ميقات حج-المجلد واحد والعشرون

اشارة

نام كتاب: دو فصلنامه« ميقات الحج»

نويسنده: مركز تحقيقات حج

ص: 1

الحج في كلام الإمام الخميني قدّس سرّه

ص: 2

لقد جاء الحجاج لضيافة اللَّه، ولكي يزيلوا بماء زمزم ما علق بوجوههم من تراب رحلتهم وغبارها، ويطفئوا بزلال مناسك الحجّ عطشهم، ويتحملوا المسؤولية بجدارة أكبر، ويخلعوا عن أبدانهم في سيرتهم وصيرورتهم الأبدية؛ رداء التبعية وحجابها، والتعلق القلبي بالدنيا، ليس في

«ميقات»

الحج فحسب، بل في

«ميقات»

العمل أيضاً...

لقد شرّع الحج لاقتراب الإنسان وارتباطه بصاحب البيت، ولم يكن مجموعة من الحركات والأعمال والالفاظ فحسب، لأنّ الإنسان لا يصل إلى اللَّه تعالى بالكلام والألفاظ والحركات الميتة.

إنّ الحج مركز للمعارف الإلهية، الذي يجب أن يستلهم منه مضامين السياسة الإسلامية في مختلف مناحي الحياة.

الحجّ دعوة لإيجاد مجتمع بعيد عن الرذائل المادّية والمعنويّة.

الحجّ تجسيد وتجلّي لكافّة المشاهد البديعة لحياة الإنسان والمجتمع المتكامل في الدنيا. وإنّ مناسكه لهي مناسك للحياة، وبما أنّ الأمّة الإسلامية مزيجٌ من كلّ عنصر وشعب، فلابدّ وأن يكون إبراهيمياً حتّى يتسنّى له الالتحاق بقافلة أمّة محمّد صلى الله عليه و آله ويصبح جزءاً منها، ويداً واحدةً، فإنّ الحجّ هو العامل الذي يهيّئ ويوجد وينظّم مثل هذه الحياة التوحيديّة.

من نداء الإمام الخميني إلى حجّاج بيت اللَّه الحرام

ص: 3

الحج في كلام الإمام الخامنئي مدّظلّه العالي

الحجّ فرصة فريدة استثنائية، لأنّها- من جهة- تصقل القلوب والنفوس، فيتمتع الحجيج- كلٌّ على قدر همّته وطاقته- ببركات هذه الرحمة الشاملة؛ ومن جهة أخرى تتمكن فيها شخصية الأمّة الإسلامية العامة- والتي تتألف من مختلف الشعوب والأعراق والأقطار والثقافات- من أن تحقّق مزيداً من التلاحم والانسجام، والشجاعة والصحوة والوعي بالذات.

وهذا، ما يمثل الحاجة الضرورية الكبرى للعالم الإسلامي في عصرنا الحالي...

إنّ امريكا تعتبر نفسها- وبشكل صريح- محقّة في الاعتداء على الدول والشعوب. وإنّ الدولة الصهيونية تهدّد الشخصيات الفلسطينية بالاغتيال، وذلك بشكل صارخ وصريح... وهكذا نلاحظ أنّ أمريكا وبريطانيا في العراق تهاجمان المواطنين العزّل المشاركين في المظاهرات، وتنتهكان حريم منازل الناس وحرمة أعراضهم. ويتوعّد هؤلاء العالم الإسلامي ويهدّدونه بتأجيج نيران جديدة فيه، ولمّا يخمد لهب النيران التي اندلعت من قبلُ بأيديهم...

إنّ النخب السياسية والفكرية في عالمنا الإسلامي تتحمل اليوم مسؤولية جسيمة.

على المفكرين المسلمين أن ينقلوا رسالة الإسلام التحرّرية إلى مسامع مواطنيهم وقلوبهم، وأن يبيّنوا للشعوب المسلمة هويتها الإسلامية بوجهٍ صحيح.

من نداء الإمام الخامنئي (مدّظلّه العالي)

موسم الحج، عام 1424 ه.

ص: 4

ص: 5

الطواف من الطابق الأوّل دراسة فقهية استدلالية

اشارة

الشيخ محمّدجواد الفاضل اللنكراني

وقع الخلاف في عصرنا هذا في صحّة الطواف من الطابق الأوّل وعدمها، كما اختلفت وجهات النظر في جواز الطواف تحت الأرض بحذاء الكعبة فيما إذا بنيت أبنية تحت أرض المسجد.

وبناءً على الجواز، هل يكون الترخّص منحصراً بما إذا لم يقدر على الطواف في صحن المسجد، كما إذا كان الزحام كثيراً أو لم يكن قادراً على المشي في الصحن لعدم التمكّن والاحتياج إلى الإطافة بالآلات الموجودة أو لوجود المانع العرضي عن ذلك، أم لا يكون منحصراً بذلك، بمعنى أن الطائف يتخيّر- بدواً- بين الطواف فيه والطواف في الطابق الأول؟

والتحقيق حول هذا البحث يقع ضمن محاور:

علاقة البحث بفكرة حدّ الطواف

الأوّل: من الواضح دخول من ذهب إلى عدم وجود حدّ للمطاف في هذا النزاع، لكن هل يدخل فيه من ذهب إلى وجود حدّ له كالمشهور أم لا؟

الظاهر دخولهم في محلّ البحث، وذلك بأن يفرض فيما إذا بني في نفس الحدّ الطابق الأوّل والثاني حال كونهما مرتفعين عن البيت أو مساويين، إلّاأنّ المشكلة

ص: 6

أنّه لا واقع لهذا الفرض في زماننا هذا.

علاقة البحث بمسألة الزيادة على البناء

الثاني: وقع الخلاف في جواز الإضافة- من جهة الارتفاع- على البيت الشريف، وذلك بعد المفروغية عن أنّه لا يجوز التنقيص أو التخريب فيه، فبناءً على جواز الإضافة، إذا تحقّقت الإضافة- مثلًا- إلى حدّ يصير ضعف الموجود الآن أو أكثر فلاشكّ في جواز الطواف حوله، وإن علا، لكنّه- بناءً على الجواز وعدم تحقّق الإضافة- وقع النزاع في جواز الطواف بالنسبة إلى محلّ يكون أعلى من البيت، وأمّا إذا ذهبنا إلى عدم جواز الإضافة إلى البيت، فالظاهر عدم الخلاف في عدم الجواز بالنسبة إلى ما يكون فوق الكعبة.

والظاهر جواز الإضافة، فإنّه مضافاً إلى الأصل- فإنّ البيت كسائر الأمكنة والأبنية، فكما تجوز الإضافة مثلًا إلى نفس المسجد كذلك تجوز إلى نفس البيت، ولاينبغي توهّم أنّه من الامور التوقيفيّة كالأحكام التعبّدية- يدلّ عليه بعض الروايات، منها:

ما ذكره جماعة عن أحمد بن محمّد عن سعيد بن جناح عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كانت الكعبة على عهد إبراهيم عليه السلام تسعة أذرع، وكان لها بابان، فبناها عبداللَّه بن زبير فرفعها ثمانية عشر ذراعاً، فهدمها الحجّاج وبناها سبعة وعشرين ذراعاً» (1).

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ عدم ردع الإمام عليه السلام يدلّ على جواز الإضافة من جهة الارتفاع إلى البيت.

إلّا أنّ الرواية غير معتبرة من جهة اشتمالها على أحمد بن محمّد، وهو مشترك بين جماعة، وسعيد بن جناح فإنّه وإن كان مورداً لتوثيق النجاشي و موجوداً في أسناد كامل الزيارات إلّا أنّه لم يعلم الراوي عنه، ومعه لايصحّ الاستناد إلى الرواية المذكورة.

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة، الباب 11، باب وجوب بناء الكعبة إن انهدمت، ح 7، 13: 213، وأيضاً ح 8.

ص: 7

جريان البحث في الطواف الواجب والمندوب

الثالث: الظاهر عدم اختصاص النزاع بالطواف الواجب، بل يجري في الطواف المندوب أيضاً، كما أنّه على القول بوجود حدّ للمطاف، وهو ما بين البيت والمقام، لاشكّ في لزوم مراعاته في الطواف المندوب.

ويدلّ عليه إطلاق ما دلّ على الحدّ وأنّ الطائف خارج هذا الحدّ ليس بطائف، والانصراف إلى الواجب لا وجه له أصلًا، كما أنّه لا دليل على تقييد الإطلاق في المقام.

إنّ البيت كسائر الأمكنة والأبنية، فكما تجوز الإضافة مثلًا إلى نفس المسجد كذلك تجوز إلى نفس البيت، ولاينبغي توهّم أنّه من الامور التوقيفيّة

نعم، دلَّ الدليل على عدم اعتبار الطهارة في الطواف المندوب، ويدلّ عليه الروايات المعتبرة (1)، خلافاً لأبي الصلاح فإنّه ذهب إلى وجوبها فيه أيضاً لإطلاق

بعض النصوص، وأيضاً دلّ الدليل على جواز قطع الطواف المندوب عمداً على قول جمع، كما دلّ على كراهة الزيادة على السبع في الطواف المندوب.

لزوم دخول جميع أجزاءالبدن في الطواف وعدمه

الرابع: هل يجب دخول جميع أجزاء بدن الطائف في المطاف، وهل يكفي دخول معظم أجزائه بحيث يصدق عرفاً أنّه يطوف أم لا؟

الظاهر كفاية الصدق العرفي في ذلك، والعرف يحكم بأنّه إذا كان معظم أجزائه داخلًا في المطاف، يصحّ طوافه وإن كان رأسه مثلًا أعلى من البيت، ولا دليل على لزوم كون جميع الأجزاء داخلة فيه، وقد صرّح صاحب الجواهر في مسألة

__________________________________________________


1- صحيح ابن مسلم: «سألت أحدهما عليهما السلام عن رجل طاف طواف الفريضة وهو على غير طهر؟ قال: يتوضّأ ويعيدطوافه، وإن كان تطوّعاً توضّأ وصلّى ركعتين»، الوسائل، كتاب الحج، الباب 38 من أبواب الطواف، 2 ح 3.

ص: 8

الاستقبال بأنّه يكفي صدق الاستقبال وإن خرج بعض أجزاء البدن عن جهة الكعبة، ولا يلزم في صدقه كون جميع أجزاء البدن داخلًا في جهة القبلة، وهذا معناه أنّ المولى إذا أمر بالاستقبال كفى في الامتثال تحقّق هذا العنوان عرفاً وصدقه في الخارج كذلك.

قال صاحب الجواهر: «وكيفيّة استقبال القبلة أمر عرفي لا مدخلية للشرع فيه، والظاهر تحقّق الصدق وإن خرج بعض أجزاء البدن التي لا مدخلية لها في صدق كون الشخص مستقبلًا وحالته استقبالًا من غير فرق في ذلك بين القريب والبعيد، لكن في القواعد: أنّه لو خرج بعض بدنه عن جهة الكعبة بطلت صلاته، بل قيل: إنّه كذلك، في نهاية الاحكام والتحرير والتذكرة والذكرى والبيان والموجز وكشف الالتباس وجامع المقاصد وفوائد القواعد، والتحقيق عدم اشتراط ما يزيد على صدق الاستقبال، ودعوى توقّف الصدق المزبور على الاستقبال بجميع أجزاء البدن يكذّبها الوجدان فيما لم يذكر فيه متعلّق الأمر بالاستقبال جميع البدن بل اقتصر على قوله استقبل» (1).

والظاهر أنّ الطواف كالاستقبال، فإنّ امتثال قوله تعالى:

«وَلْيَطَّوَّفُوا»

يكفي فيه صدق الطواف العرفي، ولا يعتبر فيه أن يكون جميع أجزاء الطائف داخلًا في المطاف بحيث لو كان رأسه أو يده مثلًا خارجاً عن حدّ المطاف لكان مخلّاً بطوافه، ومن الواضح عدم ثبوت حقيقة شرعية لهذا المفهوم، كما أنّه ليس من الموضوعات التي تصرّف فيها الشارع المقدّس، كما أنّ الشارع ليس عنده كيفيّة خاصّة من جهة أصل العمل فيه وإن أضاف إليه بعض الشرائط كالطهارة والبدو من الحجر الأسود والختم به.

نعم، لا ثمرة لهذا البحث بعد الذهاب إلى التوسعة والقول بأنّ ما علا الكعبة محكوم بحكم البيت يجوز الطواف حوله، إذ عليه تكون أجزاء الطائف داخلةً على الدوام، لا معنى لخروج بعضها.

__________________________________________________


1- جواهر الكلام 7: 329.

ص: 9

حكم البناء في مكّة مرتفعاً عن البيت

الخامس: ورد النهي في الروايات عن البناء في مكّة مرتفعاً عن الكعبة.

منها: ما ذكره محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى العطّار عن محمّد بن الحسين عن علي بن الحكم عن صفوان، عن العلاء عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: «نهى عليه السلام أن يرفع الإنسان بمكّة بناءً فوق الكعبة» (1).

والرواية معتبرة من جهة السند، فإنّ المراد من محمّد بن الحسين هو محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب على ما استظهره السيّد الخوئي (2)، وهو ثقة جليل،

وعلي بن حكم أيضاً ثقة، وصفوان وإن كان مشتركاً بين صفوان بن مهران وصفوان بن يحيى إلّاأنّ كليهما ثقتان، والمراد من العلاء هو علاء بن رزين وهو ثقة جليل القدر.

والظاهر أنّ الطواف كالاستقبال، فإنّ امتثال قوله تعالى: «وَلْيَطَّوَّفُوا» يكفي فيه صدق الطواف العرفي، ولا يعتبر فيه أن يكون جميع أجزاء الطائف داخلًا في المطاف بحيث لو كان رأسه أو يده مثلًا خارجاً عن حدّ المطاف لكان مخلّاً بطوافه

ومنها: ما ذكره المفيد في المقنعة قال: «نهى عليه السلام أن يرفع الإنسان بمكّة بناءً فوق الكعبة».

وبعد الاختلاف في أنّه هل هو محمول على الحرمة أو دالّ على الكراهة كما يستفاد من عنوان الباب الموجود في الوسائل، يوجد سؤال آخر وهو: هل النهي في هذا النصّ شامل لجميع الأبنية الواقعة في مكّة حتّى المسجد الحرام بمعنى أنّ الشارع نهى أن يرفع بناء فوق الكعبة لشرافتها، فلايجوز البناء حتّى داخل المسجد

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة، باب كراهة رفع البناء بمكّة فوق الكعبة، باب 17.
2- معجم رجال الحديث 15: 290.

ص: 10

بحيث يصير مرتفعاً عنها، أو أنّ النهي مختصّ بالأبنية التي يصطنعها الناس لأنفسهم، ومن ثمّ تكون الروايات منصرفة عن نفس المسجد؟

الظاهر عدم الانصراف؛ لعدم وجه له، والإنصاف ظهور الكلام في الإطلاق سيما بالنسبة إلى كون لفظ البناء نكرة في سياق النفي أو النهي، ويؤيّده قرينة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّ شرافة الكعبة وعظمتها يجب أن تحفظ بالنسبة إلى كلّ شي ء حتّى بلحاظ البناء الموجود داخل المسجد.

فبناءً على الإطلاق يمكن أن يقال بعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل الموجود فعلًا، فإنّه- بعد التحقيق والسؤال- ظهر في زماننا هذا كونه مرتفعاً عن البيت بمقدار سبعة وعشرين سانتيمتراً.

والدليل على ذلك أنّ الشارع إذا نهى عن البناء نفهم بالملازمة العرفية عدم صحّة الطواف منه أو نفهم عدم جواز كون الإنسان أيضاً مرتفعاً عن الكعبة.

هذا، والإنصاف أنّ هذه الروايات لا تشمل صورة ما إذا كان نفس الإنسان مرتفعاً عن البيت حال الطواف، فإنّ موردها الأبنية الثابتة لا المتحركة، فلا تشمل الإنسان نفسه في دورانه حوله مرتفعاً عنه.

كما أنّ شرافة البيت- والتي هي الحكمة الأصلية لهذا الحكم- لا تشمل ما يتعلّق بهذا البيت من الأبنية الموجودة في المسجد ممّا هو من شؤونه.

ص: 11

الطواف من الطابق الأعلى

السادس- وهو المهمّ في المقام وحاصله: أنّه قد اشتهر في ألسنة الفقهاء، بل صار أمراً مجمعاً عليه بينهم، بل بين المسلمين كما صرّح به كاشف اللثام؛ أنّ القبلة تمتدّ محاذية للكعبة علواً وسفلًا من عنان السماء إلى تخوم الأرض، وأنّه لا عبرة بالبناء الموجود المحسوس، والظاهر أنّ أوّل من صرّح به هو الشهيد الثاني في المسالك ثمّ تبعه صاحب المدارك، وتبعهما جميع من تأخّر عنهما إلى زماننا هذا، إلى أن صار أمراً مسلَّماً عند الجميع (1).

لكنّ السؤال يكمن في أنّ الطواف هل هو ملحق بالاستقبال، بحيث يكون الفضاء الموجود فوق البيت أو تحت الأرض ملحقاً به، فيجوز الطواف حوله أم لا؟

وبعبارة اخرى هل أنّ الطواف حول الفضاء طواف حول البيت أم لا؟ ومن ثمّ لا يكون ملحقاً، بل ذاك الحكم مختصّ بالاستقبال؟

والإنصاف أنّ هذه الروايات لا تشمل صورة ما إذا كان نفس الإنسان مرتفعاً عن البيت حال الطواف

الظاهر أنّ المستفاد من الروايات عدم اختصاصه بالاستقبال، فإنّ بعضها يدلّ بالإطلاق على جواز الطواف حول الفضاء أيضاً، فقد روى الصدوق- إرسالًا- قال الصادق عليه السلام: «أساس البيت من الأرض السابعة السفلى إلى الأرض السابعة العليا».

وهذه الرواية وإن كانت مرسلة إلّاأنّ هذا النوع من الإرسال غير مضرّ كما حقّق في محلّه.

كما أنّ الدلالة واضحة، فإنّ قوله: «أساس البيت» لا يختصّ بالاستقبال، بل يشمل الطواف أيضاً، ولا قرينة في الرواية على اختصاصه بالاستقبال. نعم،

__________________________________________________


1- المسالك 1: 152؛ المدارك 3: 121؛ الحبل المتين ص 190؛ ذخيرة المعاد 2: 215؛ الحدائق الناضرة 4: 377؛ كشف الغطاء 1: 217؛ غنائم الأيّام 2: 367؛ جواهر الكلام 7: 320؛ مصباح الفقيه 2: 90؛ المستمسك 5: 174.

ص: 12

لا يدلّ على كون الفوق ملحقاً بالبيت، وإنّما يدلّ على أنّ ما تحت البيت من الأرض السفلى إلى الأرض العليا من البيت، إلّاأن يقال: إنّ كلمة الأرض لا يراد بها الأرض في قبال السماء، بل يراد من الأرض السفلى والعليا الامتداد من جهة الفوق والتحت، ومعه فيكون التعبير كناية عن هذا الأمر.

وقد جاء في بعض الروايات الواردة في ذيل الآية الشريفة:

«أَللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ»

، أنّ المراد من الأرض العليا هي الأرض السابعة فوق السماء السادسة، فقد روى العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليه السلام قال: «بسط كفّه ثمّ وضع اليمنى عليها فقال: هذه الأرض الدُّنيا والسماء الدُّنيا عليها قبّة، والأرض الثانية فوق السماء الدُّنيا، والسماء الثانية فوقها قبّة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية، والسماء الثالثة فوقها قبّة، حتّى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة، فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة، والسماء السابعة فوقها قبّة، وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله:

«سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ»

. فهذه الرواية صريحة في الامتداد والتوسعة من جهة الفوق والتحت معاً.

وكيف كان، فلاشكّ في أنّ هذا التعبير إنّما هو كناية عن الامتداد.

وفي بعض الروايات الواردة في القبلة إشارة إلى الفوق أيضاً كما في خبر عبداللَّه ابن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«سأله رجل قال: صلّيت فوق جبل أبي قبيس العصر فهل يجزي ذلك والقبلة تحتي؟ قال: نعم، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء» (1).

وبعد انضمام هذه الرواية إلى المرسلة- مع قطع النظر عن الرواية المذكورة عن العياشي- نفهم أنّ البيت ممتدّ من الجانبين ولا يختصّ بالبناء الموجود هذا.

بل يمكن أن نضيف بأنّ التوسعة من جانب التحت فقط دون الفوق، ووجود

__________________________________________________


1- الوسائل، كتاب الصلاة، الباب 18 من أبواب القبلة ح 1.

ص: 13

الفرق بينهما من هذه الجهة بعيد جدّاً وغريب حقّاً، ولا يكون الخبر قرينة على كون المراد من المرسلة القبلة والاستقبال فقط؛ لعدم جريان التقييد في المثبتين.

مناقشات وإجابات

إن قلت: إنّ أدلّة الطواف ظاهرة في وجوب كون الطواف محاذياً لنفس البيت، فإنّ قوله تعالى:

«وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (1)

ظاهر في لزوم كون الطواف بنفس

البيت لا بفضائه، والعودة إلى اللغة سيما بالنسبة إلى التعبير بكلمة الحول في بعض الروايات تؤيّد ذلك، فقوله «طاف بالمكان» يعني أنّه جعل المكان في وسطه لا فوقه ولا تحته.

قلت: نعم، وإن كان الظاهر كذلك، إلّاأنّ الرواية حاكمة ومفسِّرة الأمر الذي يوجب التوسعة، كما أنّ الأدلّة الواردة في الاستقبال ظاهرة في لزوم كون الصلاة محاذية لنفس البيت، ولا أقل لمن كان في المسجد، والرواية توجب التوسعة في ذلك، ومن البعيد جدّاً وجود الفرق بين الاستقبال والطواف مع كون التكليف فيهما إلى البيت.

إن قلت: يستفاد من بعض الآيات الشريفة أنّ الواجب على المصلّي أن يجعل وجهه شطر المسجد الحرام، كقوله تعالى:

«فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (2)

، ومعنى ذلك أنّه لا مدخلية لنفس

البيت، مع أنّ التكليف في الطواف لا يكون إلى المسجد بل بالبيت، لقوله تعالى:

«وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» (3)

، وقوله تعالى:

«وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ» (4)

، ومن الواضح أنّ المراد من البيت في الآية الكعبة لا

المسجد.

__________________________________________________


1- الحج: 29.
2- البقرة: 144.
3- الحج: 29.
4- البقرة: 125.

ص: 14

قلت: مضافاً إلى أنّ هذا التعبير إنّما جاء في قبال بيت المقدس ولزوم الانصراف عنه والتوجّه إلى المسجد الحرام، لاشكّ في أنّه من كان داخلًا في المسجد يجب عليه أن يتوجّه إلى البيت، ولايجوز أن يصلّي إلى المسجد، وعنوان المسجد الحرام في الآيات الشريفة إشارة إلى البيت، ولا مدخلية لنفس المسجد.

نعم، ذهب الكثير أو الأكثر بل حكي عن مجمع البيان نسبته إلى أصحابنا وادّعى الشيخ في الخلاف الإجماع عليه، وهو أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لمن خرج عنه، ولكن لا ترديد في أنّ البيت قبلة لمن كان في المسجد.

وكيف كان، فالظاهر عدم الفرق بين الاستقبال والطواف من هذه الجهة، والشاهد على ذلك أنّه لو أزيل البناء تصحّ الصلاة إلى الفضاء، ولا تصحّ إلى البناء الزايل، وأيضاً يجوز الطواف حول الفضاء الموجود ولايسقط وجوبه في هذا الفرض.

نعم، هذه التوسعة إنّما هي في الطواف، ولا تجري في السعي، فلا يتوهّم أنّه كما يجوز الطواف فوق الكعبة يجوز السعي أيضاً من الفوق، فإنّ السعي لابدّ وأن يكون بين الجبلين لا فوقهما، ولا دليل على أنّ الفوق فيه ملحق بالبين، إلّاأن يقال:

إنّ البين ليس مقابلًا للفوق، بل المراد كون السعي في هذا الحدّ بدواً وختماً، وهو كما ترى.

إن قلت: ورد في بعض الروايات أنّ الملائكة ينزلون إلى الأرض ويطوفون حول البيت، أليس هذا شاهداً على أنّ الملاك في الطواف نفس البيت وإلّا لما احتاجوا إلى النزول؟

قلت: كلّا، لا يثبت بهذا ذاك، بل يمكن أن يكون نزولهم لاشتراكهم مع المؤمنين وجعل أنفسهم في صفّهم هذا أوّلًا، وثانياً لا ينكر رجحان الطواف بنفس البيت من باب أنّ الأقرب إليه يكون أكثر ثواباً، وأيضاً من جهة أنّ الموجود والمحسوس هو الطواف حول هذا البيت، وربما يكون هذا موجباً لكون القرب إليه

ص: 15

أكثر ثواباً.

إن قلت: إذا كان البيت ممتدّاً حتّى من جهة الطواف، فما معنى استلام الحجر أو الركن اليماني؟!

قلت: يمكن استلام الحجر بالإشارة من محاذيه، وكذا الحال في الركن اليماني، وكيف كان، فنحن نلتزم بصحّة الطواف من الفوق، وهذه الامور لا توجب رفع اليد عنه.

إن قلت: إنّ العرف يساعدنا في ذلك بالنسبة إلى الاستقبال، لكنّه لا يوافقنا في الطواف، بمعنى أنّ الاستقبال إلى الفضاء لا نقص فيه عند العرف بل هو مقبول عندهم، بخلاف الطواف فيه، إذ لا يعدّ عنده طوافاً.

قلت أوّلًا: نحن لا نوافق في ذلك، بل ندّعي أنّ العرف لا يفرق بينهما من هذه الجهة فيصدق الطواف على الطائف من الفوق عرفاً، والظاهر عدم وجود مسامحة عرفية في هذا الصدق، وإن كان الصدق- ولو بالمسامحة العرفية- كافياً في حكم العقل بامتثال الأمر، ألاترى أنّه إذا أمر المولى بإتيان الماء فأتاه العبد بالمائع المسمّى عند العرف ماءً مسامحةً وإن لم يكن بالدقّة العقلية ماءً؛ تحقّق الامتثال وكفى؟!

ثانياً: بعد التسليم نقول: إنّ الشارع قد خالف العرف في هذه الجهة فجعل البيت فوقاً وتحتاً بيتاً يجوز الصلاة والطواف نحوه مطلقاً دون أن يكون للبناء مدخلية فيه عند الشارع.

نعم، الظاهر انعقاد الإجماع بين الفريقين على عدم جواز الطواف خارج المسجد بخلاف الاستقبال، فالفرق بينهما من هذه الجهة ممّا لاينكر، بمعنى أنّه يجب أن يكون الطواف داخلًا في المسجد، إمّا في ما بين البيت والمقام كما ذهب إليه المشهور، أو في المسجد مطلقاً، وقد صرّح العامّة بأنّه كلّما اتّسع المسجد اتّسع المطاف، ولكن رعاية الحدّ وعدمها أمر آخر غير ما نحن فيه.

والنتيجة التي يمكن الخروج بها أنّه مع قطع النظر عن الراوية المرسلة الدالّة بالإطلاق على صحّة الطواف والصلاة حول الفضاء وتحت الأرض، يمكن أن يقال:

ص: 16

إنّ المستفاد من أدلّة القبلة والطواف ووحدة التعبير في كليهما- حيث جعل الملاك في كلّ واحد منهما البيت- أنّه كما يكون الفوق صالحاً للاستقبال يكون صالحاً للطواف أيضاً، ولولا هذه الرواية لأمكن أن يقال بأنّ هذا أمر عرفي لا ريب فيه، ومراجعة الأسئلة الواردة في الروايات تشعر بذلك، فإنّ الناس كانوا يصلّون- ارتكازاً- فوق جبل أبي قبيس، فهم وإن سألوا بعد العمل إلّاأنّ عملهم هذا كان مطابقاً لارتكازهم.

هذا كلّه، مضافاً إلى عموم التنزيل المستفاد من قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «الطواف بالبيت صلاة»، فإنّه دالّ على أنّه كما يمتدّ البيت في الصلاة علوّاً وسفلًا فكذلك في الطواف.

والدليل على عموم التنزيل أنّه قد استثنى في الرواية مورداً واحداً قال:

«الطواف بالبيت صلاة إلّاأنّ اللَّه تعالى أحلَّ فيه النطق»، وهذه الرواية وإن كانت غير مسندة من طرقنا سوى ما عن عوالي اللئالي (1)، إلّاأنّ جمعاً من كبار الفقهاء قد

استند إليها واستدلّ بها:

فقد استدلّ الشيخ (2) بها، كما استدلّ العلّامة على وجوب القيام في الطواف

وقال: «قد ثبت وجوب القيام في الصلاة فكذا فيه» (3)، وكذا على شرطية الستر

فقال: «ستر العورة شرط في الطواف» (4).

واستدلّ بها الشهيد الثاني، مصرّحاً بالإطلاق حيث قال: «مستند ذلك إطلاق قوله صلى الله عليه و آله الطواف بالبيت صلاة خرج منه ما أجمع على عدم مشاركته لها فيه فيبقى الباقي» (5).

__________________________________________________


1- عوالي اللئالي 2: 167.
2- الخلاف 2: 323.
3- مختلف الشيعة 4: 185.
4- تذكرة الفقهاء 8: 85.
5- مسالك الأفهام 2: 328 و 339.

ص: 17

وقال المحقّق الأردبيلي: «الطواف بالبيت صلاة فيشترط فيه ما يشترط فيها إلّا ما أخرجه الدليل» (1).

وذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ التشبيه يقتضي الشركة في جميع الأحكام، ومنها الطهارة عن النجاسة (2).

نعم، خالفهم سيّد المدارك، حيث ذهب إلى أنّ سند الرواية قاصر ومتنها مجمل (3).

وكيف كان، لا ريب في استناد المشهور إلى الرواية، وعليه ينجبر ضعفها، فما ورد من السيّد الخوئي من أنّه لم يعلم استناد المشهور إليه (4) غير تامّ، وقد صرّح

السيّد الحكيم بالانجبار (5).

هذا، وقد ورد من طرق الإمامية عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام:

«ولا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّاالطواف بالبيت فإنّ فيه

__________________________________________________


1- مجمع الفائدة والبرهان 1: 65.
2- رياض المسائل 6: 523.
3- مدارك الأحكام 1: 12.
4- كتاب الحج ج 4.
5- دليل الناسك: 245.

ص: 18

صلاة» (1).

وقد استشعر صاحب الجواهر من هذا الخبر أنّ أصل المرسل المشهور عن النبي هكذا: في الطواف بالبيت صلاة، وقد أسقط من أوّله لفظ (في) فظنّ أنّه من التشبيه.

وفي الاستشعار إشكال بل منع، لأنّه في بعض الروايات قد استثنى منه النطق، وقال: «إلّا أنّه أحلّ فيه النطق»، ولعلّه من هذه الجهة استدلّ هو نفسه بهذه الرواية في مواضع عديدة من كتابه (2) من دون كلمة «في» فتدبّر.

والظاهر ذهاب صاحب الجواهر أيضاً إلى صحّة الطواف من السطح وإن كان أعلى من البيت

هذا كلّه، مضافاً إلى أنّه لو كان الطواف مرتفعاً عن الكعبة غير جائز لصار هذا أيضاً حدّاً من جهة الارتفاع، ولكان اللّازم على الشارع ذكره كما ذكر الحدّ في جهة المساحة ومحيط الدائرة الأرضية، فمن عدم البيان بالنسبة إلى هذه الجهة نستكشف صحّة العمل.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ عدم البيان إنّما كان من جهة عدم الموضوع الخارجي في ذلك الزمان، وهو كما ترى.

وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما حكي عن الشافعي فإنّه قال: «فإن جعل سقف المسجد أعلى لم يجز الطواف على سطحه»، ويستفاد من صاحب الجواهر مخالفته له

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة، أبواب الوضوء، باب 5، ح 1.
2- جواهر الكلام 2: 8، 18: 58، 19: 270، 35: 360.

ص: 19

في ذلك، وقال: «مقتضاه كما عن التذكرة أنّه لو انهدمت الكعبة- والعياذ باللَّه- لم يصحّ الطواف حول عرصتها، وهو بعيد بل باطل» (1).

والظاهر ذهاب صاحب الجواهر أيضاً إلى صحّة الطواف من السطح وإن كان أعلى من البيت.

والذي يبدو أنّ أكثر العامّة قائلون بصحّة الطواف فيما إذا كان مرتفعاً عن البيت، فقد قال النووي: «قالوا: ويجوز (أي الطواف) على سطوح المسجد إذا كان البيت أرفع بناءً من المسجد كما هو اليوم، قال الرافعي: فإن جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة فقد ذكر صاحب العدّة: أنّه لايجوز الطواف على سطح المسجد، وأنكره عليه الرافعي وقال: لو صحّ قوله لزم منه أن يقال: لو انهدمت الكعبة- والعياذ باللَّه- لم يصح الطواف حول عرصتها وهو بعيد، وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب، وقد جزم القاضي حسين في تعليقه: بأنّه لو طاف على سطح المسجد صحّ وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة، ثمّ أضاف قاعدةً كليّةً وهي: أنّه لو وسع المسجد اتّسع المطاف، وقال: اتّفق أصحابنا على ذلك» (2).

وقال الزحيلي: «ويصحّ على سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت» (3).

فروع ملحقة:

الفرع الأوّل: حكم الارتفاع القليل

ثمّ إنّه مع قطع النظر عن التوسعة وبنائنا على عدمها ولزوم الاقتصار على البيت يمكن أن يقال: الظاهر عند العرف أنّ الارتفاع القليل بمقدار متر أو مترين لا يخرجه عن الطواف حول البيت، فيصحّ الطواف انطلاقاً من الصدق العرفي.

الفرع الثاني: شمول الحكم لحال الاضطرار وعدمه

ثمّ إنّه يظهر أيضاً أنّ صحّة الطواف فيما إذا كان أعلى من الكعبة ليست مختصّةً بحال الاضطرار، بل من يقول بعدم وجود حدّ للطائف يصحّ له القول بذلك مطلقاً واللَّه العالم.

__________________________________________________


1- جواهر الكلام 19: 298.
2- المجموع في شرح المهذب 8: 43.
3- الفقه الإسلامي وأدلّته 3: 159.

ص: 20

الفرع الثالث: الاستنابة ومشروعيّتها

الظاهر أنّه لا تصل النوبة إلى الاستنابة إلّاعلى قول من يذهب إلى وجود حدّ للمطاف، إذ يلزمه طبعاً الافتاء بلزوم الاستنابة وعدم صحّة الطواف من الطابق الأوّل، لا من جهة كونه أعلى من البيت بل من جهة كونه خارجاً عن حدّ المطاف.

ويأتي هنا بحث وهو أنّه على القول بوجود الحدّ إذا أمكنت الاستنابة وجبت عليه، وأمّا إذا لم تمكن وعلم الحاج- ابتداءً قبل الشروع في الإحرام- أنّه غير قادر على الطواف لا بنفسه ولا بالاستنابة، فهل يكون إحرامه صحيحاً أم لا؟

يمكن أن يقال بعدم وجوب الحجّ في هذا الفرض؛ إمّا من جهة أنّ عدم القدرة على الجزء أو الشرط موجب لعدم القدرة على المركب والمشروط، فيسقط وجوب الحجّ لأجل عدم توجّه التكليف والخطاب نحو المخاطب، بناءً على ما أسّسه المحقّق النائيني من أنّ شرطية القدرة تستفاد من اقتضاء الخطاب لا من حكم العقل، أو أنّ عدم القدرة موجب لكون توجّه التكليف إليه قبيحاً على مبنى المشهور القاضي بحكم العقل بقبح تكليف العاجز، كلّ ذلك بناءً على شرطية القدرة في التكليف؛ إمّا من اقتضاء نفس الخطاب أو من حكم العقل.

وأمّا بناءً على عدم شرطية القدرة فيه والقول بأنّ الخطاب يشمل العاجز كما أنّه يشمل القادر، غايته أنّ العاجز معذور في ترك الامتثال، وهو ما ذهب إليه السيّد الإمام الخميني والسيّد الخوئي 0... فيكون العجز عن الجزء مساوقاً للعجز عن المركب، فيكون معذوراً في ترك الامتثال.

وبعبارة اخرى، الوجوب الواحد في المركب يسقط بتعذّر جزء من الأجزاء، فإذا تعذّر أحد الأجزاء يسقط الوجوب عن الباقي بمقتضى القاعدة الأوّلية، نعم قد يدلّ الدليل الخاص على بقاء الوجوب في الباقي كما في باب الصلاة.

إن قلت: قد حقّق في محلّه أنّ الجامع بين المقدور وغير المقدور مقدور، فإذا كان بعض أفراد الطبيعة المأمور بها مقدوراً ولكن بعضها الآخر غير مقدور يصحّ التكليف بالطبيعة من هذه الجهة.

ص: 21

قلت: نعم، ولكن هذا الكلام إنّما يجري في الكلّي والفرد لا في الكلّ والجزء، والكلام هنا إنّما هو في الثاني، فإنّ العاجز عن الجزء يكون- قهراً- عاجزاً عن الكلّ، فتدبّر.

إن قلت: لا ملازمة بين عدم وجوب الحجّ وعدم صحّة الإحرام، فيمكن أن يقال بصحّة إحرامه دون وجوب الحجّ عليه، والخروج من الإحرام له أسباب يمكن الإتيان بها، ولم يشترط أحد في صحّة الإحرام إمكان الإتيان ببقيّة الأجزاء في الحجّ.

قلت: إنّ الإحرام أيضاً من أجزاء الحجّ، فبعد عدم القدرة على جزء من أجزائه تكون بقيّة الأجزاء في حكم غير المقدور، ولا أقلّ لا تكون مشمولةً للطلب المتوجّه إلى المركب، والمفروض عدم المطلوبية الاستقلالية لكلّ من الأجزاء فلايصحّ الإحرام أيضاً.

وبهذا ظهر ممّا أسلفناه أنّ العاجز عن الطواف الصحيح المشروع مع عدم إمكان الاستنابة أيضاً يسقط عنه الوجوب، فلا يجب عليه الحجّ كما لا يصحّ منه الإحرام.

نستنتج صحّة الطواف من الطابق الأوّل وإن كان أعلى من البيت، وهو المستفاد أيضاً من كلمات صاحب الجواهر

نعم، لا يخفى أنّ القدرة على العمل كافية ولو من طريق الاستنابة، فإنّ القادر على الاستنابة في العمل الذي يقبل النيابة قادر على العمل أيضاً، وعلى هذا يتّضح أنّه لو لم يكن الحاج قادراً على الطواف والسعي مثلًا لكنّه كان قادراً على الاستنابة فيهما وعلى المباشرة في الصلاة والتقصير لكان إحرامه وعمرته صحيحين.

خلاصة البحث ونتيجة الدراسة

1- أنّه بناءً على جواز الإضافة في جهة الارتفاع إلى البيت.

2- وبناءً على عدم شمول النهي الوارد في الروايات عن البناء فوق الكعبة

ص: 22

للأبنية المتعلِّقة بالمسجد.

3- وبناءً على عدم اختصاص التوسعة- علواً وسفلًا- بالاستقبال، بل تجري في الطواف أيضاً بمقتضى إطلاق الرواية المرسلة الواردة في المقام أوّلًا، وانضمام الروايات الدالّة على أنّ البيت قبلة من جهة الفوق ثانياً، فإنّ الانضمام يدلّ على التوسعة من جهة الفوق أيضاً، ومن جهة الصدق العرفي كالاستقبال ثالثاً، ووحدة السياق والتعبير في أدلّة الطواف وأدلّة القبلة من جهة أنّ الملاك فيهما هو البيت رابعاً.

4- وبناءً على عدم وجود حدّ للمطاف.

نستنتج صحّة الطواف من الطابق الأوّل وإن كان أعلى من البيت، وهو المستفاد أيضاً من كلمات صاحب الجواهر.

كما نستنتج- مع قطع النظر عن التوسعة- صحّة الطواف وإن كان أعلى من البيت بمقدار متر أو مترين، فإنّ هذا المقدار لا يضرّ في صدق الطواف عرفاً حول البيت، واللَّه العالم.

وبما أنّ هذا البحث جديد، ولم أرَ من تعرّض له سابقاً حتّى بنحو الإشارة، احتاج- طبعاً- إلى دقّة كثيرة، وعلى المحقّقين والفقهاء أن يبحثوا حوله وينظروا إلى ما قلناه نظراً جامعاً وافياً.

ص: 23

فقه التظليل في الحج (2)

مدخل

حيدر حبّ اللَّه

حاولنا في القسم الأوّل من هذه الدراسة، و الّذي نشر في العدد 20 من مجلّة «ميقات الحج» الميمونة، أن نؤسّس المبادئ الفقهيّة الأوّلية في هذا الموضوع، لكي نتمكّن- على ضوئها- من الولوج في تفصيلات التظليل، والفروع و الفرضيات و الصور المتعلّقة به، حتّى تكون استنتاجاتنا في الفروع اللاحقة قائمةً على أسس موضوعية و منطقية.

و قد أشرنا إلى وجود نظريتين رئيستين في حكم التظليل من حيث المبدأ هما:

النظرية الأولى:

وتذهب إلى القول بحرمة التظليل بعنوانه حرمةً مطلقةً، ممتدّاً إطلاق هذا الحكم في الزمان و غيره، فالتظليل- بوصفه تظليلًا- يكون محرّماً على المحرم، بلا فرق بين أنواعه كالكون في القبّة أو غيرها.

و قد رجّحنا في القسم الأوّل هذا الرأي، الذي حقّقنا أنّه المشهور بين فقهاء الشيعة، و هذا يعني أننا سنركّز دراستنا للفروع الفقهية المتصلة بالتظليل وفقاً لهذا الرأي.

النظرية الثانية:

وهي النظرية التي لاحظنا أنّها لا تعتقد بالحرمة بشكلها المثار في النظرية الأولى، و إنّما تحاول تضييق دائرة التحريم وتحديدها.

ص: 24

والشي ء الذي شاهدناه هو أنّ أنصار هذه النظرية لم نجدهم على رأي واحد من حيث طبيعة التحديد والتضييق الذي افترضوه، فقد لاحظنا عبارة الشيخ الصدوق (381 ه. ق) تشرف على التدليل على حرمة الركوب في القبّة، و كأن القبّة أو ما قاربها كانت ذات موضوعيّة في مسألة التحريم هنا، و الملاحظ- كما أشرنا سابقاً- أنّ بعض الروايات توحي بهذا التضييق من حيث ورودها ضمن عنوان القبّة أو ما شابه، ولعلّ الشيخ الصدوق، قد لاحظ مثل هذا النوع من الروايات و اعتمد عليه.

وهكذا وجدنا فريقاً من المعاصرين، يسعى لتضييق دائرة التحريم بلحاظٍ آخر، يحاول أن ينطلق فيه من خصوصية الزمان والمكان الحافّين بالحكم الصادر عن المعصومين عليهم السلام، فيرى أنّ هذا الحكم كان يعني في ضمن ظرفه التاريخي تعبيراً عن رفض مظاهر الدعة و الفخر و الترف في سفر الحج، لا مجرّد التظليل للحاج و لو لم تكن هناك ملابسات تتصل بهذا الأمر في تظليله.

و قد حاولنا في القسم السابق تحليل هذين القولين ضمن النظرية الثانية، و لاحظنا وجود نصوص صحيحة السند تعلّق الحرمة على ما هو أوسع من مجرّد القبّة، ولم نخف إعجابنا بالقراءة التاريخية التي حاول أن يمارسها الفريق الثاني المعاصر، إلّاأننا مع ذلك لم نجد على وجهة نظره شواهد أو مؤيّدات تدعم احتماله بما يحصل حالة الوثوق المعتبر.

هنا، خرجنا بالقول بحرمة التظليل بعنوانه مطلقاً على المشهور المعروف بين الفقهاء.

وقد شرعنا بفرعين اثنين: كان الأوّل منهما حول اختصاص حكم التظليل بالرجال وعدم شموله للنساء، وأثبتنا ذلك على ما هو المعروف بين

ص: 25

الفقهاء أيضاً، وكان الثاني منهما حول اختصاص هذا الحكم- أي حرمة التظليل للمحرم- بالقادر غير المضطرّ، و قلنا بالاختصاص على ماهو المعروف بينهم أيضاً.

و قد بقيت لدينا فروع أخرى، لابد من بحثها، أحببنا تقديم هذه المقدّمة لها، لكي ترتبط الأبحاث و يأنس الذهن بالتناسق و الانسجام.

المبحث الثالث: شرطية السير في حرمة التظليل

الظاهر أنّ المشهور بين الفقهاء اشتراط حال السير في حرمة التظليل على المحرم، بمعنى أنّ المحرم لو كان نازلًا- كما لو كان في عرفة أو مكّة أو غيرهما- ليس في حال سفر و انتقال من منطقةً إلى أخرى، كما بين الميقات للبعيد و بين مكّة... لم يحرم عليه التظليل، بل جازله مطلقاً سواء التظليل بالليل أو النهار، و من الشمس أو المطر أو غيرهما، و بالثابت و المتحرّك و...

قال ابن إدريس الحلّي (598 ه) في السرائر: «لا يجوز التظليل سائراً إلّاإذا خاف الضرر العظيم» (1).

الظاهر أنّ المشهور بين الفقهاء اشتراط حال السير في حرمة التظليل على المحرم

وقال المحقّق نجم الدين الحلّي (676 ه) في كتاب الشرائع: «التظليل محرّم سائراً، ولو اضطرّ لم يحرم» (2).

و قد ذكر العلامة الحلّي (726 ه) في مختلف الشيعة أنّ: «المشهور تحريم الظلال حال السير» (3).

__________________________________________________


1- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 1: 547.
2- شرائع الإسلام 1: 186.
3- مختلف الشيعة 4: 108، م 71.

ص: 26

وقد كان الشيخ الطوسي (460 ه) صرّح من قبل في الخلاف بأنّه: «لا يجوز فوقه سائراً لا نازلًا، وبه قال مالك وأحمد» (1).

بل في التذكرة أن حرمة الاستظلال حال السير ثابتة عند علمائنا أجمع، بل قال بذلك ابن عمر، ومالك وسفيان بن عيينة وأهل المدينة وأبو حنيفة، وأحمد، ونصّ العلامة على جواز التظليل مطلقاً حال النزول عند العلماء كافّة (2).

وقد ذكر قيد السير العديد من الفقهاء منهم الشهيد الأوّل في الدروس، (3) و

اللمعة، (4) و الشهيد الثاني في الروضة مدّعياً الإجماع على جوازه حال النزول، (5) و

في المسالك أيضاً، (6) و العلامة المجلسي في ملاذالأخيار مدّعياً عليه الإجماع أيضاً

عند العلماء كافّة، (7) و هو صريح ابن زهرة الحلبي في كتابه غنية النزوع إلى علمي

الأصول و الفروع، (8) و ذهب إليه أيضاً العلامة الحلّي في قواعد الأحكام، (9)

والتذكرة، (10) و المختلف، (11) و تحريرالأحكام الشرعيّة، (12) و إرشادالأذهان، (13) كما

__________________________________________________


1- الخلاف: 2: 318.
2- التذكره 7: 340- 342.
3- الدروس 1: 377.
4- اللمعة الدمشقية: 69.
5- الروضة البهيّة 244.
6- مسالك الأفهام 2: 265.
7- ملاذالأخيار 8: 209.
8- غنية النزوع، إلى علمي الأصول والفروع، قسم الفروع، ص 159.
9- قواعد الأحكام 1: 425- 424.
10- التذكرة 7: 340 و 342.
11- مختلف الشيعة 4: 108.
12- تحريرالأحكام 2: 32.
13- إرشادالأذهان 1: 317.

ص: 27

ذهب إليه الكيدري في إصباح الشيعة، (1) و الشيخ البهائي في الإثناعشريات، (2)

والإمام الخميني في تحرير الوسيلة، (3) والحرّ العاملي في بداية الهداية، (4) و السيّد

الطباطبائي في رياض المسائل مدّعياً عليه الإجماع، (5) ويحيى بن سعيد الحلّي في

الجامع للشرائع، (6) وابن فهد الحلّي في المهذب البارع، (7) و المحقق السبزواري في

كفايته وذخيرته، (8) والسيد العاملي في مدارك الأحكام، (9) والمحقق النجفي في جواهره مدّعياً عليه الإجماع بقسميه (10).

حرمة الاستظلال حال السير ثابتة عند علمائنا أجمع، بل قال بذلك ابن عمر، ومالك وسفيان بن عيينة وأهل المدينة وأبو حنيفة، وأحمد

وقبل ذكر الأدلّة المقامة أو التي يمكن إقامتها، لا بأس بالإشارة- توضيحاً-

__________________________________________________


1- إصباح الشيعة: 153.
2- الإثنا عشريات: 283.
3- تحريرالوسيلة 1: 391.
4- بدايةالهداية 1: 323.
5- رياض المسائل 6: 305.
6- الجامع للشرائع: 184.
7- المهذب البارع 2: 186.
8- كفاية الفقه الأحكام 1: 304، و ذخيرةالمعاد: 597.
9- مدارك الأحكام 7: 363.
10- جواهرالكلام 18: 405.

ص: 28

إلى أنّ هنا فرعين داخل هذه المسألة، فتارةً نبحث عن التظليل للنازل بمعنى الدخول في البيوت والاستقرار فيها أو في الأخبية، وتارة أخرى نبحث عن التظليل داخل الأماكن التي ينزلها الحاجّ مثل مكّة وعرفة ومنى، لكن لا في البيوت بل حال التنقّل داخلها، فإذن تارةً البحث في التظليل داخل البيوت مقابل التظليل حال التنقل بينها، وأخرى أيضاً في اختصاص التظليل بحال الوصول لا النزول أثناء الطريق ممّا سنشير إليه في المبحث الرابع (أيضاً) فانتظر.

والذي يمكن الاستدلال له في المقام هنا هو:

الوجه الأوّل:

الإجماع المدّعى في كلمات جماعة، منهم العلامة الحلّي في التذكرة، والشهيد الثاني في الروضة، والمحقّق النجفي في الجواهر، والعلامة المجلسي في ملاذ الأخيار، والسيّد الطباطبائي في رياض المسائل مما أسلفنا ذكره، ولا يظهر في ذلك خلاف من أحد، إذ لم نجد من ذكر حرمة التظليل للنازل صريحاً أو ظهوراً واضحاً، من حيث المبدأ.

إلا أنّ الاستدلال بالإجماع مناقش فيه:

أولًا:

إن احتمال مدركيّته واضح، سيما و أنّ بعض من نقل ادّعاء الإجماع- وهو السيد العاملي صاحب المدارك- قد أقام الدليل- كما سيأتي- على الحكم هنا، فالاستناد إلى الإجماع في هذا الوضع في غير محلّه.

ثانياً:

إنّه من غير المعلوم ماذا يريد الفقهاء السابقون من عبارتي سائراً ونازلًا، على وجه الدقّة، فإنّه لا يحرز هل يكون التنقّل داخل مكّة وعرفة والمزدلفة، مندرجاً في حال السير أو النزول؟ ومعه يؤخذ بالقدر المتيقّن من معقد الإجماع، وهو- كما سنرى في مطاوي البحث- الكون في الأبنية والأخبية عند النزول والاستقرار بعد السفر، فلا يكون الإجماع حجّةً في غير ذلك ولا يصحّ تكميل الإجماع بعدم القول بالفصل، لأنّ الفصل قد تحقّق في كلمات بعضهم كما سيظهر لاحقاً، وإن كان هذا البعض من المتأخرين من أمثال صاحب الجواهر.

الوجه الثاني:

ما ذكره صاحب المدارك (1) من الاستناد إلى رواية جعفر بن

المثنّى في المقام، حيث ذكر دلالتها على اختصاص الحكم بحرمة التظليل بحال السير.

و الرواية هي: «... كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يركب راحلته فلا يستظل عليها، و تؤذيه الشمس فيستر بعض جسده ببعض، و ربما يستر وجهه بيده، و إذا نزل استظلّ بالخباء و في البيت و بالجدار» (2).

__________________________________________________


1- مدارك الأحكام 7: 363.
2- وسائل الشيعة، ج 12، أبواب تروك الإحرام، باب 66، ح 1.

ص: 29

والرواية من حيث الدلالة جيّدة مع حمل الخباء و البيت و الجدار على التمثيل لمطلق ما يستظلّ به، لا لخصوص الثابت و ما في حكمه، إلّاأنّ المشكلة في الرواية ضعفها السندي، فهي- في التهذيب و الكافي- مرويةٌ عن محمد بن الفضيل و بشير بن إسماعيل لعدم توثيقهما، إلا على ما احتمله السيد الخوئي من كون البشير بن إسماعيل هو ابن عمار الذي وصفه النجاشي- كما تقدّم- بأنّه وجه من وجوه من روى الحديث.

الوجه الثالث:

ما ذكره السيد السبزواري رحمه الله في مهذّبه من أنّ هذا هو ما تقتضيه قاعدة العسر و الحرج في الجملة (1).

و هذا الوجه غير ظاهر، فإن أريد به وجود حالة عسر و حرج في بعض الحالات لدى بعض الناس أمكن إجراء القاعدة عليهم لا الحكم بالجواز مطلقاً حتى في حقّ غيرهم، و إن أريد أن العسر و الحرج في الجملة كاشف عن عدم جعل هذا الحكم، فإنّه يقال: لا إشكال في أن تروك الإحرام بجملتها يلزم منها- في الجملة- عسر و حرج، فهل يقال بسقوطها أو يقال بسقوط موارد الحرج؟!

نعم، يمكن أن يكون مراده السقوط في الجملة لا أنّ العسر في الجملة موجب للسقوط مطلقاً في موارد النزول، و معنى السقوط في الجملة هو تلك الأفراد الملازمة عادةً للعسر و الحرج مثل الكون في البيت و مكان النوم فإنّه يقال: إنّ الإلزام بعدمه يلزم منه العسر نوعاً و هذا جيّد.

الوجه الرابع:

ما ذكره صاحب المدارك قدس سره أيضاً، من الّتمسك بالأصل، (2)

والظاهر أنّ مراده أصالة الجواز، مما يعني أن الحرمة حال النزول ليست مدلولًا لأي من روايات الباب ولو بالإطلاق.

__________________________________________________


1- مهذّب الأحكام 13: 201.
2- مدارك الأحكام 7: 363.

ص: 30

والذي لاحظناه من الروايات أنّها على طوائف:

الطائفة الأولى:

ما هو صريح أو ظاهر في خصوص الركوب كصحيحة محمد ابن مسلم (رقم 1) الّتي نصّت على السؤال عمّن يركب القبّة الظاهر في حال السير، و مثلها صحيحة هشام بن سالم (رقم 3)، و صحيحة حريز (رقم 12)، و هذه الطائفة لما لم تكن تدلّ على الحرمة لغير الراكب في حال سفر، لأنّ القبّة لا تستعمل إلّا في الأسفار لا داخل المدن عادةً، كان يمكن الرجوع حينئذ إلى أصالة البراءة، كما فعل صاحب المدارك، و معه فيكون التمسّك بالأصل صحيحاً.

الطائفة الثانية:

ما كان عامّاً يشمل بإطلاقه السائر و النازل، مثل صحيحة عبداللَّه بن المغيرة (رقم 2)، و صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج (رقم 4)، وصحيحة إسحاق بن عمّار (رقم 5)، و خبر محمد بن منصور (رقم 6)، و صحيحة إسماعيل بن عبدالخالق (رقم 7)، و صحيحة عبداللَّه بن المغيرة الثانية (رقم 8)، و صحيحة عثمان بن عيسى الكلابي (رقم 10)، و خبر المعلّى بن خنيس (رقم 15)، و صحيحة سعيد الأعرج (رقم 16)، و خبر بكر بن صالح (رقم 17).

و هذه الطائفة لا يمكن الاستناد في قبال إطلاقها إلى الأصل، كما فعل صاحب المدارك، بل تكون حاكمةً عليه و مقدّمة، و من ثم تقتضي حرمة الاستظلال مطلقاً، سائراً أو نازلًا.

الطائفة الثالثة:

ما دلّ على التفصيل بين السائر و النازل وهي:

1- خبر البزنطي: «أيش الفرق ما بين ظلال المحرم و الخباء؟ فقال أبوعبداللَّه عليه السلام: إنّ السنّة لا تقاس» (1).

والرواية من حيث السند بهذا المقدار من الدلالة تامة، كما جاءت في قرب الاسناد للحميري، بتقريب أنّ التظلّل للمحرم حرام، لكن ضرب الخباء، وهو البناء كما نصّ اللغويّون (2) ليس بمحرّم كما تساعد عليه بقية روايات هذا النص. فمن

__________________________________________________


1- وردت الرواية بعدة أسانيد، فراجع الوسائل 12، كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 66، ح 1 و 2 و 4 و 5 و 6، و النص الذي نقلناه هو الثابت بسند صحيح.
2- ابن منظور، لسان العرب 4: 6، والفيروز آبادي، القاموس المحيط، دارالمعرفة 1: 13، والفيّومي في المصباح المنير: 163، والزبيدي في تاج العروس، 1: 206.

ص: 31

حيث الدلالة تدلّ على التفريق سائراً و نازلًا، نعم، مقدار دلالتها الكون داخل الخباء و أمثاله، فقد يقال: لا تدلّ على جواز التظليل عند التنقل داخل المكان الذي نزل المحرِم فيه كالقرية أو المحلّة أو ما شابه.

2- خبر الحسين بن مسلم عن أبي جعفر الثاني عليه السلام: «أنّه سئل: ما الفرق بين الفسطاط و بين ظلّ المحمل؟ فقال: لا ينبغي أن يستظل في المحمل...» (1).

و تقريب الاستدلال بها أنّها فصّلت بين المحمل و الفسطاط، فحتّى لو لم تكن فيها لوحدها دلالة على حرمة الاستظلال- كما قوّيناه سابقاً- لكنها على أيّ حال تقيم الفرق بين المحمل و الفسطاط.

والمراد بالفسطاط- كما تذكره مصادر اللغة- إمّا المدينة، حيث يطلق عليها الفسطاط، ومن هنا قيل: فسطاط مصر، أو ضربٌ من الأبنية في السفر دون السّرادق و... (2).

فإذا أريد من الفسطاط فيها المدينة، كانت دالّةً على أن النزول في المدن و أمثالها موجب لسقوط الحرمة مطلقاً تنقّل في داخلها أو لم يتنقّل، نعم تكون فيها مشكلة من ناحية النزول و الاستقرار لا في مدينة، بل وسط الطريق، فإن الرواية على هذا لا تكون شاملةً لهذه الصورة، فيرجع فيها إلى إطلاقات الحرمة.

وأمّا إذا أريد من الفسطاط مطلق البناء، فتكون دالّةً

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة، مصدر سابق، باب 66، ح 3.
2- ابن منظور، لسان العرب 10: 262، والفيروزآبادي، القاموس المحيط 2: 378، والفيّومي، المصباح المنير: 472- 473، والزبيدي، تاج العروس 19: 543- 543.

ص: 32

على جواز التظليل مطلقاً في أيّ بناء، إذ لا خصوصية لنوع الفسطاط، نعم، لا تدلّ على صورة التنقل داخل المكان أو المدينة التي نزل فيها الحاج أو المعتمر.

و عليه، لا تكون دلالة الرواية مطلقةً من ناحية الجواز مطلقاً لكلّ من لم يكن في حال السير، سواء أخذنا بتقريبها الأوّل أو الثاني.

هذا من ناحية الدلالة، وأمّا من ناحية السند، فالرواية في «الفقيه» ضعيفة بجهالة الحسين بن مسلم، و في «المقنع» ضعيفة بالإرسال، فلا يحتج بها، و لا يحرز أن الفقهاء اعتمدوا عليها في الحكم بالجواز حتى يجبر ذلك ضعف السند فيها، بناءً على كبرى انجبار الضعف بعمل الأصحاب، لأن الأقرب أنّهم عملوا برواية البزنطي وحوار الإمام الطويل الذي ذكرناه سابقاً، و معه فلا يمكن الاعتماد عليها في الحكم هنا.

و المتحصّل من مراجعة طوائف النصوص: أنّه لا يوجد مقيّد فيها للطائفة الثانية المطلقة إلّارواية البزنطي و ما ساندها من خبر الفضيل المتقدّم الضعيف السند، غير أنّها لا تدل- كما قلنا- إلّاعلى جواز التظليل في البيوت و الأبنية، دون دلالةٍ على التظليل بمثل اليد أو أدوات النقل أو المظلّة المتعارفة داخل أماكن النزول حال التنقل فيها.

الوجه الخامس:

ما يمكننا ذكره في المقام، و هو أنّ ما يحرز كونه محلًا للابتلاء، و مورداً للسؤال و الاستفهام عند المسلمين في تلك الفترات هو التظلّل في الطريق حال السير، لأنّ عدمه هو الموجب لأذيتهم أحياناً، أو وجوده هو الموجب لراحتهم، و لم يكن التظلّل داخل المدن أو القرى أو عند النزول مورداً لابتلائهم من هذا الحيث، فإنّ دخولهم فى الظلّ كان لحاجتهم لدخول البيوت أو الأخبية أو ما شابه ذلك، ومعنى هذا أنّ ظاهرة التظلّل- بوصفها فعلًا وجودياً يعمد الإنسان لتحقيقه- أمرٌ وجيه ومتصوّر منهم في تلك المرحلة في السفر، أمّا عند النزول فإنّهم ما كان يعمدون لتظليل أنفسهم غير دخول بيوتهم و الاستيطان في أخبيتهم وفساطيطهم، وهذا معناه أنّ تلك الحال الاجتماعية التي كانوا عليها، وهم من

ص: 33

يعيش بلاد الحرّ في الحجاز و اليمن و العراق و البحرين و... تشكّل قرينة تصرف إطلاق الطائفة العامّة إلى الحال الغالب المتعارف، وهو التظليل حال السير لا عند الوقوف المعتدّ به، فضلًا عن دخول البيوت والمبيت فيها.

ولا نريد بذلك دعوى الانصراف نتيجة غلبة الوجود، مما هو ممنوع عندهم على ما هو المقرّر في مباحث علم الأصول، بل نريد أن نلحظ النصوص في مناخها التاريخي و الاجتماعي، مما يشكّل لدينا قرينة تجعل الإطلاق في غير حال السير بمثابة الإشعار فحسب جموداً على شكل النص لا بمثابة الظهور الحجّة.

وهذا هو ما يفسّر عدم وجود تساؤلات عن صورة التظلّل داخل أماكن النزول، ويُفْهِمَنا السيرة المتشرعية المنعقدة يقيناً على السكن في البيوت والأخبية أيضاً في مكة و عرفات، كما هذا هو الذي يفسّر أيضاً إجماع الفقهاء على الجواز على تقدير أن يفهم منه إطلاقه كما تقدّم احتماله، فلاحظ جيّداً.

والمتحصّل أنّ حرمة التظليل ثابتة في حال السير خاصّة، أمّا حال النزول فلا دليل يطمأن له يمكن على أساسه الحكم بالحرمة، فالجواز مطلقاً هو الأقوى.

هذا، و قد احتاط بعض الفقهاء استحباباً في صورة التردد (1)، و بعضهم

احتاط وجوباً، و في الجواهر الأقوى الاجتناب، (2) و ظاهر الفاضل الهندي احتمال

الوجوب (3) كما فهمه منه صاحب الجواهر أيضاً (4).

__________________________________________________


1- رسالة مناسك الحجّ، الشيخ الأنصاري ووافقه المعلّقون، ويبلغ عددهم أكثر من عشرين من كبار الفقهاء المتأخرين، أنظر: 172، وقد احتاط استحباباً أيضاً السيّد السبزواري في مهذّب الأحكام 13: 201، والفاضل اللنكراني في تفصيل الشريعة 3: 292.
2- جواهرالكلام 18: 406.
3- كشف اللثام 5: 403.
4- جواهر الكلام 18: 406.

ص: 34

المبحث الرابع: حكم السفينة و القطار و...

بعد الفراغ عن حرمة التظليل حال السير، و جوازه حال النزول، وقع الكلام في بعض الصور التي تردّد الأمر فيها بين اندراجها في عنوان السير أو النزول، مثل السفينة التي ربما يقضي فيها الإنسان أياماً بلياليها يبيت فيها و... أو كالقطار الذي يمضي مسافاتٍ بعيدة بحيث يواصل سيره أياماً و ليالي عدّة حتّى يصل الميقات أو ما شابه ذلك، فهل يقال هنا: إن المحرم في حال مَسيرٍ فيحرم عليه التظليل أم يقال: إنّه في حال نزولٍ؟ فالسفينة والقطار و... صارا بالنسبة إليه أشبه بالمنزل الذي يستقرّ فيه؟

والمتحصّل أنّ حرمة التظليل ثابتة في حال السير خاصّة، أمّا حال النزول فلا دليل يطمأن له يمكن على أساسه الحكم بالحرمة، فالجواز مطلقاً هو الأقوى

لم أجد هذا الفرع في الكتب الفقهيّة قبل الميرزا النائيني، حيث أشار له في مباحث حجّه المدرج متناً لكتاب «دليل الناسك» للسيّد محسن الحكيم رحمه الله (1)،

__________________________________________________


1- دليل الناسك، نشر مؤسسة المنار، المتن: 170.

ص: 35

والسيّد الخوئي ينقل عن شيخه، والظاهر أنّه يريد به الميرزا النائيني رحمه الله في مباحثه المشار إليها، أنّه قوّى لحوق مثل السفينة بالمنزل، و من هنا يناقشه الخوئي بأن مقتضى الإطلاق حرمة التظليل في جميع الحالات، خرج من هذا الإطلاق خصوص حال النزول في الخباء و الوصول إلى المنزل، أما غيره كالسفينة فيبقى داخلًا تحت الإطلاق؛ الأمر الذي يقتضي الحرمة (1).

و النتيجة التي خرج بها السيّد الخوئي مقبولةً، لكن لا لما قاله، إذ لا دليل على أنّ جواز التظليل خاص بحال الوصول إلى المنزل، بل ظاهر صحيحة البزنطي مطلق الخباء حتى لو كان في الطريق، و تؤيّدها رواية الفسطاط إذا فسّرناه بأنّه ضرب من البناء في السفر كما تقدّمت الإشارة إليه عند اللغويين، وهذا معناه أنّ العبرة بحال النزول لا الوصول كما قد توهمه عبارة السيد الخوئي، و من هنا نقول:

إن صحّة كلام الخوئي لا لما قاله، بل لأن العبرة في الجواز بحال النزول و لا يصدق على من في السفينة و القطار هذا العنوان قطعاً، فالمفترض تطبيق أحكام السائر عليهم، و الحكم بحرمة التظليل، و لعلّ ما قلناه هو مراد السيّد الخوئي رحمه الله، وإن كان في عبارته ما يوحي بتفسيرنا المتقدم.

والنتيجة:

حرمة التظليل في مثل القطار أو السفينة أو... إذا لم يلزم منه العسر والحرج أو الاضطرار على ما تقدّم.

__________________________________________________


1- السيد الخوئي، المعتمد في شرح المناسك، 4: 236- 235.

ص: 36

«.. مسجداً ضراراً...»

اشارة

حسن محمّد

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ا 107 لَاتَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ا 108 أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ا 109 لَايَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (1)

. هناك في تأريخنا الإسلامي، العبادي والسياسي والاجتماعي، ظهر مسجدان، كلاهما يستمدّان وجودهما ممّا للمسجد من دور كبير في تحقيق الأهداف، وممّا يشكّله هذا الدور الخطير الموكل له من وسيلة إعلامية بكلّ ما تحمله هذه الوسيلة من وظيفة متميزة في هداية الأمّة، أو في إضلالها، وإبعادها عن الطريق المستقيم، فالمسجد سيف ذو حدّين إن صحّ التعبير، يمكننا من خلاله توعية المجتمع ودعوته إلى اللَّه تعالى والالتزام بأحكامه وتطبيق مفاهيمه ومبادئه،

__________________________________________________


1- التوبة: 107- 111.

ص: 37

ويمكننا من خلاله إبعادها عن هذه الدعوة، وبالتالي صرف مسيرتها، إلى حيث الضلال، وفي هذه المرّة تكون خطورة المسجد أعظم وأكثر بلاءً؛ لأنّ الانحراف هذا يتمّ تحت سقفه، ويكون- بما يحمله من أهداف عليا ومبادى ء سامية- غطاءً لأعمالهم وعلى رأسها الكيد للجماعة المسلمة؛ لهذا راح المنافقون يتسترون بهذه الوسيلة وبغيرها، فأسس جمع منهم، ممّن عاصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتظاهر بالإيمان والتقوى والحرص على المؤمنين، وكاد تظاهرهم هذا ومؤامرتهم هذه تنطلي على مؤمني المدينة، لولا تدخل السماء، التي راحت تكشف زيفهم وتميط اللثام عن خطّتهم الخبيثة وما حاكته أيديهم للنيل من الصف المسلم يومذاك.

القراءة

ذكر المفسّرون اختلافاً في القراءة:

* فقد قرأ كلّ من نافع وابن عامر بل وأهل المدينة

«الذين اتخذوا»

بغير واو، فيما قرأها الباقون بالواو، فالأول: على أنّه بدل من قوله:

«وآخرون مرجون»

والثاني: على تقدير ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً.

فالمسجد سيف ذو حدّين إن صحّ التعبير، يمكننا من خلاله توعية المجتمع ودعوته إلى اللَّه تعالى والالتزام بأحكامه وتطبيق مفاهيمه ومبادئه، ويمكننا من خلاله إبعادها عن هذه الدعوة، وبالتالي صرف مسيرتها، إلى حيث الضلال

* وقرأ نافع وابن عامر أُسّس بضم الألف، وبنيانُه بالرفع في الموضعين المذكورين: أُسِّس بنيانهُ على تقوى... أُسِّس بنيانهُ على شفا...

فيما قرأ الباقون أَسّس بنيانَه فيهما، وفي الشواذ قراءة نصر بن عاصم أُسُسُ بُنيانِه على وزن فُعُل، وقراءة نصر بن علي أساس بُنيانه.

* وقرأ ابن عامر وحمزة وحماد ويحيى عن أبي بكر وخلف جُرف بالتخفيف،

ص: 38

فيما قرأه الباقون جُرُف بالتثقيل.

* وقرأ يعقوب وسهل «إلى أنْ» على أنّه حرف الجر، وهو قراءة الحسن وقتادة والجحدري وجماعة، ورواه البرقي عن أبي عبداللَّه، فيما قرأ الباقون «إلّا أنْ» مشدّدة اللام.

* وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وجعفر وسهل وروس عن يعقوب تَقَطَّع بفتح التاء والتشديد، فيما قرأ روح تُقطع بضم التاء مخففاً، وقرأ الباقون تُقَطّع بضم التاء مشدداً (1).

معانٍ

إرصاداً: إعداداً وارتقاباً وانتظاراً، تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقباً له به، قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخيرة وأرصدت له في الشر، وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلّاأرصدت ومعناه ارتقبت.

شفا: طرف وحرف.

جرف: بضم الراء وسكونها جانب البئر التي لم تطو، وقيل: الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. أو هو المكان الذي يأكله الماء فيجرفه أي يذهب به.

هار: متداع وساقط ومنهال.

__________________________________________________


1- أنظر القراءات، ومجمع البيان، والتفسير الكبير للرازي، وأحكام القرآن للقرطبي.

ص: 39

البلاغة

وفي الآيات استعارة، ففي قوله تعالى:

«أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللَّه»

أي أسس على قاعدة راسخة قويّة ثابتة وطيبة ألا وهي التقوى تقوى اللَّه تعالى، فشبّه التقوى والرضوان بقاعدة يعتمد عليها البناء تشبيهاً مضمراً في النفس، وأسس بنيانه تخييل على قاعدة الاستعارة التصريحية.

وهناك استعارة أخرى وهي الاستعارة التمثيلية في انهيار البناء القائم على شفا جرف هار، فقد شبهت الآية عدم القيام بأمور الدين بمن بنى بنيانه على شفا فهو يسقط به، فالمشبّه به البناء على محل آيل للسقوط، والمشبه هو ترتيب أحكام الدين وأعماله على الكفر والنفاق.

قصة مسجد الضرار

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الأربع أنّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قُبَاء، وبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنم بن عوف، وقالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد، وكانوا اثني عشر رجلًا، وقيل: خمسة عشر رجلًا، منهم ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير ونبتل بن الحرث، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء، فلما فرغوا منه أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللَّه إنا قد بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة.

فقال صلى الله عليه و آله: إني على جناح سفر، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء اللَّه، فصلينا لكم فيه.

فلما انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من تبوك، نزلت عليه الآية في شأن المسجد (1).

فيما ذكر الواحدي في أسبابه ما قاله المفسّرون: إنّ بني عمرو بن عوف، اتخذوا

__________________________________________________


1- مجمع البيان للشيخ الطبرسي، الآيات.

ص: 40

مسجد قُباء وبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوتهم بنو غُنم بن عوف، وقالوا: نبني مسجداً، ونرسل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليصلي فيه كما صلّى في مسجد إخواننا، وليصل فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصّر ولبس المسُوح، وأنكر دين الحنيفية لمّا قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة وعاداه، وسمّاه النبي عليه السلام: أبا عامر الفاسق، وخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين: أن

[أعدو

] استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجند الروم، فأُخرج محمداً وأصحابه.

فقالوا: إنا [قد] بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلّي لنا فيه، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن، وأخبره اللَّه عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به

فبنوا له مسجداً إلى جنب مسجد قُباء، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلًا:

خِذام بن خالد، ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب، ومُعتب بن قُشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وعبّاد بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن حارث

[وبخرج

] وبجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت.

فلما فرغوا منه، أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: إنا

[قد

] بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلّي لنا فيه، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن، وأخبره اللَّه عزّ وجلّ خبر مسجد الضرار وما هموا به.

فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مالك بن الدُّخشم وأخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عُديّ، أو أخاه عاصماً، وعامر بن السكن، ووحشياً قاتل حمزة، وهذا أمر مستبعد لأنه صلى الله عليه و آله أمره بأن لايراه حتى بعد أن أسلم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبعد أن سمع حديثه عن كيفية قتله لحمزة رضوان اللَّه عليه: ويحك! غيّب عني وجهك، فلا أُرينّك.

ص: 41

قال وحشي: فكنت أتنكّب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث كان، لئلا يراني، حتى قبضه اللَّه (1).

وعلى أيّة حال، فقد قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه، فخرجوا، وانطلق مالك، وأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثمّ دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرقوه وهدموه، وتفرّق عنه أهله، وأمر النبيّ صلى الله عليه و آله أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة، ومات أبوعامر بالشك وحيداً غريباً.

وفي خبر مختصر ينقله الواحدي أيضاً عن جماعة: أنّ المنافقين عرضوا المسجد يبنونه ليضاهئوا به مسجد قُباء، وهو قريب منه لأبي عامر الراهب، يرصدونه إذا قدم ليكون إمامهم فيه، فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا:

يا رسول اللَّه إنا قد بنينا مسجداً فصلِ فيه حتى نتخذه مصلى، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت هذه الآية:

«لا تقم فيه أبداً» (2)

. وأبوعامر الراهب كان قد خرج إلى قيصر وتنصّر، ووعدهم قيصر أنّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضرار يرصدون مجيئه فيه.

ويذكر سعيد بن المسيّب: أنّ

«واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين» (3)

. نزلت في أبي عامر هذا- وهو واحد من عدّة أقوال- وهو أبو عامر بن صيفي، وكان يلبس المسوح في الجاهلية، فكفر بالنبي صلى الله عليه و آله، وذلك أنّه دخل على النبي صلى الله عليه و آله المدينة، فقال: يا محمد، ما هذا الذي جئتَ به؟

قال: جئتُ بالحنيفية دين إبراهيم.

قال: فإنّي عليها.

__________________________________________________


1- أنظر السيرة النبوية لابن هشام 3: 76.
2- أسباب نزول القرآن للواحدي، والقرطبي في تفسيره وغيرهما.
3- الأعراف: 175.

ص: 42

فقال النبي صلى الله عليه و آله: لستَ عليها لأنك أدخلت فيها ماليس منها.

فقال أبو عامر: أمات اللَّه الكاذب منا طريداً وحيداً.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: نعم أمات اللَّه الكاذب منا كذلك.

وإنما قال هذا يُعرّض برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث خرج من مكة.

فقد قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه

فخرج أبو عامر إلى الشام ومرّ إلى قيصر وكتب إلى المنافقين: استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمداً من المدينة، فمات بالشام وحيداً، وفيه نزل:

«وإرصاداً لمن حارب اللَّه ورسوله من قبل» (1)

. إذن، ومن خلال الاستعانة بأسباب النزول المختصّة بهذه الآيات الأربع، نرى أنّ مسجد ضرار حركة نفاقية خطيرة وسيئة كادت أن تؤدي بوحدة الصف المسلم، خطط لها أعداء الإسلام والتوحيد، وراحت أيدٍ تتظاهر بالإسلام داخل المجتمع المسلم تنفذها تحت أغطية ذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية... يحاولون بهذا إخفاء نواياهم الحقيقية وهي التي بينتها الآيات المذكورة:

ضراراً وكفراً وتفريقاً... وهي مقاطع سيأتي شرحها.

المفاسد الأربع

وراحت هذه الآيات القرآنية تصف هذا المسجد الذي أسسته أياد منافقة تريد الكيد بالإسلام والمسلمين، تصفه بصفات أو مفاسد أربع، وبالتالي تصف القائمين به وعليه أيضاً بهذه الصفات، وهي كونه:

1-

ضراراً.

2-

كفراً.

__________________________________________________


1- أنظر القرطبي في تفسيره للآية 175 من سورة الأعراف.

ص: 43

3-

تفريقاً بين المؤمنين.

4-

إرصاداً لمن حارب اللَّه ورسوله من قبل.

فالصفة الأولى:

هي أنه كان ضراراً، والضرار لغةً، ضرّه، وضرّ به، يضرّه ضرّاً وضرراً: ألحق به مكروهاً أو أذىً، وضارّه مُضارةً وضراراً: ضرّه وضامه وضايقهُ، وضاره أي خالفه، وتضارّا: ضارَّ أحدهما الآخر، وتضارّاً: لحقهما ضرر وضيم (1).

وقال الرازي والطبرسي أيضاً: إنّ الضرار محاولة الضرّ، كما أنّ الشقاق محاولة ما يشق، يقال: ضاره مضارة وضرار.

وقال الزجاج: وانتصب قوله (ضراراً) لأنّه مفعول له.

والمعنى: اتخذوه للضرار، ولسائر الأمور المذكورة بعده، فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب.

ثم قال: وجائز أن يكون مصدراً محمولًا على المعنى والتقدير: اتخذوا مسجداً ضرراً به ضراراً.

إذن، فلا يُراد به إلّاالإضرار بالمسلمين وبوحدتهم كما لا يُراد به إلّاالكفر باللَّه تعالى وترك عبادته وتوحيده، ولا يُراد به أيضاً إلّاأن يكون مركزاً للفتنة والتآمر على الساحة الإسلامية والكيد لها بالتعاون مع أعداء هذه الدعوة المباركة التي حملها نبيّ الرحمة محمد صلى الله عليه و آله، متستّرين بعناوين متعدّدة منها: مساعدة ضعفائنا، ومرضانا، خاصة في الليالي الباردة، التي لا يستطيعون فيها الذهاب إلى مسجد قُباء، كما أرادوا أن يصلّي فيه الرسول صلى الله عليه و آله لكي يضفي على بنائهم هذا وعملهم الشرعية، ولكن سعيهم هذا خاب بعد أن تدخلت السماء فكشفت مؤآمرتهم.

