المسجد الحرام، وقد أمسكوا برجل إيراني وهم يضربونه، وكان الآخرون يشجعونهم على ذلك ويقولون: «جزاك اللَّه خيراً، جزاك اللَّه خيراً!»، فسألت شخصاً عن السبب، فأجابني: إن العجم قد انتهكوا حرمة المسجد، وهل هناك ذنب أشد مما قام به إيراني البارحة من تنجيس المسجد الحرام! قلت: معاذ اللَّه. إن المسلم لا يرتكب مثل هذا العمل، فهل يعقل أن يقوم إيراني مسلم بتحمل مشقات الطريق ونفقاته الباهظة (عشرة آلاف تومان أو خمسة آلاف تومان في الأقل) ليأتي إلى مكة، وينجّس المسجد الحرام؟! (سبحانك هذا بهتان عظيم!).

في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة أو الرابع عشر عند العامة، كنا بعد الظهيرة في المسجد الحرام، فشاهدت اضطراباً في الناس، وكان

ص: 168

العرب يقيمون الأفراح ويهنئون بعضهم قائلين: قتل العجمي، قُتل العجمي! وحينما يصادفون الإيرانيين يشيرون إلى رقابهم ويقول: «كل عجمي يذبح!» (1).

جاء في تقرير السفارة الإيرانية المرقم 77/ ح/ 164 بتاريخ 30/ 9/ 1322 ه. ش. بهذا الشأن:

... علاوة على ما أصاب الحجاج من البؤس في هذه السنة، فقد وقع الكثير من المآسي هناك، وأدّى ذلك إلى مقتل أحد الحجاج الإيرانيين، وبما أن سفارة مصر الحامية لمصالح الإيرانيين لم تقدم تقريراً إلى سفارتنا بهذا الشأن، ولم يأتِ أحد من الحجاج حتى الآن، فلم تحط السفارة علماً بهذا الموضوع، حتى عاد السيد باقر الكاظمي- الذي حج عن طريق مصر، عاد أمس (الثلاثاء 29/ آذر/ 1322 ه. ش.) على متن أول سفينة للحجاج، ونقل أخبار هذه الحوادث، وهاهنا ننقل خلاصة إفاداته لإطلاع المعنيين:

في بداية أيام الحج حيث لم يكن عدد الحجاج الواصلين إلى الحجاز كبيراً، سمعنا وصول برقية من العراق تقول: إن قرابة خمسة آلاف إيراني في طريقهم إلى الحج. وبما أن الحكومة الملكية لم تجز للحجاج الإيرانيين بالسفر لم نتوقع خروج هذا العدد الهائل من إيران إلى العراق تهريباً... ولم يمض طويل وقت حتى اتضح أن حوالي ستة آلاف إيراني قد ذهب إلى الكويت، وأن مجموعة أخرى ذهبت إلى العراق تحت غطاء زيارة المراقد المقدسة، وهناك قصدوا الحج وتحركوا نحو الحجاز، وأن ألفي شخص منهم اضطر إلى العودة لعدم


1- ميقات الحج، العدد 16: 163، 176، 177 «الرحلة الحجازية».

ص: 169

توفر واسطة النقل، وجاء إلى الحجاز أربعة آلاف شخص منهم...

وبالنظر إلى الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة كان في هذا العام- كأغلب الأعوام- خلاف في يوم العيد، وقد كان الأربعاء عيداً في إيران وأفغانستان والعراق وسوريا وحتى مصر، إلا الحجاز، حيث أعلن العيد يوم الثلاثاء، وذهب سائر الأفراد إلى العمل طبقاً لأفق المكان وشهادة الشهود على رؤية الهلال كما عليه السعودية، إلا أن الإيرانيين وعدداً من شيعة العراق، وبسبب عدم رؤية الهلال وعدم قبولهم لشهادة الشهود السعوديين، تحدثوا معي (السيد الكاظمي) ومع السيد باقر البلوط (رئيس تشريفات البلاط العراقي) وعبد الهادي الجبلي من أعيان الشيعة في العراق كي نحصل على إذن بوجود موقفين، أي بعد الوقوف في عرفات في يوم الاثنين التاسع من ذي الحجة، أن يكون هناك وقوف ثانٍ في يوم الثلاثاء لكونه اليوم التاسع من ذي الحجة عند الشيعة. فقلنا لهم: إن هذا ليس عملياً، وقد سبق أن حصل اختلاف في رؤية الهلال، ومع ذلك فإن الدولة السعودية لم تسمح بتعدد الوقوف، بل ترى أن هذا يؤدّي إلى إحداث الاختلاف والشقاق بين المسلمين ولا تراه جائزاً شرعاً، بل يرون المطالبين بذلك مخالفين للوحدة بين المسلمين وسيعاقبونهم بشدّة، وبما أنهم يرون الوقوف في عرفات ركناً من الحج يسعون الى أن يكون وقوفهم هذا صحيحاً، بحيث إن الملك ابن سعود نفسه يأمر أشخاصاً من ذوي النظر الحاد برؤية الهلال، وهناك الكثير في مختلف مدن نجد يتصدون لرؤية الهلال في اليوم المذكور، وتبلغ برقيات من جميع النواحي بهذا الصدد، وأن قاضي الشرع يدقق في شهادة الشهود بشدّة، من هنا فإنهم يعتبرون عدم قبول فتوى حاكم الشرع

ص: 170

إهانة شديدة. مضافاً إلى أن الإصرار على هذا الموضوع غير مفيد، فإنه قد يضع الحجاج الشيعة في خطر.

ولحسن الحظ فقد قام سماحة السيد أبوالحسن الإصفهاني بإرسال السيد إبراهيم شبر نيابة عنه إلى الحجاز ليبلغ الشيعة برأي سماحته في هذا النوع من الاختلافات. فالتقيت به وتحدثت معه بهذا الخصوص.

فقال: إن سماحة آية اللَّه الإصفهاني قال لي: إذا اتضح أن ثمة خطر في تعدّد الوقوف جاز على طبق المحل. فاتفقنا على أن يقوم السيد إبراهيم شبر بإبلاغ الحجاج بذلك. كما قمت أنا والسادة الآخرون بدورنا بإبلاغ الحجاج بهذا الموضوع واتفقنا على عدم التطرّق أبداً حتى لا يقع خلاف بين الشيعة والسنة ولا يتعرض الحجاج الإيرانيون للخطر.

لكن علمنا بعد ذلك أن مجموعة من الإيرانيين قد رفعت إلى الملك ابن سعود عريضة باللغة الفارسية تطلب منه الأذن بالذهاب إلى عرفات يوم الأربعاء الذي كان هو اليوم التاسع من ذي الحجة وفقاً للتقويم الإيراني، ويوم عيد الأضحى وفقاً لحساب الحجاز. الأمر الذي أغضب الملك، وأمر رئيس الشرطة بحبس كتّاب العريضة ومعاقبتهم بشدّة، وقد تم حلّ الموضوع بشكل مناسب على حدِّ تعبير رئيس الشرطة.

وبما أنني كنت ساكناً في مضيف البنك المصري، فقد ذهبت مع الحجاج المصريين إلى منى وعرفات طبقاً للمحل، وأتيت بمناسك الحج، ولكن برغم ذلك كله اتضح أن عدداً كبيراً من الإيرانيين وشيعة العراق قد توجهوا إلى عرفات يوم الأربعاء حيث تقرر رجوع الجميع إلى منى.

ص: 171

قال رئيس إدارة الشرطة في الحجاز: في عصر اليوم المذكور أبلغني الملك بواسطة الهاتف غاضباً أنه أحيط علماً بأن عدداً من الحجاج الإيرانيين قد ذهبوا إلى عرفات، وأمر باعادتهم فوراً وبشتى السبل، فتوجهت إلى عرفات برفقة عدد كبير من الجنود، وشاهدت هناك عدداً كبيراً كما يحصل في يوم الوقوف، وقد قام بتحريكهم بصعوبة، إلا أنهم لم يكتفوا بذلك، وذهبوا إلى المشعر الحرام أيضاً، وقام هناك بصعوبة بالغة بنقلهم إلى منى، وطبقاً لادعائه فإنه أبلغ الملك أن هذه المجموعة لم تخالف الإجماع وأنها لم تذهب إلى عرفات للوقوف مجدداً، بل اضطرّت للبقاء هناك لعدم حصولها على واسطة نقلية.

ومهما كان فقد تركت هذه الحركة أثراً سيئاً على الملك ابن سعود ورجال الدولة المتعصبين، واعتبروها إهانة شديدة، وأضمروا حقدهم وفكروا في الانتقام.

وبعد رجوع الحجاج من منى وانتهاء مناسك الحج، سمعنا أن شخصاً إيرانياً ألقي القبض عليه بتهمة تدنيس الحرم المطهر في مكة المكرّمة، ثم أحضروه موثوقاً أمام إدارة الشرطة بين الصفا والمروة، وبعد قراءة الحكم ضُرب رأسه بالسيف.

وقد التقاني أمير الحج المصري، وسألني عن هذا الموضوع والفرقة الشيعية التي ينتمي إليها ذلك الشخص، فرفعت الاشتباه عنده وقلت له: لاينبغي لأيِّ عاقل تصديق مثل هذه التهم استناداً إلى شرذمة من الجّهال المتعصبين... (1) 13- حجّ الشيخ آغا بزرگ الطهراني عام 1364، وقد حصل في ذلك العام


1- أسناد روابط إيران وعربستان: 99- 102.

ص: 172

اختلاف في رؤية الهلال أيضاً، وقد ذكر في مخطوط مذكراته في هذا الشأن:

تشرّفنا- في يوم الثلاثاء الذي هو أول ذي الحجّة عند السعوديين ولم يُر فيه الهلال بالمدينة للغيم المتراكم- في صبحية ذلك اليوم اوّلًا إلى مسجد قبا...

... وبعد الفريضة في عصر يوم الثلاثاء أحرمنا للحج، وفي أول ليلة الأربعاء خرجنا إلى منى، وبتنا بها حتى النهار، فارتحلنا إلى عرفات واقفين بها مع الناس حتّى أفاضوا منها إلى المشعر الحرام في أوّل ليلة الخميس وبتنا بالمشعر ووقفنا بين طلوعي الفجر والشمس، ثمّ عُدنا إلى منى لرمي الجمرة بالعقبة، وذبحنا ولكن لم نُحِلْ، وبقينا يوم الخميس الذي هو عيد الجمهور محرماً حتى الليل، فذهبنا ليلة الجمعة إلى عرفات ثانياً وأدركنا الوقوف الاضطراري بها، ورجعنا إلى المشعر قبل الفجر ووقفنا بها بين الطلوعين من يوم الجمعة فأدركنا الوقوف الاختياري من المشعر والاضطراري من عرفات بعدما توقّفنا الوقوفين الاختياريين مع الجمهور. وفي يوم الجمعة رجعنا إلى منى ورمينا الجمرة وذبحنا ثانياً وحَلَقْنا...

ولم ير الهلال في ليلة الخميس مع سلامة الأُفق من الغبار وغيره، ومع بذل الجهد من جماعة في الاستهلال، فصار شهر ذي الحجة على حساب القوم واحداً وثلاثين يوماً (1).

14- حجّ آية اللَّه السيد محمود الطالقاني قدس سره عام 1371 ه. الموافق ل 1331 ه. ش، وقد بين قصة الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة من تلك السنة بالتفصيل الآتي:


1- تراث الحديث الشيعي 1: 416- 417، ترجمة الشيخ آغا بزرگ الطهراني، بخط يده.

ص: 173

ذهب التقويم الإيراني إلى أن السبت هو أول الشهر، ونحن بانتظار تقرير الوضع هنا، وإذ بنا نفاجأ بإعلان الحكومة ليلة الخميس برؤية الهلال، وثبت أن يوم الخميس هو أول الشهر، وقد أحدث هذا الخبر اضطراباً بين الإيرانيين حيث كان الاختلاف في يومين! فما هو العمل؟

وأخذ الحديث يدور بين عامة الحجاج حول حكم الحج، ويراجعون العلماء، فبماذا يجيب العلماء؟

وفي هذه الأثناء وصل آية اللَّه الكاشاني إلى مكة، فاستولى السرور على بعض البسطاء، ظناً منهم أن بإمكانه حل الاختلاف أو صرف الحكومة عن قرارها أو السماح للحجاج بتكرار العمل!

فذهبنا للقائه، وأخذنا نسأل الباعة والمسؤولين في الحكومة عنه، ورغم أن جميع الشخصيات تضمحل أيام الحج في مكة إلا أن دخوله كان محسوساً للجميع! فأرشدونا إلى دائرة الأمن العام، اجتزنا المسجد الحرام وسألنا رئيس الدائرة عن محل إقامة السيد، فأرسل معنا بعض الشرطة، وكان بالقرب من أحد أبواب البيت غرف اصطف عدد من العسكريين قبالتها.

صعدنا السلالم ودخلنا في غرفة كان السيد جالساً، إلى جانب الأبواب المشرفة على البيت، فاتضح أنه كان يرانا من مكانه وينتظر قدومنا، وبعد الترحيب تباحثنا بشأن الاختلاف حول الهلال، فقال بعض مرافقيه: تمت رؤية الهلال ليلة الجمعة في بعض أنحاء إيران، وادعى بعضٌ الرؤية.

وفي هذه الأثناء كان عدد من الذين أرسلهم للقاء ولي العهد السعودي يتحدثون عن اللقاء به وما رأوه من التشريفات. كنا نتطلع إلى معرفة ما إذا كانوا قد توصلوا إليه في هذا اللقاء بشأن العلاقات الدولية-

ص: 174

الإسلامية، أو إصلاح أمر الحاج والحجاج الإيرانيين، إلا أن الحديث كان منصبّاً على وصف الغرف والبيوت وكيفية الضيافة! قال أحد الذين ذهبوا إلى ذلك اللقاء: «كان مكانك خالياً يا أخي. لقد كان الهواء في غرفة الأمير بارداً مثل منطقة دربند!».

وكانت حركات البعض مقززة حتى أنها لفتت أنظار الجنود السعوديين، ماذا يمكننا أن نفعل؟! إن الفساد يصيب الفاكهة اللذيذة أكثر من غيرها!

حلّ الظهر وارتفع الصوت بالأذان من المسجد الحرام! وانتظمت دوائر المصلين خلال بضع دقائق وامتلأ المسجد إلى الأروقة، وقام بعض الجنود المكلّفين بحراسة السيد بالاقتداء في مكانهم، وكان الأجدر بنا أن نلتحق بصفوف الجماعة كما أرشدنا الأئمة الأطهار عليهم السلام، إلا أننا ظللنا أماكننا حتى انفصلت الصلاة، وكان بعض الجنود ينظرون إلينا مندهشين، فطلبت من السيد أن يقوم للصلاة مباشرة، فقام السيد وقام بعض الحجاج الإيرانيين بمجاورتنا. وكان الجنود السعوديون يفسحون لنا الطريق، فدخلنا المسجد، وكان بعض الحجاج المصريين وغيرهم واقفين ينظرون إلينا، فشرعنا في أداء الصلاة، وكان بعض الحجاج يشيرون لبعضهم ناحية السيد، وكان من الممكن استغلال هذا الاهتمام والاحترام والشهرة، للتقريب بين المسلمين ورفع سوء التفاهم، إلا أنه كان في فترة نقاهة وإبلال في المرض وخاضعاً للضغوط الفكرية، كما كان العقلاء والصلحاء في حاشيته قلّة قليلة...

... كان الاختلاف في رؤية الهلال وما يتعين فعله في الغد أهم بحث يدور بين الحجاج الإيرانيين، وفي هذه الأثناء قيل: إن الحجاج

ص: 175

المجاورين لنا من أهالي جبل لبنان، وهم من الشيعة، يقولون: إنهم شاهدواالهلال في لبنان ليلة الجمعة، فدعونا من بين من يدعي الرؤية منهم اثنين مكتملين كي يشهدا، وجاء عدد من علماء إصفهان وغيرها من المدن كي يسمعوا شهادتهما! قام السيد الإصفهاني بلغته العربية المهشمة والمطعّمة بلهجته الإصفهانية بإرباكهما بكثرة أسئلته حول موقع الهلال في ناحية الشرق؟ ومقدار ارتفاعه في الأفق؟ واتجاه طرفي الهلال؟! حتى هرب أحدهما وظل الآخر مرابضاً، وأخذ يجيب عن الأسئلة، لقد كان الخلاف بين الخميس والجمعة.

سألنى أحد الفضلاء: ماذا ستفعلون؟ فقلت له: ما هو الحل برأيكم؟

فقال: إذا لم يثبت الهلال عندنا فغداً سيكون تاسعاً إذا استطعنا فَعلينا أن ندرك كلا الموقفين، فغداً ظهراً نقف في عرفات، وغداً ليلًا في المشعر، وإلا فلابد من إدراك أحدهما، وعليه لابد غداً من إدراك المشعر ليلًا إلى ما قبل طلوع الشمس. فقلت: أما أنا فسوف لا أفعل ذلك، فلا الاجتهاد يفرضه ولاالتقليد!

قبل ثلاثة قرون لم يكن فى المصنفات الفقهية خلاف في مسألة الهلال بين السنّة والشيعة

إن مسألة الاختلاف في هلال الحج من المسائل المستحدثه! فقد حج المسلمون بعد ارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وحتى هذا العام ألفاً وثلاثمائة واثنين وستين مرة (1). ولم يحدث خلاف في رؤية الهلال


1- الصحيح هو ألف وثلاثمئة وواحد وستّين مرة؛ فقد كان حج السيد الطالقاني باعترافه عام 1371 ه. ق. الموافق ل 1331 ه. ش، وكانت مغادرته لإيران في 18/ ذي القعدة/ 1371 ه. ق، الموافق ل 19/ مرداد/ 1331 ه. ش، راجع كتاب «به سوى خدا مى رويم».

ص: 176

سواء في عصر الأئمة أو بعده إلا في هذه السنوات الأخيرة بعد التقدم التكنولوجي في وسائط النقل وتوثيق العلاقات، حيث يأتي الحجاج الإيرانيون بتقويم المنجّمين الإيرانيين أو تسمعون من المذياع أو المسافرين أن هذا اليوم هو اليوم الأول في إيران فيما تعلن الحكومة هنا يوماً آخر، مضافاً إلى وجود الظنون السيئة، لذا يقال: كما أننا لا نذهب إلى مذهبهم فلا نقبل هلالهم، فنحن نتبع أفقنا الذى هو أفق الشيعة. فهل هذا من الموارد التي يسوغ فيها التعصّب!؟ إننا شئنا أم أبينا نتواجد في أرض الحجاز فعلينا اتباع الأفق في الحجاز...

فعلى قولكم، باستثناء الأعوام التي يكون فيها الهلال مرتفعاً ويراه الجميع- وهو قلما يحصل- لابد من حصول هذا الاختلاف ولابد من هذا الاحتياط! سواء اتفقت رؤية الهلال في إيران والحجاز أو اختلفت، لأن أول الشهر في إيران بسبب اختلاف الأفق لا يكون حجّة على الحجاج، ومن ناحية أخرى فإنكم لاتثقون بإعلان الدولة هنا!

... ثم اتضح فيما بعد أن جماعة ذهبت البارحة إلى المشعر وتعرضت للمشاكل، وكان أحد الفضلاء قد كسر ضلعه وكان يأنُّ ويكتم عنا وجعه...! (1) 15- حجّ المرحوم آية اللَّه السيد أبوالقاسم الكاشاني قدس سره عام 1371 ه. ق.

الموافق ل 1331 ه. ش، وكما تقدم في تقرير آية اللَّه السيد محمود الطالقاني الذي حج في العام نفسه، فقد حدث الاختلاف في هذا العام أيضاً، وقد توجه السيد جعفر الرائد بوصفه مدير المكتب المرافقه لمظفر أعلم، سفير إيران في السعودية، إلى جدة، وكان مرافقاً لآية اللَّه الكاشاني أثناء الحج، وقد ذكر في هذا الشأن مايلي:


1- به سوى خدا مى رويم: 175- 184، 188.

ص: 177

... حصل ذلك العام اختلاف بين السنة والشيعة في رؤية هلال ذي الحجة، وكان آية اللَّه الكاشاني يرجو من السلطات السعودية السماح للشيعة بأداء مناسك الحج بعد يوم، إلا أن الأمير السعودي لم يكتف بعدم السماح، بل امتعض من هذا الطلب، لأنه رأى فيه بداية انقسام كبير بين المسلمين- شيعة وسنة- في موسم الحج، فأمر بإرسال عددٍ كبير من الجنود إلى مخيم آية اللَّه الكاشاني ومظفر أعلم سفير إيران حتى يحول دون الانقسام في أداء مناسك الحج من جهة، ولمنع من يحاول الاعتداء على الشيعة تحت هذه الذريعة من جهة أخرى (1).

ذكر السيد كاظم الآزري القائم بالأعمال القنسولية في السعودية، في تقريره المرقم 709 بتاريخ 22/ 7/ 1331 ه. ش:

... في الثامن من ذي الحجة كان الحجاج الإيرانيون في ضيق شديد بسبب الاختلاف بيومين في رؤية الهلال بين التقويم الإيراني والحجازي، وكانوا يراجعون سماحة السيد لحل هذا الإشكال والوقوف الاضطراري ليوم عرفة في اليوم التالي، وقد عقد العزم على مفاوضة الجهات المعنية في الحكومة السعودية بهذا الشأن، ومع الأخذ بنظر الاعتبار التجارب التي كانت عندي، ذكرت له عدم جدوائية ذلك، بيد أني أنجزت أوامره بعد إصراره عليها.

وقبل الظهيرة من ذلك اليوم قال لي سماحته: أريد منك إبلاغ رسالتي إلى السلطات المحلية هنا (وشرح لي رسالته). فقمت في الوهلة الأولى بزيارة الشيخ إبراهيم السليمان مدير مكتب الأمير فيصل، والذي كانت تربطني به صداقة طويلة وحميمة، الأمر الذي شجعني


1- تاريخ وفرهنگ معاصر، ش 6- 7: 333 «آية اللَّه السيد أبو القاسم الكاشاني كما عرفته».

ص: 178

على الدخول في صلب الموضوع بصراحة فقلت له: إن الاختلاف بين التقويم الإيراني والحجازي في الأعوام السابقة كان في يوم واحد، ولذلك كانت حجة اختلاف الأفق مقنعة، لكن الاختلاف في هذه السنة بلغ يومين مما عقّد الأمر علينا، وأرى أن أقول لكم بصراحة: إن شهودكم قد أخطأوا في هذه السنة، وذلك لأنه من الناحية الفلكية يمكن رؤية الهلال في الحجاز ونجد (الواقعة إلى الشرق من مصر) قبل رؤيته في إيران، ولكن تستحيل رؤيته إلا بعد رؤيته في مصر. ومع وجود رصد «خلوان» في مصر والدقّة المبذولة في هذا المجال لا يُعقل وقوعهم في الخطأ، وأن جميع البلدان الإسلامية باستثناء السعودية قد أخطأت في ذلك!

وبعد هذه المقدمة طلبت منه إيصال الموضوع بشكل مناسب إلى الأمير فيصل، وهو شخص مثقف ومتفهم، وأن يطلب منه سرّياً- كما أراد آية اللَّه الكاشاني- إصدار أمر لقوات الشرطة بعدم التعرض لأولئك الذين يبقون في عرفات إلى اليوم التالي، ويفيضون في الليلة التالية إلى المشعر الحرام.

ورغم أن المدعو كان يشاطرني الرأي إلا أنه قال: لا تأثير للأدلة الفلكية والرياضية هنا، ولا يسعنا إلا الانقياد لحكم المحكمة الشرعية، كما أنه مع وجود الأمير سعود لايمكن للأمير فيصل أن يعمل شيئاً، فالأفضل محاورة الأمير سعود في هذا الشأن...

جاء أحد الفضلاء، واسمه بحر العلوم، للقاء سماحة آية اللَّه وقال له:

هناك شيعيّان: أحدهما كويتي وكلاهما موثوقان عنده، يشهدان برؤية الهلال ليلة الجمة 31/ مرداد. كما شهر السيد شمس قنات آبادي أنه شاهد الهلال في الليلة المذكورة بوضوح، عندما كان قادماً من

ص: 179

شميران إلى طهران، كما شهد السيد عباس الناجي صهر سماحة السيد آية اللَّه الكاشاني الذي كان برفقة السيد قنات آبادي تلك الليلة بتأييد هذه الشهادة، ومن مجموع هذه الشهادات ثبتت رؤية هلال ذي الحجة ليلة الجمعة الموافق للحادي والثلاثين من شهر مرداد عند السيد الكاشاني. وقلّ الاختلاف إلى يوم واحد، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى اختلاف الأفق، وأضحى ثبوت الهلال في الحجاز في ليلة الخميس الموافق للثلاثين من مرداد محتملًا، وبما أنه لم يكن لدينا علم بالخلاف، أي لم يكن عندنا قطع بخطأ دعوى رؤية الهلال هنا، تم الإفتاء طبقاً للموازين الفقهية باتباع حكمهم، خصوصاً وأن بعض أجلّة فقهاء الشيعة أمر بمتابعة الجماعة حتى مع العلم بالخلاف.

من هنا، ذهب أكثر الحجاج الإيرانيين وعدد من العلماء طبقاً لأمر آية اللَّه الكاشاني إلى اتخاذ يوم الجمعة اليوم التاسع من ذي الحجة، ووقفوا مع الناس في عرفات. ولكن برغم ذلك عمد بعض إلى العمل بالاحتياط، وأفاضوا إلى المشعر في الليلة التالية، وأعادتهم الشرطة بالإكراه وقامت بشتمهم.

كتبت مجلة المصور التي تطبع في «دار الهلال» المصرية تفصيلًا مبالغاً فيه حول هذا الموضوع، وبعض أجزاء ما كتبته مجانب للحقيقة تماماً.

وكما تقدّم فإن طلب سماحة آية اللَّه الكاشاني كانت له صبغة تزويد المجلة المذكورة بالخبر وإن لم تنشره بشكل مطابق للواقع؟!

لم يكن هناك إذن مستقل للإيرانيين بالوقوف، وقد كان جواب الأمير مطابقاً للشرح المتقدم، وما نسبته المجلة من الكلام للأمير من: «أن الحكومة السعودية لا تسمح لأي مسلم بالقدوم إلى هذا

ص: 180

البلد ليفرض على الدولة قانوناً غير قانونها، وأن الدولة لا تسمح للكاشاني وغيره بالتخلف في عرفات بعد إفاضة الحجاج منها ولو لدقيقة واحدة، ولو أنه لم يوافق على هذا القرار طوعاً أو كرهاً فسوف يعاد إلى بلده عبر الطائرة» عارٍ عن الصحة تماماً.

*** بما ان الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة في مكة المكرمة يؤدي عادة إلى ظهور مشاكل للشيعة كان الشيعة في المواسم التي لا يطرأ فيها هذا الاختلاف يؤدون مناسكهم بهدوء بالٍ واطمئنان:

1- ذكر أمين الدولة بشأن حج عام 1316 ه. ش: «لا يوجد- بحمد اللَّه- خلاف في هذا العام بين الفريقين حول رؤية الهلال ويوم العيد» (1).

2- وكتب حول حج عام 1317 ه. ش:

«بما أنه لم يكن هناك اختلاف في بداية ذي الحجة من هذا العام بين السنّة والشيعة، فقد كان لكثرة الناس وازدحام الحجاج مشهد رائع لايمكن وصفه» (2).

3- في عام 1331 ه. ش. أوشك الاختلاف على الظهور، إلا أن علماء الشيعة بادروا إلى البحث والتحقيق وارتفع الإشكال (3).

4- قال السيد فخر الدين الجزائري حول حج عام 1340 ه:

توجهنا في الليلة الأولى من الشهر إلى جبل أبي قبيس للاستهلال وشاهدنا الهلال، وبعدها أخذ الشيعة والسنّة يشهدون جماعات


1- سفرنامه أمين الدوله: 189، نقلًا عن مقال «حج گزارى ايرانيان در دوره قاجار».
2- سفرنامه عتبات ومكه: 172، مطبوع في «ميراث اسلامى ايران» ج 5.
3- سفرنامه ميرزا على إصفهانى: 215- 216، مطبوع في كتاب «به سوى ام القرى».

ص: 181

جماعات عند حاكم مكة، وتمّ بحمد اللَّه ثبوت أول الشهر، ولم يظهر خلاف في هذا الشأن بين الشيعة والسنّة، وقد كان هذا الخلاف يؤدّي إلى مشقّة الحجاج في أغلب الأعوام (1).

5- جاء في مذكرات الشيخ آغا بزرگ الطهراني حول حج عام 1377 ه. ق:

وكان نزولنا في المدينة في بستان أسعد أمر اللَّه في ليلة الأربعاء التي هي في التقاويم الإيرانية آخر ذي القعدة وفي التقويم السعودي غرّة ذي الحجة، وقد شهد جمع من الحجّاج وغيرهم برؤية الهلال، وغلب الظنّ بعدم كذبهم وعدم الخطأ في بصرهم من جهة الظن بأنّه كان ممكن الرؤية في تلك الليلة بحسب الدرجة التي رأيناه فيها في ليلة الخميس في البستان المذكور، بعدما صلّيت جماعة المغرب ونوافلها، ثمّ العشاء، ومضيّ قرب ساعةٍ من الليل، فأروني وأنا جالس في وسط الدار لتعقيب الهلال في محلّه المرتفع فوق الحائط، ثمّ نقلوا أنّه غرب قرب ساعة ونصف من الليل ومن هنا، اطمأنّت النفس بأنّ ليلة الأربعاء كانت أوّل ذي الحجّة وإن لم تثبت الرؤية شرعاً، لعدم بلوغ الشهود إلى حدّ الشياع والاستفاضة، فوافقنا السعوديين وعرّفنا يوم الخميس، وعيّدنا يوم الجمعة! (2)

ب- الجهود المبذولة لرفع هذا الإشكال

كما تقدم في صورة الاختلاف بين الشيعة والسنة في ثبوت هلال ذي الحجة في مكة- أعم من عدم الثبوت عند الشيعة، طبقاً لحكم ونظر قاضي أهل السنّة أو العلم بخلافه- كان الشيعة يصدّون على الوقوف في عرفة والمناسك الأخرى طبقاً


1- سفرنامه جزائري: 40، نقلًا عن مقال «حج گزارى ايرانيان در دوره قاجار».
2- ميراث حديث شيعه، بالفارسية 1: 421- 422، «زندگى نامه خودنوشت شيخ آقا بزرگ تهرانى».

ص: 182

لرأيهم في ثبوت الهلال، وهذا ما لا يمكن تحققه إلا في سنوات معدودة. من هنا، ففي السنوات الأخرى وإن أمكن التماشي صورياً مع أهل السنّة في الوقوف بعرفات والأعمال التالية، إلا أنهم لم يكونوا ليروا ذلك صحيحاً ومجزياً. وكانوا يحلّون بالعمرة المفردة والهدي، ويمكثون في مكة إلى الحج المقبل، وإذا لم يكن حجهم واجباً يعودون إلى أوطانهم.

والبعض الذي كان يجهل هذين الحلّين- العمرة المفردة والهدي- ويعود إلى الوطن يحكم ببقائه على الإحرام، ويحكي عن ذلك تقرير عن أواخر العهد الصفوي، وقد تقدم ذكره، ويختص بذلك الفصل السابع من «حديقة الشيعة للرضوي» (بعد 1152). طبقاً لما هو منقول في مذكرات الحج والمصادر المشابهة قلّما كان يحصل توافق ومجاراة أهل السنّة- على سبيل التقية- بل قام الرضوي بانتقاد الذين أفتوا تقية بصحة المناسك المذكورة.

وبالالتفات إلى ما تقدم سعى بعض علماء الشيعة إلى البحث عن طرق لحلّ هذه المعضلة، وفيما يلي نشير إلى نماذج من محاولاتهم وجهودهم:

1- المرحوم الحاج سراج الأنصاري العالم الجدّ، خبير عصره. التقى عام 1367 ه. حمزة غوث سفير العربية السعودية في إيران، وقد تمّ نشر تقريرٍ حول هذا اللقاء في مجلة «المسلمين» الشهرية في العدد الأول والثاني (1/ مرداد/ 1327 ه. ش. الموافق ل 16/ رمضان/ عام 1367 ه. ق) تحت عنوان «تفصيل اللقاء بين السيد الحاج سراج الأنصاري مع سماحة السيد حمزة غوث مندوب المملكة السعودية»، وكان عام 1327 ه. ش. هو عام عودة العلاقات بين إيران والعربية السعودية بعد أربع سنوات من الانقطاع وترك الحج- بسبب استشهاد الميرزا أبي طالب اليزدي في مكة عام 1322 ه. ش.- وأخذ الإيرانيون بعدها يتوجهون إلى الحج. يقول الحاج سراج في هذا التقرير:

بالنظر إلى حرص «اتحاد المسلمين» البالغ على إقامة الوحدة

ص: 183

الإسلامية في جميع الأقطار الإسلامية، واهتمامها الدائم وسعيها الجادّ للوصول إلى هذا الهدف المقدس، لذا يجوز لكل عضوٍ من أعضاء هذا الاتحاد الاهتمام بهذا الشأن، وفتح الطريق للوصول إلى هذه الغاية، وبهذه المناسبة تقدمت بإرسال السيد الدكتور موسى حكمت سكريتر الهيئة الإدارية للاتحاد إلى السفارة السعودية للحصول على موعد للقاء خاص بالسفير السعودي، وقد كان ذلك في يوم الخميس العاشر من شهر تير بوصفي «مؤسس اتحاد المسلمين»...

