ميقات الحج-المجلد الثامن عشر

اشارة

نام كتاب: دو فصلنامه« ميقات الحج»

نويسنده: مركز تحقيقات حج

ص: 1

مراسلات علمية بين الشيخ محمّدجواد البلاغي والسيّد محسن الأمين

ص: 2

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي مدّظلّه

مرّة أخرى حلّ موسم الحجّ... مهوى قلوب المتديّنين، ونعيم الذاكرين، وفرصة الصالحين، وفي هذه الضيافة العامّة يشارك جمعٌ قَدِموا من كلّ فجّ عميق...

... الأمّة الإسلاميّة اليوم هدف لأنواع التهديد والإهانة. الاستكبار الهائج بقيادة النظام الأمريكي وبسمسره واستثارة النظام الصهيوني، يستغلّ كلّ الاستغلال تفكّك العالم الإسلامي، وتفرّق الشعوب الإسلاميّة.

الثورة الدامية، التي ينهض بها الشعب الفلسطيني، وراية الافتخار، التي يرفعها هذا الشعب بانتفاضةٍ قد أثارت سخط الدوائر السياسية الاستكبارية، وبعثت فيهم الهلع والفزع، ودفعتهم إلى أن تسوّل لهم أنفسهم ارتكابَ أعمال وقحة، وإلى استعراض جنوني لقوّتهم.

حوادث سبتمبر في نيويورك، قد أصبحت ذريعةً لتزايد غطرسة البيت الأبيض، ولترتكب دولة الصهاينة جرائم في فلسطين لم يسبق لها نظير.

بعد العمليات المأساويّة، التي ارتكبتها أمريكا في أفغانستان، فإن الطبيعة العسكريّة الفظّة لحكومة أمريكا تعمد باستمرار إلى رفع وتيرة دفع الساحة العالميّة إلى حالة من اللاأمن، وإلى المجازر والحروب. مكافحة الإرهاب والدفاع عن السلام في الشرق الأوسط تبدّل إلى ذريعة للبطش والعربدة الأمريكية، وغطاء للتوسّع والهيمنة على المصالح والمصادر الحياتيّة للشعوب.

إنّها لسُخرية ما بعدها سخرية أن يدّعي مكافحة الإرهاب في العالم مَنْ كان له السهمُ الأوفى في ارتكاب الاغتيالات وتدبير المؤامرات، وانتاج أفتك أسلحة الدمار، وحماية أخطر الارهابيين. وإنّها لطعنة في قلب الحقيقة حين يُطلق اسم الدفاع عن السلام على قتل النساء والرجال والأطفال الفلسطينين، وهدم بيوتهم على رؤوسهم، وإخراجهم من وطن آبائهم وأجدادهم.

ص: 3

نداء الإمام

فقد قرّر اللَّه سبحانه أن سرّ الحجّ وبواعثه والغاية من الكعبة والبيت الحرام هي نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس والجماهير المستضعفة في العالم.

في هذا التجمّع الإلهي العظيم، الذي لا تستطيع أيّة قدرة سوى قدرة اللَّه تعالى على أن تعقده، يتوجّب على المسلمين أن يباشروا في دراسة مشاكل المسلمين العامّة، ويبذلوا جهودهم على طريق حلّها بالتشاور الشامل.

إحدى أكبر هذه المشاكل وأكثرها أهميّة عدم الوحدة بين المسلمين. ولم يتّخذ حتّى الآن مع الأسف اجراء ملموس لتغلّب عليها؛ بل أن الجناة الطامعين الذين يستغلون الخلافات بين الشعوب والحكومات لصالحهم، يشدّدون هذه الخلافات عن طريق عملائهم الضالّين. وكلّما وضع أساس للوحدة بين المسلمين هبّوا لمحاربته بكلّ قواهم، وعملوا على نثر بذور الخلاف.

ص: 4

ص: 5

إعداد: هادي القبيسي

قال السيّد الأمين:

لمّا اطّلع الشيخ على كتابنا مناسك الحجّ أرسل إلينا ينتقد فيه اموراً:

أقرب المواقيت في الإحرام

الأوّل:

قولنا: إنّ قرن المنازل أقرب المواقيت.

فقال: إنّ يلملم مساوٍ له في القرب.

فأجبناه بتاريخ 4 جمادى الثانية سنة 1341 ه: بأنّ صاحب معجم البلدان حكى عن القاضي عياض أنّ قرن المنازل وهو قرن الثعالب بسكون الراء، ميقات أهل نجد، تلقاء مكّة على يوم وليلة، وهو قرن أيضاً غير مضاف.

وحكي عن الحسن بن محمّد المهلبي أنّه قال: (قَرن) قرية بينها وبين مكّة واحد وخمسون ميلًا، وهي ميقات أهل اليمن، بينها وبين الطائف ذات اليمين ستّة

ص: 6

وثلاثون ميلًا (1).

وقال: إنّ يلملم موضع على ليلتين من مكّة، وهو ميقات أهل اليمن. وقال المرزوقي: هو جبل من الطائف على ليلتين أو ثلاث «انتهى» (2).

فأجابنا بتاريخ 21 جمادى الثانية سنة 1341 ه بقوله: إنّ الذي كتبتُه لحضرتك فيما يتعلّق ببعض المسائل من منسكك الشريف، لا أسمح بأن تسمّيه- لطفاً منك- بالانتقاد، وإنّما كان ذلك حرصاً على الاستيضاح في التحقيق من أمثالك، لا من يجعل المذاكرة في العلم مجلسية تنقضي بما لا يحمد، ولأجل اطمئناني بلطفك في حسن الظنّ بالداعي المخلص، بادرت إلى تكرار المراجعة استيثاقاً من التحقيق بالاستفادة، فأذكر كلامك الشريف، ثمّ أعرض ما عندي راجياً من لطفك الإفادة ببيان ما فيه، وقد أقنعني الزمان عن خطوة المكالمة بحضرتك بإطالة الكلام في المكاتبة، وأسأل اللَّه أن لا تكون مضايقة لوقتك الشريف، وأن يجعلها سبباً لاستفادتنا بها من فوائدك.

مولاي أمّا اعتمادك على معجم البلدان في كون قرن المنازل أقرب المواقيت، فكان على مثل تحقيقك أن تصرّح في المنسك بالبناء على قوله.

والمصرّح بالمساواة ليلملم فيما حضرني من الكتب في ساعتي: المبسوط (3) واللمعة (4)، وكشف اللثام (5)، والجواهر (6). والمنقول من الاعتبار شاهد على ذلك، والتفاوت المذكور في معجم البلدان غلط فاحش «انتهى».


1- معجم البلدان 4: 332.
2- معجم البلدان 5: 441.
3- المبسوط 1: 313.
4- اللمعة، كتاب الحج.
5- كشف اللثام 1: 306.
6- الجواهر، وكذا العلّامة في المنتهى كما عنه في مستند الشيعة 11: 185.

ص: 7

[قال السيّد] فلذلك أصلحناه، فقلنا: إنّ يلملم لأهل اليمن، وقرن المنازل لأهل الطائف على مسافة واحدة، أو متقاربان في المسافة، بينهما وبين مكّة ليلتان بالسير المتوسّط، وكذلك ذات عرق التي هي آخر العقيق، ميقات أهل العراق.

البريد

الثاني:

قولنا: في كتاب المناسك في تحديد الحرم: إنّ البريد نحو من مسير ستّ ساعات.

فأورد علينا: إنّ البريد أقلّ من ذلك.

فأجبناه بالتاريخ المتقدّم: بأنّ ذلك مبني على ما ورد في تحديد المسافة إنّما بياض يوم، وهو تقريبي لا تحقيقي.

فأجابنا بالتاريخ المتقدّم أيضاً بقوله: مولاي كان على مثل كتابتك وهي من مثلك أن تقول: مسير نصف بياض يوم للأثقال والقطار، فإنّ اليوم في الحجاز مختلف كغيره، فأطول الأيّام بمكّة نحو 13 ساعة و 20 دقيقة. وفي المدينة نحو 13 ساعة و 33 دقيقة و 28 ثانية، وأقصرها بمكّة نحو عشر ساعات و 40 دقيقة. وفي المدينة نحو عشر ساعات و 26 دقيقة. وتختلف أيضاً في سائر الفصول بحسبها وبحسب عرض البلد، مع أنّه لابدّ في العادة في مسير بياض اليوم من النزول لقضاء المهمّات في ضياء النهار، وأنّ التحديد بالأربعة فراسخ أقرب إلى التحقيق والتقدير المأنوس للأذهان «انتهى».

فأجبناه: بأنّ التحقيق هنا غير ممكن، وكفى برهاناً على عدم إمكانه ما ذكرتموه من اختلاف اليوم في الحجاز وغيره، ومنه يُعلم أنّ التقدير- بنحو مسير ستّ ساعات- أقرب إلى التحقيق. والتقدير المأنوس للأذهان، لأنس الأذهان بالساعات أكثر من انسها بالفراسخ، التي لا يعرفها إلّاالخواص.

ص: 8

محاذاة الميقات

الثالث:

قولنا: إنّ من يحجّ بطريق البحر من أهل الشام وغيرهم، فإحرامه من محاذاة الجحفة لا يخلو من إشكال؛ لأنّه يحاذي مسجد الشجرة قبل محاذاة الجحفة، وكما أنّه لا يجوز التعدّي عن محاذاة ميقات قبل الإحرام منها إلى محاذاة ميقات آخر، نعم لو فعل أثم وصحّ حجّه.

فقال: إنّ الأدلّة (1) أطلقت أنّ الجحفة ميقات أهل مصر والشام، مع أنّ هؤلاء في مسيرهم إلى الجحفة يحاذون مسجد الشجرة قبل الوصول إلى الجحفة «انتهى».

فأجبناه بالتاريخ المتقدّم: بأنّه قد فاتك أنّ مسألة المحاذاة في النصّ والفتوى خاصّة بمن لم يمرّ على ميقات، ولا تتناول من مرَّ على أحد المواقيت، وقد اختلفت فيها الأنظار، هل يحرم من محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة، أو من محاذاة أبعدها عنها، أو من محاذاة أقربها إليه؟ والذي استقرّ عليه رأي أكثر المحقّقين (2)، ودلّت عليه صحيحة ابن سنان (3)، أنّه يحرم من محاذاة أبعد المواقيت عن مكّة «انتهى».

فأجابنا بالتاريخ المتقدّم أيضاً يقول: قلت دام فضلك «وقد فاتك الخ».

فأعرض لحضرتك أنّ النصّ الملحوظ لهم في مسألة المحاذاة هي: الصحيحة المذكورة، وهي مختصّة بمن يخرج من المدينة وبمحاذاة الشجرة، وإنّما تسيروا إلى محاذاة سائر المواقيت من سائر الحجّاج بالمناط، وإلغاء خصوصيّة الشجرة، وها هي الصحيحة بحسب رواية الكافي: «من أقام بالمدينة شهراً وهو يريد الحجّ، ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق أهل المدينة الذي يأخذونه، فليكن إحرامه من


1- انظر الوسائل 11: 309 باب 1 من أبواب تعيين المواقيت حديث 5.
2- انظر مستند الشيعة 11: 188.
3- الوسائل 11: 318 باب 7 من أبواب المواقيت حديث 3.

ص: 9

مسيرة ستّة أميال، فيكون حذاء الشجرة من البيداء» (1). وبحسب رواية الفقيه:

«ثمّ بدا له أن يخرج في غير طريق المدينة، فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستّة أميال، فليحرم منها» (2).

ويعلم من نحو عشرروايات في تلبية الإحرام و غيرها أنّ «مسجد الشجرة ليس من البيداء»، فيكون قوله في رواية الكافي: «من البيداء» بياناً للمحلّ الذي يحاذي الشجرة منه، فيكون «الخروج» المشار إليه في رواية الكافي على التياسر عن طريق المدينة إلى الشجرة ذاهباً إلى البيداء، وبمسيرة ستّة أميال، يحاذي الشجرة منها.

ولا يخفى أنّه يلزم عليه أن يكون التياسر قليلًا؛ لكي تحصل المحاذاة بمسير الستّة الأميال.

وأمّا على رواية الفقيه: فيقتضي أن يكون الخروج من المدينة على التيامن، فيحاذي الشجرة والبيداء، ولا يتأتّى على التياسر؛ لأنّ مسير الستّة الأميال الذي لايدخل البيداء، بل يفضي إلى شرقيها، لا يبلغ محاذاة الشجرة والبيداء.

فاعتمادك على هذه الصحيحة في اختصاص مسألة المحاذاة بمن لم يمرّ أو لا يمرّ على ميقاتٍ، مبنيّ على دلالتها على أنّ المراد من غير طريق أهل المدينة هو ما يغاير طرقها منها إلى مكّة مغايرة كلّية، بحيث لا يفضي إلى طريق الجحفة أو طريق العقيق، ولو بعد ثلثي المسافة، وأنّ المنشأ في الإحرام من المحاذاة هو عدم المرور بالميقات فيما بعد، ولكن الاعتبار وظهور سَوْق الرواية يأبيان ذلك، بل وإطلاق المغايرة، لو أنّ الرواية ظاهرة بمغايرة الطريق إلى مكّة، وإطلاق حكم المحاذاة من التقيّد بالمنشإ المذكور.


1- الكافي 4: 321 باب مواقيت الإحرام حديث 9، الوسائل 11: 318 باب 7 من أبواب المواقيت حديث 2.
2- الفقيه 2: 200/ 913، الوسائل 11: 318 باب 7 من أبواب المواقيت حديث 3.

ص: 10

أمّا الاعتبار: فإنّ الطرق المألوفة المأهولة المأمونة، والأبعد عن الوعورة، والتي يمكن التبلغ فيها من الماء وغيره بسبب المرور على المياه والقُرى. ووضع الأميال والمسالح إنّما هو طريقا الجحفة والعقيق. وأمّا التقحم في غيرها فلا يتيسّر إلّا لنادر من البدور وفي نادر من الأيّام، فيبعد حمل الرواية عليها لو اقتضاه لفظها.

وأمّا سَوْقها: فلأنّ الغير المذكور هو ما يخرج فيه من المدينة، ويؤخذ في السير فيه ممّا لا يفضي إلى الشجرة، فالمغايرة ظاهرة في كونها في الخروج، والأخذ في السير المعتاد المفضي إلى الشجرة، وأنّه طريق واحد، ولا دلالة فيها على أنّ المراد من الطريق المدينة ما كان إلى مكّة، بل إفراد لفظه وتعدّد طرق المدينة المعتادة إلى مكّة ينافي ذلك، ويقتضي أيضاً الظهور في طريقها إلى الشجرة.

وأمّا الإطلاق: فلأنّ الغيرية تصدق على وجه الحقيقة، لو سار نصف الطريق المألوفة إلى مكّة أو ثلثيها على غير طريق الجحفة، أو طريق العقيق، ثمّ عدل على أحدهما.

سلّمنا دلالة الصحيحة على أنّ الخارج من المدينة حكمه الإحرام من محاذاة الشجرة إذا لم يمرّ بالجحفة أو العقيق، ولكن من أين لها الدلالة على أنّ كلّ من لا يمرّ بميقات يحرم من محاذاة الشجرة، وإن كان على طريق الشام أو نجد؟ وأين دلالة الصحيحة على أنّهما يحرمان من أبعد المواقيت عن مكّة؟ وقصارى دلالتها على أنّ من كان ميقاته الشجرة يحرم من محاذاتها، لا لأنّها أبعد المواقيت، بل لأنّ الشجرة ميقات المدنيّ، وإن اتّفق كونها من حيث الوضع أبعدها.

وغاية مايستفاد من مناطها، أنّ من لم يمرّ في طريقه على ميقاته الموظّف لجهته، فإنّه يحرم من محاذاة ذلك الميقات. وقد دلّت الروايات (1) على أنّ ميقات أهل الشام ومصر والمغرب هي الجحفة، ولا أقلّ من اقتضائها أنّهم يسيرون محلّين في طرقهم المعروفة إليها إلى أن يبلغوها. و من أين يجي ء تقييد إحلالهم بأن يكون إحرامهم منها؟


1- الوسائل 11: 307- 311، باب 1 من أبواب المواقيت حديث 1- 12.

ص: 11

وغاية المناط من الصحيحة، أنّ محاذاة الجحفة مثلها لا يجوز أن يتعدّوها محلّين.

هذا، فضلًا عن أنّ محصّل تحديد المواقيت لأهل الأصقاع، واختلافها بحسب الطرق يفيد الجزم بأنّها حدّ لحلّهم وإحرامهم، وغاية مفاد الصحيحة ومناطها هو أنّ محاذاة الميقات مثله في كونها حدّاً لما هو له في صقعه.

وأمّا اعتمادك فيما ذكرت على الفتوى، فلو كانت هنا شهرة محقّقة، وأتى [دليل] على تقييد حكم المحاذاة بمن لا يمرّ بميقات أصلًا؛ لطالبنا بالدليل ولم نكتف بالشهرة مقيّداً.

وكلمات الفقهاء في المحاذاة على اختلافها، ليس فيها ظهور يُعتدّ به، في أنّ الشامي والبحري الذي لا يمرّ بالجحفة يُحرم من محاذاة الشجرة.

أمّا مثل كلام المبسوط (1) والسرائر والدروس (2) في المحاذاة، فالأقرب أنّه ناظر إلى محاذاة الميقات، الذي هو حدّ لصقع ذلك الطريق، فإنّ السرائر تقول: «إنّ ميقات أهل مصر ومن صعد البحر من جدّة» (3). مع أنّ البحري لابدّ له من أن يحاذي الشجرة حتّى إذا كان مسيره في الساحل الأفريقي، فإنّه يحاذيها في مقابل رابغ، وإذا كان في الساحل الحجازي حاذاها في جنوبي ينبع مقابل بئر عبّاس، وفيما بين هذين الساحلين ما بين المكانين حسب سير الدائرة «انتهى».

فأجبناه بأنّ صحيحة ابن سنان، التي هي المستند في المحاذاة هي واحدة، سواء برواية الكافي أم برواية الفقيه، والاختلاف الجزئي في رواية الفقيه عن الكافي بقوله: «والبيداء» بدل من «البيداء» لا يجعلها روايتين مختلفتي المفاد. فالظاهر أنّ صاحب الفقيه رواها بالمعنى؛ لأنّ ملحوظه حذف الأسانيد والاختصار، فوقعت


1- المبسوط 1: 313.
2- الدروس 1: 341.
3- السرائر 1: 529.

ص: 12

«الواو» بدل «من» سهواً من قلم الصدوق، أو من النسّاخ، وتصلح حينئذٍ رواية الكافي أن تكون مفسّرة لها، على أنّه يمكن أن يريد من محاذاة الشجرة والبيداء كونه بين الشجرة والبيداء، فإن ذا الحليفة، وإن كان ملاصقاً للبيداء، إلّاأنّ مسجد الشجرة الذي يجب الإحرام منه على الأقوى ليس متّصلًا بالبيداء، فالمرور بين البيداء والشجرة ممكن بأن يمرّ بآخر ذي الحليفة والبيداء، والمرور شرقي البيداء.

وزَعْمُ أنّ مسير ستّة أميال إذا كان شرقي البيداء لا يبلغ محاذاة الشجرة والبيداء، ممّا لم يقم عليه دليل، فإنّ البيداء أرض بعينها ملساء بين الحرمين معروفة، ولم يعلم أنّها واسعة كثيراً بحيث إذا سار السائر ستّة أميال من المدينة إلى شرقي البيداء لا يحاذي الشجرة.

وكيف كان، فالخبر صريح على روايتي الكافي والفقيه في أنّه يحرم إذا بعُد عن المدينة ستّة أميال سائراً من ناحية البيداء، سواء أسار في نفس البيداء أم شرقيها أم غربيها، وأنّه إذا سار تلك المسافة يكون بحذاء الشجرة، وأنّ إحرامه من ذلك المكان؛ لكونه بحذاء الميقات الذي كان عليه أن يحرم منه لو مرّ به، فلمّا لم يمرّ به كان عليه أن يحرم منه من محاذاته، فتدلّ بمفهوم العلّة أنّ كلّ من لم يمرّ بميقات عليه أن يحرم من محاذاته كما هو فتوى الأصحاب، ولا دلالة لها على التقييد بكون التياسر قليلًا؛ لصراحتها في أنّ من سار ستّة أميال من المدينة فوصل البيداء إلى أيّ موضع كان منها حاذى الشجرة، بدون تكلّف تأويل ولا تقييد، وأنّ ذلك ليس مبنيّاً على التدقيق، بل على المحاذاة العرفية التي أمرها أوسع من التدقيق، وبعد كون الروايتين رواية واحدة، لا مجال للقول بأنّه على رواية الفقيه يلزم أن يكون الخروج من المدينة على التيامن كما عرفت، ومرادنا من أنّ الفتوى في مسألة المحاذاة خاصّة بمن لم يمرّ على ميقات، هو قول الفقهاء جميعاً بعد ذكر المواقيت أنّ من لم يمرّ بميقات أحرم من المحاذاة.

والحاصل أنّه لا يبعد أن يفهم من النصّ والفتوى أنّه يجب الإحرام من

ص: 13

الميقات عند المرور به، ومن محاذاته عند عدم المرور به. فالمحاذاة بمنزلة الميقات الاضطراري.

وكما أنّه لا يجوز تجاوز الميقات بدون إحرام ولو إلى ميقات آخر، لا يجوز تجاوز محاذاة ميقات إلى محاذاة آخر، إعطاءً للبدل حكم المبدل، وإن كان لو تعدّى أثم وصحّ إحرامه.

نعم يجوز بل يجب تجاوز محاذاة ميقات إلى ميقات آخر، والإحرام منه؛ لكون المحاذاة بمنزلة الميقات الاضطراري، ومع إرادة المرور من الاختياري يلزم ترك الاضطراري.

توضيح ذلك: أنّ الشارع جعل هذه المواقيت لأهل الأصقاع، فالعقيق لأهل العراق، والشجرة لأهل المدينة، والجحفة لأهل مصر والشام. ويلملم لأهل اليمن.

وقرن المنازل لأهل الطائف.

وجعلها مواقيت لمن مرّ عليها من غير أهل هذه الأصقاع أيضاً. بل ظاهر صحيحة ابن سنان المشار إليها آنفاً أنّه يشترط لعدّ المارّ عليها من أهل ذلك الصقع إقامته فيه شهراً فأكثر. وإن لم نجد عاملًا بذلك فهي مواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها، كما دلّ عليه النصّ والفتوى، فمن مرّ عليها من أهل صقعها أو من جاء إلى صقعهم وإن لم يكن من أهلها، أحرم منها، ومن لم يمرّ عليها من أهلها ومن جاء إلى صقعهم، أحرم من محاذاتها، ومن لم يمرّ بها ولا من محاذاتها من أهل صقعها فعليه أن يحرم من محاذاة أوّل ميقات يمرّ بحذائه وليس له أن يؤخّر الإحرام إلى محاذاة ميقات آخر، كما لا يجوز له أن يؤخّر الإحرام من ميقات إلى آخر.

ومن مرّ بالمدينة من غير أهلها ميقاته الشجرة، فإن مرّ بها أحرم منها، وإن لم يمرّ بها، بل كان مشرقاً عنها أو مغرباً أحرم من محاذاتها، وذلك إذا بلغ في مسيره ستّة أميال متوجِّهاً إلى مكّة. وليس لمن مرّ بالشجرة أن يؤخّر الإحرام إلى ميقات آخر، إذا كان يمرّ به بعد ذلك.

ص: 14

وأمّا خبر إبراهيم بن عبد الحميد، أنّه سأل الكاظم عليه السلام عن قوم قدموا المدينة فخاف أكثرهم البرد وكثرة الأيّام وأرادوا أن يأخذوا منها إلى ذات عرق، فيحرموا منها؟ فقال: «لا- وهو مغضب- من دخل المدينة فليس له أن يحرم إلّامن المدينة» (1)، فمع ضعف السند محمول على الاستحباب، ويكون الغضب لإرادتهم اتباع الأسهل الأقلّ ثواباً، وتجنّب الأشقّ الأكثر ثواباً.

والعراقي إذا لم يمرّ بالعقيق بل سافر بحراً من طريق البصرة، فعليه أن يحرم من محاذاة أوّل ميقات يمرّ بحذائه، وقد كانوا يُحرمون بين جدّة وقمران عند محاذاة يلملم بحسب قول القبطان.

ثمّ لمّا لاحظ العلماء في هذا العصر الخارطة، رأوا أنّ هذه المحاذاة ليست هي المحاذاة المطلوبة؛ لأنّ المطلوبة أن يكون الميقات على اليمين أو اليسار متوجِّهاً إلى مكّة، وهنا الميقات مقابل وجهه لا عن يمينه ولا عن يساره. وإنّ المحاذاة المطلوبة تحصل في «جدّة» بالجيم أو «حدّه» بالحاء. فالعراقيّون الحاجّون بحراً لا يمرّون بميقات بلادهم ولا بما يحاذيه، بل بما يحاذي ميقات بلاد اخرى، فيحرمون منه.

وبهذا التقرير لا يبقى محلّ للخلاف في أنّ من فرضه الإحرام من المحاذاة، هل يحرم من محاذاة أقرب المواقيت إلى مكّة، أو أبعدها عنها، أو أقربها إليه؟ فإن فرضه أن يحرم من محاذاة أوّل ميقات يمرّ به.

فالمدني يحرم من محاذاة الشجرة لا من محاذاة الجحفة، ولا العقيق، لكن لأنّه أوّل ميقات يحاذيه، وصادف أنّه أبعد المواقيت عن مكّة.

والشامي والمصري والمغربي يحرمون من محاذاة الجحفة في وجه، وصادف أنّها أقرب إلى مكّة من الشجرة، أو من محاذاة الشجرة كما مرّ.


1- الوسائل 11: 318، باب 8 من أبواب المواقيت، حديث 1.

ص: 15

واليماني والعراقي يحرمان من محاذاة يلملم؛ لأنّه أوّل ميقات يحاذيانه.

وصادف أنّه أقرب إلى مكّة من الجحفة والشجرة.

وقال أيضاً فيما كتبه إلينا بالتاريخ المتقدّم ما نصّه: وقلت دام فضلك وذكرت للمحاذاة معنيين استظهرت ثانيهما.

الأوّل: الوقوع على دائرة عرض الشجرة، ولم يتّضح لي معناه.

الثاني: الوقوع على دائرة تمرُّ بالشجرة مركزها مكّة. مع أنّ المحاذاة المفهومة من صحيحة ابن سنان أن يكون بينه وبين مكّة بقدر ما بين الميقات ومكّة حال كون الميقات عن يمينه أو شماله، لا ما إذا كان مقابل وجهه مثلًا. فيخرج الواقع على بعض خطوط تلك الدائرة عن المحاذاة.

فأعرض لحضرتك: أمّا قولي:- الوقوع على دائرة عرض الشجرة- فمرادي منه الدائرة التي يكون بُعدها عن خط الاستواء ما يقرب من 25 درجة، كبُعد الشجرة، وهو الذي يُسمّى عرض البلد، وعلى هذا يوجبون الإحرام عند مقابلة يلملم في البحر، وإن كان بينه وبين الثانية التي سأذكرها نحو 150 ميلًا.

وأمّا قولي:- على دائرة تمرُّ بالشجرة ومركزها مكّة- فهو عين ما تقوله وتختاره في معنى المحاذاة مفهوماً ومصداقاً، ولم أدرِ ما هو المنشأ في قولك: «لا ما إذا كان الخ»؟ «انتهى».

ونقول: المحاذاة أمر عُرفي، يكفي فيها صدق المحاذاة العرفية، التي أمرها واسع جدّاً بملاحظة جعلها على ستّة أميال من المدينة لمن دخل البيداء من غير تقييد بمكان منها، ممّا يشمل طرفها الغربي والشرقي ووسطها.

وبناء الأميال على التقريب لا التحقيق الذي لايتيسّر للحاج غالباً؛ فبناؤها على خطّ الاستواء والدرجات وعرض البلد والدائرة هو إن صحّ، تكلّف لما لا يلزم.

وأمّا قولنا: «لا ما إذا كان مقابل وجهه» فقد علم معناه، ممّا مرّ في كلامنا.

ص: 16

تحديد الميل

وأرسل إلينا بالتاريخ المتقدّم معترضاً على تحديد الميل في الدرّ الثمين، بأربعة آلاف ذراع بعد ترداد المراسلة يقول: (وقلت دام فضلك: واستشكلت في قدر الميل أنّه 4000 ذراع مع اشتهاره، ودعوى الإجماع عليه، وعدم المعارض سوى مرسلة الخزّاز (1)القاصرة سنداً ومتناً؛ لعدم التصريح فيها بأنّه 3500، بل قال: إنّ بني أُميّة لمّا ذرعوا ما بين ظل (عير) إلى في ء (وعير) وزّعوه على 12 ميلًا، وكان الميل 3500 ذراع، ولعلّهم أخطأؤا في بعض ذلك.

والمشهور، وإن لم يظهر مستنده، لكنّه كافٍ في إثبات هذا الموضوع اللغوي العرفي.

أمّا قول السمهودي أنّه اعتبر ما بين عتبة المسجد النبوي ومسجد الشجرة فكان 19732 ذراعاً، فهذا لا ينطبق على 4000، ولا على المرسلة.

فأعرض لحضرتك أوّلًا: أنّ الروايات تقول: إنّ ما بين الشجرة والمدينة ستّة أميال، ويصحّ هذا الإطلاق في مثل مقامه، باعتبار الدخول في الميل السادس.

وتقدير السمهودي بحسب مدلول المرسلة يبلغ نحو ثلثي الميل السادس، وإنّي لم


1- ما رواه الكليني بسنده إلى يحيى الخزّاز عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: بينا نحن جلوس وأبي عند والٍ لبني أُمية على المدينة إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قُبيل فساءلهم عن التقصير، فقال قائل منهم: في ثلاث، وقال قائل منهم: يوم وليلة، وقال قائل منهم: روحة، فسألني فقلت له: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبيّ صلى الله عليه و آله: في كم ذاك؟ فقال: في بريد؟ وقال: وأيّ شي ء البريد؟ فقال: ما بين ظلّ عير إلى في وعير، قال: ثمّ عبرنا زماناً ثمّ رأى بنو أُميّة يعملون أعلاماً على الطريق، وأنّهم ذكروا ما تكلّم به أبو جعفر عليه السلام فذرعوا ما بين ظلّ عير إلى في وعير ثمّ جزأوه على اثني عشر ميلًا فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كلّ ميل، فوضعوا الأعلام، فلمّا ظهر بنو هاشم غيّروا أمر بني أُميّة غيرة، لأنّ الحديث هاشمي، فوضعوا إلى جنب كلّ علم علماً. الكافي 3: 432 باب حدّ المسير الذي تقصر فيه الصلاة حديث 3، الوسائل 8: 460 باب 2 من أبواب صلاة المسافر، حديث 13.

ص: 17

أحتجّ بمرسلة الخزّاز، ولكن مرسلة ابن أبي عمير (1)، ومرسلة الخزّاز ومرسلة الصدوق (2) عن الصادق عليه السلام متّفقة على أنّ البريد في القصر هو ما بين ظل (عير) إلى في ء (وعير) حسب قول جبرائيل عليه السلام للرسول صلى الله عليه و آله.

ومرسلة الخزاز تقول: إنّ الإمام أخبر عن الميل الذي هو جزء من 12 جزءاً ممّا بين (عيرو وعير) الذي هو البريد، وميزان القصر بأنّه كان كلّ ميل 3500 ذراعٍ.

فاحتمال الخطإ إن كان في تجزئة بني أُميّة لما بين (عير ووعير) إلى 12 ميلًا. فهو مدفوع بالتسالم على أنّ البريد 12 ميلًا، وأنّ الاعتبارات الكثيرة تساعد المرسلة، منها اعتبار السمهودي، ومنها اعتبار يلملم، فإنّه لاينطبق على بعدها عن مكّة 48 ميلًا، كما هو المحصّل من أخبار حاضري المسجد الحرام، إلّاعلى تقدير المرسلة.

وقد رأيت كتابين لبحر العلوم وصاحب كشف الغطاء في تحديد الحرم، وذكر الأقوال الكثيرة في تحديده بالأميال والأذرع، والكلّ متّفقة على اعتبار الميل 3500 ذراعٍ، فإذا اعتبرنا قول الروايات الناصّة على أنّ ما بين عير إلى وعير هو الميزان الحقيقي الموحي للقصر، ومرسلة الخزّاز تقول قولها، والاعتبارات المنقولة تساعدها، فهل يسوغ أن لا نلتفت إلى المرسلة والاعتبارات، ولا نحقّق موضوع الحكم باعتبارنا نستريح إلى مشهور لا مستند له، إلّاشيوع تقدير الميل من زمان اليونان إلى زماننا تبعاً لهم بأربعة آلاف ذراع؟ وقد كانت كتابة استشكالي لحضرتك استنهاضاً لمساعدتك على اعتبار ما بين (عير ووعير) «انتهى».

ونقول: إرادة الدخول في الميل السادس من الستّة الأميال مجاز، يحتاج إلى القرينة، وهي مفقودة.


1- الكافي المصدر السابق ص 433 حديث 4؛ الوسائل، المصدر السابق حديث 12.
2- الفقيه 1: 286 باب الصلاة في السفر حديث 38، الوسائل المصدر السابق ص 461 حديث 16.

ص: 18

مع أدعية الحج

مع أدعية الحج

إعداد وتقديم: محمّدعلي المقدادي

آداب الدعاء

حينما يبتلى الانسان بأمواج من المشاكل والبلايا، ولايجد ناصراً إلّا اللَّه عزّوجلّ، يرفع يديه بالدعاء والثناء عليه؛ لأنّه يعتقد أنّ اللَّه تعالى هو المنجي الوحيد، ولا يمكن لأحد أن يرفع المشاكل إلّا هو.

إنّ الدعاء من الأسباب المهمة، التي يسوق الفرد والمجتمع الى المعنويات، ويبعده عن آثام الدنيا وقذاراتها.

يقول اللَّه تعالى: أُدْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ (1).

ولا شك أنّ الأنبياء والأولياء قد عنوا عناية تامة بهذا المعنى، فإنّهم قد علّمونا شكل هذا البناء المرتفع؛ لنجد طريق الأنس مع اللَّه عزّوجل، وبهذا نرى قسماً واسعاً من الأدعية قد رويت عنهم؛ لنتعلّم كيفية الدعاء والثناء على اللَّه تعالى.

ولا شك أننا لا نصبر على ضغط البلايا والمشاكل، ولا قدرة لدينا أن ندفع


1- سورة غافر، آية 60

ص: 19

كيد الشياطين وآثام النفس الأمارة بالسوء، أضف إلى كلّ ذلك أنّ الأنبياء والأئمة عليهم السلام كانوا عالمين بضعفنا النفساني، ولذا أرادوا أن يوقظونا من نوم الغفلة، فهيّئوا لنا أدعية طيبة ذات معانٍ كبيرة، فعلينا أن نحفظ هذه الوديعة الثمينة حفظاً تامّاً، ونسعى للارتباط الدائم معها.

ولكن هنا نكتة يجب مراعاتها، وهي أن لا ندع الأدعية على حالها وننساها حتى إذا هجمت المصيبة والأحزان علينا، لذنا بها، بل علينا أن نداوم قراءتها والأنس بها، وإلّا إذا تركناها في أماكنها، ولا نعود إليها إلّا إذا حلّت بنا مصيبة أو بليّة، فإنّ هذا عمل غير جيّد وطلب لايفيد، فلابدّ لنا من أن نبقى على علاقة وثيقة بها، نستمدّ منها الثبات و الخير فكلّها دروس نافعة في دنيانا وآخرتنا...

والآن لنجلس في محضر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام ونستمع الى فضائل الأدعية وأهميتها، وكيفيةالدعاء من خلال كلماتهم الطيبة و أدعيتهم العظيمة، ثمّ ننقل لكم ما ورد من الأدعية في الحج والعمرة، التي اقتبسناها من الكتب المعتبرة.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«ما مِنْ شَيْ ءٍ أَكْرَمُ عَلىَ اللَّه تَعالى مِنَ الدُّعاءِ».

: «أَلا أَدُلُّكُمْ عَلى سِلاحٍ يُنْجيكُمْ مِنْ أَعْدائِكُمْ، ويَدُرُّ أَرْزاقَكُمْ؟. قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: تَدْعُونَ رَبَّكُمْ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، فَإِنَّ سِلاحَ الْمُؤْمِنِ الدُّعاءُ».

: «ما مِنْ مُسْلِمٍ دَعَا اللَّهَ تَعالى بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فيها قَطيعَةُ رَحِمٍ ولَا اسْتِجْلابُ إِثْمٍ، إِلَّا أَعْطاهُ اللَّهُ تَعالى بِها إِحْدى خِصالٍ ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجّلَ لَهُ الدَّعْوَةُ، وإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَها لَهُ فيِ الْاخِرَةِ، وإِمَّا أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مِثْلَها مِنَ السُّوءِ».

قال الإمام الحسين بن علي عليه السلام: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِذَا ابْتَهَلَ، ودَعا كَما يَسْتَطْعِمُ الْمِسْكينُ».

قال أبو عبداللَّه الصادق عليه السلام: «الدُّعاءُ كَهْفُ الْإِجابَةِ، كَما أَنَّ السَّحابَ كَهْفُ الْمَطَرِ».

ص: 20

عن أبي عبداللَّه الصادق وأبي جعفر الباقر عليهما السلام قالا: «وَاللَّهِ ما يُلِحُّ عَبْدٌ عَلى اللَّهِ، إِلَّا اسْتَجابَ لَهُ» (1).

قال أبو عبد اللَّه الصادق عليه السلام: إذا طلب أحدكم الحاجة فليثن على ربّه وليمدحه، فإنَّ الرجل إذا طلب الحاجة من السُّلطان، هيَّأ له من الكلام أحسن ما يقدر عليه، فإذا طلبتم الحاجة، فمجِّدوا اللَّه العزيز الجبَّار، وامدحوه وأثنوا عليه، تقول: «يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطى، ويَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ، يَا أَحَدُ، يَا صَمَدُ، يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولا وَلَداً، يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَيَقْضِي مَا أَحَبَّ، يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وقَلْبِهِ، يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى، يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ». وأكثر من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، فإنَّ أسماء اللَّه كثيرةٌ، وصلِّ على محمَّدٍ وآله، وقل: «أللَّهُمَّ أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ مَا أَكُفُّ بِهِ وَجْهِي، وأُؤَدِّي بِهِ عَنْ أَمَانَتِي، وأَصِلُ بِهِ رَحِمِي، ويَكُونُ عَوْناً لِي فِي الْحَجِّ والْعُمْرَةِ» وقال: «إِنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّوجَلَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: عَجَّلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ. وجَاءَ آخَرُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ وآلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله: سَلْ تُعْطَ» (2).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال: «سَمِعَ أَبِي رَجُلًا مُتَعَلِّقاً بِالْبَيْتِ وهُوَ يَقُولُ: أللّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ لا تَبْتُرْهَا لا تَظْلِمْنَا حَقَّنَا قُل: أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِهِ» (3).

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كُلُّ دُعَاءٍ لا يَكُونُ قَبْلَهُ تَحْمِيدٌ فَهُوَ أَبْتَرُ، إِنَّمَا التَّحْمِيدُ، ثُمَّ الثَّنَاءُ، قُلْتُ: مَا أَدْرِي مَا يُجْزِي مِنَ التَّحْمِيدِ والَّتمْجِيدِ؟ قَالَ: يَقُولُ: أللّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ


1- مكارم الأخلاق: 268.
2- الكافي 2: 485 وسائل الشيعة 7: 79.
3- الكافي 2: 495، وسائل الشيعة 7: 202.

ص: 21

فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْ ءٌ، وأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْ ءٌ، و أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْ ءٌ، وأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْ ءٌ، وأَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (1).

عن الوليد بن صبيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: صَحِبْتُهُ بَيْنَ مَكَّةَ والْمَدِينَةِ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَأَمَرَ أَنْ يُعْطَى، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعُ فَقَالَ أَبُو عَبْدِاللَّهِ عليه السلام: يُشْبِعُكَ اللَّهُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَمَا إِنَّ عِنْدَنَا مَا نُعْطِيهِ، ولَكِنْ أَخْشَى أَنْ نَكُونَ كَأَحَدِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: دَعْوَةٌ رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، ثُمَّ قَالَ: أَللَّهُمَّ ارْزُقْنِي فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، ورَجُلٌ يَدْعُو عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يُرِيحَهُ مِنْهَا، و قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أَمْرَهَا إِلَيْهِ، ورَجُلٌ يَدْعُو عَلَى جَارِهِ وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لَهُ السَّبِيلَ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جِوَارِهِ ويَبِيعَ دَارَهُ» (2).

*** إنّ الدعاء وسيلة جليلة للتقرب إلى اللَّه تعالى، ويظهر مكانته العظيمة في موسم الحج والعمرة.

وبما أنّ الحج والعمرة عبادتان جليلتان؛ يكون فيهما أنواع التذلل والخشوع، فكذلك يكون للدعاء في الحج والعمرة درجة عالية من تلك الأنواع، فيوجد فيه الكثير من التواضع والخشوع والتذلل، من أجل الحصول على المنافع الدنيوية والأخروية للفرد والمجتمع.

قال تعالى:

وَ أَذّنْ فِي الناسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجالًا وعَلَى كُلّ ضامِرٍ يَأْتينَ مِنْ كُلّ فَجٍّ عَميقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ...

إنّ المؤمنين في موسم الحج والعمرة يتفرغون للعبادة والتفكر وذكر اللَّه تعالى،


1- الكافي 2: 503
2- وسائل الشيعة 7: 123.

ص: 22

ولا تشغلهم هموم الحياة أبداً، إذا قاموا لأداء الحج والعمرة بمثل ما قام ابراهيم الخليل ورسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله، ولايمكن إحرازهم لهذا المقام الشامخ إلّا إذا تشرّفوا الى قراءة هذه الأدعية الخاصّة بالديار المقدسة؛ التي صدرت عن المعصومين عليهم السلام.

و إليك هذه الكلمات العطرة الطاهرة؛ الصادرة من تلك الأنوار المطهّرة عليهم السلام، والآن ندعك أيها القارئ الكريم مع هذه الأدعية، وقد بوّبتها لتسهيل الوصول إليها فقط.

*** الدعاء عند الإحرام وعقده

1- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنَّه قال: لا يكون إحرامٌ إلّا في دبر صلاةٍ مكتوبةٍ أحرمت في دبرها بعد التَّسليم، وإن كانت نافلةً صلَّيت ركعتين وأحرمت في دبرهما، فإذا انفتلت من صلاتك فاحمد اللَّه وأثن عليه وصلِّ على النَّبيِّ صلى الله عليه و آله وقل:

«أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَني مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَكَ، وآمَنَ بِوَعْدِكَ، واتَّبَعَ أَمْرَكَ، فَإِنِّي عَبْدُكَ وفِي قَبْضَتِكَ، لا أُوقَى إِلّا مَا وَقَيْتَ، ولا آخُذُ إِلّا مَا أَعْطَيْتَ، وقَدْ ذَكَرْتَ الْحَجَّ فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَعْزِمَ لِي عَلَيْهِ عَلَى كِتَابِكَ وسُنَّةِ نَبِيِّكَ، وتُقَوِّيَنِي عَلَى مَا ضَعُفْتُ عَنْهُ، وتَسَلَّمَ مِنِّي مَنَاسِكِي فِي يُسْرٍ مِنْكَ وعَافِيَةٍ، واجْعَلْنِي مِنْ وَفْدِكَ، الَّذِينَ رَضِيتَ وارْتَضَيْتَ وسَمَّيْتَ وكَتَبْتَ، أللَّهُمَّ فَتَمِّمْ لِي حَجِّي وعُمْرَتِي، أللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الَّتمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ عَلَى كِتَابِكَ وسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله، فَإِنْ عَرَضَ لِي شَيْ ءٌ يَحْبِسُنِي، فَحُلَّنِي حَيْثُ حَبَسْتَنِي لِقَدَرِكَ، الَّذِي قَدَّرْتَ عَلَيَّ، أللَّهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ حَجَّةً فَعُمْرَةً، أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي وبَشَرِي ولَحْمِي ودَمِي وعِظَامِي ومُخِّي وَعَصَبِي مِنَ النِّسَاءِ والثِّيَابِ والطِّيبِ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَكَ والدَّارَ الْآخِرَةَ» قال: ويجزئك أن تقول هذا مرَّةً واحدةً حين تحرم، ثمَّ قم فامش هنيئةً، فإذا استوت بك الْأرْض ماشياًكنتَ، أوْراكباً فلبِّ (1).


1- التهذيب 5: 77.

ص: 23

2- عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: إنِّي أريد أن أتمتَّع بالعمرة إلى الحجِّ، فكيف أقول؟ قال: تقول: «أللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ عَلَى كِتَابِكَ وسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله، وإِنْ شِئْتَ أَضْمَرْتَ الَّذِي تُرِيدُ» (1).

التلبية

عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: التَّلبية «لَبَّيْكَ أَللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والْمُلْكَ، لا شَرِيكَ لَكَ. لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ دَاعِياً إِلَى دَارِ السَّلَامِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ أَهْلَ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ ذَا الْجَلَالِ والْإِكْرَامِ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ مَرْهُوباً ومَرْغُوباً إِلَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ تُبْدِئُ والْمَعَادُ إِلَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ كَشَّافَ الْكُرَبِ الْعِظَامِ، لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ عَبْدُكَ وابْنُ عَبْدَيْكَ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ يَا كَرِيمُ لَبَّيْكَ»

تقول ذلك في دبر كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ أو نافلةٍ، وحين ينهض بك بعيرك، وإذا علوت شرفاً، أو هبطت وادياً، أو لقيت راكباً، أو استيقظت من منامك وبالأسحار، وأكثر ما استطعت منها وأجهر بها، وإن تركت بعض التَّلبية فلا يضرُّك، غير أنَّ تمامها أفضل، واعلم أنَّه لا بدَّ من التَّلبيات الأربع في أوَّل الكلام، وهي الفريضة، وهي التَّوحيد، وبها لبَّى المرسلون، وأكثر من ذي المعارج، فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يكثر منها، وأوَّل من لبَّى إبراهيم عليه السلام قال: إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يدعوكم إلى أن تحجُّوا بيته، فأجابوه بالتَّلبية، فلم يبقَ أحدٌ أخذ ميثاقه بالموافاة في ظهر رجلٍ ولا بطن امرأةٍ، إلّاأجاب بالتَّلبية (2).

الدعاء عند دخول المسجد الحرام

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا دخلت المسجد الحرام، فادخله حافياً على السَّكينة والوقار والخشوع، وقال: ومن دخله بخشوعٍ، غفر اللَّه له إن شاء اللَّه،


1- الاستبصار 2: 167، الكافي 4: 332.
2- الكافي 4: 335

ص: 24

قلت: ما الخشوع؟ قال: السَّكينة، لا تدخله بتكبُّرٍ، فإذا انتهيت إلى باب المسجد، فقم وقل: السَّلام عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمة اللَّه وبركاته بسم اللَّه وباللَّه، ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسَّلا م على أنبياء اللَّه ورسله، والسَّلام على رسول اللَّه، والسَّلام على إبراهيم، والحمد للَّه ربِّ العالمين، فإذا دخلت المسجد، فارفع يديك، واستقبل البيت، وقل: «أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِي مَقَامِي هَذَا فِي أَوَّلِ مَنَاسِكِي أَنْ تَقْبَلَ تَوْبَتِي، وأَنْ تَجَاوَزَ عَنْ خَطِيئَتِي، وتَضَعَ عَنِّي وِزْرِي، الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي بَلَّغَنِي بَيْتَهُ الْحَرَامَ، أَللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا بَيْتُكَ الْحَرَامُ، الَّذِي جَعَلْتَهُ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وأَمْناً مُبَارَكاً وهُدًى لِلْعَالَمِينَ، أَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، و الْبَلَدُ بَلَدُكَ، والْبَيْتُ بَيْتُكَ، جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَكَ، وأَؤُمُّ طَاعَتَكَ، مُطِيعاً لِأَمْرِكَ، رَاضِياً بِقَدَرِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَيْكَ، الْخَائِفِ لِعُقُوبَتِكَ، أَللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، واسْتَعْمِلْنِي بِطَاعَتِكَ ومَرْضَاتِكَ» (1).

دعاء آخر

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: تقول وأنت على باب المسجد: «بِسْمِ اللَّهِ وبِاللَّهِ ومِنَ اللَّهِ، ومَا شَاءَ اللَّهُ، وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، وخَيْرُ الْأَسْمَاءِ للَّهِ، والْحَمْدُ للَّهِ، والسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله السَّلَامُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ورُسُلِهِ، السَّلَامُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، السَّلَامُ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وارْحَمْ مُحَمَّداً وآلَ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وبَارَكْتَ وتَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ ورَسُولِكَ، وعَلَى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ، وعَلَى أَنْبِيَائِكَ ورُسُلِكَ، وسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، والْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، واسْتَعْمِلْنِي فِي طَاعَتِكَ ومَرْضَاتِكَ،


1- التهذيب 5: 99، الكافي 4: 401.

ص: 25

واحْفَظْنِي بِحِفْظِ الْإِيمَانِ أَبَداً مَا أَبْقَيْتَنِي جَلَّ ثَنَاءُ وَجْهِكَ، الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي مِنْ وَفْدِهِ وزُوَّارِهِ، وجَعَلَنِي مِمَّنْ يَعْمُرُ مَسَاجِدَهُ، وجَعَلَنِي مِمَّنْ يُنَاجِيهِ، أَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وزَائِرُكَ فِي بَيْتِكَ وعَلَى كُلِّ مَأْتِيٍّ حَقٌّ لِمَنْ أَتَاهُ وزَارَهُ، وأَنْتَ خَيْرُ مَأْتِيٍّ وأَكْرَمُ مَزُورٍ، فَأَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، الَّذِي لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وبِأَنَّكَ وَاحِدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ تَلِدْ ولَمْ تُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ ورَسُولُكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، يَا جَوَادُ يَا كَرِيمُ، يَا مَاجِدُ يَا جَبَّارُ يَا كَرِيمُ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ تُحْفَتَكَ إِيَّايَ بِزِيَارَتِي إِيَّاكَ أَوَّلَ شَيْ ءٍ تُعْطِينِي فَكَاكَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، أَللَّهُمَّ فُكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، تقولها ثلاثاً، و أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ، و ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ و الْجِنِّ، و شَرَّ فَسَقَةِ الْعَرَبِ و الْعَجَمِ» (1).

الدعاء بعد دخول المسجد

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا دخلت المسجد الحرام، فامشِ حتَّى تدنو من الحجر الْأسْود فتستقبله، وتقول: «أَلْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا و مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، سُبْحَانَ اللَّهِ والْحَمْدُ للَّهِ ولا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ، و اللَّهُ أَكْبَرُ، أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِهِ، و أَكْبَرُ مِمَّنْ أَخْشَى و أَحْذَرُ، ولا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ و لَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي و يُمِيتُ و يُمِيتُ و يُحْيِي بِيَدِهِ الْخَيْرُ، و هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ»، و تُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ و آلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ و عَلَيْهِمْ. وتسلِّم على المرسلين، كما فعلت حين دخلت المسجد، ثمَّ تقول: «أللَّهُمَّ إِنِّي أُومِنُ بِوَعْدِكَ و أُوفِي بِعَهْدِكَ» (2).

الدعاء عند استقبال الحجر

عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا دنوت من الحجر الأسود، فارفع يديك، واحمد اللَّه وأثن عليه، وصلِّ على النَّبيِّ صلى الله عليه و آله، واسأل اللَّه أن يتقبَّل منك، ثمَّ استلم


1- التهذيب 5: 600، وسائل الشيعة 13: 205.
2- الكافي 4: 403

ص: 26

الحجر وقبِّله، فإن لم تستطع أن تقبِّله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع أن تستلمه بيدك فأشر إليه وقل: «أَللَّهُمَّ أَمَانَتِي أَدَّيْتُهَا، و مِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ؛ لِتَشْهَدَ لِي بِالْمُوَافَاةِ، أَللَّهُمَّ تَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ و عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، و أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ و رَسُولُهُ، آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَ كَفَرْتُ بِالْجِبْتِ و الطَّاغُوتِ و بِاللَّاتِ و الْعُزَّى و عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، و عِبَادَةِ كُلِّ نِدٍّ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» فإن لم تستطع أن تقول هذا كلَّه فبعضه، وقل: «أللَّهُمَّ إِلَيْكَ بَسَطْتُ يَدِي، و فِيَما عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي، فَاقْبَلْ سَيْحَتِي، و اغْفِرْ لِي و ارْحَمْنِي، أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ و الْفَقْرِ، و مَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا و الْآخِرَةِ» (1).

دعاء آخر

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن حمَّاد بن عيسى، عن حريزٍ عمَّن ذكره عن أبي جعفرٍ عليه السلام قال: إذا دخلت المسجد الحرام وحاذيت الحجر الأسْود فقلْ: «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ و أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ و رَسُولُهُ، آمَنْتُ بِاللَّهِ و كَفَرْتُ بِالطَّاغُوتِ و بِاللَّاتِ و الْعُزَّى و بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، و بِعِبَادَةِ كُلِّ نِدٍّ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» ثمَّ ادن من الحجر واستلمه بيمينك، ثمَّ تقول: «بِسْمِ اللَّهِ و اللَّهُ أَكْبَرُ أَللَّهُمَّ أَمَانَتِي أَدَّيْتُهَا و مِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ عِنْدَكَ لِي بِالْمُوَافَاةِ» (2).

أدعية الطواف وما ورد حول الكعبة

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، و صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: طف بالبيت سبعة أشواطٍ، وتقول في الطَّواف: «أَللَّهُمَّ إِنِّي


1- التهذيب 5: 102، الكافي 4: 402.
2- وسائل الشيعة 13: 315.

ص: 27

أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي يُمْشَى بِهِ عَلَى طَلَلِ الْمَاءِ، كَمَا يُمْشَى بِهِ عَلَى جَدَدِ الْأَرْضِ، و أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي يَهْتَزُّ لَهُ عَرْشُكَ، و أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي تَهْتَزُّ لَهُ أَقْدَامُ مَلَائِكَتِكَ، و أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي دَعَاكَ بِهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِ الطُّورِ فَاسْتَجَبْتَ لَهُ و أَلْقَيْتَ عَلَيْهِ مَحَبَّةً مِنْكَ، و أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الَّذِي غَفَرْتَ بِهِ لُمحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ و مَا تَأَخَّرَ و أَتْمَمْتَ عَلَيْهِ نِعْمَتَكَ أَنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا و كَذَا» ما أحببت من الدُّعاء وكلَّما انتهيت إلى باب الكعبة فصلِّ على النَّبيِّ صلى الله عليه و آله وتقول فيما بين الركن اليماني والحجر الأسْود: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً و فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و قِنا عَذابَ النَّارِ» وقل في الطواف: «أَللَّهُمَّ إِنِّي إِلَيْكَ فَقِيرٌ، و إِنِّي خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ، فَلَا تُغَيِّرْ جِسْمِي وَ لا تُبَدِّلِ اسْمِي» (1).

2- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن عمر بن عاصمٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كان عليُ بن الحسين عليه السلام إذا بلغ الحجر قبل أن يبلغ الميزاب يرفع رأسه ثمَّ يقول: «أَللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ، وهو ينظر إلى الميزاب، و أَجِرْنِي بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ، و عَافِنِي مِنَ السُّقْمِ، و أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، و ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ و الْإِنْسِ و شَرَّ فَسَقَةِ الْعَرَبِ و الْعَجَمِ» (2).

3- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: يستحبُّ أن تقول بين الرُّكن والحجر: «أَللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً و فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و قِنَا عَذَابَ النَّارِ» وقال: إنَّ ملكاً موكَّلًا يقول آمين (3).

4- عن أبي مريم قال: كنت مع أبي جعفرٍ عليه السلام أطوف، فكان لا يمرُّ في طوافٍ من طوافه بالرُّكن اليمانيِّ إلّا استلمه ثمَّ يقول: «أَللَّهُمَّ تُبْ عَلَيَّ حَتَّى أَتُوبَ، و اعْصِمْنِي


1- الكافي 4: 406
2- التهذيب 5: 105، الكافي 4: 407.
3- الكافي 4: 408

ص: 28

حَتَّى لا أَعُودَ» (1).

5- عن أبي الحسن عليه السلام أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طاف بالكعبة حتَّى إذا بلغ الرُّكن اليمانيَّ رفع رأسه إلى الكعبة ثمَّ قال: «الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي شَرَّفَكِ و عَظَّمَكِ، و الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي بَعَثَنِي نَبِيّاً و جَعَلَ عَلِيّاً إِمَاماً، أَللَّهُمَّ اهْدِ لَهُ خِيَارَ خَلْقِكَ و جَنِّبْهُ شِرَارَ خَلْقِكَ» (2).

6- عن عبد اللَّه بن سنانٍ قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إذا كنت في الطَّواف السَّابع فائت المتعوَّذ، وهو إذا قمت في دبر الكعبة حذاء الباب فقل: «أَللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ و الْعَبْدُ عَبْدُكَ، و هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، أَللَّهُمَّ مِنْ قِبَلِكَ الرَّوْحُ و الْفَرَجُ» ثمَّ استلم الرُّكن اليمانيَّ، ثمَّ ائت الحجر فاختم به (3).

7- عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، وصفوان بن يحيى، عن معاوية ابن عمَّارٍ قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إذا فرغت من طوافك، وبلغت مؤخَّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الرُّكن اليمانيِّ بقليلٍ، فابسط يديك على البيت، وألصق بطنك وخدَّك بالبيت وقل: «أَللَّهُمَّ الْبَيْتُ بَيْتُكَ و الْعَبْدُ عَبْدُكَ، و هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ» ثمَّ أقرَّ لربِّك بما عملت، فإنَّه ليس من عبدٍ مؤمنٍ يقرُّ لربِّه بذنوبه في هذا المكان إلّا غفر اللَّه له إن شاء اللَّه، وتقول: «أَللَّهُمَّ مِنْ قِبَلِكَ الرَّوْحُ و الْفَرَجُ و الْعَافِيَةُ، أَللَّهُمَّ إِنَّ عَمَلِي ضَعِيفٌ فَضَاعِفْهُ لِي، و اغْفِرْ لِي مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنِّي و خَفِيَ عَلَى خَلْقِكَ» ثمَّ تستجير باللَّه من النَّار، وتخيَّر لنفسك من الدُّعاء، ثمَّ استلم الرُّكن اليمانيَّ، ثمَّ ائت الحجر الأسْود (4).


1- وسائل الشيعة 13: 334.
2- الكافي 4: 410
3- وسائل الشيعة 13: 345.
4- الكافي 4: 411.

ص: 29

الدعاء بعد صلاة الطواف

عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى وابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا فرغت من الرَّكعتين، فائت الحجر الأسْود وقبِّلْه واسْتلمْه أوْ أشرْ إليْه، فإنَّه لا بدَّ منْ ذلك، وقال: إنْ قدرْت أنْ تشرب من ماء زمزم قبل أن تخرج إلى الصَّفا فافعل، وتقول حين تشرب: «أَللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عِلْماً نَافِعاً، و رِزْقاً وَاسِعاً، وَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ و سُقْمٍ» قال: وبلغنا أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال حين نظر إلى زمزم: لو لا أنِّي أشقُّ على أمَّتي، لأخذت منه ذنوباً أو ذنوبين (1).

الدعاء بعد شرب ماء زمزم

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن حمَّادٍ عن الحلبيِّ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا فرغ الرَّجل من طوافه وصلَّى ركعتين، فليأت زمزم وليستق منه ذنوباً أو ذنوبين، وليشرب منه، وليصبَّ على رأسه وظهره وباطنه، ويقول:

«أَللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عِلْماً نَافِعاً و رِزْقاً وَاسِعاً و شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ و سُقْمٍ» ثمَّ يعود إلى الحجرالأسْود (2).

الدعاء عند الوقوف على الصفا

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن ابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين فرغ من طوافه وركعتيه قال: أبدأ بما بدأ اللَّه عزَّ وجلَّ به من إتيان الصَّفا، إنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: إِنَّ الصَّفا و الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: ثمَّ اخرج إلى الصَّفا من الباب الَّذي خرج منه رسول


1- الكافي 4: 430
2- الكافي 4: 430

ص: 30

اللَّه صلى الله عليه و آله وهو الباب الَّذي يقابل الحجر الْأسْود حتَّى تقْطع الْوادي وعليْك السَّكينة والْوقار، فاصعد على الصَّفا حتَّى تنْظر إلى البيت، وتستقبل الرُّكن الَّذي فيه الحجر الْأسْود، واحْمد اللَّه وأثْن عليْه، ثمَّ اذكر من آلائه وبلائه وحسن ما صنع إليك ما قدرت على ذكره، ثمَّ كبِّر اللَّه سبعاً واحمده سبعاً وهلِّله سبعاً، وقل: «لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ و لَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي و يُمِيتُ و هُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ و هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ صلى الله عليه و آله وقل: «اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، و الْحَمْدُ للَّهِ عَلَى مَا أَوْلانَا، و الْحَمْدُ للَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ و الْحَمْدُ للَّهِ الْحَيِّ الدَّائِمِ» ثلاث مرَّاتٍ وقل: «أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ و أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ و رَسُولُهُ، لا نَعْبُدُ إِلّا إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، ثلاث مرَّاتٍ أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ و الْعَافِيَةَ و الْيَقِينَ فِي الدُّنْيَا و الْآخِرَةِ ثلاث مرَّاتٍ أَللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً و فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً و قِنَا عَذَابَ النَّارِ» ثلاث مرَّاتٍ، ثمَّ كبِّر اللَّه مائة مرَّةٍ، وهلِّل مائة مرَّةٍ، واحمد مائة مرَّةٍ، وسبِّح مائة مرَّةٍ، وتقول: «لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ و نَصَرَ عَبْدَهُ و غَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَهُ الْمُلْكُ و لَهُ الْحَمْدُ وَحْدَهُ وَحْدَهُ، أَللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي الْمَوْتِ و فِي مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ و وَحْشَتِهِ، أَللَّهُمَّ أَظِلَّنِي فِي ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلّا ظِلُّكَ» وأكثر من أن تستودع ر بَّك دينك ونفسك وأهلك ثمَّ تقول: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي لا يَضِيعُ وَدَائِعُهُ نَفْسِي ودِينِي و أَهْلِي، أَللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي عَلَى كِتَابِكَ و سُنَّةِ نَبِيِّكَ و تَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ وأَعِذْنِي مِنَ الْفِتْنَةِ» ثمَّ تكبِّر ثلاثاً ثمَّ تعيدها، مرَّتين ثمَّ تكبِّر واحدةً ثمَّ تعيدها فإن لم تستطع هذا فبعضه. وقال أبوعبداللَّه عليه السلام: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يقف على الصَّفا بقدر ما يقرأ سورة البقرة مترتِّلًا (1).

2- كان أميرالمؤمنين عليه السلام إذا صعد الصَّفا استقبل الكعبة ثمَّ رفع يديه ثمَّ يقول:

«أَللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ قَطُّ، فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ


1- الكافي 4: 431

ص: 31

الرَّحِيمُ، أَللَّهُمَّ افْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْعَلْ بِي مَا أَنْتَ أَهْلُهُ تَرْحَمْنِي، و إِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِي و أَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى رَحْمَتِكَ، فَيَا مَنْ أَنَا مُحْتَاجٌ إِلَى رَحْمَتِهِ ارْحَمْنِي، أَللَّهُمَّ لا تَفْعَلْ بِي مَا أَنَا أَهْلُهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْعَلْ بِي مَا أَنَا أَهْلُهُ تُعَذِّبْنِي و لَمْ تَظْلِمْنِي، أَصْبَحْتُ أَتَّقِي عَدْلَكَ، و لا أَخَافُ جَوْرَكَ، فَيَا مَنْ هُوَ عَدْلٌ لا يَجُورُ ارْحَمْنِي» (1).

الدعاء بين الصفا والمروة

1- عن محمَّد بن عمر بن يزيد، عن بعض أصحابه قال: كنت وراء أبي الحسن موسى عليه السلام على الصَّفا أو على المروة، وهو لا يزيد على حرفين «أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُسْنَ الظَّنِّ بِكَ فِي كُلِّ حَالٍ، و صِدْقَ النِّيَّةِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ» (2).

2- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: انحدر من الصَّفا ماشياً إلى المروة وعليك السَّكينة والوقار حتَّى تأتي المنارة وهي على طرف المسعى، فاسع ملأ فروجك وقل، «بِسْمِ اللَّهِ و اللَّهُ أَكْبَرُ و صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، أَللَّهُمَّ اغْفِرْ و ارْحَمْ و تَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ و أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ» حتَّى تبلغ المنارة الأخرى فإذا جاوزتها فقل: «يَا ذَا الْمَنِّ و الْفَضْلِ و الْكَرَمِ و النَّعْمَاءِ و الْجُودِ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلّا أَنْتَ» ثمَّ امش وعليك السَّكينة والوقار حتَّى تأتي المروة فاصعد عليها حتَّى يبدو لك البيت، واصنع عليها كما صنعت على الصَّفا، وطف بينهما سبعة أشواطٍ تبدأ بالصَّفا وتختم بالمروة (3).


1- الكافي 4: 432
2- الكافي 4: 433
3- الكافي 4: 434

ص: 32

دعاء الاحرام للحج يوم التروية

وفي رواية أبي بصيرٍ عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: إذا أردت أن تحرم يوم التَّروية، فاصنع كما صنعت حين أردت أن تحرم، وخذ من شاربك ومن أظفارك واطل عانتك إن كان لك شعرٌ وانتف إبطيك، واغتسل والبس ثوبيك، ثمَّ ائت المسجد الحرام فصلِّ فيه ستَّ ركعاتٍ قبل أن تحرم، وتدعو اللَّه وتسأله العون، وتقول:

«أَللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي، و حُلَّنِي حَيْثُ حَبَسْتَنِي لِقَدَرِكَ الَّذِي قَدَّرْتَ عَلَيَّ» وتقول: «أَحْرَمَ لَكَ شَعْرِي و بَشَرِي و لَحْمِي و دَمِي مِنَ النِّسَاءِ و الطِّيبِ و الثِّيَابِ، أُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَكَ و الدَّارَ الْآخِرَةَ، و حُلَّنِي حَيْثُ حَبَسْتَنِي لِقَدَرِكَ الَّذِي قَدَّرْتَ عَلَيَّ» ثمَّ تلبِّ من المسجد الحرام كما لبَّيت حين أحرمت، وتقول: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ تَمَامُهَا و بَلَاغُهَا عَلَيْكَ» وإن قدرت أن يكون في رواحك إلى منًى زوال الشَّمس، وإلّا فمتى ما تيسَّر لك من يوم التَّروية (1).

دعاء الخروج إلى منى

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا توجَّهت إلى منًى فقل: «أَللَّهُمَّ إِيَّاكَ أَرْجُو و إِيَّاكَ أَدْعُو، فَبَلِّغْنِي أَمَلِي، و أَصْلِحْ لِي عَمَلِي» (2)

الدعاء عند نزول منى وحدودها

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، وابن أبي عميرٍ عن معاوية بن عمَّارٍ قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام: إذا انتهيت إلى منًى فقل: «أَللَّهُمَّ هَذِهِ مِنًى و هِيَ مِمَّا مَنَنْتَ بِهَا عَلَيْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ،


1- الكافي 4: 454
2- التهذيب 5: 177، وسائل الشيعة 13: 526.

ص: 33

فَأَسْأَلُكَ أَنْ تَمُنَّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلَى أَنْبِيَائِكَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُكَ و فِي قَبْضَتِكَ» ثمَّ تصلِّي بها الظُّهرو العصر والمغرب والعشاء الْآخرة والْفجْر، والْإمام يصلِّي بها الظُّهْر لا يسعه إلّا ذلك، وموسَّعٌ عليْك أنْ تصلِّي بغيرها إن لم تقدر، ثمَّ تدركهم بعرفاتٍ.

قال: وحدُّ منًى من العقبة إلى وادي محسِّرٍ (1).

الدعاء عند الغدو إلى عرفات وحدودها

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا غدوت إلى عرفة، فقل وأنت متوجِّهٌ إليها: «أَللَّهُمَّ إِلَيْكَ صَمَدْتُ، وإِيَّاكَ اعْتَمَدْتُ، و وَجْهَكَ أَرَدْتُ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُبَارِكَ لِي فِي رِحْلَتِي و أَنْ تَقْضِيَ لِي حَاجَتِي، و أَنْ تَجْعَلَنِي الْيَوْمَ مِمَّنْ تُبَاهِي بِهِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي» ثمَّ تلبِّ وأنت غادٍ إلى عرفاتٍ، فإذا انتهيت إلى عرفاتٍ، فاضرب خباءك بنمرة ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة، فإذا زالت الشَّمس يوم عرفة، فاغتسل، وصلِّ الظُّهر والعصر بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، وإنَّما تعجِّل العصر وتجمع بينهما، لتفرِّغ نفسك للدُّعاء فإنَّه يوم دعاءٍ ومسألةٍ. قال: وحدُّ عرفة من بطن عرنة وثويَّة ونمرة إلى ذي المجاز وخلف الجبل موقفٌ (2).

الدعاء عند الوقوف بعرفة وحدّ الموقف

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قف في ميسرة الجبل فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقف بعرفاتٍ في ميسرةالجبل، فلمَّا وقف جعل


1- الكافي 4: 461
2- التهذيب 5: 179، الكافي 4: 461.

ص: 34

النَّاس يبتدرون أخفاف ناقته فيقفون إلى جانبه فنحَّاها، ففعلوا مثل ذلك، فقال:

أيُّها النَّاس إنَّه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف، ولكن هذا كلُّه موقفٌ، وأشار بيده إلى الموقف، وفعل مثل ذلك في المزدلفة، فإذا رأيت خللًا فسدَّه بنفسك وراحلتك، فإنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يحبُّ أن تسدَّ تلك الخلال، وانتقل عن الهضاب واتَّق الْأراك، فإذا وقفْت بعرفاتٍ فاحْمد اللَّه وهلِّلْه ومجِّدْه وأثْن عليْه وكبِّرْه مائة تكْبيرةٍ، واقْرأْ قلْ هو اللَّه أحدٌ مائة مرَّةٍ، وتخيَّر لنفسك من الدُّعاء ما أحببت، واجتهد فإنَّه يوم دعاءٍ ومسألةٍ، وتعوَّذ باللَّه من الشَّيطان، فإنَّ الشَّيطان لن يذهلك في موضعٍ أحبَّ إليه من أن يذهلك في ذلك الموضع، وإيَّاك أن تشتغل بالنَّظر إلى النَّاس، وأقبل قبل نفسك، وليكن فيما تقول: «أَللَّهُمَّ رَبَّ الْمَشَاعِرِ كُلِّهَا، فُكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، و أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنَ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، و ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ و الْإِنْسِ، أَللَّهُمَّ لا تَمْكُرْ بِي، و لا تَخْدَعْنِي، و لا تَسْتَدْرِجْنِي يَا أَسْمَعَ السَّامِعِينَ، و يَا أَبْصَرَ النَّاظِرِينَ، و يَا أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ، و يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، و أَنْ تَفْعَلَ بِي كَذَا و كَذَا» وليكن فيما تقول وأنت رافعٌ يديك إلى السَّماء: «أَللَّهُمَّ حَاجَتِي الَّتِي إِنْ أَعْطَيْتَهَا لَمْ يَضُرَّنِي مَا مَنَعْتَنِي، و إِنْ مَنَعْتَنِيهَا لَمْ يَنْفَعْنِي مَا أَعْطَيْتَنِي، أَسْأَلُكَ خَلَاصَ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، أَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ و مِلْكُ يَدِكَ و نَاصِيَتِي بِيَدِكَ و أَجَلِي بِعِلْمِكَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنِي لِمَا يُرْضِيكَ عَنِّي، وأَنْ تُسَلِّمَ مِنِّي مَنَاسِكِيَ الَّتِي أَرَيْتَهَا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ، و دَلَلْتَ عَلَيْهَا حَبِيبَكَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله وليكن فيما تقول: «أَللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ رَضِيتَ عَمَلَهُ وأَطَلْتَ عُمُرَهُ، وأَحْيَيْتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ حَيَاةً طَيِّبَةً» (1).