هذا، وقال أهل التأويل: ضراراً بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنّما هو

__________________________________________________


1- مصادر اللغة.

ص: 44

لأهله، وروى الدارقُطني عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا ضرر ولا ضرار مَن ضارّ ضارّ اللَّه به، ومن شاقّ شاقّ اللَّه عليه.

قال بعض العلماء: الضرر: الذي لك به منفعة وعلى جارك فيه مضرة.

والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى جارك فيه المضرة، وقد قيل: هما بمعنى واحد، تكلّم بهما جميعاً على جهة التأكيد. وراح القرطبي يذكر بعض الأحكام التي منها أنّه لا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد ويجب هدمه، والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهله عن المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلّاأن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحد فيبنى حينئذ... (1).

الصفة الثانية: «وكفراً»

اختلفت أقوالهم في معنى

«وكفراً»

، فبعض ذهب إلى أنّ المقصود إقامة الكفر فيه، أو أنّ اتخاذهم هذا المكان واختيارهم هذا العمل بإنشاء هذا المسجد كان كفراً باللَّه، أو أنّ المراد هو أنّهم يكفرون فيه بالطعن على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والإسلام، فعن ابن عباس أنّه قال: يريد به ضراراً للمؤمنين، وكفراً بالنبيّ صلى الله عليه و آله وبما جاء به.

فيما ذهب غيرهم إلى أنّ المراد ب

«وكفراً»

هو أنهم لما كان إعتقادهم أنّه

__________________________________________________


1- أنظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8: 255- 256.

ص: 45

لا حرمة لمسجد قُباء ولا لمسجد النبيّ صلى الله عليه و آله كفروا بهذا الاعتقاد، هذا ما قاله ابن العربي (1). ولا مانع من أن يكون المراد منها كلّ ما تعنيه كلمة الكفر من معان.

الصفة الثالثة:

«وتفريقاً بين المؤمنين»

وهو هدف خطير تحمله حركة النفاق ويقصده المنافقون في كلّ تصرفاتهم ضد الدعوة الجديدة، فبني هدفهم، إذا ما تمّ إنشاء هذا المسجد، مستغلّين قدسية المسجد وانشداد المؤمنين له، بما يحمله من مكانة في قلوبهم، وبما تضفي عليه صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه لو تمّت، بني هدفهم على تفريق الأمّة المسلمة تمهيداً لتضعيفها فالاستحواذ عليها.

يقول الرازي: أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين، وذلك لأنّ المنافقين قالوا: نبني مسجداً فنصلي فيه، ولا نصلي خلف محمد، فإن أتانا فيه صلينا معه، وفرّقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة.

وهذا يدلك- كما يذكر القرطبي- على أنّ المقصد الأكبر والغرضَ الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة يفصل

__________________________________________________


1- أنظر تفسير الرازي ومجمع البيان للطبرسي وجامع الأحكام للقرطبي.

ص: 46

الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد (1).

إذن، فالمنافقون يحاولون النيل من الجماعة المسلمة من داخلها وبالوسائل نفسها التي تمتلكها هذه الجماعة، والتي منها المسجد وماله من دور خطير ومهم في حياتها الإيمانية.

الصفة الرابعة:

«وإرصاداً لمن حارب اللَّه ورسوله»

إن المفسّرين اتفقوا على أنّ المراد بهذا المقطع من الآيات هو رجل من قبيلة الخزرج، يُقال له أبو عامر الراهب، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة، كما ورد ذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه بعد أن استشهد في معركة أحد حيث قال صلى الله عليه و آله: إنّ صاحبكم، يعني حنظلة لتُغسّله الملائكة، فسألوا أهله ما شأنه؟

فسئلت صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جُنب حين سمع الهاتفة أي الصيحة، وقد قتله شدّاد بن الأسود وهو ابن شعوب بعد أن رآه قد علا أبا سفيان، فضربه شداد فقتله (2)، فشتان شتان بين هذا العبد الصالح، وأبيه الراهب، الذي

تنصر في الجاهلية، وقرأ علم أهل الكتاب، ولبس المسوح، وكان له شرف في قبيلته الخزرج كبير، فلما قدم النبي صلى الله عليه و آله المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب، فسمّاه النبي صلى الله عليه و آله الفاسق، وظهرت نواياه الخبيثة هذه ضد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خصوصاً بعد أن صارت للإسلام كلمة عالية، وأظهر اللَّه المسلمين في معركة بدر، فشرِق هذا اللعين بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ثمّ خرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب، وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين ما كان، وامتحنهم اللَّه عزّ وجلّ، وكانت العاقبة للمتقين، وكان لعامر هذا دور قذر فقد حفر حفائر بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأصيب في ذلك اليوم، فجرح وجهه، وكسرت رباعيته

__________________________________________________


1- أنظر الرازي في تفسيره والطبري في مجمعه والقرطبي في جامعه في تفسير الآيات المذكورة: سورة التوبة.
2- أنظر السيرة النبوية لابن هشام 3: 79- 80.

ص: 47

اليمنى السفلى، وشج رأسه- صلوات اللَّه وسلامه عليه- ثمّ راح أبو عامر، وقد تقدّم في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار، يخاطبهم ويستميلهم إلى نصره وموافقته، فلما عرفوا كلامه، قالوا: لا أنعم اللَّه بك عيناً يا فاسق يا عدو اللَّه! ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: واللَّه لقد أصاب قومي بعدي شر!

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد دعاه إلى اللَّه قبل فراره، وقرأ عليه القرآن، فأبى أن يسلم وتمرّد، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يموت بعيداً طريداً، فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد، ورأى أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ارتفاع وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبيّ صلى الله عليه و آله فوعده ومنّاه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويغلبه، ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلًا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، وفرغوا منه قبل خروج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، فيحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنّهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية! فعصمه اللَّه من الصلاة فيه، فقال صلى الله عليه و آله:

«أنا على سفر، ولكن إذا رجعنا، إن شاء اللَّه»

. فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك، ولم يبقَ بينه وبينها إلّايوم أو بعض يوم، بذي أوان، وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، نزل جبريل بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قباء- الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى ذلك المسجد من هَدَمَه قبل مقدمه المدينة.

أما أبو عامر فكان مصيره أن مات قبل أن يبلغ ملك الروم الذي خرج إليه بعد أن انهزمت هوازن في معركة حنين حيث ظلّ أبو عامر يُقاتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى

ص: 48

أن حلّت الهزيمة بهم في هذه الواقعة، فمات وحيداً غريباً بقرين دون أن تتحقق أمانيه الخبيثة ضد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمانة السماء التي حملها بشيراً ونذيراً، ورحمةً للعالمين (1).

ثمّ إن اللَّه تعالى بعد أن وصف هذا المسجد الذي اتخذه المنافقون بهذه الصفات أو المفاسد قال سبحانه وتعالى:

«وليحلفن إن أردنا إلّاالحسنى»

وهو ردّ طبيعي متوقع منهم، أن يحلفوا بأنهم لم يريدوا من عملهم هذا إلّا الفعلة الحسنى، وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز، وهو ما تعللوا به حينما جاءوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليطلبوا منه الصلاة في مسجدهم بأنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة، والليلة الشاتية، وهو غطاء تستّر به المنافقون في خططهم، لكنّ الرد السماوي لم يتأخر فقد جاء بقوة

«واللَّه يشهد إنّهم لكاذبون»

فيما ادعوه، واللَّه يعلم حيث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه. وكفى لمن يشهد اللَّه سبحانه بكذبه خزياً في الدنيا والآخرة.

«لا تقم فيه أبداً»

وهو نهي لرسول اللَّه أن يقوم به للصلاة، وقد يعبّر عن الصلاة بالقيام، قد قامت الصلاة، ويقال: فلان يقوم الليل أي يصلّي، ومنه الحديث:

«من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه».

وقد روي عن الحسن أنّه قال: همّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يذهب إلى ذلك المسجد، فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً.

بعد أن طلبوا منه أن يصلي فيه ويدعو لهم بالبركة، إلّاأنّه صلى الله عليه و آله وبعد أن كشفت له السماء نواياهم وفضحت سرائرهم وما يحيكونه من وراء هذا البناء، وبعد نهي السماء أن يلبي لهم طلبهم، فيتخذوا قيامه في مسجدهم غطاء وإمضاء

__________________________________________________


1- أنظر ابن كثير في تفسيره للآية، وتأريخ المدينة لابن شبّة 1: 53- 54 ومعالم التنزيل للبغوي 4: 239، وغيرها.

ص: 49

شرعياً لعملهم.

قال صلى الله عليه و آله لجماعة عيّنهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وخربوه، ففعلوا ذلك، ولم يكتف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بتهديمه وتخريبه، بل أمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف والقمامة، ولم يدم عُمر هذا المسجد إلّاثلاثة أيام، وانتهى في اليوم الرابع، يقول ابن جريح: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين.

«لمسجد أسس على التقوى من أول يوم»

اللام في قوله تعالى:

«لمسجد»

هي لام القسم، وقيل لام الابتداء كما تقول:

لزَيد أحسن الناس فعلًا، وهي مقتضية تأكيداً، والتقوى أي الخصال التي تتقى بها العقوبة، أي واللَّه لمسجد أسس على التقوى، أي بني أصله وجذره ورفعت قواعده على تقوى اللَّه تعالى وطاعته منذ أول يوم.

وإنّما تمّ هذا التفريق بين المسجدين؛ مسجد أسس على الشر والكيد والنوايا السيئة، ومسجد أسس على تقوى اللَّه وطاعته، ليميزَ اللَّهُ الخبيث من الطيب. وقد اختلف في هذا المسجد (مسجد التقوى)، فذهب بعض المفسّرين إلى أنّه:

مسجد قُباء، يروى عن ابن عباس وعروة بن الزبير والضحاك والحسن، وتعلقوا بقوله:

«من أول يوم»

، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم، فإنّه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه و آله، قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم.

ولقوله تعالى: «فيه» وضمير الظرف تقتضي الرجال المتطهرين، فهو مسجد قباء.

وأنّ الآية نزلت في أهل قباء:

«فيه رجال يحبون أن يتطهّروا واللَّه يحب المطهرين»

فقد كانوا يستنجدون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية، وقال الشعبي: هم أهل قباء. أنزل اللَّه فيهم هذا، وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 50

لأهل قباء: إنّ اللَّه سبحانه قد أحسن عليكم الثناء في التطهر فما تصنعون؟ قالوا: إنّا نغسل أثر الغائط والبول بالماء، وهذا ما رواه أبو داود، فيما روى الدارقطني عن طلحة بن نافع أنّه قال: حدثني أبو أيوب وجابر بن عبداللَّه وأنس بن مالك الأنصاريون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذه الآية

«فيه رجال يحبون أن يتطهروا واللَّه يحب المطهرين»

فقال: يا معشر الأنصار إنّ اللَّه قد أثنى عليكم خيراً في الطهور، فما طهوركم هذا؟ قالوا: يا رسول اللَّه، نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: فهل مع ذلك من غيره؟

فقالوا: لا غير، إنّ أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء، قال:

هو ذاك فعليكموه.

وقيل- كما هو المروي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في مجمع البيان- يحبون أن يتطهروا بالماء عن الغائط والبول، إضافة إلى ذكره كما روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال لأهل قباء: ماذا تفعلون في طهركم فإنّ اللَّه قد أحسن عليكم الثناء؟ قالوا:

نغسل أثر الغائط، فقال: أنزل اللَّه فيكم

«واللَّه يحب المطهرين»

أي المتطهرين.

فيما ذهب فريق آخر منهم إلى أنّه مسجد النبي صلى الله عليه و آله مستندين إلى ما رواه أبوسعيد الخدري كما في الترمذي، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء؛ وقال آخر: هو مسجد النبي صلى الله عليه و آله، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هو مسجدي هذا.

فمن عدّ هذا الحديث صحيحاً الذي نصّ فيه النبي صلى الله عليه و آله على أنّه مسجده، قال:

فلا نظر معه، وقد روي أنه مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن زيد بن ثابت وابن عمرو الخدري، ورد عن الرسول صلى الله عليه و آله.

فيما ذهب فريق ثالث الى أنّ المسجد الذي أسس على التقوى هو كل من مسجد المدينة ومسجد قباء، فقد روى أبو كُريب قال: حدثنا أبو أسامة، قال:

حدثنا صالح بن حيان، قال: حدثنا عبداللَّه بن بريدة في قوله عزّ وجلّ:

«في بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويُذكر فيها اسمه»

ص: 51

قال: إنما هي أربعة مساجد لم يبنهنّ إلّانبيّ: الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قُباء اللذان أسسا على التقوى، بناهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وقال القاضي: لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر؛ لأنّ قوله

«لمسجد أسس على التقوى»

هو كقول القائل لرجل صالح أحق أن تجالسه، فلا يكون ذلك مقصوراً على أحد.

وقيل: هو كلّ مسجد بني للإسلام وأريد به وجه اللَّه عن أبي مسلم.

«أفمن أسس بنيانه على تقوى من اللَّه ورضوان خيرٌ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم واللَّه لا يهدي القوم الظالمين»

. ثم راحت السماء تميّز بين ذلك البنيان الذي أسس على الكيد وبين بنيان كان أساسه التقوى ورضا اللَّه سبحانه وتعالى، وراحت تجري مقارنةً بين المسجدين عبر تساؤل كبير وخطير يحمل تحذيراً وتنبيهاً، وبالتالي تهذيباً وتربية للنفوس في أن تميّز بين ما يعرض لها من أمور، فتتبع منها ما يتفق مع الخير وتترك كل شي ء يتناغم والشر، إنّها التربية القرآنية المتواصلة للمؤمنين وعلى رأسهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ويذكر صاحب تفسير في ظلال القرآن، وهو يقف عند هذه الآية ليحلق بها بتعبير فني رائع حيث يقول: فلنقف بتطلع لحظة إلى بناء التقوى الراسي الراسخ المطمئن... ثمّ لنتطلع بعد إلى الجانب الآخر! لنشهد الحركة السريعة العنيفة في بناء الضرار... إنّه قائم على شفا جرف هار... قائم على حافة جرف منهار... قائم على تربة مخلخلة مستعدة للانهيار... إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق!... إنّه ينهار! إنه ينزلق! إنه يهوي! إنّ الهوه تلتهمه! يا للهول! إنها نار جهنم

«واللَّه لا يهدي القوم الظالمين»

الكافرين المشركين.

الذين بنوا هذه البنية؛ ليكيدوا بها هذا الدين!

ثم يواصل كلامه: إنّه مشهد عجيب، حافل بالحركة المثيرة ترسمه وتحركه بضع كلمات!... ذلك ليطمئن دعاة الحق على مصير دعوتهم، في مواجهة دعوات

ص: 52

الكيد والكفر والنفاق وليطمئن البناة على أساس من التقوى كلما واجهوا البناة على الكيد والضرار! (1).

حقّاً إنّه لمشهد رائع هذا الذي يصوره كتاب اللَّه تعالى وهو يحكي هذين البناءين ودوافعهما وما آلت إليه أسس بناء الشر من نهاية تعيسة، فيما راح بناء الخير تعلو كلمته، ويرتفع رصيده عند اللَّه تعالى وعند المؤمنين، ففرق كبير بين من أسس بنيانه متقياً وبين من أسس بنيانه غير متق، فالأول مثابٌ على عمله فيما يكون الآخر معاقباً عليه رغم ما بذله من جهد ومال... فانهار به في نار جهنم لأنه معصية وفعل لما كرهه اللَّه تعالى من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين، هذا وأنّ من أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى اللَّه

ورضوانه خير- كما يقول الرازي- أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟

فلكونه

«شفا جرف هار»

كان مشرفاً على السقوط، ولكونه على طرق جهنم، كان إذا انهار فإنّما ينهار في قعر جهنم.

__________________________________________________


1- في ظلال القرآن لسيّد قطب في تفسير الآية.

ص: 53

ثم يقول الرازي: ولا نرى في العالم مثالًا أحسن مطابقةً لأمر المنافقين من هذا المثال!

وحاصل الكلام أنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى اللَّه ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم (1).

هذا ولا بد لنا من الإشارة الى أنّ العلماء اختلفوا في

«فانهار به في نار جهنم»

هل هذا حقيقة أو مجاز على قولين:

الأول:

أنّه حقيقة، فقد أرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من يهدمه، وفعلًا هدم وخرب ورؤي الدخان يخرج منه، كما في رواية سعيد بن جُبير، وقال بعضهم: كان الرجل يُدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة، فيما ذكر أهل التفسير أنّه كان يُحفر ذلك الموضوع الذي انهار فيخرج منه دخان، وروى عاصم بن أبي النجود عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود أنّه قال: جهنم في الأرض، ثمّ تلا

«فانهار به في نار جهنم»

أما جابر بن عبداللَّه فيقول: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

حاصل الكلام أنّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى اللَّه ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيساً واجب الهدم

الثاني:

أنّه مجاز، ومعناه: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه وهذا كقوله تعالى:

«فأمُّه هاوية»

، يقول القرطبي: والظاهر الأول، إذ لا إحالة في ذلك واللَّه أعلم (2).

__________________________________________________


1- التفسير الكبير الرازي، تفسير الآية.
2- أنظر أحكام القرآن للقرطبي في تفسير الآية.

ص: 54

«لا يزال بنيانُهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلّاأن تقطّع قلوبهم واللَّه عليم حكيم»

. تحمل هذه الآية مشهداً آخر راح التعبير القرآني يرسمه في نفوس بُناته الأشرار، وبناة كل مساجد الضرار.

لقد انهار الجرف المنهار... انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه، انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بناته. بقي فيها «ريبة» وشكاً وقلقاً وحيرة. وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر. إلّاأن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور!

وإن صورة البناء المنهار- كما يقول صاحب تفسير في ظلال القرآن- هي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار... تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية وهما تتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار.

ثم يقول سيد قطب: وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء «1».

فيما ذكر القرطبي في أحكامه في قوله تعالى:

«لا يزال بنيانهم الذي بنوا»

: يعنى مسجد الضرار.

«ريبة»

أي شكاً في قلوبهم ونفاقاً؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك.

وقال النابغة:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء اللَّه للمرء مَذهَبُ

وقال الكلبي: حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه.

وقال السُّدّي وحبيب والمبرّد: «ريبة» أي حزازة وغيظاً أو أن تتصدع قلوبهم كقوله:

«لقطعنا منه الوتين»

لأنّ الحياة تنقطع بانقطاع الوتين، قاله الضحاك وقتادة ومجاهد، وقال سفيان: إلّاأن يتوبوا، وعكرمة: إلّاأن تقطع قلوبهم في قبورهم، وكان أصحاب عبداللَّه بن مسعود يقرؤونها: ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم، وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم «إلى أن تقطع» كل الغاية، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا (1)، فالبناء الذي بنوه كان وظلّ

شكاً في قلوب مؤسسيه ومخططيه فيما كان من إظهار إسلامهم وثباتاً على النفاق، وبقي حزازةً كما يقول بعض المفسّرين، وحسرة كما يقول بعض آخر، في قلوب أصحابه يترددون فيها.

هذا وأنّ الرازي يذهب إلى أنّ بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً لريبة.

وفي كونه سبباً للريبة ذكر الرازي وجوهاً:

الأول:

إنّ المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه و آله بتخريبه، ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته.

الثاني:

إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنّه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ماهم فيه، أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟

الثالث:

إنّهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه، بقوا شاكين مرتابين في أنّه لأي سبب أمر بتخريبه؟

الرابع:

بقوا شاكين مرتابين في أنّ اللَّه تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني

__________________________________________________


1- أنظر أحكام القرآن للقرطبي في تفسير الآية.

ص: 55

ص: 56

سعيهم في بناء ذلك المسجد.

ثم يقول الرازي بعد ذكر هذه الوجوه الأربعة: والصحيح هو الوجه الأول.

أما بخصوص المقطع الثاني من الآية المذكورة وهو

«إلّاأن تقطّع قلوبهم»

فيقول الرازي- بعد أن يذكر الاختلاف في قراءته- أن تقطع بفتح التاء والطاء مشدّدة بمعنى تنقطع، فحذفت إحدى التاءين، والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على مالم يسم فاعله، وعن ابن كثير (تقطع) بفتح الطاء وتسكين القاف (قلوبهم) بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع، وقوله (تقطع قلوبهم) أي تجعل قلوبهم قطعاً، وتفرق أجزاءها إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء، فحينئذ تزول تلك الريبة، والمقصود أنّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق، وقيل: معناه إلّاأن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، وقيل:

حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة.

وقرأ الحسن (إلى أن)، وفي قراءة عبداللَّه (ولو قطعت قلوبهم)، وعن طلحة (ولو قطعت قلوبهم) على خطاب الرسول صلى الله عليه و آله أو كل خطاب.

إذن، فهم لا ينزعون عن الخطيئة ولا يتوبون حتى يموتوا على نفاقهم وكفرهم، فإذا ماتوا- كما يقول الشيخ الطبرسي- عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان وأخذوا من الكفر، ويحتمل أنّ معناه إلّاأن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم، كما يذهب إليه الزجاج.

والريبة المذكورة في الآية- إذن- تحتمل الأقوال الثلاثة في معناها:

* أنّ هذا البنيان الذي بنوه لايزال شكاً في قلوبهم.

* أن هذا البنيان الذي بنوه سيبقى حزازةً في قلوبهم.

* وقيل: إنه سيبقى حسرة في قلوبهم يترددون فيها.

وأما معنى (إلّا) ها هنا فهو (حتى)، لأنّ إلّااستثناء من الزمان المستقبل، والاستثناء منه منته إليه فاجتمعت إلّامع حتى في هذا الموضع على هذا المعنى.

ص: 57

المقطع الأخير

«واللَّه عليم حكيم»

عليم بنياتهم في تشييد هذا البناء، والدعوة إليه، وعليم بمخططاتهم الخبيثة، التي كان أهمها ما ذكرته وصرحت به الآيات السابقة ذاكرةً سيئات عملهم هذا:

«ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللَّه ورسوله من قبل»

. وحكيم فيما حكم به عليهم، وعلى بنيانهم هذا، وفي منعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أن يلبي دعوتهم للصلاة فيه، وكشف حقيقة أمرهم له، ليكون على بيّنةٍ من مشروعهم التآمري هذا، فكان أمره بنقضه ليمنع الفساد أن يقع في الساحة المسلمة ويمنع كل ما يحمله من أذى وضرر وتفريق وتشتيت للجماعة المؤمنة، وبالتالي يبقى المشروع الإيماني الذي بني على أسس من التقوى محكماً ثابتاً بلا منازع، ويترك ما أُسس على فساد الطوية وخبث النية مهدّماً وعبرةً لكلّ من أراد بذر الفتنة.

وتبقى وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف هذا المسجد وأهله، وفي تصنيف المجتمع الى تلك المستويات التي أشارت إليها الآيات الأخرى التي سبقت آية مسجد الضرار (1).

وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كلّ جوانبه- كما يقول صاحب الظلال والذي يواصل حديثه قائلًا-:

لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفي توجيهه، وفي توعيته، وفي إعداده لمهمته الضخمة.. ولن يفهم هذا القرآن إلّاوهو يدرس في مجاله الحركي الهائل ولن يفهمه إلّاأناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال.

ونختم حديثنا عن هذه الآيات بكلام ما أجمله وأعظمه عن آثار هذا المسجد وماهو على شاكلته في واقع المسلم، وأنّ ظاهرة المسجدية الضارة التي يمثلها

__________________________________________________


1- التوبة: 97- 106.

ص: 58

مسجد الضرار في ذلك الوقت قد تتكرر بل تكررت في عصور الإسلام المختلفة وبأشكال ووسائل متعددة.

فمسجد الضرار- كما يذكر سيد قطب في تفسيره- يُتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة، التي يتخذها أعداء هذا الدين، تتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه

فمسجد الضرار- كما يذكر سيد قطب في تفسيره- يُتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة، التي يتخذها أعداء هذا الدين، تتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام، وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه، وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترّس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدّر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدّرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أنّ الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!... وتتخذ في صور شتى كثيرة...

ويواصل حديثه فيقول: ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك البيان القوي الصريح:

«والذين اتخذوا مسجداً ضراراً... واللَّه عليم حكيم» (1).

__________________________________________________


1- في ظلال القرآن، الآيات.

ص: 59

مكة المكرمة عاصمة الثقافة الإسلامية

اشارة

السيّد علي قاضي عسكر

تمتاز مكّة عن سائر المدن والبلدان بخصائص فذّة وميزات فريدة؛ وذلك لما حباها اللَّه تعالى به من موقع متميّز ودور فعّال في تاريخ البشريّة وتاريخ المسلمين على وجه الخصوص. من هنا أودّ الإشارة إلى بعض تلك الخصائص التي ذكرها اللَّه سبحانه في كتابه الكريم، وهي كما يلي:

1- مكة أُمّ القرى:

فقد ورد عن المؤرخين أنّه عندما كان الماء مشتملًا الكرة الأرضيّة برمّتها، ظهرت فيها بقعة من اليابسة، ثمّ توسعت شيئاً فشيئاً، وقد سمّي يوم ظهور اليابسة

(دَحْو الأرض)

وهو يعادل في السنة القمرية الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة.

وقد أشارت المصادر الدينيّة إلى هذه المسألة، واعتبرت البقعة الظاهرة من اليابسة هي محل الكعبة المشرفة، وأنّ الأرض توسّعت من ذلك المكان (1). وجاء

في بعض الأدعية ما يدلّ على ذلك ومنه:

«أللَّهمّ داحي الكعبة» (2).

كما يؤيد ذلك نظريات علم الأرض الحديثة

(الجيولوجيا)

التي تقول: إن

__________________________________________________


1- من لايحضره الفقيه: 2: 124، تاريخ مكة المشرفة، لمحمد بن محمد بن أحمد بن الضياء المكي: 34.
2- مفاتيح الجنان، دعاء الصباح.

ص: 60

قارّات العالم انفصلت من نقطة تقع في حدود أفريقيا وشبه الجزيرة العربية (1).

وممّا يجدر ذكره أنّ مكان الكعبة الحالي يقع في مقابل (الضراح) أو البيت المعمور الذي عند العرش، وهذا الأمر- وما سبقه- يدلّان على أنّ للكعبة محوريّةً في عالم الخلق والوجود وفي الأرض (2). وقد جاء في الرواية

«... وَوُضِعَ الْبَيْتُ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي مِنْ تَحْتِهِ دُحِيَتِ الْأَرْضُ، وَلِيَكُونَ الْفَرْضُ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءً...» (3).

2-مكة تحظى بدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام:

أسهمت مكة خلال تاريخها العتيق في عطاء حضاري كبير، وذلك في أعقاب دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد أصبحت مدينةً أو بلداً يؤسّس لحضارة دينيّة في بقعةٍ جبليّة ووادٍ غير ذي زرع، وهو الذي أراده إبراهيم عليه السلام في دعائه حيث قال:

«... ربّ اجعل هذا بلداً...» (4).

3- البلد الأمين:

تمتاز هذه المدينة المقدّسة وحدود الحرم في أطرافها بالأمن،

__________________________________________________


1- الحجّ من وجهة نظر الحقوق الدوليّة: 201. باللغة الفارسية.
2- تاريخ مكّة المشرفة: 35.
3- من لايحضره الفقيه 2: 191.
4- البقرة: 126.

ص: 61

فليس لأحد الحقّ أن يدنّس المكان بالظلم والجور، وكلّ من التجأ إليه فسيكون في كامل الأمن والأمان، ويشمل ذلك الحيوان والنبات، فلا يجوز لأحد أن يتعرّض لها بالإساءة والأذى، فلا يقتل حيواناً أو يؤذيه، ولا يقطع نباتاً فيسلب منه الحياة، قال تعالى:

«... رَبِّ اجْعَلْ هَذا بَلَداً آمِناً...» (1)

، وقال أيضاً في آية

اخرى:

«وَهَذا البَلَدِ الأمين» (2)

. ويؤكّد في آية ثالثة أنّ من انتهك حرمة الحرم؛ سيواجه بانتقام إلهي أليم، قال تعالى:

«... وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بإلحاد بِظُلْم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ ألِيم» (3)

. أسهمت مكة خلال تاريخها العتيق في عطاء حضاري كبير، وذلك في أعقاب دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام، فقد أصبحت مدينةً أو بلداً يؤسّس لحضارة دينيّة في بقعةٍ جبليّة ووادٍ غير ذي زرع

4- سلامة الاقتصاد والموارد:

ومن الخصائص الاخرى التي تتميّز بها هذه المدينة المقدّسة، أنّ سكانها يتمتّعون باقتصاد سالم وموارد طيّبة، أعطاهم اللَّه تعالى هذه النعمة المباركة، قال تعالى:

«... وارزقْ أهلَهُ مِنَ الثَمَرات...» (4)، وقال تعالى في آية اخرى:

«... يجبى إليه ثَمراتُ كُلّ شي ء رِزقَاً مِن لَدُنّا ...» (5).

5- اشتياق القلوب إليها:

ومن خصائصها أنّ قلوب ملايين المسلمين تهفو إليها، وفي كلّ عام يحظى بعضهم بالتوفيق لحضور المشاعر المقدّسة فيها، قال تعالى:

«... فاجْعَلْ أفئدةً مِنَ النْاسِ تَهْوِي إليْهِم...» (6).

__________________________________________________


1- البقرة: 126.
2- التين: 3.
3- الحج: 25.
4- البقرة: 126.
5- القصص: 57.
6- إبراهيم: 37.

ص: 62

6- تساوي الناس فيها:

فالذين يَرِدون مكة المشرفة لأداء المشاعر من غير أهلها، لا فرق بينهم وبين المقيمين فيها، قال تعالى:

«سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ...» (1)

، وقد جاء في الرواية:

«فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله» (2).

7- أولياؤها من المتّقين:

وجاء في الكتاب الكريم أنّ المتولّين لهذه المدينة يجب أن يكونوا من المتّقين الصالحين، قال تعالى:

«... وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلّاالمتّقُونْ» (3)

، وسرّ هذه المسألة هو أن مكّة والمسجد الحرام والكعبة

ليست مجرّد مدينة أو أثرٍ تاريخي يتوجب على المتصدّين له أن يبذلوا الجهد لحفظه وصيانته وحسب، بل هي قاعدة الهداية والتربية، ومركز إشعاع للعلم والثقافة، ومنه ينتقلان عن طريق الحجيج إلى كافّة أنحاء العالم.

8- فيها أوّل بيت وضع للناس:

فمن خصائص هذه المدينة المقدّسة وقوع الكعبة فيها، وهي أوّل بيت وضع للناس، ونتيجة ذلك هو أنّ كلّ مسلم له تعلّق خاصّ ببيته الذي هو بيت اللَّه سبحانه، فلا يشعر بالغربة فيه، قال تعالى:

«إِنَّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنَاسِ لَلذِي بِبكّة مبارَكاً...» (4).

9- هدىً للعالمين:

فالكعبة منار هدىً ومركز إشعاع للهداية الدينيّة إلى أرجاء العالم

«إِنَّ أَوّلَ بيتٍ... وَهُدىً لِلعالَمِين»

. والرّسول صلى الله عليه و آله رسالته عالمية هي:

«تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لَيَكُونَ لِلعالَمِين نَذِيراً» (5) «وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلّاكافَةً لِلنَاسِ بَشِيْرَاً وَنَذِيراً» (6).

__________________________________________________


1- الحج: 25.
2- مجمع البيان في تفسير القرآن 7: 127.
3- الأنفال: 34.
4- آل عمران: 96.
5- الفرقان: 1.
6- سبأ: 28

ص: 63

والقرآن الكريم أنزله اللَّه تعالى لهداية عموم البشر

«شَهْرُ رَمَضانَ الَذِي أُنْزِلَ فِيْهِ القُرْآنُ هُدَىً لِلنَاسِ...» (1)، «... إنْ هُوَ إلّاذِكْرى لِلعَالَمِين» (2). وبناءاً على

ما تقدّم فإنّ الإسلام دين عالمي، والرسول صلى الله عليه و آله إنّما بعث لهداية الناس كافّة، ومثل هذا الدين يحتاج إلى مركز ثابت وغير قابل للتحوّل والتغيير، كي يستطيع محِبّو هذا الدين ومؤيّدوه أن يجتمعوا في هذا المركز، ويتحدّثوا في المسائل العلميّة والسياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة، ويتبادلوا الخبرات ووجهات النظر المختلفة التي تسهم في حلّ مشكلاتهم والصعوبات التي تعتري حياتهم، قال تعالى:

«وَأذّنْ فِي النّاسِ بِالحَجِ يأتُوكَ رِجَالًا وَعَلى كلّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلّ فجّ عَمِيق* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُروا اسْمَ اللَّهِ فِي أيَّامٍ مَعْلُومَات» (3)

. من هنا، جعل اللَّه سبحانه رابطة تشدّ المسلمين إلى هذا المركز، فهم يتوجّهون إليه كلّ يوم خمس مرّات عند إقامة الصلاة، ويجعلون وجوه موتاهم إليه عند الدفن.

10- الكعبة طاهرة مطهرة:

فالكعبة والمسجد الحرام مطهّران بأمرِ اللَّه تعالى من كلّ دنسٍ ورجس، ومن يدخل البيت الحرام فإنّه يطهّر من الذنوب، ويردّ إلى أهله وهو

«مغفورٌ له كلّ ذنب» (4)

كما ورد في الحديث.

والأمر في هذه الطهارة هو من عند اللَّه تعالى:

«وَعَهِدْنا إلى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل أنْ طَهّرا بَيْتِي لِلطائِفِين وَالعَاكِفِين وَالرّكَّعِ السُجُود» (5)

. ولو أردنا أن نستلهم من الكتاب الكريم لندرك دور المسجد في تطهير المؤمن، فإنّنا سنجد أنّه يقول حول بناء مسجد قبا:

«لَمَسْجِد أسّس على التّقْوى مِنْ أوَّل يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيه»

، ثم يقول:

«... فِيهِ رجالٌ يُحِبُّونَ أنْ

__________________________________________________


1- البقرة: 186.
2- الأنعام: 90.
3- الحج: 27.
4- تهذيب الأحكام 6: 121.
5- البقرة: 125.

ص: 64

يتطهّرُوا...»

، وفي النتيجة

«واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهّرِين» (1)

، ومنه نستنتج أنّ هذا

البيت بُني حتى يدخله المسلمون ويطهروا أنفسهم من أدران الشرك والذنوب لينالوا محبّة خالقهم.

11- الكعبة قيام للنّاس:

فقد جعل القرآن الكريم بقاء المجتمع الإسلامي رهناً ببقاء الكعبة، قال تعالى:

«جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامَاً لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرام...» (2)

. هذه الآية تبيّن أنّ الناس إذا اهتمّوا بالحجّ والكعبة

واستفادوا من هذا التجمّع الديني الكبير على طريق تحقّق أهداف الرّسول الأعظم صلى الله عليه و آله، فإنّ حياتهم الماديّة والاجتماعيّة والسياسيّة ستصان من التفرّق والاختلاف، وتحفظ من التشتّت والانفصال، وقد عبّر الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن هذه الحقيقة القرآنيّة بقوله:

«لايزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» (3)

. ويقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته لأولاده وأصحابه:

«اللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تخلّوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تُناظروا...» (4)

، وجاء أيضاً في حديث

آخر:

«أما إنّ الناس لو تركوا حجّ هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا» (5)

. نستخلص مما تقدّم أنّ عدم الاعتناء بالكعبة وإهمال الحجّ نقض للعهد مع اللَّه سبحانه وإهمال لأحد أركان ديننا المهمّة، ولا ريب أنّ لإهماله دوراً تخريبيّاً كبيراً في إضعاف قواعد الإسلام وتبديد قواه، لذلك اتّخذت العقوبات القاسية في هذا المجال.

كما أنّه على الدول الإسلاميّة في حال عدم الاعتناء بالحج وترك زيارة بيت اللَّه الحرام أن يرسلوا المسلمين إلى الحج ويُنفقوا عليهم من بيت المال، كي

__________________________________________________


1- التوبة: 108.
2- المائدة: 97.
3- الكافي 4: 271، بحار الأنوار 99: 57.
4- نهج البلاغة، بتحقيق صبحي الصالح: 422، بحار الأنوار 99: 16.
5- بحار الأنوار 99: 16، وسائل الشيعة 11: 22.

ص: 65

لا يبقى بيت اللَّه مهجوراً (1).

12- الكعبة بيت عتيق:

فهي بيت حُرّ، وهي محور الحريّة، قال تعالى:

«... وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيْق» (2)

. ويقول الإمام الباقر عليه السلام

حول سبب تسمية الكعبة بالبيت العتيق:

«هو بيت حُرّ عتيق من النّاس لم يملكه أحد» (3)

. وبما أنّ الكعبة محور التوحيد. والتوحيد ينطوي على التخلّص من كلّ أنواع العبوديّة إلّاللَّه تعالى، لذا يمكن القول: إنّ الكعبة محور الحريّة، يقول الإمام علي عليه السلام:

«ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك اللَّه حرّاً» (4).

13- الكعبة مثابة للناس:

إذ هي مرجع ومأمن للناس كافّة، قال تعالى:

«وَإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأمنَاً...» (5)

، فالذي يتوجه إلى البيت ويزوره

فكأنّما عاد إلى وطنه الأصلي وبالنتيجة عاد إلى أصله.

ولو أمعنّا النظر في الخصوصيات التي تتمتّع بها مكّة المكرّمة، ندرك بوضوح أنّه ليس ثمة مدينة في الدنيا تمتلك مثل هذه الخصوصيات، أو أن تكون نِدّاً لها في هذا الإطار، وعليه فإنّ مكّة أليق مكان لتبيين الدين ونشر الثقافة الإسلاميّة.

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخاطباً لمكة:

«إنّي لأعلم أنّك حرم اللَّه وأمنه وأحبّ البلدان إلى اللَّه تعالى» (6)

. وعنه صلى الله عليه و آله وكان واقفاً بالحزورة (7) في سوق مكّة:

«واللَّه إنّك لخير أرض اللَّه،

__________________________________________________


1- علل الشرائع: 396.
2- الحج: 29.
3- الكافي 4: 189، علل الشرائع: 399.
4- نهج البلاغة، بتحقيق صبحي الصالح: 401.
5- البقرة: 125.
6- أخبار مكّة للفاكهي 261، 1471، كنز العمّال 14: 97/ 38039.
7- الحزورة: موضع بمكة عند باب الحنّاطين. النهاية 1: 380.

ص: 66

وأحبّ الأرض إلى اللَّه عزّ وجلّ، ولولا أنّي اخرجتُ منك ما خرجت» (1)

. ويقول الإمام الصادق عليه السلام:

«أحبّ الأرض إلى اللَّه تعالى مكّة، وما تربة أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من تربتها، ولا حجر أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من حجرها، ولا شجر أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من شجرها، ولا جبال أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من جبالها، ولا ماء أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ من مائها...» (2).

مكّة موضع لإقامة الحج ومحور لنشر الثقافة الدينيّة:

تمتلك مكّة المقدّسة خصائص الشرف ومقومات العظمة من جهة، كما حظيت من جهة اخرى بأهمية أكثر لإقامة مراسم الحج فيها، فالحج هو الذي جعل من هذه المدينة محوراً وعمّق أثرها الثقافي والأخلاقي في العالم الإسلامي، وأهّلها لأداء هذا الدور على أحسن وجه.

لقد أوجب اللَّه تعالى الحجّ على المستطيع من الناس في قوله:

«... وللَّه عَلَى النّاس حجّ البَيْتِ مَن استَطاعَ إليهِ سبيِلًا...» (3)

، لكي يجتمع المسلمون في موسم

الحجّ كلّ عام وفي أيام خاصّة من كلّ أرجاء العالم عند هذه البقعة المقدّسة، فيؤدّوا مناسك فريضة الحجّ، وتلك الفريضة واجبة على كلّ مسلم مستطيع مرّة واحدة في حياته، ولهذا قيل لها: (عبادة العمر).

تمتلك مكّة المقدّسة خصائص الشرف ومقومات

__________________________________________________


1- مسند أحمد 6: 449/ 18740.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 243.
3- آل عمران: 97.

ص: 67

العظمة من جهة، كما حظيت من جهة اخرى بأهمية أكثر لإقامة مراسم الحج فيها، فالحج هو الذي جعل من هذه المدينة محوراً وعمّق أثرها الثقافي والأخلاقي في العالم الإسلامي، وأهّلها لأداء هذا الدور على أحسن وجه

إنّ الروايات والأخبار الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام والمتعلّقة بثمرات وبركات الحجّ، تبيّن أنّ الحجّ قاعدة أساسيّة للتحوّل الروحي والأخلاقي للمسلمين.

ففي كلّ عام يجب على من تتوفّر فيهم شروط الاستطاعة أن يؤدّوا المناسك المقدّسة، ويطهّروا أنفسهم من الذنوب ويبتعدوا عن الخطايا التي اقترفوها ويختاروا النهج الصحيح في الحياة، ثم يعودوا فينقلوا هذا التحوّل إلى عوائلهم وأصدقائهم ومعارفهم في أماكن مختلفة من العالم، وبذلك يسهم الحجّ في بسط التهذيب الخلقي والروحي للمسلمين.

وممّا يجدر ذكره في هذا المقام، هو أنّه لا ترصد أيّة ميزانيّة لإنجاز هذا العمل، ولا ينفق شي ء من بيوت أموال المسلمين، لأنّ كلّ حاجّ إنّما يتوجب عليه الحجّ عندما يكتسب الاستطاعة أو المقدرة المالية، وبالنتيجة يتحمّل جميع النفقات المترتبة عليه.

وفيما يلي نذكر أنموذجاً مناسباً لكي يدرك القرّاء الأعزّاء هذه الحقيقة بشكل جليّ: أرسلت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة في سنة 1424 ه نحو ستمائة ألف حاج و معتمر لأداء مراسم الحجّ والعمرة، وأمضوا في الحرمين الشريفين نحو خمسة عشر يوماً خلال العمرة، ونحو سبعة وعشرين يوماً خلال موسم الحج، ويحضر الحجيج في إيران جلسات تعليميّة خاصّة قبل تشرّفهم لأداء مراسم الحجّ بنحو ثلاثة أشهر، وقبل العمرة بنحو شهرين، وتطرح في تلك الجلسات عدّة مسائل مثل؛

1-

الأحكام الفقهيّة العامّة

2-

مناسك الحجّ

3-

أسرار و معارف الحج

4-

تاريخ الإسلام 5- الأماكن

ص: 68

والآثار الإسلامية في مكّة والمدينة

6-

آداب سفر الحجّ

7-

آداب المعاشرة والتأكيد على الأخلاق الإسلاميّة

8-

مراعاة الصحّة في السفر

9-

التعريف بقوانين الدولة المضيفة وضوابطها.

10-

توصيات وإرشادات وغيرها.

أرسلت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة في سنة 1424 ه نحو ستمائة ألف حاج و معتمر لأداء مراسم الحجّ والعمرة، وأمضوا في الحرمين الشريفين نحو خمسة عشر يوماً خلال العمرة، ونحو سبعة وعشرين يوماً خلال موسم الحج

وحينما يتشرّفون بزيارة الحرمين الشريفين فإنّهم يقعون تحت تأثير قوّة الجذب المعنوي والروحي التي تثيرها فيهم مشاهد مكّة والمدينة سيما في أيّام التشريق وعرفات والمشعر ومنى والطواف والسعي وغيرها من المشاعر المقدّسة. فلو فرضنا أنّ معدّل عدد عائلة كلّ حاج هو أربعة، فإنّ كلّ حاج حينما يعود من المشاهد المقدّسة بعد أن يتأثّر بها وتحدث في وجوده تحوّلًا روحيّاً وأخلاقيّاً، يستطيع أن يؤثر أيضاً على أعضاء عائلته على الأقل، فينقل إليهم تأثّرات نفسه الروحية والأخلاقيّة بتلك المشاهد والديار المقدّسة، وبهذا ينتفع من هذا الإشعاع الروحي والثقافي نحو مليونين وأربعمائة ألف إنسان في كلّ سنة وفقاً لمثالنا الذي ذكرناه، وهو أمر يستحقّ الاهتمام سيّما في وقتنا الحاضر الذي يسعى فيه أعداء الإسلام إلى سلب الهويّة الإسلاميّة من أبناء الإسلام، ويستخدمون شتى الوسائل المتقدّمة لفرض ثقافاتهم وقوانينهم ونماذجهم غير الإسلاميّة.

ولأجل توضيح الموضوع لابدّ من الإشارة إلى بعض الثمرات والنتائج المترتّبة على الحجّ والواردة في الأحاديث والروايات المنقولة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام.

ص: 69

بركات الحج

إذا أنجز الحاج حجّه إلى بيت اللَّه بشكل صحيح تُراعى فيه الآداب الخاصّة بالحجّ والمشاعر، وبعبارة اخرى إذا أدّى مشاعر الحجّ بشرطها وشروطها، فسوف تترتّب عدّة آثار وثمرات مهمّة يستفيد منها الحاج في دنياه وآخرته، وفيما يلي نذكر بعضها:

1- غفران الذنوب:

إنّ الحاج حينما يؤدّي المناسك ويعيشها يشطب على ماضيّه غير الصحيح بخطّ البطلان، ويمهد الطريق لحياة صحيحة يراعى فيها الدين ومبادؤه الحقّة.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«أيُّ رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ مَنزِلِهِ حاجّاً أو مُعْتَمِراً، فَكُلَّما رَفَعَ قَدَماً وَوَضَعَ قَدَماً تناثَرَتِ الذُّنوبُ مِنْ بَدَنِهِ كَما يَتَناثَرُ الوَرَقُ مِنَ الشَّجَرِ، فَإذا وَرَدَ المَدينَةَ وَصافَحَني بالسَّلامِ صافَحَتْهُ المَلائِكَةُ بالسَّلامِ، فإذا وَرَدَ ذا الحُلَيْفَةِ، واغْتَسَلَ طَهَّرَهُ مِنَ الذُّنوبِ، وإذا لَبِسَ ثَوبَينِ جَدِيدَينِ جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ» (1)

. وقال الإمام الصادق عليه السلام:

«من حجّ يريد اللَّه عزّ وجلّ و لا يريد به رياءً ولا سمعةً غفر اللَّه له البتّة» (2)

. وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«من حجّ البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أُمّه» (3)

. ويقول أيضاً في حديث آخر:

«معاشِرَ النّاسِ، ما وَقَفَ بِالمَوْقِفِ مُؤمِنٌ إلّا غَفَرَ لَهُ ما سَلَفَ مِنْ ذَنْبِهِ إلى وَقْتِهِ ذلِكَ فإذا انقَضَتْ حَجَّتُهُ استُؤنِفَ عَمَلُهُ» (4)

. وممّا تقدّم نستنتج أنّ أداء الحجّ بشكله الصحيح الذي يقبله اللَّه تعالى، يكون ثوابه غفران الذنوب والدخول في حياة جديدة ومنهج جديد.

__________________________________________________


1- الحجّ في الكتاب والسنة: 148/ 325.
2- وسائل الشيعة 11: 109.
3- الحجّ في الكتاب والسنّة: 163/ 392.
4- سنن الدارقطني 2: 284.

ص: 70

2- دخول الجنّة:

جعل تعالى ثواب الحجّ المبرور والمقبول دخولَ الجنّة، ولعلّ السبب في ذلك هو أنّ صاحب البيت حينما يحلّ عليه أحدٌ ضيفاً، يسعى إلى أن يُقريه بأحسن ما لديه من الغذاء وأن يوفّر له أحسن الامكانات المتاحة لديه، والحاج هو ضيف اللَّه القاصد بيته، وهو تعالى العفوّ الكريم الذي لا يخيب من دعاه ولا يردّ من رجاه، ونحن نخاطبه تعالى في الدعاء فنقول:

«يا أكرم الأكرمين»

. والجنّة التي وعد اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين والمحسنين، هي خير ما يحبو به ضيوف بيته، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّاالجنّة» (1).

3- النورانيّة:

لا ريب أنّ كلّ إنسان يولد على الفطرة الخالصة، وحينما يكون طفلًا فإنّ قلبه يحفل بالنورانيّة البعيدة عن الكدورة، لكن بعد مرحلة البلوغ والاختلاط مع أفراد المجتمع قد يتلوّن بشكل تدريجي بأدران الذنوب ودنس المعاصي، وأحياناً يتسافل إلى حدّ القسوة، فتغطّي الكدورة قلبه، ويفقد الأمل في إصلاحه ونجاته.

والحاج هو ضيف اللَّه القاصد بيته، وهو تعالى العفوّ الكريم الذي لا يخيب من دعاه ولا يردّ من رجاه، ونحن نخاطبه تعالى في الدعاء فنقول: «يا أكرم الأكرمين»

لكن الأفراد الذين لم يبلغوا هذه المرحلة الخطيرة، وتوفّقوا لأداء فريضة الحجّ، يستطيعون أنّ يطهّروا نفوسهم ويغسلوا أرواحهم ببحر الحجّ الصافي الزلال، ويعودوا ثانية إلى الحياة وقد استعادوا فطرتهم الأوليّة واكتسبوا نورانيّة قلوبهم، تلك النورانيّة هي أجرهم من اللَّه تعالى، ويمكنهم المحافظة عليها بالعمل وفق مبادى ء الاسلام ومنهجه القويم، ومن الواضح أن اقتراف الذنوب يقلّل من

__________________________________________________


1- مستدرك وسائل الشيعة 2: 8.

ص: 71

تلك النورانيّة، والاستمرار فيها يزيلها إلى الأبد، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

«الحاج لايزال عليه نور الحجّ ما لم يلمّ بذنب» (1).

4- الحصول على خير الدارين:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«من أراد الدنيا والآخرة فليؤم هذا البيت، فما أتاه عبد يسأل اللَّه دنيا إلّاأعطاه اللَّه منها، ولا يسأله آخرة إلّاادّخر له منها» (2)

. وفي حديث آخر قال صلى الله عليه و آله لعثمان بن أبي العاص:

«واعلم أنّ العمرة هي الحجّ الأصغر، وأن عمرة خير من الدنيا وما فيها، وحجّة خير من عمرة» (3).

5- طمأنينة القلب:

من فلسفة تشريع فريضة الحجّ إقامة ذكر اللَّه تعالى، فقد جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث:

«إنّما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر اللَّه» (4)

. وجاء في القرآن الكريم أنّ ذكر اللَّه تعالى باعث على طمأنينة القلب

«ألا بِذِكْرِ اللَّه تَطْمَئِنُّ القُلوُب» (5)

، ومع النظر إلى هذه المقدّمة وإلى ما قاله الإمام

الباقر عليه السلام:

«الحجّ تسكين القلوب» (6)

يتبيّن أن إحدى ثمرات الحجّ طمأنينة القلب،

التي تعدّ من أهمّ ما يحتاجه أبناء البشريّة في هذا اليوم.

6- مجالسة النبيين والصالحين:

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«لما حجّ موسى عليه السلام نزل عليه جبرئيل فقال له موسى: يا جبرئيل، ما لمن حجّ هذا البيت بنيّة صادقة ونفقة طيبة؟

قال: فرجع إلى اللَّه تعالى، فأوحى اللَّه إليه: قل له: أجعله في الرفيق الأعلى

__________________________________________________


1- الكافي 4: 255.
2- مسند الإمام زيد: 197.
3- المعجم الكبير للطبراني 9: 44.
4- الحجّ في الكتاب والسنّة: 133/ 280.
5- الرعد: 28.
6- بحار الأنوار 75: 183.

ص: 72

مع النَّبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أُولئك رفيقاً» (1).

7- الأمن من العذاب:

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:

«من دخل هذا البيت عارفاً بجميع ما أوجبه اللَّه عليه، كان آمناً في الآخرة من العذاب الدائم» (2)

. وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى:

«ومَنْ دَخَلَهُ كَان آمِنَاً»

قال:

«من دخل الحرم من الناس مستجيراً به فهو آمن من سخط اللَّه...» (3)

. ويقول الإمام الصادق عليه السلام:

«... وعليكم بحجّ هذا البيت فأدمنوه، فإنّ في إدمانكم الحجّ دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة» (4).

8- علوّ الدرجات في الجنّة:

يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«الحاج في ضمان اللَّه مقبلًا ومدبراً، فإن أصابه في سفره تعب أو نصب غفر اللَّه له بذلك سيئاته، وكان له بكلّ قدم يرفعه ألف ألف درجة في الجنّة، وبكلّ قطرة تصيبه من مطر أجر شهيد» (5).

9- استجابة الدعاء:

ومن ثمرات الحجّ استجابة الدعاء، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ثَلاثُ دَعَواتٍ مُسْتَجابَةٌ: دُعاءُ الحاجِّ في تَخَلُّفِ أهلِهِ، ودُعاءُ المَريضِ فلا تؤذوهُ ولا تُضجِروهُ، ودُعاءُ المَظْلومِ» (6)

. وقال في حديث آخر:

«الحُجّاجُ والعُمّارُ وَفْدُ اللَّهِ، دَعاهُمْ فَأَجابوهُ، وسَأَلُوهُ فَأعطاهُم» (7)


1- من لا يحضره الفقيه 2: 235.
2- عوالي اللآلي 2: 84/ 277.
3- الكافي 4: 226، والآية من سورة آل عمران: 96.
4- أمالي الطوسي: 668.
5- كنز العمّال ح 11812 و 11840.
6- الحجّ في الكتاب والسنة: 162/ 386.
7- نفس المصدر، ح 387.

ص: 73

10- نفي الفقر:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«حُجّوا لَن تَفتَقِروا» (1)

. وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام:

«إنَّ أفضَلَ ما تَوَسَّلَ بِهِ المُتَوَسِّلونَ إلى اللَّهِ سُبحانَهُ وتَعالى: الإيمانُ بِهِ وبِرَسولِهِ،... وَحَجُّ البَيْتِ واعتِمارُهُ، فإنَّهُما يَنفِيانِ الفَقْرَ ويَرْحَضانِ الذَّنْب» (2).

11- سلامة الأبدان:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام:

«حجّوا واعتمروا تصحّ أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مؤونات عيالكم...» (3).

12- الوقاية من الهلاك والعذاب:

عن الصادق عليه السلام قال:

«كان في وصيّة علي عليه السلام: لا تدعوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا» (4)

. وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال:

«لو ترك الناس الحجّ لما نوظروا العذاب»

أو قال:

«أنزل عليهم العذاب» (5)

. إنّ مكّة هي عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي، وهي قاعدة قويّة ومحكمة لتطهير الروح وسموّ الأخلاق، فإذا أحسنّا الاستفادة من هذه

__________________________________________________


1- نفس المصدر، ح 398.
2- نفس المصدر، ح 402.
3- الكافي 4: 252.
4- المحاسن: 1: 170.
5- الكافي 4: 271.

ص: 74

الفريضة العظيمة أمكننا بلوغ الأهداف المذكورة بكلّ يسر

وممّا تقدّم ذكره وما يستفاد من الروايات المتعلّقة بفلسفة الحجّ وأسرار أعماله المختلفة، مثل: التوبة قبل السفر، ودفع الحقوق الماليّة، وتطهير الأموال، وتحصيل الإخلاص وإنجاز الأعمال للَّه، والتزوّد من أطيب الزاد، وإعانة الأصحاب، والاحتراز من العجلة، ومراعاة المرضى، واحترام الكبار، وحسن الخلق مع الصاحب في السفر، وعدم الإساءة إلى الآخرين، والتصدّق، وقراءة الدعاء عندالخروج من المنزل وعلى طول السفر وغيره... نستخلص أنّ الحجّ أحد القواعد المهمّة في تغيير الذات وإحداث التحوّل الروحي والأخلاقي للفرد المسلم، وأنّ مناسك الحجّ هي في الحقيقة مناسك الحياة الإسلاميّة الصحيحة، ففي الحجّ تتمثّل الحياة الدنيا والآخرة جنباً إلى جنب، فهو تربية وتهذيب للنفس، وتربية اجتماعية وسياسيّة، وهو باعث للشعور بالأخوّة، وتعلّم النظم والترتيب، وهو مجمع لتوحيد الآراء والقلوب في مجالات متعدّدة، وهو محور للقرب من الخالق والزلفى لديه تعالى، ولكلّ ذلك وغيره جعل اللَّه تعالى الحجّ مركزاً لاجتماع المسلمين:

«لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...»

. ومن مجمل ما ذكرناه يمكن القول: إنّ مكّة هي عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي، وهي قاعدة قويّة ومحكمة لتطهير الروح وسموّ الأخلاق، فإذا أحسنّا الاستفادة من هذه الفريضة العظيمة أمكننا بلوغ الأهداف المذكورة بكلّ يسر.

أخيراً، ولأجل حسن الختام لهذا المقال المتواضع، أذكر حديثين للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام والإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام يبيّنان طريق وأُسلوب الحجّ الصحيح، أو الحجّ المبرور، راجياً من اللَّه العزيز أن يوفّق الجميع للاستفادة من هذه الفريضة المعنوية الإلهيّة على النحو الأحسن والأفضل.

ص: 75

1- قال الإمام زين العابدين عليه السلام حينما التقى الشبلي بعد أداء مشاعر الحجّ:

حَجَجْتَ يَا شَبْلِيُّ؟

قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّه فَقَالَ عليه السلام: أَ نَزَلْتَ الْمِيقَاتَ وَ تَجَرَّدْتَ عَنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَ اغْتَسَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَحِينَ نَزَلْتَ الْمِيقَاتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ خَلَعْتَ ثَوْبَ الْمَعْصِيَةِ وَلَبِسْتَ ثَوْبَ الطَّاعَةِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ تَجَرَّدْتَ عَنْ مَخِيطِ ثِيَابِكَ نَوَيْتَ أَنَّكَ تَجَرَّدْتَ مِنَ الرِّيَاءِ وَ النِّفَاقِ وَ الدُّخُولِ فِي الشُّبُهَاتِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ اغْتَسَلْتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ اغْتَسَلْتَ مِنَ الْخَطَايَا وَ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَمَا نَزَلْتَ الْمِيقَاتَ وَلا تَجَرَّدْتَ عَنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ وَلا اغْتَسَلْتَ،

ثُمَّ قَالَ: تَنَظَّفْتَ وَ أَحْرَمْتَ وَ عَقَدْتَ بِالْحَجِّ، قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَحِينَ تَنَظَّفْتَ وَ أَحْرَمْتَ وَ عَقَدْتَ الْحَجَّ نَوَيْتَ أَنَّكَ تَنَظَّفْتَ بِنُورَةِ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ للَّه تَعَالَى؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ أَحْرَمْتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ حَرَّمْتَ عَلَى نَفْسِكَ كُلَ مُحَرَّمٍ حَرَّمَهُ اللَّه عَزَّوَجَلَّ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ عَقَدْتَ الْحَجَّ نَوَيْتَ أَنَّكَ قَدْ حَلَلْتَ كُلَّ عَقْدٍ لِغَيْرِ اللَّه؟ قَالَ: لا،

قَالَ لَهُ عليه السلام: مَا تَنَظَّفْتَ وَ لا أَحْرَمْتَ وَ لا عَقَدْتَ الْحَجَّ،

قَالَ لَهُ: أَدَخَلْتَ الْمِيقَاتَ وَ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ وَ لَبَّيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَحِينَ دَخَلْتَ الْمِيقَاتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ بِنِيَّةِ الزِّيَارَةِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ صَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ نَوَيْتَ أَنَّكَ تَقَرَّبْتَ إِلَى اللَّه بِخَيْرِ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلاةِ وَ أَكْبَرِ حَسَنَاتِ الْعِبَادِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ لَبَّيْتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ نَطَقْتَ للَّه سُبْحَانَهُ بِكُلِّ طَاعَةٍ وَ صُمْتَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ؟ قَالَ: لا.

قَالَ لَهُ عليه السلام: مَا دَخَلْتَ الْمِيقَاتَ وَ لا صَلَّيْتَ وَلا لَبَّيْتَ.

ص: 76

ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَ دَخَلْتَ الْحَرَمَ وَ رَأَيْتَ الْكَعْبَةَ وَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: فَحِينَ دَخَلْتَ الْحَرَمَ نَوَيْتَ أَنَّكَ حَرَّمْتَ عَلَى نَفْسِكَ كُلَّ غِيبَةٍ تَسْتَغِيبُهَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّةِ الْإِسْلامِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ وَصَلْتَ مَكَّةَ نَوَيْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّكَ قَصَدْتَ اللَّه؟ قَالَ: لا.

قَالَ عليه السلام: فَمَا دَخَلْتَ الْحَرَمَ وَ لا رَأَيْتَ الْكَعْبَةَ وَ لا صَلَّيْتَ.

ثُمَّ قَالَ: طُفْتَ بِالْبَيْتِ وَ مَسَسْتَ الْأَرْكَانَ وَسَعَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ عليه السلام: فَحِينَ سَعَيْتَ نَوَيْتَ أَنَّكَ هَرَبْتَ إِلَى اللَّه، وَعَرَفَ مِنْكَ ذَلِكَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَمَا طُفْتَ بِالْبَيْتِ وَلا مَسَسْتَ الْأَرْكَانَ وَلا سَعَيْتَ.

ثُمَّ قَالَ لَهُ: صَافَحْتَ الْحَجَرَ وَ وَقَفْتَ بِمَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام وَ صَلَّيْتَ بِهِ رَكْعَتَيْنِ؟

قَالَ: نَعَمْ، فَصَاحَ عليه السلام صَيْحَةً كَادَ يُفَارِقُ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ:

آهِ آهِ

ثُمَّ قَالَ عليه السلام: مَنْ صَافَحَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَقَدْ صَافَحَ اللَّه تَعَالَى، فَانْظُرْ يَا مِسْكِينُ لا تُضَيِّعْ أَجْرَ مَا عَظُمَ حُرْمَتُهُ، وَتَنْقُض الْمُصَافَحَةِ، بِالْمُخَالَفَةِ، وَ قَبْضِ الْحَرَامِ نَظِيرَ أَهْلِ الْآثَامِ.

ثُمَّ قَالَ عليه السلام: نَوَيْتَ حِينَ وَقَفْتَ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّكَ وَقَفْتَ عَلَى كُلِّ طَاعَةٍ وَتَخَلَّفْتَ عَنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَحِينَ صَلَّيْتَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ نَوَيْتَ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِصَلاةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَ أَرْغَمْتَ بِصَلاتِكَ أَنْفَ الشَّيْطَانِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ لَهُ: فَمَا صَافَحْتَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَ لا وَقَفْتَ عِنْدَ الْمَقَامِ وَ لا صَلَّيْتَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.

ثُمَّ قَالَ عليه السلام لَهُ: أَشْرَفْتَ عَلَى بِئْرِ زَمْزَمَ وَ شَرِبْتَ مِنْ مَائِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: نَوَيْتَ أَنَّكَ أَشْرَفْتَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَغَضَضْتَ طَرْفَكَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ؟

قَالَ: لا.

ص: 77

قَالَ عليه السلام: فَمَا أَشْرَفْتَ عَلَيْهَا وَ لا شَرِبْتَ مِنْ مَائِهَا.

ثُمَّ قَالَ لَهُ عليه السلام: أَسَعَيْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةِ وَ مَشَيْتَ وَ تَرَدَّدْتَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:

نَعَمْ.

قَالَ لَهُ: نَوَيْتَ أَنَّكَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَ الْخَوْفِ؟ قَالَ: لا.

قَالَ: فَمَا سَعَيْتَ وَ لا مَشَيْتَ وَ لا تَرَدَّدْتَ بَيْنَ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةِ...»

فَطَفِقَ الشِّبْلِيُّ يَبْكِي عَلَى ما فَرَّطَهُ فِي حَجِّهِ، وَما زَالَ يَتَعَلَّمُ حَتَّى حَجَّ مِنْ قابِلٍ بِمَعْرِفَةٍ وَيَقينٍ (1)

2- قال الصادق عليه السلام:

«إِذَا أَرَدْتَ الْحَجَّ فَجَرِّدْ قَلْبَكَ للَّه تَعَالَى مِنْ كُلِّ شَاغِلٍ وَ حِجَابٍ وَ فَوِّضْ أُمُورَكَ إِلَى خَالِقِهَا، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَرَكَاتِكَ وَ سَكَنَاتِكَ، وَسَلِّمْ لِقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَقَدَرِهِ، وَدَعِ الدُّنْيَا وَ الرَّاحَةَ وَ الْخَلْقَ وَ اخْرُجْ مِنْ حُقُوقٍ تَلْزِمُكَ مِنْ جِهَةِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلا تَعْتَمِدْ عَلَى زَادِكَ وَ رَاحِلَتِكَ وَ أَصْحَابِكَ وَ قُوَّتِكَ وَ شَبَابِكَ وَ مَالِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ عَدُوّاً وَوَبَالًا، فَإِنَّ مَنِ ادَّعَى رِضَى اللَّه وَ اعْتَمَدَ عَلَى مَا سِوَاهُ صَيَّرَهُ عَلَيْهِ وَبَالًا وَ عَدُوّاً لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَ لا حِيلَةٌ وَ لا لِأَحَدٍ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّه وَ تَوْفِيقِهِ، فَاسْتَعِدَّ اسْتِعْدَادَ مَنْ لا يَرْجُو الرُّجُوعَ وَ أَحْسِنِ الصُّحْبَةَ وَ رَاعِ أَوْقَاتَ فَرَائِضِ اللَّه وَ سُنَنِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله وَ مَا يَجِبُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَدَبِ وَ الِاحْتِمَالِ وَالصَّبْرِ وَ الشُّكْرِ وَ الشَّفَقَةِ وَ السَّخَاوَةِ وَ إِيثَارِ الزَّادِ عَلَى دَوَامِ الْأَوْقَاتِ، ثُمَّ اغْسِلْ بِمَاءِ التَّوْبَةِ الْخَالِصَةِ ذُنُوبَكَ، وَالْبَسْ كِسْوَةَ الصِّدْقِ وَ الصَّفَا وَ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ، وَأَحْرِمْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يَمْنَعُكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّه وَ يَحْجُبُكَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَلَبِّ بِمَعْنَى إِجَابَةٍ صَادِقَةٍ صَافِيَةٍ خَالِصَةٍ زَاكِيَةٍ للَّه سُبْحَانَهُ فِي دَعْوَتِكَ مُتَمَسِّكاً بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَطُفْ بِقَلْبِكَ مَعَ الْمَلائِكَةِ حَوْلَ الْعَرْشِ كَطَوَافِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِكَ حَوْلَ الْبَيْتِ، وَهَرْوِلْ هَرَباً مِنْ هَوَاكَ وَ تَبَرَّأْ مِنْ حَوْلِكَ وَ قُوَّتِكَ وَ اخْرُجْ مِنْ

__________________________________________________


1- مستدرك الوسائل 10: 166.

ص: 78

غَفْلَتِكَ وَ زَلَّاتِكَ بِخُرُوجِكَ إِلَى مِنًى، وَ لا تَتَمَنَّ مَا لا يَحِلُّ لَكَ وَ لا تَسْتَحِقُّهُ، وَاعْتَرِفْ بِالْخَطَايَا بِعَرَفَاتٍ، وَجَدِّدْ عَهْدَكَ عِنْدَ اللَّه بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَ تَقَرَّبْ إِلَيْهِ وَاتَّقِهِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَاصْعَدْ بِرُوحِكَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى بِصُعُودِكَ إِلَى الْجَبَلِ، وَاذْبَحْ حَنْجَرَةَ الْهَوَى وَ الطَّمَعِ عَنْكَ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ، وَارْمِ الشَّهَوَاتِ وَالخَسَاسَةَ وَالدَّنَاءَةَ وَالذَّمِيمَةَ عِنْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَ احْلِقِ الْعُيُوبَ الظَّاهِرَةَ وَ الْبَاطِنَةَ بِحَلْقِ شَعْرِكَ، وَادْخُلْ فِي أَمَانِ اللَّه وَ كَنَفِهِ وَ سَتْرِهِ وَ كِلاءَتِهِ مِنْ مُتَابَعَةِ مُرَادِكَ بِدُخُولِ الْحَرَمِ وَ دُخُولِ الْبَيْتِ مُتَحَقِّقاً لِتَعْظِيمِ صَاحِبِهِ وَ مَعْرِفَةِ جَلالِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَاسْتَلِمِ الْحَجَرَ رِضًى بِقِسْمَتِهِ وَخُضُوعاً لِعِزَّتِهِ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَأَصْفِ رُوحَكَ وَ سِرَّكَ لِلِقَائِهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ بِوُقُوفِكَ عَلَى الصَّفَا، وَكُنْ بِمَرْأًى مِنَ اللَّه نَقِيّاً عِنْدَ الْمَرْوَةِ، وَاسْتَقِمْ عَلَى شَرْطِ حَجَّتِكَ هَذِهِ وَ وَفَاءِ عَهْدِكَ الَّذِي عُوهِدْتَ بِهِ مَعَ رَبِّكَ وَأُوجِبْتَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه لَمْ يَفْرِضِ الْحَجَّ وَ لَمْ يَخُصَّهُ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَللَّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» وَ لا شَرَعَ نَبِيُّهُ صلى الله عليه و آله سُنَّةً فِي خِلالِ الْمَنَاسِكِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا شَرَعَهُ إِلّا لِلِاسْتِعْدَادِ وَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَوْتِ وَ الْقَبْرِ وَ الْبَعْثِ وَ الْقِيَامَةِ وَ فَضْلِ بَيَانِ السَّبْقِ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ أَهْلُهَا وَ دُخُولِ النَّارِ أَهْلُهَا بِمُشَاهَدَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَأُولِي النُّهَى» (1).

__________________________________________________


1- مصباح الشريعة: 142، بحار الأنوار 99: 124.

ص: 79

فلسفة الحج موقعاً وعبادة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

اشارة

محسن الأسدي

الحج فريضة سماوية مباركة، وتكليف إلهي عظيم، وركن عبادي متين، وضيافة للتائبين، وفرصة للمذنبين، وتذكير للغافلين، ودعوة مفتوحة مباركة لهم ولغيرهم من الناس أجمعين، ومؤتمر إسلامي مهم، وتجمع إيماني مهيب، وحشد اقتصادي تجاري كبير، ومدرسة تعارفية اجتماعية ثقافية كبرى، تتسم بمعان عالية وقيم شامخة ومبادئ رفيعة، وهي بالتالي مدرسة ميدانية واسعة واعدة واعية، ضمت شعوباً وقبائل وفدت إليها من كل حدب وصوب، وقد قيضت لها السماء مكاناً واحداً، موسماً واحداً، هدفاً واحداً، منسكاً واحداً، نراهم ينتظمون لأداء مفاصله المتعددة، و يتسابقون إلى إحراز مغفرة من اللَّه ورضوان، وإذا ما نظرنا إليها وجدناها جموعاً من شتى البقاع والأجناس والألوان رجالًا ونساءاً شيباً وشباناً، محتشدةً كأنها بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً، وقد ذاب كل ما يميزهم من حطام الدنيا ومعالمها، ومن حب الذات وعناوينها، ويترك هذا التجمع العظيم الرائد المهيب في قلوب الآخرين مهابة وإعجاباً... وفي نفوس وقلوب أبنائه سكينة وطمأنينة و ثقة وقوة وعزة... وحتى يتحقق هذا والكثير غيره، فقد حظيت فريضة الحج بأهمية بالغة ومكانة كبيرة في الشريعة الإسلامية سواء أكانت تلك الأهمية وهذه المكانة في أحكامها أم في مناسكها أم في أهدافها ومقاصدها. وكل

ص: 80

هذا يدل على رعاية الشريعة لها وتأكيدها الدائم على استمرارها وإقامتها بشكل يتناسب مع روحها وجوهرها ومع الحكمة من وراء تشريعها. ولذا ينبغي لنا بل يجب علينا ونحن نؤدي هذا الفرض المبارك أن نعي معانيه و أهدافه ونعي مسؤولياتنا إزاءه، ويجب علينا أن نتعرف على ما يترتب على أداء مناسك الحج من التزامات سواء أكانت التزامات روحية أم أخلاقية، اجتماعية أم سياسية، وسواء أكانت مردوداتها لنفس الشخص الحاج أم للآخرين، وسواء أكانت ثمارها لمجتمع الحج وحده الذي شارك في أداء مناسكه أم للمجتمعات الأخرى، وعلينا أن لا نكتفي بمعرفة أحكام الحج الفقهية وكيفية أداء مناسكه وفق تلك الأحكام، وهو وإن كان أمراً مهماً وضرورياً، إلّاأن الاكتفاء به دون معرفة ودون إلمام بما ترمي إليه وبما تبتغيه هذه الفريضة يعد نقصاً صارخاً في التفاعل معها روحاً وأهدافاً ومقاصد، وفشلًا واضحاً يلحقنا في الاستفادة من خياراتها والاستزادة من بركاتها.

ويترك هذا التجمع العظيم الرائد المهيب في قلوب الآخرين مهابة وإعجاباً... وفي نفوس وقلوب أبنائه سكينة وطمأنينة و ثقة وقوة وعزة...

وإذا ما تمت هذه المعرفة وتعمقت آثارها في النفوس وتجذرت ثمارها في السلوك، فسيجسد هذا الركن القويم من الشريعة الإيمان في سلوكنا عبادةً وعملًا وسلوكاً وقولًا، وسيصبح صورة رائعة من صور الجمال المعنوي والروحي ينبغي أن لا تفوتنا وأن لا نخسرها، وميداناً للكدح والجهاد، ينبغي أن تلاحق الحاج في أيامه وهو يؤدي هذه الفريضة، وفي أيامه التالية وهو يعيش حياته بين أهله وأحبائه، و هو يعيش مع أبناء مجتمعه الآخرين في عيشه وكسبه وأنشطته المتعددة هنا وهناك.

إذن كم هو عظيم موسم الحج! فقد غدا هذا الموسم- ومنذ أن دوى أذان

ص: 81

نبي اللَّه إبراهيم الخليل عليه السلام «

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (1)

- غدا موسماً عبادياً ما أعظم بركاته على تربية

النفوس و تزكية الأرواح! وموسماً تجارياً ما أعظم منافعه التي يدرها على المسلمين عامة والحجاج خاصة! ما أعظمه من موسم بأيامه المعلومات امتزجت فيه العبادة والتجارة، فهي منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة حقاً «

لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ...» (2)

! وكم هي جميلة تلك العبادة التي

تلاحق آثارها الإنسان وتترك بصماتها عليه! حقاً إنّها ولادة جديدة وحياة أخرى غير تلك التي عاشها إن استطاع أن يحيا معاني الحج و يقتطف ثماره...

كلّ هذا وغيره هو ما نراه مجسداً في خطب وأحاديث وأدعية أئمة مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وفي رؤاهم لمفاهيم هذه الفريضة ولحكمها وأهدافها، وفيما كتبه علماؤها وفقهاؤها، مكتفين من ذلك كله- وهو الكثير الذي ضمته مجلدات عديدة- بما يسمح به مجال هذه المقالة.

***


1- سورة الحج: 27.
2- سورة الحج: 28.

ص: 82

إنّنا هنا بصدد الحديث عما تراه وتتبناه مدرسة أهل البيت عليهم السلام من نظرات وآراء ومواقف تتعلق بفريضة الحج من حيث ظرفها المكاني ومحورها العبادي بكل ما يحمله الأول من موقع جغرافي معروف بوعورة الأرض وصعوبتها وقسوة الطبيعة وشدتها... وبكل ما يحمله الثاني من مفاهيم عالية، ومضامين رفيعة، وقيم نادرة... وبكل ما يحملانه من ابتلاء شديد وامتحان أشد، وفرصة للمغفرة والرحمة ما أعظمها! ومناسبة لنيل رضا الله ما أوسعها! عبر أيام قدرت لها السماء:

* أن تكون معدودات «

واذكروا اللَّه في أيّام معدودات» (1)

وهي أيام

التشريق، اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من شهر ذي الحجة.

يقول السيد الطباطبائي في ميزانه: والدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أيام الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: «

فمن تعجل في يومين...»

، فإن التعجيل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة: يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضاً (2).

إنّنا هنا بصدد الحديث عما تراه وتتبناه مدرسة أهل البيت عليهم السلام من نظرات وآراء ومواقف تتعلق بفريضة الحج من حيث ظرفها المكاني ومحورها العبادي بكل ما يحمله الأول من موقع جغرافي معروف بوعورة الأرض وصعوبتها وقسوة الطبيعة وشدتها...

وبكل ما يحمله الثاني من مفاهيم عالية، ومضامين رفيعة

* وأن تكون معلومات «

وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (3)

. وقد

اختلفت الروايات في المراد منها كما اختلفت في الأيام المعدودات أيضاً، ولكننا نكتفي بما ذكره العلامة في تفسيره الميزان.

يقول العلامة: وفي هذا المعنى روايات أخر عن الباقر والصادق عليهما السلام، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «هي أيام التشريق». وهناك ما يعارضها، كما يدل على أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق. وينتهي إلى أن الآية أشد ملائمة لما يدل على أن المراد بالمعلومات أيام التشريق (4). إذن فالأيام المعدودات و الأيام

المعلومات عند العلامة هي أيام التشريق (5)5».

وهذه الأيام المعدودات أو المعلومات هي بالتالي أيام اللَّه تعالى، كما سماها أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهو ما جاء في كتابه إلى عامله على مكة قثم بن العباس:

«أما بعد... فأقم للناس الحج، وذكّرهم بأيام اللَّه...» (6).

تعد هذه المدرسة مدرسة الإسلام الأولى علماً ومعرفةً بدين اللَّه تعالى وأحكامه ومعارفه ومقاصده... فقد راحت- مع عظيم مسؤولياتها وانشغالها في مكافحة الأفكار المنحرفة الوافدة من هنا وهناك، وخطورة ما تعرضت له من ظلم وتعسف ومؤامرات حكام الجور والسائرين بركابهم، لإبعادها عن خطها ومنهجها الذي اختطته لها السماء- راحت ترعى هذه الفريضة وتتبناها، وتوضح معانيها ومقاصدها وأهدافها وحكمها بوعي كامل وحرص أكيد على استمرارها حيةً فاعلةً مؤثرةً، لهذا لم يترك أئمة هذه المدرسة الحج وهو يؤدى محتفظاً بإطاره الشكلي، الذي يكتفي به البسطاء من الناس، والذين قلّت معرفتهم بأهدافه ومقاصده قصوراً منهم أو تقصيراً، و الذي يركن إليه المنحرفون من حكام ومن مستفيدين ويشجعون عليه بل ويثقفون الرعية عليه، بعيداً عن روحه ومنهجه الذي انطلق مع أول نداء وجّهه اللَّه تعالى على لسان نبيه إبراهيم الخليل عليه السلام، يدعو الناس فيه إلى الحج: «

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ

__________________________________________________


1- سورة البقرة: 203.
2- راجع تفسير الميزان 2: 83.
3- سورة الحج: 28.
4- الميزان 14: 379.
5- أنظر تفسيره للآيتين: 203 من سورة البقرة و 28 من سورة الحج.
6- نهج البلاغة، الكتاب رقم 67.

