ميقات حج-المجلد الثاني و العشرون

اشارة

نام كتاب: دو فصلنامه« ميقات الحج»

نويسنده: مركز تحقيقات حج

من لا يمرّ بميقات ولا بما يحاذيه

ص: 1

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

آية الله الشيخ جعفر السبحاني

اتّفقت كلمة الفقهاء علي أنّ الآفاقي (النائي) يجب عليه الإحرام لعمرته من أحد المواقيت الخمسة التي وقّتها رسول الله (صلي الله عليه وآله) لمن يمرّ بها (1)، أو ممّا يحاذيها محاذاة عرفيّة، كما إذا كان الحد الفاصل بين الميقات ومهلّه، بضع كيلومترات.

أخرج الكليني بسند صحيح عن عبدالله بن سنان الثقة عن الإمام الصادق (عليه


1- الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث، 2 و 3 وغيرها.

ص: 6

السلام) قال: من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحجّ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه، فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال فيكون حذاء الشجرة من البيداء (1).

ولعلّ الحدّ الفاصل بين المدينة ومسجد الشجرة يوم ذاك، كان ستة أميال، فلذلك أمر الإمام بالإحرام بعد الابتعاد عن المدينة، مقدار ستة أميال، ليكون المهلّ محاذياً للمسجد.

إنّما الكلام إذا ورد عن طريق لا يمرّ بالميقات، ولا بما يحاذيه محاذاة عرفية، فيقع الكلام في مهلِّه.

فإن قلنا بعدم تصور طريق لا يمر بالميقات (2) ولا يكون محاذياً لواحد منها بحجة أنّ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب، وقلنا بكفاية مطلق المحاذاة،


1- الوسائل: 8، الباب 7 من أبواب المواقيت، الحديث 1.
2- قال المحقّق النراقي: وقد اختلفوا في حكم من سلك طريقاً لا يحاذي شيئاً من المواقيت، وهو خلاف لافائدة فيه، إذ المواقيت محيطة بالحرم من الجوانب المستند: 11/ 283 وتبعه صاحب العروة الوثقي في مبحث المواقيت، والتصديق العلمي يحتاج إلي دراسة ميدانية، وأنّي لنا هذه.

ص: 7

وإن كانت عن مسافة بعيدة فيحرم ممّا يحاذي أحد المواقيت.

وأمّا لو قلنا بإمكان طريق لا يمرّ بميقات ولا بما يحاذيه محاذاةً عرفية، عن مسافة قريبة، كما هو الحال في مدينة «جدة» فإنّها ليست بميقات، كما هو واضح، ولا تحاذي أحد المواقيت كالجحفة، محاذاة عرفية (1)، فيقع الكلام فيما هو الواجب علي الوافدين إلي جدة جويّاً أو بحريّاً.

والمسألة معنونة في كلمات الفريقين، وهي ذات قوانين منذ عهد بعيد، وإليك البيان:

الآراء في المسألة

قال الغزالي في «الوجيز»: «ولو حاذي ميقاتاً، فميقاته عند المحاذاة، إذ المقصود مقدار البعد عن مكة، وإن جاء


1- وأمّا المحاذاة عن مسافة بعيدة، والتي نسميها محاذاة غير عرفية، فالظاهر من الخرائط الجغرافية أنّ المطار الحديث للحجاج و ضفاف البحر، ومقدم الجسر الكبير تحاذي الجحفة، فإنّ الخط الممتد من الجحفة إلي جدّة يمرّ علي هذه الأمكنة أو علي مقربة منها.

ص: 8

من ناحية لم يحاذ ميقاتاً ولا مرّ به، أحرم من مرحلتين فإنّه أقلّ المواقيت وهو «ذات عرق»».

وقال الرافعي في شرحه: «لو جاء من ناحية لا يحاذي في طريقها ميقاتاً ولا يمرّ به، فعليه أن يحرم إذا لم يبق بينه وبين مكة إلّا مرحلتان، إذ ليس شي ء من المواقيت أقلّ مسافة من هذا القدر».

ثمّ علّق علي قول الغزالي في المتن: «فإنّه أقلّ المواقيت وهو ذات عرق» إنّما كان يحسب أن لو كانت ذات عرق أقلّ مسافة من كلّ ما سواها من المواقيت، لكن قد مرّ أنّ ذات عرق مع يلملم وقرن، متساوية في المسافة (1).

وقال محي الدين النووي: وأمّا إذا أتي من ناحية ولم يمرّ بميقات ولا ما حاذاه، فقال أصحابنا: لزمه أن يُحرم علي مرحلتين من مكة، اعتباراً بفعل عمر في توقيته ذات عرق (2).

والظاهر أنّ فقهاء السنّة علي قول


1- العزيز في شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير للرافعي 225: 3- 336
2- المجموع 203: 7، وهو شرح للمهذب للشيرازي.

ص: 9

واحد، وهو الإحرام علي مرحلتين من مكة، تمسّكاً بما فعله عمر حيث جعل ذات عرق ميقاتاً، لأنّه علي مرحلتين من مكة، مثل قرن المنازل ويلملم.

ولكن الثابت عندنا أنّ رسول الله نصّ علي كون «ذات عرق» ميقاتاً (1).

وما ذكره الغزالي من الوجه من أنّ المقصود الابتعاد بمقدار المرحلتين أو أزيد، فيكفي الإحرام من هذا المقدار من البعد، استحسان لا دليل عليه، ولا ينفي لزوم العود إلي الميقات، ولا لزوم الإحرام من مقدار أبعد المواقيت إذا لم يجاوزه ولم يكن محاذياً.

أضف إلي ذلك: أنّ ما دلّ علي الابتعاد بهذا المقدار من المسافة، إنّما دلّ إذا أحرم من الميقات، لا مطلقاً وإن لم يمرّ علي ميقات.

وأمّا فقهاؤنا فلهم قولان:

1. الإحرام من مرحلتين من مكة

إذا سلك طريقاً لا يمرّ فيه علي هذه المواقيت ولا يكون محاذياً فقد اختار ابن


1- الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب الميقات، الحديث 2.

ص: 10

الجنيد ما حكيناه عن فقهاء السنة في أنّه يحرم من مكة بقدر أقرب المواقيت إليها فيحرم منه (1).

وذكر الشهيد الثاني في وجهه: أنّ هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلّا محرماً من أيّ جهة دخل، وإنّما الاختلاف يقع في ما زاد عليها، فهي قدر متفق عليه (2) وفي «المدارك» قريب ممّا ذكره والده في المسالك (3).

يلاحظ عليه:

أولًا: إنّ ما ذكره ليس مبرّراً للإحرام من هذه المسافة، إذ لماذا لا يعود إلي الميقات؟! وقد عرفت أنّ ما ذكره من أنّه لا يجوز قطع هذه المسافة، بلا إحرام إنّما هو فيما إذا أحرم من الميقات لا مطلقاً، فلا دليل علي لزوم الإحرام في قطع المرحلتين إذا أحرم من غير المواقيت المنصوصة كما سيأتي.

وثانياً: الإحرام من أدني الحل


1- المختلف 43: 4.
2- المسالك 216: 2.
3- المدارك 223: 7- 224.

ص: 11

وهناك وجه آخر، وهو الإحرام من أدني الحل، من غير فرق بين الجعرانة، أو الحديبية، أو التنعيم، وإن كان الثالث أقرب إلي مكة، فقد ذكره العلّامة في عدّة من كتبه، والشهيد الثاني في «المسالك»، واستحسنه في «المدارك». وإليك بعض الكلمات:

1. قال العلّامة في «القواعد»: «ولو لم يؤدّ إلي المحاذاة فالأقرب إنشاء الإحرام من أدني الحلّ، ويحتمل مساواة أقرب المواقيت». (1) 2. وقال فخر المحقّقين معلّقاً علي قول والده في القواعد: «وجه القرب أنّه ميقات للمضطرين، كالناسي، وهذا الّذي حجّ علي طريق لا يؤدي إلي ميقات ولا إلي محاذاته منهم، لتعذر الميقات، وهو الأقوي عندي.

ووجه الثاني: أنّ الاعتبار بالمحاذاة إنّما هو المساواة» (2).

3. وقال في «التذكرة»: «ولو مرّ علي


1- القواعد 417: 1.
2- الإيضاح 284: 1.

ص: 12

طريق لم يحاذ ميقاتاً ولا جاز به، قال بعض الجمهور: يحرم من مرحلتين، فإنّه أقلّ المواقيت وهو ذات عرق، ويحتمل أن يحرم من أدني الحلّ» (1).

4. وقال في «التحرير»: «ولو مرّ علي طريق لا يحاذي ميقاتاً، فالأقرب الإحرام من أدني الحلّ» (2).

5. وقال الشهيد الثاني في «المسالك»: «موضع الخلاف ما لو لم يحاذ ميقاتاً فإنّه يحرم عند محاذاته- إلي أن قال:- والوجه الآخر أن يحرم من أدني الحلّ، عملًا بأصالة البراءة من الزائد» (3).

6. وقال في «المدارك»: «واستقرب العلّامة في القواعد، وولده في الشرح: وجوب الإحرام من أدني الحل، وهو حسن، لأصالة البراءة من وجوب الزائد.

وقولهم: إنّ هذه المسافة لا يجوز قطعها إلّا محرماً في موضع المنع، لأنّ ذلك إنّما ثبت مع المرور علي الميقات لا مطلقاً، بل لولا ورود الرواية بوجوب الإحرام من


1- التذكرة 204: 7.
2- التحرير: 1/ 565.
3- المسالك 216: 2- 217.

ص: 13

محاذاة الميقات (يشير إلي صحيحة عبدالله بن سنان الواردة في القريب لا البعيد) لأمكن المناقشة فيه بمثل ما ذكرناه» (1).

7. وقال في «الرياض»: «ولو لم يحاذ شيئاً منها، قيل: يحرم من مساواة أقربها إلي مكة، وهو مرحلتان تقريباً، لأنّ هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلّا محرماً، وقيل: من أدني الحل، لأصالة البراءة من وجوب الزائد» (2).

8. قال النراقي: «ولو فرض إمكان (سلوك طريق لا يحاذي شيئاً من المواقيت)، فالمختار الإحرام من أدني الحلّ، لأصالة البراءة عن الزائد» (3).

9. وقال في «الجواهر»: «لو سلك طريقاً لم يكن فيه محاذاة ميقات من المواقيت، وإن كان قد عرفت فيه الاحتمالين بل القولين: الإحرام من مقدار أقرب المواقيت أو من أدني الحلّ (4).

10- وقد كانت المسألة ذات قولين إلي


1- المدارك 224: 7.
2- رياض المسائل 195: 6.
3- مستند الشيعة 189: 11.
4- الجواهر 118: 18.

ص: 14

أن أفتي السيد الحكيم بتعين الإحرام من أدني الحلّ، وعلي ذلك طبّق عمله عند تشرّفه بالحجّ.

وقد نبّه إلي ذلك نجله الشهيد السيد محمدباقر الحكيم في شرح والده- عند ذكر بعض فتاواه الحديثة- وقال: ومنها:

الفتوي بكفاية الإحرام من حدود الحرم وأدني الحل للحجاج الذين يأتون من الآفاق، ممّن لا يمرّون في طريقهم بأحد المواقيت الخمسة المعروفة، أو ما يحاذيها محاذاة عرفية، كالحجاج الذين يأتون إلي جدة بالطائرات، وكذلك صحّة الإحرام من هذا الموقع للمعتمر بالعمرة المفردة.

حيث كان يستفيد من روايات المواقيت أنّها مختصّة بمن يمرّ عليها أو يحاذيها محاذاة عرفية، وهي المحاذاة الّتي يمرّ فيها الحاج قريباً من الميقات في حالة استقباله لمكة، وبدون ذلك لا تكون هذه محاذاةً ولا مروراً بالميقات، وبالتالي فيمكنهم أن يحرموا من أدني الحلّ.

ص: 15

ومع قطع النظر عن صحّة هذا الاستنباط وعدمه فإنّ ذلك موكول للأبحاث الفقهية، ولكن المهم هو الشجاعة والجرأة الأدبية لهذه الفتوي، والّتي عالج بها مشكلة حقيقية يعاني منها الحجاج استناداً لفهمه من النصوص (1).

تعيّن القول الثاني:

إنّ الّذي يحثّ الفقيه علي الخوض في هذه المسألة أنّها ممّا يُبتلي به من قبل الكثير من الحجاج، حيث إنّ الذين يقصدون الحجّ من بلدان بعيدة علي أقسام:

1. قسم منهم ينزلون مطار المدينة المنورة ويحرمون من ذي الحليفة، وهذا من أفضل وجوه الحجّ.

2. قسم آخر ينزلون مطار جدّة


1- دليل الناسك 67- 68.

ص: 16

ويذهبون إلي المدينة شوقاً إلي زيارة النبي (صلي الله عليه وآله)، ويحرمون من ذي الحليفة أيضاً.

3. قسم منهم ينزلون مطار الجحفة ويحرمون منها.

إنّما الكلام في القسم الأخير.

4. من ينزل مطار جدّة، ولا يتمكّن من الذهاب إلي المدينة، ويشق عليه الذهاب إلي الجحفة إمّا لضيق الوقت أو لا يريده طلباً للراحة.

فالقسم الرابع هو أكثر ما يبتلي الحجاج به، فأمام هؤلاء الطرق التالية:

1. إلزامهم بالذهاب إلي أحد المواقيت، كالجحفة أو قرن المنازل أو غيرهما.

2. الإحرام من مرحلتين من مكة.

3. الإحرام من أدني الحلّ.

أمّا الأوّل: فلا دليل علي الإلزام، فإنّ ما ورد من الروايات من أنّ رسول الله (صلي الله عليه وآله) قد وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ووقّت لأهل الشام الجحفة، ووقّت لأهل نجد العقيق، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقّت لأهل اليمن

ص: 17

يلملم (1)، كلّ ذلك راجع إلي من كان أهل هذه المواقيت أو كان ممّن يجتازها، وأمّا من سلك طريقاً لا يؤدي إلي أحد هذه المواقيت فلا يوجد أيّ دليل علي إلزامه بالعود إلي المواقيت.

وأمّا الثاني: وهو الإحرام من مرحلتين من مكة بحجة أنّه لا يجوز لأحد أن يجتازها بلا إحرام، فقد مرّ فيه الإشكال بأنّه راجع لمن حضر أحد هذه المواقيت فلا يجوز له قطع المرحلتين علي الأقلّ بلا إحرام، وأمّا من ليس من أهلها ولا مجتازاً فلا دليل علي أنّها بالنسبة إليه ميقات.

فتعيّن هنا الطريق الثالث: ويشهد له- مضافاً إلي كونه المحتمل الذي ليس وراؤه احتمال آخر- الأُمور التالية:

1. إنّ أدني الحلّ ميقات العمرة المفردة، للقارن والمفرد ولكلّ من يقوم بعمرة مفردة.

2. إنّها ميقات من نسي الإحرام أو جهل بحكمه، فإنّه يحرم من أدني الحلّ، فإن تعذر فمن مكانه، ففي


1- الوسائل: 8، الباب 1 من أبواب المواقيت، الحديث 3 وغيره.

ص: 18

صحيحة عبدالله بن سنان قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل مرّ علي الوقت الّذي يحرم الناس منه فنسي أو جهل فلم يحرم حتّي أتي مكة، فخاف إن رجع إلي الوقت أن يفوته الحجّ؟ فقال: «يخرج من الحرم ويحرم ويجزيه ذلك» (1).

3. إنّها ميقات المقيم بمكة ما لم تمض عليه سنتان، فإنّه يخرج إلي أحد المواقيت إذا لزمه التمتع، ومع التعذّر إلي أدني الحلّ.

وهذه الوجوه وما يقاربها تشرف الفقيه علي القول بكفاية الإحرام من أدني الحلّ بلا حاجة إلي العود إلي المواقيت.

ويجب أن نذكر أنّ هناك مشكلة أُخري تتعلّق بمسألة وجوب ترك التظليل ليلًا كالنهار عند جماعة من الفقهاء، خصوصاً إذا كانت الليلة مطيرة، أو ذات رياح شديدة، فقد ذكروا ترك التظليل من تروك الإحرام، هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّ السيارات المكشوفة غير متوفرة،


1- الوسائل: 8، الباب 14 من أبواب المواقيت، الحديث 2.

ص: 19

والمتوفرة لاستهلاكها، خطرة علي حياة الحجاج، حينما يستقلونها من المدينة إلي مكة، فإنّ ركوبها وإن كان يسهّل الأمر من جهة ترك التظليل، لكن ركوبها، لا يخلو من نظر كما شاهدناه بأم أعيننا.

وهذا بخلاف مالو جاز لهم الإحرام من أدني الحلّ، حيث إنّ المسافة بين الحديبية أو التنعيم ومكة قريبة جدّاً، فيمكن اتّخاذ سيارات مكشوفة تسير هذه المسافة القصيرة.

والأفضل حسب الظروف الحاليّة الإحرام من الحديبية لمن يصلها عبرأحد الطريقين القديم أو الجديد، حيث تتوفر فيها الحمامات بوفرة لجميع الحجاج نساءً ورجالًا، وهذا ما شاهدته بأُمّ عيني في سفري الأخير لأداء العمرة المفردة عام 1424 ه-. ق.

دراسة فتوي السيد الخوئي (قدس سره)

ثمّ إنّ السيد الخوئي- رضوان الله عليه- أفتي في الموضوع بالأمور التالية:

1. لزوم الذهاب إلي أحد المواقيت مع الإمكان.

ص: 20

2. أو نذر الإحرام من بلده أو من الطريق قبل الوصول إلي جدّة بمقدار معتد به، ولو في الظاهر فيُحرم من محل نذره.

3. الذهاب إلي- رابغ- الذي هو في طريق المدينة والإحرام منه بنذر، باعتبار أنّه قبل الجحفة التي هي أحد المواقيت.

4. إذا لم يمكن المضي إلي أحد المواقيت ولم يحرم قبل ذلك بنذر، لزمه الإحرام من جدة بالنذر، ثمّ يجدد إحرامه خارج الحرم قبل دخوله فيه (1).

ويلاحظ علي ما أفاده بأُمور:

أوّلًا: إنّ إلزام الذهاب إلي أحد المواقيت مع الإمكان بلا ملزم، لما مرّ من أنّ الروايات الدالة علي لزوم الإحرام من المواقيت التي وقّتها رسول الله (صلي الله عليه وآله) ناظرة إلي من كان من أهل هذه المواقيت أو كان ممن يجتازها، وأمّا من سلك طريقاً لا يؤدّي إلي أحدها فلا دليل علي لزوم الذهاب إلي المواقيت.


1- المعتمد 324: 3، ولاحظ المناسك.

ص: 21

ثانياً: إنّ نذر الإحرام من بلده أو من الطريق قبل الوصول بمقدار معتد به أو في الطائرة، وإن كان يحلُّ مشكلة إحرام، لكن يبقي الإشكال في الاستظلال بعده بسقف الطائرة ونحوها إذا كان الطيران في النهار أو في الليالي الممطرة أو ذات الرياح العاصفة.

وجه الإشكال، إنّ حقيقة الإحرام عبارة عن العزم علي ترك المحرمات فكيف يجتمع ذلك العزم الجدي، مع العلم بنقضه في الطريق أو قبل ركوب الطائرة، ونحو ذلك، وهذه مشكلة يجب التخلص منها علي نحو لا يصادم حقيقة الإحرام الذي هو أمر قلبي قائم بالجزم والنية.

أضف إلي ذلك أنّ هذا الاقتراح، لا ينفك عن وجوب الفدية عليه، وهو تكليف زائد وتحميل عليه وهو رهن الدليل.

ثالثاً: إنّه إذا تمكن من الذهاب إلي رابغ يتمكن غالباً من الذهاب إلي الجحفة، فإنّها بمقربة من رابغ، والطريق، معبّد، ذلول، والمسافة قليلة جداً.

رابعاً: إذا لم يمكن المضيّ إلي أحد

ص: 22

المواقيت ولم يحرم قبل ذلك بنذر، فقد أفتي بلزوم الإحرام من جدة بالنذر، ثمّ يجدد إحرامه خارج الحرم قبل دخوله فيه.

ولم يعلم وجهه، لأنّ المورد خارج عن مصب روايات النذر، لأنّ مورد رواياته (1) هو نذر الإحرام قبل الميقات، ثمّ اجتيازه والمرور به، وأين هو من المفروض، وهو نذر الإحرام قبل الدخول في الحرم ثمّ الدخول فيه مُحْرماً، وقد ثبت في محله أنّه لا يمكن تحليل الحرام- تكليفاً أو وضعاً- بالنذر واليمين والعهد، والإحرام قبل الميقات، أو بعده حرام تكليفاً وباطل وضعاً، خرجت منه صورة واحدة، وهو نذره قبل الميقات، ثمّ المرور به محرماً، والصور الأُخري باقية تحت المنع.


1- الوسائل: 8، الباب 12 من أبواب المواقيت، الحديث 1- 3.

ص: 23

الحج رموز، وحكم

آية الله عبدالله جوادي آملي- ترجمة: حيدر حبّ الله

لابدّ لكلّ إنسان من دين إلهي، ولا دين كذلك سوي الإسلام إنّ الدين عند الله الإسلام (1)

، كما لا يُقبل دين عداه، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه (2)

، فالإسلام هو الدين الوحيد الجامع النازل من جانب الحقّ تعالي، والمشتمل علي تمام الكمالات الإنسانيّة، والمهيمن علي الأديان الباطلة كافّة، وهو الديانة الفريدة القابلة للإجراء والتطبيق لتكون مورداً لاستفادة الإنسان.

وبناءً عليه، لابد لهذا الدين أن يحوي


1- آل عمران: 19.
2- آل عمران: 85.

ص: 24

برامج وآليات يمكن توظيفها والاستفادة منها عبر التاريخ، وتظهر وتنجلي في مناخ تعالي الإنسانيّة انجلاءً كاملًا وتاماً.

الشمولية والدوام من أكبر أوصاف الإسلام وأهمّها، أي إنّه يستوعب في داخله أفراد الإنسان كافّة من السود والبيض والحمر وسائر الأعراق و ... كما يستوعب امتداد الزمان، في ماضيه ومستقبله، إلي يوم القيامة.

وللإسلام، بوصفه أمراً إلهيّاً غالباً علي الزمان والحركة والمادّة مصوناً من الزوال والاندثار، علّةٌ تامّة مثله في ذلك مثل سائر الممكنات، وهذه العلّة التامّة مكوّنةٌ من علّتين إحداهما العلّة الفاعلة والأخري العلّة القابلة، فالعلّة القابلة للإسلام هي الإنسان نفسه، والإنسان إنسان لا يتغيّر ولا يتبدّل بما جبل عليه من الفطرة الخاصّة والطينة المخصوصة فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله (1)

. وأمّا العلّة الفاعلة له فهي الله الذي لا


1- الروم: 30.

ص: 25

تناله يد التغييرات ولا تحظي بكرامته شباك التحوّلات، فإنّ ذاته منبع الحياة والنور والعلم والقدرة، ولا سبيل فيها أبداً للموت والظلمة والجهل والاعترال، فهي الذات العليمة- إذن- بمصالح الإنسان ومفاسده، والأقدر علي تعليمه وهدايته إلي المدارج الرفيعة وتحذيره من السقوط في المهاوي السحيقة، وتبيين درجاتها والإعلام بدركاتها.

علي هذا الأساس، فإنّ سرّ عالميّة الإسلام يكمن في:

أوّلًا: إنّ نزوله كان لتفتيح براعم الفطرة الإنسانيّة، تلك الفطرة التي لا ترتهن لأرض خاصّة ولا لتاريخ معيّن، كما لا مسير زمنيّ لها، بل لا تنالها التأثيرات العرقيّة والقوميّة ولا الظواهر الجغرافيّة، ومن هنا تمثل البنية التحتيّة الراسخة للتربية، والأساس المحكم للإرشاد والتعليم.

ثانياً: إنّ معلّم الإنسان ومربّي البشريّة هو الإله الذي لا رخصة للجهل في الولوج إلي حريم علمه المطلق اللامتناهي، ولا فسحة للسهو والنسيان إلي حرم أمن

ص: 26

حضوره وشهوده الدائم. من هنا كان الدين المرضيّ عنده هو الأساس الثابت والبناء الدائم الذي لا يعرف الزوال في هداية المجتمعات الإنسانيّة جمعاء.

ص: 27

الحجّ النيابي

محسن الأسدي

حظيت فريضة الحج بمكانة كبيرة في الشريعة الإسلامية المباركة، في كتاب الله تعالي وسنة رسول الله وأحاديث و أقوال أئمة أهل بيت العصمة والطهارة، وكذلك في آراء أئمة المذاهب الإسلامية وأقوال فقهائها وعلمائها، كما نالت اهتمام المسلمين قاطبة، فراحوا يؤُمّون ديار الله المقدسة في مكة، لأداء مناسك هذه الفريضة المقدسة، تلبيةً للأذان الأول الذي رفعه نبيّ الله إبراهيم الخليل (ع) بأمر من السماء: وأذن في الناس بالحج

ص: 28

يأتوك رجالًا وعلي كلّ ضامر يأتين في كلّ فجّ عميق ليشهدوا منافع لهم و يذكروا اسم الله في أيّام معلومات علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (1).

ليحققوا هذه الأهداف الكبيرة في موسم معين وفي مكان أو أماكن محدّدة، وليؤدّوا فريضةً عظيمةً أرادتها السماء وفرضتها عليهم وألزمتهم بعدم التخلف عنها، لله علي الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا (2).

فالحجّ ركن من أركان الدين، وفرع في الفروع الواجبة وضرورة وعبادة اتفقت علي وجوبها ووجوب أدائها الفرق الإسلامية كافّة، وجعلت من ينكرها أو يتعمد التخلف عن أدائها، مع توفر الشروط فيه، داخلًا تحت ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين (3).


1- الحج: 27- 29.
2- آل عمران: 97 وأتموا الحجّ والعمرة لله.
3- آل عمران: 97.

ص: 29

ونظراً للمنزلة العظيمة لهذه الفريضة ولمناسكها، ولرغبة السماء في أن لا يخلو هذا البيت المبارك والبقاع المباركة من أدائها، فتحت لذوي الأعذار- وحتي للأموات- من المؤمنين باباً آخر لأداء هذه الفريضة، فالشريعة راحت تلاحق أصحاب الأعذار والذين يعجزون عن أداء مناسك هذه الفريضة بسبب الأمراض وغيرها مع توفر الاستطاعة المالية لهم، بل ولاحقت حتي الذين يتوفون منهم ولم يكن بمقدورهم أداؤها أو أنّهم تخلّفوا عنها أو عن بعض مناسكها بعذر أو بغير عذر، فتحت لكلّ هؤلاء- رجالًا ونساء وخناثي- باباً سمّته باب النيابة، وأمرتهم بأن ينيبوا من يؤدّي عنهم هذه الفريضة، وجعلت ثواباً عظيماً للنائب تشجيعاً له، وأنّها إذا ما أُدّيت صحيحةً بشروطها وأحكامها من قبل النائب، تكون مجزية عن الأصيل (المنوب عنه)، ولا تفرغ ذمته إلّا بأدائها مادامت الاستطاعة قد تحققت عنده.

وللنيابة أحكامها وشروطها و

ص: 30

مشروعيتها، هذا ما تناولته الأحاديث الشريفة لرسول الله ولأئمة أهل البيت ونقلته ألسنة الصحابة والتابعين، واكتظّت بها كتبُ الفريقين (الإمامية وأهل السنة) وأعلنت علي أساسها آراؤهم الفقهية وأقوالهم في مشروعيتها وما يترتب عليها من أحكام وآداب ... وهانحن في مقالتنا هذه نتعّرض إلي فضلها وثوابها، وأدلة مشروعيتها، وشي ء من أحكامها عند المذاهب الإسلامية، آملين أن يكون هذا البحث مختصراً نافعاً قدر الإمكان، مستفيداً فيه مما تيسّر لي من مصادر الحديث والفقه.

وقبل أن نبدأ الكلام عن النيابة، مشروعيّتها، شروطها، أحكامها، نذكر فضل الحج نيابةً، و ماجاء فيه من أحاديث مباركة تدعو إليه وتحضّ عليه وتبين ثوابه، وما أعدّه الله تعالي للعاملين في هذا الخصوص.

- فعن رسول الله: إنّ الله عزّوجلّ يدخل بالحجة الواحدة ثلاثة نفر الجنة: الميت، والحاجّ عنه، والمنفذ ذلك.

ص: 31

- وعنه: حجّة للميت ثلاثة: حجّة للمحجوج عنه، وحجّة للحاج، و حجّة للموصي.

- وعنه: من حجّ عن ميت كتبت عن الميت و كتب للحاجّ براءةٌ من النار.

- وعن ابن مسكان عن أبي عبدالله (ع): قلت له: الرجل يحجّ عن آخر، ماله من الأجر والثواب؟

قال: للذي يحجّ عن رجل أجر وثواب عشر حجج.

- وعن الفضل بن شاذان الهروي: ذُكر لي كثرة ما يحجّ المحمودي- وهو من أصحاب

ص: 32

الأئمة- فسألته عن مبلغ حجّاته، فلم يخبرني بمبلغها، وقال: رزقت خيراً كثيراً والحمد لله.

قلت له: فتحجّ عن نفسك أو عن غيرك؟

فقال: عن غيري، بعد حجّة الإسلام أحجّ عن رسول الله، وأجعل ما أجازني الله عليه لأولياء الله، وأهب ما أثاب علي ذلك للمؤمنين و المؤمنات.

قلت: فما تقول في حجّك؟

فقال: أقول: اللهم إني أهللت لرسولك محمّد وجعلت جزائي منك ومنه لأوليائك الطاهرين، ووهبت ثوابي لعبادك المؤمنين والمؤمنات بكتابك وسنة نبيك.

- وعن عبدالرحمن بن سنان: كنت عند أبي عبدالله (ع) إذ دخل عليه رجل، فأعطاه ثلاثين ديناراً يحجّ بها عن إسماعيل، ولم يترك شيئاً من العمرة إلي الحج إلّا اشترطه عليه، حتي اشترط عليه أن يسعي عن وادي محسّر، ثمّ قال: يا هذا، إذا أنت فعلت هذا كان لإسماعيل حجّة بما أنفق من ماله، وكان لك تسع بما أتعبت من بدنك.

- الشيخ الصدوق: سئل الصادق (ع) عن

ص: 33

الرجل يحجّ عن آخر، أله من الأجر والثواب شي ء؟

فقال: للذي يحجّ عن الرجل أجر وثواب عشر حجج، و يغفرله ولأبيه ولأمّه ولابنه ولابنته ولأخيه ولأخته ولعمّه ولعمّته ولخاله ولخالته، إنّ الله واسع كريم.

بعد هذا، ننتقل إلي معرفة آراء فقهاء المسلمين من الفريقين، وما توفر لدي الفريقين من أحاديث استندت عليها أقوالهم:

الإمامية

ذهب فقهاء الإمامية إلي أنّه لا إشكال في صحّة النيابة:

أ- عن الميت في الحج الواجب و المندوب، بضرورة من المذهب إن لم تكن من الدّين، ولنصوص مستفيضة نأتي علي ذكر بعضها.

ب- عن الحيّ في الحجّ المندوب مطلقاً، وفي الواجب في بعض الصور، وتتخذ النيابة مشروعيتها من الإجماع، والنصوص الحديثية المستفيضة التي نذكر بعضها:

روي عن عاصم بن حميد، عن محمّد بن مسلم أنّه قال: «سألت أبا جعفر (ع) عن رجل

ص: 34

مات ولم يحج حجّة الإسلام، ولم يوص بها، أيقضي عنه؟

قال: نعم».

وروي عن معاوية بن عمار أنّه قال: «سألت أبا عبدالله (ع) عن امرأة أوصت بمال في الصدقة والحجّ والعتق.

فقال: إبدأ بالحجّ فإنّه مفروض، فإن بقي شي ء، فاجعل في الصدقة طائفة، وفي العتق طائفة».

وروي عن هارون بن حمزة الغنويّ عن أبي عبدالله (ع): «في رجل مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم يترك إلّا قدر نفقة الحج وله ورثة.

قال: هم أحقّ بميراثه إن شاؤوا أكلوا، وإن شاؤوا حجّوا عنه».

وروي عن حارث بياع الأنماط أنّه: سئل أبو عبدالله (ع): «عن رجل أوصي بحجّة، فقال: إن كان صرورة، فهي من صلب ماله إنما هي دَين عليه، و إن كان قد حجّ، فهي من الثلث».

وعن رجل يموت في طريق الحج، روي عليّ بن رئاب عن ضريس عن أبي جعفر (ع): «في رجل خرج حاجّاً حجّة الإسلام فمات في

ص: 35

الطريق.

فقال: إن مات في الحرم، أجزأت عنه حجّة الإسلام، وإن كان مات دون الحرم، فليقض عنه وليّه حجّة الإسلام».

وفي رواية أخري عن عليّ بن رئاب عن بريد العجليّ بهذا المورد، قال: «سألت أبا جعفر (ع) عن رجل خرج حاجّاً، ومعه جمل له ونفقة وزاد، فمات في الطريق.

قال: إن كان صرورة ثمّ مات في الحرم، فقد أجزأت عنه حجة الإسلام، وإن كان مات وهو صرورة قبل أن يحرم، جعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجّة الإسلام، فإن فضل من ذلك شي ء فهو للورثة إن لم يكن عليه دَين.

قلت: أرأيت إن كانت الحجّة تطوّعاً، ثمّ مات في الطريق قبل أن يحرم، لمن يكون حجّه ونفقته وما معه؟

قال: يكون جميع ما معه وماترك للورثة، إلّا أن يكون عليه دَين فيقضي عنه، أو يكون أوصي بوصية فينفذ ذلك لمن أوصي له، ويجعل ذلك من ثلثه».

وسئل أبوعبدالله (ع) «عن رجل مات وله

ص: 36

ابن فلم يدر حجّ أبوه أم لا؟

قال: يحجّ عنه، فإن كان أبوه قد حجّ، كتب لأبيه نافلة وللابن فريضة، وإن لم يكن حجّ أبوه، كتب لأبيه فريضة وللابن نافلة» (1).

وفي صحيح ابن عيسي قال: «بعث إليّ أبوالحسن الرضا (ع) رزم ثياب، وغلماناً، وحجّة لي، وحجّة لأخي موسي بن عبيد، وحجّة ليونس بن عبدالرحمن، وأمرنا أن نحجّ عنه، فكانت بيننا مائة دينار أثلاثاً فيما بيننا».

إلي غيرها من الروايات التي ستأتينا طيّ البحث.

هذا وتصحّ النيابة هذه بأمور:

1- التبرع.

2- الإجارة.

3- الجُعالة.

لظهور الإطلاق- كما يقول السيد السبزواري+- والاتفاق، وأنّ المدار علي إتيان العمل بأيّ وجه حصل، وأنّ ذمة


1- انظر من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 280: 2- 284، وسائل الشيعة، باب 34 من أبواب نيابة الحج.

ص: 37

الأصيل (المنوب عنه) لا تفرغ إلا بإتيان النائب للعمل صحيحاً، وهو ما تقتضيه قاعدة أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فإذا كان علي الميت حجّ واجب، واستؤجر شخص لأدائه، فلا تبرأ ذمة الميت بمجرّد ذلك، وإنما ترتبط براءة ذمته بأداء الأجير للحج علي الوجه الصحيح، و كذلك الحال في الحي الذي وجب عليه أن يستنيب شخصاً ليحج عنه.

وعلي هذا الأساس، لابدّ أن يكون الأجير مأموناً علي أداء الحج، و التعرف علي واجباته وأحكامه، وجديراً بالثقة والاعتماد، وإن كان عادلًا- إضافة إلي وثاقته ومعرفته- فهو أحسن وأفضل، كما يقول السيد الشهيد الصدر رضوان الله عليه.

شروط النائب

ذكر الفقهاء شروطاً يجب توفرها في النائب- سواء أكان متبرعاً بالنيابة عن الأصيل أم كان مستأجراً من قبله- فإذا لم تتوفر هذه الشروط في النائب لا يصحّ حجّه وهي:

ص: 38

الأول: البلوغ، فلا يجزي حجّ الصبيّ- ولوكان مميزاً- عن غيره في حجّة الإسلام وغيرها من الحج الواجب، وتصحّ نيابة الصبي المميز عن غيره في الحج المندوب إذا أذن له الولي به.

الثاني: العقل، فلا تصحّ نيابة المجنون الذي لا يتحقق منه القصد بالضرورة بين الفقهاء، بل العقلاء؛ لعدم اعتماد الجميع علي أفعال المجانين، خصوصاً في مثل هذا العمل الذي له أحكام كثيرة و موضوعات مختلفة. ولا فرق في كون جنونه مطبقاً- أي مستمراً- أو أدوارياً- أي الذي يصاب بالجنون أحياناً- إذا كان العمل في حالة جنونه، وأما السفيه فلا بأس باستنابته.

الثالث: الإيمان، لعدم صحّة عمل غير المؤمن.

الرابع: عدم اشتغال ذمة النائب بحجّ واجب عليه في ذلك العام، فلا تصحّ نيابة من وجب عليه حجة الإسلام، أو النذر الضيق مع تمكنه من إتيانه، و أما مع عدم تمكنه لعدم وجود المال، فلا بأس.

ص: 39

فلو حجّ عن غيره مع تمكنه من الحج لنفسه بطل علي المشهور، وإن ذهب بعضهم إلي أنّ هذا الشرط إنما هو لصحة الاستنابة والإجارة، وإلّا فالحج صحيح، وإن لم يستحق الأجرة، وتبرء ذمة المنوب عنه علي ما هو الأقوي. فيما ذهب بعض آخر إلي أنّ هذا الإنسان المكلف بالحج في سنة النيابة لم يجز له إهمال ماهو واجب عليه من أجل أن يحج نيابة عن غيره، ولكن إذا صنع ذلك إهمالًا- لا جهلًا منه بوجوب الحج عليه- تصحّ نيابته وحجته النيابيّة وأن الإجارة لا تسوغ إذا كان الشخص المكلف بالحج عالماً بأنه مكلف وملتفتاً إلي ذلك.

