ميقات الحج المجلد17

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص: 1

لحجّ في احاديث الامام الخامنئي مدّظلّه العالي

ص: 2

العدد السابع عشر

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي مدّظلّه العالي

مرّة أخرى حلّ موسم الحجّ... مهوى قلوب المتديّنين، ونعيم الذاكرين، وفرصة الصالحين، وفي هذه الضيافة العامّة يشارك جمعٌ قَدِموا من كلّ فجّ عميق...

... الأمّة الإسلاميّة اليوم هدف لأنواع التهديد والإهانة. الاستكبار الهائج بقيادة النظام الأمريكي وبسمسرة واستثارة النظام الصهيوني، يستغلّ كلّ الاستغلال تفكّك العالم الإسلامي، وتفرّق الشعوب الإسلاميّة ...

حوادث سبتمبر في نيويورك، قد أصبحت ذريعةً لتزايد غطرسة البيت الأبيض، ولترتكب دولة الصهاينة جرائم في فلسطين لم يسبق لها نظير.

بعد العمليات المأساويّة، التي ارتكبتها أمريكا في أفغانستان، فإن الطبيعة العسكريّة الفظّة لحكومة أمريكا تعمد باستمرار إلى رفع وتيرة دفع الساحة العالميّة إلى حالة من اللاأمن، وإلى المجازر والحروب بحجّة مكافحة الإرهاب والدفاع عن السلام في الشرق الأوسط حيث تبدّل إلى ذريعة للبطش والعربدة الأمريكية، وغطاء للتوسّع والهيمنة على المصالح والمصادر الحياتيّة للشعوب...

إنّها لطعنة في قلب الحقيقة حين يُطلق اسم الدفاع عن السلام على قتل النساء والرجال والأطفال الفلسطينين، وهدم بيوتهم على رؤوسهم، وإخراجهم من وطن آبائهم وأجدادهم.

نداء الإمام

ص: 3

نداء الإمام

فقد قرّر اللَّه سبحانه أن سرّ الحجّ وبواعثه والغاية من الكعبة والبيت الحرام هي نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس والجماهير المستضعفة في العالم.

في هذا التجمّع الإلهي العظيم، الذي لا تستطيع أيّة قدرة سوى قدرة اللَّه تعالى على أن تعقده، يتوجّب على المسلمين أن يباشروا في دراسة مشاكل المسلمين العامّة، ويبذلوا جهودهم على طريق حلّها بالتشاور الشامل.

إحدى أكبر هذه المشاكل وأكثرها أهميّة عدم الوحدة بين المسلمين. ولم يتّخذ حتّى الآن مع الأسف اجراء ملموس لتغلّب عليها؛ بل أن الجناة الطامعين الذين يستغلون الخلافات بين الشعوب والحكومات لصالحهم، يشدّدون هذه الخلافات عن طريق عملائهم الضالّين. وكلّما وضع أساس للوحدة بين المسلمين هبّوا لمحاربته بكلّ قواهم، وعملوا على نثر بذور الخلاف.

مناسك الحج لصاحب المعالم (3)

ص: 4

ص: 5

مناسك الحج لصاحب المعالم (3)

تأليف: جمال الدين العاملي

تحقيق: هادي القبيسي

فصل: [في الإفاضة من عرفة إلى المشعر] (1)

وتجب الإفاضة من عرفة بعد غروب الشمس إلى المشعر.

ويستحب تأخير صلاة العشاءين إليه.

روى معاوية بن عمّار في الصحيح، قال: قال أبوعبداللَّه عليه السلام: «إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار، وأفض من حيث أفاض الناس، واستغفر اللَّه إنّ اللَّه غفور رحيم، فإذا انتهيت إلى الكثيب الأحمر عن يمين الطريق فقل: اللّهمّ ارحم موقفي وزد عملي وسلّم لي ديني وتقبّل مناسكي.

وإيّاك والوضف (2)، الذي يصنعه كثير من الناس، فإنّه بلغنا أن الحجّ ليس بوضف


1- 1 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
2- 2 قال المصنّف في منتقى الجمان 3: 352: قال في القاموس: وضف البعير: أسرع كأوضف... وسنورد الحديث في الحسان من طريق الكليني وفيه مكان الوضف الوجيف وهوبمعناه، وربّماكان أحدهما تصحيفاً للآخر، لكنّه غيرضار، قال في القاموس: و جف البعير أسرع كوحف، و في الصحاح: الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل. انتهى. وفي النهاية: الوجيف ضرب من السير السريع، وقال: الإيجاف سرعة السير وقد أوجف دابّته يوجفها إيجافاً إذا حثها. النهاية 5: 157، وجف.

ص: 6

الخيل ولا إيضاع، (1) الإبل- يعني الإسراع في السير- ولكن اتّقوا اللَّه وسيروا سيراً جميلًا، ولا توطئوا ضعيفاً، ولا توطئوا مسلماً، واقتصدوا في السير، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يقف بناقته حتّى يصيب رأسها مقدم الرحل. ويقول: يا أيّها النّاس عليكم بالدعة، فسنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تتبع.

قال معاوية بن عمّار وسمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول:

.... اللّهمَّ اعتقني من النار. يكرّرها حتّى أفاض الناس، قلت: ألا تفيض قد أفاض الناس؟ قال: إنّي أخاف الزحام وأخاف أن اشرك في عنت إنسان» (2).

وروى الكليني عن عبداللَّه بن سنان في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«يوكّل اللَّه عزّوجلّ ملكين بمأزمي عرفة، فيقولان: سلّم سلّم» (3).

وفي الصحيح عن سعيد الأعرج عنه عليه السلام، قال: «ملكان يفرجان للناس ليلة مزدلفة عند المأزمين الضيّقين» (4).