ص: 83

ص: 84

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اْلأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ»

، وغدا وجوبه من ضروريات الإسلام بنص الآية الكريمة: «

وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (1)

وفي تأكيد وجوبه

والتحذير من عواقب تركه، جاء في الخبر النبوي بطريق أهل البيت عليهم السلام فيمن وجب عليه الحج ولم يحج:

«فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً» (2)

ويقول

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخاطباً الإمام علياً عليه السلام:

«يا علي تارك الحج وهو مستطيع كافر»

، ويستدل بالآية الكريمة لتأكيد ذلك: «

وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»

، ولم يكتف بهذا، بل واصل خطابه قائلًا:

«يا علي من سوّف الحج حتى يموت، بعثه اللَّه يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً» (3)

. أما الإمام زين العابدين عليه السلام وهو المعروف بكثرة حجه بيت اللَّه الحرام، فقد راح يبين أثر هذه الفريضة المباشر على الإيمان، فكان يوصي أصحابه بقوله:

«حجوا واعتمروا... يصلح إيمانكم» (4)

. إن هذا التشديد على أداء هذه الفريضة والترغيب فيها، وهذا النكير على من تعمد تركها، أدلة واضحة على أهميتها وعلو مكانتها وقدسيتها، فهي تتوفر على جميع العبادات الأخرى، وهناك مصالح وغايات عالية المضامين تترتب على أدائها في بناء شخصية الإنسان المؤمن نفسه وتكامل إيمانه ورقيه في سلم التقوى، التي هي أساس كل شي ء، وما يترتب على ذلك من كون الإنسان المؤمن شخصية مطلوبة للَّه سبحانه وتعالى، يمكن أن تؤدي دورها المرسوم لها في الحياة الدنيا، ويتجلى هذا الدور في كونه خليفة اللَّه تعالى في أرضه بكل ما تعنيه هذه الخلافة من

__________________________________________________


1- آل عمران: 97.
2- التهذيب 5: 1610/ 462.
3- وسائل الشيعة 8: 21.
4- وسائل الشيعة 8: 21.

ص: 85

دور إيجابي وعمل فاعل مغير في واقع الحياة على جميع أصعدتها الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية... فالهدف الأسمى للشرائع السماوية عامة والشريعة الإسلامية خاصة هو خلق إنسان اجتماعي مؤمن ملتزم يألف الآخرين ويتآلف معهم، يودهم ويودونه يحبهم ويحبونه، مبشراً بالخير منذراً الذين في قلوبهم مرض، فيكون بذلك مثالًا طيباً ونموذجاً رائعاً لما تريده السماء وتهدف إليه، ويكون جديراً بتحمل أعباء الأمانة ومسؤوليات الخلافة، التي أعدته السماء لها ويحسن أداءها والحفاظ عليها..

فهناك الأحاديث المنقولة بطرق مختلفة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي أضافت عنصراً عظيماً لهذه الفريضة، حيث جعلتها ميداناً تدريبياً تربوياً، لخوض الميادين الكبرى في الحياة

من هنا، راحت جهود أئمة هذه المدرسة تنصب على تحريك مضامينه ومقاصده هذه- والأخرى غيرها- في الأمة، فضلًا عن توضيح أحكامه عبر مواقفهم و نصوصهم الكثيرة جداً، فهناك الأحاديث المنقولة بطرق مختلفة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام، التي أضافت عنصراً عظيماً لهذه الفريضة، حيث جعلتها ميداناً تدريبياً تربوياً، لخوض الميادين الكبرى في الحياة، في العبادة وفي الكدح والجهاد، والتي منها جهاد النفس، بل جعلته الجهاد بعينه، أو ساوت بينه وبين الجهاد القتالي دفاعاً عن الإسلام وبيضته.

ومن تلك الأحاديث ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال:

«نعم الجهاد الحج»

. «الغازي في سبيل اللَّه والحاج والمعتمر وفد اللَّه دعاهم

». وعن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«والصلاة قربان كل تقي، والحج جهاد كل ضعيف» (1)

. «الحج جهاد الضعفاء» (2)

. «الحج جهاد»

. وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«من اتخذ محملًا

__________________________________________________


1- نهج البلاغة: 136، الحكم.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 149.

ص: 86

للحج كان كمن ارتبط فرساً في سبيل اللَّه»

. فالذي لا يقوى على الجهاد يكون الحج جهاده عوضاً له عن ذلك الجهاد الذي ينوء به، لضعفٍ اعتراه، أو لمانعٍ يقف حائلًا دون خوضه وأدائه، والذي لا تصبر أو تتصابر نفسه على تحمل أعباء الجهاد ومستلزماته وهو أعظم درجة عند اللَّه، فإن الحج له دورة تمهيدية تدريبية على تعويد النفس وتدريبها على التحمل والصبر والمثابرة والبذل والعطاء...

وهناك أحاديث أخرى راحت تميز بين حجين: حج يراد به وجه اللَّه تعالى وبالتالي الفوز برضاه وأجره وثوابه، وحج آخر بعيد عن حكمة تشريع الحج وأهدافه، التي أولها وأهمها وأساسها أن يؤدى قربة إلى اللَّه سبحانه وتعالى بكامل ما تعنيه هذه القربة من التزامات وواجبات... يقول الإمام الصادق عليه السلام:

«الحج حجان: حج للَّه. وحج للناس. فمن حج للَّه، كان ثوابه على اللَّه الجنة، ومن حج للناس، كان ثوابه على الناس يوم القيامة» (1) فالحج بذاته يجب أن تتحقق رسالته الإنسانية في حياتنا. ويجب أن يتحقق دوره في وجودنا بصدق توكلنا عليه تعالى، وإخلاصنا

وقد فرقت مدرسة أهل البيت بين حجين آخرين أيضاً: الحج الهدف. والحج الوسيلة، فعن عبد الرحمن بن كثير أنه قال: «حججت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام، فلما

__________________________________________________


1- ثواب الأعمال 16: 74.

ص: 87

صرنا في بعض الطريق، صعد على جبل فأشرف فنظر إلى الناس فقال: ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج» (1). إنها فئة كثيرة، ولكن ليس لها من حجها إلا الصياح

والصراخ والتعب والتزاحم. فالأعداد الكثيرة والحشود الكبيرة والتدافع و الضجيج والصراخ شي ء، والفئة القليلة الواعية المتمتمة ألسنتها الصادقة بالدعاء، والملبية تلبية نابعة من سلامة القلوب وإخلاص النوايا شي ء آخر، فأولئك هم الخاسرون، وهؤلاء هم الفائزون قال تعالى: «

إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ»

. فالحج بذاته يجب أن تتحقق رسالته الإنسانية في حياتنا. ويجب أن يتحقق دوره في وجودنا بصدق توكلنا عليه تعالى، وإخلاصنا ونحن نؤدي مناسكه ونرتل قرآنه ونقرأ دعاءه، وهكذا العبادات الأخرى، فهي والحج وسائل و دورات تدريبية، الهدف منها بناء الشخصية الإيمانية وتكاملها.

وقد ورد في هذا الكثير من الروايات عن هذه المدرسة بدءاً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فعن النبي صلى الله عليه و آله بطريق الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنّه قال:

«من حج هذا البيت بنية صادقة، جعله اللَّه تعالى من الرفيق الأعلى من النبيين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً» (2).

وعن النبي صلى الله عليه و آله بالطريق نفسه:

«الحجة ثوابها الجنة، والعمرة كفارة كل ذنب» (3)

. وعن النبي صلى الله عليه و آله:

«إنك إذا توجهت إلى سبيل الحج، ثم ركبت راحلتك وقلت: بسم اللَّه الرحمن الرحيم ومضت بك الراحلة، لم تضع راحلتك خفاً ولم ترفع خفاً إلا كتب اللَّه لك بكل خطوة حسنة، ومحا عنك سيئة، فإذا أحرمت ولبيت، كتب اللَّه لك بكل تلبية عشر حسنات، ومحا عنك عشر سيئات، فإذا طفت أسبوعاً كان لك بذلك عند اللَّه عهد وذكر يستحي أن يعذبك بعده، فإذا صليت ركعتين عند المقام كتب اللَّه لك بهما ألف ركعة مقبولة، وإذا سعيت بين الصفا والمروة سبعة أشواط كان لك عند اللَّه عز وجل مثل أجر من حج ماشياً من بلاده ومثل أجر من أعتق سبعين رقبة مؤمنة، وإذا وقفت بعرفات إلى غروب الشمس فلو كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر لغفرها اللَّه لك. فإذا رميت الجمار كتب اللَّه لك بكل حصاة عشر حسنات. فإذا ذبحت هديك كتب اللَّه لك بكل قطرة من دمها حسنة. فإذا طفت بالبيت أسبوعاً للزيارة، وصليت عند المقام ركعتين، ضرب ملك كريم بين كتفيك: أما ما مضى فقد غفر لك، فاستأنف العمل فيما بينك وبين عشرين ومائة

__________________________________________________


1- بحار الأنوار 30: 181.
2- بحار الأنوار 30: 181.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 146.

ص: 88

يوم» (1)

. وعن الإمام الصادق عليه السلام:

«إذا أردت الحج، فجرد قلبك من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب حاجب، وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة» (2)

. والحوار الذي دار بين الإمام زين العابدين عليه السلام والشبلي مليئ بأسرار هذه الفريضة المباركة، وبعلو مضامينها، ودور كل من النية الصادقة والجهد المخلص الدؤوب والتفكر الواعي العارف في اكتساب مقاصدها الرفيعة في كل منسك وفي كل موقف تتضمنه هذه الفريضة المباركة. ومن أراد الاطلاع على هذا الحوار القيم بتفاصيله الواضحة، فما عليه إلا الرجوع إلى ما كتبه أخونا الأستاذ سماحة الشيخ محمد علي المقدادي في العدد الرابع من هذه المجلة (ميقات الحجّ)، الصفحة 89- 81.

كما راحت هذه المدرسة تؤكد مضامين الحج وما يتوفر عليه من معان جميلة وآداب جليلة وقيم رفيعة، ينبغي للحجيج بل يجب عليهم التحلي بها والالتزام بها وتحويلها إلى سلوك متحرك وفاعل في حياتهم الفردية والاجتماعية، وتستنكر على أولئك الذين انحصر همّهم بشكل الحج دون الاهتمام بمحتواه، وإطار الحج دون رعاية مضامينه، ودون التأثر بآثاره والتقيد بأحكامه، وتغيير مسيرة حياتهم على ضوء أهداف هذه الفريضة المباركة. يقول الإمام الباقر عليه السلام:

«لئن أعول أهل بيت من المسلمين أشبع جوعتهم و أكسو عريهم وأكف وجوههم عن الناس، أحب إليّ من أن أحج حجة وحجة وحجة حتى انتهى إلى عشرة ومثلها حتى انتهى إلى

__________________________________________________


1- من لا يحضره الفقيه 2: 620.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 153.

ص: 89

سبعين» (1)

. إنّه الوعي الأكمل للعبادة ومفاهيمها العالية، وإنّه الإحساس

الأعمق بآلام الآخرين والاهتمام الأمثل بشؤونهم، وإنه التربية الأخلاقية الرفيعة للعبادات ومنها تكليف الحج، التي تؤكدها هذه المدرسة الطاهرة بخلق إنسان اجتماعي عبر أدائه لمناسك الحج، يكون همه الإحسان للناس واللطف بهم بتفقد حاجاتهم وقضائها أو على الأقل السعي لقضائها، وإشباع ضروريا تهم وإغاثة ملهوفهم وحفظ حرمتهم وكرامتهم ومصالحهم... وإلا ما فائدة العبادة إن كانت لا تتعدى أنشطة تؤدى وفعاليات رتيبة اعتدنا على فعلها، ولا تتجاوزها إلى سلوك عملي نافع، و فعل اجتماعي طيب مؤثر، وإلى فضيلة متحركة مغيرة، وإلى أمر بمعروف ونهي عن منكر؟!

الإمتحان أرضاً وبناءً

إن الحج، مع كونه شرع رحمة للناس، ومكان دعاء لا يقنط العباد من استجابة اللَّه تعالى لهم فيه، ودار ضيافة موائدها كلها خير وعطاء، إلا أنّه، مع ذلك كله، امتحان شاق للعباد، واختبار دقيق للمؤمنين، راحت تعد له السماء- ولحكمة بالغة قد لا تدرك العقول جل مقاصدها وإن جهدت- موضعاً وصفته الآية الكريمة «

بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ»

، ووصفه أمير المؤمنين علي عليه السلام بهذا النص الرائع:

«ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم- صلوات اللَّه عليه

إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الذي جعله للناس قياماً».

هذا وصف للبناء وما يتكون منه: أحجار صماء خالية من كل شعور وإحساس. أما موقع هذه الأحجار فهو بقعة أرض وعرة...، كما عبر عنها أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه:

«ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرى

__________________________________________________


1- بحار الأنوار 30: 181.

ص: 90

منقطعة، لا يزكو بها خف، ولا حافر ولا ظلف».

إذن البيت- كما صورت الآية وكلمات أمير المؤمنين- مكانه لا يعدو كون أرضه أرضاً جرداء موحشة، وبنيته من طوب ومدر، وبالتالي فالبيت موقعاً وبناء لا يرى من حوله ممن يطوفون به، ولا يسمع دعاءً منهم ولا قراءةً ولا تكبيراً ولا تلبيةً، ولا توسلًا منهم ولا بكاءً... وبالتالي- أيضاً- لا يمنع ضرراً قد ينزل بهم،

إن الحج، مع كونه شرع رحمة للناس، ومكان دعاء لا يقنط العباد من استجابة اللَّه تعالى لهم فيه، ودار ضيافة موائدها كلها خير وعطاء، إلا أنّه، مع ذلك كله، امتحان شاق للعباد، واختبار دقيق للمؤمنين

ولا يدفع سوءاً قد يلم بهم، ولا يقدم لهم نفعاً ولا يمنحهم أجراً... فيما كانوا يعبدون أصناماً صنعت أيضاً من طوب ومدر و... ولكنهم اعتقدوا أنها تسمع وترى، وتضر وتنفع... فالفرق كبير جداً بين عبادة الأصنام، التي يعبدونها وظلوا لها عاكفين في جاهليتهم، والتي لا تضر ولا تنفع، ولا تميت ولا تحيي... وبين عبادة اللَّه تعالى وهو الحي القيوم، فيما أمرهم به من مناسك وشعائر، شاءت إرادته وحكمته تعالى أن تؤدى في هذا الوادي وبين جبال صماء وأرض صحراءٍ ملتهبة، فكان طوافهم وكان سعيهم وكانت مناسكهم الأخرى، التي راحوا يؤدونها وهم بكامل وعيهم وإرادتهم، وبشوق لا ينطفئ، ولهفة لا تخبو، وقد هجروا الأهل والأحبة والأموال، وعيونهم مشرئبة نحو السماء تنتظر منها العوض بالعفو والمغفرة والرضا، يكتنفهم الحب للَّه تعالى وحده، وهم يعيشون أجواء التوحيد الخالص، والعبودية الخالصة والانقياد التام لخالق السموات والأرض وما بينهما، وإن نفوسهم- مع أنها تعيش في هكذا محيط مبني من الأحجار ومن الطين وسعف النخيل- لقادرة على أن تكون منقادة إلى اللَّه سبحانه وحده، كافرة بكل ما يدعى من أنداد له.

تقول الرواية عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا دخلت المسجد الحرام، وحاذيت الحجر الأسود فقل: أشهد أن لا اله إلا اللَّه وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً

ص: 91

عبده ورسوله، آمنت باللَّه وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى وبعبادة الشيطان وبعبادة كل ند يدعى من دون اللَّه...»

. نعم، مجسدةً ما تردده في أغلب أوقاتها في موسم الحج وهي تؤدي شعائره المباركة:

لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك. إذا ما خلصت في انقيادها له جل اسمه وفي طاعتها وفي استسلامها لأوامره.... انه اختبار عظيم، وابتلاء خطير، وتمحيص شديد وفتنة تتصف بالدقة حتى يعلم اللَّه تعالى الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.

*** وهذا شرح مختصر لما ورد في المقطع الأول الذي ذكرناه أعلاه من خطبة الإمام علي عليه السلام، وقد وصف فيه الكعبة أرضاً وبناءً:

... «وجعله للناس قياماً»

، وهذا اقتباس من الآية المباركة: «

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ...» (1)

. والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدر

«قام يقوم»

والمعنى: إن اللَّه جعل الكعبة سبباً لقيام الناس إليها، أي لزيارتها والحج إليها، أو لأنها يصلح عندها أمر دين الناس ودنياهم فهم فيها يقومون.

يقول الشيخ الطبرسي في تفسيره: قياماً للناس، «أي جعل اللَّه حج الكعبة أو نصب الكعبة قياماً للناس، أي لمعايش الناس ومكاسبهم، لأنّه مصدر قاموا كأن المعنى: قاموا بنصبه ذلك لهم، فاستثبتت معايشهم بذلك، واستقامت أحوالهم به لما يحصل لهم في زيارتها من التجارة وأنواع البركة».

ثمّ نقل الطبرسي رواية عن سعيد بن جبير: «من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه». ثمّ قال عمّا ورد فيها: «وهو المروي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام».

ثمّ أردفها برواية رواها علي بن إبراهيم عنهم عليهم السلام، قال: «ما دامت الكعبة يحج

__________________________________________________


1- المائدة: 97.

ص: 92

الناس إليها، لم يهلكوا، فإذا هدمت، فتركوا الحج هلكوا» (1).

أما السيد الطباطبائي فقد قال عن ذلك: «ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثم بيانه بالبيت بأنه حرام، وكذا توصيف الشهر بالحرام ثم ذكر الهدي والقلائد اللذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كل ذلك يدل على أن الملاك فيما يبين اللَّه سبحانه في هذه الآية من الأمر إنما هو الحرمة».

عن سعيد بن جبير: «من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه»

ثمّ بعد هذا يقول: «والقيام ما يقوم به الشي ء، قال الراغب: والقيام والقوام اسم لما يقوم به الشي ء، أي يثبت كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به كقوله: «

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً»

، أي جعلها مما يمسككم، وقوله: «

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ»

، أي قواماً لهم يقوم به معاشهم ومعادهم... فيرجع معنى قوله: «

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ»

، إلى أنّه تعالى- والكلام ما زال للسيد الطباطبائي- جعل الكعبة بيتاً حراماً احترمه، وجعل بعض الشهور حراماً، ووصل بينهما حكماً كالحج في ذي الحجة الحرام، وجعل هناك أموراً تناسب الحرمة كالهدي والقلائد، كل ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعية السعيدة، فإنه جعل البيت الحرام قبلةً يوجه إليه الناس وجوههم في صلواتهم ويوجهون إليه ذبائحهم وأمواتهم، ويدوم به دينهم، ويحجّون إليه من مختلف الأقطار وأقاصي الآفاق، فيشهدون منافع لهم، ويسلكون به طرق العبودية. ويهدى باسمه وبذكره والنظر إليه والتقرب به والتوجه إليه العالمون. وقد بينه اللَّه تعالى بوجه آخر قريب من هذا بقوله: «

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ» (2)


1- مجمع البيان في ذيل تفسير الآية 97 من سورة المائدة.
2- آل عمران: 96؛ تفسير الميزان، عند الآية 97 من المائدة.

ص: 93

إذن، فالكعبة موضوع مهم بما يحمله من آثار طيبة ومعان جميلة في دنيا المؤمنين وفي أخراهم، تتكامل من خلالها عباداتهم، وتسمو بأجوائها نفوسهم، وتقوى بها شوكتهم، وتتآزر بسببها أواصرهم، وتتعمق علاقاتهم بكل مفاصلها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، لهذا ولغيره صارت الكعبة قياماً وعلماً ورايةً خفاقةً تحمل كل مجد وعزة للإسلام وللمسلمين، وهو قول علي عليه السلام عن بيت اللَّه الحرام:

«جعله اللَّه سبحانه وتعالى للإسلام علماً»

. وفي كلمة أخرى له عليه السلام: «فرض اللَّه... والحج تقربة للدين» حقاً إنه مكان لتقريب الآخرين للإسلام، ومكان دعوة إليه بعرض أفكاره ومبادئه وأحكامه. فيما قال الإمام الصادق عليه السلام:

«لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»

. قال علي عليه السلام:

«ألا ترون أنّ اللَّه اختبر الأوّلين من لدن آدم...».

من اللافت أن هذا المقطع وبالذات السطر الأول منه يقرر شيئاً تاريخياً مهماً، وهو أن إبراهيم عليه السلام لم يكن هو المؤسس الأول للكعبة المشرفة، وإنما كانت في زمن آدم عليه السلام وربما كانت سابقة عليه، ولم يبق منها إلا قواعدها أو أسسها، وكل ما قام به نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام أن رفع تلك القواعد بأن بنى عليها بناءه الذي شيده وابنه إسماعيل عليهما السلام. والأدلة على هذا كثيرة: آيات قرآنية وأخرى روائية، جاءت بها كتب الفريقين، وما دامت مقالتنا تختص بما تراه مدرسة أهل البيت عليهم السلام، نذكر بعض رواياتهم، بعد الآيات الكريمة التالية: «

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ»

. عند: تدل على وجود شي ء سابق، وهي اسم مكان الحضور حقيقة كما تقول جلست عند زيد، ومجازاً نحو عند زيد علم ... وهذا وجه من وجهين ذكرهما الشيخ الطبرسي في تفسيره للآية حيث يقول «... ويسأل فيقال: كيف سماه بيتاً ولم يبنه إبراهيم عليه السلام بعد؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنه لما كان من المعلوم أنه يبنيه، سماه بيتاً، والمراد عند بيتك الذي مضى في سابق علمك كونه. والثاني: إن البيت قد كان قبل ذلك وإنما خربه طسم وجديس (1)، وقيل: إنه

__________________________________________________


1- وهما قبيلتان من سكان مكّة انقرضتا، وقيل: هيان بن عياد.

ص: 94

رفعه اللَّه إلى السماء أيام الطوفان...» (1).

«وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (2)

. والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوق. يرفع

القواعد: أي البناء عليها، لأنها إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع. إذن القاعدة من البناء: أساسه وجمعها قواعد. وتأتي القاعدة بمعنى الضابط أو الأمر الكلي ينطبق على جزئياته وهذا ليس محل كلامنا (3)...

فالقواعد كانت موجودة، وهو ما يفهم من الآية، وأن كلًا من إبراهيم وإسماعيل عملا على رفعها. وقد يكون قوله تعالى: «

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ»

شاهداً على ذلك.

والذي يراه العلامة أن ما ورد من الروايات من أن الكعبة أول بيت بمعنى أول بقعة من الأرض، وأنّه يستظهر من قوله تعالى: «

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً...» (4)

ما تشتمل عليه الروايات التي تقول:

«قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس»

أو «كانت البيوت قبله، ولكنه كان أول بيت وضع للعبادة للعالمين».

وبدلالة ذيل الرواية، فإن الحطيم وبالتالي الكعبة

__________________________________________________


1- مجمع البيان، عند سورة إبراهيم: 37.
2- البقرة: 127.
3- أنظر المعجم الوسيط: 748.
4- آل عمران: 96.

ص: 95

كانت موجودة في عهد آدم عليه السلام

وعن الإمام الصادق عليه السلام حيث سئل عن الحطيم- وهو ما بين الحجر الأسود والباب- لم سمي الحطيم؟ قال عليه السلام: لأن الناس يحطم بعضهم بعضاً، وهو الموضع الذي تاب فيه اللَّه على آدم عليه السلام» (1). وبدلالة ذيل الرواية، فإن الحطيم وبالتالي

الكعبة كانت موجودة في عهد آدم عليه السلام.

قدم الكعبة ودحو الأرض:

والدحو لغةً من دحا الشي ء أي بسطه ووسعه وبابه عدا، ومنه قوله تعالى:

«وَ اْلأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها» (2)

. أي بسطها و أوسعها أو مدها لسكنى أهلها أو

جعلها دحية وهي البيضة (3). ويقول كل من شيخ الطائفة الطوسي وتبعه الشيخ

الطبرسي في تفسيرهما: والدحو أي البسط ومعنى دحاها أي بسطها، وهي لغتان دحا يدحو دحواً ودحيت أدحي دحياً، قال أمية بن الصلت: دار دحاها ثم أعمر بابها وأقام بالأخرى التي هي أمجد وقال أوس:

ينفي الحصى عن جديد الأرض مبترك كأنه فاحص أو لاعب داح (4)

فيما ذكر العلامة السيد الطباطبائي: أنّ دحاها «أي بسطها ومدّها: أن الدحو بمعنى الدحرجة». ناسباً هذا القول إلى بعضهم (5).

والذي يراه العلامة أن «الأخبار في دحو الأرض من

__________________________________________________


1- مجمع البيان 1- 2: 797.
2- النازعات: 30.
3- أنظر مختار الصحاح والمعجم الوسيط، مادّة: دحا.
4- راجع مجمع البيان والتبيان، الآية.
5- الميزان: الآية.

ص: 96

تحت الكعبة كثيرة وليست مخالفة للكتاب ولا أن هناك برهاناً يدفع ذلك».

أما الروايات التي نقلت لنا عن أهل البيت عليهم السلام فهي كثيرة، والتي تتحدث عن دحو الأرض في 25 من شهر ذي القعدة الحرام من تحت الكعبة.

منها: عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه قال: «لما أراد اللَّه أن يخلق الأرض، أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً، ثم أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلًا من زبد، ثم دحا الأرض من تحته، وهو قول اللَّه: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً»، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة، ثم مدت الأرض منها» (1).

ويرى العلامة الطبرسي في تفسيره: أن الآية فيها دلالة على أنه «لم يكن قبله بيت مبني، وإنما دحيت الأرض من تحتها، وهو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق اللَّه تعالى السماء والأرض من تحتها» (2)...

من هذا يتضح لنا أن الكعبة تاريخياً لها عمق بعيد جداً قد يتجاوز وجود الإنسان الأول المتمثل بآدم عليه السلام قليلًا أو كثيراً، وقد يتزامن معه، فالأمر متروك للبحث التاريخي ودقة أدواته، ولكن الذي يبدو ثابتاً ومن خلال فهم المتيسر من الأدلة أن الكعبة كان لها وجودها المبارك قبل نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام، وأن المتيقن من النصوص القرآنية أنه قام وابنه إسماعيل ببنائها بأمر من اللَّه تعالى.

هذا وإن الذي يبدو من روايات مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن جبريل عليه السلام هو أول من بنى البيت الحرام، وأن الملائكة هي أول من طاف بهذا البيت، وهكذا صار الطواف حول البيت سنة الأنبياء بدءاً بآدم عليه وعليهم السلام، وفي رواية أخرى: أن الملائكة بني لها بيت في السماء يسمى الضراح بإزاء العرش فهي تطوف به، وأن هذا البيت أي البيت الحرام، بناه آدم بإزاء ذلك. واما إبراهيم وابنه

__________________________________________________


1- راجع البحث الروائي حول الآية في تفسير الميزان.
2- مجمع البيان 1- 2: 797.

ص: 97

إسماعيل عليهما السلام فهما اللذان عمرا البيت، بأن رفعا قواعده بعد ذلك (1).

أما الأرض التي اختيرت للكعبة وأنشأت عليها، فيصفها الإمام علي عليه السلام بأنها: أوعر بقاع الأرض حجراً: أي أصعبها، ومكان وعر بالتسكين، صعب المسلك أو المقام.

أقل نتائق الأرض مدراً:

أصل هذه اللفظة من قولهم

«امرأة منتاق»

أي كثيرة الحبل والولادة، ويقال: ضيعة منتاق أي كثيرة الريع، فجعل عليه السلام الضياع ذوات المدر التي للحرث نتائق، فكان معنى قوله: إن مكة أقلها صلاحاً للزرع، لأن أرضها حجرية. وقيل: إن النتائق جمع نتيقة وهي البقاع المرتفعة، ومكة مرتفعة بالنسبة لما انحط عنها من البلدان.

والمدر: قطع الطين اليابس، وأقل الأرض مدراً، لا ينبت إلا قليلًا.

القطر: الجانب. رمال دمثة: سهلة، وكلما كان الرمل أسهل، كان أبعد عن أن ينبت، أو أنها تكون لينة فيصعب السير فيها والاستنبات منها.

إن الذي يبدو من روايات مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن جبريل عليه السلام هو أول من بنى البيت الحرام، وأن الملائكة هي أول من طاف بهذا البيت، وهكذا صار الطواف حول البيت سنة الأنبياء

وعيون وشلة:

أي أنها قليلة الماء. والوشل بفتح الشين هو الماء القليل، ويقال: وشل الماء وشلاناً أي قطر.

لا يزكو بها خف ولا ظلف:

لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن. والخف ههنا هو الإبل. أما الحافر فهو الخيل والحمير. والظلف الشاة، فيكون المعنى: ليس مرعى يرعاه الغنم فتسمن. وكل هذا (الخف والحافر والظلف) تعبير عن الحيوان بما ركبت عليه قوائمه.

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة 9: 386.

ص: 98

الأحب إلى اللَّه تعالى:

هذا هو واقع البيت أرضاً وبناءً وضحته هذه الكلمات البليغة، إلا أنه الأحب من جميع بقاع المعمورة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، والأفضل والأكرم عنده تعالى، وهو حرمه وبيته، ويكفيه منزلة عظيمة، وشرفاً كبيراً أنه أضيف إليه تعالى فهو بيت اللَّه وهو حرم اللَّه، إضافة إلى أن النظر إليه جعلته الشريعة عبادة يثاب عليها المؤمن ويغفر اللَّه تعالى له ذنوبه.

وكل هذا نجده فيما تظافر من روايات مدرسة أهل البيت عليهم السلام:

فقد روى الصدوق عن سعيد بن جبير عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام أنه قال:

«أحب الأرض إلى اللَّه تعالى مكة، وما تربة أحب إلى اللَّه عز وجل من تربتها، ولا حجر أحب إلى اللَّه من حجرها، ولا شجر أحب إلى اللَّه من شجرها، ولا جبال أحب إلى اللَّه من جبالها» (1)

. وعن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: «ما خلق اللَّه عز وجل بقعة في الأرض أحب إليه منها. ثم أومأ بيده نحو الكعبة. ولا أكرم على اللَّه عز وجل منها، لها حرّم اللَّه عزّوجل الأشهر الحرم في كتابه، يوم خلق السموات والأرض ثلاثة متوالية للحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، وشهر مفرد للعمرة، رجب» (2).

النظر إليها:

وجعل اللَّه تعالى النظر إليها من منازل رحمته، فعن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنه قال:

«إن اللَّه تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين» (3)

. وعن أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام أنه قال:

«النظر إلى الكعبة عبادة... وقال: من نظر إلى الكعبة كتبت له حسنة، ومحيت عنه عشر سيئات» (4)

، وعنه:

«من نظر

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة 9: 386.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 664.
3- وسائل الشيعة 9: 363.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 143.

ص: 99

إلى الكعبة لم يزل تكتب له حسنة، وتمحى عنه سيئة حتى ينصرف ببصره عنها» (1)

، وعنه:

«من أيسر ما يعطى من ينظر إلى الكعبة أن يعطيه اللَّه بكل نظرة حسنة، وتمحى عنه سيئة وترفع له درجة» (2).

المنزلة المباركة:

ثم انتقل الإمام علي عليه السلام بعد ذلك و في الخطبة نفسها، ليصوغ بعبارات أخرى غنية بالمعاني والبيان ما آلت إليه هذه البنية المتواضعة من منزلة عظيمة مباركة في السماء، و من موقع مقدس في القلوب، ومن مكانة كبيرة في النفوس، ومن حضور حي في وجدان المؤمنين وفي أرواح الموحدين لا يخبو نوره ولاينطفئ ضياؤه ولا ينضب معينه ولا تموت حركته... فيقول عليه السلام:

ثمّ أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم. تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزوا مناكبهم ذللًا، يهللون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم، شعثاً غبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، و شوهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً. جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنته.

إنها بقعة- مع كونها قفراء جدبة وعرة ضيقة- غدت مثابةً وأمناً

«مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم»

. لنقف قليلًا عند شرح هذا المقطع.

وقبل هذا لا بد من أن نردف هذا المقطع بمقطع آخر للإمام عليه السلام أيضاً يشبهه،

__________________________________________________


1- المصدر نفسه 2: 130.
2- ثواب الأعمال: 17.

ص: 100

حيث يصف فيه حال الوافدين إلى الكعبة الطائفين بها... بالقول:

«وفرض عليكم حج بيته الحرام»

، وفي آخر هذه الخطبة في الصفحة 45 من نهج البلاغة لصبحي الصالح، قال عليه السلام أيضاً:

«فرض حجه، و أوجب حقه، وكتب وفادته، فقال سبحانه: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ»- الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام

- أي يلوذون به ويعكفون عليه. ثم قال عليه السلام:

«وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته»

. ثم راح عليه السلام يصف و يثني على من اختارته السماء وكانوا بحق وحقيقة حجاج بيته الطائفين به والعاكفين فيه والقائمين والركع السجود، فاستحقوا بذلك أن يقول علي عليه السلام فيهم:

«واختار من خلقه سماعاً، أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه

». إن هؤلاء هم الذين من أجلهم جاء أمر اللَّه تعالى لنبيه إبراهيم الخليل عبر آيتين قرآنيتين: «

وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» (1)

، «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (2)

. إنه تطهير من الأوثان والأصنام، التي كانوا يعلقونها على باب

البيت، أو من الفرث والدم الذي يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير بيد إبراهيم وإسماعيل، أو طهراه بنياناً بكماله على الطهارة (3)... إلا أنه ورد في تفسير

القمي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال في تفسير هذه الآية: «

أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ..»

يعني

«نحّ عنه المشركين» (4)

. ولم يتوقف سلام اللَّه عليه عند هذا، بل بين لنا ما كانوا يهدفون إليه في صدق عبادتهم وإخلاص نواياهم، وما كانوا يجنونه من ذلك فقال:

«يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته».

__________________________________________________


1- البقرة: 125.
2- سورة الحج: 26.
3- أنظر مجمع البيان في تفسير الآية 125، من سورة البقرة.
4- راجع البحث الروائي حول الآية في تفسير الميزان.

ص: 101

ما أعظمها من تجارة وما أزكاها! وما أطيبها من أرباح وأحلاها! راحوا يتسابقون إلى اقتطافها، ويسارعون إلى اقتنائها بلهفة عالية وشوق عظيم! وما هي هذه الأرباح؟! وأين تكمن هذه الأرباح؟! إنها الأعظم ثواباً والأكبر أجراً، إنها التوبة والمغفرة! إنها هناك حيث الجنة، التي عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين!

فالأمر الإلهي كان تكليفاً لآدم عليه السلام وولده، وبالتالي فهو دليل على وجود البيت في زمانه، وإلا كيف يؤمرون بزيارته...؟!

أن يثنوا أعطافهم نحوه:

ثنى عطفه إليه، أي مال وتوجه إليه، أي يقصدوه ويحجوه، وعطفا الرجل: جانباه.

فصار مثابة،

أي يثاب إليه ويرجع نحوه مرة بعد أخرى.

لمنتجع أسفارهم:

أي لنجعتها، والنجعة هي طلب الكلا في الأصل، ثم سمي كل من يروم النفع منه منتجعاً، أي محل الفائدة منها.

وغاية لملقى رحالهم:

أي أن البيت صار هو الغرض وهو المقصد، وعنده تلقى الرحال، بأن تحط رحال الإبل عن ظهورها، ويبطل السفر، لانهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة. وملقى مصدر ميمي، أي نهاية حصر حالهم عن ظهور إبلهم.

تهوي إليه ثمار الأفئدة:

ثمرة الفؤاد: سويداء القلب، ومنه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد. وتهوي إليه أي تتشوقه وتحنّ نحوه، أو تسرع سيراً إليه. والمراد بالثمار هنا الأرواح، وهو ما يذهب إليه صبحي الصالح.

المفاوز: جمع مفازة. والفلاة سميت مفازة إما لأنها مهلكة من قولهم: فوز الرجل أي هلك، وإما تفاؤلًا بالسلامة والفوز، والرواية المشهورة

«من مفاوز قفار»

بالإضافة. وقد روى قوم

«من مفاوز»

بفتح الزاء، لانه لا ينصرف، ولم يضيفوا، جعلوا

«قفار»

صفة... الفلاة التي لا ماء فيها. والسحيقة: البعيدة.

والمهاوي: المساقط أو الهوات، أي منخفضات الأراضي. أما الفجاج فهو جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين، أو الطرق الواسعة بين الجبال.

ص: 102

يهزوا مناكبهم:

يحركهم الشوق نحوه، إلى أن يسافروا إليه، فكنى عن السفر بهز المناكب وهي رؤوس أكتافهم.

يرملون،

الرمل: السعي فوق المشي قليلًا، فهو ضرب من السير فوق المشي ودون الجري.

شعثاً غبراً:

أي لا يتعهدون شعورهم، فشعورهم منتشرة ملبدة. كما أنهم لا يهتمون بثيابهم ولا بأبدانهم، التي علاها الغبار.

وشوهوا بإعفاء الشعور:

غيّروا محاسن صورهم، بأن أعفوا شعورهم، فلم يحلقوا ما فضل منها وسقط على الوجه، ونبت في غيره من الأعضاء، التي جرت العادة بإزالتها عنها، فتركوها بلا حلق ولا قص.

وتمحيصاً بليغاً:

التمحيص هو التطهير من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه، ويأتي التمحيص بمعنى الامتحان والاختبار. وبما أن الإمام عليه السلام ذكر كلا منهما فقال: وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً، فالمناسب أن نأخذ بالمعنى الأول أي تطهيراً بليغاً.

جعله اللَّه سببا لرحمته، ووصلة إلى جنته:

إنها نتيجة من يجتازون ذلك الامتحان، إنها الخاتمة التي يمنّ اللَّه تعالى بها على عباده الفائزين باختبار السماء.

فكان هذا البيت بترابه و بأحجاره وبأجوائه قاعة امتحانية اختبارية تمحيصية كبرى لكل النفوس والأرواح والأجسام، التي أوت إليها وقد وطنت جهدها وكدحها ومالها وفراق أهلها وأحبتها لاجتياز ذلك الامتحان والفوز بما هيأته

ص: 103

السماء من درجات عالية ورتب باهرة.

إنها رحمة اللَّه سبحانه، التي وسعت كل شي ء، وإنها جنة اللَّه عز وجل، التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. حقاً إنه سبب ما أعظمه! حقاً إنه وصلة ما أجلها وأجملها! حقاً إنهما طريقان مباركان ينتهيان برحمة اللَّه تعالى وجنته! حقاً إنه دار ضيافة ما أكرم صاحبها وما أطيب موائدها! حقاً إنها رحلة عطاء، وأي عطاء! إنه عطاء السماء الذي لا حدود له! حقاً إنه جزاء ما أعدله جاء على قدر الابتلاء!!...

يقول الإمام جعفر الصادق عليه السلام:

«وهذا بيت استعبد اللَّه به خلقه، ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محل الأنبياء وقبلة المصلين، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال...» (1)

. وهكذا تلتقي كلماتهم عليهم السلام في

كون البيت وضع للاختبار والابتلاء، وانه باب رحمة ونجاة للعباد...

وفي هذا المقطع يتناول الإمام عليه السلام موقعاً آخر مغايراً للموقع الأول، وما لو قدّر أن يكون موضعاً للكعبة. وما لو كانت مواد بنائها غير تلك التي بنيت منها.

ماذا سيترتب على هذا التغيير؟ إنه سؤال كبير وخطير! وهو ما سنرى جوابه، الذي لا يقل أهمية عنه، وسنراه فيما بعد الفقرات التالية:

وسهل وقرار:

أي في مكان بدرجة من السهولة يستطيع معها الناس الاستقرار فيه، ولا ينالهم من المقام به مشقة. والقرار يأتي أيضاً بمعنى: المطمئن من الأرض.

وجم الأشجار:

أي كثير الأشجار.

داني الثمار:

قريبها.

ملتف البنى:

أي مشتبك العمران كثيره. البرة: الواحدة من البر، وهو

__________________________________________________


1- سفينة البحار 1: 211.

ص: 104

الحنطة. السمراء: أجودها، الأرياف: جمع ريف: الأرض الخصبة، أو الخصب والمرعى في الأصل وهو ههنا السواد والمزارع. والعراص: جمع عرصة، الساحة التي ليس بها بناء. محدقة: أي محيطة. ومغدقة: غزيرة، والغدق: الماء الكثير.

ناضرة: ذات نضارة ورونق وحسن. هذا فيما يخص موقع البيت.

أما فيما يخص بناءه، فيقول عليه السلام:

«ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمردة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء».

فالزمرد: الزبرجد: وهو حجر نفيس أخضر اللون شديد الخضرة شفاف.

وأشده خضرة أجوده وأصفاه جوهراً، واحدته زمردة. وقيل: هو حجر كريم ذو ألوان كثيرة، أشهرها الأخضر المصري والأصفر القبرصي.

الياقوت: حجر من الأحجار الكريمة، معرب، وهو أكثر المعادن صلابة بعد الماس، ولونه في الغالب شفاف مشرب بالحمرة أو الزرقة أو الصفرة، وأجوده الأحمر الرماني. واحدته أو القطعة منه ياقوتة، الجمع: يواقيت.

وهنا تكمن الإجابة عن السؤال، الذي ذكر أعلاه، والإجابة التي ذكرها الإمام عليه السلام تتوفر على عبارتين:

الأولى: جاءت بعد:

«ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام بين جنات وأنهار...»

، «لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء»

هذا هو الجواب الأول. وهو أمر يتعلق كما هو واضح بالأجر والثواب، وأن الأجر والثواب يأتي على قدر المشقة التي تواكب التكليف المراد من المؤمن إنجازه والقيام به، والتكليف هنا هو مناسك هذه الفريضة المباركة ومشاعرها في الديار المقدسة.

فكلما كانت التكاليف متعباً أداؤها، كلما تعاظم أجرها، وعظم ثوابها. يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل.

الثانية: جاءت بعد:

«ولو كان الأساس المحمول عليها...» «لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع

ص: 105

المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره».

فمصارعة الشك، وروي مضارعة الشك بالضاد المعجمة، ومعناه مقارنة الشك ودنوه من النفس، وأصله من مضارعة القدر بكسر القاف وتسكين الدال، أي إذا حان إدراكها، ومن مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب. ويذهب الراوندي- كما يذكر ابن ابي الحديد، في تفسيره لهذه الكلمة (مضارعة الشك)- إلى أن معناها:

مماثلته ومشابهته. ولكن ابن أبي الحديد يستبعد هذا لأنه لا معنى للمماثلة والمشابهة هاهنا، كما يذهب أيضاً إلى أن الصحيح مصارعة الشك بالصاد المهملة.

ولنفى معتلج الريب: أي اعتلاجه، ومعتلج مصدر ميمي من الاعتلاج أي الالتطام، اعتلجت الأموال أي التطمت. فيكون المعنى: زال تلاطم الريب والشك من صدور الناس، أو لنفى اضطراب الشك في القلوب.

يجيب أمير المؤمنين عليه السلام عن هذا بقوله: «إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناًللتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللًا لعفوه».

إذن هذه هي النتيجة لكل هذا الامتحان والاختبار. فما أعظمها من نتيجة! وما أجملها من جائزة! إنها أبواب إلى فضله وأسباب إلى عفوه. ونبذ للباس التكبر وهوخلق- كما تعلمون- ردي ء، وتثبيت للتواضع في النفوس وهو خلق- كما تعلمون- عظيم. وهو ما يجعل فريضة الحج موقعاً ومناسك مدرسة تربوية أخلاقية ميدانية رائعة، لاتجد لها مثيلًا على الإطلاق. هدفها الأكبر وغايتها العظمى تربية الإنسان فرداً ومجتمعاً، فيعود إلى أهله ومجتمعه مبلغاً- مبشراً ونذيراً- فتتواصل عملية البناء في المجتمعات الإسلامية وفيما بينها وتنمو، وتتكامل النفوس وتتعزز الأواصر وتتمتّن العلاقات على أسس إيمانية واعية.

لقد راحت كلمات أمير المؤمنين عليه السلام ترسم الحكمة العظيمة والفلسفة الرائعة لموسم الحج، وقد امتحن اللَّه تعالى عباده بهذه المواقع، فراحوا- نفوساً وأجساداً- يطوفون بها خاشعة أرواحهم آمنة مطمئنة، وهي تتزاحم لاستلامها والتبرك بها،

ص: 106

لا يرتابها القنوط من رحمته تعالى، وكيف يداخلها اليأس من رحمته وهي في ضيافته تعالى؟! وهم يقرأون ويسمعون قوله تعالى: «

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (1)

ويقرأون ويسمعون أيضاً قوله تعالى: «

.. وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» (2)

؟! إنه الانقياد الخالص للَّه تعالى والتسليم له والطاعة المطلقة

لإرادته والامتثال لأوامره والتطبيق الجاد الكامل لها، والثقة العالية بعفوه ورحمته ورضاه. وإنه الحكمة البالغة أن يبتلي اللَّه عز وجل عباده ببذل المال والجهد للوصول إلى بيته المكرم للطواف به والتعبد عنده والتضرع بجواره، وهو لم يكن من زمردة خضراء و لم يكن من ياقوتة حمراء ولم يكن من نور وضياء، وهي نفائس تستحق أن يشدّ لها الرحال، وتستحق أن يتحمل من أجلها الإنسان العناء والمخاطر، وبذل المال، وفراق الأهل والأحبة، إذا ما قسنا الأمور بالموازين الدنيوية، وأن الإنسان ميّال للمال وللمتعة والراحة والدعة «

وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» (3)

، أما أن يتحمل الحاج كل ذلك للمجي ء إلى بناء من البساطة بدرجة

كبيرة متكون من أحجار وصخور وطوب، ضمته أرض جرداء تحيطها جبال صماء، كل شي ء فيها يتصف بالجفاف والشحوب بل وحتى بالذبول، ليعبد ربه ويستغفره ويتضرع إليه في تلك الأيام التي باركتها السماء. فهو أمر يحتاج إلى رصيد إيماني راسخ ويقين ثابت وقناعة بما يترتب على ذلك من أجر وثواب، ويحتاج أيضاً إلى صبر ومثابرة ومجالدة لهوى النفس ومجاهدة لرغباتها في الدعة والاسترخاء، وبغضها للمتاعب وركوب المخاطر.

إنها إرادة اللَّه تعالى في أن تكون نوايا القاصدين والذين يؤمّون بيته الحرام نابعة من وعي وإيمان، ومن معاناة صادقة خالصة من كل شائبة مادية ودوافع

__________________________________________________


1- الزمر: 53.
2- الحجر: 56.
3- العاديات: 8.

ص: 107

دنيوية... ولو قدر أن يكون موقع الكعبة كما يصفه الإمام عليه السلام:

«بين جنات وأنهار، وسهل وقرار، داني الثمار، ملتف البنى، متصل القرى».

وليس هذا فقط بل هو أيضاً كما يصفه عليه السلام:

«بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة»

. ولو قدر أن يكون بناؤها من أحجار غير تلك الأحجار التي هي عليها، أي من أحجار معروفة بنفاستها كالتي ذكرها الإمام عليه السلام:

«زمردة خضراء، وياقوتة حمراء»

ثم يضيف عليها شيئاً آخر ألا وهو:

«ونور وضياء»

... لرأيت- إذا ما اكتملت هاتان الصورتان صورة الموقع وصورة البناء- ماذا ستكون عليه الكعبة من مزرعة رائعة الجمال، و من بريق وهاج، ومن رونق جذاب يأخذ بالقلوب والأبصار، وعندئذ تكون منتجعاً تستروحه الأفئدة والأبدان، وتستجمله النفوس والأجسام، ومكاناً للاسترخاء والدعة والطمأنينة، يستريح فيه القادمون من وعثاء الطريق ومشاق الرحلة، وبالتالي يغدو مكاناً للنزهة والاستجمام لا ميداناً للاختبار والامتحان! هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، فإن نفاسة هذه الأحجار هي التي تشكل الدافع القوي بل الأول لتصديقهم واعتقادهم بأن هذا البيت هو بيت اللَّه، ثم تدفعهم إلى الطواف حوله والمكوث عنده، وهو قوله عليه السلام:

«لخفف ذلك مصارعة الشك في الصدور»

. ومن ناحية ثالثة، فإن زيارة الكعبة تكون بسبب إعجابهم وانبهارهم بدررها ونفاسة أحجارها، ولكي يتمتعوا بمنظر البيت وزينته. وبالتالي لا يكون دافعهم وقصدهم مجاهدة إبليس، الذي يدعوهم إلى ترك حج هذا البيت، والذي يشجعهم على اختيار الدعة والراحة والسلامة وهو مبدؤه ومبتغاه. لهذا جاء قول الإمام عليه السلام:

«ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب»

من ناحية رابعة.

إنها قصة الابتلاء والامتحان والاختبار والتمحيص، التي تؤدي بدورها ونهايتها إلى نتيجة كبيرة طالما انتظرتها النفوس الصابرة وتشوقت إليها القلوب المؤمنة، وتلهفت إليها الأرواح المطمئنة. إنها رحمة اللَّه تعالى، والوصول إلى جنته

ص: 108

التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين! إنها المعادلة العادلة بين عظمة الابتلاء وعظمة الجزاء، حقاً

«كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل»

. التشابه في الابتلاءات: إنها إرادة اللَّه عز وجل ومشيئته هنا في ابتلائه الناس بالكعبة بموقعها وأحجارها، كما هي إرادته ومشيئته في أن يخلق نبيه آدم عليه السلام من طين لا من نور وطيب كما هو قول الإمام علي عليه السلام:

«ولو أراد اللَّه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل»

، أما التعليل فهو:

«ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة».

ثم يبين الإمام عليه السلام حقيقة هذا الابتلاء، التي تنفعنا في هذا المورد وفي غيره من موارد الابتلاء الأخرى، والتي منها موضوع مقالتنا وهو الكعبة، التي نجهل الكثير من حكمة وجودها والاختبار والتمحيص بها. فيقول عليه السلام:

«ولكن اللَّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم»

. وهذا وذاك هو عين الحكمة في أن الأنبياء والرسل عاشوا في ضعف وفقر وعوز، وهو ما يتناوله الإمام عليه السلام مبيناً ما سيؤول إليه ذلك لو كان كما في النص التالي:

«ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام، وعزة لا تضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشتد إليه عقد الرحال. لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة، والحسنات مقتسمة» (1)

. وهو يشبه اختبارات

أخرى تمر على العباد وهي تحمل الهدية والبشرى، أتعلمون لمن هذه البشرى؟! إنها للصابرين وهم الذين خرجوا من قاعة الاختبار بأنواعه المتعددة فائزين «

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اْلأَمْوالِ وَ اْلأَنْفُسِ

__________________________________________________


1- نهج البلاغة: الخطبة القاصعة.

ص: 109

وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» (1)

. إنها سنة السماء في الاختبار

ليتبين الحق من الباطل والخالص من الشائب «

أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ...» (2)

. إن فريضة الحج تعد اختباراً عظيماً يدخله المؤمن ولو مرة واحدة في حياته، فطوبى للذين قبلت السماء حجهم فهم الصابرون الناجحون بالامتحان الرباني الفائزون بالثواب العظيم!

وقفة:

هذا و أن ما نلا حظه اليوم في الكعبة خاصة و عموم مكة والمدينة وباقي المدن من وضع عمراني ملفت جامع لوسائل الراحة، ومن أبنية للعيش والسكن والاستقرار،، وما نراه من مؤسسات ومراكز لرعاية الحجيج وتسهيل أمورهم...

إضافة إلى تطور وسائل النقل بين دول العالم.. هدف كل هذه وغيرها توفير الأمان والسلامة والراحة وتخفيف معاناة المسافرين والقادمين لأداء فريضة الحج والزيارة.. جعلني أستطيع أن أقول: ما عادت رحلة الحج متعبة وشاقة كما كانت عليه، بل إن سفرة الحج في عصرنا غدت سفرة ممتعة، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب! وقد يكون كل هذا سبباً في تقليل الأجر والثواب إذا ما لاحظنا بأن الثواب على قدر المشقة كما يذكر، وأن هناك مدخلية للمشقة في زيادة الأجر.

وهذه المتاعب والمشقة و بسبب ما ذكرناه أعلاه قد تنعدم أو

__________________________________________________


1- البقرة: 155.
2- العنكبوت: 2.

ص: 110

تقل كثيراً، وبالتالي قد ينقص الثواب، فما علينا والحالة هذه إلا مزيداً من الصدق والإخلاص في أداء المناسك، وإلا مضاعفة الأعمال التي ترضي اللَّه سبحانه، والإكثار من عبادته صلاةً ودعاءً وطوافاً وسعياً... وعدم تضييع الوقت بغير النافع في هذه المناسبة التي قد لا تعود أو لا نوفق لمثلها والعياذ باللَّه، حتى لا يفوتنا الأجر الأكمل والثواب الأعظم، ولعل ما نقدمه من عبادات بصدق يعوضنا عما قد يفوتنا من الثواب. واللَّه تعالى العالم وهو الغني الكريم.

الحجر الأسود الناطق الشاهد:

صحيح أن هذه التي يطوف بها الناس أبنية من أحجار صماء لا تضر ولا تنفع، ولكن هذا لا يمنعها من أن تنطلق لتشهد بإذن ربها لمن وافاها ولمن عاهدها، فهي ليست بعيدة عن ملكوت السماء، وعما أثبتته لها السماء من حكم ومعان ودور ينتظرها هناك، فقد تختزن هي والمناسك من حولها أسراراً وأموراً ووظائف عهدت إليها، وقد خبئت أو أخفيت عنا لمصالح اللَّه أعلم بها، أو صعبت علينا معرفتها ونحن بها جاهلون. تظهر لنا هناك يوم القيامة: «

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» (1)

، وعند مليك مقتدر وهو «

الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ» (2)

. وقد وردت أحاديث عديدة عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام بخصوص الحجر الأسود دون غيره من الأحجار، لما يتمتع به من امتيازات لا تتوفر في غيره من الأحجار والصخور في الكعبة أو في المواقع الأخرى من الحرم الشريف، وهذه الخصوصية للحجر الأسود من أنه يمين اللَّه تعالى في الأرض، وأنه ناطق شاهد يوم القيامة على من زاره ووافاه وعاهده كما صرحت به روايات هذه المدرسة، هذه الخصوصية لم أجدها لغيره، ولعله اختص بها دونه، وكيف لا تكون له هذه الميزة وهذه الفضيلة والطواف يبدأ منه وينتهي إليه؟! وكيف لا ينطلق لسانه بتلك

__________________________________________________


1- آل عمران: 106.
2- فصلت: 21.

ص: 111

الشهادة ويستحب للحاج أن يقول عنده إذا ما استلمه أو قبله أو أشار إليه: «هذه أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته، لتشهد لي بالموافاة، اللهم تصديقاً بكتابك، وعلى سنة نبيّك، أشهد أن لا اله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، آمنت باللَّه وكفرت بالجبت والطاغوت وباللات والعزى وعبادة الشيطان، وعبادة كل ندّ يدعى من دون اللَّه» (1).

وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أن عمر بن الخطاب مر على الحجر الأسود، فقال: واللَّه يا حجر إنا لنعلم أنك لا تضر ولا تنفع، إلا أنا رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحبك فنحن نحبك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كيف يا ابن الخطاب! فواللَّه ليبعثنه اللَّه يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين اللَّه عز وجل في أرضه يبايع بها خلقه. فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب.

وعن عبد اللَّه بن سنان أنه قال: «بينا نحن في الطواف إذ مر رجل من آل عمر، فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره وأغلظ له وقال له: بطل حجك، إن الذي تستلمه حجر لا يضر ولا ينفع. فقلت لأبي عبد اللَّه... فقال عليه السلام: كذب ثم كذب ثم كذب، إن للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة». ثم ذكر حديث خلق آدم وأخذ الميثاق على ذريته، وأن الحجر التقم الميثاق من الخلق كلهم. إلى أن قال:

«فمن اجل ذلك أمرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر: أمانتي أديتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة، آمنت باللَّه وكفرت بالجبت والطاغوت واللات والعزى وعبادة الشيطان وعبادة الأوثان وعبادة كل ند يدعى من دون اللَّه عزّوجل» (2).

وقد يكون الاستلام أو التقبيل تعبيراً عن تجديد للبيعة أو للعهد والميثاق، ولهذا راح الحجاج يتزاحمون بشدة على استلامه وتقبيله ومسحه، وإن لم يتيسر

__________________________________________________


1- وسائل الشيعة 13: 302، 319.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 330.

ص: 112

ذلك يشار إليه باليد، مع أن هذا كله ليس بواجب وإنما هو مستحب لا أكثر، ولهذا يجيب الإمام الصادق عليه السلام من كان يستغرب منه تركه استلام الحجر الأسود فيقول:

«أكره أن أؤذي ضعيفاً أو أتأذى» (1)

. وأجاب عليه السلام عن سؤال وجه إليه عن امرأة حجت وهي حبلى يزاحم بها حتى تستلم الحجر. فقال عليه السلام:

«لا تغرروا بها» (2)

. وورد عنهم عليهم السلام: «إن اللَّه وضع عن

النساء أربعاً، وعدّ منهن استلام الحجر».

ولزيادة الاطلاع حول الحجر الأسود في قصته التاريخية والفقهية والروائية في المذاهب الإسلامية، تراجع مقالتنا في العدد 4 من هذه المجلة، 151- 179.

الدعاء:

هذا، وقد اتخذت مدرسة أهل البيت عليهم السلام من الدعاء وسيلة بل أعطته دوراً كبيراً ورئيسياً لتحقيق الأهداف والمقاصد المترتبة على وجود هذا البناء المقدس بكل مفاصله، التي أوجبت السماء على المكلفين بالحج والمعتمرين ارتيادها وتأدية ما عليهم من أعمال ترافقها الأدعية، التي لا تجد مكاناً يخلو منها، ولا مفصلًا عبادياً إلا وهي غذاؤه، بل لا تجد لساناً إلا ويتمتم بها، أو يكون غير هذا والدعاء لب العبادة أو مخها، ومن خلاله يتم التسامي الروحي والتعلق بعالم الغيب، وتثبيت الإيمان به، وتركيز التوحيد وتعظيمه، والفوز برضا الرحمن، واتباع سنة الأنبياء والأئمة عليهم صلوات اللَّه وسلامه، وقبول الأعمال، وغفران الذنوب...؟! وقد وردت أدعية كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام، اكتظت بها كتب الحديث، واحتلت مكانة كبيرة في مناسك هذه الفريضة المباركة.. وقد جمع طاقة جيدة منها سماحة الأخ الأستاذ الشيخ محمد علي المقدادي في مقالته القيمة: مع أدعية الحج. المنشورة في العدد 18 من هذه المجلة.

__________________________________________________


1- الكافي 4: 409.
2- التهذيب 5: 399.

ص: 113

موعد مع إبراهيم الحج مرآة التاريخ البشري

اشارة

عبدالجبّار الرفاعي

إن استيعاب مضامين الحج يتوقف على معرفة النبي إبراهيم عليه السلام، بل إن اكتشاف الأديان السماوية، وهكذا دين الإسلام، لا يمكن أن يتحقق من دون التعرف على روح دين إبراهيم، ونمط «الثقافة الابراهيمية».

ذلك أن إبراهيم هو أبرز داعية للتوحيد في التاريخ، فهو الذي حطم الأوثان، وأشاد الكعبة المشرفة، وسواها من معالم التوحيد في الأرض.

وباتت مسيرته وخطواته ومفهوماته تطبع دعوة التوحيد، وتظل حية، فاعلة، لاتنضب روافدها، ولاتضمحل أوتذبل أبداً. (1)

هذا ما يقوله الدكتور علي شريعتي، ويشدد عليه في مواضع مختلفة من آثاره، معتبراً وعي الدور الإبراهيمي في حياة البشرية مدخلًا أساسياً لدراسة رحلة البشرية الطويلة، وأديانها الكبرى. كما يعتقد بأن الحج مرآة يتجلى فيها تاريخ الإنسان، عبر ممثلين تنتخبهم السماء، بدءاً بآدم، وإبراهيم وإسماعيل، ثمّ محمد عليهم السلام. (2)

وحيث ترتسم خطاهم في البيت الحرام والمشاهد المشرفة في مكة المكرمة، عانق مساراً آخر للإنسان، طمسته مدونات المؤرخين، ولم تتحدث عنه بقايا الحضارات التليدة، وآثارها.


1- الدكتور علي شريعتي، ميعاد با إبراهيم موعد مع إبراهيم: 17، 53- 54.
2- المصدر السابق: 210.

ص: 114

ويحاول شريعتي صياغة «فلسفة تاريخ» محورها حركة الأنبياء، وإبراهيم خاصة، وتجربته الإيمانية العميقة، وطبيعة المنعطفات الهامة في حياته، لاسيما الحقبة المكية منها، التي تضافرت جهوده فيها مع زوجه هاجر، وولده إسماعيل.

البيئة الثقافية لشريعتي

ولد شريعتي في قرية «مزينان» التابعة لمدينة مشهد في خراسان سنة 1933. وخراسان بحكم موقعها الجغرافي، وتاريخها، والسياقات الثقافية والاجتماعية لها، بمثابة عالم مصغر للحياة الدينية في إيران.

أن الحج مرآة يتجلى فيها تاريخ الإنسان، عبر ممثلين تنتخبهم السماء، بدءاً بآدم، وإبراهيم وإسماعيل، ثمّ محمد عليهم السلام

أما والد شريعتي فهو محمد تقي، أحد أساتذة التيار الاسلامي المستنير في إيران. انخرط شريعتي الأب في الحوزة العلمية في مشهد سنة 1928، وعمل فيما بعد معلّماً في مدارسها الثانوية. واهتم بتأسيس منتدى ثقافي إسلامي، يعنى باحتضان الشباب ورعايتهم، وتعليمهم حقائق الإسلام، ويتلمس لهم سبل مواءمة الإسلام مع العصر، والتغلب على الإشكالات، والإجابة عن مايتوالد لديهم من أسئلة لاهوتية جديدة، لم يألفها علم الكلام أوالفقه من قبل.

وقد تمحور حول محمد تقي شريعتي نخبة من الشباب، ممن كانوا يدرسون في الجامعة والحوزة العلمية في مشهد، وطفقوا يبحثون عن معلم أومرشد ينفتح على أفكارهم، ولا تستفزه استفهاماتهم، ولا تفزعه رؤاهم النقدية للتراث والواقع. فكان شريعتي الأب يحاول أن يصغي إليهم باهتمام، ويقدم لهم تفسيراً للقرآن، لايكرر آراء السلف، ويوظف بعض مكاسب العلم الحديث في استنطاق النص، ويسعى لوصل الواقع بالقرآن، والقرآن بالواقع، متجاوزاً ماراكمه المفسرون من قطيعة بينهما، بعد إغراق المفسرين مصنفاتهم بمباحث لغوية

ص: 115

بيانية، ومفاهيم كلامية ميتافيزيقية، تتحدث عن عوالم الملكوت، فيما تهمل الإنسان وهمومه في الأرض.

في هذه البيئة العائلية نشأ علي شريعتي، وترعرع في المحيط الثقافي الذي شكّله والده، واتسع ليضم جماعة من طليعة الإسلاميين في مشهد. وتدرج في مراحل الدراسة، وظهرت مبكراً موهبته، وتفتقت عقليته النقدية، وروحه المتوثبة، عندما كان طالباً في المرحلة الثانوية، فانحاز للتيار الوطني الذي تزعمه الدكتور محمد مصدق، سنة 1954.

وفي عام 1955 م دخل كلية الآداب بجامعة مشهد، وتخرج فيها بدرجة امتياز في اللغة والأدب الفارسي سنة 1958، ثم واصل دراسته في جامعة باريس، وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، ودكتوراه أخرى في تاريخ الأديان، سنة 1963.

وكانت أيام باريس أخصب فترة في تكوينه الفكري. ونشاطه السياسي، فقد درس الاتجاهات الفكرية الراهنة في فرنسا والغرب، وتعلم على يد بعض المفكرين المعروفين ذلك الحين في باريس، وتعرف على آخرين ممن لم يتلمذ عليهم، وظل مثابراً على التواصل معهم، كماتعززت علاقاته بالثوار الجزائريين، واشترك في نشاطاتهم، وارتبط بعلاقة مع المفكر والمناضل فرانتس فانون، الذي ترجم للفارسية شيئاً من كتابه «معذبو الأرض».

وفي عام 1964 عاد إلى ايران، فسجن لمدة ستة أشهر، بسبب مساهماته في نشاطات مناهضة للشاه خارج إيران.

ومنذ سنة 1966 عمل أستاذاً مساعداً لمادة «تاريخ الإسلام» في جامعة مشهد. وتعرض في السنوات التالية للمراقبة والملاحقة من الشرطة السرية، واعتقل مرات عديدة، وفصل من عمله، ومنع من أن يحاضر أويشارك في ندوات، ولبث في السنين الأخيرة من حياته في وطنه تحت مراقبة مكثفة، أعاقت حركته، فاضطر للهجرة إلى لندن، وتوفي هناك

ص: 116

في السادس من حزيران 1977، بعد فترة وجيزة من وصوله، وأحاطت بموته ظروف مبهمة غامضة، تنوعت تفسيراتها، ودفعت أنصاره ومريديه للقول بتدبير السافاك مؤامرة لقتله.

لقد كان شريعتي الأب المعلم الأول لشريعتي الإبن، فكانت رؤيا الأب الحرة الجريئة تضي ء عقل الإبن، وتوقد وعيه، وتقحم تفكيره حقولًا لم يفكر فيها من قبل. مضافاً إلى التحاق علي شريعتي في مطلع حياته بالصراع السياسي، وإصراره على مواصلة الدرب فيما بعد، واطلاعه على التراث، وتخصصه في علم الاجتماع ومقارنة الأديان، وعلاقاته المميزة مع مجموعة من المفكرين، وسعيه الحثيث لمواكبة معطيات الدراسات الإنسانية في الغرب. كل ذلك أتاح له إمكانات، ومنحه مهارات مميزة في دراسة المجتمعات الإسلامية، والانطلاق من مجتمعه والظواهر السائدة فيه، بوصفه أنموذجاً لدراسة الاجتماع الإسلامي.

علم اجتماع الدين

يمكن القول: إن علي شريعتي كان من أبرز خبراء ( (علم اجتماع الدين)) في العالم الإسلامي، في العقدين السادس والسابع من القرن العشرين، ذلك أن آثاره، بما تشتمل عليه من كتابات ومحاضرات، تعالج قضايا ترتبط بشكل مباشر أوغير مباشر، بهذا الحقل.

ولعل التكوين العلمي لشريعتي هو الذي وفر له عدة معرفية لخوض مغامرة البحث في هذا الحقل، الذي كان وقفاً على المستشرقين، والباحثين الغربيين المهتمين بالاجتماع الإسلامي.

ص: 117

وعندما نعود إلى تراثه نجده يستعير جملة أدوات منهاجية، وأفكاراً حديثة، من مفكرين فرنسيين وألمان، فقد تأثر برؤى ريمون آرون، وجاك بيرك، وهنري كوربان، وفرانتس فانون، وروجيه

لقد استقى شريعتي أدواته التحليلية من علم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وفلسفة التاريخ، والانثروبولوجيا، والميثولوجيا، وهيمنت على عقله الفلسفة الاجتماعية الفرنسية والألمانية أكثر من سواها، لكنه ظل أقل تعاطياً مع مقولات الفلسفة والآراء الفلسفية، ربما بسبب تخصصه ودراساته في الاجتماع ومقارنة الأديان.

غارودي، وجورج كوروتيش، ولويس ماسينيون، وجان بول سارتر، والبير كامو.

وترد في كتاباته إشارات إلى:

هيغل، وماركس، وهوسرل، وياسبرس، وهايدغر، وماركوزه، تدلل على أن لمناهج ومفاهيم هؤلاء المفكرين تأثيراً بالغاً في صياغة عقليته ونسقه الفكر ي.

لقد استعار شريعتي بعض آراء المثالية التاريخية لهيغل، كما أخذ من ماركس «البناء التحتي والفوقي، والصراع الطبقي، والأيديولوجيا، والاغتراب». واقتبس فكرة «سجن الذات» من هايدغر، وعممها إلى ما أسماه «السجون الأربعة» بعد أن ضم إليها سجون: «الطبيعة، والمجتمع، والتاريخ». كذلك استفاد من ظاهريات هوسرل (1)، واهتم بسارتر، وأفاد من وجوديته في تحليل بعض الظواهر. كما حاول أن يتوكأ على فكرةالاعتراض التي قررهاالبير كامو، بقوله: «أنا أعترض، إذن أنا موجود».

يكتب شريعتي «إنني اتخذت من كلمة البير كامو هذه درساً لحياتي، على أساس نفس الرسالة والمسؤولية الصغيرة التي أحس بها، بالنسبة لوعيي وإحساسي وعقيدتي» (2).

لقد استقى شريعتي أدواته التحليلية من علم الاجتماع، وعلم


1- مهرزاد بروجردي. روشنفكران إيران وغرب المثقفون الإيرانيون والغرب. ترجمة: جمشيد شيرازي:167- 168.
2- الدكتور علي شريعتي. اسلام شناسي معرفة الإسلام: 233.

ص: 118

الاقتصاد، وفلسفة التاريخ، والانثروبولوجيا، والميثولوجيا، وهيمنت على عقله الفلسفة الاجتماعية الفرنسية والألمانية أكثر من سواها، لكنه ظل أقل تعاطياً مع مقولات الفلسفة والآراء الفلسفية، ربما بسبب تخصصه ودراساته في الاجتماع ومقارنة الأديان.

وكان يدرك أنه اجترح درباً لم يمهد من قبل لدى الدارسين في ديارنا، فالدراسات الإسلامية في الحواضر العلمية المعروفة، وكليات الدراسات الشرعية تستعين بالمناهج والأدوات الموروثة، ولاتتقن، وربما تخشى، التعاطي مع مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة.

ولعل روح الاقتحام التي اتسمت بها شخصية شريعتي، هي ماحفزه للسير في ذلك الدرب، والمغامرة بالمضي فيه حتى النهاية، بالرغم من الهجاء البالغ القسوة الذي تعرض له، وشتى ألوان التهم، وفتاوى تفسيقه وضلاله. إنه كان مدركاً بما يحف بمغامراته من مخاطر، وما يكتنفها من مزالق، باعتباره يدشن نمطاً جديداً في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي، مستنداً إلى مفاهيم ومناهج مختلفة. فقد تحدث عن ذلك بصراحة: «أهم درس استطيع أن أعطيه لطلابي كمعلم، هو أن عليهم، لأجل معرفة عميقة بالدين، انتهاج سبيل العلماء غير المتدينين، بل المناهضين للدين، أوحتى من كان ينشد محاربة الدين.

أنا أسلك هذا السبيل، وأتحدث بنفس اللغة المنددة بالدين، والمتنكرة لدعائمه الغيبية، تحت عناوين: علم الاجتماع، والاقتصاد، وفلسفة التاريخ، وعلم الإنسان. إنّي أتحدث بهذا المنهج الذي أعتبره أفضل المناهج لمعالجة المسائل العلمية والإنسانية. إنه المنهج ذاته الذي نهجته أوروبا منذ القرن الثامن عشر، لدراسة مشكلاتها الإنسانية بجميع أبعادها، ومناوءة الدين في المجتمع. سوف أعالج قضايا الدين حتى من منظور طبقي اقتصادي، لكن بموضوعية، ومن دون تعصب وتحيز ما استطعت» (1).


1- الدكتور علي شريعتي. روش شناخت اسلام منهج معرفة الإسلام: 18- 19.

ص: 119

لقد حسم شريعتي خياره، وقرر استخدام المناهج الغربية في دراسة الدين والاجتماع الإسلامي، ولم يتوقف عند الجدل الواسع الذي لما يزل محتدماً، حول مشروعية دراسة الدين والمجتمعات الإسلامية، بمناهج مستوردة من أديان ومجتمعات أخرى. فبدلًا من اصطفافه بجنب أحد فرقاء الصراع، واستنزاف تفكيره في التدليل على مشروعية أو عدم مشروعية ذلك، بادر لحشد مختلف المناهج في دراساته، ولم يتردد في انتقاء واستخدام أي مصطلح أومفهوم، يحسبه مناسباً لحقل بحثه.

وكأنه، بمغامرته هذه، أراد القول: إنّ السبيل الأمثل لاختبار المناهج وأدواتها هو بتطبيقها مباشرة على ميادين معينة. وإن اكتشاف ماتتمخض عنه عملية التطبيق من معطيات، هو معيار اختبارها. كما أن نتائج التطبيق ستقودنا إلى استئناف النظر في بعض المناهج، وإمكانية تمثلها في سياقات حضارية أخرى، فنستبعد منها أونختزل مالايتسق مع بيئتنا، أو لايمكن توطينه ودمجه في محيطنا الثقافي.

وقد صرح شريعتي بأنه يعمل في دراساته على صياغة رؤية اجتماعية من منظور إسلامي، فمثلًا يلمح إلى محاولته هذه بإشارة دالة قائلًا:

«باعتبار تخصصي العلمي هو في علم اجتماع الدين، وهذا التخصص منسجم مع عملي، فإنّي أسعى لتدوين نوع من علم الاجتماع المرتكز على الإسلام والمصطلحات المستوحاة من القرآن والحديث» (1).

إلّا أنه في مناسبة أخرى يوضح أن دراساته لاتتناول المفاهيم المودعة في المصنفات التراثية، مثلما لاتهمه طبيعة هذه المفاهيم في وعاء الذهن، وإنّما تنصب جهوده على تمثلها في التاريخ، وأنماط تجليها في الاجتماع البشري. فمثلًا يتحدث عن التوحيد الذي يتناوله في دراساته بقوله:

«أعني بالتوحيد حضوره في التاريخ والمجتمع، لا مفهوم التوحيد في عالم الكتب، أو عالم الحقيقة. فليس حديثي بشأن التوحيد الذي تحدث


1- المصدر السابق: 23.

ص: 120

عنه القرآن، ومحمد صلى الله عليه و آله، وعلي عليه السلام.

مايهمني الآن هو التوحيد في المجتمع والتاريخ، والأمر هكذا لدي دائماً» (1).

ويحاول شريعتي استخدام مختلف المنهجيات، والاستعانة بما يطلع عليه من أفكار في العلوم الإنسانية الجديدة، ليوظفها في حقل دراساته، فلا يتردد في الاستعانة بالمعطيات الراهنة في حقل الميثولوجيا، والنماذج الرمزية، أوغيرها. يكتب في سياق استعارته لتلك المعطيات: «إنّني شخصياً أهتم بدراسة الأساطير، ولي علاقة دائمة بالأساطير والنماذج الأسطورية» (2).

ويضيف: «منذ فترة وأنا أعمل في حقل الأساطير، لشغفي بالأسطورة أشد من التاريخ. وأحسب أن ما تشي به الأسطورة من حقائق أوفر من التاريخ، فالأسطورة حكاية وجدت في فكر الإنسان، أمّا التاريخ فهو حقائق أوجدها الإنسان. الأسطورة تحكي التاريخ كما ينبغي أن يكون» (3).

ويمكننا ملاحظة التفسير الرمزي واستعمال الأساليب الحديثة في البحث الميثولوجي في مواضع عديدة من آثار شريعتي.

وتظل محاولة شريعتي، مع جرأتها وريادتها، عرضة لعدد من الإشكالات والأسئلة. باعتبارها توظف أدوات منهاجية متنوعة في دراسة الظواهر الدينية، من دون أن تتنبه إلى أن الأبعاد الميتافيزيقية، التي تنفرد بها تلك الظواهر، ليس بوسعنا إدراكها، واستكناه مضمونها، بوسائل العلوم الاجتماعية الوضعية.

مضافاً إلى أن طائفة من العناصر المنهجية والمفاهيم والمصطلحات التراثية المولدة في سياق نشأة وتطور الاجتماع الإسلامي، يمكن استخدامها، مباشرة، أوبعد تهذيبها، أوتفكيكها، وإعادة إنتاجها.

الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا

عاش شريعتي في عصر طغى فيه صوت النضال، وتسابق المثقفون لتأييد ومساندة الانتفاضات والحركات الثورية، وفي بداية حياته أغواه بريق الشعارات، وشغف بفعل الاحتجاج والاعتراض، فتضامن مع


1- الدكتور علي شريعتي. اسلام شناسي معرفة الإسلام: 269.
2- المصدر السابق: 222.
3- المصدر السابق: 209.

ص: 121

استغاثات الكادحين، ولوعة المحرومين، وأنين المعذبين. وتلاحم في شخصيته المثقف والداعية والباحث والمناضل، وذابت الحدود في وجدانه بين النموذجين، بل أمسى الوجه الحقيقي للمثقف في وعيه هو الداعية، وتحولت الثقافة إلى أيديولوجيا، وتمحورت جهوده في «أدلجة الدين والمجتمع».

يقول شريعتي: «سألني أحد رفاق الدرب: ماهو برأيك أهم حدث وأسمى إنجاز استطعنا تحقيقه خلال السنوات الماضية؟ فأجبته: بكلمة واحدة، هو تحويل الإسلام من ثقافة إلى أيديولوجيا» (1).

ما الذي يقصده بالأيديولوجيا؟

وهل يستطيع أن يحتفظ بموقفه المعرفي كباحث، في الوقت نفسه الذي يوسع دائرة الأيديولوجيا، لتشمل الدين والثقافة والمجتمع؟!

قبل الإشارة إلى ذلك نقتبس نصاً مطولًا من آثاره، يضي ء هذا المفهوم، ويحدّد ملامحه في وعيه.

يكتب: (الأيديولوجيا عبارة عن عقيدة ومعرفة عقيدة. وهي بالمعنى الاصطلاحي، رؤية ووعي خاص يتوفر عليه الإنسان فيما يتصل بنفسه، ومكانته الطبقية، ومنزلته الاجتماعية، وواقعه الوطني، وقدره العالمي والتاريخي، وفئته الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهي المسوّغة لهذه الأمور، والتي ترسم له مسؤولياته وحلوله وتوجهاته ومواقفه ومبادءه وأحكامه، وتدفعه بالتالي إلى الإيمان بأخلاق وسلوك ومنظومة قيم خاصة، فعلى أساس رؤيتك الكونية، وابتناءً على نمط «علم الاجتماع» و «علم الإنسان» و «فلسفة التاريخ» الذي تحمله، يمكن تحديد ما هي عقيدتك في الحياة، وفي علاقتك بنفسك وبالآخرين وبالعالم؟ كيف ينبغي العيش، وما الذي يجب فعله؟

أي مجتمع يتعين بناؤه، وكيف يتوجب تغيير نظام اجتماعي بشكل أنموذجي، وما هي مسؤولية كل فرد حيال المجموع؟ وما هي صراعاته، وأواصره، وأشواقه، ومثله العليا، وحاجاته، ومرتكزاته العقيدية،


1- الدكتور علي شريعتي. الآثار الكاملة 1: 209.