أما إذا وقعت مثل هذه الإجارة أو

ص: 40

أدي الأجير الحج نيابة فهو يستحق- علي رأي هذا الفريق- الأجرة التي يتقاضاها الأجراء عادة للقيام بمثل ذلك العمل، وإذا كانت الأجرة المحددة في الإجارة أكثر من ذلك لم يكن له المطالبة بالزائد؛ لأنّ الإجارة باطلة.

ولابدّ أن يكون هذا النائب متمكناً من واجبات الحج كافّة، وأما إذا كان معذوراً في بعضها- لمرض أو غير ذلك- فليس من المعلوم أنّ نيابته عن غيره في الحج الواجب كافية- كما يقول السيد الشهيد الصدر+ في فتاويه- وعليه أن يستأجر لأداء الحج الواجب عن غيره، و إذا بادر وتبرع بأدائه عن الغير فلا يكتفي بذلك.

ولا تشترط المماثلة بين النائب و المنوب عنه في الذكورة والأنوثة، فتصحّ نيابة المرأة عن الرجل وبالعكس.

ولا فرق في النائب بين أن يكون قد حجّ سابقاً أو لم يحج، وهناك من اشترط عدالة النائب، أو الوثوق بصحة عمله، وهذا الشرط إنما يعتبر في جواز الاستنابة لا في صحّة عمله، فيما ذهب السيد السبزواري

ص: 41

+ في موضوع العدالة إلي أنّ المناط إحراز صحة عمله- بحسب القواعد الشرعية كقاعدة الصحة ونحوها- ولو كان فاسقاً، ومع عدم الإحراز لايجوز ولوكان عادلًا.

واشترط بعض معرفة النائب بأفعال الحج وأحكامه، وإن كان بإرشاد معلّم حال كلّ عمل.

ويقول السيد السبزواري: يمكن عدّ هذا الشرط من شرائط العمل المستأجر عليه، كما يمكن عدّه من شرائط العامل، لأنّه من الأمور الإضافية المتقوّمة بالطرفين، وعلي أي تقدير فالدليل عليه- مضافاً إلي الإجماع- لزوم كون الأجير قادراً علي إتيان العمل المستأجر عليه، ومع عدم المعرفة كيف يقدر عليه؟!

وهذه بعض الروايات بخصوص الاشتراط في النائب أن لا يكون عليه حجّ واجب، وحكم من حج نائباً مع وجوب الحج عليه، وأيضاً في جواز استنابة الصرورة مع عدم وجوب الحج عليه.

- فعن محمّد بن يعقوب، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن سعد بن أبي خلف قال: سألت أبا الحسن موسي (ع) عن

ص: 42

الرجل الصرورة يحج عن الميت؟

قال: نعم، إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه، فإن كان له ما يحج به عن نفسه، فليس يجزي عنه حتي يحج من ماله، وهي تجزي عن الميت، إن كان للصرورة مال، و إن لم يكن له مال.

- وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (ع) في رجل صرورة مات ولم يحج حجة الإسلام وله مال.

قال: يحج عنه صرورة لا مال له.

- وعن محمّد بن علي بن الحسين بإسناده عن سعيد بن عبد الله الأعرج، أنه سأل أبا عبد الله (ع): الصرورة أيحج عن الميت؟

فقال: نعم، إذا لم يجد الصرورة ما يحج به، فإن كان له مال، فليس له ذلك حتي يحج من ماله، وهو يجزي عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال (1).

وفي خصوص عدم اشتراط المماثلة، روي عن بشير النبّال أنّه قال: قلت لأبي عبد الله (ع): «إنّ والدتي توفيت ولم تحجّ.


1- انظر وسائل الشيعة، باب 5 من أبواب الحج.

ص: 43

قال: يحجُّ عنها رجل أو امرأة.

قلت: أيّهم أحبّ إليك؟

قال: رجل أحبّ إلي».

وعن معاوية بن عمار أنّه قال: قلت لأبي عبد الله (ع): الرجل يحجّ عن المرأة، والمرأة تحجّ عن الرجل.

قال: لا بأس.

وعن أبي عبد الله (ع) في المرأة تحج عن الصرورة، فقال (ع): إن كانت قد حجّت، وكانت مسلمة فقيهة، فرُبّ امرأة أفقه من رجل (1).

هذا، وقد اشترط في المنوب عنه أن يكون مسلماً، فلا تصحّ النيابة عن الكافر، لا لعدم انتفاعه بالعمل عنه، لمنعه وإمكان دعوي انتفاعه بالتخفيف في عقابه، بل لانصراف الأدلة، فلو مات مستطيعاً، وكان الوارث مسلماً، لا يجب عليه استئجاره عنه.

وبعد أن استعرض السيد السبزواري+ أدلة ذلك، وهي الإجماع المتسالم بينهم، وما تقتضيه غريزة الاختلاف الديني


1- الوسائل، باب 6 من أبواب النيابة في الحج.

ص: 44

والمذهبي.

استدل عليه أيضاً بأمور أخري:

فتارةً بأنّه لا ينتفع بالعمل.

وأخري بانصراف الأدلة عنه.

وثالثة بقوله تعالي: وماكان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولوكانوا أولي قربي (1).

ورابعة: بقوله أيضاً: وأن ليس للإنسان إلّا ما سعي (2).

وخامسة: بأنّ فعل النائب تابع لفعل المنوب عنه في الصحة والفساد.

وبعد استعراضه لهذه الأدلة قال: والكلّ باطل، لإمكان حصول النفع في الدنيا أو البرزخ أو تخفيف العذاب في الآخرة، ولا وجه للانصراف، ولو كان فهو بدويّ.

والآية الأولي في مقام بيان أنّ الاستغفار لا ينفع المشرك عن الخلود في النار، وأنّه نوع موادّة لمن حارب الله ورسوله، وليست في مقام عدم النفع أصلًا


1- التوبة: 113.
2- النجم: 39.

ص: 45

ولو بنحو الجملة والإجمال.

وحيث إنّ عمل النائب كعمل المنوب عنه، فكأنّه من سعي نفس الإنسان، فيشمله إطلاق الآية.

وأما الأخير فلا دليل علي الملازمة من عقل أو عرف أو شرع (1).

و يشترط في المنوب عنه أيضاً كونه ميتاً، أو حيّاً عاجزاً في الحج الواجب. فلا تصحّ النيابة عن الحيّ في الواجب، إلّا إذا كان عاجزاً. وأما في الحج الندبيّ، فيجوز عن الحي والميت، تبرعاً أو بالإجارة، ولايُناب إلّا إذا استقرت عليه حجّة الإسلام، ولم يؤدها إلي أن مات، أو كان موسراً وعجز عن مباشرة الحج بنفسه.

وأما في الحج المستحب، فتسوغ الاستنابة فيه عن الأموات والأحياء علي السواء، شريطة أن يكون المنوب عنه مسلماً، ولافرق في النيابة علي العموم بين أن يكون المنوب عنه طفلًا مميزاً أو بالغاً، مجنوناً، إذا استقر عليه حال إفاقته ثمّ


1- انظر مهذب الأحكام، للسيد السبزواري 236: 2 المتن والهامش.

ص: 46

مات مجنوناً- لإطلاق الأدلة الدالة علي وجوب إخراج الواجبات المالية عن أصل التركة بعد تعلق الوجوب في حال الحياة جامعاً للشرائط- أو كان عاقلًا، شيعياً كان أو سنياً، فتصحّ النيابة عن هؤلاء جميعاً.

ومن أحكامها أو شروطها، قصد النيابة، وتعيين المنوب عنه في النية، ولو بالإجمال، ولايشترط ذكر اسمه، وإن كان يستحب ذلك في جميع المواطن والمواقف، وهنا يقول السيد السبزواري- تتميماً لهذا الحكم وتفصيلًا لدليله الذي ذكره الماتن-: أما اشتراط القصد في النيابة؛ فلأنّها من العناوين القصدية المتوقفة عليه.

ص: 47

وأما كفاية الإجمالي منه، فلعدم دليل علي اعتبار الأزيد، بل مقتضي الإطلاقات، والأصل عدمه، كما أنّ مقتضاها عدم اعتبار ذكر اسمه أيضاً، وفي الصحيح:

«إنّ رجلًا سأل أبا الحسن الأول (ع) عن الرجل، يسميه باسمه؟

فقال (ع): إنّ الله لا تخفي عليه خافية».

وأما استحباب ذلك، فلصحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (ع) «قلت له: ما يجب علي الذي يحجّ عن الرجل؟

قال (ع): يسميه في المواطن والمواقف».

المحمول علي الندب جمعاً وإجماعاً.

ومن أحكام النيابة: إذا مات النائب قبل الإتيان بالمناسك فهنا صور ثلاث:

الأولي: أن يكون موته قبل الإحرام، وهنا لا يجزي عن المنوب عنه، لكون الأصل عدم فراغ ذمة المنوب عنه إلا بالإتيان.

الثانية: أن يكون موته بعد الإحرام ودخول الحرم وهنا يجزي عنه، فقد روي

ص: 48

ابن عمار في الموثق: «سألته عن الرجل يموت فيوصي بحجة، فيعطي رجل دراهم يحج بها عنه، فيموت قبل أن يحج، ثمّ أعطي الدراهم غيره، فقال (ع): إن مات في الطريق أو بمكّة قبل أن يقضي مناسكه، فإنه يجزي عن الأول ...» (1).

المؤيدة بمرسلة حسين بن عثمان عن أبي عبد الله (ع): «في رجل أعطي رجلًا ما يحجه، فحدث بالرجل حدث، فقال: إن كان خرج فأصابه في بعض الطريق، فقد أجزأت وإلّا فلا».

والمرسلة الثانية، عنه (ع) أيضاً: «في رجل أعطي رجلًا مالًا يحج عنه فمات، قال: فإن مات في منزله قبل أن يخرج فلا يجزي عنه، وإن مات في الطريق فقد أجزأ عنه».

الدالة علي أنّ النائب إذا مات في الطريق أجزأ عن المنوب عنه، المقيدة بمرسلة محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد في المقنعة قال: قال الصادق (ع): «من خرج حاجّاً فمات في الطريق فإنّه إن كان مات


1- الوسائل، باب 15 من أبواب النيابة في الحج.

ص: 49

في الحرم، فقد سقطت عنه الحجة، فإن مات قبل دخول الحرم، لم يسقط عنه الحج، وليقضي عنه وليه»، ولا فرق في هذا الحكم بين الحج النفسي الذي يؤديه صاحبه والحج النيابي الذي يؤديه النائب، فالرواية شاملة للحاج عن غيره أيضاً، ولا يعارضها موثقة عمار عن الصادق (ع): «في رجل حج عن آخر ومات في الطريق، قال (ع): وقد وقع أجره علي الله، ولكن يوصي، فإن قدر علي رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل».

الدالة علي أنّ النائب إذا مات في الطريق عليه أن يوصي، لأنّها محمولة علي ما إذا مات قبل الإحرام، أو علي الاستحباب، وهو- أي الاستحباب- من أحسن طرق الجمع بينهم.

الثالثة: أن تدركه الوفاة بعد الإحرام وقبل دخول الحرم، وفي الإجزاء هنا قولان:

القول الأوّل: الإجزاء؛ وقد نسب هذا إلي الشيخ وادّعي في (خلافه) الإجماع عليه، ولكنه- كما يقول صاحب مهذب الأحكام- موهون بدعوي الإجماع عن غيره علي خلافه.

وذهب بعض- كما عليه الماتن في مهذب

ص: 50

الأحكام- إلي عدم أبعدية الإجزاء وإن لم يقل به في الحاج عن نفسه، مستنداً في قوله هذا إلي إطلاق الأخبار في المقام، والقدر المتيقن من التقييد هو اعتبار كونه بعد الإحرام، ومع هذا فإنّ صاحب هذا القول يختار أقوائية.

القول الثاني: وهو عدم الإجزاء، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، وظهور الإجماع، وللمرسلة: «من خرج حاجاً فمات في الطريق، فإنّه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجّة».

كما أنّ من يحج عن نفسه إن مات قبل دخول الحرم، لا يجزي عن حجّه، فكيف نقول به في النائب مع عدم دليل معتبر للفرق بينهما؟! كما يقول صاحب مهذب الأحكام (1).


1- انظر مهذب الأحكام المتن والهامش 241: 12- 243.

ص: 51

أهل السنة

بعد أن استعرض جمع من فقهاء أهل السنة العبادات، معدّدين أنواعها- ونحن نذكرها باختصار- ذكروا ما تصحّ فيه النيابة دون غيره.

أولًا: العبادات المالية المحضة، وهي كالزكاة والكفارة وتوزيع الأضاحي، فإنّ هذه تجوز النيابة فيها عندهم بالاتفاق، وفي كلتا الحالتين: حالة الاختيار وحالة الضرورة، معللين ذلك بأنّ المقصود منها هو انتفاع أهلها بها، و الانتفاع حاصل منها سواء أكان بالأصيل و مباشرته أو بنائبه.

ص: 52

ثانياً: العبادات البدنية المحضة وهي كالصلاة والصوم، ولأنّ المقصود من هذه العبادات إتعاب النفس، وإتعاب النفس لا يحصل إلّا بمباشرة الأصيل المكلف، ولا يتحصل بالنائب فلا يجوز النيابة فيها.

ثالثاً: العبادات المالية والبدنية، أي أنّها مركبة من الاثنين معاً، كفريضة الحج التي نحن بصددها، وقد اتفقت كلمة مذاهب أهل السنة- عدا المالكية- علي جواز النيابة فيها بشرطين:

العجز أو الضرورة.

فعند العجز تجوز النيابة، وتجوز عند الضرورة أيضاً، فالمشقة المقصودة- كما يقولون- تحصل بفعل النفس، وتحصل بفعل الغير أيضاً إذا كان بماله- أي مال الأصيل- فالمشقة تحصل للأصيل المكلّف تارةً بنفسه وأخري بماله.

وهذه العبادات عندهم تختلف عن الصلاة باشتمالها علي القربة المالية غالباً بالإنفاق في الأسفار.

أما المذهب المالكي، فعلي الصحيح عنده لا تجوز النيابة عن الحي في حجّ الفرض أو النفل، بأجرة أو لا، كما أنّ

ص: 53

الإجارة فيه فاسدة؛ لأنّه عمل بدني لا يقبل النيابة شأنه شأن الصلاة والصوم فهو من العبادات البدنية المحضة، والمقصود منه تأديب النفس بمفارقة الأوطان وتهذيبها بالخروج عن المعتاد، من لبس المخيط وغيره؛ لتذكر المعاد والآخرة والقبر، وتعظيم شعائر الله في تلك البقاع، وإظهار الانقياد من الإنسان لما لم يعلم حقيقته، كرمي الجمار، والسعي بين الصفا و المروة وغيرهما، وهذه مصالح ومقاصد لا تتحقق إلّا لمن باشرها بنفسه.

وحتي الميت- عندهم- إذا أوصي بالحجّ يصحّ عنه مع الكراهة، ويكره التطوع عنه بالحج (1).

بعد هذا نعود إلي آراء فقهائهم وأقوالهم بخصوص هذا الموضوع.

أقوال فقهاء أهل السنّة

قالت الحنفية: من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض ونحوه، وله مال،


1- انظر في هذا كلًّا من فتح القدير 308: 2 وما بعدها، والبدائع 212: 2 ومابعدها، والقوانين الفقهية: 128، ومغني المحتاج 468: 1، ومتن الإيضاح: 17، وغاية المنتهي 258: 1 وغيرها.

ص: 54

يلزمه أن يحج رجلًا عنه، ويجزئه عن حجّة الإسلام، أي أنّه تجوز النيابة في الحج عند العجز فقط لا عند القدرة، بشرط دوام العجز إلي الموت، وأما المقصر الذي مات فتصحّ منه بل تجب الوصية بالإحجاج عنه ويكون من بلده، إن لم يعين مكاناً آخر، فهنا حالتان:

- العجز.

- وبعد الموت بالوصية.

أما المعتمد عند المالكية فهو: إنّ النيابة عن الحي لا تجوز، ولا تصحّ مطلقاً إلّا عن ميت أوصي بالحج، فتصح النيابة مع الكراهة وتنفذ من ثلث ماله، ولا حجّ علي المعضوب إلّا أن يستطيع بنفسه للآية: من استطاع إليه سبيلًا، وهذا غير مستطيع.

وأما الشافعية: فقد أجازوا الحجّ عن الغير في حالتين:

الحالة الأولي: حالة المعضوب: وهو العاجز عن الحج بنفسه لكبر أو زمانة أو غير ذلك، و هو الذي لا يثبت علي الراحلة، بل يلزمه الحج إن وجد من يحج عنه بأجرة المثل بشرط كونها فاضلة عن

ص: 55

حاجاته المذكورة فيمن حجّ بنفسه، لكن لا يشترط نفقة العيال ذهاباً وإياباً؛ لأنّه مستطيع بغيره، لأنّ الاستطاعة كما تكون بالنفس، تكون ببذل المال وطاعة الرجال، فيجب علي من عجز عن الحج بنفسه- لهرم أو مرض لا يرجي برؤه- الاستنابة إن قدر عليها بماله أو بمن يطيعه بأن كان متبرعاً موثوقاً به.

الحالة الثانية: وهي حالة من يأتيه الموت ولم يحج، فيجب علي ورثته الإحجاج عنه من تركته، كما يقضي منها دينه، ويلزمهم أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه، بالنفقة الكافية ذهاباً وإياباً.

ومن هذا يتضح أنّ الاستطاعة عند الشافعية نوعان:

أ- استطاعة المباشرة بنفسه.

ب- استطاعة تحصيله بغيره.

ولكلّ منهما شروط.

فشروط الأولي:

الراحلة لمن كان بينه و بين مكّة مسافة القصر (مرحلتان) فصاعداً، والزاد، وأمن الطريق، وصحة البدن، وإمكان المسير: وهو أن يبقي من الزمان

ص: 56

بعد وجود الزاد والراحلة، ما يمكن فيه السير المعهود إلي الحجّ.

وأما شروط الاستطاعة الثانية: فهي أن يعجز عن الحج بنفسه بموت أو كبر، أو زمانة أو مرض لا يرجي زواله، أو هرم بحيث لا يستطيع الثبوت علي الراحلة إلّا بمشقة شديدة. وهذا العاجز الحي يسمي معضوباً.

وتجب الاستنابة عن الميت إذا كان قد استطاع في حياته، ولم يحج، إذا كان له تركة، وإلّا فلا يجب علي الوارث، ويجوز للوارث والأجنبي الحج عنه سواء أوصي به أم لا.

وأما المعضوب فلا يصح عنه الحج بغير إذنه، وتلزمه الاستنابة إن وجد مالًا يستأجر به من يحج عنه فاضلًا عن حاجته يوم الاستئجار خاصة، سواء وجد أجرة راكب أو ماشي، بشرط أن يرضي بأجر المثل، وإن لم يجد مالًا، ووجد من يتبرع عنه بالحج من أولاده الذكور أو الإناث، لزمه استنابته.

وتجوز الاستنابة في حجّ التطوع للميت والمعضوب علي الأصح، ولو استناب المعضوب

ص: 57

من يحج عنه، ثمّ زال العضب وشفي، لم يجزه علي الأصح، بل عليه أن يحج (1).

أما إذا مات بعد التمكن من الأداء، لم يسقط الفرض، ويجب قضاؤه من تركته، ويجب قضاؤه عنه من الميقات؛ لأنّ الحجّ يجب:

أ- من الميقات.

ب- ويجب من رأس المال؛ لأنّه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي، وإن اجتمع الحج ودين الآدمي، والتركة لا تتسع لهما فالأصح أنّه يقدم الحج.

وأما الحنابلة، فهم كالشافعية أجازوا الحجّ عن الغير في حالتين أيضاً:

الحالة الأولي: المعضوب: وهو من عجز عن السعي إلي الحج والعمرة لكبر أو زمانة أو مرض لا يرجي برؤه، أو ثقل لايقدر معه الركوب علي الراحلة إلّا بمشقة غير محتملة، أو آيست المرأة من محرم. فيلزم كلّ من هؤلاء الحج إن وجد من ينوب عنه حراً، ومالًا يستنيبه به، فيحج عنه ويعتمر علي الفور من بلده، أو من الموضع الذي أيسر منه إن كان غير بلده.


1- انظر الإيضاح للنووي: 16 ومابعدها، والمهذب 199: 1.

ص: 58

أما النائب فيجوز عندهم أن يكون رجلًا عن امرأة وبالعكس، امرأة عن رجل، بلا خلاف بين العلماء، لكن يكره عند الحنفية إحجاج المرأة؛ لاشتمال حجّها عادة علي نوع من النقصان، فإنها لا تزمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة، و لا تحلق.

وإن لم يجد مالًا يستنيب به، فلا حج عليه بغير خلاف؛ لأنّ الصحيح (غير المريض) لولم يجد ما يحج به، لم يجب، فالمريض أولي، وإن وجد مالًا ولم يجد من ينوب عنه، فهل هو من شرائط الوجوب وهو المذهب، فلا يجب عليه شي ء بعد الموت، أم من شرائط لزوم السعي للحج، فيجب الحج عنه بعد موته؟

ومن يرجي زوال مرضه وفك حبسه، ليس له أن يستنيب، فإن فعل لم يجزئه، لأنه يرجو القدرة علي الحج بنفسه، فلم يكن له الاستنابة، ولا تجزؤه إن فعل كالفقير.

وإن عوفي المعضوب قبل إحرام النائب لم يجزئه حج النائب عنه اتفاقاً، للقدرة علي المبدل قبل الشروع في البدل، كالمتيمم يجد الماء.

ومتي أحج المعضوب عن نفسه، ثمّ عوفي، لم

ص: 59

يجب عليه حج آخر؛ لأنّه أتي بما أمر به، فخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ.

وقال الشافعية والحنفية: يلزمه حج آخر؛ لأنّ هذا بدل إياس، فإذا برأ تبينا أنّه لم يكن مأيوساً منه، فلزمه الأصل، كالآيسة إذا اعتدت بالشهور، ثمّ حاضت، لا تجزؤها تلك العدة.

ولا يجوز الحج والعمرة عن حي إلّا بإذنه فرضاً كان أو تطوعاً؛ لأنها عبادة تدخلها النيابة، فلم تجر عن البالغ العاقل إلّا بإذنه كالزكاة.

الحالة الثانية: الميت الذي وجب عليه الحج: من وجب عليه الحج، لاستكمال الشرائط السابقة المطلوبة، ثمّ توفي قبله، فرّط في الحج بأن أخره لغير عذر، أو لم يفرط كالتأخير لمرض يرجي برؤه أو الحبس أو الأسر أو نحوه، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة، ولو لم يوص به. ويكون الإحجاج عنه من حيث وجب عليه، لا من حيث مكان موته؛ لأنّ القضاء يكون بصفة الأداء، بل يجب ألا يكون النائب من خارج بلده التي تبعد فوق مسافة القصر، ويجوز من نائب من بلد آخر دون مسافة

ص: 60

القصر؛ لأنّ مادونها في حكم الحاضر، وإن مات من وجب عليه الحج في الطريق أو مات نائبه في الطريق، حجّ عنه من حيث مات هو أو نائبه، فيما بقي مسافةً وقولًا وفعلًا.

أما عن الميت، فيسقط عنه بحج أجنبي عنه ولو بلا إذن وليه؛ لأنه شبهه بالدين، أي أنّ الحج عن الميت يجوز عنه بغير إذنه واجباً كان أو تطوعاً، بخلاف الحي، لأنه أمر بالحج عن الميت، مع العلم أنه لا إذن له، وما جاز فرضه جاز نفله كالصدقة.

وإن وصّي المسلم بحج نفل ولم يعين محل الاستنابة، جاز أن يحج عنه من الميقات أي ميقات بلد الموصي، ما لم تمنع منه قرينة، بأن يوصي أن يحج بقدر يكفي للنفقة من بلده، فيتعين منها، فإن ضاق ماله عن الحج من بلده بأن لم يخلف مالًا يفي به، أو كان عليه دين، أخذ للحج بحصته، وحج به من حيث يبلغ، لشبهه بالدين.

وخلاصة ذلك: أنّ المالكية والحنفية يجيزون الحجّ عن الميت إذا أوصي، وتنفذ

ص: 61

الوصية من ثلث المال، فيما أجاز الجمهور غير المالكية الحجّ عن الحي العاجز لمرض ونحوه.

وحجّ النائب يكون عند الحنفية والحنابلة من بلد المنوب عنه. أما عند الشافعية فيكون من الميقات، وتنفذ الوصية عند الشافعية والحنابلة من رأس المال، لا من الثلث فقط.

هذا، وأنّ حجّ النائب عن الميت يكون علي الفور عند الجمهور؛ لقوله تعالي: وأتمّوا الحج والعمرة لله، ولله علي النّاس حجّ البيت والأمر علي الفور.

أما عند الشافعي فعلي التراخي، وللنائب تأخيره؛ لأنّ النبيّ أمّر أبابكر علي الحج وتخلّف بالمدينة، لا محارباً ولا مشغولًا بشي ء، وتخلف أكثر الناس قادرين علي الحج، فدلّ علي أن وجوبه علي التراخي (1).

أما بالنسبة للصرورة، وهو من لم يحج


1- انظر مقالتنا «الفور والتراخي في فريضة الحج» ميقات الحج، العدد 98: 11، وانظر كلّ هذا التفصيل في الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي 37: 3، والنووي في حج الفرض في المجموع شرح المهذب.

ص: 62

عن نفسه، فقد أجازت الحنفية مع الكراهة التحريمية حجّ الصرورة، ولم يشترطوا أن يكون النائب قد حجّ عن نفسه، عملًا منهم بإطلاق حديث الخثعمية: «حجي عن أبيك» من غير استفسار عن سبقها الحج عن نفسها، وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب، أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج.

وقال المالكية: يكره الحج عن غيره، أي في حالة الوصية بالحج قبل أن يحج عن نفسه، بناءً علي أنّ الحج واجب علي التراخي، وإلّا منع علي القول بأنه علي الفور، وهو المعتمد عندهم.

وقال الشافعية والحنابلة: لا يصح الحج عن الغير مالم يكن النائب قد حج عن نفسه حجة الإسلام؛ لأمر النبي رجلًا يلبي عن شبرمة، فقال له: حج عن نفسك، ثم عن شبرمة، ويحمل ترك الاستفصال في حديث الخثعمية علي علمه (ع) بأنها حجت عن نفسها أولًا، وإن لم يرد لنا طريق علمه بذلك، جمعاً بين الأدلة كلها، ويؤيده حديث آخر:

ص: 63

«لا صرورة في الإسلام» (1).

وهو الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح، بعضه علي شرط مسلم، وباقيه علي شرط البخاري، وقال الشافعي: أكره أن يسمي من لم يحج صرورة، وسمي صرورة لأنه صرّ بنفسه عن إخراجها في الحج، وكذلك قال الحنابلة: تكره تسمية من لم يحج صرورة، لحديث لا صرورة في الإسلام (2).

روايات أهل السنة

استدل فقهاؤهم علي مشروعية النيابة في الحج بالأحاديث التالية:

- عن ابن عباس وعن غيره: أنّ امرأةً من خَثْعَم، قالت: يا رسول الله، إنّ أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يستوي علي ظهر بعيره.

قال: فحُجِّي عنه (3).

وقد رواه أحمد والنسائي بمعناه عن عبد الله بن الزبير بلفظ: جاء رجل من


1- انظر مسند أبو داود. الصرورة.
2- المصدر نفسه.
3- رواه أصحاب الكتب الستة عن ابن عباس، ورواه أحمد والترمذي.

ص: 64

خثعم، يصف حال أبيه الكبير (1).

وكان هذا في حجّة الوداع.

وهو يدل علي جواز الحج عن الوالد غير القادر علي الحج.

- وعن ابن عباس أيضاً: أنّ امرأة من جهينة جاءت إلي النبي، فقالت: إنّ أمّي نذرت أن تحج، فلم تحج، حتي ماتت، أفأحج عنها؟

قال: نعم، حجِّي عنها، أرأيت لوكان علي أمّك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء (2).

فيما رواه الدارقطني بلفظ: أتي النبي رجل، فقال: إن أبي مات، وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟

قال: أرأيت لو أنّ أباك ترك ديناً عليه، أقضيته عنه؟

قال: نعم.

قال: فاحجُجْ عن أبيك.

فقد دلّ هذا الحديث علي إجزاء الحج عن الميت من الولد، وشبهه بالدين.


1- نيل الأوطار 285: 4، سبل السلام 181: 2.
2- رواه البخاري، والنسائي بمعناه عن ابن عباس كما في نيل الأوطار 285: 4 وما بعدها، وسبل السلام 181: 2.

ص: 65

- فيما دلّت رواية أخري وفيها «إنّ أختي نذرت أن تحج» دلت علي صحّة الحج عن الميت من الوارث وغيره؛ لأنّ رسول الله لم يستفصلها أوارثٌ هي أم لا؟

- وعن بريدة أنّه قال: جاءت امرأة إلي النبي فقالت: إنّ أمّي ماتت ولم تحجَّ [يقول صاحب التاج في الهامش: يعني حجة الإسلام] أفأحُجُّ عنها؟

قال: نعم حُجِّي عنها، رواه الترمذي في الحج، ومسلم في الصوم.

فصريح هذه النصوص- كما يقول صاحب التاج الجامع للأصول- يدل علي أنّ من مات وعليه واجب للعباد كالدين أو لله كالحج والكفارة والزكاة والنذر، وجب علي وليه قضاؤه من رأس ماله إن كان، و إلا ندب له قضاؤه، ولو قضاه أجنبي بإذن وليه كفي، ويجب الوفاء بنذر الحج ولا يسقط به الفرض؛ لأنّه أصلي، وقيل: يجزي ء عن النذر وحجّ الإسلام (1).


1- انظر التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول للشيخ منصور علي ناصف 110: 2- 111، وقد ذكر هذه الروايات أصحاب الكتب الستة.

ص: 66

وقد دلّت السنة عندهم علي اشتراط كون النائب قد حجّ عن نفسه، مستندين في هذا إلي ما رواه ابن عباس: إنّ النبي سمع رجلًا يقول: لبّيك عن شُبْرمة.

قال: من شُبْرمة؟

قال: أخ لي، أو قريب لي.

قال: حججت عن نفسك؟

قال: لا.

قال: حجّ عن نفسك، ثمّ حج عن شبرمة.

فيما روي أبو داود وابن ماجة أنّه قال: فاجعل هذه عن نفسك، ثمّ احجج عن شبرمة.

فيما ذكر الدارقطني: هذه عنك وحجّ عن شبرمة (1).


1- أبو داود وابن ماجة، وانظر نيل الأوطار 292: 4.

ص: 67

الشروط

وفي شروط الحج عن الآخر، اشترطت الحنفية عشرين شرطاً للحج عن الغير، نستعرض بعضها مع ذكر آراء الفقهاء الآخرين في أهمّها:

1- النية

أي يجب علي النائب أن ينوي عن الأصيل عن الإحرام؛ لأنه يحج عن الأصيل لا عن نفسه. ويفضل أن يقول النائب: أحرمت عن فلان، ولبيت عن فلان، ونويت الحج عن فلان وأحرمت به لله تعالي، ولبيك عن فلان.

ولو نسي اسمه فنوي عن الأصيل صح، أي أنّ نية القلب كافية، وهذا الشرط متفق عليه عند فقهائهم.

2- العجز

أي أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه، وله مال. وإلّا فلا يصح هذا

ص: 68

النوع من الحج، أي أنه إن كان صحيح البدن وله مال، لا يجوز حج غيره عنه. وهذا باتفاق جمهورهم إلا المالكية الذين لا يجيزون الحج عن الحي مطلقاً، وعليه: لايجوز أن يستنيب في الحج الواجب من يقدر علي الحج بنفسه إجماعاً.

3- استمرار العجز

أي استمرار هذا العجز كالحبس والمرض إلي الموت، فلو زال هذا العجز قبل الموت لم يجزئه حج النائب؛ معلّلين هذا بأنّ جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجي برؤه، فيتقيّد الجواز به.

وأما الحنابلة، فقد قالوا بإجزائه، لأنّه أتي بما أمر به، فخرج عن العهدة كما لو لم يزل عذره.

4- وجوب الحج

فلو حج الفقير أو غيره- ممّن لم يجب عليه الحج- عن الفرض، لم يجز حج غيره، وإن وجب بعد ذلك.

5- وجود العذر قبل الإحجاج.

فلو أحج صحيح غيره، ثمّ عجز، لا يجزيه.

وهذان الشرطان الرابع والخامس

ص: 69

مفهومان بداهة.

6- أن تكون النفقة من مال الأصيل، كلها أو أكثرها، وهو رأي الحنفية، إلّا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه، تبرأ ذمة الميت، إذا لم يكن قد أوصي بالإحجاج عنه، فإن تطوع النائب بالحج من مال نفسه لم يقع عن الميت، وكذا إذا أوصي الميت المورث أن يحج عنه بماله، ومات، فتطوع عنه وارثه بمال نفسه، لا يجزي عن الميت؛ لأنّ الفرض تعلق بماله، فإذا لم يحج بماله، لم يسقط عنه الفرض.

أما الشافعية- وكذلك الحنابلة- فقد أجازوا التطوع بالحج من الوارث أو الأجنبي عن الغير مطلقاً، سواء أوصي الميت أم لم يوص، أو لم يأذن الوارث للأجنبي، كمن يتبرع بقضاء دين غيره.

7- أن يقع الإحرام من الميقات علي النحو الذي طالب به الأصيل. فيما قال الحنابلة: يجب علي النائب الحج من بلد الأصيل؛ لأن الحج واجب علي العاجز أو الميت من بلده، فوجب أن ينوب عنه منه، والقضاء يكون علي وجه الأداء، كقضاء الصلاة والصوم، وكذلك في حج النذر

ص: 70

والقضاء ...

8- اشترطت الحنفية أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير بغير إذنه إلّا الوارث، فله أن يحج عن المورث بغير إذنه، وتبرأ ذمة الميت إذا لم يكن أوصي بالحج عنه، ودليلهم حديث الخثعمية المروي عن ابن عباس.

ولو حجّ عنه أجنبي تسقط عنه حجة الإسلام إن شاء الله تعالي، لأنه إيصال للثواب، وبعد الوصية يجزيه من غير المشيئة.

9- إسلام النائب والأصيل وتوفّر العقل لديهما، فلا يصحّ الحج من المسلم للكافر، ولا من المجنون لغيره، ولا عكسه، ولو وجب الحج عن المجنون قبل طروء جنونه صحّ الإحجاج عنه.

10- أن يكون النائب مطلقاً (بالغاً عاقلًا)، وأجاز الحنفية كون النائب صبياً مميزاً.

وهناك شروط أخري اكتفينا بأهمها، وللمزيد انظر الجزيري في الفقه علي المذاهب الأربعة، والزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته.

ص: 71

ونكتفي بهذا القدر من مشروعية النيابة في الحج عند المذاهب الإسلامية، وقد قلنا: إنّ النيابة تتحقق بالإجارة والتبرع والجعالة، آملين البحث مستقبلًا في الإجارة المذكورة وشروطها وأحكامها.

الحج في الأدب العربي

إدارة التحرير

مناجاة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)

لك الحمدُ ياذا الجودِوالمجْدِ والعُلا تباركت تُعطي من تشاء وتمنعُ

إلهي وخلَّاقي وحرزي وموئلي إليك لدي الإِعسار واليُسر أَفزعُ

إِلهي لئن جلت وجمَّت خطيئتي فعفوُك عن ذنبي أَجلُّ وأوسعُ

إلهي لئن أَعطيت نفسي سؤلها فها أنا في أَرضِ النّدامة أَرتعُ

إلهي تري حالي وفقري وفاقتي وأنت مناجاتي الخفيّة تسمعُ

إلهي فلا تقطع رجائي ولا تزغ فؤادي فلي في سَيب جُودِك مطمعُ

ص: 72

إلهي لئن خيَّبتني أو طردتني فمن ذا الذي أرجو ومَنْ لي يشفع

إلهي أَجِرْني من عذابِك إنني أسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لك أخضعُ

إلهي فآنِسني بتلقين حجَّتي إذا كان لي في القَبْر مثويً ومضجعُ

إلهي لئن عذَّبتني ألف حجة فحبلُ رجائي منك لا يتقطَّعُ

إلهي أذقني طعْمَ عفوْك يوم لا بنونَ ولا مالٌ هنالك يَنْفعُ

إلهي إذا لم ترعَني كنت ضائعاً وإن كنت ترعاني فلست أضيعُ

إلهي إذا لم تعفُ عن غير محسن فمن لمسي ء بالهوي يتمتّعُ

إلهي لئن فرَّطت في طلب التُّقي فها أنا اثر العفو أقفو وأتَبعُ

إلهي لئن أخطأتُ جهلًا فطالما رجوتك حتي قيل ها هو يجزعُ

إلهي ذنوبي جازت الطّود واعتلَت وصفحُك عن ذنبي أجلُّ وأرفعُ

إلهي ينجي ذكرطَولك (1) لوعتي وذِكْر الخطايا العينُ منِّي تدمَعُ

إلهي أنلني منك روحاً ورحمةً فلست سوي أبواب فضلك أقرعُ

إلهي لئن أقصيتَني أو طردتَني فما حيلتي يا ربّ أم كيف أصنعُ

إلهي حليف الحبِّ بالليل ساهرٌ يُنادي ويدعو والمغفّل يهجعُ

وكلهم يرجو نوالك راجياً لرحمتك العُظْمي وفي الخلد يطمَعُ


1- طولك: فضلك وإحسانك.

