ميقات الحج-المجلد التاسع عشر

اشارة

نام كتاب: دو فصلنامه« ميقات الحج»

نويسنده: مركز تحقيقات حج

ص: 1

كلمة التحرير

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

تفتتح مجلّة ميقات الحجّ بصدور عددها «19» ربيعها العاشر.

إنّ «ميقات الحجّ»- والحمد للَّه- طوال هذه المدّة، وبالتعاون الوثيق والتعاطف الدافئ الذي نالته من الكتّاب والعلماء والباحثين الملتزمين... استطاعت أن تخطو خطوات هامّة ومؤثّرة، في طريق عرض باقة من النظريات العلميّة، والمقالات الفكرية، والدراسات الميدانيّة، والمطالعات الثقافيّة، حتى أتمّت أكثر من 5000 صفحة مليئة بالدراسات المختلفة، والتي تعالج مختلف أبعاد الحجّ، الأمر الذي لاقى ترحيباً مميّزاً من جانب الباحثين الدينيين، ورجال العلم والتحقيق.

لقد كان إحياء التراث العلمي واحداً من الأنشطة الحيويّة التي اضطلعت بها المجلّة، وقد نجحت في إخراج المخطوطات والمقالات القديمة؛ من بين ثنايا المكتبات مما لم يكن قد رأى حتى وقته طريقه للنشر والإفادة العامّة، وقد تركّزت هذه المقالات جميعها حول موضوع الحجّ، وسلّطت الضوء عليه من زوايا متعدّدة...

إلّا أنّ الشي ء المؤكّد هو الاستمرار في هذا الطريق، وإدامة المجلّة طريقها نحو

ص: 6

الهدف المنشود، وهو أمرٌ مرهون قبل كلّ شي ء بإسهامات العلماء والباحثين، ومدّهم يد العون في المجالات العلميّة المختلفة.

وبما أنّ الدنيا قد عصفت بها تطوّرات التكنولوجيا الحديثة، وأحاطت بها تعقيدات وسائل الاتصال العالمية حتى غدا العالم الفسيح الرحيب «قريةً كونية» كما يقولون...

يحتاج الحجّ فيها قطعاً إلى إسهامات واقتراحات العلماء والباحثين الدينيين، وذلك لكي يبقى الحجّ ضاخّاً بكلّ المضامين المعنوية، و زاخراً بكلّ العبق العرفاني الأصيل، حتّى لا تغدو سهولة السفر إلى الحجّ والعودة منه باعثاً لقراءة رجعيّة له ولأعماله، الأمر الذي يسدل ستار النسيان على فلسفة الحجّ الإبراهيمي.

وقد شاءت السماء أن تمتدّ فريضة الحجّ، وإثر ذلك تستطيل أحكامها، وتتفرّع مسائلها وأبعادها المختلفة فقهيّةً، وأخلاقيّة، وعرفانيّة، واجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، و... وتتشابك إلى حدّ من السعة يشعر الباحث أنّه بحاجة إلى أرضية أكبر للبحث والدراسة في كلّ ما يتعلّق بهذه الفريضة المباركة، سيّما في عصرنا الحاضر حيث يتعرّض الإسلام العزيز إلى هجوم جادّ وحقيقي من جانب القوى الشيطانيّة، ساعين فيه بكلّ جهد وطاقة مهما بلغت، وبأيّ وسيلة كان الأمر، لمحو الآثار الإسلاميّة، والشعائر الدينيّة من الوجود، ليطفئوا هذا المشعل النوراني الوضّاء.

لذلك، يلزم على كلّ المثقّفين علماءاً وكتّاباً ومؤلّفين، قراءة الحج قراءةً عميقة واعية، واستجلاء معالمه، والكشف عن عظمة هذه الفريضة الإلهيّة التي يتحقّق بها قوام المجتمع الإسلامي... كشفاً دقيقاً وواضحاً، لينتفع به جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ولكي يتمّ توظيف هذا المؤتمر العالمي الكبير في سبيل بلوغ النصر المؤزّر للإسلام على الكفر العالمي، ليتحقّق بذلك شعار «الإسلام يعلو

ص: 7

ولا يُعلى عليه» ويرتفع عالياً خفّاقاً.

ومن هذا المنطلق، تشدّ مجلة «ميقات الحج» على أيدي الباحثين والمفكّرين والعلماء، أينما كانوا في كلّ أرجاء العالم، مرحّبةً أيّما ترحيب بنتاجاتهم ودراساتهم وآثارهم حول هذا الموضوع.

إدارة المجلّة

ص: 8

رسالة في القبلة

... أحمد بن محمد بن مال اللَّه الصفّار

تحقيق: هادي القبيسي العاملي

بين أيدينا أحد الآثار العلميّة والكنوز المخفيّة، لعلمٍ من أعلام الطائفة الحقّة في القطيف والاحساء، وهي رسالة في القبلة للشيخ أحمد بن محمّد بن مال اللَّه الصفّار.

وبما أنّ المتعرّضين لترجمته قلّة، وفيهم المصنّفات المخطوطة موجودة في القطيف والأحساء على ما نقل وليست في متناول أيدينا، فنكتفي بالجهد الذي بذله المحقّق السيّد هاشم الشخص، في كتاب له: أعلام هجر (1).

ونحن ننقل عنه بتصرّف.

ولادته ونشأته:

ولد في القطيف وبها نشأ وترعرع، ولانعلم مولده. هاجر من وطنه الأصلي القطيف إلى الأحساء واستوطنها منذ بداية أمره، وكان سكناه فيها في مدينة


1- أعلام هجر 1: 352- 358.

ص: 9

الهفوف بمحلّة الكُوْت.

تلقّى في الأحساء جزءاً مهمّاً من تحصيله العلمي، كما درس- ظاهراً- في أحد المراكز العلميّة خارج البلاد- والظاهر أنّه النجف الأشرف- لكن معلوماتنا عن ذلك محدودة.

وفي سنة 1240 ه، كان المترجم له أحد الوافدين إلى إيران لزيارة الإمام الرضا عليه السلام في خراسان بصحبة عدد من العلماء، وهم: الشيخ علي بن الشيخ مبارك آل حميدان الجارودي الأحسائي، والشيخ سليمان بن الشيخ آل أحمد آل عبد الجبّار القطيفي، والشيخ عبد الحسين بن ناصر الأحسائي القاري، والشيخ محمّد بن مشاري الجفري الأحسائي، فمرّوا في طريقهم بمدينة (سيرجان) قرب (كرمان)، ونزلوا ضيوفاً على العلّامة الشيخ عبد المحسن اللّويمي الذي كان يقيم هناك، وبطلبٍ من المترجم له والمشايخ المذكورين كتب الشيخ اللّويمي الإجازة الكبيرة لهم جميعاً، وذلك بتاريخ (25 رمضان 1240 ه).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المترجم له- رغم ما له من المقام والشأن الرفيع- كان يعتمد في تأمين معاشه على عمله وكدّ يمينه، والمعروف أنّه كان يعمل صفّاراً- أي يصلح الأواني المصنوعة من النحاس- ولذلك لُقّب ب «الصفّار».

ولعلّ امتهانه لهذا العمل، إنّما كان في أوائل أمره.

أساتذته وتلامذته:

عرفنا من أساتذته اثنين فقط هما:

1- الشيخ عبد المحسن بن الشيخ محمد اللّويمي الأحسائي (وهو من كبار علمائنا)، والمتوفى (1245 ه)، وله أيضاً الرواية عنه.

2- الشيخ علي بن الشيخ محمّد الرمضان، الشهيد الأحسائي،

ص: 10

المتوفى (1265 ه). وكان بينه وبين أستاذه هذا مودّة وصحبة أكيدة، عبّر عنها كلّ منهما في رسائلهما المتبادلة وأشعارهما الرائعة، التي سُجّل بعضها في (ديوان الشيخ علي الرمضان)، المخطوط.

وقد تتلمذ على يديه عدد من العلماء وأهل الفضل، كان أبرزهم: المرجع الديني الكبير السيّد هاشم بن السيّد أحمد الموسوي الأحسائي المتوفى (1309 ه)، حيث حضر لدى المترجَم له برهة من الزمن في الأحساء قبل أن يهاجر إلى النجف (1).

وكانت الأحساء ذلك الحين تزخر بكثير من العلماء الأجلّاء، وفي «الهفوف» كانت هناك حوزة علميّة نشيطة يشرف عليها المرجع الديني في عصره الشيخ محمد بن الشيخ حسين أبو خمسين، المولود (1210 ه) والمتوفى (1361 ه)، والمظنون قويّاً أنّ المترجم له كان أحد الأساتذة البارزين في هذه الحوزة، وفيها تخرّج عليه السيد هاشم الأحسائي وغيره.

ومنهم أيضاً: العلّامة السيّد محمد بن السيّد إبراهيم بن السيّد عبد النبي الموسوي الأحسائي.

فضله وأقوال العلماء فيه:

قال في شأنه أستاذه وشيخه في الرواية الشيخ عبد المحسن اللّويمي الأحسائي في الإجازة الكبيرة الصادرة له ولعدد من العلماء: «فضممتهم إلى جناحي ورضعتهم بالعلم صباحي ورواحي، فنالوا حظّاً وافراً من المعقول، ونصيباً متكاثراً من المنقول:... الشيخ الأوّاه والأخ في اللَّه، الجليل النبيل، التقيّ النقيّ أحمد ابن الموفّق المسدّد الحاج محمد بن مال اللَّه الخطي... إلى أن يقول: فأفادوا أكثر ممّا


1- دائرة المعارف الإسلامية الشيعيّة 3: 100، مادّة أحساء.

ص: 11

استفادوا، بحيث ظهر جدّهم واجتهادهم، وقابليّتهم واستعدادهم، وإعراضهم عن مزخرفات الأهواء، وتمسّكهم بالسبب الأقوى، واختيارهم ما هو أقرب للتقوى، وأهليّتهم لنقل الحديث وروايته، بل نقده ودرايته... (1).

وقال عنه الحجّة الشيخ حسين أبو خمسين الأحسائي في مقدّمة كتابه (هداية المسترشدين)- الذي ألّفه بطلب من المترجَم له-: «جناب العالم الفاضل والحبر الكامل والرجل الواصل، الشيخ الجليل والفحل النبيل، شيخنا ومولانا الشيخ أحمد بن المبرور المرحوم الحاجي محمد قدس سره لا زال ملحوظاً بعين العناية، محفوظاً عن الضلالة والغواية، ومتوجّهاً إلى عالم اللانهاية...» (2).

وقد عثر في الأحساء على كتاب خطّي لأحد العلماء المعاصرين للمترجَم له، اسمه (نور الأبصار في دحض حجّة أحمد الصفّار)، يعني الشيخ أحمد صاحب الترجمة، ولم نعرف اسم مؤلّف الكتاب، ومن ذلك يعلم أنّ المترجَم له كان من ذوي الفضل والعلم والمعرفة، وكانت له كتب واحتجاجات معروفة في حينها، أدّت إلى أن يردّ عليه بعض العلماء في كتاب مستقلّ.

مؤلّفاته:

عثرنا في الأحساء له على بعض الرسائل الخطّية بحوزة العلّامة المعاصر الشيخ حسين بن الشيخ محمّد الخليفة، وهي كالتالي:

1- الإفاضة الرحمانية في جواب المسائل الأرجانيّة: وهي ستّ مسائل وردت من الآخند ملّا محمّد علي الأرجاني، فرغ منها في 12 ذي الحجّة سنة 1256 ه.


1- منتظم الدرّين 1، مخطوط.
2- هداية المسترشدين في معرفة ردود النصوص النورانية عن الأئمّة الطاهرين. مخطوط نسخة منه في الأحساء عند الحاج جواد الرمضان.

ص: 12

والمسائل وردت أساساً لأستاذ المترجَم له الشيخ عبد المحسن اللّويمي، لكن وافاه الأجل قبل الإجابة عنها، فأجاب عنها كلّ من: ولده الشيخ علي، وصاحب الترجمة، في كتابين مستقلّين، كلاهما بحوزة العلّامة الشيخ حسين الخليفة (1).

2- أربع أراجيز فقهيّة استدلاليّة مختصرة، اثنتان منها في الخمس، والثالثة في الاجتهاد، والرابعة في صلاة الجمعة.

3- البرهان على وجوب وجود المجتهد في كلّ الأوقات والأزمان، فرغ منها عام 1242 ه.

4- رسالة في القبلة، فرغ منها 1243 ه، وهي التي بين أيدينا.

5- شرح حديث (من عرف نفسه فقد عرف ربّه)، فرغ منه 10/ 3/ 1242 ه.

6- مسألتان فقهيّتان: الأولى في الوصيّة للعبد، والثانية في كفّارة النذر والعهد، كلاهما على نحو الاستدلال والمناقشة. فرغ من المسألة الثانية ليلة الثلاثاء 8/ 10/ 1252 ه.

شعره:

كان أديباً شاعراً كما كان عالماً جليلًا، لكن لم نعثر إلّاعلى القليل من شعره، من جملته الأراجيز الفقهيّة، ولا يسع المقام لذكره.

وفاته:

لم يعلم تاريخ وفاته، إلّاأنّه رثا أستاذَه الشيخَ علي الرمضان في قصيدة سنة 1265 ه، ومن ذلك يظهر أنّ وفاته كانت بعد هذا التأريخ.


1- وقد شرح هذه الرسالة تلميذ المترجَم له المذكور، السيّد محمد بن السيّد إبراهيم بن السيّد عبد النبي الموسوي الأحسائي القاري، في كتاب مستقلّ، فرغ منه في ربيع الأوّل 1257 ه.

ص: 13

هذا، وله ذرّية في الأحساء لا تزال معروفة إلى اليوم، ويقال لهم: آل حاجي محمد، وكذا حدّثنا الأديب والمؤرّخ الحاج جواد آل الشيخ علي الرمضان.

مع الرسالة:

اسمها:

وإن كان المصنّف لم يصرّح باسمها، إلّاأنّ موضوعها يكفي دلالة على هذا الاسم، حيث إنّها اختصّت بالقبلة، إضافة إلى ما جاء في أعلام هجر (1) من أنّ أحد مصنّفاته رسالة في القبلة، والأمر سهل.

نسبتها:

صرّح المصنّف في المقدّمة باسمه الكامل بقوله: أمّا بعد، فيقول الفقير إلى اللَّه:

أحمد بن محمد بن مال اللَّه... وكذا نسبها إليه في أعلام هجر.

والرسالة هذه، وضعها المصنّف للردّ على بعض فضلاء الأحساء- والذي لم يصرّح باسمه- حيث ادّعى ذلك الفاضل أنّ قبلة الأحساء فيها تياسر عن نقطة المغرب مقدار أربعة أو خمسة أصابع معتمداً على قواعد الهندسة والحساب، وعلى الهيئة والاصطرلاب. وأبطل المصنّف مدّعاه- بإثبات أنّ قبلة الأحساء ليس فيها انحراف عن نقطة المغرب الاعتدالي- معتمداً في ردّه على الكتاب والسنّة، وما عليه علماء الدِّين في جميع السنين.

ولا يبعد أن يكون الفاضل الذي ردّ عليه المصنّف هنا نفسه ذلك الفاضل الذي قلنا سابقاً إنّه كتب كتاباً في الردّ على المصنّف وسمّاه ب (نور الأبصار في دحض حجّة أحمد الصفّار) بقرينة عدم ذكر اسمه، واللَّه العالم.


1- 1: 358.

ص: 14

والنسخة محفوظة- مصوّرة عنها- في مكتبة دار المصطفى في مدينة قم، برقم 119. جيّدة الخط، كتبت بخطّ النسخ فيها بعض الأخطاء، لم يعلم تاريخ نسخها، إلّا أنّ المؤلّف فرغ منها سنة 1243 ه، وهي تحتوي على 16 صفحة، كلّ منها يحتوي على 19 سطراً.

عملنا في الرسالة:

بما أنّ الرسالة منحصرة في هذه النسخة الفريدة النادرة التي لم يُعثر على غيرها، كان لابدّ لنا أن نتحمّل أتعاب بعض الإشكالات لحلّها من نفسها، نظراً لعدم إمكان الاستعانة بغير هذه النسخة، وكان عملنا كالتالي:

قمت باستنساخ الرسالة ومقابلتها، وتقطيع النص إلى فقرات بحسب القواعد المتّبعة للتحقيق، ثمّ استخراج الآيات والروايات والأقوال الفقهية، ثمّ رتّبت مقدّمة مختصرة عن حياة المصنّف وحال الرسالة.

وأخيراً، أتقدّم بالشكر الجزيل إلى مركز المصطفى الذي وضع تحت اختياري مصورة عن النسخة بكلّ لطف وامتنان، فجزاهم اللَّه خير جزاء المحسنين، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

26 شهر رمضان المبارك 1423 ه.

ص: 15

مصوّرة من الصفحة الأولى

ص: 16

مصوّرة من الصفحة الأخيرة

ص: 17

بسم اللَّه الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد للَّه الذي أوجب على جميع المكلّفين متابعة خاتم النبيّين وآله المعصومين صلّى اللَّه عليهم أجمعين، فيما أمكن من الأقوال والأفعال، في كلّ وقت وعلى كلّ حال، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين، ومن نسخت شريعتُه شرائعَ الرسل المتقدّمين، محمد بن عبداللَّه الصادق الأمين، وعلى آله الذين خلّفهم فينا مع الكتاب، فلن نضلّ إن تمسّكنا بهما؛ لأنّهما لن يفترقا إلى يوم الحساب.

أمّا بعد، فيقول الفقير إلى اللَّه أحمد بن محمد بن مال اللَّه: إنّ أفضل الأعمال بعد المعرفةِ الصلاةُ، فإنّها عمود الدِّين، وقد ورد بالحثّ الأكيد عليها القرآن المبين، وسنّة سيّد المرسلين وآله المعصومين، ممّا لا يُحصى ولا يُستقصى، وقد ورد أنّ لها ثلاثة آلاف حدّ (1)، ولا شكّ ولا ريب أنّ من جملة حدودها التي يتوقّف عليها قبولها القبلة المأمور بالتوجّه إليها فيها، بل التوجّه إلى القبلة محتاج له في غير الصلاة، كحالة الاحتضار، والدفن للأموات، والصلاة عليهم، والذباحة، فيجب معرفتها على جميع المسلمين، وهي عين الكعبة لمن يمكنه مشاهدتها من غير مشقّة شديدة عادة.

وجهتها التي يقطع بعدم خروجها منها لغير المتمكّن كالبعيد ونحوه، كما هو


1- انظر الكافي 3: 272، حديث 6، إلّاأنّه ورد فيه: أربعة آلاف حدّ.

ص: 18

مذهب السيّد المرتضى (1)، وابن الجنيد (2)، وأبي الصلاح (3)، وابن إدريس (4)، والمحقّق في المعتبر والنافع (5)، والعلّامة في أكثر كتبه (6).

وذهب الشيخان (7) وجمع من الأصحاب، منهم سلّار (8)، وابن البرّاج (9)، وابن حمزة (10)، والمحقّق في الشرائع (11)، إلى أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لأهل الدُّنيا ممّن بَعُد؛ لما رواه عبداللَّه بن محمد الحجّال، عن بعض رجاله، عن الصادق عليه السلام (12)، ورواه أبو الوليد الجُعفي عنه عليه السلام (13). وادّعى عليه الشيخ الإجماع (14)، وألزمهم أصحاب القول الأوّل ببطلان صلاة بعض الصفّ المستطيل في منى زيادة على المسجد، وبطلان صلاة بعض البلدان التي يطول البُعد بينها على طول الحرم بأضعاف مضاعفة مع اتّفاقها في القبلة.

قالوا: والتكليف بإصابة الكعبة أو المسجد أو الحرم يستلزم بطلان صلاة ما


1- جمل العلم والعمل رسائل الشريف المرتضى، المجموعة الثالثة: 29.
2- كما عنه في مختلف الشيعة 2: 61.
3- الكافي في الفقه: 138.
4- السرائر 1: 204.
5- المعتبر في شرح المختصر: 144.
6- مختلف الشيعة 2: 61، وتذكرة الفقهاء 3: 6، والإرشاد 1: 244، وتلخيص المرام: 20، وغيرها.
7- وهما المفيد في المقنعة: 95، والطوسي في النهاية: 62، والخلاف 1: 295، المسألة 41.
8- المراسم: 60.
9- المهذّب 1: 84.
10- الوسيلة: 85.
11- شرائع الإسلام 1: 65.
12- وسائل الشيعة 4: 303، باب 3 من أبواب القبلة، حديث 1.
13- المصدر السابق: ص 304، حديث 2.
14- كما في الخلاف المذكور قبل قليل.

ص: 19

زاد عليها، فتبطل صلاة البلاد المتّسعة بعلامة واحدة؛ للقطع بخروج بعضهم.

وقد صرّح غير واحد من فضلاء متأخّري المتأخّرين (1): بسهولة الأمر في القبلة واتّساع الدائرة فيها، وأنّه لا ضرورة إلى ما ذكره المنجّمون. ويؤيّده أنّ الصلاة عمود الدِّين، الذي لا ثبوت له ولا قيام إلّابها، ولذا ورد أنّ قبول الأعمال متوقّف على قبولها (2)، وقد ورد أنّ تاركها كافر. ولا شكّ أنّ صحّتها متوقّفة على الاستقبال بالضرورة من الدِّين، ومع هذا فلم يرو عنهم عليهم السلام في معرفتها مع البُعد إلّا خبران مجملان بالنسبة إلى أهل العراق خاصّة.

سأل محمّد بن مسلم في موثّقته أحدهما عليهما السلام عن القبلة؟ فقال: «ضع الجدي في قفاك وصلِّ» (3). ولم يستفصله في أيّ جهة، ولا في أيّ حالة من غاية الارتفاع والانخفاض، وغير ذلك.

وقال الصدوق: قال رجل للصادق عليه السلام: إنّي أكون في السفر، ولا أهتدي إلى القبلة بالليل؟ فقال: «أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي»؟ قال: نعم، قال:

«اجعله على يمينك، وإذا كنت في طريق الحجّ فاجعله بين كتفيك» (4).

مع عدم سؤال أصحاب الأئمّة لهم عليهم السلام عن ذلك، وتحقيقه، ولم يبيّنوا عليهم السلام لأصحابهم ذلك، وكان المعصومون يبيّنون ما أنزل إليهم، ويعلّمون الناس من الآداب والسنن ما لو لم يبيّنوه ما أمنوا على الناس من تركه، كالقتل للقمل في الصلاة، والبصاق فيها إلى القبلة، ونحو ذلك، فكيف يدّعون بيان ما هو الواجب


1- كما سيأتي التعرّض لكلامهم، منهم المقدّس الأردبيلي، وصاحب المدارك، وصاحب الحدائق.
2- الكافي 3: 268، باب من حافظ على صلاته أو ضيّعها، حديث 4.
3- وسائل الشيعة 4: 306، باب 5 من أبواب القبلة، حديث 1.
4- من لا يحضره الفقيه 1: 280، باب القبلة، حديث 860، وسائل الشيعة 4: 306، باب 5 من أبواب القبلة، حديث 2.

ص: 20

والمحتاج إليه في الصلاة والذباحة ونحوها، فهم عليهم السلام لا يخلّون بالواجب، ولا يفعلون القبيح، بل عبادٌ مكرمون.

فيجب العلم بالقبلة مهما أمكن، ولو علماً عاديّاً بواسطة الأمارات الشرعية، من رؤية المساجد التي بناها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو بناها أحد المعصومين، مثل مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وقبا وسائر المساجد التي اشتهر أنّه نصب قبلتها، أو صلّى فيها واستقبل قبلتها، ومثل مسجد الكوفة والبصرة ونحوهما ممّا علم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أو أحد المعصومين نصب قبلتها أو صلّى إلى قبلتها، وكذلك القبور المحفورة بحضرة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو أحد المعصومين عليهم السلام، كقبر إبراهيم عليه السلام بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وفاطمة بنت أسد، وحمزة، وقبره صلى الله عليه و آله و سلم، وقبور الأئمّة عليهم السلام، وكذا قبلة البلدان من محاريبها المنصوبة، وقبورها، ونحوها، إذ لا شكّ أنّه يحصل من رؤية البلاد القديمة الكثيرةِ المساجد والمقابر علمٌ عادي بكون قبلتها لا خطأ فيها، فذلك العلم كافٍ في معرفة القبلة، وكذا لو كانت البلد من القرى، إلّاأنّ العلم الحاصل من المِصر أكثر.

وكيف كان، فالتعويل على قبلة البلد إذا لم يعلم أنّها بنيت على الغلط إجماعي، قاله في التذكرة (1)، وعُلّل بأنّه من البعيد اجتماع الخلق الكثير في المُدد المتطاولة على الخطأ (2).

وصرّح جملة من علمائنا بعدم جواز الاجتهاد في الجهة التي عليها قبلة البلد (3).


1- تذكرة الفقهاء 3: 25.
2- انظر ذكرى الشيعة 3: 168.
3- منهم الشهيد الأوّل في ذكرى الشيعة 3: 168، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 2: 72، والسيّد العاملي في مدارك الأحكام 3: 135.

ص: 21

قال الشيخ يوسف في الحدائق بعد نقله هذا الكلام: «والظاهر أنّ مرادهم الاجتهاد إلى أحد (إحدى) الجهات الأربع، كجهة المغرب مثلًا، بأن يجتهد فيها إلى جهة الشمال ونحوها، إمّا إلى التيامن أو التياسر في تلك الجهة، فإنّه يجوز الاجتهاد فيه؛ لعموم الأمر بالتحرّي، وربما قيل بالمنع؛ لأنّ احتمال إصابة الخلق الكثير أقرب من إصابة الواحد» (1). انتهى كلامه زيد إكرامه.

أقول: ويؤيّد المنع أنّ الأمر بالتحرّي إنّما هو مخصوص بحال عدم التمكّن من العلم العادي كما هو صريح الروايتين الدالّتين على الاجتهاد؛ لأنّ في صحيحة زرارة: «إذا لم يعلم القبلة» (2).

وفي موثّقة سماعة، قال: سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال: «اجتهد رأيك، وتعمّد القبلة جهدك» (3).

ولأنّ التحرّي إنّما يفيد الظنّ، إذ الاجتهاد في القبلة إنّما يكون بالرجوع إلى أهل الأرصاد ومعرفة الأطوال والأعراض للبلاد، وهو متوقّف على معرفة تلك العلوم الصعبة المأخذ، مع أنّ أهلها ليسوا مسلمين، وكلّ من له معرفة بهذه العلوم من المسلمين فإنّما هو مقلّد لهم في الحقيقة.

وبالجملة، فترك ما عليه المسلمون في البلدان، واستمرّوا عليه في جميع الأعصار والأزمان؛ لأجل امور مأخوذة من القواعد الهندسية، مع مخالفتها لظاهر الشريعة المحمّدية السهلة الحنفيّة، وادّعاء موافقتها لها- دون إثباته خرط القتاد غير جائز.


1- الحدائق الناضرة 6: 406.
2- وسائل الشيعة 4: 307، باب 6 من أبواب القبلة، حديث 1، عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم القبلة».
3- المصدر السابق: 308، حديث 2.

ص: 22

وقد اجتهد بعض العلماء في قبلة بعض البلاد.

قال الشهيد في الذكرى: وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق، وأنّ فيه تياسر عن القبلة مع انطواء الأعصار الماضية على عدم ذلك (1).

ووقع مثل ذلك للشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ بهاء الدِّين في قبلة خراسان (2).

وذكر المجلسي: أنّ محراب مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مخالف للقواعد الرياضية، وكذا مسجد الكوفة، ومسجد السهلة، ومسجد يونس (3).

وذكر الشيخ يوسف الأصمّ في حدائقه: أنّ رجلًا من الفضلاء يسمّى الشيخ حسين ممّن يصلّي الجمعة والجماعة، أتى بلدة بهبهان فانحرف عن قبلة مساجدها بناءً على الضابطة التي ذكرها علماء الهيئة، وصلّى إلى تلك الجهة التي هي موافقة لكلام علماء الهيئة، وحمل الناس على الصلاة إليها، فتناولته الألسن من كلّ مكان، وكثر الطعن عليه في جميع البلدان، حتّى كأنّه ممّن أبدع في الدِّين، وافترى على الملك الدّيان (4). انتهى كلامه زيد إكرامه.

وقد وقع لبعض فضلاء الخط (5) اجتهاد في قبلة البحرين من الأحساء وأُوال (6) القطيف، وأنّ فيها تياسراً عن نقطة المغرب مقدار أربعة أو خمسة أصابع


1- ذكرى الشيعة 3: 168.
2- بما أنّ كتابه لا يحضرنا، فننقل عن البحراني في الحدائق الناضرة 6: 407.
3- بحار الأنوار 84: 53.
4- الحدائق الناضرة 6: 393.
5- الخطّ: وهو خطّ عُمان... ومن قرى الخط القطيف. معجم البلدان 2: 378.
6- أُوال: بالضم، ويروى بالفتح: جزيرة يحيط بها البحر بناحية البحرين، معجم البلدان 1: 274. أقول: وهي نفس جزيرة البحرين الحالية؛ إذ أنّ البحرين كانت تطلق على مجموعة مناطق منها جزيرة اوال.

ص: 23

مع انطواء الأعصار من زمن النبي المختار صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّ أهلها أجابوا إلى الإسلام طوعاً من غير إكراه ولا إجبار، وجعل فيها نائباً من قِبله، وبيّن لهم شرائع الإسلام، وبيّن لهم الحلال والحرام، واستقبالهم من ذلك الزمان إلى الآن هو نقطة المغرب الاعتدالي، مستنداً في اجتهاده على قواعد الهندسة والحساب وعلى الهيئة والاصطرلاب.

قال أيّده اللَّه: «من المتّضح- بحسب القواعد الهندسيّة والحسّ الذي لا يخفى- أنّ قبلة الأحساء ليست المغرب الاعتدالي من وجوه خمسة:

الأوّل: ما عُلم من عروض البلدان وأطوالها ممّا هو مصرّح به في كتب الهيئة والتقاويم، وقطب النامة المعمولة في العجم لمعرفة القبلة، ويذكر في الكتب الفقهيّة بعضها، وكلّها متفرّعة على ما في الزيجات (1) والاصطرلابات، وذكر أنّه وقف على كثير من كتب الزيج في العرب والعجم، وجملة من رسائل التقويم، أنّ عرض مكّة إحدى وعشرين درجة وأربعون دقيقة، وطولها سبع وسبعون درجة وعشر دقائق.

وطول الأحساء ثلاث وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها أربع وعشرون درجة.

وطول القطيف أربع وثمانون درجة، وعرضها خمسة وعشرون درجة.

وطول أوال ثلاث وثلاثون درجة، وعرضها خمسة وعشرون درجة، ويوجد في بعض النسخ زيادة قليلة في أُوال والخط. فاتّضح أنّ الأحساء والخط


1- الزيج: خيط البناء وهو المطمر، فارسيّ معرّب، قال الأصمعي: لست أدري أعربي هو أم معرّب، لسان العرب 2: 294، زيج. أقول: وبه كان يحدّد علماء الهيئة الجهات، حيث كانوا يمدّونه من معلومة الجهة إلى اخرى مع التأكّد من عدم التوائه كي يحدّدوا جهة المنطقة المجهولة.

ص: 24

وأُوال زيادة على مكّة في الطول والعرض، فتكون عن مكّة شرقية شمالية، فيكون انحرافها عن المغرب بحسب الزيادة على مكّة شرّفها اللَّه تعالى.

الثاني: إنّ البلاد التي لا يُعدم فيها الظلّ تكون شمالًا عن التي يُعدم فيها بلا خلاف، ومكّة يُعدم فيها الظلّ في يومين فلا تكون قبلة الأحساء مغرب الاعتدال.

الثالث: كلّ بلد طوله أكثر من مكّة فهو شرقي مكّة، وقبلة أهله إجمالًا من جهة المغرب، ثمّ إن ساوى مكّة لم يحتج أهلها إلى الانحراف، وإن زاد عرضاً احتاجت إلى الانحراف عن نقطة الغرب.

ثمّ ادُّعي اتّفاق العقلاء على أنّ ما لا يُعدم فيه الظلّ- كهذه البلدان- يكون شرقياً شمالياً عن مكّة والمدينة؛ لأنّ المدينة يُعدم فيها الظلّ يوماً آخر الجوزاء، فعرضها تمام الميل الكلّي، وطولها خمسة وسبعون درجة وثلاثون دقيقة، وانحرافها- كما رسمت- سبعة عشر درجة وعشر دقائق، فهي غرب شمال عن مكّة. وذكر أنّ القوافل لا تسير إلى مكّة على نقطة المغرب إذا لم يعرض مانع في السير، وأنّ القاصدين إلى هذه البلدان من مكّة لا يسيرون على مشرق الاعتدال، وكلّ ذلك دليل على أنّ قبلة الاحساء ليست على غرب الاعتدال، كما لا يخفى على سائر الناس فضلًا عن العلماء.

الرابع: إنّي اختبرت من بعض القواعد التي ذكرها بهاء الدِّين في آخر كتابه المسمّى: تشريح الأفلاك في الهيئة لاستخراج القبلة ومعرفتها، فإنّها تجري في أطرافنا، وقد اختبرت بها قبلتها، فوجدت فيها الانحراف جزماً إلّاأنّه أقلّ ممّا في البحار (1)، وما نقل عن الاصطرلاب وعليه اعتمدت وهي من القواعد الهندسية،


1- بحار الأنوار 84: 54.

ص: 25

ويصدقها الحسّ والوجدان.

الخامس: ممّا صرّحت به العلماء ممّن يذكر قبلة هذه البلدان: «أنّ معرفتها إنّما هو بالقواعد الهندسيّة ودلالتها على ما نقول، فيحصل إجماع اتّفاقي على ذلك».

انتهى قلمه ثبتت قدمه (1).

ذكر أيّده اللَّه هذه الوجوه الخمسة وجعلها أدلّة على ما ادّعاه من اتضاح كون قبلة الاحساء ليست على مغرب الاعتدال، الثابت ذلك بالقواعد الهندسية والحسّ الذي لا يخفى، مع أنّ ما ذكره بعد التأمّل ليست خمسة وجوه، بل ولا أربعة لتداخلها. يظهر ذلك لمن له أدنى معرفة بالكلام والمحاورات (2).

ثمّ إن كان ما ادّعاه من عدم كون قبلة الأحساء إلى مغرب الاعتدال يشهد به الحسّ الذي لا يخفى، والوجدان يصدقه، وأنّه لا يخفى على سائر الناس، فضلًا عن العلماء، فما الموجب إلى استناده في هذه الدعوى إلى القواعد المستخرجة من الهندسة والهيئة والاصطرلاب والحساب والزيجات وقطب النّامات والتقويمات؟! على أنّه ذكر هذه الوجوه الخمسة في بيان اتّضاحه بالحسّ كما تقدّمت الحكاية عنه.

هذا، والقواعد الهندسيّة المستند إليها إمّا أن توافق القواعد الشرعية أو لا، فإن لم توافقها لا يجوز التعويل عليها، وإن وافقتها ولم يخالف الأخذ بها ما عليه المسلمون في جميع البلدان في كلّ عصر وأوان وجب العمل بها؛ لاعتضادها بالقواعد الشرعية، وموافقتها لها مع مخالفتها لما عليه بلدان الإسلام من سابق الأزمان مع وجود العلماء والفضلاء والمجتهدين فيها دعوى من غير دليل، إذ


1- بما أنّا لم نتعرّف على اسم هذا القائل، فلا يمكن التوصّل إلى مصدر كلامه، فنكتفي بما نقله مصنّف هذه الرسالة.
2- حيث إنّ الأقوال الثلاثة الأُوَل متداخلة ويمكن جمعها في قول واحد كما هو واضح للمتأمّل.

ص: 26

لا شكّ أنّ هذه القواعد المذكورة في هذه العلوم مستخرِجها غير المسلمين، وهذه بلاد المسلمين، والمسلمون هم المؤسّسون للمساجد والمقابر، وعلماؤهم موجودون، بل ربما كان ذلك بتسديدهم.

ودعوى عدم خفاء ما ادّعاه عن الحسّ، لم أعلم ما أراد من ذلك، فإن أراد حسّه هو كان اتّضاح ما ادّعاه إنّما هو بالنسبة إليه خاصّة، فلا يحتجّ به غلى الغير، وإن أراد حسّ العلماء، قلنا: كانت العلماء قديماً وحديثاً في هذه البلدان إلى الآن، ولم يظهر لأحد صدق ما ادّعيته من الوجدان سوى شخص أو اثنين ادّعوا مثل دعواكم ولم يوافقهم سواهم، ولا عبرة بالندور.

على أنّ قولك: الحسّ الذي لا يخفى، وقولك: والوجدان يصدقه، وقولك: كما لا يخفى على سائر الناس فضلًا عن العلماء، يُعطي أنّ ذلك قريب من البديهي الضروري، بل هو يُعطي كذلك، وذلك لا يتأتّى إلّابامور:

1- إمّا أن تكون مكّة قريبة من هذه البلدان، يشاهدها كلّ أحد، ويعلم أنّها غرب جنوب عن الأحساء والقطيف وأُوال، فيثبت حينئذٍ أنّ قبلة الأحساء غير نقطة الغرب بالحسّ، كما هو المدّعى.

2- وإمّا أن يكون هناك أعلام ونُصُب بين مكّة وهذه البلدان، يرى كلّ من عند كلّ واحد منها الآخر، وهكذا من مكّة إلى هذه البلدان؛ ليحصل بذلك الوجدان لأهل تلك البلدان.

3- وإمّا أن يكون هناك حبل من مكّة متّصل إلى البحرين في أرض معتدلة يؤمن على واضعه الكذب وما أشبه ذلك، ممّا يوضح انحراف الأحساء في الاستقبال عن نقطة المغرب، لا القواعد الهندسيّة.

على أنّ قوله: من المتّضح بحسب القواعد الهندسيّة والحسّ الذي لا يخفى، فيه ما لا يخفى على الجُهّال فضلًا عن العلماء؛ لأنّ ما يخرج من العلوم الهندسيّة لا يهتدي

ص: 27

له كلّ أحد، ولا كلّ من [تثبت] (1) به عرف منه شيئاً، فكيف يكون وضوح مدّعاه من أمر لا يخفى عن كلّ الناس، وأمر لا يعلمه إلّاقليل من الناس؟! مع أنّ سنّة سيّد المرسلين وشريعة خاتم النبيّين حنفيّة سهلة، فلو توقّف معرفة شي ء منها على معرفة عروض البلدان وأطوالها، والتقاويم، وقطب النامات، لوصفت الشريعة بضدّ وصفها المذكور لها (2).

هذا ومعرفة ذلك والاعتماد عليه متوقّفة على امور:

منها: معرفة صاحبها، وإسلامه، وعدم الغلط في النسخ، وعدم اختلاف قطب النامات، فلا يُعتمد على كلّ كتاب روي، عُلِمَ مصنِّفه أو لا.

وقد اتّفق جميع علمائنا على وجوب النقد للأخبار الثابت صدورها عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فإذا كان الصادر عن المعصومين عليهم السلام باليقين يجب فيه النظر، ولا يجوز العمل به على التخمين، حتّى لو وجد خبر لم يثبت وروده عنهم عليهم السلام، لا يجب النظر فيه، بل كلّ حكم لا يُعلم استناده إلى معصوم أو مجتهد لا يجوز العمل به، فكيف يعوّل على ما يوجد من تلك العلوم من غير يقين أنّها صحيحة النسخ أو لا، مع وجود العلماء- في جميع بلاد الإسلام في كلّ الأعصار- المتابعين لأهل البيت عليهم السلام، وعدم عملهم بما فيها، والرجوع إليها، فلو كان الركون إلى ما فيها والأخذ واجب لزم إخلال الخلق الجليل في الزمن الطويل بالواجب، وحاشاهم رضوان اللَّه عليهم.

على أنّ الشرع يخالف أكثرها، كما لو كان في التقويم أنّ الشمس تُكسف في


1- وردفي النسخة تشبّت، ولعلّه تشبّث، ومهما يكن فليس له معنىً يتناسب مع الموضوع، والصحيح ما أثبتناه.
2- أي أنّ الشريعة بعد أن وصفت تحديد جهة القبلة بوصف معيّن يتنافى مع وصف أهل التقاويم وقطب النامات، فيعلم أنّها لا تعتمد عليهم في شي ء ممّا تقوله ولو كانت تعتمد على ما يقولونه لوصفت الجهة بضدّ وصفها المذكور في المصادر الفقهيّة.

ص: 28

اليوم الفلاني، والقمر يُخسف في الليلة الفلانية، لا تجب صلاة الآيات إلّابالرؤية للخسوف والكسوف، أو ثبوت ذلك لمن لم يره كالأعمى والمحبوس، فلو كان صاحب التقويم الذي رتّب معرفة الخسوف والكسوف صحيح البصر وحصل الخسوف بلا شكّ، ولم يحترق القرص كلّه، ولم يعلم به صاحب التقويم حال الخسوف كان نائماً أو ساهياً، مع علمه سابقاً بحسب التقويم أنّه يكون كذلك، هل تجب عليه صلاة الآيات؟ وكذا لو حصل الكسوف أو الخسوف والقرص لا يراه الناس، وحصل لصاحب التقويم اليقين بحصول ذلك، هل يجب عليه الصلاة؟

وغير ذلك.

وما يذكر في كتب الفقه من بعض قواعد أهل الهيئة ليس فيه مخالفة لما عليه البلدان من القبلة، وما ذكر البهائي في كتابه المسمّى ب «تشريح الأفلاك» مأخوذ من الاصطرلاب والهيئة والحساب والهندسة، وكلّ ذلك لا يعوّل عليه، على أنّ أهل هذه العلوم يختلفون في مسائله كما ذكره هو أيّده اللَّه تعالى، حيث قال: «وفي بعض النسخ زيادة قليلة» فمع الاختلاف بأيّ شي ء يرجح به أحد القولين على الآخر؟! على أنّ قواعده ليست موافقة لجميع بلاد الإسلام سوى البحرين حتّى يقال: قبلة البحرين بُنيت على الغلط، بل هي مخالفة لأكثر البلاد، كما تقدّم الكلام فيه.

فإذا كانت القواعد المستنبطة من هذه العلوم مخالفة لجميع البلاد والعباد من المسلمين لم يجز الرجوع لأحد من أهل الإسلام إلى شي ء من تلك القواعد.

قال الشيخ يوسف في الحدائق:- بعد ذكره: أنّ لا شي ء من البلدان يوافق قبلتُها العلامات الرياضية التي حكم بأنّها تفيد العلم فضلًا عن الظنّ، وأنّه ممّن اختبر ذلك، وليس الخبر كالعيان، إلى آخر كلامه- «واللازم من ذلك أحد أمرين:

1- إمّا بطلان صلاة أهل تلك البلدان في جميع الأزمان.

ص: 29

2- أو عدم اعتبار هذه العلامات، وإن أفادت اليقين، كما ذكروه دون الظنّ والتخمين. والأوّل أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى البيان، سيّما وجملة منها ممّا صلّى فيه الأئمّة عليهم السلام كالمدينة وخراسان ومسجد الكوفة.

ودعوى التغيير في هذه البلدان عمّا كانت عليه سابق الأزمان، دعوى من غير دليل، بل مخالفة لما جرت عليه العلماء جيلًا بعد جيل، فتعيّن الثاني.

ويتأيّد بما قدّمناه من الأخبار والمؤيّدات الدالّة على سهولة أمر القبلة.

وبذلك يسقط هذا البحث من أصله، وما ذكر فيه من التعريفات، واللَّه العالم» (1). انتهى.

قال السيّد السند في المدارك: «ثمّ إنّ المستفاد من الأدلّة الشرعية: سهولة الخطب في القبلة والاكتفاء بالتوجّه إلى ما يصدق عليه عرفاً أنّه جهة المسجد


1- الحدائق الناضرة 6: 407، وللعلّامة المجلسي في بحار الأنوار 81: 53، تعليق على مضمون هذا الكلام، حيث قال: ولمّا كان أكثر تلك المساجد مبنيّة في زمن عمر...، لم يمكنهم القدح فيها تقيّة، فأمروا بالتياسر، وعلّلوا بتلك الوجوه...، وما ذكره أصحابنا من أنّ محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم، لا يجوز الانحراف عنه، إنّما يثبت إذا علم أنّ الإمام عليه السلام بناه ومعلوم أنّه عليه السلام لم يبنه أو صلّى فيه من غير انحراف عنه، وهو أيضاً غير ثابت... انتهى. أقول: ويمكن القول: إنّه قد ثبت بالأخبار أنّ أمير المؤمنين عليه السلام نصب محراب مسجد الكوفة وصلّى فيه، وكذا الإمام الحسن والحسين عليهما السلام، انظر وسائل الشيعة 4: 309، باب 6 من أبواب القبلة، حديث 5. وهو أصل ثابت لا ينتفي باحتمال التغيير، إلّاأن يُقال: إنّه قد ثبت بالتحقيق وجود آثار قديمة لمحراب مسجد الكوفة غير المحراب الفعلي المتعارف في زمانه، فيعارض ذلك الأصل، كما ادّعاه السيّد أمير شرف الدِّين علي الشولستاني، وقد صنّف رسالة أثبت فيها هذا المدّعى واعتمد على شواهد عديدة، لا بأس بالرجوع إليها فإنّها لا تخلو من فائدة، وقد نقلها العلّامة المجلسي في بحار الأنوار 100: 431. ولكن، قد ينتقض كلام هذا الفاضل بما نقله في كشف اللثام 3: 141، عن بعض معاصريه: أنّه نصب آلة واستعلم بها جهة البلاد إلى الكعبة، فاستعلم أنّ بغداد والكوفة وسرّ من رأى... إلى أن قال: قبلتهم الركن الشامي والعراقي أيضاً. انتهى. فيكون مؤيّداً لصحّة محراب مسجد الكوفة المتعارف عليه، واللَّه العالم.

ص: 30

وناحيته، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (1)

وقولهم عليهم السلام: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (2)«2» «وضع الجدي في قفاك وصلّ» (3) وخلوّ الأخبار عمّا زاد على ذلك، مع شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة، وإحالتها على الهيئة مستبعد جدّاً؛ لأنّه علمٌ دقيق كثير المقدّمات، والتكليف به لعامّة الناس بعيد من قوانين الشرع، وتقليد أهله غير جائز، لأنّه لا يعلم إسلامهم فضلًا عن عدالتهم، وبالجملة: التكليف بذلك ممّا عُلم انتفاؤه ضرورة. واللَّه العالم بحقائق أحكامه» (4). انتهى كلامه قدّس اللَّه سرّه.

وكلام السيّد والشيخ يوسف متقاربان مؤيّدان لما ذكرنا.

وللأردبيلي رحمه الله في آيات الأحكام كلام في هذا المعنى يقرب من كلام السيّد رحمه الله (5).

فالأحكام الشرعية توقيفيّة لا تؤخذ بالقواعد الغير (غير) الثابتة عن أهل البيت عليهم السلام، فهم المبيّنون للأحكام جليلها وقليلها، المقرنون بالكتاب الذي لا يفارقهم ولا يفارقونه، المخلّدون فينا بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم، فلا يوجد الحقُّ إلّاعندهم، فهم معدنه ومأواه، والعالمون بالشرائع والأحكام، وتفصيل مسائل الحلال والحرام، لا أهل الهندسة والاصطرلاب، ولا أهل الهيئة والحساب.

فاتّضح بحمد اللَّه- بحسب القواعد المستنبطة من كلام ربّ العالمين، وتقرير خاتم النبيّين محمّد الأمين صلى الله عليه و آله و سلم، والروايات المرويّة عن آل الرسول المعصومين عليهم السلام، ومن كان عليه من العلماء المجتهدين، والمحدّثين في الأعوام الخالية والسنين- أنّ


1- البقرة: 144.
2- وسائل الشيعة 3: 130، باب 35 من أبواب صلاة الجنازة، حديث 1.
3- وسائل الشيعة 4: 306، باب 5 من أبواب القبلة، حديث 1.
4- مدارك الأحكام 3: 121.
5- زبدة البيان: 65- 67.

ص: 31

قبلة الأحساء ليس فيها انحراف عن نقطة المغرب الاعتدالي، ولم نرجع والحمد للَّه في معرفة ذلك إلى الهندسة والاصطرلاب والتقويمات، ولا إلى الهيئة والحساب والزيجات، بل إلى الآيات والروايات. فبان أنّ ما ادّعى من وضوح انحراف قبلة الأحساء عن نقطة المغرب إلى الجنوب بالاستنباط من كلام أهل العلوم الغريبة الصعبة المأخذ، وأنّه واضح بالحس الذي لا يخفى، دعوىً بيّن عدمُ صدقها للأغبياء فضلًا عن العلماء الأذكياء.

وما ذكره من الوجوه المتداخلة- بعد التأمّل- كلام لا يعوّل عليه الجاهل فضلًا عن العالم الفاضل، وكيف ينحرف من يصلّي في الأحساء عن نقطة المغرب الاعتدالي بقدر أربع أصابع؟

وقد ذكر الشهيد الأوّل رحمه الله في الذكرى: «إنّ أبا الفضل شاذان بن جبرائيل القمّي صنّف رسالة في القبلة وسمّاها ب إزاحة العلّة في معرفة القبلة، وذكر فيها قبلة أكثر البلدان، قال أبو الفضل فيها: وأهل البصرة يستقبلون ما بين الباب والحجر الأسود، وجعل من علاماتهم جعل الجدي عند طلوعه على الخدّ الأيمن» (1).

و ذكر السيّد محمد مهدي الطباطبائي في منظومته الفقهيّة المسمّاة ب الدّرة النجفية، أنّ أهل البصرة وما والاها يجعلون الجدي حال الاستقبال على الاذن اليمنى (2).

ولا يخفى أنّ هذين الشيخين الجليلين من أجلّاء علماء الإماميّة المعاصرين والمتقدّمين والمتأخّرين، وحكمهما بما ذكرا رحمهما الله مخالف لحكم هذا الفاضل المجتهد في قبلة البحرين؛ لأنّك إذا لاحظت الجدي عند جعلك إيّاه على الخدّ الأيمن يكون الواقف كذلك مقابلًا لنقطة الغرب أو قريباً منها جدّاً.


1- ذكرى الشيعة 3: 166.
2- قائلًا: واجعله في شرقيه كالبصرة في الاذن اليمنى وفيه النصرة

ص: 32

والبصرة- بحسب القواعد الرصدية والحسّ الذي لا يخفى- منحرفة عن الشرق إلى الشمال بالنسبة إلى مكّة، والبحرين أقرب منها إلى المشرق، فإذا قابل أهل البصرة كذلك فأهل البحرين إمّا يكونوا مثلهم كما في بعض نسخ رسالة شاذان المذكور، أو يميلون يميناً.

وعلى كلّ تقدير لا ينحرفون عن الغرب. وكذا إذا لاحظت الجدي حال الاستقبال وجعلته على الاذن اليمنى، وقد يكون فيه تياسر قليل، هذا لأهل البصرة، والبحرين ليس قبلتها مثل قبلة البصرة يقيناً، فتأمّل جدّاً، ولا تقلّد في ذلك أحداً.

فقد ظهر الحقّ ظهور الشمس في رابعة النهار من غير أن يعلوها الغبار.

والصلاة والسلام على محمّد المختار، وعلى آله الأطياب الأطهار ما أظلم الليل وأضاء النهار، والحمد للَّه ربّ العالمين.

وقد فرغ من تأليفها مؤلّفاً الأجلّ الأمجد الشيخ أحمد بن الحاج محمّد بن مال اللَّه الصفّار سنة 1243.

مصادر التحقيق

1- القرآن الكريم.

2- إرشاد الأذهان، للعلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر، ت 726 ه، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم 1410 ه.

3- أعلامُ هَجَرْ، للسيد هاشم الشخص، من المعاصرين، مؤسّسة امّ القرى، قم 1416 ه.

4- بحار الأنوار، للعلّامة المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي، ت 1111 ه، دار الكتب الإسلامية، المكتبة الإسلامية، طهران 1403 ه.

5- تذكرة الفقهاء، للعلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر، ت 726 ه، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم 1414 ه.

ص: 33

6- تلخيص المرام في معرفة الأحكام، للعلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر، ت 726 ه، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، قم 1421 ه.

7- جامع المقاصد، للمحقّق الكركي، علي بن الحسين، ت 940 ه، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم 1408 ه.

8- جُمَل العلم والعمل، للشريف المرتضى، عليّ بن الحسين بن موسى، ت 436 ه، دار القرآن الكريم، مدرسة السيّد الگلپايگاني، قم 1405 ه.

9- الحدائق الناضرة، للشيخ يوسف البحراني، ت 1186 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

10- الخلاف، للشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، ت 460 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1409 ه.

11- ذكرى الشيعة، للشهيد الأوّل، محمد بن مكّي العاملي، ت 786 ه، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم 1419 ه.

12- زبدة البيان في أحكام القرآن، للمقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمد، ت 993 ه، المكتبة المرتضوية، طهران.

13- السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي، لابن إدريس الحلّي، محمد بن منصور، ت 598 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

14- شرائع الإسلام، للمحقّق الحلّي، جعفر بن الحسن، ت 671 ه، دار الأضواء، بيروت 1403 ه.

15- الكافي في الفقه، لأبي الصلاح الحلبي، تقي الدين بن نجم، ت 447 ه، مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، إصفهان 1403 ه.

16- لسان العرب، لابن منظور، محمد بن مكرم، ت 711 ه، نشر أدب الحوزة، قم 1405 ه.

17- مختلف الشيعة، للعلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر، ت 726 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1412 ه.

18- مدارك الأحكام، للسيّد محمد بن علي العاملي، ت 1009 ه، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم 1410 ه.

19- المراسم في الفقه الإمامي، للشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي، ت: بين القرن الرابع

ص: 34

والخامس ه، منشورات الحرمين، قم.

20- المعتبر في شرح المختصر، للمحقّق الحلّي، جعفر بن الحسن، ت 676 ه، الطبعة الحجرية.

21- معجم البلدان، ياقوت بن عبداللَّه الحموي، دار صادر، بيروت، 1399 ه.

22- المقنعة، للشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، ت 413 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1410 ه.

23- من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، ت 381 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم.

24- المهذّب، لابن البرّاج، عبد العزيز بن البرّاج، ت 481 ه، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1406 ه.

25- النهاية، للشيخ الطوسي، محمد بن الحسن، ت 460 ه، منشورات قدس محمدي، قم.

26- وسائل الشيعة، للحرّ العاملي، محمد بن الحسن، ت 1104 ه، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم 1416 ه.

27- الوسيلة، لابن حمزة، محمد بن علي الطوسي، ت القرن السادس ه، مكتبة السيّد المرعشي النجفي، قم 1408 ه.

ص: 35

إفاضةٌ بل إفاضتان

محسن الأسدي

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

بدءاً نقول: إنّ من أعظم أهداف فريضة الحجّ- بعد الإخلاص في عبادته تعالى- هو خلق أُمّة قرآنيّة، طالما كانت تهفو إليها قوافل الأنبياء والمرسلين، وقد جدَّ في المسير إلى هذا الهدف- ولا زال- جميع مواكب الصالحين والصادقين، وراحت ترفرف حوله وتطوف به أرواح الشهداء، بعد أن عبّدته جماجمهم وسقته دماؤهم.. وظلّت الأجيال المؤمنة المتعافية، منذ جيل إبراهيم الخليل وإلى يومنا هذا مروراً بعصر النور عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما تلته من عصور، تتوارث كنوزه


1- البقرة: 198- 199.

ص: 36

المضرّجة بدماء الشهداء والمعفّرة بتراب ساحات الفداء، إنّه المسير والمعبّد بجهود وأنشطة كلّ المخلصين لرسالة السماء.. حتّى غدا هدفاً سامياً، وأُنشودةً عذبةً تردّدها شفاه الصادقين المؤمنين.

ولولا ما يتمتّع به هذا الهدف من أصالة وعمق في ضمير الإنسانيّة وتأريخها، ومن مقوّمات راحت في كثير منها، بل في جميعها، تصوغها السماء وتصطنع رموزها على عينها أنبياءً وأئمّةً وشهداء.. لما استطاع هذا الهدف أن يكون شجرةً باسقةً يانعةً أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها.

ومن تلك المقوّمات الهيبة التي تتركها هذه الامّة المباركة في النفوس، والرهبة التي تنذر بها الأعداء وترعبهم وتقضّ بها مضاجعهم وتقوّض مؤامراتهم.

وما فريضة الحجّ إلّاساحة كبرى لنموّ هذا الهدف وتركيز مقوّمات هذه الامّة عبر وحدتها وتراصّ صفوفها، وأروع ما في هذه الفريضة، وهي الرائعة في كلّ مناسكها ومفاصلها، هاتان الإفاضتان بكلّ ما يتمثّل فيهما من قداسة وهيبة ورهبة وروحانيّة ورغبة في لقاء اللَّه والاستزادة من أجره وثوابه، وقد شاءت السماء لهاتين الإفاضتين أن تكونا من مفاصل هذه الفريضة المقدّسة، وأن تكونا في بقعة مباركة محدّدة وفي زمن هو الآخر محدّد، أيّام معدودات، وفي مظهر واحد، وتحت ظلّ شعار واحد وتلبية واحدة ومنسك واحد، يضمّ محاور متعدّدة ممّا يجعله ذا خصوصيّة لا تجدها في غيره، وبلا أدنى شك، إنّ هذا كلّه سيترك آثاره سواءً أكانت آثاراً نفسيّة أم كانت آثاراً تربويّة على الإنسان الحاجّ كشخص، أو عليه بوصفه مجتمعاً وكأُمّة، كما يترك آثاره على من يرى من بعيد هذه المشاهد عبر وسائل النقل والإعلام أو يسمع عنها أو يقرأ... وقد أشبعنا هذه المفاهيم بحثاً في مقالات متعدّدة في العدد 12 من هذه المجلّة، وكذلك الخاصّ بالسيد الإمام الخميني رضوان اللَّه عليه، الذي كان يحمل همّاً عظيماً، وبذل جهوداً مشهودةً طيلة حياته

ص: 37

المباركة من أجل وحدة الامّة الإسلاميّة وتوحيد كلمتها وصفوفها ضدّ أعدائها، وما أكثر جهوده وأنشطته المنصبّة على إحياء أهداف هذه الفريضة المباركة عبر مفاصلها كافّة، ومنها هاتان الإفاضتان، وما تشكّلانه من زخم بشري عظيم مهيب على جميع المستويات، الروحيّة منها والماديّة، الأخروية منها والدنيوية.

*** فبعد أن اتّفقت كلمة جمعٍ من مفسّري المذاهب الإسلامية- ممّن تيسّر لي الاطّلاع على رأيه- على الإفاضة الأولى من عرفات إلى حيث المزدلفة؛ لأنّ الآية الأولى لم تدع مجالًا للاختلاف، حيث قالت: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ......

وقع الاختلاف بينهم في المراد من الآية الثانية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.

هل هي الإفاضة الأولى من عرفات أو هي إفاضة اخرى غيرها؟ وهل يمكننا الاستفادة منها إفاضةً أخرى من المزدلفة نحو منى، أو أنّ الآية لا تساعد على ذلك؟ وكلّ ما فيها هو أمر بالبعث والتوكيد للإفاضة الأولى والالتزام بها، وعدم التخلّي عنها لأيّ سبب من الأسباب، أو أنّ كلّ ما جاء بها هو توضيح لكيفيّتها، أو هو أمر خاصّ بجماعة امتنعوا عن الوقوف بعرفات- كما في روايات عند الفريقين- واستبدلوه بوقفة المزدلفة ثمّ الإفاضة منها..

هذا ما سنتعرّف عليه في مقالتنا هذه.

الإفاضة لغةً

أفضتم: دفعتم أنفسكم بكثرة، من إفاضة الماء، وهو صبّه بكثرة، وأصله أفضتم أنفسكم وترك ذكر المفعول (1).


1- انظر كنز العرفان في فقه القرآن، الآية. والرازي في تفسيره 5: 172.

ص: 38

وفي المصباح: «وأفاض الناس من عرفات دفعوا منها، وكلّ دفعة إفاضة.

وأفاضوا من منى إلى مكّة يوم النحر رجعوا إليها، ومنه طواف الإفاضة أي طواف الرجوع إلى منى» (1).

وفي مجمع البيان: أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرّف، وأفاض الرجل إناءَه إذا صبّه، وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها؛ لأنّها تقع متفرّقة، قال أبو ذؤيب:

وكأنّهنَّ ربابة وكأنّه يَسرٌ يُفيض على القداح ويصدع (2) وأفاض البعير بجرته إذا رمى بها متفرّقة كثيرة، قال الراعي:

وأفضنَ بعد كظومهنّ بجرّةٍ من ذي الأباطح إذرعين حقيلًا (3) ثمّ يقول صاحب تفسير مجمع البيان: فالإفاضة في اللغة لا تكون إلّاعن تفرّق أو كثرة.. (4) واصطلاحاً:

هي منسك كبقيّة مناسك الحجّ له وقته وأحكامه وأهدافه... ويدلّ على وقوف عرفات والوقوف بالمشعر الحرام (المزدلفة).


1- المصباح المنير: 485.
2- الربابة: شبيه بالكنانة يجمع فيها سهام الميسر، وربما سمّوا جماعة السهام ربابة، واليسر محرّكة: الياسر.
3- كظم البعير كظوماً: أمسك جرّته وكفّ عن الاجترار. الجرّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثمّ يبلعه. حقيل: اسم موضع، قاله الجوهري.
4- انظر مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي، طبعة دار المعرفة 1: 525.

ص: 39

الإعراب:

فإذا: الفاء استئنافية، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلّق بالجواب.

أفضتم: فعل وفاعل والجملة في محلّ جرّ بالإضافة.

من عرفات: جار ومجرور متعلّقان بأفضتم، وتعرب عرفات إعراب جمع المؤنّث السالم.

فاذكروا: الفاء رابطة لجواب الشرط، واذكروا فعل أمر وفاعل، والجملة لا محلّ لها؛ لأنّها جواب شرط غير جازم.

اللَّه: مفعول به.

عند المشعر: الظرف متعلّق باذكروا.

الحرام: صفة للمشعر، ولنا أن نعلّق الظرف بمحذوف حال أي: كائنين عند المشعر الحرام.

واذكروه: الواو عاطفة، وجاء تكرارها لتوكيد الذكر، وهو فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو فاعل، والهاء مفعول به، يعود على لفظ الجلالة.

كما هداكم: الكاف حرف جرّ، وما مصدرية، وهي مع مجرورها في محلّ نصب مفعول مطلق أو حال، أي: اذكروه ذكراً حسناً، أو اذكروه مثل هدايته إيّاكم، وجملة هداكم لا محلّ لها؛ لأنّها واقعة بعد موصول حرفي.

وإن: الواو حاليّة، وإن مخفّفة من الثقيلة.

كنتم: كان الناقصة واسمها.

من قبله: الجار والمجرور متعلّقان بمحذوف حال.

لمن الضالّين: اللّام هي الفارقة، وفي الضالّين جار ومجرور متعلّقان بمحذوف خبر كنتم.

ص: 40

ثمّ: (وهنا بيت القصيد) حرف عطف للترتيب مع التراخي، وقد وجد بسببها التراخي الزماني بين الإفاضتين، الإفاضة من عرفة، والإفاضة من المزدلفة. وقد عطفت أفيضوا على اذكروا.

أفيضوا: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل.

من حيث: حيث ظرف مكان مبنيّ على الضمّ، الجار والمجرور متعلّقان بأفيضوا.

أفاض الناس: فعل وفاعل والجملة في محلّ جرّ بالإضافة.

واستغفروا اللَّه: الواو عاطفة وما بعدها فعل وفاعل ومفعول به.

إنّ اللَّه غفور رحيم: إنّ واسمها وخبرها، والجملة تعليليّة، لا محلّ لها من الإعراب.

المراد من الآية

هناك بحثان رئيسان في هذه الآية:

الأوّل: ما هو المراد بالإفاضة المأمور بها في هذه الآية؟

الثاني: ما هو المراد ب (الناس).

ما هو المراد من الإفاضة؟

والجواب عن الأوّل فيه قولان:

القول الأوّل: إنّ المراد بالإفاضة هو الإفاضة من عرفات. لكنّ أصحاب هذا القول اختلفوا في الأمر الوارد في الآية (أفيضوا) فكانوا فريقين:

- فريق يقول- وهم الأكثر-: إنّ الأمر المذكور هو أمر خاصّ بقريش

ص: 41

وحلفائها الحمس (1)، فقد كانوا لا يتجاوزون المزدلفة إلى عرفات، بل يكتفون بالوقوف بالمزدلفة ثمّ يفيضون منها إلى منى، ويحتجّون بوجوه:

إنّ الحرم أشرف من غيره، فيوجب أن يكون الوقوف به أولى.

إنّهم كانوا يترفّعون على الناس ويقولون: نحن أهل اللَّه فلا نحلّ حرم اللَّه، أو يقولون: نحن قطين (2) اللَّه، فينبغي لنا أن نعظّم الحرم ولا نعظّم شيئاً من الحلّ.

إنّهم كانوا لو سلّموا أنّ الموقف هو عرفات لا الحرم؛ لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم، ثمّ ذلك النقص كان يعود إليهم، ولهذا الأمر كان الحمس لا يقفون إلّا في المزدلفة، مع علمهم بأنّ عرفة موقف إبراهيم عليه السلام.

أمّا الروايات التي تعضد هذا القول فهي:

روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا جعل أبا بكر أميراً في الحجّ، أمره بإخراج الناس إلى


1- الحمس: من حمس بالشي ء حمساً: علق وتولّع، فهو حَمِسٌ وأحمس وهي حمساء، والجمع حُمسٌ وأحماس، وتحمّست به الركاب: تحرّمت واستغاثت، وهنا هو الشديد الشحيح على دينه وهم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو النضر بن معاوية، وسمّوا بذلك لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشدّة. والأحمس: هو الذي يهب نفسه، أو يهبه أهله للآلهة، فينصرف لشؤونها وخدمتها، وهو نوع من الرهبنة، وكانت الامّهات تتّخذ هذه الصفة لأولادهنّ إن كتب لهنّ النجاح في حوائجهنّ كشفاء أمراض أولادهنّ وغيره. وكانت للحمس صفات خاصّة وطقوس معيّنة، فيمتنعون عن أكل الطعام الذي يحملونه معهم إلى الحرم، ولو كانوا حرماً لا يدخلون بيتاً من شعر، ولا يستظلّون إلّافي بيوت من جلد، وكانوا يتحرّجون من المرور في ظلّ أو الوقوف تحت سقف وهم حُرُم؛ ولذلك صاروا يدخلون البيوت من أظهرها، لئلا يظلّهم ظلّها، أو يقفون تحتها، وقد حرّم الإسلام هذه العادة، فنزلت فيهم هذه الآية المباركة: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا البقرة: 189، وكانوا يطوفون حول البيت عراة، ويصفّقون حين الطواف، كما ورد في الآية: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً الأنفال: 35. انظر أسباب النزول للواحدي، الآية 189 من سورة البقرة، والسبزواري في تفسيره مواهب الرحمن 3: 157، وكنز العرفان للسيوري 1: 305، وتفاسير اخرى.
2- قطين اللَّه: أي سكّان حرمه، والقطين جمع قاطن كالقطّان.

ص: 42

عرفات، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب؟ تقول الرواية: فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر اللَّه إلى عرفات ووقف بها، وأمر سائر الناس بالوقوف بها...

روى الترمذي عن عائشة أنّها قالت: كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون: نحن قطين اللَّه، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل اللَّه تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وقال القرطبي عن هذا الحديث: حديث حسن صحيح.

روى مسلم عن عائشة قالت: الحمس هم الذين أنزل اللَّه فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قالت: كان الناس يُفيضون من عرفات، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نفيض إلّامن الحرم، فلمّا نزلت أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ رجعوا إلى عرفات، وقال عنه القرطبي: وهذا نصّ صريح، ومثله كثير صحيح.

وروى الواحدي بسنده عن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنّه قال:

أضللتُ بعيراً لي يوم عرفة، فخرجتُ أطلبه بعرفة، فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واقفاً مع الناس بعرفة، فقلت: هذا من الحمس ما له هاهنا!

وكانت قريش تسمّى الحمس، فجاءهم الشيطان فاستهواهم، فقال لهم:

إنّكم إن عظمتم غير حرمكم، استخفّ الناس بحرمكم.

فكانوا لا يخرجون من الحرم، ويقفون بالمزدلفة، فلمّا جاء الإسلام أنزل اللَّه عزّوجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني عرفة (1).


1- انظر في هذا كلّه البخاري في التفسير: 4520 و 1664، ومسلم في الحجّ: 151/ 1219 و 153/ 1220، والنسائي في الحجّ 5: 254 و 5: 255، والدرّالمنثور وقدأحصى هذه الروايات كاملة، و انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2: 427، والتفسير الكبير للرازي 3: 180- 181، ومجمع البيان للطبرسي 3: 527- 528، وغيرهم.

ص: 43

أمّا السيّد الطباطبائي في ميزانه، فيذهب إلى أنّ هذه الإفاضة هي الإفاضة من عرفات فيقول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أنّ قريشاً وحلفاءها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم اللَّه لا نفارق الحرم، فأمرهم اللَّه سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس، وهو عرفات.

وعلى هذا، فذكر هذا الحكم بعد قوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ بثمّ الدالّة على التأخير، اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أنّ أحكام الحجّ هي التي ذكرت غير أنّه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إنّ في الآيتين تقديماً وتأخيراً في التأليف والترتيب: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات (1).

- وفريق ثان يقول: إنّ الأمر المذكور في الآية هو أمر عامّ لجميع الناس، بأن يفيضوا من المكان الذي أفاض منه الناس وهو عرفات.

إشكال

وقبل التحدّث عن القول الثاني للمراد من الآية، نذكر الإشكال على القول الأوّل، وهو إنّ قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، يقتضي ظاهره أنّ هذه الإفاضة غير ما دلّ عليه قوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ لمكان (ثمّ)، فإنّها توجب الترتيب، ولو كان المراد من هذه الآية: الإفاضة من عرفات، مع أنّه معطوف على قوله: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ كان هذا عطفاً للشي ء على نفسه، وأنّه غير جائز، ولأنّه يصير تقدير الآية: فإذا أفضتم من عرفات، ثمّ أفيضوا من


1- انظر الميزان في تفسير القرآن 2: 80.

ص: 44

عرفات، وهو غير جائز.

ثمّ يواصل الرازي الذي ذكر هذا الإشكال في تفسيره، يواصل قوله:

فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يقال: هذه الآية متقدّمة على ما قبلها.

والتقدير: فاتّقون يا أُولي الألباب، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ.

وعلى هذا الترتيب، يصحّ في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها.