... ثم قلت: إن ما هو مهم وفي غاية التأثير بالنسبة للشيعة في مناسك الحج هو مسألة رؤية الهلال، إذ بعد فتوى المحكمة الشرعية في مكّة، تعمد الحكومة السعودية إلى إكراه الجميع على العمل بمقتضى فتوى المحكمة، وجعل اليوم الذي تحدده المحكمة هو اليوم الأول من الشهر. فما هو المحذور في أن يحضر شخص من علماء الشيعة في هذه المحكمة وأن يكون حاضراً أيضاً عند شهادة الشهود، ليكون مساهماً في الفتوى عند الإفتاء ولايحصل الاختلاف؟

فقال السيد حمزة غوث في جوابه عن هذا الاقتراح: إن هذا الأمر مستحيل، لأن التدخل في هذا الشأن يُعدّ تدخلًا في الشؤون الداخلية للبلاد، وهذا ما لا يمكن العمل به. مضافاً إلى أنكم إذا اعترفتم بكون العربية السعودية بلداً إسلامياً فعليكم أن تذعنوا لقراراته، كما أنني إذا أقيم حالياً في إيران وأراها بلداً إسلامياً وغداً شهر رمضان المبارك، وستعلن الحكومة أن اليوم الكذائي اليوم الأول من شهر رمضان المبارك عندها سيجب عليَّ الإذعان لذلك، وسيجب عليَّ صيام ذلك اليوم حتى وإن وصلتني برقية من الحجاز على نفي كون ذلك اليوم من رمضان. فهل يمكنني أن أكره الحكومة

ص: 184

بأنه مادام مفتيكم شيعياً فعليكم أن تأذنوا لشخص من أهل الإفتاء من أهل السنّة للحضور في المحكمة الشرعية والاستماع إلى شهادة الشهود...؟

قلت: إننا نرى أن العربية السعودية بلد إسلامي، إنما الكلام في مستند الفتوى. فقد قمت شخصياً بزيارة مكّة المكرمة عام 1350، وذات ليلة ترجل جميع الحجاج من حافلاتهم في الصحراء بين مكّة المكرّمة والمدينة المنوَّرة بغية الاستهلال، لاحتمال كون تلك الليلة هي الليلة الأولى من شهر ذي الحجة الحرام. ولم ير الهلال أحد منا.

والذي أثار سوء ظني أن أحد رؤساء القوافل والذي كان وقف إلى جانبي عند الاستهلال وصرّح لي بعدم تمكّنه من رؤية الهلال، لكن حينما وصلنا إلى مكّة المكرمة كان هذا الرجل أحد الشهود الذين شهدوا برؤية الهلال، وقد تمّ إصدار الفتوى استناداً إلى شهادة مثل هؤلاء الشهود!

من هنا إذا حضر أحد العلماء الشيعة في المحكمة، وتمّ التدقيق في وضع الشهود، فسوف لا يكون هناك خلاف في البين.

قال السيد حمزة غوث: إن التدقيق في مستند الفتوى وظيفة المفتي الشرعية والوجدانية، وعلى فرض عدم التدقيق من قبل المفتي في فتواه، فإن ذمة العاملين على طبق فتواه سوف لاتكون مشغولة، ولايكونون مسؤولين أمام اللَّه عزّوجل.

وإذ بلغ الكلام هذا المبلغ لم أشأ مواصلة الموضوع وإثبات عدم صحة دليل السيد حمزة غوث في المسألة المفروضة، وعلى كل حال عاد بنا الحوار إلى موضوع رفع الاختلاف (1).


1- الحاج مهدي سراج الأنصاري: 245- 249.

ص: 185

2- تقدّم أن آية اللَّه السيد أبا القاسم الكاشاني قدس سره ذهب إلى الحج عام 1371 ه. ق. الموافق لعام 1331 ه. ش. وقد برز في ذلك العام مثل هذا الاختلاف أيضاً. من هنا تصدّى آية اللَّه الكاشاني للبحث عن حلّ لهذه المعضلة. وقد كتب سماحة السيد جعفر الرائد الذي كان برفقة آية اللَّه الكاشاني رسالة تفصيلية باللغة العربية إلى الملك سعود ملك العربية السعودية (1)، تقترح بعض الأمور؛ بغية التقريب بين المسلمين وتوحيدهم، ولإنعاش شؤون الحج والعمرة، ومنها عدم تحديد أيام عرفة والعيد في يوم محدد، كيمايتسنى لأي فرقة ممارسة مناسك حجّها في اليوم الذي يثبت عندها... (2) كانت دعوة آية اللَّه الكاشاني إلى أداء حجّين في حالة ظهور الاختلاف بين


1- كان عبد العزيز آنذاك ملكاً للسعودية والأمير سعود ولياً للعهد. وكانت رسالة آية اللَّه الكاشاني موجهة للملك عبد العزيز.
2- تم اقتراح هذا الموضوع على القادة السعوديين بشكل سري وشفهي، ولا يوجد في الرسالة المذكورة شي ء عن هذا المعضل، وقد نشر النص العربي لرسالة آية اللَّه الكاشاني قدس سره إلى عبد العزيز في مجلة «ميقات حج» الفارسيّة، العدد 43: 64.

ص: 186

الشيعة والسنة في ثبوت رؤية هلال شهر ذي الحجة، خلافاً لما كانت تتوقعه السلطات السعودية ومجامع أهل السنة؛ إذ كانوا يتصورون أنه عالم دين وسياسي ومتحرر يتسامح في هذه الموضوعات الفرعية (1).

وقد كتب سماحة السيد كاظم الآزري القائم بالاعمال القنسولية في العربية السعودية أيضاً في التقرير رقم 709 بتاريخ 22/ 7/ 1331 ه. ش. في هذا الخصوص:

رغم وضوح عدم وجود أثر للحوار مع الأمير سعود، ولكي يتخفف الأمير فيصل من أعباء التدخل في هذا الموضوع الحساس، فقد أحالني إلى الأمير سعود، وبما أن سماحة آية اللَّه الكاشاني كان يصرّ على أخذ موعد من السكريتر الخاص للأمير سعود توجهت إلى قصر ولي العهد، وكان الأمير سعود حينها منشغلًا بتناول الغداء.

لم تكن لدي سابقة طويلة مع السكريتر الخاص للأمير سعود والذي تولى مهامّه في الآونة الأخيرة، ولذلك عرّفت نفسي له بالنحو المطلوب، وأشرت إلى سابقتي وارتباطي بالبلاد العربية السعودية، ومن خلال بيان الموقع الممتاز الذي يتمتع به سماحة آية اللَّه الكاشاني في العالم الإسلامي، وضرورة تلبية مطالبه وحسن تأثير ذلك على الإيرانيين وسائر المسلمين، أثرت الموضوع بنحو مناسب، وقلت: إن اقتراح سماحة آية اللَّه الكاشاني لايرمي إلى صدور إذن خاص للإيرانيين بالوقوف، وإنما مطلبه الوحيد يتلخص في عدم مضايقة من يريد العمل بالاحتياط ويتوجه يوم السبت إلى عرفات للوقوف الاضطراري، ويوم الأحد للمشعر الحرام، وذلك بأن تغض الشرطة الطرف عن مثل هؤلاء الأشخاص، وذكّرته بأن هذا الشي ء لايتخذ


1- «تاريخ وفرهنگ معاصر» العدد 6- 7: 333 «آية اللَّه سيد أبوالقاسم الكاشاني آن طور كه مى شناختم».

ص: 187

صفة محاباة للإيرانيين في المعاملة والمصادقة على وقوف مخصوص لهم.

وقد نقل المدعو القضية إلى الأمير سعود، وقال في الجواب بعد تقديم أسمى مراتب الاحترام والسلام على لسان ولي العهد لسماحة آية اللَّه الكاشاني:

قال الأمير: إن هذا الاقتراح من مثل هذهِ الشخصية التي هي من دعاة وقادة الوحدة الإسلامية يبدو بعيداً ومستبعداً؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى تشتت المسلمين وتفرقتهم.

إن سائر المسلمين- برغم اختلاف أحكام المحاكم الشرعية في بلدانهم بشأن يوم الوقوف في عرفات مع حكم المحكمة الشرعية في الحجاز- يذعنون لحكم القاضى ويقف حوالي أربعمائة ألف مسلم من مختلف البلدان يوم الجمعة في عرفات، ومعه فغضّ الطرف عن عدد محدود لا يتجاوز الثلاثة آلاف شخص في الوقوف في اليوم التالي الذي يُعدّ بمنزلة إذن ضمني بهذا العمل، يؤدّي إلى تفرقة المسلمين، والحكومة السعودية لايمكنها أن توافق على هذا الأمر بتاتاً، وتطلب من سماحة آية اللَّه الكاشاني أن يدعو الإيرانيين إلى عدم الخروج عن إجماع سائر المسلمين، وأن يقفوا في عرفات في اليوم الذي يقف فيه سائر المسلمين.

وفي الختام نقل عن الأمير قوله: إن الجهات المعنية ستقوم بمواجهة من يعمل على خلاف إجماع المسلمين، ويتوجه يوم السبت إلى عرفات أو ليلة الأحد إلى المشعر الحرام، بقسوة بالغة.

وقد رفعتُ الجواب المذكور إلى سماحة آية اللَّه الكاشاني.

ص: 188

3- نقل آية اللَّه السيد محسن الحكيم قدس سره إلى السلطات السعودية اقتراحاً مشابهاً للاقتراح الذي تقدّم به آية اللَّه الكاشاني، ولم يلق آذاناً صاغية أيضاً.

كما تشرف المرحوم جلال آل أحمد في عام 1383 ه. ق، الموافق لعام 1343 ه. ش. بالحج، وأشار إلى هذا الموضوع في مذكراته عن حجّه هذا، والتي عنونها ب (خسى در ميقات) (1)، وكذلك في رسالة إلى سماحة السيد الإمام الخميني قدس سره من مكّة المكرّمة.

وقد ذكر آل أحمد في رسالته هذه:

مكّة المكرمة، اليوم الحادي والثلاثون من شهر فروردين، عام 1343 ه. ش، الموافق للثامن من ذي الحجة عام 1383 ه. ق.

آية اللَّه! عندما عمت الفرحة مدينة طهران لدى سماع نبأ إطلاق سراحكم، كنّا- في المطار- منتظرين الإقلاع الى مكّة المكرمة، فلم تسمح لنا الفرصة بتقبيل يدكم ثانية. ولكن وقع هنا أمران أو ثلاثة وجدت من المستحسن التذرّع بها للترحيب بكم...

الأمر الآخر أنه أشيع في هذه المدينة أن آية اللَّه الحكيم كان من المقرر تشرفه بالحج، ولكن تقدم بثلاثة شروط، استجاب السعوديون لاثنين منها، ورفضوا ثالثها، فقد استجابوا لإقامة محراب للشيعة في بيت اللَّه وإعادة بناء أضرحة البقيع، أما الشرط الثالث الذي رفضوه فهو حقّ إبداء الرأي في رؤية الهلال والعمل به. ولذلك امتنع عن المجي ء بنفسه، وأرسل هيئة ربما كانت برئاسة ابنه... (2).


1- راجع كتاب خسي در ميقات: 126- 127.
2- صحيفة كيهان، عدد خاص بمناسبة مرور مائة عام على ولادة الإمام الخميني قدس سره، بتاريخ شهر مهر عام 1378 ه. ش، ص 4.

ص: 189

ج) الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة في المصادر الفقهية

يتمّ التعرض لبحث ثبوت الهلال وكيفية ذلك عادة في الكتب الفقهية في باب الصوم وفي باب الشهادات، بمناسبة عدم قبول شهادة النساء في رؤية الهلال. ولم يتم التعرض له في باب الحج، إلا في القرون الثلاثة الأخيرة، حتى في رسائل مناسك الحج للشهيدين الأول والثاني وغيرهما.

ولم يرد بحث هذا الموضوع في باب الحج في كتب الفقهاء المتقدمين والتراث الفقهي للمحقق الحلي والعلامة الحلي، مثل قواعد الأحكام وإرشاد الاذهان وتبصرة المتعلمين. وإنما تعرّض العلامة الحلي في المنتهى والتذكرة والتحرير للكتب الفقهية لدى أهل السنّة إلى حالة ما لو كانت ليلة الثلاثين من شهر ذي القعدة غائمة ولم يكن من الممكن رؤية هلال ذي الحجة، فما هوالحكم؟ وفروع من هذا القبيل.

ثم تعرّض الشهيد في الدروس لهذه الفروع:

منها: «ولو رأى الهلال وحده أو مع غيره وردّت شهادتهم وقفوا بحسب رؤيتهم وإن خالفهم الناس، ولايجب عليهم الوقوف مع الناس»، وهو ما قاله الفقهاء بشأن شهر رمضان المبارك. ونقل العلامة في المنتهى عن الشافعي قوله:

«إنهم يقفون على حسب رؤيتهم وإن وقف الناس في غير ذلك» (1).

لكن لايوجد هناك بحث حول اختلاف الشيعة والسنة في ثبوت هلال ذي الحجة في مكة في الكتب الفقهية قبل ثلاثة قرون، وكأنّ الحجاج الشيعة كانوا يقومون بمناسك الحج تزامناً مع السنة، كما لم يكن الخلاف موجوداً في عصر الأئمة المعصومين عليهم السلام. وقد ظهر الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة بين الشيعة والسنة لأسباب مختلفة منذ أواخر العهد الصفوي فما بعد، وقد تقدم ذكر نماذج لذلك.

وحينما لم يكن بامكان الحجاج العمل طبقاً لرؤيتهم وإتيانهم الوقوف في عرفات


1- ذكرت المصادر الدقيقة لأقوال الشيعة وأهل السنّة في ميراث فقهى التراث الفقهي 2: رؤية الهلال، الأجزاء، 3- 5.

ص: 190

وسائر المناسك مع أهل السنة لم يحكم بإجزاء هذا الحج وصحته حتى في صورة التقية، بل كانوا يخرجون من الإحرام بالعمرة المفردة والهدي، وكان الحج يفوتهم.

يظهر من كتب الفقه الاستدلالي للمتأخرين أن أول من تحدث عن إجزاء الحج وصحته هو صاحب الجواهر (1266) وسننقل ذلك فيما بعد. كما نقرأ في مناسك الحج للشيخ الأنصاري (1281) والذي علّق عليه الكثير من الفقهاء:

هرگاه در پيش قاضى عامّه، هلال ثابت شود وحكم كند ودر پيش شيعه شرعاً ثابت نشده باشد، لهذا روز عرفه نزد عامّه روز هشتم باشد در پيش شيعه؛ پس اگر ممكن است مخالفت ايشان در بيرون رفتن به سوى عرفات- كه روز خروج ايشان است از مكه- يا ممكن باشد ماندن شب آن روز در عرفات تا فردا- كه روز عرفه است- يا رفتن وبرگشتن فردا پيش از غروب آفتاب، به جهت ادراك وقوف اختيارى عرفه، يا بعد از غروب آفتاب به جهت ادراك اضطرارى آن، اگر متمككّن شود از مراجعت قبل از آن؛ پس واجب است كه چنين كند تا ادراك وقوف اختيارى يا اضطرارى نمايد، از آنجا [يعنى عرفات] به مشعر رفته ادراك آن نيز نمايد، واعمال روز عيد را در منى به عمل آورد [اگر چه به نظر عامه روز يازدهم است].

واگر ممكن نشود ادراك وقوف عرفه اصلًا؛ پس اگر ممكن است ادراك وقوف مشعر الحرام، پس آن نيز كفايت مى كند، وحج او صحيح است، والّا حجّ او در آن سال فاسد خواهد بود.

والحاصل ان التقية في المقام لاتصحّح العمل على الأحوط الأقوى، واللَّه العالم (1).


1- راجع كتاب التراث الفقهي 2، رؤية الهلال، ج 4.

ص: 191

وهنا علّق من كبار الفقهاء صاحب العروة (1337)، وآية اللَّه الحاج السيد حسين البروجردي (1380) على الجملة الأخيرة من مناسك الشيخ الأنصاري بقولهما: (إن الأقوائية محل تأمل)، والظاهر أن آية اللَّه السيد أبا الحسن الإصفهاني وآية اللَّه البروجردي يذهبان إلى صحة وإجزاء متابعة أهل السنّة في صورة عدم العلم بالخلاف. وقد كتب آية اللَّه الطالقاني بمناسبة هذا الاختلاف في حج عام 1371/ 1331 ه. ش:

... بما أنه في الاختلاف تقوم محاكم الحجاز دائماً بالحكم قبل يوم من أول الشهر، ولم يحصل علم بالخلاف أبداً، فقد حلّت فتوى سماحة آية اللَّه البروجردي «أدام اللَّه بقاءه» هذه المشكلة (1).

وهنا ننقل فتاوى عدد من المراجع المعاصرين:

أ) آية اللَّه الحكيم قدس سره (1390):

الظاهر صحة متابعتهم تقيةً في الوقوف بعرفات والمشعر، ويكون مبرئاً للذمّة، سواء أكان هناك علم بمخالفة الواقع أم لم يكن، ولاضرورة إلى تعريض المكلف نفسه إلى الإيذاء والإهانة. إذن يكفي الوقوف معهم، أما بقية المناسك في منى مثل رمي الجمرة والتضحية والحلق والمبيت في ليالي التشريق فالظاهر في صورة الشك وعدم العلم بمطابقة حكم القاضي للواقع هو التبعية لهم في مناسك منى،


1- به سوى خدا مى رويم: 187.

ص: 192

وهو كافٍ أيضاً. وفي صورة العلم بالمخالفة فالظاهر أن يأتي بمناسك منى بما يتفق والمذهب الشيعي.

ب) آية اللَّه السيد محمود الشاهرودي (1394):

لايجوز اتباع حكم القاضي السني، إلا أنّ الرجوع في هذه المسألة إلى المجتهد المطلق الذي يرى اتباعه مجزياً جائز.

ج) آية اللَّه السيد هادي الميلاني (1395):

في صورة عدم العلم بمخالفة حكمه للواقع يجوز العمل بحكمه.

د) آية اللَّه السيد أحمد الخوانساري (1405):

فتواه هي نفس فتوى الشيخ الأنصاري التي نقلناها من مناسكه.

ه) آية اللَّه السيد أبوالقاسم الخوئي (1413):

لو احتمل المطابقة للواقع في حكم ذلك الحاكم فالظاهر لزوم متابعته من باب التقية، وأن يقف في يوم وقوفهم. وفي فرض التقية تجب متابعة الحاكم السني، ويكفي في صحة الحج من دون حاجة إلى الاحتياط. ولو خالف شخص التقية متذرعاً بالاحتياط يكون قد ارتكب حراماً، ولا يكون وقوفه جزءاً من الحج، ولو اكتفى به كان حجّه باطلًا.

و) آية اللَّه السيد محمد رضا الگلپايگاني قدس سره (1414):

لو اضطر تقية إلى متابعتهم وخاف العمل بوظيفته فالأقوى صحة هذا الحج وكفايته عن حجّة الإسلام حتى مع العلم بالخلاف. ولو تمكن من العمل بوظيفته دون خوف فالأحوط متابعتهم رجاءً، ثم يعمل بوظيفته حتى مع عدم العلم بالخلاف (1).


1- مناسك حج جامع: 74- 76 وقد تم نقل الفقرة أ إلى هذه الفقرة من هذا المصدر.

ص: 193

أما الإمام الخميني قدس سره فهو وإن كان له رأي مشابه لرأي الآخرين حيث جاء في تحرير الوسيلة قوله:

لو ثبت هلال ذي الحجة عند القاضي من العامّة وحكم به ولم يثبت عندنا، فإن أمكن العمل على طبق المذهب الحقّ بلا تقيّة وخوف وجب، وإلّا وجبت التبعية عنهم، وصحّ الحج لو لم تتبيّن المخالفة للواقع، بل لايبعد الصحّة مع العلم بالمخالفة، ولاتجوز المخالفة، بل في صحّة الحجّ مع مخالفة التقية إشكال... ولما كان أُفق الحجاز والنجد مخالفاً لآفاقنا- سيّما أُفق إيران- فلا يحصل العلم بالمخالفة إلّا نادراً (1).

إلا أنه قدس سره عدل عن هذا الرأي فيما بعد، وقد أعلن بتاريخ 28 شوال عام 1399/ 29/ 6/ 1358 ه. ش. وبشكل قاطع ومطلق:

يجب في الوقوفين متابعة حكم قُضاة الأخوة من أهل السنةويقع مجزياً حتى مع القطع بالخلاف (2).

ويبدو من خلال الحوادث التاريخية التي تقدمت الإشارة إلى نبذة منها، ومع الالتفات إلى وضع العربية السعودية في هذه الأيام وظروف الحج الخاصة، أن هذا هو الرأي الصحيح، وقد قام الفقيه الجليل وأحد الكُمَّل قبل حوالي قرنين من الإمام الخميني قدس سره، وهو العلامة بحر العلوم قدس سره (1212) بالافتاء بنفس هذه الفتوى.


1- تحرير الوسيلة 1: 418، المسألة 7.
2- صحيفة الإمام 10: 62، أجل «هذه من علاه إحدى المعالي».

ص: 194

وقد ذكر صاحب الجواهر بعد بحث الفروع المذكورة في المنتهى والتحرير والتذكرة و الدروس في هذا الخصوص مانصّه:

نعم بقي شي مهم تشتدّ الحاجة إليه، وكأنّه أولى من ذلك كلّه بالذكر، وهو أنّه لو قامت البيّنة عند قاضي العامّة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصحّ للإمامي الوقوف معهم ويجزى ء، لأنّه من أحكام التقية ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزى ء، لعدم ثبوتها في الموضوع الذي محلّ الفرض منه، كما يؤمي إليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذى دلّت عليه النصوص التي منها: «لَأن أُفطر يوماً ثمّ أقضيه أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي»؟

لم أجد لهم كلاماً في ذلك، ولا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً بالحكم للحرج، واحتمال مثله في القضاء.

وقد عثرت على الحكم بذلك منسوباً للعلامة الطباطبائي، ولكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه، واللَّه العالم (1).

وبما أن العلامة بحر العلوم قد أقام عدّة سنوات في مكّة المكرمة، وبعبارة أصحّ: قد تعرّف على «موضوع» الحكم بشكل كامل وأحاط بجوانبه، فقد أصاب في إصدار مثل هذه الفتوى، وهذا بخلاف ما لو كان العالم الذي يريد الإفتاء جالساً في مجالس الدرس والبحث في النجف الأشرف أو قم المقدسة بين جموع غفيرة من الشيعة بعيداً عن مشاكل الابتلاء بالتقية، وعن الالتفات إلى حالات القتل التي وقعت وما تحمله بعض من المصائب في هذا الموضوع، أجل إن المعرفة العميقة والصحيحة بالموضوع تُعدّ من أولى شروط الإفتاء في هذه المسألة.

لقد حجّ الأئمة المعصومون عليهم السلام مع أصحابهم قرابة قرنين مع أهل السنة دون أن ينقل مورد واحد عن عدم وقوفهم في عرفات والمناسك الأخرى للحج معهم،


1- جواهر الكلام 19: 32.

ص: 195

ومن البعيد جداً احتمال اتفاق القول في جميع هذه المدة مع أهل السنة وأمراء الحاج.

كان الحكام ينصبون على الدوام أمراء على الحجيج، وكان الناس يتبعونهم في جميع المواقف، وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب أسماء أمراء الحاج من العام الثامن للهجرة إلى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة للهجرة في بابٍ أفرده لذلك (1).

من مآثر الإمام الخميني فتواه بلزوم متابعة أهل السنّة في هلال ذي الحجّة حتّى مع القطع بالخلاف.

بل على العكس من ذلك، إذ لم يتم عدم تماشي الأئمة عليهم السلام وأصحابهم مع أهل السنّة وأمراء الحاج فحسب، بل قد أمر المعصوم عليهم السلام في رواية بمتابعتهم، كما جاء في رواية أبي الجارود:

سألت أبا جعفر عليه السلام: أنّا شككنا سنةً في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر عليه السلام وكان بعض أصحابنا يضحي، فقال عليه السلام: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحّي الناس، والصوم يوم يصوم الناس» (2).

وفي هذا الحديث الشريف لم يفصّل الامام عليه السلام بين العلم بالخلاف وعدمه، وبين التمكّن من العمل بالوظيفة دون خوف وتقية وعدمه.

وكذلك نقل أهل السنة عن عائشة وأبي هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مايلي مرتّباً:

- الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحّي الناس (3).

- الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحّون (4).


1- مروج الذهب 2: 566.
2- تهذيب الأحكام 4: 317، ح 966؛ وسائل الشيعة، 10: 133، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، ح 7.
3- كنز العمّال 8: 489، ح 23763.
4- سنن الترمذي 2: 102، ح 639.

ص: 196

وقد قال الترمذي في شرح الحديث الثاني:

فسّر بعض أهل العلم هذا الحديث، فقال: «إنّما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس» (1).

كتب المرحوم آية اللَّه الطالقاني قدس سره قبل سنوات حول هذه المسألة:

رغم أن الكثرة والنفوذ في الحج كان على الدوام مع أهل السنة والجماعة، ومع ذلك لم تُبين وظيفة الشيعة وكيفية إثبات أول الشهر في الأحاديث والكتب الفقهية المتقدمة بشكل واضح؛ بل على العكس فإن أحاديثنا وظاهر الآيات فيما يتعلق بإدراك الوقوفين والذي هو من أركان الحج، ناظر إلى إدراك الإجماع ومتابعة عامة الناس...

وإذا لم يلتفت بعض الفقهاء المتأخرين بشكل كامل إلى الأحاديث والآيات وسيرة الماضين، فقد أراد إثبات نفس الموازين والقواعد العامة في إثبات الموضوعات الشرعية والهلال فيما يتعلق بالحج بحذافيرها. إلا أن الذين التفتوا ودققوا في هذه الآيات والأحاديث وموقع الحج والاختلاف، يرون كفاية عدم العلم بالخلاف ويحكمون بضرورة التبعية، ولايرون لزوم المشاهدة والعلم أو الظن القوي الذي يرونه فيما مثل إثبات هلال رمضان أو شوال، وبما أنه في حالات الاختلاف تحكم محاكم الحجاز بيوم سابق على الشهر لايحصل علم بالخلاف أبداً، وقد ذللت فتوى سماحة آية اللَّه البروجردي قدس سره هذه


1- المصدر نفسه.

ص: 197

المشكلة (1).

د) كيفية ومبنى ثبوت وإعلان رؤية هلال ذي الحجة

ليس بأيدينا اطلاع كامل عن جزئيات كيفية ثبوت رؤية الهلال عند قضاة العامة في مكّة المكرَّمة في الأزمنة الماضية. وإنما على حدود علمنا- كما تقدم في كلام المرحوم الحاج سراج الأنصاري- كانوا يعتمدون أحياناً حتى على شهادة الفاسقين والكاذبين. وكذلك في الأقل في عهد العثمانيين كانوا في الأعوام الممكنة يقدمون الإعلان عن بدء الشهر يوماً ليوافق «الحج الأكبر» في رأي أهل السنّة، كما تقدم ذلك مفصلًا.

من جهة اخرى، ينقل المرحوم آية اللَّه الطالقاني قدس سره بمناسبة الاختلاف في ثبوت هلال ذي الحجة في مكّة المكرمة عام 1371 ه. ق، عن بعض المسؤولين السعوديين الدّقة والاحتياط التام في إعلان ثبوت الهلال، حيث يقول:

من خلال التعبد الذي توليه الحجاز حكومة وشعباً للأحكام الدينية، والأهمية التي تعلّقها على الحج، فإنه لايتم الإعلان عن بداية الشهر إلا بعد التحقيق الكافي، فما هو المبرر الذي يدعو إلى إفساد وإبطال حجّ آلاف المكلفين من خلال الإهمال والتقصير؟! ولماذا يكون اليوم الأول من الشهر متقدماً في الحجاز عند ظهور الاختلاف، ولم يحدث أن يقع متأخراً؟ مع أن بقاء الحجاج في الحجاز مدة أطول حتى ولو ليوم واحد يعود عليهم بالنفع، أفلا تدفع هذه القرائن إلى الاطمئنان؟

كما أن السيد مظفّر أعلم سفير إيران في الحجاز كان يقول بعد ختام موسم الحج: «كان ولي العهد السعودي مستاءً من سلوك بعض الإيرانيين فيما يتعلق بإعادة الوقوف، وقال: ما هو الدليل الذي يدفعنا


1- به سوى خدا مى رويم: 185- 187.

ص: 198

إلى إفساد حج الناس! إن الدقة التي نبذلها في إثبات هلال شهر رمضان وذي الحجة تفوق أي شي ءٍ آخر. فما لم يشهد خمسون شخصاً من مختلف نقاط البلاد لايحكم القاضي بشي ء، ومالم يحكم القاضي لا تقوم الحكومة بالإعلان عن بداية الشهر» (1).

ومهما كان الوضع عليه في الماضي، فليس له تأثير ملحوظ على وضعنا الراهن، فما هو المهم حالياً هو ثبوت الرؤية والإعلان عنها.

نقلت صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 15/ 1/ 2000 م عن رئيس مجلس القضاء الأعلى في العربية السعودية أنه يثبت شهر رمضان بشهادة شخص واحد، بينما لا يثبت عيد الفطر إلا بشهادة شاهدين في الأقل. إلا أن السلطات المسؤولة في العربية السعودية أعلنت أنها منذ عام 1420 فما بعد اعتمدت الحسابات الفلكية والنجومية. ويؤكد على ذلك بعض الخبراء في هذا المجال مثل البروفسور يوسف مروة، ولكنه أشكل عليه بعدم انطباقه على الضوابط الشرعية الصحيحة، حتى أنه يتم أحياناً الإعلان عن ثبوت الهلال قبل ساعات من ظهوره. وقد ذكرت نص كلام يوسف مروة في الجزء الرابع من رؤية الهلال، كما سأذكر طرفاً منه بعد ذلك.

كتبت صحيفة البلاد بتاريخ السبت 17/ نيسان/ 1999 م حول هذا الموضوع ما يأتي:

لائحة حول رصد أوائل الشهور الهجرية

أعلن المشرف على معهد بحوث الفلك والجيوفيزياء، بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية الدكتور عبداللَّه الراجحي، عن صدور الموافقة الملكية على اعتماد لائحة مجلس الشورى حول رصد وتحرّي أوائل الشهور الهجرية القمرية على غروب الشمس قبل غروب القمرحسب توقيت مكة المكرمة، وأن تتخذ إحداثيات المسجد الحرام أساساً لذلك، وأوضح د. الراجحي أن فريقاً علمياً من


1- المصدر نفسه: 184- 185.

ص: 199

المعهد قام بإعداد تقويم هجري قمري لمدة تزيد عن 2100 سنة تبدأ من عام 100 قبل الهجرة وحتى عام 2000 هجري قمري، صدرت في جداول وفي مجلد واحد، وقد أقر هذا التقويم من قبل لجنة تقويم أم القرى، وسيتم العمل به ابتداءً من غرة محرم عام 1420 ه، وتمت الموافقة على قيام معهد بحوث الفلك والجيوفيزياء ومعهد بحوث الحاسب والالكترونيات بإعداد الحسابات الفلكية الخاصة بتقويم أم القرى.

وبيّن د. الراجحي أنه قد تم تحديد إحداثيات الكعبة المشرفة بدقة باستخدام أحدث الأجهزة العلمية. وأن هذا التقويم يحتوي على جداول تحدد موعد غروب الشمس وموعد غروب القمر لآخر ليلة في الشهر الهجري القمري حسب توقيت مكة المكرمة.

كما كتبت صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 17/ 3/ 1999 م مايلي:

استخدم فريق علمي متخصص في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية في الرياض أحدث برامج الحاسب الآلي في إنجاز تقويم هجري قمري إسلامي جديد، لمدة تزيد عن 2100 عام، منذ 100 عام قبل الهجرة، وحتى عام 2000 بعد الهجرة النبوية الشريفة. واستندت هذه البرامج إلى جداول تحدد لحظة غروب الشمس وغروب القمر في مكة المكرمة، وعلى اعتبار أن تحديد بداية الشهر القمري الهجري الجديد يعتمد على تحديد وقت غروب القمر بعد غروب الشمس، وتسجيل الفارق الزمني بينهما، كما يحدد هذا التقويم بداية الشهر الهجرى القمري بما يقابله بالتقويم الميلادي والتقويم الهجرى الشمسي.