ص: 73

إلهي يُمنيني رجائي سلامةً وقُبحُ خطيئاتي (1) عليَ

يشيّعُ إلهي فإن تعفو فعفوك مُنقذي وإلّا فبالذّنْبِ المدمِّرِ أُصرَعُ

(إلهي بحقِّ الهاشمي وآله وحرمة إبراهيم خلّك أضرعُ)

إلهي فانشرني علي دينِ أحمد تقيّاً نقياً قانتاً لك أخشَعُ

ولا تحرمنّي يا إلهي وسيِّدي شفاعته الكُبْري فذاك المُشفَّعُ

وصلِّ عليه ما دعاك موحِّدٌ وناجاك أخيارٌ ببابك رُكّعُ (2)

القصيدة الدالّية لابن فارض

خَفّفِ السّير

خفّفِ السّيرَ واتّئِدْ، يا حادي إنّما أنتَ سائِقٌ بِفُؤادي (3)

ما تَري العِيسَ بَينَ سَوق وشَوْق لرَبيعِ الرُّبوعِ، غَرْثَي، صوادي (4)

لم تُبَقّي لها المَهامِهُ جِسْماً غَيرَ جِلْد علي عِظام بَواد (5)


1- خطيئتي.
2- ديوان الإمام علي*، تحقيق الأستاذ: نعيم زرزور.
3- اتئد: تمهل. الحادي: سائق الإبل.
4- غرثي: جائعة. صواد: عطاش.
5- المهامه، الواحد مهمه: الفلاة.

ص: 74

وتحَفّتْ أخْفافُها، فَهيَ تَمْشي مِن وَجاها، في مِثلَ جَمرِ الرّمادِ (1)

وبَراها الوَنَي، فَحَلّ بُراها خَلّها تَرْتَوي ثِمادَ الوِهادِ (2) شَفّها الوَجْدُ، إن عَدِمتَ روِاها

فاسقِها الوَخْدَ مِن جِفارِ المِهادِ (3) واستَبِقْها، واستَبْقِها، فَهْيَ مِمّا

تَترامَي بهِ إلي خَيرِ واد (4) عَمْرَكَ اللهَ، إن مَرَرْتَ بوادي

يَنْبُعٍ، فالدّهْنا، فبَدْرٍ، غادي (5) وسَلَكْتَ النّقَا، فأوْدانَ وَدّا

ن، إلي رابِعِ الرّويّ الثّمادِ (6) وقطَعْتَ الحِرارَ، عَمداً، لِخَيما

قُدَيد، مَواطِنِ الأمجادِ (7) وتَدانَيْتَ مِنْ خُلَيص، فعسْفانَ،

فَمَرّ الظّهرانِ، مَلقَي البَوادي (8)


1- أخفافها، الواحد خف: وهو للبعير بمنزلة الحافر للفرس. الوجي: الحفا.
2- براها: هزلها. الوني: التعب. براها، الواحدة برة: حلقة تجعل في أنف البعير. ثماد الوهاد: بقية الماء في الأراضي المنخفضة.
3- شفها: أنحلها حتي رَقت فظهر ما وراءها. الوجد: الحب. رواها: ما يرويها. الوخد: سير سريع. الجفار، الواحد جفر: البئر الواسعة. المهاد: الأرض المنخفضة.
4- استبقها: اسبقها. استبقها: احفظها. تترامي به: تتقاذف به، يريد تسير عليها.
5- ينبع، والدهناء، وبدر: مواضع. غادي: أراد غادياً أي مبكراً، بالنصب علي الحال من التاء في مررت.
6- النقا، وأودان ودان، ورابغ: مواضع. الروي: المرتوي. الثماد: الماء القليل.
7- الحرار، الواحدة حرة: الأرض ذات حجارة نخرة سود كأنها أحرقت بالنار. قديد: اسم علم.
8- خليص، وعسفان، ومر الظهران: مواضع. ملقي البوادي: ملتقي أهل البادية.

ص: 75

ووَرَدتَ الجَمومَ، فالقَصَر، فالدّكناء، طُرّاً مَناهِلَ الوُرّادِ (1)

وأتَيْتَ التّنْعيمَ، فالزّاهِرَ الزّا هِرَ نَوراً، إلي ذُري الأطوادِ (2)

وعَبَرْتَ الحُجون، واجتَزْتَ، فاخترْ تَ، ازدياراً، مشاهدَ الأوتادِ (3)

وبَلَغتَ الخيامَ، فابْلِغْ سَلامي عَنْ حِفاظٍ، عُرَيْبَ ذاكَ النّادي (4)

وَتَلَطَّفْ، واذكُرْ لهمْ بَعضَ ما بي من غرامٍ، ما إنْ لَهُ مِنْ نفادِ

يا أخلايَ، هل يعود التداني منكُمُ، بالحمي، بعَوْدِ رُقادي؟

مَا أمَرّ الفِراقَ، يَا جيِرَةَ الحَ- - يّ، وأحلَي التّلاقِ بَعدَ انْفرَادِ (5)

كيَفَ يَلتَذّ بالحَياةِ مُعَنّيً بَينَ أحْشائِهِ كَوَرْيِ الزّنَادِ

عُمْرُهُ واصْطِبارُهُ في انْتِقاصٍ وَجَوَاهُ ووَجْدُهُ في ازْدِيادِ

في قُرَي مِصرَ جِسْمُهُ، والأُصَيحا بُ شَآماً، والقلب في أجيادي

إن تعُدْ وقفة، فويق الص- حيرات روحاً سَعِدْتُ بَعدَ بعادِي (6)


1- الجموم: البئر الكثيرة الماء. القصر والدكناء: موضعان. المناهل، الواحد منهل: موضع الشرب. الوراد، الواحد وارد: الذي يأتي الماء ليشرب.
2- التنعيم والزاهر الأولي: موضعان. الزاهر الثانية: المشرق. النور: الزهر الأبيض.
3- الحجون: جبل. الازديار: الزيادة. الأوتاد: الجبال، وأراد هنا الأولياء الصالحين.
4- عن حفاظ: عن تحفظ.
5- قوله التلاق: حذف الياء تجوزاً، مراعاة للوزن.
6- الصحيرات: موضع بعينه. رواحاً: مساء.

ص: 76

يا رَعَي اللهُ يَوْمَنا بالمُصَلّي حَيْثُ نُدْعي إلي سَبيلِ الرّشادِ (1)

وَقِبابُ الرّكابِ، بَيْنَ العُلَيْمَيْنِ ، سِراعاً، لِلْمأزِمَينَ، غوَاديْ (2)

وَسَقَي جَمْعَنا بجَمْع، مُلِثّاً ولُيَيْلاتِ الخيْفِ، صَوْبُ عِهادِ (3)

مَنْ تَمَنّي مالًا وَحُسْنَ مَآل فَمُنائي مِني، وأقصَي مُرادي

يا أُهَيْلَ الحِجازِ إنْ حَكَمَ الدّهْ رُ ببَينٍ، قضاءَ حتمٍ إرادي

فغرامي القديم فيكم غرامي وودادي، كَما عَهِدْتُمْ، وِدادي

قَدْ سكَنتُمْ مِنَ الفُؤادِ سُوَيْداهُ، وَمِنْ مُقلَتي سَوَاءَ السّوَادِ (4)

يا سَميري رَوّحْ بمَكّةَ، رُوحي شادِياً، إنْ رَغِبْتَ في إسْعادي (5)

فَذَرَاها سِرْبي، وطِيبي ثَراها وَسَبيلُ المَسيلِ وِرْدي وَزَادِي (6)

كانَ فيها أنسي وَمِعراجُ قُدْسي وَمُقامي المَقامُ، والفَتحُ بادِ (7)


1- المصلي: موضع. سبيل الرشاد: طريق الخير.
2- العُلَيْمَيْن: تصغير لمثنّي علم: الجبل. المأزمين: الضيقين.
3- ملثاً: دائم المطر، وهو حال مقدم من صوب عهاد، أي المطر من أمطار الربيع.
4- سويداه: حبته. سواء السواد: حبته.
5- سميري: محدثي ليلًا. روح: أعط الراحة.
6- ذراها: ساحتها. سربي: طريقي. سبيل: طريق. المسيل: أي مسيل الماء.
7- معراج: مصعد، سلم. الفتح: أراد به النصر. باد: ظاهر.

ص: 77

نَقَلَتني عَنها الحُظُوظُ، فَجُذّتْ وَارِداتي، وَلَمْ تَدُمْ أوْرَادِي (1)

آهِ لَوْ يَسْمَحُ الزّمانُ بعَوْدٍ فَعَسَي أنْ تَعُودَ لي أعْيَادي

قَسَماً بالحَطيمِ، وَالرّكْنِ، والأسْتَارِ، والمَرْوَتَينِ، مَسعْيَ العِبادِ (2)

وَظِلالِ الجنَابِ، والحِجرِ، والميزَابِ، والمُسْتَجار للقُصّادِ (3) ما شَمِمْتُ البَشامَ إلّا وأهْدَي

لِفُؤادي، تحيّةً مِنْ سُعَاد (4)

***

في بيان حقائق مناسك الحج

عبدالرزاق الكاشاني (ت 736 ه-)

إنّي وَإنْ تَرَني لَحْماً عَلَي وَضمٍ عَوَّلتُ مِن جانِبِ المَولي عَلَي كَرَم

مَؤلَاي مَوْلَايَ مَوْلي مَا اسْتَعَاذَ بِهِ ذوُ فاقَةٍ قَطٌّ إلّا صَارَ ذَا نِعَمٍ


1- جذت: قطعت. وارداتي: ما يرد إلي. أورادي، الواحد ورد: الجزء من القرآن.
2- الحطيم: مكان بمكة. الركن: أحد أركان الكعبة. الأستار: أستار الكعبة، ما تستر به من النسيج. المروتان: هما المروة والصفا: جبلان في مكة. مسعي العباد: أي حيث يسعي العباد في حجهم.
3- الجناب: هضاب في مكة. الحجر: أراد حجر إسماعيل في البيت الحرام. الميزاب: أراد ميزاب الرحمة في البيت الحرام. المستجار: اسم موضع.
4- البشام: شجر طيب الرائحة.

ص: 78

وَلَا تَوَكَّلَ مُسْقامٌ وَ لَادنِفٌ عَلَيْهِ إلّا وَقَدْ عَافَاهُ مِنْ سقَمِ

وَلَا اسْتَعَانَ بِهِ مُسْتَضْعَفٌ وَجِمٌ إلّا وأنْقَذَهُ مِنْ أَزْمَةِ الغَشمِ

فَثِقْ بِهِ وَتَوَكَّلْ فِي بَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ تَحْظ بِهِ فِي البُؤْسِ وَالنِّقَمِ

سَلِّمْ إِلَيْهِ وُجُوداً حَقُّهُ عَدَمٌ ألا تُسَلِّمُ مَالَمْ يَبْدُ عَنْ عَدَم؟!

فَوِّضْ إِلَيْهِ أمُوراً لا تُصَرِّفُهَا فَلَيْسَ فِي يَدِكَ التَّصْرِيفُ بِالقَلَمِ

وجَرِّدِ العَزْمَ وَاسْلُكْ فِي مَحَجَّتِهِ سَهْلًا وَ لافَرْقَ بَيْنَ الرَّأسِ وَالقَدَمِ

مَا نَالَ مَقْصُودَهُ مَنْ كانَ فِي طَلَب وَالعَزم فِيهِ فُتُورٌ شَابَ بِالنَّدَم

إذَا رَأَيْتَ بِعَيْنِ القَلْبِ خَلوَتَهُ فِي صُوَرِة القَادِرِ الفَعَّالِ ذا اعتَصمِ

بِحَوْلِهِ فَلَهُ الحَوْلُ الشَّدِيدُ إذَا فَعَلْتَهُ فَلَكَ الوُثقَي مِنَ العِصَمِ

لَا كَوْنَ لِلخَلْقِ كَيْفَ الحَوْلُ عَنْ عَدَم والقُوَّةُ ابْرَأ بِهِ مِنْ كُلِّ مُتَّهم

إِذَا قَدَرْتَ عَلَي ذَا فَاعْلَمَنَّ بِهِ بِأَنَّهُ مُقَدِّرٌ إِيَّاكَ لَاتُهَمِ

وَاطلُبْ مَرَاضِيَهُ فِيَما فَعَلْتَ وَكُنْ عَنْ فِعْلِهِ رَاضِياً فَالْكُلُّ بِالْحِكَمِ

وَاحْرُزْ قُوَاكَ وَمَا مِنهَا بِرُمَّتِهِ فَإنَّها فَضَلاتٌ فِيكَ كَالزّنَمِ

وَانظُرْ إلَي المُمْكِنِ المَوْجُود عَنْ عَدَم فَإِنَّ مَوْقِعهُ لا شَيْ ءَ فِي القِدَمِ

وَمَا حقِيقَتُهُ أمْرٌ تُخيِّلُهُ فَلا وُجُودَ لَهُ، وَاللهِ- ذا!- قَسَمِ

إِنَّ المُوَحِّدَ لَمْ يُبْصِرْ سِوي أحَدٍ وَلَايَري أحَدٌ نَهْجاً سِوي امَمِ

فَوَجهُهُ مُتجَلٍّ، أَينَ ذُو بَصَرٍ؟ وَنَهْجُهُ مُستَقِيمٌ، أيْنَ ذُو قَدَم؟

ص: 79

وَجَّهْتُ وَجْهِي للهِ الَّذِي فَطَرَ ال- .. أعيَانَ لِلكُلِّ وَالأَرواحَ لِلنِّسَمِ

أَحرَمْتُ عَمَّا سِواهُ قاصِداً سَنَداً إِلَيهِ مُستَنَد الأَحياءِ وَالرِّسَم

مِمَّا حواهُ يَدِي أو ضَمَّهُ خَلَدِي بَرِئتُ قَبْلُ دُخُولِي حَوْمَةَ الحَرَمِ

إذا خَلَعتُ صِفاتِي لابِساً صِفَةَ ال- .. قُدُّوسِ فَكَّرْتُ فِي تَقْبِيِلِ مُسْتَلِمِ

وَطُفتُ بِالبَيْتِ كَالأَ مْلاكِ حَوْلَ حمَي ال .. جَبّارِ طَوْفاً عَلَي الهاماتِ وَالغَمَمِ

وَكُنْتُ إِذ شاهَدَ الرُّوحُ الجَمَالَ كَمَا صَلَّي الخَلِيلُ أصَلِّي تِلوَ مُحتَشمِ

ثُمَّ المَشاهِدُ صَفَّي القَلْبَ عِزَّتُهُ وَالنُّورُ مِنهُ سَعي فِي النَّفسِ وَالإِدَمِ

وذاكَ سَعيٌ مِن طُور الصَّفاءِ إلي جُلمُودِ مَرْوَةَ بِالأشواطِ مُختَتَمِي

تُفني البَقِيَّةُ مِنِّي بَعْد بَاقِيَة إفْناؤُها الحُرمَةُ العُظمي مِنَ الحَرَمِ

فَكَانَ آخِرُ أطوارِي لِمُعتَمَرِي وَالحِلُّ يَحْكُمُ بِالتَّقْصِيرِ ذا حكم

فَأَوجَبَ الحُبُّ إحرامَ الفناءِ لَهَا فَيَالَها عَزْمَةً مِنْ أَوفَقِ العِزَمِ

إذ كُنتُ أُنشأُ إِحرَاماً وَمُنشِئُهُ ذَاكَ الحَبِيبُ يَقِيناً لَيْسَ ذا غمَمِ

فَسِرْتُ فِيهِ بِهِ حَتّي وَقَفْتُ لَهُ فِي مَوْ قِفٍ عَرَفات وَسْم ذَا العَلَمِ

وَالجَمْعُ بَعْدَ صَلوةِ الصُّبحِ مُزدَلِفٌ وُقُوفُهُ رافِعُ التَّلوِينِ وَاللَّمَمِ

فَذَاكَ بَعْدَ زَوالِ الرُّوحِ فانِيَةً وَذا بِنُورِ جَمالِ الذّاتِ مُختَتَمِي

وَعِندَ قُوَّةِ نُورِ الشَّمسِ قدْ فَنِيَتْ مِنِّي البَقايا حويً مُسوّدَةَ الحِمَمِ

طَفِقْتُ أَرمِي وَ لا أَرمِي حصَيَّتها لكِنّ رَامِيَها رامِي قوِي صَنَمِي

ص: 80

أَعْنِي أنَانِيَّتِي طَرْداً وَمَا تَبِعَتْ فَإنَّها جَشَمُ الشَّيطانِ لا جَشَمِي

وَكُنْتُ أَذْبَحُ نَفْسِي كَالخَليلِ إِذا رُؤياهُ صَدَّقَها فِي صُورَةِ الغَنَم

وَكُلُّ مَا تَبِعَتْها مِنْ غَرائِزها وَالحَلقُ رَمزٌ إِلي إِفناءِ ذِي الشِّيَمِ

ثُمَّ اسْتَقَمْتُ بِهِ فِيما أُمرِتُ بِهِ فَطُفتُ لِلحَجِّ وَاستأنَفتُ مُنتَزَمِي

مِمَّا فَعَلتُ بِنَفْسِي عِنْدَ مُعتَمِرِي وَالرَّمي نَفيُ ثَلاث فِيَّ كَالوَذَمِ

منفِيَّةٌ وَجَدت بِاللهِ ثَابِتَةً أَفعَالها أشْبَهَتْ فِي أَعيُنِ الأُمَمِ

شَتَّان بَينَهُمَا فِي الَحالَتَيْنِ بَدَا مِنهَا التَّفاوُتُ بَينَ النّاس فِي القِيَمِ

تِلكَ المَناسِكُ مَقضِيّاتُ صاحِبِكُم وَهُوَ الَّذِي مَعَكُم فِي القَاعِ وَالأكَمِ

لَعَلَّ مَنْ سَمِعَتْ أُذُناهُ قِصَّتَهُ يُمْسِي يُكَذَّبُ أوْ يَرْمِيهِ بِالهرَمِ

يَقُولُ كَيْفَ؟ وَمَا حَانَتْ مَواسِمُها وَأَيْنَ بَكَّة وَالرُّكبانِ فِي اللُّقَمِ

هَذا وَقَدْ عُذرا إذ كانَ مَا سَمِعوُا شيئاً فُؤَادُهُمُ عَنْ فَهمِ ذاك عَمِي

أَكَانَ ذلِكَ حَقّاً لَمْ يَكُونُ وَكُنتُ حِينَئِذ يَقْظانُ لَمْ يَنمِ

كَأَنَّ أَعيُنُهُمْ كَفَّتْ بِأغشِيَة وَسُدّ إِذ أَنَّهُمْ عَنْ ذاكَ بِالصِّمَم

يَا أيُّهَا العَارِفُ المَقْضِيُّ حجَتَهُ صَدِّق فَإنَّهُمُ فِي الحَجِّ كَالنِّعَمِ

إلّا أَوَامِرَ تَشْرِيع قَدْ امتَثَلُوا فَاستنقَذُوامِنْ عَذَابِ النَّارفِي الخِصَمِ

وَاسْتَسعَدُوا بِنَعِيم لا يُكَدِّرُهُ خَوْفُ النّفَادِ وَ لَا التَّنغِيص بالشنم

زُرْتُ الحَبِيبَ إذَا طَهَّرْتُ مُتّبِعاً لهديه قَاضِياً لِلْحَقِّ فِي العظمِ

ص: 81

خُذْهَا عَجِيبَة أَحْوَالِي فَمَا سَمِعَتْ أُذُنٌ نَظِيرَتَها فِي العُرْبِ وَالعَجَمِ

شُكراً لأِنْعُمِهِ حَمْداً لِقِسْمَتِهِ فَقَدْ رَضِيتُ مِنْ الجَبَّارِ بِالقِسَمِ

***

ص: 82

حوار مع ممثّل الولي الفقيه لشؤون الحج والزيارة

سماحة حجة الإسلام والمسلمين

محمدي الري شهري،

حول خصائص الحج للعام 1424 ه-. ق

التقينا- و علي العادة في كل عام بعد حج التمتع- سماحة حجة الإسلام والمسلمين محمدي الري شهري- دامت إفاضاته- ممثل الولي الفقيه ومسؤول بعثة الحج في الجمهورية الإسلامية، لنوقف قراءنا الكرام علي كيفية إقامة مراسم الحج والمشاكل التي تواكب هذه الشعيرة، وتقديم تقرير عن أهم النشاطات والأعمال الثقافية لحج عام 1424 ه-. ق.

ص: 83

ميقات الحج: نشكر سماحتكم علي إتاحة الفرصة، ما هو تقويمكم لحج عام 1424 ه-. ق؟

الشيخ الري شهري: بسم الله الرحمن الرحيم، بعد الشكر والتقدير لجهود الإخوة العاملين في مجلة «ميقات الحج» نحاول الإجابة عن سؤالكم ضمن المحاور التالية:

1- إحصائية الزائرين الإيرانيين طبقاً لآخر التقارير:

بلغت إحصائية الحجاج القادمين من إيران إلي المملكة العربية السعودية في عام 1424 ه-. ق (96103) حاجاً، بينهم ما يقرب من (1813) زائراً أفغانياً، و (167) زائراً عراقياً، وما عدا هؤلاء من العاملين في خدمة الزائرين، وهم عبارة عن أعضاء البعثة، واللجنة الطبية، والإذاعة والتلفزيون، وقرّاء القرآن الكريم، والطاقم الجوي، وغيرهم من أفراد المؤسسات المعنيّة، ومن العاملين في إعداد البرامج الغذائية المركّزة، ولجان الإشراف علي الذباحة.

ص: 84

ومن الجدير بالذكر أن تكاليف سفر (527) شخصاً قد دفعت مسبقاً من قبل الجهات المختصة، ونصف تكاليف (30) قارئاً للقرآن دفعت من قبل وزارة الأوقاف والامور الخيرية.

وقد بلغت مجموع رحلات الحجاج الإيرانيين (522) رحلة، كانت نسبة الرجال فيها (78/ 53%)، ونسبة النساء (13/ 46%)، وأما نسبة الذين يعرفون القراءة والكتابة من مجموع الحجاج فكانت تزيد علي (55%).

هذا، وقد بلغ مجموع الحجاج القادمين

ص: 85

من مختلف البلدان إلي السعودية حسب آخر الإحصائيات (706/ 419/ 1) زائراً، ومجموع حجاج عام 1424 ه-. ق يقرب من (000/ 300/ 2) زائراً، ومن ذلك يظهر أن ما يقرب من (800) ألف حاج هم من أبناء الشعب السعودي.

لقد كشفت بعض الإحصائيات أن دخل الدولة السعودية خلال موسم الحج كان زهاء (2/ 5) ميليارد ريال سعودي، أي ما يعادل (45/ 1) مليارد دولار.

2- الشعور بالحاجة إلي منجي:

كان الشعور بالحاجة إلي قائد ومنج واحد للعالم الإسلامي في حج العام الماضي يفوق الإحساس بالحاجة إلي ذلك في السنوات الماضية، فأهم الخصائص التي يمكن بحثها فيما يرتبط بحج عام 1424 ه-. ق هو اهتمام العالم الإسلامي وشعوره بمنطقة الفراغ والحاجة إلي قيادة الامة الإسلامية، وها نحن نجد هذا الشعور يتزايد وينتشر في العالم شيئاً فشيئاً.

لقد بحثنا موضوع المهدوية في هذا العام مع حجاج سائر البلدان، سواء في لقائهم معنا أو مع أعضاء البعثة، حيث

ص: 86

طرح هذا الموضوع أكثر من السنوات السابقة، ومن الملفت للنظر أن ذلك كان- وبدون علم مسبق منّا أو تنسيق- محور أبحاث أكثر الاجتماعات و الملتقيات، وأيضاً محور أبحاث بعثة قائد الأمة علي المستوي العالمي.

3- قراءة دعاء كميل بين حرم رسول الله و أئمة البقيع:

الأمر الآخر الذي يعتبر من خصائص حج العام الماضي هو أداء مراسم دعاء كميل علي أحسن وجه، والسبب في ذلك شعور الحكومة السعودية بالخطر تجاه نشاط الوهابيين المتشددين، حيث شدّدت الحكومة الرقابة تحسّباً للأحداث المحتملة، مما أدي إلي انخفاض عدد المشاركين من الحجاج غير الإيرانيين، حتي أن البعض كان يقف جانباً وعلي بُعد من محل إقامة الدعاء، لكننا شهدنا حضوراً ومشاركةً أكثر للحجاج في الأدعية الاخري، لقد أوضحت أحداث دعاء كميل في الحج الماضي أن بين الحركة الوهابية والمسؤولين السعوديين في هذا الشأن اختلافاً واضحاً.

وقد قررت جماعة من الوهابية في أول مراسم دعاء كميل لحجاج بيت الله الحرام

ص: 87

(المدينة بعد الحج)- والذي يعتبر في الحقيقة المراسم الثالثة لهذا الدعاء في هذا البلد الطيب- مداهمةَ المشاركين في هذه المراسم، لكن الحكومة السعودية واجهتهم وقبضت عليهم، فعلي الرغم من وجود بعض المخاطر تمكّنا- وبحمد الله- من إقامة دعاء كميل علي أربع دفعات ولجميع المشاركين في مراسم الحج (المدينة قبل الحج، والمدينة بعد الحج) وذلك بمشاركة عالية وحضور فائق ومعنوية خاصّة من جانب الحجاج.

4- مراسم البراءة من المشركين:

كانت مراسم البراءة من المشركين عام 1424 ه-. ق والتي أقيمت في صحراء عرفة من أكثر المراسم عظمة وجزالة، لكن الحكومة السعودية لم تكن قد سمحت لنا عشية عرفة في إعداد المخيمات حتي طلوع الفجر لإقامة هذه المراسم، ولكنّا سرعان ما عدنا إلي عرفات وقمنا بتشييد الخيام لغرض مراسم البراءة.

كانت مشاركة الحجاج غير الإيرانيين قياساً بمراسم البراءة في الأربعة عشر سنة الماضية- وهي مدّة استلامي لمسؤولية

ص: 88

البعثة- أكثر حماساً و مشاركة.

5- قراءة بيان قائد الثورة الإسلامية:

تعالت الهتافات ضد أمريكا وإسرائيل لدي قراءة بيان قائد الثورة الإسلامية باللغة الفارسية والذي ترجم إلي اللغة العربية أيضاً، ومن الخصائص الاخري لحج عام 1424 ه-. ق زيارات الحجاج غير الإيرانيين الكثيرة والواسعة النطاق لمقرّ بعثة السيد القائد، حتي أن المقرّ كان يضيق بالحاضرين أحياناً، ولم نجد الفرصة للقاء زائرين جدد، وهذا الأمر يدل علي أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران، صارت نقطة الانطلاق وأمل المسلمين، وأنّ هذا الأمل يتزايد يوماً بعد آخر.

6- لقاء مسؤولي البعثات الاخري:

التقينا ستة عشر شخصاً من مسؤولي البعثات من سائر البلدان، أمثال وزير الحج الجزائري، ووزير الحج والأوقاف اليمني، ومسؤولي البعثات في أفغانستان، وعمان، والعراق، وحزب الله، وكانت اللقاءات مفعمة بجوٍّ من الودّ والمحبة، حيث تناولنا معهم الامور ذات العلاقة بين الجانبين.

ص: 89

7- لقاء الشخصيات العلمية والسياسية البارزة:

كان لنا لقاءات مفيدة مع عدد من الشخصيات العلمية والسياسية سواء في داخل البعثة أو خارجها، فقد التقينا الشيخ صالح الحصين مسؤول شؤون الحرمين، وتحدثنا معه حول ظاهرة العام الماضي، وهي ترجمة خطب وكلمات بعض أئمة الجماعات والتي تضمّنت بعض الإهانات للشيعة، بل وجَّه بعضها الإهانة لشخص رسول الله، وقد طلبت التصدي بحزم لمثل هذه الأمور، كما التقينا وزير الحج اليمني، وهو شاب فاضل، له معرفة بأمور بلدنا، وعلي وعي واطلاع علمي جيد.

وعلي أيّ حال، إنّ بإمكان مثل هذه اللقاءات أن تكون مفيدة ومجدية لكلا البلدين.

8- الملتقيات:

عقدنا في حج العام الماضي (12) ملتقي، كان زهاء النصف منها علي مستوي عالمي، وعلي ضوء التقارير الواصلة إلينا، كان عدد المشتركين في هذه الملتقيات ما يقرب من الأربعة آلاف شخصية من مختلف الممالك والأقطار.

ص: 90

9- نشاطات قسم المذهب السني:

كان لقسم المذهب السني في البعثة نشاطات فاعلة وقوية، حيث كانت لهذا القسم- وبالإضافة إلي اللقاءات الإعلامية العادية- لقاءات خاصة مع شخصيات علمية ودينية سعودية وغيرها من مختلف البلاد الإسلامية.

10- تفعيل نشاط الحركة الوهابية:

شدّدت الحكومة السعودية من الرقابة الأمنية في حج العام الماضي خوفاً من مداهمة المتشددين للحجاج، فكان السلفيّون تحت ضغط الدولة السعودية، ولم يواجه الحجاج الإيرانيون في هذا المجال أيّة مشاكل تذكر.

علي أنّ السلفيين ضاعفوا من نشاطهم ضد الشيعة عن طريق توزيع الكتب والنشريات والأشرطة، إلّا أنّهم مع ذلك لم يتمكّنوا من خلق مشاكل لحجاجنا، فكان موسم الحج لعام (1424) الموسم الوحيد الذي لم يتحدث فيه خطباء مسجد النبي والمسجد الحرام ضد الشيعة، فبعثت رسالة شكر عن طريق سفيرنا في السعودية إلي السيد الأمير نايف وزير الداخلية

ص: 91

للمملكة العربية السعودية جاء فيها: إنّ هذه السنة هي السنة الأولي التي لم يَمس الخطباء في صلاة الجمعة المذاهب غير الوهابية بسوء.

11- أصداء نجاح حزب الله- لبنان:

لقد كانت لنجاحات حزب الله لبنان علي صعيد تحرير الأسري والمعتقلين اللبنانيين والفلسطينيين؛ أصداء إيجابية واسعة في الحج الماضي، كما أدي بث احتفالات تبادل الأسري إلي تعميق الارتباط بحزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان أكثر فأكثر.

12- أصداء أخبار الانتخابات النيابية (الدورة السابعة):

كان لأخبار انتخابات مجلس الشوري السابع في إيران والخلاف الناجم عن ذلك آثارها السيئة في نفوس الحجاج، خاصة المتابعين منهم لتطور الامور السياسية في إيران، حيث كانوا يتساءلون عن سرّ الاختلاف والأسباب الباعثة لذلك.

13- الحضور الفاعل للزائرين العراقيين:

من خصائص حج سنة (1424 ه-. ق) الحضور الفاعل للزائرين والشيعة العراقيين، والذي يعتبر فريداً من نوعه

ص: 92

بعد سقوط صدام، حيث قامت المملكة العربية السعودية- كما قيل- بدفع بعض تكاليف هؤلاء الزائرين.

لقد كان الحجاج العراقيون في السنوات الماضية يخضعون للرقابة المشددة، حيث كان عناصر النظام يتابعون علاقات الحجاج العراقيين مع غيرهم بدقة، لكنهم في هذا العام شعروا بحرية مطلقة.

14- مشاكل قرب البقيع:

كنّا نواجه في حج العام الماضي بعض المشاكل قرب البقيع واحد، لكن حيث لم يكن لعناصر الأمر بالمعروف أو بالأحري: السلفيين حضوراً فاعلًا سنح ذلك للحجاج أداء شعائرهم بحرية تامة، وبالطبع كان لبعض الزائرين الإيرانيين وغيرهم سلوك ابتزازي حيث كانوا- ومن خلال الصلاة داخل وخارج المقبرة- يقدّمون الذرائع للسلفيين، مما دفعنا للتفكير في إيجاد حلّ لهذه المشكلة في السنوات القادمة.

15- إرسال (145) إمرأة مبلّغة:

لقد استفدنا في حج عام (1424)- ولأول مرة- من الخدمات الثقافية لبعض المرشدات لفئة خاصة من الحجاج، أي

ص: 93

النساء، فقد وردت تقارير حاكية عن النجاح الباهر- والذي فاق تصورنا- الذي حققته المرأة المبلّغة، وها نحن نبارك جهود الأخوات والحوزات العلمية، ونسأل المولي القدير لهم المزيد من التوفيق.

لقد كان لهذه الأخوات في مكة والمدينة برامج إرشادية وتعليمية أيضاً، ونحن نأمل من خلال وضع خطة خمسية- علي مدي خمس سنوات- إعداد المرأة المرشدة للقيام بدورها في جميع رحلات الحج.

لقد استقرّ عدد من الأخوات المرشدات في مقرّ البعثة لتلقي المسائل الشرعية المرتبطة بالمرأة والإجابة عنها، وكنّ قد حضرن أيضاً في مسجد الشجرة ساعة رحيل الحجاج إلي مكة؛ لغرض الإجابة عن أسئلة النساء.

16- الإجابة عن المسائل الشرعية:

كان لأعضاء لجنة الاستفتاء المستقرة في بعثة السيد القائد حضور فاعل ومستمر منذ بداية شعائر الحج وحتي انتهائها، حيث كانوا- وطبقاً لبرنامج مدروس- يجيبون عن أسئلة السائلين في جميع مواقيت

ص: 94

الحج والمسجد الحرام والمشاعر، حتي أن الشيعة من العراقيين والأفغان وسائر البلدان الاخري كانوا يرجعون في مسائلهم إلي لجنة الاستفتاء ويتلقّون الإجابة منها.

17- عمل الرابطين بين البعثة والمبلّغين:

من خصائص حج عام (1424) الاخري تقويم الأعضاء في البعثة لأعمال علماء الدين ومساعديهم في مكة والمدينة، حيث تمَّ عن طريقهم اختيار (76) عالماً دينياً، رفعت معاونية شؤون علماء الدين أسماءهم إلينا، حيث نأمل الاستفادة التامة من هؤلاء الأفاضل في المستقبل.

18- اللجان الإرشادية:

بذلت لجان الإرشاد في حج عام (1424) جهوداً قيّمة، حيث تمَّ تشكيل هذه اللجان في إيران، وقد وزّعت عليهم كراريس تتعلق بالعمل الإرشادي ليمارسوا علي ضوئها أعمالهم الثقافية، ويساعدوا علماء الدين ومسؤول كل رحلة وزائريها، وكانت نشاطاتهم جيدة ومرضية للغاية.

تتضمن هذه اللجان (110) أشخاص

ص: 95

يملكون شهادة الدكتوراه، و (198) شخصاً يملك شهادة الماجستير، و (933) شخصاً يملك شهادة البكالوريوس، و (103) من طلاب العلوم الدينية، وإنّي لأري من اللّازم أن نشكر مساعي جميع المتعاملين مع لجان الإرشاد.

19- استقصاء آراء الزائرين:

تمشياً مع برنامج العام الماضي، تمّ توزيع ملزمة في ثلاثة عشر صفحة تتضمّن (215) سؤالًا للزائرين، مما يمكن لحصيلة الإجابات عليها التأثير في اتخاذ السبل المناسبة لمعالجة المشاكل في السنوات القادمة.

20- مشاركة نخبة من قرّاء القرآن الكريم في الحج:

من جملة النشاطات الثقافية لعام (1424) مشاركة نخبة من قرّاء العالم الإسلامي في مراسم الحج، حيث اجريت مراسم تلاوة القرآن في المسجد الحرام.

ومن تلك النشاطات أيضاً توزيع كراريس إرشادية علي علماء الدين لغرض الإجابة عن شبهات الفرقة الوهابية، وعرض تقرير عن كيفية حج المواطن الإيراني قياساً بحج المواطن المسلم من

ص: 96

سائر البلدان، وتشكيل الجلسات داخل البعثة للزائرين الإيرانيين، وغير ذلك.

21- التغطية الإعلامية الشاملة لمراسلي الجمهورية الإسلامية و ...:

تعتبر التغطية الإعلامية القويّة والمؤثرة التابعة لمراسلي الجمهورية الإسلامية والإذاعة والتلفزيون من خصائص حج العام الماضي، حيث انعكست آثارها المعنوية في أرجاء البلاد، وأني لأتقدم بالشكر لما بذله جميع هؤلاء الأعزاء من جهود في هذا المجال.

إن الرحلات الجيّدة والمشتملة علي الطبقة المثقفة بحاجة ماسة إلي «نشرية الزائر».

لقد قمنا بتجهيز رحلة أساتذة الجامعات بالحاسوب والانترنت، لكننا نشعر بأنّه لابد من مزيد اهتمام بهذه الطبقة في السنوات المقبلة، وأنّه لابد من تعميم الخدمات الالكترونية والأجهزة المتطورة إلي جميع الطبقات.

22- النقل المباشر للزائرين إلي المدينة و ...:

استطاع المسؤولون التنفيذيون نقل (46432) زائراً بشكل مباشر إلي المدينة، ونقل (47918) زائراً- ممّن كان في

ص: 97

المدينة بعد الحج- إلي إيران.

هذا وقد لعب ما يقرب من 60% من منازل الزائرين الواقعة في المنطقة المركزية والفنادق المحيطة بالمسجد النبوي الشريف دوراً في تنشيط الحالة المعنوية لدي الزائرين.

23- الطهي المركزي:

يعتبر الطبخ المركزي للطعام للذين نزلوا الفنادق المحيطة بالمسجد النبوي الشريف في المنطقة المركزية، ومنح رخصة طهي الطعام داخل القوافل؛ خارج

ص: 98

المنطقة المركزية، وأيضاً التطبيق المنتظم لبرنامج الذبح، وذبح 62% قرباناً يوم عيدالأضحي، و 38% في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة، كلّ ذلك يعتبر من خصائص حج العام 1424 ه-. ق

24- السلبيات والنواقص وبعض المشاكل:

واجهنا في حج عام 1424 بعض النواقص في الجانب الخدمي، من قبيل الحمل والنقل داخل المدينة، عدم كون بعض الأبنية مناسباً، وجود بعض النواقص في قسم التموين، التأخير للرحلات الجوية، وعدم توفّر الأمور الخدمية المناسبة للزائرين و ...، هذه وغيرها كانت من مشاكل الحج في العام الماضي، والتي نأمل رفعها والحدّ من تكررها بوضع الخطط المناسبة.