ويجيب الرازي: هذا وإن كان محتملًا، إلّاأنّ الأصل عدمه، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني- الذي سيأتي- فأيّ حاجة بنا إلى التزامه؟! (1) هذا وأنّ عطف الشي ء على نفسه يعدّ تكراراً لمفاد الجملة الأولى وهو لايليق بكلامه تعالى، والتقدير المذكور خلاف السياق الثابت للآيتين وللترتيب المجْمَع عليه.

وقد أجابوا: بأنّ «ثمّ» هاهنا على مثال «ما» في قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَه إلى قوله: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي كان مع هذا من المؤمنين، ويقول الرجل لغيره: قد أعطيتك اليوم كذا وكذا، ثمّ أعطيتك أمس كذا، فإنّ فائدة كلمة (ثمّ) هاهنا تأخّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه (2).

وهناك تقدير آخر ذكره صاحب مجمع البيان حيث قال: وممّا يسأل على الأوّل (أنّ المراد به الإفاضة من عرفات).

أن يقال: إذا كان ثمّ للترتيب، فما معنى الترتيب هاهنا؟


1- التفسير الكبير للرازي 5: 181.
2- المصدر نفسه.

ص: 45

ويجيب الشيخ الطبرسي عن ذلك بقوله: وقد روى أصحابنا في جوابه أنّ هاهنا تقديماً وتأخيراً وتقديره: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

ويجيب البلاغي عن هذا بقوله: ولم أجد الرواية عاجلًا لنرى سندها، ولو كانت عن إمام لذكره في المجمع على عادته (2).

هذا، وهناك روايات من طرق الإماميّة مشابهة لما ورد عن أهل السنّة، كالتي في تفسير العيّاشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الآية، قال: إنّ أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة، ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجل يكنّى أبا سيار، وكان له حمار فارِه، وكان يسبق أهل عرفة، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار، ثمّ أفاضوا، فأمرهم اللَّه أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه.

وقد ذكر العيّاشي خمس روايات تحمل هذا المعنى، وتذكر أنّ المراد من الإفاضة المأمور بها في الآية، الإفاضة من عرفات.

إلّا أنّ الشيخ البلاغي في تفسيره قال عن هذه الروايات- سواء تلك التي نقلها صاحب تفسير العيّاشي ونقلها عنه صاحب تفسير البرهان، وتلك التي جمعها صاحب تفسير الدرّ المنثور، والتي تؤيّد أنّ المقصود بالإفاضة في الآية هي الإفاضة من عرفات- قال: والكلّ لا يقوى على المقاومة لحديث جابر المنتصر


1- مجمع البيان 3: 528.
2- آلاء الرحمن في تفسير القرآن للشيخ البلاغي: 180.

ص: 46

برواية الصادق عليه السلام والباقر عليه السلام (1) والتي سأذكرها في القول الثاني.

القول الثاني: يذهب أصحابه إلى أنّ المراد من الآية هو الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر، قال: والآية تدلّ عليه؛ لأنّه قال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ثمّ قال: ثُمَّ أَفِيضُوا فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أنّ الإفاضتين واجبتان...

ونسب الشيخ الطبرسي هذا القول إلى الجبائي، فيما نسبه الرازي إلى الضحّاك (2)، واستدلّ الطبرسي على هذا بقوله: والآية تدلّ عليه لأنّه قال فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، ثمّ قال: ثُمَّ أَفِيضُوا، فوجب أن يكون إفاضة ثانية فدلّ ذلك على أنّ الإفاضتين واجبتان (3).


1- انظر آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 180.
2- انظر التفسير الكبير للرازي 5: 181. ومجمع البيان للطبرسي 3: 528.
3- مجمع البيان للطبرسي 3: 528.

ص: 47

وقد أشكل على هذا الرأي بلفظة (حيث)، وقالوا: إنّ هذا القول، أي القول الثاني، لا يتمشّى إلّاإذا حملنا لفظ (من حيث) في قوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ على الزمان، وذلك غير جائز، فإنّه مختصّ بالمكان لا بالزمان.

وأجاب أصحاب القول الثاني عن هذا الإشكال: بأنّ التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جدّاً، فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملًا في الآخر على سبيل المجاز (1).

هذا، والغالب أن تستعمل حيث ظرف مكان لكنّها قد ترد للزمان، وقد ذهب كلّ من الشيخ البلاغي في تفسيره والسيّد السبزواري في تفسيره إلى أنّ المقصود بهذه الإفاضة هو الإفاضة من المزدلفة إلى منى، لا الإفاضة الأولى من عرفات التي ذكرتها الآية الأولى، وقد استفاد البلاغي مؤيّداً على ما ذهب إليه من رواية جابر، ففي الصحيح عن الصادق عليه السلام والباقر عليه السلام، عن جابر في ذكره لحجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ثمّ غدا صلى الله عليه و آله أي من منى والناس معه، وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جُمَع «أي لا يقفون في عرفة، فتكون لهم منها إفاضة، بل يقفون في المشعر وتكون منه إفاضتهم»، ويمنعون الناس من أن يفيضوا منها «أي من المزدلفة يعني أنّهم لا يدعون الناس بعد إفاضتهم من عرفات أن يقفوا في المزدلفة؛ لكي يكون لهم منها إفاضة أيضاً، بل لا يكون لهم إلّاالاستطراق»، فأقبل رسول اللَّه، وقريش ترجو أن تكون إفاضته من حيث كانوا يفيضون «أي لا يمضي إلى عرفة بل يمكث في المزدلفة وتكون منها إفاضته» فأنزل اللَّه عليه ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق في إفاضتهم ومن كان بعدهم، الحديث.

ثمّ يواصل كلامه فيقول: ولا ينبغي الريب في أنّ مرجع الضمير في «منها» هو


1- التفسير الكبير للرازي 5: 182.

ص: 48

المزدلفة؛ إذ لم يسبق في الحديث أدنى ذكر أو إشارة إلى عرفات.. ثمّ راح البلاغي أيضاً يقول: فالحكم لبيان رواية الصادق عليه السلام والباقر عليه السلام عن جابر المعتضدة بترتيب القرآن المتسالم عليه.

ولم يكتف البلاغيّ بهذا، بل راح يذكر ما جاء في التبيان من القول: بأنّ الآية خطاب لجميع الحاجّ أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام من مزدلفة، وقال- أي صاحب التبيان- إنّه شاذّ، وعلّل شذوذه بكلام مضطرب، عهدة اضطرابه على النسّاخ، وحاصله الاعتراض على كون المراد بالناس إبراهيم عليه السلام وحده.

وهنا يقول البلاغي: وقد عرفت أنّ رواية جابر ترفع هذا الاعتراض.

ثمّ راح البلاغيّ يفنّد دعوى الإجماع بقوله: وأمّا دعوى الإجماع على خلاف هذا القول، فلعلّها ناظرة إلى المرويّ عن ابن عبّاس وعائشة وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وبعض المفسّرين، ولا حجّة فيه، وكيف كان فلا إجماع، وبالنظر إلى مجمع البيان يظهر أنّ نسّاخ التبيان خلطوا بين قولي الضحّاك والجبائي، وظنّي أنّ في عبارة التبيان سقطاً (1).

وفي تفسيره للآية الأولى قال البلاغي:... ولا تجعلوا المشعر سبيل عابر من عرفات إلى منى كما كانت قريش تقترحه بتشريعهم وجبروتهم على سائر العرب، بل قفوا فيه للنسك بحيث يكون اندفاع جمعكم منه بعد الوقوف فيه إفاضة منه كالإفاضة من عرفات واذكروا اللَّه فيه، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ العاملين على شريعة الحجّ بحقيقتها، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أتى بشريعة الحجّ وإسماعيل وإسحاق ومن كان بعدهم من المتّبعين لهذه الشريعة... (2).

وأمّا السيّد السبزواري في تفسيره، فيذهب إلى أنّ ظاهر الآية الشريفة: أنّه


1- آلاء الرحمن في تفسير القرآن: 180.
2- المصدر السابق: 179.

ص: 49

إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس، وبعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى، بعد الوقوف في المزدلفة. فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين، أحدهما بالصراحة، وهو الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ والآخر بالملازمة، وهو الوقوف في المشعر الحرام والإفاضة منه إلى منى، فتكون (ثمّ) على الحقيقة؛ لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.

ويواصل كلامه بقوله: «وفي ذلك خلافُ ما كانت عليه قريش وحلفاؤها، الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفّعاً، بل بالمزدلفة، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم اللَّه لا نفارق الحرم، وكانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة».

فأثبت سبحانه إفاضتين ووقوفين؛ لأنّ الإفاضة لا تكون إلّابعد وقوف، ولو بمقدار الذكر، ويدلّ على ما ذكرنا بعض الأخبار...

ثمّ قال السبزواري: وقيل- وعليه أكثر المفسّرين-: إنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان عليه دأب الناس، فأمر اللَّه تعالى أولئك العرب الذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات، وبذلك يكون تشريعاً للوقوف بعرفات، وأنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ، وتكون «ثمّ» دالّة على التراخي الرتبي، والخطاب مع قريش فقط.

وبعد ذكره لهذا الرأي، قال السيّد: ولكن فيه نظر، فإنّه بناءً على ذلك تكون الجملة تكرار اًلمفاد الجملة الأولى، و هولا يليق بكلامه تعالى، فلا بدّ من حمل الإفاضة:

إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى- كما ذكرنا-.

أو حملها على كيفيّة الإفاضة في الإفاضتين، بأن يكون المفيض على هدوء ووقار بلا تهجّم، وللإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة، فإنّها هي من رحمة اللَّه تعالى.

ص: 50

ثمّ قال في مكان آخر في تفسيره: المستفاد من سياق قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ أنّه الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى؛ لأنّه تعالى ذكر الوقوف بعرفات والإفاضة منه، فيكون كلاماً مستأنفاً، لا أن يكون تأكيداً للإفاضة من عرفات.

ويختم السيّد كلامه بقوله:

والتأسيس خير من التأكيد لكثرة الفوائد فيه (1).

هذا، وصاحب كنز العرفان في فقه القرآن- بعد أن ذكر القولين:

الأوّل: إنّه إفاضة عرفات، والثاني: إنّه إفاضة المشعر، قوّى الثاني حيث قال: وهو الذي يقوى في نفسي؛ لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلًا، فوجب كون هذه غير تلك تكثيراً للفائدة بتغاير الموضوع، وأيضاً يكون «ثمّ» على حقيقتها من المهملة والترتيب، فيكون «أفيضوا» معطوفاً على «اذكروا»، والمهملة هي من أوّل الوقت إلى آخره.

واستمرّ كلامه قائلًا: وعلى القول الأوّل ما معنى الترتيب هنا؟ قيل في الكلام تقديم وتأخير- كما ذكرنا تقديره- قال عنه: وفيه ضعف، وقيل معناه تفاوت ما بين الإفاضتين، وأنّ إحداهما صواب والاخرى خطأ، والتحقيق هنا أنّ التراخي كما يكون في الزمان يكون في الرتبة أيضاً كقوله: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ التكاثر: 3- 4.

فإنّ مراتب العلم متفاوتة بحسب حال النفس في البُعد عن العوائق كذلك نقول هنا: إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلًا يقصر رتبةً عن الإفاضة المقيّدة المأمور بها ثانياً (2).


1- انظر مواهب الرحمن 3: 188.
2- السيوري في كنز العرفان 1: 306- 307.

ص: 51

ما هو المراد من الناس؟

ذهب جمعٌ كابن عبّاس وعائشة وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة إلى أنّ المراد سائر العرب، وهو المروي عن الإمام الباقر عليه السلام.

فيما قال الضحّاك: إنّه أمر لجميع الحاجّ أن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم، ولمّا كان إبراهيم إماماً كان بمنزلة الامّة فسمّاه وحده ناساً، وكما في قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ نعيم بن مسعود الأشجعي.

وقيل: إنّ الناس إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ومن بَعْدَهم من الأنبياء عن أبي عبداللَّه.

وقيل: أراد بالناس آدم، وهو الوارد عن سعيد بن جبير والزهري و إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يعني أبا سفيان.

وقيل: هم أهل اليمن وربيعة عن الكلبي.

وقيل: عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة، وأنّه هو الأعمر القديم وما سواه فهو مُبْتدع محدث كما يقال: هذا ممّا فعله الناس قديماً.

وقيل: هم العلماء الذين يعلّمون الدِّين، أو هو من يصلح للاقتداء والائتمام به، والعالمون بحدود الحجّ وأحكامه، العاملون بها، وهم منحصرون- كما يقول السيّد السبزواري- في خليل الرحمن وذرّيته، القائمين مقامه، العاملين بشريعته، فهو عليه السلام أوّل هذه السلسلة، وأئمّة الحقّ من ذرّيته آخرها، والعلماء العاملون الذين يتلونه علماً وعملًا، حَفَظَة هذه التشريعات، وإنّما ذكر لفظ «الناس» ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثاً وبقاءً وحفظاً وإبقاءً (1).


1- انظر في هذا كلّه مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي مصدر سابق: 528، وكنز العرفان للسيوري، مصدر سابق 1: 306- 307، وآلاء الرحمن: 179- 180.

ص: 52

الحصيلة:

إنّ الواقع التاريخيّ والفقهيّ للحجّ ومناسكه منذ عهد نبيّ اللَّه إبراهيم الخليل وإلى يومنا هذا مروراً بالعصر الجاهلي والعصر الإسلامي الأوّل وما تلته من عصور يشهد بأنّ هناك إفاضتين في كلّ ما في الإفاضة من معانٍ لغويّة ومفاهيميّة جميلة وأهداف عظيمة: إفاضة من عرفات، وإفاضة من المشعر الحرام، وسياق الآيتين وحرف العطف (ثمّ)- وهي تحمل معنى الترتيب- دليل واضح على أنّ الآيتين المباركتين جاءتا لتقرّرا هاتين الإفاضتين، تكلّفت الآية الأولى الإفاضة من عرفات، فيما تكلّفت الآية الثانية الإفاضة من المزدلفة، وكلا الإفاضتين تستلزم التواجد في كلّ من عرفة والمزدلفة اللّتين ستنطلق منهما الإفاضتان، فأثبت سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين إفاضتين ووقوفين؛ لأنّ الإفاضة لا تكون إلّابعد وقوف ولو بمقدار الذكر، كما يقول السيّد السبزواري.

وأمّا التقديران المذكوران، واحد ذكره الرازي عن جماعة، والآخر ذكره الطبرسي... فلا ضرورة لهما ما دام سياق الآية والعطف فيها بثمّ، والرواية المعتضدة برواية كلّ من الإمام الصادق عن الإمام الباقر عن جابر في ذكره لحجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله التي ذكرناها، بحيث لا تقوى الروايات الاخرى من الفريقين على معارضتها بل هي الأقوى سنداً ومتناً، وقول الرازي وهو من كبار المفسّرين: وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني (الإفاضة من المزدلفة) من غير التزام إلى ما ذكرتم (من تقدير) فأي حاجة بنا إلى التزامه؟! وبعيداً عن عطف الشي ء على نفسه، وما ذكره الشيخ البلاغي والسيد السبزواري وصاحب كنز العرفان من مناقشات متينة، كلّها تعضد القول الثاني، وهو الإفاضة من المزدلفة.

ص: 53

فقه الرمي في الحجّ

دراسة تاريخيّة فقهيّة في تحديد الجمرات وشرطيّة إصابتها

حيدر حبّ اللَّه

تمهيد:

تبقى ظاهرة الحجّ مليئة بالمناسك والأحكام المتشعّبة والكثيرة، وهو ما يلمسه المراجع لفقه الحجّ عند المسلمين مراجعةً سريعة، سيّما عندما يمرّ بأحكام الذبح أو تروك الإحرام وكفّاراته...

ومن مهمّ أعمال الحجّ الواجبة- بعد التغاضي عن بعض ما نسب إلى القيل حول استحبابه- رمي الجمار، ويعالج الفقهاء رمي الجمار في موضعين من كتاب الحجّ عادةً هما:

1- في يوم النحر، حيث رمي جمرة العقبة والذبح والحلق (أو التقصير)، وهناك يسهبون في ذكر أحكام الرمي وشروطه وما يتوجّب على الرامي فعله، وذلك بعد أن يمرّوا على أخذ الأحجار من المزدلفة (جمع)، وما ينبغي أن تكون عليه هذه الأحجار.

2- وفي أيّام التشريق، حيث ترمى الجمرات الثلاث على التوالي،

ص: 54

وهناك يسهب الفقهاء في الحديث عن مسألة الترتيب في رمي الجمار الثلاث، وكذلك مسألة السهو في رمي بعضها أو بعض الحصيات من بعضها...

ويوكلون أحكامه وكيفيّته عادةً على ما أسلفوا بيانه في رمي جمرة العقبة يوم النحر (العيد).

وفي ثنايا مسائل رمي الجمرات، ثمّة موضوعات هامّة تستدعي البحث والتحقيق، وسوف نحاول في هذه الوريقات التعرّض لبعض هذه الموضوعات ذات الإشكالية، وذلك من زاويةٍ تاريخيّة بحتة أو فقهيّة كذلك، ونركّز نظرنا حول مبحثين أساسيّين هما: تحديد هويّة الجمرة، وشرطية إصابة الجمرة.

المبحث الأوّل: الجمرات وتحديد هويّتها

المعروف اليوم- حينما تطلق كلمة الجمرات أو الجمار- أنّها تلك الأعمدة المنصوبة في منى، غير أنّ بحثاً أُثير حول مدى حداثة هذه الأعمدة، وهل هي أبنية استجدّت بعد عصر النصّ أو أنّها كانت موجودة حينه؟ ومن الواضح أنّ هذا بحثٌ تاريخيّ خارجي، له أثر فقهي كما سنلاحظ.

ثمّة وجهتا نظر:

الاولى: إنّ هذه الأعمدة هي الجمرات عينها، ومن ثمّ ينبغي التعامل مع نصوص الرمي للجمار، بنحوٍ نطبّقها على الأعمدة الموجودة حالياً.

الثانية: إنّ هذه الأعمدة ظاهرة مستجدّة، والجمار في الحقيقة، وهو ما تعنيه الروايات، ليس سوى تلك المجموعة من الأحجار المتراكمة، أي أنّ مساحتها أوسع من مجرّد مساحة العمود، فهي تشمل الأرض المحيطة أيضاً.

ويترتّب على هذا الفارق إمكانية رمي هذه المساحة على القول الثاني، دونه على القول الأوّل، إذ عليه أقصى ما يمكن رميه، هو العمود على تقدير وجوده، أو

ص: 55

موضعه فحسب (لا المحيط به) على تقدير عدمه.

وسوف نستعرض أدلّة القولين على الترتيب في الفقرات التالية:

أدلّة القول بأنّ الجمرات هي الأعمدة:

وهذا القول هو المعروف اليوم بين الفقهاء، وبالتأكيد يعود التصريح به إلى فترة سابقة، وأقدم نصّ فقهي يتحدّث بصراحة عن هويّة الجمرات هو- على ما يبدو- ما ذكره الشهيد الأوّل (م 786 ه) في كتابه الدروس حيث قال: «الجمرة اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه ممّا يجتمع من الحصى، وقيل هي مجتمع الحصى لا السائل منه، وصرّح علي بن بابويه بأنّه الأرض» (1).

وقد كان نادراً أن يتحدّث فقيه بصراحة عن هويّة الجمرات، فبعد الدروس، تعرّض للموضوع عددٌ قليل منهم صاحب الجواهر (2)، والشهيد الثاني (3)، وصاحب المدارك (4)، والفاضل الهندي (5)، وجماعة من متأخّري المتأخّرين كان أبرزهم السيّد السبزواري (6).

وأمّا ما ذكره صاحب الدروس عن الصدوق الأوّل فلم نعثر عليه، والظاهر هو أخذه من الفقه الرضوي لما فيه من شبهة النسبة إليه.

وبناءً عليه، فإذا ما قيل بأنّ الجمرة هي البناء وأنّ هذا هو ظاهر كلام الفقهاء، فلابدّ أن يكون المعنى أنّه المركوز في النص والمدلول عليه بنحو من الدلالة،


1- الدروس الشرعيّة 1: 428.
2- جواهر الكلام 19: 106.
3- الروضة البهية 2: 282.
4- مدارك الأحكام 8: 9.
5- كشف اللثام 6: 114.
6- مهذّب الأحكام 14: 237- 239.

ص: 56

لا المصرّح به والمجعول مورداً للبحث المستقلّ.

وعلى أيّة حال، فحاصل ما ذكر أو يمكن ذكره تأييداً لهذا القول امور:

الأوّل: الروايات الشريفة ومهمّها:

الرواية الاولى: خبر محمّد بن أبي نصر عن أبي الحسن عليه السلام: «واجعلهنّ على يمينك كلّهن ولا ترمِ على الجمرة» (1)، فإنّ الظاهر من إفراد كلمة الجمرة، أنّ المراد بها العمود، وإلّا كان المفترض أن يقال: ولا ترم على الجمار، أي لا تقف عليها، إذ لا معنى للوقوف على الحصاة الواحدة (2).

ويرد عليه: أنّ كلمة الجمرة لا يراد منها هنا على جميع التقادير الحجر الواحد، إذ إنّ هذا المكان الذي يرميه الحجّاج، صار اسمه جمرة، فكأنّه علمٌ بالغلبة، والسبب هو تجمّع الحصى فيه أو غير ذلك كما سنتعرّض له إن شاء اللَّه تعالى عند البحث اللغوي، ومعه فلا يفرّق بين الإفراد والجمع ما دام هذا اللفظ- بتصريح اللغويّين- يسمّى جمرة سواء أطلق على العمود أو على كومة الحصى أو على هذا المكان الذي يرمى بالجمار، فإنّ التعبير فيها صادق جميعاً، فالإفراد لا يراد به الفرد الواحد، وإنّما اسم لمجتمع الحصى أو الأرض، وما دام اسماً فلا يصحّ التعامل معه على أساس قانون الإفراد والجمع.

الرواية الثانية: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «.. فارمها من قبل وجهها ولا ترمها من أعلاها...» (3) ونحوها رواية دعائم الإسلام (4).

وذلك بأحد تقريبين:


1- وسائل الشيعة، كتاب الحجّ 14، أبواب رمي جمرة العقبة، الباب 10، ح 3.
2- تحقيقي دقيق در باره جمرات ورمى آنها بالفارسيّة، علي عطائي خراساني: 75.
3- الوسائل، مصدر سابق، باب 3، ح 1.
4- مستدرك الوسائل، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3 ح 2.

ص: 57

الأوّل: إنّ كلمة أعلاها وأسفلها لا معنى لها إذا لم تكن الجمرة جسماً، إذ إنّ مجرّد كومة من الحصى لا معنى لأعلاها وأسفلها (1).

ويناقش: بأنّ الرمي من الأعلى لا يعني رمي أعلاها، بل بقرينة المقابلة مع الرمي من قبل وجهها يفهم أنّ المراد الحديث عن الجهة التي يكون الرامي فيها بالنسبة للجمرة، أي لا ترمها من الجهة التي تكون بالنسبة إلى الجمرة أعلى منها، كالوقوف على التلّ الملاصق لجمرة العقبة قديماً ممّا يجعل الرامي أعلى من الجمرة، فرميه يكون رمياً لها من أعلاها لا رمياً لأعلاها.

الثاني: لا معنى للرمي من قبل وجهها إلّاإذا كانت بناءً، وإلّا فكومة الحصى أو الأرض المسطّحة لا وجه لها، إذ هي من جميع الجهات متساوية، والأرض لا يمكن مواجهتها (2).

ويلاحظ عليه: إنّ الرواية نفسها شرحت معنى المواجهة بقرينة المقابلة، فالحديث في الرواية عن جمرة العقبة، وهي جمرة كما سنرى كانت تقع أسفل تل أو جُبيل، فإذا أُمر برميها من قبل وجهها لا من أعلاها عنى ذلك عدم الصعود إلى التلّ الذي يجعل رميها من الجانب الآخر متعذّراً إلّابإزالة التلّ نفسه، وبهذا يفهم أنّ الوجه هو ما كان من ناحية الطريق المقابل للتلّ، والذي تواجه به الجمرة عادةً للمارّ على الطريق، بلافرقٍ بين أن تكون الجمرة عموداً أو كومة حصى أو نحو ذلك.

الرواية الثالثة: رواية حُميد بن مسعود قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رمي الجمار على غير طهور؟ قال: الجمار عندنا مثل الصفا والمروة حيطان إن طفت بينهما على غير طهور لم يضرّك، والطهر أحبّ إليّ...» (3).


1- تحقيقي دقيق درباره جمرات، مصدر سابق: 76.
2- المرتقى إلى الفقه الأرقى، السيد محمد الحسيني الروحاني 2: 328، وانظر تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 18.
3- الوسائل، مصدر سابق، باب 2، ح 5.

ص: 58

فإنّ التعبير بحيطان- كوصفٍ للجمرات- واضح الدلالة على أنّها لم تكن أرضاً أو مجرّد مجتمعٍ للحصى، إذ الحائط من حَوَط وهي كلمة تعني الجدار (1).

وقد يناقش: أوّلًا: إنّ الرواية ضعيفة سنداً (2)، فعلاوة على أنّ سندها في الاستبصار: جعفر عن أبي غسّان عن حميد بن مسعود، وفي الوافي عن أبي جعفر عن ابن أبي غسان حميد بن مسعود، وفي الوسائل عن جعفر عن أبي غسّان حميد بن مسعود، وفي التهذيب: ابن أبي غسّان عن حميد... أنّ ابن مسعود نفسه مجهول فهي ساقطةٌ سنداً.

ويجاب: 1- إنّ الرواية اعتمد عليها الأصحاب دون نقاش بمخالفتها للواقع، علاوة على عدم الداعي إلى وضعها (3).

وفيه: إنّ عمل الأصحاب بها لا يجبر سندها على تقديره إلّافي حالات ليست هذه منها لاحتمال فهمهم من الحيطان ما سيأتي، أو لقولهم بالتبعيض في حجّية السند فأخذوا بأجزائها وتجاهلوا هذا الجزء، ولا يُحرز أخذهم بهذا الجزء عينه، ودواعي الوضع موجودة، إذ اشتراط الطهارة وعدم اشتراطها مسألة خلافيّة بين الفقهاء أو لا أقلّ محلّ بحث، فلعلّها كانت كذلك زمن المتشرّعة المعاصرين، وأمّا لو قُصِدَ عدم الوضع و... بلحاظ وصف الحيطان فقط فسوف يأتي حاله.

2- إنّ الرواية على تقدير وضعها تكشف عن أنّ الجمرات كانت كذلك،


1- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 82، واستقربها صاحب المرتقى إلى الفقه الأرقى لولا الملاحظة السنديّة القادمة، مصدر سابق 2: 329.
2- المرتقى، مصدر سابق 2: 329، وانظر مقالة رمي الجمرات في بحث جديد، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، مجلّة ميقات الحج، العدد 17: 50.
3- تحقيقى دقيق بالفارسيّة، مصدر سابق: 82- 83.

ص: 59

فتشبيه الراوي الجمرات بالصفا والمروة وجعلها حيطان، أمرٌ يدلّ على مفروغيّة كونها كذلك، حتّى يتسنّى له هذا التشبيه ليصل إلى مبتغاه في مسألة الطهور، وهذا يعني أنّ الجمرات في تلك الحقبة كانت كذلك، على تقدير الاستفادة الدلاليّة كما سيأتي.

ثانياً: إنّ الظاهر من الرواية أنّ وجه الشبه ليس هو كلمة «حيطان» وإنّما حكم الطهور، وذلك أنّ الجمرات لا يصدق عليها عنوان الحيطان حتّى لو كانت أعمدة، فإنّ العمود شي ءٌ والحائط شي ءٌ آخر، ولكي يصدق على الجمرة أنّها حائط لابدّ أن يكون عرضها قد بلغ مقداراً معتدّاً به، وإلّا لم يكن هناك فرق في لغة العرب بين الحائط والعمود، إلّاإذا تعدّدت بشكل أحاطت به موضعاً وحصرته.

وبغضّ النظر عن ذلك، فإنّ الصفا والمروة إنّما يصدق عليهما عنوان الحائط بلحاظ كونهما يحدّان ما بينهما، وإلّا فمن الواضح أنّهما ليسا جدارين أو عمودين، وهذا معناه أنّ عنوان حائط يصدق على تلّين أو جسمين فيهما ارتفاع يحدّان منخفضاً بينهما، وعليه فقد يكون وجه التشبيه صادقاً بلحاظ كون الجمرات كذلك ولو بقرينة تلّ العقبة، دون حاجة إلى فكرة العمود، وإلّا فما هو موجود اليوم لا يصدق عليه عنوان حائط أبداً.

وبعبارة اخرى، لكي تكون الأعمدة حائطاً حافظاً لابدّ أن تكون كذلك بلحاظ ما بينها كما هو الحال في الصفا والمروة، أمّا وجود أ عمدة ثلاثة لا اثنين على خط واحد لا تحوط شيئاً، وليست تلالًا بينها منخفض، فلا يصدق عليها عنوان حائط.

وأمّا تفسير الحائط بالعلامات المنصوبة والحدود الفاصلة بين الجمرات (1)،


1- المصدر نفسه: 83- 84.

ص: 60

فهذا في غاية البُعد عن مدلول الكلمة لغويّاً، فلا يطلق العرف اللغوي العربي على هذه العلامات كلمة حائط أبداً، أفهل تقول العرب عن مدينة عُلّمت حدودها الإدارية بعلامات من أعمدة ونحوها... هل يقال لها: إنّها محاطة بحيطان؟! وهل يقال للجسم الموجود اليوم على مقام إبراهيم عليه السلام إنّه حائط بالنسبة للكعبة؟!

كلّ ذلك يرجّح أنّ التشبيه كان بلحاظ الظهور لا الحيطان، وإلّا فلا يصدق على الأعمدة ظاهراً، أو لا أقل من الشك في الظهور.

الرواية الرابعة: خبر سعيد الأعرج قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام معنا نساء، قال: أفض بهنّ بليل... حتّى تأتي الجمرة العظمى...» ونحوها رواية سعيد الرومي (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ التعبير بالجمرة العظمى وما درج عليه الفقهاء فيما بعد من هذا التعبير أو الجمرة الكبرى بقطع النظر عن كونها جمرة العقبة أو غيرها... يدلّ على اختلاف أحجامها الأمر الذي لا معنى له إلّاتفسيره على أساس الأعمدة، وإلّا فقطعة الأرض لا معنى للحديث عنها بهذا الشكل (2).

والتعبير بالعظمى أو الكبرى، موجود حتّى في المصادر الفقهيّة لأهل السنّة ممّا يعني أنّه غير متلقّى فقط من روايات أهل البيت عليهم السلام السالفة الإشارة إليها، ومن ثمّ فهو تعبير متداول منذ قديم الأيّام (3).

والجواب: إنّ التعبير الموجود في الروايات وفي مصادر الفقه الشيعيّة والسنّية، هو الجمرة العظمى والجمرة الكبرى، ولم يرد عن الجمرات الاخرى سوى تعبير الجمرة الوسطى، أي أنّ تعبير «الجمرة الصغرى» غير موجود إلّا


1- تحقيقى دقيق، مصدر سابق: 85- 86.
2- تحقيقى دقيق، مصدر سابق: 85- 86.
3- مقصودنا محاولة تعميم المصطلح حتى لا يقتصر على وضع حلّ له في دائرة روايات أهل البيت عليهم السلام.

ص: 61

نادراً، وفي خلاف لفظي (1)، وهو ما يفتح المجال أكثر فأكثر أمام تفسير آخر للعظمى والكبرى يمنع على الأقلّ أن يصبح بعد ذلك ظاهراً في مدّعى المستدلّ، إذ إنّ احتمال تسميتها بالعظمى أو الكبرى قد يكون لوجود التلّ الملاصق لها الأمر الذي يجعلها مميّزة عن غيره لملاصقتها مرتَفَعاً، لأنّ العقبة (جمرة العقبة) لغةً هي الجبل الطويل الذي يعرض للطريق فيأخذ فيه، وقد يكون الأمر لأنّ لها ميزة تشريعيّة وهي رميها رمياً خاصّاً يوم النحر فتكون مميّزة عن غيرها ولها سمة تمنحها مكانة خاصّة، كما أنّ رميها زيادةً على غيرها (يوم العيد) من الممكن أن يجعل حجم كومة الحصى أكبر من بقيّة الجمرات الأمر الذي يصحّح كونها أكبر حجماً أيضاً، كما أنّ احتمال أن يكون تعظيمها وإكبارها نظراً لبيعة العقبة الكبرى الشهيرة في تاريخ الإسلام، حيث وقعت عندها حسب الظاهر، الأمر الذي أضفى عليها قداسة خاصّة وعظمة وهيبة معيّنة في قلوب المؤمنين وربّما قد أخذت هذا الوصف من تلك البيعة.

ولا نريد الجزم بهذه الاحتمالات لكن معقوليّتها ووجاهتها في حدّ نفسها تجعل الاحتمال المثار في هذا الاستدلال مجرّد احتمال إلى جانب احتمالات اخرى، الأمر الذي يُحِيجُه إلى شواهد وقرائن ليترجّح على غيره.

والظاهر أنّ الجمرة العظمى والكبرى هما جمرة العقبة، والتي تسمّى أيضاً الجمرة القصوى، وإن سمّيت الاولى أيضاً القصوى أحياناً، لأنّ هذا اللفظ ذو معنى نسبي، لكونها الأبعد، وهي تقع عند الشجرة، وعليه فما قد يدغدغ من أنّها الجمرة الاولى الاخرى بعيد بعد أن كان مفاد رواية سعيد الأعرج ظاهراً فيها بقرينة الإفاضة والنحر، وأمّا رواية سعيد الرومي التي ينادي فيها الإمام بأعلى صوته أنّ


1- أنظر مثلًا: مختلف الشيعة 1: 303.

ص: 62

هذا المكان (الجمرة) ليس موقفاً، فالظاهر منها أنّها جمرة العقبة أيضاً، لأنّ الروايات ذكرت استحباب الوقوف عند الجمرتين والنهي عن الوقوف عند جمرة العقبة، فتكون العظمى هي العقبة كما دلّت على ذلك صحاح يعقوب بن شعيب ومعاوية بن عمّار وروايات اخرى مثل خبر ابن أبي نصر و... (1) كما أنّ هذا هو صريح كلمات العديد من فقهاء الشيعة (2) وغيرهم (3)، فليراجع.

وعليه، فما ورد في صحيح معاوية بن عمّار يفيد أنّها الأولى يمكن التوقّف فيه بعد أن كان من تعبير الراوي، أو لاأقلّ من دعم تلك بالشهرة والمعروفيّة بين المسلمين، وإن تابع صحيح معاوية عبارات بعض الفقهاء أحياناً كالشيخ الطوسي في التهذيب (4). وعليه، فإمّا تطرح دلالة خبر معاوية في تحديد العظمى أو يتوقّف في الأخبار جميعها ويُرجع إلى المشهور، ويجعل احتمال تبعية مثل الطوسي للرواية تعبّداً قويّاً، والنتيجة عدم صحّة الاستدلال بروايات العظمى والكبرى، وهو المطلوب.

الرواية الخامسة: خبر أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الذي ينبغي له أن يرمي بليل، من هو؟ قال... والمريض الذي لا يستطيع أن يرمي يُحمل إلى


1- انظر الوسائل 14، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 10.
2- انظر المبسوط، والوسيلة، ومنتهى المطلب، والتذكرة، ومجمع الفائدة، والمدارك، وذخيرة المعاد، وكشف اللثام، والحدائق، والمستند، والجواهر، وجامع المدارك، وفقه الصادق... وسيأتي المرجع بالتفصيل لاحقاً.
3- انظر المجموع للنووي 8: 145 و 159 و 164، وتلخيص الحبير لابن حجر 7: 375 و 406، ومغني المحتاج للشربيني 1: 501، وحواشي الشرواني 4: 117- 118، وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني 2: 157- 158، وحاشية ردّ المحتار لابن عابدين 2: 564، والمغني لابن قدامة 3: 420- 421 و 447، وكشاف القناع للبهوتي 2: 580- 581، والمحلّى لابن حزم 7: 121- 122، وسبل السلام لابن حجر العسقلاني 2: 200، ونيل الأوطار للشوكاني 5: 140- 150 و...
4- التهذيب 5: 265.

ص: 63

الجمار فإن قدر على أن يرمي، وإلّا فارم عنه وهو حاضر» (1)

وتقريب الاستدلال أنّه لا معنى لعجز المريض عن الرمي إذا كانت الجمرة أرضاً، إذ يمكنه إلقاء الحجر بسهولة، ولكون الجمرات أعمدة عجز عن رمي الحجر ناحيتها، وهذا ما يؤكّد أنّها كذلك (2)

والجواب: إنّ ملاك العجز ليس عمليّة الإلقاء، وإلّا لألزمه الإمام عليه السلام برمي جمرة العقبة من الأعلى، وإنّما هو الازدحام وتجمّع الناس، فهذا هو العنصر الموجب للحرج على المريض، وإلّا فجعله على مسافة ذراعين أو ثلاثة أو أكثر بقليل لا يجعل الرمي حرجيّاً بالنسبة إليه، ولا أقلّ من أنّ هذا الاحتمال الوجيه في حدّ نفسه في ملاك الحرج يمنع عن الاستدلال بالرواية.

الرواية السادسة: مرسلة الصدوق: «إنّما أمر برمي الجمار لأنّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم عليه السلام في موضع الجمار فيرجمه إبراهيم عليه السلام فجرت بذلك السنّة»، ونحوها جملة من الروايات التي دلّت على هذه الحادثة مع إبراهيم، وبعضها عليها مع آدم عليه السلام (3)، وعليه فلا معنى لأن يختفي إبليس في موضع الجمرات ما لم تكن هناك جمرات بارزة، وإلّا فلو كانت أرضاً، فالكلام يغدو بلا معنى (4).

والجواب: إنّ التعبير بموضع الجمرات واضح أنّه مجاز بعلاقة ما سيكون، لأنّ المفروض أنّ هذه الحادثة كانت أساساً للرمي، فالتعبير بموضع الجمرات أي نفس الموضع الذي تقع الأعمدة الآن فيه، ولا تكلّف في ذلك على الإطلاق بل هو المدلول الظاهر من الرواية، وإلّا فإذا قلنا بأنّ إسماعيل عليه السلام كان في موضع زمزم


1- الوسائل، مصدر سابق، باب 14، ح 7.
2- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 86- 87.
3- الوسائل، مصدر سابق، باب 1، ح 5، وأبواب العود إلى منى، الباب 4، ح 3 و 6 و 7.
4- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 88.

ص: 64

فلا يعني ذلك أنّ زمزم كان موجوداً آنذاك كما هو واضح، هذا علاوة على أنّ إبراهيم عليه السلام قد رمى إبليس لا الموضع فلاحظ.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا عبرت بعض الروايات برمي الجمار كما هو كذلك، فلا يدلّ على شي ء بعد أن كان البحث في الجمار نفسها، فافتراض أنّها الأرض أو العمود متساوٍ.

الثاني:- من أدلّة القول الأوّل- كلمات الفقهاء الدالّة على أنّ الجمرات أعمدة، وهي نصوص فقهيّة قديمة تكشف عن أنّ الجمرات لم تكن في يومٍ من الأيّام مجرّد أرضٍ أو كومة حصى، فلم يستخدم الفقهاء- كالروايات- تعبير الأرض إطلاقاً للتدليل على الجمرات (1).

وتعابير الفقهاء التي تعطينا قرائن على استفادة العمود عديدة أهمّها:

أ- تعبير «فوقع على الجمرة» بدل «فوقع في الجمرة» كما فعله الجامع للشرائع (2).

ويناقش: بأنّ كومة الحصى يصحّ التعبير أنّه وقع عليها حجر، وكذلك على الأرض كما هو واضح في اللغة العربيّة.

ب- تعبير الشيخ الطوسي: «على مكان أعلى من الجمرة»، ممّا يدلّ بقرينة استخدام أفعل التفضيل على ارتفاع الجمرة بمقدارٍ معيّن كالعمود لا كونها أرضاً (3)0

.

ويلاحظ عليه: أنّ الشيخ الطوسي كان بصدد الحديث عن سقوط الحجر على ما هو أعلى من الجمرة ثمّ تدحرجه بقوّة على الجمرة، وهذا ما يصدق على


1- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 17- 62، وانظر حسين يزدي اصفهاني، تحقيقي در مسألة رمي جمرات، مجلّة ميقات حجّ فارسي، العدد 42: 51- 52.
2- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 26.
3- المصدر السابق: 23.

ص: 65

جمرة العقبة بلحاظ التلّ الذي كان ملاصقاً لها حسب رأي المستدلّ نفسه بلا فرق بين أن تكون الجمرة أرضاً أو عموداً، فإنّ التلّ أعلى من الجمرة على كلّ تقدير، ألا يصحّ القول: «سقط الحجر على مكان هو أعلى من الجمرة»، بلحاظ أنّ بقيّة الجمرات لا مكان فيها أعلى من نفس الأرض؟ هذا مضافاً إلى أنّ أفعل التفضيل كان بلحاظ وجود ما هو أعلى، كما نقول إنّ هذا الجبل أعلى من سطح البحر مع أنّ الجغرافيين في تعبيرهم هذا يصرّحون بأنّ سطح البحر يساوي عندهم «صفراً».

ج- استخدام الفقهاء والروايات كلمة الرمي، وهي كلمة ذات دلالة على المواجهة، وإلّا لو كانت الجمرة أرضاً فلا يقال رميتها، وإنّما ألقيت عليها (1)

ويلاحظ: أنّ هذا الكلام ليس له مدرك لغوي، فكلمة الرمي في لغة العرب كما تطلق على صورة المواجهة كذلك تطلق على حالات الاختلاف في العلوّ والسفل، فلو أُطْلق سهم من الأعلى على إنسان، أفلا يقال رُمِي بسهم؟! ولو أُصيب برصاصة وهو على مرتفع ألا يقال رمي برصاصة قاتلة؟! فهذه الخصوصية لا وجه لها في لغة العرب، نعم، هناك فرق بين الرمي والإلقاء، لكن لا من حيث العلوّ والسفل، بل من حيث طبيعة قذف الشي ء المرمي.

د- وهناك تعابير اخرى كعبارة السبزواري في ذخيرة المعاد: «ثمّ وثبت (أي الجمرة) إلى الجمرة» وغيرها تفيد ذلك (2)

وملاحظتنا على هذه المحاولة وبقيّة المحاولات أنّها استفادت من نصوص فقهيّة متأخّرة تعود إلى بضعة مئات من السنين، أي ما بعد الشهيد الأوّل الذي أشرنا سابقاً إلى نصّه الصريح في وجود بناء، وهذا معناه أنّ هذه النصوص لا تكاد تنفع شيئاً مع وجود نصّ الدروس، ومن ثمّ فنصّ الدروس فضلًا عن غيره لا يؤثّر


1- المصدر نفسه: 30.
2- المصدر نفسه: 31- 64، ولاحظ مقالة ميقات حجّ، مصدر سابق.

ص: 66

على الاستدلال هنا، بعدما كان الحديث عن موضوع حكم شرعي يراد ملاحظته عصر صدور النصوص لا بعد مئات السنين من ذلك.

أمّا عدم تعبير الفقهاء عن الجمرة بكلمة الأرض، فهذا لا يصلح في حدّ ذاته دليلًا على أنّ الجمرة ليست أرضاً، لأنّ الطرف الآخر يمكنه القول بأنّ عدم التعبير ناشئ عن أنّ الجمرة عندهم هي أرضٌ فيكفيهم إطلاق العلم بالغلبة بلا حاجة إلى التصريح بأنّ مسمّى هذا الاسم هو أرض، فهذا الكلام إنّما هو بمثابة إفقاد الخصم دليلًا صريحاً لا إقامة دليل مقابل على الرأي المختار إلّاإذا استخدمنا نوعاً من المصادرة.

الثالث: التمسّك بنصوص تاريخيّة وبعض نصوص رحلات الحجّ، وهي تشير إلى أنّ الجمرات أعمدة، من قبيل ما جاء في كتاب «تاريخ مكّة قديماً وحديثاً» لمحمّد الياس عبد الغني، و «سفرنامه مكّة» لحسام السلطنة، وكتاب «أحكام حج بيگلري» (1).

ويناقش: بأنّ المصادر المتوفّرة أقصى ما تؤكّده أنّ الجمار أعمدة إلى ما قبل مائة أو مائتي أو... سنة على أبعد تقدير، فيما المهمّ هو تحديد زمن النصّ والفترة المتاخمة، فهذا هو ادّعاء من يقول بأنّ الجمار كومة حصى لا أعمدة، وإلّا فلا أحد ينكر أنّها أعمدة في الأعصار المتأخّرة.

الرابع: القرائن الخارجية وهي عديدة نلاحظها على التوالي:

1- إنّ منى واد، يقع في معرض السيول، فمن المنطقي أن تكون هناك علامات تحدّد بها الجمار (2).

ويرد عليه: إنّ طريقة التحديد القديمة للمواضع كانت تختلف بعض الشي ء


1- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 64- 67.
2- المصدر نفسه: 70- 71.

ص: 67

عن الدقّة البالغة المرعية الإجراء اليوم، فقد يعتمدون على تحديد الجمرات ببُعدها عن تلّ أو عن جسم ثابت، وهذا أمرٌ متداول قديماً، ولا غرابة في أن يقيموا تحديداتهم على ذلك، كما لا غرابة في أن يجعلوا علامة لا تكون هي نفس الجمرة، بل قريبة تحدّد الجمرات على أساسها، وحصر الطريقة بما ذكر ليس هناك ما يؤكّده وإن كان محتملًا.

2- إنّ ظاهرة وضع العمود لاحقاً على تقدير عدم كونه موجوداً قبل ذلك كان من المفترض أن تثير الناس، وربما منع منها بعض الفقهاء نظراً لكونها بدعة أو ما شابه، مع أنّنا لا نجد في أيّ نصّ تاريخي شيئاً من هذا النوع أو حتّى استفهاماً عن الموقف الشرعي من الموضوع (1).

والجواب: أمّا عن عدم التعرّض تاريخيّاً للجمرات فهو أمرٌ له نظائره، ذلك أنّ الكتابة عن تاريخ مكّة والحرم بالشكل المعهود له اليوم وكذلك أدب الرحلة الحجّية وتدوينها... كلّ ذلك لم نجده في المصادر التاريخية القديمة إلّاعابراً، فلو كانت هناك ظاهرة اهتمام بتاريخ الحرم، ولم يجر التعرّض للجمرات لكانت هذه القرينة محكمة، أمّا والجوّ العام كان نحواً من عدم الاهتمام فدرجة الدلالة في هذه القرينة ستغدو أضعف، سيما وأنّ كتب التاريخ في القرون الهجرية الأربعة الأولى كانت تاريخاً للسلاطين والسياسات أكثر منها تاريخاً لسائر الامور، سواءً في ذلك ما دوّنه المسلمون وما دوّنه غيرهم.

وأمّا عن عدم وجود ردّة فعل فقهيّة إزاء هذا الموضوع على تقديره، فالإنصاف أنّ ذلك قرينة جيّدة، إلّاأنّ تحصيل الاطمئنان بمقتضاها قد يواجه بعض الصعوبات نتيجة عدم وضوح طبيعة المسألة تاريخيّاً، فمن جهة ثمّة حوادث


1- المصدر نفسه: 72 و 89.

ص: 68

وتغييرات كثيرة طرأت على الحرم لم تثر أيّ فقيه كحجم الكعبة التي كانت أقلّ علوّاً ممّا هي عليه اليوم، ولو بقرينة روايات تحطيم الأصنام عند فتح مكّة، ومن جهةٍ اخرى لا ندري كيف وصلت الجمرة إلى وضعها الحالي، فلعلّ التدريج كان هو الطريقة المتّبعة الأمر الذي لم يكن دفعياً حتّى يثير حفيظة أحد.

والملفت للنظر أنّ المستدلّ نفسه، فرّ من بعض التفسيرات لبعض كلمات الفقهاء باحتمال أنّ الجمرة هدمت في بعض الفترات الزمنية وكانت أرضاً (1)*+، فكيف لم يكن هذا الأمر مورداً لسؤال الفقهاء في تلك الحقبة ما قبل صاحب الدروس؟!

3- لو لم تكن للأعمدة أساس تاريخي لهدمها الوهابيّون. وهذه القرينة ضعيفة، أقصاها أنّهم يعتقدون بقدمها، وأيّ حجّة علينا نحن في ذلك، بعد أن كنّا معاصرين لهم وقريبين؟ فهل اجتهادهم التاريخي- ونحن لا ندري أنّهم اجتهدوا أساساً- حجّة علينا؟ وأين ما يثبت أنّهم اعتمدوا على دراسة تاريخيّة؟ وهل أنّ ظاهرة هدم المعالم الدينيّة عند الوهابية كان أمراً محصوراً بما لم يثبت تاريخيّاً؟ وهل كان المعيار عندهم هو الثبوت التاريخي أم أمر آخر؟... أسئلة كثيرة لا تجعل لهذه القرينة من قوّة واستحكام.

4- إنّ مقتضى الطبع العقلائي والعرفي العام هو وضع علائم على مثل هذه الامور، والقبور خير شاهد، ولنا في قصّة قبر عثمان بن مظعون شهادة اخرى (2).

والجواب: إنّ ذلك صحيح كبرويّاً، لكن افتراض أنّ العلامة كانت عموداً في المكان أمرٌ يحتاج إلى دليل، فطريقة تحديد المواضع ليست ذات شكل واحد، فلعلّ العلامة كانت قريبة من مكان الرمي، أو لعلّ مكان الرمي بطبعه كان مشخّصاً كحفرة يجتمع فيه الحصى، أو تلّ صغير من حصى متراكم وما شابه.


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه: 72- 73.

ص: 69

هذه حصيلة الوجوه التي ذكرت لإثبات أنّ الجمرة زمن صدور النصّ كانت هي الأعمدة الحاليّة، أمّا البحث في مقتضى الدليل اللغوي فنرجئه إلى ما بعد استعراض أدلّة الطرف الآخر.

وقد تبيّن ضعف هذه القرائن، واجتماعها وإن كان يزيدها قوّة غير أنّ الانصاف، أنّه لا يبلغ بها درجة الوثوق والاطئمنان المطلوبين، سيّما مع معارضتها بأدلّة الطرف الآخر التي سيأتي حالها.

أدلّة القول بأنّ الجمرات هي الأرض أو مجمع الحصى

يبدو أنّ أوّل من صرّح بهذا الأمر وفتح النقاش حوله هو الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه اللَّه)- بعيداً عن ما يمكن أن يقال إنّه موقف متقدّمي الفقهاء- وقد ذكر جملة وجوه لإثبات رأيه أهمّها ما يلي:

الوجه الأوّل: الروايات- حيث تشير إلى أنّ الجمرات هي مجمع الحصى- وهي:

الرواية الاولى: صحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام: «فإن رميت بحصاة فوقعت في محمل فأعد مكانها، وإن أصابت إنساناً أو جملًا ثمّ وقعت على الجمار أجزأك» (1)، فإنّ التعبير ب «وقعت على الجمار» وليس أصابت الجمرات- سيما بقرينة الجمار والتي تعني لغةً صغار الأحجار، وبالأخصّ أنّ الحجر إذا أصاب بدن إنسان ليس له قدرة إصابة الأعمدة- يدلّ على أنّ الجمرات هي الأرض ومجمع الحصى (2).

ويناقش: إنّ تعبير «على الجمار» لا يرجّح أنّ الجمرات هي كومة الحصى،


1- الوسائل، مصدر سابق، باب 6، ح 1.
2- آية اللَّه مكارم شيرازي، رمي الجمرات في بحث جديد، مجلّة ميقات الحجّ، العدد 17: 47.

ص: 70

ذلك أنّ الرمي قد يكون من التلّ الملاصق لجمرة العقبة، وقد يكون من على ظهر الجمل كما جاء جوازه في الروايات، وقد يكون الرمي منحنياً كما هو المعتاد لمن بَعُدَ عن جسم الجمرة فتسقط الحجار على الجمرة، ويصدق أنّه قد وقع عليها الحجر، وأمّا أنّ الحجر ليس له طاقة إصابة الجمرة على تقدير إصابته لإنسان أو بعير فهو أمرٌ غير واضح ذلك أنّ الجمل أعلى من الجمرة، وهكذا لو لاحظنا التلّ الملاصق لجمرة العقبة، ولم تفرض الرواية أنّ هذا الأمر كثير الوقوع، فإمكان وقوعه وتحقّقه وارد فلا يكون دليلًا على عدم وجود جمرة هي العمود.

هذا مضافاً إلى نقطة هامّة ربّما تكون أُغفلت في هذا البحث، وهي أنّ البحث تارةً يدور حول وجود الأعمدة في سالف الأزمان وعدم وجودها، كما هو مجال الأخذ والردّ فعلًا بين من بحث هذا الموضوع، واخرى يكون في أنّه على تقدير وجود الأعمدة فهل اللازم شرعاً إصابتها أو يجزئ إصابة الحصى المجتمعة حولها، فإنّ هذا بحث آخر حكمي فيما الأوّل بحث موضوعي خارجي، وليس من ملازمة بحسب الطبيعة الأوّلية كما هو واضح.

وعليه، فإذا تمّ- تنزّلًا- أنّ المراد بالجمار هنا هو الأحجار الصغار، فأقصى ما يفيد إجزاء الوقوع عليها- بقطع النظر عن البحث اللغوي القادم- لا عدم وجود عمود، ولا أقلّ من تساوي النسبة للدلالتين بحيث يمنع عن انعقاد ظهور.

الرواية الثانية: خبر البزنطي عن الرضا عليه السلام: «واجعلهنّ على يمينك كلّهن، ولا ترمِ على الجمرة»، فإنّه لا يمكن الوقوف على العمود لرميه، وإنّما يصدق لو كانت الجمرة مجمع حصى، ونحو هذه الرواية خبر معاوية بن عمّار أيضاً، وخبر الفقه الرضوي، ورواية دعائم الإسلام (1).


1- المصدر نفسه: 48، وانظر الوسائل، مصدر سابق، باب 10 ح 3، وباب 3 ح 1، والمستدرك، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3 ح 1.

ص: 71

وقد يناقش بأنّ الرمي على الجمرة أو من أعلاها في الروايتين لا يعني الوقوف على العمود على تقدير وجوده، أمّا خبر البزنطي فظاهره رمي الجمار حالة كونها عن يمين الرامي، فكأنّه يريد أن يقول: حالة الرمي كن كما تكون بالنسبة للكعبة حال الطواف فاجعلها على يمينك وارمها وأنت على هذه الحالة، ولا تواجهها فتقف عليها، بمعنى تقف قريباً منها وجهاً لوجه فتكون أمامك، وهذا أجنبي- كما ترى- عن كونها عموداً أو غيره.

وأمّا رواية ابن عمّار: «فارمها من قبل وجهها ولا ترمها من أعلاها» فهي خاصّة بحسب صدرها بجمرة العقبة، فيكون المعنى خذ وجهها الذي هو من ناحية الطريق فارمها من طرفه، ولا تصعد على التلّ فترمها من الأعلى، وكلمة «أعلاها» لا تعني- كما فُهم- أنّ للجمرة أعلى وأسفل، وأنّها تقع في منحدر فيرمى القسم الأسفل منها أمّا الأعلى فلا، أو يرمى من جانب الأعلى لا الأسفل بحيث لا يتمّ ذلك إلّافي صورة الأرض وكومة الحصى، بل المقصود- كما أشرنا سابقاً أنّ الرمي يكون من جهة ما هو أعلى منها وهو التلّ، أي من المكان الذي هو أعلى منها، فهذا هو الظاهر عرفاً، وهو متساوي النسبة بين أن تكون الجمرة عموداً أو كومة حصى. فإذا كانت عموداً يصدق برميها من التلّ أنّها رميت من الأعلى.

الرواية الثالثة: رواية الفقه الرضوي: «وإن رميت ودفعت في محمل وانحدرت منه إلى الأرض أجزأت عنك»، وفي نسخة اخرى: «إن أصاب إنساناً ثمّ أو جملًا، ثمّ وقعت على الأرض أجزأه»، فإنّ التعبير بالأرض إشارة إلى المرمى لا مطلق الأرض، وهو ما يدلّ على أنّ المرمى لم يكن عموداً كما هو عليه الآن (1).

ويناقش: بأنّ الاستعاضة عن كلمة الجمرة أو الجمار أو الجمرات أو المرمى


1- المصدر نفسه: 49، وانظر المستدرك، مصدر سابق، باب 6، ح 1.

ص: 72

كما هو المتعارف في ألسنة الروايات بكلمة الأرض. يعزّز احتمالًا آخر موجوداً بالأصل ولا يصل نقيضه إلى رتبة الظهور، وهو أنّ الرواية تحكم بكفاية توجيه الحجر إلى المرمى حتّى لو لم يصبه، فتُعارِض دليل شرطية الإصابة المعروف وهو صحيحة معاوية بن عمّار التي استدلّوا بها على شرطية الإصابة، وأيّ ضير في تعارض الروايات، هذا علاوة على سقوط الفقه الرضوي سندياً أيضاً كما هو المعروف، الأمرالذي يخفف من غرابة معارضة شرطية الإصابة على تقدير وضوحها.

وعليه، فالرواية ليست مبهمة كما ذكره في الجواهر، ولا دالّة على أنّ الجمرة هي الأرض، فإنّ التفسير الذي أشرنا إليه يغدو معقولًا سيما بعد مناقشة أدلّة شرطية الإصابة عدا صحيح معاوية كما سيأتي، وعدم نقاش العلماء في مسألة الشرطية رغم عدم كونها بهذه البداهة كما سيأتي هو ما جعلهم لا يلتفتون إلى أنّ الرواية أتت بصدد رفع شرطية الإصابة، ومن ثمّ تفسيرهم الأرض بالجمرة أو جعل الرواية مبهمة.

الوجه الثاني:- من أدلّة القول الثاني- النصوص الفقهية القديمة سواءٌ عند الشيعة أو أهل السنّة، وهذه نماذج منها:

أ- يقول الشافعي: «فإن رمى بحصاة فأصابت.... ثمّ استنت حتّى أصابت موضع الحصى من الجمرة أجزأت عنه»، فالنصّ يتحدّث عن تدحرج الحصاة على الأرض وإصابتها موضع الحصى، وهو ما يدلّ على عدم وجود عمود (1).

لكن هذا النص على العكس أدلّ، لأنّه يقول بكفاية الوصول إلى موضع


1- المصدر نفسه: 37، وانظر نصّ الشافعي في كتاب الامّ 2: 213.

ص: 73

الحصى من الجمرة، فلو كانت الجمرة هي موضع الحصى لكان معنى الجملة: «حتّى أصابت موضع الحصى من موضع الحصى»، فهي تدلّ على أنّ الشافعي يجتزئ بإصابة موضع الحصى، ولا تدلّ أبداً على أنّ الجمرة عنده بتمامها هي فقط موضع الحصى.

ونحو هذا النصّ ما في المدوّنة الكبرى: «وإن وقعت في موضع حصى الجمرة ...».

ب- ما ذكره أبو المكارم ابن زهرة: «وإذا رمى حصاة، فوقعت في محمل، أو على ظهر بعير، ثمّ سقطت على الأرض أجزأت...»، فهو يدلّ على أنّ الجمرة هي الأرض (1).

لكن هذا النصّ نقل شبه حرفي لخبر الفقه الرضوي، فيناقش بما أسلفناه هناك، حيث لا ندري ماذا فهم منه ابن زهرة.

ج- ما ذكره العلّامة الحلّي: «إذا رمى بحصاة فوقع على الأرض، ثمّ مرّت على سَنَنها... ثمّ وقعت في المرمى بعد ذلك أجزأه...» ومثل هذا النصّ ما جاء في التذكرة ممّا يدلّ على أنّ المرمى هو الموضع في الأرض (2).

والجواب: إنّ هذه التعبيرات لا تدلّ على نفي وجود العمود، وإنّما أقصاه أنّ المرمى- من الزاوية الشرعيّة- هو الأعمّ من العمود ومجمع الحصى، وفرقٌ بين المسألتين فرقاً دقيقاً، فإذا ما بنينا على أنّ المرمى هو الأعمّ فلا يدلّ ذلك على نفي العمود الأمر الذي نحن بصدده فعلًا.

وبعبارة اخرى، نحن نريد من كلمات الفقهاء استكشاف واقع خارجي، ولهذا لم يكن هناك فرق بين النصوص التاريخية والفقهية لا الشيعيّة ولا السنّية في


1- المصدر نفسه: 39، وانظر نصّ الغنية قسم الفروع: 189.
2- المصدر نفسه: 39- 40، وانظر منتهى المطلب 2: 731، الطبعة الحجرية، والتذكرة 8: 221.

ص: 74

ذلك (1)، أمّا البحث الفقهي وأن ما يجزئ رميه هل هو العمود فقط أو الأرض فقط أو هما معاً، فهذا بحثٌ آخر لسنا حسب الفرض بصدده.

وأمّا ما ذكره البعض- كجواب- من أنّ «في المرمى» بمعنى على أو إلى ففيه نوع من التكلّف يحتاج إلى قرينة، فحتّى لو كانت «في» لغوياً تصلح أن تكون بمعنى «على» أو «إلى» إلّاأنّ إخراجها عن معنى الظرفيّة هو الذي يحتاج إلى قرينة، لأنّ الظرفيّة هي المعنى الظاهر.

د- ما ذكره الشيخ الطوسي: «فإن وقعت على مكان أعلى من الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه»، وكذلك نصّ ابن سعيد الحلّي: «واجعل الجمار على يمينك، ولا تقف على الجمرة» (2).

والجواب صار واضحاً ممّا أسلفناه سيما في البحث الروائي فلا نعيد.

ه- قال محي الدين النووي: «ولا يشترط كون الرامي خارج الجمرة، فلو وقف في الطريق ورمى إلى الطرف الآخر جاز»، وهذا التعبير ذو دلالة واضحة على أنّ الجمرة كانت بالإمكان الوقوف فيها ورميها من طرفٍ لآخر، ويؤيّده نصّه الآخر في كتابه «المجموع»: «والمراد (من الجمرة) مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي كان في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله...» (3).


1- خلافاً للملاحظة النقدية التي سجّلها البعض على من ذهب إلى أنّ الجمرات ليست أعمدة مستدلّاً بنصوص فقهاء الشيعة والسنّة، حيث قال المستشكل: إنّ نصوص فقهاء السنّة لا معنى للإتيان بها بعد ورود النصوص الروائية والفقهية، فإنّ هذا الكلام إنّما يتمّ- على تقديره- في الامور الشرعية لا الخارجية التي يتساوى فيها المخبرون بقطع النظر عن اعتقاداتهم كما هو المحقّق في علم أصول الفقه، انظر كلام المستشكل في: تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 108.
2- رمي الجمرات في بحث جديد، مصدر سابق: 40، وانظر كلام المبسوط 1: 369- 370، والجامع للشرائع: 210.
3- المصدر نفسه: 37- 38.

ص: 75

وهذا النصّ الفقهي من أقوى النصوص الدالّة هنا، إلّاإذا قيل- رغم أنّ النصّ دلالته هذه المرّة أضعف- أنّ الجمرة عنده هي مجموع العمود ومجمع الحصى، ومن هنا كان بالإمكان رمي الطرف الآخر.

وعلى أيّة حال، فلم يقم نصّ فقهي حاسم عدا نصّ النووي المعتدّ به، وأمّا النصوص الفقهيّة المتأخّرة كصاحب الجواهر فلا يرجى من البحث فيها كثير فائدة بعد ما قدّمناه.

البحث اللغوي

أحد الأدلّة التي استدلّ بها القائلون بأنّ الجمرة هي الأرض ومجمع الحصى، كان الدليل اللغوي، حيث نصّ اللغويّون على أنّ الجمرة هي موضع الحصى ومجمعه، ولم يأت اللغويّون على ذكر العمود كمعنى للجمرة، وإذا ضممنا ذلك إلى أنّ الجمرة ليست من الألفاظ ذات الحقيقة الشرعية أو المتشرّعية، ثبت أنّ المرجع في تحديدها هو مصادر اللغة وما تحدّده الكلمة من مدلول في الفهم العربي العام، وبهذا يثبت أنّ الجمرة هي موضع الحصى لا العمود (1).

وقد ناقش البعض في هذا الاستدلال من وجوه:

أوّلًا: إنّ الجمرة صارت علماً بالغلبة على العمود كما هو المتبادر منها اليوم، ومعه فالأصل اللغوي لا يكون مرجعاً بعد ذلك (2).

ويناقش: بأنّ كونه علماً بالغلبة اليوم على العمود لا يفيد شيئاً، ذلك أنّنا نريد معرفة مدلول الكلمة في ألسنة الروايات حتّى نحدّدبذلك موضوع الحكم الشرعي، وأوّل الكلام أنّها علم بالغلبة على العمود في زمن النصّ، فهذا خلط بين الظهور


1- المصدر نفسه: 45- 46.
2- ميقات حجّ فارسي، العدد 42: 59.

ص: 76

المعاصر وظهورات عصرالنصّ كما هو واضح، وأصالةعدم النقل يأتي الكلام عنها.

ثانياً: إنّ قول اللغويّين ليس بحجّة بعد مجي ء الروايات ونصوص الفقهاء الأعلام، فالرجوع إلى المصادر اللغوية يغدو بذلك عديم الجدوى (1).

والجواب: إنّنا ناقشنا سابقاً في مدلول الروايات ونصوص الفقهاء، وقد تبيّن عدم تماميّتها بما يفيد الاطمئنان والوثوق في الدلالة على المطلب، علاوة على أنّ فهم الروايات أمرٌ مرهون أساساً بالعودة إلى المصادر اللغوية، وعلى تقدير مجي ء قرينة صارفة عن مقتضى المفاد اللغوي يؤخذ بها، وإلّا فيبقى على ما تفيده اللغة ودلالاتها، كما هو المعمول به عموماً.

ثالثاً: إنّ الانصراف هو المرجع في المقام، وهو يومى ء إلى العمود، كما هو الحال في أذهان الحجّاج وغيرهم (2).

وهذا الوجه لا يزيد على الوجه الأوّل قوّة، ومنه يعلم الجواب عنه.

رابعاً: إنّ الشارع أحال مصداق الجمرة إلى العرف، وهو يحكم اليوم بأنّها العمود تماماً كالكعبة وغيرها (3).

وربّما يلاحظ عليه: إنّ إحالة الشارع مصداق الجمرة إلى العرف أوّل الكلام، فإذا ما ضيّق العرف الجمرة أو وسّعها كثيراً فهل يلتزم بأنّ ما يجب رميه هو ما ينادي به العرف؟ وإذا نقلت الجمرة من مكانها وصار العرف يرى هذه الجمرة هي مصداق عنوان الجمرة فلماذا لا يصحّ رميها حينئذٍ؟!

إنّ هناك فرقاً بين أمرين: بين أن نرجع إلى العرف في تحديد الجمرة من حيث المبدأ، وبين أن نرجع إليه في بعض التفاصيل، فتغيّر بعض معالم الجمرة يمكن


1- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 113- 114.
2- ميقات حج، العدد 42: 60.
3- تحقيقي دقيق، مصدر سابق: 114.

ص: 77

التغاضي عنه؛ لأنّ العرف ما زال يطلق عليها عنوان الجمرة، أمّا أخذ بعض الجمرة معنوناً للجمرة، وترك ما نحرز أنّه كان مرمياً زمن النصّ ومورد رضا المعصوم عليه السلام فهو أمر غير معلوم إطلاقاً، ويحتاج إثباته إلى دليل لا مجرّد استقراب، وأمّا مثال الكعبة فالطائف ما زال يطوف حول الكعبة رغم أنّهم أعلوا بناءها، علاوة على أنّ توسعة شي ء ربّما يمكن أن يكون العرف فيه مرجعاً كعنوان مكّة والمدينة والحرم و... عندما يكون العنوان نفسه ملحوظاً فيه طابعه المتغير دون ملاحظة خصوصيّة أو احتمالها احتمالًا معتدّاً به، أمّا في غير هذه الحالة، أو في صورة التضييق لما نعلم الصدق عليه زمن النصّ ولم يحرز أنّه مفهوم متحرّك كآلات القمار على قول... كما فيما نحن فيه فهو غير معلوم دائماً.

هذا فضلًا عن أنّ المدّعي يقول: بأنّ العمود لا وجود له أصلًا، لا أنّه بعض الجمرة، ومن ثمّ، فالأخذ بالعرف هاهنا معناه تحويل معنى الجمرة، لا قياس الأقل إلى الأكثر، إلّابنحو من المصادرة.

نعم، لو قيل إنّ الجمرة كائنة ما كانت، رميها إنّما هو عمليّة رمزيّة لكان البحث من أساسه مختلفاً، وخارجاً عن المدخل الذي نعالج فيه المسألة.

كلّ ذلك، فضلًا عن أنّ أقصاه إثبات رمي العمود لا النتيجة التاريخيّة، إذا أردنا ممارسة تفكيك، وإن كان الهدف هو البحث الفقهي التشريعي.

رابعاً: إنّ كلمات اللغويّين مختلفة فيما بينها، فلا يمكن الاعتماد عليها.

والجواب: إنّ كلمات اللغويّين متّفقة على تسمية ما هو الموجود في منى جمرة وجمرات، وإذا كان هناك اختلاف فهو في علّة التسمية، وإذا لاحظنا العلّة كانت أحد امور:

1- إمّا من الحصيات التي هي الجمار الصغار لأنّها ترمى بها.

2- أو لأنّها مجمع الحصى التي ترمى بها.

ص: 78

3- أو من اجتماع القبيلة على من ناوأها حيث تجتمع الأحجار الصغيرة.

4- أو من أجمر إذا أسرع، إشارة إلى قصّة إبليس حيث فرّ هارباً من إبراهيم عليه السلام (1).

وعلى الاحتمالات الأربعة الواردة في كلمات اللغويّين أنفسهم، لا يتغيّر الموقف فمجموع الاحتمالات مائلة إلى الحصى إمّا بنفسها أو باجتماعها، واختلاف اللغويّين في التعليل لا يضرّ بعد أن كان المعلّل عندهم واحداً ملحوظاً فيه الحصى والرمي، على درجة أخف في التعليل الرابع.

وهذا معناه، أنّهم فهموا الجمرة بمعنى يرمز إلى الحصيات ولا يرمز إلى وجود عمود كما هو واضح، وهو مطلوب المستدلّ.

هذا، مضافاً إلى أن المتتبّع لكلماتهم لا يتشكّك في أنّ عنصرين أساسيين كانا هما العمدة في تحقيق معنى الجمرة عندهم، وهما: الحصيات والاجتماع، وهو ما ينتج مفهوم كومة الحصى.