ص: 200

ويتألف الفريق العلمي الذى أنجر هذا التقويم من الباحث الفلكي عبد العزيز سلطان الشمري، والدكتور فايز الحرقان، المشرف على معهد بحوث الحاسب والالكترونيات، والدكتور عبداللَّه الراجحي المشرف العام على بحوث الفلك والجيوفيزياء، والباحث الفلكي ياسر عبد الرحمن حافظ، ويذكر أن إنجاز هذا التقويم الجديد جاء استجابةً لقرار أصدرته الحكومة السعودية وموافقة الجهات العليا على اعتماد لائحة مجلس الشورى حيال رصد وتحري أوائل الشهور الهجرية القمرية والتي أقرت المادة ال 11 منها إعداد تقويم هجري قمري، يأخذ في الاعتبار إحداثيات المسجد الحرام في مكة المكرمة، وأن يغرب القمر بعد غروب الشمس فيها، وهو ما سيعتمد عليه ابتداء من شهر محرم المقبل 1420 للهجرة في تقويم أمّ القرى الجديد.

كما كتبت هذه الصحيفة بتاريخ 9/ 4/ 1999 م:

اعتمد فريق علمي من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية KACST على أحدث برامج الحاسب العالي في إعداد تقويم إسلامي هجري قمري جديد، موجد لمدة تزيد عن 2100 عام (من عام 100 قبل الهجرة حتى عام 2000 هجرية قمرية)، استناداً إلى إحداثيات المسجد الحرام، وأن يغرب القمر في سماء مكة المكرمة بعد غروب الشمس، على أن يشترط فيها ولادة القمر فلكياً باعتباره آخر يوم من الشهر القديم، مع تسجيل الفارق الزمني بين الغروبين واحتساب اليوم التالي بداية للشهر الهجري القمري الجديد. كما حدّد البرنامج بداية الشهر الهجري القمري بما يقابله بالتقويم الميلادي والتقويم الهجري الشمسي.

ص: 201

ويتكون الفريق العلمي المشارك في إعداد هذا المشروع من الباحث الفلكي عبد العزيز بن سلطان الشمري، د. فايز عبداللَّه الحرقان، المشرف على معهد بحوث الحاسب والالكترونيات، د. عبداللَّه ناصر الراجحي، المشرف على معهد بحوث الفلك والجيوفيزياء، والباحث الأستاذ ياسر عبدالرحمن حافظ.

حساب القمر

وبيّن الأستاذ عبد العزيز الشمري، الباحث الفلكي ضمن الفريق العلمي ل «الشرق الأوسط»، أن بداية الشهر الهجري القمري الجديد يتم تحديدها بناءاً على غروب الشمس بمكة المكرمة قبل غروب القمر بعد ولادة الهلال فلكياً NEW MOON. وأضاف: إنه بالإمكان حساب لحظة ولادة الهلال فلكياً بدقة لأقرب دقيقة، ولأي شهر من أشهر السنة الهجرية القمرية لآلاف السنين الهجرية. فيما ذكر د. فايز الحرقان بأنه قد سبق وأن عملت الجداول التي تحدد هذه اللحظة من عام 4000 قبل الميلاد إلى عام 8000 بعد الميلاد، على برامج خاصة بالحاسب الآلي، بمختلف لغات الحاسب الآلي (بيسك، فورتران...) من قبل المراصد الفلكية العالمية، إلّاأنّه تم وضعها على أساس أن تحصل تلك اللحظة قبل منتصف الليل حسب موقع جرينتش، لكي يكون اليوم التالي هو أول أيام الشهر الهجري القمري.

وأوضح الأستاذ عبد العزيز الشمري: أن ولادة الهلال فلكياً (من الناحية العلمية الفلكية) هي اللحظة التي يكون فيها مركز الأرض والشمس والقمر على استقامة واحدة في نهاية كل شهر هجرى قمري، ويكون القمر بين الأرض والشمس، بشرط أن القمر قد أكمل دورة

ص: 202

كاملة حول الأرض، ولحق بها ليكون مركزه ومركز الأرض والشمس على استقامة واحدة، وهذه اللحظة يطلق عليها لحظة الاقتران أو الاجتماع، على أن تسبق مغيب الشمس بمكة المكرمة، وحتى يوضح الفرق بين ولادة القمر فلكياً وولادة القمر شرعياً فإن المقصود بولادة القمر شرعياً (من الناحية العلمية الشرعية) هو أن يكون الهلال فوق الأفق بعد غروب الشمس في موقع التحرّي، وأن يغرب القمر (الهلال) بعد غروب الشمس بحيث يكون بالإمكان رؤيته وقد تخلق فيه النور، ويتم ذلك بعد ولادة الهلال فلكياً، أي بعد لحظة الاقتران وزوال القمر بعد لحظة الاقتران.

ولتوضيح الفرق بشكل أدق، فإن ولادة الهلال فلكياً (لحظة الاقتران) أن يكون مركز الأرض والشمس والقمر على استقامة واحدة في نهاية كل شهر هجري قمري، ولابد من أن تسبق لحظة غروب الشمس في مكة المكرمة، وأن يكون غروب القمر بعد غروب الشمس، أما ولادة القمر (الهلال) شرعياً فهي تخلق النور من القمر (الهلال) بعد لحظة الاقتران وأن يغرب (الهلال) بعد غروب الشمس في مكة المكرمة.

وأضاف الأستاذ عبد العزيز الشمري: أن الأسس العلمية الشرعية والفلكية التي تم بموجبها إعداد التقويم الهجري القمري الإسلامي الموحد هي:

1. اعتبار مكة الكرمة كأساس لهذا التقويم (حسب إحداثيات الكعبة المشرفة) باعتبارها قبلة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

2. اعتبار لحظة غروب الشمس في مكة المكرمة كأساس لبداية اليوم الجديد في جميع أيام السنة، وعلى مرور الأزمنة.

3. أن يتم غروب الشمس بمكة المكرمة قبل غروب الهلال (القمر)

ص: 203

في مكة المكرمة في نهاية آخر يوم من الشهر الهجري القمري القديم وبداية الشهر الجديد، وأن تكون لحظة الاقتران (الاجتماع- ولادة الهلال فلكياً) قد حصلت قبل غروب الشمس في مكة المكرمة لهذا اليوم.

برامج كومپيوترية

وأضاف الشمري إن من أهم الطرق التي بموجبها يتم إعداد التقويم الهجري القمري ما يلي:

الطريقة الأولى، وهي الطريقة التي يتم بها إعداد التقويم الهجري القمري الإسلامي الموحد:

1. معرفة لحظة غروب الشمس في مكة المكرمة من خلال برنامج في الحاسب الآلي، يأخذ في الاعتبار إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة (الحرم المكي الشريف) في مكة المكرمة.

(قد تم أخذها بأحدث الأجهزة الخاصة بتحديد الإحداثيات).

ص: 204

2. معرفة لحظة غروب القمر في مكة المكرمة من خلال برنامج في الحاسب الآلي يأخذ في الاعتبار إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة (الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة) المملكة العربية السعودية.

3. تتم المقارنة بين هاتين الظاهرتين في آخر ليلة من كل شهر هجري قمري، فإذا كانت لحظة غروب القمر في مكة المكرمة بعد غروب الشمس في مكة المكرمة في آخر ليلة من الشهر الهجري القديم، فإن اليوم التالي هو أول ايام الشهر الهجري الجديد.

ثم تم وضع جداول تحدد غروب الشمس وغروب القمر والفرق بينهما في آخر كل ليلة من الأشهر الهجرية القمرية، والفرق بينهما والتاريخ الميلادي المقابل لها، وكذلك تم تحديد اليوم الذي يبدأ به الشهر الهجري ومايقابله بالهجري الشمسي والميلادي.

ويمكن من خلال هذه البرامج إعداد تقويم هجري قمرى على أساس الإحداثيات للحرم المكي الشريف، وعلى أساس الأخذ في الاعتبار غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة لآلاف السنين الهجرية القمرية، وأن تكون بداية اليوم من لحظة غروب الشمس في مكة المكرمة.

قال البروفسور يوسف مروة في كلمته في صيدا بتاريخ 13/ 11/ 1999 م في معرض نقده لهذه الطريقة الحسابية في الإعلان عن ثبوت الهلال طبقاً لتقويم أم القرى:

يقوم هذا التقويم على اعتبار خروج القمر من المحاق كبداية للشهر القمري على أساس أن يكون اليوم التالي- وهو خروج القمر من المحاق في أيّ ساعة من ساعات ذلك اليوم حسب التوقيت العالمي-

ص: 205

هو بداية الشهر الجديد، والمعروف أنّ هذا التقويم هو نفس التقويم الذي يعمل به مرصد البحرية الأمريكية.

وقد تعيّن في هذا التقويم بدايات ونهايات الشهور القمرية بشكل قاطع ثابت لا علاقة له بالرؤية العينية للهلال... وقد أدّى الحال إلى قيام خلاف دائم بين الجمعيات الفلكية العربية الإسلامية من ناحية...

مجلس الإفتاء الأعلى في المملكة العربية السعودية، ويصل هذا الخلاف إلى الأوج في تعيين بداية شهر رمضان المبارك ونهاية وبداية ذي الحجة في كلّ عام...

إنّ الضعف والخلل في هذا التقويم يتمثل فيما يلي:

1. حساب بداية الشهر القمري في السعودية على أساس التوقيت العالمي... الفرق حوالي 8 ساعات أحياناً.

2. في حالات كثيرة يستحيل توفّر إمكانية الرؤية العينية للهلال، ممّا يتضارب مع البداية الفلكية المقرّة للشهر حسب التوقيت العالمي.

بالرغم من كلّ هذا النقص، استطاعت السلطات السعودية أن تجد دائماً من يتقدّم بشهادة الرؤية منذ العام 1990.

وقد احتجّت الجمعيات الفلكية في البلدان الإسلامية وفي أمريكا الشمالية على الأسلوب المتّبع في تقويم أمّ القرى.

وقد وجّه احتجاجٌ صدر عن رئيس الجمعية الفلكية الأُردنية الأُستاذ حاتم ممدوح أبو زيد بتاريخ 23 رمضان سنة 1418... إلى مجلس الإفتاء الأعلى في الرياض حول الإعلان عن ولادة هلال شوال قبل موعده الطبيعي بيوم كامل (24 ساعة).

وقد أجابه أحد المسؤولين المدعو محمد بن أُحيمد... ولم يتعرّض..

لا بقليل ولا بكثير إلى موضوع الرؤية والشهود، بل ذكر طريقةً حسابيةً

ص: 206

قمرية في تعيين الشهر القمري بالنصّ التالي:

«يَعْتبر تقويم أمّ القرى أنّه إذا كان عمر القمر عند مغيب الشمس مقدار 12 ساعة فما فوق، فعندئذٍ يكون اليوم السابق هو أوّل أيّام الشهر الإسلامي؛ لأنّ اليوم الإسلامي يبدأ عند المغيب الشمس».

فسرّوا لنا هذا الكلام!!! (1) وعليه، في بعض السنوات تم إعلان ثبوت الهلال استناداً إلى هذا الحساب الخاطى ء وغير المنطبق على الأسس الصحيحة لثبوت الهلال، أو اعتماداً على الشهود حتى قبل ظهور الهلال.

فمثلًا في عام 1419 ه. أعلنت السلطات السعودية أن غروب الأربعاء (الموافق للسادس والعشرين من شهر اسفند عام 1377 ه. ش.) شوهد هلال ذي الحجة، وأن يوم الخميس سيكون أول شهر ذي الحجة. في حين أنه في غروب الأربعاء المذكور لم يكن الهلال قد بلغ الاقتران ولم يتجه إلى الشرق من الشمس ليظهر الهلال الجديد؛ لأن غروب الشمس في مكة قد حصل في تلك الأربعاء في الساعة السادسة والدقيقة الحادية والثلاثين، وكان اقتران الهلال والشمس في الساعة التاسعة والدقيقة الثامنة والأربعين من ذلك اليوم، وعند غروب الشمس كان الهلال تحت أفق مكة بثلاث درجات.

وعلى كل حال، ليس هناك ما هو أكثر من القطع بالخلاف في بعض الموارد، ولكن «وماوراء عبّادان قرية»، وكما تقدم فقد أفتى الإمام الخميني قدس سره بضرورة متابعتهم حتى مع القطع بالخلاف، ويقع الحج صحيحاً ومجزياً و «هذهِ من عُلاه إحدى المعالي».


1- ميراث فقهى 2: رؤيت هلال، ج 4.

ص: 207

الحج مائدة مباركة...!

اشارة

محسن أسدي

إنه فعلًا مائدة ذات ألوان خيراتها كثيرة وبركاتها وافرة! وأنه حديقة غناء ذات أشجار باسقة وأغصان ناضرة وثمار يانعة وأزهار ساحرة!

يحار المرء من أي ألوانها يأكل! ومن أي ثمارها يقطف!!

فقد راح الكثيرون يكتبون عن فريضة الحج عن أحكامها وأهدافها ومقاصدها وتأريخها وموقعها... فأخذ كلّ واحد منهم رزقاً من مائدتها أوورقة من أوراقها أو ثمرة من ثمارها لعله يشبع بها شغف نفسه أو يطفئ بها فضوله ويروي ظماه... حتى غدت كتاباتهم جميلة خضراء عطرة، وكيف لا وقد اكتسبت جمالها ورونقها وفتنتها من تلك الألوان والأزهار... وقد ارتأيت عن ابتعد عن أحكامها الشرعية ولَأترك المجال للأقلام أن تكتب ما تطرحه الأفكار من مفاهيم عن هذه الفريضة وما تجود به القرائح شعراً أو نثراً عنها وأن أقف محايداً بعض الشي ناظراً مكتفياً بما أقرأه هنا وهناك راضياً بأن أكون ناقلًا ما وفقت إليه ووقفت عليه من نظرات جميلة وآراء متينة على الأقل من وجهة نظري، تبين لنا عظم هذه الفريضة وقدسيتها وأثرها على النفوس المؤمنة الملبية الممتنعة عما يخلّ بأدائها وكمالها وأجرها... واقتبست ألفاظاً وجملًا، بل مقاطع، مما كتبوه، أو استخلصت المراد مما

ص: 208

دونوه، وصفا لها ولما تحمله من عطاء دائم لا يعرف النضوب، وما ينبغي لنا أو يجب علينا القيام به إزاءها، وهو أن نعي ما نفعل وأن نفقه ما نؤديه من مناسك؛ لأن الجهل فيها يعدّ منقصة في أدائها وفي معرفتها والاستزادة من أجرها وثوابها إن لم أقل خيانة لها.

وهذه صفحات قرأتها تتوفر على وصف رائع جميل للحج فرضاً، وللحج موقعاً، وللحج أهدافاً، وللحج ثماراً، وأيضاً تتضمن موقفنا كيف يجب أن يكون وبأيّ شي يجب أن يتصف؟.. لتكتمل الصورة التي بها يكون صلاحنا وخلاصنا ورشدنا ونجاتنا بل وحياتنا في الدنيا والآخرة باستجابتنا الرائدة والواعية:

«يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للَّه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..»

* الوعي أمر ضروري، وهو أول قراءتي فكل شي ء لا شي ء إذا لم يكن الوعي حليفه وأساسه، ولا بد من مرافقته لنا ونحن نتعبد اللَّه تعالى في هذه الأماكن المقدسة التي تتم فيها شعائر الحج، إذ فيها ربط بين الماضي والحاضر، واستشعار لعمق هذه الشعائر التي نذهب إليها فهذه الأماكن وتلك الشعائر تحمل معاني عميقة ودلائل عظيمة، فعندما يذهب أحدنا إلى العقبة مثلًا لرمي الجمرات فعلينا أن نعي ونفهم أن هنا تمت بيعة العقبة التي كانت نواةً للدولة الإسلامية الأولى، وكانت بمثابة جمعية تأسيسية لإقامة الدولة المنشودة.

وقال النبي صلى الله عليه و آله لمن كانوا في هذا الموقع «اختاروا منكم اثني عشر نقيبًا».

وهذا مبدأ للشورى والاختيار والاقتراع، وبه وُلِدَت أولى المؤسسات الدستورية في الدولة الإسلامية، وفي الغالب فإن الناس يهتمون ويتذكرون مكان أول برلمان، فالناس يذهبون إلى اليونان ويقولون: هنا كانت أكاديمية أفلاطون، وهنا كان سقراط يلتقي بتلاميذه، فهذا معنى المكان، فما بالك بالمكان «مكة» الذي انطلقت منه كلمة لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، وما بالك بالمكان «المدينة» الذي أُسِّسَت به أول دولة إسلامية يرعاها رسول اللَّه والمخلصون من أتباعه ومريديه؟!

ص: 209

وكذلك عند الطواف ينبغي للحاج أن يتذكر أنه حول هذا البيت العتيق طاف الرسول صلى الله عليه و آله والأنبياء من قبله والأئمة والصالحون.

ونحن ننظر إلى مسجد الرسول صلى الله عليه و آله، فما أحسن أن نلتفت إلى «فقه المكان»، فعندما أقف مثلًا وأنظر إلى مثوى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهذه لحظة نورانية. وأحس أنه حي، وأنني أناجيه، وأنه يسمعني.. وحينما أنظر إلى الروضة الشريفة، وأتذكر حديث النبي صلى الله عليه و آله: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».

وأرى الناس يحرصون على الصلاة في هذه الروضة، ويعرفون أن الصلاة في هذا المكان لها أجرها العظيم وثوابها الكبير، فكم هو جميل ورائع أن يعرف الزائر كل هذا فيندفع برغبة وحرص حتى لا تفوته الصلاة ولا العبادة فيه! ولكنني في الحقيقة أشير إلى موضوع آخر نستوحيه من فقهنا لهذه الروضة، ففي هذه الروضة كانت مدرسة النبوة التي تخرّج فيها الجيل الفريد الذي غيَّر مجرى التاريخ والحضارة وأعرف أن الصحابي «ربعي بن عامر» عندما ذهب إلى «رستم» قائد الفرس وسأله رستم: ما الذي جاء بكم؟

قال: جئنا لنخرج مَن شاء اللَّه مِن عبادِهِ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِّ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

إنه كلام عظيم يدلّ على وعي أكبر، من علّمه هذا؟ لو لم يكن واحداً من رواد تلك المدرسة النبوية الكبيرة بسموّها ومعانيها...

ولا يفرحنا أن نعتني بالشكل بعيداً عن المضمون، وبالمظهر بعيداً عن الجوهر، بل يجب أن يزيدنا ذلك أسفاً وألماً وحزناً، وعلينا أن نتأمّل أن الإسلام أو القرآن عندما يطلب منا الصلاة لا يقول: أداء الصلاة، إنما يقول: «إقامة الصلاة»..

فنحن نريد إقامة مناسك الحج والعمرة؛ فلا بد لنا أن لا نكتفي بمعرفة أحكام المناسك، بل علينا أن نعرف فقه المناسك، وفقه مكانها وزمانها.. ونستحضر

ص: 210

الماضي لنربطه بالحاضرونستفيد منه في حياتنا ومستقبلنا، ونتزوّد من ذلك بالدروس والعبر العظيمة..

ونلاحظ أيضاً أن اللَّه تبارك وتعالى عندما تحدث عن الزاد في الحج بيَّن أنه التقوى فقال: «وتزودا فإنَّ خيرَ الزَّادِ التَّقْوَى»، وعندما تحدث عن الذبائح قال:

«لن ينالَ اللَّهَ لحومُهُا ولا دماؤُهَا ولكن ينالُهُ التَّقْوى منكم».

إذن علينا أن نعرف أن اللَّه تعالى تعبّدنا بذلك لا لنؤديها فقط، وإنما لنستفيد دروساً منها وعبراً ومنافع لنا تقربنا إليه تعالى فلا نعصيه، ولا نتخلف عن طاعته ورضاه وإلا «فإن اللَّه غني عن العالمين» آل عمران 97.

ففي هذه الروضة كانت

مدرسة النبوّة

إن من ينظر إلى أداء فريضة الحج يرى عجبًا.. والرائي لا يشاهد إلا ما يدعو إلى الدهشة فإذا رأيت ثم رأيت موكبًا من مواكب اللَّه، وقافلة من قوافل الإيمان..

وجيشًا من جيوش الحق.. وجندًا من جنود اليقين.. هديرهم تكبير.. وهتافهم تسبيح.. ونداؤهم تلبية.. ودعاؤهم تهليل.. مشيهم عبادة.. وزحفهم صلاة..

وسفرهم هجرة إلى ربهم.. وغايتهم مغفرة ورضوان.. تراهم في حشدهم صورة متكاملة متناسقة في إطار نوراني على اختلاف أجناسهم.. وتباين اللغات وتغاير الأوطان..

اجتمعوا على كلمة اللَّه تعالى.. والْتأموا في بيت اللَّه.. والتحموا أمام اللَّه في رحمة وعطف وحنان، شعار كل فرد منهم «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين»..

مظهرهم كأنهم بنيان مرصوص.. تركوا البلاد، والديار، والأهل، والأولاد..

والتجارة والأعمال.. لم تسُقهم قوة قاهرة.. ولم تجبرهم قوانين دنيوية، بل جاؤوا مندفعين بدافع من أعماقهم، منبثق من وجدانهم، نابع من فيض إيمانهم ومعين يقينهم.. قطعوا الفيافي والقفار.. واجتازوا الجبال والوديان.. وعبروا البحار

ص: 211

والأنهار.. وطاروا على متن الهواء.. قاصدين بيت اللَّه الحرام.. يعيشون في رحابه.. وينعمون بقدسيته.. مستشرفين بضيافته.. متلمسين لرحمته..

مستهدفين المغفرة.. مستمطرين الرضوان، كما قال ربهم:

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا..»

هو بيت العز والشرف، بيت المجد والكرم، بيت الرجاء والأمل.. واحة الضال.. وهداية التائه.. وملجأ القاصد.. وملاذ الخائف.. ومقام الطائف والعاكف.. من دخله كان آمنًا.. في جنباته الطهر والنقاء.. وعلى أبوابه البذل والعطاء.. وبين أركانه الجود والسخاء.. فالأجر مضاعف.. والجزاء موفور..

والذنب مغفور.. والسعي مشكور.. عند ربّ لا تُغلق رحابه.. ولا تُسدّ أبوابه..

لا يخيب سائلًا.. ولا يردّ طالبًا.. فهو الحليم الذي لا يعجل.. والكريم الذي لا يبخل.. وفي ميدان هذا البيت يتجلّى الدين في أروع صورة وأبدع مظهر.. جموع تطوف وتطوف.. وفئات تصعد وتنحدر بين الصفا والمروة.

فمن خلال الطواف نتعلم النظام، ونتدرب على التعاون وإنكار الذات، ونتلقى دروسًا عملية في الآداب، والمروءة، والحب، والعطف، والحنان، ونؤمن بأن التوجيه الديني أسمى من أيّ توجيه؛ فأيّ توجيه تكون له مثل هذه الفعالية؟ إن الجيوش تحتاج إلى ربط وإحكام، وضبط ودقة.. بعد تدريب متواصل.. وإشراف حازم.. إلا أننا نرى الحجيج- على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتباين لغاتهم- يسيرون في اتجاه واحد.. وارتباط وتآزر، ووحدة وتكاتف.. ووسط التلبية الهادرة، والأصوات العالية.. إذا أذن المؤذن سمعوا الأذان.. ولبوا النداء.. فإذا بالجميع وقوف وكأن على رؤوسهم الطير.. لا تسمع حينئذ إلا همسًا.. ولا تحسّ إلا أنفاسًا، ولا ترى إلا أجسامًا منظومة، وأقدامًا مصفوفة.. إذا ركع إمامهم ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا دعا أمّنوا.. إنها صورة من صور الجمال.. من الحسن والجلال.. ومشهد من مشاهد الكمال.. ولتأتِ الدنيا.. الدنيا

ص: 212

كلها لتطل على هذا المنظر البديع المتناسق.. وليشهد الوجود كل الوجود بأن الإسلام هو دين النظام.. ودين التضامن.. ودين الألفة.. ودين الحياة..

إنه الأذان!

«وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ» الحج: 27، 28.

نعم يا إبراهيم أذِّن.. أذِّن.. أذِّن.. فالدنيا تسمعك.. والكون يصغي إليك..

والجود يلبي.. فنداؤك عبر الزمان ينشر على الأرض السلام.. ودعاؤك يبعث في الآفاق رونق الحياة.. وعجبت يا إبراهيم عندما قال لك ربك: أذّن يا إبراهيم..

فقلت وقتئذ: وما يبلغ صوتي؟!

فقال لك مولاك: يا إبراهيم عليك الأذان.. وعلينا البلاغ..

فناديت في الأجواء والآفاق: يا أيها الناس إن اللَّه كتب عليكم الحج فحجّوا.. فلبى نداءك أهل الأرض وأهل السماء.. حتى النطف في أصلاب الرجال.. والأجنّة في أرحام الأمهات..

انه السعي!

ومن خلال السعي بين الصفا والمروة يستشعر الحجاج معنى التضحية والجهد.. هذا الجهد الذي قاسته السيدة هاجر من أجل شربة ماء تروي غلة طفل، رضيع أنهكه الجوع وأرهقه الظمأ.. امرأة وحيدة وسط الجبال الشاهقة وبطون الوديان السحيقة تهرول هنا وهناك.. في صعود وانحدار.. وحيرة واضطراب.. يمزق أحشاءها أنين ولد عليل.. جفّ ريقه.. وجمد لسانه اللاهث من شدة العطش.. فإذا ما اشتد الخطب.. وادلهمّ الأمر.. تجلت رحمة اللَّه كالنور في الظلمة.. كالأمل الباسم وسط اليأس الحالك.. فتفجّر الماء سلسًا.. وانساب عذبًا

ص: 213

دافقًا.. إنه بئر زمزم.. زمزم الميمون.. زمزم المبارك.. النبع الطاهر.. الرحيق الحلو.. الدواء الشافي؛ ليعرف الناس أن اللَّه تعالى لا ينسى مخلوقاته.. وأن الفرج بعد الضيق.. وأن مع العسر يسراً:

«وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيٍ قَدْرًا».

وانها عرفات!

وفي الموكب الإلهي.. وفي الركب الروحاني.. وفي مسيرة الإيمان.. يتوجه الحجاج بين الزحام المتكاثف.. وسط الجموع الصاخبة.. وخلال الكتل الزاحفة قاصدين عرفات.. متجرّدين من ملابسهم، اللهم إلا من إزار ورداء أبيضين يتساوى فيهما الغني ذو المال الوافر والجاه العريض.. بالفقير والمسكين ليتذكروا جميعًا ذلك الكفن الذي يلُفّهم عند وداعهم الأخير.. وكما قال عيسى عليه السلام: «يا أيها الناس لقد جئتم إلى الدنيا وأنتم عراة، وستخرجون منها وأنتم عراة».

إن هذا الزحام المائج يذكرهم كذلك بيوم الحشر وما فيه.. «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم».. في عرفات تذوب الطبقية.. وتتلاشى التفرقة.. وتتجسّد المساواة الحقة.. المساواة الصادقة.. المساواة الخالية من كل تكلف أو خداع.. المساواة التي فقدت في العالم المتحضر.. وضاعت في دنيا المدنية الزائفة..

عند الصعود إلى عرفات.. يتسابق الحجاج ويتنافسون.. يتسابقون إلى ربهم.. ويتنافسون في كسب رضاه.. للَّه درّك يا عرفات.. فيك ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع.. ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات.. لا يهمّه لفح الهجير.. أو وهج الشمس.. ولا يمنعه شدة برد.. أو هطول مطر؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية؛ لأنه انسلخ من المادية إلى عالم المعنويات؛ لأنه تجرد من تربيته ليصعد إلى الملأ الأعلى.. الملائكة.. وينتظم في صفوف

ص: 214

الأبرار.. أي سحر فيك يا عرفات؟! إن البصر لا يقع عليك إلا ويرى عابدًا يتبتل.. ومذنبًا يتوجع.. ومؤمنًا يخشع.. ومصليًا يركع.. وعاصيًا ذا عين تدمع..

فكأني بك بحيرة قدسية تغسل الآثام.. وتمسح الخطايا.. وتمحو السيئات.. يومك يوم نور.. ويوم رحمة.. يوم بركة.. ويوم عطاء.. يوم يباهي به اللَّه ملائكة السماء.. فتبتسم الآفاق.. وتشرق الأكوان.. ويعمّ الغفران.. فيندحر الشيطان..

كأني بالحجاج يسألون عرفات عن هذه الأمجاد التي اعتلت ذروته.. وتلك الكتائب الأولى التي عاشت على سطحه فترة من الزمن.. وكأني بالجبل الرحيب يقول: كانوا أبطالًا أفذاذًا جنودًا بواسل.. كانوا أنقياء أطهاراً.. صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.. أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعًا سجدًا، يبتغون فضلًا من اللَّه ورضوانًا، تعرفهم بسيماهم من أثر السجود.. فرضي اللَّه عنهم ورضوا عنه، وذلك هو الفوز المبين..

كأني بالجبل الأشم يذكّرنا بالقائد الأعظم.. بالزعيم الأكبر.. بالمرشد الملهم.. محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يلقي أسمى خطاب في الوجود.. وأخلد حديث على صفحات الزمان.. وأظهر دستور عرفة التاريخ في حجة الوداع.. يرسم للبشرية طريق خلاصها.. وسبيل مجدها.. ودروب سعادتها.. وسكب في أذن الدنيا أصدق قانون.. فيه صلاح المجتمع.. وتقويم للخلق أجمعين.. صان فيه حقوق الناس وكرامة الإنسان:

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا».

إنها الروضة المباركة!

زيارتها تختلف عن كل زيارة.. زيارة فيها السعادة والهناء.. زيارة فيها الصدق والوفاء.. زيارة فيها الفوز والفلاح؛ لأنها نزهة القلب.. لأنها فرحة الفؤاد.. لأنها فسحة الروح.. لأنها متعة الخاطر.. لأنها فرصة الحياة.. زيارة

ص: 215

فواحة بالعطر.. شذية العبير.. دافعة بالطهر.. وهَّاجة بالنور.. فياضة بالأمل الوضاء.

إنها زيارة محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاتم الأنبياء.. سيد المرسلين.. أفضل العابدين.. درة الخاشعين.... إنه أعظم مخلوق في الوجود.. إنه تاج الشرف على رؤوس البشر.. إنه وشاح الحق على كتف الزمن..

وعبر هذه الزيارة الخاشعة تنهمر الدموع.. ويشتد النحيب.. وينتفض الوجدان.. فالكل أتى يدفعه شوق جارف وحنين عارم.. وشغف متحفز.. لزيارة رائد الإنسانية، ومعلّم البشرية، وباعث المحبة.. ليكحل العين برؤياه..

ويضمخ النفس بلقياه.. متنسمًا ريح الجنة.. وأريج الفردوس.. في صمت وخشوع.. ورهبة ورغبة.. وروعة وجلال.. فهنا مهابط الوحي.. ومنابع الطهر.. ومنزل الرحمة.. وشاطئ الأمان.. ومشرق الحضارة.. ومحراب القداسة.. ومن خلال تلك الرحاب.. يتفجر الإيمان.. وينطلق اليقين.. وينبثق الدين.. وتذوب النفس في كؤوس الصفاء.. فيبدو الحاج وقتئذ مجلوًّا بنور اللَّه سبحانه.. وضَّاء بشعاع التقوى.. ومزودًا بخير زاد، مغتسلًا من الخطايا والآثام..

متوّجًا بتاج العز والكرامة.. عليه فيض من رضى.. وغمرة من حنان.. ولمسة من رحمة.. وهكذا يعود الحجاج من رحلتهم الميمونة، ودراستهم المباركة، إلى بلادهم في تألق وإشراق، ونقاء وانطلاق، يمنحون الحياة الخير والرجاء، وينشرون البر والسلام.

انها قرائح رائعة!

وأسوق هنا شيئاً من أمثلة الخواطر التي تجيش بها قرائح الشعراء حول فريضة الحج موقعاً وأهدافاً.. إنها خواطر مبعثها هذا الهوى المستكن في أفئدتهم، إجابة لأذان أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام.

وهي خواطر مهما كانت لن تبلغ من وصف البحر الزاخر إلا ما تبلغه من

ص: 216

وصف قطرة ماء تنفصل من الموج الخضم المتلاطم، ومن ثَم يبقى الحج دائمًا مجالًا يتسع للمزيد من القول أمام هتاف الشعراء، حين يرون بأعينهم أمواج الحجيج في كل عام، تتجه- في بعث ونشور- قاصدة بيت اللَّه الحرام، تؤدي ما افترض عليها، وتبغي ميلادًا جديدًا في حياتها، ميلادًا بعد ميلادها الأول، ميلادًا يعود فيه الذاهبون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.

وأنظر إلى الكعبة المشرفة، يملأ البصر منها نور العين وتملأ البصيرة منها أنوار الروح وأقرأ:

«انَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللَّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ». آل عمران: 96- 97.

لقد دار الزمان واستدار، وبلغت الروح دار القرار، قد أسكنتها إرادة اللَّه بيته الحرام، وأمكنتها يد القدرة من رحلة العمر وتمام الأمر، فقد أجاب نداء أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام حين أذّن في العالمين بالحج المبرور إلى البيت المعمور:

«وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ» الحج: 27.

إنها الروح!