ميقات الحج: ذكرتم بعض المشاكل والنواقص، هل فكرتم في إيجاد حلول مناسبة لذلك؟

ص: 99

الشيخ الري شهري: كما ذكرنا لكم أنه علي الرغم من النجاح الذي حققناه في حج العام الماضي واجهنا بعض المشاكل والنواقص، وهي عبارة عن:

أولًا: ازدحام الحجاج في بعض خطوط باصات الحمل والنقل داخل مكة، خصوصاً في موقف نفق باب علي، فقد كان ازدحام الحجاج شديداً جداً، والسبب في ذلك عدم الانضباط، حيث كان بعض الزائرين من باقي الدول يرتقون هذه الباصات فيضاعفون من المشاكل، كان تردد وسائط النقل العامة في منطقة المسجد الحرام يضاعف أيضاً من المشكلة، من اليوم الرابع وحتي اليوم الثامن من ذي الحجة، وذلك بسبب شدة ازدحام الحجاج.

هذه هي مشكلتنا في كل عام، والسبب الرئيس فيها تزايد عدد الحجاج، وفقدان الإدارة الصحيحة للسير، وهي مشكلة لا علاقة لنا بها.

إنّ هناك مساعي وجهود حثيثة من قبل البعثة ومؤسسة الحج، الغرض منها التعرف علي بعض المشاكل من أجل رفعها في السنوات

ص: 100

القادمة، لكن مشكلة الازدحام مشكلة قائمة لا يمكن حلّها حتي علي مدي السنوات القادمة.

ثانياً: كانت بعض منازل مكة تعاني من نواقص، لكننا قررنا بعد دراسة الموضوع دفع مبالغ للزائرين المقيمين فيها تعويضاً لهم بذلك عن النقص الحاصل.

ثالثاً: الضعف الذي كانت تعاني منه بعض فروع التموين الغذائي، فقد برزت مشكلة في الألبان والمشروبات الغازية مثلًا، لكنها سرعان ما ارتفعت بجهود بذلتها البعثة ومعاونية التفتيش ومؤسسة الحج والزيارة.

رابعاً: التأخير الحاصل في الخطوط الجوية أو عدم تقديم الخدمات المناسبة في بعض الرحلات الجوية، وقد تقدمنا إلي المسؤولين في هذا المجال بجملة ملاحظات.

بالطبع، لا تعدّ هذه المشاكل شيئاً أمام الخدمات الكثيرة التي تقدّم إلي الزائرين، لكن في الوقت نفسه لابدّ من معالجتها لتحاشي ارتكابها في السنوات المقبلة.

ص: 101

ميقات الحج: يبدو أنّ معاملة الدولة السعودية للإيرانيين بدأت تتحسن قياساً بالحالة السابقة، وأنّ الخناق قد ضاق علي الحركة الوهابية، فما هو نظركم في ذلك؟

الشيخ الري شهري: كانت معاملة الدولة السعودية في حج العام الماضي ممتازة قياساً بالسنوات الماضية، فقد كان لهم تعامل طيب وحازم في إقامة مراسم دعاء كميل، علي العكس من الحركة الوهابية والسلفيين، حيث كانت معاملتهم قياساً بالماضي أشد وأغلظ.

والسبب في ذلك- حسب تقديري- واضح، وهو أنّه كلّما استوثقت العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدولة السعودية أكثر، شعر الوهابيون بعزلة أكثر، حتي أنّ ذلك ينعكس سلباً علي تصرفاتهم، حيث تسعي الحركة لابتزاز الإيرانيين والتعامل معهم بشدّة، ولعلّ ذلك يدعو الإيرانيين إلي المواجهة، ومن ثمّ يؤثر علي العلاقات بين إيران والدولة السعودية.

ص: 102

لذا، فنحن ندعو الزائرين الإيرانيين، خصوصاً المسؤولين في مؤسسة الحج والزيارة، إلي الحذر وعدم تقديم الذرائع للوهابيين في ارتكاب أي عمل يصبّ في صالحهم.

ميقات الحج: برزت عدة مشاكل في العمرة من السنة الماضية بسبب مشاركة بعض الشركات في تقديم الخدمات إلي المعتمرين، فما هي الإجراءات المتخذة في السنة الحالية لعدم تكرر مثل ذلك؟

الشيخ الري شهري: لم تتمكن بعض الشركات التي تعمل تحت رعاية مؤسسة الحج والزيارة من تقديم الامور الخدمية المطلوبة للزائرين، مما أدي إلي عدم ارتياح جماعة من المعتمرين، وذلك لارتفاع الأسعار، وعدم التغطية الكافية والمطلوبة للزائرين، وهذا الأمر يعني أنّ رقابة مؤسسة الحج والبعثة لو ارتفعت فإنّ ذلك لا يؤدي إلي خفض الأسعار فحسب بل سوف يزيد من المشاكل، والسبب فيه واضح، وهو أن مؤسسة الحج لا تطمح إلي الكسب والربح، بل تسعي إلي أخذ الأسعار

ص: 103

المناسبة لأداء العمرة، وتقديم خدمات أفضل إلي الحجاج لكسب المزيد من رضاهم.

إنّني أقترح علي مؤسسة الحج تقديم تقرير عن المشاكل والصعوبات التي كان يعاني منها المعتمرون الذين ذهبوا إلي العمرة علي نفقاتهم الخاصة- ولطالما كرر ذلك السيد رئيس قنصلية الجمهورية الإسلامية في جدّة ومكاتب ممثلية الحج والزيارة في مكة والمدينة- ليتمّ نشرها في مجلة «ميقات الحج» ليطلع عليها عامة الناس.

كما أقترح ترتيب لقاءات خاصة مع الزائرين الذين عانوا من تلك المشاكل، ليكون ذلك رادعاً للذين يتخذون المواقف ضد مؤسسة الحج والزيارة.

ونحن بدورنا قدّمنا تقريراً في جميع ما ذكرناه آنفاً إلي السيد القائد سماحة آية الله الخامنئي، فأمر سماحته بأن يكون العمل في كل ما يرتبط بامور العمرة مركزياً كما هو الحال في الحج والزيارة، والتصدي القانوني لكل من يتخلّف ويعمل علي خلاف ذلك.

ص: 104

يذكر أنّ مؤسسة الحج والزيارة قد تحمّلت الكثير من المشاكل عبر هذه القنوات، ولكنّها لا تزال صامدة لتتمكن من أداء وظائفها علي أفضل وجه، ونحن نأمل عدم تكرر مشاكل العام الماضي، ونرجوا لمؤسسة الحج والزيارة تهيئة أجواء هادئة وجيدة للمعتمرين في السنة القادمة.

ميقات الحج: أصدرت الدولة السعودية بياناً يسمح بالتشرّف بالحج كلّ خمس سنوات مرة واحدة، ما هو رأيكم في ذلك، وما هي وصيتكم للناس؟

الشيخ الري شهري: لا نعلم إلي الآن أن قرار الدولة السعودية في هذا الشأن هل هو قطعي أم لا؟ لكن لو نفّذت السلطات السعودية ذلك فهو في رأينا عمل جيّد. لو يفسح الذين تشرّفوا بالذهاب إلي الحج المجال أمام المستطيعين- ممّن لم تسنح له الفرصة بسبب العدد المحدود- للتشرف بالحج، فانّ ذلك

ص: 105

عمل مفيد قطعاً، ليس علي مدي خمس سنوات بل إلي الأبد.

لقد سألت في لقائي السيد غلام الله وزير الحج الجزائري، فقلت له: كيف تتعاملون مع هذه المشكلة؟ فأجاب: لقد تمكّنا من إرسال ثلاثين ألف حاج من أصل مائة وثلاثين ألف شخص، لذا نحن في كل عام نرسل الحاج علي أساس القرعة، والمشاركون في القرعة هم ممن لم يذهب إلي الحج قط، وليس لمن ذهب مرة واحدة إلي الحج حق المشاركة في صناديق الاقتراع، والأمر الملفت للنظر أنّ القرعة لو لم تصب اسم الشخص المتقدم بالطلب فإنّه يمنح في القرعة الثانية سهمان، فإن لم تصب ففي القرعة الثالثة ثلاثة أسهم، فإن لم تصب القرعة اسمه أبداً فانه يذهب إلي الحج بلا قرعة.

وباعتقادي، إن هذه السبل أقربها إلي العدل، وقد ورد في بعض الأخبار أن أول عدل يقيمه الإمام المهدي بعد ظهوره في المسجد الحرام أنّه لا يسمح بأداء الطواف

ص: 106

المستحب حتي يتمكن أهل الطواف الواجب من أداء طوافهم، فإنّه إذا منع من الطواف المستحب فإنّه سوف يمنع عن الحج المستحب بطريق أولي، إلّا أن تكون الإمكانات بنحو يتمكّن عامة الناس معها من اغتنام فرصة الحج، وعليه، فإذا كانت حصة الجمهورية الإسلامية (90) ألف حاج، فلابد من تخصيصها بمن لم يؤدّ حجه الواجب، ولا شك أن الذين ذهبوا لأداء الحج الواجب بإمكانهم فسح المجال أمام الآخرين لأداء حجهم الواجب، ويأتوا بدل ذلك بالعمرة.

يذكر أن لدينا أعداداً كثيرة من المتقدمين بطلب الحج من دون أن نشترط عليهم شيئاً سابقاً، وقد لا نتمكن في الوقت الحاضر من القيام بذلك، لكن يمكننا اتخاذ التدابير اللازمة بهذا الصدد في المستقبل، وإن كان القرار النهائي في هذا المجال بيد الدولة ومسؤولي الحج والزيارة، لكنه لو وضع في المستقبل مثل هذا القانون فإن تنفيذه سوف يكون أمراً سهلًا.

ص: 107

ميقات الحج: مات في حج العام الماضي في رمي الجمرات عدد من الزائرين غير الإيرانيين، ما هو تقويمكم لهذه الحادثة؟ وما هي الحلول المقترحة لذلك؟

الشيخ الري شهري: فيما يتعلق برمي الجمرات هناك مشكلتان أساسيتان:

الأولي: قلّة الإمكانات في مني والجمرات، فعلي الرغم من الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة لم تلب الإمكانات الموجودة حاجة هذا الجمع الغفير.

الخطوة الأولي التي يجب اتباعها في حل هذه المشكلة تكمن في فصل طرق السيارات عن طرق المشاة، أو منع اقتراب السيارات في أيام التشريق من الجمرات.

لو أمكنت الاستفادة من الإمكانات الموجودة في العالم باتجاه فتح أنفاق تحت الأرض لما وجد هذا الزحام الذي لا يحتمل.

وأيضاً لو منع الزائرون من النوم في الطرق، ومن الجلوس علي طريق الجمرات لكانت المشكلة أقل مما هي عليه الآن

ص: 108

قطعاً.

أمّا مشكلة التجمّع الشديد للزائرين فيمكن حلّه بإيجاد أبنية وعمارات مرتفعة وذات طبقات متعددة، فما أفتي به بعض علماء السنة من عدم جواز بناء عمارات سكنية في مني كلام غير صحيح، ولا يستند إلي دليل تام.

نعم، تمّ بحث الجمرات أخيراً لكنه لم يتم الاتفاق علي عدد الطوابق في البناء، ومن الطبيعي لو أنّ ذلك بلغ مرحلة التنفيذ لقلّل من المشكلة إلي حد ما.

وهناك اقتراحات اخري أيضاً مثل أن يكون الذهاب إلي الجمرات علي شكل جماعات كما في ترتيب الخيام حسب المناطق، لكن ما لم يخضع ذلك للبحث والدراسة العلمية والدقيقة من قبل المختصين لا يمكن للشخص أن يبدي رأيه النهائي فيه.

إن علي فقهاء السنة الإفتاء بسعة الوقت كما يقول به فقهاء الشيعة، بأن يسمحوا بالرمي من طلوع الشمس إلي الغروب ليتم تقسيم الزائرين علي طول النهار ويقل الازدحام.

ص: 109

إن موت الكثير من الزائرين في رمي الجمرات أمر لا يمكن تبريره والدفاع عنه، ولا بد من إيجاد حلّ ذلك.

ميقات الحج: تحاول قوات الشرطة السعودية استخدام مختلف الطرق والوسائل لغرض استقرار الحجاج في المشعر حيث يؤدي ذلك إلي مشاكل كثيرة للحاج، هل لديكم حلول لذلك، و هل أن هذه المشاكل ترفع- عن طريق البعثة ومؤسسة الحج- إلي المسؤولين السعوديين؟

الشيخ الري شهري: في رأيي يمكن حلّ هذه المشكلة إلي حد ما إذا كانت هناك إدارة صحيحة، وتمّ استخدام السبل المتطورة في تنظيم حركة السيارات وكيفية توقفها.

من الطبيعي توقف عدد كبير من السيارات علي مشارف المشعر الحرام مما يسبب مشاكل في السير، لكن من الممكن استخدام وسائل أخري للنقل مثل القطار داخل المدينة، فهل من ضرورة تدعو إلي الإتيان بهذا الكم الهائل من السيارات إلي محل أداء الشعائر لكي نصنع بأنفسنا

ص: 110

هذه المشكلة في السير؟ إن معاجلة مثل هذه المشاكل لها علاقة بطريقة الإدارة.

بدورنا، نقوم في كل سنة باستقصاء المشاكل وجمعها، ومن ثمّ إرسالها إلي وزارة الحج السعودية، وقد كان ذلك مؤثراً أحياناً، ومن المقرر في هذه السنة استقصاء المشاكل وإرسالها إلي الوزارة المذكورة.

ميقات الحج: ماهي الثغرات الثقافية للحج والعمرة في رأيكم؟

الشيخ الري شهري: بإعتقادي إن أهم ما تواجهه جميع البلدان الإسلامية في الجانب الثقافي هو عدم الاطلاع والمعرفة الكافية بما يرتبط بأسرار الحج وفلسفته، فإن الكثير من المسلمين لا يعرفون ما هو الهدف من الذهاب إلي الحج، كما لا يعرفون الهدف من التلبية والطواف و ...

وهذا بحاجة إلي إعلام قوي وإلي عزم وإرادة ثقافية عالمية جادة، ولا نري- وللأسف- لكلّ ذلك عيناً ولا أثراً

ص: 111

بين هذه الدول، ذلك أن الكثير من قادة العالم الإسلامي يري أن مصلحته الشخصية هي بقاء الامة في الجهل وعدم المعرفة، كما أنه يعلم أن الحج لو فسّر بالمعني والمفهوم الحقيقي له لواجه بسببه المستكبرون الكثير من المشاكل.

إذن لا بد في الخطوة الأولي من تفهيم المجتمع المسلم فلسفة الحج، وفي الخطوات الاخري ترميم الثقافة في كافة المجالات، مثل ثقافة الصلاة أول الوقت، ثقافة الزيارة الصحيحة، ثقافة العشرة الصحيحة، ثقافة الاهتمام بصلاة الجماعة، الاهتمام بالقرآن و ... فإن هذه الامور لو لم تكن بالشكل الثقافي المطلوب، لكان الأمر علي ما نراه أحياناً، فمثلًا نري البعض في وقت صلاة الجماعة يجلس علي أعتاب المحلّات، أو لا يذهب إلي الصلاة، أو يدور في الأزقة والطرقات بلا هدف، فالشخص الذي اعتاد في إيران علي عدم الذهاب إلي صلاة الجماعة أو عدم الصلاة أول وقتها لا يمكن التأثير فيه عبر محاضرة أو محاضرتين، كذلك العمل الثقافي لا بد فيه من تضافر جهود مؤسسات الدولة

ص: 112

ومراكزها الثقافية كافّة.

وهناك مشكلة لا بد من حلّها عن طريق الحوزات العلمية، وهي اختلاف فتاوي مراجع التقليد، وذلك ليتمكن علماء الدين في البعثة من الإجابة عن الأسئلة الشرعية للزائرين، ولكي لا تنقدح الشبهات- لا سمح الله- في أذهان عامة الناس، خصوصاً الطبقة المثقفة.

وهناك أيضاً مشكلة ثقافية أساسية شغلت بعض الزائرين كثيراً وهي قضية شراء الهدايا والحاجيات، فإنّ ذلك وإن كان أمراً مستحباً في الشرع، إلّا أنّ الإفراط فيه غير صحيح، إذ قد يقترن أحياناً وقت هذه المشكلة مع الصلاة أول الوقت، وقد رأينا أن ذلك يشوّه صورة الشيعة وإيران الإسلامية.

بالطبع، هؤلاء الأفراد ليسوا بالكثيرين، إلّا أنّهم علي قلّتهم بإمكانهم القدح بشخصية مجموع الحجاج الإيرانيين.

ميقات الحج: للحج ثقافة عظيمة وشاملة، إلّا أنّها لم تستنفذ تماماً، ماهي

ص: 113

السبل المناسبة المقترحة في سبيل توسعة رقعة الإستفادة من ثقافة الحج وتأثير هذه الفريضة في نفوس الحجاج؟

الشيخ الري شهري: من أجل اغتنام الفرصة والاستفادة التامة من ثقافة الحج والتي هي في الحقيقة واسعة ومعطاء لابد أولًا من العزم والإرادة الجادة لجميع البلدان الإسلامية في هذا المجال، لأننا لو وضعنا لأنفسنا برنامجاً معيّناً فلن يكون الحال أفضل مما عليه الآن، بل لا بد من المشاركة الفاعلة لجميع البلدان في ذلك.

أما علي المستوي الداخلي للبلاد فإن بعثة السيد القائد بما فيها من إمكانات ومكانة و كوادر فاعلة لا تستطيع الاستفادة من ثقافة الحج أكثر من ذلك، وإن كان ما قمنا به إلي يومنا هذا بالمستوي المطلوب، والحمد لله.

عندما يتعذّر علي البعثة استخدام موظفين لها فإن من الطبيعي أن تغدو عاجزة عن الاستفادة المطلوبة من الحج وكما تريد.

ص: 114

بل حتي لو توافرت للبعثة الإمكانات اللازمة فلا هي ولا مؤسسة الحج ستكون قادرة علي الاستفادة التامة من ثقافة الحج، لما يتطلبه ذلك من جهود مكثفة للمسؤولين الثقافيين لتتجسّد نتيجة أعمالهم وتظهر في الحج.

ثم إن هناك مسألةً لا بد من الإشارة إليها، وهي المبالغة أحياناً في الإعلان عن الأرقام، إذ البعثة- بسبب الضعف الموجود في قسم العلاقات العامة- عاجزة عن إعلان ما قامت به من نشاطات وبيانه للُامة، وإنّي اعترف بهذا الضعف، حتي أن البعض قد يتقدم لنا ببعض المقترحات وعندما نقول له: إننا فعلنا ذلك أو قمنا بطبع الكتاب الفلاني يتعجب، ويقول: إنه لم يكن يعلم بذلك.

ص: 115

ميقات الحج: مضي علي افتتاح طريق العتبات المقدسة مدة وقد تشرّف الكثير بزيارتها، ماهو السبب في عدم أخذ مؤسسة الحج والزيارة بزمام ذلك؟

الشيخ الري شهري: لهذه القضية أسباب عديدة، نذكر منها:

السبب الأول: غموض الوضع السياسي والأمني في العراق، وما دام لم يحن الوقت لاستلام الحكومة الشرعية ولم تتسلم مهامها فالوضع سوف لا يكون أفضل مما عليه الآن.

السبب الثاني: التصرف اللّامسؤول لبعض المؤسسات الداخلية.

لقد اتضح تدريجياً وبسبب الأحداث والمشاكل التي واجهها زائرو العتبات المقدسة أنه لو لم تكن الرحلات تحت رعاية وإشراف مؤسسة الحج والزيارة، فإنه سوف يهدد الزائرين الكثير من المشاكل

ص: 116

الثقافية والسياسية والأمنية.

ميقات الحج: هناك من يقول بأن زيارة العتبات المقدسة في العراق يجب أن تكون كزيارة الإمام الرضا (ع) في مشهد، هل هذا الكلام صحيح، علماً بأن العراق لا يملك الإمكانات اللازمة، كما أنه فاقد للأمن وغيره من الأمور؟

الشيخ الري شهري: لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً قطعاً؛ لأن زيارة عتبات العراق تختلف عن زيارة مشهد تماماً، فنحن بلدان مستقلان لهما نحوان من السياسة، سواء في الحاضر أو المستقبل، والوضع في كلٍّ منهما تابع لقوانين ذلك البلد. صحيح أن في العراق ضرائح ستة من الأئمة المعصومين وأن في النجف وكربلاء وغيرهما الكثير من الشيعة، إلّا أن لكل بلد- في الوقت نفسه- ضوابطه الخاصة به.

من جهة أخري، فإن الوضع الاقتصادي في العراق لا يسمح بتقديم الخدمات المناسبة للحشد الكبير من الزائرين الإيرانيين، فنحن في مكة والمدينة- مع ما فيهما من

ص: 117

إمكانات كثيرة- عاجزون عن إرسال الحجاج بدون ضوابط وبلا حدود، فكيف يمكن إرسالهم هكذا إلي العراق وهو فاقد للصحة والأمن وغيرهما من الإمكانات؟!

إذن، فزيارة العتبات في العراق تختلف عن الذهاب إلي مشهد، إذ لا بد من ملاحظة الوضع الاقتصادي والثقافي والسياسي للعراق بدقة وأخذ ذلك بنظر الاعتبار.

ميقات الحج: تعتبر حالة الرفاه في الزيارة إحدي أهم آفات سفر الحج والزيارة، ما هي نشاطات مؤسسة الحج والزيارة في هذا الصدد؟

الشيخ الري شهري: توفير الرفاه والراحة في سفر الحج أمر جيّد وحسن، ليتمكّن الزائر من أداء أعمال الزيارة ومناسك الحج بفراغ بال تام، وقد ورد في الروايات أن علي الذي يريد السفر إلي الحج أن يحمل معه طعاماً جيداً وغيره من الإمكانات، و أن يهتم بأصدقائه ورفقائه في السفر.

ص: 118

إن الشي ء القبيح في هذا السفر هو الإسراف، ولا يمكن التوسل بالقوة من أجل إيجاد حالة الاعتدال فيه، بل لا بد من أخذ رأي المختصين في ذلك من أجل الخروج بأفضل طريقة للحدّ من الإفراط والإسراف.

ميقات الحج: يظهر أن أبناء شعبنا يميلون إلي السّوق وشراء الهدايا أكثر من الحد المتعارف، ما هو رأيكم في ذلك؟ وما هي سبل الحل المقترحة في ذلك لغرض إيجاد حالة الاعتدال؟

الشيخ الري شهري: رأينا في مسألة شراء الهدايا واضح، فإننا نعتقد أن وقت الزائر يجب اغتنامه والاستفادة منه في توفير الجو المعنوي والروحي، و أن الاهتمام البالغ حد الإفراط في شراء الهدايا وإتلاف الوقت في الشوارع والطرقات والأسواق آفة كبيرة في هذا السفر الإلهي.

فمن أجل تحقيق هذا الغرض اتخذنا بعض المقررات في ذلك، فأوجدنا معارض

ص: 119

للشراء، لكنها فشلت بسبب عدم المنهجية الصحيحة في العمل، ونحن الآن- وتحقيقاً لمطالب السيد القائد- بصدد البحث عن السبل المناسبة للوصول بالمشاكل المترتبة علي الشراء إلي الحد الأدني.

علماً بأن البعثة ومؤسسة الحج لوحدهما لا يؤثران كثيراً، كما أن استعمال القوة في هذا المجال ليس مدعوماً بالقانون، ولا نري من المصلحة القيام بذلك، لكننا نعتقد أن للإعلام واستخدام الطرق الثقافية الصحيحة، التأثير المطلوب في ذلك.

ميقات الحج: نشكركم علي إتاحة الفرصة لمجلة ميقات الحج.

ص: 120

ما الحج، ومن هو الحاج؟

الأسس النفسية والتربوية

الدكتور غلام علي افروز

عندَ الغور في فلسفة وجود القيم الدينية وأسسها النظرية، وكذلك في الواجبات والمحرّمات الشرعية، نتوصلُ إلي الحقيقة التالية، وهي أن خالق عالم الوجود و منظّمه عندما خلق الإنسان الذي هو أشرفُ المخلوقات وخليفة الله علي الأرض، سَخَّرَ لَهُ كذلك جميع الإمكانات وهيأ له أساليب تعاليهِ ورشدهِ وفلاحهِ في مُعترك الحياة الدُّنيا، بما يتناسبُ مع الفطرة والطبيعة البشرية.

بعبارة أخري، في الأيديولوجية الإسلامية والثقافة القرآنية، نري أن جميع الواجبات والمحرّمات الدينية مبنيّةٌ

ص: 121

علي أساس الفطرة، والمنطق، والعقل السليم للإنسان، هذا الإنسان الذي يملك مَلكة التعقل وقدرة التمييز والاختيار.

وفي نظرة عامة، نستنتج أن جميع الواجبات والمستحبات الدينية، وكذلك جميع المحرّمات والمكروهات مبنيّةٌ علي أساس نظام منطقي وقيمي واضح، بحيث مُنِعَ وحُرِّم كلُ ما هو مُضرٌ لِصحة وسلامة الإنسان وكلُ ما هو مانع لرُشدهِ الفكري والنفسي والاجتماعي، سواءٌ بالفعلِ أو بالقوة، علي المدي القريب أو البعيد، بصورة علانية أو سرّية، فردية أو جماعية ... وعلي العكس من ذلك أوجَبَ علي كل إنسان بالغ وعاقل كل ما يؤدي إلي تعاليهِ و نموّهِ الجسدي والعقلي والروحي والأخلاقي والاجتماعي، والفرائض الدينية كذلك فُرِضت بطريقة بحيث إن كل انسان يستطيعُ أن ينال ما يطلبهُ من الكمال والفلاح والتوفيق علي قدرِ استطاعتِهِ.

مثلًا عند التأمل العميق في الأصول العامة والمعايير الحاكمة علي بعض الأمور التي اعتبرت من المحرّمات، مثل تعاطي

ص: 122

المشروبات الكحولية ولحم الخنزير والمواد المخدّرة، وكذلك الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، مثل الكذب، والغيبة، والتهمة، والسرقة، والتطفيف، والخيانة، والظلم ... وأمثالها، نراها هي الأمور بعينها التي تؤثرُ علي صحة الإنسان وسلامته، وتُعيقُ تكاملهُ العقلي والروحي (1).

من الناحية الأخري، نجدُ أن جميع الواجبات والتوصيات الإسلامية أرضية لتكامل الإنسان في حياتهِ الفردية والعائلية والاجتماعية، والعملُ بها يضمنُ للإنسان روحاً سالمة وشخصيةً متكاملة، وكذلك مجتمعاً سالماً ومتطوراً.

ومن جملة هذهِ الواجبات والتوصيات: الصدق، وقول الحق، والعدالة، ومُحاربة


1- تشيرُ نتائج الدراسات التي اجريت مؤخراً في جامعة لندن بأن تعاطي الكحول والمخدرات حتي ولو بمقدار ضئيل، علاوةً علي آثاره المخرّبة والمدمّرة علي الأسرة والمجتمع، يؤدي كذلك إلي انقباض الخلايا الدماغية للإنسان، وكذلك لحم الخنزير فإنه يحوي هورمونات تفضي إلي اختلال الحالات الروحية للأفراد، و تُضاعفُ لديهم حالات التوتر والنزاع والمشاكسة والسلوك اللامتعادل.

ص: 123

الظلم، ونُصرة المظلومين، والعفة والطهارة، والابتعاد عن المضرات، وتآلف القلوب والسعي لإيجاد الصُلح والوئام، وأداء الخُمس والزكاة لغرض تأمين احتياجات المعوزين، والإحساس بالمسؤولية، ومتابعة أمور المحرومين والمستضعفين، واحترام الوالدين وتكريم الأبناء، وطلب العلم ومكافحة الجهل والأمية، والتعاون وإبداء المُساعدة ... هذهِ الواجبات يعملُ بها كلُ صاحب دراية وفكر يؤمن بضرورة هذهِ الامور لحياتِهِ الفردية والاجتماعية.

عن الرسول الأكرم:

«مَن أصبَحَ ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»،

وفي حديث آخر: «الدين هو العقل والعقل هو الدين».

فالعاقل هو الشخص الذي يبني حياتهِ الفردية و الاجتماعية علي أساس المنطق، والحكمة والتطور والتعالي ... لربما يكونُ الإنسان صاحب ذكاء مُفرط ولكنّه يتصرفُ في أغلب الأحيان تصرفاً غير منطقي، مثل التدخين لدي المتخصصين في مجال الطب، فهم علي الرغم من اطلاعهم علي مضاره،

ص: 124

لكنهم لا يأبهون بذلك.

إنّ الذكاء وسيلةٌ وأداة، والعقل يحُسّنُ الاستفادةِ من هذا الذكاء، فالإنسان الذي لا يعملُ بما يعتقدهُ ويؤمنُ بهِ لا يُعتبرُ إنساناً عاقلًا.

جاء في كتاب الله الكريم:

يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (1)

. وفي آية اخري: أم تقولون علي الله ما لا تعلمون (2).

ومن الواضح جداً أن أسمي وأجمل تعبير


1- الصف: 2.
2- البقرة: 80.

ص: 125

لهذهِ القيم الإلهية المتعالية يتجسد و يتبلور في سلوك الموحّدين الأحرار الذين هم علي اتصال دائم بخالقهم عن طريق إقامة الصلاة، فعن الرسول الأكرم: «مَن يُريدُ أن يتكلم مع الله فليُصل، و مَن يُريدُ الله أن يتكلمَ معهُ فليتلو القرآن».

الصلاة هي الجواب الأمثل للتعبير عن الشُكر والتقدير للخالق المنّان لأقصي ما يبغيهِ البشر ويسعي للوصول إليه، ألا وهو الازدهار والوصول إلي درجة الكمال.

الصلاة مصفاة الوجود، وتناغم الخالق والمخلوق، والجواب الدائم علي الاحتياجات الإنسان الروحية والفطرية، منهجٌ غير مُقيّد بعاملي التاريخ والجغرافية، وفرصةٌ مُتاحة لأي إنسان حر ومُفكر وشكور لكي يقف عند اللزوم وفي أوقات معلومة علي منصة المعراج، ويتغني بنشيد الحرية، ويبوح بمكنونات قلبهِ عن طريق الشكر للخالق الرحمن الرحيم.

أما الصوم، فهو منهجٌ تربوي آخر، يُهيئُ الأرضية للنمو الحيوي والنفسي

ص: 126

والاجتماعي المطلوب، وواجبٌ علي كل إنسان صالح وسالم وفي أية نقطة في العالم أن يقف في صفوف المسلمين في شهر رمضان المُبارك ويُشاركهم في أداء هذا المنهج العام الذي هو مُعسكر تهذيب النفس، وتكوين الشخصية، وتحطيم القيود والعادات اليومية والنفسية والاجتماعية، وتقوية الإرادة، والاتكال علي الذات، والسعي للوصول إلي قمة الفلاح.

إنّ المعني الدقيق للتربية يبدأ من تحطيم العادات، وبتعبير آخر، حتي العادات الحسنة ليست بالحسنة، الصلاة أيضاً يجبُ أن لا تؤدي علي أساس العادة والتكرار، بل يفترض أن يكون كل عمل وسلوك مقروناً بالوعي والنية والإرادة.

الصوم منهجٌ يهدفُ إلي ازدهار الفرد وتحوّله، وحركة مُستهدفة ومؤثرة في طريق القضاء علي الفقر، وتحقيق العدل، وسلامة المجتمع وتعاليهِ.

لا شك أن عملية جمع نفقات الزكاة والفطر وتوزيعها العادل بين المحتاجين في أي مجتمع من المجتمعات الإسلامية، هي خطوة

ص: 127

مؤثرة وإيجابية في طريق مكافحة الفقر وضمان حاجات المسلمين الغذائية لفترة زمنية معينة، ومن الناحية الأخري تبيّنُ التقارير السنوية التي يقدمها مسؤولو القضاء والشرطة بأن مُعدّل الجرائم والمخالفات الأخلاقية تقلّ عادةً في شهر رمضان بشكل جدير بالملاحظة.

وأخيراً، الصوم هذهِ الفريضة التربوية مثلُها مثلُ الطبيعة مُعرّضة بعد عام من ممارستها وتجربتها إلي التغيير والتحول وإعطاء الثمار، بالضبط كمزارع مُثابر، يحرثُ الأرض في كل عام قبل نثر البذور الجديدة كي يتخلص من الأعشاب التالفة والمخرّبة للزروع، وبهذا تستطيع البذور الجديدة أن تنمو في أرض مناسبة، شهر رمضان المبارك كذلك يخلقُ الأرضية المناسبة الخالية من الآفات المحتملة التي تمنعُ النمو والرُشد المطلوب للإنسان.

و من هذا المنظار، الصوم حاجة طبيعية لتطهير الجسد والروح، وعاملٌ مساعدٌ لنمو الإنسان وتعاليهِ.

أما الحج، هذا المنهج التربوي التهذيبي، الذي نجده- لدي مقارنتِهِ مع

ص: 128

المناهج التربوية الأخري مثل الصلاة والصوم- مُقيّداً عادةً بعاملي الزمان والمكان، ولهذا فهو مُتفقٌ مع الصوم والصلاة في إنجازه في زمان معين، ولكنه يختلفُ عنهما في أن مناسكهِ لا يمكنُ أداؤها في أي مكان نختارهُ، بل تؤدي دائماً في منطقة خاصة، وفي أرض مقدّسة، وفي موعد واحد، وفي محيط آمن.

الحج تطهير النفوس في بحر الوجود، ومجابهة الشرك، والدعوة للتوحيد، وكذلك تصفية الوجود، وتطهير الجسد والروح بماء الرحمة الإلهية.

الحج هو التخلص من القيود والتعلقات والأنانيّات، وتجربة الحياة في ظل التوحيد.

الحج أمر واجب- بالدرجة الأولي- علي الأشخاص المستطيعين، بينما الصلاة والصوم، أمران واجبان علي كل المؤمنين بالله والسالكين طريق الحق.

جاء في الكتاب الكريم: لا يكلّف الله نفساً إلا وُسعها (1)، فبحسب النظام الإلهي،


1- البقرة: 286.

ص: 129

علي كل من باستطاعتهِ حضور مراسم الحج العظيمة وأداء مناسكهِ وتأمين نفقاتهِ، زيارة بيت الله الآمن، والهجرة من النفس الأمّارة والالتحاق بالخالق المنّان.

وفي الواقع، إن الذين يتمتعون بإمكانات مالية واجتماعية أكثر في حياتهم، معرّضون أكثر من غيرهم للانحرافات الاجتماعية والأخلاقية، لهذا إن لم يكن الثراء مقروناً بالتزكية وتهذيب النفس فإنّ بإمكانه أن يكون عاملًا مساعداً علي التمرّد والطغيان.

إنّ علي الإنسان الثري تكاليف أكثر من غيره، ولا شك أن الشخص الذي يملك نصيباً أوفر من النِعم الإلهية ويتمتع بقدرة بدنية وفكر خلّاق وإمكانات إقتصادية عالية، يجبُ أن يكون لديهِ إحساس بالمسؤولية أكثر من غيره، وأن يسعي دائماً لأداء رسالتهِ الشخصية والاجتماعية عن طريق تهذيب النفس، وصفاء القلب، واكتساب توفيقات وافرة.

لذا كان الحج واجباً علي كل إنسان متمكن، لئلا تكون هذهِ الاستطاعة وهذا

ص: 130

التمكن والثراء والمنزلة الاجتماعية سبباً للتباهي والتفاخر والتسلط والتمرّد والطغيان.

الحج منهج شامل للتخلص من جميع الآفات المتعلقة بشخصية الإنسان، وتحصين النفس من وساوس الشيطان، فلو تأملنا في سير مناسك الحج وأعماله وأحكامِه من البداية حتي النهاية، لاستطعنا أن نستنتج بأن الحج هو تصفية النفس من جميع الآفات الروحية والانحرافات الاجتماعية، وهو صياغةٌ للشخصية التي يمكنُ الاعتماد عليها، مصونةً من الفساد، هادئةً ومتواضعة، تتحكمُ بشهواتها النفسانية والمؤثرات المحيطية، متوكلةً علي الله، ومُبتعدة عن الطمع والتباهي والتسلّط، وخالصة في عبادتها لله عزّ وجلّ.

كل من يتأمل ويفكر في هذا السفر الإلهي يتولدُ لديه إحساس بأنه يُريدُ أن ينتقل إلي عالم آخر، ولهذا عليهِ التخلّص والتحرّر من القيود الدنيوية، وكذلك من التشويشات والاضطرابات النفسية، من القلق ومن تعلقات الدنيا واضطراباتها، وكذلك الاضطرابات الناجمة عن العلاقات

ص: 131

الاجتماعية، والتعامل بين الأفراد، لكي يبلغ أرض التوحيد بقلب آمن ومطمئن، لذا عليهِ أن يطلب إبراء ذمتهِ من أهل بيته وأقاربهِ ومعارفِهِ وجيرانِهِ وزملائِهِ وغيرهم، ويطلبُ المعذرة ممن أساءَ لهم يوماً ما أو اغتابهم، و بهذا يكون قد أزالَ غبار الحقد والضغينة.