الدعاء في عرفات قبل غروب الشمس

عن عبد اللَّه بن ميمونٍ قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقف بعرفاتٍ، فلمَّا همَّت الشَّمس أن تغيب قبل أن تندفع قال: «أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ


1- الكافي 4: 461

ص: 35

مِنَ الْفَقْرِ و مِنْ تَشَتُّتِ الْأَمْرِ، و مِنْ شَرِّ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ و النَّهَارِ، أَمْسَى ظُلْمِي مُسْتَجِيراً بِعَفْوِكَ، و أَمْسَى خَوْفِي مُسْتَجِيراً بِأَمَانِكَ، و أَمْسَى ذُلِّي مُسْتَجِيراً بِعِزِّكَ، وَ أَمْسَى وَجْهِيَ الْفَانِي مُسْتَجِيراً بِوَجْهِكَ الْبَاقِي، يَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، و يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى، جَلِّلْنِي بِرَحْمَتِكَ، و أَلْبِسْنِي عَافِيَتَكَ، و اصْرِفْ عَنِّي شَرَّ جَمِيعِ خَلْقِكَ».

قال عليه السلام: وسمعت أبي يقول: «يَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ و يَا أَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى، وَيَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ» ثمَّ سل حاجتك (1).

الدعاء عند الإفاضة من عرفات

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إنَّ المشركين كانوا يفيضون من قبل أن تغيب الشَّمس، فخالفهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأفاض بعد غروب الشَّمس، قال وقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إذا غربت الشَّمس، فأفض مع النَّاس، وعليك السَّكينة والوقار، وأفض بالاستغفار، فإنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ و اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإذا انتهيت إلى الكثيب الْأحْمر عنْ يمين الطَّريق، فقل: «أَللَّهُمَّ ارْحَمْ مَوْقِفِي، و زِدْ فِي عِلْمِي، و سَلِّمْ لِي دِينِي، و تَقَبَّلْ مَنَاسِكِي» وإيَّاك والوجيف الَّذي يصنعه النَّاس، فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال:

أيُّها النَّاس إنَّ الحجَّ ليس بوجيف الخيل ولا إيضاع الْإبل، ولكن اتَّقوا اللَّه وسيروا سيْراً جميلًا لا توطئوا ضعيفاً ولاتوطئوا مسلماً، وتوأَّدوا واقتصدوا في السَّير، فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يكفُّ ناقته حتَّى يصيب رأسها مقدَّم الرَّحل، ويقول: أيُّها النَّاس عليكم بالدَّعة، فسنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تتَّبع، قال معاوية: وسمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: «أَللَّهُمَّ أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ» وكرَّرها حتَّى أفاض، فقلت: أ لا تفيض فقد أفاض النَّاس؟ فقال: إنِّي أخاف الزِّحام، وأخاف


1- وسائل الشيعة 13: 559.

ص: 36

أن أشرك في عنت إنسانٍ (1).

2- عن هارون بن خارجة قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول في آخر كلامه حين أفاض: «أَللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَقْطَعَ رَحِماً، أَوْ أُوذِيَ جَاراً» (2).

الدعاء في ليلة المزدلفة

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن معاوية وحمَّادٍ، عن الحلبيِّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لا تصلِّ المغرب حتَّى تأتي جمعاً، فتصلِّي بها المغرب والعشاء الْآخرة بأذانٍ واحدٍ وإقامتيْن، وانْزلْ ببطْن الْوادي عنْ يمين الطَّريق قريباً من المشعر، ويستحبُّ للصَّرورة أن يقف على المشعر الحرام، ويطأه برجله، ولا يجاوز الحياض ليلة المزدلفة، ويقول: «أَللَّهُمَّ هَذِهِ جَمْعٌ، أَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْمَعَ لِي فِيهَا جَوَامِعَ الْخَيْرِ، أَللَّهُمَّ لا تُؤْيِسْنِي مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي سَأَلْتُكَ أَنْ تَجْمَعَهُ لِي فِي قَلْبِي، و أَطْلُبُ إِلَيْكَ أَنْ تُعَرِّفَنِي مَا عَرَّفْتَ أَوْلِيَاءَكَ فِي مَنْزِلِي هَذَا، و أَنْ تَقِيَنِي جَوَامِعَ الشَّرِّ» وإن استطعت أن تحيي تلك اللَّيلة فافعل، فإنَّه بلغنا أنَّ أبواب السَّماء لا تغلق تلك اللَّيلة لأصوات المؤمنين لهم دويٌّ كدويِّ النَّحل، يقول اللَّه جلَّ ثناؤه أنا ربُّكم وأنتم عبادي، أدَّيتم حقِّي، وحقٌّ عليَّ أن أستجيب لكم، فيحطُّ اللَّه تلك اللَّيلة عمَّن أراد أن يحطَّ عنه ذنوبه، ويغفر لمن أراد أن يغفر له (3).

الدعاء بعد صلاة الفجر بالمشعرالحرام

عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل


1- الكافي 4: 467، التهذيب 5: 187.
2- وسائل الشيعة 13: 383.
3- الكافي 4: 468

ص: 37

ابن شاذان، عن صفوان بن يحيى، وابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: أصبح على طهرٍ بعد ما تصلِّي الفجر، فقف إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيث شئت، فإذا وقفت، فاحمد اللَّه، وأثن عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلِّ على النَّبيِّ صلى الله عليه و آله، وليكن من قولك: «أَللَّهُمَّ رَبَّ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فُكَّ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ، و أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ، و ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ والْإِنْسِ، أَللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَطْلُوبٍ إِلَيْهِ، و خَيْرُ مَدْعُوٍّ، و خَيْرُ مَسْئُولٍ، و لِكُلِّ وَافِدٍ جَائِزَةٌ، فَاجْعَلْ جَائِزَتِي فِي مَوْطِنِي هَذَا أَنْ تُقِيلَنِي عَثْرَتِي، و تَقْبَلَ مَعْذِرَتِي، و أَنْ تَجَاوَزَ عَنْ خَطِيئَتِي، ثُمَّ اجْعَلِ التَّقْوَى مِنَ الدُّنْيَا زَادِي» ثمَّ أفض حين يشرق لك ثبيرٌ، وترى الإبل موضع أخفافها (1).

الدعاء حين المرور بوادي محسّر

علي بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: إذا مررت بوادي محسِّرٍ، وهو وادٍ عظيمٌ بين جمعٍ ومنًى، وهو إلى منًى أقرب، فاسع فيه حتَّى تجاوزه، فإنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حرَّك ناقته، وقال: «أَللَّهُمَّ سَلِّمْ لِي عَهْدِي، و اقْبَلْ تَوْبَتِي، و أَجِبْ دَعْوَتِي، و اخْلُفْنِي فِيمَنْ تَرَكْتُ بَعْدِي» (2).

الدعاء عند رمي الجمرة وبعده

علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: خذ حصى الجمار، ثمَّ ائت الجمرة القصوى الَّتي عند العقبة، فارمها من قبل وجهها، ولا ترمها من أعلاها، وتقول والحصى في يدك: «أَللَّهُمَّ هَؤُلاءِ


1- التهذيب 5: 191.
2- الكافي 4: 470

ص: 38

حَصَيَاتِي، فَأَحْصِهِنَّ لِي، و ارْفَعْهُنَّ فِي عَمَلِي» ثمَّ ترمي وتقول مع كلِّ حصاة: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أَللَّهُمَّ ادْحَرْ عَنِّي الشَّيْطَانَ، أَللَّهُمَّ تَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ، و عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه و آله، أَللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجّاً مَبْرُوراً، و عَمَلًا مَقْبُولًا، و سَعْياً مَشْكُوراً، و ذَنْباً مَغْفُوراً» وليكن فيما بينك وبين الجمرة قدر عشرة أذرعٍ أو خمسة عشر ذراعاً، فإذا أتيت رحلك ورجعت من الرَّمي، فقل: «أَللَّهُمَّ بِكَ وَثِقْتُ، و عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، فَنِعْمَ الرَّبُّ، و نِعْمَ الْمَوْلَى، و نِعْمَ النَّصِيرُ» قال: ويستحبُّ أن يرمى الجمار على طهرٍ (1).

الدعاء عند الذبح

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، عن حمَّادٍ، عن الحلبيِّ قال:

لا يذبح لك اليهوديُّ ولا النَّصرانيُّ أضحيَّتك، فإن كانت امرأةً فلتذبح لنفسها، وتستقبل القبلة، وتقول: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ و الْأَرْضَ حَنِيفاً، أَللَّهُمَّ مِنْكَ و لَكَ» (2).

2- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان وابن أبي عميرٍ قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام: إذا اشتريت هديك، فاستقبل به القبلة، وانحره أو اذبحه، وقل: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ و الْأَرْضَ حَنِيفاً و مَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ صَلَاتِي و نُسُكِي و مَحْيَايَ و مَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ، و بِذَلِكَ أُمِرْتُ، و أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَللَّهُمَّ مِنْكَ و لَكَ بِسْمِ اللَّهِ و اللَّهُ أَكْبَرُ، أَللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي» ثمَّ أمرَّ السِّكين ولا تنخعها حتَّى تموت (3).

3- محمَّد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرَّحمن بن أبي هاشمٍ


1- التهذيب 5: 198.
2- الكافي 4: 497.
3- التهذيب 5: 221.

ص: 39

البجليِّ، عن أبي خديجة، قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السلام وهو ينحر بدنته معقولةً يدها اليسرى، ثمَّ يقوم من جانب يدها اليمنى، ويقول: «بِسْمِ اللَّهِ و اللَّهُ أَكْبَرُ، أَللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ و لَكَ أَللَّهُمَّ تَقَبَّلْهُ مِنِّي» ثمَّ يطعن في لبَّتها، ثمَّ يخرج السِّكِّين بيده، فإذا وجبت قطع موضع الذَّبح بيده (1).

الدعاء عند دخول المسجد الحرام بعد أعمال منى

علي بن إبراهيم، عن أبيه، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عميرٍ، وصفوان بن يحيى، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في زيارة البيت يوم النَّحر قال: زره، فإن شغلت فلا يضرُّك أن تزور البيت من الغد ولا تؤخِّره أن تزور من يومك، فإنَّه يكره للمتمتِّع أن يؤخِّره، وموسَّعٌ للمفرد أن يؤخِّره، فإذا أتيت البيت يوم النَّحر، فقمت على باب المسجد، قلت: «أَللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى نُسُكِكَ و سَلِّمْنِي لَهُ و سَلِّمْهُ لِي، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْعَلِيلِ الذَّلِيلِ الْمُعْتَرِفِ بِذَنْبِهِ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي و أَنْ تَرْجِعَنِي بِحَاجَتِي، أَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ و الْبَلَدُ بَلَدُكَ و الْبَيْتُ بَيْتُكَ، جِئْتُ أَطْلُبُ رَحْمَتَكَ، و أَؤُمُّ طَاعَتَكَ مُتَّبِعاً لِأَمْرِكَ رَاضِياً بِقَدَرِكَ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إِلَيْكَ، الْمُطِيعِ لِأَمْرِكَ، الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِكَ، الْخَائِفِ لِعُقُوبَتِكَ أَنْ تُبَلِّغَنِي عَفْوَكَ، و تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِكَ» ثمَّ تأتي الحجر الْأسْود فتسْتلمه وتقبِّله، فإنْ لمْ تسْتطعْ فاسْتلمْه بيدك، وقبِّلْ يدك فإنْ لمْ تسْتطعْ فاسْتقْبلْه وكبِّرْ، وقلْ كما قلْت حين طفت بالبيت يوم قدمت مكَّة، ثمَّ طف بالبيت سبعة أشواطٍ كما وصفت لك يوم قدمت مكَّة، ثمَّ صلِّ عند مقام إ براهيم عليه السلام ركعتين تقرأ فيهما بقل هو اللَّه أحدٌ وقل يا أيُّها الكافرون، ثمَّ ارجع إلى الحجر الْأسْود فقبِّله إن استطعت واستقبله وكبِّر، ثمَّ اخرج إلى الصَّفا فاصعد عليه واصنع كما صنعت يوم دخلت مكَّة، ثمَّ ائت المروة فاصعد عليها، وطف بينهما سبعة أشواطٍ تبدأ بالصَّفا وتختم بالمروة، فإذا فعلت ذلك


1- الكافي 4: 498

ص: 40

فقد أحللت من كلِّ شي ءٍ أحرمت منه إلّا النِّساء، ثمَّ ارجع إلى البيت وطف به أسبوعاً آخر، ثمَّ صلِّ ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام، ثمَّ أحللت من كلِّ شي ءٍ، وفرغت من حجِّك كلِّه وكلِّ شي ءٍ أحرمت منه (1).

الدعاء عند دخول الكعبة

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عميرٍ، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان، وابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا أردت دخول الكعبة، فاغتسل قبل أن تدخلها و لا تدخلها بحذاءٍ، وتقول إذا دخلت: «أَللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: و مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً، فَآمِنِّي مِنْ عَذَابِ النَّارِ» ثمَّ تصلِّي ركعتين بين الأسطوانتين على الرُّخامة الحمراء تقرأ في الرَّكعة الأولى حم السَّجدة، وفي الثَّانية عدد آياتها من القرآن و تصلِّي في زواياه وتقول: «أَللَّهُمَّ مَنْ تَهَيَّأَ، أَوْ تَعَبَّأَ، أَوْ أَعَدَّ، أَوِ اسْتَعَدَّ لِوِفَادَةٍ إِلَى مَخْلُوقٍ رَجَاءَ رِفْدِهِ و جَائِزَتِهِ و نَوَافِلِهِ و فَوَاضِلِهِ، فَإِلَيْكَ يَا سَيِّدِي تَهْيِئَتِي و تَعْبِئَتِي و إِعْدَادِي و اسْتِعْدَادِي رَجَاءَ رِفْدِكَ و نَوَافِلِكَ و جَائِزَتِكَ، فَلَا تُخَيِّبِ الْيَوْمَ رَجَائِي، يَا مَنْ لا يَخِيبُ عَلَيْهِ سَائِلٌ، و لا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ، فَإِنِّي لَمْ آتِكَ الْيَوْمَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ قَدَّمْتُهُ، و لا شَفَاعَةِ مَخْلُوقٍ رَجَوْتُهُ، و لَكِنِّي أَتَيْتُكَ مُقِرّاً بِالظُّلْمِ و الْإِسَاءَةِ عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهُ لا حُجَّةَ لِي و لا عُذْرَ، فَأَسْأَلُكَ يَا مَنْ هُوَ كَذَلِكَ أَنْ تُعْطِيَنِي مَسْأَلَتِي، و تُقِيلَنِي عَثْرَتِي، و تَقْبَلَنِي بِرَغْبَتِي، و لا تَرُدَّنِي مَجْبُوهاً مَمْنُوعاً و لا خَائِباً، يَا عَظِيمُ يَا عَظِيمُ يَا عَظِيمُ أَرْجُوكَ لِلْعَظِيمِ، أَسْأَلُكَ يَا عَظِيمُ أَنْ تَغْفِرَ لِيَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ» قال: ولا تدخلها بحذاءٍ ولا تبزق فيها ولا تمتخط فيها، ولم يدخلها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّا يوم فتح مكَّة (2).

2- عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: لا بدَّ للصَّرورة أن يدخل البيت قبل أن يرجع،


1- التهذيب 5: 251.
2- الكافي 4: 528

ص: 41

فإذا دخلته فادخله بسكينةٍ ووقارٍ، ثمَّ ائت كلَّ زاويةٍ من زواياه ثمَّ قل: «أَللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ: وَ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً فَآمِنِّي مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» و صلِّ بين العمودين اللَّذين يليان الباب على الرُّخامة الحمراء، فإن كثر النَّاس فاستقبل كلَّ زاويةٍ في مقامك حيث صلَّيت، وادع اللَّه عزّوجلّ واسأله (1).

3- عن عبد اللَّه بن سنانٍ قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام وهو خارجٌ من الكعبة، وهو يقول: «اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ» حتَّى قالها ثلاثاً ثمَّ قال: «أَللَّهُمَّ لا تُجْهِدْ بَلَاءَنَا رَبَّنَا، و لا تُشْمِتْ بِنَا أَعْدَاءَنَا، فَإِنَّكَ أَنْتَ الضَّارُّ النَّافِعُ» ثمَّ هبط فصلَّى إلى جانب الدَّرجة، جعل الدَّرجة عن يساره مستقبل الكعبة، ليس بينها وبينه أحدٌ، ثمَّ خرج إلى منزله (2).

الدعاء عند وداع الكعبة

1- عليُّ بن إبراهيم عن أبيه، ومحمَّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، وابن أبي عميرٍ، عن معاوية بن عمَّارٍ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا أردت أن تخرج من مكَّة فتأتي أهلك، فودِّع البيت، وطف أسبوعاً، وإن استطعت أن تستلم الحجر الأسود والرُّكن اليمانيَّ في كلِّ شوطٍ فافعل، وإلّا فافتح به واختم، وإن لم تستطع ذلك فموسَّعٌ عليك، ثمَّ تأتي المستجار، فتصنع عنده مثل ما صنعت يوم قدمت مكَّة، ثمّ تخيّر لنفسك من الدُّعاء، ثمَّ استلم الحجر الأسود، ثمَّ ألصق بطنك بالبيت، واحمد اللَّه وأثن عليه، وصلِّ على محمّد وآله، ثمَّ قل: «أَللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ و رَسُولِكَ و نَبِيِّكَ و أَمِينِكَ وَحَبِيبِكَ وَنَجِيِّكَ و خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، أَللَّهُمَّ كَمَا بَلَغَ رِسَالاتِكَ، و جَاهَدَ


1- التهذيب 5: 277.
2- الكافي 4: 529

ص: 42

فِي سَبِيلِكَ، وَصَدَعَ بِأَمْرِكَ، و أُوذِيَ فِي جَنْبِكَ، و عَبَدَكَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ، أَللَّهُمَّ اقْلِبْنِي مُفْلِحاً مُنْجِحاً مُسْتَجَاباً لِي بِأَفْضَلِ مَا يَرْجِعُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ وَفْدِكَ مِنَ الْمَغْفِرَةِ و الْبَرَكَةِ و الرَّحْمَةِ و الرِّضْوَانِ و الْعَافِيَةِ، أَللَّهُمَّ إِنْ أَمَتَّنِي فَاغْفِرْ لِي، و إِنْ أَحْيَيْتَنِي فَارْزُقْنِيهِ مِنْ قَابِلٍ، أَللَّهُمَّ لا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ بَيْتِكَ، أَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ و ابْنُ عَبْدِكَ و ابْنُ أَمَتِكَ، حَمَلْتَنِي عَلَى دَوَابِّكَ، و سَيَّرْتَنِي فِي بِلَادِكَ حَتَّى أَقْدَمْتَنِي حَرَمَكَ و أَمْنَكَ، و قَدْ كَانَ فِي حُسْنِ ظَنِّي بِكَ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ غَفَرْتَ لِي ذُنُوبِي، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا، و قَرِّبْنِي إِلَيْكَ زُلْفَى، و لا تُبَاعِدْنِي، و إِنْ كُنْتَ لَمْ تَغْفِرْ لِي، فَمِنَ الْآنَ فَاغْفِرْ لِي قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِكَ دَارِي، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي، إِنْ كُنْتَ أَذِنْتَ لِي غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْكَ، و لا عَنْ بَيْتِكَ، و لا مُسْتَبْدِلٍ بِكَ و لا بِهِ، أَللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، و مِنْ خَلْفِي، و عَنْ يَمِينِي، و عَنْ شِمَالِي حَتَّى تُبَلِّغَنِي أَهْلِي، فَإِذَا بَلَّغْتَنِي أَهْلِي، فَاكْفِنِي مَؤُونَةَ عِبَادِكَ و عِيَالِي، فَإِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِكَ و مِنِّي» ثمَّ ائت زمزم فاشرب من مائها، ثمَّ اخرج وقل: «آئِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ إِلَى اللَّهِ رَاجِعُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قال: وإنَّ أباعبداللَّه عليه السلام لمَّا ودَّعها وأراد أن يخرج من المسجد الحرام، خرَّ ساجداً عند باب المسجد طويلًا، ثمَّ قام فخرج (1).

2- محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّدٍ، عن إبراهيم بن أبي محمودٍ قال: رأيت أباالحسن عليه السلام ودَّع البيت، فلمَّا أراد أن يخرج من باب المسجد، خرَّ ساجداً، ثمَّ قام فاستقبل الكعبة، فقال: «أَللَّهُمَّ إِنِّي أَنْقَلِبُ عَلَى أَنْ لا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ» (2).

*** و في الختام وتتميماً للفائدة، ننقل ما ذكره المرحوم آية اللَّه السيد الروحاني حول أدب الدعاء:


1- وسائل الشيعة 14: 287.
2- الكافي 4: 531

ص: 43

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

المستفاد ممّا ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام أنّه ينبغي للداعي أن يبتدأ دعاءه بالبسملة، ثمّ يحمد اللَّه على نعمه وآلائه، ويشكره تعالى عليها، ثمّ يصلّي على النبيّ وآله صلّى اللَّه عليهم، ويستغفر لذنوبه ويستعيذ باللَّه منها.

فعن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ المدحة قبل المسألة» (1)، وكيفيّتها على ما سنذكره.

وعن الصادق عليه السلام: من قال (الدعاء الآتي) ثلاث مرّات استجيب له، ثمّ يختم الدّعاء بقوله: ما شاء اللَّه (على ما سنذكره)، وليكن آخر دعائه الصلاة على محمّد وآل محمّد صلوات اللَّه عليه وعليهم أجمعين.

ولعلّ الصورة الآتية جامعة لما أمروا عليهم السلام به:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم. الحمد للَّه على نعمائه وآلائه كما هو أهله، ونشكره معترفين بالعجز عن شكره. اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد كأفضل ما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد. ربّنا إنّنا ظلمنا أنفسنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. ربّنا إنّا نستغفرك لذنوبنا فاغفر لنا، ونستعيذك من سيّئاتنا فأعذنا. يا من هو أقرب إليّ من حبل الوريد، يا من يحول بين المرء وقلبه، يامن هو بالمنظر الأعلى، يا من ليس كمثله شي ء- ويقول ثلاث مرّات: يامن يفعل ما يشاء ولا يفعل ما يشاء أحد غيره- ثمّ يدعو اللَّه تعالى ويذكر حوائجه. وبعدها يقول: ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.


1- بقيّة الحديث: «فإذا دعوت اللَّه عزّوجلّ فمجّده». قال السائل: كيف أمجّده؟ قال عليه السلام: «تقول: يا من هوأقرب إليّ...» الخ.

ص: 44

آراء وأفكار

مع سماحة آية اللَّه الشيخ السبحاني

حاوره: محسن الأسدي

في موسم الحجّ، وبالذات عند أداء مناسك هذه الفريضة المُباركة، التي وصل عدد الحضور فيها ثلاثة ملايين أو يزيدون، يتعرّض كثيرٌ من الحجّاج الكِرام إلى مشاكل كثيرة، ومتاعب خطيرة، دفعتنا إلى التماس حلٍّ لها في فتاوى الفقهاء وآرائهم، فلعلّها تساهم في تخفيف معاناة الحجّاج، وتدرأ عنهم المخاطر...

وها هو سماحة آية اللَّه الشيخ جعفر السبحاني، فقيه من فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، يتفضّل مشكوراً بالإجابة عن الأسئلة، التي وجّهها له الأُستاذ محسن الأسدي عضو الهيئة العلمية لمجلة «ميقات الحج».

*** حدود الطواف، وما يسبّبه ضيق المطاف من حرج، هلّا تفضل سماحتكم بالحديث عن هذه المسألة بشكلها الفقهي؟ علماً بأنّ هذه

ص: 45

المسألة (الطواف بين البيت والمقام) ليس لها أثر مهمّ في دائرة الفقه السنّي لسعة دائرة المطاف عندهم، وإنّما هي مسألة يبدو أنّها مختصّة بالفقه الشيعيّ.

إنّ المطاف هو الحدّ الفاصل بين الكعبة ومقام إبراهيم وهو يقرب من نحو 12 متراً، فعلى الطائف أن لا يخرج عن هذا الحدّ في الجوانب الأربعة للكعبة.

غير أنّ مبدأ هذا الحدّ في الأضلاع الثلاثة هو جدار الكعبة. وأمّا الضلع الذي يتّصل به حجر إسماعيل، فالحدّ الفاصل يُحسب من جدار الحجر إلى نهاية 12 متراً، لا من جدار الكعبة، وبذلك تعالج المشكلة في كثير من الفصول وقسط كبير من أشهر الحجّ.

وهذا القول هو خيرة الشهيد الثاني في الروضة (1) ومال إليه في المسالك (2) واختاره في المدارك (3) ونفي الإشكال عنه في الجواهر (4)، وإن عدل عنه أخيراً كما اختاره لفيف من المعاصرين.

ويمكن استظهاره من رواية محمّد بن مسلم (5) لكن بشرط الإمعان فيها، ومع ملاحظة ما ورد في البابين 30 و 31 من أبواب الطواف.

نعم هنا مشكلة أُخرى وهي عدم كفاية هذا الحدّ الفاصل (حتّى مع حساب المسافة من جهة الحِجر) عند وفود الحجاج في أوائل شهر ذي الحجة الحرام، فإنّ الالتزام بالطواف في هذا الحدّ يسبب الحرج الشديد الذي لا يطاق، فلا محيص من


1- الروضة: 2/ 249.
2- المسالك: 2/ 333.
3- المدارك: 8/ 131.
4- الجواهر: 19/ 298.
5- الوسائل: الجزء 9، الباب 28 من أبواب الطواف، الحديث 1.

ص: 46

القول بأنّ المطاف أوسع من هذا الحدّ الفاصل بالبيان التالي:

إنّه سبحانه يأمر جموع الحجيج الحاضرين في المسجد بالطواف بقوله ولْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (1)

هذا من جانب.

ومن جانب آخر يقول سبحانه: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (2)

.

فمقتضى دعوة الحاضرين في المسجد إلى الطواف مع رعاية عدم تسبّب الحرج، هو كون المطاف في هذه الظروف أوسع من الحدّ المذكور مع ملاحظة الأقرب فالأقرب.

وقد روى الصدوق في الفقيه بسند صحيح، عن أبان بن عثمان، عن محمّد بن علي الحلبي قال: قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الطواف خلف المقام، قال: ما أحب ذلك وما أرى به بأساً، فلا تفعله إلّاأن لا تجد منه بداً (3).

وقوله: «ما أحب ذلك» ظاهر في الكراهة وهي تزول مع الضرورة.

على أنّ لفيفاً من الفقهاء كالصدوق في الفقيه (4) والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة (5) ذهبا إلى جواز الطواف خارج المقام اختياراً، وخصّه ابن الجنيد (6) بصورة الضرورة.

تكرّرت الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات خاصّة في السنوات الأخيرة... لأسباب منها سوء الإدارة والتنظيم، أو جهل الناس بأحكامهم،


1- الحج: 29.
2- الحج: 78.
3- الوسائل: 9، الباب 28 من أبواب الطواف، الحديث 2 وأبان بن عثمان من أصحاب الإجماع.
4- الفقيه: 2/ 399.
5- مجمع الفائدة: 7/ 87.
6- مختلف الشيعة: 4/ 183.

ص: 47

أو لعجلتهم في أداء هذا المنسك. إلّاأنّ هناك من يلقي باللوم على الفقهاء في أنّهم عسّروا على الناس الشريعة وهي السهلة السمحاء، بل ولم يعلّموا الناس أحكامهم.

فهلّا يبيّن سماحتكم الموقف الفقهي بشكل جليّ لهذه المسألة؟ وهل هناك مجال أو حلّ شرعيّ يساهم في درء مثل هذه الحوادث أو تخفيفها على الأقل؟

إنّ لتكرر الحوادث المفجعة حين رمي الجمرات سبباً آخر غير مذكور في السؤال وهو ظاهرة «الافتراش» فانّ كثيراً من البدويين يسدّون طريق الحجيج من خلال افتراشهم. الأمر الذي يفرض على الحكومة السعودية أن تُجليهم عن المكان وتتخذ لهم أماكن سكن مناسبة.

وهناك أُسلوب آخر لحلّ الأزمة وهو استغلال اختلاف الفتاوى بالنحو التالي:

إنّ أصحاب المذاهب الأربعة يخصّون جواز الرمي في اليوم العاشر من ذي الحجة بما قبل الظهر، كما أنّهم يخصونه في الحادي عشر والثاني عشر بما بعد الظهر، فعلى الشيعة لا سيّما غير الأقوياء أن يستغلّوا هذا الظرف المُناسب من خلال الرمي في اليوم العاشر بعد الظهر وفي اليومين الأخيرين قبله.

على أنّ الأقوى هو جواز الرمي من فوق الجمرات عبر الجسر الجديد الذي يمتد فوقها.

هذا هو الحلّ العاجل، غير أنّه لابدّ من حلّ الأزمة جذرياً دون أن تمس أصل الحكم الشرعي.

غالباً ما يكون الذبح خاصّة في السنوات الأخيرة خارج منى، فما هي حدود منى؟ وهل تتّسع بكثرة الحجيج؟ وهل يصحّ الذبح خارج منى كأن

ص: 48

يكون في بلد الحاج، إذا لم تتوفر شروط الذبح الشرعية بشكل كامل؟

منى بلدة قريبة من مكّة، وهي أقرب المواقع الرئيسية إلى مكّة، ثمّ المزدلفة، ثمّ عرفة، فإذا دخلت منى من مكّة كانت أول جمرة، هي جمرة العقبة، وحدّ منى هو ما بين جمرة العقبة ووادي محسِّر طولًا، وأمّا عرضاً فهو ما بين الجبلين أو الجبال الشاهقة، فوادي محسِّر أبعد من مكّة من منى، وإنّما يقع بينها وبين المزدلفة.

وأمّا مسألة الذبح، فيجوز تأخير الذبح إلى اليوم الثاني عشر من ذي الحجة، فإذا أمكن الذبح في هذه المدّة بمنى فيقدم ذلك، فإذا لم يتمكن كما هو السائد عند كثرة الحجيج، فيجب الذبح خارج منى في وادي محسِّر مع الأخذ بنظر الاعتبار الأقرب فالأقرب، ولا يجزي الذبح في بلد الحاج وكالةً. وقد قال سبحانه:

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ (1)

وهو لا يتحقّق إلّاأن يكون الذبح في الأرض المقدّسة.

كيف ترون مناسك الحجّ وأداءها مستقبلًا مع عظمة القادمين لأداء هذه الشعيرة المقدّسة وكثرتهم، واحتمال إجراء تغييرات عمرانيّة تتناسب وكثرة الحجيج، فهل يكون للفقه الزمكاني أثر يذكر في هذه المسألة؟

قد ذكرنا في رسالة مستقلة (2) دور الزمان والمكان في الاستنباط، وأشرنا إلى بعض الروايات الواردة في هذا الموضوع عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، والتي تناهز العشرين رواية، كما ذكرنا كلمات الفقهاء من عصر الصدوق إلى يومنا هذا من


1- الحج: 36.
2- لاحظ رسائل و مقالات: 2/ 41- 113.

ص: 49

الفريقين، وذكرنا أنّ الظروف الطارئة لا تمسّ كرامة الأحكام الواقعية، ولا تحدث أيّة خدشة فيها، ولكن يؤثر في أساليب تنفيذ الأحكام، فالأحكام ثابتة وأساليب تنفيذهامتغيرة، ومنهاالحج، ولابدّ أن يكون كل تغيير عمراني تقتضيه كثرة الحجيج خاضعاً لهذا الإطار، أي أن يكون الحكم الواقعي ثابتاً وأُسلوب إجرائه متغيراً.

وإليك نموذجاً من هذا النوع:

لا شكّ أنّ هناك أُموراً وقعت موضوعاً لأحكام شرعية نظير:

1. الاستطاعة: قال سبحانه: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (1)

.

2. الفقر: قال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ والْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ (2)

.

3. الغنى: قال سبحانه: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ (3)

.

4. بذل النفقة للزوجة: قال سبحانه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ (4)

.

5. إمساك الزوجة بالمعروف: قال سبحانه: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (5)

.

ومن الواضح أنّ مصاديق هذه الموضوعات تتغير حسب تغير أساليب الحياة، فالإنسان المستطيع بالأمس للحجّ، لا يعدّ مستطيعاً اليوم، لكثرة حاجات


1- آل عمران: 97.
2- التوبة: 60.
3- النساء: 6.
4- الطلاق: 6.
5- البقرة: 231.

ص: 50

الإنسان في الزمان الثاني دون الأوّل، وبذلك يتّضح حال الفقر والغنى، فربّ غني بالأمس فقير اليوم.

- كما أنّ نفقة الزوجة في السابق كانت منحصرة في الملبس والمأكل والمسكن، وأمّا اليوم فقد ازدادت حاجاتها على نحو لو لم يقم الرجل ببعض تلك الحاجات يعدّ عمله بخساً لحقها، وامتناعاً من بذل نفقتها.

وختاماً- ومع شكرنا الجزيل لسماحة الشيخ- لابدّ لنا من العروج إلى ثمرات هذه الفريضة، فمنافع الحجّ، الثقافية والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة... كثيرة، هذا إضافة إلى منافعه العباديّة وهي الرئيسية فيه والأهم، فالحج يلتقي فيه البعدان الروحي والمادي، الاخروي والدنيوي...، فهلّا يتفضّل سماحتكم بالحديث عن هذه المنافع ولو بشكل مختصر؟

الإمعان والدقّة في الآيات الواردة حول الحجّ ومناسكه، وما رويت حوله من النبي الأكرم والعترة الطاهرة من الروايات، وما استقرت عليه سيرة المسلمين في القرون الأُولى الإسلاميّة، يعرب عن أمرين مهمين، يُعرّفان ماهية الحجّ وحقيقته وأهدافه وهما:

إنّ الحجّ عمل عبادي وفي الوقت نفسه ملتقى سياسي للمسلمين، ويطيب لي أن أذكر كلا الأمرين بعبارات موجزة مستشهداً بآيات الذكر الحكيم، وما أثر في ذلك المجال.

الحج عمل عباديّ

والذي يدل على أنّ الحجّ عمل عبادي هو:

1- إنّ الحجّ عمل يقصد به الإنسان كسب رضاه سبحانه تلبيةً لنداء الخليل عليه السلام حيث قام بدعوة الناس إلى الحجّ الذي أقامه بعد انهيار، وعمّره بعد

ص: 51

خراب، كما قال سبحانه: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ... (1)

.

2- الحجّ تذكار وذكر للَّه سبحانه في كافة مراحله ومواقفه ومراسمه ومشاهده، وقد أمر سبحانه في غير واحد من الآيات حجّاج بيته أن يذكروه في جميع المواقف، قال سبحانه: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً (2)

.

ويقول سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (3).

3- الحجّ تطهير للنفس عن دنس الأقذار الخلقية، وتوجيهها إلى المثل العليا، وكبح للنفس عن اللذائذ الدانية النفسانية. قال سبحانه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ (4)

.

ولأجل أنّ الحجّ تطهير للنفوس سميت أعماله مناسكاً وهو من نسك ثوبه أو غسله، فكأنّ تلك الأعمال تغسل ما عليها من صدأ الذنوب ودرن الآثام، قال سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ (5)

.


1- الحج: 27.
2- البقرة: 198- 200.
3- البقرة: 203.
4- البقرة: 197.
5- البقرة: 200.

ص: 52

4- الحجّ تدريب وتربية للنفس للغلبة على الهوى وتحصيل التقوى، الذي هو خير الزاد للإنسان، قال سبحانه في ثنايا آيات الحجّ: فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ (1)

.

5- قد كان الهدف الأسمى من تجديد بناء البيت بيد بطل التوحيد، دعوة الناس إلى عبادة اللَّه وحده ورفض عبادة الأنداد والشرك بألوانه، قال سبحانه:

وعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (2)

، وقال سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (3)

ولأجل ذلك كان شعار الخليل عليه السلام عند بناء البيت ورفع قواعده هو الطلب من اللَّه سبحانه أن يجعل ذرّيته أُمّة مسلمة ويريهم مناسكهم ويتوب عليهم بالرحمة. قال سبحانه حاكياً عنه عليه السلام وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)

.

6- إنّ الخليل أنزل أُسرته بأرض قاحلة عند البيت المحرم لغاية إقامة الصلاة، وفي الوقت نفسه طلب من اللَّه سبحانه أن يوجّه أفئدة الناس إلى هذا البيت لتلك الغاية السامية، قال سبحانه حاكياً عن الخليل: رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ (5)

.

7- الحجّ تزهيد عن الدنيا واكتفاء من زخرفها وزبرجها بثوبين يرتدي بأحدهما ويتزر بالآخر، ويردّد في جميع الحالات الشكر والثناء امتثالًا لأمره


1- البقرة: 197.
2- البقرة: 125.
3- آل عمران: 96.
4- البقرة: 127.
5- إبراهيم: 37.

ص: 53

سبحانه: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (1)

.

8- الحجّ عمل رمزي لكثير من العبادات والطقوس الواردة في الشريعة المفروضة في ظروف خاصة، فصار الحجّ بمفرده مظهراً لها ومجسداً لكثير منها، حيث نجد فيه الأعمال التالية المعربة عن جانبه العبادي، أعني: النيّة، الطهارة من الحدث والخبث، الصلاة، الصوم، الطواف بالبيت، الذبح للَّه، إطعام القانع والمعترّ من اللحوم، الاعتكاف الذي يجسده الوقوف في المشاعر، ورجم الشيطان العدو الوحيد للإنسان الذي يوسوس في صدور الناس.

كلّ ذلك يعرب عن أنّ الحجّ عبادة للَّه وتقرب إليه، يصل به الإنسان إلى مدارج الكمال.

الحجّ ملتقى سياسيّ

إنّ كون الحجّ أمراً عبادياً أو مجسداً لأكثر العبادات لا ينافي أن يشتمل على بعد آخر فيه حياة للمسلمين وقوام لعيشهم، وإقامة لشؤونهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والحكومية، وهذا ما نعبّر عنه بكون الحجّ ملتقى سياسياً تجتمع فيه هذه الآثار الحيوية، وهذا ما يدعمه أيضاً الذكر الحكيم، وتؤيده السنّة النبويّة وعمل المسلمين في القرون الإسلاميّة الأُولى.

أمّا الآيات التي ترمز إلى تلك الأبعاد، فنكتفي منها بما يلي:

الف: قال سبحانه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا (2)

. والمُراد من كونه مثابة كونه مرجعاً للناس والمسلمين عامّة، ولأجل أنّ الحجّ عمل اجتماعي يجب أن يخيّم عليه الأمن ويسيطر عليه السلام، حتى يقوم الناس بعمل اجتماعي لأهداف


1- إبراهيم: 37.
2- البقرة: 125.

ص: 54

اجتماعية، قال سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (1)

، وقال تعالى حاكياً عن خليله:

رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا (2)

.

فالحجّ بما أنّه أمر اجتماعي وملتقى للشعوب المختلفة، بحاجة إلى استتباب الأمن والهدوء حتى يقوم كلّ إنسان وشعب ببيان فكرته ونظريته ولا يخاف من إنسان ولا دولة، ويتجلّى الحجّ كمنبر حرّ للمسلمين كلّهم، وهذا ما نعبّر عنه بكونه عملًا اجتماعياً.

وفي جانب ذلك فالحجّ ملتقى ثقافي يلتقي فيه المفكّرون الكبار والعلماء في شتّى الحقول، فيقومون بعرض الاطروحات والتجارب على الصعيد الثقافي والعلمي والاقتصادي؛ كي تتعرف كلّ طائفة على ما عند الأُخرى من الأفكار القيّمة والنظريات المفيدة، فيؤدي ذلك إلى التقاء الأفكار والاحتكاك بينها.

إذاً الحجّ عمل اجتماعي وملتقى ثقافي وفي الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة المسلمين، فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق والتعاون فيما بينهم، ولعلّ إلى تلك الجوانب الثلاثة يشير قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ (3)

.

فسواء كان القيام بمعنى القوام وما به حياة المسلمين، أو كان بمعنى ضدّ القعود، فالآية تتضمن نكتة مهمّة وهي انّ كيان المسلمين معقود بناصية الحجّ فيه يقومون وفي ظلّه قوام حياتهم، فالآية نظير قوله سبحانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً (4)

.

فوصف سبحانه أموال الناس بكونها قياماً لهم، أي بها يقومون في الحياة، أو


1- آل عمران: 96.
2- البقرة: 126.
3- المائدة: 97.
4- النساء: 5.

ص: 55

بها قوام حياتهم الاجتماعية، فاقتران الآيتين يعرب عن كون الحجّ ركناً في حياة المسلمين وبقاء كيانهم. ويشير أيضاً إلى تلك الجوانب قوله سبحانه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ (1)

. فكانت الغاية من دعوة كلّ راجل وراكب إلى الاجتماع في أيّام الحجّ خصوصاً في المواقف والمشاهد، حيازة المنافع الكبيرة التي يحتوي عليها الحجّ. فما جاء في الآية تعبير جامع يتضمّن كلّ نفع يرجع إلى المسلمين في ذلك الملتقى، ولا يصحّ لنا تخصيصه بالنفع المعنوي بإخراج النفع المادّي، أو تخصيصه بنفع دون نفع، ففي ذلك الوفود إلى اللَّه سبحانه منافع كثيرة يصطادها المسلمون حسب قابلياتهم وصلاحياتهم.

هذا ما لخصّناه للقارئ الكريم من الذكر الحكيم، وأمّا السنّة الشريفة فيكفي في ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمر الإمام عليّاً عليه السلام بأن يتلو آيات البراءة في يوم الحجّ الأكبر، قال سبحانه: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ...... (2)

وهل يشك ذو مسكة في أنّ البراءة ورفع الأمان عن المشركين وإمهالهم أربعة أشهر عمل سياسي قام به قائد الإسلام أيّام رسالته وازدهار دعوته، حتى يكون ذلك قوّة للمسلمين في الأجيال اللاحقة؟

هذا هو الإمام الطاهر الحسين بن علي عليهما السلام أطاح بطاغية عصره يزيد بن معاوية، ففضحه بعرض جناياته وأعماله المخزية على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان في موسم الحجّ في أرض منى، وقد اجتمع تحت منبره قرابة ثمانمائة منهم، وأبان في خطابه موقف أهل البيت من الإسلام، ثمّ ذكر مظالم الجهاز الأُموي الحاكم، وطلب من الجميع أن يحملوا خطابه وهتافه إلى إخوانهم وأوطانهم حتى


1- الحج: 28.
2- التوبة: 3.

ص: 56

يقفوا على فداحة الكارثة، التي ألمّت بهم من جراء تسلّم بني أُميّة لمنصّة الحكم، وقد جاءت خطبته في كتب السير والتاريخ، فمن أراد فليرجع إليها.

وبعد ذلك: إنّ في سيرة المسلمين لدليلًا واضحاً على أنّ الحجّ ملتقى سياسي وراء كونه عملًا عبادياً، فانّ الاصلاحات الجذرية التي قام بها المفكّرون المسلمون قد انعقدت نطفها في الأراضي المقدّسة وفي موسم الحجّ، فحملوا الفكرة التي تبنّوها في جوار بيت اللَّه الحرام وفي ذلك الُمحتشد العظيم، ثمّ غذّوها بفكرتهم وتجاربهم إلى أن أُتيحت لهم الفرص لبناء مجتمع طاهر أو حكومة عادلة أو ثورة عارمة في وجه الطغاة والظالمين، وبذلك يتّضح أنّ الحجّ الإبراهيمي ليس مجرد طقوس وسنن يقوم بها الفرد أو الجمع في أيّام معلومات، بل فيه آية العبادة وشارة السياسة، وفيه منافع للمسلمين في عاجلهم وآجلهم، فيجب على المسلمين احياء هذه السنّة الكريمة الحجّ الحقيقي، الذي وضع حجره الأساس إبراهيم الخليل عليه السلام كلّ ذلك بفضل الحجّ وببركة ذلك الُمحتشد العظيم.

ص: 57

نبذة عن أحكام الهدي في الحجّ

عند الإماميّة وسائر المذاهب الإسلامية

عبدالكريم آل نجف

مقدّمة

لا يخفى أنّ مسألة الهدي والذبح في الحجّ من جملة المسائل الحيوية، التي يتعرض لها حجّاج بيت اللَّه الحرام في كلّ عام. وقد حرّرنا هذه الدراسة؛ لتكون مُعيناً للمعنيين بها من خلال ما قمنا به من تسليط الضوء على هذه المسألة في أبعادها المختلفة، وقد قارنّا فيها آراء فقهاء مذهب أهل البيت عليهم السلام بآراء سائر المذاهب الإسلامية، مع بيان خاطف للأدلّة والبراهين المعتمدة عند كلّ فريق كلّما لزم الأمر ذلك. ودراستنا هذه تقع في عدّة جهات:

حكم الهدي في الشريعة الإسلامية

يعود حكم الهدي في الشريعة الإسلامية من حيث الأصل إلى قوله تعالى:

فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي (1)

.

وقد اتّفقت كلمة المذاهب الإسلامية على أنّه واجب وليس بركن، واتّفقت أيضاً على وجوبه على المتمتّع، وعدم وجوبه على المفرد بالحجّ، ولا على من اعتمر


1- سورة البقرة: 196.

ص: 58

بعمرة مفردة، واختلفت الكلمة في القارن، فقالت المذاهب الأربعة بوجوب الهدي على القارن أيضاً، وقالت الإمامية بعدم وجوبه عليه إلّابنذر أو بسياق الهدي معه من الإحرام.

والمكّي عند الإماميّة فرضه القران أو الإفراد. لكنّه إذا تمتّع وجب عليه الهدي، وهو عند المذاهب الأربعة مخيّر بين الأنواع الثلاثة من الحجّ، وإذا تمتّع لم يجب الهدي عليه (1).

والهدي هو ما يهديه الحاج إلى الحرم من الأنعام الثلاثة؛ الإبل والبقر والغنم، ومن هنا جاءت التسمية. وغالباً يصنف الهدي في الرسائل العملية لفقهاء الإمامية بعنوان الواجب الثاني من أعمال منى.

شروط الهدي وصفاته

للهدي شروط يذكرها الفقهاء، وهي من ثلاث جهات:

1- من جهة الجنس يشترط في الهدي أن يكون من الأنعام الثلاثة؛ الإبل والبقر والغنم، وما سوى ذلك لا يسمى هدياً، ولم يخالف في ذلك أحد من فقهاء الإسلام.

2- من جهة السنّ يشترط في الهدي أن يكون ثنياً إن كان من الإبل وهو ما أكمل خمسَ سنوات ودخل في السادسة، وهذا محلّ اتّفاق فقهاء الإسلام (2). وإن كان من البقر أو المعز فيشترط فيه أن يكون قد أتمّ سنة ودخل في الثانية، كما في الشرائع والجواهر (3)، وعليه بعض المعاصرين كالشيخ فاضل اللنكراني (4)،


1- الفقه على المذاهب الخمسة، محمّد جواد مغنية: 264- 265.
2- جواهر الكلام 19: 136.
3- المصدر نفسه: 136؛ انظر كذلك الفقه على المذاهب الأربعة 1: 696.
4- مناسك حج، با حواشى مراجع بالفارسية مناسك الحجّ المحشّى: 369.

ص: 59

واحتاط السيّد الإمام الخميني (1)، والسيّد السيستاني احتياطاً وجوبياً في أن لا يكون أقلّ من سنتين وداخلًا في الثالثة (2). وعلى ذلك فتوى ما عدا المالكية من مذاهب الجمهور. أمّا المالكية فقالوا باشتراط أن يكون الهدي من البقر قد أتمّ ثلاث سنوات ودخل في الرابعة (3).

أمّا إن كان الهدي من الضأن فالمتّفق عليه بين فقهاء الإسلام إجزاء الجذع فيه (4) حتّى قال الشيخ النجفي في الجواهر: «لا خلاف أجده في إجزائه بل الإجماع بقسميه عليه مضافاً إلى ما سمعته من النصوص» (5) إلّاأنّ الخلاف الشديد قد وقع في المراد منه على أقوال شتّى تراوحت بين القول بأن الجذع ما كان ابن ستة أشهر، وآخر بأنّه ما أكمل السنة الأولى ودخل في الثانية، وقد أفتى من المعاصرين السيّد الخوئي والسيّد السيستاني بإجزاء ما دخل منه في الشهر الثامن، فيما احتاط السيّد الإمام الخميني والسيّد الگلبايگاني والسيد السبزواري احتياطاً وجوبياً باشتراط أن يكون قد أكمل السنة الأولى ودخل في الثانية (6).

3- والشرط الثالث في الهدي هو الخلو من العيوب، قال الشيخ مغنية في الفقه على المذاهب الخمسة: «أن يكون الهدي تامّاً خالياً من العيوب، فلا تجزي العوراء ولا العرجاء ولا المريضة ولا الكبيرة التي لا مخّ لها بالاتفاق.


1- المصدر نفسه: 369.
2- المصدر نفسه: 196.
3- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 696.
4- المصدر نفسه: 696، انظر كذلك الشرح الكبير بهامش المغني لابن قدامة 3: 534.
5- جواهر الكلام 19: 138.
6- جامع المناسك، إعداد حسين مرعي وإسماعيل حريري: 103.

ص: 60

واختلفوا في الخصي وفي الجماء وهي التي لا قرن لها، وفي الصماء وهي التي لا أذن لها أو لها أذن صغيرة، وفي البتراء وهي المقطوعة الذنب، فقال السيّد الحكيم والسيّد الخوئي: لا يجزي شي ء منها، وقال صاحب المغني: بل يجزي كلّ نوع منها، وقال العلّامة الحلّي في التذكرة: الإناث من الإبل والبقر أفضل، والذكران من الضأن والمعز أولى، ولاخلاف في جواز العكس في البابين، وقال صاحب المغني:

الذكر والأنثى في الهدي سواء» (1).

أمّا شرط عدم المرض فقد أفتى به بعض كالسيّد الگلبايگاني والسيّد السبزواري، وقال به آخرون احتياطاً وجوبياً كالسيّد الإمام الخميني والشيخ فاضل اللنكراني، وقال به آخرون احتياطاً استحبابياً كالسيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ التبريزي (2).

وقال الإمام الخميني: بأن لا يكون طاعناً في السنّ. واحتاط السيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ التبريزي في ذلك احتياطاً استحبابياً، بينما مال الشيخ مكارم الشيرازي والشيخ فاضل اللنكراني إلى ذلك احتياطاً وجوبياً (3) واتّفقوا على شرط تمامية الأجزاء وعدم النقص في الهدي. قال الإمام الخميني: «لا يكفي الناقص كالخصي وهو الذي أُخرجت خصيتاه، ولامرضوض الخصية على الأحوط، ولا الخصي في أصل الخلقة ولا مقطوع الذنب ولا مقطوع الأذن، ولا ما يكون قرنه الداخل مكسوراً أو مقطوعاً، ولا بأس بما كسر قرنه الخارج أو قطع، ولا يبعد الاجتزاء بما لا يكون له أذن ولا قرن في أصل خلقته والأحوط خلافه، ولو كان عماه أو عرجه واضحاً لا يكفي على الأقوى، وكذا لو كان غير واضح على الأحوط، ولا بأس بشقاق الأذن وثقبها والأحوط عدم الاجتزاء به، والأحوط عدم الاجتزاء بما ابيضّت عينه» (4).


1- الفقه على المذاهب الخمسة: 265- 266.
2- جامع المناسك: 103، انظر كذلك مناسك حج با حواشي مراجع: 370.
3- مناسك حجّ با حواشي مراجع: 370.
4- المصدر نفسه: 151- 152.

ص: 61

ومال الشيخ التبريزي والشيخ فاضل اللنكراني إلى اشتراط أن لا يكون خصياً احتياطاً وجوبياً، وفي مرضوض الخصيتين مال السيّد الگلبايگاني إلى الجواز وكذا الشيخ مكارم الشيرازي، ومال السيّد الخوئي والسيستاني والشيخ الصانعي والشيخ التبريزي إلى عدم الإجزاء احتياطاً استحبابياً، (1) خلافاً لما مرّ من كلام الإمام الخميني في عدم الإجزاء احتياطاً وجوبياً.

واتّفقوا على أن لا يكون الهدي مهزولًا، مع إيكال تحديد الهزال إلى العرف، واحتاط الإمام الخميني في مقطوع الذنب في أصل الخلقة احتياطاً وجوبياً بعدم الإجزاء، وفي فاقد القرن أو الأذن احتياطاً استحبابياً بعدم الإجزاء، ومال السيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ الصافي إلى الاحتياط الاستحبابي في أن لا يكون الهدي فاقد القرن والذنب في أصل خلقته، ومال الشيخ الأراكي إلى الاحتياط الوجوبي في ذلك، وكذا السيّد الگلبايگاني والشيخ الصافي (2).

بدل الهدي

اتّفق فقهاء الإسلام على أن الحاج إذا لم يجد الهدي ولا ثمنه، انتقل حكمه إلى البدل عنه وهو صوم عشرة أيّام: ثلاثة منها في الحجّ وسبعة إذا رجع الحاجّ إلى أهله؛ لقوله تعالى:

فمَن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشَرة كاملة (3)

.

والمقصود بالقدرة في ظرف الحجّ لا في بلد الحاج، ومن شرع في الصيام ثمّ قدر على الهدي بعد ذلك لم يكن عليه عند الحنابلة والمالكية والشافعية الخروج من


1- المصدر نفسه: 371.
2- المصدر نفسه: 371.
3- سورة البقرة: 196.

ص: 62

الصوم إلى الهدي، إلّاإذا شاء؛ لأنّه صوم دخل فيه لعدم الهدي (1)، وعليه فقهاء الإمامية أيضاً، سوى أنّهم يشترطون صوم تمام الثلاثة أيّام التي في الحجّ، قال الشيخ النجفي في الجواهر: «ولو صامها- أي الثلاثة- ثم وجد الهدي في ذي الحجّة ولو قبل التلبس بالسبعة لم يجب عليه الهدي وكان له المضي على الصوم... بل عن الخلاف الاجماع على ذلك» (2).

ولو تمكّن في أثناء صيامه الأيام الثلاثة، وجب عليه الهدي كما هو رأي الإمام الخميني قدس سره (3) واحتاط السيّد الخوئي والسيّد الگلبايگاني والشيخ مكارم الشيرازي والشيخ فاضل اللنكراني والشيخ الصافي والشيخ الأراكي احتياطاً وجوبياً بالهدي إن وجده بعد صوم الأيّام الثلاثة، ورأى الشيخ البهجت ذلك احتياطاً استحبابياً، ومال الشيخ التبريزي إلى أن الاحتياط الوجوبي يقتضي الهدي إذا تمكّن قبل انقضاء أيّام التشريق، وإذا تمكّن بعدها فلا يجب الاحتياط عليه بالهدي، وهكذا السيّد السيستاني (4).

واختصّ فقهاء الإمامية بأنّ الحاجّ إذا كان مستطيعاً من الناحية المالية على شراء الهدي وتعذّر تحصيله، فعليه أن يودع قيمة الهدي عند شخص أمين؛ ليشتري الهدي ويذبحه نيابةً عنه في بقية ذي الحجّة أو في السنة الآتية كما هو المذكور من رأي السيّد الخوئي والإمام الخميني والسيد الگلبايگاني والشيخ الأراكي (5) واحتمل في الجواهر حصول الإجماع عليه (6).


1- الفقه الإسلامي وأدلّته، وهبة الزحيلي 3: 302؛ المغني، ابن قدامة 3: 509.
2- جواهرالكلام 19: 183.
3- مناسك حج با حواشي مراجع: 381.
4- المصدر نفسه: 380- 381.
5- آراء المراجع في الحجّ، علي افتخاري گلبايگاني: 368.
6- جواهر الكلام 19: 164.

ص: 63

زمان الهدي

قال الشيخ محمّد جواد مغنية: «أما وقت ذبح الهدي أو نحره، فقال المالكية والحنفية والحنابلة: إنّه يوم العيد وتالياه الحادي عشر والثاني عشر، سوى أنّ الحنفية قالوا: إن هذا الوقت لهدي القران والتمتّع، أما غيره فلا يتقيد بزمان، ولم يفرق المالكية بين أنواع الهدي، كما جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة.

وقال الحنابلة: إنّ قدّم الذبح عن وقته وجب عليه البدل، وإن أخّره عنه، فإن كان تطويعاً سقط بذهاب وقته، وإن كان واجباً قضاه.

وقال الحنفية: إن ذبح هدي التمتّع والقران وقبل أيام العيد الثلاثة لم يجز، وإن تأخّر أجزأ، وعليه كفارة عن التأخر.

وقال الشافعية: وقت الهدي الواجب على المتمتّع إحرامه بالحجّ، ويجوز تقديمه عليه، ولا حدّ لآخره، والأفضل يوم النحر. (الفقه على المذاهب الأربعة).

وبعد أن أوجب الإمامية النية في الذبح أو النحر قالوا: إنّ وقت الذبح أو النحر هو يوم العيد، وإن أخّره إلى اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع يجزي، ولكن يأثم بالتأخير، وكذلك يجزي لو ذبحه بقية أيام ذي الحجّة. ونقل صاحب الجواهر عدم الخلاف في ذلك حتّى ولو كان التأخير بدون عذر. ولا يجوز تقديم الذبح أو النحر على اليوم العاشر عند الإمامية» (1).

واحتاط الإمام الخميني احتياطاً وجوبياً في عدم التأخير في الذبح عن يوم العيد، واحتاط السيّد الگلبايگاني والسيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ الصافي والشيخ البهجت والشيخ التبريزي احتياطاً استحبابياً في ذلك (2).

والترتيب بين المناسك في يوم النحر واجب عند مشهور الإمامية، فيجب أن


1- الفقه على المذاهب الخمسة: 266- 267.
2- مناسك حج با حواشي مراجع: 373.

ص: 64

يأتي الحاج بالرمي أولًا ثمّ النحر والذبح ثمّ الحلق أو التقصير؛ لقوله تعالى:

ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه (1)

.

ولو قدم بعضها على بعض عالماً عامداً، تمّ ولا تجب عليه الإعادة (2)، وعلى ذلك فتوى أكثر المعاصرين، وفيهم من قال بعدم لزوم الترتيب (3).

مكان الهدي

اختلفت المذاهب الإسلامية في مسألة مكان الهدي على ثلاثة آراء:

فرأي الإمامية: أنّ الهدي لا يكون إلّابمنى للمتمتّع وجوباً أو ندباً، أمّا ما يساق في إحرام العمرة فينحر أو يذبح بمكّة.

ورأي الحنفية والشافعية والحنابلة: أنّ مكان الهدي هو الحرم ولا يختصّ بمنى.

ورأي المالكية: أنّ الهدي يكون بمنى إذا كان واجداً لثلاثة شروط، فإذا افتقد واحداً منها وجب الذبح والنحر حينئذ بمكّة دون غيرها، والشروط هي: أن يكون مسوقاً في إحرام الحجّ لا العمرة، وأن يقف بالهدي بعرفة جزءاً من ليلة يوم العيد، وأن يريد نحره أو ذبحه في يوم العيد أو تاليه (4).

وقال الشيخ محمّد حسن النجفي في الجواهر: «ويجب ذبحه بمنى عند علمائنا في محكي المنتهى والتذكرة وعندنا في كشف اللثام، وهذا الحكم مقطوع في كلام الأصحاب في المدارك» (5).وعلى ذلك المعاصرون، ولذا يذكرون الهدي في


1- سورة البقرة: 196.
2- الجواهر 19: 250.
3- مناسك حج با حواشي مراجع: 372.
4- الفقه على المذاهب الخمسة: 266- 267، الفقه على المذاهب الأربعة 1: 697- 698.
5- جواهر الكلام 19: 120.

ص: 65

الرسائل العملية بعنوان أنّه الواجب الثاني من واجبات منى، وينصّون على جواز الذبح في المسلخ الفعلي الواقع في وادي محسّر، ويفضّلون على ذلك الاحتياط بالتريث إلى آخر أيّام التشريق إذا أُحرزت إمكانية الذبح في منى أثناءها (1).

والخلاصة: أنّ إجماع المسلمين قائم على أنّ الذبح يكون في منى، والفرق بين الإمامية وغيرهم أنّ الإمامية يرون اختصاص منى بالهدي، فيما يرى غيرهم شمول محلّ الذبح لسائر أجزاء الحرم المكّي.

مصرف الهدي

المعروف في فقه الإمامية استحباب تقسيم الهدي إلى ثلاثة أثلاث: ثلث يأكله الحاج نفسه، وآخر يتصدق به على الفقير، والثالث يهديه للمؤمنين الموجودين وقيل بوجوب الأكل منه (2).

ورأي أكثر الفقهاء المعاصرين على أنّ التثليث من باب الاحتياط، واختلفوا في ذلك بين قائل بكونه احتياطاً وجوبياً كالشيخ الأراكي والشيخ البهجت والسيد الخوئي والشيخ التبريزي، وقائل بكونه احتياطاً استحبابياً كالسيّد الإمام الخميني والشيخ الفاضل اللنكراني والشيخ مكارم الشيرازي، وقال السيد الگلبايگاني والشيخ الصافي: بوجوب أن يأكل الحاج من هديه مقداراً، ويتصدق على الفقير بمقدار آخر ويُهدي منه مقداراً ثالثاً بلا شرط أن يكون كلّ منهما ثلثاً، وقال الشيخ مكارم الشيرازي: بأنّ الواجب هو إعطاء الفقير شيئاً من الهدي فقط (3).

أمّا رأي الإمامية في إخراج لحوم الهدي والأضاحي من منى، فقد قال في الجواهر: «لا يجوز إخراج شي ء ممّا ذبحه في منى من الهدي الواجب عن منى، بل


1- آراء المراجع في الحجّ: 358- 360.
2- جواهر الكلام 19: 161.
3- مناسك حج با حواشي مراجع: 375.

ص: 66

يخرج من رحله- مثلًا- إلى مصرفه بها وفاقاً للمشهور». ثمّ أضاف قائلًا: «نعم ينبغي القطع بالجواز إذا لم يكن مصرف له إلّافي خارجها» (1).

وعلى ذلك رأي أكثر المعاصرين، قال السيّد السيستاني: «ويجوز إخراج لحم الهدي والأضاحي من منى مع عدم حاجة الموجودين فيها إليه» (2)وأطلق السيّد الخوئي العبارة في ذلك قائلًا: «ويجوز إخراج لحم الهدي والأضاحي من منى» (3).

وأمّا سائر المذاهب الإسلامية:

فرأي الحنابلة والشافعية: أنّ ما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه فيه على المساكين.

ورأي الحنفية والمالكية: جواز تفرقة لحمه في الحرم وغيره.

وقال الشافعية: كلّ ما كان واجباً من الهدي لا يجوز الأكل منه، وكلّ ما كان تطوعاً يجوز الأكل منه (4).

قال صاحب كفاية المحتاج وهو من فقهاء الشافعيّة: «اعلم أنّه يجب صرفها إلى فقراء الحرم ومساكينه؛ لأنّ المقصود من الذبح هو إعظام الحرم بتفرقتها على مساكينه، واعلم أنّه لا يجوز أكل شي ء منه لحماً وجلداً وغيرهما ممّا يؤكل كما وقع التصريح به، وليحذر أن يعطى الجزّار منه شيئاً...» (5).

ثمّ قال: «واعلم أنّه إذا لم يجد في الحرم مسكيناً، لم يجز نقل الدم والطعام إلى موضع آخر سواء جوّزنا نقل الزكاة أم لا؛ لأنّه وجب لمساكين الحرم، كمن نذر


1- جواهر الكلام 19: 131- 133.
2- مناسك الحجّ: 206.
3- مناسك الحجّ: 176.
4- الفقه على المذاهب الخمسة: 267- 268.
5- كفاية المحتاج، علي بن ظهيرة الشافعي، ط دار البخاري: 477.

ص: 67

الصدقة على مساكين بلدٍ فلم يجدهم يصبر إلى أن يجدهم ولا يجوز نقلها، وبه صرّح القاضي حسين في فتاويه وغيره، وهو قول أكثر العلماء» (1).

الهدي الواحد هل يُجزي عن أكثر من واحد؟

المعروف بين فقهاء الإسلام جواز اشتراك جماعة في أضحية واحدة، أما في الهدي فلم أجد من تعرّض لهذه المسألة من فقهاء الجمهور.

ورأي فقهاء الإمامية فيها أنّ الهدي الواجب الواحد في الحجّ لا يجزي إلّاعن مكلّف واحد، ولا يصحّ اشتراك أكثر من مكلّف واحد في هدي واحد، قال في الجواهر: «للأصل المستفاد من تعدّد الخطاب الموافق لقوله تعالى: فمن لم يجد فصيام... ضرورة صدق عدم وجدان الهدي مع الاضطرار، فإن التمكّن من جزء منه ليس تمكّناً منه بعد أن كان المنساق منه الحيوان التام. والأمر بما استيسر إنّما هو لإرادة بيان النعم الثلاثة لا أجزاء الحيوان الواحد ولصحيح الحلبي، سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن النفر تجزيهم البقرة، قال: أمّا الهدي فلا، وأمّا في الأضحى فنعم ...» (2).

وعلى ذلك رأي المعاصرين من فقهاء الإمامية (3)، واحتاط السيّد السيستاني في القادر على الشركة في هدي الآخرين بالجمع بين المشاركة والصوم عشرة أيّام بدل الهدي (4).

لو ضلّ الهدي فذبحه غير صاحبه

لو ضلّ الهدي من يد صاحبه فوظيفة العاثر عليه أن يعرّف به إلى اليوم


1- المصدر نفسه: 480.
2- جواهر الكلام 19: 121- 122.
3- مناسك الحجّ، السيّد الخوئي: 170.
4- مناسك الحجّ: 196- 202.

ص: 68

الثاني عشر، فإن لم يجد صاحبه حتّى عصر ذلك اليوم ذبحه نيابةً عن صاحبه (1) وظاهر عبارة السيّد الخوئي أنّ ذلك من وظيفة الواجد للهدي الضائع، إلّاأنّ كلام السيّد السيستاني يفيد غير ذلك فهو يقول: لو وجد كبشاً وعلم بكونه هدياً ضلّ عن صاحبه جاز له أن يذبحه عنه... والأحوط للواجد أن يعرّفه قبل ذبحه إلى عصر اليوم الثاني عشر (2).

أمّا وظيفة صاحب الهدي عند السيّد الخوئي، فهي أن يشتري «مكانه هدياً آخر، فإن وجد الأوّل قبل ذبح الثاني ذبح الأوّل، وهو بالخيار في الثاني إن شاء ذبحه وإن شاء لم يذبحه وهو كسائر أمواله، والأحوط الأولى ذبحه أيضاً، وإن وجده بعد ذبحه الثاني ذبح الأوّل أيضاً على الأحوط» (3). وليس في كلامه إشارة إلى صورة ما إذا علم صاحب الهدي الضالّ بأنّ هديه قد ذبح نيابةً عنه من قبل الواجد له، وهي التي تعرّض لها السيّد السيستاني، فنصّ على أنّ صاحب الهدي إذا علم بأن الواجد قد ذبحه نيابةً عنه اجتزأ به، ولا يجب عليه تحصيل هدي آخر مكانه (4).

هذا ما عليه الإماميّة في المسألة.

أمّا علماء الجمهور؛ ففي الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي: «إذا ضلّ المعين فذبح غيره ثمّ وجده أو عين غير الضال بدلًا عمّا في الذمة ثم وجد الضال ذبحهما معاً. روي ذلك عن عمر وابنه وابن عبّاس، وبه قال مالك والشافعي وإسحاق لما روي عن عائشة أنّها أهدت هديين فأضلتهما، فبعث إليها ابن الزبير بهديين فنحرتهما، ثمّ عاد الضالان فنحرتهما وقالت: هذه سنة الهدي. رواه الدارقطني» (5).


1- مناسك الحجّ: 196- 202.
2- مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 199.
3- مناسك الحجّ، السيّد الخوئي: 173.
4- مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 199.
5- المغني وبهامشه الشرح الكبير، ط دار الكتاب العربي 3: 576.

ص: 69

لو ذبح فانكشف ناقصاً

لو ذبح هديه بظنّ السلامة، ثمّ انكشف له بعد ذلك أنّه كان ناقصاً أو مريضاً، فهنا رأيان:

رأي بالاجتزاء وعدم وجوب هدي جديد، وعليه السيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ التبريزي.

وآخر بعدم جواز الاجتزاء به، ووجوب ذبح هدي آخر كامل محلّه، وعليه السيّد الإمام الخميني والسيّد الگلبايگاني والشيخ الأراكي (1)، بل إنّ أصحاب الرأي الأوّل يعملون به قبل الذبح أيضاً، ويجعلون عنوان المسألة فيما لو اشترى هدياً ونقد ثمنه بظنّ السلامة ثمّ بان معيباً (2)، نعم اتفقوا على الاجتزاء فيما لو ذبح هديه بظنّ كونه سميناً ثمّ تبيّن أنّه كان هزيلًا (3).هذا ما عليه فقهاء الإماميّة، ولم أجد فيما بين يدي من مصادر من تعرّض لهذه المسألة من فقهاء العامّة.

لو اشتراه سالماً ومرض عنده

واختلفت كلمة المعاصرين فيما لو اشترى الحاجّ هديه سالماً ثمّ مرض عنده أو حصل فيه عيب، حيث أفتى السيّد الخوئي بالإجزاء وعدم الاحتياج إلى البدل (4)، وأفتى السيّد السيستاني بأنّ «في الاجتزاء به إشكال بل منع، والأحوط أن يذبحه أيضاً ويتصدّق بثمنه لو باعه» (5) ومفهوم هذه العبارة ذبح


1- مناسك حجّ با حواشي مراجع: 374، آراء المراجع في الحجّ: 365- 366.
2- مناسك الحجّ، السيّد الخوئي: 151، مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 197.
3- آراء المراجع في الحجّ: 366، مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 198.
4- مناسك الحجّ: 172.
5- مناسك الحجّ: 199.

ص: 70

هدي آخر محلّه.

والمسألة لدى فقهاء العامّة تعنون بعنوان آخر هو: ما لو عطب الهدي أو تعيّب دون محلّه، قال ابن قدامة في المغني: «وإن عطب (1) تلف من ماله، وإن تعيّب لم يجزئه ذبحه، وعليه الهدي الذي كان واجباً..» (2).

أحكام الذبح ومسائله

لما كان الذبح من جملة العبادات؛ لذا احتاج إلى النيّة وهي شرط في صحّة العمل، ويجب أن تكون مقارنةً لأوّل العمل ومستمرةً إلى آخره (3)، بمعنى أن لا يطرأ التردّد فيها.

والذبح من الأفعال التي تقبل النيابة، والأفضل أن يتولى الحاجّ بنفسه ذبح هديه، وعلى ذلك رأي فقهاء الجمهور أيضاً (4) وإذا استناب شخصاً لذلك فمن المستحب أن يشهد الشخص حالة الذبح، وأن يضع يده على يد النائب الذابح (5).

ويشترط في النيابة أن ينوي الذابح نيّة الذبح نيابةً عن الأصيل، ويستحبّ الاحتياط من الأصيل أن ينوي أيضاً، وبعضهم أفتى بلزوم ذلك عليه (6).

ويشترط في الذابح أن يكون مسلماً عند أكثر المعاصرين، فيما أفتى السيّد الإمام الخميني باشتراط أن يكون مؤمناً أيضاً (7).

وإذا استناب الحاجّ شخصاً في الذبح ثمّ شك في أنّ النائب ذبح عنه أم لا، بنى على العدم، ومجرّد إخبار النائب بذلك لا يكفي، فلا بدّ للأصيل من علمٍ أو اطمئنانٍ


1- أي هلك.
2- المغني 3: 557.
3- جواهر الكلام 19: 118.
4- الفقه الإسلامي وأدلّته 3: 309.
5- المصدر نفسه: 157.
6- مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 202، مناسك الحجّ، الإمام الخميني: 175، آراء المراجع في الحجّ: 360، مناسك حجّ با حواشي مراجع: 376.
7- المصدر نفسه: 376.