التي تهتف:

خذوني خذوني الى المسجد خذوني الى الحجر الأسود

خذوني إلى زمزم علّها تبرد من جوفي الموقد

خذوني لأستار بيت الاله أشد به في ابتهال يدي

دعوني أحط على بابه ثقال الدموع واستنفد

فإني أحيا على لطفه وأن ياتني الموت استشهد

انها الروح!

ها هي الروح قد حملت البدن إلى تحية هذا البيت، حباً وإقبالًا، وتحية وامتثالًا، فطاف البدن شفاءاً ووفاءاً وقرباً ورجاءاً:

طف بي بمكة إني هدني تعبي واترك عناني فإني ها هنا اربي

ودع فؤادي يمرح في مرابعها ففي مرابعها يغدو فؤادي حياً

فإن طوافي وسعي واحرامي.. ليمتد إلى مكة بأسرها.. فمكة كلها حرم؛

هنا أمرغ خدي صبوة وجوى فتهتف الحور بشرى خدك الترب

فإن رأيت دموعي انبتت حجراً فتلك مني دموع الفرحة العجب

ولماذا كل هذا الحب العاجب والشوق اللاجب. إنه وحسب تصديقاً بكتابك يا رب، ووفاءاً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه و آله:

هنا بمكة أي اللَّه قد نزلت هنا تربى رسول اللَّه خير نبي

هنا الصحابة عاشوا يصنعون لنا مجداً فريداً على الأيام لم يشب

وزيارة بيت اللَّه الحرام لا يهدأ لها أوار ولا يقرّ لها قرار، إنها هزة الشوق ولذعة التوق، وعند أعقاب هذا البيت أحيا من جديد:

كم هزني الشوق يا خير الديار وكم عانيت بعدك وجداً دائم السبب

ألا إليك أرى الأشواق تقعد بي وعند ذكرك أشواقي تحلق بي

وعند ذكرك أنسى أنني بشر وكالملاك أحيا في المدى الرحب

فتبدعين كياني من تقى وهدى فلا أحس بما ألقاه من وصب

ما غير زورة بيت اللَّه ترجع لي شباب روحي إذا امتدت يد النوب

ربي حنانك فاكتبها وخذ بيدي كي يهتف القلب يا فوزي ويا طربي

اللهم آمين، اللهم اكتبها مبرورة مأجورة لكل مشتاق، واطو اللهم له الديار والأسفار والأعماق، يا رب يا واهب يا فتاح يا رزاق.

إنها مكة أم القرى، الأرض التي حرمها اللَّه فأصبحت للناس حرما آمنا «أو لم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم...» العنكبوت: 67.

موطن الأمن والحمى والجوار درّة الأرض منبع الأنوار

حرم اللَّه أرضها وحباها من قديم بباهر الأسرار

مكة الطهر والسلام تسامى قدرها فوق سائر الأمصار

رحمة اللَّه ظللتها وفيها من رضا اللَّه أعذب الأنهار

كل من جاء للرحاب يلبي دامع القلب خشية من نار

يملأ الأمن قلبه وتتلقى روحه رحمة من الغفار

وليس بكثير على أم القرى أن تكون عروس المدائن وقِبْلَة العابدين، فهي البلد الذي اختاره اللَّه لبيته الحرام واختصه بالتوجيه إليه.

ص: 217

ص: 218

ص: 219

ترنيمة في بطحاء مكة:

وبها الأركان والبيت الذي شد بالإيمان ازر المسلمين

اسعد اللَّه بها من اسعدا جاور الركن وحيا المسجدا

قف بهذا السفح قرب العلم وانهل الطيب شذا من زمزم

وطف البيت طواف المحرم واعتمر للَّه رب العالمين

من ذراها نزل الروح الأمين في ثراها وضع الحق المبين

إنها المنهل والمورد، وهي الغاية والمقصد، فهي منزل الوحي ودار الإسلام:

شريعة اللَّه رفت في مأذنها وفي الحنايا دعاء سبح اللَّه

تروي العطاش على الأزمان زمزمها كما روى لهيف الخطو مسعاها

من كان في كنف البطحاء مسكنه كانت سجاياه بعضاً من سجاياها

ومن تكن كعبة الإسلام قبلته فإنما الخلد والرضوان عقباها

وتتواصل الخيرات والبركات بين مهد النبوة ومهبط الوحي:

بوركت يا أم القرى من بقعة خلعت عليها البينات إهابها

زف الخليل إليك إسماعيل فالتقت هضابك بالجلال وبالبها

وأتى ختام المرسلين مبشراً بالنور يجلي للنهى ما رابها

وغدوت بالبيت العتيق منارة أبداً تردد هديها وثوابها

وعدت مروجاً كالرياض وجنة رضوان فتحت للحنيفة بابها

يا أيها الناس! إن اللَّه قد فرض عليكم الحج فحجوا، فما يدري أحدكم ما يعرض له فقد يضيع المال، وتصل الراحلة، وتكون الحاجة، فهيا نردد:

إلى عرفات اللَّه يا خير زائر عليك سلام اللَّه في عرفات

ففي الكعبة الغراء ركن مرحب بكعبة قصاد وركن عفاة

ص: 220

على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا اللَّه والبركات

لدى الباب جبريل الأمين براحة رسائل رحمانية النفحات

وما سكب الميزان ماء وإنما أفاض عليك الأجر والرحمات

وزمزم تجري بين عينيك أعينا من الكوثر المعسول منفجرات

فالكعبة الغراء منتهى القصاد، وراية العباد، وإليها تطير الأرواح فالتوجه إليها عبادة، والنظر إليها عبادة، وهذه مناجاة الكعبة الغراء:

بنور على أم القرى وبطيب غسلت فؤادي من أسى ولهيب

لثمت الثرى سعياً وكحلت مقلتي بحب كأسرار السماء مهيب

وأمسكت قلبي لا يطير إلى منى بأعبائه من لهفة وحبيب

هنا الكعبة الزهراء والوحي والشذى هنا النور فافني في هواه وذوبي

ويا مهجتي بين الحطيم وزمزم تركت دموعي شافعاً لذنوبي

وفي الكعبة الزهراء زينت لوعتي وعطر أبواب السماء نحيبي

الحجاج والعمار وفد اللَّه- عز وجل-، وهم مضمونون عليه، إن قبضهم أن يدخلهم الجنة وإن ردهم، ردّهم بأجر وغنيمة؛ يحمل قلبه، وقلوبنا معه إلى البيت العتيق فيقول:

فلبى اللَّه مبتهلًا إليه إلى البيت العتيق حملت قلبي

على الخدين في صمكت لديه وطاف بركنه والدمع يجري

وبين المروتين سعيت سعياً كما يسعى الحمام بمروتيه

له سبحانه ندعو ونرجو هداية أُمَّةٍ وَفَدَتْ عليه

وما في الأرض من نعم توالت على مر الزمان فمن يديه

فله وحده سبحانه الشكر والضراعة والذكر، لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا

ص: 221

شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبّيك.

لبيك يا رب الحرم.. لبيك يا رب الجود والكرم..

لبيك يا رب الورى لبيك أنت المنعم

هذا نداؤك قد سرى والكل باسمك محرم

ولكم تخر لك الجباه وأنا بعفوك أطمع

وسيظل الطمع في رحمة اللَّه، وغسل الذنوب على أبواب التوبة وأعتاب الرجاء:

دعونا إلى الحج حتى سعى له كل من رامه مطمعاً

فكنا له خير داعٍ دعا بعزم متين ودين مكين

رفعنا على البيت أسمى لواء وطاف بمكة منه الدعاء

سرى في البطاح شجي الرجاء مغنى به كل جاد أمين

وهذه نبعة ثرة من نبعات الحياة، وخفقة من خفقات القلب النابض، إنها مناجاة حيث باب الكريم وحيث فضله وكرمه وعفوه...

كعبة الحسن تبدت سحراً فما أحلاها بوقت السحرا

تغمر الأرواح من نفحاتها تتملّى من شذاها العطرا

كلما طفت بها في لهف هزني الشوق للثم الحجرا

فرسول اللَّه قد قبَّله كيف لا أهنا بلثم الحجرا

فهي الأرض التي بارك اللَّه ثراها وسماها، لا يفزع طيرها،.. ولا يعضد شجرها.. وهي سقيا زمزم.. طعام طعم وشفاء سقم.. فهنيئًا لأهلها حيث يناجيهم:

ص: 222

يا أهل مكة ماء زمزم عندكم يشفي من الالام والأسقام

وطعام طعم لا مراء بفضله وشفاء سقم في مدى الأيام

وعلى طريق الحب في اللَّه.. وعلى خطى رسول اللَّه يتدفق نهر الإيمان بين مكة والمدينة..

يا أهل مكة حيا اللَّه معدنكم أنتم كرام وفيكم يزهر الأمل

ما فكر القلب يوماً في سلوكم وكيف أسلو ونار الشوق تشتعل؟!

ولي بمكة إخوان عرفتهم وقلبهم برسول اللَّه متصل

إن تحتفل أمة في ذكر قائدها فإننا برسول اللَّه نحتفل

والحج شعيرة الشعائر وحياة الأبدان والضمائر، ورحلة الولاء والبراء:

«وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ».

وتتجلى عطاءات الجواد الذي لا يعضل، والكريم الذي لا يبخل، وهبات الحليم الذي لا يعجل، على كل من طاف ولبّى، و وقف بساحة العرض بعرفات اللَّه.. حيث يشهد اللَّه ملائكته أنه قد غفر لأهل عرفات جميعًا..

في ائتلاف النور والجلال في عرفات وهدير الدعاء ملى ء الحياة

وحشود الحجيج موج تموج قد تهادى في موكب الرحمات

ملؤها النور والجلال وفيض من فيوض الإيمان والنفحات

وامتداد الأكف للَّه تدعو والضراعات ملى ء كل الجهات

فيباهي بهم إله البرايا كل مَن في السماء من كائنات

هم لمبادئ أتوني اليوم شعثاً لا يريدون غير وجهي وذاتي

فاشهدوا أنني غفرت ذنوباً لعبادٍ يدعون في عرفات

ونختم هذا الفصل بقصيدة أحمد شوقي حين حج صديقه محجوب البيت الحرام، وفي بدايتها يتوجه إلى هذا الصديق بالحديث ذاكرًا له ذلك المكان، الذي له الوقع الحسن على أذن كل حاجّ يقصد بيت اللَّه الحرام وهو الحجاز:

محجوب إن جئت الحج الحجا ز وفي جوانحك الهوى له

شوقاً وحباً بالرسول واله ازكى سلاله فلمحت نضرة بانه و شممت كالريحان ضاله

وهنا يشير الشاعر إلى الهوى، والشوق، والحب الذي يملأ جوانح كل متجه إلى حج بيت اللَّه الحرام، وإلى زيارة النبي صلى الله عليه و آله، تلك المشاعر القلبية التي تجعل العيون ترى كل شي حولها بهيجًا ناضرًا ذا عبق طيب ورائحة زكية.

ثم يتابع الشاعر المسير مع هذا الحاج متنقلًا معه إلى حيث الأماكن المقدسة فيقول:

وعلى العتيق مشيت تن ظر فيه دمعك وانهماله

ومضى السرى بك حيث كان الروح يسري والرسالة

وبلغت بيتًا بالحجا ز يبارك الباري حياله

اللَّه فيه جلا الحرام لخلقه وجلا حلاله

فهناك طبّ الروح طبّ العالمين من الجهالة

إنه يتنقل معه إلى البيت العتيق، وإلى كل مكان سرى فيه الروح الأمين بالرسالة القرآنية التي أحلّت الحلال، وحرّمت الحرام في جلاء ووضوح لا مجال فيه لشك أو ريب، وهنا يأتي التذكر بالنفع والثمرة المنتظرة بعد أداء الفريضة، إنها الثمرة التي تشفى بها الأرواح من مرض، وتهدى بها العقول من بعد ضلالة، إنه

ص: 223

ص: 224

الطبّ الناجع في الشفاء؛ لأنه طبّ رب العالمين، الذي خلق فسوى، والذي قدَّر فهدى.

ويتابع الشاعر التذكير بكل شي يجده الحاج من كل ما يتصل بماضيه مكانًا وثقافة وذكريات غالية:

وهناك أطلال الفصا حة والبلاغة والنبالة

وهناك أزكى مسجد أزكى البرية قد مشى له

وهناك عذري الهوى وحديث (قيس) والغزالة

وهناك مجرى الخيل يجري في أعنّتها خياله

وهناك من جمع السما حة والرجاحة والبسالة

وهناك خيّمت النهى والعلم قد ألقى رحاله

وهناك سرح حضارة اللَّه فيأنا ظلاله

إنها دعوة إلى استحضار الماضي بكل أمجاده ومفاخره؛ إذ لا انفصال للحاضر عن الماضي في تاريخ كل أمة تعتز بنفسها وتريد أن يكون لها شأن بين الأمم.

إن هذا الماضي هو الذي يوقد عزائم الحاضر؛ لكي تشعر في داخلها أنها جديرة حقًّا بأن تصنع شيئًا، من هنا كانت هذه الإشارة المكررة في أبيات الشاعر (وهناك) تلك الإشارة التي تعني التذكير، والتعظيم، والإعلاء، والإكبار لكل ما هو مرصود مذخور في تاريخ هذه الأمة.

إن كل ذلك يمثل حضارة أنعم اللَّه تعالى بها عليها، وجعلها تتفيأ ظلالها، ومن ثَم فهي نعمة يجب أن تشكر، وأول دلائل الشكر أن يحافظ عليها، وحفظها بإحيائها، والتمسك بها، والعمل على منوالها في تجديد موصول، لا تنفصم فيه العرى، ولا تنقطع بين أطرافه الأسباب.

تهفو قلوب المؤمنين إلى المسجد الحرام، ولا يهدأ هذا الحب مهما تغير الزمان

ص: 225

وتراخت الأيام؛ ذلك لأنهم يرون فيه بقية من مجد دينهم السالف امتزج بروحهم امتزاج النور بالهواء، لا يتنسى لمحلل أن يفصم ما بينهما، ولا لمعترك الحياة أن تمحو أثرهما.

يتذكر المسلمون ما غبر من تاريخ هذه البلاد، وتمرّ بخيالاتهم أطياف مما عمل سكانها، ويستنبطون ما في الأرض ويستظهرون ما على ظهرها بها فيشرفون من حال إلى حال، ويجدون أن دهرهم هدم منهم العناصر الحية، فتناثرت رفاهيتهم وذاقوا بأسهم، فكأنهم هم الموتى، وكأن أسلافهم أضفت عليهم الحياة أثوابها، فتلك آياتهم متجسمة تفرغ حياتها وتشرق نورانيتها على هذه المشاعر الكريمة، وتسطر كلماتها في الأرض إلى نهاية الدنيا؛ ليقرأ فيها معاني الإخلاص والوفاء والرحمة، وناهيك برجال استلهموا الفطنة فما كذبتهم، وعالجوا الهموم فما صرعتهم، وقطعوا الشك يتلجلج في الصدور بقوة يقينهم، ومحوا الخوف يذهل النفوس بصرامة إقدامهم، فإذا دين اللَّه يزيد أتباعه ولا يقلّون، وينفذ شعاعه في رفق وتؤدة حتى يستفيض على الجزيرة وما حواليها جميعًا في مدى لا يتجاوز العشرين عامًا، وهي في عمر الدهر لم تكن شيئًا مذكوراً، فكانت هذه المعجزة الإنسانية الكبرى التي تفيأ ظلالها كلّ لاجئ والمنارة الوضاءة لمعاني الإخاء والمساواة إذا رغبت الناس في نعمى الحياة، واهتدوا إلى دين اللَّه.

أفكان من الغريب أن يشرع اللَّه من فضله فريضة الحج ويجعلها أحد أركان الدين الخمسة؟! ليصل المسلمون حاضرهم بماضيهم، ويغذوا مشاعرهم بذكريات أسلافهم، ويترسموا في دنياهم خطى رجالاتهم؛ ويعلموا أن المسلم أخو المسلم لا يفرق بين الأخوين اختلاف مكان أو تفاوت لسان أو ألوان، وهذه بقعة الحج تجمع بينهما على بعد المكان، وتغرس الود في نفسيهما على تقوى من اللَّه ورضوان.

إذا أذن مؤذن الحج رأيت صدى دعوته يتجلجل في جنبات العالم الإسلامي،

ص: 226

ويهز المشاعر هزّاً إلى أرض الحجاز، وإلى الكعبة قبلة المسلمين، وإلى تلك المناسك التي تفصح عن سرّها، وتبين عن شريف حكمها، فإذا وقف الحجيج في عرفات، هاتفين لبيك لبيك- وقد حسروا الرءوس واطّرحوا زينة هذه الحياة الدنيا- فكأنهم في يوم المحشر وقد زاغت الأبصار فلن ترى إلا خاشعًا يتبتل، وباكيًا يتوسل، ومذنبًا يتوب، ونفسًا تذوب، وتشعر آنئذ أن الروح الأمين والملائكة المقربين تطل على هذه الجموع من عل، معجبة بتقواها، مشاركة في دعواها، مقرة بقصور علمها عن مغزى الإرادة الصمدانية:

«سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم».

يؤلف بين المسلمين ويجمع كلمتهم، ويلفتهم إلى أن القوة في اتحاد الكلمة، وطرح تلك الزخارف الفاتنة والرجوع إلى طهارة الدين، فإذا كانوا يريدون الخير فهذا طريقه مُعبّد وما عليهم لو خرج أغنياؤهم ومتوسطوهم عن قليل من المال في سبيل هذه الفريضة وشهود الجماعة، فيؤدون واجبًا للَّه في إقامة أحد الأركان، وواجب الأخوة الإسلامية في توثيق روابطها، وواجب الإنسانية في برّ جماعات انقطعوا لجيرة اللَّه، وحُرموا كثيرًا من وسائل الحياة، ثم شاهدوا آثارًا حافلة بشتى الذكريات تحدث عمن غبر حديثًا عجبًا يهدي إلى الرشد، ويحفز إلى كل فضيلة وكمال، وما تقهقر المسلمون إلا حين تراخت العرى بين ماضيهم وحاضرهم، فزلزلتهم أطماع الدول، وتنكّرت لهم مباسم الكون وخشنت مناعم الزمان، وضرب الدهر ضربته في ذلك البنيان المرصوص حتى كاد اليأس يعصر عود الأمل، ويصبح أبناء الإسلام في ليل من الشك مظلم. نعم في تلك البقاع الطاهرة تتحلى النفس بالقوة، وتتجلى الشمائل المرجوة، وتحسس إلى النفس معاني الشرف والإباء والمفاخرة، تدفع بها دفعًا لا شعوريًّا إلى الاستهانة بالخطوب.

إن هذه المناسك التي يؤديها الحاج لتكشف عن نواحي العظمة في هذا الدين،

ص: 227

وتحث على السموّ بالروح إلى عليين، فهذا الإحرام والطواف حول الكعبة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمار، عند العقبة، وتقديم الهدي، واستلام الحجر الأسود، والإهلال بالتلبية..

كل هذا يفسح للمتدبر العاقل عن مغاز سامية لصلاح المعاش والمعاد، وتلك البقاع الحجازية تهيب كل بقعة منها بالمسلم أن يكون رجلًا قوي الإرادة، لا يثنيه في سبيل الحق والكرامة خطب إن ذل، ولا مغر وإن جل، هذا جبل ثور وغاره المبارك، مهبط جبريل على خاتم النبيين، وتلك دار الأرقم شعار الوفاء والتضحية، وتلك الكعبة بناء إبراهيم، وعرفات مجمع الحسنات، يرى المؤمن في كل منها حالًا تنطلق بمجد الدين والأجداد، وهادياً يرشد الأبناء والأحفاد!!

الرمزية:

ومن الجوانب الخاصة بفضيلة الحج أنه يتعلق بمشروع إلهي عظيم، بدأ بإبراهيم عليه السلام واكتمل بمحمد صلى الله عليه و آله. ومناسك الحج المختلفة هي مراحل هذا المشروع الإلهي التي يعيدها الحاج بصورة رمزية:

فالإنسان الحاج يغادر موطنه متجهًا إلى الحجاز كما كان إبراهيم عليه السلام قد خرج من العراق متجهًا إلى الحجاز.

ويتخلى الحاج عن ملابسه العادية ويلفّ حول جسده رداءين، وهذا اللباس- الذي هو الإحرام- مماثل للباس البسيط الذي كان إبراهيم وإسماعيل يرتديانه.

وعندما يصل الحاج مكة ويطوف حول الكعبة فهو يقلد الطواف الذي قام به إبراهيم وإسماعيل توثيقًا للعهد الإلهي.

وعندما يسعى الحاج سبع مرات بين الصفا والمروة فهو يقلّد سعي هاجر؛ بحثًا عن الماء في الصحراء.

وعندما يذهب الحاج إلى منى وينحر قربانه فهو يعيد- بصورة رمزية- ما

ص: 228

فعله إبراهيم حين استعد لنحر ابنه، ثم نحر كبشًا بأمر ربه.

وعندما يتوجه الحاج إلى الجمرات فيرمي الشيطان بالجمار فهو يكرر عمل إسماعيل عليه السلام الذي رمى الشيطان بالجمرات عندما حاول أن يغويه.

ثم يجتمع كل الحجاج بميدان عرفات، وهنا يجتمع كل الحجاج في ميدان واحد مفتوح، فيعاهدون ربهم عهدًا جماعيًا أنهم سيظلون ينفذّون في حياتهم القادمة ما تعلموه خلال الحج، وأنهم سيعيشون مقلّدين حياة أولئك الأبرار الذين يكون الحج تذكارًا لهم.

وقد وصف القرآن مناسك الحج بالشعائر، أي العلامات.. وهي كلها الوقائع التي وقعت لإبراهيم وأسرته خلال تنفيذ الخطة الإلهية التي أرادها اللَّه تعالى من إبراهيم عليه السلام.

ومن الجوانب الخاصّة بفضيلة الحجّ أنّه يتعلّق بمشروع إلهي عظيم بدأ بإبراهيم عليه السلام واكتمل بمحمّدٍ صلى الله عليه و آله

ويقلد الحاج هذه الوقائع بصورة رمزية ويعاهد ربه بأنه- هو الآخر- سيصبح جزءاً من هذا التاريخ الإيماني الذي ترتضيه السماء.

فالحاج يعاهد ربه بأنه لو طرأت الحاجة فإنه سوف يحطم حياته القائمة ليتقدم نحو الحق، وأنه سيرضى بترك الراحة والرفاهية واختيار القناعة والبساطة، وأنه سيسعى من أجل اللَّه، وأنه سيرمي تقاليد الشيطان بالجمار، وأنه سيدور حيثما دار به دين اللَّه، وسيستسلم لكل ما يقتضيه هذا الدين.

فالحاج يقول للَّه تعالى بلسان عمله وحاله: إنه لو اقتضت الضرورة مرة أخرى لأجل الدين فإنه مستعد لكي يذهب إلى منتهى ما يمكن أن يذهب إليه أحد من البشر، وهو أن «يذبح» ابنه ابتغاء مرضاة اللَّه.

ص: 229

النسل الجديد!

وكانت رحلة إبراهيم عليه السلام من العراق إلى مكة والوقائع التي وقعت هنا بعد مجيئه خطة إلهية عظيمة الشأن بدأ تنفيذها قبل نحو 2500 سنة، وخلاصة هذه الخطة أن الشرك كان قد غلب على الفكر البشري منذ نحو خمسة آلاف سنة؛ لدرجة أن شعبة ما من شعب الحياة لم تكن تخلو من أثر الشرك، واستمر هذا الحال جيلًا بعد جيل، وكانت النتيجة أن قام تسلسل فكري للشرك عبر الأجيال المتعاقبة. وكل مولود في تلك الأزمنة كان يرث عقلية الشرك وينشأ عليها، وهذا هو السبب في أن نداء الأنبياء بالتوحيد لم يكن يؤثر فيهم كثيراً.

وهنا وضع اللَّه تعالى خطة لكي ينشأ نسل جديد من البشر بعيدًا عن مؤثرات بيئة الشرك؛ لكي يفكر بعيدًا عن تسلسل الشرك الفكري.. وكان أنسب شي لهذا مكانًا غير مأهول، وبعيد عن المستوطنات البشرية. ولذلك اختيرت لهذا الغرض بلاد العرب الصحراوية المجدبة التي كانت منقطعة عن العالم المأهول حينذاك.

والإنسان الأول المطلوب لإنشاء نسل جديد في هذه المنطقة الصحراوية الجدباء هو من يكون مستعدًا ليسكن فيها، مدركًا أنه قد يدفع حياته ثمن العيش بها، وهنا رأى إبراهيم رؤيا بأنه «ينحر» ابنه.. وكان المقصود من هذا هو التأكد مما إذا كان إبراهيم مستعدًا لكي ينضم إلى الخطة الإلهية بحيث يذهب بولده ويسكنه هناك حيث لا شي غير الجبال المجدبة وصحاري الرمال.. فكان السكن في الحجاز حينئذ مرادفًا للسكن في وادي الموت.

وقد ظلّ الحجاز غير مسكون في الأزمنة الغابرة لفقدانه الماء والخضرة.

وكان الحجاز القديم خاليًا من آثار حضارة الشرك؛ لأنه كان خاليًا من وسائل الحياة. وهذه الخاصية التي أخلت الحجاز القديم من المشركين هي التي أهّلته لكي يُعَدّ به نسل جديد من الموحّدين، وكان وضع إبراهيم المدية على حلقوم ابنه

ص: 230

إسماعيل إعلانًا بأنه مستعد لهذه التضحية كل الاستعداد؛ ولذلك اختير إبراهيم وإسماعيل لهذه الخطة الإلهية، وبدأ العمل لإعداد نسل جديد من البشر بإسكان إسماعيل وأمه في منطقة نائية من الحجاز القديم.

وكان إبراهيم عليه السلام قد دعا اللَّه بأن يُظهر رسولًا من نسل إسماعيل..:

«ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» البقرة: 129.

وقد ولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نتيجة هذا الدعاء. ولكن، كما هو معلوم، هناك فاصل 2500 سنة بين هذا الدعاء وتحققه، والسبب في هذا التأخير هو أن نسلًا جديدًا كان يُعدّ خلال هذه المدة ليفكّر بعيدًا عن تسلسل الشرك الفكري، ويكون مستعدًا ومؤهلًا نتيجة التربية الصحراوية لكي يقف إلى جانب الرسول ويساعده على تكميل رسالته؛ ولهذا السبب سميت هذه المجموعة ب «خير أمة»، وهي أغرب أمة في التاريخ، فصحيح أن جزءاً منها عادى الرسول في بداية الأمر، إلا أنها وقفت إلى جانبه بكل قوتها عندما فهمت الأمر وأدركت الحقيقة.

وهذا النسل الذي نشأ بمكة قد تداخلته- فيما بعد مؤثرات- الشرك من جرّاء تأثير البيئة المحيطة، ولكنه كان نسلًا محفوظًا نقيًا في حقيقة الأمر، وكان الناس على الفطرة الصحيحة باستثناء بعض الأفراد قليلي الفهم، وقد وقف أفراد من هذا النسل موقف المعاداة من الرسول في بداية الأمر، إلا أن معاداتهم كانت تعود إلى الجهل، وعندما أدركوا أن محمدًا رسول حقًا وأن دينه صادق، تحولت عداوتهم إلى قبول وتحولوا إلى أصحاب له بكل ما لديهم من همة ونشاط.

وكانت الصفة المميزة للنسل- الذي أعده إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه رمزيًا- هي أنه كان ينظر إلى الأشياء نظرة حرة مستقلة، وكان بإمكانه أن يعترف بمثل هذه الحقيقة، فكان يتمتع بكامل الكفاية للاعتراف بالحقيقة.

وفيه فئات ثلاث:

ص: 231

فئة آمنت بالحق فور اطلاعها عليه.

والفئة الثانية أنكرت النبوة في بداية الأمر إلا أنها بادرت إلى الاعتراف بها عندما فهمت الحقيقة.

أما الفئة الثالثة فلم تعترف للحفاظ على رئاستها ومراكزها...

1- كان خالد بن سعيد بن العاص من أوائل الذين آمنوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وجاء خالد إلى رسول اللَّه ذات يوم وقال: «يا محمد إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى اللَّه وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ولا يدري من عبده ممن لم يعبده. قال خالد:

فإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنك رسول اللَّه»؛ فسُرَّ رسول اللَّه بإسلامه، وتغيب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه من بقي من ولده ممن لم يسلم ورافعًا مولاه، فوجدوه فأتوا به إلى أبيه أبي أحيحة، فأنّبه وبكّته وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه ثم قال: اتبعتَ محمدًا وأنت ترى خلافه قومه وما جاء به من عيب آلهتهم وعيب من مضى من آبائهم؟ فقال خالد: «قد صدق واللَّه واتبعته» (1).

وكان خالد يقول بعبارة أخرى: إنه عندما يقول محمد القول الحق، فكيف يمكنه ألا يعترف برسالته ويؤمن بها؟!

2- ويتعلق المثال الآخر بسهيل بن عمرو الذي كان مندوب أعداء الإسلام عند صلح الحديبية.. وعندما بدؤا في كتابة المعاهدة بعد مفاوضات طويلة قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو يملي نص المعاهدة: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللَّه»، فاعترض سهيل بشدة على كلمة «رسول اللَّه»، وقال: «واللَّه لو كنا نعلم أنك رسول اللَّه ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك».

ويخبرنا التاريخ أن سهيل بن عمرو كان صادقًا كل الصدق في كلماته هذه


1- الطبقات الكبرى لابن سعد، 4: 94 طبعة دار بيروت، 1398، 1978.

ص: 232

وكان يعارض الإسلام بسبب جهله ليس إلا، أما حينما أدرك سهيل- فيما بعد- أن الرسول صلى الله عليه و آله نبي صادق، آمن به وسخّر حياته كلها لأجل الإسلام، وقد وقف سهيل موقف صدق يذكره التاريخ حين همت قريش بالردة في أعقاب وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

والنسل الإنساني الذي أنشأه إبراهيم عليه السلام بامتثاله «ذبح ولده»، تكونت منه «خير أمة» أي من صفوة هذا النسل والتي قبلت بدين التوحيد قبولًا كاملًا، وقضت على عصر الشرك بتضحيات لا مثيل لها، وفجّرت عصر التوحيد..

واستغرق تنفيذ هذه الخطة ألفين وخمسمائة سنة، ابتداءاً بإبراهيم عليه السلام وانتهاءاً بمحمد صلى الله عليه و آله، وكان مركز هذه الخطة تلك المنطقة من بلاد العرب التي تسمّى بالحجاز ومركزها مكة.

«... يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم» البقرة: 129.

العهد والعمل:

والحج إعادة رمزية لذلك التاريخ، والمسلمون يعاهدون ربهم مرة أخرى عبر شعائر الحج بأنهم راغبون في الاشتراك في هذه الخطة الإلهية.. فهم يتقاطرون إلى أرض إبراهيم وإسماعيل رافعين شعار «لبيك اللهم لبيك»، ويقلدون- بصورة رمزية خلال أيام معلومات- ما وقع عليهما في حقيقة الأمر.

والحقيقة هي أن عمل الحاج لا ينتهي بعد الفراغ من شعائر الحج، بل يبدأ عمله الحقيقي بعد الانتهاء منها، فعودته من الحج بداية لرحلة أكثر أهمية..

ويردد الحاج مرة بعد أخرى خلال شعائر الحج كلمات: «لبيك اللهم لبيك»..

فما هي هذه الكلمات؟ إنها كلمات معاهدة بين اللَّه وعبده.. وتقع المعاهدة دائمًا في

ص: 233

بداية أمر ما، فهي ليست نهاية له، وهكذا عبادة الحج، فمن يعود بعد أداء مراسم الحج فقد رجع بعد عقد معاهدة مقدسة مع ربه، ويجب عليه ألا يخلد لحياته على سابق عهدها قبل الحج، بل يجب عليه أن يبدأ العمل وفق أحواله وكفايته طبقًا لما عاهد ربه، فالعودة من الحج عودة من مقام العهد إلى مقام العمل، ولا تنتهي مسؤوليات الحاج بعد الانتهاء من الحج، بل تزداد وتكبر في حقيقة الأمر.

وما هي معاهدة الحج؟ إنها عزم إعادة تاريخ معين، وهي إقرار باستعداد العبد لتكرار الحياة الإبراهيمية، فحين شاهد إبراهيم عليه السلام أهل العراق «المتحضرين» لا يصغون لكلامه حول التوحيد والآخرة، وضع خطة جديدة لعمله بأن أخضع نفسه وأسرته لأشد التضحيات فأنشأ نسلًا جديدًا، لقد حوّل إبراهيم عمل الدعوة إلى خطة عظيمة، وقام بكل ما كانت هذه الخطة تقتضي منه من تضحيات.

وهكذا يجب على الإنسان أن يقوم اليوم بكل ما تقتضيه الظروف، وأن يظل صابرًا على هذا الدرب إلى أن تحين منيته، أو أن يصل إلى هدفه المنشود.

إن الحج عزم على إعادة هذا التاريخ بصورة رمزية في أيام الحج، وبصورة عمل مخطط في الحياة الحقيقية بعد انقضاء أيام الحج.