خامساً: ما يمكن الردّ به على الاستدلال باللغة، وحاصله: أنّ كلمات اللغويّين تشير إلى أنّ ما هو الموجود في منى بالتحديد يسمّى بالجمرات، وتحلّل وجه التسمية على ما أشرنا إليه آنفاً، لكنّها لا تعرّف الجمرات بصراحة، وهذا معناه أنّ النصّ اللغوي متساوي النسبة إلى احتمال أن تكون الجمرة التي في منى هي كومة الحصى أو العمود الذي رمي وأحيط واجتمعت حوله الحصى، فكما يصحّ أن يكون مراد اللغويّين أنّ الجمرة هي مجمع الحصى فقط وفقط، كذلك يمكن جدّاً أن


1- انظر النهاية لابن الأثير 1: 292، وتاج العروس للزبيدي 10: 457- 458، والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1: 729، والمصباح المنير للفيومي: 108، ولسان العرب لابن منظور 2: 351، والصحاح للجوهري 2: 616، والمنجد: 101، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 1: 477، وكتاب العين للفراهيدي 1: 311، ومجمع البحرين للطريحي 1: 309.

ص: 79

يكون مرادهم أنّ ما هو الموجود في منى وهو الأعمدة تسمّى جمرات لأنّها ترمى بالجمار أو لأنّ فيها مجمع الحصى وما شابه، والنصّ اللغوي يبيّن الاستعمال ولا يشير إلى الحقيقة أو المجاز، فلعلّ العمود سمّي جمرة لأنّ حوله مجمع حصى أو لأنّه يرمى بالحصى و...

وهذا معناه أنّ كلمات اللغويّين ساكتة عن تحديد الجمرة، وإنّما تلاحظ فقط خصوصيّة التسمية، وملاكها فلا تصحّ دليلًا على أنّ الجمرة في خصوص منى هي فقط مجمع الحصى، كما أنّها ليست دليلًا بالتأكيد على أنّها العمود، فاحتمال العمود أبعد من كلمات اللغويّين من احتمال غيره، وإن لم ينصّ اللغويّون على أنّ مرادهم من الجمرة في منى هو العمود.

نعم، مطلق الجمرة هو مجتمع الحصى، لكن تسمية ذاك المكان بأنّه جمرة ومجتمع الحصى لا ينفي وجود عمود خارجاً، فالإطلاق لغويّاً صحيح بالإشارة التي بيّناها.

ويظهر من مجموع ما تقدّم أنّه ليس هناك دليل قاطع حاسم للنزاع يحدّد ما إذا كان في عصر النصّ عمود أو لا، لا دليل على الإثبات ولا دليل على النفي، وهذا الأمر كما لا يبطل مدعى النافي كذلك لا يحقّق للمثبت شيئاً، فالشواهد من كلا الطرفين إذا لوحظت مجتمعة يوجد هنا وهناك فيها ما هو قويّ إنصافاً- كبعض فقرات الوجه الثالث من القول الأوّل والثاني من القول الثاني- لكن تضاربها جميعاً يهدم إمكان الركون إلى طرف بعينه.

المرمى شرعاً:

وبناءً عليه يجب الرجوع إلى مقتضى الروايات في ما هو المرمى شرعاً سواء كان هناك عمود أو لا، وبالرجوع إلى الروايات بالاستعانة بما تقدّم لا يظهر شي ء،

ص: 80

إذ لم تشر الروايات إلى إحراز إصابة العمود أو إصابة الحصيات الموجودة على الأرض إذا لاحظنا الصحيح والضعيف من الروايات باستثناء خبر الفقه الرضوي الضعيف سنداً، فضلًا عن الاقتصار على الصحيح كما أشرنا سابقاً، وهذا معناه أنّنا أمام احتمالات ثلاثة:

1- إمّا المرمى هو خصوص العمود فحسب كما هو المشهور اليوم.

2- أو خصوص الأرض فحسب، والعمود لا يجزئ.

3- أو الأعمّ من العمود ومجمع الحصى المحيط به. وحيث لا دليل لا خارجي ولا شرعي يعيّن واحداً من الثلاثة وفقاً للبحث المتقدّم ينبغي الرجوع إلى الأصل العملي.

مقتضى الأصل في المسألة

والأصل العملي هنا تارةً يكون مرتبطاً بدوران الأمر بين التعيين والتخيير، واخرى بالاستصحاب.

أوّلًا: أمّا بحث المسألة على ضوء مسألة التعيين والتخيير فيقال فيها أنّنا أمام احتمالات:

1- إنّ الرمي معلوم الوجوب فالذمّة مشغولة به، ولا يحرز فراغ الذمّة إلّا برمي العمود حيث إنّه القدر المتيقّن ممّا يجزي في الرمي، فيجب رميه ولا يجزي غيره، سيما مع سيرة المتشرّعة على رمي العمود (1).

ويناقش: بأنّنا حين نصل إلى رتبة الأصل العملي فينبغي أن نفترض أنّنا عاجزون عن أيّ دليل فلا قيمة لسيرة المتشرّعة، ولا لغيرها وإلّا كانت دليلًا بنفسها يمنعنا من الأصل العملي، وبناءً عليه من أين أحرزنا أنّ رمي


1- ميقات حج 42: 60.

ص: 81

الأعمدة محرز الإمضاء، وأنّ رمي المجمع ليس كذلك فالاحتمالات كما أشرنا ثلاثة، يتساوى معها العمود والأرض، وإذا أخذنا القدر المتيقّن من شهرة المسألة عند الفقهاء المتأخّرين فالشهرة عندهم لا تحقّق حكماً كما هو واضح، وأمّا المتقدّمين فأوّل الكلام أنّهم كانوا يرون رمي العمود حسب الفرض وفق ما تقدّم معنا من نقاش سابق.

ومعه، فلا يوجد قدر متيقّن اسمه رمي العمود حتّى يؤخذ به، ليرفع أصالة الاشتغال، وإذا كان هناك من قدر متيقّن بري ء الذمّة فهو الاحتياط بالرجم مرّتين الأولى لنفس العمود والثانية للأرض.

2- أن يقال الكلام عينه في الأرض، فينتصر به لمن يقول بنفي وجود العمود على صعيد النتيجة الفقهيّة، لكن الإشكال عليه كالإشكال على سابقه.

3- أن يلتزم بأنّ المورد من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، فتجري البراءة عن تعيين رمي العمود بخصوصه، وكذلك عن تعيين رمي الأرض خاصّة، ويثبت جواز الرمي للعمود والأرض أي لأحدهما وهو الصحيح.

وهذه النتيجة تصحّ إذا بنينا- كما هو الصحيح- على جريان البراءة عن خصوصية التعيين باعتبارها خصوصية زائدة أو لجريان البراءة في الأخص بلا معارضة الأعم، أمّا لو قلنا بأنّ المورد من موارد أصالة الاشتغال لوجب الاحتياط بالرمي مرتين.

ثانياً: الرجوع إلى الاستصحاب:

أ- أمّا التمسّك بالاستصحاب الحكمي فمردود بعدم وجود يقين سابق بلحاظ

ص: 82

عصر النبيّ صلى الله عليه و آله نفسه بالحكم الشرعي للرمي فليلاحظ (1).

ب- وأمّا الاستصحاب الموضوعي فهو يثبت عدم الجمرة زمن النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام فيثبت بضمّه إلى اليقين بتحقّق ظاهرة الرمي منهم عليهم السلام ومن عامّة المسلمين، أنّ الرمي لم يتّجه إلى العمود، ومعه فيكفي إصابة الأرض ولو عبر إصابة العمود وسقوطه في مجتمع الحصى، لكن بشرط قصد رمي المجمع لا العمود كما هو واضح.

ولا يراد باليقين السابق في هذا الاستصحاب ملاحظة زمن النبي صلى الله عليه و آله وإلّا بطل، وإنّما ملاحظة المكان قبل حادثة إبراهيم عليه السلام ما لم يشكّك شخص ويدّعي أنّ العمود كان موجوداً منذ بدء الخليقة، وهذا الاستصحاب موضوعي مركّب كما أسلفنا، لا يعارضه استصحاب قهقرائي لأنّ الأخير لا يجري في غير موارد الشكّ في النقل- على تقديره- كما هو المقرّر أصوليّاً.

لكن يرد على هذا الاستصحاب أنّه أصل مثبت، لأنّ رمي المعصوم للأرض على نحو الموجبة المعدولة المحمول لازم عقلي لنفي وجود العمود.

والمتحصّل: أنّه لم يثبت دليل محرز أو خارجي على الإلزام برمي العمود خاصّة أو الأرض، وبالعودة إلى مقتضى الأصل يجوز رمي أحدهما ولو بتفريق


1- انظر ميقات حج 42: 65، وأمّا الاستصحاب القهقرائي فلا يجري في غير البناء اللغوي، بل وحتى في اللغة على قول وجيه وفاقاً لأستاذنا الشيخ حسين النجاتي حفظه اللَّه، لأنّ مدركه السيرة العقلائية، وأوّل الكلام أنّ العقلاء لو التفتوا إلى حالة الشكّ في النقل لالتزموا بالاستصحاب القهقرائي سيما في موضوع مشتبك كموضوعنا هذا، نعم مع عدم شكّهم لا يسألون ويعملون وفق المدلول المعاصر، ولهذا أعرضنا عن ما استدلّ به البعض بالاستصحاب القهقرائي لإثبات أنّ معنى الجمرة هو المعنى الحالي لها كما في ميقات حج 42: 60- 61، وأمّا أدلّة الاستصحاب الروائية فظاهرها سبق اليقين كما يفهم من سياقها جميعاً، أو لا أقلّ أنّ الحدوث متقدّم على البقاء المشكوك كما في معتبرة عبداللَّه بن سنان الواردة في أبواب النجاسات من الوسائل، باب 74، ح 1، والتي ركّز عليها السيّد باقر الصدر في مباحث الاستصحاب.

ص: 83

الأحجار عليهما، إلّاإذا تمّ الاستصحاب فيجب رمي مجتمع الحصى خاصّة ولو بعد إصابة الحجر للعمود كما هو الحاصل عادةً، فالنتيجة على الاستصحاب أو الدوران بين التعيين والتخيير متقاربة جدّاً، وإن كان الاستصحاب على تقدير تماميّته هو المقدّم فلا تصل النوبة إلى مسألة التعيين والتخيير، لأنّ الاستصحاب مقدّم على أصالتي البراءة والاشتغال.

المبحث الثاني: شرطية الإصابة

بغضّ النظر عن تحديد الجمرة وما هو الواجب رميه في منى يوم العيد وأيّام التشريق، هناك بحث آخر في أنّه هل يجب إصابة الجمرة بالحصى المرماة أو أنّه يكفي رمي الحصى نحو الجمرة سواء أصابتها أو لم تصبها؟

المعروف بينهم اشتراط الإصابة، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ المسألة ممّا لا خلاف يعثر عليه فيها بل ولا إشكال (1)، بل لا خلاف فيها بين الفقهاء والعلماء كافّة (2)، بل هي شرط متّفق عليه بين المسلمين (3)، ولا أقل من نقل عدم الخلاف، وادّعاء الإجماع (4)، والمدّعي هو العلّامة والنراقي في المستند (5)، ومع هذا الإجماع ولا أقلّ الشهرة المتظافرة بين المسلمين (6) لا مجال


1- الجواهر 19: 105، وظاهر مجمع الفائدة 7: 250، والفقه للشيرازي 44: 208.
2- الحدائق 17: 12، والمدارك 8: 28 وظاهر مفاتيح الشرائع 1: 350.
3- دروس في الفقه المقارن، الشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي: 548، والفقه على المذاهب الخمسة، الشيخ محمد جواد مغنية: 260.
4- كتاب الحج، السيد حسن الطباطبائي القمّي 3: 101.
5- مستند الشيعة 12: 286.
6- في الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري طبعة المذاهب الخمسة ذكر أنّ الشافعية تشترط الإصابة وكذا الحنابلة، لكنّه لم ينقل ذلك عن المالكيّة، وأمّا الحنفية ففصّلوا بين ما إذا اصطدمت بشي ء بين سقوطها بعيداً عن الجمرة فلا يجزئ وقريباً منها وهو ثلاثة أذرع فيجزئ، انظر 1: 877- 880.

ص: 84

للتشكيك فيها.

ويناقش: بأنّ الكثير من الفقهاء ذهب إلى هذه الشرطية (1)، إلّاأنّ المهمّ في الإجماع وكاشفيته، الطبقة الأولى من الفقهاء، والذي يظهر أنّ جملة من الفقهاء المتقدّمين لم ينصّوا على هذه الشرطية بتاتاً، وكذلك الحال لدى بعض


1- ممّن قال بالشرطية، العلّامة في إرشاد الأذهان 1: 331، والتذكرة 8: 220، وتبصرة المتعلّمين: 82، وتحريرالأحكام 1: 616- 617، والقواعد 1: 438- 439، والشيخ محمد تقي الفقيه في مناهج الفقيه 2: 281، والنجفي في الجواهر 19: 105، والإمام الخميني في تحرير الوسيلة 1: 408، والخوانساري في جامع المدارك 2: 447، وابن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع: 210، والجناتي في دروس في الفقه المقارن: 548- 549، والشهيد الأوّل في الدروس 1: 428- 429، والرسائل: 234 و 246، واللمعة: 74، والمحقّق الكركي في رسائله حياة المحقّق وآثاره ج 4: 41، والبحراني في الحدائق 17: 12- 13، والسيد محمود الشاهرودي في كتاب الحجّ تقرير بقلم الجناتي 4: 97- 98، والسيد حسن القمي في كتاب الحج 3: 101- 102، وابن فهد الحلّي في الرسائل العشر: 219 و 335، والشهيد الثاني في رسائله ج 1: 385، والروضة 2: 282، وفوائد القواعد: 392- 393، والسبزواري في ذخيرة المعاد حجري: 662، والمحقّق العراقي في شرح التبصرة 4: 217- 218. وظاهر الشرح الصغير لمحمد علي طباطبائي الحائري 1: 386، والمحقّق الحلّي في الشرائع 1: 234، والسيد الطباطبائي في الرياض: 389، والسيد الشيرازي في الفقه 44: 208، والشيخ مغنية في فقه الإمام جعفر الصادق عليه السلام 2: 236، والسيد الروحاني في فقه الصادق عليه السلام 12: 44، والسيد العاملي في المدارك 8: 8- 9، والأردبيلي في مجمع الفائدة 7: 250، والسبزواري في كفاية الأحكام الجديد 1: 346، والفاضل الهندي في كشف اللثام 6: 114، والسيد تقي القمّي في مصباح الناسك 2: 191 و 193، والنراقي في مستند الشيعة 12: 286، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع 1: 350، والسيد الخوئي في المعتمد 5: 189 و 191. وهو صريح مناسك الحج للميرزا الغروي ص 209، والوحيد الخراساني ص 160، والسيستاني ص 192، والروحاني ص 158، والصافي الگلپايگاني ص 155، وعبد الأعلى السبزواري ص 155، والخوئي 180، والإمام الخميني 260، والگلپايگاني 145، والشيخ الأعظم الأنصاري 327- 328، والسيد الصدر 151، وهو مفاد «مناسك حج» مع حواشي المراجع أراكي، نوري همداني، جواد التبريزي، بهجت ص 392، والسيد الروحاني في المرتقى إلى الفقه الأرقى 2: 328، والسيد عبد الأعلى السبزواري في مهذّب الأحكام 14: 234. والشيخ الطبرسي في المؤتلف والمختلف 1: 390، والسيد محمد صادق الصدر في منهج الصالحين 1: 379.

ص: 85

المتأخّرين (1)، فابن مجد الحلبي، والكيدري، والسيد المرتضى، وابن البرّاج وابن عقيل وابن الجنيد والمفيد والصدوق وسلار لم ينصّوا على هذه الشرطية، أمّا الشيخ الطوسي فلم يأت على ذكرها في الجمل والعقود ولا في الاقتصاد. أمّا في الخلاف فقد نصّ على أنّه إذا رمى فلم يعلم أصاب أم لا فيجزيه (2)، وأمّا في المبسوط فقد صرّح بأنّه لا يجزيه (3)، ولهذا نسب الطبرسي للطوسي أنّه نُقل أنّ له وجهين في ذلك (4)، وفي النهاية لم ينصّ على شرطية الإصابة إلّاأنّه ذكر أنّه لو رمى بحصاة فوقعت في محمله أعاد مكانها (5)، وهذا التعبير سيأتي منّا أنّه لا يدلّ على شرطية الإصابة، وقد استخدم التعبير نفسه الحلّي في السرائر بما يبدو أنّه يفسّر به صحيحة معاوية بن عمّار القادمة (6)، أمّا ابن البرّاج فرغم أنّه لم ينصّ على هذه الشرطية في جواهر الفقه كما أسلفنا في الهامش، ذكر في مهذبه: «وإذا رمى جمرة بحصاة فوقعت في محلّه أعاد مكانها غيرها» (7) وتعبير «محلّه» فيه خطأ من


1- لم يذكر هذه الشرطية كلٌّ من ابن مجد الحلبي في إشارة السبق: 135، والكيدري في إصباح الشيعة: 160- 162، والمرتضى في الانتصار: 259- 260، وجمل العلم والعمل: 110- 111، والناصريات: 310- 311، والطوسي في الجمل والعقود: 145 و 149- 150، وابن البرّاج في جواهر الفقه: 43- 44، والشيخ علي القمّي السبزواري في جامع الخلاف والوفاق: 212- 214، وابن عقيل العماني حياته وفقهه: 364- 365، وسلار في المراسم العلويّة: 112- 114، والمفيد في المقنعة: 417 و 421- 422، والصدوق في المقنع: 272 و 288- 289، والهداية: 240 و 250- 251، وابن الجنيد أيضاً، والحرّ العاملي في بداية الهداية 1: 369، والطوسي في الاقتصاد، وإنّما نقول لم يتعرّضوا رغم أنّهم بحثوا كتاب الحجّ بالتفصيل أو شبهه أمّا من لم يأت على ذكر كتاب الحجّ فكثير سيّما المتأخّرين كصاحب مفتاح الكرامة والبهائي و...
2- الخلاف 2: 344، المسألة: 165.
3- المبسوط 1: 496.
4- المؤتلف والمختلف بين أئمّة السلف 1: 390.
5- النهاية: 268 وانظر 253- 254.
6- السرائر 1: 610.
7- المهذب 1: 257.

ص: 86

النسّاخ، والصحيح «محمله» فيكون النصّ شبيهاً بما نقلناه عن الطوسي فلا يدلّ على اشتراط الإصابة.

أمّا ابن حمزة فقد سرد في الوسيلة واجبات الرمي ومستحبّاته معاً دون تمييز ذاكراً من الشروط إيقاع الحصاة على الجمرة (1)، إلّاأنّه من غير المعلوم أنّه كان يرى ذلك واجباً بعد اختلاط المستحبّات بالواجبات والمكروهات بالمحرّمات، وإن كان الوجوب أقرب.

والأكثر مخالفةً من ذلك الكيدري حيث قال: إنّه لو رمى فوقعت في محمل أو على ظهر بعير ثمّ سقطت على الأرض أجزأت (2). فإذا لم نرجح أنّ الأرض هنا هي نفس الجمرة كما استبعدناه سابقاً كان دالّاً على عدم شرطية الإصابة بصراحة، ومثل كلامه هذا كلام أبو المكارم ابن زهرة تماماً (3).

وعليه، فأقدم نصّ صالح للدلالة لعلّه نصّ الشيخ الطوسي (460 ه) في المبسوط الذي نجد نقيضاً له في الخلاف، وسكوتاً عن هذا الشرط في الجمل والعقود وكذلك الاقتصاد رغم أنّهما مبنّيان على الاختصار، أمّا بقيّة الفقهاء فإمّا معرضون عن هذا الشرط أو أنّ كلامهم غير واضح، فأيّ إجماع يمكن أن يدّعى له الكشف أم أيّة شهرة قريبة من عصر النصّ يمكن لها أن تكون دالّة؟!

نعم، إذا قلنا إنّ كلّ من عبر بالرمي أراد الإصابة تمّ الإجماع، لكن لا حاجة إلى الإجماع حينئذٍ بل تكفي الروايات المتظافرة التي استخدمت هذا التعبير وسيأتي حالها.


1- الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 180.
2- إصباح الشيعة: 161- 162.
3- غنية النزوع: 189.

ص: 87

وعليه، فالإجماع غير محقّق صغرويّاً ولا الشهرة، فضلًا عن احتمال المدركية قويّاً، ومعه لا قيمة للإجماع المنقول أيضاً فضلًا عن عدم حجّيته كبرويّاً سيما وأنّ مدّعي الإجماع هو العلّامة ومن بعده.

الوجه الثاني: التمسّك بكلمة «الرمي» نفسها فإنّها تدلّ على شرطية الإصابة، إذ الإصابة مقوّمة للرمي (1)، أو لا أقلّ من الانصراف (2).

والجواب: إنّ الرمي غير متقوّم بالإصابة أبداً، والشاهد عليه أنّك تقول عربياً: رميته فلم أصبه، ورميته فأصبته، كما أنّ إطلاق الرمي على حالة عدم الإصابة يشهد الوجدان اللغوي أنّها غير مجازية، فلو أطلق سهماً نحوه أو رصاصة فلم تصبه وكانت قربه جدّاً يقال: رماه ولكنّه لم يصبه، وهذا واضح.

ولهذا جعلوا الرمي دائراً مدار الإلقاء لا الإصابة فيما لو رمى متفرّقاً فوصلت دفعة (3).

ويشهد لهذا صحيحة عبّاد بن صهيب من روايات الصيد قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل سمّى ورمى صيداً، فأخطأه وأصاب آخر، قال: يأكل منه» (4)، فإنّ الرواية تفرض أنّه رمى صيداً وفي الوقت عينه تفرض أنّ الرمية أخطأت فلم تصبه، وليس في الرواية أيّ تناقض أو عناية كما هو واضح، والرواية كما أشرنا تامّة سنداً، فضلًا عمّا إذا كانت ضعيفة لأنّها تكشف عن تداول هذا الاستعمال أيضاً على كلّ حال.

الوجه الثالث: التمسّك بأصالة الاشتغال، إذ لا يحرز الواجب إلّابالإيصال،


1- التذكرة 8: 220، جامع المدارك 2: 447، دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي 1: 485، كتاب الحجّ للشاهرودي 4: 97- 98، فقه الصادق عليه السلام 12: 44، مصباح الناسك 2: 191، مستند الشيعة 12: 286، المعتمد للخوئي 5: 189، المرتقى 2: 328، ومهذب الأحكام 14: 237.
2- العراقي في شرح التبصرة 4: 217.
3- كمثال انظر جامع المقاصد 3: 236.
4- الوسائل: 23، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الصيد، باب 27 ح 1.

ص: 88

وهذا هو أيضاً المدرك فيما إذا شكّ في الوصول إلى الجمرة أو لا (1)، كما يمكن التمسّك بالاستصحاب (2)، وأصالة العدم (3).

والجواب: أمّا عن صورة الشكّ في الإصابة فهو صحيح لكنّه فرع شرطية الإصابة وهي أوّل الكلام، وأمّا عن أصالة الشغل اليقيني فهي محكمة لو لم يقم دليل محرز كاشف على عدم الشرطية، فإذا صدق عنوان الرمي مع عدم الإصابة كانت أدلّة وجوب الرمي شاملة له فيكون امتثالًا مجزياً ومسقطاً، ومعه فلا تصل النوبة إلى أصالة الاشتغال.

الوجه الرابع: التمسّك بخبر عبد الأعلى عن أبي عبداللَّه عليه السلام- في حديث- قال:

«سألته عن رجل رمى جمرة العقبة بست حصيات، ووقعت واحدة في المحمل؟

قال: يعيدها» (4).

و الجواب: إنّ الرواية دالّة على أنّه رمى بجملة من الحصيات، أمّا الأخيرة فالظاهر أنّها وقعت في محمله بقرينة التعريف (المحمل)، أي أنّه لم يصدق أنّه رماها، فكأنّه كان يريد رميها فسقطت فوراً في محمله هو الملاصق له، وهذا ممّا لا إشكال في عدم صدق عنوان الرمي عليه للجمرة، فقد قصد رميها لكن سرعان ما اصطدم الحجر لو رماه أو وقع من يده في محمله، والرمي إنّما يصدق لو انطلق الحجر ناحية المرمى لكنّه لم يصبه كما هو واضح، فالرواية لا تدلّ على تحقّق الرمي للجمرة أصلًا، بقرينة «المحلّ» مع عطف «ووقعت» بالواو لا الفاء، ومعه فلا علاقة لها بما نحن فيه.


1- الجواهر 19: 106، دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي 1: 485- 486، وكتاب الحجّ للسيّد حسن القمي 3: 102، وذخيرة المعاد: 662، والمدارك 8: 9، ومهذّب الأحكام 14: 237.
2- دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي 1: 486.
3- شرح تبصرة المتعلّمين للعراقي 4: 218، وفقه الإمام جعفر الصادق 2: 236، ومجمع الفائدة والبرهان 7: 250، ومصباح الناسك 2: 193، ومستند الشيعة 12: 286، والمعتمد 5: 191.
4- الوسائل: 14، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، ح 2.

ص: 89

هذا مضافاً إلى ضعفها السندي بسهل بن زياد الوارد فيه، والدغدغة في عبد الأعلى أيضاً.

الوجه الخامس: التمسّك بالتأسّي كما فعله صاحب المدارك وغيره (1).

والجواب: إنّ التأسّي فرع إثبات ما كان يفعله المعصومون عليهم السلام، وأوّل الكلام أنّهم كانوا يصيبون الجمرة، فمن أين علمنا بذلك؟ وكيف أحرزناه؟

الوجه السادس: وهو أهمّ الوجوه، صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «... فإن رميت بحصاة فوقعت في محمل فأعد مكانها، وإن أصابت إنساناً أو جملًا ثمّ وقعت على الجمار أجزأك...» (2).

فإنّها تصرّح بتحقّق الرمي ولا تنسب المحمل إلى التعريف (المحمل) كما في الرواية المتقدّمة، علاوة على أنّها تامّة سنداً (3).

وربما يفهم منها شبيه ما فهم من الرواية المتقدّمة تماماً بحمل المحمل على محمله، كما هو المستفاد من سياق كلام الحلّي في السرائر (4)، إلّاأنّ الإنصاف أنّها بعيدة عن ذلك، فقد صرّح فيها بالرمي وأعقب الرمي إصابة محمل على سبيل النكرة، فلا وجه للتكلّف فيها بحملها على ما أفادته الرواية السابقة.

ومن هنا لابدّ من التأمّل في مفاد الرواية، سيما وأنّ سياقها لا يجعلها خاصّة بإحدى الجمرات كما يفهم ممّا سبق هذا المقطع وما لحقه.

والمقطع الأوّل من الرواية ظاهر في عدم إجزاء سقوطها في محمل، وكذلك


1- الرياض: 389، المدارك 8: 8.
2- الوسائل 14، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 16 ح 1.
3- التذكرة 8: 220، الجواهر 19: 105، شرح تبصرة المتعلّمين 4: 217، الرياض: 389، فقه الصادق 12: 44، المدارك 8: 8، مصباح الناسك 2: 191، مستند الشيعة 12: 286، مفاتيح الشرائع 1: 350، المعتمد 5: 189، المرتقى 2: 328، مهذب الأحكام 14: 237.
4- السرائر 1: 610.

ص: 90

مفهوم المقطع الثاني، إلّاأنّ ضمّها إلى ما أشرنا إليه في تحقيق معنى الرمي لغةً وعرفاً يعطي عدم شرطية الإصابة بمعنى عدم لزوم إحراز الإصابة حتى يقال إنّه مع الشكّ لابدّ من الإعادة لأصالة العدم واستصحابه... لأنّ أدلّة الرمي العامّة بحسب تفسيرنا لها تفيد لزوم الرمي الأعمّ من المصيب وغيره، شريطة توجّه الرمية ناحية الجمرة، خرج منها مفاد صحيحة معاوية بن عمّار وهو صورة عدم الإصابة، فتكون النتيجة كفاية مطلق الرمي إلّامع إحراز عدم الإصابة فيجب الإعادة، لأنّ موضوع وجوب الإعادة أمر وجودي وهو وقوعها في المحمل فلابدّ من إحرازه، وهذا معناه صحّة الاكتفاء برمي الجمرة ما لم يحرز أنّه لم يصب، لا ما لم يحرز أنّه أصاب، كما ذهب إليه الأعلام فلاحظ جيّداً، فيتمسّك بأدلّة الرمي في كلّ حالة لا يحرز فيها عدم الإصابة ليكون الفعل مجزياً.

نتيجة البحث

ظهر ممّا تقدّم أنّه ليس أمامنا دليل يثبت طبيعة الجمرة تاريخيّاً بشكل جازم وإن كان هناك ما يفيد أنّها العمود، كما وهناك ما يفيد أنّها الأرض، لكن تحصيل الوثوق يبدو أمراً متعسّراً. والنتيجة الفقهيّة كانت رمي مجمع الحصى ولو عن طريق إصابة العمود أو كفاية رمي العمود وأطرافه ومجمع الحصى بمقتضى الأصل العملي على الاستصحاب أو التعيين والتخيير لا الدليل الاجتهادي المحرز.

أمّا عن اشتراط الإصابة فقد ظهر أنّ الواجب هو صدق عنوان الرمي الأعمّ من المصيب واقعاً وعدمه، لكن إذا أحرز الرامي أنّه لم يصب وجب الإعادة، ومقتضى القاعدة عدم لزوم الفحص لأنّ متعلّق الحكم وهو الرمي صادق.

وعليه فيجب على الحاج رمي العمود أو أطرافه من مجمع الحصى رمياً يكفيه فيه عدم إحراز الإصابة، ولا يجب عليه التأمّل في الحصاة هل وصلت أم لا، واللَّه العالم.

ص: 91

معاني الحج

فارس حسّون كريم

إنّ خليل اللَّه إبراهيم عليه السلام قد أرسى الحجر الأساس لفريضةٍ عظيمةٍ من فرائض الدين الإسلامي الحنيف، ألا وهي فريضة الحجّ التي تميّزت عن سائر الفرائض بما يؤدّى فيها من مناسك وطقوس عباديّة متعدّدة الجوانب في أيّامٍ معيّنةٍ تعتبر في حدّ ذاتها منهجاً تربويّاً ينمي حالة العبوديّة المطلقة لدى المؤمنين، وبالتالي يتزوّدون من مناهله القدسيّة.

وجاء خاتم النبيّين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فجعل هذا المنهج سنّة واجبة يتّبعها جميع المسلمين، ويتضاعف ويتعاظم لهم الأجر والثواب بهذا الاتّباع؛ قال اللَّه تعالى:

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (1)

.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «وفرض عليكم حجَّ بيته الحرام، الّذي جعله قبلةً


1- سورة الحجّ: 27 و 28.

ص: 92

للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه (1) ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته...» (2)

.

وقال علي عليه السلام أيضاً: «ثمّ أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه (3)، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم (4)، وغايةً لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار (5) الأفئدة من مفاوز (6) قفارٍ سحيقةٍ ومهاوي (7) فجاجٍ (8) عميقةٍ، وجزائر بحارٍ منقطعةٍ حتّى يهزّوا مناكبهم ذللًا... ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنّته» (9)

.

وقد نرى نبيّنا صلى الله عليه و آله قد أثبت عدّة مواقيت باتّجاهات مختلفة ينفذ الحاجّ منها إلى مكّة المكرّمة، وهذه المواقيت هي بمثابة أبواب زيارة بيت اللَّه الحرام، وهي أبواب الرحمة الواسعة قد فتحت أمام ضيوفه، والحاجّ حيث وروده من تلك الأبواب يجب عليه أن يراعي الآداب والسلوكيّات الرفيعة، متجرّداً من كلّ ما يعلّقه بامور دنياه ومتعها الرخيصة، وأن يصفو فكره وروحه وجسده نحو ربّه تعالى في بيته الحرام، مبتدئاً رحلة العبادة النورانيّة الحقّة الّتي لايدرك مدى


1- أي: يلوذون به، ويعكفون عليه.
2- نهج البلاغة: 45، خطبة رقم 1.
3- يقال: ثنى عطفه إليه، أي: مال وتوجّه إليه.
4- منتجع الأسفار: محلّ الفائدة منها.
5- المراد من الثمار: الروح.
6- المفاوز: جمع مفازة: الفلاة لا ماء بها.
7- المهاوي: منخفضات الأرض.
8- الفجاج: الطرق الواسعة بين الجبال.
9- نهج البلاغة: 293، خطبة رقم 192 «القاصعة».

ص: 93

عظمتها كما ينبغي، إنّها رحلة نحو عالم البقاء.

وروي أنّ الامام جعفر الصادق عليه السلام لمّا استوت به راحلته عند الإحرام كان كلّما همَّ بالتلبية انقطع الصوت في حلقه، وكاد أن يخرّ من راحلته. فقال له ابن أبي عامر: قل يابن رسول اللَّه، ولابد لك من أن تقول.

فقال: «يابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول: لبّيك اللّهمّ لبيّك وأخشى أن يقول عزّوجلّ لي: لا لبّيك ولا سعديك» (1)

.

فمن هنا يتوجّب علينا معرفة سرّ الإحرام، وسرّ الطواف، وسرّ السعي، وسرّ الرمي، وهكذا المناسك الاخرى، فلكلّ منها سرّه الخاصّ به، ولكلّ منها معناه الذّي يجب أن نستوعبه وندركه، فبإدراكه تزداد الأواصر الروحيّة بين العامل والعمل.

قد يتوهّم البعض ويرى أنّها مجرّد مناسك فقهيّة ليس إلّا- أي أنّها خلو عن ظاهرة العشق والذوبان فيها- بيد أننّا نؤدّيها ونجدّد عهداً وبيعة مع الخالق عزوجلّ من خلال ما استوعبناه من معانيها النورانيّة، وهي وسائل القرب منه، نسير باتّجاهه تبارك وتعالى مع الجموع الغفيرة المتدفّقة في البقاع الطاهرة التي جُعلت قبلة للمسلمين، ومحطّة لأنظار المؤمنين.

ونحن إن وصلنا إلى هكذا مرحلة فنكون قد حججنا الحجّ الإبراهيمي، وسيطلق على كلّ منّا كلمة «الحاجّ»، وإلّا فسوف نرجع من غير حجٍّ، لم نحمل غير هموم ومشاقّ السفر معنا.

وممّا أنعم اللَّه به على عباده المؤمنين، يوم عرفة، ذلك اليوم المبارك الّذي تتنزّل فيه الرحمات، وتُقال العثرات، وترفع الدرجات، إنّه يوم عظيم


1- الخصال 1: 167 ح 219، علل الشرائع: 234 ح 4، أمالي الصدوق: 234 ح 3، مناقب ابن شهر آشوب 4: 275، بحار الأنوار 47: 16 ح 1 و 2، و 99: 181 ح 1، عوالم العلوم 20: 1، 88، ح 1 و: 149 ح 2..

ص: 94

مبارك، وموسم من مواسم الخير والبشر والسعادة على كلّ مؤمن، كيف لا وقد أقسم به اللَّه عزّوجلّ في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ* وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ* وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (1)

؛ فقيل: الشاهد: يوم عرفة؛ وقيل أيضاً: المشهود يوم عرفة (2).

وحسبنا في هذا اليوم العظيم، أنّه يوم يذلّ اللَّه فيه ألدّ أعداء أوليائه، وهو إبليس اللعين، فما رُئي الشيطان أحقر ولا أصغر في أيّ يوم مثلما رئي في يوم عرفة، إلّا ما كان من يوم بدر، وذلك لما يُرى من تنزّل الرحمات، وتوالي الكرامات من اللَّه على عباده المتّقين، ومغفرة السيّئات، وجوده سبحانه على عباده، وكثرة إعتاقه من النار.

وجمع معنى ذلك كلّه النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: «الحجّ عرفة» (3)

.

فعلى المرء أن يعرف معنى هذا اليوم ويستغلّه بالأعمال الصالحة الّتي تقرّبه من معبوده تعالى شأنه.

واقتضت حكمة اللَّه العليم الحكيم أن تنتهي هذه التجربة بالعيد، لينطلق المسلم منها إلى الممارسة الراشدة بعد التجربة المؤثّرة.

وفي عيد الأضحى تعيش الأُمّة الاسلاميّة قبله ومعه شعائر عبادة الحجّ الكريمة ومناسكه المباركة.

وفّقنا اللَّه وإيّاك- عزيزي القارئ- لحجّ بيته الحرام، وأداء مناسكه بالشكل الّذي أراده الباري سبحانه منّا ورسوله صلى الله عليه و آله.


1- سورة البروج: 1- 3.
2- سيأتي ذلك في الروايات الآتية بالمعنى العاشر.
3- المبسوط للسرخسي 4: 18 و 55، المحلّى لابن حزم 7: 121، عوالي اللئالي 2: 231، ح 93، مستدرك الوسائل 10: 34 ح 3.

ص: 95

وقد اخترت إليك- عزيزي- هذه الطائفة من الروايات والأحاديث الّتي بيّنت لنا معاني بعض مناسك الحجّ بلسان أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

(1) معنى الحجّ

1- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن أحمد بن محمّد، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: لِمَ سمّي الحجّ؟

قال: «الحجّ الفلاح؛ يقال: حَجّ فلان، أي: أفلح» (1)

.

2- علل الشرائع: حدّثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي اللَّه عنه، قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصفّار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن حمّاد بن عيسى، عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له:

لِمَ سمّي الحجّ حجّاً؟

قال: حجّ فلان، أي: أفلح فلان (2).

(2) معنى العجّ والثجّ

3- الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، رفعه، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا أحرم أتاه جبرئيل عليه السلام، فقال له: مر أصحابك بالعجّ والثجّ؛ والعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ: نحر البُدن.

وقال: قال جابر بن عبداللَّه: ما بلغنا الرَّوحاء (3) حتّى بحّت (4)


1- معاني الأخبار: 170 ح 1، عنه وسائل الشيعة 11: 103 ذيل ح 30، وبحار الأنوار 99: 2 ح 1.
2- علل الشرائع 2: 411، ب 148 ح 1، عنه وسائل الشيعة 11: 103 ح 30، وبحار الأنوار 99: 2 ح 2.
3- موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين من المدينة.
4- أي: خشنت.

ص: 96

أصواتنا (1).

4- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن أحمد الشيباني (2) رضي اللَّه عنه، قال:

حدّثنا محمّد بن أبي عبداللَّه الكوفيّ، قال: حدّثنا موسى بن عمران النخعيّ، عن عمّه الحسين بن يزيد، عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام، قال: نزل جبرئيل على النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا محمّد، مر أصحابك بالعجّ والثّجّ؛ فالعجّ: رفع الأصوات بالتلبية، والثّجّ: نحر البدن (3).

(3) معنى الأشهر المعلومات للحجّ

5- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن المثنّى، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللَّه عزوجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ (4)

. قال: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجّة.

وفي حديث آخر: وشهر مفرد للعمرة رجب (5).

6- الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن المفضل بن شاذان، جميعاً، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أُذينة، عن زرارة، عن


1- الكافي 4: 336 ح 5، من لا يحضره الفقيه 2: 325 ح 2579، تهذيب الأحكام 5: 92 ح 110 بإسناده عن موسى بن القاسم، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبداللَّه ومحمد بن سهل، عن أبيه، عن أشياخه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، وجماعة من أصحابنا ممّن روى عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام، مختلف الشيعة 4: 55، مدارك الأحكام 7: 293، مستند الشيعة 11: 319.
2- كذا، والظاهر أنّه محمد بن أحمد السناني، كما احتمله الوحيد رحمه الله، وكما في بعض النسخ.
3- معاني الأخبار: 223 ح 1، عنه بحار الأنوار 99: 187 ح 17 و: 286 ح 50.
4- سورة البقرة: 197.
5- معاني الأخبار: 293- 294 ح 1، وسائل الشيعة 11: 273 ح 9 ذيله و: 274 ح 13، بحار الأنوار 99: 132 ح 2.

ص: 97

أبي جعفر عليه السلام- في حديثٍ قال:- ما خلق اللَّه عزّ وجلّ بقعة في الأرض أحبّ إليه منها- ثمّ أومأ بيده نحو الكعبة- ولا أكرم على اللَّه عزّ وجلّ منها لها حرّم اللَّه الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السموات والأرض ثلاثة متوالية للحجّ: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وشهر مفرد للعمرة وهو رجب (1).

7- تفسير العيّاشي: عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ هو شوّال وذو القعدة وذو الحجّة (2).

8- تفسير العيّاشي: عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ قال: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وليس لأحد أن يحرم بالحجّ فيما سواهنّ (3).

9- تفسير العيّاشي: عن الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ قال: الأهلّة (4).

10- تفسير العيّاشي: عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال في قول اللَّه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ والفرض فرض الحجّ التلبية والإشعار والتقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض الحجّ، ولا يفرض الحجّ إلّافي هذه الشهور الّتي قال اللَّه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة (5).


1- الكافي 4: 239- 240 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 457 ح 2961، وسائل الشيعة 11: 273 ح 10، و 13: 262 ح 1، بحار الأنوار 46: 353، ح 6، مستدرك الوسائل 9: 334 ح 1، و 10: 177 ح 3.
2- تفسير العيّاشي 1: 94 ح 251، بحار الأنوار 99: 133 ح 5.
3- تفسير العيّاشي 1: 94 ح 252، من لا يحضره الفقيه 2: 456، ح 2959، وسائل الشيعة 11: 273 ح 8، بحار الأنوار 99: 133 ح 6، مستدرك الوسائل 8: 91 ح 2.
4- تفسير العيّاشي 1: 94 ح 253، بحار الأنوار 99: 133 ح 7.
5- تفسير العيّاشي 1: 94 ح 254، بحار الأنوار 99: 133 ح 8.

ص: 98

(4) معنى الرفث والفسوق والجدال

11- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، قال:

حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبي جميلة المفضّل بن صالح، عن زيد الشحّام، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرَّفث والفسوق والجدال.

قال: أمّا الرّفث فالجماع، وأمّا الفسوق فهو الكذب، ألا تسمع قول اللَّه عزّوجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ (1)

؟ والجدال: هو قول الرّجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه، وسباب الرجل الرجل (2).

12- تفسير العيّاشي: عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

من جادل في الحجّ فعليه إطعام ستّة مساكين، لكلّ مسكين نصف صاع، إن كان صادقاً أو كاذباً، فإن عاد مرّتين، فعلى الصادق شاة، وعلى الكاذب بقرة، لأنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (3)

والرفث: الجماع، والفسوق: الكذب، والجدال: قول الرجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه، والمفاخرة (4).

13- تفسير العيّاشي: عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

قول اللَّه: الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا


1- سورة الحجرات: 6.
2- معاني الأخبار: 294 ح 1، وسائل الشيعة 12: 467 ح 8، بحار الأنوار 99: 170 ح 8، تفسير نور الثقلين 5: 82 ح 14.
3- سورة البقرة: 197، وفي العيّاشي: لا جدال في الحجّ ولا رفث ولا فسوق.
4- تفسير العيّاشي 1: 95 ح 255، بحار الأنوار 99: 173 ح 17.

ص: 99

جِدَالَ فِي الْحَجِّ والرفث: هو الجماع، والفسوق: الكذب، والسِّباب، والجدال:

قول الرجل: لا واللَّه، وبلى واللَّه، والمفاخرة (1).

14- تفسير العيّاشي: عن أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إذا حلف ثلاث أيمانٍ متتابعاتٍ صادقاً فقد جادل، فعليه دم، وإذا حلف بواحدةٍ كاذباً فقد جادل، فعليه دم (2).

15- تفسير العيّاشي: عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، عن رجلٍ محرمٍ قال لرجلٍ: لا لَعَمري.

قال عليه السلام: «ليس ذلك بجدال، إنّما الجدال: لا واللَّه، وبلى واللَّه» (3)

(5) معنى ما اشترط اللَّه عزّ وجلّ على الناس في الحجّ، وما شرط لهم

16- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا الحسين بن محمد بن عامر، عن عبداللَّه بن عامر، عن محمّد بن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان، عن عبداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال في الحجّ: إنّ اللَّه اشترط على الناس شرطاً وشرط لهم شرطاً، فمن وفى وفى اللَّه له.

قلت: ما الّذي اشترط عليهم، وما الّذي شرط لهم؟

فقال: أمّا الّذي اشترط عليهم فإنّه قال: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (4)

. وأمّا الّذي شرط لهم قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى (5)

قال: يرجع


1- تفسير العيّاشي 1: 95 ح 256، وسائل الشيعة 12: 467، ح 9، بحار الأنوار 99: 173 ح 18.
2- تفسير العيّاشي 1: 95 ح 258، بحار الأنوار 99: 174 ح 20. ورواه في الكافي 4: 338 ح 4، بإسناده عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام.
3- تفسير العيّاشي 1: 95 ح 259، بحار الأنوار 99: 174 ح 21.
4- سورة البقرة: 197.
5- سورة البقرة: 203.

ص: 100

ولا ذنب له.

قلت: أرأيت من ابتلي بالجماع ما عليه؟

قال: عليه بدنة، وإن كانت المرأة أعانت بشهوة مع شهوة الرجل فعليهما بدنتان ينحرانهما، وإن كان استكرهها وليس بهوى منها فليس عليها شي ءٌ، ويفرّق بينهما حتّى ينفر النّاس، وحتّى يرجعا إلى المكان الّذي أصابا فيه ما أصابا.

قلت: أرأيت إن أخذا في غير ذلك الطريق إلى أرض اخرى أيجتمعان؟

قال: نعم.

قلت: أرأيت إن ابتلي بالفسوق؟ فأعظم ذلك ولم يجعل له حدّاً، قال:

يستغفر اللَّه ويلّبي.

قلت: أرأيت إن ابتلي بالجدال؟

قال: فإذا جادل فوق مرّتين فعلى المصيب دم يهريقه دم شاة، وعلى المخطى ء دم يهريقه دم بقرة (1) (2).

17- تفسير العيّاشي: عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.

قال: يا محمد، إنّ اللَّه اشترط على الناس شرطاً، وشرط لهم شرطاً، فمن وفى للَّه وفى اللَّه له.

قلت: فما الّذي اشترط عليهم، وما الّذي شرط لهم؟


1- أي: يجب على الصادق في يمينه دم شاة يهريقه ويطعمها على المساكين، وعلى المخطى ء بقرة.
2- معاني الأخبار: 294 ح 1، تفسير العيّاشي 1: 96 ح 260، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، باختلاف يسير، الكافي 4: 337 ح 1 عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، من لا يحضره الفقيه 2: 328 ح 2587، مستطرفات السرائر: 31 ح 29 عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، عن عبد الكريم، عن محمد بن مسلم، عن وسائل الشيعة 12: 464 ح 2، بحار الأنوار 99: 170 ح 9 و: 171، ح 10 و: 173 ح 19، مستدرك الوسائل 9: 215 ح 3.

ص: 101

قال: أمّا الّذي اشترط عليهم فإنّه قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (1)

وأمّا ما شرط له فإنّه قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى (2)

قال: يرجع لا ذنب له (3).

(6) معنى الحجّ الأكبر والحجّ الأصغر

18- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن يعقوب بن يزيد، عن صفوان بن يحيى، عن ذريح المحاربي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: الحجّ الأكبر يوم النّحر (4).

19- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه، قال:

حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن يوم الحجّ الأكبر، فقال: هو يوم النحر، والأصغر: العمرة (5).

20- تفسير العيّاشي: وفي رواية ابن سرحان، عنه عليه السلام، قال: الحجّ الأكبر:


1- البقرة: 197.
2- سورة البقرة: 203.
3- تفسير العيّاشي 1: 95 ح 257، بحار الأنوار 99: 173 ح 19.
4- معاني الأخبار: 295 ح 1، قرب الاسناد: 139 ح 494 بإسناده عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام، الكافي 4: 290 ح 2 بإسناده عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبّار، عن صفوان، فقه القرآن 1: 322 مرسلًا، وسائل الشيعة 14: 42 ح 16، بحار الأنوار 21: 272 ح 2.
5- معاني الأخبار: 295 ح 2، تفسير العيّاشي 2: 76 ح 16 عن عبد الرحمن، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، الكافي 4: 290 ح 1 بإسناده عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، من لا يحضره الفقيه 2: 488 ح 3041، تهذيب الأحكام 5: 450 ح 217، بإسناده عن محمد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، تذكرة الفقهاء 8: 342، وسائل الشيعة 14: 42 ح 17 و: 80 ح 6 و: 296، ح 4، بحار الأنوار 21: 272 ح 1، و 99: 322 ح 3 و: 323 ح 10، مستدرك الوسائل 10: 62 ح 4.

ص: 102

يوم عرفة، وجمع، ورمي الجمار، والحجّ الأصغر: العمرة (1).

21- تفسير العيّاشي: وفي رواية ابن أُذينة، عن زرارة، عنه عليه السلام: قال: الحجّ الأكبر: الوقوف بعرفة، وبجمع، وبرمي الجمار بمنى، والحجّ الأصغر: العمرة (2).

22- بعض نسخ الرضوي: عن أبيه عليه السلام، قال: الحجّ الأكبر: هو يوم النحر، والأصغر: العمرة، والّذي أذّن بالحجّ الأكبر عليّ عليه السلام حين برئ من المشركين فيه، ونبذ إليهم عهدهم، فقرأ عليهم براءة، فقال المشركون: نبرأ منك ومن ابن عمّك محمد صلى الله عليه و آله، إلّاالطعان والجلاد، وهو قبل حجّة الوداع بسنة (3).

23- تفسير أبي الفتوح الرازي: عن يحيى بن الجزّار، قال: رأيت أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام في يوم العيد، وهو راكب على جمل أبيض يذهب إلى المصلّى، فأتاه رجل وأخذ بزمام جمله، وقال: أيّ يوم يوم الحجّ الأكبر؟

فقال: هذا اليوم الّذي أنت فيه، خلّ عن الزمام (4).

24- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن عبداللَّه بن المغيرة، عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: الحجّ الأكبر: يوم الأضحى.

حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن النضر بن سويد، عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، مثل ذلك (5).


1- تفسير العيّاشي 2: 76 ح 17، بحار الأنوار 99: 323 ح 11، مستدرك الوسائل 10: 62 ح 5.
2- تفسير العيّاشي 1: 77 ح 18، بحار الأنوار 99: 323 ح 12، مستدرك الوسائل 10: 63 ح 6.
3- مستدرك الوسائل 10: 64 ح 9.
4- تفسير أبي الفتوح الرازي 2: 556، عنه مستدرك الوسائل 10: 64 ح 10.
5- معاني الأخبار: 295 ح 3، وسائل الشيعة 14: 43 ح 18، بحار الأنوار 99: 322 ح 4، تفسير نور الثقلين 2: 186 ح 43.

ص: 103

25- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا عبداللَّه بن جعفر الحميري، عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه عليّ، عن الحسين (1)، عن حمّاد بن عيسى، عن شعيب، عن أبي بصير؛ والنضر، عن ابن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: الحجّ الأكبر: يوم الأضحى (2).

26- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن القاسم بن محمّد الإصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، قال: حدّثنا فضيل بن عياض، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن الحجّ الأكبر، فقال: أعندك فيه شي ء؟

فقلت: نعم، كان ابن عبّاس يقول: الحجّ الأكبر يوم عرفة، يعني أنّه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النّحر فقد أدرك الحجّ، ومن فاته ذلك فاته الحجّ، فجعل ليلة عرفة لما قبلها ولما بعدها، والدليل على ذلك أنّه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ وأجزأ عنه من عرفة.

فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحجّ الأكبر يوم النّحر، واحتجّ بقول اللَّه عزّ وجلّ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (3)

فهي عشرون من ذي الحجّة والمحرّم والصفر وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر، ولو كان الحجّ الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر ويوماً، واحتجّ بقول اللَّه عزّ وجلّ:

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (4)

وكنت أنا الأذان في الناس.


1- في بعض النسخ: الحسن. وهما ابنا سعيد.
2- معاني الأخبار: 296 ح 4، وسائل الشيعة 14: 43، ح 19، بحار الأنوار 99: 322 ح 6، تفسير نور الثقلين 2: 185 ح 44.
3- سورة التوبة: 2.
4- سورة التوبة: 3.

ص: 104

فقلت له: ما معنى هذه اللّفظة «الحجّ الأكبر»؟

فقال: إنّما سمّي الأكبر لأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون ولم يحجّ المشركون بعد تلك السنة (1).

27- الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعليّ بن محمد القاساني، جميعاً، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقري، عن فضيل بن عياض، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الحجّ الأكبر فإنّ ابن عبّاس كان يقول: يوم عرفة، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: قال أمير المؤمنين صلوات اللَّه عليه: الحجّ الأكبر يوم النحر ويحتجّ بقوله عزّ وجلّ: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهي عشرون من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من ربيع الآخر، ولو كان الحجّ الأكبر يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوماً (2).

(7) معنى الأيّام المعلومات والأيّام المعدودات

28- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال:

حدّثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمعته يقول: قال عليّ عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (3)

، قال: أيّام العشر (4). (5)


1- معاني الأخبار: 296 ح 5، من لا يحضره الفقيه 2: 488، ح 3042، فقه القرآن 1: 322 ذيله، وسائل الشيعة 14: 43 ح 20، بحار الأنوار 83: 116 ح 34، و 99: 322 ح 7.
2- الكافي 4: 290 ح 3، بحار الأنوار 21: 272 ح 3. وروى نحوه في تفسير العيّاشي 2: 77 ح 20، عنه بحار الأنوار 99: 323 ح 14، مستدرك الوسائل 10: 63 ح 8.
3- سورة الحجّ: 28.
4- في بعض نسخ المعاني: أيّام التشريق.
5- معاني الأخبار: 296 ح 1، بحار الأنوار 99: 309 ح 22.

ص: 105

29- تهذيب الأحكام: العبّاس، وعلي بن السندي، جميعاً، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمعته يقول: قال عليّ عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: واذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (1)

، قال: أيّام العشر، وقوله: «واذكروا اللَّه في أيّام معدودات». قال: أيّام التشريق (2). (3) 30- معاني الأخبار: وبهذا الإسناد (4)، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد ابن الفضيل، عن أبي الصبّاح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ (5)

، قال: هي أيّام التشريق (6).

31- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن عليّ بن الصلت، عن عبداللَّه بن الصلت، عن يونس بن عبد الرحمن، عن المفضّل بن صالح، عن زيد الشحّام، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله عزّ وجلّ: واذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ (7)

قال: المعلومات والمعدودات واحدة، وهي أيّام التشريق (8).


1- المراد قوله تعالى في سورة الحجّ: 28، ويذكروا اسم اللَّه في أيّام معلومات.
2- أيّام التشريق: ثلاثة أيّام بعد عيد الأضحى، سمّيت بها لأنّ لحوم الأضاحي تشرق فيها.
3- تهذيب الأحكام 5: 487 ح 382، مختلف الشيعة 4: 369، وسائل الشيعة 14: 271 ح 5، كشف اللثام 6: 287، جواهر الكلام 20: 45. ورواه في تهذيب الأحكام 5: 447 ح 204 بإسناده عن موسى بن القاسم، عن عبد الرحمن، عن حمّاد بن عيسى، باختلاف عنه، تذكرة الفقهاء 8: 446 رقم 754.
4- أي: ابن الوليد، عن الصفّار، عن ابن أبان.
5- سورة الحجّ: 28.
6- معاني الأخبار: 297 ح 2، وسائل الشيعة 14: 270 ح 2، بحار الأنوار 99: 309 ح 23، كشف اللثام 6: 288.
7- سورة البقرة: 203.
8- معاني الأخبار: 297 ح 3، تفسير العيّاشي 1: 99 ح 277، وسائل الشيعة 14: 270 ح 3، بحار الأنوار 99: 309، ح 24 و 25.

ص: 106

(8) معنى المكاء والتصدية

32- معاني الأخبار: حدَّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال:

حدّثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عمّن ذكره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ:

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (1)

قال: التصفير والتصفيق (2). (3) (9) معنى الأذان من اللَّه ورسوله

33- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبان بن عثمان، عن أبي الجارود، عن حكيم بن جبير، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ:

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (4)

، قال: الأذان (5): عليّ عليه السلام (6).

34- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله، قال:

حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن عليّ بن أسباط، عن سيف بن عميرة، عن الحارث بن المغيرة بن النصريّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه عزّ وجلّ: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ


1- سورة الأنفال: 35.
2- التصفير: التصويت بالشفتين. والتصفيق: التصويت باليدين، يضرب باطن الراحة على باطن الأُخرى.
3- معاني الأخبار: 297 ح 1، تفسير العيّاشي 2: 55، ح 46، بحار الأنوار 79: 264 ح 1.
4- سورة التوبة: 3.
5- قال المجلسي رحمه الله: الأذان: الإعلان، ويحتمل أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أو يكون المعنى أنّ المؤذّن بذلك الأذان كان عليّاً عليه السلام.
6- معاني الأخبار: 297- 298 ح 1، تفسير العيّاشي 2: 76 ح 14، بحار الأنوار 35: 293 ح 10.

ص: 107

يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (1)

، فقال: اسم نحله (2) اللَّه عزّ وجلّ عليّاً صلوات اللَّه عليه من السماء، لأنّه هو الّذي أدّى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله براءة، وقد كان بعث بها مع أبي بكر أوّلًا فنزل عليه جبرئيل عليه السلام، فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه يقول لك: إنّه لا يبلّغ عنك إلّا أنت أو رجل منك، فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عند ذلك عليّاً عليه السلام، فلحق أبا بكر وأخذ الصحيفة من يده ومضى بها إلى مكّة، فسمّاه اللَّه تعالى أذاناً من اللَّه، إنّه اسم نحله اللَّه من السماء لعليّ عليه السلام (3).

(10) معنى الشاهد والمشهود، واليوم المجموع له الناس

35- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، ومحمّد بن عليّ بن محبوب، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن صفوان بن يحيى، عن إسماعيل بن جابر، عن رجاله، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (4)

، قال: المشهود:

يوم عرفة، والمجموع له النّاس: يوم القيامة (5).

36- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدّثني محمّد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن أبي جميلة، عن محمّد بن عليّ الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله عزّ وجلّ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (6)

، قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود:


1- سورة التوبة: 3.
2- نحله: أعطاه.
3- معاني الأخبار: 298 ح 2، تأويل الآيات 1: 197 ح 3، بحار الأنوار 35: 292 ح 8، تفسير نور الثقلين 2: 184 ح 35.
4- سورة هود: 103.
5- معاني الأخبار: 298 ح 1، وسائل الشيعة 13: 548 ح 2، بحار الأنوار 7: 60 ح 6، و 99: 252 ح 11.
6- سورة البروج: 3.

ص: 108

يوم عرفة (1).

37- مجمع البيان: روي أنّ رجلًا دخل مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإذا رجل يحدّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قال: فسألته عن الشاهد والمشهود.

فقال: نعم، الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، فجزته إلى آخر يحدّث... فسألت عن الأوّل، فقالوا: ابن عبّاس... (2).

38- تفسير التبيان: قال قتادة: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهور: يوم عرفة (3).

39- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، عن أحمد بن محمّد، عن موسى بن القاسم، عن محمّد بن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبداللَّه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّه قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، والموعود: يوم القيامة (4).

40- معاني الأخبار: حدّثنا محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب، قال:

سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ.

قال: الشاهد: يوم عرفة (5).

41- معاني الأخبار: وبهذا الإسناد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن محمّد بن هاشم، عمّن روى عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سأله الأبرش


1- معاني الأخبار: 298 ح 2، مصباح المتهجّد: 283، وسائل الشيعة 13: 548 ح 3، بحار الأنوار 89: 270 و 275، و 99: 252 ح 13.
2- مجمع البيان 10: 315، بحار الأنوار 7: 58.
3- تفسير التبيان 10: 316.
4- معاني الأخبار: 299 ح 3، وسائل الشيعة 13: 549 ح 4، بحار الأنوار 7: 60 ذ ح 8، و 89: 270، و 99: 252- 253 ح 13.
5- معاني الأخبار: 299 ح 4، وسائل الشيعة 13: 549 ح 5، بحار الأنوار 99: 253 ح 14.

ص: 109

الكلبيّ عن قول اللَّه عزّ وجلّ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ.

فقال أبو جعفر عليه السلام: ما قيل لك؟

فقال: قالوا: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.

فقال أبو جعفر عليه السلام: ليس كما قيل لك، الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة؛ أما تقرأ القرآن؟ قال اللَّه عزّ وجلّ: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (1)

. (2) 42- معاني الأخبار: وبهذا الإسناد: عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن أبي الجارود، عن أحدهما عليهما السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، والموعود: يوم القيامة (3).

43- معاني الأخبار: أبي رحمه الله، قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن عمران بن موسى، عن الحسن بن موسى الخشّاب، عن عليّ بن حسان، عن عبد الرّحمن بن كثير الهاشميّ مولى أبي جعفر محمّد بن عليّ (4)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجلّ: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قال: النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام (5).

(11) معنى البعال

44- معاني الأخبار: حدّثنا عليّ بن عبداللَّه بن الورّاق، قال: حدّثنا أبو الحسين محمد بن جعفر الأسديّ الكوفيّ، قال: حدّثنا موسى بن عمران النخعي،


1- سورة هود: 103.
2- معاني الأخبار: 299 ح 5، وسائل الشيعة 13: 549 ح 6، بحار الأنوار 7: 60 ح 7، و 89: 270، ضمن ح 9، و 99: 253 ح 15.
3- معاني الأخبار: 299 ح 6، وسائل الشيعة 13: 549 ح 7، بحار الأنوار 7: 60 ح 8، و 99: 253، ح 16.
4- الظاهر أنّه: عبد الرحمن بن كثير مولى عبّاس بن محمد بن عليّ بن عبداللَّه بن العبّاس، فصحّف.
5- معاني الأخبار: 299 ح 7، الكافي 1: 425 ح 69 بإسناده عن محمد بن يحيى، عن سلمة بن الخطّاب، عن عليّ بن حسّان، تأويل الآيات 2: 783 ح 2، بحار الأنوار 7: 60 ح 8، و 23: 352 ح 71، و 35: 386 ح 1.

ص: 110

عن عمّه الحسين بن يزيد، عن عمرو بن جميع، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام، قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق (1) فأمره أن ينادي في النّاس أيّام منى: ألّا تصوموا هذه الأيّام فإنّها أيّام أكل وشرب وبعال.

والبعال: النكاح وملاعبة الرّجل أهله (2).

45- المقنع: روي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق، فأمره أن ينهى الناس عن صيام أيّام منى، فتخلّل بديل الفساطيط ينادي بأعلى صوته: أيّها الناس، لا تصوموا هذه الأيّام، فإنّها أيّام أكل وشرب وبعال (3).

(12) معنى التين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين

46- معاني الأخبار: حدّثنا أبي رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطّار، قال:

حدّثنا أحمد بن محمّد بن خالد، قال: حدّثني أبو عبداللَّه الرّازي، عن الحسن بن عليّ بن أبي عثمان، عن موسى بن بكر، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى اختار من البلدان أربعة، فقال عزّ وجلّ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (4)

التين: المدينة، والزّيتون: بيت المقدس، وطور سينين: الكوفة، وهذا البلد الأمين:

مكّة (5).


1- الأورق: الّذي في لونه سواد إلى بياض، ومنه: جمل أورق. «مجمع البحرين 5: 246».
2- معاني الأخبار: 300 ح 1، وسائل الشيعة 14: 194- 195 ح 9، بحار الأنوار 96: 264 ح 5، و: 308 ح 18، و 99: 308 ح 18.
3- المقنع: 282، وسائل الشيعة 10: 517 ح 8، مستدرك الوسائل 10: 121 ح 2.
4- سورة التين: 1- 3.
5- معاني الأخبار: 364 ح 1، روضة الواعظين: 405، وسائل الشيعة 14: 361 ح 4، بحار الأنوار 60: 204 ح 2، و 100: 392، ح 20 و 21.

ص: 111

فهرس المصادر

1- القرآن الكريم.

«أ»

2- الأمالي، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة- قم 1417 ه-.

«ب»

3- بحار الأنوار، للشيخ محمد باقر المجلسي، نشر مؤسّسة الوفاء- بيروت 1403 ه-.

«ت»

4- تأويل الآيات الظاهرة، للسيّد شرف الدين علي الحسيني الأسترآبادي، تحقيق ونشر مؤسّسة الإمام المهدي عليه السلام- قم 1407 ه-.

5- التبيان في تفسير القرآن، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، نشر دار الكتب العلميّة- قم-.

6- تذكرة الفقهاء، للعلّامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطهّر، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم 1414 ه-.

7- تفسير أبي الفتوح الرازي، «روح الجنان وروح الجنان»، فارسي، نشر المكتبة الإسلاميّة- طهران 1382 ه-.

8- تفسير العيّاشي، لأبي نصر مسعود بن عيّاش السلمي، نشر المكتبة العلميّة الإسلاميّة- طهران 1380 ه-.

9- تفسير نور الثقلين، للشيخ عبد علي بن جمعة الحويزي، نشر المطبعة العلميّة- قم 1383 ه-.

10- تهذيب الأحكام، للشيخ أبي جعفر الطوسي، نشر دار الكتب الإسلاميّة- طهران 1390 ه-.

«ج»

11- جواهر الكلام، للشيخ محمد حسن النجفي، نشر دار الكتب الإسلاميّة- طهران 1365 ه. ش.

ص: 112

«خ»

12- الخصال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمّي، نشر جماعة المدرّسين- قم 1403 ه-.

«ر»

13- روضة الواعظين، للشيخ محمد بن الفتّال النيسابوري، نشر المكتبة الحيدريّة- النجف الأشرف 1386 ه-.

«ع»

14- علل الشرائع، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمّي، نشر مكتبة الداوري- قم 1385 ه-.

15- عوالم العلوم، للشيخ عبداللَّه البحراني الأصفهاني، تحقيق ونشر مؤسّسة الامام المهدي عليه السلام- قم 1405 ه-.

16- عوالي اللئالي، لمحمد بن أبي جمهور الأحسائي، طبع مطبعة سيّد الشهداء- قم 1403 ه-.

«ف»

17- فقه القرآن، لقطب الدين سعيد بن هبة اللَّه الراوندي، نشر مكتبة آية اللَّه النجفي المرعشي- قم 1405 ه-.

«ق»

18- قرب الاسناد، لأبي العبّاس عبداللَّه بن جعفر الحميري، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم 1413 ه-.

«ك»

19- الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني، نشر دار الكتب الإسلاميّة- طهران 1388 ه-.

20- كشف اللثام، للفاضل الهندي بهاء الدين محمد بن الحسن الأصفهاني، تحقيق ونشر جماعة المدرّسين- قم 1416 ه-.

«م»

21- المبسوط، لمحمد بن أبي سهل السرخسي، نشر دار المعرفة- بيروت 1406 ه-.

ص: 113

22- مجمع البحرين، للشيخ فخر الدين الطريحي، نشر المكتبة المرتضويّة- طهران 1395 ه-.

23- مجمع البيان، للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، نشر مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت 1415 ه-.

24- المحلّى، لعليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم، نشر دار الآفاق الجديدة- بيروت-.

25- مختلف الشيعة، للعلّامة الحلّي الحسن بن يوسف بن المطّهر، تحقيق ونشر جماعة المدرّسين- قم 1412 ه.

26- مدارك الأحكام، لمحمد بن علي الموسوي العاملي، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- مشهد 1410 ه.

27- مستدرك الوسائل، للشيخ ميرزا حسين النوري الطبرسي، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم 1407 ه.

28- مستطرفات السرائر، لمحمد بن أحمد بن إدريس الحلّي، تحقيق ونشر مؤسّسة الإمام المهدي عليه السلام- قم 1408 ه.

29- مستند الشيعة، للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم 1415 ه.

30- مصباح المتهجّد، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، نشر مؤسّسة فقه الشيعة- بيروت 1411 ه-.

31- معاني الأخبار، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه، نشر جماعة المدرّسين- قم 1379 ه-.

32- المقنع، للشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه: تحقيق ونشر مؤسّسة الإمام الهادي عليه السلام- قم 1415 ه-.

33- من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه، نشر جماعة المدرّسين- قم-.

34- مناقب آل أبي طالب، لأبي جعفر محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني، نشر مكتبة العلّامة- قم-.

ص: 114

«ن»

35- نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، ضبط نصّ وفهرسة الدكتور صبحي الصالح، نشر دار الهجرة- قم 1395 ه.

«و»

36- وسائل الشيعة، للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم 1408 ه.

ص: 115

الآفاق المستقبليّة

الآفاق المستقبليّة

لتكريس التعارف الثقافي من خلال موسم الحجّ

د. فريد شكري

الحجّ من أبرز النشاطات العالمية المميّزة للُامّة الإسلامية، وهو نشاط عالمي مستمرّ منذ عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهو تجسيد لدعوة إبراهيم عليه السلام، نقّحه الإسلام من ما علق به من أدران شابته في الجاهلية. وبما أنّنا نعيش في الألفية الثالثة، وما تعرفه من تطوّر كبير في الجانب التكنولوجي- وخاصّة المعلوماتي- يستدعي التفكير الجاد في تحقيق مقاصد الحجّ، وخاصّة استثمار التعدّدية الثقافية الإسلامية كأولوية مستقبلية، لاسيّما وأنّنا نعيش في أجواء المنافسة الحضارية التي قد يعبّر عنها في أقصى درجاتها بصدام الحضارات أو في ألطف صيغها بما يعرف بالعولمة.

والحاجة إلى تعميق التعارف بين الشعوب الإسلامية خلال موسم الحجّ، ملحّة وضرورية خاصّة وأنّه:

أوّلًا: مغيب عمليّاً وواقعيّاً، في الوعي الفردي والجمعي، لدى الحجّاج، وربما حتّى عند القائمين على شؤون الحجّ، بحيث نجد اهتماماً كبيراً بأبعاد اخرى للحجّ ولاسيّما الجوانب المادّية والتجارية والنسكية

ص: 116

والإيمانية، مع غياب الاهتمام بجانب تعميق التواصل والتعارف بين الحجّاج.

ثانياً: خصوصية المرحلة الحضارية التي تعيشها امّتنا الإسلامية، فهي مهدّدة في حضارتها وثقافتها من جرّاء العولمة التي تحرص على تنميط الشعوب واختراق خصوصيّاتها الثقافية لصبّها في بوتقة واحدة. ومن ثمّ، فإنّ الحجّ الذي يشكِّل أحد أبرز مميّزات الامّة، ينبغي أن يستخدم لإعادة التأكيد على هوية الامّة، وتعميق فهمها لذاتها، وتحسين دورها في العالم اليوم.