علاوةً علي هذا، يجبُ علي كل شخص عازم علي الحج أن يسدّد جميع ديونه الشرعية والقانونية، ويرسم لنفسهِ صورةً واضحةً عن وضعه المالي وتسوية حساباتهِ وتعهداتهِ الأخلاقية والاجتماعية، ويقدمها لعائلته أو لوصيّه، لأن سفر الحج لا يكونُ مقبولًا إذا لم يدرس الحاج الماضي والحاضر، وإذا كان غافلًا عن الحلالِ والحرام.

كلمة الحاج ليست صفةً يَتحلي بها بسهولة أي مُسافر لبيت الله، وإنّما تتطلب أن يتحلّي هذا اللقب بجميع الفضائل الأخلاقية والقيم الإنسانية، ويتنزّه عن جميع الرذائل الأخلاقية، ويتحرّر من الأهواء النفسية.

وأنت أيّها الإنسان المسلم إذا أردت

ص: 132

أن تنال لقب الحاج، هذا المقام الشامخ، يجبُ أن تتحمّل المشقّات، وأن تخرج من صفة الذات، وتتوحّد وتخلص لله الواحد الأحد، وأن تصفّي قلبك من الشوائب قُربةً إلي الله، وتفرّغه من كل ما هو باطلٌ وتستبدلهُ ببذور حب الله عزّ وجلّ، وتُطهّر جسدك وروحك بماء الرحمة الإلهية، وتبدّل لباسك المميز (الذي يميّزك عن غيرك) بلباس الإحرام الأبيض اللون الذي لا يميّز شخصاً عن آخر.

إن جانباً من الهوية الفردية للإنسان يتعيّن من خلال الملابس، فعندما يلبسُ فريقٌ من الناس اللباس الموحّد مثل مرضي المستشفيات، الجنود، الحجاج المكفنين بلباس الإحرام، عند ذاك تنهدمُ الفوارق وتزولُ، ولهذا السبب نجدُ أن البعض من الأثرياء الراقدين في المستشفيات يفضّلون أن يلبسوا ملابسهم الشخصية في المستشفي حتي يتميزوا عن غيرهم.

يجب أن يكون الحاج مقاوماً للنزعات والميول النفسية، ولديهِ إيمان وعزمٌ وتوكل راسخ، و نيّة خالصة، ودوافع

ص: 133

مقدّسة، ولا يغفل لحظةً عن السعي في مجالات الصدق والصفاء والمروءة والإيثار.

جاء في كتاب الله الكريم: وأن ليس للإنسان إلي ما سعي (1)، ومن آياته أيضاً: بَل الإنسان علي نفسه بصيرة (2).

وجميع علماء النفس والأطباء النفسانيين يدركون هذهِ الحقيقة، وهي أن أهم الآفات الأخلاقية والانحرافات السلوكية علي مدي الأزمنة وفي كل مكان في العالم، سببه العجز عن التغلّب علي الأهواء والميول النفسية.

الخالق المنّان الذي خلق الإنسان علي شاكلته، عليمٌ بجميع القوانين التي تحكم النفوس والخصوصيات والحاجات الفطرية للإنسان، وهو يريد أن يبتلي الإنسان المتمكّن ويمتحنه.

بصورة عامة، علي كل من يُريد أن يصبحَ حاجّاً أن يعمل بالنصائح التالية:

1- تجنّب التكبّر والتبرّج: في حال الإحرام لا يجوز النظر في المرآة أو


1- النجم: 39.
2- القيامة: 14.

ص: 134

التعطّر أو لبس الخواتم.

2- الابتعاد عن الكسل و عدم الاهتمام بالغير: لا يجوز وضع شي ء علي الرأس، وتغطيتهِ وأنت في حال الإحرام.

3- اجتناب إيذاء النفس وإيذاء الآخرين: قتل الحشرات، وإراقة أي دم حرام.

4- التحرّر من الأفكار العدوانية والمخرّبة والمشاكسة: لا تجوز المجادلة، وحمل السلاح بكل أنواعهِ، وكذلك قلع الأشجار، وقتل الحيوانات.

5- الابتعاد عن أنواع المباشرة والأهواء الجنسية: لا يجوز ممارسة الأعمال الجنسية.

6- الابتعاد عن التفاخر والمباهاة والتعالي.

7- الاحتراز عن البذاءات والإهانات والإساءة للآخرين.

لأن بروز هذه الصفات- سواء في الحياة الفردية أو الاجتماعية- من الآفات الأساسية المعيقة لتطوّر الإنسان والمضرة بشخصيته، والحاج هو من يستطيع أن يجتاز باقتدار تلك العقبات، و يصل إلي أسمي

ص: 135

المراحل، ألا وهي مرحلة التضحية بأعزّ ما لديهِ.

التضحية مرحلةٌ شامخة من مراحل الحج العظيمة، والآن وأنت ترغب في أن تكون حاجّاً وتنال مقام نبي الله إبراهيم (ع)، عليك أن تتّحد في صف المنادين الحقيقيين لعبارة: «لا إله إلا الله»، و أن تتفوّه من سويداء قلبك بكلمة: لبيك، يجبُ عليك أن تُضحي بإسماعيلك كما ضحي به إبراهيم (ع)، وبهذا تكون قد أفلحتَ في تصفية النفس، والغلبة علي الأهواء والانفعالات النفسية، وصولًا إلي صقل الجسد والروح، والخلوص والتوحيد.

أعزّ ما كان يمتلكهُ إبراهيم (ع) بعد عُمر من الانتظار وقرن من الشقاء وتحمل الصعاب، هو ولد عزيز، وشاب جميل الطلعةِ والسيرة، وفي لحظة اختبار صعبة اقتضي الأمر أن يجتث صِلاتهِ و جذورهِ بأعزّ ما يملك، حيث أتي النداء يقول: يا إبراهيم لقد انتصرت، فضحِّ بقربان بدلًا عن إسماعيل.

ضع في طَبَق الإخلاص كل ما لديك: رصيدك، أولادك، زوجك، مقامك، ماء وجهك، شُغلك،

ص: 136

شُهرتك، أطماعك، جَشعك ... والآن وأنت تُريدُ أن تصبح حاجاً وتصل إلي أعزّ منزلة بين المسلمين وتنال العزّة الإسلامية، فكّر بإسماعيل خالصاً ومخلصاً فتأمل.

نعم، ضحِّ بإسماعيلك في مسلخ العشق والتضحية، وعُد إلي بلدك وأهلك منصوراً كالمصطفين من عباد الله، بقلب مطمئن وآمن، والآن قد أصبحت ذا سلوك كأنك ولِدت مرةً أخري، يخفقُ قلبك من أجل الله فقط لا غير، لا تقول غير الحق، ولا تبحث عن غير الحق، ولا تخطو خطوةً في غير طريق الحق، يرغبُ كل الناس رجالًا ونساءاً، صغاراً وكباراً أن يشاهدوا فيك القيم الإسلامية والقدوة المتعالية للشخصية الإسلامية، في سلوكك الفردي والاجتماعي.

الحاج هو مظهرُ المقاومة أمام طُغيان النفس، وهو تفسيرٌ للصدق والصواب، و تجسيدٌ للمغفرة والتضحية، وتبلورٌ للمحبة والمنطق، ورمزٌ للصفاء والمروءة، وكما جاء في القرآن الكريم: وعباد الرحمن الذين يمشون علي الأرض هوناً وإذا

خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً (1).


1- الفرقان: 63.

ص: 137

خزيمة بن ثابت الأنصاري، ذو الشهادتين

حسن الحاج

قيض الله سبحانه وتعالي نفوساً طيبة من أصحاب رسول الله، ومن رواد مدرسته الربانية المباركة، وقد ملئت قلوبهم إيماناً وصلابة ووعياً وبصيرة ثاقبة، وهيأها لكي تجني ثمار إيمانها الواعي وسعيها الحثيث، وكدحها الدؤوب، وجهادها المتواصل، وتسابقها في الخيرات، و لصدقها وإخلاصها في جميع ذلك، فقد حباها نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه بدوره أوسمة رفيعة، ومناقب جليلة، وشمائل عالية، وصفات جميلة، صارت من أجلّ الألقاب التي يحبونها، وراحت تتزين

ص: 138

بها أكتاف أصحابها بحق، ويتفاخرون بها دون تعال وتكبر، وحفظتها لهم الأجيال والتاريخ ومصادره ...، فيما اشرأبّت إليها أعناق آخرين دون جدوي.

فبعضهم حظي بها بعد استشهاده أو وفاته:

فحمزة بن عبد المطلب كان يلقب أسد الله في حياته وسيد الشهداء بعد وفاته.

وجعفر بن أبي طالب وصف بأنه جعفر الطيار ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.

وحنظلة بن أبي عامر الراهب غسيل الملائكة.

وسعد بن معاذ اهتز لموته عرش الرحمن ...

وبعض حظي بها في حياته:

خزيمة بن ثابت هذا الصحابي الكبير الذي نحن بذكره، كان واحداً من القلة الذين منحتهم السماء وساماً رائعاً ألبسه رسول الرحمة له (خزيمة ذو الشهادتين) أي عدت شهادته بشهادة رجلين، لصدقه وعدله ونفاذ بصيرته ووعيه وعمق إيمانه، فظل محتفظاً به حريصاً

ص: 139

عليه، لم يفرط فيه طيلة حياته الإيمانية والجهادية، حتي اقترن بوسام آخر أجل منه وأعظم، إنه وسام الشهادة المباركة، ليختم به عمره، ويختصر به الطريق إلي حيث الفردوس الأعلي في جنة عرضها السماوات والأرض ... مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً (1).

وهكذا ظل وما زال هذا الأنصاري الأوسي الخطمي المدني يعرف بذي الشهادتين، وإذا ما ذكر اسمه عقّب بعده


1- سورة النساء: 69.

ص: 140

مباشرة بهذا الوسام، الذي لم يناقش أو يشكك في نسبته إليه أحد أبداً، بل ولم يذكر اسمه إلا وهو مقترن بهذا اللقب إلا قليلًا.

نسبه:

هو خزيمة بن ثابت بن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن غيان- ويقال: عنان- بن عامر بن خطمة، وقيل: حنظلة، وقد صوّبوا الأول.

واسمه عبد الله بن جشم بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر.

هذا نسبه من أبيه.

وأما من أمه، فهي كبشة بنت أوس بن عدي بن أمية بن عامر بن ثعلبة.

وفي نسبه اختلاف، وقيل: حنظلة بدل خطمة، والصواب خطمة بغير شك .. وهو عامر بن خطمة الوارد في نسبه من أبيه، وهو الذي ورد في طبقات ابن سعد (1) في ترجمة كبشة. وربما يكون المقصود بثعلبة هذا هو جده ثعلبة بن عمرو بن عامر، وقد اكتفي بذكره اختصاراً.


1- طبقات ابن سعد 354: 8.

ص: 141

وختاماً، فخزيمة بن ثابت هذا هو ذو الشهادتين، وهو: أبوعمارة الأنصاري الأوسي الخطمي المدني، من أشراف قبيلة الأوس. أحسن الصحبة لرسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم. وإن لم يتيسر لي معرفة أول إسلامه، فابن هشام في السيرة النبوية لم يورد اسمه في الذين بايعوا رسول الله في العقبتين الأولي والثانية ولا حتي الأخيرة، إلا أنه وبعد أن شرح الله سبحانه وتعالي صدره للإيمان عاش الإيمان بروحه وشعوره ووجدانه، وأحب الله تعالي ورسوله وأهل بيته صلوات الله عليهم بصدق وإخلاص واستقامة، لا يشوبها شك ولا يخالطها تردد، هدفه الأول والأخير رضا الله تعالي وجنة عرضها السماوات والأرض، فكان بحق من مصاديق هذه الآية المباركة: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري

ص: 142

من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم (1)«1».

وقد راح هو وصاحبه عمير بن عدي يكسران أصنام بني خطمة قومهم بلا خوف من عقاب (2).

شهد مشاهد وغزوات رسول الله، ومنها معركتا أحد والخندق، وما بعدهما من المعارك والغزوات.

أما معركة بدر الكبري فلم يذكره ابن هشام في عداد المشاركين فيها.

ويبدو أن هذا- وقد يكون هناك غيره- هو السبب الذي أوجد الخلاف بين المؤرّخين في مسألة حضوره بدراً أو عدمه، إلا أنهم اتفقوا علي حضوره ما بعدها من المشاهد مع رسول الله.

كان خزيمة من المشاركين في غزوة مؤتة بناحية الكرك بالبلقاء في جمادي الأولي لسنة ثمان من الهجرة، حيث خاض هناك- هو ومن معه- معركةً لم يخض المسلمون


1- التوبة: 100.
2- مختصر تاريخ دمشق 45: 8 وغيره.

ص: 143

معركةً مثلها، فقد تدرّع المشركون الروم بالعتاد والجند ما يملأ السهل والجبل وما لا طاقة للمسلمين به، كما وصف ذلك عدد من المؤرخين، فاستشهد الكثير ممن كتبت له الشهادة بمن فيهم أمراء جيش المسلمين الثلاثة الذين استعملهم رسول الله، وهم: زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فعبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم جميعاً (1). فيما عاد المقاتلون الذين كتبت لهم السلامة إلي المدينة والألم يعتصر قلوبهم مما جري ...

ومن الطبيعي أن تبقي أشياء كثيرة من ذكريات تلك المعركة الشرسة عالقةً في أذهان المشاركين بها، فراح العديد من المقاتلين يتحدثون بها بين الفترة والأخري.

فهذا عمارة بن خزيمة يحدث عن أبيه أنه قال:

حضرت مؤتة، فبارزت رجلًا يومئذ فأصبته وعليه بيضة له، فيها ياقوتة، فلم يكن همّي إلا الياقوتة فأخذتها، فلما


1- انظر مقاتل الطالبيين: 30، والمصادر التاريخية الأخري.

ص: 144

انكشفنا وانهزمنا رجعت بها إلي المدينة فأتيت بها رسول الله، فنفلنيها، فبعتها زمن عمر بن الخطاب بمائة دينار، فاشتريت حديقة نخل بني خطمة (1).

ويوم فتح مكة في شهر رمضان عام 8 هجرية كانت كل قبيلة من قبائل المسلمين تحمل رايتها، فيما كانت مع خزيمة بن ثابت راية قومه بني خطمة ( (2)).

ذو الشهادتين!

تواترت في قصة هذا الوسام الرائع والصفة الحميدة عدة روايات من أن رسول الله اشتري فرساً من سواء بن قيس المحاربي فجحد، فشهد له خزيمة بن ثابت.

فقال رسول الله: ما حملك علي الشهادة ولم تكن معنا حاضراً؟!

قال: صدقتك بما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقاً.

وفي خبر آخر: صدقناك بخبر السماء ولا


1- انظر كتاب المغازي للواقدي 769: 2، ومختصر تاريخ دمشق 45: 8.
2- انظر مختصر تاريخ دمشق 45: 8.

ص: 145

نصدقك بخبر اشتراء ناقة.

فقال رسول الله:

(من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه).

وفي رواية أخري: أن النبي ابتاع فرساً من أعرابي، فاستتبعه النبي صلي الله عليه وآله وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، لا يشعرون أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم ابتاعه، حتي زاد بعضهم الأعرابي في السوم علي ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي، فنادي الأعرابي النبي فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.

فقال النبي حين سمع نداء الأعرابي: أوليس قد ابتعته منك؟

قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي: بلي، قد ابتعته منك.

فطفق الناس يلوذون بالنبي والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي

ص: 146

يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك! إن النبي لم يكن ليقول إلا حقاً، حتي جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي ومراجعة الأعرابي، وطفق الأعرابي يقول: هلم شهيداً يشهد أني بايعتك.

فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته.

فأقبل النبي علي خزيمة فقال: بم تشهد؟

أو- كما في رواية ثانية- كيف تشهد ولم تحضره ولم تعلمه؟

فقال: بتصديقك يا رسول الله!

أو أنه قال- حسب رواية أخري-: يا رسول الله نحن نصدقك علي وحي من السماء، فكيف لا نصدقك علي أنك قضيته؟!

فأنفذ (ع) شهادته وسمّاه (ذا الشهادتين)، لأنه صيّر شهادته شهادة رجلين، وصارت شهادته- بهذا الوصف له من قبل رسول الله- في أي قضية يدعي

ص: 147

لها تغني عن طلب شاهد آخر.

أو لأن خزيمة- كما في خبر آخر- شهد للنبي علي يهودي في دين قضاه عليه السلام.

أنه الأيمان الوثيق واليقين العميق والبصيرة الواعية! فهيأه كل هذا لاستحقاق ذلك اللقب العظيم والوصف الجليل.

وقد احتلت هذه الرواية مكاناً لها في المناقشات الفقهية عند الفريقين في باب حجية علم القاضي وفي باب الشهادات ( (1)) ....

وافتخر الأنصار!

يعد هذا الشعار كرامةً أخري تضاف إلي سجلّ الأنصار، الذين نالوا حظاً وافراً في آيات قرآنية مباركة وأحاديث وأقوال نبوية شريفة، راحت تضفي عليهم صفات


1- انظر في هذا كله وسائل الشيعة 18، ب 18 من أبواب كيفية الحكم، ح 3، ومختصر تاريخ دمشق 47 46: 8، وأحكام القرطبي 405: 3، والإصابة في معرفة الصحابة: 2347، وغيرها من المصادر التاريخية والروائية والفقهية.

ص: 148

عالية، وتذكر لهم مواقف شامخة، حتي غدوا أهلًا لثناء السماء ومدحها.

فقد وصفهم الله تعالي بأنهم مؤمنون، وبأن المغفرة والرزق الكريم نصيبهم، بسبب ما قدموه لرسول الله وللمؤمنين المهاجرين من إيواء ونصرة، فقال في كتابه العزيز: والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم (1) وانظر الآية 72 من سورة الأنفال، حيث فيها تكريم لهم لإيوائهم المهاجرين وعلي رأسهم نبي الرحمة، ونصرتهم لهم أيضاً.

وهم الذين قال فيهم رسول الله: (لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار).

إلي غير هذا من الإطراء عليهم وعلي ما قدّموه من أعمال حميدة وخدمات جليلة وفقهم الله تعالي لها، فاستحقوا عليها كل ذلك الثناء والذكر الطيب.

* فقد افتخر الأوس- وكان حقاً لهم


1- الأنفال: 74.

ص: 149

أن يفتخروا- بثلّة مؤمنة منهم، تتضمن أربعةً من أصحاب رسول الله، تشرفوا بالصحبة النبوية المباركة، وحظوا بمناقب عالية وأوسمة رفيعة.

فقالوا:

منا غسيل الملائكة: حنظلة بن راهب.

ومنا من اهتز له عرش الرحمن: سعد بن عبادة.

ومنا من حمته الدبر أي النحل والزنابير: عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، فقد أصيب يوم أحد، فمنعت النحل الكفار منه، وذلك أن المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به، فسلط الله عز وجل عليهم الزنابير الكبار تأبر الدارع، فارتدعوا عنه حتي أخذه المسلمون فدفنوه (1).

ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين: خزيمة بن ثابت.

* فيما راحت الخزرج هي الأخري تعدد


1- راجع لسان العرب، مادة دبر.

ص: 150

مناقب أربعة من أبنائها، وكأنه جاء رداً علي ما تفاخرت به الأوس.

فقال الخزرجيون:

منا أربعة جمعوا القرآن علي عهد رسول الله، إذ لم يجمعه غيرهم، وهم:

زيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل (1).

إلا أن افتخارهم بهذه المناقب وبتلك الأوسمة- وهي ألقاب كانوا يحبونها بصدق- كاد أن يكون سبباً لإثارة ما دفن من أحقاد وضغائن ونزاعات قديمة بينهم دامت قرابة مائة عام، وذلك قبل أن يوحّدهم الإسلام ونبي الرحمة محمد، ولولا تدخّل السماء وحكمة رسول الله لهمّوا أن يقتتلوا.

فقد ذكر جمع من المفسرين أن سبب نزول آيتي: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون* واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء


1- انظر أحكام القرآن للقرطبي 56: 1، ومختصر تاريخ دمشق 47: 8.

ص: 151

فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم علي شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون ( (1))، هو ما وقع من افتخار بين أوسيّ وخزرجي حول ما يتمتع به بعضهم من مناقب وفضائل.

فقد قال مقاتل: افتخر رجلان من الأوس والخزرج: ثعلبة بن غنم من الأوس، وأسعد بن زرارة من الخزرج.

فقال الأوسي: منّا ابن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت حمي الدين، ومنا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن له ورضي بحكمه في بني قريظة.

وقال الخزرجي: منا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم.

فجري الحديث بينهما، فغضبا وتفاخرا وناديا، فجاء الأوس إلي الأوسي والخزرج


1- آل عمران 102- 103.

ص: 152

إلي الخزرجي، ومعهم السلاح.

فبلغ ذلك النبي، فركب حماراً وأتاهم، فأنزل الله هذه الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا (1).

وهذه ليست الوحيدة والأخيرة بينهم، فانظر أسباب النزول للواحدي في خصوص الآية إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ... (2). تجد ما دار بين سعد بن معاذ زعيم الأوس (3)، وسعد بن عبادة زعيم الخزرج، فثار الحيّان الأوس والخزرج، حتي هموا أن يقتتلوا ورسول الله قائم علي المنبر، فلم يزل يخفضهم حتي سكتوا وسكت.


1- انظر مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي 804: 2، في تفسير الآيتين المذكورتين، وراجع غيره من التفاسير.
2- النور: 11.
3- وفي هذا كلام، لأن سعد بن معاذ توفي بعد حكمه المشهور في بني قريظة، وهو أمر وقع قبل حادثة الإفك بفترة تجاوزت أشهراً عديدة. اللهم إلا إذا أخذنا بما ذكره الواقدي من أن غزوة بني المصطلق التي وقعت فيها حادثة الإفك كانت قبل غزوة بني قريظة، بل وقبل غزوة الخندق، فكانتا بعد المريسيع لحرب بني المصطلق من خزاعة فوقعت في شعبان سنة خمس من الهجرة، وهو كما يبدو خلاف مشهور المؤرخين الذي يذهب إلي أن رسول الله غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان سنة ست من الهجرة. انظر: تاريخ الطبري 104: 2.

ص: 153

هذا إضافة إلي ما كان يذكيه يهود المدينة ويغذونه من نعرات قديمة بين الحيّين الأوس والخزرج.

رؤيا خزيمة!

عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه: أنه رأي في المنام كأنه سجد علي جبين رسول الله، فذكر ذلك لرسول الله.

فقال رسول الله: إن الروح لا تلقي الروح. فأقنع رسول الله رأسه، ثم أمره فسجد من خلفه علي جبينه، جبين رسول الله (1).

جمع القران:

أكدت كثير من المصادر التاريخية والروائية أنه كان لخزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين) دور واضح في مهمة جمع آيات كتاب الله تعالي، فقد راح العديد من الصحابة يستعينون به في هذا المشروع، خاصة حين فقدانهم لبعض الآيات القرآنية المباركة:


1- انظر في ذلك ما رواه أحمد بن حنبل، مسند الأنصار، وغيره.

ص: 154

فعن زيد بن ثابت أنه قال:

لما كتبنا المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلًا (1). فوجدتها عند خزيمة بن ثابت، وكان يدعي ذا الشهادتين، فألحقتها في سورتها.

وفي رواية أخري: أن عمر بن الخطاب أراد أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: من كان تلقي من رسول الله شيئاً من القرآن فليأتنا به.

وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب- جمع عسيب، وهو جريدة النخل مما لا ينبت عليه الخوص كما في لسان العرب- وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتي يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك.

فقام عثمان بن عفان فقال:

من كان عنده من كتاب الله عز وجل شي ء


1- الأحزاب: 23.

ص: 155

فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتي يشهد عليه شهيدان.

فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم قد تركتم آيتين لم تكتبوهما.

قال: وما هما؟

قال: تلقيت من رسول الله صلي الله عليه وآله لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (1).

قال عثمان: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين تريد أن تجعلهما؟

قال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن. فختمت بهما براءة (2).

ووجدوا عند خزيمة بن ثابت- وفي رواية عند أبي خزيمة- آية فإن تولوا فقل حسبي الله لا اله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (3).


1- التوبة: 128 و 129.
2- انظر مختصر تاريخ دمشق 46: 8، البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 242- 243، أحكام القرآن للقرطبي 50: 1.
3- التوبة: 129.

ص: 156

مما رواه:

كان خزيمة رضوان الله عليه ملازماً لمدرسة القرآن والنبوة لآياتها ومواقفها وآثارها وثمارها، حريصاً عليها، حافظاً لها، مستفيداً منها، أميناً في نقل ما تيسر له مما توفر عليه من علم، ومعرفة، وآيات قرآنية مباركة، وأحاديث نبوية شريفة، وكان منها:

- عنه عن رسول الله أنه قال: (عمار تقتله الفئة الباغية).

- وروي عنه- وعن جمع آخر- أن رسول الله جمع بين المغرب والعشاء بجُمع، صلي المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة

ص: 157

واحدة (1) ...

- وعنه: نهانا رسول الله أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم.

- وعنه عن رسول الله أنه قال: من استطاب بثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع كان له طهوراً.

- وعنه: كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه ومغفرته، واستعاذ برحمته من النار.

- وعنه أن النبي قال: من أصاب ذنباً فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته.

- وعنه عن النبي أنه قال:

إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة (2).

- ومن غرائب حديثه- كما ورد في مختصر تاريخ دمشق- ما حدث أنهم كانوا


1- انظر أحكام القرطبي 424: 2.
2- استشهد بأحد جنباً، فلذلك رأي النبي الملائكة تغسله.

ص: 158

عند رسول الله في المسجد، وهو مسند ظهرَه إلي بعض حجرات نسائه، فدخل رجل من أهل العالية فجلس يسأل رسول الله، فشم منه رسول الله ريحاً تأذي هو وأصحابه.

- فقال: من أكل من هذه الشجرة فلا يؤذينا بها.

وهناك أحاديث أخري إضافة إلي ما توفرت عليه هذه المقالة من رواياته رضوان الله تعالي عليه.

ولاؤه للإمام علي ولاهل البيت:

كان خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين من أتباع مدرسة أهل بيت النبوة والعصمة والطهارة سلام الله عليهم، وهو ما عرف به وعرفت به مواقفه، دفاعاً عن حقانية العترة الطاهرة المتمثلة في زمنه بالإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه، وظل هذا الرجل علي استقامته هذه لم يغيّر ولم يبدل حتي فاضت روحه شهيداً بين يدي

ص: 159

أمير المؤمنين علي سلام الله عليه في يوم صفين.

روايته لحديث الثقلين:

وقد تشرف بأن يكون واحداً من رواة حديث الثقلين المعروف، وهو الحديث الذي يبين منزلة أهل البيت سلام الله تعالي عليهم، وأنهم الثقل الثاني بعد القرآن، وأن التمسك بهما معاً هو الذي ينجي من الضلالة والتيه والانحراف.

فعن أبي الطفيل: أن علياً (ع) قام فحمد الله و أثني عليه، ثم قال: أنشد الله من شهد يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم رجل يقول: ثبت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه ووعاه قلبه، فقام سبعة عشر رجلًا، منهم خزيمة بن ثابت و ...

فقال علي (ع): هاتوا ما سمعتم.

فقالوا: نشهد أنا أقبلنا مع رسول الله من حجة الوداع ونزلنا بغدير خم، ثم نادي بالصلاة جامعة، فصلينا معه، ثم قام فحمد الله وأثني عليه، ثم قال:

أيها الناس ما أنتم قائلون؟

ص: 160

قالوا: قد بلغت.

قال: اللهم اشهد ثلاث مرات ثم قال: إني أوشك أن أدعي فأجيب وإني مسؤول وأنتم مسؤولون، ثم قال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إذا تمسكتم بهما لن تضلوا، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، وإنهما لن يفترقا حتي يردا علي الحوض، بذلك نبأني اللطيف الخبير، ثم قال:

إن الله مولاي وأنا مولي المؤمنين، ألستم تعلمون أني أولي بكم من أنفسكم؟

قالوا: بلي.

قال ذلك ثلاثاً. ثم أخذ بيدك يا أمير المؤمنين فرفعها وقال:

من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

فقال علي: صدقتكم وأنا علي ذلك من الشاهدين (1).

هم الأئمة

وكان رضوان الله عليه من كبار أصحاب أمير المؤمنين علي (ع) ومن قادة جنده


1- انظر: حديث الثقلين لنجم الدين العسكري: 84.

ص: 161

المعروفين بالصلابة والفداء، ومن جلسائه المقرّبين إليه، ومن أوائل الذين دافعوا عن منزلة أهل البيت، وأنهم أئمة الحق الذين يقتدي بهم، كما جاء في رواية الاحتجاج للطبرسي بسنده عن ابن تغلب عن الإمام جعفر الصادق (ع).

ووقع هذا يوم أنكر جمع من المهاجرين: خالد بن سعيد بن العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري و ...

ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و ... واحدقوا بالمنبر بمحضر من الخليفة الأول وجمع كبير من المسلمين ... ثم راح كل واحد منهم يدلي بحجته حتي وصل الأمر إلي خزيمة بن ثابت فقال:

أيها الناس، ألستم تعلمون أن رسول الله قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري؟

قالوا: بلي.

قال: فأشهد أني سمعت رسول الله يقول:

(أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل،

ص: 162

وهم الأئمة الذين يقتدي بهم).

وقد قلت ما علمت وما علي الرسول إلا البلاغ المبين (1).

اذكر علياً وآله:

في الأيام الأولي لخلافة أبي بكر اعتزل جمع من الأنصار عنه، فغضبت قريش من موقف الأنصار هذا ... فقالت لعمرو بن العاص: قم، فتكلم بكلام تنال فيه من الأنصار، ففعل ذلك.

فقام الفضل بن العباس فرد عليهم، ثم صار إلي علي فأخبره، وأنشده شعراً قاله.

فخرج علي مغضباً حتي دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير، ورد علي عمرو بن العاص قوله.

فلما علمت الأنصار ذلك سرها وقالت: (ما نبالي بقول من قال مع حسن قول علي.

واجتمعت إلي حسان بن ثابت فقالوا: أجب الفضل.

فقال: إن عارضته بغير قوافيه فضحني.

فقالوا: فاذكر علياً فقط.


1- راجع الاحتجاج للطبرسي.

ص: 163

أما خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فقال: اذكر علياً وآله يكفيك عن كل شي ء).

فأنشد حسان أبياتاً تسعاً كان منها:

جزي الله خيراً والجزاء بكفه أبا حسن عنا ومن كأبي حسن؟!

غضبت لنا إذ قال عمرو بخصلة أمات بها التقوي وأحيا بها الإحن

ألست أخاه في الهدي ووصيه وأعلم فهر بالكتاب وبالسنن؟ (1)

من أوائل المبايعين: وكان أيضاً من أوائل الذين بايعوا الإمام علياً سلام الله عليه بالخلافة من الأنصار الذين ذكرهم الشيخ المفيد رحمه الله تعالي، وعدد منهم تسعة وعشرين احتل ذو الشهادتين الرتبة الثانية بينهم، ثم عقب الشيخ في نهاية هذه السلسلة مشيداً بالأنصار قائلًا:

في أمثالهم من الأنصار الذين بايعوا البيعتين، وصلوا القبلتين، واختصوا من مدائح القرآن والثناء عليهم من نبي


1- تجد بقية الأبيات والقصة كاملة مع مصادرها في كتاب الغدير للشيخ الأميني 42: 2- 43.

ص: 164

الهدي عليه وآله السلام بما لم يختلف فيه من أهل العلم اثنان، وممن لو أثبتنا أسماءهم لطال بها الكتاب، ولم يحتمل استيفاء العدد الذي حددناه (1).

وقد ذكر السيد محسن الأمين في كتابه (في رحاب أئمة أهل البيت) أن الحاكم روي في المستدرك بسنده أنه لما بويع علي بن أبي طالب علي منبر رسول الله، قال خزيمة بن ثابت، وهو واقف بين يدي المنبر:

إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا

أبو حسن مما نخاف من الفتن رجوناه أولي الناس بالناس إنه

أطبّ قريش بالكتاب وبالسنن وإن قريشاً ما تشق غباره

إذا ما جري يوماً علي الضمر البدن وفيه الذي فيهم من الخير كله

وما فيهم كل الذي فيه من حسن (2)

هذا، وقد انضم ذو الشهادتين إلي الإمام عليه السلام، و شارك معه في المعارك التي خاضها أثناء خلافته، كمعركة الجمل ضد الناكثين، ومعركة صفين ضد القاسطين معاوية وجنده،. وأبلي فيهما بلاءً حسناً.


1- المفيد، الجمل: 105- 106.
2- محسن الأمين، في رحاب أئمة أهل البيت 3: 2.

ص: 165

في معركة الجمل:

في منتصف جمادي الآخرة وقعت حرب الجمل بين جيش الزبير وطلحة ومعهم أم المؤمنين عائشة من جهة، وجيش الإمام علي (ع) من جهة أخري.

ذو الشهادتين وابن الحنفية:

كانت راية الإمام علي (ع) مع ابنه محمد بن الحنفية فنخس قفاه، وقال له: احمل فتقدم، حتي لم يجد متقدماً إلا علي سنان رمح. فقال: تقدم لا أمّ لك، فتلكأ، فتناول الراية من يده وقال: يابني بين يدي.

وفي رواية ابن أبي الحديد: أنه دفع إليه الراية يوم الجمل وقد استوت الصفوف.

وقال له: احمل فتوقف قليلًا.

فقال له: احمل. فقال يا أمير المؤمنين، أما تري السهام كأنها شآبيب المطر، فدفع في صدره وقال: أدركك عٍرْق من أمك. ثم أخذ الراية فهزها ثم قال:

اطعن فها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقدبالمشرقي والقنا المسدد

ص: 166

ثم حمل وحمل الناس خلفه، فطحن عسكر البصرة.

قيل لمحمد: لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرّر بالحسن والحسين؟

فقال: إنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه.

ثم دفع الراية إلي محمد وقال: امح الأولي بالأخري وهذه الأنصار معك، وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير من أهل بدر، وحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلي بلاءً حسناً.

فقال خزيمة بن ثابت لعلي (ع): أما أنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح، ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه. وإن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال.

وقالت الأنصار: يا أمير المؤمنين لولا ما جعل الله تعالي للحسن والحسين ما قدمنا علي محمد أحداً من العرب.

فقال علي (ع): أين النجم من الشمس والقمر؟! أما أنه قد أغني وأبلي وله الفضل.

ص: 167

فقال خزيمة بن ثابت فيه:

محمد ما في عودك اليوم وصمة ولا كنت في الحرب الضروس معوداً

أبوك الذي لم يركب الخيل مثله علي وسماك النبي محمداً

فلو كان حقاً من أبيك خليفة لكنت ولكن ذاك ما لا يري أبدا

وأنت بحمد الله أطول غالب لساناً وأنداها بما ملكت يداً

وأطعنهم صدر الكمي برمحه وأكساهم للهام عضباً مهنداً

سوي أخويك السيدين كلاهما إمام الوري والداعيان إلي الهدي

أبي الله أن يعطي عدوك مقعداً من الأرض أو في اللوح مرقي ومصعداً (1)

شعره يوم الجمل:

ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين- وكان بدرياً- في يوم الجمل:

ليس بين الأنصار في جحمة الحر ب وبين العداة إلا الطعان

وقراع الكماة بالقضب البيض فإذا ما تحطم المران

فادعها تستجب فليس من الخز رج والأوس يا علي جبان

يا وصي النبي قد أجلت الحر ب الأعادي وسارت الأظعان

واستقامت لك الأمور سوي الشام وفي الشام يظهر الأذعان

حسبهم ما رأوا وحسبك منا هكذا نحن حيث كنا وكانوا


1- محسن الأمين، في رحاب أئمة أهل البيت 42: 2- 43.

ص: 168

ذو الشهادتين وأم المؤمنين:

ولم يكتف ذو الشهادتين بذلك، بل راح يخاطب أم المؤمنين عائشة طالباً منها التخلّي عن موقفها التحريضي و المناوئ لعلي (ع)، فذكرها بأنه وصي رسول الله، كما يذكر ابن ابي الحديد ذلك حيث يقول:

وقال خزيمة أيضاً يوم الجمل:

أعائش خلّي عن علي وعيبه بما ليس فيه إنما أنت والدة

وصي رسول الله من دون أهله وأنت علي ما كان من ذاك شاهدة

وحسبك منه بعض ما تعلمينه ويكفيك لو لم تعلمي غير واحدة

إذا قيل ماذا عبت منه رميته بخذل ابن عفان وما تلك آبدة

وليس سماء الله قاطرة دماً لذاك وما الأرض الفضاء بمائدة (1)

في معركة صفين: وكان خزيمة رضوان الله تعالي عليه ممن شهد معركة الجمل كما ذكرنا، وفي سنة 37 هجرية شهد معركة صفين بجانب جيش الإمام علي (ع)، و كان فيها من المقاتلين الأشداء المعروفين ببسالتهم.


1- ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة 145: 1- 146.

ص: 169

فقد كان واحداً من أشياخ الأنصار الذين توجه إليهم الإمام طالباً منهم المشورة.

فقد ورد في الخبر: أن الإمام علياً (ع) لما أراد المسير إلي أهل الشام دعا إليه من كان معه من المهاجرين والأنصار، فحمد الله وأثني عليه وقال:

(أما بعد، فإنكم ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، مباركو الفعل والأمر، وقد أردنا المسير إلي

ص: 170

عدونا وعدوكم، فأشيروا علينا برأيكم).

