میقات الحج-المجلد الثالث والعشرون

مشخصات کتاب

نام كتاب: دو فصلنامه« ميقات الحج»

نويسنده: مركز تحقيقات حج

الحج، رموز وحِكَمْ (2)

معالم الحج في القرآن الكريم

ص: 1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

آية اللَّه عبداللَّه جوادي آملي

1- الحج- بماله من كرامةٍ خاصّة- عهد إلهي يُتشرّف به، من هنا، جاء التعبير عن وجوبه بلغة الميثاق والعهد الإلهي الخاص: [وللَّه على الناس حجّ البيت] (1)، ولا نجد مثل هذا العهد في سائر العبادات، عهدٌ جاءت فيه كلمة الجلالة منضمّةً إلى اللام (ل)، ومقدّمةً على متعلقها.

لقد قال اللَّه سبحانه في أمر الصيام: «الصوم لي وأنا أجزي به» (2)، والحج يستوعب الصيام، ذلك أنّ الحاجّ الذي لا يملك هدياً يجب عليه صيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة بعد عودته، قال تعالى: [... فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم] (3).

وهكذا كانت الصلاة مشرّعةً في الحج بالطواف؛ إذ «الطواف بالبيت صلاة» (4)، علاوةً على وجود فريضة الصلاة في الحجّ، ذلك أنّ الطائف يقف بعد


1- آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 7: 290.
3- البقرة: 196.
4- سنن النسائي 5: 222.

ص: 6

طوافه خلف أو جنب مقام إبراهيم عليه السلام لإقامة صلاة الطواف، قال سبحانه:

[واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى] (1)، وبالصلاة هناك يُنال تمام ما للصلاة من مزايا وخاصيات.

من هنا، جاء في الرواية أنّ الحج أفضل من الصلاة والصيام (2).

وهكذا، ينال الحاجّ بركات الزكاة في حجّه، ذلك أنّ في الحجّ إنفاقاً مالياً ونثاراً وإيثاراً يُعدم البخل ويبدّده، فيحفظ الحج بذلك الأرواح والنفوس عن التلوّث بكدورات البخل ويحميها منه، وكل من كان محفوظاً من البخل فهو من الصالحين المفلحين، قال سبحانه: [ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون] (3).

وحصيلة الكلام، إنّ الحج تركيبة من عبادات متنوّعة، تشمل فضائل كثيرة تحتويها تلك العبادات (4)، ليس هذا فحسب، بل مع ذلك كلّه، في الحجّ ميزته الخاصّة به، تلك التي لا يعثر عليها في غيره، وهذه الميزة عبارة عن كون الحج عهداً و ميثاقاً خاصاً بين العبد وربّه سبحانه.

من هنا، جاء في الرواية عن الصادق عليه السلام: «ودّ من في القبور لو أنّ له حجةً بالدنيا وما فيها» (5).

وقفات مع الخطاب الإلهي الخاصّ بالحج


1- 1 البقرة: 125.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 221.
3- الحشر: 9.
4- وسائل الشيعة 8: 77- 83.
5- المصدر نفسه: 82.

ص: 7

تذكر آية [وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا] (1) وجوب الحج وتنصّ عليه، في جوّ من التوكيدات الكثيرة، التي نشير هنا إلى بعضها:

أ- إن الجملة المشار إليها جملة خبرية، ودلالتها على الإنشاء أقوى من دلالة الجملة الإنشائية نفسها عليه.

ب- إنّها جملة إسمية، وهي جملة يعدّ توكيدها على معنى الثبوت أكبر من الجملة الخبرية الفعلية.

ج- إنّ الوجوب قد بيّن فيها مرفقاً بلام التكليف في كلمة «للَّه»، وهو تكليف قدّم- بسبب أهميته- على المبتدأ وهو «حِجُّ».

د- ولمزيد من التوكيد، جاءت «على» فوراً، وبدون فصل، عقيب كلمة «للَّه»، وهو ما يدلّ هنا على الوجوب ويرشد إليه.

ه- ورد ذكر المكلّفين (2) في الآية مرتين: ابتداءً بصورة الإجمال والعموم، واستمراراً بصورة التفصيل والخصوص.

ووجه التأكيد في هذا السياق بيان الموضوع مع البدل، ثم ذكر البدل بمثابة التكرار، فبدل أن يقال: للَّه على المستطيع، قال: [للَّه على الناس... من استطاع...]، فقد جاء بدل بعض عن الكل في الآية موضع كلمة «الناس».


1- آل عمران: 97.
2- إن سعة مفهوم الحج وشموله بلغ حداً غدا فيه إطافة المولود الصغير مشروعاً ومستحباً، على خلاف سائرالعبادات، التي يرى بعض الفقهاء أنّ القيام بها في سن الصغر إنما هو للتمرين.

ص: 8

و- ولم تذكر الآية في تاركي الحج: «ومن ترك الحج»، بل عبّرت عنهم بكلمة [ومن كفر...]، وهو تعبير يقوم- كما تفيده الروايات- مقام ترك الحج (1).

ومن الواضح أنّه ليس المقصود بالكفر هنا الكفر الاعتقادي، بل الكفر العملي، وفي هذا المجال يقول الإمام الصادق عليه السلام: «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يُطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً» (2).

ز- إنّ جملة: [فإن اللَّه غنيّ عن العالمين] في ذيل الآية جاءت لإبراز عدم الاعتناء بتارك الحج، أي أنّ اللَّه سبحانه ليس مستغنياً عن تارك الحج فحسب، بل هو في غنى أيضاً عن العالمين بأجمعهم.

2- لقد عدّ اللَّه سبحانه زمان الحج والعمرة ومكانيهما، وكذلك الحجّاج والمعتمرين، بل حتى الذين يقصدون الحج والعمرة من أقصى نقاط العالم دون أن يكونوا قد وصلوا بعدُ إلى الميقات، وكذلك أضاحي الحج، بل حتى ذاك الحذاء المتدلي- معلقاً- من رقبة الحيوان المصحوب، دلالةً على صيرورته أضحيةً في الحج... عدّ سبحانه ذلك كلّه من الشعائر الإلهية، فقد قال: [يا أيها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللَّه ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام] (3)، كما تحدّث عن الصفا والمروة فقال: [إنّ الصفا والمروة من


1- بحارالأنوار 69: 93، 110.
2- وسائل الشيعة 8: 19، تدلّ فاء التفريع في «فليمت يهودياً أو نصرانياً» على الوجوب الفوري للحج، ذلك أنّ أحداً لا يعرف زمان موته، وهو في كل لحظةٍ عرضة لهذا الخطر المحتمل الهائل، لذا لا يمكن للمستطيع أن يكون نائباً عن غيره، ذلك أنه ليس لأحد حق تأخير الحج عن سنة الاستطاعة. أمّا تأخير المسلمين حجهم عن عام فتح مكّة، وهو عام 8 ه، لمدة عامين، ليحجّوا في السنة العاشرة، فقد كان ذلك بسبب عقدٍ عقدوه مع المشركين قبل فتح مكّة أن لا يردوا مكّة، أي أنّ الحج لم يكن واجباً على المسلمين بسبب انعدام الاستطاعة السربية تخلية الطريق من هنا، أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في العام التاسع للهجرة، بعد فتح مكة، علي بن أبي طالب عليه السلام مع جمع من المسلمين.
3- المائدة: 2.

ص: 9

شعائر اللَّه] (1).

ولكي يحثّ الآخرين ويرغبهم في تعظيم الشعائر وحفظ الحدود الإلهية، تحدّث عن آثار تعظيم الشعائر فقال: [ومن يعظّم حرمات اللَّه فهو خير له عند ربّه] (2)، وقال: [ومن يعظم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب] (3).

يعدّ الحج من أهم مظاهر الإسلام، نظراً لاشتماله على الكثير من السنن والأسرار

3- وتعدّ الآية المباركة: [ويسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج] (4)، أنموذجاً آخر من الدوالّ على أهمية الحج، فرغم أنّ كلمة «الناس» تشمل تمام الأمور التي يواجهها الناس ويتعاملون معها، إلا أن ذكر الحج مستقلًا بعد ذلك، إنّما جاء من باب ذكر الخاص بعد العام لبيان أهمية الخاص، ليقول: إنّ تغيّر أوضاع القمر وأشكاله جاء لكي يسهل على الإنسان تحديد أشهر الحج، حتّى يتسنّى للناس المبادرة إلى إقامة الحج في هذه الأشهر.

4- ومع كثرة الآيات القرآنية الحاكية عن دلالة كل شي ء على اللَّه سبحانه وحكايته عنه، إلا أنّ موضوع الحج جاء التعبير عنه ب [آيات بينات] (آل عمران: 97) (5)، نظراً لما في الحج من خصوصيات متنوّعة، زمانياً ومكانياً،


1- البقرة: 158.
2- الحج: 30.
3- الحج: 32.
4- البقرة: 189.
5- لمكّة والحرم آداب وسنن، تنشأ جميعها من حرمة المسجد الحرام، وهكذا كانت للمسجد الحرام أيضاً آداب وأحكام وسنن، منشؤها احترام الكعبة، ولدى البحث عن مرجع الضمير في «فيه» و «دخله» في الآيات الشريفة: [فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً] و [ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم] الحج: 25، يلاحظ أنّه يعود تارةً- بتناسب الحكم والموضوع- إلى أرض مكة أو إلى دائرة الحرم، فيما يرجع أحياناً إلى المسجد الحرام، وأخرى إلى الكعبة، وهي القبلة والمطاف، وعليه فلم يكن مرجع الضمير واحداً، ذلك أنّه- وكما جاء في أبحاث عديدة متنوّعة- ليس من التهافت عود الضمير المذكور إلى أكثر من مرجع، نعم الكعبة بما لها من خصوصية بوصفها القبلة والمطاف تبقى مكانتها محفوظة.

ص: 10

ففي الحج آيات إلهية، كالكعبة والحجر الأسود، ومقام إبراهيم، وزمزم وغير ذلك من أمثاله مما هو واضح مشهود. فأرض قاحلة لا تقبل الزراعة، تغدو بدعاء النبي إبراهيم عليه السلام: [فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم] (1)

كعبةً للمشتاقين، هي في حدّ ذاتها من الآيات الإلهية، كسائر بركات الحج وأسراره، مما لا يشاهد الكثير منها سوى أولياء الحق.

5- إضافةً إلى الآيات المذكورة آنفاً، ثمة آيات أخرى طبّقت في الروايات على الحج أيضاً، ومن بين هذه الروايات، ثلاث روايات ننقلها هنا هي:

أ- معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل له مال ولم يحج قط؟

قال: هو ممّن قال اللَّه تعالى: [ونحشره يوم القيامة أعمى] (2)، قال: قلت: سبحان اللَّه! أعمى؟ قال: أعماه اللَّه عن طريق الحقّ» (3).

ب- عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عز وجل: [ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلًا] (4)، قال: ذلك الذي يسوّف نفسه الحج- يعني حجة الإسلام- حتى يأتيه الموت» (5).

والمستفاد من هذين الحديثين أن باطن تارك الحج أعمى في الدنيا، وأنّ هذا الباطن، سيغدو ظاهراً في الآخرة، ولهذا فسوف يحشر هذا الإنسان فاقد البصر يوم القيامة.

ج- طبّقت في بعض الأحاديث الآية المباركة: [ففرّوا إلى اللَّه] (6)

على الحج، منها ما قاله الإمام الباقر عليه السلام في تفسير المراد منها: «حجّوا إلى اللَّه» (7).


1- إبراهيم: 37.
2- طه: 124.
3- وسائل الشيعة 8: 17.
4- الإسراء: 72.
5- وسائل الشيعة 8: 17.
6- الذاريات: 50.
7- وسائل الشيعة 8: 5.

ص: 11

معالم الحج في الروايات

يعدّ الحج من أهم مظاهر الإسلام، نظراً لاشتماله على الكثير من السنن والأسرار، ولهذا وردت في أهميته، ومكانته، وأبعاده المختلفة، وأسرار تشريعه..

الكثيرُ من الروايات عن المعصومين عليهم السلام، ونحاول هنا الاكتفاء ببعض ما جاء عنهم عليهم السلام في ذلك.

1- عن معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقيه أعرابي فقال له: يا رسول اللَّه! إني خرجت أريد الحج ففاتني، وأنا رجل مميل، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج.

فالتفت إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أنظر إلى أبي قبيس، فلو أنّ أباقبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللَّه ما بلغت ما يبلغ الحاج.

ثم قال: إن الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلا كتب اللَّه له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفاً ولم يضعه إلا كتب اللَّه له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه.

قال: فعدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج، قال أبوعبداللَّه عليه السلام ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات، إلا أن يأتي بكبيرة» (1).

ولعل مراد النبي صلى الله عليه و آله من التأكيد على خروج الحاجّ من ذنوبه عقب أداء كلٍّ من المناسك الإشارة إلى أنّ كل واحدٍ من هذه الأعمال له دور في غفران نوع خاص


1- وسائل الشيعة 8: 79.

ص: 12

من الذنوب، ولهذا كان واجباً لتحصيل هذه المغفرة الإلهية، أو أنّ المراد أنّ الذنوب حيث تراكمت و خزّنت حتى غدت حجاباً يغطّى قلب المذنب الخاطى ء كان كل منسكٍ من هذه المناسك موجباً لإنقاصها، ورفع هذا الغطاء تدريجياً عن صفحة القلب.

2- جاء في وصايا النبي صلى الله عليه و آله لأميرالمؤمنين عليه السلام: «يا علي! تارك الحج وهو مستطيع كافر، يقول اللَّه تبارك وتعالى: [وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإن اللَّه غني عن العالمين] (1)» (2).

3- وعن أميرالمؤمنين عليه السلام: «... وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلةً للأنام، يَردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه وُلُوهَ الحمام، وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرِزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حَرَماً، فَرَض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليهم وِفادته» (3).

4- ويقول علي عليه السلام أيضاً حول فضيلة الحج والعمرة: «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللَّه سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله... وحج البيتِ واعتماره، فإنّهما ينفيان الفقر، ويَرحَضان الذنب...» (4).

5- ويحتل الحديث عن الكعبة وأرض مكة وبيان سرّ كون بيت اللَّه هناك قسماً أساسياً من الخطبة القاصعة لأميرالمؤمنين عليه السلام، ففي هذه الخطبة يشير الإمام عليه السلام إلى تاريخ الحج، وإلى دوره في خلق روح التواضع وتحطيم التكبر والاستكبار، إنّه يقول في مطلع هذا القسم من خطبته: «ألا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدُن آدم صلوات اللَّه عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ


1- آل عمران: 97.
2- وسائل الشيعة 8: 20.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 1.
4- المصدر نفسه، الخطبة: 110.

ص: 13

لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً...».

وفي ختام هذا القسم من الخطبة جاء: «... ولكنّ اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلًا لعفوه» (1).

6- ويقول علي عليه السلام أيضاً: «اللَّه اللَّه في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم، فإنه إن ترك لم تناظروا» (2).

7- ويقول الإمام الباقر عليه السلام: «بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية- وبعد ذكر فضائل الخمسة قال-: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لحجة مقبولة خير من عشرين صلاة نافلة» (3)، رغم أن الصلاة عمود الدين و معراج المؤمن.

8- ويتحدّث الإمام الباقر عليه السلام أيضاً عن جامعية الحج وقدمه فيقول: «أتى آدم هذا البيت ألف آتية على قدميه، منها سبعماءة حجّة، وثلاثماءة عمرة» (4)«4».

9- وفي رواية منقولةٍ عن الإمام الصادق، جاء عن زرارة: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلني اللَّه فداك، أسألك في الحج منذ أربعين عاماً فتفتيني، قال: يا زرارة! بيت حجّ إليه قبل آدم بألفي عام تريد أن تفتى مسائله في أربعين عاماً» (5).


1- المصدر نفسه، الخطبة: 192 القاصعة.
2- المصدر نفسه، الرسالة: 47.
3- الكافي 2: 18- 19.
4- وسائل الشيعة 8: 94، وقد ذكر أن عمر آدم عليه السلام كان من 930 إلى 1030 عاماً، فراجع 11: 268- 269.
5- وسائل الشيعة 8: 7، وثمّة بحوث يمكن طرحها تخصّ جملة «ألفي عام قبل آدم»، كما توجد بحوث تتعلّق بالأجيال البشرية القديمة، ولكنها خارجة عن طاقة هذه الدراسة، وإنما نشير هنا إلى جملة «أربعين سنة سؤالًا وجواباً» الواردة في هذه الرواية، فقد ولد الإمام الصادق عليه السلام عام 83 ه، وتولى منصب الإمامة عام 114 ه، وقد توفي عام 148 ه، وبهذا تكون مدّة حياته المباركة 65 عاماً، فيما تكون مدّة إمامته 34 عاماً، وبناءً عليه، فمقصود زرارة من كلمة «أربعين سنة» ما هو أعمّ من فترة الإمامة وما سبقها، ذلك أن الإمام عليه السلام كان عالماً بالأحكام الدينية حتى قبل إمامته، عندما كان تحت زعامة الإمام الباقر عليه السلام، أو أنّ المراد فترة إمامته البالغة 34 سنة، وجاء التعبير بأربعين سنة على سبيل المتعارف، حيث لا يحسب العرف كسور العقود الزمنية، مكتفين بذكر الرقم التقريبي.

ص: 14

10- وعن الإمام الصادق عليه السلام حول علّة وجوب الحج: «فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا... ولتعرف آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى» (1).

11- ويجيب الإمام الصادق عليه السلام أيضاً عن سؤال وجّه إليه عمّن أنجز حجّه الواجب عليه، فهل التصدّق في السنوات اللاحقة بدل الحج أفضل له أم لا؟

فيقول: «كذبوا، لو فعل هذا الناس لعطّل هذا البيت، إن اللَّه عز وجل جعل هذا البيت قياماً للناس» (2).

12- وحول الكعبة، يقول الإمام الصادق عليه السلام في إحدى الروايات: «جعلها اللَّه لدينهم ومعائشهم» (3)، تماماً كما جاء في روايةٍ أخرى: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» (4).

والأصل هنا قيام الدين وقوامه، فالحج الذي لا يؤدى للدين ولا يُقام له لا ثمرة من ورائه.

من هنا، قال النبي صلى الله عليه و آله: «يأتي على الناس زمان يكون فيه حج المملوك نزهة، وحج الأغنياء تجارة، وحج المساكين مسألةً» (5).

13- وعن آثار الحج وبركاته، يقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إنما


1- المصدر نفسه: 9.
2- المصدر نفسه: 14.
3- المصدر نفسه: 41.
4- المصدر نفسه: 14.
5- المصدر نفسه 11: 60.

ص: 15

أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلى اللَّه عز وجل، وطلب الزيادة، والخروج من كل ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل...».

إلى أن قال: «وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة عليهم السلام إلى كل صقع وناحية» (1).

14- وما ورد في الحج بوضوح من الحق وسعة الرحمة لم يرد في أيّ من العبادات الأخرى، فاللَّه تعالى يتحدث عن وضوح الحق في الحج بالقول: [فيه آيات بينات] (2)، ذلك أنّ أسرار الحج، وهي آيات اللَّه تعالى، ستكون واضحةً بينةً هناك.

أمّا فيما يخصّ سعة رحمة الحج:

أ- فيتحدّث الإمام الباقر عليه السلام عمن خرج قاصداً الحج الواجب ثم مات وهو في الطريق: «إن مات في الحرم فقد أجزأت عنه حجة الإسلام...» (3).

وهذا مظهر من مظاهر سعة الرحمة، وأدب الضيافة الإلهية.

ب- ويقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجة الوداع، عند الوقوف بعرفات قريب الغروب: «إنّ ربكم تطوّل عليكم في هذا اليوم، وغفر لمحسنكم، وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم» (4).

ج- ولعلّه لما في الحج من خصوصيات كهذه قال الإمام الصادق عليه السلام لعيسى ابن أبي منصور: «يا عيسى! إني أحب أن يراك اللَّه فيما بين الحج إلى الحج وأنت تتهيّأ للحج» (5).

د- وفي رواية أخرى عنه عليه السلام: «ليحذر أحدُكم أن يعوّق أخاه عن الحج،


1- المصدر نفسه 8: 7- 8.
2- آل عمران: 97.
3- وسائل الشيعة 8: 47.
4- المصدر نفسه 8: 65.
5- المصدر نفسه: 106

ص: 16

فتصيبه فتنة في دنياه مع ما يُدّخر له في الآخرة» (1).

ذلك أنّه لا يمكن لأحد أن يمنع عن غيره خيراً كالحج، بل إن على المسلمين الذين أقدموا بأنفسهم على تأدية فريضة الحج أن يشجّعوا الآخرين عليها ويحثوهم على أدائها.

عظمة الحج في أدعية شهر رمضان

ويكفي لإبراز أهمية الحج، مع أحكامه وحِكَمِه الخاصة، مطالعة ما جاء- بصورة مكرّرة- في طلب الحج في أدعية شهر رمضان المبارك (2)، بحيث لانجازف إذا قلنا: إنّ صيام هذا الشهر، وأدعيته الليلية، ومناجاته السحرية، وأوراده اليومية تهي ء الإنسان للحج، ودرك ما قيل فيه من حكم ومفاهيم و...، من قبيل: «الساجد بمكة كالمتشحّط بدمه في سبيل اللَّه» (3).

و «تسبيحة بمكة أفضل من خراج العراقين ينفق في سبيل اللَّه» (4).

و «من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويرى منزلته في الجنة» (5).

و «النظر إلى الكعبة حباً لها يهدم الخطايا هدماً» (6).

إن طلب التوفيق لإدراك الحج في أدعية شهر رمضان المبارك ملفت للنظر، إلى حدّ ربما يمكن القول بأنّ اللَّه سبحانه كان يريد توفير الأرضية المناسبة ليهيّ ء


1- المصدر نفسه: 98.
2- مفاتيح الجنان، الأعمال المشتركة، أعمال ليالي وأيام شهر رمضان المبارك، دعاء أبي حمزة الثمالي، أدعيةليالي القدر و... وقد جاء في قسم من الدعاء الأول في الأعمال المشتركة: «اللهم ارزقني حج بيتك الحرام، في عامي هذا وفي كل عام... اللهم إني أسألك فيما تقضي وتقدّر... أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام، المبرور حجهم...».
3- وسائل الشيعة 9: 382- 383.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه: 340.
6- المصدر نفسه: 365.

ص: 17

بذلك ضيافته عبر أشهر متعدّدة، لا سيما العشر الأوائل من ذي الحجة.

وبناءً عليه، يكون شهر رمضان المبارك بداية الضيافة الإلهية، فيما يكون ذوالحجة منتهاها، وذلك في موسم أداء مناسك الحج.

إن الحج ضيافة اللَّه، والحجاج- كالصائمين- ضيوف الرحمن، تماماً كما قال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ ضيف اللَّه عز و جل رجلٌ حجّ واعتمر، فهو ضيف اللَّه حتى يرجع إلى منزله» (1).

ويقول الإمام علي عليه السلام في ذيل جوابه عن سؤال: لماذا حرم الصوم في أيّام التشريق؟ (2): «لأنّ القوم زوّار اللَّه فهم في ضيافته، ولا يجمل بمضيفٍ أن يصوم أضيافه» (3).

إنّ هذه الضيافة ذات الأشهر المتعدّدة تقع على مرحلتين:

الأولى: يقول فيها المضيف لضيفه: أطلب ما تريد.

الثانية: إعطاء المضيف ضيفه ما كان طلبه منه.

فالضيافة الخاصّة بشهر رمضان المبارك توفر أرضيةً مناسبة لضيافة الحج، ففي شهر رمضان، يقول المضيف- وهو اللَّه سبحانه- لعباده الصائمين: «اطلبوا منّي الحج»، أما في الضيافة الثانية، أي في مراسم الحج ومناسكه، فإنّ الحديث يكون عن العطاء لا الطلب.

تذكّر:

حيث كانت الولاية من أركان الإسلام والحج، جاء في أدعية شهر رمضان المبارك، إلى جانب طلب الحج وزيارة بيت اللَّه الحرام، طلبٌ آخر وهو التشرّف


1- المصدر نفسه 10: 458.
2- أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، ويحرم على الحاضرين في منى في هذه الأيام الصيام.
3- وسائل الشيعة 8: 159- 160.

ص: 18

بزيارة العتبات المقدّسة وزيارة الحرم المطهّر لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام: «اللهم... ارزقني... زيارة قبر نبيك والأئمة عليهم السلام، ولا تخلني يا ربّ من تلك المشاهد الشريفة» (1).

الشرف الزماني للحج

«ما من أيّام أزكى عند اللَّه تعالى، ولا أعظم أجراً من خيرٍ في عشر الأضحى» (2).

و «ما من أيام، العمل الصالح فيها أحب إلى اللَّه عز وجل من أيام العشر، يعني عشر ذي الحجّة...، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشي ء من ذلك» (3).

يعتبر العارف الجليل الميرزا جواد آقا ملكي قدس سره الحديثَ الثاني من هذين الحديثين النبويين أكثر أهميةً، وهو الحديث الناظر إلى عظمة العشر الأوائل من ذي الحجة وشرفها (4).

وسرّ هذه الأهمية في الرواية الثانية حديثها عن المحبة، لا عن العظمة، ومجي ء كلمة «أحبّ» فيها، وهي أكثر دلالةً واختزاناً للمعاني من «أزكى» و «أعظم».

والظاهر أنّ أفضلية الحج وأيّامه الخاصة لم تنشأ فقط من البعد العبادي الذي فيه، وإنّما ذلك من جوانب عدّة أخرى لها الدور في هذه الأفضلية، فأهم حادثةٍ وقعت في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وهو أحد أشهر الحج، دحو الأرض، طبقاً لبعض الروايات، يعني دحو الأرض ظهور أرض الكعبة وحرم اللَّه واتساعهما (5).


1- مفاتيح الجنان، دعاء أبي حمزة الثمالي.
2- وسائل الشيعة 10: 221.
3- المصدر نفسه.
4- التبريزي، المراقبات: 326، الفصل: 12.
5- وسائل الشيعة 7: 331- 332، و 9: 347- 348.

ص: 19

وفي العشر الأوائل من ذي الحجة كان نزول سورة البراءة وإبلاغها بيد أمير التبرّي علي بن أبي طالب أهم حادثة تاريخية حصلت، فقد كان الآخرون على أمل في أن يكلّفوا إبلاغ البراءة وقراءتها، إلا أن الوحي الذي جاء بسورة البراءة وبلاغاتها، أعطى بنفسه أمراً لكي يبلّغ تبرّيها على يد شخص يكون بنفسه مظهراً للتولّي والتبرّي.

«لا يؤدّيها إلا أنت أو رجلٌ منك».

من هنا، كان أميرالمؤمنين علي عليه السلام- وهو الرسول نفسه (1)- المكلّف بتبليغها (2).

إنّ هذه الأحداث ونظائرها تدلّل بوضوح على أنّ زمان الحج له من هذه الجهات المذكورة فضيلة أيضاً، فكل زمان يمنحه مظروفه الشرف، وكل مكان يمنحه المكين فيه الفخر، وإلا فلا فرق بين الأزمنة في الجوهر، من حيث أجزائه، كما لا فرق في المكان وجوهره بين الأبعاد الهندسية، أي: الطول، والعرض، والعمق أو الارتفاع.

نعم، إذا ما كان لشي ء في مخزن الغيب تعيّن، فمن الممكن أن يحتوي على خصوصية، تظهر بعد التنزّل، أمّا لو لم يكن لهذا الشي ء في رتبة الغيب أيّ تعيّن، إنّما حاز تعيّنه في المرتبة اللاحقة، فإن خصوصيته إنما تظهر في مرتبة التعيّن تلك.

تنظيم العقود باسم الحج

ولكي تبقى السنة الإبراهيمية في الحج حيّةً في ذاتها واسمها، كان الأنبياء الإبراهيميون عليهم السلام ينظمون عقودهم واتفاقاتهم من أبسطها إلى أهمّها في موسم


1- في سورة آل عمران، الآية 61، جاء: [فقل تعالوا ندع... وأنفسنا وأنفسكم].
2- بحارالأنوار 35: 303.

ص: 20

الحج أو باسمه، تماماً كان الحال في الاتفاق الذي وقع بين موسى وشعيب عليهما السلام إجارةً واستئجاراً، فقد استخدم تعبير «ثماني حجج» بدلًا من ثماني سنوات: [على أن تأجرني ثماني حجج] (1).

إنّ تسمية هذاالشهر واشتهاره حتّى في العهد الجاهلي بذي الحجة إنّما كان لأداء «حج البيت» فيه، وهذه التسمية والشهرة تدلّ على شهرة مراسم الحج كما تدلّ على أهمّيتها.

أبرز اتفاقات أيّام الحج ومواثيقها

إن نيل الكمال المعنوي والوصول إلى المقامات السامية يحتاج في الحدّ الأدنى إلى أربعين ليلة ونهاراً متواصلة من الجهاد والسعي المخلص، «ما أخلص عبد للَّه عز وجل أربعين صباحاً إلّاجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (2).

والظاهر أنّ أفضلية الحج وأيّامه الخاصة لم تنشأ فقط من البعد العبادي الذي فيه، وإنّما ذلك من جوانب عدّة أخرى لها الدور في هذه الأفضلية

إن شهر ذي القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، وهي من أبرز مصاديق [وليالٍ عشر] (3)، أبرز فرصة لاتخاذ الأربعين المشار إليها. فعندما تشرّف موسى الكليم عليه السلام بمقام النبوّة الرفيع، عقد اللَّه تعالى معه أهم اتفاق في أشهر الحج:

[وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة (4)] (5).

وقد بدأت هذه الأربعين من بداية شهر ذي القعدة حتى العاشر من ذي الحجة، حيث تبلغ مراسم الحج وزيارة بيت اللَّه الحرام مبلغها، وقد كان موسى الكليم عليه السلام صائماً على الدوام خلال هذه الأربعين، ليلًا ونهاراً (6).

وفي هذه الأربعين، ارتوى موسى عليه السلام تماماً من شوق لقاء الحقّ تعالى، وكانت حصيلتها، إضافةً إلى شهود الحق سبحانه (7)، تلقّي التوراة (8).

والمقصود هنا أنّ هذه المواهب والعطاءات كانت نصيب موسى عليه السلام في أيام إقامة مناسك الحج.

إن هذا العهد والاتفاق، واحد من أبرز الاتفاقات والمواثيق التي وقعت بين الخلق (موسى) والخالق، فيما كان عقد الإجارة بين المخلوقين (موسى وشعيب عليهما السلام) من أبسط العقود والاتفاقات الواقعة.


1- القصص: 27.
2- بحارالأنوار 67: 242.
3- الفجر: 2.
4- الأعراف: 142.
5- راجع: الكافي 4: 78؛ وتفسيرالعياشي 2: 25.
6- الدرّ المنثور 3: 535- 536.
7- الأعراف: 143.
8- الأعراف: 145.

ص: 21

ص: 22

ص: 23

من آيات الحج (2)

اشارة

محمد سليمان

[أَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ...] (1).

هذه الآية المباركة من آيات فريضة الحج تتوفّر على عدة مقاطع تحدثنا عن المقطع الأول منها في العدد السابق من هذه المجلة، وها نحن نتحدث عن المقطعين:

الثاني: [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ].

والثالث: [فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ].

وقبل ذلك نقول:

لطالما اهتم الإسلام- أحكاماً ومفاهيم وآداباً- بالأخلاق وتنميتها في الساحة المسلمة أفراداً وجماعات وأمة، وما هذه المنظومة من العبادات إلّاتأكيد لهذا الإهتمام. وراح يؤكد أيضاً أن جوهر هذه العبادات هو بناء الإنسان المسلم ثم الأسرة المسلمة فالجماعة المسلمة فالأمة المسلمة، بناءً أخلاقياً عالياً تستطيع من خلاله أن تقف على قدميها كأنموذج ومثال ورمز يحتذى به في كل مفاصل حياتنا،


1- البقرة: 197.

ص: 24

سواء أكانت مفاصل اجتماعية أم ثقافية أم سياسية... وحينما تكون هذه الأمة بهذا الشكل من البناء والتماسك والوعي عندئذٍ يستطيع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يباهي بأمته الأمم الأخرى ويفتخر بها كما ورد عنه صلى الله عليه و آله.

وما فريضة الحج بأهدافها السامية وغاياتها النبيلة إلّامفردةً كبيرةً من مفردات تلك المنظومة العبادية التي أرستها السماء، وهي تهدف إلى بناء الفرد وإصلاح المجتمع، لأن اللَّه تعالى غني عن العالمين كما صرح في كتابه الكريم: [وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ] (1) [إنْ تكفُروا فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُم] (2)، لا تنفعه عبادة العابدين ولا يضره كفر الكافرين ولا عصيان العاصين، وإنما حكمته العالية اقتضت استخلاف الإنسان أو النوع الإنساني في الأرض، لكي يقوم بتعميرها والاستقرار فيها بأمان وسلامة وعلى أوثق عيشة وأوسع تعاون وانسجام، وأكمل نظام.

وهذا الإنسان واستخلافه الذي هو مسؤولية عظيمة وخطيرة، يحتاج إلى تلك المنظومة العبادية لترافقه في كل مفاصل حياته، بناءً وتقويماً وشحذاً لهممه، حتى ينطلق للكدح والعمل والمثابرة؛ لأنّ الحياة واستمرارها وديمومتها إلى الأجل الذي تريده السماء يحتاج إلى هذا الكائن الحي المختار العارف بوظيفته والواعي لمسؤوليته الكبيرة والخطيرة المتمثلة بالأمانة التي أوكلها اللَّه تعالى إليه.

وهذه الفريضة المباركة التي نحن بصددها تتوفر على أهداف عديدة، أولاها هو البناء الأخلاقي للإنسان الحاج عبر دورة تربوية أخلاقية سامية تتكامل مع مفردات تلك المنظومة العبادية الأوسع، وتفتح أبوابها ليلج الإنسان المؤمن مناسك عبادية مخصوصة في أشهر معلومة وأيام معدودة و أرض هي الأخرى محدودة، شاءت السماء أن تختارها وتتخذها لتلك الدورة المدرسية المباركة، ذات


1- البقرة: 97.
2- الزمر: 7.

ص: 25

عبادات وآداب ومناهج، أوجبتها لتكون محل التزام شديد لأناس يلجونها وفق شروط محددة توفرت فيهم، ويأخذون على عاتقهم أداءها والتقيد بها بإخلاص وصدق، ليتقبل اللَّه تعالى بذلك حجهم وينالوا رضاه وأجره العظيم وثوابه الجزيل، و لتترك هذه المناسك حينئذٍ عليهم آثارها ويجنوا ثمارها، بل ويبثوا ما كسبوه منها من خير وعطاء ومنافع في اسرهم وأهليهم وجماعاتهم، ويكونوا بذلك قدوة لهم جميعاً ولمن لم يوفق لأداء هذه الفريضة ويشحذوا فيهم الهمم لأدائها وزرع الشوق في نفوسهم إليها.

وهذه الفريضة المباركة التي نحن بصددها تتوفر على أهداف عديدة، أولاها هو البناء الأخلاقي للإنسان الحاج عبر دورة تربوية أخلاقية سامية تتكامل مع مفردات تلك المنظومة العبادية الأوسع

هذا البناء الأخلاقي المتين يحتاج إلى أسس فاعلة في النفس الإنسانية تتمثل بما تحمله الآية الكريمة من أمور، راحت تطلب من الإنسان الذي يريد أداء الحج المبارك الابتعاد عنها؛ لأنه عضو في دورة تربوية وإن كان بعضها مطلوباً من الإنسان المسلم عدم ارتكابه حتى خارج هذه الدورة.

والذي يبدو أن هذه المفردات الثلاث إنما ذكرت لأنها أسّ المعاصي والآثام، وهو ما سنجده في الآراء والأقوال العديدة في تفسير هذا المقطع بمفرداته الثلاث.

حتى أن صاحب التفسير الكبير ذكر في تفسيره الحكمة في أن اللَّه تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص، وهو قوله: [فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ] هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربع:

قوة شهوانية بهيمية.

وقوة غضبية سبعية.

وقوة وهمية شيطانية.

ص: 26

وقوة عقلية ملكية.

ثم بعد هذا التقسيم، يذهب إلى أن المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث: الشهوانية، والغضبية، والوهمية.

ثم أخذ بتفصيل الأمر حيث يقول:

فقوله: [فلا رفث]، إشارة إلى قهر القوة الشهوانية.

وقوله [ولا فسوق]، إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب.

وقوله: [ولا جدال] إشارة إلى قهر القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات اللَّه وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم، والمخاصمة معهم في كل شي ء.

وبما أن سبب الشر محصور في هذه الأمور الثلاثة- كما يرى الرازي- فإنه يرتب النتائج قائلًا: فلا جرم قال تعالى: [فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ]، أي فمن قصد معرفة اللَّه ومحبته، والاطلاع على نور جلاله، والانخراط في سلك الخواص من عباده، فلا يكون فيه هذه الأمور.

ثم يختم قوله بما خلص إليه وهو: إن هذه أسرار نفيسة هي المقصد الأقصى من هذه الآيات، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلًا عنها... (1).

وفي هذا المقطع من الآية جانب بلاغي يحمل ضرباً من النهي عجيب، وذلك أن المنهي عنه يتوقف مقياسه- كما يقول صاحب إعراب القرآن الكريم- على حسب موقفه، بحيث يعتبر غير مستحق للنهي فيما لو وقع في غير ذلك الموقع، وتخصيص الحج بالنهي عن الرفث والفسوق والجدال فيه يشعر بأن هذه الأعمال في غير الحج، وان كانت منهياً عنها وقبيحةً، إلّاأن ذلك القبح الثابت لها في غير الحج كلا قبح بالنسبة لوقوعها في الحج، فاجتنابها متحتم على كل حال، ولكن اجتنابها


1- راجع الفخر الرازي، التفسير الكبير، الآية.

ص: 27

في الحج أمر فوق الاجتناب... (1).

وكل هذا سنراه فيما يلي من حديثنا عن هذين المقطعين من الآية الكريمة:

[فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَ].

الإعراب:

فمن: الفاء وهي العاطفة الفصيحة، وقد اختلف الكلام بينهم في سبب تسميتها بالفصيحة:

بعض قال: لأنها تأتي بمثابة إجابة بالتفصيل لمن استوضح عن المجمل.

وبعض آخر قال: لأن المعطوف عليه يحذف فيها مع كونه سبباً للمعطوف من غير تقدير حرف الشرط.

وثالث قال: لأنها تفصح عن المحذوف وتفيد بيان سببيته.

ورابع قال: لأنها دخلت على جملة مسببة عن جملة غير مذكورة نحو قوله تعالى: [فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عيناً...] (2)، أي ضرب فانفجرت.

ونحو قوله تعالى: [لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ اْلأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ] والتقدير فجاءهم رسول اللَّه محمد فكفروا به.

ومثله قول أبي تمام:

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراساناً

هذا بالنسبة للفاء.

أما فيما يتعلق بمن، فقد قالوا: يجوز فيها وجهان:


1- انظر إعراب القرآن الكريم: الآية وما فيها من صور بلاغية؛ انظر فيه أن من غريب الفاء والسين كما في الفسوق- فسق أن اجتماعهما فاء وعيناً للكلمة يدل على استكراه في معنى الكلمة..
2- البقرة: 60.

ص: 28

يجوز فيها أن تكون شرطية بمعنى الذي.

ويجوز فيها أن تكون موصولة.

وهي مبتدأ، والخبر فلا رفث وما بعده، والعائد محذوف تقديره: فلا رفث منه.

فرض: فعل الشرط. والفاعل هو.

فيهنّ: وهو جار ومجرور متعلق بفرض، وأما الضمير في فيهن فهو يعود على كلمة أشهر. وإنما جاء كضمير الإناث؛ لأن جمع غير العاقل في القلة، وهو هنا أشهر يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح، فلذلك جاء فيهن دون فيها، وهذا بخلاف قوله تعالى: [مِنْها أربَعَةٌ حُرُم] (1)، لأنه في هذه الآية جمع كثرة لا جمع قلة.

الحج: مفعول به.

الفاء في فلا: رابطة لجواب الشرط.

لا: نافية للجنس، ورفث اسمها، ولا فسوق عطف على قوله: فلا رفث؛ ولا جدال عطف أيضاً.

وهذه الصيغة المذكورة هي صيغة نفي اريد بها النهي كقوله تعالى: [لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها] (2). وهناك من يقول اريد بها الإخبار.

والجار والمجرور في [في الحج] متعلقان بمحذوف خبر لا النافية للجنس.

وجواب الشرط هو الجملة الإسمية وهي في محل جزم إن قلنا بأن (من) شرطية جازمة في محل رفع مبتدأ، وفعل الشرط وجوابه خبر (من).

وإن قلنا: إن (من) موصولة فإن فلا رفث وما في حيزها تكون في محل رفع.

وعلى كلا التقديرين لا بد من رابط يرجع إلى من.

وهناك تفصيل يأتي في فقرة القراءة التالية.


1- التوبة: 36.
2- البقرة: 222.

ص: 29

القراءة:

هناك قراءات عديدة للمفردات الثلاث الواردة في المقطع: [فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ] تترتب عليها أحكام نستعرض ذلك كله بإختصار:

قرأ أبو عمرو وابن كثير بتنوين (رفث) و (فسوق) ورفعهما وفتح (جدال).

وأبو جعفر ويُرْوَى عن عاصم أيضاً أنهما قَرَأ، برفع الثلاثة وبالتنوين، فيما قرأالعطاردي الآية بنصب الثلاثة والتنوين.

أما الباقون فقد قرؤا هذه المفردات الثلاث بالفتح.

وأوجه هذه القراءات هي:

قراءة الرفع ففيها وجهان:

الأول وهو الأظهر: أن (لا) ملغاة وما بعدها رفع بالابتداء، وسوغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها.

و (في الحج) خبر المبتدأ الثالث وهو (جدال)، وحذف خبركل من رفث وخبر فسوق لدلالة خبر الثالث عليهما.

أو يكون (في الحج) خبر رفث فيما حذف خبر كل من الثاني والثالث لدلالة خبر الأول عليهما.

ويجوز أن يكون (في الحج) خبراً للثلاثة.

إن قيل: لماذا لا يكون (في الحج) خبراً للثاني أي لفسوق، ويحذف خبر كل من الأول والثالث؟

كان الجواب: إن مثل هذا التركيب لا يجوز؛ لقبحه أولًا ولتأديته إلى الفصل ثانياً.

والثاني: أن تكون (لا) عاملة عمل ليس وفق شروط عملها في كتب النحو، فيكون رفث إسمها وما بعده عطف عليه. وفي الحج هو الخبر. وإن ناقش بعضهم في

ص: 30

أن إعمال لا عملَ ليس لم يقم عليه دليل صريح. وما أنشد من أبيات شعر مثل:

من صد عن نيرانها فأنا ابن قيس لا براح

تعز فلا شي على الأرض باقياً ولا وزر مما قضى اللَّه واقياً

أنكرتها بعد أعوام مضين لها لا الدار دار ولا الجيران جيراناً

وحلت سواد القلب لا أنا باغياً سواها ولا في حبها متراخياً

يعدها أشياء محتملة وفيها كلام.

وأما من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرة من لفظها، أي فلا يرفث رفثاً ولا يفسق فسقاً ولا يجادل جدالًا، وحينئذٍ فلا عمل ل (لا) فيما بعدها وإنما هي نافية للجمل المقدرة، وفي الحج متعلق بأي واحد من المصادر الثلاثة المذكورة في الآية (الرفث، الفسوق، الجدال).

ويمكن أن يقال: إن (لا) للتبرئة على من يرى أن اسمها معرب منصوب، وإنما حذف تنوينه تخفيفاً، وهي قراءةٌ شاذة.

ص: 31

وأما قراءة الفتح في الثلاثة فهي المشهورة، ولكن الخلاف دبّ بينهم حول كون هذه الفتحة في الثلاثة هل هي فتحة إعراب أو فتحة بناء؟

وفيه قولان، والقول الثاني هو للجمهور.

وفي حالة البناء، فإن المجموع من لا ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو (في الحج).

وإن كانت عاملة في الاسم النصب لأنها أجريت مجرى (إن) في نصب الاسم ورفع الخبر فتكون جملة (في الحج) خبر (لا).

الأول قول سيبويه، والثاني قول الأخفش.

وهنا الأمر لا يخلو من إضافة وهي:

إذا أخذ بما ذهب إليه سيبويه من كون (لا) وما بني معها في موضع المبتدأ فإن (في الحج) يكون خبراً عن الجميع؛ إذ ليس فيه إلّاعطف مبتدأ على مبتدأ.

أما إذا أخذ بمذهب الأخفش فلا يجوز أن يكون (في الحج) إلا خبراً للمبتدأين أو خبراً ل (لا) فقط، ولا يجوز أن يكون خبراً للكل؛ والسبب هو اختلاف الطالب لأن المبتدأ يطلبه خبراً له ولا يطلبه خبراً لها.

وإنما أشير إلى كل هذا لأبيّن وأنبه على ما في هذا المقطع من فوائد يمكن الحصول عليها والاستزادة منها في مصادرها (1).

اللغة:

وقبل أن نتعرض إلى تفسير هذا المقطع وما ورد فيه من روايات و أقوال علماء الفريقين، أرى من الضروري أن نعرف المعاني اللغوية لهذه المفردات الواردة في الآية:

فرض لغة: فرض الشي ء وفرض فيه فرضاً: حز فيه حزاً. وفرض العود


1- انظر الدر المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي 2: 322- 327، ففيه بحث نافع.

ص: 32

وفرض فيه فهو فارض، والعود مفروض، ومنه الفرض أي الحز في الشي ء، الحز في القدح، وفي الوتد وفي غيره. وفرضة القوس الحز الذي يقع فيه الوتر، وفرضة الوتد الحز الذي فيه، ومنه فرض الصلاة، لأنها لازمة للعبد كلزوم الحز للقدح، ولهذا قيل: حزه يحزه حزاً واحتزه: قطعه ولم يفصله، والحز إذن يأتي بمعنى القطع، ويأتي بمعنى أبان، وهو قوله تعالى: [سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها]، أما وهذا راجع إلى معنى القطع أيضاً، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره، واللَّه تعالى إذا فرض شيئاً أبانه عن غيره.

ففرض بمعنى أوجب، وفرض بمعنى أبان، كلاهما يرجع إلى أصل واحد.

ويقال: فرضه عليه: كتبه عليه. وفرضه له: خصه به، وفي التنزيل العزيز: [ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ].

ويقال: فرض له في العطاء: قدر له نصيباً. وفرض له القاضي فريضة: قدرها وأوجبها. ومنه الفرائض، وهو علم تعرف به قسمة المواريث الشرعية.

ومنه افترض الشي ء أي فرضه، ومنه جاء الفرض، والفريضة جمعها فرائض، وهي ما أوجبه اللَّه تعالى على عباده من حدوده التي بينها بما أمر به وما نهى عنه. أو هو كل ما يعاقب الإنسان على تركه، سمي بذلك لأن له معالم وحدوداً، وقيل: لأنه لازم للعبد كلزوم الفرض (الحز) للقدح أو الحز في العود.

ومنه أيضاً ما يفرضه الإنسان على نفسه. وهو الذي نصّت عليه الآية الكريمة: [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ] أي فرضه أو أوجبه على نفسه أو ألزم نفسه به.

وقد وجدت أن السيد السبزواري في تفسيره مواهب الرحمن وبعد أن يبين معنى فرض يذكر فروقاً بين الفرض والوجوب فيقول:

مادة فرض تأتي بمعنى قطع الشي ء الصلب والتأثير فيه قال تعالى: [لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً] (1)، أي مقطوعاً معلوماً. وتستعمل في فرائض اللَّه


1- النساء: 118.

ص: 33

تعالى لأنها تقطع الأوهام والشكوك والمحتملات بالنسبة إلى موردها.

ثم يقول:

ويطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضاً؛ لأنها تقطع وتقسم من مال الميت. ونسب إلى نبينا الأعظم صلى الله عليه و آله: «تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم»، وفي الحديث عنه صلى الله عليه و آله أيضاً: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة».

ثم يقول:

وفرائض اللَّه تعالى هي: الأحكام التي أوجبها على العباد.

والفرق بين الفرض والوجوب من وجوه:

الأول: إن الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللَّه تعالى فقط، بخلاف الوجوب فإنه أعم، يقال: وجوب عقلي، ولا يقال: فريضة عقلية.

الثاني: الوجوب يطلق ولو على مرتبة الإنشاء، والفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.

الثالث: يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزم به اللَّه تعالى، بخلاف الوجوب فإنه أعم من السنة وما فرض اللَّه جل شأنه (1).

اذن الفَرْضُ: ما أَوْجَبه اللَّه عزّ وجلّ، سمي بذلك لأَنَّ له مَعالِمَ وَحُدُوداً.

وفرَض اللَّه علينا كذا وكذا وافْتَرَضَ أَي أَوْجَب. وقوله عزّ وجلّ: [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ] أَي أَوْجَبه على نفسه بإحرامه. وهذا ما يتعلق بموضوعنا وهو محل اتفاقهم.

ولكن كيف يقع هذا الفرض؟ هذا ما سنراه في الروايات والأقوال التالية:

إن المراد من الفرض هنا أن يجعل المكلف الحج واجباً عليه بسبب عقده


1- انظر المعجم الوسيط وكتب اللغة الاخرى مادة فرض. والتفسير الكبير للرازي، ومواهب الرحمن للسبزواري.

ص: 34

للإحرام، ولكن الأقوال اختلفت تبعاً لاختلاف الروايات عند الفرق الإسلامية حول الكيفية التي يتحقق بها فرض الحج أو عقد الإحرام الذي به يتحقق إلزام الإنسان المكلف نفسه بأداء فريضة الحج.

فبعض ذهب إلى كفاية النية في تحققه، فيما ذهب الآخرون إلى عدم كفاية النية ولا بد لها من الاقتران بالتلبية أوالإشعار أوالتقليد.

والتلبية هي من لبى يلبي تلبية وهو مأخوذ من لب بالمكان يلب لباً، وألب إذا أقام به ولزمه. ولبيك تعني لزوماً لطاعتك لزوماً بعد لزوم وإجابة بعد إجابة، وقيل معناه: اتجاهي إليك وقصدي وإقبالي على أمرك أو محبتي لك أو إخلاصي لك. وهو مصدر مثنى اللب، و ثني على معنى التأكيد. ولبى بالحج تلبية أي قال في الحج:

«لبيك اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».

إن الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللَّه تعالى فقط، بخلاف الوجوب فإنه أعم، يقال: وجوب عقلي، ولا يقال: فريضة عقلية.

وهي تلبيات أربع، ولها صيغ أربع، نكتفي بما ذكرناه أعلاه، وهي تتضمن معاني عظيمة وجليلة؛ ولهذا كان لها تأثير كبير على الملبين في هذه الفريضة المباركة.

ومعنى الإشعار هو أن يقوم الشخص من الجانب الأيسر من الهدي، وهو البدنة أي الناقة، ويشق سنامها من الجانب الأيمن ويلطخ صفحتها بدمها. وعند الحنابلة- دون بقية المذاهب الاخرى- لا يختص بالإبل، وإنما يشمل البقر.

وأما التقليد، فهو أن تعلق في رقبة الهدي نعلًا خلقاً، أي بالياً، قد صليت فيه أو خيطاً أو سيراً أو غيرها ليعلم أنه هدي. والتقليد مشترك بين الأنعام الثلاثة (1).

فالقرطبي في تفسير الآية يقول: أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً، وبالإحرام فعلًا ظاهراً، وبالتلبية نطقاً مسموعاً، قاله ابن حبيب وأبو حنيفة في التلبية. ثم يقول: وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج. حيث ينقل قول


1- انظر كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 2: 217. وانظر أيضاً القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً سعدي أبوجيب. الإفصاح في فقه اللغة. وغيرها من كتب الفقه والحديث.

ص: 35

الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج. ثم يقول: وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم (1).

وفي الفقه الإسلامي وأدلته أنه لا خلاف في أنه إذا نوى حجاً أو عمرةً وقرن النية بقول أو فعل من خصائص الإحرام يصير محرماً، بأن لبى ناوياً به الحج أو العمرة أو بهما معاً. و إن ما عليه كل من الشافعية والحنابلة أن الإحرام لا ينعقد بدون النية، فإن اقتصر على النية ولم يلب أجزاه وإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه، ولا يشترط قرن النية بالتلبية عندهم لأنهم يعدونها من الأذكار. وفي الأرجح عند المالكية أن الإحرام ينعقد بمجرد النية. لكن يلزمه عند المالكية دم في ترك التلبية...

أماالحنفية فعندهم لا يصير شارعاً في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية ...

والنية ليست بركن عندهم بل هي شرط، وإذا لبى ناوياً فقد أحرم عندهم.

ومما نقله صاحب الفقه الإسلامي: أن الإحرام ينعقد بالنية عند الجمهور، ولا ينعقد بمجردها عند الحنفية، وإنما لا بد- كما نقله عن بعض المصادر- من قرنه بقول أو فعل من خصائص الإحرام كالتلبية أو التجرّد أي من المخيط.

يبدو أن الأمر ليس محصوراً بالتلبية عند الحنفية بل يكفي التجرد أو أي قول أو فعل شريطة أن يكون من خصائص الإحرام. وبالتالي فان الإحرام عندهم قد ينعقد بدون التلبية أي بالتجرد مثلًا أو بسوق الهدي.

إذن، لا يصح الإحرام إلا بالنية، ودليلهم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»، ولأن الإحرام عبادة محضة فلا تصح من غير نية.

أما حجة الشافعي لما ذهب إليه من كفاية النية، أي من غير حاجة إلى التلبية، فهي وجوه كما يذكر الفخر الرازي في تفسيره:

الحجة الأولى: قوله تعالى: [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ]، وفرض الحج لا يمكن أن يكون عبارة عن التلبية أو سوق


1- الجامع لأحكام القرآن 2: 406.

ص: 36

الهدي؛ فإنه لا إشعار البتة في التلبية بكونه محرماً. لا بحقيقة ولا بمجاز. فلم يبق إلا أن يكون فرض الحج عبارة عن النية، وفرض الحج موجب لانعقاد الحج؛ بدليل قوله تعالى: [فَلا رَفَث]، فوجب أن تكون النية كافية في انعقاد الحج.

الحجة الثانية: ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «وإنما لكل امرئ ما نوى».

الحجة الثالثة: القياس وهو أن ابتداء الحج كف عن المحظورات، فيصح الشروع فيه بالنية كالصوم.

وأما حجة أبي حنيفة كما يذكر الرازي فهي وجهان:

الأول: ما روى أبو منصور الماتريدي في تفسيره عن عائشة أنها قالت: لا يحرم إلا أهلّ أو لبّى.

الثاني: إن الحج عبادة لها تحليل وتحريم، فلا يشرع فيه إلّابنفس النية كالصلاة (1).

أما الإمامية: فإن المراد عندهم من [فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَ] ألزم نفسه به بإيقاع النية والتلبيات الأربع للمتمتع والمفرد. وأما القارن وهو أن يقرن بإحرامه سياق الهدي، فمخير بين أن يعقد إحرامه بإشعاره أو تقليده وإن شاء بالتلبية. أو أوجب على نفسه- كما يقول المقدس الأردبيلي في زبدة البيان- الحج مطلقاً حج التمتع وغيره بحيث صار واجباً فعله وشغله وإتمامه، وحرم عليه محرمات الإحرام بالتلبية مطلقاً أو بالإشعار أو بالتقليد أيضاً إذا كان سائقاً، كما دلت عليه صحيحة أو حسنة معاوية في قوله تعالى: [أَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ]:

«الفرض بالتلبية والإشعار والتقليد، فأي ذلك فعل فقد فرض الحج...». فدلت على ركنية التلبية في الجملة وأن الإحرام لا ينعقد إلّابها.

ثم يواصل حديثه قائلًا: فخلاف البعض في انعقاده بدونها وأنها ليس بركن كما نقلناه عن الدروس وقاله في مجمع البيان، لا يعتد به.


1- انظر الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي 3: 122، ملخصاً. والتفسير الكبير للرازي: الآية.

ص: 37

ثم يقول: ودلت- أي الرواية المذكورة- على إجزاء التلبية مطلقاً وإجزاء أحدهما للقارن، وضعف خلاف بعض الأصحاب من تعيين أحدهما للقارن وتعيين التلبية للغير وهو ظاهر.

ودلت أيضاً على وجوب إتمام الحج بعد انعقاده بالإحرام كما هو مذهب الأصحاب والشافعي أيضاً، على ما ذكره القاضي في تفسيره. ولا يبعد دلالتها على وجوب إتمام حج التمتع بالشروع في عمرته، لأنه تعالى قد ذكر حج التمتع في الآية، ثم قال: [فَمَنْ فَرَضَ] أي فرضه مطلقاً بالإحرام فوجب عليه الإتمام، ولا يبعد صدق فرضه بفرض عمرته، لأنهما بمنزلة شي ء واحد كما يفهم من الخبر المشهور:

دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك أصابعه صلى الله عليه و آله، لأنه لا بد من وقوع إحرامه في هذه الشهور... (1).

هذا، وإن القارن عند جميع الفقهاء- عدا فقهاء الإمامية وبإستثناء ابن عقيل منهم حيث نقل عنه جواز الجمع وجعله تفسيراً للقران مع سياق الهدي- هو من قرن بين الحج والعمرة في إحرامه، فيدخل أفعال العمرة في أفعال الحج بنية واحدة وإحرام واحد.

نأمل أن نوفق لتفصيل ذلك وغيره في مقالة أخرى عن أنواع الحج «التمتع والقران والإفراد».

إذن، لا بد من اقتران النية بالتلبية عند الإمامية.

في الروايات:

رواية حريز: «إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما أحرم أتاه جبرائيل عليه السلام فقال: مر أصحابك بالعج والثج، فالعج رفع الصوت بالتلبية، والثج نحر الإبل».

و في الصحيح عن الإمام أبي عبداللَّه الصادق عليه السلام: «يوجب الإحرام ثلاثة


1- انظر كنز العرفان للسيوري 1: 301 و 276، و زبدة البيان في أحكام القرآن للأردبيلي: الآية. وغيرهما من كتب الفقه.

ص: 38

أشياء: التلبية والإشعار والتقليد. فإذا فعل شيئاً من هذه الثلاثة فقد أحرم» (1).

وعلى هذا جاء قولهم: لا ينعقد إحرام حج التمتع، وإحرام عمرته، ولا إحرام حج الإفراد، ولا إحرام حج العمرة المفردة إلّابالتلبية.

تقول الرواية: عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن ابن عمار: «لا بأس أن يصلي الرجل في مسجد الشجرة، ويقول الذي يقوله ولا يلبي، ثم يخرج فيصيب من الصيد وغيره فليس عليه شي ء».

وفي صحيح حريز: «في الرجل إذا تهيأ للإحرام فله أن يأتي النساء ما لم يعقد التلبية أو يلبّ».

وانطلاقاً من إطلاق هذه الروايات وهناك غيرها، قالوا بعدم الفرق بين إحرام حجي التمتع والإفراد، ولا فرق بين إحرام العمرة المفردة وعمرة التمتع.

وأما في حج القران فيتخير المكلف بين التلبية وبين الإشعار أو التقليد؛ فينعقد إحرام هذا النوع من الحج- وهو حج القران- بأحد الثلاثة المذكورة.


1- انظر وسائل الشيعة باب 12 من أبواب أقسام الحج، حديث: 20.

ص: 39

تقول الرواية: «تقلدها نعلًا خلقاً قد صليت فيها. والإشعار والتقليد بمنزلة التلبية».

وعن كيفية إشعار الإبل سأل أبو الصباح الكناني الإمام أبا عبداللَّه عليه السلام: «كيف تشعر؟

فقال: تشعر وهي باركة من شق سنامها الأيمن وتنحر وهي قائمة من قبل الأيمن». وفي رواية: تُشعَر وهي معقولة.

وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «كان الناس يقلدون الغنم والبقر، وإنّما تركه الناس حديثاً ويقلدون بخيط أو بسير» (1).

وهناك تلبيات منظومة جرت على لسان السيد السبزواري كما يذكر، وهو في تلك المشاعر العظام، نذكر بعضها:

لبيك يا مقصد كل عارف وملجأ الناس من المخاوف

لبيك يا كاشف كل كربة ومبدأ الخير وكل نعمة

لبيك يا سر القلوب الوالهة ومالك الملك وننفي الآلهة

ننفي شريكاً لك من كل جهة في الذات والفعل وفي كل صفة

لبيك يا ذا العز والمعارج ومنزل القرآن ذي المناهج

جئتك محتاجاً إلى نوالك ومستجيراً بك في المهالك

ما قدر ذنبٍ بل ذنوب تنتهي في جنب فضلٍ هو ليس ينتهي

***

وفدنا إليك بشوقٍ شديد وافئدة والهة من بعيد

أتيناك يا شاهداً لا يرى بآمال ليس لها ملتجأ

سوى فيض إحسانك المنتظر لتعف به ذنب كل البشر

أليس دعانا إليك الخليل ونادى هلمّوا لبيت الجليل


1- انظر كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 217- 220. ووسائل الشيعة باب الإحرام.

ص: 40

أليس المضيف يسر الضيوف ألست المليك العطوف الرؤوف

ألست ترغّبنا بالكرم وتطلب منا معالي الشيم

وتطلب أن نعفو عمن ظلم فأنت الأحق ووالي النعم

ومن كل فجٍ بعيد عميق وفدنا إليك وأنت الشفيق

أتينا لترفدنا من نداك أنجبه رداً إلى من سواك

وحقك لا ينبغي منك ذاك ولا أرتضي ما ينافي علاك (1)

هذا بالنسبة إلى مفردة «فرض»، ونأتي الآن إلى بقية مقطع الآية المتمثل ب [فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ...] حيث إن هذه الامور الثلاثة الواردة في الآية تعد من محرمات الإحرام أو تروكه التي يجب على الحاج اجتنابها إذا ما ألزم نفسه بالحج:

الرفث: وردت هذه المفردة مرتين فقط في القرآن الكريم: في سورة البقرة الآية 187: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ...]، والآية 197 من السورة نفسها، وهي محل البحث.

ابن منظور في لسانه وفي مادة رفث يقول:

الرفث: هو الجماع وغيره مما يقع بين الرجل وامرأته في حالة الجماع كالتقبيل والمُغازلة ونحوهما. أو هو كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع بها من غير كناية.

وأما أصله فهو الفُحْش من القول. ورفث في كلامه رفثاً ورفوثاً: صرح بكلام قبيح، ورافثه أي حادثه بالرفث، وهو القبيح من الكلام، وترافثوا: رفث بعضهم إلى بعض، رَفَثَ الرجل وأَرفثت المرأة، أي يشمل كلام النساءِ في الجماع.

قال العجاج:

ورُبَّ أَسرابِ حَجيجٍ كُظَّم عن اللَّغَا، ورَفَثِ التَكَلُّم

وقد رَفَثَ بها ومَعها.

وقوله عز وجل: [أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيام الرَّفَثُ إِلى نسائكم] فإِنَّه عدَّاه بإلى، لأَنه في معنى الإِفْضاءِ، فلما كُنْتَ تُعَدِّي أَفْضَيْتُ بإلى كقولك: أَفْضَيتُ إلى المرأَة، جئتَ بإلى مع الرَّفَثِ، إِيذاناً وإِشعاراً أَنه بمعناه.

إذن، رَفَثَ في كلامه يَرْفُثُ رَفْثاً، ورَفِثَ رَفَثاً، ورَفُثَ، بالضم عن اللحياني، وأَرْفَثَ، كلُّه: أَفْحَشَ؛ وقيل: أَفْحَشَ في شأْنِ النساءِ.

وقولُه تعالى: [فَلا رَفَثَ وَلا فُسوقَ وَلا جِدالَ فِي الحَجَ] يجوز أَن يكونَ المراد برفث هو الإِفْحاشَ، أو هو التعريض بالنكاح.

وروي عن ابن عباس أَنه كان مُحْرِماً، فأَخَذَ بذَنَبِ ناقة من الرِّكابِ، وهو يقول:

وهُنَّ يَمْشِينَ بنا هَميسا إِنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسا

فقيل له: يا أَبا العباس، أَتقول الرَّفَثَ وأَنت مُحْرِمٌ؟ وفي رواية: أَتَرْفُثُ وأَنتَ مُحْرم؟

فقال: انما الرَّفَثُ ما رُوجِعَ به النساءُ.

فرأَى ابنُ عباس الرَّفَثَ الذي نَهى اللَّه عنه ما خُوطِبَتْ به المرأَة؛ فأَما أَنْ يَرْفُثَ في كلامه، ولا تَسْمَع امرأَةٌ رَفَثَه، فغير داخلٍ في قوله: [فَلا رَفَثَ] (2).

مع المفسرين في معنى الرفث:

هذه معانيه في اللغة، ولا يبعد كثيراً عنها ما يقوله المفسرون.

إذن، هو الكلام المستقبح ذكره من الجماع ودواعيه، وقد يكنى به عن الجماع للتلازم بينهما. كما هو أدب القرآن في استعمال الألفاظ الكنائية- والقول للسيد السبزواري- عما يستقبح ذكره من الوطي والجماع، كالمباشرة والمس واللمس


1- انظر لسان العرب، والإفصاح في فقه اللغة، مادة رفث، وغيرهما من كتب اللغة.
2- انظر لسان العرب، والإفصاح في فقه اللغة، مادة رفث، وغيرهما من كتب اللغة.

ص: 41

ص: 42

والدخول والفرج والغائط ونحو ذلك.

ويضيف السيد كلاماً آخر حيث يقول: ويمكن أن يكون المراد من الرفث:

الكلام الذي يقال عند حصول دواعي الجماع وهيجان الشهوة، كما تدل عليه الهيئة التركيبية لهذه الكلمة المركبة من الحروف الإخفاتية، فيستفاد منها أنه القول الخفي الذي لا يسمعه إلا من به نواله، فأطلق على نفس الجماع من باب الملازمة، وحيث أن مثل هذا الكلام غالباً يوجب الوصول إلى المقصود عدّي ب «إلى» فضمّن معنى الإفضاء.

وفي استعمال هذه اللفظة في «الصيام والحج» يقول السيد: ولعل السر في استعمالها في هذين الموردين استهجاناً لما كانوا عليه قبل الحكم بالإباحة في الصيام (1).

أنواع الرفث:

وقد ذكروا للرفث أنواعاً بحسب مكانه:

فإن كان بالفرج فهو الجماع.

وإن كان باللسان فهو المواعدة للجماع.

وإن كان بالعين فهو الغمز للجماع (2).

أما الشيخ البلاغي، فله كلام مفصل نافع في تفسير هذا المقطع من الآية: [فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ]، أي أن الحج بطبيعته ومصلحة تشريعه يأبى هذه الامور. وتقدير الكلام فمن فرض فيهن الحج فلا يأت في حجه برفث ولا فسوق ولا جدال، لأنه لا رفث ولا فسوق إلى آخره. فحذف جواب الشرط لدلالة هذه الجملة المذكورة عليه، دلالةً يكون ذكره معها من فضول الكلام، وجي ء بالجملة الخبرية.


1- السبزواري، مواهب الرحمن، الآية.
2- انظر مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي وغيره من التفاسير. الآية.

ص: 43

ثم راح يفصل الأمر حيث يقول: وصرّح باسم الحج في قوله جل شأنه: [فِي الحَجِ]، لإيضاح أن الحج بذاته ينافر هذه الامور، وليعرف أن عدمها ليس تكليفاً محضاً يختص بمن فرض الحج بل هو غرض يريد الشارع تحصيله من المكلفين حتى في مورد لا يكون فيه من غير هذه الجهة منكر يجب النهي عنه وإثم تحرم المساعدة عليه، كما لو أكره المحلّ بحق الزوجية زوجته على وطئها في حجها الواجب أو المستحب بإذنه أو المولى أمته في حجها بإذنه، أو طاوعت المحلّة زوجها غير البالغ على وطئها في حجه وما أشبه ذلك، فإنه بمفاد الآية والغرض يراد من كل مكلف عدم حصوله كمنعه إن كان لمنعه أثر، وعلى ذلك جاءت صحيحة إسحاق بن عمار عن الكاظم عليه السلام في أن المولى المحلّ إذا كان عالماً بأنه لا ينبغي له أن يطأ أمته في حجها بإذنه كان عليه الكفارة، كما أفتى الأصحاب على إطلاقها سؤالًا وجواباً، بل الظاهر أنه لا يخفى عليه أنّ وطأها مع رضاها لا ينبغي له؛ لأنه إعانة على الإثم. ولو قيل:

ولا جدال فيه، لاحتمل عود الضمير إلى ذلك الحج المفروض من حيث إنه فرضه على نفسه وما يرجع إلى تكليفه الخاص به، لا من حيث منافرة ذات الحج لهذه الامور وإن كان بعضها حلالًا في غيره كجماع الزوجين، وقول: لا واللَّه وبلى واللَّه في مقام الصدق (1).

أما الفسوق

فهو من الفِسْق: وهو العصيان والترك لأَمر اللَّه عز وجل والخروج عن طريق الحق.

فسَق يَفْسِقُ ويَفْسُقُ فِسْقاً وفُسوقاً وفَسُقَ؛ وبالضم أَي فَجَر، وقيل: الفُسوق الخروج عن الدين، وكذلك الميل إلى المعصية كما فَسَقَ إبليسُ عن أَمر ربه. [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ] (2)

أَي جار ومال عن طاعته؛ قال الشاعر: فواسقاً عن أمره جوائراً.


1- انظر آلآء الرحمن في تفسير القرآن: الآية.
2- الكهف: 50.

ص: 44

ويقول الفراء في قوله عز وجل: [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]: خرج من طاعة ربه، والعرب تقول إذا خرجت الرُّطَبةُ من قشرها: قد فَسَقَت الرُّطَبةُ من قشرها، وكأَن الفأرة إنما سميت فُويْسِقةً لخروجها من جُحْرها على الناس.

والفِسْقُ: الخروج عن الأَمر. [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]، أَي خرج. و عن ثعلب أنه قال: قال الأَخفش في قوله: [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]: عن ردّه أَمر ربه، نحو قول العرب اتّخَمَ عن الطعام أي عن أَكله الطعام، فلما رَدّ هذا الأَمر فَسَقَ، قال أَبو العباس: ولا حاجة به إلى هذا، لأن الفُسُوقَ معناه الخروج. [فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]، أَي خرج، وقال ابن الأَعرابي: إنه قال: لم يُسْمع قَطُّ في كلام الجاهلية ولا في شعرهم فاسِقٌ، قال: وهذا عجب وهو كلام عربي.

فكلمة (فاسقاً) لا نجدها في شعر العرب القديم وهو قاموسهم.

ويقال: [وَإنَّهُ لَفِسْقٌ] (1)، أَي خروج عن الحق أو الطاعة وهو المعصية.

أَبو الهيثم: والفِسْقُ في قوله: [أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ] (2)

أو كان سبب فسق وخروج عن الطاعة بذبحه لغير اللَّه، و روي عن مالك أَنّه الذبح.

وقوله تعالى: [بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ اْلإِيمانِ] (3)، أَي بئس الاسم أن تقول له: يا يهودي ويا نصراني بعد أَن آمن، أَي لا تُعَيِّرهم بعد أَن آمنوا، ويحتمل أَن يكون كلَّ لَقب يكرهه الإنسان، وإنما يجب أَن يخاطب المؤمن أَخاه بأَحبّ الأَسماء إليه؛ هذا قول الزجاج.

فأصل الفِسْقِ الخروج عن الاستقامة وهو الجور، وبه سمي العاصي فاسقاً،


1- الأنعام: 121.
2- الأنعام: 145.
3- الحجرات: 11.

ص: 45

وإنما سميت بعض الحيوانات كالفأرة والغراب فَوَاسِقَ على الاستعارة لخبثهن، وقيل: لخروجهن عن الحرمة في الحل والحرم أَي لا حرمة لهنّ بحال (1).

كل هذه المعاني تبيّن مدى خطورة هذه الكلمة، خصوصاً إذا ما تحولت إلى سلوك في علاقاتنا، فتترك ظلماً وجوراً وفساداً في الساحة المسلمة والتي ينبغي بل يجب أن تكون بعيدة عن كل هذا، ولهذا جاءت تعاليم هذه الفريضة محذرة ناهية عن مثل هذه السلوكيات، ويكفي في قبحها أنها من صفات إبليس الذي أبى إلّا الاتصاف بها والخروج عن طاعة ربه.

وأما الجدال

فهو من الجَدْل: هو شِدَّة الفَتْل. وجَدَلْتُ الحَبْلَ أَجْدِلُه جَدْلًا إذا شددت فَتْله وفَتَلْتَه فَتْلًا مُحْكَماً؛ ومنه قيل لزمام الناقة: الجَدِيل.

وقول ابن سيده: جدل الشيَ يَجْدُله ويَجْدِله جَدْلًا أَحكم فَتْله.