ص: 122

وقيمه الإيجابية والسلبية، وسلوكه الاجتماعي، ومعايير الخير والشر لديه، وبالتالي ما هي طبيعة الإنسان وهويته الاجتماعية؟ وعلى هذا فالأيديولوجيا هي عقيدة تحدد الاتجاه الاجتماعي والوطني والطبقي للإنسان، وتفسر نظامه القيمي والاجتماعي، وشكل الحياة، والوضع المثالي للفرد والمجتمع، والحياة الإنسانية بكل أبعادها، وتجيب عن الأسئلة: ( (كيف تكون؟)) و «ماذا تفعل؟» و «ماذا ينبغي فعله؟» و «كيف يجب ان نكون؟» (1).

الأيديولوجيا تقنية يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب مايشاء

لكن ماهي حدود الأيديولوجيا؟

وماهي علاقتها بالعلوم والمعرفة التقنية؟ يجيب شريعتي:

«الأيديولوجيا تهدي للإنسان ماتمنحه له الإمكانات التقنية تماماً. ما التقنية إلّامجموعة الجهود الإنسانية الرامية إلى توظيف الطبيعة لتحطيم هيمنتها وجبرها، وفرض احتياجاتنا عليها. الأيديولوجيا تقنية يستعين الإنسان بها وبالمعرفة لتوظيف التاريخ والمجتمع حسب مايشاء» (2).

ويتداخل مفهوما التقنية والأيديولوجيا لديه، بنحو تصبح «التقنية عبارة عن فرض إرادة الإنسان على قوانين الطبيعة، أوهي استخدام العلم من قبل الإرادة الإنسانية الواعية، للوصول إلى مبتغاه. العلم هو مسعى إنساني لفهم الطبيعة واكتشاف مافيها، والتقنية هي سعيه لتطويع الطبيعة واستخدامها، واصطناع ماليس فيها. وفقاً لهذا التعريف تكون الأيديولوجيا بالمعنى الأخص للكلمة، تقنية بالمعنى الأعم للكلمة» (3).

ويبدو أن الهموم النضالية لشريعتي، ومحاولاته الواسعة لأنسنة الدين، والتشديد على المضامين الاجتماعية للإسلام، هي الباعث لمسعاه في تحويل الإسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا». وربما تأثر شريعتي بأطروحات جماعة لاهوت التحرير،


1- المصدر السابق 16: 28- 29.
2- المصدر السابق 11: 242- 243.
3- المصدر السابق 4: 232- 234.

ص: 123

ودعواتهم لتحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتحرير الأرض، وتنمية المجتمع، بعيداً عن مشاغل اللاهوت الكلاسيكي.

وممّا لا ريب فيه أن هيمنة الأيديولوجيا على وعي الباحث ولاوعيه، تحول بينه وبين الوصول الى نتائج علمية، أكثر موضوعية وحياداً في تفكيره وبحثه. ذلك أن الأيديولوجيا تقود أية عملية تفكير وتوجهها الوجهة التي تنشدها، وتضاعف التحيزات والمفروضات القبلية في ذهن الباحث، وتسوقه دائماً إلى مواقف ونتائج محددة سلفاً، باعتبار التفكير الأيديولوجي يسعى إلى تغيير العالم لاتفسيره. وينشغل أنصار الأيديولوجيا في سكب المجتمع في قوالبها ورؤيتها الخاصة، ولذلك ينددون بالتعددية، ويُكرهون الناس على تفسير رسمي للمعتقدات الدينية والاجتماعية والسياسية، ويخنقون الأسئلة الكبرى، ويعملون على ترسيخ الجزمية واليقين، وبالتالي بناء مجتمع مقلد مغلق.

وتكمن المفارقة في أن شريعتي الذي أعلن عن مطمحه في الانتقال بالإسلام «من ثقافة إلى إيديولوجيا» تسودكتاباته نزعةتفكير حرة، ترفض المجتمع المغلق، وتدعو إلى إصلاح الفكر الإسلامي، والانفتاح على مختلف الأديان والثقافات. وتحكي آثاره ذائقة فنان، وروح شاعر، وعقلية ناقد، ونزعة متمرد. ومثل هذه السمات في الشخصية يتعذر على الأيديو لوجيا الانسجام والتوافق معها.

ص: 124

والمفروض أن مثقفاً كشريعتي يدرك مثل هذا التهافت، ويعي الالتباس بين الشخصية الأيديولوجية، وشخصية المثقف، والشاعر، والفنان، والناقد، لكن موقفه ظل ملتبساً بين شفافية الفنان الرومانسي، وبين أحلام وتطلعات المناضل.

العدة المعرفية للحاج علي شريعتي

تكرر ذهاب شريعتي إلى ديار الرحمن عدة مرات، فقد أدى العمرة ثلاث مرات، فيما أدى الحج أكثر من مرة، في عامي 1970 و 1971، وكانت المشاعر المشرفة في مكة المكرمة، والمشاهد الكريمة في المدينة المنورة، مصدر إلهام لجملة من أفكاره، وانطباعاته، وتأملاته، وإشراقاته الروحية، التي أفاضها في محاضرات وكتابات احتلت مئات الصفحات من آثاره المنشورة.

وتحتل هذه المجموعة من الآثار أهمية فائقة، ليس لحجمها الواسع، وتنّوع ماتناولته من موضوعات، تتصل بفلسفة التاريخ، وفلسفة العبادة، ومقاصد الشريعة، وأهدافها العامة، فقط، وإنّما لأنها تعبر عن تجربة مميزة في أدب الحج، وعموم الإنتاج الفكري حول الحج والعمرة، باعتبار صاحبها من القلائل الذين توفروا على عدّة معرفية، تجمع بين التخصص الأكاديمي في علم الاجتماع وتاريخ الأديان، والاطلاع على تراث وآداب الشعوب الإسلامية، ووعي العصر، وواقع المجتمعات الإسلامية، وأحوال العالم. وقلما نجد من يتوافر في نفس الوقت على ذائقة فنان، وخيال شاعر، وانفعال إنسان رومانسي، وخبرة في العلوم الإنسانية الجديدة، واطلاع واسع على التراث والواقع، وداعية ومناضل.

في شخصية علي شريعتي نلمح عدة أبعاد، تمثل، المفكر، والباحث، والمثقف، والفنان، والناقد، والمتمرد، والداعية. وهي أبعاد ربما يبدو بعضها منافياً للبعض، لاتجتمع وتتوحد في إنسان إلّافي حالات محدودة.

ص: 125

تلك هي المواهب الذاتية، والإمكانات الخاصة، والأدوات المعرفية، التي يمتلكها شريعتي، وفتحت له أبواباً ونوافذ لتأمل وتحليل التجربة الدينية للحاج؟

ودراسة العناصر الرمزية في المناسك، وأنماط التحولات الروحية والأنثروبولوجية للمسلم الحاج.

قد نلتقي في ضيوف الرحمن مع مبدعين، وشعراء، وفنانين، ومفكرين، ومثقفين، وأكاديميين، وسياسيين، وعلماء دين، وعرفاء ومتصوفة، ولكن قليلًا ما نشاهد أحداً تتجاور في شخصه وتلتحم مجموعة من تلك المواهب.

ولاريب في أن الفنان تتجسد المناسك في وجدانه بصورة تحكي الألوان، والتشكيلات، والحركات، والأصوات، وكأنها لوحة متناسقة خلابة، في أطياف ألوانها، وملامحها الجمالية، وأنغامها. وهكذا تبدو المناسك في عيون السياسي، باعتبارها أنموذجاً لوحدة الأمة وتضامنها، ومظهراً لعزتها واقتدارها.

فيما تتجلى المناسك بصورة ثالثة لدى العارف والمتصوف، وهكذا.

أمّا لو تكاملت مجموعة من هذه القابليات والإمكانات في فرد واحد، فسوف تتسع رؤيته، لتلامس طائفة من المعاني والدلالات الرمزية العميقة التي تشي بها الفاعليات المتنوعة للحج، والمواضع المتعددة للمشاعر، يصعب على غيره استلهامها والتعرف عليها.

لقد وظف شريعتي كل عدته المعرفية، وثقافته الواسعة، وخياله الرحب في استجلاء المقاصد الكامنة وراء مناسك الحج، وأشار إلى أن الوجه الظاهر للمناسك بوسعنا وعيه بما نتداوله من أدوات إدراك، لكن الوجه الخفي يتعذر علينا وعيه بهذه الأدوات، لأنه خلاصة لتجربة وجدانية باطنية، لايمكن قياسها أو اكتشافها بمفهوماتنا المتعارفة، كما لانستطيع التعبير عنها بوضوح، لقصور اللغة عن حكاية الأنطولوجيا الذاتية، ومايضي ء النفس من نور جوّاني.

ص: 126

الحج يخلع معنى على ما لا معنى له

يعترف شريعتي بأنه عندما يتحدث عن الحج إنما يلخص فهمه، وتجربته الخاصة، وما أدركه من معان، وهي بالتأكيد ليست كل المعاني، فهو يصف كتابته عن الحج بأنها «نتاج قدرته المحدودة على التحليل والتلخيص لعرض رمزي معجز، ذلك أن المهيمن على خشبة المسرح في الحج هو ذاته المهيمن على الكون الواسع. وأقول بوضوح: لقد حاولت أن أسكب بحراً في كوز! ففي كل مرة أذهب إلى الحج أحاول أن أعود لتقييم ما استوحيته من المرة السابقة، لكي تنضج رؤيتي. فأكتشف آفاقاً وعبراً جديدة» (1).

ويمثل برغسون العالم بأنه «بمثابة موشور زجاجي، لامتناهي الأبعاد، وقادر على تفكيك وعكس مالانهاية له من ألوان. وكل إنسان يقتبس ماهو مستعد لإدراكه من تلك الأبعاد والألوان، حسب شفافية قلبه، وتسامي روحه، وعلى أية حال فهو لايستطيع إدراك تمام الألوان والأبعاد».

وهكذا هو الحج، فإنّه مشبع بالمعاني والدلالات، وهو كما يقول شريعتي، معلقا على رأي برغسون:

«عبارة عن مجموعة من الإشارات، وأجلى وعي للحج هو وعي أولئك القادرين على إدراك ما ترمز إليه تلك الإشارات» (2).

ويضيف: إن مناسك الحج كأنها شكل زجاجي شفاف، متعدد الزوايا والأضلاع، وكل إنسان عندما ينعكس نوره على ضلع من أضلاع هذا الشكل الزجاجي، يتحلل هذا النور إلى مئات الألوان. فليس هناك معنى أحادي لمناسك الحج، وكل

ذلك أن المهيمن على خشبة المسرح في الحج هو ذاته المهيمن على الكون الواسع. وأقول بوضوح: لقد حاولت أن أسكب بحراً في كوز! ففي كل مرة أذهب إلى الحج أحاول أن أعود لتقييم ما استوحيته من المرة السابقة، لكي تنضج رؤيتي. فأكتشف آفاقاً وعبراً جديدة


1- الدكتور علي شريعتي، الحج: 58، 115، 250.
2- ميعاد با إبراهيم: 209.

ص: 127

إنسان تبعاً لذوقه، ومشاعره، وروحيته، تسطع على مرآة روحه إشعاعات ماتفيضه المناسك من أنوار (1).

وبالتالي ليس من الصواب أن يزعم أحد بأنه وعى كل مقاصد الحج، وتعرف على أهدافه وفلسفته بتمامها. وأنه ليس هناك معنى أومقصد سوى ماوعاه (2).

الحج ليس ضريبة مالية على الثروة، وإنما هو فريضة كالصلاة.

ومدلول الاستطاعة هو القدرة، والفهم والحكمة، بنحو تدرك ماتفعله، والاستطاعة شرط عام لكل الممارسات الدينية المناطة بالإنسان

إنّ اللاجدوى، واللامعنى، واللاهدف، والحيرة، والارتياب والشك، من أعقد المشكلات التي تعاني منها أعداد غفيرة من البشر منذ فجر التاريخ، والدور الأعظم للدين في الحياة، أنه يحرر الإنسان من حيرته، وارتيابه، ويخلع معنى على مالامعنى له في نظره، كما يضع أهدافاً عظمى للحياة، ويخلص البشر من الشعور بالعبث واللاجدوى. والحج أحد أهم الشعائر التي تبعث في المسلم الحيوية والفاعلية، وترسخ القيم الفاضلة، والأهداف الخيرة في حياته.

قبل أن يذهب المسلم إلى الحج يجب أن يكون مستطيعاً لأداء هذه الفريضة، والاستطاعة، كما يفهمها شريعتي، لاتعني الثراء وامتلاك المال اللازم للسفر، ذلك أن الحج ليس ضريبة مالية على الثروة، وإنما هو فريضة كالصلاة. ومدلول الاستطاعة هو القدرة، والفهم والحكمة، بنحو تدرك ماتفعله، والاستطاعة شرط عام لكل الممارسات الدينية المناطة بالإنسان (3).

ويختلط في مفهوم عامة الناس الحج بالزيارة، فيفهمون الحج بأنه زيارة إلى بيت اللَّه الحرام، غير أن صاحبنا يرفض هذا الفهم، باعتبار الزيارة تنتهي عادة عند المقصد والغاية، أما الحج فهو عملية ديناميكية، وحراك متواصل، وأشواق روحية، وسعي متوثب،


1- المصدر السابق: 246.
2- المصدر السابق: 209.
3- المصدر السابق: 14.

ص: 128

وصيرورة تكاملية، لطي منازل ومقامات في مدارج التكامل المعنوي، والارتقاء من مرتبة إلى أخرى.

الحج حركة دائبة، مستديمة، متوثبة، من منزل إلى منزل، يواكب فيها التسامي المعنوي الانتقال من مشعل إلى آخر. إن الحج يبدأ حيث يهبط المسلم في الميقات ويباشر الإحرام، ويظل يتصاعد الحاج روحياً مع توالي أدائه للمناسك، ومكوثه في المشاعر (1).

ومن المزايا التي ينفرد بها الحج، أنه مؤتمر لا كالمؤتمرات المعروفة، فعادة ما يأتلف المؤتمر من جماعة تشترك في مواصفات ترتبط بالموضوع الذي ينعقد هذا الاجتماع لأجله، وهي عادة ماتضم النخبة من ذوي الرأي. بينما الحج ملتقى واسع، يجمع مختلف أصناف المجتمع، وتسوده أعمال عبادية شاملة، ينخرط فيها كافة الحجاج، من دون نظر إلى أعراقهم، ومواقعهم الطبقية، ومستوياتهم الثقافية، ومراتبهم الاجتماعية والوظيفية. إن لقاءً بشرياً من هذا النوع لا تعرفه أية مؤتمرات أو ندوات أخرى، ولا تحصد مكاسبه الكثير من الملتقيات في العالم (2).

ويرجع شريعتي الحج إلى شكل من أشكال الهجرة. إنّه هجرة مزدوجة، فهو من جهة هجرة ذاتية أنفسية، يغادر فيها المسلم عالمه الخاص، أولاده، مقتنياته، منزله، ممتلكاته، كذلك يتحرّر من خطاياه، وموبقاته، ونوازع الشر، والأهواء في نفسه، ويتطهر من الأحقاد، والأغلال، والكراهية. لابد أن يوفي كافة ديونه، والديون هنا لاتقتصر على الأموال المقترضة، وإنما تتجاوزها إلى انتهاكات حقوق الناس ومظالمهم، وهي الديون الأهم في عنق الإنسان. هذه هي الهجرة الذاتية الأنفسية، وبموازاتها يهاجر الحاج هجرة أخرى في عالم الإنسان، هجرة خارجية آفاقية، ليتعاطى مع الكثير من الناس، الذين يعاشرهم لأول مرة، ويتوغل في عالمهم، وثقافاتهم، وتقاليدهم، وطبائعهم، ويتفاعل


1- المصدر السابق: 438.
2- المصدر السابق: 326.

ص: 129

معهم، مكتشفاً آفاقاً متنوعةً، وخصائص عديدة، وظواهر مختلفة، في الاجتماع الإسلامي. إنها رحلة وهجرة في عمق الاجتماع الإسلامي، تسهم في إخصاب وعي المسلم، وتدمجه بمحيطه الثقافي والاجتماعي الشامل، وتقتلع من نفسه مشاعر الاغتراب (1).

وتكتسب الهجرة مدلولًا خاصاً في الوعي التاريخي لشريعتي، ذلك أنّه يرتقي بها إلى مستوى القانون الفلسفي والاجتماعي، وإن «الهجرة عامل من عوامل التطور والتمدن طوال التاريخ، فمجموعة المدنيات السبع والعشرين

إن شعائر الحج هي مذكرات هاجر وإبراهيم، وملخص مافعلته هاجر هو الهجرة، والانتقال من مرحلة ماقبل الحضارة إلى الحضارة، وإن أية هجرة من نوع هجرتها هي حركة باتجاه الحضارة

في التاريخ التي نعرفها إلى الآن، كلها وليدة هجرات تمت من قبل، ولايوجد استثناء واحد لهذه القاعدة. ومن هذه الناحية لاتوجد قبيلة واحدة كانت بدائية، ثم تمكنت- صدفةً- أن تتحضر، وتغيرت ثقافتها، وأوجدت ثقافة جديدة متقدمة، من دون أن تتحرك وتهاجر من أرضها إلى أرض أخرى... فكل الحضارات في العالم، سواء كانت آخرها وأحدثها، وهي حضارة أمريكا الحديثة، أو أقدم الحضارات التي نعرفها، وهي الحضارة السومرية، إنما وجدت كلها على أثر هجرات، مما يعني أن المجتمع البدائي ظل بدائياً طيلة بقائه في أرضه، وتمكن أن يتحضر، وتغيرت حالته جذرياً، بعدما هاجر إلى أرض ثانية وأقام فيها. كل الحضارات كانت وليدة هجرة المجتمعات البدائية» (2).

وتحليل مضمون الحج على أنه نوع من الهجرة، يعني أن للحج وظيفة تمدينية حضارية، مثلما هي الهجرة ودورها في صناعة الحضارة في التاريخ.

إن شعائر الحج هي مذكرات هاجر وإبراهيم، وملخص مافعلته


1- المصدر السابق: 438- 439، والآثار الكاملة 17: 67.
2- الدكتور علي شريعتي. منهج معرفة الإسلام. في كتاب: هكذا تكلم علي شريعتي. فاضل رسول: 156.

ص: 130

هاجر هو الهجرة، والانتقال من مرحلة ماقبل الحضارة إلى الحضارة، وإن أية هجرة من نوع هجرتها هي حركة باتجاه الحضارة (1).

ويكرّس شريعتي عدته المعرفية، وثقافته المتنوعة، ومفهوماته الخاصة لموضوع «الهجرة» وغيره، كأدوات تفسيرية لأعمال الحاج، ومايؤديه في مناسكه من ممارسات، ومايمتنع عنه من محظورات، بحيث تغدو هذه الممارسات نحواً من الهجرة الأنفسية الآفاقية عند الفحص والتدبر.

الحج خلاصة دعوة إبراهيم ومعاناة هاجر

يحشد شريعتي تحليلات مفصلة لكل منسك من مناسك الحج، مواكباً رحلة الحاج، منذ أن يتأهب من منزله مستعداً لهذه الرحلة المباركة، استجابةً لنداء إبراهيم عليه السلام، حتى يعود إلى أهله.

في الميقات، يخلع الحاج لباسه، ويرتدي ثياباً هي بمثابة الكفن، في لونها ومواصفاتها. وهنا يتكشف الوجه الآخر للوظيفة الرمزية للباس في حياة الإنسان، وما تشير إليه الأزياء، في ألوانها، وتشكيلاتها، وتصاميمها المتنوعة. فلا يقتصر دور اللباس على الستر، والزينة، وحماية الإنسان من المؤثرات المناخية، كالحر والبرد والرياح، وإنما ترمز أزياء الناس إلى مكانتهم، وطبقتهم، وموقعهم، وتشير إلى وجهة تفكيرهم، وما يميزهم عن سواهم، في معظم المجتمعات. اللباس يكرس


1- الحج: 102.

ص: 131

«الأنا» ويشي بالمختلف. أما الإحرام الذي يرتديه كل حاج، ويخضع لشروط صارمة تضبط بساطته، وتنفي عنه أية زخارف، أو ألوان، وأشكال، فهو تدريب عملي لتربية الإنسان المسلم على تجاوز ثنائية:

السيد والعبد، والقوي والضعيف، والشريف والوضيع، والمتحضر والبدوي، والعربي والأعجمي، والشرقي والغربي، والغني والفقير، والمتخم والجائع.

إن التجرد من الثياب في الميقات، يتضمن- فيما يرمز إليه- هتك الأقنعة، التي تختفي وراءها جملة من نزعات الكراهية، الكامنة لدى الإنسان. إنه تجرد من قناع الوحشية، والمكر، والخديعة، والخنوع، والذلة، والجبن، والهوان. وسائر منابع الشر والعدوان. وكأن لحظة الميقات لحظة يولد فيها الإنسان من جديد. وقتئذ تتجلى الذات على حقيقتها، متحررة من الأعراف والتقاليد، ومن سائر الأسماء والألقاب، التي تضج بها الحياة، وتغطي الأشخاص بطبقات

إن التجرد من الثياب في الميقات، يتضمن- فيما يرمز إليه- هتك الأقنعة، التي تختفي وراءها جملة من نزعات الكراهية، الكامنة لدى الإنسان

وحجب، شديدة الكثافة، تتستر على حقيقة الإنسان (1).

ثم يردد الحاج التلبية بعد ارتداء الإحرام (

لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك

). والتلبية تتضمن اعترافاً وإقراراً بالتوحيد، ونبذاً للشرك بكافة أنواعه، فالشرك منبع اغتراب الإنسان في العالم، والشرك يمسخ الإنسان، ويكرس استلابه، ويبرر الانقسامات، والصراعات، والتمييز العنصري. ذلك «أن الاعتقاد بتعددية الآلهة، يبرر تعددية المخلوقات، ويسوغ تقديس بعضها، ويصورها كأنها حقائق خالدة أبدية. وإن الاعتقاد بوجود تناقض بين الآلهة، يصور الصراعات والتناقضات في الحياة بمثابة أمر طبيعي وإلهي. بينما


1- الحج: 75- 77، 121.

ص: 132

التوحيد الذي يعني رفض كل أشكال الشرك، ينظر إلى كلّ ذرة وظاهرة في الوجود على أنها تندرج في حركة متسقة باتجاه هدف واحد» (1).

إنّ التلبية فاعلية جوّانية، يفصح عنها اللسان، بهذه الصيغة، بغية تطهير جوانح الإنسان من كافة ألوان الشرك، وتعميق التوحيد في وجدانه.

أمّا الكعبة الشريفة، فيشتق لها شريعتي أسماء، يستنبط شيئاً منها من القرآن الكريم، وماورد من أوصاف لها في المأثور. إذ يسميها تارة «بيت الناس» استناداً إلى قوله تعالى:

«إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين» (2)

. فالناس ككل هم ممثلو اللَّه وعياله. والقرآن يبدأ باسم اللَّه وينتهي

إنّ هجرة إبراهيم، ورحلته الطويلة مابين بلاد الرافدين وفلسطين ومكة، كانت هجرة تمدينية، تهدف إلى إرساء قواعد ومعالم شاخصة للحضارة، ومحطات يأوي إليها الناس، حين تضيق الأرض عليهم

باسم الناس. والكعبة «بيت اللَّه»، ولكن يطلق القرآن عليها اسم «بيت الناس» أيضاً. ويعتقد شريعتي أن الآيات القرآنية التي نسبت الملكية إلى اللَّه «

إن تقرضوا اللَّه قرضاً حسناً» (3)

، المقصود من كلمة اللَّه فيها هو الناس، وإلّا فما حاجته إلى المال؟

وفي حالات متعددة يمكننا وضع كلمة اللَّه حيثما كانت كلمة الناس أوالعكس. ومع ذلك تبقى الآية مفهومة وصحيحة (4)، وهكذا يتحد سبيل اللَّه مع سبيل الناس، بمعنى أنه لكي تقترب من اللَّه عليك أن تقترب أولًا من الناس. وأن الوصول إلى اللَّه إنما يجري من خلال نفع الناس «خير الناس من نفع الناس» وخدمة الناس (5).

وعندما بنى إبراهيم الكعبة، أرادها أن تكون بيتاً لمن لا بيت لهم، ومأوى لكل الذين لامأوى لهم، هي مظلة لمن تعرض للطرد والنفي. هي ملاذ للمعذبين والمستضعفين في الأرض، وملجأ للمشردين. إنّها مصباح يضي ء في ظلام الطغيان الذي


1- الدكتور علي شريعتي. الرؤية التوحيدية للعالم. في كتاب: هكذا تكلم شريعتي. فاضل رسول: 170.
2- سورة آل عمران: 96.
3- سورة التغابن: 17.
4- فاضل رسول. مصدر سابق: 37، 140.
5- الحج: 104، 107.

ص: 133

يعانيه من اتخذوا إبراهيم أسوة لهم.

لقد عانى إبراهيم التشريد من قبل، بعد أن حطم الأوثان، وأراد أن يحرر الناس من عبوديتها، وعبودية النمرود. ثم طاف الأرض باحثاً عن الحريّة، ومحاولًا أن يبني للناس بيتاً لتحريرهم، بديلًا عن معابد الأصنام، التي تشيع الشرك، والذي هو أبرز رافد تستقي منه عبودية الإنسان للآلهة المزيفة. إن هجرة إبراهيم، ورحلته الطويلة مابين بلاد الرافدين وفلسطين ومكة، كانت هجرة تمدينية، تهدف إلى إرساء قواعد ومعالم شاخصة للحضارة، ومحطات يأوي إليها الناس، حين تضيق الأرض عليهم (1).

إن شريعتي يشدد على اشتقاق معنى «التحرير» من وصف البيت ب «العتيق»، فيغدو بيتاً يفيض الحرية على الوافدين إليه، ذلك أن «العتق» هو «التحرير» (2).

ففي البيت العتيق يتساوى الحر والعبد، والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وتتلاشى كافة الأسماء، والألقاب، والعناوين، والأعراق، وكل مايميز الناس، ويصنفهم إلى طبقات، ومراتب، ودرجات.

الكعبة بمثابة بوصلة تحدد وجهة السير، وترسم الاتجاه الذي ينبغي أن يسعى الجميع نحوه. إنها ( (القبلة)) التي تشكل محور اللقاء، وتشير إلى الهدف الشامل للمسلمين بأسرهم (3). هي كالشمس في المركز، والناس كالأجرام تسبح حولها. الكعبة ترمز لخلود اللَّه ودوامه، وحركة الطائفين الدائرية تمثل النشاط الدائم، والسعي المتواصل، والحركة المستمرة. الكل يتمحورون حول الكعبة كشخصية معنوية واحدة، توحد غاياتهم، وتضي ء لهم دروب الحياة، وتحذرهم من مزالق الطريق ومنعرجاته، بينما خارج محيط الكعبة يتشرذم الناس، وتصبح لكل منهم وجهة هو موليها (4).

وطوافهم حول البيت هو معراج يلتحمون فيه ويندمجون، هو معراج من أجل الناس، والحركة الأبدية باتجاه الحق، وفي طريق الخير العام. وكأن الطواف نهر يفيض بالحب والخير للبشرية كافة. هو استئناف


1- المصدر السابق: 124- 125.
2- المصدر السابق: 97.
3- المصدر السابق: 145- 146.
4- المصدر السابق: 103- 104، 106.

ص: 134

لمسيرة إبراهيم رائد الحب والخير والحرية (1).

يقول شريعتي: «في العام الماضي حين كنت أطوف في شدة الزحام، تعرضت مراراً لتدافع شديد، فثرت منفعلًا، غاضباً من هذا السلوك. غير أني شعرت بالأسى والندم، ذلك أن الإنسان في هذه الحالة ينبغي أن ينسلخ من الأنا والذات، بينما ما زالت الأنا غاطسة في داخلي)) (2).

الطواف والسعي خلاصة شديدة لهجرة هاجر، ورحلتها الشاقة المضنية من أجل تشييد قواعد التوحيد. اختار اللَّه تعالى هاجر الأَمَة، التي تقع في أدنى سلم الألقاب والمقامات، ومايسبغه الناس من تسميات وعناوين، تصنف المجتمع إلى طبقات ومراتب. اختارها لمهمة ربانية، تعد من أعظم المهمات في مسار النبوة. وفي ذلك دلالة صريحة على أن منظومة القيم والمعايير الربانية، لاتتطابق مع ماينشده الناس، ويتواضعون على تبنّيه في حياتهم. وتظل البشرية عبر الأجيال تقتفي خطى هاجر، وتكرّر مسعاها.

وتبقى أطياف هاجر، وظلالها، وأنفاسها، وزفراتها، يتردد صداها على الدوام.

ففي السعي يترسم الحاج درب هاجر، ويستلهم تجربتها، ويحرص على استئناف مسيرتها، ومحاكاتها بحذافيرها. السعي الذي يحكي ظمأ هاجر، هو تعبير عن ظمأ البشرية الأبدي للإيمان والحق، والعدل، والإحسان، والصدق، والحكمة، والحرية، والأمن، والجمال، والإيثار، والفداء، والحب، والتواضع، وكل قيم الخير والفضيلة. وافتقار البشرية إلى هذه القيم، واضمحلالها يعني انحطاطها وتفسخ مجتمعاتها. والسعي ممارسة، وإعداد تربوي، وتدريب عملي على تجذير هذه القيم، وتنميتها، وترسيخها.

لقد عالج شريعتي كافّة مايؤديه الحاج من شعائر، برؤية تتداخل فيها العقلية التحليلية الناقدة، ومخيلة الفنان، وأحاسيس الشاعر، وذوق المتصوف، وأشواق العارف، فاستغرق في تحليلات شتى، قد لا


1- المصدر السابق: 117، 120، 125.
2- ميعاد با إبراهيم موعد مع إبراهيم: 438

ص: 135

نلتفت إليها في نظرة سريعة خاطفة، أو ملاحظة عامة ساذجة.

إلّا إنه راح يغرقنا أحياناً في تفسير إشاري باطني، لا يلامس وعي وإدراك عامة الناس، ويعمد إلى استخدام مختلف الأدوات، المنتقاة من العلوم الإنسانية الحديثة، فضلًا عن خبرته، وذوقه الخاص، من أجل تأويله الرمزي للحج ومناسكه.

وبالتالي تبقى رؤيته معبرة عن تجربته الخاصة، وهي لاتعبر بالضرورة عما سواه. ذلك أن لكل تجربة شروطها، وظروفها، والعناصر المكوّنة لها، والمنابع التي تستقي منها. فقد تشترك التجارب الروحية في قواسم عامة، لكنها لن تتطابق.

دعاء

فيما يلي مقتطفات من دعاء بصياغة شريعتي، تتجلى فيه بوضوح أحلامه ومايطمح إليه من قيم وأخلاقيات، وما ينشده من نزعات معنوية وإنسانية ينبغي أن تسود الاجتماع الإسلامي:

إلهي: صن «عقيدتي» من «عقدتي».

إلهي: مكني من احتمال العقيدة المخالفة.

إلهي: هبني إيمان ( (الطاعة المطلقة)) لك، لكي أخوض عالم العصيان المطلق.

إلهي: أجج فيّ نار ( (الشك)) المقدسة، حتّى إذا أحرقت كل ( (يقين)) نقشوه في داخلي، تشرق البسمة الحنون على شفتي فجر اليقين الذي لاغبار عليه.

إلهي: قل للماديين: إن الإنسان ليس بشجرة تحيا من غير وعي منها في الطبيعة والتاريخ والمجتمع.

إلهي: علم مجتمعي بأن السبيل إليك، إنما يكون من الأرض، واهدني يا إلهي، إلى السبيل الذي يختصر المسافات.

إلهي: علم المتدينين بأن الإنسان من تراب، وأن ظاهرةً من مادة تفسر اللَّه بقدر ظاهرة من غيب. فلله وجود في الدنيا يساوي وجوده في الآخرة.

لقنهم أن الدين إن لم يسبق الموت فلا

ص: 136

معنى له ولافائدة فيه بعد الموت.

يا رب:

هب روح المسؤولية للعلماء، والعلم للجاهلين، والنور للمؤمنين، والإيمان للمفكرين، والتفهم للمتعصبين، والتعصب للفاهمين، والحس للنساء، والشرف للرجال، والوعي للشيوخ، والأصالة للشباب، والعقيدة للمربين، واليقظة للغافلين، والإرادة للمتيقظين.

هب الحقيقة للدعاة والمبلغين، والدين للمتدينين، والالتزام للكتّاب، والمعاناة للفنانين، والشعور للشعراء، والأمل لليائسين، والقوة للضعفاء، والجرأة للمحافظين المترددين، والقيام للقاعدين، والحركة للراكدين، والحياة للأموات، والبصر للعميان، والصحة للمعاقين، والصراخ للصامتين، والقرآن للمسلمين.

يارب:

هب الوحدة لديننا، والشفاء لحسّادنا، والموضوعية للأنانييين والمغرورين منا، والأدب للسبابين منا، والصبر للمجاهدين، والوعي لعامة الناس، وهب للأمة: الهمة والتصميم والاستعداد للفداء من أجل التحرر والكرامة.

يارب:

اهدني كي أقيم مجتمعي على هذه القواعد الثلاث: الكتاب، والميزان، والحديد، اللهم اجعل قلبي فياضاً بالحق والخير والجمال. اللهم زدني إرادةً، وعلماً، وتمرداً، وغناً، وحيرةً، ووحدةً، وفداءً، وشفافية روح.

الهوامش

ص: 137

ص: 138

الحج والحجاج في كتب المستشرقين

اشارة

خالد الطويلي

بدأ اهتمام الغرب ببلاد العرب منذ القرن الخامس قبل الميلاد في كتب هيرودوتس وثيوفرست تلميذ أرسطو، ولاحقاً في القرنين الأول والثاني للميلاد عند الجغرافي اليوناني سترابون، والمؤرخ الروماني بليني. بعد ذلك لم يضف الكثير على ما كتب آنذاك، حتى جاء القرن الخامس عشر الميلادي وبدأ تدفق الرحّالة الأوروبيين إلى الجزيرة العربية.

بقيت مكة المكرمة منذ نشأتها- وعلى مرّ العصور- مجهولة الملامح لغير العرب الذين كانوا يحجون إليها، وعصية على الغزو الأجنبي رغم محاولات أباطرة الروم وملوك فارس في حقب مختلفة، وكان عدم توافر معلومات واضحة عن الصحاري العربية من أهم الأسباب التي أحبطت أولئك الغزاة الذين راودتهم فكرة الغزو.

وخلال حقبة انتشار الإسلام في أوروبا، تفاقم ذلك الغموض الذي كان يحيط بمكة المكرمة وبالمدينة النبوية خصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين أرادوا معرفة ما يمكن عن منشأ الإسلام الذي ساق الجيوش إلى ديارهم. ولأنهم كانوا ممنوعين من دخولها، ولبعد المسافة ومشقة السفر وخطورة المغامرة، تمكنت المدينتان من الاحتفاظ بأسرارهما وغموضهما عبر كل ذلك التاريخ المتقلّب، وبقي

ص: 139

حب المعرفة يدغدغ فضول المهتمين لاختراق حاجز سريتها ضمن مناطق جغرافية أخرى في المشرق اهتم بها تيار فكري غربي سمي بالاستشراق. وبتنوع خلفيات هؤلاء المهتمين وأهدافهم وتوجهاتهم وسبلهم ظل الحج الوسيلة الأمثل لتغلغلهم إلى داخل هذا المجتمع المنغلق أمامهم. أتقنوا اللغة العربية وانتحلوا شخصيات إسلامية في سبيل هذه المعلومات رغم المخاطر التي كانت تحيط بهذا النوع من التسلل الذي أثار- حسب روايات بعضهم- ريبة أهل البلد وكاد يجلب الهلاك لهم، ولم يكن الفضول وحسب هو الذي أتى بهم جميعاً، فقد كان منهم الرحالة المستشرقون، وكان منهم الجواسيس، ومنهم من ساقتهم ظروف مختلفة كالعبودية وخلافها إلى الحج. وقد عرفنا منهم من تسنَّت له العودة إلى بلده من دون أن يهلك وأن ينشر مذكراته عن تلك الرحلات، ومنهم الكثير ممن لم تصلنا أخبارهم.

ولبعد المسافة ومشقة السفر وخطورة المغامرة، تمكنت المدينتان من الاحتفاظ بأسرارهما وغموضهما عبر كل ذلك التاريخ المتقلّب، وبقي حب المعرفة يدغدغ فضول المهتمين لاختراق حاجز سريتها ضمن مناطق جغرافية أخرى في المشرق اهتم بها تيار فكري غربي سمي بالاستشراق.

وبتنوع خلفيات هؤلاء المهتمين وأهدافهم وتوجهاتهم وسبلهم ظل الحج الوسيلة الأمثل لتغلغلهم إلى داخل هذا المجتمع المنغلق أمامهم. أتقنوا اللغة العربية وانتحلوا شخصيات إسلامية في سبيل هذه المعلومات رغم المخاطر التي كانت تحيط بهذا النوع من التسلل

بدأ تدفق الرحالة المستشرقين إلى المنطقة خلال القرن الخامس عشر الميلادي في إطار لايمكن عزله عن التطورات الدولية السياسية والعسكرية.

وكانت كتاباتهم عنها متباينة من حيث الالتزام بالموضوعية والحياد، ولكنها كانت تعكس اهتمام الأوروبيين المتزايد بالشرق عندما بدأت البوادر الأولى للصراع من

ص: 140

أجل السيطرة والتوسع، والذي بدأته إسبانيا والبرتغال، ثم هولندا وفرنسا وبريطانيا بوصفها قوى بحرية استطاعت الوصول إلى الشرق العربي والجزيرة العربية.

طلائعهم: مماليك أو في لباسهم

كان أول من ادّعى الوصول إلى مكة المكرمة من المستشرقين جون كابوت عام 1480 م. أي قبل 12 عاماً من سقوط الأندلس واكتشاف أمريكا، ولكن لم يصل إلينا أي شي ء مما كتب عن تلك الرحلة. أما أول سجلّ وصلنا حول رحلة مستشرق إلى الحج فكان حول رجل إيطالي يدعى لودفيجودي فارتيما عام 1503 م، دخلها بوصفه جندياً في حرس المماليك وانتحل لنفسه اسم «يونس المصري»، ويبدو أن تقمص شخصية المملوك لفارتيما وغيره- كما سيأتي ذكره لاحقاً- كانت أكثر سهولة، كون كثير من المماليك كانوا من المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام.

ص: 141

أبحر فارتيما من البندقية عام 1503 م، وزار كلًا من الاسكندرية وطرابلس وأنطاكية وبيروت ودمشق، وسارع منذ وصوله دمشق، إلى تعلّم اللغة العربية، واستعدّ لاستئناف الرحلة جنوباً، ثمّ أمّن لنفسه مكاناً في القافلة الذاهبة إلى مكة المكرمة، بعد أن عمل على عقد عُرى الصداقة مع أحد زعماء المماليك الذي عيّنه حارساً من حرّاس القافلة.

وفي الثامن من أبريل 1503 م تحرّك فارتيما إلى مكة المكرمة بزي جندي مملوك، وحينما وصل إلى المدينة بقي فيها ثلاثة أيام، ودخل الحرم الشريف، الذي يصفه وصفاً موجزاً، فيقول: «إنه مسجد مقبّب يدخل إليه من بابين كبيرين، ويحمل سقفه حوالي أربعمائة عمود من الآجر الأبيض، وفيه عدد كبير من المصابيح المعلّقة- الثريّات- يناهز الثلاثة آلاف»، ويشير إلى وجود عدد من الكتب، في جهة من جهات المسجد التي تحتوي على تعاليم الدين الإسلامي.

وينتهز فارتيما الفرصة لتصحيح الاعتقاد الشائع في أوروبا آنذاك من أن جثمان النبي محمّد صلى الله عليه و آله معلّق في الفضاء، فيقول: «أما بخصوص هذه الأخبار فأنا أخالفها تماماً، وأؤكّد أن هذا ليس صحيحاً». ويذكر في الفصل الذي يتطرّق فيه إلى مكة المكرمة وتشييدها وإنشائها أنها مدينة جميلة تكتظ بالسكان، لأنّها تحتوي على ستة آلاف أسرة. ودورها حسنة للغاية، «مثل دور الإيطاليين»، على حد تعبيره، ويذكر كذلك أن مكة المكرمة لم تكن مسوّرة، لأن أسوارها هي الجبال الطبيعية التي تحيط بها، ولها أربعة مداخل. وقد اندهش فارتيما من كثرة الحجاج الهائلة وتعدد جنسياتهم وقومياتهم، ممّا دفعه للقول: إنّه لم يجد مطلقاً، من قبل، مثل هذا العدد من الناس يجتمع في بقعة واحدة من الأرض.

ويمضي الرحالة في نقل انطباعاته ومشاهداته، فيذكر في الفصل المخصص للحج من رحلته أن مركز مكة المكرمة يوجد فيه «معبد» جميل جداً، على حدّ

ص: 142

تعبيره، مبني من اللبن المشوي، وللمسجد الحرام- أو المعبد كما يسميه- مئة باب، ثم يشير إلى وجود الكعبة الشريفة في الوسط من دون أن يذكر اسمها، ثم يصف بئر زمزم قائلًا: «إن ستة أو سبعة رجال يقفون عادة حول البئر ليستقوا الماء للناس منها. وهؤلاء يريقون ثلاثة أسطل من ماء زمزم فوق كل حاج من الحجاج، فيتبلل به من قمّة الرأس إلى أخمص القدم، ولوكان لباسه من حرير».

ويظل القرن السادس عشر الذي كاد يطبع بصبغة برتغالية، شاهداً على محاولات أخرى، على هذا الصعيد وفي السياق نفسه. ففي يوليو 1565 م حجّ إلى مكة المكرمة مملوك برتغالي الأصل مجهول الاسم. فكتب وصفاً دقيقاً عنها. رغم اختصاره واقتضاب ما جاء فيه. وقد اكتشف ماكتبه هذا المملوك في حاشية كتاب عربي موجود في مكتبة الفاتيكان برقم 217.

وفي الوقت نفسه تقريباً. وصل إلى مكة المكرمة رجل ألماني يسمى هانس وايلد كان الأتراك قد أخذوه أسيراً في هنغاريا، وسيق إلى مكة المكرمة، فلم يعد إلى ألمانيا إلّاسنة 1611 م. وبعده بسنوات قليلة أسر فتىً بندقي يدعى ماركو دي لومباردو وهو يعبر البحر الأبيض المتوسط بصحبة عمّه القبطان، فبُعث به إلى مكة المكرمة من مصر مصاحباً لابن سيده. وقد دوّن أشياء طريفة عن سفرته.

أما جوزيف بيتس فهو شاب انجليزي يافع من أهالي أوكسفورد، وقصته طريفة وغير عادية. فقد كان هذا البريطاني شديد التعلّق بالبحر، وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره التحق بسفينة كانت متوجهة إلى أمريكا عام 1678 م، وفي طريق العودة. على مقربة من الشواطى ء الإسبانية، هاجم قراصنة جزائريون السفينة وأسروا أعضاء الطاقم ونقلوهم إلى العاصمة الجزائرية، حيث بيعوا في السوق عبيداً.

قام بيتس برفقة سيده الجزائري بالحج إلى مكة والمدينة في أواخر القرن السابع عشر. ثم تمكّن من الفرار، ونشر قصة رحلته تلك في بريطانيا سنة

ص: 143

1704 م، وهي قصة فيها بعض الأخطاء والمبالغات الشائعة في الكتب المعاصرة له. ولكن الكتاب وعنوانه «وصف أمين لديانة وأخلاق المحمديين» اجتذب اهتماماً كبيراً. فقد كان بيتس من أوائل الإنجليز الذين دخلوا شبه الجزيرة العربية ووصفوا شعبها، والأماكن المقدسة فيها، وشعائر الحج في مكة، وقد زار كذلك قبر النبي صلى الله عليه و آله، ونفى كما فعل فارتيما من قبله حكاية أن القبر معلّق في الهواء، ويبدو أن هذه القصة كانت شائعة في أوروبا عن الجسد الشريف حتى أتى على نفيها أكثر من رحالة.

ويمضي بيتس في وصف قافلة الحجاج، وهو ينتقل بمعيّة سيده من القاهرة إلى السويس، ومنها إلى مرفأ صغير بين ينبع وجدة، ومن هناك استخدما الجمال للوصول إلى مكة المكرمة ودامت إقامتهما هناك شهرين، وكان بيتس يرافق معلمه كل يوم في جولة حول المدينة، ويسجّل في ذهنه صور المباني وعادات الأهالي الدينية. وكان الجهد الذي بذله لتسجيل كل هذه التفاصيل مميزاً.

ويقدم بيتس انطباعاته حول مكة المكرمة، فيقول: إنه لم يجد فيها شيئاً مثيراً أو مبهجاً. ولم يعجبه سكان مكة أيضاً، فهم فقراء ميالون إلى النحافة والهزال، ثم استرعى انتباهه «المتصوفون (الدراويش) الذين يعيشون حياة الزهد والتنسّك ويسافرون من أدنى البلاد إلى أقصاها، وهم يعيشون على صدقات الآخرين، يلبس الواحد منهم قفطاناً أبيض وقبعة طويلة بيضاء وعلى ظهر الواحد منهم جلد ضأن أو ماعز يرقد عليه، وفي يده يحمل عصا طويلة».

ويذكر- خلال وصفه للحج ومناسكه- أن سلطان مكة يقوم شخصياً بغسل الكعبة بماء زمزم، ثم بالماء المطيّب المعطّر. «وحينما يقومون بهذه العملية ترفع السلالم التي تؤدّي إلى بيت اللَّه، ولذلك يحتشد الناس تحت الباب ليدفع ماء الغسيل

ص: 144

عليهم حتى يتبللوا به من الرأس إلى القدم. ثم تقطع المكانس التي يكنس بها البيت قطعاً صغيرة، وترمى عليهم فيتلاقفونها، ومن يفز بقطعة منها يحتفظ بها كأثر».

ويضيف: «إنّ مكة كان فيها ماء كثير، لكنها خالية من العشب والزرع إلا في بعض الأماكن». على أنه وجد فيها عدّة أنواع من الفاكهة متوافرة للناس مثل العنب والبطيخ والخيار والقرع وما أشبه. وهذه يُؤتى بها في العادة من مكان يقع على مسيرة يومين أو ثلاثة ربما قصد به الطائف.

الرحلات المحضّرة بعناية

وفي عام 1807 م وصل الحجاز رجل إسباني الأصل يُدعى دومنيكو باديا أي ليبليج، لينتحل اسماً ونسباً عربياً «علي بك العبّاسي»، وقد تضاربت الآراء في حقيقة هذا الرجل، فقد يكون عميلًا للفرنسيين أو البرتغاليين أو ربّما الإنجليز.

وهناك من يذهب إلى أنه كان جاسوساً لسلطان مصر محمد علي باشا، الذي كان يجهّز لحملة على الحجاز. على كل، فإن علي بك العباسي كان أول أوروبي احتك بالناس عن قرب من موقع لم يثر حساسيتهم. وكان لادعائه النسب العباسي، وتأكيده لشريف مكة بأنه كان واحداً من عائلتهم الوجه الذي دخل به قلوب الناس.

سعى علي بك إلى توخي الدقّة في كتاباته. فهو يصف بالتفصيل الأروقة المعمدة والقباب والمآذن في المسجد الحرام، ويخبرنا عن الأماكن المبلّطة والأماكن ذات الأرض الرملية. ويميّز الأمكنة التي تخص أتباع كل مذهب من المذاهب الأربعة في أرجاء الحرم. ويأتي بعد ذلك على إيراد تفاصيل أخرى عن مناسك الحج، فيُحدّث قرّاءه عن رمي الجمرات ويشرح رمزيتها.

ولم يكتف علي بك بزيارته الأولى، فغادر دمشق عام 1818 م، متجهاً إلى

ص: 145

زيارة مكة المكرمة للمرة الثانية ولكنه توفي على الطريق، وتقول التقارير البريطانية: إن وفاته كانت بسبب مرض الديزنتاريا. في حين أن التقارير الفرنسية تؤكد بأنه قتل مسموماً من قبل البريطانيين.

بقي أن نشير إلى أن رحلات علي بك قد طبعت بالإنجليزية عام 1816 م، تحت عنوان «رحلات علي بك في المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وسوريا وتركيا 1803- 1807 م»، وأعيد طبعها في لندن عام 1993 م.

أما الرحالة الثاني الذي قام بمهمّة مشابهة، فهو الألماني أولريخ سيتزن.

غير أن المعلومات عنه موجزة جداً. ولد عام 1767 م، ونجهل الكثير عن نشأته وحياته، وكل ما نعرفه أنه قضى عشرين سنة يدرس ويتأهّب لرحلته إلى الشرق. فجاء إلى سوريا سنة 1805 م وأقام فيها بضع سنين، وكتب في رحلته كتاباً قيّماً باللغة الألمانية قبل أن يعلن إسلامه ويتوجه إلى أداء فريضة الحج.

فسافر إلى الحجاز، في زيّ درويش اسمه «الحاج موسى»، ودخل مكة حاجاً سنة 1810 م.

وزار الحجاز عدد آخر من الأوروبيين الرحالة بعد ذلك. وقد كانت حملة الخديوي محمد علي باشا على الحجاز، سبباً في دخول عدد من الأوروبيين مع الجيوش المصرية إلى الأراضي المقدّسة وزيارتهم مكة والمدينة، ومنهم السويسري بيركهارت، والإيطالي فيناتي، والجندي الأسكتلندي توماس.

أما فيناتي، فهو رجل من أهالي فيرارا في إيطاليا، وقد قدّر له بعد مغامرات عدة، أن يحجّ إلى مكة المكرّمة في 1814 م، وقد اتخذ محمداً اسماً. كل مالدينا من معلومات عنه، أنه سيق إلى الجندية في بلدته سنة 1805 م. ففرّ منها إلى ألبانيا، وعمل عند أحد الباشوات الأتراك فيها، واعتنق الإسلام.

ص: 146

ثمّ توجّه إلى اسطنبول، وبعد مغامرات وتقلبات عدّة وصل إلى القاهرة في عام 1809 م، وانخرط في سلك الحرس الألباني. ثم فرّ من الجندية عام 1814 م وتوجه إلى مكة المكرمة، فحجّ فيها. وكتب عن ما شاهده بالتفصيل، ومنه قوله:

«ولمّا كنت مسروراً لنجاحي في الفرار، كنت في وضع فكري يتقبّل الكثير من الانطباعات القويّة. ولذلك تأثرت كثيراً بجميع ما رأيت عندما دخلت البلدة (يقصد مكة)، لأنّها وان لم تكن واسعة ولا جميلة بحدّ ذاتها، فقد كان فيها شي ء يبعث على الرهبة والاندهاش. وكان ذلك يلاحظ على الأخصّ عند الظهيرة، حينما يهدأ كل شي ء تمام الهدوء، إلا المؤذّن الذي يدعو الناس إلى الصلاة من فوق المأذنة».

وفي الوقت الذي كان فيه فيناتي يقوم برحلة الحج إلى مكة، كان هناك مستشرق آخر يُعدّ من أشهر رحالي القرن التاسع عشر وأغزرهم علماً وثقافة وأبعدهم صيتاً وشهرة، يشارك في موسم الحج ذاته، متخفياً تحت اسم مستعار وهو «الشيخ إبراهيم».. ذلك هو الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت

ويمضي فيناتي في وصف البيت الحرام والكعبة معلقاً على ازدحام الناس في مكة، وكثرة الحجّاج فيها فيقول: «وصلت إلى مكة، منذ أن أتيتُ إليها، قافلتان كبيرتان، إحداهما من آسيا والأخرى من إفريقيا، يبلغ عدد القادمين فيهما حوالي أربعين ألف شخص، كان يبدو عليهم كلهم مقدار ما يكنّونه في نفوسهم من الاحترام والتقديس للبيت الحرام».

عصر كبار المستشرقين

وفي الوقت الذي كان فيه فيناتي يقوم برحلة الحج إلى مكة، كان هناك مستشرق آخر يُعدّ من أشهر رحالي القرن التاسع عشر وأغزرهم علماً وثقافة وأبعدهم صيتاً وشهرة، يشارك في موسم الحج ذاته، متخفياً تحت اسم مستعار

ص: 147

وهو «الشيخ إبراهيم».. ذلك هو الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت الذي نزل في جدة في الثامن عشر من يوليو 1814 م. وسار منها إلى الطائف لمقابلة الخديوي محمد علي باشا، ثم قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.

قبل أن يرحل بيركهارت إلى الحج، قرر أن يعدّ نفسه إعداداً كافياً لتلك الحياة المليئة بالمصاعب والاختبارات والمحن التي تنتظره. فالتحق بجامعة كمبردج عام 1808 م لدراسة اللغة العربية والطب وعلم الفلك وعلوم أخرى. ثم قصد حلب حيث قرأ القرآن وتفقه في الدين الإسلامي، ثم اعتنقه عام 1809 م وتسمّى بإبراهيم بن عبداللَّه، وراح يعوّد نفسه على الحياة الصعبة، فهجر حياة الترف، وبات ينام على الأرض.

وصل بيركهارت إلى مكة، في 8 سبتمبر 1814 م، وكانت معرفته باللغة العربية، واطلاعه التام على أحوال المسلمين وعاداتهم قد ساعداه على إنجاز مهامه بنجاح، حتى استطاع أن يعيش في مكة خلال موسم الحج كلّه، ويشترك في مناسكه وشعائره، من دون أن يثير أية شكوك.. وكان بيركهارت نفسه يقول: إنّه من بقايا المماليك الذين قضى عليهم محمّد علي باشا في مصر، حينما كان يُسأل عن هويته، وشخصية المملوكي والدرويش كانت مناسبة للتخفي بين الحجيج بالنسبة لرجل أوروبي كما فعل فارتيما من قبل، والملاحظ مما كتبه بيركهارت نفسه أن إقامته في مكة كانت

ص: 148

مريحة جداً، إذ يقول: «خلال جميع رحلاتي في الشرق، لم أتمتع براحة كالتي عشتها في مكة. وسأحتفظ بذكريات جميلة عن إقامتي هنا».

ولا شكّ أن بيركهارت لم يُضع وقته سُدى، إذ وضع 350 صفحة من الملاحظات والوصف الدقيق للمدينة وأهلها.. وترك وصفاً مفصلًا لبيت اللَّه الحرام، خلال ليالي شهر رمضان عندما «تلتمع آلاف الفوانيس في أعمدته» وعندما «تنعشنا النسمة الباردة فيه، بعد يوم طويل وحار من الصيام».

إنّ مكة مفتوحة من جميع الجهات، لكن الجبال المحيطة بها تشكلّ مانعاً حصيناً ضد العدو. وقد كان لها في الزمن القديم ثلاثة أسوار تحمي جوانبها

ومن طريف ما يورده بيركهارت، في هذا الفصل، قائمة بأسماء الأبواب الموجودة في المسجد الحرام تحتوي على تسعة وثلاثين اسماً حديثاً، تقابلها الأسماء القديمة لبعض الأبواب. ويضيف في وصفه لمكة المكرمة: «إنها يمكن أن تعتبر بلدة جميلة، لأن شوارعها أعرض من شوارع المدن الشرقية الأخرى بوجه عام.

وبيوتها عالية مبنية بالحجر. فيها عدد من الشبابيك التي تطلُّ على الشوارع فتسبغ عليها منظراً مليئاً بالحيوية، بخلاف الدور في مصر وسوريا، التي لا تطلّ على الطرق في الغالب، وهي مثل جدة، تحتوي على عدد من الدور ذوات ثلاثة طوابق». ويقول كذلك: «إنّ مكة مفتوحة من جميع الجهات، لكن الجبال المحيطة بها تشكلّ مانعاً حصيناً ضد العدو. وقد كان لها في الزمن القديم ثلاثة أسوار تحمي جوانبها».

ويمضي بيركهارت في التطرّق إلى العديد من التفصيلات، كالماء الذي يعتمد عليه سكان مكة، وبئر زمزم، وقناة زبيدة التي يسهب في سرد تاريخها وما شهدته

ص: 149

من ترميم وإصلاح على مرّ التاريخ. كما يصف محلات مكة التجارية وأسواقها وأدق التفصيلات الأخرى عن حاراتها ومطوّفيها وسفوحها، وأجهزتها الإدارية، وأماكنها التاريخية.

قدّر بيركهارت عدد سكان مكة في غير مواسم الحج، بخمسة وعشرين إلى ثلاثين ألف نسمة، ثم يقول: «إن مكة كان بوسعها، في تلك الأيام، أن تسكن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الحجاج أيضاً». ويضيف في حديثه عن السكان أن جلّهم غرباء وأجانب عنها. من أهالي اليمن و حضرموت. وكان يليهم في العدد أبناء الهنود والمصريين والسوريين والمغاربة والأتراك. وكان هناك أيضاً مكّيون من أصل إيراني وتاتاري وبخاري وكردي. ومن كل بلد مسلم آخر تقريباً.

في منتصف يناير 1815 م، غادر بيركهارت مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

ومن سوء حظه أنه وقع مريضاً بمرض البرداء (الملاريا)، حتى أصابه اليأس من نفسه. وظنّ أنه سيقضي نحبه في المدينة فيقبر فيها. لكنه مع ذلك استطاع أن يكتب عدّة فصول عنها في الجزء الثاني من رحلته. غير أن هذه الكتابات بقيت أقل شموليّة من كتاباته عن مكة.

وفي صبيحة يوم الخامس والعشرين من يوليو 1853 م، وصل المدينة المنورة بريطاني متنكِّر باسم «الحاج عبداللَّه»، ليغدو هو الآخر أحد أبرز الرحّالة الأوروبيين الذين استشرقوا.

ولم يكن هذا (الحاج) سوى السير ريتشارد فرنسيس بيرتون الذي كان يعمل موظفاً في شركة الهند الشرقية المعروفة، ورحل إلى إفريقيا والهند وسوريا وشمال إفريقيا والبرازيل وجزيرة العرب التي ظلّت بين هذه جميعاً- كما قال هو نفسه-: «البلاد التي تولّعت بها».

ص: 150

استعدّ بيرتون- كما فعل بيركهارت- من قبل أن يقدم على رحلته الخطرة بأشهر عديدة، واتخذ جميع التدابير اللازمة للقيام بمهمته خير قيام، حتى أنه عمد إلى الاختتان وهو يومئذ فى الثانية والثلاثين من عمره! وخلع عنه ثيابه الأوروبية، واستبدلها بملابس مسلم أفغاني في طريقه إلى أداء فريضة الحج، وتسمّى باسم الحاج عبداللَّه. وقد وصف لنا بيرتون بدقّة رحلته هذه في كتاب ممتع من جزأين ضخمين هو «الحج إلى المدينة ومكة».

وفي طريقه إلى الشرق، كان بيرتون يعمل على إتقان دوره كمسلم في تفاصيل الحياة اليومية للمسلم، منتحلًا شخصية نبيل فارسي بداية الأمر، ثمّ شخصية درويش متجوّل. وعن سبب إقدامه على هذه الخطوة. يقول بيرتون:

«ليس هنالك من شخصية مناسبة للتخفّي في العالم الإسلامي أكثر من شخصية الدرويش، فهذه الشخصية يمكن لأي رجل من أية طبقة أن يتلبّسها، من أي عمر أو من أي مذهب. كما يسمح للدراويش بتجاوز أو تجاهل أصول الأدب والمعاملة كأشخاص قد انسلخوا عن المجتمع، وتوقّفوا عن الظهور على مسرح الحياة».

وصل بيرتون إلى المدينة المنورة أولًا، وكتب عن تشكيلات خدم الحرم النبوي، وما يلبث أن يقارنها بما قرأه عند بيركهارت. ويعلمنا بيرتون أن حجم المدينة المنورة حين زارها كان أكبر بمرة وثلث من حجم مدينة السويس، أو بقدر نصف حجم مكة، وهي عبارة عن مكان مسوّر يؤلّف شكلًا بيضاوياً غير منتظم.

ولها أربع بوّابات.. وهناك عمارات ضخمة وأبراج مزدوجة متقاربة.. وفي داخل المدينة الظليل ترى الجنود يحرسون المدينة، وأصحاب الجمال يتشاجرون، وكثيراً من الرجال الذين لا عمل لهم يتسكّعون. ثم يصف البنايات العامة فيقول: إن هناك أربع خانات كبيرة وبضع مقاه صغيرة، وحماماً ممتازاً، ويقدّر السكّان ب 16 ألف نسمة.

ص: 151

ومن المستشرقين الذين قاموا بالحج بغرض التجسس، أو التعرف على أحوال مواطني مستعمرات بلادهم، الهولندي سنوك هورخنيه الذي كان أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن

في 11 سبتمبر 1853 م، وصل بيرتون إلى مكة المكرمة بعد رحلة متعبة حافلة بالمخاطر؛ ليستقر به المقام في بيت مرافقه محمّد البسيوني الذي كان دليله ومرافقه منذ بداية الرحلة.

يقول بيرتون عن مكة حينما وصلها لأول مرة: إنه لم يجد فيها ذلك الجمال الرشيق المتناسق الذي يتجلّى في آثار اليونان وإيطاليا، (وهذا دليل على التحول الذي طرأ على معمار مكة في الفترة ما بين زيارة فارتيما الذي وصف دورها بأنها تشبه الدور الإيطالية، وبين زيارة بيرتون لها) ولا الفخامة المتجلّية في أبنية الهند، ومع هذا فقد كان المنظر غريباً فريداً بالنسبة إليه، وكتب: «لكنني لم أرَ مثل هذه المشاهد المهيبة والرائعة في أي مكان آخر».

ومن المستشرقين الذين قاموا بالحج بغرض التجسس، أو التعرف على أحوال مواطني مستعمرات بلادهم، الهولندي سنوك هورخنيه الذي كان أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن، وعاش 17 عاماً في جزر الهند الشرقية (أندونيسيا)، ثم زار مكة وبقي فيها ستة أشهر بين العامين 1884 و 1885 م.

وتزامنت هذه الزيارة مع قيام حركات مقاومة للاستعمار الهولندي في تلك الجزر الآسيوية التي يحج منها عشرات الآلاف إلى مكة سنوياً، وكان الهدف منها التعرف على المؤثرات التي تدفع الثوار إلى العصيان بشكل خاص بعد عودتهم من مكة. والتقط هورخنيه آنذاك كمية كبيرة من الصور الفوتوغرافية لمواطني هذه الجزر إضافة إلى أماكن عديدة في مكة وجوارها.

إن قائمة الأوروبيين الذين زاروا مكة المكرمة طويلة في الحقيقة، إذ تضم إضافة إلى المشاهير الذين ذكرناهم عدداً أكبر ممن هم أقل شهرة، وبشكل عام

ص: 152

يمكن القول: إن ملاحظات هؤلاء اختلفت بمرور الزمن. فقد كان الأوائل منهم أكثر اهتماماً بشرح تفاصيل الدين ومناسك الحج. وتعبيراتهم تطبعها الدهشة وأحياناً الانبهار وأحياناً التعصب الديني. كما أن الأوائل ركزوا على دحض الأخطاء والخرافات الرائجة في أوروبا عن الدين الإسلامي ومقدساته.

إن قائمة الأوروبيين الذين زاروا مكة المكرمة طويلة في الحقيقة، إذ تضم إضافة إلى المشاهير الذين ذكرناهم عدداً أكبر ممن هم أقل شهرة

أما المتأخرون منهم، فقد ذهبوا إلى وصف أدقّ لحال سكان مكة والمدينة، والحجاج وتركيباتهم الإثنية وأعدادهم وطبقاتهم وأحوالهم المادية والسياسية والاجتماعية، كما تركّز وصفهم للمدينتين على ذكر تحصيناتهما مصادر المؤونة والماء فيهما، كما استغل رحالة كل بلد أوروبي فرصة الحج للتجسّس على حجاج مستعمرات بلده.

وقد كانت هناك بضع عوامل مشتركة بين هؤلاء الرحالة الأوائل منهم أو المتأخرين. فقد شاع بينهم تقمّص شخصيات يسهل لهم التسلل عبرها و تبرير سحنتهم الأوروبية من خلالها مثل جنود المماليك، أو تصرفاتهم الغريبة مثل الدراويش. كما أن جميعهم تعلّم اللغة العربية وأجادها واستعدّ للرحلة وتعلم الدروس ممن سبقوه إليها بفطنة شديدة.

ص: 153

الصحابي عبد اللَّه بن رواحة

اشارة

من الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه

محمد سليمان

ظلّت ومازالت الصحبة ومدرستها النبويّة المقدّسة شجرةً طيبة تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وظلّ الصحابي الصادق المخلص ومازال غصناً يانعاً مباركاً، وينبوعاً لا يعرف النضوب، ومادام ملتزماً بمبادى ء هذه المدرسة الربانية وبسيرتها وأخلاقها ومناهجها، ومادام وفيّاً لصاحبها ومؤسسها رسول الرحمة محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله.

فالصحبة نبع ثرّ وبضاعة لا تبور، تغني تراثنا وأجيالنا وموائدنا العلمية والعبادية والأدبية والأخلاقية من خزينها وما ورّثته لنا من خير عميم وعطاء جزيل وعلم نافع وتضحية كبيرة... لا يمكننا الاستغناء عنها وعن تاريخها الحافل بكلّ معنى جميل وقيمة عالية، أما روّاد هذه المدرسة فقد اختلفت منازلهم، فشأنهم شأن كل التلاميذ والطلبة، منهم الجاد والمخلص في استيعاب دروسها ومبادئها، ومنهم دون ذلك، ومنهم المتخلّف عنها حتى صار عالةً عليها بل ظلّ مسيئاً إليها، فالصحابة ليسوا كلّهم في الفضل سواء وإن زعمنا هذا فهو ظلم للمدرسة ولصاحبها ولرّوادها المخلصين. وكيف نزعم هذا لهم وقد فضّل اللَّه تعالى الرسل بعضهم على بعض وهم الأفضل والأكرم والأقرب إليه تعالى من غيرهم، فقال:

«تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض»

؟! والتفضيل حالة توافق طبيعة

ص: 154

الأشياء، فما من شي ء في الدنيا إلّاوالتفاضل جارٍ فيه.

ولا يضرّ هذه المدرسة السماوية بل ولا يفيدها من انحرف عنها وشطّت به قدماه بعيداً عن أسسها ومتبنياتها، كما لا يضر ذلك في سمعة الصحابة الآخرين الذين أجزم أنّ بعضهم كان صناعة خاصة، أعدّتهم السماء واختارتهم وتفضّلت بهم علينا جميعاً؛ ليصوغوا لنا تأريخاً مليئاً بكلّ معاني الخير، وحاضراً كلّه عطاء، ومستقبلًا زاهراً بالأمل مشرقاً بالحب، بعيداً عن العداوة والبغضاء.

إنّهم بحقّ جيلٌ قد لا يكون له نظير فيما مضى من تأريخ الرسالات وفيما هو آت إلّاعند القلّة القليلة النادرة.

فهيّئتهم هذه المدرسة، وصاغتهم لتبليغ أعظم رسالة سماوية وأعظم دين خاتم للديانات، فغيّروا أمة جاهلية بل غيروا أمماً أخرى فتغيّر وجه التاريخ، فاستحقوا بذلك العظيم في الدنيا والآخرة، وغدوا من ورثة جنة النعيم، يتبّوأون فيها غرفاً، وينعمون بها، ويمرحون في بحبوحة منها.

ولا غرابة في ذلك بعد أن أحبوا اللَّه ورسوله، وطلبوا رضوانه تعالى وملئوا شوقاً إلى لقائه، يطلبون الموت ويتحاثّون عليه.

كم كانت تربيتك يا رسول اللَّه لهذه النخبة الطيبة نافعة خالدة!

وكم كان حبّهم واحتفاؤهم بك يا رسول اللَّه عظيماً صادقاً حتى شهد به أبو سفيان وهو يعيش العداء كلّه والكراهية كلّها لرسول اللَّه ودينه وصحبه:

ما رأيت من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحبّ أصحاب

ص: 155

محمّدٍ محمداً!

ونحن ما إن ننتهي من تاريخ واحد منهم حتى ندخل تأريخ آخر يكمل الصورة المشرقة لهذه المدرسة ولهذه الصحبة ولما تتوفر عليه من مبادى ء وقيم عالية.

والصحابي الذي بين أيدينا هو واحد من الذين لم يفتأ سيفهم يطارد فلول الوثنية المقهورة وأذيالهم المدحورة، وانجلت فروسيته ومضاؤه في معارك الإسلام الكبرى في معركة بدر وفي معركة أحد وفي الخندق ويوم الحديبية وخيبر، وهو ينتضي سيفيه الباترين- كما يعبر السيد الجميلي- سيف في يده، وآخر في لسانه، فأخذ يحصد أعداءَه ويضرب الباطل فيهم على أمّ رأسه في غير هوادة أو رحمة (1).

إنّه الصحابي الجليل، المؤمن المجاهد، والكاتب الشاعر، الخزرجي: عبد اللَّه بن رواحة بن ثعلبة بن امرى ء القيس بن عمرو بن امرى ء القيس الأكبر بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث، هذا نسبه من أبيه وقد وقع فيه اختلاف.

كم كانت تربيتك يا رسول اللَّه لهذه النخبة الطيبة نافعة خالدة!

وكم كان حبّهم واحتفاؤهم بك يا رسول اللَّه عظيماً صادقاً حتى شهد به أبو سفيان وهو يعيش العداء كلّه والكراهية كلّها لرسول اللَّه ودينه وصحبه:

ما رأيت من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحبّ أصحاب محمّدٍ محمداً!

أمّا نسبه من أمّه، فهي كبشة بنت واقد بن عمرو بن الإطنابة ابن عامر بن زيد مناة.

وأمّا كنيته فهو يكنّى ب (أبو محمد)، ويقال له: أبو رواحة، ويقال له أيضاً: أبو عمرو الأنصاري.

__________________________________________________


1- صحابة النبي صلى الله عليه و آله للدكتور السيد الجميلي: 264.

ص: 156

إسلامه

كان من الذين منَّ اللَّه تعالى عليهم، يوم العقبة الأولى، حيث شهدها مبايعاً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع نخبة من الخزرج، وشهدها نقيباً حيث كان من الاثني عشر نقيباً، ولم يكتف بهذا، بل شهد العقبة الثانية مع جمع كبير من الأنصار والذين كانوا ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين.

وكان واحداً ممّن اعترضوا ناقة رسول اللَّه حين وازنت دار بني الحارث بن الخزرج- وكان هذا يوم اعتراض القبائل في يثرب لناقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تبتغي نزولها عندها- فاعترضها منهم سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبداللَّه بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: يا رسول اللَّه هلّم إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة، فقال لهم: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة، فخلوا سبيلها، فانطلقت... وكان له موقف آخر يتصف بالقوّة والرغبة العظيمة في سماع آيات القرآن وما يبشر به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وينذر:

فعن زيد بن حارثة قال: ركب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوٍ أصابه على حمار عليه إكاف، فوقه قطيفة فدكية، مختطمة بحبل من ليف، وأردفني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خلفه، قال: فمرّ بعبد اللَّه بن أبي، وهو في ظلّ مُزاحمٍ أطمه (الحصن، وأطام المدينة سطوحها...)، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تذمم أي استنكف واستحيا من أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلم، ثمّ جلس قليلًا فتلا القرآن ودعا إلى اللَّه عزّ وجلّ وذكّر باللَّه وحذّر، وبشر وأنذر.

وهو زامّ لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مقالته، قال: يا هذا، إنّه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تغتَّه به

[أي لا تثقل عليه

] ولا تأته في مجلسه بما يكره منه.

وهنا انبرى عبداللَّه بن رواحة قائلًا في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى، فاغشنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا.

ثمّ واصل كلامه هذا قائلًا:

ص: 157

فهو واللَّه ممّا نحبّ، وممّا أكرمنا اللَّه به وهدانا له.

فما كان من عبداللَّه بن أبي حيث رأى- بعد مقالة عبد اللَّه بن رواحة- من خلاف قومه ما رأى، إلّاأن أنشد قائلًا:

متى ما يكُن مولاك خصمُك لا تزل تذِلّ ويصرعك الذين تصارع!

وهل ينهض البازي بغير جناحه وإن جُذّ يوماً ريشه فهو واقع (1)

***

وكان عبد اللَّه بن رواحة ممّن شهدوا معركة بدر، وهو من الفتية من الأنصار وهم: عوف ومعوّذ بن الحارث وأمّهما عفراء، وعبداللَّه بن رواحة خرجوا لمقاتلة عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة من رجال قريش المشركين الذين دعوا المسلمين إلى المبارزة في أول وقعة بدر الكبرى، فقالوا: من أنتم؟

فقالوا: رهط من الأنصار.

قالوا: ما لنا بكم من حاجة.

وكان عبد اللَّه بن رواحة ممّن شهدوا معركة بدر، وهو من الفتية من الأنصار

ثم نادى مُناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

وكأنهم لم يروا في فتية الأنصار أكفاء لهم.

فقال صلى الله عليه و آله: قم يا عبيدة بن الحارث!

وقم يا حمزة!

وقم يا عليّ!

فلما قاموا ودنوا منهم، قالوا: نعم، أكفاء كرام، فبارز عبيدة- وكان أسنّ القوم- عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأمّا علي فلم

__________________________________________________


1- السيرة النبويّة لابن هشام 2: 586- 587.

ص: 158

يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذفّقا عليه أي أسرعا قتله. واحتملا صاحبهما فحازاه الى أصحابه.

وفي رواية أنّ عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار وكان منهم- كما قلنا- ابن رواحة حين انتسبوا: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا (1). ثم خاض الجميع معركة بدر

وحققوا نصراً عظيماً.

وشهد- بعد ذلك- معارك الإسلام الأخرى، معركة أحد ومعركة الخندق ويوم الحديبية وخيبر مقاتلًا عنيداً، وشهد مؤتة في غزوة الأمراء أميراً ثمّ شهيداً.

وكان هذا الصحابي الجليل- إضافةً إلى كونه شاعراً بارزاً- كان كاتباً، فهو من القلّة الذين يجيدون الكتابة في الجاهلية حيث كانت الكتابة في العرب قليلًا.

رحم اللَّه ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ

وقد كلّفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمسؤوليات عديدة، منها أنّه قدّمه في بدر يبشّر أهل العالية بما فتح اللَّه عليه، والعالية: بنو عمرو بن عوف وخطمة ووائل.

واستخلفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على المدينة حين خرج إلى غزوة بدر الوعد.

وبعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريّة في ثلاثين راكباً إلى أسير بن زارم اليهودي بخيبر فقتله، ثمّ بعثه الى خيبر خارصاً كما يأتينا.

وممّا قاله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه:

رحم اللَّه ابن رواحة، كان أينما أدركته الصلاة أناخ.

إنّه سيلقى حجّته، فعن أنس أنّه قال:

كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سفر فأصابنا مطر ورِداغ

[والردغ والردَغة والردّغة: الماء والطين والوحل الكثير الشديد، والجمع، رِداغ وردغ. أنظر

__________________________________________________


1- أنظر السيرة النبوية 2: 625.

ص: 159

اللسان: ردغ

]. فأمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن نصلي على ظهور رواحلنا.

قال: ففعلنا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض.

قال: فسعى به رجل من القوم فقال: يا رسول اللَّه أمرت الناس يصلّون على ظهور رواحلهم ففعلوا، ونزل ابن رواحة فصلى في الأرض.

قال: فبعث إليه فقال: ليأتينكم وقد لقي حجّته.

قال: فأتاه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يابن رواحة، أمرتُ الناس أن يصلّوا على ظهور رواحلهم، نزلت وصليت في الأرض!

قال: فقال: يا رسول اللَّه؛ لأنّك تسعى في رقبة قد فكّها اللَّه، وإنما أنا نزلت لأسعى في رقبة لم تفكّ.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ألم أقل لكم إنّه سيلقى حجّته؟!

وفي رواية أخرى أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خرج في سريّة، فأدركته الصلاة وهو على ظهر، فصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على ظهر، ونزل ابن رواحة فصلّى بالأرض، ثمّ أتى النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: يابن رواحة، أرغبت عن صلاتي؟!

قال: لستُ مثلك، إنّك تسعى في عِتقٍ ونحن نسعى في رقّ، فلم يَعِبْ عليه ما صنع.

وقد فرّق أو ميّز رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا بين ابن رواحة ورجل آخر، حين خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سرية فصلّى بأصحابه على ظهر، فاقتحم رجل من الناس فصلى على الأرض، فقال: خالف خالف اللَّه به، فما مات حتى خرج من الإسلام.

وفرق كبير بين هذا وذاك، فذاك رجل اختبر رسول اللَّه- كما يبدو- إيمانه وإخلاصه... فيما ظهر نفاق هذا وبعده عن الإيمان.

ص: 160

ابن رواحة وآيات قرآنية:

في رواية: لما نزلت الآية:

«والشعراء يتّبعهم الغاوون» (1)

قال عبداللَّه بن

رواحة: قد علم اللَّه أنّي منهم، فأنزل اللَّه عزّ وجلّ:

«إلّاالذين آمنوا وعملوا الصالحات» (2).

حتى ختم الآية.

وعن ابن عباس أنّ الآية المباركة

«إلّاالذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا اللَّه كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا» (3).

نزلت في جماعة كان منهم عبداللَّه بن رواحة.

لقد انقبضت أسارير وجهه حيث نزول الآية الأولى، واغتمّ غمّاً عظيماً وذهبت به الظنون كلّ مذهب حتى نزلت الآية الاخرى، التي أزالت عن صدره هذه الظنون وذلك الغم.

وفي قوله تعالى:

«يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند اللَّه أن تقولوا مالا تفعلون إنّ اللَّه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنّهم بنيانٌ مرصوص» (4)

. في نفر من الأنصار منهم عبداللَّه بن رواحة. قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى اللَّه عزّ وجلّ لعملنا به حتى نموت، فلما نزلت فيهم، قال ابن رواحة: ولا أزال حبيساً في سبيل اللَّه عزّ وجلّ حتى أموت، فقتل شهيداً رحمة اللَّه عليه.

وفي رواية أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دفع إلى نفر من أصحابه فيهم عبداللَّه بن رواحة يذكرهم اللَّه، فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سكت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ذكّر أصحابك،

__________________________________________________


1- الشعراء: 224.
2- الشعراء: 227.
3- الشعراء: 227.
4- الصف: 2- 4.

ص: 161

فقال: يا رسول اللَّه، أنت أحقّ مني.

قال: أما إنكم الذين أمرني اللَّه أن أصبر نفسي معهم، ثمّ تلا عليهم:

«واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم» (1).

الآية إلى آخرها.

قال: وما قعد عِدتكم قط يذكرون اللَّه إلّاقعد معهم عددهم من الملائكة. فإن حمدوا اللَّه حمدوه، وإن استغفروا اللَّه أمّنوا، ثمّ عرجوا إلى ربّهم، فسألهم وهو أعلم منهم، فقال: أين ومن أين؟

قالوا: ربّنا، عبيد لك من أهل الأرض ذكروك فذكرناك.