ص: 71

بأنّ النائب قد أدّى ما عليه، والاحتمال في ذلك لا يكفي، كما هي فتوى السيّد الإمام الخميني والسيّد السيستاني (1) وأفتى السيد الخوئي والشيخ التبريزي بأنّ النائب إذا كان ثقة وأخبر بتحقّق الذبح فهو كافٍ (2).

وعلى النائب أن يقوم بالذبح طبقاً للشروط والأحكام المقرّرة، فإن خالف في ذلك عمداً فهو ضامن، وعليه دفع ثمن الهدي إلى صاحبه، ويجب حينئذ ذبح هدي جديد، وإن كانت مخالفته من جهة الجهل والاشتباه، فهنا صورتان: فتارةً يكون النائب أجيراً وأخرى متبرعاً بالنيابة عن الأصيل، فإن كان أجيراً فهو ضامن وإن كان متبرعاً بالنيابة فلا، طبقاً لفتوى السيّد الإمام الخميني، فيما أفتى السيّد الخوئي والسيّد السيستاني والشيخ التبريزي بالضمان على النائب في كلتا الصورتين (3).

مسائل في الصوم بدل الهدي

مرّ فيما سبق الكلام عن حكم من لا يجد الهدي ولا يجد ثمنه أيضاً، وهو الانتقال إلى الصوم. بقيت فروع كثيرة تتعلّق بهذا الحكم لابدّ من الإشارة إليها.

منها: أنّه لو كان قادراً على الاقتراض بلا مشقّة وكلفة واجداً لقيمة القرض في زمن الأداء، وجب عليه الاقتراض والهدي، وكذا لو كان عنده من مؤن السفر زائداً على حاجته ويتمكّن من بيعه بلا مشقّة. نعم لا يجب عليه بيع لباسه كائناً ما كان، ولا يجب عليه التكسب لتحصيل ثمن الهدي، لكنّه لو باع الزائد من لباسه أو تكسّب فحصل على ثمن الهدي وجب عليه الهدي (4).

ومنها: أنّ صيام الثلاثة أيام في الحجّ يجب أن تكون متواليةً عند الإمامية،


1- مناسك حج: 202.
2- مناسك حجّ با حواشي مراجع: 377.
3- المصدر نفسه: 378.
4- مناسك الحجّ، الإمام الخميني: 155.

ص: 72

وعند بعض العامّة، وأكثر العامّة على استحباب الترتيب، إلّافي صورة ما إذا قيل بعدم جواز تأخير صوم شي ء من الثلاثة عن يوم عرفة، فصام ابتداءً من يوم السابع، فيصبح التتابع واجباً عليه حينئذ بأن يصوم الثامن والتاسع أيضاً (1).

وسيأتي أن بعض الإمامية قد احتاط احتياطاً وجوبياً بإيقاع صوم الثلاثة قبل العيد وفي شهر ذي الحجّة، ويحرم صيامها في أيّام التشريق على من كان في الحجّ وغيره، وإذا انقضى شهر ذي الحجّة ولم يصمها، فعليه الذبح في السنة القادمة في منى هو أو نائبه، وليس له أن يصومها إلّابعد الإحرام لعمرة التمتّع. ولا يشترط لصيامها قصد الإقامة، بل يجوز له أداؤها في الطريق إذا لم تحصل له مهلة ثلاثة أيّام في مكة.

واحتاط السيّد الإمام الخميني احتياطاً وجوبياً في أن يتمّ إيقاع صيام هذه الأيّام في الأيام الثلاثة قبل العيد أي السابع والثامن والتاسع، ولو لم يتمكّن من صوم السابع صام الثامن والتاسع وأخّر اليوم الثالث إلى بعد رجوعه من منى وبعد أيّام التشريق، ولو لم يصم الثامن أخّر الصيام إلى بعد الرجوع من منى فصام ثلاثة أيّام متوالية بعد أيّام التشريق (2) وإذا لم يتمكّن من صيامها بعد الرجوع من منى صامها في الطريق أو في بلده قبل انقضاء شهر ذي الحجّة (3).

واحتاط السيّد السيستاني في صورة ما إذا لم يتمكّن من صيامها جميعاً قبل العيد احتياطاً وجوبياً بعدم جواز صيام الثامن والتاسع، ويوم آخر بعد الرجوع من منى (4) فعلى ذلك يلزم أن تقع كلّها قبل العيد أو بعد أيّام التشريق.

ومنها: أنّ صيام السبعة أيام الأخرى في الوطن يؤتى بها متوالية.


1- كفاية المحتاج: 145- 146.
2- مناسك الحجّ، الإمام الخميني: 155- 157.
3- مناسك الحجّ السيّد السيستاني: 201.
4- مناسك الحجّ السيّد السيستاني: 201.

ص: 73

أيضاً احتياطاً وجوبياً عند السيّد الإمام الخميني، واستحبابياً عند أكثر المعاصرين غيره (1). وقال أكثر فقهاء الجمهور بالاستحباب خلافاً لبعضهم ممّن قال بالوجوب (2).

ولا يجوز صيام هذه الأيّام في مكّة أو في الطريق إلّالمن نوى الإقامة هناك، فيجوز له صيامها فيها بعد شهر من يوم قصد الإقامة، بل جاز صيامها إذا مضى من يوم القصد مدّة لو رجع وصل إلى وطنه. ولو أقام في غير مكّة من سائر البلاد أو في الطريق لا يجوز صيامها، ولو مضى المقدار المتقدم، نعم لا يجب أن يكون الصيام في بلده، فلو رجع إلى بلده جاز له قصد الإقامة في مكان آخر لصيامها (3).

فيما أفتى السيّد الخوئي والسيستاني في صورة ما إذا أقام بمكّة بأنّ عليه أن يصبر حتى يرجع أصحابه إلى بلدهم أو يمضي شهر ثمّ يصوم بعد ذلك (4). هذا ما عليه فقهاء الإماميّة.

أمّا فقهاء الجمهور فقال بعضهم: إنّ المراد بالرجوع في قوله تعالى: وسبعة إذا رجعتم: الرجوع إلى الوطن والأهل. وقال آخرون: بأنّ المراد بالرجوع: الفراغ من الحجّ (5) وحينئذ يجوز له الصيام في مكّة بعد الحجّ.

ومنها: إنّ من لم يصم الثلاثة أيّام بعد القدرة عليها حتّى مات، وجب على وليّه قضاؤها، والأحوط عليه أيضاً قضاء السبعة عن أبيه (6).


1- مناسك حجّ با حواشي مراجع: 381.
2- كفاية المحتاج: 150.
3- مناسك الحجّ، الإمام الخميني: 157- 158.
4- مناسك الحجّ، السيّد السيستاني: 200، مناسك الحجّ، السيّد الخوئي: 174.
5- كفاية المحتاج: 146- 147.
6- مناسك الحجّ، الإمام الخميني: 158.

ص: 74

من أخلاق الحجّ

السيد عادل العلوي

أهمية الإخلاص:

قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (1)

لقد خلق اللَّه الإنسان في أحسن تقويم، وتمدّح بخلقه في قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (2)

وركّبه من سرّ وعلن وروح وبدن. بدنه من تراب وروحه من أمر ربّه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِى (3)

فأودعه أسرار خلقه، جرمه صغير ولكن انطوى فيه العالم الأكبر، فدنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، فعلّمه الأسماء الحُسنى وفهّمه البيان الأتمّ، وأناله بخضوعه وعبوديته له سبحانه المقام الشامخ، فإنّ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، وأنطقه بأقواله سبحانه، ومن أصدق من اللَّه قيلًا، وأصبغه بصبغته، ومن أحسن من اللَّه صبغة، وهداه النجدين: نجد الخير ونجد الشر، وجعله مختاراً في سلوك الطريقين، إمّا شاكراً وإمّا كفوراً.


1- البيّنة: 5.
2- المؤمنون: 14.
3- الحجر: 29.

ص: 75

وخلق لروحه وبدنه منافيات وملائمات وآلاماً ولذّات ومنجيات ومهلكات، فمنافيات البدن الأمراض والأسقام الجسمانية، وملائماته الصحّة واللذات الجسمانية، والمتكفّل ببيان تفاصيل هذه الأمراض وكيفية علاجها هو علم الطب، ومنافيات الروح والآمه هي رذائل الأخلاق وذمائمها التي تهلكه وتشقيه، وتودي به إلى أسفل السافلين ترديه وتهويه، فيكون كالأنعام بل أضلّ سبيلًا، وقلبه كالحجارة بل أشدّ قسوةً، وصحّة الروح رجوعها إلى فضائل الأخلاق ومحامدها، التي تنجيه وتسعده في الدارين، وتأخذ بيديه إلى مجاورة أهل الحق عند مليك مقتدر في مقعد صدق،... هذا وأنّ المُتكفّل لبيان هذه الصفات الأخلاقية ومعالجة رذائلها هو (علم الأخلاق).

وإنّما بعث اللَّه رسوله خاتم النبيين محمّداً صلى الله عليه و آله ليتمّم مكارم الأخلاق، وقد مدحه ربّه في قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (1)

وقد أقسم في سورة الشمس بأحد عشر قسماً أنّه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا حتى قيل أوجب الواجبات الأخلاق الحسنة والمحمودة.

ثمّ البدن ماديّ فانٍ، وكل من على الأرض فانٍ، والروح مجرد باق، وإذا اتّصفت النفس بشرائف الأخلاق كانت منعّمة في السعادة الأبدية، وإن اتّصفت برذائها كانت في الشقوة والعذاب مخلّدةً.

فعلى المرء الواعي أن يهذّب نفسه ويزكّي أخلاقه ويعالج أمراضه قبل فوات الأوان، كما أنّ المريض ينبغي له أن يُعالج بدنه وصحته، وكل شي ء إنّما يعالج بضدّه، فإنّ علاج اليابس بالرطب والرطب باليابس والحار بالبارد والبارد بالحار، وهكذا أمراض الأخلاق، فإنّه يعالج مرض الجهل بالعلم، والبخل بالسخاء، والكبر بالتواضع، ومرض الشرّه بالكفّ عن الشهوات، ومرض الرياء


1- القلم: 4.

ص: 76

بالإخلاص. وإن كان يستلزم ذلك التكلّف والمرارة، فإنّه من أراد أن يُعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء وأن يصبر عن المُشتهيات، وكذلك الروح فلابدّ من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر، فإنّه سيّد الأخلاق، فيصبر على فعل الطاعات والعبادات وترك المعاصي والآثام، ليداوي بالصبر أمراض القلوب، وإنَّ علاجها أولى من علاج الأبدان، فإنَّ مرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكن مرض الروح- والعياذ باللَّه- يدوم بعد الموت أبداً، فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنّه سيندم يوم لا ينفعه الندم.

ثمّ أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه ويرى عيوبها ومهلكاتها، فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته، لم تخف عليه عيوبه. ومن عرف الأمراض والعيوب يسهل عليه التداوي والتخلّص منها. وأكثر الناس جهلوا عيوب أنفسهم، ويرون القذى في أعين الآخرين، ولا يرون الجزع في عيونهم.

فلابدّ من الاعتدال والحكمة بلا افراط ولا تفريط، بل خير الامور أوسطها، فإنّ الاعتدال في الأخلاق هو صحّة القلب والنفس والروح، والميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهو المرض والسقم الذي يخاف منه، فعلاج النفس بمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عن النفس، وكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، ثمّ بعد تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة وتحليته بالأخلاق الفاضلة، ثمّ يسعى من أجل تجليتها وصيقلتها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار اللَّه وكونه، وإنّ امور الناس ترجع إلى ربهم كما رجوع الإنسان إليه، فهو الكمال المطلق ومطلق الكمال المستجمع لجميع الصفات الكمالية والجمالية والجلالية بلا نهاية ولا بداية، فهو الأوّل وهو الآخر.

ثمّ الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنّما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، وكذلك الروح فكلّ مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، وإنّما المحيط

ص: 77

والتربية والتعلّم والتعوّد لها الأثر البالغ في اكتساب الإنسان الرذائل والآثام.

ولمّا كان البدن في ابتداء خلقه لم يخلق كاملًا، وإنّما ينمو ويكمل وتقوى القوى بالنشوء والتربية بالغذاء والماء، فكذلك النفس تخلق ناقصة، إلّاأنّها قابلة للتكامل المنشود في جبلته، والذي خُلق من أجله، ليصل بجهده وجهاده إلى كماله وأن يكون مظهراً لأسماء اللَّه وصفاته.

وإنّما تكتمل النفس بالتزكية وتهذيب الأخلاق وتغذيتها بالعلم النافع والعمل الصالح والإيمان الراسخ. وإذا كان البدن صحيحاً، فشأن الطبيب حينئذٍ تمهيد القانون وبيانه الحافظ للصحة، وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحّة إليه، فكذلك النفس، فإن كانت سليمة وزكيّة ومهذّبة الأخلاق، فينبغي السعي من أجل حفظها وسلامة صحّتها وبقائها واكتساب زيادة صفائها وجلائها، وإن كانت عديمة الكمال فاقدة للصفاء الروحي، فينبغي الجهد المتواصل لجلب الصحّة النفسيّة إليها.

هذا ومن أمراض القلب الخطرة جداً هو الرياء في النوايا والعمل، فإنّه كدبيب نملة سوداء في ليلة ظلماء على صخرة صلداء فمن يحسّ بدبيبها؟

ويُقابل الرياء الإخلاص، والأعمال بالنيّات- كما ورد في الخبر- ولكل امرئ ما نوى، والنيّة من عمل الجوانح وهو القصد القلبي نحو العمل المقصود إتيانه والمنشود فعله. ولو كانت النيّة خالصة للَّه سبحانه فإنّها توجب قبول الأعمال، فإنّ الكلم الطيّب- وهو الذي فيه الإخلاص كما ورد في الأثر- يصعد إلى اللَّه سبحانه، وإنّما يتقبّل اللَّه من المُتّقين، والإخلاص أساس التّقوى.

وإنّ الشيطان الرّجيم عدوّ الإنسان قد قعد له هو وأعوانه وحزبه بالمرصاد، ليضلّ الناس ويغويهم قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُمخْلَصِينَ (1)


1- سورة ص: 82- 83.

ص: 78

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «طوبى للمُخلصين أولئك مصابيح الهُدى وتنجلي عنهم كلّ فتنة ظلماء!» (1).

وقال صلى الله عليه و آله: «العُلماء كلّهم هلكى إلّاالعاملون، والعاملون كلّهم هلكى، إلّا المخلصون والمخلصون على خطر».

وقال صلى الله عليه و آله: «إذا عملت عملًا فاعمل للَّه خالصاً لأنّه لا يقبل من عباده الأعمال إلّاما كان خالصاً».

وقال صلى الله عليه و آله: «ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنّما الصلاة إخلاصك، وإن تُريد بها وجه اللَّه».

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «العمل كلّه هباء إلّاما اخلص فيه».

وقال عليه السلام: «ضاع من كان له مقصد غير اللَّه».

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «ولابدّ للعبد من خالص النيّة».

وقال اللَّه تعالى عن لسان نبيّه: قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (2).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ أن يحمد على شي ء من عمل للَّه».

وقال صلى الله عليه و آله في حديث: «أمّا علامة الُمخلص، فأربعة: يسلم قلبه وتسلم جوارحه وبذل خيره وكفّ شرّه».

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «مَن لم يختلف سرّه وعلانيته وفعله ومقالته، فقد أدّى الأمانة وأخلص العبادة».

قال أبو حامد الغزالي في إحياء العلوم في بيان حقيقة الإخلاص- بعد أن ذكر


1- كنز العمّال خ 5268- الدر المنثور 2: 237.
2- الزمر: 11- 12.

ص: 79

أقوال المشايخ فيها-: الأقاويل في هذا كثيرة ولا فائدة في تكثير النقل بعد انكشاف الحقيقة، وإنّما البيان الشافي بيان سيّد الأوّلين والآخرين، إذا سُئل عن الإخلاص فقال: (هو أن يقول ربّي اللَّه ثم يستقيم كما امرت) أي لا تعبد هواك ونفسك، ولا تعبد إلّا ربّك وتستقيم في عبادته كما أمرك- إياك نعبد وإيّاك نستعين- وهذه إشارة إلى قطع كلّ ما سوى اللَّه عزّوجل من مجرى النظر وهو الإخلاص حقّاً.

ثمّ من آثار الإخلاص في حياتنا الفرديّة والاجتماعيّة، وفي العلميّة والعمليّة، هو تفجّر ينابيع الحكمة وجريانها من قلب الُمخلص على لسانه.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «قال اللَّه عزّوجل: لا أطلّع على قلب عبد فأعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلّاتوليت تقويمه وسياسته».

وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «غاية الإخلاص الخلاص. والُمخلص حريّ بالإجابة، وعند تحقّق الإخلاص تستنير البصائر، وبالإخلاص تُرفع الأعمال، وفي إخلاص النيّات نجاح الامور، ومن أخلص بلغ الآمال، أخلص تنل».

حريّ أن نكتب هذه الكلمات بأقلام من نور على وجنات الحور، فما أروع قوله عليه السلام: أخلص تنل. كلمتان فقط، ولكن فيها ما فيها من الأسرار والحِكَم والحقائق، فإنّ الإنسان إنّما ينال ما ينال بالإخلاص.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ المؤمن ليخشع له كلّ شي ء، ويهابه كلّ شي ء، ثمّ قال: إذا كان مخلصاً للَّه أخاف اللَّه منه كلّ شي ء حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء».

ثمّ يا هذا هل بعد الإخلاص من مقصود ومنشود؟

وقد قال الإمام الباقر عليه السلام: «ما بين الحقّ والباطل إلّاقلّة العقل- أي من يختار الباطل فهذا من قلّة عقله- قيل وكيف ذلك ياابن رسول اللَّه؟ قال: إنّ العبد يعمل الذي هو للَّه رضىً فيريد به غير اللَّه، فلو أنّه أخلص للَّه، لجاءَه الذي يريد

ص: 80

في أسرع من ذلك» (1)

.

هذا في الإخلاص الذي هو من جنود العقل، ويقابله الرياء، الذي هو من جنود الجهل، وقد قال اللَّه تعالى في محكم كتابه ومبرم خطابه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (2)

.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «لابن مسعود: يابن مسعود إيّاك وأن تظهر من نفسك الخشوع والتواضع للآدميين. وأنت فيما بينك وبين ربّك مصرّ على المعاصي والذنوب، يقول اللَّه تعالى: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».

وقال: «أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أنّ فيه خيراً ولا خير فيه» (3)

.

قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: «المرآئي ظاهره جميل وباطنه عليل».

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «إيّاك والرياء فإنّه من عمل لغير اللَّه وكّله اللَّه إلى من عمل له».

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فإذا صعد بحسناته يقول اللَّه عزّوجل: اجعلوها في سجّين إنّه ليس إياي أراد به.

وفي حديث آخر: تصعد الحفظة بعمل العبد مبتهجاً به، فيطأُون الحجب كلّها حتى يقوموا بين يدي اللَّه فيشهدوا له بعمل صالح ودعاء فيقول اللَّه تعالى: أنتم حفظة عمل عبدي، وأنا رقيب على ما في نفسه، إنّه لم يردني بهذا العمل عليه لعنتي.

وقال صلى الله عليه و آله: «إنّ المرائي يُنادى يوم القيامة: يا فاجر يا غادر يا مرائي، ضلّ عملك وبطل أجرك، اذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له».


1- الروايات التي ذكرتها إنّما نقلتها من كتاب ميزان الحكمة المجلد الثالث، فراجع.
2- الأنفال: 47.
3- كنز العمال: ح 7485.

ص: 81

وقال الصادق عليه السلام: «ما على العبد إذا عرفه اللَّه ألّايعرفه الناس؟ إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن عمل للَّه كان ثوابه على اللَّه وإن كلّ رياء شرك».

قال اللَّه عزّوجل كما في حديث قدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري فأنا منه بري ء فهو للذي أشرك».

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه تعالى لا يقبل عملًا فيه مثقال ذرّة من رئاء».

وقال: يابن مسعود: إذا عملت عملًا من البرّ وأنت تريد بذلك غير اللَّه، فلا ترج بذلك منه ثواباً، فإنّه يقول: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً.

وعن شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه و آله يبكي، فقلت: يا رسول اللَّه ما يبكيك؟ فقال: «إني تخوّفت على أُمّتي الشرك أما إنّهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولكنهم يراءون بأعمالهم».

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «يُجاء بعبد يوم القيامة قد صلّى فيقول: يا ربّ صلّيت ابتغاء وجهك، فيقال له: بل صلّيت ليُقال ما أحسن صلاة فلان اذهبوا به إلى النار».

ولكلّ شي ء علامة، وقد جاء في علامة المرائي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أمّا علامة المرائي فأربعة: يحرص في العمل للَّه إذا كان عنده أحد، ويكسل إذا كان وحده، ويحرص في كلّ أمره على المحمدة، ويحسن سمته بجهده».

وقال الإمام الباقر عليه السلام: «الإبقاء على العمل أشدّ من العمل». قال الراوي وما الإبقاء على العمل؟ قال: يَصلَ الرجل بصلة، وينفق نفقة للَّه وحده لا شريك له، فتكتب له سرّاً، ثمّ يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثمّ يذكرها فتمحى وتكتب له رياء».

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وصف المؤمن: «لا يعمل شيئاً من الخير رياءً ولا يتركه حياءً».

ص: 82

وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام: «كلّ حسنة لا يُراد بها وجه اللَّه تعالى، فعليها قبح الرياء وثمرها قبح الجزاء».

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «ما كان من الصدقة والصلاة والصوم وأعمال البرّ كلّها تطوّعاً فأفضلها ما كان سرّاً، وما كان من ذلك واجباً مفروضاً فأفضله أن يعلن به» (1).

فالرياء حرام والمرائي عند اللَّه سبحانه ممقوت ومغضوب عليه وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار كما ذكرنا.

هذا غيض من فيض في أخبار الإخلاص والرياء وبيان حدودهما، وما يترتب عليهما من الآثار في الدنيا والآخرة.

وبعد هذه الوقفة العاجلة في رحاب عظمة الأخلاق الإسلامية ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وإنّما منشؤهما ومحطّهما هو القلب، فإنّه العالم باللَّه وهو العامل للَّه، والساعي والمخلص والمتقرب إليه، وهو الكاشف بما عند اللَّه ولديه، وإنّما الجوارح أتباع له وخَدَم والآت يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة، فهو المقبول عند اللَّه إذا سلم من غير اللَّه، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقاً بغير اللَّه، فهو الُمخاطب وهو المُطالب وهو المُثاب والمُعاقب، فيفلح الإنسان إذا زكّاه ويشقى ويخيب إذا دَنّسهُ ودسّاه، وهو المطيع للَّه بالحقيقة، وإنّما الذي يظهر على الجوارح الظاهرية من العبادات أنواره، فهو سلطان البدن، وهو العاصي المتمرّد على اللَّه، وإنّما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره وبظلمانيته ونورانيته تتجلّى المحاسن الظاهرية ومساويها، فإنّ كل إناء بما فيه ينضح، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه عرف ربّه، فتارةً يهوى إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل


1- نقلنا الروايات من ميزان الحكمة 4: 22 فراجع.

ص: 83

أضلّ سبيلًا، واخرى يصعد إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه، فهو ممّن قال اللَّه تعالى فيه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (1)

. فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين وأساس السالكين، فلا تغفل

فلابدّ للمؤمن أن يخلص في نواياه وأعماله وحركاته وسكناته، حتى يلقى اللَّه وليس في قلبه سواه وذلك هو القلب السليم، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

الإخلاص في الحجّ:

بعد هذه الكلمة الموجزة لأهمية الإخلاص في أعمالنا وعباداتنا، نأتي لنبيّن أهمية الإخلاص في فريضة الحج بشكل موجز، فالحاج سواء أكان مؤمناً أم مؤمنةً لابدّ له من الإخلاص في مناسكه وحجه وعمرته... فإن الحجّ من فروع الدين ومن العبادات وشرطها الأوّل النيّة الخالصة متقرّباً إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

الحجّ من العبادات الدينية والسياسيّة والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة، روحياً وبدنيّاً، فرديّاً واجتماعياً، في جميع جوانب الحياة مع العبادة والاقتصاد والسياسة والثقافة والحضارة والاخوّة الإسلامية وغير ذلك.

ويكفي في شرافة الحجّ ومقامه الشامخ في الدين الإسلامي الحنيف، أنّه أحد الأركان التي بُني عليها الإسلام، فهو من الاسس الأوّلية التي يعلو عليها الإسلام العظيم، وتتجلّى فيه روح المحبّة والاخوّة والصفاء وحكومة الروحانيات على الماديّات، وكل مسلم متحمّس لدينه يرى في حجّه وعمرته، أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، وأنّ هذا الدين القيّم لو تمسك به أهله حقّ التمسّك وطبّقوه في كل زوايا


1- الحشر: 19.

ص: 84

حياتهم لحكم العالم ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ولو كره المشركون.

فإنّ الإنسان الضائع والبشرية التائهة، تجد انشودتها وسعادتها في هذا الدين، فهو يتكفّل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة.

فالحجّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه وكرامة المسلمين وشرفهم، فليس لُامّة وملّة من الامم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم والمشهد السنوي الكبير الحافل بالخيرات والبركات؛ ليشهدوا منافع لهم، ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم وطوائفهم وأشكالهم وألوانهم ولغاتهم، ولا يتميز غنيّهم عن فقيرهم ورئيسهم عن مرؤوسهم، كل واحد منهم اتزر برداء وارتدى بآخر؛ ليلبّي دعوة اللَّه التي يدوي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1)

.

فالحج فلاح وصلاح، وقد أفلح من أقامه ورفع بنيانه كما أمر الشارع به، وإنّما ركّز القرآن الكريم ورسول اللَّه الأعظم صلى الله عليه و آله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام على الحجّ؛ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي، وأنّه يحتوي على كثير من العبادات والفضائل الأخلاقيّة والخير والإحسان الاجتماعي والثواب الأخروي، فإنّه من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين فيه.

قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «من مات ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّاً، وإن شاء نصرانيّاً» (2).

فالحجّ نقلة اجتماعية ورحلة جماهيريّة يتّجه فيها الناس من كل صوب ومكان لأداء فريضة إلهيّة واجبة، في مكان مقدّس واحد هو أشرف بقاع الأرض مكّة المكّرمة، وفي زمان واحد من الأشهر الحرم وهو ذو الحجّة المبارك، ليمارسوا


1- الحج: 27.
2- تفسير ابن كثير 1: 386.

ص: 85

شعائر موحّدة ومناسك دينيّة وطقوساً خاصّة، تجرّد الإنسان عن عالم الماديّات، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني، بلا نهاية إلى الرفيق الأعلى قاب قوسين أو أدنى.

ولكن نوايا الناس مختلفة، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره وأستاره، فقد روي في خبر من طريق أهل البيت عليهم السلام «إذا كان آخر الزمان، خرج الناس للحجّ أربعة أصناف: سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمّعة» (1)

.

فليس كلّ من حجّ بيت اللَّه الحرام نال الكمال وبلغ العُلى، بل بشرطها وشروطها والإخلاص أوّل شروطها.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «الحجّ حجّان: حجّ للَّه وحجّ للناس، فمن حجّ للَّه كان ثوابه على اللَّه الجنّة، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة» (2).

ولا يخفى من يدخل الجنّة فهو من السعداء لقوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا (3)

.

فمن كان سعيداً في حجّه، إنّما يخلص للَّه في مناسكه ويبتغي وجه اللَّه في أعماله، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة، فإنّ الدنيا الدنيّة دار ممر، وأهل الدنيا لا وفاء لهم، وفي الآخرة كلّ ينادي وانفساه، وكل يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤيه. فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير اللَّه سبحانه، كما ورد في الخبر الذي مرّ.

قال الإمام الصادق عليه السلام: «من حجّ يريد به اللَّه ولا يريد به رياءً وسمعةً،


1- المحجة البيضاء 2: 189 أخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه، ورواه أبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني.
2- من كتاب ميزان الحكمة 2: 276.
3- هود: 108.

ص: 86

غفر اللَّه له البتّة (1)

- أي قطعاً-».

فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي: يا حاج فلان ويا حاجّة فلانة، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم، لم يصبه من حجّه إلّاالتعب والنّصب، والأعمال العباديّة تبطل بالرياء، فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذٍ. فهل بعد هذا إلّا الإخلاص في النوايا والعمل؟!

ختامه مسك:

ولنختم الموضوع بما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أسرار الحجّ ودقائقه وعلّو معانيه وسموّ مفاهيمه.

روي في مصباح الشريعة عنه صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آبائه وأولاده الطاهرين أنّه قال: «إذا أردت الحجّ، فجرّد قلبك للَّه تعالى من كلّ شاغل وحجاب كلّ حاجب، وفوّض أُمورك كلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما تظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدوّاً ووبالًا، فإنّ من ادّعى رضا اللَّه واعتمد على ما سواه، صيّره عليه وبالًا وعدوّاً؛ ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة، ولا لأحد إلّابعصمة اللَّه وتوفيقه.

فاستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض اللَّه وسنن نبيّه صلى الله عليه و آله، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع، وأحرم من كلّ شي ء يمنعك عن ذكر اللَّه ويحجبك عن طاعته، ولبِّ بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة


1- من كتاب ميزان الحكمة 2: 276.

ص: 87

زاكية للَّه تعالى في دعوتك، متمسكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرولة من هواك، وتبرّأ من حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلّاتك بخروجك إلى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند اللَّه تعالى بوحدانيته، وتقرّب إليه، واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارمِ الشهوات والخساسة والدناءة والذميمة عند رمي الجمرات، وأحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان اللَّه وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم، ودُر حول البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضا بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ما سواه بطواف الوداع، واصف روحك وسرّك للقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن بمرأىً من اللَّه نقيّاً أوصافك عند المَروة، واستقم على شرط حجّتك هذه، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك، وأوجبته له إلى يوم القيامة، واعلم بأنّ اللَّه تعالى لم يفرض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (1)

. ولا شرع نبيّه سُنّةً من خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلّاللاستعانة والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من الدخول في الجنّة أهلها، ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أولها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهى (2).

انتهى كلامه صلوات اللَّه عليه وسلامه، واغتنموا الفرص يا ضيوف الرّحمن ويا حجّاج بيت اللَّه الحرام، وإنّما يتقبّل اللَّه من المُتّقين الُمخلصين.


1- آل عمران: 97.
2- المحجّة البيضاء 2: 207.

ص: 88

قاعدة التقية و فقه الحج و الزيارة

قاعدة التقية وفقه الحج والزيارة

حسن محمّد سليمان

تمهيد

بما أن فريضة الحج و زيارة المراقد المقدسة في مكة والمدينة تعدّ مساحة واسعة لتلاقي أتباع المذاهب الاسلامية المتعددة، ولتماسّ واحتكاك أبنائها بشكل واضح و جليّ، ونظراً لمايسببه أي تصرف قولًا أو فعلًا مما يستغربه الآخرون، بل مما قد يستنكرونه و يعيبونه و ينهون عنه، وبالتالي قد يقع سبباً للاختلاف والنزاع و الفتن بين أبناء الأمة الواحدة... إضافة الى مابنيت عليه هذه القاعدة أساساً من دفع الضرر، وما يؤدّي إلى الفساد والنزاع، وهو مايتضح لنا من خلال الحديث عنها وعن أدلتها، وأنّ العقل و الشرع أقرّ هذه القاعدة، فهي إذن قاعدة عقلية شرعية هدفها حفظ النظام بين الناس والتآلف بينهم...

فقد جاءت هذه القاعدة لدرء أي خلاف أو فتنة أو نزاع... و لتضييق الفجوة بين أبناء الأمة الواحدة، إن لم يكن الغاؤها، تمهيداً لإرساء دعائم الوحدة الاسلامية وجعلهافوق كلّ خلاف، سواء أكان على مستوى الفروع و الأحكام أم الموضوعات و المواقف..، فقاعدة التقية التي طالما أكدها أئمة أهل البيت و بيّنوا دورها الواسع، فيما راحوا من جهة أخرى يؤكّدون على أتباعهم و مريديهم من

ص: 89

شيعتهم الالتزام بها في تلك المواقع و الأماكن، بل جعلوا مخالفتها في بعض الأمور مبطلة لأصل العمل، إضافة الى ما يترتب على ذلك من إثم... حفظاً للوحدة بين المسلمين. وأنّ الوحدة أهم بكثير من إظهار فرع من الفروع، أو معتقد من المعتقدات؛ حتى وإن كان حقاً لا ريب فيه.

ولا يعني هذا عدم السماح بأن يظهر الانسان الشيعي معتقده وآراءه للآخرين، ويدعو لها، بل له أن يدعو لآرائه و أفكاره بشرط الحكمة والموعظة الحسنة، وبعيداً عن الإثارة والتعصب، وكلّ ما من شأنه خلق الانفعالات و الاختلافات وما يسيئ الى وحدة الصف، التي هي أهم من كلّ شي ء.

لقد وجدت أنّ هذه القاعدة، المعروفة من بين كثير من القواعد الفقهية، التي يعتمدها الفقهاء في أحكامهم و فتاواهم، وجدت هذه القاعدة تتجلّى فيما يخصّ فريضة الحج، بل و التواجد المستمر في البقاع المقدسة، سواء لأداء الحج فرضاً أو استحباباً، أو العمرة وزيارة النبي صلى الله عليه و آله و البقاع المقدسة الأخرى للأئمة عليهم السلام...

ولهذه القاعدة دور مهم في كلّ مايصدر من الفقهاء سواءً أكان أحكاماً وفتاوى، أم في تحديد مواقف الشيعة و آرائهم... التي لابد من أن تنبثق من هذه القاعدة، وتصدر على ضوئها؛ لما يترتب على ذلك كله من أهداف كبرى و غايات نبيلة تصب في صالح الاسلام و المسلمين...

فهذا الذي جعلني أفرد لهذه القاعدة بحثاً خاصاً يتصف بالاختصار، بحثاً يتناول معناها وأدلتهاو مصاديقها الخاصة، وبعض الأمور التي تتعلق بها...

فمصاديق هذه القاعدة، يمكن أن تقع في نواح أخرى وأماكن غير الحجاز، إلّا أنّ مصاديقها كثرت في هذه الأمكنة، لخصوصياتها الكثيرة ولأنها الملتقى العام لأبناء المذاهب الاسلامية، ومحل ابتلاء أبناء الطائفة الشيعية بالخصوص، ولأنّ الحج هوالمحك الذي يطّلع من خلاله اتباع كلّ مذهب على ما عند المذهب الآخر

ص: 90

من أعمال يتفرد بها، وأمور يختص بها و آراء يدافع عنها ومواقف يتمسك بها...

قد لا تروق للطرف الآخر أو لأكثرية المسلمين... ممّا قد يخلق الإعلان عنها والتجاهر بها حالة من التنفر والفرقة، بل قد تؤدي الى أمور أخرى عواقبها غير محمودة أبداً.

إنّ من يزعم أنّه لم يجد أسسها في قرارة نفسه، ولم يعثر عليها في مطاوي كيانه، فإنه يجدها بمعالمها في حياته اليومية.

فالتقيّة قبل أن تكون حالةً شرعيةً، التزم بها قوم، واستنكرها عليهم آخرون إمّا جهلًا منهم، وإمّا بغضاً لهم، وإما لدوافع سياسية وأخرى طائفية...

فهي حالة طبيعية فطرية، يعيشها الإنسان بذاته، في إطار علاقاته مع الآخرين أصدقاء كانوا أو أعداءً...

فجاءت الشريعة المقدسة غير منكرة لها بل مقرّة بها، واضعةً لها أهدافاً عاليةً، ومصالح كبيرةً، على مستوى الفرد والأمّة، وسنّت لها شروطاً وأحكاماً، وحدّدت دائرة عملها، حتى غدت أسلوبَ عملٍ ناجحٍ في خدمة ديننا الإسلامي والدعوة إليه والدفاع عنه، وباب خلاصٍ يلجه المضطرون، وطريقة لمعايشة الاخوة من أبناء الأمة والطائفة الواحدة، ومداراتهم؛ لحفظ كيان الأمة من الضياع في فتنٍ لاتنفع إلّاأعداءها، وإبعادها عن كلّ ما يسبب إرباكاً لها وانقساماً لأبنائها طوائف مختلفة، فتكون لقمةً سائغة للمتربصين بها...

فالتقية

تارةً: تأتي مشروعاً واعياً للدعوة إلى اللّه تعالى... ولحفظ الأمة الإسلامية ووحدتها وكيانها العام.

وأخرى: تأتي لحفظ النفوس من أن تزهق، والدماء من أن تراق.

وثالثة: لحفظ الكرامة والأعراض والأموال.

وقد يعيشها المؤمن سنين طويلة طالما أنّ هناك أذًى يخاف وفتنةً تخشى. وقد

ص: 91

يعيشها لحظات، شريطة أن لا يتغير إيمانه ولا يضعف، بل يزداد صموداً وبقاءً.

إنّها رخصة يستفيدها المؤمن من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومواقف جهادية... تفضّلت بها السماء علينا، فما علينا إلّاأن نحسن التعامل معها بما يكون دافعاً لنا نحو كدحٍ متواصل للقاء اللّه تعالى ونيل رضاه.

هذا، ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الطائفة الشيعية استفادت من التقيّة عبر تأريخها، واستخدمتها أكثر من غيرها حتى كادت تختصّ بها. وهذا أمر طبيعي، فإذا ما تتّبع باحث حياتهم؛ لوجدها تعرّضت إلى ما لم يتعرض له الآخرون، فالمطاردة والتنكيل، والسجون والتعذيب، والتقتيل بأشكاله البشعة، كلّها ممارسات قذرة تلطّخت بها أيدي الطغاة والظالمين، وصبّت على أبناء هذه الفئة من المسلمين، لا لشي ء إلّالأنهم من الموالين للإمام عليٍّ وللعترة النبوية الطاهرة، ولأنهم رفضوا الظلم والظالمين، وامتنعوا من الانصياع لهم، فكان طبيعياً أن يضطروا إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب، الذي هو طريقة شرعية للحفاظ على كيانهم وبقائهم، وبالتالي مواصلة جهادهم...

ولا أظنّ أنّ هناك شخصاً أو جماعةً لاتلوذ بهذا الأسلوب، ولا تلجأ إليه، إذا ما ابتلوا ببعض ما ابتليت به الشيعة عبر مسارها الجهادي الطويل...

وإذا ما استطاع الإنسان أن يظهر ما يراه ويعمل به بعيداً عن الأذى والملاحقة... فإنه لايلجأ إلى التقية، ولا تحبذ له الشريعة بل ولا تجيز له ذلك..

ومع هذا كلّه فإن كلمةالحقّ و التصريح بها يبقى هو الأعظم ثواباً و الأكبر أجراً ...

فلنقف أولًا عند أدلة هذه القاعدة و مصاديقها:

فأدلّة هذه القاعدة قد توزّعت بين آيات قرآنية، وأخرى روائية، وثالثة حكم العقل؛ وتسالم الفقهاء، ورابعة مواقف و أهداف.

وقبل أن نلج هذه الأدلة؛ لنتبين دلالتها على ما نحن فيه من صحة هذه القاعدة

ص: 92

وسلامتها، نعرض قليلًا لمعناها اللغوي و الاصطلاحي، وإلقاء ضوءٍ على قاعدة التقية ومرادها وأهميتها، وسعة دائرتها كما يذهب إلى هذه السعة الإماميّة بالذات.

*** التقيّة لغةً:

التقيّة مصدر من اتقى يتقي؛ كما قال الفيروز آبادي: اتقيت الشي ء، وتقيته أتقيه، وأتقيه تقًى وتقيّة وتقاء ككساء: حذرته. والاسم: التقوى، أصله: تقيا قلبوه؛ للفرق بين الاسم والصفة كخزياً وصدياً (1).

قال الجوهري: والتقاة: التقيّة، يقال: اتقى تقيّة وتقاة، مثل اتخم تخمة (2).

فيما قال الزبيدي: وقوله تعالى إلّاأن تتّقوا منهم تقاة يجوز أن يكون مصدراً، أو أن يكون جمعاً، والمصدر أجود؛ لأنّ في القراءة الأخرى منهم: تقيّة. التعليل للفارسي. كذا في المحكم، وفي التهذيب قرأ حميد تقيّة، وهو وجه، إلّاأنّ الأُولى أشهر (3). هكذا عن ابن منظور في اللسان (4).

قال أبو البقاء العكبري: وأصل تقاة: وقية، فأبدلت الواو تاءً لانضمامها ضمّاً لازماً، مثل نحاة، وأبدلت الياء ألفاً لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، وانتصابها على الحال، ويقرأ: تقيّة ووزنها: فعيلة، والياء بدل من الواو أيضاً (5).

التقية اصطلاحاً:

وأمّا في الاصطلاح فللفقهاء عبارات مختلفة في تعاريفها، تتقارب مضامينها.


1- القاموس المحيط: 4/ 401.
2- الصحاح: 6/ 2527.
3- تاج العروس: 10/ 397.
4- لسان العرب: 51/ 402.
5- أملاء ما من به الرحمن: 1/ 130.

ص: 93

فقد عرّفها الشيخ المفيد بقوله: التقيّة كتمان الحقّ وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا (1).

فيما عرفها الشهيد الأوّل بقوله: التقيّة مجاملة الناس بما يعرفون، وترك ما ينكرون حذراً من غوائلهم (2).

وقال الشيخ الأنصاري في رسالته في التقيّة: والمراد هنا التحفّظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ (3).

وأما السيّد البجنوردي فقد قال: هي عبارة عن إظهار الموافقة مع الغير في قول، أو فعل، أو ترك فعل يجب عليه، حذراً من شرّه، الذي يحتمل صدوره بالنسبة إليه، أو بالنسبة إلى من يحبّه مع ثبوت كون ذلك القول، أو ذلك الفعل، أو ذلك الترك مخالفاً للحقّ عنده (4).

ولا يخفى أنّ هذه التعريفات وإن كان بعضها أوسع من بعض؛ ولكن يجمعها كلّها أنّ التقية موافقة الغير فيما خالف الحقّ، حذراً من شرّه.

أدلة مشروعية التقية

تتوزع أدلة هذه المشروعية بين أدلة قرآنية، وأخرى روائية، إضافة إلى حكم العقل، وتسالم الفقهاء.

أولًا: الآيات القرآنية

نكتفي هنا بذكر آيتين فقط؛ لأنهما الأوضح دلالةً على تشريع التقية مع أسباب نزولهما، لتتضح لنا دلالة كل آية منهما على المطلب المذكور.


1- تصحيح الاعتقاد: 66.
2- القواعد والفوائد: 2/ 155.
3- رسالة في التقيّة للشيخ الأنصاري: 37.
4- القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي: 5/ 47.

ص: 94

قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شي ء إلّاأن تتقوا منهم تقاة ويحذركم اللّه نفسه وإلى اللّه المصير (آل عمران: 28)

سبب النزول:

ذكر جمع من المفسّرين أسباباً متعددة لنزول هذه الآية، ولكن مع تعددها اتفقت على أنّ بعض المسلمين، كانت تربطهم بيهود المدينة علاقات حميمة تتصف بالصفاء والمودة، بل بالولاء لهم، وتقديمهم على المؤمنين...

جاء قوم من اليهود، وكان منهم الحجاج بن عمر حليف كعب الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن سعد، قد بطنوا (سارّوا وصافّوا) نفراً من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم.

قال رفاعة بن المنذر، وعبدالرحمن بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلّامباطنتهم ولزومهم. فأنزل اللّه تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين... الآية.

فيما ذهب بعض المفسّرين إلى أنّها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، وكانوا يتولون اليهود والمشركين، ويخبرونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول اللّه، أو أنّها نزلت في عبادة بن الصامت، وكان له حلفاء من اليهود، ففي يوم الأحزاب قال: يا نبيّ اللّه إنّ معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي... (1).

إذن فالآية، نهت اتباع الرسول صلى الله عليه و آله ومريديه أن يختاروا على المؤمنين بديلًا من الكفار، سواء كانوا أهل كتاب أو غيرهم... فيدلوا لهم بالمودة، ويركنوا اليهم،


1- انظر: تفسير البحر المحيط 2: 440، التفسير الكبير للرازي 8: 11.

ص: 95

وينصروهم، ويتولوهم... لما في هذا كلّه من خطورة على الساحة المؤمنة، وشرخ للحالة الإسلامية، وإضعاف لها، ولما يسببه هذا التقرب من استحسان لهم، والتأثر بهم والرضا بما هم عليه من دين...

ولهذا نتائج سلبية خطيرة على المجتمع المسلم، الذي تريد السماء أن يبقى متماسكاً بتماسك أفراده وبتولي بعضهم والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض فجاءت هذه الآية، وغيرها من آيات تحمل نهياً صريحاً، والتي منها لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، يا أيّها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.

فالآية بعد أن رفضت هذا التولي، وحذّرت منه، وهدّدت فاعليه بالإخراج من ولاية اللّه تعالى، وما يستتبعه من عقوبة صارمة...

وضعت الآية استثناءً للتولي المذكور: إلّاأن تتقوا منهم تقاة فانطلقت مشروعيةالتقية من هذاالمقطع. فلنقف على أقوال بعض المفسّرين فيه من الفريقين.

يقول الطبرسي في تفسيره لهذه الآية:

والمعنى إلّاأن يكون الكفار غالبين، والمؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، ولم يحسن العشرة معهم، فعندئذ يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه، ومداراتهم تقيّةً منه، ودفعاً عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك...

ثمّ واصل كلامه بقوله: وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس.

ثمّ أردف قائلًا: وقال أصحابنا: إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة، وربما وجبت فيها؛ لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنّه استفساد في الدين (1).


1- مجمع البيان للطبرسي في تفسير الآية.

ص: 96

أما الفخر الرازي في تفسيره للآية، فيقول، وهو يعدّد بعض أحكامها:

إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه وماله، فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه، وأن يعرض في كلّ ما يقول، فإنّ التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

ثمّ ذكر حكماً آخر: وهو أنّه لو أفصح بالإيمان والحقّ حيث يجوز له التقية، كان ذلك أفضل، ودليله ما قاله الحسن:

أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال لأحدهما:

أتشهد أنّ محمداً رسول اللّه؟

قال: نعم.

فقال: أفتشهد أنّي رسول اللّه؟

قال: نعم. وكان مسيلمة يزعم أنّه رسول بني حنيفة، ومحمّد رسول قريش.

فتركه ودعا الآخر فقال:

أتشهد أنّ محمداً رسول اللّه؟

قال: نعم.

قال: أفتشهد أنّي رسول اللّه؟

فقال: إنّي أصمّ! قالها ثلاثاً.

فقدمه، فقتله.

فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال: أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئاً له.

وأما الآخر فقبل رخصة اللّه، فلا تبعة عليه.

ثمّ قال: إنما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة والمعاداة، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلّق بإظهار الدين، فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا، وغصب

ص: 97

الأموال، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، واطلاع الكفار على عورات المسلمين، فذلك غير جائز البتة.

وبعد هذا ذكر رأي الشافعي، بعد أن قال: ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقية إنما تحلّ مع الكفار الغالبين، إلّاأنّ مذهب الشافعي (توسّع في دائرتها): إنّ الحالة بين المسلمين، إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين، حلّت التقية محاماةً على النفس.

ثمّ راح يبيّن أنّ التقية لا تأتي فقط لحفظ النفس بل لحفظ المال أيضاً مستدلًاّ بأقوال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» و «من قتل دون ماله فهو شهيد».

وأخيراً رجّح قول الحسن على قول مجاهد: «هذا الحكم كان ثابتاً أول الإسلام؛ لأجل ضعف المؤمنين، فأما بعد قوة دولة لإسلام فلا».

فيما قال الحسن: «التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة»

يقول الرازي: وهذا القول أولى: لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان (1).

قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلّامن أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم النحل: 106.

سبب النزول:

نزلت هذه الآية في جماعة من المعذَّبين بمكة وهم: عمّار، وياسر أبوه، وأمّه سمية، وصهيب، وبلال، وخباب، عذّبوا عذاباً شديداً، فأما سمية


1- التفسير الكبير للرازي: 8- 13.

ص: 98

فقيل: ربطت بين بعيرين، ووخزت في قبلها بحربة، وقالوا: إنّك أسلمت من أجل الرجال وقتلت، وقتل ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام، وأول شهيدين.

وأما عمّار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً.

فقيل: يا رسول اللّه، إنّ عماراً كفر.

فقال: كلا إنّ عماراً ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه، أو من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

فأتى عمار رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو يبكي، فقال صلى الله عليه و آله: ما وراءك؟

فقال: شرّ يا رسول اللّه، ما تُركتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.

فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه، ويقول: «مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» وعلى رواية: قال صلى الله عليه و آله له: كيف كان قلبك؟

قال: كان مطمئناً بالايمان... فأنزل اللّه فيه الآية (1).

فاستثنت الآية من صبّ عليه الإكراه، وكان قلبه ينبض بالإيمان، فنطق كلمة الكفر اتقاءً لشرّهم، وتخلّصاً من عذابهم، لا لشي ء غير هذا.

وراح عمار يواصل جهاده المرير حتى قتلته الفئة الباغية، معاوية وجنده، وهو ما أمّله به رسول اللّه صلى الله عليه و آله بقوله: «تقتلك الفئة الباغية»، وقد تجاوز التسعين من عمره.

ولا ريب في أنّ ظاهر الآيتين المذكورتين، بل صريحهما يدلّ دلالة واضحة على مشروعية التقية وجوازها عند الخوف والاضطرار، وليس حكمها منحصراً بمورد نزولها أو بعصر دون آخر، وإنما حكمها مستمر طالما هناك ضرورة للاستعانة بها، واضطرار لا يدفع إلّابها.


1- انظر: مجمع البيان للطبرسي، والتفسير الكبير للرازي في تفسير الآية المذكورة.

ص: 99

وهناك من الآيات ما فيه دلالة على التقية إجمالًا، وهو؛ ما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون (1)، وما فعله أصحاب الكهف (2)...

ثانياً- الروايات

روايات الإمامية:

هناك روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام إن لم نقل بتواترها معنىً، فقد تجاوزت حدّ الاستفاضة، وقد عقد لها الحرّ العاملي في وسائله أبواباً متعدّدة بلغت ثلاثة عشر باباً ضمّت 128 رواية، ذكرت في بعضها كلمة التقية صريحة، فيما ذكر مضمونها في الروايات الأخرى، نذكر قسماً منها من كتاب وسائل الشيعة وغيره:

وقد صرّح في بعض هذه الروايات بأنّه لا دين لمن لا تقيّة له:

قال أبوعبداللّه عليه السلام:... يا معلّى إنّ التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لاتقية له، يا معلّى إنّ اللّه يحبّ أن يعبد في السرّ، كما يحبّ أن يعبد في العلانية، يا معلّى إنّ المذيع لأمرنا كالجاحد به (3).

وقال عليه السلام لأبي عمر: يا أبا عمر، تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له (4).

وعن صحيحة زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام: التقية في كلّ شي ء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللّه له.

وعن الصادق عليه السلام أنه قال: لا دين لمن لا تقيّة له، ولا إيمان لمن لا ورع له (5).


1- انظر سورة غافر: 13.
2- انظر سورة الكهف: 19- 20.
3- المحاسن: 1/ 255 ح 286، والكافي: 2/ 224، ووسائل الشيعة ط، آل البيت: 61/ 204.
4- المحاسن: 1/ 259 ح 309، والكافي: 2/ 217.
5- وسائل الشيعة: 16/ 210، وصفات الشيعة: 3/ 3.

ص: 100

وعن الامام علي بن موسى الرضا عليهما السلام: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، إن أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتقية.

فقيل له: يا ابن رسول اللّه إلى متى؟ قال: إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم خروج قائمنا أهل البيت، فمن ترك التقيّة قبل خروج قائمنا، فليس منّا (1).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: إن التقيّة ترس المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقيّة له.

فقلت له: جعلت فداك، أرأيت قول اللّه تبارك وتعالى: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان»؟

قال: وهل التقيّة إلا هذا؟ (2).

وعنه أيضاً أنّه قال: التقيّة ترس اللّه بينه وبين خلقه (3).

وعنه أيضاً كان أبي عليه السلام يقول: وأيّ شي ء أقرّ لعيني من التقيّة؟! إن التقيّة جُنّة المؤمن (4).

وعن عبد الله بن أبي يعفور أنّه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: التقيّة ترس المؤمن، والتقيّة حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقيّة له (5).

وفي بعضها بأنّ التقيّة من ديني ودين آبائي:

وعن معمّر بن خلّاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر عليه السلام: التقيّة من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقيّة له (6).

وروى الطبرسي عن أبي عبداللّه عليه السلام أنه قال: التقيّة ديني ودين آبائي،


1- كمال الدين: 371 ح 5.
2- قرب الإسناد: 35 ح 114.
3- الكافي 2: 220.
4- الكافي 2: 220.
5- المصدر نفسه 2: 175 ح 23.
6- المصدر نفسه 2: 174 ح 12، ووسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 203 ح 21359.

ص: 101

ولا دين لمن لا تقيّة له، والتقيّة ترس اللّه في الأرض؛ لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الاسلام لقتل (1).

وهناك روايات تحمل مضامين أخرى:

قال أميرالمؤمنين عليه السلام: التقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين (2).

وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: مثل مؤمن لا تقيّة له كمثل جسد لا رأس له (3).

وقال الحسن بن علي عليه السلام: إنّ التقيّة يصلح اللّه بها أمّة، لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمّة، تاركها شريك مَن أهلَكهم (4).

وعن الرضا عليه السلام قال: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، وإن أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتقية (5).

ودلالة هذه الأخبار على جواز التقيّة؛ بل على وجوبها في غاية الوضوح.

ولا يحتاج إلى البيان والإيضاح.

روايات أهل السنة

ولعموم الفرق الإسلامية الأخرى روايات تدلّ دلالةً لا غموض فيها على مشروعية التقية، وصحّة العمل بها، نذكر ما تيسّر لنا منها:

1- قصة عمار بن ياسر التي صارت سبباً لنزول الآية 106 من سورة النحل كما ذكرنا، وقد أطبق المفسّرون وغيرهم على نقلها بعدّة طرق، وإن


1- مجمع البيان: 8/ 521.
2- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 320/ 163، ووسائل الشيعة ط- آل البيت: 16/ 222 ح 21411.
3- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 320/ 162. ووسائل الشيعة ط- آل البيت: 16/ 222 ح 21410.
4- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 321/ 164، ووسائل الشيعة ط- آل البيت: 16/ 222 ح 21412.
5- كفاية الاثر: 270، ووسائل الشيعة ط- آل البيت: 16/ 211 ح 21381.

ص: 102

اختلفت ألفاظها (1).

2- قصة الصحابيين اللذين قتل مسيلمة الكذاب واحداً منهما وأطلق الآخر، وقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيهما: أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه...

فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة اللّه... فلا تبعة عليه.

3- حديث الرفع المشهور بين الخاصة والعامة، والذي استغنى بشهرته عن سنده، فعن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «رفع عن أمتي... وما استكرهوا عليه» (2).

4- وعن ابن عباس أنّه قال: هو أن يتكلم بلسانه، وقلبه مطمئن بالايمان، ولا يقتل، ولا يأتي مأثماً (3).

5- وعن ابن مسعود: ما كان يدرأ عني سوطين إلّاكنت متكلماً به (4).

6- وبرواية القرطبي والرازي... قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل (5).

ثالثاً: حكم العقل

لا أظنّ أن العقل يوجب على الآخرين إظهار عقائدهم إذا لم تترتّب على ذلك فوائد لهم ولما يعتقدون به، فضلًا عمّا إذا ترتّب ضرر سواء أكان ضرراً مادياً أم معنوياً، علماً بأنّ العقل يوجب درء الضرر وإن كان محتملًا، فكيف إذا كان الضرر متيقناً؟!

وسيرة العقلاء واضحة في أنّهم يلومون من يعرض نفسه للضرر دون أي


1- فتح القدير للشوكاني 3: 198، وفتح الباري للعسقلاني 12: 262 وغيرهما من مصادر التفسير والرواية.
2- انظر: الجامع لاحكام القرآن للقرطبي، والتفسير الكبير للرازي وغيرهما في تفسير الآية 106 من سورة النحل.
3- أحكام القرآن للقرطبي: 4: 38، والرازي في تفسيره 8: 13 طبعة دار إحياء التراث.
4- المصدر نفسه: 1: 125.
5- أحكام القرآن للجصاص 5: 14.

ص: 103

فائدة تذكر تعود عليه أو على عقائده أو على من هم من أتباعه ومريديه.

وواضح هنا أنّ دفع الضرر وبالتالي حفظ النفس... أهم بكثير من إظهار المبدا وإن كان حقّاً؛ فتقديم الأهم على المهم حكم عقلي لاريب فيه.

ولا تغيب عن أذهاننا القاعدة الأخرى وهي: (الضرورات تبيح المحظورات)، وخير مصداق لها هو ما نحن فيه، وهل هناك ضرورة أعظم من درء الفتن عن الأمّة، وحفظ كيانها من التمزّق والضياع، وممّا لا يعود عليها إلّابالضرر ونفع الأعداء؟! وأي خطورة أعظم من ذلك كلّه؟!

رابعا: أقوال الفقهاء من الفريقين:

فأما فقهاء الإمامية، فقد اتفقت آراؤهم على مشروعيتها تبعاً للكتاب والسنة وروايات أهل البيت عليهم السلام...، وقد عرفوا بها وكثرت بحوثهم حول التقية وأدلتها وأحكامها وسعة دائرتها، والدفاع عنها بقوة، فلا نطيل الكلام بذكر أقوالهم، وقد ذكر بعض منها في مطاوي البحث.

أقوال علماء أهل السنّة في التقيّة:

نستعرض أقوال جمع من علمائهم و مفسّريهم؛ لتطّلع عليها، و تستخرج دلالاتها بنفسك، وستجد أنّه ليس هناك فروق بين ما يقولونه وما يقوله علماء الإمامية.

قال القرطبي المتوفّى سنة 275 في جامع البيان، في تفسير قوله تعالى: إلّاأن تتّقوا منهم تقاةً:

وقيل: إنّ المؤمن إذا كان قائماً بين الكفّار، فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه، وقلبه مطمئن بالايمان، والتقيّة لا تحلّ إلّامع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم (1).


1- تفسير القرطبي 4: 57.

ص: 104

وقال في موضع آخر من تفسيره: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنّه لا إثم عليه إن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر، هذا قول مالك والكوفيّين والشافعي (1).

قال ابن جرير الطبري المتوفّى سنة 310 في تفسيره: إلّاأن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل (2).

وقال في موضع آخر من تفسيره: التقيّة باللسان من حمل على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية، فتكلّم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالايمان، فلا إثم عليه، إنما التقيّة باللسان (3).

قال أحمد بن محمد أبو جعفر النحّاس المتوفّى سنة 338، في معاني القرآن:

قال ابن عباس: هو أن يتكلّم بلسانه ولا يقتل ولا يأتي إثماً، ويكون قلبه مطمئناً بالايمان.

وقرأ جابر بن زيد ومجاهد وحميد والضحاك إلّاأن تتّقوا منهم (تقيّة) وقال الضحاك: التقيّة باللسان، والمعنى عند أكثر أهل اللغة واحد، وروى عوف عن الحسن قال: التقيّة جائزة للمسلم الى يوم القيامة، غير أنه لا يجعل في القتل تقيّة (4).

قال الجصّاص المتوفّى سنة 370، في أحكام القرآن: بيان معنى التقيّة


1- تفسير القرطبي: 10/ 182.
2- جامع البيان: 3/ 309.
3- المصدر نفسه: 3/ 310.
4- معاني القرآن: 1/ 382.

ص: 105

وحكمها، وقوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة يعني إن تخافوا تلف النفس، أو بعض الأعضاء، فتتقوهم، أخبرنا بإظهار الموالاة من غير اعتقادٍ لها، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ، وعليه الجمهور من أهل العلم.

وقد حدّثنا عبد اللَّه بن محمد بن إسحاق المروزي، قال: حدّثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين.

قال: لا يحلّ لمؤمن أن يتّخذ كافراً وليّاً في دينه.

وقوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة إلّاأن تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك، فجعل التقيّة صلة لقرابة الكافر، وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقيّة، وهو نظير قوله تعالى: من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وإعطاء التقيّة في مثل ذلك، إنّما هو رخصة من اللَّه تعالى، وليس بواجب؛ بل ترك التقيّة أفضل.

قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر، فلم يفعل حتّى قتل: إنّه أفضل ممّن أظهر.

وقد أخذ المشركون خبيب بن عدي فلم يعط التقيّة حتى قتل، فكان عند المسلمين أفضل من عمّار بن ياسر حين أعطى التقيّة وأظهر الكفر.

فسأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن ذلك، فقال (لعمار): كيف وجدت قلبك؟

قال: مطمئنّاً بالإيمان.

فقال صلى اللَّه عليه وسلم: وإن عادوا فعد! وكان ذلك على وجه الترخيص (1).

قال ابن الجوزي المتوفّى سنة 597 في نواسخ القرآن في قوله تعالى: إلّاأن تتقوا منهم تقاة: قد نسب قوم إلى أنّ المراد بالآية اتّقاء المشركين أن يوقعوا فتنة، أو ما يوجب القتل والفرقة، ثمّ نسخ ذلك بآية السيف وليس هذا بشي ء، وإنّما المراد


1- أحكام القرآن: 2/ 12.

ص: 106

من الآية جواز اتّقائهم، إذا أكرهوا المؤمن على الكفر بالقول الذي لا يعتقده، وهذا الحكم باقٍ غير منسوخ، وهو المراد بقوله تعالى: إلّامن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان (1)

.

قال ابن كثير إسماعيل بن عمر المتوفّى سنة 774، في تفسيره: قال ابن عباس:

ليس التقيّة بالعمل إنما التقيّة باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنّما التقيّة باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء، والضحاك والربيع بن أنس.

ويؤيّد ما قالوه، قول اللَّه تعالى: من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان الآية.

وقال البخاري: قال الحسن: التقيّة إلى يوم القيامة (2).

قال جلال الدين السيوطي المتوفّى سنة 911، في الدرّ المنثور: إنّما التقيّة باللسان، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه من طريق عطاء عن ابن عباس ألّا أن تتّقوا منهم تقاة قال: التقاة: التكلّم باللسان، والقلب مطمئنّ بالايمان، ولا يبسط يده فيقتل، ولا إلى إثم؛ فإنّه لا عذر له.

وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، إلّاأن تتّقوا منهم تقاة قال: إلّامصانعة في الدنيا ومخالقة.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية، في الآية، قال: التقيّة باللسان وليس بالعمل (3).

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة،


1- نواسخ القرآن: 104.
2- تفسير ابن كثير 1: 365.
3- الدر المنثور 2: 16، وفتح القدير 1: 332.

ص: 107

ألّا أن تتّقوا منهم تقاة، قال: إلّاأن يكون بينك وبينه قرابة فتصله لذلك (1).

قال محمد بن إسماعيل الشوكاني المتوفّى سنة 1250، في فتح القدير: التقيّة باللسان، من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية اللَّه، فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإنّ ذلك لا يضرّه؛ إنما التقيّة باللسان (2).

وقال الآلوسي شهاب الدين أبو الثناء المتوفّى سنة 1270، في روح المعاني:

وفي الآية دليل على مشروعيّة التقيّة، وعرّفوها بمحافظة النفس، أو العرض، أو المال من شرّ الأعداء، والعدوّ قسمان:

الأوّل: من كانت عداوته مبنيّة على اختلاف الدين كالكافر والمسلم.

والثاني: من كانت عداوته مبنيّة على أغراض دنيويّة كالمال، والمتاع، والملك، والإمارة (3).

أما المراغي فيقول في تفسيره: وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقيّة:

بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحقّ؛ لأجل التوقّي من ضرر من الأعداء يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال.

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً؛ وقايةً لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان، لا يكون كافراً، بل يعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً، وقلبه مطمئن بالإيمان، وفيه نزلت الآية:

من كفر باللَّه من بعد إيمانه إلّامن أكره وقلبه مطمئن بالإيمان

ثمّ قال: ويدخل في التقيّة مداراة الكَفَرَة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسّم في وجوههم، وبذل المال لهم؛ لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم.

ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها؛ بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني


1- المصدر 2: 16.
2- فتح القدير 1: 332.
3- روح المعاني 3: 121.

ص: 108

قوله صلى الله عليه و آله و سلم: ما وقي به المؤمن عرضه فهو صدقة (1).

أقسام التقيّة:

إنّ ما ظهر لنا من البحث: أنّ موضوع التقية، هو: أن يكون هناك ضرر، سواء أكان هذا الضرر بما يعبر عنه بالضرر الشخصي، وهو ما يتضرر منه الشخص نفسه دون الآخرين، الذين- عادةً- لايتضررون به، وهذا في مقابل الضرر النوعي كما يسمّى، الذي يتضرر منه الآخرون، وإن لم يتضرر منه الشخص نفسه، وسواء أكان هذا الضرر بشقيه (الشخصي والنوعي) ضرراً جسمياً أو مالياً أو عرضياً... فإذا وجد الضرر وجدت التقية، وتنتفي بانتفائه.

وانطلاقاً من اختلاف الضرر هذا وجوداً وعدماً، قوةً وضعفاً، فقد قسّم الفقهاء التقية إلى خمسة أقسام كما هو حال الأحكام التكليفية:

الوجوب: حينما يتيقن الضرر، سواء أكان ضرراً فعلياً أم ضرراً مستقبلياً، فإنّه يكون مناطاً لوجوب التقية.

الحرمة: إنّ عدم وجود الضرر، يكون مناطاً لحرمة التقية؛ لأنّها تنتفي- كما قلنا- بانتفاء موضوعها، وهو الضرر عاجلًا أو آجلًا.

وتحرم أيضاً إذا توقفت على قتل مسلم، حيث لاتقية في الدماء، ولأنّها إنما شرعت لدفع الضرر عن الجميع، لا أن يدفعه الشخص عن نفسه، بأن يوقع الآخرين فيه، فهو خلاف الحكمة والهدف من تشريعها.

الاستحباب، والمكروه، والمباح:

إنّ ترجيح احتمال وقوع الضرر المستقبلي، يكون مناطاً لاستحباب التقية.

وأما إذا كان ترجيح احتمال عدم وقوع الضرر أقوى من وقوعه، فحكم التقية هنا هو الكراهة.


1- تفسير المراغي 3: 136.

ص: 109

وعند تساوي الاحتمالين؛ وقوع التقية وعدمه، فحكم التقية هنا هو الإباحة.

وللتفصيل يمكن الرجوع إلى ما قاله كلّ من الشهيد الأول، والشيخ الأنصاري: (1) اشتراط المندوحة في التقية وعدمها:

المندوحة لغةً: من ندح يندح ندحاً الشي ء: وسّعه، والمندوحة: السعة والفسحة، يقال: لك عن هذا الأمر مندوحةٌ أو منتدحٌ، أي يمكنك تركه والميل عنه... (2).

والمندوحة اصطلاحاً: هو تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب التام الشرائط والأجزاء، وذلك بأن يأتي به في وقت آخر أو مكان آخر... (3).

وبعبارة أخرى: المندوحة: تعني إمكان تخلّص المكلّف من الحالة التي هو فيها، بأي طريقة يراها مناسبة كالتورية، أو الانتقال إلى مكان آخر، أو تأجيل العمل...

وعدم المندوحة: أي لا يمكنه التخلّص ممّا هو فيه.

وللفقهاء أقوال ثلاثة في هذا، خلاصتها:

قول: يشترط عدم المندوحة؛

لأنّ تحقق الضرر أُخذ موضوعاً للتقية، فإذا كان بمقدور المكلّف التخلّص من هذا الضرر، فينتفي الضرر مع وجود هذه القدرة عند المكلف، وبالتالي فلايجوز العمل بالتقية؛ لانتفاء موضوعها.

وعلى هذا فيشترط أصحاب هذا القول للعمل بالتقية: عدم وجود مثل هذه


1- للتفصيل، راجع القواعد والفوائد 2: 158.
2- انظر المنجد في اللغة: 798، والصحاح للجوهري: 552 و...
3- أصول الفقه للمظفر 2: 320.

ص: 110

القدرة للتخلّص عند المكلّف أي عدم المندوحة.

ومنهم الشيخ الأنصاري حيث قال: وهل يشترط في الصلاة معهم عدم المندوحة أم لا؟

قولان، والأول أقوى (1).

ثمّ يقول في رسالته: ويؤيده العمومات الدالة على أنّ التقية في كلّ شي ء يضطر إليه ابن آدم، فإنّ ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلى موضع الأمن مع التمكن وعدم الحرج.

نعم، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق، من تفقد المخالفين وظهور حاله في مخالفتهم سرّاً، فهذا أيضاً داخل في الاضطرار.

ويخلص أخيراً إلى القول: وبالجملة فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان، الذي يوقع فيه الفعل أقوى مع أنّه أحوط (2).

وقال السيّد الخوئي: يعتبر عدم المندوحة في مكان التقيّة على الأقوى، فلو أمكنه ترك التقيّة وإراءة المخالف عدم المخالفة، لم تشرع التقيّة (3).

قول: لا يشترط عدم المندوحة؛

أي لا يشترط إمكان التخلّص، فبإمكان المكلف العمل بالتقية حتى مع وجود المندوحة، وليس بناء هذا الفريق- كما يبدو- هو عدم أخذ الضرر موضوعاً للتقية، بل التوسع في أمر التقية المذكور في الأخبار، فهي لم تشترط عدم المندوحة.

فقد ذهب كلّ من الشهيد الأول في البيان، والشهيد الثاني في روض الجنان


1- كتاب الصلاة 2: 375.
2- رسالة في التقية: 53- 54.
3- منهاج الصالحين 1: 29.

ص: 111

والمحقق الكركي في جامع المقاصد إلى عدم اشتراط عدم المندوحة في العمل بالتقية.

حيث قال الأوّل منهم:

ولو عدل إلى المسح في موضع التقيّة، فالأقرب البطلان، ولا تبطل الوضوء بزوالها على الأصحّ، ولا يشرط فيها عدم المندوحة (1).

فيما قال الثاني:

ولا يبطل الوضوء بزوال التقيّة والضرورة، ما لم يحدث على الأصحّ؛ لأنّها طهارة شرعيّة ولم يثبت كون ذلك ناقضاً، ويحتمله لزوال المشروط بزوال شرطه، وقربه المصنّف في التذكرة، وتوقّف في غيرها، ولا يشترط في جواز ذلك ونحوه للتقيّة عدم المندوحة، وهو يؤيّد بقاء الطهارة مع زوال سبب التقيّة (2).

وقال في موضع آخر:

فلا يصحّ السجود على الصوف والشعر والجلد وغيرها مع الاختيار، أما مع الضرورة فيجوز ومنها التقيّة، ولا يشترط عدم المندوحة خصوصاً مع إفادة تأكيد السلامة والاستناد بالسجود عليها (3).

وأما الثالث فقد قال في مقاصده:... ولا يشترط في الصحة عدم المندوحة لإطلاق النصّ (4).

القول الثالث: التفصيل

حيث بني هذا القول على متعلّق التقية، وكونه مأذوناً فيه من قبل الشرع، وغير مأذونٍ فيه.


1- البيان: 10.
2- المصدر نفسه.
3- روض الجنان: 222.
4- جامع المقاصد: 1/ 222.

ص: 112

قال جمع منهم المحقّق الكركي بالتفصيل بين ما إذا كان مورد التقيّة، مأذوناً بالخصوص كالصلاة معهم، فقال: بعدم الاعتبار، وبين مالم يأذن الشارع فيه بالخصوص فقال: بالاعتبار.