وفي الجَدِيل الذي هو الزمام المجدول من أَدم؛ يقول امرئ القيس:

وكَشْحٍ لطيفٍ كالجَدِيل مُخَصَّرٍ وسَاقٍ كأُنْبُوب السَّقِيِّ المُذلَّل

وربما سُمِّي الوِشاح جَدِيلًا؛ وفيه يقول ابن عجلان النهدي:

جَديدة سِرْبالِ الشَّبابِ، كأَنَّها سَقِيّة بَرْدَيٍّ نَمَتْها غُيُولها

كأَنَّ دِمَقْساً أَو فُروعَ غَمامةٍ على مَتْنِها، حيث اسْتَقَرَّ جَديلُها

وأَنشد ابن بري لآخر:

أَذكَرْت مَيَّةَ إِذ لها إِتْبُ دَائلٌ وأَنامِلٌ خُطْبُ

والجَدِيل: حَبْل مفتول من أَدم أَو شعر يكون في عُنق البعير أَو الناقة، والجمع جُدُلٌ..

وغلام جادل: مُشْتَدّ. الطَّيِّ، وساعد أَجْدَل كذلك؛ قال الجعدي:


1- انظر كتب اللغة: فسق.

ص: 46

أخرجهم أجدل الساعدي أصهب كالأسد الأغلب

ويأتي الجَدْ ل بمعنى الصَّرْع. وجَدَله جَدْلًا وجَدَّله فانْجدل وتَجَدَّل: صَرَعه على الجَدَالة وهو مجدول، وقد جَدَلْتُه جَدْلًا، وأَكثر ما يقال: جَدَّلْته تَجْديلًا، وقيل للصَّرِيع: مُجَدَّل؛ لأَنه يُضْرَع على الجَدَالة.

و طَعَنَه فَجَدَّله. المنجدل الساقط، والُمجَدَّل المُلْقى بالجَدَالة، وهي الأَرض؛ ومنه حديث ابن صياد: وهو مُنْجَدِل في الشمس، وحديث علي حين وقف على طلحة وهو قتيل فقال: أَعْزِزْ عَلَيَّ أَبا محمد أَن أَراك مُجَدَّلًا تحت نُجوم السماء، أَي مُلْقىً على الأَرض قَتيلًا. وفي حديث معاوية أَنه قال لصعصعة: ما مرَّ عليك جَدَّلته أَي رميته وصرعته؛ وقال الهذلي:

مُجَدَّل يَتَكَسَّى جِلْدُه دَمَه كما تَقَطَّرَ جِذْعُ الدَّوْمة القُطُلُ

يقال: طعنه فجدَله، أَي رماه بالأَرض فانجدل سَقَط. يقال: جَدَلته، بالتخفيف، وجَدَّلته، بالتشديد، وأَصل الجَدْل الفَتْل؛ وقال ابن بري: ومثله لأَبي كبير:

في رأس مُشْرِفة القَذال، كأَنما أَطْرُ السحابِ بها بَياضُ المجْدَل

وقال الأَعشى:

في مِجْدَلٍ شُدِّدَ بنيانُه يَزِلُّ عنه ظُفُرُ الطائر

ودِرْع جَدْلاءُ ومَجْدولة: مُحْكَمة النسج. قال أَبو عبيد: الجَدْلاء والمجدولة من الدروع نحوُ المَوْضونة، وهي المنسوجة، وفي الصحاح: وهي المحكمة؛ وقال الحطيئة:

فيه الجِيَادُ، وفيه كل سابغة جَدْلاءُ مُحْكمة من نَسْج سَلَّام

جمع الجَدْلاء جُدْل. وقد جُدِلَت الدروعُ جُدْلًا إذا أُحكمت.

و سمِّيت الدُّروع جَدْلًا ومجدولة لإِحكام حِلَقِها، كما يقال: حَبْل مجدول

ص: 47

مفتول؛ وقول أَبي ذؤَيب:

فهن كعِقْبان الشَّرِيج جَوَانِحٌ وهم فوقها مُسْتَلْئِمو حَلَق الجَدْل

أَراد حَلَق الدرع المجدولة، فوضع المصدر موضع الصفة الموضوعة موضع المَوصوف. ورأَيت جَدِيلَةَ رَأْيه أَي عزيمتَه.

والجَدَل: اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها، وقد جادله مجادلة وجِدالًا.

ورجل جَدِل ومِجْدَل ومِجْدال: شديد الجَدَل. ويقال: جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلًا أَي غلبته. ورجل جَدِل إذا كان أَقوى في الخِصام. وجادَله أَي خاصمه مُجادلة وجِدالًا، والاسم الجَدَل، وهو شدَّة الخصومة.

الجَدَل: مقابلة الحجة بالحجة؛ والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، ويقال: إنه لَجَدِل إذا كان شديد الخِصام، وإنه لمجدول وقد جادل. وسورة الُمجادَلة: [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ]، وهما يَتَجادلان في ذلك الأَمر. والَمجْدَل: الجماعة من الناس؛ لأَن الغالب عليهم إذا اجتمعوا أَن يتجادلوا؛ قال العجاج:

فانْقَضَّ بالسَّيْر ولا تَعَلَّلِ بِمَجْدَل، ونِعْم رأْسُ المجْدَلِ

ويقال للرجل الذي يأْتي بالرأْي السَّخِيف: هذا رأْي الجَدّالين والبَدّالين، والبَدَّال الذي ليس له مال إِلَّا بقدر ما يشتري به شيئاً، فإِذا باعه اشترى به بَدَلًا منه فسمّي بَدَّالًا.

فبعد أن اتضحت المعاني اللغوية لهذه المفردات الثلاث في [فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ] وقع الإختلاف بين الإمامية والآخرين حول المراد من الجدال اصطلاحاً، حيث ذهب الإمامية- تبعاً والتزاماً بما ورد عن أهل البيت عليهم السلام، حيث جاءت الروايات عنهم- إلى تضييق دائرة الجدال وحصرها في اللفظتين: «لا واللَّه وبلى واللَّه» ولهذا قالوا:

ص: 48

الجدال: قول الرجل لا واللَّه وبلى واللَّه، ونحوه ما روي في الفقيه- والقول للبلاغي- عن الصادق عليه السلام إلا أنه لم يذكر السباب، ونحوه أيضاً ما روي في التهذيب عن الكاظم عليه السلام إلا أنه لم يذكر المفاخرة بدل السباب، ولعل ذكر السباب والمفاخرة كان رعاية لبعض الوجوه باعتبار الغالب من اشتمالها على الكذب، ويشهد لذلك خلوّ رواية الفقيه منهما، وخلوّ رواية الكافي من المفاخرة، وخلوّ رواية التهذيب من السباب، وكلها في مقام البيان (1).

ثم إن الظاهر- والقول لصاحب الجواهر- عدم اعتبار وقوع الأمرين: «لا واللَّه وبلى واللَّه» في تحقق الجدال فيكفي أحدهما.

أوالجدال هو الخصومة المؤكّدة بقول «لا واللَّه وبلى واللَّه»، ويكفي أحدهما أيضاً في الحرمة كما عن مهذب الأحكام (2).

هذا عند الإمامية؛ أما عند أهل السنة:

ففي قوله تعالى: [وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ] قال أَبو إسحق: قالوا معناه لا ينبغي للرجل أَن يجادل أَخاه فيخرجه إلى ما لا ينبغي.

فالذي يناسب الجدال المنهي عنه في الآية ويبين


1- انظر آلآء الرحمن في تفسير القرآن: الآية. وانظر من لا يحضره الفقيه والتهذيب، والكافي: الجدال.
2- انظر جواهر الكلام ومهذب الأحكام للسبزواري: تروك الإحرام وغيرهما من كتب الفقه والحديث عند الإمامية. وانظر أيضاً مقالة محمد باقر حجتي بعنوان إتمام الحجج في تفسير مدلول [ولاجدال في الحج] العدد 2 من هذه المجلة.

ص: 49

نتيجته هو الحديث الذي يذكرونه:

«ما أُوتَي الجَدَل قومٌ إِلَّا ضَلُّوا».

والمقصود من الحديث- كما يذهب مفسرو السنّة- الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة به، لا إظهار الحق، فإن ذلك محمود؛ لقوله عز وجل: [وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].

و في الحديث الصحيح المتفق عليه عندهم فيما رواه المغيرة بن شعبة عنه صلى الله عليه و آله وقد حذر فيه من ثلاثة أشياء:

«إن اللَّه ينهاكم عن ثلاث: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال».

ولقد ذكر شُرّاح هذا الحديث وبينوا أنّ المراد بقوله صلى الله عليه و آله: «قيل وقال» ينهاكم عن قيل وقال، أي ينهاكم عن الجدل فيما لا فائدة منه إلا تضييع الوقت وتمزيق الصف الواحد الذي ينبغي أن يتمتع به المسلمون في كل عصر، والمعنى الذي أراده صلى الله عليه و آله ب «كثرة السؤال» التنطع في توجيه الأسئلة إلى ما لا فائدة من الحديث فيه وإلى ما لا خير في الوقوف عنده، إلا أن تكون العاقبة نقاشاً ينتهي إلى خصام، وخصام ينتهي إلى أحقاد وضغائن، وبالتالي ينتهي إلى تمزيق لوحدة الأمة.

وقد ذكر المفسرون- كما ينقل الرازي والقرطبي في تفسير الآية- وجوهاً للمراد من الجدال نختصرها كالآتي:

- الجدال أن تماري مسلماً فيغضب وينتهي إلى السباب والتكذيب...

- إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم: حجنا أتم أو أبر. وقال آخرون: بل حجنا أتم أو أبر. فنهاهم اللَّه عن ذلك.

- قول بعضهم: الحج اليوم، وقول الآخر: الحج غداً، لاختلافهم في حساب الشهور، إما على رؤية الأهلة أو على العدد....

- جدالهم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فشق عليهم ذلك وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟ فقال صلى الله عليه و آله: «لو استقبلت من أمري

ص: 50

ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة».

- اختلافهم في أيهم المصيب لموقف إبراهيم عليه السلام، أي لا جدال في مواضعه، فقال تعالى: [لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي اْلأَمْرِ... وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ]، هذا هو الجدال، ثم قوله صلى الله عليه و آله: «خذوا عني مناسككم» فبين بهذا مواقف الحج ومواضعه.

- اختلافهم في السنين أو الشهور حسب النسي ء، فرد عليهم بأن الحج عاد إلى ما كان في وقت إبراهيم عليه السلام، وهو المراد بقوله صلى الله عليه و آله: «إلا أن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللَّه السموات والأرض»، أي لا جدال في وقته، وقد عد القرطبي التأويلين: «لا جدال في وقته ولا في موضعه» أصح ما قيل في تأويل قوله تعالى [وَلا جِدالَ].

إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى قال بعضهم: حجنا أتم أو أبر. وقال آخرون: بل حجنا أتم أو أبر. فنهاهم اللَّه عن ذلك.

أما الرازي فقد حسّن قول القاضي، ونحن نختصره:

إن [فَلا رَفَثَ...] يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله: [لا رَيْبَ فِيهِ] أي لا ترتابوا فيه، وظاهر اللفظ للخبر، وحينئذ لا يثبت الحج مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها..... وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج؛ لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام....

أما إذا حملناه على النهي وهو عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه وبالجدال جميع أنواعه، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام. فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها، وعلى هذا تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة والتمسك بالآداب الحسنة والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات (1).


1- انظر التفسير الكبير: الآية.

ص: 51

مواقف ثلاثة في مسألة الجدال:

هناك ثلاثة مواقف من الجدال الوارد في الآية نلخصها:

1- توسع بعضهم- انطلاقاً من بعض النصوص- فمنع أنواع الجدال حتى الاستدلال والبحث والنظر:

[وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ] و لو كان الجدال في الدين طاعة للَّه تعالى لما نهى عنه في الحج بل الأولى الترغيب فيه.

[ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] عابهم وذمهم.

[وَلاتَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]، والجدل نزاع عاقبته الفشل والتمزق.

2- فيما ذهب جمهور المتكلمين إلى أن الجدال في الدين طاعة عظيمة لقوله تعالى: [ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ].

[يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا] وما كان جداله عليه السلام إلا للدين.

3- إذن فلا بد من التوفيق بين النصوص الواردة في ذم الجدال التي استفاد بعضهم منها نفي جميع أنواع الجدل والنصوص التي تعده طاعة.

يقول الرازي: فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل اللَّه والذب عن دين اللَّه تعالى.

وختاماً، فالحج فرصة كبرى ينبغي بل يجب الاستفادة منها والاستزادة من عطائها، وعدم التفريط بهذه المناسبة التي جعلها اللَّه تعالى مكاناً للتزود [وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى] وإلّا عشنا الحسرة والندامة.

ونعم ما قاله الأعشى:

ص: 52

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزوّدا

ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

ص: 53

حقيقة الإحرام في كلمات الفقهاء

اشارة

آية اللَّه الشيخ جعفر السبحاني

الإحرام أحد أجزاء العمرة وواجباتها، كما هو أحد أجزاء الحج وفروضه، فالرجل يُحرم للعمرة فيأتي بها، كما يحرم للحج ويأتي به، إنما الكلام في حقيقة الإحرام، وتعريفه لغة، واصطلاحاً، وكيفية تعلق النية به.

فيقع الكلام في مقامات ثلاثة:

المقام الأول: الإحرام في معاجم اللغة

قال الفيّومي: الحرمة- بالضم- ما لا يحلّ انتهاكه، وهذه اسم من «الاحترام»، مثل الفرقة من الافتراق، والجمع حُرُمات، مثل «غرفة» «غرفات»، وشهر حرام، وجمعه حُرُم، بضمتين،- إلى أن يقول:- «وأحرم الشخص: نوى الدخول في حجّ أو عمرة»، ومعناه أدخل نفسه في شي ء حرّم عليه ما كان حلالًا له، وهذا كما يقال: أنجد إذا أتى نجداً، وأتْهَم: إذا أتى تهامة- إلى أن قالَ: أحرم: دخل الحرم، وأحرم: دخل في الشهر الحرام (1).

وقال في اللسان: والإحرام: مصدر، أحرم الرجل يُحرم إحراماً: إذا هلّ


1- المصباح المنير: 162، مادة «حرم».

ص: 54

بالحجّ أو العمرة (1).

والإمعان في كلامهما يفيد أنّ المعنى الأصلي للإحرام هو نية الدخول في حجّ أو عمرة، ولازمه إدخال نفسه في شي ء حرم عليه ما كان حلالًا، لا أنّه المعنى الأصلي للإحرام، فلاحظ.

المقام الثاني: ما هي حقيقة الإحرام؟

اشارة

هل نُقل لفظ الإحرام من المعنى اللغوي- الذي صرّح به المصباح واللسان (نوى الدخول في حجّ أو عمرة)- إلى معنى آخر أو لا؟

ولنشر إلى آراء فقهاء السنة في حقيقة الإحرام أوّلًا، ثمّ إلى آراء الأصحاب ثانياً، فنقول:

الإحرام عند الحنفية هو الدخول في حرمات مخصوصة، غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلّابالنية مع الذكر أو الخصوصية.

والمراد بالدخول في حرمات: التزام الحرمات، والمراد بالذكر، التلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللَّه تعالى.

والمراد بالخصوصية ما يقوم مقام التلبية من سوق الهَدي، أو تقليد البُدن.

أمّا الإحرام عند المذاهب الثلاثة الباقية فهو نية الدخول في حرمات الحجّ والعمرة (2).

والظاهر عدم وجود فرق جوهري بين التعريفين، فالنية المذكورة في تعريف الثلاثة شرط عند الحنفية أيضاً، كما صرحوا به، والظاهر أنّ مراد الحنفية من حرمات مخصوصة، حرمات الحجّ والعمرة.

هذا كلّه عند السنة، وأمّا أصحابنا فقد اختلفت كلماتهم في تعريف الإحرام، نذكرها تباعاً.


1- اللسان: 12/ 122 مادة «حرم».
2- الموسوعة الفقهية الكويتية 2: 128، مادة «إحرام».

ص: 55

1. الإحرام أمر مركب من أمور ثلاثة

يظهر من كلمات المحقّق في الشرائع في غير واحد من كتبه: أنّ الإحرام أمر مركب من أُمور ثلاثة: 1. النيّة، 2. والتلبيات الأربع، 3. ولبس ثوبي الإحرام.

ثمّ إنّ متعلق النية عبارة عن الأمور الأربعة، أعني ما يُحرم به من حجّ أو عمرة متقرباً، ونوعه من تمتُّع وقران أو إفراد، وصفته من وجوب أو ندب، وبما يُحرِم له من حجة الإسلام أو غيرها (1).

وعلى هذا، فالإحرام أمر مركب من أمور ثلاثة، وللجزء الأول منها، أعني النّية متعلقات أربعة، وبه صرّح العلّامة في غير واحد من كتبه.

قال في المختلف: الإحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين (2).

وقال في التذكرة: واجبات الإحرام ثلاثة: النية والتلبيات الأربع، ولُبس ثوبي الإحرام- إلى أن قال:- والواجب في النية أن يقصد بقلبه إلى أُمور أربعة: ما يُحرم به من حج أو عمرة إلى آخر ما ذكره المحقّق في الشرائع. وقد فسّره في المنتهى (3) بنفس ما ذكره في التذكرة.

يلاحظ عليه أوّلًا: إنّ نسبة الإحرام إلى هذه الأمور الثلاثة لا تخلو من أحد وجهين:

1. أن يكون من قبيل المحصَّل إلى المحصِّل والمسبَّب إلى السبب، فعندئذٍ تتعلق به النية، لكونه وراء الثلاثة التي منها النية، لكن لازمه وجوب الاحتياط في ما شكّ في جزئيته أو شرطيته للمحصِّل وهو كماترى.

2. أن يكون من قبيل العنوان المشير، والجمع في التعبير، كما هو حال العشرة بالنسبة إلى الأفراد الواقعة تحتها وحال الصلاة بالنسبة إلى الأفعال والأقوال، فعند


1- الشرائع 1: 245.
2- المختلف 4: 43.
3- المنتهى 10: 215- 216.

ص: 56

ذاك، إذا شك في جزئية شي ء أو شرطيته فالمرجع هو البراءة العقلية والشرعية، لكن لا تتعلق به النية، إذ ليس الإحرام أمراً زائداً على الأجزاء الثلاثة التي منها النية، مع اتفاقهم على أنّ الإحرام أمر قصدي، يعتبر فيه النية، فتأمّل.

وبذلك يعلم النظر فيما أفاده بعض الأعاظم، حيث أوّل كلمات القدماء الظاهرة في أنّ الأمور الثلاثة هي الإحرام، قائلًا: إنّ وجوب تلك الأمور في الإحرام، لا يلازم كونه عبارة عن تلك الأمور لا غير، بل يدلّ على أنّ الإحرام بأي معنى كان، لا يصح بدونها (1).

ووجه النظر واضح، إذ لو كان الإحرام أمراً غير الأمور الثلاثة فلا تخلو الحال من أحد الوجهين اللذين عرفت وجه الإشكال فيهما.

وثانياً: لم يظهر الاتفاق من القدماء على تفسير صاحب الشرائع وابن أخته العلّامة أعلى اللَّه مقامهما من الأمور الثلاثة:

قال في المدارك: اختلفت عبارات الأصحاب في حقيقة الإحرام، فذكر العلّامة في المختلف في مسألة تأخير الإحرام عن الميقات أن الإحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين.

وحكى الشهيد في الشرح عن ابن إدريس أنّه جعل الإحرام عبارة عن النية والتلبية، ولا مدخل للتجرد ولبس الثوبين فيه.

وعن ظاهر المبسوط والجمل أنّه جعله أمراً بسيطاً، وهو النية (2).

وثالثاً: انّه لم يدلّ على وجوب بعض متعلقات النية، كقصد الوجه من كونه واجباً أو مندوباً، كما حقق في محله، كما لم يدل دليل على لزوم قصد كونه حجة الإسلام، إذا لم تكن ذمّته مشغولةً بحجّ آخر، فليس ذلك العنوان كعنواني الظهر والعصر مما يجب قصده، فإذا كان الرجل مستطيعاً ولم يحج من ذي قبل ونوى


1- كتاب الحج 1: 216.
2- المدارك 7: 239.

ص: 57

العمرة والحج كفى ذلك، إذ الواجب عليه في هذه الحالة ليس إلّاواقع حجّة الإسلام بأحد أقسامها الثلاثة.

2. توطين النفس على ترك المنهيات

الإحرام عبارة عن توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة إلى أن يأتي بالمناسك، وهذا القول هو الذي حكاه صاحب المدارك عن الشهيد وأنّه قال:

وكنت قد ذكرت في رسالة الإحرام أنّه عبارة عن توطين النفس على ترك المنهيات المعهودة إلى أن تأتي بالمناسك، والتلبية هي الرابطة لذلك التوطين، نسبتهما إليه كنسبة التحريمة إلى الصلاة (1)، ونسبه المحقق الخوئي إلى الشيخ الأنصاري، بل إلى المشهور، ولذلك ذكروا: أنّه لو بنى على ارتكاب شي ء من المحرمات، بطل إحرامه لعدم كونه قاصداً للإحرام (2).

وربما يؤيد ذلك بما في صحيحة معاوية بن عمار من أنّ المحرم يقول: أحرم لك شعري وبشري، ولحمي، ودمي، وعظامي، ومخّي وعصبي، من النساء والثياب والطيب، أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة (3).

ويلاحظ عليه أوّلًا: إنّ كثيراً من الناس، يُحرمون ولا يدور ببالهم، توطين النفس على ترك محظورات الإحرام من غير فرق بين العالم بها تفصيلًا، أو إجمالًا، أو الجاهل بها.

وأمّا صحيح ابن عمار، فهو دعاء قبل الإحرام، ولذلك يقول في ذيله: ثمّ قم- بعد الدعاء المذكور- «فامش هيأته، فإذا استوت بك الأرض، ماشياً كنت أو راكبا فلبّ»، فالإحرام يتحقّق بالتلبية، وبها يحرم الأمور المذكورة، وكأنه قبل الإحرام يتذكر ما يُحْرمُ عليه بالتلبية في المستقبل (4)، فتحريم الأُمور المذكورة من


1- المصدر نفسه.
2- المعتمد 2: 376.
3- الوسائل 9، الباب 16 من أبواب الإحرام، الحديث 1.
4- الوسائل 9، الباب 17 من أبواب الإحرام، الحديث 2.

ص: 58

آثار الإحرام وأحكامه ولا صلة لها بحقيقته.

وثانياً: إنّه ليس في الروايات أثر لهذا التوطين، فلاحظ أحاديث الباب 17 من أبواب الإحرام، لا تجد فيها أثراً منه نظير:

1. خبر أبي الصلاح مولى بسام الصيرفي قال: أردت الإحرام بالمتعة كيف أقول؟ قال: تقول: اللهم إنّي أريد التمتع بالعمرة إلى الحجّ، على كتابك وسنّة نبيّك (1).

2. صحيحة يعقوب بن شعيب، قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام فقلت: كيف ترى أن أهلّ (أي أحرم) فقال: إن شئت سميت وإن شئت لم تسمِّ، فقلت له: كيف تصنع أنت؟ قال: أجمَعُها، فأقول: لبيك بحجة وعمرة معاً لبيك» (2).

ولو كانت حقيقة الإحرام هي التوطين لجاء ذكره منهما، خصوصاً في الرواية الأولى.

وربما يورد على هذا القول باستلزامه الدور ببيان أنّه لا يعقل أخذ هذه المنهيات والمحرمات في معنى الإحرام وإلّا لزم الدور، لأنّ حرمة هذه المحرمات متوقفة على الإحرام، هذا من جانب، ومن جانب آخر كون الإحرام متوقّفاً على حرمة المحرمات، وبعبارة أُخرى صيرورته محرماً تتوقف على كون المحرمات محرّمة عليه، وتحريمها متوقف على كونه محرماً (3).

ويلاحظ عليه: أنّ الإحرام وتوطين النفس على تحريم المنهيات، يتوقف على تحريم هذه الأمور في لسان الدليل، وإن شئت قلت: يتوقف على التحريم الإنشائي، لأنّ الحكم الشرعي لا يوصف بالفعلية إلّابعد وجود الموضوع، أي كون الشخص


1- المصدر نفسه، الحديث 3.
2- الوسائل 9، الباب 17 من أبواب الإحرام، الحديث 2 و 3.
3- المعتمد 2: 483

ص: 59

محرماً، والمفروض أنّه مريد للإحرام، لا متلبس به، والتحريم الفعلي يتوقف على الإحرام وتوطين النفس وإعلامه بالتلبية.

3. إدخال نفسه في حرمة اللَّه بسبب التلبية

الإحرام عبارة عن إدخال النفس في حرمة اللَّه، غاية الأمر إنّما يدخل في حرمة اللَّه بسبب التلبية، فما لم يلبّ لم يدخل في الإحرام وفي حرمة اللَّه، كما أنّه إذا لم يكبّر لم يدخل في الصلاة، وإذا كبّر حرمت عليه منافيات الصلاة، وفي المقام تحرم عليه الأمور المعهودة إذا لبّى، ولا يتحلل من ذلك إلّابالتقصير في العمرة والسعي في الحجّ.

وبعبارة أخرى: الإحرام شي ء مترتب على التلبية لا أنّه التلبية نفسها، ولذا يعبّر عنها بتلبية الإحرام، ولا يدخل في هذه الحرمة الإلهية إلّابالتلبية.

والحاصل أنّ الإحرام أمر اعتباري تترتب عليه هذه الأمور بسبب التلبية، فحال الحجّ بعينه حال الصلاة في كون التكبيرة أوّل جزء من أجزائها وبها يدخل في الصلاة، وكذلك التلبية فإنّها أوّل جزء من أجزاء الحجّ وبها يدخل في تلك الحرمة الإلهية، كما في النصّ الدالّ على أنّ الذي يوجب الإحرام ثلاثة: التلبية والإشعار والتقليد (1).


1- المصدر نفسه.

ص: 60

وحاصل كلامه أن الإحرام أمر مسبّبي، يحصل من التلبية للمسبب آثاره التي ترتب عليه بعد التلبية.

ثمّ إنّ القائل استشهد لما ذكره بروايات:

1. صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا فرغت من صلاتك وعقدت ما تريد فقم وامش هنيئة، فإذا استوت بك الأرض ماشياً كنت أو راكباً فلبّ (1).

2. صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا صليت عند الشجرة فلا تلبّ حتّى تأتي البيداء، حيث يقول الناس: يخسف بالجيش (2).

3. صحيحة عبداللَّه بن سنان قال: سمعت أبا عبداللَّه يقول: إنّ رسول اللَّه لم يكن يلبي حتّى يأتي البيداء (3).

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على أنّ مفتاح الإحرام هو التلبية كتكبيرة الإحرام في الصلاة، ويؤيد ذلك أيضاً أمران:

أ- ما دلّ على جواز المواقعة بعد دخول المسجد والصلاة فيه، ولبس الثوبين، وقبل التلبية (4).

ب- ما سيوافيك من أنّ الإشعار والتقليد يقومان مقام التلبية (5).

ذلك كلّه، يدلّ على أنّ مفتاح الإحرام والدخول في عمل العمرة، هو التلبية، فما لم يُلبّ لا ينعقد الإحرام بها، فمع أنّها جزء من العمرة مفتاح لها، كتكبيرة الإحرام، ومثل هذا العمل لا يتحقق بلا نية.


1- الوسائل 9، الباب 34 من أبواب الإحرام، الحديث 2.
2- المصدر نفسه: الحديث 4.
3- المصدر نفسه: الحديث 5.
4- الوسائل 9، الباب 34، الحديث 6.
5- الوسائل 8، الباب 12 من أبواب أقسام الحجّ، الحديث 9، 20، 21.

ص: 61

إن قلت: إذا كان الإحرام غير متحقق إلّابالتلبية فبماذا تفسر قول الراوي قال: كتبت إلى أبي إبراهيم عليه السلام: رجل دخل مسجد الشجرة فصلّى وأحرم وخرج من المسجد فبدا له أن قبل أن يلبي أن ينقض ذلك بمراجعة النساء... (1).

قلت: هو محمول على مجاز المشارفة، أي تهيأ للإحرام، كما أنّ الحال هو كذلك في بعض الروايات السابقة.

ويلاحظ عليه أولًا: إنّ ما استدلّ به من الروايات لا يدلّ إلّاعلى أنّ مفتاح الإحرام هو التلبية، وأنّ الحاج ما لم يُلبّ لا تحرم عليه المحظورات، أمّا أنّ حقيقة الإحرام عبارة عن أمر مسبّبي حاصل من التلبية، ووصفه بإدخال النفس في حرمة اللَّه فلا يستفاد من هذه الروايات.

وبعبارة أُخرى: إنّ ما أفاده أنّ التلبية سبب والإحرام أمر اعتباري يتولد من التلبية أمر لا يستفاد ممّا أورده من الأحاديث. نعم لو أراد من قوله: إدخال النفس في حرمة اللَّه، مصداق الحرمة، أعني العمرة والحج، لرجع إلى الوجه السادس الّذي هو المختار، وعندئذ يلاحظ عليه بأنّه لماذا عدل عن التعبير الواضح إلى التعبير المعقّد؟!

وثانياً: لوكان الإحرام أمراً اعتبارياً متحصّلًا من التلبية التي نسبتها إليه نسبة المحصِّل إلى المحصَّل يلزم الاحتياط في كلّ ما شك في جزئية شي ء أو شرطيته للإحرام، وهو كما ترى.

4. الإحرام أمر إنشائي يوجد بتحريم المحرمات

إن الإحرام صفة خاصة، تجعل للمحرم بتوسط الإلتزام بترك المحرمات أو نيّة ترك المحرمات، لا أنّه نفس الترك للمحرمات (2)، فيكون الالتزام سبباً لإنشاء الإحرام وحصوله، نظير سائر المفاهيم الإيقاعية الّتي تنشأ بالالتزام.

وهذا القول هو أيضاً خيرة بعض الأساطين على ما في تقريرات درسه، حيث


1- الوسائل: 9، الباب 14 من أبواب الإحرام، الحديث 12.
2- المستمسك 11: 361.

ص: 62

قال: إنّ الإحرام أمر إنشائي يوجده المحرم بتحريم المحرمات على نفسه، وإن كان لا يؤثر في التحريم قبل التلبية، كما هو المستفاد من المحقّق في الشرائع.

ثمّ إنّه قدس سره ذكر كلام المحقّق في الشرائع في إحرام الحجّ حيث جاء فيه: «ثمّ ينشى ء إحراماً آخر للحج من مكة»، وهو ظاهر في أنّ الإحرام أمر إنشائي، وعبر بذلك في التحرير والسرائر (1).

ويلاحظ عليه: أنّ الإنشاء يحتاج إلى سبب، فما هو السبب؟ فإن كان السبب هو الالتزام القلبي على تحريم المحظورات- كما هو ظاهر كلامهما- فهو ممنوع، لأنّ الإنشاء يحتاج إلى سبب إما فعلي- كما في المعاطاة- أو قولي، والمفروض عدمهما، وإن كان السبب هو التلبية، فهو ليس سبباً عرفياً لتحريم المحرمات، بل هو إجابة لدعوة إبراهيم الخليل القريبَ والبعيد إلى زيارة البيت الحرام، حيث إنّه سبحانه يخاطب إبراهيم بقوله: [وأذِّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِّ يَأتوكَ رِجالًا وَعلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (2)].

وأمّا ما استدل به من كلام الشرائع، فالظاهر أنّ مراده من الإنشاء هو نفس الإحرام، أي يحرم إحراماً آخر وراء الإحرام للعمرة. لا أنّ الإحرام من الأمور الإنشائية مقابل الأمور الواقعية الّتي يحكى عنها بالألفاظ، وعلى فرض صحة إنشاء الأُمور النفسية بالالتزام فهو تفسير عقلي، غير مطروح لأكثر المحرمين.

5. الإحرام حالة تمنع عن فعل شي ء من المحظورات

عرّف الشيخ جعفر كاشف الغطاء الإحرام بقوله: هو عبارة عن حالة تمنع عن فعل شي ء من المحرّمات المعلومة، ولعلّ حقيقة الصوم كذلك، فهي عبارة عن المحبوسية عن الأمور المعلومة، فيكونان غير القصد، والترك، والكف، والتوطين، فلا يدخلان في الأفعال، ولا الأعدام، بل حالتان متفرعتان عليها، ولا يجب على


1- كتاب الحج للسيد الگلبايگاني: 246.
2- الحج: 27.

ص: 63

المكلّفين من العلماء، فضلًا عن الأعوام، الاهتداء إلى معرفة الحقيقة، وإلّا لزم بطلان عبادة أكثر العلماء وجميع الأعوام (1).

ويلاحظ عليه: أنّه لو كانت حقيقة الإحرام هو ما ذكره، لوجب تحصيل تلك الحالة عند الإحرام، لأن الأمر بالإحرام أمر به بماله من الواقعية، مع أنّه اعترف بأن العلماء- فضلًا عن العوام- لا يهتدون إلى تلك الحقيقة حتّى يحصّلونها، فأي فائدة في جعل شي ء موضوعاً للحكم مع عدم اهتداء أغلب المكلفين إليه؟!

ويرد عليه مثل ذلك في تعريف حقيقة الصوم.

6. الإحرام هو قصد الدخول في العمرة أو الحجّ لا غير

الظاهر- من معاجم اللغة- أن الإحرام عبارة عن قصد الدخول في أعمال العمرة والحج لا غير، وإنما أطلق عليه الإحرام، لكون المدخول «حرمات اللَّه»، وتبيين ذلك رهن بيان أمرين:

1. الحرمة لغة، ما لا يجوز انتهاكه ووجبت رعايته، قال سبحانه بعد ذكر مناسك الحجّ: [ثُمّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ] (2).

لا يتحقّق الدخول في العمرة أو الحجّ إلّاعن طريق خاصّ، وهو التلبية، فكأنّها مفتاح الدخول في هذا العمل الذي هو من حرمات اللَّه سبحانه.

قال الطبرسي: [ثُمَّ لْيَقْضُوا] أي يزيلوا شعث الإحرام من تقليم ظفر وأخذ شعر، و [وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ] بإنجاز ما نذروا من أعمال البر في أيّام الحج، [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ] والبيت العتيق هو الكعبة، [وَمَنْ يُعَظِّمْ


1- كشف الغطاء 4: 521- 522.
2- الحج: 29- 30.

ص: 64

حُرُمَاتِ اللَّه...] والحرمات ما لا يحلّ انتهاكه، واختار أكثر المفسرين في معنى الحرمات هنا: أنّها المناسك؛ لدلالة ما يتصل بها من الآيات على ذلك، وقيل معناها: البيت الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمسجد الحرام (1).

واللفظ يدلّ على أنّ كلّ شي ء له مكانة عند اللَّه تجب رعايته، فهو الحرمة، من غير فرق بين الأعمال كالمناسك أو غيرها كالبيت، والشهر، والمسجد الحرام.

2. وجود الفرق الواضح بين التحريم والإحرام، كالفرق بين قوله «حرّم» و «أحرم».

أمّا الأول، فهو عبارة عن المنع عن الشي ء، كقوله سبحانه: [كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلّاً لِبَني إسْرائِيلَ إلّامَا حَرَّمَ إسْرائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ] آل عمران: 93، حيث حرّم يعقوب بعض الأطعمة على نفسه وفاءً للنذر (2)، وأمّا الثاني، أي أحرم، فهو عبارة عن الدخول في شي ء له منزلة وكرامة لا تهتك، فيقال: أحرم: أي دخل الحرم، أو دخل الشهر الحرام.

وعلى ضوء ذلك، يكون معنى قوله أحرم: دخل في العمرة أو الحجّ اللذين من حرمات اللَّه سبحانه، وقد مرّ عن الفيومي أنّه فسر قوله: «أحرم» الشخص بنوى الدخول في حج أو عمرة، ومثله ابن منظور في اللسان.

نعم، لا يتحقق الدخول في العمرة أو الحجّ إلّاعن طريق خاص، وهو التلبية، فكأنها مفتاح الدخول في هذا العمل الذي هو من حرمات اللَّه سبحانه.

وفي بعض الروايات ما يدل عليه، نظير صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام- حيث وصف حجّ النبي في حديث مبسوط- قال: «فلما انتهى حتى أتى المسجد الذي عند الشجرة، فصلّى فيه الظهر، وعزم بالحجّ مفرداً وخرج حتى


1- مجمع البيان 4: 83- 82، ولاحظ أيضاً، تفسير قوله سبحانه: [والحرمات قصاص]، البقرة: 194، في المجمع 1: 287.
2- مجمع البيان 1: 475.

ص: 65

انتهى إلى البيداء عند الميل الأوّل فصف الناس... فلبى بالحجّ مفرداً وساق الهدي» (1)، فقد بين الإمام إحرام النبي عليه السلام بالجملتين:

1. عزم بالحجّ، وفي بعض النسخ أحرم بالحجّ.

2. فلبّى بالحجّ مفرداً.

وبما أنّ «العزم» يتعدى يقال: عزمت الأمر، فلعل الصحيح هو الثاني، أي أحرم بالحجّ، أي دخل في الحجّ الذي هو من حرم اللَّه، فليس للإحرام واقعية سوى الدخول في واحدة من الحرمتين: العمرة والحج، بطريق خاص وهو التلبية، وبما أنّ النبي صلى الله عليه و آله لبّى في البيداء، فيحمل قوله: «أحرم بالحجّ» على مجاز المشارفة.

هذا هو حقيقة الإحرام، ومع ذلك يستحبّ معه أن يقول: أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي ومخّي وعصبي من النساء والثياب والطيب (2)، والجميع من أحكام الإحرام ولوازمه، لا أنّها حقيقته.

المقام الثالث: كيفية تعلق النية بالإحرام

ذكر الفقهاء أن من واجبات الإحرام النية، وفُسر بمعنى القصد إليه، وعلى ضوء ما ذكرَ يكون الإحرام مقصوداً، والقصد متوجهاً إليه، فهل يصح ذلك على عامة النظريات في حقيقة الإحرام أو لا؟ وإليك دراسته.

أمّا على النظرية الأولى: فلو كان الإحرام أمراً مركباً من أمور ثلاثة، أحدها النية والآخران: التلبية ولبس الثوبين، فلا تتعلق به النية، لأنّ أحد أجزائه، هو النية، فكيف تتعلق النية بها، إلّاأن يقال: إنّه أمر بسيط يحصل من الأمور الثلاثة، فتتعلق به النية، وقد عرفت إشكاله.

وأمّا على الثانية: أي توطين النفس على ترك المنهيات، فهو بالذات أمر قصدي فلا يقع متعلقاً للنية.


1- الوسائل 8، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ، الحديث 4.
2- الوسائل 8، الباب 16 من أبواب أقسام الحجّ.

ص: 66

وأمّا على الثالثة: أي الإحرام أمر اعتباريّ يتحصل بالتلبية، فتتعلق به النية، أمّا السبب أي التلبية فواضح، وأمّا المسبب فمن طريق تعلّقها بالسبب.

وأمّا الرابعة: أعني كونه أمراً إنشائياً يوجده المحرم بتحريم المحرمات على نفسه، فلو كان آلة الإنشاء هو الالتزام النفساني فهو بالذات أمر قصدي لا تتعلق به النية، وإن كانت التلبية فيصحّ تعلقها بها.

وأمّا الخامسة: أعني الحالة التي تمنع عن فعل شي ء من المحرمات المعلومات، فبما أنّها لا تحصل إلّابالسبب، يكون حكمها حكم النظرية الرابعة.

وأمّا السادسة: أعني الدخول في العمرة والحجّ بالتلبية فتعلقها به واضح.

ص: 67

فقهيات معاصرة في الحج (1) حكم الشكّ في صدق العناوين

سماحة الأستاذ الشيخ محمد القائيني

من المسائل التي يعمّ الابتلاء بها في العبادات من الحجّ وغيره، حكم الشكّ في صدق العناوين التي وقعت متعلقاً للتكاليف الشرعية كعنوان الصوم أو السجدة أو الطواف أو الوقوف بالمشاعر التي يجب الوقوف بها في نسك الحج وغير ذلك من الموارد الكثيرة؛ والبحث في وظيفة المكلّف في هذه الموارد من حيث لزوم الاحتياط أو عدمه والحكم بالبراءة.

وينبغي قبل الورود في البحث التنبيه على نقاط:

النقطة الأولى: جهة البحث في هذه المسائل، لزوم الاحتياط وعدمه من حيث كون هذه الموارد من قبيل الشك في محصّل الامتثال وعدمه؛ بعد الفراغ عن كون موارد الشك في التكليف بالأقل أو الأكثر في الارتباطيات مجرى البراءة.

النقطة الثانية: إن محل الكلام هو الشك في صدق المفهوم لا بنحو الشبهة المصداقية؛ وإلّا فواضح أن الشك في إتيان المكلّف بالوظيفة بعد كون المطلوب منه مبيناً لا فرق فيه بين ما كان من قبيل الشك في فعل السجدة الواجبة وغيره؛ وعليه فلو تردد المكلّف في المكان الذي وقف به سابقاً وأنه كان يبعد عن مكة أربع فراسخ حتّى يكون عرفة أو أن موقفه كان يبعد عن مكة فرسخين حتّى يكون المشعر

ص: 68

الحرام، بعد فرض أن الموقفين لا إبهام فيهما من حيث المفهوم، ولم يكن هناك حجّة على الكفاية كقاعدة فراغ ونحوها، كان المرجع هو الحكم بعدم الامتثال.

إذن، فحال هذا المكلّف حاله لو شك في فعل صلاة لم يذهب وقتها، حيث يجب عليه الاحتياط.

النقطة الثالثة: قد يفرض في موارد الشك في صدق العناوين كون التكليف من قبيل صرف الوجود.

وقد يكون من قبيل ما تعلق التكليف بجميع أفراده إمّا بنحو الانحلال والاستقلال أو بنحو الارتباط والمجموع على أن يكون المجموع امتثالًا واحداً.

وعمدة الكلام في المقام هو القسم الأول والأخير؛ وأمّا القسم الثاني فمآله إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين الذي لا شبهة فيه.

النقطة الرابعة: قد يكون إجمال المفهوم من حيث دورانه بين متباينين، كما لو تردد المكلّف في محلّ الجمرة التي ترمى وأنه في مكان كذا أو مكان آخر يباينه، فهذا مما يجب الاحتياط فيه بلا ريب؛ للعلم الإجمالي الذي تجب موافقته ما لم يرد الترخيص في مخالفة بعض أطرافه؛ وهذا خارج عن محل البحث. ومن قبيله تردد الجمرة بين البناية الموجودة الآن وبين ما بحذائه تحته وبين ما بحذائه فوقه؛ لاحتمال كون أرض منى قديماً أعلى من هذا الزمان، ولاشتماله على بعض المرتفعات سُوّي برفع الربوات، أو كون أرض منى قديماً أخفض من هذا الزمان حيث يحتمل طمّ بعض وادي منى بالتراب، توسعة لها وتسوية لحزونها؛ وهذان الاحتمالان موجودان في جمرة العقبة؛ حيث إنها كانت ربوة يمكن الصعود عليها وللجمرة وجه وفوق كما ورد في النصوص، حيث قال عليه السلام كما في الخبر: ارمها من وجهها ولا ترمها من أعليها؛ ثم إن الحكومة رفعت الربوة وسوّتها مع الأرض وبنت مكانها علامة كالاسطوانة ترمى.

وقد يكون الإجمال من حيث دورانه بين الأقل والأكثر، كما لو شك أن فوق

ص: 69

جبل الرحمة من الموقف، مع العلم ببقيّة الموقف وإنما الشك في دخول قلة الجبل ضمن الحدّ، فالوقوف في غير القلة صحيح بلا ريب، وإنما الشك في إجزاء الوقوف على القلّة وهذا القسم هو المقصود بالبحث في المقام.

النقطة الخامسة: ليعلم أن محل الكلام في حكم الشك في صدق العناوين من جهة التردد في مفاهيمها، وأنّ المرجع فيه هو الاحتياط أو البراءة هو موارد الشك في تحقق الامتثال بعد العلم باشتغال الذمّة وثبوت التكليف على العهدة؛ كالشك في تحقق امتثال الطواف بدون موازاة البدن للبيت مع العلم بكون المكلّف مأموراً بالطواف بالبيت، فهذا ربما يتردد في حكمه من حيث لزوم الاحتياط عليه وعدمه؛ وأمّا موارد الشك في صدق المفهوم المستلزم للشك في أصل التكليف من جهة تردد التكليف بين الزيادة والنقيصة في غير الارتباطيات فلا إشكال في مورده في عدم لزوم الاحتياط والحكم بالبراءة.

فلو شكّ في صدق الخمر على ما يوجب شربه بعض مراتب الانتعاش أو شك في صدق السكر على بعض الحالات لاحتمال تقومه بمرتبة أعلى فالحكم هو البراءة بلا ريب؛ كل ذلك لرجوع الشك إلى الشك في زيادة التكليف، والذي يكون المرجع فيه هو البراءة؛ فإن التكليف بالمحرّمات منحل إلى الأفراد وانحلاله إلى الأفراد المشكوكة- وإن كان منشأ الشك فيها إجمال المفهوم لا المصداق- مشكوك فيحكم بالبراءة.

نعم، لا بدّ في الشبهات المفهوميّة من الفحص حتّى تستقر الشبهة، وإلّا فبمجرد الشك لا يمكن الرجوع إلى البراءة كما في ساير الشبهات الحكمية.

ثم إنه في موارد الشبهة المفهوميّة المستلزمة للشك في أصل التكليف إنما يكون المرجع هو البراءة إذا لم يكن هناك علم إجمالي وإلّا كان محكوماً بحكم موارد العلم؛ فلو شك في حدود مكّة لحرمة صيدها على المحلّ فإن المرجع هو الحلّ إلّاإذا تشكل للمكلّف علم إجمالي؛ كما لو كان الشاك في الفرض المتقدّم موظّفاً بإحرام الحج من

ص: 70

مكة؛ ففي المحلّات المشكوكة كما يشك في حرمة الصيد، كذلك يشك في تحقق امتثال الأمر بالإحرام. وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في النقطة الآتية إن شاء اللَّه تعالى.

النقطة السادسة: إن الجهة المبحوثة في الشبهات المفهومية والتردد في البراءة أو الاحتياط إنما هي مع غض النظر عن العلم الإجمالي الذي ربما يتفق في بعض الشبهات المفهوميّة؛ فإن وجوب الاحتياط في مثل ذلك أجنبي عمّا نحن بصدد التعرض له فعلًا.

مثال ذلك: إن الشك في اشتراط الإحرام بموضع خاص كمسجد الشجرة أو منطقة ذي الحليفة وكذا في وادي عقيق، الشك في اشتراط الإحرام بأوّل هذا الميقات أو جواز تأخيره إلى آخره من جهة مكة، وكذا أمثال ذلك هو من صغريات محلّ البحث؛ من جهة كونه من مصاديق الشبهة المفهوميّة لامتثال الأمر بالإحرام؛ ومع ذلك يمكن دعوى وجوب الاحتياط في أمثاله بصرف النظر عمّا تقتضيه القاعدة في الشبهات المفهوميّة للامتثال؛ وذلك لأن من أحرم من غير الموضع المتيقّن حيث يشك في انعقاد إحرامه فينبغي الحكم بعدم انعقاد الإحرام من جهة حرمة تروك الإحرام، وإن كان الإحرام من المحل المشكوك كافياً في سقوط الوظيفة من حيث امتثال نسك الحج والعمرة لولا العلم الاجمالي؛ فلو صاد هذا المكلّف لم تجب عليه الكفّارة لعدم العلم بانعقاد الإحرام؛ وأصالة البراءة من اشتراط الإحرام بعقده من مكان خاص لا يثبت انعقاد الإحرام بدونه، فيعلم المكلّف حينئذٍ إجمالًا بوجوب الإحرام عليه من خصوص مثل مسجد الشجرة أو حرمة محرمات الإحرام لو عقده من غير المسجد؛ وبتعبير آخر: من أحرم من غير المسجد يعلم إجمالًا بحرمة التروك عليه أو بوجوب تجديد الإحرام من المسجد.

ويمكن تصوير العلم الإجمالي على أساس أن المكلّف يعلم إجمالًا بحرمة تجاوز الميقات عليه، وكذا دخول مكّة أو الحرم، أو بحرمة تروك الإحرام عليه.

هذا كلّه بعيداً عن استصحاب عدم انعقاد الإحرام لو عقد من غير الموضع المتيقّن

ص: 71

لكونه استصحاباً في الشبهة الحكمية، أو معارضاً بالبراءة من اشتراط الإحرام بما يشك في اعتباره.

النقطة السابعة: إن جهة البحث في مسألة الشبهة المفهومية للامتثال إنما تقع مع غض النظر عن أصل خاص في بعض المواضع يقتضي خلاف ما يقتضيه الأصل العام في الشبهة المفهوميّة.

فلو شك في حدّ الجمرة لم يكف رمي الموضع المشكوك للخروج عن الإحرام، بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية، فيحكم ببقاء حرمة التروك ما لم يحرز زوال حرمتها بالخروج عن الإحرام. وإن كان مقتضى الأصل في الشبهة المفهومية للامتثال هو البراءة؛ فإن أصل البراءة لا يثبت كون المأتي به امتثالًا للأمر أو مصداقاً للواجب كما في ساير موارد الأقل والأكثر.

فمن صلى فاقداً للجزء أو الشرط المشكوكين لا يحرز كون ما أتى به مصداقاً للامتثال، وإن كان يجوز الاكتفاء به لحديث الرفع، حيث لا يكون وجوب الزائد معلوماً.

ولذا يشكل الاكتفاء بمثل هذه الصلاة في مسألة أن قاصد الإقامة عشرة أيام لو صلى رباعيّة كان عليه الإتمام ولو بعد العدول عن الإقامة، وذلك بناءً على ما هو المنساق من دليلها من كون الصلاة المفروضة فيها هي الصلاة الصحيحة المأمور بها دون الفاسدة كالفاقدة للطهارة حيث يحرز ذلك؛ وحيث يحتمل فساد الصلاة بترك الجزء المشكوك أو شرطها فيكون التمسك بإطلاق النص لمثل هذه الصلاة تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة له، ومجرد جواز الاكتفاء بمثل هذه الصلاة لا يثبت كونها مأموراً بها وامتثالًا للأمر و صحيحاً.

وبالجملة: فجهة البحث في الشبهات المفهوميّة من حيث البراءة والاحتياط إنما هي جريان استصحاب الاشتغال أو قاعدته، لكون الحالة الأولى هي الاشتغال وعدمه؛ وأمّا سائر الجهات كوجود أصل آخر يستلزم اشتغال الذمّة فليس هذا محلّ نفيه أو إثباته.

ص: 72

إلّا أن يتمسك بإطلاق النص وشموله لكل صلاة يجوز الاكتفاء بها وإن لم يحرز كونها صحيحة ومأموراً بها، والمتيقّن خروجه عن الإطلاق هوالصلاة المحرز فسادها.

وبمثل هذا يقال في زوال حرمة تروك الإحرام وأن ما دل على حل محرمات الإحرام بالرمي والذبح والحلق مطلق، يعم الرمي الذي يحل الاكتفاء به في مقام الامتثال وإن لم يحرز كونه امتثالًا وصحيحاً.

ثمّ إنّه على الأساس المتقدم يشكل الرجوع إلى البراءة حيث تكون هي الأصل في الشبهات المفهومية فيما إذا كان لمتعلق الأوامر أثر إلزامي غير الامتثال كما في الحج والعمرة؛ حيث إن الخروج عن الإحرام والتحلّل منه منوط بامتثال أجزاء الحج الذي لا يحرز بالاقتصار على الأقل عند التردد بينه وبين الأكثر؛ فإن نهاية ما تقتضيه البراءة كون المكلّف مأموناً على تقدير تعلق التكليف بالأكثر، ولا تقتضي كون الأقل هو متعلق التكليف إلّامثبتاً.

بل مقتضى الاستصحاب عدم الخروج من الإحرام إلّاإذا أتى المكلّف بالمناسك على الوجه الصحيح المأمور به.

ثمّ إنّه في موارد الشبهة المفهوميّة المستلزمة للشكّ في أصل التكليف، إنّما يكون المرجع هو البراءة، إذا لم يكن هناك علم إجمالي

بل ربما يكون بقاء الإحرام مقتضى الإطلاق، كما لو دلّ دليل على أنه إذا لَبّى المحرم انعقد إحرامه؛ وإنما المقيد لإطلاقه هو فرض أداء بقية المناسك على الوجه الصحيح؛ وبدونه فهو محكوم بالإحرام. و من جملته ما لو اقتصر على الأقل إذا تردد منسك بينه وبين الأكثر في جزء أو شرط.

إلّا أن يقال: إن تقيد بقاء الإحرام بعدم فعل المناسك من قبيل القرينة المتصلة، لارتكاز ذلك عند المتشرعة، فيكون التمسك بإطلاق دليل الإحرام

ص: 73

بالتلبية على تقدير فعل المناسك التي يشك في صحتها للاقتصار على الأقل وترك الجزء والشرط المشكوكين، من التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية فيبقى الدليل منحصراً في استصحاب الإحرام.

ثم إنه على هذا يشكل الاكتفاء في الوضوء والغسل المأتي بهما لأداء مناسك الحج، إذا اقتصر المكلّف فيهما على الأقل؛ وإن كان لولا الحج جاز له الاكتفاء بالأقل تمسكاً بالبراءة.

وكذا الكلام في صلاة الطواف وإن كان مقتضى الأصل في الصلاة اليومية هو البراءة.

نعم جريان الاستصحاب في مثل المقام مبني على اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وإلّا كان حكم المقام حكم ساير الواجبات التي لا أثر خاصّ فيها معلق على الإمتثال، كالصلاة اليومية إذا شك في جزء أو شرط لها.

والمتحصل في هذه الجهة امور:

الأول: أن إثبات البراءة عن الجزء المشكوك وكذا الشرط لا يثبت صحة العمل الفاقد لهما؛ وإنما الذي يقتضيه هو عدم وجوب الاحتياط بفعل المشكوك.

الثاني: أنه إذا كان أثر مترتباً على فعل صحيح أو فعل ما هو المأمور به فلا يترتب على العمل الذي يجوز الاكتفاء به على أساس أصل البراءة؛ نعم لو كان هناك أصل موضوعي لإثبات الصحة كأصالة الطهارة المحرز للشرط تعبّداً فإنه حاكم على مثل الدليل المتقدم ومثبت لصحة العمل المشكوك تعبداً.

الثالث: إن الاستصحاب حيث يعتبر في الشبهات الحكمية يقتضي بقاء الآثار الإلزامية غير الامتثال بعد فعل مشكوك الصحة لترك الجزء والشرط المشكوكين؛ كحرمة تروك الإحرام بعد أداء النسك فاقداً لما يحتمل اعتباره شرعاً في الصحّة أو لما يحتمل اعتباره في صدق المفهوم والعنوان.

كما أن الاستصحاب أو أصل البراءة- حسب ما ذكرناه في جهة أخرى هنا-

ص: 74

يقتضي عدم ترتب الأثر الإلزامي فيما لو كان لفعل المأمور به على وجه صحيح أثر إلزامي إذا اقتصر المكلّف على فاقد الجزء والشرط المشكوكين، كما لو أحرم من موضع يشك في جواز الإحرام منه أو بدون الغسل حيث يحتمل اعتباره في انعقاد الإحرام. وحيث يعلم إجمالًا- حسبما نبهنا عليه في تلك الجهة- بحرمة التروك أو بوجوب استئناف الإحرام فيسقط الأصل؛ ونتيجة ذلك أنه لا بد في الحج من الاحتياط كلّما شك في جزئية شي ء أو شرطيته لأيّ نسك منه من بدو الإحرام إلى نهاية المناسك.

أمّا إذا شك في اعتبار شي ء في الإحرام فلأن أصالة البراءة عن اعتباره فيه معارض بأصالة البراءة عن تروك الإحرام بعد فعل الإحرام المشكوك صحته؛ وفي إجراء الأصلين ترخيص في المخالفة القطعيّة؛ وإجراء أحدهما لا مرجح له؛ فلا مؤمّن بترك الاحتياط فيجب فعل الجزء والشرط المشكوكين لا محالة.

وهذا لا يبتني على جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة.

وأمّا إذا شكّ في اعتبار شي ء في المناسك المتأخرة عن الإحرام كالطواف والسعي وغيرهما فأصالة البراءة عن المشكوك معارضة باستصحاب بقاء محرمات الإحرام على حرمتها بعد فعل النسك على الوجه الذي يشك في صحته؛ بل لا منافاة بين الأصلين فيجريان معاً؛ لأن الاستصحاب هذا لا ينفي البراءة، كما أن البراءة لا تثبت صحة العمل لتنفى بالاستصحاب وتكون حاكمة عليه.

نعم، يعلم إجمالًا بعدم مطابقة أحد الأصلين للواقع؛ ولكن ليس هذا محذوراً في جريان الاصول ما لم يلزم من جريانهما ترخيص في مخالفة قطعية. ولازم جريان الاستصحاب عدم الخروج عن حرمة تروك الإحرام بدون الاحتياط والإتيان بما يشك في اعتباره من جزء أو شرط.

بل لابد للخروج من الإحرام من الاحتياط فيما لا يجب فيه الاحتياط في غير الحج؛ كالطهارات والصلاة للطواف؛ فغسل بعض المواضع المشكوكة لا يجب في

ص: 75

الوضوء والغسل إلّاإذا كان الوضوء والغسل لنسك الحج والعمرة كالطواف والصلاة له؛ وفعل القنوت والسورة لا يجب حيث يشك في وجوبهما في الصلاة اليومية؛ ولكن يجب فعلهما في صلاة الطواف؛ وبدونهما لا يخرج المحرم عن الإحرام.

وليست هذه النتيجة غريبة في مجاري الاصول؛ فإن التفكيك بين الأشياء المتحد حكمها في الواقع ليس غريباً عن مجاري الاصول.

نعم، جريان هذا الاستصحاب منوط باعتبار الاستصحاب في الشبهة الحكمية، وإلّا فلا يجري ويبقى أصل البراءة عن الجزء والشرط المشكوكين وعن حرمة تروك الإحرام بعد أداء النسك فاقداً للواجبات المشكوكة بلا محذور.

نعم، يمكن أن يقال- كما أشرنا إليه-: إن ما دلّ على اعتبار النسك للخروج عن الإحرام أو لسقوط الأثر الإلزامي كحرمة التروك، لا يختص بفعل النسك على الوجه الصحيح حتّى يقال: إن أصل البراءة عن المشكوكات لا تثبت صحة العمل الفاقد لما يشك في وجوبه من جزء أو شرط.

ص: 76

نعم، لو أتى بفعل النسك على الوجه الذي يقطع معه بالفساد لا يخرج عن الإحرام؛ كما لو طاف أو صلّى له بلا وضوء أو مع استصحاب الحدث فإنه محكوم بالفساد ولو ظاهراً وتعبداً.

وأمّا إذا أتى بالمناسك على وجه يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال للحكم التكليفي، بحيث لو لم يكن هناك أثر إلزامي غير الحكم التكليفي ووجوب الفعل لم يكن عليه الاحتياط، فلا موجب لخروجه عن عموم الدليل أو إطلاقه الدال على أن من فعل النسك خرج عن الإحرام.

فيكون الخارج عن الإطلاق خصوص العمل الذي لا يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال؛ اقتصاراً في تخصيص الدليل على القدر المتيقن.

فما دل على أن الحاج يخرج عن الإحرام بالطواف وساير النسك يعمّ الطواف الفاقد لما يشك في اعتباره، كما لو طاف خارجاً عن الحد- بين البيت والمقام- ولو في خصوص الزحام؛ حيث يشك في اعتبار الحدّ ولو في هذا الفرض؛ أو طاف مستقبلًا الكعبة أو طاف زحفاً أو مسرعاً بمثل العَدْو أو ما شاكل ذلك.

نعم، لو كان ما يشك في اعتباره داخلًا في المفهوم على تقدير اعتباره، كان التمسك بإطلاق الدليل المتقدم لمثله تمسكاً بالعام في الشبهة المفهوميّة؛ وهذا لا يجوز كما لو طاف بعيداً عن البيت حدّاً يشك معه في صدق الطواف بالبيت؛ أو طاف في طابق أعلى من البيت حيث يشك في صدق الطواف بالبيت؛ لاحتمال اشتراط صدق مفهوم الطواف بالموازاة للبيت؛ فلا يكون الطواف بدونها طوافاً بالبيت؛ بل هو طواف فوقه؛ ومن هذا القبيل لو وقف بمكان يشك في كونه من عرفات أو المشعر، فإنه من الشبهة المفهوميّة؛ ومعه يشكل التمسك بإطلاق الدليل المتقدم لمثله؛ وأصالة البراءة في الشبهات المفهوميّة لا تثبت تحقق العنوان كعنوان الوقوف بعرفة والمشعر؛ وإنما تقتضي عدم وجوب الاحتياط خاصّة كما تكرر.

وعليه، فينبغي أن يفصل في الشك في الجزئية والشرطية بين ما إذا كان

ص: 77

المشكوك على تقدير اعتباره داخلًا في المأمور به لا مقوّماً للعنوان والمفهوم المفروض في الدليل فيحكم بالبراءة عنه؛ ومع ذلك فالدليل المتضمن لارتفاع الأثر الإلزامي بفعل النسك يعم العمل الفاقد للمشكوك كما يعم الواجد له؛ وبين ما إذا كان المشكوك على تقدير الاعتبار داخلًا في المفهوم والعنوان؛ فإن أصل البراءة وإن كان يرخص في ترك المشكوك ولكن استصحاب بقاء الأثر الإلزامي المنوط بفعل العناوين والمفاهيم الخاصّة يقتضي بقاء الأثر ما لم يأت بالعمل على وجه الاحتياط؛ بعدما كان الدليل المتضمن لزوال الأثر الإلزامي بفعل النسك قاصراً عن شموله؛ لعدم إحراز صدق العنوان على تقدير الإتيان بالنسك فاقداً للمشكوك.

إلّا أن يقال: إن المتفاهم من الدليل الخاص المتضمن لإناطة زوال الأثر الإلزامي بفعل النسك هو إناطته بفعل ما يجوز الاكتفاء به في مقام العمل بالغض عن الأثر الإلزامي؛ فإذا كان في الشبهة المفهومية يجوز الاكتفاء بالعمل فاقداً لما يحتمل دخله في المفهوم كما يأتي إن شاء اللَّه، فليس زوال الأثر منوطاً إلّابه؛ لا بخصوص ما يحرز معه صدق العنوان.

فكما أن زوال الأثر لا ينوط بإحراز صحة النسك على تقدير إحراز صدق العنوان حسبما تقدم، كذلك لا ينوط بإحراز صدق العنوان أيضاً؛ فإن المتفاهم من هذا الدليل ليس أكثر من اعتبار فعل المناسك على وجه يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال؛ لا أنه يعتبر إحراز صدق العنوان فضلًا عن اعتبار إحراز صدق الامتثال والصحة؛ ولكن هذه الدعوى غير واضحة؛ بعد ما لم يكن أصل البراءة مشرّعاً في خصوص هذا القسم من التكاليف المشتملة على أثر إلزامي غير الامتثال ليلزم من تطبيقه عليها بدون زوال الأثر الإلزامي على تقدير الفعل المطابق لأصل البراءة نحو من اللغويّة؛ إذ يكون بقاء تحريم تروك الإحرام على تقدير فعل النسك على طبق البراءة مساوقاً عرفاً لعدم جريان البراءة ولزوم الاحتياط.

ص: 78

ولو صحّت هذه الدعوى لأمكن دعوى نظيرها في مبدأ الإحرام؛ وأنه لو أحرم على وجه يشك في صحة الإحرام واقعاً- للشك في صدق المفهوم وإن جاز الاكتفاء به في مقام الامتثال- ترتب على ذلك حرمة التروك؛ ولا يجري أصل البراءة عن التروك ليعارض أصل البراءة عن الجزء والشرط المشكوك؛ وذلك لكون المتفاهم من دليل حرمة محرّمات الإحرام ترتبها على فعل ما يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال وإن لم يحرز صحته أو صدق العنوان.

ثم ان هذا الذي ذكرناه من أن أصل البراءة لا يثبت عنوان صحة العمل لا يأتي فيما كان إثبات إجزاء العمل بمثل أصل الطهارة أو قاعدة لا تعاد ونحوهما.

أمّا أصل الطهارة فلأنه يثبت عنوان الصحة تعبّداً؛ لأنه إثبات لجزء العمل أو شرطه تعبّداً؛ وليس مجرد عدم وجوب الاحتياط؛ بل لسانه لسان الحكومة على كل دليلٍ ربط فيه الحكم بالصحة بشي ء. ومن قبيله قاعدة التجاوز والفراغ.

وأمّا قاعدة لا تعاد، فلأن مفادها حكم واقعي بخلاف مثل الاصول العمليّة، فإن عدم وجوب إعادة الصلاة إذا كان الإخلال بغير الخمسة حكم واقعي سواء كان على أساس صحة العمل أو غيرها. فمن أخلّ بالقراءة في صلاة الطواف لا تجب عليه إعادة الصلاة واقعاً؛ فما يترتب على الصلاة الصحيحة من الخروج عن الإحرام يترتب على الصلاة التي لا تجب إعادتها واقعاً على أساس قاعدة لا تعاد؛ لعدم إمكان البقاء على الإحرام بعد عدم إمكان تدارك الفائت بالإعادة.

النقطة الثامنة: إن الرجوع إلى الأصل العملي من براءة أو غيرها في الشبهة المفهومية للامتثال إنما يكون حيث لا يكون هناك أصل لفظي يحدد الوظيفة بعد إجمال المفهوم في المورد الخاص؛ نعم ليس هناك أصل لفظي عام لتحديد الوظيفة في موارد إجمال المفهوم يثبت إطلاق المفهوم وعدمه.

فلو شك في مفهوم البلد وصدقه في بعض المناطق المقاربة لبيوت البلد، كالبساتين المتصلة بالسور أو البيوت، وكان قاصد الإقامة عشراً بانياً على التردد

ص: 79

في تلك المناطق أثناء إقامته، تكون إقامته من موارد اشتباه انطباق عنوان الإقامة عشراً في بلد؛ والشبهة مفهومية لا مصداقية؛ فإنه فرق بين ما فرضناه وبين ما إذا كان قاصد الإقامة أعمى ولا يدرى أن محل إقامته وموارد تردده هو ثنايا البيوت أو في القرى الخارجة عن البلد فإن هذا- الثاني- شبهة مصداقيّة.

وكيف كان، فالمرجع مع اشتباه المفهوم هو عمومات التقصير على المسافر بعد انطباق العنوان على قاصد الإقامة جزماً؛ فإن قصد الإقامة لا يخرجه عن عنوان المسافر؛ وإنما خص المسافر بعد قاصد الإقامة، حكماً لا موضوعاً؛ فإذا كان المخصص مجملًا كان المرجع هو العموم حيث يكون. وهذا معنى ما نبهنا عليه من كون الرجوع إلى أصل البراءة أو الاحتياط في الشبهات المفهوميّة حيث لا يكون هناك أصل لفظي كالعموم.

النقطة التاسعة: لا فرق في الجهة المبحوثة في مقتضى الأصل العملي في الشبهات المفهومية للامتثال بين الواجبات والمحرّمات.

فكما يقع البحث في الشك في تحقق الإحرام وامتثال الأمر به لمناسك الحج، كذلك يقع البحث في الشك في تحقق الإحرام من جهة حرمة دخول مكة أو الحرم بدون إحرام. فلو قيل مثلًا بأصل البراءة في الشبهات المفهوميّة لامتثال الواجب، أمكن القول بذلك في الشبهة المفهومية لدخول مكة بدون إحرام؛ فيقال: المتيقّن حرمته هو الدخول بدون الإحرام من منطقة الشجرة ولو خارج المسجد، وأمّا معه فلا يقين بحرمة دخول مكّة؛ والأصل عدمها.

كما أنه لو قيل بالاحتياط في أصل المسألة أمكن القول به في فرض اشتباه الحرمة؛ بدعوى علم المكلّف بحرمة دخول مكة عليه واشتغال ذمّته بها؛ وإنما الشك في سقوط الحرمة بمجرد الإحرام من خارج المسجد، فينبغي الاقتصار في رفع اليد عن التكليف المحتوم على فرض اليقين بسقوطه.

وبالجملة: ملاك الأصل العملي من براءة أو احتياط في الموردين واحد.

ص: 80

ودعوى أن مقتضى الاستصحاب في موارد الشبهة المفهومية التحريمية للامتثال هو بقاء الحرمة وعدم زوالها فيقال: قبل الإحرام من خارج مسجد الشجرة كان تجاوز الميقات أو دخول مكة محرّماً فكذا بعده؛

يردها: مع أن هذا من الاستصحاب في الشبهة الحكمية يأتي مثلها في الشبهات الوجوبية للامتثال، كالشك في سقوط الصلاة بترك الجزء والشرط المشكوكين والجواب في الموردين واحد.

ويمكن الفرق بين الشبهات الوجوبيّة وبين التحريميّة بجريان الاستصحاب في الثاني حيث يكون التحريم محققاً سابقاً كحرمة دخول الحرم بأن الشك في الأوّل في أصل اشتغال الذمّة بما يشك في وجوبه من جزء أو شرط؛ وأمّا في الثاني فالشك في بقاء الحرمة المحققة وهو مجرى استصحاب الحرمة؛ نعم هذا مبني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، وفيه بحث فقد تحصّل الفرق بين موارد الشك في الجزئية والشرطيّة للواجب وبين موارد الشك في جزئية شي ء أو شرطيته لما يزيل التحريم؛ فلو كان المرجع في الأول البراءة كما هو المعروف عند المحققين والمختار عندي أمكن الرجوع في الثاني إلى استصحاب الحرمة بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة.

النقطة العاشرة: يندرج في مسألة الشبهة المفهوميّة ولو بلحاظ حكمها بعض ما يعبّر عنه بالشبهة الموضوعية؛ نظير ما مثلنا به من الإحرام من مسجد الشجرة؛ حيث يتردد المسجد بين الضيق والسعة؛ فالموضع المشكوك في مسجديته مشتبه موضوعاً، ومع ذلك فالإحرام منه بحكم ساير الشبهات المفهومية من حيث التردد فيه بين البراءة والاحتياط؛ وليس من قبيل الشبهة الموضوعية للامتثال الذي هو مجرى الاحتياط قطعاً؛ مثل ما لو شك في أنه أحرم أو لا.

والسرّ في كون الإحرام من مشكوك المسجديّة داخلًا في حكم الشبهة المفهومية أن المسجدية من قبيل العنوان والمرآة للواقع الخارجي والقطعة المعيّنة

ص: 81

من الأرض؛ ويكون في تضييق ذاك المكان الخارجي وتقييد الإحرام بخصوصيته كلفة زائدة عمّا إذا كان المكان المشروط به الإحرام أوسع. وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية للامتثال فيما لو شك في أصل الإحرام؛ فإنه بحسب الواقع والثبوت لا تختلف الكلفة وإنما الاختلاف في مقام الإثبات؛ وذلك فإن الشك لا يكون إلّافي امتثال الكلفة المعيّنة المحققة وموافقتها والتي لا تردد في مقدارها؛ بخلاف مثل الشك في حدّ المسجد الذي يجب الإحرام منه، فإن مردّه إلى التردد في حدّ الكلفة وتعيينها وأنها أدنى الكلفتين، وهو تقيد الإحرام بمكان أوسع، أو أشدهما وهو تقيد الإحرام بمكان أضيق.

فالمنع من الإحرام من مكان يقطع بعدم مسجديته ثابت على كل تقدير؛ وإنما الشك في ثبوت المنع من الإحرام من مشكوك المسجديّة.

إن قلت: إن الأصل في المكان الذي يشك في مسجديته هو العدم؛ لأن المسجدية طارئة؛ والمتيقّن من طروّ المسجدية عليه هو غير المكان المشكوك من مسجد الشجرة.

قلت: فرق بين أحكام المسجد، فمن حيث حرمة التنجيس يحكم بعدمها، باستصحاب عدم إجراء صيغة المسجدية أو عدم اعتبار المسجدية للمكان المشكوك، بخلاف حكم جواز الإحرام؛ فإن عدم اعتبار المسجدية للمكان المشكوك لا يثبت تحديد الإحرام واشتراطه بما عدا المكان المشكوك؛ كما أن عدم تعلق الأمر بالأقل- حيث يتردد التكليف في الواجبات الارتباطية بينه وبين الأكثر والمشروط- لا يثبت اشتراط الامتثال بالأكثر والشرط إلّابنحو المثبت المردود.

والسرّ في ذلك أن عنوان المسجد مشير إلى الواقع المعنون بهذا العنوان؛ فالقطعة من الأرض الخارجيّة هي شرط الإحرام؛ فإذا ترددت القطعة وواقع المسجد بين الضيق والسعة فقد تردد الشرط بين الزيادة وعدمها؛ والأصل يقتضي

ص: 82

الاقتصار على المتيقّن من الشرطيّة وفي الزائد يحكم بالبراءة. و من هذا القبيل تردد وادي العقيق بين الزيادة والنقيصة؛ حيث يقتضي الأصل جواز الإحرام من المحل المشكوك.

وأصالة عدم كون المشكوك من جملة الوادي، راجع إلى تحديد المفهوم والوضع بالاستصحاب؛ وقد حقق في محلّه أن الاستصحاب لا يجري في تحديد الوضع؛ لعدم كون الوضع أمراً مجعولًا للشارع ليكون زمامه بيده؛ كما أن الشك إذا كان في حدّ الاشتراط بعد كون الوادي مشخّصاً فلم يعلم جواز الإحرام من بعض مواضع العقيق كان راجعاً إلى الشك في اشتراط الزيادة والأصل هو البراءة.