قال: ويقولون: ماذا؟

قالوا: ربنا حمدوك، فقال: أولُ من عُبد وآخر من حُمد.

قالوا: وسبّحوك.

قال: مدحي لا ينبغي لأحد غيري.

قالوا: كبّروك.

قال: لي الكبرياء في السموات والأرض وأنا العزيز الحكيم.

قالوا: ربّنا استغفروك.

قال: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم.

قالوا: ربنا فيهم فلان وفلان؟!

__________________________________________________


1- الكهف: 28.

ص: 162

قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

- وفي الآية

«لأمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم» (1)

. عن ابن عباس أنّها نزلت في عبداللَّه بن رواحة، وكانت له أمَة سوداء، وإنّه غضب عليها فلطمها، ثم إنه فزع فأتى النبيّ صلى الله عليه و آله فأخبره خبرها.

فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: ما هي يا عبداللَّه؟

قال: هي تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنك رسوله.

فقال: يا عبداللَّه هذه مؤمنة.

فقال عبداللَّه: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها. ففعل.

فطعن عليه ناسٌ من المسلمين وقالوا: نكح أَمَة، وكانوا يريدون أن يُنكحوا إلى المشركين ويُنكحوهم رغبةً في أحسابهم.

فأنزل اللَّه تعالى فيهم:

«ولأمَة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم»

ابن رواحة ثالث ثلاثة شعراء

كان ابن رواحة شاعراً مجيداً، وقد نقل لنا الرواة مقاطع من شعره، و عَدّوه واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية المباركة، ونالوا منها حظاً وافراً، وموقعاً إعلامياً ضرورياً، لا تستغني عنه أي حركة تغييرية خاصة في بيئة كتلك التي احتلّ فيها الأدب والشعر بالذات مكانةً مرموقةً، بل دخل كلّ معالم ومفاصل حياتهم ونواحيها المتعددة حتى غدا وسيلتهم الإعلامية الأولى والمحببة، التي يتجاوبون ويتفاعلون معها، فهي التي تخاطب عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، كما أنهما، أي الشعر والنثر- إضافة الى أنهما وسيلتان إعلاميتان مهمتان- مدرستان تثقيفيتان متنقلتان تربيان النفوس، بما تحملانه من معان حسنة أو سيئة؛ لهذا ولغيره راحت المدرسة النبويّة تستثمرهما- بعد تهذيبهما من شوائب الجاهلية- في

__________________________________________________


1- البقرة: 221.

ص: 163

خدمة الإسلام ودعوته الخالدة وبأيامها ومواقعها المشهودة.

فكان عبداللَّه بن رواحة وهو الذي عرف في أوساطهم بكونه شاعراً من الطراز الأول، راحت كتب التأريخ والأدب تذكر لنا شعره وأراجيزه وهو يقاتل، وهو يطوف، وهو يدعو إلى اللَّه تعالى، وهو يهاجم أعداء اللَّه ورسوله... واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية وعرفهم العصر الأول للإسلام ودعوته، وهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وثالثهم الصحابي الجليل ابن رواحة.

وفي جوابه عن سؤال يقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجهه له يوماً:

ما الشعر؟

كان ابن رواحة شاعراً مجيداً، وقد نقل لنا الرواة مقاطع من شعره، و عَدّوه واحداً من ثلاثة شعراء عرفتهم الصحبة النبوية المباركة، ونالوا منها حظاً وافراً، وموقعاً إعلامياً ضرورياً

قال: شي ء يختلج في صدر الرجل، فيخرجه على لسانه شعراً.

قال: فهل تستطيع أن تقول شيئاً الآن؟

فنظر في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: نعم، فأنشد من البسيط ثمانية أبيات منها:

إنّي توسمت فيك الخير نافلةً واللَّه يعلم إني ثابت البصر

فثبت اللَّه ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

وعنه رحمه اللَّه أنّه قال: مررت بالنبيّ صلى الله عليه و آله وهو جالس في نفر من أصحابه، فأضب القوم

[أي تكلموا متتابعاً

]: يا عبداللَّه بن رواحة، يا عبداللَّه بن رواحة، فعرفت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دعاني، فانطلقت إليهم مسرعاً، فسلّمت.

فقال: ها هنا، فجلست بين يديه.

فقال- كأنه يتعجب من شعري-: كيف تقول الشعر إذا قلت؟

قلت: أنظر في ذلك ثمّ أقول.

ص: 164

فقال: فعليك بالمشركين.

قال: ولم أكن أعددت شيئاً، فأنشدته، فلما قلت:

فخيّروني أثمان العَباءِ متى كنتم بطاريق أو دانت لكم مضرُ

قال: فكأني عرفت في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الكراهية أن جعلت قومه أثمان العباء، فقلت:

نُجالد الناس عن عُرضٍ فنأسِرُهم فينا النبي وفينا تُنزل السور

وقد علمتهم بأنّا ليس يغلبنا حيّ من الناس إن عَزّوا وإن كثروا

يا هاشم الخير إنّ اللَّه فضّلكم على البريّة فضلًا ماله غيرُ

إني تفرّست فيك الخير أعرفه فراسةً خالفتهم في الذي نظروا

ولو سألت او استنصرت بعضهم في جلّ أمرك ما آوَوا ولا نُصروا

فثّبت اللَّه ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا

فأقبل عليّ بوجهه متبسّماً ثم قال: وإيّاك فثبت اللَّه.

وتصدى ثلاثة من كفار قريش وهم: أبو سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وابن الزبيري ليهجوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه.

فقال قائل لعليّ: أُهج عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا.

فقال علي: إن أذن لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فعلت.

فقال الرجل: يا رسول اللَّه، أتأذن لعلي كيما يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا؟

فقال: ليس هناك... ثم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم؟

فقال حسان بن ثابت: أنا لها يا رسول اللَّه وأخذ بطرف لسانه، فقال: واللَّه ما يسرني به مقولًا بين بصرى وصنعاء.

ص: 165

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وكيف تهجوهم وأنا منهم؟

فقال: إني أسلُّك منهم كما تُسلّ الشعرة من العجين.

فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبداللَّه بن رواحة.

فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيّرانهم بالمثالب.

وكان عبداللَّه بن رواحة يعيّرهم بالكفر وينسبهم إلى الكفر، ويعلم أنّه ليس فيهم شرّ من الكفر.

وكانوا في ذلك الزمان أشدّ القول عليهم قول حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وأهون القول قول عبداللَّه بن رواحة. فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشدَّ القول عليهم قول عبداللَّه بن رواحة.

وفي يوم الخندق، حيث كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ينقل التراب حتّى وارى التراب شعر صدره المبارك، راح عبداللَّه بن رواحة هذا الصحابي الجليل يرتجز قائلًا:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

فأنزلنْ سكينةً علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا

إنّ الأُولى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبينا

وكان ارتجازه هذا تلبية لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما قال له: أنزل فحرك بنا التراب.

وبعد أن أنشد أرجوزته المذكورة دعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له قائلًا: اللهم ارحمه.

وفي شعره وهو يمدح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين يقول:

وفينا رسول اللَّه يتلو كتابَهُ إذا انشقّ معروف من الفجر ساطع

يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا به موقنات أنّ ما قال واقع

هذا لعمري من معاريض الكلام...

ونسب لهذا الصحابي لطائف أضحكت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

فقد كانت لعبداللَّه بن رواحة جارية يستسرّها سرّاً عن أهله، فبصرت به أمرأته يوماً قد خلا بها، فقالت: لقد اخترتَ أمَتك على حُرّتك، فجاحدها ذلك.

قالت: فإن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن، وفي رواية: وقد عهدته لا يقرأ القرآن وهو جنب.

فقال من الوافر:

شهدتُ بأنّ وعدَ اللَّه حقٌّ وأنّ النار مثوى الكافرينا

قالت: فزدني آية أخرى، فقال:

وأنّ العرشَ فوقَ الماء طافٍ وفوق العرشِ ربُّ العالمينا

فقالت: زدني آية أخرى، فقال:

وتحملُهُ ملائكةٌ كرامٌ ملائكةُ الإلهِ مقرَّبينا

وفي ديوانه... شدادٌ... مؤمنينا

فقالت: آمنت باللَّه وكذبت بصري.

فأتى ابن رواحة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فحدّثه، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولم يغيّر عليه.

وزاد في رواية بمعناه، فقالت له: أما إذا قرأت القرآن فإنّي قد عرفت أنه مكذوب عليك.

فافتقدته ذات ليلة، فلم تجده على فراشها، فحبست نفسها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية الدار، فقالت: الآن صدقت فيما بلغني، فجحدها، فقالت: اقرأ الآيات من القرآن إن كنت صادقاً، فإنك إن كنت جنباً لم تقرأ، فقال

ص: 166

ص: 167

من الطويل:

وفينا رسول اللَّه يتلو كتابه إذا انشقّ معروف من الصبح ساطعُ

لبيت يجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالكافرين المضاجعُ

أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا له موقنات أن ما قال واقعُ

وأعلم علماً ليس بالظنّ أنني إلى اللَّه محشورٌ هناك وراجعُ

فحدث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بذلك، فاستضحك حتى ردّ يده على فيه، وقال:

هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر اللَّه لك يابن رواحة، إن خياركم خيركم لنسائكم.

فأخبرني ماالذي ردّت عليك، حيث قلت ما قلت؟

قال: قالت لي: اللَّه بيني وبينك، أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم ظني وأصدقك.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لقد وجدتها ذات فقه في الدين (1).

ابن رواحة في عمرة القضاء

بعد رجوعه صلى الله عليه و آله إلى المدينة من خيبر منتصراً، أقام في المدينة شهري ربيع وجُمادَيين ورجباً وشعبان ورمضان وشوالًا، ثمانية أشهر، وكان يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه صلى الله عليه و آله.

بعدها خرج صلى الله عليه و آله من المدينة في شهر ذي القعدة من سنة سبع للهجرة النبوية، قاصداً مكة معتمراً عمرة القضاء، بعد أن صدّه مشركو مكة عنها عام الفتح في شهر ذي القعدة سنة ستّ، وسمّي شهر الصدّ، وهو من الأشهر الأربعة الحرم، ثلاثة سردٌ أي متتابعة (ذوالقعدة وذوالحجّة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب). فيما سمّيت عمرة شهر ذي القعدة من العام السابع بعمرة القِصاص، لأنّ المشركين صدّوا

__________________________________________________


1- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 158- 159.

ص: 168

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في شهر ذي القعدة في الشهر الحرام من سنة ستّ، فاقتص رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منهم، فدخل مكة في الشهر نفسه الذي صدّوه فيه من سنة سبع، وقد أنزل اللَّه تعالى في ذلك

«والحرمات قِصاص» (1)

. وقد خرج مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المسلمون ممّن كان صدّ معه في عمرته، وعدّتهم كانت ألفين سوى النساء والصبيان.

وحين دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة في عُمرة القضاء هذه دخلها وكان الصحابي الجليل عبداللَّه بن رواحة آخذاً بخطام ناقة رسول اللَّه وهو يرتجز قائلًا:

خلّوا بني الكفار عن سبيله خلّوا فكلّ الخير في رسوله

يا ربّ إنّي مؤمن بقيله (2) أعرف حقّ اللَّه في قبوله

نحن قتلناكم على تأويله كما قتلناكم على تنزيله (3)

ضرباً يزيل الهام عن مِقيله ويُذهل الخليل عن خليله

__________________________________________________


1- البقرة: 194.
2- بقيله: أي قوله.
3- أي نحن نقاتلكم على إنكار تأويله، كما قتلناكم على إنكار تنزيله.

ص: 169

والذي يبدو أنّ (نحن قتلناكم على تأيله... ويذهل الخليل عن خليله) كانت للصحابي الجليل عمار بن ياسر رضوان اللَّه عليه، ارتجز بهما في غير هذا اليوم أي يوم معركة صفين التي دارت رحاها بين جيش الإمام عليّ عليه السلام وجيش البغاة بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وقد استشهد فيها عمار بن ياسر رحمه اللَّه تعالى.

والدليل على هذا، وهو ما ذكره ابن هشام صاحب السيرة، أنّ ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم يقرّوا بالتنزيل وإنّما يُقتل على التأويل من أقرّ بالتنزيل (1).

ويقال: إن عمر بن الخطاب قال: يا بن رواحة، في حرم اللَّه وبين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تقول هذا الشعر؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: خلّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشدّ عليهم من وقع النبل (2).

وبينما كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطوف بالبيت في عمرة القضاء على بعير له، يستلم الركن بمحجن، كان عبداللَّه بن رواحة آخذاً بغرزه وينشد بين يديه من أرجازه:

يارب لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلينا

فأنزلن سكينةً علينا وثبت الأقدام إن لاقينا

إنّ الذين قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنةً أبينا

هذا ما ذكره السيد الجميلي في كتابه صحابة النبي صلى الله عليه و آله دون أن يذكر مصدر هذا الشعر، فيما ذكر صاحب مختصر تاريخ دمشق وقال: إنّ هذه الأبيات كانت لابن رواحة يوم الخندق.

كما ذكرناها في حفر الخندق.

إذن فعبد اللَّه بن رواحة كان حاضراً عمرة القضاء، ولم يحضر فتح مكة في

__________________________________________________


1- أنظر السيرة النبوية لابن هشام 4: 13.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 155.

ص: 170

شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة، لأنّه استشهد في جمادى الأولى من السنة نفسها في معركة مؤتة فما نسب إليه من أشعار كان خطأً، والذي يبدو أن كعب بن مالك هو الذي كان يرتجز بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فتح مكة وليس عبداللَّه بن رواحة (1).

من حكمه رضوان اللَّه عليه

اتّسمت مواقفه وأحاديثه بالحكمة والموعظة الحسنة، وطالما كان يذكر إخوانه وأصحابه بما يرضي اللَّه تعالى، وبما يشدّهم إلى ذكره سبحانه، فعن أبي الدرداء أنّه قال:

أعوذ باللَّه أن يأتي عليّ يوم، لا أذكر فيه عبداللَّه بن رواحة.

وراح أبو الدرداء يواصل حديثه عن إيمان ابن رواحة وحبّه لمجالس التفكر والذكر قائلًا:

كان إذا لقيني مقبلًا، ضرب بين ثدييّ، وإذا لقيني مدبراً ضرب بين كتفيّ ثمّ يقول: يا عويمر، اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فنجلس فنذكر اللَّه ما شاء، ثمّ يقول: يا عُويمر، هذه مجالس الإيمان، إن مثل الإيمان مثل قميصك؛ بينا أنت قد نزعته إذ لبسته، وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته، يا عُويمر، للقلب أسرع تقلّباً من القدر إذا استجمعت غلياً (2).

ويقال: إنّ عبداللَّه بن رواحة- وقبل غزوة مؤتة- كان قد مرض مرضاً شديداً، حتى أغمي عليه، فكانت أخته عمرة تعدّد مآثره وتبكيه، فلما أفاق، قال لأخته: ما قلتِ فيّ شيئاً إلّاأنبوني ووبخوني، أي فلا تنبغي النياحة.

ونقل أنّه في مرضه هذا، عاده النبيّ صلى الله عليه و آله وهو مغمى عليه، فقال صلى الله عليه و آله: اللّهم إن كان أجله قد حضر، فيسر عليه وإلّا فاشفه.

فوجد خفّةً وأفاق.

فقال: كأنّ ملكاً قد رفع مرزبة من حديد، (وكأنّه ردّ على نياحة أخته

__________________________________________________


1- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 155.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 157- 158.

ص: 171

وتعدادها لمناقبه ومآثره)، ويقول: أأنت كذا؟

فلو قلتُ: نعم، لقمعني بها.

كلّ هذا كان دليلًا على عدم رضاه عن ذكر مناقبه، وكان دليلًا على تواضعه وزهده في شأن الدنيا ومراتبها حتى وإن كان جديراً بها وأنّه ينالها بحقّ.

موقفان لابن رواحة مع يهود خيبر

الموقف الأول:

غزا عبداللَّه بن رواحة يهود خيبر بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد أصاب فيها يُسير بن رزام، الذي كان يبذل جهوداً كبيرة في تجميع قبائل غطفان، استعداداً لغزو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فما كان من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن بعث إليه عبداللَّه بن رواحة في نفر من أصحابه، منهم عبداللَّه بن أنيس حليف بني سلمة، فلما قدموا عليه كلّموه وواعدوه وقرّبوا له وقالوا له: إنك إن قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استعملك وأكرمك.

غزا عبداللَّه بن رواحة يهود خيبر بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقد أصاب فيها يُسير بن رزام، الذي كان يبذل جهوداً كبيرة في تجميع قبائل غطفان، استعداداً لغزو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

فلم يزالوا به حتى خرج معهم في نفر من يهود، فحمله عبداللَّه بن أنيس على بعيره وردفه، حتى إذا كان بالقرقرة من خيبر، على ستة أميال، ندم اليسير بن رزام على مسيره إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. ففطن له عبداللَّه بن أنيس وهو يريد السيف، فاقتحم به، ثمّ ضربه بالسيف فقطع رجله، وضربه اليسير بمخرش في يده من شوقط، فأمّه في رأسه، وقتل اللَّه يُسيراً، ومال كل رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على صاحبه من يهود فقتله، إلّارجلًا واحداً أفلت على رجليه أو على راحلته، فلما قدم عبداللَّه بن أنيس على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تفل أي بصق بصاقاً خفيفاً على شجّته فلم تقح ولم تؤذه.

ص: 172

الموقف الثاني:

فكما كان ابن رواحة عظيماً في إيمانه شجاعاً في جهاده، كان عظيماً في عفّته، شجاعاً في عدله وزهده.

ففي رواية، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم،...

وكان عبداللَّه بن رواحة يأتيهم بأمرٍ من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كلّ عام فيُخرصها «1»

عليهم، ثمّ يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شدّة خرصه، وأرادوا أن يرشوه، فقال: يا أعداء اللَّه، تطعموني السُّحت، واللَّه لقد جئتكم من عند أحبّ الناس إلي، وأنتم أبغض إلي من عدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبّي إياه على أن لا أعدل عليكم.

فكان جوابهم أن قالوا له: بهذا قامت السماوات والأرض.

فيما هناك رواية أخرى بهذا الخصوص تقول:

إنّهم جمعوا حُليّاً من حُليّ نسائهم، فقالوا:

هذا لك، وخفّف عنا وتجاوز في القسم.

فما كان جواب بن رواحة، الذي اتّسم موقفه هذا، كما مواقفه الأخرى بالشدّة المتصفة بالعدل والحق، إلّاأن أجابهم بقوله: يا معشر يهود، واللَّه إنكم لمن أبغض خلق اللَّه إليّ، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، وأمّا الذي عرضتم عليَّ من الرشوة، فإنها سُحتٌ وإنّا لا نأكلها.

قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض «2».

ابن رواحة ثالث ثلاثة أمراء!

«هي إن شاء اللَّه الشهادة!»

في جمادى الأولى سنة ثمان للهجرة النبوية، وفي قرية من أرض البلقاء من

__________________________________________________

ص: 173

الشام، وقعت معارك طاحنة اتّسمت بالضراوة والشدّة بين جيش المسلمين وتعداده ثلاثة آلاف تحت إمرةِ ثلاثة من الأمراء المسلمين حتى سميت هذه الغزوة بغزوة جيش الأمراء. حيث خاضوا معركة لم يخض المسلمون معركة مثلها كما وصفت، وكان أعداء المسلمين من المشركين الروم قد ادّرعوا بالعتاد والأعداء ما يملأ السهل والجبل وما لا طاقة للمسلمين به.

وكان الصحابي عبداللَّه بن رواحة أحد أمراء هذا الجيش المسلم الثلاثة، الذين عينهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

تقول الرواية:

بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعثة إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان، واستعمل عليهم زيدَ بن حارثة وقال:

«إن أُصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أُصيب جعفر فعبد اللَّه بن رواحة على الناس، وزاد الزرقاني: فإن قتل فليتربص المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم».

فتجّهز الناس ثمّ تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودّع الناسُ أمراء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسلّموا عليهم، فلما ودّع عبداللَّه بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بكى؛ فقالوا:

ما يبكيك يابن رواحة؟ أو أنهم زعموا أنّ ابن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة، فبكى أهله حين رأوه يبكي.

فقال: أمَا واللَّه ما بي حبُّ الدنيا ولا صبابة بكم، أو واللَّه ما بكيت جزعاً من الموت ولاصبابة لكم، ولكني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقرأ آيةً من كتاب اللَّه عزّ وجلّ، يذكر فيها النار:

«وإن منكم إلّاواردها كان على ربك حتماً مقضيّاً»

أو أنيّ بكيت من قول اللَّه: (الآية) فقد علمتُ أني وارد النار ولا أدري أو فلستُ أدري كيف لي بالصَّدر بعد الورود؛ أو فأيقنت أنّي واردها ولم أدرِ أنجو منها أو لا؟!

فقال المسلمون: صحبكم اللَّه ودفع عنكم، وردّكم إلينا صالحين.

ص: 174

وهنا أنشد عبداللَّه بن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا (1)

أو طعنةً بيدي حرّان مُجهزةً بحربة تُنفذ الأحشاءَ والكبدا (2)

حتى يُقال إذا مرّوا على جَدَثي أرشده اللَّه من غازٍ وقد رشدا (3)

ثمّ إن القوم تهيّئوا للخروج، فأتى عبداللَّه بن رواحة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فودعه، ثمّ قال:

فثبت اللَّه ما آتاك من حَسَنٍ تثبيت موسى ونصراً كالذي نُصروا

إني تفرّست فيك الخيرَ نافلةً اللَّهُ يعلم أني ثابت البصر

أنت الرسول فمن يُحرم نوافله والوجهَ منه فقد أزرى به القدر

وفي رواية:

أنت الرسول فمن يحرم نوافله والوجهَ منه فقد أزرى به القدر

فثبت اللَّه ما آتاك من حسنٍ في المرسلين ونصراً كالذي نُصروا

إني تفرّست فيك الخيرَ نافلةً فراسةً خالفت فيك الذي نظروا

يعني المشركين، وهذه الأبيات في قصيدة له.

قال ابن إسحاق: ثمّ خرج القوم، وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى إذا ودّعهم وانصرف عنهم، قال عبداللَّه بن رواحة:

خلَفَ السلامُ على امرى ء ودّعته في النخل خيرَ مُشيّع وخليل

__________________________________________________


1- ذات فرع: ذات سعة. والزبد هنا: رغوة الدم.
2- مجهزة سريعة القتل. تنفذ الأحشا: تخترقها.
3- الجدث والجدف: القبر.

ص: 175

لمّا ودع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عبداللَّه بن رواحة، قال ابن رواحة: يا رسول اللَّه، مرني بشي ء أحفظه عنك.

قال: إنك قادم غداً بلداً، السجود فيه قليل، فأكثر السجود، قال عبداللَّه بن رواحة: زدني يا رسول اللَّه.

قال: اذكر اللَّه فإنه عون لك على ما تطالب.

فقام من عنده، حتى إذا مضى ذاهباً، رجع اليه فقال: يا رسول اللَّه، إنّ اللَّه وتر يحب الوتر.

قال: يابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدة.

فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شي ء بعدها.

ويقول زيد بن أرقم، وكان يتيماً في حجر عبداللَّه بن رواحة:

فلم أرَ والي يتيم خيراً منه.

وقد خرج معه فحمله على حقيبة رحله، وخرج به غازياً إلى مؤتة، فسمعه زيد وهو يتمثل أبياته التي قال فيها مخاطباً ناقته:

إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحِساء (1)

فشأنك فانعمي وخلاكِ ذمٌّ ولا أرجع إلى أهلي ورائي

__________________________________________________


1- الحساء: موضع، معجم البلدان، وأنظر لسان العرب: حسا.

ص: 176

وجاء المؤمنون وغادروني بأرض الشام مشتهي الثواء

وردّك كلّ ذي نسب قريب إلى الرحمن وانقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع نخل ولا بعل أسافلها رِداء (1)

[أي إذا استشهدت لم أبالِ ما تركت من عِذْي النخل وسقيه (2)

] فلما سمعه زيد بكى فخفقه بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني اللَّه الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل.

وراح ابن رواحة يرتجز لزيد قائلًا:

يا زيدُ زيدَ اليعملات الذبلِ تطاولَ الليلُ هُديتَ فانزلِ

أي انزل فسُق القوم.

وفي حديث آخر بهذا المعنى: ثمّ نزل من الليل فصلّى ركعتين ثمّ دعا فيهما دعاءً طويلًا ثمّ قال لي: يا غلام، فقلت: لبيك قال: هي إن شاء اللَّه الشهادة.

ومضى قوله: هنالك لا أبالي طلع نخل... البيت يقول: استشهدت لم أبال ما تركت من عِذي النخل وسقيه.

ثمّ مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناسُ أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مئة ألف من الروم، وانضم إليهم من لحم وجُذام والقين وبهداء وبلي مئة ألف منهم، عليهم رجل من بلي ثمّ أحد إراشة يقال له: مالك بن زافلة.

فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يُمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فنمضي له.

فشجّع الناسَ عبدُاللَّه بن رواحة، وقال:

__________________________________________________


1- البعل: ما شرب بعروقه من الأرض، أنظر اللسان، بعل.
2- عذا: والعذي من النبات: البعل.

ص: 177

يا قوم، واللَّه إن التي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقابلهم إلّابهذا الدين الذي أكرمنا اللَّه به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين:

إما ظهور

وإما شهادة

وفي رواية أنهم في سيرهم إلى تبوك إذ هم بناحية معان، بضمّ الميم أو فتحها، وهي مدينة في طريق بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء، وهي من أرض الشَّراة، والشراة: صقع بالشام بين دمشق ومدينة الرسول صلى الله عليه و آله (1). وهم بهذه الناحية

مُعان أخبروا أنّ الروم قد نُذروا أي علموا، وجمعوا لهم جموعاً كثيرة من الروم وقضاعة وغيرهم من نصارى العرب، فاستشار زيد بن حارثة أصحابه فقالوا:

قد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف، فإنّه لا يعدل العافية شي ء.

وعبد اللَّه ساكت، فسأله زيد بن حارثة فقال: إنّا لم نسر إلى هذه البلاد، ونحن نريد الغنائم، ولكنا خرجنا نريد لقاءَهم ولسنا نقاتلهم بعدد ولا عدّة، فالرأي المسير إليهم.

فقبل زيد رأيهُ وسار إليهم (2).

فقال الناس: قد واللَّه صدق ابنُ رواحة. فمضى الناس، فقال عبداللَّه بن رواحة في مَحبِسهم ذلك:

جلبنا الخيل من أجاءٍ وفرع تُغَرُّ من الحشيش لها العُكومُ (3)

__________________________________________________


1- أنظر معجم البلدان.
2- أنظر مختصر تاريخ دمشق 12: 162- 163.
3- أجأ: أحد جبلي طي ء، والآخر سلمى. وفرع بالفتح: اسم موضع من وراء الفرك. وقال ياقوت: الفرع: أطول جبل بأجأ وأوسطه. والظاهر أن هذا هو المراد هنا. وتغر بالغين المعجمة: تطعم شيئاً بعد شي ء. يقال: غر الفرج غرا وغراراً: زفه. والعكوم: جمع عكم بالفتح وهو الجنب. ويروى: جلبتا الخيل من أجام قُرح، وقرح: سوق وادي القرى، كما عند ياقوت وقد ذكره منسوباً الى ابن رواحة.

ص: 178

حَذَوناها من الصَّوّان سِبْتاً أزلَّ كأن صَفحتَه أدِيم (1)

أقامت ليلتين على مَعانٍ فأعقِبَ بعد فترتها جُمُوم (2)

فرُحنا والجيادُ مسوّمات تنفَّس في منافرها السموم (3)

فلا وأبى مآب لنأتينها وإن كانت بها عربٌ وروم (4)

فعبأنا أعنتها فجاءت عوابسَ والغبارُ لها بريم (5)

بذي لجبٍ كأنّ البيض فيه إذا برزت قوانسُها النجوم (6)

فراضيةُ المعيشة طلّقتْها أسنَّتُها فتَنكحُ أو تئيم (7)

حتى إذا كان جيش المسلمين بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثمّ دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلًا من بنى عُذرة يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلًا من الأنصار يقال له: عُبابة بن مالك أو عبادة بن مالك.

__________________________________________________


1- حذوناها: جعلنا لها حذاء وهو النعل: والصوان: حجارة ملس؛ واحدتها: صوانة. والسبت: النعال التي تصنع من الجلود المدبوغة. وأزل، أي أملس صفحته ظاهرة. والأديم: الجلد، هذا ما قاله أبوذر، فيما قال السهيلي: أي حذوناها نعالًا من حديد، جعله سبتا لها مجازاً، وصوان: من الصون، يصون حوافرها، أو أحقافها، إن أراد الأبل فقد كانوا يجذونها السريح، وهو جلد يصون أخفافها. وأظهر من هذا أن يكون أراد بالصوان يبيس الأرض، أي لا سبت لها إلّاذلك.
2- معان بفتح الميم: موضع بالشام، والفترة: الضعف والسكون، والجموم: اجتماع القوّة والنشاط بعد الراحة.
3- مسومات: مرسلات. والسموم: الريح الحارة.
4- مآب: اسم مدينة في طرف الشام من نواحي البلقاء. قال السهيلي: يجوز نصبه بفعل مقدر، أو مرفوع على الابتداء.
5- البريم في الأصل: خيطان مختلطان أحمر وأبيض، تشدّهما المرأة على وسطها أو عضدها. وكل ما فيه لونان مختلطان فهو بريم أيضاً. يريد ما علاها من الغبار، فخالط لونه لونها. والدمع المختلط بالإثمد. وهذا أقرب لمعنى البيت: أي أن دموع الخيل اختلطت بالتراب فصارت كالبريم.
6- ذي لجب: أي جيش. واللجب: اختلاط الأصوات وكثرتها والبيض: ما يوضع على الرأس من الحديد. والقوانس: جمع قونس، وهو أعلى البيضة.
7- وتئيم: تبقى دون زوج، يقال: آمت المرأة إذا لم تتزوج.

ص: 179

ثمّ التقى الناسُ واقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى شاط

[أي سال دمه فهلك

] في رماح القوم.

ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها، حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء

[أي رمى بنفسه عنها

] فعقرها، ثم قاتل حتى قُتل، فكان جعفر رضوان اللَّه عليه أول رجل من المسلمين عَقَر في الإسلام.

[وعلى فرض صحّة هذا الخبر، فقد يكون المبرر لعقرها هو خوفه من أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين

] وقاتل حتى استشهد رضي اللَّه عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه اللَّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء بعد أن قطعن يداه في المعركة....

فلما استشهد جعفر أخذ عبداللَّه بن رواحة الراية، ثمّ تقدم بها، على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ثمّ قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنَّهْ لَتنزلِنَّ أو لَتُكرَهِنَّهْ

إن أجْلَب الناسُ وشدّوا الزَّنَّهْ مالي أراكِ تكرهين الجنَّهْ (1)

قد طال ما قد كنتِ مطمئنهْ هل أنتِ إلّانُطفة في شَنّهْ

وقال أيضاً:

يا نفسُ إلا تُقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صَليتِ

وما تمنّيت فقد أُعطيتِ إن تفعلي فِعلهما هديتِ

وإن تأخرتِ فقد شقيتِ

يريد بهذا صاحبيه اللذين استشهدا قبله: زيداً و جعفراً، وتقول الرواية: ثمّ نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعَرقِ لحم

[عظم عليه بعض لحم

] فقال: شدّ بهذا صُلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه مالقيت، فأخذه من يده ثمّ انتهس منه نهسة (2).

__________________________________________________


1- أجلب القوم: صاحوا واجتمعوا. والرنة: صوت فيه ترجيع شبه البكاء.
2- نهس اللحم: أخذه بمقدّم الأسنان، والنهش: الأخذ بجميعها. أنظر لسان العرب: نهس.

ص: 180

ثمّ سمع الحطمة (1) في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثمّ ألقاه من يده، ثمّ

أخذ سيفه فتقدّم...

وروي أنّ الراية لما انتهت إلى عبداللَّه بن رواحة، جاءه الشيطان فرغبه في الحياة وكرّه إليه الموت، ثمّ تذكر فصاح بأولئك النفر الذين حضروا ذلك المجلس، الذي بعث إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتلا عليهم:

«إنّ اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص» (2)

أين ما كنتم عاهدتم اللَّه عليه، قد جاء

مصداقه، اصدقوا اللَّه بصدقكم.

فجاؤوه يَخبون كأنهم بقر نزعت من تحتها أولادها، فتقدموا بين يديه، وأُتي ابن رواحة بلوح من ضلع وقد التاث (3) جوعاً فردّه وقال: هذا أدعه فيما أدعه من

الدنيا، فشدّ عليهم وشدّوا حتى شُدِخوا جميعاً.

إذن، ما إن قتل جعفر بن أبي طالب حتى دعا الناس: يا عبداللَّه بن رواحة، يا عبداللَّه بن رواحة.

وكان في جانب العسكر، ومعه ضلع حمل ينهسه، ولم يكن ذاق طعاماً قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع ثمّ قال:

وأنت مع الدنيا!

ثمّ تقدم، فقاتل، فأصيبت إصبعه، فارتجز قائلًا:

هل أنتِ إلّااصبعٌ دُميتِ

__________________________________________________


1- الحطمة: زحام الناس، وحطم بعضهم بعضاً. اللسان: حطم.
2- الصف: 4.
3- التاث فلان في عمله: أبطأ، والمراد هنا: ضعف. أنظر اللسان: لوث.

ص: 181

وفي سبيل اللَّه ما لَقيتِ

يا نفسُ إلّاتُقتلي تموتي...

وواصل أرجوزته هذه وقد ذكرنا شيئاً منها هنا وشيئاً هناك.

ثم قال: يا نفس، إلى أيّ شي ء تتوقين؟!

إلى فلانة؟!

فهي طالق بالثلاثة، وإلى فلان وفلان، غلمان له، وإلى معجف: حائط له، فهو للَّه ولرسوله، ثمّ ارتجز:

يا نفسُ مالك تكرهين الجنة

أُقسمُ باللَّه لتنزلنّه

طائعةً أو لا لتُكرَهنّه

فطالما قد كنتِ مطمئنة

هل أنت إلّانطفةٌ في شنّه

قد أجلبَ الناسُ وشدّوا الرّنّه

وفي خبر أنّ ابن رواحة لما نزل للقتال طعن، فاستقبل الدم بيده فدلك به وجهه ثمّ صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبّوا عن لحم أخيكم، فجعل المسلمون يحملون حتى يحوزوه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.

ويصف الدكتور الجميلي ما دار في غزوة مؤتة بقوله: وفي غزوة مؤتة يواجه المسلمون فرسان الروم بأعداد كثيرة لا تحصى تملأ السهل والجبل، ويستشرف المسلمون عدوهم المدجج بالسلاح، مسلحين باليقين والتقوى، وتقابل الجمعان والتحم الفريقان، وسقط «زيد بن حارثة» أمير جيش المسلمين، فاستلم مكانه «جعفر بن أبي طالب» وسرعان ما سعت إليه الشهادة وعوجل إلى ربّه، فكان عبداللَّه بن رواحة ثالث الأمراء الذين تولوا إمرة جيش المسلمين، فضربوا أجناد هرقل من الروم، وأخذ يصول ويجول في أحشائهم حتى أدركته الشهادة، وما هي إلّالحظات حتى يتناهى خبر الشهداء الثلاثة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما قدّموه من بطولات وفدائية، فترحم عليهم واستغفر لهم ثمّ

ص: 182

أطرق قليلًا ثمّ قال:

«لقد رفعوا إليَّ في الجنّة»

وفي خبر عن أنس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نعى إلى الناس- أو إلينا- جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان. ولما قتل جعفر بمؤتة أخذ الراية بعده عبداللَّه بن رواحة فاستُشهد.

قال: ثمّ دخل الجنة معترضاً، فشقّ ذلك على الأنصار فقالوا: يا رسول اللَّه، ما اعتراضه؟

قال: لما أصابته الجراح نكل فعاتب نفسه فَشَجُع فاستشهد فدخل الجنة، فسُرّيَ عن قومه.

وفي خبر آخر عن ابن إسحاق أنه قال: ولما أصيب القوم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قُتل شهيداً، ثمّ أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيداً.

قال: ثمّ صمت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى تغيّرت وجوه الأنصار، وظنوا أنّه قد كان في عبداللَّه بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثمّ أخذها عبداللَّه بن رواحة، فقاتل بها حتى قُتل شهيداً. ثم قال: لقد رفعوا إليّ في الجنة، فيما يرى النائمُ، على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبداللَّه بن رواحة ازوراراً

[أي ميلًا وعوجاً

] عن سريري صاحبيه، فقيل: عمّ هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردّد عبداللَّه بعض التردّد، ثمّ مضى. وفي خبر أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صعد المنبر، وأمر فنودي:

الصلاة جامعة! فاجتمع الناس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: باب خير، باب خير، باب خير! أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا فلقوا العدو، فقتل زيد شهيداً واستغفر

ص: 183

له، ثمّ أخذ اللواء جعفر، فشدّ على القوم حتى قتل شهيداً، فشهد له بالشهادة واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبداللَّه بن رواحة، فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً، فاستغفر له...

وفي رواية قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «مثلوا لي في الجنة في خيمة من درّة كلّ واحد منهم على سرير، فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدوراً، وأما جعفر فهو مستقيم ليس فيه صدور، قال: فسألت أو قال: قيل لي: إنهما حين يخشيهما الموت كأنهما أعرضا أو كأنهما صدّا بوجوهما، وأما جعفر فإنه لم يفعل».

وفي خبر عن أنس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نعى إلى الناس- أو إلينا- جعفراً وابن رواحة وزيداً وعيناه تذرفان. ولما قتل جعفر بمؤتة أخذ الراية بعده عبداللَّه بن رواحة فاستُشهد

قال ابن عيينة: فذلك حين يقول ابن رواحة:

أقسمت يا نفس لتنزلنه بطاعة منك أو لتكرهنه

فطالما قد كنت مطمئنة جعفر ما أطيب ريح الجنّة «1»

ووقف حسان بن ثابت يوم مؤتة يبكي ويرثي جعفراً ولما انثنى من رثائه راح يرثي ويبكي زيد بن حارثة وعبداللَّه بن رواحة؛ وممّا قاله في عبداللَّه بن رواحة:

ثمّ جُودي للخزرجيّ يدمع سيداً كان ثمّ غير نزور

قد أتانا من قتلهم ما كفانا فبحزن نبيت غير سرور

وله أيضاً:

فلا يبعدن اللَّه قتلى تتابعوا بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبداللَّه حين تتابعوا جميعاً وأسباب المنية تخطر

فيما هناك مرثية بحقهم ألقاها كعب بن مالك يوم وصول خبر استشهادهم رضوان اللَّه عليهم.

نام العيون ودمعُ عينك يهمل سحّاً كما وكفَ الطبابُ المخضلُ (1)

في ليلة وردت عليَّ همومها طوراً أحنّ وتارةً أتململ

واعتادني حزن فبت كأنني بينات نعش والسّماك موكّل

وكأنما بين الجوانح والحشى ممّا تأوبني شهاب مُدخل

وجدا على النفر الذين تتابعوا يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا

صلّى الإله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل

صبروا بمؤتة بلاله نفوسهم حذر الردى ومخافةً أن ينكلوا

فمضوا أمام المسلمين كأنهم فُنقُ عليهن الحديد المرفل (2)

ثم يواصل رثاءه لجعفر بن أبي طالب رحمه اللَّه تعالى.

وقال شاعر آخر ممّن كان حاضراً غزوة مؤتة:

كفى حزناً أنّي رجعت وجعفر وزيد وعبداللَّه في رمس أقبُرِ

قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم وخُلفتُ للبلوى مع المتغيّر

ثلاثة رهط قُدّموا فتقدّموا إلى ورد مكروه من الموت أحمر

فسلام عليك يابن رواحة قرير العين بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه (3).

__________________________________________________


1- الطبابة وهي سير بين خرزتين في المزادة، فإذا كان غير محكم ولف منه الماء وقيل الضباب، والمخضل: السائل الندي.
2- الفنق: الفحول من الإبل، الواحد: فنيق. المرفل: الذي تنجر أطرانه على الأرض، يريد أن دروعهم سابقة.
3- أنظر ترجمة حياة هذا الصحابي الجليل فيما تيسّر لي من مصادر، السيرة النبوية لابن هشام، وتاريخ الطبري، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور، والتاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصيف، وصحابة النبي صلى الله عليه و آله للدكتور الجميلي...

ص: 184

ص: 185

من معالم التراث رسالتان و قصيدة

اشارة

تقديم: محمّد رضا الأنصاري

يتوجه المسلمون إلى الكعبة المشرفة والمسجد الحرام- زادهما اللَّه شرفاً وعزّاً- صباحاً و مساءً، لا بجباههم ووجوههم فحسب، وانّما يتوجّهون بقلوبهم، خاشعين للَّه سبحانه، ومتذكرين نِعمه السابقة، وآلاءه الوافرة عليهم، بأنْ مَنّ عليهم وبعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، فالكعبة قبلة العاشقين الوالهين لذات اللَّه سبحانه، ومن ديدن العشاق التغزّل بصفات المعشوق، والتذكير بمحاسن جمال المحبوب، فكم من العُرفاء تغزّل بالكعبة المشرفة، فمدح أحجارها وأستارها وميزابها وأركانها وحِجْرها ومياه زمزمها، بل وتعدى بعضهم من ذلك، فتغزّل بالطائفات وبثيابهنّ البيضاء، وكذلك المدينة المنورة، منزل الحبيب- عليه وعلى آله الطيّبين الأطهار أفضل الصَّلوات والتحيات- ودار هجرته، ومهبط الوحي ومثوى جثمانه الطاهر.

ولعلّ المدينة أقرب الى قلوب العاشقين الوالهين من مكّة، لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله باب اللَّه، والتذكّر بفضائله وفضائل آل بيته الكرام، يعدّ من أقرب القُربات الى اللَّه تعالى، وقد ورد في الحديث الشريف التأكيد على تعطير المجالس بذكر محمّدٍ و آل بيته الكرام، هذا فضلًا عن أنّ المدينة فيها من الذكريات ما يثير في نفس المؤمن الفرح والحزن، والسّرور والشّجن، فحينما يستعرض المرء سيرة الرسول صلى الله عليه و آله منذ

ص: 186

حَلّ بهذه الرقعة من الأرض، واستقرّ بها وبنى فيها داره، وجاهد- منطلقاً منها- الكفار والمشركين، وثبّت أركان الإيمان في جزيرة العرب، مع نفرٍ قليل من صحابته الكرام، وعلى رأسهم ابن عمّه وصهره، وأوّل مَنْ آمن به عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ينتابه الفخر والسرور والفرح لهذا الجِدّ والعزم الّذي لولاهما لكان العالم لازال غارقاً في جهالات الجاهلية الجهلاء، إذ بنوره وبهديه اهتدينا، وبأحكام شرعه الشريف على الصراط المستقيم سرنا.

لكن حينما يلاحظ ما حلّ بشريعته وبوصيته وبقرابته من أهل بيته، من غصب حقوقهم، وإبعادهم عن المناصب التي نصَّبهم اللَّه فيها، ومن نكرانهم لأجر الرسالة الوارد في قوله تعالى:

«قُلْ لا أَسألُكُم أجراً إلّاالمَوَدّة في الْقُرْبى»

، وإمعانهم في الضرب والقتل والتشريد، وما إلى ذلك من المصائب التي أوردوها على آل الرسول صلى الله عليه و آله، يغمُره الحزن والأسى. ومن هذا المنطلق شاع في فترة (ولعلها القرنين الثامن والتاسع للهجرة) هذا النمط من الرسائل، التي يتخيّل كاتبها إنسيّة هاتين المدينتين، فيأتي بالحجج والأدلة عن لسان كلّ واحدة منهما، فترى المدينتان المقدستان تتفاخران بما منحهما اللَّه سبحانه وتعالى من المحاسن والمفاخر، وتتبارزان بما أودع فيهما من المآثر والمناقب، فكلّ مدينة ترى نفسها هي السَّباقة في كسب المعالي من اختها، وأولى بالمدح من ضرّتها، وأجدر بأن تكون ممدوحة من نظيرتها، وفي سبيل بلوغ ذلك تبرز كلّ واحدة منهما ما في خزانتها من الآيات الكريمة، والمأثورات النبويّة الشريفة الواردة في حقّها، هذا فضلًا عن دلالات السيرة والتاريخ، ولا تكتفي بهذه الأدلة، بل تتمسك بشتى الوسائل لإقناع خصمها، وأخذ الإقرار منها على نفسها.

وتشتدّ المنازلة، ويحتدم الصراع، فترى الأدلة المبرزة تسقط وتدحض حينما تبرز الأخرى أدلتها، لكن سرعان ما تقيم الاخرى دليلًا آخر على صدق دعواها، وهكذا دواليك، حتى أنّ القارى ء ليظنّ أنّ الصراع والنزال لا ينتهيان، إلّاحين

ص: 187

زوال الدنيا وقيام الآخرة! لكن في لحظةٍ من الّلحظات، وبقدرة القادر المتعال، يخرج الحَكَم العدل، فيهدّؤ روعهما ويسكّن فورتهما، ويعطي لكلّ منهما السَّبق والفضل والقدم، دون أنْ ينقص من الاخرى شيئاً، وترضى كلّ واحدة منهما بما قسّم اللَّه لها وقدّر، فيعود الوئام والسلام، وتتوادع المدينتان، وتعود كلّ واحدة منهما إلى موضعها بسلام وأمان، لتبقيا قبلة للطائفين والزائرين أعواماً وأعواماً، إلى أنْ يرث اللَّهُ الأرضَ ومَنْ عليها من الأنام.

وتعدّ مجموعتنا من هذا النمط من الرسائل، وهذه المجموعة المودعة في خزانة (كتابخانه مجلس شوراى اسلامى) برقم 4559 (فهرست كتابهاى خطى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى ج 12/ ص 246) من ورق 150 ب إلى 156 ب، تحتوي على رسالتين وقصيدة، واليك مواصفاتها:

1-

الرسالة الأولى: وهي المسماة ب (المرور بين العلمين إلى مفاخرة الحرمين).

2-

الرسالة الثانية: وهي أيضاً في المفاخرة بين الحرمين الشريفين، أنشأها سراج الدين عمر بن رسلان البُلْقِيني، ولم يسمّها المصنف باسم خاص بها.

3-

قصيدة طويلة من 34 بيتاً، أنشدها ابن الخطيب الإربلي تعليقاً على الرسالة الأولى سنة 766 هجريّة.

أما الرسالة الأولى، فإنّ كاتبها هو عليّ بن يوسف بن الحسن الزرندي الأنصاري المدني، وقد ترجمه ابن حَجَر في

«الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»

3: 216، بقوله: «عليّ بن عزّ الدين يوسف بن الحسن بن محمد بن محمود بن عبداللَّه الأنصاري الزرندي، ثم المدني الحنفي، نور الدين أبو الحسن ابن أبي المظفر بن الزرندي. ولد سنة عشر أو قبلها وقيّده بعضهم سنة ثمانٍ (أي ثمانٍ وسبعمائة)، وسمع من إسماعيل التفليسي، ومن ابن شاهد الجيّش، وكان قد حفظ ربع الوجيز في الفقه على مذهب الإمام الشافعي، ثم تحوّل حنفيّاً وتفقه على مذهب الحنفيّة، ونظر في الآداب، وشارك في الفضائل، وطلب الحديث، وسمع

ص: 188

بدمشق والقاهرة وبغداد، ودخل خوارزم وغيرها، وشارك في الفضائل، وولي قضاء المدينة والتدريس بها والحِسْبة في سنة 766 ه، وهو أول قضاة الحنفيّة بالمدينة...

قال ابن حبيب: وله مقامة بديعة في المفاخرة بين مكّة والمدينة. ومات بالمدينة في سابع أو ثامن ذي الحجّة سنة 772 ه».

أمّا كاتب الرسالة الثانية، فهو سراج الدين البُلْقِيني، من أعلام القرن الثامن، حيث جاء وصفه في بداية الرسالة بأنّه:

«شيخ الاسلام، عَلَم العلماء، لسان المتكلمين، سيّد النظر»

، ولم أعثر على ترجمته في المصادر المتيسّرة، سوى ما ذكره ابن حَجَر في

«الدُّرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة»

4: 223، في سياق ترجمته لابنه، حيث قال:

«محمّد بن عُمر بن رسلان بن نصير بن صالح البُلْقِيني، بدر الدين بن شيخنا سراج الدين...»، حيث يستفاد منها أن سراج الدين كان من مشايخ ابن حَجَر العسقلاني، وجاء في سياق الترجمة أنّ عمر بن رسلان وَلي قضاء الشام سنة 769 ه، وقضاء العسكر قبل سنة 789 ه، وأنّ ولده محمد بن عمر توفي قبله بأربعة عشرة سنة، أمّا الوالد فقد مات سنة 805 ه.

أمّا ناظم القصيدة، وهو المكنّى في بداية القصيدة بابن الخطيب الإربلي، حيث نظم القصيدة سنة 776 للهجرة، فلم أجد له ذكراً في المراجع المتيسّرة، وقد وصفه كاتب النسخة بقوله: «الإمام العلّامة الهمام، مقتدى أكابر الأنام، علّامة أئمة العلّام، ناظم جواهر البلاغة في بساط أساليبها، وناثر أزاهر البراعة على بساط تراكيبها، مُظهر أسرار المعاني من صفاء معادنها، ومُبدر أقمار البيان في سماء محاسنها، بدر الملّة والدنيا والدين، شمس الإسلام ونجم المسلمين».

وبين يدي القارئ نقدّم هذه المجموعة ضمن الترتيب التالي:

ص: 189

تصوير 1؟؟؟

ص: 190

تصوير 2

ص: 191

1- المرور بين العَلَمين إلى مفاخرة الحَرمين

من تأليف العبد الفقير إلى اللَّه تعالى، عليّ بن يوسف بن الحسن الزرندي الأنصاري المدينيّ، المحدّث بالحرم الشريف النبوي، عامله اللَّه بلطفه.

بسم اللَّه الرحمن الرحيم، و به نستعين

من طريف المحاضرة، و ظريف المذاكرة، ما حُكي من مناظرة الحرمين، و مفاضلة المحلّين المعظّمين.

ذُكر أنّهما اجتمعا في ميدان الفخر و من دونهما حجاز، و ليس معهما لغيرهما في هذا المقام على الحقيقة مجاز، فَبَرز حرم المدينة الشريفة، و تسنّم شُرَفاً منَ الشّرف عال، واستفتح المقال،

و قال:

الحمدُ للَّه الّذي فضَّلني على سائر البلاد، و جمع لي بين طريف الفضل والتلاد، (1) و شرّفني بحُلول خير العباد، و أشرف كلّ حاضرٍ و باد، وألبسني

__________________________________________________


1- التالد: المال القديم الأصيل.

ص: 192

ملابس الفخر الفاخرة، و أعلى مقامي في الدُّنيا و الآخرة، و جعل تُربتي شفاءً من السّقام، و غباري دواءً من الجُذام، فلي الشَّرفُ على كلّ إقليم، و الفضلُ في الحديث و القديم، و باسمي يُفوّه كلّ خطيب، و عَرْفُ (1) تَربي أطيبُ مِنْ كلّ

طِيب:

لا تَحسبِ المِسْكِ الّذكيّ كتُربِها هَيهاتَ أين المِسْك من ريّاها

فالمقامُ بي من المكاره جُنّة، إذ كانت في روضةٍ من رياض الجنّة، (2) و حسبي

فخراً المنبر التي عَلَتْ مراقيه، و حاز جميع الشَّرف بِرَاقِيه (3)؛ فإلى مسجدي تُشدُّ

الرِّحال من كلّ قريةٍ وفلاة، و الصّلاة فيه- كما قد عُلِم- بألف صلاة؛ فلي السنَّاء (4)

الباذخ، و العلاءُ الذي هو بأرض المجد راسخ، فلا غَرْو إنْ سبقتُ في هذا المضمار، و ركضتُ في ميدان الفخار، «فأحقّ الخيل بالرّكض المعار».

فلمّا سمع الحرم المكّي هذه العبارة، و فهم دلالة نصّها و الإشارة، قال:

كأنّكِ: «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة»!

أيّها المدينة المسكينة! عليك السكينة! أبي تُعرِّضين، أم لي تتعرّضين، أم عليَّ تستظهرين، أو مع وجودي تفتخرين؟! تاللَّه ما سَال إليكِ إلّاما فاض منّي، و لا وَصَلكِ إلّاما فَضُل عنّي.

أما علمتِ أنّ بيّنتي أعظم البيّنات؟ أما سمعتِ قولهُ تعالى: [فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ (5)؟]

ألكِ مثلُ الكعبةِ ذات السّتور، و البيتُ المقابل بالبيت المعمُور، الذّي هو عين الوجود، و مطلع السّعود؟!

__________________________________________________


1- العَرْفُ: الرّيح، طيّبة كانت أو خبيثة.
2- اشارة إلى الحديث النّبوي المتواتر: «بين قبري و منبري روضةٌ من رياض الجنّة».
3- الذي يصعد على المنبر و يركبه، و يقصد به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
4- السَّناء: بالمد، الرفعة.
5- آل عمران: 97.

ص: 193

أفي صفاتك كالصَّفا، أم في نعيمك كالتّنعيم؟! (1)

أم هل قام لكِ مكانٌ مقام إبراهيم، و هل حدا حادي مياهك بمثل المصافي و زمزم؟!

أو تحقّقتْ علمُ كيمياء السّعادة، و ظفرت بالحَجَر المكرّم؛ الَّذي هو كالمُقلة السوداء في البيت، أو كمشكاةٍ فيها من الجنّة زيت؟!

فاربعي (2) على نفسكِ، و إيّاك أن تترفّعي على أبناء جِنْسكِ؛ فإن كانت

الصلاة في مسجدِكِ بألفٍ، فهي بمسجدي بمائة ألف، و حول بيتي من الملائكة الطّائفين و المصلّين كم من صفّ.

و إنْ فخرتِ بحلول الشفيع (3)، ففيّ كان مسقط رأسه الرفيع:

بلادٌ بها نيطتْ عليّ تمائمي و أوّل أرضٍ مسّ جلدي تُرابُها

فأقلّي من هذا الفخر، فربّما ذُمّ الفخور، و المتشيع (4) بمالم يؤتِ كلابس ثوبي

زور.

فلمّا سمعت المدينة هذه المقالة، اشتعلت (5) اشتعال الذّبالة، و بَرَزتْ بين

أنصارها و أعوانها كالبدر وسط الهالة، و قالت:

ياللَّه العَجَبُ مِنْ دفع الحقّ و قد وجب! قولٌ و لا معني، أسمعُ جعجعةً و لا أرى طَحْناً، ما هذا الفعل الذي أتيتِ؟! لقد وَقَعتِ فيما أبيتِ، وارتكبتِ ما عنه نهيتِ:

لا تَنْه عَن خُلُقٍ و تأتي مثله عارٌ عَلَيك إذا فَعَلْتَ عظيمُ

__________________________________________________


1- الموضع المعروف بمكة عند حدّ الحرم، والذى فيه مسجد العمرة المشهورالتنعيم.
2- الانطواء على النفس.
3- إشارة إلى هجرة النبي عليه السلام إلى المدينة و سكناه فيها.
4- في الأصل: المقشع.
5- في الأصل: و لا اشتعال.

ص: 194

ويكِ ارفعي ذيلَ إعجابكِ، و خفّفي فقد آذتكِ بعض أثوابكِ، هيهاتَ أين النجم مِن البدر، و القَطرُ من البحر، «و لكن اليوم خمرٌ و غداً أمر» (1).

فإنْ كان فيكِ مقامُ الخليل؛ فعندي المقام الجليل، و إنْ كانت كعَبتُك بثيّنة الحَسَن؛ فحالي كلّه جميل، و إن فخرتِ بالبيت المقابل للبيت المعمور، فكلُّ بيتٍ من بيوتي بنُور الحبيبِ معمور، و إنْ أتيتِ بالصَّفا أتيتُ بالنبيّ المصطفى، وإنْ جئتِ بالتَّنعيم جئتُ بروضةٍ من جنّات النعيم، و إن نظرتِ إليَّ من عين البيت وزمزم بالمقلة السَّوداء، قابلتُكِ بالقُبّة الخضراء، و بهرتُكِ من بيت مال فخاري بالبيضاء و الصَّفراء، و نظرتُ إليكِ من عيوني بالعين الزَّرقاء، و إنْ كانَ بيتكِ عين الوجود، و ظفَرْتِ بالحَجَر المكرّم- و مثله لا يُضاهى و لا يُباهي- فعندي:

إنسانُ عين الكون سِرُّ كَماله ياسينُ اكسيرِ المَحامد طاها

وأمّا ما ذكرتِ من تضعيف صَلاتكِ و تكثير صِلاتك؛ فالتضعيف يحتاجُ إلى طبيبٍ حاذقٍ، فإنّه ضعيفٌ و لم يُسلّم سَنَده و لا متنه بأسنّةِ ألسنة النُقّاد مِنَ الطّعن و التجريح.

و أمّا حديث فضل مسجدي؛ فشائعٌ سائغٌ للشاربين منه المحض الصريح، فإنْ كان حولكِ من الملائكة صفوفٌ؛ ففيّ من صفوف الملائكة ألوف، أوَ ما بلغكِ أنّه ينزلُ في كلّ يومٍ و ليلةٍ بعد صلاة الفجر و العصر، على الضَّريح الشريف، سبعونَ ألف ملكٍ، ثُمّ لا يعودون إليه آخرَ الدّهر.

و أمّا ما ذكرتِ من أنّ فيكِ كان مولد النّبيّ المعظّم، و بكِ كان مسقطُ رأسه الرفيع المكرّم؛ فصدقتِ، و لكن ولدتيهِ و ربيتهِ و أخرجتيهِ، و آويتُه و خذلتيه، ونصرتُه و عققتيه، وبررته، و كان بطني و حجْري فناءه، و كنتُ له امّاً شفيقة، وبه- و للَّه الحمد- رفيقة، و ذلك كما قيل: بجدّي لا بكدّي، و بتوفيق اللَّه كان سعدي.

__________________________________________________


1- قولٌ منسوبٌ لامرء القيس.

ص: 195

فدعي المكابرة، و أنصفي عند البحث و المناظرة، و إيّاكِ أنْ تأتي هذه الخِطة؛ فتقعي معي في ورطة.

* فحين قَرَع سمعُ مكّة هذا الكلام، و قرّعت بما القي إليها من المُلام، قامتْ و قعدَتْ، و أبرقتْ و أرعدتْ، و سَفَرتْ عن وجهها فضل نقابها، و كشفتْ ما كانت سَدَلتْ مِنْ حجابها، و دخلتْ إلى ميادين المفاخرة من بابها، و نطقتْ بمل ء فيها، و أظهرتِ السَّرائر الّتي كانت تُخفيها، و قالت:

واعجباً كيف جَسَرَتْ على الآساد في آجامها الأرانب.

* لقد ذَلّ مَنْ بالتْ عليه الثَّعالبُ*

و لقد زاحمتِ الحَملان القُرّح (1) في المرعى، واستنت الفصال حتّى القرعى، يا

صفراء و يا بيضاء غُرّي غَيْري، ويحكِ تجوعُ الحُرَّة و لا تأكل بثدييها؛ فباللَّه إلّاما نهنهتِ من كلامكِ، و تنبّهتِ من منامكِ، فما هلك امرءٌ عرف قدره، و لم يتعدّ طوره.

ألستُ امّ القرى؟! أليس أنّه أقام بي ثلاثاً و خمسين سنة سيّد الورى؟! و إنّما قام بكِ عَشْراً أو دون العشر، و إنْ لم يكن ذلك العشر فهو قريب من العشر، ألستُ أوّل بيت وُضِعَ للنّاس؟! أليس أنّ الخليل و الذبيحَ رفعا منّي البناء، و وضعا الأساس؟! و هاتِ خبريني أفي كلّ يوم و ليلةٍ ينزلُ عليك مائة و عشرون رحمة، أم في كلّ ساعةٍ تتوارد عليكِ نعمة إثر نعمة؟ أم فيكِ الأماكن التي الدّعاء فيها متحقّقُ الإجابة؟ أم بكِ مثل ذلك الحرم الرَّحبِ الَّذي حفّته السَّعادة، و ملأت البركة رحابه؟ أم لك كالميزاب الذي تصبُّ النِّعمة منه صبّاً، و يغدو المشتاق إليه مُغرماً و يروح صبّا؟! أفي أوديتكِ كوادي إبراهيم الّذي يجري بالخير العميم، و يأتي بالبرّ الجسيم؟! ألك كالأبطح و البطحاء؟ أم في سائمة أنعام جبالك كثور و حرّاء؟ أم في ثنايا ثغورك ككُدي و كُداء؟

__________________________________________________


1- النعجة الكبيرة.

ص: 196

كلّا واللَّه، لا قائمة لكِ معي في بيت الفخار، و لا قاعدة و لا بارقة لكِ في سماء العُلاء و لا راعدة، فاقعدي في بيتِ حبائكِ، و قوّي و عزّزي مَنْ هو أكبر منكِ و أقوى، و إيّاك ثمّ إيّاك فلا تحتقري و لا تُنقِّبي عمّا يعود عليك ضرره، و لا تنفرِّي و أبصري مَنْ شأوكِ، و قصّري بعض خطوك، و قد دللتكِ طريق إخوان الصَّفا، و قد نصحتكِ فيما قلته و كفى.

* فقامت المدينة عند ذلك على قدميها، و نظرت بعينٍ حَمراء إليها، و كشفتْ للحَرْب عن ساقيها، و أمسكتْ ملابس فخار ضَرَّتها مِنْ أطواقها، و قالت:

أنا ابنُ جَلّا و طلّاع الثنايا متى أضعُ العِمامة تعرفني

تاللَّه لقد وَضَح الصُّبح لذِي عينين، و لا يُطلَبُ أثرٌ بعد عين، ويحكِ ما هذا الافتخار مع الافتقار، والاستصغار لكُبرى المقدار؟! و إنْ كنتِ تقولين: إنّي أصغرُ منكِ سنّاً فافهمي المعني، فأشرفُ أعضاء الإنسان العين، و الإنسانُ أشرفَ الحدقة، و أنّ الذبابة لتدمي مقلة الأسد، و في الشَّرارة ضعفٌ و هي محرقة، كيف و مقداري كبير، و شرفي خطير، فاحذري فمتى لاقى زهيرٌ شبابي تبرّم سنّكِ هرمه، و لم تبق لكِ بعد الهزيمة غير قرع سنّك.

ويكِ! أمّا يكفيك أ نّكِ لا تعِين و لا تسمَعِين، ثمّ توبّخين و تقرعِين، فلا بالمواعظ تتّعِظين، و لا مِنْ عَطّ (1) المُلام تمتعطين، فإن كنتِ امَّ القُرى فَمن صنعتي،

أنّي القرية الّتي تأكلُ القُرى، فجميعُ البلاد جوفي، و كلُّ الصِّيد في جوف الفراء.

أما تعلمين أنّ كلّ البلاد افتتحت بالسَّيف، و افتتحتُ بالقرآن؟!

أو ما بلغكِ أنّ منّي ظهر الدِّين، وانتشر الإيمان؟! فهل امتزتِ بهذه المزيّة، أم حَصَلَتْ لكِ هذه الخصوصية؟! و عليَّ الحقيقة:

فأنا الذي فتَحتُكِ، و منعتُ عنك الضِّير، و بالخير منحتُكِ، فما عرفتِ لي هذا


1- الشِّدة.

ص: 197

القدر، و لا رفعتِ منّي بذلك مِنَ القَدْر، لا يَشكُر اللَّه مَنْ لا يشكر النَاسا، و لكن:

مَنْ يفعل الخير يُعدم مجازيه (1) لا يذهبُ العُرف بين اللَّه و النّاس

و أمّا قولكِ: بأنّكِ خصصتِ مِنَ الإقامة بالأكثر، و خصصتُ بالدّون؛ فذهلتُ عن المعنى، و أنّ يوماً عند ربّك كألف سنةٍ ممّا تعدّون، بل أقول لك:

اعكسي تُصيبي، فنصيبُكِ مِنْ ذلك كعُشرِ معشار نصيبي، فإنّه صلّى اللَّه عليه وآله و سلّم حيٌّ بمثواه، و لكنّه آوى إلى اللَّه فآواه اللَّه، و متى يطلَع بدري مِنْ ثنيّات الوداع، لم يطلع لكِ معي نجمٌ، أوْ تبسّمتْ ثنايا ثغور آكامي، بكتْ جفون تِلالكِ و كُداكِ، و لم يبق لجسمها حجم، أو استمعتْ شياطينُ حرابتكِ السَّمع من سماء سموّى، قابَلَتها ملائكة السّكينة مِنْ سُكّاني بالرّجم.

فإنْ فخرتِ بوادي إبراهيم، ففي كلّ وادٍ من أوديتي قلبُ المحبّ يهيم.

و إنْ كان حَرّاء عندك جسمه و قلبه؛ فأُحدٌ جبلٌ يُحبّنا و نحبّه.

و أين العقيقُ من البطحاء، و الدُّرّ من الحَصْباء؟! بل أين الهباء من البهاء؟! و مع ذلك فلي فضلٌ سوى ما ذكرتِ، و شرفٌ غير ما إليه أشرت، و هو ما يبدو بأرجائي من الأنوار، و يظهر من معروفي جَلي التجلّيات، و سرّي الأسرار، و يكفيك من عِظَم خَطَري، و سعادة جدّي، أنّ البركة موجودة متحقّقة في صاعي و مُدّي، فهل لكِ هذه المنقبة، أم هل وصلتِ إلى هذه المرتبة؟!

* فلمّا سَمِعَتْ مكّة هذا القول، قالت:

اللّهم إنّي أبرأُ إليك من القوّة و الحول، و أستمدُّ منك الفضل و الطّول، لقد آلتْ هذه الفريضة إلى العول، ثمّ التفتتَ إلى صاحبتها التفاتَ الأسد الخادِر، و أتتْ مِنْ مفاخرها بالأوّل و الآخر، و قالت:

الآن حَمَى الوطيس، و زال التَّدليس والتلبيس، أذكرتني الطَّعن و كنتُ

__________________________________________________


1- في نسخة: جوازيه.

ص: 198

ناسياً، و يحكِ أتُسدّدين إليَّ سهاماً أنا لكِ رشَّتها، و تُرسِلين إليّ مِن افتخارك صباباً أنا الذي احترشتها، أظننتِ أنّكِ مثلي، أو أنّ كلامك يدخلُ اذني، أو يقبله عقلي؟

أما عرفتِ مِنْ لفظي فضلي، أما تحقّقتِ أنّ ابنا لبونك لا يستطيعون صولة بزلي، فهل لعقدكِ نحرٌ كنحري؟! أم قد غرقتْ سفينتكِ في لجِّ بحري؟! أما تخشين أن تحترقي إذا دنوتِ من تلك الجمرات؟ أما في قلبكِ مِنْ محُسّر حَسَرات؟

بلى واللَّه، و تذهِبَ عنك أنصاركِ، و يفترق الجمعُ حتّى قابلتكِ من مفردي بجمعٍ؛ فلو شاهدتِ من عرفة لعرفتِ مِنْ قدرك، و ظفرتِ ما عَظّمتِ مِنْ أمركِ، أتراكِ إذا خطرتِ بوادي الأراك، يخطُر ببالكِ أم ما ثَمّ سواك؟! و إنْ ذُكر نعمان هَل منعمٌ مالى ء واديكِ، بل إذا اعيدَ حديث حُنينٍ سَكَن حنين نياق ناديكِ، فكم مخالفٍ لهواه ولي مخالِف، و كم مِنْ واقفٍ ببابي و عاكف، و كم مِنْ طائِفٍ بي و معتمر، فمرحبا بطوافٍ بفنائي،... أما عَلمتِ أنّ مِنْ صرف شراب المحبّة مشروبي؟ أما عرفتِ أنّه لا يزال معي محبوبي؟ أما كلّ من أتاني و قلبه سَليمٌ، يروح و هو من الوجد بي سليم، فأُقسِمُ من نجوم مياهي بالزّاهر، و مِنْ جيادها في مصاف مصافها بالسّابق الماهر، لئن لم تُكَفْكِفي عنّي غَرْب سوانيك (1)، و تُثني عِنان ثنائِك على

__________________________________________________


1- الغَرْب: الدلو، والسانيّة: البئر وأداته.

ص: 199

مغانيك، لأُجرِّدن إليكِ مِنْ مفاخري جيشاً ما لك به يدان، و لأفنيِينَّ أنصاركِ بكلّ هاشمي خؤولته بني عبدالمُدان، فقفي عند حدِّكِ، فكم تُرهبين بخرزكِ و مَدّكِ، وتكيلين بصاعك و مُدّكِ، و لا تكوني كالباحث عن حتفه بظُلفه، فمقتل المرء بين فكّيه، و رُبّما قُتل الإنسان بسيفه، و إيّاكِ و بأسي العتيد، و بطشي الشَّديد، وإن كان لسان فخركِ ذهباً أو فضّة، فلساني حديد، و حَذارِ حَذار مِنْ شفار النفار، ونصال نضال النظّار و النُّقار، فقديماً قيل:

توقّ مُعاداة الرجال، فإنّها مكَدِّرةٌ للصَّفو مِنْ كلّ مشرب، و لا تستثر حوبا، وإنْ كنتَ واثقاً بشدّة بأس، أو بقوّة منكبٍ،

و لا يشربُ السُّم الذعاف أخو حَجى مُدلًا بدرياقٍ لديه مجرّبُ

ويكفيك من شرفي أنّ الجمهور يحكم لي عليك بالغلبة و الظهور.

* فلمّا سمعت المدينة كلامها، ضَرَبَتْ طبولها، و نَشَرتْ أعلامها، وبرزت بروز الأسد من غابه، والسَّيف من قِرابه، وقالت:

ويحكِ!! أتستصغرين قَدْري، وتحتقرين أمري، و أنا جذيلها المحكك، وعُذيقها المرجّب، و سنانها المدرّب، وفارسها المجرّب، فواعجباً! تستخفّين ثمّ تستخفين، و تستكفين و لا تكفين، أما بلغكِ أنّ البادى ءَ أظلم، و أنّ دفع الشرّ بالشرّ أحزم، أما سمعت قول الأوّل:

دَع الشرّ و انزل بالنَّجاة بمعزلِ إذا أنتَ لم يصبغك في الشَرّ صابغُ

و لكن إذا ما الشرّ أرخى قِناعه عليك فجرّد دفع ما أنت دافع

و قول الآخر:

إذا أنتَ لم تنْصِف أخاك وجدته على طرف الهجران إن كان يعقلُ

ص: 200

يركب حدّ السيف من أن يضيمه إذا لم يكن عن شفرة السيف مرحل

و عجبتُ منكِ كيفَ تَفتخرين بوادِيكِ و بَواديكِ، و ينادي مناديكِ بناديكِ، و هنا أقول:

ليس بعشّك فأدرجي، و لا بمقامكِ فاخرُجي، و حين وصلتِ إلى هذا المعترك، وحصلتِ في الحبالة، و وقعتِ في الشَّرك، وأمكنتِ الرّامي مِن الرَّمية، و أرخيته من هذه القضية؛ فمتى ذُكِر لسموك نسيمي العليل، صار قلبه بحرّه مريضاً أو كالمريض، أو عارض فضائي الواسع ما بين مأزميك، وقع معه في الطويل و العريض، أو عاينت شجراتكِ مِنْ نخيلي تلك الثمرات، تقول قلوبها غمرات ثمّ تبخلين، و لكن لا تبخلي تلك الغمرات، أو شاهد واديكِ خلال أسحار وادي العتيق ظِلال تلك السَّمرات، يتلهّفُ أسفاً على ما فاته من ذلك، و يتلهّب بالزَّفرات، فلا جَرَم كان في قلبه لذلك جمرات، و مهما بدتْ لك غابتي فررتِ من زئير آسادها، أو لاحتْ لكِ العوالي من جِناني رُدّت سيوفُ فَخركِ إلى أغمادها.

أمّا سمومكِ تذوبُ منه كلّ كبدٍ حرّى، و كلّما خلا وقتٌ فيك مرّ سريعاً، و أعقبَ مفارقه صبراً، فأنتِ من جبالك مع أرضي الواسعة في ضيق، فلتُسافر عين شِعابكِ الضيّقة في فسيح أرضي و ليمرّ بي، فأنا على الطريق، و ما برحتْ تطيفُ من الأكباد برياضي البهيجة حرارها، فتطفئ بنسائمي الأرّجة نارها، و يخبو أوارها.

واعلمي أنّك متى قابلتني بنحرك، كففتُكِ بكفّ حُجّتي، ولم أدفع مقالتكِ بصدري، أو تبذلتِ في حنينكِ قابلتكِ من الجمال ببدري، و إنْ جَلَوتْ عروس كعبتكِ، أتيتُ من المليّ بالبهاء والكمال بالبرهان الجليّ، أو افتخرتِ بطوافكِ و عُمركِ، افتخذتُ من مقام الجمال و الجلال بِعَلِيّ، و إن أجريت ذِكْر زمزمكِ و مصافيك، أو مراعي شِعابك و واديكِ؛ فاسمعي ثمّ أنظري، فليس الخبر كالعيان، ماءٌ و لا كصدا، (1) و مرعى و لا كالسّعدان، (2) و إن يكن عندكِ المشروب فعندي

الساقي، أو سليم المحبّة فلديّ الصاعد، في دَرْج المعالي و الراقي، و أراكِ تفخرين

__________________________________________________


1- شدة العطش.
2- سعدان نبت تأبى الدواب أكله.

ص: 201

بوادي الأراك، و تحنن جيادكِ بين يديكِ و وراءكِ، فباللَّه إلّاما تركتِ ما عراكِ مِنْ مراك؛ كما أنّ ساكني سيّد العباد و لا فخر، و أقسمُ من غاباتي بالأسود، و من أكباد لأياتي بالحرار السود، و مِنْ أزهار رياضي بوشي البرود، و من أغصان نخيلي و أشجاري بكلّ قدّ المود، و من رياح بساتين بالعاليّة، و من سواقي جنان بكلّ ساقيةٍ جارية، و جاريةٍ ساقية، لئن لم تتركي بعض نفاركِ، و تلبسي ثوب وقارك، لأبعثنّ إلى مياهكِ مِنْ عيون نقّاد عيوني، مَنْ يُظهر زيف جيادها، و لأجردنّ إليها من معالمي جيشاً، يقلعُ خيام فخر جبالها بأوتادها!

وأمّا ما احتججتِ به من كلام الجمهور، وأنّ ذلك عندهم هو القول المشهور، فجوابك:

فرقٌ ما بين الدرهم و الدينار في الصَّرف، و النّاس ألفٌ منهم كواحد و واحدٌ كالألف، و أن إذا حقّقتِ المآخذ و المدارك، تيقّنتِ كمالي فوق كمالكِ، و إذا أنعمتِ النظر حَقّ الإنعام، فمالكِ كمالكِ، و حَسْبُكِ مِنْ دحوض حُجّتكِ و الانقطاع، أن ما ضَمّ أعضاءهُ صلّى اللَّه عليه و آله، أفضل الأرض بالإجماع، وهاك خُذي من الفضائل ما ليس مُثبتاً في بطاقتكِ، ومن كُوى المفاخر ما يكون فوق طاقتكِ، أليس أنّ الطاعون لا يقربُ مقامي و لا يدخل، كما لا يدخُل الدجّال باباً من أبوابي؟! فهل لكِ في هذه المسألة قولٌ أو عمل؟

كلّا واللَّه، بل لا ناقة لكِ في شرح هذه الخصوصيّة و لا جَمل، و ما برح سُكّاني يؤدّون من واصل من كلّ واصلٍ و واردٍ عليهم، و كذلك أيضاً يحبّون مَنْ هاجر إليهم و لا يستبدّون بشي ء عن جارهم و لا يستأثرون،

[وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ] (1)

. فاسبُلي عليكِ أستار حُجبكِ، و أقلّي مِنْ تيهك و عُجْبِكِ، وارجعي مِنْ قريبٍ إلى ربّكِ.

__________________________________________________


1- الحشر: 9.

ص: 202

فلمّا انتهى المقال بهما إلى هذا المقام، و بليتْ كلّ واحدٍ منهما بالدّاء العِقام، أقبلتْ مكّة عليها، و قالت:

دعينا مِنَ المرآء و الجدال، و كثرة القيل و القال، فإلى كم هذا النزاع و المصاع، وكيل الكلام بالمُدّ و الصّاع؟! ...

هذا آخر ما أردناه، و تمام الأمر الذي قصدناه و أوردناه، و نسأل العظيم أن يوفّقنا في السَّداد في القول و العمل، و يُعيذنا من الضَّلال و الزَّيغ و الزّلل، و يَعْصِمُنا في الحركات و السَّكنات مِنَ الخطأ و الخطاء و الخَطَل، آمين، والحمد للَّه ربّ العالمين و صلّى اللَّه على محمّدٍ و آله الطاهرين.

نُقِلت من نسخة سقيمة، إنْ قدّر اللَّه سوف تقابل و يُصحّح بصحيحه مستقيمة.

***

ص: 203

2-رسالة في المفاخرة بين مكّة والمدينة

هذا صورة خطّ الشيخ العلّامة، شيخ الإسلام، علم العلماء، لسان المتكلّمين، سيّد النظر، سراج الدِّين البُلْقِيني، أدام اللَّه النفع بعلومه.

الحمدللَّه، و سلامٌ على عباده الذين اصطفى.

وقفتُ على عرفات ذات العَلَمين، و أفضتُ منها؛ فاستشعرتُ بإفاضتها مشاعر الحَرَمين.