وإذا كان مستقبل الحجّ المنشود هو تحقيق العالميّة الإسلامية بين الشعوب الإسلامية بمختلف مشاربها الحضارية والثقافية وتجسيد التنوّع في إطار الوحدة، فإنّ ذلك لا يتمّ إلّاعبر التحكم في حاضر الحجّ، وتفعيل كافّة مقاصده و «منافعه»، والوعي التامّ بخطورة تذويب هوية الامّة في عالم العولمة اليوم، وما يمكن أن ينتج عنها من آثار سلبية على حضارتنا وذاتيّتنا.

والذي يريد أن يصنع مستقبله لابدّ أن يتحكّم في حاضره، لأنّ الحاضر ماضي المستقبل ومستقبل الماضي، كما يقول عالم المستقبليات المهدي المنجرة، ومن لا حاضر له لا مستقبل له.

وليست المستقبليّات علماً يتنبّأ بما سيكون عليه العالم في مستقبل الأيّام فحسب، بل هو العلم الذي يسعى لصنع المستقبل، انطلاقاً ممّا يتوفّر عليه من مقوّمات ورغبة في التغيير بالإرادة والفكر.

الحجّ بين مقاصد الأمر ومقاصد الخلق

إنّ المتأمّل في النصّ القرآني..

يرى أنّ الأحكام الشرعية تأتي مقرونة بمقاصدها وغاياتها، بل الأمر يتعدّى مقاصد الأمر.. إلى مقاصد الخلق أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وسلوك القرآن هذا المسلك في إيراد الأحكام الشرعية، وراءه عدّة مقاصد منهجية منها:

المقصد الأوّل: تحقيق الوعي لدى المسلم بمقاصد الحكم حتّى يحرص على تحقيقه وشهود أثره على نفسه

ص: 117

وعلى محيطه الاجتماعي، لأنّ المقصد هو ثمرة التكليف.

المقصد الثاني: أن تكون المقاصد ميزاناً ومعياراً نعير به التكاليف الشرعية بحيث يعتبر عدم تحقّقها وتخلّفها دليلًا على وجود خلل في العلاقة مع الحكم الشرعي، فلا يكون مجرّد إنجاز العمل دليلًا على صحّته، وإنّما إنجاحه وتحقّق مقاصده هو الدليل على صحّته. وبهذا يغيب التعامل الطقوسي الشعائري الشكلي مع التكاليف الشرعية، لتسري هذه الروح المقاصدية؛ لأنّ المقاصد «أرواح الأعمال»، كما يقول الشاطبي.

المقصد الثالث: أن يجتهد المكلّف وكلّ من له علاقة بالحكم الشرعي تنفيذاً وتنزيلًا في تدعيم كافّة الوسائل المنصوص عليها شرعيّاً، لتفضي إلى تحقيق المقاصد.

المقصد الرابع: التفكير والاجتهاد في إبداع وسائل جديدة وإمكانيات مستحدثة لتحقيق المقاصد الشرعية.

المقصد الخامس: الدلالة على أن لا تعارض بين الامتثال والانقياد للتكاليف الشرعية وبين عقلها وفهم حكمها ومقاصدها، وأنّ التسليم القلبي لا ينافي التحكيم العقلي. ويمكن استعارة العبارة الشهيرة لابن رشد مع تعديل الدلالة الاصطلاحية بما يناسب مقامنا: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتّصال».

فإذا كانت هذه بعض مقاصد الأمر، فإنّ النصّ على مقاصد الخلق يقصد إلى أن تصبّ المقاصد الأمرية في المقاصد الخلقية أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.

أمّا بخصوص موضوعنا، فإنّ مقاصد الحجّ منصوص عليها في قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ....

فبجانب المقصد الروحي، هناك المقصد الدنيوي «منافع»، وورود «منافع» بصيغة التنكير يدلّ على التكثير، ممّا يجعل مقاصد الحجّ منفتحة على كلّ ما يعود على الحاج

ص: 118

بالاستفادة والمنفعة والمصلحة حسب الإمكانات الحضارية المتجدّدة.

إذاً، فمنفعة التعارف بين الحجّاج على اختلاف انتماءاتهم الحضارية والثقافية، واستثمار هذه التعدّدية مقصدٌ من مقاصد الحجّ، خاصّة وأنّه ينسجم مع مقصد الخلق: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا فتدعيم وإبداع الوسائل المحقّقة لهذا التعارف الإسلامي مطلوب شرعاً وطبعاً، فللوسائل حكم المقاصد، وما لا يتمّ الواجب إلّابه فهو واجبٌ. ولقد انتبه الأستاذ سيّد قطب بذكاء إلى هذا البُعد العالمي للحجّ، والمنفعة التعارفية له بقوله:

«وهو مؤتمر للتعارف، والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرّة كلّ عام في ظلّ اللَّه، بالقرب من بيت اللَّه في ظلال الطاعات البعيدة والقريبة والذكريات الغائبة الحاضرة في أنسب مكان وأنسب جوّ وأنسب زمان، فلذلك يقول اللَّه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، كلّ جيل بحسب ظروفه وحاجياته وتجاربه ومقتضياته، وذلك بقصد ما أراد اللَّه بالحجّ يوم أن فرض على المسلمين وأمر إبراهيم أن يؤذّن في الناس» (1).

الحجّ بين الأمس واليوم

رغم أنّ حقيقة الحجّ واحدة لم تتغيّر منذ إبراهيم، ومروراً بسيّدنا محمّد، وانتهاءً إلى اليوم، فإنّ الوسائل الخادمة له والإمكانات الحضارية المحقّقة له قد عرفت تطوّراً كبيراً، عرفت ذروتها في عصرنا هذا، ممّا جعل تحصيل مقاصد الحجّ قبل الحجّ أيضاً متفاوتاً، ذلك أنّ الحاجّ الذي كان يقطع الرحلة في شهور وأسابيع عبر بلدان متعدّدة ومتنوّعة، يبيت بها ويحتكّ بأهلها، ويقف على خصائصها الاجتماعية والحضارية، جعلته يقف على التعدّدية الثقافية للشعوب الإسلامية حقيقةً قبل أن يحجّ، بحيث يعمّق الوعي بها عندما يحجّ.

ص: 119

ولقد تركت لنا ثقافتنا الإسلامية، جنساً أدبياً عرف بأدب الرحلة (2)، سطّر فيه العديد من علماء ومبدعي الامّة مادّة سيريّة جميلة تحكي رحلتهم إلى بيت اللَّه العتيق وأداء مناسك الحجّ وزيارة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ممّا يشكّل لنا اليوم مادّة تاريخية وانتروبولوجية وحضارية وجغرافية رائعة من جهة، ويقف بنا على أبعاد جديدة للحجّ وخاصّة الجانب التعارفي.

إنّ تطوير المواصلات ووسائل النقل من الجَمَل إلى أحدث أنواع الطائرات، بقدر ما رفع المشقّة عن الحاجّ أو كاد، وطويت له المسافات في بضع ساعات بدل الأسابيع والشهور كما في الماضي القريب، إلّا أنّها حرمته من هذا الاختراق العمودي لثقافات وحضارات الشعوب الإسلامية. لقد هجرت «طرق الحجّ» وما قام حولها من حياة ثقافية وحضارية، لقد كانت هذه الرحلة تمكّن للحاج أن يقف على التعددية الثقافية والحضارية للشعوب الإسلامية وقفة تكسبه تجربة ودربة ودراية بما عليه أحوال الامّة، وتوسيع مداركه فيتحوّل من إنسان «محلّي» إلى إنسان «عالمي»، وكلّ ذلك يقع عليه قبل أن يحجّ، فما أن يصل إلى صعيد الحجّ، حتّى يتعمّق ويزداد إدراكه بأحوال الامّة. إذن هناك فرق بين حاج يعرف الامّة في أثناء الحجّ بعدما عرف طرفاً منها في طريقه إلى الحجّ، وبين حاج عليه أن يتعرّف عليها في عجالة أثناء الحجّ: الفرق بين من كسب خبرة ميدانية وتحمّل في سبيل ذلك أنواع عديدة من المشاقّ، ومن عليه أن يعرفها في وقت قصير، ربما كان على الأخير- وللأسف- أن يقبل بما يسمّى بالصور النمطية، وهي صور جامدة معلّبة جاهزة وفي معظم الأوقات غير صحيحة، وربّما سلبية عن غيره من المسلمين، فهي تعيق التعارف بدلًا من أن تعمّقه، وتشكّل تصوّرات تنفّر المسلمين عن بعضهم بل تخيفهم من التقارب من بعضهم لمزيد التعارف بدلًا من أن تعمّق، وتزيل ما يمكن أن يحُول دون ذلك.

ص: 120

التحوّل في جانب المواصلات، مسّ حتّى الجانب النفسي والمعنوي والفلسفي، ذلك أنّ الحجّ قديماً كان مغامرةً بالنفس والمال ونوعاً من الجهاد، بينما هو اليوم «رحلة سياحيّة» ورحلة شخصية يمكن أن تساعد الحاجّ للالتحاق بركب الامّة تاريخاً وواقعاً، وبذلك تؤكّد على هويته وانتمائه وذاتيّته، في عصر أكبر ما يهدّد أي إنسان- وبالذات المسلم- هو ما يشوّش الهوية والذات والانتماء!

لقد امتدّ التطوّر التكنولوجي إلى مجالات عديدة ممّا يعني أنّ آثار هذا التطوّر- كما ألمحنا- سيكون لها أثرها على ما سيكون عليه الحجّ، وكيف يؤدّي الحاج ركنه الخامس، رحلة العمر المشكلة لكائن جديد يعود للحياة كيوم ولدته امّه رغم تجاربه العديدة وإمداداته الحضارية الثقافية المتشعّبة. ولضرب بعض الأمثلة الموجزة لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الحجّ في القريب، وما هو قائم من تطوّرات وإنجازات مذهلة وسريعة في تقنية المعلومات، نذكر أنّ بإمكان الحاجّ اليوم، وسيكون ذلك بشكل أوسع وأكثر تسارعاً في المستقبل القريب أن يحصل على كافّة المعلومات التفصيلية والموثّقة عن الحجّ مناسكياً وحضارياً وثقافياً وخدماتياً وتأريخياً وغيرها، معزّزة بالصور الثابتة والمتحرّكة، وما أدراك ممّا يسمّى ب Reality Virtual التي ستمكّنه من رؤية الحجّ بالعين المجرّدة في أبعادها الثلاث رأي العين، وهو لمّا يبرح بلدته بعد، نعم ستمكّنه هذه التقنية من الحصول على البيانات والخرائط والمعلومات عمّا قد يخطر على باله قبل أن يحجّ أو يفكّر في الحجّ، بل إنّها ستحفّزه على اقتحام هذه «التجربة» ثقافياً وبأقلّ تكلفة وفي متناول يديه. فحسب ما توصّلت إليه من معلومات، بإمكان ملايين من المسلمين اليوم أن يتعرّفوا على أكثر من أربعين ألف موقع على الانترنت فيحصلوا على معلومات عن الحجّ ومقتضياته.

أنا شخصياً، تمكّنت من الحصول على ملفّ متكامل يحتوي على

ص: 121

معلومات تفصيلية عن الحجّ، وتاريخه، ونسكه، والخدمات التي يمكنني أن أفيد منها، وحسبما عرفت أنّ التقنية لا تزال في مراحلها الأوّلية، وما سيتمّ سيكون أكثر دقّةً وغنى وتنوّعاً.

بل إنّ تقنيّة المعلومات يمكن أن تزوّد الحاج بما يعرف ب Cart Smart، وهي عبارة عن بطاقة الكترونية مدمّجة يمكن أن تحتوي على معلومات شخصية تفصيليّة عن الحاج من حيث خط سيره وتاريخه الطبّي لتقديم المساعدة التفصيليّة الضرورية عند الطلب وتفاصيل عن مطوفه ومكان إقامته، وكذلك معلومات تفصيليّة عن كلّ ما يمكن أن يحتاج إليه بحيث يمكنه مراجعتها حسب حاجته، ولربما بإمكانه أن يتعامل حاليّاً في بنكه مباشرةً، وإن كان دارساً يمكنه أن يحمل ما يحتاج من مراجع أو خلافه، كلّ ذلك في بطاقة صغيرة لا تحتلّ في متاعه مكاناً يُذكر!!

بل أنّ آفاق الاتّصال الذي يمكن أن تقدّمها التقنية الجديدة سواء في شكل هاتف محمول أو استخدام الانترنت للاتّصال بأسرته والحديث معهم بشكل تفصيلي، سيكون واسعاً ومتاحاً وغير مكلف على الإطلاق، ممّا سيمكِّن الحاج مزيداً من التواصل والتعبير عن تجربته الحيّة. وكذلك ستمكّنه هذه الوسائط والإمكانيات التقنية الحديثة من توسيع دائرة معارفه من أبناء الامّة بأقلّ التكاليف وأكثرها دقّةً وفعّاليةً.

أعتقد أنّ بالإمكان القول- دون تردّد- أنّ اقتحام هذه الوسائل الجديدة عالم الحاج سيغيّر من صورة ما سيكون عليه الحجّ، وعلينا أن نفيد من هذه الوسائل المدهشة لتعميق الدلالات الرمزية، والمعاني الفلسفية، والقدرة التأمّلية لمعنى الحجّ وغاياته ومقاصده، وبالذات مسألة التواصل والتعارف بين أفراد الامّة؛ إذ أنّ هذه الوسائط والوسائل تقدّم للُامّة فرصة ذهبية وكبيرة لمزيد تحقيق معنى «التعارف»، وهي وسيلة قويّة وفعّالة لتحقيق «منافع» الحجّ التي تشير إليها الآية!

ص: 122

الحجّ بين العولمة والعالميّة:

إنّ الجديد الذي يعرفه الحجّ- بالإضافة إلى ما سبق- هو المناخ العولمي وهيمنة المعلوماتية، وما عرف حديثاً ب Digital Divide لصالح الغرب، ممّا قد يحقّق تذويب العالم الإسلامي ثقافياً وتنميطه حضارياً.

يمكن اعتبار الحجّ عملياً- ولو بدون وعي من الحاج- فرصة لرفض هذه العولمة، وانخراطاً في عالمية الإسلام تظافراً مع الحضارات الاخرى، لمزيد تثبيت الهوية الإسلامية، وزيادة الشعور بالذات الثقافيّة.

فالعولمة، رغم ما تملكه من إمكانات ووسائل إعلامية متطوّرة، يمكن أن تسيطر بها وتصل بها إلى أيّ إنسان في أيّ مكان؛ لتعولمه على نمط واحد وتصوغه صياغة واحدة، ستبقى محدودة التأثير بالنظر لما يملكه الحجّ من خاصّية متفرّدة ومتميّزة، وهي وحدة الإنسان المخاطب شعوراً وانتماءاً وإيماناً ونبضاً، ووحدة الزمان (الأشهر المعلومات)، ووحدة المكان (المشاعر المقدّسة)، ممّا يجعله أقوى تأثيراً أو فعّالية إن أحسن استخدامه والتخطيط لذلك عن طريق الإعداد الجيّد والاستخدام الواعي لأدوات العصر وإنجازاته الإنسانية.

لكن، ورغم وجود هذه الخاصّية المتفرّدة للحجّ، فإنّه- للأسف- لم يستثمر بعدُ بالشكل المطلوب أو الكافي، بما يمكن تحويله إلى أداة ممكنة لمزيد من التعارف والتواصل والتآخي والتبادل (في كافّة المجالات:

اقتصادية ومعرفية وثقافية وتعليمية وسياحية...) بين الشعوب الإسلامية، لتحقيق مزيد من المنافع البينيّة بينهم، بدلًا من أن تكون عبر وعن طريق وسيط غربي! إنّنا للأسف نلاحظ العكس، إذ أصبح عند البعض مؤكّداً للانكفاء على الذات أو القوميّة، خاصّة في ظلّ غياب التواصل اللساني بين الحجّاج بما يمكِّن المسلمين من التواصل وتبادل المنافع فيما بينهم!! إذ أقصى ما يخرج به الحاجّ الصورة النمطية التي يحملها معه من وطنه، وبما حوّرتها له وسائل الإعلام بحيث

ص: 123

يعلم عدم جدّيتها أو حتّى سوءها، ورغم مشاركته في موسم الحجّ إلّاأنّ ذلك لم يمكّنه من الوقوف على ما يمكن أن يكون مفاتيح تواصل ومعرفة ممتدّة بينه وبين إخوته في الإسلام، بما قد يفتح من آفاق واسعة لتوطيد علاقات أخوية تخدم اهتماماتهم ومصالحهم المشتركة! مع أنّ الحجّ فرصة ذهبية لإخراج مفهوم الوحدة الإسلامية من الكمون والقوّة إلى الفعل والواقع، إنّها فرصة لتحقيق مفهوم الامّة استجابةً لدعاء إبراهيم وإسماعيل:

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، والتمكّن من حسن استثمار الحجّ على المستوى التعارفي للشعوب الإسلامية، لتحقيق عالميّة الإسلام وتجسيدها واقعياً وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، هذه العالميّة التي تستوعب الحضارات والثقافات كافّة، وتحتفظ للشعوب بخصوصياتهم، وتعطيهم إمكانية تنزيل المعاني والمطلقات والقيم الإسلامية على أعرافهم وواقعهم المشبع برصيد ثقافي واجتماعي وحضاري، لقد أصبح ذلك ممكناً وميسّراً اليوم أكثر من أي وقت مضى، بسبب توفّر الأدوات والوسائل والوسائط الحديثة.

والعالميّة، تختلف عن العولمة، التي هي اختراق لخصوصيّات الشعوب وإذابتها، وجعلها في بوتقة واحدة، الأمر الذي يمكن أن نستشفّ رفضه من قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، فجعلُ الناس والامم والشعوب نمطاً واحداً تفكيراً وتعبيراً وذوقاً واختياراً ليس مقصداً خلقياً ولا أمرياً، فالتعدّدية مظهر للجمال والجلال، والحديقة تجمل بتعدّد ألوان زهورها وتنوّعها لا في توحّدها!!

الحجّ من التأثير إلى التأطير

إنّ الحجّ- بما يبعث في الحاج من قيم إيمانية ومعان روحية تعمّق فيه انكماش «الأنا» لصالح «النحن»- لهو كفيل بأن يمثِّل صمّام أمانٍ تجاه العولمة القائمة على فلسفة خطيرة، هي سقوط المرجعيات القيميّة

ص: 124

ونسبيّتها، وجعل الإنسان مرجعية ذاته، وانكماش ال «نحن» وبروز «الأنا».

إنّ الحقيقة التي يخرج بها الحاج من تجربة الحجّ على المستوى التصوّري والفلسفي والقيمي هو النظر إلى الامور نظرة مخالفة وحقيقيّة، قوامها الدِّين أوّلًا، والدُّنيا ثانياً، وأنّ الدين هو عصمة الأمر وهو الغاية، وبه تتحقّق المنافع، وأنَّ الدُّنيا معاش ووسيلة، ممّا يزيد من رفعة الإنسان، ويؤكّد له أنّ هذه القيم والأخلاق والمعتقدات إنّما تزيد من حسن تمتّعه بمباهج الدُّنيا، وتفعيلها لمعانٍ أرقى وأعلى شأناً وخطورةً.

والتحوّل الآخر الذي يعيشه الحاج هو تغيّر شعوره من فرد إلى امّة، من شخص له اهتماماته الفردية الآنيّة إلى إنسان كوني، تشغله مصلحة الإنسان في كلّ مكان.

إنَّ ولادة الحاجّ الجديدة تعدّ قفزة في تنميته وإنمائه، فهي تغيّر مفاهيمه وتصوّراته من المحدود والشكلي والعادي وسفاسف الامور إلى رحابة التصوّر الإسلامي ذي الافق الواسع الكوني الساعي- انطلاقاً من قيم أخلاقية- إلى تحقيق الأخوّة الإنسانية والوسطيّة والشهادة على العالمين، وتمكّنه بهذه الروح من العمل لتحقيق الشهود الحضاري، وتعمير واستعمار الأرض بما يكفل حياة سعيدة رغدة على المستويين النفسي/ الروحي والمادّي/ المعيشي في حياته وحياة الامّة!!

وبحكم هذا التصوّر لدى الحاجّ، يعمّق فيه الجانب القيمي ونكران الذات والاستعداد للتضحية بالأشخاص والأشياء في سبيل الأفكار والقيم متجاوزاً الفردية والمصلحية، ومن ثمّ يتحوّل إلى الشخص المنتج الفاعل العدل بدل الشخص المستهلك الخامل الكَل. إنّ معاني الحجّ- لو أحسن استثمارها وتعميقها- ستتجاوز بنا مرحلة الوهن الحضاري والغثائية التي حدّدها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: حبّ الدُّنيا وكراهية الموت.

ورغم ما يشيعه خطاب العولمة: من أنّ العبرة في الفعل الحضاري لصالح

ص: 125

النفوذ والقوّة والكيف، وليس للكثرة والكمّ، وأنّ أعداد المسلمين التي تربو على المليار والنصف، وأعداد الحجّاج الذي يربو على المليونين، يجب أن لا تُغرينا بالثقة في ذاتنا، والإغترار بأعدادنا.

إلّا أنّ هذا الزعم مردود عليه للاعتبارات التالية:

أوّلًا: إنّ الحضارة التي تروّج لهذا الفهم أو الوهم تعاني من تراجع في أعدادها وديمغرافيتها، وتراجع في تمسّكها بدينها من حيث التردّد على أماكن العبادة، خاصّة من الشباب، وعاجزة عن إغراء شبابها بها بالعودة إلى التمسّك بأصول ثقافتها، في الوقت الذي تعرف مساجد المسلمين اكتظاظاً بالشباب وكذا في موسم الحجّ، وكذلك بازدياد رجوع الامّة الإسلامية إلى دينها وقيمها.

ثانياً: إنّ هذا الكمّ العددي الموجود في الحجّ هو نوعي في نفس الوقت، بكلّ المقاييس، اجتماعياً وحضارياً وعمرياً وفكرياً واقتصادياً وتمثيليّاً.

صحيح أنّ الكمّ المذموم شرعاً وطبعاً، هو الكمّ الغثائي الذي عبّر عنه النبيّ صلى الله عليه و سلم بقوله: «ولكنّكم كثير كغثاء السيل»، والمتأمّل لمصطلح «الغثاء» والوقوف على خصائصه، يرى بأنّه لفظ معبّر عن رداءة النوع، وافتقاد الرؤية، والبوصلة، والاتجاه، والأمعية، والخفّة، وانعدام الروح، وانعدام القواسم المشتركة.. بينما الحجّ يعتبر وسيلة فعّالة للتجاوز بهذه الأعداد من الغثائية إلى الإنتاجية والفعّالية، ومن ثَمّ تحويلها إلى أنواع وفعّاليات جديدة بإذن اللَّه، عن طريق بثّ الروح الإسلامية فيها وتعميق القواسم المشتركة بينها لتذكيرها بالمصير المشترك الذي يجمعها ويحقّق الاستقلالية الذاتية لها. ولن يتحقّق هذا سوى عن طريق تطوير إمكانيات الحجّ، وتعميق مفهومه، واستثمار التعدّد الثقافي والحضاري للُامّة، وخاصّة في الحجّ عبر الاستفادة منه، واستخدام وسائل الثقافة الجديدة المتطوّرة والمشاعة لتعميق ذلك.

ولعلّني لن أكون حالماً، بأنّي سأشاهد في سنوات حياتي القليلة

ص: 126

القادمة استخدام تكنولوجيا المعلومات لتمكين أبناء الامّة الإسلامية بكافّة المعلومات والتفاصيل الشرعية والمعيشيّة والتاريخية والاقتصادية للحجّ، وتيسير إجراءات الحجّ، حتّى يتفرّغ الحاجّ للتأمّل في هموم ومشاكل وطموحات وتوقّعات الامّة، والعمل- وبشكل جدّي- لتحقيقها، وأن أرى اليوم الذي يغدو فيه الحجّ مناسبة إنسانية كونية يحسّ بها العالم أجمع من خلال التغطيات الإعلامية المسؤولة والمعبّرة عن آفاق تفاصيل هذه التجربة الفريدة.

كذلك، أتمنّى أن تصبح عملية التواصل ونشر الفكر الإسلامي المستنير المؤمن بأهمّية الانفتاح للعالم تبليغاً لرسالة الإسلام الخالدة والمستفيد من تقنيات العصر من أجل «اختراق» العوالم الثقافية التي إمّا أنّها لم تسمع بقيم وتعاليم الإسلام أو أنّ ما تعرفه عنه تتلبّسه معيقات نكرة في الإسلام، تحول دون أن تتعرّف عليه في بساطته ونقائه، وما يمكنه أن يقدّم للإنسانية جمعاء من قيم وأخلاق ومعتقدات هي في أمسّ الحاجة إليه من أي وقتٍ مضى.

آمل أن تصبح مناسبة الحجّ مناسبة فكرية ومعرفية وإيمانية لمزيد من تكامل وتآخي وتعارف أبناء الامّة بعضهم ببعض، وأعتقد أنّ وسائل التقنية الحديثة يمكن أن تسرع من إمكانات تحقيق هذا الحلم، وأن تصبح الامّة المسلمة فعّالة في حياة العصر بدلًا من أن تكون المستهدفة والضحيّة لوصمها بالتخلّف أو التجمّد.

إنّ إمكانيات الإسلام والمسلمين كبيرة، ولم تستخدم بالدرجة والصورة التي يمكن أن تقدّم بها في عصرنا الحالي. هل نحلم بمساحات واسعة في تقنية المعلومات في شكل Portal. ومواقع على الانترنت تمكّن المسلم من معرفة حقّه بدينه، وتفتح آفاقاً لغيره للإفادة من رسالة الإسلام، أعتقد أنّ حلمي، وحلم كلّ مسلم محبّ للإسلام وللإنسان، قريب التحقّق وسيكون الحجّ أحد أبرز وقائعه.

ص: 127

الهوامش:

1- في ظلال القرآن 4/ 2419.

2- انظر على سبيل المثال:

- رحلة ابن جبير (619 ه)، (تذكرة بالأخبار عن اتّفاقات الأسفار).

- روض الانس ونزهة النفس، لأبي الطيّب الرندي (684 ه).

- مستفاد الرحلة والاغتراب، للتحبيبي (735 ه).

- نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار (الرحلة الورثيلانية)، الحسن بن محمّد الوريتلاني (1193 ه).

- رحلة التجاني أبي أحمد التونسي (718).

- رحلة ابن بطوطة (779 ه).

- تمهيد الطالب ومنتهى الراغب إلى أعلى المنازل والمناقب، للقلصاوي (891 ه).

- سفرنامه، رحلة ناصر خسرو القبادياني (ولد 394 ه ببلخ).

- رحلة ابن جابر إلى مكّة.

- رحلة إلى بيت اللَّه الحرام، ابن عبد اللَّه الشاكري.

- رحلة ابن عثمان الحجازية.

- الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز، عبد الغني النابلسي.

- الرحلة الذهبية إلى الأقطار الحجازية، أحمد بن علي الشاذلي.

- الحلية الحقيقيّة في الرحلة الحجازية، مصطفى كمال الدِّين الصديقي.

- الحلية اليمنيّة في الأخبار الحجازية، محمد بن علي عرعار اليمني العنابي.

- رحلة الصديق إلى بيت اللَّه العتيق، محمد صديق خان.

- الرحلة المكّية، علي بن يحيى الگيلاني.

- الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية والشامية، محمد كرد علي.

- الرحلة الحجازية، اللنتبوني.

- الارتسامات اللطاف في خاطر الحاجّ إلى أقدس مطاف، شكيب أرسلان.

- رحلة الحجاز، إبراهيم المازني.

- المجاز بين اليمامة والحجاز، عبداللَّه بن خميس.

ص: 128

الموقع الجغرافي لغدير خمّ

الموقع الجغرافي لغدير خمّ

د: محمّدباقر النجفي

اعتمد البكري الأندلسي العالم الجغرافي المتوفّي سنة 487 ه في كتابه (معجم ما استعجم) 1: 492 على قول السكوني: أنّ «موضع غدير خمّ يقال له الخرّار».

لكن وادي الخرّار يقع اليوم على ما هو المشهور بالظهر في امتداد وادي الخانق، وهذا ما جعلني أسأل نفسي: كيف يمكن أن نجد المكان التاريخي لغدير خمّ استناداً إلى مثل هذه الموقعيّة.

بحثت في ذلك مدّة طويلة، وتِهتُ في العبارات المتناقضة غير المفهومة، وكلّما كنت أتقدّم في ذلك كنت أبتعد عن اللغة العلميّة الجغرافيّة، وأبتعد في اصطلاحات الرواة وسياق عبارات المؤرّخين أكثر.

ولم أرَ دارساً في دراسته لكلام الرسول صلى الله عليه و آله في غدير خم، يمارس نظرة جغرافية تاريخيّة، ذهب إلى المنطقة لدراسة هذه الواقعة التاريخية الإسلامية في ميدان مشاهدة الموقع الجغرافي، ولذلك لم يكن لي بُدٌّ إلّاأن آخذ على عاتقي عب ء السفر، وأطوي فيافي الحجاز، وأنزل في رابغ، وأبحث عن موقع الغدير هنا

ص: 129

وهناك. أُشاهدُ وأقرأ حتّى أجد بقلبي موضع الرسول وأُقبّله.

وبما أنّي طويت العرض الجغرافي 47/ 22، والطول الجغرافي 58/ 38 لصحراء رابغ لأغادر إلى ميقات الجحفة في العرض الجغرافي 42/ 22 والطول الجغرافي 8/ 39، فإنّ أوّل سؤال طرق ذهني هو: هل إنّ المكان الفعلي للميقات هو في نفس المكان المشهور في التاريخ بالجحفة؟ فإن كان الجواب نعم، فما هو دليله، وإن لم يكن، فماهو مقدار المسافة بين المكانين؟

للوصول إلى جواب، طويت مسافة نحو جهة الشمال الشرقيّ لمسجد ميقات الجحفة حتّى أصل إلى تلّ يقع في برقاء القطيعاء، لأقوم بمشاهدة فيافي أطراف المنطقة، وعندما وصلت إلى رأس التلّ النصف صخري وشاهدت الأطراف، رأيت في الشمال الغربي بناءاً تاريخياً عظيماً مغموراً في الرمال.

وفي تلك اللحظة أيضاً رأيت البناء بقايا قصر وشبه قلعة أيضاً مرتفعة، تقع بالضبط في بداية وادي الحلق، تدهش كلّ ناظر بعظمتها الخافية الخامدة.

ورأيت أنّ موقع هذا البناء بالضبط في الحدّ الفاصل بين الحرّة الشرقية التي تسمّى (أبو برّة) والحرّة الجنوبية المشهورة ب (العزورية)، في بداية المسير الذي يذهب إلى (الخرّار)، وعندما أردت أن احدِّد الموقع الجغرافي لهذا (الحصن) أو حسب قول الناس في أطراف المنطقة: قصر عُليا، وصلت إلى أقرب عرض جغرافي 44/ 22 وطول جغرافي 7/ 39، وبالضبط في 16 كم عن رابغ بجانب ساحل البحر الأحمر، و 9 كم عن شرق الجادّة الساحليّة (المدينة- جدّة- مكّة).

* خريطة الموقع الجغرافيّ لرابغ

ونظراً لحدوث تغيير في مسير (وادي مر) و (وادي الخانق) باتجاه (وادي

ص: 130

الخرّار)، ومن هناك بطرف (وادي الحلق) واتصاله ب (وادي الغائضة)، فإنّ وجود مثل هذا البناء العالي من القرون الماضية، يشير إلى مركزيّة، أي وادٍ في الجحفة؟ وهل هو سوى أن يُعيّن بدقّة محلّ تجمّع أهالي الجحفة، في تقاطع هذه الأودية؟ وإذا كان كذلك، فيجب أن يكون محلّ الميقات أبعد من مركز بلدة الجحفة.

اسمحوا لي أن ندرس الموضوع بكلّ صبر، ونراعي الأمانة في الاستناد إلى المصادر، لنستطيع فهم الإبهامات التأريخية لموقعيّة محلّ غدير خمّ، ونجد الأجوبة التأريخية لذلك.

إنّ بقايا البناء التاريخي بجدرانه المرتفعة إلى 8 م وطوله البالغ 33 م والذي مبلغ مجموع مساحته 1089 م، لا يمكن أن يكون- في مجتمع قليل الأفراد مثل الجحفة في القرن 3، 4 ه- حصناً عسكرياً فقط، ويجب أن يُرى كقلعة يعيش فيها أهل الجحفة، وكان الحجّاج والمعتمرون المصريّون والمغاربة، يُستضافون فيه، ليُعدّ لهم عدّة سفرهم من ميقات الجحفة إلى مكّة.

ومثل اختيار هذا الرأي عن الجغرافيّة التأريخية للجحفة، يوافق قول (الإمام الحربي) الذي كان يعيش في أواخر القرن الثالث، حيث كتب: «الجحفة... عليها حصن وبابان، والمنازل والسوق داخل الحصن» (1).

وسألت نفسي: لماذا بُني مثل هذه القلعة على مسافة تبلغ 4/ 5 كم من مسجد ميقات الجحفة؟! وصرت أبحث حتّى وصلت إلى مصدر تأريخي جغرافي، وذلك هو قول البكري الأندلسي، حيث كتب: «وفي أوّل الجحفة مسجد النبيّ صلّى اللَّه عليه [وآله] وسلّم، به موضع يقال له عَزوَر» (2).


1- المناسك وأماكن طرق الحجّ ومعالم الجزيرة: 457.
2- معجم ما استعجم 1: 368.

ص: 131

فأيّ مسجد هذا بُني باسم النبي صلى الله عليه و آله ويقع في حوار الجهة الشماليّة الشرقيّة لحدود هذه القلاع الفعليّة في الجحفة؟ ومن البديهي أنّ حَدَثَين مهمّين للتأريخ الإسلامي أضفَيا على الجحفة أهمّية خاصّة:

الأوّل: انتخاب المحلّ بعنوان ميقات للحجّ، والثاني: هو الحدث الذي حصل أثناء رجوع النبيّ صلى الله عليه و آله من حجّة الوداع، ونكتفي حول هذا الحدث المعنوي في السيرة من بين المصادر الأساس فقط، بقول مؤرّخ كبير:

كتب ابن واضح اليعقوبيّ يقول (1):

إنّ نبي الإسلام «خرج ليلًا منصرفاً إلى المدينة، فصار إلى موضع بالقرب من الجحفة، يقال له: غدير خمّ، لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة، وقام خطيباً وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: فمن كنت مولاه، فعليّ مولاه، اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه...».

وقد بُني هذا المسجد باعتبار هذا الحدث التأريخي من توقّف الرسول صلى الله عليه و آله وإيراد خطبته، وكان له أهمّية خاصّة في نظر التابعين والمسلمين الآخرين في القرون الإسلاميّة الاولى؛ فعندما يقول البكري الأندلسي: «غدير خمّ على ثلاثة أميال من الجحفة... وهي الغيضة التي تسمّى خمّ»، يُعلم أنّ محلّ غدير خمّ كان أبعد من محلّ ميقات (الجحفة).

وقد ذكر الأسدي أيضاً- استناداً لما صرّح به السمهودي نفس المسافة 3 أميال (2). وأرى- رغم أنّ عرام قد قال: «دون الجحفة على ميل غدير خمّ»،


1- تاريخ اليعقوبي، ج م ص 112، استناداً إلى «س/ د مركز التحقيقات الكامبيوتريّة للعلوم الإسلامية، قم سي. ار. سي، باسم نور السيرة.
2- وفاء الوفاء: 1204.

ص: 132

خلافاً للنووي والزمخشري اللذين ذكرا نفس الثلاثة أميال- أنّه يجب أن لا يغلطنا ذلك، لأنّا إذا قرّرنا حساب المسافة 3 أميال من مجمع ميقات الجحفة، فسيكون محل البناء التأريخي في حدود مسجد غدير خمّ، حيث عندما قسنا الفاصلة من مسجد الميقات إلى بقايا البناء التأريخي كانت حوالي 4000- 5000 م، ونظراً بأنّ كلّ ميل عربي يساوي حوالي 1700 م، فذلك يتّفق أصولياً مع إشارة الإمام الحربي والبكري والزمخشري والثوري.

* تصاوير من منطقة الجحفة

وبعد حصول الاطمئنان من نتائج هذه الدراسة، تعمّقتُ في الآراء المغايرة لها، وبعد الجمع بين الآراء، صرت أمام رأيين جديرين بالالتفات، فأوّلًا: تأمّلت في رأي عرام القائل: بأنّ المسافة بين الغدير والجحفة ميل واحد، فوجدت أنّ هذا الرأي لا يمكن أن يتغاير مع رأيي، لأنّه لا يوضح هل أنّ مبدأ القياس كان من حصن الجحفة أو من محلّ الميقات؟ لاسيما إذا اعتبرنا المسافة ميلًا واحداً من مركز حصن الجحفة حيث نحصل على نتيجة الثلاثة أميال بين حدود الميقات إلى غدير خمّ (1)

والرأي الآخر هو الاحتمال الذي احتمله الباحث المكّي المعاصر عاتق بن غيث البلادي، حيث كتب: «عند البحث حول الموقع الجغرافي للجحفة، رأيت رجلًا في البادية، فسألته عن محلّ غدير خمّ، وإنّ رجل البادية: «أشار إلى نخلات مطلع الشمس فقال: هُذيك ويسمّونه اليوم (الغربة)، ويقع شرق رابغ بما يقرب من 26 كلم» (2)


1- الخارطة التي رسمتها للموقع الجغرافي، كانون الثاني 1997/ اسفند 1375.
2- عاتق البلادي، طريق الهجرة: 61.

ص: 133

أوّلًا: لم أجد في أيّ مصدر أنّ مؤرّخاً أو سائحاً أو جغرافياً وأديباً يرى أنّ غدير خم يقع في (غربة). وكلّ ما علمناه عن طريق القوافل بين مكّة والمدينة، وعرفناه بالخرائط التأريخية، لم يكن مسير القوافل في شرق وادي مرّة في أيّ مكان. وما هو موجود ويمكن الاطمئنان به، هو طريق الجحفة نحو الشمال عن طريق العزورية، وليس من جهة حرّة ذويبان، وكان بناءُ مسجد الغدير ومحلُّ عبادة قوافل الحجّاج يقع في نفس هذا المسير (1).

ثانياً: إذا رأينا أنّ قلعة الجحفة هي مركز الجحفة، فسيكون محلّ غدير خمّ بزعم عاتق البلادي في بُعد 8 كم أي 7 أميال من الشمال الشرقيّ للجحفة، ولايمكن أن نجد هذه المسافة في أيّ مصدر تأريخي، وما هو موجود هو الحديث عن 1- 3 أميال، وعلى أكثر حدّ 2- 5 كم.

ثالثاً: إذا أخذنا محلّ الميقات مركزاً للجحفة، فستكون مسافة غدير خمّ إلى الميقات 14 كم، وتلك ليست بالمسافة القليلة لطرق قوافل الحجّاج حتّى يوقع الجغرافيّون والمؤرّخون في خطأ منها، ليروا أنّ غدير خمّ عند الجحفة.

رابعاً: كيف يمكن الاعتماد على قول شخص تصوّر- بعد قرون- أنّ غدير خمّ بئر حولها عدد من النخيل، في حين أنّ المحقّقين يذكرون محلّ غدير خمّ بعنوان بناء مسجد باسم غدير خم، حيث كان على الأقلّ مدّة قرون في معرض أنظار الجغرافيين محلّاً لعبادة قوافل الحجّاج والمدينة.

اسمحوا لي أن نطالع هذه الوثيقة التأريخيّة التالية:

خصّص الكليني في (الفروع من الكافي) (2) تحت عنوان «كتاب الحجّ» فصلًا بغدير خمّ، وقد أثبتت هذه الوثيقة تحت هذا العنوان: «عن أبان عن أبي عبداللَّه عليه السلام


1- خريطة مسير القوافل القديمة في منطقة رابغ
2- الفروع من الكافي 4: 566.

ص: 134

قال: يستحبّ الصلاة في مسجد غدير خم لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أقام فيه...».

ونقل عن عبد الرحمن الحجّاج أنّه قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الصلاة في مسجد غدير خم في النهار وأنا مسافر، فقال: صلّ فيه فإنّ فيه فضلًا...

ويرى السمهودي- بعد سبعة قرون-: أنّ محلّ غدير خم مسجد باسم غدير خم ويقول: «أخبرني مخبر أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة، وقد هدم السيل بعضه» (1).

وقد وقعت في شكّ آخر وهو: أنّ أشخاصاً رووا خطبة النبي صلى الله عليه و آله في غدير خمّ وأشاروا إلى مكان آخر غير الجحفة، فدرست مثل هذه الوثائق ورأيت أنّ جميع الآراء قائمة على الغدير الموجود في الجحفة، وأنّهم كانوا يسمّونها سابقاً ب «المهيعة»، اؤكّد أنّ الجحفة أو المهيعة هي التي تشير المصادر المتعدّدة إلى أنّ آبارها تقع في الطريق الذي بين مكّة ومصر والعراق والشام وفي مسير عودة الرسول صلى الله عليه و آله من مكّة إلى المدينة، ولهذا نكتفي بعدد من المصادر التأريخية المعتمدة.

نقرأ في حديث جابر بن عبداللَّه عن الواقعة التي ذكرها ابن عقدة في (حديث الولاية): «كنّا مع النبيّ في حجّة الوداع، فلمّا رجع إلى الجحفة نزل، ثمّ خطب الناس...».

ونقرأ بسند حذيفة بن اسيد في (الفصول المهمّة) لابن الصبّاغ المالكي: «لمّا صدر رسول اللَّه من حجّة الوداع ولم يحجّ غيرها، أقبل حتّى إذا كان بالجحفة...».

ونقرأ في قول زيد بن أرقم الذي أثبته ابن طلحة الشافعي: «نزل رسول اللَّه الجحفة ثمّ أقبل على الناس...» (2).

وهذا، سوى ما صرّح به الرواة عن صحابة الرسول صلى الله عليه و آله: «إذ كان بالجحفة


1- وفاء الوفاء 2: 1018.
2- مطالب السؤال: 16.

ص: 135

وذلك يوم غدير خم 18 من ذي الحجّة وله مسجد معروف»... «لمّا خرج النبي إلى حجّة الوداع نزل الجحفة» ولم أجد إشارة إلى مكان آخر، ولم يصرّح أيّ سند في الوثائق التأريخية للسفر الإلهي وحجّة الوداع بغير الجحفة إلى الخرّار أو وادي مرّ أو... فقلت لنفسي: لماذا يجب أن نبتعد كعاتق البلادي 18 ميلًا من الجحفة تبعاً لشخص غير معروف، وذلك للبحث عن بئر ونبع الغدير في مكان غير معروف باسم (الغربة) بدلًا من دراسة حدود آثار خربة لبناء المسجد المشهور في التأريخ.

وكان عاتق- الذي هو لي بمثابة عالم محبوب- لا يطمئن إلى مثل هذا الاحتمال، حيث لم يشر أبداً في كتابه (1)، إلى محلّ هذا الغدير في (الغربة)، واكتفى بنفس أقوال القدماء أمثال (الزمخشري) الذي قال: «بالجحفة، وقيل هو على ثلاثة أميال من الجحفة...».

وقال (عرام): «ودون الجحفة على ميل»، و «قال الحازمي: خم واد... عند الجحفة بغدير...» صفحات 156- 158. في حين أنّ عاتق طبع كتابه (على طريق الهجرة) سنة 1398 ه، فلماذا لم يشر إلى هذا الكشف وهذه النتيجة، في سفره العلمي هذا سنة 1393 ه المطابق (1983 م) في كتابه (معجم معالم الحجاز) تحت مادّة «خم»، مع أنّ الطبعة الاولى لذلك كانت بعد خمس سنوات من طبع كتابه (على طريق الهجرة) في سنة 1979 م الموافق لسنة 1399 ه.

وأرى أنّ الجحفة لم تكن في زمن هجرة الرسول سوى قرية في محلّ التقاء القوافل؛ وإلّا كان موضعها يذكر في مسير الهجرة. ولماذا لا نرى أنّ قراها في حدود مسجد الغدير بعد ذلك وفي القرن الثاني، حيث ظهرت في القرن الثاني بصورة مجموعة قرى، وكانت إلى القرن الخامس الهجري مورد اهتمام الحكومات العلويّة


1- معجم معالم الحجاز 3، ط: 1، 1979 م، تحت مادّة «خم».

ص: 136

في المدينة والمغرب، وكذلك الخلفاء الفاطميّين.

وإنّ قبول هذا الرأي يلزم أن نستطيع بيان دليل تأريخي موثّق يعتمد بُعد محلّ مسجد الميقات عن مركز الجحفة، لنقبل على أساس ذلك أنّ موقع مسجد غدير خم على بُعد 3 أميال من مسجد الميقات، وقد تبدّل بعد ذلك إلى مركز الجحفة في محلّ بقايا القلعة السّكنية التأريخية المذكورة، وأنّ الحافز الذي جعل أدارسة مراكش يهتمّون بشكل خاصّ منذ سنة 172- 310 ه لعمارة وعمران هذه المنطقة هو حفظ ذكرى الغدير في مسير العودة من حجّة الوداع، بدليل الاهتمام بسفر الحجّاج المصريّين والمغاربة، ويجب أن لا ننسى أنّ منطقة الحرمين- مكّة والمدينة- كانت جزءاً لا يتجزّأ من حكومة مصر، وقد انضمّت بعد سقوط الفاطميّين إلى منطقة نفوذ صلاح الدِّين الأيّوبي، كما يجب أن لا ننسى أنّه لا يمكن أن نرى وثائق للبناء التأريخي الباقي في الجحفة تشير إلى بناء كان يرتبط باهتمام الخلفاء العبّاسيّين لأنّ الفنّ المعماري المستخدم فيه يرجع إلى القرن 3- 4 ه، وكلّ هذه الآراء تعود إلى بيان شواهد تاريخيّة جغرافيّة تثبت أنّ محلّ مسجد الميقات يبعد عن مركز الجحفة.

وكان هذا الموضوع ماثلًا أمام عيني شهوراً خلال دراستي، وعند مراجعتي لأيّ كتاب في التأريخ والجغرافيا والحديث... كنت ادقِّق في معانيه بكلّ صبر وأناة، عَلّي أجد جواب سؤالي، إلى أن واجهت في دار الغربة- صدفةً- سنداً أحسبُ أنّه يمكن أن يُعدّ دليلًا تأريخياً موثّقاً.

وقد نقل هذا السند محمّد بن عمر الواقدي المتوفّى 207 ه في كتاب (المغازي)، والنصّ العربي له: «فحدّثني أفلح بن حميد عن أبيه عن ابن عمر، قال:

... ونزل يوم الجمعة الجحفة، ثمّ راح منها فصلّى في المسجد الذي يُحرم منه مُشرفاً خارجاً من الجحفة...»، إذاً مسجد الميقات بناء كان خارج الجحفة، والدليل

ص: 137

التأريخي هذا السند في تأكيده على جملة «خارجاً من الجحفة» (1)

وإنّ مفهوم «خارجاً من الجحفة»، أي أنّه خارج عن حدود مساكن الجحفة التي صار لها فيما بعد سور وبقايا آخِرِ بناء له موجود إلى اليوم، ولهذا كان بئر الغدير بعيداً من مكان الميقات وإلى جانب أبنية مركز الجحفة في القرنين 2، 3 ه.

اسمحو لي أن نوسّع الدراسة في هذا الموضوع، ونتعمّق في المفهوم الجغرافي للألفاظ في الوثائق التأريخية بدلًا من الخلط في الوثائق، ونطابق ذلك مع الموقع الجغرافي الفعلي لمنطقة الجحفة.

ذكر الحربي: «وبين المسجد والعين، والغيضة، وهي غدير خم» (2)

وقد أثبت السمهودي هذه العبارة نقلًا عن الأسدي (3)، ولكنّه لم يسأل الأسدي عن مفهوم (العين) الجغرافي في هذه العبارة وعندما حقّقت في ذلك وجدّت أنّ الحربي قال في ذلك: «عين في بطن الوادي، عليها حصن وبابان، والمنازل في السوق داخل الحصن» (4)

إذاً، إذا كان الحصن يقع بين مسجد الميقات و (عين الغيضة)، والبناء يقع على بُعد 4- 5 كم من الميقات، فلا شكّ أنّ محلّ الغيضة الذي صرّح الإمام الحربيّ في القرن 3 ه فيه بقوله: «وهي غدير خم»، في نفس هذه المجموعة من بقايا الأبنية بجانب الجحفة.

إذاً، إنّ ما ذكره البكري: «موضع غدير خم يقال له الخرّار» (5) ليس بإشارةٍ إلى مسافة بعيدة من هذه الأبنية، لأنّ البكري ذكر أيضاً: «وهي الغيضة التي


1- كتاب المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 3 ص 1096، ط/ 1966 م مصر دار المعارف.
2- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة: ص 458.
3- وفاء الوفاء: 1204.
4- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة: 458.
5- معجم ما استعجم: ص 492.

ص: 138

تسمّى خمّ» (1).

وإنّ قول صاحب المشارق: «وإن خمّاً اسم غيضة هناك وبها غدير» كان مورد استناد عاتق البلادي في كتابه، ولكنّه غفل عن أهمّية الاعتماد بسنديته في تعيين محلّ الغدير (2).

وعلى ذلك يمكن القول: إنّ المحلّ الذي ورد باسم (الخرّار) في المنطقة هو نفس محلّ غدير خمّ في موضع الغيضة، وإلّا لم يكن السمهودي ليصرّح: «الخرّار: إنّه بالجحفة» (3).

ويوجد هنا إبهام أساسي، وهو إشارة الحربيّ إلى المسجدين في الجحفة دون أن يأتي على ذكر اسمٍ لمسجد غدير خم، فقد كتب تحت مادّة الجحفة: «وفي أوّلها مسجد للنبي يقال له مسجد الأئمّة» (4).

أوّلًا: إنّ هذه العلامة تتعلّق بالقرن 3 ه، وعلى حدّ فهمي أنّه لا يدلّ على أنّ نفس هذه الأسماء بقيت في القرن 4، 5 ه.

ثانياً: إنّ الجحفة كانت عامرة إلى القرن 5 ه، وقد تبدّلت إلى خَرِبة في القرن 6 ه، وما قاله جغرافيّو القرن 6 ه وما بعده، ليس هو بأوصاف الجحفة في القرن 1- 3 ه، ولا أوصافها في عصر الفاطميّين وسلطتهم على الحجاز في القرن 4 ه إلى أواخر القرن 5 ه.

وللاطمئنان بشكل أكبر، سعيت لإعادة النظر بدقّة في المصادر التأريخيّة والجغرافيّة، ومقارنتها بالدراسات الجديدة لمراكز التحقيقات الجامعيّة في العربية السعودية.


1- المصدر نفسه: 368.
2- معجم معالم الحجاز: 156.
3- v
4- المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة: 457.

ص: 139

يتطابق اسم عَزوَر مع اسم (حرّة عزور) [اليوم باسم العزورية] الذي يقع بالضبط في شمال بناء الجحفة التأريخي، حيث كانت المنطقة العامرة، التي بقيت آثار سورها بعد التخريب بالضبط أمامي. بناءً على ذلك، لا وجود بعد هذا لعمارة المسجد الذي كان مشهوراً في زمن الحربيّ بعزور.

ولكن كان هناك مسجد باسم الأئمّة، وهو نفس المسجد الجنوبيّ حسب رأي أساتذة الجغرافيا في جامعة الملك عبد العزيز بجدّة، وقد كتبوا بصورة صريحة في رسالة (إمارة رابغ): «مسجد الأئمّة هو في موضع الميقات» (1)

ونظراً لتصريح جميع الدارسين المتقدّمين ببناء مسجدين في الجحفة باسم النبيّ صلى الله عليه و آله، أحدهما ميقات الإحرام، والآخر غدير ذكرى لخطبة الغدير، فلاشكّ أنّ (مسجد عزور) الذي يرى الحربيّ أنّه (مسجد للنبي) لايمكن أن يكون غير (مسجد غدير خم).

لم ير السمهودي بناء هذا المسجد في أواخر القرن 9 ه بنفسه، ولكنّه قال:

أطلعه شخص: «أنّه رأى هذا المسجد على نحو هذه المسافة من الجحفة، قد هدم السيلُ بعضَه» (2)، ويتّضح هذا الرأي بدليل تاريخيّ آخر.

لاحظوا، يتعرّض السمهودي في ذيل الفصل الثالث إلى جميع المساجد الموجودة في هذا الطريق البالغ 400 كم، ويقول: فيما ينسب إليه صلّى اللَّه عليه [وآله] وسلّم من المساجد التي بين مكّة والمدينة. ولكن عندما يصل منطقة الجحفة، يذكر مسجد الجحفة فقط، ويصف موقعها بصورة عابرة، ويذكر بعده (مسجد الغدير)، ثمّ مسجد قديد الذي هو نفس (خيمة أُمّ معبد) (3).


1- إمارة رابغ: 17.
2- وفاء الوفاء: 1018.
3- المصدر نفسه: 1001.

ص: 140

فإن كنّا لا نرى أنّ (مسجد الأئمّة) هو الميقات و (مسجد عزور) هو غدير خم، فإذاً أين يقع (مسجد الأئمّة) و (مسجد عزور)؟!، بالتأكيد إنّ اسم عزور في زمن الحربيّ هو نفس (مسجد غدير خم) في المصادر التأريخية الجغرافيّة للقرن 3- أوّل القرن 6 ه الذي انهدم في نفس ذلك القرن، ووصل خبر خرابه للسمهودي، ولا توجد له إلى اليوم علامة ولا اسم جوار خرائب الجحفة، وانّ أهمّ المصادر التي وجدتها في هذا الخصوص هو رأي (نصر) الذي يقول: «عَزوَر ثنية الجحفة؛ عليها الطريق بين مكّة والمدينة» (1)

سألت نفسي بوصفي أحد دارسي فيافي الحجاز: لماذا خربت الجحفة العامرة؟ ولم يبق اليوم منها سوى صحراء يابسة؟! ولماذا لا يوجد أثر لذلك العمران؟! الجحفة التي صرّح كبار الدارسين بعمرانها، منهم ابن رستة صاحب الأثر الجغرافي (الأعلاق النفيسة) في القرن 3 ه حيث كتب يقول: «وهي قرية كبيرة، وفيها سوق، ومياه شربها من بئر...» (2).

ووصفها المقدسيّ الجغرافيّ الآخر: إنّها «مدينة عامرة» (3)

وذكرها الاصطخري في النصف الأوّل من القرن 4 ه بعنوان «منزل عامر».

وكتب ابن خلدون في (تاريخ العبر): «عامرة في عهد المأمون» (4)

وذكرها الحميري في الروض المعطار، بعنوان: «قرية جامعة لها منبر»، وأتى على ذكرها البكري في القرن 5 ه بنفس المضمون أيضاً و...

ولكن كيف صارت الجحفة بهذه الصورة؛ حيث عبّر عنها ياقوت


1- حمد الجاسر، هامش ص 457 لكتاب المناسك للإمام الحربي.
2- الأعلاق النفيسة؛ مادّة: الجحفة.
3- أحسن التقاسيم: 11.
4- تاريخ العبر 3: 52.

ص: 141

الحموي- المتوفي سنة 616 ه في كتابه (معجم البلدان) بعد كلّ تلك الأهمّية لهذا الموضوع- بعبارة قصيرة: «وهي الآن خراب» (1)...، وكان هذا الخراب متزامناً مع خراب مسجد غدير خم، وقد قبل الباحثون الجغرافيّون في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة أنّه «لقد دُثر المسجد الشماليّ مع اندثار الجحفة» (2) المسجد الشمالي؟!

وقد ذكروا أنّ هجرة قبائل من بني سليم: «اضطراب ظروف المنطقة في العصر العبّاسي الثاني... إلى بلاد المغرب العربي» كانت من عوامل هذا الانهدام (3)

وبالنتيجة، إذا رأينا أنّ الانهدام كان بسبب بعثرة العبّاسيّين الناسَ من حول الغدير، لم نظهر فهماً صحيحاً للمصادر التأريخية، وهل إنّ طرح العوامل الجغرافية- مثل تغيير مسير (وادي مر وعُنيب) يمكن أن يكون له نفس الأهمّية التي تكمن في تغيير مسير قوافل الحجّ من الجحفة إلى رابغ؟ أو هجرة القبائل في المنازعات الدينيّة للفاطميّين والعبّاسيّين؟! (4) وعندما بحثت في أنّه كيف يستطيع الحجّاج المغاربة والمصريّون الإحرام في الطريق البحري دون أن يتوقّفوا في ميقات الجحفة؟ وقفةً من شأنها أن توجب ازدهار وإعمار الخرائب على أيّ حال، علمتُ أنّهم كانوا يتوقّفون في ساحل البحر الأحمر الشرقيّ عندما كانت السفينة تصل رابغ، دون أن يذهبوا إلى الجحفة حيث كانوا يعيّنون معياراً لحدّ الحرام، حتّى أنّهم كانوا في بعض الأحيان يقومون بمراسم الإحرام، عندما كانت السفينة تمرّ أمام رابغ، وقد أشار إبراهيم رفعت إلى ذلك


1- معجم البلدان 2: 111.
2- إمارة رابغ: 17.
3- المصدر نفسه: 33.
4- راجع في هذا الشأن كتاب بنو سليم تأليف عبد القدوس الأنصاري ط: العربية السعودية، وكتاب «صبح الأعشى» للقلقشندي في منتصف القرن 5 ه، الذي كتب في عصره: «ومن الجحفة وحولها إلى ثنية المعروفة بعقبة السويس لسليم» 4: 385.

ص: 142

إشارةعابرة ضمن شرح سفر حجّ المصريّين في سنة 1308 ه/ مارس 1901 م (1)

ولذلك سألت نفسي- بوصفي أحد الباحثين-: لماذا يجب أن يبقى هذا الميقات متهدّماً طيلة قرون مديدة، كي لا تكون حادثة توقّف الرسول صلى الله عليه و آله في مكان باسم غدير خم إحراجاً لقوم ووسيلة لآخرين؟!

إنّ سقوط الفاطميّين سنة 567 ه بيد صلاح الدِّين الأيّوبي، وتسنّم الأيوبيّين السلطة في مصر 564/ 648 ه الذي صار- مع الأسف- سبباً لازدهار ميناء جدّة، وجعل الجحفة في مسير الانهدام ومعرضه، جعلهم يفرحون أنّهم استطاعوا- عوضاً عن الفهم الصحيح للتأريخ- أن يحذفوا التأريخ!

والآن- وقد جُدِّد بناء مسجد الميقات، وتوفّرت الإمكانات اللازمة للذين يريدون أن ينسلّوا من أنفسهم في هذا الميقات ليضعوها أمام اللَّه- فإنّ الفرصة سانحة لإحياء تاريخ أهمّ مكان على مسير عودة الرسول من حجّة الوداع، بإحياء مسجد الغدير في جهة شمال شرقي البناء التأريخي، وبنفس الاعتبار التأريخي والشرعي، وهمّة الذين جدّدوا بناء مسجد الميقات، وبناء مسجد بدر في بدر، وبناء مسجد العقبة في منى، ومسجد عمر ومسجد عليّ عليه السلام في المدينة.


1- مرآة الحرمين 1: 15.

ص: 143

مختارات شعرية

سيّدُ الرُّسل طه

قصيدة هائيّة للشيخ الأزري رحمه الله

«إِنَّ تِلْكَ الْقُلُوبَ أَقْلَقَهَا الْوَجْدُ وَ أَدْمَى تِلْكَ الْعُيُونَ بُكَاهَا

كَانَ أَنْكَى الْخُطُوبِ لَمْ يُبْكِ مِنِّي مُقْلَةً لَكِنِ الْهَوَى أَبْكَاهَا

كُلَّ يَوْمٍ لِلْحَادِثَاتِ عَوَادٍ لَيْسَ يَقْوَى رَضْوَى عَلَى مُلْتَقَاهَا

كَيْفَ يُرْجَى الْخَلاصُ مِنْهُنَّ إِلّا بِذِمَامٍ مِنْ سَيِّدِ الرُّسُلِ طَهَ

مَعْقِلُ الْخَائِفِينَ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ أَوْفَرُ الْعُرُبِ ذِمَّةً أَوْفَاهَا

مَصْدَرُ الْعِلْمِ لَيْسَ إِلا لَدَيْهِ خَبَرُ الْكَائِنَاتِ مِنْ مُبْتَدَاهَا

فَاضَ لِلْخَلْقِ مِنْهُ عِلْمٌ وَ حِلْمٌ أَخَذَتْ مِنْهُمَا الْعُقُولُ نُهَاهَا

نَوَّهَتْ بِاسْمِهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْ أَرْضُ كَمَا نَوَّهَتْ بِصُبْحٍ ذَكَاهَا

وَ غَدَتْ تَنْشُرُ الْفَضَائِلَ عَنْهُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَى اخْتِلافِ لُغُاهَا

طَرِبَتْ لِاسْمِهِ الثَّرَى فَاسْتَطَالَتْ فَوْقَ عُلْوِيَّةِ السَّمَا سُفْلاهَا

ص: 144

جَازَ مِنْ جَوْهَرِ التَّقَدُّسِ ذَاتاً تَاهَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي مَعْنَاهَا

لا تُجِلْ فِي صِفَاتِ أَحْمَدَ فِكْراً فَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي لَنْ تَرَاهَا

أَيُّ خَلْقٍ لِلَّهِ أَعْظَمُ مِنْهُ وَ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي اسْتَقْصَاهَا

قَلَّبَ الْخَافِقَيْنِ ظَهْراً لِبَطْنٍ فَرَأَى ذَاتَ أَحْمَدَ فَاجْتَبَاهَا

لَسْتُ أَنْسَى لَهُ مَنَازِلَ قُدْسٍ قَدْ بَنَاهَا التُّقَى فَأَعْلَى بِنَاهَا

وَ رِجَالًا أَعِزَّةً فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يُعَزَّ حِمَاهَا

سَادَةٌ لا تُرِيدُ إِلا رِضَى اللَّهِ كَمَا لا يُرِيدُ إِلّا رِضَاهَا

خَصَّهَا مِنْ كَمَالِهِ بِالْمَعَانِي وَ بِأَعْلَى أَسْمَائِهِ سَمَّاهَا

لَمْ يَكُونُوا لِلْعَرْشِ إِلّا كُنُوزاً خَافِيَاتٍ سُبْحَانَ مَنْ أَبْدَاهَا

كَمْ لَهُمْ أَلْسُنٌ عَنِ اللَّهِ تُنْبِي هِيَ أَقْلامُ حِكْمَةٍ قَدْ بَرَاهَا

وَ هُمُ الأَعْيُنُ الصَّحِيحَاتُ تَهْدِي كُلَّ عَيْنٍ مَكْفُوفَةٍ عَيْنَاهَا

عُلَمَاءُ أَئِمَّةٌ حُكَمَاءُ يَهْتَدِي النَّجْمُ بِاتِّبَاعِ هُدَاهَا

قَادَةٌ عِلْمُهُمْ وَ رَأْيُ حِجَاهُمْ مَسْمَعَا كُلِّ حِكْمَةٍ مَنْظَرَاهَا

مَا أُبَالِي وَ لَوْ أُهِيلَتْ عَلَى الْ أَرْضِ السَّمَاوَاتُ بَعْدَ نَيْلِ وِلاهَا». (1)

دارالحبيب

عبداللَّه بن أبي عمران البسكري (ت 713 ه)

دارُ الحبيب أحقُّ أن تَهواها و تَحِنُّ من طربٍ إلى ذكراها

وعلى الجفونِ إذا هممتَ بزورَةٍ يابنَ الكرامِ عليك أن تغشاها

فلأنتَ أنتَ إذا حللتَ بطيبةٍ وظللتَ ترتَعُ في ظلال رُباها


1- مفاتيح الجنان: 329. نقل أنّ شيخ الفقهاء العظام، خاتم المجتهدين الفخام، الشيخ محمد حسن صاحب جواهر الكلام، كان من أمله أن يكتب هذاالشعر في صحيفة عمله، لينتفع به يوم القيامة.

ص: 145

مُغنِي الجمالِ من الخواطرِ والتي سَلَبتْ قُلوبَ العاشقين حلاها

لاتحسبِ المسكَ الذَّكيَّ كَتُربِها هيهاتَ أين المسكُ من رَيّاها

طابتْ وإن تبغي لطيبٍ يافتى فأدِم علىَ الساعاتِ لثم ثراها

وَابْشر ففي الخبر الصحيح تقرّرا أنَّ الإلهَ بطيبة سمّاها

وَاخْتصَّها بِالطيّبين لِطيبِها واختارها وَ دعى إلى سُكناها

لاكالمدينةِ منزلٌ وكفى بها شرفاً حلولُ محمدٍ بِفِناها

خُصَّتْ بِهجرةِ خَيرِ مَن وَطئَ الثَّرى وَأَجلّهُم قَدراً وَأعظمُ جاها

كلُّ البلادِ إذا ذُكرنَ كأحرفٍ فىِ اسم المدينةِ لاخَلا مَعناها

حاشا مُسمَّى القدسِ فَهي قرينةٌ منها ومكّة إنّها إيّاها

لافرقَ إلّا أنَّ ثَمَّ لطيفةٌ مهما بدتْ يجلو الظّلام سَناها

جَزَمَ الجميعُ بأنَّ خيرَ الأرضِ ما قد حازَ ذاتَ المصطفى وَحَواها

وَنَعمْ لَقد صَدَقوا بساكنها عَلَتْ كالنّفسِ حينَ زَكَتْ زَكا مأواها

وبهذه ظَهَرَتْ مزيَّةُ طيبةٍ فغدت وكلُّ الفضلِ في معناها

حتّى لقد خُصَّتْ بهجرة حبّهِ اللهُ شرَّفها بِهِ وحَباها

مابين قَبرٍ للنَّبِيِّ ومنبرٍ حيّا الإلهُ رسولَه وسقاها

هذي محاسِنُها فهلْ من عاشِقٍ كَلِفٍ شَجِيّ ناحلٍ بنَواها

إنّي لأرهبُ من توقّع بينِها فَيظلّ قلبي مُوجعاً أوّاها

ولقلّما أبصرتُ حالَ مودّعٍ إلّا رَثتْ نفسي لَهُ وشَجاها

فلكم أراكم قافلين جماعةً في إثرِ أُخرى طالبين سِواها

قَسَماً لقدأكسى فؤادي بينَكم جَزعاً وفَجَّرَ مُقلتيَّ مِياها

إن كان يُزعجكم طِلابُ فضيلةٍ فالخيرُ أجمعُهُ لَدى مَثْواها

أو خِفتموا ضُرّاً بها فتأمَّلوا بركاتِ بُقعتها فما أزكاها

ص: 146

أُفّ لمن يبغي الكثيرَ لشهوةٍ ورفاهةٍ لم يدرِ ماعُقْباها

فالعيشُ مايكفي وليسَ هو الذي يُطْغِي النفوسَ إلى خَسيس مُناها

ياربّ أسألُ منكَ فضلَ قناعةٍ بِيَسيرِها وتَحصُّناً بِحِماها

ورضاكَ عنّي دائماً ولُزومها حتى تُوافي مُهجتي أُخراها

فأنا الذي أعطيتُ نفسي سُؤلَها فقبلتُ دعواها فيابُشراها

بجوارِ أوفى العالمين بذمَّةٍ وأعزّ مَن بالقربِ منه يُباهى

من جاء بالآيات والنُّورِ الذي داوى القلوبَ من العَمى فَشفاها

أولى الأنامِ بِخُطَّةِ الشّرفِ التي تدعى الوسيلة خير من يُعطاها

إنسانُ عين الكوْنِ شَرَّفَ جوده يس إكسيرُ المَحامِدِ طاها

حسبي فلستُ أفي ببعضِ صِفاته لو أنَّ لي عدَدَ الْورى أفواها

كَثُرَتْ محاسنه فأعجز حصرها فغدت وماتَلقى لها أشباها

إنّي اهْتديتُ مِن الكتابِ بآيةٍ فَعَلمتُ أنَّ عُلاه ليس يُضاهى

ورأيتُ فضلَ العالمين مُحدّداً وفضائل المختارِ لاتتناهى

كيفَ السبيلُ إلى تقضّي مدحِ مَن قال الإلهُ لَهُ وحسبُكَ جاها

إنَّ الذين يُبايعونكَ إنّما هُم مَن يقالُ يُبايعون الله

هذا الفخارُ فهل سمعتَ بمثلِهِ واهاً لنشأتِها الكريمةِ واها

صلُّوا عليه وسلّموا فبذلكم تُهدى النُّفوسُ لِرُشدها وغِناها

صَلَّى عليهِ اللهُ غير مقيّد وعليه مِن بركاتِهِ أنماها

وعلى الأكابِرِ آلِهِ سُرُجِ الهُدى أَكْرِمْ بِعترتِهِ ومَنْ والاها

وكذا السَّلامُ عليهِ ثمّ عليهِم وعلى صحابَتِهِ التي زكّاها

أعني الكِرام أُولى النُّهى أصحابَه فِئَةُ التُّقى ومَنِ اهْتدى بِهُداها

والحمدللّهِ الكريمِ وهذهِ نَجَزَتْ وظَنّي أنّه يرضاها

بلد الرسول

شوقي نضرخاشقچي

شوقي إلى بلد الرسولِ كبيرُ والشوقُ يبعثُهُ النَّوى فيثُورُ

مَنْ لي إلى مل ءِ العيونِ بطيبةٍ قلبي بلا جُنْحٍ يكادُ يَطيرُ

أينَ الجبالُ الشامخاتُ بِنورِها أين الخيامُ وأينَ أينَ العيرُ؟

أين النخيلُ الباسقاتُ بعزّها أين الروابي الخضرُ أينَ غديرُ؟

أين القبابُ العالياتُ بفنّها أين المنارُ وأين ذاك النّورُ

فالقبّةُ الخضراءُ يَعلو نورُها فيضاءُ منها سهلُها والدُّورُ

والرَّوضةُ الغرّاءُ فاحَ أريجُها يُنبيكَ عن عطرِ الرّياضِ عَبيرُ

والوحيُ مابينَ السُّتورِ مُجلجِلٌ والهديُ والتنزيلُ والتنويرُ

جَلّ المكانُ وجلَّ مَن أهدىَ الوَرى نوراً وهَدْياً لِلأنامِ يُنيرُ

و الحصوةُ الحمراءُ شاهدُ عِزّةٍ حتّى حَمامُ الأَيكِ جاء يَزورُ

الله أكبرُ يامدينةَ أحمد بِكِ طولَ عُمري أنّني لَفَخورُ

قد طُفتُ في شرقِ البلادِ وغَربِها ماللمدينةِ في البلادِ نَظيرُ

لا لن يطيبَ لِيَ المقامُ بغيرِها مهما تَلاقى السّيرُ والتَّيْسيرُ

يا سيدَ الرُّسلِ الْكِرامِ تحيَّةً يُرْجى بها عند الصّراطِ عُبُورُ

في موقفِ الحشرِ العظيمِ نَبيُّنا هُوَ لِلبريَّةِ شافعٌ و مُجيرُ

اشفَعْ تُشَفَّعْ يامحمدُ قالَها ربٌّ كريمٌ بالعبادِ غفورُ

ص: 147

ص: 148

يا زائراً قبر النبيّ محمّد (ص)

يا زائراً قبر النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله

السيّد عادل العلوي

لا يخفى على ذوي اللبّ والنُّهى أنّ العلاقة والارتباط الوثيق بين نبيّ الإسلام ورسول الإنسانيّة محمّد صلى الله عليه و آله وبين امّته والبشريّة جمعاء تتبلور في مظاهر ورموز تدلّ على الرحمة الإلهيّة الواسعة المنبثقة من رحمانية الرحمن جلّ جلاله.