هذه هي طاقة من معالم الحج وهذه بعض مقاصده وثماره... انتقيت اكثرها من كتابات متناثرة هنا وهناك عرضت لي، فرأيت من المناسب جمعها وترتيبها مع حذف أشياء وإضافة أخرى...

ص: 234

شخصيات من الحرمين الشريفين (20) سلمان الفارسي

اشارة

هادي القبيسي

تشرق على صفحاتنا هذه شمس الحقيقة، التي جسّدت جوهر الوفاء والمحبة والتفاني؛ من أجل خط ونهج كان ولا يزال يعيش في هاجس شخصية عظيمة، رسمت لنفسها طريقاً شائكاً نهايته السعادة الأبدية.

هذا الطريق لا يسلكه إلا من رأى الحقيقة بقلبه قبل عينيه، فقرر أن يستمر به وإن أدى إلى ترك الأهل والأوطان، فعزف عن الحياة الرغيدة التي لم تدم لأحد، واستبدلها بما هو أعظم منها.

فمن اللحظة الأولى التي وصل بها هذا الباحث إلى أنشودته وعثر فيها على ضالته، أخلص لها بكل ما اوتي من قوّة، وبقي يقدّم ويضحي ويتفانى من أجلها، غير متأثر بالعوائق والموانع التي توضع في طريقه، لأنه كان موطناً نفسه على كلّ المصاعب والمتاعب من أجل هذا الهدف، وقد وصل إليه، وبعد هذا فلا يثنيه عنه أحد، فهو كالجبل الراسخ لا تهزه الرياح العواتي.

تُرى من هو ذلك الشخص الذي يتحلى بهذه الصفات؟ لابدّ أنّه من عظماء الأمّة الإسلامية ورمز من رموزها وعلماً من أعلامها.

نعم، إنّه صحابي من بين آلاف الصحابة الذين عاشوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 235

وصاحبوه، لكنّه استطاع- بإيمانه وإخلاصه ووفائه وثباته وتفانيه في خدمة الإسلام ونبيّه الأكرم صلى الله عليه و آله- أن يحتل الصدارة في صف الصحابة عامة والتابعين له بإحسان خاصة، ليكون رائدهم ورمزهم وقدوتهم بعد أميرالمؤمنين عليه السلام، والذي صار جزءاً وفرداً من أفراد بيت النّبوة ومعدن الرسالة ومهبط الوحي والتنزيل، وذلك حين قال في حقه النّبي صلى الله عليه و آله: «سلمان منّا أهل البيت».

هذا واحد من الصفوة ومثال متكامل برز بين مجموعة صُنِّفت من الرعيل الأول، والطبقة المتميزة من الصحابة أمثال أبي ذر وعمّار والمقداد و... وغيرهم.

وهناك نوع آخر أيضاً، كان يُعدّ من صحابة النّبي صلى الله عليه و آله لكن كان من صنف آخر ونوع لا يحمل من الصحبة إلّااسمها، وهم الذين قال فيهم صلى الله عليه و آله: «إنّ من أصحابي اثنى عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنّة» (1). وقال أيضاً:

«ليردنّ عليّ الحوض رجال ممّن صحبني ورآني حتى إذا ارفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولنّ: ربّ أصحابي، فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (2).

وفي سند آخر بزيادة: إنّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم (3).

من هنا نعلم أنّه ليس كلّ من صاحب النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان ذا مقام ومكانة، بل هو مقام من ثقلت موازينه، قال عزّ وجلّ: [فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ] (4). وقال أيضاً: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ و مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ] (5).

إذن، ليس من العدل والإنصاف أن نصنّف الصحابة كلّهم في مرتبة واحدة،


1- كنز العمّال 1: 169.
2- المصنف 7: 415.
3- المصدر نفسه 8: 139.
4- القارعة: 6- 7.
5- الزلزلة: 7.

ص: 236

والحق القول ما قاله عزّ وجلّ: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ] (1).

من هنا، رأينا ضرورة تصفح التأريخ والنظر في حياة كلّ صحابي حتى نصنّفه من أي الطائفتين هو، وليُعلم كلّ على حقيقته ويعطى كلّ ذي حق حقه، حتى لا نتولى من ليس أهلًا، أو نتبرأ ممن هو أهل، فنكون قد أجحفناهم، فرفعنا من كان أهلًا للضعة، ووضعنا من كان أهلًا للرفعة.

وقد سعيت جاهداً تبيان الحقائق ونفض الغبار عنها، وإيقاف القارئ الكريم على الموارد التي حاول بعضهم أن ينال فيها من شخصية سلمان وأمثاله من الصحابة الأجلّة ويشوّه سمعته، ومنه تعالى نستمد التوفيق.

اسمه ونسبه

كان اسمه قبل الإسلام روزبه بن خشنودان، نشأ في بلدة تدعى رامهرمز من توابع بهبهان، وكانت من توابع شيراز سابقاً، ومن توابع خوزستان حالياً (2)، خلافاً لما يدعيه بعض المؤرخين أنّه من إصفهان من بلدة جي، فهو من أبناء وأشراف قومه، سمّاه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سلمان بعد أن أعتقه.

كنيته: أبو عبداللَّه، أبوالحسن، أبو إسحاق، أبو البيّنات، أبو المرشد، واشتهر بالكنية الأولى.

لقبه: المحمّدي كما سنقرأ ذلك فيما بعد، الخير.

قصّة إسلامه

هناك قصة طويلة تنقل عنه يذكرها جمع من مؤرخي أهل السنّة تتضمن: أنّه كان يسجد للشمس ويعبد النار، ثمّ صار نصرانياً، ثمّ أسلم بعد مجيئه إلى المدينة المنورة. إلا أن هذه القصة بخصوصياتها لم تثبت من المصادر المعتبرة، مضافاً إلى


1- الحجرات: 13.
2- إكمال الدين: 159- 164.

ص: 237

وجود جمع من النصوص المعتبرة التي تثبت خلاف ذلك، خصوصاً وأن البعض حاول أن يستنتج من هذه القصة- من دون تفحص- أن سلمان رحمه الله كان إنساناً متقلّباً كلما رأى ديناً أخلص له وتمسك به من دون تثبت وتعقل.

لكننا إذا لاحظنا كيفية تعرفه على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ومتابعة العلامات التي أعطيت له من قبل آخر راهب لازمه إلى حين وفاته، وبشّره بخروج النّبي صلى الله عليه و آله من أنّه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النّبوة، نعلم أنه لم يسلّم له إلا بعد التثبت والتيقن.

منها: ما يذكر أنّه حينما سمع بمقدم النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة، ذهب إليه آخذاً معه طبقاً من التمر أو اللحم، وقدمه إلى النّبي صلى الله عليه و آله وقال له: هذا صدقة، فقال النبي صلى الله عليه و آله لأصحابه: كلوا وأمسك هو صلى الله عليه و آله. يقول سلمان: فقلت في نفسي هذه علامة، ثمّ ذهب وجاء مرّة أخرى، وقدّم طبقاً فيه تمر، وقال للنّبي صلى الله عليه و آله: هذه هدية، فمدّ النّبي صلى الله عليه و آله يده، وقال، بسم اللَّه كلوا؛ يقول: فقلت في نفسي هذه علامة أخرى، ثمّ حاول التعرف على العلامة الثالثة فصار يدور خلف النّبي صلى الله عليه و آله فأحس به النّبي،

ص: 238

فألقى بثوبه عن كتفيه فظهرت العلامة، يقول: فسقطت على قدمي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقبلهما وأسلمت على يديه.

وقال الصدوق: ما سجد قط لمطلع الشمس، وإنّما كان يسجد للَّه عزّ وجلّ، وكانت القبلة التي أمر بالصلاة إليها شرقية، وكان أبواه يظنّان أنّه إنّما يسجد لمطلع الشمس كهيئتهم، وكان وصي وصي عيسى... (1).

وأما ما ينقل عنه أنّه قال: «كنت ضالًا فهداني اللَّه بمحمّد صلى الله عليه و آله، وكنت مملوكاً فأعتقني اللَّه بمحمّد صلى الله عليه و آله».

فيمكن الإجابة عليه بعدة أمور:

1- إذا ثبت صدورها عنه فلا شك أنّه كان ممّن يكتم إيمانه آنذاك، كما تشهد النصوص بذلك؛ خوفاً من أهله، كما أنّه ترك الأهل والأوطان لأجل هذا.

2- لعلّه كان يتماشا مع مرتكزات القوم، إذ كانوا يعتقدون أنّه مجوسي لكونه قادماً من بلاد المجوسيّة، ومن أسرة مجوسية أيضاً، فهو لم يؤخذ بحرب ولا غزو، بل آجرهم نفسه فانقلبوا عليه وباعوه على أنّه عبد وبقرينة قوله: كنت مملوكاً، مع أنا نعلم كما ينقل المؤرخون (2) أنّه أجبر على العبودية ظلماً (3) لقاء مبلغ من المال، ومع هذا نراه يتكلّم بحسب المرتكز والظاهر، فإنّه كان في الظاهر عبداً وكافراً، لأنّه لا يستطيع أن ينفي هذا الشي ء عن نفسه.

3- روى الكشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: جلس عدّة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينتسبون وفيهم سلمان الفارسي، وأن عمر سأله عن نسبه وأصله؟

فقال: أنا سلمان بن عبداللَّه، كنت ضالًا فهداني اللَّه بمحمّد، وكنت عائلًا فأغناني اللَّه


1- إكمال الدين 1: 165.
2- الأخبار الطوال: 31؛ والمعجم الكبير للطبراني 6: 228؛ ومناقب آل أبي طالب 1: 19.
3- قال ابن اثير في أسد الغابة 2: 329:... فمرّ بي ركب من العرب من كلب فقلت: أصحبكم وأعطيكم بقراتي وغنمي هذه وتحملوني إلى بلادكم؟ فحملوني إلى وادى القرى فباعوني من رجل من اليهود. انظر بحار الأنوار: 19: 105.

ص: 239

بمحمّد، وكنت مملوكاً فأعتقني اللَّه بمحمّد، فهذا حسبي ونسبي... إلى أن قال، فقال النّبي صلى الله عليه و آله: يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى اللَّه، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل (1).

إذن، هذه العبارة صدرت من سلمان في هذا الموقف الحرج من بعض الصحابة، وقد غضب النبي صلى الله عليه و آله لهذا النوع من التعامل، فكأنّ سلمان يريد أن يبيّن لهم بأن العبرة في من حسن إسلامه وثبتت عقيدته وكان مؤمناً عن صدق، وليس ممّن دخل في الإسلام لأغراض مختلفة، كما هو الحال في بعض الصحابة الذين كشف النقاب عنهم القرآن المجيد: [يُخادِعُونَ اللَّهَ و الَّذِينَ آمَنُوا و ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] (2). وكان الميزان الصحيح هو قوله تعالى: [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ] (3) فلا يبعد أن يكون سلمان قد قال هذه الكلمات من باب التنزل: لو سلمنا أنّي كنت ضالًا فقد اهتديت، أو كنت عائلًا فقد استغنيت، أو كنت مملوكاً فقد أعتقت، ولا فضل لأحد منكم عليّ، بل كل الفضل يرجع لنبي الرحمة محمّد صلى الله عليه و آله.

وممّا يدلّ على أن إسلامه كان عن تتبع واعتقاد، وأنّه كان مؤمناً من ذي قبل وموحّداً على المسيحية الصحيحة:

1- أنّه حين أسلم عادكما ولدته امّه، فلم يكن متأثراً بشي ء من عادات المجوس والنصارى، بل كان أكثر الصحابة- بعد علي عليه السلام- تأثراً بالنّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، واتباعاً لأوامره ونواهيه، على العكس من بعض الصحابة الذين كانوا يتعمدون مخالفته، بل لم يتخلّوا عن كثير من عادات الجاهلية، كتقديم القومية على الدين.

2- أنّه لم يترك دين آبائه طمعاً في شي ء، بل ترك آباءه وأهله الذين هم من


1- اختيار معرفة الرجال 1: 59.
2- البقرة: 9.
3- الحجرات: 13.

ص: 240

سلالة الملوك الدهاقين وفي رفاهية العيش، وابتعد عن الأوطان وتحمّل مشاق السفر والفقر، ووقع في ظلم العبودية بحثاً عن معالم الدين، البعيدة عن الشرك وعبادة الأوثان، ولا يتحمل هذا العناء والشقاء إلّامن يسعى وراء أمر مهم وهدف مقدّس، دفعه إليه صرخة العقل والوجدان، إلى أن حظي بسعادة الإسلام، وصحبة النّبي صلى الله عليه و آله.

3- ورد في كتاب الاستيعاب: «وكان سلمان يطلب دين اللَّه، ويتّبع من يرجو ذلك عنده فَدانَ بالنصرانية [الصحيحة] وقرأ الكتب، وصبر في ذلك على مشقات» (1).

4- وورد في كتاب الإصابة:... وكان يسمع بأن النّبي صلى الله عليه و آله سيبعث، فخرج في طلب ذلك، فأسر وبيع بالمدينة (2).

5- وما ورد في إكمال الدين وإتمام النعمة، وقد ذكرناه قبل قليل.

6- ما قاله في خطبة له سنذكرها فيما بعد نذكر منها موضع الحاجة:... حتى أتيت محمّداً صلى الله عليه و آله فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها. وهذا دليل على أنّه كان يتلقى العلم من أهل المعرفة، وكان يترقب هذه العلامات.

وهذا القدر كافٍ لإثبات إسلامه، ولإدحاض حجة من يريد النيل من هذه الشخصية الفذّة.

ونحن نذكر هنا قصة إسلامه المروية من طريق علمائنا الأبرار على أشهر الروايات، وهو ما رواه الشيخ الصدوق في إكمال الدين وإتمام النعمة، بإسناده إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال: حدّثني أبي صلوات اللَّه عليه أن أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وسلمان وأباذر وجماعة من قريش، كانوا مجتمعين عند


1- الاستيعاب، عنه الأعيان 7: 284؛ انظر إعلام الورى 1: 151؛ بحارالأنوار 19: 105.
2- الإصابة 3: 119.

ص: 241

قبر النّبي صلى الله عليه و آله، فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: يا أباعبداللَّه ألا تخبرنا بمبدء أمرك، فقال سلمان: واللَّه يا أميرالمؤمنين، لو أن غيرك سألني ما أخبرته، أنا كنت رجلًا من أبناء أهل شيراز من الدهاقين، وكنت عزيزاً على والدي، فبينا أنا سائر مع والدي في عيد لهم، إذ أنا بصومعة وإذا فيها رجل ينادي: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأن عيسى روح اللَّه، وأنّ محمّداً حبيب اللَّه، فرصف حبّ محمّد صلى الله عليه و آله في لحمي ودمي، فلم يهنئني طعام ولا شراب، فقالت لي امّي: مالك اليوم لم تسجد لمطلع الشمس قال: فكابرتها حتى سكتت، فلمّا انصرفت إلى منزلي، إذ أنا بكتاب معلق من السقف، فقلت لُامّي: ما هذا الكتاب فقالت: روزبه إن هذا الكتاب لما رجعنا من عيدنا رأيناه معلقاً، فلا تقرب ذلك المكان فإنّك إن قريته قتلك أبوك، قال: فجاهدتها حتى جنّ الليل ونام أبي وامّي، فقمت فأخذت الكتاب، فإذا فيه:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا عهد من اللَّه إلى آدم عليه السلام، وأنّه خلق من صلبه نبياً يقال له: محمّد، يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن عبادة الأوثان، يا روزبه أنت وصي عيسى، فآمن واترك المجوسية، قال: فصعقت صعقة وزادني شدة قال: فعلم أبي وامّي بذلك، فأخذوني وجعلوني في بئر عميقة وقالا لي: إن رجعت وإلا قتلناك، فقلت لهما: إفعلا بي ما شئتما، فإنّ حبّ محمّد لا يذهب من صدري، قال سلمان: ما كنت أعرف العربية قبل قراءتي ذلك الكتاب، ولقد فهمني اللَّه العربية من ذلك اليوم، قال: فبقيت في البئر، فجعلوا ينزلون إليّ أقراصاً صغاراً، قال: فلمّا طال أمري رفعت يدي إلى السماء، فقلت: يا ربّ إنك حبّبت محمداً صلى الله عليه و آله ووصيّه إليّ، فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني ممّا أنا فيه، فأتاني آت عليه ثياب بيض، فقال: قم يا روزبه، فأخذ بيدي، وأتى بي إلى الصومعة، فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأن عيسى روح اللَّه، وأن محمّداً حبيب اللَّه، فأشرف عليّ الديراني فقال: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد، فأصعدني إليه، فخدمته حولين كاملين.

ص: 242

فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي إلا راهباً بأنطاكية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، وناولني لوحاً، فلمّا مات غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وصرت به إلى أنطاكية، وأتيت الصومعة، وأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأن عيسى روح اللَّه، وأن محمّداً حبيب اللَّه، فأشرف عليّ الديراني فقال لي: أنت روزبه؟

فقلت: نعم، فقال: اصعد، فصعدت وخدمته حولين كاملين، فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ فقال: لا أعرف أحداً يقول بمقالتي هذه إلا راهباً بالإسكندرية، فإذا لقيته فاقرأه مني السلام، وادفع إليه هذا اللوح، فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وأتيت الصومعة، فأنشأت أقول: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ عيسى روح اللَّه، وأنّ محمّداً حبيب اللَّه، فأشرف عليّ الديراني فقال لي: أنت روزبه؟ فقلت: نعم، فقال: اصعد، فصعدت إليه فخدمته حولين كاملين.

فلمّا حضرته الوفاة قال لي: إنّي ميت، فقلت: على من تخلفني؟ قال: لا أعرف أحداً يقول في الدّنيا بمقالتي هذه، وأنّ محمّد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب قد حانت ولادته، فإذا أتيته فاقرأه عنّي السلام، وادفع إليه هذا اللوح، قال: فلمّا توفي غسلته وكفنته ودفنته، وأخذت اللوح وخرجت، وصحبت قوماً فقلت لهم: يا قوم اكفوني الطعام والشراب أكفكم الخدمة، قالوا: نعم، قال: فلمّا أرادوا أن يأكلوا شدّوا على شاة فقتلوها بالضرب، ثمّ جعلوا بعضها كباباً وبعضا شوياً، فامتنعت من الأكل، فقالوا: كُل، فقلت: إنّي غلام ديراني، وأن الديرانيين لا يأكلون اللحم، فضربوني فكادوا يقتلونني.

فقال بعضهم: أمسكوا عنه حتى يأتيكم شرابكم، فإنّه لا يشرب، فلمّا أتوا بالشراب قالوا: اشرب، فقلت: إنّي غلام ديراني، وإن الديرانيين لا يشربون الخمر، فشدّوا عليّ وأرادوا قتلي، فقلت لهم: يا قوم لا تضربوني ولا تقتلوني، فإنّي

ص: 243

اقرّ لكم بالعبودية، فأقررت لواحد منهم، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من رجل يهودي: قال: فسألني عن قصتي فأخبرته، وقلت: ليس لي ذنب إلّاأني أحببت محمّداً ووصيه، فقال اليهودي: وإنّي لأبغضك وأبغض محمّداً، ثمّ أخرجني إلى خارج داره، وإذا رمل كثير على بابه، فقال: واللَّه يا روزبه لإن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كلّه من هذا الموضع لأقتلنّك، قال: فجعلت أحمل طول ليلي فلمّا جهدني التعب، رفعت يدي إلى السّماء فقلت: يا ربّ حببت محمّداً صلى الله عليه و آله ووصيه إليّ فبحق وسيلته عجل فرجي وأرحني ممّا أنه فيه.

فبعث اللَّه عزّ وجلّ ريحاً فقلعت ذلك الرمل من مكانه إلى المكان الذي قال اليهودي، فلمّا أصبح نظر إلى الرمل قد نقل كلّه فقال: يا روزبه! أنت ساحر، وأنا لا أعلم، فلأخرجنّك من هذه القرية كي لا تهلكنا قال: فأخرجني وباعني من امرأة سليمية فأحبتني حبّاً شديداً، وكان لها حائط، فقالت: هذا الحائط لك كل منه ما شئت وهب وتصدّق، قال: فبقيت في ذلك الحائط ما شاء اللَّه، فبينا أنا ذات يوم في الحائط، وإذا أنا بسبعة رهط قد أقبلوا تظلّهم غمامة، فقلت في نفسي: واللَّه ما هؤلاء كلّهم بأنبياء وأن فيهم نبياً قال: فأقبلوا حتى دخلوا الحائط والغمامة تسير معهم، فلمّا وصلوا، إذا فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام وأبوذر والمقداد وعقيل بن أبي طالب رضى الله عنه وحمزة بن عبدالمطلب وزيد بن حارثة، فدخلوا الحائط فجعلوا يتناولون من حشف النخل، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: كلوا الحشف، ولا تفسدوا على القوم شيئاً.

فدخلت على مولاتي وقلت لها: يا مولاتي هبي لي طبقاً من رطب، فقالت:

لك ستة أطباق، قال: فجئت فحملت طبقاً من رطب، فقلت في نفسي: إن كان فيهم نبي فإنّه لا يأكل الصدقة، فوضعته بين يديه وقلت: هذه صدقة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: كلوا، وأمسك رسول اللَّه وأميرالمؤمنين عليه السلام وحمزة بن عبدالمطلب وعقيل بن أبي طالب، وقال لزيد: مدّ يدك وكُل، فقلت في نفسي: هذه علامة،

ص: 244

فدخلت على مولاتي وقلت لها: هبي لي طبقاً آخر، فقالت: لك ستة أطباق، قال:

فجئت فحملت طبقاً من رطب فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية فمد يده وقال:

بسم اللَّه، كلوا، فمدّ القوم جميعاً أيديهم، فأكلوا فقلت في نفسي: هذه أيضاً علامة.

قال: فبينا أدور خلفه إذ حانت من النّبي التفاتة فقال: يا روزبه تطلب خاتم النّبوة فقلت: نعم، فكشف عن كتفيه، فإذا أنا بخاتم النّبوة معجون بين كتفيه عليه شعرات، قال: فسقطت على قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أقبّلها، فقال لي: يا روزبه! أدخل على هذه المرأة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبداللَّه: تبيعينا هذا الغلام. فقالت: قل له لا أبيعك إلا بأربعمائة نخلة مائتا نخلة منها صفراء، ومائتا نخلة منها حمراء، قال:

فجئت إلى النّبي صلى الله عليه و آله فأخبرته، فقال: ما أهون ما سألت، ثمّ قال: قم يا علي، إجمع هذا النوى كله وأخذه فغرسه، ثمّ قال: اسقه فسقاه أميرالمؤمنين عليه السلام، فما بلغ آخره حتى خرج النخل ولحق بعضه بعضاً.

فقال لي: أدخل إليها، وقل لها: يقول لك محمّد بن عبداللَّه: خذي شيئك وادفعي إلينا شيئناً، قال: فدخلت عليها، وقلت لها ذلك، فخرجت ونظرت إلى النخل فقالت: واللَّه لا أبيعكم إلّابأربعمائة نخلة كلّها صفراء، فهبط جبرائيل فمسح جناحه على النّخل فصار كلّه أصفر، قال ثمّ قال لي: قل لها: إنّ محمّداً يقول لك خذي شيئك وادفعي إلينا شيئنا، فقلت لها فقالت: واللَّه لنخلة من هذه أحب إليّ من محمد ومنك، فقلت لها: واللَّه ليوم مع محمّد أحب إليّ منكِ، ومن كلّ شي ء أنت فيه.

فأعتقني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسماني سلمان (1).

وأما زمان إسلامه: فالمشهور أنّه أسلم في المدينة المنورة، بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله، وقيل: إنّه أسلم في مكة المكرمة، إلّاأنّه لم يتحرر من العبودية إلّافي المدينة وبعد مدّة، اختلف فيها المؤرّخون (2).


1- إكمال الدين وإتمام النعمة، وانظر: الدرجات الرفيعة: 201.
2- عنه طرائف المقال 2: 601

ص: 245

زوجته:

المشهور أنه تزوج وله ذرية، ويشهد له ما نقله الشهيد الثاني عن ابن الجوزي، وما رواه ابن عساكر أن أميرالمؤمنين علياً عليه السلام عزّاه بوفاة زوجته قائلًا:

ماتت في المدائن فحزن عليها، فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام فكتب إليه:... بلغني يا أبا عبداللَّه سلمان مصيبتك بأهلك وأوجعني بعض ما أوجعك، ولعمري مصيبة تقدم أجرها خير من نعمة تسأل عن شكرها، ولعلك لا تقوم بها والسلام عليك (1).

مضافاً إلى ما ذكره علماء الرجال من الفريقين من وجود رواة للحديث من ذريته (2).

وهذا القدر كاف في إثبات أنه كان متزوجاً، وعندها لايعتنى بقول من نفي ذلك أو اتهمه بأنه كان مجبوباً، وهذا من تخرص الجهلة الحاقدين.

نعم يوجد تضارب في زمان وفاتها، فتارة تقول: إنها توفيت في حياته، كما ذكرنا قبل قليل وعزّاه أميرالمؤمنين عليه السلام بها، وأخرى أنها كانت معه حين توفي، كما رواه الكشي وغيره أنه حين حضرته الوفاة قال لامرأته: قومي أجيفي الباب... (3) فنقول: لا يبعد أن يكون قد تزوج ثانيةً بعد وفاة زوجته الأولى فتكون الثانية هي التي بقيت معه، وحضرت وفاته؛ جمعاً بين الأقوال، ويشهد له ما في إكمال الكمال.

إسمها: بقيرة (4): قال ابن ماكولا في إكمال الكمال: وأما بقيرة، وهي آخر من


1- تاريخ دمشق 21: 429.
2- تاريخ بغداد 1: 181، تهذيب الكمال 11: 249، تاريخ دمشق 5: 227، الفهرست: 52، جامع الرواة 1: 212.
3- اختيار معرفة الرجال 1: 68. الطبقات الكبرى 4: 92. تاريخ دمشق 21: 457، قريباً من عبارة الاختيار.
4- الطبقات الكبرى 4: 92، التاريخ الصغير 6: 97، تهذيب الكمال 5: 45.

ص: 246

تزوج من أزواجه، وشهدت موته (1). مضافاً إلى ما ذكره بعض المؤرخون أن التي كانت حين وفاته هي بقيرة.

أولاده:

1- عبداللَّه، وهو المشهور.

2- محمد، قول منتجب الدين (2).

3- عبدالرحمان، قول ابن الأثير (3).

4- يحيى، قول بن عساكر (4).

5- وفي نفس الرحمن: إن له حفيداً من علماء خجنده اسمه ضياء الدين (5).

سيرته وفضائله

آخى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينه وبين أبي ذر الغفاري، وما نقل من أنه أبا الدرداء فهو ضعيف، لأن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يراعي الكفاءة في الإيمان بين الأخوين، وكان أبوذر أكفأ من أبي الدرداء، لعدة وجوه:

1- كانت في أبي الدرداء بقايا الجاهلية، وقد ذمه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليها قائلًا:

فيك جاهلية، قال: أيّ جاهلية يا رسول اللَّه؟ قال: جاهلية كفر، وهذه لم تكن في سلمان.

2- ثبت أبوذر مع أمير المؤمنين بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين مال الجميع عنه، ولم يكن منهم أبو الدرداء (6).

3- أبو الدرداء صار من وعاظ السلاطين، حتى أن معاوية وولده يزيد مدحاه وأثنيا عليه.

فكان سلمان من شرطة الخميس (7).


1- الطبقات الكبرى 4: 92، تاريخ دمشق 21: 457.
2- الفهرست: 52، جامع الرواة 21: 212.
3- أسد الغابة 5: 440.
4- تاريخ دمشق 5: 227.
5- نفس الرحمن: 144- 145.
6- الفوائد الرجالية 3: 79.
7- المصدر نفسه.

ص: 247

وهو الذي أشار على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحفر الخندق في السنة السادسة للهجرة، وأشار بالمنجنيق وعمله بيده (1).

كان أحد الثلاثة الذين لم يرتدّوا بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والمقداد وأبوذر (2).

وكان أحد السبعة الذين صلّوا على الصديقة فاطمة الزهراء بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد أن أوصت علياً عليه السلام أن لا يصلي عليها أحد ممن ظلمها (3).

وكان وصي وصي عيسى عليه السلام في أداء ما حمل، إلى من انتهت إليه الوصية من الأوصياء المعصومين (4).

أعتقني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسمّاني سلمان

وجّه أميراً إلى المدائن من قبل الخليفة عمر فلم يفعل إلّابعد أن استأذن أمير المؤمنين عليه السلام فحضه (5).

وقال ابن شهرآشوب في المناقب: كان عمر وجّه سلمان أميراً إلى المدائن، وإنما أراد له الختلة فلم يفعل إلّابعد أن استأذن أميرالمؤمنين علياً عليه السلام، فمضى فأقام بها إلى أن توفي (6).

كان الأوحدي في أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام، وأكثرهم تأسّياً بأخلاقهما وسيرتهما، فكان يحطب في عباءته، يفترش نصفها ويلبس نصفها، وقع


1- البداية والنهاية 4: 399.
2- شرح نهج البلاغة 4: 225، الاختصاص 10، الدرجات الرفيعة: 213.
3- بحارالانوار 22: 345، عن فرات الكوفي.
4- التحرير الطاووسي: 283. وقيل: إنه كان وصياً لعيسى عليه السلام، الدرجات الرفيعة: 201.
5- الاحتجاج 1: 188.
6- مناقب آل أبي طالب، الدرجات الرفيعة: 215.

ص: 248

حريق في المدائن وكان أميرها، فلم يكن في بيته إلا مصحف وسيف، فرفع المصحف في يده وحمل السيف في عنقه وخرج قائلًا: هكذا ينجو المخفون.

وقد دخل عليه رجل فلم يجد في بيته إلا سيفاً ومصحفاً، فقال له: ما في بيتك إلا ما أرى، قال: إن أمامنا منزل كؤود (1)، وإنّا قد قدّمنا متاعنا إلى المنزل.

كان عطاؤه خمسة آلاف، وكان أميراً على زهاء ثلاثين ألفاً من المسلمين، فإذا خرج عطاؤه تصدق به (2).

وكان يسفّ الخوص ويبيعه ويأكل منه، ويقول: لا أحب أن آكل، إلا من عمل يدي، وكان قد تعلّم سفّ الخوص في المدينة (3).

وعن أبي وائل قال: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان، فلمّا جلسنا عنده قال:

لولا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نهى عن الكلف لتكلّفت لكم، ثم جاء بخبز وملح ساذج أبزار (4) عليه، فقال صاحبنا: لو كان في ملحنا صعتر، فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على الصعتر، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد للَّه الذي أقنعنا بما رزقنا، فقال سلمان:

لو قنعت بما رزقك اللَّه لم تكن مطهرتي مرهونة (5).

ودخل رجلان على سلمان فسلّما عليه وحيّياه ثم قالا: أنت سلمان الفارسي؟

قال: نعم. قالا: أنت صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قال: لا أدري، فارتابا وقالا: لعله ليس الذي نريد، فقال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان، وقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة، فما حاجتكما؟

قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام، قال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء، قال:

فأين هديته التي أرسل بها معكما؟ قالا: ما أرسل معنا بهدية. قال: اتقيا اللَّه وأدّيا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلاجاء معه بهدية، قالا: لا ترفع علينا هذا، إن لنا أموالًا فاحتكم فيها، قال: ما أريد أموالكما ولكن أريد الهدية التي بعث بها معكما،


1- أي شاقة المصعد.
2- الإصابة 3: 120.
3- شرح نهج البلاغة 18: 35.
4- الأبزار: التوابل.
5- شرح نهج البلاغة 3: 155.

ص: 249

قالا: واللَّه ما بعث معنا شي ء إلّاأنه قال: إن فيكم رجل كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا خلا به لم يبغ أحداً غيره، فإذا أتيتماه فأقرئاه مني السلام. قال: فأي هدية كنت أريد معكما غير هذا، وأي هدية أفضل من السلام تحية من عند اللَّه مباركة طيبة (1).

ومرّ سلمان على الحدادين بالكوفة وإذا بشاب قد صرع والناس قد اجتمعوا حوله، فقالوا: يا أبا عبداللَّه هذا الشاب قد صرع، فلو جئت فقرأت في أذنه، قال:

فجاء سلمان، فلما دنا منه رفع الشاب رأسه فنظر إليه فقال: يا أبا عبداللَّه لست في شي ء مما يقول هؤلاء، لكني مررت بهؤلاء الحدادين وهم يضربون بالمرزاب (2)، فذكرت قول اللَّه تعالى: وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (3)، فدخلت في سلمان من الشاب محبة فاتخذه أخاً، فلم يزل معه حتى مرض الشاب، فجاءه سلمان فجلس عند رأسه وهو في الموت، فقال: يا ملك الموت ارفق بأخي، فقال: يا أبا عبداللَّه إني بكل مؤمن رفيق (4).