فقالت النَّفسُ التائِقة للتفضيل بالإجمال و التفصيل:

هل إلى المفاخرة بينهما من سبيل؟

فقلت لها:

أيّتها النَّفس المسكينة! الزمي الوقار و السكينة، أتدخلين بلا أدبٍ بين مكّة المشرّفة، و الطيّبة الأمينة، هذا مقامٌ يتأدّب عنده الادباء، و رِحابٌ متّسعٌ بمقال النجباء، الّذين عظمت عليهم المنّة باتّباع الكتاب و السنّة، في طرح ما لا يليق بالبطحاء و العقيق، لم أرَ مَنْ قرّ بين عَلَميه، و فاخَرَ من حرميه بالمنثُور و المنظوم، و أشار فيه إلى السرّ المكتوم بالمنطوق و المفهوم، سوى مَنْ برع في الآداب، و نَزَع إلى طريقة اولي الألباب، و رَحَل فكان له في الحديث، و سُوقِ المعرفة بالأدب حُسنُ البضاعة، و قضى في ذلك دون جماعة الحرمين، و لا بِدَعَ أنْ يكون على أقصى الجماعة، فمروره بين العَلَمين ارتفع به عَلَمه، و مفاخرته بين الحَرمين انتصبَ على تمييز ذلك كلّه، فيما أبحر إليه جَزُم العِدى، و لقد جَرى هذا الفارس بميدانٍ عظيم المدى، و نحا نحو أبياتِ العربِ العاربة، فتفتن في عيون حدائقها، و قضى مآربه، فعلى أفعل التفضيل انعطف واحد في بيانه، نسقاً بما ائتلف و اختلف، فحَبّذا صنيعه، و نِعْم بيان مَنْ ذا بديعه، أغربَ و أعرب، فأرقص و أطرب، و لئن خبّر في المحاورة، و خبّر نحوه المحابرة، و أومأ إلى ما دَفَع عنه

ص: 204

المحاصرة، فليسَ المقصودُ إلّاالإبداع و التضمير، و ظهور الإمكان بالتمكين، فمخاطبة المدينة بالمسكينة، ليسَ واقعاً على جهة الاحتقار، كما هو المتعارف في الافتخار، لكن فيه إشارة إلى التواضع المطلوب، و ما أحلاه في المحبوب، و قد قيل: هو من جملة أسمائها، و التواضعُ رَفْعُ الشَّرف على أرجائها، و قول مكّة للمدينة: «يعنى ما وَصَلكِ إلّاما فَضُل عَنّي»، يريدُ ما ظَهر فضله عن نسبته إلى مكاني، و خيرٌ لما تُدْلِين به إلى ذلك دعاني، ألاترى إلى قولها: «و إنْ فَخَرتِ بحلول الشفيع، ففيّ كان مسقطُ رأسه الرَّفيع»، و لا غَيْب فيما أردتِ ممّا لا يعني به المخاطب خصوصاً، بل هو الحكاية بقاعدةٍ أو حديثٍ أسند منصوصاً، أو ذاك مستعملٌ و هو على الألسنة يدور، فلا حرج في إيرادٍ، ربّما ذم الفخور، و المتشيّع بما لم يؤت كلابس ثوبي زور، و ما يذكر من التفاخر بعد ذلك لعلّه بين أهل البلدين، و بذلك تزول الشبهة الدين.

«فأخرجتِيه و آويتُه، و خذلتِيه و نصرتُه، و عققتِيه و بررتُه»، يدلّ على ذلك، و يتّضح به المسالك.

و أحسنُ سبيلٍ يوضّح على ذلك الدليل، ما جاء في التنزيل، في كلام ربّنا الجليل، فاسمعه و كفّ عن المؤاخذة الّتي لذلك أحوجتك، إذ قال اللَّه تعالى:

[وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ (1)،]

و لذلك أعاد

الضمير لأهلها، الذين أضلّ أعمالهم، بقوله:

[أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ].

و ممّا يُحقِّق هذا المقصود و يوضّحه و يظهره و يُصحّحه، قول مكّة لمّا التفتت إلى صاحبتها التفات الأسد الخادر، و أتتْ من مفاخرها بالأوّل و الآخر:

«لأُجردنّ مِنْ مفاخرتي إليك جيشاً مالك به يدان، و لألقيّن أنصاركِ بكلّ هاشمي خؤلته بني عبدالمدان».

ليس بغريب بين أهل الحجاز، استعمال الاستعارة و الكناية و المجاز، و لا تطريز نسج هذا المنوال، بيسير ما انطوى عليه مِنْ ضرب الأمثال، فنقول لمن يعمّ

__________________________________________________


1- محمد: 13.

ص: 205

الدليل على المقصود، و لم يأت بالشاهد على المشهود: «قولٌ و لا معنى، اسمعُ جَعْجَعةً و لا أرى طحناً».

و نقول:

مَنْ وُضِع في غير مرتبته، و أنزل عن عظيم منزلته، و ربى عليه مَنْ هو دونه في المنزلة أو ساواه، و بمجرّد دعواه ناواه: «واعجباً كيف جَرَتْ على الآساد في آجامها الأرانب؟! باللَّه لقد ذلّ من بالتْ عليه الثعالب، و لقد زاحمتِ الحملان القُرَّح في المرعى، و استنَّتِ الفِصال حتّى القرعى».

كما يتمثّل المُعظِّم مُزِيلًا للأمر الملتبس: «لقد هَزلتْ حتّى بدى من هزالها كلاها، و حتّى استامها كلّ مفلّس، و لكن إليك عنّي أيّها الناظر بعين الحسد، أنتِ لا تزالِ في كَمَد، هل رأيتِ أو سمعتِ بمحدّثٍ أديبٍ بتعريف هذا الجمع انفرد؟ و هل استشعر شاعرٌ فورد من موارد الصفا و العذيب ما ورد؟ فأقسم بمن خلق الإنسان في كبد، لقد قال عَليَّ على لسان هذا البلد، و هذا البلد ما يسمعه من أحدٍ، كأن لم يكن بين العُذيب إلى الصفا أديبٌ، و لم يشعر بمكّة شاعرٌ، فيا أيّها الادباء، الزموا

ص: 206

أدباً، وأنظروا حَبْراً، قصد في بحر قصيدته النون،

[وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (1)،]

واسمع من سواقي عيون الحدائق طَرَباً، و أقلعُ هذا الزمانيّ في بحر العرفان،

[وأتبَعَ سبباً]

، وسار للحرمين و رسى فيهما، و ألقى بالمقاليد، و أخذ بكلتي يديه الحديث بالمتون و الأسانيد، و استقرّتْ سفينته على الجُودي، معدن الجود المشهود، مهاجر صاحب المقام المحمود، فأدركَ عين الحياة، و منزل النَّجاة، و جَعَلنا اللَّه و إيّاه ممّن اتّبع أمر مولاه، و خالفَ نفسه الأمّارة بالسوء، و هداه، فَحَصَلَت الهداية بالبداية و النهاية. و سلامٌ على المرسلين، و الحمدُ للَّه ربّ العالمين.

اللّهم صلِّ و سلِّم على سيّدنا محمّد، و آله التابعين، حَسْبُنا اللَّه و نعم الوكيل.

قال ذلك:

و كتبه الفقير إلى عفو ربّه، عمر بن رسلان البُلْقِينيّ.

نُقِلت من نسخة سقيمة مصحّفة الكتابة.

***

__________________________________________________


1- الكهف: 63.

ص: 207

3- قصيدة ابن الخطيب الإربليّ

هذه قصيدةٌ نظّمها مولانا، الإمام العلّامة الهمام، مقتدى أكابر الأنام، علّامة أئمّة العلّام، ناظم جواهرِ البلاغة في بساط أساليبها، و ناثر أزاهر البراعة على بساط تراكيبها، مُظهِر أسرار المعاني مِنْ صفاء معادنها، و مُبدِر أقمار البيان في سماء محاسنها، بدر الملّة و الدُّنيا و الدِّين، شمس الإسلام، و نجم المسلمين،

ابن الخطيب الإربليّ

، أنار اللَّه تعالى في سراج العُلى بدوُر علوّه، و أدار على قُطب السّناء أفلاك مجده و سموّه، و ذلك لمّا وقف على المفاخرة بين مكّة و المدينة، التي أنشأها ذو الفضائل الغزيرة، و الفواضل المبينة، مولانا الإمام المعظّم، القدوة الهمام المكرّم، شيخ الفضلاء الأئمّة، سيّد عُلماء الامّة، باهر البُلغاء ببدائع بيانه، و مخبر النُّبلاء بصنائع بنانه، المرتقي معارج العُلى و قببه، و السالك مناهج الاعتلاء وسببه، نور الملّة والدِّين، بهاء الإسلام، وضياء المسلمين،

أبوالحسن الزرندي

، الُمحدّث بالحرم الشريف النبوي، على مشرّفه أفضل الصلاة والسلام، أعلى اللَّه جِدّه، وحَرَس مجده، وذلك في شهر صفر المبارك، في سنة ستّة وسبعين وسبعمائة، وكلّ قافيتين منها متجانسان خطاً، وبعضها لفظاً أيضاً، و عدد أبياتها 34 و هي هذه:

أيا بحر علمٍ فاضَ من أشرف المُدن و سار على أبهى المناهج و السُّنَنْ

حوى مِنْ علوم المسلمين أجلّها لإحكام أحكام الفرائض و السُّننْ

شَهرت لإحياء الفضائل جاهداً وفارقتَ في إحيائها لذّة الوَسَنْ

فجوزيت بالحُسنى و كلّ امرءٍ يرى جَزَاء لما قد أمّ مِنْ فعله وَسَنْ

ص: 208

لقد أظهرت أفكارك الغُرّ مبدعاً مقلّد أعناق الأفاضل بالمِنَنْ

و أبدَعْت في وضع المفاخرة التي كُتبتْ بفضلٍ كَلَّ عن حمله المِنَنْ

و جئت بمعنى لم يحط فكرةٌ به و لم يَبْتَذِل بين الأنام و لم يَهَنْ

ترى كلّ قلب حير قلبه سماعه بفهم معانيه البديعة مُرتَهَنْ

فيا حَبَّذا قلبٌ وَعى حُسن لفظه و مُبدِعٌ معناه بباطِنه سَكَنْ

فكم نكتة حلّت... (1). يحقق فقرّت و حبّات القلوب لَها سَكَنْ

نَزَلْتَ بما أبرزته فَلك العُلى و أنتَ بإحراز المزايا به قَمِنْ

و في وصفه تحوى المحامد كلّها و إنْ لم تكُن أنتَ المليّ بها فَمَنْ؟

و لمّا علوت النّاس فَضْلًا و أظهرتَ علومك ما بين الأفاضل مِنْ حَسَنْ

تسمّيتَ بالفضل الّذي تستحقه عليّاً، و قد كُنّيت فيهم أبا الحَسَنْ

و لُقّبت نُور الدِّين، إذ أنجُم الهُدى تلوح على عَلياك مِنْ أرفع الفَنَنْ

__________________________________________________


1- كلمة غير مقروءة.

ص: 209

و أظهرتَ فَضْلًا في المفاخرة التي كُتِبتْ كأثمار دوانٍ على الفنَنْ

بوجهٍ غريب لم تطف فكرةٌ به و لا حَقَّقتْ معناه في سالف الزَّمَنْ

كشفتَ الغطا عنه فأصبح واضحاً و لولاك نال الفهم في قصده الزَّمنْ

فلو أنّ قُسّاً رام إيضاح ماله جمعتَ مِنَ الأمثال فيها لمّا فَطَنْ

و مَنْ يترجّى أن يقوم بمعجزٍ مُنِحتَ به، قد كَلَّ عن فهمه الفَطِنْ

و إنّ امرءاً يَسعى لإظهار فضله و نفعُ الورى فيما حواه لمؤتمن

و ليس لمن يسعى بإخلاص نيّةٍ لنفع الورى، إلّارضى اللَّه مِنْ ثمن

و مَنْ راقب الإخلاص في كلّ طاعةٍ يقومُ بها فيما تَبدّا و ما بَطَنْ

يَنالُ مِنَ الرَّحمن فوق رجائه و يبلغُ مِنْ ألطافه فوق ما بَطَنْ

و لا غَرو أنْ يرقى لأرفع رُتبةٍ مِنَ الأجر و الإعجاز في القول و اللّسن

لأنّك جارٌ للنبيّ الذي له فضائل لا يُحْصي تفاصيلها اللّسن

رسولٌ حَباه اللَّه مِنْ سِرّ غيبه بمستودعاتٍ في سرائره خَزَن

ص: 210

و مَنْ نال قُرباً مِنْ شريف جنابه فليس يخاف الدهر بؤساً و لا حَزَنْ

و يَسري إليه مِنْ كمال جواره ضياءٌ يُحاكي مشرق الشمس في العنن

و من يقبض الدُّنيا بقرب جنابه حقيقٌ بأن يعرى إلى الصبر و الغَبَن

فقُربك مَنْ مغناه حِصْنٌ و جُنّة تُردّ به الأحداث مِنْ أمنع الجُنن

و مَنْ لم يجد مِنْ قُرب حضرته هُدى فذاك كميّتٍ قد تضمّنه الجَنَن

فبُشراك نور الدين أنّك ماجدٌ على قُرب قبر المصطفى نفسه سَجَنْ

حقيقٌ بأن تحظى بكلّ فضيلةٍ تُرام، و تعطى كلّ ما رمت سَحَنْ

***

ص: 211

مكة في وُجدان شعراء ماقبل الإسلام

اشارة

د. الطيب علي الشريف

المبحث الأول: الموقع والتسمية:

مكة: اسم يطلق على بقعة ضيقة من أرض الحجاز، بشبه جزيرة العرب (1)

عُرف أمرُها، وذاع صيتها، منذ قدم إليها سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وبنى بها البيت العتيق بأمر من اللَّه جل جلاله (2)، وتُعد مكة أشهر مدن العالم كله.

يرتفع موقعها على سطح البحر بنحو (330) متراً، وهي على عرض (31) درجة، و (28) دقيقة، وطول (40) درجة، و (9) دقائق، وتمتد من الغرب إلى الشرق بمسافة نحو ثلاثة كيلومترات، طولًا، وما يقرب من نصف ذلك عرضاً، في واد ضيق ممتد من الشمال إلى الجنوب، منحصر بين سلسلتي جبال تكادان تتصلان

__________________________________________________


1- الحجاز: هي المنطقة الواقعة شمال غرب شبه جزيرة العرب، الممتدة على شاطى ء البحر الأحمر، وسميت حجازاً: لأنها تحجز بين تهامة ونجد، أما شبه جزيرة العرب: فهي منطقة متصلة بقارة آسيا من الشمال ويحدها من الشمال: مصر والشام والفرات، ومن الجنوب: البحر الهندي، ومن المغرب: البحر الأحمر، ومن الشمال الشرقي خليج فارس، وأهم أجزائها: تهامة، الحجاز، نجد، العروض، اليمن، ينظر: ياقوت بن عبدالله الحمَوي، معجم البلدان، دار صادر، بيروت، لبنان، لا. ط. لا. ت. 2: 137 و 218 وما بعدها، ومحمد الطاهر الكردي، التاريخ القويم لمكة، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، ط: 1، 1385 ه 1: 36.
2- كانت رحلة إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وبناؤه البيت، بعد طوفان نوح عليه السلام بحوالي 400 سنة، وقيل غير ذلك، ينظر: التاريخ القويم: 3: 20 وما بعدها.

ص: 212

ببعضهما من جهة الشرق والغرب والجنوب، أي على أبواب مكة الثلاثة: (أعلى الوادي وأسفله وكداء)، ولذا فإن القادم عليها لا يشاهد أبنيتها إلا وهو على أبوابها (1)، وكل سفوح هذه الجبال عامرة بالسكان، والبيوت مدرَّجة عليها إلى

بطن الوادي، كما تشاهد على الحرم في الوقت الحاضر.

ولمكة أسماء كثيرة وردت في القرآن الكريم، وكتب التاريخ، بلغت في مجموعها أكثر من ثلاثين اسماً، اقتضتها ضرورة الأوصاف، والأحوال المختلفة للموقع، وقد ورد ذكرها بالتفصيل في بعض المصادر (2)، ولكن المشهور

منها ما جاء به القرآن الكريم، إذ سماها: مكة، وبكة، وأم القرى، والبلد الأمين (3)، ووردت تعليلات كثيرة في سبب هذه التسميات، منها على سبيل المثال:

__________________________________________________


1- ينظر: السابق: 2: 7 وما بعدها، ومحمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، دار المعرفة للطباعةوالنشر، بيروت، لبنان، ط. 3، 1971 م، 9: 327 وما بعدها.
2- ينظر: التاريخ القويم: 1: 28، ومعجم البلدان: 5: 181 وما بعدها.
3- وردت باسم مكة في قوله تعالى: «وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم وأيديَكم عنهم ببطن مكة»، الفتح: 24، ووردت باسم بكة في قوله تعالى: «إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين»، آل عمران: 96، ووردت باسم أم القرى في قوله تعالى: «وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها»، الشورى: 7، ووردت باسم البلد الأمين في قوله تعالى: «وطور سينين وهذا البلد الأمين»، التين: 3.

ص: 213

أنها سميت مكة: لأنها تَمُكُّ الجبارين، والماردين، المعتدين عليها، أي: تدكُّهم، وتحطمهم، وقيل: سميت بذلك لازدحام الناس فيها، وقريب من هذا: تعليل اسم بكة، فهو من البَكِّ، أي: التهشيم، والتمزيق، والقهر، والإجهاد، وما جرى مجراها، أما أم القرى: فهي تحمل معاني: القيادة، والزعامة، والقداسة، وما شابهها من معاني التعظيم والإكبار، ذلك لأنها أعلى مرتبة من جميع القرى، وفي مقدمتها رفعة وشرفاً، ولا يخفى معنى البلد الأمين، ويكفي تفسيراً له: أن من دخله أَمِنَ مادام بداخله ولو كان مجرماً (1).

المبحث الثاني: مكانة مكة وشرفها:

لمكة مكانة روحية عالية لدى جميع العرب، والمسلمين، وغيرهم من الأمم، والملل الأخرى، مثل: الروم، والفرس، واليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئة، والجبارين، والمردة، والعصاة، والمجرمين، والصعاليك، ويلجأون إليها عند الحاجة والخوف، ويفدون عليها حجاجاً من كل بقاع الأرض، وفي القرآن الكريم، والآثار التاريخية دلائل لا تحصى على هذه المنزلة العظيمة، والشرف العالي لمكة المكرمة، ومن الأمثلة على ذلك:

ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى:

«وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» (2)

، وأم القرى هي مكة المكرمة، ولا يخفى ما في ذلك من

الشرف وعلو المنزلة، وقوله أيضاً:

«وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» (3)

، دليل على

فضلها على سائر البلاد، إذ بدأ بها في الذكر في الحالتين معاً: الرحمة، والإنذار.

ومما جاء في المصادر التاريخية من أسباب تسمية زمزم: أن الأعاجم من يهود ومجوس وصابئة، وغيرهم، كانوا يحجون البيت ويزمزمون على بئر الماء، وأن

__________________________________________________


1- ينظر: تفسير الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط. 1، 1401 ه 1981 م، 6: 10، ومحمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، دار الشام للتراث، بيروت، لبنان، لا. ط. لا. ت: 20- 113.
2- القصص: 59.
3- الأنعام: 92.

ص: 214

سابور الملك لما حج زمزم فيها، والزمزمة: كلام الأعاجم وقراءتهم في صلاتهم، ودعاؤهم على طعامهم، وتذكر المصادر أيضاً: أن الفرس تعتقد أنها من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وقد كانت أسلافهم تقصد البيت الحرام، وتطوف به، تمسكاً بشعائر جدهم، وهديه، وحفاظاً على أنسابهم، وكان آخر من حج منهم الملك: ساسان بن بابك، وكان إذا أتى البيت طاف به، وزمزم على هذه البئر، وفي ذلك يقول شاعرهم:

زَمْزَمَت الفرسُ على زمزم وذلك في سالفها الأقدم (1)

لمكة مكانة روحية عالية لدى جميع العرب، والمسلمين، وغيرهم من الأمم، والملل الأخرى، مثل: الروم، والفرس، واليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئة، والجبارين، والمردة، والعصاة، والمجرمين، والصعاليك، ويلجأون إليها عند الحاجة والخوف، ويفدون عليها حجاجاً من كل بقاع الأرض، وفي القرآن الكريم، والآثار التاريخية دلائل لا تحصى على هذه المنزلة العظيمة، والشرف العالي لمكة المكرمة

وافتخر بذلك أحد شعراء الفرس، فقال:

ومازلنا نحج البيت قِدْما ونُلْقي بالأباطح آمنينا

وساسان بن بابك سار حتى أتى البيت العتيق بأصيْدَينا

وطاف به وزمزم عند بئر لإسماعيل تُرْوِي الشاربينا (2)

ومهما قيل في هذا الشعر وصحته، فإنه يحمل في طياته معاني التعظيم والإكبار لمكة والبيت الحرام، وكافة المقدسات التابعة لهما.

__________________________________________________


1- ينظر: معجم البلدان: 3: 148.
2- المصدر السابق.

ص: 215

ومن هذا القبيل: ما جاء في الشعر الجاهلي من مثل قول: سُبَيْعَة بنت الأحَبِّ، من قيس عيلان، توصي ابنها بتعظيم مكة، وعدم البغي فيها، لأن عاقبته وخيمة، وذلك من أبيات طويلة كلها تعبير عن تلك المكانة العالية لمكة في قلوب العرب، منها قولها:

أَبُنَيَّ لا يَظلِم بمكة لا الصغير والكبير

واحفظ محارمها بُنَيَّ ولا يَغُرَّنْك الغرور

أَبُنَيَّ من يَظلِم بمكة يلق أطراف الشرور (1)

وقول الشاعر ابن الأسْلَت:

فقوموا فَصلُّوا ربَّكُمْ وتمسَّحوا بأركان هذا البيت بين الأخَاشِب (2)

وورد في الآثار التاريخية: أنه وُجد مكتوب على حجر في ربوع مكة: «أنا اللَّه ذو بكة الحرام، وضعتُها يوم وضعتُ الشمسَ والقمرَ، وخففتها بسبعة أملاك حُنَفاء، لا تزول حتى تزول أخْشَبَاها، مبارك لأهلها في اللحم والماء»، وُجد في بعض الزبور: «أنا اللَّه ذو بكة جعلتها بين هذين الجبلين، فليس يؤتى أهل مكة إلا من ثلاث طريق: أعلى الوادي، وأسفله، وكداء، وباركت لأهلها في اللحم والماء» (3).

ومنها: أنه يوجد بمكةالبيت الحرام، ومن دخله كان آمناً، ومن أحدث في غيره من البلدان حدثاً، ثم لجأ إليه، فهو آمن إذا دخله، فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود، ومن فضلها وشرفها: أن أهلها على مدى الدهور والأزمان آمنون،

__________________________________________________


1- ينظر: عبدالملك بن هشام الحِمْيَري، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة الباب الحلبي، القاهرة، ط. 2، 1955 م، 1: 25- 26.
2- السابق: 1: 59، والأخاشب: جبال مكة، ومنها التعبير بأخْشَبَا مكة، أي جبلاها.
3- معجم البلدان 5: 183.

ص: 216

يغزون الناس ولا يُغزون، ويَسبون من البلدان الأخرى ولا يُسبون، وقد ثبت أنه لم تُسب قرشية قط، كما ثبت أن مكة لم تَدِن لدين الملوك، ولم يُؤد أهلها الجزية، ولم يملكها ملك قط من خارجها، بل إن الملوك، والجبابرة، يحجون إليها، ويعظمونها، كملوك: حِمْير، وغسَّان، ولَخم، إذ يخضعون، ويَذلون عند قدومهم لمكة، فيدينون لقريش، ويرون تعظيمهم، والاقتداء بآثارهم فرضاً واجباً، وشرفاً كبيراً.

وقد أشاد الشعراء القدامى بهذه المكانة العظيمة، وذلك الشرف الرفيع، كقول أحدهم:

أبْوا ديِن الملوك فهم لَقَاح إذا هِيجُوا إلي أجابوا

وقول آخر:

ولقد غزاها تُبَّع فكَسَا بَنيَّتَها الحبير

وأذَلَّ ربي ملكه فيها فَأوْفَى بالنذور (1)

وبلغ من تعظيم العرب لمكة قبل الإسلام: أن الرجل منهم كان يحج البيت ويعتمر، ويطوف، فإذا أراد الانصراف عنها إلى بلده، أخذ حجراً من حجارة الحرم، فنحته على صورة صنم من أصنام البيت، فيحتفي به في طريقه، ثم ينصبه في أحسن بقعة في بيته، ويجعله قِبلة له ولأسرته، يطوفون حوله، ويتمسحون به، ويصلون له، تشبيهاً له بأصنام الكعبة، وبمرور الزمن اعتادوا ذلك وفشا فيهم، بل صاروا يأخذون معهم حجارة البيت دون نحت، يعبدونها ويقدسونها، ثم فشت فيهم الأصنام، وتعددت وتنوعت منذ أن أحضر عمرو بن لُحى الصنم (هُبَل) من العماليق بأرض الشام (2).

وقد كثر تناول الشعراء لظاهرة الأصنام هذه بين مادح وقادح.

__________________________________________________


1- السيرة: 1: 26: والبَنِيَّة: الكعبة، وقيل مكة، والحَبير: نوع من البرود اليمنية الموشاة.
2- ينظر السابق: 1: 77، والتاريخ القويم: 2: 21.

ص: 217

حيث هجا شاعر من بني ملْكان للصنم (سعد)، ورجمه بالحجارة، وكان أن أوقف إبله عليه يتبرك به، فنفرت منه في البراري، فخرج في طلبها حتى جمعها، فلما تجمعت له بعد تعبت، لعن ذلك الصنم، وقال في ذمه:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا فشتتنا سعدٌ فلا نحن من سعد

وهل سعد إلّاصخرة بِتَنُوفَة من الأرض لا تدعو لغيٍّ ولا رُشْد (1)

ومن تعظيم العرب لمكة: أنهم كانوا يتسابقون لكسوتها، ويتفاخرون بذلك، وتذكر المصادر أن تبع الأصغر (2) أول من كسا البيت، وأطعم الناس في الجاهلية،

على الراجح (3)، وهو القائل مفتخراً:

وكسَوْا البيتَ الذي حرَّم اللَّه مِلاءً مُعَضَّداً وبرودا (4)

وأقمنا به من الشهر شهراًوجعلنا لبابه إقْليدا (5) وخرجنا منه نَؤُمّ سُهَيلًا

قد رفعنا لواءنا معقودا (6)

وتطاول شاعر من العرب اسمه: أبو حبيب، على أبي جهل، وتناول قريشاً بالهجاء، فردَّ عليه الزَّبْرقان بن بدر بقوله:

أتَدْرِي من هجوتَ أبا حبيب سليل خَضَارِمة سكنوا البطاحا (7)

__________________________________________________


1- السيرة 1: 83.
2- تُبَّع الأصغر: هو تبع بن حسان بن تبع بن كليكرب بن تبع بن الأقرن، ينظر، عبداللَّه بن مسلم بن قتيبة، المعارف، تحقيق: د. ثروت عكاشة، دار المعارف، مصر، ط. 2، لا. ت.: 634، وقيل: إن أول من كسا البيت: إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقيل: عدنان بن أُدَد، ينظر: التاريخ القويم: 4: 186.
3- ينظر: السيرة: 1: 24- 25.
4- الملاء: ثياب مُحبَّرة من عصب، ومُعَضَّد: مشدود محكم، والبرود، ثياب يمنية، ينظر التاريخ القويم: 4: 186.
5- إقْليد: مفتاح، أي جعلنا للكعبة مفتاحاً، عن السابق.
6- ينظر: معجم البلدان 4: 466- 267، والتاريخ القويم 4: 186، والمعارف: 635، وسهيل: نجم معروف في السماء.
7- الخُضَارِم: السَّيِّد، الجواد، المشهور، والجمع: خَضَارم، ينظر: مجمع اللغة العربية، القاهرة، المعجم الوسيط، إشراف: أحمد حسن الزيات وآخرين، بدون معلومات نشر، مادة: خَضْرَمَ.

ص: 218

أزَاد الركب تذكر أم هشاما وبيتَ اللَّه والبلدَ اللَّقَاحا (1)

فالزبرقان يُبدي تعجبه من جرأة الشاعر على هجاء قريش، على الرغم من هذه المكانة العالية التي ينعمون بها، ووجود أمثال هؤلاء الكرماء الشجعان بينهم.

المبحث الثالث: صفة مكة القديمة:

تقع مكة «في واد تحيط به الجبال، وتمتد سيولها فيه، وإذا عصفت الرياح في مرتفعات الجبال اندفعت إلى بطن الوادي فيما يشبه الدوَّامات... وجوّها حار جاف، تختلف حرارته بين (18) درجة في شهور الشتاء، و (30) درجة في شهور الصيف» (2)، ومكة القديمة عموماً: قليلة الماء، قليلة الأشجار المثمرة، وعمرانها في

عهد جُرهم وفَطُورة (3) لم يزد على مضارب من الشعر، كانت تتلاصق أحياناً،

وتتباعد أحياناً أخرى في سفوح الوادي، وفي عهد قريش صارت تختفي مضارب الشعر، وتحل محلها البيوت المرصوصة بالحجارة، أو المبنية بالطين والحجارة، حول المسجد، وعلى جوانب الوادي، وأول من بنى بيتاً بالحجارة بمكة: سعد بن عمرو الجهمي، وقد قال فيه شاعرهم:

وأول من بَوَّأ بمكة بيته وسَوَّر فيها مسكناً بأثافي (4)

وكانت بيوتهم في أول أمرها بدون أبواب، وأول من بوَّب بيته في مكة:

حاطب بن أبي بلتعة، وكانت الأبواب مقصورة على بعض الغرف التي بها أشياؤهم الثمينة، أما المدخل والردهات فهي مفتوحة على استراحات كانوا يلحقونها ببيوتهم لُنُزل الحجاج والمعتمرين، وعلى هذا النحو نشط العمران في عهد

__________________________________________________


1- معجم البلدان: 5: 184.
2- ينظر: التاريخ القويم: 1: 33.
3- جُرْهم وفَطُورة: قبيلتان، أبناء عمومة، يرجعون في نسبهم إلى أرفخشد بن سام بن نوح، سكنوا اليمن، ثم رحلوا إلى مكة واستقروا بها، ينظر: المعارف: 27.
4- التاريخ القويم: 2: 40.

ص: 219

القرشيين، فقد ورد أن قُصي بن كِلاب خط للكعبة ساحة تكفي للطواف، وازدحام الحجاج، وأباح البناء خارج ذلك من الجهات الأربع، فتكاثر العَمار حول الكعبة، وكانوا قبل ذلك يتحاشون السكن بقربها، والمبيت بجانبها (1).

ومن أشهر المتنزهات المكية في العصر الجاهلي: متنزه اللِّيط أسفل مكة، يأوي إليه المكيون من كل الأحياء القريبة والبعيدة، وكانت به حديقة جميلة يجلسون حولها في العشي، يلبسون أنواع الثياب الملونة، الزاهية، يعبق أريجهم على مسافات يعطر الجو، ويجدون في ذلك المتنزه راحتهم، وسعادتهم، ومتنفسهم، يقول شاعرهم الحارث بن خالد:

من ذا يسأل عنا أين منزلنا فالأقحُوانة منا منزِل قَمِن

إذ نلبس العيش صفواً ما يكدره طعنُ الوشاة ولا يَنْبُو بنا الزمن (2)

ومن متنزهاتهم أيضاً: شِعب خُمْ، وهو في أسفل الوادي، وكانت به عدة بساتين تتصل باللِّيط، كما كانت بساتين الحمام له متنزهاً، وهي بأعلى الوادي،

__________________________________________________


1- المصدر السابق.
2- المصدر السابق: 2: 43، والأقحوانة: بستان جميل باللِّيط.

ص: 220

وفيها زروع ونخيل، بالإضافة إلى بساتين أخرى كثيرة على شواطى ء الوادي، تمتد إلى مِنى، مثل: بساتين وادي طُوى، والحجون، وسواها.

وكانت مكة ذات مركز تجاري استراتيجي هام جداً، بحكم موقعها الرابط بين دول الشمال و دول الجنوب، فكانت أسواقها مزدحمة طول العام بالتجار، صاعدين إلى الشام شمالًا، أو هابطين إلى اليمن جنوباً، وكان القرشيون أسياداً في هذه الأسواق التجارية، فمهروا في التجارة، وأتقنوا فنونها، فاكتسبوا خبرة واسعة بمعاملة الناس، وكيفية إرضائهم، فتضخمت رؤوس أموالهم، وبلغت قوافلهم التجارية بالألف بعير أو يزيد، في رحلتي: الشتاء والصيف، اللتين سنَّهُما هاشم، وقد قال عبداللَّه بن الزَّبَعْرَي يمدحه:

سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهما سَفَر الشتاء ورحلة الأصْيَاف «1»(1)

وفي الجانب الحضاري عموماً، سمَّى القرآن الكريم مكة: أم القرى، وفي ذلك دون شك ما يشير إلى تميزها عما حولها من البلدان في جزيرة العرب كلها، وفي القرآن أيضاً ما يفيد هذا التميز، إذ تحدث عن كثير من المظاهر الحضارية، مثل:

المِشكاة، المصباح، الزجاج، المعارج إلى العليَّات، وأنواع الطيب: كالكافور، والمسك، والزنجبيل، وألوان الثياب المُترفة: كالنمارق والزرابي، والسُّرر، والفرش المنضَّدة بالإستبرق والسندس، وأنواع الأواني الفضية: كالقوارير، والأكواب، والكؤوس، وألوان الحلي: كالمرجان، والذهب، واللؤلؤ، وتحدث عن تعاملهم مع الفخار، والحديد، والنحاس، والقدور، والجفان، والصِّحاف، كما أشار إلى ثقافتهم عموماً: فذكر القراطيس، والكتب، والسجلات، والصحف، والأقلام، والمداد، وكانوا يعرفون الموازين والمكاييل، وأنواعها ومصطلحاتها، وقد لبسوا الثياب المرفهة، والقمصان، والسراويل، والنعال، وتختَّموا بالذهب والفضة،

__________________________________________________


1- المصدر السابق: 2: 44، وينظر: د. جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ومكتبة النهضة، بغداد، ط. 3، 1980 م، 5: 291.

ص: 221

وفصَّصوا خواتمهم بحبَّات اللؤلؤ، ولبست النساء القرشيات الخُمُر، والجلابيب، والخلاخل، والأساور واستعملن الطيب، وكان لمترفيهم مجالس للسمر، والقصص، والفكاهة، والتلذذ بالفواكه، والخمور، وسماع الغناء، وسواها من علائم التحضر والتمدن (1).

ويفهم من ذلك كله: أن المكيين كانوا يعرفون جميع هذه المعاني الحضارية معرفة من اختلط بها، واندمج فيها، لأنه لا يخطر ببال عاقل أن يكون القرآن قد خاطبهم بما لا يفهمون، بل إن في خطابه لهم بهذا الشكل ما ينطق بأنهم في تلك الفترة قد أخذوا بأسباب الحضارة بالمفهوم السائد في وقتهم، وليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب والدهشة، فالمكيون كانوا يضربون في مناكب الأرض تجاراً:

بين الشام واليمن، والعراق، ومصر، والحبشة، وفارس، والهند، وغيرها من بلاد اللَّه، يشاهدون المعالم الحضارية آنذاك في كثير من أرقى حضارات العالم، فتناقلوا أخبارها، وحاولوا تقليدها، فظهر أثر هذا التقليد في ملابسهم، وبيوتهم، وبدا واضحاً في معاملاتهم ومختلف جوانب حياتهم، ومما يروى في ذلك، على سبيل المثال فقط: أن عبداللَّه بن جدعان زار العراق، فدخل بعض قصور الفرس، فأكل عندهم، وكان مما أكله (الفالوذج)، وهي نوع من الحلوى لم تكن معروفة عند العرب، تصنع من العسل والسمن، والبُر، ولب التمر، فتعجب منها ومن طيبها، فسأل عنها فوصفت له، فابتاع غلاماً يصنعها، وأخذه معه إلى مكة، وصار يصنع هذه الأكلة، ويؤكلها للناس في حومة البيت، حتى اشتهر أمرها، وممن أكلها الشاعر أمية بن الصلْت، فقال مادحاً لها ولصاحبها:

له داعٍ بمكة مُشْتَعِلٌ وآخَرَ فوق دارته ينادي

إلى رُدُحٍ من الشَّيزَي مِلاءً لُبابَ البُر يفلْبَك بالشِّهَاد (2)

__________________________________________________


1- ينظر: التاريخ القويم: 2: 44.
2- ينظر: معجم البلدان: 5: 185، والمفصل في تاريخ العرب: 7- 582، والرُّدُح، جمع رَدَاح: الجفنة العظيمة، والشِّيزي: خشب أسود تصنع منه الجفان والأمشاط، ينظر: المعجم الوسيط: مادتي: رَدَاح وشَيَّزَ.

ص: 222

المبحث الرابع: حرمة مكة:

لمكة حرمة عظيمة، وبركة ظاهرة، فهي لا تُقِر طاغياً جباراً على فساده، وظلمه، ولا باغياً على بغيه، وقد ثبت تاريخياً أنه لا مكان فيها لمن ظلم عباد اللَّه، أو بَغَى عليهم، فمن فعل ذلك أخرجته من ربوعها، وطردته من جوارها، وفي ظلم جُرْهم، وبغيها بمكة، خير مثال على ذلك: فقد كان هؤلاء ولاة البيت، وسكان مكة، وأربابها، فاستحلوا الحرام، وأكلوا مال الكعبة، وظلموا من دخلها، فكانت تجاورهم قبيلة خزاعة، حلولًا حول مكة، فظلموهم، واعتدوا عليهم بالقتال، فاقتتلوا، فجعل الحارث بن عمرو الجرهمي يُنشد، طالباً من ربه النصرة على الخزاعيين، مشجعاً بني قومه على الصمود، حاثاً لهم على القتال:

لا هُمَّ إن جرهماً عبادُك الناس طُرْف وهمُ تِلادك (1)

ولكن النصر كان حليف خزاعة، فاستولت على مكة، وطردت الجرهميين عنها، وفي ذلك قال شاعرهم عمرو بن الحارث الأصغر الجرهمي، مصوراً آثار الهزيمة على نفوس بني قومه، ومدى الذل والهوان والندامة التي لحقتهم، نتيجة ظلمهم لعباد اللَّه، وترويعهم لسكان البلد الأمين:

كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصفا أنيسٌ ولم يَسمُر بمكة سامر

ولم يتربَّع واسطاً فجنوبَه إلى السِّرِّ من وادي الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهلَها فأبادنا صروفُ الليالي والجدودُ العواثر

__________________________________________________


1- ينظر معجم البلدان: 5: 186، والمعارف: 640، والطُّرْف: الطريف الحادث، والتِّلاد: القديم، ينظر: المعجم الوسيط، مادتي طَرَفَ وتَلَدَ.

ص: 223

وأبدلنا ربي بها دار غربة بها الجوع بادٍ والعدو المحاصر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بباب البيت والخير ظاهر (1)

فأخرجنا منها المليك بقدرة كذلك ما بالناس تجري المقادر

فصرنا أحاديثاً وكنا بغبطة كذلك عضَّتنا السنينُ الغوابر (2)

وبدلنا كعب بها منزل ذلة به الذئب يعوي والعدو المكاثر

فَسَحَّت دموعُ العين تجري لبلدة بها حَرَم أمْن وفيها المشاعر (3)

ومن الأمثلة الحية، التي لا تزال شاخصة للأبصار إلى يومنا هذا، على سوء مآل من يريد مكة بشر، ما صوره القرآن الكريم من قصة أبرهة الأشرم، وإقدامه على هدم الكعبة، في سورة

[الفيل

] (4)

، ذلك أن أبرهة، قائد الأحباش باليمن، كان

جباراً عنيداً، وقد بلغه أن العرب صاروا ينصرفون بتجارتهم عن اليمن إلى مكة، لمكانتها العظيمة عندهم، لوجود الكعبة فيها، فامتلأت نفسه غيظاً أن يترك الناس

__________________________________________________


1- نابت: أكبر ولد إسماعيل، وليَ أمر البيت بعد وفاة والده، ثم ولِيَ بعد وفاة نابت خاله مضاض بن عمرو الجرهمي، واستمرت ولاية الجرهميين للبيت الحرام دهراً طويلًا، حتى أخرجتهم منه خزاعة، ينظر: معجم البلدان: 5: 185.
2- صوابها: أحاديث، لأنها ممنوعة من الصرف لصيغة منتهى الجموع.
3- معجم البلدان 5: 186.
4- هي قوله تعالى: «ألم تركيف فعل ربُّك بأصحاب الفيل* ألم يجعل كيدَهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصفٍ مأكول»، الفيل: 1- 5.

ص: 224

اليمن بخيراتها، ويتجهون إلى ذلك المكان القفر، مع ما أوغر صدرَه من كلام المحيطين به، وإغرائهم له ببساطة هدم الكعبة، وتوجيه الناس إلى اليمن، فسار إليها في جيش عظيم، تتقدمه الفيلة، وما أن اقترب منها حتى أهلكه اللَّه، وجيشه وفيلتَه، بالطير الأبابيل، قبل الوصول إليها، بمكان اسمه: (المُغمّس) قرب مكة، على طريق الطائف (1).

ومما سجل به الشعراء الجاهليون هذه الحادثة، قول عبدالمطلب بن هاشم مستنصراً ربه على الأحباش، وهو آخذ بحلْقة باب الكعبة:

يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهمُ حِماكا

إن عَدُوَّ البيت من عاداكا إنهمُ لن يقهروا قُواكا (2)

ثم قال، حامداً ربه، بعد أن أهلك أبرهة وجيشه:

أن منعتَ الجَيْشَ والأفْيالا وقد رَعوْا بمكة الأجْبَالا

وقد خشِينا منهم القِتَالا وكل أمْرٍ منهم معْضالا

يا رب لا أرجو لهم سواكا (3)

وقول شاعر يُدعى أبا أمية:

إن آياتِ ربَّنا بيناتٍ ما يُمَارِي بهن إلا كفور

غُلِبت الفيلُ بالمغمَّس حتى ظل يجفو كأنه مسحور

حوله من شباب كِندة فتيان ملاويت في الحروب صقور

__________________________________________________


1- في حادثة الفيل كلام كثير، وتفصيلات منوعة، أوردتها مصادر عديدة، ينظر: على سبيل المثال فقط: تفسير القرطبي: 20: 187 وما بعدها، وتفسير الفخر الرازي: 16: 96 وما بعدها، والمفصل في تاريخ العرب: 3: 507 وما بعدها، وغيرها.
2- ينظر: المفصل في تاريخ العرب: 3: 516، وتفسير القرطبي: 20: 191.
3- تفسير القرطبي: 20: 196.

ص: 225

واضِعٌ خلفَه الجِرار كما قطَّر صخر من جانب محرور (1)

وقول شاهد عيان سلِم من الحادثة، وهو رجل من كنده اسمه: نُفَيْل بن حبيب، يصوِّر هوْل الواقعة، كما شاهدها، لامرأة يخاطبها:

فإنك لو رأيت ولم تَرَيْهِ لدى جَنْب المُغَمَّس ما لقينا

خَشيِتُ اللَّه قد بَثَّ طيرا وظلَّ سحابة مرَّت علينا

وباتَتْ كلها تدعو بحق كأنَّ لها على الحُبْشَان دَيْنَا (2)

وقريب من قصة أبرهة، ما أورده القِبطي في أعلامه من قصة أسعد الحميري (تبع)، وجبروته، واتساع ملكه، وكثرة وزرائه، وانتهائه إلى مكة في جولة له في أرجاء مملكته، معتقداً أن أهلها سيدينون له بالطاعة كما دان غيرهم، إلا أنهم لم يعترفوا به ملِكاً عليهم، ولم يعظموه، فأغضبه ذلك شديداً، وشكا إلى كبير وزرائه ما فعله به أهلُ مكة، فهوَّن عليه: بأنهم عرب لا يعرفون شيئاً، وأن لهم بيتاً يقدسونه يسمى: (الكعبة)، وهم معجبون به، فأغاظه ماسمع، فعسكر بجيشه ببطحاء مكة عازماً على هدم البيت، ناوياً لمكة وأهلها شراً، فأخذه صداع شديد، وتفجر منه ماء نَتِن، كان سبباً في تفرق الناس عنه، ولما اشتد به الحال، خلا به أحدُ العلماء، وأفهمه: أن سبب ما هو من ضيق وشدة، ما نواه للبيت وأهله من سوء، فبادر الملك بالرجوع عن نيته، فشُفِي من ساعته، فكسا البيت، وأكرم العلماء (3).

__________________________________________________


1- التاريخ القويم: 2: 36، وشباب ملاويت: أقوياء، متمرسون بالحرب، كما في المعجم الوسيط، مادة: لَاتَ، ووردت الأبيات في معجم البلدان: 5: 161، مع اختلاف في نصها، ونسبتها لقائلها، فقد وردت بالنص التالي، منسوبة لأمية بن أبي الصلت: إن آياتِ ربِّنا ظاهرات ما يمارِي بهن إلا الكَفُور حُبِس الفيلُ بالمغمَّس حتى هل يحبو كأنه معقور كل دِينٍ يوم القيامة عند ال - له إلا دِين الحنيفة بور
2- تفسير القرطبي 20: 199- 200.
3- ينظر: التاريخ القويم: 4: 187، والتتابعة الذين أرادوا هدم الكعبة أكثر من واحد، ينظر المصدر السابق: 4: 188 وما بعدها.

ص: 226

المبحث الخامس: الاحتماء بمكة:

عُرفت بلاد مكة بحرمتها، وشرفها، وقدسيتها، وليس أدل على ذلك: من تشريف اللَّه لها، بوصفها بالبلد الأمين، والقَسَم بها، في قوله تعالى:

«وَ هذَا الْبَلَدِ اْلأَمِينِ» (1)

، والراحة النفسية، والأمان، يشعر بهما كل من دخل مكة، منذ أن

خلق اللَّه الخلق وإلى الأبد، ومن هنا صارت ملاذ الخائف، والمظلوم، وذي الحاجة، ومن شابههم، حيث لجأوا إليها محتمين بها، معترفين بفضلها.

فممن احتموا بمكة والكعبة: رجل من بني عبداللَّه بن دارم، كان زوجاً لابنة زرارة بن عُدُس، اسمه سويد، وكان طلبة المنذر بن ماء السماء، لأنه قتل ابنه مالكاً، ومالك هذا غلام حدث كان المنذر قد أودعه عند زرارة، ثم إن الغلام خرج يوماً يتصيد فلم يُصِب شيئاً، فمرَّ بإبل لسويد، فأمر بناقة فنُحِرت له، فاشتوى، وكان سويد نائماً، فلما استيقظ شدَّ على الغلام فقتله، وخرج هارباً، فاحتمى بمكة، وحالف بني نوفل بن عبد مناف، وأقام عندهم، وقد طلبه المنذر لثأر ابنه، فقيل له:

إنه احتمى بمكة، فصرف النظر عن اللحاق به، وثأر من بنيه، وكانوا سبعة ووفَّى ثأره بقتل مائة رجل من قوم سويد (2).

__________________________________________________


1- التين: 3.
2- ينظر: الخزانة: 4: 524 وما بعدها.

ص: 227

وكانت طيى ء تطلب عثرات زرارة وقومه لثارات بينهم، فاستغل شاعرهم عمرو بن ثعلبة الطائي هذه الحادثة وأغرى المنذر بزرارة، فقال:

من مُبْلغٌ عمراً بأ نَّ المرء لم يُخلق صُبارة (1)

وحوادث الأيام لا يبقى لها إلا الحجارة

أنَّ ابنَ عُجْزَة أُمِّهِ بالفسح أسفل من أُوَارة (2)

تسفِي الرياح خلال كَشْ- حيه وقد سلبوا إزاره

فاقتل زرارة لا أرى في القوم أوفى من زرارة (3)

وهذا النابغة الذبياني يعتقد أن الطير تعوذ بمكة، لأنها تجد فيها الأمان، فأقسم للنعمان برب العائذات بالبيت وبمكة، أنه لم يرتكب في حقه شيئاً مما سمعه من الوشاة، وأن ذلك كله كذب وافتراء، يقول معتذراً للنعمان:

والمؤمِنُ العائذات الطيرَ تمسحُها ركبان مكة بين الغَيْل والسند

ما قلتُ من سيِّى ء مما أُتيتَ به إذن فلا رفعتْ صوتي إلى يدي

إلا مقالة أقوام شَقِيتُ بها كانت مقالتهم قرعاً على الكبد (4)

وكان لحرب بن أمية حليفٌ من حضرموت قدم على مكة، فأراد أن ينزل خارجها، فلما سمع به حرب دعاه إلى دخول مكة، ليأمن على نفسه، وماله، من أعدائه، ومن اللصوص، واسم الحضرمي: أبو مطر، فقال حرب يخاطبه:

أبا مطر هلم إلى الصلاح فيكفيك النَّدامَى من قريش

__________________________________________________


1- الصُبَارة: لعله من الصَّبَّار، ثمر شديد الحموضة، أو من الصَّبْرة، وهي الكومة من الحجارة ونحوها، أي لم يخلق بدون فائدة، ينظر: المعجم الوسيط، مادة: صَبَرَ.
2- العُجْزة: آخر الرجل، يقال: هو ابن عُجْزة، ينظر السابق، مادة: عَجَزَ.
3- الخزانة: 6: 524 وما بعدها.
4- ينظر: ديوان النابغة الذبياني، تقديم وشرح: فارس صويتي، مكتبة كرم، دمشق، دار الكتاب العربي، بيروت، لا. ط.، لا. ت.: 68 وما بعدها.

ص: 228

وتنزل بلدةً عزَّت قديماً وتأمن أن يزورك رب جيش

فتأمن وسطهم وتعيش فيهم أبا مطر هُديت بخير عيش (1)

وفي فترة من فترات الجاهلية، كثُرت الزعامات في قريش، فحصل بينهم تغالبٌ وتجاذبٌ، لم يكُفَّهم عنه سلطان، وبلغ الأمر أن حدث من بعضهم تعدّ على حقوق الآخرين، كان مدعاة لهم إلى التحالف على رد المظالم، وإنصاف المظلوم، ومن ذلك مثلًا:

أنَّ رجلًا من اليمن قدم مكة معتمراً، ومعه بضاعة عرضها، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فغَمَطه حقه، فقام اليمني على الحِجْر، وأنشد بأعلى صوته:

يالَ قصي لمظلوم بضاعته ببطن مكة، نائي الدار والنفر

وأشعث مُحرِم لم تُقضَ حرمته بين المقام وبين الحِجْر والحَجَر

أقائم من بني سهم بذمتهم أو ذاهب في ضلال مال معتمر (2)

فلما سمعته قريش ردَّت عليه ماله.

وأنَّ قيس بن شيبة السُّلَمي باع متاعاً له بمكة لأبي بن خلف، فأنكره حقه، فاستجار برجل من بني جُمح، فلم يُجره، فاستصرخ القرشيين قائلًا:

يال قصي كيف هذا في الحرَمْ وحرمة البيت وأحلاف الكرم

أظلم لا يمنع عني من ظلم (3)

وهو الآخر وَجَد من قريش إنصافاً.

__________________________________________________


1- معجم البلدان: 5: 184.
2- المفصل في تاريخ العرب: 2: 502.
3- المصدر السابق.

ص: 229

وعلى هذا النحو تبدو مكة، قبل الإسلام، بلداً آمناً، يأوي إليه المظلومون، والخائفون، ومن في حكمهم، لاعتقادهم في أمنها، وبركتها، وقد خلّد الشعراء القدامى هذه المشاعر النبيلة نحو مكة، وأمنها، واستقرارها.

المبحث السادس: الحَلِفُ ومقدَّسَاتها:

كثُر حَلِف العرب الجاهليين بالأماكن المقدسة، ولا سيما مكة والبيت الحرام، بصيغ مختلفة مثل: ورب مكة، واللَّه، والبيت الحرام، وبيت اللَّه، وما شابهها، وليس لذلك معنى إلا تلك المكانة الروحية الكبيرة لمكة في وجدان العرب، ويمكن الوقوف على أمثلة مما ورد في الشعر الجاهلي بالخصوص، من ذلك:

قول عَدِيّ بن زيد العبادِي، معاتباً النعمان بن المنذر على حبسه، وأخذ رأي الوشاة فيه، مقسماً برب الكعبة أنه وشاية الأعداء:

سعى الأعداء لا يَأْلُون شراً عليك ورب مكة والصليب (1)

وقول الشاعر قيس بن الخطيم في تصوير بياض لون حبيبته، إذ شبهها بالدرة المجْلُوة، مقسماً باللَّه أنه يهواها:

كأنها درة أحاط بها ال - غواص يجلو عن وجهها الصُّدف

واللَّه ذي المسجدِ الحرام وما جُلِّل من يُمنة لها خُنُف

إني لأهواكِ غير ذي كذب قد شَفَّ مني الأحشاء والشغف (2)

وفي قصيدة له أخرى في حرب شبَّت بين قومه وأبناء عمومتهم من الأوس،

__________________________________________________


1- السابق: 6: 665.
2- ديوان قيس بن الخطيم برواية ابن السِّكِّيت، تحقيق: ناصر الدين الأسد، دار العروبة، القاهرة، ط. 1، 1962 م: 60 وما بعدها، وعبداللَّه بن قريب، الأصمعيات، تحقيق: أحمد شاكر وعبدالسلام هارون، دار المعارف، مصر، ط. 3، لا. ت.: 197، واليُمْنَة: ضرب من بُرود اليمن، والخُنُف جمع خَنِيف: الكتان الأبيض الغليظ، وشفَّ: رق، والشغف: درجة متقدمة من الحب، ينظر: المصدر السابق، والمعجم الوسيط: مواد: يَمَنَ وخَنَفَ وشَفَّ وشَغَفَ.

ص: 230

يُظهر تعظيمه للبيت، فيقول:

أقسمت لولا الذي زعمتُ وما خَبَّرْتُ قوماً عن مجدهم كذباً

وقد أضعت الذي حفظتُ من ال - وُدَّ لقدَّمتُ مِدْحَةً عَجَباً

الحمد للَّه ذي البَنِيَّة إذ أمستْ دُحَيٌّ قد أُثْخِنت غَلَبَا (1)

كثُر حَلِف العرب الجاهليين بالأماكن المقدسة، ولا سيما مكة والبيت الحرام، بصيغ مختلفة مثل: ورب مكة، واللَّه، والبيت الحرام، وبيت اللَّه، وما شابهها، وليس لذلك معنى إلا تلك المكانة الروحية الكبيرة لمكة في وجدان العرب

ويقسم النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر، باللَّه رب الكعبة أنه لم يرتكب في حقه سوءاً وإثماً، وإنما هي الوشاية من المنخل اليشكري، فيقول:

فلا لعمر الذي قد زرتُه حِجَجاً وما هُرِيق على الأنصاب من جسد

ما إن أتيتُ بشي ء أنت تكرِهه إذن فلا رفعتْ صوتي إلى يدي (2)

ومما نُسب للنابغة أيضاً: قوله في تبرئة نفسه أمام النعمان، مقسماً بالأماكن المقدسة:

حلفتُ بمن تُساق له الهدايا على التَأْديب يعصمها الدَّرين

برب الرافعات بكل شُهب بشُعثِ القوم موعدها الحَجون (3)

ولمكانة هذه المقدسات عندهم، كان للحلف أهمية كبيرة في نفوسهم.

__________________________________________________


1- ديوان قيس بن الخطيم: 114- 115.
2- ديوان النابغة: 68، وينظر: الخزانة 5: 73.
3- ديوان النابغة: 150.

ص: 231

وفي المعنى ذاته: توجد للشاعر عامر بن الطفيل قصيدة يخاطب فيها زيد الخيل، ويمدح نفسه، مقسماً برب المقدسات أنه قليل أمثاله في بني عامر، يقول:

إنني والذي يحج له النا س قليل في عامر أمثالي (1)

ومن هذا القبيل: البيت التالي، لشاعر جاهلي:

فأقسم بالذي حجت قريش وموقف ذي الحجيج إلى إلَال (2)

وعلى النحو السابق: تذكر المصادر للشاعر عوف بن الأحوص أبياتاً في تعظيم البيت، والحلف بالمقدسات أن يظل وفياً، وذلك من قصيدة طويلة له في طلب النَّصَفَة والتحكيم بين قومه: بني جعفر، وأبناء عمومتهم: بني أبي بكر، وكان نفر من بني جعفر قد اعتدوا على رجل من بني أبي بكر، وأهانوه، فطلب هؤلاء التحكيم والنصَفَة من قوم الشاعر، فرفضوا، غير أن رفضهم لم يُرْض الشاعر، فقال- يحثهم على محاولة استرضاء بني عمومتهم، تفادياً للحرب، وإبقاء على الوُدِّ القديم بينهم-:

هُدِّمت الحياضُ فلم يغادَر لحوضٍ من نَصَائبه إزاء

لخولة إذ همُ مغْنىً وأهلي وأهلك ساكنون معاً رِثاء

فَلأْياً ما تَبِينُ رسوم دار وما أبقَى من الحَطَب الصِّلاء

وإني والذي حجت قريشٌ محارمَه، وما جمعتْ حراء

وشهر بني أميةوالهدايا إذا حُبِست مُضَرَّجها الدماء

أذمك ما ترقرق ماء عيني عليَّ إذا من اللَّه العفاء

أمُر بحكمكم مادمت حياً وألزمه ورن بلغ الفناء

__________________________________________________


1- ديوان عامر بن الطفيل برواية الأنباري عن ثعلب، دار صادر، ودار بيروت، لا. ط. 1963 م: 102.
2- المفصل في تاريخ العرب: 6: 430.

ص: 232

فلا تتعوَّجوا في الحكم عمداً كما يتعوّج العود السِّرَاء

فإنك والحكومة يابن كلبٍ عَليَّ وأن تُكفني سواء (1)

ويقسم زهير بن أبي سُلمى بالبيت، ويعظمه، على أن الحارث بن عوف، وهرم بن سنان من أحسن العرب مكانة، وأكثرهم كرماً، في كل الأحوال: في الشدة والرخاء، واليسر والعسر، لإنهائهما الحرب الضروس بين عبس وذبيان، التي دامت زمناً طويلًا، وأفنت الكثير من الرجال، والأموال، بسبب سعيهما في الصلح، عن طريق دفع ديات القتلى من أموالهما، وذلك في معلقته المشهورة: (أمِنْ أمِّ أوْفَى)، التي منها قوله:

سعَى ساعياً غيض بن مرة بعدما تبزَّل ما بين العشيرة بالدم

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجالٌ بَنوْه من قريش وجرهم

يميناً لنعم السَّيدان وُجدتُما على كل حال من سَحِيل ومُبْرَم

تداركتُما عبساً وذبيان بعدما تفانَوْا ودقُوا بينهم عطر منشم (2)

والشعر القديم في هذا المنحى كثير، ولعل فيما أوردناه من الأمثلة توضيح كافٍ على مدى تعلق العرب جميعاً بمكة المكرمة والبيت الحرام، وغيرها من المقدسات، قبل الإسلام.

المبحث السابع: مكانة قريش عند العرب:

تُعد قريش قلب العرب، وصفوتهم، وقبلتهم منذ القدم، وهي تُدعى في أول أمرها: النضر بن كنانة، وكانت أحياء متفرقة في بني كنانة، فجمعهم قُصي بن

__________________________________________________


1- ينظر: المفضل بن محمد الضي، المفضليات، تحقيق: أحمد شاكر، عبدالسلام هارون، دار المعارف، القاهرة، ط. 3، 1963 م: 173- 174.
2- أحمد بن يحيى ثعلب، شرح ديوان زهير بن أبي سُلمى، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، ط. 1، 1964 م: 14- 15.

ص: 233

كلاب، (الجد الرابع للنبي صلى الله عليه و آله)، من كل ناحية فسُمُّوا قريشاً لذلك (1)، وسُمي قصي:

مُجمِّعاً، لأنه جمعهم، وجعلهم قبيلة واحدة، وفي هذا المعنى قال شاعرهم:

إنني والذي يحج له النا س قليل في عامر أمثالي (2)

ولمكانة قصي من البيت الحرام، ومنزلة القرشيين من قصي، صار لهم مع مرور الزمن شأن عظيم بين العرب، حتى إنهم كانوا يسمونهم: آل اللَّه، وجيران اللَّه، وسكان اللَّه، وما شابه ذلك، وفي المعنى يقول عبدالمطلب بن هاشم:

نحن آل اللَّه في ذمته لم نزل فيها على عهد قدم

إن للبيت لرباً مانعاً من يُرِد فيه بإثم يُخترَم

لم تزل للَّه فينا حرمة يدفع اللَّه بها عنا النقم (3)

__________________________________________________


1- سُمُّوا قريشاً من التَّقْريش، أي: التجميع بعد التفرق، أو بسبب كونهم تجاراً يجمعون بين الأشياء المتفرقة، وليس لهم أبٌ ينسبون إليه يسمى قريشاً، وفي سبب التسمية هذه آراء متعددة، ينظر: تفسير الرازي: 16: 107- 106، وتفسير القرطبي 20: 203، والتاريخ القويم: 2: 46 و 3: 145، والسيرة: 1: 93 وما بعدها.
2- التاريخ القويم: 3: 145.
3- المصدر السابق، وينظر: المفصل في تاريخ العرب: 4: 24.

ص: 234

وقول أبي طالب يرثي أبا أمية بن المغيرة، زوج أخته عاتكة بنت عبدالمطلب، وكان خرج في تجارة إلى الشام، فمات في الطريق، ومما قاله في رثائه:

تنادَوْا بأنْ لا سيِّد الحيِّ فيهم وقد فُجع الحيان: كعب وعامر

فكان إذا يَأْتي من الشام قافلًا بمقدمه تسعى إلينا البشائر

فيصبحُ أهلُ اللَّه بيضاً كأنما كستهم حَبِيراً رَبْدَة ومَعَافر (1)

وهكذا تبدو مكانة قريش بين العرب الجاهليين، كما صورها شعراؤهم قبل الإسلام، وقد حفظوا لهم هذا الشرف منذ القدم، فكانوا يقصدونهم من أقاصي شبه الجزيرة العربية لإقامة مناسك الحج والعمرة، وللبيع والشراء، وعقد معاهدات الصلح، والحرب، والتحالف، وللمشورة والتحكيم، وما شابه ذلك، وهذه المكانة العظيمة للقرشيين لم تأت مصادفة، أو لمجرد مجاورتهم للبيت، وسكنهم في مكة، وكونهم من أصل شريف، فقط، بل أيضاً لأنهم كانوا أصحاب فصاحة وبلاغة لا تُضاهى، كما شُهروا برجاحة العقل، وسعة الأفق، وعمق التجربة، وقد نضجت فيهم الحياة العقلية بصفة عامة، نضجاً لمسه العرب دون شك في سعة تفكيرهم، وسداد معاملاتهم، وحسن آرائهم، من خلال احتكاكهم بهم في المعاملات التجارية، داخل مكة وخارجها، كما عرفوهم من خلال خططهم الحربية، وأسواقهم العامرة بصنوف القول، إلى جانب صنوف التجارة، وحكمتهم العميقة الموشِّحة لأشعارهم، وأمثالهم، وهي دون شك تنم عن عقل راجح، وتفكير قويم، من مثل: الجهل شرٌّ الأصحاب، حسْبك من شرٍّ سماعه، من خان هان، عند الصباح يحمد القوم السّرَى، وغدَرَك من دلَّك على الإساءة، وما شابه ذلك (2).

__________________________________________________


1- الخزانة: 8: 147.
2- ينظر: التاريخ القويم: 2: 46.

ص: 235

وبما أن الشعر من الأمور المهمة لدى العرب الجاهليين، فإنهم كانوا يحتكمون فيه لهذه القبيل، فكان الشعراء يقدُمُون على مكة في موسم الحج لأداء المناسك، وعرض أشعارهم على القرشيين فما قبلوه، واستحسنوه، قُبل، وسار بين العرب قاطبة، وما رفضوه رُفض، ومن ذلك أنه قدِم عليهم علقمة الفحل، فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

هل ما علمتَ وما استودعتَ مكتوم أم حبلها إذ نأتْك اليوم مصروم

فقالوا: هذا سِمْط الدهر، ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم:

طَحَا بكَ قلب في الحسان طَروُب بُعَيْد الشبابِ عصْرَ مَشيب

فقالوا: هاتان سِمْطا الدهر (1).

وكان الشاعر يقول الشعر في قبيلته، أو في غيرها من الأماكن خارج مكة، فلا يُعبأ به، ولا يأخذه عنه أحد، حتى يأتي مكة في الموسم، فيعرضه على أندية قريش، فإن استحسنوه، اهتموا به، وعُلِّق على الكعبة، واستنشده الناس، وسارت به الركبان، وكان فخراً لصاحبه، وإن لم يستحسنوه: طُرح ورُدَّ عليه، وأول من عُلّق شعره في الكعبة: امرؤ القيس، وبعده عَلَّقت الشعراء، والشعر الذي يُعلق على الكعبة يسمى: المعلقات، ومن الاحتفاء به أن كانت القصائد الجيدة تُكتب بماء الذهب على القَبَاطِيِّ، وتعلق على ركن من أركان الكعبة، وتسمى:

المُذَهَّبَات (2)، ولا غرو، فالشعر الذي يصل إلى هذه المنزلة لابد أن يكون مرَّ

بمراحل من التنقيح، والتنقية، والاختيار، ما أوصله إلى قمة النضج: فصاحةً، وبلاغةً، وحكمةً، وعمقاً في التفكير، ولاشك أن القرشيين في مستوى هذه المرحلة الناضجة من حسن الاختيار، إذ لا تزال مختاراتهم مثار إعجاب، وقدرة، إلى

__________________________________________________


1- السِّمط: الخيط مادام منظوماً فيه الخرز القلادة، ينظر: المعجم الوسيط، مادة: سَمَطَ، والمقصود: الشي ء الثمين، الرفيع المكانة.
2- ينظر: الأعلم الشنتمري، شرح ديوان علقمة الفحل، لطفي الصقال ودرية الخطيب، دار الكتاب العربي، حلب، سوريا، ط. 1، 1969 م: 9، والمذهبات: كتبت بماء الذهب وعلّقت على الكعبة، ينظر: الخزانة: 1: 126.

ص: 236

يومنا هذا.

ولأن مكة قِبْلَة العرب، والقرشيين ساداتهم، كان العرب يهرعون إلى مكة والقرشيين كلما حَزب بهم أمر، أو ضاقت بهم سبل، أو ألجأتهم حاجة كائنة ما كانت، فقد هرع إليهم قيس بن زهير العبسي طارداً إبلًا لابن عمه: الربيع بن زياد العبسي، في شحناء بينهما، سبق بها زياد، إذ خَدَع قيساً في درع له ساومه فيه، وهو على ظهر فرسه، ثم أخذ الدرع لينظر فيه، فهرب به ولم يرده، فاغتاظ زهير، واستاق إبلًا للربيع واحتمى بالقرشيين، وباع الإبل مقايضة بأدراع وأسياف من عبداللَّه بن جدعان، وقيل: من حرب بن أمية وهشام بن المغيرة، ثم جاور بن قُشير، وفي ذلك يقول:

ألم يأتيك والأنباءُ تَنْمِي بما لاقت لبون بني زياد (1)

ومَحبَسُها على القرشي تُشْرَى بأدراع وأسياف حداد أُطوّف ما أُطوّف ثم آوي

إلى جارٍ كجار أبي دؤاد (2)

كفاني ما أخاف أبو هلال ربيعة، فانتهتْ عني الأعادي (3)

كأني إذا أنخْتُ إلى ابن قرط أنختُ إلى يَلَمْلَم أو نَضَاد (4)

ومن اتجاه العرب لقريش: أنه وقعت حرب ضروس بين الأوس والخزرج، انتصر فيها الخزرج، ثم إنهم استنصروا اليهود تحسباً لرد الثأر، فلما رأت الأوس

__________________________________________________


1- في هذا البيت شاهد نحوي في يأتيك بإثبات الياء مع الجازم، ينظر: الخزانة: 8: 361 وما بعدها.
2- هو أبو دؤاد الإيادي، عاش في الجاهلية، جاور الحارث بن هَمَّام بن مرة الشيباني، وكان لأبي دؤاد هذا ابن خرج يلعب مع الصبيان في غدير ماء، فغمسوه فيه، فقتلوه، وكان عددهم تسعة، أو عشرة، فحكم الحارث بإغراقهم جميعاً، أو تُدفع دية عن كل واحد منهم، فَوُدِي ابن أبي دؤاد بتسع ديات أو عشر، ينظر: الخزانة: 8: 370- 371.
3- ربيعة: هو ربيعة بن قرط بن سلمة بن قُشير، ويسمى: ربيعة الخير، ويكنى: أبا هلال، وقيل غيره، ينظر: المصدر السابق 8: 370.
4- الخزانة: 8: 365 وما بعدها، ويَلمْلَم: جبل على بعد ليلتين من مكة، وقيل: وادٍ، ونَضَاد: جبل بالعالية، ينظر: معجم البلدان: 5: 441 و 290.

ص: 237

ذلك التحالف خافت سوء العاقبة، فسارعت تطلب النصرة من قريش، وفي ذلك يقول شاعرهم قيس بن الخطيم:

تقول صنيعتي لما استقلت أتترك ما جمعْتَ صَرِيم سَحْر (1)

فقلت لها ذريني إن مالي يروح إذا غلبتُهُم ويَسْري وتحمل حربَهم عنا قريشٌ

كأن بنانَهم فريكُ بُسْر (2)ونُدرِك في الخزارج كل وتر

بذمّ الكاهنين وذمّ عمرو (3)

والقصيدة طويلة.

وفي العصر الجاهلي، كان يلجأ إلى القرشيين الفاتكون، وقاطعو الطرق، والخارجون عن قبائلهم باحثين عن الأمان والاستقرار، فهذا الحارث بن ظالم، يفتك بخالد بن جعفر بن كلاب، وكان جاراً للنعمان بن المنذر، وفي رعايته، ويخاف الحارث أن تَطَاله يد النعمان، فيحتمي بقريش، ويمدحهم، فيجد فيهم الأمن والأمان، فينتسب إليهم، ويعاشر فيهم، ويقلع عن النهب، والسلب، والقتل، وهو القائل في المعنى:

وإني يوم غَمْرَة غير فخر تركتُ النهبَ والأسْرَ الرّغابا (4)

فلست بشاتم أبداً قريشاً مصيباً رُغم ذلك من أصابا

فما قومي بثعلبة بن سعد ولا بفزارة الشِّعْرَى رقابا

وقومي إن سألتُ بني لؤي بمكة علَّموا الناس الضِّرابا

__________________________________________________


1- صَريم سَحْر: ميت، منته، لا فائدة منه، فالسَّحْر والسُّحْر والسَّحارة: كل ما تعلق بالحُلْقوم من قلب ورئة، ينظر: المعجم الوسيط، مادة: سَحَرَ، والصَّريم: المنصرم، وإذا انصرمت الأحشاء مات صاحبها.
2- كأن بنانَهم تفريك بُبسر: كناية عن الشجاعة، وطول التجربة الحربية.
3- ديوان قيس بن الخطيم: 120- 121، والكاهنان: قُريظة والنَّضير، يقال: إنهم بنو الكاهن بن هارون النبي عليه السلام، وعمرو: لعله يقصد بني عمرو بن عوف الأوسي، ينظر المصدر السابق: 20 و 121.
4- غَمْرة: قيل: جبل، وقيل: موضع ماء بمكة، ينظر: معجم البلدان: 4: 212، ويوم غمرة: هو اليوم الذي ترك فيه السلب والنهب.

ص: 238

فما غطفان لي بأب ولكن لؤيٌّ والدي قولًا صوابا

فلما أن رأيتُ بني لؤي عرفتُ الوُد والنسب القرابا (1)

ويسمع بأبيات الحارث هذه، الحُصَيْنُ بن الحُمَام المُرّي، أحد سادات بني مُرَّة، وشاعرهم، فلم يعجبه، فينتقد الحارث نقداً لاذعاً، فيه مسٌّ بقريش، وذلك في قوله:

ألَا لستُم منَّا ولسْنَا إليكمُ برِئْنا إليكم من لُؤَيّ بنِ غالب

أقَمْنَا على عِزّ الحجاز وأنتمُ بمُعْتَلَج البطحاء بين الأخاشب (2)

ويقصد بمُعْتَلَج البطحاء: بطحاء مكة، أي سهولها حيث يعتلج القوم، ويتصارعون، وهو يعني قريشاً، غير أنه لم يلبث أن نَدِم ندماً شديداً على ما بدر منه، فأكذب نفسه صراحة، وعاد فمدح قريشاً، وانتمى إليهم، فقال:

نَدِمتُ على قول مضى كنتُ قلتُه تَبَيَّنْتُ فيه أنه قولُ كاذبِ

فليت لساني كان نصفين منهما بَكِيمٌ ونِصْفٌ عند مجْرَى الكواكبِ

أبُونا كِنانِيٌ بمكة قبرُه بمعْتَلَج البطحاء بين الأخاشب

لنا الرُّبْع من بيت الحَرَام وِرَاثَةً وربع البطاح عند دار ابن حاطب (3)

وما حمل الحُصين على ما فعل، مع ما له من العزة والسيادة في قومه، إلا تلك المكانة العالية لقريش في نفسه.

ومن تبجيل العرب لقريش: الاعتراف لهم بالسبق، والفضل، على الأهل والقرابة، كما فعل عوف بن الأحوص في وصفه للحرب التي انتصرت فيها قريش على بني قومه، فهو يعترف لقريش بالقوة، وحسن النظام، والغلبة، في قوله:

__________________________________________________


1- المفضليات: 314.
2- مكرر- السيرة: 1: 100.
3- المصدر السابق.

ص: 239

لمَّا دَنَوْنَا للقِباب وأهلها أُتِيحَ لنا ذئب مع الليل فاجر

أُتِيحَتْ لنا بكر وتحت لوائها كتائب يرضاها العزيز المفاخر

وجاءت قريش حافلين بجمعهم وكان لهم في أول الدهر ناصر

وكانت قريش لو ظهرنا عليهمُ شفاء لما في الصدر والبغض ظاهر

حَبَتْ دونهم بكر فلم نستطعْهُمُ كأنهم بالمشرفية سامر

وما برحت بكر تثوب وتدعي ويلحق منهم أولون وآخر

لدن غُدْوَة حتى أتى الليل وان - جَلَتْ غمامة يوم شره متظاهر

ومازال ذاك الدَّأْبُ حتى تخاذلت هوازن فارفضَّت سليمٌ وعامر

وكانت قريش يَفلِقُ الصخرَ حدُّها إذا أُوْهنَ الناسَ الجدودُ العواثرُ (1)

كما يظهر من الأبيات: فإن الشاعر لا يُخفي إعجابه بقريش، ومقدرتها الحربية، فهي وإن كانت هزيمتها، وحلفائها تُرضي غرور المُفاخر، وتَشفي ما في الصدور من الغيظ والحنق، لو انتصرت عليهم هوازن، إلا أن تصميم قريش على النصر ظاهر، يؤكده ما جمعته من حشود حافلة، وعزم قويٍّ يفلقُ الصخرَ، فغلب حظُّها على حظوظ سليم وعامر، فانتصرت عليهم، فتخاذلوا، وكَبَا بهم جَدُّهم.

وتحمل أبيات الأعشى التالية، معاني الفخر بقريش، والاعتراف لهم بعلو المنزلة، وسمو المكانة، يقول من قصيدة طويلة في هجاء عُمَيْر بن عبداللَّه بن عِيدان:

فما أنت من أهل الجَحُون ولا الصَّفا ولا لك حق الشّرْب من ماء زمزم

ولا جعل الرحمنُ بيتَك في العُلا بأجْيَادَ غربِيَّ الصفا والُمحَرَّم (2)

وهكذا تبدو مكانة القرشيين عند العرب القدامى كما صورها الشعراء في شعر كثير منوع.

__________________________________________________


1- المفضليات: 365- 366.
2- ديوان الأعشى ميمون بن قيس، دار صادر، بيروت، لبنان، لا. ط.، 1994 م: 183، وينظر: معجم البلدان: 1: 104.

ص: 240

المبحث الثامن: قريش قُدوة العرب:

مما زاد في فضل مكة، وفضل أهلها، مباينتهم للعرب بشكل واضح: أنهم كانوا متآلفين، متمسكين بكثير من شعائر دين إبراهيم عليه السلام، آخذين بأسباب التحضر والتمدن في وقتهم، ولم يكونوا كالأعراب الجفاة الأجلاف، ولا كمن لا يوقِّره دين، ولا يزينه أدب، ولا يهذبه خلق، فكانوا يحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويردُّون المظالم، ويختنون أولادهم، ويكفّنون موتاهم، ويغتسلون من الجنابة، وحرموا نكاح المحارم، وزوجوا بناتهم بالصداق والشهود، وتطليقهم كان ثلاثاً، قال ابن عباس، جواباً عن سؤال طلاق العرب: «كان الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم هو أحق بها، فإن طلقها ثنتين فهو أحق بها أيضاً، فإن طلقها ثلاثاً فلا سبيل له إليها» (1)، ومما ورد للأعشى في ذلك:

أيا جارتي بِينِي فإنك طالقة كذاك أمور الناس غاد وطارقة

وبِينِي فقد فارقتِ غير ذميمة وَمَوْمُوقَة منا كما أنت وامقة

وبِينِي فإن البين خير من العصا وأن لا تُرَى لي فوق رأسِكِ بارقة (2)

ومما ميزهم أيضاً: أنَفَتُهم، وشعورهم بالسيادة، والتفرد، فكانوا يتزوجون في أي القبائل شاءوا ولا شرط عليهم، ولا يزوجون أحداً إلا بشرط أن يكون

__________________________________________________


1- ينظر المصدر السابق 5: 184.
2- المصدر السابق، وينظر: التاريخ القويم: 2: 44.

ص: 241

متحمساً (1) على دينهم، ولا يتنازلون عن هذا الشرط أبداً، لأنه- في رأيهم-

يوجبه المحافظة على الدين، والشرف، قال شاعرهم مسافر بن أبي عمرو مفتخراً:

ورثنا المجد من أبا ئنا فَنَما بنا صُعُدا

ألم نسقِ الحجيج ونن - حر الدَّلَّافَة الرفدا

ونُلْفَى عند تصريف ال - منايا شُدَّداً رفدا

فإن نَهل فلم نُمْلَك ومن ذا خالد أبدا

وزمزم في أُرُومتنا ونفْقَأُ عينَ من حسدا (2)

مما زاد في فضل مكة، وفضل أهلها، مباينتهم للعرب بشكل واضح: أنهم كانوا متآلفين، متمسكين بكثير من شعائر دين إبراهيم عليه السلام، آخذين بأسباب التحضر والتمدن في وقتهم، ولم يكونوا كالأعراب الجفاة الأجلاف

وإلى جانب ذلك: تفرَّدت قريش بكثرة الألقاب الدالة على فضلهم وجودهم، وتميزهم عن العرب، مثل: أهل اللَّه، أزواد الركب، المطيبين، الأحلاف، الهاشميين، وما شابهها من صفات الكرم، والشجاعة، والمروءة، ومن غير شك

__________________________________________________


1- الحُمُس والتَّحمُّس: التشدد في الدين، والأحْمَس: الشجاع، ومن يستطيع أن يفرض على الآخرين ما يريد، وقد استطاع القرشيون أن يفرضوا على العرب سنناً ابتدعوها مغالاة في الدين، فسنوا الوقوف بالمزدلفة والإفاضة منها، بدلًا من عرفات، و فرضوا على الحجاج أن يتخلوا عن كل ما يأتون به معهم عند دخول الحرم، وأن يستبدلوا بثياب الحِل ثياب الحرم: شِرىً أو عارية أو هبة، فإن لم يجدوا ذلك طافوا بالبيت عرايا: الرجال في النهار، والنساء في الليل، وبلغ من تشددهم في الدين: أن الرجل إذا أحرم بالحج أو بالعمرة لا يدخل داراً، ولا خيمة، ولا بستاناً، وقد تعِنُّ له حاجة في بيته فلا يدخله، وإنما ينادي أهله ليخرجوا له ما أرادوا، كما منعوا على أنفسهم بعد الإحرام: السمن، واللبن، والزبدة، ولبس الوبر، والاستظلال بالشعر، وغزله، ونسجه، ولبسه، وما شابه ذلك من المبالغة في التشديد، ينظر: التاريخ القويم: 2: 43 وما بعدها، والمفصل في تاريخ العرب: 6- 362.
2- السيرة: 1: 151.