فكان خزيمة واحداً من أولئك الذين استحقوا المنزلة التي اختارها أمير المؤمنين لهم، وقد حظي هو ومن معه بهذه الصفات العظيمة التي لم تصدر من الإمام (ع) إذا لم يكونوا أهلًا لها أبداً. وقد سبقهم قيس بن سعد بن عبادة بالكلام، فحمد الله وأثني عليه وقال: يا أمير المؤمنين، انكمش بنا إلي عدونا ولا تعرد (1)، فوالله لجهادهم أحب إليّ من جهاد الترك والروم، لادهانهم في دين الله واستذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، إذا غضبوا علي رجل حبسوه أو ضربوه أو حرموه أو سيروه. وفيئنا لهم في أنفسهم حلال، ونحن لهم فيما يزعمون قطين (2).

وما إن انتهي من كلامه حتي بادر أشياخ الأنصار- وذكر منهم خزيمة بن ثابت وأبو أيوب الأنصاري وغيرهما-


1- الانكماش: الإسراع والجد، والتعريد: الفرار والإحجام والانهزام.
2- القطين: الرقيق أو الخدم والأتباع والمماليك.

ص: 171

فقالوا لقيس:

لم تقدمت أشياخ قومك وبدأتهم يا قيس بالكلام؟

فقال: أما أني عارف بفضلكم، معظم لشأنكم، ولكني وجدت في نفسي الضغن الذي جاش في صدوركم حين ذكرت الأحزاب.

فقال بعضهم لبعض: ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم.

وهنا وقع اختيارهم علي سهل بن حنيف.

فقالوا: قم يا سهل بن حنيف.

فقام سهل، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، نحن سلم لمن سالمت وحرب لمن حاربت، ورأينا رأيك ونحن كف يمينك، وقد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة، فتأمرهم بالشخوص، وتخبرهم بما صنع الله لهم في ذلك من الفضل، فإنهم هم أهل البلد وهم الناس، فان استقاموا لك استقام لك الذي تريد وتطلب ..

وأما نحن فليس عليك منا خلاف، متي

ص: 172

دعوتنا أجبناك، ومتي أمرتنا أطعناك (1).

إذن فهم- وكما في الخبر- كانوا راغبين في الموافقة وتلبية طلب أميرالمؤمنين علي (ع) دون تردد من أحد بمن في ذلك الصحابي الجليل موضوع مقالتنا. وإن وردت رواية عن عمارة بن خزيمة أن خزيمة شهد الجمل وهو لا يسلّ سيفاً، وشهد صفين وقال: أنا لا أقتل أحداً حتي يقتل عمار، فأنظر من يقتله، فإني سمعت رسول الله يقول: (تقتله الفئة الباغية).

قال: فلما قتل عمار بن ياسر قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة، ثم اقترب، فقاتل حتي قتل.

وكان الذي قتل عمار بن ياسر أبو الغادية المزني، طعنه برمح فسقط، وكان يومئذ يقاتل في محفة (2)، فقتل يومئذ وهو ابن أربع وتسعين سنة، فلما وقع أكب


1- انظر في هذا وقعة صفين لنصر بن مزاحم المتوفي سنة 212، بتحقيق عبد السلام محمد هارون: 93- 94، منشورات مكتبة آية الله العظمي المرعشي النجفي قدس سره الشريف.
2- المحفة: المركب كالهودج، إلا أنّ الهودج يقبّب، والمحفة لا تقبّب، راجع لسان العرب.

ص: 173

عليه رجل آخر فاحتز رأسه، فأقبلا يختصمان فيه، وكلاهما يقول: أنا قتلته.

فقال عمرو بن العاص: والله، إن تختصمان إلا في النار. فسمعها معاوية، فلما انصرف الرجلان قال معاوية لعمرو بن العاص: ما رأيت مثلما صنعت! قوم بذلوا أنفسهم دوننا تقول لهما: إنكما تختصمان في النار؟!

فقال عمرو: وهو والله ذلك، والله إنك لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة (1)!

فعلي فرض صحّة هذه الرواية وسلامتها، مع أنها مخالفة لتفاصيل مواقفه المذكورة أعلاه في معركتي الجمل وصفين، والتي تدل بشكل واضح علي يقينه وسلامة اختياره، لا ضير فيها علي خزيمة، وهو المعروف بنفاذ بصيرته وسلامتها، وعمق ولائه لأمير المؤمنين علي، وقد خرج إلي معركة صفين ومن قبلها معركة الجمل بكامل وعيه


1- انظر مختصر تاريخ دمشق 48: 8.

ص: 174

للحق الذي لا يفارق علياً (ع) وللباطل الذي لاذ به خصوم علي (ع).

ولكن مع كل هذا، فقد يحدث للإنسان في لحظة ما تردد أو توقف وهو في أمر خطير جداً يحدد مصيره، أو وهو يخطرعلي باله قول رسول الله الذي لا ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي بحقّ عمار بن ياسر:

(أن أبشر عمار! تقتلك الفئة الباغية، آخر زادك من الدنيا ضياح لبن).

فيجعله الرمز ورايته راية الحق، يستعين بها من تصيبه غفلة أو ضلالة أو حيرة، إما إلي الجنة وإما الي النار، فينتظر برهة ثم يحسم أمره ليكون علي بصيرة من أمره لا يشوبها ريب أو نقصان أبداً، أو أنه من باب ليطمئن قلبي لا غير ...

فإن دلّت هذه العلامة المنحصرة بعمار رضوان الله تعالي عليه (تقتلك الفئة الباغية ...) علي شي ء عظيم، فإنما تدل علي رحمة الله تعالي بعباده، وحرص النبي

ص: 175

علي محبيه وأتباعه في أن لا تستبدّ بهم الضلالة والحيرة، وأن لا تبقي الغشاوة علي أعينهم طويلًا، و أن لا ينزغ الشيطان بينهم وبين الحق الذي يريدون، فيصوّر الحق ضلالةً والضلالة حقاً، فتختلط عليهم الأوراق، وقد يقع المحذور وسوء الاختيار، مع ضيق الوقت وخطورة الموقف وحراجته، مما لا يدع مجالًا لإعادة النظر واختيار الأصح والأصوب، فكان عمار ورايته الدليل الناصع علي حقانية الطائفة التي يقاتل عمار دفاعاً عنها، وضلالة الطائفة التي يقاتلها، وهذا لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد، فمن لم تذكره هذه الراية التي قدرت السماء أن يحملها عمار، والتي زينها رسول الله بقول آخر لعلي (ع) عندما ذكر عماراً:

(أما إنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن) (1).

فمن لم يذكره كل هذا بمكان الحق


1- انظر: كنز العمال 723: 11، حلية الأولياء 142: 1.

ص: 176

والهدي، فهو الذي مات قلبه، أو لم يكن عنده قلب علي الإطلاق، ولم يكن قد هيأ سمعه وأنصت بوعي لنداء الهدي، فاستبد به العناد، فكانت عاقبته الخزي في الدنيا والعذاب في الأخري، وذلك هو الخسران المبين.

وخزيمة وغيره من الأصحاب الذين نوّر الله تعالي قلوبهم بنور الحق، يعرفون جميع هذا وغيره بحكم ملازمتهم لرسول الله ووعيهم لأقواله وبحكم بصيرتهم النافذة في معرفة منزلة علي من رسول الله، لهذا نراهم قد استبسلوا في الدفاع عن علي ومواقفه طيلة حياتهم.

وخزيمة هو الذي دعا أن يغتسل غسل الشهادة حينما آوي إلي فسطاطه.

تقول الرواية:

عن الفضيل بن دكين قال: حدثنا عبد الجبار بن العباس الشامي عن أبي إسحاق قال: لما قتل عمار، دخل خزيمة بن ثابت فسطاطه وطرح عنه سلاحه، ثم شن عليه

ص: 177

الماء فاغتسل، ثم قاتل حتي قتل ( (1)).

ليرد معركة الشهادة التي تيقنها كأنه يراها أمام عينيه وهو يري عماراً علي ترابها صريعاً شهيداً، وخزيمة يردد: لقد سمعتها من رسول الله: (عمار تقتله الفئة الباغية ...).

وفي رواية: أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: كنت بصفين فرأيت رجلًا ملثماً يقاتل الناس قتالًا شديداً يميناً وشمالًا، فقلت: يا شيخ، أتقاتل الناس يميناً وشمالًا؟!

فحسر رضوان الله عليه عن عمامته ثم قال:

سمعت رسول الله يقول:

(قاتل مع علي جميع من يقاتله).

وأنا خزيمة بن ثابت الأنصاري.

ثم راح يواجه الموت بقلب متلهّف للشهادة، متيقن لأجرها وثوابها، وهو يرتجز قائلًا:

قد مرّ يومان وهذا الثالث هذا الذي يلهث فيه اللاهث


1- انظر: رجال الكشي: 52- 53.

ص: 178

هذا الذي يبحث فيه الباحث كم ذا يرجي أن يعيش الماكث

الناس موروث ومنهم وارث هذا علي من عصاه ناكث

وظل خزيمة يقاتل حتي استشهد بجوار الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان الله تعالي عليهما. ووقع هذا سنة سبع وثلاثين هجرية.

ثم راحت ضبيعة بنت خزيمة بن ثابت التي عرفت بإيمانها وولائها للإمام علي سلام الله عليه ترثي أباها صاحب الشهادتين:

عين جودي علي خزيمة بالدمع قتيل الأحزاب يوم الفرات

قتلوا ذا الشهادتين عتواً أدرك الله منهم بالتراب

قتلوه في فتية غير عزل يسرعون الركوب للدعوات

نصروا السيد الموفق ذا العد ل ودانوا بذاك حتي الممات

لعن الله معشراً قتلوه ورماهم بالخزي والآفات

وانطلق عبد الله يزيد بن عاصم الأنصاري يرثي من قتل من أصحابه، وخزيمة رضوان الله عليه كان واحداً منهم، قائلًا:

يا عين جودي علي قتلي بصفينا أضحوا رفاتاً وقد كانوا عرانينا

أني لهم صرف دهر قد أضرّ بنا تبا لقاتلهم في اليوم مدفوناً

ص: 179

كانوا أعزة قومي قد عرفتهم مأوي الضعاف وهم يعطون ماعوناً

أعزز بمصرعهم تباً لقاتلهم علي النبي وطوبي للمصابينا (1)

هذا، وهناك قول بأن ذا الشهادتين توفي في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وأن الذي استشهد مع الإمام علي عليه السلام في صفين هو صحابي آخر يحمل الاسم نفسه، أي خزيمة بن ثابت، إلا أنه ليس المعروف بذي الشهادتين.

وهو قول شاذ لأنه:

أولًا: مخالف لما أجمع عليه علماء السير من أن الذي استشهد في معركة صفين هو خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأنه لم يمت في عهد عثمان.

وثانياً: لعدم وجود صحابي بهذا الإسم، أي خزيمة بن ثابت، غير المتصف بذي الشهادتين (2).


1- اًنظر: وقعة صفين لنصر بن مزاحم: 364- 366.
2- راجع: الإصابة وغيرها من المصادر التاريخية.

ص: 180

الإمام (ع) يندب إخوانه ويطري عليهم ومنهم ذو الشهادتين:

وقد راح الإمام علي (ع) يذكر إخوانه كما كان يسميهم، الذين استشهدوا في معركة صفين ويشيد بهم ويتمني وجودهم، وكان الحزن يعتصر قلبه علي مصرعهم، وهو يري تخاذل جنده وأتباعه وتباطئهم في الاستجابة له حينما يستحثهم لمواصلة المرحلة الثانية من القتال ضد معاوية وجنده، ومما قاله سلام الله عليه:

... ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم وهم بصفين إلا يكونوا اليوم أحياء؟ يسيغون الغصص ويشربون النق! قد والله لقوا الله فوفاهم أجورهم، وأحلهم دار الأمن بعد خوفهم.

ثم راح يندبهم ويصفهم بالأخوة، ويعدد نماذج منهم قائلًا:

أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا علي الحق؟! أي: استقاموا فيه لم ينحرفوا إلي هنا وهناك، لا يبتغون عنه بدلًا.

أين عمار؟!

وأين ابن التيهان؟!

ص: 181

وأين ذو الشهادتين؟! وهو خزيمة بن ثابت، والإمام سلام الله عليه راح يناديه بلقبه الذي جعله رسول الله له، أن عدّ شهادته منفردةً قائمة مقام شهادة رجلين.

وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا علي المنيّة، وأبرد برؤوسهم إلي الفجرة؟!

ثم ضرب بيده علي لحيته الشريفة الكريمة، فأطال البكاء ثم قال عليه السلام:

أوه علي أخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه.

وبعد إطرائه عليهم رضوان الله عليهم نادي بأعلي صوته:

الجهاد الجهاد عباد الله (1) ...

ذو الشهادتين في كتب علماء الرجال:

كان طبيعياً أن يحتل خزيمة بن ثابت


1- انظر: نهج البلاغة، صبحي الصالح: 264.

ص: 182

مكانةً قيمةً عند علماء الرجال والحديث من الفريقين، لما تمتّع به هذا الصحابي الجليل من إيمان وثيق، وصدق حديث ورواية، استحق بها اللقب العظيم (ذو الشهادتين)، الذي أضفاه عليه النبي الكريم صلوات الله عليه، تضاف إلي سجله الحافل بالمواقف الجهادية طوال حياته الإيمانية المباركة:

ففي رجال الشيخ الطوسي+:

خزيمة بن ثابت من أصحاب رسول الله. وعده مع توصيفه بذي الشهادتين في أصحاب علي (ع) (1).

فيما قال عنه البرقي في آخر رجاله:

هو من الإثني عشر الذين أنكروا علي أبي بكر حيث قال: ألست تعلم يا أبا بكر أن رسول الله قبل شهادتي وحدي.

قال: بلي.

قال: فإني أشهد بما سمعته منه وهو قوله: (إمامكم بعدي علي (ع)، لأنه الأنصح لأمتي والعالم فيهم).

أما في العيون فقد ذكره: إنه من


1- رجال الشيخ الطوسي: 5.

ص: 183

الذين مضوا علي منهاج نبيهم، ولم يغيروا ولم يبدلوا ( (1)).

وأما الكشي، فقد ذكر أكثر من رواية تبين مواقفه دفاعاً عن الإمامة الحقة المتمثلة بأمير المؤمنين علي (ع) منها:

الرواية الأولي: رواية اغتساله قبل قتاله في صفين التي ذكرناها.

الرواية الثانية: رواية أنه سل سيفه في صفين قائلًا: سمعت رسول الله يقول: (عمار تقتله الفئة الباغية) التي ذكرناها.

الرواية الثالثة: جعفر بن معروف قال: حدثني محمد بن الحسن عن جعفر ابن بشير عن حسين بن أبي حمزة عن أبيه حمزة قال: والله، إني علي ظهر بعيري في البقيع إذ جاءني رسول فقال: أجب يا أبا حمزة فجئت وأبو عبدالله (ع) جالس، فقال: إني لأستريح إذا رأيتك. ثم قال: إن أقواماً يزعمون أن علياً (ع) لم يكن إماماً حتي شهر سيفه، خاب إذن عمار وخزيمة بن ثابت


1- راجع أسماءهم في ترجمة جندب بن جنادة في رجال الحديث للخوئي.

ص: 184

وصاحبك أبو عمرة، وقد خرج يومئذ صائماً بين الفئتين بأسهم فرماها قرباً يتقرب بها إلي الله تعالي حتي قتل، يعني عماراً (1).

وذكر السيد الخوئي+ في رجال الحديث سبب تسميته أو توصيفه بذي الشهادتين عن كتاب الكافي، كتاب الشهادات 5 باب النوادر 23، ح 1 في المجلد 8. ونقل السيد الخوئي أيضاً أقوال جمع من علماء الرجال ذكرنا بعضها أعلاه، فانظر ترجمته هناك مفصلة.

وهكذا تحدث عنه علماء آخرون كالذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء، فقد قال عنه: خزيمة بن ثابت الفقيه أبو عمارة الأنصاري الخطمي المدني ذو الشهادتين، قيل: إنه بدري، والصواب إنه شهد أحداً وما بعدها. وله أحاديث.

وكان من كبار جيش علي فاستشهد معه يوم صفين.

حدث عنه ابنه عمارة، وأبو عبد الله


1- راجع: ترجمة عمار: 3.

ص: 185

الجدلي، وعمرو بن ميمون الأودي، وإبراهيم بن سعد بن أبي وقاص وجماعة.

قتل رضي الله عنه سنة 37 ه-، وكان حامل راية بني خطمة. وشهد مؤتة (1).

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وطبقات المحدثين وغيره مع بعض ما رواه عن النبي.

وختاماً

لقد حظي هذا الصحابي الجليل رضوان الله تعالي عليه بما تمنّاه، ألا وهو الشهادة في سبيل الله تعالي، التي ختم بها عمره البالغ سبعين سنة، إذا ما أخذنا بما ذكره بعض من كتب عن خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وإن لم أعثر علي دليل تاريخي يثبته فيما تيسّر لي من مصادر تاريخية، من أنه ولد قبل البعثة النبوية المباركة بعشرين سنة، فيكون عمره حين استشهاده رضوان الله تعالي عليه سبعين سنة، فهو شيخ كبير، ويعد من مشايخ المسلمين الذين نالوا وسام


1- انظر: سير أعلام النبلاء 485: 20.

ص: 186

الشهادة في معركة صفين بعد عمار بن ياسر رضوان الله تعالي عليه.

فسلام عليك نفساً مطمئنةً آمنت بربها، فرحلت إليه راضية مرضية!

الدَّاعية الأمريكي الحاج مالك شباز (مالكولم إكس) الحجُّ وفعلُه التغييري في حياته وفكره

آدم بمبا

مقدمة

إذا كانت وحدة الأصل البشريِّ، وتساوي الشُّعوب مسلَّمة طبيعيَّة، فإنَّ هذه الحقيقة يصعب الاهتداء إليها في ظلِّ العنصريَّات والمواقف المسبقة عن الشُّعوب والأمم، ولا سبيلَ إلي رفع هذا الكَلَف عن وجه هذه الحقيقة الناصعة إلَّا بتوفير فرَص من «التعارف» الحقِّ بين الناس؛ فالإنسان عدوُّ ما يجهل. وإذا كانت وسائل انتقال الأفراد والجماعات، وأسباب اختلاط الأمم بعضها ببعض متعدِّدة، فإنَّ رحلة الحج تظلُ

ص: 187

قمَّة الوسائل في توفير مسرح حيٍّ لتقرُّب الإنسان إلي غيره، ونبذ العنصريَّة، وصُوَر الاستعلاء العرقيِّ بين الأجناس.

ومن هذا المنطلق، تأتي أهميَّة الوقوف عند شخصيَّة فريدة من رجالات الدَّعوة الإسلاميَّة ممن حملوا اللَّقب الشَّرقي «الحاج» بجدارة إن شاء الله، ويصحُّ أن نُلصِق عليهم طابعاً يحمل «صُنِع في مكّة»، وذلك بفعل التَّجربة الإيمانيَّة الخصبة التي عايشوها في الحجِّ، تجربة لا نبالغ إنْ قلنا: إنَّها أحدثت في حياتهم وسلوكهم تغييراً لم يُبقِ علي شخوصهم السَّابقة إلّا اللَّحم والدَّم، فكأنَّ الحج آلة عجيبةٌ في «صنع» البشر يخرج منها الحاج «كيوم ولدَتْه أمُّه».

تلك الشخصيَّة هي الحاج مالك شباز (مالكولم إكس سابقاً) «شهيد الإسلام الأوَّل في أمريكا» (1)، الذي تمثِّل قصَّة حياته رحلةً طريفة في الانتقال إلي «الآخر»، والتعرُّف عليه، ونبذ الفوارق العرقيَّة


1- هذا من إطلاق علي صديقي في ورقة قدمها في سمنار جماعة المسلمين في دنفير الأمريكية بمناسبة أسبوع تاريخ السود عام 1988، بعنوان: Malcolm X: martyr Of in Islam America, janaat, al- Muslimeen, Baltimore, 1988, USA.

ص: 188

لصالح الأخوَّة الدينيَّة، رحلة وضعتْ خطاً فاصلًا بين مشهدَين متضادَّين من حياة صاحبها، مشهدٌ أوَّل هو الصِّراع بين الرَّجل الأسوَد والأبيض، منطِقه «اللَّامساس» وحوارهُ «فإنَّهم عدوٌّ لي». أما المشهد الآخر، فمنطقه منطق الانفتاح والأخوَّة، حتي لكأنَّ البطل الذي ظهر في المشهد الأوَّل قد استُبدِل بإنسان آخر مختلف عنه في جميع المواصفات النفسيَّة والسلوكيَّة.

استجلاءً لهذا الفعل التغييريِّ في حياة الحاج مالك شباز، فقد ارتأينا عرض حياته بصورة إجماليَّة، مع الوقوف عند مرحلة الحج لاستخلاص الدُّروس والعِبَر في سيرة حياته المطبوعة، آملين أن تنفع في إقامة الحجَّة لنا في روح الأخوَّة في الإسلام، وفي اضطلاع شعائره بتأمين السَّلام العالمي،

ص: 189

وفي تهذيب الإسلام لأتباعه، وجعلهِم «رُسَل سلام» إلي أقوامهم ومجتمعاتهم، لا «تماثيل سلام» خرساء!

من جانب آخر، فإنّ من الأجدر بالمسلمين اليوم،- خاصَّة- في ديار الغرب، ونحن في خضمِّ حملات التفريق في الصف الإسلاميِّ، وحملات تشويه صورة الإسلام، تمثُّل تلك القِيم والرُّؤي الانفتاحيَّة علي إخوانهم في ديار الإسلام، تلك الرُّؤي التي انتهجها الحاج مالك شباز وأمثاله، حتي يبقي العُود الإسلاميُّ عوداً واحداً قويّاً يستحيل علي الأعداء معالجته وكسره، وحتي تبقي تلك المنارات الإسلامية وهَّاجة، وشاهدة علي الغرب، والشعوب الأخري، في عقر ديارها بأنَّ الإسلام دينُ التَّسامح والوسطيَّة، وأنَّه العلاج الشافي لأمراضهم الاجتماعيَّة.

أوَّلًا: الإسلام في أمريكا والإطار الاجتماعي والديني

إذا كان جلُّ المؤرِّخين يقفون ببداية تاريخ أمريكا بالملاح كريستوف كولومبس (6051- 1541)، فإنَّ الحقائق التاريخيَّة المتضافرة قد برهنتْ علي أنَّ كولومبس

ص: 190

مسبوقٌ إلي اكتشاف أمريكا من قِبل المسلمين الإسبان المهاجرين، بل إنَّ كولومبس قد استعان بخرائط أولئك ومعلوماتهم في الإبحار إلي الشاطي ء الأمريكي (1).

أما في الجانب الأفريقي، فإنَّ المؤرخ المسلم ابن فضل العمري (صاحب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) قد أورد في كتابه ذِكر الملك أبي بكر سلطان مالي عام (1312 م) الذي أبحر من شواطي ء المحيط الأطلسي في غرب أفريقيا إلي خليج مكسيكو الأمريكيَّة (2).وتوجد مساندةٌ قويَّة لهذه الرِّواية لدي البرفسور

WienerLeo

بجامعة هارفرد في دراساته عن أفريقيا واكتشاف أمريكا، إذ استعان بالعلاقات اللغويَّة الوظيفيَّة بين بعض لغات غرب أفريقيا ولغات السُّكان المحلِّيين في الشاطي ء الآخر عند خليج مكسيكو. كما برهن الباحث Ivan V .Sertima بجامعة Rutgers


1- عبدالله أحمد الداري، الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، جدة: الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، 1403 ه-، ص 12.
2- Sulaymam S. Nyang, Ialam in the United States Of America, Chicago: ABC International Group Inc. 1999 , P 12.

ص: 191

نيوجرسي بدراساته المستفيضة علي وجود سكان أفارقة معظمهم مسلمون في أمريكا قبل اكتشاف كولومبس للقارة الأمريكيَّة (1).

وقد أورد هؤلاء الباحثون كثيراً من القرائن والمرويَّات والوثائق التاريخية الدالَّة علي أنَّ الإسلام قد حلَّ بالديار الأمريكيَّة منذ أن وطي ء العبيد الأوائل تلك الأراضي، وظلَّ بينهم- بشكل أو بآخر- حتي ورثها الأجيالُ اللَّاحقة علي الرغم من الاضطهاد، وحملات محو الهويَّة، وإرغام المسلمين علي تغيير دينهم، وأسمائهم، والتَّفريق بين الأسر والقبائل .. هذا، وقد عُرِف في تاريخ السُّود بأمريكا علماء مَّمن وصلوا أمريكا في غضون 1730، وفاجأوا


1- وضع هذا الباحث كتاباً شهيراً بعنوان: «لقد أتوا إلي هنا قبل كولومبس They Came here before Columbus» عام 1976 م، وقد أثار هذا الكتاب جدلًا في الأوساط الأكاديميَّة بمعلوماته وآرائه الجديدة المثيرة. ومن جانب آخر، فإنَّ Alex Haley صاحب السيرة الذاتية «الجذور» الذي أكَّد فيها علي أصوله الإسلاميَّة في غامبيا، قد استطاع أن يبرهن علي صدق دعواه، وتتبَّع القرائن التاريخيَّة حتي وصل إلي قريته علي ضفاف نهر السنغال. هذا، وتاريخ العبيد المسلمين في البرازيل وقوَّتهم في الصمود وقيادتهم انتفاضات مسلَّحة ضد «الأسياد» المسترقين 1835 مشهور.

ص: 192

الأمريكيِّين بمستواهم المعرفيِّ، واستعان الباحثون ببعضهم في ترجمة بعض الوثائق، من أولئك: يارو محمد، وجوب بن سليمان، والأمين جاي، والشيخ محمود بقاقا، ومحمد علي بن سعيد، وأيوب بن سليمان ديالو، وعبدالرحمن (1).

وعلي الرغم من إلغاء الرِّق، وتجارة العبيد والتَّلويح بشعارات الحريَّة والديمقراطيَّة بعد الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة (1861 1865)، فإنَّ وضع السود الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكيَّة خاصَّة في ولايات الشَّمال، لم يطرأ عليه تحسُّن ملموس، حيث فرض عليهم حظر التَّجوُّل بعد الغروب في بعض المدن، ومُنعوا من دخول المطاعم، وركوب سيارات النَّقل الجماعي، وحرِموا من الخدمات الطبيَّة في المستشفيات، وفُصِل بينهم وبين البيض في الكنائس، والملاهي .. وقد كانت أيَّة معارضة أو احتجاج علي هذا الوضع، أو المناداة إلي المساواة تؤدّي بالمعارض


1- The Muslim Almanac ,P 148 .

ص: 193

إلي السجن، أو القتل أو أيّ شكل من أشكال التخويف علي أيدي العصابات العنصريَّة التي أسَّسها البيض، والتي كانت تمارس أعمال العنف علي مرأي ومسمع من الشرطة.

نتيجةً لهذه الحالة، شهدت بدايات القرن العشرين نشأة الكثير من الحركات القوميَّة في أمريكا خاصَّة بين السُّود، مثل حركة

SKIE

، وجماعة Aipha Phi Aipha ، وتراوحت تلك الحركات بين متطرِّفة ضدَّ البيض، وأخري معتدلة خاصَّة لدي الطّبقة المثقَّفة. كما تراوحت المرجعيَّات الفكريَّة لتلك الحركات بين علمانيَّة، ووثنيَّة، وإسلاميَّة ومسيحيَّة، وإنْ كان الغالب علي معظمها المزجُ بين تلك المرجعيَّات الدينيَّة.

أُولي تلك الحركات حركة مرقس غارفي Marcus Garvey التي أطلق عليها «الرابطة العالميَّة لترقية الجنس الأسود

Universal Negro Improvement Associatation» التي نشطت منذ عام 1916، وهي حركة سياسيَّة اجتماعيَّة، دعا السُّود إلي تحرير أنفسهم من الظُّلم الاجتماعيِّ. قويت حركتُه لكنها انحلت بعد

ص: 194

نفي مرقس من الولايات المتحدة.

وثانيتها حركة «الهيكل المغربي المقدَّس للعلوم Moorish Holy Science Temple»، التي أسَّسها الكاريبي تيموثي درو (Thinothy Drew(1929- 1886 في مدينة Newarkبولاية جيرسي. وتسمَّي فيما بعد بالشريف درو علي، رافعاً نسبه إلي الأشراف بالمملكة المغربية، زاعماً أنَّ أصل السُّود في الولايات المتحدة من آسيا، وأنَّهم ينحدرون من قبيلة كانت تسكن مكَّة وتُدعي «شَباز»

(1). كانت دعوته خليطاً من المعتقدات الدِّينية الشرقيَّة والمبادي ء الاجتماعيَّة، دعا السُّود إلي الارتداد عن المسيحيَّة واعتبرها دين البيض الآريِّين، وأمرهَم باعتناق الإسلام باعتباره ديانة أجدادهم الأصليَّة. كمّا دعا إلي انفصال السُّود عن البيض في ولاية خاصَّة بهم داخل الولايات المتَّحدة، واسم خاصٍّ يحملونه (2).


1- Yvonne Yazbeck Haddad, The Muslims of America, p 55.
2- كان يضيف علي أسماء الأتباع البادئة «ال-» أو «بيه» إشعاراً بأصولهم الآسيوية، وقد ظهرت نفس الممارسة عند محمد غارفي في إعطاء أسماء شرقيَّة لأتباعه زعم أنَّها توحي إليه، وأنَّ ما يعطي لأيِّ شخص من اسم، فإنّما هو اسمه الحقيقي. كما ظهرت الممارسة نفسها عند إليجا محمد، بإضافته اللاحقة «X» إلي أسماء أتباعه، إشارةً إلي أسمائهم الأصليَّة غير المعلومة. وعلي كل، فإنَّ هذه الممارسة صورةٌ من الرَّفض لثقافة البيض والاندماج فيهم، ووسيلة لاستعادة الهويَّة المفقودة لدي السُّود في أمريكا.

ص: 195

ادَّعي الشريف درو علي النبوَّة، وكتب كتيِّباً سماه (القرآن المقدس)، وهو- كما يصفه جاك كونراي- «مزجٌ غريبٌ لآيات القرآن الكريم، وجُمل من الكتاب المقدس، وكلمات مرقس غارفي، وقصص حول حياة يسوع، يربط هذه العناصر كلها بياناتٌ وتفسيرات المتنبي (درو علي)» (1). وقد لاقت دعوة درو علي قبولًا موسَّعاً، وراقت أذواق الطَّبقة الكادحة من السُّود في أوائل القرن العشرين، وكانت لها هياكل ومعابد نشطة في ديترويت، وشيكاغو، ونيويورك، وغيرها من الولايات في أمريكا، وراجت عقائد الطائفة بسرعة وقوِيت حتي وفاة المؤسس 1929. وعلي الرغم من الانحرافات الواضحة في تعاليم درو علي وبُعدها عن الإسلام الصحيح، ومزجها بين الشَّعائر والعقائد الإسلاميَّة


1- دينس ووقر، «الإسلام بين الأرقاء السود في شمال أمريكا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر»، مجلة مجمع البحوث الإسلامية، إسلام آباد، باكستان، مج 14، عدد 4، ص 44 33.

ص: 196

والمسيحيَّة، فإنَّها تعتبر الواجهة الأولي التي أيقظت في الأمريكيّين السُّود الشعور بالاعتزاز بهويَّتهم، وتقوية الوعي بضرورة العودة إلي الإسلام، والارتباط بأرض أفريقيا وآسيا.

ثالثة تلك الحركات حركة «أمَّة الإسلام» التي ظهرت في غضون (1939) علي يد والاس فارد محمد، في أحياء ديترويت الشعبيَّة، وكان بائعاً متجوّلًا يتاجر في الأقمشة والملابس. بدأ دعوته بالانخراط في الاسَر، وتذكير السُّود بأصولهم الأفريقيَّة، مؤكِّداً لهم أنَّه جاءهم ليحملهم علي «اكتشاف الذَّات». بعد كسبه لجماعة وتأسيس منظمته، وخروجه من الدَّعوة السريَّة، أسَّس مدارس للبنين والبنات، وأنشأ مؤسَّسات تجاريَّة، ومعامل خاصَّة للسُّود.

بحلول عام

1934

، اختفي فارد محمد فجأةً، وكان قد أوكل أمر الحركة إلي روبرت (إليجا) بول (Elijah poole (1875 1975 فكان أوَّل ما قام به إليجا ادِّعاء الألوهيَّة لفارد محمد، وادِّعاء النبوَّة

ص: 197

والرسالة لنفسه (1)، وسمي الحركة «أمَّة الإسلام المفقودة- الموجود في مجاهل أمريكا الشمالية»

The Lost- found Nationof IsLam in the wilderness of North America

وزعم بأن الرَّجل الأبيض هو الشَّيطان نفسُه المذكور في الكتب السماويَّة. ونشط في تأسيس أماكن عبادة لأتباعه وسماها «معابد/ هياكل Temples»، ولم يكن فرق كبير بينها وبين الكنائس. كما طوَّر المؤسَّسات التجاريَّة والمصانع، وأغري البسطاء بالوعود الإلهيَّة للجنس الأسَود (2).

عرفت حركة إليجا محمد عصرها الذَّهبي أيام الحاج مالك شباز، ولما توفي إليجا محمد، تولَّي زعامة الحركة ابنه والاس (وارث الدين) الذي أدخل تصحيحات جذريَّة في تنظيم الحركة وفي تعاليمها، حيث أبطل دعاوي أبيه التحريفيَّة، وأعلن عن اتِّباعه لمنهج أهل السُّنة والجماعة في الاعتقاد والعمل، هذا، وقد انفصلت عن والاس


1- Lincoln Chartes Eric, The Black Muslim in the Unired States, P 17 o.
2- Ibid ,P 135 136 .

ص: 198

جماعةٌ بزعامة لويس فرخان، ملتزمةً بالدَّعاوي القديمة، وبالإيمان بنبوَّة إليجا محمد وتعاليمه وعقائده الباطلة.

ومهما يكن من مآخذ علي هذا التنظيم في عهده الأوَّل، فإنَّ من الملامح الإيجابيَّة فيه قوَّة الجانب الرُّوحي، ونجاحه في شحن الأتباع بديناميَّة التَّطهير الذاتي، والتمسك بالهويَّة، والاحتراز المفرط من الذَّوبان في الثقافة الأمريكيَّة.

ثانياً: مالكولم، المولد والنَّشأة

وُلِد مالكولم ليتْل بتاريخ

19

مايو 1925 في أوماها ولاية نبراسكا. والده ( (j .Earl Little من مواليد جورجيا، ووالدته ((Lousie Norton، نازحة من بلاد جزر الكاريبي. وهو الابن الرابع من بين سبعة أبناء رزِقت بهم «لُوِسا» (1)، وله ثلاثة إخوة آخرين من أبيه رُزِق بهم في زواجه الأوَّل قبل زواجه ب- «لويسا» أمِ


1- هم بالترتيب: ويلفريدWilfred ، وهيلدَاHilds ، وفيلبيرPhilbert ، ومالكولم Malcolm ورِيجيناRegina ، ووِيسلي Wesley .

ص: 199

مالك (1). وقد صادف مولد (مالكولم) وصباه تصاعد الأزمة العنصريَّة، واضطهاد السُّود في الولايات المتحدة، وكان صباه مهدَّد بشبح العنصريَّة البيضاء ضد السُّود في الولايات الشَّمالية، وضدَّ أتباع حركة مرقس غارفي التي كانت أسرته زعيمة إحدي تجمُّعاتها؛ إذْ كان أبوه داعية (غارفي) مشهور، حاز اللَّقب الشَّرفي «الكاهن/

Reverend

» كما حاز لقب «الرَّشيد/ Elder » لتزعُّمه الطائفة الغارفيَّة بأوماها، ونشاطه في تنظيم أمورها، وإلقاء الخطب.

يتَّضح من سيرة حياة (مالكولم) وتصريحات إخوانه أن الإيديولوجيَّة الغارفيَّة وتعاليمها كانت الموجه لحياة الأسرة، وسلوك أفرادها، فإضافةً إلي تزعُّم الأب للطائفة الغارفيَّة، وكون الأم محرِّرة لأخبار الجماعة ونشر تعاليمها في بعض الصُّحف، حرص كلٌّ منهما علي تلقين الأبناء


1- كان زواج مالكولم إكس في تاريخ 14 يناير1985 ، بالأخت بيتِي Betty X ، وكانت مثله أفريقيَّة أمريكيَّة، وتابعة لجماعة أمَّة الإسلام، ورزقت منه بستِّ بنات هن: 1958 Attelah، 1960 Qubilah، 1962 llyash، 1964 Amilah، 1965 Malaaka Malikah وهما توأمتان وُلدتا بأشهر بعد اغتياله.

ص: 200

مبادي ء الحركة، فكان الوالد يصطحب مالكولم وأخوَيه إلي المعبد حيث يلقي الخطب، ويلقِّن الأتباع تعاليم الطائفة. أما الأمُّ، فكانت إذا اجتمعت الأسرة حول النار بعد العَشاء، تحكي للأطفال عن ماضي أجدادهم السُّود العريق، وتنفث فيهم روح الاعتزاز بعنصرهم الأسود (1).