منها: علاقة (السلام) من السلم والسلامة.

ومنها: علاقة (الصلاة) بمعناها اللغوي، أي الدعاء الذي يخبر عن المحبّة والمودّة، فإنّ اللَّه سبحانه وتعالى قد أمر نبيّه الأكرم أن يأخذ من امّته مالًا (زكاةً وصدقةً) ليطهّرهم ويُصلّي عليهم، أي يدعو لهم، كما في قوله تعالى:

خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ (1)

ونتيجة صلاة النبيّ ودعائه المبارك هو السكون والاستقرار والسكينة والطهارة وكفّارة الذنوب والبركات والخير والثبات ونعيم الآخرة، ثمّ سبحانه وتعالى يخاطب المؤمنين أيضاً بأن يصلّوا على نبيّه في قوله تعالى:


1- التوبة: 103.

ص: 149

إنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أ يُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (1)

فإنّه بدأ بنفسه أوّلًا، وهذا يعني أنّ من يأمر بشي ء ويضع قانوناً يبدأ بنفسه أوّلًا، فالعالم إذا عمل بعلمه فإنّه يطاع في أمره، وأيضاً لبيان أهمّية صلاة المؤمنين على نبيّهم قرن صلاته مع صلاة ملائكته، والصلاة شعار الولاء والمودّة والمحبّة، كما أنّ اللعن شعار البغض والعداء والتبرّي، وبكلاهما يتقرّب العبد إلى اللَّه عزّ وجلّ.

ثمّ سبحانه وتعالى يأمر نبيّه أيضاً بأن يسلّم على المؤمنين عند قدومهم وحضورهم، ونتيجة سلام اللَّه وسلام رسوله هي السلامة والعافية من الذنوب والآثام؛ والرذائل في الروح، ومن الأمراض والأسقام والآلام في الجسد، قال سبحانه:

وَإذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ (2)

وهذه بشرى سارّة لمن يدخل المدينة المنوّرة ويزور رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله يسبقه في السلام، كما كان ذلك من خُلقه الرفيع، ثمّ لا فرق في النبيّ صلى الله عليه و آله بين حياته الدنيويّة وحياته الاخرويّة، فإنّه حيّ بحياة برزخيّة يسمع ويرى، فمن زاره من المؤمنين والمؤمنات الذين آمنوا بآيات اللَّه، ومن آيات اللَّه العظمى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فإنّه يسلّم عليهم. وهذا من لطف اللَّه ورحمته الواسعة، كما قال عزّ وجلّ:

كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (3)

فهو من اللطف الواجب على اللَّه جلّ جلاله.


1- الأحزاب: 56.
2- الأنعام: 54.
3- الأنعام: 54.

ص: 150

ثمّ الزائر والزائرة عند زيارتهما يتذكّران ذنبهما، وربما يمنعهما الخجل من الزيارة والحضور عند الرسول صلى الله عليه و آله، ومن هنا قال سبحانه إنّ من رحمته الواسعة ولطفه الجسيم:

أ نَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ فَأ نَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)

.

فمن يجهل مقام اللَّه وجلاله، وتدعوه نفسه الأمّارة بالسوء بإغراءٍ من شياطين الجنّ والإنس، والانخداع بزخارف الدنيا الدنيّة، وبهارجها الزائلة، فإنّه يرتكب الذنوب والمعاصي، وحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة، إلّاأ نّه حينما يتذكّر ربّه وآخرته يندم على ما فعل، ويتوب ويرجع إلى اللَّه من بعد ذنبه، ويصلح أمره بقضاء ما فات، وأداء الحقوق والواجبات، وإذابة الجسد في طاعة اللَّه، فإنّ اللَّه حينئذٍ يغفر الذنوب جميعاً، فإنّه الغفور، أي كثير الغفران- صيغة مبالغة- وإنّه الرحيم، أي كثير الرحمة الواسعة والمستمرّة إلى يوم القيامة والثابتة- صفة مشبّهة- فالزائر في رضوان اللَّه ورحمة رسوله، فإنّه رحمة للعالمين، ومن يستغفر عند نبيّه، فإنّ اللَّه يغفر له الذنوب.

ثمّ يترتّب على زيارة النبيّ وعترته الأطهار فاطمة الزهراء وأئمة البقيع عليهم السلام امور جمة وعظيمة، يكلّ اللسان عن بيانها ويعجز القلم عن وصفها، إلّاأ نّه ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، فنشير إلى أهمّ تلك الامور ليكون الزائر على بصيرة من أمره، ويزور نبيّه بمعرفةٍ وعلم، إذ قيمة كلّ امرئٍ ما يُحسنه، وأفضلكم أفضلكم معرفة، وإنّما الأجر والثواب والفضل على قدر العقل والعلم والمعرفة، فمن زار النبيّ وعترته الأبرار عليهم السلام، عارفاً بحقّهم بأ نّهم مفروضو الطاعة، وجبت له الجنّة، ونال


1- الأنعام: 54.

ص: 151

رضوان اللَّه وبركاته، وسمى في علوّ المراتب، ورقى المنازل وقمم المقامات الإلهيّة والعرفانيّة.

وإليكم نبذة موجزة من معرفة الزيارة وآثارها:

1- الإيمان الراسخ والاعتقاد الكامل بتوحيد اللَّه وختم النبوّة والإمامة والوصاية.

فمن يزور خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد اللَّه صلى الله عليه و آله ويزور ابنته الصدّيقة سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام ثمّ يزور أئمة البقيع عليهم السلام وبقية أهل البيت والصحابة الأبرار، فإنّه يعلن بزيارته أ نّه مؤمن بالمبدأ أي باللَّه سبحانه، كما أ نّه مؤمن بالنبوّة وختمها بمحمّد المصطفى صلى الله عليه و آله، ثمّ إنّه من شيعة أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين، وأ نّهم خلفاء رسول اللَّه من بعده، فمن ركب سفينتهم نجى، ومن تخلّف عنهم غرق وهوى، سعد من والاهم وهلك من عاداهم.

2- إظهار المودّة التي جعلها اللَّه أجراً للرسالة المحمّدية السمحاء، كما في قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجراً إلّاالمودّة في القربى، والمودّة هي المحبّة المصحوبة بالطاعة، فلا يكفي الحبّ من دونها إلّالطهارة المولد، كما ورد في الأحاديث الشريفة.

3- التعظيم والتكريم لمقامهم الشامخ بما خدموا الإنسان من أجل حفظ كرامته فبذلوا النفس والنفيس من أجل الإنسانية بهداية البشر إلى ما فيه سعادتهم وازدهارهم في الدنيا والآخرة بأقوالهم وسيرتهم وسلوكهم، فقدّموا الغالي والنفيس وصبروا في البلايا والمنايا من أجل إسعاد الناس وإرشادهم لما فيه خيرهم في الدارين.

4- الشكّر لما بذلوا للبشرية جمعاء بصورة عامّة، وللزائر بصورة خاصّة من هدايته والتوفيق لزيارتهم، ودعوته للضيافة والوفود إليهم، وفتح باب فهمه

ص: 152

بلذيذ مناجاتهم وزياراتهم المأثورة عنهم.

5- التخلّق بأخلاق النبيّ وآله والسير على خطّهم، فإنّهم القدوة والاسوة، فالزيارة وإن كانت بمعنى حضور الزائر عند المزور والسلام عليه، إلّاأ نّها تعني التشبّه بالمزور أيضاً، والاقتداء بهديه وسلوكه والمشي على طريقته، والتمسّك بدينه ومنهاجه.

6- الاستمداد الروحي والفكري والغيبي من النبيّ وآله، فإنّهم الوسيلة إلى اللَّه عزّ وجلّ: وابتغوا إليه الوسيلة، بهم فتح اللَّه وبهم يختم، وإنّهم وجه اللَّه الذي يتوجّه إليه الأولياء، والسبب المتّصل بين الأرض والسماء، والباب المبتلى به الناس، فمن أتاهم نجى، ومن تخلّف عنهم هلك وهوى.

7- طلب الشفاعة منهم في الدنيا والآخرة، فإنّ اللَّه ارتضى لهم ذلك إلّالمن ارتضى من رسول وآل النبيّ نفس النبيّ، ويدلّ عليه (آية المباهلة) والأحاديث الشريفة في خلقهم النوري، فإنّهم نور واحد أوّلهم محمّد وآخرهم محمّد وأوسطهم محمّد وكلّهم محمّد عليهم السلام، أي أ نّهم يحملون الحقيقة المحمّديّة.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة» (1).

وقال: «من زارني حيّاً أو ميتاً كنت له شفيعاً يوم القيامة».

وعن الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمّتهم شفعاؤهم يوم القيامة» (2).

8- الاستغفار وطلب التوبة من اللَّه عندهم، فإذا كانت الصلاة اليومية كنهر يتطهّر الإنسان منه في كلّ وقت كما ورد في الحديث الشريف، فإنّ زيارتهم كالبحر


1- البحار 100: 142.
2- البحار 100: 116.

ص: 153

العظيم الذي يستوجب غفران الذنوب في ما تقدّم منها وفي ما تأخّر، ولو كانت بعدد النجوم وعدد أوراق الشجر ورمال البوادي، ويكون كيوم ولدته امّه.

ففي سفينة البحار عن كتاب (فرحة الغري) في حديث عن النبيّ صلى الله عليه و آله أ نّه قال لعليّ عليه السلام: ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتّى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته امّه، فأبشر وبشّر أولياءك ومحبّيك من النعيم وقرّة العين بما لا عينٌ رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولكنّ حثالة من الناس يعيّرون زوّار قبوركم كما تعيّر الزانية بزنائها، اولئك شرار امّتي لا أنالهم اللَّه شفاعتي ولا يردون حوضي (1)

9- طلب الأجر والثواب والخلاص من الذنوب والنار بزيارتهم، كما جاء


1- السفينة 3: 516، عن البحار 100: 121.

ص: 154

عنهم في فضل زيارتهم.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:- لمّا سأله الحسن بن عليّ عليهما السلام: يا أبتاه، ما جزاء من زارك؟- يا بُنيَّ، من زارني حيّاً وميّتاً، أو زار أباك، أو زار أخاك، أو زارك، كان حقّاً عليّ أن أزوره يوم القيامة، فاخلّصه من ذنوبه (1).

عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: قالت فاطمة عليها السلام: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا فاطمة، من صلّى عليكِ غفر اللَّه له وألحقه بي حيث كنت من الجنّة (2).

التهذيب بسنده عن يزيد بن عبد الملك عن أبيه عن جدّه، قال: دخلت عليّ فاطمة عليها السلام فبدأتني بالسلام ثمّ قالت: ما غدا بك؟ قلت: طلب البركة. قالت:

أخبرني أبي وهو ذا، هو أ نّه من سلّم عليه وعليّ ثلاثة أيام أوجب اللَّه له الجنّة.

قلت لها: في حياته وحياتك؟ قالت: نعم، وبعد موتنا (3).

كامل الزيارات بسنده عن أبي عبد اللَّه الإمام الصادق عليه السلام أ نّه قال في حديث له طويل: إنّه أتاه رجل فقال: هل يُزار والدك؟ فقال: نعم. قال: فما لمن زاره؟ قال:

الجنّة إن كان يأتمّ به. قال: فما لمن تركه رغبةً عنه؟ قال: الحسرة يوم الحسرة (4).

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من زار الحسن في بقيعه ثبت قدمه على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام (5).

قال الإمام الصادق عليه السلام: من زارني غفرت له ذنوبه ولم يمت فقيراً.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لولده الحسن عليه السلام: تزورك طائفة يريدون به برّي وصِلَتي، فإذا كان يوم القيامة زرتها في الموقف، فأخذت بأعضادها فأنجيتها من


1- علل الشرائع: 460.
2- كشف الغمّة 2: 98.
3- التهذيب 6: 9.
4- كامل الزيارات: 123.
5- البحار 100: 141.

ص: 155

أهواله وشدائده (1).

وفي كامل الزيارات: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عليّ، من زارني في حياتي أو بعد موتي أو زارك في حياتك أو بعد موتك أو زار ابنيك في حياتهما أو بعد موتهما ضمنت له يوم القيامة أن اخلّصه من أهوالها وشدائدها حتّى اصيّره معي في درجتي (2)

عن أبي محمّد الحسن العسكري عليه السلام قال: من زار جعفراً وأباه لم يشكُ عينه، ولم يصبه سقم، ولم يمت مبتلى.

وعنه عليه السلام لمّا سئل: ما لمن زار أحداً منكم؟ قال: كان كمن زار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وعنه عليه السلام قال: إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا، لأنّ ذلك من تمام الحجّ (3).

وقال الرسول صلى الله عليه و آله: من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار اللَّه تعالى.

10- التولّي والتبرّي، فإنّهما من فروع الدين، ومن مظاهرهما الزيارة والتشرّف بأعتاب النبيّ وآله عليهم السلام.

11- نزورهم أداءً لحقّهم، فإنّ الزيارة من أداء الحقّ، ومن تركها فقد جفاهم، كما ورد أنّ من لم يزر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد حجّه أو في حجّه، فقد جفا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وعن الخصال بسنده قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: أتمّوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجّكم إذا خرجتم إلى بيت اللَّه، فإنّ تركه جفاء، وبذلك امرتم، وأتمّوا بالقبور التي ألزمكم اللَّه عزّ وجلّ زيارتها وحقّها، واطلبوا الرزق عندها.


1- البحار 97: 139.
2- كامل الزيارات: 11.
3- الفصول المختارة 1: 94.

ص: 156

وقال صلى الله عليه و آله: من أتى مكّة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة.

وقال أبو جعفر الإمام الباقر عليه السلام: إنّ زيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعدل حجّة مع رسول اللَّه مبرورة.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من زار قبري بعد موتي كان كمن هاجر إليّ في حياتي، فإن لم تستطيعوا فابعثوا إليّ بالسلام فإنّه يبلغني.

12- نيل المواهب الإلهيّة في الدنيا والآخرة ما لم يخطر على قلب بشر، وما يذكر فإنّه غيض من فيض وقطرات من البحار، وفوق كلّ ذي علمٍ عليم، وقل ربِّ زدني علماً وألحقني بالصالحين.

هذا، ولا يخفى أنّ فضائل الزيارات ودرجاتها وأجرها وثوابها تختلف باختلاف إيمان الزائر ومعرفته، وبمقدار رعاية آداب الزيارة وقدسيّتها.

وقد تصدّى علماؤنا الأعلام في كتب السنن والآداب والأخلاق لبيان بعض آداب الزيارة وأحكام الروضات وبعض النوادر (1)

قال اللَّه تعالى: فاخلع نعليك إنّك بالوادِ المقدّس طوى (2)

وقال سبحانه: يا أ يّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (3)

وجاء في سفينة البحار في البيان:

الآية الاولى تومي إلى إكرام الروضات المقدّسة وخلع النعلين فيها، بل عند


1- راجع بحار الأنوار 100: 124.
2- طه: 12.
3- v

ص: 157

القرب منها.

والثانية تدلّ على لزوم خفض الصوت عند قبر النبيّ صلى الله عليه و آله وعدم جهر الصوت لا بالزيارة ولا بغيرها، لما روي أنّ حرمتهم بعد موتهم كحرمة النبيّ صلى الله عليه و آله، ويؤيّد ما ذكرناه ما رواه الكليني في وفاة الحسن بن عليّ عليه السلام ودفنه.

الاحتجاج: وفي جواب الحميري الوارد عن الناحية المقدّسة: أمّا السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة، والذي عليه العمل أن يضع خدّه الأيمن على القبر، وأمّا الصلاة فإنّها خلفه ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلّي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره، لأنّ الإمام صلّى اللَّه عليه لا يُتقدَّم ولا يساوى.

التهذيب: عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كلّ مسجد، قال: الغسل عند لقاء كلّ إمام.

التهذيب: عنه عليه السلام قال: من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلى الليل في كلّ موضع يجب فيه الغسل، ومن اغتسل ليلًا كفاه غسله إلى طلوع الفجر.

وراجع ما ذكره الشهيد الأوّل في كتابه (الدروس) في آداب الزيارة. ويستحبّ أن يصلّي بصلاة (جعفر الطيّار) فإنّه يُكتب له بكلّ ركعة ثواب من حجّ ألف حجّة واعتمر ألف عمرة.

ويقرأ الزيارات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام، ومن أفضلها زيارة الجامعة الكبرى، والصغرى، وجامعة أمير المؤمنين، وزيارة أمين اللَّه، وآل ياسين، ودعاء عالية المضامين، و (دعاء العديلة)، جاعلًا عقائده أمانةً عند المزور (النبيّ أو الإمام عليهما السلام)، ليردّها وقت حضور موته، كي يكون مستقرّ الإيمان.

كما يزور نيابةً عن الملائكة والأنبياء والأوصياء والعلماء والشهداء والصلحاء، وكلّ المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، وعن الوالدين

ص: 158

والأقرباء والأصدقاء والجيران وأهل بلدته وحُزانته وحامّته، فيشارك خلق اللَّه المؤمن في زياراته ودعواته، فيعرج إلى ربّه في القوسين النزولي والصعودي، ويسافر من الخلق إلى الحقّ بالحقّ، ومن الحقّ إلى الخلق بالحقّ.

وختاماً، أسأل اللَّه لي ولكم التوفيق والتسديد وأن يسعدنا بإحياء أمر الولاية بكلّ مظاهرها النورانيّة، فيوفّقنا لزيارة النبيّ وآله في الدنيا وشفاعتهم في الآخرة، ونتأدّب بآدابهم ونتخلّق بأخلاقهم، وأن نحشر في زمرتهم.

فمعهم معهم في الدنيا والآخرة- لا مع عدوّهم ومنكري فضائلهم ومعاجزهم وكراماتهم- ومن يؤجر من الثواب على زيارتهم وزيارة قبورهم المقدّسة وحرمهم الشريف.

ص: 159

رحلة جلال آل أحمد إلى الحج

عبد الجبار الرفاعي

في ختام يومياته التي دونها في رحلة الحج، يبوح جلال آل أحمد بهدفه، وما كان يفتش عنه في هذه الرحلة، فيقول فيما يشبه الاعتراف الجري ء: «قد يعتبر ما سأقوله اعترافاً، أو اعتراضاً، أو زندقة أو أي شي ء آخر، لكنني كنت أبحث في هذه الرحلة عن أخي، وكل إخوتي الآخرين، أكثر من بحثي عن اللَّه، فاللَّه موجود، في كل مكان، لمن يؤمن به».

ربما يبدو مثل هذا الاعتراف مفارقة، تفزع أصحاب التجارب الروحية، والمرتاضين، والمتصوّفة من المسلمين، الذين يرتشفون في مناسك الحج أعبق أدعيتهم وأذكارهم، ومواجيدهم، ويتوقون إلى بلوغ أقرب منازل السير إلى اللَّه تعالى، والاغتراف من مناهل التواصل معه.

غير أن جلال آل أحمد يترجم لنا فلسفة الحج، بلغة أخرى، قد يحسبها البعض نوعاً من الشطحات، باعتبار جلال أتى إلى الحج ليتعرف على أخيه المسلم، بل الإنسان، مما يعني أنه غير مكترث بما يعرفه باللَّه، ويقربه إليه، لكن

ص: 160

قراءة متأنية ليومياته في رحلته، تدحض هذا التصور، حيث تتجلّى روح آل أحمد، ونزعاته المعنوية، وأخلاقياته، وعواطفه البريئة، ومشاعره الشفافة، ويغدو اكتشاف الآخر، ووعي آلامه وآماله، والتعايش، والتسامح في كل ما يوجب الخلاف معه، كل ذلك أقرب السبل إلى اللَّه تعالى، وأن الطريق إلى معرفة اللَّه يمر عبر معرفة الإنسان، وتبنّي قضاياه، والدفاع عن حقوقه المهدورة، وحرياته المغدورة، طبقاً لفهم آل أحمد للإسلام ومقاصده العامة.

من هو جلال آل أحمد؟

قبل مواكبة جلال في رحلته، نشير بإيجاز إلى محطات حياته، وتكوينه الاجتماعي والثقافي، والمنعطفات الأبرز في مواقفه.

ولد محمد حسين حسيني طالقاني، والذي اشتهر ب: (جلال آل أحمد)، في

1/ 12/ 1923 في طهران، لعائلة محافظة، إذ كان والده رجل دين، ناشطاً في الحقل الاجتماعي، ويتولى إدارة مكاتب شرعية للأحوال الشخصية، ويؤمّ المصلين في بعض مساجد طهران، إلا أن الأب سرعان ما فقد مواقعه في هذه المكاتب، عندما رفض الرضوخ لقرارات وزارة العدل، بالإشراف على أنشطة مكاتب الأحوال الشخصية، وتوجيه عملها. وفضّل الاقتصار على شي ء من نشاطه الديني الاجتماعي في التبليغ والدعوة.

لقد تعذر على جلال أن يواصل دراسته بشكل عادي، بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية، إثر تدهور الحالة المعاشية لأسرته، وخشية والده من التعليم الحديث، ورغبته في تواصل أبنائه مع التعليم الديني التقليدي للآباء، لذا قرر جلال الانخراط خفية في دراسة مسائية، ليكمل تعليمه الإعدادي في مدرسة «دار الفنون» الشهيرة في طهران، بالرغم من انشغاله نهاراً بأعمال حِرَفِيّة في السوق، بغية تأمين

ص: 161

متطلبات العيش.

وعندما بلغ العشر أرسله أبوه ليدرس في الحوزة العلمية في النجف الأشرف، غير أنه ما لبث أن غادر النجف، بعد فترة وجيزة، لا تتجاوز ثلاثة أشهر، ويبدو أنه ضاق ذرعاً بنمط التعليم التقليدي، وطبيعة الكتب المتعارفة في المدارس الدينية، وأسلوب التدريس، وهو ما يومئ إليه وصفه لذلك النمط من التعليم، في فترة لاحقة، بأنه تحوّل إلى متحف لتخريج «المومياءات المحنطة» (1).

وكان يروم الذهاب من النجف إلى لبنان للالتحاق بالجامعة الأمريكية في بيروت، لولا أن السبل لم تكن ممهدة لسفره، فأقفل راجعاً إلى طهران، والتحق بالمعهد العالي لإعداد المعلمين، وتخرج منه سنة 1949، ونال درجة الماجستير في الأدب الفارسي من جامعة طهران، على أطروحة فيها قصص «ألف ليلة وليلة».

وفي سنة 1944 م انخرط في حزب تودة «الحزب الشيوعي الإيراني»، وسرعان ما تقدم موقعه في السلّم الحزبي، حتى أمسى بعد أعوام محدودة عضواً قيادياً في تودة، ومشرفاً على النشاط الإعلامي والثقافي للحزب.

إلا أن عدم استقلالية حزب تودة، وارتباطه العضوي بسياسات ستالين، وخضوعه لإرادة موسكو، أفزغ جلال، وأفضى به إلى الانشقاق عن الحزب سنة 1947 م، بصحبة جماعة، تزعمهم خليل ملكي، ومن الطريف أن إذاعة موسكو هاجمتهم، ووصمتهم بالخونة، فسئم جلال العمل السياسي، وانسحب بهدوء، بعيداً عن صخب التجارب الحزبية، وملابسات حياتها الداخلية.

واقترن في عام 1949، بالقاصّة المعروفة سيمين دانشور، بعد أن تعرف عليها في رحلة بالسيارة إلى شيراز.


1- غسان طعّان. التغرُّب. بيروت: بيان للنشر، 2001، ص 144.

ص: 162

وفي آيار 1951 أسس خليل ملكي ومظفر بقائي كرماني «حزب كادحي الشعب الإيراني» فالتحق بهما جلال، لكن هذا الحزب انهار بعد مدة قصيرة في عام 1952.

ومرة أخرى أسس خليل ملكي- بالتعاون مع جلال- حزباً جديداً، سموه «القوة الثالثة». وهو حركة ذات نزعة «عالم ثالثية» تهتم بمشكلات التخلف وقضايا التنمية والتحديث في العالم الثالث.

لكن انقلاب 1953 الذي أطاح بمحمد مصدق، وقوّض عملية تأمين البترول، ثم هيمنة الشركات الغربية على البترول من جديد، قاد آل أحمد ومجموعة من المستنيرين لمغادرة مواقعهم السياسية، والانخراط في مشاغل أدبية وثقافية وفكرية، تنأى عن متاعب السياسة وشجونها.

ومن المؤكد أن تلك التجارب الحياتية، والتقلبات السياسية المتنوعة، تظل ترفد حياة آل أحمد باستمرار، وتساهم في توجيه حياته وتحديد اختياراته الثقافية والعلمية، ويتواصل تأثيرها على مواقفه الفكرية في السنوات التالية.

ويمكن العثور على عناصر أخرى، بجوار تلك التجارب، كانت تمثل مناهل أساسية في تكوين وعي جلال، وبناء تفكيره، والتحكم باتجاهاته فيما بعد.

ومن أهم هذه المناهل الكتّاب والأدباء والمثقفون والمفكرون الأوائل، الذين تعرف عليهم، من خلال كتاباتهم، أو ربطته بهم علاقات شخصية، وفي طليعة ذلك، قراءاته لآراء أحمد كسروي، الذي اشتهر بنزوعه القومي، ومؤلفاته المناهضة للتراث، ونقده العنيف للفكر الديني، وعلاقة آل أحمد بالقاص الشهير صادق هدايت، ورائد الشعر الفارسي الحديث نيما يوشيج، والناشط السياسي خليل ملكي.

فقد كانت آراء كسروي باعثاً لتمرده على بيئته، وطلاقه مع عوالمها، بينما

ص: 163

استلهم من صادق هدايت تكنيك السرد الحديث في الكتابة القصصية، أما خليل ملكي فأوقد في وجدانه روح الكفاح السياسي.

ومما لا شك فيه أن طبيعة شخصية آل أحمد، واستعداداته، ليست بعيدة عن تنويعات المواقف والأفكار التي غرقت في فضائها، ذلك أن جلال اتسم بمزاج قلق، مضطرب، متطرف، يكتنفه تطلع وطموح متوثب، وجدية، وحيوية، وضراوة، وحساسية مرهفة.

وباء التغريب أو الإصابة بالتغرب أو نزعة التغريب

طبعت وعي آل أحمد هواجس أضرابه في عالمنا، هذه الهواجس التي كان يفجرها على الدوام، انشطار وعيهم حيال رهانات الهوية والماضي من جهة، والعصر وتحدياته من جهة أخرى، مضافاً إلى الاستفهامات الملتبسة للنهضة والتحديث، وجدل التراث والوافد، وسطوة التكنولوجيا الغربية، وتغلغلها في كافة المجالات، وإزاحتها لمكونات الاجتماع التقليدي، وقيمه الموروثة، واستبدالها بالتدريج بقيم، تحكي روح الحضارة الغربية، وتجسّد مفاهيم ومقولات، تخترق بنية هذه المجتمعات، وتسود في حياتها على شكل ظواهر حضارية وثقافية واجتماعية واقتصادية.

لقد شعر آل أحمد بعمق تلك التحولات، ورصد آثارها في الحاضر، وحاول أن يستشرف مآلها ونتائجها، ليدرك أن مجتمعه يجتاحه إعصار، إذا لم تسخّر كل الطاقات لمقاومته، فإنه سيعصف بمرتكزات هذا المجتمع، ويطيح بمقومات وجوده، ويمسخه، فيحيله إلى كائن مشوّه.

وأطلق جلال على عملية الاجتياح هذه «غرب زدگي» وهو مصطلح مشبع بدلالات سلبية، بل دلالات هجائية لكل ما هو غربي، ويوازيه بالعربية «وباء

ص: 164

التغرب»، أو «الإصابة بالتغرب»، أو «التسمم بالغرب»، أو «نزعة التغريب»، وغير ذلك.

ويبدو أن الدكتور أحمد فرديد هو أوّل من نحت مصطلح «غرب زدگي» بالفارسية، ويوصف فرديد، بأنه مفكر عميق، لكنه صامت، وإذا تكلم فهو مبهم، ولا يدون أفكاره، ولذلك يعرف ب «الفيلسوف الشفاهي». وقد كان له دور رائد في تعليم الفلسفة الألمانية في إيران، واعتناق آراء هايدغر، وتشغيل بعض مقولاته في المجال التداولي الإيراني، وعرف عنه تطبيقاته لنظريات هايدغر في دراسة الحضارة الغربية، وآثارها السلبية خارج محيطها الخاص، فمثلما يعتقد هايدغر بأن «كل حقبة من حقب التاريخ تختص بسيادة حقيقة معينة تطغى على بقية الحقائق، فيما تقذف بما سواها إلى الهامش»، يعتقد فرديد أيضاً بأن «الغربيين أضاعوا اللَّه، واستبدلوه بإله آخر، هو النفس المادية، أو النفس الأمارة بالسوء». كما يؤكد أن للبشر ثلاثة أبعاد: الأول علمي، والثاني فلسفي، والثالث معنوي، ومع أن «الأول والثاني احتلا مساحة واسعة في السنن الفكرية الغربية، لكن الثالث ظل غائباً وباهتاً بشكل فاضح».

ولذلك يحذر أحمد فرديد من مخاطر شيوع حاضرة الغرب في عالمنا، ويدعو إلى تجاوز التغريب ومخاطره، باكتشاف ذات الغرب، أي نكون غربيين، لا بمعنى الاغتراب عن الذات، وإنما بمعنى المعرفة الدقيقة بالغرب، والنفوذ إلى كنه الفلسفة والأنطولوجيا الغربية، لأن معرفة الآخر شرط لازم لمعرفة الذات (1).

وقد أخذ جلال آل أحمد هذا المفهوم الفلسفي من فرديد، لكنه صاغه صياغة أيديولوجية، وعبأه بأفكاره، التي استقى شيئاً منها في المرحلة الماركسية من


1- مهرزاد بروجردي. المثقفون الإيرانيون والغرب، ترجمة: جمشيد شيرازي. طهران: فرزان، 1998، ص 104- 108.

ص: 165

حياته، وهي أفكار تمنح آلات الإنتاج والماكينة دوراً مركزياً في حركة التأريخ، وبناء المجتمعات وفقاً لمعاييرها الخاصة.

يعرّف آل أحمد «نزعة التغريب» بأنها «مجموعة الأعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون أن يكون دخولها تدريجياً، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليك، أو قل إنها الممهد للآلة».

ويعرف آل أحمد بتوجسه الشديد من كل شي ء يرمز للغرب وثقافته، وبالأخص معطيات التكنولوجيا الغربية، فهو يرى أن كل شي ء في عالمنا تدنسه الماكينة، و «يتمكنن»، وعندما يتمكنن يجري تهشيمه ونسفه.

ولعل مصدر هذا الفزع هو خيبة الأمل المزدوجة، من الغرب بقناعه الأمريكي، الذي أسقط حكومة الدكتور مصدق، وأطاح بإصلاحاته، التي جسدت بعض أحلام جلال آل أحمد والنخبة الإيرانية، وخيبة الأمل من الاتحاد السوفيتي، الذي يرمز للماكينة والسلع الغربية أيضاً، وما يلاحظه آل أحمد من قيم وثقافة وافدة، يفرضها نمط الماكينة والسلعة الآتية من الغرب، وما تمثله الماكينة من مركزية محورية في خلق إشكالية التغريب الحضاري.

كما أن حظر الشاه رضا خان للحجاب، وإكراه رجال الدين على خلع العمامة، واختصار مكاسب الغرب في أزياء النساء، أو قبعة الرجال، اختزن في وجدان آل أحمد وغيره من مواطنيه، عداءً كامناً للغرب، ما لبث أن انفجر في نزعات نفي وإقصاء شمولية، تلفظ كل ما هو غربي.

وعرض آل أحمد آراءه هذه في دراسة كتبها كتقرير إلى مجلس أهداف الثقافة الإيرانية في وزارة التربية والتعليم، سنة 1962، تحت عنوان «غرب زدگي» «وباء

ص: 166

التغرب» أو «نزعة التغريب».

وكان المجلس الذي يضم في عضويته عشرة أشخاص، بضمنهم أحمد فرديد، قد تداول إمكانية نشر دراسة آل أحمد، غير أنه خلص إلى تعذر النشر، بسبب نقده الصريح للنظام، وفضح دوره في تلويث الفضاء الثقافي للمجتمع بوباء التغرّب.

من هنا، أثار كتاب «نزعة التغريب» عند صدوره ضجة واسعة بين النخبة في إيران، وما لبث هذا الكتاب أن أضحى بعد سنوات من أخطر النصوص لتعبئة الجماهير، وتجييش وتعبئة المجتمع ضد سياسات الشاه المتحالفة مع الغرب.

يكتب الناقد رضا براهني في بيان أثر هذا الكتاب «نزعة التغريب: «كان له من حيث تحديد واجبات البلدان المستعمرة حيال الاستعمار، نفس الدور والأهمية التي كانت للبيان الشيوعي لماركس وأنجلز، في تحديد مهمة البرولتاريا إزاء الرأسمالية والبرجوازية، وكتاب «معذبو الأرض» لفرانتز فانون، في تعيين ما يجب على الشعوب الأفريقية فعله قبال الاستعمار الأجنبي، إن «نزعة التغريب» أول رسالة شرقية ترسم موقف ووضع الشرق مقابل الغرب المستعمر، وربما كانت الرسالة الإيرانية الأولى التي اكتسبت قيمة اجتماعية على مستوى عالمي» (1).

لعل هذا التقييم ينطوي على مبالغة في بيان أهمية كتاب آل أحمد، لكن وبغض النظر عن القيمة العلمية للكتاب، فإنه عمل سجالي، مشبوب بالإثارة، والنقد الأيديولوجي للغرب، إنه خطاب تعبوي، وهو أقرب إلى الشعر المنثور، منه إلى الدراسة الموضوعية، وفي ذلك تكمن أهميته في تحريض الجماهير، وترسيخ عدائها، لكل ما هو غربي، ومع عداء عمل على تثوير الشعب الإيراني، إلا أنه بدأ يضمحل في السنوات الأخيرة، عند النخبة الإيرانية، التي راحت تنشد صورة


1- رضا براهني. كتابة القصة. طهران، أشرفي، ط 2، ص 465.

ص: 167

بديلة للغرب، صورة تستبعد الرؤية الخطأ التي تحسب تمام مكاسب الحضارة الغربية ومعارفها، ليست سوى ماكينة، ثم تهاجم بعنف تلك الماكينة، وتكيل لها ألوان التهم، من دون أن تميز بين الأبعاد المتنوعة للغرب الحديث، وكأن الغرب هو ماكينة وحسب، بينما تتجاهل ما أنجزه الغرب، من علوم طبيعية، وعلوم بحتة، وعلوم إنسانية، وآداب، وفنون... وغير ذلك.

ولا يصح اختزال أية حضارة في بعد واحد. أما الخلط العشوائي بين العلم، والتكنولوجيا الغربية، من جهة، والوجه الاستعماري للغرب، فهو بحاجة إلى مراجعة، وتحليل نقدي، يحررنا من الرؤيا الإطلاقية الشمولية غير الموضوعية.

إن خطاب آل أحمد حيال «المكننة»، وأثرها التغريبي في الشرق، ودورها في استئصال صورة الحياة التقليدية، وتدنيسها طهرانية عالمنا... ظل محكوماً بعقدة «المكننة» في غير واحد من كتاباته الأخرى، لا سيما كتابه الأثير، الذي نقد فيه النخبة، ووسم مواقفهم بالخيانة، حسبما يشي عنوانه «المستنيرون: خدمات وخيانات».

بل تغلغلت هذه العقدة حتى في كتابه «قشة في الميقات» أيضاً. ذلك أن كل شي ء يشير إلى الغرب، وسلعه، وعوالمه، صار يستفزه، بحيث تبدو المصابيح، وأضواؤها الساطعة في المشاهد المشرفة، شيئاً مثيراً لمشاعره، لأن تلك المصابيح، المصنوعة والمصممة على طراز غربي، تدنس الفضاء النقي الطاهر، حسب رأيه.

أدب الرحلة إلى الحجّ

أدب الرحلات من فنون الآداب العالمية العريقة، ويعتبر أدب الرحلات إلى الأماكن المقدسة من أروع أشكال هذا الأدب. وقد استأثرت الرحلة إلى بيت اللَّه الحرام في مكّة المكرمة، وزيارة الرسول صلى الله عليه و آله والمشاهد المشرفة في المدينة المنورة،

ص: 168

باهتمام طائفة من المسلمين، الذين حرصوا على تدوين مشاهداتهم، وانطباعاتهم وأحوالهم، في هذه الرحلة الكريمة، بل طالما شرع بعض المؤلفين بالبدء بتصنيف آثارهم في هذه الديار، والسعي لختامها هناك، أو الفراغ من الآثار التي كتبوها في مواطنهم هناك، بغية تسجيل تاريخ الفراغ منها في هذه الأماكن الغالية، والاحتفاظ بذكرى عبقة عنها، تقترن أبداً بجهودهم الفكرية.

كما اشتهرت بعض المصنفات الهامة في التراث الإسلامي بنسخة مميزة، أعاد تدوينها المؤلف في البيت الحرام مثلًا، بعد فراغه من تأليف كتابه في موطنه، أو باشر بالتأليف في مكة المكرمة، وجاور البيت الحرام لسنوات، ريثما ينجز كتابه، ثم كتبه ثانية في بلد آخر.

وظل البيت الحرام على الدوام مصدر إلهام للكتّاب والمؤلفين، الذين تشرفوا بالطواف في رحابه الطاهرة. وفي العصر الحديث وفد إلى الديار المقدسة بمعية أفواج الحجاج والمعتمرين، الكثير من الصحفيين والأدباء، والمفكرين، واهتم جماعة منهم بتدوين رحلته والإفصاح عن تجاربه الروحية، ووصف المناسك، والمراسم، والأماكن، والأسواق وطبيعة تقاليد وطبائع مواطني البلدان الإسلامية الذين التقاهم. ومن الواضح أن هذا الكم من أدب الرحلة إلى الحج، يتفاوت في أهميته الثقافية، وقيمته الأدبية، وقدرته على رصد التفاصيل الدقيقة، والوقائع الهامة في هذه الرحلة، لأن ذلك يرتبط بموهبة الكاتب، وإمكاناته الإبداعية، ونمط خبراته السابقة، ومستوى ثقافته وامتداداتها الأفقية والرأسية.

أهمية كتاب «قشة في الميقات»

بالرغم من وفرة الكتاب في هذا الحقل، لكن قلما نعثر على نماذج باهرة منها، ترتقي فيها أدوات السرد إلى مستوى رفيع يجعله بدرجة تضاهي روائع

ص: 169

الأدب العالمي.

وأحسب أن رحلة جلال آل أحمد إلى الحج، الموسومة ب: «خسي در ميقات» تعد واحدة من أندر وأثمن تلك الأعمال، وتكتسب هذه الرحلة أهميتها، مما يلي: 1- إن كاتبها من أبرز رواد القصة في الأدب الفارسي الحديث، مضافاً إلى أنه ناقد، ومفكر، وسياسي، ورحالة، ومثقف ناقد ومتمرد، اجترح مغامرات فكرية، لم تتوافر لمعظم أترابه، إذ تمثلت هذه المغامرات، بتقلبات وتنقلات بين «محطات أربع» هي: موسكو، باريس، القدس، ومكة، وأن هذه المدن ترمز إلى مراحل توجهه السياسي والثقافي، والإلهامي، والإيماني، وأنه غادرها جميعاً، باستثناء مكة المكرمة، كما يؤكد شقيقه شمس آل أحمد (1)

فقد بدأ جلال رحلته الفكرية السياسية بموسكو، حين تماهى معها، من خلال التحاقه بحزب تودة، في السنوات 1944- 1947، ثم أقلع منها إلى باريس، فانخرط في تيارات الأدب والثقافة الفرنسية، وشغف بألبير كامو، وسارتر، وغيرهم فترجم «الغريب» لألبير كامو بالتعاون مع شخص آخر، سنة 1949 و «سوء التفاهم» لألبير كامو أيضاً سنة 1950، كذلك ترجم «الأيدي القذرة» لسارتر سنة 1952.

وتأثر بالعديد من المفكرين الأوروبيين، وأغرق في إطراء جان بول سارتر، معتبراً إياه مقياساً للضغط السياسي والأدبي، ومناهضاً لكل نزعة تسلطية، واستعار منه فكرة الالتزام الاجتماعي، كجزء أساسي من مهمة الكاتب، وحذا حذو سارتر في تسمية المستنير ب «الضمير المريض» للمجتمع (2)

وفيما مضى، أشرنا الى انه تأثر بهايدغر، واستلهم أفكاره، بشأن طبيعة


1- غسان طعان. مصدر سابق، ص 264.
2- مهرزاد بروجردي. مصدر سابق، ص 77.

ص: 170

التكنولوجيا الغربية والمادية الغربية، بواسطة أحمد فرديد.

ثم يمّم آل أحمد وجهه صوب مكة، وتبلور في وعيه نزوع واضح نحو الدين، والتراث، والماضي، وكان كتابه «نزعة التغريب» أول بيان صريح، يحلل فيه آثار التغريب في إيران، وأردف ذلك بعد سنوات، بكتاب هجائي للمثقفين المنبهرين بالحضارة الغربية والمروّجين لقيمها في المجتمع وصدر بطبعة محدودة سنة 1965، بعنوان «المستنيرون... خدمات وخيانات» ثم صدر نصّه الكامل بجزئين سنة 1977.

وبوسعنا القول: إن رحلته إلى الحج التي دوّنها سنة 1964، جسدت صورة ناصعة عن الإبحار الختامي لسفينته في شاطئ الديار المقدسة، ولا ندري ماذا تخبئ الأيام لهذا الأديب الناقد، في السنوات التالية، من تحولات أو مواقف، لو لم يختطفه الموت، في 8/ 9/ 1969.

لقد أوضحت زوجته الدكتورة سيمين دانشور، في مقالها الرثائي لزوجها، اتجاهاته الإيمانية، في العقد الختامي من حياته بقولها: «.. لم يكن مادياً، بل كان أصيلًا، واذا كان قد اتجه للدين، فقد اتجه عن وعي وبصيرة، لأنه اختبر قبل ذلك الماركسية والاشتراكية، وإلى حد ما الوجودية، وكانت عودته النسبية إلى الدين... طريقاً للتحرّر من الإمبريالية، وصيانة للهوية الوطنية، وسبيلًا الى الشرف الإنساني، والتراحم، والعدالة، والمنطق، والتقوى... كان جلال يحمل همّ هذا الدين...» (1)

2- اختار جلال آل أحمد الذهاب إلى الحج مع القوافل الشعبية الفقيرة، فكان حجّه يماثل حج المتسكع، كما تفصح عنه مذكراته، بالنسبة إلى نوع الطعام،


1- سيمين دانشور، غروب جلال. قم: نشر خرم، ط 4، 1992، ص 21- 22.

ص: 171

والمساكن، ووسائط النقل، وطبيعة المرافقين، في الرحلة.

وهو اختيار لم يكن عشوائياً فيما أظن، ذلك أنه أراد أن يعيش الصورة الحقيقية لهذه الرحلة، بعيداً عن التشريفات التي تخلعها على منتسبيها بعض القوافل المترفة، أو بعض الوفود والبعثات الرسمية.

أخال أن آل أحمد كان بإمكانه السفر مع قافلة مرفهة، يتبوأ فيها مكانة تمنحه امتيازات مادية ومعنوية تحافظ على مقامه، لأنه كان ينال مكافآت على كتاباته، مضافاً إلى مرتبه الشهري، لكنه آثر أن يرافق قافلة شعبية، ذات امتيازات متواضعة، لكي يلامس عن قرب مشاعر الناس، ويتحسّس حياتهم عن كثب، مثلما تكلم عن ذلك فيما كتب في هذه الرحلة، مشيراً إلى ضرورة اقتراب المفكر من هموم الناس، وقضاياهم، عبر معايشتهم.

وكانت هذه عادته في السفر والتجوال بين المدن الإيرانية، إذ يسافر مع الناس، في وسائط النقل العام، فينفتح على خفايا حياتهم عن قرب، ويندمج في آلامهم المختلفة، ويتعرف على طبيعة تفكيرهم، وتطلعاتهم، وأحلامهم، ورؤيتهم للواقع، وما يضج به من متاعب، ومشكلات متنوعة.

إن هذه الرحلة منحت آل أحمد فرصة هامة، لإعادة اكتشاف طبيعة العلاقات السائدة بين عامة الناس، ونمط وعيهم وتفسيراتهم للظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ورؤيتهم الكونية، وطقوسهم، ولذلك كان يهتم بملاحقة كل صغيرة وكبيرة في أحاديث المرافقين في القافلة، وحالاتهم في ساعات الراحة والسكينة، والاضطراب والتوتر.

وبالتالي تبدو هذه الرحلة مناسبة عزيزة في حياة آل أحمد، للفرار من عوالم النخبة ومشاغلها، والعيش مع عامة الناس، والالتصاق بحياتهم، تلك الحياة الزاخرة بالبساطة، والعفوية، والبراءة، المشابهة للبداوة، أو القريبة من الأشكال

ص: 172

البدائية، وهي أشكال ما فتئ آل أحمد شغوفاً بالعودة إليها، لأنه كان يمقت كل الأساليب الحديثة التي اكتسحتها.

ولم تقتصر مطامح آل أحمد في رحلته على الملاحظات العابرة، والانطباعات العاجلة، وإنما كان يسعى للتوغل في الأبعاد الخفية لما يراه من ظواهر، ويعمل على تحليلها، من أجل اكتشاف مضمراتها، وما لا تقوله من نزعات بشرية، وما يدخل في تشكيلها من عناصر ثقافية.

إنه يحاول أن يسجل ملاحظاته من منظور باحث أنثروبولوجي، ولذلك يمكن أن تُصنف هذه المذكرات كوثيقة أنثروبولوجية، لدارس مهتم بالتعرف على طبائع المجتمعات الإسلامية، وأنماط ثقافاتها، من خلال معايشة الجماعات الوافدة للحج من تلك المجتمعات، والاختلاط بمن يلتقيه منهم، والمبادرة بسؤاله، بما يتقنه من العربية أو الإنجليزية.

3- تشتمل هذه الرحلة على معلومات تاريخية هامة، ذلك أن مؤلفها كان يدوّن ما يشاهده، من عمارة البيت الحرام، والجغرافيا السكانية والعمرانية لمكة المكرمة والمدينة المنورة، والأسواق والمتاجر، والشوارع، وعربات النقل، والمناسك في عرفات، ومزدلفة، ومنى، وأشكال مخيمات الحجّاج فيها، بل حرص على تقديم إحصائيات رقمية لأعداد الوافدين إلى الحج في ذلك العام، وجنسياتهم، وهي أرقام استقاها من الصحافة الصادرة وقتئذ، لأن آل أحمد كان مواظباً على مطالعة الصحف اليومية في الديار المقدسة، وربما استقاها أيضاً من أسئلته المتنوعة للأشخاص الذين يلتقيهم، حين يستقل وسائط النقل، أو يتجوّل في الأسواق، أو أثناء أداء المناسك، وزيارة المشاهد المشرفة.

وقد ظل يواظب على تسجيل ملاحظاته في دفتر يصطحبه حيثما كان؛ في محل الإقامة، وفي السيارة، وفي المناسك، وحتى في مواطن الانتظار، في المطار، وغيره.

ص: 173

ولم يتوان جلال في كتابة مذكراته، إلى حين عودته، مثلما فعل غير واحد من الحجّاج ممن كتبوا مذكراتهم بعد عودتهم إلى مواطنهم، وإنما حرص على تسجيل ما يعاينه مباشرة، كانت كتابته آنية، يسترق دائماً لحظات، فيخلو بها، ويعكف على تعزيز يومياته، والإضافة إليها في كل مرة يلفت نظره فيها موقف يستحق الذكر، فمثلًا تتمدّد كتابته في بعض الأيام، بحسب زحمة حركته، ووفرة لقاءاته، أو تتقلّص، عندما يضطر للمكوث في المسكن، ولا يلتقي الآخرين.

4- تصنف رحلة آل أحمد إلى البيت الحرام، في النصوص الأدبية الفريدة، المدونة باللغة الفارسية، في العصر الحديث، فإن نصه يوظّف الموروث الحكائي، والفلكلور، والسخرية، ويبدع في صياغة نموذج مميز للسرد.

ويذهب بعض النقّاد إلى أن أسلوب جلال طوّر الأدب الفارسي، لأنه يصوغ عباراته ببيان يمزج فيه بين اللهجة الدارجة واللغة الفصيحة، وتتشكل نصوصه من جمل قصيرة، وأحياناً لا تحتوي الجملة التي يصوغها على فعل في تركيبها، ومع ذلك تعبر عن معناه بوضوح.

وربما كانت جزالة بيانه، وشفافية أسلوبه، وقدرته الفائقة على الكتابة بلغة السهل الممتنع، من العوامل الرئيسة لاشتهار آثاره، وشدة إقبال القراء عليها، ووفرة المطبوع منها.

وقد حاول بعض الأدباء تقليده واستعارة تقنياته في السرد، ومحاكاته فيما كتب، بنحو بات أسلوب آل أحمد أحد النماذج الشهيرة في الأدب الفارسي الحديث.

وقد تجلى هذا الأسلوب كأروع ما يتجلى في «قشة في الميقات»، باعتباره من النصوص الأخيرة التي كتبها جلال قبل وفاته بسنوات، مضافاً إلى أنه كتبها في ظروف خاصة، مرّ خلالها بحالات قبض وبسط روحي، ولحظات انفعال، وتوتر،

ص: 174

وضراوة، ولحظات استرخاء، وهدوء، وانشراح. وكل حالة ولحظة من تلك الحالات واللحظات تثير لديه شتّى الهواجس، وتستدعي في وجدانه مختلف الإيحاءات والصور. وإلى ذلك يعود تميز أسلوبه وفرادته في هذه الرحلة، فهو يتألق في مواضع عديدة، فيرتقي إلى الشعر المنثور، أو قصيدة النثر، حسب مصطلح النقد الأدبي اليوم.

5- ليست يوميات آل أحمد تأملات في استجلاء الأبعاد التربوية لعبادة الحج، واستيحاء فلسفة كل واحد من المناسك، كما فعل بعض الذين كتبوا عن الحج، لأن آل أحمد أراد لمذكراته أن تتدفق بعفوية، وتجري بتلقائية، لا تتقيد بترسيمات وحدود مسبقة، بل تواكب حركة الحاج، وأحداث الرحلة اليومية الشديدة الغنى والتنوع، فهي تضم رؤى أنثروبولوجية، ورصد ظواهر اقتصادية، وتحليلات سياسية، وطرائف أدبية، ونقداً ساخراً، ومعلومات تاريخية، وجغرافية... وغير ذلك.

لكن رحلة آل أحمد توهجت فيها ومضات، تحدثت عن فلسفة لبعض المناسك، كشذرات رصعت عباراته، خاصة في المواضع التي كان يكتب فيها مذكراته في الأيام التي أمضاها في بقاع المناسك: في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى، أو أثناء أداء الطواف في البيت الحرام، والسعي بين الصفا والمروة.

ولا أريد أن أبالغ لو قلت: على الرغم من مطالعتي لمجموعة من رحلات الحج المعروفة، وتشرّفي بإداء الحج والعمرة عدة مرات، فإني وجدت نفسي مع «قشة في الميقات» أنبسط حيث ينبسط جلال، وأنقبض حيث ينقبض، وأعيش في خيالي حالاته وأحاسيسه، في السعي والطواف، وكأني أواكبه في خطواته، وأتماهى مع مشاعره، فأرى ما يرى، وأرتشف ما يرتشف، وأتحسس خطواته، وأستمع إلى ابتهالاته واستغاثاته، وأذكاره. وعندما كنت أقرأ حالاته، أتعطش بوجد وشوق

ص: 175

إلى البيت الحرام، والمناسك المقدسة، وأتمنى أن أتمثل تلك الحالات والابتهالات، بل أتمنى أن يطالع الحجاج والمعتمرون رحلة آل أحمد، لينفتحوا على ما تختزنه المناسك من منابع للإلهام الروحي والتربوي، وليغدو الحج مناسبة استثنائية لإعادة بناء الشخصية المسلمة، وإعدادها أخلاقياً ومعنوياً، لتجسيد رسالة الإسلام في الحياة، وبالتالي تجسيد التسامح، وقبول الآخر، والأمن والسلام.

لقد كان الدكتور علي شريعتي شديد الإعجاب برحلة جلال هذه، وكان يأمل أن يرافقه مرة أخرى إلى الحج سنة 1969، لكن آل أحمد التحق بالرفيق الأعلى قبل أن تتحقق امنية صديقه شريعتي، وعندما ذهب الأخير للحج في ذلك العام، كان يقول: «إن أطياف آل أحمد ما لبثت ترافقني في كل مكان كنا نؤدي المناسك معاً، لكن لا أدري لماذا وجدته في السعي أكثر حضوراً من أي مكان آخر. إن أشعة حضوره ظلت ساطعة. كنت أسمع صوت أقدامه، كان يهرول مسرعاً. كنت أتحسّس زفير أنفاسه كزفير أنفاس عاشق. كنت أهرول مع جموع الناس. غير أني كنت أعانقه حيثما أذهب، ما انفك يهرول معي. أراه كالصخرة المتدحرجة من جبل الصفا. هكذا اندمج مع البشر، كنت أسمعه وأراه كالحلاج، حينما كان يضرب رأسه بعمود الأسمنت، وهو يصرخ بالناس: إنما أضربه لصلابته وعصيانه. لماذا رأيته في السعي أكثر من أي مشعر آخر؟ لأنه تفاعل في حجه بالسعي أشد من أي منسك سواه. هكذا قرأته في رحلته إلى الحج. أظن أن عمره يشبه السعي. كان كالعطشان الذي يلهث وراء الماء لإسماعيل الظامئ في الصحراء.

كان عدوه في الصحراء بمثابة السعي...» (1)

كتب آل أحمد يوم السبت الموافق 18/ 4/ 1964، في يومياته، وصفاً


1- علي شريعتي. مجموعة الآثار. ج 6: ص 86- 87.

ص: 176

للسعي بين الصفا والمروة، وهو يؤدي هذا النسك، قائلًا: «إن ذوبان الفرد في الجماعة، أتراه أقصى غايات هذا التجمع الغفير، وهذه الرحلة؟ عشرة آلاف إنسان، وربما عشرون ألفاً يمارسون شعيرة واحدة، في آن واحد. هل يمكنك أن تفكر بنفسك وسط هذا الانعتاق الجماعي الهائل، فتعمل شيئاً بمفردك؟ التيار يجتاحك ويأخذك أخذاً وبيلًا، هل حدث أن كنت وسط جماعة من الناس مذعورة، وهي تهرب من شي ء ما؟ ضع كلمة «منعتقة» مكان كلمة «مذعورة» في الجملة السابقة، وضع «حائرة» بدل «تهرب»، أو ضع مكانها كلمة «لائذ». أنت مسلوب الإرادة مئة بالمئة، وسط هذا البحر العاصف من البشر. تنسلخ كلمة «الفرد» هناك عن كل معانيها ومدلولاتها، ولا يبقى فارق بين الألفين والعشرة آلاف... ووجدتني لا أستطيع المواصلة. أجهشت بالبكاء، وهربت. وعنّ لي أن البسطامي أخطأ؟ فاحشاً، إذ لم يلق نفسه تحت أرجل هؤلاء السعاة، أو على الأقل من أن يلقي أنانيته تحت أقدامهم. حتى الطواف، لا يثير مثل هذه المشاعر، والهياج الروحي». (1) ثم يقارن جلال بين تجليات الروح حالة السعي والطواف، وما يمكن أن يستلهمه الإنسان من ممارسة كل واحدة من هاتين الشعيرتين، فيكتب: «في الطواف حول البيت تسير مع الناس بأكتاف متلاصقة باتجاه ما، تدور معهم حول شي ء معين، أي أن ثمة هدفاً فيه ونظاماً. وأنت نقطة في دائرة عظيمة تجول حول مركزها، فأنت إذن متصل بمنظومة معينة، ولست منعتقاً متروكاً لحالك، والأهم من ذلك أنك لا تواجه أحداً هناك. تلاصق عواتق الآخرين، ولا تنظر في وجوههم، فلا تبصر الانعتاق والهيام إلّافي التدافع والتلاحم، أو تسمعه مما تلهج


1- جلال آل أحمد. قشة في الميقات. ص 150.

ص: 177

به الألسنة. لكنك في السعي تذهب وتجي، حائراً كحيرة هاجر، ليس ثمة هدف أو وجهة... الحاج عند السعي يختزل إلى قدمين، وعينين، ذاهلة، ساهمة، تهرب من نفسها، وتهيم هنا وهناك. العيون يومئذ ليست عيوناً، إنها ضمائر عارية، أو هي ضمائر جلست على أعتاب العيون، تنظر أوامر الفرار، وهل يتسنى النظر في هذه العيون لأكثر من ثانية؟! كنت أظن- إلى اليوم- إنه لا يمكن التحديق في الشمس فقط، لكنني اكتشفت الآن تعذر ذلك مع بحر العيون الساعية أيضاً، ولذت بالفرار.

بعد شوطين فقط من الذهاب والإياب، يتجلى لك بكل وضوح آية لا نهاية صنعتها من هذا الصفر، وذلك حينما تكون متفائلًا، وقد شرعت لتوّك، وإلا سترى نفسك أقل حتى من الصفر، حيال هذه اللانهاية، كقشة في البحر، بحر من البشر، بل ذرة هباء في الفضاء». ويردف آل أحمد موضحاً ما استولى عليه من ذهول، وتوتر، وانفعال، في المسعى، «أقول بصراحة: شعرت كأني أقترب من الجنون، لفّني شوق عارم أن أرطم رأسي بأول عمود اسمنتي، وأفجره. لا أطيق السعي إلّا إذا كنت مكفوف البصر» (1)

انتخبنا هذا النموذج من كتاب جلال، ليطلع القارئ على أسلوبه في تحليل مناسك الحج، واستجلاء فلسفة هذه العبادة، التي تؤديها أفواج غفيرة من المسلمين كل عام، باختلاف أعراقهم، ولغاتهم، وبلدانهم، لكنهم يتوحدون في أداء المناسك.

ومع أن آل أحمد لم يتوسع في الحديث عن الآثار المعنوية والأخلاقية للحج، غير أنه بثّ مجموعة أفكار هامة في سياق حديثه عن الأيام التي أمضاها في عرفات، والمشعر الحرام، ومنى، كذلك اهتم بوصف حالته، وحالات من صحبهم


1- المصدر السابق. ص 151.

ص: 178

من الحجاج، والذين التقاهم حال أداء المناسك، واطلع على أشواقهم الروحية، ومواجيدهم، وابتهالاتهم.

ولا يبدو آل أحمد متفائلًا، بسبب عدم استيعاب الكثير من الحجاج للأبعاد العميقة لهذه التجربة الروحية، ذلك أن الأمية والجهل وقتئذ، لدى أعداد كثيرة من الحجاج، وعدم توفرهم على ثقافة شرعية مناسبة، واستغراقهم في الإطار الشكلي للطقوس، حجبهم عن وعي أهداف المناسك، وإدراك مقاصد الحج، واستلهام الآثار التربوية الهامة للمشاعر المشرفة.

إشكاليّة العنوان

تبرز براعة آل أحمد، وموهبته البيانية، في قدرته الفائقة على ابتكار عناوين فريدة لكتبه، بحيث تغدو هذه العناوين، بعد ذيوع الكتب التي تحملها، في مرحلة لاحقة، وكأنها لافتات فكرية، وأيديولوجية، وهو ما نلاحظه بجلاء في كتاب «غرب زدگي» «نزعة التغريب» فإنه ما برح هذا العنوان أن تحول إلى مصطلح واسع التداول، في الأدبيات المدونة بالفارسية، بعد صدور كتاب جلال.

وكعادته انتخب عنواناً أثيراً ليومياته التي دونها في رحلته الى الحجّ، فوسمها ب «خسي در ميقات». و «خس» كما في معاجم اللغة الفارسية تعني: (تبن، أو علف جاف، أو شوكة، أو نتفة تافهة من الخشب، أو حشائش جافة مضمحلة، وتستخدم مجازاً بمعنى حقير، ووضيع). ويقابلها بالانجليزية wood small ship of.

أما الياء في «خسي» فهي للتنكير، تنكير الاسم وإخراجه من كونه معرفة إلى معنى شائع في جنس، كما في «رجل».

وبعد مطالعة الكتاب وجدنا آل أحمد يشير بكلمة «خسي» في عنوان كتابه

ص: 179

إلى حالة اضمحلال، وتلاشي «الأنا» وذوبانها، حال أداء المناسك، كما صرّح بذلك في مواضع متعددة من مذكراته، فوقع اختيارنا على كلمة «قشة» العربية، وهي كلمة تتضمن المعنى الموازي لكلمة «خسي» الفارسية، مضافاً إلى أنها تتضمن المداليل التي تفصح عنها يوميات جلال.

ولا نعلم لو كان المؤلف حيّاً هل يوافقنا على هذا العنوان بالعربية، لكننا نحسب أن «قشة في الميقات» عنوان غير مستهلك، لأنه يستخدم للمرة الأولى في تسمية كتاب في أدب الرحلة إلى الحج، وربما في عناوين الكتب العربية، ولعل ذلك يرضي آل أحمد، وهو الأديب المعروف بالنفور من العناوين المكرورة المبتذلة (1)

موقع رحلة آل أحمد في أدب الرحلة إلى الحج المدوّن بالفارسية

إن رحلة جلال إلى الحج تظل في ذروة الآثار المدونة باللغة الفارسية في هذا الحقل، وهي تتوافر على الكثير مما يتسم به نص آل أحمد، حسب وصف زوجته الدكتورة سيمين دانشور، من أنه نص «مشبوب، دقيق، ثاقب، ناقم، متطرف، عنيف، صريح، حميم، تنزيهي، مثير، مكثف بصورة برقيات». ومقارب لذلك وصف الدكتور علي شريعتي، بأنه نص «حاد، موجز، ساخر، صريح، إنساني، عفوي، جري، عميق، فاضح، متين، جزمي، أُحادي، تقريري».

وهي خصائص ربما تبدو متنافرة، لكن نجد معظمها في كتاب «قشة في الميقات». ولذلك فان عباراته التي صاغها على شكل برقيات، وجملاته الموجزة المكثفة، قد تبدو مفكّكة، عند نقلها إلى اللغة العربية، لكن حرصت الترجمة على إشباعها بأدوات الربط، ليظهر النص منسجماً متماسكاً.


1- لاحظ مادة «خس» في: دهخدا. لغتنامه. وعميد «فرهنگ». ومعين فرهنگ. ومحمد التونجي. فرهنگ فارسي عربي.

ص: 180

ومن الآثار الهامة في أدب الرحلة إلى الحج باللغة الفارسية كتاب «موعد مع إبراهيم» (1) للدكتور علي شريعتي، وهو كتاب يقع في ستمائة صفحة، ويضم ما كتبه شريعتي في سفرته الأولى إلى الحج، سنة 1970، وسفرته الثانية والأخيرة، سنة 1971، القسم الأول يتضمن محاضراته في الرحلة الأولى، وهو عبارة عن أربع محاضرات متوالية ألقاها في حسينية الإرشاد في طهران بعد عودته من الحج تحت عنوان (موعد مع إبراهيم).

أما الرحلة الثانية فهي تتألف من إحدى عشرة محاضرة ألقاها شريعتي في المدينة المنورة، ومكة المكرّمة، والمشاعر المشرفة، وهي تتمحور حول: (المدينة المنورة كمحطة للهجرة، والحضارة كنتيجة منطقية للهجرة، ورؤية تحليلية لفلسفة مناسك الحج، ودراسة في السيرة النبوية من الولادة إلى البعثة... وغير ذلك).

كذلك ألقى المهندس مهدي بازرگان محاضرة، في عيد الأضحى، سنة 1959، بعنوان «بيت الناس». تكلم فيها عن الآثار الاجتماعية للحج، ودور المناسك في توطيد أواصر الوحدة بين المسلمين، وبناء أسس الأمن والسلام.

وهي أفكار استلهمها من الآيات القرآنية الكريمة، في ضوء رحلته إلى الحج قبل هذا التاريخ بثماني سنوات، أي في عام 1951.

هذه أهم الكتابات الحديثة المدونة بالفارسية في أدب الرحلة إلى الحج، وتظلّ رحلة آل أحمد متميزة، لأنها الوحيدة التي تتكوّن من يوميات، سجل فيها مؤلّفها مشاهداته، وانطباعاته، وهواجسه، وتطلعاته، وآماله، وانفعالاته، وهو يتنقل بين البقاع المقدسة، ويتعاطى مع رفاق السفر، ومع مختلف الناس القادمين من شتى المواطن الى الحج.


1- حسن ذو الفقاري وصاحباه. اللغة والآداب الفارسية. طهران: نشر چشمه، 2002 م، ص 206.

ص: 181

صحيفة المدينة

تعاقد اجتماعي سياسي

سعيد المهاجر

تمهيد

صحيح أنّ قبيلتي الأوس والخزرج، اللّتين كانتا تشكّلان العمود الفقري لمجتمع يثرب، تنتميان إلى أب واحد هو حارثة بن ثعلبة العنقاء، وامّ واحدة قيلة بنت كاهل، وكانوا يسمّونهما أبناء قيلة، إلّاأنّهما عاشتا معارك طاحنة ما إن تنتهي واحدة حتّى تبدأ اخرى أشدّ منها ضراوةً، وما إن تخبو واحدة حتّى تلتهب وتنفجر اخرى، فالدماء لم تجفّ بينهما ولم تتوقّف أبداً، وأسبابها نعرات قبليّة وعصبيّة وثارات راحت أيدي الأعداء- وبالذات يهود المدينة- تذكّيها، فما إن تضع معركة أوزارها أو يروا الهدوء قد استتبَ قليلًا حتّى يهيّئون الأسباب لغيرها، لتكون أكثر شراسة من سابقتها، وأعظم عنفاً وأشدّ ضراوة، فأرواح تزهق ودماء تسيل وأرامل وأيتام وثكالى تفجع، وما يستتبع هذا من قلق واضطراب وفقدان أمن وسلامة وخسارة في الأموال، كلّها كانت ترضي اليهود وتشبع قلوبهم الحاقدة ونفوسهم المملوءة بالبغض والكراهية لما حولهم.

ص: 182

فكانت حرب سُمير التي التقى فيها الفريقان الأوس والخزرج مع كامل بطونهما في قتال مرير، لم يتوقّف حتّى ترك وراءه جروحاً نازفة، وأجساداً مقطّعة، وأنفساً زاهقة، ويتامى وأرامل وامّهات ثكلى...

وتشبه حرب سُمير هذه حرب البسوس المعروفة، والتي دارت رحاها بين قبيلتي بكر وتغلب، شرارتها الاولى ناقة قُتلت، وصرخة امرأة تميميّة (البسوس):

«واذلّاه»، فكان ذلك القتل وهذا الصراخ ولادة تعيسة لسيوف مشهورة ورماح مرفوعة، ودماء وأجساد تتهاوى... دامت أربعين سنة.

ثمّ توالت بين قبائل المدينة معارك اخرى، كادت أن تفني الطرفين، فالرحابة والسرارة والحصين والفارع والحسر والربيع والبقيع والفجار الأوّل ومعبِّس والفجار الثاني، وفيه تحالفت الأوس وقبيلتان يهوديّتان هما بنو النضير وبنو قريظة ضدّ الخزرج، وبعاث التي كادت أن تفنى فيها قبيلة الخزرج حتّى صاح صائح: يا معشر الأوس، أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب، أي اليهود، كلّها أيّام دم وحقد وضغائن، واليهود من ورائها تشعل النار وتذكي الثارات، وتحيي الأحقاد وتوغر القلوب.

هذه خلاصة للحالة التي كانت تعيشها يثرب وللواقع المرير الذي كانت عليه هذه المدينة، التي راح جَمْعٌ ممّن بقي من عقلائها ينتظر من يُنقذهم ويخلّص البقيّة الباقية من دمارٍ حقيقي ينتظرهم، بعد أن يئست كلّ محاولاتهم لإنقاذ هذه البلاد التي صار همّها الشغال هو الخروج من حرب والدخول في اخرى، ومن حلف مع هذا أو ذاك للقضاء على الآخر من الأوس أو الخزرج.

تقول الرواية: لمّا قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكّة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاهم جلس إليهم، فقال لهم:

ص: 183

هل لكم في خير ممّا جئتم له؟

فقالوا له: وما ذاك؟

قال: أنا رسول اللَّه بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا اللَّه ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل عليَّ الكتاب، ثمّ ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

فقال إياس بن معاذ، وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا واللَّه خيرٌ ممّا جئتم له.

إلّا أنّ هذا الموقف لإياس لم يعجب آخرين ممّن كانوا معه، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنةً من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال:

دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول اللَّه عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثمّ لم يلبث إياس هذا أن هلك.

قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته: أنّهم لم يزالوا يسمعونه يهلّل اللَّه تعالى ويكبّره ويحمده ويسبّحه حتّى مات، فما كانوا يشكّون أن قد مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ما سمع (1).

ونظراً لكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله داعيةً صبوراً وصاحب هدف سماويّ، نراه لم يقنط ولم ييأس من دعوتهم، فحالهم حال القبائل الاخرى، والأشخاص الآخرين الذين تمرّدوا ثمّ آمن فريقٌ منهم، فلم يكفّ عن انتظارهم في مواسم الحجّ وعن دعوتهم إلى الإسلام، وكيف لا يكون حريصاً على دعوتهم وإنقاذهم وهو على اطّلاع واسع ومعرفة تفصيليّة بما يدور بينهم من قتال، وما يتآمر به عليهم أعداؤهم داخل يثرب وخارجها، وبما يبذله اليهود في المدينة من جهود حثيثة


1- انظر السيرة النبوية لابن هشام 2: 427- 428.