وإليك كلامه: فاعلم أن التقيّة قد تكون في العبادات، وقد تكون في غيرها من المعاملات، وربما كان متعلّقها مأذوناً فيه بخصوصه، كغسل الرجلين في الوضوء، والتكتف في الصلاة. وقد لا يكون مأذوناً فيه بخصوصه؛ بل جواز التقيّة فيه مستفاد من العمومات السالفة ونحوها.

فما ورد فيه نصّ بخصوصه، إذا فعل على الوجه المأذون فيه، كان صحيحاً مجزياً سواء كان للمكلّف مندوحة عن فعله كذلك، أم لم يكن؛ التفاتاً إلى أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقيّة، فكان الإتيان به امتثالًا فيقتضي الإجزاء.

وعلى هذا، فلا تجب الإعادة، ولو تمكّن منها على غير وجه التقيّة قبل خروج الوقت، ولا أعلم في ذلك خلافاً بين الأصحاب.

وما لم يرد فيه نصّ بخصوصه كفعل الصلاة إلى غير القبلة، والوضوء بالنبيذ، ومع الإخلال بالموالاة بحيث يجفّ البلل، كما يراه بعض العامّة،... فإنّ المكلّف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم.

ومع التعذر: فإن كان له مندوحة عن ذلك الفعل لم يجب الإتيان به، وإلّا أتى به مجزياً، ثمّ إن أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان به لوفق التقيّة وجب، ولو خرج الوقت نظر في دليل يدل على وجوب القضاء، فإن حصل الظفر به أوجبناه، وإلّا فلا؛ لأنّ القضاء إنّما يجب بأمر جديد. هذا في العبادات.

وأمّا في المعاملات فلا يحلّ له باطناً وطي المنكوحة للتقيّة على خلاف مذهب أهل الحقّ، ولا التصرّف في المال المأخوذ من المضمون عنه، لو اقتضت التقيّة أخذه، ولا تزوّج الخامسة لو طلّق الرابعة على مقتضى مذهب أهل الخلاف، دون

ص: 113

المذهب الحق، وفي الباب وجود نصّ بخصوصه في فعل مخصوص، فحيث وجد ثبت الحكم الأول، وحيث انتفى انتفى (1).

بيان أخير

يبدو أنّ الظاهر المستفاد من إطلاق الروايات الدالّة على الأمر بمخالطة العامّة، ومعاشرتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم (2)، هو صحّة ما أوجبته التقيّة مطلقاً؛ لأنّ المفهوم من تلك الأحاديث أنّ المراد هو تأليف القلوب واجتماعها؛ لدفع الضرر والطعن على المذهب وأهله كما في قول الصادق عليه السلام:

«إن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين فافعلوا؛ فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا:

هؤلاء الجعفريّة رحم اللَّه جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: فعل اللَّه بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه».

الإجزاء وعدمه:

إذا أتى المكلّف بما في ذمته وفق ما تقتضيه التقية، فهل يكون مجزيّاً أو لا؟

اتّفقت كلمات الفقهاء على أنّ المكلّف إذا امتثل ما امر به على الوجه المطلوب شرعاً، فإنّ امتثاله هذا يعدّ مجزياً، وليس عليه الإعادة ولا القضاء... وهذا هو معنى الإجزاء، فهل يشمل ما يؤدّيه المكلّف تقيّة؟

إنّ الروايات صريحة في الدلالة على أنّ إتيان الواجبات، بشكل يوافق المخالفين، وإن كان مخالفاً للحقّ، قد أذن ورخص فيه الشارع، وعدّه من الدين، وبالتالي فهو مجزٍ، فلا يحتاج إلى إعادة أو قضاء حتى وإن رفع موجب التقية؛ لأنّ مقتضى عمومات التقية كقوله عليه السلام: «التقية ديني ودين آبائي» وأمثالها، أنّ التقية أمر وحكم واقعي وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء، فإذا وجد دليل على التقييد


1- رسائل الكركي المحقّق الكركي 2: 51.
2- انظر؛ كتاب المواعظ، صفات الشيعة: 247 ر 38.

ص: 114

يؤخذ به، وإلّا فمقتضى عمومات التقية الاكتفاء بالمأتي به من غير فرق بين أن يكون إتيان الواجب مأذوناً بالخصوص، أو كان مأذوناً بعنوان عام؛ لأنّ الملاك في كلتا الصورتين صيرورته واقعيّاً ثانويّاً، وشأن الأوامر الواقعية الثانوية هو الإجزاء.

وتدلّ عليه روايات متعددة تبلغ حدّ الاستفاضة أو أكثر، وقد ذكرنا قسماً منها، ونكتفي بمارواه الكليني بإسناده عن سماعة قال: سألته عن رجل كان يصلّي فخرج الإمام، وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة، قال: إن كان إماماً عدلًا فليصلّ أخرى، وينصرف ويجعلها تطوّعاً، وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو، ويصلّي ركعة أخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، ثمّ ليتمّ صلاته معه على قدر ما استطاع؛ فإنّ التقيّة واسعة، وليس شي ء من التقيّة إلّاوصاحبها مأجور عليها إن شاء اللَّه (1).

وهذه الرواية صريحة في الإجزاء والاكتفاء بما يؤتى به تقيّة. وفي رواية أخرى: التقية في كلّ شي ء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحلّه اللَّه له (2).

يقول السيّد البجنوردي في قواعده:

إنّ كلّ فعل واجب من الواجبات إذا أتي به موافقاً لمن يتقيه، وكان مخالفاً للحقّ في بعض أجزائه وشرائطه، بل وفي ايجاد بعض موانعه، فإن كان مأذوناً من قبل الشارع في إيجاد ذلك الواجب بعنوان أنه واجب للتقية، فهو مجز عن الواقع، ولا يجب عليه الإعادة إذا ارتفع الاضطرار في الوقت، ولا القضاء إذا ارتفع في خارج الوقت؛ لأنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الثانوي مجزٍ عن الإتيان


1- الكافي 3: 380 ح 7، والتهذيب 3: 50 ح 89.
2- الكافي 2: 220 ح 13.

ص: 115

بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي، سواء كان رفع الاضطرار في الوقت أو في خارج الوقت (1).

ولا فرق عنده بين أن يكون العمل مأذوناً به بشكل خاص أو وقع تحت الإذن العام.

فيقول: ولا فرق في كونه مأذوناً بين أن يكون الرخصة والإذن بعنوان ذلك الواجب بخصوصه، كما أنّه ورد الإذن بخصوص المسح على الخفّين... (2). أو كان بعنوان عام يشمل جميع الواجبات كقوله عليه السلام: «التقية ديني ودين آبائي» (3).

العمل خلاف التقية:

إذا جاء المكلّف بعمل على خلاف التقيّة، فما هو حكمه وحكم عمله هذا؟

حكمه:

إنّ حكم هذا المكلّف، الذي أتى بعملٍ خلافاً لما هو مأمور به، كما لو أنّه صلّى مرسلًا دون تكفير، أو سجد على التربة، وغير ذلك من الأعمال، التي يعيبها الطرف الآخر وينهى عنها، فحكمه أنه ارتكب حراماً وأثم؛ لتركه ما هو مأمور به في وقته، كما يشهد به جمع من الروايات:

فعن الصادق عليه السلام: «لو قلت: إنّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً» (4).

وعن أميرالمؤمنين عليٍّ عليه السلام في وصيته لليوناني الذي أعلن إسلامه:

«... وآمرك أن تستعمل التقية في دينك، فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: لا يتخذ


1- القواعد الفقهية للسيد البجنوردي 5: 56.
2- انظر تهذيب الأحكام 1: 362، ح 1092 باب صفة الوضوء والفرض منه، ح 22.
3- الكافي 2: 219 باب التقية، ح 12، وسائل الشيعة 11: 460 أبواب الأمر والنهي باب 524 ح 3 وانظر القواعد الفقهية للسيد البجنوردي 5: 55- 56.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 127، ح 1927، ووسائل الشيعة ط- آل البيت 10: 131.

ص: 116

المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين... إلّاأن تتقوا منهم تقاة...

... وإياك إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها... (1).

وعن أبي محمّد الحسن بن علي العسكري عليه السلام في حديث أنّ الرضا عليه السلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يا ابن رسول اللَّه ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟

قال: لدعواكم أنّكم شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون، ومقصّرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللَّه، وتتقون حيث لا تجب التقيّة، وتتركون التقيّة حيث لا بد من التقيّة (2).

وعن الرضا عليه السلام قال: لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، وإن أكرمكم عند اللَّه أعملكم بالتقية... (3) وعن الحسن بن علي عليه السلام: إنّ التقيّة يصلح اللَّه بها أمّة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمّة، تاركها شريك من أهلكهم (4).

وعن علي بن الحسين عليه السلام: يغفر اللَّه للمؤمن كلّ ذنب، ويطهّره منه في الدنيا والآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقيّة، وتضييع حقوق الإخوان (5).

هذا في حكم المكلّف نفسه.

حكم عمله:

وأما في حكم عمله، ففيه تفصيل عندهم: فإنّ القول ببطلان كلّ عمل أتي به على خلاف التقية، أمر مشكل، إلّافيما إذا كان ما تتحقّق به المخالفة يكون جزءاً


1- الاحتجاج 1: 355، وسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 229.
2- الاحتجاج 2: 237، ووسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 217 ح 21400.
3- وسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 211 ح 21381
4- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: 321 ح 164، وسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 222 ح 21412.
5- تفسير الامام العسكري عليه السلام 321: 166، ووسائل الشيعة ط- آل البيت 16: 223.

ص: 117

للعبادة نفسها، وقد تعلّق النهي بهذا الجزء الذي وقع مصداقاً للمخالفة كالسجدة على التربة، فعندئذ تصير العبادة المشتملة على ذلك الجزء باطلة؛ لأنها وقعت خلاف التقية، بإدخال الجزء المنهي عن إتيانه فيها، والنهي في العبادة يوجب فسادها.

وهذا لا يجري فيما إذا كان ما هو مصداق للمخالفة، خارجاً عن المأمور به، أي لا يكون جزءاً منه ولا شرطاً فيه، كما في التكفير وقول آمين وأمثالهما.

حيث إنّ المكلّف في هذه الصورة أتى بالمأمور به الواقعي بقصد القربة، ولم يدخل فيه ما لم يكن جزءاً منه، ولم يترك أيضاً ما هو جزء أو شرط فيه، فحصل الامتثال، إلّاأنه مع هذا كان عاصيّاً بترك التقية. فتكون حالته هذه من قبيل النظر إلى المرأة الأجنبية حال الصلاة، فصلاته صحيحة، وإن ارتكب حراماً بنظرته إليها، حيث إنّه لم يكن جزءاً للصلاة المأمور بها.

مصاديق التقيّة:

مع أنّ التقية تعدّ من المسائل الفرعية، إلّاأنّ مصاديقها كقاعدة فقهية قد تدخل في أبواب عقائدية، وأخرى فقهية أحكاماً وموضوعات، إذا تحقق عنوان الضرر فيها جميعاً.

التقية في العقائد

وأفضل مثال في هذا، هو: قصة عمار بن ياسر، وقصة الرجلين من أهل الكوفة. وهما معروفتان، وقد ذكرناهما، فراجع.

فإذا توجّه للإنسان ضرر عند إقراره بنبوة محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله، فبعضهم ذهب إلى القول بوجوب التقية بأن لايقرّ بذلك وبعض آخر ذهب إلى استحبابها.

التقية في الأحكام

ونكتفي هنا بآراء السيّد الإمام الخميني رضوان اللَّه تعالى عليه نذكرها باختصار:

ص: 118

فقد أفتى سماحته بجواز السجود على السجاد المفروش في المسجد النبوي الشريف، وبعدم وجوب اختيار مكان آخر غير مفروش، أو استصحاب حصير للسجود عليه، فقال: لا مانع من السجود في مسجد النبي صلى الله عليه و آله على السجاد، ولا يجوز وضع التربة، ولا يجب عليه اختيار المكان الموجود فيه حجر للصلاة، ولا يجب عليه أيضاً أن يأخذ حصيراً ونحوه، ولكن إن روعي ذلك بحيث لا يوجب الوهن، وأخذ معه حصيراً للصلاة وصلّى عليه، بحيث يكون ذلك متعارفاً عليه عند سائر المسلمين فلا إشكال، لكن يؤكّد الاجتناب عن كلّ عمل يوجب الهتك والشهرة (1).

هذا وأجاب عن سؤال وجّه لسماحته، هذا نصّه: هل يجوز بعد الانتهاء من صلاة الجماعة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله السجود على سِجّاد المسجد، أم يجب الذهاب إلى حيث يوجد حجر والصلاة عليه؟

فقال سماحته: لا يجب اختيار مكان يوجد فيه حجر (2).

وأفتى أيضاً بأنّ استعمال التربة في حالة التقيّة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حرام، والصلاة في هذه الصورة لا تخلو من إشكال (3).

وأيضاً أفتى سماحته بجواز الصلاة خلف أئمة أهل السنة، وبكفاية كلّ صلاة صلّاها في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف جماعة، ولا يحتاج المكلّف الذي صلّى صلاته هذه إلى إعادتها بعد ذلك، فقد سئل: هل يجب على من يصلّي الصبح جماعة مع المسلمين أن يعيدها بعد أن تضي ء السماء أم تكفي تلك الصلاة؟

فأجاب السيّد الإمام قدس سره: الصلاة في الفرض المذكور جماعة صحيحة ولا إعادة (4).


1- انظر مناسك الحج: 278، المسألة 22.
2- المصدر نفسه: السؤال الأوّل.
3- انظر آراء المراجع في الحج: 432.
4- انظر مناسك الحجّ: 279، المسألة التاسعة.

ص: 119

التقية في الموضوعات

على المكلّف أن يجد موضوعات للأحكام التي هي محل ابتلائه، فهذا من مسؤولياته، فلا تقليد في الموضوعات، إذن فعليه أن يبحث عن موضوع الحكم بنفسه، وله أن يستعين ببعض الطرق التي جعلها الشارع كالإخبار من عدلين...

يوم عرفة:

وقوف عرفات من الموضوعات التي هي بعهدة المكلف نفسه، فهل يجوز له- وهو يعلم أنّ هذا اليوم هو اليوم الثامن من ذي الحجّة- أن يقف هذا اليوم بعرفات..؟

يقول السيّد الحكيم: ... ومن ذلك تعرف إجزاءالحج إذاوقف تقيةً مع المخالفين، ولم يقف في اليوم التاسع من دون فرق بين صورتي العلم بالمخالفة للواقع وعدمه (1).

هذا وأنّ مسألة ثبوت الهلال من المسائل المهمة والمختلف فيها، فقد يثبت في بلد ولا يثبت في آخر، وقد تسبب احراجاً ومشاكل وأذًى للحاج نفسه وأخرى لغيره وللفئة التي ينتمي اليها، ففي هذه الحالة اتّكأ جمع من الفقهاء على قاعدة التقية، وأفتى بمتابعة إخوانه من الفرق الاسلامية الأخرى في أداء مناسك الحج؛ حفظاً لوحدتهم ودرءًا لما تسببه المخالفة من آثار سيئة وعسر وحرج...

يقول السيد الامام الخميني قدس سره: لو ثبت هلال ذي الحجة عند القاضي من العامة وحكم به ولم يثبت عندنا، فإن أمكن العمل على طبق المذهب بلاتقية وخوف وجب، و إلّا وجبت التبعية عنهم، وصحّ الحج لو لم تتبين المخالفة للواقع، بل لاتبعد الصحة مع العلم بالمخالفة، ولاتجوز المخالفة، بل في صحة الحج مع مخالفة التقية إشكال... وأضاف في موقع آخر أنّه لا يمكن العلم بالمخالفة لتباين الآفاق...


1- مستمسك العروة 2: 407.

ص: 120

وإن كان الاختلاف بيومين كما ورد في جوابه عن سؤال وجه لسماحته (1).

وقد لايكون هناك خوف، وإنما هناك أمر آخر وهو حفظ وحدة المسلمين، والابتعاد من أي شي ء يكون من شأنه ايجاد الفرقة، أو توجيه أصابع الاتهام للامامية بشق الصف ومايستتبع هذا من إهانة... وهنا أيضاً تأتي التقية لحفظ الكيان الواحد...

يقول الشيخ اللنكراني وهو أحد كبار طلبة الإمام الخميني قدس سره، ومرجع من مراجع التقليد: لابدّ وأن يعلم أنه ربما لايكون في البين خوف شخصي وخطر متوجه الى الشخص نفساً أوغيرها، بل يكون في البين هتك حرمة الشيعة وانحطاط شأنهم، وجعلهم في معرض التهمة ومظنة السوء، كما إذا كانوا مجتمعين في الحج والوقوف- كما في هذه الأزمنة- فإنه لابدّ في هذه الصورة من حفظ مقامهم، لئلا يقعوا في معرض الاتهام، وينظر الناس إليهم بعين الابتعاد عن الاسلام والالتزام بشؤونه، فلايجوز التخلف عنهم في الوقوف ونحوه، وإن لم يكن تقية ولا خوف في البين أصلًا.

ثم يعقّب قائلًا: وكيف كان، ففي صورة التقية و مثلها، تجب المتابعة عنهم ورعاية شؤون التقية، ولا شبهة في هذه الجهة من حيث الحكم التكليفي (2).

هذا إضافةً إلى ما ذكرنا سابقاً من روايات متواترة، بل فوق حدّ التواتر في مشروعية التقية ولزوم رعايتها، وعدم جواز مخالفتها.

وختاماً

لابدّ من القول: لقد صدرت دعوات التقارب بين المذهب الشيعي والمذاهب الإسلاميّة الأخرى، عن عدد من كبار فقهاء الإماميّة بدءًا بالشيخ


1- تحرير الوسيلة 1: 441، وانظر آراء المراجع في الحج: 432، ومناسك الحجّ المحشى.
2- انظر كتاب الحجّ للشيخ اللنكراني.

ص: 121

المفيد، الذي راح يدرّس فقه المذاهب الإسلاميّة الأخرى إلى جانب الفقه الجعفري في بغداد، وظلّ مرجعاً للسنّة والشيعة، ومروراً بالشيخ الطوسي وكتابه «الخلاف» الذي تضمّن فتاوى المذاهب الإسلاميّة المختلفة مشيراً فيه إلى مواطن الاتّفاق والاختلاف بين المذاهب، حتّى نصل إلى السيّد البروجردي الذي كان له في الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين دور كبير وبارز، ويشهد له موقفه من دار التقريب بين المذاهب في القاهرة. وكان يتعرّض في دروسه إلى وجهات نظر تلك المذاهب.

والإمام الخميني هو الآخر الذي دعا المسلمين جميعاً إلى الوحدة والتلاحم حول محور الإسلام، وكان همّه الرئيس هو التقريب بين أبناء المسلمين وتمتين العلاقات بينهم بغضّ النظر عن مذاهبهم، فراح يدعو وكثير من فقهاء الإماميّة أتباعهم إلى أن يشاركوا في صلاة الجمعة والجماعة لأهل السنّة خصوصاً في الأماكن المقدّسة في مكّة والمدينة، مراعاة للوحدة، التي هي إحدى أهداف قاعدة التقيّة، التي نحن بصددها، وأن يتّبعوهم في تحديد أوّل الشهر والوقوف في عرفات والمشعر ومناسك منى، كما أفتوا بصحّة جميع عباداتهم التي يخالفون في بعض أجزائها وشروطها فتاوى الفقهاء الشيعة ولا ضرورة لإعادتها. ففقهاء الشيعة أصحاب نداء تقريبي توحيديّ هدفه الإسلام والسلام والوئام بين أتباع المذاهب الإسلاميّة، وليغلقوا بهذا باب الاختلاف، الذي قد يفضي في بعض مواقفه إلى النزاع والاقتتال. بل تجاوز الإمام هذا إلى دعوة أتباع الديانات الأخرى الإبراهيميّة ومستضعفي العالم إلى وحدة الموقف في قضاياهم وأمورهم الدينيّة والسياسيّة.

ص: 122

شخصيّات من الحرمين الشريفين (14)

أبو طالب مأوى الرسول و الرسالة

حسن الحاج

بنو هاشم:

في وادٍ تُحيط به الجبال، وتحفّ به التلال، وفي مجتمع ظلّت الجاهلية بتقاليدها تنخر فيه... نشأت قبيلة بني هاشم من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام، وراحت من بين ثلاث وعشرين قبيلة شكّلت قريشاً، تقف بكلّ شموخ وإباء؛ لتؤدي دورها التوحيدي ولتسطّر أروع الصفحات وأجملها، وأفضل المواقف وأحسنها، في تأريخ الإنسانية على الإطلاق... بما حملته من أخلاق عالية، وصفات محمودة، وخصال نادرة، ومواقف فريدة، تميّزت بها على أقرانها قبائل ورجالًا ونساءً...

فبنو هاشم، سادة قريش بل سادة الدنيا، فهم كما وصفهم الجاحظ: «ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ كريم، وسرّ كلّ عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...» (1).

فقد كان منهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، الذي ولد على رمال مكّة، أكرم خلق اللَّه تعالى


1- انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد عن زهرة الآداب للجاحظ: 59.

ص: 123

على الإطلاق وأفضلهم وأشرفهم وأعظمهم من الأوّلين والآخرين، فبه بزغ نور سرعان ما انتشر في الآفاق، حتى أضاءت له مشارق الأرض ومغاربها، فغدت الدنيا نيّرة بآيات اللَّه تعالى، التي حملها، رحمةً للعالمين- داعياً الى اللَّه، بشيراً ونذيراً- شاخصةً بالعزّ والشموخ، نابضةً بالحياة، التي غدت تضجّ بين جنبات ذلك المجتمع السادر في غيّه وشركه، الضال عن الصراط، الغارق في آلامه ومشاكله، وعدوانيته وغزواته، وظلمه وطغيانه، ولهوه وترفه... فوردت كلّ مفاصله ونواحيها؛ لتقلبه رأساً على عقب، وتخلق منه أمّةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر، وزخرت بعطاء دائم وخير عميم، ما انفكّت الأجيال المتعاقبة تنتفع منه وتقتطف ثماره ما دام ليل وبقي نهار، لا يعرف النضوب أبداً، ولا يحدّه شي ء، ولا ينتهي بأمد، ظلّ معينها يتجدّد وعطاؤها يتّسع، وكيف لا يكون كذلك وهو عطاء السماء، الذي منّ اللَّه به على رسوله صلى الله عليه و آله؛ لتباركه على يديه، فينضج كلّ ما بذره، ويدوم طويلًا، ويخلد ما شاء اللَّه له الخلود والبقاء...

أبو طالب والنور اليتيم:

هذا النور العظيم اليتيم منذ ولادته، راحت قلوب طيبة تحتضنه، وأيدٍ مباركة ترعاه، يد جدّه عبدالمطلب الذي تشرّفت برعايته واحتضانه، ثمّ كانت يد عمّه (أبو طالب) شيبة بني هاشم، شيخ قريش وزعيمها، وسيّد قومه، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة كلّها شموخ وإباء وشهامة وعزّة...

فكان الكافل المدافع الذابّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والذي أحاطه بعناية عظيمة ورعاية قلّ نظيرها، خاصة إذا عرفنا مكانته في قبائل قريش وبين زعمائها، وما سبّبه ذلك من إحراج له، وضيق وأذًى... ومع هذا كلّه، فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته، حتى أنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع عظيم رغبتها في ذلك، وكانت تتحين الفرص للإيقاع به، لكنها لم تستطع حتى توفي أبو

ص: 124

طالب، فراحت تكيد له...

يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب». ولم يهاجر إلى المدينة، إلّابعد وفاة عمّه رضوان اللَّه عليه.

*** فالحديث عن «أبو طالب» حديث عن الصمود والإباء، حديث عن الإيمان الواعي، والموقف الحكيم ونكران الذّات، حديث عن الظلامة التي تلاحقه، وما زالت إلى يومنا هذا.

ولا يضرّ ولا يفتّ في مواقفه ما يُقال هنا وهناك، من أنّ أبا طالب لم يكن مؤمناً وقد مات كافراً، إنّه نتيجة من نتائج الصراع والنزاع الطويل والعميق في تاريخ كلا الأُسرتين: أُسرة الخير والعطاء أُسرة بني هاشم، وأُسرة بني أُمية المعروفة بالكيد والشرّ، وتأريخ الأُسرتين واضح بيّن لمن أراد الاطلاع عليه، إنّه نزاع بين الخير والشرّ، بين الفضيلة والرذيلة، بين المعروف والمُنكر، وقد تمخّض هذا الاختلاف، بل الصراع عن أُمور كثيرة، كان منها إتهام شيخ الأُسرة وعميدها، بل عميد قريش وزعيمها وحليمها وحكيمها بالكفر، مع تاريخه الناصع، وذبّه العنيد عن الرسالة والرسول ومواقفه الجليلة، التي ملأت عصر الرسالة الأوّل عصر التأسيس قوّةً وثباتاً.

لقد حفل تأريخ الرسالة في صدر الإسلام بمواقف عظيمة وأقوال جليلة لشيخ قريش وسيّدها بلا منازع، أثّرت أثرها وتركت بصماتها على مسيرة الرسالة، فقد راحت مواقفه تتصدّر أولى مراحل الرسالة، تضحيةً وصبراً وثباتاً، وبما تحمله بين طيّاتها من آلام ومأساة تعرّض لها شيخ قريش وسيّدها، فكان الملاذ الأوّل لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان الحضن الأوّل لدعوة السماء، حيث كانت الدعوة تأخذ مسارها بفضل ما قيّضه اللَّه لها من رجال يحمونها ويضحون في سبيلها وكان أبو طالب أوّلهم، فحمايته لابن أخيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والدفاع عنه وعن رسالته، أمر لا

ص: 125

يرتاب فيه أحدٌ، ولا ينكره منكِرٌ، وهذا ما يراه كلّ باحث في حوادث العصر الأوّل للإسلام، وما سنلخصه في مقالتنا هذه.

اسمه:

اختلفت الأقوال في اسمه: فقول ذهب إلى أنّ اسمه هو كنيته «أبو طالب»، وقول ذهب إلى أنّ اسمه «عمران»، وقول ثالث: ذهب إلى أنّ اسمه «شيبة» وقول أخير، ويبدو أنّه الأصح، ذهب إلى أنّ اسمه «عبدمناف»، وقد استدل أصحاب هذا القول بقول أبيه عبد المطلب وهو يوصيه بحفيده يتيم بني هاشم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله:

أوصيك ياعبد منافٍ بعدي بواجد بعد أبيه فرد

وقال أيضاً:

وصيتُ من كنيته بطالب عبد مناف وهو ذو تجارب

بابن الحبيب أكرم الأقارب بابن الذي قد غاب غير آئب (1)

ألقابه:

هذا في اسمه، وأمّا ألقابه فكثيرة، منها: شيخ الأبطح، سيد البطحاء، رئيس مكّة، بيضة البلد.

كنيته:

وأما كنيته فهي: «أبو طالب» وبها اشتهر حتى طغت على أسمائه.

إذن فهو أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة،


1- انظر الاحتجاج للطبرسي 1: 341، وفي رحاب الأئمة الاثني عشر لمحسن الأمين.

ص: 126

ابن مذركة ابن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

ونحن إذ نقف على عدنان؛ لأنّ المُشتغلين بالأنساب اتّفقوا على هذا النسب حتى عدنان، واختلفوا في عدد أجداده بعد عدنان حتى نبيّ اللَّه اسماعيل. فقيل أربعة أجداد بين عدنان واسماعيل، وقيل سبعة، فيما ذهب فريق ثالث إلى أربعين أباً.

ولأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان إذا انتسب يقف على عدنان ولا يتجاوزه، ويقول:

كذب النسّابون، قال اللَّه تعالى: وقروناً بين ذلك كثيراً (1)

.

صفاته:

عُرف أبو طالب بحكمته وحلمه وشجاعته الفذّة، وشاعريته المستوقدة، التي إن لم يوقفها كلّها على خدمة وتأييد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والدعوة إلى ما جاء به من الحقّ، فقد أوقف أكثرها من أجل ذلك، وكان وسيماً، جسيماً، عليه بهاء الملوك، و وقار الحكمة، وكانت قريش تسميه الشيخ، وكانوا يهابونه ويخافون سطوته، ويسمونه ببيضة البلد، ويلقبونه بشيخ الأبطح... (2) قيل لأكثم بن صيفي حكيم العرب: ممّن تعلمت الحكمة والرياسة، والحلم والسيادة؟

قال: من حليف الحلم والأدب، سيد العجم والعرب، أبو طالب بن عبدالمطلب.

وجرى ذات يوم كلام خشن بين معاوية وصعصعة وابن الكواء.

فقال معاوية: لولا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب لقتلتكم وهو:

قابلت جهلهم حلماً ومغفرة والعفو عن قدرةٍ ضرب من الكرم

أبوه:

غني عن التعريف، ولكنّ المقام يدفعنا إلى ذكر شي ء من حياته ومناقبه، فهو عبد المطلب، شيبة الحمد، أمير مكّة وشريفها، كان سيّد قومه بلا منازع، ومفزع قريش في نوائبها، وملجأها، وكيف لا يكون كذلك، وهو حكيمها وحليمها وزعيمها... وكان موحّداً لم يعبد صنماً قط، وصاحب الأخلاق العالية، التي خلقت منه إنساناً ذا مهابة و وقار وهيبة وميل إلى الدين والنسك والكرم حتّى سمّي بمطعم الطير... وهو الذي قام بحفر ماء زمزم، التي تفجّرت تحت قدمي جدّه اسماعيل من قبل، بعد أن غاب أثرها، ولم يهتدِ إليها أحدٌ حتى هتف هاتف في منامه، فراح يحفر حتى اهتدى إليها، مستعيناً بابنه الحارث، وحيده يومذاك. كما كان صاحب الشرائع الفاضلة، فهو الذي سنّ السنن التالية:

الوفاء بالنذر، قطع يد السارق، النهي عن قتل المؤودة، تحريم الخمر، تحريم الزنا، المنع من نكاح المحارم، حظر طواف العراة بالبيت الحرام، وهي سنّة كان يعمل بها عند بعض قبائل الجاهلية...

وكلّها نالت قبول الإسلام وأمضاها، هذا إضافةً إلى ما امتاز به من خصالٍ فريدة، وصفات جليلة، راح يهذّب أولاده ومَن حوله على التحلّي والالتزام بها.

ونكتفي هنا بذكر موقف عظيم له، يدلّ على عمق إيمانه وصدق توجّهه نحو اللَّه تعالى واليوم الآخر، وهو ما دار بينه وبين أحد طغاة عصره وهو ابرهة الحبشي:

فقد كانت لعبد المطلب ولاية البيت الحرام من السقاية والرفادة... فخذل اللَّه على يديه إبرهة الحبشي وجنده، الذين جاؤوا لهدم الكعبة، وصرف الحاجّ عنها إلى بيتٍ بناه في اليمن، ليكون بديلًا عن الكعبة، ويجني من عمله هذا مصالح ومنافع كثيرة... ولما التقى ابرهة بعبد المطلب، كان كلّ همّه أن يستميله إلى جانبه، وأن يجعل منه أداةً لتحقيق ما جاء من أجله، إلّاأنّه- مع كلّ ما قدّمه أو توعّده به- لم يجد منه إلّاالرفض، وإلّا الثقة العالية باللَّه تعالى، مكتفياً بأن يردّ إليه إبله وشويهاته


1- انظر ابن عباس، في تاريخ ابن عساكر، والطبقات لابن سعد...
2- انظر الاحتجاج للطبرسي 2: 342.

ص: 127

ص: 128

التي أخذها جنده. ممّا جعل ابرهة يسخر منه ويستخفّ به قائلًا:

كنت في نفسي كبيراً، وسمعت أنّك وجيه في قومك، فلمّا سألتك عن حاجتك، وذكرت الإبل والشياه، ونسيت بلدك وأهلك وبيتك المقدّس، سقطت من عيني.

فكان جواب عبد المطلب مملوءاً حكمةً وتسليماً مطلقاً إلى اللَّه تعالى، وهو أمر لا يدركه إلّامن امتحن اللَّه قلبه بالإيمان.

إنّها كلمات ما أقلّها، وما أعظمها!

«الإبل لي، وللبيت ربّ يحميه».

فقال إبرهة: ما كان ليمتنع منّي.

فقال عبد المطلب: أنت وذلك، وصعد على الجبل، متضرّعاً، وهو ينشد:

يا ربّ عادِ من عاداك وامنعهموا أن يهدموا حماك

ولم يكتف بهذا، بل راح يستحثّ قومه على ترك مكّة، واللجوء إلى الجبل، خشية بطش ابرهة وجيشه، ثمّ طلب منهم التوجّه إلى اللَّه بالدعاء وهو يرى أن لا قدرة لقومه على ردع إبرهة وجيشه إلّابسلاح الدعاء... فحلّت الكارثة بإبرهة وجنده، وهو ما تكفّلت ببيانه سورة مباركة سميت بسورة الفيل عبر آياتها الخمس، فراحت تحكي ما حلّ بهذا الطاغية ومن معه... (1) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاْكُولٍ

*** في هكذا بيت يكتنفه التوحيد، ونبل الصفات، وجميل الخصال... ولد أبو طالب قبل ولادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بخمس وثلاثين سنة، فاتصف بكلّ صفاته ومناقبه


1- سورة الفيل.

ص: 129

فكان سيّد بني هاشم في الجاهلية بل سيّد قريش، في وقت لا ينال أحد السيادة هذه بلا مال إلّاأبو طالب. وترعرع ونشأ في حجر زعيم هذا البيت وسيّده. في هكذا أُسرة وفي هكذا جوّ مفعم بالخير والعطاء والحكمة والشجاعة والتسليم المطلق إلى اللَّه تعالى، شبّ أبو طالب وقد انصهرت في نفسه شمائل هذه الأُسرة المباركة، التي عرفت بتأريخها الحافل وأمجادها العظيمة، فجدّه هاشم هو الذي أسّس الإيلاف لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فهو الذي أنشأ هاتين الرحلتين، اللتين درّتا بخيرات عظيمة على قريش، ومنافع كبيرة، وهو الذي نادى بالعدالة وحبّ الناس ورفع الظلم عنهم، ومن قبله جدّهم قصي ابن كلاب، الذي كان له الدور الكبير في تنظيم المجتمع المكّي، وجمع شتات قريش وشملها حتى سمّي «مُجمِّعاً».

وأبو طالب نفسه هو الذي سنّ القسامة (الأيمان) في الجاهلية، وكانت أوّلًا في دم عمر بن علقمة، ثمّ استمرت، وأمضتها الشريعة الإسلامية فيما بعد. كما كانت له السقاية بعد أبيه، بل كان شريكاً له في خصائصه وأعماله.

إذن فهي أُسرة مشاريع كلّها خير وعطاء، وهو وليد أُسرة هاشمية مباركة، راحت بركاتها تعمّ الخافقين!.

أُمّه:

كانت لعبد المطلب زوجات خمس، وكان له منهنّ عشرة ذكور وست نساء، فأمّ عبداللَّه والد النبيّ صلى الله عليه و آله، وأبي طالب والد الإمام عليّ عليه السلام، والزبير، وجميع النساء غير صفية، كانت فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مُرّة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر.

فأبو طالب يلتقي مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الام بجدّهم مُرّة، فأمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤي بن غالب

ص: 130

ابن فهر بن مالك بن النضر.

قال ابن هشام: فرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أشرف ولد آدم حسباً، وأفضلهم نسباً من قِبَل أبيه وأُمّه (1). وما من شك أنّ هذه الأشرفية والأفضلية تشمل أبا طالب أيضاً.

زوجته:

إنّ الكلام عن «أبو طالب» يجرّنا إلى الكلام عن زوجته الفاضلة الوحيدة (2)، ابنة عمّه، وهي أوّل هاشميّة تزوّجها هاشمي، وعليّ بن أبي طالب يعدّ واخوته هاشميين أباً وأُمّاً، فقد تعوّد بنو هاشم أن يصهروا إلى أُسر أُخرى.

لقد كانت هذه المرأة الجليلة ذات منزلة رفيعة جعلتها من اللائي امتازت حياتهنّ بمواقف عظيمة في حركة الأنبياء ومسيرتهم عبر التأريخ، فقد أثنى عليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لاهتمامها به ورعايتها له طيلة سبعة عشر عاماً، ممّا جعله شاكراً لها ولمعروفها معه، حتى كان يدعوها «أُمّي بعد أُمّي التي ولدتني» فقد كانت تفضّله على أولادها الأربعة.

حظيت هذه السيدة والمرأة المؤمنة الطاهرة بمكانة عظيمة في قلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتركت في نفسه آثاراً طيبة، راح يذكرها طيلة حياته، ويترحم عليها، ويدعو لها... تقول الرواية:

لما ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ عليّ- وكانت قد أوصت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقَبِل وصيتها- ألبسها النبيّ صلى الله عليه و آله قميصه، واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول اللَّه صنعت هذا!

فقال: «إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي؛ لتكسى من حلل الجنّة، واضطجعت معها؛ ليُهوَّن عليها».


1- السيرة النبوية لابن هشام 1: 110.
2- قيل: إنّ له زوجة أُخرى تُدعى «عَلَّة» ولدت له «طليق».

ص: 131

وفي دعاء خاص لها، قال: «اللهم اغفر لامّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسّع عليها مدخلها». وخرج صلى الله عليه و آله من قبرها وعيناه تذرفان دموعهما وكان هذا في السنة الرابعة من الهجرة النبوية.

لقد كانت رضوان اللَّه عليها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله طيلة سبعة عشر عاماً قضتها معه بمنزلة الامّ، بل كانت أماً بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد كانت بارّةً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله «لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها» فحنانها وشفقتها ورعايتها له، بلغت مبلغاً عظيماً حتى فاقت رعايتها لأبنائها، وكأنّها تعلم أنّ له مكانة عظيمة وشأناً جميلًا، تقول بعض الروايات كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً، ويصبح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كحيلًا دهيناً.

هذا في مداراتها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحبّها له. أمّا في إيمانها، فقد كانت بدرجة عظيمة، ومن السابقات إلى الإسلام بعد عشرة من المسلمين، ومن المهاجرات الأول إلى المدينة، ثمّ هي بعد هذا بدريّة وهي كرامة عظيمة لها (1).

بدأ أبو طالب حياته مع هذه السيدة الهاشمية المُباركة بخطبته التي قال فيها:

«الحمد للَّه ربّ العالمين، ربّ العرش العظيم، والمقام الكريم، والمشعر والحطيم، الذي اصطفانا أعلاماً وسادةً، وعرفاء خلصاً وقادةً، وحجّة بهاليل، أطهاراً من الخنا والريب، والأذى والعيب، وأقام لنا المشاعر، وفضّلنا على العشائر، نخب إبراهيم وصفوته، وزرع إسماعيل، وقد تزوجت فاطمة بنت أسد، وسقت المهر، وأنفذت الأمر، فاسألوه واشهدوا».

فقال أسد: زوجّناك ورضينا بك.

وأولم أبو طالب سبعة أيام متوالية، ينحر فيها الجزر، وفي ذلك يقول أُمية بن السلط:


1- انظر في هذا وغيره مقالتنا في ميقات الحج 14.

ص: 132

أغمزنا عرس أبي طالب وكان عرساً لين الجانب

إقراؤه الضيف بأقطارها من رجل خفّ ومن راكب

فنازلوه سبعة أحصيت أيامها للرجل الحاسب

أولاده:

كان لأبي طالب من الأولاد الذكور أربعة، أكبرهم طالب ثمّ عقيل، ثمّ جعفر ثمّ عليّ، وكلّ واحد أكبر من الذي بعده عشر سنوات، وكان علي أصغر أولاده.

ومن الإناث: أُمّ هاني. وكلّهم من فاطمة بنت أسد، التي لم يتزوّج غيرها.

أبو طالب ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

بعد هذا الاستعراض السريع، نعود إلى علاقته برسول اللَّه صلى الله عليه و آله كفالةً وحبّاً ودفاعاً وإيماناً بما جاء به؛ أمانة السماء التي حملها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بشيراً ونذيراً، ورحمةً للعالمين.

فإنّه يحسّ بشرفٍ!

لقد تكفّل جدّه عبد المطلب محمداً تربية وتنشئةً... وحفظه ورأف به رأفةً لم يرأفها بأولاده أبداً. فقد كان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلّاأحضره معه وشركه فيه... وليس هذا فقط، بل كان يقرّبه ويدنيه إلى مجالسه العامّة والخاصة؛ لأنّه كان يستبشر به خيراً كثيراً، فكان لعبد المطلب مجلس خاص به في حجر إسماعيل، وهو مكان تعوّد العرب أن لا يجلس فيه إلّازعماؤهم وأشرافهم وكبراؤهم دون غيرهم من الناس مهما كانت منزلتهم وعلت مكانتهم، فهذا المكان كان خاصّاً بأولئك الأشراف.

قال عطاء: سمعت ابن عبّاس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامةً، وأحسن الناس وجهاً، ما رآه قط شي ء إلّاأحبّه، وكان له مفرش في

ص: 133

الحجر لا يجلس عليه غيره، ولا يجلس معه عليه أحد، وكان الندي من قريش حرب بن أُميّة فمن دونه يجلسون دون المفرش.

فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو غلام يدرج؛ ليجلس على المفرش، فجذبوه فبكى.

فقال عبد المطلب، وذلك بعدما حجب بصره؛ ما لابني يبكي؟!

قالوا له: إنّه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه.

فقال عبد المطلب: دعوا ابني، فإنّه يحسّ بشرف، أرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قطّ (1).

الكفالة المُباركة:

كان عبد المطلب يرى في ابنه «أبو طالب»- الذي حظي بوراثة جميع مناقبه- الشخصية اللائقة بما تملكه من صفات رفيعة وخصال جليلة، بكفالة يتيم بني هاشم، سيد الكائنات محمّد بن عبداللَّه، الذي كان يترقّب- كما ذكرنا- فيه شرفاً عظيماً وأمراً كبيراً ومستقبلًا باهراً لا يخلو من مخاطر وعقبات وآلام قد يتعرّض لها في مسيرته، وهو ما يلمسه كلّ قارئ لوصيته، التي أودعها ابنه البار أبا طالب، الذي رآه من دون الآخرين من بني هاشم وغيرهم، جديراً بحمل هذه الأمانة، وهي أمانة ليست سهلةً بما تحمله من آثار كبيرة ومشاكل جمّة، قد يتعرّض لها أبو طالب أيضاً، لهذا نرى عبد المطلب قد اختاره من دون اخوته الآخرين لهذه المسؤولية، فما إن نزل به المرض حتى نادى أبا طالب، وراح يعهد إليه كفالة حبيبه محمّد، ويوصيه بقوله:

«انظر يا أبا طالب، أن تكون لهذا الوحيد، الذي لم يشمّ رائحة أبيه، ولم يذق شفقة أُمّه، انظر أن يكون منك بمنزلة كبدك، فإنّي قد تركتُ بني كلّهم، وخصصتك به...»


1- انظر حجر اسماعيل في تأريخ الأزرقي والفاكهي وغيرهما.

ص: 134

وفي قول آخر: يا أبا طالب إنّي قد عرفت ديانتك وأمانتك، فكن له كما كنتُ له.

وفي قول ثالث: يا بني قد علمتَ شدّة حبّي لمحمّد ووجدي به، انظر كيف تحفظني فيه.

ثمّ قال: «إن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنّه، واللَّه سيسودكم، ويملك ما لم يملك أحدٌ من آبائي».

ثمّ راح يصوّب ناظريه إلى وجه أبي طالب، كأنّه يريد أن يستطلع ما يدور في خلجات نفسه وردودها فيقول:

هل قبلت يا أبا طالب؟

فيجيبه قائلًا: قد قبلتُ، واللَّه على ذلك شهيد.

ثمّ يضع يده بيد ابنه ويشدّ بقوّة عليها، قائلًا: الآن خُفّف عليّ الموت، وراح يغمض عينيه بهدوء، ويرحل هناك إلى حيث الدار الآخرة بقلب راضٍ ونفسٍ مطمئنة، عن عمر ناهز مئة وعشرين عاماً.

فكان أبو طالب يؤثره بالنفقة والكسوة على نفسه وعلى جميع أهله، ويغدق عليه محبته وعطفه وحنانه، يقول ابن سعد في طبقاته:

كان أبو طالب لا مال له، وكان يحب محمّداً حبّاً شديداً لا يحبّه ولده، وكان لا ينام إلّاإلى جنبه، ويخرج فيخرجه معه، وصبّ به أبو طالب صبابةً لم يصب بشي ء مثلها قط، وكان يخصّه بالطعام... (1)ثمّ واصل ابن سعد قوله:

وشبّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع أبي طالب يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومصائبها (2).


1- الاحتجاج 1: 343.
2- طبقات ابن سعد 1: 119- 121.

ص: 135

وصحبه!

وقد صحبه إلى حرب الفجّار، وكان غلاماً عمره أربعة عشر عاماً، وقد انتصرت فيها هوازن حليفة أبي طالب على كنانة بيمن محمّد صلى الله عليه و آله، وفي خبر آخر... فإذا جاء أبو طالب هُزمت قيس، وإذا لم يجئ هزمت كنانة، فقالوا لأبي طالب:

لا أبا لك! لا تغب عنّا. ففعل (1).

وصحبه في الاستسقاء لقومه داعياً ربّه أن يكشف عنهم القحط، وهنا بسط محمّد كفّيه، ودعا مع عمّه، فإذا الغيث ينهمر من السماء وافياً كافياً.

ذكر ابن عساكر من أنّ أهل مكّة قحطوا، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس تجلّت، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام باصبعه، وأومأ نحو السماء، فأقبل السحاب من هنا وهناك، وأغدق وأخصبت الأرض.

وهنا أنشأ أبو طالب يقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تلوذ به الهلّاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل

وصحبه في رحلته إلى ذي المجاز، وفيها عطش أبو طالب حتى كادت حرارة العطش تلتهم كبده، فما كان من محمّد إلّاأن مدّ يده إلى صخرة شامخة، فإذا بالماء يتدفّق منها عذباً فراتاً.

وصحبه ليخطب له خديجة بنت خويلد الأسدي، المعروفة بشرفها وعفّتها ومالها، فقد كانت تستأجر الرجال في تجارتها، وقد حظيت أخيراً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليخرج في تجارتها إلى الشام وهو ابن خمس وعشرين سنة مع


1- شرح نهج البلاغة 3: 469.

ص: 136

غلامها ميسرة، فباع بضاعتها بأضعاف ما كانت خديجة تربحه، فسرّت بهذا كثيراً، وحدّثت نفسها بالزواج منه...

فابتدأ أبو طالب خطبتها بأن قال: الحمد لربّ هذا البيت، الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وأنزلنا حرماً آمناً، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه...

ما أجمل كلامك يا أبا طالب و أعظمه!

ثمّ إنّ ابن أخي هذا- يعني محمّد بن عبداللَّه- ممّن لا يوزن برجل من قريش، إلّا رجح به، ولا يقاس به رجل إلّاعظم عنه، ولا عدل له في الخلق، وإن كان مقلّاً في المال، فإنّ المال رفد جارٍ وظلٍّ زائل!

وله في خديجة رغبة، وقد جئناك (ويقصد به ورقة بن نوفل عمّها) لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر عليَّ في مالي، الذي سألتموه عاجله وآجله، وله وربّ هذا البيت حظٌّ عظيم ودين شائع ورأي كامل...

ثمّ سكت أبو طالب، وتكلّم عمّها وتلجلج أي تردّد في الكلام وقصر عن جواب أبي طالب، وأدركه القطع والبهر (النَفس من الأعياء).

وهنا قالت خديجة مبتدئة: يا عمّاه إنّك وإن كنت أولى بنفسي منّي في الشهود، فلستَ أولى بي من نفسي، قد زوّجتك يا محمّد نفسي والمهر عليَّ في مالي، فأمر عمّك، فلينحر ناقةً فليولم بها، وادخل على أهلك.

وهنا قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمّداً وضمانها المهر في مالها.

فقال بعض قريش: يا عجباه المهر على النساء للرجال! فغضب أبو طالب غضباً شديداً، وقام على قدميه، وكان ممّن يهابه الرجال، ويكره غضبه، فقال: إذا كانوا مثل ابن أخي هذا، طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم، لم يزوّجوا إلّابالمهر الغالي.

ونحر أبو طالب ناقةً، ودخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأهله...

ص: 137

إظهار الدين الجديد:

في السنة الرابعة من البعثة النبوية المُباركة، جاء أمر السماء محمّداً أن يظهر دعوته ويجهر بها، فبادر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عمّه العباس قائلًا له:

إنّ اللَّه تعالى أمرني بإظهار أمري، فما عندك؟

فقال له العباس: يا ابن أخي، تعلم أنّ قريشاً أشدّ حسداً لوالدك، وإن كانت هذه الخصلة الطامّة الطّماء، والداهية العُظمى، ورمينا عن قوس واحد، لكن قرب إلى عمّك أبي طالب، فإنّه أكبر أعمامك، إن لا ينصرك، لا يخذلك ولا يسلمك، فأتياه، فلمّا رآهما أبو طالب قال: ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فأخبره العباس بالحال، فنظر إليه أبو طالب وقال: يا ابن أخي إنّك الرفيع كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى أباً، واللَّه لا يسلقك لسان، إلّاسلقته ألسن جداد، واحتدمته سيوف حداد، واللَّه لتذلنّ لك العرب، ولقد كان أبي يقرأ الكتب جميعاً، ولقد قال: إنّ من صلبي لنبيّاً، لوددت أنّي أدركت ذلك فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

وأنذر عشيرتك الأقربين (الشعراء: 214):

وفي تفسير هذه الآية، بعض من المفسّرين ومن أصحاب السير أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لما قام ليدعو أُسرته، عارضه أبو لهب، فقال أبو طالب: اسكت يا أعور! ما أنت وهذا؟ ثمّ قال للنبي صلى الله عليه و آله: قم يا سيّدي وتكلّم بما تحب، وبلّغ رسالة ربّك، فإنّك الصادق الصديق (1).

* وفود قريش:

تعاقبت وفود قريش على أبي طالب، بعد أن أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رسالة السماء، فكان يواجهها بمواقفه المعروفة بالحكمة.


1- انظر غاية السؤول عن ابراهيم الحنبلي بأسانيد عديدة، وغيره من المصادر.

ص: 138

* وفد قريش الأوّل:

ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أمر اللَّه، مظهراً لأمره، لا يردّه عنه شي ء. فلمّا رأت قريش أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يعتبهم (أي لا يرضيهم) من شي ء، أنكروه عليه، من فراقهم وعَيب آلهتم، ورأوا أنّ عمّه أبا طالب قد حَدِبَ عليه، وقام دونه، فلم يُسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة ابن عبد شمس...، وأبو سفيان بن حرب بن أُميّة... وأبو البختري، والأسود بن عبدالمطلب ابن أسد، وأبو جهل والوليد بن المغيرة وبنيه ومنبّه ابنا الحجاج والعاص بن وائل...

فقالوا وهم على كلمة واحدة لا غيرها: إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفّه أحلامنا، وضلّل آباءنا، فإمّا أن تُكفّه عنّا، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه، فإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقاً، وردّهم ردّاً جميلًا، فانصرفوا عنه.

* وفد قريش الثاني:

ثم إنّهم مشوا إلى أبي طالب مرّةً أُخرى، فقالوا له: يا أبا طالب، إنّ لك سنّا وشرفاً ومنزلة فينا، وإنّا استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنّا، وإنّا واللَّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنّا، أو ننازله وإيّاك في ذلك، حتى يهلك أحدُ الفريقين...

وفي خبر آخر أنّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال له: ياابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا له، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تُحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قد بدا لعمّه فيه بَداء، أنّه خاذله ومسلّمه، وأنّه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا عمّ، واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني،

ص: 139

والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره اللَّه، أو أهلك فيه، ما تركته، ثم استعبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فبكى ثمّ قام، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل ياابن أخي، قال: فأقبل عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: إذهب يا ابن أخي، فقل ما أحببت، فواللَّه، لا أُسلّمك لشي ء أبداً.

* وفد قريش الثالث:

ثمّ إنَّ قريشاً حين عرفوا أنّ أبا طالب أبى خذلان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد (أشدّ وأقوى) فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنّما هو رجل برجل، فقال: واللَّه لبئس ما تسومونني (تكلفونني) أتُعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؛ هذا واللَّه ما لا يكون أبداً... (1) أبو طالب والموقف القرشي:

وأخيراً- وبعد أن يئست وفودها- تيقنت قريش وزعماؤها أنّ أبا طالب لا يسلم ابن أخيه ولا يخذله، بل سيمنع محمّداً صلى الله عليه و آله منهم بكل ما أوتي من قوّة، وما دام فيه عرق ينبض، بل راحوا يلمسون ويرون نشاطه الواضح في الترويج للرسالة الجديدة، ويحرّض أهله على الإيمان بها والوقوف بجانب محمّد صلى الله عليه و آله ونصرته.

فتارةً: يأمر ابنه جعفراً بالصلاة، حيث رأى محمّداً صلى الله عليه و آله يصلّي، وإلى جانبه علي عليه السلام، فيقول لجعفر: صل جناح ابن عمّك (2).


1- انظر السيرة النبوية 1: 264- 268 ففيها تفصيل كثير.
2- انظر الإصباح 7: 112.

ص: 140

وأُخرى: يقول لأخيه حمزة حينما أعلن إسلامه:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد وكن مظهراً للدين وفّقت صابرا

وثالثة: يخاطب محمّداً صلى الله عليه و آله بعد وفود قريش له، تستعين به على إيقاف جهد محمّد ونشاطه في تسفيه أحلامهم ومعتقداتهم، ثمّ دعوتهم إلى الإيمان باللَّه تعالى وحده. فيقول له:

واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

أبو طالب والحصار في الشعب:

لما رأى أبو طالب أنّ قريشاً يئست في كلّ محاولاتها من الوصول إلى هدفها في استمالته إلى جانبها ضد محمّد صلى الله عليه و آله ودعوته، وبالتالي منع الدعوة الجديدة من الانتشار والاتساع في المجتمع المكّي وأطرافه وقبائله، بدأت تغيّر أساليبها لتقويض الدين الجديد، فراحت تفكّر بإيذاء الرسول صلى الله عليه و آله بل بقتله، فما كان من أبي طالب إلّاأن يأمُر بني هاشم وبني المطلب أن يدخلوا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله الشعب، ليمنع ما قد تقدم عليه قريش من أذى لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله... أو أنّه دخل ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله وجمع معه الشعب، ثمّ انحاز إليهم بنو هاشم والمطلب إلّاأبا لهب فقد خرج من بني هاشم وظاهر قريشاً.

الصحيفة وما آلت إليه:

حيث إنّ قريشاً ما إن رأت هذه الخطّة الجديدة من أبي طالب حتى استقرّ رأيها على كتابة عهد يوقّعه الجميع، يتضمّن مقاطعة شاملة سياسية واقتصادية واجتماعية لبني هاشم والمطلب، وأن يضيّقوا عليهم ويمنعوهم من حضور الأسواق، وأن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم، ولا يقبلوا لهم صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وبعد أن كتبوا هذه الوثيقة، وتعاهدوا وتواثقوا فيها في

ص: 141

جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم، وكان كاتب هذه الصحيفة منصور بن عكرمة ابن عامر، ويُقال النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فشلّ بعض أصابعه.

وقال أبو طالب شعراً:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا لؤيّاً وخُصّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّداً نبيّاً كموسى خُطّ في أوّل الكتب؟

وأنّ عليه في العباد محبةً ولا خير ممّن خصّه اللَّه بالحب

وأنّ الذي ألصقتم من كتابكم لكم كائن نحساً كراغبة السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ويصبح من لم يجن ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا أواصرنا بعد المودّة والقرب

فلسنا وربّ البيت نسلم أحمداً لعزّاء (لشدة) من عضّ الزمان ولا كرب

أليس أبونا هاشم شدّ أزره وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

ولسنا نملّ الحرب حتى تملّنا ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ظل بنو هاشم والمطلب ومن معهم ثلاث سنين، وقول آخر، مكثوا سنتين في الشعب، فترك هذا الحصار أثره عليهم، وأصابتهم ضائقة شديدة، حتى جهدوا حيث لا يصل اليهم شي ء إلّاسرّاً، وكان دور أبي طالب وأُمّ المؤمنين خديجة عظيماً في تخفيف المعاناة هذه داخل الشعب، حيث كانا يدخلان المؤن والأقوات إلى داخل الشعب خفيةً، حتى هيّأ اللَّه تعالى الأرضة فأكلت معاهدة قريش، وأوصى اللَّه تعالى إلى رسوله بهذا، فأخبر عمّه أبا طالب: يا عمّ إنّ ربي اللَّه قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو للَّه إلّاأثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال: أربك أخبرك بهذا؟

قال: نعم.

ص: 142

قال: فواللَّه ما يدخل عليك أحد.

فبادر أبو طالب إلى مجالس قريش وأنديتها، ليخبرهم بما آلت إليه وثيقتهم، وبما صنع اللَّه تعالى في صحيفتهم، وأنّ الذي أخبره بذلك هو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ووضعهم بهذا أمام امتحان واختبار حيث قال لهم: إن كان الحديث كما يقول ابن أخي، فأفيقوا، وإن لم ترجعوا، فواللَّه لا نسلّمه حتى نموت عن آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلًا، دفعنا إليكم صاحبنا.

فقالوا: قد رضينا بما تقول، وتعاقدوا على ذلك، ثمّ فتحوا الصحيفة، فوجدوا الأمر كما أخبر به الصادق الأمين.

وعندما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب، قالوا: هذا سحر ابن أخيك، وما زادهم ذلك إلّابغياً وعتواً وعدواناً...

فقال لهم أبو طالب: علام نحبس ونحصر، وقد بان الأمر، وتبيّن أنّكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة؟

ثمّ دخل يمين أستار الكعبة، ودخل معه بنو هاشم قائلين: اللّهمّ انصرنا على من ظلمنا، وقطع أرحامنا، واستحل من يحرم عليه منا، ثمّ انصرفوا إلى الشعب.

وقال أبو طالب في هذا شعراً.

وقد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا اللَّه عنها كفرهم وعقوقهم وما نقموا من ناطق الحقّ معرب

فأصبح ما قالوا من الأمر باطلًا ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب (1)

وفي نهاية هذا الموقف وافق أبا طالب قوم وآمنوا به وامتنع آخرون.

وقام أبو طالب يمدح أولئك النفر الذين قاموا- بعد أن اتّضح لهم الحقّ- في


1- انظر ابن الأثير في الكامل 2: 36.

ص: 143

نقضها في ستة وعشرين بيتاً من الشعر كان منها:

فيخبرهم أنّ الصحيفة مزّقت وأنّ كلَّ ما لم يرضه اللَّه مفسد (1)

أبو طالب يستحث قومه:

وحينما رأى أبو طالب ما تقوم به قريش من تعذيب أتباع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومريديه، وما يصنعونه في بني هاشم وبني المطلب، دعا قومه إلى المجي ء الى ما هو عليه، والانضمام إليه، من منع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والقيام دونه، فلبّى قومه دعوته، إلّا ما كان من تمرّد أبي لهب وعدم استجابته لهذه الدعوة.

وما إن رأى أبو طالب موقف قومه هذا وما سرّه في جهدهم معه، وحدبهم عليه، حتى راح يمدحهم ويذكر قديمهم، وفضل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيهم، ومكانته الكبيرة بينهم، ليشُدّ لهم رأيهم، وليَحدَبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر فعبدُ مناف سرها وصميمها

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً هو المصطفى مَن سرّها وكريمها

تداعت قريش غُثها وسمينها علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (2)

الوصية الأخيرة:

من على فراش مرضه، الذي يدثّره وقد مات فيه، انطلقت كلمات رائعة، فكانت نوراً يدخل القلوب، وكانت وصايا تنبع الحكمة من أعماقها، وكانت كلمات تتفوّه بها بصيرة نافذة:

يا معشر قريش! أنتم صفوة اللَّه من خلقه وقلب العرب، وفيكم السيّد


1- انظر القصيدة كاملة في السيرة النبوية لابن هشام 1: 377- 380.
2- انظر المصدر نفسه.

ص: 144

المُطاع، وفيكم المُقدام الشجاع، واعلموا أنّكم لم تتركوا نصيباً في المآثر إلّا أحرزتموه، ولا شرفاً إلّاأدركتموه...

وإنّي أوصيكم بتعظيم هذه البنية- الكعبة- فإنّ فيها مرضاة الرب، صلوا أرحامكم، ولا تقطعوها، فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل، وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق، ففيهما هلكت القرون قبلكم... أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة.

ولم يقف عند هذا، بل راح يوصيهم برسول اللَّه خيراً، فيقول:

وإنّي أوصيكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة.

ثمّ راح يحدّق بعيداً في مستقبل هذه الامّة والرسالة، فيقول:

وأيم اللَّه، لكأنّي أنظر إلى صعاليك العرب والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، ولكأنّي به، وقد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها...

ثمّ يلتفت إلى محمّد ويخاطبهم بقوله:

واللَّه لا يسلك أحدٌ سبيله إلّارشد... ولا يأخذ أحد بهديه إلّاسعد، انصروا محمّداً فإنّه الهادي الى سواء السبيل.

ولو أنّ اللَّه تعالى أخّر أجله وأمدّ في عمره، وقد عبّر عن أُمنيته هذه بقوله:

ولو كان للنفس مدة، وفي أجلي تأخير؛ لكففتُ عنه الهزاهز، ولدافعتُ عنه الدواهي.

هذه هي وصيّته في عامة الجالسين، وكان منهم المشركون الذين يتلهفون إلى موته، ليميلوا على محمّد وصحبه، ميلةً واحدة، ويبطشوا بهم.

ثم تحين منه التفاتة إلى بني هاشم، بعد أن خلا المجلس إلّامنهم، فيقول:

ص: 145

يا معشر بني هاشم! أطيعوا محمّداً وصدّقوه، تفلحوا وترشدوا...

ثمّ راح يخصّ أربعة من الهاشميين وهم: ولداه: علي وجعفر، وأخواه:

الحمزة والعباس، فيقول:

أوصي، بنصر نبي اللَّه، أربعة ابني علياً، وعم الخير عباسا

وحمزة الأسد المخشيَّ صولته وجعفراً، أن تذودوا، دونه الناسا

كونوا- فداء لكم أمّي، وما ولدت في نصر أحمد، دون الناس، أتراسا (1)

و مَن كانت هذه وصاياه، أتظنه يموت كافراً، و عن هذا النعيم و الفلاح غافلًا ...؟!

وفاة أبي طالب:

توفي بيضة البلد عن ستة وثمانين عاماً، في شهر رمضان، وقيل في النصف من شوال، وقيل في رجب من السنة العاشرة للبعثة النبويّة الشريفة، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، قبل وفاة أُمّ المؤمنين خديجة بثلاثة أيام، أو بشهور على قول ولهذا سمّى الرسول هذا العام عام الحزن، وقال: «اجتمعت عليَّ في هذه الأيام مصيبتان بأيّهما أنا أشدّ جزعاً» (2).

فما إن أغمض عينيه الساهرتين على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حفظاً ورعايةً ومؤازرةً ودفاعاً ودعوةً إلى ما يحمله بين يديه، حتى أمر الرسول عليّاً أن يغسّله ويكفّنه، فعن علي أنّه قال: أخبرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بموت أبي طالب، فبكى، ثم قال: «اذهب فغسّله، وكفّنه، وواره غفر اللَّه له» (3).

وفي خبر ثمّ جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يشيعه ويرثيه قائلًا:


1- انظر في هذا كلّه السيرة النبويّة وغيرها من مصادر التاريخ وما كتب عنه وهو كثير.
2- السيرة النبويّة 2: 416 وغيرها.
3- طبقات ابن سعد 1: 123.

ص: 146

«وصلتك رحم يا عم، وجزيت خيراً، فلقد ربيت، وكفلت صغيراً... ونصرت، وآزرت كبيراً... أمّا واللَّه لأستغفرنَّ لك، ولأشفعنّ لك شفاعة يعجب لها الثقلان...

وا أبتاه! وا أبا طالباه! وا حزناه عليك يا عم كيف أسلو عنك، يا من ربّيتني صغيراً، وأحببتني كبيراً، وكنتُ عندك بمنزلة العين من الحدقة، والروح من الجسد؟!

بهذه العبارات والعبرات والقلب الحزين ودّع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عمّه، كما ودّعته الرسالة كذلك. بكاه الرسول والرسالة والناس أجمعون، بكته الجموع المؤمنة أباً رحيماً وعمّاً ودوداً ومربّياً واعياً ومدافعاً حكيماً، ومؤمناً حليماً...

يقول البكري في كتاب مولد أمير المؤمنين عليه السلام عن الحزن الذي ملأ أجواء مكّة:... شققن النساء على أبي طالب الجيوب، ونشرن الشعور، وشمل الحزن جميع شعاب مكّة وشعوبها.

وراح أمير المؤمنين يرثي أباه:

أبا طالب عصمة المستجير وغيث المحول، ونور الظلم

لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ فصلّى عليك وليّ النعم

ومما قيل عنه:

نذكر هنا بعض الروايات والأقوال الواردة بحقّه رضوان اللَّه عليه

عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال:

كان واللَّه أبو طالب... مؤمناً مسلماً، يكتم إيمانه مخافةً على بني هاشم أن تنابذها قريش (1).

... كان أمير المؤمنين يعجبه أن يروي شعر أبي طالب وأن يدوّن، وقال:

تعلموه وعلّموه أولادكم، فإنّه كان على دين اللَّه، وفيه علم كثير.


1- انظر أبو طالب عملاق الإسلام الخالد، لمحمد علي أسد: 152 عن مجلة نهج الإسلام.

ص: 147

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

إنّ أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الكفر، فأتاهم اللَّه أجرهم مرّتين، وإنّ أبا طالب أسرّ الإيمان وأظهر الشرك، فأتاه اللَّه أجره مرّتين، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من اللَّه بالجنّة، كيف يصفونه بهذا (أنّه مات كافراً) وقد نزل جبريل ليلة مات أبو طالب، فقال يا محمّد أخرج من مكّة فما لك بها من ناصر بعد أبي طالب (1).

ممّا قالوا:

يقول ابن الأثير في جامع الاصول:... فلمّا رأى المشركون ذلك- يعني إظهار الدعوة- خالفوه وعاندوه، وأظهروا عداوته، وأجمعوا على أذاه، وهمّوا بقتله، فأجاره عمّه أبو طالب، ودفع عنه وحماه، إلّاأنّ قريشاً تظافروا على بني هاشم وبني المطلب حتى حصروهم في الشعب...

ثم قال: فمات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل: بخمسة أيام، وقيل: بأكثر من ذلك، فبان أثر موتهما على النبيّ صلى الله عليه و آله، فخرج إلى الطائف (2).

وقال الزمخشري: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «ما زالت قريش كاعة، حتى مات أبو طالب» أي جبناء عن أذاي، جمع كائع (3).

يقول الطبري: ولما هلك أبو طالب، خرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه (4).


1- راجع شرح نهج البلاغة 3: 466، و أعيان الشيعة 39: 136، والغدير 7: 381.
2- جامع الأُصول 1: 296.
3- انظر الفائق 3: 290.
4- تاريخ الطبري 1: 554.

ص: 148

ويقول أيضاً، بعد أن يذكر أنّ أبا طالب وخديجة هلكا في عام واحد قبل هجرته صلى الله عليه و آله إلى المدينة بثلاث سنين: فعظمت المصيبة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بهلاكهما؛ وذلك أنّ قريشاً وصلُوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى نثر بعضهم على رأسه التراب...

وقال ابن أبي الحديد: ومَن أراد أن يقف على شدّة بلاء أبي طالب في الدفع عنه والذب حين تعاقدت قريش على قطعه صلى الله عليه و آله، وكتبوا في ذلك الكتاب وعلّقوه في الكعبة، ووثبت كلّ قبيلة على من أسلم منهم يعذبونهم على الصخر والصفا في حرّ الشمس، وحين صدّوهم في الشعب سنتين أو ثلاثاً، ومع ذلك كلّه أبو طالب يحوط النبيّ صلى الله عليه و آله ويمنعه ويقوم دونه، فليراجع كتب السير، يقف على ما صنعه معه، بل لشاهد عياناً صدق قول الباقر عليه السلام، وقد سئل عن إيمانه: «ولو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان، وإيمان هذا الخلق في الكفّة الاخرى؛ لرجح إيمانه» (1).

وهنا يذكر ابن أبي الحديد: أنّ علي بن الحسين عليه السلام سُئل عن هذا، فقال:

«واعجباً، إنّ اللَّه تعالى نهى رسوله أن يُقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات» (2).

روى عكرمة عن ابن عباس أنّه قال: جاء أبو بكر إلى النبيّ صلى الله عليه و آله بأبي قحافة، يقوده وهو شيخ كبير أعمى، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأبي بكر: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟! فقال أبو بكر: أردت يا رسول اللَّه أن يأجرني اللَّه، أما والذي بعثك بالحقِّ لأنا كنتُ أشدّ فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب مني بإسلام أبي، التمس بذلك قرّة عينك.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: صدقت (3).


1- شرح نهج البلاغة 3: 316.
2- شرح نهج البلاغة 3: 316، الاستيعاب بهامش الإصابة 4: 381.
3- المصدر نفسه 3: 322.

ص: 149

وقد اشتهر عن المأمون العباسي أنّه قال: واللَّه أسلم أبو طالب بقوله:

نصرتُ الرسول رسول المليك ببيض تلألأ سمع البروق

أذبّ وأحمي رسول الإله حماية حامٍ عليه شفيق... (1)

أبو طالب ضحيّة مؤامرة قذرة!:

بدايتها:

في العصر الأوّل للإسلام لم يكن هناك أي اختلاف في إيمان أبي طالب، وإنّما بدأ هذا بعد أن تفاقم الخلاف حتى وصل إلى الصراع بين علي ومعاوية، فراحت الروايات الموضوعة تقوّض مناقب، وتختلق أُخرى، وتميت مواقف، وتصنع غيرها، عبر أكثر من سبعين ألف منبر وخلال سبعين سنة تحت شعار أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته... ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب، إلّا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإنّ هذا أحبّ إليَّ وأقر لعيني، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته (2)، حتى قيل له: أما آن لك- يا معاوية- أن تترك عليّاً وشأنه، وتأمر بترك مسبّته على المنابر؟

قال معاوية: لا، حتى يموت عليها الكبير ويربو عليها الصغير.

لم أجد وأنا أُقلّب صفحات التأريخ بحثاً عمّا يتعلّق بحياة شيخ قريش وسيّدها أبي طالب، ثغرةً للنفاذ منها إلى تأييد ما ذهب إليه قوم من تكفيرهم له، وأنّه مات كافراً برسالة السماء، التي حملها ابن أخيه وهو ينطلق من بين يدي أبي طالب نبيّاً رسولًا، مبشّراً نذيراً، ويدا أبي طالب تبارك له عمله وكدحه وجهاده، ويقف سدّاً منيعاً ضد من يريد الكيد به قريباً كان أو بعيداً، لم أعثر على شي ء يؤيّد قولهم


1- انظر شرح نهج البلاغة 3: 317
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44- 46.

ص: 150

هذا، ويقف دليلًا على ما زعموه، إلّاأني خطر ببالي شي ء، قد يكون هو لا غير وقلت في نفسي: لو كان أبو طالب أبا أحد من رجالهم غير عليٍّ، لما تجرأوا واتهموه بهذا، ولوصفوه بأجمل خصائص الإيمان، وهو فعلًا ما حصل لأبي سفيان وأمثاله، ولملئت كتبهم وحناجرهم مدحاً له واطراءً وثناءً عليه، ولكن الرجل كان ضحيّة بغضهم لابنه عليٍّ، وكان جزءاً من تلك المؤامرة ومن ذلك النزاع، الذي نشب في صفوف الأُمّة المسلمة بعد رحلة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى، ثمّ تعاظم حتى اكتمل بمؤامرة الشتم والتسقيط، التي أسّسها وقادها الحكم الأُموي في الشام، وسخّروا لها كلّ ما من شأنه تزييف الحقائق وتضليل الناس، من مالٍ وسلاح وترغيب وتهديد، لتنال من المقام الشامخ للإمام عليٍّ عليه السلام، حتى كاد أن يكون، بل صار فعلًا الهدف الأوّل والرئيسي لحكمهم.