ولا شكَّ أن هذا الجوَّ النِّضالي الذي تفتَّح فيه (مالكولم) علي الحياة، قد انطبع علي تفكيره، ووجَّه الكثيرَ من تحرُّكاته وتصرُّفاته خلال مختلف مراحل حياته. وإذا أخذنا في الحسبان الوسطَ العامَّ في مدينة

Lansing

، والأسر الأخري في مجتمع السُّود،


1- يوكِّد مالكولم وإخوته أنَّ والدتهم حرصت علي زرع الروح النقديَّة في نفوسهم منذ نعومة أظفارهم، ولم يكن لها انتماء محدَّد إلي دين علي الرغم من اتِّباعها التام لتعاليم الحركة الغارفيَّة وبرنامجها الغذائي، يقول ويلفرد شباز أخو مالكولم الأكبر: «كانت تقرأ علينا الإنجيل، ونناقشها معاً، لكن أمي كانت تصطحبنا دائماً إلي مكان مختلف، كانت تأخذنا إلي الكنيسة المعمدانية؛ لاعتقادها أن لكل واحد من المذاهب الدِّينية المختلفة شيئاً ينبغي عليها اكتشافه .. كانت تأخذنا إلي شهود يهوه. وكانت تأخذنا كذلك إلي كنيسة المعمدان ... وفي ظلِّ هذا المناخ من الحركات والطوائف الدينيَّة المتعدِّدة إلي جانب المسيحيَّة التقليديَّة نشأ مالكولم وإخوته، تشجعهم الأم علي دراسة الأديان، ولكن دون الانخراط في دين معيَّن أو التَّعصب له علي حساب الأديان الأخري، وقد ظهر أثر هذه التربية جلياً في مالكولم وإخوته، واهتمامهم بالمناقشات الدينية On the Side of my People ,p 5051

ص: 201

أدركنا مدي الأثر الأيديولوجي الذي كان تربةً خصبةً لنماء الوعي القوميِّ والديني لدي جيل مالكولم من أبناء الأمريكيِّين السُّود.

ومن الأحداث التي شحذت نفسيَّة مالكولم وحفرت في ذاكرته أسي دفيناً، وكراهيَّةً للبيض منذ نعومة أظفاره، ما رواه في سيرته عن حادثة إحراق منزل أسرته علي يد عصابة «كو كلوس كلان» العنصريَّة في أوماها (1). حيث أتي رجال مقنَّعون ذات ليلة؛ فكسَّروا النوافذ، وأشعلوا النار في المنزل، وأطلقوا عبارات عنصريَّة، وطالَبوا الأسرة بالهجرة من بين أظهُرهم. وقد لخص مالكولم هذه الحالة بقوله: إن


1- Ku Klux Klan عصابة عنصريَّة إرهابيَّة سريَّة، تأسست منذ عام 1865 بعد الحرب الأهلية الأمريكية، في ولاية تينيسي Tennessee، لمحاربة الجنوبيين الجمهوريين من البيض، وجميع «الملوَّنيين» في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، ومعارضة انتقالهم أو سكناهم في بعض المدن والأحياء، وتقوم العصابة بهجومات منتظمة علي اليهود والسود بكسر نوافذ بيوتهم، أو إحراقها، وإتلاف ممتلكاتهم، وربما الاعتداء عليهم بالقتل، وممارسة صُور الاستفزاز والتخويف. ولا تزال تلك العصابة نشطة بأشكال وهيئات متعدِّدة حتي وقتنا الحاضر.

ص: 202

مولدَه وصباه كان في الرُّعب والخوف (1).

والأمرُّ أنَّه حين أشعل البيض النار في المنزل، وهرعت الأسرة للنجاة بنفسها، يقول مالكولم: «جاء رجال الإطفاء والبوليس البيض، ووقفوا يتفرَّجون علي المنزل المشتعل إلي أنْ أتت النار علي المنزل بأكمله»!

وفي عام

1931

حين كان مالكولم في سن السَّادسة تفاقمت المأساة حين عُثِر علي جثة والده طريحاً علي سكة حديديَّة، وكان تقرير البوليس أنَّ قطاراً صدمه، بينما أصرَّ مجتمع السُّود أنَّه ضُرِب وجُرح قبل أن يلقي تحت عجلات القطار .. يقول مالكولم: «كنت في السادسة من عمري آنذاك، لكنَّني كنت قبلُ قد تعلَّمت أنَّ كون الإنسان أسودَ في هذا البلد مثار مشاكل» ( (2)).

بعد موت عائل الأسرة وكاسبِها، ظلَّت الأمُّ تجاهد وتكدُّ لتربية الأطفال وتأمين حاجاتهم، لكن المناخ العنصريَّ لم يكن


1- Malcolm X Speaks ,p 135 .
2- DeCaro ,On the Side of my People ,p 47

ص: 203

ليرحم الأرملة المغلوبة وأيتامها الصِّغار، فلم يكن من اليسير الحصول علي عمل منزلي لدي البيض، ولم ينفع إيقاف أخوَي مالكولم الحدَثَين الدِّراسة ومساعدة الأمِّ في طلب لقمة العيش، ومع تزايُد وطأة الفقر، والمطالب الماليَّة كانت الأم تشعر من يوم لآخر بحدَّة النفس، وزيادة القلق علي مصيرها وعلي مصير أبنائها.

هذا، وقد زادت استفزازات الجيران البيض للأسرة في حدَّة نفس الأم، حتي وصَموها بالاضطراب النفسيِّ، ومن هنا تدخَّلت جمعيات الرعاية الاجتماعيَّة، لأخذ الأطفال وتوزيعهم علي مراكز رعاية الأطفال؛ فكان ردُّ الأمِّ الرفض القطعي لهذا التفريق بينها وبين أبنائها، ولم يزل رجال الرعاية بنفوذهم الحكومي حتي انتزعوا منها أبناءها، وكان ذلك إيذاناً باضطراب نفسيٍّ محقَّق للمرأة، أدخِلت بعدها في مصحَّة نفسيَّة وظلتَّ بها أكثر من عشرين عاماً.

بعد أن تفرَّق الأطفال أيدي سبأ بين مراكز رعاية الأطفال، وُكِّل مالكولم إلي أسرة أفريقيَّة أمريكيَّة، ومن ثم إلي مركز لرعاية الأحداث في ميشغان، ولم يرُقه

ص: 204

المكان بأيِّ حال؛ إذ كان هو الأسودَ الوحيدَ بين الأطفال البيض، وكان بعض المربين البيض يستفزُّونه بتعليقات عنصريَّة متكررة، وكان سبب خروجه من إحدي تلك المراكز، وهروبه من الدِّراسة سخرية أحد المرِّبين منه حين ذكر له مالكولم أنَّ أمنيته أن يصبح محامياً، فنصحه المعلِّم بأن يختار مهنة النِّجارة؛ لأنَّ المحاماة لا تنسجم واقعاً مع «زنجي».

انتقل مالكولم بعد ذلك إلي السَّيدة «إيلَا»

Ella

، وهي أخته من أبيه، وقد كانت سيِّدةً فاضلةً محترمة، قال عنها مالكولم: إنَّها أول امرأة سوداء رأي فيها الفضل والثِّقة والاعتزاز بنفسها .. قامت هذه المرأة بدور فعَّال في مساندة مالكولم في شتي مراحل حياته، وكان أكبر تلك المواقف إمدادها إيَّاه بالمال لأداء فريضة الحجِّ مما كان له الأثر المباشر في التغيير الجذريِّ في حياة مالكولم وفكره، وحركته الدينية.

ص: 205

وفي شوارع ديترويت، اجتمع مالكولم ليتل بمجموعة من الشباب السُّود المتسكِّعين في البارات، وعلي أبواب المتاجر، وفي الأزقَّة المظلمة، وكان من أهمِّ أنشطتهم بيع المواد المختلفة من أحزمة، ومناديل يد، وسجائر، وعطور، ومسح أحذية ... كانت تلك المهن الشَّريفة لديهم، لأنَّ النشاط الفعليَّ لدي بعضهم كان في تهريب المخدرات، والسَّطو علي المنازل، والسَّمسرة بين البغايا وزبائنهن.

سرعان ما انخرط مالكولم عملياً ونفسياً في هذا المجتمع، وحاز لقب «أحمر ديترويت Detroit Red»؛ فبدأ يلبس علي طريقة ال- «هيبْ»: بذلة طويلة، حزام ضيِّق، وقبَّعة ذات ريش طويلة، وصبغ الشَّعر باليود الملوَّن والمليِّن، وتدخين الأفيون .. وبالجملة، كان مالكولم «قد فقد- كليّاً- شعورهَ بهويّته، وفقَدَ

ص: 206

الشُّعور بذاته» (1). ووصَف مالكولم تلك الحالة التي ألجأت الآلاف من أمثاله من السُّود إلي مثل هذا العيش والتردي بقوله: «حين تنخرط في مجتمع الغيتو، مثلما كنتُ أنا، فإنَّك تدخل في عالَم الوحوش، ويصبح البقاء للأقوي قانوناً محتوماً» (2).

تعدَّدت نشاطات مالكولم غير القانونيَّة حين عمله خادماً في إحدي المراقص الصَّاخبة في حيِّ هارلْم؛ حيث كان المكان ملتقي تجار الأفيون، ولاعبي «الحظ»، وسماسرة البغايا، وعصابات السَّطو علي المحلات التجاريَّة، وهكذا وجد مالكولم نفسَه منجرفاً في تجارة الأفيون التي درَّت عليه الأرباح الطائلة .. «ظللتُ أضاعِف أرباحي، وبضاعتي، وقلَّما كنت أنام .. كانت في جيبي رزمة ضخمة من المال ..» (3). وقوِيت شوكةُ مالكولم حتي كوَّن عصابة إجراميَّة للسَّطو علي البيوت وسرقة المجوهرات، تألَّفت تلك العصابة من صديقة «شُورْتي»، ورفيق


1- Malcolm X ,Autobiography ,p 54 .
2- Ibid ,p 102
3- Ibid ,p 99

ص: 207

آخر، ومن بِنتَين بيضاوَتين: صوفيا وأختها.

وعلي الرغم من وصف مالكولم هذه الفترة بحياة «الأوحال»، فإنَّ ما يُحمد لهذه الفترة في حياة مالكولم تعميقه لخبرته بحياة عامَّة الناس، ووقوفه- في كلِّ دقيقة من تلك التَّجربة- علي جروح المجتمع الدَّامية، من تشرُّد، وبطالة، وظلم، وشقاوة، وسرقة، ودعارة، وسطو علي الأبرياء، واحتيال، وإدمان مخدرات، وكل ما يتَّصل بذلك من أدواء اجتماعيَّة، يقول مالكولم: «كان أكبر زبائني المبشِّرون، وزعماء الحركات الاجتماعيَّة، ورجال الشُّرطة، ومختلف المسؤولين عن حياة الآخرين ومصيرهم» (1).

ولا شكَّ أن هذه التَّجربة الحيَّة كان لها أثرها القويُّ في حدَّة حساسيَّة مالكولم لعلاج تلك الأدواء، وفي تعميق معرفته بنفسيَّات «المرضي» و «الضَّحايا» و «الذِّئاب» ومعرفته للدَّواء المناسب لكل حالة.


1- Lomax E .Louis ,When the Word is Given ,p 50.

ص: 208

ثالثاً: السِّجن والاهتداء إلي الإسلام

ألقي القبض علي (مالكولم إكس)، وهو في الواحد والعشرين من عمره، بعد محاولته إصلاح ساعة يد ثمينة سرقها من أحد البيوت، وحُوكم وادين بتهمة السَّطو المسلَّح علي المنازل، والحيازة غير القانونيَّة للسِّلاح الناري، وزُجَّ به في سجن شارلستون عام

1946

لقضاء عشر سنوات، فكانت تلك الحادثة كفيلةً لأنْ يعود (مالكولم) إلي نفسه ويثوب بعض الشي ء، ويحدِّث نفسَه عن أحوال بني جلدَته السُّود، ووضعِهم في المجتمع الأمريكيِّ العنصريِّ. بل إن (مالكولم)- وإنْ كان يعترف بجُرمه- رأي أن شدَّة العقوبة لم تكن بفداحة الجُرم بقدر ما كانت بسبب عشرته للبنت البيضاء، صوفيا وأختها، وإشراكه إيَّاهما في عمليَّات السرقة مما أثار ثائرة القاضي عليه. وقد صرَّح القاضي لمالكولم بذلك لدي إسماعه إيَّاه قرار المحكمة بقوله: «ليس لك في بنات البيض سبيل، وسوف يلقِّنك هذا درساً في الابتعاد عنهن»!

وعلي كلٍّ، فإن مبادرة عائلة

ص: 209

(مالكولم)، ودعوتهم إيَّاه إلي «التَّوجُّه إلي القبلة والصَّلاة لله» جاءت في أوانها حين بدأ مالكولم يشعُر أنَّه بحقٍّ رهينُ محبَسَين: سجن جسدي، وسجن روحيٍّ، فكانت دعوة إليجا هي المخرج لانتشاله- أوَّلًا- من أشدِّ السِّجنَين، ألا وهو السِّجن الرُّوحي.

بقي (مالكولم) في سجن «نورفولك» حتي مارس 1950 حين حُوِّل مرَّة أخري إلي سجن شارلستون بتهمة العصيان، ولكن السَّبب الحقيقيَّ وراء هذا التَّحويل كان للحدِّ من تأثير (مالكولم) علي السجناء، وقد جاء في تقرير السِّجن ما يؤكِّد ذلك إذ قيل عنه: «مراسلاته ترتكز علي العقيدة الإسلاميَّة، وعلي الكُره الشَّديد للجنس الأبيض» (1).

بالعكس، لم يحد هذا التَّحويل من نشاط (مالكولم) الدَّعوي، بل استمال إلي الإسلام زمرةً من رفاقه كالأخوَين: أسبورن ولوروي Osborne LeRoy، والأخ مالكولم جارفيس Jarvis ، وقد كان تصرُّف تلك العصبة من السُّجناء ملفتاً للنَّظر والاهتمام منذ


1- DeCaro ,On the Side of my People ,p 90

ص: 210

عهدها الأوَّل بسجن شارلستون، حيث طالب هؤلاء إدارة السِّجن بأن تكون وجباتهم اليوميَّة حسب النِّظام الغذائي الذي وضعه إليجا محمد، وامتنعوا عن أكل لحم الخنزير، وطالبوا بأن يوضعوا في زنزانات مواجهة للقبلة.

من جانب آخر، فإن (مالكولم) قد ألفت إليه الأنظار بملَكته الخطابيَّة، فكان يناظر الأساقفة الزَّائرين للسجن، ويبهتهم بملاحظاته، ويحرجهم باعتراضاته الكثيرة علي الإنجيل، مثل اعتراضه علي الصُّورة النمطيَّة التقليديَّة للمسيح حيث يُصوِّره البيض بعيون زرقاء، وشعر ذهبي، وبِشرة بيضاء .. فقد أفحم (مالكولم) مناظريه بأنَّ المسيح كان أسوَد ملوَّناً، أو علي الأقلِّ، كان من شعوب الشَّرق الأوسط، لا مِن الجنس الآري (1).

وهكذا، لم يكن (مالكولم) يدع فرصةً إلّا ويصدع فيها بإسلامه، ويعلن عما يراه الحقَّ. وظهرت بوادر شخصيَّته القويَّة منذ


1- Ibid ,p 91

ص: 211

مكثه في السِّجن، ووقوفه في خندق المظلومين. ففي أبريل

1950

، كتب إلي مفوّض السجن السيد ماكدويل McDowell خطاباً حادَّ اللَّهجة دفاعاً عن أخ مسلم أودع زنزانةً منعزلة بسجن نورفيلك. ابتدأ (مالكولم) خطابه بقوله: «بسم الله العليم الحكيم، الحق الحيِّ، وباسم نبيِّه المقدس .. السيد إليجا محمد ... (!!)» (1). وأثقل الخطاب بالوعيد للكفرة والظالمين، وندَّد بالذين يظلمون الناس لا لذنب إلَّا لأنَّهم يصلون مستقبلين الشَّرق (القبلة). وكتب مرَّة أخري خطاب احتجاج إلي المفوض نفسه، يندِّد فيه بأحد الموظفين الذين منعوا أحد المسلمين من الانخراط في برنامج محو الأميَّة، ولم يفت (مالكولم) في ذلك الخطاب أن يسخر من حالة التَّردي الخلقيِّ في السِّجن حيث يحظي «اللُّواط» بما يسهِّل لهم شذوذهم، ويُمنع المسلمون المنضبطون من حقوقهم الطبيعيَّة.

إجمالًا، يمكن القول: إنَّ مرحلة السِّجن كانت السَّانحة التي استغلَّها (مالكولم)


1- Ibid ,p 92

ص: 212

أحسَن استغلال لتشكيل نفسه ثقافياً وعلميّاً؛ فأكبَّ علي مكتبة السجن الداخلية، والتحق بفصول تكوينيَّة في المراسلة، ومهارات التَّعبير الكتابي، ونمَّي ذخيرته اللغويَّة بحفظ معجم لغويٍّ ضخم. أما من الناحية الثَّقافية، فقد عكف علي كتب التاريخ والحضارة الأفريقيَّة والأمريكيَّة، والفلسفات الشرقيَّة. كما نمَّي ملَكته الخطابيَّة بالانخراط في فرقة الخطابة والمشاركة في المناظرات.

وإلي جانب المطالعات الكثيرة، فإنَّ مالكولم قد وجد في السِّجن بعض النُّزلاء ممَّن هم علي قدر عال من الثَّقافة والمعرفة، وتعلَّم منهم الكثير، ومن أولئك الذين أشاد بهم في سيرته الذَّاتية، الشاب الأسوَد الذي أشار إليه باسم

Bimbi

يقول عنه: «كان بيمبي يكسب كلَّ نقاش يخوضه، وكان الرَّجلَ الأوَّلَ الذي رأيتُه يفرِض احتراماً مطلقاً بكلامه». لكن بيمبي كان ملحداً، وكان تعلُّق مالكولم به بسبب حديثه العميق في الأديان، وقد سبق بنا أنَ

ص: 213

والدة مالكولم قد أرضعته وإخوانه علي التفتح للمناقشات الدِينية. وهكذا، بالمطالعات الطَّويلة، والتعلم الذاتي، عالج مالكولم داءَ الجهل في نفسه، لإدراكه أنَّ الجهل هو السَّبب الأساس في سلوكه الإجراميِّ ... صرَّح بهذه الحقيقة في خطاب له إلي الضابط مأمور السجن حين طلب التَّحويل إلي سجن آخر، قال: «إن السبب الأساس في طلبي الانتقال إلي سجن نورفيلك رغبتي في تثقيف نفسي، فالتَّسهيلات التربويَّة هنالك غير موجودة في غيرها، فلو أني كنت أكملتُ تعليمي لما كنت الآن قابعاً في الحبس. إنَّني اليوم أقضي عشر سنوات جزاء جريمتي الأولي، إنَّ ذلك لا يجرح كثيراً .. لقد أدركتُ خطئي منذ أمد بعيد، لأنَّه من المستبعَد أن يسطو رجلٌ متعلِّمٌ علي منازل الناس»

(1).

ظلَّ «مالكولم» بهذا السِّجن حتي أغسطس 1952، حيث أطلق سراحُه، وانتقل بعد ذلك إلي ميشغان مع أخيه ويلفرد. Wilfredوعلي


1- Letter from Malcolm little to Me. Dwyer, Norfolk peison Colony Transportation Board, 28 July, 1947, PF.

ص: 214

الرغم من عدم اجتماع (مالكولم) بقائده إليجا محمد وجهاً لوجه منذ إسلامه إلي خروجه من السِّجن (في أغسطس

( 1952

، فإنَّ العلاقة بين الرَّجلين كانت قد توطَّدت عبر المراسلات الأسبوعيَّة المنتظمة بينهما، استطاع إليجا محمد من خلالها أن يلقِّن (مالكولم) فلسفته الدِّينية، وأثبت (مالكولم) كذلك نجابته وإخلاصه وجدارته بحمل لواء حركة إليجا.

مالكولم إكس والانخراط في (أمَّة الإسلام)

ما كاد المريد النَّبيه (مالكولم) يخرج من السِّجن، ويلحق بقائده، ويضيف إليجا علي اسم مالكولم اللاحقة «إكس» (1) إلّا وترقَّي في سلك التَّنظيم، وشهدت الحركة كذلك- آنذاك- عصرها الذهبي وتطوُّرها المطَّرد في عدد الأتباع، ونوعيَّة التنظيم.

وعلي سبيل المثال، فقد كان من عادة وزراء الحركة في ديترويت أن يقصدوا


1- في الرياضيات، يُرمَز ب- X إلي قيمة غير محدَّدة. وكانت إضافته إلي أسماء المسلمين السود إشارةً إلي أسمائهم القبليَّة المفقودة بفعل الحملة الاستعباديَّة، وتعبيراً عن رفضهم للأسماء المعطاة لهم مِن قبَل أسيادهم البيض.

ص: 215

مدينة شيكاغو مقرَّ الحركة العام في مناسبة الاحتفال بعيد الحركة السنويِّ للاستماع إلي إليجا، وكانت القافلة الأولي التي أقلَّت (مالكولم إكس) مع بقيَّة وزراء الحركة إلي شيكاغو عام 1952 سيارتَين. وما أن باشر (مالكولم) عمَله في الدَّعوة للحركة، واستمالة الأتباع الجدد من أحياء السُّود الفقيرة (الغيتو)، ومن البارات، وزوايا الزِّقاق المظلمة، وعلي أبواب الكنائس، وفي تجمُّعات السُّود .. إلّا وتضاعف أتباع الحركة قبل أن يحول الحَوْل، فإذا (مالكولم) يحدو قافلةً من السَّيارات إلي شيكاغو عام 1953 مجموعها 52. فلم يكن من القائد إليجا محمد إلا المسارعة في تعيين (مالكولم) في مرتبة «وزير كامل

Full Minister

» بالهيكل رقم ( (1، وهو الهيكل الأوَّل الذي أسَّسه المعلم فارْد محمد نفسُه.

ومنذ أن تفرَّغ (مالكولم) للعمل بحركة (أمَّة الإسلام)، أصبح يقضي ليلَه ونهارَه في تجنيد الأتباع الجدد، وإقامة المحاضرات، وتأسيس الهياكل (المساجد) الجديدة، وكثُرت أسفاره من أدني الولايات إلي

ص: 216

أقصاها، وأثمرتْ تلك الجهود الدعويَّة الجبارة، وشخصيَّة (مالكولم) المؤثِّرة في تضخُّم أتباع الحركة من حوالي 400 عضو زمَن التحاق (مالكولم) بالحركة، إلي حوالي أربعين ألف عضو.

هذا، وكان من الملامح المميِّزة للحركة- قبل عهد مالكولم- تمركُزها علي الطَّبقة الفقيرة من العُمال في المصانع، وسكان الأحياء الفقيرة المنعزلة، لكنْ بحلول عام 1957، كانت حركة (أمَّة الإسلام) قد استهوت كثيراً من المثقَّفين والأكاديميِّين، ورجال الأعمال، ورجالات الفكر والأدب السُّود.

وبالمِثل، فإن المستوي الأيديولوجي للحركة فرض حضوره في المجتمع الثقافيِّ الأمريكي، وجعل مختلفَ الطَّوائف الدينيَّة والسياسيَّة والفكريَّة تعير (أمَّة الإسلام) وطروحات الوزير مالكولم اذناً صاغيةً، واعتباراً خاصاً. وفي تلك الفترة ( (60- 1969 اكتسبت (أمَّة الإسلام) شهرةً محليَّةً وعالميَّة موسَّعة، وذلك بمشاركة (مالكولم) في المناظرات والمحاورات الإذاعيَّة

ص: 217

والتلفزيونيَّة، وإلقائه الكلمات في مدرجات المعاهد والكليَّات، وقيام بعض الصُّحف والمجلَّات العالميَّة الشهيرة باستطلاعات متكرِّرة عن الحركة، أمثال مجلة: لايْف، ولوكْ، ونيوسْويك، ورَايْدِرْ دايجِيستْ (1). ونجحت أجهزة FBI في تلك الفترة في دسِّ بعض عيونها في الحركة؛ للتجسُّس عليها وعلي حياة مالكولم الخاصَّة، فكان من تلك العيون أحد حرَس مالكولم المقرَّبين.

ومن المعارك الفكريَّة العنيفة التي خاضها (مالكولم إكس) في تلك الفترة معارضته لدعوة الاندماج، وسياسة السَّلام التي كان يروِّج لها المسيحي الأفرو- الأمريكي مارتنْ لوثر كينغ ( Martin L .King ,1964 -1920،) حيث احتجَّ مالكولم أنَّ النِّظام السِّياسي والاقتصادي الأمريكيَّ مؤسَّسٌ علي التَّمييز العنصريِّ والظّلم في أساسيَّاته وتفاصيله، وأن كلَّ اندماج في مثل هذا الجهاز لن يزيد إلّا في تعاسة الفقراء والمغلوبين من طبقة السُّود العاملة.


1- Clifton E. Marsh, From Black Muslims to Muslims, p 55.

ص: 218

واعتبر مالكولم- كذلك- المسيحيَّة جهازاً من أجهزة الاستغلال في يد الأمريكيِّ الأبيض، ونفي ملاءمتها روحيّاً للرَّجل الأسوَد. يقول: «المسيحيَّة دين الرَّجل الأبيض، فالإنجيل في يد الرجل الأبيض وتفسيره الخاص له، قد كان السِّلاح الأيديولوجي الأفعَل لاستعباد ملايين الناس غير البيِض» (1). وعضَّد (مالكولم) موقفه ذلك بعقيدة «شيطانيَّة الأبيض»، والعداوة الحتميَّة بين الأبيض والأسوَد التي قال بها المعلم فارْد محمد. لكن (مالكولم) ألْمح إلي أنَّه لا يقصد ب- «شريَّة الأبيض» أفراد البيض بقدرِ ما يقصد بها جنسهم، «لسنا نعني أيَّ فرد من البيض، بل إننا نعني المجموع العامَّ لتاريخ الرجل الأبيض، وقسوتَه الجماعيَّة، وشرورهَ، وجميع تصرُّفاته الشَّيطانيَّة ضدَّ غير البيض» (2).

وبقيام الحركات التَّحرُّرية في حقبة الستينيات في أفريقيا وآسيا، ودعوتها إلي الاستقلال، وخَوض بعض الشُّعوب


1- Malcolm X ,Autobiography ,p 241 242
2- lbid ,p 265

ص: 219

(الفيتنام مثلًا) حروباً ضروساً ضدَّ القوي الاستعماريَّة ... غدت دعوات (مالكولم) وحركته أكثر مصداقيَّة، وأكثر قوَّة في إقناع الجماهير بعقيدة «شيطانيَّة البيض». ومنذ تلك الفترة، أصبحت حركة (أمَّة الإسلام)، تكتسب بُعداً دوليّاً، ومساندةً خارجيَّة من لدُن زعماء الحركات التَّحرُّرية في أفريقيا وآسيا، وجزر المحيط الهندي الغربيَّة، وكان (مالكولم) بالطَّبع، مركزَ الضَّوء في هذا الاعتبار.

جديرٌ بالذّكر أنَّ قائد الحركة الأعلي إليجا محمد، علي الرغم من ارتياحه بتطوُّر الحركة، وتضاعُف أعداد الأتباع، لم يكن راضياً بأن يسلك (مالكولم) بالحركة بعداً انفتاحيّاً دُوليّاً، أو ينحوَ بها منحيً أيديولوجيّاً، وكان ذلك- بالذَّات- بداية الخلاف بينه وبين مريده المخلص. بل بينه وبين الجيل الشَّاب من أتباعه ممَّن كانوا يشاطرون (مالكولم) وجهتَه الانفتاحيَّة.

ومن ناحية أخري، فإنَّ الحركة قد شهدت أزمتها الداخليَّة منذ عام (1961)

حين

ص: 220

تألَّق نجم (مالكولم)، ودبَّ الحسد في نفوس السِّلك الوزاريِّ داخل الحركة، فاشيع أنَّ مالكولم يريد أن يستأثر بالحركة، وأنَّه يؤلِّب بعض وزراء الحركة الشَّباب علي مركز سلطةِ الحركة في شيكاغو ... ويبدو أن بعض الوقائع تواطأت في تقوية تلك الإشاعات في نفس إليجا محمد، منها تمرُّد ابنه والاس محمد عليه عام 1963، ووصفُه تعاليم والدهِ بالضَّلال والخروج عن الإسلام الصَّحيح، ولما أبعِد عن الحركة، ووُصِف بالنِّفاق، لم يشجبْ (مالكولم) فعلته، ولم ينطقْ في حقِّه بسوء.

إضافةً إلي ذلك، فإنَّ فضيحة إليجا محمد الجنسيَّة عام 1963 جاءت لتعصف بالكثير من هالة القداسة التي كان (مالكولم) قد أضفاها علي قائده الرُّوحي، ولتُرغمه علي إعادة حساباته في قيادة الحركة، والشُعور بتأنيب الضَّمير في سَوق الجماهير المتحمِّسة إلي مصير غير مأمون تحت قيادة إليجا؛ فبدأ يكرِّس جهودَه في المشكلات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لأتباع الحركة، ويوسِّع اهتماماته بالعالَم الخارجي.

كان اتِّساع الخَرق وعكْر الصَّفو بين

ص: 221

(مالكولم) ومعلِّمه إليجا في أواخر عام 1963، حين اغتِيل الرئيس الأمريكي جون كيندي، وسُئِل (مالكولم) عن رأيه في هذا الاغتيال؛ فأبدي مالكولم شماتته بكيندي مشيراً إلي أنَّ الدَّهر قد أنصف منه، ولقيَ جزاءه في تواطؤ حكومته في سلسلة من الاغتيالات، مثل اغتيال الرئيس Patrice Lumumba والأمريكي Medgar Evers وغيرهما .. وقد كان هذا التَّصريح الجري ء سبباً في تبرّي إليجا منه، وعزْله عن وزارة الهيكل رقم ( (7 بنيويورك، ومنعه عن الحديث باسم الحركة لمدة ( (90 يوماً. لكن (مالكولم) لم ينتظر انقضاء العدَّة، بل أعلن انفصالَه عن الحركة وتعاليمها العنصرية.

ومن المعلوم، أنَّ إليجا محمد كان علي يقين بانتهاء فعاليَّة «النُّسخة الإسلاميَّة» التي قدَّمها للأمريكيِّين السُّود، وعدم صلاحيَّتها لتطلُّعات الجيل الجديد، غير أنَّ انفصال مالكولم المعلن عن حركته كان صفعةً قويَّة، وتهديداً مباشراً لزوال ملكه، وأنَّ ذلك سوف يعصف بالعرش الذي بناه لنفسه علي مزاعم غير ملتئمة مع الواقع والحقيقة، فعقيدة نبوَّة إليجا،

ص: 222

وعقيدة حرب الهرمجدون التي يهلك الله فيها البيض، وتحلُّ مملكة السُّود، والدَّعوة إلي إعطاء السُود ولايةً خاصَّة بهم في أمريكا ... كلُّ تلك الدَّعاوي كان الدَّهر قد عفا عليها.

وإضافة إلي مالكولم، فقد رأي إليجا سلسلة من الاعتراضات المتكرِّرة والتَّمرد علي تعاليمه وادِّعاءاته خاصَّة لدي أقرب الناس إليه، وأولاده ممَّن يقفون- عن كثب- علي خبايا حياته وتصرُّفاته .. خرج عليه ابنه والاس محمد أكثر من مرَّة، وخرج عليه حفيده حسن شريف في 1964، وخرج عليه ابنه أكبر محمد عام 1965 وقد أشاد كلُّ أولئك بمالكولم، ورفضوا النَّيل منه، وسمَّي أكبر محمد إسلامَ والده ب- «صناعة محليَّة» ( homemade) وأنَّه لا يعكس الصُّورة الأصلية للإسلام.

ص: 223

منظمة «مسجد المسلمين المتحد Muslim Mosque Inc»

في مارس 1964 أعلن (مالكولم) انفصاله عن (امَّة الإسلام)، وتأسيسَه لمنظمة خاصَّة باسم «مسجد المسلمين المتحد»، وأنَّ منهجه المنهج الإسلامي السَّلفي، ودعا جميع المسلمين إلي العمل معه من أجل رفعة الإسلام، وأسَّس هيئة سياسيَّةً أخري باسم: الوحدة الأفرو- الأمريكيَّة.

Afro Amerecan Unity

كان الهدف من تأسيس تلك المنظمة جمع الأمريكيِّين السود- بصرف النظر عن أديانهم- للعمل مجتمعين لتحقيق حقوق الإنسان. وعلي ذلك، فإنَّ (مالكولم إكس) رجع عن مواقفه المعادية للبيض؛ إذْ دعاهم إلي العمل في مجتمعاتهم لمحاربة صُورَ الظُّلم، والعمل لتحقيق الأخوَّة الحقَّة بينهم وبين السود، غير أنَّه لم يفتح منظمته الفتيَّة للبِيض، معلِّلًا ذلك أنَّ تحقيق الأخوَّة بين البيِض والسُّود لا يتمُّ إلّا بتحقيق الاتِّحاد والتَّعاون بين السُّود

ص: 224

أنفسهِم (1).

وواضحٌ من هذا الإطار أنَّ جميع المقدِّمات كانت تنبي ء بأنَّ (مالكولم) يخطِّط لحركة عالميَّة ذات شأن خطير في المطالبة بالحقوق الإنسانية، فَمِن دعوته إلي الوحدة الأفريقيَّة(Pan -Africanism)انطلق إلي المطالبة بحقوق شعوب العالَم الثالث، والاهتمام ب- «الإخوة» في أمريكا اللَّاتينية، و «الإخوة» الصِّينين .. ومن تصريحاته الشَّهيرة قوله: «ينبغي علي الرَّجل الأسوَد الأمريكي أن يدرك أنَّ علي عاتقه مهمَّة كبري في استدعاء الولايات المتحدة الأمريكيَّة للامتثال أمام محكمة الأمم المتَّحدة بتهمة أساسيَّة في خرق حقوق الإنسان» (2).

ومن الخطوات الناجحة في تلك الفترة تكثيف مالك أسفاره ولقاءاته بالعلماء، والمؤسَّسات الإسلاميَّة، وبالزُّعماء والقادة في أفريقيا وآسيا، فزار غانا، ومصر، والسودان، والتقي


1- Coiftonn E, From Black Muslims to Muslims, P 60.
2- Malcolm X ,Autobiography ,P 361

ص: 225

السُّفراء من مختلف البلدان.

والجدير ذكره أنَّ مالك في ظلِّ جماعة (أمَّة الإسلام) لم يكن بمقدوره الانفتاح علي الجماعات الدينيَّة والسياسيَّة الأخري خارج الولايات المتحدة؛ إذ كان من سياسة إليجا محمد الحفاظ علي جماعته داخل «شرنقة» مغلقة تمنعها من الاختلاط بالخارج وتبادل الآراء. وقد صرَّح مالك بذلك في مقابلة منشورة له بصحيفة «صونداي غلانْدر

Sunday Glender

» الجامايكيَّة، قال: إنَّه طالما تاق إلي زيارة البلدان الكاريبية لكنَّ قائده لم يكن ليسمح له بذلك، قال: «بصفتي مسلماً أسوَد، وفي حركة المسلمين السُّود، لم يكن بمقدوري السَّفر إلي هناك [الكاريبي]؛ لأنَّ السيد محمد لم يكن يشجع أتباعه علي الذِّهاب إلي أيِّ مكان شاءوا، بل كانت تشغلهم مشاغل أمريكا عما عداها».

حتي إنَّ الجولة التي قام بها إليجا إلي أفريقيا وآسيا (عام (1959- 1960 كانت بإيعاز من مالك، يقول: «لقد زرت تلك البلاد بصفتي مندوباً للسيد محمد، وبالطبع، فقد كنت واضع هذه الرحلة

ص: 226

ومخططها. وكان السبب الأوحد في عدم عودتي إلي تلك البلاد، أنّه ما كان ليدعني أذهب، فلم يكن يشجِّع أيّاً من أتباعه علي السَّفر إلي مكة أو أفريقيا» (1).

رابعاً: مقتله والمؤامرة العالميَّة

شهدت الأشهر السابقة لاغتيال الحاج مالك حرباً شعواء معلنة عليه من جبهات مختلفة، مثل مكتب CIA ، ومكتب. FBI واتَّهمته الحركات القوميَّة للسُّود بالانحراف عن قضيَّة السُّود نحو «العرب» وغيرهم. وكانت صحيفة Muhammad Speaks لجماعة (أُمَّة الإسلام) تنال منه، وتلصق به التهم، وتصفه بالنفاق والارتداد، ولقي كذلك أتباعه حظَّهم من المضايقات والاستفزازات، وضروب التَّخويف؛ فضُرب أحدهم ضرباً مبرحاً لقي علي إثره حتفه، واضرِمت النَّار في منْزل مالكولم قبل مقتله بأسبوع، كاد هو أسرته يهلك حرقاً لولا أنَّ الله سلَّم. وبلغت أعمال التَّرهيب مبلغها حتي أن


1- DeCaro ,On the Side of my People ,P 267

ص: 227

مالك كان علي أهبة للتصريح بأسماء الأشخاص الموكّلين باغتياله.

كما أنه قد عرف في تلك الفترة أصعب التَّجارب وأمرَّها في تحوُّل الأصدقاء، وتخاذل الصِّحاب، وظلم ذوي القربي حتي أن شقيقَه «فلبير» الذي تنكَّر له، ووقف في صفِّ إليجا محمد، ألحق به التهم ووصفَه بالهوس ومرض اضطراب النَّفس الذي أودي بأمِّهم (1). ومن صُور المضايقات والتَّحريض والتآمر العالمي ضدَّ مالك منعه من دخول فرنسا بأيام قبل مقتله حين تقدَّم لزيارتها ولإلقاء كلمته في مؤتمر الطُّلاب الأفارقة، وكان هذا المنع بطلب من الولايات المتحدة، والسنغال، وساحل العاج (2). ولا أدلَّ علي فداحة تنكُّر الأقارب والأصحاب له من موقف شقيقه المذكور آنفاً المعادي له، حتي حين قُتِل لم يشيِّع جنازته؛ لأنَّه- حسب وصفه- مات ميتة ضالة (3).


1- Goldman, The Death and Life Of Malcolm X, P 232
2- Ibid ,P 331
3- Clifton E. Marsh, From Black Muslims to Muslims, P 67.