وعن دوره في يوم السقيفة، يحدثنا الإمام الباقر عليه السلام قال: جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم بعد ذلك إلى أميرالمؤمنين علي عليه السلام، فقالوا له: أنت واللَّه أمير المؤمنين، وأنت واللَّه أحق الناس وأولاهم بالنبي صلى الله عليه و آله، هلمّ يدك نبايعك، فو اللَّه لنموتن قدامك، فقال علي عليه السلام: إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلقين، فحلّق أميرالمؤمنين عليه السلام، وحلّق سلمان، وحلّق أبوذر، ولم يحلّق غيرهم... (5).

وقال له أميرالمؤمنين علي عليه السلام: يا سلمان! اذهب إلى فاطمة فقل لها تتحفك من تحف الجنة، فذهب إليها سلمان، فإذا بين يديها ثلاث سلال، فقال: يا بنت رسول اللَّه! أتحفيني، قالت: هذه سلال جائتني بها ثلاث وصائف، فسألتهن عن


1- المعجم الكبير للطبراني 6: 219.
2- الأرزبة التي يكسر بها المدر [أي المطرقة]، الصحاح 1: 135. المرزاب.
3- الحج: 21.
4- اختيار معرفة الرجال 1: 72.
5- بحارالأنوار 22: 341.

ص: 250

أسمائهن، فقالت واحدة: أنا سلمى لسلمان، وقالت الأخرى: أنا ذرة لأبي ذر، وقالت الأخرى: أنا مقدودة للمقداد، ثم قبضت فناولتني، فما مررت بملاء إلّاملئوا طيباً لريحها (1).

قال الإمام الصادق:... هو منّا أهل البيت، بلغ من علمه أنه مرّ برجل في رهط فقال له: يا عبداللَّه! تب إلى اللَّه في الذي عملت في بطن بيتك البارحة واتق اللَّه، فقال الرجل: استغفر اللَّه وأتوب إليه، قال: ثم مضى وقال له القوم: لقد رماك بأمر وما دفعته عن نفسك، قال: إنه أخبرني بأمر ما اطلع عليه أحد إلّااللَّه رب العالمين وأنا (2).

وروي أنه كان سلمان يطبخ قدراً فدخل عليه أبوذر، فانكبّت القدر فسقطت على وجهها ولم يذهب منها شي ء، فردّها على الأثافي، ثم انكبت الثانية فلم يذهب منها شي ء، فردّها على الأثافي، فمرّ أبوذر إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، مسرعاً قد ضاق صدره مما رأى وسلمان يقفو أثره حتى انتهى إلى أميرالمؤمنين عليه السلام، فنظر أميرالمؤمنين إلى سلمان، قال له: يا أباعبداللَّه ارفق بأخيك (3).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأصحابه: أيكم يصوم الدهر؟ فقال سلمان: أنا يا رسول اللَّه، فقال أيكم يحيى الليل؟ فقال سلمان: أنا يا رسول اللَّه، فقال أيكم يختم القرآن كلّ يوم؟ فقال سلمان: أنا يا رسول اللَّه. فغضب بعض الأصحاب، فقال: يا رسول اللَّه، إن سلمان من الفرس يريد أن يفتخر علينا معاشر قريش...

... فقال صلى الله عليه و آله: مه يا فلان، أنّى لك بمثل لقمان الحكيم!! سله فإنه ينبئك... فقال سلمان:... ليس حيث تذهب.

إني أصوم الثلاثة في الشهر، وقد قال اللَّه عز وجل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ


1- اختيار معرفة الرجال 1: 39.
2- المصدر نفسه: 52.
3- الاختصاص: 12؛ اختيار معرفة الرجال 1: 60 باختلاف.

ص: 251

عَشْرُ أَمْثالِها (1)، وأصل شعبان بشهر رمضان فذلك الدهر، وأما إحياء الليل:... فسمعت حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: من بات على فراشه على طهر فكأنما أحيا الليل كلّه، فأنا أبيت على طهر.

وأما ختم القرآن:... فسمعت حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعلي عليه السلام: يا أباالحسن مَثَلُك في امتي مثَلُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فمن قرأها مرة فقد قرأ ثلث القرآن، ومن قرأها مرتين فقد قرأ ثلثي القرآن، ومن قرأها ثلاث مرات فقد ختم القرآن، فمن أحبك بلسانه فقد كُمل ثلث إيمانه، ومن أحبك بلسانه وقلبه فقد كُمل له ثلثا الإيمان، ومن أحبك بلسانه وقلبه ونصرك بيده فقد استكمل الإيمان.

والذي بعثني بالحق نبياً يا علي! لو أحبك أهل الأرض كمحبة أهل السماء لك لما عذّب اللَّه أحداً بالنار.

وأنا أقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ في كل يوم ثلاث مرات، فقام الرجل كأنه القم حجراً (2).

تقول عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينفرد به بالليل، حتى كاد يغلبنا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).

وفي الحديث أن أبا سفيان مرّ على سلمان وصهيب وبلال في نفر من المسلمين، وقالوا: ما أخذت السيوف من عدوّ اللَّه مأخذها وأبوسفيان يسمع قولهم. فقال لهم أبوبكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها؟! وأتى النبي صلى الله عليه و آله وأخبره. فقال: يا أبابكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت اللَّه، فأتاهم أبوبكر فقال: يا إخوتاه لعليّ أغضبتكم؟ قالوا: لا يا أبابكر، يغفر اللَّه لك (4).


1- الأنعام: 160
2- الدرجات الرفيعة: 212.
3- شرح نهج البلاغة 18: 36. بحارالأنوار 22: 391.
4- شرح نهج البلاغة 18: 37.

ص: 252

وقال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: السبّاق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق الفرس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخباب سابق النبط (1).

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: مرض رجل من أصحاب سلمان رحمه الله فافتقده، فقال: أين صاحبكم؟ قالوا: مريض، قال: امشوا بنا نعوده، فقاموا معه، فلما دخلوا عليه فإذا هو يجود بنفسه، فقال سلمان: يا ملك الموت ارفق بوليّ اللَّه، فقال ملك الموت بكلام يسمعه من حضر: يا أبا عبداللَّه إني أرفق بالمؤمنين، ولو ظهرت لأحد لظهرت لك (2).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: عاد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سلمان الفارسي، فقال: يا سلمان لك في علتك ثلاث خصال، أنت من اللَّه عز وجل بذكر، ودعاؤك فيه مستجاب، ولا تدع العلّة عليك ذنباً إلّاحطته، متعك اللَّه بالعافية إلى منتهى أجلك (3). وقال سلمان رحمه الله: بايعنا اللَّه على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب، والموالاة له (4).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: آخى رسول اللَّه بين سلمان وأبي ذر، واشترط على أبي ذر أن لا يعصي سلمان (5).

قال ابن عباس: رأيت سلمان الفارسي رحمه الله في منامي فقلت له: سلمان فقال:

سلمان، فقلت: ألست مولى النبي صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى، وإذا عليه تاج من ياقوت وعليه


1- الخصال 1: 150، بحارالأنوار 22: 325.
2- بحارالأنوار 22: 360 ح 3، أمالي الطوسي: 80.
3- الدرجات الرفيعة: 211.
4- المصدر نفسه: 213.
5- بحارالأنوار 22: 345، ح 55.

ص: 253

حليّ وحلل، فقلت: يا سلمان هذه منزلة حسنة أعطاكها اللَّه عز وجل، فقال: نعم، فقلت: فماذا رأيت في الجنة أفضل بعد الإيمان باللَّه ورسوله؟ فقال: ليس في الجنة بعد الإيمان باللَّه ورسوله شي ء هو أفضل من حبّ علي بن أبي طالب عليه السلام والاقتداء به ... (1) وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: ذكرت التقية يوماً عند علي بن الحسين عليه السلام فقال:

واللَّه لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول اللَّه بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرّب، أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء؛ لأنه امرؤ منا أهل البيت، فلذلك نسبته إلى العلماء (2).

أخلاقه

كان مثالًا للأخلاق والتواضع والمساواة للضعفاء، كيف لا وقد تربى على عظيمين من عظماء الإسلام: النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

كان يطحن مع الخادمة ويعجن عنها إذا أرسلها في حاجة، يقول: لا تجمع عليها عملين (3).

واشترى رجل بيتاً في المدائن، فمرّ بسلمان- وهو أمير- فحسب سلمان علجاً (4)، فقال: يا فلان تعال، فجاء سلمان، فقال: احمل، فحمله فمضى به، فجعل يتلقاه الناس: أصلح اللَّه الأمير، نحمل عنك أبا عبداللَّه نحمل عنك، فقال الرجل:

ثكلتني أمي وعدمتني، لم أر أحداً اسخّره إلّاالأمير، قال: فجعل يعتذر إليه ويقول: أبا عبداللَّه لم أعرفك رحمك اللَّه.


1- بحارالأنوار 22: 341، ح 52.
2- شرح نهج البلاغة 18: 37.
3- الدرجات الرفيعة: 216.
4- العلج: الرجل من كفار العجم.

ص: 254

قال: انطلق فانطلق به حتى بلغ به، منزله ثم دعاه فقال: لا تسخّر بعدُ أحداً أبداً (1).

مواعظه وحكمه

إنه مضافاً إلى ما جسّده من خلق سامية وآداب رفيعة في سيرته الذاتيه، لم يأل جهداً في وعظ الناس وإرشادهم، فعن الإمام الباقر عليه السلام قال: إن رجلًا أتى سلمان الفارسي فقال: حدثني فسكت عنه، ثم عاد فسكت، فأدبر الرجل، وهو يقول ويتلو هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ و الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ (2)

فقال له: أقبل إنّا لو وجدنا أميناً لحدّثناه، ولكن أعدّ لمنكر ونكير إذا أتياك في القبر فسألاك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإن شككت أو التويت ضرباك على رأسك بمطرفة معهما تصير منه رماداً، فقلت: ثم مه؟ قال:

تعود ثم تُعذب، قلت: وما منكر ونكير؟ قال: هما قعيدا القبر. قلت: أملكان يعذبان الناس في قبورهم!؟ قال: نعم (3).

وفي التوحيد: أنه أتاه رجل فقال: يا أبا عبداللَّه! إني لا أقوى على الصلاة بالليل، فقال: لا تعص اللَّه بالنهار، وجاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين! إني قد حرمت الصلاة بالليل، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك. (4) وفي معدن الجواهر عن سلمان رضى الله عنه أنه قال: ابكتني ثلاث وأضحكتني ثلاث:

فأما المبكيات: ففراق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والهول عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي اللَّه عزوجّل.


1- تاريخ دمشق 21: 433؛ الطبقات الكبرى 4: 88.
2- البقرة: 159.
3- البرهان في علوم القرآن: 170.
4- التوحيد: 67.

ص: 255

وأما المضحكات: فغافل بمغفول عنه، وطالب دنياه والموت يطلبه، وضاحك مل ء لا يدري ضحكه رضى اللَّه عزوجل أم سخط. (1) وفي الغارات أنه مرّ علي بن أبي طالب عليه السلام على بغلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسلمان في ملأ، فقال سلمان: ألا تقومون تأخذون بحجزته تسألونه، فواللَّه الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لايخبركم سر نبيّكم أحد غيره، وإنه لعالم الأرض وربانيّها، وإليه تسكن، ولو فقدتموه لفقدتم العلم وأنكرتم الناس (2).

وفي البحار أن سلمان قام وقال: يا معاشر المسلمين! نشدتكم باللَّه وبحق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ألستم تشهدون أن النبي صلى الله عليه و آله قال: سلمان منّا أهل البيت؟ فقالوا: بلي واللَّه نشهد بذلك، قال: فأنا أشهد بأني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: علي إمام المتقين، وقائد الغرّ المحجّلين، وهو الأمير من بعدي (3).

ولما حضر سلمان ونزل به الموت بكى، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: أما واللَّه ما أبكي جزعاً من الموت ولاحرصاً على الرجعة، ولكن إنّما أبكي لأمر عهده إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخشى أن لانكون حفظنا وصيّة نبينا صلى الله عليه و آله، إنّه قال لنا: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب (4).

وكتب أبو الدرداء إلى سلمان من الشام: أقدم يا أخي إلى بيت المقدس، فلعلك تموت فيه، فكتب إليه سلمان: أما بعد، فإن الأرض لاتقدس أحداً، وإنّما يقدِّس كلّ إنسان عملُه، والسلام (5).

وقال جرير بن عبداللَّه: انتهيت مرة إلى ظلّ شجرة وتحتها رجل نائم قد استظل بنطع له، وقد جاوزت الشمس النطع فسوّيته عليه، ثم إن الرجل استيقظ،


1- معدن الجواهر: 35.
2- الغارات 1: 21.
3- بحار الأنوار 37: 331.
4- الطبقات الكبرى 4: 91.
5- الدرجات الرفيعة: 219؛ تاريخ دمشق 21: 443. باختلاف يسير.

ص: 256

فإذا هو سلمان الفارسي، فذكرت له ما صنعت، فقال: يا جرير! تواضع للَّه في الدنيا، فإنّه من تواضع للَّه في الدنيا رفعه اللَّه يوم القيامة، أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟! قلت: لا، قال: فإنه ظلم الناس بعضهم بعضاً في الدنيا (1).

شعره:

عن ابن شهر آشوب قال: كان الناس يحفرون الخندق وينشدون سوى سلمان، فقال النبي صلى الله عليه و آله: اللّهم أطلق لسان سلمان، ولو على بيت من الشعر، فأنشأ سلمان يقول:

ما لي لسان فأقول الشعرا أسأل ربي قوّة ونصراً

على عدوّي وعدوّ الطهرا محمّد المختار حاز الفخرا

حتى أنال في الجنان قصرا مع كل حوراء تحاكي البدرا

فضجّ المسلمون وجعلت كل قبيلة تقول: سلمان منّا، فقال النبي صلى الله عليه و آله: سلمان منّا أهل البيت (2).

ولايخفى أن هذه الكلمات قالها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أكثر من موطن، وعمدتها كانت في مقام الانتقاص من شخصيّته الدينية والاجتماعيّة.


1- الدرجات الرفيعة: 218.
2- مناقب آل أبي طالب 1: 75، الدرجات الرفيعة: 218.

ص: 257

خطبه:

عثرنا له على خطبة واحدة، نذكر منها موضع الحاجة لطولها، قال: الحمدللَّه الذي هداني لدينه بعد جحودي له، وأنا مذّكٍ لنار الكفر، أهلّ لها نصيباً، وأثبت لها رزقاً، حتى ألقى اللَّه عزوجلّ في قلبي حبّ تهامة، فخرجت جائعاً ظمآناً قد طردني قومي، وأخرجت من مالي ولاتحملني حمولة، ولامتاع يجهزني ولا مال يقوتني، وكان من شأني ما قد كان، حتى أتيت محمداً صلى الله عليه و آله، فعرفت من العرفان ما كنت أعلمه، ورأيت من العلامة ما أخبرت بها، فأنقذني من النار، فثبتّ على المعرفة التي دخلت بها الإسلام.

ألا أيها الناس اسمعوا من حديثي ثم انقلوه عني، فقد اتيت العلم كثيراً، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: إنه لمجنون، وقالت طائفة اخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان.

ألا إن لكم منايا تتبعها بلايا، وإن عند علي عليه السلام علم المنايا وعلم الوصايا، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران، ولكنكم أصبتم سنة الأولين (1) وأخطأتم سبيلكم، والذي نفس سلمان بيده لتركبن طبقاً عن طبق، سنّة بني إسرائيل، القذة بالقذة. أما واللَّه لو وليتموها علياً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فأبشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، ونابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.

أما واللَّه لو أني أدفع ضيماً أو أعزللَّه ديناً لوضعت سيفي على عاتقي، ثم لضربت قدماً قدماً.

إلى أن يقول: فإذا رأيتم أيها الناس الفتن كقطع الليل المظلم يهلك فيها الراكب الموضع والخطيب المصقع، والرأس المتبوع، فعليكم بآل محمد، فإنهم القادة إلى


1- أي: أصبتم سنة من خالف موسى في وصيّه هارون.

ص: 258

الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، وعليكم بعلي، فواللَّه لقد سلمنا عليه بالولاء مع نبينا، فما بال القوم؟ أحسد؟ قد حسد قابيل هابيل، أو كفر؟ فقد ارتد قوم موسى عن الأسباط ويوشع وشمعون وابني هارون شبّر وشبير.

إلى أن يقول: أنزلوا آل محمد منكم منزلة الرأس من الجسد، بل منزلة العين من الرأس... ألا إني أظهرت أمري وآمنت بربي، وأسلمت بنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مسلم.... (1)

ما قيل فيه:

قال النبي محمد صلى الله عليه و آله: ألا إن الجنة اشتاقت إلى أربعة من أصحابي، فأمرني ربي أن أحبهم... فأولهم علي بن أبي طالب، والثاني المقداد بن الأسود الكندي، والثالث سلمان الفارسي، والرابع أبوذر الغفاري (2).

وقال أيضاً:.. من أراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه فلينظر إلى سلمان (3).

وقال الإمام علي عليه السلام حينما سئل عن سلمان: ذاك امرؤ منّا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علّم العلم الأول والعلم الآخر، وقد قرأ الكتاب الأوّل وقرأ الكتاب الآخر، وكان بحراً لا ينزف (4).

وقال الإمام الباقر عليه السلام للفضيل بن يسار...: هل تدري ما عنى- بالعلم الأول والعلم الآخر- قال قلت: يعني علم بني إسرائيل وعلم النبي صلى الله عليه و آله، فقال عليه السلام: ليس هذا يعني، ولكن علم النبي وعلم علي وأمر النبي وأمر علي صلوات اللَّه عليهم (5).

وقال الإمام علي عليه السلام: ضاقت الأرض بسبعة، بهم ترزقون، وبهم تنصرون،


1- اختيار معرفة الرجال 1: 76؛ معجم رجال الحديث 9: 205؛ ووردت هذه الخطبة في مقام الاحتجاج على القوم، حين بايعوا أبا بكر.
2- تاريخ دمشق 60: 177.
3- المصدر نفسه 21: 407.
4- الطبقات الكبرى 4: 86.
5- الدرجات الرفيعة: 209.

ص: 259

وبهم تمطرون... سلمان الفارسي...

وقال أيضاً لأبي ذر: يا أبا ذر! إن سلمان باب اللَّه في الأرض، من عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً، وإن سلمان منّا أهل البيت (1).

وقال الإمام الباقر لمن ذكره بسوء: مه! لا تقولوا سلمان الفارسي، بل قولوا سلمان المحمدي، وذلك رجل منّا أهل البيت (2).

وقال أبوهريرة: صاحب العلم الأوّل والآخر سلمان الفارسي (3).

وقال أبو عمر روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من وجوه أنه قال: لو كان الدين في الثريا لناله سلمان، وفي رواية أخرى: لناله رجل من فارس (4).

وقال الإمام الباقر عليه السلام: كان سلمان من المتوسمين (5)، أي المتفرسين.

وعن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: المؤمن هاشمي، لأنه هشم الضلال والكفر والنفاق، والمؤمن قرشي لأنه أقرّ للشي ء ونحن الشي ء وأنكر اللاشي ء الدلام وأتباعه... والمؤمن عربي لأنه أعرب عنّا أهل البيت... والمؤمن فارسي لأنه يفرس في الإيمان، لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله أبناء فارسي، يعني به المتفرس، فاختار منها أفضلها واعتصم بأشرفها، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور اللَّه (6).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن سلمان بحر لاينزف (7).

وسُئل عليه السلام عن كثرة ذكره لسلمان؟ قال: إن الباعث على كثرة ذكره ثلاثة، فضيلة عظيمة له.


1- معجم رجال الحديث 9: 201.
2- اختيار معرفة الرجال 1: 54.
3- تاريخ دمشق 21: 424.
4- شرح نهج البلاغة 18: 36.
5- معجم رجال الحديث 9: 202.
6- الاختصاص: 143.
7- الفوائد الرجالية 3: 20.

ص: 260

الأول: إنه اختار هوى أمير المؤمنين علي عليه السلام على هوى نفسه.

الثاني: حبه للفقراء واختيارهم على الأغنياء وذوي الثروة والأموال.

الثالث: محبته للعلم والعلماء، وإن سلمان كان عبداً صالحاً حنيفاً مسلماً وماكان من المشركين (1)، وقال أيضاً: إن سلمان علّم الاسم الأعظم (2).

وفي كتاب الامام الرضا عليه السلام إلى المأمون في حديث طويل:... والمقتولين من الصحابة الذين مضوا على منهاج نبيهم صلى الله عليه و آله، ولم يغيّروا ولم يبدلوا مثل سلمان الفارسي وأبي ذر... (3).

وقال الفضل بن شاذان:... ويقال: انتهى علم الائمة إلى أربعة نفر: أولهم سلمان الفارسي (4). وحكي عنه أنه قال: مانشأ في الإسلام رجل من كافة الناس كان أفقه من سلمان الفارسي (5)، وقال أبوهريرة:... ومما زيّن اللَّه به إصبهان (6) وأهلها أن جعل سلمان الفارسي منها، ورزقه صحبة نبينا صلى الله عليه و آله، حتى قال فيه: سلمان منّا أهل البيت (7).

وقال كعب الأحبار: سلمان حشي علماً وحكمة (8).

وقال النبي صلى الله عليه و آله: إن الجنّة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنّة، وإنّ الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان إلى الجنة (9).


1- معجم رجال الحديث 9: 201، طرائف المقال 2: 600.
2- الاختصاص: 11.
3- بحار الأنوار 10: 358.
4- اختيار معرفة الرجال 2: 780.
5- المصدر نفسه 1: 68.
6- لا يخفى أن قوله هذا مبني على الرأي الشاذ أنه من إصبهان، والمحقق أنه من رامهرمز من توابع خوزستان حالياً كما بيّناه.
7- طبقات المحدثين 1: 403.
8- شرح نهج البلاغة 18: 36، بحار الأنوار 22: 391.
9- الدرجات الرفيعة: 208.

ص: 261

وقال أبوعبداللَّه عليه السلام: الإيمان عشر درجات، فالمقداد في الثامنة، وأبوذر في التاسعة، وسلمان في العاشرة.

ما نزل فيه من القرآن

نقتصر هنا على ذكر الآية النازلة في حقه، مع الإعراض عن ذكر القصة والسبب الذي لأجله نزلت مراعاةً للاختصار.

1- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» المائدة: 69.

نزلت هذه الآية في سلمان الفارسى وأصحابه (1).

2- «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» الكهف: 28.

نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي وجماعة (2).

3- «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُبِينٌ» النمل: 103.

4- «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» الحجرات: 12.

نزلت في رجلين استغابا سلمان يوم كان في سفر معهما (3).


1- تاريخ دمشق 21: 419؛ الدرّ المنثور 1: 73.
2- تفسير القرطبي 10: 390؛ البرهان في علوم القرآن 1: 201؛ تفسير نور الثقلين 3: 257.
3- الدرّ المنثور 6: 94؛ تفسير الصافي 5: 54.

ص: 262

5- «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ» التوبة: 100.

نزلت في سلمان والمقداد وأبي ذر (1).

6- «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» الأنفال: 2.

نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان وأبي ذر والمقداد (2).

7- «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» الكهف: 107.

نزلت في سلمان وأبي ذر وجماعة (3).

8- «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ...» الحج: 24.

نزلت في سلمان وجماعة (4).

9- «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» محمد: 21، نزلت في سلمان وجماعة (5).

10- «فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي» آل عمران: 195 (6).

11- «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» العصر: 3.

نزلت في أمير المؤمنين علي عليه السلام وسلمان (7).

12- «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» التين: 6.


1- شواهد التنزيل 1: 330؛ بحار الأنوار 22: 327.
2- تفسير القمي 1: 255؛ بحار الأنوار 22: 322.
3- تفسير الصافي 3: 268؛ بحار الأنوار 22: 323.
4- مناقب آل أبي طالب 2: 292.
5- تفسير القمي 2: 301؛ بحار الأنوار 22: 349.
6- نور الثقلين 1: 425.
7- شواهد التنزيل 2: 482.

ص: 263

هم سلمان و المقداد وعمار وأبوذر رضي اللَّه عنهم، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لهم أجر غير ممنون (1)

مالقيه من أذى الآخرين:

قد يتصور القارى ء الكريم أن الأذى الذي لقيه سلمان كان من أبناء الديانات الأخرى التي اعتادت على منع أبنائها من اعتناق دين الإسلام، وإن كان ماعاناه من ترك دين آبائه وأجداده ليس بالقليل، إلا أنه مُني بحرب ضروس استمرت إلى حين وفاته، لكن هذه المرّة كانت من أبناء ملته ودينه من أصحاب الصف الواحد ومن جمعٍ من الصحابة المحيطين بنبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله، إنه تيار كان يحمل أفكاراً جاهلية يعتبر أن الاسلام ونبيّه حِكر على العرب، بل على أبناء الجزيرة أيضاً، حمل هذا التيار فكراً منحرفاً زرع سمومه في صفوف المسلمين إلى يومنا هذا، أرادوا جعله ديناً مختصاً بأمّة معينة، مع أنه جاء لجميع الامم، كرّسوا بأفكارهم المنحرفة عدّة مفاهيم باطلة، طالما حاربها النبي صلى الله عليه و آله منها الطبقية، فُضّل فيها العربي على غيره، في الاحترام والإيمان والحدود والعطاء و... فيما نرى القرآن الكريم يقول:

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات: 13. والنبي صلى الله عليه و آله يقول:

«لا فضل لعربي على أعجمي... إلا بالتقوى» (2).

فكان سلمان أوّل ضحية لهذا الفكر الزائف الذي شوّه سمعة الدّين الحنيف، ولكن في كلّ هذه الظروف الصعبة كان الرسول صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين علي أبن أبي طالب عليه السلام إلى جنبه، فصبر وتحمّل حتّى أظهر اللَّه تعالى فضله ومقامه لجميع المسلمين، كيف لا، وقد بلغ المرتبة العاشرة من الإيمان، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وكان قد تخطى سلمان حلقة قريش وهم عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مجلسه، فالتفت إليه رجل منهم فقال: ما حسبك وبمانسبك وما اجترأت أن تخطّى


1- بحار الأنوار 22: 345. ح 56؛ وانظر تفسير فرات الكوفي.
2- المعجم الاوسط للطبراني 5: 86.

ص: 264

حلقة قريش؟!

قال: فنظر إليه سلمان، فأرسل عينيه وبكى وقال: سألتني عن حسبي ونسبي، خلقت من نطفة قذرة، فأما اليوم ففكرة وعبرة، وغداً جيفة منتنة، فإذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين، ودعي الناس لفصل القضاء، فوضعت في الميزان، فإن ارجح الميزان فأنا شريف كريم وإن أنقص الميزان فأنا اللئيم الذليل، فهذا حسبي وحسب الجميع.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: صدق سلمان، صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه فلينظر إلى سلمان (1).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: جلس عدّة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينتسبون وفيهم سلمان الفارسي، وأنّ عمر سأله عن نسبه وأصله؟

فقال: أنا سلمان بن عبداللَّه، كنت ضالًا فهداني اللَّه بمحمد، وكنت عائلًا فأغناني اللَّه بمحمد، وكنت مملوكاً فأعتقني اللَّه بمحمد، هذا حسبي ونسبي، ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحدّثه سلمان وشكى إليه مالقي من القوم وما قال لهم، فقال النبي صلى الله عليه و آله:

يا معشر قريش! إن حسب الرجل دينه ومعرفه خُلُقه وأصله عقله، قال اللَّه تعالى:

«إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات: 13.

يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بالتقوى، وإن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل (2).

وفاته ومدفنه:

توفي سنة أربع وثلاثين للهجرة على المشهور، في عهد عمر بن الخطاب، في


1- تاريخ دمشق 21: 407.
2- أمالي الطوسي: 147.

ص: 265

المدائن، جهّزه وصلى عليه أمير المومنين عليه السلام، وكان آنذاك في المدينة المنورة، وبعد صلاة الصبح أقبل على الناس فقال عليه السلام: معاشر الناس أعظم اللَّه أجركم في أخيكم سلمان، فقالوا في ذلك: فلبس عمامة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخذ قضيبه وسيفه، وركب على العضباء، وقال لقنبر: عدّ عشراً، قال: فقلت، فإذا نحن على باب سلمان.

قال زاذان: فلما أدرك سلمان الوفاة قلت له: من المغسّل لك؟ قال: من غسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقلت: إنك بالمدائن وهو بالمدينة؟ فقال: يا زاذان إذا شددت لحيي تسمع الوجبة، فلما شددت لحييه سمعت الوجبة وأدركت الباب، فإذا أنا بأمير المؤمنين عليه السلام.

فقال: يا زاذان قضى أبو عبداللَّه سلمان؟

قلت: نعم يا سيدي. فدخل وكشف الرداء عن وجهه، فتبسم سلمان إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: مرحباً يا أبا عبد اللَّه، وإذا لقيت رسول صلى الله عليه و آله فقل له: ما مرّ على أخيك من قومك، ثم أخذفي تجهيزه...

ص: 266

وقال أبوالفضل التميمي:

سمعت يسيراً من عجائبه وكان أمر علي لم يزل عجبا

دريت عن ليلة سار الوصي بها إلى المدائن لما أن لها طلبا

فألحد الطهر سلماناً وعاد إلى عراص يثرب والإصباح ما قربا

كآصف قبل رد الطرف من سبأ بعرش بلقيس وافي يخرق الحجبا

فكيف في آصف لم تغل أنت؟ بلى بحيدر أنا غالٍ أورد الكذبا

إن كان أحمد خير المرسلين؟ فذا خير الوصيين أو كل الحديث هبا (1)

وهناك أقوال اخر تقول: إنه توفي في عهد عثمان، واخرى في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعضها ينكر مجيئه عليه السلام من المدينة إلى المدائن، لكن المشهور ما ذكرناه، والنصوص الآنقة الذكر أكبر شاهد على ذلك.


1- مناقب آل أبي طالب 2: 131؛ والأبيات فقط في الغدير 5: 15.

ص: 267

مكة وأسماؤها وما ترمز إليه في اللغات السامية

اشارة

د. محمد خليفة حسن

مقدمة

تعددت أسماء مكة المكرمة، وقد زادت أسماؤها عن ثلاثين اسماً، تعبّر عن أوصاف وأحوال مختلفة (1)، وقد ورد بعض هذه الأسماء في القرآن الكريم، ومن أهمها: مكة (2)، بكة (3)، وأم القرى (4)، والبلد الأمين (5)، وقد شرحت هذه الأسماء عند المفسرين، فاصطلح على أن التسمية مكة تعني التي تمك الجبارين، أي تدكهم وتحطمهم، أو أنها سميت بذلك لازدحام الناس فيها. كما شرحت التسمية بكة بشروح شبيهة بمعنى التهشيم والقهر (6)، وأن التسمية بأم القرى تشير إلى الزعامة والقيادة، والقداسة، فهي أعظم كل القرى، أما صفة البلد الأمين فتشير إلى أن من


1- الطيب الشريف، مكة في وجدان شعراء ما قبل الإسلام، مكة المكرمة عاصمة الثقافة الإسلامية، بحوث ودراسات إعداد د. أبوبكر باقادر، وزارة الحج، الندوة الكبرى لعام 1423- 1424 ه، ص 567.
2- الفتح: 24.
3- آل عمران: 96.
4- الشورى: 7، الأنعام: 92، القصص: 59.
5- التين: 3.
6- الطيب علي الشريف: 567.

ص: 268

دخله كان آمناً، وأن أهلها آمنون على مدى التاريخ (1)، وقد أخذت هذه المعاني المختلفة لأسماء مكة من المعجم العربي، باعتبار أن أسماء مكة المختلفة أسماء عربية وبخاصة مكة و بكة، وبقية الأسماء هي صفات أو ألقاب لمكة المكرمة.

وقد اعتقد بعض الدارسين أن الاسمين: مكة وبكة يعودان- من الناحية اللغوية- إلى أصول بابلية (2) أو عربية جنوبية (3)، أو إلى أصول آرامية (4)، وفي هذا البحث محاولة لتأصيل الاسمين: مكة و بكة تأصيلًا عربيّاً وساميّاً من خلال العودة إلى مجموعة من المعاجم العربية والسامية للتعرف على الدلالات المختلفة لهذين الاسمين، والتأكد من الجذور العربية والسامية التي من الممكن أن يكون الاسمان مشتقين منها، وتحديد المعاني المعطاة لهذه الجذور، والاستقرار على أنسب الدلالات مع إعطاء النظائر السامية للجذور العربية، والابتعاد عن تحديد لغة سامية بعينها لكي تكون أصلًا أو مصدراً لأسماء مكة، انطلاقاً من القاعدة التي رسمها علماء المعاجم العربية والسامية فيما يتعلق بمسألة التأصيل السامي للألفاظ، وهذه القاعدة تؤكد على تجنب تحديد لغة سامية بعينها لكي تكون أصلًا لجذر بعينه؛ لصعوبة الوصول إلى هذه النتيجة، والاكتفاء بتحديد ما يسمى بالنظائر السامية للجذور والألفاظ العربية.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالإشارة وهي أن اللغة العربية احتفظت ببعض من أقدم الظواهر اللغوية، وبأكمل الأبجديات السامية، وتميزت باستمرارها في التاريخ، وعدم انقطاعها بخلاف بقية اللغات السامية التي لم تكتب لها هذه الاستمرارية.