ص: 184

لإدامة زخم العداء بين قبائلها، وبما يأمله من أن تنتصر كفّة المخلصين من أهلها الذين ما فتئوا يترقّبون منقذاً ومخلّصاً لهم ممّا يعانون؛ ولهذا فقد سُرَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورأى في لقائه بستّة من رجالهم، وكانوا من الخزرج، فرصةً كبيرة حينما رآهم يصغون إليه ويستمعون إليه بحرص وصدق، وهو يحدّثهم حديثاً طيّباً عن أوضاعهم، وعن ما يحمله من رسالة سماويّة منقذة لهم.

وما إن أتمّ رسول اللَّه حديثه حتى بادر بعضهم إلى القول: «هذا واللَّه النبيّ الذي تتوعّدكم به اليهود»، وهو قول اللَّه تعالى في كتابه الكريم:

وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (البقرة: 89).

فيما قال بعض آخر: «إنّ بين قومنا شرّاً، وعسى اللَّه أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك، فلا رجل أعزّ منك» (1).

وبعد أن أعلنوا تصديقهم وإيمانهم به، رجعوا إلى أهلهم يبشّرونهم ويحدّثونهم بما سمعوه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وراحوا يترقّبون مجيئه لهم، وينتظرون بلهفة وشوق مَقْدَمه المبارك، بعد بيعتهم له في العقبة الأولى والثانية.

*** الرسول صلى الله عليه و آله في المدينة

ما إن حلّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالمدينة، بعد أن جاءها مهاجراً من مكّة المكرّمة في رحلة الهجرة النبويّة المعروفة، حتّى بادر صلوات اللَّه عليه- في وقت جمعت قريش جموعها وجنّدت صناديدها وعبّأت قوّاتها لملاحقته والتصدّي لمشروعه السماويّ- «إلى بناء أُسس دولته الفتيّة على أكتاف جموع من المؤمنين به وبرسالته


1- السيرة النبوية لابن هشام 2: 427- 428.

ص: 185

المباركة من المهاجرين والأنصار، وكانت أولى مهامّه ومسؤولياته- وهو العالِم بأنّ قريشاً لا تتركه وأنّها قادمة لا محالة، وهو العارف أيضاً بتركيبة مجتمع يثرب وقبائلها وطوائفها المتعدّدة من اليهود والمتواجدة هنا وهناك داخل يثرب وأطرافها، وما تقوم به من دور اجتماعيّاً واقتصاديّاً، وما كانوا يقومون به من تغذية للخلافات بين قبائل هذه البلاد- أن يوادع هذه الطوائف وتلك القبائل، متعهّداً باحترامها واحترام عقائدها ضامناً حريّة عباداتها وشعائرها، وأن يعيشوا مطمئنين ويعملوا- كغيرهم من المسلمين- بأمن وسلام... ما داموا موادعين مسالمين لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين، ولا يعكّرون أمناً ولا يثيرون فتنةً، ولا يسيئون إلى جوار... هذا من جهة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وأمّا من جهة اليهود بطوائفهم الثلاث الرئيسيّة في يثرب- وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة- الذين اتّخذوا من أطراف المدينة مأوى لهم وسكناً وعملًا وتجارةً، بعد أن طردهم من الشام وطاردهم نبوخذنصر وشتّت جموعهم ولاحقهم، حتى لم يجدوا مكاناً يأوون إليه ويأمنون به ملاحقته وبطشه بهم إلّاهذه المنطقة التي تسمّى (يثرب) وسمّيت فيما بعد بالمدينة، فسكنوا فيها وصارت لهم أسواق عامرة وتجارة واسعة، فقويت شوكتهم بما يملكونه من مال... (1)، فقد راحوا يراقبون الدِّين الجديد وتطوّراته في مكّة والمدينة، وتأتيهم أخباره ويطّلعون على أنشطته وتوسّعه وانتشاره، وكانوا يعرفون جيّداً أهمّيته وخطورته، وما قد يأتي به من مفاهيم وأحكام ومواقف قد تؤثّر على حياتهم الاقتصادية والسياسيّة... وقد أدركوا هذه كلّها، وراح فريق منهم يفكّر فيما يفعله، أو ماذا يجب عليهم فعله.


1- انظر العدد 16 من مجلّة ميقات الحج ص 176.

ص: 186

وما إن حلّ الدِّين بنبيّه وأتباعه في يثرب حتّى بادر زعماء هذه الطوائف: حي ابن أخطب زعيم بني النضير، وكعب بن أسد زعيم بني قريظة، ومخيريق زعيم بني قينقاع، يدرسون الحالة الجديدة التي حدثت في يثرب، وما يمكنهم فعله إزاءها، فكان قرارهم أن يهادنوا هذه الدعوة.

تقول الرواية: «... وجاءته اليهود فقالوا: يا محمّد إلى ما تدعو؟

فقالوا له: قد سمعنا ما تقول، وقد جئناك لنطلب منك الهدنة، على أن لا نكون لك ولا عليك، ولا نعين عليك أحداً، ولا نتعرّض لأحد من أصحابك، ولا تتعرّض لنا، ولا لأحد من أصحابنا، حتى ننظر إلى ما يصير أمرك، وأمر قومك.

فأجابهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً: ألّا يعينوا على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا على أحد من أصحابه، بلسانٍ ولا يد، ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية، ولا بليل ولا نهار. اللَّه بذلك عليهم شهيد، فإن فعلوا فرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حلٍّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم، وأخذ أموالهم، وكتب لكلّ قبيلة منهم كتاباً على حدة...» (1)

وشكّل هذا المرحلة الأولى بين الطرفين في المدينة، المسلمين واليهود، وكانت هذه المرحلة قد مهّدت الطريق للمرحلة الأخرى ألا وهو كتابة الصحيفة المعروفة، التي تعدّ أوّل عهد أو عقد أو ميثاق لبناء التعايش الاجتماعيّ والسياسيّ في مجتمع المدينة، فقد دوّنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لبناء حالة اجتماعية تعاقديّة وتعارقيّة، تحفظ التنوّع والانتماءات الدينيّة بين أبناء ذلك المجتمع الذي يضمّ الفئة المسلمة المهاجرين والأنصار، واليهود الذين يعودون إلى طوائف شتّى.

وقد ظلّت هذه الصحيفة- على اختلاف تسمياتها بما تحمله من بنود- تشكّل


1- بحار الأنوار للعلّامة المجلسي 19: 110- 111.

ص: 187

التمثيل الحيّ للميثاق الذي ارتضته الشريعة الإسلاميّة وأمضته في التعامل مع كلّ الفئات الاخرى الدينيّة وغيرها، التي لم تنضمّ للدِّين الجديد ولم تعلّق مواقفها عليه، والذي حلّ بين ظهرانيها، مراعياً حقوقهم جميعاً ومبيّناً واجباتهم وما عليهم الالتزام به.

فاليهود الذين كانوا الأبرز والأظهر وجوداً بما يمتلكونه من نشاط اقتصاديّ عريق، قد يكونون عرضة للاعتداء، إلّاأنّ التاريخ لم يسجّل لنا أيّ حالةٍ من حالات الاعتداء عليهم، فبقيت نفوسهم وأموالهم وأعراضهم في أمنٍ وسلام، بعيدة عن أيّ شي ء يعكّرها أو يقلقها، ما داموا مسالمين غير عابثين بأمن الدولة وغير مخالفين لما ارتضوه من الصحيفة وبنودها، التي لم تكن وحياً نازلًا عليهم من السماء، بل كانت ثمرةً وحصيلةً لما دار من تفاوض حرّ نزيه بينهم وبين الرسول صلى الله عليه و آله ومعه المسلمون، فكانت بنود هذه الصحيفة مبعث رضا الأطراف جميعاً، واندرجت بعد ذلك- من خلال ما يترتّب عليها من الالتزام- تحت عنوان الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق.

إذن: تمخّض عن هذا الاتّفاق وضع اجتماعي متوازن بين المسلمين واليهود، ولم نعثر على أيّ خلل فيما يسمّى بالنسيج الاجتماعي بالرغم ممّا كان يمارسه اليهود من أفعالٍ لتنفيس أحقادهم على الدِّين الجديد ومنتسبيه، وبالرغم من كلّ التحالفات السريّة التي أبرموها مع منافقي المدينة في الداخل وأعداء الإسلام في الخارج، فكانت لهم علاقات مشبوهة وعهود تآمريّة مع مشركي قريش وزعمائها.

فيما لم يقم المسلمون بأيّ عمل مخلّ ببنود هذه الصحيفة، بل راح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- مع معرفته بنواياهم ومؤامراتهم وأعمالهم الخبيثة- يكثر من استقبالهم والاستماع إليهم ويحلّ مشاكلهم، ويرجعهم إلى ما عندهم من أحكام

ص: 188

شرعيّة جاءت بها التوراة، حذراً من أن يشعرهم بأنّه يريد أن يفرض عليهم حكماً إسلامياً، ويجبرهم على قبوله، بل أكثر من هذا راح وحي السماء يتدخّل مباشرة في دفع الظلم ودرء الحيف الذي كاد أن ينزل بيهوديّ بري ء، فهذه آيات تسع من سورة النساء، جاءت لتثبت حقّ المظلوم وتنتصر له وإن كان يهوديّاً وترفض الظالم وإن كان مسلماً، وهي سابقة عظيمة تركت آثارها على واقع الحياة الاجتماعيّة:

إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ا 105 وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ا 106 وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماًا 107 يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَايَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ا 108 هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ا 109 وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ا 110 وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ا 111 وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ا 112 وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (النساء: 105- 113).

فقد اتّفق جمعٌ من المفسّرين على أنّ أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق الذي سرق درعاً وخبّأها عند يهودي، فوجدت عنده، فرماه طعمة بها،

ص: 189

وحلف أنّه ما سرقها. فسأل قومه النبيَّ أن يجادل ويخاصم عنه ويبرئّه، فنزلت الآيات... (1)

هذا، وأنّ من خصائص هذه الصحيفة، أنّها تقبل الآخرين بغضّ النظر عن دينهم وانتمائهم وقوميّاتهم وألوانهم، فكلّ هذه لا تشكّل في نظر الإسلام إلّادوائر صغيرة تذوب أو تندرج في دائرة أكمل وأشمل هي دائرة الامّة الواحدة، كما يؤكّد على من يلتزم بهذه الدوائر وينتمي إليها أن لا يكون التزامه ذاك أو انتماؤه هذا طاغياً على التزامه وانتمائه للعقيدة السماوية، فهي الأعمّ وهي الأفضل أجراً في الدُّنيا والآخرة.

*** وهذه الصحيفة، أطلق عليها أسماء متعدّدة فهي الكتاب، كما سمّاها ابن إسحاق حيث قال: وكتب رسول اللَّه كتاباً، فيما سمّاها غيره بالصحيفة لورودها سبع مرّات في بنود الصحيفة، وبالوثيقة وبدستور المدينة وهو ما عليه بعض الكتّاب المعاصرين. ولا دليل على التسميتين الأخيرتين من بنودها أو من غيرها، وتبقى التسميتان الأوليان هما الأنسب.

وبغضّ النظر عن تسمياتها، فهي عبارة عن معاهدة دوّنها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو في المدينة المنوّرة بين المسلمين مهاجرين وأنصار والقبائل العربيّة في المدينة وكان عددها اثنتي عشرة قبيلة واليهود بقبائلهم العشر، فخلدت هذه المعاهدة وصار لها شأن رفيع يذكر، بوصفها أوّل دستور مكتوب يتضمّن عقداً قانونيّاً متميّزاً يرسّخ الإخاء الإسلامي وينشئ كياناً سياسيّاً فريداً وتنظيماً سياسيّاً موحّداً، مع بقاء الجماعات القبليّة التي ألزمت نفسها ببنود الصحيفة على حالها،


1- انظر التفسير الكبير للرازي ومجمع البيان وغيرهما عند تفسير الآيات المذكورة...

ص: 190

وهي عبارة عن تحالف عسكري، وهي بالتالي معاهدة وحّدت شعباً مختلفاً في اعتضاداته أو هو تنظيم سياسي موحّد، حكومته المركزيّة بيد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، صلاحيّاتها إعلان الحرب أو تثبيت السلم، ولها الحقّ في إصدار الأحكام القضائيّة، وهي الراعية لبنود الاتفاقيّة المذكورة، والجميع يعود إليها في فضّ المنازعات وإنهاء الاختلافات.

نصّ الصحيفة

قال ابن إسحاق، المتوفى سنة 151 هجرية، وهو أقدم من نقل كتابه صلى الله عليه و آله بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود:

وكتب صلى الله عليه و آله كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادعَ فيه اليهود وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«هذا كتاب من محمّد صلى الله عليه و آله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، إنّهم امّة واحدة من دون الناس.

المهاجرون من قريش على ربعتهم (1)، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم (2) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (3) الأولى، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم


1- الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
2- العاني: الأسير.
3- المعاقل: الديات، الواحدة: معقلة.

ص: 191

تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو النجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكلّ طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

وإنّ المؤمنين لا يتركون مُفْرَحاً (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عَقْل.

وأن لا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمن دونه، وأنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (2) ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإنّ أيديهم عليه جميعاً، ولو كان وَلَد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن، وإنّ ذمّة اللَّه واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

وإنّ من تَبِعنا من يهود، فإنّ له النصر والأسوة، غير مظلومين


1- ويروى «مفرجاً» وهو بمعنى المفرح بالحاء المهملة. قال ابن هشام: المُفْرَح: المثقل بالدَّين والكثير العيال. قال الشاعر: إذا أنت لم تبرح تؤدّى أمانةً و تحملُ أخرى، أفرحتك الودائع هذا البيت من شعر لبيهس العذري.
2- الدسيعة: العظيمة، وهي في الأصل: ما يخرج من حلق البعير إذا رغا. وأراد بها هاهنا: ما ينال عنهم من ظلم.

ص: 192

ولا متناصرين عليهم.

وإنّ سِلْم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللَّه، إلّاعلى سواء وعدل بينهم، وأنّ كلّ غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً، وأنّ المؤمنين يبي ء (1) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللَّه، وأنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدى وأقومه، وأنّه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن، وأنّه من اعتبط (2) مؤمناً قتلا عن بيّنة فإنّه قود به إلّاأن يرضى وليّ المقتول، وأنّ المؤمنين عليه كافّة، ولا يحلّ لهم إلّاقيام عليه، وأنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن باللَّه واليوم الآخر، أن ينصر مُحدثاً ولا يؤويه، وأنّه من نصره أو آواه، فإنّ عليه لعنة اللَّه وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وانّكم مهما اختلفتم فيه من شي ء، فإنّ مردّه إلى اللَّه عزّوجلّ، وإلى محمّد صلى الله عليه و آله.

وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلّا من ظلم وأثم، فإنّه لا يُوتِغ (3) إلّانفسه، وأهل بيته، وأنّ ليهود بني النجّار مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلّامن ظلم


1- يبي: أبأت فلاناً بفلان، إذا قتله به قصاصاً.
2- اعتبطه: أي قتله بلا جناية منه توجب قتله.
3- يُوتغ: يهلك ويفسد.

ص: 193

وأثم، فإنّه لايُوتغ إلّانفسه وأهل بيته، وأنّ جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وأنّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ البرّ دون الإثم، وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم، وأنّ بطانة يهود كأنفسهم، وأنّه لا يخرج منهم أحد إلّابإذن محمّد صلى الله عليه و آله، وأنّه لا ينحجز على ثأر جُرح، وأنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلّامن ظلم، وأنّ اللَّه على أبرّ هذا (1)، وأنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم، وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنّ الجار كالنفس غير مُضارّ ولا آثم، وأنّه لا تُجار حُرمة إلّابإذن أهلها، وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنَّ مردّه إلى اللَّه عزّوجلّ، وإلى محمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنّ اللَّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه (2)، وأنّه لا تُجار قريش ولا من نصرها، وأنّ بينهم النصر على من دَهم يثرب، وإذا دُعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه، وأنّهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك، فإنّه لهم على المؤمنين، إلّامن حارب في الدِّين على كلّ اناس حصّتهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وأنّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة».

قال ابن هشام: ويقال: مع البرّ الُمحسن من أهل هذه الصحيفة.


1- على أبرّ هذا؛ أي على الرضا به.
2- أي أنّ اللَّه وحزبه المؤمنين على الرضا به.

ص: 194

قال ابن إسحاق: وأنّ البرّ دون الإثم، لا يكسب كاسب إلّاعلى نفسه، وأنّ اللَّه على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرّه، وأنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظلم وإثم، وأنّه من خرج آمنٌ، ومن قعد آمن بالمدينة، إلّامن ظلم أو أثم، وأنّ اللَّه جار لمن برّ واتّقى، ومحمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).

وقفة مع بنود الصحيفة (2)

نكتفي هنا بشرح مختصر لبنود الصحيفة مبتدئين بمقدّمتها وهي- بعد البسملة-:

هذا كتاب من محمّد النبيّ

فقد حدّد هذا أنّ مبعث هذه الصحيفة ومبدعها هو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دون غيره.

بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.

يبيّن هذا أنّه صلى الله عليه و آله سنّها ووضعها بين جمع من الناس وهم المؤمنون والمسلمون، وهو تعبير يشمل من كان من قريش من المهاجرين، حيث إنّ قريشاً تضمّ أو تتألّف من ثلاث وعشرين قبيلة، ويشمل من كان من أهل يثرب وهي التسمية القديمة للمدينة، وهم الأنصار الأوس والخزرج الذين آووا ونصروا، وتشمل من


1- يقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كتب هذا الكتاب قبل أن تفرض الجزية، وإذ كان الإسلام ضعيفاً، وكان لليهود إذ ذاك نصيب في المغنم إذا قاتلوا مع المسلمين، كما شرط عليهم في هذا الكتاب النفقة معهم في الحروب. راجع الروض الأنف. وهذا النصّ مأخوذ من السيرة النبوية لابن هشام 2: 501- 504، ولهذه الصحيفة مصادر تاريخيّة اخرى.
2- هذه نظرة مختصرة، ومَن أراد المزيد فعليه بالرجوع إلى كتاب: مكاتيب الرسول، للشيخ الأحمدي، فقد ذكر شرحاً وافياً للصحيفة مع مصادرها. في الاجتماع السياسي الإسلامي، للشيخ محمّد مهدي شمس الدِّين، الملحق الثالث 259- 299 فقد عالج هذه الصحيفة شرحاً لبنودها ودراسة لسندها ومصادرها...

ص: 195

تبعهم أي تبع هؤلاء (المؤمنون والمسلمون) ولحق بهم من الأقوام الاخرى، وتحمّل ما يتحمّلون من بذل وعطاء سواء أكان بالأنفس أم الأموال، وقد اندرج هذا تحت كلمة (وجاهد معهم).

إنّهم امّة واحدة من دون الناس

وقد وصفت الصحيفة أو الكتاب هذا التجمّع بأنّه امّة واحدة متميّزة من دون الناس، الذين لم يدخلوا في بنود الصحيفة، وكلّ من لم يكن فيها، وقد يكون هؤلاء من سكّان المدينة أيضاً، فالصحيفة لم تقتصر على من سكن المدينة، بل شملت كلّ من ارتضى بنودها ووافق عليها والتزم بها بغضّ النظر عن سكنه أو عقيدته أو مذهبه أو عرقه أو لونه أو قبيلته، فمن ارتضاها فقد دخل في هذه الامّة وكان واحداً منها، ومن لم يرتض بنودها أو قاومها فقد خرج منها وصار امّةً اخرى مقابل الأولى.

المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

ثمّ في هذا البند راحت الصحيفة تفصّل أوضاعهم، وأنّهم على الحالة التي تواجدوا عليها والوضع الذي هم عليه، والأمر الذي يتبنّونه، بدءاً بالمهاجرين، وهم من قريش وقبائلها المتعدّدة، وكلمة المهاجرين يُراد بها أولئك النفر الذين هاجروا بعدما آمنوا ثمّ ظلموا من قبل مشركي مكّة فأذن لهم رسول اللَّه بالهجرة وصار يطلق عليهم لفظ المهاجرين دون أن تذكر أسماء قبائلهم؛ إمّا لعدم وجود تمايز يُذكر بين قبائل قريش، وإمّا لأنّه لم تكن قد آمنت من هذه القبائل إلّاأعداد قليلة، فاكتفى النصّ بذكرهم تحت اسم المهاجرين.

وكلمة على ربعتهم: أي على الحالة التي كانوا عليها، أو على أمرهم الذي عاشوا وتآلفوا وتفاهموا عليه قبل مجي ء الإسلام، بشرط أن لا يكون هناك تشريع

ص: 196

سماويّ يلغي أو يغيّر حكماً من أحكامهم أو حقّاً أو التزاماً أو عادةً... وعندئذ يكون اتّباع التشريع السماويّ هو الأوجب بالاتّباع.

يتعاقلون بينهم:

عَقَلَ: عقل عنه، أدّى ما كان لزمه من دِيَة، وعقل له دم فلان: ترك القود للدية... واعتقل من دم فلان أو من دم عائلته: أخذ العقل أي الدِّية.

فهم على ما تعارفوا عليه من ديات تخصّ القتل أو الجرح أو ما شابه ذلك، فهي على حالها ما لم يأتِ تشريع أو حكم إسلاميّ يلغيها أو يغيّرها.

وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين: الفداء:... افتدى به وافتدى منه بكذا: استنقذه بماله.. وهو من الفدية التي تدفع لفكّ الأسير وإطلاق سراحه من الأسر.

وكلمة بالمعروف، إن اختصّت بفداء الأسير، فهي تعني عدم المغالاة في طلب الفدية من قبل الآسر، وتعني من جانب آخر عدم البخل وعدم الشحّ ممّن يدفعها أو من قبل أولياء ذلك الأسير.

وإن قلنا: إنّ (بالمعروف والقسط بين المؤمنين) تشمل كلّ ما ورد في العبارة أو البند المذكور، وهي بالتالي قيد وضعه الشرع أو ميزان انبثق من الشريعة السماويّة التي جاءت لتهذّب ما عندهم من أعراف وعادات وتقاليد إن لم تلغها وتقتلعها من جذورها أو تقيّدها بكونهم امّةً واحدةً ما داموا ملتزمين ببنود هذه الصحيفة، وما يترتّب على كونهم امّة واحدة من تآزر وتعاون وتآلف. وفي هذا إقرار واضح من الشريعة الإسلاميّة بالقبائل التي راحت تعدّدها في البنود الآتية وتقرّها على ما عندها، فحفظت لها كيانها ونظامها حتى وإن هذّبت ما عندها أو جعلت قيوداً تحدّده وتضيّق دائرته...

وهكذا الكلام نفسه في البنود 3- 10 التي تخصّ القبائل التي عدّدتها الصحيفة.

ص: 197

- وأنّ المؤمنين لا يتركون مفرجاً بينهم، وأن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.

الفرج أو المفرج: هو الشخص الذي أثقلته الديون والعيال...

الفرق بين هذا البند والبند السابق له، وهما يدعوان كلاهما إلى التضامن والتكافل بين الأفراد أو المجتمعات، الفرق هو أنّ صفة الإيمان هنا هي الصفة المطلوبة، وقد يكون المقصود به الإيمان المصطلح أو الإيمان ببنود هذه الصحيفة وأنّهم امّة واحدة بغضّ النظر عن التزاماتهم العقائدية، والصحيح كما يبدو لي هو الثاني.

فهؤلاء المؤمنون بهذه الصحيفة، لا يتخلّون عمّن وقع في ضيق من العيش بسبب ديونه أو عياله بأن يقدّموا له ما ينقذه من الأسر أو من القتل، وبالتالي فهو عاقلته التي يعود عليها وإن لم ينتسب أو يرتبط بهم بنسب ودم... فهؤلاء المؤمنون هم امّته أو عشيرته التي يعود إليها، وهي التي تحميه وتذبّ عنه.

- وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.

كانت في المدينة توازنات وتحالفات وضعت قبل هذه الصحيفة. توازنات بين قبيلتي الأوس والخزرج، وتحالفات بين كلّ منهما ويهود المدينة، فجاء هذا البند ليمنع أيّ تحالفات اخرى بين هؤلاء بعد إبرام هذه الصحيفة، فالتحالفات السابقة أقرّتها الصحيفة، وفي الوقت نفسه منعت قيام تحالفات جديدة؛ لأنّها تخلّ بالحالة التي أمضتها الصحيفة، وتخلق خللًا أمنياً داخل مجتمع الصحيفة.

وأنّ المؤمنين المتّقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأنّ أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.

في هذا النصّ توضيح لما قد يقع من شرور على الجماعة المسلمة، وأنّ هذه الجماعة عليها مسؤوليّة درء مثل هذه المفاسد وحفظ نفسها منها، وهذه الجماعة

ص: 198

تتمثّل بالمؤمنين المتّقين، الذين يجب- بوصفهم امّةً واحدةً- أن يكونوا يداً واحدةً وصفّاً مرصوصاً لمواجهة وقمع مؤامرات تحاك في داخل ساحتهم أو تأتيهم من خارجها، حتّى وإن كانت هذه المؤامرات من قبل أقرب شخص لهم ألا وهو ولد أحدهم، لأنّهم امّة واحدة متلاحمة متضامنة حقوقاً وواجبات وأهدافاً وطموحات..

ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.

نظراً لتعدّد الولاءات والتحالفات، وسعي الإسلام للحدِّ منها، انطلق هذا البند كوسيلة من الوسائل التي ارتآها الإسلام لسعيه الحثيث دون استمرار تحالفات الجاهليّة سواء أكانت بين أشخاص أو جماعات أو قبائل... وبالتالي تكون الصحيفة هي البديل لتلك التحالفات، وإلّا فما هو الغرض من كتابتها وجعل الموقّعين عليها والذين ارتضوا بنودها امّةً واحدةً؟!

- وأنّ ذمّة اللَّه واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

في هذا البند امور:

1) إنّ ذمّة اللَّه، أي عهد الأمان وميثاقه وضمان النفس والمال وحرمتهما، واحدة، وقد اكتسبت قدسيّتها وحرمتها ومنزلتها من إضافتها إلى اللَّه تعالى.

2) سائر النصّ ما تعارف عليه ذلك المجتمع من تصنيف أفراده إلى أدنى وأعلى، تمهيداً لعلاج هذه الحالة السيّئة، وإلّا ليس في عرف الإسلام أدنى وأعلى، فالكلّ متساوون، ولا فضل لأحد على آخر إلّابالتقوى و إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (1)

، وأنّ الناس من آدم وآدم من تراب.


1- الحجرات: 13.

ص: 199

3) عالج هذا البند هذه الحالة بأن صرّح أنّ ذمّة اللَّه واحدة أوّلًا، وأنّ من كان في درجة أدنى كما تسمّونه في مجتمعكم له الحقّ أن يجير الآخر المشرك ويعطيه الأمان مهما كان عددهم، وإن قيّده بعض الفقهاء بما لا يزيد على عشرة من المشركين، وعلى المجتمع أن يحترم إجارته وأمانه، ما دام هذا الشخص قادراً على ذلك، وبالتالي ليس هناك أدنى أو أعلى وإنّما يبقى الاعتبار هو الإيمان لا غير.

ثمّ راح يبيّن هذا البند أمراً آخر وهو أنّ للمؤمنين منزلةً خاصّة بهم، وهو أنّهم أولياء بعضهم ببعض وموالي بعضهم لبعض، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (1)

- وأنّ من تبعنا من يهود، فإنّ له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

يصرّح هذا البند بأنّ من تبع المسلمين من يهود ترتّب على ذلك الاتباع حقوق لهم، كنصرهم إذا ما تعرّضوا للاعتداء، فدماؤهم مصانة وأموالهم مضمونة وأعراضهم محميّة، وليس هذا فقط، وإنّما ينصرون أيضاً إذا خاضوا نزاعاً أو معركة بشرط كونهم محقّين فيه غير معتدين أو متجاوزين أو ظالمين لأحد.

- وأنّ سلم المؤمنين واحدة، ولا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللَّه إلّا على سواء وعدل بينهم.

الظاهر لنا من هذا النصّ أنّ مسألة السلم ليست مسألة فرديّة متروكة لكلّ فرد، ممّا يسبّب خللًا واضطراباً في الساحة، وإنّما هي مسألة تخصّ الامّة وتتعلّق بالجماعة المسلمة وهي شأن من شؤونها، فإذا تشاورت وتداولت أمرها بينها فلها أن تتّخذ قرارها عندئذ بالسلم على سواء وعدل.


1- التوبة: 71.

ص: 200

وأنّ كل غازية معنا يعقب بعضها بعضاً.

الغازية: تأنيث الغازي، وكلمة «معنا» هنا تدلّ على أنّ هذه الغازية هي من غير المسلمين، فمعنا أي معنا نحن المسلمون.

وكلمة يعقب بعضها بعضاً، أي إذا ما تقدّمت مجموعة منهم وأنهت مهمّتها تأتي بعدها مجموعة اخرى، أي هناك تعاقب أو تناوب بين مجموعات كلّ غازية تغزو مع المسلمين.

وأنّ المؤمنين يَبي ءُ بعضهم على بعض بما نال دماءَهم في سبيل اللَّه.

يبي ء: أبأت فلاناً بفلان، إذا قتلته به قصاصاً.

يبدو لي أنّ هذه الفقرة تستند إلى الآية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ (1)

.

فمسؤوليّة القتل إن وقعت في عمل جهاديّ فمن يقتل من المؤمنين يتحمّلها المؤمنون أنفسهم فهم العاقلة إن صحّ التعبير، يتعاقلون بينهم كما سبق، ولا مكان هنا للثارات.

ثمّ نختم هذا البند ب: وأنّ المؤمنين المتّقين على أحسن هدىً وأقومه.

وأنّه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.

طالما استمرّت حالة الحرب بين المسلمين وقريش، فليس لأحد من المشركين، سواء أكان ممّن ارتضى الصحيفة أم لا، أن يجير مالًا لقريش ولا نفساً، وليس من حقّه أن يمنع مؤمناً إذا أراد أن يُصادر مالًا لقريشيّ أو يقتله أو يأسره.

وأنّه من اعتبط مؤمناً قتلًا عن بيّنة، فإنّه قَودٌ به، إلّاأن يرضى وليّ المقتول، وأنّ المؤمنين عليه كافّة، وأنّه لا يحلّ لهم الاقتتال عليه.


1- التوبة: 71.

ص: 201

إنّه القصاص وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الْأَلْبَابِ (1)

، أي من قتل مؤمناً ظلماً بلا جناية توجب قتله، قتل بعد حصول البيّنة، وأنّ كلمة قتلًا الواردة في البند خطأ والصحيح قتل، إلّاأن يرضى وليّ المقتول، فالأمر له، وهذا البند منطلق من: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً (2)

، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (3)

.

أن يعفو وليّ الدم، أو يطلب الدية.. وقد منع البند طلب الثأر وما يؤدّي إليه من اقتتال بين أهل القاتل والمقتول، بأن أرجع الأمر إلى الامّة التي يمثّلها القضاء الشرعي، وطلب من المؤمنين أن يشجبوا ما فعله القاتل ويستنكرونه ويقفوا ضدّه، حتّى لا تتكرّر هذه الجريمة في المجتمع، وتترك آثارها السيّئة عليه.

وأنّه لا يحلّ لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة، وآمن باللَّه واليوم الآخر أن ينصر محدثاً، ولا يؤويه، وأنّ من نصره وآواه فإنّ عليه لعنة اللَّه وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

والمحدث: هو من يخلق اضطرابات داخل الجماعة المسلمة أو يكون سبباً في الإخلال بالأمن العام، وإيجاد أجواء مملوءة بالقلق وعدم الاستقرار، فعلى الجماعة المسلمة أن لا تنصر مثل هذا الشخص ولا تهيى ء له المأوى ولا تدافع عنه، ومن يفعل هذا فعليه لعنة اللَّه وغضبه...

هذا وأنّ الاختلاف إن وقع فعلى المختلفين من أهل هذه الصحيفة إعادته إلى اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله بوصفه المسؤول الأوّل في هذه الامّة.


1- البقرة: 179.
2- الإسراء: 33.
3- البقرة: 178.

ص: 202

وهذا ما بيّنه البند بقوله: «وإنّكم مهما اختلفتم في شي ء، فإنّ مردّه إلى اللَّه وإلى محمّد صلى الله عليه و آله».

وهذا البند يبيّن مسؤوليّة اليهود بوصفهم طرفاً في هذه الصحيفة، فعليهم التزامات مالية.

«وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين».

ثمّ راحت البنود التالية لهذا البند تعترف بأنّ يهود بني عوف، وهكذا بقيّة القبائل اليهودية الاخرى، امّة مع المؤمنين، وأنّ لهم دينهم...

«وإنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم وأنفسهم، إلّامن ظلم أو أثم، فإنّه لا يوتغ إلّانفسه وأهل بيته».

وهي بالتالي بنود جاءت وكان غرضها تنظيم علاقات كلّ واحدة منها مع بعضها ومع من حولها من المسلمين، محذّرةً من الاعتداء على الوضع الذي أنشأته الصحيفة والنظام السائد وأمنه وسلامته معترفةً بالتنوّع الموجود داخل الساحة بقولها: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ولكنّ هذا لا يعني قيام دول صغيرة تتنافى صلاحيّاتها مع وجود الدولة الامّ، بل هي امّة واحدة تحكمها دولة واحدة ذات تنوّع داخلي محفوظ، ترعاه السلطة العليا وتحافظ عليه ما دام ملتزماً ببنود الصحيفة غير متجاوز عليها.

وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم، وأنّ بطانة يهود كأنفسهم، وأنّه لا يخرج أحد منهم إلّابإذن محمّد، وأنّه لا يتحجّر على ثأر جرح، وأنّه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته، إلّامن ظلم، وأنّ اللَّه على أبر هذا، وأنّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة، البرّ دون الإثم، وأنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم، وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وهذه الجملة تكرار لبند سابق.

ص: 203

هذا النصّ بطوله يتناول بنوداً- إضافة إلى ما مرّ- متعدّدة، كلّها تقريباً تتناول وضع اليهود وما لهم من دور في الحياة، وعلاقاتهم بالمسلمين ووظائفهم وما يجب عليهم هم ومواليهم وبطانتهم وحلفاؤهم، وما لهم من حقوق.

فحكم موالي اليهود وبطانتهم حكم اليهود أنفسهم ما داموا مواظبين على الالتزام بالصحيفة، فلا يدخلون في حرب ضدّ المسلمين ولا يتآمرون عليهم.

وقد منع البند الآخر أن يخرج أحدهم إلّابإذن من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بوصفه رئيس الدولة، سواء أكان الخروج من المدينة إلى مكان آخر حفظاً لهم أو تحفّظاً منهم، أم كان المقصود بالخروج المذكور هو الخروج عن تحالفاتهم رعايةً للتوازنات في مجتمع الصحيفة.

وقد رفض البند التالي مسألة الثأر، وليس لصاحب الدم أو لوليه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً أن يأخذ حقّه عبر الثأر، بل عليه أن يعيد الأمر إلى السلطة القضائيّة لتقتصّ من الجاني، وأن لا تتعدّى الجناية ومسؤوليّتها إلى غير الجاني انطلاقاً من الآية وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (1)

.

وفي البند الأخير من حزمة البنود المذكورة، اعتراف واضح باستقلاليّة أموال كلّ من اليهود والمسلمين، ولكنّ الطرفين يتحمّلان النفقات العسكريّة والدفاعيّة. وعليهم يقع النصح والنصر ضدّ الأعداء، فهو تعاون وتآلف على البرّ دون العدوان.

وممّا يلفت النظر أنّ ذيل هذا البند يشير إلى أنّ الحليف والموالي إذا ارتكب جريمةً فهو بذاته يتحمّل المسؤوليّة دون القبيلة التي تحالف معها، على عكس ما كان دارجاً، وهو أنّ القبيلة مسؤولة عمّا يرتكبه حليفها، ويبقى المبدأ الفاعل- وهو


1- الأنعام: 164.

ص: 204

النصر للمظلوم- قائماً حيّاً يعمل به، وأكّدته الصحيفة والتزمت به، سواء أكان المظلوم مسلماً أم يهوديّاً، وهو ما ذكرناه في سبب نزول الآيات 105- 113 من سورة النساء.

وبما أنّ المدينة هي عاصمة الدولة الإسلاميّة، والأعداء يحيطون بها، والمنافقون مازالت مؤامراتهم مستمرّة في داخل المدينة، فالوضع الأمني يفرض على الدولة اتّخاذ ما تراه مناسباً، ولهذا حرّمت كلّ نشاط أو تحرّك يتمّ بعيداً عن أنظارها، أو يخترق سلطتها أو سيادتها أو أمنها، ولهذا ورد البند (وأنّ يثرب حرام).

ثمّ راحت الصحيفة تقرّ مبدءاً من مبادئ التكافل والتضامن الاجتماعي وهو مبدأ الجوار، فجعلت الجار كالنفس، فكما أنّ الإنسان يدافع عن نفسه ومن يلوذ به عليه أن يدافع عن جاره ويحفظه شريطة عدم التجاوز على العدالة والقانون، فقالت: (وأنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم).

وأنّه لا تُجار حرمة إلّابإذن أهلها.

ذهب بعضهم إلى أنّ مرجع الضمير هو يثرب، والذي أراه أنّ مرجع الضمير هو أهل الصحيفة، لأنّ أي حرمة إن اجيرت بدون إذن أهل الصحيفة فهو اعتداء واضح على بنود الصحيفة وأهدافها ومشروعيّتها، وفسح المجال للآخرين ممّن هم خارج امّة الصحيفة للتآمر على أبناء الصحيفة.

وإذا قلنا: بأنّ مرجع الضمير هو يثرب، فأهل يثرب بعضهم لم يوافق على الصحيفة، بل بعضهم مدّ جسوراً مع أعداء الامّة الجديدة التي أنشأتها الصحيفة، وبعضهم نقض بنود الصحيفة بعد أن وافق عليها.

كلّ هذا يمنع من عودة الضمير إلى يثرب دون تخصيصه بأهل الصحيفة سواء أكانوا من أهل يثرب أو خارجها، ويبدو أنّ لهذا البند علاقة ببند سابق وهو (وأنّه

ص: 205

لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن)، كما وله علاقة ببند قادم (وأنّه لا تجار قريش ولا من نصرها).

لما يتركه هذا الفعل من آثار سلبية وظواهر سيّئة على وضع أهل الصحيفة وأمنهم.

وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإنّ مردّه إلى اللَّه عزّوجلّ، وإلى محمّد رسول اللَّه، وأنّ اللَّه على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه.

يؤكّد هذا البند على أن تردّ المنازعات إلى اللَّه عزّوجلّ وإلى محمّد رسول اللَّه، وهذا لا يعني أنّ كلّ خلاف أو شجار يُعاد إلى اللَّه ورسوله، وإنّما الخلاف الذي قد يترك آثاراً سيّئة كبيرة على أمن البلد وأبنائه، ولهذا قال البند: يخاف فساده، وهي منازعات واختلافات سياسيّة وأمنيّة تهدّد البنيان العام والوضع العام للدولة ومؤسّساتها.

ويبيّن هذا البند- وبشكل لا لبس فيه ولا غموض- الدور الكبير والمرجعيّ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حسم المنازعات وما تتعرّض له البلاد من مخاطر وأحداق جسيمة.

وأنّه لا تُجَار قريش ولا من نصرها.

يتعلّق هذا البند ببند سابق (وأنّه لا تجار حرمة إلّابإذن أهلها) أي إذن أهل الصحيفة كما بيّناه، وببند أسبق (وأنّه لا يجير مشرك مالًا لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن).

فمشركو قريش لا تُجَار حرمتهم، ولا تجار حرمة من تحالف معهم وقدّم لهم النصر، لما يشكّله ذاك التحالف وهذا النصر من خطورة على الموقف الإسلاميّ العام وموقف أهل الصحيفة بشكل خاصّ، فلا حرمة ولا إجارة لمحارب.

ص: 206

وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب.

هذا البند له علاقة أيضاً ب (وأنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة) إلّاأنّ البند المذكور أعلاه يبيّن أنّ التناصر لابدّ أن يكون بين أهل الصحيفة بوصفهم امّةً واحدةً على من داهم هذه البلدة (يثرب)، فيما كان البند السابق يصرّح بأن تتعاون جهودهم وتتظافر ضدّ كلّ من يحارب هذه الصحيفة.

والظاهر أنّ كلا البندين يحملان همّاً واحداً وهو الدفاع عن وجودهم سواء أكان متمثّلًا بأهل الصحيفة أو بيثرب وطنهم، فالدفاع عن الوطن دفاع عن الامّة، والدفاع عن الامّة دفاع عن الوطن وترابه وكيانه..

وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنّهم يصالحونه ويلبسونه، وإنّهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنّه لهم على المؤمنين، إلّامن حارب في الدِّين، وعلى كلّ اناس حصّتهم من جانبهم الذي قبلهم.

هذا المقطع من الصحيفة يشمل كلّاً من اليهود والمسلمين طرفي هذه الصحيفة.

وإنّ يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرّ المحض من أهل هذه الصحيفة، أو مع البرّ المحسن أو مع البرّ الحسن.

هناك يهود لهم تحالفات مع كلّ من الأوس والخزرج، وقد تحدّثت عنهم وعن تنظيم علاقاتهم التحالفيّة مع من يحالفون من قبائل المدينة، بنودٌ سابقة بدءاً ب: وأنّ يهود بني عوف امّة مع المؤمنين... وراحت تعدّد بقيّة قبائل اليهود.

ثمّ بيّن هذا البند أمراً مهمّاً ضمّنته وأقرّت به الصحيفة حيث جعلت البرّ يرفرف على جميع أهل الصحيفة ويتمثّل فيما لهم من حقوق مقابل ما يترتّب عليهم من واجبات، ومنها صون هذه الصحيفة وبنودها وعدم الكيد لها ولأهلها كما بيّناه سابقاً.

لا يكسب كاسب إلّاعلى نفسه، وأنّ اللَّه على أصدق ما في هذه الصحيفة

ص: 207

وأبرّه، وأنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.

واضح أنّ هذا يقرّر المسؤوليّة الشخصيّة للإنسان عن أيّ عمل يقوم به، وكما يؤكّد هذا البند حقوقاً لأهل هذه الصحيفة، يؤكّد ما عليهم من واجبات، وقد يكون هناك ظالم أو آثم، وبالتالي فالصحيفة- بما هي صحيفة- ليست لها القدرة على أن تحول وتمنع ظلماً أو إثماً، ظالماً أو آثماً، وإنّما تكتسب قدرتها وقابليّتها وقوّة الردع عن وقوع المآثم والمظالم من خلال أطرافها، وبقدر التمسّك بفقراتها تكون قدرتها الرادعة المانعة للإثم والعدوان.

الفقرة الأخيرة في هذا الكتاب أو الصحيفة، تقول: وأنّه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلّامن ظلم وأثم، وأنّ اللَّه جار لمن برّ واتّقى، ومحمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

الخروج هنا قد يفسّر خروجاً عن الصحيفة، فمع خروجه هو آمن من كلّ اعتداء ما دام غير ظالم ولا آثم ولا معتد.

ومن قعد عن نصرتها هو آمن أيضاً ما لم يكن ظالماً آثماً معتدياً..

قد يفسّر الخروج والقعود بهذا.

وقد يفسّر بالخروج والدخول من وإلى المدينة.

وهذا أيضاً يتّصف بالأمان في الحالتين شريطة أن يكون بإذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؛ فهما- أي الدخول والخروج- مقيّدان بما ورد في بند سابق: وأنّه لا يخرج أحد منهم إلّا بإذن محمّد.

مصادر الصحيفة:

مصادر هذه الصحيفة متنوّعة:

فهناك مصادر تاريخيّة نقلتها كتأريخ الطبري، طبعة أوربا، 1359- 1367.

ص: 208

والبداية والنهاية لابن كثير 3: 224.

وإمتاع الأسماع للمقريزي 1: 49 و 104 و 107.

وهناك مصادر حديثيّة:

صحيح مسلم 4: 216.

مسند أحمد 1: 271 و 2: 204 و 3: 242.

وكنز العمّال للمتقّي الهندي 5: 251.

والسنن الكبرى للبيهقي 8: 106.

والتهذيب للشيخ الطوسي 2: 47.

وبحار الأنوار للمجلسي 19: 167- 168.

والكافي للكليني (الفروع): 336.

والكافي (الاصول) 2: 666.

هذه مقالة مختصرة جدّاً، تناولت شرح بنود وفقرات صحيفة المدينة أو كتابها كما يسمّيها ابن إسحاق أو دستور المدينة كما رأيت عدداً من الكتّاب المعاصرين يذهب إلى تسميتها بهذا.

ص: 209

أدب الحجّ في المغرب العربي

نماذج من الرحلة الحجّية المعاصرة

في المغرب

د. سعيد بن سعيد العلوي

ملاحظات تمهيديّة:

1- أفادنا اشتغالنا بأدب الرحلة عموماً، وبالرحلة في العالم العربي الإسلامي خصوصاً، أنّ الرحلة تنبئ عن صاحب الرحلة أكثر ممّا تخبر عن موضوع المشاهدة؛ ذلك أنّ الرحّالة، إذ يجتهد في تصوير البلاد والمناظر التي يرتحل إليها ويطلب تحقّق الإمتاع والمؤانسة بما ينقله إلى قارئه من غرائب وعجائب، فإنّه في ذلك كلّه لا ينفكّ من الحديث عن الذات تصريحاً وتضميناً، ولا يملك أن يخرج عن الإهاب الحضاري الذي يصدر عنه، ولا أن يبتعد عن الثقافة التي ينتمي إليها.

وبعبارة اخرى إنّ الرحّالة يحمل معه، في سفره ومشاهداته، عالمه الذي ينتمي إليه، فهو حاضر وحضوره يقوى ويخفت بقدر ما يشعر بالغربة وبملاقاة الغريب عن أذواقه ولغته ودينه. وبالتالي فإنّ الحديث عن «الغريب والعجيب» يستدعي حضور «المألوف»، أي المعتاد عند الذات، شخصاً عينيّاً وثقافة وحضارة. وعلى سبيل المثال أبانت لنا قراءتنا لُامم الرحلات وأغناها في ثقافتنا العربية الإسلامية،

ص: 210

وهي «رحلة ابن بطوطة»، عن صدق هذه الفرضية، فلا يجد المتابع للرّحالة المغربي أبلغ ولا أوفى من التدليل على صحّة قولنا من المقاطع والفصول التي يضرب فيها صاحب الرحلة بعيداً، في أقصى بلاد الشرق الأقصى، أو يوغل، في الشطر الثاني من رحلته في ارتياد القرى والغابات البعيدة في مناطق إفريقيا السوداء. بيد أنّا لسنا إلى الحديث النسقي عن الرحلة ونظامها ونسقيّتها نقصد، وإنّما هي ملاحظة أولى تمهيدية وعامّة نصدر بها قولنا لغرض عساه يستبين بعد قليل.

2- نود التمهيد بملاحظة ثانية، تمهيدية وعامّة أيضاً، وهي أنّ قراءة متن الرحلة العربية الإسلامية تكشف لنا عن وجود أصناف وأنواع من الرحلات في حقيقة الأمر. ونحن نذكر أنّ أحد الباحثين النابهين، ممّن كان لهم اشتغال بالرحلة في الثقافة العربية الإسلامية وإسهام في نفض الغبار عن بعض النصوص الهامّة التي تكاد تُنسى، يحصي خمسة عشر صنفاً من أصناف الرحلة (1). فقد تكون الرحلة في الإسلام بهدف استكمال المعرفة أو تنقيحها في «رحلة علمية»، فالرحالة ينشد مجالسة عالمٍ أو الفوز بالإجازة العلمية منه. وقد تكون الرحلة متّصلة بالحياة الروحية. وقد تكون الرحلة خلوّاً من الأمر معاً فهي تستهدف المتعة والسياحة، فهما الوجهة والمقصد، كما أنّها تكون بهدف الحجّ وطلب الركن الخامس من أركان الإسلام في «رحلة حجّية»، أو هي تكون بهدف القيام بسفارة أو المشاركة فيها كاتباً مدوّناً أو مترجماً عن السفير فهي «رحلة سفارية».. ولعلّها تكون نتفاً من هذا كلّه فهي «رحلة عامّة» تجمع بين السياحة، والمتعة، والحجّ، وطلب العلم، وملاقاة أهل الزهد والورع.


1- انظر مقدّمة محمّد الفاسي لنشرته المحقّقة لرحلة محمّد بن عثمان المكناسي «الإكسير في فكاك الأسير»، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، 1965، الرباط.

ص: 211

3- ملاحظة تمهيدية، ثالثة وأخيرة، نود الإشارة إليها في إيجاز يقتضيه المقام وقد كان لنا بسط القول فيها في دراسة مفردة (1). والملاحظة- أو التنبيه- هي أنّ أدب الرحلة في العالم العربي الإسلامي يستدعي القسمة أو التصنيف بحسب الحقب التاريخية الكبرى والفاعلة في تشكيل الثقافة العربية الإسلامية، وهذا أمر طبيعي بل إنّه بديهي، غير أنّ ما يتعيّن إبرازه على وجه أخصّ هو أنّ هنالك سمات قوية واضحة تتميّز بها الرحلة في العالم العربي الإسلامي المعاصر، بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر وانتهاءً بالخمسينات من القرن الماضي. عن هذه السمات نقول- باختصار وفي إيماء سريع-: إنّها صدى الرجّة التي أحدثها في الوجدان الثقافي الإسلامي العربي المعاصر الاتّصال بالغرب الأوروبي واكتشاف المدنية المعاصرة. هذا ما يكشف عنه بوضوح الصنف من الرحلات، الذي نقول عنه: إنّه صنف «الرحلة الأوروبية»، ونقصد به ما دوّنه رحّالونا عن أوروبا في رحلاتهم إليها، أمثال الطهطاوي، والشدياق، وبيرم، وابن أبي الضياف و...

وأمّا المنتديات العلمية التي يجتازها صاحب الرحلة في رحلته الطويلة (والمتوسط في الرحلة الحجّية في العصور الوسطى سنة كاملة).

ولعلّي أذكر أنّ لتلك الرحلة سبباً قويّاً وهو كسب الرحلة المذاق الخاصّ الذي أتحدّث عنه، بأنّ الرحلة الحجّية تحوي في طيّاتها رحلة علمية حافلة بكلّ معانيها؛ ذلك أنّ صاحب الرحلة، وهو في الأغلب الأعمّ فقيه أو عالم من علماء الدِّين في مجال من مجالات الرواية والدراية، ينشُد ملاقاة العالم الفلاني الذي سمع عنه في الزيتونة أو الأزهر أو القدس أو المسجد النبوي أو في مكّة المكرمة، وهو يلتمس منه «إجازة علميّة» يرتفع بها قدرُه بين العلماء من أرض الوطن حين


1- سعيد بن سعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة: صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلّية الآداب، جامعة محمّد الخامس اكدال، 1995.

ص: 212

العودة إليه. وإنّما كان علينا انتظار الأزمنة المعاصرة لنجد صاحب رحلة حجّية من المغرب العربي، يقول عن رحلته: «إنّه قد جعل كتابه مختصراً، مقتصراً فيه على بيان الواقع دون توسّع في بحر المناسك وأحوال المواقع. فذاك ما قد أطال فيه السابقون، وأكثر من تكرار ذكره الرحالة والمؤلّفون» (1).

لقد كانت القاعدة العامّة، في أدب الرحلة الحجّية في المغرب العربي، هي ذكر المناسك والمواقع، وبالتالي التوسّع في مجالي كلّ من الفقه والجغرافيا، مثلما كان التقليد المتّبع هو «الترويج» على القارئ، بذكر أخبار «الغريب والعجيب»، بل لم يكن الأمر يخلو، أحياناً كثيرة، من التأمّلات الروحانية بل والشطحات الصوفية ينوب عن صاحب الرحلة مرويّاته ومحفوظاته من الأشعار والحكايات التي يمتزج فيها التاريخ العيني بالخرافة وتتداخل فيها التواريخ والحقب. وبالتالي فهي تستحيل، فعلًا، إلى إخبار عن الأحوال النفسية للرحّالة أكثر ممّا هي تخبر عن الحجّ والحجيج، مثلما هي تغدو متناً تتجاوز فيه أصناف الرحلات لتقترب من النعت العام الذي يقصده محمّد الفاسي بقوله: «الرحلة العامّة».

الحجّ في أدب الرحلة المغربيّة المعاصرة:

لا يتّسع لنا المقام للقول في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، فنحن نستسمح القارئ الكريم بالرجوع إلى دراستنا التي أشرنا إليها أعلاه، حيث عرضنا بالشرح والدليل (2) لجملة الفوارق التي نرى أنّها موجودة في أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي، وحيث يلزمنا، توطئة للحديث عن الرحلة المغربيّة المعاصرة إلى حيث تكون مناسك الحجّ والعمرة وزيارة الروضة الشريفة في ثاني الحرمين، ذكر


1- أحمد بن محمّد الصبيحي، الرحلة المغربية المكّية، مخطوط في الخزانة العامّة بالرباط، الورقة الأولى.
2- سعيد بن سعيد العلوي، أوروبا في مرآة الرحلة... مصدر سابق، ص 11- 28.

ص: 213

الملامح الكبرى الجليّة التي تميّز في أدب الرحلة العربية الإسلامية بين العصور وبين الأمكنة، نوجز فنقول في جمل قليلة قصيرة: إنّ الرحلة في التراث العربي الإسلامي تشترك مع أدب الرحلة عموماً (من حيث إنّه جنس أدبي له خصائص ذاتية، ومن حيث إنّه خطاب له منطقه الذاتي وقوانينه التي تتّصل بذلك المنطق)، وهذا ما يبرّر- على سبيل المثال- الدراسات المقارنة العديدة في الغرب الأوروبي بين رحلة ابن بطوطة ورحلات غيره من الرحّالين الأوروبيين إلى الحجاز، والمشرق العربي، ومصر، ودول المغرب العربي، وإلى دول الشرق الأقصى وغيرها، فالمقارنة ممكنة- من جهة بنية الخطاب الرحلي (/ نسبة إلى الرحلة)- بين هذه النصوص جميعاً، وهنالك ثوابت تظلّ موجودة مع تعدّد لغات الحديث واختلاف الأزمنة والأمكنة، والرحلة، في التراث العربي الإسلامي، لها مظاهر تنفرد عنها، فلا نكاد نجد لها نظائر من غيرها من رحلات الامم والشعوب خارج دار الإسلام بالنظر إلى الوظائف المتعدّدة التي تقوم بها (السياحة، طلب العلم، الحجّ باعتباره فريضة ومناسك لا مجرّد زيارة لأماكن مقدّسة وآثار تأريخية)، هذا من جهة.

ثمّ نحن نجد تشريعاً للسفر وآدابه، ولأحكام ممارسة الشعائر الدينيّة فيه (استدعاء الرخص، القصر في الصلوات، تحلية الإفطار للصائم بل استحسانه... الخ) لا نحسب أنّ له مثيلًا في أحكام وتشريعات الديانات الاخرى.

والرحلة في التراث العربي الإسلامي، فضلًا عن تنوّعها أنواعاً كثيرة، على نحو ما ألمحنا إليه في بداية الحديث، تتباين بالنظر إلى تعدّد العصور واختلاف الأزمنة.

نعم، إنّ الانتساب إلى العصور القديمة، أو الانتماء إلى العصور الوسطى، أو الصدور عن الأزمنة الحديثة والمعاصرة، له فعله في بني البشر جميعهم، فلا شكّ في ذلك، وللأمر انعكاساته، المباشرة أو غير المباشرة، على أدب الرحلة من حيث إنّها

ص: 214

جنس أدبي مثلما أنّ له صداه القوي أو الضعيف، في بنية الخطاب الرحلي عموماً..

غير أنّ هنالك، مع ذلك، سمات تكسب أدب الرحلة في التراث العربي الإسلامي المعاصر نفحة أو تلوينات خصوصية، بل نوعية، لا نجدها في أدب الرحلات عند المعاصرين في دول الغرب الأوروبي، أو في البلاد الاخرى، ممّا أمكننا الوقوف عليه، على كلّ حال، في بعض نصوص الرحّالين من دول أوروبا الوسطى، وبعض مناطق من الشرق الأقصى. هذه السمات هي ما نستسمح قارءنا الكريم بالتعريج عليها في فقرة قصيرة مفردة.

لا غرو أنّ في أحاديث الرحّالين العرب المعاصرين (المسلمين وغير المسلمين على السواء) شجى وأسى لا يتحرّج أصحاب الرحلات من إظهاره، ولا يرون أنّه ممّا يجب إخفاؤه وتغييبه، لا بل إنّهم يجتهدون في تسليط الأضواء عليه، ودعوة القارئ، بإلحاح شديد، إلى مشاركة الرحّالة في الأسى والشجى. أسى وشجى يتجاوز الذات ويعدوها إلى الحضارة التي يكون انتساب صاحب الرحلة إليها، والأمّة التي لا يملك الرحّالة من الانتماء إليها.. شجى وأسى مصدره معاينة الفارق البيّن بين ما عليه أوروبا من التقدّم الهائل في ميادين العلم والمعرفة والمعمار والنظم الاجتماعية والسياسية، وفي تنظيمات الجيش والإدارة، والقضاء... وبين واقع التخلّف عن تلك الامور كلّها عند بني جلدته من العرب في دار الإسلام. أسى وشجى يزكّيهما اكتشاف تأخّر آخر مؤلم، هو التخلّف عمّا كان عليه حال الإسلام وأصله في العصور الزاهية للحضارة العربية الإسلامية..

وإلى هذا كلّه، ينضاف سبب قويّ، يكفي وحده لإثارة الحزن والألم في النفوس، وهو أنّ هذا «الغرب الأوروبي» الذي يأتي اكتشافه بعد عقود، بل وربما قرون، من الركود والانحطاط، هو غرب غازٍ متسلّط، والأرض العربية الإسلامية أُفق لاستعماره ومجال لمكائد ودسائس القوى التي تتربّص به عشية الانقضاض

ص: 215

عليه. أسى وشجى يلحظهما قارئ رفاعة الطهطاوي، وكلّ اللّاحقين له في شرق العالم العربي وغربه (والإشارة تقدّمت إلى البعض منهم أيضاً)، لا بل إن خلف الأسى والشجى- ولربما- رفيقاً محايثاً له عقل ينظر محللًا ومقارناً، وذهن متوقّد يتساءل عن أسباب تأخّر بني قومه وأسباب تقدّم غيرهم من الغرب الأوروبي القويّ والمستعمر. نعم، عند قراءتنا لنصوص رحّالينا العرب المعاصرين، منذ منتصف القرن التاسع عشر، نجد مع ما ندعوه «التعاقد الضمني» بين صاحب الرحلة وبين قارئه، تعاقداً أو عقداً غير صريح، يلتزم الكاتب بموجبه الحديث عن «العجيب والغريب»، وتمكين القارئ من أقصى قدر ممكن من «الإمتاع والمؤانسة» فيما هو يتابع صاحب الرحلة في بسط أطوار رحلته: مشقّة وتعباً، متعة وفرحاً، حنيناً إلى الأصل والبلد والولد، وتنعّماً باكتشاف الجديد المثير اللذيذ..

ولكن خلف «التعاقد» هذا، وبمعيّته، بنود جديدة تنضاف إلى البنود المتقدّمة «المعتادة»: إنّها بنود تتّصل بالحفر والاجتهاد في تبيّن أسباب القوّة والغلبة عند «الغير» (/ أوروبا) في مقابل مظاهر الضعف والتأخّر في «الذات» (/ العالم العربي الإسلامي). فهذه الأسباب كلّها كان الرحّالون العرب المعاصرون (مسلمون وغير مسلمين) روّاداً في فكر «النهضة» أو «اليقظة» أو غيرهما من النعوت والأوصاف التي يتحدّث بها مؤرّخو الفكر العربي الإسلامي عن واقع «الانحطاط» و «التأخّر» و «الضعف» في أرض الإسلام في مقابل «التقدّم» و «التأخّر» و «القوّة» في أرض غيره، والحال أنّ في الإسلام ما يحمل على كلّ النعوت الإيجابية الأخيرة، ويبعد عن الأوصاف الأولى المتقدّمة.

كلّ هذه الامور، جعلت مؤلّف الرحلة العربية الإسلامية رجلًا صاحب قضية، يعلو حديثه عن حديث «الإمتاع والمؤانسة»، وجعلت المفكّر العربي الإسلامي (وقد كان في الأغلب الأعمّ فقيهاً في الدِّين عالماً بالشريعة وما

ص: 216

اتّصل بها) في «رحلته» داعية، يفحص وينقّب ويقارن، وموجّهاً يريد أن يؤثّر (أو أن يسهم على الأقلّ) في مجريات الامور في البلد الذي ينتسب إليه.

في مساهمتنا المتواضعة، هذه نريد أن نسهم في التأريخ لأدب الحجّ في المغرب العربي لا نريد لإسهامنا أن يتوخّى سبيل الإحصاء والاستقصاء لمتن الرحلة الحجّية في هذه المنطقة من العالم العربي الإسلامي، ففي إمكان القارئ الكريم أن يقف على ذلك عند غيرنا في دراسات متقدّمة على عملنا ولها، فضلًا عن فضيلة السبق، مزية الاستقراء الشامل ما يكاد يكون كذلك (1)، بل نطلب التماس تقريب صورة هذه الرحلة من خلال أنموذج تجتمع فيه صفات كثيرة، قويّة وواضحة، دالّة.

محمّد الحجوي في رحلته الحجازية:

ينتسب محمّد بن حسن الحجوي الثعالبي (1874- 1956 م)، إلى تلك الطائفة من المفكّرين النابهين في الفكر المغربي المعاصر، ونحسب أنّه قد نال من الفقهاء المجتهدين المعاصرين شهرة واسعة بفضل كتابه «الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي»، فهذا الكتاب قد عرف انتشاراً وتداولًا كبيرين في أوساط العلماء في المغرب العربي ومصر والحجاز، وطبع أكثر من مرّة في المدينة المنوّرة.

والكتاب، ولا جدال في ذلك، متميّز بطريقة صاحبه للتأريخ لتاريخ التشريع الإسلامي، وتطوّر الفقه الإسلامي، وبنظراته في الاجتهاد وطرائقه، وفي شرح التقاعس فيه في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. غير أنّ للرجل مؤلّفات اخرى، عديدة، غير الكتاب المذكور، لا يزال الكثير منها مخطوطاً غير منشور، ومؤلّفات


1- انظر، على سبيل المثال مقدّمة محمد حجّي في تحقيقه للرحلة الحجازية لمحمّد بن محمّد المختار الولائي المتوفى سنة 1330- 1912، دار الغرب الإسلامي، 1990، بيروت.

ص: 217

الحجوي تتنوّع بين الفتاوى الغزيرة المتّصلة بالحياة المعاصرة وقبول التقنيات المعاصرة وكذا التجارة وأسبابها، وبين التقايد التاريخية التي هي أشبه بالمذكّرات والشهادات الحاسمة بالنظر إلى المناصب الرسمية التي كان الحجوي يشغلها، وللمراحل التاريخية الحرجة في تاريخ المغرب المعاصر والتي كان شاهداً عليها حيناً، وطرفاً فاعلًا أحياناً اخرى.

شغل الحجوي وظائف هامّة في سلك الدولة المغربية، كانت وزارة المعارف من بينها، وإن لم تكن أخطرها، وكان عضواً في مفاوضات دقيقة وفي لجان تتّصل بقضايا التعليم والعدلية. كان هذا كلّه، بطبيعة الأمر، في سلك الحكومة المخزنية، تلك التي كانت بدورها ترزح تحت وطأة «الحماية الفرنسية»، وهذا الوضع جعل الرجل في أحوال من الصلة والتنقّل بين «المخزن» وبين إدارة الحماية الفرنسية.

ولعلّ أقلّ ما يوصف به وضع الفقيه الموظّف المخزني السامي أنّه كان على بيّنة من أحوال الدولة والإدارة في المغرب، وإذ كان الأمر كذلك، بالضرورة، فإنّ نظراته في الإصلاح والتغيير كانت محكمة بثقل الظروف والإطّلاع على حقيقة ما تستطيعه الدولة وما كانت في الواقع عاجزة عنه، وإذن، فقد كان للموقع في مراكز المسؤولية والإدارة العليا أثرهما القوي في نظرات الرجل الاصلاحية، وفي مواقفه المختلفة.

بُعد آخر ثالث، هام وحاسم، كان له فعله في تكييف آراء مؤلّف «الفكر السامي» من الاقتصاد والتعليم، والمرأة، بل وفي توجيه الاجتهاد في الدين والتصدّي لعمل الفتيا، انتساب محمّد الحجوي إلى فئة التجّار الكبار، مساعداً لأبيه في التجارة بين مرسيليا ومانشستر وطنجة وفاس، وفي ممارسته لها ممارسة فعلية أكسبت خطبه في «مستقبل التجارة في المغرب»، «بالاقتصاد حياة البلاد»، «تعلّم اللّغات الأجنبية» وغيرها... أكسبتها مضامين لا تتوافر لمطلق الفقهاء، ولمن اندرج في سلك الوظائف العليا في الدولة.

ص: 218

نحن- إذن- أمام شخصية ثلاثية الأبعاد: الفقيه المجتهد- الموظّف المخزني السامي- التاجر المتمرّس بالتجارة استيراداً وتصديراً وانتقالًا إلى البلاد المغايرة للوطن الأصلي في العادات والتقاليد، بلاد تنتمي إلى عوالم القوّة، والتقدّم والنظم الحديثة في الإدارة والمال والتعليم، وفي نظام المجتمع، وروابط العلاقة بين الفئات والطبقات الاجتماعية المكوّنة لذلك المجتمع والمحدّدة لروابط العلاقة فيه.

أمر آخر، وأخير، تجدر الإشارة إليه وهو يتّصل هذه المرّة بالرحلة وأدبها، وهو أنّ الحجوي كانت له تجارب بالكتابة في هذا الموضوع، تجارب ترقى إلى نهاية الحرب العالمية. فهو قد زار كلّاً من فرنسا وبريطانيا غداة انتهاء الحرب، ودوّن الرحلة في نص جميل، غنيّ ممتع، قمنا بنشره ملحقاً لكتابنا السالفة الإشارة إليه (أوروبا في مرآة الرحلة)، مثلما أنّه ارتحل إلى إسبانيا في الثلاثينات وسجّل رحلته، في نصّ قصير غير منشور، هو رحلته «الأندلسية»، فضلًا عن رحلات قصيرة، متعدّدة، إلى دول أوروبا الغربية، أغلبها أوراق مبعثرة وملاحظات أوّلية أو تذكّر بما سبق له القول فيه في «الرحلة الأوروبية». وإذن فلم تكن مخطوطة «الرحلة الحجازية المصرية» التي نقترح الوقوف عندها رحلته الأولى ولا الوحيدة، وهذا من جهة أولى، مثلما أنّها كانت، وهذا من جهة ثانية، حاملة لصدى آرائه في المجتمع، والإصلاح، وفي التقدّم، وفي حالة العالم العربي الإسلامي مقارنة مع البلاد الغربية كما يراه، أو يرى البعض عنه في زمان الرحلة، وهو موسم الحجّ للعام 1365 ه الذي يوافق اكتوبر 1946 م.

الآن، وقد نبّهنا إلى شخصية الرحّالة ومكانة صاحبها من الدولة والمجتمع والفكر في المغرب المعاصر، يكون لنا أن نتصفّح الرحلة ذاتها من خلال تقديم ملخّص لها أوّلًا، ثمّ من جهة التنبيه على الجوانب التي يخالف بها الرحل معاصريه من أصحاب الرحلات الحجّية المعاصرة في المغرب، وثالثاً من حيث وقفة عندما

ص: 219

يشكل ذروة الرحلة، وهي الالتقاء بالدولة السعودية الفتية من جانب، وتأدية مناسك الحجّ من جانب آخر، كلّ هذا، قبل الانتهاء إلى جملة الخلاصات التي نجد أنّ القارئ ينتهي إليها ضرورة.

قطع محمّد الحجوي في رحلته الطريق نفسها التي اعتاد الحجّاج المغاربة سلوكها، إلّاأنّه قطعها جوّاً، وكان تعداد السفر بالساعات. كان أوّل التوقّف- بعد الانطلاق من الرباط- مدينة وهران، ثمّ الجزائر العاصمة، بعد ليلة كان التوجّه إلى تونس: «وأقمنا بتونس لزيارة معاهدها العلمية، جامع الزيتونة وفروعه الأربعة التي بالعاصمة، ولقينا جميع مشايخها وتلاميذها»، وفي تونس، للحجوي أصحاب ورفاق، وله بالمدينة وأهلها صلات هي نتيجة أسفاره العديدة إليها واتّصاله بالجمعيات الكبرى فيها محاضراً ومستمعاً، ثمّ من تونس، كان الارتحال إلى ليبيا في محطّتين، طرابلس أوّلًا، فابن غازي ثانياً، ومن هذه المدينة الأخيرة إلى القاهرة ليكون مجموع الساعات من الرباط إلى القاهرة، كما يسجّل ذلك، 15 ساعة ونصف. ومشاهدات الحجوي في القاهرة وانطباعاته تستحقّ وقفة قصيرة لفسح الكلام فيها لصاحب الرحلة مكتفين باختيار العبارات الدالّة والنقط التي استقطبت وعيه أكثر من غيرها.

«باريز (باريس) العروبة، فإنّك ترى فيها جلّ ما هو موجود في عواصم أوروبا كباريز ولندن وبرلين ورمة (روما) وبروكسيل وغيرها من الأناقة والإتحاف في ظاهر الدور والإدارات والمعابد والمخازن، من كلّ ما يسمّى الآن بالرقيّ والتقدّم الظاهري، وتصفيف الأبنية، وتنجيدها، وزخرفتها، وإتحافها منها ممّا يبهج الناظر ويشرح الخاطر (...) مع اتّساع الشوارع وتنظيمها، وكلّ ما يقرّب المسافات الشاسعة من أطومبيلات وحافلات وما إلى ذلك (...) فلهي أبهج العواصم وأحفل المدن الراقية وأجملها، وشعبها أهدأ الشعوب وأبعدها عن

ص: 220

القساوة وفكرة الحرب (...) ولكن لم تبلغ مبلغ ما يوجد في العواصم الكبرى من الميطرو الذي اخترقوه تحت الأرض، يختبئون فيه من صواعق الطائرات، وقد توسّعوا بالشغل فيها أسفل الأرض، لذلك يجد شوارعها مكتظّة أكثر من باريز، ولا أراهم إلّامضطرّين لجعل هذه الخنادق تحت الأرض عن قريب أو بعيد، بحكم الضرورة واتّقاء الزحام» (1).