وقد يقال: إن الشك في حدّ مسجد الشجرة لجواز الإحرام يكون المرجع فيه استصحاب عدم زيادة المسجد عن القدر المتيقّن لكون المسجديّة حادثة والأصل عدمها في غير المقدار المتيقّن؛ ولذا لا بأس بتنجيس الموضع الذي يشك في مسجديته؛ وكذا لا بأس بمكث الجنب فيه؛ وغير ذلك من أحكام المسجد؛ وليس ذلك إلّامن أجل نفي الاستصحاب للمسجديّة موضوعاً؛ فيكون كسائر الموضوعات التي يثبت أو ينفى جزء موضوعه بالأصل. فتكون الشبهة في هذه المسألة شبهة موضوعيّة تنشأ من اشتباه الامور الخارجيّة لا شبهة حكميّة.

إنّ إثبات البراءة عن الجزء المشكوك وكذا الشرط، لا يثبت صحة العمل الفاقد لهما؛ وإنّما الذي يقتضيه هو عدم وجوب الاحتياط بفعل المشكوك.

ويرد عليه: أوّلًا: ما تقدم من أنه لم يعلم كون متعلق الحكم في مسألتنا عنوان المسجد؛ لاحتمال كون المسجديّة حادثة بعد تشريع الإحرام من محلّه؛ غاية الأمر أنه جعل موضع إحرام النبي صلى الله عليه و آله مسجداً بعده؛ لا أنه صلى الله عليه و آله أحرم من مسجد أو جعل الإحرام مقيداً بمكان أنشأ هو مسجديته أو كان مسجداً قبله، فيكون المسجد عنواناً مشيراً إلى المكان الخاص.

ص: 83

وثانياً: أن متعلق الحكم لو كان هو المسجد فهو قيد الحكم لا جزء الموضوع والمتعلق؛ ليمكن جريان الأصل فيه؛ فليس متعلق الحكم أمرين: أحدهما: الإحرام من مكان؛ والآخر كون ذلك المكان مسجداً؛ ليكون الأصل النافي في الثاني معيّناً للإحرام من القدر المتيقّن؛ كما في استصحاب نجاسة الماء، المغسول به الثوب النجس المعين فإنه موجب للغَسل بغيره؛ ومانع من الاكتفاء بالغَسل به؛ حيث إن متعلق الحكم مركب من غسل الثوب بماء وكون ذلك الماء طاهراً؛ فليس مانحن فيه من هذا القبيل. بل متعلق الحكم هو الإحرام من الموضع المقيّد بالمسجديّة؛ واستصحاب عدم مسجديّة الموضع الخاص لا ينفي ما هو متعلق الحكم، أعني الإحرام من المسجد إلّامثبتاً. ونفي المقيد بنفي قيده عقليّ وليس أمراً شرعيّاً مجعولًا.

نعم، يجري استصحاب نفي الإحرام من المسجد إذا كانت الشبهة موضوعيّة كما لو كان أصل الإحرام مشكوكاً؛ أو علم بالتلبية ولكن احتمل كونها من موضع يقطع بعدم كونه من مسجد الشجرة كمسجد النبي صلى الله عليه و آله.

ويعجبني في المقام نقل كلام للشهيد الصدر قدس سره في ضابط الموضوعات المركّبة والمقيّدة؛ قال: «الميزان الكلّي أنه كلّما كان شي ء مأخوذاً في موضوع الحكم، وقد لوحظ اتصافه بوصفين- في مقام ترتب الحكم عليه- وكان أحد الوصفين ثابتاً له بالوجدان في ظرف الشك في بقاء الوصف الآخر فيه، والوصف الآخر ثابت له بالاستصحاب؛ فتارة يكون كل من الوصفين ملحوظاً بما هو وصف لذلك الشي ء؛ دون أن يؤخذ في الموضوع أيّ نسبة بين نفس الوصفين، واخرى يكون أحد الوصفين الثابت بالوجدان منسوباً إلى ذلك الشي ء بما هو موصوف بالوصف الآخر؛ بحيث يكون الشي ء من قبيل الحدّ الأوسط لقيام نسبة بين نفس الوصفين، وأخذ هذه النسبة في موضوع الحكم؛ فإن كان من قبيل الأوّل، أفاد استصحاب أحد الوصفين وضمّه إلى وجدانيّة الوصف الآخر في إحراز موضوع الحكم؛ وإن

ص: 84

كان من قبيل الثاني فالاستصحاب غير مجد؛ لكونه مثبتاً. ومن هذا القبيل إكرام العالم إذا وقع موضوعاً أو متعلقاً لحكم شرعي، وكان الشخص مشكوك العلم مع كونه عالماً سابقاً؛ حيث إنه يمكن أخذ إكرام العالم بعنوان التركيب فيجري استصحاب العلم؛ ويمكن أخذه بنحو التقييد فلا يجري استصحاب العلم لتنقيح الموضوع» (1).

إذا عرفت ما تقدم فلنرجع إلى صلب البحث فنقول بعد التوكل على اللَّه:

ربما يظن أن المقام- أعني موارد الشبهة المفهوميّة في صدق العناوين التي وقعت متعلقاً للأوامر- مرجعه إلى الشك في الامتثال بعد إحراز التكليف وهو مجرى الاحتياط؛ وقديماً ذكروا: أنه مع الشك في تحقق الامتثال يحكم بالاشتغال.

فيقال مثلًا:

إن الوقوف بعرفة واجب ولا يدرى تحقق امتثاله بالوقوف في محلّ يشك في كونه من عرفات- لتردد الموقف بين الزيادة والنقيصة كما لو فرض الشك في صدق عرفة على فوق جبل الرحمة بعد العلم بأن سفحه من الموقف- وينبغي لبيان أهمية البحث الإشارة إلى عدة من صغريات المسألة في الحج وغيره؛ فنقول: من هذا القبيل ما لو شك في صدق الطواف بالبيت، على الطواف في مكان أعلى من سطح البيت، بحيث لا يوازي شي ء من بدن الطائف شيئاً من البيت.

بل لو فرض عدم موازاة الطائف ببعض بدنه للبيت وإن وازاه ببعضه الآخر؛ كما لو فرض الطواف في مرتفع يوازي أرفع نقطة من الكعبة المشرفة صدر الطائف ويكون رأسه أعلى من البيت؛ كيف لا؟! وقد أشكل بعضهم في كفاية الطواف إذا مس الطائف البيت حال طوافه؛ سيّما إذا أدخل يده في البيت؛ كما لو جعل يده على الشاذِروان- بناءً على أنه من جملة البيت المشرف- حيث ذكروا أن الواجب هو الطواف بتمام البدن حول البيت فلا يجوز الطواف و بعض البدن خارج


1- السيد محمد باقر الصدر، بحوث في شرح العروة، 1: 308، المسألة 16 من المياه.

ص: 85

عن الطواف بالبيت.

ومن هذا القبيل لو شك في حدود منى التي يجب المبيت بها في الموسم ليلة الإحدى عشرة والثانية عشرة؛ بل الثالثة عشرة أحياناً؛ وكذا يجب ذبح الهدى بها؛ والشك في حدّ منى كما لو شك في كون أعالي الجبال المحيطة بمنى من جملة منى؛ لاحتمال كون منى هو الوادي وليس رؤوس الجبال من جملة الوادي؛ وكذا لو بنيت بمنى عمارات أرفع من جبالها.

وأيضاً لو فرض نحت بيت في سفاح جبال منى أو فرض توسعة وادى منى بالأخذ من جباله والنحت منها فهل يكون مثل ذلك داخلًا في الحدّ؟

ومن هذا القبيل لو شك في حدود وادي محسّر الذي يجوز ارتفاع الناس إليه في منى إذا ضاق بهم محلّها؛ مع العلم بأن وادي محسّر ليس من منى؛ ومنشأ الشك احتمال اتّساع الوادي بسبب جريان السيل فيه طوال الأعصار السابقة فكان الوادي فعلًا أوسع من الوادي في عصر التشريع.

هذا، بغض النظر عمّا احتملناه جدّاً من: كون التوسعة في حكم منى عند ضيقها، من جهة وادي محسّر؛ في مقابل جهة مكة؛ فيشمل الوقوف بمشعر لوضاق منى بالناس.

ومن هذا القبيل لو كان مسعى الحاج في مرتفع من الأرض بمقدار لا يحاذي شي ء من بدنه شيئاً من الجبلين فكان السعي فوق الجبلين فهل ينافي ذلك صدق السعي بينهما؟

بل لو فرض كون بعض البدن خارجاً عن موازاة الجبلين، كما لو فرض كون رأس الساعي أعلى من الجبلين وإن كان بقية بدنه بحذائهما؛ بناءً على ما سمعته من بعضهم في الطواف بالبيت وأنه ينبغي أن يكون الطواف بتمام البدن.

ودعوى: الفرق بين الطواف والسعي، بصدق المشي بين الجبلين إذا كان بعض البدن خارجاً عن محاذاة الجبلين بخلاف الطواف بالبيت، يردها: منع الفرق؛ سيّما

ص: 86

بعد كون السعي واجباً بعنوان الطواف؛ كما في قوله تعالى: [فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما].

هذا، مع أن الطواف بالشي ء هو المشي حوله؛ فلو لم يعتبر في صدق السعي موازاة الماشي حول الشي ء له بكلّه، فكذا في الطواف؛ و من هذا القبيل ما لوشك في صدق الطواف بالبيت إذا كان الطائف بعيداً عن البيت بمقدار كثير، مع خلوّ المسجد عن الطائفين وعدم الزحام؛ مثل لو فرض الطواف في نهايات المسجد، كالطواف على السلالم والدرجات والناس جلوس للصلاة أو مشتغلون بها، فيطوف شخص وحده ولا يطوف غيره في ذلك الوقت.

وأوضح إشكالًا ما لو فرض اتّساع المسجد بأضعاف ما عليه الآن؛ والكلام في هذا ونحوه إنما يكون بعد فرض عدم كون المطاف محدّداً بما بين البيت والمقام؛ وإن كان الإشكال لا يختص بهذا المبنى؛ فقد سمعت من بعض أنه كان يشكك في صدق الطواف بالبيت إذا كان الطواف في نهاية الحدّ كالملاصق بالمقام مع فرض عدم اشتغال غيره بالطواف كما في أوقات الصلاة؛ وإن كان هو كما ترى.

ص: 87

وليعلم أن نظائر المسألة في غير الحج كثير؛ و من قبيلها: ما لو شك في صدق الركوع على بعض مراتب الانحناء ولو للشك في استواء يد المصلي من حيث الطول؛ حيث يحتمل كونه خارجاً عن المتعارف وأطول؛ وكذا لو شك في صدق استواء الأرض الذي هو شرط في مكان المصلي بحيث يجب أن يحاذي مسجده موقفه؛ فلو كان في الأرض انحدار أو ارتفاع يسير لا يضرّان بصدق الاستواء؛ وإنما الشك في بعض مراتبهما.

وكذا لو شك في اشتراط صحة القراءة ببعض الشروط كعدم الوصل بالسكون؛ والوقف على الحركات؛ أو كون طورٍ من القراءة من أنحاء أداء الكلمة في عرف العرب أو بعضهم؛ وكون الاختلاف بين طورين من قبيل الاختلاف بين الوقوف على السكون أو ألف الإطلاق وبين الوصل بالحركات والتنوين أو هو من قبيل الاختلاف بين كلمتين متباينتين؛ نظير كفواً أحد بقراءة الهمزة والواو؛ وكذا لو اختلفت القراءات واحتمل كون قراءة من جملة القراءات التي رخصنا فيها مثل مالك في سورة الفاتحة بالألف وبدونه.

وأيضاً من صغريات البحث ما لو تردد المرمى والجمرة بين الضيق والسعة؛ فلا يدرى أن الزائد عن ذراع الذي ربما كانت الجمرة المبنيّة قديماً بقدره هل يجوز رميه والاجتزاء به ككفاية رمي الحدّ القديم؟

وقد أدركنا سنين كانت الجمرة المبنيّة كاسطوانة بعرض ذراعين تقريباً، وقد أبدلت هذه السنة- كما قيل وهي سنة 1425 ه- إلى جدار عريض يبلغ طوله خمسين ذراعاً أو أزيد فقد حكي أنه خمسة وعشرون متراً، فهل يجوز الاكتفاء برمي الزائد عن مقدار الجمرة القديمة حتى مع فرض تعين محلّ الجمرة القديمة من البناية الموجودة الآن؟

فإن قلنا بأن الواجب من رمي الجمرة هو رمي الجهة لا رمي نقطة محدودة بمثل ذراع بحيث لا يجوز رمي غير تلك النقطة ولو في جهتها، فلا إشكال حينئذٍ في

ص: 88

كفاية رمي الزائد عن المقدار المحدد؛ فتكون الجمرة كجهة القبلة التي تكون الصلاة إليها ويصدق ذلك حتى مع طول صفّ المصلين أضعاف عرض الكعبة المشرفة.

فلو فرض أن موقع الشيطان حينما رماه إبراهيم كان مقدار ذراع معين، لكن رمي تلك الجهة لا يتعين بحدّ ذاك الذراع.

وأمّا إذا قلنا بأن الجمرة التي لا يكفي إلّارميها هي الموقع المحدود بمثل الذراع ونحوه لا جهتها، وبعبارة اخرى: الجمرة هي موقف الشيطان حينما رماه إبراهيم، فيتردد الموقع سعة وضيقاً بمقدار جرم الشيطان عرضاً وطولًا؛ ولا يجزي إلّارمي شي ءٍ من هذا المقدار من المكان أو البناية المبنيّة في هذا الحدّ، فيدخل حينئذٍ في محلّ البحث ويكون من الشبهة المفهوميّة.

ومن صغريات البحث، ما لو كان الطائف غير متمكّن من التخلف عن الطائفين؛ لشدة الزحام؛ فتكون حركته في الطواف خارجة عن اختياره فعلًا؛ فلو شك في استناد الطواف في الفرض إلى المكلّف لكونه مختاراً في مبدأ الطواف وفي جعل نفسه معرض الحركة حول البيت- ولو بدفع الناس له- كان داخلًا في محلّ البحث.

ذلك أنه لا ريب في لزوم استناد الفعل المأمور به إلى المكلّف في صدق الامتثال بلا فرق بين التعبدي والتوصّلي؛ فما لم يصدق صلاة زيد لا يتحقق امتثال الأمر المتوجه إلى زيد، فلذا لا تجزي الصلاة عن زيد بدليل الإطلاق لا بدليل الأصل العملي؛ فلو احتمل كفاية الصلاة عنه مكان صلاته المأمور بها، لم تجز؛ وذلك لظهور الأمر في انحصار مصداق الامتثال في الفعل المنتسب إلى المكلّف نفسه؛ ولا يتحقق الانتساب في النيابة عنه في الصلاة.

نعم، هناك امور لا يشترط في نسبتها إلى الشخص مباشرته لها؛ كجملة من الامور الاعتبارية كالمعاملات من بيع وغيره؛ وهذا خارج عن محل الكلام؛ فإن الكلام في الامور التي لا تستند إلى شخص بدون مباشرته لها.

ص: 89

نعم، لو شك في أمر أنه مما ينتسب إلى المكلّف بدون المباشرة- لاحتمال كونه من قبيل البيع الذي لا يشترط في نسبته المباشرة كاحتمال كونه من قبيل الصلاة التي يشترط في انتسابها المباشرة- كان داخلًا في محل البحث.

والطواف ما لم يستند إلى المكلّف لا يجزي على القاعدة إلّافي موارد دلّ الدليل على جواز الاستنابة فيها، أو أن الوظيفة هي الطواف بالشخص، كالطواف بالصبي ولو غير المميز وبالمغمى عليه.

وبالجملة هناك موارد من الطواف لا تستند إلى الشخص نفسه، ومع ذلك يجزي بدليل خاص، لا بدليل اندراجه في إطلاق الأمر بالطواف.

ثم إنه يكفي في استناد الطواف إلى الشخص مباشرته للحركة حول البيت وإن كان محمولًا على مركب من إنسان أو حيوان أو عربة مادام شعوره بذلك وكون ذلك بطلب منه؛ فكما يصدق الطواف منسوباً إلى الشخص إذا باشر الحركة بالسير على الأقدام كذلك يصدق إذا باشرها راكباً مادام أن الركوب والسير باختياره وأمره وطلبه.

بل ربما لا يستند الطواف إلى الشخص مع كونه نازلًا في الطواف.

وبالجملة، فالركوب لا ينافي استناد الطواف إلى الشخص؛ وقد روي أن النبي صلى الله عليه و آله طاف راكباً؛ فكما يصدق الذهاب والمجي ء منسوباً إلى الشخص في فرض الركوب، كذلك الطواف؛ بلا فرق بين كون المركوب ممّا لا اختيار له أصلًا كالعربة، أو كان له بعض مراتب الاختيار كالحيوان، أو كان مختاراً شاعراً كالإنسان إذا كان الركوب اختيارياً ولو بقاءً.

والبحث في المقام أعني الطواف في الزحام الشديد إنما هو من جهة أن الحركة القهريّة الحاصلة بالزحام هل هي من قبيل الحركة القهريّة الحاصلة بالمركوب؛ والتي لا تنافي الاختيار ولا انتساب الحركة إلى الطائف؛ فيجزي الطواف- على القاعدة- بلا حاجة إلى دعوى الضرورة والحرج بدون ذلك؛

ص: 90

أو أن ذلك من قبيل الحركة الخارجة عن الاختيار، والتي لا تنسب إلى المكلّف؛ كالمغمى عليه الذي لا دخل لإرادته في تحقق الحركة؛ ولذا لا يقال: طاف المغمى عليه وإنما طيف به؟

والظاهر انتساب الطواف إلى الشخص في المقام بلا فرق بين كون الزحام المحرّك من قبيل الإكراه أو كونه من قبيل الاضطرار؛ وإن كانت النسبة في الأوّل أوضح والفرق بينهما واضح؛ فإنه في موارد الاضطرار لا يكون الانتساب إلّا بملاحظة الحالة السابقة على الضرورة حيث تكون بالاختيار؛ بخلاف المكره فإن الفعل يستند إليه بملاحظة نفس حال الإكراه؛ حيث إن الإكراه لا يرفع الاختيار؛ بل يختار المكرَه الفعل دفعاً لضرر.

وبالجملة، ففي كلتا الصورتين يستند الفعل والطواف إلى الشخص مادام أن الدخول في المطاف وجعل النفس معرض الدفع من الزحام بالاختيار.

ثم لو فرض الشك في صدق النسبة و عدمه في مثل هذا الفرض كان داخلًا في ما هو المبحوث عنه من الشبهات المفهوميّة.

ثمّ إن ما ذكرنا من الكلام في الطواف يجري في السعي طابق النعل بالنعل.

و من جملة صغريات البحث ما لو شك في حدّ مسجدالشجرة- بناءً على اشتراط كون الإحرام من المسجد القديم- حيث إن المسجد الفعلي أوسع مما كان عليه سابقاً.

وكذا لو شك في حدّ منطقة الشجرة بناءً على كفاية الإحرام من خارج المسجد أيضاً. ولكن لا بد أن يكون الإحرام في ذاك المحل الذي له تعين فرضاً؛ ولا يتوسّع توسّع القرى والبلدان؛ ولو فرض السعة فعلًا وقلنا بأن العبرة بالمصداق القديم أيضاً، يُمكن الشك في بعض المواقع من كونه داخلًا في حدّ المصداق القديم؛ نظير ما ذكره غير واحد من كون العبرة في أحكام مكّة بالبلدة القديمة لا بالمحلّات المبنيّة جديداً؛ وإن كانت داخلة فعلًا في صدق البلد ومكّة؛ فلذا يتحقق قصد إقامة

ص: 91

العشرة ولو مع البناء على التردد أثنائها في المحلّات الجديدة بمكّة كساير البلاد.

بل يمكن فرض الشبهة المفهومية في منطقة الشجرة التي يجوز الإحرام منها حتى بناءً على كون العبرة بالمصداق الفعلي، حيث يتردد المكلّف في كون بعض الأمكنة منها؛ نظير ما يشك في بعض المناطق من حيث صدق البلد عليها؛ لاحتمال كونه خارجاً من البلد لا من جملته؛ كالأراضي الزراعية الملاصقة لسور البلد والبيوت المبنيّة في حدود البلاد؛ فإن السور لا يحدد البلد؛ وإنما يحدد بيوت البلد للحفاظ على أهله نظير ما لو فرض إحاطة السور ببعض البيوت وكان بعض البيوت خارج السور لغناهم عن التحفظ على أنفسهم بالسلاح بدل السور فتلك البيوت هي خارج السور لا خارج البلد.

ومما ذكرنا ظهر أن من جملة الشبهات المفهوميّة: قصد الإقامة عشرة أيّام في بلد مع البناء على التردد في الأمكنة التي يشك في كونها من جملة البلد، لاحتمال كونها من حوالي البلد؛ بناءً على عدم لحوق الحوالي بالبلد في مسألة قاصد الإقامة.

كما أن من جملة الشبهات مبدأ حساب المسافة للمسافر وكذا منتهاه، حيث إن العبرة بنهاية البلد وبدايته في الموردين.

نعم، إنما يكون المرجع في الشبهات المفهوميّة الاصول العمليّة حيث لا يكون هناك عام أو مطلق وهذا أمر آخر. ووجود الإطلاق في صلاة المسافر غير بعيد؛ فإن ما دل على أن المسافر يقصّر مطلق؛ وقد خرج منه موارد كقاصد الإقامة، فإذا تحقق خروج المورد فهو وإلّا كان المرجع إطلاق دليل التقصير، ولا فرق في ذلك بين كون الشك في أصل التخصيص كقاصد الإقامة وأن مقيم عشرة أيام بلياليها أو بدونها.

كما أنه ظهر مما ذكرناه في حكم مسجد الشجرة أن هناك موارد من قبيله تدخل في الشبهة المفهوميّة؛ كعناوين مكّة من حيث كونها محل إحرام الحج؛ سواء

ص: 92

قلنا: إنه خصوص مكة القديمة؛ فيشك في بعض المحلّات أنه منها وعدمه، أو قلنا بكفاية مكّة الفعليّة فيشك في بعض الأراضي في صدق مكّة عليها فعلًا.

وأيضاً من حيث كون مكّة موضوعاً لأحكام اخرى مثل عدم جواز دخولها بغير إحرام؛ وأيضاً تخيير المسافر فيه بين القصر والتمام؛ بناءً على أن موضوع التخيير هو مطلق مكة لا خصوص المسجد الحرام، وعلى تقدير كون الموضوع هو المسجد، فالتخيير أيضاً لو كان في خصوص المسجد القديم فيشك في بعض المواضع في كونه من جملة المسجد القديم وعدمه. ومنه يظهر الكلام في ساير مواضع التخيير كالحاير الحسيني على مشرفها التحيات وكوفة ومسجد النبيّ صلى الله عليه و آله.

وكذا في حكم المدينة من حيث التخيير في الصلاة فيها وغير ذلك.

إذا شكّ المكلّف في حدّ عرفات، جاز له الوقوف في الموقع المشكوك كونه عرفات، بشبهة مفهوميّة.

إذا عرفت ما مهّدناه من الإشارة إلى تطبيقات مسئلة الشبهة المفهوميّة للامتثال في الحج وغيره فلنتعرض- بعد التوكل على اللَّه- لحكم المسألة فنقول: ربما يظنّ أن الوظيفة في تمام هذه الموارد- حيث لا يكون هناك عموم أو إطلاق يرجع إليه- هو الحكم بالاشتغال والاحتياط؛ اقتصاراً في الحكم بالبراءة بعد القطع بالاشتغال على فرض اليقين بها؛ حيث لا يدرى تحقق الامتثال بدون الاقتصار على ما يحصل اليقين به.

وليعلم أنا ذكرنا في بعض البحوث السالفة أن الشك في المفهوم يساوق القطع بعدم صدق المفهوم على المشكوك؛ وبالتالي الجزم بعدم وضع اللفظ لما يشك في صدقه عليه؛ فمن شك في صدق الماء على ماء الورد فإنه لا يرى الصدق عليه فعلًا، وليس الماء بنظره موضوعاً له؛ وإلّا فلا يعقل أن يشك في ذلك؛ لأن الوضع عند أهل لغةٍ يساوق علمهم به؛ فيكون الشك فيه من قبيل الشك في العلم فعلًا، مع أن

ص: 93

أمر العلم دائر بين الوجود والعدم؛ ولا يعقل أن يشك إنسان في كونه عالماً وعدمه؛ بل شكّه يلازم جزمه بعدم علمه.

نعم يعقل الشك في الوضع عند الآخرين ولو السابقين؛ ولكن الأصل يقتضي وحدة الوضع في الزمانين؛ لأصالة عدم النقل.

كما يعقل الشك في الوضع عند الآخرين المعاصرين مع عدم كون الشاك من أهل لغتهم.

وفي كلا الفرضين لا بد من الفحص؛ لرجوع الشك في المفهوم إلى الشبهة في الحكم؛ والرجوع إلى الاصول اللفظيّة كالعموم والإطلاق والأصول العمليّة في الشبهات الحكميّة إنما يكون بعد الفحص.

ثم إن استقر الشك في الوضع والمفهوم، ولم يكن هناك أصل يحدد المعنى والمفهوم- ولو أصالة عدم النقل- كان المرجع الاصول الحكميّة من احتياط أو براءة أو غيرهما.

ثم الظاهر أن مرجع الشك في المفهوم، في موارد الشك في الامتثال، إلى الشك في أصل التكليف؛ لا في المحصّل الذي يجب الاحتياط فيه؛ وذلك لرجوعه إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين لا محالة.

توضيح ذلك إن متعلق الأمر وما يباشره المكلّف في الخارج قد يكون من قبيل العنوان والمعنون، وقد يكون من قبيل المسبب والسبب، ولا ينبغي الخلط بينهما؛ ولا عطف أحدهما على الآخر.

ففي مثل العنوان والمعنون يكون متعلق الأمر ما ينطبق عليه العنوان؛ وهو واقع المعنون لا بما هو معنون؛ فإن حيثيّة العنوان حيثيّة تعليليّة، وقنطرة إلى ما يكون بالحمل الشايع مصداق العنوان؛ فالأمر بالطواف أمر بالحركة الخارجية التي هي مصداق الطواف؛ ولفظ الطواف مجرد وسيط في التعبير عن ذاك الواقع الخارجي؛ فإذا لم يُدر أن الواقع الخارجي المطلوب باللفظ والتعبير، مطلق أو مقيد

ص: 94

بخصوصيّة، كان مثل ما إذا ترددت الصلاة المطلوبة بين المطلقة وبين المقيدة بجزء أو شرط خارجين عن مفهوم الصلاة ووضعها اللغوي أو الشرعي؛ وهذا معنى ما ذكرناه من أن مآل الشبهة المفهوميّة للامتثال إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين.

كما أن مآل الشبهة المفهوميّة للتكليف، إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين، أو التردد بين متباينين؛ حسب اختلاف المواقع. فمثل الفاسق المنهي عن إكرامه إذا تردد بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منها ومن الصغيرة فمرجعه إلى الأقل والأكثر الاستقلاليين؛ وإذا تردد مفهوم العالم المأمور بإكرامه بين الفقيه وبين الطبيب، فمردّه إلى تردد الوظيفة بين متباينين.

نعم، إذا كان ما يباشره المكلّف من العمل وما وقع متعلقاً للحكم الشرعي في لسان الأدلة من قبيل السبب والمسبب، فلا موجب لسراية الحكم المتعلق بالمسبب، إلى السبب؛ بل يكون الحكم مقصوراً على متعلقه؛ وإن كان امتثاله لا يتحقق إلّابسبب هو الذي يباشره المكلّف؛ فلو أمر المولى بقتل شخص أو حفظ حياته لم يسر الأمر إلى الفعل المباشري للمكلّف؛ فقطع العنق وإن كان يحقق القتل لكنه ليس مأموراً به؛ بل الوظيفة هي إزالة الحياة التي تتحقق بقطع العنق؛ والمكلّف وإن لم يكن قادراً على المسبب بدون السبب ولكنه يكفي في صحة التكليف بشي ء، القدرة ولو على سببه؛ ولا موجب لصرف التكليف في مثله إلى السبب؛ بعد أن كان المقدور بالواسطة مقدوراً يصح التكليف به.

وتظهر الثمرة في مواضع الشك فيما يحقق المسبب والسببية؛ فإنه حيث لا إجمال في المأمور به فلا بد من الاحتياط؛ بخلاف ما لو كان الأمر مصروفاً إلى السبب.

وبالجملة: فالمقام من قبيل المقدمة وذيها؛ فكما أن الأمر بذي المقدمة لا يصرف إلى فعل المقدّمة؛ وإن كان لا مناص لمريد فعل ذيها من فعلها؛ فكذلك في المقام. فالكون على المرتفع لا يمكن إلا بسلّم ونحوه؛ ولكن الأمر باعتلاء المكان لا

ص: 95

يكون مردوداً إلى الأمر بالتخطّي على السلالم الذي به يتحقق الاعتلاء على المكان المطلوب.

فكذلك في الأمر بالمسببات؛ والذي يكون من الشكّ في المحصل الذي اشتهر لزوم الاحتياط فيه، هو هذا القسم؛ لا موارد الشك في العنوان.

فلو شك في تحقق القتل المطلوب بقطع عرق، لا يجوز الاكتفاء به في الامتثال؛ كما أنه لو شك في كفاية دواء للعلاج ودفع المرض أو رفعه، لم يكن كافياً في مقام الامتثال.

ثم إنه لم يرد في آية أو نصّ وجوب الاحتياط في موارد الشك في المحصّل، ليؤخذ بعمومه فيكون عنوان الشكّ في المحصّل منطبقاً على موارد الشكّ في انطباق العنوان على المعنون؛ فهب أن الشك في العنوان شك في محصل الامتثال؛ ولكن لا مانع من كون هذا السنخ من الشك في الامتثال والمحصل- إن صحّ التعبير عنه- محكوماً بالبراءة بعد ما كان ملاك الاحتياط الذي يحكم به العقل والعقلاء مخصوصاً ببعض موارد الشك في المحصّل.

قال المحقق الخراساني- بعد حكاية الرجوع إلى أصل البراءة مع الشك في اشتراط صحّة العمل بجزء أو شرط، عن المشهور القائلين بوضع الألفاظ لخصوص الصحيح-: «الجامع- يعني بين أفراد العبادات كالصلاة- إنما هو مفهوم واحدٍ منتزع من هذه المركّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات؛ متحد معها نحو اتحاد؛ وفي مثله تجري البراءة.

وإنما لا تجري فيما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجيّاً مسبّباً عن مركّب مردد بين الأقل والأكثر» (1).

وقد سبقه في هذا المجال أعني عدم وجوب الاحتياط مع الشك في انطباق العنوان، الشيخ الأعظم في الرسائل قال: «فإن قلت: إذا كان متعلق الخطاب


1- الكفاية 1: 40، الصحيح والأعم.

ص: 96

مجملًا- يعني مع التردد بين الأقل والأكثر- فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ فيجب القطع بالإتيان بمراده.

قلت: التكليف ليس متعلقاً بمفهوم المراد من اللفظ؛ حتى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه؛ حيث يجب الاحتياط فيه؛ كما سيجي ء؛- يعني في الشك في الامتثال مصداقاً- وإنما هو متعلق بمصداق المراد؛ لأنه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه.

ونظير هذا توهم: أنه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعاً للصحيح، والصحيح مردد مصداقه بين الأقل والأكثر فيجب فيه الاحتياط.

ويندفع بأنه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق. فافهم. والمشهور مع قولهم بالوضع للصحيح قد ملؤوا طواميرهم من إجراء الأصل عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة؛ بحيث لا يتوهم من كلامهم أن مرادهم بالأصل غير أصالة البراءة.

[ثم تعرض لتفصيل الكلام في إبطال التوهم المتقدم إلى أن قال:]

وهذه المغالطة جارية في جميع المطلقات؛ بأن يقال: إن المراد بالمأمور به في قوله: اعتق رقبة، ليس إلّاالجامع لشروط الصحّة؛ لأن الفاقد للشرط غير مراد قطعاً؛ فكلّما شك في شرطيّة شي ء كان شكّاً في تحقق العنوان الجامع للشرائط فيجب فيه الاحتياط. وبالجملة: فاندفاع هذا التوهم غير خفيّ بأدنى التفات» (1).

نعم هناك مورد آخر للشك في المحصل، والذي اشتهر وجوب الاحتياط فيه، وهو موارد الشبهة الموضوعيّة للامتثال؛ كالشك في فعل الصلاة الواجبة وعدمه؛ فإنه يجب فيه الاحتياط؛ وإن كان تحقق التكليف مشكوكاً بقاءً؛ فيكون من الشك في التكليف ولو بقاءً؛ ومع ذلك يجب الاحتياط فيه.

فيتحصل: أن وجوب الاحتياط إنما يكون في موارد الشك في امتثال التكليف لشبهة موضوعيّة أو الشك في الامتثال للشك في انطباق المأمور به على فعل


1- الرسائل 2: 341- 345؛ الأقل والأكثر، المسألة الثانية.

ص: 97

المكلّف، انطباق المسبب على السبب أو لتردد المأمور به بين متباينين.

وأمّا موارد الشك في انطباق المأمور به على فعل المكلّف انطباق العنوان على المعنون فليس هذا من موارد الشك في المحصل الاصطلاحي؛ بل يؤول إلى الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين أو الاستقلاليين أو المتباينين؛ باختلاف الموارد، كما بيّناه بحوله تعالى.

وإن شئت فقل: إن موارد الشك في انطباق العنوان- لا بنحو الشبهة المصداقيّة- وإن صدق فيها الشك في سقوط التكليف والامتثال، إلّاأن منشأه الشك في حدّ التكليف؛ وليس هناك دليل لفظيّ عام مصرح بأنه متى يشك في سقوط التكليف يحكم بعدمه، ليؤخذ به في المقام.

ثم إنه في موارد الشك في انطباق العنوان قد يكون منشأ الشك اشتباه الامور الخارجيّة، ويعبّر عنه بالشبهة الموضوعيّة أو المصداقيّة؛ كما لو شك في انطباق المصلّي على المكلّف؛ لأنه لا يدري هل صلّى أم لا؟ فهذا يجب عليه الاحتياط ولا يجوز له الاكتفاء بمجرد احتمال الامتثال؛ وإن كان التكليف في حقّه مشكوكاً فعلًا بلحاظ البقاء، وإنما كان اليقين بمجرد حدوثه ويحتمل سقوطه بقاءً؛ ولكن هذا القسم من الشك في التكليف مجرى أصل الاحتياط ولو بدليل استصحاب عدم فعل المأمور به؛ وإلّا فلا مانع من الترخيص في ترك الاحتياط والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية؛ كما اتفق نحوه في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز والحيلولة وغيرها.

وقد يكون منشأ الشك راجعاً إلى ما يتعلق بالجعل الشرعي واختلاف نحوه، وحينئذٍ فإمّا أن يكون هناك قدر متيقّن في الخارج هو الأقلّ ينطبق عليه عنوان الامتثال قطعاً، ويشك في الزائد عليه، فهذا يكون من الأقل والأكثر الاستقلاليين؛ كالشك في كون الدين مائة أو زائداً عليها؛ ولا كلام في جواز الاقتصار على الأقل ونفي الزائد بأصل البراءة، وفي الحقيقة ليس هذا من موارد العلم الإجمالي؛ وذلك لانحلال العلم وجداناً بعلم تفصيلي وشكّ بدويّ؛ فجريان الأصل في مثله ملحق

ص: 98

بالشكوك البدويّة.

وقد لا يكون هناك أقل في الخارج ينطبق عليه عنوان الامتثال بطور الجزم؛ فهذا ما يصطلح عليه بالأقل والأكثر الارتباطيين أو المتباينين؛ والوجه في ذلك أنه إمّا أن لا يكون هناك جامع في مقام التصوّر- وبلحاظ ما يدخل في العهدة والذمّة- بين أطراف العلم، بحيث ينطبق ذاك الجامع على بعض الأطراف خاصّة، كتردد الواجب بين صلاة الظهر وصلاة الجمعة.

وقد يكون هناك جامع بلحاظ التصور منطبق على بعض الأطراف أعني الأقلّ؛ كتردد الواجب بين الصلاة المشتملة على القنوت وجلسة الاستراحة والسورة التامة والمقيدة بالإرغام في السجدة أو نحوها وبين الصلاة المطلقة.

فالأوّل من المتباينين ويجب الاحتياط فيه حسبما هو مفصل في محلّه؛ والثاني من الأقل والأكثر الارتباطيين في الأجزاء أو في الشرائط؛ وإلى الأخير يرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ثم إن ظاهر القوم- ومنهم سيدنا الاستاذ كما صرح به وغيره-: أنّ انحلال العلم الإجمالي بالتكليف في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين- على تقديره انحلال حكميّ لا حقيقي؛ فلذا ذكروا أنه لا عبرة في لزوم الاحتياط بمجرد العلم الإجمالي؛ بل العبرة بتعارض الاصول في أطراف العلم الإجمالي؛ فلو فرض اختصاص جريان الأصل ببعض الأطراف لم يجب الاحتياط ولو كان العلم الإجمالي باقياً حقيقة.

وعلى هذا الأساس، لما كان الأصل غير جارٍ في ناحية الأقل، جرى الأصل في الناحية الاخرى. أمّا عدم جريان الأصل في ناحية الأقل- مع كون وجوبه بحدّه مشكوكاً- فلأن الأثر المترقب من الأصل هذا، إذا كان هو الترخيص في ترك الواجب حتى بترك الأقل فهذا راجع إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة؛ ومعه فلا يجرى الأصل؛ فإن من مقومات جريان الاصول عدم استلزامها للترخيص في

ص: 99

المخالفة القطعيّة.

وإن كان الأثر المترقب من نفي وجوب الأقل: إثبات وجوب الأكثر فهذا من الأصل المثبت الذي لا اعتبار به.

وعليه، فحيث لا يجري الأصل في ناحية الأقل إمّا للمثبتيّة أو لكونه مستلزماً للترخيص في المخالفة القطعيّة، فيبقى جريان الأصل في الطرف الآخر- وهو الزائد- تام المقتضي وفاقد المانع؛ وأثره تأمين المكلّف من ترك الواجب إذا نشأ من ترك الزائد.

وهذا التقرير تام لا غبار عليه ولا إشكال؛ بلا فرق بين الشك في الجزئية أو الشك في الشرطية؛ وبلا فرق في الجزء المشكوك بين كونه في آخر العمل وأثنائه؛ وبلا فرق بين اعتبار التوالي بين الأجزاء وعدمه؛ ولا بين اعتبار الترتيب فيها وعدمه؛ كما لا فرق في الشرط المشكوك بين أن يكون له وجود مستقل في الخارج كالساتر الصلاتي، أو كونه من قبيل الوصف غير المستقل ولا المقوم كالإيمان في الرقبة، أو كونه من قبيل الوصف المقوّم للماهيّة كاشتراط التيمم بالتراب دون مطلق وجه الأرض.

ففي جميع هذه الفروض يكون الانحلال انحلالًا حكميّاً لا حقيقيّاً.

وربما يتصوّر كون الانحلال في بعض الفروض المتقدمة انحلالًا حقيقياً؛ وذلك في الشك في الجزئية إذا كان الجزء المشكوك آخر العمل؛ كالتسليمة الأخيرة من التسليمات الثلاث. حيث إن وجوب ما عداه من الأجزاء الواقعة في الخارج معلوم تفصيلًا والشك في غيرها؛ وهذا ضابط الانحلال الحقيقي.

ويردّه: أن ما عدا التسليمة من الأجزاء الواقعة في الخارج لا يعلم كونها مصداقاً للامتثال ما لم ينضم إليها التسليمة؛ لرجوع اعتبار جزء في المركب- ولو في نهاية العمل- إلى تقيّد باقي الأجزاء به؛ فبدونه لا يحرز صدق الامتثال على البقيّة، فإذا كان ضابط الانحلال الحقيقي كون الأقل الواقع في الخارج مصداقاً للامتثال

ص: 100

القطعي، فكما لا ينطبق هذا الضابط على مورد الجزء المشكوك الذي موقعه أثناء العمل، كذلك لا ينطبق على مورد الجزء المشكوك الذي موقعه نهاية العمل.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق في عدم انطباق ضابط الانحلال الحقيقي المتقدم بين كون المركب مما يشترط في أجزائه الترتيب وعدمه؛ أو اشتراط الموالاة وعدمه؛ ففي جميع الفروض ليس هناك أقل في الخارج ينطبق عليه عنوان الامتثال بطور الجزم.

ولكن خطر ببالي بيان آخر به يتحقق الانحلال الحقيقي- في قبال الانحلال الحكمي في موارد الأقل والأكثر الارتباطيين؛ وذلك بأن يقال: إنه لا ينحصر الانحلال الحقيقي بفرض وجود أقل في الخارج ينطبق عليه عنوان الامتثال بنحو الجزم بل كما يتحقق الانحلال بذلك يتحقق بانطباق عنوان المخالفة والعصيان على حالة خاصّة في الخارج.

فيقال: إن مخالفة الصلاة تتحقق على تقدير اعتبار الجزء والشرط المشكوكين، بوجهين: أحدهما ترك الصلاة من رأس؛ والآخر: ترك الجزء أو الشرط المشكوكين خاصّة؛ والإتيان بالصلاة الفاقدة لهما. هذا على تقدير اعتبار المشكوك واقعاً؛ وإذا لم يعتبر المشكوك في لوح الواقع فالمخالفة لا تتحقق إلّاعلى الوجه الأوّل وهو ترك الصلاة رأساً. فحالة ترك الصلاة بالمرّة هي حالة مخالفة وعصيان على كلا التقديرين من اعتبار المشكوك وعدمه؛ فهذه الحالة متيقنة المنع والتحريم، ولا مجرى للأصل بلحاظها أصلًا.

بخلاف الحالة الاخرى، أعني ترك خصوص المشكوك والإتيان بالبقيّة؛ فإن المنع منها خاص بفرض تعلق التكليف بالمشكوك؛ والمفروض أنه مشكوك؛ فوزان جريان الأصل بلحاظ هذه الحالة هو وزان جريانه في الشبهات البدويّة؛ لا أن العلم الإجمالي باق ومع ذلك يجري الأصل في أحد الطرفين.

وربما يشكل ما ذكرناه من الانحلال الحقيقي في موارد دوران الأمر بين الأقل

ص: 101

والأكثر الارتباطيين بالنقض بموارد دوران الأمر بين المتباينين، حيث إنه يمكن تطبيق هذا التقرير بعينه هناك على تقدير بعض الحالات في أطراف العلم؛ فيقال:

إذا دار الأمر بين وجوب الظهر و وجوب الجمعة فحالة تركهما معاً مخالفة قطعيّة لا تجوز؛ وأمّا حالة ترك أحدهما مع فعل الآخر فلا علم فيها بالمخالفة، فيجري الأصل على أساس عدم العلم الإجمالي؛ حيث إن ترك الظهر مثلًا على تقدير فعل الجمعة وبالعكس مشكوك المخالفة للواقع؛ ففيه الرخصة بدليل الأصل.

وفيه: أنه لا ملازمة بين جريان البراءة في الأقل والأكثر وبين جريانها في مسألة المتباينين كما هو المفروض؛ وذلك للفرق؛ بيان ذلك أنه: إن اريد من عطف المتباينين على الأقل والأكثر دعوى إمكان الترخيص في ترك كل من المتباينين على تقدير فعل الآخر فهذا مما لا كلام فيه؛ فإنه لا محذور عقلًا في ذلك.

وإن اريد: دعوى انطباق عمومات الترخيص المنطبقة على مسألة الأقل والأكثر على مسألة المتباينين، فيرده: منع التلازم؛ وذلك للفرق بين المسألتين؛ فإن الترخيص في الأول ترخيص في المخالفة الاحتمالية؛ بخلاف الترخيص في الثاني فإنه ترخيص في المخالفة قطعاً، وإن لم يكن ترخيصاً في المخالفة القطعية.

فإن ترك الجمعة والظهر مرخص فيهما على تقدير فعل الآخر؛ مع أنه في الواقع أحدهما واجب؛ وقد رخّص في تركه؛ حيث رخّص في ترك كل منهما.

نعم، لا يجوز الترخيص عقلًا في تركهما معاً؛ وأمّا الترخيص في ترك كل منهما مع فعل الآخر، فلا محذور فيه عقلًا إذا ساعد عليه الدليل في مقام الإثبات.

كما أن المنع من الترخيص في المتباينين على تقدير فعل الآخر، مبنيّ على حكم العقل بالمنع في ذلك؛ كما يحكم بالمنع من الترخيص في الجمع بين التركين؛ فيكون الجمع بين الترخيصين المشروطين كالجمع بين الترخيصين المطلقين.

وبعبارة اخرى: كالترخيص في الجمع بين التركين؛ كما ادعاه بعض مشايخنا؛ وعهدتها عليه.

ص: 102

والغرض أن ملاك البراءة في الأقل والأكثر يختلف عن ملاكها في المتباينين على التصوير المتقدم.

ثم إنه ذهب المحقّق النائيني قدس سره في الفوائد- وفاقاً لما يظهر من الشيخ الأعظم في رسائله- إلى المنع من جريان البراءة في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير؛ وقد فصّل الشيخ قدس سره بين الشك في الشرطية فحكم بالبراءة دون مسألة دوران الأمر بين التعيين وعدمه.

أمّا النائيني فقد فصّل في الشرط المشكوك أيضاً بين الشرط المقوّم للذات وغيره.

كما أنه يظهر من محكي المحقّق الخراساني في استدلاله على الاشتغال عند دوران الأمر بين التعيين والتخيير ما يستدعي التفصيل في الشرط المشكوك بين المقوم للماهية وغيره؛ وإن ذكر إمكان جريان البراءة في الشرطية المشكوكة مطلقاً.

وكيف كان، فقد استدل النائيني للحكم بالاشتغال في مسئلة التردد بين

ص: 103

التعيين والتخيير بأن: مرجع التخيير إلى جعل العدل للواجب كما أن مرجع التعيين إلى عدم جعل البدل، ولا أصل ينفي التعيين؛ نعم لو كان هناك إطلاق لفظي في الأمر بشي ء فإن مقتضاه كون الواجب تعيينياً؛ ولكنه خلف المفروض؛ حيث إن الأمر إنما يصل إلى الاصول العملية حيث لا دليل إجتهادي.

وفي هذا الفرض لما كان مآل احتمال التعيين إلى عدم جعل عدل للواجب لم يكن هناك ما ينفي ذلك؛ لأنّ أصل البراءة إنما ينفي الأمر الوجودي الذي في رفعه توسعة على العباد. وعدم جعل البدل ليس أمراً وجوديّاً؛ والأمر الوجودي هو جعل البدل؛ وكان حديث الرفع يعمّه لولا أن في رفعه التضييق؛ وهو خلاف الامتثال؛ ويضادّ المقصود أيضاً من الحكم بالبراءة عن التعيين.

وبالجملة، فلا أصل ينفي التعيين؛ بل قاعدة الاشتغال تقتضي التعيين؛ للشك في سقوط ما علم التكليف به بفعل ما يحتمل كونه عدلًا. بلا فرق بين كون حقيقة الوجوب التخييري هي: وجوب مشروط في كل من العدلين بترك الآخر أو أنها سنخ آخر من الطلب يقابل الوجوب التعييني (1).

ويرد عليه: أوّلًا: أنه وإن لم يكن عدم جعل العدل للواجب أمراً مجعولًا في الأزل، ولكن استمراره في حيطة اختيار الشارع؛ حيث يمكنه جعل البدل ورفع العدم الأزلي؛ فيكون بقاء عدم الجعل في حوزة اختياره؛ ويكفي في صحة الرفع كون اختيار الشي ء وجعله بيده.

فكما يمكن للشارع رفع استمرار عدم الجعل، بجعل البدل، يمكنه الإبقاء عليه. ولا قصور في عموم حديث الرفع عن شمول الامور العدميّة؛ بعد كونها تحت اختياره. فكما أن الامور الوجودية المشكوكة تندرج في عموم حديث الرفع كالوجوب والتحريم المشكوكين، كذلك الامور العدميّة إذا كان في رفعها توسعة ومنّة.


1- النائيني، فوائد الاصول، 3: 426- 429.

ص: 104

ولا فرق في ذلك بين تطبيق حديث الرفع ودليل البراءة على عنوان وجوديٍّ ملازم للأمر العدمي، فيقال: تعيّن كذا مرفوع، وبين تطبيقه على نفس العنوان العدمي.

وثانياً: إن مرجع احتمال التعيين إلى احتمال إطلاق وجوب الواجب في حالة فعل ما يشك في كونه عدلًا؛ كما أن احتمال التخيير يؤول إلى احتمال عدم وجوب الشي ء في حالة فعل ما يشك في كونه عدلًا؛ وأصل البراءة- سواء النقلي أو العقلي، على تقدير تمامية البراءة العقليّة- ينفي الإطلاق، ويناسب نفي الوجوب مع الإتيان بما يشك في كونه عدلًا.

فمثل هذا الشك في السقوط مجرى أصل البراءة، لا أصل الاشتغال؛ بعد عدم كون الاشتغال عند الشك في السقوط ثابتاً بدليل لفظي عام.

وثالثاً: ما سبق من تحقق الانحلال الحقيقي في مثل موارد الشك في الجزئية والشرطيّة، واحتمال التعيين؛ فيكون جريان الأصل في هذه الموارد من قبيل الأصل في الشبهات البدويّة غير المقرونة بالعلم الإجمالي؛ وذلك لكون ترك العمل الذي يشك في اشتماله على جزء أو اشتراطه بشرط رأساً مخالفة قطعيّة تفصيليّة؛ وكذا ترك الواجب الذي يحتمل ثبوت العدل له على تقدير ترك العدل؛ فلا أصل مرخص في هذه الحالة بعد العلم التفصيلي بكونها مخالفة؛ وأمّا الحالة الاخرى، أعني الإتيان بالعدل المشكوك دون معلوم الوجوب في الأخير، وكذا الإتيان بالفاقد للجزء والشرط المشكوكين، فلم يعلم تحقق المخالفة للواجب على تقديرها؛ وهذا مشكوك بالشك البدوي؛ والأصل فيه البراءة؛ فإن في جعل الجزئية والشرطيّة وتعيّن الواجب كلفة زائدة عن الفروض الاخر ينفيها دليل البراءة.

ولا فرق في دعوى الانحلال حقيقة أو حكماً بين كون التخيير المحتمل عقلياً- لاحتمال كون التكليف متعلقاً بالجامع العرفي- وبين كونه تخييراً شرعيّاً، فيما لم يكن بين الخصال جامع عرفي أو كان ولم يجعل الوجوب على أساسه؛ بل تعلق

ص: 105

الوجوب بالخصوصيات على التبادل.

كما لا فرق بين المباني في الوجوب التخييري من كونه وجوباً مشروطاً بترك العدل أو سنخ وجوب في قبال الوجوب التعييني.

إذا عرفت ما مهّدناه من: اقتضاء الأصل العملي الحكم بالبراءة في موارد الشك في الشرطيّة والجزئيّة ودوران الأمر بين التعيين والتخيير يظهر حكم الصغريات التي أشرنا إليها وحكم ساير الموارد مما لم نتعرض لها بالخصوص.

فإذا شك المكلّف في حد عرفة، جاز له الوقوف في الموقع المشكوك كونه عرفة بشبهة مفهوميّة، لدوران الأمر بين تعين ما عدا ذلك المكان، إذا كان المحل المشكوك خارجاً من عرفات واقعاً، واختيار المكلّف بينه وبين ساير الأمكنة، إذا كان المكان المشكوك من جملة عرفات؛ وفي تعيين ما عدا المحل المشكوك زيادة كلفة وضيق على المكلّف فيحكم بعدمه.

وهكذا لوشك في حدّ المشعر ومنى وحدّ الجمرات.

ولو شك في حدّ مسجد الشجرة القديم كان الحكم كذلك؛ لأن الواجب فرضاً هو الإحرام من المسجد القديم لا بعنوانه؛ بل في واقع المسجد؛ فإذا كان واقع المسجد أوسع، كانت الكلفة والثقل على المكلّف أقل مما إذا كان واقع المسجد أضيق؛ فيحكم بنفي الكلفة المشكوكة. وقد سبق أن في موارد التكليف بالعناوين يكون التكليف متعلقاً بواقع العناوين وما تنطبق عليه؛ لا بذات العناوين والمفاهيم؛ وأنّ المفاهيم جسرٌ إلى الواقع والأمور العينيّة الخارجيّة.

فالأمر بالصلاة أمر بالتكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود؛ فإذا شك في تقوّم الصلاة بجزء آخر كان الأصل مقتضياً للبراءة؛ وإن كان صدق عنوان الصلاة بدونه مشكوكاً.

وكذا الأمر بالوقوف بعرفة أمر بما هو وقوف بواقع عرفة؛ وهو القطعة الخارجية من الأرض؛ فتردد عرفة بين مقدار من الأرض وبين زائد عليه يرجع

ص: 106

إلى التردد في التكليف المجعول لا في امتثاله؛ ليحكم بالاشتغال؛ فلا يعلم بتعين الوقوف في القطعة من الأرض المتيقّن كونها عرفة أو التخيير بينها وبين الوقوف بغيرها المشكوك في كونها من عرفة.

وليس هذا من قبيل التكليف بالمسببات التي يجب الاحتياط في محصّلها حيث يشك كما تقدم؛ فلا تخلط.

وكذا يحكم بالبراءة لو شك في صدق الطواف بالبيت لو طاف الحاج في مكان أرفع من البيت؛ لرجوع الشك فيه إلى الشك في اشتراط الواجب وهو الطواف بمحاذاة البيت، وقد سبق أنه مع الشك في اشتراط الواجب يحكم بالبراءة.

فكما أنه لو شك في اشتراط الصلاة بشرط يحكم بالبراءة فكذا في المقام. ولا فرق في الشرط المشكوك بين المقوّم للصلاة على تقدير اعتباره وبين غيره. كما أن الأمر في الأجزاء المشكوكة كذلك. ولذا ترى أن الاصوليين الذين ذهبوا إلى وضع ألفاظ العبادات لخصوص الصحيح يتمسكون بأصل البراءة إذا انتهى الأمر إلى الاصول العملية وشك في اشتراط شي ء أو اعتبار جزء في الصلاة؛ مع رجوع الشك إلى الشك في صدق الصلاة الصحيحة بدون الجزء والشرط المشكوكين لا محالة.

فإذا كان الأمر في الصلاة كما سبق، فالأمر في الطواف حيث يشك في اشتراط صدقه بشي ء- ومن جملته اشتراط المحاذاة- يكون كذلك. وقد سبق التصريح بجريان البراءة في مثله من المحقق الخراساني في كفاية الاصول؛ حيث صرّح بأن الشك في صدق الصلاة- بناءً على اختصاص الوضع بالصحيح- لا يمنع من الرجوع إلى البراءة في الأجزاء والشرائط المشكوكة؛ ونسب ذلك إلى المشهور؛ وأنهم ذهبوا إلى البراءة مع قولهم بكون الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيح، فراجع.

ص: 107

الذكر في الحج هل ذكر اللَّه في المشاعر واجب أو مستحب؟

تمهيد

حيدر حب اللَّه

من الواضح أنّ الحاجّ يذكر اللَّه تعالى في حجّه، ففي الصلوات- صباحاً وظهراً ومساءً- يذكر اللَّه، وفي التلبية يذكر اللَّه، وما شابهها، لكن سؤالًا يثار هنا هل يجب في الحج ذكرٌ آخر غير التلبية وغير الصلوات اليومية أو صلاة الطواف أم أنّ ذلك غير واجب؟

والذي يبدو أنّ هذا الموضوع قد جرى تناوله في كتب التفاسير، عند تفسير بعض آيات الحج في سورة البقرة، كما تناولته الدراسات الفقهية في ثلاثة مواضع:

عرفة، والمشعر الحرام، وأيّام التشريق.

وقد لاحظنا أنّ الفقه الشيعي لم يعالج موضوعاً عاماً يدور حول وجوب أو عدم وجوب ذكر اللَّه تعالى في الحج، إنما تناول موضوع وجوب أو عدم وجوب الدعاء في عرفة، حيث ذهب بعض الفقهاء إلى وجوبه، كما تناول لزوم ذكر اللَّه والصلاة على محمد وآل محمد في المزدلفة، نظراً لذهاب بعض الفقهاء إلى وجوبه، وكذلك موضوع التكبير في أيام التشريق.

بدورنا، سوف ندرس- بدايةً- مقولة وجوب الدعاء في عرفة، ونرصد

ص: 108

أدلّتها والمناقشات عليها، ثم نعرّج على القول بوجوب الذكر في المزدلفة على الطريقة عينها، متعرّضين بعد ذلك لمسألة التكبير في أيام التشريق، لنقدّم بعد ذلك تصوّراتنا الخاصّة في هذا المجال ونتائجنا.

النظرية الأولى: نظرية وجوب الدعاء في عرفة

ذهب الفقيه أبوالصلاح الحلبي (447 ه) في كتابه «الكافي في الفقه» إلى وجوب الدعاء في عرفات، قال: «يلزم افتتاحه [الوقوف بعرفة] بالنية، وقطع زمانه بالدعاء، والتوبة، والاستغفار» (1).

والظاهر من النص المنقول- إضافةً إلى أصل وجوب الدعاء- وجوب التوبة والاستغفار أيضاً، بل وجوب قطع الوقت وتقضيته بهذه الامور.

أدلّة النظرية الأولى:

وقد استدل على هذا الحكم بامور:

الأول: التمسّك بصحيح معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّما تعجّل الصلاة وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء، فإنه يوم دعاء ومسألة، ثم تأتي الموقف وعليك السكينة والوقار، فاحمد اللَّه، وهلّله، ومجّده، واثن عليه مائة مرّة...» (2)، وهو حديث طويل نسبياً، كلّه تركيز على أنواع الدعاء، وفيه تشديد على عدم الالتهاء بالنظر إلى الناس و...، كما اشتمل على أدعية مخصوصة.

وتقريب الاستدلال بالرواية صيغ الأمر المتعدّدة فيها، وتشديدها على أمر الدعاء و... في هذا اليوم، مما يدلّ على الوجوب.

الثاني: خبر أبي يحيى زكريا الموصلي قال: «سألت العبد الصالح عليه السلام عن رجل وقف بالموقف، فأتاه نعي أبيه أو بعض ولده، قبل أن يذكر اللَّه بشي ء أو يدعو،


1- الحلبي، الكافي في الفقه: 197.
2- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 13: 538، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 14، ح 1.

ص: 109

فاشتغل بالجزع والبكاء عن الدعاء، ثم أفاض الناس؟ فقال: لا أرى عليه شيئاً، وقد أساء، فليستغفر اللَّه، أمّا لو صبر واحتسب لأفاض من الموقف بحسنات أهل الموقف جميعاً، من غير أن ينقص من حسناتهم شي ء» (1).

وتقريب الاستدلال به رجوع حكمه بالإساءة ولزوم الاستغفار إلى ترك الذكر والدعاء، مما يدلّ على الوجوب.

الثالث: خبر عبداللَّه بن جذاعة الأزدي عن أبيه، قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل وقف بالموقف فأصابته دهشة الناس، فبقى ينظر إلى الناس ولا يدعو، حتى أفاض الناس، قال: يجزيه وقوفه، ثم قال: أليس قد صلّى بعرفات الظهر والعصر، وقنت ودعا؟ قلت: بلى، قال: فعرفات كلّها موقف، وما قرب من الجبل فهو أفضل» (2).

الرابع: خبر المجالس قال: «جاء نفر من اليهود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فسأله أعلمهم عن مسائل، وكان فيما سأله أن قال: أخبرني لأيّ شي ء أمر اللَّه بالوقوف بعرفات بعد العصر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ العصر هي الساعة التي عصى آدم فيها ربّه، ففرض اللَّه عزّ وجل على امّتي الوقوف والتضرّع والدعاء في أحبّ المواضع إليه و...» (3).

إلى غير ذلك من الروايات الدالّة على الأدعية والأذكار في عرفة، يوم التاسع من ذي الحجة الحرام.

هذه هي الروايات التي عثرت عليها- بعد الفحص- في كلمات الفقهاء دليلًا على لزوم الدعاء يوم عرفة، ومن الطريف أن بعض هذه الأخبار المتقدّمة كانت من أدلّة القائلين بالاستحباب مثل خبر الأزدي والموصلي، فقد ذكرهما الحرّ العاملي


1- المصدر نفسه: 543، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 16، ح 3.
2- المصدر نفسه: 542- 543، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 16، ح 2.
3- المصدر نفسه: 550، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 19، ح 8.

ص: 110

تحت عنوان: باب أنّ الدعاء بعرفة مستحب مؤكّد وليس بواجب (1)، كما ذكرهما العلامة الحلّي في المختلف دليلًا على عدم الوجوب (2).

مناقشة أدلّة النظرية الأولى:

وقد نوقش الاستدلال بهذه الروايات من جهات هي:

أولًا: إنّ الأصحاب متسالمون على عدم الوجوب، مما يمنع عن الحكم به (3).

ويناقش بأنّ تسالم الأصحاب هنا وإن خُدش بشكل بسيط بمثل الحلبي، غير أنّه محتمل المدركية جداً، فلربما اعتمدوا على خبري الموصلي والأزدي كما فعل العلامة الحلّي، ومعه لا مجال لأخذ تسالمهم حجةً.

ثانياً: إن بعض هذه الروايات- مثل صحيح معاوية بن عمار- قد أمر بأدعية مخصوصة، نعلم قطعاً عدم وجوبها، مما يكشف عن الاستحباب (4).

وقد يقال: إننا نأخذ بدلالة الوجوب فيما لم تقم قرينة على خلافه ونترك دلالة الوجوب فيما قامت قرينة على الاستحباب.

إلّا أنّ ذلك ضعيف؛ فإن العرف- لا أقلّ- يتردّد في استفادة الوجوب من أوامر سبقها أو لحقها أوامر عديدة عُلِمَ الاستحباب في موردها، ومعه لا ينعقد ظهور في الوجوب فيها، نعم، مبدأ الدلالة فيها موجود، يمكن دعمه بتعاضد الأخبار أو تأييد الآيات وما شابه ذلك، ومن ثم يكون محتاجاً لكي يرتقي إلى درجة الظهور إلى مساعدٍ خارجي، كما سنشير إلى أنموذج له لاحقاً.

ثالثاً: إنّ الظاهر من خبر الموصلي أن الإساءة إنما كانت للجزع والبكاء


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة 13: 542.
2- العلامة الحلي، مختلف الشيعة 4: 243.
3- كتاب الحج للشاهرودي، بقلم الجناتي 3: 413؛ والروحاني، فقه الصادق 11: 374؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 241؛ والمرتضى، الانتصار: 233.
4- الروحاني، فقه الصادق 11: 374.

ص: 111

لا لترك الدعاء، وقرينة ذلك خصوصاً، ذيل الرواية: لو صبر واحتسب، كما هو واضح (1).

ونحن وإن لم نجد هذا ظاهراً غير أنّه يمنع- في الحدّ الأدنى- عن ظهور الرواية في المطلوب.

رابعاً: إنّ خبر المجالس قابل لإرادة الندب، ولو بقرينة ترتّب الثواب الوارد فيه، سيما وأنّه واقع في مقام الإخبار لا في مقام التشريع (2).

ويرد عليه:

أ- إنّ قابلية عبارةٍ ما للندب لا تنافي ظهورها في الوجوب.

ب- إن ترتيب الثواب لا يعني الاستحباب، فقد وردت آيات كثيرة وروايات عديدة ترتّب الثواب على امور واجبة، وهذا أوضح من أن يخفى، رغم اشتهار جعل الثواب قرينة الاستحباب في كلمات الكثير من الفقهاء.

ج- إنّ الوقوع في سياق الإخبار عن التشريع ربما يكون أوضح في الدلالة


1- المصدر نفسه؛ وكتاب الحج للشاهرودي بقلم الجناتي 3: 413؛ وانظر: النجفي، جواهر الكلام 19: 52.
2- المصدر نفسه.

ص: 112

على الحكم من الوقوع في مقام التشريع، ذلك أن الإخبار قد يشرح حيثيات الحكم، ويطل عليها بما لا يبدو ظاهراً في نصّ التشريع نفسه، هذا مضافاً إلى أنّه لا دليل على أن الوقوع في سياق الإخبار عن التشريع يضعف من دلالة كلمة «فرض» على الوجوب.

خامساً: إنّ خبر الأزدي ظاهر في إجزاء الوقوف، حتى من دون الدعاء، مما يكشف عن عدم وجوب الدعاء نفسه.

وقد أورد صاحب الجواهر (1266 ه) وقبله الفاضل الهندي (1137 ه) على هذا الكلام بإيراد تام، وهو أن الإجزاء لا ينافي وجوب الدعاء بل يمكن اجتماعهما (1)، والظاهر من كلامه- إذا أردنا شرحه وتعميقه- أن وجوب الدعاء لا يعني صيرورته جزءاً للوقوف حتى يبطل الوقوف وينعدم بانعدام مقوّمه أو قيده، بل الوقوف ظرف للدعاء فحسب، مما يعني ثبوت حكم تكليفي في مورده فحسب، دون ترتيب آثار وضعية كالصحة أو البطلان للحج أو أحد أفعاله.

سادساً: إنّ خبر الأزدي- وكذا الموصلي- ليس نصّاً في وجوب الدعاء، وعلى تقديره فغاية ما يدلّ عليه، لزوم الدعاء في الجملة، لا قضاء تمام الوقت به كما ذهب إليه الحلبي (2).

وهذا الكلام قابل للمناقشة، فإننا لا نتمسّك في خبر الأزدي بدلالة نصية بقدر ما نتمسّك بظهور السؤال، وكذا المطلب الإضافي من الإمام عليه السلام فيما بعد، في ارتكاز وجوب الدعاء يوم عرفة، وإلّا لم يكن معنى للسؤال برمّته، أو لمحاولة الإمام عليه السلام حلّ المشكل بذكر الصلاة والظهرين وما شابه ذلك، ودلالة الارتكاز محكمة حتى لو لم نعثر على نصّ لفظي صريح في الوجوب بين كلمات الرواية.


1- النجفي، جواهر الكلام 19: 51؛ والفاضل الهندي، كشف اللثام 6: 71؛ هذا وقد اعتبر السيد حسن القمي أنّ خبر الأزدي ظاهر في لزوم الوقوف لا لزوم الدعاء، ولم نفهم مراده مع أنّ الحديث كلّه منصبّ على عدم الدعاء بسبب الدهشة، ولعلّه ركز على قراءة ذيل الرواية، فراجع له: كتاب الحج 3: 35.
2- الهندي، كشف اللثام 6: 71- 72.

ص: 113

سابعاً: إن بعض هذه الروايات ضعيف السند، فالموصلي مجهول، وعبداللَّه بن جذاعة مجهول، إضافة إلى جعفر بن عامر الراوي عنه، وأما خبر المجالس فهو ضعيف بجهالة أبي الحسن علي بن الحسين البرقي على الأقلّ، فيبقى خبر معاوية بن عمار، وهو لوحده غير كافٍ، ذلك أن باب الأدعية قد علمنا من موارد كثيرة عدم الوجوب فيها مع مجي ء صيغة الأمر، ولهذا لا يؤخذ بصيغة الأمر فيها إلا مع كثرتها و تشديدها، أو قيام قرائن عليها، وهو ما سندرسه فيما بعد إن شاء اللَّه تعالى.

والمتحصّل- إلى هنا- أنّ الأدلّة التي قيلت لإثبات وجوب الدعاء في عرفة غير تامّة، وبهذا يمكن التمسّك بأصالة البراءة عن الوجوب، كما فعله غير واحد (1)، وإلا فإجراء البراءة مع وجود الدليل غير سديد.

النظرية الثانية: نظرية وجوب الذكر في المشعر الحرام

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب الذكر عند المزدلفة، وزاد بعضهم لزوم الصلاة على محمد وآله، ففي جوابه عن إشكال وجوب الوقوف في المزدلفة مع عدم وجوب الذكر فيها مع أنّ آية المزدلفة دالّة من حيث المبدأ على وجوب الذكر، يجيب الشريف المرتضى (436 ه) في «الانتصار» بعدم المانع من القول بالوجوب لظاهر الآية، إلا أنّه يضيف أنّه إذا دلّ دليل على استحباب الذكر أخرجناه عن ظهور الآية، ليبقى الباقي- وهو أصل الوقوف بالمزدلفة- على دلالة الوجوب (2).

أما ابن البراج الطرابلسي، فرغم تصريحه باستحباب الدعاء يوم عرفة (3)، يذكر أحكام الوقوف بالمشعر الحرام، ويقسّمها إلى واجب ومستحب، ثم يضع في الواجب ذكرَ اللَّه سبحانه والصلاة على النبي وآله صلوات اللَّه عليهم أجمعين (4).


1- المصدر نفسه: 71، والأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 241.
2- المرتضى، الانتصار: 232- 233.
3- ابن البراج الطرابلسي، المهذب 1: 251.
4- المصدر نفسه: 254.

ص: 114

الوجه الأوّل: وفي الاستدلال على هذا الحكم، يمكن التمسّك بالآية الكريمة- كما هو ظاهر المرتضى- وهي قوله تعالى: [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ...] (1)، حيث يظهر من الآية الأمرُ الظاهر في الوجوب.

والمتحصّل- إلى هنا- أنّ الأدلّة التي قيلت لإثبات وجوب الدعاء في عرفة غير تامّة، وبهذا يمكن التمسّك بأصالة البراءة عن الوجوب.

وقد نوقش هذا الاستدلال من جهات:

أولًا: إن الذكر الوارد في هذه الآية، وفي آية الأيام المعدودات، وهي أيام التشريق والعيد، يراد منه الصلاة، وما يُذكر عقيب المناسك، ومعنى ذلك عدم وجوب ما هو غير الصلاة، لا أقلّ من احتمال ذلك (2).

ويرد عليه: أن جعل الصلاة هي المرادة من الأمر بالذكر هنا بعيد جداً، إذ أيّ خصوصية للحج حتى يؤمر بالصلاة اليومية فيه في المشعر وأيام التشريق؟! سيما وأنّ الأمر قد تكرر في هذه الآيات مما يدلّ على مطلب إضافي غير الصلاة اليومية المعمولة في الحج وغيره.

أما الذكر عقيب المناسك، فإن صدق عليه الذكر حكمنا بوجوبه، لا على نحو التعيين، بل على نحو كونه أحد الأفراد، فإن دلّ دليل على وجوبه


1- البقرة: 198.
2- الهندي، كشف اللثام 6: 72؛ والروحاني، فقه الصادق 11: 375؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 243، وله أيضاً زبدة البيان: 351.

ص: 115

بعنوانه وصدق عليه الذكر كفى، مع أنّهم لا يقولون عادةً بوجوبه، وستأتي الإشارة إليه.

ومثل هذا القول ما ذكره جمع من فقهاء ومفسري أهل السنّة من أنّ المراد بالذكر في الآية صلاتي المغرب والعشاء في المزدلفة، وبعضهم حمله على صلاة المغرب لتصحيح الوجوب بها فوجب حمله عليها (1)، وعبّر بعضهم بصلاة المغرب والعشاء جمعاً في المزدلفة (2).

وقد رفض بعض المفسّرين السنّة هذا القول، وذهبوا إلى أن ظاهر الآية إفادة وجوب الذكر، وأنّ فعل النبي صلى الله عليه و آله شاهد على أن الذكر كان مغايراً لفعل صلاتي المغرب والعشاء جمعاً في المزدلفة (3).

نعم يشهد لهذا الكلام- وهو تطبيق الذكر على الصلاة- خبر الأزدي المتقدّم، حيث سأله الإمام أخيراً بأنه هل صلّى في عرفات الظهر والعصر وقنت ودعا؟

فأجابه بالإيجاب، فذكر له الإمام أن عرفات كلّها موقف، مما يعني أن لزوم الدعاء يتحقق في داخل الصلاة، وهكذا الحال في الذكر، ولعله لذلك تمسّك به العلامة في المقام مع خبر الموصلي لرد الحكم بالوجوب (4). إلا أن الرواية ضعيفة السند كما ذكرنا سابقاً، فلا يعتمد عليها، وهكذا خبر الموصلي.

وقد أورد المحقق الأردبيلي على تفسير الذكر بصلاتي المغرب والعشاء بأنّ معناه لزوم إتيان الصلاتين في المزدلفة، وهو غير جيد، إذ دلّت على عدمه صحيحة محمد بن مسلم وخبر سماعة وصحيحة هشام بن الحكم الدالة بأجمعها على جواز الإتيان بالمغرب في عرفة والعشاء في المزدلفة، إلا إذا أرادوا خصوص العشاء، فتحمل أخبار الجمع بينهما بأذانٍ واحد وإقامتين على الندب (5).

ثانياً: ما ذكره العلامة الحلّي من التمسّك بمنع الكبرى، وهي إنكار ظهور صيغة الأمر (في الآية) في الوجوب، دون تبيين قرينة خاصة أو عامّة (6).


1- أبوبكر الجصّاص، أحكام القرآن 1: 312- 313.
2- ابن كثير، تفسير ابن كثير 1: 242؛ وابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير 1: 213؛ والفخر الرازي، التفسير الكبير 5: 178.
3- محمد عبده ورشيد رضا، تفسير المنار 2: 232- 233.
4- العلامة الحلي، مختلف الشيعة 4: 243.
5- الأردبيلي، زبدة البيان: 352.
6- العلامة الحلّي، مختلف الشيعة 4: 243.