ص: 228

وهكذا جاءه أجله المحتوم في اجتماع

OAAU

المفتوح ظهيرة الأحد 21 فبراير عام 1965، وكانت كلُّ الإرهاصات في ذلك اليوم تصرخ باقتراب خطر داهم، وأنَّ بالمكان ضغائن شر تتأجَّج حقداً وناراً، وتتأبَّط شراً، وبفراسته الصادقة شعر مالك بما بيَّته القوم له، وصرَّح لأصحابه في صالة الانتظار عن تخوُّفه وتوجُّسه .. «إنّني لا أشعر بارتياح نحو هذا الاجتماع، أشعر أنه ليس بالأجدر أن أكون هنا. إنَّ أمراً غريباً يحدث هنا يا إخواني!» وكان من المفارقة أن يختم المقدِّم حديثه قائلًا: «إخواني، إنني أقدِّم إليكم رجلًا ما كان ليبخل بحياته من أجلكم». ويتقدَّم مالك إلي المنصَّة، ويلقي السلام علي الحضور، ولا يكاد الحضور يردُّ تحيَّته حتي يعلو في مؤخرة الصالة هرجٌ وشجار، وحين تنصرف الأنظار إلي الضَّوضاء، يثب ثلاثة إلي المنصة وثبة أشقي قوم صالح؛ فيحاول مالك تهدئتهم .. «أيُّها الإخوة اهدأوا!» فتنطلق رصاصاتٌ إليه ...

هذا، وإذا تضاربت الأقوال والتَّصريحات حول هويَّة قاتليه، فإنَّ مما لا شكَّ فيه

ص: 229

أنه كان ضحيَّة فكره ومنهجه الجديد، وينبغي علينا التركيز علي هذا الجانب حتي نقدِّره حقَّ قدره، ولا يشغلنا البحث الحثيث عن أولئك المجرمين عن تدبُّر فكره، ودعم ذلك والإبقاء عليه مشتعلًا منيراً بإذن الله. وقد ألمح مالك إلي هذا الواجب في حقِّ دعوته بقوله: «ينبغي أن تدركوا أنّ ما أقوم به جدُّ خطير، لأنَّه تهديد مباشرٌ للنظام العنصريِّ الدُّولي بأجمعه، لأنّه تعريةٌ للتفرقة بأشكالها الدوليَّة، وعليه، فإنِّي إن أمُتْ أو أقتَل؛ فاطمئنُّوا أن ما حرَّكته لن يتوقَّف أبداً» (1).

إذن، لم يكن بخاف علي الحاج مالك مغبَّة ما يقوم به، ووعورَة الطّريق الجديد الذي سلَكه، فقد علَّمه التاريخ أنَّه ما أتي رجلٌ بمثل ما أتي به، وما قصدَ قاصدٌ مثل غايته، إلّا وتكالبت عليه أيدي المكر، وطواغيت القهر والاستعباد، إنَّ الحاج مالك- بكلِّ بساطة- لم يعُد ذلك السِّمسار في شوارع هارلم، ولم يعد ذلك


1- Eugene V. Wolfenstein, The Victims of Democracy: Malcolm X, P 328.

ص: 230

المسلم الأسوَد المطبِّل ل- «نبي» مهوَّس، والذي تلتفُّ حوله أمَّة من بُسطاء النَّاس أو متعصِّبيهم ممَّن تحركهم العواطف العرقيَّة وممَّن يعيشون علي أفيون الترَّهات، وينتظرون إلَاهَهُم «فارد» الهالك/ المختفي أن يأتيهم ويهلك عدوَّهم الأبيض، ويضع مملكة السُّود، ويجعل الأرض جنة لهم ... ولكنَّه أصبح ذلك المنذر الرَّشيد، المنبذ للتعصُّب، المعلِّق مصير قومه وتحريرهم بتحرير المغلوبين- جميعهم- علي الأرض بصرف النَّظر عن ألوانهم وأشكالهم وأديانهم.

وإن كان مالك تنبَّأ بمصيره، فإنَّه قد كشف لنا بعض تفاصيل المكر المحاك ضدَّه، فقد أدرك بقراءته لسنن الصِّدام بين الحق والباطل، ومشاهدات التآمر أن أحزاب المكر في الخفاء جهاز معقَّد، وجيشٌ لوبيٌّ من شخصيات، وأحزاب وحكومات مختلفة كلُّها تستفيد من القضاء عليه، ولكن الذي يعلِّق الجرس ويجهز علي الفريسة، ما هو إلّا أضعف تلك الأحزاب، وربَّما أقلُّها انتفاعاً في هذه الصَّفقة الآثمة. وبالجملة،

ص: 231

أدرك (مالك) أنَّه لن يقوم بالحلقة الأخيرة في هذه المؤامرة إلّا أقرب الناس إليه- ويا للمفارقة- أولئك الذين تحمَّل المخاطر من أجلهم، وأعلن الحرب من أجل خلاصهم من براثن الظلم والاستغلال. قال ذلك لمحدِّثه «جوليان

Julian Mayfield

» زعيم حركة الأفرو- الأمريكيَّة في أكرا (غانا) حين سأله ذاك عن «الأيدي الخفيَّة» فأجاب أنَّه إذا ما وقع له أيُّ شي ء فلا يظنَّن أحدٌ أنَّ ذلك بالضَّرورة من المسلمين السُّود وحدَهم، فهي مؤامرة عالميَّة، طالما أنَّه قد «عَوْلم» القضيَّة الأفرو- الأمريكيَّة.

تجارب مهمَّة في حياة الحاج مالك شباز وقانون المثير والاستجابة

لعلَّ قراءة نفسيَّة لسيرة حياة مالك وشخصه، وتطبيق قانون «المثير والاستجابة» علي المواقف الحياتية التي مرَّ بها مالك، يوقفنا علي رهافة طبع مالك، وحدَّة شعوره لتلك المواقف، وبالتالي اتِّخاذه موقفاً محدَّداً صارماً تجاه كلِّ تجربة. وعلي ضوء هذا المفهوم، فإنَّنا

ص: 232

نقف عند بعض تجارب مالك باعتبارها صدمات نفسيَّة خضع لها مالك، واتَّخذ موقفاً محدَّداً منها، فأثَّر هذا الموقف في حياته تأثيراً ملحوظاً. ولعلَّ اولي تلك الصدمات المثيرة حرق البيض العنصريِّين منزل عائلة مالكولم، وقتلهم لوالده، يلي ذلك سخرية معلم المدرسة منه، وفضيحة إليجا الجنسيَّة، ومفاجأته في مكة بكَرم الضِّيافة العربيَّة، وبروح التوادد والإخاء والمساواة بين السُّود والبيض وجميع الألوان ... ولنا وقفة عند الأخيرَتين.

أولًا: فضيحة إليجا الجنسيَّة

كانت صدمة الفساد الخلقيِّ الذي كشفت عنه صحيفة UPIوعن علاقة إليجا محمد الجنسيَّة غير الشرعيَّة باثنَتين من سكرتيراته، أعنفَ الصَّدمات التي هزَّت نفس (مالكولم) وطبعت بصمتها علي حياته وتصرُّفه ونظرته إلي «الإنسان» فيما بقي من عمره. ولثقة مالكولم البالغة بأستاذه و «نبيِّه» إليجا محمد، فإنَّ (مالكولم) ما كان ليطمئنَّ إلي حرف من

ص: 233

التحقيق الصحفي في حقِّ أستاذه، غير أن طبيعته المتعطّشة إلي سبر الأمور، ومواجهة الحقائق، وقطع الشَّك باليقين ألجأته إلي مساءلة البِنتَين عن علاقاتهما بإليجا؛ فأكَّدتا له الخبر، وأنَّ كلًا منهما قد أنجبت منه طفلًا، وكانت قوَّة الصدمة عنيفةً، والفضيحة كبيرةً لأن يغضي عنها مالكولم، فهرع- عبثاً- إلي القرآن الكريم وإلي الإنجيل علَّه يجد فيهما مبرِّراً لفعلة أستاذه وقائده الروحي الشَّنعاء، فكان (مالكولم) مثل الغريق الذي يتشبَّث بأيِّ جسم متحرِّك ... وطبعاً، لم يسَعه إلَّا السفر إلي شيكاغو ومساءلة الأستاذ .. وبكلِّ ثقة اعترف الأستاذ بفعلته بل برَّرها بالاستشهاد بقصص الكتاب المقدَّس المفتراة علي أنبياء الله المعصومين، قال: «إنَّني أنا داود، فحين تقرأ عن أخذ داود حليلةَ غيره، فأنا ذاك داود، وإذا قرأتَ عن نوح الذي سكرِ فهو أنا، وإذا قرأتَ عن لوط ذاك الذي ضاجع ابنته مِن صُلبه، فقد اكتمل في جميع تلك الصفات (!!!)» (1).


1- Malcolm X ,Autobography ,P 299

ص: 234

وبهذا الافتراء، كان إليجا يريد أن يوغل في تدجُّله وتضليله لمريده المخلص، ويسجِّل لنفسه مكسباً جديداً، ويبني حول نفسه هالةً أخري من المناعة والقداسة، ولكنَّ الجرح في قلب المريد كان عميقاً، مستعصياً علي الاندمال، وكانت الصدمة عنيفة لبعثه من موتة الانقياد العمياء لقائده.

ثانياً: صدمة الجهل بأساسيَّات العبادة

لعلَّ أعنفَ صدمة أشعرت الحاج مالك بالحيرة والخجل من نفسه منذ أن حطَّ رحالَه في الأراضي المقدَّسة إدراكُه مدي جهله بأساسيَّات الدين الإسلامي وأوَّلياته، وفي زيارته لهذه الأماكن دروس وعبر يجمُل بنا قراءتها وتمثُّلها في وقفاتها في تلك المشاعر المقدَّسة.

ومن تلك المواقف التي وقفها واستنبط دروساً إيمانيَّة فيها المواقف الآتية:

1- مكة المكرمة والشُّعور بالكرامة

كان نزول الحاج مالك شباز بمكة المكرَّمة، نقطة تحوُّل في نظره إلي نفسه

ص: 235

وتقديره حقَّ قدره، تقديراً ليس منشأهُ الصَّلت والكبر، ولكنه تقديرٌ مظلَّل بجلال عظمة الخالق الجبَّار. وإذا جاز أن نستعير مثَلهم الساخر «كَلب الملك، سيِّد الكلاب»، فإنَّ إجراءه علي العبد المسلم الذي يستشعر أنه عبدُ ملك الملوك، يفضي به- حتماً- إلي الشُّعور بأنه «سيِّد العباد»، وأنه واقفٌ ببقعة هي «مكرَّمة» من لدُن ذي الجلال والإكرام ... يقول مالك: «طوالَ سِنيَّ التِّسع والثَّلاثين علي هذه الأرض، كانت مدينة مكة المقدَّسة أوَّل بقعة وقفت فيها أمام خالق كلِّ شي ء، مستشعراً بأنني إنسان كامل».

وهكذا رجحت تجارب ساعات معدودة، ورجحت مشاعر بقاع قليلة العدد علي تجارب أزمنة وأمكنة غير محصورة، وتواطأ المكانُ والزمان علي تغيير نظرة الحاج مالك عن نفسه؛ لأنَّه- طوالَ تسع وثلاثين حجج- كان ينظر إلي نفسه من خلال معادلة (رجل أسوَد رجل أبيض)، وكانت الغلبة الحتميَّة دائماً للقطب الأبيض، مما جمَّع في نفس (مالكولم) مركَّبات نقص ومعاداة لهذا الأبيض. أما في هذا الموقف

ص: 236

الخالي من تلك المعادلة، فقد شعر بالكرامة، ووازن نفسَه بنفسِه ومن خلالِ عظمة الرَّب الذي خلقه.

2- عرفات (موت النبي الأسوَد والشيطان الأبيض)

كانت عرفات والوقوف بها المسرحَ الفعليَّ الذي ساعد الحاج مالك شباز علي مراجعة حقَّة لماضيه، ودفعه إلي تعديل جذريٍّ لرؤيته وإدراكه لحقيقة العالميَّة الإسلاميَّة، ومحو شائبة الألوان والأعراق. وبتماحي الألوان، فإنَّ العالم قد ظهر علي حقيقته أمام مالك، وظهر الرجال مجرَّدين عن الأصباغ الملوَّنة .. يقول: «في مكَّة، استذكرتُ السنوات الإثني عشرة التي قضيتُها مع إليجا محمد، كأنها تمرُّ أمامي بحركة بطيئة، وأظنُّ أنه ليس بمقدور أيِّ إنسان إدراكُ عمق ثقتي الكاملة في شخص إليجا محمد .. ولكنَّني من عَلي أقدَس بقعة في الدُّنيا، أدركتُ مدي خطورة إيلاءِ مثل هذا الاعتبار لإنسان، خاصَّة اعتقاد تلقِّيه نوعاً من الوحي الإلهي، أو إعطاؤه

ص: 237

نوعاً من العصمة» (1).

يكشف لنا هذا التصريح عمق الرابطة بين الحاج مالك وقائدِه الأول، وعلي الرغم من انفصال (مالك) عن حركة إليجا، فإنَّ مكانةَ هذا الرَّجل كانت عميقة الجذورِ في نفسِه؛ إذ إنَّ (مالك) كان قد أسلم نفسه إليه طوعاً، وانقاد له مثل «ميت بين يدَي غاسله»، أو كما يقول مالك نفسه: «كنت قد صدَّقته وآمنت به أكثر مما يصدِّق هو نفسَه». وما كان ليجتثَّ تلك العروق العميقة من أصولها إلّا موقفٌ إيمانيٌّ عنيف كهذا، موقفٌ بين يدَي ربِّ العالَمين. يقول (مالك): «أشعر كأنني مثل رجل ظلَّ مُنوَّماً- بطريقة مَّا- تحت تأثير إنسان آخر. أشعر أنَّ ما أقوله الآن، وما أشعر به الآن أنه نابعٌ من نفسي، ومن قبلُ، كان فكري وكلامي كلُّه من وحي إليجا محمد. إنني الآن أفكِّر بعقلي الخاص» (2). وبهذه الكلمات يعلن (مالك) عن يقظة ووجود جديد لنفسه،


1- Malcolm X ,Autobiography ,P 299
2- Breitman ,Malcolm X Speaks ,P 68

ص: 238

كما يعلن- إعلاناً خطيراً- عن موت «الإله/ النبي الأسوَد»؛ فما دام الحاج (مالك) قد وقف شامخاً فوق أعلي قمَّة مباركة في الأرض المقدَّسة، وعَرف- لأول مرَّة- نفسه كإنسان مكرَّم، فقد تضاءل أمام عينيه كلُّ مخلوق حاشا الملك الجبار، وبطُل لديه سحرُ كلِّ «مُنوِّم مغناطيسي». إنَّ جاهليات الفكر والاعتقاد، وادِّعاء العصمة والنُّبوة لإليجا، موضوعةٌ تحت قدَميْ الحاج (مالك) اليقظ، الرّافض لتلقِّي الأوامر علي الرِّيموت. أو منْ كانَ ميْتاً فأحيَيناهُ وجعلنَا له نوراً يمشي به في الناس ....

ومن الطريف أنَّ هذه القاعدة في تجرُّد الناس عن ألوانهم، قد طالت الحاج مالك نفسه، وقد وصفت زوجته «بيتِي شباز» هذه الحقيقة بقولها: «مضي إلي مكَّة وهو مسلمٌ أسوَد، وأصبح هنالك مسلماً فحسب» (1)، فكأنَّ مالك انسلخ من لونه كما تنسلخ الحيَّة من جلدها، أو أنَّه بحمله للقلب (الحاج)، سقط عنه قناع


1- Clifton E. Harsh, From Black Muslims to Muslims, P 61.

ص: 239

«الأسوَد» لأنَّ الحجَّ انفتاحٌ علي العالَم، انفتاحٌ لايستقيم والانغلاقَ الانغلاق في لبوس من العنصريَّة والطائفيَّة والكره للآخرين. هذا، وقد اعترف مالك بأنه كان منغلقاً في لبوس اللَّون قبل سفره إلي الحج، حين كشف عن سرِّ عدم سفره إلي بلاد الكاريبي طوال سنوات عمله تحت قائده إليجا؛ لأنه كان «مسلماً أسوَدَ، وفي حركة المسلمين السُّود».

3- الحج والوعي الوحدويُّ بين البشر

من نافلة القول الإشارة إلي أنَّ أهمَّ درس تعلَّمه الحاج مالك في رحلة الحج وفي أداء شعائره هو الوعي بضرورة وحدة البشر لا وحدة المسلمين فحسب، وتعلَّم-

ص: 240

فوق ذلك- بعض الإجراءات العمليَّة لتحقيق تلك الوحدة وخصائصها.

ومن تلك الإجراءات:

أ- إنَّ من لزوميات تحقيق الوحدة العالميَّة الإيمان بوحدة الخالق سبحانه، واعتماداً علي ذلك فقد دعا مالك أمريكا إلي القَبول العاجل لعقيدة وحدانيَّة الخالق (

( The immediate acceptance of the oneness of God

، وأكَّد أنَّ ذلك هو الخيار الأوْحد أمام أمريكا للخروج من مأزق العنصريَّة، والنَّجاة من الانهيار المحدق بها.

ب- إنَّ الوحدة العالميَّة تنبني علي أساس من الوحدة المحليَّة سواء أكانت وحدة إقليميَّة أو عرقيَّة أو دينيَّة. تعلَّم مالك ذلك حين لاحظ أنَّ الحجاج- علي الرغم من تماحي الفوارق بينهم- يجتمعون أفواجاً أفواجاً، حيث الأفارقة مع الأفارقة، والباكستانيُّون مع الباكستانيِّين ... تجمعهم أخوَّة صادقة. كان التطبيق المباشر لهذا المفهوم حين أسَّس مالكولم جماعته الجديدة، وأكَّد في

ص: 241

دستورها أنَّ وحدة السُّود والبيض لابدَّ أن تنطلق- أوَّلًا- من وحدة السُّود أنفسهم (1).

ملامح مميزة لشخصيَّة مالك وتأثيره الفكري في الشباب

أولًا: الملامح المميزة لشخصيّته ودعوته

في ختام هذا العرض عن حياة مالك شباز، يجمل بنا طرحُ سؤال ومحاولة الإجابة عليه: تُري ما الملامح المميزة لشخصيَّة مالك شباز، وما الآثار الإيجابيَّة، والمكاسب الدعويَّة التي اضطلعت بها رحلة الحجِّ في حركة الحاج مالك؟ ولا شكَّ أنَّ الإجابة علي تلك الأسئلة تستدعي الإطالة والاستقصاء، غير أننا نحاول الاختصار بسردِ أهمِّ تلك المميزات كما يلي:

1- إنَّه تميَّز بالرُّوح الحركيَّة، والبعد عن الأيديولوجيات التي ليس وراءها عملٌ، فكلَّما تعلَّم شيئاً انطلق مباشرةً إلي تنفيذه، وإخراجه في حيز الواقع، ولعلَّه


1- DeCaro ,On the Side of my people ,P 216

ص: 242

قد تشرَّب تلك الرُّوح منذ نعومة أظفاره من طبيعة الحركة الغارفيَّة التي كان والده داعيتها ورئيس تجمُّعها في مدينة «أومَاهَا». ويعدُّ هذا الجانب أحد الأسباب الأساسيَّة في انسلاخ مالك عن حركة أستاذه إليجا؛ إذ رأي أنَّ أستاذه يجمع الناس حول فضفاض من الفكر، ويسوقهم إلي هدف غير ملموس، فدعا مالك إلي ربط الدِّين بالحياة، وتفعيله في حياة الناس: في الاجتماع، والسِّياسة، والاقتصاد، وقد صرَّح بهذه النظرة في حديث له بمعهد

Tuskegee

بعد انفصاله عن (أمَّة الإسلام) بقوله: «إذا كان إليجا يجلس وينتظر، فإنني لا أجلس وأنتظر الله أن يأتي (يُعرِّض بفارد محمد المنتظر). إنَّني أؤمن بالدِّين، ولكن أؤمن بدين يشمل الحركة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، تلك الجوانب التي من شأنها بناء جنَّة هنا علي الأرض ريثما ننتظر الجنة الأخرويَّة» (1).

2- إنَّ مالك قد مثَّل بحياته الأمل للضائعين في الهداية والصَّلاح، وأن الصعود


1- Ibid ,P 269

ص: 243

من الحضيض الخُلقيِّ، إلي قمة المثُل العليا ممكن وليس من المستحيلات. بل إنَّ (مالك) يؤكِّد بأنَّ التغيير يكون أظهر، وأكبر وقعاً في الإنسان الذي كان في الدَّرك الأسفل من التردّي والانحطاط .. «لا يمكن أن يحدث تحوُّل كليٌّ لأحد أكثر من الذي كان أكثر فساداً. إنني أسمِّي نفسي أفضلَ مثال لذلك.» ولا شك أن معادلة «التَّطهير» قد بلغت أعلي مؤشراتها وأصفاها بعد حجِّه، كما أشار إلي ذلك في أكثر من مناسبة. فالحجُّ يجبُّ ما قبله.

3- إنَّه كان أنموذج التَّقارب بين المسلمين والمسيحيِّين السود في أمريكا، خاصَّة في المرحلة الأخيرة من حياته، وذلك بنضاله ضدَّ العنصريَّة، واستعلاء الرجل الأبيض، ومن أجل ذلك أمكن لكثير من الجماعات المختلفة ادِّعاء أحقِّيتها (بمالك)، وربطت علاقات نَسَبها الفكريَّة والأيديولوجيَّة بأفكاره.

4- إنَّه تميَّز بروح النَّقد الذاتي،

ص: 244

والاعتراف بالخطأ، ومحاولة تصحيحه عاجلًا، حتي أنَّ بعض المتحاملين عليه وصفوه بتغيير مبادئه ومواقفه طبقاً للظروف، ورغبةً في اكتساب المؤيِّدين (1) .. ولا شكَّ أنه تحامُل مغرضٌ خاصَّة إيرادُه في سياق رجوع الحاج مالك عن نظرته العنصريَّة ضدَّ البيض بعد رجوعه من الحج.

5- ومن المكاسب الدعويَّة في أثر رحلة الحج في فكر الحاج مالك وفي حركته، تقويته لجناح الحركات الإسلاميَّة السُّنيَّة في أمريكا، والتي كانت جماعة (أمَّة الإسلام) المنحرفة قد طغت علي وجودها، وحجبت صورتها عن البروز علي السطح الإسلاميِّ في الوسط الأمريكي، مثل جماعة دار الإسلام، وجماعة الأخوة الإسلاميَّة

Islamic Brotherhood Inc.

، وجماعة Party Islamicوكان ذلك سبباً لتأسيس بعض الحركات الإسلاميَّة صحيحة المنهج (2).


1- Houston A. Baker Jr, The Black Public Sphere, P 44.
2- جماعة دار الإسلام أسسها مجموعة من الشباب المسلمين في بروكلين عام 1962، وكان أول إمام لها هو يحيي عبدالكريم. - مسجد الأخوة الإسلاميَّةMIB أسسه الشيخ خالد أحمد توفيق في هارلم عام 1967 ، وهو ممن أسلم علي يدي مالك شباز، ودرس بالأزهر الشريف، والتزم بالمنهج الإسلامي الصحيح. توفي 1988 . -Islamic Party : أسست عام 1967 علي يد مظفر الدين حامد بواشنطن العاصمة، أسلم علي يدي الحاج مالك شباز بعد انفصاله عن أمة الإسلام. وسافر إلي البلاد العربية والإسلامية. تأثر بدعوة الشهيد حسن البنا، والشيخ المودودي.

ص: 245

6- حمله صورةً أنموذجيَّة طيَّبة للإسلام في الوسط الأمريكي خاصَّة، والعالمي عامَّة، وذلك بدعوته إلي السَّلام العالمي بين الأديان، والأجناس، وتصحيحه لصورة الإسلام المشوَّهة لدي الغرب في الإعلام، وفي ممارسة بعض الحركات الإسلاميَّة المنحرفة، وقد كان الحاج مالك- مِن قَبلُ- أحدَ الممثِّلين الكبار في هذه الحملة التشويهيَّة للإسلام في المخيلة الأمريكيَّة بفعل تعاليم قائده إليجا المغلوطة، غير أنه وُفِّق في إتباع السيِّئة الحسنة إن شاء الله.

7- إنَّه أعاد الأمل والثِّقة إلي المسلمين المهاجرين من الدُّول العربيَّة والدُّول الإسلاميَّة في الشرق الأوسط وآسيا، وطلبة الجامعات المسلمين؛ فالتفَّ حوله بعضهم قبل مقتله، كما أسَّسوا منظمات إسلاميَّة بعد مماته لدعوة الأمريكيِّين، وتصحيح العطب الذي أحدثته جماعاتٌ منحرفة باسم الإسلام.

ص: 246

8- كونُه «جرس التَّنبيه» الذي أيقظ في صفِّ جماعة «أمَّة الإسلام الوعي لمراجعة فلسفتها وعقيدتها الإسلاميَّة. ولعل ذلك ما سهَّل لخَلِف إليجا محمد ابنِه وارث الدِّين محمد حملته التصحيحيَّة لعقيدة الجماعة وممارساتها.

ثانياً: تأثير الحاج مالك شباز الأيديولوجي

إنَّ أول مظهر من مظاهر تأثير الحاج مالك- محلياً وعالمياً- يمكن أن يُلمَس في الصبغة الحركيَّة الواضحة في حياته، حيث لم يترك مدوَّنات فكريَّة، وإنما كان كلُّ حياته تطبيقاً عملياً حياً لفكرته. وعلي الرَّغم من انفصاله عن جماعة (أمة الإسلام) قبل وفاته، وتأسيسه لتنظيم خاص، فإنَّ تأثير مالك علي الأفراد والجماعات الدينيَّة والسياسيَّة ظلَّ واضح المعالم في تفكير أولئك الأفراد وسياسات الجماعات.

وإذا كان (مالك) قد لقي إعراضاً من بعض الجماعات القوميَّة بين السود، بسبب دعوته الإسلاميَّة، أو بدعوته إلي التعايش

ص: 247

السِّلمي بين السُّود والبيض، أو الجماعات الإسلاميَّة لسبب أو لآخر .. فإن مقتله كان سبباً لتعيد تلك الجماعات نظرتها في دعوة مالك، وتقيِّم أيديولوجيَّته في ضوء الأسباب الغامضة في اغتياله، وفي هويَّة قاتليه. وقد أدَّي ذلك بأولئك إلي ترديد شعارات مالك في المناداة بالتحرير الأفريقيِّ، والشُّعور بالكرامة، والاعتزاز بالذَّات. ومن الحركات الجديرة بالذّكر في هذا الصَّدد، منظمة الكونجرس للمساواة العرقيَّة (

( CORE

، واللجنة التَّنسيقيَّة السلمية للطلبة ( SNCC)، فقد تبنت هاتان الجماعتان دعوة مالك إلي الاعتزاز العرقي، وبناء السُّود لمؤسَّساتهم الخاصَّة، وتشكيلهم قوَّة دفاعيَّة لأنفسهم.

ومن العوامل المباشرة في تأثير أفكار مالك في الجيل اللاحق نشر سيرة حياته عام ( (1969 التي كتبها مع الكاتب المشهور أليكس هالي، صاحب رواية «الجذور»؛ فأصبح هذا الكتاب من أكثر الكتب رواجاً، كما أصبح «دستوراً» فكرياً لحزب «النَّمر الأسوَد Black Panther » المؤسَّس عام

ص: 248

1966

، لتأكيد إمكانيَّة تحويل المجرمين السابقين إلي مصلحين اجتماعيِّين، وثوريِّين مثاليِّين. ونُشِرت كذلك خُطبُه ومحادثاته الإذاعيَّة والتلفزيونيَّة التي غدت مجال دراسات كثيرة، والتي وجَّهت المسار الفكري الحركيَّ لمعظم التجمُّعات الشبابيَّة. وبحلول حقبة الثمانينيات، وضمور معظم الحركات القوميَّة بين الأمريكيين السُّود، وتخفيف حدَّة المطالبة بحقوق السُّود، والدعوات الاستقلاليَّة التي نجحت هنا وهناك في أفريقيا وفي غيرها، فإنَّ «شبح» مالك ما زال مستعصياً علي المحو والنسيان. بزغ من جديد في الفِرق الغنائيَّة لموسيقي الرُّوب، وفي أروقة الجامعات والمعاهد، خاصَّة حين يطرأ بعض المشاحنات بين السُّود والشُّرطة البيض؛ وتطفو المشكلة العرقيَّة والعنصريَّة، فيهرع الشّباب إلي شعارات مالك وأقواله المأثورة، بوصفها أسلحةً فكريَّة يغرون بها السلطات الحكوميَّة، ويهاجمون بها معارضيهم، مما يدلُّ علي أنَّ أفكار مالك ومُثُل حياته القصيرة، ما زالت جزءاً

ص: 249

أساسياً في النّسيج الأيديولوجي للشباب، وما زال سلاحاً ماضياً يلوِّحون به في وجه الخصوم؛ لتأكيد الذّات، وكسب المعارك.

وقد بلغ الحماس (الشكلي غير الواعي) لمالك شباز ذروته في أواخر الثمانينيات والتِّسعينيات حين أصدر الهوليود فيلماً سينمائياً عن حياته ( (1992 بإخراج Spike Lee، فأفرز ذلك جيلًا من الشباب المتحمِّسة لمالك، أطلق عليه بعضهم مسمَّي «الهوس المالكومي Malcolmania » أو جيل «X» الذي يتكالب علي كلِّ بضاعة تحمل رمز «X» أو اسم مالكولم أو صورته، من قبَّعات، وقمصان، ونظارات شمسيَّة، وساعات، ويحرص علي المظاهر الشكليَّة المميزة لمالك، مثل طريقة تصفيفه لشعره، وعادته في الجلوس أو الوقوف لإلقاء الخطب ... تُري أيكون ذلك صرفاً للشَّباب عن فكر مالك كما كان وضعُ صورته علي طوابع بريديَّة عام 1997 م، في رأي بعض المسلمين، صرفاً للمطالبين بالكشف عن تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، عن مالك

ص: 250

وملابسات اغتياله (1)؟

ملاحظة ختاميَّة

بقي أن نولي أمراً بالغ الأهميَّة ألا وهو حسن الوفادة والرِّفادة التي عُرِف بها أهل مكة، وشعب الحرَمين الشَّريفين، وأثرها البالغ في تفهُّم (مالك) لمفهوم الأخوَّة الإسلاميَّة، فلولا حسن الضِّيافة والحفاوة البالغة التي شُدِهَ بها الحاج مالك شباز منذ أن وطئت قدماه الأراضي المقدَّسة لما التفت مالك إلي ما تلاها من المظاهر الأخري، كلُّ ذلك قد كان الزِّناد الذي أشعل في نفس مالك التَّيقُظ لتقدير جميع مظاهر الأخوَّة الإسلاميَّة، والمساواة بين المؤمنين بصرف النظر عن ألوانهم وألسنتهم. وقد أكَّد مالك في سيرة حياته علي تلك الجوانب، واعترف بالجميل.

رسالة من مكّة

نظراً لأهميَّة الرِّسالة التي بعث بها الحاج


1- ينظر مناقشة جادة لهذه القضية في كتاب:Clayborne Carson ,Malcolm X :The FBI .files

ص: 251

مالك شباز من مكة إلي أصحابه في الولايات المتحدة، فقد أحببنا ترجمتها كاملةً؛ حتي تنطق بنفسها عن نفسها، وتجلي الأثر الإيمانيَّ والرُّؤية الإنسانيَّة التي أحدثته تلك الرِّحلة، والتَّجارب المعدودة في حياة مالك.

إن أوَّل ما يستلفتنا في هذا الخطاب عنوانه حيث اختفي اسم الكاتب من العنوان، فلم يقل مثلًا: رسالة من الحاج مالك في مكة .. ولعلَّ تواري الكاتب في العنوان إيماءةٌ لطيفة- ولو بأسلوب غير شعوريٍّ- أنَّ ما يكتبه أكبر من أن ينسبه إلي نفسه، وإنَّما هو من وحي مكَّة، وأنَّ حقائق الحياة هي التي أملت علي الكاتب هذا الخطاب.

يقول:

«إنَّني لم أشهد- في أرض- مثل هذه الضِّيافة الصادقة، والاحتفاء البالغ الممزوج بالأخوَّة الحقَّة مثلما هو مطبَّق بين الناس من جميع الألوان والأجناس في هذه الأرض المقدّسة بلدِ إبراهيم، ومحمد وجميع الرُّسل (عليهم السلام). لقد غدوت منذ الأسبوع الماضي، أخرَس أمام صُور الكرامة

ص: 252

المحاطة بي من قِبَل أناس من كلِّ لون.

لقد أكرمني الله بزيارة بلدة مكَّة المقدسة؛ فطفتُ الأشواط السَّبعة حول الكعبة بقيادة الشاب المطوف محمد، وشرِبتُ من ماء زمزم، وسعيتُ سبع مرات بين الصَّفا والمروة، وصليت في بلدة مني القديمة، ودعوتُ الله علي جبل عرفات.

كان هناك عشرات الآلاف من الحجاج من كلِّ أرجاء العالَم، كانوا من جميع الألوان: من ذوي العيون الزَّرقاء إلي ذوي البشرة السَّوداء الأفارقة، لكنَّهم كانوا يؤدُّون شعيرةً واحدةً مظهرين روح الوحدة والأخوة التي لم أعهدها في أمريكا. وقد كانت خبرتي في أمريكا قد قادتني- خطأً- إلي الاعتقاد أنَّ مثل هذه الرُّوح الأخويّة مستحيلة التحقُّق بين الأبيض وغير الأبيض.

وعليه، فإنَّ أمريكا بحاجة إلي فهم الإسلام؛ لأنَّه الدين الوحيد الذي يمحو من المجتمع الأمريكي المشكلة القوميَّة، فمن خلال أسفاري في العالَم الإسلامي، جالستُ وحادَثت، بل آكلتُ أناساً لو كانوا في أمريكا لعُدُّوا من البيض، لكنَّ تصرُّف

ص: 253

«الأبيض» قد انتُزِع من قلوبهم بفعل الإسلام. إنَّني لم أشهدْ مثل هذه من قبل الأخوَّة الصادقة والحقَّة حاضرةً يطبِّقها الجميع دون اعتبار للَون.

ولعلَّكم تُصدَمون بتلك الكلمات منِّي، لكن الذي شاهدتُ في هذه الحِجَّة قد أرغمني علي إعادة ترتيب قواعد تفكيري السَّابقة، وعلي نبذ بعض استنتاجاتي القديمة، وبالطَّبع، فإن ذلك لم يكن صعباً علي. وعلاوةً علي عزيمتي الصّادقة، فإنَّني ظلِلتُ دوماً رجلًا يواجه الحقائق، ويقبل الواقع الحياتيَّ بوصفه خبرةً ومعرفة جديدة.

خلال الأيام الأحدَ عشر السَّابقة في العالَم الإسلامي شاطرتُ إخواني المسلمين الأكل من آنية واحدة، والشُّرب من كوب واحد، والنَّوم معهم علي فَرش واحد، ممَّن هم من ذوي العيون الأشدَّ زرقاً، والشُّعور الأشد شقراً، والبشرة الأنصع بياضاً. ومن خلال كلام «البيض» وتصرُّفاتهم، شعرتُ بالإخلاص نفسِه الذي شعرتُ به بين المسلمين الأفارقة في نيجيريا والسُّودان وغانا.

حقاً، لقد كنا إخوةً؛ لأنَّ إيمانهم بإله

ص: 254

واحد قد نزع من قلوبهم «الأبيض»، ونزع «الأبيض» من تصرُّفاتهم، كما نزع «الأبيض» من أفكارهم. وقد تبيَّن لي من ذلك أنَّ الأمريكيِّين البيض إذا كان بإمكانهم قبول وحدانيَّة الله، فمن الأجدر- بطبيعة الحال- قبول وحدة الجنس البشريِّ، وترك تقييم الناس، علي أساس «الاختلاف» في اللَّون. وبتضاعُف العنصريَّة التي تنخر في أمريكا مثل سرطان مستعص علي العلاج، فقد آن الأوان لأمريكا أن تنجو بنفسها من هذا الدَّمار المحقَّق، ذلك الدَّمار الذي حلَّ بالألمان بفعل العنصريَّة.

إنَّ كلَّ ساعة أقضيها هنا في الأرض المقدَّسة تخوِّلني روحيَّة واسعة للنَّظر فيما يحدث في أمريكا بين السُّود والبيض. فالزِّنجي الأمريكي غير ملوم في حقده العرقيِّ؛ لأنَّ تصرُّفه ردَّة فعل لأربعمائة عام من عنصريَّة الأمريكيِّين البيض. وبما أن العنصريَّة تجرُّ أمريكا إلي طريق الانتحار، فإنَّني أؤمِن- اعتماداً علي تجاربي الخاصَّة مع الأمريكيِّين- أنَّ الجيل الجديد من البيض، في المعاهد والجامعات، سوف يري الكتابات الجدرانيَّة، وسوف

ص: 255

ينصرف كثيرٌ من تلك الكتابات إلي الحلِّ الرُّوحي الحق، الطريق الأوْحد الأخير لأمريكا لتفادي الدَّمار الذي تحول إليه العنصريَّة لا محالة.

إنَّني لم أحظَ قط بحفاوة مثل هذه، ولم أشعر بمثل هذا التّواضع، فمَن الذي كان يتنبَّأ بمثل هذا الإكرام في حقِّ زنجيٍّ أمريكي؟ ومنذ ليال معدودة فحسب، كان في خدمتي هذا الرَّجل الذي يمكن تسميته ب- (أبيض) في أمريكا، وهو دبلوماسيٌّ في الأمم المتحدة، سفير، نديم الملوك .. وجعل تحت تصرُّفي جناحه في القصر .. حقاً، إنَّني لم أحلم قطُّ بأن أحظي بمثل هذا الإكرام، إكرامٌ يُخصُّ به الملوك في أمريكا فحسب، لا رجل زنجيٌّ.

حمداً وشكراً لله ربّ العالمين».

الحاج مالك الشباز (مالكولم إكس)

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.