1- الطيب علي الشريف: 567، 569.
2- حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والإجتماعي 1: 45، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة التاسعة، 1979 م.
3- أحمد إبراهيم الشريف، مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول: 98، دار الفكر العربي، القاهرة، 1965 م.
4- المصدر نفسه.

ص: 269

ولهذا اعترف بعض علماء اللغات السامية بقدم اللغة العربية، وبأنها أكثر اللغات السامية استحقاقاً لكي تكون أصلًا لبقية اللغات السامية وأمّاً لها (1)، مستندين في ذلك إلى دليل تاريخي لغوي، فمن الناحية التاريخية تكوّنت كل الشعوب السامية أصلًا من هجرات عربية خرجت من شبه الجزيرة العربية متجهة إلى مناطق الوديان في الشرق الأدنى القديم، مكونةً لمجموعة شعوب عربية (2)، تحدثت في البداية بلهجات عربية تطورت إلى لغات مستقلة عن الأصل العربي وهي اللغات الآرامية والعبرية والأكدية والحبشية، ولنا الحق في تسمية هذه اللغات بأسرة اللغات العربية، بدلًا من التسمية الاستشراقية «أسرة اللغات السامية» (3). ومن الناحية اللغوية تشترك هذه اللغات مع اللغة العربية في نحوها، وصرفها، ودلالاتها المعجمية، وأصواتها، ومفرداتها، الأمر الذي يؤكد على عودة هذه اللغات إلى أصل واحد هو الأصل العربي.

وفي دراسة الاسمين: مكة وبكة، سنبدأ بالبحث عن دلالات جذور هاتين التسميتين في المعاجم العربية المختلفة، ثم نبحث عن دلالات جذورهما في معاجم اللغات السامية المختلفة، ونقارن حصيلة هذه الدلالات في اللغات السامية الأساسية وهي: الأكدية، والآرامية، والعبرية، والحبشية، والعربية الجنوبية، والسريانية، ونقابلها بالدلالات الموجودة في المعاجم العربية للوصول إلى تحديد دقيق لمعاني التسميتين: مكة وبكة.


1- أمين مدني، التاريخ العربي وبدايته: 59، 113- 114، 118، الكتاب العربي السعودي، الطبعة الثانية، 1401 ه، 1981 م، دار نشر تهامة، 1400.
2- روبرتسن سميث، محاضرات في ديانة الساميين، ترجمة عبد الوهاب علوب، مراجعة وتقديم محمد خليفةحسن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997 م، صفحات و، ز، 1، 10.
3- محمد خليفة حسن، رؤية عربية في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته: 77- 79، دار قباء، القاهرة، 1998 م، وانظر أيضاً الأستاذ أمين مدني، التاريخ العربي وبدايته، مرجع سابق: 113- 114؛ وانظر كذلك معروف الدواليبي، جزيرة العرب- مهد نشأة فكرة الحق والقانون: 492، 494، 524، دار الشواف، الرياض.

ص: 270

المبحث الأول: أسماء مكة

اشارة

أولًا: الاسمان «مكة» و «بكة»:

الاسمان «مكة» و «بكة» من أشهر الأسماء التي عرفت بها مكة، وهما أيضاً من أكثر الأسماء التي اختلف العلماء والمفسرون حول تفسير معانيهما.

ومن أهم الآراء في معنى مكة:

1- سميت مكة لأنها تمُكّ الجبارين أي تذهب نخوتهم (1).

2- سميت مكة لازدحام الناس بها (2).

3- سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول: «لايتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه، أي نصفر صفير المكاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم اذا طافوا بها» (3).

4- سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هبطة بمنزلة المكوك (4).

5- سميت مكة لأنها عبّدت الناس فيها، فيأتونها من جميع الأطراف من قولهم: امتك الفصيل أخلاف الناقة، إذا جذب جميع ما فيها جذباً شديداً، فلم يبق فيها شيئاً (5).

6- سميت مكة لأنها لايفجر بها أحد إلا بكَّت عنقه وقد التوت عنقه (6).


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان 5: 210، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت.
2- المصدر نفسه: 210.
3- المصدر نفسه: 210- 211.
4- المصدر نفسه: 211.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.

ص: 271

7- سميت مكة من مَكَّ الثدي أي مصه، لقلة مائها؛ لأنهم كانوا يمتكون الماء أي يستخرجونه (1).

8- سميت مكة لأنها تَمُك الذنوب، أي تذهب بها، كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئاً (2).

9- سميت مكة لأنها تمك من ظلم، أي تنقصه (3).

ومن أهم الآراء التي قيلت في معنى «بكة»:

1- سميت بكة لأنها تبكُ أعناق الجبابرة (4).

2- سميت بكة لازدحام الناس بها (5).

3- بكة اسم لبطن مكة، لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون (6).

4- سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضاً، أو لبكِّ الناس بعضهم بعضاً في الطواف (7).

الآراء التي قيلت في التفرقة بين «مكة» و «بكة»:

1- مكة اسم المدينة، وبكة اسم البيت (8)

2- بكة اسم القرية، ومكة مغزى بذي طُوى لايراه أحد ممن مرَّ من أهل الشام والعراق واليمن والبصرة، وإنما هي أبيات في أسفل ثنية ذي طُوى (9).


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه: 210.
4- الأزرقي، أخبار مكة، 1: 188- 189.
5- المصدر نفسه: 211.
6- ابن هشام، السيرة، 1: 125.
7- المصدر نفسه: 210.
8- المصدر نفسه.
9- المصدر نفسه: 211.

ص: 272

3- بكة موضع البيت، وماحول البيت مكة (1).

4- بكة موضع البيت، وموضع القرية مكة (2).

5- بكة موضع البيت، ومكة هي الحرم كله (3).

6- بكة الكعبة والمسجد، ومكة ذو طوى، وهو بطن الوادي المذكور في سورة الفتح (4).

الآراء التي قيلت في ترادف «مكة» و «بكة»:

1- اعتبر بعض الدارسين «مكة» و «بكة» اسمين مترادفين، بمعنى أن مكة هي بكة والميم بدل من الباء، في مثل قولهم ما هذا بضربة لازب ولازم (5)، ومعنى هذا اشتراك مكة وبكة في نفس الدلالات والمعاني.

2- سميت مكة وبكة لازدحام الناس فيها (6)، وفي هذا تخصيص لصفة الازدحام كدلالة مشتركة بين الجذرين مَكَّ وبَكَّ.

ثانياً: أسماء أخرى لمكة:

ومن الأسماء الأخرى التي أطلقت على مكة الأسماء التالية:

1- أم القرى: وهي تسمية وردت في القرآن الكريم: «وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا» (7)، وهذا دليل على فضلها على سائر البلاد (8).


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- الفتح: 24.
5- ياقوت الحموي، معجم البلدان: 210.
6- المصدر نفسه.
7- الشورى: 6.
8- ياقوت الحموي، معجم البلدان: 212.

ص: 273

2- البلد الأمين: وهي تسمية وردت في القرآن الكريم: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» (1).

3- البلد: وردت هذه التسمية في القرآن الكريم: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ» (2)، وفي قوله تعالى: «لَاأُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ» (3).

4- البيت العتيق: تسمية وردت في القرآن الكريم: «ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (4)؛ لأنه عتق من الجبابرة (5).

5- البيت الحرام: تسمية وردت في القرآن الكريم: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ» (6).

6- النسَّاسَة: لأنها لاتقر ظلماً ولا بغيّاً، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته (7).

7- الحاطمة: لأنها تحطم من استخفَّ بها (8).

8- الرأس: لأنها مثل رأس الإنسان (9).

9- القادس: لأنها تَقْدُس من الذنوب أي تَطْهَر (10)؟

10- الباسة: لأنها تَبُسُّ أي تحطم الملحدين، وقيل: تخرجهم (11).

11- كوثى: اسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار (12).


1- التين: 3.
2- ابراهيم: 35.
3- البلد: 1، 2.
4- الحج: 29.
5- معجم البلدان، مرجع سابق: 211.
6- المائدة: 97.
7- معجم البلدان: 215.
8- المصدر نفسه: 211.
9- المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه.
11- المصدر نفسه.
12- المصدر نفسه: 211- 212.

ص: 274

12- المذهب: ورد هذا الاسم في قول بشار بن أبي خازم: وما ضَمَّ جياد المصلّى ومُذهَبُ (1).

13- المقدسة.

14- الناسة.

15- أم رُحم.

16- معاذ.

17- صلاح.

18- الحرم.

19- العرش.

المبحث الثاني آراء المصادر والمراجع في دلالات «مكة» و «بكة»

اشارة

قبل أن نعطي دلالات التسميتين «مكة» و «بكة»، نستطلع أولًا الآراء التي وردت في المصادر القديمة والمراجع الحديثة حول معنى التسميتين؛ وذلك للحكم على مدى معرفة القدماء والمحدثين بدلالات التسميتين، وتحديد أقرب هذه الآراء إلى الصحة، بعد الاسترشاد بما ورد في معاجم اللغة العربية واللغات السامية المختلفة.

أولًا: آراء المصادر والمراجع حول دلالات «مكة»:

يمكن حصر أهم الآراء التي وردت حول دلالات التسمية: مكة في المصادر


1- المصدر نفسه: 212.

ص: 275

القديمة والمراجع الحديثة بما يلي:

1- سميت «مكة» لأنها تَمُكُّ الجبارين والماردين والمعتدين عليها، أي تدكهم وتحطمهم (1).

2- سميت «مكة» لازدحام الناس فيها (2).

3- سميت «مكة» بمعنى «البيت»، ويعتقد أن مكة كلمة بابلية معناها «البيت»، وسمته بها العماليق (3).

4- أن مكة هي بيت اللَّه الحرام فيقال: مكة اسم المدينة، ومكة اسم البيت (4)، وقد أخذت مكة اسمها من البيت لأنها قامت حوله (5).

5- أن مكة- بالميم- هي اسم الحرم كله، وذلك للتفرقة بين مكة وبكة، حيث تعني «بكة» المسجد خاصة، ويقول الزجاج: إن بكة موضع البيت، وسائر ماحوله مكة (6).

وفي قصة هاجر مع ابنها اسماعيل أنّها نزلت هذا الوادي تبحث عن الماء

6- مكة كلمة يمنية (عربية جنوبية) وتعني بيت، ويرد مكرب في لغة اليمن بمعنى بيت الرب، بمعنى أن مكرب اسم مركب من «مك» بمعنى بيت و «رب» بمعنى «رب» أو «إله»، فيصبح المعنى بيت الرب أو بيت الإله. وتذكر المصادر أن قبائل الجنوب أول من استعمر هذا الوادي، فالأرجح أن اسمها أخذ من لغة الجنوب (7).


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان: 181؛ وانظر: الطيب علي الشريف، مكة في وجدان شعراء ما قبل الإسلام: 567.
2- المصدر نفسه: 567.
3- حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي: 45.
4- ياقوت الحموي، معجم البلدان: 33، 45.
5- أحمد إبراهيم الشريف، مكة والمدينة: 97.
6- المصدر نفسه: 45، وانظر: المعجم الكبير، مجمع اللغة العربية، مادة ب ك ك: 492، القاهرة، 1981 م؛ وانظر: حسن إبراهيم: 45.
7- أحمد إبراهيم الشريف: 97.

ص: 276

وقد وردت مكة أو مكرب عند بطليموس بمعنى بيت الرب. وذكر بروكلمان أن مكة مأخوذة من كلمة «مقرب» العربية الجنوبية ومعناها «الهيكل»، ويذكر بروكلمان أن بطليموس نقل هذا الاسم عن طريق الآراميين حيث يرد في اللهجة الآرامية الشرقية ماكورابا أو ماكارابا (1).

7- مكة بمعنى «الوادي» وكذلك «بكة»، وهذا عند بروكلمان أدلّ على مركز مكة؛ لأن مكة في واد غير ذي زرع كما ورد أيضاً في القرآن الكريم (2)، ويعطي بروكلمان مثالًا على ذلك الاسم بعلبك، بمعنى وادي البعل، وأن ماكورابا أو ماكارابا في اللهجة الآرامية الشرقية تعني «الوادي العظيم» أو «وادي الرب» (3).

ومن المعروف أن وادي مكة كان موئلًا للقوافل القادمة من الشمال والجنوب، وكان هذا الوادي مضرب خيام القوافل في الأوقات التي تفصل فيها القوافل من الشام إلى اليمن، أو من اليمن إلى الشام، وفي قصة هاجر مع ابنها إسماعيل أنها نزلت هذا الوادي تبحث عن الماء، وبعد تفجر مياه بئر زمزم بدأت القبائل العربية تتجه للإقامة على مقربة من البئر التي جعلت الحياة ممكنة في هذا الوادي الأجرد، وشيّد إسماعيل البيت الحرام الذي قامت مكة بعد ذلك من حوله (4). وهو الوادي الذي به مكة حتى اليوم، وكانت قبيلة جرهم أولى القبائل التي أقامت في مكة بعد تفجر بئر زمزم (5)، ويقال أيضاً: إن العمالقة كانوا أول من سكنها.

ثانياً: آراء المصادر والمراجع حول دلالات بكة:


1- نقلًا عن أحمد إبراهيم الشريف: 98.
2- إبراهيم: 37.
3- نقلًا عن أحمد إبراهيم الشريف: 98.
4- محمد حسين هيكل: حياة محمد: 86.
5- ابن هشام: سيرة ابن هشام، طبعة السقا، 1: 123- 124.

ص: 277

ويمكن حصر أهم الآراء الخاصة بدلالات «بكة» فيما يلي:

1- ورد في بعض المصادر أن بكة هي مكة في لغة الجنوب، وذلك بقلب الميم إلى باء على عادة أهل الجنوب (1).

2- أن بكة تعني الوادي، وأن مكة لغة أخرى بنفس المعنى، ويستشهد على هذا المعنى بالاسم «بعلبك»، ومعناه وادي البعل. وأن مكة تعني الوادي، ويستشهد على ذلك بالاسم ماكورابا أو ماكارابا بمعنى «الوادي العظيم» أو «وادي الرب» في اللهجة الآرامية الشرقية (2)، وهو الاسم الذي استخدمه بطليموس الإسكندري في المصادر اليونانية والرومانية، وربما نقلًا عن المصادر الآرامية (3).

3- أنها سميت «بكة» من البَكّ أي التهشيم والتمزيق والقهر والإجهاد (4).

4- أن بكة كلمة بابلية بمعنى البيت، أطلقها العماليق عليها.

5- سميت بَكة لبكِّ الناس بعضهم بعضاً في الطواف.

6- سميت بكة لأنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة (5).

7- أن بكة اسم لبطن مكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون (6).

ومن هذا نخرج بالنتيجة التالية وهي: أن المصادر اعتبرت «بكة»، إما كلمة عربية من البك بمعنى التهشيم، أو عربية جنوبية تقابل مكة بقلب الميم إلى باء، أو آرامية شرقية بمعنى «الوادي»، أو أن بكة كلمة بابلية بمعنى البيت.

ثالثاً: التفرقة بين «مكة» و «بكة»:

لاحظنا أنه في الوقت الذي اعتبرت فيه العديد من المصادر «بكة» لغة في «مكة» وأن «مكة» و «بكة» اسمان لمكان واحد، نجد اتجاهاً في بعض المصادر الأخرى إلى التفرقة بين مكة وبكة باعتبارهما حاملتين لدلالات مختلفة، ومن أهم


1- أحمد إبراهيم الشريف: 98.
2- رأي بروكلمان نقلًا عن أحمد إبراهيم الشريف: 98.
3- أحمد إبراهيم الشريف: 98.
4- الطيب علي الشريف: 567.
5- الأزرقي، أخبار مكة، طبعة خياط 1: 50.
6- ابن هشام، سيرة ابن هشام: 114.

ص: 278

وجوه التفرقة بين مكة وبكة:

1- أن مكة بالميم تعني الحرم كله، بينما بكة بالباء تعني المسجد فقط (1).

2- أن بكة اسم آخر لمكة مختلف في الدلالة، حيث يعني التهشيم.

3- أن بكة تعني «البيت» في البابلية، وربما يصبح معنى الأثر «أنا اللَّه ذوبكة الحرام»، أي صاحب البيت الحرام، كما ورد في بعض الآثار التاريخية (2)، وبكة تسمية أطلقها العمالقة عليها.

4- أن «بكة» موضع البيت، وسائر ما حوله «مكة» (3).

المبحث الثالث مكة وبكة في المعاجم العربية

اشارة

بعد إعطاء الدلالات التي وردت للتسميتين مكة وبكة في المصادر القديمة والمراجع الحديثة، ننتقل إلى الجزء الثاني من هذا البحث وهو الخاص بتحديد دلالات مكة وبكة في معاجم اللغة العربية، وفي المعاجم السامية، وبخاصة المعاجم الآرامية والعبرية والحبشية والأكادية والعربية الجنوبية.

أولًا: دلالات مكة وبكة في المعاجم العربية:

1- دلالات مكة:

وردت في المعجم العربي عدة مواد أو جذور يجب مراجعة دلالاتها الأساسية والفرعية في محاولة لتحديد دلالة التسمية مكة، ومن هذه المواد: م ك ك، م ك ا،


1- حسن إبراهيم نقلًا عن ياقوت الحموي، 8: 22.
2- ورد في الآثار التاريخية أنه وجد مكتوباً على حجر في ربوع مكة: «أنا اللَّه ذو بكة الحرام وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر»، انظر الطيب الشريف: 569، نقلًا عن ياقوت الحموي، معجم البلدان 5: 183.
3- المعجم الكبير، حرف الباء: 492، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1981 م.

ص: 279

ومع الأخذ في الاعتبار الصلة الصوتية بين صوتي الكاف والقاف فهناك بعض المواد ذات الصلة مثل: م ق ق، م ق ا، م ق ه.

وفيما يلي دلالات كل جذر من هذه الجذور:

أ- الجذر م ك ك:

يأتي الجذر مَكَّ ومن استخداماته:

- مكَّ العظم مكّاً: مَصَّ جميع ما فيه.

- مَكَّ غريمه: ألَحَّ عليه في الاقتضاء.

- ومَكَّ الشي ء: نقصه أو أهلكه.

وتدور معظم الاشتقاقات من هذا الجذر حول هذه المعاني مثل: مكَّكَ على غريمه، أي مَكَّ وامتَكَّ العظم أي مكَّه، تمكَّك بمعنى امتَكَّ، والمُكاك المخ الممصوص، واللبن الممصوص، والمكاكة أي المُكاك، والمَكُّوك: طاس يُشرب به، أعلاه ضيق، وسطه واسع، ومكيال قديم. ويرد أيضاً مَكْمَكَ بمعنى تدحرج في المشي، ومكمك العظم: مصّ جميع ما فيه (1).

ب- الجذر م ك ا:

- مكا مُكاءً ومَكْواً: صفر بفيه أو شَبَّك بأصابع يديه، ثم أدخلها في فيه، ونفخ فيها، ويقال: مكا الطائر. وفي القرآن الكريم: «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً» (2).

- تمكَّى الغلام: تَطَهَّر للصلاة، وتمكَّى الفرس: ابتل بالعرق، ومنه المَكَا: جحر الثعلب والأرنب (3).

ومن الجذور القريبة صوتياً:


1- المعجم الوسيط: 916- 917، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1985 م.
2- الأنفال: 35.
3- المعجم الوسيط: 917.

ص: 280

أ- الجذر م ق ق:

- مَقَّ الشي ء مَقاً: فتحه، والعين: قلعها.

- مَقَّ الرجل أو الفرس مَققاً: كان فاحش الطول في دقة.

- ومقَّ ما بين الشيئين: بعد ما بينهما.

- وبلد أمق: بعيد الأطراف.

- وأرض مَقَّاء: بعيدة الأرجاء أو بعيدة ما بين الطرفين.

- ومقَّقَ على عياله: ضيَّق عليهم، ومَقَق الطائر فرخه: أطعمه.

- ومنه امتقَّ الفصيل ما في الضَّرع: شربه كله.

- تَمَقَّقَ الشي ء: طال وتباعد.

- تَمقَّقَ ما في العظم: استخرجه، والشرابَ: شربه شيئاً بعد شي ء (1).

- مَقْمَق الشي: ذَلَّله.

ب- الجذر م ق ه:

- الأمْقَةُ: المكان القفر لاينبت فيه شجر، والأمقه من الناس: الذي يهيم على وجهه لايدري أين يتوجه (2).

ج- الجذر م ق ا:

- مقا السيف مقوّا: جَلاه، ويقال مَقَا الفصيل أُمَّه: رضعها رضعاً شديداً (3).

2- دلالات بَكَّة في المعجم العربي:

وردت في المعجم العربي عدة مواد أو جذور يجب مراجعتها فيما يتعلق بالاسم «بكة» للتعرف على الدلالات الأساسية والفرعية لهذه المواد:


1- المعجم الوسيط: 916.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.

ص: 281

أ- المادة: ب ك ا:

- بكأت البئر: قَلَّ ماؤها.

- وبكأ الحيوان الحلوب: قَلَّ لبنه.

- بكأ الرجل: قلّ كلامه.

- وأبكأ فلان: قلَّ خيره (1).

ب- المادة: ب ك ب ك:

- بَكبَكَ الشي ء: هزَّه وطرح بعضه على بعض.

- والبكبكة: المجي ء والذهاب، والبكبكة الازدحام (2).

ج- المادة: ب ك ك:

- بَكَّ الشي ء بَكَّاً وبكَّةً: هَشَمَه ومَزَّقه.

- ويقال بَكّ عُنقَه: كسره.

- وبَكَّ الرجلَ: قهره وكسره من نخوته.

- وبَكَّ الرجلَ: زحمه.

- وبَكَّ الدابة: أثقل حملها وجهدها في السير (3).

- و يرد أيضاً: تباكَّ الجمع: زحم بعضهم بعضاً.

د- المادة: ب ق ق:

- بَقَّ الرجل بَقاً: أكثر القول في صواب أو خطأ.

- وبَقَّت المرأة: كَثُر ولدها.

- وبَقَّ الكلام: لفظه بقوة.

- وبَقَّ الخبر: أذاعه.


1- المصدر نفسه: 69.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.

ص: 282

- وبقَّ المال: فرَّقه (1).

- ومنه البّقُّ: الواسع العريض، الواضح (2).

ثانياً: دلالات «الباسَّة» و «البسّاسة» في المعجم العربي:

الباسَّة والبسَّاسة اسمان من الأسماء التي أُطلقت على مكة، وتم تعليل معنى الباسَّة لأنها تَبُسُّ، أي تحطم الملحدين وقيل: تخرجهم (3).

وبالرجوع إلى المعجم العربي مادة (ب س س) اتضح أن معاني بَسَّ هي على النحو التالي:

بَسَّ الرجل بساً: طَلَبَ وجَهَدَ، بَسَّ الشي ء: فتته، وقد ورد في القرآن الكريم: «وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسّاً»، وبَسَّ الشي ء فرَّقه وأذهب منه شيئاً؛ وبَسَّ الرجل:

طرده ونَحَّاه (4)، وانبسَ الماء: تَفَرَّق.

ومن خلال هذه الدلالات للمادة بَسَّ، يتضح أن الباسَّة والبسَّاسة- كاسمين لمكة- يشيران الى صفتها كمُفَتِّتة، ومُفَرقة، وطاردة للملحدين، ومحطمة لهم.

وتشير بعض المصادر إلى أن كلمة «بس» تعني بيت، أو هي علم على البيت الذي بنته غطفان للعزى، وقد ورد في معجم البلدان لياقوت: بُسَّا وهو بيت بنته غطفان، وسمته بُسَّا مضاهاة للكعبة، وقد أخذت هذه التسمية من قولهم: «لا أفعل ذلك ما أبس عبد بناقة»، وهو طوفانه حولها ليحلبها، وهو يشير إلى استحلاب الرزق في الطواف حوله (5).


1- المصدر نفسه: 68.
2- المصدر نفسه.
3- السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام: 296، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000 م.
4- المعجم الوسيط: 57- 58.
5- ياقوت، معجم البلدان: 609.

ص: 283

ويقال: إن «بس» ليس بيتاً، ولكنه ماء ورد فيه شعر (1). وقد ذكر الإصفهاني في كتابه الأغاني: أن «بس» بناء بنته غطفان شبّهوه بالكعبة وكانوا يحجّون إليه ويعظمونه ويسمونه حرماً (2).

ونصل من هذا إلى نتيجة مهمة وهي أن الباسة والبساسة من الأسماء التي أطلقت على مكة، وأن «بس» بيت بنته غطفان للعزى أو أنه ماء، وأنها لا تعني بيتاً بشكل مطلق.

ثالثاً: دلالات «الناسَّة» و «النسَّاسة» في المعجم العربي:

الناسَّة والنسَّاسة اسمان من أسماء مكة، ومن دلالات المادة (ن س س) في المعجم العربي:

نَسَّ الشي ء: يَبِسَ، نَسَّ فلان: اشتد عطشه، نَسَّ الدابة: ساقَها وزَجَرها، وأنَسَّ الشي ء: بلغ غاية الجهد، ومنه المَنْسوس: المطرود (3).

ومن هذه الدلالات يتضح أن معنى الناسّة والنسَّاسة: الطاردةُ والزَّاجِرة، وهي من الدلالات المشتركة مع مادة (بَسَّ).

رابعاً: أسماء مكة في المعاجم العربية: نتائج نهائية:

اشارة

من هذا العرض السابق لأسماء مكة في المعاجم العربية نخرج بالنتائج المهمة التالية في تحديد دلالات أسماء مكة:

1- اشتقاق مكة من الجذر (م ك ك) يعطي مكة عدة دلالات:

1- انظر سباتينو موسكاتي، الحضارات السامية: 344، ترجمة وتعليق د. السيد يعقوب بكر، الهيئة المصريةالعامة للكتاب، القاهرة، 1997 م.
2- الإصفهاني، كتاب الأغاني، طبعة بولاق 12: 26.
3- المعجم الوسيط: 954.

ص: 284

أ- لأنها تُهلك الجبارين وتضعفهم، وذلك من مَكَّ الشي ء أهلكه ونقصه. وقد ذكر هذا المعنى أبوبكر بن الأنباري في قوله: «سميت مكة؛ لأنها تمك الجبارين، أي تذهب نخوتهم» (1).

ب- سميت مكة لأنها تَمُكُّ الذنوب، أي تذهب بها، وهذه الدلالة مأخوذة من مَكَّ الفصيل ضرع أمه فلم يبق فيه شيئاً، ومَكَّ الشي ء نقصه (2).

ج- سميت مكة من مَكَّ بمعنى امتصَّ، أو مَصَّ؛ لأن أهل مكة كانوا يمتكون الماء، أي يستخرجونه وذلك لقلته، وهذه الدلالة مأخوذة من مَكَّ الثدي أي مصّه، ومَكَّ العظم: مَصَّ جميع ما فيه (3).

د- لأنها بين جبلين مرتفعين عليها، فهي في هبطة بمنزلة المكوك (4)، والمكوك طاس يشرب به، أعلاه ضيق، ووسطه واسع (5).

ه- اشتقاق مكة من امتَكَّ، فقد «امتكت الناس، أي جذبتهم من جميع الأطراف» (6). وقد أخذت هذه الدلالة من امتك الفصيل ما في ضرع أمه أي استقصاه بالمصّ (7).

2- اشتقاق مكة من الجذر (م ك ا) يعطي اسم مكة الدلالات التالية:

أ- سميت مكة؛ لأن العرب في الجاهلية كانت تَمُكُّ في مكان الكعبة؛ لأنها كانت تقول: لا يتم حجنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمك فيه، أي نصفر صفير المكاء حول الكعبة، فكانوا يصفرون ويصفقون (8).


1- ياقوت الحموي، معجم البلدان، 5: 181.
2- ياقوت، معجم البلدان: 182، وانظر السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام: 295.
3- المعجم الوسيط: 516.
4- ياقوت: 182.
5- المعجم الوسيط: 516.
6- المصدر نفسه. وانظر ياقوت: 182.
7- المعجم الوسيط: 516.
8- ياقوت: 182؛ وانظر السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام: 294.

ص: 285

وقد اشتقت هذه الدلالة من الجذر مَكَا مُكاءً، أي صفر بفيه، أو شبك أصابع يديه ثم أدخلها في فيه ونفخ فيها (1). وقد ورد في هذا المعنى قوله تعالى: «وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً» (2). وقد سمّي طائر المُكَّاء بذلك؛ لأنه يجمع يديه ثم يصفر فيهما صفيراً حسناً (3)، ويقال: مكا الطائر أي صفّر (4).

ب- سميت مكة من التطهر للصلاة، ففي المعجم: تمكَّى الغلام أي تطهر للصلاة، وتمكَّى الفرس أي ابتل بالعرق (5).

3- اشتقاق اسم مكة من الجذر (م ق ق):

يعطي اشتقاق اسم مكة من الجذر (م ق ق) الدلالات المقترحة التالية:

أ- يشترك الجذر (م ق ق) مع الجذر (م ك ك) في بعض الدلالات، مثل: امتقَّ الفصيل ما في الضَّرع: شربه كله، وهي نفس دلالة امتكَّ في امتَكَّ الفصيل ما في ضرع أمه أي استقصاه بالمص (6). ويرد: تمقق ما في العظم: استخرجه، وهو قريب من دلالة امتك العظم، وقريب من الناحية الصوتية من تمكَّك بمعنى امتكَّ (7).

وبالتالي تنطبق على اسم مكة هذه الدلالة المشتركة بين الجذرين (م ك ك) و


1- المعجم الوسيط: 916.
2- الأنفال: 35.
3- المعجم الوسيط: 917.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه: 916.
7- المصدر نفسه.

ص: 286

(م ق ق).

ب- يختصّ الجذر (م ق ق) ببعض الدلالات الخاصة التي لا يشترك فيها مع الجذر (م ك ك)، و من أهم هذه الدلالات الخاصة:

- دلالة مقَّ على الفتح في مَقَّ الشي ء فتحه، ومَقَّ العين قلعها، ومقَّ ما بين الشيئين أي بَعُدَ ما بينهما، ومنه أرض مَقَّاء: بعيدة الأرجاء أو بعيدة ما بين الطرفين، وبلد أمَق: بعيد الأطراف، وتَمَقَّقَ الشي ء: طال وابتعد (1).

- دلالة التضييق في مقَّق بمعنى ضيَّق، مثل مقّق على عياله أي ضَيَّق عليهم (2).

وقد اجتمع في هذه الدلالات صفات الفتح، وبُعد الأرجاء، والتضييق، والإطعام، وصفة الفتح تقترب من دلالة الإهلاك والإضعاف، والإنقاص التي احتواها الجذر (م ك ك). صفة بُعد الأرجاء قد تنطبق على الطبيعة الجغرافية لمكة من حيث إنها ممتدة ومتباعدة الأطراف بسبب طبيعتها الجبلية، وصفة التضييق قد تنطبق على الطبيعة الجغرافية لمكة من حيث إن جبالها تضيق على أهلها في حركتهم وحياتهم، وصفة الإطعام تنطبق على مكة أيضاً؛ حيث إنها اهتمّت بإطعام الحجيج، فكأنها مثل الطائر الذي يُمقِّقُ فرخه أي يطعمه.


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.

ص: 287

4- اشتقاق اسم مكة من الجذر (م ق ا):

يعطي الدلالة التالية المشتركة مع إحدى دلالات الجذر (م ك ك) والجذر (م ق ق) وهي مقا بمعنى رضع رضعاً شديداً كما في: مقا الفصيل أمه أي رضعها رضعاً شديداً (1).

5- اشتقاق اسم مكة من الجذر (م ق ه):

يعطي دلالة جديدة، حيث ورد من مشتقات هذا الجذر كلمة الأمقة، وهو المكان القفر لا ينبت فيه شجر، وكذلك الأمقه من الناس، وهو الذي يهيم على وجهه لا يدري أين يتوجه (2).

وربما يتفق الوصف الأول مع صفة المكان الذى نزل فيه إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل، وهو المكان الذي وصفه القرآن الكريم بقوله: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ» (3). أما الوصف الثاني فربما يتفق مع حالة هاجر أم إسماعيل وهي تبحث عن الماء لابنها، حيث كانت لا تدري إلى أين تتجه.

6- اشتقاق اسم بكة من الجذر (ب ك ك) يعطي الدلالات التالية:

أ- أن اسم بكَّة يدل على التهشيم، والتمزيق، والكسر كما ورد في بكَّ الشي ء بكاً وبكةً بمعنى هشمه ومزَّقه، وكما ورد في بك عنقه أي كسره (4).

ويصبح معنى بكة هنا المهشمة، والممزِّقة، والكاسرة.

ب- أن اسم بكَّة يدل على القهر وكسر النخوة كما ورد في بكَّ الرجلَ أي قهره وكسره من نخوته، كما في بك عنقه بمعنى كسره (5). إشارة إلى الكسر المعنوي


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- إبراهيم: 37.
4- المعجم الوسيط: 916.
5- المصدر نفسه.

ص: 288

والمادي معاً، ويصبح معنى بكة القاهرة والكاسرة للنخوة.