ص: 116

وهذا الكلام واضح الدفع:

أ- أما كبرى ظهور صيغة الأمر في الوجوب فقد حقق في علم أصول الفقه.

ب- وأمّا الصغرى فلا توجد قرينة تصرف خصوص الآية عن هذا الظهور في الإلزام، بل سيأتي ما يوجب تأكيد ظهورها في ذلك.

ثالثاً: ثمة احتمال ذكره المحقق الأردبيلي وغيره وهو أن نحمل الآية على النية، فيما تحمل الأخبار المؤيدة لها على الندب، وقد استظهر رحمه اللَّه ذلك (1).

وهذا الوجه قابل للمناقشة أيضاً، فإن حمل الآية على النية يحتاج إلى قرينة، إلا إذا قصد تفسير الذكر بالذكر القلبي، وسيأتي الحديث عنه، وعندئذٍ يرد عليه أنّ الذكر لو أريد منه نية الأفعال لكان من باب تحصيل الحاصل، لأنّ الحج بتمام أفعاله وشرائطه مشروط بالنية والإخلاص، كأي عبادة أُخرى، فيكون أخذ النية في الأمر العبادي مفروضاً عادةً بل دائماً، ومعه فأي خصوصية لذكر النية في أفعال الحج بعنوان الذكر بعد تقرير أصل وجوب هذه الأفعال على نحو القربة؟

هذا مضافاً إلى أنّه لو أريد بالذكر النية، فلا ينسجم مع الآية اللاحقة المتوحّدة السياق معها، والآمرة بالذكر الكثير كذكر الآباء أو أشدّ ذكراً، فإن النية تحصل ويبقى لها نحو استدامة حكمية بلا حاجة إلى افتراض كثير وقليل فيها. نعم، لو أراد من النية مطلق الذكر القلبي، لا الذكر القلبي المفروض في النية أمكن، وسيأتي بحثه.

رابعاً: إن الحكم بوجوب الذكر خلاف المشهور، بل خلاف الاتفاق على ما يبدو، ولهذا تحمل الآية على الاستحباب (2).

وفي النفس شي ء من دعوى كونه خلافَ المشهور بعد عدم تعرّض الكثيرين


1- الأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 243- 244؛ وزبدة البيان: 351؛ والنجفي، جواهرالكلام 19: 80.
2- الأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 244؛ وأبوبكر الجصاص، أحكام القرآن 1: 313.

ص: 117

له، وإن كان عدم التعرّض- إنصافاً- قرينة عدم الوجوب، إذ لو كان واجباً لذكروه عادةً، نعم ظاهر جمع الميل للوجوب، مثل القاضي ابن البراج في المهذب كما أسلفنا، والمحقق الأردبيلي في زبدة البيان (1)، وتردّد في المسألة العاملي في المدارك وإن قوّى الاستحباب (2)، بل قال بذلك الشيخ الطوسي في التبيان (3)، وابن أبي جامع العاملي (1135 ه) في تفسير الوجيز، مع إقراره بذهاب أكثر الأصحاب إلى الاستحباب (4)، ومن المعاصرين الصادقي الطهراني في تفسير الفرقان (5)، وقد سمعتَ كلام السيد المرتضى غير الآبي عن حمل الآية على الوجوب.

ولو سلّم ذهاب المشهور إلى الاستحباب، فهو إن ضرّ فإنّما يضرّ بحجّية سند بعض الروايات التي يستفاد منها الوجوب؛ باعتبار أنّ إعراضهم موجب- على قولٍ- لوهن الرواية، إلا أنّ المورد ليس كذلك، بعد كون مهمّ المدرك هنا هو الآية الكريمة، ومن ثم يكون الخلاف مع المشهور في الدلالة لا في الصدور، وهذه المخالفة لا تقدح- عادةً- في الدلالة بعد ثبوتها.

الوجه الثاني: التمسّك بجملة من الروايات وهي:

الرواية الأولى: خبر أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللَّه: «جعلت فداك، إنّ صاحبيّ هذين جهلا أن يقفا في المزدلفة، فقال: يرجعان مكانهما فيقفان بالمشعر ساعة، قلت: فإنه لم يخبرهما أحد حتى كان اليوم وقد نفر الناس، قال: فنكس رأسه ساعة، ثم قال: أليسا قد صلّيا الغداة بالمزدلفة؟ قلت: بلى، قال: أليس قد قنتا في صلاتهما؟ قلت: بلى، قال: تمّ حجهما، ثم قال: والمشعر من المزدلفة، والمزدلفة من المشعر، وإنما يكفيهما اليسير من الدعاء» (6).


1- الأردبيلي، زبدة البيان: 353.
2- العاملي، مدارك الأحكام 8: 243.
3- الطوسي، التبيان 2: 527.
4- ابن أبي جامع العاملي، الوجيز في تفسير القرآن العزيز 1: 173.
5- الصادقي الطهراني، الفرقان في تفسير القرآن 2: 189، 195.
6- وسائل الشيعة 14: 47، باب 25، من الوقوف، ح 7.

ص: 118

وتقريب الاستدلال بالرواية أنّها اكتفت بدعاء القنوت، وحكمت بكفاية اليسير من الدعاء في المزدلفة، مما يفرض- ارتكازاً- أنّه كان واجباً، ولولا وجوبه لما لزم كلّ ذلك.

ويبقى أنّ الرواية تتحدّث عن الدعاء لا الذكر، ولا بأس به ففي الدعاء ذكرٌ عادةً. والرواية لا تدلّ على كفاية الصلاة- كما قيل سابقاً في تفسير الآية- ذلك أنّ الإمام أراد أن يستفيد من دعاء الصلاة لا منها عينها، بوصفه أمراً مستحباً لا واجباً، ولعلّه لهذا لم يسأله- فقط- أصلّى أم لا؟ ولو كانت الصلاة كافيةً لما احتاج للسؤال عن القنوت المشكوك الإتيان به عادةً؛ لمكان استحبابه.

إلا أنّ المشكلة الوحيدة في الرواية ورود محمد بن سنان في سندها، وقد أسقط الأردبيلي هذه الرواية لضعف هذا الرجل (1).

أمّا ما ذكره صاحب الجواهر من أن لهجة التسامح الواردة في الرواية وما فيها من أحكام تجعلها دالةً على الاستحباب (2)، فهو غير واضح، بعد أن كان الإمام متشدّداً في السؤال عن قضايا وقعت منهم تبرّر الإجزاء وإسقاط الواجب عنهم.

الرواية الثانية: خبر محمد بن حكيم قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أصلحك اللَّه، الرجل الأعجمي والمرأة الضعيفة تكون مع الجمال الأعرابي، فإذا أفاض بهم من عرفات مرّ بهم كما هم إلى منى، لم ينزل بهم جُمَعاً، قال: أليس قد صلّوا بها، فقد أجزأهم، قلت: فإن لم يصلّوا بها؟ فقال: فذكروا اللَّه فيها، فإن كانوا ذكروا اللَّه فيها فقد أجزأهم» (3).


1- الأردبيلى، مجمع الفائدة والبرهان 7: 242- 243.
2- النجفي، جواهر الكلام 19: 81.
3- وسائل الشيعة 14: 46، باب 25، من الوقوف، ح 3.

ص: 119

وتقريب الاستدلال بها أنّ لزوم الذكر مفروض فيها، وإلا فما معنى الإجزاء على تقدير الذكر؟!

وقد أورد الأردبيلي على هذه الرواية ضعف سندها بمحمد بن حكيم نفسه، حيث لم يرد تصريح بتوثيقه (1)، فيما اعتبر بعضهم روايته حسنة لأنّه ممدوح على ما جاء في روايةٍ صحيحة عن الإمام عليه السلام (2).

نعم، في الرواية كفاية الصلاة، مما يكشف عن عدم لزوم ذكر آخر فيها، إلا أنّه مردود بأنّ سؤال الإمام عن الصلاة تعبير آخر عن تحقق مسمّى الوقوف في المزدلفة، إذ لا معنى لفرض صلاتهم على الراحلة، وهو افتراض بعيد، فيكون مراد الإمام عليه السلام نزولهم ولو بمقدار يسير يوجب تحقق الوقوف الركني، كما هو المعروف بين الفقهاء، وبهذا لا يكون هناك ارتباط بين الصلاة والذكر.

نعم، ذكر اللَّه في المزدلفة يمكن تصوّره وهم على الراحلة، إلا أنّه من غير البعيد أيضاً أن يكون المراد نزولهم للذكر، باعتبار أن هذه الجهة هي المفروضة مورداً للسؤال في الرواية، فيكون ذلك استطراقاً لكشف حال تحقق مسمّى النزول منهم، وإلا كان في الرواية دلالة على لزوم الذكر.

اللهم إلا أن يقال بأنّ نفس المرور بالمزدلفة موجب لتحقق الوقوف الشرعي، ومعه يكون التعبير بالصلاة كاشفاً عن تحقق الذكر الواجب بها.

لكن مع ذلك، لا تدلّ الرواية على شي ء هنا، فإنّها بصدد بيان كفاية الذكر أو الصلاة مطلقاً في تحقق الوقوف بالمزدلفة، لأنّ السؤال كان عن الوقوف لا عن الذكر، ومعه فتكون أجنبيةً عن مقامنا؛ لأنّها ليست في مقام بيان حكم الذكر حتّى يقال: إن اكتفاءها بالصلاة كاشف عن كفايتها عن الذكر.

وبعبارةٍ أخرى، ليست الرواية في مقام بيان حكم الذكر حتى يؤخذ بتفريعاتها، بل في مقام بيان حكم الوقوف، فلا يستدلّ بها على شي ء هنا.

هذا، وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر من حمل الرواية على النية (3) كما تقدّم في


1- الأردبيلي، مجمع الفائدة 7: 243.
2- انظر الخوئي، معجم رجال الحديث 17: 36- 38.
3- النجفي، جواهرالكلام 19: 81.

ص: 120

غيرها، فهو خلاف الظاهر كما صار واضحاً وسيتضح.

الرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أصبح على طهر بعد ما تصلّي الفجر فقف (وقف) إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيث شئت، فإذا وقفت فاحمد اللَّه عز و جل واثن عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلّ على النبي صلى الله عليه و آله، ثم ليكن من قولك:...» (1).

والظاهر أنّ هذه الرواية هي مدرك الوجوب عند القاضي ابن البراج، لذكر الصلاة على النبي وآله فيها، وقد ذكرنا سابقاً ملاحظتنا عليها، وقلنا: إنها بحاجة إلى ضمّ روايات اخرى لها، سيما مع اشتمالها على مقاطع مخصوصة يُجْمَع على عدم وجوبها بالتأكيد.

ومثل خبر ابن عمار عدد من الروايات الدالة على أدعية مأثورة في المشعر الحرام.

والمتحصّل أنّ ما جاء في كلمات الفقهاء في أمر الذكر في المزدلفة يمكن الأخذ به من حيث دلالة الآية، وإن كان لنا كلام لاحق فانتظر، نعم، التمسّك بالأصل لنفي الوجوب في غير محلّه مع وجود الدليل.

النظرية الثالثة: نظرية وجوب التكبير في منى أيام التشريق

والذي يبدو أن هناك قولًا بوجوب التكبير أيام التشريق في منى، فقد ذهب إلى ذلك السيد المرتضى (2)، وهو الظاهر من تفسير التبيان وغيره للطوسي (3)، ومن


1- وسائل الشيعة 14: 20، باب 11، من الوقوف، ح 1.
2- المرتضى، الانتصار: 173؛ ورسائل الشريف المرتضى 3: 45.
3- الطوسي، التبيان 2: 175؛ والاستبصار 2: 291، طبعة دارالتعارف.

ص: 121

ابن سعيد الحلّي في نزهة الناظر (1)، والراوندي في فقه القرآن (2).

كما أنّ صاحب المدارك وغيره قد نسب إلى السيد المرتضى القول بوجوب التكبير في منى (3)، كما نقل الحكاية صاحب الجواهر عن ابن حمزة، وأنه قال بالوجوب (4)، وقد نسب العلامة الحلي في المختلف لابن الجنيد القول بوجوب التكبير في العيدين بعد الفرائض (5). ولم نجد نصّاً صريحاً لأحد من الفقهاء يحكم بوجوب الذكر أو التكبير أيام التشريق ويوم العيد في منى غير من ذكرناه، وظاهر الطبرسي في مجمع البيان وجود القائل بالوجوب (6)، و بعض الفقهاء ذكر أدلّةً لهذا القول، وإن لم يجزم به في النهاية، وحاصل أدلّتهم ما يلي:

أدلّة النظرية الثالثة:

الدليل الأوّل: التمسّك بالإجماع، وقد نسبه في المدارك والجواهر إلى السيد المرتضى (7)، وهو كذلك (8).


1- ابن سعيد الحلي، نزهة الناظر: 34- 35.
2- الراوندي، فقه القرآن 1: 300.
3- العاملي، مدارك الأحكام 8: 242.
4- النجفي، جواهر الكلام 20: 35؛ وحول النسبة لهما راجع: السبزواري، ذخيرة المعاد: 692؛ والخوئي، مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة 7: 331؛ وابن سعيد الحلّي، نزهة الناظر: 34.
5- العلامة الحلّي، مختلف الشيعة 2: 275.
6- الطبرسي، مجمع البيان 2: 529.
7- المدارك 8: 242، والجواهر 20: 35.
8- المرتضى، الانتصار: 173.

ص: 122

وناقشه صاحب الجواهر بأنّه موهون بمصير غيره إلى خلافه، وهذا صحيح، فإننا لم نعثر بعد التتبع المقدور لنا على من قال بذلك أو حكم به غير من تقدّم، وهم لا يشكلون شهرةً فضلًا عن إجماع.

الدليل الثاني: قوله تعالى: [وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ]، حيث ذكرت النصوص وكلمات المفسّرين في شبه اتفاق بين السنّة والشيعة أنّها أيام التشريق بمنى، ويشهد لذلك سياق الآية بلحاظ ذيلها، كما أفادوه في مباحث التفسير (1).

وقد حمل مثل صاحب المدارك وغيره الأوامر هذه في الآية وفيما أتى من روايات على الاستحباب (2)، مستشهداً على ذلك بصحيح عليّ بن جعفر قال:

«وسألته عن الرجل يصلّي وحده أيام التشريق، هل عليه تكبير؟ قال: نعم، وإن نسي فلا بأس» (3)، وفي سند آخر للرواية كان الجواب: «يستحب، فإن نسي فلا شي ء عليه» (4)، وفي خبر ثالث كان السؤال عن صلاة النافلة أيام التشريق هل فيها تكبير؟ فكان الجواب: «نعم، وإن نسي فلا بأس» (5).

إلّا أنّ هذه الروايات- عدا الثانية منها- أدلّ على الوجوب منها على عدمه، فهي ظاهرة في الإلزام، بل صريحة، غايته أنّه لا يترتب أثر وضعي على نسيان التكبيرات، وأما الرواية الثانية فهي غير دالةٍ على الوجوب إلا أنّها لا تملك دلالة تشهد على عدم الوجوب، والوجه في ذلك أن كلمة الاستحباب لا يحرز أنّها تعني نفي الوجوب في تلك الآونة، إذ هي من الناحية اللغوية دالة على مرغوبية الشي ء


1- الطوسي، التبيان 2: 175؛ والراوندي، فقه القرآن 1: 300؛ وابن سعيد الحلي، نزهة الناظر: 34.
2- المدارك 8: 243؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد: 692؛ والطباطبائي، الرياض 4: 107- 108؛ والخوئي، مستند العروة 7: 331- 332.
3- وسائل الشيعة 7: 464.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه: 467.

ص: 123

ومحبوبيته، الأعم من وجوبه أو استحبابه، فلا يكون هذا التعبير شاهداً على عدم الوجوب، وإن لم يكن شاهداً على الوجوب نفسه، ومجرّد كون السؤال عن الوجوب لا يكون شاهداً على ذلك، بل لعلّ قوله بعد ذلك: وإن نسي فلا شي ء عليه، أقرب إلى الوجوب منه إلى الاستحباب، إذ في الاستحباب يبدو واضحاً عدم ترتب أثر على نسيان فعل المستحب، والواجب هو الذي يتوهّم فيه ذلك، وعليه فدلالة الرواية على تكوين قرينة عكسية غير واضحة.

هذا مضافاً إلى احتمال كون الروايات الثلاث واحدة لبعد سؤاله له عليه السلام عدّة مرات في موضوع واحد، الأمر الذي يلقي الإجمال على دلالة الرواية، وإن كان احتمال الخصوصية في كل رواية واردٌ إنصافاً.

نعم، ثمّة روايات استفيد منها عدم الوجوب غير خبر ابن جعفر المتقدّم، لكن روايات الوجوب أكثر وستأتي، وجملة منها تام سنداً، وهي موافقة لظهور الآية القرآنية، فالأقرب الأخذ بها عن الأخذ بمثل صحيح ابن جعفر حتّى لو كانت الشهرة معه أو الإجماع كما ذكره بعض، فإنّ احتمال المدركية في فهم النصوص مع تعارضها واردٌ جدّاً، فيرجّح الخبر الموافق لظاهر الكتاب على الموافق لظاهر الشهرة لو تحققت، ومعه فلا يقدّم صحيح ابن جعفر على ظاهر أدلّة الوجوب.

وتجدر الإشارة إلى أننا نريد في بحث التكبير ما يخصّ كبرى ذكر اللَّه تعالى، أما تفاصيل هذا البحث، وثبوت التكبير لمن كان خارج منى أيضاً، أو ثبوته في عيد الفطر كالأضحى، أو ثبوت التكبير عقيب النوافل كالفرائض و.. فهو خارج عن محلّ بحثنا.

الدليل الثالث: بعض الأخبار وهي:

الخبر الأوّل: الصحيح عن منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عز وجل: [وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ] قال: «هي أيام التشريق، كانوا إذا قاموا بمنى بعد النحر تفاخروا، فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال اللَّه

ص: 124

عز وجل: [فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً] قال: والتكبير: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، اللَّه أكبر، وللَّه الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام» (1).

وقد اعتبر صاحب المدارك هذه الرواية ذات دلالة على الوجوب هنا (2).

إلا أنّ الظاهر عدم دلالة الرواية على الوجوب، فإن غايتها أنّ الآية الكريمة قد جاءت ردّاً على عادة العرب من التفاخر بعد النحر، دون أي إشارة إلى أن التكبير أو الذكر كان على نحو الوجوب أو الاستحباب المؤكّد أو غير ذلك، نعم، الدلالة تابعة لدلالة الآيات نفسها، ومعه لا يكون في الرواية مطلب إضافي يمكن تحقيقه.

الخبر الثاني: ما عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: [وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ] قال: التكبير في أيام التشريق صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار عشر صلوات، فإذا نفر الناس النفر الأوّل أمسك أهل الأمصار، ومن أقام بمنى فصلّى بها الظهر والعصر فليكبّر» (3).

وتقريب الاستدلال بالخبر أنه أمر بالتكبير لمن أقام بمنى، وهو ظاهر في الوجوب، وقد اعتبره صاحب المدارك خبراً حسناً (4).

الخبر الثالث: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «التكبير أيّام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، إن أنت أقمت بمنى، وإن أنت خرجت فليس عليك تكبير..» (5).


1- المصدر نفسه 7: 459.
2- العاملي، مدارك الأحكام 8: 242- 243.
3- وسائل الشيعة 14: 271.
4- مدارك الأحكام 8: 243.
5- وسائل الشيعة 7: 459، أبواب صلاة العيد، باب 21، ح 4.

ص: 125

فإن الظاهر من المقابلة بمنى وغيرها، ومجي ء كلمة «عليك» ثبوت الوجوب على تقدير البقاء بمنى.

الخبر الرابع: ما في عيون الأخبار بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون: «والتكبير في العيدين واجب، في الفطر... وفي الأضحى في دبر عشر صلوات...» (1).

الخبر الخامس: خبر مصدّق بن صدقة عن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«سألته عن التكبير؟ فقال: واجب في دبر كل صلاة فريضة أو نافلة أيّام التشريق» (2).

الخبر السادس: خبر الأعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: «والتكبير في العيدين واجب..» (3).

الخبر السابع: خبر علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن النساء، هل عليهنّ التكبير أيام التشريق؟ قال: نعم، ولا يجهرن» (4).

إلى غيرها من الروايات العديدة الظاهرة في الوجوب، فلتراجع (5).

وحتى لو كان في هذه الروايات بعض أوجه الاختلاف فإنّها تتحد في الدلالة على مبدأ الوجوب، كما تقف لصالح النص القرآني، وهو المطلوب، لا أقلّ من كونها تضعف الوثوق بالأخبار المعارضة على قلّة الأخيرة، وهو المطلوب هنا.

هذا مهمّ ما عثرنا عليه في كلماتهم تمسّكاً لهذا الحكم، وإن ذكر الفخر الرازي


1- المصدر نفسه: 460، أبواب صلاة العيد، باب 21، ح 7.
2- المصدر نفسه: 462، أبواب صلاة العيد، باب 21، ح 12.
3- المصدر نفسه: 457، أبواب صلاة العيد، باب 20، ح 6.
4- المصدر نفسه: 463، أبواب صلاة العيد، باب 22، ح 1 و 3.
5- المصدر نفسه: أبواب صلاة العيد، باب 23، ح 2، وباب 24، ح 1 و 3، و باب 25 ح 1 و 2 و 3، و...، وراجع المستدرك 6: 140، 141.

ص: 126

أن بعض فقهاء المسلمين حمل الذكر اللازم بعد المناسك في الآية على الذكر على الذبيحة (1)، وهو في غاية البعد، إذ لا علاقة للذكر على الذبيحة بالذكر المساوي لذكر آبائهم أو أشدّ ذكراً لمن أنصف؛ فإنّ الذكر على الذبيحة ليس بحيث يساوي ذكر الآباء فضلًا عن أن يكون أزيد منه.

الرأي المختار في المسألة

ونحاول هنا ذكر تصوّراتنا عن الموضوع بعد استبعاد ما حسمنا ضعفه من الأدلّة السابقة، ونعرض الأدلّة لنعرف في النتيجة ما هي معطياتها.

وحاصل ما يوجد- حسب الظاهر- من أدلّة على وجوب الذكر في الحج في الجملة وجوه أساسية لا بدّ من بحثها وهي:

الوجه الأوّل: قوله تعالى: [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] (2).

وظاهر الآية وجوب الذكر بكل ما يصدق عليه أنّه ذكر من دعاء أو تكبير أو تهليل أو غير ذلك، ومؤكّد الوجوب في الآية تكرّر صيغة الأمر مرتين فيها، مضافاً إلى المقارنة مع الهداية الإلهية بناءً على أنّ المراد من «كما هداكم» أي بنفس الحجم الذي هداكم به، وبما يساوق هدايته لكم، فإن مثل هذا الذيل واضح الإصرار على طلبه الذكر بعد عظيم النعمة بالهداية الإلهية التي لا تقاس بها نعمة.

قد يقال: إنّ التعبير ب [وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ] موجب لاختصاص دلالة الآية بذاك الزمان، حيث كان المسلمون كفاراً ثم اهتدوا بنعمة الإسلام، أما في مثل عصرنا، حيث يولد المسلمون مسلمين فلا معنى لانطباق هذا العنوان عليهم.

إلا أنّ هذا الكلام غير متين، فإن الهداية الإلهية عامة شاملة للناس أجمعين، وهي ذات ديمومةٍ واستمرار، ولا تنحصر بالهداية من الكفر إلى الإيمان، فبوحدة


1- الفخر الرازي، التفسير الكبير 5: 184.
2- البقرة: 198.

ص: 127

الملاك يعلم أن موجب الذكر واحد سيما بقرينة قوله تعالى: [وَ وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى]؛ حيث صحّ التعبير بالهداية بعد الضلال رغم عدم وجود كفرٍ سابق.

وقد ذكرنا سابقاً المنع عن اندكاك الذكر المراد بالآية في مثل الصلاة، إذ ظاهرها التأسيس لحكم جديد، لا توكيد حكم آخر مما يحتاج عادةً وعرفاً إلى دليل وقرينة، كما كنا قد ناقشنا مجمل الملاحظات المسجّلة على الاستدلال بالآية فليراجع.

الوجه الثاني: وفي الآية التي تليها فوراً قال تعالى: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ...]، وهي دالّة على لزوم الاستغفار مع الإفاضة أو عقيبها، والاستغفار لا يمكن دكّه في الصلاة أو نحوها مما هو واجب فيها، كما هو واضح، كما لا موجب لصرف ظهور الآية عن الوجوب.

الوجه الثالث: وفي الآية التي تليها فوراً، قال تعالى: [فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً...].

ومن الواضح أن الأمر في هذه الآية مؤكّد، ولو بلحاظ «أشدّ ذكراً»، وقد نقل المفسّرون أن العرب كانت- بعد قضاء المناسك- تتفاخر بآبائها ورجالها، فأراد اللَّه سبحانه أن يستبدل ذلك بذكره، فأمر بذلك في هذه الآية الكريمة (1).

وهذا ما يؤكّد أنّ القضية لم تكن صلاةً واجبةً يومية أو أمراً عابراً، بل ظاهرةٌ ذُكْرِية ودعائية ملحوظة، مطلوبةٌ من الشارع تعالى.


1- راجع قصّة المفاخرة عند الأردبيلي، زبدة البيان: 357؛ والطبرسي، مجمع البيان 2: 529؛ وابن الجوزي، زاد المسير 1: 215؛ والكاشاني، الصافي 1: 217؛ والطبري، جامع البيان 2: 296- 297، 298؛ والفخر الرازي، التفسير الكبير 5: 183؛ والطوسي، التبيان 2: 170؛ والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 431؛ وأبي بكر الجصاص، أحكام القرآن 1: 315؛ وابن كثير، تفسير ابن كثير 1: 244؛ وابن أبي جامع العاملي، الوجيز 1: 174؛ والطباطبائي، الميزان 2: 80؛ وأبي الفتوح الرازي، روض الجنان 3: 130؛ ورشيد رضا، المنار 2: 235؛ ومغنية، الكاشف 1: 306؛ والصادقي، الفرقان 2: 201؛ والشوكاني، فتح القدير 1: 204، 206؛ والسيوطي، الدر المنثور 1: 557- 558؛ والواحدي النيشابوري، أسباب النزول: 39 و....

ص: 128

الوجه الرابع: قوله تعالى بعد ذلك: [وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ...]، وهي أيام منى، كما أشرنا سابقاً، وهي دالّة- بظاهرها- على لزوم ذكر اللَّه فيها سواء كانت يومين أو ثلاثة، وحالها كحال الأدلّة السابقة، وقد بيّنا سابقاً تقريب الاستدلال بها، وردّ الملاحظات على ذلك.

والملفت في هذه الآيات الأربع تكرّر الأمر فيها، بلغة تشديدية قلّما وجدناها بهذه الصورة التكرارية في النصوص الكتابية، مما يوجب الجزم بالوجوب حتى لو كان كل واحدٍ منها لو لم ينضم إليه الآخر مشكوك الدلالة، وهو ما لا نسلّمه، ومثل هذه الدلالة القرآنية الحاسمة لا يمكن اختزالها في الأذكار الواردة في الصلاة أو على الذبيحة أو ما شابه ذلك، كما لا يمكن رفع اليد عن دلالتها الحاسمة برواية أو روايتين ما لم توجب الوثوق، فالمرجع هو النص الكتابي.

وقد كنا أجبنا عن سلسلة الملاحظات المسجلة على بعض الآيات المشار إليها، وخلصنا إلى أنّه لا موجب لرفع اليد عن ظهور الوجوب في الآيات.

الوجه الخامس: قوله تعالى: [وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اْلأَنْعامِ...].

وتقريب الاستدلال بالآية أنّها جعلت غاية أو منتهى الحج شهود المنافع وذكر اللَّه تعالى، ولسنا نظن أن هذا الحشد الهائل من أقاصي العالم إنما كان لجملة التلبية أو للتسمية على الذبيحة أو للصلاة ونحوها وما يفعله الناس أينما كانوا، مما يعني أنّ حركة الحج جاءت لتكوين ظاهرة ذكرٍ للَّه تعالى تمتاز عن الحالات الاعتيادية.

نعم، ليس في هذه الآية صيغة أمرٍ دالّةٍ على الوجوب، إلا أنّها توحي- لا أقلّ- بحضور ظاهرة الذكر حضوراً جاداً في الحج وغاياته مما ينافي المشهور الفقهي اليوم الذي يجيز لك النوم طوال فترة عرفة أو المزدلفة، وعدم التضرّع أو الذكر للَّه

ص: 129

إلا قليلًا جداً على مستوى الحكم الوجوبي.

قد يقال: إنّ الآية ظاهرة في أنّ الذكر كان على البهيمة، مما يحصر دلالتها في التسمية حال الذبح.

إلا أنّه غير وجيه أبداً، ذلك أنّ الذبح لا يكون أياماً معدودات، بل ولا متكرراً إذا لاحظنا فرد الحاج وآحاد الحجاج، فكيف صرحت الآية بأن ذكر اللَّه كان أياماً عدة على البهيمة؟! وبهذا يظهر أنّ المراد هو ذكر اللَّه شكراً على ما رزق من الأنعام والخيرات لا على البهيمة نفسها حال ذبحها.

الوجه السادس: إن عمل المعصومين عليهم السلام، وكذا سيرة المتشرّعة وعموم المسلمين عادةً قائمة على ذكر اللَّه تعالى في الحج، مما يعزّز دلالة الآيات بدرجة ولو بسيطة، ولا أقلّ من أنها لا تصادم دلالة الوجوب الموجودة في الآيات.

المعروف من الروايات البالغة الكثرة في أبواب الفقه أن الذكر يطلق على التلفظ اللساني، وهذا هو المركوز في أذهان المتشرّعة، كما تفيده بعض روايات الباب هنا.

وهذا الوجه لا يصلح- لوحده- دليلًا على الوجوب، لإمكان كون الذكر من المستحبّات المؤكّدة جداً، كما عليه الفقهاء، ومن ثم لا تكون السيرة دالةً على الوجوب إلا إذا كانت تقبّح بشدّة ترك الذكر في الحج، وهو ما لا دليل عليه.

نعم، هذا الدليل كما أشرنا يعزّز الأدلّة الأخرى ويكون مؤيداً لها لا برهاناً مستقلًا عنها.

الوجه السابع: الروايات الشريفة الدالة وبكثرة على لزوم الذكر للَّه تعالى في الحج، فغير الروايات السابقة، ثمّة روايات عديدة، قد يناقش في مفرداتها غير أنّها تساند برمّتها دلالة الوجوب العامة.

ولا بدّ أن نشير سلفاً إلى أنّه إذا دلّت بعض الروايات على أذكار بعينها وعلمنا

ص: 130

من الخارج عدم وجوب هذه الأذكار بخصوصها، فهذا لا يقدح في الدلالة العامة على مبدأ الوجوب، وإن قدح في قوّة دلالة الروايات نفسها عليه لو بقيت منفردةً، فإنّ التعاضد مع النص الكتابي يمكن أن يبقي دلالة الوجوب في الأوامر ويخرج منها ما قامت القرينة القطعية على إخراجه، كما أشرنا إلى النكتة العرفية في ذلك.

ونحن ذاكرون هنا بعضاً من هذه الروايات على سبيل المثال لا الحصر:

الرواية الأولى: صحيحة يعقوب بن شعيب قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما أقول إذا استقبلت الحجر؟ فقال: كبّر، وصلّ على محمد وآله» (1).

الرواية الثانية: خبر ابن عذافر عن ابن يزيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا زاغت الشمس يوم عرفة فاقطع التلبية واغتسل، وعليك بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والثناء على اللَّه و...» (2).

والخبر ضعيف السند بجهالة ابن يزيد.

والروايات الواردة في الأدعية المأثورة كثيرة جداً، تساهم في تعزيز دلالة الأدلّة السابقة (3).

وبهذا تعزز دلالة بعض الروايات السابقة مثل صحيح معاوية بن عمار، وإن كانت كثرة مستحباته تضعف عن تكوين دلالة على الوجوب فيه بنفسه، نعم مثل صحيح ابن مسلم، وكذا الأخبار التامة الدلالة الضعيفة السند تغدو مساعداً لرفع درجة الوثوق بالحكم.

والمتحصّل وجوب الذكر في المشعر وأيام التشريق، وهي بأجمعها أيام الحج، مع عرفة على احتمال. نعم، لا دليل على لزوم الذكر في عمرة التمتع.


1- وسائل الشيعة 13: 336، أبواب الطواف، باب 21، ح 2.
2- المصدر نفسه: 530، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، باب 9، ح 4.
3- على سبيل المثال انظر وسائل الشيعة ج 13: 313- 315، 317، 333- 337، 345- 349، 476، 480، 482، 526، 529، 530، 538- 542، 559- 561 و....

ص: 131

ما هو الذكر الواجب؟

وبعد الفراغ عن ضرورة الذكر بأنواعه، وعدم قيام دليل على خصوص الدعاء، ولا على خصوص الصلاة على محمد صلى الله عليه و آله وآله، ينبغي البحث في ماهية الذكر الواجب، وما يمكن قوله هو:

أولًا: إن المطلوب حصول الذكر بحيث يصدق في الحج تحقق ذكر معتدّ به للَّه تعالى عموماً، وذكر كذلك في عرفة (على احتمال)، وفي المزدلفة، وفي أيام العيد والتشريق... بشكل يتناسب عرفاً مع درجة التشديد في الآيات.

ثانياً: لا يوجد ذكر خاص قام عليه دليل معتبر، بل يتحقق بكل ما يصدق عليه ذكر اللَّه تعالى، تمسّكاً بالعناوين المأخوذة في ألسنة النصوص.

ثالثاً: ما هو المقصود بالذكر هل التلفظ اللساني أو الحضور القلبي؟

المعروف من الروايات البالغة الكثرة في أبواب الفقه أن الذكر يطلق على التلفظ اللساني، وهذا هو المركوز في أذهان المتشرّعة، كما تفيده بعض روايات الباب هنا.

أما ما قاله الملا صالح المازندراني نقلًا عن القرطبي من أنّ الذكر الكثير المأمورين نحن به في آية الذكر الكثير ليس لسانياً للقطع بعدم وجوب ذكر كثير كذلك، بل قلبي، وأنّه يعني الإيمان باللَّه وإدامة ذكره بالقلب حقيقةً أو حكماً أو ذكراللَّه عند القيام بالأفعال (1) فيرد عليه أنّه لو تمّ في تلك الآية، فلا يعلم تماميته فيما نحن فيه.

وقد احتمل الطوسي في التبيان عند تفسير آية [كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ] أن يكون المراد منه العلم وهو خلاف الظاهر، كما احتمل حضور المعنى للنفس قولًا أو غيره، مقوماً الأدعية للَّه في تلك المواطن (2).


1- الملا صالح المازندراني، شرح أصول الكافي 10: 282.
2- الطوسي، التبيان 2: 170.

ص: 132

وذكر العلامة الطباطبائي أن الذكر للقلب واللفظ حاكٍ عنه (1)، والظاهر أنّ هذا هو المطلوب الأصلي والمقصد الشرعي الأولي، كما يستفاد من روايات عديدة، بل ومن مثل آية: [وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي] على بعض التفاسير.

والذي يبدو أنّ قوله [كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ] يشكّل قرينة على أنّ الذكر اللساني مطلوب، بعد ضمّ ما كان يفعله العرب في الجاهلية من التفاخر اللساني، وإن كان الهدف الإسمى هو الحضور القلبي.

رابعاً: الذكر واجب في الحج بالبيان الذي سبق منا، إلا أن تركه لا يوجب الإخلال بالحج، لعدم دليلٍ على كونه من أجزائه أو أركانه، بل الدليل أقصى ما يدل على كونه واجباً في ظرف الحج، وقد تقدّم معنا دلالة بعض الروايات على عدم بطلان الحج أو غيره بترك الذكر، واللَّه العالم.


1- الطباطبائي، الميزان 2: 80.

ص: 133

شخصيات من الحرمين الشريفين (19) حذيفة بن اليمان

اشارة

محسن الأسدي

صحبة مباركة فاز فيها قوم وخسرها آخرون! آمنت بها طائفة فأحسنت، وضلت عنها أخرى فأساءت! ضمت أبراراً آمنوا باللَّه وأحبوا رسوله وصدقوه، وشدوا أزره ودافعوا عنه، فاستحقوا أن يدافع اللَّه عنهم، وهو ما نصت عليه الآية الكريمة: [إن اللَّه يدافع عن الذين آمنوا].

وحذيفة بن اليمان واحد من أولئك الصحابة، وممن نالوا تلك الصحبة المباركة ورعوها حق رعايتها، بل وتفوقوا من بين طلاب مدرستها الربانية بدرجات كانت محل رضا اللَّه تعالى وقبول رسوله صلى الله عليه و آله.

لقد حظي هذا الصحابي الجليل بصحبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى أنه- ولشدة قربه من الرسول صلى الله عليه و آله و ثقته به وعلو منزلته لديه- عرف بين الصحابة بأنه صاحب سر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المهاجرين.

نسبه:

وحذيفة هذا هو ابن حسيل.

ويقال: حسيل بن جابر بن أسيد بن عمرو بن مالك. و كان يقال لحسيل هذا: اليمان.

ص: 134

ويقال: اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث.

وفي نسبه اختلاف. وقيل فيه: جروة وهو اليمان، من ولده حذيفة.

وكنيته أبو عبد اللَّه العبسي.

وكان حليفاً لبني عبد الأشهل.

اليمان:

وفي سبب تسمية حذيفة باليمان:

قال ابن منظور: وإنما قيل اليمان، لأن جروة أصاب دماً في قومه، فهرب إلى المدينة، فحالف بني عبد الأشهل وتزوج منهم، فسماه قومه: اليمان؛ لمحالفته اليمانية.

هذا فيما يخص نسبه من أبيه.

وأما أمه ونسبها فهي الرباب بنت كعب بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل.

إسلام حذيفة:

ما أن راح الإسلام ونوره يعم الأطراف البعيدة عن مكة بعد أن قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاث عشرة سنة يدعو فيها قومه وما حولهم إلى نبذ عبادة الأصنام والأوثان، وعبادة اللَّه الواحد القهار حتى اضطروه أخيراً للهجرة إلى حيث يثرب التي فتحت أذرعها لاستقبال رسول الرحمة ودعوته المباركة، ثم قيض اللَّه سبحانه وتعالى له أناساً آخرين غير الذين آمنوا به وكانوا من السابقين، أناساً أبوا إلا الالتحاق بركبه، ركب الإيمان، حيث ما نأى به الزمن وبَعُد به المكان، فكل ذلك لا يمنع الذين وفقهم اللَّه لأن يكونوا جزءاً من دينه يحملوا لواءه ويبلغوا رسالته ويشدوا أزر نبيه، بقوة اليقين وصلابة الإيمان والحق الذي يحملون، فكانوا بهذا حجة على غيرهم من الذين عاشوا في مدرسة الصحبة المباركة، إلا أنهم لا يدركون منزلتها ولا يتدبرون معانيها، ولا يعون منهجها وأهدافها، فكانوا كمن

ص: 135

يقرأ القرآن بلا تدبر ولا إمعان نظر، وبالتالي لا ينتفعون بما يقرؤون.

فقد وفق كل من حذيفة وأبيه (وفي رواية كان أخوه صفوان ثالثهم) لاعتناق الإسلام، ولكن بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه و آله إلى المدينة؛ فقدما إليها ليسلما على يدي رسول الرحمة صلى الله عليه و آله، وبينا هم في طريقهما إلى المدينة إذ بمشركي مكة يمنعونهما من المسير، وقالوا لهما: إنكما تريدان محمداً!

قالا: ما نريد إلا المدينة، فعاهدوهما ألا يقاتلا مع النبي صلى الله عليه و آله.

ودخل حذيفة وأبوه المدينة قبيل بدر، فعرضا أمرهما على النبي صلى الله عليه و آله وقالا:

إن شئت قاتلنا معك.

فقال: بل نفي لهم بعهدهم، ونستعين اللَّه عليهم، ولذا لم يشهد حذيفة وأبوه بدراً.

المؤاخاة الواعية:

وقد آخى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال صلى الله عليه و آله- كما ذكرابن هشام في السيرة النبوية- تآخوا في اللَّه أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: هذا أخي.

فكان رسول اللَّه الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد وعلي بن أبي طالب عليه السلام أخوين....

وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم وحذيفة بن اليمان أخو بني عبد عبس حليف بني عبد الأشهل أخوين، رضوان اللَّه عليهما.

وتركت هذه الأخوة الواعية الواعدة أثرها الكبير في قلوب المهاجرين والأنصار، وقربت كثيراً بينهم.

وهذان الصحابيان كانا قمةً في الإيمان والجهاد ونفوذ البصيرة، حتى أن حذيفة كان يرى ويوصي من حوله بالتزام المنهج الذي ينتهجه الصحابي الجليل عمار، وأن به خلاصهم من الفتن جميعاً مهما أظلمت عليهم، ولم يكن هذا الموقف من حذيفة

ص: 136

منطلقاً من هوى أو عاطفة الحب التي تجمعه بأخيه في الدين عمار، وإنما مبنية على ما سمعه ووعاه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحق هذا الصحابي الكبير، وأنه لا يقف إلّامع الحق وأهله. فهذا محمد بن عباد بن موسى قال: حدثنا محمد بن فضيل قال: حدثنا مسلم ابن الأعور عن حبة بن جوين العرني أنه قال: انطلقت أنا و أبومسعود إلى حذيفة بالمدائن فدخلنا عليه فقال: مرحبا بكما ما خلفتما من قبائل العرب أحداً أحب إلي منكما. فأسندته إلى أبي مسعود فقلنا: يا أبا عبد اللَّه! حدثنا فإنا نخاف الفتن!

فقال: عليكما بالفئة التي فيها ابن سمية، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وأن آخر رزقه ضياح من لبن».

قال حبة: فشهدته يوم صفين وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي من الدنيا.

فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء. فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال:

اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه

واللَّه لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل، وجعل يقول:

الموت تحت الاسل والجنة تحت البارقة.

وجاءه- على رواية- نعي أخيه عمار بن ياسر في معركة صفين، وهو بالمدائن، والياً عليها ففقد بفقده أخاً مؤمناً عظيماً مجاهداً كريماً رضوان اللَّه عليه (1).

جهاد ومواقف واعية:

عرف هذا الصحابي بمواقفه الجهادية العديدة، سواء تلك التي كانت في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو التي وقعت بعده في عهد الخلفاء. وها نحن نشير إلى ما تيسر لنا منها:


1- أنظر تاريخ الطبري 3: 98؛ السيرة النبوية لابن هشام 2: 504- 506؛ مختصر تاريخ دمشق: 6.

ص: 137

لم يشهد بدراً!

نعم غاب حذيفة وأبوه عن معركة بدر الكبرى، وكان هذا منهما رعايةً للعهد الذي قطعاه مع المشركين.

وها هو يذكر لنا سبب عدم اشتراكه في المعركة المذكورة حيث يقول: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل، فأخذنا كفار قريش فقالوا:

إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا علينا عهد اللَّه وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه.

فأتينا النبي صلى الله عليه و آله فأخبرناه الخبر.

فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين اللَّه عليهم.

شهد معركة أحد:

وقد ترك لنا فيها موقفاً يدل على عظمة الرجل وصلابة إيمانه ويقينه بالقضاء والقدر، وهو صاحب الكلمة المعروفة التي راح لسانه يرددها في سماء المعركة بصدق وإخلاص

يغفر اللَّه لكم...!

فقد شهد هو وأبوه معركة أحد، وأبليا فيها بلاءً حسناً، وفي أثناء القتال أخطأ بعض المسلمين فحملوا على حسيل والد حذيفة فقتلوه اشتباهاً، وكان ذلك على مرأى من حذيفة، الذي راح يصيح بهم ولكنهم لم يسمعوه حتى نفذ قضاء اللَّه في أبيه رضوان اللَّه عليه، حين قضى نحبه في ساحة المعركة لا بسيوف أعداء اللَّه ورسوله من مشركي مكة وحلفائها، بل بسيوف إخوانه المسلمين.

ففي ميدان هذه المعركة حانت من حذيفة نظرة فإذا به يرى أباه وسيوف إخوانه من المجاهدين المسلمين تنهال عليه اشتباهاً، يظنونه واحداً من المشركين... فما كان من حذيفة إلا أن راح يصرخ بهم بقوة فلعله بهذا ينقذ أباه:

أبي أبي! ويكرر صياحه: إنه أبي إنه أبي! ولكن القضاء الذي لا مردّ له نزل بأبيه

ص: 138

المؤمن المجاهد الصابر!

حزن المقاتلون المسلمون على أبي حذيفة، ووجموا حين عرفوا أنهم يقتلون رجلًا منهم. وراحت نظراتهم تتسابق حائرةً مدهوشةً تتجه هنا وهناك تارة نحو حذيفة وأخرى نحو أبيه الذي أردوه قتيلًا، يلاحقها الألم والندم على ما فعلوه.

نظر حذيفة إليهم نظرات طويلة يوزعها عليهم، وهو يرى أباه صريعاً بسيوفهم ومع ما تحمله نظراته تلك من ألم وحرقة وحزن، راحت تحمل معها العفو والرحمة والمغفرة والشفقة عليهم، ويمكننا أن نجد هذا مجسداً في ملامح وجهه ونحن نقرأ ما كانت شفاهه تردده:

" يغفر اللَّه لكم، وهو أرحم الراحمين"..!!

ونجد كل هذا أيضاً حينما تصدق بدية أبيه التي أعطيت له أو أعطاها له النبي صلى الله عليه و آله، فما إن استلمها حتى تصدّق بها على فقراء المسلمين، وهنا دعا له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخير.

إنه ذو إيمان وثيق وولاء عميق، جعله محباً لمن حوله متسامحاً يحسن الظن بإخوانه!

و إنه لموقف عظيم وكريم زاده حباً في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقلوب المسلمين وظل ذكراً طيباً له!

وهذا نص الرواية التي تحكي لنا ذلك:

في معركة أحد قتل المسلمون أباه" حسيل بن جابر" رضي اللَّه عنه، اشتباهاً، حيث كانوا لا يعرفونه مما جعلهم ذلك يدفعون ديته إلى ابنه حذيفة، الذي قام بدوره بالتصدق بها على المسلمين.

وفي رواية: إن أبا حذيفة قتل مع النبي صلى الله عليه و آله يوم أحد، أخطأ به المسلمون، فجعل حذيفة يقول لهم: أبي، أبي، فلم يفهموا حتى قتلوه.

ص: 139

فقال حذيفة: يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين.

فزادت حذيفة عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خيراً، وأمر به فأوري، أو قال: فأودي (1).

وشهد حذيفة معركة الأحزاب:

كان حذيفة واحداً ممن شارك في حفر الخندق، بل كان واحداً من عشرة على رأسهم سلمان الفارسي وثلاثة من المهاجرين وستة من الأنصار وحصتهم أربعون ذراعاً، يحفرونها من الخندق، وهو خط خطه لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وزع الخندق حصصاً بين المشاركين لإنجاز حفره.

وقد فازت هذه الثلة من الصحابة بأن يكون سلمان فيها بعد أن تمنى كل من المهاجرين والأنصار و كل جماعة من المسلمين أن يكون سلمان فيهم فقالت الأنصار: «سلمان منا»، فيما قال المهاجرون: «سلمان منا»، وحسم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هذا بقوله المعروف: «سلمان منا أهل البيت».

وهذه الفضيلة حظيت بها جماعة حذيفة بن اليمان بانضمام سلمان إليها، ليكون واحداً منها في مهمة حفر الخندق. فاستبشروا بوجوده المبارك بينهم خيراً.

وهناك فضيلة أخرى حظي بها هذا الفريق دون الآخرين، وهو قصة الصخرة التي أخرجها اللَّه تعالى من بطن الخندق، وكسرت حديدهم وشقت عليهم، فتسارعوا إلى سلمان رضوان اللَّه تعالى عليه قائلين: ارق إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب وإما أن يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه.

فرقي سلمان حتى أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو ضارب عليه قبة تركية فقال:

يا رسول اللَّه! بأبينا أنت وأمّنا! خرجت صخرة بيضاء من الخندق مروة، فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما نحيك فيها قليلًا ولا كثيراً، فمرنا فيها بأمرك


1- انظر تاريخ الطبري 2: 73؛ و مختصر تاريخ دمشق 6: 249، وغيرهما من المصادر.

ص: 140

فإنا لا نحب أن نجاوز خطك.

فهبط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع سلمان ورقي التسعة الذين مع سلمان على شقة الخندق، فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المعول من سلمان فضربها ضربة فصدعها وضربة ثانية فصدعها وضربة ثالثة فكسرها، وفي كل ضربة يخرج منها برق يضي ء لابتي المدينة، ويكبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويكبر معه المسلمون.... وكلها كانت تحمل بشائر نصر كما بيّنها وفصلها لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).

وقد بعث النبي صلى الله عليه و آله حذيفة يوم الخندق لينظر ما صنعت قريش، فعاد إليه بخبر رحيلهم. كان هذا في ملاحقة واعية للموقف حين أراد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- وبعد أن دب الذل والعار والفشل في صفوف المشركين من قريش ومن حالفهم من اليهود وغيرهم- أن يطلع على موقفهم وما حل بهم.

فراح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يفكر فيمن ينتدبه ويختاره ليتولّى هذه المهمة الخطيرة، فيدخل معسكر المشركين ويقتحمه ليبلو أمرهم ويعرف أخبارهم.

وفي ليلة مظلمة ورياح عاصفة صاخبة وقد أضنى التعب والجوع والحصار الذي دام شهراً أو يزيد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقع اختيار الرسول صلى الله عليه و آله على هذا الصحابي الجليل، فدعاه إليه وأوكل له هذا الأمر، فلبى حذيفة ما طلبه منه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وها نحن ندعه يفصل لنا هذه المهمة:

قال رجل لحذيفة: أشكو إلى اللَّه صحبتكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنكم أدركتموه ولم ندركه ورأيتموه ولم نره.

وفي رواية أخرى: لو أدركت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لقاتلت معه وأبليت معه!

وفي رواية ثالثة: إن فتى من أهل الكوفة قال لحذيفة بن اليمان: ياأبا عبداللَّه، رأيتم رسول اللَّه وصحبتموه؟!

قال: نعم يا ابن أخي.


1- أنظر لتفصيل هذا الأمر تاريخ الطبري 2: 91- 92، وغيره من المصادر.

ص: 141

في معركة أحد قتل المسلمون أباه" حسيل بن جابر" رضي اللَّه عنه، اشتباهاً، حيث كانوا لا يعرفونه مما جعلهم ذلك يدفعون ديته إلى ابنه حذيفة، الذي قام بدوره بالتصدق بها على المسلمين.

قال: فكيف كنتم تصنعون؟

قال: واللَّه لقد كنا نجهد.

فقال الفتى: واللَّه لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا....

قال حذيفة: ونحن نشكو إلى اللَّه إيمانكم به ولم تروه. واللَّه ما ندري لو أنك أدركته كيف كنت تكون! لقد رئينا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة الخندق ليلة باردة مطيرة أو أخذتنا ريح شديدة وقر، إذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله اللَّه رفيق إبراهيم يوم القيامة؟

فما قام منا أحد. أو فسكتنا فلم يجبه أحد.

ثم قال: هل من رجل يذهب، فيعلم لنا علم القوم أدخله اللَّه الجنة؟

قال: فواللَّه ما قام منا أحد.

قال: هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله اللَّه رفيقي في الجنة؟

فما قام منا أحد.

فقال أبو بكر: يارسول اللَّه ابعث حذيفة.

قال حذيفة: فقلت: دونك، فواللَّه ما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا حذيفة حتى قلت: يا رسول اللَّه بأبي وأمي أنت، واللَّه ما بي أن أقتل، ولكني أخشى أن أؤسر.

وفي رواية: لم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنك لن تؤسر.

فقلت: يارسول اللَّه، مرني بما شئت.

فقال: اذهب حتى تدخل في القوم فتأتي قريشاً فتقول:

ص: 142

يا معشر قريش، إنما يريد الناس أن يقولوا غداً: أين قريش؟ أين قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ تقدموا، فتقدموا، فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.

ثم ائت كنانة فقل: يا معشر كنانة إنما يريد الناس غدا أن يقولوا: أين كنانة؟

أين رماة الحدق؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم.

ثم ائت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين قيس؟

أين أحلاس الخيل؟ أين فرسان الناس؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، ويكون القتل بكم.

ثم قال لي: ولا تحدث في سلاحك شيئاً.

ويواصل حذيفة حديثه حول هذه المهمة التي لم يفز بها إلا هو حيث يقول:

فذهبت فكنت بين ظهراني القوم، أصطلي معهم على نيرانهم، وأذكر لهم القول الذي قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

أين قريش؟ أين كنانة؟ أين قيس؟

حتى إذا كان وجه السحر قام أبوسفيان يدعو باللات والعزى ويشرك.

ثم قال: نظر رجل من جليسه؟ قال: و معي رجل يصطلي، قال: فوثبت عليه مخافة أن يأخذني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. قلت: أولى.

فلما رأى أبو سفيان الصبح، قال أبوسفيان: نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ أين قادة الناس؟ تقدموا.

قالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. ثم قال: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟

تقدموا. فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. ثم قال: أين قيس: أين فرسان الناس؟ أين أحلاس الخيل؟ تقدموا.

فقالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. قال فخافوا فتخاذلوا، و بعث اللَّه عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، و لا إناء إلا أكفته، و تنادوا بالرحيل.

قال حذيفة: حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول، فجعل يستحثه

ص: 143

للقيام و لا يستطيع القيام لعقاله.

وفي خبر آخر عن حذيفة نفسه يقول فيه:

وخشي أبوسفيان قائد قريش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعته يقول بصوته المرتفع:

«يا معشر قريش! لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه».

وهنا يقول حذيفة:

فسارعت إلى يد الرجل الذي بجواري، وقلت له: من أنت..؟ قال: فلان بن فلان.

وبهذا العمل أمّن حذيفة وجوده بسلام بين جنود مشركي قريش.

ثم واصل حذيفة كلامه حول ما قاله أبو سفيان لجيشه المهزوم قائلًا:

واستأنف أبو سفيان نداءه إلى الجيش قائلًا:

يا معشر قريش... إنكم واللَّه ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع- أي الخيل- والخف- أي الإبل- وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما لا تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل...

ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون...

و قال حذيفة: فواللَّه لولا ما قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: و لا تحدث في سلاحك شيئاً لرميته من قريب. وفي رواية أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال له: ولا تذعرهم علي.

وعن رعايته وحرصه الشديد على الالتزام بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعدم مخالفته، يقول حذيفة: فلما وليت من عنده- أي من عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- جعلت كأنما أمشي في حمام، حتى آتيهم فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام.

ص: 144

قال: و سار القوم، و جئت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبرته، فضحك حتى رأيت أنيابه.

وفي رواية: فلما أتيته فأخبرته قررت، فألبسني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يا نومان.

وفي حديث آخر يقول حذيفة:

ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فواللَّه إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها.

ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه و آله فلما انتصف الطريق أو نحو ذلك إذا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمّين فقالوا: أخبر صاحبك أن اللَّه تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو مشتمل في شملة يصلي، فواللَّه ما غدا أن رجعت راجعتي القر وجعلت أقرقف «يرعد من البرد»، فأوحى إليّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيده وهو يصلي، فدنوت منه فأسبل علي شملته، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا حزبه أمر

ص: 145

صلى. فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يترحلون فأنزل اللَّه عز وجل:

[يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان اللَّه بما تعملون بصيراً]، (الأحزاب: 9) (1).

ولذا نرى هذا الصحابي الجليل يوصي ويؤكد لا فقط لمن معه من المؤمنين بل للآتين من بعدهم حيث يقول:

تعودوا الصبر- وفي رواية: تعودوا البلاء- فيوشك أن ينزل بكم البلاء مع أنه لا يصيبكم أشد مما أصابنا ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وشهد غير ذلك من المشاهد مع النبي صلى الله عليه و آله ولم يتخلّف عنه قط.

معركة نهاوند وفتوحاته الأخرى:

كما عرف حذيفة بفروسيته في اقتناص المنافقين الذين يظهرون الإيمان والتوحيد والحب ويبطنون الكفر والشرك والحقد على دين اللَّه تعالى والكره لكل من اعتنقه، عرف أيضاً بشجاعته وبفروسيته في ميادين الجهاد، وترى ذلك بوضوح في معركة نهاوند بعد أن اختاره الخليفة الثاني عمر بن الخطاب معاوناً لقائد جيش المسلمين يومذاك النعمان بن مقرن. وقام كل منهما بتجهيز جيشه ليقابل مائة وخمسين ألفاً من فرسان بلاد فارس المدرعين، وما إن اشتدت المعركة بين الفريقين واستشهد النعمان حتى بادر حذيفة والتقط راية جيش المسلمين بعد أن كتم هو ومن معه مصاب أميرهم النعمان، حتى ينظروا ما يصنع اللَّه تعالى فيهم وفي عدوهم لكيلا يهن الناس. وراح يحصد الأعداء ويديم أوار المعركة، وفتحت كل من همدان والري والدينور على يديه. وعندما انتهت المعركة أخبر أخا النعمان- وهو نعيم بن مقرن- بوفاة أخيه النعمان، وجعله قائداً للجند تكريماً له ولأخيه.

وفي قول من أقوال أخر: أن حذيفة مضى سنة إحدى وعشرين بعد نهاوند


1- أنظر تاريخ الطبري 2: 97- 98؛ و مختصر تاريخ دمشق 6: 254- 256؛ ومجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي، سورة الأحزاب.

ص: 146

إلى مدينة نهاوند فصالح أهل ماه دينار، وأعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة ولا يحال بينهم وبين شرائعهم، ولهم المنعة ما أدّوا الجزية في كلّ سنة إلى من وليهم من المسلمين من مر بهم فأوى إليهم يوماً وليلة ونصحوا، فإن غشوا وبدلوا فذمتنا منهم بريئة...

وأيضاً صالح أهل آذربيجان سنة اثنتين وعشرين بعد وقعة نهاوند بسنة على أن يدفعوا ثمانمائة ألف درهم...

وأنه غزا ما سبذان، فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت من قبله فانتقضت.

ثم غزا همدان- على قول- فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، ثم غزا الري فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك وإليها انتهت فتوحه رضوان اللَّه عليه.

وشارك هو وجمع من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث كان معه الحسن والحسين وعبد اللَّه بن عباس وآخرون وبقيادة سعيد بن العاص في فتح آذربيجان.

وقد اشتد القتال في منطقة طميسة من تخوم جرجان، وقاتلهم أهلها بضراوة، حتى أن سعيداً صلّى بجنوده صلاة الخوف بعد أن سأل حذيفة عن الصلاة: كيف صلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فأخبره فصلى بهم سعيد صلاة الخوف وهم يقتتلون (1)...

فراسته:

عرف هذا الصحابي الجليل بأنه ذو فراسة وقدرة على استقراء الوجوه من حوله؛ لهذا فقد كان يستخدم فراسته وقدرته الفائقة هذه في معرفة المنافقين الذين كانوا يخفون أنفسهم بين المسلمين ويكيدون لهم. يضاف إلى هذا أن النبي صلى الله عليه و آله كان يطلع حذيفة على أسماء المنافقين، وأسرّ إليه بذلك، فكان يسمى: كاتم سر الرسول، صاحب سر الرسول. وفي هذا جاءت روايات:


1- أنظر تاريخ الطبري 2، حوادث سنة 21- 22 وغيره.

ص: 147

ففي رواية عن نافع بن جبيربن مطعم أنه قال:

لم يخبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأسماء المنافقين الذين بخسوا به ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة، وهم: اثنا عشر رجلًا ليس فيهم قرشي، وكلهم من الأنصار أو من حلفائهم.

وسيأتينا عن الإمام علي عليه السلام في مناقب حذيفة أنه كان أعلم الناس بالمنافقين، وأنه علم المعضلات والمفصلات.

وقد ورد أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان لا يصلي على جنازة حتى ينظر أحضرها حذيفة أم غاب عنها، فإن حضرها حذيفة صلى عليها وإلا فلا.

وفي رواية: إذا مات ميت سأل هل سيصلي عليه حذيفة؟ فإن أجيب عليه بنعم صلى عليه عمر وإلا فلا. حذراً من أن يصلي على منافق.

حذيفة ودرس الصدقات:

أبكت الصدقات حذيفة طويلًا وكانت درساً كبيراً له وامتحاناً عظيماً لإيمانه وصدقه ونزاهته. فقد ورد أن النبي صلى الله عليه و آله استعمله على بعض الصدقة.

عرف هذا الصحابي الجليل بأنه ذو فراسة وقدرة على استقراء الوجوه من حوله؛ لهذا فقد كان يستخدم فراسته وقدرته الفائقة هذه في معرفة المنافقين الذين كانوا يخفون أنفسهم بين المسلمين ويكيدون لهم.

فلما قدم قال:

يا حذيفة، هل رزئ من الصدقة شي ء؟

قال: لا يا رسول اللَّه، أنفقنا بقدر، إلا أن ابنة لي أخذت جدياً من الصدقة.

قال: كيف بك يا حذيفة إذا ألقي في النار وقيل لك: ائتنا به؟!

قال الراوي: فبكى حذيفة، ثم بعث اليها فجي ء بها، فألقاها في الصدقة.

ص: 148

ولاؤه وحبه لأهل البيت عليهم السلام

كان واحداً من أصحاب الإمام علي عليه السلام ومن أحبائه المخلصين:

و لطالما كان الإمام علي عليه السلام يذكر أصحابه بخير ويثني عليهم، حتى ورد أنه سئل عليه السلام عن بعض أصحابه- ومنهم ابن مسعود وعمار وسلمان وأبوذر- وكان يجيب بذكر مناقب كل واحد منهم:

فعن قيس بن حازم أنه قال: سئل علي بن ابي طالب عن... وسئل عن حذيفة فقال: أعلم الناس بالمنافقين...

وفي حديث عن النزال بن سبرة الهلالي أنه قال:

وافقنا من علي بن ابي طالب ذات يوم طيب نفس ومراح، فقلنا: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن أصحابك. وذكر الحديث وفيه قلنا: فحدثنا عن حذيفة.

قال: ذاك امرؤ علم المعضلات والمفصلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالماً.

وقبل وفاته رضوان اللَّه تعالى عليه بايع علياً عليه السلام، وراح يوصي الناس بطاعته، كما أمر أولاده بالقتال تحت راية الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام، وفعلًا قاتلا تحت رايته حتى قتلا بمعركة صفين (1).

و قد عرفت أم حذيفة أنها كانت من الصحابيات الفاضلات، وقد عرفت أيضاً بحبها لأهل بيت النبوة والطهارة حتى ورد أن حذيفة قال:

سألتني أمي: منذ متى عهدك بالنبي صلى الله عليه و آله؟

قال: فقلت لها: دعيني حتى آتي النبي صلى الله عليه و آله فأصلي معه المغرب، ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك.

قال: فأتيت النبي صلى الله عليه و آله، فصليت معه المغرب، فصلى النبي صلى الله عليه و آله العشاء، ثم انفتل فتبعه، فعرض له عارض فناجاه، ثم ذهب فاتبعته، فسمع صوتي فقال: من هذا؟


1- أنظر الكامل 3: 147؛ والحاكم في مستدركه 3: 380؛ ومروج الذهب 2: 394.

ص: 149

فقلت: حذيفة.

فقال: مالك؟

فحدثته بالأمر.

فقال: غفر اللَّه لك ولأمك. ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟

وفي رواية أخرى: «يا حذيفة هل التفتّ إلى الحالة التي كنت عليها؟

قال: قلت: بلى.

قال: فهو ملك من الملائكة.، لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي، ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (1).

مما رواه:

احتل هذا الصحابي الجليل والعبد الصالح منزلةً كبيرة ومقاماً محموداً في كتب الرجال من الفريقين.

وقال عنه علماء رجال الإمامية: إنه سكن الكوفة، ومات بالمدائن بعد بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بأربعين يوماً، وهو من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن أصحاب علي عليه السلام، وهو من الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدلوا، وجلالة حذيفة وولاؤه لأميرالمؤمنين واضحة (2).

و لحذيفة روايات عديدة عن النبي صلى الله عليه و آله، و أكثر من الرواية، حتى ذكروا أنه روى له الشيخان مسلم والبخاري في صحيحيهما 225 حديثاً متفقاً عليها. وقد روى عن حذيفة كثير من الصحابة والتابعين، ذكر هذا في كتب الحديث للفريقين.

ومما رواه حذيفة أنه قال:

1- صليت ليلةً مع النبي صلى الله عليه و آله في رمضان، فقام يغتسل ففضلت منه فضلة في


1- ذكر هذا الشيخ ذبيح اللَّه المحلاتي في رياحين الشريعة، نقلًا عن ابن مندة وأبي نعيم 3: 376.
2- فانظر فيها كتب علماء الشيعة.

ص: 150

الإناء، فقال: إن شئت فأرقه، وإن شئت فصبّ عليه.

قال: قلت: يارسول اللَّه، هذه الفضلة أحب إلي مما أصب عليه.

قال: فاغتسلت به وسترني.

قال: قلت: لا تسترني.

قال: لأسترنك كما سترتني.

2- لقد حدثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما كان ومايكون حتى تقوم الساعة.

3- كان الناس يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...

قلت: يا رسول اللَّه فهل بعد هذا الخير من شر؟

قال: نعم..

قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟

قال: نعم، وفيه دخن..

قلت: وما طخنه..؟

قال: قوم يستنّون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..

قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟

قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها...

قلت: يا رسول اللَّه، فما تأمرني إن أدركني ذلك...؟

قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم...

قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام...؟؟

قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك..!!

أرأيتم قوله: «كان الناس يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني»...؟؟

ص: 151

وعنه أيضاً أنه قال: كنتم تسألون عن الرخاء، وكنت أسال عن الشدة لأتقيها، ولقد رأيتني وما من يوم أحب إلي من يوم يشكو إلي فيه أهل الحاجة، إن اللَّه إذا أحب عبداً ابتلاه، يا موت! غظ غيظك وشد شدك، أبى قلبي إلا حبك.

5- خيّرني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين الهجرة والنصرة، فاخترت النصرة.

6- سألت النبي صلى الله عليه و آله عن كل شي ء حتى عن مسح الحصا فقال: واحدة أو دع.

7- لقد حدثني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما يكون حتى تقوم الساعة، غير أني لم أساله ما يخرج أهل المدينة منها.

8- قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشي ء قد نسيته فأراه فأذكره. وفي رواية: فأذكر كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.

9- وقال أيضاً: أنا أعلم بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أسرّ لي شيئاً لم يحدث به غيري، وكان ذكر الفتن في مجلس أنا فيه، فذكر ثلاثاً لا يذرن شيئاً، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري.

10- وبيت اللَّه كما علَّمنا الإسلام يحتاج في زيارته إلى طهارة المظهر والمخبر، وقد روى الإمام القرطبي عن حذيفة- رضي اللَّه عنه- أن النبي صلى الله عليه و آله قال:" إن اللَّه أوحى إليّ يا أخا المنذرين، يا أخا المرسلين، أنذر قومك ألا يدخلوا بيتًا من بيوتي إلا بقلوب سليمة، وألسنة صادقة، وأيدٍ نقية، وفروج طاهرة، وألا يدخلوا بيتًا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائمًا بين يديّ، حتى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيّين والصديقين، والشهداء والصالحين".

11- وحدّث قائلًا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا قام من الليل، قال: اللهم لك

ص: 152

الحمد كله، ولك الملك كله....

12- وعن أبي هريرة: أن حذيفة قال: لأقومن الليلة، فلأمجدن ربي عزوجل.

قال: فسمعت صوتاً ورائي لم أسمع صوتاً قط أحسن منه. الأمر كله، علانيته وسره، اغفر لي ما سلف مني، واعصمني فيما بقي من أجلي.

13- وعنه أنه قال: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع فيه إلى أهلي، فيشكون إلي الحاجة، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إن اللَّه ليتعاهد عبده بالبلاء، كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإن اللَّه تعالى ليحمي عبده المؤمن الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام.

14- بحسب المرء من العلم أن يخشى اللَّه عز وجل، وبحسبه من الكذب أن يقول: استغفر اللَّه وأتوب إليه، ثم يعود.

15- لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم. أبو البختري، وهو راوي هذا الحديث، ففطن له شاب فقال: من يصدقك إذا كذبك ثلاثة أثلاثنا! فقال: إن أصحاب محمد صلى الله عليه و آله كانوا يسألون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر.

قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنه من اعترف بالشر وقع في الخير.

16- وعنه أنه سأل عن ميت الأحياء فأجاب: هو الذي لا ينكر المنكر بيده، ولا بلسانه ولا بقلبه.

17- وعنه أنه قال من الخفيف:

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

فقيل له: يا أبا عبد اللَّه، وما ميت الأحياء؟

قال: الذي لا يعرف المعروف بقلبه، ولا ينكر المنكر بقلبه.

18- وعنه أنه قال: خذوا عنا فإنا لكم ثقة، ثم خذوا عن الذين يأخذون عنا، فإنهم لكم ثقة، ولا تأخذوا عن الذين يلونهم. قالوا: لم؟ قال: لأنهم يأخذون حلو الحديث، ويدعون مرّه ولا يصلح حلوه إلا بمرّه.

ص: 153

19- لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لأغرف فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل.

20- إن الحق ثقيل، وهو مع ثقله مري ء، وإن الباطل خفيف وهو مع خفته وبي ء. وترك الخطيئة خير من طلب التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلًا.

21- إنا حملنا هذا العلم وإنا نؤديه إليكم وإن كنّا لا نعمل به. وهنا يقول البيهقي عن قول حذيفة: وإن كنا لا نعمل به. يريد- واللَّه أعلم- فيما يكون ندباً واستحباباً فلا يظن بهم أنهم كانوا يتركون الواجب عليهم ولا يعملون به، إذ كانوا أعمل الناس بما وجب عليهم، ويحتمل أن يكون ذهب مذهب التواضع في ترك التزكية.

22- قيل له: مالك لا تتكلم؟ قال: ان لساني سبع أتخوّف إن تركته يأكلني.

23- ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل.

ومما قاله:

الخير في رأي حذيفة واضح، لا غبار عليه لمن أراده وابتغاه. أما الشر فهو الذي يتنكر ويتستر ويختفي ويتلون لهذا تفرد هذا الرجل الأريب بدراسة الشر ومنابعه والنفاق ومصادره حتى يتجنبها. وليس هذا وحسب، بل راح أيضاً يهتم بالسؤال عن الشدة لا عن الرخاء، ليتقي الشدة وأبوابها ويبعد الآخرين عن كل ذلك. حقاً إنه صاحب بصيرة! وهذه بعض أقواله:

سئل حذيفة: أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب.

قال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.

قال حذيفة: إن الرجل ليدخل المدخل الذي يجب أن يتكلم فيه للَّه، ولا

ص: 154

يتكلم، فلا يعود قلبه إلى ما كان أبداً.

قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن!

قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبداللَّه؟

قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير، فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.

وعن أم سلمة رضوان اللَّه تعالى عليها أنها قالت: قال حذيفة: واللَّه لوددت أن لي إنساناً يكون في مالي، ثم أغلق علي بابًا، فلا يدخل علي أحد، حتى ألحق باللَّه عزّ وجل.

وله أنه قال:

إن اللَّه تعالى بعث محمداً صلى الله عليه و آله فدعا الإنس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتاً ومات بالباطل من كان حياً، ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها، ثم يكون ملكاً عضوضاً...!!

فمن الإنس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا للحق، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافاً يده، فهذا ترك شعبة من الحق، ومنهم من ينكر بقلبه، كافاً يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق، ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء.

والقلوب عند حذيفة أربعة، حيث يقول:

القلوب أربعة

قلب أغلف، فذلك قلب الكافر.

مصفح، فذلك قلب المنافق.

وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.

وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدّها ماء طيب.. ومثل

ص: 155

النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم، فأيهما غلب، غلب!

وله أيضاً:

جئت النبي صلى الله عليه و آله فقلت يا رسول اللَّه،

... إن لي لساناً ذرباً على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار فقال النبي عليه الصلاة والسلام لي: فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر اللَّه في اليوم مائة مرة!

اختياره الكوفة!

كان- بحق- موفقاً في كل مهمة انتدب اليها أو مشورة تطلب منه، فهو العابد وهو المقاتل الخبير العارف الناصح، لم تمنعه عبادته الكثيرة عن أن يكون مقاتلًا جسوراً، ولم يمنعه كل ذلك عن أن يكون مهندساً ومخططاً لمشاريع أخرى يحتاجها المسلمون، إن في المعارك التي خاضوها ضد أعداء اللَّه وإن في بناء دولتهم.

فحينما انتقل سعد بن أبي وقاص- والمسلمون معه- من المدائن إلى الكوفة واستوطنوها، وذلك بعد أن أنزل مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغاً.

مما جعل عمر يكتب إلى سعد كي يغادرها فوراً بعد أن يبحث عن أكثرالبقاع ملاءمةً فينتقل بالمسلمين إليها.

فمن الذي وكل إليه أمر اختيار البقعة والمكان...؟

كان حذيفة بن اليمان هو صاحب هذه المهمة، فقد ذهب ومعه سلمان بن زياد، يختاران المنطقة والمكان الملائم حتى بلغا أرض الكوفة، وكانت حصباء جرداء مرملة.