ص: 242

فإنه توجد مبررات لكل هذه التسميات (1) كتلقيبهم بالهاشميين، لأن جدهم عمرو

هشم الخبز، وصنع موائد الثريد للفقراء في أيام القحط والجوع، فسمي: هاشماً، وفيه قال الشاعر مادحاً:

عمرو العلى هَشَم الثريد لقومه ورجال مكة مُسسْنِتُون عجاف (2)

ومما سجلته العرب في شعرهم لقريش: ابتداعهم للمكرمات، والفضائل، والأعمال الخيرة، التي تنم عن عقل كبير، وفكر مستنير، فعلى سبيل المثال: أول من صنع الحريرة (3) سُوييد بن هَرْمَى، وقد قال فيه شاعرهم مخاطباً بني مخزوم:

وعُلِّمتُمُ أكلَ الحرير وأنتمُ أعْلَى عداة الدهر جدُّ صلاب (4)

فهو يمدح القرشيين بطيب مآكلهم، ورفاهية عيشهم، ويعيِّر بني مخزوم بخشونة مآكلهم، وشظفهم.

__________________________________________________


1- كانت العرب تُسمي قريشاً: أهل اللَّه، لمجاورتهم الحرم، وتأكدت هذه التسمية، وانتشرت بين العرب، بعدحادثة الفيل، حيث قالوا: إن اللَّه دافع عنهم، فهم أهله، تفسير الرازي 16: 104، وتفسير القرطبي 20: 200 وما بعدها، أما أزواد الركب فهم في الجاهلية ثلاثة نفر، أولهم: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، والثاني: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والثالث: أبو أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وسُمي كل واحد منهم زاد الركب: لأنه إذا سافر مع قافلة كفاهم مؤونة الطريق فلا يتزود معه أحد بشي ء، ولم يُسَم بذلك غيرهم، الخزانة: 8: 147، أما المُطيّبون: فهم بنو عبد مناف و من تابعهم من قريش، وإنما سُموا بذلك: لأنهم في تصالحهم مع بني عبد الدار على ولاية شؤون البيت، أخرجوا جفنة مملوءة طيباً، وغمسوا فيها أيديهم، ومسحوا بها الكعبة، تأكيداً للصلح، وأما الأحلاف: فهم بنو عبد الدار ومن تابعهم، وسموا بالأحلاف: لأنهم في الصلح المشار إليه أعلاه أخرجوا جفنة مملوءة دماً، فغمسوا فيها أيديهم، ومسحوا بها الكعبة، إمضاء للعهد الذي أبرموه مع بني عبد مناف، والمطيبون والأحلاف أبناء عمومة، فكلهم يرجعون بنسبهم إلى قصي بن كلاب، ينظر: السيرة: 1: 130 وما بعدها، ومعجم البلدان: 5: 187.
2- معجم البلدان: 5: 185.
3- الحَريرة: لحم يقطَّع صغيراً قريشاً، ويطبخ في ماء كثير، وعند نضجه يُذَر عليه الدقيق، فإذا لم يكن لحم فهي عصيدة، ينظر المصدر السابق.
4- المصدر السابق.

ص: 243

وكانت قريش لا تُربِّع أسطح منازلها، ولا تعلِّيها، ابتعاداً عن التشبه بالكعبة المربعة بالشكل، كراهية مضاهاة بيت اللَّه في شي ء، احتراماً له وتقديساً، وخوفاً من عاقبة التطاول عليه، وظل الحال على ذلك حتى ربَّع حُميد بن زهير بيتاً له بمكة، فأثار دهشة القرشيين، واستغرابهم، وخوفهم عليه من سوء العاقبة، إلى درجة أن رُجَّازهم كانوا يرتجزون، والبيت يُبنَى:

اليوم يُبنى لحُميد بيتُه إمَّا حياتُه وإمَّا موتُه

فلما تمَّ البناء، ولم تنزل بحُميد عقوبة، تبعته قريش، فربَّعت منازلها (1).

وكانت قريش لا تُربِّع أسطح منازلها، ولا تعلِّيها، ابتعاداً عن التشبه بالكعبة المربعة بالشكل، كراهية مضاهاة بيت اللَّه في شي ء، احتراماً له وتقديساً، وخوفاً من عاقبة التطاول عليه

وأول من سنَّ بين العرب، قبل الإسلام، دية المقتول مائة من الإبل كان من قريش، وهو عبدالمطلب بن هاشم، فأخذت به قريش والعرب جميعاً، وأقره الإسلام، و أول من خلع نعليه عند دخول الكعبة في الجاهلية، الوليد بن المغيرة، فخلع الناس، وصارت سنة إلى اليوم في دخول المساجد، والأماكن المقدسة، وهو نفسه أول من قضى بقطع السارق، وبالقسامة (2)، في الجاهلية، فأخذ بها العرب،

وأقرها الإسلام (3).

ومما تفرد به القرشيون: دار الندوة، التي شهُر أمرها بين العرب جميعاً،

__________________________________________________


1- المفصل في تاريخ العرب: 4: 51، وينظر: ديوان قيس بن الخطيم: 197.
2- القَسَامة: أن يوجد قتيل بين حيين لا يُعرف قاتله، فتُحمَّل ديته على الحيين بالتساوي، أو أن يُقْسِم خمسون من أولياء الدم على متَّهَم بعينه لإثبات حقهم، فإن رفضوا أقسم المتهم لتبرئة نفسه، ينظر: المفصل في تاريخ العرب: 5: 524.
3- ينظر: المعارف: 551 وما بعدها.

ص: 244

وهي منتدى بناه قصي بن كلاب لقريش، تنطلق منه لكل شؤون حياتها، فلا يُعقد لواء، ولا تتم مشورة، ولا تزوَّج امرأة، ولا يختَن صبي، إلّافيها، وسموها دار الندوة (1): لأنهم كانوا يتنادون فيها للخير والشر معاً، وهي مفخرة لهم،

كما أنها تُعد- بلا ريب- مظهراً حضارياً آنذاك، لا يوجد شبيه له في العرب.

ومن تكاتف القرشيين، وتماسكهم، وتعاونهم: قبولهم للرّفَادة، وهي خَراج في أموالهم فرضه عليهم جدهم قصي، لتوفير الطعام والشراب للحجاج أيام الموسم، ومع دار الندوة والرفادة هذه، صارت لقريش السقاية، والحجابة، واللواء (2)، فجمعوا المجد من كل أطرافه، وقد قال شاعرهم، الزبير بن

عبدالمطلب، مفتخراً:

فلولا نحن لم يَلْبَس رجال ثيابَ أعِزَّة حتى يموتوا

ثيابهم سِمَال أو طُمَار بها وَدَكَّ كما دَسَم الحَمِيت

__________________________________________________


1- ينظر: التاريخ القويم: 2: 77 وما بعدها.
2- اللِّواء: الإجازة بالناس من عرفة، والدعاء بهم، ولعله سمي بذلك: لأن الذي يتقدم الناس ويدعو بهم يحمل لواء في يده، أو علامة دالة عليه، وكان أمره في قبيلة من جرهم اسمها: صُوفَة، وهم الذين يقول فيهم زهير بن أبي سلمى: ولا يَرِيمُون في التعريف موقعهم حتى يُقال أجيزوا آل صفوانا ديوان زهير: 60 ثم غلبت خزاعة على جرهم فأخذته منهم، ثم انتزعته من خزاعة قبيلة بني عدوان بن عمرو، فصار إلى رجل منهم يُدعى: أبو سيَّارة، وهو الذي يقول فيه الراجز: خَلُّوا السبيل عن أبي سيَّارة وعن مواليه بني فزارة حتى يُجيز سالماً حماره مستقبل الكعبة يدعو جاره المصدر السابق وكانت صورة الإجازة: أن يتقدم أبو سيارة الناس على حماره، ثم يخطب فيهم قائلًا: «اللهم أصلح بين نسائنا، وعاد بين رعائنا، واجعل المال في سُمحائنا، وأوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، وأقْروا ضيفكم، أشْرِق ثَبير كيما نُغير»، ثم ينْفُذ، ويتبعه الناس، وبقي اللواء في يد أبي سيارة حتى اغتصبه منه قصي، فصار له ولأولاده من بعده.. ينظر: ديوان زهير: 60، ومعجم البلدان: 5: 185.

ص: 245

ولكنَّا خُلقنا إذ خُلقنا لنا الحَبَرَات والمِسْك الفَتِيت (1)

وقال مطرود بن كعب الخزاعي في رثاء عبدالمطلب، مشيداً بقريش:

يا أيها الرجل المحوّل رحلَه ألا نزلتَ بآل عبد مناف

هَبِلَتْك أمُّك لو نزلتَ عليهمُ ضَمِنوك من جوع ومن إقْراف

الآخذون العهد من آفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرياح تَنَاوَحت ورجال مكة مُسْنِتْون عِجَاف

والمُفْضِلون إذا الُمحُول ترادفت والقائلون هلمَّ للأضياف

والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يكون فقيرُهُم كالكافي (2)

ومن مآثر المكيين: كثرة آبار السَّقي التي احتفروها بمكة، وتنافُسهم في ذلك، وقد خلد الشعراء هذه المآثر في شعر كثير، نقف عند نماذج منه على النحو التالي:

ورد في المصادر: أن أول سقاية بمكة، كانت بئراً اسمها: (العَجُول)، احتفرها قصي بن كلاب، في دار أم هانى ء بنت أبي طالب، وكان العرب إذا استقوا منها ارتجزوا مادحين قُصياً بقولهم:

نَرْوي على العَجُول ثم ننطلق إن قُصيّاً قد وَفَّى وقد صدق

بالشِّبْعِ للحاج وَرِيٍّ مُنْطَبِق (3)

وفي المعنى نفسه: قال شاعرهم حذيفة بن غانم، مفتخراً بمآثر القرشيين:

وساقِي الحجيج ثم للخير هاشم وعبد مناف ذلك السيد الفهري

طَوَى زمزما عند المقام فأصبحت سقايته فخراً على كل ذي فخر (4)

__________________________________________________


1- المفصل في تاريخ العرب: 9: 710.
2- المصدر السابق 6: 369.
3- السيرة: 1: 147، وينظر: معجم البلدان: 4: 88.
4- السيرة: 1: 151، وينظر: معجم البلدان: 3: 149.

ص: 246

ومما جاء في بئر اسمها: (الغَمْر)، وهي لبني سهم، قول شاعرهم:

نحن حفرنا الغَمْر للجميع تَثُجُّ ماء أيَّمَا ثَجِيج (1)

وقالت سُبَيعة بنت عبد شمس مفتخرة ببئر احتفرها أهلُها، اسمها: (الطَّوِيُّ):

إن الطَّوِيَّ إذا ذكرتم ماءها صَوْبُ السحاب عذوبة وصفاء (2)

وللشاعرة خالدة بنت هاشم بن عبد مناف شعر في بئر اسمها: (سَجْلَة)، احتفرها أبوها هاشم، ثم وهبها ابنه أسد لعَدِي بن نوفل، ولم يكن لأسد عقب، منه قولها:

نحن وهبنا لعَدِيّ سَجْلَة تُروِي الحجيج زُغْلَة فزُغْلة (3)

وغيرها كثير.

وعلى هذا النحو عبّر شعراء ماقبل الإسلام عن تلك المكانة العظيمة لمكة ولمقدساتها، ولأهلها، في قلوب العرب جميعاً، وإن ما أوردناه في هذا العجالة لا يعدو أن يكون أمثلة مختارة من شعر كثير قيل في الموضوع، وهو في جملته واضح الدلالة على أن مكة المكرمة كانت قبل الإسلام محوراً أدبياً مهماً، يلتقي عنده الشعراء، والأدباء عموماً، في أوقات الشدة والرخاء، واليسر والعسر، على حد سواء، كما يبدو هذا الشعر أيضاً معبراً عما يكنه العرب لمكة والأماكن المقدسة، وساكنيها، من تقدير واحترام يصل إلى درجة التقديس

__________________________________________________


1- السيرة: 1: 148، وينظر: معجم البلدان: 4: 211.
2- المصدر السابق، وينظر: معجم البلدان 4: 51.
3- المصدر السابق، وينظر: معجم البلدان 4: 193.

ص: 247

والعبادة.

الخاتمة:

وختامُ هذا البحث: استخلاص لأهم النتائج التي توصل إليها في نقاط مختصرة، على النحو التالي:

1- إجماع العرب قبل الإسلام على احترام مكة، وكافة المقدسات بها.

2- لمكة هيبة عظيمة في قلوب الجبابرة والعصاة والمردة ومن في حكمهم.

3- كثرة الحِلف باللَّه والبيت والكعبة وما شابهها من المقدسات.

4- الاحتماء بمكة عند الشدائد، وفي حالات الخوف، وما شابه ذلك.

5- لا مكان في مكة لباغ أو سي ء النية نحو مكة ومقدساتها.

6- لقريش مكانة رفيعة عند العرب بصفة عامة.

7- تميز القرشيون بكثير من الذكاء والحكمة والعقل والمروءة والكرم، مما جعلهم في مكان الصدارة من العرب جميعاً، يلجأون إليهم كلما حزب بهم أمر، أو حدث بينهم شقاق، أو طلبوا الشهرة، وما شابه ذلك من أمور.

8- مكة سوق تجارية مشهورة، والمكيون أسياد هذا السوق.

9- كثرة آبار السَّقي بمكة القديمة، وتنافس المكيين في إقامتها، وإشاعتها للجميع، وتفاخرهم بذلك.

10- مكة محور مهم للشعر والأدب عموماً منذ القدم.

ص: 248

أثر مكة والحج في ثقافة وأدب شبه القارة الهندية

(1) مكانة مكة المكرمة في قلوب مسلمي شبه القارة الهندية

د. سمير عبدالحميد إبراهيم

مكة المكرمة، المدينة المقدسة، مكرمة بالبيت، مقدسة بالبيت، الذي هو أول بيت وضع للناس، البيت الحرام، بيت الإنسانية من لدن آدم إلى قيام الساعة، لقد كرم اللَّه مكة فجعلها مكاناً لهذا البيت.. «

إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة»

.. مكة المكرمة نالت العزة والفخر، ونالت مكانتها وثروتها بدعاء خليل اللَّه، فظلت بلداً آمناً، وظل رب الخلق يرزق أهله من الثمرات، فأهله هم أهل اللَّه، وهم مطعمون من جوع وآمنون من خوف.. فمنذ أذّن الخليل بالحج، انطلقت دعوته عبر الزمن من لحظة وقف على جبل أبي قبيس إلى أن تقوم الساعة.. وما من لحظة في ليل أو نهار إلا وهناك متجه إلى هذا البيت، أو من يستعد للقدوم إليه، أو من يتوجه إليه راكعاً وساجداً.

كم من صفحات كتبت عن فضائل هذا البلد! وكم من عالم كتب عن فضائل هذا البلد! ناهيك عما كتب عن البيت الحرام وعن كل ما حوله:

عن مقام إبراهيم، وعن الحطيم، وعن الميزاب، وعن زمزم، وعن غيرها.

اهتم علماء الهند بتشجيع

ص: 249

المسلمين على أداء فريضة الحج، وأكثر من هذا قاموا بتشجيعهم على الهجرة إلى مكة المكرمة طلباً للعلم، بل طلباً للموت والدفن في ترابها، وهكذا كتبوا المؤلفات الكثيرة عن فضل السكنى بمكة، وحب الرسول إياها (1)

وهكذا اهتم العلماء والأدباء في شبه القارة بمكة وبالأماكن المأثورة فيها، وحرصوا على زيارتها والكتابة عنها وبيان مشاعرهم وأحاسيسهم، فقد كان مولد الرسول الأمين في شعب أبي طالب المعروف اليوم بشعب علي، والذي تحول إلى مكتبة مكة، وهناك بيت السيدة خديجة الذي تحول إلى مدرسة البنات

لقد شجع العلماء في الهند المسلمين الهنود على الذهاب إلى مكة المكرمة، البلدة التي هي خير بلدة على وجه الأرض، وأحبها إلى اللَّه ورسوله، والتي يكتب لمن يصلي فيها ركعة واحدة مائة ألف صلاة، والتي يكتب لمن صام رمضان فيها مائة ألف شهر رمضان، والتي يكتب لمن تصدّق فيها بدرهم واحد مائة ألف ما يكتب لمن تصدّق في غيرها، والتي فيها شراب الأبرار وطعام طُعم..

وهكذا اهتم العلماء والأدباء في شبه القارة بمكة وبالأماكن المأثورة فيها، وحرصوا على زيارتها والكتابة عنها وبيان مشاعرهم وأحاسيسهم، فقد كان مولد الرسول الأمين في شعب أبي طالب المعروف اليوم بشعب علي، والذي تحول إلى مكتبة مكة، وهناك بيت السيدة خديجة الذي تحول إلى مدرسة البنات، وهناك غار حراء، وقمة جبل حراء، ومسجد الجن، ومسجد الشجرة، وغار ثور، ومسجد العقبة، ومسجد الفتح، ومسجد التنعيم، ومسجد ذي طوى في جرول، ومسجد النور، ومسجد الراية وغيرها (2).

__________________________________________________


1- ذكر عطاء بن كثير حديثاً رفعه إلى النبي صلى الله عليه و آله «المقام بمكة سعادة والخروج منها شقوة» الأرزقي 2: 22 وعن الزهري قال: إن النبي صلى الله عليه و آله قال لمكة: «إني لأعلم أنك حرم اللَّه وأمنه وأحب البلدان إلى اللَّه تعالى» الفاكهي 2: 261 وفضل الموت بمكة وفضل مقبرتها قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قُبر بمكة جاء آمناً يوم القيامة، ومن قبر بالمدينة كنت عليه شهيداً وله شافعاً» الفاكهي 3: 68.
2- أنظر: عاتق بن غيث البلادي، فضائل مكة وحرمة البيت الحرام: 232، دار مكة للنشر والتوزيع ط أولى 1410 ه، 1989 م.

ص: 250

(2) أثر مكة المكرمة على سلاطين شبه القارة وعلمائها:

غياث الدين أعظم شاه البنغالي:

كان بين الهند وأرض الحرمين علاقات خاصة ومتميزة، فقد كانت قلوب أهل الهند- حكاماً ومحكومين- تتوق إلى أرض الحرمين، كما كانوا يأملون في نيل الثواب من اللَّه بإكرامهم للمدينة المقدسة وأهلها، فها هو غياث الدين أعظم شاه، وهو من أعظم سلاطين ألياس شاه في البنغال وأشهرهم (1)يرسل الهبات والهدايا إلى

مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأهم من هذه الهبات والهدايا إرساله بمال لعمارة مدرستين: مدرسة بمكة ومدرسة بالمدينة وشراء عقار يوقف عليهما، وقد ذكر ذلك كثير من المؤرخين، وعلى رأسهم قطب الدين النهروالي (الذي سنذكره فيما بعد) في كتابه تاريخ مكة الذي سماه: الإعلام بأعلام بيت الحرام، لكنه اشتهر باسم تاريخ قطبي أو تاريخ مكة (2).

ومما ورد في تاريخ مكة: أن السلطان غياث الدين أعظم شاه قام بتأسيس مدرسة في مكة المكرمة وأقام رباطاً للمسافرين، كما جعل هناك وقفاً لأعمال الخير والرعاية (3)

وقد ذكر علي آزاد بلكرامي أيضاً- نقلًا عن تاريخ مكة- في كتابه (خزانة عامرة) المدرسة التي أقامها السلطان غياث الدين ولخص العبارة الأصلية هكذا:

«أقام المدرسة واشترى الأملاك غير المنقولة في وادي مُر مع أحد الأنهار والممتلكات وجعلها وقفاً على المدرسة».

أما قاضي القضاة تقي الدين الفاسي (متوفى 832 ه/ 1428 م) في كتابه شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام، فقد ذكر السلطان غياث الدين أيضاً (4).

وعلى كل حال، «كان ابتداء عمارة المدرسة بمكة المكرمة في شهر

__________________________________________________


1- حكم مدة 22 سنة 792 ه- 813 ه/ 1390 م- 1410 م وكان له إسهامات عظيمة في نشر الإسلام وتعاليمه، وتطبيق الشريعة الإسلامية وخاصة في المحاكم والقضاء- حاشية أنظر مهر علي تاريخ المسلمين في البنغال المجلد الأول أ ص 142، جامعة الإمام 1406 ه، 1985 م.
2- وقد قام ابن أخيه عبدالكريم بن مجد الدين متوفى 1014 ه، 1605 م باختصار تاريخ قطبي.وللكتاب أكثر من طبعة واحدة في مصر، وأخرى في سنة 1370 ه، 1950 م وهناك طبعة ألمانية في لايبزغ قديمة ترجع إلى عام 1857 م باهتمام المستشرق فردينند أو ستن فيلد- أنظر مقال للدكتور محمد إسحاق محاضر بقسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة دهاكه.
3- مهر علي، المصدر السابق: 198- 200.
4- مقال الدكتور إسحاق ص 127- 128.

ص: 251

رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، ولم تنقض هذه السنة حتى فرغ من عمارة سفلها وغالب علوها، وكملت عمارتها في النصف الأول من سنة أربع عشرة وثمانمائة، وفي جمادي الآخرة منها ابتدأ فيها التدريس في المذاهب الأربعة، وكان وقفها في الحرم من هذه

كان بين الهند وأرض الحرمين علاقات خاصة ومتميزة، فقد كانت قلوب أهل الهند- حكاماً ومحكومين- تتوق إلى أرض الحرمين، كما كانوا يأملون في نيل الثواب من اللَّه بإكرامهم للمدينة المقدسة وأهلها

السنة، وكان شراء الوقف و موضع المدرسة باثني عشر ألف مثقال ذهباً، وكان المتولي لشراء هذا الوقف والمدرسة خادم السلطان المذكور برقوق الحبشي، وهو الذي تولى تفرقة صدقة السلطان بمكة في سنة ثلاث عشرة و ثمائمائة، ووقف المذكور على مصالح مكة داراً مقابلة لها اشتراها بخمسمائة مثقال وعمّرها في سنة أربع عشرة...» (1).

وتذكر المصادر التاريخية (غلام علي آزاد بلكرامي في خزانه عامره) أن السلطان أرسل مع ياقوت المذكور ثلاثين ألف مثقال ذهباً لإصلاح مجرى مياه «عرفة»، وتسلم شريف مكة حسين بن عجلان المبلغ، لكنه استخدمه في إصلاح نهر آخر (نهر بازان) وخزانين للمياه في مكة.

السلطان محمود شاه الگجراتي:

يعد السلطان محمود شاه، الذي تولى الحكم سنة 863 ه- 1458 م وحكم خمسة وخمسين عاماً، من أشهر حكام الأسرة الحاكمة في الگجرات (2)، كان مسلماً ورعاً، أقام

صناعات كثيرة وازدهرت البلاد في عهده، قدم عليه أبوالقاسم بن أحمد المكي المعروف بابن فهد ومعه فتح الباري بخط أبيه وعمه، وقدّمه إليه فأكرمه (3)، وكان بينه وبين السلطان

قانصوه الغوري علاقات سياسية وعسكرية، وقد تولى من بعده ابنه مظفر الحليم الگجراتي، وكان من حفظة القرآن ومن المحدثين الفقهاء

__________________________________________________


1- أنظر النص في مهر علي مصدر سابق ص 143- 144.
2- تقع الگجرات شمال ولاية بومباي، وجنوبها يطل على بحر البحر، وأشهر مدنها أحمد آباد العاصمة التي أسسها أحمد شاه توفي 845 ه- 1442 م، كانت لها صلات تجارية وثقافية في الماضي مع البلاد العربية.
3- أنظر د. عبدالمنعم النمر، تاريخ الإسلام في الهند: 207، ط دار النشر للجامعات، بيروت.

ص: 252

وماهراً في فن الخط بجميع أنواعه فكتب مصحفين بيده، وأرسلهما إلى الحرمين الشريفين (1)، وقد كتبهما

بالخط الثلث بماء الذهب، وخص بهما إمام الحنفية، وجعل لهما وقفاً يصرف لمن يقوم على حفظهما، ومن يدعو له عند ختمهما، وللسقاء الذي يسقي القراء وللفراش كذلك، وكان محافظاً على الوضوء والصلاة في جماعة (2).

ومن برّه لأهل الحرمين، أنه كان يرسل لهم العطايا والأقمشة، كما أنشأ في مكة رباطاً ومدرسة وسبيلًا للماء، وجعل لهما وقفاً يرسل إلى مكة ينفق على المدرّسين والطلبة ومن يقيم في الرباط (3).

السلطان شير شاه السوري:

ومن حكام الهند أيضاً شير شاه السوري الذي جلس على عرش آكرا (بكاف فارسية) في رجب 947 ه- 1540 م (4)، وقد قام شير

شاه السوري بتخصيص سفينتين كبيرتين لنقل الحجاج كل عام مجاناً، وكان بيت المال يتحمل تكاليف سفر أولئك الحجاج (5)، كما كان حريصاً

على تأمين طريق الحج فقد قال: «لو ساعدني الزمان أبعث برسالة إلى عظيم الروم (يقصد السلطان العثماني) وأسأله أن يركب بعساكره إلى بلاد الفرس، ونركب نحن من هنا إلى تلك البلاد، فندفع بمساعدة ملك الروم شر الأوباش الذين يقطعون طريق الحجاج، ونحدث شارعاً آمناً إلى مكة المباركة»، لكن الأجل لم يمهله فمات قبل أن يحقق أمله (6).

الامبراطور جلال الدين أكبر:

وهكذا يفهم أن الأوربيين كانوا يعرقلون سفر الحجاج الهنود إلى مكة المكرمة، مما دفع الحكام المسلمين إلى التصدي لهم، ومن أمثلة هذه الحوادث ماقام به الامبراطور جلال الدين أكبر حين زحف على منطقة الگجرات سنة 980 ه/ 1572 م، ووصل إلى مدينة «سورت» (7)،

حيث أسس البرتغاليون بها مركزاً لتجارتهم وحاميةً من الجند تحميهم، وقد تصالح هؤلاء معه و عقدوا

__________________________________________________


1- المصدر نفسه: 208.
2- هكذا ذكر الآصفي في تاريخه، أنظر نزهة الخواطر 4: 356.
3- النمر، مصدر سابق: 211.
4- تمكن من حكم البلاد وهو كبير السن لكنه مع هذا قام بتطوير البلاد وتحديثها وشق الطريق وحفر القنوات، وأقام أربطة ومساجد على الطرق، وغرس الأشجار المثمرة للمسافرين، ولا يزال بعضها قائماً حتى اليوم.
5- عبد الحي: نزهة الخواطر 4: 155.
6- النمر: 252.
7- جاء في دائرة المعارف الإسلامية بالأردية أنّ سورت تعرف باسم باب مكة، اسم مدينة أطلق على عاصمةالمديرية وتقع عند مصب نهر بلتي عند الطرف الجنوبي للنهر على مسافة عشرة أميال من المصب، ذكرها الجغرافي الشهر بطليموس مات 150 م، ويعتقد أن المدينة الحالية أسست في بداية القرن 16 م، دائرة المعارف 11: 448.

ص: 253

معاهدة تعهدوا فيها بتيسير الحج إلى مكة، وعدم التعرض في البحر للحجاج المسلمين، وكانت مدينة «سورت» ميناء يبحر منه الحجاج، ولا يزال فيها للآن شارع يسمى «باب مكة» (1).

أما الامبراطور بهادر شاه ظفر- وكان أديباً وشاعراً- فهو آخر ملوك الدولة المغولية (البابرية) في شبه القارة، فقد نفاه الإنجليز من الهند إلى بورما بعد أن أحضروا إليه رؤوس أولاده داخل أطباق على صينية الطعام، فقد ظل يناجي ربه، ويبث ألمه إلى رسول اللَّه شعراً:

«يا رسول اللَّه! ماكانت أمنيتي إلا أن يكون بيتي هناك بجوارك..

لكنه أصبح في رنكون، وبقيت أمنياتي مدفونة في صدري..

يا رسول اللَّه!

كانت أمنيتي أن أمرغ عيني في تراب أعتابك..

ولكن ها أنا أتمرغ في تراب رنكون..

وبدلًا من أن أشرب من ماء زمزم ..

بقيت هنا أشرب الدموع الدامية ..

فهل تنجدني يا رسول اللَّه!

ولم يبق في حياتي سوى أيام معدودات».

وإذا ما تركنا الحكام إلى العلماء والدعاة، لاحظنا أن مكة المكرمة، كانت تبعث بعلمائها إلى شبه القارة، وكانت شبه القارة تعيدهم إليها تارة، أو ترد بإرسال علمائها إلى مكة تارة أخرى، ونسوق هنا مثالين أو أكثر:

أسرة مولانا أبي الكلام آزاد بين مكة والهند:

أبو الكلام آزاد هو محي الدين أحمد، وآزاد هو تخلّصه أو اسمه الأدبي، أسرته من الهند والحجاز، فجده هو مولانا محمد هادي من أسرة كلها علم وورع وتقوى، ووالدة آزاد هي ابنة أخت الشيخ محمد بن طاهر مفتي المدينة المنورة، وكان والده مولانا خير الدين قد قدم إلى مكة المكرمة وعاش فيها، ثم تزوج من ابنة هذه الأسرة التي تنتمي إلى

__________________________________________________


1- النمر، د. عبدالمنعم تاريخ الإسلام في الهند، بيروت، المؤسسة الجامعية 1401 ه- 1981 م ص 268.

ص: 254

المدينة المنورة.

ويُذكر أنه حين توفى جد مولانا آزاد لأبيه، وترك ابنه «خير الدين» والد آزاد صغيراً، كفله جده لأمه ورباه تربية دينية، لكن الجد لم يطق المقام في دهلي وهو يرى أشلاء الدولة الإسلامية تتمزق، والإنجليز يتحكمون في كل شي ء فاستقر رأيه على الهجرة بأسرته إلى مكة المكرمة، ليقضي فيها بقية حياته بجوار البيت الحرام.. وحين وصل إلى بهوبال في وسط الهند متجهاً إلى بومباي ليستقل الباخرة إلى جدة، استوقفته أميرة بهوبال «سكندر جهان بيغم» (1)

استوقفته وأبقته نحو سنتين، لكنه توفى في بومباي، فواصل حفيده- ابن بنته والد آزاد- الرحلة إلى مكة المكرمة مع الأسرة، وكان في الخامسة والعشرين، وفي مكة بنى له داراً وتزوج- كما يذكر آزاد في مذكراته- من ابنة أحد علماء المدينة المعروفين وهو الشيخ محمد طاهر الوطري (2)،

وفي سنة 1306 ه- 1888 م ولد أبو الكلام آزاد الذي سماه أبواه محي الدين في محلة «قدوه» المتصلة بباب السلام بالحرم المكي، وكان أصغر أخوته وأخواته الخمس.

وهكذا ولد آزاد من أم حجازية وأب هندي تعرّب، فقد مكث والده في مكة نحو ثلاثين عاماً (3)، وكان

عالماً جليلًا ورجلًا تقياً ورعاً، له أثره وشهرته في مكة المكرمة وفي الهند وغيرها، وقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية الأردية (4) أنه كان له

مريدون في بومباي وكلكتا ورنكون، وأنّه كان يسافر كثيراً إلى الهند.

__________________________________________________


1- وهي إحدى أربع أميرات تولين الحكم في هذه الإمارة، وتولت الحكم بعدها شاهجهان بيغم التي تزوجت من العالم المعروف صديق حسن خان، وقد كتبت سكندر بيغم عن رحلتها للحج كتاباً بالأردية، ترجم إلى الإنجليزية، وكتب عنه الدكتور أحمد عبد الرحيم نصر أستاذ بقسم الاجتماع الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، ورقة قدمها في ندوة حج العام الماضي بعنوان «كتابات ورحلات النساء للحج دراسة في رحلة حج نواب اسكندر بيجوم بهوبهال 1220 ه/ 1864 م».
2- أنظر كتاب، الصفحات الأولى.
3- الدكتور عبدالمنعم النمر أبو الكلام آزاد: 63.
4- دائرة المعارف الإسلامية بالأردية، المجلد الأول: 99.

ص: 255

اشتهر مولانا خير الدين بحهوده في جمع الأموال التي أسهمت في ترميم نهر زبيدة سنة 1295 ه/ 1878 م (1).

فصّل إبراهيم باشا في رحلته «مرآة الحرمين» الحديث عن نهر زبيدة، كما كتب عنه مولانا عبد المعبود في كتابه تاريخ مكة المكرمة (بالأردية)، ويذكر أبوالكلام آزاد «أن أباه حين كان في مكة لم تكن المياه تأتي أبداً في نهر زبيدة، ولو حدث وجرت فهي قليلة جداً، وكان عسكر شريف مكة يجلسون عليه يبيعون الماء بأسعار غالية، وفي تلك السنة انقطعت المياه تماماً في الحج وهلك آلاف الناس، وقد رأى والدي هذا المنظر بنفسه وقرر أن يصلح من شأن هذا الأمر من أجل موسم الحج القادم، وكان قد لفت نظر سلطان تركيا لهذا الأمر لكنه لم يجد منه أذناً صاغيةً، ولهذا بدأ يخاطب الناس في الهند، فطلب من صديقين له هما شهبندر التجار حاجي عبد الواحد وحاجي زكريا العون، فقدّما آلاف الروبيات، وقدم نواب الهند ورؤساؤها أيضاً المعونات، ومن حسن الحظ أن نواب كلب علي خان ونواب عبدالغني كانا ذاهبين للحج في تلك السنة، فذهب الوالد إليهم فتبرعا بأموال كثيرة.. كان هذا سنة 1289 ه./ 1873 م، وقام الوالد بطبع نشرات بالعربية والأردية أرسلها إلى مصر والهند.. ولم تمض عدة أشهر حتى قدم المهندسون الهنود (عددهم 8)، كما انتبهت الحكومة التركية وأرسلت مهندسين مصريين..».

وهكذا بدأ العمل في تطهير نهر زبيدة بعد أن شكل مولانا خير الدين لجنة من سبعة أشخاص تعمل تحت إشراف شريف مكة، وتم إصلاح جزء كبير من النهر لدرجة أن مشكلة المياه انتهت سنة 1905 م، وقد منحت الحكومة التركية مولانا خير الدين وساماً (الدمغة المجيدي من الدرجة الأولى).

وبينما تذكر دائرة المعارف الإسلامية الأردية أن أبا الكلام آزاد سافر وعمره عشر سنوات مع والديه

__________________________________________________


1- أنظر تفصيل ذلك في مقال الطاف علي قريشي بعنوان نهر زبيدة، فكر ونظر، اكتوبر- ديسمبر 1982 م، محرم ربيع الأول 1406 ه، إدارة تحقيق اسلامي إسلام آباد، وأنظر أيضاً ما جاء في كتاب الدكتور النمر أبو الكلام آزاد: 142 وما بعدها، وهذا ملخص ما ورد في المصدرين السابقين.

ص: 256

إلى كلكتا، التي ذهب إليها أبوه بناءً على رغبة مريديه وأحبابه، حيث توفي هناك عام 1907 م، وكان أبو الكلام آزاد وقتها يتكلم الأردية «المكسرة»، فقد توفيت والدته بعد وصوله كلكتا بسنة واحدة... يذكر الدكتور النمر أنه عاد إلى الهند بعد سنتين من ولادته، مستشهداً بما جاء في كتاب «الهند تكسب حريتها» لآزاد، وأشار الدكتور النمر نفسه إلى أن بعض المراجع الهندية الرسمية، تشير إلى أنه غادر مكة مع والده عام 1898 م (1).

كما ينقل الدكتور النمر عن آزاد قوله: «وكان الداعي إلى عودته (أي والده) أنه سقط مرة في «جدة» فانكسرت ساقه ولم يجد من يرجعها إلى استقامتها، فأشار عليه أصدقاؤه بأن أطباء كلكتا يستطيعون علاجه..

فسافر للعلاج وكان عازماً على الرجوع إلى مكة بعد الانتهاء منه، لكن أتباعه ومريديه ألحوا عليه بالبقاء، ولم يدعوه يرجع إلى مكة..

وتوفيت والدتي بعد قدومنا كلكتا بسنة (أي عام 1891 م) ودفنت في ترابها» (2).

صبي مكة يطوّر لغة صحافة الهند:

درس أبو الكلام آزاد على يد أبيه مختصرات في كل علم، وبدأ قول الشعر وهو في الحادية عشر من عمره، ثم بدأ في نشر مقالات نثرية، وفي سنة 1903 م أصدر مجلة شهرية بعنوان «لسان الصدق»، وقد ألقى أول خطاب وعمره اثنا عشر عاماً، وقد ألقى خطاباً في جمعية حماية الإسلام بلاهور سنة 1904 م نال استحسان الجميع، وتعجب مولانا شبلي النعماني وأديب الأردية حالي، حين التقيا بهذا الفتى الذي هو مدير تحرير لسان الصدق... لقد شكلت نشأته في مكة المكرمة شخصيته العظيمة.

أصدر بعد ذلك مجلة الهلال الأسبوعية، فصارت مجلة فريدة في عموم الهند، ويذكر مولانا عبد الماجد الدريابادي أن الهلال «طلعت في سماء كلكتا سنة 1912 م في الغالب حين استقر آزاد في كلكتا، لقد بدل آزاد

__________________________________________________


1- أنظر د. النمر، أبو الكلام آزاد: 63.
2- المصدر نفسه: 63.

ص: 257

دنيا الصحافة، قلباً وقالباً، شكلًا ومضموناً، فاختلفت صحافته عن صحافة معاصريه، بإصدار هذه الصحيفة الأسبوعية التي سماها الهلال، وبالإضافة إلى الأسلوب، فقد جعلها صحيفة حية، مطبوعة على ورق جميل، ومحلاة بالصور الرائعة، وفي صفحة الغلاف الملونة كتب اسم المحرّر وهكذا: أحمد المكنى بأبي الكلام الدهلوي «ويذكر مولانا عبد الماجد أنهم ظلوا يبحثون في المعاجم والقواميس عن النطق الصحيح لكلمة المكنى وعن معناها أيضاً» (1).

كانت نشأة آزاد في مكة المكرمة وتعلقه بلغة أمه اللغة العربية ذا أثر واضح على أسلوبه منذ البداية، وهكذا بدأ يدخل في لغة الصحافة التراكيب والتعبيرات العربية، ويجبر غيره على فهمها ومحاولة استخدامها، مما أثرى اللغة الأردية بتراكيب جديدة، فبدلًا من اديتر (اللفظ الإنجليزي) استخدم مدير مسؤول، كما استخدم محرر خصوصي، ورئيس قلم تحرير، واستخدم كلمة مجلة بدلًا من جريدة، واستخدم التركيب «بريد افرنك» بدلًا من «ولايتي داك» وهو التركيب الأردي المفهوم، واستخدم التركيب «محير العقول» بدلًا من التركيب الفارسي «حيرت انگيز»..

ويذكر مولانا عبد الماجد أن أبا الكلام كان يطلع على القراء كل أسبوع بتعبيرات جديدة ومصطلحات لم يسمعوا عنها، وبتشبيهات وتراكيب جديدة، والعجيب أنّها كانت تظهر على صفحات جريدته، فتصبح على الفور عملة رائجة بين جميع الأدباء.. لقد اعترف الجميع بعد ظهور الهلال بأن أبا الكلام آزاد هو الآن مولانا أبو الكلام آزاد، فقد صار كل بيت يلهث وراء الحصول على نسخة من الهلال (2).

شارك مولانا آزاد في حركة تحرير الهند وفي حركة الخلافة وكان رئيساً لها، وألقى خطبة عن «مسألة الخلافة وجزيرة العرب»، وتعرض للسجن، ودافع عن نفسه في بيان عرف باسم: القول الفيصل، نشر في

__________________________________________________


1- آئينة أبو الكلام آزاد، مجموعة مقالات رتبها عتيق صديقي، انجمن ترقي اردو هند فرع دهلي، ط أولى نوفمبر 1976 م، مقال مولانا عبد الماجد بعنوان مولانا آزاد، جند يادين، أي بعض الذكريات عن مولانا آزاد: 50، وما بعدها.
2- المصدر السابق: 51.

ص: 258

مطبعة المنار عام 1341 هجرية باسم ثورة الهند السياسية، وأصدر- ولعدة أشهر (إبريل 1923 م- يونيو 1924 م)- باللغة العربية «الجامعة» مجلة نصف شهرية، ومن مؤلفاته المرأة المسلمة، ومسألة خلافت وجزيرة العرب، وجامع الشواهد عن دخول غير المسلمين المساجد، وترجمان القرآن 3 مجلدات، وغبار خاطر، ومكاتيب، والهند تكسب حريتها وغيرها (1).

عبد اللَّه السندي في مكة:

يصعب حصر علماء شبه القارة الذين جذبتهم مكة المكرمة إلى أرضها، لهذا نكتفي بالإشارة إلى بعض من ذاعت شهرتهم، وهناك كثيرون لا يسمح المجال لذكرهم أيضاً، ولا يقلل هذا من قدرهم، فعبد اللَّه السندي ولد في أسرة سيخية في قرية جياتوالي بالجيم المثلثة مديرية سيالكوت في إقليم البنجاب (باكستان) في محرم عام 1289 ه/ مارس 1872 م، كفله أعمامه بعد وفاة أبيه قبل مولده بأربعة أشهر، وكانوا يعيشون في جام بور مركز ديره غازي خان (باكستان)، وهناك طالع كتاباً بقلم راهب هندوسي أسلم حديثاً بعنوان «تحفة الهند»، فشرح اللَّه قلبه للإسلام، فودع أهله ووصل إلى إقليم السند حيث أعلن إسلامه على يد أحد شيوخ السند الكبار (حافظ محمّد صديقي) وتسمى بعبد اللَّه، وقد كتب سيرة حياته بنفسه، بعد أن هاجر إلى مكة المكرمة، وأثناء إقامته فيها، وذكر أنه اعتبر شيخه والده، والسند موطنه، ولهذا سمى نفسه بالسندي.

درس عبد اللَّه السندي في ديوبند، وبناء على طلب من شيخ الهند مولانا محمود الحسم عمل في ديوبند لأربع سنوات منذ سنة 1327 ه، 1909 م وانتقل بعدها إلى دهلي حيث أسس نظارة المعارف، ثم سافر إلى كابول، ومنها إلى تركيا حيث قضى ثلاث سنوات، وقدم إلى مكة المكرمة سنة 1345 ه، 1926 م، وظل في مكة نحو اثنا عشر عاماً، فقد عاد سنة 1938 م لينهمك في العمل

__________________________________________________


1- أنظر أبو سعيد بزمي، مولانا آزاد اقبال اكيدمي لاهور مكايب شبلي جلد 1- 2 اعظم كره 1927، وآئينة أبوالكلام، آزاد، رتبها عتيق صديقي، ط أولى، دهلي 1967 م، وبالعربية سمير عبدالحميد، الأدب الأردي الإسلامي، والنمر، أبو الكلام آزاد، ط القاهرة.

ص: 259

السياسي إلى أن وافته المنية سنة 1944 م، ودفن في خان بور بالبنجاب.

ويذكر أنه في مكة المكرمة قام بالإشراف على طباعة كتاب شاه ولي اللَّه «المستوي من أحاديث الموطأ»، وفي مكة المكرمة أيضاً قام بكتابة التفسير الذي أملاه عليه العالم الروسي التركي اللاجى ء إلى مكة موسى جار اللَّه (1870 م- 1949 م) وهو تفسير القرآن، باللغة العربية، فقد كتب عبد اللَّه السندي:

«ما كان يقوله بالعربية، كنت أقوم بكتابته، فقمت بكتابة ألف وأربعمائة صفحة في مائة وخمسين يوماً» (1).

ومن مؤلفات عبد اللَّه السندي العربية: التمهيد لأئمة التجويد، وهو يتضمن أقوال شاه ولي اللَّه الدهلوي وأولاده وأحفاده من بعده (2).

محمد يوسف الكاندهلوي في مكة:

هذا عالم آخر يدعى الشيخ محمد يوسف بن الشيخ محمد إلياس، ولد في دهلي في جمادي سنة 1335 ه. مارس 1917 م، وهو ينسب إلى «كانده» التي تقع في غربي الولاية الشمالية بمديرية مظفر آباد بالهند، حفظ القرآن وهو في العاشرة من عمره، وأتم دراسة الحديث في مدرسة مظاهر العلوم بسهارنبور.

استخلف الشيخ محمد إلياس ولده الشيخ محمد يوسف وفوض إليه أمر الدعوة والتبليغ في رجب 1362 هجرية، والشيخ محمد إلياس هو مؤسس جماعة التبليغ، وقد حرص الشيخ محمد يوسف على أن يرى عمل الدعوة والتبليغ ينتشر في مهد الإسلام، مكة المكرمة، وينال من أهلها إقبالًا وعنايةً، وكان يرى أن هذه الدعوة إذا تأصلت جذورها في هذه الأرض المقدسة، تستطيع أن تنتشر في العالم كله عن طريق المسلمين الذين يجتمعون فيها من جميع أنحاء العالم، لتأدية فريضة الحج كل عام، ولهذا هاجر إلى مكة وبدأ عمله في الحجاج القادمين إلى مكة من بومباي وكراتشي، حيث رافقهم،

__________________________________________________


1- ماهنامه الرحيم حيدر آباد، نوفمبر 1964 م، نقلًا عن دائرة المعارف الإسلامية الأردية 12: 984.
2- أنظر محمد سرور، مولانا عبد اللَّه السندي، لاهور 1942 م، وأيضاً عبدالرشيد ارشد، بيس برى مسلمان: 402- 412، لاهور 1969 م، وأيضاً خطبات ومقالات مولانا عبد اللَّه السندي، رتبه محمد سرور، لاهور 1970 م.

ص: 260

ووصل إلى مكة المكرمة، وهنا أخذ يزور الحجاج ويبعث العلماء فيهم، وهكذا أسست جماعات التبليغ، وأقيمت حلقات في الحرمين الشريفين.

وقد قدم للحج ثلاث مرات، قدم مع والده سنة 1356 هجرية، ومع الشيخ حسين أحمد مدني سنة 1374 هجرية، وجاء قبل وفاته بعام سنة 1383 هجرية (1964 م) حين ورد إلى مكة مع جماعة كبيرة، وطاف مكة المكرمة وما حولها من قرى، وقد نفخ في عبادة الحج روحاً جديدة، وجعلها وسيلة الدعوة والتبليغ، وعقد اجتماعات كبرى حاشدة بين الناس.

وكان يرى أن المحاضرات ودراسة الكتب لا تكفيان وحدهما إذ لابد من تغيير الباطن وتزكية الأخلاق والأعمال.

من مؤلفاته: حياة الصحابة، وقد طبع في بيروت، دار صعب، وهو يدل على مقدار تبحره في السيرة النبوية وأحوال الصحابة، وهو ذخيرة نادرة (1).

قطب الدين النهروالي:

سبقت الإشارة إليه من قبل، ونذكره هنا رغم تقدمه على من ذكرنا تاريخياً، وهو المفتي قطب الدين محمد بن رحمة النهروالي، ولد سنة 917 ه/ 1512 م في لاهور، إلا أن أجداده كانوا من مركز «نهرواله» بمحافظة الگجرات، ولهذا يقال له: «النهروالي» نسبة إلى موطن أجداده، وكان قد قدم إلى مكة المكرمة مع والده وهو طفل، فتتلمذ على يد العلماء المشهورين في مكة آنذاك، ونال من المعارف والعلوم أكثرها، وبرع في الأدب العربي والحديث والفقه والتفسير والتاريخ والبلاغة، ودليل ذلك كتابه البرق اليماني في فتح العثماني، عينه السلطان العثماني ناظراً لشعبة الأمور الدينية في مكة المكرمة، ثم صار مفتياً للبلد الحرام ومدرساً للمدرسة السليمانية، وقد توفي في ربيع الثاني 990 ه/ 1582 م وكان قد أكمل كتابه تاريخ مكة سنة 985 هجرية كما ذكرنا من قبل (2).

__________________________________________________


1- أنظر سيرة مولانا محمد يوسف لمحمد الثاني الحسني، نقله إلى العربية سعيد الأعظمي الندوي.
2- أنظر مقال دكتور محمد إسحاق: 118.

ص: 261

حكيم مولوي إرادت حسين:

حج للمرة الثانية سنة 1281 هجرية، وظل مقيماً في مكة ثلاث عشرة سنة، قدم خلالها خدمات جليلة لأهل مكة وللحجاج، وقد ذكر مولانا أبو الفتح محمد عبدالرحيم الزبيري الهاشمي الصادقبوري (متوفى 1341 هجرية) في كتابه «الدر المنثور» المعروف باسم تذكرة صادقة «أن حكيم مولوي إرادت حسين جمع من الحجاج التبرعات، وطهّر نهر مصر، كما قام بتوسيع الطريق المجاور لرمي الجمرات في منى وكان ضيقاً، ولم يكن هناك طريق للخروج بعد الرمي مما كان يسبب مشاكل أثناء عودتهم، وبخاصة للضعفاء والعجزة، فقام مولوي إرادت حسين وجمع التبرعات من الباشاوات والشرفاء، وحفر الهضاب هناك، وقام بتوسيع الشارع، وشق طريقاً خلف الجمرات حتى يأتي الناس من ناحية، فيرمون الجمار، ثم يمضون من ناحية أخرى، ولا يحدث الزحام في العودة» (1).

مكة وحركة الإصلاح الديني في شبه القارة:

1- حركة تيتو مير.

2- الحركة الفرائضية.

3- جماعة المجاهدين.

حركة تيتو مير الإصلاحية في البنغال:

قام أحد علماء البنغال ويدعى مير نثار علي الذي اشتهر باسم تيتو مير بحركة إصلاحية في البنغال، للتخلص من ظلم الإقطاع الغربي والهندوسي، وكانت هذه الحركة الإصلاحية قصيرة ما بين 1827 م وسنة 1831 م (2).

وأهمية الإشارة إلى هذه الحركة في بحثنا هذا ترجع إلى ارتباط صاحبها بمكة المكرمة، فقد عقد العزم على القدوم إلى مكة للحج والاستزادة من التعليم الإسلامي، وربما وصل مكة سنة 1823 م (3)، ويذكر الدكتور

مهر علي أن المصادر تذكر أن تيتو مير وصل إلى مكة المكرمة بعد سنة واحدة من وصول سيد أحمد شهيد

__________________________________________________


1- الكتاب المذكور: 180، نقلًا عن الدكتور مقتدى حسن أزهري في مقال له بعنوان الدر المنثور، كاروان أدب، العدد الخامس، إبريل 1995 م.
2- أنظر مقال الدكتور معين الدين، ترجمة ثروت صولت إلى الأردية في مجلة فكر ونظر، عدد 8 مجلد 7 ذي الحجة 1389 ه- فبراير 1970 م، إدارة تحقيقات اسلامي إسلام آباد، بعنوان فرائضي تحريك، أي الحركة الفرائضية.
3- أنظر مهر علي، مجلد 2 من تاريخ المسلمين في البنغال: 250.

ص: 262

بريلوي زعيم حركة المجاهدين في الهند.

وقد عاد تيتو مير إلى كلكتا ربما سنة 1827 م واستقر في «حيدر بور» في مقاطعة «باراسات»، وبعد فترة قصيرة بدأ حركته الإصلاحية بين مسلمي المنطقة، فدعاهم إلى التمسك بالتوحيد والبعد عن الشرك والبدعة (1)، والبعد عن التفرقة بين

الناس داخل المجتمع طبقاً لمكانتهم العائلية، كذا عارض أيضاً ظلم ملاك الأراضي للفلاحين ودعا إلى رفض دفع الضرائب (2).

الحركة الفرائضية لحاجي شريعت اللَّه:

والحركة الفرائضية- أو كما تطلق عليها الموسوعة الإسلامية الأردية الجماعة الفرائضية- جماعة مسلمة في البنغال أسسها حاجي شريعت اللَّه (3)، ولد سنة 1781 م في

قرية تابعة لمركز ماداري بور بديرية فريد بور، درس القرآن الكريم وعلوم الدين على يد أستاذه الأول مولانا بشارت علي، وقد كانت سنة 1799 م نقطة تحول في حياته، حين رافق أستاذه مولانا بشارت علي إلى مكة (4)، وتشير دائرة المعارف

الإسلامية الأردية أنه قدم لأداء مناسك الحج حين كان عمره 17 سنة، حيث اشترك في حلقة الشيخ طاهر السنبل الشافعي المكي، وأقام بمكة حوالي عشرين عاماً، وطبقاً لبعض الروايات، سافر إلى وطنه مرة أو مرتين خلال تلك المدة، بينما يذكر الدكتور مهر علي أنه عاش ما يقرب من 16 سنة (1800 م- 1815 م) دارساً للقرآن والحديث والفقه

__________________________________________________


1- المصدر نفسه: 252.
2- لمزيد من التفاصيل أنظر ما كتبه الدكتور مهر علي: 271، وما بعدها.
3- مجلد 12 المادة المذكورة.
4- مهر علي 2: 405.

ص: 263

والعلوم الإسلامية الأخرى التي كانت تدرس في الحرمين الشريفين، وبرع في العربية وعلومها، وأنه درس على يد مولانا مراد البنغالي لمدة سنتين ثم بقي بعد ذلك تحت إشراف طاهر سنبل، أستاذ الحنفية، ومن أتباع الطريقة القادرية.

قبل عودته إلى موطنه زار القاهرة، حيث قضى هناك سنتين يدرس العلوم الإسلامية في جامعة الأزهر، ثم عاد إلى مسقط رأسه «فريد بور» سنة 1818 م، بينما تذكر دائرة المعارف الإسلامية أنه عاد سنة 1820 م.

وهكذا قضى شبابه والجزء المؤثر من حياته في مكة والمدينة مهد الإسلام ومركز الإسلام،... وحين رجع إلى موطنه نال شهرة كبيرة كعالم وتقي، ويحكى أنه تعرّض مرة لقطاع الطرق الذين سلبوه كل شي ء بما في ذلك بعض الأشياء التي حملها معه من مكة، وكانت عزيزة عليه، ومنها كتب ورسائل مهمة، إلا أن سلوكه الطيب جعل قطاع الطرق يتأثرون به، فيتوبون، ويتبعونه في عمل الخير.

وقد بدأ حاجي شريعت اللَّه بالتدريس وبالنصح والإرشاد في قرى بلاده في صمت لعدة سنوات، في فترة كان المزارعون المسلمون يعانون من سطوة ملاك الأراضي، والتجار الهندوس والإنجليز، كما لم يكن لهم نصيب من تعاليم الإسلام الصحيحة، فقد خلطوا دينهم الإسلامي بخرافات الهندوسية وبدعها، بحيث يصعب التمييز بين المسلم والهندوسي، فقام حاجي شريعت اللَّه بإيضاح مبادى ء الإسلام الصحيحة لهم، وبين لهم ما دخل الإسلام من شوائب وعقائد غير صحيحة، وبين لهم أن سوء حالهم إنما هو بسبب بعدهم عن التعاليم الصحيحة للإسلام.

لم تلق دعوته في البداية أذناً صاغية، فلم يكن من السهل على هؤلاء الناس ترك تلك التقاليد التي تغلغلت في نفوسهم منذ قرون، فقد كانوا يظنون أنها تقاليد الإسلام وتعاليمه ولهذا خالفوه مخالفة شديدة، وتعرض الرجل للسب والشتم (1)،

__________________________________________________


1- دائرة المعارف الإسلامية الأردية مجلد 12.

ص: 264

فشعر حاجي شريعت اللَّه أنه بحاجة إلى العودة إلى مكة المكرمة لاستشارة أستاذه، والحصول منه على إذن بالبدء علانية في حركته الإصلاحية (1)،

وهكذا عاد إلى مكة سنة 1819 م- 1820 م كما يقول الدكتور مهر علي، وكان قبل عودته إلى مكة قد تزوج وأنجب ولده محمد محسن (1819 م).

ويذكر الدكتور معين الدين أنّ هدفه من هذه الرحلة الخاصّة كان استشارة أستاذه فيما يقوم به من إصلاحات (2).

وعلى كل حال عاد حاجي شريعت اللَّه ليبدأ حركته الإصلاحية التي عرفت باسم «الحركة الفرائضية»، لأنه ركز كثيراً على أداء فرائض الإسلام، وأمر بالقضاء على ما يسمى بالشيخ والمريد، ورأى أن تكون العلاقة في مثل هذه الحالة كالعلاقة بين الأستاذ والتلميذ، وقد وجدت لحركته قبولًا بين الناس وبدأت تتسع، وتتخذ طابعاً اجتماعياً وسياسياً، فقد أوجدت تعاليم الإسلام الداعية إلى المساواة والأخوة والجرأة والشجاعة صدى في نفوس المزارعين البنغاليين، في وقت أعلن فيه حاجي شريعة اللَّه أن الهند دار حرب، وأن بها حكومة تقوم بإيقاع الظلم بالمسلمين ولهذا لا يجوز صلاة العيدين والجمعة هنا (3)، وذكرت

وثائق شركة الهند الشرقية أن الهندوس والإنجليز كانوا يشعرون بالرعب من أتباع الحركة الفرائضية.

وفي سنة 1831 م اتخذ الصراع شكلًا منظماً، مما دفع الحكومة إلى القبض على عدد كبير من أتباع الجماعة، ووجهت التهمة إلى حاجي شريعت اللَّه لكن صدر الحكم ببراءته، بعدها فضل الشيخ الانزواء في قريته والاستمرار في عملية الدعوة والتبليغ إلى أن توفي سنة 1840 م عن عمر يناهز التاسعة والخمسين (4).

تولى قيادة الحركة من بعده ابنه محمد محسن أو محسن الدين أحمد الذي اشتهر باسم دودهو ميان، ورغم أنه كان في العشرين أو الثانية والعشرين من عمره إلا أنه حقق مكانة بين أتباع الحركة بسرعة،

__________________________________________________


1- مهر علي ص 307.
2- د. معين الدين، فرائضي تحريك، ترجمة ثروت صولت، فكر ونظر، العدد 9، المجلّد 7، مارس 1970 م.
3- مهر علي: 314.
4- د. معين، فرائضي تحريك.

ص: 265

فالحركة التي اقتصرت في حياة والده على عدة مديريات ومراكز انتشرت الآن في جميع مناطق البنغال الشرقية.

وقد تعلم دودهو ميان على يد والده الذي أرسله عندما كان في الثانية عشرة من عمره إلى مكة المكرمة للمزيد من التعليم الإسلامي، فقضى الابن في مكة خمس سنوات، عاد بعدها إلى موطنه سنة 1837 م، بعد أن استدعاه والده لتقدّمه في السن (1)، وقد فصل الدكتور مهر علي

كيفية تنظيمه للحركة بعد وفاة والده (2) وصراعه مع ملاك

الأراضي (3)، ويذكر أن دودهو ميان

عاد مرة أخرى إلى مكة، وأثناء غيابه في بداية عام 1843 م بدأت الحكومة تهاجم أتباع الحركة للقضاء عليها (4).

وقد شعر الإنجليز أن أتباع الحركة الفرائضية يريدون إخراج الإنجليز من البنغال بعد أن جند دودهو ميان ثمانين ألف ناشط من أتباعه، ولهذا صدر الحكم ضد أتباع الحركة والقبض على دودهو ميان حين اندلعت حرب التحرير سنة 1857 م بعد مرضه الشديد، وتوفي في سبتمبر 1862 م عن عمر يناهز الثانية أو الثالثة والأربعين.

ومما يذكر أن الحركة الفرائضية تركت تأثيرها الواضح على مسلمي البنغال، فقد بدؤا يعتمدون على أنفسهم، وبثت فيهم الحمية الدينية وأوجدت بداخلهم عاطفة الجهاد ضد الظلم من أجل الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهكذا ظهرت في البنغال يقظة عامة لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يغفل عن ذكرها (5).

سيد أحمد شهيد وجماعة المجاهدين:

ولد سيد أحمد شهيد بن سيد محمد عرفان في صفر سنة 1201 ه./ نوفمبر 1786 م في راي بريلي (أوده)، ويقال: إن نسبه يصل إلى علي عليه السلام، اشتهر بقوته الجسدية غير العادية، بدأ بخدمة أهل الحي والجيران، ثم بدأ في خدمة الفقراء والمساكين، تعلم على يد

__________________________________________________


1- المصدر نفسه: 673.
2- مهر علي: 324.
3- مهر علي: 348، وما بعدها.
4- مهر علي: 335- 360.
5- أنظر عبد اللَّه ملك بنكالي، مسلمانون كي صد سال جد وجهد آزادي، 1757 م- 1857 م، لاهور 1967 م.

ص: 266

شاه عبد العزيز المحدث المشهور في دهلي، ثم أرسله شاه عبد العزيز إلى أخيه شاه عبد القادر (1).

نظراً لسيطرة الإفرنج على الطرق البحرية أفتى بعض علماء الهند بسقوط فريضة الحج، لكن علماء الحق عارضوا الفتوى، وهكذا أعد سيد أحمد شهيد العدة مع أربعمائة من رفاقه للسفر إلى مكة، في شوال 1236 ه/ يوليو 1821 م وقد انضم إليه عدد كبير، ووصل عدد القافلة نحو 700 حاج، وقد كتب رسائل إلى جماعته في دهلي، وسهارنبور وغيرها، جاء فيها: (نحن ذاهبون لأداء فريضة الحج، فعلى من ينوي الحج أن يرافقنا، لكن ليعلم الجميع أننا لا نملك مالًا ولا متاعاً، لكننا متوكلون على اللَّه وحده، نعتمد على اللَّه، وعلى جهدنا وما نكسب من عمل نؤجر عليه، أما النساء والضعفاء فيكفلهم القادرون منا».

بدأت الرحلة إلى مكة من كلكتا، ومنها إلى بومباي، وصولًا إلى جدة.

وكان سيد أحمد شهيد يفكر في الهجرة من الهند «دار الحرب» والذهاب إلى مكة المكرمة والبقاء في الحرمين الشريفين دون عودة، إلا أنه فكر في الواجب المقدس، وهو رفع كلمة اللَّه، وتطبيق السنة النبوية والقضاء على البدعة وأنواع الشرك المختلفة.

ويرى معظم الباحثين أن سيد أحمد شهيد قد طور اتجاهه غير السياسي أو المفهوم غير السياسي للجهاد حين كان في مكة يؤدي فريضة الحج.

فقد تشجع من خلال النجاح المشهود المتمثل في اصطحاب مئات الناس إلى الحج، فعرض عليهم الجهاد مثلما عرض عليهم الحج من زاوية دينية خالصة، مؤكداً على الاعتماد الكامل على اللَّه.

والحقيقة أن سيد أحمد شهيد كان قد بدأ ما أطلق عليه البعض «الطريقة المحمدية» وذلك سنة 1818 م من دهلي، بمباركة شاه عبد العزيز، وكانت بدايتها عملية إصلاح

__________________________________________________


1- دائرة المعارف الإسلامية الأردية، المجلد 2: 137.

ص: 267

ديني تحولت فيما بعد إلى حركة اجتماعية سياسية، تحولت بعد حين وبعد العودة من مكة المكرمة إلى حركة جهاد ضد السيخ، ولهذا أطلق عليها حركة الجهاد «تحريك مجاهدين»، بينما أطلقت الإرادة البريطانية في الهند والكتّاب الأوروبيون عليها اسم الحركة الوهابية الهندية:

، نظراً لشكهم في نواياها السياسية من ناحية، ولوجود تماثل بينها، وبين حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ناحية أخرى (1).

وصلت القافلة بالقرب من مكة في 29 شعبان 1237 ه، فدخلت من طريق أعلى مكة عملًا بسنة النبي، ثم دخلت الحرم من باب السلام، وقد نزلت القافلة بالقرب من باب العمرة في بيوت استأجروها، وكان الإمام مع رفاقه من العلماء يجتمعون بعلماء مكة وشيوخها.. وفي يوم العيد التقوا من علماء مكة بالشيخ المحدث عمر عبد الرسول الحنفي، ووفد عدد كبير من العلماء والشيوخ على الإمام، ومن هؤلاء الشيخ مصطفى إمام الحنفية وخواجه ألماس الهندي، وخواجه سرا شيخ الدين والشيخ شمس الدين شطا، وأحمد باشا، وحسن أفندي نائب سلطان مصر، وكذلك أحد كبار مسلمي البلغار (يمتلك مطبعة في بلغاريا) والشيخ عبد اللَّه سراج المكي، وكذا وزير سلطان المغرب ويدعى سيد محمد الذي اشتهر بحفظه لصحيح البخاري مع شرح القسطلاني، وكذا الشيخ إدريس ومحمد علي الهندي، وملا بخاري، بالإضافة إلى مفتي الشافعية الشيخ صالح الشافعي ومفتي الحنفية وواعظها الشيخ علي.

وبناء على رجاء من الشيخ حسن أفندي قام مولانا عبدالحي ومولانا محمد إسماعيل بترجمة كتاب الإمام «الصراط المستقيم» إلى اللغة العربية، وحصل على نسخ منه العلماء الذين وفدوا على مقر إقامة الإمام (2).

وقد حل رمضان على القافلة للمرة الثاني وهي في مكة فقضت

__________________________________________________


1- أنظر: 324 بحث ل: Islamic Research Inst .Pakistan .against the Sikhs .Islamic Studies vol .VII Dec .3691 no 4 Journal of Muin ud din Ahmad Khan ,Sayyid Ahmed Shahid ,s Campanion
2- أنظر معين الدين أحمد خان، مقال في 1967، 4 Islamic Studies Review No، بعنوان الطريقة المحمدية، دراسة تحليلية: 375.

ص: 268

القافلة رمضان في مكة، وفي منتصف شوال استعدت القافلة لرحلة العودة إلى الهند، وفي غرة ذي القعدة سنة 1238 ه/ العاشر من يوليو 1823 م طاف سيد أحمد شهيد مع رفاقه طواف الوداع.. لتتجه القافلة بعد ذلك إلى الهند حيث بدأ الشيخ برنامجه الذي فكر فيه طويلًا، برنامج الجهاد وذلك لتأسيس حكم إسلامي في شبه القارة يتفق والمبادى ء الإسلامية.

وفي نهاية 1243 ه/ 1826 م بدأ الجهاد الفعلي ضد السيخ في منطقة البنجاب، وقد انضم إليه عدد كبير جداً من كبار علماء الهند من بينهم مولانا شاه إسماعيل شهيد حفيد شاه ولي اللَّه محدث الدهلوي (1)، وقد

استشهد في ذي القعدة 1246 ه- مايو 1831 م في معركة بالاكوت، وكان قد قدم للحج أواخر شوال 1236 ه. (مع والدته وأخته) واستمر بأرض الحرمين حتى أواخر شعبان 1239 ه.

وكان برفقة سيد أحمد شهيد، ومنهم أيضاً مولوي عبدالحي الذي اشترك مع شاه إسماعيل في الجهاد وفي تأليف كتاب صراط مستقيم بالفارسية، وقام بترجمته إلى العربية أثناء الإقامة في مكة المكرمة، ومن الأدباء شاعر الأردية حكيم مؤمن الذي نظم الكثير من الأشعار بالفارسية والأردية عن جهاد سيد أحمد شهيد ورفاقه (مثنوي جهادية)، والأديب محمد جعفر تهانسيري الذي أرخ لحركة الجهاد.

مكة المكرمة في أدب شبه القارة:

أ. في النثر الفني.

ب. في الشعر.

ج. الرمزية والدلالات الشعرية.

لا شك أن أدباء شبه القارة الهندية عبروا عن مشاعرهم الجياشة، أثناء زيارتهم للأراضي المقدسة، ووجودهم في المدينة المقدسة حيث بيت اللَّه، ومهبط الوحي ومركز النور الذي أضاء ظلام الجهل، وقد زخرت مادة كتبهم ورحلاتهم بخاصة بالعناصر الأدبية فهي تصاغ بلغة أديبة في معظهما، ولغتهم في تناولهم للمدينة المقدسة، لغة رقيقة

__________________________________________________


1- دائرة المعارف الإسلامية بالأردية 2: 749.

ص: 269

المستوى عظيمة التأثير والإمتاع، على مستوى عال من الفن، والصياغة الأدبية، وكان للحج أثره في التأثير على أدباء شبه القارة الذين كتبوا مئات الكتب عن رحلاتهم إلى المدينة المقدسة وبلاد الحرمين (1) وأسهمت

هي الكتب في تطوير الأدب الأردي، وتنمية اللغة الأردية نفسها (2).

ومن الملاحظ أن أسلوب وصف الأحداث حتى لا يخلو من الإبداع الأدبي، عن طريق استخدام اللغة الجميلة المعبرة، وروح الدعابة، فالكاتب مفتاح الدين ظفر يصف منظر رمي الجمرات في رحلته المسماة «سفر مقدس» (3) أي الرحلة المقدسة

هكذا:

«حين بدأت أرمي بأول جمرة قائلًا: اللَّه أكبر.. إذا بحشد من الناس يدفعني فيلقي بي في الخلف.. بعيداً..

ووجدتني أذهب بعيداً جداً..

فتشجعت.. وتقدمت إلى الأمام، لكن الجمرات كانت تنهمر من عدد كبير من الحجاج، فأصابتني حصاة كبيرة الحجم، سقطت على رأسي، وبدت الحصوات كنجوم الليل، تتراقص أمام عيني، وبينما كنت أرمي بالجمرة الرابعة أو الخامسة إذا بحبشي ضخم الجثة، يضربني على رأسي بكوعه، وكأنه يدقني في الأرض، فتسمرت في مكاني وأنا أتأوه من الألم...!».

والأديب الصحافي ألطاف حسين قريشي يصف في رحلته «ومضت قافلة القلب» تجربته في حج عام 1386 ه/ 1967 م (4)، وأسلوبه

الوصفي فيه إبداع أدبي مؤثر:

__________________________________________________


1- انظر قائمة أعدها ملحقاً لبحثه الذي قدمه في ندوة حج العام الماضي عن أدب الرحلة في شبه القارة الهندية.
2- سمير نوح، الجزيرة العربية في أدب الرحلة الأردي: 121 وما بعدها.
3- مكتبة رشيدية لاهور سنة 1966 م: 192.
4- نشرها في حلقات في مجلته الأدبيّة اردو دائجست، يونيو 1967 م، وما بعدها.

ص: 270

«خلفنا وراءنا مدينة الأمل، ودخلنا في ظل الجبال الوعرة، التي كانت أشعة الشمس الفضية الهادئة تنعكس عليها... لا أدري لماذا تخشى الظلمةُ النور؟! فلو انطلقت شرارة واحدة، ترى الظلمة انقشعت من حولها مضطربة..».

«.. كان في الخيمة عشرون أو أكثر، سلمت عليهم وجلست في ناحية من الخيمة كانت هناك سجادة من النوع الثمين، وكانت الوجوه الوردية تبدو ملامحها وسط الضوء الخافت.. كان هناك حاج يجلس في الجانب الشمالي مستغرقاً في قراءة كتاب. كان عذب الصوت.. وأمامه جلس رجلان يستمعان إليه وينصتان بكل حواسهما، ثم رقدا بالقرب منه، أما بقية الناس فقد انشغلوا بأمور لاهية.. وكانت ضحكاتهم، وقهقهاتهم تسمع من بعيد، كانت في ضحكاتهم قوة الحياة لكنها فتقت جراح روحي وكأنها ضرب سياط مستمر...».

والوصف العادي لمكة المكرمة، يتخذ لوناً آخر عند أدباء شبه القارة ففي كتاب الحج والزيارة لمحمد صابر جاء ما يلي:

«حين انبعث صدى الأذان من الحرم الشريف خرج الناس من كل صوب متجهين لأداء الصلاة، فترى الطرقات الواصلة بين البيوت والحرم وقد غصت بالناس، وبدا الجميع أمامك وكأنهم يهرولون.. في مكة لايشعر الإنسان بذرة من غربة، فالقلب يأنس الحواري والطرقات، وكأنه سكن هنا منذ سنوات..» (1).

ومن رحلات الحج التي وصل مستواها إلى مستوى أدبي رفيع رحلة سيد أبي الخير كشفي بعنوان «من الوطن إلى الوطن»، وهي كما قال الناقد والباحث أنور سديد (2)، دعاء

طويل ظل يخرج من أعماق قلب يبحث عن مرهم لمداواة صدمة أصابت الجسد الترابي، والأسلوب الأدبي يعبر عن مشاعر المؤلف في الديار المقدسة:

«هذا الطواف حول الكعبة كان سنة إبراهيمية.. كانت حلقة

__________________________________________________


1- سمير نوح، الجزيرة العربية في أدب الرحلة الأردية: 143.
2- أنور سديد، اردو أدب مين سفرنامه: 535.

ص: 271

السلاسل التي تقيدني تتحطم مع كل خطوة أخطوها، وحين كنت متوجهاً إلى حرم الكعبة كان نداء لبيك..

لبيك.. يرن في داخلي، كأنه يعلن عن ميلادي ووجودي، وشعرت كأنني تلميذجئت لأسجل حضوري هنا ...».

النثر الفني الممزوج بالشعر:

في رحلة الأديب الصحافي ماهر القادري (1) بعنوان قافلة الحجاز (2)،

نلاحظ روعة الأسلوب الأدبي، وقوة النثر الفني و تمازجه بشعر عدد من كبار الشعراء فضلًا عن شعر الأديب نفسه، فماهر القادري شاعر تهتز مشاعره، فينطلق لسانه بالشعر (3).

يقول مخاطباً قلبه:

«يا قلب! تمالك.. وتمسك!

نحن مقبلون على مهبط الوحي

فتمالك وتمسك!

يا قلبي الضعيف! افرح واسعد

فرب العالمين يعرف أنك مكلوم

تمالك وتمسك

وأنظر سحب الرحمة تلوح في الأفق

ستسقط أمطارها في يوم معلوم

فتمالك وتمسك!»

ثم يودع مكة المكرمة فيقول:

«جاء بي إلى الحفل أمنية رؤية الحبيب

ها أنا أترك الحفل

وأحمل بداخلي

أمنية العودة

لرؤية الحبيب».

«... كنت أقف.. أتطلع بعيون كلها حسرات إلى أرض الجزيرة العربية، أرض الحرمين الشريفين.. و تذكرت ذنوبي و تقصيري، و تذكرت غفلتي و خجلت كثيراً، حاولت في أرض الحرمين أن أستجمع كل مشاعري لكن القلب في هوس يظل يصطنع صوراً في الخفاء.. ورحت أنا المسكين أتذكر قول من ناجوا ربهم «ما عبدناك حق عبادتك» و أحاول أن أجد لنفسي موضعاً بين هؤلاء، لكن هيهات..

الوداع يا أرض جزيرة العرب الطاهرة

ذراتك حافظة للرفعة والرشاد

__________________________________________________


1- كان ينشر مقالاته في مجلة فاران الأردية.
2- طبعت سنة 1374 ه./ 1955 م، وأعيد طباعتها سنة 1375 ه. وسنة 1385 ه./ 1965 م.
3- سمير نوح، الجزيرة في أدب الرحلة الأردي: 318.

ص: 272

الوداع يا أرض الذكر والصلاة

الوداع يا موطن العفو و النجاة

الوداع أيتها الأرض بلا زرع، بلا ماء

الوداع يا جنة العين والفؤاد

ها قد افترقنا عن جبل بو قبيس وجبل الصفا

الوداع يا غار ثور.. ويا غار حراء

الوداع يا مقام إبراهيم

الوداع أيها المطاف والركن اليماني

والحطيم..

الوداع يا حمام الحمى؛ حمام الحرم

الوداع يا أهل التقوى.. أهل الحرم، أهل الكرم

الوداع يا جوار بيت اللَّه

الوداع يا ملجأ الضعفاء

الوداع يا بئر زمزم

يا سبيل اللَّه للعطشى

الوداع يا ذكرى إسماعيل

الوداع يا أرض الحرم

بارك اللَّه فيك

ففي ترابك للوفاء ضمير

فالوداع.. الوداع

يا أرض الضمير الطاهر».

وهكذا ودع الأديب ماهر القادري الأرض المقدسة وهو يشعر بأنه قد حمل زاداً روحياً ومعنوياً يكفيه طوال حياته فأنشد يقول:

«قال نسيم السحر وهو يمضي من الخميلة:

لا حاجة لنا بزاد الطريق في الرحلة الطويلة».

أما الأديب النيبالي عبد الرؤوف رحماني جهندانكري فكتب عن رحلته للحج عام 1378 ه. كتاباً بعنوان «سفرنامه حجاز»، مزج فيه أيضاً بين النثر الفني والشعر.

كتب يقول: وذات ليلة نمت في مكتب المعلم عبدالهادي سكندر، وحين حان وقت صلاة الفجر سمعت صوت رجل سعودي ينادي:

«يا أيها النائم

هذا وقت الغنائم

صلوا الصلاة دائم..»

وكنت كلما نمت في مكتب المعلم أسمع النداء وقت الفجر، وكأني أسمع

ص: 273

ترجمة أشعار الشيخ فريد الدين شكر كنج (1).

وقت السحر وقت المناجاة

فانهض في هذا الوقت

ففيه تنال البركات

واستمع لنصيحتي

هيهات أن تضيع العمر هباء

هيهات.. هيهات!» (2).

وهذا أديب آخر هو حافظ لدهيانوي (3) الذي كتب عن رحلته

إلى الحج كتاباً بعنوان «جمال الحرمين» جاء فيه:

«لم تطلع على حياتي شمس أجمل من شمس ذلك اليوم، ولم تمر عليّ لمحة سعيدة أبداً كتلك اللمحة، لم ولن تسمع أذني خبراً أطيب من ذلك الخبر الذي سمعته اليوم، فاليوم حلت بي اللحظة المباركة وكانت قدري، حين سمعت أن طلبي للذهاب إلى مكة قد ووفق عليه.. كان هذا اليوم السعيد ثمرة دعاء مستمر وأمنية عمري كلّه ورغبة حياتي» (4)..

وهكذا نجد أنفسنا أمام أديب يختلف في بيان مشاعره، فهو يركز على وصف المشاعر الإنسانية، كما يمزج وصفه لها بوصفه للطبيعة:

«راحت الليالي المقمرة تبارك لنا سعادتنا، والفضاء اللبني يُسمعنا أصواته العذبة، والوادي كله بدا مملوءاً بذكرى المصطفى، وتحولت جميع الكائنات إلى بقعة من نور وفرشت الطرق كلها بكل ما هو لطيف، وراحت حبات دموع السرور والسعادة تتناثر كالنجوم اللامعات على صفحة الأرض المقدسة وتحول الطريق كله إلى نور حتى صار كدرب التبانة، وشعرنا كأن سفرنا هذا فوق السماء لا على الأرض» (5)..