إنّه صراع بين إسلام رسالي انتهجه عليّ وبنوه وأتباعه، ونهج آخر سار عليه الأمويّون يقدمهم معاوية بن أبي سفيان.

نعم أكملوها بالطعن بأبيه، والغريب أنّ رسائل معاوية إلى عليٍّ عليه السلام خلت من هذا الطعن، بل وحتى أحاديثه، ولو وسعه- كما يقول عبد المفتاح عبد المقصود- لفعل، فأفحش في القول، وأوفى الكيل، ثمّ لجاء من لدنه بكلّ ما يخسر ميزان الإمام...

ثمّ يتساءل قائلًا:

فلماذا لم يفعل؟

لا عن ولاء للقربى أحجم...

ولا عن تعفف وتورّع، رعاية لنواميس الأخلاق. فمثله ما كان ليأخذ نفسه بالتفريط في ذرة هباء تمتلكها يمينه، إن هو علم أنّ الناس سيحسبونها قطرة حقيقة في خضم من الأكاذيب!

... فأما وقد كفّ ادعاءه، وابتلع خيلاءه، فذلك لأنّه لم يكن يملك في إيمان أبي طالب أثارة شبهة أو دليل ينفذ من خلالها إلى نقض هذا الإيمان، سواء أكانت هذه

ص: 151

الأثارة رأي شانئ معاصر عايش شيخ بني عبد مناف، أم رواية راوية لاحق آثر الانحراف!

وراح عبد الفتاح يتحدّث بقوله: ولمن يشاء أن يحاج في هذا الذي نراه، فليأتنا من رسائل ابن أبي سفيان إلى الإمام، أو في أحاديثه التي ملأ بها آذان مناصريه، بكلمة تشير، من قريب أو من بعيد، إلى ما يخدش إيمان أبي طالب، وينال من صدق إسلامه (1).

أقول: وهذا إن دلّ على شي ء فإنّما يدل على أنّ إيمان أبي طالب في العصر الأوّل لا يمكن أن يرتاب به أحد، أو أن يسمع من أحد الطعن فيه أو التشكيك أبداً، فهو أمر واضح بين كرائعة النهار، لهذا لم يتجاسر معاوية على الإقدام على مثل هذا الطعن، الذي سينقلب عليه، ورغم أنّه كان يتشبث بكلّ وسيلة للنيل من عليٍّ عليه السلام والطعن فيه، رغم رسائل الإمام إليه، التي لم يستطع معاوية الردّ عليها. ولو كان مرتاباً في ايمان أبي طالب لكان موضع ردِّه على الإمام.

يقول الإمام علي عليه السلام في ردّه على إحدى رسائل معاوية، التي يقول فيها:

«ونحن بنو عبد مناف، ليس لبعضنا على بعض فضل، إلّافضل يستدل به عزيز، ولا يُسترق حر... وقد أقذع الإمام له في الردّ:

«كنّا ونحن وأنتم، على ما ذكرت من الإلفة والجماعة ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم...

وإنّك واللَّه لأغلق القلب!... وقريب ما أشبهت من أعمام وأخوال، حملتهم الشقاوة وتمنى الباطل على الجحود بمحمّد صلى الله عليه و آله، فصرعوا مصارعهم حيث علمت...

ثمّ واصل الإمام عليه السلام قوله:


1- انظر مقدمة عبد المفتاح لكتاب إيمان أبي طالب لشمس الدين بن معد الموسوي ت 630 ه 22- 23.

ص: 152

منّا النبي ومنكم المكذّب، ومنّا أسد اللَّه ومنكم أسد الأحلاف، ومنّا سيّد شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنّا خير نساء العالمين، ومنكم حمالة الحطب...

وأمّا قولك: إنّا بنو عبد مناف، فكذلك نحن...

... ولكن ليس أُميّة لهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحقّ كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، وبئس الخلف خلف ينبع سلفاً هوى في نار جهنم!..»

وهنا يقول عبد المفتاح معلقاً: إنّها مفاضلة تغني عن كلّ تعليق. فإن كان لابدّ، مع هذا من إيضاح، فمن هو هذا الخلف، سوى معاوية المقصود بالخطاب...

ومن السلف، أقرب السلف، غير أبي سفيان؟! وهل من سبب لتفضيل أبي طالب على معاصره أبي سفيان- وحديث الإمام هنا يشير إلى الهويّ في النار- سوى سبب يدرأ من شر جهنم عن الفاضل ما لا يدرأ عن المفضول؟! (1) وأقول: صحيح أنّه لم يخض شخصياً فيما خاض به الذين عاصروه أو الذين جاؤوا من بعده، إلّاأنّهم خريجو مدرسته وهم من مرتزقته ومريديه وأتباعه، فراحت ألسنتهم وأقلامهم تكيد كيدهم. ومن كيدها هذا اتهام أبي طالب بهذه التهمة الظالمة.

إنَّ هذا لشي ء عجاب:

كيف يموت كافراً- كما زعم الزاعمون- وهو يسمع ابن أخيه، الذي فداه بنفسه وماله وجاههه وأولاده... وعلى مساحة زمنية استغرقت عشر سنوات يردّد «يا أيها الناس، إنّي رسول اللَّه إليكم، لتعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً» «إنّ هذه الأصنام لغو باطل، لا تملك لكم ضراً ولا نفعاً»، وهو المعروف بحكمته وحلمه...


1- المصدر السابق.

ص: 153

فكيف يفرط بنفسه وعاقبته؟!

قرآن ينزل، آيات تتلى، كلمات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تتردّد هنا وهناك، صنوف من التعذيب يصبّه مشركو قريش على المؤمنين، تهديد ووعيد، محاصرة،... أكلّ هذه الأُمور لم تجد في قلب أبي طالب لمسة خير، ومنعطفاً لإيمانه..؟! إنَّ هذا لشي ء عجاب! فأبو طالب صاحب هذه الحياة المضيئة كيف يسوّغ لنفسه أن يموت غير مؤمن بما سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولم تكن على قلبه غشاوة، ولطفُ اللَّه لا شك قريب من هؤلاء الذين يملكون قلباً كقلب أبي طالب، وشهامة كشهامة أبي طالب، وحلماً كحلم أبي طالب، قطعاً تدركه رحمة السماء وقد سارع الى اعتناق الرسالة من هو أدنى منه رتبةً وأقلّ منه صفاءً وعطاءً؟!

فهكذا إنسان هذه حياته بدءاً وخاتمةً، لا يستسيغ المنطق الرشيد ولا العقل السديد أن يُتهم بتهمة العزوف عن اللَّه ورسالته، ليعيش كافراً ويموت كافراً، وهو صاحب الضمير الحي والقلب النابض عاطفةً وحبّاً وحناناً...

إنّ من يقرأ حياة هذا الرجل، يخرج بنتيجة عظيمة وحصيلة كبيرة، لا يجد لها مثيلًا في حياة أقرانه ومعاصريه، بل لا يجدها حتى عند من جاؤوا بعده، اللّهمّ إلّا عند النخبة التي اصطفاها اللَّه وحباها برعايته واختياره، وارتضاه قدوة صالحة للمؤمنين، وهذه قلّة قليلة تمثّلت بأهل بيت العصمة والطهارة، وعليٌّ سيّدهم.

النتيجة تلك والحصيلة أنّ أبا طالب مات مسلماً مضحياً مجاهداً، لم يُراوده شك أبداً في أحقية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما هو عليه من مبادئ السماء، دلّني على من هو أكثر تضحيةً وتحملًا وصبراً وحكمةً وجهاداً من أبي طالب، وهو يعيش الأيام الأُولى والسنين الأول للتأسيس، والتأسيس من أخطر وأدق مراحل الدعوة الإسلامية خاصةً وهي تعيش في تلك الظروف، وذلك المجتمع الذي كان التعامل معه مريراً وقاسياً بما يمتلكه من طبقيّة وعادات وتقاليد وموروثات تجذّرت في ترابه وفي نفوس أبنائه، فكيف يمكن انتشالهم من هذا الواقع المرير؟!

ص: 154

إذ يتنازعون بينهم أمرهم:

لقد تنازعوا أمرهم فيه، وهكذا هو شأن العظماء، فاختلفت آراؤهم، وتشتت كلماتهم، وتفرقت أقلامهم في الكتابة عنه فمنهم:

من قال: إنّ أبا طالب مات كافراً. إنّ أبا طالب مات مؤمناً.

فيما توقّف فريق ثالث في أمره وتحيّر، كيف يقول بكفره وكلّ ما قدّمه يدلُ على إيمانه؟! وكيف يقول بإيمانه ولم يسمعه يردّد الشهادتين...؟! إلّاأنّهم جميعاً قد اتفقوا على أمر ثالث لا يراودهم الشكّ فيه ألا وهو: أنّ أبا طالب لم يبخل بجاه ولا مال ولا موقف ولا أي شي ء إلّاوسخّره لخدمة الرسالة ورسولها الكريم، بل يكاد إجماعهم هذا يؤكد أن لا أحد خدم الإسلام كما خدمه أبو طالب طيلة عشر سنوات من الدعوة في مكّة قضاها عبر مواقف تتسم تارةً باللين وأُخرى بالشدّة وثالثة بالدعوة إلى الإسلام من خلال تسخيره جميع مواقفه وما يمتلكه من وسائل ومنها وسيلة إعلامية لا ينكر أحد تأثيرها: كلماته البليغة وقصائده الشعرية الكثيرة، فقد كان الرجل مجيداً للشعر مكثراً منه، فسخّره في الدعوة إلى اللَّه ورسوله، حتى كلّفته هذه المواقف التضحية بما يمتلكه من شبكة اجتماعية وعلاقات كثيرة، فَقَدَ على أثرها طاعة قريش حتى تجرّأت على محاصرته والتضييق عليه.

وإنّ من اللافت المؤسف والمؤلم أنّ أبا طالب مع كلّ مواقفه وكدحه المتواصل في إرساء دعائم الإسلام وتثبيت أركانه، يموت كافراً- كما يزعم الزاعمون-، وأبا سفيان الذي كان من الطلقاء، ولم يقدّم شيئاً يذكر في مسيرة الرسالة السماوية هذه، بل هو الذي عاش قبل نطقه الشهادتين وبعدهما زعيماً للتآمر على الإسلام ورسوله، ورجل الكيد والغدر، يموت مؤمناً!!

لقد تعرّض أبو طالب إلى مؤامرة قذرة رسمتها أيادٍ عرفت بالعداء للرسول ورسالته وبغضها لهذه العائلة الكريمة، فراحت تبذل قصارى جهودها وما تملكه من مال كثير وقدرات وخبرة في سبيل تقويض أي مجهود لرموز هذه الاسرة

ص: 155

الكريمة، فسخّرت أعلامها ورجالها والطامعين والوضاعين لتحقيق غاياتها ومصالحها. فلم ينجو حتى شعر أبي طالب من الاتهام بالوضع والاختلاق، لما رأوا فيه من القوّة والدعوة المخلصة إلى الإسلام، وغفل هؤلاء عن أنّ خصائص أبي طالب لو بقي منهاجزء يسير، فإنّه كافٍ في التدليل على عقيدته التوحيدية وإيمانه الخالص.

وإن تعجب فعجب قولهم:

لا أظنّ أنّ هناك حاجة إلى ذكر أدلّة القائلين بكفر أبي طالب، فحياته رضوان اللَّه عليه دليل غني على إيمانه، وما قدّمناه هو غيض من فيض، وإذا ركنا إلى أدلّتهم فكأنّنا عدلنا من اليقين إلى الشك ومن العلم إلى الظن. ولكنّنا مع هذا نكتفي هنا بدليل واحد من أدلّة القوم وبشكل مختصر، خوف الإطالة، ولمن أراد المزيد فعليه بما كتب عنه، وهو كثير جدّاً.

روى ابن سعد في طبقاته (1) بإسناده إلى علي بن أبي طالب، قال: أخبرت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بموت أبي طالب، فبكى، ثمّ قال: اذهب فغسّله وكفّنه وواره، غفر اللَّه له.

قال: ففعلت ما قال، وجعل الرسول يستغفر له أياماً، ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية: مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِى قُرْبَى (2)

.

فقد ذهب جمع من المفسّرين- استناداً إلى هذه الرواية- إلى أنّ هذه الآية المذكورة نزلت في استغفار النبيّ صلى الله عليه و آله لعمّه أبي طالب، واستغفار بعض الصحابة لأبويه المشركين (3).


1- طبقات ابن سعد 1: 123.
2- سورة التوبة: الآية 114.
3- انظر جلال الدين السيوطي في تفسيره وغيره.

ص: 156

أين تقف رواية ابن سعد؟!

بعد أن نقل هذه الرواية في الجزء الأوّل من طبقاته ص 123، انظر ما قاله في الصفحة 125 منها: «توفي أبو طالب للنصف من شوّال في السنة العاشرة من حين نُبِّئ رسول اللَّه».

إذن:

فأبو طالب توفي في السنة العاشرة للبعثة النبوية.

هاجر النبيّ صلى الله عليه و آله في السنة الثالثة عشرة للبعثة، أي بعد وفاة أبي طالب بثلاث سنوات.

سورة التوبة نزلت في المدينة، فهي مدنية كلّها باستثناء الآيتين الأخيرتين منها.

انظر ما يقوله عنها المفسّرون ومنهم:

ابن كثير: هذه السورة من أواخر ما نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كما روى البخاري عن البراء يقول: آخر آية نزلت يستفتونك قُل اللَّه يفتيكم في الكلالة وآخر سورة نزلت براءة (1).

الرازي في تفسيره: في عنوان السورة: سورة التوبة مدنية إلّاالآيتين الأخيرتين فمكيّتان (2).

الآلوسي في تفسيره: سورة التوبة مدنية... (3) الطبرسي في تفسيره: سورة التوبة مدنية كلّها، وقال بعضهم: غير آيتين:

لقد جاءكم رسول من أنفسكم... إلى آخر السورة، نزلت سنة تسع من الهجرة،


1- انظر الأساس في التفسير لسعيد حوى 4: 2213.
2- انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 8: 215.
3- روح المعاني للآلوسي 5: 40.

ص: 157

... وقال قتادة ومجاهد: وهي آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه و آله بالمدينة.

نكتفي بهذا القدر من المفسّرين، لنقول: إنّ الفترة الزمنية بين وفاة عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله «أبو طالب» ونزول هذه الآية كانت اثني عشر عاماً. فأين تقف رواية ابن سعد، التي عمل بها كثير من المفسّرين بلا تثبت ولا تحقيق، لأسباب لا أظنّها تخفى على القارئ اللبيب؟!

وختاماً:

ماذا تراني أقول فيك يا أبا طالب، وما إن فتحت ملفّك التأريخي حتى انبهرت بكثرة ما فيه من مواقف عظيمة ومناقب جليلة... فألّفت فيك كتب كثيرة تجاوزت أكثر من مئة كتاب بين مطبوع ومخطوط باللغة العربية فضلًا عن اللغات الاخرى...، إضافةً إلى المقالات والأشعار، التي قيلت بحقّك.

وهذه مجموعة ممّا تيسّر:

الكتب العربية المطبوعة:

1) أبو طالب بطل الإسلام، لحيدر محمّد سعيد عرفي.

2) أبو طالب بن عبد المطلب والد أمير المؤمنين عليه السلام، لحسين جواد الكديمي.

3) أبو طالب حامي الرسول وناصره، للعلّامة الميرزا نجم الدين جعفر عسكري طهراني.

4) أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه و آله، للمحامي محمّد كامل حسن.

5) أبو طالب عم النبي صلى الله عليه و آله، لعبد العزيز سيّد الأهل.

6) أبو طالب عملاق الإسلام الخالد، للشيخ محمّد علي أسبر.

7) أبو طالب كفيل الرسول صلى الله عليه و آله، لسعيد عسيلي.

8) أبو طالب كفيل الرسول صلى الله عليه و آله، لجمع من الكتّاب.

9) أبو طالب مؤمن قريش، لعبد اللَّه الخنيزي.

ص: 158

10) أبو طالب المسلم، لأحمد مغنية.

11) أبو طالب مع الرسول صلى الله عليه و آله، لأحمد مغنية.

12) أبو طالب وبنوه، للسيّد محمّد علي آل سيّد علي خان الحسيني.

13) إسلام أبي طالب، للسيّد مهدي مكّي.

14) إسلام أبي طالب، لوجيه بيضون.

15) إسلام أبي طالب من خلال الآيات والأحاديث والأشعار والوقائع التأريخية، للبيب بيضون.

16) أسنى المطالب في إيمان أبي طالب، للشيخ كاظم حلفي.

17) أسنى المطالب في شرح خطبة أبي طالب، لعبد الكريم حبيب.

18) أسنى المطالب في نجاة أبي طالب، للسيّد أحمد بن زيني دحلان.

19) إيمان أبي طالب، للشيخ المفيد.

20) إيمان أبي طالب وموقف الشيخ المفيد منه، للدكتور محمّد ابراهيم خليفة الشوشتري.

21) إيمان أبي طالب، لشمس الدين أبي علي فخار بن معد الموسوي.

22) الرسول والرسالة في شعر أبي طالب، لمعوض عوض ابراهيم.

23) زهرة الأدباء في شرح لامية شيخ البطحاء.

24) الروض النزيه في الأحاديث التي رواها أبو طالب عن ابن أخيه صلى الله عليه و آله، لابن طولون الدمشقي.

25) السهم الصائب بكبد من آذى أبا طالب، لأبي الهدى الصيادي.

26) سيّد البطحاء، للشيخ محمود البغدادي.

27) شعر أبي طالب بن عبد المطلب وأخباره، لعبد اللَّه بن أحمد بن حرب العبدي.

28) شيخ الأبطح أبو طالب، للسيّد محمّد علي ابن السيّد عبد الحسين شرف الدين.

ص: 159

29) شيخ بني هاشم أبو طالب، لعبد العزيز سيّد الأهل.

30) طلبة الطالب في شرح لامية أبي طالب، لعلي فهمي.

31) عقيدة أبي طالب، للسيّد طالب الرفاعي.

32) غاية الطالب من شرح ديوان أبي طالب، للشيخ محمّد خطيب المصري.

33) القصيدة الغرّاء في إيمان أبي طالب شيخ البطحاء، للسيّد أحمد خيري پاشا.

34) منية الراغب في إيمان أبي طالب، للشيخ محمّد رضا الطبسي النجفي.

35) منية الطالب في مستدرك ديوان سيّد الأباطح أبي طالب، لمحمّد باقر المحمودي.

36) مواهب الواهب في فضائل أبي طالب، للشيخ جعفر النقدي.

37) بنوة أبي طالب عبد مناف، لمزمل حسين الغديري الميثمي.

ومن الكتب العربية المخطوطة:

1) أبو طالب كافل النبيّ وناصره، للسيّد أحمد خيري پاشا.

2) اتحاف الطالب بنجاة أبي طالب، لمحمّد بن عبد السلام جنّون.

3) إثبات إسلام أبي طالب، لمحمّد معين بن محمّد أمين السندي.

4) إثبات إسلام أبي طالب، لعبد الرحمن بن أحمد الخزاعي النيشابوري.

5) أخبار أبي طالب وعبد المطلب، للشيخ الصدوق.

6) أخبار أبي طالب وولده، لأبي الحسن المدائني.

7) إسلام أبي طالب، للسيّد حسن بن ابراهيم شبر الحسيني.

8) إيمان أبي طالب، لأحمد بن القاسم.

9) إيمان أبي طالب، لأبي الحسين أحمد بن محمّد الكندي الجرجرائي.

10) إيمان أبي طالب، لأبي علي الكوفي.

11) إيمان أبي طالب، للسيّد أحمد بن موسى بن طاووس.

ص: 160

12) إيمان أبي طالب، لأبي محمّد الديباجي.

13) إيمان أبي طالب، للسيّد ظفر حسن بن دلشاد النقوي.

14) إيمان أبي طالب، لأبي نعيم علي بن حمزة التميمي البصري.

15) إيمان أبي طالب، للقاضي نعمان بن محمّد المصري.

16) إيمان أبي طالب، للعلّامة ميرزا محسن قره داغي التبريزي.

17) بحث في إسلام أبي طالب، مجهول المؤلف.

18) بغية الطالب في إسلام أبي طالب، للسيّد مير محمّد عباس الشوشتري.

19) بغية الطالب في بيان أحوال أبي طالب، للسيّد محمّد بن حيدر الموسوي العاملي.

20) بغية الطالب لإيمان أبي طالب، لجلال الدين السيوطي.

21) بغية الطالب لإيمان أبي طالب، لمحمّد بن عبد الرسول البرزنجي الشافعي.

22) بلوغ المآرب في نجاة آبائه عليه السلام وعمّه أبي طالب، للشيخ سلمان أزهري لاذقي.

23) البيان عن خيرة الرحمن، للشيخ علي بن بلال المصلّبي.

24) حاشية على حجة الذاهب إلى إيمان أبي طالب، للشيخ شير محمّد الهمداني.

25) ديوان أبو طالب وشرح لاميته، للشيخ حيدر قلي سردار كابلي.

26) رتبة أبي طالب وقريش، لأبي الحسن النسابة.

27) رسالة في إسلام أبي طالب، للسيّد ميرزا أبي القاسم أمين الدين الموسوي الزنجاني.

28) رسالة في صحة إيمان أبي طالب، مجهول المؤلف.

29) الرغائب في إيمان أبي طالب، للسيّد مهدي الغريفي البحراني.

30) شرح حديث إسلام أبي طالب بحساب الجمل، لملّا علي بن ميرزا خليل المازندراني.

31) الشهاب الثاقب لرجم مكفّر أبي طالب، لميرزا نجم الدين جعفر بن ميرزا محمّد

ص: 161

عسكري الطهراني.

32) صفات أبي طالب عبد مناف، لمزمّل حسين الغديري الميثمي.

33) فصاحة أبي طالب، للشريف حسن بن علي بن حسن بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

34) فضل أبي طالب وعبد المطلب وأبي النبيّ صلى الله عليه و آله، لأبي القاسم سعد بن عبداللَّه بن أبي خلف الأشعري القمي.

35) فيض الواهب في نجاة أبي طالب، للشيخ أحمد فيضي بن حاج علي عارف جورومي.

36) القول الواجب في إيمان أبي طالب، للشيخ محمّد علي بن ميرزا جعفر الهندي.

37) كافل اليتيم أبو طالب، للعلّامة ميرزا نجم الدين جعفر العسكري الطهراني.

38) ما قيل في أبي طالب، للسيّد علي بن الحسين الهاشمي الخطيب.

39) منى الطالب في إيمان أبي طالب، للشيخ مفيد النيشابوري.

40) منية الطالب في حياة أبي طالب، للسيّد حسن بن علي القپانچي النجفي.

41) نجاة أبي طالب، للشيخ كاظم آل نوح النجفي.

42) نسب أبي طالب، لهشام بن محمّد بن سائب بن بشير الكلبي.

43) نصّ أبي طالب على النبي صلى الله عليه و آله، لبعض الكتّاب الإسماعيلية.

44) واقع أبي طالب المؤمن، للسيّد عبد الكريم آل سيّد علي خان.

45) الياقوتة الحمراء في إيمان سيّد البطحاء، للسيّد طالب آل سيّد علي خان.

إضافة إلى عشرات الكُتب المطبوعة والمخطوطة والمقالات وبلغات شتّى.

لقد تنازعوا أمرهم فيك، وبعد أن يَئسوا من أن يجدوا شيئاً يلوذون به للطعن فيك بغضاً وحسداً، لجأوا إلى كتمان إيمانك، الذي ما كان إلّالمصالح كثيرة للرسالة والرسول، فعثروا على ضالّتهم،- كما يظنّون- أنّ أبا طالب ماتَ كافراً،

ص: 162

فأنساهم شيطانهم أو أنّهم تناسوا وتغافلوا عمّا قدّمت يداك المباركتان من خير عميم، ودعم كريم، ودفاع عظيم، وتضحية لا نظير لها عن الرسالة والرسول ومن تبعه من المؤمنين والصالحين، حتى ورد في الخبر الذي ذكره ابن أبي الحديد: «أنّه لما توّفي أبو طالب، أوحى اللَّه إلى رسوله صلى الله عليه و آله أن أخرج فقد مات ناصرك». أكلّ هذا العطاء وطيلة عشر سنوات يأتي من كافر؟! أي عاقل يصدق دعواهم هذه ومزاعمهم تلك؟! إنّه عطاء لا يمكن أن يأتي إلّاممن آمن برسالة السماء!

ونختم حديثنا بما قاله عبد الفتاح عبد المقصود:

ثمّ ما حاجتنا إلى الإكثار من التدليل على إيمان رأس الطالبيين، ولا حاجة ثمة إلى تدليل؟

ثمّ يواصل قوله:

إنّ المنقول عن إيمانه، الذي توالى الجدال فيه أعصراً طويلة، وما زال إلى اليوم موضوع نقاش جارٍ، لأحرى بأن يغني عن المعقول. وإنّ المعقول الذي يوافق المنطق السوي، ولا ينافي واقع الحال، ليضاهي هذا المنقول... فإذا خطر لامرئ أن يعدل عن منقولات الأحاديث والأقوال الشاهدة بإيمانه، والواردة على ألسنة الثقات البررة من آل البيت وشيعتهم نقلًا عن الرسول صلى الله عليه و آله إلى الوقائع والأحداث، التي تصوّر مواقف عمّ النبي وأبي الوصي، وترسم ألوان سلوكه، إذن لوجد من أفعال الرجل الجليل ما هو ترجمان صدق عملي لتلك الأقوال...

ثمّ يقول:

أمّا ما أثر عنه من شعر... دالًا على إيمانه، ومؤيداً ابن أخيه، وداعياً لدينه، فإنّه أدنى إلى قرينة منه إلى برهان قاطع، لأنّنا قد لا نعدم أن نجد من بعض النقّاد من يرى فيه مجّرد تصوير جمالي ... أو من يدّعي انتسابه إلى غير صاحبه، أو وقوعه في مظنة التحريف والتغيير والإضافة، استناداً إلى مقاييس- إن هي اعتبرت

ص: 163

قرينة- فإنّها لا تسلم من التباني، وربّما التضارب، نتيجة لاختلاف الأذواق، وكثيراً ما اتّهم شعراء في قصائد لهم بأنّها منحولة، أو لا ترقى إلى مستواهم، أو لا توافق سمات عصرهم الشعرية...

ويتنازل عن هذا الدليل فيقول: ودع الشعر فإنّه في قضيتنا نافلة... وكفانا أن نلقي نظرة عابرة إلى فضائل الشيخ التي تناقلتها الألسن ونفذت إلينا- على الرغم من القهر السياسي- كأنّما من سم الخياط!

فليس منّا من لا يعلم أنّ «السياسة» طوال عهود الإسلام وعلى تعدّد دوله، قد افترست، أو كادت، كلّ كلمة إنصاف قيلت في حقّ آل البيت النبويّ الكريم.

لذلك بحسبنا في «المقولات»- كمثال- أن بلغنا، عبد مؤخر القهر والنكال، التي ضربت حول شيعة الرسول، كلمة صفي محمّد ووصيه، التي تقول:

«ما مات أبو طالب حتى أعطى رسول اللَّه من نفسه الرضا»

وتلك شهادة من لا يكتم الشهادة، ولا يلبسها ببهتان...

هذا ما ورد على ألسنة الشيعة وأئمتهم نقلًا عن عليّ: فإذا كان لابدّ من الوجه الآخر للعملة! فلنصغ إلى حديث أبي بكر، أوّل الخلفاء، إذ جاء بأبيه: أبي قحافة يقوده، وقد أسن وعمي، ليسلم بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال الرسول: ألا تركت الشيخ حتى نأتيه؟!

قال أبو بكر: أردت يا رسول اللَّه أن يأجرني اللَّه. ثمّ أضاف: أما والذي بعثك بالحقّ، لأنا كنت أشد فرحاً بإسلام عمّك أبي طالب مني بإسلام أبي.

ثمّ يختم حديثه بقوله: ثمّ بحسبنا في المعقولات- كمثال أيضاً- أنّ أبا طالب، بكلّ المعايير، قد نصر الإسلام ونبيّه، كما لم يكن مثله نصير في العالمين...

فإذا رأى راءٍ تحرّى مواقف الشيخ.- فداءً وحمايةً وتعزيزاً- تجاه الإسلام ورسول اللَّه، فالمصادر تجلّ عن الحصر، والصحف المنيرة فيها كثيرة...

ثمّ راح يتساءل: أم ماذا يقال في رجل يقف وحده في وجه الشرك وقومه

ص: 164

أجمعين، ليدرأ عن ابن أخيه- مبعوث اللَّه- أن يناله طاغية منهم بمكروه؟

ما الرأي فيه إذ يحث آله على مساندة محمّد وشدّ أزره، واتباع دينه، ويدفع بولديه: عليّ وجعفر ليكونا جناحيه، اللذين يحلق بهما في سماء الدعوة؟

بأي معيار نعاير حرصه على سلامة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إبان محنة الشِّعب، إذ يغمي على الناس مرقده، ليلة بعد ليلة، فينأبه عنه، ويأمر ولده علياً فيبيت فيه، ليكون هو المقتول لو سعى عدوّ إلى اغتيال الرسول؟... (1) وأخيراً لا يسعنا إلّاأن نقول لهم ما قاله يعقوب لبنيه:

بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّه الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (2).


1- المصدر نفسه.
2- سورة يوسف: الآية 18.

ص: 165

أدب الحجّ في الحجاز و الجزيرة العربية

(من العصر الجاهلي وحتى نهاية العصر الاموي «132 ه»)

د. ابراهيم بن عبد العزيز الجميح

تهدف هذه الدراسة إلى محاولة إلقاء الضوء على أدب الحج في الحجاز والجزيرة العربية عموماً في الفترة من العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الاموي (132 ه). ويشمل أدب الحج في هذه الدراسة الشعر والأمثال والخطب.

وقد قسّمت هذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام، يتناول القسم الأوّل تعريف معنى الحج في اللغة والدين. ويوضّح القسم الثاني أدب الحج في الشعر الجاهلي، والنثر كالأمثال والخطب. أمّا القسم الثالث فيركّز على أدب الحج في العصر الإسلامي من ظهور الإسلام وحتى نهاية العصر الاموي، ويشمل الشعر والخطب، وما ظهر في الحياة العلمية في مواسم الحج في العصر الاموي من نثر ديني تمثّل في تفسير القرآن والسنّة النبويّة والفتوى في أحكام الحج والعمرة.

1- الحجّ في اللغة والدين:

يُقصد بأدب الحج في هذه الدراسة ما صنّف وأُلّف عن الحج سواء كان ذلك شعراً أو نثراً. ويشمل الشعر الجاهلي والإسلامي والخطب والأمثال. وهو يُعبّر عن خواطر الأُدباء وقرائح الشعراء في الحجاز والجزيرة العربية عموماً.

ص: 166

وللحج مفهوم في اللغة العربية والدين الإسلامي، فما هو معنى الحج لغةً وديناً؟

إنّ الحج في اللغة هو القصد، يُقال: حجّ فلان أي قدم وحجّه يحجّه حجّاً: أي قصده. وحججت فلاناً في قصدته. ورجل محجوج أي مقصود. وقد حجّ بنو فلان فلاناً إذا أطالوا الاختلاف إليه، وفي هذا المعنى يقول الشاعر الجاهلي:

وأشهد من عوف حلولًا كثيرة يحجّون سب الزبرقان المزعفرا

والمعنى هنا أي يقصدونه ويزورنه.

ثمّ أصبح الحجّ في العُرف يعني القصد إلى مكّة للنسك والحج إلى البيت الحرام خاصة (1). وجمع الحج: حُجّاج وحجيج، ويجمع أيضاً على حُج بالضم وحِج بالكسر. يقول الشاعر:

كأنّما أصواتها بالوادي أصوات حجٍ من عُمان عادي

والمُفرد: حاج، والمفردة: حاجّة وجمعها حواج (2).

وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهي وقت الحج.

يقول تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ (3)

.

والحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، التي يتحقّق بها استسلام العبد


1- انظر: محمّد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، بيروت: دار صادر، د. ت، 2: 226.
2- محمّد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، ت. محمود خاطر، القاهرة: دار المعارف، د. ت: 122- 123. ابن منظور، لسان 2: 226- 227.
3- البقرة: 197.

ص: 167

وخضوعه لربّه تعالى، وهو جامع لما تضمنته الأركان الاخرى، فهو عبادة بدنية كالصلاة والصيام، وعبادة ماليّة يشبه الزكاة؛ لما يتطلبه من الإنفاق في سبيل اللَّه، وهو أيضاً مجاهدة للنفس والبدن.

والحج في اصطلاح الفقهاء: قصد البيت الحرام؛ لأداء الأفعال المفروضة من الطواف بالكعبة والوقوف بعرفة محرماً بنيّة الحج (1).

وقد عرف العرب الحج قبل الإسلام، منذ أن أمر اللَّه عزّوجل نبيّه إبراهيم عليه السلام بأن يشرعه للناس، وكانت العرب قبل الإسلام تحج البيت على دين إبراهيم عليه السلام، فتلبّي تلبية الحج وتطوف البيت وتسعى وتقف بعرفة، وتؤدي جميع مناسك الحج من المبيت بمزدلفة ورمي الجمار والنحر وتعظيم الأشهر الحرم (2).

ثمّ حرّف العرب قبل الإسلام شريعة إبراهيم عليه السلام، فعبدوا الأصنام، وطاف بعضهم حول البيت عرايا (3)، إلى أن جاء الإسلام، وفُرض الحج، فتغيّر مفهوم الحج وما كان عليه العرب قبل الإسلام.

وقد ورد ذكر الحج وما يتفرّع من لفظه في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرّة منها ثماني مرّات في سورة البقرة. ومن ذلك قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّه شَاكِرٌ عَلِيمٌ (4)

.

وجاء ذكر الحج في سورة «آل عمران» في موضع واحد في قوله تعالى: وَللَّه


1- نور الدين عتر، الحج والعمرة في الفقه الإسلامي، حلب: المكتبة العربية، 1389 ه/ 1969 م: 7- 8.
2- انظر: محمّد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي، أخبار مكّة وما جاء فيها من الآثار، ت. رشدي الصالح ملحي، ط 3، مكّة المكرمة: مطابع دار الثقافة، 1398 ه/ 1978 م 1: 66- 74. وانظر: أحمد بن جعفر بن وهب اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، بيروت: دار صادر، 1412 ه/ 1992 م 1: 254- 255.
3- اليعقوبي، تاريخ 1: 254- 257.
4- سورة البقرة: الآية 158.

ص: 168

عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (1)

.

وذكر الحج في سورة «التوبة» في موضعين، ومنهما قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِ الْأَكْبَرِأَنَّ اللَّه بَرِى ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (2).

وورد لفظ الحج في سورة الحج في قوله تعالى: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (3)

.

وتحتوي الآيات القرآنية عن الحج على معانٍ أدبية عظيمة عن الحج، تشمل شعائر الحج كالصفا والمروة والطواف والأهلّة، والهدي، والمسجد الحرام، والبيت المطهّر، وحرمات اللَّه، والشعائر المقدّسة، والمناسك وغيرها من معاني الحج ومناسكه وشعائره.

وتحتوي آيات الحج أيضاً على معانٍ كبيرة عن آداب الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. كما تصوّر آيات الحج الحُجاج، الذين يقدمون خاشعين من كلّ فجّ؛ ليشهدوا منافع لهم في الحج، وغيرها من الصور البيانيّة عن هذه الفريضة: الركن الخامس من أركان الإسلام.

وتحتوي كتب التفسير، كجامع البيان في تفسير القرآن للطبري، والكشّاف للزمخشري، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، وتفسير القرآن الكريم لابن كثير وغيرهما من كتب التفسير على أدب نثري يوضّح آيات الحج، ويفسّرها في صور بيانية نثرية راقية تربط نزول الآية بأسبابها ومكان نزولها. وما زالت تلك الصور البيانيّة عن الحج في كتب التفسير معيناً لمن أراد فهم هذه الفريضة؛ الركن الخامس من الإسلام.


1- سورة آل عمران: الآية 97.
2- سورة التوبة: الآية 3.
3- سورة الحج: الآية 27.

ص: 169

2- الحجّ في الأدب الجاهلي في الحجاز والجزيرة العربية:

ارتبط تاريخ اللغة العربية بتاريخ مكّة المكرّمة منذ أن بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة (البيت الحرام) في الوادي المبارك بمكّة المكرّمة، فنشأت اللغة العربية العدنانيّة نسبة إلى عدنان بن إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، ولم تنشأ هذه اللغة مصادفة، بل لقد كان للحج دور في تكوينها وتطويرها وتحسينها، متفاعلًا في ذلك مع الأسواق العربية التجاريّة والأدبية التي تقام في مواسم الحج، في عكاظ ومجنة وذي المجاز وغيرها من الأسواق العربية (1)، التي كانت تُقام قريباً من مكّة المكرّمة وفي الطريق إلى الحج أو في الطريق من الحج، حيث يظل الحج أيضاً عاملًا هاماً في هذه الأسواق، وفي كل ما جلبته من الخير على اللغة العربية، فقد كانت تفعل فعلها البطي ء في تجميع العرب وتقريب مجتمعاتهم، فكانت تعتبر إرهاصاً ببوادر الدعوة النبويّة على يد الرسول محمّد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله (2).

وكانت أكثر هذه الأسواق حولية تُقام في أيام معلومات في كلّ عام، وكانت ميداناً لغير البيع والشراء والتجارة؛ فقد كان فيها تناشد الأشعار، وكان فيها تفاخر وتأثّر، وتنافر ومقارعة ومعاظمة، فيفوز في هذا أقوام ويخسر آخرون، وتحتفل العرب لها الاحتفال اللائق بها، وكان لهم حكّام معلومون يفضّون المشاكل بين القبائل، ولهم محكّمون يحتكم إليهم الناس في مناظراتهم وأشعارهم، كما لهم في هذه الأسواق خطباء (3).


1- حول أسواق العرب في الجاهلية، انظر: سعيد الأفغاني، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، القاهرة: دارالكتب الإسلامي، 1413 ه/ 1993 م: 193- 359.
2- انظر: عبد العزيز الرفاعي، الحج في الأدب العربي، بحوث المؤتمر الأوّل للأُدباء السعوديين، جامعة الملك عبد العزيز، جدة: شركة المدينة للطباعة والنشر، د. ت. 3: 1007- 1008. وانظر أيضاً: الرفاعي، الحج في الأدب العربي، ط 2، المدينة المنوّرة 1397 ه/ 1977 م: 15- 18.
3- الأفغاني: أسواق العرب: 205.

ص: 170

والواقع، أنّ الاختلاط القائم بين القبائل العربية في أسواق الحج الموسمية، أثّر في اللغة والدين والعادات، فقد ترتب على قيام قريش على هذه الأسواق لأعوام طويلة قبل البعثة النبوية، أن تتبوّأ في اللغة المكان الأعلى؛ لأنّ لغات القبائل عامّة من اليمن وعُمان والشام والعراق ونجد وتهامة، تطرق مسامع قريش على الدوام، فتختار منها ما يحسن، وتنفي ما يقبح، وقد كانت على هذا الاصطفاء اللغوي زمناً كافياً حتى خلصت لها هذه اللغة الممتازة، وتهيأت لينزل بها القرآن الكريم على أفصح وجه وأبلغه وأتمّه كمالًا وسلاسةً وجمالًا (1).

وكان الشعراء الذين ينظمون الشعر؛ لينشدوه بعكاظ وغيرها من الأسواق في الجزيرة العربية، يتوخون اللغة المجمع على فصاحتها، والتي صار لها النفوذ والشيوع، فكانت لهجة قريش هي اللهجة الرسمية بين لهجات الجزيرة العربية كلّها (2).

كما أثّرت هذه الأسواق التي تُقام في مواسم الحج في التبادل اللغوي، وفي العادات بين أبناء القبائل العربية في الجزيرة العربية، ذلك أنّ أي اختلاط بين فريقين لابدّ أن ينتهي بأثر في كلّ منهما، فاليمني يأخذ شيئاً من أخلاق الحجازي، والنجدي يحمل ألواناً من عادات العُماني وهلّم جرا (3).

وبالإضافة إلى الأدب المُتمثّل في الشعر والنثر، والعادات، لعبت الأسواق العربية التي تُقام في مواسم الحج، دوراً كبيراً في الدين لقيام جميع تلك القبائل بمناسك واحدة يؤمّهم فيها قريش أهل الحرم (4).


1- الأفغاني، أسواق العرب: 206- 207.
2- المصدر نفسه: 207.
3- المصدر نفسه: 207.
4- المصدر نفسه: 207.

ص: 171

الحج في الشعر الجاهلي:

كان للحج وما يتّصل به من مشاعر، ومواطن، ومعان، مكانة رفيعة في شعر قريش، فهي إنّما تصدر في ذلك عن طبيعة بيئتها، فلقد كان في مكّة البيت الحرام، والمشاعر المقدّسة، ولقريش تبعة حماية الكعبة وحرماتها والسقاية والرفادة، وكان كلّ ذلك مصدر اعتزاز قريش.

وكانت قريش في أشعارها تفتخر بمكانتها من البيت وتعتزّ بحمايته وخدمته، وكذلك فعلت قبيلة جرهم من قبل، التي تحسّرت حينما فقدت هذه المكانة، يقول شاعرهم فضاض بن عمرو بن الحارث الجُرهمي:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكّة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود العواثر

وكنّا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بذاك البيت والخير ظاهر

فسحّت دموع العين تبكي لبلدة بها حرم آمن وفيها المشاعر

وتبكي لبيت ليس يوذى حمامُه يظلّ به أمناً وفيه العصافر (1)

والواقع أنّ شعر قريش قد خلّد مسميات الأماكن المقدسة، في المشاعر المقدسة وبعض الأماكن والمنازل، مما يحيط بمكّة المُكرّمة أو يقرب منها، كما خلّد الشُعراء الآخرون المنازل التي تقع في طريق الحج وتتصل به.

ففي المشاعر المقدّسة كان صفوان بن جناب بن شجنة بن عطارد بن سعد بن


1- انظر: أبو محمّد عبد الملك بن هشام، السيرة النبويّة، ت. مصطفى السقا وآخرون، بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت 1: 120- 121، وانظر: عبد اللَّه بن محمّد اسحاق الفاكهي، أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه، ت. عبدالملك بن دهيش، ط 2، بيروت: دار خضر، 1414 ه/ 1994 م 3: 143.

ص: 172

زيد بن مناة بن تميم، هو الذي يجيز للناس بالحج من عرفة، وفي ذلك يقول أوس ابن تميم السعدي:

لا يبرح الناس ما حجّوا مُعرفهم حتى يُقال أجيزوا آل صفوانا (1)

وفي مكّة أقام عبد المطلب سقاية زمزم للحجيج بعد حفره لبئر زمزم. يروي ابن اسحاق أنّه قيل لعبد المطلب بن هشام حين أمر بحفر زمزم:

ثمّ أدعُ بالماء الروي غير الكدر يَسقي حجيج اللَّه في كل تبَر

ليس يخاف منه شي ء ما عَمرَ (2) ويمدح الشاعر مسافر بن أبي عمرو بن أُميّة بن عبد شمس، عبد المطلب بن هشام؛ لسقايته ورفادته وحفره زمزم، فيقول:

فأي مناقب الخيرات لم تشدد به عضدا

ألم تسق الحجيج وتنحر المدلابه الرفدا

وزمزم من أرومته وتملأ عين من حسدا (3)

وقال حذيفة بن غانم عن سقاية عبد المطلب بن هاشم، وهي أبيات من قصيدة يرثيه بعد وفاته:

وساقي الحجيج ثمّ للخير هاشم وعبد مناف ذلك السيّد الفهري

طوى زمزماً عند المقام فأصبحت سقاية فخراً على كل ذي فخر (4)


1- ابن هشام، السيرة 1: 127.
2- ابن هشام، السيرة 1: 153، الفاكهي، أخبار مكّة 2: 18.
3- الأزرقي، أخبار، مكة 2: 47.
4- ابن هشام، السيرة 1: 159، 185.

ص: 173

وعند ظهور دعوة الرسول صلى الله عليه و آله، خاف عمّه أبو طالب أن تلحق قريش والعرب به وبقومه الأذى، فقال قصيدته التي تعوّذ فيها بحُرمة مكّة، رافضاً أن يسلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى يهلك دونه، ولعلّ هذه القصيدة أجمع قصيدة في العصر الجاهلي ضمت ذكر مشاعر مكّة قبل الإسلام وهي القصيدة اللاميّة الطويلة التي أوردها ابن هشام في السيرة النبويّة، واحتوت على ذكر البيت والحجر الأسود والصفا والمروة وحجّاج البيت والمشاعر، كعرفة والمزدلفة ومنى والجمرة الكُبرى.

ومن أبياتها ما يلي:

ولمّا رأيت القوم لأود فيهم وقد قطعوا كلّ العُرى والوسائل

ثمّ يأخذ في تعداد معالم مكّة ومشاعرها متعوذاً بربّ الناس قائلًا:

أعوذ بربّ الناس من كلّ طاعن علينا بسؤ أو مُلحّ باطلِ

وبالبيت، حق البيت، من بطن مكّة وباللَّه إنّ اللَّه ليس بغافل

وبالحجر المُسود إذ يمسحونه إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطي إبراهيم في الصخر رطبه على قدميه حافياً غير ناعل

وأشواط بين المروتين إلى الصفا وما فيهما من صورة وتماثل

ومن حجّ بيت اللَّه من كل راكب ومن كل ذي نذر ومن كل راجل

ص: 174

وبالمشعر الأقصى [المزدلفة] والمنازل من منى وهل فوقها من حُرمة ومنازل

وبالجمرة الكُبرى إذا صمدوا لها يؤمون قذفاً رأسها بالجنادل (1)

وذكر الشُعراء الجاهليون الحج في أشعارهم، وذلك لقدومهم لمكّة، ولارتيادهم مناطق الحجّ حيث المُلتقى الأدبي في عكاظ وغيره من أسواق العرب، وكانت الآمال تداعب مشاهيرهم؛ ليأخذ شعرهم طريقه إلى جوف الكعبة ويصبح من المعلقات.

ومن الشُعراء الجاهليين الذين عنوا بذكر الحج وما يتّصل به من مشاهد، الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني، وينسب إلى قبيلة ذُبيان الغطفانية القيسية، وتسكن شرق الجزيرة العربية. فهو في قصيدة له يعتذر للنعمان بن المُنذر ويستعطفه حالفاً بمن أمن الطير في الحرم تمرّ به ركبان مكّة:

والمؤمين العائذات السير تمسحها رُكبان مكّة بين الغيل والسعد (2)

وهو يكرر هذا الحلف في اعتذاره أيضاً للنعمان بن المُنذر، وهي من بديع اعتذاراته حيث يقول:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمنَ ذو أمةٍ وهو طائع

بمصطبحات من لصاف وثبرة يزرن إلالًا، سيرهن التدافع


1- ابن هشام، السيرة 1: 291- 293.
2- شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط 5، القاهرة، دار المعارف، د. ت: 286.

ص: 175

عليهم شعث عامدون لحجّتهم فهم كأطراف الحَنِىَّ خواضع (1)

والنابغة هنا، يحلف بالنوق التي تجد في سيرها وتقطع الفِيافي إلى الحج، تتدافع مدافعة، وقد أضمرها طول السير، وعلى الإبل أُناس شعث مغبرون يقصدون الحج.

وتشتمل قصيدة أُخرى للنابغة الذبياني، على أبيات عديدة يُذكر فيها وصف رحلة الحج التي قام بها، ويذكر المواضع التي مرّ بها، ويعتذر لصاحبته؛ لأنّه في رحلة مقدّسة لا يحل له فيها لهو النساء، فهو عزم على الدين أو الحج، في ركب من إبل يرجون البرّ والمعروف، ويقول في قصيدته: إنّ إبله باتت ثلاث ليالي التشريق، ونفرت في الرابعة إلى سوق ذي المجاز. تلتمس لها طريقاً في الزحام، والأبيات هي كالتالي:

قالت: أراك أخا رحل و راحلة تغشى متالف لن ينظرنك الهرما

حياكِ وُدّ: فانا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما

مشمرين على خوص مزممة نرجو الإله ونرجو البرّ والطعما

ويقول عن إبله:

باتت ثلاث منى من ثم واحدة بذي المجاز تراعي منزلا زيما (2)

ويقسم الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، وهو من قبيلة مُزينة التي تنزل بنجد شرقي المدينة، بالبيت، في معلقته، ويذكر الطواف حوله مُشيراً إلى قريش وجرهم الذين بنوه، فيقول:


1- ضيف، العصر الجاهلي: 289.
2- الرفاعي، الحج في الأدب العربي: 28- 30.

ص: 176

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بَنَوهُ من قريش وجرهم (1)

ويُشير الشاعر عمرو بن كلثوم، في معلقته إلى الأبطح بمكّة، ويفخر بقومه إذا ضرب العرب خيامهم بالابطح بمكّة فيقول:

وقد علِمَ القبائل من قصَدَ إذا قُببٌ بأبطحها بُنينا (2)

أمّا الشاعر الجاهلي لبييد بن ربيعة العامري من قبيلة عامر بشرق الجزيرة، فيذكر في معلقته منى، والأشهر الحرم، فيقول:

عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها

دمنّ تجرم بعد عهد أنيسها حجّج خَلون حلالها وحرامها

فهو هنا، يذكر توحّش الديار بمنى بعد عهد الذين يسكنون بها، وحلالها وهي الشهور الحل، وهي ثمانية أشهر، وحرامها وهي الشهور الحرم، وهي أربعة أشهر، رجب وذو القعدة وذو الحجّة والمحرم (3) أمّا الشاعر الجاهلي امرؤ القيس بن حجر وهو من قبيلة كندة اليمنية، فهو يحزن لفراق مكّة والُمحصب، فيقول:

فلله عينا من رأى من تفرق أشتّ، وأنأى من فراق الُمحصبِ (4)

ويذكر الشاعر الجاهلي قيس بن الخطيم، وهو من الأوس بيثرب، في شعره


1- محمّد بن القاسم الأنباري، شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات، ت. عبد السلام محمّد هارون، القاهرة، 1963: دار المعارف: 253.
2- الأنباري، شرح القصائد السبع: 417.
3- الأنباري، شرح القصائد السبع: 517- 521.
4- الفاكهي، أخبار مكّة 4: 77.

ص: 177

منى، فيقول:

ديار التي كانت ونحن على منى تحل بنا نجاء الركائب

تراءت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب

ولم أرها إلّاثلاثاً على منى وعهدي بها عذراء ذات ذوائب (1)

وبالإضافة إلى الشعر الجاهلي، وما يحتويه من مشاهد عن الحج والبيت الحرام وحرمته، والمشاعر في الحج كمنى وعرفات والمزدلفة، احتوى أيضاً النثر الجاهلي في الخطب والأمثال على العديد من معاني الحج ومشاهده.

الحج في النثر الجاهلي:

كان للحج تأثير في الأدب النثري عند العرب قبل الإسلام، وتمثّل ذلك في الخطابة والأمثال. وكانت مكّة والمشاعر المقدسة تنعكس في النثر الأدبي.

وتُعبّر بعض الخطب في العصر الجاهلي عن دين العرب والأشهر الحرم والبيت المحجوج، فعندما قدم النعمان بن المُنذر على كسرى خطب خطبة عدّد فيها مناقب العرب، وذكر دينهم وشريعتهم ومما قاله: «وأمّا دينها وشريعتها، فإنّهم متمسكون به، حتى يبلغ أحدهم نسكه بدينه، أنّ لهم أشهراً حرماً، وبلدة مُحرماً، وبيتاً محجوجاً، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره، وإدراك رَغمه منه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله بأذى» (2).

وافتخر خطباء بني هاشم في مكّة بحرمة البيت وزوّاره. فكان هاشم بن


1- محمّد بن سلام الجمحي، طبقات الشُعراء، بيروت: دار الكُتب العلمية، 1400 ه/ 1980 م: 89.
2- أحمد بن محمّد بن عبد ربّه، العقد الفريد، ت. محمّد محيي الدين عبد الحميد، ط 3، بيروت: دار الكتب العلمية، 1407 ه/ 1987 م. 1: 275- 277.

ص: 178

عبد مناف يقوم أوّل نهار اليوم الأوّل من ذي الحجّة، فيسند ظهره إلى الكعبة ويخطب في قريش قائلًا: «يا معشر قريش، أنتم سادة العرب، أحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً... يا معشر قريش، أنتم جيران بيت اللَّه... واسألكم بحرمة هذا البيت ألا يُخرج رجل منكم من ماله، لكرامة زوّار بيت اللَّه ومعونتهم إلّا طيباً،...» (1).

وعندما تولّى عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمّه المطلب، وأصبح له الشرف في قومه وعظم شأنه. قام بحفر زمزم، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، التي أسقاه اللَّه منها. وتشير بعض الروايات في سبب حفرها أنّ عبد المطلب قال: «بينما أنا نائم بالحجر إذ أتاني آتٍ... فقال: احفر زمزم، إنّك إن حَفرتها لا تندم، فقلت وما زمزم؟ قال: «تراث أبيك الأعظم، لا تنزف أبداً ولا تندم، تَسقي الحجيج الأعظم...» (2).

وحين خطب أبو طالب في زواج الرسول صلى الله عليه و آله بالسيدة خديجة رضي اللَّه عنها قال: «الحمد للَّه الذي جعلنا من زرع إبراهيم، وذرية إسماعيل، وجعل لنا بلداً حراماً، وبيتاً محجوجاً...» (3).

وبالإضافة إلى الخطب عند العرب قبل الإسلام، تحتوي كتب اللغة كلسان العرب لابن منظور وكتب الأمثال كمجمع الأمثال للميداني، على أمثال تتعلّق بالحج، حيث ذُكر الحج في أمثال العرب القديمة، فقيل: «أقبل الحاجُ والداجُ»، والحاج هم الذين يحجّون، والداج هم الذين يأتون معهم من الأجراء والمكارين والأعوان ونحوهم، وقيل هم الذين يدبّون في أثر الحاج من التجّار وغيرهم ولم


1- أحمد زكي صفوت، جمهرة خطب العرب العصر الجاهلي و عصر صدر الإسلام، ط 2، القاهرة: مكتبة ومطبعة البابي الحلبي، 1381 ه/ 1962 م، 1: 74.
2- ابن هشام، السيرة 1: 151، صفوت، جمهرة خطب العرب 1: 101- 102.
3- صفوت، جمهرة خطب العرب 1: 77.

ص: 179

يكن الحج قصدهم (1). وفي نفس المعنى يُقال: «ما حجّ ولكنّه دج» (2).

ومن أمثال العرب أيضاً في الحج قولهم: «لجَّ فحَجَّ»، ومن معانيه أن رجلًا خرج يطوف في البلاد، فاتفق حصوله بمكّة فحج من غير رغبة منه، فقيل: لَجّ في الطّواف حتى حج، ويضرب المثل للرجل يبلغ من لجاجته أن يخرج إلى شي ء ليس من شأنه (3). ومن معانيه أيضاً أنّه لجّ وتمادى به لجاجه، وأداه اللجاج إلى أن يحج البيت الحرام، وقيل في معناه أيضاً: إنّه هاجَر أهله بلجاجه حتى خرج حاجاً (4).

ومن أمثال العرب في الحج قولهم: «كارهاً حَجَّ بَيْطرُ» وبيطر اسم رجل، ويضرب هذا المثل لمن يصنع المعروف كارهاً لا رغبة له فيه (5). واستمرت هذه الأمثال تستعمل عند العرب بعد الإسلام، وما زال بعضها يستعمل حتى اليوم.

ومن أمثال العرب المولدة، التي استحدثت ولم تكن من كلامهم فيما سبق، قولهم: «أنفقت مالي وحَجَّ الجملُ» وقولهم: «من تلذُّذ الحَجَّ ضربُ الجمالِ» (6).

3- الحج في الأدب الإسلامي في الحجاز والجزيرة العربية إلى نهاية العصر الاموي:

يحتوي أدب الحج الإسلامي في الحجاز والجزيرة العربية، سواء كان شعراً أو نثراً على العديد من الألفاظ والمعاني التي تتناول الحج والبيت الحرام، والمشاعر، كمنى وعرفة ومزدلفة والجمرات؛ وركب الحجيج، والتغزّل بالحاجات.


1- ابن منظور، لسان العرب 2: 227، 263- 264.
2- أحمد بن محمّد الميداني، مجمع الأمثال، ت. محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة: مطبعة السُنّة المحمديّة، 1374 ه/ 1955 م، 2: 285. ابن منظور، لسان العرب 2: 227.
3- الميداني، الأمثال: 197.
4- ابن منظور، لسان العرب 2: 228.
5- الميداني، الأمثال 2: 160.
6- المصدر نفسه 2: 329، 358.

ص: 180

والجدير بالذكر، أن شعر الحج في عصر النبوّة والراشدين يختلف عن شعر الحج في العصر الاموي. حيث ظهر في العصر الاموي الشعر الذي يتغنّى بالحاجات، والذي سجّلته كتب التاريخ والأدب.

الحج في الشعر الإسلامي في عصر النبوّة والراشدين:

كان الشعر في عصر الرسول صلى الله عليه و آله ينصبّ على الدفاع عن الرسول صلى الله عليه و آله ودعوة الإسلام، والردّ على مشركي قريش وشعرائهم. ولكن الحج ومشاهده مع ذلك ورد في شعر ذلك العصر بالرغم من أنّ المشركين كانوا يتولون الحج إلى العام التاسع من الهجرة (631 م)، وهي أوّل حجّة في الإسلام، وقد أناب الرسول صلى الله عليه و آله أبا بكر أولًا ثمّ أرسل مكانه عليّ بن أبي طالب؛ ليقرأ عليهم سورة براءة (1)، التي يتبرأ فيها الرسول صلى الله عليه و آله ممن يحجّ من المُشركين بعد هذا العام إلى مكّة.

وبعد هجرة الرسول صلى الله عليه و آله واستقراره بالمدينة وظهور الدين الإسلامي، يذكر الشاعر أبو قيس صِرْمة في قصيدة له ما خصّ اللَّه سبحانه وتعالى أهل يثرب وأكرمهم بنزول الرسول صلى الله عليه و آله عليهم، فيقول:

ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكّر لو يلقى صديقاً مواتياً

ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم يرَ من يؤوي ولم يرَ داعياً

فلمّا أتانا أظهر اللَّه دينه فأصبح مسروراً بطيبة راضياً (2)

وخلال غزوات الرسول صلى الله عليه و آله لنشر الإسلام وتدعيم الدعوة الإسلامية والحفاظ على سيادتها في الجزيرة العربية، تناول بعض الشعراء انتصارات الرسول صلى الله عليه و آله شعراً، وذكروا فيه معاني ومشاهد عن الحج. فهذا الشاعر حسّان بن


1- سورة التوبة، الآية 9.
2- ابن هشام، السيرة 2: 158، الأزرقي، أخبار مكّة 2: 147- 148.

ص: 181

ثابت يحلف في قصيدة له بربّ الإبل الماشية في منى بالمشعر الحرام. حيث يقول:

كلّا وربّ الراقصات إلى منى يقطعن عُرض مخارم الأطواد (1)

وعندما قدم الوفود على الرسول صلى الله عليه و آله بالمدينة في العام التاسع من الهجرة، كان منهم وفد همدان، فعاهدوا الرسول صلى الله عليه و آله وبايعوه، فكتب لهم الرسول صلى الله عليه و آله كتاباً، فقال في ذلك أحدهم وهو مالك بن نَمَط أبياتاً يمدح فيها الرسول صلى الله عليه و آله ويحلف بربّ الإبل التي تسير في منى، حيث يقول:

حلفت بربّ الراقصات إلى منى صوادر بالركبان من هضب مَرْددِ

بأنّ رسول اللَّه فينا مُصدَّق رسولٌ أتى من عند ذي العرش مهتدي (2)

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله قام حسّان بن ثابت يبكي الرسول صلى الله عليه و آله في قصيدة طويلة، ومنها أبيات يذكر فيها الحرم والجمرة الكبرى، فيقول:

أمست بلاد الحرم وحشا بقاعها لغيبة ما كانت من الوحي تعهد

وبالجمرة الكُبرى له ثم أوحشت ديارٌ وعَرصات وربع ومولد (3)

وفي عهد الخُلفاء الراشدين يرد الحج على لسان الشُعراء في مناسبات عديدة.

ففي عهد الخليفة عُمر بن لخطاب، يشتكي أحد الشُعراء الخليفة من بعض الولاة فيقول:


1- ابن هشام، السيرة 3: 298.
2- ابن هشام، السيرة 4: 245- 246.
3- ابن هشام، السيرة 4: 317- 319.

ص: 182

نحج إذا حجّوا ونغزوا إذا غزوا فأنّى لهم وفر ولسنا بذي وفر (1)

ويقول الشاعر الُمخضرم أُميّة بن حرثان الليثي، وكان شيخاً كبيراً، وكان ولداه هاجرا إلى البصرة زمن الخليفة عمر بن الخطّاب، فقال يشتكي عمر ويطلبه أن يعيد له ابنه كلابا، ذاكراً الحج في شِعره ويقول:

سأستعدي على الفاروق ربا له عمد الحجيج إلى بُساق

إذا الفاروق لم يرد كلابا إلى شيخين هامهما زواقي (2)

فلمّا سمع الخليفة هذين البيتين، أرسل إلى أمير البصرة أن يرد كلابا إلى شيخيه ففعل.

الحج في الشعر الإسلامي في العصر الاموي:

تطوّر الشعر وفنونه في العصر الاموي (41- 132 ه) وازدهرت الحياة الأدبية في الحجاز خاصّة والجزيرة العربية عامّة. وصوّر الشعراء الحجّ ومناسكه ومشاعره في قصائدهم، وخاصّة في الشعر الغزلي بالنساء خلال أداء مناسك الحج، كالطواف ورمي الجمار وأيام مُنى.

وتحتوي كُتب الأدب ودواوين الشعر على الكثير من هذا الشعر، الذي يصوّر الحج وما يحدث فيه من مشاهد.

وقد نشأ في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة في العصر الاموي الشعر الغزلي وتناول في جوانبه مشاهد الحج، وكان الشاعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي صاحب هذه المدرسة الشعرية الجديدة، تبعه في ذلك تلميذه العرجي وهو عبداللَّه بن عمرو


1- يحيى الجبوري، شعر المخضرمين، مكتبة النهضة، بغداد، 1964 م، ص 322. وانظر ايضاً: هزاع الشمري، الخُلفاء الراشدون في الشعر العربي، ط 2، القاهرة: مطابع التقدّم، 1400 ه/ 1980 م: 89- 90.
2- ابن سلام، طبقات الشعراء: 72- 73.

ص: 183

ابن عثمان، الذي كان يسكن منطقة العَرْج قرب الطائف، وغيرهما من الشُعراء الذين صوّروا الحج ومشاهده في شعرهم.

وكان طبيعياً أن يتأثّر شُعراء الحجاز بعمر بن أبي ربيعة والعرجي وغيرهما بالبيئة القرشية الجديدة، والتغير الذي أصاب الحياة في الحجاز نتيجة للفتوحات الإسلامية، وإنسياب الأموال على الحجاز، والتغير الاجتماعي الذي أصاب مجتمع الحجاز نتيجة لذلك.

وقام أصحاب هذا الشعر الغزلي يصفون الحج، ويلهجون بأسماء مشاهد الحج وبعض النساء الحسناوات من الحواج، كما ذكروا أوصاف مواسم الحج والإبل والهوادج، ومشاهد الحج في عرفة ومنى والصفا والمروة والمطاف ورمي الجمرات، والإفاضة إلى آخر ما في الحج من مواقف ومشاهد (1).

ويحتوي ديوان الشاعر عمر بن أبي ربيعة على العديد من الأبيات الشعريّة التي تصف الحج، كما توجد أشعاره التي تصف الحج في العديد من كُتب الأدب.

ويتناول عمر بن أبي ربيعة في قصيدة له الحج ومشاهده، ويمتزج في هذه القصيدة الحنين إلى مكّة، ومعالم الحج، بالذكريات التي اقترنت بمواقفه الغزلية، بعد أن قضى ردحاً من الزمن باليمن، وفي هذه القصيدة يقول عمر بن أبي ربيعة:

هيهات من أُمةِ الوهاب منزلنا إذ حللنا بسيف البحر من عدن

واحتل أهلك «أجياداً» وليس لنا إلّا التذكّر أو حظ من الحزن (2)

ويستمر عمر بن أبي ربيعة في قصيدته ذاكراً مشاهد الحج في غزله بمحبوبته فيقول:


1- الرفاعي، الحج في الأدب العربي: 34- 36.
2- انظر: علي بن الحسين الأصبهاني، كتاب الأغاني، طبعة مصوّرة عن طبعة دار الكُتب، القاهرة: د. ت 1: 111.

ص: 184

ما أنسى لا أنسى يوم الخيف موقفها وموقفي وكلانا ثمّ ذو شجن

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثمن (1)

وبالرغم من تغزّل عمر بن أبي ربيعة بصاحباته في الأماكن المقدّسة، إلّاأنّه كان يشعر بالتحرّج والتأثّم؛ لما يتطلبه الموقف العظيم في الحج من خشوع، يقول في إحدى قصائده:

نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرّج عارمُ (2)

وفي أبيات أُخرى يقول عمر بن أبي ربيعة:

أفسد الحج علينا نسوة من عبد شمس كن للموسم زينا (3)

وبالرغم من ذلك، يتمنّى عمر بن أبي ربيعة أن يتكرّر الحج على مدار السنة؛ لتعلّق قلبه بحبيبته التي يراها في منى، حيث يقول:

أيّها الراكب الُمحِدُّ ابتكارا قد قضى من تهامة الأوطارا

من يكن قلبه صحيحاً سليماً ففؤادي بالخيف أمسى معارا

ليت ذا الدهر كان حتماً علينا كلّ يومين حجّة واعتمارا (4)

ويتغزّل الشاعر عمر بن أبي ربيعة بعائشة بنت طلحة بن عبيداللَّه التيمي، بعد أن رأها ترمي الجمار، وكان يطوف حولها ويتعرّض لها، وهي تكره أن يرى وجهها، وفيها يقول:


1- الأصبهاني، الأغاني 1: 111.
2- المصدر نفسه 1: 127، 260.
3- الفاكهي، أخبار مكّة 1: 314.
4- الأصبهاني، الأغاني 1: 167.

ص: 185

فمكثن حيناً ثمّ قلن توجهت للحج، موعدها لقاء الأخشب

فلقيتها تمشي تهادي موهنا ترمي الجمار عشية في موكبِ (1)

أما الشاعر العرجي فيتغزّل بمحبوبته وهي نافرة من منى فيقول معاتباً:

عُوجي عليَّ فسلمّي جبرُ فيما الصدود و أنتم سفرُ

ما نلتقي إلّاثلاث منى حتى يُفرق بيننا النفرُ (2)

كما يذكر العرجي بعض النساء اللاتي يحججن ليفتن الرجال، حيث يقول:

أماطت كساء الخز عن حُر وجهها وأدنت على الخدّين برداً مُهللًا

من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البري ء المُغفلا (3)

وعندما تولّى الخلافة هشام بن عبدالملك (105- 125 ه) عيّن خاله محمّد ابن هشام والياً على مكّة المُكرّمة، وكتب إليه أن يحج بالناس، فهجاه العرجي بأشعار كثيرة، ومنها قوله:

كأن العام ليس بعام حج تغيّرت المواسم والشكُولِ

ومنها قوله:

ألا قل لمن أمسى بمكّة قاطناً ومن جاء من عمق و نقب المسُللِ


1- الأصبهاني، الأغاني 1: 201.
2- المصدر نفسه 18: 332- 333.
3- الفاكهي، أخبار مكّة 1: 314. الأصبهاني، الأغاني 1: 404.

ص: 186

دعوا الحج لا تستهلكوا نفقاتكم فما حجُ هذا العام بالمتقبلِ

وكيف يُزكى حج من لم يكن له إمامٌ لدى تجميره غيرُ دلدلِ (1)

ويشبب العرجي بَجيْدَاء وهي أُم محمّد بن هشام ويذكرها بمنى فيقول:

نلبث حولًا كاملًا ما نلتقي إلّاعلى منهجِ

في الحجّ إن حجت وماذا منى وأهله إن هي لم تُحجُجِ

وعندما أنشد عالم مكّة عطاء بن أبي رباح قول العرجي هذا، قال:

الخير واللَّه كلّه بمنى وأهله حجت أو لم تُحجّ (2)

ويذكر الشاعر عبيد اللَّه بن قياس الرقيات في شعره البيت الحرام ومنى والجمار وبعض طُرق الحج ومناهله في قصيدة في ديوانه يمدح فيها مصعب بن الزبير ويفتخر بقريش حيث يقول:

أقفرت بعد عبد شمس كداء فكدي فالركنُ فالبطحاء

فمنى فالجمار من عبد شمس مقفرات فبلدح فحِراءُ

فالخيام التي بعسفان فالجحفة منهم فالقاع فالابواءُ

قد أراهم وفي المواسم إذ يغدون حلمٌ ونائلٌ وبهاءُ

ليس للَّه حُرمة مثل بيت نحن حجابه عليه الملاءُ

خصّه اللَّه بالكرامة فالبادون والعاكفون فيه سواءُ (3)


1- الأصبهاني، الأغاني 1: 406.
2- المصدر نفسه 1: 407.
3- عبيد اللَّه بن قيس الرقيات، ديوان، ت. محمّد يوسف نجم، بيروت: دار صادر ودار بيروت، 1378 ه/ 1958 م: 87- 88، 95.

ص: 187

وفي قصيدة أُخرى في ديوانه، يمدح عبيداللَّه بن قيس الرقيات عبداللَّه بن الزبير، وقد خرج إليه وافِداً في مكّة فيذكر البيت وعرفات حيث يقول:

أنت ابن مُعتلج البطاح كديها فكدائها

فالبيت ذي الأركان فالمستنَّ من بطحائها

فمحلَّ أعلاها إلى عرفاتِها فحرائها

أو فى قريش بالعلى في حكمها وقضائها (1)

ولم يخل ديوان عبداللَّه بن قيس الرقيات من الغزل في مواسم الحج. يقول في الثرياء:

حبذاء الحجُ والثريا ومن بالخيف من أجْلِها ومُلقى الرحالِ

درة من عقائِل البحر بكر لم تنلها مثاقب اللآلِ

قطنت مكّة الحرام فشطتْ وَعَدَتني نوائب الأشغالِ (2)

ويتناول الشاعر عمرو بن أذينة، واسمه يحيى بن مالك بن الحارث الليثي، وهو من شعراء المدينة، في شعره البيت الحرام، وزمزم ومشاعر الحج كمنى، فيقول في أبيات:

نزلوا ثلاث مِنى بمنزل غبطةٍ وهم على غَرَضٍ لعمرك ماهُمُ

متجاورين بغير دار إقامة لو قَد أجَدّ رحيلهم لم يندموا

ولهنّ بالبيت الحرام لُبانة والبيتُ يعرفهنّ لو يتكلّمُ


1- ابن قيس الرقيات، ديوان: 117.
2- ابن قيس الرقيات، ديوان: 112- 113. الأصبهاني، الأغاني 1: 213.