شمّ حذيفة عليها أنسام العافية، فقال لصاحبه: هنا المنزل إن شاء اللَّه، وهكذا خططت الكوفة وأحالتها أيدي المسلمين إلى مدينة طيبة عامرة.

وما كاد المسلمون ينتقلون إليها، حتى شفي سقيمهم، وقوي ضعيفهم، ونبضت بالعافية عروقهم..!!

ص: 156

لقد كان حذيفة واسع الذكاء، متنوّع الخبرة، وكان يقول للمسلمين دائماً:

«ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة.. ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا.. ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه»...

ولايته على المدائن:

لقد ضرب حذيفة أمثلة رائعة في كل مواقفه، وهو يصحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويلازمه ويأتمر بأوامره ويتعلم منه الكثير الكثير، وقد ترك ذلك أثره في عباداته وفي جهاده وصلحه وفي زهده وتواضعه، وهو يتولى شؤون المسلمين وإدارتهم.

ونرى هذا واضحاً حينما ولاه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب على المدائن.

وما إن وصل خبر ذلك إلى أهل المدائن، وقد اقترن بمناقبه التي سمعوها عنه بما فيها من ورعه وصدقه وبلائه العظيم فيما خاضه من معارك، خصوصاً في فتح العراق، حتى خرجت أفواجهم التي يحدوها الأمل الكبير لرؤيته والشوق الأكبر لاستقباله.

و هم على حالتهم هذه، إذ بهم يفاجئون بشي ء لم يكونوا ألفوه، من بذخ ولاة أمورهم وما عهدته بلادهم بلاد فارس من أبهة الولاة والسلاطين، فوجئوا بشخص على حمار على ظهره أكاف قديم، يمسك بيديه زاده، كان رغيفاً وقليلًا من الملح، يضمه موكب متواضع. وما أن عرفوا أنه الوالي الجديد حتى راحوا يحتشدون حوله، ويحفون به، وعلامات الاستغراب تلاحق وجوههم مما يرونه:

إنه أنموذج يلقي بغرابته عليهم ويزيدهم تعجباً ماعليه الرجل من تواضع وبساطة في مأكله وملبسه وموكبه ومركبه، وظلوا يشخصون بأبصارهم إليه، فحانت منه نظرة إليهم، وعرف أنهم يتمنون أن يسمعوا منه شيئاً، إنه إنذار لهم وتحذير:

«إياكم ومواقف الفتن!

وما مواقف الفتن يا أبا عبداللَّه؟!

ص: 157

فأجابهم:

أبواب الأمراء!

يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه»..!

إنها صرخة قوية ضد النفاق تمقته وتحتقره!! إنها صرخة وال جديد، جديد عليهم في كل شي ء.

إذن، هو لايريدهم بكلماته هذه- بل بصرخته هذه- إلا حراساً أمناء ومراقبين أشداء، وأعين لخطواته وناصحين صادقين له، يسددونه في القول والعمل.

وبالتالي، هو لايريد أن ينفرد في الحكم، ولايريد منهم أن يطيعوه إلا بالحق، وأن لا يمتدحوه بما ليس فيه، أو يتزلفوه و يتملقوه بالثناء عليه...

إنه منهج حكم واع وواعد راح حذيفة يربيهم عليه ويدربهم على تحمله! لا يريد منهم التواء، ولا مراء، ولا خداعاً ولا خيانة، ولا كذباً ولا نفاقاً، ولا طاعة في معصية، إنه يريدهم أن يقفوا مع الحق، وللحق، وأن لا يخافوا في اللَّه لومة لائم.

إنه أسلوب آخر لم يكونوا عرفوه من قبل!

أما هو فقد تعلمه من الدين الجديد والرسول المربي صلى الله عليه و آله، منذ أن آمن برسالة السماء، وانضم إلى مدرسة النبوة والصحبة المباركة، حينما وفق هو وأخوه صفوان وأبوهما لترديد شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمداً رسول اللَّه بصدق وإخلاص.

وكان الخليفة الثاني إذا ولى والياً على قوم كتب إليهم: «إني وليت عليكم فلاناً وأمرته بكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا».

فلما ولى حذيفة كان ذلك سنة اثنتين وعشرين كتب لأهل المدائن:

«إني قد وليت عليكم فلاناً فأطيعوه- أو اسمعوا له وأطيعوه- وأعطوه ما سألكم».

ص: 158

فقالوا: هذا رجل له شأن كبير، فخرجوا لاستقباله، أو فركبوا ليتلقوه فلقوه على بغل تحته أكاف، وهو معترض عليه رجلاه من جانب واحد، فلم يعرفوه فأجازوه فلقيهم الناس فقالوا:

أين الأمير؟

قالوا: هو الذي لقيتم.

فركضوا في إثره فأدركوه وهو يركب حماره، وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق، وهو يأكل منهما فسلموا عليه.

وقالوا: سلنا ما شئت.

فقال: أسألكم طعامًا آكله وعلفاً لحماري هذا ما دمت فيكم.

أو فنظر إلى عظيم منهم، فناوله العرق والرغيف... وأعطاه خادمه.

فأقام حذيفة فيهم ما أقام.

ثم بعث إليه عمر يستدعيه إلى المدينة، فلما بلغه مقدم حذيفة، كمن له عمر في الطريق، فلما رآه على الحال التي خرج من عنده عليها أتاه فالتزمه أو فأكرمه وقال: أنت أخي وأنا أخوك.

كلمات من نور:

مرض حذيفة مرضه الذي توفي فيه، وهو في المدائن، حيث ولاه عمر بن الخطاب ولايتها، فأقام بها إلى حين وفاته، والتي كانت سنة ست وثلاثين هجرية.

وقيل: سنة خمس وثلاثين، وقيل: توفي بعد عثمان بأربعين يوماً، وقيل: قبل عثمان بأربعين ليلة.

وقد أبى حذيفة أن لا يودع هذه الدنيا إلا بمواقف أخرى لا تقلّ عظمة عن مواقفه، وهو يعلن إسلامه وهو يجاهد وهو يلازم النبي صلى الله عليه و آله بصدق وإخلاص ووعي... أبى إلا أن يقدم لمن حوله بل للأجيال من بعدهم كل ما ينفعهم في حياتهم الدنيا، ويبقى ذخيرة طيبة لهم في حياتهم الأخرى، كلمات كلها نور، وكيف لا

ص: 159

تكون كذلك وهي تنبع من قلب ملي ء بالإيمان، وأي إيمان! إنه إيمان رباني عارف باللَّه بكل ما تحمله من معان كبيرة عظيمة، تراه قد جسدها في سلوكه، في سكناته وحركاته في أقواله وأفعاله. وهذه طاقة حكيمة طيبة منها وهو يصارع مرضه الذي توفي فيه:

تقول الرواية:

لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه قيل له: ما تشتهي؟

قال: اشتهي الجنة.

قالوا: فما تشتكي؟

قال: الذنوب.

قالوا: أفلا ندعو لك الطبيب؟

قال: الطبيب أمرضني.

لقد عشت فيكم على خلال ثلاث: الفقر فيكم أحب إلي من الغنى، والضعة فيكم أحب إلي من الشرف، وإن من حمدني منكم ولامني في الحق سواء.

ثم قال: أصبحنا؟ أصبحنا؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم، إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، فلا أفلح من ندم.

وقد حدث جعفر بن محمد عن أبيه قال:

قال حذيفة حين حضره الموت:

مرحباً بالموت وأهلًا، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إني لم أحب الدنيا لحفر الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر، وكثرة الركوع والسجود، والذكر للَّه عز وجل كثيراً، والجهاد في سبيله، ومزاحمة العلماء بالركب.

ص: 160

وعن زياد مولى ابن عياش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله أنه قال:

دخلت على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال:

اللهم، إنك تعلم لولا أني أرى أن هذا اليوم أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، لم أتكلم بما أتكلم به، اللهم، إنك تعلم أني كنت أختار الفقر على الغنى، وأختار الذلة على العز، وأختار الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، ثم مات.

وفي دعاء له: اللهم إني أعوذ بك من صباح النار ومن مسائها.

هذه آخر ساعة من الدنيا، اللهم، إنك تعلم أني أحبك، فبارك لي في لقائك.

ركب أبو مسعود الأنصاري في نفر كانوا معه لزيارة حذيفة، وهو في المدائن، وقد ألمّ به مرض الموت، ووصلوا إليه في بعض الليل، فقال:

أي الليل ساعة هذه؟

قالوا: بعض الليل، لوجود الليل.

قال لهم: هل جئتم بأكفاني؟

قالوا: نعم.

وهنا بادرهم بقوله:

فلا تغالوا بكفني، فإن يكن لصاحبكم عند اللَّه خير يبدل خيراً من كسوتكم، وإلا تسلب سلباً سريعاً.

وفي قول:

أجئتم معكم بأكفان..؟؟

قالوا: نعم..

قال: أرونيها..

فلما رآها، وجدها جديدة فارهة..

فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم:

ص: 161

" ما هذا لي بكفن.. إنما يكفيني لفافتان بيضاوتان، ليس معهما قميص..

فاني لن أترك في القبر إلا قليلًا، حتى أبدّل خيراً منهما... أو شرّاً منهما"..!!

وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم فسمعوها:

" مرحبا بالموت..

حبيب جاء على شوق..

لا أفلح من ندم"..

ثم صعدت إلى اللَّه روحُه راضية مرضية!

فكانت هذه آخر كلماتك وآخر ما نطق به لسانك. إنها حقاً كلمات من نور!

رضوان اللَّه تعالى عليك.

ص: 162

ص: 163

وظائف أمير الحاج من كتاب الدروس

اشارة

للفقيه الشهيد شمس الدين محمد بن مكي العاملي

إعداد: الدكتور محمود البستاني

درس:

ينبغي للإمام الأعظم إذا لم يشهد الموسم نصب إمامٍ عليه في كلّ عام، كما فعل النّبي صلى الله عليه و آله من تولية عليّ عليه السلام سنة تسع على الموسم وأمره بقراءة براءة، وكان قد ولّى غيره فعزله عن أمر اللَّه تعالى، وولّى عليّ عليه السلام على الحجّ أيّام ولايته الظّاهرة (1).

وروى ابن بابويه عن العمري أنّ المهديّ عليه السلام يحضر الموسم في كلّ سنة، يرى النّاس ويرونه ويعرفهم ولا يعرفونه (2).

ويشترط في الوالي العدالة والفقه في الحجّ، وينبغي أن يكون شجاعاً مطاعاً ذا رأي وهداية وكفاية.

وعليه في مسيره امور خمسة عشر:

جمع الناس في سيرهم (3) ونزولهم حذراً من المتلصّصة.

وترتيبهم في السير والنزول.


1- تفسير العياشي 2: 73- 74؛ الوسائل 9: 463، الباب 53 من أبواب الطّواف.
2- الفقيه 2: 307، ح 1525.
3- مسيرهم.

ص: 164

وإعطاء كلّ طائفة مقاداً في السّير وموضعاً من النزول، ليهتدي ضالّهم إليهم.

وأن يرتاد لهم المياه والمراعي.

وأن يسلك بهم أوضح الطّرق وأخصبها وأسهلها مع الاختيار.

وأن يحرسهم في سيرهم (1) ونزولهم، ويكف عنهم من يصدّهم عن المسير ببذل مال أو قتال مع إمكانه، ولو احتاج إلى خفارة بذل لها اجرة، فإن كان هناك بيت مال أو تبرّع به الإمام أو غيره فلا بحث، وإن طلب من الحجيج فقد مرّ حكمه.

وأن يرفق بهم في السّير على سير أضعفهم.

وأن يحمل المنقطع منهم من بيت المال أو من الوقف على الحاجّ إن كان، وإلّا فهو من فروض الكفاية.

وأن يراعي في خروجه الأوقات المعتادة، فلا يتقدّم بحيث يؤدّي إلى فناء الزاد، ولا يتأخّر فيؤدّي إلى النصب أو فوات الحجّ.

وأن يؤدّب الجناة- حدّاً أو تعزيراً- إذا فوّض إليه ذلك.

وأن يحكم بينهم إن كان أهلًا، وإلّا رفعهم إلى الأهل.

وأن يمهلهم عند الوصول إلى الميقات ريثما يتهيّؤا له بفروضه وسننه، ويمهلهم بعد النفر لقضاء حوائجهم من المناسك المتخلّفة وغيرها.

وأن يقيم على الحائض والنفساء كي ما تطهرا، روي نصّاً (2).

وأن يسير بهم إلى زيارة النّبي والأئمة صلى اللَّه عليه وعليهم، ويمهلهم بالمدينة بقدر أداء مناسك الزيارات والتوديع وقضاء حاجاتهم.

وعليه في إمامة المناسك امور:

الإعلام بوقت الإحرام ومكانه وكيفيته، وكذا في كلّ فعل ومنسك، والخطب الأربع تتضمّن أكثر ذلك، ولتكن الأولى بعد صلاة الظهر من اليوم السابع من


1- مج 1 ورض 3: مسيرهم.
2- الكافي 4: 457 الحديث 2؛ التّهذيب 5: 132 ح 436؛ الوسائل 9: 474 الباب 64 من أبواب الطواف، ح 5.

ص: 165

ذي الحجّة وبعد إحرامه لمكان تقدّمه إلى منى، والثّانية يوم عرفة قبل صلاة الظهر، والثّالثة يوم النّحر، والرابعة في النفر الأوّل، وكلّها مفردة إلّاخطبة عرفة فإنّها اثنتان، يعرّفهم في الاولى كيفية الوقوف وآدابه، ووقت الإفاضة، ومبيت مزدلفة ووقت الإفاضة منها، ويحضّهم على الدعاء والأذكار، ثمّ يجلس جلسةً خفيفة كلا، ولا (1)، ويقوم إلى الثّانية فيأتي بها مخفّفة، بحيث يفرغ منها بفراغ المؤذّن من الأذان والإقامة.

وصرّح الشّيخ في الخلاف بأنّ الخطبة قبل الأذان (2). قال ابن الجنيد (3):

وروي عن الصّادق عليه السلام: أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه وآله خطب بعرفة بعد الصّلاة، وأنّه خطب الرابعة في غد يوم النّحر (4).

وتقدّمه في الخروج إلى منى ليصلّي بها الظّهرين، وتخلّفه فيها حتّى تطلع الشمس. وكذا يتخلّف بجُمَع حتّى تطلع ولا يلبث بعد طلوعها.

وتقدّمه يوم النّحر في الإفاضة إلى مكّة، ثمّ يعود ليومه ليصلّي الظهرين بالحجيج في منى، وتأخّره بمنى إلى النفر الثاني، ثمّ يتقدّم لصلاة الظّهرين بمكّة، وأمر أهل مكّة بالتشبّه بالمحرمين أيّام الموسم، وإمامة الحجيج في الصّلوات، وخصوصاً الصّلوات الّتي معها الخطب.

وعلى النّاس طاعته فيما يأمر به، ويستحبّ لهم التأمين على دعائه، ويكره التقدّم بين يديه فيما ينبغي التأخّر عنه وبالعكس، ولو نهى حرم.


1- رض 2 ومل: كالاولى، والصّحيح ما أثبتناه، وذلك تشبيه بالقليل السّريع، وذلك لأنّ لا وَلا لفظان قصيران عندالسّمع سريعا الانقطاع، كنّي بهما عمّا كان سريعاً من الفعل لمشابهته في قصر الزّمان لهما، ونحوه قول ابن هاني المغربيّ: وأسرع في العين من لحظة وأقصر في السّمع من لا وَلا ذكر ذلك الفقيه الحكيم الشيخ ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة: 522.
2- الخلاف 1: 425، مسألة: 150.
3- لم نعثر عليه.
4- لم نعثر عليها.

ص: 166

وعليه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وخصوصاً فيما يتعلّق بالمناسك والكفّارات، ولو كان الحكم مختلفاً فيه بين علماء الشّيعة فليس له أن يأمرهم باتّباع مذهبه إذا لم يكن الإمام الأعظم أو من أخذ عنه، إلّاأن يكون الخطأ ظاهراً فيه لندور القول فله ردّ معتقده.

ويجوز أن يتولّى الإمام الواحد وظائف السفر وتأدية المناسك، وأن يفوّضا إلى إمامين، ولو كان إمام التأدية والتعليم حلالًا جاز، والظّاهر أنّه مكروه لما فيه من تغيير سنّة السلف.

ولو أمر الإمام منادياً أن ينادي أيّام منى كما أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله بديل بن ورقاء: «ألا لا تصوموا، فإنّها أيّام أكل وشرب وبعال» (1)، كان حسناً.

درس:

لنختم كتاب الحجّ بأخبار اثني عشر:

الأوّل: روى البزنطيّ، عن ثعلبة، عن ميسر قال: كنّا عند أبي جعفر عليه السلام في الفسطاط نحواً من خمسين رجلًا، فقال لنا: «أتدرون أيّ البقاع أفضل عند اللَّه


1- قرب الإسناد: 11؛ الوسائل 7: 386 الباب 2 من أبواب الصّوم المحرّم والمكروه، ح 10؛ معاني الأخبار: 300، وفيه بعد نقل الحديث: والبعال النكاح وملاعبة الرّجل أهله.

ص: 167

منزلةً»؟ فلم يتكلّم أحد، فكان هو الرادّ على نفسه، فقال: «تلك مكّة الحرام الّتي رضيها اللَّه لنفسه حرماً وجعل بيته فيها» ثمّ قال: «أتدرون أيّ بقعة في مكّة أفضل حرمةً»؟ فلم يتكلّم أحد، فكان هو الرادّ على نفسه، فقال: «ذلك بين الركن الأسود إلى باب الكعبة ذلك حطيم إسماعيل عليه السلام الّذي كان يذود فيه غُنَيمَتَه ويصلّي فيه، فواللَّه لو أنّ عبداً صفّ قدميه في ذلك المكان، قائماً الليل (1) مصلّياً حتّى يجنّه النّهار، وقائماً النّهار (2) حتّى يجنّه الليل، ولم يعرف حقّنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل اللَّه منه شيئاً أبداً، إنّ أبانا إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام وعلى محمّد وآله كان ممّا اشترط على ربّه أن قال: [ربّ اجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم] (3)، أما إنّه لم يعن النّاس كلّهم، فأنتم اولئك رحمكم اللَّه ونظراؤكم، وإنّما مثلكم في النّاس مثل الشّعرة السّوداء في الثّور الأنور» (4).

الثاني: مارواه الصّدوق بإسناده إلى أبي حمزة الّثمالي قال: قال لنا عليّ بن الحسين عليهما السلام: «أيّ البقاع أفضل»؟ فقلت: اللَّه ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال:

«أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أنّ رجلًا عمّر ما عمّر نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلّاخمسين عاماً، يصوم النّهار ويقوم الليل في ذلك المكان، ثمّ لقي اللَّه عزّ وجل بغير ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئاً» (5).

الثالث: مارواه سعيد الأعرج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «أحبّ الأرض إلى اللَّه تعالى مكّة، وما تربةٌ أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من تربتها، ولا حجر أحبّ إلى اللَّه من حجرها، ولا شجر أحبّ إلى اللَّه من شجرها، ولا جبال أحبّ إلى اللَّه من


1- رض 1: باللّيل.
2- رض 1، رض 4، إل وح: بالنّهار.
3- ابراهيم: 37.
4- تفسير العيّاشي 2: 233، ح 41؛ ثواب الأعمال: 456؛ الوسائل 1: 94 الباب 29 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 14. بتفاوت يسير في الألفاظ.
5- الفقيه 2: 159، ح 686؛ الوسائل 1: 93، الباب 29 من أبواب مقدّمة العبادات، ح 12.

ص: 168

جبالها، ولا ماء أحبّ إلى اللَّه من مائها» (1).

الرابع: مارواه الصّدوق، عن الباقر عليه السلام، قال: «أتى آدم عليه السلام هذا البيت ألف أتيةٍ على قدميه، منها سبعمائة حجّة وثلاثمائة عمرة، وكان يأتيه من ناحية الشام على ثور» (2).

الخامس: عن الصّادق عليه السلام: «من أمّ هذا البيت- حاجّاً أو معتمراً مبرّأً (3) من الكبر- رجع من ذنوبه كهيئة (4) يوم ولدته امّه... والكبر أن يجهل الحقّ ويطعن على أهله» (5).

السادس: قال الصّادق عليه السلام: «من نظر إلى الكعبة، فعرف من حقّنا وحرمتنا مثل الّذي عرف من حقّها وحرمتها، غفر اللَّه له ذنوبه، وكفاه همّ الدنيا والآخرة» (6).

وروي أنّ «من نظر إلى الكعبة لم يزل تكتب له حسنة وتمحى عنه سيّئة حتّى يصرف بصره عنها» (7).

على الوالي في إمامة المناسك امور: الإعلام بوقت الإحرام ومكانه وكيفيته، وكذا في كلّ فعل ومنسك، والخطب الأربع تتضمّن أكثر ذلك.


1- الفقيه 2: 157، ح 677؛ الوسائل 9: 349، الباب 19 من أبواب مقدّمات الطّواف، ح 1.
2- الفقيه 2: 147، ح 651.
3- أكثر النسخ: تَبَرُّءاً.
4- في أكثر النّسخ: كهيئته.
5- الكافي 4: 252، ح 2؛ الفقيه 1: 133، ح 559؛ التّهذيب 5: 23، ح 69، الوسائل 8: 64، الباب 38 من أبواب وجوب الحجّ، ح 1.
6- الكافي 4: 241، ح 6؛ الفقيه 2: 132، ح 554؛ الوسائل 9: 364، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطّواف، ح 5.
7- الكافي 4: 240، ح 4؛ الفقيه 2: 132، ح 555؛ الوسائل 9: 364، الباب 29 من أبواب مقدّمات الطّواف، ح 6.

ص: 169

السابع: قال الباقر عليه السلام: «ما يقف أحد على تلك الجبال برّ ولا فاجر إلّا استجاب اللَّه له، فأمّا البرّ فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه» (1)، و «ما من رجل وقف بعرفة من أهل بيت من المؤمنين إلّاغفر اللَّه لأهل ذلك البيت من المؤمنين، وما من رجل من أهل كورة وقف بعرفة من المؤمنين إلّاغفر اللَّه لأهل تلك الكورة من المؤمنين» (2).

الثامن: عن الصّادق عليه السلام: «للّذي يحجّ عن الرجل أجر وثواب عشر حجج، ويغفر له ولأبيه ولأمُّه، ولابنه ولابنته، ولأخيه ولأخته، ولعمّه ولعمّته، ولخاله ولخالته» (3).

التاسع: قال الصّادق عليه السلام: «من أنفق درهماً في الحجّ كان خيراً له من مائة ألف درهم ينفقها في حقّ» (4).

قال ابن بابويه: وروي أنّ درهماً في الحجّ أفضل من ألفي ألف درهم فيما سواه في سبيل اللَّه (5)، وأنّ درهماً يصل إلى الإمام مثل ألف ألف في الحجّ (6).

العاشر: روى سعد الإسكاف قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ الحاجّ إذا أخذ في جهازه لم يخط خطوة إلّاكتب اللَّه له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات حتّى يفرغ من جهازه، فإذا استقلّت به راحلته لم ترفع خفّاً ولم تضعه إلّاكتب اللَّه له مثل ذلك حتّى يقضي نسكه، فإذا قضى نسكه غفر اللَّه له، وكان بقيّة ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من شهر ربيع الآخر يكتب له الحسنات، ولا يكتب عليه السّيئات إلّاأن يأتي بموجبة، فإذا


1- الكافى 4: 262، ح 38؛ الفقيه 2: 136، ح 583؛ الوسائل 10: 21، الباب 17 من أبواب إحرام الحجّ، ح 4.
2- الفقيه 2: 136، ح 584.
3- الفقيه 2: 144، ح 629، الوسائل 8: 116، الباب 1 من أبواب النيابة في الحجّ، ح 6.
4- الفقيه 2: 145، ح 637، الوسائل 8: 82، الباب 42 من أبواب وجوب الحجّ، ح 10.
5- الفقيه 2: 145، ح 639، الوسائل 8: 82، الباب 42 من أبواب وجوب الحجّ، ح 13.
6- الفقيه 2: 145، ح 638، الوسائل 8: 82، الباب 42 من أبواب وجوب الحجّ، ح 11.

ص: 170

مضت أربعة أشهر خلط بالناس» (1).

الحادي عشر: قال الصادق عليه السلام: «الحاجّ يصدرون على ثلاثة أصناف: فصنف يعتقون من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه، وصنف يحفظ في أهله وماله» (2).

الثاني عشر: روى زرارة أنّه قال لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلني اللَّه فداك، أسألك في الحجّ منذ أربعين عاماً فتفتيني! فقال: «يا زرارة! بيت يحجّ قبل آدم بألفي عام، تريد أن تُفتَى مسائله في أربعين عاماً؟!» (3).

وقد أتينا منه بحمد اللَّه في هذا المختصر ما لم يجتمع في غيره من المطوّلات، فللّه الشكر على جميع الحالات.


1- الفقيه 4: 254، ح 9، التهذيب 5: 19، ح 55؛ الوسائل 8: 66، الباب 38 من أبواب وجوب الحجّ، ح 9.
2- الكافي 4: 253، ح 6؛ التّهذيب 5: 21، ح 59؛ الوسائل 8: 65، الباب 38 من أبواب وجوب الحجّ، ح 2.
3- الفقيه 2: 306، ح 1519؛ الوسائل 8: 7، الباب 1 من أبواب وجوب الحجّ، ح 12.

ص: 171

الرحلة الحجّية لصاحب الذريعة آغا بزرگ الطهراني قدس سره

اشارة

الحركة من النجف يوم السبت 15 شوال سنة 1364، الورود إلى الكاظمية يوم الاثنين 17، الحركة إلى الشام يوم الخميس 20 بعد الظهر، الورود إلى الفَلّوجة ساعتين قبل الغروب، الورود إلى الرمادية غروب يوم الخميس، الورود إلى رُطْبة، جمرك العراق- صبح يوم الجمعة، أبو الشامات جمرك الشام عصر الجمعة.

الورود إلى الشام ليلة السبت ساعتين ونصف بعد المغرب 22 شوال، في منزل السيد محسن الأمين.

الخروج من الشام صبح يوم الثلاثاء 25، الورود إلى بيروت ظهر الثلاثاء المذكور، في بيت الحاج السيد علي أكبر علي زاده الخراساني نزيل بيروت بعد واقعة مسجد گوهرشاد.

الحركة من بيروت صبح يوم الخميس 27 شوال، الورود إلى حيفا أول الظهر، ثم الحركة بسيارة أخرى في الساعة الثامنة، والورود إلى قدس فلسطين في الساعة الحادية عشرة، وكنا ليلة الجمعة وليلة السبت بالقدس في فندق فلسطين الجديد.

زرنا في يوم الجمعة بيت المقدس ومسجد الصخرة، وصلينا صلاة الجمعة

ص: 172

بالمسجد، وزرنا النبي إبراهيم وسارة، والأنبياء إسحاق ويعقوب وزوجته، ويوسف الصديق، وفي الساعة الثامنة من يوم الجمعة عدنا من القدس إلى مصر.

توجهنا إلى مصر ساعتين قبل الغروب من يوم السبت 29 شوال بالقطار درجة أولى، وردنا إليها في الساعة الرابعة والنصف من يوم الأحد سلخ شوال، وزرنا مشهد رأس الحسين عليه السلام والسيدة نفيسة، والإمام الشافعي، والإمام ليث، والسيدة زينب (1).

وخرجنا من مصر ليلة الثلاثاء 23 ذي القعدة سنة 64، ووردنا جدة مع باخرة الشركة التي تحركت مع باخرة المصريين في يوم الجمعة قبل الزوال.

وخرجنا منها إلى المدينة المنورة ليلة السبت 27، ووردنا المدينة صبيحة يوم الأحد 28 ذي القعدة. وذهبنا يوم الإثنين إلى مكتبة شيخ الإسلام السيد أحمد عارف حكمت بن السيد إبراهيم الحسيني المدني، وتشرّفنا بلقيا مديرها الشيخ إبراهيم بن أحمد حمدي المدني المولود سنة 1288، واستجزنا منه، فأجاب بالإجازة العامة بروايته عن شيخه، والمكتبة في محل دار السيد الشريف الحسن المثنى الواقعة في طرف قبلة المرقد المنور النبوي.

وتشرفنا- في يوم الثلاثاء الذي هو أول ذي الحجة عند السعودي ولم ير فيه الهلال بالمدينة للغيم المتراكم في صبيحة ذلك اليوم- أولًا إلى مسجد قبا، ثم رجعنا إلى المدينة، وذهبنا إلى أُحُد وزرنا قبر حمزة سيد الشهداء وقبر عبداللَّه وقبور الشهداء، وصلّينا في المسجد الذي في قربهم، ثم عدلنا إلى أن وصلنا إلى مسجد القبلتين، ثم ذهبنا إلى مسجد الأحزاب.

وكنا بالمدينة المنورة، وخرجنا منها إلى مكة المعظمة فيما قبل الزوال من يوم الخميس ثالث ذي الحجة وصلّينا بمسجد الشجرة، وخرجنا منه ودخلنا جدة قبل الظهر من يوم الجمعة. رابع ذي الحجة، وبتنا بها ليلة.


1- إلى هنا كانت الرحلة فارسية، فترجمناها على طريقة الشيخ في التعبير.

ص: 173

وفي يوم السبت قبل الزوال، خرجنا من جدة إلى مكة المعظمة، وردنا إليها في الساعة التاسعة من يوم السبت في منزل السيد محمد علي صحرة، وصرفنا الغداء المهيأة وغسلنا.

وفي وقت العشاء من ليلة الأحد سادس ذي الحجة، تشرفنا بالمسجد الحرام وعملنا عمرة التمتع في تلك الليلة إلى الساعة السابعة من الليل، فأخرجنا الإحرام وقصرنا ولبسنا المخيط.

وبعد الفريضة في عصر يوم الثلاثاء أحرمنا للحج، وفي أول ليلة الأربعاء خرجنا إلى منى، وبتنا بها حتى النهار، فارتحلنا إلى عرفات واقفين بها مع الناس حتى أفاضوا منها إلى المشعر الحرام في أول ليلة الخميس، وبتنا بالمشعر ووقفنا بين طلوعي الفجر والشمس، ثم عدنا إلى منى لرمي الجمرة بالعقبة، وذبحنا، ولكن لم نحل، وبقينا يوم الخميس- الذي هو عيد الجمهور- محرماً (محرمين) حتى الليل، فذهبنا ليلة الجمعة إلى عرفات ثانياً، وأدركنا الوقوف الاضطراري بها، ورجعنا إلى المشعر قبل الفجر، ووقفنا بها بين الطلوعين من يوم الجمعة، فأدركنا الوقوف الاختياري من المشعر والاضطراري من عرفات بعد ما توقفنا الوقوفين الاختياريين مع الجمهور.

وفي يوم الجمعة رجعنا إلى منى، ورمينا الجمرة، وذبحنا ثانياً وحلقنا، ورمينا الجمرات الثلاث أيضاً بعدما خرجنا من الإحرام.

وفي عصر يوم الجمعة، تشرفنا إلى مكة لطواف الزيارة، ثم السعي بين الصفا والمروة، ثم طواف النساء.

وعدنا إلى منى، وبتنا بها ليلة السبت والأحد، ورمينا الجمرات في يوميهما، وذبحنا ثالثاً لخروجنا من منى في ليلة الجمعة.

ورجعنا إلى مكة بعد صلاة الظهر في مسجد الخيف من يوم الأحد الثالث عشر عند الجمهور، وكنا بمكة إلى يوم السبت الخامس والعشرين على حسابنا

ص: 174

والسادس والعشرين [على حساب السعوديين].

فخرجنا يوم السبت قرب الظهر إلى جدة، وبتنا بها الأحد إلى قرب الزوال، فخرجنا من جدة إلى باخرة «شيراله»، و [أجرة] كل واحد ديناراً إلى السويس، وكنا بالباخرة ليلة الإثنين والثلاثاء، وفي صبيحتها وصلنا إلى جبل طور، فأخرجنا مع تمام أسبابنا إلى «قرنطينة» (1) طور، فاغتسلنا في حمامها وبخّرت بعض لباسنا، وتغير منه حالي واشتد إسهالي الذي ابتليت به من [أكل] الطبيخ مع لحم الفدية التي كانت، وركبناها (2) بعد خروجهم من مكة في يوم السبت الذي هو الغدير على حسابنا، وخفّ الإسهال في اليوم الثاني من ورودنا القرنطينة بإكثار الشاي المرّ الغليظ.

ولم ير الهلال في ليلة الخميس مع سلامة الأفق من الغبار وغيره، ومع بذل الجهد من جماعة في الاستهلال، فصار شهر ذي الحجة على حساب القوم واحداً وثلاثين يوماً.


1- كلمة تركية، للمصحّ الذي يحجز فيه المسافرون للتأكد من سلامتهم من الأمراض المسرية.
2- يريد ركوب باخرة «شيراله».

ص: 175

أرّخ الأديب البارع العلامة الشيخ محمد السماوي حج بيت اللَّه الحرام وزيارة مشاهد المدينة المنورة في سنة 1364 بقوله:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

يا خير الحاج والزائرين والمعتمرين. أهلًا بك من قادم غانم بالظفر والمغفرة بالحج وزيارات الرياض المطهرة، واعتذاراً إليك من عدم تشرفي بالحضرة الواجبة الزيارة للبرد والضعف ونهي الاستخارة، ولكن أرسلت إليك تاريخ الحج، فهل يقوم مقام زيارتي لك؟ وعسى اللَّه أن يوفق مخلصك (محمد السماوي)، إنّه الموفّق:

جدّ بك السعي فنلت المنى بالحج والفوز بما يؤمنُ

وعدت في مغفرة ظافراً فقرّت الأنفس والأعينُ

فلنحمد اللَّه تعالى اسمه حمداً توليه له الألسنُ

ولتذكر الأيام تاريخه (جدّ وحج ظافراً محسنُ)

وللسيد محمد صادق بحر العلوم النجفي:

زهت (الغري) وعمّت الأفراحُ وتباشرت بقدومك الأرواحُ

من بعدما ازدهرت مغاني (مكة) مذشع فيها وجهك الوضَّاحُ

والطير تسجع والبلابل غردت والكل منها باغم صداحُ

الويتَ منك عنانَ عودة ماجدٍ تحيى الدوارس فيك فهي وِضاحُ

ونفوس أرباب النهى حيّتك إذ علمت بأنك في العلى سبّاحُ

تتلو بمدحك جل آيات الثنا وتسلسل الأخبار وهي صحاحُ

لا غرو إن كنت المقدَّم فيهمُ فلأنت أنت وجلهم أشباحُ

فاسلم ودم ما غرد القمري في (......) (1)


1- شطر التاريخ بياض في الأصل.

ص: 176

رحلة أخرى إلى الحج

الحمد للَّه الذي وفقنا لزيارة بيته العتيق وحج البيت للمرة الثانية 25 ذي القعدة سنة 1377. ومعي العلوية مريم بيگم بنت المرحوم السيد أحمد الدماوندي، وقد بذل لنا الزاد والراحلة النواب عبدالكريم خان ابن النواب حامد علي خان نواب رامپور المدفون بمقبرة السيد محمد كاظم اليزدي، وكنا في صحبته مع حليلته النوابة وصاحبه الحاج محمد سعيد كمو صاحب.

فخرجنا من النجف في يوم السبت الخامس والعشرين أو السادس والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف من طريق الحلة إلى الكاظمية، ومعنا في السيارة صهرنا الشيخ حسين [الطهراني] مع ابنه جواد.

فوصلنا قبل الظهر بساعتين إلى المنطقة مقابل مسجد براثا، وإذا بالحاج عبدالزهراء في سيارته الشخصية ينتظر قدومنا؛ لإخبار صهرنا السيد مهدي المدرسي إياه بالتلفون بعد حركتنا عن النجف، فأخذنا معه في سيارته إلى داره القريبة من المنطقة، فبتنا عنده ثلاث ليال: الأحد والإثنين والثلاثاء.

وزارنا في ليلة الإثنين النواب مع حليلته، وذكر أنه أخذ بليط الطيارة (1) من الشركة العراقية من نوع الأربع مقرات (2) ذهاباً إلى جدة وعوداً إلى بغداد، نركبها يوم الثلاثاء.

فبعد صلاة الفجر من ذلك اليوم أخذنا الحاج عبدالزهراء في سيارته إلى المطار، فوافينا النواب إلى ركبنا الطيارة، فوصلنا إلى جدة قبل ثلاث ساعات من


1- بطاقة السفر بالطائرة.
2- يريد الطائرة ذات أربع محركات.

ص: 177

الزوال، ونزلنا هناك مدينة الحجاج، وبعثنا بجوازاتنا إلى أبي زيد وكيل مطوفنا محمد علي الغنام، وطلبنا منه الرواح إلى المدينة بما كان عندنا بليط الطيارة إليها، فحوّل البليط إلى الشركة السعودية، وخرجنا إلى مطار المدينة عصراً، وبقينا عدة ساعات حتى ركبنا الطيارة.

ووصلنا المدينة المنورة بعد أربع ساعات من ليلة الأربعاء، وترددنا في تعيين المكان إلى أن نزلنا دار أسعد أمر اللَّه (1) بن صالح أمر اللَّه في الساعة السادسة من الليل، وهي في جانب قبور البقيع، والفاصل بينهما الشارع العام، وبيتُ أمرِ اللَّه يظهرون التشيع في المدينة عند الحجاج ويعملون بالتقية، ورأيت عنده خطوط العلماء النازلين عندهم، مثل خط الميرزا المجدد الشيرازي، والحاج ميرزا حبيب اللَّه الرشتي، والحاج السيد حسين الترك [الكوهكمري] وغيرهم.

وتشرفنا بالمدينة أربعة أيام: الأربعاء والخميس والجمعة ويوم السبت إلى قرب الغروب، فغسلنا للإحرام، وخرجنا إلى مسجد الشجرة، وفي أيام إقامتنا كنا نتشرف بزيارة قبر النبي وقبور أئمة البقيع- صلوات اللَّه عليهم- ووفقنا للصلاة في المساجد العشرة في المدينة وخارجها: مسجد قبا، مسجد فضيخ وردّ الشمس، مسجد فتح أحزاب، مسجد ذي القبلتين، مسجد الغمامة، مسجد علي، مسجد سلمان....

وزرنا قبر عبداللَّه والد النبي، وحمزة سيد الشهداء عمه وسائر شهداء أحد، ودخلنا باغ فدك (2) ومشربة أمّ إبراهيم وغير ذلك.

وخرجنا من مسجد الشجرة محرماً في سيارة مكشفة قبل المغرب، وبتنا في الطريق تلك الليلة، وتوجهنا ليلة الأحد إلى مكة بعد صلاة الصبح، ولم نصل إليها إلّا قبل الظهر بساعة، فأثرت حرارة الشمس على جسدي من جدة إلى مكة، فمرضت من ليلة الإثنين إلى تمام ثلاثة عشر ليلة، فحملوني ليلة الثلاثاء إلى طواف العمرة والسعي والتقصير وأحللت، وفي ليلة الأربعاء اشتدت الحمى حتى أغمي


1- ذكر لي أنه ولد سنة 1305، ووالده الشيخ محمد بن الشيخ صالح بن أحمد أمر اللَّه المدني خادم الروضة [النبوية] المطهرة، وأن عمه الشيخ حمزة بن صالح بن أمر اللَّه، وذكر أن ابنه أحمد بن أسعد سمّي جده الأعلى «منه».
2- باغ فارسي بمعنى البستان.

ص: 178

عليّ أربعة وعشرون ساعة، لا أشعر بأوقات الصلوات الخمس، فاضطرب النواب واشتد حزنه، وأحضر الدكاترة الباكستانيين والعراقيين، وطلب الأدوية من الأجزاخانات (1)، ولم يجد بعضها حتى أحضر الدكتور الإيراني الموظف لمعالجة [الحجاج]، فأنقذني هو من الهلكة، وثلجني من رأسي إلى بطني، وكان معه بعض ما لم يوجد في الأجزاخانات، إلى أن خفت السخونة، وشعرت ببرد الثلج على يدي اليسرى، وبشر الحضار برفع الخطر بعد يأسهم من حياتي، ولما رأى التحسن وتقدم الصحة جوّز الاغتسال بالماء البارد، ففي عصر الأربعاء اغتسلت وأحرمت للحج.

فأثرت حرارة الشمس على جسدي من جدّة إلى مكّة فمرضت... وفي ليلة الأربعاء اشتدت الحمى حتّى أغمي عليّ أربعة وعشرون ساعة، فاضطرب النواب واشتد حزنه... حتّى أحضر الدكتور الإيراني فأنقذني هو من الهلكة، وثلجني من رأسي إلى بطني

وليلة الخميس بتنا في عرفات إلى غروب الشمس، وفي أول مغرب ليلة الجمعة نفرنا إلى المشعر الحرام، وصلينا المغرب بها بعد ثلاث ساعات من الليل من كثرة الزحام، بتنا بها إلى طلوع الشمس.

ورحلنا إلى منى، وبعد ساعتين نزلنا في الخيمة عيّنها لنا الغنام، وكنت جليس الخيمة تمام يوم الجمعة والسبت والأحد إلى قرب الغروب، فرجعنا إلى مكة لأداء طواف الزيارة وطواف النساء. وفي تلك الأيام الثلاثة قام بأداء رمي الجمرات والذبح عني وعن العلوية الحاج علي أكبر السلماني النجفي ابن المرحوم الحاج يوسف السلماني، كما أنه كان يطوّف العلوية.

وكان نزولنا بمكة في دار عبداللَّه سالم باشا من الموظفين للدولة السعودية، ولها تلفون خاص يخابر به النواب الأحباب، ويطلعهم على شدة مرضي


1- يريد بالأجزاخانات الصيدليات التي يباع فيها الأدوية.

ص: 179

ويحضرهم مع الدكاترة لعيادتي، إلى أن تحسنت أحوالي وانقطعت سخونتي، فشكروا اللَّه على عافيتي.

وكانت [الدار] تامة المرافق، فلنا غرفة تحتانية وللنواب فوقانية فيها الكهرباء ولولة (1) الماء، وحمام الدوش، وفي غرفتنا بانكات (2) لتبريد الهواء، وبقينا بها ثلاث عشرة ليلة مريضاً، آجرها النواب بألف ريال سعودي تقريباً.

وكان نزولنا في المدينة في بستان أسعد أمر اللَّه في ليلة الأربعاء التي هي في التقاويم الإيرانية آخر ذي القعدة وفي التقويم السعودي غرة ذي الحجة، وقد شهد جمع من الحجاج وغيرهم برؤية الهلال، وغلب الظن بعدم كذبهم وعدم الخطأ في بصرهم من جهة الظن بأنه كان ممكن الرؤية في تلك الليلة بحسب الدرجة التي هو فيها، في ليلة الخميس في البستان المذكور بعد ما صليت جماعة المغرب ونوافلها ثم العشاء، ومضى قرب ساعة من الليل، فأروني- وأنا جالس في وسط الدار للتعقيب- الهلالَ في محله المرتفع فوق الحائط، ثم نقلوا أنه غرب قرب ساعة ونصف من الليل، ومن هنا اطمأنت النفس بأن ليلة الأربعاء كانت أول ذي الحجة وإن لم تثبت الرؤية شرعاً، لعدم بلوغ الشهود إلى حد الشياع والاستفاضة، فوافقنا السعوديين وعرّفنا يوم الخميس وعيّدنا يوم الجمعة، فرمى الحاج علي أكبر المذكور جمرة العقبة نيابةً عني وعن العلوية، واشترى الهدي لنا وذبحه عنّا، وحلق رأسي بالموسى الذي استعاره من بعض الحجاج في ليلة السبت، وكذا رمى الجمرات في يومها ويوم الأحد.

وخرجنا في عصر هذا اليوم من منى إلى مكة لطواف الزيارة وطواف النساء، وحملوني ليلة الإثنين لطواف الزيارة وصلاة الطواف ثم السعي، ثم طواف النساء وصلاة الطواف حتى فرغنا من المناسك.


1- لوله فارسي معناه أنابيب.
2- بانكات پنكه ها فارسي معناه المراوح التي تستعمل لتبريد الهواء.

ص: 180

وبقينا بمكة يوم السبت الثامن عشر، وهو يوم الغدير، وقد زارني صبيحته الفاضل الصالح محب أهل البيت ومداحهم الملقب بنوائي مؤلف «گلچين نوائي» نزيل الحائر الشريف عدة سنوات، وبعده دخل علينا مطوفنا محمد علي الغنام، وقرأ الدعاء «الحمد للَّه الذي جعلنا من المتمسكين بولاية مولانا» الخ، إشارة إلى أنه من الشيعة، وذكر أن الراجح رواحكم في عصر هذا اليوم إلى جدة، وبعد يوم أو يومين يحصل لكم الطيارة العراقية، فقبلنا منه وودعناه.

وخرجنا ليلة الأحد (19) إلى جدة، ونزلنا فندق بين الحرمين، وصعدونا بالمصعدة إلى الطبقة السابعة المشتملة على جميع المرافق، من الغرف والحمام والمراحيض كلها على الوضع الحديث.

وفي ليلة الإثنين (20) عيّن لنا مكان في الطيارة ليوم الثلاثاء (21)، فكنّا في ذلك الفندق ليلتين بينهما يوم واحد، أجرة كل ليلة خمسة وسبعون ريالًا سعودياً.

وخرجنا صبيحة يوم الثلاثاء إلى مطار الشركة العراقية، فتعطلنا هناك عدة ساعات، حتى جاءت الجوازات من المركز ولم يكن جوازنا بينها، فتعطلت مع العلوية في ظل الطيارة إلى قرب الظهر حال الخوف والاضطراب، حتى وجدوا جوازنا في المركز فأتونا بالجواز وركّبونا. وهذا من فضل اللَّه تعالى، لأنه لو لم يوجد الجواز نبقى هناك في حرّ الشمس ونموت قطعاً.

وبعد ركوبنا حمدنا اللَّه تعالى، وتحركت الطيارة ذات أربع مقرات، ووصلنا مطار بغداد في الساعة الثامنة، ولم يطلع على حالنا أحد إلّااللَّه، ومن فضله أنه ألقى في روع السيد مهدي المدرسي أن يحضر المطار في ذلك الوقت، فرآنا عند النزول من الطيارة وصاح بنا، فلمّا رأيناه شكرنا اللَّه تعالى على هذا الفضل، فخابر هو للحاج عبدالزهراء، فحضر مع سيارته فوراً، وأخذنا إلى داره فنزلنا بها واسترحنا، وهيأ الشاي والحمام فغسلنا وطهّرنا ثوبنا وصلّينا.

وقرب الغروب شغل [الحاج عبدالزهراء] السيارة وتشرفنا للزيارة، ولما

ص: 181

فرغنا من الزيارة، رجعنا في سيارته إلى المنزل، فتعشينا ونمنا، وبعد سبع ساعات من الليل شغل السيارة، فركبنا مع السيد مهدي [وتوجّهنا إلى النجف الأشرف] من طريق الحلة، وصلينا الفجر في مسجد الكوفة، ثم دخلنا الصحن [العلوي] الشريف من باب الطوسي صبيحة الأربعاء 22 ذي الحجة سنة 1377، وذهب السيد مهدي بالسيارة إلى المنزل، وأخبرهم ورجع إلى باب القبلة عند خروجنا من الحرم الشريف، فركبنا ووصلنا إلى الدار قبل طلوع الشمس. والحمد للَّه على هذه النعمة.

وفي يوم السادس والعشرين من ذي الحجة 1377 صارت حادثة رابع عشر تموز.

وفي السابع والعشرين من ذي الحجة 1379 خرجنا من النجف لزيارة المشهد الرضوي. والحمد للَّه الذي تمم لنا زيارة الأربعة عشر [المعصومين] جميعاً صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

ص: 182

ص: 183

الحج في گلستان [حديقة الزهور] السعدي الشيرازي (ت: 580- 690 ه)

بين يدي البحث

محمد علاءالدين منصور

الحمد للَّه وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وسلام على خاتمهم المصطفى.

وبعد، فأجد مناسباً أن أقدم لبحثي هذا نبذةً مختصرة جدّاً عن الأديب المؤلف.

كنيته أبوعبداللَّه، واسمه «مشرف الدين مصلح الدين»، وتخلصه أو لقبه الشعري هو «السعدي»، من اسم ممدوحه وراعيه الأتابك سعد بن زنكي، ومولده ومدفنه بشيراز، وقد ولد من أسرة من أهل العلم والدين عام «580 ه» وتوفي «690 ه» أي عمّر أكثر من قرن.

وثقافة الشيخ أدبية إسلامية وسعها في ديوانه الفخم الذي يضم ست رسائل نثرية ومثنوياً هو «بوستان»، وكتاباً نثرياً هو «گلستان»، وكلاهما بمعنى الجنة والبستان، وقصائد عربية وفارسية، وأشعار وغزليات في الموعظة والحكمة والحب الإلهي.

لُقِّبَ بأفصح المتكلمين وملك الكلام. جاب البلاد وخبر العباد وبعد تطوافه وترحاله إلى بلاد المسلمين- وواسطة عقدها مكة المكرمة- والذي استمرّ ثلاثين

ص: 184

عاماً من عمره، عاد إلى شيراز شيخاً وقوراً، فتفرغ للتأليف والعبادة حتى وافته المنية (1).

تميز هذا الأديب، فوق علمه وروعة ثقافته الإسلامية- بتدفق مشاعره الرؤوفة التي شملت الإنسان والعالم جميعاً بلا تفريق من تراحله الطويل ومعاركة الحياة ومعاشرة الأحياء، وما جبل عليه من ثاقب النظر وغائر الفكر، فتحدث في مهم هموم الآدمي، في ضعفه ومشيبه وعشقه وشيبوبته وفقره وإعوازه ومرضه وموته، فوجد الناس في كل موطن سواء، تطحنهم صروف الزمان وتريبهم نوازل الحدثان، فينقلبون بين غني وفقير ومكنة وضعف، ويتهددون بضربات الحياة، فحسّ أن يُحسِنَ الناس أخلاقهم كما دعا القرآن الكريم إليه فيصلح الراعي للرعية ويعدل فيهم بالنصفة ويتواضع الجليل للضئيل، ويرضى كل امرى ء بما أوتي ويقنع، ودعّم رأيه بحديث شريف مشهور وقال:

بنى آدم اعضاى يكديگرند كه در آفرينش ز يك گوهرند

چو عضوى به درد آورد روزگار دگر عضوها را نماند قرار

تو كز محنت ديگران بى غمى نه شايد كه نامت نهند آدمى (2)


1- للوقوف المفصل على ترجمة هذا الشاعر الأديب، يراجع كتاب «سعدي الشيرازي» و «سعدي شاعر الإنسانية» للدكتور محمد موسى هنداوي، وكتاب- «جنة الورد» للدكتور أمين عبدالمجيد بدوي ولراقم هذه السطور مقدمة كتاب «مواعظ سعدي».
2- كليات الشيخ سعدي، تصحيح محمد علي فروغي، شركت تضامني علمي طهران 1320 ه: 9.

ص: 185

والمعنى:

بنو آدم أعضاء كل منهم للآخر وهم في الخلقة من جوهر واحد

فإذا ريب الزمان صدع عضواً ما قرّ لغيره من الأعضاء قرار

فإن أنت لم تغتم بمحنة الآخرين ما استحقيت أن تُسمى بالآدمي

أما كتابه الگلستان موضع البحث، فجماعٌ للحكمة والتربية والموعظة المثيرة في الحكايات المبثوثة في الحكايات التمثيلية اللطيفة والنوادر المليحة، في كساء بديع من الشعر والنثر وأسلوب يسمى بالأسلوب الموزون الذي يجعل بالتصوير والبديع خاصة السجع. ويقوم على الكلمات القصار التي تفيض بالحكمة وتزخر بالمعاني الجميلة (1)، من مثل قوله في الفرق بين العالم والجاهل في الباب الثامن في آداب الصحبة: «مشك آن است كه خود ببويد، نه آن كه عطار بگويد. دانا چو طبله عطار است خاموش و هنرنماى، و نادان چو طبل غازى بلندآواز و ميان تهى» (2) ومعناه: «المسك هو ما يفوح وليس ما ينبى ء عنه العطار، والعالم كدكة العطار صامت وذائع فضله والجاهل كطبل الراقص على الحبل عالي الصوت وخاوي البطن».

ويقول كذلك: «تلميذ بى ارادت عاشق بى زر، ورونده بى معرفت مرغ بى بال و پر و عالم بى عمل درخت بى بر، وزاهد بى علم خانه بى در» (3) ومعناه:


1- كليات شيخ سعدي: 133.
2- المصدر نفسه: 137. والجدير بالملاحظة أن كلمة «غازي» بالنص الفارسي تعني الراقص على الحبل الذي تقرع له الطبول في لعبة، وقد رحلت الكلمة في العامة المصرية في صورتها المؤنثة أي «غازية» بمعنى الراقصة، وبهذا لا تنتسب الكلمة كما شاع خطأ إلى «الغزو» والجهاد في سبيل اللَّه.
3- المصدر نفسه.

ص: 186

«التلميذ بدون إرادة عاشق بلا مال، والسائر بلا معرفة طائر بلا جناح، والعالم بدون عمل شجر بلا ثمر، والزاهد بلا علم دار بلا باب».

وقوله: «مراد از نزول قرآن تحصيل سيرت خوب نه ترتيل سورت مكتوب» أي: «المراد من نزول القرآن تحصيل السيرة الطيبة، لا ترتيل السورة المكتوبة».

الحج في گلستان السعدي

اشارة

قليلة هي الإشارات الخاصة بالحج في المنشآت الأدبية عامة شأن كتابنا گلستان السعدي، وهذا أمر منطقي؛ لأن هذه الكتب لم تحرر لقص رحلات ووصف أسفار بل هي مؤلفات أدبية تنصب أساساً على تعليم النشي ء البلاغة والتعبير والإنشاء الأدبي والحكمة، وتنشد أيضاً الإمتاع والمؤانسة، ومع هذا فإشارات الحج في كتاب السعدي تعطي صورة مجملة ووصفاً عاماً للحج لا يختلفان كثيراً عما ورد في كتب الرحلات التي ذكرت الحج بالتفصيل والديار المقدسة كرحلة ابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة المغربي، وناصر خسرو العلوي الإيراني وغيرها من كتب الأسفار والرحلات التي أُلفت في العصور الوسطى، لكن يبقى للسعدي الفضل والريادة عن أولئك الرحالة حتى عن ابن جبير الأديب المنشي ء، وهو أنه وظف مفاهيم خاصة بالحج توظيفاً أدبياً وفنياً، ليُكسب صوره البلاغية وتعبيراته الإنشائية جزالة وجمالًا.

ويمكن بوجه عام أن نضع الإشارات الواردة في كتاب السعدي إلى الحج تحت هذه العناوين:

1- الطريق إلى مكة المكرمة والكعبة المشرفة:

كان السعدي- على الرغم من فضله وعلمه- زاهداً يمثل السواد الأعظم من المسلمين ويعيش حياتهم ويحس آلامهم، فكان يسعى سائراً على قدميه من موطنه إلى مكة والمدينة يعدم الراحلة ويتمدد بالتقوى.

فكانت قدماه تتورمان ولا يقوى على السير، ويسقمه السهر وعدم النوم،

ص: 187

ولا يكاد يبلغ أول بطحاء مكة حتى تخور قواه ويطلب من حادي قافلة الحجاج أن يخلي سبيله حتى يخلد للراحة من مخاطر الانفراد ومهاجمة قطاع الطريق له بقوله: «اى برادر حرم در پيش است و حرامى در پس، اگر رفتى بردى وگر خفتى مردى».

أي «يا أخي إن الحرم أمامك والحرامي أو اللص من خلفك فإن سرت فزت وإن خرت مُت» (1).

السائر بلا معرفة، طائر بلا جناح؛

والعالم بدون عمل، شجر بلا ثمر.

وكان يلحق بقوافل الحج المساكين والمعوزين فينكر راكبوا النوق عليهم جرأتهم، لضعف مؤنتهم وليس لديهم ما يحملهم، لكن الشوق إلى الكعبة وزيارة الرسول يأخذ بألبابهم فلا يأبهون بالمخاطر ويوكلون أنفسهم إلى وليهم القادر، ومنهم- كما يحكي السعدي- أحد المشاة خرج من الكوفة حاسر الرأس حافي القدمين ليرافق قافلة الحجاز لكن السعادة والحبور يفيضان من روحه، فأنكر راكب ناقة عليه جرأته وقال له: «اى درويش كجا مى روى؟ برگرد كه به سختى بميرى»؛ أي: «إلى أين تمضي أيها الفقير ارجع حتى لا تموت بائساً»، فلم يسمع له، ومضى المشاة والركب في الصحراء حتى بلغت القافلة إلى مكان يدعى «نخلة محمود» فحلّ بالراكب الغني المنون، فأتاه الفقير، وهو مسجّى على فراشه وقال له:

«ما به سختى بنمرديم و تو بر بختى بمردى»؛ أي: «لم نمت من البؤس والفاقة، وأنت مِت مع مالك من الحظ والإفاقة» (2).


1- كليات شيخ سعدي: 45.
2- المصدر نفسه: 47.

ص: 188

وكان السعدي يرى أن الإيمان الحقيقي ما وقر بالقلب وأورث صاحبه الخوف من اللَّه والرجاء فيه وإشعاره بالآلام البعد عنه والشوق إلى لقياه، وليس مدار الإيمان على العبادة الشكلية الخالية من الروح والشعور العميق بعظمة الخالق ومحبته، وشتان عنده بين العارفين باللَّه أو الزهاد- وهم الضرب الأول- والعباد من الضرب الثاني.

وفي أحد أسفاره إلى الحجاز رافقته طائفة من هؤلاء العارفين، أخذوا في سيرهم مع قافلة الحج ينشدون الشعر ويترنمون بترجيعاتهم، فأنكر عابد حالهم حتى وصلت القافلة إلى «خيل بني هلال»، فجزع طفل أسود من حي هؤلاء العربان، وأخذ في الشدو والإنشاد بصوت عذب رخيم حتى سقطت من جمال صدحه الطيور من فضائها، على حد قول السعدي الذي رأى ناقة العابد نفسه قد استخفها الطرب بدورها، فأخذت تتراقص وألقت بالعابد من عليها، فقال السعدي له: «أيها الشيخ أثّر الشدو في الحيوان ولم يؤثر فيك» ثم تمثل له بشعر من نظمه، وسائر الأشعار الواردة للتمثيل بالگلستان من إنشاد السعدي، قائلًا:

دانى چه گفت مرا آن بلبل سحرى تو خود چه آدمى كز عشق بى خبرى

اشتر به شعر عرب در حالتست و طرب گر ذوق نيست تو را كژ طبع جانورى (1)

ومعناه: أتدري ماذا قال لي بلبل السحر؟ كيف تكون انساناً إذا جهلت العشق؟

إن الإبل حين تسمع الشعر العربي تنشي وتطرب، فإذا عدمت التذوق فأنت حيوان معوج الطبع.


1- كليات الشيخ سعدي: 51- 52.

ص: 189

وكما كانت الحال في العصور الوسطى، كان وفد الرحمن الماضي إلى بيته يلقى كرم الكرام ولؤم اللئام، وقد جرى للسعدي في أحد أسفاره قاصداً مكة الحج ما يجري من قطع الطريق عليه ونهب ما معه من مال قليل أو كثير من بين ما نهب من أموال الحجاج، أو عطاء كرام الناس لفقراء الحجاج صدقة وتقرباً.

يذكر السعدي أن فقيراً زاهداً رافقهم في قافلة الحجاز، فوهبه أحد أمراء العرب مائة دينار صدقة له أو لمن يراه مستحقاً للصدقة، فقطع لصوص «بني خفاجة» عليهم الطريق، ونهبوا كل ما معهم من مال ومواش، وكان أكثر المنهوبين فجيعةً التجار، لكثرة مالهم وفساد مالهم، وهاج الجميع وماج خلا ذلك الدرويش الصالح الذي لم يحرك ساكناً ولم يبد اكتراثاً، فقال له السعدي: «ألم يسرق اللصوص متاعك ومالك؟ فأجاب: بلى سرقوهما لكني لم آلفهما حتى أتألم لفراقهما (1)».

كل هذا ليؤكد السعدي أن الحاج هو من هاجر إلى اللَّه ورسوله لا إلى تجارة يخشى كسادها أو زيادة مال اقترفه، وأن ما يجعل الحج مبروراً أن يكون الحاج تائقاً له بقلبه، متأهباً بجنانه، لا بماله وراحلته وبضاعته.

2- في الحج

وفي الحج وأداء المناسك تلتهب المشاعر وتنهمر العبرات، وترتفع الأكف طلباً لرحمة الرحمن وعفوه، وتحاط الكعبة بالطائفين والعاكفين والركع السجود، وتنطلق الألسنة وتنطق بما تضمره القلوب.

وقد صور السعدي مشهدين من مشاهد هؤلاء الضارعين المبتهلين فقال في أولهما: «درويش را ديدم سر بر آستان كعبه همى ماليد و مى گفت: يا غفور يا رحيم تو دانى كه از ظلوم و جهول چه آيد:


1- المصدر نفسه: 97- 98.

ص: 190

بر در كعبه سائلى ديدم كه همى گفت و مى گرستى خوش

مى نگويم كه طاعتم بپذير قلم عفو بر گناهم كش (1)

أي: «رأيت فقيراً كان يحك هامته بعتبة الكعبة ويناجي ربه: يا غفور يا رحيم أنت أدرى بما يحدث من الظلوم والجهول:

رأيت سائلًا على باب الكعبة يناجي ويبكي بحرقة قائلًا

لا أطلب منك أن تقبل طاعتي بل أن تعفو عن ذنوبي

وكان خاصة الحجيج يجدون في الحج فرصة لتجديد عهدهم مع الرحمن، معترفين بتقصيرهم، وأنهم ما عبدوا اللَّه حق عبادته وما قدروه حق قدره، ويطلبون توبته ومغفرته، رحمةً منه لا بسبب طاعة منهم، فيروي أن عبدالقادر الجيلاني العارف المشهور رؤي في حرم الكعبة وقد سجد على الحصباء وهو يناجي ربه قائلًا: «اى خداوند ببخشاى وگرنه هرآينه مستوجب عقوبتم، در روز قيامتم نابينا برانگيز تا در روى نيكان شرمسار نشوم» (2).

ومعنى دعائه: «رب اغفر لي وإلا فأنا مستوجب- ولا ريب- العقوبة، احشرني يوم القيامة أعمى حتى لا أشعر بالخزي حين أنظر في وجوه الأبرار».

ولا يفوت السعدي أن يذكر ما يحدث بين العامة من بعض الحجاج، من الخروج عن فرائض المناسك ومن أعمال الفسوق والجدال بسبب نزاع على عرض زائل، إحقاقاً منه للحق وإظهاراً للباطل في نقله كل ما كان وفي الحج من الملتزمين والمتنازعين، فيحكي أن نزاعاً جرى بين المشاة- أو غير الراكبين- وظهر به فسقهم وجدالهم في الحج، وكان هو نفسه واحداً منهم وشاهداً على ما حدث، فالأولى أن ندعه يحكي بلسانه بقية الواقعة، قال: «كجاوه نشينى را شنيدم كه با عديل خود


1- المصدر نفسه: 40.
2- كليات شيخ سعدى: 41.

ص: 191

مى گفت: يا للعجب پياده عاج جو عرصه شطرنج به سر مى برد فرزنى مى شود، يعنى به از آن مى گردد كه بود و پيادگان حاج باديه به سر بردند و بتر شدند:

از من بگوى حاجى مردم گزاى را كه پوستين خلق بآزار مى درد

حاجى تو نيستى شترست از براى آن كه بيچاره خاره مى خورد و بار مى برد (1)

يقول: «فسمعت راكباً لهودج يقول لرفيقه: يا للعجب أن بيدق العاج (2)، أو الماشي وجمعه المشاة- المصنوع من العاج إذا طوى رقعة الشطرنج يرتقي إلى الوزير، أي يصير أفضل مما كان، أما المشاة أو غير الراكبين من الحجاج فقد طووا البوادي وصاروا أسوأ مما كانوا عليه:

أبلغ عني الحاج الذي يؤذي الناس ويمزق جلدهم بأذاه مقالة هي:

أنت لست حاجاً، بل أقل من الناقة، لأن هذه العاجزة تأكل الشوك وتتحمل الأثقال».

3- العودة من الحج:

كان الناس على عهد السعدي يحتفون برجوع الحجيج احتفاء عظيماً ويجلّلون مناسبته، فكانوا يخرجون لاستقبالهم مهللين ومكبرين مستبشرين محبورين حتى منزلين من منازل الطريق الذي يسلكه الحجاج العائدون، وهذا الأمر بيّن في حكايةٍ للسعدي مع أحد معارفه الذي استعمله والي بلاده بتوصية من السعدي،


1- المصدر نفسه: 115.
2- بيدق الشطرنج تعريب پياده الفارسية، أي الماشي أو غير الفارس في لعبة الشطرنج التي نقلها العرب عن الفرس، ويعقد السعدي مقارنة لطيفة بين مشاة هذه اللعبة المصنوعين من العاج، والذين يرتقي حالهم إلى وزراء، بعد طي رقعة الشطرنج، ومشاة الحاج العقلاء الذين تتنكس حالهم بعد أن طووا الأسفار البعيدة وعانوا الأمرّين لكي يبلغوا الحرم وعفو الكريم.

ص: 192

فقد خرج هذا الصديق لاستقبال السعدي في أوبته من الحج وزيارة مكة المكرمة، شعوراً بالامتنان إليه وقابله على بعد منزلين خارج بلده.

ورأى السعدي تبدل حال صديقه بعض الشي ء عما كان عليه قبل أن يسافر إلى الحج، فسأله عن سبب ذلك التغير فأجابه بسبب سعي بعض الوشاة به إلى الحاكم، لكنه عند قرب بلوغ العائدين من الحج إلى بلادهم وذيوع بشرى مقدمهم سالمين غانمين العفو والرحمة ابتهج الحاكم وسعد، فعفا عمن غضب عليهم وأخرج من سجنه المسجونين، وقد أصاب هذا الصديق بركة من بركات بشارة عودة الحجاج، فأطلقه الحاكم ورفع عنه عقوباته، وأطلق سراحه من حبسه، وخلع عليه، وأعاده إلى سابق منزلته ومكانته، وسيره على رأس فرسان المستقبلين للحجيج.

هكذا كان الحكام والناس يستقبلون القادمين من الديار المقدسة بابتهاج وسعادة، وهم يتمنون أن يكتب لهم اللَّه الحج في أعوامهم القادمة (1).

وقد استغل بعض المحتالين سانحة حسن استقبال الناس للعائدين من الحج، فكانوا يزعمون أنهم أقبلوا في العير الآتية من الديار المقدسة، بعد أن أدوا مناسك الحج فيقبل الخاصة والعامة عليهم، ويحسنون الظن بهم ويحتفلون بهم.

ومنهم ذلك الذي قصّ السعدي حكايته وقد خدع الناس والحاكم بقوله: إنه علوي شريف قدم حاجاً، فلقي الحظوة عند الحاكم، وأجزل له العطاء وأدناه منه، ثم تبين خداعه وشهد الثقاة على أنهم رأوه في عيد الأضحى في ذلك العام في البصرة لا في مكة أو المدينة، فلما حز به الأمر واندست عليه السبل، اعترف بالحقيقة فعفا عنه الحاكم وأخلى سبيله (2).


1- كليات شيخ سعدي: 24- 25.
2- المصدر نفسه: 34- 35.

ص: 193

4- التوظيف البلاغي لمفاهيم الحج

اشارة

أفاد السعدي من مفاهيم الحج ومدلولات ألفاظه، فوظفها توظيفاً بلاغياً، لإضفاء التأثير والقوة على صوره التشبيهية والكنائية، حداه في ذلك صناعته الأدبية، والصنعة تغلب على الصانع، ومن باب الأمثلة لا الحصر، نسوق بعض تشبيهاته هاتيك للاستدلال يقول:

... در عهد جوانى با جوانى اتفاق مخالطت بود و صدق مودت، تا به جايى كه قبله چشمم جمال او بودى (1)؛

أي: اتفق لي في عهد الشباب مخالطة شاب، وبلغ في صدقي في مودته مبلغ أن كان جماله قبلة عيني.

- المجاورة:

يقول متابعاً قصة مودته لذاك الشاب الذي اختطفه الموت:

روزها بر سر خاكش مجاورت كردم وز جمله بر فراق او گفتم (2).

أي: جاورت تربته أياماً، وودعت الجميع بسبب فراقه.

- الحرم والحمى:

يقص السعدي طرفاً من حكاية مجنون ليلى، ويذكر أن حاكم العصر لما سمع بأوصاف ليلى ومبلغ حسنها من شعر المجنون، أرسل يطلبها ليشهد جمالها، فهاله أنها لم تكن بهذه المحاسن التي كان يراها المجنون فيها- كما يذكر السعدي-:


1- المصدر نفسه: 98.
2- المصدر نفسه: 99.

ص: 194

«آن كه كمترين خدام حرم او به جمال ازو در پيش بودند و به زينت بيش»

أي: بحكم أنه أدنى خدام حرمه كانت تتفوق عليها في الجمال وتزيد عنها زينة، فأدرك المجنون ما كان يجول بخاطر الحاكم بفراسته فقال: «از دريچه چشم مجنون بايد در جمال ليلى نظر كردن تا سر مشاهده او بر تو تجلى كند:

ما مرّ من ذكر الحمى بمسمعي لو سمعت وُرق الحمى صاحت معي

يا معشر الخلان قولوا للمعا في لست تدري ما بقلب الموجع

ومعنى عبارته الفارسية «لابد من النظر في جمال ليلى من نافذة عين المجنون حتى يتجلى عليك سر المشاهدة...».

- الكعبة:

وقد كثرت الإشارة إليها، ووظف السعدي مدلولاتها بلاغياً، ومن ذلك هذا التشبيه البياني الوارد في قصة فحواها أن حاكم عصره أساء الظن برفقة له كانوا يعملون عنده، فدخل عليه السعدي وأظهر الحقيقة، فاعتذر الحاكم عن سوء ظنه راضياً، وهو ينشد:

چو كعبه قبله حاجت شد از ديار بعيد روند خلق به ديدارش از بسي فرسنگ

تو را تحمل امثال ما ببايد كرد كه هيچ كس نزند بر درخت بى بر سنگ

أي: «بما أن الكعبة قد صارت قبلة الحاجة، فإن الناس يطوفون كثيراً من الفراسخ لزيارتها من ديارهم البعيدة، فعليك أن تتحمل أمثالنا؛ لأنه ليس من أحد يقذف بالحجر الشجرَ الخلو من الثمر».

ويشبه السعدي السلوك الصوفي وما هو إلا سلوك إسلامي مؤلف من محطات أو بتعبير الصوفية مقامات وأحوال تبدأ بالتوبة فالشكر، فالصبر، فالمراقبة، فالخوف، والرجاء، والرضا، وينتهى بالتوحيد، ويتخلى فيه السالك عن صفاته المذمومة، ويتحلى بشيم فاضلة، مع كل منزل من منازل الطريق.

ص: 195

ويشبه السعدي هذا الطريق بطريق الكعبة والحج حين يفرض، فينوي الحج ويخرج من بيته، يبدأ بالتوبة، ويتابع العبادة والشكر والصبر على مخاطر السفر، ويراقب اللَّه ويخافه ويرجو رحمته، ويرضى بما يقدره له، لينتهي إلى توحيد ربه وهو يؤدي مناسك الحج.

ويوصي السعدي نفسه بسلوك هذا الطريق الراقي الخلقي لبلوغ كعبة الرضا حين يقول، يدعو ربه ويناجي نفسه:

اى بارخداى عالم آراى بر بنده پير خود ببخشاى

سعدى ره كعبه رضا گير اى مرد خدا در خدا گير

أي: اعف عن عبدك الهرم يا ربي، أنت الذي فطرت العالم وزينته؛

وأسلك السعدي طريق كعبة الرضا، وتمسك باللَّه يا عبداللَّه.

- كسوة الكعبة

ومن التشبيهات التمثيلية هذا التشبيه اللطيف الذي يعقده للدلالة على أثر الصحبة وتأثير المجاورة، فكسوة الكعبة اكتسبت قدسيتها من اقترانها بالكعبة، لا بسبب صنعها من القز والحرير، كذلك لكي يكتسب المرء عزة وقيمة لابد أن يقترن بصحبة عزيز مبجل، يقول السعدي في ذلك:

«اعرابى را ديدم كه پسر را همى گفت: يا بني إنك مسؤول يوم القيامة ماذا اكتسبت ولا يقال: بمن انتسبت؛ يعنى تو را خواهند بپرسيد كه عملت چيست، نگويند پدرت كيست»:

جامه كعبه را كه مى بوسند او نه از كرم پيله نامى شد

با عزيزى نشست روزى چند لاجرم همچون او گرامى شد

ومعنى الحكاية: رأيت أعرابياً يقول لابنه- وهو يعظه-: يا بني! إنك مسؤول

ص: 196

يوم القيامة، ماذا اكتسبت، ولا يقال: لمن انتسبت، أي سوف تسأل عن عملك، ولن تسأل عن نسبك:

كسوة الكعبة التي لم تلثم لم يذع ذكرها لأنها من حرير القز

ومخالطة العزيز أياماً عدة لاجرم أنها تكسب المخالط عزة

ومن الكنايات التي استنبطها السعدي من مفاهيم الحج:

- ستار الكعبة:

يقول يكني عن الخداع والختال:

پارسا بين كه خرقه در بر كرد جامه كعبه را جُلِ خر كرد

أي: انظر هذا الزاهد الذي ارتدى أسماله البالية وقد جعل ستار الكعبة بردعةً لحماره.