الرمزية في النثر الفني عند أدباء شبه القارة:

اتبع الأدباء في شبه القارة أسلوباً رمزياً للتعبير عن أفكارهم وعواطفهم ومشاعرهم، في حالات خاصة، وهنا يكتفي الباحث بنموذجين اثنين لأديبين أولهما للدكتور عبدالرحمن خالد (6) الذي

كتب كتاباً بعنوان «حج أعجمي» وهو

__________________________________________________


1- هو حضرت بابا فريد شكر كنج، توفي سنة 664 ه./ 1265 م، عاش في البنجاب في عهد الدولة المملوكية الهندية، اشتهرت أقواله وأشعاره في عموم الهند، وتمثل أشعاره النماذج الأولى للأدب الأردي حين كان يطلق غ/ على الأردية اسم ريخته، وله أشعار بالبنجابية أيضاً، أنظر حامد حسن قادري، داستان تاريخ اردو، اردو اكيدمي سنده كراتشي، ط الثالثة، 1966 م عن الطبعة الأولى 1941 م..
2- سمير نوح، الجزيرة العربية: 608- 609.
3- ولد في لدهيانه عام 1339 ه./ 1921 م، حفظ القرآن وبرع في قول الشعر متبعاً أسلوب الشعراء الكلاسيكيين: 439، الجزيرة العربية في أدب الرحلة الأردي.
4- الرحلة: 40.
5- الرحلة: 89.
6- اشتغل بالصحافة في جريدة نداء الأمة التي كانت تصدر من لاهور، ولما تم دمجها بصحيفة نوائي وقت استمربالعمل الصحفي، ثم انتقل إلى جريدة امروز، وبعدها انضم لهيئة التدريس بقسم الصحافة بجامعة البنجاب، سافر للحج مع والدته سنة 1406 ه./ 1985 م.

ص: 274

يقصد العنوان ومعناه ومغزاه، وقد أشار بين سطور كتابه إلى ما يعانيه المسلم في شبه القارة من بعض الوعاظ والمرشدين، وأشار إلى ذلك بأسلوب رمزي، يفهمه من يقف على مجريات الأمور هناك:

وعلى كل حال دخلنا من باب السلام الذي لا يزال اسمه باب السلام وكأننا خالفنا نصيحة الشيخ لأنه قال بأن اسمه اليوم باب الفتح!

«كان الشيخ قد أخافنا كثيراً من أن ينزل علينا غضب اللَّه، لهذا رحت أحتاط في كل خطوة أخطوها، أو حركة آتي بها، ثم اقتربت اللحظات المنتظرة، وظهر الحرم الشريف أمام أعيننا، كان علينا أن ندخل من باب السلام الذي يطلق عليه الآن اسماً جديداً هو باب الفتح، كان الشيخ قد نصحنا بالدخول من هذا الباب، لكنا أخطأنا أو هي مشيئة اللَّه، الذي أراد لنا ذلك، لأن الأعاجم يردون كل شي ء إلى مشيئة اللَّه أو مرضاة اللَّه، ويقولون دائماً هذا قدر من عند اللَّه، بينما يعتبرون كل نجاح لهم ناتج عن فراستهم وجهدهم وتدبيرهم!... ربما كان السبب هو أننا لم نطلع على تعاليم القرآن.. وعلى كل حال دخلنا من باب السلام الذي لا يزال اسمه باب السلام وكأننا خالفنا نصيحة الشيخ لأنه قال بأن اسمه اليوم باب الفتح!

كان الدرس الثاني هو أن ننطلق بالدعاء فوراً إذا ما وقع نظرنا على الكعبة، وأن نفتح أعيننا حتى لا تنغلق رغماً عنا.. وقع نظري على الكعبة، بيت اللَّه... والكعبة أمامي الآن وهذه لحظات سعدي وفرحي إلا أن الوسوسة والقلق أصاباني قبل أن تحين هذه اللحظات السعيدة، فقد نسيت جميع الأدعية التي حفظني إياها الشيخ.. كانت حالتي تختلف عن حالة الطالب الذي حفظ خطبةً سيرددها في حفل التخرج وحين دق الجرس أدار وجهه ونسي كل شي ء وراح يردد فقرة واحدة مرة تلو أخرى لعله يتذكر الفقرة التي تليها.. إن وضعي يختلف تماماً.. أنا لم أته وسط الأدعية، كما أنني لم أتذكر دعاءً واحداً، ولا يوجد

ص: 275

هنا جرس يدق فينبهني إلى انتهاء الوقت، إن كل انتباهي موجه إلى الكعبة المشرفة لا أتذكر الشيخ ولا الأدعية التي لقنني إياها، ولا أفكر ولا أخشى أن تنغلق عيناي، ثم أجلس لتضيع مني هذه اللحظة الثمينة الغالية..

وكنت أعجمياً!! كانت عيناي مفتوحتين بل وصلت هناك وأمام بيت اللَّه بعينين مفتوحتين، فعيناي هما مترجمي الفوري فمن عيوبنا نحن الأعاجم القصور عن إلباس الألفاظ معانيها، والتعبير عما تحويه هذه الألفاظ عن معان تدور بخلدنا..

وهكذا ستظل عيناي مفتوحتين بأمر اللَّه!!».

وفي مكة يتذكر الكاتب بلاده ويتحدث عنها أيضاً وعن مشاعره رمزاً دون تصريح أو توضيح:

«أمام الكعبة أخذت أدعو اللَّه بهذا الدعاء مخاطباً رب الكعبة: يا إلهي مثلما أخافني الشيخ منك فإن حكام بلادي ورجال السياسة والصحفيين في بلادي جميعهم أخافوني، وأقلقوني على مستقبل بلادي، لم أسمع منهم منذ أن وعيت هذه الحياة خبراً طيباً حتى أصابني الوهم وأنا أستمع دائماً إلى الأخبار السيئة المشئومة عن باكستان حتى ابتلتني هذه الأخبار بالخوف والهلع والدوار.. ورغم كل هذا فلا بأس في أن نلوذ برحمةاللَّه الواحد القهار، ليس في قلبي همة ولا توجد في فؤادي مشاعر الأمل، وربما كان السبب في ذلك أيضاً أن الشيخ وضع كل همه في إخافتنا منك يا إلهي.. لكنك يا إلهي رحيم كريم ستار...» (1).

والنموذج الثاني كتاب الأديب ممتاز مفتي الذي توفي منذ سنوات (2)،

وهو يسعى دائماً إلى التعبير عن داخل الإنسان وبيان تأثير المرئيات على مشاعره، ويصور المشاعر بصورة تكاد تكون محسوسة، وهذه سطور يصور فيها مشاعره ومشاعر من حوله في وقفه يوم عرفة من عام 1387 ه./ 1968 م:

«في هذا اليوم.. في وادي عرفة، لا نشاهد الوادي ولا نشاهد زحام الزائرين.. فقط كل ما هناك خيام في

__________________________________________________


1- أنظر النص كاملًا في الجزيرة العربية: 626.
2- ممتاز مفتي أديب و روائي وصحافي معروف، له مكانته في الأدب الأردي، توفي منذ عدة سنوات، أنظر من الأدب الباكستاني تفاهم المجلس الأعلى للثقافة بمصر، ترجمة سمير عبدالحميد، 2002 م.

ص: 276

خيام.. كان الزائرون التابعون لفندق الكعكي مقيدين في خيامهم، كان بعضهم يجلس في صمت تحت مظلات مفتوحة، الأصابع تحرك المسابح والشفاه تلهج بالتسبيح والتحميد، وعلى الوجوه سكون ممزوج بالأسى، والأكتاف محنية كأن شيئاً سقط عليها فراح أصحابها يتحملون هذا العب ء بصبر وشكر..

كان هدوء الناس وسكونهم هذا مدعاة لقلقي الشديد، فصحيح أنهم كانوا جميعاً منشغلين بذكراللَّه، لكنّ الانشغال بذكر اللَّه يكون أيضاً في البيت، وإذا كان التسبيح هو الهدف فهل كان من الضروري أن يقطعوا الأميال ليصلوا إلى ميدان عرفات؟!

لا.. لا.. نهضت من هناك، واعترتني رغبة قلبية عارمة في أن أنطلق إلى وادي عرفة، وأن أثير الغبار شأني في ذلك شأن قيس في بادية نجد..

قبل أن أخرج من الخيمة فكرت في أن أخبر رفيقي «قدرت» بأني ذاهب.. ذاهب إلى أين؟ ذاهب لأي شي ء؟ لكني ذاهب حتى لا يقلق بحثاً عني..

أدخلت رأسي في الخيمة فوجدته والدكتور عاطف غارقين في أداء الصلاة.. حين شاهدت «قدرت» وهو يصلي النفل لم أتأكد من أنه هو «قدرت» بدا لي إنساناً آخر، لم يكن هو كما عهدت أن أراه.. بدا وجهه

ص: 277

بالنسبة لي كأنك ضربت على كوب من زجاج فصار قطعاً صغيرة..

فتاتاً.. لكن هذه القطع متماسكة مع بعضها البعض لم تتحطم تماماً.. تحول وجهه إلى فتات متماسك وانحنى كتفاه كأنهما تحطما ووصلا إلى مستوى الأرض، وامتلأت كل ذرة من ذرات جسده بالاهتزاز واللجاجة والملامة والاضطراب..

وفكرت أن أتقدم.. لكن كيف؟

كيف أخبر هذا الإنسان الذي لا يدري شيئاً عن نفسه عن حالي؟! وهكذا غادرت خيام فندق الكعكي... وما هي إلا خطوات حتى وجدت نفسي داخل سوق كان هذا سوق الخيام التي كنا نقيم فيها وهناك محلات لبيع جميع أنواع الأطعمة، و... وانهمك الناس في البيع والشراء.. وبدا أنهم فريق ممن يؤدون فريضة الحج بالإضافة إلى أعمال البيت.. فراحوا يكسبون مكاسب دنيوية ودينية في عرفات...

هل تكمن في «الأرزاق» هذه الطاقة الكبيرة حتى إنها شكلت الجو العام هنا؟.. هل يتحول «كسب الأموال» إلى رغبة جامحة لدرجة أن الحاج جعل من قيام عرفات وسيلة للكسب المادي أيضاً؟.. هل للمادة هذه القوة بحيث لا يستطيع الناس مواجهتها؟ شعرت كأن إبليساً أقام هذه السوق حتى يشغل الحجاج، ويغرقهم في دوامة الطعام وكسب الأموال...

خرجت من السوق، فانتهى ما بي من ضيق.. وتراءت لي من بعيد قمة جبل الرحمة، وكأن جيشاً من النمل يعتلي قطعة من السكر، فقد كان الكثير من الناس قد صعدوا جبل الرحمة..

لا... لن أذهب وسط هذا الزحام، فأنا مريض لا أستطيع أن ألتقط أنفاسي في الزحام.. في ذلك الوقت طرأ عليّ نوع من الجنون لا اسم له، وبداخلي أخذت أمواج بحر السرور تتلاطم بشدة، كان سروراً ناتجاً عن الإحساس النابع عن وجودي في عرفات.. كنت أريد أن أمضي وحدي أتمتع بمشاعر السعادة

ص: 278

التي تملكتني.. أمضي وحدي أنتشي وأطرب، أدق طبول قلوب الزائرين، الذين وصل عددهم إلى سبعمائة ألف زائر لأخرجهم من الخيام المجنونة، ليلقوا بعيداً بمسابحهم، وليأتوا هنا، لنمضي معاً على طريق النبي صلى الله عليه و آله، نتلمس خطواته المباركة ونتبع أحكامه التي بلغنا إياها، نطبقها بتمامها وكمالها، وكأنه يراقبنا ونحن نمضي على سنته المباركة ونهجه النبوي القويم..» (1).

مكة والحج والشعر في شبه القارة:

كان لمكة المكرمة والحج أثر كبير على شعراء شبه القارة، فقد نظموا أشعارهم معبرين عن أحاسيسهم تجاه المدينة المقدسة، كما نظم بعضهم رحلة حجه شعراً، بعد أن كتبها نثراً، والأمر الأهم هواستخدام المدينة المقدسة بكل ملامحها وجغرافيتها استخداماً رمزياً في الشعر الأردي، وهذا ما سنعرض له في الصفحات التالية لتكون ختام هذا البحث المتواضع.

كان لمكة أثر كبير على قلوب الحجاج الذين قدموا مع سيد أحمد شهيد، فقد نالوا غذاءً روحياً جعل الشاعر الشيخ سيد أبوالحسن وهو أحد من خلفوا سيد أحمد شهيد بعد استشهاده في معارك الجهاد ضد السيخ يقول في قصيدته يصف القافلة العائدة من مكة:

«عادت القافلة إلى داخل البلاد

بعد أن شرفت بأداء حج مبرور

كل فرد فيها ولي عارف

سمح الطلعة على وجهه

بهاء ونور

كل فرد فيها من رجال اللَّه آمر بالمعروف

مجاهد قامع للبدعة

ناصح وناه لمن ينكر الأصول

كل فرد فيها يزيل من القلوب الكفر

كل فرد فيها وحيد أوانه، حافظ للقرآن

عالم، سخي، بهي الطلعة جسور» (2).

وهناك شاعر مشهور هو حفيظ

__________________________________________________


1- أنظر النص كاملًا في الجزيرة العربية: 617- 622.
2- أنظر نماذج أخرى في سمير عبدالحميد، الأدب الإسلامي: 351 وما بعدها.

ص: 279

جالندهري الذي نظم شاهنامة الإسلام في أربعة مجلدات، يصف انقشاع الظلمة في مكة بظهور نور البعثة المحمدية، بل ويصف ما حدث في مكة قبل ذلك من وصول الخليل وولادة إسماعيل، وتعمير الكعبة، ويستمر في عرضه للتاريخ شعراً حتى يصل إلى حملة أبرهة على الكعبة، وينتقل إلى ولادة النبي، والبعثة وغزوات الرسول (1).

كان لمكة المكرمة والحج أثر كبير على شعراء شبه القارة، فقد نظموا أشعارهم معبرين عن أحاسيسهم تجاه المدينة المقدسة، كما نظم بعضهم رحلة حجه شعراً، بعد أن كتبها نثراً، والأمر الأهم هواستخدام المدينة المقدسة بكل ملامحها وجغرافيتها استخداماً رمزياً في الشعر الأردي

ومن الأدباء الذين نظموا رحلتهم إلى الحج شعراً الأديب خطيب قادر بادشاه، وقد ركز على مشاعره الدينية، ووصف قدومه إلى مكة، ووصوله إلى الكعبة، ووقوفه على عرفات، واستخدم في شعره بحوراً وقوافي تتناسب مع كل مناسبة:

«نمضي هذه الأيام

صوب الكعبة المشرفة

نلبي دعوة الحق

أين نحن من هذه النعمة العظمى..

ما أسعدنا بحظنا

وما أسعدنا بنصيبنا»

أما الشاعر ضياء الدين القادري البدايوني فيقول:

«يا إلهي!

ها هو عبدك يودع

بيتك بعد أن حسنت نيتي

أين لي بعد ذلك

طواف الكعبة

أين لي بعد ذلك

رؤية الحرم

أتطلع إلى البيت الحرام

بعيون الفراق

ويعتصرني الحزن والألم

فقد انتهى العناق

__________________________________________________


1- المصدر السابق: 702- 713.

ص: 280

كان ذهابي

وكانت عودتي

كلاهما

وقفاً على كرمك

يا إلهي!

أنت مولاي

تفعل ما تشاء!»

ومن الرحلات الشعرية رحلة بعنوان «كاروان حرم» أي قافلة الحرم للأديب المعاصر ع س مسلم عن حجه سنة 1404 ه./ 1983 م جاء فيها:

«هنا تلفحت برداء الإحرام كفناً

هنا مزقت حجاب «الأنا» الخادع

قطعة.. قطعة!

وانطلق من داخلي طوفان العاطفة

النائم..

ورحت أنظم مشاعر الندامة

الفياضة..

فلتسمّها رحلة القلب الشريعة

أو سمّها حكاية النداء

والدعاء في البرية» (1).

مكة والحرم والرمز الشعري

الشاعر محمد إقبال نموذجاً

مكة المكرمة لها مكانة في قلوب الأدباء والشعراء، وكل ذراتها لها في قلوبهم مكان، وهكذا وجدناها في قلب الشاعر ووجدانه، فهو دائماً متجه إليها، وإقبال يناجي ربه قائلًا:

«في ذلك البحر الذي ليس له ساحل

لا يوجد سواك دليلًا للعشاق

لقد أمرتني أن أتجه صوب البطحاء

رغم أنه لا يوجد سواك منزلًا!» (2).

وهكذا مضى إقبال يذكر مكة والحرم وهو في موطنه، وفي خارج موطنه، حين كان في الأندلس، وحين كان في باريس، وفي لندن وحتى وهو يمضي في البحر بجوار جزيرة صقلية، وهو في فلسطين، وفي أفغانستان وغيرها، وإقبال يذكر أن أركان الأمة الإسلامية التوحيد والرسالة وأن حياة الأمة تقتضي مركزاً محسوساً، ومركز الأمة الإسلامية هو الحرم في

__________________________________________________


1- لمزيد من النماذج الشعرية، أنظر الجزيرة العربية: 643 ومابعدها.
2- أنظر أرمغان حجاز إلى الحق، الرباعية 112، سمير عبدالحميد، المكتبة العلمية، لاهور باكستان.

ص: 281

مكة المكرمة، واجتماع الأمة الحقيقي لا يكون إلا بقصد، يُقصد إليه، ومقصد الأمة هو حفظ التوحيد ونشره.

وإقبال- مثله مثل شعراء شبه القارة- يستعمل الرمز، فشعراء شبه القارة يستعملون الرمز بكثرة حتى قبل أن تصبح الحركة الرمزية عامة في أوروبا، وإقبال أعطى الرمزية في الأردية والفارسية- وهما اللغتان اللتان نظم بهما دواوينه الشعرية- اتجاهات جديدة وقوة حتى إنه يمكن القول بأن الحركة الرمزية هي من الملامح البارزة الجلية في فن إقبال.

حاول إقبال أن يوجد- بمساعدة رمزيته- خيالًا مرئياً للعالم غير المرئي، ورمزية إقبال لا تعطي شكلًا أو جوهراً، إلا أن امتزاج الحياة وتفتحها واضح فيها، فهي لا تسمي الأشياء بل تشكل غلافها الجو أو ظلالها، ويكمن جمال رمزية إقبال أساساً في حقيقة أنها تختلف تركيباً عن تلك التي استخدمها الشعراء الآخرون في الأردية أو الفارسية، فالرمزية عند إقبال نراها في:

إبراهيم والنمرود، موسى وفرعون، حسين ويزيد فهذه قصص تراجيدية عرضية للاجتهاد الديني في تاريخ البشرية، لكنها عند إقبال تدل على النضال الأبدي بين الخير والشر.

وبالمثل نجدها في محمود وأياز فهي تدل- تاريخياً- على العلاقة بين الملك وخادمه، لكنها عند إقبال تدل على العلاقة بين العاصمة وعمالها، وبين الراعي والرعية، وهكذا يستخدم:

كليسا وحرم (أي الكنيسة والحرم) للتعبير عن المسلم وغيره أو دير وحرم وغيرها من تعبيرات رمزية، مثل (پيران حرم) أي شيوخ الحرم، أو (پير حرم) أي شيخ الحرم، وحتى كلمة حرم فهي عند إقبال بمعنى مسجد تارة، وبمعناها المعروف أي الحرم المكي تارة أخرى.

فحين أنشئ مسجد في باريس رأى إقبال أن هذا نوع من المكر والخداع، فالذين أسهموا في بنائه هم الذين خربوا الشام والبلاد الإسلامية الأخرى، وهو يطلق على مسجد

ص: 282

باريس كلمة الحرم، و يميزه أولا بالعنوان الذي وضعه، وهو (بيرسس كي مسجد) أي مسجد باريس، ثم بكلمة المغرب في النص الشعري يقول في ديوانه «ضرب الكليم» بعنوان مسجد باريس:

يا نظري لا يخدعنك فنه للزور هذا الحرم المغرب

وليس هذا حرما لكنه عن - د الفرنج للغرام ملعب

قد أخفت الإفرنج روح موثن في صورة من حرم تكذب

إن الذي شيّد هذا موثنا دمشق من عدوانه تخرب (1)

وإقبال لا يستخدم كلمة شيخ العربية مع الحرم لكنه يستخدمها هكذا شيخ كليسا أي راعي الكنيسة، ويستخدم أيضاً أمير قافلة ويعني به النبي صلى الله عليه و آله، ويستخدم أيضاً مير كاروان بنفس المعنى السابق، كما يستخدم نشاط رحيل أي حركة الاستعداد لمضي القافلة، كما يستخدم أيضا كلمة حج وأذان، وسجود، وقيس وليلى، والمحفل وغيرها استخداماً رمزياً.

فالمؤمن والمسلم عند إقبال يعنيان الإنسان المثالي، أو الكامل، بينما الكعبة والحرم و (أحياناً الدير) تعني الهدف، والكعبة أيضاً تعني تعاليم الإسلام، أما السجود فيعني الجهد العنيف، والصلاة تعني الرغبة المحرقة، أما الأذان فيعني الدعوة إلى الجهاد والعمل (2).

وإقبال لا يستخدم كلمة شيخ العربية مع الحرم لكنه يستخدمها هكذا شيخ كليسا أي راعي الكنيسة، ويستخدم أيضاً أمير قافلة ويعني به النبي صلى الله عليه و آله، ويستخدم أيضاً مير كاروان بنفس المعنى السابق، كما يستخدم نشاط رحيل أي حركة الاستعداد لمضي القافلة، كما يستخدم أيضا كلمة حج وأذان، وسجود، وقيس وليلى، والمحفل وغيرها استخداماً رمزياً

وقد قلب إقبال معاني الكثير من الألفاظ التي شاعت في المدرسة الأدبية الكلاسيكية واستخدمها

__________________________________________________


1- عبدالوهاب عزام ترجمة ضرب الكليم: 74.
2- أنظر بال جبريل، ترجمه عن الفرنسية عبدالمعين ملوحي، دار طلاس للنشر، ط أولى 1987 م.

ص: 283

استخدامات رمزية، وعلى سبيل المثال كلمة خودي الفارسية كانت تعني الإنطواء، فصار معناها احترام الذات أو الذاتية، وكلمة الفقر استعملها إقبال يرمز بها إلى السيطرة الأخلاقية وهكذا (1).

وقد أثار عدم فهم شعر إقبال وبخاصة ما ترجم منه إلى اللغات المختلفة اختلاف الآراء حوله، فإذا ما تكلم عن الحرم فهم الجميع أنه يقصد الحرم المكي، وإذا ذكر الملا بمعنى الشيخ، أساء البعض فهم قصده، رغم أن إقبالًا كان يرمز إلى الوضع السي ء للمسلمين في الهند ومعظم بلدان العالم الإسلامي وإقبال يقصد بالحرم المسجد، ويقصد بشيخ الحرم أولئك الذين غرقوا في التصوف والدروشة وجمع النذور، وأخذوا يشجعون الناس على ترك العمل والسعي، ويردون كل مصيبة إلى التقدير دون تفكير في اتباع سنة رسول اللَّه وإطاعة أوامر اللَّه وهكذا يقول:

«أيها المسلم سل قلبك، ولا تسأل الملا:

لماذا خلا الحرم من رجال اللَّه؟»

ويقول عن الدراويش المتصوفة:

«نالوا بالوراثة كراسي الأولياء

استولت الغربان على أوكار النسور

شيخ الحرم هو الذي يأكل الثمن سراً

ثمن الأثواب المسروقة،

غطاء أبي ذر، وكساء أويس المرقع

__________________________________________________


1- نفسه: 33.

ص: 284

ووشاح فاطمة الزهراء».

وهذه أشعار تعبر بدقة عن دهشة الشاعر من أحوال المسلمين الذين غفلوا عن أصول دينهم، مستخدماً الرمز في شعره:

«أليس أدهى من نهاية العالم

أن ترى أهل الصين يلبسون ملابس الإحرام

بينما أهل مكة ينامون في البلد الحرام؟»

وإقبال هنا لا يقصد أهل مكة بل يشير بهذا التعبير للمسلمين، وهكذا يقول:

«لقد رأيت «سيد الحرم»

عمله ليس فيه حرارة

وكلامه ليس فيه تفكير»

فسيد الحرم رمز لإمام كل مسجد

والحقيقة أن كمال شعر إقبال- كما يذكر الدكتور يوسف حسين (1)- كان

في رمزيته حيث تكون «الكناية أبلغ من التصريح» فهو لم يتخذ طريق الرمزية الغربية، ولم يتجه في كلامه إلى الغموض والألغاز، ومع هذا فأدبه لا يمكن أن يفهم منفصلًا عن الحياة أو بعيداً عنها، وكان إقبال يحاول بدوره أن يبين ويشرح بأسلوب بياني جميل الإيماءات والإشارات، فقدرته على أداء مطلبه بالاستعارة والكناية قدرة خارقة، وهو لم يترك الأسلوب الأدبي التقليدي، لكنه بأسلوبه أظهر نشاط الحياة وحركتها في الأسلوب القديم أو في التراكيب القديمة للغة التي كادت أن تضيع من ذاكرة الناس.

ويقول عن الدراويش المتصوفة:

«نالوا بالوراثة كراسي الأولياء

استولت الغربان على أوكار النسور

شيخ الحرم هو الذي يأكل الثمن سراً

ثمن الأثواب المسروقة،

غطاء أبي ذر، وكساء أويس المرقع

ووشاح فاطمة الزهراء».

وهذه أشعار تعبر بدقة عن دهشة الشاعر من أحوال المسلمين الذين غفلوا عن أصول دينهم، مستخدماً الرمز في شعره:

«أليس أدهى من نهاية العالم

أن ترى أهل الصين يلبسون ملابس الإحرام

بينما أهل مكة ينامون في البلد الحرام؟»

وبينما يرى الدكتور سيد عبدالواحد أن النزعة العامة في إقبال هي الرمزية، يرى الدكتور يوسف حسين أنها في الرومانسية التي كانت في الأصل رد فعل للفلسفة العقلية،

__________________________________________________


1- دكتور يوسف حسين، إقبال، بالأردية، طبعة 1944 م: 138.

ص: 285

وأن إقبالًا مثل جوته مزج بين الرومانسية والكلاسيكية، بينما يرى الأستاذ مجتبى مينوي (1) أن إقبالًا من

أصحاب الألم الرومانسيين، يحرك ويثير الشوق والرغبة في قلوب الآخرين، لكن إقبالًا لم يكن رومانسياً في معانيه، تلك المعاني التي أشاعها كل من هيجل وشوبنهاور ونيتشه وغيرهم من أصحاب المذهب الرومانسي.

لا شك أن إقبالًا استفاد في رمزيته من الأدب العربي مستفيداً من شعر الشعراء ومن القرآن الكريم والحديث النبوي، فرمزيته هذه تجعلك تحس بالقوافل تمضي في الصحراء متجهةً إلى الحرمين، وتشعرك بقيظ الرمال، وبمناظر النخيل في منازل الطريق، والرمزية واضحة في استخدامه لألفاظ مثل زمزم، وحراء، وكعبة، وحرم، ولات، ومنات، وطواف، وعرفات وغيرها، وقد ابتكر إقبال بعض التراكيب مستخدماً هذه الألفاظ، ليعبر عن أفكاره، واستخرج البعض من القديم المنسي، وجعله في حالة جديدة، وتراكيبه الرمزية هذه تمثل حجر الأساس لقنطرة الإلهام الشعري عنده، فلا يمكن استبدال لفظة بأخرى، لأن هذا سيؤدي إلى انهيار القنطرة، وبعبارة أوضح انهيار التعبير الفني، لأن التعبير بالنسبة للتجربة الشعرية يعتمد على الألفاظ والتراكيب، أو المصطلحات التي تشكل جوهر الفكرة ذاتها.

لا شك أن إقبالًا استفاد في رمزيته من الأدب العربي مستفيداً من شعر الشعراء ومن القرآن الكريم والحديث النبوي، فرمزيته هذه تجعلك تحس بالقوافل تمضي في الصحراء متجهةً إلى الحرمين

فإقبال يخاطب شيخ الحرم أكثر من مرة وفي أكثر من ديوان، يقول في ديوانه بال جبريل حين كان في زيارة لأفغانستان ووقف عام 1932 م يقرأ الفاتحة على قبر الحكيم الشاعر سنائي الغزنوي (2):

__________________________________________________


1- مجتبى مينوي، إقبال لاهوري، بالفارسية، ط لاهور: 32.
2- كليات إقبال: 315.

ص: 286

«في الشرق وفي الغرب تلمست الحانات

لأخفف عن قلبي آلام الأشواق

لكني في المشرق لم أظفر بالساقي

وسلافة أوروبا تنكرها الأذواق

كم عزت ملتنا في الدنيا بفقير

يرتاع له كسرى ويدين له قيصر

هو للحق سلاح هو للشعب ضمير

ما عادت تشهده إيران ولا كشغر

الحرم القدسي به شيخ المحراب

كعبته الأموال وقبلته الدخلاء

ويلاه لقد باع لهم دلق أويس

وبساط أبي ذر وخمار الزهراء

إسرافيل شكاني للحي القيوم

ما الحيلة في شعر نغمته إرعاد

قد أحدث زلزالًا وأثار الأحرار

وتحدى بالمحشر من قبل الميعاد

قال: أنظر وتأمل أحداثاً وخطوباً

كالمحشر أهوالًا في دنيا الإسلام

للبيت المعمور سعت كل الأقطار

وبمكةأقوام في البطحاء نيام» (1).

وفي ديوان ضرب الكليم وبعنوان (اى پير حرم) أي «يا شيخ الحرم» يرمز لعلماء الإسلام والصوفية المسلمين (2) يذكرهم بواجبهم الديني

وهنا يرمز إقبال لمفهوم رسالته بطريقة الخانقاه (الزوايا والتكايا) أو حياة الدعة والخمول التي جعلت المسلمين يخضعون للاحتلال والعبودية، وجعلتهم يخافون الموت و يرتعدون من تصور الجهاد.

«يا شيخ الحرم!

اترك التقاليد البالية

واترك طريق الخانقاه

وافهم مغزى أغنية أسحاري (افهم رسالتي)

يحفظك اللَّه! احفظ شباب الأمة

علمه درس العزة (أي أطلعه على حقائق الإسلام)

حتى يتمكن من إصلاح عيوبه، ويحفظ ذاتيته.

لقد جعله التعليم الغربي يلهث خلف الدعة

وخلف الراحة، بل جعله مثل المرأة

__________________________________________________


1- ترجمة الصاوي شعلان: 192 في أيوان إقبال، ط القاهرة اللجنة الباكستانية المصرية 1977 م، وأنظر ترجمة عبدالمعين ملوحي عن الفرنسية: 102.
2- پروفيسور سليم جشتي، شرح ضرب كليم، ط لاهور: 173.

ص: 287

تطالع طول الوقت في المرآة للتزين

فعليك يا شيخ الحرم أن توجد فيه صفات الرجولة

وأن تجعله يميل إلى العمل والجد والاجتهاد.

لأن شبابنا ابتلي بالاحتلال منذ قرنين من الزمان

لهذا صاروا مكسوري الخاطر أذلاء

فعالجوهم بالقرآن والحديث

أسمعوهم أوامر اللَّه ورسالة نبيه

أخبروهم بأنهم إن نصروا اللَّه نصرهم اللَّه.

لقد تأثرت بعاطفة محبة الأمة

فأوضحت مكانتكم ومقامكم،

فقابلوا عاطفتي هذه بجميل من عندكم

واخرجوا من جحوركم، إلى ميدان العمل».

وهكذا يتضح من هذه الأشعار أن إقبالًا كان يقصد بشيخ الحرم علماء الإسلام والصوفية، وبخاصمة علماء الهند ومتصوفة الهند، فهو يصرح قائلًا، بأن الاحتلال يجثم على صدورهم منذ قرنين، وهناك من ظهر يدعو لإبطال الجهاد والخضوع للذل، ولهذا خاطبهم إقبال بالأبيات السابقة.

لقد وهب اللَّه إقبالًا قوى تخيلية سواء في ابتداع المعاني أو الخواطر، فالخيال عنده متنوع مما يخدم في تقوية التأثير العاطفي، والخيال التفسيري مثلًا عند إقبال نابع من أن الشاعر يدرك القيمة أو المغزى الروحي فيقدم موضوعه عن طريق صفات تكمن فيها القيمة الروحية، فشعره الذي يتضمن كلمة الحجاز و زمزم يلقي بظلال أخرى في ذهن القارى ء فالحجاز أو زمزم تثير في الإنسان الأحاسيس التي تجعله يستخرج الشحنة الإيمانية التي تمتزج مع وصف إقبال بعالم الدين الذي لا يفيد الأمة، ولنقرأ هذا الشعرالرمزي بتشبيهاته الجميلة:

«إن عالم الدين هذا لا يحمل همّاً

عينه بصيرة لكنها جافة لا تدمع

لقد زهدت في صحبته

لأنه عالم ولا هم

ص: 288

وأرض مقدسة ليس بها زمزم» (1).

إن النماذج الشعرية في دواوين إقبال الأردية والفارسية كثيرة جداً، ففي دواوينه الأردية مثلًا استخدم الحرم في أكثر من 45 موضعاً، والكعبة في أكثر من 15 موضعاً، والحجاز في أكثر من 25 موضعاً، وفي دواوينه الفارسيّة استخدم الحرم في أكثر من 69 موضعاً والبيت الحرام أو بيت الحرام أو بيت اللَّه في موضعين، واستخدم الكعبة في أكثر من 29 موضوعاً.

ثم استخدم إقبال أيضاً زمزم مرة أخرى، يقول في ديوانه (بانك درا) أي صليل الجرس كلاماً يقول عنه البروفيسور سليم جشتي- شارح دواوين إقبال- إن إقبالًا يتندر على الحجاج الذين يعودون من الحج وقد حملوا معهم فقط ماء زمزم وتمر الحجاز، بينما كان يجب عليهم أن يعودوا حاملين هدية التقوى والطهر، وكان يجب عليهم بعد عودتهم أن يعيشوا حياة تجعل قلوب الآخرين بعد رؤية هؤلاء العائدين من الحج تشعر بعظمة الإسلام.

وهذا شعر من ديوان (بانك درا) من مقطوعة بعنوان (شمع اور شاعر) (2) منها:

إن النماذج الشعرية في دواوين إقبال الأردية والفارسية كثيرة جداً، ففي دواوينه الأردية مثلًا استخدم الحرم في أكثر من 45 موضعاً، والكعبة في أكثر من 15 موضعاً، والحجاز في أكثر من 25 موضعاً، وفي دواوينه الفارسيّة استخدم الحرم في أكثر من 69 موضعاً والبيت الحرام أو بيت الحرام أو بيت اللَّه في موضعين، واستخدم الكعبة في أكثر من 29 موضوعاً.

«اسم الكعبة على لسانك

لكن في قلبك رغبة في بيت الأصنام (لندن)

أنا لا أرى في عاطفة الحب (الشوق) لديك أي معقولية

إذا لا يوجد في قلبك رغبة في الرقي

__________________________________________________


1- سمير عبدالحميد، بحث بعنوان إقبال والعرب، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد 5، محرم 1412 ه: 374.
2- أنظر كليات إقبال: 183، وسليم جشتي، الشرح: 350.

ص: 289

(هنا الشمع تخاطب قادة الأمة)

وقلبك خال من عاطفة حب الرسول

فكيف يمكن أن يظهر في الأمة قيس؟!

(أي عاشقون أو فراشات)

أيها المسلم أيها اللؤلؤ المتلألى ء

يا من تربيت في حضن الإسلام

كم هو مؤسف أن يخلو قلبك تماماً من عشق الرسول

يا إقبال! قومك نيام!

روضتك خربت!

من يسمع الآن نداءك أغنيتك

فلا محل لها الآن (أي أنها غير مناسبة)

ورسالتك لا معنى لها رسالتك بلا عنوان» (1).

وفي ديوان الأسرار والرموز- وهو بالفارسية- صور جميلة استخدم فيها إقبال الرمز كثيراً منها:

«كم يريك العشق من صهبائه فترى التقليد من أسمائه

أحكم العشق بتقليد الحبيب لتنال القرب من رب مجيب

في حراء القلب فاقعد خالياً وإلى الحق فهاجر راضياً».

والشاعر يقصد بالتقليد تقليد الرسول صلى الله عليه و آله واتباع سنته المباركة (2).

وفي نفس الديوان يخاطب إقبال المسلم ويشير إليه بالغزال، نفر من سواد الكعبة فخرج من الحرم فتمكن منه الصياد، أي خرج عن تعاليم الإسلام، ويرى أن الإنسان ينبغي أن يثبت في نفسه و أخلاقه وسننه، ولا ينسى مركزه فهو كالوردة ينتشر عرفها ويلتئم ورقها فإذا تفرق الورق فنيت، ونحن مسلمون، ولكن في أنفسنا وثنية من عبادة الهوى والخضوع لغيرنا، ويقصد بالدمى (جمع دمية) الإنجليز وما عندهم من مال ومناصب (3).

وفي قصيدة مهداة إلى الأمة الإسلامية، وهي القصيدة الأولى في ديوانه نفي الذات (بالفارسية) يقول:

«ختم اللَّه إليك الأمما بك حقاً كل بدء ختماً

كم تقي فيك كالرسل منيب وجريح القلب رفاء القلوب

__________________________________________________


1- سليم جشتي: 356.
2- ترجمة عزام: 22، ط المكتبة العلمية، تحقيق سمير عبدالحميد.
3- المصدر نفسه: 62.

ص: 290

لك طرف بالنصارى سحراً وعن الكعبة أبعدت السرى»

ويقصد أهل أوروبا الذين سيطروا على الهند وغيرها (1).

وبالفارسية أيضاً، لكن في ديوانه الأخير أرمغان حجاز أي هدية الحجاز يقول إقبال:

«ليس الحرم سوى قبلة القلب والنظر

وطوفه ليس طواف السطح والباب

فبيننا وبين بيت اللَّه سر

لا يعرفه أيضاً جبريل الأمين»

وإقبال هنا يقصد أن الإيمان ليس بالحركات الظاهرة إنما هو أيضاً شي ء داخلي ذاتي.

وفي قصيدة لإقبال بعنوان (طلوع إسلام) يخاطب فيها فتى الإسلام ويرمز إليه بطائر الحرم فيقول وما أجمل قوله:

«أعد يا طائر الحرم المفدى نشيد الحب للأقوام طراً

وحلق في فضاء الكون واجعل جناحك من غبار اللون حرّاً» (2).

ولا ينسى إقبال الحديث عن غار حراء: يقول في ديوانه (جاويدنامه) بالفارسية:

مدة في الغار ظل المصطفى غير آثار لذات ما اقتفى

وعودة إلى الحرم، والحرم هنا بمعنى مكة، يقول إقبال في ديوانه (بال جبريل) أي جناح جبريل:

«في اللهب العربي ألحان فارس

سر الحرم (أي مكة) وحدة الشعوب

فكرة الوحدانية غائبة عن فكر الغرب

ذلك أن حضارة أوروبا ليس لها حرم»

ومكة عنده لها مكانة فهي رمز للإسلام وتعاليمه جملة وتفصيلًا، ولهذا كتب نظماً نختم به هذه النماذج بعنوان (مكه اور جنيوا) «مكة وجنيف» جاء فيه إشارة إلى الحكمة القرآنية والحكمة الغربية أو حكمة الفرنج، ليقدم للعالم وجهة نظر الإسلام فيقول:

في هذا العصر رغم أن أفراد الأمم المختلفة صاروا يتلاقون

__________________________________________________


1- المصدر نفسه: 77.
2- الصاوي شعلان، أيوان إقبال: 108.

ص: 291

ويتجمعون أكثر من ذي قبل، لكن رغم هذا لم يمكن لهذا الأمر أن يحقق الوحدة الإنسانية، (فلا تزال وحدة البشر خافية عن الأنظار).

انتبهوا! إن هدف الحكمة الغربية (الإفرنجية) هو (إقامة عالم يضم أمماً متفرقة) وإشاعة الفرقة بين الأمم والإبقاء على هذه الفرقة عن طريق تقسيم الأمم إلى شعوب متقدمة وأخرى نامية.

وعلى العكس من هذا، فإن هدف الحكمة الإسلامية هو القضاء على جميع أوجه الاختلاف بين الأمم وإقامة مجتمع الأخوة الإنسانية، فكل البشر من أب واحد ولهذا فهم سواسية (هدف الإسلام إقامة أمة آدم).

فتعاليم الإسلام تعني أنه لا فضل لأحد على الآخر إلا بمعيار واحد هو التقوى، ولهذا فقد بلغت مكة المكرمة أي الإسلام هذه الرسالة إلى جنيف أي أمم الغرب، والرسالة هي أن جمعية آدم أفضل كثيراً من جمعية الأمم..

يريد إقبال أن يقول: فإن أردتم حقاً خير البشرية، خير بني آدم فأسسوا بدلًا من جمعية الأمم جمعية آدم، أي حاولوا أن تقضوا على جميع الامتيازات التي وضعت للتفريق بين البشر وبين الشعوب وبين الأمم المختلفة، وأقيموا المساواة في العالم، وهو ما يضمن الأمن والأمان وفلاح البشرية وسعادتها، وإقبال هنا يشير إلى عصبة الأمم التي تم تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى، فالهدف يبدو طيباً في الظاهر، لكن الهدف الأصلي كان استعباد الأمم الضعيفة والسيطرة عليها، وقد عبر إقبال عن هذا أصدق

ص: 292

تعبير حين قال عام 1933 م:

«لا أعلم عن هذه العصبة الأممية

سوى أنهم جماعة من لصوص القبور

أقاموا جمعية لتقسيم القبور».

وصدق ما قاله إقبال، فلم تتمكن لا عصبة الأمم ولا هيئة الأمم من تحقيق الأمن والسلام في العالم، ذلك لأن أعضاءها لا يعترفون بالمساواة بين الأمم، وهو الأمر الذي يقوم عليه أمن العالم (1).

هكذا عبر الشاعر عن تجاربه الداخلية، وأوضح عن مكنونات نفسه عن طريق الرمز والكناية، وفي حالة الوجد الأدبي يكون الرمز والكناية أبلغ ما يمكن لبيان التسلسل النطقي لأفكار أديب فيلسوف مثل محمد إقبال.

«لا أعلم عن هذه العصبة الأممية

سوى أنهم جماعة من لصوص القبور

أقاموا جمعية لتقسيم القبور».

وصدق ما قاله إقبال، فلم تتمكن لا عصبة الأمم ولا هيئة الأمم من تحقيق الأمن والسلام في العالم، ذلك لأن أعضاءها لا يعترفون بالمساواة بين الأمم، وهو الأمر الذي يقوم عليه أمن العالم

الهوامش:

__________________________________________________


1- أنظر كليات إقبال، ضرب كليم: 520- 591.

ص: 293

ص: 294

ص: 295

ص: 296

ص: 297

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (16)

2753- نداءات الإمام الخميني إلى حجاج بيت اللَّه الحرام

طهران: وزارة الإرشاد الإسلامي، ط 1، 1360 ش.

2754- نداءات الباعة في مكة المكرمة

عبد العزيز الرفاعي

المنهل (جدة) مج 41: ج 2- 3 (3/ 1400 ه/ 12- 1/ 79- 1980 م) ص 169- 170.

ج 4- 5 (4- 5/ 1400 ه/ 4- 5/ 1980 م) ص 289- 292.

2755- ندوة الحج المبرور

عبد الملك سيد

التصوف الإسلامي (القاهرة) س 12:

ع 6 (6/ 1990 م) ص 34- 39.

2756- نزهة الأبصار في عدم صحة نسب الخمسة البيوت المنسوبين إلى الأنصار

عبد الرحمن الأنصاري (1195 ه)

ظ: تحفة المحبين والأصحاب 105.

2757- النزهة الثمينة في أخبار المدينة

محب الدين البغدادي

خ: جتربتي

ظ: المورد مج 4: ع 1، ص 224،

العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 471.

ص: 298

2758- نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس: مع الموسوي المكي في رحلته

حمد الجاسر

الفيصل (الرياض) ع 223 (1/ 1416 ه- 6/ 1995 م)

ص 35- 37، ع 224 (2/ 1416 ه- 7/ 1995 م)

ص 35- 37، ع 225 (3/ 1416 ه- 8/ 1995 م)

ص 35- 37، ع 226 (4/ 1416 ه- 9/ 1995 م)

ص 35- 37، ع 227 (5/ 1416 ه- 10/ 1995 م)

ص 35- 37، ع 228 (6/ 1416 ه- 11/ 1995 م)

ص 35- 37.

2759- نزهة ذوي الأحلام بأخبار الخطباء والأئمة وقضاة بلد اللَّه الحرام

عبد العزيز بن فهد

ظ:

فهرس الفهارس والاثبات 755.

2760- نزهة الكرام في مدح طيبة والبلد الحرام

شعبان بن محمد قرشي الآثاري ت 828 ه

ظ:

كشف الظنون 1946،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 97.

2761- نزهة الناظرين في تاريخ مسجد سيد الأولين والآخرين

جعفر بن إسماعيل المدني ت 1317 ه، فرغ منه سنة 1287 ه

مكة المكرمة: 1303 ه.

القاهرة: مطبعة الجمالية، 1332 ه/ 1914 م، 120 ص

بيروت: دار صعب، 1975 م، 124 ص.

2762- نزهة الورى في أخبار أم القرى

ابن النجار محمد بن محمود ت 643 ه

ظ:

كشف الظنون 1950،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 19.

2763- نسب الأنصار

أبو محمد القداح الأنصاري، كان حياً سنة 235 ه

ص: 299

ظ:

العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 471.

2764- نسب حرب، قبيلة حرب (أنسابها، فروعها، تاريخها وديارها)

عاتق بن غيث البلادي

مكة المكرمة: دار مكة، ط 3، 1404 ه، 383 ص، 24 سم.

2765- نسب قريش

مصعب بن عبد اللَّه الزبيري 156- 236 ه، نشرهُ نشرة نقدية: ليفي بروفنسال

القاهرة: دار المعارف، 1953 م، 102+ 475+ 11 ص (ذخائر العرب، 11).

القاهرة: ط 2، 1976 م.

مجلة: مجمع اللغة العربية بدمشق: مج 29 (1954 م) ص 593- 603 (عز الدين التنوخي)

المورد: مج 1: ع 1 (1981 م) ص 31.

(ليفي بروفنسال)

2766- نسب قريش

هشام بن محمد الكلبي ت 204 ه

ظ:

الفهرست لابن النديم 110،

معجم ما ألف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 48.

2767- نسب قريش وأخبارها

علي بن محمد المدائني ت 225 ه

ظ:

الفهرست لابن النديم 114.

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 48.

2768- نسبة الأعمال وخلاصة الأفعال في تاريخ مكة والمدينة

سعد الدين الاسفرائيني ت 581 ه

خ:

خزانة الحرم المكي/ 2.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2769- نشأة الحياة العلمية في الحجاز

عبد الجبار الرفاعي

ميقات الحج. س 3: ع 6 (1417 ه) ص 123- 167.

2770- نشأة المدينة المنورة وقيام المساجد فيها

محمد محمود الغريب

ص: 300

المنهل (جدة) مج 36: ج 8 (8/ 1975 م) ص 569- 572.

2771- نشاط الحركة الدينيّة في الحجاز

عبد اللَّه خياط

المنهل (جدة) مج 14: ج 2 (2/ 1373 ه/ 10- 11/ 1953 م) ص 154- 159، ج 6 (6/ 1374 ه/ 2/ 1954 م) ص 390- 396.

2772- نشان كعبه، ره آورد حج

(بالفارسية)

م. قندهاري

1356 ش، 233 ص، مصور.

2773- نشر ألوية التشريف بالإعلام والتعريف بمن له ولاية عمارة ما سقط من البيت الحرام

محمد علي المعروف بابن علان المكي.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2774- نشر الأنفاس في فضائل زمزم وسقاية العباس

خليفة بن أبي الفرج الزمزمي ت 106 ه

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2775- نشر النور والزهر في تراجم أفاضل أهل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر

أو الدرّ المكنون (الميمون) في تراجم أهل الخمسة قرون

عبد اللَّه بن أحمد بن ميرداد 1343 ه (خطيب المسجد الحرام)

خ: الدهلوي بخزانة الحرم المكي، في مجلد ضخم.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 196 وص 208.

2776- نشستى با رئيس سازمان حج وزيارت

(بالفارسية)

ميقات حج: ع 24 (تابستان 1377 ش) ص 132- 140.

2777- النصارى في مكة قُبيل الهجرة

هنرى لامنس

ص: 301

المشرق مج 35 (1937 م) ص 69- 96، ص 264- 286.

2778- نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق إلى البيت الحرام

عبد اللَّه محمد بن غالب أحمد المكناسي الشهير بابن الكاك ت 807 ه

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2779- نصوص من كتاب أخبار المدينة لأبي زيد عمر بن شبة النميري البصري

عبد الحفيظ قاري

العرب مج 3: ج 8 (ربيع الأول 1389 ه) ص 754- 759.

2780- نصيحة لحجاج بيت اللَّه الحرام ومن يطلع عليها من المسلمين

(مكة المكرمة)

عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز

الرابطة س 28: ع 305 (7/ 1990) ص 6- 10.

2781- نصيحة المشاور وتعزية المجاور

(يشتمل على تراجم جماعة من أهل المدينة)

بدر الدين عبد اللَّه بن محمد بن فرحون (691- 769 ه)

خ: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

تحقيق: بنيدر مقبل الحيسوني لنيل درجة الدكتوراه

ظ:

العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 472.

2782- النصيحة الواجبة القبول في بيان موضع منبر الرسول صلى الله عليه و آله

السمهودي ت 911 ه

ظ:

وفاء الوفا 174، رسائل في تاريخ المدينة 36، معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 97، 174.

2783- النظام الاجتماعي عند العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام

جليلة تاجي الهاشمي.

المجلة التاريخية (القاهرة) ع 1 (آب 1970 م) ص 216- 224.

ص: 302

2784- نظام جديد للمطوفين في البيت الحرام

محمد طنطاوي

العربي (الكويت) ع 84 (11/ 1965 م) ص 31.

2785- نظرات في العروبة والحج وفي مستقبل هذه البلاد

محمد إسحق الحسيني

المنهل (جدة) مج 11: ج 9- 10 (11- 12/ 1370 ه/ 8- 9/ 1951 م) ص 367- 369.

2786- نظرة بعض الرحّالة المسلمين وبعض الرحّالة الغربيين عند زيارتهم لمنطقة الحجاز

حسين أمين

دراسات تاريخ الجزيرة العربية: ج 1 (1979 م) ص 385- 402.

2787- نظرة على تاريخ مدينة جدة

إبراهيم الشريفي

المنهل (جدة) مج 24: ج 11 (11/ 1383 ه/ 3- 4/ 1964 م) ص 673.

2788- نظري به مساله اقامت غير مسلمان در حجاز

(بالفارسية)

يعقوب جعفري

تحقيقات اسلامى س 5: ع 1، 2 (1369 ش) ص 114- 122.

2789- نظم تاريخ مكة للأزرقي

عبدالملك المصري الشافعي الأرمنتي ت 632 ه

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2790- نظم الدرر في اختصار نشر النور والزهر في تراجم علماء مكة وأفاضلها من القرن العاشر الى الرابع عشر.

عبداللَّه بن محمّد غازي الهندي.

خ:

مكتبة نصيف بجدة.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2791- نعم وُلِد صلى الله عليه و آله في مكة المكرمة

العرب س 20: ص 577.

2792- نغمات الرضا والقبول في زيارة المدينة وسيدنا الرسول صلى الله عليه و آله

أحمد الحضراوي المكي ت 1336 ه.

ص: 303

ظ: معجم المؤلفين 2/ 64، المدينة المنورة في التاريخ 209.

2793- نفح العود في أيام الشريف حمود (وهو في تاريخ مكة)

عبدالرحمن بن أحمد البهكلي الصمدي القاضي المولود سنة 1180 ه.

ظ:

إيضاح المكنون للبغدادي 2/ 667.

2794- النفح الفرجي في الفتح الجته جي لعبداللَّه باشا (في رحلات الحج)

جعفر بن حسن البرزنجي

العرب. س 12: ع 5- 6 (11، 12/ 1397 ه/ 11، 12/ 1977 م) ص 353- 396

(حمد الجاسر).

2795- نفحات الرضا والقبول في فضائل المدينة وزيارة الرسول صلى الله عليه و آله

أحمد بن محمد بن أحمد الخضراوي ت 1327 ه

مكة المكرمة: المطبعة الميرية، 1314 ه، 96 ص، 28 سم (على هامش: العقد الثمين في فضل البلد الأمين).

ظ:

إيضاح المكنون 2/ 664، معجم المطبوعات لسركيس 825.

2796- النفحة المسكية في الرحلة المكية

أبوالبركات عبد اللَّه بن حسين البغدادي

الدارة س 1: ع 2 (9/ 1984 م) ص 88- 96 (عرض: فاضل عباس الغراوي).

2797- النفط في حصار مكة

العرب س 18: ص 1126.

2798- نفوذ اسلام در يثرب

(بالفارسية)

رسول جعفريان

ميقات حج س 2: ع 6 (زمستان 1373 ش)، ص 91- 110، ع 7 (بهار 1373 ش) ص 114- 125.

2799- نقد كتاب محمد صلى الله عليه و آله در مكه و مدينه- نقد و بررسى كتاب «محمد في مكة» و «محمد في المدينة»

Montegomory Watt

تعريب: شعبان بركات

(بالفارسية)

نقد: محمد ثقفي

كيهان انديشه ع 47 (فروردين- ارديبهشت 1372 ش)، ص 144- 150.

ص: 304

2800- نقد معاجم الأمكنة بجزيرة العرب

حمد الجاسر

المنهل (جدة) مج 6: ج 1 (1/ 1365 ه/ 12/ 1945 م) ص 15- 19.

ج 2 (2/ 1365 ه/ 1/ 1946 م) ص 69- 73.

2801- نقش ايرانيان در حرمين شريفين

(بالفارسية)

محمد جواد طبسي

ميقات حج. س 4: ع 11 (بهار 1374 ش) ص 106- 124.

2802- نقش حج درتحولات دينى غرب آفريقا

(بالفارسية)

محمد علي سلطاني

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش) ص 50- 60.

2803- نقشان تذكاريان بمسجد الإجابة بمكة

هشام عجيمي

عالم المخطوطات والنوادر (الرياض) ع 1 (1417 ه).

2804- نقشه راهنماى مكه مكرمه و مدينه منوره

(بالفارسية)

إعداد: گيتا شناسى

مؤسسة جغرافيايي وكارتوگرافى سحاب، ط 1، 1365 ش.

2805- نقشه كعبه: نقش كعبه

(في تحديد الأركان والمحاريب للكعبة، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ:

مجلس 10/ 1382، فهرستواره منزوى 1/ 258.

2806- النقوش والآثار في صخور الحجاز

أحمد شطا

وضعه: عثمان رفقي رستم

ترجمة: السيد أحمد شطا

المنهل (جدة) مج 11: ج 3 (3/ 1370 ش/ 12- 1/ 1950- 1951 م) ص 1- 16.

2807- نكاتى در رابطه با سفر حج

(بالفارسية)

محمد صادق نجمي

ص: 305

قم: ط 1، 1365 ش.

2808- نگاهى بر آثار اسلامى حرمين شريفين

(بالفارسية)

اصغر قائدان

پيام انقلاب س 14: ع 307 (تير 1372 ش)، ص 14- 16، س 14: ع 308 (تير 1372 ش) ص 14- 16.

2809- نگاهى به اسرار حج

(بالفارسية)

وهبة الزحيلي

ترجمة وتحقيق: محمد تقي رهبر

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش) ص 19- 36.

2810- نگاهى به چند كتاب: الحج في القرآن، حج الأنبياء والأئمة، الحج في السنة

(بالفارسية)

محمد علي مهدوي راد

ميقات حج: ع 18 (زمستان 1375 ش) ص 176- 184.

2811- نگاهى به حكمت پاره اى از مناسك حج

(بالفارسية)

محمد باقر حجتي

في كتاب المؤلف:

چهارده مقاله و گفتار، ص 237- 257

طهران: پيام قرآن، ط 1، 1361 ش (كليات قرآن شناسى، 4).

ميقات حج س 2، ع 2 (تابستان 1372 ش) ص 15- 38.

2812- نگاهى به وجوب عمره همراه با حج افراد وقران و ...

(بالفارسية)

محمد رحماني

ميقات حج: ع 22 (زمستان 1376 ش) ص 50- 64.

2813- نگرشى اجتماعى به كعبه و حج

(بالفارسية)

محمد حسين كشكوئيه

طهران: أمير كبير، ط 1، 1372 ش، 324 ص، 21 سم.

2814- نگرشى بر اسرار معنوى حج

(بالفارسية)

محمد تقى رهبر

ميقات حج: ع 13 (پاييز 1374 ش)

ص: 306

ص 39- 50.

2815- نگرشى بر عرفات

(بالفارسية)

محمد أمين پور اميني

ميقات حج. س 3: ع 12 (تابستان 1374 ش) ص 164- 173.

2816- نگرشى به بعد تبليغى در آينه حج

(بالفارسية)

أحمد بهشتي

ميقات حج س 2: ع 4 (زمستان 1372 ش) ص 29- 43.

2817- نگرشى تازه به رمى جمرات

(بالفارسية)

مهدي مهريزي

ميقات حج: ع 26 (زمستان 1377 ش) ص 44- 55.

2818- نگرشى كوتاه به تبيين «حج»

(بالفارسية)

محمد جواد حجتي كرماني

مسجد س 1: ع 3 (خرداد 1371 ش) ص 13- 17

(ميقات حج س 1: ع 1 (پائيز 1371 ش) ص 108- 89، ع 5 (شهريور، مهر 1371 ش) ص 33- 39.

2819- نگرشى نو به ميقات

(بالفارسية)

محمد فاضل لنكراني

ترجمة: معيني زاده

ميقات حج س 2: ع 4 (تابستان 1372 ش) ص 75- 84.

2820- نمى از يم سفرنامه حج

(بالفارسية)

محمد تقى فرجي

طهران: ط 1، 1372 ش، 42 ص.

2821- نهج البيان في مناسك النسوان

أبوالفتح محمد بن عثمان الكراجكي ت 449 ه

ظ:

الذريعة 22/ 276، 24/ 415.

2822- نهج الحجج في مناسك الحاج

باقر بن إسماعيل الواعظ الكجوري ت 1313 ه

ظ:

الذريعة 24/ 415.

ص: 307

2823- نهج المسالك إلى معرفة المناسك

سليمان بن الحسن... تلميذ الشيخ الطوسي وصاحب «إصباح الشيعة»

ظ:

هدية العارفين 1/ 397، الذريعة 22/ 276، 24/ 424.

2824- نواب الرسول على المدينة

عبدالرزاق أسود

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 51 (1392 ه) ص 16- 18.

2825- نواب الرسول على المدينة

مكي حسين الكبيسي

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 56 و 57 (1392 ه) ص 94- 95.

2826- النواحي العمرانية لمكة المكرمة على مر العصور

عباس المهاجر

ميقات الحج ع 2 (1415 ه) ص 239- 261.

2827- نوادر المدنيين

الزبير بن بكار، ت 256 ه

ظ: فهرست النديم 123.

2828- نور المحجة في أعمال شهر ذي الحجة

النجف الأشرف: مطبعة النعمان، 1973 م، 16 ص.

2829- النور الوهاج في إيضاح مناسك الحج

هاشم عبدالسلام الظاهر

الموصل: مط الهدف، 1955 م، 32 ص.

2830- نيّات الحج والعمرة

الشهيد الثاني زين الدين العاملي ت 965 ه

تحقيق: فارس حسّون كريم

ميقات الحج ع 2 (1415 ه) ص 80- 96.

2831- نيايش حسين عليه السلام در صحراى عرفات

(بالفارسية)

محمد تقي رهبر

طهران: ولى عصر، 1361 ش.

2832- نيل المرام في فضل بيت الله الحرام

محمد بن ظافر المكي.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475

ص: 308

(3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2833- الهادية في زيارة النبي والأئمة الطاهرين

ظ:

الذريعة 5/ 155- 156.

2834- الهجرة إلى المدينة وبناء المجتمع الجديد

لطفي شاكر عجينة

منبر الإسلام س 47: ع 1 (8/ 1988 م) ص 26- 29.

2835- هجرة الرسول إلى المدينة المنورة

حسين أمين

في: موسوعة العتبات المقدسة ج 3:

قسم المدينة، ص 129- 170.

بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1407 ه/ 1987 م.

2836- الهجرة للمدينة ووسائل الاستقرار بها

أحمد شلبي

القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1985 م، 39 ص (المكتبة الإسلامية لكل الأعمار)

2837- الهجرة والنموذج للمدينة الإسلامية

سر الختم عبدالكريم

رسالة المسجد س 8: ع 83 (7/ 1988 م) ص 20- 22.

2838- هدايا الكعبة وآثارها ومعاليقها قبل الإسلام

عبدالقدوس الأنصاري

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه) ص 86- 88.

2839- هدايت السبيل و كفاية الدليل

(رحلة إلى مكة في سنة 1372 ه، بالفارسية)

فرهاد بن عباس قاجار ت 1305 ه

ظ:

نسخه ها 6/ 4056، الذريعة 12/ 189 (سفرنامه) و 25/ 177 (هدايه)،

استورى 1157 الرقم 1624، برگل 2/ 863 و 864،

مشار 5/ 5460، مشار مؤلفين 4/ 820،

آستان قدس 3/ 155، فيلم ها 1/ 121، ملى تبريز 1/ 184،

ص: 309

نشريه 3/ 141 و 252، آصفيه هندليست 3/ 350، رقم 96،

فهرستواره منزوى 1/ 157.

2840- هداية الأمّة إلى زيارت الأئمة

(ترجمة كتاب الستر والأستار عن وجه زيارت الزوّار، بالفارسية).

مرتضى خسرو شاهي

ترجمة: عبداللَّه بن عباد الله الحسيني

مشهد: 1323 ش، 56 ص.

2841- هداية الأمة في زيارة الأئمة

(بالفارسية)

محمد جعفر بن سيف الدين

شريعتمدار استرآبادي ت 1263 ه

خ: السيد المرعشي برقم 3077، 242 ورقة، 1261 ه،

ظ: فهرس المرعشي 8/ 301، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم 10/ 169.

2842- هداية الثقلين في فضل الحرمين

محمد بن علي عبدالرحمن بن عراق الصمداني (878- 933 ه)

ظ: الكواكب السيارة 1/ 65،

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209، العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 472.

2843- هداية الحاج

علي الموسوي البهبهاني

اصفهان: ط 5، 1395 ه.

2844- هداية الزائرين إلى زيارة المعصومين

(بالفارسية)

محمد ربيع بن عبدالنبي

خ: جلال الدين الأرموي بطهران.

ظ: الذريعة 25/ 176، معجم ماكتب عن الرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم 10/ 169- 170.

2845- هداية السالكين من الأنام إلى حج بيت الله الحرام

مشكور بن محمد الحولاوي النجفي 1372 ه

ظ:

الذريعة 22/ 276، 25/ 176.

2846- هداية القاصدين للحج والعمرة وزيارة سيد المرسلين

عبدالفتاح علي هندام

راجعه وصحّحه: محمود حسن ربيع

ص: 310

القاهرة: مطبعة دار الأنوار، 1358 ه، 196 ص.

2847- هداية المشتاق المستهام إلى رؤية النبي عليه الصلاة والسلام

زين العابدين المرصفي

خ: عارف حكمت برقم 227 مجاميع

ظ:

إيضاح المكنون 2/ 723، معجم ماألف عن رسول الله صلى الله عليه و آله 346.

2848- هداية الناسك إلى أهم المناسك

عبدالله بن محمد بن حميد

مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، ط 4، 1395 ه، 107 ص، 17 سم.

2849- هداية الناسكين من الحجاج والمعتمرين

محمد حسن بن محمد باقر صاحب «جواهر الكلام»

ظ: الذريعة 25/ 198.

2850- هدى الحرمين

محيي الدين محمد محي الأدونه (ت 1014 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2851- هديّه زائرين

(بالفارسية)

حسين صديقي

مشهد: 1349 ش، 99 ص، 19 سم.

2852- هدية الزائرين

عباس جليان

مشهد: 1383 ه، 99 ص، 19 سم.

2853- هدية الزائرين (مجموعة زيارات المدينة المنورة)

محمد حسن النائيني

الكويت: ط 5، 1388 ه، 98 ص، 17 سم.

2854- هدية الزائرين: شامل ادعيه و زيارات در مكه معظمه و مدينه منوره

مشهد: انتشارات هجرت، ط 1، 1370 ش، 102 ص.

2855- هدية الزائرين في الزيارات

محمد بن محمد حسين المرعشي الشهرستاني الحائري

ظ: الذريعة 25/ 209، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات الله

ص: 311

عليهم 10/ 170.

2856- هدية الزائرين وبهجة الناظرين

عباس القمي

تبريز: 1343 ه، 559 ص: حجرية.

طهران: 1324 ه، 559 ص، حجرية.

2857- هدية الزمن في أخبار ملوك الحج وعدن

أحمد فضل بن علي محسن العبدلي

بيروت: دار العودة، ط 2، 1400 ه، 319 ص، 24 سم.

2858- هذه هي مكة: أم القرى وأم المدن.

مصطفى نبيل

العربي: ع 237 (1978 م) ص 68.

2859- هشت بهشت في المزار

(بالفارسية)

عبدالكريم بن جواد الموسوي الجزائري

ظ: الذريعة 25/ 223، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم 10/ 171.

2860- هكذا حج رسول الله صلى الله عليه و آله

محمد مهدي الحسيني الشيرازي

النجف الأشرف: 1968 م.

2861- هكذا حج رسول الله صلى الله عليه و آله أيام التشريق

محمد عبده يماني

الإسلام وطن س 5: ع 52 (7/ 1991 م) ص 18- 19.

2862- هل تريد الحج؟

محمد مهدي الحسيني الشيرازي

النجف: مطبعة النعمان، 1380 ه، 16 ص (سلسلة الفرائض الإسلامية، 5)

النجف: ط 2، 1964 م.

2863- هل طاف النبي صلى الله عليه و آله حول الأصنام في عمرة القضاء؟

محمد هادي اليوسفي

ميقات الحج. س 3: ع 5 (1417 ه) ص 171- 181.

2864- هل يحق لغير المسلم أن يسكن جزيرة العرب؟

يعقوب جعفري

ميقات الحج ع 1 (1415 ه) ص 213- 222.

2865- هلال المحرم وجبل الثور

أحمد علي

المنهل (جدة) مج 31: ج 1 (1/ 1390 ه

ص: 312

/ 3/ 1970 م) ص 21- 22.

2866- همراه با زائران خانه خدا

(بالفارسية)

محمد تقي رهبر

طهران: مشعر، ط 2، 1375 ش، 144 ص، 21 سم.

2867- همراه با سپيد جامگان

(بالفارسية)

علي قاضي عسكر

ميقات حج: ع 17 (پاييز 1375 ش) ص 233- 254.

2868- همه با هم بسوى خانه خدا

(بالفارسية)

حسين رزازي

طهران: 1353 ش، 178 ص.

2869- هيئة التوعية الإسلامية في الحج بدأت منذ عام 1394 في بيت الله الحرام

الرابطة (مكة المكرمة) س 26: ع 281 (7/ 1988 م) ص 31- 32.

2870- وأذّن في الناس بالحج

عبدالسلام عزام

المنهل (جدة) مج 9: ج 1 (1386 ه/ 11/ 1948 م) ص 2- 5.

2871- وادي القرى: المفهوم والمسمى (حول مكة المكرمة)

أحمد عبداللَّه عبدالكريم

الدارة س 9: ع 1 (يوليو 1983 م) ص 29- 47.

2872- واقعات سفر حجاز

(رحلة إلى الحجاز، بالفارسية)

شيخ عبدوس (من الهند)

ظ:

نسخه ها 6/ 4054،

الذريعة 25/ 21،

داكا 1/ 361،

فهرستواره منزوى 1/ 155.

2873- واليان مكه (از صدر اسلام تاكنون)

(بالفارسية)

تأليف و تحقيق: هادي أميني

ترجمة: محسن آخوندي

ميقات حج س 1: ع 2 (زمستان 1371 ش) ص 185- 203.

2874- الوثائق السياسية الإدارية العائدة للجزيرة العربية

دراسة ونصوص: محمد ماهر حمادة

بيروت: مؤسسة الرسالة، 1987 م، 372 ص.

ص: 313

2875- وثائق مخصصات الحرمين الشريفين في مصر أبان العهد العثماني

مصطفى محمد رمضان

دراسات تاريخ الجزيرة العربية: ج 1 (1979 م) ص 259- 274.

2876- الوثائق المكتوبة باللغات الأوربية والمتعلقة بالجزيرة العربية في الجزر البريطانية

بقلم: ج. د. بيرسون

في: الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض:

5/ 1397 ه/ 4/ 1977 م).

2877- وثائق الوقف على الأماكن المقدسة

عبداللطيف إبراهيم

دراسات تاريخ الجزيرة العربية: ج 1 (1979 م) ص 251- 257.

2878- الوثائق والمخطوطات العربية لتاريخ الجزيرة العربية

رشاد الإمام

المؤرخ العربي: ع 13، ص 189- 198.

2879- وثيقة إنشاء الدولة الإسلامية في المدينة

جعفر عبدالسلام علي

الفكر الإسلامي س 17: ع 8 (8/ 1988 م) ص 47- 50.

2880- وجوب الإحرام من الميقات

عبدالعزيز بن باز

مجلة التوحيد (القاهرة) س 16: ع 11 (7/ 1988 م) ص 40- 43.

2881- وجوب طواف البيت على الأنام ولوكان بعد الانهدام

مجهول المؤلف

ظ:

إيضاح المكنون 4/ 701.

2882- الوجيز في الحج مع الإشارة إلى الدليل

محمد علي فاضل

الموصل: مط الجمهور، 1976 م، 35.

2883- الوجيز في مناسك الحج

محمد تقي المدرسي

طهران: 1415 ه.

2884- الوجيزة في تعريف المدينة

(بالفارسية)

(رحلة إلى المدينة في سنة 1294 ه)

محمد ميرزا مهندس

تحقيق: رسول جعفريان

[د. م]: نشر مشعر، ط 1، 1373 ش

ص: 314

(مع: به سوى ام القرى، وغيره).

2885- الوجيزة في الزيارات

محمود بن علي بن محمد بن إبراهيم الحسيني الموسوي التبريزي ت 1338 ه.

طبع مع سلامة المرصاد للنوري

ظ: الذريعة 25/ 52، 12/ 213، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم 10/ 174.

2886- وحدت اسلامى به ضميمه كتاب الحج

(بالفارسية)

مجتبى ذاكري

مشهد: المؤلف، ط 1، 1364 ش، 184 ص، 24 سم.

2887- وسيلة الزائرين

نظام الدين رفيع الدين البربري

طبع عام 1315 ه

ظ: الذريعة 25/ 78، معجم ما كتب عن الرسول و أهل البيت عليهم السلام 10/ 176.

2888- وسيلة القبول في الصلوة على آل الرسول

خ: مجلس الشورى بطهران

ظ: فهرس المجلس 9/ 45، معجم ما كتب عن الرسول و أهل البيت صلوات الله عليهم 10/ 176.

2889- وصف لمدينتي مكة والمدينة

مجهول المؤلف

خ: لوثر

ظ: المورد 43، ص 261، المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209، العرب س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 473.

2890- وصف المدينة المنورة في سنة 1303 ه/ 1885 م.

علي بن موسى الأفندي

العرب. س 6: ملحق ع 4 (10/ 1391 ه/ 12/ 1971) ص 10- 26.

ملحق ع 6 (12/ 1391 ه/ 2/ 1972 م) ص 28- 54 (حمد الجاسر).

2891- وصف مشاهد مكة والمدينة

محمد بن عمر الواقدي ت 207 ه

ظ:

العرب. س 31: 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 473.

ص: 315

2892- وصف مكة شرفها الله وعظمها ووصف المدينة الطيبة كرمهاالله ووصف بيت المقدس المبارك وماحوله

محمد بن أبي بكر التلمساني

العرب مج 8: ج 5، 6 (11- 12/ 1393 ه) ص 324- 357 (حمد الجاسر).

2893- الوصول والمنى في فضل منى

الفيروزآبادي

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2894- الوضع الاجتماعي في الجزيرة العربية

أحمد الواسطي

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه) ص 264- 283.

2895- الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية

كاظم النصيري

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه) ص 250- 266.

2896- وضع الهلال فوق القبة ومنائر الحرم المدني

مجهول المؤلف

نشر ضمن كتاب (رسائل في تاريخ المدينة) (تقديم وإشراف: حمد الجاسر).

2897- وظايف أخلاقى حاجيان

(بالفارسية)

عبدالهادي مسعودي

ميقات حج: ع 23 (بهار 1377 ش) ص 156- 170.

2898- وظايف هسته هاى امر به معروف در حج

(بالفارسية)

محمد محمدي ري شهرى

ميقات حج: ع 22 (زمستان 1376 ش) ص 144- 151.

2899- وظيفة الحجاج في مستحبات الأعمال للحجاج في مكة والمدينة ومزارات الشام

أحمد بن كربلايى بابا أردبيلي

مطبوع سنة 1344 ه

2900- وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى

أبوالحسن محمد بن عبداللَّه بن أحمد

ص: 316

السمهودي

(وهو مختصر كتابه: اقتضاء الوفا)

القاهرة: (بعناية محمد محيي الدين عبدالحميد)

القاهرة: 1326 ه، 2 ج في 1 مج

مطبعة الآداب والمؤيد، 1326 ه

بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1374 ه، 776+ 659، 25* 17، 4 ج في 2 مج

الرياض: دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، 1392 ه/ 1972 م، ص 95- 179 (ضمن رسائل في تاريخ المدينة قدم لها وأشرف على طبعها: حمد الجاسر (نصوص وأبحاث جغرافية وتاريخية عن جزيرة العرب، 16).

2901- وفود القبائل على الرسول وانتشار الإسلام في جزيرة العرب (يعرض الكتاب لوفود القبائل العربية على الرسول صلى الله عليه و آله من شتى أنحاء الجزيرة العربية ويذكر معبوداتهم السابقة ومعتقداتهم)

حسن جبر المالكي

الكويت: وزارة الإعلام، ط 1، 1987 م، 329 ص، 24 سم (دراسات في التراث العربي، 10) الوعي الإسلامي: ع 290 (2/ 1409 ه/ 10/ 1988 م) ص 92- 105 (فهمي الإمام).

2902- وفور الأثر في التوسل إلى سيد البشر

محمد رضا أسداللَّه شاهي الاصفهاني

اصفهان: ط 2، 1326 ه، 128 ص.

ظ:

الذريعة 5/ 122.

2903- وقائع الندوة الإسلامية السنوية الكبرى لموسم حج 1408

محمد بهي الدين سالم

منبر الإسلام س 47: ع 1 (8/ 1988 م) ص 103- 119.

2904- وقفة شاعر بوادي العقيق

المنهل (جدة) مج 1: ج 11- 12 (10- 11/ 1356 ه/ 12/ 1937- 1/ 1938 م) ص 57- 59.

2905- وقفة فاحصة عند لفظة: «فلا جناح عليه»

محمد هادي معرفة

ميقات الحج ع 1 (1415 ه) ص 100- 107.

ص: 317

2906- ولاة مكة

ابن فهد النجم عمر

خ: مدراس بالهند.

مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، (نسخة مصوّرة).

2907- ولاة مكة بعد الفاسي

عبدالستار الدهلوي

(رسالة)

(طُبعت بمصر سنة 1956 م مع شفاء الغرام)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 209.

2908- الولاية على أرض الحرمين الشريفين في الإسلام والقانون الدولي

محمد الخطيب

منبر الإسلام (القاهرة) س 74: ع 12 (7/ 1989 م) ص 30- 34.

2909- ويژگيهاى حج ابراهيمى از ديدگاه حضرت امام خمينى- رضوان الله تعالى عليه-

(بالفارسية)

ميقات حج س 1: ع 1 (پائيز 1371 ش)، ص 16- 9،

س 1: ع 2 (زمستان 1371 ش)، ص 9- 11،

س 2: ع 4 (تابستان 1372 ش)، ص 7- 8،

س 2: ع 5 (پائيز 1372 ش)، ص 7- 9،

س 2: ع 4 (زمستان 1372 ش)، ص 7- 9،

س 2: ع 7 (بهار 1373 ش)، ص 7- 9،

س 2: ع 8 (زمستان 1372 ش)، ص 7- 8،

س 3: ع 9 (پائيز 1373 ش)، ص 9- 11،

2910- ويژگيهاى حج سال 1371 ش

(بالفارسية)

محمد محمدي ري شهري

ميقات حج س 1: ع 1 (پائيز 1371 ش) ص 53- 47.

2911- يا إله الحجيج

ضياء الدين رجب

المنهل (جدة) مج 33: ج 2 (2/ 1392 ه/ 3- 4/ 1972 م) ص 236- 239.

ص: 318

2912- يادى از سفر پر شكوه حج

(بالفارسية)

صدر الدين افتخاري

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش) ص 193- 198.

2913- يار كجاست (سفرنامه حج)

(بالفارسية)

رحيم مخدومي

طهران: حوزه هنرى سازمان تبليغات اسلامى، ط 1، 1373 ش، 184 ص.

2914- يثرب شهر يادها و يادگارها

(بالفارسية)

رضا رهگذر

طهران: انتشارات پيام آزادى، ط 2، 1368 ش، 110 ص، 24 سم.

2915- يثرب قبل الإسلام

محمد أحمد الوكيل

جدة: دار المجتمع للنشر والتوزيع، ط 2، 1409 ه، 220 ص.

2916- يك كتاب در يك مقاله

(بالفارسية)

عرض كتاب الحج و العمرة في الكتاب والسنة لمحمدي الري الشهري

محمد رحماني

ميقات الحج: ع 24 (تابستان 1377 ش) ص 142- 164.

2917- يلمْلَم

عبدالهادي الفضلي

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه) ص 44- 64.

2918- يلملم

(بالفارسية)

عبدالهادي الفضلي

ترجمة: مهدى پيشوايي

ميقات حج: ع 19 (بهار 1376 ش) ص 101- 117.

2919- يهفو إلى البيت قلبي

فؤاد شاكر

المنهل (جدة) مج 33: ج 2 (2/ 1392 ه/ 3- 4/ 1972 م) ص 240- 241.

2920- يهود الحجاز في العصر النبوي

رفيق التميمي

الزهراء (القاهرة) مج 2: ج 7 (رجب 1344 ه/ 1925 م) ص 390- 400.

2921- اليهود في الجزيرة العربية

أحمد الواسطي

ميقات الحج ع 2 (1415 ه)

ص: 319

ص 220- 238.

2922- اليهود والدعوة الإسلامية في الحجاز في فترة الرسول صلى الله عليه و آله

فتحى أحمد محمود

جامعة الموصل: كلية الآداب، 1982 م (رسالة ماجستير، بإشراف: هاشم الملّاح).

2923- يهود يثرب و خيبر: الغزوات والصراع

ناصر السيد

بيروت: المكتبة الثقافية، ط 1، 1992 م، 150 ص، 24 سم.

2924- يوم الحجّ الأكبر

علي قاضي عسكر

ميقات الحج ع 1 (1415 ه) ص 169- 186.

2925- يوم الحج الأكبر: الإعلان بآداب الحج إلى البيت الحرام

إبراهيم العدوي

منبر الإسلام (القاهرة) س 48: ع 12 (7/ 1990 م) ص 14- 17.

2926- يوم فتح مكة

خليل هنداوي

بيروت: دار العلم للملايين، د. ت، 119 ص (أيام العرب، 6).

بيروت: دار العلم للملايين، 1974 م، 124 ص.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.