ص: 188

ولو كان حياً قبلهنّ ظعائناً حيا الحطيم وجوههنّ وزمزمُ (1)

أمّا الشاعر الحجازي كثير وهو من خزاعة وينزل المدينة، فيذكر تفرّق الحجيج من منى بعد أيّام التشريق حيث يقول:

تفرق أهواء الحجيج على مِنى وصدعهم شعب النوى صُبح رابعِ

فريقان: منهم سالك بطن نخلة وآخر منهم سالك بطن تضرعِ

فلم أر داراً مثلها دار غبطةٍ وملتقى إذا التف الحجيج بمجمعِ (2)

وفي نفس المعنى يقول أحد الشعراء:

ولما قضينا من منى كلّ حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح (3)

ويتغزّل الشاعر ذو الرمة، وهو غيلان بن عقبة بن حارثة، بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة أثناء حجّها، فيقول فيها:

تمام الحجّ أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثامِ (4)

أمّا الشاعر مجنون بني عامر وهو قيس بن الملوح، فقد تعلّق قلبه بليلى وهام بها، وقد حجّ به أبوه ليشفيه، وفي منى سمع صائحاً يصيح في الليل قائلًا: يا ليلى،


1- الفاكهي، أخبار مكّة 1: 314- 315. الأصبهاني، الأغاني 18: 213.
2- الأصبهاني، الأغاني 18: 332- 333.
3- الفاكهي، أخبار مكّة 1: 346. حيث يورد هذه الأبيات يتغنّى بها بعض الحجّاج بعد أن أداء مناسك الحجّ. انظر ايضاً: ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، معجم البلدان، بيروت: دار صادر، 1399 ه/ 1979 م. 5: 198- 199.
4- الأصبهاني، الأغاني 18: 36- 38.

ص: 189

يبحث عن تائهة اسمها ليلى، فسقط مجنون ليلى مغشياً عليه، وعندما أصبح أنشد يقول:

وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما أطار بليلي طائراً كان في صدري

دعا باسم ليلى ضلل اللَّه سعيه وليلى بأرضٍ عنه نازحة قفر (1)

وفي قصيدة اخرى، يقول مجنون بني عامر عن ليلى، وهي بمنى ترمي الجمار الأبيات التالية:

ولم أرَ ليلى بعد موقف ساعةٍ بخيف منى ترمي جِمار المحصبِ

ويُبدي الحصى منها إذا قذفت به من البُردِ أطراف البنان المخضبِ

فأصبحت من ليلى الغداة كناظر مع الصبح في أعقاب نجم مُغربِ

ألا إنّما غادرت يا أمّ مالك صدى أينما تذهب به الريحُ يذهبِ (2)

ويصوّر شعراء النقائض كجرير والفرزدق الكثير من معاني الحج ومشاهده في ديوانيهما. وذلك في المدح والهجاء والفخر.

فالشاعر جرير المولود باليمامة من نجد، يُشير إلى الحج ومواسمه في شعره، فيقول من قصيدة يمدح فيها الخليفة عمر بن عبد العزيز الأبيات التالية:

كم بالمواسم من شعثاء أرملة ومن يتم ضعيف الصوت والبصرِ

يدعوك دعوة ملهوف كأن به خبلًا من الجن أو خبلًا من النشرِ (3)


1- الأصبهاني، الأغاني 2: 21- 22. الرفاعي، أدب الحج: 41- 42.
2- الأصبهاني، الأغاني 2: 33.
3- جرير بن عطية الخطفي، شرح ديوان جرير، ط 1، ت. إيليا حاوي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1982: 332- 334، الأصبهاني، الأغاني

ص: 190

ويمدح الشاعر جرير، خالد بن عبد اللَّه القسري- وكان والياً على مكّة في عهد الخليفة الاموي الوليد بن عبد الملك-، ويقول: إن أجداده كانوا يمتدحون عندما يجتمع الحجيج في مكّة، وفي أبيات من قصيدته يقول:

إذا عُدّ أيام المكارم فافتخر بآبائك الشم الطوال السواعد

يسرّك أيام المحصب ذكرهم وعند مقام الهدي ذات القلائد (1)

ويمدح جرير الوالي الاموي الحجّاج بن يوسف الثقفي، بأنّه أمن سبل الحُجاج فلم يعد يغير عليهم اللصوص فيقول:

ولقد كسرت سنان كلّ منافق ولقد منعت حقائب الحُجاجِ (2)

ويفخر جرير على الفرزدق، ويطلب منه أن يسأل الحُجاج عن مكانته ومكانة قبيلته فيقول:

وإذا الحجيجُ إلى المشاعر أوجفوا فسأل كنانة وأسأل الأنصارا (3)

ويهجو جرير الفرزدق وقومه، ويقول: إنّ الحُجاج بالمشاعر في منى وعرفة نادوا بغدرهم بعبداللَّه بن الزبير، فيقول:

ألم تر أنّ اللَّه أخزى مُجاشعاً إذا ضم أفواج الحجيج المعرفُ

ويوم منى نادت قريش بغدرهم ويوم الهدايا في المشاعر عُكفُ (4)


1- جرير، ديوان: 207، 210.
2- المصدر نفسه: 112.
3- المصدر نفسه: 275.
4- المصدر نفسه: 460.

ص: 191

أمّا الشاعر الفرزدق، فيحتوي ديوانه على العديد من صور الحج ومشاهده، ففي قصيدة له في هجاء جرير يقول:

حلفت بربّ مكّة والمصلى و أعناق الهدي مقلدات (1)

ويهجو الشاعر الفرزدق الشاعر الطرمّاح الطائي، فيقول:

سألت حجيج المسلمين فلم أجد ذبيحة طائي لمن حج حلت (2)

ويمدح الفرزدق الخليفة سليمان بن عبد الملك، فيقول: إنّ المسلمين نذروا أن يحجّوا حفاة ويصوموا سنتين إذا وُليَّ الخلافة، فيقول:

كم فيك إن ملكت يداك لنا يوماً نواصينا من النذر

من حَجّ حافيةٍ و صائمة سنتين أم أفيرخ زُعرِ (3)

ويمدح الفرزدق الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز ويريد الحج وزيارته في مكّة فيقول:

تريد معه الحجّ ابن ليلى كلاهما لصاحبه خير تُرجى فواضله

زيارة بيت اللَّه وابن خليفة تحلب كفاه الندى وأنامله (4)

ويمدح الفرزدق والي البصرة، الحكم بن أيوب بن أبي عقيل فيقول:


1- همام بن غالب بن صعصعة الفرزدق، ديوان الفرزدق، ت. أكرم البستاني، بيروت: دار بيروت، 1400 ه/ 1980 م، 1: 108.
2- الفرزدق، ديوان 1: 115.
3- المصدر نفسه 1: 263.
4- المصدر نفسه 2: 81.

ص: 192

حلفت بما حجّت قريش و نحرت غداة مضي العشر المجللة الهدلا

لقد أدركت كفاك نفس بعدما هويت ولم تثبت بها قدمٌ نعلا (1)

ولم تخل المشاعر من الفخر بين جرير والفرزدق، فقد التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان، فقال الفرزدق لجرير:

فإنّك لاقٍ بالمنازل من مِنىً فخاراً فخبرني بما أنت فاخرُ

فقال له جرير: «لبيك اللهم لبيك» فاستُحسن هذا الجواب من جرير وأعجب الناس برده (2).

والملاحظ، أنّ بعض الولاة كانوا يتّخذون مواقف نتيجة لشعراء الغزل في الحجاز. فعندما وُلي خالد بن عبد اللَّه القسري مكّة المكرّمة، في عهد الخليفة الوليد ابن عبد الملك، بلغه قول الشاعر:

يا حبذا الموسم من موفد وحبذا الكعبة من مشهد

وحبذا اللاتي يزاحمننا عند استلام الحجر الأسود

فقال خالد: أمّا إنّهن لا يزاحمنّك بعد هذا، فأمر بالتفريق بين النساء والرجال في الطواف، فكان أوّل من فرّق بين الرجال والنساء في الطواف (3).

وصوّر بعض الشعراء الأحداث السياسية التي حصلت في مواسم الحج، وأشاروا إلى الحُجاج في شعرهم، فعندما تغلّب أبو حمزة الخارجي على مكّة المُكرّمة في موسم حج عام 129 ه، وفرّ واليها عبد الواحد، وتركها لأبي حمزة


1- الفرزدق، ديوان 2: 128.
2- الأصبهاني، الأغاني 8: 33- 34.
3- الأزرقي، أخبار مكّة 2: 20- 21.

ص: 193

الخارجي، قال أحد الشعراء في مكّة:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا دين الإله ففرّ عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هارباً و مضى يخبط كالبعير الشارد (1)

الحج في النثر الإسلامي في عصر النبوّة والراشدين:

كان للحجّ ومشاعره تأثير كبير في النثر الإسلامي منذ عصر النبوّة والخلفاء الراشدين إلى نهاية العصر الاموي. وتمثّل ذلك في الخطب التي احتوت على العديد من معاني الحج وصوره.

وتشير كُتب السيرة، كسيرة ابن هشام، وكُتب التاريخ كتاريخ الطبري، وغيرها إلى خطب الرسول صلى الله عليه و آله عندما فتح مكّة وما ذكره من حرمتها، ثمّ براءته من المُشركين في حج عام 9 من الهجرة، وحجّة الوداع وخطبته فيها.

فعندما فتح الرسول صلى الله عليه و آله مكّة في العام الثامن من الهجرة، أبطل مآثر قريش ما عدا سدانة البيت، أي خدمة الكعبة المُشرّفة، وسقاية الحج، فقال عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكّة، وكان واقفاً على باب الكعبة:

«لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدعى، فهو تحت قدمي هاتين، إلّا سدانة البيت، وسقاية الحاج...» (2).

وبعد فتح مكّة أعاد الرسول صلى الله عليه و آله للبيت حرمته، ففي اليوم الثاني من فتح مكّة خطب الرسول صلى الله عليه و آله فبين حرمة مكّة، وكانت خزاعة قد عَدَت على رجل من هُذيل فقتلوه وهو مشرك، فخطب الرسول صلى الله عليه و آله قائلًا:


1- محمّد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ت. محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط 4، القاهرة: دار المعارف، د. ت 7: 375- 376. الأصبهاني، الأغاني 23: 229.
2- ابن هشام، السيرة 4: 54.

ص: 194

«يا أيها الناس، إنَّ اللَّه حرّم مكّة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يسفك فيه دماً، ولا يعضد فيها شجراً، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلّاهذه الساعة، غضباً على أهلها، ألا، ثمّ قد رجعت كحرمتها بالأمس...» (1).

وفي السنة التاسعة من الهجرة النبويّة، أصبح الحج إلى مكّة يشمل عدداً كبيراً من عرب الجزيرة، وعُرف «بالحج الأكبر» وهي أوّل حجّة في الإسلام، وقد بعث الرسول صلى الله عليه و آله أبا بكر أميراً على الحج ليُقيم للمسلمين حجّهم، وكان المشركون يحجّون أيضاً، ثمّ نزلت سورة براءة في نقض ما بين الرسول صلى الله عليه و آله وبين المُشركين من عهد. يقول تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (2)

.

ويقول تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّه وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّه بَرِى ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

.

ثمّ دعا الرسول صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب، فقال: «أخرج بهذه القصّة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى، إنّه لا يدخل الجنّة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهد فهو إلى مدّته»، ففعل علي ذلك (4).

وفي السنة العاشرة من الهجرة، قام الرسول صلى الله عليه و آله بحجّته التي عُرفت بحجّة الوداع، وكان يُحيط به عدد كبير من المسلمين العرب جاءوا من أنحاء الجزيرة.


1- ابن هشام، السيرة 4: 58.
2- التوبة: الآية 1. وانظر: ابن هشام، السيرة 4: 188.
3- سورة التوبة: الآية 3. وانظر: ابن هشام، السيرة 4: 188.
4- ابن هشام، السيرة 4: 190- 191. الطبري، تاريخ 3: 122- 123.

ص: 195

فحجّ بالناس وأراهم مناسكهم وأعلمهم سُنن حجّهم، وخطب فيهم خطبته المشهورة في يوم عرفة (يوم الحجّ الأكبر) وقال فيها:

«إنّ اللَّه حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا». وقال: «إنّ اللَّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا» (1).

و يروي ابن هشام في السيرة النبويّة، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث وقف بعرفة قال: «هذا الموقف، للجبل الذي عليه، وكل عرفة موقف. وقال حين وقف على قُزح صبيحة المزدلفة: هذا الموقف وكل المزدلفة موقف. ثمّ لما نحر بالمنحر بمنى قال: هذا النحر، وكل منى منحر. فقضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحج وقد أراهم مناسكهم، وأعلمهم ما فرض اللَّه عليهم من حجّهم: من الموقف، ورمي الجمار، وطواف البيت، وما أحلّ لهم من حجّهم، وما حرّم عليهم، فكانت حجّة البلاغ، وحجّة الوداع، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يحجّ بعدها» (2).

ويروي الفاكهي في كتابه أخبار مكّة، عن عمرو بن يثربي الضمري قوله: «رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطب قبل التروية بيوم بعد الظهر، ويوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، والغد من يوم النحر بمنى بعد الظهر» (3).

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في المدينة يصلّي صلاة عيد الأضحى، ثمّ يعظ الناس ويوصيهم ويأمرهم. يروي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى، فأوّل شي ء يبدأ به الصلاة، ثمّ ينصرف، فيقوم مُقابل الناس- والناس جلوس على صفوفهم- فيعظهم ويوصيهم،


1- ابن هشام، السيرة 4: 251- 252. الطبري، تاريخ 3: 151- 152.
2- ابن هشام، السيرة 4: 253. الطبري، تاريخ 3: 152.
3- الفاكهي، أخبار مكّة 3: 132.

ص: 196

ويأمرهم. فإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه أو يأمر بشي ء أمر به، ثمّ ينصرف» (1).

والواقع أنّ الخطابة تطوّرت بعد ظهور الإسلام، فقد اتخذها الرسول صلى الله عليه و آله أداة للدعوة إلى الدين والوعظ والإرشاد، وكانت خطابة الرسول صلى الله عليه و آله متمّمة للذكر الحكيم، ومن ثمّ كانت فرضاً مكتوباً في صلاة الجمع والأعياد ثمّ مواسم الحج (2).

وتحتفظ كتب الحديث بما اتخذه الرسول صلى الله عليه و آله من أحكام الحج وتعاليمه وسننه، التي يسير عليها المسلمون إلى اليوم. ففي صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك بن أنس، ومسند الإمام أحمد، والمسند الصحيح لمسلم بن الحجاج، والسُنن لأبي داود، وغيرها من كُتب الحديث معلومات عن فريضة الحج، وشروطه، وأركانه، وواجباته، وسننه، ومحظوراته، والهدي والأضحية، وأنواع الحج والعمرة، وهي فرائض وتعليمات وآداب مبنيّة على القرآن وسُنّة الرسول محمد صلى الله عليه و آله. وهي تصوّر أدب الحج في عهد الرسول صلى الله عليه و آله وعهد الخلفاء الراشدين وعصر الصحابة والتابعين.

وكان الخلفاء في العصر الراشدي يقيمون للناس حجّهم ويخطبون فيهم، وإذا لم يحجّوا يخطبون فيهم ويصلّون بهم في المدينة المنوّرة صلاة العيد. يقول عبداللَّه بن عباس: «شهدت العيد مع رسول اللَّه وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة» (3).

وفي مواسم الحج كان الخُلفاء الراشدون والولاة يخطبون في اليوم السابع من ذي الحجّة بمكّة لتعليم الحاج مناسك الحج وسننه، وذلك اقتداء بما كان يفعله الرسول صلى الله عليه و آله، فقد خطب قبل التروية بيوم في حجّة الوداع، وعندما بعث علي بن أبي طالب في العام التاسع للهجرة، قام علي قبل التروية بيوم فعلّم


1- محمّد بن اسماعيل البخاري، صحيح البخاري، ت. عبد العزيز بن بار، بيروت: دار الفكر، 1414 ه/ 1994 م، 1: 105.
2- انظر هنا: شوقي ضيف، العصر الإسلامي، ط 6، القاهرة: دار المعارف، د. ت: 106- 107
3- البخاري، صحيح 1: 6.

ص: 197

المسلمين مناسكهم (1).

الحج في النثر الإسلامي في العصر الأُموي:

كان الولاة والخلفاء يقومون بالخطبة يوم التروية ويوم عرفة في العصر الأموي (41- 132 ه). فعندما حجّ عتبة بن أبي سفيان بالناس سنة 41 ه، خطب بعرفة فقال:

«أمّا بعد، أيُّها الناس فقد ولّيت هذا الأمر الذي يُضاعف اللَّه فيه للمُحسن الأجر، وعلى المسي ء فيه الوزر، ونحن على طريقة قصدنا، فأقبلوا العافية فينا ما قبلناها منكم، وأنا أسأل اللَّه- تعالى- أن يعين كُلّا على كلّ» (2).

وعندما سيطر عبداللَّه بن الزبير على مكّة المُكرّمة (64- 73 ه)، كان يخطب في الناس يوم السابع من ذي الحجّة يعلّمهم المناسك (3).

يروي أبو نعيم الأصبهاني في كتابه حلية الأولياء عن محمّد بن عبداللَّه الثقفي قوله:

«شهدت خطبة ابن الزبير بالموسم، خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم، فلبّى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثمّ حمد اللَّه وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد فإنّكم جئتم من آفاق شتّى وفوداً إلى اللَّه عزّوجل، فحقّ على اللَّه أن يكرم وفده. فمن كان جاء يطلب ما عند اللَّه فإنّ طالب اللَّه لا يخيب، فصدقوا قولكم بفعل، فإنّ ملاك القول الفعل، والنيّة النيّة القلوب القلوب، اللَّه اللَّه في أيامكم هذه، فإنّها أيام تُغفر فيها الذنوب. جئتم من آفاق شتّى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا، ترجون ما هنا. ثمّ لبّى ولبّى الناس، فما رأيت يوماً قط كان أكثر


1- الفاكهي، أخبار مكّة 3: 131- 132.
2- المصدر نفسه 3: 136- 137.
3- المصدر نفسه 3: 133.

ص: 198

باكياً من يومئذ» (1).

وكان الخلفاء الأُمويون يحجّون، فيخطبون يوم السابع من ذي الحجّة، ففي أول حجّة حجّها الخليفة عبدالملك بن مروان (65- 85 ه) في خلافته سنة 75 ه خطب في المسلمين في اليوم السابع من ذي الحجّة، وكان المسلمون قد أشكل عليهم الهلال لشهر ذي الحجة. يروي الفاكهي في أخبار مكّة، أنّ الخليفة عبدالملك خطب فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثمّ قال:

«أيُّها الناس، إنّ اللَّه- عزّوجل- جعل أمر الأُمم من غيركم إلى أنفسهم يدبرون الأوان، ويقيمون الزمان، فيصرفون أعيادهم أنى شاءوا بظن وحسبان، ألا وإنَّ اللَّه- عزّوجل- ملك عليكم أمركم، فجعل الأهلّة مواقيت الناس، ألا وإنَّ اللَّه- عزّوجل- أخفى عليكم هذا ليبتليكم...» (2).

وكان الولاة الأُمويون عندما يحجّون يخطبون في أهل مكّة، يقسمون المال عليهم وقت الضيق والحاجة، وإن لم يجدوا مالًا يستدينون من الحُجّاج. يروي الفاكهي، أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي- عامل بني أُمية- خطب عندما قدم إلى مكّة المُكرّمة وهو والي الحج فقال في خطبته:

«يا أهل مكّة، إنّا قد أرملنا، ولكني سأبعث إليكم- إن شاء اللَّه- فأنظرونا.

فقام رجل فقال: لا أنظر اللَّه من أنظرك، ولا عذر من عذرك، أمير العراقيين، وابن عظيم القريتين، ويقول: انظروني!! قال: فقال الحجّاج: صدقت، لا عَذَرَ اللَّه من عذرني، وما أنظر من نظرني، ثمّ نزل، فتسلّف من وجوه اهل العراق ممن وافى الحجّ أربعين منهم، فجمع مالًا فقسّمه على أهل مكّة» (3).


1- أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ط 5، بيروت: دار الكتاب العربي، 1407 ه/ 1987 م، 1: 335- 336.
2- الفاكهي، أخبار مكّة 3: 132- 133.
3- المصدر نفسه 3: 137- 138.

ص: 199

وشهد العصر الأُموي ازدهار النثر الديني في مواسم الحجّ، والقائم على تفسير القرآن الكريم، وتوضيح السنّة النبويّة والفتوى في مناسك الحجّ والعُمرة، حيث انتعشت في مواسم الحجّ في العصر الأُموي العلوم الإسلامية كالتفسير والسنّة والفتوى (1). وتحتوي المصادر التاريخية على الكثير من أدب الحجّ المُتعلّق بهذه العلوم، وهو أدب نثري يتناول كلّ علم من هذه العلوم.

ولا يتّسع المجال هنا، للتوسّع في هذه العلوم وأبرز علمائها، ولكن ستُعطى أمثلة على كل علم من العلوم الدينية في مواسم الحجّ في العصر الأُموي، وأبرز من اشتهر فيه من الصحابة والتابعين.

ففي علم تفسير القرآن الكريم كان الصحابة والتابعون في مكّة المكرّمة مقصداً للحُجاج لأخذ التفسير ومن هؤلاء عبداللَّه بن العباس (ت 68 ه)، وعبداللَّه ابن الزبير (ت 73 ه)، وعبداللَّه بن عمر بن الخطاب، (ت 74 ه).

وبرز من هؤلاء الصحابة في تفسير القرآن الكريم في مواسم الحجّ في العصر الأُموي الصحابي الجليل عبداللَّه بن عباس (ت 68 ه). حيث كان يخطب خلال المواسم في الحُجاج ويقرأ عليهم القرآن ويفسّره، يروي ابن سعد عن أبي وائل أنّه قال: «خطبنا ابن عباس وهو على الموسم فافتتح سورة البقرة فجعل يقرأ ويفسّر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثله، لو سمعته فارس والروم لأسلمت» (2).

وكان الحُجّاج وطلبة العلم يقدمون لمكّة المُكرّمة لأخذ التفسير من عبداللَّه


1- انظر: إبراهيم بن عبد العزيز الجميح، الحياة العلمية في مواسم الحج في العصر الأُموي 41- 132 ه/ 661- 750، دراسة قُدمت إلى مجلس البحث العلمي ومُعدّة للنشر، جدة: جامعة الملك عبد العزيز، 1422 ه/ 2002 م: 1- 111.
2- الأصبهاني، حلية الأولياء 1: 324، وانظر أيضاً: يوسف بن عبداللَّه النمري القرطبي، جامع بيان العلم وفضله، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ت 1: 115.

ص: 200

ابن العباس، كما كان عبداللَّه بن العباس أيضاً مقصداً لعلماء المسلمين من اليمن وأنحاء الجزيرة والعراق، حيث يقدمون للحجّ ويستفيدون من علم ابن عباس بالسماع والمحاورة، ومن هؤلاء عالم اليمن طاوس بن كيسان (ت 106 ه) (1).

وعندما سُئل بأنّه ترك أكابر الصحابة ولزم ابن عباس قال: «إنّي رأيت سبعين من أصحاب رسول اللَّه- صلى الله عليه و آله إذا تدارؤوا [اختلفوا] في أمر صاروا إلى قول ابن عباس» (2).

ومن التابعين الذين برزوا في تفسير القرآن الكريم مجاهد بن جبر المكّي (ت 104 ه) وهو مقرئ ومفسّر، وقد استفاد من ابن عباس وأخذ عنه تفسير القرآن. يقول مجاهد: «عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كلّ آية منه وأسأله عنها» (3).

وكانت السُنّة النبويّة من العلوم الدينية المزدهرة في مواسم الحجّ في العصر الأُموي. وقد استحوذت السُنّة النبويّة على اهتمام المسلمين في العصر الأُموي.

وكانت مواسم الحج فرصة لدراسة السُنّة النبويّة وفهمها حيث يلتقي المسلمون، علماء وطلبةً بأصحاب الرسول صلى الله عليه و آله- والتابعين في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة؛ لسؤالهم والأخذ منهم عن سُنّة رسول اللَّه- صلى الله عليه و آله- عن الحجّ ومناسكه وسُننه.

واشتهر في مواسم الحجّ في العصر الأُموي عدد من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله والتابعين بفهم السنّة النبويّة وحفظها، ومن هؤلاء عبداللَّه بن العباس، وعبداللَّه بن عمرو بن العاص (ت 65 ه)، وعبداللَّه بن الزبير (ت 73 ه) وغيرهم. وكان يحدّثون في الحج ويجيبون عن أسئلة الحُجّاح اعتماداً على سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.


1- انظر: محمّد بن سعد بن منيع البصري، الطبقات الكُبرى، بيروت: دار صادر، د. ت 2: 366- 367. و 5: 540.
2- ابن سعد، الطبقات 2: 366- 367.
3- الأصبهاني، حلية 3: 379- 380.

ص: 201

وتحتوي كُتب الحديث والتاريخ والطبقات على الكثير من النثر الديني المتعلّق بسُنن الحجّ وأحكامه، الذي احتوته صدور الصحابة أخذاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان عبداللَّه بن عمرو بن العاص، مقصداً للحُجاج خلال مواسم الحج. حيث يقدمون للحج، وفي نفس الوقت يستمعون إليه يحدث عن رسول اللَّه- صلى الله عليه و آله-. يقول عروة بن الزبير (ت 94 ه): إنّه جلس إلى عبداللَّه بن عمرو بن العاص- عن حجّ وسمعه يحدّث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1). وقد كتب عبداللَّه بن عمرو بن العاص الكثير من أحاديث الرسول صلى الله عليه و آله في صحيفة كان يسميها «الصادقة» (2).

ومن تابعي المدينة الذين برزوا في فهم سُنّة الرسول صلى الله عليه و آله وحدّثوا بها في مواسم الحجّ في العصر الأُموي، سعيد بن المسيب (ت 94 ه)، وأبان بن عثمان بن عفان (ت 105 ه)، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر (108 ه).

ومن تابعي مكّة المكرّمة الذين برزوا في فهم السنّة النبويّة، وكانوا مقصداً للحُجاج عمرو بن دينار (ت 126 ه). (3).

كما نصح عالم اليمن طاوس بن كيسان (ت 106 ه) ابنه إذا قدم لمكّة أن يلزم عمرو بن دينار حيث قال له: «إذا قدمت مكّة فعليك بعمرو بن دينار...» (4).

وفي الفتوى في مواسم الحجّ في العصر الأُموي، اشتهر بعض الصحابة


1- القرطبي، جامع 2: 133.
2- ابن سعد، الطبقات 4: 262.
3- محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تاريخ الإسلام و وفيات المشاهير والأعلام 121- 140 ه، ت. عمر عبد السلام التدمري، ط 1، بيروت: دار الكتاب العربي، 1411 ه/ 1990 م.: 188.
4- ابن سعد، الطبقات 5: 479.

ص: 202

والتابعين في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة بالفتوى، وكانوا مقصداً للحجّاج حيث يفتوهم ويبينون لهم مناسك الحجّ والعُمرة.

ومن الصحابة الذين اشتهروا بالفتوى عبداللَّه بن العباس، وعبداللَّه بن الزبير وعبداللَّه بن عمر بن الخطاب. وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان عبداللَّه بن الزبير يفتي المسلمين خلال مواسم الحج، فعندما صُرع معبد بن حزابة المخزومي وهو في طريقه إلى الحجّ، أفتاه عبداللَّه بن الزبير: «أن يبدأ بما لابدّ منه ويفتدي، ثمّ يجعلها عُمرة، ويحجّ عاماً قابلًا ويهدي» (1).

واشتهر من تابعي الصحابة في الفتوى عطاء بن أبي رباح (ت 115 ه) وإليه انتهت فتوى أهل مكّة المكرّمة في زمانه (2). ولقد وصلت شهرة عطاء بن أبي رباح الآفاق حتى أنّه ما قال شيئاً بالحجاز إلّاوقبل منه (3). وترتّب على شهرته المبنية على معرفته بأحكام الحجّ ومناسكه، أن قدر الخلفاء الأُمويون له ذلك. فقد كان الخُلفاء الأُمويون في تلك الفترة يأمرون في الحاجّ صائحاً يصيح بأن لا يفتي الناس إلّا عطاء بن أبي رباح (4).

خاتمة:

كان الهدف من هذه الدراسة هو محاولة إعطاء صورة عن أدب الحجّ، شعراً ونثراً في الحجاز والجزيرة العربية من العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأُموي (132 ه).


1- انظر: محمّد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، بيروت: دار الفكر، 1408 ه/ 1988 م، 2: 221.
2- ابن سعد، الطبقات 5: 470.
3- انظر: يعقوب بن سفيان البسوي، المعرفة والتاريخ، ت. أكرم ضياء العمري، ط 8، المدينة المنوّرة: مكتبةالدار، 1410 ه. 2: 18.
4- الفاكهي، أخبار مكّة 2: 347.

ص: 203

وقد بيّنت الدراسة في بدايتها معنى الحجّ في اللغة العربية والدين. فوضّحت أنّ الحجّ كان يعني القصد والزيارة، ثمّ تطوّر ليصبح مفهومه زيارة البيت الحرام وأداء نسك الحجّ في المشاعر المقدّسة على أساس دين إبراهيم عليه السلام.

ثمّ وضّحت الدراسة ما طرأ على الحجّ من تغير بعد الإسلام، حيث أبطل الإسلام عادات العرب وتقاليدهم عن الحج، فأصبح الحجّ ركناً من أركان الإسلام الخمسة، وفريضة على المسلمين من استطاع إليه سبيلًا.

و وضّحت الدراسة أنّ أدب الحج في الجاهلية يشمل الشعر والنثر والأمثال.

ففي الشعر الجاهلي ذكر العرب البيت الحرام وسقاية الحاج والمشاعر، كمنى وعرفات ومزدلفة، وأشاروا إلى بعض مشاهد الحج كالإبل التي تحمل الحجّاج قادمين لمكّة لأداء الحج، وكرمي الجِمار. وغيرها من مشاهد الحجّ وأيامه.

وفي النثر عبّر العرب قبل الإسلام عن فخرهم وسيادتهم، وحرمة البيت الذي يلونه، وعن حفر بئر زمزم وسقايتهم للحجيج ورفادتهم له.

وفي أمثالهم كان الحجّ عنصراً مؤثراً، فذكروه في أمثالهم التي ما زالت متداولة إلى اليوم.

ثمّ وضّحت الدراسة أدب الحجّ في الحجاز والجزيرة العربية في العصر الإسلامي. فتناولت أدب الحجّ المتمثّل في الشعر والنثر في عصر الرسول صلى الله عليه و آله وعصر الخُلفاء الراشدين والعصر الأُموي إلى نهايته.

ففي عصر الرسول صلى الله عليه و آله، ذكر الشُعراء العرب الحج في شعرهم، حيث تناولوا القسم باللَّه سبحانه وتعالى، رب الإبل القاصدة بالحجّاج منى لأداء مناسك الحج، والحرم، والجمرة الكبرى.

وبيّنت الدراسة تطوّر أدب الحج المُتمثّل في الشعر في العصر الأُموي، وذلك لتغيرات اجتماعية طرأت على الحياة في الحجاز. فذكرت شُعراء الحجاز وشعرهم الغزلي الذي يصفون فيه الحج ومشاعره ومشاهده، كعرفة ومنى ورمي الجمرات

ص: 204

والطواف، وما يحثّ في هذه المشاهد وغيرها من لقاء وفراق ووصل وهجر.

وأشارت إلى شُعراء النقائض كجرير والفرزدق وما يحتويه شعرهما ممّا يتعلّق بالحج ومناسكه، كمنى والنعم المقلّدة، والطواف واستلام الحجر الأسود وغيرها من صور الحجّ ومشاهده.

ثمّ تناولت الدراسة الحج في النثر الإسلامي في عصر النبوّة والراشدين، فبينت احتواء هذا النثر على معاني الحج الإسلامية، التي أرساها القرآن الكريم وأكّدها الرسول صلى الله عليه و آله، فعندما فتح الرسول صلى الله عليه و آله مكّة أبطل عادات العرب الجاهلية، ولم يبقِ إلّاعلى سقاية الحاج وسدانة البيت، ثمّ حرمة البيت الحرام.

وفي أوّل حجّة في الإسلام في العام التاسع للهجرة، أبطل الرسول صلى الله عليه و آله عادات العرب الدينية عن الحج، فأمر علي بن أبي طالب، أن يقرأ على الناس في منى سورة براءة، التي يتبرأ فيها المسلمون من المشركين، وأن يعلمهم بأنّه لا يدخل الجنّة كافر، ولا يحجّ بعد هذا العام مُشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وفي حجّة الوداع أكّد الرسول صلى الله عليه و آله حرمة البيت الحرام ودماء المسلمين، وبيّن للناس مناسكهم، واعلمهم ما فرض اللَّه عليهم في حجّهم، من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والطواف بالبيت وما يحلُ وما يُحرم.

واستمر الخُلفاء الراشدون يخطبون للمسلمين إذا حجّوا، في منى في اليوم التاسع، وإذا لم يحجّوا يخطبون للمسلمين في المدينة المُنوّرة بعد صلاة عيد الأضحى. وكذلك فعل العمال والولاة.

وبيّنت الدراسة أنّ الخلفاء الأُمويين وولاتهم على مكّة، كانوا يخطبون في الناس في اليوم السابع ويعلّمون الناس مناسك الحجّ.

كما أوضحت الدراسة ازدهار النثر الديني المُتمثل في الخطب الدينية والمجالس العلميّة في العصر الأُموي، والذي شمل تفسير القرآن الكريم وتوضيح السُنّة النبويّة والافتاء في أحكام الحج وسننه. وهو أدب للحج يعكس تطوّر

ص: 205

الحياة العلمية وازدهارها في مواسم الحج في العصر الأُموي.

وهكذا، إذن، كان أدب الحج في الحجاز والجزيرة العربية، منذ عصر ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر الأُموي، زاخراً وغنياً ومتنوعاً نظماً ونثراً. وتمثّل فيه بعض ما ظهر من أسرار وحكم وفوائد الحج، بل كان فيه منفعة من عدّة منافع عن الحج ذكرها اللَّه في محكم كتابه حيث يقول: وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1)

.


1- سورة الحج: الآية 27.

ص: 206

علل الحج في كتب الصدوق أبواب علل الأحكام وغيرها (4)

فارس حسّون كريم

30- باب علّة إحرام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجد الشجرة، ولم يحرم دون ذلك

1- عن الحسين بن الوليد، عمّن ذكره، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: لأيّ علّة أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من مسجد الشجرة ولم يحرم من موضع دونه؟

قال: لأنّه لمّا اسري به إلى السماء وصار بحذاء الشجرة وكانت الملائكة تأتي إلى البيت المعمور بحذاء المواضع التي هي مواقيت سوى الشجرة، فلمّا كان في الموضع الذي بحذاء الشجرة نودي: يا محمّد، قال: لبّيك. قال: ألم أجدك يتيماً فآويت، ووجدتك ضالّاً فهديت؟

قال النبي صلى الله عليه و آله: إنّ الحمد والنعمة والملك لك لا شريك لك لبّيك، فلذلك أحرم من الشجرة دون المواضع كلّها (1).

2- عن معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: اعلم أنّ من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من الوقت الذي وقته رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا تتجاوز إلّاوأنت محرم فإنّه


1- من لا يحضره الفقيه 2: 200 ضمن ح 2134، علل الشرائع: 433 ب 169 ح 1، روضة المتّقين 4: 38، وسائل الشيعة 11: 311 ح 13، بحار الأنوار 18: 370 ح 76، و 99: 128 ح 12.

ص: 207

وقّت لأهل العراق ولم يكن يومئذ عراق بطن العقيق من قبل العراق، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت لأهل المغرب الجحفة وهي مكتوبة عندنا مهيعة، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ووقت لأهل اليمن يلملم ومن كان منزله بخلف هذا المواقيت ممّا يلي مكّة فوقته منزله (1).

3- عن أبي أيّوب الخزّاز، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: حدّثني عن العقيق وقت وقّته رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أو شي ء صنعه الناس؟

فقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ووقّت لأهل المغرب الجحفة، وهي عندنا مكتوبة مهيعة، ووقّت لأهل اليمن يلملم، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقّت لأهل نجد العقيق وما أنجدت (2).

31- باب علّة الاشعار والتقليد

1- عن السكونيّ، عن جعفر بن محمّد عليه السلام أنّه سئل: ما بال البدنة تقلّد النعل وتشعر؟

قال: أمّا النعل فتعرف أنّها بدنة ويعرفها صاحبها بنعله، وأمّا الإشعار فإنّه يحرم ظهرها على صاحبها من حيث أشعرها، ولا يستطيع الشيطان أن يمسّها (3). (4) 2- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّما استحسنوا (5) الإشعار للبدن (6)


1- علل الشرائع: 434 ب 169 ح 2، بحار الأنوار 99: 128 ح 13.
2- علل الشرائع: 434 ح 3، بحار الأنوار 99: 128 ح 14.
3- في بعض المصادر: يتسنّمها. أي يركب على سنامها حقيقة أو مجازاً بوسوسة أبدالها وركوبها والانتفاع بها أو ذبحها.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 200 ذ ح 2134، علل الشرائع: 434 ب 170 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 238 ح 143، روضة المتّقين 4: 39، وسائل الشيعة 11: 279 ح 22، بحار الأنوار 99: 101 ح 3، ملاذ الأخيار 8: 79 ح 143.
5- أي جعله اللَّه حسناً، أو النبيّ والأئمّة صلوات اللَّه عليهم.
6- المراد: ليكون تعجيلًا للمغفرة، لأنّه إذا كان يغفر اللَّه تعالى عند أوّل قطرة تقطر من دمها وهذا أيضاً من دمها يغفر اللَّه لصاحبها معجّلًا.

ص: 208

لأنّه أوّل قطرة تقطر من دمها يغفر اللَّه عزّوجلّ له على ذلك (1).

3- عن الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: أيّ رجل ساق بدنة فانكسرت قبل أن تبلغ محلّها، أو عرض لها موت أو هلاك فلينحرها إن قدر على ذلك، ثمّ ليلطّخ نعلها التي قلّدت به بدم حتّى يعلم من مرّ بها أنّها قد ذكّيت فيأكل من لحمها إن أراد، وإن كان الهدي الذي انكسر أو هلك مضموناً فإنّ عليه أن يبتاع مكان الذي انكسر أو هلك، والمضمون هو الشي ء الواجب عليك في نذر أو غيره، وإن لم يكن مضموناً وإنّما هو شي ء تطوّع به، فليس عليه أن يبتاع مكانه إلّاأن يشاء أن يتطوّع (2).

32- باب علّة رمي الجمار

1- عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال: سألته عن رمي الجمار لِمَ جعل؟ قال: لأنّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم عليه السلام في موضع الجمار فرجمه إبراهيم، فجرت السنّة بذلك (3).

2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: أوّل من رمى الجمار آدم عليه السلام وقال: أتى جبرئيل عليه السلام إبراهيم فقال: إرم يا إبراهيم، فرمى جمرة العقبة، وذلك إنّ الشيطان تمثّل له عندها (4).


1- من لا يحضره الفقيه 2: 214 ح 2193 وص 323 ح 2570، علل الشرائع: 434 ب 170 ح 2، روضة المتّقين 4: 68 و 363، وسائل الشيعة 11: 278 ح 15، بحار الأنوار 99: 101 ح 1.
2- علل الشرائع 99: 101 ح 2، وسائل الشيعة 14: 142 ح 4، بحار الأنوار 99: 101 ح 2.
3- قرب الاسناد: 238 ح 934، من لا يحضره الفقيه 2: 200 صدر ح 2135، علل الشرائع: 437 ب 177 ح 1، روضة المتّقين 4: 40، وسائل الشيعة 14: 263 ح 3 وص 264 ح 7، بحار الأنوار 12: 110 ح 32، و 99: 273 ح 10.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 200 ذيل ح 2135، علل الشرائع: 437 ب 177 ح 2، روضة المتّقين 4: 40، وسائل الشيعة 14: 264 ح 4، بحار الأنوار 12: 110 ح 33، و 99: 273 ح 11.

ص: 209

33- باب علّة الاضحية

1- عن إسماعيل بن مسلم السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّما جعل اللَّه هذا الأضحى لتتّسع (1) مساكينكم من اللحم، فأطعموهم (2). (3) 2- عن أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: ما علّة الاضحية؟

فقال عليه السلام: إنّه يغفر لصاحبها عند أوّل قطرة تقطر من دمها إلى الأرض، وليعلم اللَّه تعالى من يتّقيه بالغيب، قال اللَّه تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (4)

، ثمّ قال: انظر كيف قبل اللَّه قربان هابيل، وردّ قربان قابيل (5).

3- عن أبي جميلة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن لحم الأضاحي، فقال: كان عليّ بن الحسين وابنه محمّد عليهم السلام يتصدّقان بالثلث على جيرانهما، وبثلث على المساكين، وثلث يمسكانه لأهل البيت (6).

34- باب علّة استحباب استفراه الضحايا

1- عن موسى بن إبراهيم، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: قال


1- في بعض المصادر: ليشبع.
2- المراد: إطعام البعض منهم، ويمكن أن يكون المراد: استحباب إطعام الزائد على المسمّى للأكل.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 200 صدر ح 2136، ثواب الأعمال: 84 ح 5، علل الشرائع: 437 ب 178 ح 1، روضةالمتّقين 4: 40، وسائل الشيعة 10: 501 ح 12، و 14: 205 ح 4 و: 206 ح 10، بحارالأنوار 99: 296 ح 15.
4- سورة الحجّ: 37.
5- علل الشرائع: 437 ب 178 ح 2، وسائل الشيعة 14: 407 ح 11، بحار الأنوار 70: 276، و 99: 296 ح 17.
6- الكافي 4: 499 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 493 ح 3054، المقنع: 275، علل الشرائع: 438 ح 3، روضة المتّقين 4: 40، و 5: 160، وسائل الشيعة 14: 163 ح 13، بحار الأنوار 46: 300 ح 40، و 99: 296 ح 16، مرآة العقول 18: 181 ح 3، عوالم العلوم 18: 134 ح 1.

ص: 210

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: استفرهوا ضحاياكم (1) فإنّها مطاياكم على الصراط (2). (3) 35- باب علّةعدم جواز إطعام المساكين في كفّارة اليمين من لحوم الأضاحي

1- عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليه السلام أنّ عليّاً عليه السلام سُئل: هل يطعم المساكين في كفّارة اليمين من لحوم الأضاحي؟

قال: لا، لأنّه قربان للَّه تعالى (4).

36- باب علّة النهي عن حبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام، ثمّ اطلق في ذلك

1- عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: كان النبي صلى الله عليه و آله نهى أن تحبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام من أجل الحاجة، فأمّا اليوم فلا بأس به (5).

2- عن جميل بن درّاج، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن حبس لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيّام بمنى.

قال: لا بأس بذلك اليوم، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما نهى عن ذلك أوّلًا لأنّ الناس كانوا يومئذٍ مجهودين، فأمّا اليوم فلا بأس.

وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: كنّا ننهي الناس عن إخراج لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيّام


1- أي اجعلوها نفيسة سمينة غير معيوبة.
2- أي تحملكم بعينها أو بثوابها، فكلّما كانت أنفس يكون جوازكم على الصراط بها أسهل.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 213 ح 2190، علل الشرائع: 438 ب 179 ح 1، روضة المتّقين 4: 67، وسائل الشيعة 14: 209 ب 62 ح 1، بحار الأنوار 7: 276، و 99: 297 ح 18.
4- الكافي 7: 461 ح 9، علل الشرائع: 438 ب 180 ح 1، وسائل الشيعة 14: 209 ب 63 ح 1، و 22: 390 ح 1، بحار الأنوار 99: 297 ح 20، مرآة العقول 24: 355 ح 9.
5- المحاسن للبرقيّ 2: 40 ح 56، علل الشرائع: 438 ب 181 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 226 ح 103، الاستبصار 2: 274 ح 973، وسائل الشيعة 14: 169 ح 3 و 4، بحار الأنوار 99: 285 ح 43، ملاذ الأخيار 8: 59 ح 103.

ص: 211

لقلّةاللحم وكثرةالناس، فأمّااليوم فقدكثر اللحم وقلّ الناس، فلا بأس بإخراجه (1).

3- عن محمد بن عبداللَّه بن موسى بن عبداللَّه، عن أبيه، عن خاله زيد بن علي، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: نهيتكم عن ثلاث: نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، ونهيتكم عن إخراج لحوم الأضاحي من منى بعد ثلاث ألا فكلوا وادّخروا، ونهيتكم عن النبيذ ألا فانبذوا، وكلّ مسكر حرام- يعني الذي ينبذ بالغداة ويشرب بالعشيّ، وينبذ بالعشيّ ويشرب بالغداة، فإذا غلى فهو حرام (2).

37- باب علّة جواز أن يعطى الاضحيّة من يسلخها بجلدها

1- عن صفوان بن يحيى الأزرق (3)، قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الرجل يعطي الضحية من يسلخها بجلدها؟

قال عليه السلام: لا بأس به، إنّما قال عزّوجلّ: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا (4)

والجلد لا يؤكل ولا يطعم (5). (6)


1- المحاسن للبرقيّ 2: 40 ح 57، علل الشرائع: 439 ح 2، وسائل الشيعة 14: 170 ح 5 و 6، بحار الأنوار 99: 285 ح 45 و 46.
2- علل الشرائع: 439 ح 3، وسائل الشيعة 14: 170 ح 7، بحار الأنوار 99: 285 ح 48.
3- قال المجلسي رحمه الله: اعلم أنّ النسخ التي عندنا «عن صفوان بن يحيى، عن يحيى» لأنّه لم يوصف صفوان ولاأبوه بالأزرق، بل صفوان يروي عن يحيى بن عبد الرحمان الأزرق، وهو أيضاً ثقة، وهذه الرواية في التهذيب وقعت مراراً، ويظهر من الفقيه أنّ صفوان يروي عن يحيى بن حسّان الأزرق، وهو إن لم يكن موثّقاً لكنّ الصدوق رحمه الله اعتمد على كتابه وذكر طريقه إليه.
4- سورة الحجّ: 36.
5- يحتمل أن يكون المراد عدم جري العادة بأكله لا حرمته، وأيضاً الجلد الذي يعطى الجزّار، وهو ما عدا جلد الرأس، والذي يؤكل جلد الرأس.
6- من لا يحضره الفقيه 2: 201 ضمن ح 2139، علل الشرائع: 439 ب 182 ح 1، روضة المتّقين 4: 42، وسائل الشيعة 14: 175 ح 7 و 8، بحار الأنوار 66: 42 ح 22، و 99: 297 ح 21.

ص: 212

38- باب علّة وجوب استقراض ثمن الاضحيّة على مَن لا يجد

1- عن موسى بن إبراهيم، عن أبي الحسن موسى عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لُامّ سلمة وقد قالت له: يارسول اللَّه، نحضر الأضحى وليس عندي ما اضحّي به فأستقرض واضحّي؟

قال: فاستقرضني فإنّه دين مقضيّ (1). (2) 2- عن شريح بن هانئ، عن علي عليه السلام أنّه قال: لو علم الناس ما في الأضحيّة لاستدانوا وضحّوا، إنّه ليغفر لصاحب الأضحيّة عند أوّل قطرة تقطر من دمها (3).

39- باب العلّة التي من أجلها تُجزئ البدنة عن نفسٍ واحدةٍ، وتجزئ البقرة عن خمسة أنفس

1- عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: قلت له: عن كم تجزئ البدنة؟

قال: عن نفس واحدة.

قلت: فالبقرة؟

قال: تجزئ عن خمسة إذا كانوا يأكلون على مائدة واحدة.

قلت: وكيف صارت البدنة لا تجزئ إلّاعن واحدة، والبقرة تجزئ عن خمسة؟

قال: لأنّ البدنة لم يكن فيها من العلّة ما كان في البقرة، إنّ الّذين أمروا قوم موسى عليه السلام بعبادة العجل كانوا خمسة أنفس، وكانوا أهل بيت يأكلون على خوان


1- أي يقضيه اللَّه تعالى.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 213 ح 2191 و 489: ح 3045، علل الشرائع: 440 ب 183 ح 1، روضة المتّقين 4: 67، و 5: 151، وسائل الشيعة 14: 210 ح 1، بحار الأنوار 99: 297 ح 19.
3- علل الشرائع: 440 ح 2، روضة المتّقين 4: 67، وسائل الشيعة 14: 210 ح 2، بحار الأنوار 99: 297 ح 22.

ص: 213

واحد، وهم: اذيبوية، وأخوه مذوية (1)، وابن أخيه وابنته وامرأته هم الّذين أمروا بعبادة العجل، وهم الّذين ذبحوا البقرة الّتي أَمر اللَّه تعالى بذبحها (2). (3) 40- باب العلّة التي من أجلها يجزئ في الهدي الجَذَع من الضأن (4)، ولا يجزئ الجذع من المعز

1- عن حمّاد بن عثمان، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أدنى ما يجزئ في الهدي من أسنان الغنم؟

قال: فقال: الجذع من الضأن.

قال: قلت: الجذع من الماعز.

فقال: لا يجزئ.


1- اختلف في ضبط هذين الاسمين، ففي بعض المصادر: اذينونة، ميذونة. وفي بعضها: اذينوه، ميذويه.
2- قال الشيخ الصدوق رحمه الله: جاء هذا الحديث هكذا فأوردته كما جاء لما فيه من ذكر العلّة، والّذي افتي به وأعتمده انّ البقرة والبدنة تجزئان عن سبعة نفر من أهل بيت واحد ومن غيرهم. حدّثنا بذلك محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، حدّثنا محمد بن الحسن الصفّار، قال: حدّثنا محمد ابن الحسين بن أبي الخطّاب، عن وهيب بن حفص، عن أبي بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: البقرة والبدنة تجزئان عن سبعة إذا اجتمعوا من أهل بيت ومن غيرهم. [الخصال: 356 ح 38، بحار الأنوار 99: 295 ح 10]. حدّثنا أبي، قال: حدّثنا سعد بن عبداللَّه، عن بنان بن محمد، عن محمد بن الحسن، عن يونس بن يعقوب، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن البقرة يضحّى بها. قال: فقال: تجزئ عن سبعة متفرقين. [الخصال: 356 ح 37، وسائل الشيعة 14: 122 ح 19، بحار الأنوار 99: 296 ح 13].
3- المحاسن للبرقيّ 2: 36 ح 44، من لا يحضره الفقيه 2: 200 ضمن ح 2136، الخصال: 292 ح 55، علل الشرائع: 440 ب 184 ح 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 83 ح 22، روضة المتّقين 4: 41، وسائل الشيعة 14: 121 ح 18، بحار الأنوار 13: 216 ح 8، و 99: 295 ح 9.
4- الجذع من الضأن هو ما كمل له ستّة أشهر؛ وقيل: إنّه ما كمل له سبعة أشهر؛ وقيل: إنّ ولد الضأن إنّما يجذع ابن سبعة أشهر إذا كان أبواه شابّين ولو كانا هرمين لم يجذع حتّى يستكمل ثمانية أشهر.

ص: 214

قال: فقلت له: جعلت فداك، ما العلّة فيه؟

قال: فقال: لأنّ الجذع من الضأن يلقح والجذع من المعز لا يلقح (1).

41- باب علّة سقوط الذبح عمّن تمتّع عن امّه، وأهلّ بحجّة عن أبيه

1- عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن رجل تمتّع عن امّه وأهلّ بحجّة عن أبيه.

قال: إن ذبح فهو خير له، وإن لم يذبح فليس عليه شي ء، لأنّه تمتّع عن امّه وأهلّ بحجّة عن أبيه (2) . (3) 42- باب العلّة التي من أجلها صيّر الموقف بعرفات ولم يصيّر بالحرم

1- عن سعد بن عبداللَّه، قال: حدّثني محمد بن الحسن الهمداني، قال: سألت ذا النون المصري قلت: يا أبا الفيض، لِمَ صيّر الموقف بالمشعر (4) ولم يصير بالحرم؟

قال: حدّثني من سأل الصادق عليه السلام ذلك فقال: لأنّ الكعبة بيت اللَّه والحرم حجابه والمشعر بابه، فلمّا أن قصده الزائرون وقفهم بالباب حتّى أذن لهم بالدخول، ثمّ وقفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة، فلمّا نظر إلى طول تضرّعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلمّا قرّبوا قربانهم وقضوا تفثهم (5) وتطهّروا من الذنوب التي كانت لهم


1- المحاسن للبرقي 2: 70 ح 127، الكافي 4: 489 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 201 ضمن ح 2136، علل الشرائع: 441 ب 185 ح 1، روضة المتّقين 4: 41، وسائل الشيعة 14: 103 ح 4، بحار الأنوار 99: 287 ح 52، مرآة العقول 18: 160 ح 1.
2- قال الشيخ الحرّ العاملي: العمرة هنا محمولة على المفردة، والحجّ على حجّ الافراد، ووجه المجاز تقدّم العمرة على الحجّ.
3- علل الشرائع: 441 ب 186 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 239 ح 146، وسائل الشيعة 14: 80 ح 5، بحار الأنوار 99: 286 ح 51، ملاذ الأخيار 8: 81 ح 146.
4- قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: أي بعرفات، فإنّه أيضاً مشعر العبادة، والظاهر أنّه سهو من النسّاخ.
5- التفث: ما يفعله المحرم عند إحلاله كقصّ الشارب والظفر. وقيل: هو ذهاب الشعث والدرن والوسخ مطلقاً. «مجمع البحرين 2: 238- تفث-».

ص: 215

حجاباً دونه أمرهم بالزيارة على طهارة قال: فقلت: فلِمَ كره الصيام في أيّام التشريق؟

فقال: لأنّ القوم زوّار اللَّه وهم أضيافه وفي ضيافته ولا ينبغي للضيف أن يصوم عند من زاره وأضافه (1) قلت: فالرجل يتعلّق بأستار الكعبة ما يعني بذلك؟

قال: مثل ذلك مثل الرجل يكون بينه وبين الرجل جناية فيتعلّق بثوبه يستخذي له رجاء أن يهب له جرمه (2).

43- باب علّة عدم كتابة ذنب على الحاجّ أربعة أشهر

1- عن الحسين بن خالد، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام (3): لأيّ شي ء صار الحاجّ لا يكتب لهم ذنب أربعة أشهر؟

قال: لأنّ اللَّه تبارك وتعالى أباح للمشركين أشهر الحرم أربعة أشهر، إذ يقول: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (4)

فمن ثمّ وهب لمن حجّ من المؤمنين البيت الذنوب أربعة أشهر (5).


1- زاد في الفقيه: وروي أنّها أيّام أكل وشرب وبعال.
2- الكافي 4: 224 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 197- 198 ح 2129 وصدر ح 2130، علل الشرائع: 443 ب 190 ح 1، كنز الفوائد 2: 81، تهذيب الأحكام 5: 448 ح 211، مناقب ابن شهرآشوب 2: 378، روضة المتّقين 4: 29، وسائل الشيعة 10: 517 ح 6، و 11: 225 ح 18، بحار الأنوار 99: 34 ح 12 و: 35 ح 13، مرآة العقول 17: 67 ح 1، ملاذ الأخيار 8: 483 ح 211.
3- في بعض المصادر: عن أبي عبداللَّه عليه السلام.
4- سورة التوبة: 2. وقال المجلسي رحمه الله: هي أشهر السياحة وليس في أشهر الحرم، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمّا بعث سورة براءة مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى مكّة أمره أن ينبذ إلى المشركين عهودهم ويمهلهم بعده أربعة أشهر ليرجعوا إلى بلادهم ومأمنهم، وذلك من يوم النحر في تلك السنة، العاشر من ربيع الآخر.
5- الكافي 4: 255 ح 10، من لا يحضره الفقيه 2: 198 ذيل ح 2130، علل الشرائع: 443 ب 191 ح 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 83 ح 23، روضة المتّقين 4: 31، وسائل الشيعة 11: 97 ح 9، بحار الأنوار 99: 17 ح 60، مرآة العقول 17: 125 ح 10.

ص: 216

44- باب العلّة التي من أجلها أفاض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المشعرخلاف أهل الجاهليّة

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: كان أهل الجاهليّة يقولون:

أشرق ثبير- يعنون الشمس- كيما نغير (1)، وإنّما أفاض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من المشعر لأنّهم كانوا يفيضون (2) بإيجاف الخيل وإيضاع الإبل (3)، فأفاض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالسكينة والوقار والدعة، وأفاض بذكر اللَّه تعالى والاستغفار وحركة لسانه (4).

45- باب علّة إقامة الحدّ على الجاني في الحرم، ولا يقام على الجاني في غير الحرم إذا فرّ إلى الحرم

1- عن حفص بن البختري، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يجني الجناية في غير الحرم ثمّ يلجأ إلى الحرم يقام عليه الحدّ.

قال: لا، ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلّم ولا يبايع، فإنّه إذا فعل ذلك به يوشك أن يخرج فيقام عليه الحدّ، وإذا جنى في الحرم جناية اقيم عليه الحدّ في الحرم لأنّه لم ير للحرم حرمة (5).

2- عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل قتل رجلًا في الحلّ ثمّ دخل الحرم؟

فقال عليه السلام: لا يقتل ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع ولا يؤوى حتّى يخرج من


1- أي نذهب سريعاً؛ وقيل: أراد: نغير على لحوم الأضاحي من الاغارة والنهب؛ وقيل: أي نسرع إلى النحر. وثبير هو الجبل المعروف عند مكّة.
2- أي انّهم كانوا يسرعون في السير بعد الإفاضة في الموقف أيضاً قبل البلوغ إلى وادي محسر.
3- أي إسراعها في سيرها.
4- علل الشرائع: 444 ب 192 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 192 ح 14، وسائل الشيعة 14: 26 ح 5، بحار الأنوار 99: 267 ح 5، ملاذ الأخيار 7: 550 ح 14.
5- تفسير القمّي 1: 108، من لا يحضره الفقيه 2: 205 ذيل ح 2148، و 4: 115 ح 5229، علل الشرائع: 444 ب 193 ح 1، تهذيب الأحكام 10: 216 ح 6، روضة المتّقين 4: 49، و 10: 343، وسائل الشيعة 13: 227 ح 4 و 5، و 28: 59 ح 1، بحار الأنوار 99: 73 ح 9 و: 74 ح 10، ملاذ الأخيار 16: 457 ح 6.

ص: 217

الحرم فيقام عليه الحدّ.

قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟

قال عليه السلام: يقام عليه الحدّ في الحرم صاغراً لأنّه لم ير للحرم حرمة، وقد قال اللَّه عزّوجلّ: فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (1)

فقال: هذا هو في الحرم، وقال: فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (2)

. (3) 3- عن الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن قول اللَّه عزّوجلّ:

وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (4)

قال: إذا أحوت العبد في غير الحرم جناية ثمّ فرّ إلى الحرم لم يسع لأحد أن يأخذه في الحرم ولكن يمنع من السوق ولا يبايع ولا يطعم ولايسقى ولا يكلّم، فإنّه إذا فعل ذلك به يوشك أن يخرج فيؤخذ، وإذا جنى في الحرم جناية اقيم عليه الحدّ في الحرم، لأنّه لم يدع للحرم حرمته (5).

46- باب علّة أكل المحرم الصيد إذا اضطرّ إليه، وعلّة من روى أنّه يأكل الميتة

1- عن العمركي، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام، قال:

سألته عن المحرم إذا اضطرّ إلى أكل صيد وميتة، وقلت: إنّ اللَّه تعالى حرّم الصيد وأحلّ الميتة، قال: يأكل ويفديه فإنّما يأكل من ماله (6).

2- عن أبي أيّوب، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل اضطرّ وهو محرم إلى صيد وميتة، من أيّهما يأكل؟


1- سورة البقرة: 194.
2- سورة البقرة: 193.
3- الكافي 4: 227 ح 4، تهذيب الأحكام 5: 419 ح 102 و: 463 ح 260، روضة المتّقين 10: 343، وسائل الشيعة 13: 225 ح 1، ملاذ الأخيار 8: 424 ح 102 و: 518 ح 260.
4- سورة آل عمران: 97.
5- الكافي 4: 226 ح 2، وسائل الشيعة 13: 226 ح 2، مرآة العقول 17: 71 ح 2.
6- علل الشرائع: 445 ب 195 ح 1، وسائل الشيعة 13: 86 ح 5، بحار الأنوار 99: 151 ح 19.

ص: 218

قال: يأكل من الصيد.

قلت: فإنّ اللَّه قد حرّمه عليه وأحلّ له الميتة، قال: يأكل ويفدي فإنّما يأكل من ماله (1).

3- عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: محرم قد اضطرّ إلى صيد وإلى ميتة فمن أيّهما يأكل؟

قال: يأكل من الصيد.

قلت: أليس قد أحلّ اللَّه الميتة لمن اضطرّ إليها؟

قال: بلى، ولكن يفدي، ألاترى أنّه إنّما يأكل من ماله و يأكل الصيد و عليه فداؤه.

وروي أنّه يأكل الميتة، لأنّها احلّت له، ولم يحلّ له الصيد (2).

47- باب علّة كراهة المقام بمكّة

1- عن أبي الصباح الكناني، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تعالى:

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (3)

فقال: كلّ ظلم يظلم به الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شي ء من الظلم فإنّي أراه إلحاداً ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم (4).

2- عن أحمد بن محمد السيّاري، قال: روى جماعة من أصحابنا، رفعوه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه كره المقام بمكّة، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اخرج عنها والمقيم بها يقسو قلبه حتّى يأتي في غيرها (5).


1- علل الشرائع: 445 ب 195 ح 2، وسائل الشيعة 13: 86 ح 6، بحار الأنوار 99: 152 ح 20.
2- علل الشرائع: 445 ح 3، وسائل الشيعة 13: 86 ح 7 و 8، بحار الأنوار 99: 152 ح 21.
3- سورة الحجّ: 25.
4- الكافي 4: 227 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 252 ح 2330، علل الشرائع: 445 ب 196 ح 1، روضة المتّقين 4: 159، وسائل الشيعة 13: 232 ح 3، بحار الأنوار 99: 80 ح 24، مرآة العقول 17: 74 ح 3.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 194 ضمن ح 2121 و: 254 ح 2339، علل الشرائع: 446 ب 196 ح 2، روضة المتّقين 4: 21، وسائل الشيعة 13: 234 ح 8، بحار الأنوار 99: 80 ح 25.

ص: 219

3- عن محمد بن جمهور، رفعه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته وليلحق بأهله فإنّ المقام بمكّة يقسي القلب (1).

4- عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: لا ينبغي للرجل أن يقيم بمكّة سنة قلت: فكيف يصنع؟

قال: يتحوّل عنها إلى غيرها، ولا ينبغي لأحدٍ أن يرفع بناءه فوق الكعبة (2).

5- قال الصادق عليه السلام: لا احبّ للرجل أن يقيم بمكّة سنة، وكره المجاورة بها، وقال: ذلك يقسي القلب (3).

48- باب علّة كراهة الاحتباء (4) في المسجد الحرام

1- عن حمّاد بن عثمان، قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السلام يكره الاحتباء للمحرم.

قال: ويكره الاحتباء في المسجد الحرام إعظاماً للكعبة (5).

2- وإنّما يكره الاحتباء في المسجد الحرام تعظيماً للكعبة (6).


1- الكافي 4: 230 ذيل ح 1، علل الشرائع: 446 ب 196 ح 3، روضة المتّقين 4: 163، وسائل الشيعة 13: 234 ح 6 و: 235 ح 9، بحار الأنوار 99: 81 ح 26.
2- الكافي 4: 230 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 254 ح 2338، علل الشرائع: 446 ب 196 ح 4، تهذيب الأحكام 5: 448 ح 1563 و: 463 ح 1616، روضة المتّقين 4: 21 وص 163، وسائل الشيعة 13: 233 ح 5 و: 235 ح 1، بحار الأنوار 99: 60 ح 26 و: 81 ح 27، ملاذ الأخيار 8: 483 ح 209 و: 519 ح 262.
3- المقنعة: 70، وسائل الشيعة 13: 235 ح 11.
4- وقيل أيضاً: الاحتذاء. قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: يقال: احتبى بالثوب: اشتمل وجمع بين ظهره وساقيه بعمامة، والظاهر أنّ كراهته لاستقبال العورة بالكعبة، سيّما إذا لم يكن له سراويل. وعلى الاحتذاء يكون المراد به لبس النعل مطلقاً، أو غير العربيّ، ولا ريب في منافاته لتعظيم المسجد الحرام، بل للكعبة أيضاً.
5- الكافي 4: 366 ح 8، علل الشرائع: 446 ب 197 ح 1، روضة المتّقين 4: 31، وسائل الشيعة 13: 266 ح 2 و: 267 ح 2، بحار الأنوار 99: 60 ح 27.
6- من لا يحضره الفقيه 2: 198 ح 2131، روضة المتّقين 4: 31، وسائل الشيعة 13: 267 ح 5.

ص: 220

49- باب علّة كون الركوب في الحجّ أفضل من المشي

1- عن رفاعة بن موسى النخّاس، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه سئل عن الحجّ ماشياً أفضل أم راكباً.

قال: بل راكباً فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجّ راكباً (1).

2- عن سيف الّتمار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّا كنّا نحجّ مشاة فبلغنا عنك شي ء فما ترى؟

قال: إنّ الناس يحجّون مشاة ويركبون.

قلت: ليس ذلك أسألك.

فقال: عن أيّ شي ء تسألني؟

قلت: أيّما أحبّ إليك أن نصنع؟

قال: تركبون أحبّ إليّ فإنّ ذلك أقوى لكم على العبادة والدعاء (2).

3- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المشي أفضل أو الركوب.

فقال: إذا كان الرجل موسراً فمشى ليكون أقلّ لنفقته فالركوب أفضل (3).

4- عن سليمان، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّا نريد أن نخرج إلى مكّة مشاة


1- الكافي 4: 456 ح 4 و 5، من لا يحضره الفقيه 2: 218 ح 2217، علل الشرائع: 446 ب 198 ح 1- 3، تهذيب الأحكام 5: 12 ح 31 و: 478 ح 1691، روضة المتّقين 4: 75، وسائل الشيعة 11: 81 ح 1 و 2 و: 82 ح 4، حلية الأبرار 3: 57 ح 8 بحار الأنوار 99: 104 ح 6- 8، مرآة العقول 18: 110 ح 4 و 5، ملاذ الأخيار 7: 200 ح 31، و 8: 549 ح 337.
2- الكافي 4: 456 ح 2، علل الشرائع: 447 ب 198 ح 4، تهذيب الأحكام 5: 12 ح 32 و: 478 ح 1690، وسائل الشيعة 11: 83 ح 5، بحار الأنوار 99: 104 ح 9، مرآة العقول 18: 109 ح 2، ملاذ الأخيار 7: 200 ح 32، و 8: 548 ح 36.
3- الكافي 4: 456 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 219 ح 2218، علل الشرائع: 447 ب 198 ح 5، مستطرفات السرائر: 35 ح 46، روضة المتّقين 4: 75، وسائل الشيعة 11: 85 ح 10 و 11، بحار الأنوار 99: 104 ح 10، مرآة العقول 18: 109 ح 3.

ص: 221

فقال: لا تمشوا، اخرجوا ركباناً.

فقلنا: أصلحك اللَّه انّا بلغنا عن الحسن بن عليّ صلوات اللَّه عليه أنّه حجّ عشرين حجّة ماشياً فقال: إنّ الحسن بن علي عليه السلام كان يحجّ وتساق معه الرحال (1).

50- باب علّة كون التكبير أيّام التشريق بمنى في دبر خمس عشرة صلاة، وبالأمصار في دبر عشر صلوات

1- عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: التكبير أيّام التشريق في دبر الصلاة.

قال: التكبير بمنى في دبر خمس عشرة صلاة من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الغداة، فقال: تقول فيه: اللَّه أكبر اللَّه أكبر لا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر اللَّه أكبر على ما هدانا واللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد للَّه على ما أبلانا، وإنّما جعل في سائر الأمصار في دبر عشر صلوات التكبير، لأنّه إذا نفر الناس في النفر الأوّل أمسك أهل الأمصار عن التكبير وكبّر أهل منى ما داموا بمنى إلى النفر الأخير(2). (3).


1- قرب الاسناد: 170 ح 624، الكافي 4: 455 ح 1، علل الشرائع: 447 ب 198 ح 6، تهذيب الأحكام 5: 12 ح 33، الاستبصار 2: 142 ح 465، وسائل الشيعة 11: 83 ح 6 و: 84 ح 7، حلية الأبرار 3: 57 ح 7 و: 58 ح 9، بحار الأنوار 99: 103 ح 1 و 2، ملاذ الأخيار 7: 201 ح 33، مرآة العقول 18: 109 ح 1.
2- قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: الظاهر أنّ المراد انّه شرع أصالة بمنى عوضاً عن تفاخر الناس في الجاهلية بآبائهم، فإذا نفر الناس من منى إلى مكّة انقطع التكبير، فانقطاعه في غيرها من البلدان أولى. وقال ابنه محمد باقر المجلسي رحمه الله: حاصل التعليل أنّ أصل التكبير إنّما هو لأهل منى، وأهل الأمصار تبع لهم، فإذا سقط وجوب الكون بمنى عن بعضهم سقط عن أهل الأمصار لئلّا يزيد الفرع على الأصل.
3- الكافي 4: 516 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 199 صدر ح 2133، علل الشرائع: 447 ب 199 ح 1، الخصال: 502 ح 4، تهذيب الأحكام 5: 269 ح 921، و 3: 139 ح 313، الاستبصار 2: 299 ح 1069، روضة المتّقين 4: 33، وسائل الشيعة 7: 458 ح 2، بحار الأنوار 91: 124 ح 17 و: 125 ح 18، و 99: 307 ح 12، مرآة العقول 18: 208 ح 2، ملاذ ا لأخيار 5: 195 ح 45، و 8: 137 ح 34.

ص: 222

51- باب علّة كون الركن الشامي متحرّكاً في الشتاء والصيف

1- عن العرزميّ، قال: كنت مع أبي عبداللَّه عليه السلام جالساً في الحجر تحت الميزاب ورجل يخاصم رجلًا وأحدهما يقول لصاحبه: واللَّه ما ندري من أين تهبّ الريح، فلمّا أكثر عليه قال له أبو عبداللَّه عليه السلام: هل تدري من أين تهبّ الريح؟

فقال: لا، ولكنّي أسمع الناس يقولون، فقلت أنا لأبي عبداللَّه عليه السلام: من أين تهبّ الريح؟

فقال: إنّ الريح مسجونة (1) تحت هذا الركن الشاميّ، فإذا أراد اللَّه تعالى أن يرسل منها شيئاً أخرجه إمّا جنوباً فجنوب، وإمّا شمالًا فشمال، وإمّا صباء فصباء، وإمّا دبوراً فدبور، ثمّ قال: وآية ذلك إنّك لا تزال ترى هذا الركن متحرّكاً (2) أبداً في الشتاء والصيف والليل والنهار (3).

52- باب علّة كون البيت مرتفعاً يُصعد إليه بالدرج

عن أبان بن تغلب، قال: لمّا هدم الحجّاج الكعبة فرّق الناس ترابها، فلمّا صاروا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها خرجت عليهم حيّة فمنعت الناس البناء حتى انهزموا، فأتوا الحجّاج فأخبروه، فخاف أن يكون قد منع بناءها، فصعد المنبر، ثمّ أنشد الناس وقال: انشد اللَّه عبداً عنده ممّا ابتلينا به علم لما أخبرنا به.

قال: فقام إليه شيخ، فقال: إن يكن عند أحد علم فعند رجل رأيته جاء إلى


1- يحتمل أن يكون كناية عن قيام الملائكة الّذين بهم تهبّ تلك الرياح فوقه عند إرادة ذلك.
2- أي حركة الثوب المعلّق عليه.
3- الكافي 8: 271 ح 401، من لا يحضره الفقيه 2: 193 ضمن ح 2116، علل الشرائع: 448 ب 200 ح 1، معاني الأخبار: 384 ح 1، روضة المتّقين 4: 14، بحار الأنوار 60: 8 ح 7، مرآة العقول 26: 276 ح 401.

ص: 223

الكعبة فأخذ مقدارها ثمّ مضى.

فقال الحجّاج: من هو؟

فقال: عليّ بن الحسين عليه السلام.

فقال: معدن ذلك. فبعث إلى عليّ بن الحسين عليه السلام، فأتاه فأخبره بما كان من منع اللَّه إيّاه البناء، فقال علي بن الحسين عليه السلام: يا حجّاج، عمدت إلى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وانتهبته، كأنّك ترى أنّه تراث لك، اصعد المنبر فانشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلّاردّه.

قال: ففعل، وأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئاً إلّاردّه.