- طريق الكعبة:

ويقول مُكنياً للمراءاة أو للجهل والهوى بالاتجاه إلى غير الكعبة:

ترسم نرسي به كعبه اى اعرابى: كين ره كه تو مى روى به تركستانست؛

أي: أخشى ألا تبلغ الكعبة أيها الأعرابي؛ لأن الطريق التي تسلك تتجه إلى بلاد الترك.

- استدبار القبلة أو استقبالها:

ويحكي السعدي وهو يكني للخداع والمراءاة والنفاق باستدبار القبلة واستقبال الناس: «عابدى را پادشاهى طلب كرد انديشيد كه دارويى بخورم تا ضعيف شوم مگر اعتقادى كه دارد در حق من زيادت كند آورده اند كه داروى قاتل بخورد و بمرد»:

ص: 197

آن كه چون پسته ديدمش همه مغز پوست بر پوست بود همچو پياز

پارسايان روى در خلق پشت بر قبله مى كنند نماز

والمعنى: «طلب ملك عابداً ففكر: أتناول دواء حتى يهزل جسمي فربما يزيد اعتقادالملك فيّ، رُوي أنه تناول دواءاً قاتلًا فمات:

من كنت أظنه أنه لُبّ كله كالفستق ظهر أنه كالبصلة قشرة تعلوها قشرة، والزهاد الذين يستقبلون الناس يستدبرون القبلة في صلاتهم.

5- مقام الحجاز

مما نقله العرب عن الفرس، خاصة بعد الإسلام، من الفنون فن الموسيقى، وتقوم الموسيقى الفارسية على اثني عشر مقاماً لا يزال بعض أسمائها فضلًا عن نغماتها رائجاً حتى اليوم مثل «دوگاه»، أو المقام الثاني، «سه گاه»، أو المقام الثالث، و «چهارگاه»، أو المقام الرابع، ومقام ال «راست» أي المستقيم، وال «نهضت» أي المختفى و «نهاوند».

وسميت مقامات ثلاثة بأسماء مناطق ثلاث لأهميتها وهي: خراسان والعراق والحجاز، وبديهي أن قيمة بلاد الحجاز مستمدة من علو مقام الكعبة ومنزلتها في القلوب، لأنها مهوى أفئدة الناس و محط أنظارهم ومقصدهم الأسمى.

هذه المقامات الثلاثة إذا شدى بها المطرب استمع له الناس، لاسيما إذا كان عندهم مقبول الصورة جميل الخلقة؛ لأنه يجمع بين حلاوة شدوه لها وجمال طلعته، أو كما ينشد السعدي:

آواز خوش از كام و دهان و لب شيرين گر نغمه كندور نكند دل بفريبد

ص: 198

ور برده عراق و خراسان و حجازست از حنجره مطرب مكروه نزيبد (1)

أي: الصوت الرخيم من الحلق والثغر والشفاه الجميلة إذا انطلق أو لم ينطلق بنغم سبى الفؤاد، ولو كان من مقام العراق وخراسان والحجاز، وتنغمت به حنجرة مطرب دميم ماكان جميلًا.

بيد أن سعدي يخص مقام الحجاز من بين المقامات بالرقة والرخامة واللين حتى أنه من فرط رقته وسبق جماله لا يستطيع أن يغالب قرع طبول الراقصين من ضجيجها، ولا يعلو فوق جلبتها كأنه العالم الرفيع العلم الوقور الرابط الجأش الذي يغلبه الجاهل الصاخب ذو الجبلة، فيقول السعدي في ذلك:

خردمندى را كه در زمره اجلاف سخن ببندد شگفت مدار كه آواز بربط با غلبه دهل برنيايد، بوى عبير از گند سير فرو ماند:

بلند آواز نادان گردن افراخت كه دانا را به بى شرمى بينداخت

نمى داند كه آهنگ حجازى فروماند زبانك طبل غازى (2)

ومعنى قوله: لا تعجب للعاقل إذا التزم الصمت في زمرة الأجلاف، لأن عزف العود لا يقوى على قرع الطبل، وفوح العبير يعجز أمام رائحة الثوم الكريهة:

رفع الجاهل عقيرته بصياحه حتى أوهى العالم بسبب عدم حيائه

وهو لا يدري أن المقام الحجازي لا يغالب قرع طبل الراقصين


1- المصدر نفسه: 49.
2- المصدر نفسه: 133.

ص: 199

أدب الحج في المشرق العربي

مدخل و تمهيد

د. يوسف حسن العارف

الحج رحلة مباركة، رحلة إيمانية، يهجر فيها الحاج أهله وأرضه ليتصل اتصالًا مباشراً بالمشاعر المقدسة، ابتداءاً من الكعبة وما حولها من مشاعر، وانتهاءاً بعرفات ومزدلفة ومنى ثم المدينة المنورة.

ولقد كان ممن يحظى بشرف هذه الرحلة كثير من رجال الفكر والعلم والأدب الذين انصهرت قلوبهم بحب اللَّه ورسوله، وسعوا طوال أيامهم لكي يحرزوا هذه المكرمة الربانية، ويحظو بهذا الشرف العظيم فيحجون البيت الحرام، ويشاهدوا عظمة الحق ونور النبوة التي سطعت في هذه البقعة المباركة، وانتشرت إلى كل أصقاع الدنيا، فتحقق لهم ذلك وسجلوا ماشاهدوه وما وجدوه من صعوبات ومهالك ورووا أحداثاً ألمت بهم بعضها يسر وبعضها يدمي الخاطر.

ولقد سجلوا كل ذلك بعبارات منمقة كلها تدل على أدب وثقافة وعلم وقدرة على الصياغة اللغوية والأسلوبية، مستخدمين في ذلك كل الدقة والأمانة العلمية، فأصبح لدينا سجل متكامل لأحوال الأمة الإسلامية التي كانت تصل وفودها إلى الحج في كل عام.

ص: 200

ومن هنا نشأ فرع للأدب أسماه مؤرخو الأدب «أدب الرحلات في مجال الحج» وهو ما يتعلق خصوصاً بفعاليات الحج والحجاج، وما يؤطر هذه العبادة من معالم سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وغيرها مما يتفاعل معه الأديب الحاج ويسطره فيما بعد كتاباً يخلد هذه الرحلة ويوثق ما فيها بأسلوب أدبي رائع ورصين.

ونحاول هنا تسليط الضوء على بعض الرحلات الحجّية، وما احتوته من عرض ومضمون وأسلوب.

المحور الأول

رحلات الحج من المشرق العربي/ رصد وتوثيق/ تحليل وتعريف

أولًا: التعريف بالمشرق العربي (جغرافياً- تاريخياً- سياسياً):

ينظر كثير من المؤرخين إلى هذه المنطقة على أنها جزء من الشرق الأوسط الذي تمتد حدوده الجغرافية ما بين المحيط الأطلسي غرباً والخليج الفارسي شرقاً، وما بين البحر المتوسط شمالًا والصحراء الكبرى والمحيط الهندي جنوباً.

ويتعمق هذا المفهوم عندما يجمع المؤرخون على أن دول هذه المنطقة يوحدها اللسان العربي والدين الإسلامي، وبذلك يقسمون المنطقة إلى جزئين: شرقي وغربي. وينتظم الجزء الشرقي دول الخليج الفارسي والجزيرة العربية، ودول الهلال الخصيب من العراق وحتى سوريا ولبنان وفلسطين، كما يضم في الجهة الغربية البلاد المصرية وما جاورها جنوباً كالسودان مثلًا.

ومن خلال هذه الحدود تتبين الميزة الجغرافية التي تؤطر هذا الموقع من حيث التقاء القارات الثلاث عنده (آسيا، آفريقيا، أوروبا)، ومن حيث الربط بين العالم الغربي والعالم الآسيوي، كذلك حصانته الطبيعية، حيث تحيط به العديد من البحار والجبال، الأمر الذي يحقق لهذه المنطقة وحدةً إقليمية متميزة.

ص: 201

وآخر ميزة لهذه المنطقة العربية أنها أصبحت ميداناً للتنافس الدولي والصراع العالمي، لاستثماره والاستفادة من معطياته، وبالتالي استعماره أو استخرابه كما هو المصطلح الحديث.

وكما قلنا آنفاً، إن جغرافية هذا الإقليم/ المنطقة تجعلنا في صلب العالم العربي والإسلامي، فلا بد- إذاً- من التعريف بالدول العربية التي تدخل ضمن هذا الحيز الجغرافي وهي:

دول الجزيرة العربية (السعودية واليمن).

دول الخليج الفارسي (من عمان إلى الكويت).

دول الهلال الخصيب (العراق- بلاد الشام).

دول الشمال والجنوب الأفريقي من جهة الغرب (وادي النيل/ مصر والسودان).

أما تاريخياً وسياسياً، فإن الأدبيات التاريخية السياسية التي تناقش هذا الموضوع تعطيه آفاقاً مترامية الأبعاد وتجعله في صلب الأحداث التاريخية والطروحات السياسية، وخاصة في العصر الحديث أي منذ أن وحدت أقطاره دولة الخلافة العثمانية، والتي دام توحيدها لهذه المنطقة حوالي ثلاثة قرون وأكثر قليلًا منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي.

ولم يستثمر المجتمع العربي ولا الحكومات العربية هذه الوحدة التي فوجئت بالمد الاستعماري على بلادها، ابتداءً من الحرب العالمية الأولى- 1914- 1918 م والتي مكنت القوى الأوروبية أن تحقق أطماعها في السيطرة على مقدرات هذه المنطقة، وتقسم دولها إلى أجزاء متفرقة وتورث بينها الأحقاد والضغائن.

و من مجمل هذه التأرخة السياسية والجغرافية لهذه المنطقة- موضوع الدراسة- يتبين أنها تضم أقدس بقاع الأرض التي تهفو إليها قلوب المسلمين وتحج إليها

ص: 202

أفئدتهم، ويحثون الخطى استعداداً للقيام بفريضة الإسلام وشعيرته الخالدة «حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا»، ومن هؤلاء الحجاج المفكرون والعلماء والأدباء الذين زاروا الأراضي المقدسة حجاجاً ومعتمرين، ودوّنوا رحلاتهم في كتب حفظها التاريخ، حتى نستفيد منها ونقدم عنها ثبتاً وبياناً وإيضاحاً في هذه الأيام المباركة.

وبما أن المشرق العربي- جغرافياً- مترامي الأطراف متعدد الجهات والأقطار فقد أفردنا حديثنا عن الجهات التي كثر منها كتاب الرحلات، وتوافر إنتاجهم بين أيدينا، وهذا ما سنطالعه في المبحث التالي.

ثانياً: أهمية كتب رحلات الحج وقيمتها:

من خلال دراسة وتحليل أهم كتب رحلات الحج في المشرق العربي يتضح أنها تتميز بالعناصر التالية:

1- أنها تحمل عبق الأشواق والفطرة الإسلامية لدى كتابها، فتحس من كتاباتهم أنه قد تحقق لهم أغلى وأثمن حلم إيماني/ عقيدي كانوا يهجسون به ويسعون إليه، وهو الوصول إلى الحجاز (مكة والمدينة).

وأداء النسك والشعائر المقدسة.

2- رصد الذكريات وما عايشه كتاب الرحلات في طريقهم إلى الحج من مشاكل ومصاعب.

3- بيان الظروف الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي كانت تغلف الحياة في الحجاز وتؤثر على الحج والحجاج.

4- المقارنة بين ماضي وأمس الحجاز والأماكن المقدسة، والحجاز في فترته الحديثة أو المعاصرة للحاج مؤلف الرحلة، أي تحديداً بين ثلاث فترات، الفترة العثمانية، وفترة الأشراف الهاشميين، وفترة السعوديين.

5- بيان العلاقة الشعبية بين أهل الحجاز (مكة والمدينة) وبين ضيوفهم

ص: 203

من حجاج بيت اللَّه، ولا سيما أصحاب القلم والفكر والعلم.

6- معرفة اللغة والأسلوب في الفترة التي دوّن فيها الرحالة رحلاتهم وطبعوها ونشروها للقراء، وكذلك الدوافع التي جعلت هؤلاء الرحالة يدونون رحالتهم ومذكراتهم وتجاربهم.

7- التعرّف على المذاهب المعاصرة التي تتضح من خلال الحجاج المجتمعين في الأماكن المقدسة في وقت معلوم، وبالتالي ما يخص بلاد الحرمين وسكانها من مذاهب، وتأثير الحجاج فيها وتأثرهم بها.

8- معرفة أحوال البلاد التي جاء منها كتاب الرحلات، أي بلدان المشرق العربي، سواء الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية أو الثقافية أو الاجتماعية.

9- إن هذه الرحلات جاءت سجلًا متكاملًا يرصد ما كان عليه ساسة الحجاز من ظلم للحجاج وأخذهم فادح الضرائب.

10- الاطلاع على فنون وأساليب القول عند مؤلفي هذه الرحلات، فنجد في كتاباتهم المسائل الشرعية، واللطائف الأدبية، والخطابات المتنوعة.

11- تبيان مشاعر الحجاج عند وصولهم إلى الأراضي المقدسة ولهفتهم وشوقهم أثناء أداء النسك، من بكاء وخشية وتوبة واستغفار وسعادة وفرح، وأنهم ينسون تعبهم وما صادفوه من مشقة أثناء السفر لهذه البلاد.

12- تتضح من خلال هذه الرحلات معاني الأخوة الإيمانية التي تتجلى أيام الحج، وتحقق الآية الكريمة: [... وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا].

13- ترسم هذه الرحلات صورة لفاعليات الحج وشعائره، وتقارب الحجاج وتكافلهم ومساواتهم، وتنافسهم الشريف في أداء المناسك وتعاونهم عليها.

14- يتضح من خلال كتابات

ص: 204

الرحالة أن الحجاج كانوا يتبادلون أخبار أوطانهم، مما يشكل أنموذجاً للوحدة الإسلامية والرابطة القوية التي تربط بين أجزاء العالم الإسلامي آنذاك، ويتدارسون حلول مشاكلهم.

هنا، تتضح قيمة وأهمية هذه الرحلات المشرقية إلى الحجاز لأداء شعيرة الحج، سواء قيمتها الفكرية أو الأدبية أو ما تحمله من رؤى وأفكار تنادي بتطوير الحجاز والأماكن المقدسة وحل مشكلاته مع الحجاج.

ثالثاً: أهم الرحلات من المشرق العربي وأبرزها:

حظي الحجاز بالتعرف على أسماء فكرية لامعة، سجلت حضورها الثقافي من خلال ما دونته على الحجاز من كتب ومذكرت ومقالات حول الحج، وما يرتبط به من فضاء سياسي واجتماعي واقتصادي، الأمر الذي جعل لهذه الرحلات اهتماماً خاصاً بها وبأصحابها، ومن هذه الرحلات المدونة ما يلي:

3/ 1 رحلة إبراهيم رفعت باشا:

مرآة الحرمين (الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية).

يعتبر اللواء إبراهيم باشا من القيادات العسكرية البارزة التي حظيت بقيادة إمارة الحج المصري في أربع سنوات متتالية وهي: عام 1318 ه/ 1901 م، عام 1320 ه/ 1903 م، عام 1321 ه/ 1904 م، عام 1325 ه/ 1908 م. وفي كل هذه الرحلات قام بتدوين مشاهداته، منذ أن خرج من مصر، مروراً بالسويس (بحراً)، وحتى جدة.

لقد قسم إبراهيم باشا كتابه إلى ثلاثة أجزاء تحوي كل الرحلات الأربع، وجاء الجزء الأول مهتماً بالعناصر التالية:

أ- المحمل المصري وأهميته التاريخية ودوره في حل كثير من المشاكل الاقتصادية لدى عرب الحجاز، وشرافة الحجاز السياسية.

ب- الطريق من مصر إلى الحجاز عبر السويس بحراً، ثم رابغ،

ص: 205

حيث يحرم منها الحجاج، ثم الوصول إلى جدة، ومظاهر استقبال الحجاج فيها، والحجر الصحي.

ج- السفر إلى مكة من جدة، والطريق الموصلة إليها عبر بحرة وحداء، ووسائل المواصلات التقليدية في تلك الفترة.

د- وصف مكة وجبالها وشعابها وأماكن إقامة الحجاج، والمطوّفين، و ذكر الآثار الإسلامية في مكة والمشاعر المقدسة، ووصف كامل ودقيق لشعيرة الحج والمناسك، وكذلك الكعبة المشرفة وبئر زمزم والمقامات داخل الحرم، والمآذن وغيرها من المشاهد المهمة في الحرم وما حوله.

ه- ذكر أهم قادة الحج من البلدان الإسلامية، وما يقدم لهم من واجب الضيافة والاحترام.

و- وصف الطريق والمواصلات بين المشاعر المقدسة من مكة حتى منى يوم التروية، أو من مكة إلى عرفات، ثم إلى مزدلفة، ثمّ إلى منى، ثم إلى الحرم بمكة حرسها اللَّه.

ز- وصف بعض العادات والتقاليد الاجتماعية في مكة المكرمة أثناء الحج.

ح- وصف مشاعر المسافرين نحو المدينة المنورة وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه و آله، والسلام عليه، ثم ذكر وسائل المواصلات ومعاناة الحجاج في هذه المسألة.

ط- وصف المدينة المنورة والآثار الإسلامية فيها، والمساجد التي ينبغي التعرف عليها وزيارتها.

أما الجزء الثاني: فقد خصص للحديث عن الأوبئة والأمراض التي تنتشر أثناء موسم الحج، ويعاني منها الحجاج ويحصل فيهم بسببها وفيات كثيرة. كما يذكر أهم المشافي التي تقدم العلاج، وهي قليلة العدد، ضعيفة الإمكانات، مما يسهل انتشار الأوبئة والأمراض بين حجاج بيت اللَّه الحرام.

أما الجزء الثالث والأخير: ففيه وصف واستعراض للمشاكل

ص: 206

والمتاعب التي يصادفها الحجاج من عربان الحجاز، وسبل التخلص من أذاهم، مرةً بالطرق السلمية ومرةً بطريقة العنف والحرب.

وفيه استعراض ووصف للطريق بين مكة والمدينة المنورة، والمدة التي يقضيها الحجاج في هذا السفر المضني، وذكر للقرى والمراحل التي يقف عندها الحجاج للاستراحة والتزود بالماء.

وفيه كذلك ذكر لبعض العادات، والتقاليد لأبناء البادية وسكان القرى التي يمر منها طريق الحج الحجازي- المدني.

كما نجد في هذا الجزء الحديث عن المشاكل التي تعترض المحمل المصري ووسائل تجاوزها، وذلك ضمن إطار الحديث عن سياسة الشريف حاكم مكة آنذاك.

وأخيراً، هناك ذكر للموازنة المالية التي تصرف على الحج المصري والمحمل، وسبل صرفها في الحجاز، وطريقة توزيعها.

ومن خلال هذه الرحلات التي سجلها ودوّنها أمير الحج المصري اللواء إبراهيم رفعت باشا يتضح لنا عمق التجربة ومصداقيتها التي نقلها لنا هذا الرحالة عبر كتابه مرآة الحرمين الشريفين، والذي يتميز بالصور الشمسية/ الفوتوغرافية لأغلب المشاهد والآثار والأماكن التي جاء ذكرها في كتابه، وهي صور رائعة ونادرة ومعبرة بلغت حوالي 362 صورة، كلها تؤرخ للفترة التي حج فيها هذا الرحالة، أي الأعوام 1318- 1325 ه، الموافق 1901- 1908 م.

3/ 2: رحلة إبراهيم عبدالقادر المازني:

رحلة الحجاز، وهو رجل أديب من كبار الكتاب في مصر، قام برحلته هذه عام 1930 م الموافق 1349 ه، طبعت في العام نفسه بمطابع فؤاد عبدالحق السنباطي بالقاهرة. ثم أعيد تصويرها ونشرها عن طريق مكتبة القاهرة. تطرح هذه الرحلة مجموعةً

ص: 207

من المحاور التي عالجها صاحب الرحلة بأسلوب أدبي شيق يجمع بين ثناياه الجدية والسخرية، وبين إعطاء المعلومة الثقافية والتساؤل الاستنكاري، ومن خلال تحليلها ودراستها يمكن الوصول إلى أهم معطياتها وعناصرها.

أ- إنها رحلة تجي ء في بداية العهد السعودي، حيث يفرض هذا الوضع السياسي التاريخي الجديد أن يعقد المؤلف مقارنة بين الحج في هذا العهد والعهد السابق.

ب- يصف الطريق من السويس إلى ينبع عبر طريق البحر، ويذكر ما يشاهده في هذا الطريق، وخاصةً أثناء نزوله في ينبع، متحدثاً عن أميرها آنذاك من قبل ابن سعود، واسمه عبدالعزيز بن معمر.

ج- يصف رابغ، وأنها المحطة التي يُحْرم من عندها الحجاج المصريون.

د- يتحدث عن ميناء جدة وقائم مقامها الشيخ عبداللَّه رضا زينل، وذلك أثناء وصول الباخرة إلى جدة.

ه- يصف ميناء جدة، ذاكراً فنادقها ومبانيها وطرقها والبلدية فيها، وآثارها وبوابتها الشهيرة، ويقف طويلًا عند قبر حواء.

و- يذكر بعض المعطيات الحضارية التي بدأت تدخل إلى الحجاز مثل الهاتف، ونظام الأكل والأمن والأمان في العهد السعودي، والحضارة التي يستوعبها الحجازيون بسرعة.

ز- يتحدث عن مشاهده في الطريق من جدة إلى مكة المكرمة، مُركزاً على الأمن ونظام التأديب الذي مارسه النظام السعودي لتحقيق الأمن المفقود في العصور السابقة.

ح- يصف الحرم والكعبة المشرفة، وبئر زمزم والحجر الأسود، وكسوة الكعبة، والمصنع المعد خصيصاً لذلك.

ط- يقف على نقطة جديدة، وهي إنشاء مدرسة للمطوّفين.

ي- يصف مقر الملك عبدالعزيز

ص: 208

في مكة واستقبال الأمير فيصل آل سعود نائب الملك على الحجاز.

ك- وأخيراً، يصف زيارة الأمير فيصل للحرم الشريف ودخول الكعبة، وما شاهده من الحجاج المتزاحمين آنذاك، ويصوغها في عبارات تقطر بالسخرية والتهكم.

وفي الجملة، فإن هذه الرحلة قطعة أدبية تتضح فيها روح المازني وثقافته ودعابته وسخريته. وأعتقد أنها ليست رحلة حج، وربما هي عمرة أو زيارة لأنه لم يشر إلى المشاعر المقدسة (عرفات- ومزدلفة- ومنى) التي لابد لكل حاج يكتب رحلته أن يشير إليها. على أن أهم ما تفيده هذه الرحلة معرفة واقع الحجاز في بداية العهد السعودي وهذا يكفي.

3/ 3: الأمير شكيب أرسلان: الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف «الرحلة الحجازية»

وهي رصد وتوثيق لرحلة الحج التي قام بها المؤلف عام 1348 ه، ومن خلال دراستها وتحليلها يتضح أنها تحتوي على العناصر التالية:

أ- كان المؤلف في سويسرا أثناء عزمه على الحج، فاتخذ طريق البحر من لوزان إلى بورسعيد في مصر ومنها إلى الحجاز.

ب- يصف طريق البحر من السويس إلى جدة مروراً برابغ، وهي الطريق نفسها الذي تسلكه رحلات الحج من مصر.

ج- يهدي هذا الكتاب لجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، وبهذا يتضح أن حجته جاءت في أول العهد السعودي، وهو بذلك يقارن بين عهدين: عهد الأشراف، والعهد السعودي.

د- يصف جدة وميناءها وبحرها وبرها، مشيراً في ذلك كله إلى الأمة العربية ودورها الريادي، وكأنه يُذكر بالقومية العربية ويبشر بها.

ه- يصف الطريق من جدة إلى مكة المكرمة، ويقف بشكل كبير عند

ص: 209

بحرة الغربية الواقعة بين مكة وجدة، ويصفها بشكل مهيب.

و- وعندما يصل إلى مكة المكرمة يصفها ويصف مبانيها ويصف الحرم والمشاعر المقدسة، وخاصة عرفات والوقوف بها يوم التاسع من ذي الحجة، والاختلافات التي تحصل بين الشيعة والسنة في تحديد هذا اليوم المعظم والشهر المقدس.

ينظر كثير من المؤرخين إلى هذه المنطقة على أنّها جزء من الشرق الأوسط الذي تمتدّ حدوده الجغرافيّة ما بين المحيط الأطلسي غرباً والخليج الفارسي شرقاً

ز- يشير إلى قضية المياه في مكة المكرمة وندرتها، وعين زبيدة، والمساعي السعودية لحل مشكلة المياه.

ح- يصف حال المطوفين بمكة والمزورين بالمدينة، ويتعرض لمسألة الأوقاف بالمدينتين المقدستين، واعتداء بعض الحكومات على الأوقاف الخاصة بالحرمين الشريفين.

ط- يتحدث عن الأشراف في الحج، واستئثارهم بالأراضي وامتلاك الأماكن الحساسة الرائعة.

ي- يقدم اقتراحات مهمة للحكومات العربية، للاهتمام بالحج والحجاج، وتوعيتهم قبل الوصول إلى الأراضي المقدسة.

ك- يذكر بعض المشاكل الصحية أثناء الحج، مثل كثرة البعوض وما يسببه من أمراض تؤدي إلى وفيات الحجاج.

ومن خلال هذه العناصر المهمة تبدو روح الأديب والكاتب، الذي جمع بين الشعر والأدب والسياسة والتاريخ ومن أجل ذلك سمي بأمير البيان.

3/ 4: رحلة جغمان: (إسماعيل بن حسين جغمان):

نيل الوطر في ذكر أحوال السفر إلى الحرم الأزهر والنبي الأنور، وهي رحلة يمنية تمت عام 1241 ه، وقد

ص: 210

عُرف صاحبها أنه أحد الرجال المؤثرين في أحداث عصورهم- وعلى الأقل في بلاد اليمن- وليس مجرد عالم، كان له دور في السياسة ومكانة في الشعر والأدب.

ومن خلال التعريف بهذه الرحلة نقف على أهم عناصرها والموضوعات التي تناقشها من وصف الطريق البري والبحري، ووصف معالم الحرمين، والوصول إليهما، وذكر علماء مكة، وطريق العودة إلى اليمن و...

3/ 5: محسن بن عبدالكريم إسحاق ورحلته إلى الحج عام 1237 ه:

وهي رحلة منظومة شعراً، ولعل هذا ما يميزها في سياق دراستنا عن أدب الحج في المشرق العربي.

وتأتي هذه الرحلة في سياق الرحلات اليمنية التي وثقها ورصدها وحفظها المؤرخ اليمني الكبير عبداللَّه محمد الحبشي في كتابه (الرحالة اليمنيون).

والرحالة الذي نتحدث عن رحلته الآن هو العالم المتبحر في شؤون العلم والأدب، الذي كان يعد من نحاة اليمن الكبار وممن يجيد النثر والشعر؛ ولما لهذه الرحلة الدينية إلى المشاعر المقدسة من أهمية عند صاحبها فقد رغب أن يكون تسجيله لها شعراً؛ لأن «النثر في هذا المجال دون مكانته وقدراته الأدبية الفائقة»، كما يقول راصد هذه الرحلات عبداللَّه محمد الحبشي.

وعلى أية حال فمن وجهة نظري، لا يمكن اعتبارها شعراً كما هو متعارف عليه عند دارسي الشعر والنقد المحدثين، ولكنها أقرب إلى النظم من الشعر، بل هي تدخل في باب (الأراجيز)، وهو صنف أدبي ينظم فيه الموضوع نظماً شعرياً، لكل بيت قافيته الموحدة صدراً وعجزاً.

وبعد دراسة وتحليل هذه الرحلة (القصيدة/ الأرجوزة)، وما قاله عنها الراصد والمحقق، تتضح لنا مجموعة من العناصر وهي كما يلي:

ص: 211

أ- يذكر في مطلع الرحلة/ القصيدة سبب كتابة هذه الذكريات عن رحلته إلى الحج، وأن الدافع لذلك هو التذكرة للأحباب والتحية للأصحاب الذين يقيمون في صنعاء، وتعريفهم بما حصل له في هذه الرحلة/ السفر.

ب- يبدأ في ذكر الرحلة وخروجه من صنعاء نحو مكة والحجاز، وذلك يوم الخميس 21 شوال 1237 ه، ويذكر المراحل التي يسير فيها والقرى والمدن التي ينزل فيها، وذلك كله عن طريق البر، وبواسطة الحمير، بوصف ذلك وسيلة نقل مهمة آنذاك توصلهم إلى ميناء الحديدة.

ج- يصف الطريق من منطقة لأخرى، وما يحدث لهم من مفاجآت سارة وغيرها، ومشاكل بين مجموعة من الحجاج الذين معه، ويذكر الناس الذين استضافوهم أثناء نزولهم.

د- يصف الحديدة- أثناء وصولهم إليها- واستقبال عامل الحديدة لوفد الحجاج ثم رحيلهم بحراً، ويصف البحر الذي لم يشاهده من قبل، لأنه من أهل الجبال، ويقول في ذلك قولًا جميلًا، حيث يصف البحر بالزمان الذي يجري وأهله في غفلة عنه، وبهذا يستخلص هذا الرحالة حكمة عظيمة يقيس بها أمر الدنيا وأهلها.

ه- يصف السفن الشراعية التي يركبها الحجاج لأول مرة، وما يحصل لهم من غثيان وأمراض لم يعرفوها من قبل.

و- ولما يصل بحراً القنفذة يصف هذا الميناء، ويرغب في العودة إلى الطريق البري، نظراً لما عاناه من مصاعب في البحر.

ز- ومن القنفذة يتعامل مع الجمال والقوافل بوصفها وسيلةً للمواصلات البرية، ويذكر إيجارها الغالي وسعرها المرتفع، كما يذكر من قابَلَ من الحجاج فيها وخاصة من السودان.

ح- يذكرالقرى والمراحل التي

ص: 212

يمر بها ويقف عندها للراحة والأكل، ويصفها وصفاً شعرياً جميلًا، حتى يصل إلى الليث، ومنها إلى الميقات يلملم، حيث يحرم منه الحجاج.

ط- وحينما يصل إلى مكة مع قرب صلاة الفجر ويشاهد القناديل المضاءة على منارات الحرم، يعلن ابتهاجه وسروره بهذا المنظر، ويبدأ في مشاعر الحج من طواف وسعي وصعود إلى عرفة، ويكمل باقي المناسك.

ي- يصف خروجه من مكة إلى المدينة، وأهم القرى التي يمر بها، والمحطات التي يستريح فيها، وما إن يصل المدينة المنورة حتى يزور المسجد النبوي، ويصلي فيه، ويسلم على الحبيب المصطفى صلى الله عليه و آله واصفاً مشاعره تجاه هذا الموقف العظيم، ويختم رحلته بالصلاة على النبي صلى الله عليه و آله.

ومن خلال هذا العرض، نلاحظ أن النص الشعري مهما كان جيداً، لا يمكن أن ينقل لنا الصور والمشاهد والعادات والتقاليد كما ينقلها النثر، ولهذا فإن قيمة هذه الرحلة تكمن في لغتها وقدرة مبدعها على الصياغة، وتعريفنا بالمواطن والمناطق التي يمر بها ركب الحجيج اليمني في تلك الفترة ووسائل المواصلات، وما يصادفه الحاج من مصاعب وآلام.

3/ 6 الإمام محمد رشيد رضا: رحلة الحجاز

وهي إحدى الرحلات من المشرق العربي من مصر، قام بها عام 1334 ه الموافق 1916/ 1917 م.

ومعروف من هو الإمام محمد رشيد رضا أو رشيد رضا صاحب مجلة المنار التي كانت صدى لهموم العالم العربي والإسلامي في قضاياه المصيرية.

يعتبر رشيد رضا من العلماء المجددين المصلحين، قام بالعديد من الزيارات والرحلات التي سجل أكثرها في المنار نشراً في حينها، ثم جمعها الدكتور يوسف إيبش في كتاب مطبوع بعنوان رحلات الإمام محمد رشيد رضا، وكانت الطبعة الأولى في

ص: 213

حزيران/ يوليو 1971 م وهي التي نرجع إليها.

ومن ضمن هذه الرحلات التي يوثقها هذا الكتاب رحلته إلى الحج عام 1916/ 1917 م الموافق 1334 ه، والتي بدأ نشرها في مجلته الشهيرة المنار في الأجزاء: 10، 20 (1916- 1917 م).

وبعد تحليل ودراسة الرحلة في مصدرها الثاني الذي سبقت الإشارة إليه، وهو كتاب يوسف إيبش، نخلص إلى الموضوعات التالية:

1- يشير في بداية رحلته إلى ظروف الحرب العالمية الأولى، وكيف توقف الحج عن طريق البحار، ولكن اللَّه فرج هذه الأزمة في هذا العام بجهود الشريف حسين والتعاهد بين الدول بحق التصرف في البحار.

2- ثم يذكر أسباب عدم تمكنه من الحج في السنوات السابقة وهي خوفه من الدولة العثمانية وحكامها الاتحاديين، وعدم استطاعته المالية، وعجز السيدة الوالدة عن الرحيل كما يقول.

3- ثم يشير إلى أسباب تأدية الفريضة في هذا العام، ويذكر منها أن الحكومة المصرية قد سمحت بالحج إلى مكة بمبالغ مالية قليلة ودون أي تأمين مالي كما كان في السابق، وأن حكومة الشريف قد سهلت أمور الحج وقضت على كل المنغصات، وأن الاستطاعة المالية والبدنية قد تسهلت، إضافة إلى ذلك الرغبة الشخصية في استثمار هذا الموسم الرباني في النصح والأمر بالمعروف للأمة الإسلامية في المشاعر المقدسة، لاسيما وأن الحجاج في حاجة إلى مثل ذلك.

4- يصف بداية الرحلة من القاهرة، بواسطة القطار متجهين إلى السويس، وفيها تم تطعيم الحجاج ضد وباء الكوليرا، ومغادرة السويس في 26 ذوالقعدة.

5- يصف الباخرة المسماة (النجيلة) التي حملته مع الحجاج إلى مكة المكرمة، ويقول أنها بطيئة

ص: 214

وقديمة وقذرة وليس بها ضوء كهربائي...

6- يشير إلى كثير من البدع والمنكرات في السفينة من لهو ولعب وطرب، وما يفعله المتصوفة من ذكر أقرب إلى الرقص واللعب.

7- يذكر أنهم أحرموا بالحج عندما حاذت الباخرة منطقة رابغ.

8- يشير إلى وصول الحجاج إلى جدة ويصف مبانيها، والمرسى الذي ترسو عنده السفن، ويصف الجو في جدة والمسكن الذي نزل فيه، ومن قابله واستقبله من القيادات الحجازية أمثال محمد نصيف وكيل الشريف على جدة.

9- يذكر موقف الشريف حسين من الاهتمام به واستقباله كمفكر إسلامي وعالم له وزنه وثقله المؤثر في مجريات السياسة آنذاك.

10- يشير إلى بعض البدع التي يمارسها بعض الحجاج، وهي عدم لبس الإحرام والاعتماد على الفدية، ويفصل في ذلك تفصيلًا كثيراً.

11- يذكر سفره من جدة إلى مكة وسفر المحمل، مشيراً في هذا الإطار إلى المواصلات وهي الجمال والحمير، كما يشير إلى أهمية الماء في هذه الرحلة عبر الطريق إلى مكة. كما يذكر بحرة التي استراح فيها ويصف الأمن في الطريق وأنه لم يقع أي اعتداءات في هذا الموسم ما عدا حادثة واحدة، وأنّ الرجال المسلحين من أمن الطرق متواجدون بشكل واضح، وأن الفضل في ذلك يعود للشريف حسين.

12- يصف مشاعره عند أداء المناسك وأثناء التلبية، ويصف الحرم الشريف والكعبة المعظمة، ويصف الطواف والسعي والوضع في مكة من حيث النواحي الاجتماعية والسياسية، ويشير إلى رخاء المعيشة في مكة طوال أيام الحج.

13- يصف الطريق إلى المشاعر المقدسة ويقيس المسافات بينها ويُذكر بحدود المشاعر، ويثبت وصفاً دقيقاً لكل مشعر من هذه المشاعر استناداً

ص: 215

إلى كتاب الرحلات أمثال محمد لبيب البتنوني ومحمد صادق باشا وابن جبير.

يقدم اقتراحاً لتنظيم محلات إقامة الحجاج في عرفة بشكل أفقي ويقسمها شارع رئيس وتخصيص كل ناحية لسكن جماعة من الحجاج وتوضع لذلك علامات، ويعين لهذا النظام من يحافظ عليه.

14- يُذكّر بالحالة السياسية في الحجاز في أواخر سنة 1334 ه، ويفرد فصلًا خاصاً، ويلمح في هذا الجانب إلى مسألة الخلافة ومطالبة الشريف بها والبيعة له كما تردد في الصحف المصرية وبين الحجاج، كما يشير إلى موقف الشريف الرسمي منها، وهو ما لمسه محمد رشيد رضا وأثبته في هذه الرحلة.

15- يذكر مشاركته في الحفل الخطابي السنوي بمنى الذي يحضره الشريف وإلقاء كلمة نشرتها جريدة القبلة، وهي خطبة طويلة أكد فيها ضرورة الاستقلال عن الحكم العثماني الذي تقوده جماعة الاتحاد والترقي، وأن الشريف حسين هو راعي هذا الاستقلال وأهل له.

16- يصف دخوله الكعبة وما فيها، حيث تمكن من ذلك يوم الجمعة 15 ذي الحجة 1334 ه ويبين فضل ذلك، وأنه اقتداء بالنبي صلى الله عليه و آله.

17- يشير إلى ظاهرة اجتماعية وهي كثرة الفقراء والمتسولين في مكة

ص: 216

المكرمة وما يجب تجاههم.

18- ثم يصف العودة بعد الحج من مكة إلى جدة ثم إلى مصر بواسطة الباخرة (النجيلة) التي جاؤوا بها.

ومن خلال هذا العرض يتضح أن رحلة الإمام محمد رشيدرضا من الرحلات المهمة؛ لما فيها من صور وأحداث ومشاهدات سياسية واجتماعية واقتصادية، تفيد الدارس لهذه المسائل.

كما يتضح أسلوب الإمام محمد رشيد رضا الأدبي، وإيراده الكثير من الموضوعات غير المتعلقة بالحج بشكل مباشر، وإنما للإحاطة الفكرية والأسلوبية للأديب الكاتب العالم محمد رشيد رضا.

3/ 7 محمد صادق باشا- الرحلات الحجازية-:

وهي أربع رحلات للحج:

الأولى عام 1277 ه- 1860 م، والثانية سنة 1297 ه- 1880 م، والثالثة عام 1302 ه- 1884، والرابعة عام 1303 ه- 1885 م.

ولكل رحلة من هذه الرحلات ألّف كتاب مطبوع على النحو التالي:

الرحلة الأولى بعنوان: «نبذة في استكشاف طريق الأراضي الحجازية من الوجه وينبع البحر إلى المدينة النبوية وبيان خريطتها العسكرية».

الرحلة الثانية بعنوان: «مشعل المحمل في سفر الحج براً».

الرحلة الثالثة بعنوان:

«كوكب الحج في سفر المحمل بحراً وسيره براً».

الرحلة الرابعة والأخيرة:

«مهمة تسليم قمح صدقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة بجدة».

وقد قام الباحث محمد همام فكري بإعادة طبعها ونشرها مجتمعةً في كتاب بعنوان «الرحلات الحجازية»، ضم فيه كل تلك الكتيبات/ المؤلفات المتفرقة، بعد ضبطها وتحقيقها وإضافة بعض العناوين إليها لتكون في متناول الجميع كما يقول.

ص: 217

والمؤلف الأساسي/ الرحالة محمد صادق باشا، المهندس والضابط والجغرافي المصري، كان خروجه إلى الحجاز برفقة المحمل المصري بوظيفة أمين الفترة، ومن هنا تكتسب رحلته أهميتها، فهو شاهد عيان ينقل بكل أمانة الأوضاع الحجازية في فترة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، 1277 ه- 1860 م.

تتميز رحلته عن الرحلات السابقة، بأنه تزود بالأجهزة العلمية التي أعانته على تسجيل البيانات ورسم الخرائط وتعيين المحطات، ذكر أسماء النباتات والصخور والجبال وطبيعة الأرض، وهي بذلك تصبح ذات قيمة علمية مميزة، فيها من المعلومات الجغرافية ما لا نجده في سواها من كتب الرحلات الحجازية.

وبعد دراسة وتحليل هذا المنجز الرحلاتي وصلنا إلى أهم العناصر والموضوعات التي تناقشها هذه الكتب وهي كما يلي:

الكتاب الأول:

1- بعد المقدمة، يصف الأداة التي أحضرها معه لقياس المسافات والأبعاد، ويسهب في وصفها حتى تتضح مكوناتها وطريقة عملها.

2- يصف رحلته من القاهرة إلى السويس بواسطة القطار، ثم إلى الوجه بواسطة البحر، ويصف ميناء الوجه وصفاً دقيقاً، ويصف انطلاقهم إلى المدينة المنورة بواسطة الجمال.

3- يصف القلعة العسكرية والمعروفة بقلعة الوجه، وهي في الطريق بين الوجه والمدينة المنورة بمسافة (9000 متر)، وما يعانيه حرسها من صولة العربان ولصوصيتهم، ويصف الجمال المعدة للركوب وأنها هزيلة.

4- يصف الطريق من قلعة الوجه إلى المدينة المنورة والمحطات التي يتوقف عندها الحجاج والزوار، ويشير إلى الأمطار وقلتها.

5- وبعد الراحة في كثير من المحطات يصل المؤلف إلى المدينة

ص: 218

المنورة، ويصف حال المزورين والمطوفين وحاجة الحجيج إليهم للتعريف بالمدينة وأماكن الزيارة. كما يصف دخوله إلى الحرم النبوي وصلاته بالروضة ثم السلام على المصطفى صلى الله عليه و آله.

6- يصف قبور الصحابة في البقيع والمزارات المشهورة هناك، كما يصف خدم المسجد النبوي وهم الأغوات. كما يصف أهل المدينة وأصولهم، والبيوت التي يسكنوها، وتجارتها من التمر لكثرة النخيل إلى غير ذلك.

7- ينهي هذه الرحلة بالحديث عن طريق العودة من المدينة إلى الجديدة ثم إلى ينبع البحر، واصفاً هذا الطريق ومبيناً المسافات بين كل مرحلة وأخرى، ثم يشير إلى العودة من ينبع إلى السويس بواسطة البحر.

الكتاب الثاني:

وهو خاص برحلة الحج التي قام بها محمد صادق باشا عام 1297 ه/ 1880 م، وفيها وصف دقيق لأهم المراحل والمسافات والمنازل والمحطات التي يقف فيها الحاج المصري في طريقه من السويس إلى جدة فمكة المكرمة، والعكس أيضاً أثناء عودته.

ولعل أهم ما جاء في هذا الرحلة ما يلي:

1- يصف العربان- ويقصد بهم البدو من أهل الحجاز- وصفاً غريباً، حيث يشير إلى سوء أدبهم، وعدم توقير كبيرهم، وليس لديهم أمان، وشيمتهم الغدر لولا الخوف من السلطان.

2- يصف دخوله مكة المكرمة والحرم والطواف والسعي، ويورد بعض الأدعية المناسبة للطواف والسعي، أما الحرم فيقف عند وصفه على كل صغيرة وكبيرة، وهو ما لم نجده في كثير من الرحلات التي أطلعنا عليها. ثم يصف المشاعر المقدسة ومناسك الحج في أيامه الأولى.

3- يقدم لنا صورة واقعية عن

ص: 219

«منى»، وكيف تتحول إلى روائح كريهة من بقايا جثث الهدي والأضاحي والجزور التي تذبح في منى خلال الأيام الثلاثة.

4- يصف حادثة غريبة، وقعت بين الحجاج المصريين أثناء سفرهم بالباخرة من السويس، حيث ادعى أحد الحجاج القدرة على السحر والشعوذة فخدع أحد الموسرين وأخذ ماله.

5- يصف الطريق والمراحل والمسافات بين مكة والمدينة حتى يصل إلى مدينة المصطفى صلى الله عليه و آله، وزيارة قبره الكريم والسلام عليه، والذي لا يذكره غيره من المؤرخين هو زيارة المصحف العثماني الموجود بجوار قبر الرسول صلى الله عليه و آله بالحجرة الشريفة، ثم يواصل وصف البقيع وبعض المزارات في المدينة النبوية.

6- يختتم رحلته الثانية بفكرة عن صعوبة ومشاق الرحلة للحج من مصر إلى الحجاز وما يعانيه الحاج في سبيل الوصول إلى بيت اللَّه الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه و آله، وما إن يصلوا إلى تلك الديار المقدسة حتى ينسوا كل تعب ومشقة فيقبلون على اللَّه بقلوب مؤمنة، ولما يكملوا نسكهم، تتحرق الأشواق للعودة للأوطان...

الكتاب الثالث:

وهو رسالة ملحقة بالرحلة السابقة (الثانية) واستكمال لها، «لتتم الفائدة وتكتمل»، كما يقول في مقدمة هذه الرحلة.

ومن أهم الموضوعات التي يتعرض لها ما يلي:

1- يكرر ما قاله سابقاً عن وصف الطريق من السويس إلى جدة، مشيراً إلى وصول المحمل واستقباله والاحتفال بذلك.

2- يصف مكة المكرمة وعادات أهلها في الزواج، ويصف الطريق بين جدة ومكة، كما يصف الحرم المكي.

3- ولعل الجديد الذي يضيفه في هذه الرحلة، وصفُه لتأمين الطريق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة من

ص: 220

مهاجمة العربان وقطاع الطريق بأمر شريف مكة.

4- يتحدث عن سكان الحجاز والقبائل القاطنة فيه، وغرائب عاداتهم في الملبس والمسكن والزواج وغير ذلك.

5- يتحدث عن إحدى القبائل بين رابغ والمدينة وإسمها قبيلة (اللهبة)، ودورها في سرقة الحجاج، ويشير كذلك إلى حوادث النهب في الطريق وموقف الحجاج من ذلك.

6- وعندما يصل إلى المدينة المنورة يتحدث عن الشيعة القاطنين بجوار المدينة.

7- يورد صوراً نادرة لمكة والمدينة والحرمين الشريفين، وهذه تعد مكسباً للباحثين والمصورين ليؤرّخوا بهذه الصور النادرة.

8- يشير إلى رحلة جديدة خرج فيها إلى مكة والمدينة في سنة 1302 ه/ 1885 م في مهمة رسمية، وهي تسليم صدقة القمح على مستحقيها في الحجاز، وما صادفه من حوادث وقضايا مثل ثورة عربان بني إبراهيم، كما يصف الكعبة وقد دخلها يوم غسلها، والعادات المتبعة في غسيل الكعبة المشرفة.

9- يشير إلى حادثة قتل في مكة شهدها وسجلها، قبيل مغادرته مكة إلى جدة ثم السويس ثم إلى القاهرة.

الكتاب الرابع:

وفيه يجمع كثيراً مما كتبه في الكتب الثلاثة السابقة، مما رأى أنه يفيد الحجاج والزوار ليكون علماً يهتدي به براً وبحراً، كما يقول المؤلف محمد صادق باشا، وفيما يلي بيان بأهم الموضوعات التي جمعت في هذا الكتاب.

1- يتحدث عن الإحرام وشروطه وكيف يحرم الرجل والمرأة.

2- ثم يتحدث عن العمرة ومناسك الحج، ويشير إلى كثير من عادات أهل مكة، ويتحدث عن عين زبيدة وجريانها وبناء قناتها بين منبعها في وادي نعمان مروراً بعرفات إلى مكة

ص: 221

المكرمة، ثم يذكر شيئاً عن العملات المستخدمة في الحجاز وأسعارها وقت الحج وبعده.

3- يشير إلى ولاية الحجاز وحدودها، وهو أول رحالة يذكر هذه الحدود التي يؤكد أنها تمتد من القنفذة وحتى المدينة. ثم يذكر إقليم الحجاز وجغرافيته وسكانه وطبائع أهله.

4- يصف المشاعر المقدسة وما فيها من مناسك أثناء الحج، ويؤكد على ما يصاحب النفرة من عرفات إلى المزدلفة من احتفالات وموسيقى عسكرية مصاحبة وأصوات الطبول والمزامير، وكل هذا ينافي الروحانية والسكينة المطلوبة في هذا الموقف.

5- يصف منى وما فيها من نسك، وأهم إشارة في هذا المجال هي ذكر قيمة الذبائح والأضحيات، وكانت من ريال ونصف إلى ثلاثة ونصف، وهذا يفيدنا أثناء الحديث عن الأحوال الاقتصادية.

6- يصف المدينة المنورة، وكيفية الزيارة، والحرم النبوي، والمزارات بالمدينة، وعادات أهلها.

7- وهناك إشارة مهمة إلى الوهابيين، ويقصد السعوديين أهل نجد وحروبهم في المدينة، وينقل عن الجبرتي كيف استسلم الشريف للوهابيين الذين طبقوا السلفية في الحجاز بكل حذافيرها، ومنه وصول المحمل بالصورة المعروفة، وهدم القباب والمزارات في مكة وينبع والمدينة، ويشير في هذا الصدد إلى نهاية الدولة السعودية الأولى على يد محمد علي باشا والدولة العثمانية.

و من خلال هذا الاستعراض السريع لمجمل الموضوعات التي يناقشها الرحالة الحاج محمد صدقي باشا في كتبه ورحلاته الأربع، نلحظ تميزاً واضحاً في الجانب التفصيلي والتوضيحي الأشمل لكل نواحي الطريق الذي يسلكه الحاج المصري وما فيه من صعوبات ومشاكل، بل إنه يدقق الوصف في كثير من العادات والأخلاق المستحبة والمستقبحة عند

ص: 222

أهل الحجاز عموماً، وهو في وصفه ذلك لا يتجاوز منزلًا أو مرحلةً إلا ويذكر كل ما يتعلق بها، فكأنك تشاهدها بعين الحقيقة.

3/ 8 محمد بهجة البيطار الدمشقي: الرحلة النجدية الحجازية «صور من حياة البادية»

وهي الرحلة التي قام بها عام 1338 ه من دمشق متجهاً نحو نجد لتسليم رسالة للملك عبدالعزيز آل سعود من قبل الملك فيصل بن الحسين والسيد محمد رشيد رضا، ولكنه لم يوفق في الوصول إلى نجد، فحوّل وجهته إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه و آله.

وبعد الاطلاع على هذه الرحلة، يمكن استخلاص أهم ما جاء فيها، وذلك على النحو التالي:

1- يصف السبب في عدم وصوله إلى نجد، وذلك بسبب العربان الذين قطعوا طريقه وسلبوا أمواله، ويصف لجوءه إلى قرية الحائط في ضيافة حاكمها الشريف عبدالمطلب بن غالب، وتخوّفه من القتل على يد النجديين.

2- يصف قرية الحائط الواقعة شمال المدينة المنورة، ويصف أهلها بالكرم والشجاعة وانتمائهم لحكم الأشراف.

3- يصف عزمه على زيارة المدينة المنورة وكيف تحقق له ذلك، ويثبت في صدر رحلته هذه قصيدةً في مدح النبي صلى الله عليه و آله أنشأها يوم وصوله المدينة.

4- يصف دخوله المدينة، ثم زيارة حاكمها الشريف علي، ولي عهد الإمارة الهاشمية، ثم يصف دخوله الحرم النبوي، والخشوع الذي اعتراه والدموع التي انهمرت من عينيه وسلامه على المصطفى.

5- يصف الحالة العلمية في المدينة المنورة، والتأخر الذي تعيشه نتيجةً للحرب ونقص الأموال والأنفس والثمرات. ويشير هنا إلى العلماء المجاورين بالحرم النبوي، وهم

ص: 223

غرباء عن المنطقة.

6- يذكر رسائله التي كتبها للإمام عبدالعزيز آل سعود، وبيّن فيها المصاعب التي حصلت له في الطريق، ويطلب من الإمام عبدالعزيز أن يرسل بعض الوعاظ والمرشدين للقرى البعيدة عن نجد لتعليم الناس الدين والعقيدة، أما رسالته إلى الإمام محمد رشيد رضا فقد تحدث فيها عن المشاكل التي واجهته في الطريق إلى نجد وزيارته للمدينة المنورة، كما يشير إلى أنه أمضى في المدينة المنورة ثلاثة أيام فقط ثم عاد منها إلى دمشق، واصفاً الطريق وصفاً إجمالياً.

ومن هذه الرحلة تتضح لنا حالة الفوضى السياسية التي هيمنت على الجزيرة العربية في نهاية الحرب العالمية والخلاف بين آل سعود والأشراف على حكم الحجاز، ومحاولة العلماء والوجهاء السعي بالصلح بين الفريقين، ومنهم صاحب هذه الرحلة.

3/ 9 محمد حسين هيكل: في منزل الوحي:

وهو الأديب المصري الكاتب والصحفي والمؤرخ المعروف، قام برحلته إلى الحج سنة 1936 م مبتدءاً طريقه من السويس- وعبر البحر- إلى جدة.

ومن خلال تحليل هذه الرحلة نصل إلى الموضوعات التي تناولها، وهي على النحو التالي:

1- يصف وصوله إلى جدة والجمرك المظلم الذي يفتش فيه الحجاج، وأمتعتهم، والفندق الذي استراحوا فيه ولم يعرف من جدة غيره كما يقول.

2- يذكر السبب في تسهيل حجته، وأنها دعوة من وزير المالية السعودي عبداللَّه السليمان الذي عرفه في بيروت عام 1935 م، حيث ضمهما مجلس فتذاكرا في كتاب هيكل: حياة محمد، ودعاه إلى زيارة الحجاز والحج على ضيافته، فرحب هيكل بهذه الدعوة التي استجاب لها.

ص: 224

3- يصف الطريق من جدة إلى مكة، ويشير إلى المباني الحكومية في الطريق وأنها بدائية ولا شي ء فيها من نظام العمران الحديث، ويذكر وسيلة المواصلات آنذاك وهي السيارات.

4- يصف دخوله مكة في منتصف الليل، وهو في إعياء ومشقة من الطريق، لكنه فضل العمرة حين وصوله، ويصف الكعبة ومشاعره عندما رآها لأول مرة من خشوع وخشية ورهبة، كما يصف الطواف والسعي ومحلات الحلاقة بجانب المسعى.

5- يصف لقاءه مع مضيفه وزير المالية ووصفه لهذا الرجل الإنسان، ويذكر هنا فكرة سياسة مميزة وهي إنشاء عصبة الأمم الإسلامية، وأن يكون مقرها مكة المكرمة.

6- يصف الخروج إلى عرفات والوقفة بها والمشاعر المقدسة والطريق بينها، ويقف عند معرفته برجل أوروبي أسلم وحسن إسلامه وحج إلى بيت اللَّه الحرام ضمن حجاج ماليزيا هو وزوجته المسلمة أيضاً، وتناقشا فيما يهم العالم الإسلامي، وسبل وحدته واندماجه، والوقوف ضد الحضارة الأوروبية المادية.

في هذه الرحلة «صور من حياة البادية» تتضح لنا حالة الفوضى السياسية التي هيمنت على الجزيرة العربية في نهاية الحرب العالميّة

ص: 225

7- يصف يوم عرفة والوقوف بها وخطبة نمرة، ويشبهها بأنها «تقليدية مثل خطب الجمعة في مصر» كما يقول، ويذكر المطر الذي نزل ذلك اليوم والريح القوية التي استمرت إلى وقت متأخر، ثم يصف إفاضته إلى مزدلفة بعد تحسن الأحوال الجوية، ثم إلى منى حيث رمى الجمرة الكبرى وأفاض إلى مكة لطواف الإفاضة.

8- يصف المسعى وحالة الناس فيه، فمنهم الماشي على قدميه، ومنهم الراكب على جواد، ومنهم الممتطي جمله أو سيارته، وهكذا كان المسعى والسعي!! ويصف المقاهي والحوانيت على جانبي المسعى ويتألم لهذا الوضع السي ء لقدسية المكان وحرمته.

9- يصف جبل حراء، ويتمنى الوصول إلى الغار، ليتزوّد من ذلك بما ينفعه قبل رجعته إلى قومه، فإذا عاد إليهم عاد وفي يديه قبضة من أثر الرسول كما يقول.

10- يتحدث عن بعض العادات في مكة مثل عادة الولائم والطعام وتقليدهم للغرب والمدنية، ويشير إلى رغبة الشباب الحجازي في نشر التعليم الذي يفتقدونه في الحجاز.

11- يشير إلى صلاة الجمعة في الحرم وأثرها في نفسه والزحام الشديد، ويتألم لعدم سماع الخطبة لعدم وجود مكبر الصوت، ويشير إلى أثر صلاة الجماعة في نفس المسلم.

12- يصف خروجه من مكة إلى المدينة، وما شاهده من المتسولين في هذا الطريق، ويقترح على حكومة الحجاز أن تولي هذا الأمر كل عناية.

13- يصف وصوله إلى المدينة واستقبال الناس له وخروجه لزيارة المسجد النبوي، ويشير في هذا الصدد إلى زحمة الناس و توافدهم على الروضة الشريفة وعند السلام على النبي صلى الله عليه و آله.

14- يتحدث عن سكان المدينة وقلّتهم، والسبب في ذلك الحرب العالمية الأولى وتدمير الخط الحديدي الحجازي، ويصف أسواق المدينة وشوارعها وبعدها عن التحديث والتعليم، وقلة المدارس، كما يصف

ص: 226

جمال الطبيعة وكثرة البساتين.

15- يتحدث عن المكتبات في المدينة، ويقف عند أهم مكتبة وهي مكتبة عارف حكمت، ويصفها ويصف أمينها ويشير إلى عدم فهرستها وتصنيفها، ويقترح أن تجمع كل المكتبات في دار واحدة، تنظم بشكل مكتبي متميز يستفيد منها كل من يزورها.

16- يصف رحلة الوداع وزيارة المصطفى صلى الله عليه و آله وتوديعه، ويذكر الأدعية التي دعى بها.

ومن خلال هذه الموضوعات المتفرقة نتلمس واقع الحجاز في ذلك العام الذي تمت الحجة فيه، وهو عام 1936 م، أي بداية العهد السعودي بها، وهذا له دلالته التي تفيدنا إن شاء اللَّه في المحاور التالية.

المحور الثاني:

أهم المشاكل والصعاب التي يعانيها الحجاج:

ومن خلال الدراسة والتحليل، اتضح أن المشكلات والصعاب التي يعانيها الحجاج منذ سفرهم إلى الديار المقدسة وحتى الانتهاء من مشاعر الحج والزيارة، تتمحور في مجموعة من المصاعب أشار إليها أصحاب هذه الرحلات.

ولعل الطريق وصعوبته والمواصلات وبداءتها وسوءها من الصعاب الأكيدة، وبذلك فإن أدبيات البحث تتطلب منا المزيد، وهو ما سنتحدث عنه فيما يلي:

الأوبئة والأمراض:

أشارت مجموعة من كتب الرحلات التي بين أيدينا إلى هذه المشكلة، واعتبرتها إحدى أهم الصعوبات التي يواجهها الحجاج أثناء تواجدهم في منطقة الحجاز عامة ومكة والمشاعر المقدسة خاصة.

ففي عام 1319 ه أشار إبراهيم رفعت باشا إلى أنه حصل وباء كبير في مكة وأصيب به الحجاج وفتك بهم فتكاً ذريعاً، رغم وجود أطباء برفقة

ص: 227

المحمل المصري لعلاج المرضى لكن الوباء كان أكثر انتشاراً.

كما أشار البعض إلى أن من أسباب الأوبئة والأمراض أثناء الحج الحر الشديد ورياح السموم التي تؤدي إلى ضربة الشمس، وقد يتوفى على إثرها مجموعة من الحجاج، وقد حصل مثل ذلك في حج عام 1348 ه حيث قدم بها الحجاج الهنود. توفى منهم حوالي (250) مائتين وخمسين حاجاً، رغم أنه من فوائد الحر الشديد في مكة أنه يقتل الجراثيم المضرة والتي تنقل الأوبئة السارية.

والجدير بالذكر هنا، أنه تتخذ بعض التدابير الوقائية الصحية للتخفيف من الأمراض الوبائية التي تكثر في أشهر الحج، لذلك فإن الحاج المصري لابد أن يتطعم (يحقن) ضد الكوليرا، والتيفوئيد، والجدري وهي من الأمراض المنتشرة آنذاك (1).

يقال: إن الذي يفسد الهواء في مكة أيام الحج كثرة الساكنين بها من الحجاج، وقلة النظافة، وهذا يؤدي إلى ظهور الأوبئة والأمراض مثل أمراض الصدر، والاحتقانات الدماغية، وأمراض الكبد والجهاز الهضمي والدوسنتاريا وخصوصاً بين الأطفال، كما يكثر مرض الجدري ويموت بسببه خلق كثير من الحجاج.

كما أن الكوليرا قد ظهرت في مكة سنة 1246 ه أما باقي الأمراض فلم يأت لها ذكر في أغلب كتب الرحلات لكنهم أشاروا إلى بعض الشكاوي المرضية التي يشتكي منها الحجاج مثل الصداع والإمساك والبرد والانفلونزا، وأمراض الأسنان والعيون وبعض الكسور نتيجة السقوط أو الصعود (2)، والتي يوليها الأطباء في الحجاز والمصاحبين لوفود الحج كثير الاهتمام والعناية تشخيصاً وتطبيباً.

العربان واللصوص والتسول:

ولعل من أهم المشاكل والمصاعب


1- الإمام محمد رشيد رضا: 103؛ محي الدين رضا: 111.
2- محمد لبيب البتنوني: 63- 64.

ص: 228

التي يلاقيها الحجاج في الحجاز وأثناء أداء الحج أو السفر نحو المدينة، أو العودة منها، ما يصفه الرحالة الحجاج في كتبهم من تسلط العربان/ رجال البادية على قوافل الحجيج ونهبها، وتعرض اللصوص لأخذ الرسوم المالية أو السرقة، ووجود الفقراء والمعوزين على طول الطريق للتسول وطلب الأرزاق، فهذا إبراهيم رفعت باشا يشير إلى واحدة من أهم الأحداث والمشكلات وقعت له وهو يقود المحمل المصري ويشرف على تحركاته في الحجاز، وهي تعرض قبائل «الرحلة» و «الردادة» و «الأحامدة» لركب المحمل أثناء عودته من المدينة ومطالبتهم بمبلغ «160» ريالًا رسوماً للمرور في بلادهم. وبعد مفاوضات دفع المحمل المصري هذا المبلغ المطلوب، وبعد قليل من المسير في تلك الديار باغتهم آخرون بوابل من الرصاص وطالبوا المحمل المصري بالمزيد من الريالات واتضح أنها قبيلة أخرى، وهكذا كان اللصوص من العربان يتخفون في الطرقات ليسلبوا أموال الحجاج بحجة الرسوم للمرور في ديارهم، وقد أدى ذلك إلى عودة المحمل إلى المدينة المنورة.

كما يشير رفعت باشا أنه في السابع عشر من شهر ذي القعدة 1321 ه وقبل الوصول إلى مكة سطا العربان على قافلة في بحرة وقتلوا من رجالها ونسائها، وجرح الكثير، وسلبوا المتاع من حجاج مصر والسودان.

وفي مكان آخر، يشير رفعت باشا أن بعض العربان حاولوا في مكة أن يسرقوا بعض أمتعة المعسكر الذي أقام فيه المحمل المصري، ولكن اللصوص لم يتمكنوا من تحقيق آمالهم.

وللتأكيد على ذلك يورد بياناً بأسماء الحجاج المصريين المعتدى عليهم في 17 ذي القعدة 1321 ه (1).

ويصف أحد كتاب الرحلات


1- إبراهيم رفعت باشا: 70- 74، 78- 81، 210- 211.

ص: 229

هذه المشاكل التي يعانيها الحجاج أثناء موسم الحج بقوله: إن الحجاج في المحمل التركي يتعرضون لفتك العربان ونهبهم وسلبهم في أيام الحج مما يجعل الفوضى والاضطراب تسود الحجاج.

وكان أشبه بنار موقدة، ولذلك فإن الحاج يودع أهله ويوصيهم، لاعتقاده أنه لن يعود إلى أهله ودياره سالماً فهو إذا نجا من العربان لم يثق أنه سينجو من طغيان الوباء والأمراض.

كان ذلك على عهد الأشراف، أما العهد السعودي فإن الأمن وارف وتم القضاء على اللصوص والعربان الذين يقطعون الطريق. ورغم ذلك فإن الفقر والبؤس والتسول أمور لا بد منها في الحجاز في الطريق بين مكة والمدينة، ولكن هؤلاء لم يلجاؤا إلى السرقة واللصوصية؛ لأنهم خافوا من أحكام الشرع التي طبقها ابن سعود في الحجاز، وعلى كل من تسول له نفسه العبث بالأمن (1).

كما أشار إلى هذه المشكلة الحاج الإمام محمد رشيدرضا الذي نقل لنا صورة معبرة عن الحجاج الأفارقة «الدكرور»، وأنهم يسيرون بأقدامهم أثناء السفر من جدة إلى مكة ولا يخشون لصوصاً ولا قطاع طرق، لأنهم لا يحملون شيئاً يسرق أو يخشون عليه. كما يشير إلى العربان وكثرتهم وقدرتهم على السرقة، ولما جاء الحكم السعودي استبدلوا ذلك بالتسول.

ولكنه أشار إلى أن هذا العام- يعني السنة التي حج فيها عام 1334 ه 1916 م- كان الطريق إلى مكة آمناً مطمئناً ولم يحدث به اعتداءات وأن مخافر الشرطة على طول الطريق حفاظاً على الأمن. ويثني على قبائل هذيل وأبنائها الذين لا يعتدون على الحجاج ولا يسرقون وإن ماتوا جوعاً، أما عرب الشمال فهم اللصوص وقطاع الطرق (2).

ولم يكن هذا العنت والتعب من


1- محي الدين رضا: 12- 18؛ وأنظر المازني: 50- 51؛ ومحمد صادق باشا: 115- 116.
2- الإمام محمد رشيد رضا: 122- 124، 206.

ص: 230

العربان واللصوص يلاقيه فقط الحجاج المصريون أو الشاميون، وإنما عانى منه- كذلك- حجاج اليمن، وهذا جغمان يحدثنا عن معاناته مع العربان وقطاع الطرق الذين أخذوهم وهم في صلاة الفجر بقرية مستورة على الطريق إلى المدينة (1)، وهكذا يتضح أن رحلة الحج في ذلك العهد محفوفة بالمخاطر، من العربان واللصوص، والمتسولين.

مشكلة الماء في الحجاز

ومن المشكلات والمصاعب التي يعانيها الحجاج أثناء تأدية هذه الشعيرة المقدسة قلة الماء وغلاء سعره، وكونه مثلّجاً بارداً أو قذراً ومتسخاً، وعذوبته أو ملوحته، وكيفية جلبه والتزود به طوال طريق الحج سواء المصري أو الشامي أو اليمني.

وفي هذا الصدد أشار أحد الرحالة/ الحجاج الذين دونوا رحلات حجهم أن المياه في مكة نوعين:

1- نوع صالح للشرب نوعاً ما يمكن الوصول إليه من خلال حفر الآبار، والعيون، والمخزون في الوهاد والحفر وصهاريج المنازل. وهذا النوع رخيص الثمن، ويشير هنا إلى أن بئر زمزم تدخل في هذا النوع من المياه.

2- والنوع الآخر الماء العذب، وهو مستخرج من البحر بواسطة التبخير (الكنداسة)، وثمن الصفيحة في موسم الحج قرشين سعوديين، أو الماء المستخرج من العيون البعيدة، وهنا يذكر- مثالًا على هذا النوع من الماء- فيقول: إنها عين زبيدة التي وصفها بأنها تسير في قنوات تسقي مكة، ولكنه يذكّر بغلاء قيمة وأسعار المياه في جدة ومكة، وهذا ما كانت تسعى للحد منه حكومة الشريف آنذاك ثم الحكومة السعودية فيما بعد.

كما يشير هذا الحاج/ الرحالة/ المؤرخ لرحلته أن هناك نوعاً جديداً من المواقع التي تكثر فيها المياه


1- عبداللَّه الحبشي: الرحالة اليمنيون: رحلةجغمان: 178.

ص: 231

ويستفيد منها الحجاج وهي «البازانات» وهي: خزانات يتجمع فيها الماء قبل موسم الحج بفترة طويلة، وأهم هذه البازانات- كما يقول- بازان أم عباس الذي بناه الملك فؤاد الأول، وكان مبرة لجميع الحجاج وخاصة الحجاج المصريين.

ورغم ذلك، فإن الماء قد ينقطع ويقل، ولذلك كانت من أهم المشاكل أن يزيد سعر الماء فيضطر الحاج أن يشتريه تحت ضغط الاحتياج الضروري، وقد يكون الحمالون هم المسؤولون عن رفع أسعاره أثناء موسم الحج لاسيما إذا كانت خيمة الحاج بعيدة (1).

وفي هذا السياق، يذكر إبراهيم باشا عين زبيدة، ودورها في التخفيف من حدة مشكلة المياه في الحجاز وفي مكة خاصة، ويعتبرها المصدر الأول للمياه حيث تسير في قنوات من مصدرها إلى عرفة وبقية المشاعر وحتى مكة، ومن هذه القنوات يستقي الحاج ويشرب الأهالي ويملؤون منها الصهاريج.

ويشير كذلك إلى أن هذه المياه لا تكفي للحجيج نساءاً ورجالًا وأطفالًا، ولا حتى لوسائل نقلهم من الدواب والحيوانات التي تحتاج إلى الماء، فيكثر الزحام وتتسخ المياه حتى لا تعد صالحة لاستخدام الآدمي من شرب وغيره.

وبعض الحجاج يتوضأ من هذه الأحواض والمجاري المائية، بل ويغتسلون، ويغسلون ملابسهم مما يسبب الأوبئة والأمراض الخطيرة في الحج.

ولعل أهم إشارة هنا أنه لا يوجد بيوت للخلاء يقضي فيها الحجاج حاجاتهم، فيلجأون إلى الأماكن الفارغة خارج الخيام والبيوت ويعملون ما يسهل اللَّه به، فتكثر الروائح الكريهة وتتصاعد حتى تزكم الأنوف وتفسد المياه المجاورة.


1- عباس متولي حمادة: 28- 29، 33- 77.

ص: 232

وقلة الماء في مكة والمشاعر المقدسة يقابلها ندرة وقلة متناهية في ينبع، وذلك لعدم نزول الأمطار، ولهذا يزيد سعر القربة من خمسة قروش حتى ستة، وذلك لأن الحمالين يحملون الماء على متون الإبل من مسيرة عشرة ساعات ذهاباً وإياباً (1).

ومن المشكلات التي تواجه الحاج في هذا المجال المائي، أن الآبار تجف ويقل ماؤها، بل وتنشف ويروح ضحية ذلك كثير من الحجاج ظمأ، ثم موت ووفاة. ولذلك عندما جاء الحكم السعودي تنبه لقيمة وجود الماء في المشاعر المقدسة وعلى طول طريق الحج فحفر الآبار الارتوازية، واستخدم الآلات الحديثة لاستخراج الماء من جوف الأرض، فزاد سبيل الماء فى مكة والمشاعر المقدسة. كما أسست الحكومة السعودية معامل حديثة لإنتاج الثلج الذي يبرد على الحجاج أثناء موسم الحج الحار الذي يزعجهم (2).

وبذلك نتيقن أن الماء من ضروريات الحاج التي يسعى لتوفيرها وتنوع مصادرها والأخذ منها على قدر حاجته، لا سيما إذا كان من بلاد تكثر فيها المياه، ومتدفقة من الأنهار وتحلية البحار والآبار وغيرها.

وهكذا يتضح من هذا المحور أن الحجاج يعيشون أياماً صعبة منذ أن


1- إبراهيم رفعت باشا: 208- 209، و 1: 2، و 2: 5، وأنظر محمد صادق باشا: 108.
2- شكيب أرسلان: 19- 20، وأنظر إبراهيم عبدالقادر المازني، رحلة الحجاز: 40.

ص: 233

يقرروا سفرهم لأداء هذه الشعيرة المقدسة وحتى يعودوا إلى ديارهم، وذلك من خلال معاناتهم عبر الطرق التي يعبرونها سواء من بلادهم إلى الحجاز أو من جدة إلى مكة والمشاعر المقدسة والمدينة المنورة.

كما وقفنا على أهم الصعاب والمشكلات التي يعانيها الحجاج وتواجههم أثناء تأدية فريضة الحج ومنها الأمراض والأوبئة، وقطاع الطرق واللصوص من العربان (بدو الحجاز) والمتسولين على الطرق الداخلية بين مكة المكرمة والمدينة المنورة. ومنها كذلك مشكلة الماء العذب الذي ينقص ويقل لدرجة تزعج كثيراً من الحجاج. وهذا فضلًا عن بعض المشكلات المتعلقة بالسفن والبواخر التي تنقل الحجاج أو المطوفين الذين لا يأبهون بمتطلبات الحاج الروحية والنفسية وغير ذلك.