ج- أن اسم بكَّة يدل على الزحام والازدحام كما ورد في بَكَّ الرجل: زحمه، وكما ورد في تباكَّ الجمع: زحم بعضهم بعضاً (1). وورد البكبكة بمعنى الازدحام (2)، وبمعنى المجي ء والذهاب (3). ويصبح معنى بكة هنا المزدحمة والمثقلة، وربما كان في البكبكة- بمعنى المجي ء والذهاب- إشارة إلى حالة هاجر وهي تبحث عن الماء بين المجي ء والذهاب؛ سعياً وراء الماء.

د- أن اسم بكة يدل على الثقل والجهد كما في: بَكَّ الدابة أي أثقل حملها وجهدها في السير (4).

7- أن اشتقاق اسم بكَّة من الجذر (ب ق ق) يعطي الدلالات التالية:

الكثرة والشدة كما ورد في بَقَّت المرأة: كثر ولدها، وبَقَّت السماء:

أمطرت بغزارة وشدة، وبَقَّ الرجل: أكثر القول، وبَقَّ الكلام: لفظه بقوة، وبقّ الخبر: أذاعه، وبقَّ المال: فَرَّقه. والبقُّ: الواسع العريض (5)، ويصبح معنى بكة هنا يدور حول الكثرة، والقوة، والشدة، والتفتيت، والتجزئة، والنشر والاتساع.

8- أن تسمية مكة بالباسة والبسَّاسة:

1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه: 68.

ص: 289

يعطي الدلالات المرتبطة بالتفتيت، والتفريق، والتحطيم، والطرد، فيكون معنى الباسة والبسّاسة كاسم لمكة: المحطمة، والمفرقة، والطاردة، والمفتتة، وهي دلالات قريبة من معاني مكة وبكة المرتبطة بالتحطيم والتهشيم.

9- أن تسمية مكة بالناسَّة أو النسَّاسة:

يعطي الدلالات المرتبطة بالطرد، والزجر، والجهد، واشتداد العطش، واليُبْس. وبعض هذه الدلالات مشترك مع دلالات الباسة والبساسة، ومشترك أيضاً مع بعض دلالات مَكَّ وبَكَّ.

المبحث الرابع دلالات أسماء مكة في المعاجم السامية

اشارة

ورد في بعض المصادر أن الاسمين مكة وبكة مأخوذان من بعض اللغات السامية، ودخلتا في اللغة العربية، ومن أهم هذه الآراء ما يلي:

1- ورد اسم مكة في جغرافية بطليموس في صيغة ماكورابا Macoraba القريبة من صيغة مكرب عند السبئيين. ويرجح أن يكون معناها المقرب إلى اللَّه (1).

2- ذكر بروكلمان أن مكة مشتقة من مكرب أو مقرب العربية الجنوبية ومعناها عنده الهيكل (2)، ويعتقد أحد الدارسين أن اسم مكة كان مكرب بمعنى مقدس قبل أن يصبح مكة (3).

3- ذكر جورجي زيدان أن مكة مشتقة من مك في البابلية بمعنى «البيت» (4).

وللبحث عن حقيقة هذه الآراء لابد من الرجوع إلى بعض المعاجم السامية للبحث عن دلالات هذه التسميات، وعلاقاتها بالدلالات العربية الخالصة لأسماء مكة المكرمة، ومحاولة الوصول إلى تحديد دقيق لأصل التسمية مكة وبكة وغيرهما. وهل هي تسميات عربية خالصة، أم أنها تسميات سامية؟ وما هو


1- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب 4: 88.
2- السيد عبد العزيز سالم، تاريخ العرب قبل الإسلام: 295.
3- المصدر نفسه: 297.
4- جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام: 275، دار الهلال، القاهرة.

ص: 290

الدليل على ساميتها؟ وسيتم ذلك كله في ضوء المعرفة المتاحة عن اللغات السامية، وفي ضوء علاقة اللغة العربية باللغات السامية، وفي ضوء معطيات التاريخ العربي القديم في علاقته بتاريخ الشعوب السامية القديمة، وكذلك داخل إطار ما يعرف بالدخيل السامي في اللغة العربية. وقد اخترنا اللغات السامية التالية وهي العبرية والسريانية والحبشية والعربية الجنوبية والبابلية (الأكادية).

أولًا: التسمية «مكة» في المعجم العبري:

اشارة

يجب أن نشير في البداية إلى أن اسم مكة يرد في المعجم العبري كاسم علم على مدينة هي مكة المكرمة، والكلمة كاسم علم ليس لها تأصيل عبري. ولم يهتم أحد من علماء العبرية ببحث دلالاتها على مستوى اللغة العبرية.

ونظراً لاشتراك اللغة العبرية مع اللغة العربية في العديد من المواد والجذور التي تندرج تحت إطار المشترك السامي، فإن البحث عن معنى التسمية «مكة» يتم هنا داخل إطار التأصيل السامي الذي يهتم بتحديد النظائر السامية، وذلك من خلال البحث عن الجذور المشتركة.

وقد تم تحديد الجذور العربية التي يمكن اشتقاق الاسم مكة وبكة وغيرهما منها، وهي الجذور (م ك ك)، (م ق ق)، (ب ك ك)، (ب ق ق) وغيرها. ومهمتنا الآن البحث عن هذه الجذور في المعجم العبري، وتحديد دلالاتها المختلفة، والتعرف على الدلالات المشتركة بين اللغتين العبرية والعربية، والدلالات غير المشتركة والتي تخص كل لغة على حدة.

1- الجذر Makhakh مَاخَخْ:

الجذر (مَاخَخْ) يقابل الجذر (م ك ك) أو مَكَّ في اللغة العربية، والمضارع منه (يِمَّخْ) الذي يقابل (يَمُكُّ) في العربية، وتقرب دلالات (مَاخَخْ) من دلالات الفعل العربي مَكَّ، حيث يعني الفعل العبري: تَحطَّم، ضَعُفَ، تَحَلَّلَ، خَضَعَ، ذَلَّ، ذَابَ،

ص: 291

افتقر، اخترق، هَلَك، احتقر (1) ، وقد رأينا أن مَكَّ في المعجم العربي أتت بمعنى أهْلَكَ، نَقَصَ، مَصَّ، حَطَّمَ، فَتَحَ، قَلَعَ.

2- الجذر العبري (مُوخْ) (مَا أخْ):

ومن دلالات هذا الجذر العبري: اخترق، افتَقَرَ (2). ومن استخداماته في العهد القديم: اللاويون 25: 25، 35، 39، 47.

3- الاسم (مَكَّا) makkah:

وهو اسم مفرد مؤنث مشتق من الفعل الماضي (نَاخَا) (3)، ويشبه في نطقه صوتياً الاسم مَكَّة، وهو ينتهي بالهاء. وإلى جانب التشابه الصوتي هناك تشابه في الدلالة، فالاسم المؤنث العبري مَكَّا يعني: ضَرْبة، اختراق، طَعْن، مدقوق، ذَبْح، قَتْلَ (4).

وفي المعجم العبري الحديث يأتي الفعل العبري مَكَّا Makkah يحمل الدلالات: ضَرَبَ، قَهَرَ، هَزَمَ، جَرَحَ، طَعَنَ (5)، والاسم مَكَّا: ضربة، لطمة، إصابة، جُرْح، انحدار، ضائقة، وباء (6).

4- الجذر العبري (مَاقَقْ) يقابل الجذر (م ق ق) في العربية:

ويحمل هذا الجذر بعض الدلالات المشتركة مع الجذر (مَاخَخْ)، ومن هذه


1- Gesenius, p. 504، وانظر بعض استخدامات هذا الجذر في المزامير 43: 106، وفي الجامعة 18: 10، وأيوب 24: 24.
2- Gesenius, p. 502 وانظر قاموس قوجمان عبري- عربي: 435، دار الجيل، بيروت.
3- Gesenius, p. 471
4- وردت استخدامات مختلفة في أسفار العهد القديم: انظر مثلًا الملوك الثاني 29: 8، 15: 9، التثنية 3: 25، أخبار الأيام الثاني 29: 8، اللاويون 21: 26، أشعيا 6: 1.
5- Group ,Chicago 1997 ,p .363 .NTC'S Hebrew and English Dictionary by Arie Comy and Naomi Tsur NTC Pub
6- ي. قوجمان، قاموس عبري- عربي: 434، دار الجيل، بيروت.

ص: 292

الدلالات: ذاب، اخترق، تَحَلَّل، وبعض هذه الدلالات مشتركة مع الجذر العربي مَقَّ، ومن هذه الدلالات: اخترق، فَتَح.

ثانياً: التسمية «بكة» في المعجم العبري:

1- الجذران (بَاخَأ) و (باخا):

ورد في معجم جيزنيوس الجذر (باخا)، وهو جذر غير مستخدم ومعناه:

يَسْقُطُ نقطة نقطة (1)، ويقابل في العربية بَكَأ بمعنى: يَصُبُّ نقطة نقطة (2)، أما الجذر المستخدم فهو (بَاخَا) ومعناه بكى، اذرفَ الدموع (3).

ومن الجذر الأول يأتي الاسم (باخا) بمعنى بُكاء، رثاء (4). ويقابله في العربية بَكَاء، بُكَاء.

ويشير جيزنيوس إلى أن المقطع الأساسي لهذين الجذرين هو (بَخْ)، وهو يعطي صوت نقاط الماء الساقطة (5).

وقد وردت عدة أسماء أماكن بالعبرية استخدم فيها اسم مشتق من هذا الجذر بَاخَا. ومن بينها وادي البكاء (عيمِقْ هَبَّاخَا) وهو اسم علم على واد في فلسطين، وقد ورد في المزامير «المارين بوادي البكاء يجعلونه ينابيع» (6).

ويرد الاسم (بِخَائِيم) وهو اسم شجرة سميت بذلك الاسم؛ لإسقاطها نقاطاً وكأنها تبكي (7). ومن أسماء الأماكن الأخرى (بوخيم) Bochim، وهو مكان بالقرب من الجلجال، ومعناها الحرفي بكاؤون (8).


1- Gesenius, p. 119
2- المعجم الوسيط: 66.
3- Gesenius, p. 119
4- Ibid, p. 119
5- Gesenius, p. 119
6- المزامير 7: 84.
7- صموئيل الثاني، 5: 23، 24، وأخبار الأيام الأولى 14: 14، 15.
8- Gesenius, p. 120

ص: 293

2- الجذر (بَاقَقْ) بمعنى صَبَّ، أفْرَغَ:

ومن معانيه أيضاً: أخْلى أرضاً من السكان، استأصَلَ (1). ويرد (بوقيِقْ) منتشر، ممتد، وورد اسم العلم (بُقِّي) ويعني (دمار يهوه).

ثالثاً: المعجم السرياني:

اقترح بروكلمان أصلًا آرامياً شرقياً لكلمة ماكورابا التي استخدمها بطليموس للدلالة على مكة، واقترح أن يكون معناها الوادي العظيم أو وادي الرب. وقد ورد في المعاجم الآرامية والسريانية عدة جذور مناظرة للجذور العربية التي منها اشتقت الأسماء مكة وبكة.

1- الجذر (مَخْ) والجذر (مَاخْ):

ورد الجذر (مَخْ) (2) بمعنى انبَطحَ، خَضَع، استسلم، سَجَدَ أو رَكَع، امتد، والمضعف منه (مَخِّخْ): اضطجع، خَضَعَ، تَواضَعَ، ذَلَّ، ركع (3).

2- الجذر (مْخِخْ) ويقابل مَكَّ:

وبنفس الدلالات السابقة في مَخْ ومَاخْ.

3- الجذر (فَخَ) أو (بَخْ):

يحمل الجذر المذكور الدلالات التالية: هَشَّم، حَطَّم، كَسَّر، دَمَّر، وهو يقابل بَكَّ أو فَكَّ في اللغة العربية، والاسم المشتق منه (فَخْ) معناه: ضَرْبةَ، لطمة (4).


1- Ibid, p. 136
2- أصل الكلمة مَكْ، ولكنها تنطق رخوة في نهاية المقطع أو بعد الحركة الطويلة كما في مَاخْ.
3- p .270 .R .Payne Smith ,A Compendious Syriac Dictionary ,Oxford ,The Clarendon 1967,
4- Ibid, p. 445

ص: 294

4- الجذر (بْخَا) بمعنى بَكَىَ: ومنه (بَخِّى) بَكَّاء (1).

5- الجذر (بَقْ) بمعنى تَحَلَّل، ذَابَ، بحث، امتحن، ابتلى.

وورد أيضاً (بَقْبَقْ) بمعنى غَلي، بحث عن شي ء وهو مرتبك، تَحَسَّس (2)، وتقابل بَكْبَكَ في العربية بمعنى: جَاءَ وذَهَبَ، والبكبة: المجي ء والذهاب.

6- الجذر (بَقَ) والمضعف منه (بَقِّق)

ويحمل الدلالات التالية: يتكلم بدون وضوح، يثرثر، يتكلم بحماقة (3).

رابعاً: في المعجم الحبشي:

وردت عدة جذور حبشية تعطي دلالات مشتركة مع الجذور العربية التي تمت مناقشتها من قبل، وأهم هذه الجذور الحبشية:

1- الجذر (مَكَّ) بمعنى: اعتمد على.

2- ورد الجذر (مَكْوَىَ) بمعنى: حَمَى، حَرَسَ، رَاقبَ (4).

3- ورد الاسم (ماكوتا): هدية، تَوَسُّل، خضوع، دُعَاء (5).

4- ورد الجذر (مَكَن) بمعنى: قاحل، أجدب، غير مثمر، عاقر، ومنه:

(مَكَّانْ) مُجْدب، قَاحِل بدون زرع، بدون ثمر، عاقر (6).

5- الجذر (مَقَقَ) أو (مَقَّ) بمعنى ذاب، فسد (7).

6- الجذر (بَكَّ) bakka بمعنى: ذبل، اختفى، أصبح بلا جدوى (8)، ومنه (بَكَّ) بمعنى: أجدب، أعزب غير مثمر، أعزل، خال، خاو، غير نافع، أصبح عادماً (9).


1- Ibid, p. 45
2- Ibid, p. 52
3- Ibid, p. 454
4- Harrassowitz ,Wiesbaden ,1987 ,p .341 .Otto Wolf Leslau ,Comparative Dictionary of Gecez Classical Ethiopic
5- Ibid., p. 341
6- Ibid., p. 339
7- Leslau, p. 94
8- Ibid., p. 94
9- Ibid., p. 94

ص: 295

ومنه (بَكِّ): بدون جدوى، غير نافع، بدون هدف (1).

وورد أيضاً (بَكْ) و (بُوكْ) بمعنى: جَرَحَ، خَدَش، ويقابله لسلاو بالجذر العربي بَكَّ بمعنى كَسَّر، مَزَّق، احتقر (2).

7- الجذر (بَكَىَ) بمعنى: بكى ناح، رثى، ومنه (بْكى): بكاء، ويقابل في العربية بكى، وهو جذر سامي مشترك في كل اللغات السامية.

وقد ورد نفس الفعل بمعنى: ذبل، اختفى (3).

8- الجذر (بَقَّ) بمعنى: كَسَّرَ، قَسَّمَ، ويعتقد لسلاو أنه يقابل الجذر العربي بَقَّ بمعنى: قَسَمَ، انْفَصَل (4).

9- الجذر (بَقَوَ) بمعنى: فَصَل، قَسَمَ، كَسَرَ، قَطَعَ، فَتَح، مَدَّ (5).

خامساً: في العربية الجنوبية:

اشارة

اعتبر بعض الباحثين الاسم ماكورابا Macoraba الوارد في جغرافية بطليموس (القرن الثاني الميلادي) دالًا على مكة (6)، ويشرح جواد علي لفظة مكربة (مكربا) بأنها لفظة عربية أصابها بعض التحريف ليناسب النطق اليوناني، أصلها مكربة أي مقربة من التقريب (7).

ويعتقد جواد علي أن لفظة «مكربة» ليست علماً على مكة ولكنها نعت لها،


1- Ibid., p. 94
2- Ibid., p. 94
3- Ibid., p. 94
4- Ibid., p. 151
5- Ibid., p. 151
6- جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 4: 9؛ وانظر أحمد إبراهيم الشريف، مكة والمدينة، مرجع سابق: 94.
7- جواد علي 4: 10.

ص: 296

كما في «بيت المقدس» و «القدس» فهما في الأصل نعت للمدينة وتحوّلا إلى اسمي علم لها (1)، وقد جاء لفظ «مكربة» ليدل على أن مكة مُقَرّبة من الآلهة، فهي تقرب الناس إليهم، وهي أيضاً مقدسة وحرام، وقد أشار جواد علي إلى أن حكام سبأ لُقبوا بالمكاربة، فقد لقب كل واحد منهم نفسه بلقب مُكَرِّب mukarreb لأنه مُقَرِّب الناس إلى آلهتهم، وهو أقرب الناس إلى الآلهة، وهو مقدس لنطقه باسم الآلهة، وعلى هذا النحو فسّر جواد علي لفظة «مكرب» كعلم على مكة بأنها مُقَرِّبة من الآلهة (2). ولا يستبعد جواد علي أن يكون سكان مكة من أصل يمني قديم، وربما كانت مكة مستوطنة يمنية على الطريق الممتد من اليمن إلى أعالي الحجاز (3).

اعتبر بعض الباحثين الاسم «ماكورابا» الوارد في جغرافية بطلميوس دالًا على مكّة

ويرجح بعض الدارسين أن اسم مكة أُخذ من لغة الجنوب فمكة أو مكرب كلمة يمنية مكونة من «مَكْ» و «رب»، ومَكْ بمعنى بيت فيصبح معنى مكرب «بيت الرب» أو بيت الإله. ومن هذه الكلمة أُخذت «مكة» أو «بكة» بقلب الميم باءاً على عادة الجنوب (4). ومعنى هذا أن مكة أو بكة تسمية عربية جنوبية قديمة، ويدلل أصحاب هذا الرأي على ذلك بأن قبائل الجنوب كانت أول من استعمر وادي مكة، وأن قبيلة جرهم اليمنية هي أولى القبائل التي أقامت في مكة بعد تفجر بئر زمزم، وأن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام تزوج فتاة جرهمية ولدت له أولاده (5).

وقد ورد الاسم «مكي» علماً على بعض الرجال في بعض الكتابات الثمودية، ولكن بدون إشارة إلى سبب التسمية (6).


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه: 12.
4- أحمد إبراهيم الشريف: 98.
5- المصدر نفسه: 97.
6- جواد علي: 11.

ص: 297

ضعف الأدلة في كون مكربة اسماً لمكة:

ولا يخلو هذا الرأي الخاص بأن «مكربة» اسم لمكة من وجوه ضعف عديدة، أولها أن المصدر الأول لهذه التسمية مصدر غير عربي وهو جغرافية بطليموس، وليس من المؤكد أن «مكربة» اسم لمكة، لأن هذا الاسم لم يعرف بين العرب في الشمال أو الجنوب كَعَلَم على مكة، ولم يكن معروفاً إلا كاسم لحكام سبأ في عصر المكاربة، حيث أطلق على الواحد منهم صفة «مكرب»، والأرجح أن معناها المُقَرِّب بين الناس والآلهة، وهي وظيفة دينية اكتسبها حكام سبأ الذين جمعوا بين السلطة الدينية والدنيوية، وحكموا الناس باسم الآلهة، وفسرها موسكاتي بمعنى «الكاهن الأكبر» (1).

من ناحية أخرى، إذا كان الاسم «مكربة» مأخوذاً من الجذر «قرب»، والمكرب هو المقرّب للناس إلى الآلهة، أو مقدم القرابين؟! فلماذا أخذه من العربية الجنوبية وهو موجود في عربية الشمال، بل هو جذر مشترك بين كل اللغات السامية؟!

ولا نؤيد اشتقاق «مكربة» بمعنى «مقرب» من الجذر «قرب»، لأن هذا الجذر موجود في العربية وفي معظم اللغات السامية، كما أنه موجود في العربية الجنوبية (ق ر ب) بمعنى قَرِبَ، اقترب، اتصل، قَرَّب (قَرباناً) (2)، ولا يوجد مبرر لاشتقاق مكرب من قرب، والأولى اشتقاقه من k r b (ك ر ب) بمعنى وَحَّدَ، جَمَعَ، رَبَطَ، زَوَّجَ، ويكون معنى «مكرب» كلقب للحاكم في عصر المكاربة المُوَحِّد، الجامع أي


1- S .Moscati ,Ancient Semitic Civilizations ,New York ,1957 ,p .185
2- Leslau, p. 440

ص: 298

الموحد أو الجامع بين السلطتين الدينية والدنيوية.

ويؤيد هذا وجود نفس كلمة مقرب في الحبشة (مَقْرِبْ) بمعنى مُقَرِّب (مقدم القرابين)، ووجود كلمة قربان في العربية الجنوبية qrbn (ق ر ب ن) وفي الحبشية (قِوِرْبانْ)، وفي العربية (قُرْبَان) وفي بقية اللغات السامية (1)، واعتبرها نولدكه مأخوذة من الأصل السرياني (قوربانا) (2).

والأمر الثالث الذي يحتاج إلى تعليل: لماذا اختفى الاسم «مكربة» كعلم لمكة، و بقيت التسمية «مكة»؟ وهل مكة هنا اختصار للتسمية مكرب؟ بمعنى سقوط الجزء الأخير «رب» وبقاء الجزء الأول «مَكْ»، ويصبح معنى (مَكْ) هنا «بيت» فقط؟

والمسألة الرابعة التي يجب فهمها كيف تحوّلت «مَكْ» (بيت) إلى مكة؟ ومن أين أتت هذه التاء؟ وما هي دلالاتها؟

ويؤكد على ضعف أن تكون «مكربة» اسماً عربياً جنوبياً لمكة أن بروكلمان يقترح أصلًا آراميا شرقياً لكلمة «ماكورابا» أو «ماكارابا» بمعنى «الوادي العظيم» أو «وادي الرب» ويقترح بروكلمان أن بطليموس أخذ الاسم عن طريق الآراميين (3)، واقترح بروكلمان أيضاً أن معنى مكرب «هيكل».

ومن وجوه ضعف هذا الرأي على أن مكة أصلها «مكربة» أن قلب الميم في مكة إلى بكة حسب لغة الجنوب يحتم بالضرورة قلب الأصل «مكربة» إلى باء فيقال «بكربة»، وهذا غير وارد في العربية الجنوبية.

وللتأكيد على ضعف أدلة كون مكربة اسماًلمكة أن الإخباريين العرب والمؤرخين لتاريخ مكة لم يذكروا هذه التسمية التي وردت عن بطليموس في جغرافيته.

ونعتقد أن كلمة «مكرب» العربية الجنوبية قد تكون الصفة التي وصف بها أهل الجنوب «مكة»، وذلك لأن كلمة مكرب mkrb في اللغة الجنوبية تحمل الدلالة العامة: معبد، هيكل، حَرَم، مَقْدِس (4)، ويعتقد أنها مشتقة من الجذر krb (ك ر ب)،


1- Ibid., p. 440
2- Ibid., p. 440
3- أحمد إبراهيم الشريف: 98.
4- Leslau, p. 341

ص: 299

ويرد في الأكادية (كَرَابُو) بمعنى: صَلَّى، دعا (1). ومكرب في العربية الجنوبية هو مكان الصلاة والدعاء، أي مكان العبادة بشكل عام.

ويرد في الحبشية (مَكُورَابْ) بنفس هذه الدلالة العامة: معبد، هيكل، سناجوج (عند اليهود) (2). ويعتقد أن الكلمة الحبشية هنا أصلها من العربية الجنوبية مكرب.

ومكة عند أهل الجنوب هي مكرب بمعنى معبد، هيكل، لأنها المكان الذي يؤدي فيه العرب صلاتهم ويقدمون فيه دعاءهم إلى الآلهة، وهي بذلك ليست اسماً لمكة، ولكنها وصف لها، ولذلك يمكن أن نقول: مكة مكرب، أي مكة معبد أو هيكل، أو مكان للعبادة بشكل عام أو حرم، أو مَقْدِس إلى غير ذلك من هذه الدلالات العامة لكلمة «مكرب» العربية الجنوبية.

ونخلص من هذا إلى ترجيح كون كلمة مكرب (أو مكورابا عند بطليموس) صفة عامة لمكة وليست اسماً لها، وينطبق هذا أيضاً على الصيغة المركبة (مك+ رب) بمعنى بيت الرب أو بيت الإله، فهذه أيضاً صفة لمكة وليست اسماً، ويمكن أن نقول: مكة مكرب، بمعنى مكة بيت الرب.

الخاتمة: فائدة المعاجم العربية والسامية في تحديد دلالات أسماء مكة


1- Ibid., p. 341
2- Ibid., p. 341

ص: 300

بعد العرض السابق لدلالات «مكة» و «بكة» في المعاجم العربية والسامية (الآرامية، والحبشية، والعبرية الجنوبية، والأكادية) نخرج بالنتائج المهمة التالية في تحديد دلالات «مكة» و «بكة»:

أولًا: أن «مكة» و «بكة» تسميتان عربيتان أصيلتان مشتقتان من جذور عربية خالصة لها نظائر في بعض اللغات السامية مثل العبرية، والآرامية، والحبشية، والأكادية، والعربية الجنوبية. ووجود هذه النظائر في اللغات السامية ليس مبرراً علمياً كافياً لرد أصول هاتين التسميتين إلى إحدى اللغات السامية المذكورة، ولو صَحَّ ردها إلى إحدى هذه اللغات، فاللغة العربية أولى بهذا من غيرها؛ لكونها، باتفاق علماء اللغات السامية، أقدم اللغات السامية، وأكثرها أصالة، ولاعتبارها عند بعضهم ممثلة لما يسمى عندهم باللغة السامية الأم Ur- Semitism (1). وقد فضَّلنا في دراسات سابقة تسمية هذه المجموعة من اللغات باسمها الحقيقي، وهو مجموعة اللغات العربية، بدلًا من التسمية الاستشراقية التي فضلت- لأسباب أيديولوجية- اختيار التسمية «السامية» بدلًا من العربية (2).

ثانياً: أن الحكم بأصالة التسميتين «مكة» و «بكة» يتطلب الاعتماد في تحديد دلالاتهما على الجذور أو المواد العربية الخالصة التي وردت في المعاجم العربية مثل (مَكَّ) و (بَكَّ)، ويعتبر ورود بعض هذه الجذور في واحدة أو أكثر من اللغات السامية وبنفس الدلالات العربية تأكيداً للمعنى العربي بوجود نظائر له في اللغات السامية الأخرى.

ثالثاً: أنه بعد البحث في كل الدلالات الواردة للجذور العربية والسامية المختلفة اتضح أن المعاني الأساسية لأسماء مكة تدور حول التهشيم، والتحطيم، والقهر، والتفتيت، والازدحام، والتمزيق، والإهلاك، والإنقاص، والكسر، والإجهاد.


1- S .Moscati ,ancient Semitic Civilization ,p .25 ,31 ,35
2- انظر كتابنا: رؤية عربية في تاريخ الشرق الأدنى القديم وحضارته، دار قباء، القاهرة، 1998 م؛ وانظر أيضاً: بهجت القبيسي، ملامح في فقه اللهجات العربية من الأكادية والكنعانية حتى السبئية والعدنانية، دار شمال، دمشق، 1999 م.

ص: 301

ويلاحظ أن هذه الدلالات العامة تشترك فيها معظم الجذور المقترحة التي تم استخراجها من المعاجم العربية والسامية، وهي: مَكَّ (م ك ك)، مَقَّ (م ق ق)، مَقَه (م ق ه)، مَقَا (م ق ا)، وكذلك الجذور: بَكَّ (ب ك ك)، بَكَأ (ب ك أ)، بكبك (ب ك ب ك)، بَقَقَ (ب ق ق).

رابعاً: أن بعض أسماء مكة الأخرى- بخلاف مكة وبكة- تحمل نفس دلالات مكة وبكة، ومن هذه الأسماء: الباسَّة والبَسَّاسة، والناسَّة والنسَّاسة، والحاطمة، حيث تدور دلالات هذه التسميات حول معاني التهشيم، والتفتيت، والطرد، والتحطيم، والزجر، واليُبْس، والجهد.

ولاشك في أن وجود سبع تسميات لمكة تدور حول هذه الدلالات السابقة فيه تأكيد على صحة هذه المعاني، وبخاصة أن معظم التسميات الأخرى هي مسميات تم استنباطها من مكانة الكعبة وقدسيتها في نفوس العرب، أو اقتضتها ضرورة الأوصاف والأحوال المختلفة للموقع (1)، ومن ذلك تسميتها بأم القرى، وبالبلد الأمين وغير ذلك، وهذه التسميات التي تحمل نفس الدلالات تقريباً هي:

مكّة، بكّة، الباسَّة، البسَّاسة، النسَّاسة، الحاطمة.

خامساً: تحمل تسميات مكة الحاملة لنفس الدلالات صيغة اسم الفاعل مثل الباسَّة، والناسَّة، والبسَّاسة، والنسَّاسة والحاطمة. ولذلك نعتقد أن التسميتين «مكّة» و «بكّة» يحملان صيغة اسم الفاعل، وربما كان الأصل فيهما (الماكَّة) و (الباكّة)، وربما يفسر هذا وجود التاء في نهاية «مكة» و «بكة»، فهي ربما تكون تاء التأنيث الخاصة باسم الفاعل المذكر «الماك» و «الباك»، وربما كانت مكّة وبكّة صيغة اسم فاعل مؤنث بمعنى: الداكة، والمهشمة، والمحطمة، والمفتتة، والممزقة، إلى آخر هذه المعاني والدلالات المتشابهة.

وتؤيد بعض اللغات السامية الأخرى هذه الصيغة حيث نجد في العبرية اسم


1- الطيب علي الشريف، مكة في وجدان شعراء ما قبل الإسلام، مرجع سابق: 567.

ص: 302

الفاعل (مَكَّاه) أو (مَكَّا) بمعنى: الضاربة، المحطمة، وهي صيغة مأخوذة من الفعل المضعف، وهي قريبة صوتياً من التسمية مكَّة، وفي حالة الإضافة تصبح (مَكَّتْ) حيث تنقلب الهاء إلى تاء.

ونرجح في هذه الحالة أن تكون (مَكَّة) و (بكَّة) صيغة اسم فاعل مؤنث من الجذر (مَكَّ، بَكَّ)، وقد سقطت أداة التعريف (ال) ربما مع تحول هاتين الدلالتين من صفة مؤنثة للمكان إلى اسم علم للمكان، وحدث تغير صوتي مع مرور الزمن تمثل في تقصير حركة الميم في الماكّة، وحركة الباء في الباكَّة من فتحة طويلة إلى فتحة قصيرة.

ونقترح في النهاية تصورين للتطور الذي حدث للتسميتين:

التصور الأول: هو التطور من اسم الفاعل المؤنث المعروف إلى اسم العلم:

الماكّة- ماكّة- مكّة

الباكّة- باكّة- بكّة

التصوّر الثاني: وهناك تصور آخر باقتراح عدم وجود أداة التعريف مع الصفة أصلًا، ويصبح تطور الكلمة على النحو التالي:

ماكّة- مكّة

باكّة- بكّة

ولايُضعف هذا التصور الأخير سوى أن تسميات مكة الأخرى الواردة في صيغة اسم الفاعل المفرد المؤنث أتت معرفة بأداة التعريف (الباسة، والناسة...) واحتفظت بأداة التعريف.

ونستند في هذا الترجيح إلى التسميات الأخرى التي وردت في صورة اسم الفاعل المؤنث مثل: الناسَّة، والباسَّة، والنسَّاسة، والبساسة، والحاطمة، وربما يكون هذا التغير الصوتي الناتج عن تقصير الحركة قد حدث مع التسميتين: مكّة

ص: 303

وبكّة؛ لشهرتهما وشيوعهما في الاستخدام، وورودهما في القرآن الكريم كتسميات صريحة لمكة، وعدم حدوث هذا مع التسميات الأخرى لندرتها في الاستخدام، وعدم شيوعها، واللَّه أعلم.

سادساً: أن الاستعانة بالمعجم السّامي قد ساعد كثيراً في التأكيد على دلالات مكّة وبكّة في المعجم العربي، حيث اشتركت اللغات السامية المختلفة في نفس الجذور والمواد، وأعطت دلالات مناظرة للدلالات العربية مع وجود بعض الدلالات الأخرى المغايرة والخاصة ببعض هذه اللغات دون العربية، كما وجدت في العربية دلالات تخصّها وليست موجودة في اللغات السامية الأخرى.

سابعاً: أن الفروق التي وضعت للتفرقة بين مكة و بكة ليست صحيحة، وذلك للاشتراك الصريح في دلالات الجذرين (مَكَّ) و (بَكَّ)، فالتسميتان مترادفتان، ولاداعي إلى التمييز بينهما بالقول- مثلًا-: إن بكة موضع البيت وأن مكة ما وراءه، أو القول بأن البيت مكة وما والاه بكة (1). فهذه التفرقة لا تقوم على أسس دلالية بقدر ما هي تقسيم جغرافي للمكان.


1- انظر جواد علي 4: 11.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.