قال: فردّوه، فلمّا رأى جميع التراب أتى عليّ بن الحسين فوضع الأساس وأمرهم أن يحفروا، قال: فتغيّبت الحيّة عنهم، وحفروا حتى انتهوا إلى موضع القواعد، فقال لهم عليّ بن الحسين عليه السلام: تنحّوا، فتنحّوا فدنا منها فغطّاها بثوبه، ثمّ بكى، ثمّ غطّاها بالتراب بيد نفسه، ثمّ دعا الفعلة، فقال: ضعوا بناءكم، فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانه أمر بالتراب فالقي في جوفه، فلذلك صار البيت مرتفعاً يصعد إليه بالدرج (1).

53- باب علّة هدم الكعبة من قِبل قريش

1- عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّما هدمت قريش الكعبة، لأنّ السيل كان يأتيهم من أعلى مكّة فيدخلها فانصدعت (2). (3)


1- الكافي 4: 222 ح 8، من لا يحضره الفقيه 2: 193 ضمن ح 2116، علل الشرائع: 448 ب 201 ح 1، روضة المتّقين 4: 15، وسائل الشيعة 13: 218 ح 1، بحار الأنوار 99: 52 ح 1، مرآة العقول 17: 65 ح 8.
2- أي أنّ قريشاً لم يتعمّدوا خرابها، بل انصدعت وانشقّت بسبب السيل فهدموها وأعادوا البناء من جديد.
3- الكافي 4: 217 ح 4، من لا يحضره الفقيه 2: 194 ح 2120، علل الشرائع: 449 ب 202 ح 1، روضة المتّقين 4: 20، وسائل الشيعة 13: 215 ح 10، بحار الأنوار 99: 53 ح 4، مرآة العقول 17: 57 ح 4.

ص: 224

54- باب العلّة التي من أجلها كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يمرّ في كلّ حجّة من حججه بالمأزمين فينزل فيبول، وعلّة كون الدخول إلى المسجد الحرام من باب بني شيبة، وعلّة كون التكبير يُذهب بالضغاط (1)، وعلّة كون الصرورة يستحبّ له دخول الكعبة، وعلّة كون الحلق على الصرورة واجباً، وعلّة الاستحباب للصرورة أن يطأ المشعر برجله

1- عن سليمان بن مهران، قال: قلت لجعفر بن محمّد عليه السلام: كم حجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

فقال: عشرين مستتراً (2) في حجّه يمرّ بالمأزمين (3) فينزل فيبول (4).

فقلت: يابن رسول اللَّه، ولم كان ينزل هناك فيبول؟

قال: لأنّه أوّل موضع عبد فيه الأصنام، ومنه اخذ الحجر الّذي نُحت منه هبل الّذي رمى به عليّ من ظهر الكعبة، لمّا علا ظهر رسول اللَّه فأمر بدفنه عند باب بني شيبة، فصار الدخول إلى المسجد من باب بني شيبة سنّة لأجل ذلك.

قال سليمان: فقلت: فكيف صار التكبير يذهب بالضغاط هناك؟

قال: لأنّ قول العبد: اللَّه أكبر معناه اللَّه أكبر من أن يكون مثل الأصنام المنحوتة والآلهة المعبودة دونه، وأنّ إبليس في شياطينه يضيق على الحاجّ مسلكهم في ذلك الموضع، فإذا سمع التكبير طار مع شياطينه وتبعهم الملائكة حتّى يقعوا في اللجّة الخضراء، فقلت: فكيف صارالصرورة يستحبّ له دخول الكعبة دون من قد حجّ؟

فقال: لأنّ الصرورة قاضي فرض مدعوّ إلى حجّ بيت اللَّه، فيجب أن يدخل البيت الذي دعي إليه ليكرم فيه.


1- الضغاط: الزحام. «مجمع البحرين 4: 260- ضغط-».
2- في بعض المصادر: مستسرّاً. ولعلّ الاستسرار بالحجّ من قومه- مع أنّهم كانوا لا ينكرون الحجّ- للنسي ء، لأنّهم كانوا يحجّون في غير أوانه، أو لمخالفة أفعاله لأفعالهم للبدع التي ابتدعوها في حجّهم.
3- المأزمين: موضع بين عرفة والمشعر.
4- روي صدر الحديث في: الكافي 4: 244 ح 2 و: 251 ح 12، من لا يحضره الفقيه 2: 237 ح 2291، تهذيب الأحكام 5: 443 ح 1542 و: 458 ح 1590، وسائل الشيعة 14: 9 ح 2.

ص: 225

قلت: فكيف صار الحلق عليه واجباً دون من قد حجّ؟

فقال: ليصير بذلك موسماً بسمة الآمنين، ألا تسمع اللَّه تعالى يقول: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ (1)؟

قلت: فكيف صار وطء المشعر (2) عليه واجباً؟

قال: ليستوجب بذلك وطى ء بحبوحة الجنّة (3).

55- باب علّة كون أيّام منى ثلاثة

1- عن محمد بن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

قال لي: أتدري لِمَ جعلت أيّام منى ثلاثاً؟

قال: قلت: لأيّ شي ء- جعلت فداك- ولماذا؟

قال لي: من أدرك شيئاً منها أدرك الحجّ (4). (5)


1- سورة الفتح: 27.
2- الظاهر أنّ المراد بالمشعر: المسجد الّذي على قزح، أو أصل جبل قزح، والمراد بوطئه أن يكون راجلًا وإن لم يكن حافياً، فإن لم يمكنه فراكباً ببعيره.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 238 ح 2292، علل الشرائع: 449 ب 203 ح 1، روضة المتّقين 4: 123، وسائل الشيعة 14: 8 ح 1، بحار الأنوار 21: 398 ح 22، و 99: 40 ح 22.
4- أي ثوابه. قال الشيخ الصدوق رحمه الله: جاء هذا الحديث هكذا فأوردته في هذا الموضع لما فيه من ذكر العلّة، وتفرّد بروايته إبراهيم بن هاشم، وأخرجه في نوادره، والّذي افتي به، واعتمده في هذا المعنى، ما حدّثنا به شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضى الله عنه، قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصفّار، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: من أدرك المشعر الحرام يوم النحر قبل زوال الشمس فقد أدرك الحجّ، ومن أدركه يوم عرفة قبل زوال الشمس فقد أدرك المتعة. [الكافي 4: 476 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 386 ح 2773 و 2774، تهذيب الأحكام 5: 291 ح 988، الاستبصار 2: 304 ح 1087، وسائل الشيعة 14: 40 ح 8 و 9، بحار الأنوار 99: 96 ح 8 و: 324 ح 2].
5- الكافي 4: 476 ح 6، علل الشرائع: 450 ب 204 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 481 ح 1706، وسائل الشيعة 14: 39 ح 7 و: 41 ح 12، بحار الأنوار 99: 306 ح 4، مرآة العقول 18: 140 ح 6، ملاذ الأخيار 8: 555 ح 352.

ص: 226

56- باب علّة عدم جواز ادّهان الرجل حين يريد الإحرام بدهنٍ فيه مسك أو عنبر

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لاتدهن حين تريد أن تحرم بدهن فيه مسك ولا عنبر، من أجل أنّ ريحه تبقى في رأسك من بعدما تحرم، وادّهن بما شئت من الدهن حين تريد أن تحرم، فإذا أحرمت فقد حرم عليك الدهن حتّى تحلّ (1).

57- باب علّة عدم أخذ الطير الأهلي إذا دخل الحرم

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه سُئل عن طير أهلي أقبل فدخل الحرم.

قال عليه السلام: لا يمسّ، لأنّ اللَّه تعالى يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (2)

. (3) 58- باب علّة إذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للعبّاس أن يلبث بمكّة ليالي منى

1- عن مالك بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام أنّ العبّاس استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يلبث (4) بمكّة ليالي منى، فأذن له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أجل سقاية الحاجّ (5).


1- الكافي 4: 329 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 310 ح 2540، علل الشرائع: 451 ب 205 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 302 ح 1031 و: 303 ح 1032، الاستبصار 2: 181 ح 602 و 603، روضة المتّقين 4: 302، وسائل الشيعة 12: 458 ح 1، بحار الأنوار 99: 168 ح 4، مرآة العقول 17: 254 ح 2، ملاذ الأخيار 8: 194 ح 29 و: 195 ح 30.
2- سورة آل عمران: 97.
3- من لا يحضره الفقيه 2: 262 ح 2367، علل الشرائع: 451 ب 206 ح 1 و: 454 ح 7، تهذيب الأحكام 5: 348 ح 119، روضة المتّقين 4: 179، وسائل الشيعة 13: 75 ح 1، بحار الأنوار 99: 152 ح 24 و 25، ملاذ الأخيار 8: 285 ح 119. ويأتي الحديث في الباب 71 ح 7.
4- في بعض المصادر: يبيت.
5- من لا يحضره الفقيه 2: 199 ضمن ح 2134، علل الشرائع: 451 ب 207 ح 1، روضة المتّقين 4: 37، وسائل الشيعة 14: 258 ح 1، بحار الأنوار 99: 306 ح 3.

ص: 227

59- باب علّة عدم مبيت أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بمكّة بعد أن هاجر منها حتّى قُبض

1- عن جعفر بن عقبة، عن أبي الحسن عليه السلام قال: إنّ عليّاً عليه السلام لم يبت بمكّة بعد إذ هاجر منها حتّى قبضه اللَّه عزّوجلّ إليه.

قال: قلت له: ولِمَ ذاك؟

قال: يكره أن يبيت بأرضٍ قد هاجر منها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكان يصلّي العصر ويخرج منها ويبيت بغيرها (1).

60- باب علّة عدم جواز إظلال المحرم على نفسه من غير علّةٍ

1- عن عبداللَّه بن المغيرة، قال: قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: اظلل وأنامحرم؟

قال: لا.

قلت: فاظلّل واكفّر؟

قال: لا.

قلت: فإن مرضت؟

قال: ظلّل وكفّر، ثمّ قال: أما علمت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ما من حاجّ يضحّي ملبّياً حتّى تغيب الشمس إلّاغابت ذنوبه معها (2)؟

61- باب علّة وجوب الدنوّ من الهضبات بعرفات

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: إذا وقفت بعرفات


1- من لا يحضره الفقيه 2: 201 ذيل ح 2136، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 84 ح 24، علل الشرائع: 452 ب 208 ح 1، روضة المتّقين 4: 42، وسائل الشيعة 13: 235 ح 10، بحار الأنوار 41: 107 ح 11، و 99: 82 ح 32.
2- من لا يحضره الفقيه 2: 222 ح 2238 و: 352 ح 2673، علل الشرائع: 452 ب 209 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 313 ح 1075، الاستبصار 2: 187 ح 627، روضة المتّقين 4: 82 و 430، وسائل الشيعة 12: 387 ح 2 و: 516 ح 3، بحار الأنوار 99: 178 ح 7، ملاذ الأخيار 8: 215 ح 73.

ص: 228

فادن من الهضبات (1) وهي الجبال، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: أصحاب الأراك لا حجّ لهم- يعني الّذين يقفون عند الأراك (2)- (3).

62- باب علّة منع الصيد

1- عن الحلبيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَىْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ (4)

قال: حشر عليهم الصيد من كلّ مكان حتّى دنا منهم ليبلوهم اللَّه (5).

63- باب علّة كراهة الكحل للمرأة المحرمة

1- عن الحلبيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المرأة تكتحل وهي محرمة.

قال: لا تكتحل.

قلت: بسوادٍ ليس فيه طيب.

قال: فكرهه من أجل أنّه زينة، وقال: إذا اضطرّت إليه فلتكتحل (6).

2- عن حريز، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لا تكتحل المرأة بالسواد، إنّ


1- الهضبة: الجبل المنبسط على الأرض، أو جبل خلق من صخرة واحدة.
2- الأراك: القطعة من الأرض. وموضع بعرفة قرب نمرة. ولا خلاف في أنّ الأراك من حدود عرفة وليس بداخل فيها.
3- الكافي 4: 463 ح 2، علل الشرائع: 455 ب 211 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 287 ح 975، الاستبصار 2: 302 ح 1078، وسائل الشيعة 13: 551 ح 11، بحار الأنوار 99: 252 ح 10، مرآة العقول 18: 120 ح 2، ملاذ الأخيار 8: 166 ح 12.
4- سورة المائدة: 94.
5- تفسير العيّاشي 1: 343 ح 194، الكافي 4: 396 ح 2، علل الشرائع: 456 ب 212 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 300 ح 1022، وسائل الشيعة 12: 416 ح 6 و: 418 ح 10، بحار الأنوار 99: 154 ح 31، مرآة العقول 17: 393 ح 2، ملاذ الأخيار 8: 191 ح 20.
6- علل الشرائع: 456 ب 213 ح 1، وسائل الشيعة 12: 471 ح 14، بحار الأنوار 99: 168 ح 5.

ص: 229

السواد من الزينة (1). (2) 64- باب علّة وجوب البدنة على المحرم، الّذي ينظر إلى ساق امرأة أو إلى فرجها فيُمني

1- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن محرم نظر إلى ساق امرأة أو إلى فرجها حتّى أمنى.

قال: إن كان موسراً فعليه بدنة، وإن كان متوسّطاً فعليه بقرة، وإن كان فقيراً فشاة.

ثمّ قال: أما إنّي لم أجعلها عليه لمنيه إلّالنظره إلى ما لا يحلّ له النظر إليه (3).

65- باب علّة كون الحجّ أفضل من الصلاة والصيام

1- عن سيف التمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: كان أبي يقول: الحجّ أفضل من الصلاة والصيام، إنّما المصلّي يشتغل عن أهله ساعة، وأنّ الصائم يشتغل عن أهله بياض يوم، وأنّ الحاجّ يتعب بدنه ويضجر (4) نفسه، وينفق ماله، ويطيل الغيبة عن


1- قال المجلسيّ رحمه الله: إنّ مقتضى التعليل التحريم مطلقاً سواء قصد الزينة أم لا. ولا خلاف أيضاً في أنّ الرجل والمرأة مساويان في الحكم. وأمّا الاكتحال بما ليس بسواد وليس فيه طيب فهو جائز بلا خلاف.
2- الكافي 4: 356 ح 1، علل الشرائع: 456 ب 213 ح 2، تهذيب الأحكام 5: 301 ح 1025، وسائل الشيعة 12: 469 ح 4، بحار الأنوار 99: 168 ح 6، مرآة العقول 17: 314 ح 1، ملاذ الأخيار 8: 192 ح 23. وانظر تخريجات الحديث 1 في الباب 68.
3- المحاسن 2: 38 ح 51، الكافي 4: 377 ح 7، من لا يحضره الفقيه 2: 332 ح 2590، المقنع: 76، علل الشرائع: 456 ب 214 ح 1 و: 458 ح 1 و: 590 ح 39، تهذيب الأحكام 5: 325 ح 1115، روضة المتّقين 4: 385، وسائل الشيعة 13: 133 ح 2 و: 134 ح 3 و: 135 ح 4، بحار الأنوار 99: 169 ح 4 و: 170 ح 6 و 7، ملاذ الأخيار 8: 239 ح 28، مرآة العقول 17: 355 ح 7. ويأتي في الباب 69 ح 1.
4- في بعض المصادر: ويضحى نفسه. أي يجعلها بارزة للشمس بالسير والسلوك في ضاحية النهار.

ص: 230

أهله، لا في مال يرجوه، ولا إلى تجارة.

وكان أبي يقول: وما أفضل من رجل يجي ء يقود بأهله والناس وقوف بعرفات يميناً وشمالًا يأتي بهم الحجّ فيسأل بهم اللَّه تعالى (1).

2- عن الكاهليّ، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يذكر الحجّ، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هو أحد الجهادين، هو جهاد الضعفاء ونحن الضعفاء، أما إنّه ليس شي ء أفضل من الحجّ إلّاالصلاة في الحجّ، هاهنا صلاة وليس في الصلاة حجّ، لا تدع الحجّ وأنت تقدر عليه، أما ترى أنّه يشعث فيه رأسك، ويقشف (2) فيه جلدك، وتمتنع فيه من النظر إلى النساء؟ وإنّا نحن ها هنا، ونحن قريب ولنا مياه متّصلة ما نبلغ الحجّ حتّى يشقّ علينا فكيف أنت في بعد البلاد وما من ملك ولا سوقة يصل إلى الحجّ إلّابمشقّة في تغيّر مطعم ومشرب أو ريح أو شمس لا يستطيع ردّها وذلك لقوله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (3)؟ (4)

66- باب علّة الإطلاق للمحرم أن يطرح عنه القُراد والحَلَم (5)

1- عن الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سأله رجل فقال: أرأيت إن كان عليَّ قراد أو حلمة أطرحهما عنّي؟


1- من لا يحضره الفقيه 2: 221 ح 2236، علل الشرائع: 456 ب 215 ح 1، روضة المتّقين 4: 81، وسائل الشيعة 11: 112 ح 5، بحار الأنوار 99: 18 ح 67.
2- القشف: قذر الجلد، ورثاثة الهيئة، وسوء الحال. «القاموس المحيط 3: 185- قشق-».
3- سورة النحل: 7.
4- الكافي 4: 253 ح 7، من لا يحضره الفقيه 2: 226 ح 2254، علل الشرائع: 457 ب 215 ح 2، تهذيب الأحكام 5: 22 ح 64، روضة المتّقين 4: 92، وسائل الشيعة 11: 102 ح 28 و: 107 ح 44 و: 110 ح 2، بحار الأنوار 99: 19 ح 68، مرآة العقول 17: 123 ح 7، ملاذ الأخيار 7: 222 ح 10.
5- الحَلَم: هو القراد الكبار، واحدته حلمة. «حياة الحيوان 1: 237».

ص: 231

قال: نعم، وصَغار لهما، لأنّهما رقيا في غير مرقاهما (1). (2) 67- باب علّة عدم الجدال في بعض الأحيان

1- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه: واللَّه لا تعمله، فيقول: واللَّه لأعملنّه، فيخالفه مراراً، أيلزم ما يلزم صاحب الجدال؟

قال: قال: لا، لأنّه أراد بهذا إكرام أخيه إنّما ذلك ما كان للَّه معصية.

قال: وسأله عن محرم رمى ظبياً فأصاب يده فعرج منها.

قال: إن كان الظبي مشى عليها ورعى فليس عليه شي ء، وإن كان ذهب على وجهه فلم يدر ما يصنع فعليه الفداء لأنّه لا يدري لعلّه هلك (3).

68- باب علّة عدم جواز نظر المحرم في المرآة

1- عن حريز، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لا تنظر في المرآة وأنت محرم، لأنّه من الزينة (4).


1- أي ليس مصعدهما الإنسان، بل الغنم والبعير، وحاصله: أنّه لا ينبغي طرح دوابّ الإنسان كالقملة عن نفسه دون غيرها.
2- الكافي 4: 362 ح 4، من لا يحضره الفقيه 2: 358 ح 2698، المقنع: 75، علل الشرائع: 457 ب 216 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 337 ح 1162، روضة المتّقين 4: 446، وسائل الشيعة 12: 541 ح 1، بحار الأنوار 99: 155 ح 36، مرآة العقول 17: 324 ح 4، ملاذ الأخيار 8: 263 ح 75.
3- الكافي 4: 338 ح 5، من لا يحضره الفقيه 2: 333 ح 2592، علل الشرائع: 457 ب 217 ح 1، مستطرفات السرائر: 32 ح 30، روضة المتّقين 4: 389، وسائل الشيعة 12: 466 ح 7، بحار الأنوار 99: 154 ح 32 و: 170 ح 5 و: 173 ح 15، مرآة العقول 17: 277 ح 5.
4- من لا يحضره الفقيه 2: 347 ح 2469، علل الشرائع: 458 ب 218 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 302 ح 1029، روضة المتّقين 4: 415، وسائل الشيعة 12: 472 ح 1 و 3، بحار الأنوار 99: 168 ح 7، ملاذ الأخيار 8: 193 ح 27. وانظر تخريجات الحديث 2 في الباب 63.

ص: 232

69- باب علّة قتل بعض الدواب

1- عن معاوية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إذا أحرمت فاتّق قتل الدوابّ كلّها إلّا الأفعى والعقرب والفأرة، فأمّا الفأرة فإنّها توهي السقاء، وتحرق على أهل البيت، وأمّا العقرب فإنّ نبيّ اللَّه صلى الله عليه و آله مدّ يده إلى جحر فلسعته عقرب، فقال:

لعنك اللَّه لا برّاً تدعينه ولا فاجراً، والحيّة إذا أرادتك فاقتلها، وإن لم تردك فلا تردها، والكلب العقور والسبع إذا أرادك وإن لم يرداك فلا تردهما، والأسود الغدر (1) فاقتله على كلّ حال، وارم الغراب رمياً عن ظهر بعيرك، وقال: إنّ القراد ليس من البعير، والحلمة من البعير (2).

70- باب علّة زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام بعد الحجّ

1- عن إسماعيل بن مهران، عن جعفر بن محمد عليه السلام، قال: إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا؛ لأنّ ذلك من تمام الحجّ (3).

2- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: تمام الحجّ لقاء الإمام (4).

3- عن الحسن بن عليّ الوشّاء، قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: إنّ لكلّ إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبةً في زيارتهم وتصديقاً بما رغبوا فيه كان أئمّتهم


1- أي الحيّة العظيمة. «القاموس المحيط 1: 304- سود-».
2- الكافي 4: 363 ح 2، علل الشرائع: 458 ب 219 ح 2، تهذيب الأحكام 5: 365 ح 1273، وسائل الشيعة 12: 545 ح 2- 4، بحار الأنوار 99: 154 ح 33، مرآة العقول 17: 325 ح 2، ملاذ الأخيار 8: 323 ح 186.
3- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 262 ح 28، علل الشرائع: 459 ب 221 ح 1، وسائل الشيعة 14: 324 ح 7، بحار الأنوار 99: 374 ح 1، و 100: 139 ح 1.
4- الكافي 4: 549 ح 2، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 262 ح 29، علل الشرائع: 459 ح 2، وسائل الشيعة 14: 324 ح 8 و: 325 ح 12، بحار الأنوار 99: 374 ح 2، مرآة العقول 18: 258 ح 2.

ص: 233

شفعاءَهم يوم القيامة (1).

4- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إنّما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار، فيطوفوا بها، ثمّ يأتوا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم (2). (3) 5- عن المعلّى بن شهاب، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال الحسن بن عليّ عليه السلام لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا أبتاه، ما جزاء من زارك؟

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يا بنيّ، من زارني حيّاً وميّتاً، أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك، كان حقّاً عليَّ أن أزوره يوم القيامة فاخلّصه من ذنوبه (4).

6- عن زيد الشحّام، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما لمن زار واحداً منكم؟

قال: كمن زار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (5).


1- الكافي 4: 567 ح 2، كامل الزيارات: 236 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 577 ح 3160، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 261 ح 24، علل الشرائع: 459 ب 221 ح 3، المقنعة: 75، تهذيب الأحكام 6: 78 ح 155 و: 93 ح 175، مناسك الحجّ للمحقّق الكركي: 31 المطبوع في مجلّة ميقات الحجّ، العدد 9، روضة المتّقين 5: 360، وسائل الشيعة 14: 322 ح 5، بحار الأنوار 100: 116 ح 1 و: 117 ح 2- 4، مرآة العقول 18: 285 ح 2، ملاذ الأخيار 9: 198 ح 3 و: 241 ح 2.
2- قال الشيخ الصدوق رحمه الله: هذه الأخبار إنّما وردت فيمن يملك الاختيار ويقدر على أن يبدأ بأيّهما شاء من مكّة أو المدينة، فأمّا من يؤخذ به على أحد الطريقين فاحتاج إلى الأخذ فيه شاء أو أبى فلا خيار له في ذلك، فإن اخذ به على طريق المدينة بدأبها، و كان ذلك أفضل له لأنّه لا يجوز له أن يدع دخول المدينة و زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام بها وإتيان المشاهد انتظاراً لرجوعه، فربّما لم يرجع أو اخترم دون ذلك، والأفضل له أن يبدأ بالمدينة.
3- الكافي 4: 549 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 558 ح 3139، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 262 ح 30، علل الشرائع: 459 ب 221 ح 4، مناسك الحجّ للمحقّق الكركيّ: 31، روضة المتّقين 5: 314، وسائل الشيعة 14: 320 ح 1، بحار الأنوار 99: 374 ح 3، مرآة العقول 18: 258 ح 1.
4- الكافي 4: 548 ح 4، كامل الزيارات: 40 ح 2 و: 41 ح 5 و: 47 ح 18 و 19، علل الشرائع: 460 ح 5، ثواب الأعمال: 107 ح 1، الأمالي للصدوق: 114 ح 4، بحار الأنوار 99: 373 ح 8، و 100: 140 ح 7 و: 141 ح 8- 13، مرآة العقول 18: 257 ح 4.
5- الكافي 4: 579 ح 1، كامل الزيارات: 283 ح 3، علل الشرائع: 460 ح 6، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 262 ح 31، بحار الأنوار 100: 117 ح 5 و 6، مرآة العقول 18: 306 ح 1.

ص: 234

7- عن إبراهيم بن أبي حجر الأسلميّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من أتى مكّة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة جفاني، ومن جفاني جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائراً وجبت له شفاعتي، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة (1).

71- باب نوادر العلل

1- عن عبد الرحمان بن أبي عبداللَّه، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ ناساً من هؤلاء القصّاص يقولون: إذا حجّ رجل حجّة ثمّ تصدّق ووصل كان خيراً له.

فقال: كذبوا، لو فعل هذا الناس لعطّل هذا البيت، إنّ اللَّه تعالى جعل هذا البيت قياماً للناس (2).

2- عن عمر بن اذينة، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (3)

يعني به الحجّ دون العمرة؟

فقال: لا ولكنّه يعني الحجّ والعمرة جميعاً لأنّهما مفروضان (4).

3- عن أبي الربيع الشاميّ، قال: سئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ:

وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قال: فما يقول الناس؟

قال: فقيل له: الزاد والراحلة.


1- الكافي 4: 548 ح 5، كامل الزيارات: 44 ح 9، من لا يحضره الفقيه 2: 565 ح 338، علل الشرائع: 460 ح 7، تهذيب الأحكام 6: 4 ح 5، مناسك الحجّ للمحقّق الكركيّ: 31، روضة المتّقين 5: 325، وسائل الشيعة 14: 333 ح 3، بحار الأنوار 100: 140 ح 5 و 6، مرآة العقول 18: 258 ح 5، ملاذ الأخيار 9: 11 ح 5.
2- علل الشرائع: 452 ب 210 ح 1، وسائل الشيعة 11: 22 ح 8، بحار الأنوار 99: 18 ح 66.
3- سورة آل عمران: 97.
4- تفسير العيّاشي 1: 191 ح 110، الكافي 4: 264 ح 1، علل الشرائع: 453 ب 21 ح 2، وسائل الشيعة 14: 297 ح 7، بحار الأنوار 99: 331 ح 3 و 5، تفسير البرهان 1: 662 ح 2، مرآة العقول 17: 139 ح 1.

ص: 235

فقال عليه السلام: هلك الناس إذن، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت على عياله، ويستغني به عن الناس، ينطلق إليه فيسألهم إيّاه، لقد هلكوا إذن.

فقيل له: فما السبيل؟

قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويُبقي بعضاً يقوت به عياله، أليس قد فرض اللَّه الزكاة، فلم يجعلها إلّاعلى من يملك مائتي درهم؟ (1) 4- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كان أبو عبداللَّه عليه السلام في المسجد الحرام، فقيل له: إنّ سبعاً من سباع الطير على الكعبة ليس يمرّ به شي ء من حمام الحرم إلّاضربه.

فقال عليه السلام: انصبوا له واقتلوه، فإنّه قد ألحد في الحرم (2). (3) 5- عن محمد بن أبي عمير وفضالة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: شجرة أصلها في الحرم وفرعها في الحلّ.

فقال عليه السلام: حرَّم فرعها لمكان أصلها (4).

6- عن إبراهيم بن ميمون قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل نتف ريش حمامة من حمام الحرم، قال: يتصدّق بصدقة على مسكين ويعطي باليد التي نتف


1- تفسير العيّاشي 1: 192 ح 113، الكافي 4: 267 ح 3، علل الشرائع: 453 ح 3، تهذيب الأحكام 5: 2 ح 1، الاستبصار 2: 139 ح 453، وسائل الشيعة 11: 37 ح 1 و 2، تفسير البرهان 1: 663 ح 5، بحار الأنوار 99: 107 ح 3 و: 108 ح 4، مرآة العقول 17: 147 ح 3، ملاذ الأخيار 7: 182 ح 1.
2- وهذا يدلّ على أنّ الظلم في الحرم حتّى من غير ذوي العقول إلحاد وكفر أو بمنزلته.
3- الكافي 4: 227 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 251 ح 2328، علل الشرائع: 453 ح 4، روضة المتّقين 4: 159، وسائل الشيعة 13: 83 ح 1، بحار الأنوار 99: 152 ح 26، مرآة العقول 17: 72 ح 1.
4- الكافي 4: 231 ح 4، من لا يحضره الفقيه 2: 254 ح 2341، علل الشرائع: 453 ح 5، تهذيب الأحكام 5: 379 ح 1321، روضة المتّقين 4: 164، وسائل الشيعة 12: 559 ح 1 و: 560 ح 3، بحار الأنوار 99: 153 ح 27، مرآة العقول 17: 82 ح 4، ملاذ الأخيار 8: 348 ح 234.

ص: 236

بها، فإنّه قد أوجعه بها (1).

7- عن معاوية، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن طير أهلي أقبل فدخل الحرم، فقال: لا يمسّ إنّ اللَّه تعالى يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (2)

. (3)


1- الكافي 4: 235 ح 17، من لا يحضره الفقيه 2: 261 ح 2363، علل الشرائع: 453 ح 6، تهذيب الأحكام 5: 348 ح 1210، روضة المتّقين 4: 177، وسائل الشيعة 13: 36 ح 5، بحار الأنوار 99: 153 ح 28، مرآة العقول 17: 92 ح 17، ملاذ الأخيار 8: 287 ح 123.
2- سورة آل عمران: 97.
3- تقدّمت تخريجاته في الحديث 1 في الباب 57.

ص: 237

تعريف بكتاب: الحرم المكّي.... (2)

تعريف بكتاب: الحرم المكّي.... (2)

تأليف: أ. د. عبد الملك بن دهيش

تقديم وتعريف: محسن الأسدي

الحرم المكّي الشريف والأعلام المحيطة به

بعد أن انتهينا من القسم الأوّل لتعريف هذا الكتاب القيّم والذي به انتهى الفصل الأوّل من الباب الأوّل للكتاب المذكور، وقد تحدث فيه المؤلف عن تاريخ أعلام الحرم المكّي الشريف، منهياً ذلك بجدول يضمّ مجددي أعلام الحرم مرتّبين حسب تاريخ التجديد، وقد قسّم جدوله هذا بالشكل الآتي:

اسم مجدد الأعلام، من قام بالتجديد، سنة التجديد، الأعلام التي تمّ تجديدها مبتدئاً جدوله هذا بنبيّ اللَّه إسماعيل عليه السلام، مروراً بعدنان بن أدد، وقصي بن كلاب، ثمّ قريش، فرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذاكراً الخلفاء والأمراء... حتى يصل إلى العصر الحالي، فيختم جدوله المذكور بالملك فهد بن عبدالعزيز سنة 1407 ه. كلّ هذا ذكره المؤلف قبل أن ينتقل إلى الفصل الثاني من الباب نفسه، لننتقل معه إلى تعريفنا وقراءتنا، ولو بشكل مختصر جدّاً، للفصل الثاني وللآتي بعده حتى النهاية.

الفصل الثاني

جهود المؤرخين المكّيين في ضبط مواضع حدود الحرم الشريف.

ص: 238

وقد ابتدأ المؤلف بعد العنوان بعنوان صغير «جهود الإماميين الأزرقي والفاكهي»

ومن المعروف أنّ «أخبار مكة» للأزرقي، و «أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه» للفاكهي، يعدّان من أقدم ما وصلنا من دراسات تأريخية عن الحرم المكّي الشريف.

فقد عاش كلا المؤلفين في قرن واحد، وإن توفّي الأزرقي قبل الفاكهي بعشرين سنة. وقد قام المؤلف الأزرقي بتحقيق كتاب الفاكهي وطبع في خمسة مجلدات، فيما السادس وضع للملاحق والفهارس، وبسبب أنّهما أُولّفا في قرن واحد، فقد تشابهت أبحاثهما، ونظراً لعدم وصول غيرهما، فقد عدّهما المؤلف أبحاثاً، وإلّا فهي مجرّد إشارات كما يذهب إلى ذلك المؤلف نفسه.

ثم راح المؤلف ابن دهيش يذكر مواضع الأعلام، التي ذكرها كلّ من الأزرقي والفاكهي، وهي وإن كانت قليلة، إلّاأنّها كانت موضع اتفاق بينهما وموضع فائدة للمؤلف الدكتور في كتابه هذا.

1- جبل نمرة، وسمّاه الأزرقي (ذات السليم) وكذا الفاكهي، وقد تفرّد الأخير بأن ذكر أنّ عليه أعلام الحرم دون الأزرقي.

2- طريق الطائف القديم المارّ على عرفة، وقال عنه الفاكهي: (ومن طريق الطائف على عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلًا).

3- جبل المقطع، وهو منتهى الحرم من طريق العراق.

4- ثنية خلّ، بطرف المقطع، منتهى الحرم من طريق العراق.

5- جبل الستار (ستار لحيان)، وسمّي بالستار؛ لأنّه ستر بين الحلّ والحرم.

6- ثنية المستوفرة وهي ثنية على حائط ثرير، وعلى رأسها أنصاب الحرم، فما سال على ثرير حلّ، وما سال منها على الشعب فهو حرام.

7- ثنية ذات الحنظل، أنصاب على رأس الثنية، وجهها حرم، ظهرها حلّ.

ص: 239

8- التخابر والأعشاش، بعضها في الحلّ وبعضها في الحرم...

9- بشائم، وهي ردهة تمسك الماء، فيما بين أضاة لبن، بعضها في الحل، وبعضها في الحرم.

10- ثنية لبن، وهي على سبعة أميال من طريق اليمن.

11- جبل نعيلة، (كبش: الجبل الذي دون نعيلة في طرف الحرم).

12- جبل غراب، بأسفل مكّة بعضه في الحلّ وبعضه في الحرم.

13- الضحاضح، ثنية ابن كرز من وراء السلفين، تصبّ في النبعة، بعضها في الحلّ وبعضها في الحرم.

ثمّ ذكر كل من الأزرقي والفاكهي الأودية، وإن اختلفا في مصبها فالفاكهي ذهب إلى أنّها تسكب من الحلّ في أرض الحرم، فيما قرّر الأزرقي أنّ أودية الحرم تسكب في الحلّ إلّامن التنعيم، وبعد تتبعٍ توصل الفاكهي إلى خلاف ما ذهب إليه الأزرقي ثم ذكر تلك المواضع. وقد نال ما ذهب إليه الفاكهي قبول الدكتور ابن دهيش بعد تقصيّه لما قاله، مخطئاً ما رآه الأزرقي.

ثم انتقل إلى مداخل مكّة الستة التي ذكرها الأزرقي والفاكهي، وأبعادها، وعليها أعلام الحرم، من طريق المدينة، واليمن، وجدة والطائف، والعراق، والجعرانة.

بعد هذا انتقل المؤلف إلى ما ذكره محبّ الدين الطبري، وهكذا جهود الإمام تقي الدين الفاسي وضبطهما لمواضع من حدود الحرم، وهنا يمكن طرح سؤالين:

الأوّل: هل للقبائل دور في تحديد أعلام الحرم ومواقعها؟

الثاني: ما هو سبب التعرجات في الحرم؟

ويجيب عنهما المؤلف:

بإنّ حرمة مكّة المكرمة كانت يوم خلق السموات والأرض، وأعلام الحرم وجدت في عهد إبراهيم، وهو أوّل من علم مواضعها بدلالة جبريل عليه السلام.

ص: 240

وليس للقبائل دور فيها، فهي لم تسكن الحرم والأماكن الواقعة على حدوده إلّا بعد وضع أعلام الحرم بزمن طويل. إذ هي قبائل رُحَّل، ولا علاقة لها بتحديد الحدود، نعم كان لها دور في تجديد هذه الأعلام وترميمها. هذاجواب السؤال الأوّل.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني، فإنّ المداخل التي تحدق بها الجبال الشامخة وتضيق مداخلها، يكون حدّها قريباً إلى الكعبة مثل التنعيم فهي منطقة أكثر جبالها متصلة بعضها ببعض وشاهقة في الارتفاع فهي أقرب المداخل ولا يزيد اتساعه عن 900 م، فيما تكون منطقة الأعشاش الواقعة على طريق جدّة وتُسمى بالحديبية أو الشميسي أبعد حدود الحرم من الكعبة. فالحد يبعد فيها عن الكعبة بحوالى عشرين كيلومتراً،... وهكذا فكلّما ضاق المدخل قرب الحدّ، وكلّما اتسع المدخل بعد الحد تمشياً مع مظاهر السطح. هذا وأنّ حدود الحرم توقيفية، والأمر فيها للَّه تعالى وحده وليس للاجتهاد نصيب فيه.

هذا وقد سكنت القبائل بالقرب من حدود الحرم:

الحدّ الشرقي: مساكن قبائل قريش.

الحدّ الغربي: مساكن قبائل لحيان.

الحدّ الشمالي: مساكن قبائل لحيان، ونزلت عليهم في بعض المواقع الآن قبائل حرب.

الحدّ الجنوبي: مساكن قبائل خزاعة.

واستفيد من هذه القبائل في إعادة بناء وترميم وتجديد أعلام الحرم الواقعة في جهتها؛ لسابق معرفتهم بوضع الأعلام وأماكنها.

ومن واقع دراسته الميدانية تبيّن للدكتور ابن دهيش أنّ الأعلام المحيطة بالحرم تبلغ 934 علماً على مداخل مكّة أو على جبالها، فهي تحيط بالحرم المكّي إحاطة تامّة، أقامها أسلافنا على هذه الجبال، أكثر من ثلثها كان مبنياً قائماً، وبعضها الآخر كان متهدماً، وأثر النورة لاصق بأحجارها أو يتخللها.

ص: 241

وأنّ دائرة الحرم (127 كم) بدءاً بقرن الأعفر الواقع في أوّل الحدّ الشرقي من ناحية الجنوب، وانتهاءً به.

وكان قياسه لمسافة الحرم من واقع الخرائط الجويّة فوجدها خمسمائة وخمسين كيلومتراً وثلاثمائة متر مربع.

ثم ذكر المؤلف المسافات على الطرق القديمة، مبتدئاً من جدار المسجد الحرام حتى أعلام كلّ منطقة في مداخل مكة. ثم ذكر المسافات من جدار المسجد الحرام حتى أعلام كل منطقة على الطرق الحديثة لمداخل مكّة المكرمة.

وقبل أن يدخل المؤلف في تفاصيل مواضع حدود الحرم، نبّه إلى أمور يرى من الضروري معرفتها قبل الخوض في البحث الميداني لتلك المواضع، مبيّناً فيها أنّ للحدود المذكورة في هذا الباب الثاني من بحثه مسميات قديمة احتفظت بأسمائها القديمة إلى الآن، وهناك مسميات قديمة، تغيّر اسمها قليلًا مثل (يأجج) تُسمى الآن (ياج)، فيما هناك أسماء حديثة ذكرتها الخرائط الجويّة لمكّة المكرمة لم يقف المؤلف على مسمياتها القديمة، وأيضاً ذكر المؤلف أنّ هناك مواضع ليس لها ذكر في الكتب ولا في الخرائط وهي مشهورة بأسمائها عند القاطنين بها أو حواليها. هذا بالنسبة للأسماء وما يتعلّق بها.

وأما بالنسبة للمسافات فكانت مقاساتها التي دوّنها تقريبية، بسبب وعورة الجبال والارتفاع والانخفاض ولانهدام غالبية الأعلام... وهذا لا ينطبق على الأعلام المهمة؛ لأنّها ما زالت قائمة ولسهولة طبيعة العمل فيها.

وأمّا بالنسبة إلى صور الأعلام فلكثرتها، وضع كلّ صورة في المكان الذي له إحالة عليها في ثنايا البحث. إضافةً إلى أنّه وضع ملحقاً للخرائط مبيناً فيها مواضع الأعلام على كل جبل أو ثنية أو سهل... (1)


1- انظر هذا في ص 124- 125 من الكتاب المذكور.

ص: 242

ثم ذكر بعد هذا القواعد العامّة في تحديد حدود الحرم المكّي الأربعة، موضحاً المقصد (بالأعلام) وأنّها علامات وضعت على جهاته الأربع، وأنّها امور توقيفية لم ينقل أنّ أحداً أخّرها أو قدّمها، وكل عملهم كان ينصبّ على تحديدها... ذاكراً في صفحات بحثه هذا الضابط في وضع الأعلام، وهو أن يكون تابعاً لاتجاه سيل هذه الجبال والثنايا، فتوضع الأعلام في النقطة القاسمة بين سيل الجبل والثنية يميناً ويساراً، إلّافي مواضع ذكرها العلماء... وذاكراً المسار الحقيقي لكلّ حدٍّ من الحدود الأربعة عبر ما يتضمنه كلّ حدِّ من جبال وطرق وثنايا ابتداءً وانتهاءً... (1) تمهيداً لتفصيل الحديث عنها في الفصل الأوّل من الباب الثاني.

الباب الثاني: مواضع حدود الحرم المكّي الشريف

وفي الباب المذكور، بدأ المؤلف رحلته الميدانية مستفتحاً جهوده ب (جبل قرن الأعفر) وخاتماً به رحلته، ليشكّل بهذا رحلة دائرية إن صحّ التعبير، مدوّناً كلّ ما حصل عليه في فصول أربعة يتضمنها هذا الباب.

الفصل الأوّل:

في هذا- وكما قلنا- راح المؤلف يشرح بشكل مفصلٍ في المتن وفي الهامش كلّ ما يتعلّق بأعلام الحدّ الشرقي حيث إنّ الحدّ الشرقي يبدأ جنوباً ب (جبل قرن الأعفر) وعدد أعلامه 3 مروراً بجبل عارض الحصن وعدد أعلامه 13، فجبل الخطم وعدد أعلامه 3، فجبل الصفيراء وعدد أعلامه 5، فجبل الستار (ستار قريش) وعدد أعلامه 4، وجبل سُتيِّر وعدد أعلامه 7، وجبل أسلع، وشرفة أسلع وعدد أعلامه 3 وجبل الطارقي (ثبير الأعرج) وعدد أعلامه 21، وثنية خلّ


1- انظر هذا و تفصيله في ص: 126- 129 من الكتاب نفسه.

ص: 243

وجبل المقطع وعدد أعلامه 2، وجبل الستار (ستار لحيان) وعدد أعلامه 7، وثنية المستوفرة وعدد أعلامه 2، وينتهي ب (ريع النقواء) والذي يحمل 36 علماً.

وليوضح المؤلف هذا الحدّ مساراً وجبالًا وأوديةً وسهولًا وثنايا وأعلاماً فقد هيّأ له ستة عشر مبحثاً، فيها تفاصيل دقيقة وواسعة، وقد توفّر هذا الحدّ على (110) أعلام، الكثير منها مبنيّ بالنورة (1).

الفصل الثاني:

وفي هذا الفصل، تناول الحدّ الشمالي، بداية هذا الحدّ غرباً ب (ثنية النقواء) وبعد أن يمرّ بجبل أم السَّلم وأعلامها 16 علماً، وجبل بُغبغة وأعلامها 25، وجبل ياج (يأجج) وأعلامه 20، وجبل شرفة ياج وأعلامه 20 أيضاً، وجبل حجلى وأعلامه 23، وجبل أبو حيّة وأعلامه 33، وجبل الوقير (أبويسر) وأعلامه 47، وجبل صايف وأعلامه 14، وجبل نعمان (جبل العمرة) وأعلامه 16، ووداي التنعيم وأعلامه 4، وجبل نعيم وأعلامه 15، وجبل الواتد أو (الجفر) وأعلامه 29، وبعد شرفة اللفيفاء، جبل رحا وعدد أعلامه التي عثر عليها المؤلف 47 علماً... ثمّ يصل الى ثنية ذات الحنظل (ريع رحا) ثمّ جبل الرضيع وأعلامه 48، وجبل أم القزاز وأعلامه 71، وجبل أم الشبرم وأعلامه 51، وجبل المرير (ام المرخ) وأعلامه 40، وجبل أبو بقر (وادي الجوف) وأعلامه 42، ونهاية هذا الحدّ ب (جبل الناصرية) وفي هذا الفصل اثنان وعشرون مبحثاً توضح هذا الحدّ مساراً وجبالًا وأوديةً وسهولًا وثنايا وأعلاماً...

وكما يقول المؤلف: إنّ هذا الحدّ نال من عناية المجدّدين السابقين أكثر ممّا ناله غيره من الحدود الثلاثة من حيث كثرة أعلامه أوّلًا، ومن حيث إنّ هذه الأعلام بُنيت بالحجر المنحوت والنورة البيضاء ثانياً، منتهياً من بحثه هذا إلى أنّ جملة أعلام الحدّ الشمالي هذا هي (574) علماً، فيما مجموعها في الفهرس ص 530


1- انظر الصفحات من 133- 163.

ص: 244

كان 583 علماً كلّها بُنيت بالنورة، إلّاالقليل النادر منها لم يجد المؤلف عليه آثار النورة... (1).

الفصل الثالث:

ذكر فيه أعلام الحدّ الغربي، ويبدأ هذا الحد ب (أعلام الأعشاش وعددها 5 أعلام) من الناحية الشمالية الغربية بزاوية، مروراً بجبل أظلم، وعدد أعلامه 20، فجبل النغيرات، أو الحشفان وأعلامه 27، فأرض الرصيفة وعدد أعلامها 17، وينتهي بجبل (الدومة السوداء)، وعدد أعلامه 27، مشتملًا هذا الفصل على خمسة مباحث توضّح مسار هذا الحدّ وجباله وأوديته وسهوله وثناياه... منتهياً إلى أنّ جملة أعلام هذا الحدّ (98 علماً)، بعضها مبنيّ بالنورة فيما البعض الآخر رضوم (2).

الفصل الرابع:

وتناول المؤلف فيه الحدّ الجنوبي، الذي يبدأ ب (جبل نعيلة الغربي) وأعلامه 13، من الناحية الجنوبية الغربية مروراً بجبل الدومة الحمراء وأعلامه 10 في المسار الأوّل، و 19 في المسار الثاني... فجبل بشيم (البشيمات) وأعلامه 4، فريع السيّد وجبل الخشن الأوسط وأعلامه 11 ثم جبل (أبو الصواعق) وأعلامه 12، فجبل لبن وجبل (لُبين) وأعلامه 23، فالبيبان (ثنية لبن) وأعلامه 2، فجبل نعيلة الشرقي وأعلامه 18 فجبل غراب وأعلامه 5، فجبل مبعّر (الخاصرة) وأعلامه 8، فريع مهجرة (ثنية ابن كرز) (ريع مبعّر) وأعلامه 4، فجبل المظالف وأعلامه 8، فجبل الصويفة (جبل أبو عشاش) وأعلامه 7، فجبل صيفة- (جبل


1- انظر الصفحات 165- 260.
2- انظر الصفحات 261- 288.

ص: 245

الأحمر) وأعلامه 24، ولكن بنهاية العلم الثالث والعشرين ينتهي الحدّ الجنوبي، حيث انتهت أعلامه- كما يقول المؤلف- وبعده يتّجه شمالًا باتجاه (قرن الأعفر) الذي بدأنا ذكر الحدّ منه (أي الحدّ الشرقي من ناحية الجنوب) وقبل هذا القرن يوجد العلم الأخير لهذا الحد الجنوبي وهو الرابع والعشرون....، حيث تنتهي أعلام هذا الحدّ بنهاية جبل صفيه، وبهذا ينتهي هذا الفصل عبر أربعة عشر مبحثاً، وجملة أعلام هذا الحدّ (152 علماً) إلّاأنّ مجموعها في الفهرس ص 530- 531 كان 168 علماً، منتهياً بدراسته وبحثه هذا بقرن الأعفر وهو القرن الذي بدأ منه أوّل مرّة في بحثه الميداني هذا في أعلام الحدّ الشرقي، وبهذا يكون المؤلف- وكما يقول- قد دُرنا دورة كاملة تبلغ مئة وسبعة وعشرين كيلومتراً، محيطة بمواضع حدود الحرم (1).

وبهذا الفصل من الباب ينتهي الباب الثاني وبانتهائه يتمّ البحث الميداني القيّم هذا؛ لننتهي بعد ذلك إلى الخاتمة والنتائج.

الخاتمة والنتائج:

لقد خصّص المؤلف الكريم عدّة صفحات من كتابه هذا (353- 263) ذاكراً فيها أهم ما توصل اليه من نتائج لرحلته الطويلة حول حدود الحرم الشريف، وللأبحاث التي عرضها في كتابه عن أعلام الحرم وتأريخها.

لنبدأ معه في نتائجه هذه، حتى نصل إلى فقرة أخرى ذكرها أيضاً في آخر هذا الفصل وهي الاقتراحات:

أمّا أهم نتائجه، التي تمدّدت على الصفحات 353- 359، عبر 15 فقرة فهي:

1) أنّ دراسته هذه تعدّ أوّل تقييد وتدوين شامل لمواضع الحرم وأعلامه،


1- انظر الصفحات 289- 350.

ص: 246

فإنّ عِلْمَ (حدود الحرم الشريف)- والكلام للمؤلف- من العلوم، التي لم تكتب كتابة مستقلة، ولم تدوّن منذ أوّل وجودها على الأرض تدويناً قائماً بذاته، إلى يوم الناس هذا، فقد كان هذا العلم يؤخذ مشافهةً من أصحابه إذا احتيج إليه... ولهذا بقي غالب هذا العلم في صدور الرجال حتى الساعة (1).

ومن هذا نالت هذه الدراسة القيّمة أهمية كبيرة وهو ما ذكرناه عنها في القسم الأوّل من تعريفنا لهذا الكتاب.

2) حدود الحرم هي المداخل المؤدية إلى مكّة، لا التي تحيط به إحاطة السوار بالمعصم، وهذه المداخل هي التي يريدها مؤرخو مكّة وغيرهم، وكانوا يطلقونها على مواضع حدّ الحرم على الطرق المؤدية إلى مكّة، وكان عددها ستة مداخل، كما في زمن الأزرقي والفاكهي، واختفى منها اثنان في عهد الفاسي، وبها انحصر علم حدود الحرم.

3) تحديد حدود الحرم ووجود الأعلام، إنّما هو أمر توقيفي وضعها إبراهيم عليه السلام بدلالة جبريل عليه السلام ولا اجتهاد فيه.

والذين جدّدوا هذه الأعلام، لم يكن عملهم يتجاوز ذلك التجديد إلى تقديم مواضعها أو تأخيرها.

4) تجديد الأعلام والعناية بها، كان يعدّ من أعظم المهمّات وأشرفها، وما إن وطأت قدما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أرض مكّة فاتحاً لها، حتى أمر أصحابه بتجديد الأعلام، على ضيق وقته الذي قضاه في مكّة وكثرة مشاغله ومسؤولياته، وعلى هذا سار غيره من الذين جاؤوا من بعده صلى الله عليه و آله.

5) منذ اثني عشر قرناً ونصف، لم تجدّد أعلام الحرم الواقعة على الجبال، أي منذ سنة 160 ه، في عهد الخليفة المهدي العباسي.


1- انظر الصفحة 353.

ص: 247

6) وهي نتيجة مهمة جدّاً، توصّل إليها الدكتور في رحلته العلمية النافعة هذه، هي حصيلة الأعلام، وهي كالآتي: (934) علماً، وقف عليها ووصفها وصوّرها. بقي منها: ثلاثة عشر علماً موجودة على مداخل مكّة، والفضل في بقائها يعود إلى المصلحين والمجدّدين.

واثنان لازالا بقدرة اللَّه قائمين على رؤوس الجبال.

ويوجد (630) علماً من مجموع 919 علماً متهدماً من زمن بعيد على رؤوس جبال يرتفع بعضها 500 م فوق سطح البحر، عليها آثار النورة البيضاء القديمة، أمّا بقية الأعلام وعددها (289) فهي عبارة عن رضوم متهدمة.

7) حدّ الحرم يسير على خمسة وأربعين جبلًا، صغيراً وكبيراً، تكاد تحيط بمكّة إحاطة تامّة ليست بينها فواصل سهيلة طويلة إلّاقليلًا.

8) «16» ثنية وشرفة يمرّ بها حدّ الحرم، وعليها طرق سالكة للسيارات.

9) «8» فواصل سهيلة بين جبال الحدّ، أكثرها لا يزيد عن كيلومترين.

10) ننقل هذه الفقرة كما ذكرها المؤلف: «من عادة المجدّدين القدماء «رحمهم اللَّه» أن يضعوا الأعلام على الجبال والثنايا، والمرتفعات الأخرى، أي على موضع واضح مرتفع، ولم يكن من عادتهم وضع الأعلام في الأرض السهلة الخالية من المرتفعات؛ لأنّ هذه الأراضي السهلة (الثمانية) غالبها أرض رملية، ولا تحفظ ما يُرضم أو يبنى عليها من الأعلام، ولذلك تراهم يُهملون الأراضي الواطئة والسهلة من وضع الأعلام فيها».

هذا ما أراده المؤلف في الفقرة العاشرة، إلّاأنّ كلامه فيها استوقفني، فقد رأيت فيه تهافتاً واضحاً أو اختلافاً عمّا ذكره بخصوص الأعلام، فإضافة إلى كونه:

أوّلًا: ذكر علّة وضع الأعلام على الجبال والمرتفعات والثنايا دون الأراضي السهلة...، وكأنّها هي العلّة الحقيقية لا غيرها.

ص: 248

ونقول: ذكر في عدّة مواضع من كتابه هذا، كان آخرها الفقرة 3 في الصفحة 353، قال فيها:

«إنّ تحديد حدود الحرم أمر توقيفي، لا مجال فيه للاجتهاد، فوجود الأعلام على الجبال، إنّما كان من وضع نبيّ اللَّه إبراهيم عليه السلام بدلالة جبريل عليه السلام...».

فهنا يتّضح لنا جليّاً أنّ الأعلام أمر توقيفي، والأمر التوقيفي لا يمكننا الجزم بعلته، ولكن يمكننا أن نضعها تحت دائرة الاحتمال دون القطع.

ثانياً: ذكر في هذه الفقرة (10) «من عادة المجدّدين القدماء «رحمهم اللَّه» أن يضعوا الأعلام على الجبال والثنايا والمرتفعات...».

ونقول: وقد أسند فيها وضع الأعلام إلى المجدّدين القدماء، في حين قال في أكثر من مكان منها في القول 3 صفحة 353- 354-، «إنّ تحديد حدود الحرم أمر توقيفي لا مجال فيه للاجتهاد [بمعنى أمر السماء الذي لا دخل للإنسان فيه] فوجود الأعلام على الجبال، إنّما كان من وضع إبراهيم عليه السلام بدلالة جبريل عليه السلام».

وقال في الصفحة 292 قولًا جميلًا: لو ترك مثل هذا الأمر للاجتهاد؛ لتغيّر اجتهاد اللّاحقين عن اجتهاد السابقين، وبالتالي تغيّرت حدود حرم اللَّه وانهارت الحرمة والقدسية لهذه الحدود التوقيفية، وبالتالي صار الأمر لعبة بيد الذين قد يسخرون بعض الاجتهاد لصالحهم... ونتّبع خطّ الحدّ حيث كان، قرب أو بعد من الحرم، سار بخط مستقيم أو بخط مائل...، فإنّما نتبع الحدّ، ونضع الأعلام على مواضع الأعلام، والأمر في هذا للَّه وحده، وليس للاجتهاد فيه نصيب...

الّلهمّ إلّاأن يريد بقوله «من عادة المجدّدين القدماء أن يضعوا الأعلام على الجبال والثنايا والمرتفعات الاخرى... هم أولئك الذين ذكرهم في الفقرة 11 و 12 وهم «المهندسون لأعلام الحرم»، كما سمّاهم الذين من ضمن مافعلوه، ليضمنوا لمن بعدهم صحة المسار... أنّهم زادوا من عدد الأعلام على الجبل الواحد... وما فعله الأسلاف... وكان الأولى- دفعاً للالتباس- أن يسمّي ما فعلوه بالعلامات مثلًا لا

ص: 249

بالأعلام، التي هي 934 علماً وضعها نبيّ اللَّه إبراهيم عليه السلام، حتى صارت خاصة بها.

أو أنّه أراد بتعبيره شيئاً آخر غاب عن ذهني... قد يكتشفه القارئ الكريم.

11) إنّ مسار الأعلام على الجبال مسارٌ واضح في أغلب مواضعه، لا يشتبه أمره على الباحث المتتبع... لأنّ أسلافنا- كما يقول المؤلف- لم يتركوا طريقة علمية ناجحة في توضيح مسار الحدّ إلّافعلوها. وبهذا نستطيع أن نقول- وما زال القول للمؤلف-: إنّ الباحث عن حدود الحرم، قد لا يحتاج إلى من يدلّه عليها إذا سار بنفسه، فدليله هي آثار هذه الأعلام الكثيرة، وهي أحسن وأصدق من كثير من الأدلاء.

12) أغلب هذه الجبال، وعددها (45) جبلًا تكون طويلة، والضابط الذي على ضوئه توضع الأعلام على الجبال هو اتجاه السيل في هذه الجبال؛ لأنّ كل جبل إذا تساقط عليه المطر بغزارة سال منه الماء بعدة اتجاهات، وقد وضعت عليها الأعلام، من قبل المختصّين ومن لهم خبرة بذلك، وما وضعت- كما يقول المؤلف- إلّا لتضبط اتجاه السيل، وبالتالي يستطيع الباحث بنفسه أن يخمّن مواضع الأعلام، وقلّما يخونه هذا التخمين.

13) اشتهر عند بعضهم أنّ سيل الحرم كلّه يخرج إلى الحلّ، وسيل الحلّ لا يدخل الحرم، إلّامن موضع واحد عند التنعيم، وعن هذا يقول المؤرخ ابن دهيش: وهذه المقولة معترضة ومنقوضة بما قرره الفاكهي حيث أفرد مبحثاً عن (أودية الحلّ التي تسكب في الحرم) وذكر فيه عدّة مواضع. حيث إنّ كثيراً من سيل الحلّ يدخل الحرم مثل وادي عرنة ووادي نعمان وغيرهما، وقد شاهدها المؤرخ ابن دهيش، وذكرها في مواضعها.

14) إنّ الحدّ الشمالي ينتقل من (ريع الرحا) غرباً إلى (ريع المصانيع) ثمّ غرباً إلى (ريع الغُمَيرْ) ثمّ جنوباً إلى (ريع المُرَيْر)، وما بين (ريع رحا) و (ريع المُرَيْر) أحد عشر كيلومتراً تقريباً. وهذا كلّه خطأ- كما يقوله المؤلف- استقرّ في أذهان بعض

ص: 250

الفضلاء المهتمين بهذا الأمر في سير الحدّ الشمالي من (ريع رحا) إلى (ريع المُرَيْر).

ويحيل المؤلف سبب هذا الخطأ إلى مَن دلّ هؤلاء المهتمين على مواضع الحدّ.

أمّا الصحيح فهو ما وضحته هذه الدراسة كنتيجة من نتائجها، التي توصلت إليها. فمسار الحدّ الصحيح، هو بعد (ريع رحا) ينتقل إلى (جبل الرضيعة) غرباً، ثمّ إلى (جبل أم القُزاز) شرقاً، ثمّ إلى (جبل أم الشُبْرْم) شرقاً، ثمّ إلى (ريع المُرَير) غرباً.

وقد عثر المؤلف على مئة وسبعين علماً منبثة على هذه الجبال الثلاثة، وعليها آثار النورة البيضاء القديمة، بينما لا يوجد علم واحد، لا على (ريع المصانيع)، ولا على (ريع الغُمير)، ولا على الجبال المحيطة بها.

هذا وقد ردّ الدكتور ما توهمه بعض الفضلاء من أنّ حدود الحرم تبنى على المسامتة قياساً على المواقيت، بقوله: إنّ المواقيت ورد فيها نصّ بالمسامتة... أمّا حدود الحرم، فلا يحتاج فيها إلى المسامتة؛ لوجود الأعلام القائمة فيها بجميع الجهات.

15) من الأخطاء التي صححتها هذه الدراسة خطأ آخر استقرّ أيضاً في أذهان بعض المهتمين بهذا الأمر وهو سير الحدّ الغربي من جبال (النُغيرات) أو (الحِشفان) إلى جبل (الدومة الحمراء). فعندهم أنّ الحدّ بعد جبال (النغيرات) يأخذ بالاتجاه جنوباً حتى يعبر (طريق الليث) إلى (جبال الموشّحات) حتى يحاذي أرض (أم هشيم) ثمّ بعد ذلك يأخذ بالانحراف شرقاً ليخترق (أم هشيم) حتى يصل جبل (الدومة الحمراء).

ويوعز المؤلف هذا الخطأ كسابقه إلى الدليل أيضاً، ثمّ يرسم المسار الصحيح للحدّ بقوله: إنّ الحدّ بعد (النغيرات) ينحرف نحو الشمال الشرقي قبل وصوله إلى طريق الليث بنصف كيلومتر، يسير بين المقرَح والرصيفة، يميل قليلًا إلى الرصيفة حتى يتصل بالرأس الجنوبي لجبل (الدومة السوداء)، ثمّ يسير الحدّ على (الدومة

ص: 251

السوداء) جنوباً حتى يقطع (طريق الليث)؛ ليصل إلى (جبل نُعيلة) القريب من حجز السيارات على طريق الليث، وبعد جبل (نُعيلة) يتجه شرقاً، ليصل إلى جبل (الدومة الحمراء).

هذا وقد وجد الدكتور في مساره الصحيح هذا أربعين علماً تقع بين جبلي النغيرات والدومة الحمراء، وكاد الوهم المستقرّ في أذهان المهتمين أن يلغيها كلّها كما يصرّح به.

إذن فهذه هي أهم نتائج البحوث التي أجراها ابن دهيش في رحلته الميدانية.

وقد سجّلها في كتابه هذا الذي بين أيدينا كدراسة ميدانية، تتصف بالفرادة في اختصاصها.

وأنّ القارئ يجد في ثنايا هذا الكتاب استنتاجات وتنبيهات لا أظنها تخفى على القارئ الكريم، والتي تعين القارئ على معرفة ما بذله الدكتور من جهود بدنية واخرى نفسية وثالثة فكرية في سبيل إنجاز مشروعه الكبير هذا.

الاقتراحات: وتحت عنوان آخر سمّاه (الاقتراحات) راح الدكتور يسجل لنا أهم ما يراه من اقتراحات وتوصيات بشأن حدود الحرم الشريف وأعلامه، وقد دوّنها في سبع فقرات:

1) نصب أعلام طريق جدّة السريع، على أن توضع على رأس (ريع الحمار)؛ لأنّها توضع على رؤوس الثنايا لا على مسايلها.

2) وضع أعلام طريق الطائف السريع (طريق الهدة) بين جبلي عارض الحصن وقرن العابدية.

3) وضع أعلام الليث بين جبلي الدومة السوداء وجبل نُعلية.

4) التحقق من الموضع الصحيح لأعلام طريق الطائف السريع (طريق السيل) وهي (أعلام المجاهدين) بمراجعة السجلات والوثائق القديمة وكبار السن الذين أدركوا بناء هذه الأعلام. وهل وضعت هذه الأعلام في موضع الأعلام

ص: 252

القديمة؟ فإن كانت في موضع الأعلام القديمة تركت بمكانها، وإلّا هدمت ويجب إعادتها إلى رأس (ثنية خلّ الصفاح). فنصوص الأزرقي والفاكهي وغيرهما تثبت أنّ حدّ الحرم من هذه الجهة هو (ثنية خلّ الصفاح) في طرف جبل (المقطع) وهذه الثنية معروفة اليوم وأعلامها قديمة لا زالت فيها، وهي تبعد عن الأعلام القائمة خمسمائة متر غرباً، فلماذا أخّرت هذه الأعلام عن رأس الثنية؟ الأمر يحتاج إلى تحقيق ورجوع إلى كبار السن.

5) ومن اقتراحاته أيضاً، إعادة بناء جميع الأعلام المهدّمة، التي كانت قائمة على رؤوس الجبال والثنايا والمرتفعات، بناءً محكماً، مع الكتابة على كل علم عبارة تفيد أنّ هذا حدّ الحرم، واسم الآمر بالبناء، وتأريخ البناء، وأن يقام كل علم إلى جنب العلم السابق المنهدم الذي يبقى على حاله...

6) يوصي أيضاً بإنشاء دائرة خاصة لشؤون حدود الحرم الشريف، تضم أفراداً من أهل العلم والمعرفة بكل ما يتعلّق بحدود الحرم؛ لمتابعة أعلام الحرم وصيانتها وحمايتها من العبث والتلف.

7) تقرير فصل من فصول الجغرافية في المرحلة الدراسية المتوسطة أو الثانوية، موضوعه (حدود الحرم الشريف)، يدرسها الطلاب نظرياً وميدانياً... (1) ومن وصاياه الاخرى، التي راح يضيفها الى كلّ ما قيّده من معلومات، وما بوّبه من مباحث، وما ذكره من ملاحظات، عبر رحلته هذه، التي تعدّ الدراسة الاولى في هذا الجانب، وقد أراد بها أن تكون خاتمة خير بين أيدي المهتمين والباحثين من أصحاب الدراسات الميدانية المنهجية العميقة.

فمن هذه الوصايا أنّ الأعلام نفسها يمكن أن تجيب عن كثير من الأسئلة، التي


1- انظر الصفحتين 360- 362.

ص: 253

تعرض للقراء والمتابعين، فيوصي بزيادة البحث عن الأعلام وعن النورة حولها، فالنورة تختلف لوناً وشكلًا من عَلم إلى عَلم، أو من جبل إلى جبل، فإذا ما حلّلت تحليلًا دقيقاً، تحصل منها معلومات اخرى.

وكذلك يوصي بتصوير جبال حدود الحرم وثناياه تصويراً تلفزيونياً، فهو ضروري لنشر كثير من العلوم.

ويوصي أيضاً بضبط القياسات والمسافات بين مواضع حدود الحرم ودراسة حجارة الجبال وصفاً وتركيباً وشكلًا ولوناً، ومعرفة الكيفية التي بها تمّ بناء هذه الأعلام بالصخر المنحوت والنورة، وأين هي مصانع النورة التي كانت تزوّدهم بالنورة. وما هو الطاقم المهيئ لهذا العمل الشاق جدّاً؟ فهذا كلّه يحتاج إلى جهد علمي لدراسته، وبالاستعانة بأجهزة علمية دقيقة تجعل البحوث أكثر دقّة واطمئناناً في نتائجها...

إذن فالبحث غزير ومتّسع، لابدّ له من لجنة علمية تقوم به، تضمّ بين صفوفها المحلّل الخبري، والطيّار والمصوّر ورسّام الخرائط والخطّاط والمسّاح والجيولوجي والمؤرّخ...

ولهذا يتمنّى المؤلف أن تلتفت المؤسسات العلمية إلى هذا الأمر وتوليه بعض عنايتها، لأهميته الكبيرة.

ولهذا يؤكّد أنّ جهده هذه جهد فردي يضعه بين أيدي العلماء والباحثين، ولا يعتبر ما توصّل إليه شيئاً نهائياً وهو عمل يتّصف بالدقة والأمانة العلمية حقاً.

ومع أنّه يعدّ جهداً فردياً، إلّاأنّه أتى بثمارٍ نافعة وفوائد جمّة، وقطعاً لو كان جهداً مؤسساتياً لكان أكثر نفعاً وفائدةً وأكثر عطاءً.

ويضمّ هذا الباب أيضاً ملحقاً للخرائط، وعددها ثلاث وأربعون خارطة للجبال والثنايا والأعلام، تتمدّد على الصفحات 367 حتى 408 مع خارطة كبيرة مستقلة تحت عنوان (حدود وأعلام الحرم المكّي الشريف).

ص: 254

ثمّ يبدأ بعدها ملحق الصور الملوّنة وعددها أربع وستون صورة للأعلام والرضوم، وهناك صور للمؤلف وهو ينتقل من جبل إلى جبل باحثاً عن الأعلام وبعض مواقع حدود الحرم، وصورة لبعض فريق البحث، وهم يتجوّلون لتحري النورة بين حجارة الجبل في منطقة المشيطية.

*** شُكر دائم ودعوة مخلصة!

وختاماً، ها أنذا قد انتهيتُ من تعريف كتاب الحرم المكّي الشريف والأعلام المحطية به، للدكتور عبد الملك بن دهيش، ومما أتمناه أن أكون قد وفّقت في عملي هذا، وإلّا فإنّي ألتمس العذر من الدكتور ومن اخوتي المهتمّين بهذه البحوث ومن القُرّاء جميعاً، سائلًا المولى تعالى أن يمنّ علينا جميعاً بالتوفيق لمزيد من الجهود العلمية النافعة، ولا يسعني إلّاأن أخصّ الشيخ ابن دهيش بالشكر والثناء على ما تفضّلت به يداه من جهد علمي وعملي ثمين ومبارك، وليس هذا الجهد مثيراً للغرابة والعجب، بعد أن عوّدنا مؤرّخو هذه البلاد الطيبة أبناء الحرمين الشريفين على عطاءٍ وفير وجهد فريد فيما كتبوه وأرّخوه من أمثال المرحوم الشيخ حمد بن جاسر، والشيخ عاتق بن غيث البلادي والشيخ عبدالرحمن خويلد... وغيرهم.

وكان لهم حضور مبارك في مجلتنا هذه.

هذا وأرجو أن يسمحوا لي أن أبثّهم بما يختلج في صدري من زمن بعيد، وهو أنّي لم أجد- وطيلة هذه المدّة بالذات، التي واكبت فيها مجلة ميقات الحج محرراً، وهي المختصّة بالحج وبلاد الحرمين الشريفين وما يتعلّق بهما- فيما ألّفوه على كثرته وسعته شيئاً يذكر عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام أئمةً وعلماء وآثاراً، وكأنّ الأقلام قد جفّت، والأفكار قد نضبت، والجهود قد كلّت عن التعرّض لتاريخهم ومواقفهم الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين، ومعارفهم الحافلة بألوان من العلوم فقهاً

ص: 255

وتفسيراً وآداباً... وعلى عظمتها وثرائها، ولما تعرّضوا له من ظلم وتعسف، انصبّ عليهم وعلى اتباعهم.. وحتّى أنّي لم أعثر على إشارة أو إرجاع فضلًا عن التعريف بعلماء هذه المدرسة المباركة وبمؤلّفاتهم وكتبهم، على كثرتهم وغزارة إنتاجهم وكثرته وعمقه... متمنّياً أن لا يكون ذلك تغييباً لدورهم فهو أمر أربأ بأصحاب الكلمة المنصفة والفكر الواعي والقلم النزيه أن يتلبّسوا به.

إنّها دعوة صادقة مخلصة، ولا ريب في أنّها نافعة في الدنيا والآخرة بما فيها من تطييب القلوب وتقريبها، ولما فيها من وفاء لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام والصالحين والشهداء... وهو بالتالي ما يجعل علمنا وأقلامنا في خدمة قرآننا العظيم وديننا الخالد وأمّتنا المجيدة ونصرة رجالها ورموزها، وينأى بنا وبأفكارنا وأقلامنا عن الانغلاق والتعصب وخذلان الحقّ، والحقيقة، التي يجب أن تبقى ضالّة المؤمن أينما وجدها التقطها.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين

ص: 256

دور الحج في الوحدة الإسلاميّة

دور الحج في الوحدة الإسلاميّة

محمد ثمير الدين الغازي (1)

وأذِّنْ في الناس بالحجّ يأتُوكَ رجالًا وعلى كلّ ضامِرٍ يأتينَ مِنْ كلّ فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيّام معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكُلوا منها وأطعموا البائس الفقير (2)

.