وبهذا نكون قد ناقشنا أهم وأبرز المصاعب والمشكلات التي واجهت أصحاب الرحلات التي درسناها.

المحورالثالث:

الواقع المعيشي لمناطق الحج

جدة- مكة- المدينة

تعرّض كثير من كتاب الرحلات الذين تداخلنا مع كتبهم- دراسةً وتحليلًا- إلى وصف الأحوال الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية، والثقافية والأمنية والطبية التي شاهدوا ووقفوا عليها في منطقة الحجاز، وخاصة مناطق الحج فيها، مكة والمدينة وجدة. وبينوا لنا كثيراً من الصور التي تعطينا معرفة عن الواقع المعيشي في هذه الأماكن وتجعل القاري ء أكثر إحاطة وإلماماً بالفترة الزمنية التي تمت فيها رحلة الحج، وما صادفه الحاج/ الرحالة من وقائع وملابسات، وما قدّمه من ملاحظات واقتراحات.

وفيما يلي يتمحور حديثنا عن تلك الأحوال والمظاهر في أبعادها المتعددة.

ص: 234

أولًا: أبرز المظاهر الاجتماعية/ البعد الاجتماعي:

للوهلة الأولى يبدو تعمق الرحالة/ الحجاج في النسيج الاجتماعي لمناطق الحج، ويبدو ذلك جلياً من خلال رصدهم الموثق للأحوال الاجتماعية التي عايشوها أثناء رحلة الحج المباركة.

ولعل أبرز المظاهر الاجتماعية التي وقفوا عليها ما يلي:

1/ 1 مايتعلق بالسكان من مواطنين وحجاج:

تشير بعض كتب الرحلات إلى أن السكان في مناطق الحج- جدة- مكة والمدينة- خليط من أجناس مختلفة، فيهم المواطن الأصلي الحجازى الصميم، ويطلق عليه المكي، الحجازي، وفيهم الأعراب من أهل البادية المحيطة بهذه المناطق، وفيهم الحضارم من جنوب الجزيرة العربية، وفيهم من أهل نجد، وفيهم العرب المصريون والشوام والمغاربة، وفيهم الترك والهنود والأفغان والجاوة (من أندونيسيا) والبخارية من بخارة (1).

وقد ذكر أحد الرحالة/ الحجاج في مذكراته أن أعداد السكان في مكة المكرمة عام 1907 م/ 1325 ه كما ورد في الإحصائيات العثمانية (150000) مائة وخمسون ألف نسمة موزعة على النحو التالي:

50000 (خمسون ألفاً) من أهالي مكة.

10000 (عشرة آلاف) سليمان وأفغان.

12000 (اثنا عشر ألفاً) من الهنود.

25000 (خمسة وعشرون ألفاً) من البدو، واليمن والحضارم.

5000 (خمسة آلاف) من بلاد الشام.

5000 (خمسة آلاف) من المغاربة.


1- إبراهيم رفعت باشا، مرآة الحرمين 1: 201، والحاج عبدالعزيز صبري بك: تذكار الحجاز: 205.

ص: 235

8000 (ثمانية آلاف) من الأتراك والمصريين وغيرهم.

15000 (خمسة عشر ألفاً) من جاوة (1).

ولعل السبب في هذا الخليط المركب من الأجناس المختلفة هو ما يفد من الحجاج إلى الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، ثم البقاء والاستيطان في هذه المناطق؛ طلباً للرزق أو مجاورة الحرمين الشريفين.

لقد أدى هذا التمازج بين الأجناس المختلفة إلى بروز قيم اجتماعية جديدة، أثرت على المسكن والملبس واللغة، بحيث أصبح كل ذلك صورةً مما يجده الإنسان في معظم البلاد العربية والإسلامية.

وما يزيد في هذا التمازج والاختلاط، الأعداد الكبيرة من الحجاج التي تفد في كل عام إلى مكة المكرمة، وقد بلغ عددهم في عام 1354 ه (100000 مائة ألف حاج) من أقطار العالم العربي والإسلامي، وفيهم قبائل همجية لا نظام لها، مطبوعة على الفوضى، ومتميزين بالقذارة في المظهر والملبس (2).

وتبعاً لذلك، تحددت أنواع المساكن والعمارة الملائمة لمنطقة الحجاز وأجوائها المناخية التي يغلب عليها الحرارة طوال أشهر العام، ولذلك نجد البيوت والعمارة الحجازية تمتاز بالعلو والارتفاع ما بين دورين إلى ثلاث أدوار، وتوزع الغرف والحجرات عليها، فيخصص الدور الأعلى لحجر الاستقبال، وفي الدور الأسفل غرف المائدة والمطبخ.

ولكل بيت بوابة تفتح وتغلق ولها باب صغير يسمى خوخه، وله كذلك فناء متوسط وسلم للصعود للأدوار العليا، وتتميز بأن درجاتها مرتفعة جداً وبعضها أعلى من بعض وأضيق وتشكل خطراً أثناء النزول، وقد يكون للبيت الواحد أكثر من سلّم، كما أن له نوافذ تسمى


1- أنظر محمد لبيب البتنوني، الرحلة الحجازية: 41- 42.
2- عباس متولي حمادة، مشاهداتي في الحجاز: 60.

ص: 236

بالمشربيات، وفي الجملة فإن المساكن في الحجاز صغيرة وجميلة طرازها شرقي عتيق مؤثث بالأثاث الفاخر والذوق السليم (1).

2/ 1 ما يتعلق بالعادات والأخلاق والتقاليد

تتحدث الكتب التي بين أيدينا بشي ء من التفصيل عن العادات والتقاليد الحجازية، وأخلاق الأهالي، فيذكرون من ذلك الكرم، فالحجازيون كرام يبذلون فوق مقدورهم، وكان كبار الشخصيات الحجازية أمثال محمد نصيف وإمام الحرم الشيخ أبو السمح يستقبلون الضيوف على موائدهم العامرة طوال أيام الحج، وكان أهل المدينة المنورة أهل وداعة وكرم نفس وشجاعة أدبية ويمتازون بالعلم والتواضع والصبر والجلد، كما يتصفون بالهدوء والسكينة والرزانة وسمو النفس وحسن الطباع في غير تصنع أو ادعاء أو تظاهر، وإنما كل ذلك غريزة وصفات ثابتة، وليس هذا غريب لأنهم من السلالة الطاهرة من الأنصار والمهاجرة. كما يصف السكان في جدة بعادات الحلم والأناة لا يستفزون ولا يغضبون (2).

ومن العادات الحسنة لدى أهل الحجاز- وخصوصاً الأشراف منهم- إرسال الأبناء إلى البادية حول مدينة الطائف لتعليم الفروسية والبداوة الحازمة، واللغة الفصيحة. كما يتصفون بالتدين الشديد حيث تتضح مظاهره من كثرة ازدحام المصلين في مساجد جدة، وكذلك إقامة شرع اللَّه (3).

ومع كل هذه العادات الحميدة،


1- عبداللَّه محمد الحبشي: الرحالة اليمنيون، رحلة جغمان: 42- 45، وإبراهيم عبدالقادر المازني، رحلة الحجاز: 42- 45، وعبداللَّه محمد الحبشي: الرحالة اليمنيون، رحلة يحيى بن المطهر، بلوغ المرام: 118.
2- أنظر محي الدين رضا، رحلتي إلى الحجاز: 108، وعباس متولي حمادة: 120، وإبراهيم رفعت باشا: 203.
3- أنظر عباس متولي حمادة: 27، ومحي الدين رضا: 114.

ص: 237

والصفات الخلقية المميزة، نجد لدى الحجازيين بعض العادات المستقبحة/ السيئة، كشرب التتن/ الدخان والشيشة، وربما تصل بهم إلى شرب المسكر من خمر وغيرها، وكذلك بعض العادات والسلوكيات المشينة كارتكاب الفواحش المخالفة للدين كالزنا واللواط والقتل والسرقة وقطع الطريق.

وهناك بعض العادات والأخلاق المرفوضة مثل التسول والذي لاحظه معظم الحجاج الرحالة/ في مكة وجدة وعلى طول الطريق إلى المدينة، حيث يشاهد المسافر جماعات كثيرة من الرجال والنساء والأطفال والشباب يقفون صفوفاً يتسولون الحجاج، وفيهم من الفاقة والمسكنة والعري ما يدفعهم لذلك، وهؤلاء من سلالة البدو الذين كانوا قبل ذلك يقطعون الطريق ويأخذون الرسوم من الحجاج فأصبحوا سائلين متسولين، ولكن في الفترات التاريخية التي حكم فيها ابن سعود قضى على هذه الظاهرة (1).

ولعل أغرب ما قيل في مسألة العادات والتقاليد، وما نقله الحاج اليمني يحيى ابن المطهر يصف فيه الشريف غالب عام 1211 ه بأنه يحمل الغليون ولا يخشى من استخدام التتن، وهو مجال متاح للأشراف ولغيرهم من الطبقات الاجتماعية والمجتمع الحجازي، كما يصف الشريف غالب بالظلم والجبروت والإسراع في إزهاق النفوس البريئة (2).

أضف إلى ذلك عادة الاستماع إلى الطرب والغناء، وقضاء الأوقات في اللعب والتسلية وخاصة أيام الحج، حيث يحيون أيام منى بالألعاب النارية التي أبهرت أحد الحجاج اليمنيين وأعجب بها، ووصفها وصفاً دقيقاً (3).


1- عباس متولي: 45، وإبراهيم عبدالقادر المازني: 45.
2- أنظر الرحالة اليمنيون، رحلة يحيى بن المطهر: 111.
3- المصدر نفسه: 113، وأنظر إبراهيم رفعت باشا: 204، وإبراهيم المازني: 26- 31.

ص: 238

ومن عاداتهم أيضاً، الأناقة في المأكل والمشرب، واللباس ذو الألوان الزاهية، وتقديم الشاي والقهوة للضيف في أي وقت، ومن عادات الشباب أيضاً تكحيل العين وتظفير شعر الرأس وشدة المراس على ركوب الخيل والفروسية، كما يوصف أهل الحجاز بأنهم شعب مترف، وخاصة على مستوى الشخصيات الكبيرة حيث نجد الماء المعدني وأشهى المأكولات ونظام الطبخ الراقي، وطريقة تنظيم الموائد على الأسلوب الغربي والشرقي، وتوفر الفواكه الطازجة ورخص أسعارها وأثمانها (1).

هذا على مستوى النصف الأول من المجتمع (الرجال)، أما النصف الآخر فهم النساء اللواتي وصفهن أحد الرحالة الحجاج بأنهن يتميزن على كل النساء في الأقطار الإسلامية، «متمسكة بدينها، صائنة لعفافها وشرفها، حافظة لأنوثتها، لم تنغمس في تيار المدنية الجارف الفاتك بالأعراض والمضيع للآداب، تلبس الثياب الفضفاضة الواسعة التي لا تحيط بأعضائها ولا يظهر تفاصيل جسمها، تغطي وجهها بغطاء كثيف له فتحتين أمام العينين وبعضها منسوج لإتاحة الرؤية الجيدة للمرأة، ولا يمكن للخادم الدخول عليهن وإنما يكلمهن من وراء حجاب».

وفي هذا السياق تذكر بعض الكتب التي بين أيدينا أن المرأة في الحجاز تشرب النارجيلة/ الشيشة، وتقصر في خدمة منزل زوجها، متكلات على الخدم، ويثقلن كواهل الأزواج بالطلبات الباهظة.

كما نجد في هذا السياق كثيراً من عادات الزواج والمآتم، واحتفالات المجتمع بحفظ أبنائهم للقرآن الكريم.

ولكن الجميل في الأمر أن أحد الكتاب أشار إلى أزمة الزواج في المجتمع الحجازي- وخاصّةً المكي- وأكد على أنه تابع المسألة فوجدها


1- محي الدين رضا: 17، وإبراهيم رفعت باشا: 204.

ص: 239

تشكل أزمة كبيرة خاصة لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ويعيد السبب في ذلك إلى المغالاة في المهور، وهذا لا يتفق مع الحالة المالية وما هم فيه من بؤس وشقاء وفاقة (1).

3/ 1 ما يتعلق باللغة:

أشرنا سابقاً أن من عادة الأشراف إرسال أبنائهم إلى البادية لاكتساب المهارات اللغوية الفصيحة، والتدريب على الرجولة والفروسية والشجاعة وغيرها. وما ذلك إلا لما صاحب المجتمع المكي من تخالط الأجناس والشعوب فضعفت على أثر ذلك اللغة الفصيحة وحل محلها كلام شعبي دارج لا هو بالفصحى ولا هو بالعربي، بل هو خليط من لغات أخرى غير العربية: فارسية وتركية وغيرها. فأصبحت اللغة في مكة ومناطق الحج الأخرى غير مفهومة، ألفاظ عربية غير فصيحة، لهجة حجازية دارجة. وهذه سلبية تحسب على أهل الحجاز، ومكة خاصة.

ولكن الميزة في هذا الوضع أن المكيين أصبحوا يعرفون مجموعة من اللغات غير العربية مثل الفارسية، والجاوية، والتركية والهندية، ولا يملك هذه الخاصية سوى المطوفين لاحتكاكهم المباشر مع هذه اللغة. أما أهل البادية فلغتهم العربية الفصحى لعدم اختلاطهم، ولهم لهجات خاصة بكل قبيلة يصعب على الحاج التواصل معها (2).

ثانياً: أبرز المظاهر الاقتصادية/ البعد الاقتصادي:

يعتبر الحج وأيامه التي قد تمتد إلى شهرين أو ثلاثة أشهر أحد المواسم الاقتصادية الحولية التي تمر بها منطقة الحجاز عامة، ومناطق الحج (جدة- مكة- المدينة) بشكل خاص.


1- عباس متولي: 27، 63- 64، وإبراهيم رفعت باشا: 205.
2- محمد لبيب البتنوني: الرحلة الحجازية: 42- 44، وعباس متولي حمادة: 48.

ص: 240

والذي ينتظره أهالي الحجاز كل عام يديرون فيه شؤونهم الاقتصادية ويكسبون من ورائه مالًا وفيراً، يكفيهم طوال عامهم حتى يأتي الموسم الجديد.

ولذلك يشير كثير من أصحاب الرحلات التي بين أيدينا إلى أن مكة تتحول إلى أسواق متكاملة ومتعددة أثناء موسم الحج، حيث يرد إليها الكثير من المنتجات الصناعية والتجارية والزراعية، مثل العطور والسبح والسجاجيد والمنسوجات الحريرية والقطنية. والخضروات والفواكه والصناعات الفضية والذهبية والأواني النحاسية والخردوات والتي يشتريها الحجاج كهدايا يعودون بها لأسرهم وأهاليهم.

أما القيمون (1)على التجارة في الحجاز في عهد الأشراف فقد كان الأغراب والأجانب وخاصة الهنود الذين سكنوها واستوطنوها. أما الأهالي فإنهم يكتفون بالتجارة من خلال الطوافة التي تدر عليهم دخلًا يسترزقون منه طوال العام. ولذلك فإن الحجازيين لا يستفيدون من العوائد المالية التي يجنيها التجار الأجانب (2).

وتعتمد التجارة الحجازية على أنواع متعددة من حدادة، وصناعة، وتداول العملات بيعاً وشراءاً، والطوافة وتأجير المنازل، وأخيراً تجارة الرقيق.

هذا في مكة المكرمة، أما الحالة الاقتصادية في المدينة المنورة فهي ليست بعيدة عما في مكة، فوارداتها خارجية من جاوه والشام والهند مثل الأقمشة القطنية والصوفية والحريرية والسبح والليف الأبيض والحناء والسجاد والبسط. لكن أهم تجارة في المدينة المنورة هي تجارة التمور، لكثرة النخيل والبساتين المنتجة له والتي يقال: إنها تنتج أكثر من سبعين صنفاً من التمور.

ولا تقوم الأسواق في المدينة


1- إبراهيم رفعت باشا: 206- 207.
2- عباس متولي: 48، ومحمد لبيب البتنوني: 60.

ص: 241

بشكل كبير إلا أيام الحج والموسم الرجبي حيث يجد الحاج والزائر جميع متطلباته ابتداء من الباب المصري إلى الحرم عبر شارع ضيق طوله حوالي 500 متر (1).

وعلى أية حال، فقد كانت الحالة الاقتصادية في الحجاز، وفي مناطق الحج خاصة تسير بشكل جديد، لأن ما يصرفه الحجاج فترة بقائهم في الحجاز- وفي مكة خصوصاً- يصل إلى مليون جنيه تقريباً خلال فترة وجيزة تقدر بشهر واحد، وذلك في أجرة المساكن والمطوفين والزمازمة وشراء بعض الهدايا، ولذلك فإن بعض سكان مكة ينظرون إلى الحاج وإلى فترة الحج أنها مصدر رزقهم ولا بد من الاستفادة منهم قدر الإمكان (2).

أضف إلى ذلك أن الأسعار رخيصة والأثمان زهيدة مما يتيح للحجاج أن يشتروا مايريدون ويتعاملوا اقتصادياً بكل ارتياح، والطعام متوفر وأسعاره جيدة.

ثالثاً: أبرز المظاهر السياسية/ البعد السياسي:

ومن خلال تحليلنا ودراستنا لكتب الرحلات الشرقية إلى الحج، لفت نظري أن أصحاب هذه الرحلات قد عايشوا ثلاث فترات سياسية في الحجاز وهي كما يلي:

الفترة العثمانية: وهي فترة الشرافة بمكة إلى ما قبل حكم الشريف حسين.

الفترة الهاشمية: فترة الشريف حسين بن علي.

الفترة السعودية: فترة الملك عبدالعزيز وبداية الحكم السعودي.

ومن خلال هذه الفترات السياسية ومجمل فعالياتها في الحجاز عامة وتجاه الحجاج ومناطق الحج خاصة، كانوا يكتبون ويشيرون إلى بعض القضايا والأحداث السياسية.

فمثلًا: محمد صادق باشا- وهو من أوائل الرحالة الحجاج المشارقة/


1- محمد البتنوني: 254.
2- المصدر نفسه: 62.

ص: 242

المصريين، والذي زار الحجاز أربع مرات بمهام مختلفة، فمرة مستكشفاً للطريق بين الوجه وينبع والمدينة المنورة، ومرة للعمرة، وثالث مرة حاجاً وأميناً للعدة. وأخيراً مسؤولًا عن تسليم صدقة القمح لأهالي مكة والمدينة، وكانت على النحو التالي:

الأولى عام 1277 ه/ 1860 م وألحق بها بعد عام واحد رحلة أخرى عام 1278 ه/ 1861 م، والثانية عام 1297 ه/ 1880 م، والثالثة عام 1302 ه/ 1884 م، والرابعة عام 1303 ه/ 1885 م، وفي كل هذه الرحلات نجد هذا الكاتب يصف منطقة الحجاز ويحددها سياسياً، بأنها ولاية تقع بين نجد وتهامة، ومساحتها، حوالي (1193517) كيلومتراً مربعاً. ومجموع سكانها ما بين (700000 و 800000) جميعهم من المسلمين التابعين للدولة العثمانية، وأن حدودها تمتد من عسير جنوباً إلى سوريا شمالًا، ومن البحر الأحمر غرباً إلى صحراء نجد شرقاً (1)«1».

ولقد دانت هذه المنطقة للدولة العثمانية عام 923 ه 1517 م. بعد دخول السلطان سليم الأول مصر وأطاعه شريف مكة ووالي الحجاز آنذاك، وأعلن خضوعه للحكم العثماني.

وبدأ الأمراء والحكام الأشراف يتناوبون على حكومة الحجاز ابتداء من أسرة أبوالبركات، ثم أسرة بنوزيد، ثم أخيراً في بني عون الذين ينتسب إليهم الشريف حسين بن علي حاكم الحجاز التابع للدولة العثمانية عام 1908 م/ 1326 ه، والمستقل عنها بعد عام 1916 م/ 1334 ه (2).

ومكة هي عاصمة الحجاز وفيها محل حكومة الشريف وتنقسم إلى قسمين: إداري، ومالي عسكري.


1- محمد صادق باشا: الرحلات الحجازية، إعداد وتحرير، محمد همام فكري ط 1، بدر للنشر والتوزيع، بيروت، 1999 م: 201، 331.
2- أنظر: نضال داود المومني: الشريف الحسين بن علي والخلافة، لجنة تاريخ الأردن، مطابع الصفدي، عمان، 1996 م: 15- 75، وأنظر: محمد لبيب البتنوني: 73- 81.

ص: 243

فأما الإداري ففي يد الشريف أمير مكة ويسمونه سيد الجميع، وأما المالي العسكري ففي يد الوالي الذي يكون تركياً/ عثمانياً. وعليه فالشريف يحكم في القضايا الهامة.

وأما إبراهيم رفعت باشا الذي زار الحجاز أربع مرات ما بين سنة 1318 ه/ 1901 م، وسنة 1325 ه/ 1908 م فيصف الأحوال السياسية في الحجاز بأن الحاكم آنذاك هو الشريف عون الرفيق الذي كان يجلس للحكم في دار الإمارة من الساعة الخامسة نهاراً قبيل العصر وتعرض عليه المسائل العامة، أما صباح الجمعة فإنه يستقبل الوالي وكبار الموظفين والأشراف وعلية المجتمع في مكة، وذلك في دار الإمارة أيضاً (1).

ورغم ما يبدو من قيام الشريف عون الرفيق بدوره في الحكم إلا أنه أخذ عليه الشدة والجبروت والظلم والطغيان، حتى كتب عنه الكتاب في الصحف مثل المقتطف والمؤيد والوطن، واشتكى منه حجاج جاوه والهند والمصريون والسودانيون، وكل هذا ناتج عن الواقع السياسي الذي تعيشه مناطق الحج في الحجاز نتيجة للسياسة التي يمارسها الشريف عون الرفيق.

ولعل هذه السياسة التي مارسها الشريف عون الرفيق هي التي تصلح


1- محمد لبيب البتنوني: 48- 49، وأنظر إبراهيم رفعت باشا 1: 204.

ص: 244

مع حال العربان الأشرار الذين لا ترغمهم إلا القوة ولا يعوقهم إلا البطش بهم، ولكن المطلوب هو أن يضم إلى القوة العدالة لكبح الأشرار عن شرورهم، وتأليف قلوب الناس والحجاج لحاكمهم وشريفهم (1).

والبارز في الحالة السياسية أيام حكم الأشراف قبل الشريف حسين ضعف الدولة وانعدام الأمن وتسلط العربان، وما يقابله الحجاج من مصاعب أثناء السفر من مكة إلى المدينة والخوف على أنفسهم وأموالهم.

وفي ظل هذه الظروف كانت هناك فترات ناصعة لحكم الأشراف أو الولاة العثمانيين، فهذا الرحالة جغمان يصف الوالي أحمد باشا والي الحجاز بأنه متواضع، يخرج للجلوس في المسعى من الصباح إلى الظهر، ويفصل بين الخصومات وينتقم من أهل الريب من العربان (2).

وكذلك ما رواه أحد الحجاج من أن الشريف غالب قبض على مجموعة من المتهمين بالسرقة أيام الحج فضبطهم بالحديد وعند وصوله مكة أمر بضرب أعناقهم، وصلبوا أمام داره يمر بهم الخاصة والعامة للعبرة والاتعاظ والإرهاب (3).

وتشير إحدى الرحلات الشرقية في عام 1904 م/ 1322 ه أنه حصلت فتنة في المدينة المنورة بين أحد وجهاء المدينة ومحافظها وصلت لدرجة التمرد والحرب، فأرسلت الحكومة العثمانية لجنة للتحقيق وقررت- بعد دراسة المشكلة- إدانة المتمردين ورئيسهم السيد عبدالقادر بين عبيداللَّه الكردي، وحكموا عليهم بالنفي إلى الطائف، وأما الرئيس فقد سافر مع المحمل الشامي إلى بيروت، وبعد سنتين أفرج عن المنفيين وعادوا إلى المدينة (4).

ولما وصل الحكم والشرافة في


1- إبراهيم رفعت باشا 1: 64، 79- 85.
2- عبداللَّه محمد الحبشي، الرحالة اليمنيون، رحلة جغمان: 166- 167.
3- المصدر نفسه، رحلة يحيى بن المطهر: 111.
4- إبراهيم رفعت باشا 12: 105- 106.

ص: 245

الحجاز إلى الشريف حسين بن علي وبويع أميراً لمكة عام 1327 ه بدأت الأحوال السياسية تتغير إلى الأفضل فبعد أن كانت أيام أسلافه فوضى واضطرابات ونهب وسلب وكان الحاج لا يأمن على نفسه وأمواله، تغيرت الأحوال فقام الأمير الحسين بن علي بالأمر خير قيام وبهمة لا تعرف الملل، وضرب على أيدي القبائل والعربان، وبدأ في تشكيل حكومته السياسية على الصورة المعاصرة والحديثة، فتحقق الأمن والسلام، وقضى على مشاكل العربان قطاع الطرق (1).

وفي 15 ذي الحجة 1334 ه نشرت جريدة القبلة خبراً عن تأسيس الحكومة العربية الجديدة التي تشكلت في 7 ذي الحجة 1334 ه بمرسوم شريفي يقضي بتأليف هيئة الوكلاء، ومجلس الشيوخ (2).وهذا دليل على استقرار الحكم الهاشمي والبداية الجادة لدولة عصرية لها نظامها الإداري والسياسي المعروف.

ولما جاءت الفترة السعودية لحكم الحجاز، وجدنا كثيراً من الكتاب/ الرحالة يناقشون هذه الفترة ويشيرون إليها وإلى الواقع السياسي، بل ويشيرون إلى إرهاصات الحكم السعودي في الحجاز قبل هذه الفترة، فمثلًا هناك إشارات عن آل سعود في نجد وعلاقتهم بالأشراف في الحجاز واستيلائهم على المدينة وتطبيق السلطة بشكل فعال، فهدموا القباب ومنعوا المحمل المصري، وموقف الدولة العثمانية التي أرسلت محمد علي باشا من مصر وانتصر عليهم، وأخذ قادتهم وأرسلهم إلى استانبول حيث تم إعدام بعضهم هناك (3).

وقد تهيأ لمنطقة الحجاز عامة ومناطق الحج خاصة في ظل العهد السعودي ما لم يتحقق لها في العهود السابقة من الرخاء والأمن والتنظيم


1- الحاج عبدالعزيز صبري بك: 83.
2- الإمام محمد رشيد رضا: 173- 175.
3- أنظر: محمد البتنوني: 87- 91.

ص: 246

السياسي والإداري. وكل الحجاج الذين زاروا الحجاز في هذه الفترة يذكرون ذلك، بل وأكثر منه.

فمثلًاهذا محي الدين رضا يصف الحالة السياسية في الحجاز عام 1353 ه ويقول:

إنه يتمتع بالأمن الوارف والصحة الجيدة والسلامة العامة، مما لا يحلم به أحد.

وفي موقع آخر يشير إلى تغير حال قطاع الطريق واللصوص من العربان الذين كانوا يتربصون بالحجاج في العهود السابقة وأصبحوا اليوم في- عهد أب عبد سعود- أقرب إلى الانضباط وعدم الاعتداء على الحجاج، فإذا سار الحاج وحده في تلك الصحاري بلا رفيق ولم يشأ أن يعطي أحداً من الأعراب المتسولين فلا يجرؤ أحدهم أن ينال من الحاج شيئاً ولا يمد يده بسوء، وهذا بفضل اللَّه الذي حول النفوس الشريرة إلى نوع من الخوف بعد تطبيق حكم الشريعة الإسلامية على المعتدي والسارق والعابث (1).

ويشير بعض الحجاج الرحالة إلى أن رجال الشرطة في العهد السعودي كانوا قليلي العدد على طوال الطريق من جدة إلى مكة، ورغم ذلك فإن الأمن مستتب والحمد للَّه ويعود السبب في ذلك إلى التنظيم الإداري الجديد في الحجاز، فقد نشرت جريدة أم القرى الرسمية في العشرين من صفر 1345 ه الموافق 30 أغسطس 1926 م قانون التعليمات الأساسية ونظام الحكم في الحجاز ومن أهم المواد في ذلك القانون ما يلي:

1- الدولة العربية الحجازية دولة ملكية شورية إسلامية، مستقلة في جميع الشؤون الداخلية والخارجية.

2- تنفيذ الأحكام وفق الشريعة الإسلامية وما عليه السلف الصالح.

3- تقسيم الحجاز إلى ثمان عشرة إمارة، ولكل إمارة أمير يحكم


1- محي الدين رضا، رحلتي إلى الحجاز: 12، 115.

ص: 247

بالنيابة عن الملك وهو مسؤول أمامه عن جميع شؤونها.

4- يتولى النيابة عن الملك في الحجاز وإدارة الأمور الأمير فيصل، الابن الثاني للملك عبدالعزيز.

5- يشكل بالحكومة الحجازية مجلس للشورى له مواد وقوانين وضعتها الجمعية العمومية في الحجاز.

6- تشكلت بالحجاز ثلاث من الوزارات وهي الداخلية والخارجية والمالية.

7- هناك إدارات تتبع كل وزارة.

وفي واقع الأمر فإن هذه التنظيمات مظاهر عصرية لدولة متقدمة، ولكنها شكلية فقط والمرجعية الأخيرة تعود لجلالة الملك الذي يعتبر صاحب السلطة في الدولة والمتصرف فيها وإليه راجع كل أمرها (1).

رابعاً: أبرز المظاهر الثقافية/ البعد الثقافي:

يتحدث مؤلفو الكتب التي بين أيدينا عن النواحي الثقافية في الحجاز ويسمونها بالتأخر والرجعية، وذلك بسبب تغلب الجهل والأمية على سكان الحجاز، فلا مدارس ولا تعليم نظامي، ولا وسائل للثقافة، وذلك في فترة الأشراف المبكرة قبل عهد الشريف حسين، مع أن الحجاز وبالذات مكة والمدينة من أوائل العواصم الإسلامية التي اهتمت بالتعليم والثقافة، لا سيما من خلال الدروس الدينية في الحرمين الشريفين.

ولعل الذي جعل الكتاب والمؤرخين يأخذون هذه الفكرة عن الحجاز وأهله هو ما شاهدوه من مظاهر التخلف والتراجع النهضوي والاجتماعي والسياسي.

ولكن مع بداية حكم الشريف حسين بن علي بدأ الرحالة الحجاج يتحدثون عن المدارس والتعليم والصحافة والأدباء والمعلمين


1- المصدر نفسه: 50- 51.

ص: 248

والمكتبات، وكل مظاهر الثقافة، ويركزون في ذلك على مكة ودور الحرم المكي الشريف في التأسيس لهذه الثقافة، ففيه كثير من حلقات العلم حيث يدرس فيها بعض العلوم العربية والتفسير على الطريقة القديمة، وأغلب الطلاب والمتعلمين في هذه الحلق من الجنس الجاوي ويشرف عليهم حوالي ثلاثين عاملًا ومعلماً.

أما المدينة النبوية فيصفها البتنوني عام 1327 ه بأنها تفتقر إلى المدارس الرسمية، بينما يوجد فيها حوالي سبعة عشر كتاباً لتعليم العلوم البسيطة، أما في الحرم فتقام حلقات التدريس ويدرس فيه الفقه والتفسير، وهنا- في المدينة المنورة- تبرز مدرسة القرآن والحديث والتي يعمل فيها الشيخ محمود شويل ويديرها الشيخ أحمد الدهلوي، وينفق عليها من التبرعات الشخصية التي يجود بها رجال المال والخير الهنود (1).

وفي هذا الإطار نجد مظهراً بارزاً من المظاهر الثقافية، وهو المكتبات العامة والخاصة، سواء في مكة أو المدينة أو جدة. وتسمى آنذاك «الكتبخانات»، ففي مكة مثلًا- حسب ما رصده البتنوني عام 1327 ه- مكتبتان: الأولى في باب أم هاني بجوارالحرم واسمها كتبخانة شرواني زادة محمد رشدي باشا، أحد ولاة الحجاز السابقين، والثانية في باب الدريبة قرب باب السلام واسمها كتبخانة السليمانية التي أسسها السلطان عبدالمجيد، ووفر لها الكتب من شتات الحرم ومما أرسل من العاصمة العثمانية. ولكل مكتبة مأمور يقوم بشؤونها، ولكل منها فهرس يخط باليد، والكتب فيها من معارف متنوعة نحوية وفقهية وتاريخية سواء باللغة العربية وهي الأعم الأغلب أو باقي اللغات مثل الفارسية والهندية والتركية والجاوية. وهنا يشير البتنوني أن هناك كتباً كثيرة كانت في


1- محمد لبيب البتنوني: 355، وأنظر: عبدالعزيز صبري: 126.

ص: 249

دواليب زجاجية بالحرم سُرق بعضها، وأتلف بعضها السيل الذي دخل الحرم (1).

وأما المدينة المنورة ففيها الكثير من الكتبخانات/ المكتبات التي ذكرها الرحالة/ الحجاج مثل المكتبة المحمودية التي أنشاها السلطان محمود بجوار باب السلام بالمسجد النبوي، وفيها أكثر من أربعة الآف كتاب بين مخطوط ومطبوع، ولها فهرس مطبوع بالعربية والتركية. والمكتبة المعروفة بكتبخانة شيخ الإسلام عارف حكمت القريبة من باب جبريل عليه السلام إلى جهة القبلة، وهي غاية في التنظيم والترتيب والتنسيق، وعدد كتبها لا يقل عن خمسة آلاف وأربعمائة وأربعة من الكتب بين مخطوط ومطبوع. أما مكتبة السلطان عبدالحميد الأول ففيها حوالي أربعة آلاف وخمسمائة وست وتسعين كتاباً، ومكتبة بشير آغا بجوار باب السلام التي يبلغ عدد مقتنياتها من الكتب حوالي ألفي كتاب (2).

ومن المظاهر الثقافية أيضاً المطابع والصحف أو الجرائد، حيث تشير المصادر التي بين أيدينا إلى أن الشريف حسين أقدم على إنشاء المطابع والجرائد لتكون وسيلة للنشر المعرفي والثقافي السياسي والاجتماعي، وكان من أول الجرائد في الحجاز جريدة «القبلة» والمطبعة الخاصة بها في مكة، وكان يرأسها الشيخ محمد الساسي، وكانت جريدة القبلة هي الجريدة الرسمية في الحجاز، كما تمّ إنشاء جريدة باسم الفلاح لكنها لم تستمر في الصدور، وهناك أيضاً مطبعة أخرى أشار إليها البتنوني بأنها مطبعة حكومية خاصة بالولاية العثمانية وتسمى باسمها ويصدر عنها جريدة بالتركية والعربية اسمها حجاز، وهي جريدة شبه رسمية وتنشر كل ما يتعلق بأخبار الحكومة وإعلاناتها (3).


1- محمد لبيب البتنوني: 58- 59.
2- إبراهيم رفعت باشا: 423، ومحمد لبيب البتنوني: 254.
3- الحاج عبدالعزيز صبري بك: 211، ومحمد لبيب البتنوني: 57- 59.

ص: 250

أما في المدينة النبوية فقد وجدت صحيفة تحمل نفس الاسم:

«المدينة المنورة»، تصدر باللغة العربية والتركية في أوقات محدودة، وليست بشكل دائم، فكلما كان الجناب العالي موجوداً في المدينة صدرت لمتابعة ونشر تحركاته اليومية، وناشرة كل ما كتب عنه من مدائح نظماً ونثراً (1).

أما في العهد السعودي، فقد تحسنت الأمور الثقافية واتضحت معالمها من خلال العديد من الوسائل والأساليب الثقافية التي شكلت ما يعرف بالمظاهر الدالة على ثقافة متنامية ومتجددة.

أمّا على المستوى التعليمي، فقد اهتمّت الحكومة بإنشاء المدارس على نفقتها، كما استمر إشرافها على المدارس التي كانت موجودة في الحجاز منذ العهد الهاشمي والعثماني مثل مدارس الفلاح، ومدرسة دار الحديث، ورتبت لها مرتبات وإعانات مالية من الإيرادات الجمركية، كما طورت الحكومة السعودية المناهج والمقررات فأدخلت اللغة الإنجليزية ليتعلم أبناؤها الحجازيون لغة عصرية جديدة يحتاجونها حتى يهيئون للبعثات العلمية التي اهتمت بها الحكومة السعودية، فأرسلت مجموعات من طلابها إلى مصر وإلى بعض الدول العربية، وبعض الدول الأوروبية (2).

أما المدينة المنورة فكان التعليم فيها أقل من مكة المكرمة فلا زالت المدارس فيها على عهد الكتاتيب الأولية، وتعنى بتحفيظ القرآن الكريم والحديث الشريف وخصصت لهذا مدارس القرآن والحديث، وكان يديرها الشيخ أحمد الدهلوي ويعمل فيها الشيخ محمود شويل.

المكتبات العامّة والخاصة تسمى آنذاك «الكتبخانات»- كتابخانه- مثل كتبخانة شرواني زاده في مكّة المكرّمة


1- المصدر نفسه: 255.
2- عباس متولي حمادة: 57- 58، وأنظر محي الدين رضا: 99.

ص: 251

أضف إلى ذلك سبعة عشر كتاباً يقوم بتعليم العلوم البسيطة في الوقت الذي كان الحرم النبوي يقوم بدوره التعليمي والتثقيفي كما كان سابقاً، وأكثر اهتماماته بالعلوم الدينية من فقه وتفسير (1).

والمدارس الحديثة التي أنشئت في العهد السعودي بالمدينة النبوية مدرسة العلوم الشرعية، وهي مدرسة ابتدائية تدرس أحكام الشريعة في الفصول العليا منها، وهناك المدارس الصناعية المهنية- ولعلها الأقدم- حيث تعلم الصناعات اليدوية كالجلود والنسيج والبسط والمفارش، ومدرسة الأيتام (2).

وفي جدة يشير أحد الرحالة/ الحجاج أنه زار مدرسة ابتدائية وكان ناظرها السيد عمر نصيف، وتجول فيها وزار فصولها ومعلميها، ووصف بناءها بأنه فخم وأورد أعداداً تقريبية لطلابها ومعلميها، فعدد المعلمين ثلاثة عشر معلماً، وعدد تلاميذ الصف التمهيدي مائة وثلاث وثمانون طالباً، وعدد الصف الأول ثمانية وعشرين طالباً، أما الصف الثاني فعشرون طالباً، والثالث ثمانية طلاب، والرابع ستة طلاب فقط.


1- محمد لبيب البتنوني: 355.
2- محمد بن حسن بن عقيل الشريف: المختار من الرحلات الحجازية، رحلة محمد حسين هيكل: في منزل الوحي: 1207- 1209.

ص: 252

كما أشار إلى أن المقررات والمناهج التي تدرس في هذه المدرسة مثل المقررات المصرية، ما عدا التاريخ والجغرافيا، فيدرس فيها ما يتناسب مع حالة البلاد السعودية (1).

والجدير بالذكر هنا أن التعليم في الحجاز كان مقتصراً على الذكور فقط ولم يكن تعليم البنات مهيئاً بشكل رسمي، وإنما كان تعليمهن بشكل خاص، والأسر التي تهتم بذلك ترسل بناتها إلى كتاب خاص بالبنات، فيه فقيهات معلمات يدرسن الطالبات القراءة فقط، ومن يرغب في الاستزادة من العلم يحضر لبناته معلمات خاصات في المنازل (2).

أما المكتبات في الحجاز فأهمها مكتبة السيد محمد نصيف في جدة والتي تحتوي على أنفس المطبوعات من دور نشر كثيرة ومتعددة من تركيا ومن المغرب ومن الهند ومن مصر.

وفيها مجموعات كبيرة من المخطوطات، ومجموعة من الصور للآثار العربية والإسلامية والأندلسية التي أهديت إليه من الثري الأمريكي المستر كرين المشهور بحب العرب والمسلمين.

وهناك مكتبة الحرم المكي بجوار البيت الحرام، وكان يشرف عليها الشيخ محمد سياد، ودواليبها من غير زجاج، وفيها حوالي عشرة آلاف كتاب في شتى فنون العلم والمعرفة من دين وآداب وتاريخ ونحو وغيرها.

ويكثر المترددون عليها في أيام الحج من الأدباء والمثقفين للقراءة والنسخ، والمشرف عليها موظف عجوز يقوم على خدمتها وتنظيمها، كما أن الشيخ محمد سياد أشرف على فهرستها وتصنيفها وتنظيمها بشكل يتيح للمستفيدين أن يصلوا إلى الكتاب الذي يريدون بيسر وسهولة (3).

أما المطابع والصحف والجرائد التي كانت في الحجاز إبان العهد السعودي، فلم يتحدث الرحالة/


1- محي الدين رضا: 30.
2- عباس متولي حمادة: 58.
3- محي الدين رضا: 30، 98.

ص: 253

الحجاج الذين تداخلنا مع كتبهم، إلا عن جريدتين تصدران بمكة المكرمة وهما: جريدة أم القرى التي تعتبر الصحيفة الناطقة بلسان الحكومة، ويطبع منها عدد واحد كل أسبوع، أي أنها صحيفة أسبوعية وتتكون من ورقتين من الحجم الصغير وبأعداد متواضعة، لأن الحجازيين لا يقرأون الجرائد كما يقول عباس متولي حمادة الذي زار الحجاز في حج عام 1354 ه، ولكنها تطبع حوالي ثلاثة آلاف نسخة في موسم الحج وتوزع على الحجاج من المشتركين، أما الجريدة الثانية فهي جريدة صوت الحجاز، والتي تصدر مرتين في الأسبوع، وهي جريدة أهلية لا تشرف عليها الحكومة بشكل رسمي.

ص: 254

ص: 255

المصادر التاريخية لجزيرة العرب في النصوص الجغرافية الإيرانية القديمة

المقدمة:

رسول جعفريان

حبّ الحجاز كان منذ التاريخ الإسلامي حافزاً للمسلمين بجميع طوائفهم وأعراقهم على ترسيم صورة جغرافية لها في أذهانهم، وصار هذا فيما بعد مصباً لمحاولات شتى للتعرف على جغرافية هذه الديار من قبل علماء وباحثين في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي.

ولم يتخلف الإيرانيون، وبشكل أشمل الناطقون باللغة الفارسية، عن هذا الركب- حيث كانت ولا تزال لغتهم تمثل اللغة الثانية في العالم الإسلامي بعد اللغة العربية فقد كانت لديهم محاولات في مجالات أدب وتاريخ الحرمين والبلاد التي كانوا يسمونها آنذاك بديار العرب.

والمحفز الوحيد لهذه المحاولات كان العلاقة الدينية والعاطفية مع الحرمين الشريفين، ولهذا كانت كتاباتهم جميعاً في هذا الإطار، أي في الأجواء الدينية والعاطفية للحرمين الشريفين، وهذا الجو أوجد فيهم دافع التعرف على ديار العرب لتمهيد الأرضية لمعرفة الحجاز بنحو خاص في النصوص الجغرافية والتاريخية لدى الإيرانيين.

ص: 256

ولا بد هنا من الإشارة إلى امور ثلاثة:

الأوّل: إن المصنفات الجغرافية في العالم الإسلامي دوّنت تارة على أيدي الإيرانيين، واخرى على أيدي الساكنين في المنطقة المركزية العربية، وثالثة بيد مؤلفي المغرب الإسلامي.

فمثلًا أبوزيد البلخي (الذي ولد حدود 235 ه وكان حياً إلى حوالي 308 ه)، وأبو إسحاق الفارسي الإصطخري (الذي ألف كتاب المسالك والممالك حوالي 318- 321 ه)، وأبو عبداللَّه الجيهاني، والمؤلف المجهول لكتاب حدود العالم (والذي يحتمل أنه كان من أهالي جوزجان، وألفه حوالي 372 ه) كانوا إيرانيين.

وأمثال ابن واضح اليعقوبي (مؤلف كتاب البلدان)، وابن حوقل (مؤلف صورة الأرض الذي كتبه في أواسط القرن الرابع)، والمسعودي وقدامة بن جعفر كانوا من المنطقة المركزية العربية، أما المقدسي صاحب الكتاب القيّم «أحسن التقاسيم» فقد كان من المغرب الإسلامي.

إذن، كان تطور علم الجغرافية الإسلامي نتاج جمع من الباحثين في أنحاء العالم الإسلامي من الشرق حتى الغرب.

الثاني: إن الآثار الكلاسيكية تبدأ من كتابات البلخي والإصطخري وتنتهي عند الكتاب الثمين (أحسن التقاسيم) للمقدسي الذي هو نتاج عهد طويل من الكتابات الجغرافية، ثم وجدت بعد ذلك صور اخرى لعلم الجغرافيا، لا يمكن عدها من الآثار الكلاسيكية له، ويمكن احتساب التواريخ المحلية- التي يحتوي قسم كبير منها على معلومات جغرافية- ككتاب تاريخ جرجان، وأخبار إصبهان، والتدوين في أخبار قزوين، وغيرها في هذا المضمار، وهكذا الرحلات.

وجدير بالذكر أن علم الجغرافيا نشأ من علم المنازل لسير الطرق (البريد أو الحج)، ثم استقل شيئاً فشيئاً.

الثالث: كانت كثير من المصادر الجغرافية القديمة- في التمدن الإسلامي- من

ص: 257

تأليف الإيرانيين، حيث كانوا يؤلفونها بالعربية أو الفارسية، حتى أن بعضها كان بالعربية ثمّ ترجم إلى الفارسية في تلك الأيام، هذا الامتزاج كان إلى حد بحيث لا يزال غير واضح من الناحية التاريخية هل كان تأليف كتاب المسالك والممالك للإصطخري مثلًا باللغة العربية ثم ترجم إلى الفارسية أو أن الأمر على العكس من ذلك؟ (1) ونضيف: إن تدوين بعض النصوص العربية المتعلقة بالحجاز أو بجزيرة العرب تم في إيران، فقد تمت المحافظة على النسخ المهمة لهذه الحقبة التاريخية في مكتبات إيران لقرون عديدة، فعلى سبيل المثال كانت النسخة الوحيدة لكتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة المنسوب إلى الإمام أبي القاسم الحربي من علماء القرن الثالث الهجري موجودة في مكتبة مشهد الرضوية، وقد طبع هذا الكتاب علامة جزيرة العرب الاستاذ حمد الجاسر سنة 1969 م/ 1389 ه، ويعد هذا الكتاب من أعظم الآثار الجغرافية حول جزيرة العرب وطرق الحج.

وأخيراً طبع الكتاب من جديد مع مقدمة عبداللَّه بن ناصر الوهيبي في إنكار نسبة الكتاب إلى الحربي، وذكر أن اسمه كتاب الطريق للقاضي وكيع محمد بن خلق ابن حيان.

وجدير بالذكر أنّ أباالقاسم الحربي كان منسوباً في الأصل إلى مرو الروذ من بلاد خراسان، حيث هاجر عدد منهم إلى بغداد، فسكنوا في محلة الحربية (باب الحرب)، فكان من ضمنهم هذا العالم الجليل، ولهذا السبب اشتهر بالحربي.

وقد أورد في هذا الكتاب قصيدة، يذكر فيها لكل منزل من المنازل الواقعة في مسير الحج من البصرة إلى مكة مخمساً (2).


1- تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب، كراتشكوفسكي، ترجمة صلاح الدين عثمان بن هاشم، دارالغرب الإسلامي، بيروت 1987/ 1408: 216.
2- كتاب المناسك، ص 545- 561.

ص: 258

هذه القصيدة من أقدم الآثار التي تعطي صورة واضحة لطريق الحج من عراق العجم إلى مكة المكرمة، وهذا الطريق كان عامراً لقرون عديدة، وكان حجاج عراق العرب والعجم يسلكونه للتشرف بالحج، وقد أتبع قصيدته هذه بقصيدةٍ اخرى في وصف المنازل الموجودة بين البصرة ومكة.

محورية مكة في النصوص الجغرافية الكلاسيكية

يقوم كلّ ما دوّن بالعربية في المصادر الجغرافية الفارسية القديمة حول الحجاز، وخاصة الحرمين الشريفين، على أساس النظرية القائلة: إنّ مركز الأرض هو الكعبة المعظمة، وهذا الاعتقاد بالمركزية كان معتمداً على معطيات دينية قبل أن تكون جغرافية، كما ورد في بعض الروايات أخبار حول يوم دحو الأرض (25 ذي القعدة الحرام) بوصفه يوم بسط الأرض من تحت الكعبة.

كانت كثير من المصادر الجغرافية القديمة- في التمدن الإسلامي- من تأليف الإيرانيين، حيث كانوا يؤلفونها بالعربية أو الفارسية...

فعلى سبيل المثال، المسالك والممالك لأبي إسحاق إبراهيم الإصطخري- من مدن فارس- (الذي له نصوص عربية وفارسية قديمة من القرون الهجرية الأولى) يبدأ بحثه ب (ديار العرب). وقد جاء في وصف ديار العرب ما ترجمته:

«تبركاً وتيمناً نبتدى ء بديار العرب وأطرافها لأن القبلة بها وهي أم القرى، وبذلك الموضع لا يسكن غير العرب، والأرض خاص بهم، ولا يشاركهم فيها أحد» (1).


1- المسالك والممالك، ترجمة محمد بن أسعد بن عبداللَّه التستري، إعداد إيرج أفشار، طهران، 1414 ه.

ص: 259

ويليه وصف جزيرة العرب وأماكنها، ثم يستعرض شرحاً دقيقاً لمكة وأماكنها التاريخية، ثم يتناول المدينة المنورة ويعطي توضيحات وافية وشافية عنها.

وقد جاءت هذه العبارات بتفاوت يسير في أشكال العالم لأبي القاسم بن أحمد الجيهاني (1).

إن أقدم الآثار الجغرافية المدوّنة في العالم الإسلامي- مع التأكيد على علم المنازل والمراحل- هو المسالك والممالك لأبي القاسم عبيداللَّه بن عبداللَّه بن خردادبه (المتوفى 272 أو 300 ه). وهذا العالم الإيراني- كما ينكشف من اسم جده- من أسرة مجوسيّة، وقد التحق جده بالدين الإسلامي، وصار مسلماً.

والحديث عن الحجاز يأتي في سياق الكلام عن طريق البصرة إلى الحجاز، حيث كان الحجاج يستفيدون منه، فيستعرض المنازل والمراحل المختلفة بين مدن الحجاز، ويقدم توضيحات مفصّلة حول الطرق التي كان يستفيد منها الحجاج للتنقل بين أكناف مكة والمدينة (2).

ومن الأمور التي ذكرها ما أفاده في مسير هجرة الرسول صلى الله عليه و آله (3).

ومن الامور التي تدلّ على عمق الحبّ والعلاقة الدينية الوافرة بهذه الديار المقدّسة، الاهتمام بتبيين مسير الهجرة النبوية.

وهكذا إعطاء توضيح حول حدود الحرم.

ويشاهد هذا التوجه أيضاً في كتاب صورة الأرض لابن حوقل، الذي كان مؤلفاً عربياً، ويبدو أنّه كان من أهل النصيبيين، وقد أهدى كتابه إلى سيف الدولة


1- أشكال العالم، إعداد: فيروز المنصوري، طهران، به نشر، 1408.
2- المسالك والممالك، طبعة ليدن وأفسيت مكتبة المثنى ببغداد: 130- 134.
3- المسالك والممالك، ابن خردادبه: 129- 130. وكذلك انظر: الخراج لقدامة بن جعفر المطبوع مع المسالك والممالك: 187- 192؛ فإن قدامة بن جعفر يشرع أولًا في هذا الكتاب- نظراً لأهمية مكة- وقبل أن يذكر الطرق- بالحديث عن طرق مكة والمدن الأخرى، ثم يبدأ البحث عن بغداد، وبهذا الترتيب يصرّح بأهميّة هذا الأمر. ويقول قدامة بن جعفر ص 193: وإذ قد ذكرنا الطريق إلى مكة من كلّ جهة، وأتبعنا ذلك بالطريق إلى أكناف الجنوب مثل اليمن، وما يتصل بها من اليمامة وعمار البحرين... فلنتبع ذلك بالطريق إلى ما ينحرف إليه تلك الجهات من نواحي المشرق... ولنبدأ بمدينة السلام.

ص: 260

الحمداني (356 ه). فقد بدأ كتابه بديار العرب، ويستدل على ذلك: «لأنّ القبلة بها ومكة فيها، وهي امّ القرى، وبلد العرب وأوطانهم التي لم يشركهم في سكناهم غيرهم» (1).

ويقول ابن حوقل في مقدمة كتابه:

«وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً، وصُقعاً صقعاً، وكورة كورة، لكل عمل، وبدأت بذكر ديار العرب، فجعلتها إقليماً واحداً، لأنّ الكعبة فيها، ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي» (2).

وعبارته الأخيرة: (وهي واسطة هذه الاقاليم عندي) تكشف عن رؤية دينية حاكمة على فكره الجغرافي.

فإنه بعد أن بدأ كتابه بالبحث عن ديار العرب يؤكّد ثانية: «وأنا مبتدئ من ديار العرب بذكر مكة» (3).

وهكذا المؤلف المجهول لكتاب حدود العالم، الذي ألّف كتابه بالفارسية في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، فقد خصّص فصلًا في وسط الكتاب لديار العرب.

يقول عن مكة:

«مكة، مدينة كبيرة وعامرة، ونفوسها كبيرة وعلى سفح الجبل وتحوطها الجبال، وهي من أشرف المدن، لأنّ بها مولد النبي صلى الله عليه و آله والكعبة» (4).

وكذلك الحال مع مؤلف كتاب مجمل التواريخ والقصص، والذي ألفه حوالي سنة 520 ه، فقد بدأ- بعد أن عدّ جزيرة العرب من الإقليم الثاني بعد مشاركة الأقاليم السبعة- بدأ البحث عن مكة، وقال:


1- صورة الأرض، ليدن، 1938: 18.
2- المصدر نفسه: 5- 6.
3- المصدر نفسه: 28.
4- حدود العالم، تحقيق منوچهر ستوده، طهران، 1340: 165.

ص: 261

«كانت مكة أوّل بناء في العالم، وهي من أعظم المدن وأعلاها رتبة، ولا يكون فيها الطاعون، وأكثر العجائب في الإسلام في البيت المقدس».

ثم تحت عنوان: (بيت اللَّه الكعبة) يعطي شرحاً عن مكة المكرمة وأساميها، والكعبة، وتاريخ المسجد الحرام، ويتبعها برسم صورة عنه، ثم يعطي شرحاً عن المدينة المنورة، ويتناول بعد ذلك البيت المقدس (1).

أبو سعد الخرگوشي ومدينتي مكة والمدينة في القرن الخامس

كتاب شرف النبي أو شرف المصطفى صلى الله عليه و آله لأبي سعد الخرگوشي المتوفى 406 ه، والمنسوب إلى محلة خرگوش بمدينة نيشابور، كان من علماء السنّة الكبار بخراسان في القرن الرابع، وهذا الكتاب باللغة العربية، وقد طبع في الآونة الأخيرة مع تعليقات كثيرة في ستة مجلدات (2).

وقد ترجم هذا الكتاب إلى الفارسية نجم الدين محمود الراوندي في القرن السادس الهجري، لكنه يحتوي- وعلى الرغم من أنه كتاب سيرة نبوية ومؤلّف على طريقة كتب دلائل النبوة- يحتوي شرحاً دقيقاً عن مكة، والمسجد الحرام، والكعبة، وأماكن مقدسة أخرى.

وقد طبع هذا الكتاب مؤخراً تحت عنوان: «مناحل الشفاء ومناهل الصفاء بتحقيق كتاب شرف المصطفى صلى الله عليه و آله» مع تصحيحات وتعليقات وافرة للسيد أبي عاصم نبيل هاشم الغمري آل باعلوي، في ستة مجلدات، نشرتها دار البشائر عام 1424 ه، وما يتعلق بمكة والمدينة يقع في المجلد الثاني، ص 199- 483.

وقد جاء ما يتعلّق بمكة والمدينة في الترجمة الفارسية القديمة لهذا الكتاب من باب 35 (ذكر فضيلة مكة) ص 369 إلى باب 50 (وصول النبي إلى مسجد قبا)


1- مجمل التواريخ والقصص، تصحيح سيف الدين نجم آبادي، زيغفريد فيبر، ألمانيا، 2000: 371- 374.
2- للوقوف على ترجمته انظر: يادگار طاهر، مجموعة مقالات الدكتور أحمد طاهري عراقي، طهران، مركز النشر الجامعي، 1423: 30- 57.

ص: 262

ص 369- 477، مع حذف العناوين الفرعية.

ولكن مع الأسف لا المصحّح الفارسي كانت بحوزته النسخة العربية، ولا المصحّح العربي التفت إلى النسخة الفارسية، حتى يشيرا إلى التفاوت بين النصّين.

وبغضّ النظر عن الأحاديث الواردة في هذا الباب، هناك توضيحات تاريخية وجغرافية ملفتة للنظر حول الحرمين، وكثير منها يحتوي مواضيع هامّة ودقيقة حول الأماكن المقدّسة، وفي الأغلب هوتلخيص أو نفس مطالب كتاب أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي.

يقول الخرگوشي في ذيل الإشارة إلى مقام إبراهيم:

«قال أبو سعد عبد الملك بن محمد صاحب الكتاب- أعانه اللَّه على طاعته-:

سألت الزمازمة حتى أتوا إليّ بماء زمزم، ثم سألت بني شيبة أن يكشفوا لي عن المقام، فكشفوا في البيت، وسكبوا الماء موضع القدم، ثم شربت تبرّكاً بذلك، ورأيت أثر قدمي إبراهيم عليه السلام مغموساً فيه، وأصابع إحدى رجليه عند عقب الأخرى. وكان في ذلك الوقت، المقام في البيت، وهذا دأبهم في الموسم، يخفون المقام في مصعد السطح في البيت، وذلك أنه حمل المقام مرّة، فلما ردّ اللَّه تعالى عليهم ذلك احتاطوا في ذلك الحفظ» (1).

واحتمال كون المؤلف اشتبه بين المقام والحجر الأسود وارد، حيث يبدو أن مقصوده الإشارة إلى الحادثة التي حصلت للحجر الأسود على يد القرامطة.

ناصر خسرو والحجاز

ومن الآثار الغنيّة بالمعلومات حول الحج والحجاز، خاصّة الحرمين الشريفين، رحلة ناصر خسرو القبادياني، العالم الإيراني الكبير في القرن الخامس، الذي سافر إلى الحج في جمادى الثانية من سنة 437 ه (مارس 1046 م)،


1- شرف المصطفى صلى الله عليه و آله 2: 243- 244.

ص: 263

وأدّى الأعمال في سنة 438 ه، ثم سافر ثلاث سفرات اخرى إلى مكة في أعوام 439 ه و 440 ه و 442 ه.

ففي السفرات الثلاث الأول كان يأتي عن طريق البحر الأحمر إلى مرفأ الجار، ثم يذهب من هناك إلى المدينة، ثم إلى مكة. وفي السفر الرابع أتى عن طريق النيل إلى أسوان، ومن هناك إلى البحر الأحمر، ومن ثم ذهب عن طريق جدة إلى مكة (1).

وفي سفره هذا ذهب إلى الطائف والأحساء، فشاهد سيطرة القرامطة على البلاد، ثم ذهب إلى البصرة، ومنها إلى إصفهان، ثم إلى خراسان.

ورحلة ناصر خسرو هذه التي طالت ست سنوات من حين خروجه من خراسان سنة 437 ه إلى حين رجوعه في سنة 443 ه، حيث حجّ فيها أربع مرات، تدل على أهمية مكة والكعبة لديه، وتكشف عن منزلة هذه المدينة المقدّسة لدى مسلم شيعي إيراني فيلسوف وشاعر.

وقد شرح الحرمين وسفر الحج في سفره الرابع، وفي السفر الأوّل أشار فقط إلى أن المطالب المتعلّقة بالحج سيذكرها فيما بعد: «لم أشرح مكة والحج هنا، حتى أشرح ذلك في الحج الأخير» (2).


1- تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب: 285.
2- سفرنامه ناصر خسرو، طهران، منوجهري: 49.

ص: 264

ورحلة ناصر خسرو لها أهمية قصوى من الناحية الجغرافية (1).وتعتبر من المصادر المهمّة. وفي الواقع فإنّ المعلومات المعروضة في هذا الكتاب تشبه كتب الجغرافيا قبل أن تكون شبيهة بالرحلات.

فعندما يصل إلى مكة في سفره الرابع يبدأ بوصف مكة، وهو وصف جميل جداً، وجدير بالقراءة، فإنّ فيه ما يختلف كثيراً عما ورد في سائر الآثار، من حيث توصيفه للمدينة توصيفاً دقيقاً، واشتماله على الجزئيات لما شاهده بعينه.

ويحوي هذا الوصف عدة أقسام:

الأوّل: وصف مكة المكرمة (ص 97- 101)

الثاني: وصف أرض العرب واليمن (101- 103)

الثالث: وصف المسجد الحرام والكعبة (103- 107)

الرابع: وصف باب الكعبة (107- 108)

الخامس: وصف داخل الكعبة (108- 112)

السادس: وصف آداب فتح باب الكعبة شرفها اللَّه تعالى (112- 114)

السابع: عمرة الجعرانة (114)

ثم يتحدث عن مسافة الطرق، الأمر الذي يعرف في كتب الجغرافيا بعلم المنازل، ثم يشرح سفره، وتزداد أهمية رحلته بشكل كبير نظراً لمروره على مناطق جزيرة العرب.

وأما حديثه عن المدينة المنورة فقد سبق المطالب السالفة.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنه- في أسفاره الثلاثة الأولى- كان يأتي من المدينة إلى


1- تاريخ الأدب الجغرافي: 286.

ص: 265

مكة، وفي إحدى هذه الأسفار يعطي شرحاً عن المدينة المنورة. (83- 84). وقد كان فترة إقامته في المدينة يومين، ولهذا السبب كانت المعلومات التي يقدمها نزيرة جداً، ويقول في سبب ذلك: إن الوقت كان ضيقاً فكنت مضطراً إلى مغادرة المدينة لإدراك الحج (1). وهناك يشير إلى مسائل الحج ومكة.

وعلى العموم، أغنى فصل في رحلة ناصر خسرو، هو الفصل الذي يُعطي فيه معلومات عن الحرمين الشريفين.

الزمخشري وجزيرة العرب

أبوالقاسم محمود بن عمر الزمخشري، مفسر معتزلي وأديب خوارزم المعروف (538 ه)، كان مشهوراً بتفسير القرآن الكريم، وكتابه «الكشاف» له شهرة كبيرة في العالم الإسلامي، مضافاً إلى أنه ممن يشار إليه في العربية واللغة.

ويشتهر الزمخشري بجار اللَّه؛ لإقامته بمكة المكرمة مدّةً طويلة، وقد كانت لديه صداقة مع شريف مكة أبي الحسن عليّ بن عيسى بن حمزة بن سليمان الحسني، وكانت ثمار هذه الصداقة تأليف كتاب في الجغرافيا بترتيب ألفبائي على غرار كتاب معجم ما استعجم للبكري، بعنوان: الجبال والأمكنة والمياه.

وحيث إنّه كتب ذلك في مكة فقد قدّم تصنيفه ذلك إلى شريف مكة، وقد استفاد من معلومات الشريف كشواهد على ما أورده في الكتاب، وعمدة ما فيه حول الأمكنة وجبال جزيرة العرب.

والمدخل الأول لهذا الكتاب هو أبوقبيس الذي قال فيه الزمخشري:

«الجبل المُشرف على الصفا، يسمى برجل من مذحج كان يكنى بأبي قبيس، لأنه أوّل من بنى فيه، وكان يسمّى في الجاهلية الأمين، لأنّ الركن مستودع فيه عام الطوفان، وهو الأخشبين» (2).

وقال في ذيل عنوان الجعرانة:

«الجعرانة هكذا بسكون العين وخفة الراء، آبار مقتربة، منها أحرم


1- سفرنامه ناصر خسرو: 84.
2- الجبال والأمكنة والمياه، تحقيق السيد محمد صادق آل بحر العلوم، نجف: 7.

ص: 266

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيها مسجد لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله» (1).

وأغلب الأماكن التي عرّفها هذا الكتاب، وربما أكثر من ثمانين بالمئة منها، يتعلق بالمناطق العربية، وكما أشرنا، فقد استشهد في بعض الموارد بجملات من الشريف الذي كان صديقاً له، فعلى سبيل المثال يقول حول العمق:

«قال علي: العمق عين بوادي الفُرع، والعمق أيضاً واد في آخر يسيل في وادي الفرع يسمى عمقين، وفيه عين لقبيلة من ولد الحسين بن علي عليهما السلام، وفي ذلك تقول امرأة منهم جلت من بلدها إلى ديار مصر...» (2).

وفي ذيل عنوان القبلية وأنها محلة بين المدينة وينبع، يبدأ بتعداد الوديان في تلك الناحية، ومنها تيتد، ويقول الزمخشري هناك:

«وتيتد وهو المعروف بأذينة، وفيه عرص فيه النخل من صداق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نحلها فاطمة عليها السلام» (3).

حافظ أبرو وديار العرب

شهاب الدين عبداللَّه الخوافي المشهور بحافظ أبرو (833 ه)، من أبرز المتخصصين في علم الجغرافيا في العالم الإسلامي، وهو منسوب إلى مدينة خواف في خراسان.

له آثار متعددة، منها مصنف كبير في الجغرافيا باللغة الفارسية، وقد نشر مؤخراً في ثلاثة مجلدات في طهران.

وقد قدّم في شرحه لجغرافيا العالم أوّلًا توضيحات علمية حول أنواع التقسيمات الموجودة لدى خبراء الجغرافيا، ثم أعطى شرحاً عن البحار والجبال، ذاكراً ضمن الجبال بعض جبال مكة.


1- المصدر نفسه: 37.
2- المصدر نفسه: 110.
3- المصدر نفسه: 124.

ص: 267

مثلًا ذيل جبل حراء يقول:

«جبل بمكة على جانب الشمال الغربي، وهذا الجبل معروف، ويدعى جبل محمد صلى الله عليه و آله أيضاً».

ويقول عن جبل ثبير:

«جبل يمكن رؤيته من منى ومزدلفة، وقريب من الطريق الذي يذهب من خراسان».

ويقول حول جبل أبي قبيس:

«جبل على شرقي الكعبة، ويقع الصفا عليه» (1).

وعندما يبدأ البحث عن المناطق الجغرافية للعالم يأتي ببحث ديار العرب أولًا، ويقول في توجيه ذلك:

«وابتدأنا بديار العرب، فإنّ القبلة هناك، وهي أم القرى، ولا يشاركهم فيها غيرهم، وفي أرض العرب لا بحر ولا نهر كي تعمل عليه السفينة... وأرض العرب تشبه الجزيرة، وأنّ أكثر ما يحوطه هو البحر... وفي أرض العرب تعيش في كل ناحية قبيلة، ويقطن نواحي مكة من الجانب الشرقي بنو هلال وبنو سعد وبنو هذيل، ومن الجانب الغربي قبائل مضر، وفي مركز مكة والمدينة بنوبكر بن وائل، وبعض هذه القبائل في حدود الطائف، ويقطن في بادية البصرة إلى البحرين واليمامة بنو تميم... وأكثر أرض العرب شرقها الخليج الفارسي، وغربها خليج القلزم، وجنوبها البحر المحيط حيث تفرع منها تلك الخليجات» (2).

ثم يبدأ بوصف مكة المكرمة فيقول:

«ومكة من الإقليم الثاني... صاحب مكة من الشرفاء ويكتبون لقبه السلطان، وتحاصرها الجبال من أطراف ثلاثة، ومفتوح من طرف واحد، جوّها


1- جغرافياى حافظ أبرو، تصحيح صادق سجادي، طهران، ميراث مكتوب، 1418: 183.
2- جغرافياى حافظ ابرو 1: 199- 201.

ص: 268

في غاية الحرارة في الصيف، وأقرب الجبال المرتفعة إليها أبوقبيس، وهو جبل كالقبّة في الناحية الشرقية من مكة، وعلى رأس جبل أبوقبيس ميل... وبنيت في مكة مباني جيدة كثيرة، ولكن أكثرها خربت... وقد جعل المسجد الحرام في مركز مكة، وتقع الكعبة في مركز المسجد الحرام، وجميع المساكن والأسواق تقع حول المسجد» (1).

ثم يتحدث عن وصف المسجد الحرام، ويعطي أوصافاً دقيقة لأجزاء مختلفة من أحجامه وقياساته، ومن المحتمل أنه استعان في ذلك بمصنّفات أخرى في هذا المضمار (2).

العصر الذهبي في هذا المضمار كان القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجري، حيث صنّف الحجاج الإيرانيون أكثر من مائة رحلة حجية، وكثير منها تحتوي على معلومات جغرافية قيمة حول الحرمين الشريفين

وتحدث في الفصل الذي يليه عن مناسك الحج (3)، ثم تحدث عن صفة داخل الكعبة (4)، وكتب في هذا الموضع أنه رسم خريطة لمكة (5)، ولكن مع الأسف- كما نبّه على ذلك المصحّح- لا يوجد في المخطوطة أثر من ذلك.

وبحثه اللاحق حول المدينة المنورة (6)، وكان قد رسم لها خريطة فقدت أيضاً.

ومن كلامه حول المدينة:

«والمدينة نسبة إلى مكة طقسها لطيف، وحاكمها من الشرفاء، ويقال له:

السلطان» (7).


1- المصدر نفسه: 201- 302.
2- المصدر نفسه: 203- 206.
3- المصدر نفسه: 206- 207.
4- المصدر نفسه: 207- 210.
5- المصدر نفسه: 211.
6- المصدر نفسه: 211- 212.
7- المصدر نفسه: 212.

ص: 269

ثم يتحدث عن اليمامة والجار وجدة وطائف وحجر وتبوك، ويعطي شرحاً قصيراً لكثير من الأماكن المعروفة في ديار العرب (1)، وهذه النقاط عبارة عن: بطن مر، الجحفة، الجبلة، الخيبر، ينبع، عرض، عشيرة، جبل رضوى، فرع، مدينة الجندل، ودّان، تيما، تهامة، زبيد، صنعا، صعدة، ظفار، شبام، عدن، نجران، حضرموت، عمان، اليمن، البحرين.

وفي الختام، يخصّص فصلًا تحت عنوان: ذكر مسافات ديار العرب، يتطرق فيه إلى الفواصل بين المناطق والمدن، خاصة طرق الحج (2).

وإذا ما اقتربنا من الزمان الحاضر، نجد مصادر جديدة في أدب الرحلة الإيراني، لها أهمية قصوى في معرفة ديار العرب وخاصّة الحجاز وطرق الحج، لم يلتفت إليها أحد من مؤرخي الجزيرة العربية أخيراً، مع أهميتها واحتوائها على مواد كثيرة حول تاريخ الحرمين والأماكن المقدسة وطرق الحج.

وفي الواقع، العصر الذهبي في هذا المضمار كان القرن الثالث عشر والرابع عشر الهجري، حيث صنّف الحجاج الإيرانيون أكثر من مائة رحلة حجية، وكثير منها يحتوي على معلومات جغرافية قيمة حول الحرمين الشريفين، وكثير من الأمور الأخرى حول القرى والبلدان الواقعة في طريق الحج.

وفي هذا المجال لابد أن نشير- على سبيل المثال- إلى رسالة الوجيزة في تعريف المدينة لميرزا محمد المهندس، والتي كتبها عام 1292 (3).


1- المصدر نفسه: 212- 229.
2- المصدر نفسه: 231- 233.
3- تصحيح مؤلف هذه السطور المطبوع ضمن كتاب «بسوي أم القرى»، طهران، نشر مشعر، 1373.