لعلّ النصّ ينطق معبّراً عن الفكر الثاقب عند الفقيه المغربي، ولعلّه من العجب فعلًا أن نجد العالم الديني، التاجر الموظّف السامي في الحكومة المخزنية في المغرب، يتنبّأ بإحداث ميطرو الأنفاق في القاهرة خمسين سنة قبل وقوعه، معلّلًا لذلك «بحكم الضرورة». ثمّ من مستدعيات الملاحظة إعجابه بالقاهرة «باريز العروبة»، والقاهرة، دون حرج أو شعور بالنقص تجاه أوروبا القوّة والتقدّم والتي يعرفها معرفة لا تخلو من جودة، على جعلها في معرض الحديث والمقارنة مع العواصم الغربية الكبرى (باريز، برلين، لندن، بروكسيل)! وأخيراً ممّا يكشف بالنسبة لمؤرّخ الفكر العربي الإسلامي المعاصر، عن ثراء الفكر التحديثي عند الفقه المغربي، أن نرى عبارات الإعجاب الشديد وألفاظ المديح العالي التي يتحدّث بها خريج القرويّين عن الجامعة المصرية: «معهد المعاهد ومعجزة المفاخر جامعة فؤاد التي أسّست منذ نحو عشرين سنة فقط (...) وزد على ذلك ما احتفّ بهذه الجامعة من كلّياتٍ للعلم والأدب، وما هو منبت في شوارع العاصمة من كلّيات كثيرة، منها ما هو منتسب للأزهر ككلّية الشريعة...، ومنها ما هو مضاف للجامعة وبلصقها ككلّية الآداب وكلّية الحقوق... وهم وإن بنوا على ما أسّسه من قبلهم في الأزهر ومضافاتها وغيرها من المعاهد، لكن ما شيّدوه وزادوه أنسى ما عمله من


1- محمّد الحجوي، الرحلة الحجازية المصرية، مخطوط في الخزانة العامّة بالرباط، الورقة الرابعة.

ص: 221

قبلهم بكثرته وإتقانه، وهو لا يقلّ عمّا أسّسته أوروبا في عواصمها، بل يفوق الكثير منه في هذه المدّة القصيرة» (1).

وخلاصة الإعجاب عنده، وخاتمة القول أرض الكنانة: «فرضي اللَّه عن مصر وعن رجالها الأفذاذ الذين تلطّفوا حتّى أخرجوها من حجر الإنجليز، وانتزعوا من يده الفولاذية ميزانية بلادهم، وبرهنوا على أنّهم سياسيّون أكفّاء نزهاء وطنيّون حقيقةً لا مجازاً».

قد يجب القول اختصاراً وإجمالًا للقول؛ انّ الحجوي، في باقي رحلته (الشطر الحجازي والأهمّ فيها، أي ما هو موضوعها والغاية منها: أداء فريضة الحجّ) يختلف عن معاصريه من أصحاب الرحلات مخالفة تامّة. فإشاراته إلى كيفيّة الاعتمار، ثمّ الحجّ إشارات عملية مختصرة تفترض المخاطب عالماً مطّلعاً على أحكام الحجّ، إنّه: على سبيل المثال، يخالف محمّد المختار الولاتي- صاحب الرحلة الحجازية الشهير عند المغاربة- مخالفة تامّة في الحديث عن تفاصيل العمرة والحجّ، والخوض في دقائقها خوضاً جعله يفرد لها قسماً (هو القسم الرابع) من خمسين فصلًا، فهو نوع من دليل الحجّ والعمرة كما يقول محمّد حجّي، محقّق الرحلة: «وما أحرى هذا القسم من الرحلة أن يطبع على حدة كدليل للحجّ السنّي» (2)، وهو عود إلى المعتاد عند أصحاب الرحلات الحجّية من حيث التعريج على مناظرات كلامية مع محاورين فعليّين أو متوهّمين، وهو اجتهاد وردود فقهية على فقهاء وعامّة شافههم أو كاتبوه في مسألة تتّصل بأحكام الحجّ أو العمرة أو آداب الزيارة، مثلما أنّه يغاير ما سلكه ماء العينين بن العتيق في رحلته الحجّية (في الثلاثينيّات) من الجنوح إلى الإغراق في الوجد الروحاني في الحديث عن المسالك


1- المرجع السابق، الورقة الرابعة.
2- محمّد المختار الولاتي، الرحلة الحجازية مصدر سابق: 11.

ص: 222

التي قطعها ركبه من جدّه إلى مكّة فالمدينة المنوّرة (1). وعندي أنّ ما تتميّز به الرحلة الحجازية لمحمّد بن الحسن الحجوي هو- على وجه التحديد- ما يعكس شخصيّته على النوع الذي حاولنا تقريبه من القارئ: رجل الدولة المسؤول- الفقيه- التاجر، المهموم بقضايا التحديث والتغيير. هذه الصفات هي ما يكسب ملاحظاته عن الحجاز، في كنف الدولة السعودية الفتية، تمايزاً وفرادة..

وإنّه من المفيد لمؤرّخ هذه الدولة، أن يتبيّن الكيفيّة التي ترتسم بها صورتها في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، والصورة التي يحفظها الزائر- الحاج، رجل الدولة القادم من المغرب العربي، لمؤسّس تلك الدولة ورمزها: الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.

أوّل ملامح الصورة هي كرم الوفادة: «وفي صبحة الثلاثاء (/ غداة الوصول إلى جدّة) قدّم لنا السلطان ابن سعود سيّارة خاصّة جديدة من أفخر وأفخم الأنواع، فامتطيناها جميعاً إلى مكّة المشرّفة، ولم تمض ساعة إلّاونحن بحرم اللَّه المعظّم، وما نزلنا إلّابباب السلام».

ثاني ملامح الصورة، أو بالأحرى سماتها العامّة، تنكشف في اللقاء الرسمي:

«ولمّا قابَلَنا وقف على قدميه، وتقدّم بخطوات إلى مصافحتنا فصافحناه كما يجب، فأجلسني على كرسي يمينه مثل الكرسي الذي هو جالس عليه، وأجلس النجلين عن يساره... وسألني عن ولَديَّ فعرّفته بكلّ منهما اسماً وعلماً وعملًا، وأبلغته سلام سيّدنا السلطان المؤيّد باللَّه ودعائه الصالح له ولأنجاله، وقدّمت له هدية منه فقبلها أحسن قبول وأظهر فرحه بها وتقديره إيّاها، وسألني عن أحوال جلالته ومملكته الكريمة، وبالغ في السؤال والدّعاء لجلالته، وسألني كيف كان سفري


1- ماء العينين بن العتيق، الرحلة المعينيّة: تحقيق محمّد الظريف، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، الطبعةالاولى، 1998.

ص: 223

وراحتي... وسأل النجلين عن علمهما وحالتهما، وكلّ حالته وحركاته وكلامه دالّ على فضل الرجل ومنزلته واعتنائه بالعلم والعلماء، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلّا ذووه. واستدعانا للعشاء عنده ليلًا والحضور معه في غسل الكعبة من غده» (1).

ثالث ملامح الصورة يتّضح في الخطبة التي خطبها داخل الكعبة يوم غسلها، منها حضّه ملوك العرب ورؤسائهم على نصرة عرب فلسطين، ووصيّته لجميع المسلمين أن «لا يعلّموا أولادهم الثقافة الأوروبية الإفرنجية»، كما أثار انتباه الحجوي كبر سنّه: «بعد هذا الخطاب ودعنا، وهبط من الكعبة، وركب عجلة صغيرة طاف عليها لكبر سنّه وعجزه عن الطواف على القدم، لأنّه بلغ من الكبر عتيّاً».

رابع ملامح الصورة، يستمدّه الحجوي استقراء من حديث من حدّثه عنه من «من هم مطّلعون على أحواله... سألت عن معلومات الأمي ابن السعود المذكور فقال: إنّ معلوماته عربية فقط، فقد درس رسالة لهم في فقه عبادة الحنابلة، واخرى في التوحيد على مذهب الوهابية. ولكن له ذكاء متوقّد، وحافظة جيّدة، وطويّة إسلامية، وشهامة عربية، وله مع ذلك حظّ قويّ في تسيير مملكته، والظفر بأعدائه. ولكن إذا ظفر حَلِم وعفى حتّى صار أعداؤه أحباباً له».

خامس ملامح الصورة، هو ما لمسه الحاج- صاحب الرحلة، الموظّف المغربي السامي، من إنجازات فعليّة أوّلها وأشدّها خطورة هو استتباب الأمن. وفي الذاكرة الإسلامية لصور مرعبة لقطّاع الطرق والحرابة داخل أرض الحجاز، في الطريق بين مكّة والمدينة. «وبالجملة أهمّ ما تراه في الحجاز انتشار الأمن بسبب ضبط الأحكام وصرامتها المهولة، فإنّ الحجاز كان في أيّام الترك والحسنيين وكر السرّاق


1- محمد الحجوي، الرحلة الحجازية، مصدر سابق، الورقة الثامنة.

ص: 224

والنهّاب وقطّاع الطريق. وبوجود ابن سعود، أطال اللَّه عمره، أباد هذا النوع من البشر الذي كان ضدّ الحجّاج وضدّ البشرية، فأقام الحدود الشرعية بقطع يد كلّ سارق كيفما كان. وما قطع منها إلّانحو العشرة فلم يبق منهم واحد، وقتل قطّاع الطرق واللصوص حتّى لم يبق منهم واحد، فأمنت البلاد وأقبلوا على التجارة والاكتساب».

وثاني ما لمسه الفقيه- الموظّف المغربي المسؤول، هو الاعتناء الشديد بالنظافة، فمع أنّ الحجيج قد فاق المائتين وخمسين ألفاً «ومع ذلك ما كنّا نرى في المسجد الحرام الذي يحمل- باكتظاظ- قسماً مهمّاً من هذا العدد صباحاً ومساءً وليلًا شيئاً ما من فضلات هذا العدد، ولا بالطرق المتّصلة به، ولا بأبعد منه لا في ليل ولا في نهار، كأنّ الجان ينقل فضلاتهم...» (1).

أمّا الدولة السعودية ذاتها، أجهزة ومالية وإدارة، فلم تكن عين الحجوي كليلة عن رؤية ما كان يعدّه نقصاً يشينها، ويمكن القول: إنّ الأبعاد الثلاثة في شخصية صاحب الرحلة (الفقيه، الموظّف السامي، التاجر) تجد، جميعها، مرتعاً خصباً لانتقادها وتسجيلها لجوانب الضعف والتقصير. فالفقيه يلاحظ أنّ «الحالة العلمية في الحجاز والحرمين الشريفين ممّا يدخل الكدر على كلّ غيور على مواطن الوحي والدِّين، وهما النقطتان اللّتان ابتدأ منهما انتشار العلوم الإسلامية والآداب الدينيّة،... فكلّ من الحرمين الشريفين خال من دروس العلم الديني والدنيوي، فما رأيت في مسجد مكّة والمدينة دروساً علمية أو تهذيبيّة» (2).

والموظّف المسؤول يرى أنّه وإن كانت «مالية الحجاز الآن مالية عريضة من المداخيل الوطنية، كعشور المراسي والحدود... ومن دخل البطرول والليسانص


1- المصدر السابق، الأوراق: 9، 10، 11.
2- المصدر السابق، الورقة 12.

ص: 225

وهي ثروة عظيمة... كذلك حظّه من الذهب...»، إلّاأنّه «لا يوجد في الحجاز طرق منظّمة إلّاما كان من طريق صناعية نحو 71 كيلومتراً ما بين جدّة ومكّة المشرّفة». وتبرير ذلك عند الحجوي انعدام «مالية منظّمة كما ينبغي وكما يجب لتضبط الداخل والخارج، لعدم الرجال الأكفّاء المثقفين الماليّين الذين يحوطونه من التلاعب والعبث». ولعلّ من نتائج ذلك الاضطراب في ضبط مالية الدولة، ما سمع الحجوي عنه من اضطراب في صرف رواتب الموظّفين في أوقاتها المعلومة، وخاصّة المدرّسين منهم.

والتاجر المتمرّس بشؤون التجارة العليا المطّلع على امور وإدارة الدولة، يلاحظ وجود تفاوت بين حقيقة الغني، لغنى مصادر المال وتنوّعها في الدولة السعودية، وبين واقع الأمر من جهة العملة الرائجة، فهي تعادل نصف ما تحتمله «ولذلك انتشر غلاء مفرط في المملكة كلّها، فهي من أغلى البلاد، وهي من أغنى البلاد أيضاً، ومن أفقرها أيضاً» (1).

على أنّ الحاج محمّد بن الحسن الحجوي الفقيه، التاجر، الموظّف لا يعدم تقديم اقتراحات وبالأحرى أماني، لعلّها عينها التي كانت تراود الوافدين على بيت اللَّه الحرام حجّاجاً ومعتمرين، أخصّها توسعة المسجد الحرام على نحو «يصير المسعى داخل المسجد الحرام الذي هو أحقّ التوسعة». والحجوي يرى أن تساهم الأوقاف، في كلّ البلاد الإسلامية، بنصيب في ذلك «بقدر مداخلها بعشرين في المائة من المدخول سنة واحدة، وإذا بقي شي ء عجزت عنه الأحباس فيجمع بالاكتتاب» (2). وهو يتمنّى للُامّة الإسلامية- فضلًا عن التوفيق في «توسيع مسجدها الحرام ومسعى طوافها»- أن يوفّقها اللَّه إلى «توسيع أفكارها بالعلوم


1- المصدر السابق، الورقة 10.
2- المصدر السابق، الورقة 15.

ص: 226

والمعارف على اختلاف أنواعها، فلا اعتبار بامّة لا توسع أفكار شبابها بالعلم والتهذيب الأخلاقي». وأمّا في الحديث عن توسعة الحرم المديني، فإنّ لهجته تعلو ونبرته تحتدّ فالأمر عنده «إهمال للمدينة المنوّرة، وتركها للخراب يركض فيها، ويضعضع بناءها».

خاتمة القول عندنا: إنّ «الرحلة الحجّية»- مع ما تطفح به من مضامين روحانية؛ فلا ينفكّ الرحّالة منها فهو في الحجّ في حال متّصل من الصفاء الروحي ومن الجذب القويّ تنبؤنا عن صاحبها أكثر ممّا تخبرنا عن الأمكنة موضع المشاهدة. إنّها تلقي أضواء كاشفة على شخصية الرحّالة وفكره، وتبرز القضية المحورية التي يهب حياته للدفاع عنها وكذا القضايا التي تتفرّع عنها. ورحلة الحجوي تحديداً تحمل ذلك كلّه، فهي إضاءة في معرفتنا بفكره حقّاً، عالماً مجتهداً، وموظّفاً مخزنياً مهموماً بقضايا التحديث في المالية والإدارة والتعليم.

ص: 227

سعد بن معاذ

حسن الحاج

حظيت نخبةٌ صالحةٌ من الصحابة من المهاجرين والأنصار بمنزلة عظيمة عند اللَّه سبحانه وتعالى، وما دام حديثنا عن صحابي جليل وسيّد من الأنصار، نكتفي بآيتين كريمتين تبيّنان منزلتهم وعظيم شأنهم، ودورهم البارز في خدمة رسالة السماء ونصرة رسولها صلى الله عليه و آله، فهم الذين آووا وهم الذين نصروا، كما تصرّحان بأجرهم الذي ينتظرهم.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (1)

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (2)


1- الأنفال: 74.
2- التوبة: 100.

ص: 228

وحظيت (هذه النخبة الصالحة) أيضاً بنصيب وافر من كرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورعايته وهديه وإرشاده ورضاه، فراحت تستوعب كلّ ما تقدّمه يداه المباركتان من خير عميم وعطاء جسيم، تستوعبه برغبة صادقة، وتتمثّله أسلوب عمل ومنهج حياة، وهدفاً عالياً تسعى إليه وبذلت من أجله كلّ غالٍ ونفيسٍ، لا تأخذها في ذلك لومة لائم ولا طغيان طاغ ولا عناد متكبّر ظالم، ولا تحدّ طموحها هذا رغبةٌ زائلة ومتاع دنيوي فانٍ، فظلّت مواقفها تتّسم بالشجاعة والثبات؛ فلم تنقلب (1) ولم تبدّل (2) ولم تغيّر، فكانت الاستقامة (3) حليفها المنشود وهدفها السامي، بل ومشروع حياتها بكلّ تفاصيلها، راحت تسعى إليه، فنالت بذلك أجرها في الآخرة، وغدت في الدُّنيا امّةً رساليّة حملت أعباء عظيمة، وتجاوزت مخاطر جسيمة، وخلّفت مبادئ وأهدافاً وأمجاداً وذكريات، راحت تتغنّى بها الأجيال المؤمنة المخلصة والمجاهدة، وتقتدي بها.

والأنصار هؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه والذين آووا ونصروا، والذين يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، والذين قال فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار». كان سعد بن معاذ واحداً منهم، بل كان أعظمهم مكانةً وأفضلهم مواقف، وكيف لا يكون كذلك، وقد شحذت همّته وملأت نفسه وروت قلبه قيم ومبادئ مدرسة صنعتها السماء، وراحت يدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تطيّبها ببركاتها، وعيناه ترقبانها، ونفسه الطاهرة تظلّلها، وقلبه يسقيها من مَعِيْنه الذي لا يعرف النضوب.

إنّه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن عبد الأشهل بن جُشم بن


1- انظر آية الانقلاب... انقلبتم على أعقابكم.
2- انظر آية التبديل،... وما بدّلوا تبديلًا الأحزاب: 23.
3- انظر آية الاستقامة... فاستقم كما امرت.

ص: 229

الحارث بن الخزرج بن النَّبيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي سيّد الأوس (1)

وأمّا امّه فهي كبشة بنت رافع، ولها صحبة (2)

كان سعد هذا يحتلّ مكانةً مرموقة في قومه الأوس، وكان من كبار أعيانهم بل كان سيّدهم وزعيمهم، ولهذا فقد استمتع بمنزلته الرفيعة وسمعته الكريمة بين ذويه وأهله، وكان لها الأثر الواضح في دعوتهم إلى الإسلام. فيما حظي بدرجة عالية من المودّة والمحبّة في قلوب المسلمين، وخُصّ بمنزلة كريمة عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وكفى بهذا فخراً وعزّاً وكرامةً، فجعلته هذه المكانة عظيم القدر، جليل الشأن، موضع مشورة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتركت أثراً كبيراً في مفاصل مسيرته وآرائه ومواقفه الإيمانية والجهادية شهد له بها عدد من المؤرّخين والمتابعين لحياة الصحابة قديماً وحديثاً.

وقبل أن نتعرّض لبعض ما تيسّر لنا من حياته المباركة، نتحدّث عن قصّة إسلامه.

قصّة إسلامه (رجل أسلم فأسلم معه قومه)

الذي يبدو من خلال تتبّع قصّة إسلام هذا الصحابي الجليل أنّ إسلامه تمَّ على يد مصعب بن عمير بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، بعد أن بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مصعباً هذا إلى جمعٍ من الأنصار الذين بايعوه في العقبة، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام وأحكامه.

نزل مصعب بالمدينة على أسعد بن زرارة، فجلسا في دار بني ظفر، واجتمع


1- انظر الإصابة 3: 72 والطبقات 3: 3، واسد الغابة ترجمة رقم 2046، وتهذيب التهذيب.
2- المصدر نفسه.

ص: 230

عليهما رجال ممّن أسلم، فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، وهما سيّدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنّه لولا أسعد بن زرارة- وهو ابن خالتي- كفيتك ذلك، فأخذ أسيد حربته ثمّ أقبل عليهما فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا، اعتزلا عنّا؟!

فقال مصعب: أوتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره؟

فقال: أنصفت، ثمّ جلس إليهما فكلّمه مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجلّه! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟!

قالا: تغتسل وتطهّر ثيابك، ثمّ تشهد شهادة الحقّ، ثمّ تصلّي ركعتين.

ففعل ذلك وأسلم، ثمّ قال لهما: إنّ ورائي رجلًا إن تبعكما لم يتخلّف عنكما أحدٌ من قومه وسأرسله إليكما سعد بن معاذ، ثمّ انصرف إلى سعد وقومه، فلمّا نظر إليه سعد قال: احلف باللَّه، لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.

فقال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلّمت الرجلين، واللَّه ما رأيت بهما بأساً، وقد حدّثت أنّ بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه.

فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه ممّا ذكر له، ثمّ خرج إليهما، فلمّا رآهما مطمئنّين عرف ما أراد أسيد، فوقف عليهما، وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا منّي.

فقال له مصعب: أوتقعد فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟!

فجلس، فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدِّين؟

ص: 231

فقالا له ما قالا لأسيد، فتطهّر وأسلم، ثمّ عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن خضير، فلمّا وقف عليهم قال:

يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟

قالوا: سيّدنا وأفضلنا.

قال: فإنّ كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتّى تؤمنوا باللَّه ورسوله.

قال الراوي: فواللَّه ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلّامسلماً أو مسلمة (1)

مناقب وصفات

عن عائشة أنّها قالت: كان في بني عبد الأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن خضير، وعبّاد بن بشر (2)

امتلك ابن معاذ مناقب عالية، وخصائص جميلة، وصفات حسنة؛ فقد كان يتحلّى بإيمان راسخ، جعله رزيناً في أقواله، حكيماً في أفعاله، متماسكاً فيما يطرحه من آراء... لهذا نراه من أشدّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أعداء اللَّه، فهو لا يخاف في اللَّه لومة لائم، فقد بلّغ بقتل أميّة وهو يمكث بين المشركين ولم يخشَ في هذا أحداً منهم، وراح يبلّغ جهاراً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل فتح مكّة وهو ما يزال بين ظهراني مشركي مكّة، دون خوف ولا وَجَل ولا تردّد.

فهذا البخاري يروي في كتاب المغازي من صحيحه عن ابن مسعود عن سعد ابن معاذ أنّه قال: كان صديقاً لُاميّة بن خلف، وكان اميّة إذا مرّ بالمدينة، نزل على سعد، وكان سعد إذا مرّ بمكّة نزل على اميّة، فلمّا قدم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المدينة انطلق


1- انظر السيرة النبوية بهامش السيرة الحلبية 1: 291، والكامل في التاريخ 1: 611.
2- انظر الإصابة 3: 72 حرف السين.

ص: 232

سعد معتمراً، فنزل على اميّة بمكّة، فقال لُاميّة: انظر لي ساعة خلوة لعلّي أن أطوف بالبيت، فزجّ به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا الذي معك؟

فقال: هذا سعد.

فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكّة آمناً وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما واللَّه لولا أنّك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً.

فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما واللَّه لئن منعتني هذا لأمنعنّك ما هو أشدّ عليك منه، طريقك إلى المدينة.

فقال له اميّة: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيّد أهل الوادي.

فقال سعد: دعنا عنك يا اميّة، فواللَّه لقد سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: إنّهم قاتلوك.

قال: بمكّة؟

قال: لا أدري.

ففزع لذلك أُميّة فزعاً شديداً. فلمّا رجع اميّة إلى أهله قال: يا امّ صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟

قالت: وما قال لك؟

قال: زعم أنّ محمّداً أخبرهم أنّهم قاتلي، فقلت له: بمكّة؟ قال: لا أدري.

فقال اميّة: واللَّه لا أخرج من مكّة.

فلمّا كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس، قال: أدركوا عِيْرَكم. فكره اميّة أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنّك متى ما يراك الناس قد تخلّفت وأنت سيّد أهل الوادي، تخلّفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتّى قال: أمّا إذا

ص: 233

غلبتني، فواللَّه لأشترينّ أجود بعير مكّة، ثمّ قال أمية: يا امّ صفوان جهّزيني.

فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربيّ؟

قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلّاقريباً.

فلمّا خرج اميّة، أخذ لا ينزل منزلًا إلّاعقل بعيره، فلم يزل بذلك حتّى قتله اللَّه عزّوجلّ ببدر (1).

وفي ليلة، صعد ابن معاذ على جبل أبي قبيس، وكان برفقته سعد بن عبادة سيّد الخزرج ومن أكابر أعيانهم، وراح ابن معاذ يخاطب المشركين الذين توجّهوا إليه يرونه ويسمعونه، فقد شدّهم إليه علوّ صوته وهو ينشد:

فإن يسلم السعدان يصبح محمد بمكّة لا يخش خلاف المخالف

فظنّ مشركو مكّة أنّهما سعد بن زيد بن تميم وسعد بن هديم من قضاعة، فلمّا كانت الليلة الثانية سمعوا صوتاً على أبي قبيس:

أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنّيا على اللَّه في الفردوس منية عارف

فإنّ ثواب اللَّه للطالب الهدى جنانٌ من الفردوس ذات رفارف

فقالوا: هذان واللَّه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (2).

ومنقبة اخرى تحلّى بها ابن معاذ، رواها الزهري عن ابن المسيّب عن ابن عبّاس أنّه قال: قال سعد بن معاذ: ثلاث أنا فيهنّ رجل، يعني كما ينبغي، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس:


1- انظر صحيح البخاري 3: 2.
2- انظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 37.

ص: 234

ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حديثاً قَط إلّاعلمت أنّه حقّ من اللَّه تعالى.

ولا كنت في صلاة قطّ فشغلت نفسي بغيرها حتّى أقضيها.

ولا كنت في جنازة قطّ فحدّثت نفسي بغير ما تقول ويقال لها حتّى أنصرف عنها.

قال ابن المسيب: فهذه الخصال ما كنت أحسبها إلّافي نبيّ (1)

سعد وحبّه لأهل البيت عليهم السلام

لقد كان هذا الرجل ذا حظٍّ وفير وتوفيق عالٍ أن وفّقه اللَّه تعالى في حبّ أهل بيت النبوّة والرسالة، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهو نصّ الآية الكريمة: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (2)

فقد كان ذا علاقة ملؤها الودّ والحبّ والاحترام للإمام علي عليه السلام، فكانت حقّاً منقبةً عظيمة تشرّف بها ابن معاذ رضوان اللَّه عليه، ففي مرّة قال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ما أعجب أمر هؤلاء الملائكة حملة العرش في قوّتهم وعظم خَلْقهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هؤلاء مع قوّتهم لا يطيقون حمل صحائف تكتب فيها حسنات رجلٍ من امّتي. قال: ذلك الرجل، رجل كان قاعداً مع أصحاب له فمرّ به رجل من أهل بيتي مغطّى الرأس فلم يعرفه، فلمّا جاوزه التفت خلفه فعرفه، فوثب إليه قائماً حافياً حاسراً، وأخذ بيده فقبّلها وقبّل رأسه وصدره وما بين عينيه وقال: بأبي أنت وامّي يا شقيق رسول اللَّه، لحمك لحمه، ودمك دمه، وعلمك من علمه، وحلمك من حلمه، وعقلك من عقله، أسأل اللَّه أن يسعدني


1- تهذيب التهذيب 3: 418.
2- الأحزاب: 33.

ص: 235

بمحبّتكم أهل البيت.

فأوجب اللَّه له بهذا الفعل وهذا القول من الثواب ما لوكُتب تفصيله في صحائفه لم يطق حملها جميع هؤلاء الملائكة الطائفين بالعرش والملائكة الحاملين له.

فقال له أصحابه لمّا رجع إليهم: أنت في جلالتك وموضعك من الإسلام ومحلّك عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تفعل بهذا ما ترى؟!

فقال لهم: أيّها الجاهلون وهل يُثاب في الإسلام إلّابحبّ محمّد وحبّ هذا؟!

فأوجب اللَّه له بهذا القول مثل ما لو كان أوجب له بذلك الفعل والقول أيضاً.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ولقد صدق في مقاله، لأنّ رجلًا لو عمّره اللَّه عزّوجلّ مثل عمر الدنيا مئة ألف مرّة، ورزقه مثل أموالها مئة ألف مرّة، فأنفق أمواله كلّها في سبيل اللَّه، وأفنى عمره صائم نهاره قائم ليله لا يفتر شيئاً منه ولا يسأم، ثمّ لقى اللَّه تعالى منطوياً على بغض محمّد أو بغض ذلك الرجل الذي قام إليه هذا الرجل مكرماً إلّاأكبّه اللَّه على منخريه في نار جهنّم، ولردّ اللَّه عزّوجلّ أعماله عليه وأحبطها.

قال: فقالوا: ومَنْ هذان الرجلان يارسول اللَّه؟!

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أمّا الفاعل ما فعل بذلك المقبّل المغطّي رأسه فهو هذا- فتبادر القوم إليه ينظرونه فإذا هو سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري- وأمّا المقول له هذا القول فهذا الآخر المقبل المغطّي رأسه فنظروا فإذا هو علي بن أبي طالب... ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عباد اللَّه إنّما يعرف الفضل أهل الفضل، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لسعد: أبشر، فإنّ اللَّه يختم لك بالشهادة، ويهلك بك امّةً من الكفرة، ويهتزّ عرش الرحمن لموتك، ويدخل بشفاعتك الجنّة (1).


1- التفسير المنسوب للإمام العسكري في تفسير أركان العرش، وسفينة البحار 1: 621.

ص: 236

ابن معاذ موضع مشورة النبيّ صلى الله عليه و آله

وممّا تمتّع به رضوان اللَّه عليه علوّ القدرة والكفاءة والحكمة العالية والخبرة الواسعة، وقد جعلته هذه الخصائص يحظى بمنزلة رفيعة عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبموضع مشورته، وهو ما حدث في بدر واحد والخندق.

ففي وقعة بدر الكبرى، أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أصحابه- بعد أن وصلته أخبار قريش- وقال: هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها...

ثمّ راح صلى الله عليه و آله يستشير أصحابه، فقال أبو بكر فأحسن، ثمّ قال عمر فأحسن، ثمّ قال المقداد بن عمرو فقال كلمته المشهورة:

يارسول اللَّه امضِ لما أمرك اللَّه، فنحن معك، واللَّه لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحقّ، لو سرت بنا إلى برك الغماد- مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه.

فدعا له بخير، ثمّ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أشيروا عليَّ أيّها الناس، وإنّما يريد (أي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) الأنصار؛ لأنّهم كانوا عدّته للناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلّاممّا دهمه بالمدينة، وليس عليهم أن يسير بهم.

وهنا انبرى سعد بن معاذ قائلًا: لكأنّك تريدنا يارسول اللَّه؟!

فقال صلى الله عليه و آله: أجل.

قال: قد آمنّا بك وصدّقناك، وأعطيناك عهودنا فامض يارسول اللَّه لما أمرت، فوالذي بعثك بالحقّ إن استعرضت بنا هذا الخبر، فخضته لنخوضنّه معك، وما نكره أن تكون تلقى العدوّ بنا غداً، إنّا لصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء، لعلّ اللَّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فَسِرْ بنا على بركة اللَّه (1).


1- الكامل في التاريخ 2: 17.

ص: 237

فصحيح أنّ خطابه صلى الله عليه و آله نراه قد توجّه إلى الأنصار، إلّاأنّ نظره الشريف- وكما يبدو- بل محطّ نظره كان سعد بن معاذ سيّد الأوس وزعيمهم يومذاك، وأمثاله من المخلصين، وهو ما أدركه سعد بثاقب بصيرته، فكان جوابه الذي ذكرناه.

وهناك استشارة اخرى، فقد استشاره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واستشار سعد بن عبادة في موضوع الخندق، وحول إعطاء ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصن والحرث بن عوف، وهما قائدا بني غطفان، حتّى يرجعا بقومهما عن حربه، فكان قول سعد: إن كان هذا الأمر لابدّ لنا من العمل به؛ لأنّ اللَّه أمرك فيه بما صنعت والوحي جاء به، فافعل ما بدا لك، وإن كنت تختار أن تصنعه لنا كان لنا فيه رأي.

فقال صلى الله عليه و آله: لم يأتني وحي به، ولكنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وجاؤوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمرٍ ما.

فقال سعد بن معاذ: قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللَّه وعبادة الأوثان، لا نعرف اللَّه ولا نعبده، ونحن لا نطعمهم من ثمارنا إلّاقرىً أو بيعاً، والآن حين أكرمنا اللَّه بالإسلام وهدانا وأعزّنا بك، نعطيهم أموالنا، ما بنا إلى هذا من حاجة، واللَّه لا نعطيهم إلّاالسيف حتّى يحكم اللَّه بيننا وبينهم.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الآن قد عرفت ما عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإنّ اللَّه لن يخذل نبيّه ولن يسلمه حتّى يُنْجِز له ما وعده... (1).

وسعد بن معاذ هو الذي كان قد أشار أو اقترح على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يبني له عريشاً في معركة بدر، للدفاع دونه قائلًا:

يارسول اللَّه، نبني لك عريشاً من جريد، فتكون فيه، ونترك عندك رَكَائِبكَ،


1- الكامل في التاريخ 2: 72 وفيه: وترك ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وانظر أيضاً: الإرشاد للمفيد 2: 20.

ص: 238

ثمّ نلقى عدوّنا، فإن أعزّنا اللَّه وأظهرنا اللَّه عليهم، كان ذلك ممّا أحببناه، وإن كان الاخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام ما نحن بأشدّ حبّاً لك منهم، ولو ظنّوا أنّك تلقى حرباً ما تخلّفوا عنك، يمنعك اللَّه بهم، يناصحونك ويحاربون معك. فأثنى عليه خيراً، ثمّ بنى لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله العريش (1).

موقفه الواعي من أسرى بدر

بما أنّ معركة بدر كانت الأولى، والمسلمون كانوا قلّة فيها، فإنّ الإكثار من القتل في صفوف المشركين ممّا يقلّل عددهم ويربك وضعهم ويذلّ كبرياءهم، بل يكسر شوكتهم ويرتدع غيرهم، ويجعلهم يحسبون ألف حساب إذا ما قرّروا العودة إلى قتال المسلمين...

لهذا نرى موقف بعض المسلمين- وهم الواعون للموقف وأهدافه- رفضوا الإكثار من أسرى المشركين، ورفضوا طلب المال... (2).

وكان سعد بن معاذ من هؤلاء الواعين لخطورة الموقف في معركة بدر، ومن الكارهين لما فعله بعض المسلمين، وهو الإكثار من الغنائم ومن الأسرى، رغبةً في الفداء..

تقول الرواية عن ابن إسحاق: فلمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول اللَّه في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، متوشّحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يخافون عليه كثرة العدوّ، ورأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيما ذكر لي في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس،


1- 7انظر الكامل في التاريخ 2: 20، والاستيعاب بهامش الإصابة 2: 38.
2- انظر المقالة «موقف رسالي من أسرى بدر وبني قريظة»، في العدد 16 من هذه المجلّة.

ص: 239

فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم!»

قال: أجل واللَّه يارسول اللَّه، كانت أوّل وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان أحبّ إليّ من استبقاء الرجال.

وقد جاء الآية القرآنية: مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، رافضةً للحالة التي انتابت جمعاً من المقاتلين المسلمين في ساحة معركة بدر، والذين راحوا يتسابقون لأخذ المشركين أحياء أسرى، ليفادوهم فيما بعد.

سعد ومعركة احد

سجّل لنا التأريخ أنّ لسعد بن معاذ آراء ومواقف جليلة في معركة احد وقبلها، فقد وافق رأيهُ رأيَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ورأي أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار، وهو عدم الخروج لمواجهة عدوّهم من مشركي قريش، والاكتفاء بالبقاء داخل المدينة، وتثبيت مواقعهم ورصّ صفوفهم لخوض القتال ضدّ المشركين القادمين من مكّة، للاقتصاص من المسلمين والانتقام لما حلَّ بهم من هزيمة نكراء في معركة بدر الكبرى. فيما خالف جمع آخر من الصحابة، وقالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرونا إنّا جبنّا عنهم. وكان ممّن وافق هذا الجمع الأخير على هذا الرأي حمزة بن عبد المطّلب، وكانوا يلحّون على موقفهم هذا، ولم يزالوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبالصحابة الآخرين حتّى وافق على ذلك، فصلّى بالناس، ثمّ وعظهم وأمرهم بالجدّ والاجتهاد، وأخبرهم أنّ لهم النصرة ما صبروا، وأمرهم بالتهيؤ لعدوّهم، ففرح الناس بذلك، ثمّ صلّى بالناس العصر وقد حشدوا، وقد حضر أهل العوالي، ثمّ دخل رسول اللَّه بيته ومعه أبو بكر وعمر فعمّماه ولبّساه،

ص: 240

وصفّ الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه و آله، فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد ابن خضير:

استكرهتم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الخروج، فردّوا الأمر إليه، أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأياً فأطيعوه...

فخرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد لبس لامته..

فقالوا له: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت.

وفي رواية فإن شئت فاقعد، وقال: قد دعوتكم إلى القعود فأبيتم، وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يحكم اللَّه بينه وبين أعدائه.. (1).

وهنا راح ابن معاذ وصاحبه أسيد بن خضير وزعيم الخزرج سعد بن عبادة يحملون سلاحهم ويقفون بباب الرسول صلى الله عليه و آله طيلة ليلتهم حتّى أصبحوا، ثمّ خرجوا- وعلى رواية هو وسعد بن عبادة- أمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله دارعين يعدوان (2).

وما إن وقعت معركة أُحد واشتدّت حتّى كان من أولئك النفر الثابتين فيها، فهذا الواقدي في مغازيه يقول: وثبت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما هو في عصابة صبروا معه أربعة عشر رجلًا، سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار... ومن الأنصار الحبّاب بن المنذر... وسعد بن معاذ (3).

وفي طريق عودتهم كان ابن معاذ آخذاً بلجام فرس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وإذ هو في هذه الحالة جاءت امّه تعدو نحو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بلجامها، فقال له سعد: يا رسول اللَّه امّي.

فقال صلى الله عليه و آله: مرحباً بها، فوقف لها فدنت حتّى تأمّلت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فعزّها


1- المغازي للواقدي 1: 208، والسيرة الحلبيّة 2: 219.
2- انظر السيرة الحلبيّة 2: 219، والمغازي 1: 205.
3- المغازي 1: 240.

ص: 241

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أمّا إذا رأيتك سالماً، فقد استويت المصيبة أي استقلّيتها، ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأهل من قتل بأُحد، أي بعد أن قال لُامّ سعد: أبشري وبشّري أهلهم أنّ قتلاهم ترافقوا في الجنّة جميعاً، ثمّ شفعوا في أهلهم جميعاً.

قالت: رضينا يارسول اللَّه، ومن يبكي عليهم بعد هذا، ثمّ قالت: يارسول اللَّه ادع لمن خلفوا، فقال: اللّهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم وأحسن الخلف على من خلفوا... (1)

ولمّا سمع بكاء النبيّ صلى الله عليه و آله على حمزة وقوله: حمزة لا بواكي له، أمر ابن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت اللَّه يبكين حمزة بن عبد المطّلب بين المغرب والعشاء (2)

وفي خبر آخر: وانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى المدينة حين دفن القتلى، فمرّ بدور بني الأشهل وبني ظفر فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبكى ثمّ قال: لكنّ حمزة لا بواكي له اليوم، فلمّا سمعها سعد بن معاذ وأسيد بن خضير، قالوا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتّى تأتي فاطمة فتسعدها، فلمّا سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الواعية على حمزة- وهو عند فاطمة على باب المسجد- قال:

إرجعن رحمكنّ اللَّه، فقد آسيتنّ بأنفسكنّ (3)

سعد والأحزاب

في السنة السادسة للهجرة النبوية، وقعت معركة الأحزاب، فكان لهذا الصحابي الجليل مواقف مشهودة، منها ما ذكرناه سابقاً من استشارة


1- المغازي 1: 254.
2- انظر الكامل في التاريخ 2: 56، والسيرة الحلبيّة 2: 254.
3- انظر إعلام الورى: 94.

ص: 242

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له في إعطاء ثلث ثمار المدينة إلى عيينة بن حصن والحرث بن عوف، وما أبداه سعد من رأي.

ومنها أنّه صلى الله عليه و آله أرسله يرافقه سعد بن عبادة وابن رواحة وخوات بن جبير إلى بني قريظة، للاستخبار عن صحّة ما بلغه صلى الله عليه و آله من خيانتهم ونقض العهد الذي أبرم بينهم وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وقال لهم: انطلقوا حتّى تنظروا أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم، فإن كان حقّاً فالحنوا لي لحناً أعرفه دون القوم.. وإلّا فاجهروا بذلك بين الناس... فخرجوا حتّى أتوا بني قريظة، فوجدوهم قد نقضوا العهد (1)، ونالوا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتبرّؤوا من عقده وعهده، وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمّد، فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤه.. ثمّ أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكنّوا له عن نقضهم العهد، أي قالوا عضل والقارة، أي غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع... (2).

وكان سعد بن معاذ ينتظر في معركة الأحزاب أن يكون له دوره الرسالي البارز، فكان مستعدّاً ومتدرّعاً يحمل حربته كأعظم مجاهد يحمل همّ الرسالة والحرص عليها ضدّ أعداء اللَّه ورسوله، وراح يتمثّل بأبيات كأنّه ينتظر الشهادة في طريق ذات الشوكة، فهذا ابن إسحاق يقول: وحدّثني أبو ليلى عبداللَّه بن سهل ابن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري أخو بني حارثة: أنّ عائشة امّ المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز حصون المدينة. قال: وكانت امّ سعد بن معاذ معها في الحصن، فقالت عائشة وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب:

فمرّ سعد- وعليه درع له مقلّصة (3) قد خرجت منه ذراعه كلّها- وفي يده حربته


1- أمّا اليعقوبي فيقول: فذكروهم العهد وأساءوا الإجابة 2: 52.
2- انظر السيرة الحلبيّة 2: 316.
3- مقلّصة: قصيرة قد ارتفعت، يقال: تقلّص الشي ء إذا ارتفع وانقبض.

ص: 243

يرقد بها ويقول:

لبِّث قليلًا يشهد الهيجا جمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل

قال: فقالت له امّه: الحق أي النبي، فقد واللَّه أخّرت، قالت عائشة: فقلت لها: يا امّ سعد واللَّه لوددت أنّ درع سعد كانت أسبغ (1) ممّا هي، قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه، فرُمي سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل، رماه- كما حدّثني عاصم بن عمير بن قتادة- حِبّان بن قيس بن العَرِقة (2).

دعاء مستجاب

فقال له سعد: عرَّق اللَّه وجهك في النار، اللّهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم من قوم آذَوْا رسولك وكذّبوه وأخرجوه، اللّهم إن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة، ولا تُمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة، فكان دعاؤه هذا مستجاباً حيث الجزاء التعادل الذي حلّ ببني قريظة على جنايتهم وقد حكم به سعد ورآه واقعاً.

فيما قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن عبداللَّه بن كعب بن مالك أنّه كان يقول:

ما أصاب سعداً يومئذ إلّاأبو اسامة الجُشمي، حليف بني مخزوم، وقد قال أبو اسامة في ذلك شعراً لعكرمة بن أبي جهل:

أعكرمَ هلّا لُمتني إذ تقول لي فداك بآطام (3) المدينة خالد


1- أسبغ: أكمل.
2- العرقة: هي قلابة بنت سعد بن سعد بن سهم، وتكنّى امّ فاطمة، وسمّيت العرقة لطيب ريحها، وهي جدّة خديجة، امّ امّها هالة، انظر الروض.
3- الآطام: الحصون والقصور، الواحد: أطم.

ص: 244

ألستُ الذي ألزمتُ سعداً مُرِشةً (1) لها بين أثناء المرافق عاند (2)

قضى نحبه منها سعيد فأعولت (3) عليه مع الشُّمط (4) العذارى النواهد (5)

وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا عُبيدة جمعاً منهم إذ يكابد

على حين ما هم جائر عن طريقه وآخر مرعوب (6) عن القصد قاصد

فيما قال ابن هشام:

يقال: إنّ الذي رمى سعداً خفاجة بن عاصم بن حِبّان (7).

لقد آلمت إصابةُ سعد بجرح بليغ قلبَ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقلوب المؤمنين، ممّا حدا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يُصدر أمره بنقل سعد إلى مسجده حيث خيمة رُفيدة، وهي امرأة من أسلم، وقيل: إنّها أنصارية، (8) وكانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب (9)

الجزاء العادل

بنو قريظة إحدى طوائف ثلاث (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) كانت تمثّل الوجود اليهودي في المدينة المنوّرة، وكانوا قد اتّخذوا من أطراف يثرب


1- مرشة: رمية أصابته فأطارت رشاش الدم منه، ومريشة.
2- عاند: العرق الذي لا ينقطع منه الدم.
3- أعولت: بكت بصوت مرتفع.
4- الشمط: جمع شمطاء، وهي التي خالط شعرها الشيب.
5- العذارى: الأبكار، والنواهد: جمع ناهد، وهي التي ظهر نهدها.
6- المرعوب: المفزع، وقد روي بالغين: أي رغب عن القصد، تركه.
7- انظر السيرة النبويّة لابن هشام 3: 237- 238.
8- انظر الإصابة وشرح المواهب.
9- انظر السيرة النبوية لابن هشام 3: 250.

ص: 245

سكناً ومأوى لهم بعد أن طردهم نبوخذنصر من الشام وشتّت جمعهم، وراح يلاحقهم حتى لم يجدوا في الأرض مأمناً إلّايثرب، فسكنوا فيها، واتّسعت تجارتهم وقويت فيها شوكتهم، ولكنّ قلوبهم لم تطهر وكأنّها أورثت التآمر والحقد على غيرهم من طوائف الناس.

وما أن حلّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة بعد هجرته إليها من مكّة حتّى راح يبني دولته وأُسسها مستعيناً باللَّه تعالى وبالمؤمنين من المهاجرين والأنصار، وبما أنّه كان مدركاً وعارفاً بتركيبة مجتمع يثرب، التي كان اليهود بطوائفهم (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) يشكّلون دوراً مهمّاً فيها خاصّة بجانبها الاقتصادي، فقد وادعهم متعهّداً باحترام عقائدهم وحرّية عباداتهم وشعائرهم، وترك لهم فرص العمل- كغيرهم- بأمن وسلام... ما داموا موادعين مسالمين لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين، ولا يعكّرون أمناً ولا يسيئون إلى جوار... إلّاأنّ بغضهم وحقدهم ونفوسهم الأمّارة بالسوء، كلّ هذا وغيره شجّعهم على نقض العهد مع الرسول صلى الله عليه و آله، وراحوا يحرّضون على قتال المسلمين ويتعاونون مع المنافقين والمشركين، ويقدّمون إليهم ما يحتاجونه لتقويض الدولة الفتيّة، التي راح نبيّ اللَّه يبنيها بجهود أصحابه وأتباعه، فما كان من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأن أجلا بني النضير وبني قينقاع عن قراهم فذهب جمع منهم إلى منطقة أدرعات، فيما ذهب آخرون منهم إلى خيبر، وقد اكتفى الرسول صلى الله عليه و آله بهذا الإجراء؛ لأنّ خيانتهم لم ترتقِ إلى أكثر من هذه العقوبة.

أمّا بنو قريظة، فكان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله معهم أمر آخر وحكم أشدّ؛ لعظم خيانتهم التي كلّفتهم حياتهم.

ص: 246

خيانتهم

كانت جريمة بني قريظة قد بدأت بيحيى بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وهما من كبار ومن زعماء بني النضير، اللذين حرّضا قريشاً ومشركي غطفان على قتال الرسول صلى الله عليه و آله، وحرّضا بني قريظة أيضاً على نقض عهدهم الذي أُبرم مع الرسول صلى الله عليه و آله، ثمّ الانضمام إلى عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وغطفان الذين راحوا يتمركزون حول المدينة بقيادة أبي سفيان، والذين منعهم من اجتياز المدينة حفرُ المسلمين للخندق.

لقد ارتضى كعب بن أسد زعيم بني قريظة أن يكون طابوراً يقوّض صفّ المسلمين من داخل المدينة، وقطع على نفسه أن يكون شريكاً للمشركين في قتالهم للمسلمين، وبدأ يمدّهم بالعون والمساعدة، فكان بهذا قد ارتكب دوراً قذراً وخطيراً يهدّد وحدة المسلمين وقدرتهم القتالية، وأصرّ على موقفه هذا، وهو ما لمسه وعرفه مبعوثا الرسول صلى الله عليه و آله وهما سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج وشخصان آخران كانا برفقة هذين الزعيمين، اللّذان ترأسا وفداً يستطلع الأمر ويتحقّق منه، ويبذل جهده لإقناع بني قريظة بالعدول عن موقفهم الخيانيّ هذا، وباءت جهود هذا الوفد بالفشل، فما كان من الوفد إلّاأن أعلن تهديده بجزاء أشدّ ممّا حلّ ببني قينقاع وبني النضير، خاصّةً بعد أن رأى عنادهم وشدّة إصرارهم على موقفهم الخيانيّ هذا... (1).

وفي آخر الوقت، وبعد أن أنهكهم حصار رسول اللَّه لهم، نزلت بنو قريظة على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وشفعت لهم الأوس وكانوا حلفاءَهم في الجاهلية.


1- انظر تفصيل هذا كلّه، وكيف باءت جهود بني قريظة وغيرهم، بالفشل، وأحبطت، مؤامرتهم، وما حلّ بهم من جزاء، في مقالتنا في العدد 16 من هذه المجلّة، الصفحات 176- 186.

ص: 247

تقول الرواية:... فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فتواثبت الأوس، فقالوا: يارسول اللَّه، إنّهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت- وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل بني قريظة قد حاصر بني قينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إيّاهم عبداللَّه بن ابيّ بن سلول، فوهبهم له- فلمّا كلّمته الأوس، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟

قالوا: بلى.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: فذاك إلى سعد بن معاذ.

فلمّا حكّمه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار قد وطّئوا له بوسادة من أدم، وكان رجلًا جسيماً جميلًا. ثمّ أقبلوا معه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهم يقولون: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما ولّاك ذلك لتُحسن فيهم، فلمّا أكثروا عليه قال:

لقد أنى لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم!

فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل، فنعى لهم رجال بني قريظة، قبل أن يصل إليهم سعد، عن كلمته التي سمع منه.

فلمّا انتهى سعد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمسلمين، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قوموا إلى سيّدكم- فأمّا المهاجرون من قريش، فيقولون: قد عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم.

فقال سعد بن معاذ: عليكم بذلك عهدُ اللَّه وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ؟

قالوا: نعم.

قال: وعلى مَن هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو مُعرِض عن

ص: 248

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إجلالًا له.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: نعم.

قال سعد: فإنّي أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

قال ابن إسحاق:

فحدّثني عاصمُ بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقّاص الليثي، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لسعد: لقد حكمتَ فيهم بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة (1)

رحيله رضوان اللَّه عليه

حقّاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (2)

.

مات شهيداً، فقد وفى بعهده الذي عاهد اللَّه عليه، وألزم نفسه ألّا ينكل عن العِدى أو يقتل في سبيله تعالى.

أُمنية تحقّقت لأنّها كانت صادقة، وطموح طالما عاش من أجله، لم تبخل به السماء؛ لأنّه طموح المخلصين الصّادقين (فاجعله لي شهادةً)، لم يمهله ذلك الجرح طويلًا، فما أن انقضى شأن بني قريظة بليالٍ، وبعد شهر من إصابته (ولا تمتني حتّى تُقرّ عيني من بني قريظة) حتّى انفجر بسعد بن معاذ جرحه، الذي انقضّ عليه، فاستشهد منه سنة خمس للهجرة النبويّة، وقد ختم حياته المملوءة إيماناً وجهاداً ختمها برحاب ربٍّ كريم وجنّة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتّقين،


1- الأرقعة: السماوات، الواحدة: رقيع؛ وانظر السيرة النبويّة لابن هشام 3: 249- 251.
2- الأحزاب: 23.

ص: 249

يلاحقه دعاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واستغفاره، ورضاه عنه وشفاعته له.

وما أسرع انتشار خبر استشهاد هذا الصحابي الجليل، الذي شرح اللَّه سبحانه صدره للإيمان، ومنَّ عليه بالاستقامة وحبّبها إليه وزيّنها في قلبه، وتبنّاها سلوكاً له حتّى عُرف بها، فاستحقّ أعظم وسام يزيّن صدره يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إنّه الشهادة التي منّت بها السماء عليه يوم الخندق.

يقول ابن إسحاق: ولم يستشهد من المسلمين يوم الخندق إلّاستّة نفر.

من بني عبد الأشهل: سعدُ بن معاذ، وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبداللَّه بن سهل، ثلاثة نفر.

ومن بني جُشم بن الخزرج، ثمّ من بني سلمة: الطفيل بن النّعمان، وثعلبة بن غنمة، رجلان.

ومن بني النجّار، ثمّ من بني دينار: كعب بن زيد، أصابه سهم غَرْب (1)، فقتله.

فما إن سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخبر وفاة سعد حتّى قام سريعاً، يجرّ ثوبه إلى سعد، فوجده قد استشهد.

فما أشدّ وقع هذا الخبر على قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقلوب أصحابه، الذين راحت أصواتهم تعلو، وعيونهم تبكيه بحرقة وألم.

تقول الرواية:

قالت عائشة: سمعت بكاء أبي بكر وعمر وأنا في حجرتي.

وفي رواية يذكرها صاحب السيرة النبوية: أنّ ابن إسحاق قال: حدّثني من شئت من رجال قومي: أنّ جبرئيل عليه السلام أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين قُبض سعد بن معاذ


1- سهمُ غَرْب، وسهمٌ غربٌ، بإضافة وغير إضافة، وهو الذي لا يُعرف من أين جاء ولا من رَمى به. انظر السيرة النبويّة لابن هشام 3: 264.

ص: 250

من جوف الليل معتجراً بعمامة من استبرق، فقال: يا محمّد، مَنْ هذا الميّت الذي فتحت له أبوابُ السماء واهتزّ له العرش؟!

قال: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سريعاً يجرّ ثوبه إلى سعد فوجده قد مات (1).

وفي خبر آخر:... انفجر جرح سعد بن معاذ وسال الدم، واحتضنه صلى الله عليه و آله، فجعلت الدماء تسيل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فمات منه (2).

وفي السيرة الحلبيّة: عن سلمة بن أسلم بن حريش أنّه قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما في البيت أحدٌ إلّاسعد مسجّى، فرأيته يتخطّى، وأومأ إلي قف، فوقفت ورددّت مَنْ ورائي، وجلس صلى الله عليه و آله ساعة ثمّ خرج، فقلت: يارسول اللَّه، ما رأيت أحداً أو رأيتك تتخطّى.

فقال: ما قدرت على مجلس حتّى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه (3).

وفي سفينة البحار: أنّه صلى الله عليه و آله مشى خلف جنازته حافياً بغير رداء، يأخذ على يمين السرير مرّةً وعلى يساره اخرى (4).

وفي الاستيعاب: أنّه صلى الله عليه و آله قال: لقد نزل الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطؤوا الأرض (5)

وقد صلّى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع تسعين ألف ملك فيهم جبرئيل كما ورد في سفينة البحار (6)..


1- انظر هامش الصفحة 262 من الجزء الثالث لسيرة ابن هشام.
2- انظر السيرة الحلبيّة 2: 344.
3- السيرة الحلبيّة 2: 344.
4- سفينة البحار 1: 621، وانظر إعلام الورى: 103.
5- انظر الاستيعاب بهامش الإصابة 2: 29.
6- سفينة البحار 1: 621.

ص: 251

وفي أمالي الطوسي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله صلّى على سعد بن معاذ، وقال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك- وفيهم جبرئيل- يصلّون عليه.

فقلت: يا جبرئيل بما استحقّ صلاتكم عليه؟!

فقال: بقراءة قل هو اللَّه أحد قائماً وقاعداً وراكباً وماشياً وذاهباً وجائياً (1).

وحديث اهتزاز العرش لموت سعد- كما يقول محقّقوا السيرة النبويّة لابن هشام- صحيح، وهو ثابت من طرق متواترة، ورواه عدّة من الرواة.

وعن ابن إسحاق أنّه قال: وحدّثني عبد اللَّه بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن أنّها قالت:

أقبلت عائشة قافلةً من مكّة، ومعها أسيد بن خضير، فلقيه موت امرأة له، فحزن عليها بعض الحزن، فقالت له عائشة: يغفر اللَّه لك يا أبا يحيى، أتحزن على امرأة وقد أُصبت بابن عمّك، وقد اهتزّ له العرش؟!

ثمّ قال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتّهم عن الحسن البصري قال: كان سعد رجلًا بادِناً، فلمّا حمله الناس وجدوا له خِفّة، فقال رجال من المسلمين: واللَّه إن كان لبادناً، وما حملنا من جنازة أخفَّ منه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: إنّ له حملةً غيركم، والذي نفسي بيده، لقد استبشرت الملائكة بروح سعد، واهتزّ له العرش.

وفي الصحيحين وغيرهما من طرق أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: اهتزّ العرش لموت سعد.

وعن جابر بن عبداللَّه أنّه قال: لمّا دُفن سعد- ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- سبّح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فسبّح الناس معه، ثمّ كبّر فكبَّر الناس معه، فقالوا: يارسول اللَّه،


1- أمالي الطوسي: 437.

ص: 252

ممّ سبّحت؟

قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره، حتّى فرّجه اللَّه عنه.

قال ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ للقبر لضمّةً لو كان أحد منها ناجياً، لكان سعد بن معاذ.

وقال رجل من الأنصار في سعد:

وما اهتزّ عرش اللَّه من موت هالك سمعنا به إلّالسعدٍ أبي عمرو

وأمّا امّه، فقد قالت- وهي ترى نعشه محمولًا على الأكفّ، والقلوب تودّعه والعيون تبكيه-:

ويل امِّ سعدٍ سعداً صرامةً وحدَّا

وسُؤدداً ومجداً وفارساً مُعدّا

مُسدّ به مَسَدّا يَقدُّ هاماً قدَّا

ونختم هذا بقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه: كلّ نائحة تكذب، إلّانائحة سعد ابن معاذ.

دفنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في البقيع الغرقد، فقد تولّى حفر قبره أبو سعيد الخدري وبعض الصحابة، يقول أبو سعيد: كنت ممّن حفر لسعد رضى الله عنه قبره، فكان يفوح علينا المسك كلّما حفرنا قبره من تراب.

ولمّا أقبر رسول اللَّه عليه في ملحدوته، قالت امّه:

أحتسبك عند اللَّه. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واقفاً على قبره فبادر وعزّاها، ثمّ دعا له وانصرف صلى الله عليه و آله.

ثمّ لمّا سمع صلى الله عليه و آله امّه تنوح عليه أراد تسليتها فقال: لا تزيدي على هذا، كان واللَّه

ص: 253

ما علمت حازماً في أمر اللَّه قويّاً.

ثمّ راح صلى الله عليه و آله يخاطب سعداً بقوله: رحمك اللَّه يا سعد، فلقد كنت شجّاً في حلوق الكافرين، لو بقيت لكففت العجل الذي يراد نصبه في بيضة الإسلام كعجل قوم موسى (1).

ونختم مقالتنا هذه عن الصحابيّ الكبير سعد بن معاذ بمرثية حسّان بن ثابت، يبكيه فيها ويذكر حكمه في بني قريظة:

لقد سَجَمت (2) من دَمع عينيَ عبرةٌ

وحُقّ لعيني أن تفيض على سعد

قتيلٌ ثوى في معركٍ فُجعت به عيون ذَوارِي الدمع دائمةُ الوجد (3)

على مِلّةِ الرحمن وارثَ جنّةٍ مع الشهداء وَفدها أكرم الوفد

فإن تك قد ودّعتنا وتركتنا وأمسيتَ في غبراء مُظلمة اللَّحد

فأنت الذي يا سعد أُبتَ بمشهدٍ كريم وأثواب المكارم والحمد

بحكمك في حَيَّى قريظة بالذي قضى اللَّهُ فيهم ما قَضَيت على عمد

فوافق حكمَ اللَّه حكمُك فيهم ولم تعفُ إذ ذُكّرت ما كان من عهد

فإن كان ريبُ الدهر أمضاك في الألى شروا هذه الدُّنيا بجنّاتها الخلد

فَنِعْم مصير الصّادقين إذا دعوا إلى اللَّه يوماً للوجاهة والقصد

وفي مقطوعة شعرية اخرى، راح حسّان يرثي سعداً ورجالًا آخرين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استشهدوا، ويذكّرهم بما كان فيهم من فضل وخير وعطاء، كان منها:


1- انظر سيرة ابن هشام والإصابة 3: 72 وغيرهما.
2- سجمت: سالت.
3- ثوى: أقام، والمعرك: موضع القتال، وذواري الدمع: تسكبه، والوجد: الحزن.

ص: 254

صبابة وجدٍ ذكّرتني أحبّةً وقتلى مضى فيها طفيل ورافع

وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت منازلهم فالأرض منهم بلاقع (1)

وفوا يوم بدرٍ للرسول وفوقهم ظلال المنايا والسيوف اللوامع

دعا فأجابوه بحقّ وكلّهم مطيعٌ له في كلّ أمرٍ وسامع

فما نكلوا حتّى تولّوا جماعةً ولا يقطع الآجال إلّاالمصارع

لأنّهم يرجون منه شفاعةً إذا لم يكن إلّاالنبيّون شافع

ذلك يا خيرَ العباد بلاؤنا إجابتنا للَّه والموت ناقع (2)

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأوّلنا في ملّة اللَّه تابع (3)

ونعلم أنّ الملك للَّه وحده وأنّ قضاء اللَّه لابدّ واقع

فسلامٌ عليك يا سعد في الخالدين.


1- بلاقع: قفار خالية.
2- بلاؤنا: اختبارنا، ناقع: ثابت.
3- القدم الأولى: السبق إلى الإسلام. خلفنا: آخرنا.

ص: 255

أثر الحجّ في الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة

أثر الحجّ في الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة

عبر العصور

أ. د. محمّدالحبيب الهيلة

إنّ من أبهى وأعظم خصائص الإسلام ومزاياه ارتباط عبادته وشعائره بالتربية والتثقيف والإصلاح والتوجيه، والدفع إلى الخير، والمنع من الضلال.

فكانت محلات العبادة مدارس ثقافيّة وعلميّة، كما كانت مراكز توجيه وإصلاح للفرد المسلم وللجماعة المسلمة.

تعوّد المسلمون منذ العهد النبوي الأوّل أن يكون الحرم المكّي في موسم الحجّ موطناً للقاء بين العالِم والمتعلّم ومكان التلقّي للمعرفة والتفقّه، فقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خلال حجّة الوداع قائماً على التعليم والتثقيف، يُسأل فيجيب، ويتجمع حوله الناس فيبلّغ المعرفة والهداية. إلّاأنّ تفقيهه ذلك لم يكن ليصل إلى جميع المسلمين، فدعا الناس- وهو في الخيف من منى- إلى إبلاغ المعرفة وتداولها والعمل على وصولها إلى كافّة الناس، وإنّ المعرفة أمانة عندهم عليهم إبلاغها لأيّ مسلم كان وتلقيها من أيّ مسلم كان بشرط الصدق والإخلاص. فقد روى الترمذي في سننه حديثاً نصّه: «قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالخيف من منى فقال: نضّر اللَّه

ص: 256

عبداً سمع مقالتي فوعاها ثمّ أسلمها إلى مَن لم يسمعها. فرُبَّ حامل فقه لا فقه له، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (1).

ولما انتقل المسلمون إلى عرفات ألقى فيهم خطبة الوداع التي تعتبر هي أيضاً مثلًا للإبلاغ من الرسول المعلّم إلى عامّة المتلقين من المسلمين الحجيج.

وهكذا ارتبط موسم الحج من بدايات ظهوره ارتباطاً وثيقاً بالتثقيف والتعليم، كما ارتبط بتأصيل وترتيب التعامل الاجتماعي. كلّ ذلك ينضاف إلى العبادة والسعي إلى التقرّب من اللَّه زلفي ونيل خيره وهديه ومغفرته.

ودأب المسلمون على ذلك منذ فجر الدعوة إلى يوم الناس هذا، فإذا مكّة المكرّمة تصبح عاصمة للثقافة الإسلاميّة وتتعاضد مع المدينة المنوّرة لاحتضان وإيواء أولى المدارس العلميّة الإسلاميّة التي شرّعت الطريق ونهجت المناهج وغرست البذرات التي انتجت ثمار المعرفة الإسلاميّة فيها وفي الأمصار الأخرى.

ففي مكّة المكرّمة، نشأت أولى المدارس العلميّة على أسس ركّزها رجل أدرك قيمته رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسمّاه «خير هذه الأمّة» أو «ترجمان القرآن» إنّه عبداللَّه بن عبّاس الذي اضطلع بتفقيه المسلمين في مختلف عرصات الحرم وخاصّة في دار زمزم التي عرف الناس مجلسه بها، فوردوا عليه يسمعون تفسيره للقرآن، ورواياته للأحاديث، وتدريسه لأنواع من الفقه العقدي الديني واللغوي وغير ذلك.

ثمّ تتالت بعده الطبقات من أعلام المكّيين.

وترسخ الطابع العلمي لمكّة المكرّمة فأصبحت عاصمة ثقافيّة لأسباب وجيهة وواضحة. فإنّ إلى مكّة يحجّ الناس ويأتونها من كلّ صوب. ويقدمون


1- الترمذي: السنن، 10، 114.

ص: 257

عليها من كلّ بلد ومن كلّ قطر ومصر. ففيها يلتقي الحجيج من عامّةٍ أو من مثقّفين علماء. فيأتي كلّ منهم بزاده العلمي، وقدرته الثقافيّة، وتجاربه الحضاريّة، وتطورات مجتمعه وتغيراته فيكون لقاؤهم في مؤتمرهم السنوي مباركاً ومفيداً، لأنّه يقدّم عمليّة إعلاميّة واسعة النطاق تبلغ المعلومة من السِنْد إلى الأندلس، ومن السودان إلى تركيا، وقُلْ من كلّ بلد إسلاميّ إلى كلّ بلد إسلاميّ.

يَقدُم الوافدون إلى مكّة فيهدون إليها شذرات من ثقافاتهم وعلومهم، وتهديهم مكّة- بدورها- علماً واسعاً ومعارف نافعة، ويجدها الناس قد هيّأت لهم جماعات من العلماء وجحافل من المثقفين يستجيبون لتطلعاتهم ويجيبون عن أسئلة الحجيج وتوقفاتهم، وينشرون معارفهم التي وصلوا إليها ببحثهم ونظرهم، كما ينقلون لهم ما بلغهم من فقه وثقافات الأقطار الأخرى. وهكذا كان علماء مكّة صلة الوصل ونقطة الالتقاء بين علماء المسلمين على اختلاف بلادهم وأمصارهم.

وتتجلّى لنا قيمة هذه العاصمة الثقافيّة بما تشارك به في النمو الفكري الإسلامي وتقدّمه من علماء ضمن الزاد البشري المثقّف للأمّة. لقد قدمت مكّة للثقافة الإسلاميّة أساطين من العلماء وأعلام من المثقفين ومشاهير من المفكرين والمنتجين في العديد من المجالات. وتستبين لنا أهمّية هذا الزاد البشري من العلماء إذا ما طالعنا كتب التراجم والطبقات الخاصّة بالمكيين، وهي كثيرة وعديدة تناولت كلّ العصور والأزمان.

ولإظهار عيّنة من ذلك، نذكر كتابين من نتاج القرن التاسع يقومان دليلًا على ثراء مكّة الثقافي، ووفرة ما رُزقته من أبناء مثقفين وعلماء.

أوّل الكتابين تأليف لتقي الدين الفاسي المكّي (ت 832 ه/ 1429 م) عنوانه «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» (مطبوع في ثمانية مجلدات) انصبّ فيه أغلب اهتمام المؤلّف على تراجم علماء مكّة مرتبين على حروف الهجاء، مسبوقين

ص: 258

بالمحمدين والأحمدين، فكانت أعدادهم تصل إلى الآلاف. وثاني الكتابين ألف بعد الأوّل بخمسين سنة. إنّه كتاب (الدرّ الكمين بذيل العقد الثمين) الذي وضعه النجم عمر بن التقي بن فهد (ت 885 ه/ 1480 م) فأكمل فيه ما نقص أو أهمل في العقد من تراجم المكّيين، وذيّل عليه بتراجم من ظهروا بعد تأليف العقد، فأورد فيه آلاف أخرى من تراجم المكّيين.

ويعتبر الكتابان عنصران لأوّل معلمة تاريخيّة جامعة لأخبار المكّيين والمكّيات من علماء وفقهاء، وأهل ثقافة وأدب. فما بالنا لو أضفنا لهؤلاء المترجمين من أهل مكّة من جاء بعد القرن التاسع إلى قرننا الخامس عشر!

لقد انتشر الوعي الثقافي والتطلّع العلمي في المجتمع المكّي فمسّ كلّ طبقات سكّانها، وبدت فيه ظاهرة دالّة على عمق المدينة المقدّسة بالثقافة والعلوم، ذلك أنّ مكّة عرفت منذ القرن الخامس الهجري عدداً كبيراً من العوائل العلميّة التي أخذت على عاتقها إبراز المكانة العلميّة لمدينتهم. وظلّت كلّ عائلة يتداول أبناؤها بنود المعرفة ويرفعون أعلام الثقافة أباً عن جد، فتعيش كلّ عائلة علميّة ما يُكتب لها من حياة، وقد يبقى بعضها منتجاً يزود المجتمع المكّي بالعلماء والمثقفين لسبعة قرون أو تزيد.

فمن العوائل العلميّة المكّية التي نذكرها للدلالة لا للإحاطة:

- بنو الطبري (الطبور): قرشيون وردوا من طبرة بفلسطين، وظهرت مكانتهم في العلم من القرن الخامس الهجري إلى الثالث عشر.

- بنو فهد (الفهود): هاشميّون وردوا من آصفون بمصر، ظهروا في القرن الثامن واستمرّوا إلى ما بعد القرن العاشر.

- بنو الفاسي: وهم حسنيّون وردوا من فاس، وامتاز منهم التقي بتآليفه في القرن التاسع.

ص: 259

- بنو القسطلاني: وردوا من توزر بالجريد جنوب البلاد التونسيّة في القرن السابع.

- بنو الحطاب: وردوا من طرابلس الغرب خلال القرن العاشر.

- بنو علان: عُرف منهم علماء ومؤرخون خلال القرنين التاسع والعاشر.

- بنو النهروالي: أصلهم من عدن، ووردوا من نهروالة بالهند في نهاية القرن التاسع، وأنتجوا علماً إلى القرن الحادي عشر.

لقد ساهم أبناء هذه البيوتات العلميّة من المكّيين في إرساء قواعد مجد علمي تليد وشرف ثقافي فاخر بما ألّفوا من الكتب والمجاميع والرسائل، وبما ألقوا من الدروس وأداروا من الحوارات العلميّة والمناظرات، وبما جمعوا من شهادات وإجازات علميّة تقاطرت عليهم من كلّ مراكز المعرفة التي حوتها البلاد الإسلاميّة.

وتمرّ قوافل السنين وتنعقد مواسم الحجّ متوالية فلا تكاد تعدم لقاءً علميّاً أو مجمع درس أو مقابلة للتلقي واستجازة وإجازة في كلّ جانب من جوانب الحرم المكّي والحرم المدني، وتحت أغلب العرصات وتجاه كلّ معلَم من المعالم المباركات.