هذه هي الآية التي ذكر فيها مقاصد الحج والزيارة: أوّلها: ليشهدوا منافع لهم والثاني: ويذكروا اسم اللَّه والثالث: وأطعموا البائس الفقير أعني شهود منافع المسلمين، وذكر اللَّه وإطعام المساكين والفقراء، وقدّم اللَّه تعالى في آيته الكريمة بيان شهود منافع المسلمين فبدأ بالقسم الأوّل أي شهود المنافع لأنفسهم والمسلمين، فيجب على الحجّاج أن ينظروا منافع الدنيا والآخرة لهم وللمسلمين في مؤتمر الحج العالمي الإسلامي، ومنافع المسلمين جميعاً هي منافعهم فرادى أيضاً؛ لأنّ الجماعة تتألّف من آحاد الناس، فما ينفع الناس ينفع الفرد منهم.

وقد فسّر المفسّرون «المنافع» بأنها شاملة لمنافع الدنيا والآخرة جميعاً،


1- أستاذ علوم الحديث والتفسير بجامعة الإسلامية- بنغلادش.
2- الحجّ: 27- 28.

ص: 257

فقال المفسِّر محمد بن جرير:

(المنافع لهم) جميع ما يشهد له الموسم يأتي له مكة أيام الحج من منافع الدنيا والآخرة، ولم يخصّص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل فذلك على العموم التي وصفت (1).

فعمّم الإمام ابن جرير الطبري «المنافع» على قسمين: منافع الدنيا والآخرة وقال: إنّ العقل والنقل لم يخصصاها بإحدى المنافع الأخروية أو الدنيوية، فالآية على عمومها تدلّ على القسمين لا مخصص لها من عقل ولا نقل.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة سبعين وثلاثمائة في توضيح الآية: قال اللَّه تعالى: ليشهدوا منافع لهم روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: التجارة وما يُرضي اللَّه من أمر الدنيا والآخرة.

وروى عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عبّاس قال: أسواق كانت، ما ذكر المنافع إلّالدنيا (2).

ففسّر ابن عباس «المنافع» بالأسواق التي تباع فيها الأمتعة، وما يحتاج الناس إليه في الموسم من متاع الحياة الدنيا فهي مخصوصة عنده بمنافع الدنيا، هذا ما رواه ابن عباس رضى الله عنه.

وهذا هو القول؛ لأنّ منافع الآخرة ذكرت في الآية مستقلّة تحت عنوان ويذكروا اسم اللَّه في أيّامٍ معلوماتٍ وفي وأطعموا البائس الفقير فبقيت منافع الدنيا تحت عنوان: ليشهدوا منافع لهم وابن عباس ترجمان القرآن وحبر الامّة، وهو إمام في التأويل على جميع الناس، وعنده كان علم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ودعا له النبي صلى الله عليه و سلم بقوله عليه الصلاة والسلام: «اللّهم فقهه في الدين


1- تفسير ابن جرير 17: 101.
2- أحكام القرآن للجصاص 3: 233.

ص: 258

وعلمه التأويل» (1) فمن ردّ عليه بأن الآية ليست مختصة بمنافع الدنيا فقوله في معرض الخطر والرد.

على أنّ جميع المفسِّرين أدخلوا فيها منافع الدنيا مع ما فيها منافع الآخرة داخلة فيها بلا خلاف، وعلى المنوالين يثبت المدّعا بأنّ المنافع شاملة على منفعة الدنيا والآخرة كلتيهما.

وعلى هذا قال الإمام أبو بكر الجصاص في أحكامه:

فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم (2).

وبعد ذكر أحكام الحج وآداب الحج وما يتعلق به قال اللَّه تعالى: ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلًا من ربِّكم (3)

، ان ليس على الحجاج جناح إن استفادوا وانتفعوا بفضل اللَّه عليهم، والمراد من الفضل في الآية منفعة الدنيا وكسب الأموال وابتياع الأمتعة وكراء المراكب وغير ذلك، على أنّ الفضل قد استفيد منه المنافع المالية والاستخدامية في القرآن والحديث، وجاء في الحديث حين يخرج المصلّي من المسجد يدعو بدعاء فيه: «اللهمَّ وأسألك من فضلك».

وجاء في القرآن: فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللَّه (4)

.

وقال الإمام إسماعيل بن كثير المتوفى 574 من الهجرة في تفسير الآية: إنّ المراد من «فضل اللَّه» ابتغاء رزق اللَّه وطلبه، وما نصّه:

فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللَّه لما حجر


1- راجع الاتقان في علوم القرآن، النوع الثمانون في طبقات المفسِّرين 2: 187 للإمام عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة 911 من الهجرة.
2- أحكام القرآن للجصاص 3: 233.
3- البقرة: 198.
4- الجمعة: 10.

ص: 259

عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل اللَّه، كما كان عراك بن مالك رضى الله عنه: إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهمّ إنّي أجبت دعوتك وصلّيت فرضيت وانتشرت كما أمرتني؛ فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين- رواه ابن أبي حاتم (1).

فالمراد هنا من «فضل اللَّه» رزق اللَّه لعباده أمر بطلبه إذا قضوا صلواتهم والانتشار له في أرض اللَّه.

وقال الإمام إسماعيل بن كثير: وعن بعض السلف انه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك اللَّه له سبعين مرّةً.. الخ (2).

وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: واذكروا اللَّه كثيراً لعلّكم تُفلحون (3)

أي حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا اللَّه كثيراً (4).

فالمراد من «فضل اللَّه» هو البيع والشراء وإعطاء الأشياء لغيرهم والأخذ منهم.

فضلًا من ربّكم- على ضوء الرواية:

والآية التي ذكرناها من قبل واستشهدنا عليها بهذه الآية والحديث المزبور تدلّ على أنّ المراد من «فضل اللَّه» رزق اللَّه لعباده في أطراف الدنيا، قال الإمام ابن كثير في تفسيرها المبحوث عنها: إنّ المراد من ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلًا من ربِّكم أي من الفضل التجارة في الأسواق في موسم الحج، وذكر الإمام ضمن تفسير لفظة فضلًا من ربِّكم أحاديث عديدة قوية لامجال للإنكار عنها، هو يقول:


1- تفسير ابن كثير 4: 267.
2- ابن كثير 4: 267.
3- الجمعة: 10.
4- ابن كثير 4: 267.

ص: 260

(1) قال البخاري: حدّثنا محمد، أخبرني ابن عيينة عن عمر وابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتّجروا في الموسم فنزلت: ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم- في موسم الحج.

(2) وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به ولبعضهم: فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتّجروا فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم عن ذلك فأنزل اللَّه هذه الآية.

(3) وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز، فلما كان الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية.

(4) وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون: أيام ذكر، فأنزل اللَّه: ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم.

(5) وقال ابن جرير: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشام، أخبرنا حجّاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: ليس عليكم جُناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربِّكم في موسم الحج.

(6) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.

أقول: فاستخرج ابن عباس من الآية أنّ إحرام الحج لا يحرم به البيع ولا الشراء بعده ولا قبله، ولا يحرم به اكتساب المنافع في الموسم.

(7) عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحجّ ومعه تجارة فقرأ ابن عمر: ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلًا من ربّكم.

(8) عن أبي امامة التميمي قال: قلت لابن عمر: أنا نكري فهل لنا من حجّ؟

قال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون بالمعروف وترمون الجمار وتحلقون رؤوسكم؟

ص: 261

قال: قلنا: بلى، فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و سلم فسأله عن الذي سألتني، فلم يجبه حتى نزل عليه جبرئيل بهذه الآية: ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلًا من ربّكم فدعا النبيّ صلى الله عليه و سلم فقال: أنتم حجاج.

فهذه حجة قاطعة على جواز الانتفاع واكتساب المنافع والتجارة في الموسم على ما نصّ عليه النبيّ صلى الله عليه و سلم ونزل به القرآن- وعلم من الروايات السابقة أن التأثم بالاستفادة والانتفاع بمنافع الدنيا بالتجارة والبيع والابتياع وإكراء الدواب والمراكب في الحج كان دأب الكفّار أيام الجاهلية، وبأنّ الحج ذكر وعبادة لا ينبغي التجارة والاشتغال فيه بأمور الدنيا، كان ظنّ الكفرة الفجرة الجهلة لا يرضى به الإسلام فأبطله وردّ عليه وأوجب على المسلمين؛ ليشهدوا في الموسم منافع لهم فمن لم يشهد المنافع في الحج فاته معظم مقاصد الحج والزيارة؛ لأن حجّه كان حج الجاهلية وقتئذ، ومثل هذه الروايات جاءت رواية أخرى كما تأتي الآن.

(9) عن العلاء بن المسيب عن رجل من بني تميم قال: جاء رجل إلى عبداللَّه ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنّا قوم نكري، ويزعمون أنه ليس لنا حجّ، قال:

ألستم تحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قال: بلى، قال: فأنت حاج.

(10) عن أبي صالح مولى عمر قال: قلت يا أمير المؤمنين! كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلّافي الحجّ؟

تلك عشرة كاملة يكفي لمن أراد الحق والحق يتبع (فراجع المصادر من النمرة الأولى إلى العاشرة في السورة 2 الآية 198 في تفسير ابن كثير ج 1 ص من 239 إلى 240).

فلا مانع للُامة أن تنظر في منافعها ومصالح المساكين والفقراء من المسلمين وفكّها من شبكة الظلم والاضطهاد بأيدي أعداء الإسلام والمسلمين، فإنّ المنافع المبحوث عنها تعمّ كلّ المنافع من منافع الدنيا والآخرة على ما مرّ من الشواهد

ص: 262

والحجج الباهرة لها، بل اكتساب منافع الدنيا هو المقصود المهم من إتيان مكة، كما قال ابن عباس في تفسير الآية آنفاً.

وقد شاع في أذهان المسلمين اليوم الفكرة الشنيعة وليدة أيام الجاهلية بأنّ الحج والزيارة، ذكر محض لا تلائمه التجارة واكتساب منافع الدنيا، فكأنهم يظنّون ظنّ الجاهلية الاولى وهم المسلمون؛ ولأجل ذلك أطلنا الكلام في تفسير «المنافع» الواردة في الآية، وسوف نوضّح بعض أنحائها في المباحث الآتية.

وحدة المسلمين

ومن أهم منافع الحج أن نستفيد من الاحتفال السنوي طوال أيام الحج في الموسم؛ لتوسيع وحدة المسلمين في العالم، ونفتّش عن سُبل تقريب المذاهب الإسلامية على ضوء مناسك الحج ومعالمه حتى نجتمع كما اجتمع المسلمون في صدر الإسلام الموسم، وانتفعوا به في مصالحهم الشخصية ومنافعهم الملية. فإنّ جمعاً غفيراً منهم يحتفلون حول الكعبة كلّ سنة وهم من أهل الثروة والقوّة ورُؤساء الناس؛ ولذا قال تعالى: ليشهدوا منافع لهم بلفظ الجمع في صيغة الفعل ليشهدوا من الشهود وبضمير الجمع في لفظة لهم، والجمع ينبئ عن وحدة الجميع ولفظ الشهود المأخوذ منه ليشهدوا ينبئ عن معنى الحضور متوجّهاً لأمر مهم؛ ولذا قيل في معنى الحج هو القصد إلى معظم لا إلى شي ء هيّن لا يعبأ به، بل راجع إلى معنى الحج لغةً كما مرّ.

ولعمري إنّ الوحدة هي القوّة والعزّة والشرف والنصرة، والوحدة هي نعمة عظمى من المسلمين لسائر العالم لا للمسلمين خاصة على اختلاف الجنس والدين والمنطقة، فإنّ المسلم يسلم وجهه لربّ العالمين، ويقيم أحكام اللَّه العادلة على الناس متجانفاً عن العصبية الجنسية ومخالفة الملّة والدين، فقد قال اللَّه تعالى أمراً لمن آمن به وأسلم وجهه للَّه:

ص: 263

يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين للَّه شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألّا تعدِلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا اللَّه إنّ اللَّه خبيرٌ بما تعملون (1)

.

فهذه هي صفات المؤمن باللَّه مسلماً له وجهه، أمره اللَّه تعالى أن يقوم بالقسط بين الناس ويعدل بينهم، وأن لا يحيف عليهم ولا يجرمنه شنآن قوم على أن لا يعدل وحضه على العدل والإنصاف؛ لأنّ العدل أقرب للتقوى واللَّه يحبّ المتّقين.

وأمرهم على أداء الشهادة بالقسط ولو كانت على أنفسهم والأقربين فقال تعالى: يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقِسط شُهداء للَّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين (2)

.

فاجتماع مثل أولئك الناس ووحدتهم فيما بينهم رحمة ونعمة عظمى للمجتمع الإنساني لاشك فيها، ومثل هذه الوحدة العادلة لا توجد في العالم الحالي الخالي من العدل والقسط حتى إنّ الامّة المسلمة قد فقدت مزاياها بأنها العادلة المقسطة فيما بين الناس وبين أنفسهم أيضاً، فيا للأسف! وقد قال اللَّه تعالى موقظاً للُامّة المسلمة منبّهاً لها لفرائضها:

مِلَّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكون الرّسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس (3)

.

فوحدة المسلمين نعمة لسائر العالم؛ لأنّ أبناء الامّة المسلمة شهداء على الناس بالقسط والعدل وفيما بينهم، وهذه الفريضة عليها وعليها أن تقوم بها بين الناس، فمبنى وحدة المسلمين هو القسط والعدل بين الناس، ولفقده فقدت الوحدة بين الامّة المسلمة ونشأت الفرقة وولدت أمها الخبيثة مفاسد لا تحصى ولا تعدّ.


1- المائدة: 8.
2- النساء: 135.
3- الحجّ: 78.

ص: 264

ونيران فقدان الوحدة تضطرم في أكناف العالم الإسلامي الحالي، وقودها المسلمون المقتتلون بين أنفسهم، في أفغانستان وباكستان ومصر والجزائر، وإخراج الامّة المسلمة كان الهدف منه في بدء نشأتها أن يكون خير الامم قاطبةً اخرجت للناس ونفعهم بأمرهم بالخير ونهيهم عن المنكر وتؤمن باللَّه. قال اللَّه تعالى في شأنها:

كنتم خيرَ امّة اخرجت للناس تأمُرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللَّه... (1)

.

وأيّما امّة تقوم لنفع الناس بأن تأمرهم بالخير وتنهاهم عن المنكر وهي تؤمن باللَّه ربّ العالمين فهي خير لهم جميعاً، فإنّ إقامة الخير وإنهاء المنكر عن الناس عليه مدار العالم وأمن مجتمع الامم والناس جميعاً وهو مرسى السلامة والسكون. فلا ريب أن اتّحدت امة لإقامة تلك المقاصد العالية فاتحادها ينفع الناس ويجعل حياتهم طيبة مرضية وكانت الامّة المسلمة المرحومة بصددها أن اتحدت وتوحّدت بصميم القلب، فتهب ريح السلامة والعافية على العالم الكئيب المصاب بمصائب شتى، ولنيل هذا المرام العالي حضّ اللَّه تعالى المسلمين بقوله:

ولتكن منكم امّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيِّنات واولئك لهم عذاب عظيم (2)

.

وهذه الآية الكريمة ترشدنا إلى سبيل الرشاد والنجاة والوحدة والاخوة وإلى اجتناب الفرقة والخلاف فيما بيننا، وتحضّنا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتصل بنا إلى الفوز والفلاح الموعود بقوله واولئك هم المفلحون وحذّرنا اللَّه تعالى من الخلاف والفرقة بعدما جاءنا البيّنات فيصيبنا عذابٌ عظيم فياللعجب: إنّ


1- آل عمرآن: 110.
2- آل عمران: 104- 145.

ص: 265

الامّة وقعت فيما حذّر اللَّه عنه وانتحلت نحلة الغيّ والضلال وتفرّقت كلّ التفرّق فاستحقّت عذاباً عظيماً، وفاتت الفوز والفلاح الموعود، وتركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب المؤكّد عليها فذاقت وبال أمرها عذاباً عظيماً كما حذّر اللَّه عنه، وأي عذاب أعظم من عذاب الرقة والضعة تحت سيطرة اليهود والنصارى والهنود والبوذيين في فلسطين وكشمير...؟ وليس الملجأ منها إلّابوحدة المسلمين في سائر العالم والتماسك يداً بيدٍ متشابكين متناصرين كأنهم بنيانٌ مرصوص.

اسس الوحدة بين المسلمين

المبنى الأوّل: وقد ذكرنا فيما مضى من بحوثنا المبنى العظيم من مباني الوحدة هو العدل والقسط والعمل بهما، فإذا فات عنك العدل والقسط يعود حميمك عدوّاً لك، وإذا عدلت وقسطت فعدوّك كأنّه وليّ حميم؛ ولذا قال اللَّه تعالى: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إنّ اللَّه يحبّ المقسطين (1)

.

وقال تعالى: ولا تستوي الحسنةُ ولا السيّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم (2)

.

ونرى الخلاف بل الشقاق بين المسلمين والمحاربة فيما بينهم كما في افغانستان ومصر والجزائر من المنافسات والمنازعات التي وصلت إلى المحاربة والمقاتلة، وقد قال لهم نبيّهم صلى الله عليه و سلم: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.» وفي رواية: «لا ترجعنّ بعدي ضُلّالًا يضرب بعضكم رقاب بعض» (3).

وهذا هو أمر نبيّهم وقد خالفوه. وقد عجز المسلمون عن منع إطلاق النيران


1- المائدة: 42.
2- فصّلت: 34.
3- مسلم 1: 58 باب معنى قول النبي صلى الله عليه و سلم: لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض. مسلم 2: 60 باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.

ص: 266

فيما شجر بينهم وما هو السبب؟ لعل السبب التجنّب أو عدم إقامة القسط والعدل بين الفريقين المتحاربين أو عدم وحدة المسلمين ضد طائفة باغية بغت على الاخرى، فقد قال اللَّه تعالى في الصلح بين الفريقين المتحاربين أن يسلك المصلحون طريق العدل والقسط حينما أرادوا الإصلاح بينهما فقال تعالى:

وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تَفِى ء إلى أمر اللَّه فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسِطوا إنّ اللَّه يحبّ المقسطين إنّما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا اللَّه لعلّكم تُرحمون (1)

.

فإذا نظرنا في تلك الآيات نرى أنّ رفع النزاع وإيقاف النيران والإصلاح بين المسلمين واجب على الامّة، وعليها أن تقاتل الطائفة الباغية التي بغت على الاخرى حتى تفي ء إلى أمر اللَّه، فإذا فاءت فعلى الامّة أن تصلح بين الطائفتين المتحاربتين بالعدل والقسط لأن المؤمنين كلّهم إخوة. فنهتدي من هنا إلى أنّ العدل والقسط أمر واجب ولازم للإصلاح بين الناس وعلى المصلحين أن ينحازوا إلى الطائفة المظلومة ويقاتلوا التي تبغي وتجبرها حتى تفي ء إلى أمر اللَّه أي الصلح ومنع إطلاق النار، وإلى ما يراه المصلحون المقسطون، فيجب على الامّة أن تكون يداً واحدةً ضد الطائفة الباغية، ولعل هذا الشرط معدوم في مصالحة الأعداء من الكفر المحاربين وهم لا يقسطون ولا يعدلون في الإصلاح بين المتحاربين، أو فقدت الوحدة ضد الطائفة الباغية العنيدة الناشزة، فالقسط والعدل هو المبنى الأوّل للوحدة والاتحاد بينهم.

والمبنى الثاني: الاعتصام والتمسّك بحبل اللَّه المتين، فإنّ الوحدة الجنسية والشعبية واللغوية والنسلية وحتى الاقليمية في طبعها تدعو الامّة إلى عدم التفرقة


1- الحجرات: 9- 10.

ص: 267

والشقاق والتشتّت على ما تقتضيه النزعة القومية والعصبية والحمية حتى إنّ العصبية إلى فئة تلقي عصا الوحدة والتوحيد والتوحّد في الامّة، فلا يقبل الإسلام عصبية إلّاالعصبية الدينية المحضة حينما تضرب العصبية المذهبية والحزبية بوحدة الامّة على الجدار، وتنقض عصا الوحدة عنها فيقتل التحدّي الوهابي أهل التسنّن وأهل التسنّن يقتلهم (كما جاء في فتاوى الشامي بن عابدين في باب البغاة ص 263).

وطالما قتل الحنفي شافعياً أو مالكياً أو حنبلياً وعكس ذلك كما ينعته التاريخ تاريخ التفرقة بين المسلمين في الغابر- وفي زماننا نرى التقاتل والأعمال الإرهابية بين الشيعة والتسنّن يقتل بعضهم بعضاً وهم مسلمون- قد هيّأ بعض منهم منظمة إرهابية فتّاكةً للقتل، يا للغوث على تلك المنظمة الفتّاكة المسمّاة باسم معصوم مثل «جند الصحابة» أي سپاه صحابه و «جند محمد» أي سپاه محمد، وهم يقتلون امّة محمّد ولا يشعرون، وذلك لعدم تمسّكهم بحبل اللَّه المتين وأمروا وفق قول نبيّهم: «لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».

وقال: «من حمل علينا السلاح فليس منّا»، «القاتل والمقتول كلاهما في النار» (1).

ان ينفكوا عن القتل بعضهم بعضاً، كلّها حمية جاهلية أو عصبية لا يرضى به الإسلام ونبيّه صلى الله عليه و سلم.

وقال النبيّ صلى الله عليه و سلم في العصبية والحمية الجاهلية ولدعوة السيف: «من دعا بدعوى الجاهلية فإنّه من جثى جهنم. قال رجل: يا رسول اللَّه وإن صام وصلّى؟

قال: نعم وإن صام وصلّى. وفي رواية «وزعم أنه مسلم» (2).

فكلّ الدعوات سوى دعوة الإسلام والدين دعوة الجاهلية والعصبية


1- مسلم 1: 69، البخاري 2: 1049.
2- تفسير ابن كثير 3: 236.

ص: 268

المحرّمة. ولذا دعا القرآن إلى الاعتصام بحبل اللَّه لا غير، فقال تعالى: واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن اللَّه لكم آياته لعلّكم تهتدون (1)

.

فالآيات الكريمة هذه تهدينا إلى ما نعتصم ونتمسّك به وكيف نعتصم جميعاً أو أشتاتاً، وليتنبّه القارئ أن الأخذ والاعتصام بينهما فرق، الأخذ بالقوّة بحيث لا انفصام له هو الاعتصام، فللأخذ الموثق به هو المأمور بصيغة الأمر واعتصموا ولا يكفينا إن أخذنا بحبل اللَّه فرادى، بل يلزم علينا أن نأخذ به بقوّة ومكنة جميعاً لا فرادى وأشتاتاً.

وحبال الجنسية والشعبية واللغوية حتى الاقليمية ليست بحبل اللَّه المتين، وحتى النزاعات المذهبية والنزاع الفروعي الديني ليست داخلة في حبل اللَّه، بل هي حبال الفرق الإسلامية وسبلها، وحبل اللَّه هو الآيات المحكمات والسنّة المتواترة التي أجمعت الامّة على قبولها، وما أخرجت من الأحكام المستنبطة فهي ثمرات الاجتهاد لايجب العمل بها على جميع الامّة بل يجب على مقلّدي المجتهد المعهود فقط على اعتقاد وجوب التقليد الشخصي المتكلّم فيه- وليس لأحد أن يجبر أحداً على العمل بالامور المجتهدة فيها- فالمقلدون أحرار في تقليد أحد من الأئمة المجتهدين، وفيه بحث طويل لا مجال له في المقالة الراهنة.

فإذا تمسّكت الامّة بحبل اللَّه المتين نشأت فيها وحدة وثيقة واجتمعت عليه بحيث تنجيها من العراقيل في داخلها وخارجها، وتقويها ضدّ عدوّها، ولإنشاء الوحدة الإسلامية وحدة الامّة الاحتفال السنوي احتفال الحج يقدم بين أيدي الامّة فرصة ثمينة أن تشاور في الامور السياسية والثقافية والتجارة تدير بينها،


1- آل عمران: 103.

ص: 269

والامور الاستراتيجية وإطفاء الفتن الداخلية والخارجية وإعداد القوّة الحربية الجوية والبرية والبحرية على منوال جديد يقتضيه العصر الحاضر وأن تتفكّر في شؤون الوحدة وائتلاف الامّة، فاحتفال الحج السنوي احتفال عظيم حري لإنشاء الوحدة العالمية للُامّة المسلمة.

المبنى الثالث: لوحدة الامّة المسلمة وإنشاء الاخوّة والمودّة بين المسلمين، قال اللَّه تعالى: إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتّقوا اللَّه لعلّكم تُرحمون (1).

فالمؤمنون كلّهم إخوة والفريقان المتحاربان أخوا المصلحين على السواء فينبغي أن يحكموا بينهما بالعدل والقسط على السواء ظنّاً منهم بأنهما إخوان لهم فلا يميلون ميلةً إلى أحدهما دون الآخر زيغاً وظلماً، كما روى عن معاذ بن جبل أن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: «يكون في آخر الزمان أقوام إخوان العلانية أعداء السريرة، فقيل:

يا رسول اللَّه! كيف يكون ذلك؟ قال: ذلك برغبة بعضهم إلى بعض ورهبة بعضهم من بعض» (2).

هذا الحديث هو مرآة الامّة المسلمة المرحومة المفتونة فاقدة القسط والعدل في زماننا الحاضر، هي تميل إلى جانب إذا تحكم بين الفريقين المتحاربين القائمين على شفا حفرة من النار. فلا تطيق تنقذ المسلمين من أزماتهم الحالقة الراهنة، كما نرى هذا في أزمة أفغانستان وفلسطين والجزائر وغيرها، هذا لرغبتهم إلى بعضهم ورهبتهم من بعض، وهم إخوان علانية وأعداء سرّاً لا يحكمون بالعدل ولا يقيمون القسط وقد امروا به. فصدق اللَّه ورسوله بأنهم إخوان العلانية وأعداء السريرة يميلون إلى بعض ويرغبون عن بعض، فياله من ضياع!


1- الحجرات: 10.
2- مشكاة المصابيح، باب الرؤيا والسمعة الفصل الثالث: 455.

ص: 270

معالم المحبّة في صدر الإسلام:

وأعلن اللَّه تعالى معالم المودّة والمحبّة أسوة للُامّة المسلمة كما كانت الصحابة عليها، فمدحهم اللَّه تعالى في القرآن العظيم، فقال تبارك وتعالى:

محمّدٌ رسول اللَّه والذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم... (1)

.

فأصحاب الرسول عليه وآله وصحبه ألف ألف صلوات وسلام كانوا رحماء رفقاء بينهم لا يخذلون إخوانهم المسلمين تحت سيطرة الأعداء والكفرة الفجرة، ذوي مودّة صادقة ومحبّة صافية، وكانوا أشداء على الكفار عكس ما كنّا أحبّاء الكفار وبغضاء المؤمنين. وقال اللَّه تعالى في معالمهم أيضاً:

والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً ممّا اوتوا ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوقَ شُحّ نفسه فاولئك هم المفلِحون (2)

.

الأزمة الفظيعة هي فقدان معالم الصحابة الكرام رضوان اللَّه عليهم من الامّة، وهم كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وكانوا متحابّين لا يحسدون إخوانهم المسلمين بما اوتوا، ولا يجدون في صدورهم حاجةً بما أعطاهم اللَّه من فضله وهم مفلحون، ونحن المسلمين المسلوبين تلك الأخلاق السنية الخاسرين وخسراننا بين أيدينا اليوم وفي الآخرة يتزايد إلى ما لا نهاية له، فخسرنا في الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

وبيّن النبي صلى الله عليه و سلم صفات الاخوة والمودّة بين المسلمين فقال:

«إيّاكم والظنّ فإنّ الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تنابزوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخواناً. وفي رواية:


1- الفتح: 29.
2- الحشر: 9.

ص: 271

ولا تنافسوا متفق عليه (1).

إذا لاحظنا الصفات المسرودة في الحديث نجدها كالآتي: اجتناب ظنّ السوء فإنّه أكذب الحديث، اجتناب التجسّس والتحسّس، اجتناب التناجش، اجتناب التحاسد، اجتناب التباغض، اجتناب التدابر، اجتناب التنافس، والأمر بكون المسلمين عباد اللَّه اخواناً.

قد ذكر في الحديث التحسس والتجسس، التجسس ظاهر المعنى وهو طلب الخبر خفيةً ومنه الجاسوس، والتحسس هو تطلب العلم بحاسة بأن يسترق السمع أو يبصر شيئاً بحاسة العين خفيةً، والتناجش هو عمل السمسرة- السمسار هو الساعي بين البائع والشاري- ربما يغلي الثمن أمام المشتري بأن يساومه بأغلى الثمن فيخدع الشاري بأن يشتري المتاع بثمن غالٍ، هذا العمل ينشئ الفرقة والشحناء بين الناس، الحسد تمنّي زوال نعمة الغير والبغض امتلاء النفس من العداوة والشحناء والتدابر، قال العيني: هو التقاطع والتنافس والمسابقة في كسب النفيس لنفسه (2).

فيالهفي على فوات الصفات الطيبة وحلول هذه الصفات المذكورة! فبعضنا يتحسس بعضاً ويتجسس المعايب ويتناجش ويتحاسد ويتباغض ويتدابر ويتنافس، فصرنا كأننا الأعداء البغضة لسنا إخواناً ولا عباد اللَّه المخلصين، بل عباد الشياطين المردة من الجن والإنس، فيتحامل بعضنا على بعض كأننا حمر مستنفرة فرّت من طاعة اللَّه المستنكرة فغضب اللَّه علينا كأننا المغضوب عليهم والضالون سبيل السلام والعافية، وكأننا كلاب عاوية في الطرق الضيقة المسالك والسلك القذرة، أو كأننا وحوش ينهش بعضنا بعضاً ويصول بعضنا على البعض


1- مشكاة المصابيح باب ما ينهى عنه من التهاجر والتقاطع واتباع العورات، الفصل الأوّل: 27 طبع داكا
2- مأخوذ من الطيبي شرح المشكاة ومن حواشي المشكاة المصابيح ومن لغات شتّى وابن كثير 4: 213.

ص: 272

فيأكل لحمه وشحمه ويخمش الوجوه يسيل منها الدم، فجسد الامّة يتقاطر منه الدماء.

ثم الأسف كلّ الأسف أنّ هذا النزاع لا ينفع الامّة شيئاً بل هو في نفع أعداء الامّة يلقون بيننا العداوة والبغضاء ويمزّقون به وحدة الامّة المسلمة تمزيقاً، فيفلحون بطرح برامجهم للاستثمار من أموال المسلمين في حقّهم فهو الاستعمار المتسلّط على بلدان المسلمين قاطبةً.

المبنى الرابع: الاجتناب عن سوء الظنّ.

الظنّ السيئ هو الداء العضال للُامّة ووليد التنافس والتدابر والشحناء بينهم، وسوء الظن ينشأ منه صغار الدهاء وكباره، ومنها ما يضر الامّة بجرح لا يندمل حتى يصبح ناسوراً لا يعود برءاً ويشفى شفاءً فلذا قال النبي صلى الله عليه و سلم كما مرّ: «إيّاكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»، وقال تعالى: يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ولا تجسّسوا... (1)

.

فإن بعض الظنّ إثم فيلزم أن يجتنبوا كثيراً من الظن بلا برهان يقطع الشك والوهم كما يزعمون، فالظن واجب الاجتناب عنه مهما كان، حتى يصير يقيناً برهاناً، وقال المفسِّر عماد الدين إسماعيل بن كثير في الظن: وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس غير محله (2).

وقد شاع سوء الظن في المسلمين وكان عليهم حسن الظن بإخوانهم المسلمين، فصار سوء الظن عندهم أولى الأمر من حسن الظن المأمور به فعُكس الأمر بين المسلمين فنُكسوا رؤوساً وذُلّوا بأيدي أنفسهم، وجاء عمر بن الخطّاب


1- الحجرات: 12.
2- ابن كثير 4: 212.

ص: 273

قال: ولا تظننّ بكلمة من أخيك المؤمن إلّاخيراً وأنت تجد لها محلّاً (1).

وهذا هو الأصل الأصيل لسلوك المسلمين فيما بينهم من القول والفعل والنيّة والعمل عليها ولكن عكس الأمر فصار سوء الظن كأنه الأصيل المأمور به وحسن الظن بالمؤمنين مأثم لا يأتى به في المعاملات والمناقشات إلّاقليلًا، فمرضت الامّة بمرض سوء الظنّ بعضهم ببعض وانشقت عصا الوحدة منه، فيظن السنّي بأخيه الشيعيّ أنّ عمله وقوله مشوب بالكذب والخداع، وكذلك يظن الشيعة أن السنّي لا يعتمد عليه في القول والعمل ففشا الوهن والاخن في قلوب المؤمنين ظنّاً ببعضهم ظن السوء بل ظن الجاهلية، فهم متحاربون يسفكون دماء بعضهم بأدنى الظن منهم ويقتتلون.

فالمشتكى إلى اللَّه المتعالي وإلى رؤساء المسلمين وقادتهم وساسة الامّة المفتونة، وعلينا أن لا نظنّ السوء بعضنا ببعض ونحمل الأقوال والأعمال على خير محل احترازاً من سوء الظن بالمسلمين وأن نفتّش للأقوال والأفعال محتملًا حسناً، ولا نأخذ الأقوال فيما أراد به القائل والأعمال خلاف ما نوى به العامل، فهذه هي الجناية أو الخديعة المخذولة أعاذنا اللَّه منها- وكثيراً ما نرى في التحاور السياسي والدبلوماسي يغلب على التحاور سوء الظن وبطالة اليقين فتعود المحاورة فشلًا، كما نشاهد في الطائفتين المتحاربتين في افغانستان لا تكادان تعتمدان على الفريق المخالف ففشلت المحاورة بينهم مراراً، وحبّ الرئاسة يزيد في البُعد والخذلان، فنشبت الحروب وكُبّت الظروف لا تكاد تمسك شيئاً، والمؤامرة الأمريكية تدقّ وحدة الامّة بين الحجرين الثقيلين وتسفك الدماء دماء المسلمين، فمن إيحاءاتها الشيطانية مرّة إلى هؤلاء ومرّة إلى هؤلاء، وما زادتهم


1- تفسير ابن كثير 4: 212.

ص: 274

إلّا خبالا.

مضرة العمل بالظنّ

لما أسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعثه النبيّ صلى الله عليه و سلم عاملًا على صدقات بني المصطلق وكان النبي صلى الله عليه و سلم وقّت لهم وقتاً يبعث إليهم عاملًا عليهم ليأخذ صدقاتهم فتأخّر الأمر، وظن الحارث بن ضرار سيّد بني المصطلق أنّ التعويق في إرسال العامل إليهم حدث لأمر، فخرج هو وقومه يريدون المدينة ليلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، وخرج الوليد بن عقبة من المدينة عاملًا على بني المصطلق يريدهم، وقطع عليهم الطريق فلمّا رآهم مستقبلين إليه بأسلحتهم، ظن الوليد بأنهم خرجوا للقتال معه وما كان العتاد معه للقتال فرجع على الطريق وقال للنبي صلى الله عليه و سلم: إنّ بني المصطلق ارتدّت عن الإسلام وخرجت تقاتله، فغضب النبي صلى الله عليه و سلم وغضب المسلمون وبعث إليهم بعثاً حتى جاء الحارث بن ضرار وقومه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فوضّح الأمر بأنه نشأ من سوء الظن بهم، فكادت الحرب أن تقوم بين المسلمين لأجله، وأنزل اللَّه الوحي على النبي صلى الله عليه و سلم وحذّر المؤمنين أن يعملوا بالظنّ بلا تبيّن وتحقّق، قال تعالى: يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسِقٌ بنبأٍ فتبيّنوا أن تُصيبوا قوماً بجهالةٍ فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين (1)

.

الخرص والزعم قبل التبين لا يكون إلّاظنّاً وهو كثيراً ما لا يثبت فمن عمل على الظنّ يندم ولا تنفعه الندامة إلّاحسرةً فتضرّر به القوم بجهالة و يندم من يصيبهم على ما فرط منه في حق إخوانهم و نحن نشاهدها يوماً بعد يوم ولا شبهة له ياللغفلة!

وإليكم نصّ الحادثة التي حدثت بين الوليد والحارث بن ضرار على ضوء الرواية:

(1) وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: أنّ الحارث بن ضرار الخزاعي يقول: قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، فدعاني للإسلام فدخلت فيه


1- الحجرات: 6.

ص: 275

وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول اللَّه! أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي دفعت زكاته وترسل إليّ يا رسول اللَّه رسولًا ابان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

فلمّا جمع الحارث الزكاة ممّن استجاب له وبلغ الابان الذي أراد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وصحبه وسلّم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظنّ الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من اللَّه تعالى ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول اللَّه صلّى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسول اللَّه من سخطة، فانطلقوا بنا نأت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم.

وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم الوليد بن عقبة إلى الحارث؛ ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف، فرجع حتى أتى رسول اللَّه فقال: يارسول اللَّه، إنّ الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي؛ فغضب رسول اللَّه وبعث البعث إلى الحارث وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولِمَ؟ قالوا: إنّ رسول اللَّه بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمّداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول اللَّه قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم خشيت أن يكون كانت سخطة من اللَّه تعالى ورسوله فنزلت الحجرات: يا أيّها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبإ ... إلى قوله حكيم (1).


1- تفسير ابن كثير 4: 209.

ص: 276

فانظروا أيّها القرّاء الكرام! فأين ظنّ الوليد وأين الحارث منه؟ والحارث مؤمن صادق، وظنّ الوليد ظنّ كاذب كاد أن يفتن المؤمنين المخلصين لولا نزول الوحي وحضور الحارث بن ضرار المدينة بقومه قادمين؛ لقامت الطامة الكبرى بين المؤمنين، ومثل هؤلاء المصيبة الكبرى نقيمها نحن بجهالة منّا في ساحة الامّة.

خلو أننا اجتمعنا في مؤتمر الحج كلّ سنةٍ ففاحصنا أمورنا ونتبيّن أحوالنا ولا نعتمد على الدعاية الأجنبية والبوقة الصهيونية المذيعة بيننا أنباءً تسود بها ظنوننا فيسطو علينا الجنون والشرّ يضرّ بنا وبمنافعنا، ويغري العداوة والبغضاء بين المسلمين، كما فعل الحارث بن ضرار وقومه بعد حضوره المدينة مع قومه لإزالة الشبهات الناشئة، فأطفأ نار الحرب المشتعلة بعد كشف الواقع وانجلاء الواقع إلى الحرب لحفظنا مصالحنا وما تضرّرنا بالظن السوء وإثارة الفتن من الأجانب، فتيقّظوا أيّها الاخوة ولا تناموا عن الغيّ والغواية واجتنبوا عن الدعاية العادية الأجنبية.

(2) وواقعة أخرى هي واقعة خالد بن الوليد في بني خزيمة كما ذكره محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه صحيح البخاري ما نصّه:

عن ابن عمر قال: بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: «أسلمنا» فجعلوا يقولون: «صبأنا صبأنا»، فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كلّ رجل منّا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كلّ رجل منّا أسيره فقلت: واللَّه لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم فذكرناه له فرفع النبي صلى الله عليه و سلم يده فقال: اللّهمّ إني أبرأ إليك ممّا صنع خالد مرّتين (1).

فخالد بن الوليد قد أخطأ حينما ظنّ أنّهم لم يقولوا: «أسلمنا» بل قالوا:

«أصبأنا» ومعناه أي تركنا ديننا، ولم يقولوا دخلنا في دين الإسلام فهم ليسوا


1- البخاري 2: 622 باب بعث النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.

ص: 277

بمسلمين، وكان عليه أن يتبيّن منهم المراد من قولهم «صبأنا» ولم ينتظر التبيّن بل جعل يقتلهم ويأسرهم، فإذا بلغ الخبر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم تبرّأ منه واستعاذ فقال رافعاً يديه إلى السماء: اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد وقال هذه الكلمة مرّتين، فظهر أنّ العمل بالظن خطأ حتى يتيقّن الأمر، ويجب البراءة منه والاستعاذة إلى اللَّه تعالى بالاستغفار والدعاء كما تبرأ النبيّ صلى الله عليه و سلم.

(3) وأصرح منه قصة أسامة بن زيد حبيب النبي صلى الله عليه و سلم حين قتل كافراً قال: لا إله إلّااللَّه خوفاً من سيفه، كما روى مسلم في كتابه الصحيح عن أسامة بن زيد قال:

بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم في سرية فصبحنا الحرفاف بن جهينة فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلّااللَّه، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته لنبي اللَّه صلى الله عليه و سلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم:

أقال لا إله إلّااللَّه؟ وقتلت؟ قال: قلت: يا رسول اللَّه إنّما قالها خوفاً من السلاح قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يقرّرها عليّ حتى تمنيت أنّي أسلمت يومئذ (1).

فعلم أن قتل الكافر بعد قوله لا إله إلّااللَّه حرام ولو قالها خوفاً من السلاح، فأين يحلّ قتل المسلم القائل من صميم قلبه لا إله إلّااللَّه؟ وأما الشبهة لا مجال لها في المسألة لأنّ النبي صلى الله عليه و سلم قال في جواب اسامة رضى الله عنه: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟

فالأحكام تجري على الظاهر ولا تجري على الباطن، لا يكلّف اللَّه أحداً أن يفصح الأمر عن القلوب بعد شقّها، ونحن نقتل المسلم بأدنى ريب عصبيةً لمذهب أو حمية لحزب سياسي وقد قال اللَّه تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللَّه عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً (2)


1- مسلم 1: 68 باب تحريم قتل الكافر بعد قوله لا إله إلّااللَّه.
2- النساء: 93.

ص: 278

فحرّم اللَّه قتل المؤمن عَمداً وأوجب لقاتله: أن يخلّد في النار، وغضب اللَّه عليه ولعنه، وله عذاب عظيم في الآخرة والآجلة كما نشاهده في الدنيا على صورة القصاص أو الدية إن عفي عنه، أو القتل بأيدي الأعداء وسيرى في الآخرة جزاءه جهنّم خالداً فيها، فهذه نقمات خمس لمن قتل المؤمن متعمّداً بلا وجه شرعي.

المبنى الخامس: التعاون على البرّ والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، ونحن المسلمين يجب أن نكون عاملين على ذلك الأساس السامي، إلّا أننا كثيراً ما نعاون على الإثم والعدوان وقليلًا مّا نعاون على البر والتقوى الذي أمرنا به، فعملنا اليوم على عكس ما امرنا به، وضد ما قال اللَّه تعالى لنا أمراً لعباده المؤمنين حيث يقول: وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتّقوا اللَّه إنّ اللَّه شديد العقاب (1)

.

عمّقوا النظر أيّها القرّاء الكرام! إننا امرنا بالتعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وامرنا أن نتّقي اللَّه بائتمار الأمر واجتناب المناهي، فمن خالف الأمر حذّره اللَّه تعالى بشديد العقاب والعقاب منه أشد من العذاب كأنه العذاب الغرام والعقاب يعمّ في الدنيا فيعاقبنا فيها إذا خالفنا أمره كما أمر.

يقال: «إنّ الحق مرّ ولو كان درّاً» فالحق أقول وبه أصول ولا نخاف في اللَّه لومة لائم كائناً من كان ولو كره المبطلون: إنّ العالم الإسلامي ورُؤساء المسلمين في العالم قد مسّهم العقاب كما وعدوا في الآية بمخالفتهم إيّاها، ومسّتهم المذلّة والمسكنة والضعف؛ لأنهم يعاونون على الإثم والعدوان وكان عليهم أن يعاونوا على البرّ والتقوى، ولا يتّقون، فهم ينصرون الظالم على المظلوم ويخذلون المظلوم تحت ضغطة الظلمة الطغاة.

بل يقال: «الدول المسلمة» لا تعامل على أسلوب البرّ والتقوى بل تسلك


1- المائدة: 2.

ص: 279

على منوال التجنّب أو الانحياز في ميدان الشهوات والميدان إليها سياسةً لا ديانةً فتفرّق السُبل بهم وتباعدوا بعضهم من بعض، فنشأ البعد بينهم بُعد المشرقين والمغربين تنقطع عنوق النوق في سيره، فأصبحت الدول الإسلامية كأنهنّ الضرّات لا هن الأخوات تعشن حياةً طيّبةً مرضية فازدادت المنافرة والمناقشة، ووصلت إلى النهاية وتبدّلت المودّة عداوةً والمعاونة مخالفةً، وتضرّرت الامّة مضرّةً لا يكافئها اسم الإسلام ورسم الامّة الدبلوماسي، فعل الدول المسلمة أن تتعاون عون الأخوات في مصالح الامّة المسلمة على البرّ والتقوى، وأن تترك الإثم والعدوان، والعدوان هو عدوان بعض الدول على الاخرى والنصرة لفئة متحاربة نفاقاً تحت الأستار وظلماً وعدواناً وهو أشدّ إثماً وأزيد معرةً لأزمات الامّة المفتونة، أنقذها اللَّه تعالى منها وصانها من الفتن ووفّق قادة الامّة وسادتها أن يرجعوا عن الغيّ والضلال، ويفعلوا ما هو ينفعها وفيه منافع المسلمين ومنافع أنفسهم جميعاً لو كانوا يعلمون.

المبنى السادس: هو عدم الانحياز إلى الطغاة الظلمة.

الوحدة تقوم على ساقها وتؤتى اكلها كل حين إذا كان الوضع موافقاً لها فتترعرع يوماً فيوماً في البيئة المسلمة وتنشعب من جذورها إلى فروعها كالشجرة الطيبة المظلة على اللاجئين تحت ظلّها الظليل فإن فسد الوضع وانفسخ الجوّ تصير الوحدة فيه ضئيلةً لا تستطيع أن تقوم على ساقها وتؤتي اكلها حتى ضاقت عليها الحياة فتموت مصفرة فقيدة الخضرة والطراوة وتعتريها اليبوسة والجفوف فتنعدم كأنها لم تكن، ولذا علينا أن لا ننحاز إلى الظلمة الطغاة من الساسة، فإنّ وحدة الامّة تذهب ضد الظلمة الطغاة فلا يحبونها ولا صبر لهم عليها، فمن أطاع الطغاة أعان على هدم بناء الوحدة الإسلامية، فعدم التعاون مع الطغاة أساس مهمّ لوحدة الامّة.

فلذا حذّر نبيّ الرحمة والوحدة عليه الصلاة والسلام عن التعاون ونصرة

ص: 280

الطغاة، كما جاء في الأحاديث مراراً.

فعن أوس بن شرحبيل أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يقول: من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام (1).

وهذا الحديث يدلّ صريحاً على أنّ من يقوي الظالم على ظلمه يخرج من الإسلام والدين والايمان، وهذا الحديث مثل ما قال النبي صلى الله عليه و سلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، فمن يقوي الظالم لا يبقى حين يقويه مسلماً. وبعبارة اخرى: لا يقوي أحد ظالماً حين يقوّي وهو مسلم (2).

المبنى السابع: هو عدم الانحياز إلى القوى الأجنبية.

الأجانب أجانب ليسوا كالأقارب والأنفس في الواقع، ومنه يتفاوت الميلان طبعاً فيبكي الأقارب عند موت الأقارب، والأجانب لا تدمع عيونهم وإن كانوا أعداء يفرحون بموت أعدائهم، والأجانب للُامّة المسلمة هم اليهود والنصارى وغيرهم من الذين لا يؤمنون بالنبيّ الامّي العربي محمّد صلى الله عليه و سلم ولا يصدقون بدينه الحنيف.

والقوى الكبرى تكوّنت بتلك الفرق الأجنبية الكافرة على رأسها أمريكا وفرنسا وبريطانيا وهم نصارى، ويتبعهم اليهود والقوّة الروسية والصينية وغيرها من القوى العالمية الأجنبية تابعة للقوى الكبرى العالمية والهنود غير المسلمين في الهند أجانب أعداء للمسلمين سياسةً وعقيدةً، والبوذية فرع من الهنود خلطوا التوحيد مع الشرك، وهم والهنود ينتحلون نحلة الشرك من عبادة الأوثان والمظاهر والهياكل، وبعض الكفّار لا يقرّون بالإله والخالق للعالم فكلّهم أجانب عن الامّة المسلمة المؤمنة بالدين الحنيف ورسالة سيّد الكونين إمام المرسلين


1- مشكاة المصابيح: 436 باب الظلم، الفصل الثالث.
2- راجع الترمذي 2: 90.

ص: 281

رسول ربّ العالمين صلى الله عليه و سلم.

يدعو اللَّه تعالى المسلمين إلى عدم الانحياز إليهم فقال تعالى:

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتّبع ملّتهم قُل إنّ هدى اللَّه هو الهدى ولئن اتّبعت أهواءَهم بعد الذي جاءك من العلم مالَكَ من اللَّه من وليّ ولا نصير (1)

.

فجذب الرضا من النصارى واليهود لا يدخر إلا بعدما نتبع ملّتهم كما قال اللَّه تعالى في كتابه ومن اتبع ملّتهم بعدما جاءه الحق أي العلم بأن الإسلام هو الحق، فليس له من ولي يحفظه من عذاب اللَّه ولا من نصير ينصره في المصائب والبلايا النازلة منه تعالى.

والحمد للَّه ربّ العالمين


1- البقرة: 120.

ص: 282

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (13)

2086- كتاب المزار

رضي الدين علي بن طاووس الحلّي ت 664 ه.

ظ: الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2087- المزار

كاظم الگلپايگاني، فرغ منه سنة 1283 ه

خ: الرضوية، في 66 ورقة

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2088- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران بن عبداللَّه بن سعد بن مالك الأشعري القمّي

ظ: رجال النجاشي 349.

الذريعة 12/ 78، 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2089- كتاب المزار

أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود بن علي القمّي ت 368 ه.

ظ: رجال النجاشي 384.

فهرست الطوسي 136.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت

ص: 283

صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2090- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن اورمة القمّي

ظ: رجال النجاشي: 330.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2091- المزار

محمّد بن جعفر بن علي بن جعفر المشهدي المعروف بابن المشهدي

خ: مكتبة السيّد المرعشي، برقم 4903، في 482 ورقة.

ظ: الذريعة 20/ 323، 324.

فهرس المرعشي 13/ 84.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2092- كتاب المزار

محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار ت 290 ه

ظ: رجال النجاشي 354.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2093- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ت 460 ه.

ظ: الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2094- كتاب المزار

أبو المفضّل محمّد بن عبداللَّه بن المطلب الشيباني

ظ: فهرست الطوسي 140.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2095- كتاب المزار

أبو الفرج محمّد بن علي بن محمّد بن محمّد بن أبي قرّة العيناتي.

ظ: الذريعة 20/ 317، 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2096- كتاب المزار

محمّد بن محمّد بن النعمان الشيخ المفيد ت 413 ه.

تصحيح وتعليق: مدرسة الإمام الهادي عليه السلام

قم: مدرسة الإمام الهادي عليه السلام 1408 ه.

2097- كتاب المزار

ص: 284

أبو النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي

ظ: رجال النجاشي 352.

الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91- 92.

2098- المزار

(يشتمل على بابين يضمّان آداب زيارة النبي صلى الله عليه و آله والصدِّيقة الزهراء البتول وأمير المؤمنين والأئمّة الأحد عشر من ولدهما صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين).

للشهيد الأول أبو عبداللَّه شمس الدين محمّد بن مكّي الجزيني العاملي المستشهد سنة 786.

تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام.

قم: 1410 ه.

2099- كتاب المزار

أبو عبداللَّه الدبيلي محمّد بن وهبان بن محمّد بن حمّاد بن بشر الأزدي

ظ: رجال النجاشي 397.

الذريعة 20/ 321.

إيضاح المكنون 2/ 331.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

2100- كتاب المزار

محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ت 1090 ه.

ظ: الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

2101- المزار

(في زيارات الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام).

محمّد الحسني الطباطبائي، فرغ منه في كربلاء سنة 1140 ه.

خ: المرعشي، 3331، 151 ورقة، سنة 1351 ه.

ظ: فهرس المرعشي 9/ 108- 109.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

2102- كتاب المزار

محمّد صالح بن عبد الواسع الحسيني الخواتون آبادي الاصفهاني ت 1116 ه.

ظ: الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

ص: 285

2103- كتاب المزار

المير محمّد مهدي

خ: الرضوية

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

2104- كتاب المزار

يونس الجبعي العاملي

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92- 93.

2105- كتاب المزار

يونس بن علي القطّان

ظ: رجال النجاشي 448.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

2106- مزار الآقا باقر

الوحيد البهبهاني بن محمّد أكمل ت 1206 ه.

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

2107- مزار بقيع

(بالفارسية)

علي أكبر حسني

ميقات حج س 1: ع 1 (پائيز 1371 ش) ص 153- 137.

2108- مزار قديم

استظهر الكفعمي أنّه مجموع الدعوات لأبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، تاريخ كتابته (746 ه) وصرّح في أوّل البحار أنّ كتابته سنة 576 ه.

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

2109- مزار اللنباتي

(بالفارسية)

حسين بن حسن الجيلاني

الاصفهاني اللنباتي ت 1129 ه.

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

2110- مزار المولى إسماعيل الطهراني

(بالفارسية)

مطبوع

ظ: الذريعة 20/ 321.

ص: 286

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

2111- مزارات

(رسالة في مراقد أبناء الأئمّة المعصومين في العراق وخراسان ومازندران وآذربايجان، كُتبت أيّام عبّاس الأوّل الصفوي (995- 1037 ه)، بالفارسية).

نور الدين محمّد بن أبو القاسم حبيب اللَّه واعظ خطيب مدرس اصفهاني

ظ: نشريه 8/ 125.

فهرستواره منزوى 1/ 248.

2112- مزارات الأئمّة

غلام حسين الهندي الموسوي

النجف الأشرف: 21 ص.

النجف الأشرف: المطبعة المرتضوية، (د. ت)، 21 ص، 21 سم، حجرية.

2113- مزارات أهل البيت

محمّد حسين الحسيني الجلالي

بيروت: 1409 ه/ 1988 م.

2114- مزارات إمامان وإمام زادگان

(في ذكر مراقد الأئمّة وأبنائهم، بالفارسية)

معين الدين علي بن نصير قاسم انوار

(757- 837 ه)

ظ: الذريعة 9/ 861 «ديوان قاسم انوار».

سنا 1/ 74 [في مجموعة واحدة تشتمل على رسائل عرفانيّة له ولنعمت اللَّه كرماني].

فهرستواره منزوى 1/ 248.

2115- مزارات خراسان

(بالفارسية)

كاظم مدير شانه چى

1345 ش.

2116- مزارات الطالبيين

شهاب الدين المرعشي النجفي

(1318- 1411 ه)

ظ: الموسم مج 2: ع 5 (1990 م- 1410 ه) ص 214.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 94.

2117- مزيح الاحتياج في حكم منسك المحاج

(ارجوزة في الحج)

ميرزا علينقي بن حسن ابن السيد محمّد المجاهد الطباطبائي ت 1289 ه

ظ: الذريعة 20/ 328، 22/ 276.

ص: 287

2118- مسألة في زيارة القبور وقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

صالح بن عبداللَّه الغماس، كان حيّاً سنة 1340 ه مخطوط، في: جامعة الملك سعود برقم 4001، في 5 ورقات، بخط المؤلّف، تاريخها سنة 1340 ه.

2119- المسائل الاتّفاقية بين الأربعة من علماء الإمامية (قسم الحج)

منصور الحبشي

طهران؛ المؤلّف، ط 1، 1372 ش، 392 ص، 17 س.

2120- مسائل اجرايى حج- گفتگو با محمّد حسين رضايى مسؤول سازمان حج و زيارت (بالفارسية)

ميقات حج س 1: ع 1 (بائيز 1371 ش)

ص 191- 185.

2121- مسائل حج

(بالفارسية)

أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذر

خ: فرهنگ مشهد، (ش: 5 ب).

2122- مسائل حج

(بالفارسية)

الإمام الخميني

طهران: انتشارات الزهراء، ط 1، 1361 ش.

2123- مسائل الحج

الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ت 381 ه

ظ: رجال النجاشي 392.

2124- مسائل وأجوبة في أعمال عمرة وحج التمتّع الواجبة

محسن الطباطبائي الحكيم

النجف: مط النعمان، (1963 م)، 40 ص.

2125- مسائل ورهنماى حج

(بالفارسية)

محمّد شفيع عثماني، محمّد حسن بيجارزمي.

الحوزة العلمية المركزية، ط 1، 1364 ش، 160 ص، 21 سم.

2126- مساجد تاريخى مدينه منوره (بالفارسية)

عبد الرّحمن خويلد، يوسف غروى قوچانى

ميقات حج: ع 20 (تابستان 1376 ش) ص 115- 130.

ص: 288

2127- مساجد في السيرة النبوية

سعاد ماهر محمّد

القاهرة: الهيئة المصرية العامّة للكتاب، 1987 م، 121 ص، 19 لوحة، 24 سم

2128- المساجد المأثورة في مكّة المكرّمة

حسين عرب

المنهل (جدّة) مج 51: 475 ع (3- 4/ 1410 ه.) ص 52- 55.

2129- مساجد مدينه منوره (بالفارسية)

طهران: 1359 ش، 40 ص (گروه بررسى و تحقيق مسايل حج، 3)

2130- المساجد والأماكن الأثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

عبد الرّحمن خويلد

ميقات الحجّ ع 3 (1416 ه.) ص 271- 280.

ع 4 (1416 ه.) ص 253- 264.

ع 5 (1417 ه.) ص 228- 236.

ع 6 (1417 ه.) ص 267- 275.

ع 7 (1418 ه.) ص 267- 280.

2131- المساجد والجوامع في العالم الإسلامي:

المسجد الحرام والكعبة الشريفة.

شريف يوسف

العاملون في النفط (بغداد) س 9: ع 94

(نيسان 1970 م) ص 2- 5.

2132- مساحت كعبة/ أوصاف مكة/ احوال مكّة

(رسالتان في خصوص طول وعرض وارتفاع الكعبة وبيان مقام المسجد الحرام، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ:

نسخه ها 6/ 3982 «مساحت كعبه»، مشترك 10/ 45، الذريعة 3/ 241 «تاريخ بناء الكعبة»، نشريه 9/ 77 «ذراع مكّة»، آصفية 1/ 414 «رسالت مساحة طول وعرض وارتفاع خانه كعبه» الرقم 82 ورقم 83، ازبكستان طاشقند 8/ 63 «رساله در بيان فضايل مكّه مباركه» بلوشه 1/ 317 «رساله در بيان فضايل مكه»، طاجيكستان دوشنبه 1/ 228 «ذراع مكّة» و 229 «ذراع مكه» و 231 «وصف الحرمين» و 4/ 155 «رساله

ص: 289

فضايل مكه»، خضر نوشاهى 385 «مكه: ذراع مكه معظم»، راجستان 1/ 264 «رساله در ذراع مكه»، گنج 4/ 1939 «مكه: اوصاف ...»، فهوستواره منزوى 1/ 250 و 255 العرب. س 32، ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه./ 1207/ 1996 م) ص 36.

2133- مساحة الكعبة والمسجد الحرام (رسالة)

حسين بن محمّد قاضي الديار بكري 966 ه ..

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه./ 10- 11/ 1989 م) ص 208

2134- مسارات السلوك في الحج

جاد الحق علي جاد الحق

المجاهد (القاهرة) س: ع 128 (6/ 1991 م)

ص 10- 11.

2135- مسالك الحج (بالفارسية)

ابو محمّد آيتي بروجردي

1352 ش، 100 ص، 21 سم.

2136- مستحبات الحرمين يا خلاصة المناسك (بالفارسية)

محمّد دانشيار شوتشري، محمّد علم الهدى خراساني

طهران: صدر، 1394 ه.، 350 ص، 17 سم.

2137- المُستشرقون والأماكن المقدّسة

محسن جمال الدين

بغداد: دار الثقافة الإسلامية، 1962 م

بغداد: ط 2، 1967 م.

2138- المُستطابة في نسب طابة

بدر الدين الحسن بن علي بن شدقم الحسيني

ظ:

طبقات الناسبين 166، العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه.) ص 466.

2139- المصباح الكبير في الزيارات والأدعية

أحمد بن حبيب بن حمد آل زوين النجفي

ظ:

معارف الرجال 1/ 68.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 10/ 103.

2140- مصباح الزائر وجناح

ص: 290

المُسافر

ابن طاوس، رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر ت 664 ه ..

(يشتمل على جملة كبيرة من آداب السفر ومستحباته، ثمّ آداب زيارة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام، ذاكراً فضائل تلك الزيارات)

خ: مكتبة السيد المرعشي في قم برقم 4946، تاريخها 1024 ه. و 160، تاريخها 1087 ه.، و 597. تقوم مؤسسة آل البيت لإحياء التراث بتحقيق الكتاب بالاعتماد على النسخ الخطية الثلاث الآنفة الذكر.

2141- مصباح الزائر

(في جملة من الزيارات المطلقة والمخصوصة والجامعة وآدابها، والأخير في زيارة أولاد الأئمة عليهم السلام وأعمال مسجد الكوفة)

مهدي اليزدي الحائري النجفي

بمبي: 1302 ه ..

2142- مصباح الزائر

محمّد علي اللواساني

النجف الأشرف: مطبعة الغري الحديثة، 1381 ه.، 81 ص، حجرية.

2143- مصباح الحرمين في تاريخ مكّة والمدينة ومناسكها

عبد الجبار بن زين العابدين الشكوني ت 1326 ه.

ظ:

معجم مصنفي الكتب العربية 243.

العرب. س 31: ج 7، 8 (221/ 1417 ه.) ص 466.

2144- المصادر العثمانية لتاريخ الجزيرة العربية

وليام ليو أوكسنوالد

في: الندوة العالميّة الاولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه./ 4/ 1977 م).

2145- مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام

منذر البكر

مجلة كلية الآداب (البصرة) س 5: ع 6 (1972 م) ص 1- 57.

2146- مصادر تاريخ الجزيرة العربية في وثائق دار السجلات الحكومية في بومباي

عبد الأمير محمّد الأمين

في: الندوة العالمية الاولى لدراسات

ص: 291

تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه.- 4/ 1977 م)

مصادر تاريخ الجزيرة العربية: ج 2 (1979 م) ص 185- 196.

2147- مصادر تاريخ الجزيرة العربية في المجلات المتخصصة

ميشال نبطي

في: الندوة العالمية الاولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه./ 4/ 1977 م).

2148- مصادر تاريخ الجزيرة العربية: عرض وتقديم لدراسات عالمين عراقيين

محمّد بهجت الأثري

في: الندوة العالمية الاولى لدراسات الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه./ 4/ 1977 م).

2149- مصادر الأخبار في العصر النبوي في المدينة

أحمد محمّد المزعنن

الرياض: جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلامية، المعهد العالي للدعوة الإسلامية، 1404 ه. (رسالة ماجستير).

2150- مشكاة الزائرين من كتاب المزار (بالفارسية)

ابراهيم بن أبي الحسن الحسيني

ظ:

الذريعة 21/ 57.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 99.

2151- مشعل المحمل (رسالة في سير الحج المصري من يوم خروجه من مصر الى يوم عودته)

محمّد صالح

القاهرة: مطبعة وادي النيل، 1298 ه.، 60 ص.

2152- مشروع الافادة من لحوم الهدي والأضاحي

البنك الإسلامي للتنمية

جدة: دار الفنون للطباعة والنشر، ط 1، 1404 ه ..

2153- المستشسار، أم القرى

محمّد البسنوسي

المنهل (جدة) حج 16: ج 1 (1- 2/ 1375 ه./ 8- 9/ 1955 م) ص 78- 80.

2154- مشاهدات من مكّة القديمة

ص: 292

ويوم التروية

عبد العزيز الرفاعي

المجلة العربية (الرياض) س 15: ع 170 (10/ 1991 م)، ص 39- 41، ع 171 (11/ 1991 م) ص 24- 26.

2155- المشاهدات المعصوميّة عند قبر خير البريّة في المدينة الطيبة

محمّد سلطان المعصومي الخجندي

القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى بابى الحلبي، ط 1، 1368 ه.- 1949 م، 48 ص.

2156- المشاهد المقدّسة في العراق

كاظم الدجيلي

ظ:

الذريعة 21/ 49.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 97.

2157- مشاهد العترة الطاهرة وأعيان الصحابة والتابعين

عبد الرزاق كمونة الحسيني (1324- 1390 ه.)

النجف الأشرف: مطبعة الآداب، 1387 ه./ 1968 م).

بيروت: مؤسسة البلاغ، 1988 م، 352 ص، افسيت على طبعة النجف (قدّم له ووضع فهارسه: محمّد سعيد الطريحي).

2158- مسيرة حيث سار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بين مكّة المكرّمة والمدينة المنورة

محمّد طنطاوي

العربي ع 158 (1/ 1972 م) ص 51.

2159- مسير الحرمين يا حالات الحرمين (بالفارسية)

رفيع الدين بن فريد الدين مراد آبادي هندي

منزوي ظ 3999.

2160- المسيحيون في مكّة في عصر الرسول صلى الله عليه و آله

محمّد خليفة التونسي

العربي: ع 199 (يونيو 1975 م) ص 48.

2161- مسودة تاريخ مكّة

[قال صاحب الاعلام: إنّ هذه المسودة تقع في جزأين في مجلد واحد وهي مجهولة المؤلف رآها ضمن كتب ارامكو بالقاهرة].

ص: 293

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه./ 10- 11/ 1989 م) ص 207.

2162- مسلك المحتاج إلى مناسك الحاج

علي بن موسى بن طاووس الحسيني العلي (589- 664 ه.)

ظ

الذريعة 21/ 22- 23، 22/ 276.

2163- المسح الإحصائي للأضاحي (تقرير مبدئي)

غازي عبد الواحد مكّي

جدة: جامعة الملك عبد العزيز، 140 ص.

2164- المسجد النبوي عبر التاريخ

محمّد أحمد الوكيل

جدة: دار المجتمع للنشر والتوزيع، ط 1، 1409 ه.، 215 ص.

2165- المسجد النبوي الشريف ومزارات أهل البيت

اسماعيل أحمد اسماعيل، والبنوي جبر سراج

القاهرة: دار الشعب، 1974 م، 240 ص.

2166- مسجد نبوى در گذر تاريخ (بالفارسية)

محمّد باقر حجتي

ميقات حج: ع 25 (پاييز 1377 س) ص 120- 137. ع 26 (زمستان 1377 ش) ص 148- 158.

2167- المسجد النبوي بعد التوسعة

الرابطة (مكّة المكرمة) س 26: ع 281 (7/ 1988 م) ص 9- 10.

2168- المسجد النبوي أول عمارة في الإسلام

عبد المجيد وافي

منار الإسلام س 4: ع 3 (3/ 1399 ه.

- 2/ 1979 م) ص 34- 58.

2169- مسجد المدينة وأثره في مساجد العراق

سليمة عبد الرسول

بغداد: جامعة بغداد، 1965 م، 250 ص (ماجستير).

2170- مسجد المدينة في حدائق الكتب الثمينة

رشيد بو روبية

ص: 294

في: الندوة العالميّة الاولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1398 ه./ 4/ 1977 م).

دراسات تاريخ الجزيرة العربية: ج 1 (1979 م) ص 183- 197.

2171- مسجد الرسول عليه السلام وداره

عبد الغني عبد اللَّه

الوعي الإسلامي س 12: ع 135 (1396 ه.) ص 45- 51.

2172- مسجد الحرام و كعبه (بالفارسيه)

كاظم مدير شانه چى

مشهد: ط 1، 1347 ش.

2173- المسجد الحرام في ضوء الكتاب والسنّة

محمّد فريد الدين راشد

مكّة المكرّمة: جامعة ام القرى، كليّة الشريعة (رسالة ماجستير).

2174- المسجد الأوّل في العالم الإسلامي: المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة

شريف يوسف

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 145 (1401 ه.) ص 42- 51.

2175- المستوطنات اليهوديّة على عهد الرسول صلى الله عليه و آله

أحمد علي المجدوب

القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1992 م، 187 ص

2176- المشارق المنيرة في ذكر بنى ظهيرة

ابن فهد القرشي، صاحب اتحاف الورى.

ظ المنهل (جدة)، مج 51، ع 475 (3- 4/ 1410 ه.)، ص 199

2177- مصباح الناسكين في أحكام الحجاج و المعتمرين

محمد ميرزا الخرسي

قم، ط 3، 1373 ش، 412 ص، 21 سم

2178- مصباح الناسكين و مشكاة الحجاج و المعتمرين (بالفارسية)

شهاب الدين المرعشي النجفي

قم، 1355 ش، 319 ص، 21 سم

2179- مصحف مكة المكرمة

محمد طاهر الكردي

المنهل (جدة) مج 10، ج 2 (2/ 1369 ه.

10/ 1949 م) ص 84- 87

2180- مصنع كسوة الكعبة المشرفة

ص: 295

(استطلاع)

جاسم علي الجاسم

تصوير: عبداللَّه يوسف الدبيس

القافلة، مج 40، ع 12 (12/ 1412 ه.

6/ 1992 م) ص 2- 8

2181- مطلوب الزائر (بالفارسية)

طبع بايران منضماً إلى «تحفة الزائر» في خمسة أبواب و فصول و خاتمة في الزيارات و الأدعية

ظ: الذريعة، 21: 158. معجم ما كتب عن الرّسول و أهل البيت، 10/ 106

2182- مطلوب الزائرين

(في الزيارات، بالفارسية)

جواد بن مجتبى الحسيني الموسوي الحائري المعروف بروضه خوان

طبع عام، 1261 ه.

2183- مطلوب الناسك من أحكام المناسك

زيد بن مبارك بن رشود

جدة، رئاسة هيئات الأمر بالمعروف، ط 1

2184- مظاهر التخفيف على العباد في الصلاة و الحج في الشريعة الاسلامية

سميرة بيومي

القاهره، دارالهدى للطباعة، 1986 م، 143 ص

2185- المظاهر الحضرية للمدينة المنورة في عصر النبوة

خليل إبراهيم السامرائي و ثاثر حامد محمد

الموصل- العراق، مكتبة بسام، 1405 ه.

2186- مع ابن السلام في رحلته:

في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

العرب، س 10، ج 1، 2 (8- 9/ 1975 م)

ص 44- 70

2187- مع الأستعداد لأداء الحج الوقاية خير من العلاج

التوحيد (طهران) س 9، ع 91 (7/ 1988 م)

ص 42- 43

2188- مع الرسول في حجة الوداع

عطية محمد سالم

المدينة المنورة، مكتبة دارالتراث، 1988 م، ص 112

2189- مع الرسول في حجة الوداع

ص: 296

علي حامد عبدالرحيم

الأزهر، س 63، ع 12 (6/ 1991 م)

ص 1354- 1357

2190- مع الرسول في المدنية المنورة

عبدالعزيز غنيم

القاهرة، دارالإعتصام للطبع و النشر، 1973، ص 132

2191- مع الفرزدق في مشاعر الحج

أحمد علي

المنهل (جدة)، مج 22، ج 12 (12/ 1381 ه. 5/ 1962 م) ص 833- 835

2192- معارف الحج و معالمه

عبدالصاحب الحسيني

بيروت، مطبعة دارالكتب، ط 1، 1387 ه. ص 408، سم 24

2193- معالم دارالهجرة

يوسف عبدالرزاق

المدينة المنورة، المكتبة العلمية، 1981 م، ص 306، سم 24

2194- معالم الدعوة الإسلامية في عهدها الملكي

خليفة حسين العال

القاهرة، دارالطباعة المحمدية، ط 1، 1988 م، ص 458

2195- المعالم العمرانية في مكة المكرمة في القرنين الأول و الثاني

صالح أحمد العلي

مجلة المجمع العلمي العراقي، مج 40، ج 2، (1989 م)

2196- معالم مكة التاريخية و الأثرية (معجم جغرافي)

عاتق بن غيث البلادي

مكةالمكرمة، دار مكة للنشر، 1400 ه. ص 388

مكةالمكرمة، دار مكة للنشر والتوزيع، ط 2، 1404 ه. ص 400، سم 21

2197- معالم الوحي أو الرحلة الحجازية المقدسة

محمد أحمد عساف

مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، مج 21، ص 71 (عبدالقادر المغربي)

2198- المعاني الانسانية في حج بيت اللَّه الحرام

أحمد عبدالستار الجواري

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 119- 120 (1398 ه.) ص 3- 4

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.