ص: 270

ص: 271

مختارات شعرية

«مناجاة العارفين»

الدكتور محمدعلي الحسيني

سيّدي جئتك اليوم روحاً صقلته محبّةٌ ورشادُ

أبتغي أن أطوف حول مقامٍ عشقته القلوب والأكبادُ

لك عهد بعاتقيَّ قديمٌ حفظته الأيام و الآبادُ

كنت يوماً غفلت عنه وأنْ ستْنيه نفس أمّارة تصطادُ

خدعتني الدنيا الدنيّة حتّى كاديطغى على هواي الفسادُ

غير أنّ اللطف الخفيّ لطيف وعطاياك منّة وسدادُ

أرجعتني إليك جذبةُ عشق عبقري ونظرة وودادُ

فلك الحمد مبدئاً ومعيداً ولك المبتدا معاً والمعادُ

حيثما يوجد الوجود فصنع من يديك الصنّاع والإيجادُ

وإذا مااهتدى الخلائق طرّاً فبلطفٍ يفوز منك العبادُ

دلّني نحو أربُع من ولاء وبيوت يحلو بها الإنشادُ

كنتَ قد شِدتها بيوتَ دعاء وبذكراك تُبتنى وتُشاد

ص: 272

هي مهوى الحجيج مأوى نفوسٍ أتعبتها فدافد ووهادُ

فَاقْبَلَنْ من مدائحي نغمات ردّدتها بلحنك القُصّادُ

سيّدي والجمال منك جميلٌ وجلال الأشياء منك يفادُ

فلك الحسن طارفاً وتليداً والطراف التي له والتلادُ

ولك الكون كلّه بامتداد وتجلّى بنورك الامتدادُ

فالنهار النهار منك ضحاه ولك الليل والنجوم الوقادُ

ولك النجم والسُّها والثريّا ولك النبت والحصى والجمادُ

ولك الروض والمروج تغنّت وتعطّرن باسمك الأورادُ

وإذا سبّح المسبّح طرّاً فلك السَّبح سابحٌ منقادُ

وإذا مانودي فأنت المنادى والندا والدعا وأنت المرادُ

ولأنت الورد المورّد فينا والمعاني والذكر والأورادُ

ولأنت العظيم في كلّ قلبٍ ولسانٍ وهام فيك الفؤادُ

فبلطفٍ من منبع اللطف جارٍ كلُّ مافاض واستقته المهادُ

وبمغناك إن تغنّت طيور وبمغناك بيتُ شعري يعادُ

عجز الواصفون والوصف جمعاً عن معانيك وانتهى النُّقادُ

غير أنّ المطلوب بذل القصارى وقصاراي همّة واعتمادُ

سيّدي دلّني فقد جئت أسعى والهوى مركبي وحبّي زادُ

قدطويت الدروب نحو ديارٍ طيّبات وأهلها أجوادُ

يكرمون الضيوف من كلّ فجٍ إن توهم أو حطّت العوّادُ

غير أنّي قد أثقلتني ذنوب وأحاطت بعاتقي أوتادُ

أستحي إن حللت فيهم وأخشى أن يصدّوا عمّن لهم ينقادُ

ص: 273

ليس شحّاً منهم وبخلًا وحاشا بل لأنّي مقصّرٌ مرتادُ

لكن العفو شأن كلّ كريمٍ سيّما أنّهم لناأسيادُ

قدتوليت من تولوا وإنّي لَمُعادٍ من عاندوا واعتادوا

وعرفنا بحبّكم في البرايا وافتخرنا بأننا الروّادُ

وقُتلنا وشَرّدونا لأنّا قدعشقنا وأهلنا قدأبادوا

ومضى كلّ عاشق لسبيل والتقينا وحبّنا يزدادُ

إن أذابوا عظامنا بسجون وصُلبنا فتشمخ الأعوادُ

كلّ هذا لناافتخار ومجد ولهذا تخصّنا الأمجادُ

وكراماتنا من الله أنّا قدشهدنا واستُشهِد الأجدادُ

سيّدي العيد جاء وجئنا والأماني تحلو بهاالأعيادُ

والقلوب التي تُكنّ ولاءاً ووفاءاً في ساعديك القيادُ

والضلوع التي اكتوت بهواكم وجواكم أورى هواها زِنادُ

لاتَلُمْها إن طاردت واستشاطت فبساحاتكم يلذّ الطّرادُ

هلهلت كلّ أضلعي والحنايا وشغاف يحاط فيه فؤادُ

مثلما هلهلت جموع نساءٍ في التلاقي وعاودت أفرادُ

يصدح البلبل المغرّد في الروض اشتياقاً فتنتشي أورادُ

وتميل الغصون عند هبوب والرياح التي تهبّ الودادُ

وشروق الشمس الحبيبة شوقاً لعيون ترعى نجوماً تصادُ

والغروب الغروب يشجي قلوباً عاشقات تؤزّها الأكمادُ

ونجوم الليل المطرّز برقاً لامعات بحبّكم ترتادُ

وطلوع الفجر الذي نجتليه باسمكم طالع وفيكم يزادُ

كلّ شي ءٍ يقودنا لانتظار ألمعي وإننا عوّادُ

ص: 274

فليكن عيدنا لقاك وعامٌ فيه نلقاك كلّه أعيادُ

سيّدي قدوقفت شوقاًبباب وقفت عندها المِلاك الشدادُ

أرتجي فتحها ليفتح قلب كاد يذوي أعراقه الإيصادُ

طرقت حلقتي علاك أياد مجهدات وفتّتت أعضادُ

لاترى راحة على راحتيها مجلت بالرحى ودارالسنادُ

والعجين الذي أعدّ لقرص عجنته كفّ حماها الجهادُ

ليت كفاً آذت أكفّ هداة قطعتها أو كبّلتهاقيادُ

سيّدي زائر لبابك آتٍ لايخيبنّ ظنّه ومرادُ

قدتراه وكلّه نظرات قدعلاها تواضع واتّئادُ

لائذ عائذ ويطلب عفواً وكذاالعفو شيمة وريادُ

سيّدي فاغتفر لمثلي ذنباً فلأنت الشفيع والأولادُ

قال ربّ السما لنا في كتاب صادق وعده وطاب الوعادُ

رصّعته قصيدتي بمديح لكم خالص وشعري معادُ

لو هم استغفروا لذنب وجاءوا يطلبون الغفران منك لعادوا

بذنوب مغفورة ثم نيل لمراد وأفلحت قصّادُ

ص: 275

أضواءٌ... على المركباتِ الاجتماعيّةِ والطبيعيةِ في الحجِّ...

الضوء الأول:

تقي شريف الناصري

التعامل مع موضوعة الحجّ ومناسكه يحتاج إلى روحية وأخلاقية دينية واضحة، وإلى منهجية علمية وجمالية رفيعة المستوى... إذ لم يكن العمل العبادي- أيّاً كان- مجرد تجميع معلومات تؤخر ثقافة الجواب عن الأسئلة.

ومناسك الحج على تنوّعها وتباين أشكالها ومواقعها أبعد ما تكون عن الأفعال الآلية، فهي وإن كانت منظومة أفعال وأعمال وأقوال ونوايا إلّاأنها تجربة كبرى تتجاوز المتعة والمنفعة القريبة أو المنظورة إلى مَدَيات أرحب. لم تكن المناسك لتسيرَ في نسقٍ واحد، إنما هي عدة أنساق متداخلة ومتشعبة ومترافدة ترافق الإنسان من لحظة تسلحهِ بالإستطاعة الفعلية وحتى الانفلات من حدود الإحرام إياباً....

إن هذا الخط الزماني والمكاني ينطوي على جهدٍ سايكلوجي وتعبوي يتأطر بحُلةِ الإيمان والقربى والمثال الصالح، وبضوء هذا الإمتداد نتسع آثار العملية المناسكية، بحيث تنحلُّ في الواقع منسكاً منسكاً بعد انقضاء الحج ويكون كل منسك هو الحج يعكس تجربة حيّة في واقع الإنسان الحاج.

ص: 276

وهذا ما تفيده الآية الكريمة [أَرِنا مَنَاسِكَنا] (1)

فالرؤية هنا هو انعكاسها في الواقع أو في الأبعاد التي خلف مكان وزمان الحج... بعد ما كانت الرؤية داخل زمان ومكان الحج فرضاً إلهيّاً مشخصاً بالهيئة المخصوصة. وكما يعبر الحاج من كل فج وعلى ضامر سابق فإن هذه الأمكنة سوف تكون ضمن أهداف الحجّ وتسري فيها ظاهرة المنسك (2)- أي العبادة-.

إن المناسك، تنفتح على ما يتبقى من عمر الحاجّ، ومع اتساع الآثار المختلفة لعمارة المناسك تتعدد- حتماً- زوايا المنظر وخلفيات الرؤية ومرتكزات الأسلوب حين الشروع بالحديث عن الحجّ... سيّما في عصرنا الراهن الذي انطلق الإسلام فيه مارداً من قمقمٍ، وأخذ يطرح نفسه بقوة عتيدة بديلًا حضارياً ومشروعاً ثقافياً مزداناً بالكفاءة الذاتية؛ بديلًا يمتاز برصانة التحليل وقابلية المعالجة وقداسة المفاهيم ومرونة الوسائل وانسيابية الخواطر.

وإذن ففي الحجّ تحليل ومعالجة واحتجاج وحوار وبنيويّة في الأسلوب ونقد فعّال... وموجهات غيبية وتشريعية وإنسانية. كلُّ هذه التكوينات تنسكب قِبال المتأمل السؤول الناقد، الذي يتقصّى مفردات ووقفات الدورة الإيمانية الكاملة التي توفرها رحلة الحج السنوية، والتي تنقل المسلم نقلات بديعة وتحرر له الآفاق الرحبة السامية وتخلّص الزمن المسمى ب «اللحظة المثالية» من فوضوية الضجيج والترهّل والإباحية.

من هنا، فإن لكل من العقيدة والإنسان والطبيعة و «الآخر» أدواراً في العملية المناسكية، تلكم العملية المشبعة بالجدارة المتلاثبة في عقارب المناسك.

وبضوء آخر، إن هذه الكفاءة الذاتية في الحج والتي يصطلح عليها بفلسفة الحجّ لم تنطلق من التعبّد فحسب بل تصاحبها على طول الخطّ حالات الفكر


1- البقرة: 128.
2- ترتيب القاموس، مادة «نسك» 4: 366.

ص: 277

والتفكّر والتعمّل الإنساني؛ باعتبار أن المناسك وضعت «جُعلت» بطريقة رمزية، وكل رمز «مشهد» يحاكي شيئاً من حياة الإنسان... من ذاتياته وقلبياته وعقلياته وصميمياته... وهذا المشهد يراد منه الاستهلال فحسب... أي الابتداء من قبل التشريع ثم يترك تمثيله في قلب الساحة البشرية والطبيعية فيما بعد.

لا أحدَ ينكر روعة البناء الفكري والشكلي والجمالي الزاخر بروضة زاهية من الدلالات، والذي يُعدّ الرحيل شطره بمثابة الرحلة التاريخية التي تعتبر ولادةً وتعديلًا في مسار الحياة الشخصية ولكائنات «الماحول» أنها أشبه برحلة الفاتح التي تطيح بالحواجز والمعطلات، وتستجلي الروح الكامنة في عمق الأشياء. مع هذه العظمة وتماشياً مع مشاهدها البديعة كيف يتمّ للإنسان حيازتها معنوياً؟ كيف يتمكن من استحضار مفاعيلها في طول حياته وعرضها؟ وبإختصار ما هو المحرك الذي يركّب بين الطبيعي والديني والإنساني ويمزج فيما بينهم؟

إنها «النيّة» فهي روح فريضة الحج... وروح كل عمل عباديٍّ وصالح...

والمقصود من النيّة ليس موضوعيتها ولفظها أو طريقة أدائها... إنما المطلوب جوهرها وهو «القربى»، فالأخيرة هي التي تطبع الحج بآثاره الطبيعية والشرعية وتدعو الانجاز نحو اختراق كل ما هو دنيوي- نسبي- محدود، وتهذّبه إلى الانصباب تحت الشرفات الأخروية الخادرة. وبدونها- أي النية- تتصير عملية الحج بكاملها إلى نفق من التصويرات والهياكل والتشريفات، لا حياة فيها ولا أحياء، ورغم كل المنافع والبيادر يتنحى لنا مشروع الحج إلى تجارة خاسرة، وعلى المدى سوف يكون وبالًا محمّلًا بهزات الندم والحيف والابتذال.

الضوء الثاني: شعور النيّة

كل عمل يصمم الإنسان على القيام به والإبتدار إليه يسبق بشعور خاص ويكون هذا الشعور من أقوى عناصر الانشداد إلى العمل وإنجازه، بل يحول العلاقة بين العمل والعامل إلى علاقة حبٍّ وعشق وتفانٍ، مما يتبعها على الأثر جهد

ص: 278

ومكابدة، وتتواصل حلقات الفعل، هكذا يكون الشعور النابع من الكيان الداخلي للإنسان أقوى من المحفزات والمنبهات، بل والشروط الخارجية؛ لأن فعل هذه الشروط مؤقتاً، وأنها ليس من صلاحيتها أن تبلغ بالعمل مستواه الإنجازي...

إنهالا تترسم الهدف والغاية. الشعور الباطني هو القادر على الانقداح المستمر وعلى دفع الجوارح نحو المعاناة والكفاح، وإنتاج اللمسة الأخيرة من العمل. أي عمل يطرح قضية الإنجاز في خطواته الأولى فإنه هو المعني بالمشروع تتخلله خطة وتفعيلات هدفية وموقفية ويتحرك بضوء الظروف الموضوعية.

تأسيساً على هذا، حرص الإسلام على تماسك الكيان الذاتي للإنسان ووضع السبل الكفيلة لانسجامه وعدم خدشه أو الضغط عليه، وذلك من ملاحظة برامج التربية والتزكية وإحداث التمارين العملية التي تلبي وتشبع حاجاته المتماثلة مع طبيعته. إذ قدر المولى- سبحانه- أن تكون شرائعه السماوية وخططها العملية بقدر ما يتوفر لحرية الشعور الداخلي من حركة وانطلاق، وبقدر ممكنات القدرة على الإنجاز. فللعمل الواحد مستويان: الأول: من البداية إلى ما قبل الإنجاز، والثاني:

الإنجاز، وتبقى لحظة التحويل المصيرية بين المستويين هي التي تعتمد على تركيب المستويين في سياق واحد، العمل العبادي يحتوي الاثنين معاً، ولكن لحظة التحويل التي تحدث انقلاباً في العمل وتطبعه بالإنجاز هي «النية»، وعليه فإن كل جزء من العمل العبادي في الحجّ مثلًا يعتبر إنجازاً بلحاظ حركة النوايا وتجددها...

وتتجمع الإنجازات عن الانتهاء من العمل الشرعي العام، إذّاك تنطلق الإنجازات في رحاب المجتمع.

لهذا، فإن معظم حركات وانقلابات التاريخ الإنساني تتحكم فيها الطاقة الفاعلة التي تنطوي عليها البناء المعنوي للإنسان وسيّان كان الاتجاه إيجابياً أم سلبياً!! ولما كان البناء الداخلي للإنسان بهذا المقام الرفيع، فإن اللَّه- سبحانه- جعل العمل الصالح مشحوناً بقوة جزاء عظمى توازي أضعاف المردود الخارجي للفعل،

ص: 279

وجعل العنوان الجامع لموضوعات ومسائل العمل هو «النية»، وجعلها مقياساً للاتجاه العام: «إنما الأعمال بالنيات»، «ولكل امرء ما نوى»

وإذن، فللنية فعاليتان، الأولى: تصبّ الشعور الفوضوي في قالب واحد واضح يمكن التلفّظ به، والثانية: تنسج موضوعات العمل في لوحة واحدة متماسكة. لو وصفَ للنية في الخارج سوى كونها موجّهاً قلبياً للنشاط وهذا جعلها في موقع حسّاس. ولهذا اقترنت بشكل خاص بأداء العبادات، فالأخيرة لا تنعقد إلّا بها، ولا تتسامى إلا بحضورها النوعي.

إنها في العمل العبادي ليست كأيّ شرط أو واجب أو ركن، ورغم أنها تقع لفظاً «قلبياً» في موقع معين في العبادة وكالعادة يفتتح العمل بها إلّاأنهاتتدرج وتتنامى مقطعاً تلو الآخر حتى اللقطة الأخيرة من المشهد العبادي أو لوحة العمل الاجتماعي الصالح... إنها تماماً كالهواء... وكالشهيق إذ يطرح في كل لحظة زفير الشوائب والمحترقات، وفي الوقت نفسه يضيف صفاءً ودماً وحركة وأنسجةً حيّة حتى يَتَخَلق العمل خلقاً جديداً بكيان رشيد وذي استحقاق واقعيٍّ.

مناسك الحج ودائرة الحج الكبرى تنطلق معها النيّة على مستويات عدة أهمها:

أولًا: قُبَيْل الاستطاعة الفعلية (1)، وفيها تبدأ العزيمة وأولى خطوات الاقتداء بعمل السلف ويرافق هذا الاستعداد قلق وحوار ذاتي أو على شكل حوار «DAILOK» مع الآخر، وفيها الإنسان يحدّث نفسه بالشعور البدائي البسيط وفي أثناءها ينقّب عن أقرب الوسائل للاستطاعة، بمعنى أن هذا الشعور يشترك مع دوافع أخرى بتحديد مبررات الحج وإمكانيته. يستغرق الإنسان في هذا المستوى بجزئيات المقدمات والضروريات التي تتناسب مع الموضوع.

ثانياً: عند الاستطاعة الفعلية، وهنا يقرر الإنسان العزيمة على الرحلة ويتقدم


1- وتقسم إلى استطاعة بدنية ومالية وبذلية.

ص: 280

نحو الهدفية والقصد علناً، وينتقل الحديث الذاتي للإنسان من كيف يذهب للحج إلى كيف يؤديه على أصوله؟ وهذا الشعور يدلّ على صلاح النفس الإنسانية وتقواها وامتثالها لخط السلوك العقيدي. وفي المستوى هذا يتقن الإنسان نوعين من التعهد... مع ذويه ومع خالقه... فيتأهب نحو التوازن الواقعي الذي يطرحه التشريع الإسلامي.

ثالثاً: السفر، وبعضهم يعدّه من القيود التي لا يلزم على المكلف تحصيلها (1).

رابعاً: لحظة اللقاء بالمواقيت المعروفة. وهو مقطع مهم تبلغه النية ويصبح الإنسان فيه حاجّاً. تتحدد النية هنا بنوعية الممارسة المناسكية قصداً وتشرع بالإحرام والتلبية والغسل، وهذه وغيرها هي ما نقصد بالممارسة النوعية، وفي هذا المقطع تنفرد النية بالأداء وتترود الأفعال فيما ينسحب الشعور إلى الخط الثاني...

ذلك الخط الذي كان يتداخل مع النية في المستويات الثلاثة السابقة.

هنا يبدأ التشريع يحاكم العمل ويعيد ترتيب أفعال المناسك، ويتدخل العقل هنا إلى جنب القلب... وتتوضح للمناسك في هذا الدور ثلاث شخصيات وهويات. العنوان والمضمون الطبيعي للمناسك والعنوان والمضمون التشريعي لها، والعنوان والمضمون الاجتماعي لها، وفيما يتراجع العنوان الأول فإن العنوان الشرعي هو الذي يكتسح الساحة إعداداً ودربةً للعنوان والمضمون الثالث. في العنوان التشريعي للمناسك يدخل النظام بجدارة عالية في إضفاء الجمال الإلهي على الطبيعي فيتحكم بدقّةٍ في رسم الحركات والاتجاهات، ويقرّب بين النظرية والفرضية من جهة وبين البرهان والتطبيق من جهة أخرى، فيتبلور في الحج ذكاءٌ وإحساس خاص يمتاز به الحاج الذكي عن غيره، وبالذكاء تحدث مراجعة علمية واستذكار. وموائمة ومقاربة. كما يبدأ التشريع برصد الكيان الذاتي ومعالجة المنابع من موانع ومحرمات وواجبات ومباحات ومستحبات... في هذا المدخل يتمّ


1- الصدر، محمدباقر، دروس في علم الأصول 2: 206.

ص: 281

تصنيف الحج إلى «تمتّع وقران وإفراد» ويضاف إلى قصد الحجّ (1) قصد النيّة ومن قصد الحج بأحد أنواعه الثلاثة إلى قصد ونيّة مخصوصة لكل منسك على حده؛ إذ لكل فعل مناسكي نيّة خاصة في مكان وزمان مخصوصين وبهيئة وأداء متميزين.

تطالعنا في هذا المستوى ثلاثة مركبات للنية: النية العامة للحج، والنية الخاصة لأحد أنواعه، ونية مخصوصة للفعل المناسكي، وإذا كانت الطبيعة يحلو لها أن تستتلي الأشباع المتكرر فتبقي الحج يصدر بالكثير من النوايا فإن التشريع يلخص النوايا في ثلاث، ثم النية توجزها فى معطىً قلبي وعملي واحد.

إن هذا التركيب بين النوايا خاصة لم نألفه في العبادات ذات الموضوع الواحد عدا الحج، فالأخير يحتفل بهذا النوع من التركيب النوعي ويحسب التركيب خاصة جمالية وعبادية له. الجمال في الحج له توقيعات عنيفة، تصدر على شكل اشعاعات تتطوف فيغلّفها طيف يحرّر الذات من ما كان يرى فيه الجمال ويقتلع من النفس معطلات الذائقة الحرّة.

النية في هذا المستوى لها تعبير أرقى مما كان، إذ تتجسد فيها الأعمال وتتلازم فيها الكيفيات.

خامساً: مستوى أداء المناسك، وهذا الدور يتفرع عن السابق وفيه يلج الحاج عالماً فسيحاً تتفاعل فيه كائنات كانت إلى ما قبل لحظة الميقات لا تختلف عن غيرها... وبدلًا من الوحشة تلقي على الحاج الدعة والأنس وبدلًا من التصعّر والتصحّر تلقي بين عينه الألفة والود والأمل... وعوضاً عن القسوة المنبثة بين تضاريسها فإنها تستلقي أمامه كأي وديع وطيّع فوجى ء به الحاج، وهي بهذه الشكل!! وتبدأ هذه المقاطع من الدفعة النفسية التي تعاطى فيها الحاج وهو يدخل مسلكية الإحرام عبر كوّة الميقات- تلكم الدفعة التي تصهر كل المشاعر الأخرى وتمغنطها في محور رئيس... تلكم الدفعة التي تضع موجودات الطبيعة وجهاً لوجه


1- أي كثرة الاختلاف ومطلق القصد، ترتيب القاموس، مادة «حج»- 1: 190.

ص: 282

مع التشريع وكلاهما مع الحاج... إذ يرى الحاجُّ مسلسلًا من طبائع الأشياء المتكورة المتصخرة وهي مسلحة للتو باللفتات التشريعية... بالكرامة بالروحيّة... بالوداعة... بالصمت الهادف... بالوجع اللذيذ... بالتذلل الكبريائي، كأنها تريد أن تنطق.. تستفسر عن سرِّ هذه الركلات.. القبلات لكنها لم ولن تنطق، لأن لها ميثاقاً مقدساً مع تكوينها الأصلي، وفي الحج يكون الوفاء بهذا الرباط أوفى. إنما يكون ويثير في نفس الحاج الانبهار والاندهاش والمفارقة، ومعروف أن الدهشة لا زمن لها. فهل تبقى الدهشة في مسامات الحاج ووجدانه؟ وكيف يعالجها في مثل هذه المواقع؟ أم ماذا؟

بلا شك لا يستطيع كاتب أن يكتب بعبقرية- إن أراد- عن الحج والمناسك ما لم يزر أو يحجّ!! حتى يرى الدهشة التي تجتاحه عفواً... الدهشة والانبهار يشدّان الحاج ليس إلى الجمال كما هو معروف للوهلة الأولى.. إنهما يشدّاه نحو الجلال..

جلال اللقطة المباشرة وهي تتسربل بملاءة التشريع.

وبضوء آخر، إن هذا الانشداد يتطور فيكون الإنسان مأخوذاً فتذهب هذه الحالة وتداعياتها النفسية المفهوم العبادي المقصود. تُرى مالذي يتوسط الحالتين؟

إنّها النيّة ولكن ليست بالذات... إنّها هي بملاحظة التركيب بين النيّة العامة والنية الخاصة. الكل يعرف أن واجبات عمرة التمتع سبعة هي: «نية الإحرام، التلبية، لبس ثوبي الإحرام، الطواف، ركعتان في مقام إبراهيم، السعي بين الصفا والمروة والتقصير»، وأن أفعال الحج ستة عشر، ابتداءاً بنية الإحرام وانتهاءاً برمي الجمرات، وكذلك العمرة المنفردة فهي كحج التمتع يضاف إليها طواف النساء وركعتيه لدى أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

هذه الأفعال والواجبات تؤدى على أنها مناسك «عبادات» يغلفها زمن واحد واتجاه زمني متصاعد أما الخط المكاني فتارة يستقيم وأخرى يتدور وثالثة يتعرج ويلتوي. وإذن مالذي يجعل الخطين (الزمان والمكان) متوحدين في المناسك

ص: 283

أو بعبارة أخرى: ما الذي يزود الشعور بأن ما يقوم به الحاج ينطلق ويصبّ بالوحدة؟، والجواب هو النية ثالثة، ولكن بلحاظ «القربى» فكأن للنية نيّة، ونيتها «القربى»، هذه القربى تلحظ من الخارج أنها دنوٌ واقتراب بين شيئين.. ليس توحّداً... وفي عملية الاقتراب لابد أن يكون الخط الواصل مستقيماً؛ لأنه أقرب الخطوط بين نقطتين.

مناسك الحجّ ودائرة الحجّ الكبرى تنطلق معها النيّة على مستويات عدّة

إن القربى عالم لا يلجه إلا من مارس الخلوص المطلق في كل أعماله، فهي ترفع الأداء في المناسك إلى الفضاء الإلهي الجاذب، والذي يقوم بالتقرب هو العبد... تقرّب نحو المطلق... حيث اللَّه الذي يكسو الوجود بوجوده الخلّاق فينفذ نوره إلى كل شي ء من كيانات الوجود... إن هذا الحضور الإلهي يجب أن يقابله أو ينفعل به حضور ما.. حضور الحاج... ولما كان كل شي ء لا يحقق الحضور...

تعين أن تكون القربى مدخلًا لحضور الإنسان، وكما يريد اللَّه سبحانه الخالق الذي ليس كمثله أحد... لا يُوصف ولا يُحَدّ، فيكون التقرّب بلحاظ لغة الإيماء والخلوص الذي يغلق على الجوارح الحاسّة والناطقة منافذ التعبير، فعالم القربى يتوسط الحضور الإلهي والحضور الإنساني وبفعله تتم مكاشفة البصائر لدى العبد... المكاشفة هذه تعتمد على التجرد الديني «إذا أردت الحجّ فجرِّد قلبك للَّه تعالى من كل شاغل، ثم اغتسل بماء التوبةالخالصة من الذنوب، ودَع الدنيا والراحة والخلق» (1) إن عالم القربى هو الذي يختبر النية فيما تكون الأخيرة رأس كل عمل المناسك، تختبر كل الأفعال.. ففي القربى يكتشف الحاج ضعفه وحقارته، بل


1- مصباح الشريعة، الباب: 211.

ص: 284

ويكتشف قوته ومن أي الكائنات القابلة والجديرة باللقيا والحضور، فهي تعلمنا كيف نحصل على دورة كاملة للمسيرة العبادية والسلوك الروحاني والمعنوي للإنسان، خروجاً من مختنق الذات وعبادتها، وصولًا إلى التقرّب الى اللَّه ونبذ متعلقات النفس المادية والالتحاق بمقام الربّ والركون إلى دار الكبرياء» (1).

النية/ القربى معاملان يغطيان الساحة الكبرى للمناسك بحيث يدفعان الفعل المناسكي نحو صورة غير مرئية... ويعبئانه بكل قوة ويبدعان في كل مجهودات الإنسان الخيّرة ويحصنان الإنجاز العبادي السنوي من ضغوطات الواقع وتهميشاته حين تحاول المناسك أن تسترد شكلها وترتيبها الطبيعي.

الضوء الثالث: عوالم القُربى في الحجّ

كلما يزحف الإنسان باتجاه المواقيت فإن الخط العمودي للمكان يتقلص ويُختصر حتى يصادف لحظة الانقلاب في عمق الميقات، بَيْدَ أن للزمان خطاً موازياً مع المكان، وللمكان صورة أخرى غير المرئية في الطبيعة، هذه الصورة تنفجر وتأخذ بالاتساع بعد الإحرام والتلبية، تتكوّر الخطوط والمساحات على شكل دائرة بالأصل مقسمة إلى دار الإسلام وأخرى إلى دار الكفر، والفكرة من هذا التقسيم الإسلامي الفقهي هي أن الأرض وما عليها ملك لأمة التوحيد أصالةً.

دار الإسلام تنقسم إلى دار الجزيرة العربية والحرم المكي والبيت الحرام، إن هذه الدوائر ليس بإمكان الرؤية العلمية أن تبررها بوضوح ما لم يقف العلم إلى جنب التشريع والتعبّد.

الزمان والمكان في الحج يتجردان عن أغلب خصوصياتهما الطبيعية فيكونان في مجال الرؤية الإلهية المبدعة، ولذلك يجب تصويب الرؤية والانتباه أثناء عمل المناسك ... إنما هما إلهيان؛ لأن للحاج اسراءاً ومعراجاً. المخرج الوحيد لهذين


1- الطباطبائي، محمدحسين، تفسير الميزان 1: 301.

ص: 285

(المكان والزمان الإلهيين) هو الحاج الذي اغتسل بماء التوبة الخالصة، فهو الذي يحول «فرضية» الفريضة إلى عبادة وتطبيق دقيق، تتضمن عودة واعية شاملة لكل المكان.. مكان يخصّبه الحاج بإيقاعات التلبية وبلقطات الإحرام وبثقافة قصاص تشمل الحيوانات والنباتات.. هنا الحاج يغرس كل بقعة من المكان بأقحوانة الخلود، طالما تزود بالزمزم وطالما حمل الكعبة في قلبه.

فمن عوالم القربى؛ أن الحاج يحمل الكعبة في قلبه، تلك المهمة العظيمة التي تركها الإمام الخميني رضى الله عنه فرضيةً هي الأخرى ليشيع مفهوم الانقطاع إلى بيت إلهي واحد لكل البشر... تركها فراغاً بين قوسين بانتظار مَنْ يفكك ويملئ وينقّط «...

بيت اللَّه الحرام أول بيت بُني للناس... الذين يحملون بيوتهم على أكتافهم متساوون مع العاكفين في الكعبة» (1).

«يحملون بيوتهم على أكتافهم» عبارة مثلى تعني الانقطاع عن كل بيت مادي، فيترشح مفهوم البيت الأعظم «الكعبة»، إذ يتوجب حملها مرتين، عند الذهاب وحين الإياب إلى الوطن/ الإقامة.

إن هذا التعاقب والتناوب في السكن يوضح لنا الغاية من الاستقرار على ظهر الكوكب... الاستقرار الذي يبدع الحضارة وينتج المدنية ويبلور التعامل السوي والالتزام بوحدة القرية الكبرى، ويؤخر الانسجام المشاعري، ذلك الاستقرار الذي يتجوهر بالأمن والطمأنينة، وهما أقصى حالات الانشراح والبهجة في مجتمع السلام، وغاية كل مقاطع الكفاح الإنساني النبيل: [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً] (2)

إن النية في هذا أيضاً غير قادرة.. لأنها ذات صورة أدائية محددة تعقبها أعمال ويلزم تجديدها عند كل منسك وبلفظ مختلف.. ولكن القربى هي القادرة باعتبارها النسخ الخفي الموصل والضابط.


1- الخميني، روح اللَّه، الحج في كلام الإمام الخميني، ميقات الحج، العدد 7: 5.
2- البقرة: 125.

ص: 286

إن غير القربى لا يمكن أن يستوحي الأمن كضابطة اجتماعية خالدة تستشف من الأمن والسلام الإلهي القدر الاجتماعي المطلوب. من هنا فالأمن خلاصة السلام وهو أكفأ من السلام في إيقاف الصراع، لأنه صيغة تحاور منابع العداوة والخلاف والمصالح من عمق الذات.. الأمن له علاقة بتنمية العالم ويقظته ونهضته «إننا نرى جانباً من المحاكاة والانسجام في حكمة السعي بين الصفا والمروة ونموذجاً للكفاح المتواصل» (1)، إذ إن المحاكاة تتواصل فتشمل أرقى النوع البشري «يهرول إبراهيم عليه السلام للفرار من برائته- القوة المعطلة للتنمية وهو الشيطان- ومن الوقوع في حبائله...» (2).

لا يمكن أن نتصور مدنية راقية نامية دونما سيادة لقانون الأمن.. أما السلام فهو حلقة وسطى تتوسط تاريخياً الصراعات والحروب من جهة والأمن والتنمية من جهة أخرى. إن كل جوارح الدنيا لم يكن بمقدورها أن تزيح الكعبة وقواعدها من مكانها الطبيعي، لكن القلوب ومحكّها «القربى» ماثلة إلى حمل رسالتها وصورتها البهيّة.. صورتها الذهنية من وإلى.. وإلى منابع كل فجٍّ عميق.

وما يفيدنا في هذا التمثُل هو كلّما تولى الحاج الخالص وجهه، فثمة نور اللَّه.

الانفجار الكعبوي لا يمكن رصده وإحصاء إشعاعاته بآلية عقلية أو جوارحية أو بلاغية، بل وحتى النية تتراجع إلى منطقة الشعور العام.. لا يمكن ما لم تتدخل القربى في أعمال الذات فتهذب وتربط وتجهّز وتصحح بين مصادر الغريزة.

من عوالم القربى أنهاهي التي تبرز عنصر الهدفية والقصدية في الجهد الإنساني المبذول، إذ تتحرك العُلقة بين داخل الإنسان وخارجه، فتؤدي دورها عبر مسارب النوايا... ومعروف أن طابع الهدفية هو الجديّة والتركيز والمداومة..

وهكذا يتبلور الشعور القرباني كحقيقة تنزع نحو الظواهر.. فيتشكل الاقتحام


1- علل الشرائع: 432.
2- المصدر نفسه.

ص: 287

والتضحية ليتساوق مع النصّ الشريف: [وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ] (1)، الشعائر التي تتلامح في عالم القربى يتأرجح قبالها الحاجّ، وذلك عندما تعلن الجوارح عجزها عن اللقاء.. عن لقاء الطاغوت بمفردها.. فالاقتراب من الطاغوت من أجل إقصائه مرهون بالاقتراب من مصدر القوة والهدف... تفيض الجوارح والمشاعر وسط الموكب الموحّد العابر من عرفات إلى المشعر.. وبهذا الموقع تتشكل أرضية الإحساس بالعدو المتربص.. الخصم الأسطوري.. الذي كان لإبراهيم الخليل وولده إسماعيل عليه السلام، حكاية متفردة لهما معه ترمزت في كل مقطع مناسكي: [فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ] (2).

تلكم بعض عوالم القربى وعلى امتداد أيام الحج تقترح الجهد البطولي في الإنسان، وتكهرب الواقع من حوله، فتتماسك المتشابهات والآثار والمسببات وبدورها تتكثف الإشعاعات الإلهية فتهطل كوثراً، وإذّاك ينصهر بها الإنسان وترافق تنقلات حياته خلف حدود مكة والحج.

الضوء الرابع: منشأ النيّة في الحج

ونقصد بها تاريخياً ما كان في حياة الخليل إبراهيم، ونعني بالمنشأ ليس التكوين إنما بداية التقنين العملي العام بها، أي كون «النية» سنداً في العمل التوحيدي والمناسكي، وتحويلها إلى سقف للبرامج العبادية وخطة المناسك.

من البدهي أن مطالب الشريعة الإلهية لا يصحّ حصرها في مجموعة بشرية وفي إطار زمني وجغرافي محدد.. بمعنى أن التشريع الإلهي أكبر بكثير من المرحلة التاريخية. إننا أمام معلومة عقائدية تتمثل في أن النموذج الإنساني المتكامل في رشده وسلوكه هو نفسه ضرورة شرعية اجتماعية، حتى تصلح مسؤولية الاقتداء والقدوة. وننطلق من ذات الضرورة هذه؛ إذ يجب أن تكون كل أفعال الإنسان


1- الحج: 37.
2- البقرة: 198.

ص: 288

السلوكية عبارة عن سيل غير منقطع من النوايا البنّاءة التي تبتكر الأسلوب الإلهي للاجتماع، بمعنى أن نتعرف على أقرب الخطوط التي يتهاتف على طرفيه مخلوق وخالقه. وهنا تنشأ ضرورة تغليف وترميز المناسك بالنوايا المتعددة، نظراً لكون الحج أكبر مسامحة عبادية تموّن الحاج بمسلسل من الحركات واللقاءات والمواجهات، هنا تتجسد لنا مفاعيل النية على السطح وفي العمق.. وكذلك مفعول القرب والدنوّ... والتقارب، والحكمة من التقارب هي المقارنة والمقايسة والمراجعة والاجتهاد في المزيد والتزوّد من حالات الدنوّ، بحيث يكون النموذج هذا في أفق المراجعة التفصيلية مستتراً لسلوكه، وهذا ما يجعله صفياً ومختاراً من قبل اللَّه- سبحانه-.

فالنية تتركب من صيغة وطرفين وأداء (مناسك)، المثال هو ما يكشفه القرآن ويثبته على شكل دالة تاريخية لا غبار عليها: [وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا] (1)، فكان إبراهيم المثل الصادق. جدُّ صحيح، أن بين الأخلّاء تتجلى ظاهرة الحبّ المقدس والمناجاة والمكاشفة في الأسرار، وبثَّ الحزن والشكوى والامتثال القلبي لمقاصد الخل... والانفعال بالتلويح والإشارة، غير أن هذه «الخلّة» يجب أن تكون من جهة العبد مستوعبة لكل المشاعر الإنسانية، وأن يصبح الممثل والمقطع البشري الحيّ الذي ينبض بالهموم والتطلعات والطموحات والتوقدات المتوهجة التي يعزُّ التفكير بها، ومن ثم التعبير عنها عند غالبية الناس.

ليس بإمكان العبقرية البيانية لدى الإنسان أن تقيس مستوى التقارب بين اللَّه سبحانه وبين خليله إبراهيم عليه السلام بمقاساة علمية، أو مأخوذة من ما ألفه البشر من تقييم.

في الإتجاه نفسه يصعب استكناه نوع الحب بين أي خليلين صادقين من الناس، فالحب من القضايا التي تُدرك ولا توصف، إلّاأن هذا لا يمنع من تسقّط


1- النساء: 125.

ص: 289

بعض معالمه سيما من قبل من عاشوا تجربة العشق الإلهي، أما كيف يتم استكناه ذلك؟ فهذا أمر يتعهد به خلوص النية والقربى. والخلوص جهد قلبي ونفسي وعصبي ممركز وهو عملية تحريضية استنفارية لمكونات الروح والجسد، وفعل احتجاجي عنيف للغاية يقوم بتصفية المزاج الذاتي وتنقيته من العوالق ومن «غَرْيَن» الشهوات والأهواء الهارف من الخارج.. حين يصفّى المزاج تتجه النفس وتنفتح على الآفاق الكونية والإنسانية فتتواشج الرؤى ويتصل أقصى أفراد الأمة بأدناهم، فيكون الخليل معادلًا للأمة وعدلًا للرسالة: [إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً] (1)

تَوَضّحَ لنا، أن النيّة وقرباها تقرب بين الفرد- الأمة وبين الأمة- الخالق، وفيما يتكاشف الجميع أمام اللَّه- سبحانه-.

فالفرد يلوذ بالأمة ويشعر بأنها الوحيدة التي تلقي الوقار على عريّه وعوزه وضعفه. ومن إبراز عناصر النية من النموذج والصيغة والأطراف نتفهم أن النيّة هي المولّدة للنماذج البشرية الهادفة، وعليه فهي أكفأ أدوات التغيير الاجتماعي وأكثرها خفاءً، والتفكيك بينها وبين الأعمال يؤدي إلى عبثية عامة تضرب كل جذور الكيان الفردي وتعصف بأسس البنيان الاجتماعي.. ونية الحج نشأت لتنفتح على كلا الكيانين، فلم تكتمل رسالة الفرد في الحياة ما لم تنفتح على الأمة، ولم تبلغ الرسالة السماوية مهمتها ما لم ترفع المجتمع وأشياءه إلى سماحة السماء وكائناتها الملائكية، أي أن الأطار الذي يجب أن تتأطر به الأرض هي السماء.

قطعاً إن كائنات السماء صممت بطبع وطبيعة لا مزية لجوارح الأرض على إدراكها والتّوغل في مكنوناتها وسجاياها وأسرارها، لذا لا بدَّ من مفتاح، ومن كلمة إلهية مقدسة مباحة لكل مخلوق، تلك كلمة لا يجوز الإفصاح بها، وعدم الرنين بها أو التنغيم، وأن سماعها من قبل الآخر- ولو على التماسّ- مخلًا بل مبطلًا للعبادة. فقط يجب التلفّظ القلبي بها.


1- النحل: 120.

ص: 290

إن الإجراء القلبي هو الذي يذهل العابد عن رونق الأصوات الأخرى.

ولكن تبدو مناسك الحج عالية القدر إذ يطرق الحاج بها أكثر من مرة ومرة أبواب المناسك وهي كالصوت المكتوم.

لقد وضع الخليل إبراهيم كل هذه الأفعال في موضعها السليم؛ لأنه كان عليه السلام كياناً فريداً، تحتشد فيه حزمة نوايا، وتتدلى في إهابه سنابل العزائم، وتتلاقح فيه إظمامة الطموحات، فاستحق أن ينتدب موصلًا نبوياً لرسالة الحج، وأن يؤسس وينشأ ما يفترض أن يكون. لقاؤه العضوي مع ولده إسماعيل حين التفكير ببناء القواعد كان لقاءاً على شكل ولادة كبرى وحدثاً غيّر مجرى الأحداث فيما بعد. لم تكن العفوية خارجة عن إرادته وقراره عليه السلام إنما تكيّفت بضوء منبهٍ إلهيٍّ (أمر). لا توجد في مسيرة الخليل عليه السلام حلقة فارغة يمكن أن تنداح من خلالها العفوية.. كل حركاته.. تأملاته.. أشواقه هادفة منتجة، وكانت أخصب مرحلة في حياته تلك التي جاءت بعد شوط الاحتجاج والدعوة الفكرية، وهذه الفترة تكللت ببناء القواعد والكعبة وتثبيت المقام.

تقول الرواية عن ابن عباس رضى الله عنه: «جاء إبراهيم فوجد إسماعيل يصلح نبلًا له من وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل إنّ ربّك قد أمرني أن أبني له بيتاً، فقال إسماعيل: فطعْ ربك فيما أمر، فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذن، افعل. فقام معه- فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: [رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] (1)

، فلما ارتفع البنيان، وضعف عن رفع الحجارة قام على حجر- وهو مقام إبراهيم- فجعل يبني وإسماعيل يناوله فلما فرغ أمره اللَّه أن يؤذن في الناس بالحج..» (2).

ومع التأمّل في الرواية يتضح أن الأمر الإلهي كان مصدر ثقافة الحج... وأن


1- البقرة: 127.
2- أخبار مكة للأزرقي 1: 60.

ص: 291

المناسك أشبه ما تكون بمؤسسة ثقافية... وأن هذه المؤسسة انبثق منها مفهوم ومصداق للمسجد [وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلّى] (1)

وأن النية كانت غير منقطعة شعورياً عن عمل الخليل عليه السلام، ويمكن بضوء هذا اعتبار النيّة في بناء القواعد والمقام غير منحازة إلى مقطع زماني معين، ولذا فالنية لم تكن جزءاً فحسب في البناء... إنما لعظمتها استبدلت بالأمر الإلهي «إن ربك قد أمرني..» وعليه، فإن بداية أعمال النيّة كانت نصاً قرآنياً، ولكون الحجاج أفراداً وجماعات لم يكونوا بمقام إبراهيم لذا أُريد منهم أن يجددوا النيّة توخياً للتركيز والوعي والصفاء، فكانت تتكرر بعد كل مشهد وبفاصل زمني. ومنها يفهم إجمالياً أنّها- النية- تنشأ الأعمال.. وكالنسخ الذي يقوم بربط وتوليف «مونتاج» اللقطات ودمجها في مشهد كبير فعّال يتناسب مع زخم البناء القواعدي الذي أحدث فصلًا مهماً في الاجتماع الإنساني قديماً وحديثاً.

الضوء الخامس: الكعبة والتأسيس الاجتماعي

الرواية السابقة التي ينقلها ابن عباس رضى الله عنه، تتضمن الآية: [رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]، والتي تحاكى بها كلُّ من الخليل وابنه، كأول بنائين تاريخيين للبيت، و وردت حالة القول بالآية أثناء العمل، بمعنى أن النية كانت سارية ومنذ الخطوة الأولى وحتى النهاية، النهاية التي تعبر عنها العبارة الأخيرة في النص: «أن يؤذن في الناس بالحج».

ما نستفيده أن النية كائن داخل إطار العمل الواحد وإنجازه وأنها تتجدد وأن لها في كلِّ آنٍ آن. ولعل بعض الكتاب والأدباء يحلو لهم أن يصوروا الصيغة ب «الميثولوجيا» حين عزَّ عليهم استكناه الواقعية الرفيعة التي امتاز بها عصر الخليل عليه السلام، فاتجهوا إلى اعتبار إبراهيم وولده ليس إلّاأسطورة جاء بها القرآن


1- البقرة: 125.

ص: 292

للحكاية... لا وجود لهم البتة (1)، ويوثّق الميثولوجي فكرته عند ملاحظة الكعبة على ضوء قيمة الخصوبة في البيئة الحجازية العربية آنذاك، وما تنطوي عليه من قسوة وغلظة وبداوة وصحراء وفوضوية وقحط وغزو ووحشة وغيرها، وكيف تتسق قواعد البيت- المقدس- وسط [بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]، ثم يلاحق الميثولوجي تفاصيل حكايته فيؤكد الطابع الأسطوري عبر تساؤلات متعمدة، إذ كيف تحول البيت إلى قبلة وإلى قوة جاذبة للثمرات والرزق والأمن والسلام والزيارة والتجارة والأشعار والأصنام والأوثان، وتحتشد الصورة أمام الفنان غير الملتزم فيقرر حقيقة عدم وجود إبراهيم وولده وجوداً واقعياً تاريخياً عدا كونها ميثولوجيا وأسطورة: «إن هجرة إبراهيم وإسماعيل إلى الجزيرة العربية حيلة اختلقتها قريش وصدقها القرآن ليحتال على اليهود» (2).

والواقع الذي يؤكده القرآن وتؤيده قضايا التاريخ والعلم هو عكس ذلك، بناء الكعبة والقواعد وعصر نبوة إبراهيم عليه السلام كانا معاً يشكلان فاصلًا حاسماً بين مرحلتين كبريتين: مرحلة ما قبل التنظيم الاجتماعي ومرحلة التأسيس الاجتماعي المنظّم وما بعدها. وباستقراء تاريخيٍّ بسيط فإنّ النية فى بناء القواعد لها بعد كبير تمظهر فيما بعد حتى اتصل بكل من يقف على نهاية كل فجٍّ عميق.. ويفهم أن بناء القواعد ودعوة الناس للحج كانا يؤسسان للقانون والتقنين، وبهما نعي، أن النية تكمن عادة كمؤثر دينامي هائل وراء الانقلابات الاجتماعية والتاريخية الكبرى؛ الأمر الذي يقرّب لنا الفكرة القائلة: «إن التاريخ منتمٍ في الدين»، يوصلنا هذا الاستنتاج إلى أن ظاهرة الحج الإبراهيمي الأصيلة هي نقطة تحول كبرى في مسيرة الحج الأنبيائي، اعتمدها خط الرسالات جميعاً حتى بلغت الذروة في عصر رسالة رسولنا الأكرم صلى الله عليه و آله.


1- طه حسين، في الشعر الجاهلي: 26.
2- المصدر نفسه.

ص: 293

ومما يصادفنا في النصوص القرآنية المتعلقة بالحج وشؤونه مفردة «الناس» التي تستخدم على أنحاء شتى في البيان القرآني، وهي ظاهرة لم نلحظها في الفرائض والعبادات الأخرى، وإليك بعضها: [وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] (1)، [وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا] (2)، [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ] (3)، [وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً] (4)، [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ] (5)

وغيرها من الآيات التي وردت بها مفردة الناس، وبالرغم من ورود الحرف الدال على التبعيض أو البيان، إلّاأن أغلب الآيات التي تتكلم عن العبادات الأخرى جاءت متضمنةً مفردة (المؤمنون) ومشتقاتها ومترادفاتها. فمفردة الناس في الحديث القرآني عن الحج حتى في أداء المناسك، وهذا يضعنا أمام تساؤلات وإشكالات يجب توجيهها، وذلك بإجراء ثقافة التفسير التوحيدي الموضوعي للقرآن، والانحياز إلى معطيات القرآن ونظرياته الشاملة وعدم التوقف عند التفسير الذي ينطلق من منطوق آية.. آية..

إن مفردة الناس تثير فينا النقاط التالية:

أولًا: إن الحج من العبادات التي شرعت قبل زمان ممارستها الفعلية، وأنّها من العبادات المستقبلية المنظورة، فالحج من الفرائض التي تُعد تجربة مستقبلية وتقع دائماً في أفق الزمن المنظور للفرد والأمة على السواء، وهذا يدعو فينا علاقة البعث والإحياء الاجتماعي الذي يخطط له الإسلام، والذي يدخل فيه المستقبل عنصراً رئيسياً، لنصل أخيراً إلى كون الحج من أجدر العبادات على معالجة آلام


1- الحج: 27.
2- آل عمران: 97.
3- المائدة: 97.
4- البقرة: 125.
5- إبراهيم: 37.

ص: 294

البشرية، وأنّه أكفأُها على تسييس وتكييف المصير الإنساني الذي لا بدَّ أن يكون من منظور الحج إسلامياً، وأن «الناس» المستخدمة في النصوص هي النصاب الضارب اجتماعياً آنذاك بحيث يصحُّ أن الناس آنذاك مسلمون، وأن المسلمين آنذاك هم الناس.

ثانياً: إن الحج تجربة نفسية صممت على ضوء المشترك الشعوري والذاتي لكل الآدميين، وانها تجربة حيّة تحقق للجماعة الإنسانية حضورها النفسي، والمزاجي، والعلاقاتي؛ لأن الحج هو الوحيد الذي يواجه فيه الإنسان الأبعاد التي تكمن فيها رموز الجمال الطبيعي المباح والمشترك، من مواقيت ومشاهد شامخة، ومناسك وقورة، ومنعطفات منحدرة، ووديان غائمة، وكثبان مترملة وغيرها.

ثالثاً: الحج تجربة عدالة قصوى ونوعية بحيث يترك أمر تحديد الاعتداء على الحاج نفسه.. تجربة تهذّب الجوارح على عدم الاعتداء على كل شي ء تشيؤ في الحرم وأثناء الإحرام، وهذه سابقة بمثابة مطلب إنساني عام.

رابعاً: الحجّ تجربة حوار تخاطب الآخر بما هو إنسان وكائن عاقل وأن العقيدة سوف تنمو وتكون عالمية واتجاه دولي في ظل هذا الحوار المفتوح الذي يتكفل به الحج.

ص: 295

خامساً: إن الحج تجربة شعبية بعيدة عن تعقيدات الروتين والأبهة والشخصنة، تضم كل طبقات الناس بما هم مسلمين توخيا إلى ما هم بشر وناس، وهذا استدعاء موسمي جاد لوحدة المركبات الطبقية والمذهبية والسياسية والنخبوية، وأن المسافة المقطوعة ليست إلّاتمارين ومثاقفة، فهو إذن اقتراح إنساني صائب وسديد.

سادساً: إنّ الحج تجربة إبراهيمية صريحة، ووجود الرمز الإبراهيمي فيها يدل على ضرورة انحياز أتباع الديانات السماوية الثلاث التي تفرعت من الدعوة الإبراهيمية إلى ملةٍ واحدة، تلك الملة التي لم تزل تتمسك بالحج الإبراهيمي، هذا فيما يعد غالبية النوع الإنساني على الكوكب إبراهيميون.

سابعاً: الحج تجربة اقتصادية وسياسية ولقاء ثقافي، مما يكون نموذجاً للسوق الكبرى أو «الجيوبولتيك»، إذ تتقابل في موسمه المواهب والكفاءات والعقليات والأذواق، والرساميل والواجهات والإعلاميات التجارية، وبرامج التسويق ونسب الفائدة، والمرجعيات الاجتماعية والتراثية، مما يحدث أرقى حالات المقارنة والتفاضل والتناقد والاستثمار، وهذا أيضاً مطلب وهدف إنساني.

ثامناً: والحج تجربة اعتراف شعوري بوحدة التوجّه نحو بؤرة الجغرافية الأرضية، لقد تحولت الكعبة- وعلى المدى- إلى هدف سياسي من أجل صرف الاتجاه العالمي إلى غيرها، وإقصاء التوجه المستقبلي عن سمتها، فإذا كان المسلمون المحيطون بها يحرصون على وحدة الاتجاه إلى سمتها (الكعبة) فإنّ المباشرين يحرصون على التوجه إلى قرصها. إن ملاحظة المتوجه من بعيد نحوها نجد أن هناك تقاطعاً وتعامداً في الآفاق، وهذا معناه أن التباعد والمعطلات الطبيعية هي التي تقف أمام وحدة الاتجاه، وتجربة المناسك في الحج ليست إلّاإجراءً عبادياً من أجل تقويم وإبراز حالة الحياد أو الانتماء من قبل الطبيعة إلى الإنسان، وهذا جهد إنساني لم نجد في غير الحج- كممارسة عبادية- حالة الانتماء هذه.

ص: 296

فلو لاحظنا العلوم الطبيعية والإنسانية قاطبة لوجدناها تكافح ومنذ القدم وبمحاولات حثيثة ومريرة وبتوقعات ومختبريات جبارة، لتحييد الطبيعة وكسب ودِّها وانحيازها الإيجابي الكلي، وإيقاف أو معالجة النزلات والكوارث الدامية، وكأنما المأمول هو عندما يتمم الإنسان سيطرته النافذة على الطبيعة فإنه سوف يكون حاجّاً فيها، وليس لها، وهذا ما تقدمه استباقاً تجربة الحج الإبراهيمي.

الحجّ قبل معرفة أسرار الطبيعة زيارة وطقوس... زيارة إلى.. أما بعد الاستفادة من أسراره أو وعي بواطن المناسك فإنّه يكون حجّاً في العمق، وإذّاك تنثال الطبيعة وتبدي أمثل رشحاتها، ويحدث التسخير فتغمر الإنسان شعورية السرور اليقظ تذهله عن كل ديون المعاناة التي قطعها الآخر من قبلُ، وبذا تتصير المكافأة: [لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ] (1)

، وليصغِ إبراهيم «فهناك يا إبراهيم تمنَّ على ربك ما شئت» (2) وحين كان الخليل يتملّى السماء وهو في وادٍ فلا غرو أن يسمى ب (منىً) (3).

اكتفينا بالنقاط الثمانية التي تثيرها مفردة الناس في الآيات الخاصة بالحج وآثاره، والتي تعكس القضية الاجتماعية العالمية للحج ومرجعية العقائدية.

الضوء السادس: إشارات دالّة

الإشارة الأولى:

[لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ]، تلخص هذه الآية الشريفة المنافع المرئية وغير المرئية، إذ إن مشاهدة المنافع غير إدراكها، والمنفعة مفهوم اقتصادي، ولكن لها دلالات غير كمية، أي أن هناك منفعة أو منافع «معنوية»، وبلا شك أن «منافع» التي وردت بصيغة الجمع المؤشر بالنص والصادر بيانه من اللَّه- سبحانه- لا تدخل


1- الحج: 28.
2- علل الشرائع 2: 120.
3- المصدر نفسه.

ص: 297

كثرته في حساب الأرقام. إنها منافع هائلة تمتدّ بامتداد زمن الحج من جهة، وزمن الحاج من جهة ثانية، ثم تأتي السنة الطاهرة لتؤثر نسبة المنافع في الحج الصادرة في القرآن: «حجوا تستغنوا» (1)، الغنى في الحج زيادة في النوع، وهو عمل يشترك في إظهاره البائع والمشتري والوسيط ومعطيات الفائدة المستعملة والمستثمرة، بعض هذه الأطراف غير مسلمة.. إن بعضهم أناس فحسب.

الربح الاقتصادي الكمي يدخل كمفردة من مفردات كثيرة تعبر بمجموعها عن معنى الغنى، وربما يكون التبضّع دالة علمية على اجتماعية القيمة وتسويقها الشعبي، بَيْدَ أن الحج يدعو إلى القيمة الاجتماعية الكبرى للمنفعة، هذه القيمة تتركب من جملة عناصر طبيعية وعناصر بشرية يتعاقب عليها كل أفراد النوع الإنساني.. حيث في هذه الحالة يخرجون بمجموعهم عن التحديد العقيدي إلى الإنساني... ما تفرضه العقيدة هنا الالتزام بالمذهب الاقتصادي الذي يقترحه التشريع كطريقة متحركة الأدوات والمواضع..

المنفعة الاجتماعية في الحج وإن كانت في جانب ذات رقم اقتصادي، إلّاأنها تنزع عبر تفاعل الطبيعة مع الإنسان إلى المعطيات الاقتصادية وليس إلى النتائج المحددة والمحدودة. وهذه المعطيات تؤثر في بعضها فتنمو وتتجدد وتستجيب للحاجة الفردية والاجتماعية، فيما تشبع في كل دور طلبات الناس.

وللمعطيات الاقتصادية تأثير شبه تام على الحركة السياسية والإعلامية، وعلى تركيبة البيئة والمدنية والثقافة والأيديولوجيا.

وفي منظور الحج أن المعطيات الاقتصادية يجب أن تتحرك بضوء التوازنات الروحية والأخلاقية والشرعية، تبعاً للتوازن والانسجام بين فعل الطبيعة وفعل الإنسان المتجليين في أداء المناسك.

ومن هنا، فإن ثقافة الحج الاقتصادية لم تكن ثقافة نتائج ومنتجات وعروض


1- الصدوق، من لا يحضره الفقيه 2: 94.

ص: 298

ومزايدات إنما ثقافة معطيات تتخللها مفاهيم وتوازنات وأسبقيات، وتحددها تقديرات قيمية ونقدية، تترك أثرها على كيفية استخدام السلعة، وجهد العامل، واتجاه العمل، وفروقات القيمة، واستخدام التقنية، وأخلاقية الوسيط، وصولًا إلى الأهداف العالمية، فتتحرك عمليات التصعيد في الأرباح والمنافع ضمن إطار الاستقرار الاقتصادي، وبملاحظة المشكل الاقتصادي الذي جاء الحج كملتقى عام لمعالجته وحلحلته بطريقة تنويع الاقتراحات والرؤى الموسمية في مكة.

اقتصاديات الحج يجب أن تلحظ وسيلة لا كهدف، فالحج قبل كل ذلك عبادة وانتداب إلهي لمجموعة من عبيده، وجب عليهم اللقاء، وعليه فالاقتصاد ضمن فترة الحج لم يكن ليعتمد موضوعات اقتصادية.. لم يتصيّر إلى برنامج اقتصادي فهو عبادة وهدىً وإيمان، وهذا هو عنوان كل العبادات.

أما أن يكون أداء الحج قد أوحى بمعطيات بعضها اقتصادي فالقول سليم..

إن الحج بدل الموضوعة الإقتصادية يَعدُ ويهيؤ مفهوم التسخير البشري والطبيعي العام، والمناسك توقد الحركة في خلايا التشكيلات والنخب الاجتماعية العابرة من نقاط المحيط البعيدة.. وبدورها- أي خلايا النخب- تتعدّد أنماط الوسائط وتتشابك وتتعاهد، الأمر الذي يؤدي إلى التوزيع المنتظم أو شبه المنتظم، فيخرج العطاء- حتماً- عن حدود وتقديرات المسلم، والحاج، فتصبح دلالة الاقتصاد في الحج مرتبطة بالإنسان مروراً بالمسلم.

الإشارة الثانية:

من الصعب جداً أن تدعو غير المسلم إلى حالة يكون فيها متأملًا للمصلي والصائم والمزكّي.. من الصعوبة بمكان أن يهضم أو أن ينسجم مع الصلاة والخمس والأمر بالمعروف، ولكن من السهل جداً أن تدعوه إلى تأمل مشهد الحج والحاج وهو يكافح أسطورة الطبيعة في مهرجان جماعي واحد في حياته على الأقل.

إن المناسك بهذا الكفاح تضع مفاتيح التسخير العام أمام الإنسان- أي

ص: 299

إنسان- نفس هذه «التسخيرية» سوف تكون آلية نامية فيما بعد لطرح الإسلام وثنائية الإسلام/ الإنسان.

فالحج لا يطيح بالثنائيات كثنائية «الجسد والروح»، «الذات والموضوع»، «الديني وغير الديني» و «المادة والمثالية»، ولكنّه يصالح فيما بينها ويقودها معاً إلى جذر واحد هو الحاكم والموجّه.. يهذب العلاقة فيما بينها، فيؤسس لقناعة جديدة.. يرفع عنها غبار الجهل والنسيان وما لحقها من الفهم الساذج أو المقلوب.. فهو إذن إحياء للعلاقات بين الأشياء.. يفهم من هذا أن للمسلم وفي منظور الحج تحديداً طريقتين وخطّين في دعوة التوحيد والإسلام.

الأولى: بصيغة «كيف يكون الإنسان مسلماً؟» وهذا ما عبرت عنه حقبة الفتوحات والفاتحين.. حينما كانت الدعوة وحكومتها تعيشان مقطع طرح مفردات العقيدة والدفاع عنها.

أما الخطّ الثاني فهو بصيغة: «كيف يكون المسلم إنساناً؟» إن هذه الكيفية هي الوحيدة التي تتكافل مع عالمية الإسلام، وفيها يتحول الفكر إلى مشروع غير محدود بامبراطورية أو جغرافية أو قومية.

لا أحد يقول: إن غير تمارين الحج قادرة على تقريب وتحقيق هذا المشروع الضخم.. إن غير الحج غير قادر على الاستجابة لمفردات المشروع التمهيدية الأولى عبر تثوير إحساس المسلمين أنفسهم بضرورة الانسكاب في ضمير واحد، يترود مناسك واحدة. ويرددون الصوت الواحد، ويتسربلون بالزي الواحد.

خط المسلم/ الإنسان تطوير للأول خط الإنسان/ المسلم فهو تجربة اختراق شعوري شامل، يسقط المعطلات بعد ما أنجز الحاج الحوار بمعية النوايا المخلصة مع كائنات الطبيعة واكتشف حيادها وانتماءها وتسخيرها وحنانها وافتخارها باللقاء، وتوشّحها بالملاءة الشرعية البارزة. والواقع إن العناية السياسية والثقافية بالحاج سوف يوضح أفضل الطرق إلى تحقيق الصيغة الثانية.

ص: 300

الإشارة الثالثة:

دلالة القواعد والمقام في سياقات الخطاب القرآني الخاص بالحج تدل على نضوج في لحظة التأسيس، وعلى وعي تام بمستقبل الحركة التأسيسة، تلك اللحظة الانقلابية كانت فاصلة بين ثقافتين وممارستين.. لحظة اقترنت بالأمر الإلهي فجاءت عبارة [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ] بعد إنجاز البنيان واستكمال البيت، والذي تخلله تثبيت المقام الخاص بالخليل وانطباع أثر قدمه عليه السلام عليه، ليؤشر أن البنيان صاحبته معجزة وقدرة غير طبيعية.

التأسيس الإبراهيمي كان بمثابة الدعوة إلى النظام الاجتماعي العام المتسق والذي يفهم منه أن غالبية المجتمع آنذاك كان موحداً- حنفياً- إذ لم يكن البناء ودعوة «الناس» إليه من كل فج عميق من قبيل الأعمال الأدبية أو الشعاراتية أو التعبيرية أو الادعائية، ورغم أن كل عمل جبار يستلزم الاستعلام به إلّاأن الخليل كان قد أعد التأسيس للتجارب العملية.

الوقائع تكشف بما لا يدنو لها الشك أن التيار التوحيدي في عصر الخليل عليه السلام كان ضارباً وبنصاب مجتمع يمتلك مقومات الحركة الكلية والتاريخية، وأن الخطاب كان يقتضي مفهوم ومصداق الناس لا على التبعيض. والتيار الإبراهيمي له حضور فاعل في مختلف النشاطات، فعصره عليه السلام بعد أن قطع شوط دعوته العقيدية الاحتجاجية الأول، اتجه نحو توثيق السلام فانحل الُيمن والأمن والثراء الاقتصادي ولوائح النظام. كما أن قوة التأسيس كانت ولابدَّ مرتبطة بعقلية قانونية ودراية كبيرة بفقه القانون، وأن أي تأسيس تصاحبه حركة نقدية وفنية وأدبية وإبلاغية، حتى تنفذ صورة التأسيس إلى الذهنية والشعور الاجتماعيين آنذاك.

بمعنى أن بناء الكعبة ودعوة الناس إليها أو ما يسمى بالتأسيس الاجتماعي يشير إلى انبساط مفاهيم العقيدة وأوامر الخليل إبراهيم، وهو ما يفيدنا أنه عليه السلام أول من اتجه لصياغة مفهوم السيادة في الدولة وإجراء النظام على الجماعة.

ص: 301

إن عملًا عملاقاً كبناء الكعبة وتشييد قواعدها والمقام، ومن ثم دعوة الناس إلى التروّد إليها كان شبه معطّل وممنوع على غيره عليه السلام من الأنبياء، ولا شك أن إنجازه كان حلماً آدمياً ونبويّاً ناضل الموحّدون من أجله منذ أن استقرت في القناعة مفاهيم العبادة والتقرب إلى الخالق.

غير أن الإقرار بالتأسيس الإبراهيمي تاريخياً لا يستقيم ما لم يكن الواقع الاجتماعي محرراً ومنحازاً بغالبيته إلى النبي الخليل عليه السلام، فالكعبة تتجاوز حال بنائها الجانب الاستعلامي البسيط وأن وراء مناسكها قوة أعظم، وأن الدفاع عنهما ليس الدفاع عن سور أو حرمة أو جهدٍ.

إنها أبعد من كل هذا بكثير.. إنها لخصت الجهد الأنبيائي العظيم وكثّفته على أساس قواعد ومقام وقيام، ومع لحاظ شكل البنيان وعدم تشابه العمارة لطراز آخر يقص لنا أن الإبداع الاجتماعي آنذاك قائم على ذوق فني عالٍ، وهذا الذوق يعكس حالة النبوغ الفني الذي تنشر إيحاءاته وحضوره الشعوري في الحوار والتأسيس والبناء، بحيث يصحُّ لنا القول: إن بناء القواعد كان فاصلة بين طورين مرَّ بهما الفن الإنساني.. طور ما قبل تأسيس القواعد وآخر ما بعده. إذ عبّأ إبراهيم وولده عليه السلام أرقى المجهودات والمركبات الفنية والجمالية في الطراز الكعبوي، لا يمكن تلمّس هذا ما لم تكن دعوة الناس للحج قد دمجت بين النزوع الإنساني الذي كان يعبر عنه الاتجاه الموحِّد في زمن الخليل عليه السلام وبين الإرادة الربانية.. ولأول مرة انسجم التفسير الديني للتاريخ على المكان والطبيعة والشعور، ولذا كان عليه السلام أمام محددات ذهنية وقبال موضوعات وتعريفات غير متداخلة، ولا بدَّ من تحليل مستقبل ومصير الديانة على ضوئها.

زحف الجموع إلى الكعبة على مسافة سنة من عمر الإنسان يحكي لنا أن الوحدة الزمنية كانت حاضرة، وكانت تشكل منهجاً لقياس الجهد الكبير والصغير، وأن هذه الوحدة الزمنية في الحج هي اللحظة «لحظة القربى»، وهي أدق

ص: 302

من كل مقاييس الوحدات الزمنية الحديثة.. ولا ضير إذا افترضنا أن الزحف الجماعي إلى الكعبة كان مسبباً وباعثاً على حب النظام واحترام السيادة، والاشتراك بالإرادة وحب الجهاد والكفاح من أجل حمايته، والدفاع لأجل تحديده ليغطي الفراغات الأخرى، وليصبح أقوى موجهات المستقبل. وهذا هو الذي نقل التركيبة الاجتماعية في عصر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من الفوضوية والتشظّي والسلبية إلى الإيجابية والتنظيم، ويلحظ في الاتجاه نفسه كثرة روافد المناسك التي تدل على بهجة الإنسان وتعدد مناحي رغباته، واتساع رؤيته وأفقه، وخصوصية خياله وطموحاته واقتراحاته، فكان تشعبها بهذا الكمّ والكيف ضرورة ومدعاة لإشباع روح العبقرية اللائبة في أصقاع الإنسان المتدين.

الإشارة الرابعة:

ونتفهم أيضاً البعد السايكولوجي للمناسك حينما لا يكون الشكل والأشكال المحيطة آنذاك بالإنسان كافية لإشباع مشاعره وعواطفه وعندياته، إن إنسان عصر إبراهيم كان توّاقاً ويشعر بالكونيات، وتحدوه رغبة للإطلالة على آفاق الكون والنفس، والتشبيك بينها والحياة في ظلالها وتمثيلها على أرض الواقع، بمعنى أنه يبحث عن مدخل وعن قناة وممر صالح.. عن مرآة وصفحة رقراقة تنعكس في عالم القربى عبر نية الحج والمناسك.. وحين تسود ثقافة «النية والقربى» على تحركات الإنسان والحاجّ فإن العفوية والتلقائية تكون إحدى معالم شخصيته.

ولقد حدث في زمن الخليل عليه السلام تقابلٌ بين إنسان حاجٍّ زاخر بالحيوية والانطباعية الجميلة الشفيفة وبين مناسك مقدسة متشابكة على الطبيعة، فأدى هذا التقابل إلى تسوية المفاجأت وإبدالها بالعفوية والإيحاء. إذ لم يكن الحاج ليفجؤ من قوة هذه المواجهة واللقيا بين مشاعره ومناسكه بقدر ما كان يحذر من عدم لحوق الآخر به وبتياره الإبراهيمي.. الحاجّ آنذاك يخشى من تداعي الجماعة الأخرى.. من انفراط العلاقة بين الفرد والمجتمع.. فانصَبَّ جهده- ومن كوة الحج- عن إحداث

ص: 303

عمليات التعويض المتبادل أو التكافؤ المتبادل، فقصَّ لنا القرآن كيف أن قوانين الأمّة تنسكب في حالات نادرة في الفرد: [إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً].

فعل كان الناقصة يحكي عن ماضٍ بالنسبة لنا وعن ماضٍ بالنسبة لزمن إبراهيم، أي زمن «سلطته الاجتماعية» فالملاحظ أن التأسيس الاجتماعي له علاقة بعلم النفس وتحويلات الفرد إلى أمة، والأمةإلى فرد، وأنّ هذه السايكولوجية يجب أن تسبق التأسيس بأي فاصل زمني... وبالمقابل فلا بد للفرد أن يكون بمستوى الأمة وحتى يتسنى هذا عليه أن يجرب كيف تكون الأمة فرداً.. الحج يتعهد بكلا المعادلتين.. الأمة التي تتوحد فيها المراحل والرموز والإبداعات وقوانين الاجتماع تتحول إلى ظاهرة فرد عظيم متماسك الخطى والدواخل والسلوك.

ولعل ذاكرة الحاج العائد من رحلة المناسك تسعفه بمشهد التوحّد، وكيف كانت الكعبة هي المصهر التي تتصاعد فيه المركبات نحو مزاج واحد متميّز؟ فالبيت الحرام- ومنذ البناء- كان سقفاً لما يجب أن تكون عليه حركة الاجتماع البشري، ولما كان كائناً فعلًا.. أي الجمع بين كينونة المجتمع وبين صيرورته.. وبهما ينجز مستقبل أي بناء وقاعدة ونظام.

بناء القواعد والمقام له آثار نفسية ومعنوية كبيرة قد لا تبرز دفعةً واحدة، فبناؤهما يقرّب بين القانون وبين ظاهرته الطبيعية أو الاستثنائية، وهي علاقة الفعل الاجتماعي المحايد.. إذ ربما ينحرف مسار الظاهرة الاجتماعية بَيْدَ أن شموخ القواعد والمقام يضطر الظواهر الاجتماعية الإسلامية إلى الاتجاه الصحيح. فلا خلودَ للانحراف في أمّة المسلمين وثقافتهم، ولا انكماش في وعيهم ونفسيتهم ومشاعرهم. لقد حرك الحج مشاعر الكبار والصغار من الطامعين والطامحين، وأدى بهم أن يتطبعوا على مشاعر المسلمين ولغتهم، وبدوا علماء في الاستشراق وقادة فكر، ونقصد «بعضهم» والحال أخفقوا ليس في مطالبهم العلمية أو معلوماتهم إنما مُنو بخسارة في عدم وعيهم وتطبعهم

ص: 304

على السايكولوجيا الإسلامية، التي تبرز أكثر ما تبرز في مراسيم الحج ودوراته الطبيعية.

الإشارة الخامسة:

ولكم تبدو مبادرة إبراهيم وإسماعيل بناءةً للتأمل المتواصل.. الأب والإبن حين بنيا الكعبة... وأنجزا الإذن للناس والضيافة لهم في بيت اللَّه. فوجود الجهد الإسماعيلي إلى جنب المقاومة الأبوية الصادقة يشير- من بعيد أو قريب- إلى الامتداد والتلازم الجيلي والمرحلي في ضرورة التواصل بتأسيسات إبراهيمية على المدى. فمتى وجدت الجيلية في جهد ما فإن التجديد ينبثق حتماً ويعبر عن نفسه بشكل تيارات ومدارس ومنهجيات ورموز وأبطال، تجمعها سنن التاريخ الطبيعية من جهة، وسنن الخصوصية من جهة أخرى..

لقد حسم بناء الكعبة مفهوم الاتجاهات المنحرفة والفوضوية والبلاهة في التعبد والقربى على صعيدي التفكير والسلوك معاً، وأبرز معطيات السنن الدينية للاجتماع المطلوب. وفيما كانت مفاهيم الأصالة والمعاصرة تدور على شكل إيماءات غامضة وشعور أبعد ما يكون عن المصطلح المعاصر، فإن القواعد الإبراهيمية ترشح لنا المراجعة الأصولية لكل بناء تاريخي. الأصالة حالة ضاربة في أعماق الذات ترمزت بقواعد البيت ومقامه، ويبقى أمام الديني الحاج تحويل المعاصرة وربطها بالأصالة. والحقيقة أن ثنائية الأصالة- المعاصرة سجلت إشكالية مزمنة أمام أغلب التنميات العالمية وعلى طول الخط.. لم يكن بمقدور الأصالة أو المعاصرة أن ترتبط بمشروع نامٍ ما لم يكن سيد المشروع يمتلك حصانة عالية في التجاوز والاستيعاب.

زمن النبي إبراهيم عليه السلام وإنسانه كان يوفر هذه الحصانة وطاقة التجاوز والاستيعاب، وكذلك الاختراق والمبادءة باتجاه كل المعطلات والمحايدات.

بهذه الإشارات وغيرها يطرح لنا بناء الكعبة بذلك الشكل والمضمون.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.