بحيث لا تكاد تجد حاجّاً له أثارة من علم يعود إلى بلده دون باب جديد من أبواب المعرفة، أو تفسير آية، أو مطالعة كتاب قُرئ، أو حديث رُوي، أو مسألة علميّة أو فقهيّة أو لغوية اشتمل عليها وطابُه، وحَوتها عيبته وجرابه.

وإذا عدت بذاكرتك إلى ما قرأناه من كتب الحديث وطبقات الرجال ومسطورات تراجم العلماء والمحدثين، واستعرضت- ولو لماماً- ما مرّ عليك من دواوين التاريخ العامّة والخاصّة، وتذكرت كم من محدّث أو مؤرّخ روى أن الحديث الفلاني أخذه فلان عن شيخه فلان في لقائه به عند حجّهما. ولو حاولت أن تجمع ما تفرّق في مطالعاتك من استدعاءات بعض أهل العلم بعض شيوخهم سواء

ص: 260

من أهل مكّة أو من الوافدين عليها للحجّ، هذا يطلب من ذاك إجازة خاصّة بكتاب أو عامّة بمؤلّفات عديدة، وإذا أردت أن تلمّ بما تفرّق من حصاد المعارف نتيجة لما طالعت وتتبّعت من كتب الحديث لتتذكر بعض ما ورد فيها من مجالس التلقي العلمي، إنّك إن حاولت كلّ ذلك فلن تستطيع أن تؤلّف له إحصاء، ولن تستطيع أن تجمع معه غير القليل القليل ممّا ورد عرضاً في ثنايا المسطورات وبين دفّات الكتاب في مختلف العلوم وأنواع المعارف والعديد من الاختصاصات. فلا نعرف كتاباً- قديماً أو حديثاً- جمع الزاد العلمي المتداول بين أهل المعارف من مختلف البلاد الإسلاميّة في مكّة المكرّمة خلال مواسم الحجّ، فتكتفي بما استقرّ في نفسك كما استقرّ في نفسي بأنّ هذا الزاد المتداول بين الحجيج من طلاب العلم كثير متوافر، وتظهر لك مكّة المكرّمة في صورتها العلميّة البهيجة، فهي عند موسم الحجّ مدرسة علميّة تعجّ بأصوات دروس شيوخها والوافدين عليها على مختلف لغاتهم، وتكثر فيها دراسات المسائل المتنوّعة وتنتقل فيها المعارف من صدور إلى صدور، ومن أفواه وأفكار متعبدة عاملة إلى آذان ونفوس متعبّدة واعية.

ولو بحثنا عن كتاب يقدّم لنا صورة ومثالًا لما استقرّ بأذهاننا لهذه الحركة العلميّة المكّية خلال الحجّ لما استطعنا أن نظفر بما هو أقرب للواقع ممّا كتبه بعض الرحالة العلماء، وخاصّة أولئك الذين أرادوا أن يسجّلوا تحرّكاتهم العلميّة في موسم الحجّ بمكّة فكتبوا مؤلّفاتهم، لا لتتبّع أخبار وغرائب المدن والقرى، وإنّما سجّلوا رحلاتهم وتنقلاتهم بين وحدات العلم ومؤسساته، وبين كتب المعارف ودفاترها، وبين شيوخ الإقراء ومجامع دروسها، واصفين ذلك بكلّ تدقيق وتفنّن فلم يتحدّثوا عن المباني الشامخة، بل ذكروا شموخ رجال المعرفة ورسوخ أسسها فيها، ولم يصفوا موائد القصور بل وصفوا موائد العرفان والعلوم.

وإنّ من خير ما عرفناه من رحلات علميّة تستجيب لما نريد وتقدّم لنا عينة

ص: 261

عمّا كان يحدث في الحرم المكّي خلال موسم الحجّ من حركة علميّة رحلة المحدّث الأندلسي محمّد بن رُشَيْد الفهري (ت 721 ه/ 1321 م)، التي سجّل فيها صاحبها وقائع اللقاءات العلميّة التي حظي بها، وما جمعه من الكتب والأحاديث والمسائل المتفرقات ممّا قلّ أن اجتمع في غيرها من كتب الرحلات.

كانت رحلة ابن رشيد للحجّ سنة 624 ه/ 1227 م، لم يُقِم بمكّة إلّاأقلّ من عشرين يوماً، حيث دخلها في السادس والعشرين من ذي القعدة وغادرها- قاصداً للمدينة المنوّرة- في الخامس عشر من ذي الحجّة. ورغم ذلك، فقد لقي الرجل من العلماء الكثير، وجمع من مرويّاتهم وكتبهم وإجازاتهم الكثير.

وإنّي لمطمئن لأهمّية اختياري هذا الرجل وهذه الرحلة ليكون عيّنة صادقة لما يقع عادة في المجتمع المكّي من حركة علميّة مباركة في موسم الحجّ. فإنّه لا يكتفي القادمون بالأخذ عن شيوخ مكّة وعلمائها، بل يكون التدابج والأخذ والعطاء بينهم وبين المكّيين وبين الوافدين من مختلف بلادهم واتّجاهاتهم. فيأخذ المغربي عن الهندي ويأخذ الأندلسي عن العراقي، ويأخذ الطرابلسي عن اليمني، ويأخذ المصري عن الشامي وهلمّ جرّاً ممّا يمثّل شبكة من الاتصال توصل الأطراف بالأطراف وتقرّب المتباعدين، ويلتقي بهذا الحرم الأمين العلماء المسلمون من مختلف أقطار الأرض.

فهذا ابن رشيد الفهري السبتي يلتقي في المركب البحري بالفقيه أبي عبداللَّه المرجاني التونسي وتنعقد المودّة بينهما بعد اتّفاقهما حول قضيّة فقهيّة عرضت في طريقهما إلى عرفات، فتوجّها إليها وقد تماسكت أيديهما (1) وناظر المرجاني فقيه مكّة المكرّمة رضي الدين العسقلاني في مسائل فقهيّة (2)


1- رحلة ابن رُشيد 5: 86، 101.
2- رحلة ابن رشيد، 5: 129.

ص: 262

كما يشاركهما في المركب البحري عالم فاضل وأديب زاهد من مدينة بسكرة هو أبومحمّد عبداللَّه البسكري الذي روى عنه ابن رُشيد أشعاراً وأحوالًا وأخباراً «1».(1).

ويلتقي ابن رشيد بالعالمين الأخوين رضي الدين العسقلاني وعلم الدين العسقلاني في منزلهما في الحرم الشريف، فكان منهما الأنس والضيافة والاحتفال بابن رُشيد، وكانا معه في طريقهم إلى دارهما فسمع عليهما أولًا حديثاً مسلسلًا هو: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء».

كما قرأ ابن رُشيد على رضي الدين العسقلاني المكّي كتاب الأربعين من رواية المحمّدين تخريج الحافظ الجيّاني. وقُرئ عليه- وابن رُشيد يسمع بالحرم الشريف- أبيات شوق قالها أحد المغادرين لمكّة بعد حجّهم. كما سمع منه مسلسل الدعاء.

ولقي ابن رُشيد الأندلسي شيخاً من دمشق هو أبو اليمن عبدالصمد بن عساكر عند وروده على مكّة، فسمع عليه جملة من الكتب بعضها بمنزله بمنى يوم النحر، وبعضها بباب منزله بالحرم، وسمع منه أشعاراً بباب الصفاء وبالمسجد الحرام، كما أجاز لعلماء من تونس ومن الأندلس تجاه الكعبة الغراء (2).

ولقي ابن رُشيد في حجّه عالم مكّة وفقيهها المحبّ الطبري (ت 694 ه/ 1295 م) الذي يعتبر قمّة علمائها في وقته حيث تعدّدت اختصاصاته، فألّف الكتب الكبيرة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ. قابله ابن رُشيد بالحرم الشريف وطلب منه السماع والإجازة فأجاز له بخطّه كتباً كثيرة منها، كتابات الطبقات لابن الجوزي، وروى له من أشعاره التي يتشوّق فيها للبيت والحرم.


1- رحلة ابن رُشيد 5: 267- 268.
2- رحلة ابن رُشيد 5: 145، وما بعدها.

ص: 263

ولقي ابن رُشيد بمكّة من علماء بغداد شيخين هما عبدالرحيم بن الزجاج وابن أخيه عبدالحميد اللذين كانا يدرّسان أيّام الحجّ كُتب الحديث. وسمع عليهما بين الحجرالأسود وزمزم جزءاً من حديث أبي الحسين بن العالي.

ولا يعدم طالب العلم في مكّة مكاناً يجد فيه علماً. فقد لقي ابن رشيد أحد العلماء الوافدين نسي اسمه- وليس من عادته أن ينسى فهو الضابط المتحري، ولعلّ ذلك لكثرة من لقي من الناس- عرف الرجل العالم في المطاف فقام بينهما حوار- وهما يطوفان- حول الحكمة من مشروعيّة الطواف على يسار البيت العتيق (1).

وإذا كان الحجّ في بعض جوانبه لقاءات ثقافيّة ومجتمع علوم، فإن تلك العلوم بأنواعها والمعارف بإشراقاتها لا تصيب محلّها ولا تظهر فائدتها إلّاإذا توفّرت لها مجتمعات سليمة المسالك طيّبة المقاصد، معتمدة على قواعد من العدل وحسن التعامل، منطلقة من مبادئ الأخوّة بين المسلمين والمساواة بينهم، مؤسسة على أنّهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعت له بقيّة الأعضاء.

ولقد حرص التشريع الإسلامي على أن يجعل الحجّ موعد لقاء المسلمين لتكريس قواعد اجتماعيّة تكون ذات أثر مفيد في مجتمعاتهم على اختلاف أنواعها.

ففي الحجّ تربية إيمانيّة للإنسان، إذ هو يدفعه إلى ربط الصلة بينه وبين ربّه، ويقوده إلى حسن الإعتقاد وحسن العبادة وتذوّق حلاوة الإيمان مع عمق مشاعره الجيّاشة وارتفاع أصوات الاستجارة والدعاء والاستغفار.

وفي الحجّ، تجرّد عن زخرف الدنيا وزينتها ليوجه الحاج إلى الخشوع الكامل للَّه فيعبده العبادة الكاملة.

وفي الحجّ، ابتعاد عن الرفث والفسوق والجدال، وفي ذلك ابتعاد عن كلّ


1- رحلة ابن رُشيد 5: 262.

ص: 264

ضلال مضلّ، وكلّ طغيان أعمى، وكلّ نزوات حمقاء.

وفي الحجّ وحدة تجمع مختلف أجناس المسلمين والوافدين من عديد أقطارهم، ففيه وحدة مساواة بين مختلف ألوان المسلمين ودرجاتهم الاجتماعيّة والمادّية، فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين قائد وأجير، ولا بين خامل وأمير فكانوا جميعاً عباد اللَّه وإخواناً. يكون لباسهم واحداً، ونداؤهم بالتلبية واحداً، وقيامهم بشعائرهم واحداً، وتنسى كلّ طبقة ما كانت فيه قبل قدومها خيراً كان أو شرّاً.

وبالحجّ ينعكس صدق انتماء المسلم لدينه ولجماعته المسلمة، فإنّه لم يتجشّم مشقّة السفر إلّاليعلن عن تمسّكه بدينه وبوحدته مع كلّ المسلمين في أقاصي الأرض، أفلم يصدع بتلبية اللَّه وهو الذي يدعوه إلى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي أيمانه الصادق وعلمه المفيد؟

وفي الحجّ ينعقد مؤتمر يجمع الملايين ممّن اتفقوا بتلقائيّة على أن يختاروا حضوره دون دعوة بشريّة، بل استجابوا- بكلّ حريّة واختيار- لدعوة إلهيّة لم يفضّل فيها أحد ولم يحرم أحد ليُكرم أحد.

يلتقي الحجيج في مؤتمر يقام للاجتماع والتعارف وليقع فيه التنسيق والتعاون.

هو مؤتمر تنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المعارف والتجارب. مؤتمر يفسح المجال للقدر الكبير من الحوار والنقاش المثمر وتبادل الآراء وبذل النصيحة وتقديم ثمار التجارب. مؤتمر تنعقد فيه العلاقات الشخصيّة الحميمة كما تتألف فيه علاقات المجتمعات بالمجتمعات، فيساعد على غرس الثقة بينها ويمحو ما يمكن أن تكون أفسدته أيدي الإشاعات ومجاهل السياسات الخرقاء.

وفي الحجّ يتجرّد المسلم من ثوبه الذي طالما كان يحرص على انتقائه والتباهي به، ويجرّد منه ليدخل ضمن مجامع من أمثاله المتوجهين إلى اللَّه. وذلك ممّا يدعوه

ص: 265

إلى التجرد من أنانيّته وذاتيّته، والتجرد من عوامل تكبّره وتعاظمه، والتجرّد ممّا يدفعه إلى كلّ شرّ ورذيلة.

وفي تجرّده ذلك يمكن له أن ينظر إلى حقيقة نفسه خالية من مظهرها، فتنكشف له وجوه سعيه إلى مصالحه وطموحاته وتطلعاته ليعرف صالحها من سيّئها، ويُخضع نفسه لنقد ذاتي يدعوه إلى السعي للخير والإسراع إلى البرّ والصلاح.

الحجّ دعوة من اللَّه البارئ موجّهة للإنسان الذي توفرت في قلبه عقيدة طاهرة وإيمان عميق، فإذا هو يستجيب شاهداً على نفسه أنّه يلبّي في حجّه دعوة إلهيّة. فهو في حجّه يتوجّه إلى ربّه قائلًا: «لبّيك اللّهم لبّيك» مراراً وتكراراً، فلا يكون له في فترة حجّه ذاك من الأعمال والمواقف إلّاما يكون مصداقاً لتلك التلبية التي أعلنها على رؤوس الملأ، وأعادها وكرّرها لتستقرّ في نفسه، ويُشهد عليها ربّه أولًا، وكلّ من سمعه من الناس.

بالحجّ المبرور يقوم الدليل الواضح على أنّ وحدة المسلمين ممكنة إذا ما تطهّرت القلوب فحسُنت النوايا، وإذا صدقت عقيدة المسلمين فآمنوا باللَّه وعملوا بقوله: إنمّا المؤمنون إخوة، وإذا ما كفَّت ألسنة وأيدي المسلمين عن المسلمين، وإذا ما أمسك المسلمون عن الرفث والفسوق بجميع أنواعه. فسوق العمل وفسوق اللسان وفسوق النفس بالاستعلاء والعنصريّة والإقليميّة والقبليّة.

وإذا ما انصرف المسلمون عن الجدال الذي تكون غايته الرغبة في الانتصار والاستعلاء لا ذلك الحوار الذي غايته الاستيضاح أو التوضيح للحقيقة والصواب.

فلو أنّ المجموعات الإسلاميّة ألزمت نفسها بحدود اللَّه في الحجّ فلم ترفث فيما بينها ولم تفسق ولم تتجادل، لتعلمت كيف تتعامل مع بعضها البعض ليصلح حال المسلمين وينجلي عنهم الضيم والمذلّة والتشرذم والتبعثر، ولأصبح حالهم غير ما

ص: 266

هي عليه اليوم.

لقد أكّد اللَّه سبحانه وتعالى في كتابه المنزل أنّ أولئك الذين يستجيبون ويأتون رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق إنّما جاؤا ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه ولا شك أنّ من بين هذه المنافع إصلاح مجتمعاتهم، وتنقية علاقاتهم ببعضهم، وإشاعة السلام والعدل والمساواة بينهم. وهو ما أكّده وبيّنه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في خطبة الوداع أمام جموع الحجيج، وأشهدهم على تبليغه، وأشهد اللَّه على ذلك.

دعا الرسول الكريم الناس بقوله: «أيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا»، وقال: «وإنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم». وفي ذلك أمر بحفظ الحقوق وعدم الاعتداء والظلم، وتذكير بمسؤولياتهم التي سيحاسبهم عليها ربّهم. ودعاهم إلى صدق التعامل بينهم فقال:

«من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها».

وبما أنّ المجتمع الإنساني الصالح يرتكز على عنصرين متلازمين متكاملين هما الرجل والمرأة، وأنّ فترات الجاهليّة والجهالة تغرّ القوي بقوّته فيعتدي طرف على طرف، ويظهر الظلم الفاحش للرجال على نسائهم فيكون في ذلك تمزق العائلة والتناحر الاجتماعي... فقد ذكّر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحقوق النساء وواجباتهنّ بقوله:

«استوصوا بالنساء خيراً».

فهل يصل مجتمع ما إلى تقدّم وصلاح وخير بدون محبّة وتعاون وتكامل وأخوّة؟ وهل يكون ذلك بدون إقامة العدل واعتماد شريعة المساواة في الحقوق والواجبات؟

لذلك كان من أواخر ما أكّده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الناس ليفهموه وَيَعوه هو قوله: «إنّ كلّ مسلم أخ للمسلم، وإنّ المسلمين إخوة، فلا يحلّ لمسلم من أخيه إلّا

ص: 267

ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمُنّ أنفسكم».

ولم يقع اختيار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لهذه المعاني في خطبة حجّةالوداع إلّاليبيّن للمسلمين أنّ من الغايات السامية للإسلام إصلاح مجتمعاتهم وتوجيههم إلى الأمن والصلاح الاجتماعيين. وبدون ذلك لن يكون التقدّم، وبدون ذلك لن تُعاد كرامة، وبدون ذلك لن نكون تلك الأمّة التي خاطبها اللَّه بقوله: وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.

ص: 268

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (14)

2199- معاني الحج في مجالات الاستثمار

عبدالرحمن العدوي

منبر الإسلام (القاهرة) س 48 ع 11

(6/ 1990 م) ص 17- 21

2200- المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية

حمد الجاسر

الرياض: دار اليمامة، ط 1، 1979 م، 3 ج، 24 سم.

2201- معجم الشيوخ: مؤرّخو مكّة المكرّمة

عمر بن فهد الهاشمي

تحقيق: محمد الزاهي

مراجعة: حمد الجاسر

الرياض: دار اليمامة للبحث و الترجمة و النشر، 1982 م.

2202- معجم قبائل الحجاز

حمد الجاسر

العرب س 14: ص 622، س 15:

ص 128.

2203- معجم ما أُلّف عن المدينة المنوّرة

عبدالرزاق بن فراج الصاعدي

جدة: المكتبة العصرية الذهبية، 1417 ه ق، 136 ص، 21 سم.

ص: 269

العرب (الرياض). س 31: ج 1، 2

(رجب، شعبان 1416 ه/ 12/ 1995- 1/ 1996) ص 49- 79.

ج 5، 6 (ذوالقعدة، ذوالحجة 1416 ه/ ابريل، مايو/ 1996 م)ص 343- 360.

ج 7، 8 (محرم، صفر/ 1417 ه/ يونيو- يوليو 1996 م) ص 453- 474.

2204- معجم المعالم الجغرافيّة في السيرة النبوية

عاتق بن غيث البلادي

مكة المكرمة دار مكة للنشر و التوزيع، 1402 ه- 1982 م، 388 ص، 24 سم

2205- معجم معالم الحجاز

عاتق بن غيث البلادي

الطائف: نادي الطائف/ الأدبي، ط 1، ج 1، 1398 ه/ 1978 م

مكّة المكرمة: دار مكة للنشر و التوزيع، ط 1، 1399 ه/ 1979 م، 10 ج.

العرب س 13: ج 11، 12 (5- 6/ 1979) ص 959- 960.

المنهل (جدة) مج 41: ج 2، 3 (2- 3/ 1400 ه/ 12- 1/ 79- 1980) ص 212.

2206- معجم منازل الوحي

محسن الصالح

المنهل (جدة) مج 2: ج 2 (1/ 1357 ه/ 2/ 1939 م) ص 2- 5.

ج 3 (2/ 1357 ه/ 4/ 1938 م) ص 2- 7.

ج 4 (3/ 1357 ه/ 5/ 1938 م) ص 2- 4.

ج 5 (4/ 1357 ه/ 6/ 1938 م) ص 2- 5.

ج 6 (5/ 1357 ه/ 7/ 1938 م) ص 2- 4.

ج 7 (6/ 1357 ه/ 8/ 1938 م) ص 7- 14.

ج 9 (8/ 1357 ه/ 9/ 1938 م) ص 4- 9.

ج 11- 12 (10- 11/ 1357 ه// 11- 12/ 1938 م) ص 8- 16.

2207- معراج الناسكين يا حج امامت (بالفارسية)

عزيز اللَّه امامت كاشاني

ص: 270

كاشان: مجمع متوسلين آل محمد صلى الله عليه و آله در حسينيه آيت اللَّه امامت، ط 1، 1372 ش، 392 ص.

2208- معك في رحلة الحج

عبدالرحمن العدوي

منبر الأسلام (القاهرة) س 47: ع 11

(6/ 1989 م) ص 41- 50.

س 49: ع 11 (5/ 1991 م) ص 40- 45.

2209- المعلقات

نعمان النصري

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه)

ص 234- 563.

2210- معلومات طريفة عن السجادة النبوية

علي رفيق

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 64 (1393 ه) ص 53- 59.

2211- معنى الحج

محمد سعيد ذوالفقار

المنهل (جدّة) مج 27: ج 10 (1386 ه/ 1/ 1967 م) ص 1178.

2212- معين الزائر

أحمد بن محمد الحسيني، كان

حياً سنة 1238 ه

خ: الجامع الكبير بيزد، 1238 ه

ظ: الذريعة 21/ 285 6 معجم ماكتب عن الرسول و أهل البيت عليهم السلام 10/ 111- 112

2213- المغانم المطابة في معالم طابة

الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب ت 817 ه

الرياض: داراليمامة، ط 1 1969 م، 623 ص، 24 سم (نشر قسم المواضع منه فقط بعناية: حمد الجاسر)

مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق مج 45 (1970 م)

ص 388- 391.

2214- المغانم المطابة في معالم طابه

(عرض و نقد، بالفارسية)

الفيروزآبادي، محمد بن يعقوب

ميقات حج: ع 15 (بهار 1375 ش) ص 176- 190.

(صباح زنگنه).

ص: 271

2215- المفاخرة بين الحرمين

علي بن يوسف بن الحسن

الزرندي الأنصاري ت 762 ه

ظ: تحفة المحبين و الأصحاب 9.

كشف الظنون 2/ 1884.

الدرر 3/ 149.

التحفة اللطيفة للسخاوي 1/ 146.

العرب. س 31: ج 7، 8 (221/ 1417 ه/ 1996 م) ص 468.

2216- مفاخره دو حرم

(بالفارسية)

نور الدين علي بن محمد الزرندي (710- 802 ه)

ترجمة: جواد محدثي

ميقات حج: ع 19 (بهار 1376 ش)

ص 118- 124.

2217- مفاهيم اسلامي حج

(بالفارسية)

رضا ناظميان

طهران: سازمان تبليغات إسلامي

ط 1، 1369 ش، 106 ص، 17 سم.

2218- مفتاح السعادة و ملاذ العبادة

(في المهم من أدعية الأعمال والآداب و الزيارات)

أبو محمد الحسن صدر الدين بن هادي بن محمد علي

ظ: الذريعة 21/ 333

معجم ما كتب عن الرسول و أهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 114- 115.

2219- مفرحة الأنام في تأسيس بيت اللَّه الحرام

زين العابدين بن نور الدين علي الحسيني الكاشاني ت 1040 ه

تحقيق: محمد رضا انصاري

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه) ص 9- 39.

2220- مفرّحة الأنام في تأسيس بيت اللَّه الحرام

(بالفارسية)

زين العابدين بن نور الدين علي

حسيني كاشاني ت 1040 ه

إعداد: رسول جعفريان

ميراث اسلامى ايران (قم) ع 1

(1373 ش) ص 367- 392.

2221- المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام

ص: 272

جواد علي

بيروت: ط 2، 1968 م- 1973 م، 10 مج.

المجلّة التاريخية المصرية ع 2 (1972 م)

ص 253- 254 (عبداللَّه الفياض).

العربى ع 214 (1976 م) ص 140- 146

(محمد خليفة التونسي)

المورد مج 9: ع 2 (صيف 1980 م)

ص 459- 469 (خالد العسلي).

مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق مج 28:

ص 316- 317، مج 31: ص 650- 651،

مج 32: ص 381- 383 (جعفر الحسني).

2222- مفهوم الحج الديني والاجتماعي

وهبة الزحيلي

نهج الإسلام (دمشق) س 11: ع 40 (7/ 1990 م)

ص 14- 22.

2223- مفيد الأنام و نور الظلام في تحرير الأحكام لحجّ بيت اللَّه الحرام

عبداللَّه بن عبدالرحمن

الرياض: ط 3، 1412 ه، 512 ص.

2224- مقام ابراهيم عليه السلام

محسن الأسدي

ميقات الحج. س 4: ع 7

(1418 ه) ص 79- 116.

2225- مقام إبراهيم عليه السلام

محمد بن اسحاق الفاكهي ت 272 ه

العرب س 9: 34- 4

(9، 10/ 1394 ه/ 10، 11/ 1974 م) ص 209- 215

(حمد الجاسر).

2226- مقام إبراهيم عليه السلام: بيان من رابطة العالم الإسلامى بمكة المكرمة عن مقام إبراهيم عليه السلام

محمد بهجت البيطار

مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق مج 43

(1968 م) ص 186- 187.

2227- مقام ابراهيم و سير تاريخى آن

(بالفارسية)

ص: 273

مهدى پيشوايى و حسين گودرزى

ميقات حج س 2، ع 7 (بهار 1373 ش)

ص 58- 66.

2228- مقام إبراهيم و نقش آن در طواف و نماز

(بالفارسية)

علي اكبر ذاكري

ميقات حج: ع 23 (بهار 1377 ش) ص 44- 68.

2229- مقتطفات من رحلة العياشي:

ماء الموائد

حمد الجاسر

الرياض: دار الرفاعي، ط 1، 1404 ه/ 1984 م، 223 ص، 24 سم

(في رحاب الحرمين- أشهر رحلات الحج، 2).

2230- مقدّمه ظهور امراض در مكه

(بالفارسية)

ايوب صبرى پاشا.

باهتمام: علي قاضي عسكر

ميقات حج: ع 22 (زمستان 1376 ش) ص 182- 193.

2231- مقصود تويى

(في أسرار و معارف الحج)

(بالفارسية)

علي قاضي عسكر

ميقات حج: ع 15 (بهار 1375 ش) ص 10- 21.

2232- مقصود الزائرين

(بالفارسية)

علي أوسط بن سلمان الحسيني اللكهنوي

ألّفه سنة 1276 ه

طهران: 1280 ه، 246 ص، 24 سم، حجرية.

طهران: 1312 ه، 246 ص، 24 سم، حجرية.

2233- مكانة الحج و العمرة في الأسلام

عبدالمنصف محمود عبدالفتاح

الأزهر (القاهرة) س 61: ع 12 (7/ 1989 م)

ص 1322- 1326.

2234- مكانة الحرمين الشريفين

ملا خاطر

ص: 274

جدّة: دار القبلة للثقافة

ظ:

العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 468.

2235- المكتبة الماجديّة بمكّة المشرّفة

المنهل (جدة) مج 6: ج 10 (10/ 1365 ه/ 9/ 1946 م) ص 476- 477.

2236- مكتبة مكّة المكرمة

دراسة لموقعها و أدواتها و مجموعاتها

عبدالوهاب إبراهيم أبو سليمان

[السعودية]: 1416 ه.

2237- مكّه

(بالفارسية)

؟ ظ

فهرست مشترك باكستان 10/ 45.

العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م) ص 35.

2238- مكّة

أبوالحسن علي بن محمد بن عبداللَّه بن أبي سيف المدائني (135- 215 ه).

ظ

الفهرست لابن النديم 115.

2239- مكّة

(بالفارسية)

مبارك علي هندي

ظ

فهرست مشترك باكستان 10/ 44.

فهرستواره منزوي 1/ 255.

العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 18/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م) ص 35.

2240- مكّة

محمد لبيب بك البتنوني

نقلها: محمد فريد وجدي

في: دائرة معارف القرن العشرين

9/ 327- 373.

بيروت: دار المعرفة، ط 3، د. ت.

2241- مكّة

محمد هادي الأميني

طهران: مكتب نشر العلم و الأدب، ط 1، 1408 ه، 376 ص، 24 سم.

2242- مكّة: از ديدگاه جهانگردان اروپايى

(بالفارسية)

ص: 275

ترجمة: محمدرضا فرهنگ

ميقات حج: ع 13 (پاييز 1374 ش) ص 126- 149.

ع 14 (زمستان 1374 ش) ص 86- 104.

174 (پاييز 1375 ش) ص 118- 141.

2243- مكّة أم القرى و البلد الأمين فيها ولد خاتم المرسلين وإليها يحجّ كلّ عام آلاف المسلمين

محمد بدر خليل

العربي ع 77 (4/ 1965 م) ص 68.

2244- مكّة البلد الحرام

فؤاد عقاوي

الفيصل (الرياض) س 14: ع 162 (7/ 1990 م) ص 19- 27.

2245- مكّة: بيان مكّة

(كتب في سنة 1060 ه/ 1650 م، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ:

مشترك 10/ 23،

فهرستواره منزوى 1/ 255.

العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه، 11، 12/ 1996 م) ص 36.

2246- مكّة بين الأمس و اليوم

فيصل بن محمد بن عباسى عراقي

مخطوط في 18 ج

ظ:

موسوعة الأدباء والكتّاب السعوديين 299.

2247- مكّة تطوّرها العمراني في العهد السعودي

أحمد إبراهيم الغزاوي

المنهل (جدة) مج 6: ج 11- 12 (11- 12/ 1365/ ه/ 10- 11/ 1946 م) ص 528- 532.

مج 7: ج 1 (1/ 1266 ه/ 12/ 1946 م) ص 15- 19.

2248- مكّة جنّت اوّل

(بالفارسية)

محمدرضا فرهنگ

ميقات حج: ع 23 (بهار 1377 ش) ص 110- 130.

2249- مكّه در سال 1327

(بالفارسية)

ص: 276

ترجمه: محمد على سلطانى

ميقات حج: ع 13 (پاييز 1374 ش) ص 118- 124.

2250- مكّه: رساله عرض و طول الكعبة

(بالفارسية)

محمد هاشم سرهندي

ظ:

آصفيه هندليست 1/ 594 الرقم 83 و 82.

فهرستواره منزوى 1/ 255.

2251- مكّة عام 1327 ه من خلال كتاب

عالم الاسلام (مراجعة كتاب: عالم الإسلام تأليف: عبدالرشيد ابراهيم اسطنل)

محمد حرب

عالم الكتب س 10: ع 2 (5/ 1989 م)

ص 259- 261.

2252- مكّة عشيّة الهجرة

المستشرق البلجيكي لامنس

(1862- 1937 م)

بيروت: 1924 م.

2253- مكّه/ فضايل مكّه/ ترجمه فضايل مكّه

(في بيان فضائل مكّة و أوديتها و جبالها و قبور الأنبياء الموجودة فيها و غيرها، بالفارسية)

حسن بصرى

(ت 1111 ه/ 1729 م)

ترجمه: مجهول

ظ:

مشترك 10/ 43، الذريعة 16/ 624 «فضايل»

سپهسالار 5/ 376، خضر نوشاهى 286 «فضايل مكة»، نوشاهى موزه 698،

فهرستواره منزوى 1/ 255

2254- مكّة في أشهر الرحلات العربية

صفاء خلوصي

في:

موسوعة العتبات المقدسّة ج 2: قسم مكّة ص 103- 148.

بيروت: مؤسسةالأعلمي للمطبوعات، ط 2، 1407 ه- 1987 م.

ص: 277

2255- مكّة في الشعر

فؤاد عباس

في:

موسوعة العتبات المقدسة ج 2: قسم مكّة ص 162- 176.

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 2، 1407 ه- 1987.

2256- مكّة في ضمير المسلم

علي محمد الكوراني

بغداد: مطبعة الحوادث، 1978 م، 153 ص.

2257- مكّة في عصر ما قبل الأسلام

أحمد ابوالفضل

منشورات دارة الملك عبدالعزيز

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4 1410/ ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 207.

2258- مكّة في عهد الانحلال العباسي

أحمد السباعي

المنهل (جدة) مج 10: ج 11- 12 (11- 12/ 1369 ه/ 9- 10/ 1950 م) ص 367- 370.

2259- مكّة في عهد الأيّوبيين

العرب س 18: ص 980.

2260- مكّة في عهد العباسيين

العرب س 18: ص 978.

2261- مكّة في عهد العثمانيين (الأول)

العرب س 18: ص 982.

2262- مكّة في عهد الفاطميين

العرب س 18: ص 979.

2263- مكّة في عهد محمد علي باشا

العرب س 18: ص 984.

2264- مكّة في عهد المماليك والأتراك و الشراكسة

العرب س 18: ص 981.

2265- مكّة في عيون الشعر

محمد موسم المفرجي

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)

ص 90- 94.

2266- مكّة في القرن الرابع عشر الهجري

محمد رفيع

ص: 278

طبع بإشراف: عاتق بن غيث البلادي

مكّة المكرمة: نادي مكّة الثقافي 1401 ه، 390 ص.

المنهل (جدة) مج 41: ج 6- 7

(6- 7/ 1400 ه/ 5- 6/ 1980 م) ص 484- 488.

2267- مكّة في المراجع الغربية

جعفر الخياط

في:

موسوعة العتبات المقدسة ج 2: قسم مكّة ص 177- 336.

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 2، 1407 ه/ 1987 م.

2268- مكّة في يوم غائم

أحمد إبراهيم الغزاوي

المنهل (جدة) مج 30: ج 1 (1/ 1389 ه/ 3- 4/ 1969 م) ص 138- 139.

2269- مكّة فيها ولد خاتم المرسلين

محمد بدر الدين

العربي ع 77 (1965 م)

ص 68- 17.

2270- مكّة قديماً

إلمامة تاريخية كافية عن مكّة المكرمة منذ أول تمصيرها حتى قيام الإسلام

جعفر الخليلي

في

موسوعة العتبات المقدسة ج 2: قسم مكة ص 7- 60.

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 2، 1407 ه- 1987 م.

2271- مكة: مثنوى در تعريف كعبه/ مثنوى كعبه/ وصف كعبه

(في وصف الكعبة المشرفة، بالفارسية)

عبدالرحمان جامى

(817- 897 ه)

ظ:

الذريعة 19/ 334 «وصف كعبه».

هفت آسمان 85 «مثنوى تعريف كعبه»

88 «مثنوى كعبه»

فهرستواره منزوى 1/ 255 و 261.

2272- مكّة معظمة، مدينه طيّبه

(بالفارسية)

حسين عماد زاده

طهران: مكتب قرآن، ط 6، 444 ص، 24 سم.

ص: 279

2273- مكّة: مقدار ذراع مكه معظمه

(في بيان طول الكعبة و كيفية المسجد الحرام، بالفارسية)

ظ:

أزبكستان طاشقند 5/ 312،

فهرستواره منزوى 1/ 255.

2274- مكّة المكرمة

أحمد إبراهيم الغزاوي

المنهل (جدة) مج 14: ج 2 (2/ 1373 ه/ 10- 11/ 1953 م) ص 139- 145.

2275- مكه مكرمه

(بالفارسية)

جواد على/ اصغر قائدان

ميقات حج س 2: ع 8 (تابستان 1373 ش)، ص 85- 101.

2276- مكّة المكرّمة

حسين عرب

المنهل (جدة) مج 37، ج 1- 2 (1- 2/ 1396 ه/ 2- 3/ 1976 م) ص 76- 77.

2277- مكّة المكرمة

سلمان غفاري

طهران: انتشارات بنياد عمومي، ط 1، 1362 ش.

2278- مكّة المكرمة

(دراسة عن إسكان الحجّاج)

غازي عبدالواحد مكي

جدة: جامعة الملك عبدالعزيز، 92 ص.

2279- مكّة المكرمة

المعرفت (موسوعة) مج 10 (1981 م) ص 1633- 1635.

2280- مكّة المكرمة

محمد إبراهيم

الرياض: دار المريخ، 1983 م، 46 ص، 21* 29 سم.

2281- مكّة المكرمة

(قصيدة)

محمد حسن فقي

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه) ص 95- 96.

2282- مكّة المكرمة أعزها اللَّه في محكم تنزيله

حسن بشير

الموقف ع 72 (7/ 1990 م) ص 52- 57.

ص: 280

2283- مكّة المكرمة ... تاريخ عطاء حافل

فيصل بن محمد عراقي

المنهل (جدّة) مج 51: ع 475

(3- 4/ 1410 ه) ص 58- 60.

2284- مكّة المكرمة- تطورها العلمي في العهد السعودي

أحمد إبراهيم الغزاوي

المنهل (جدة) مج 7: ج 2 (2/ 1366 ه/ 1/ 1947 م) ص 59- 64.

2285- مكّة المكرمة: جبالها وثناياها و أحياؤها

عاتق بن غيث البلادي

العرب س 10،: ج 1، 2 (8- 9/ 1975 م) ص 5- 29.

2286- مكة المكرمة .. العاصمة المقدسة

زهير محمد جميل كتبي و عبدالعزيز الغامدي و محمد محمود السرياني و معراج مرزا

ظ:

موسوعة الأدباء و الكتاب السعوديين 126.

2287- مكّة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي

(دراسة و تحقيق لبعض المعالم الجغرافية)

اختيار و تصنيف و تحقيق: عبدالعزيز صقر الغامدي، محمد محمود السرياني و معراج نواب مرزا

مكة المكرمة: مطبوعات نادي مكة الثقافي،: 1405 ه، 247 ص، 24 سم.

2288- مكّة المكرمة في القرن السابع كما في رحلة التجيبي الأندلسي

العرب س 11: ج 1، 2 (7- 8/ 1976 م) ص 54- 72 (حمد الجاسر).

2289- مكّة المكرمة كما جاءت في كتب الرحّالة المسلمين منذ القرن السادس الهجري حتى نهاية القرن التاسع الهجري

فريال عبدالمجيد شريف

مكة: جامعة أم القرى، كلية الشريعة و الدراسات الاسلامية، 1401 ه

(رسالة ماجستير)

ص: 281

2290- مكّة المكرمة منذ مائه عام

الرابطه (مكة المكرمة) س 27: ع 284 (11/ 1988 م) ص 22.

2291- مكه مكرمه و پيشينه آن

(بالفارسية)

جواد على

ترجمه و تحقيق: اصغر قائدان

ميقات حج:

ع 13 (پاييز 1374 ش) ص 94- 117.

2292- مكّة المكرمة ... الوضع الفريد

(دراسة تأريخية)

زهير محمد جميل كتبي

جدة: دارالفنون، ط 1، 1409 ه، 100 ص.

2293- مكّة المكرّمة والكعبة المشرّفة في كتب الرحّالة (1517- 1900 م)

علي الشنوفي

قرطاج: المؤسسة الوطنية للترجمة و التحقيق و الدراسات، بيت الحكمة، 1989 م (بحوث و دراسات تاريخ).

2294- مكّة مكرمة و مدينة منورة

(بالفارسية)

احمد آرام

طهران: انتشارات اميركبير، ط، 1358 ش، 58 ص.

2295- مكّة المولد و الفتح

مفرج السيد

المنهل (جدة) مج 40: ج 4- 5 (4- 5/ 1399 ه/ 3- 4/ 1979 م) ص 290- 291.

2296- مكّة و تميم: مظاهر من علاقاتهم

بقلم: كستر، م. ج

ترجمة: يحيى الجبوري

الكتاب (بغداد) س 9: ع 2 (2/ 1975 م) ص 78- 88،

ع 3 (3/ 1975 م) ص 71- 89،

ع 4 (4/ 1975 م) ص 56- 69.

حوليّة كلية الإنسانيات و العلوم الاجتماعية (قطر):

ع 1 (1979 م) ص 73- 121.

2297- كتاب مكّة و الحرم

أبوعبيدة معمر بن المثنى البصري

ص: 282

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 207.

2298- كتاب مكّة و الحرم

محمود بن مسعود بن محمد بن عيّاش

السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي

ظ:

رجال النجاشي 352،

الذريعة 22/ 157.

2299- مكّة و علاقاتها الخارجية 301- 378 ه

أحمد عمر الزيلعي

جامعة الرياض: قسم النشر العلمي

(رسالة ماجستير)

مجلة كلية الآداب (الرياض) مج 6

(1979 م) ص 431- 434.

2300- كتاب مكّة و المدينة

محمد بن خالد بن عبدالرحمن بن محمد بن علي البرقي مولى أبي موسى الأشعري

ظ:

رجال النجاشي 335،

الذريعة 22/ 157.

2301- مكّة و المدينة في الجاهلية و عهد الرسول صلى الله عليه و آله

أحمد إبراهيم الشريف

القاهرة: دار الفكر العربي، 1956 م.

القاهرة: دار الفكر العربي، ط 2، 1965 م.

2302- مكّة و المدينة في رحلة ابن بطوطة

عزت محمد إبراهيم

الوعي الإسلامي س 8: ع 96

(1392 ه) ص 90- 94.

2303- ملاحظات حول (فتح مكة)

علي عبود

المعارج (بيروت) مج 1: ع 5 (10/ 1411 ه- 5/ 1991 م) ص 110- 116.

2304- مل ء العيبة بما جمع بطول الغيبة، في الوجيهة الى الحرمين، مكة و طيبة

محمد بن عمر بن رشيد الفهري

تونس: الدار التونسية للنشر، 1983 م، 568 ص، 24 سم.

ص: 283

2305- الملامح الجغرافية لدروب الحج

عبدالمجيد بكر

جدة: تهامة، ط 1، 1401 ه/ 1981 م، 224 ص، 24 سم.

2306- ملحق مناسك الحج

مسائل ملحقة بمنسك الحج المطابق لفتاوى السيد علي السيستاني

قم: مكتب السيد السيستاني، 1415 ه، 181 ص.

2307- ملخص رحلتي ابن عبدالسلام الدرعي المغزي

حمد الجاسر

الرياض: دار الرفاعي، ط 1، 1402 ه/ 1982 م، 177 ص، 24 سم.

(في رحاب الحرمين، أشهر رحلات، 1).

الرياض: دار الرفاعي، ط 2، 1403 ه/ 1983 م، 185 ص، 25 سم (في رحاب الحرمين، رحلات الحج، 1).

2308- ملكيات الأراضي في الحجاز في القرن الأوّل الهجري

العرب س 3: ص 961.

2309- المملكة العربية السعودية:

دراسة ببليوجرافية

شكري العناني

الرياض: دار العلوم، 1987 م، 710 ص، 24 سم.

2310- من آثار مكّة المكرمة: أين الحجون و أين كداء

حمد الجاسر

العرب. س 2: ع 10 (4/ 1388 ه/ 7/ 1968 م) ص 865- 875.

2311- من آثار الهجرة

عبداللَّه عبدالغني الخياط

التضامن الإسلامي س 43: ع 7 (9/ 1988 م) ص 25- 27.

2312- من الآيات البيّنات: مقام إبراهيم عليه السلام

محمد هادي اليوسفي الغروي

ميقات الحج، ع 9 (1419 ه) ص 191- 206.

2313- من أخبار الحجاز و نجد في تاريخ الجبرتي

محمد أديب غالب

تقديم: حمد الجاسر

ص: 284

دار اليمامة، ط 1، 1395 ه/ 1975 م، 279 ص، 24 سم.

2314- من أسرار الحج

زكريا أحمد نور

منار الإسلام (أبوظبي) س 16: ع 11 (5/ 1991 م) ص 23- 26.

2315- من أسرار الحج

علوي المالكي

المنهل (جدة) مج 20: ج 10 (12/ 1379 ه/ 5- 6/ 1960 م) ص 678- 680.

2316- من أسرار الحج و منافعه

التهامي نقرة

الهداية (تونس) س 15: ع 6 (5/ 1991 م) ص 4- 7.

2317- من أسرار الفتح: فتح مكة

البهي الخولي

القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية بوزارة الأوقاف، 1963 م، 84 ص.

2318- من أعلام العلم في المدينة المنورة

محمد سعيد دفتردار

المنهل (جدة) مج 32: ج 2 (صفر/ 1391 ه/ 4/ 1971 م) ص 139- 141.

2319- من أعلام المدينة المنورة

يوسف علي خشيرم

محمد سعيد دفتردار

المنهل (جدة) مج 30: ج 1 (1/ 1389 ه/ 3- 4/ 1969 م) ص 56- 57.

2320- من ألّف في الحج من أهل هجر

أحمد الكناني

ميقات الحج. س 3: ع 6 (1417 ه) ص 276- 292.

2321- من أمجاد المدينة في التاريخ- الشيخ عمر عبدالرحمن الكردي الكوراني

ضياء الدين رجب

المنهل (جدة) مج 22: ج 11 (11/ 1381 ه/ 4/ 1962 م) ص 743- 746.

مج 23: ج 1 (1/ 1382 ه/ 6/ 1962 م) ص 17- 18.

2322- من أهداف الحج توحيد كلمة

ص: 285

المسلمين

عبدالعزيز بن عبداللَّه بن باز

مجلة البحوث الفقهية المعاصرة (الرياض)

س 3: ع 9 (4/ 1991 م) ص 8- 16.

2323- من تاريخ أسواق المدينة المنورة

خالد محمد ابراهيم النعمان

جريدة المدينة (ملحق الأربعاء)، 1415- 1416 ه.

2324- من تاريخ مكّة المكرمة في نهاية القرن الثالث الهجري

ك. سنوك هور فرونيه

ترجمه: محمد بن محمود السرياني

و معراج بن نواب

مراجعة: محمد إبراهيم أحمد علمي

مكّة المكرمة: نادي مكة الثقافي الأدبي، 221 ص.

2325- من حديث الحج في القرآن الكريم

محمد الدسوقي

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 21 (1389 ه) ص 5- 15.

2326- من دلالات سورة قريش:

دراسات تاريخية و تربوية

أحمد عبدالرحمن عيسى

مجلة كلية العلوم الاجتماعية (الرياض):

ع 1 (1977 م) ص 93- 126.

2327- من رحاب البيت الحرام

محمد بن علوي المالكي

المنهل (جدة) مج 39: ج 3 (3/ 1398 ه/ 3/ 1978 م) ص 269.

2328- من رحلات الحجّ الإيرانية (1)

رحلة رجل من البلاط القاجاري

تقديم: علي قاضي عسكر

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه) ص 142- 168.

2329- من رحلة ابن جبير عن الحج

عبداللَّه المؤمن

ميقات الحج: ع 3 (1416 ه) ص 281- 295.

2330- من سوانح الذكريات: في طيبة قبل ستة و خمسين عاماً

حمد الجاسر

المجلة العربية: س 15: ع 167 (12/ 1411 ه/ 7/ 1991 م)

ص: 286

ص 22- 25.

2331- من سوانح الذكريات: على هامش الدراسة

(في وصف و رحلات عن مكّة المكرمة)

حمد الجاسر

المجلة العربية (الرياض). س 14: ع 158 (3/ 1411 ه/ 10/ 1990 م) ص 29- 32.

2332- من علماء القرن الثالث عشر الهجري بالمسجد الحرام

فضيلة الشيخ إبراهيم بن حسين بن أحمد علي بيري

عمر عبدالجبار

المنهل (جدة) مج 21: ج 5 (5/ 1380 ه/ 11/ 1960 م) ص 341- 342.

2333- من فقه الحج و العمرة

عبدالرحمن بن حسين النفيسة

مجلة البحوث الفقهية المعاصرة (ملحق) (الرياض)

س 3: ع 9 (4/ 1991 م) ص 3- 23.

2334- من مراحل الدعوة الإسلامية في مكّة

جميل عبداللَّه المصري

مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

س 16: ع 62 (4- 6/ 1404 ه) ص 218- 232.

2335- من المدينة المنورة إلى مدائن صالح

خالد الصوفي

العربي ع 131 (10/ 1969 م) ص 97.

2336- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

عبدالحكيم جابر جاد اللَّه

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 52 (1392 ه) ص 35- 41.

2337- من مظاهر النهضة بالمدينة المنوّرة

عبدالحميد عنبر

المنهل (جدة) مج 7: ج 1 (1/ 1366 ه/ 12/ 1946 م) ص 31- 33.

2338- من معالم الإسلام المضيئة في حجة الوداع

إبراهيم إمام

المجاهد (القاهرة) س 9: ع 92 (8/ 1988 م) ص 10- 13.

ص: 287

2339- من معالم الحجّ و الزيارة (الجحفة)

عبدالهادي الفضلي

الموسم ع 16 (1993 م- 1414 ه) ص 127- 144.

2340- من معالم الحجّ و الزيارة:

غدير خمّ

عبدالهادي الفضلي

تراثنا ع 25 (10- 12/ 1411 ه) ص 7- 41.

2341- من معالم الحجّ و الزيارة (يلملم)

عبدالهادي الفضلي

الموسم ع 5 (1990 م- 1410 ه) ص 9- 26.

2342- من مقاصد الحجّ في الإسلام

جاد الحق علي جاد الحق

الأزهر (القاهرة) س 63: ع 12 (6/ 1991 م) ص 1332- 1335.

2343- من نفحات الحرم

علي الطنطاوي

دمشق: دارالفكر، 1400 ه/ 1980 م، 144 ص، 24 سم.

2344- من نفحات طيبة

علي الطنطاوي

دمشق: دارالفكر، 1379- 1960 م.

2345- من نوادر المخطوطات

كتاب في تاريخ مكة

حمد الجاسر

العرب. س 22: ع 5- 6 (11، 12/ 1407 ه/ 6، 7/ 1987 م) ص 376- 389.

2346- من هدي الحج

محمد بن لطفي الصباغ

الفيصل (الرياض) ع 234 (12/ 1416 ه- 4/ 1996 م) ص 115- 117.

2347- من اليمامة إلى مكّة المكرمة

العرب س 3: ص 1008، 1065، س 4: ص 28.

2348- منائح الكرم في أخبار مكّة و ولادة الحرم

تاج الدين علي السنجاري

ت 1095 ه

خ: الحرم المكي، برقم 30.

طوپ قيوسراي باستانبول.

ص: 288

برقم 520. م 6086، 417 ورقه، 1261 ه.

2349- منائر البيت الحرام

محمد عيسى رضوان

المجاهد (القاهرة) س 9: ع 91 (7/ 1988 م) ص 32.

2350- منائر المسجد الحرام القديمة و الحديثة

طاهر مظفر العميد

المجلة التاريخية المصرية ع 3 (1974 م) ص 179- 192.

2351- منازل بين اصفهان و مكّة

(بالفارسية)

خ: معهد الثقافة في باكو

ظ:

بسوى امّ القرى 16.

فهرس المكتبة

العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م) ص 32.

2352- المنازل الثلاثة للرحمة في السعي

محمد مهدي الآصفي

ميقات الحج ع 2 (1415 ه) ص 97- 118.

2353- منازل الحجّ

أبوعبداللَّه ابن العطار ت 830 ه.

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2354- منازل الحجّ

(رحلة إلى الحجّ من بغداد في حدود سنة 1412 ه، بالفارسية)

بنده علي خيرات علي

ظ:

نسخه ها 6/ 4053،

استورى 1146 الرقم 1602،

نشرية 10/ 196 [علي بن خيرات علي]،

ايوانف 287،

ريو 429 و 431، بسوى أم القرى 16،

فهرستواره منزوى 1/ 153، العرب:

س 32 ج 1، 2 (7- 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م) ص 33.

2355- منازل سفر حجاز

(رحلة إلى الحجاز في سنة 1287-

ص: 289

1288 ه، بالفارسية)

حاجى حبيب پونوچهى

ظ:

استورى 1156 الرقم 1621،

مشار 4/ 4953 «منازل السفر الحج»،

فهرستواره منزوى 1/ 154.

2356- منازل سلوك عرفانى در آيينه حج

(بالفارسية)

حسين مظاهري

ميقات حج: س 4: ع 11

(بهار 1374 ش) ص 36- 55.

2357- منازل مكّة

حسين علي محفوظ

في:

موسوعة العتبات المقدسة، ج 2: قسم مكّة ص 149- 162.

بيروت: مؤسّسة الأعلمي، ط 2، 1407 ه/ 1987 م.

2358- كتاب منازل مكّة

ابن الكوفي أبوالحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي الكوفي ت 348 ه

ظ الذريعة 22/ 251.

2359- منى

(بالفارسية)

محمد إبراهيم جنّاتي

ميقات حج س 1: ع 2 (زمستان 1371 ش)، ص 53- 63.

2360- منى الناسك في المناسك

حسن الصدر

بغداد: 1932 م.

2361- المناسك

أحمد المصري

خ: فيض اللَّه افندي باستانبول برقم 933، 853 ه، 16 ورقه.

2362- كتاب المناسك

الحسن بن علي بن زياد الوشاء البجلي الكوفي

ظ:

رجال النجاشي 39- 40، الذريعة 22/ 260.

2363- كتاب المناسك

عبيداللَّه بن أحمد بن نَهِيْك النخعي

ظ:

رجال النجاشي 232،

الذريعة 6/ 251، 22/ 267.

ص: 290

2364- المناسك

العرب س 5: ص 944، س 6:

ص 358،

س 23: ص 433.

2365- مناسك

(بالفارسية)

أبوالقاسم الخوئي

النجف الأشرف: مطبعة الآداب، 1380 ه، 160 ص.

النجف الأشرف: ط 2، 1382 ه، 191 ص.

2366- المناسك

(بالفارسية)

مرتضى الأنصاري

د. م: 1301 ه (مع حاشية محمد حسن الشيرازي)

بمبي: 1314 ه، 72 ص، حجريّة.

د. م: 1321 ه (مع حاشية حسين الطهراني، ومحمد كاظم اليزدي وإسماعيل الصدر)

النجف: مط العلوية، 1347 ه، 20 ص.

طهران: ط 2، 1382 ه، 153 ص (مع حاشية أحمد الموسوي الخوانساري).

2367- مناسك

(بالفارسية)

محمدرضا الگلپايگاني

قم: 1348 ش، 224 ص.

قم: دار القرآن الكريم، 1372 ش، 306 ص.

2368- مناسك الحج

ظ:

الذريعة 22/ 258.

2369- مناسك الحج

ظ:

الذريعة 22/ 257.

2370- مناسك الحج

(بالفارسية)

ظ:

الذريعة 22/ 257.

2371- مناسك الحج

(كبير، بالفارسية)

ظ:

الذريعة 22/ 257.

2372- مناسك حج

(بالفارسية)

خ: المكتبة الرضوية، 994 ه.

ص: 291

2373- مناسك الحج

خ: المكتبة الرضوية، برقم 2657.

2374- مناسك الحج

خ: المكتبة الرضوية، برقم 1307 ه.

2375- مناسك حج

(بالفارسية)

خ: مسجد أعظم بقم، برقم 2873، 48 ورقه، 1043 ه.

2376- مناسك حج

(بالفارسية)

خ: مدرسة آخوند بهمدان، برقم 4803.

2377- مناسك حج

(بالفارسية)

إبراهيم بن حسن الحسيني

الاصطهباناتي المشهور بميرزا آقا

النجف الأشرف: 1347 ه، 85 ص، حجرية.

النجف الأشرف: ط 4، 104 ص.

2378- مناسك الحج

إبراهيم بن محمد باقر القزويني الحائري

ظ:

الذريعة 22/ 253.

2379- مناسك الحج

إبراهيم السقا

مصر: 1332 ه.

2380- مناسك الحج

(استدلالي مبسوط)

أبوتراب الموسوي الخوانساري

ظ:

الذريعة 22/ 253.

2381- مناسك الحج

أبوالحسن الأصفهاني

النجف: المط العلمية، 1938 م، 79 ص، حجرية.

2382- مناسك الحج

(بالفارسية)

ميرزا أبوالحسن الشعراني

مطبوع

2383- مناسك الحج

أبوطالب بن أبي تراب القائني ت 1295 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 253.

2384- مناسك الحج

النجيب أبي طالب الاسترابادي

ص: 292

ظ:

الذريعة 22/ 253.

2385- مناسك الحج

ميرزا أبوطالب بن ميرزا أبي القاسم الموسوي الزنجاني ت 1329 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 254.

2386- مناسك الحج

(صغير)

أبوغالب أحمد بن محمد الزراري (285- 368 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 255.

2387- مناسك الحج

أبوغالب أحمد بن محمد الزراري (285- 368 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 255.

2388- مناسك الحج

أبوالقاسم الخوئي

بغداد: مطبعة اوفست الميناء، ط 8، 1977 م، 268 ص.

طهران: 1358 ش، 228 ص.

قم: مدينة العلم، 360 ص، 19 سم.

قم: لطفي، ط 25، 1364 ش، 352 ص، 19 سم.

2389- مناسك الحج

(بالفارسية)

أبوالقاسم الاردوبادي التبريزي

تبريز: 1335 ش، 175 ص.

2390- مناسك الحج

ميرزا أبوالقاسم بن كاظم الموسوي الزنجاني ت 1292 ه.

مخطوط

2391- مناسك الحج

ميرزا أبوالقاسم جار اللَّه الزمخشري

مخطوط

2392- مناسك الحج

(فارسي مختصر في خصوص حج التمتع)

ميرزا أبوالقاسم القمي ت 1231 ه.

ظ

الذريعة 22/ 254.

2393- مناسك الحج

(بالفارسية)

أبومحمد آيتي بروجردي

ص: 293

طهران: 1351 ه، 100 ص.

2394- مناسك الحج

(بالفارسية)

ميرزا أحمد آشتياني

طهران: مطبعة بهمن، 1386 ه، 150 ص، 17 سم.

2395- مناسك الحج

أحمد بن إبراهيم آل عصفور البحراني

ظ

الذريعة 22/ 254.

2396- مناسك الحج

أحمد بن حجر الهيثمي ت 973 ه.

خ: ملّي ملك بطهران، برقم 1388.

2397- مناسك الحج

أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري

ظ

الذريعة 22/ 254.

2398- مناسك الحج

أحمد بن صالح بن طوق القطيفي

ظ

الذريعة 22/ 254.

2399- مناسك الحج

أحمد بن فهد العلي

(و هو غير مناسكه الكبير الموسوم ب «كفاية المحتاج»)

ظ

الذريعة 22/ 255.

2400- مناسك الحج

(بالفارسية)

أحمد بن لطفعلي التبريزي ت 1265 ه.

ظ

الذريعة 22/ 255.

2401- مناسك الحج

أحمد بن محمد بن سرحان البحراني

بمبي: 1339 ه، 132 ص، حجريّة.

2402- مناسك الحج

(بالفارسية)

أحمد بن محمود المعروف بالمقدس الأردبيلي ت 993 ه.

ظ

الذريعة 22/ 255.

2403- مناسك الحج

أحمد رفعت البدراوي

بيروت: دار المعرفة.

2404- مناسك الحج

أحمد المقشاعي

ص: 294

ظ

الذريعة 22/ 255.

2405- مناسك الحج

(بالفارسية)

أسداللَّه بن محمد باقر الأصفهاني الشفتي ت 1290 ه.

ظ

الذريعة 22/ 255.

2406- مناسك الحج

إسماعيل بن أسداللَّه بن إسماعيل الدزفولي الكاظمي

ظ

الذريعة 22/ 256.

2407- مناسك الحج

إسماعيل البهبهاني 1295 ه

(انتخب منه رسالة فارسية مختصرة في واجبات الحج، و قد طبعت في طهران).

ظ

الذريعة 22/ 256.

2408- مناسك حج

(بالفارسية)

باقر مرندي

طهران: 1356 ه، 148 ص.

2409- مناسك الحج

(بالفارسية)

بنياد انقلاب اسلامي

طبع في 38 ص.

2410- مناسك الحج

جعفر بن محمد باقر بن حسن علي بن عبداللَّه الواعظ التستري ت 1335 ه.

ظ

الذريعة 22/ 258.

2411- مناسك الحج

(بالفارسية)

جواد تبريزي

ط 1، 1373 ش، 17 سم.

2412- مناسك الحج

حسن بن جعفر كاشف الغطاء ت 1262 ه.

ظ

الذريعة 22/ 259.

2413- مناسك الحج

حسن بن الحسين بن محمد بن أحمد آل عصفور البحراني ت 1216 ه.

ظ

الذريعة 22/ 259.

ص: 295

2414- مناسك الحج

جمال الدين الحسن بن زين الدين صاحب المعالم ت 1011 ه.

ظ

الذريعة 22/ 259.

2415- مناسك الحج

العلامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهر ت 726 ه.

ظ

الذريعة 22/ 260.

2416- مناسك الحج

حسن علي بن عبداللَّه التستري ت 1075 ه.

ظ

الذريعة 22/ 260.

2417- مناسك الحج

حسن المدرس الأصفهاني

ظ

الذريعة 22/ 260.

2418- مناسك الحج

(بالفارسية)

حسين بن إبراهيم بن محمد معصوم الحسيني التبريزي القزويني ت 1208 ه.

ظ

الذريعة 22/ 260.

2419- مناسك الحج

حسين بن رفيع الدين محمد بن شجاع الدين محمود الحسيني الآملي الاصفهاني (1001- 1064 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2420- مناسك الحج

الحسين بن عبيداللَّه بن إبراهيم الغضائري ت 401 ه.

ظ

الذريعة 22/ 261.

2421- مناسك الحج

حسين بن علي بن محمد الأخباري النيسابوري ت 1318 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2422- مناسك الحج

(كبير)

حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني العصفوري 1216 ه

ص: 296

طبع في بمبي

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2423- مناسك الحج

(متوسّط)

حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني العصفوري ت 1216 ه

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2424- مناسك الحج

(صغير)

حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني العصفوري ت 1216 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2425- مناسك الحج

حسين بن محمد بن عبدالصمد البحراني

ظ:

الذريعة 22/ 261.

2426- مناسك الحج

(كبير)

حسين بن مفلح بن الحسن الصيمري البحراني ت 933 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 262.

2427- مناسك الحج

(صغير)

حسين بن مفلح بن الحسن الصيمري البحراني ت 933 ه

ظ:

الذريعة 22/ 262.

2428- مناسك حج

(بالفارسية)

ميرزا حسين بن موسى الحسيني السبزواري

مشهد: 1327 ش.

2429- مناسك حج

(بالفارسية)

آقا حسين الطباطبائي البروجردي

طهران: 1368 ه، 96 ص.

2430- مناسك الحج

آقا حسين الطباطبائي القمّي

النجف الأشرف: 1356 ه، 104 ص، حجرية.

ص: 297

2431- مناسك حج

(بالفارسية)

حسين الكوهكمري التبريزي ت 1299 ه

طبع في سنة 1325 ه

(مع حواشى السيد الصدر).

2432- مناسك الحج

حسين الوحيد الخراساني

قم: 1415 ه، 384 ص.

2433- مناسك الحج

(بالفارسية)

ميرزا خليل كمره

طهران: 1340 ش، 133 ص.

2434- مناسك الحج

الإمام روح اللَّه الموسوي الخميني

طهران: 1358 ش، 228 ص.

مكتب الإعلام الإسلامي، 1993 م، 226 ص، (ترجمة أحمد الفهري).

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1372 ه ش، 352 ص.

طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامى، ط 8، 1372 ه ش، 260 ص (مع حواشي: الشيخ محمد علي الأراكي).

2435- مناسك حج

(بالفارسية)

مطابقة لفتاوي آيات اللَّه: الإمام الخميني، و الاراكي و الگلپايگاني و الخوئى و فاضل لنكراني.

[د. م]: [د. ن]، ط 1، 1373 ش، 459 ص.

2436- مناسك الحج

إعداد: رئاسة ديوان الأوقاف

بغداد: 1972 م، 85 ص، خريطة مطوية.

2437- مناسك حج

(بالفارسية)

رضا مدني الكاشاني

كاشان: 1352 ش، 63 ص.

2438- مناسك الحج

(صغير)

زين الدين بن علي بن أحمد الشامي العاملي

ظ:

الذريعة 22/ 263.

2439- مناسك الحج

زين الدين علي بن سليمان بن درويش

ص: 298

البحراني ت 1064 ه

ظ:

الذريعة 22/ 269.

2440- مناسك الحج

(بالفارسية)

زين العابدين بن مسلم البارفروشي الحائري ت 1308 ه

طبع سنة 1313 ه.

2441- مناسك حج

(بالفارسية)

زين العابدين الكرماني

كرمان: مدرسة إبراهيمية، 1352 ش، 355 ص، 5/ 17 سم.

2442- مناسك الحج

سلمان بن خليل الغازي القزويني

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2443- مناسك الحج

(صغير)

سليمان بن أحمد آل عبدالجبار القطيفي ت 1266 ه.

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2444- مناسك الحج

سليمان بن سليمان بن أحمد آل عبدالجبار القطيفي

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2445- مناسك الحج

سليمان بن عبداللَّه بن علي بن الحسن بن أحمد البحراني الماحوزي السراوي (1075- 1121 ه).

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2446- مناسك الحج

(مختصر)

سليمان بن عبداللَّه بن علي بن الحسين بن أحمد البحراني الماحوزي السراوي (1075- 1211 ه).

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2447- مناسك الحج

(مقصوراً فيه على المسائل الخلافيّة فيها)

سليمان بن عبداللَّه بن علي بن الحسن بن أحمد البحراني

ص: 299

الماحوزي السراوي (1075- 1121 ه).

ظ:

الذريعة 22/ 264.

2448- مناسك الحج

سيد عبدالمالك سبد

التصوف الإسلامي (القاهرة) س 11:

ع 6

(06/ 1989 م) ص 22- 28.

2449- مناسك حج

(بالفارسية)

سيف الدين بن محمد ديزجي الزنجاني

زنجان: 1371 ه، 101 ص.

2450- مناسك الحج

عباس بن الحسن بن عباس البلاغي النجفي.

ظ:

الذريعة 22/ 265.

2451- مناسك حج

(بالفارسية)

عباس مغيثي مرندي

طهران: المؤلف، ط 3، 1385 ه، 234 ص، 17 سم.

2452- مناسك الحج

عبدالأعلى السبزواري

النجف الأشرف

قم: مؤسسة المنار، 1414 ه.

2453- مناسك الحج

(بالفارسية)

عبداللَّه البلادي

طبع في ايران

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2454- مناسك الحج

عبداللَّه بن علي بن أبي المحاسن زهرة الحلبي

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2455- مناسك الحج

(آخر)

عبداللَّه بن علي بن أبي المحاسن زهرة الحلبي

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2456- مناسك حج

(بالفارسية)

ص: 300

عبداللَّه بن محمد حسن المامقاني

النجف الأشرف: 1344 ه، 110 ص، حجرية.

2457- مناسك الحج

عبداللَّه بن محمدرضا الشبر الحسيني الكاظمي ت 1242 ه

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2458- مناسك الحج

عبدالرحمن الجامي

خ: آياصوفيا برقم 4209،

ضمن كليّاته المؤرخّة

(22 شعبان 877)

ظ:

الذريعة 22/ 265.

2459- مناسك الحج

(كبير، بالفارسية)

عبدالكريم بن جواد الموسوي الجزائري التستري ت 1215 ه

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2460- مناسك الحج

(مختصر من الكبير، بالفارسية)

عبدالكريم بن جواد الموسوي الجزائري التستري ت 1215 ه

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2461- مناسك حج

(بالفارسية)

عبدالكريم بن محمد رضا الزنجاني

النجف الأشرف: 1367 ه، 136 ص.

2462- مناسك حج

(بالفارسية)

عبدالكريم بي آزار شيرازي

طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامي، ط 4، 1364 ش، 280 ص، 24 سم.

2463- مناسك حج

(بالفارسية)

عبدالكريم محمد جعفر مهرجردي

طهران: 1347 ه، 176 ص، حجرية.

2464- مناسك الحج

(استدلالي)

عبدالمجيد الحائري (ق 13 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 266.

ص: 301

2465- مناسك الحج

(بالفارسية)

عبدالنبي الوفسي العراقي

ظ:

الذريعة 22/ 266.

2466- مناسك الحج

عبدالهادي بن إسماعيل الشيرازي

النجف: المط الحيدرية (1951 م)، 91 ص.

2467- مناسك الحج

العز بن عبدالسلام

سوريا: دارالفكر المعاصر.

2468- مناسك الحج

ميرزا عسكري بن هداية اللَّه بن الميرزا مهدي الشهيد الرضوي (1211- 1280 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 267.

2469- مناسك الحج

عقيل بن الحسين، و هو من ولد محمد بن الحنيفة، كان حياً سنة 420 ه

ظ:

الذريعة 22/ 267.

2470- مناسك الحج

(بالفارسية)

علي أكبر الخوانساري (1300 ه)

ظ:

الذريعة 22/ 269.

2471- مناسك الحج

علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أبي شبانه البحراني

ظ:

الذريعة 22/ 267.

2472- مناسك الحج

علي بن جعفر بن زين الدين علي بن سليمان القدمي البحراني ت 1131 ه

ظ:

الذريعة 22/ 268.

2473- مناسك الحج

علي بن جعفر الصادق عليه السلام

ظ:

الفهرست للطوسى 87- 88

الذريعة 22/ 268.

2474- مناسك الحج

علي بن الحسن بن علي بن فضال الفطحي

ص: 302

ظ:

الذريعة 22/ 268.

2475- مناسك الحج

علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ت 329 ه

ظ:

الذريعة 22/ 268.

2476- مناسك الحج

علي بن عبدالعال المحقق الكركي ت 940 ه

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه) ص 12- 43

تحقيق: فارس الحسون كريم، ابوالحسن المطلبي).

2477- مناسك الحج

(بالفارسية)

علي بن محمدجواد المرندي (1287 ه-)

النجف: المطبعة المرتضوية، 1343 ه، 189 ص، حجريّة.

2478- مناسك الحج

علي بن محمد رضا بن مهدي بحر العلوم الطباطبائي النجفي ت 1298 ه

ظ:

الذريعة 22/ 268.

2479- مناسك الحج

(طبقاً لفتاوى السيد علي الخامنئي، بالفارسية)

طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامى، ط 1، 137 ش.

2480- مناسك الحج

ميرزا علي الغروي

قم: مؤسسة المنار، 1415 ه، 334 ص.

2481- مناسك الحج

علي الفاني الاصفهاني

النجف: مط النعمان، 1965 م، 99 ص.

2482- مناسك حج

(بالفارسية)

علي محمد أسدي

قم: دفتر انتشارات اسلامي.

2483- مناسك الحج

علي محمد بن محمد النقوي اللكهنوي ت 1312 ه

ظ:

الذريعة 22/ 269.

ص: 303

2484- مناسك الحج

علي نقي بن محمد هاشم الكمره اى ت 1060 ه

ظ:

الذريعة 22/ 269.

2485- مناسك حج

(بالفارسية)

ملا علييا

[إيران]: 1287 ه، حجريّة.

2486- مناسك الحج

عمر بن محمد بن يزيد الكوفي

ظ:

الذريعة 22/ 269- 270.

2487- مناسك حج

(بالفارسية)

غلام حسين وفائي

طهران: 1333 ش، 33 ص، 17 سم.

مطبعة حبل المتين، ط 2، 35 ص.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.