وروى محمّد بن مسلم في الصحيح، عن أحدهما عليهما السلام، قال: «لا تصلّي المغرب حتّى تأتي جمعاً، وإن ذهب ثلث اللّيل» (5).

وفي صحيح هشام بن الحكم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «لا بأس أن يصلّي الرجل المغرب، إذا أمسى بعرفة» (6).


1- 1 الإيضاع: الاسراع. وكان أهل الجاهليّة يفيضون بإيجاف الخيل وإيضاع الإبل، أي اسراعها. مجمع البحرين 4: 405، وضع.
2- 2 الوسائل 14: 5 باب 1 من أبواب الوقوف بالمشعر حديث 1. باب 2 من أبواب الوقوف بالمشعر حديث 1.
3- 3 الكافي 4: 468 باب الإفاضة من عرفات حديث 5.
4- 4 الوسائل 14: 7 باب 2 من أبواب الوقوف بالمشعر حديث 2.
5- 5 الوسائل 14: 12 باب 5 من أبواب الوقوف بالمشعر حديث 1.
6- 6 المصدر السابق حديث 3.

ص: 7

وروى الشيخ في الصحيح عن ربعي بن عبداللَّه، عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «عثر محمل أبي بين عرفة والمزدلفة، فنزل فصلّى المغرب، وصلّى العشاء بالمزدلفة» (1).

وروى أبان بن تغلب في الصحيح، قال: «صلّيت خلف أبي عبداللَّه عليه السلام المغرب بالمزدلفة، فقام فصلّى المغرب، ثمّ صلّى العشاء الآخرة، ولم يركع فيما بينهما، ثمّ صلّيت خلفه بعد ذلك بسنّة، فلمّا صلّى المغرب، قام فتنفّل بأربع ركعات» (2).

وفي صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «صلاة المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامتين، ولا تصلّ بينهما شيئاً، وقال: هكذا صلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله» (3).

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح، أنّ «حدّ المشعر من المأزمين إلى الحياض وإلى وادي محسّر، قال: وإنّما سمّيت المزدلفة، لأنّهم ازدلفوا إليها من عرفات» (4).

وفي صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إنّ حدّ المزدلفة ما بين المأزمين إلى الجبل إلى حياض محسّر» (5).

وروى الكليني في الحسن، عن معاوية بن عمّار والحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «لا تصلّ المغرب حتّى تأتي جمعاً، فتصلّي بها المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين. وانزل ببطن الوادي، عن يمين الطريق قريباً من المشعر.

ويستحبّ للصرورة أن يقف على المشعر الحرام ويطأه برجله، ولا يجاوز الحياض ليلة المزدلفة، ويقول: «اللّهمَّ هذه جمع، اللّهمّ إنّي أسألك أن تجمع لي


1- 1 التهذيب 5: 189، باب نزل المزدلفة، حديث 5، الوسائل 14: 12 باب 5 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 4.
2- 2 الوسائل 14: 15 باب 6 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 5.
3- 3 المصدر السابق، حديث 3.
4- 4 الوسائل 14: 17 باب 8 من أبواب الوقوف بالمشعر حديث 1.
5- 5 المصدر السابق، حديث 2.

ص: 8

فيها جوامع الخير، اللّهمّ لا تؤيسني من الخير الذي سألتك أن تجمعه لي في قلبي، وأطلب إليك أن تعرّفني ما عرّفت أولياءَك في منزلي هذا، وأن تقيني جوامع الشرّ». وإن استطعت أن تحيي تلك الليلة، فافعل فإنّه بلغنا أنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين، لهم دويّ كدويّ النحل، يقول اللَّه عزّ ثناؤه:

أنا ربّكم وأنتم عبادي أدّيتم حقّي، وحقّ عَليّ أن أستجيب لكم. فيحطّ تلك الليلة عمّن أراد أن يحطّ عنه ذنوبه، ويغفر لمن أراد أن يغفر له (1).

ولايخفى أنّ المقصود من المشعر في هذا الحديث خلاف ما قصد به أوّلًا. وكلام الأصحاب في تعيينه مختلف. وربّما يرجح كونه في موضع البناء الموجود هنالك الآن.

[في المبيت بالمشعر] (2) واعلم أنّ المبيت بالمشعر بقيّة الليلة واجب في الحجّ كما عرف سابقاً، فيراعي النيّة وقت وصوله إليه، فإذا طلع الفجر وجب الوقوف به بمعنى الكون كما مرّ في الوقوف بعرفة، فيستحضر النيّة عند طلوع الفجر. والمشهور تحديد منتهى (3) الوقوف بطلوع الشمس.

وروى معاوية بن عمّار في الحسن، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «أصبِحْ على طهر بعدما تصلّي الفجر، وقف إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيثُ تبيت (4)، فإذا وقفت فاحمد اللَّه عزّوجلّ، واثنِ عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلِّ على النبيّ صلى الله عليه و آله، وليكن من قولك: «اللّهمَّ ربّ المشعر الحرام فكّ رقبتي من النار، وأوسع عليَّ من رزقك الحلال، وادرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والإنس،


1- 1 الكافي 4: 468، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر، حديث 1. إلّاأنّ السند هكذا: عن معاوية بن عمّار وحمّاد، عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام..
2- 2 ما بين المعقوفين من هامش ن.
3- 3 في ن: «تجديد النيّة فينتهي».
4- 4 في المصدر حيث شئت.

ص: 9

اللّهمَّ أنت خير مطلوب إليه، وخير مدعوٍّ وخير مسؤول، ولكلّ وافد جائزة، فاجعل جائزتي في موقفي هذا، أن تقيلني عثرتي، وتقبل معذرتي، وأن تجاوز عن خطيئتي، ثمّ اجعل التقوى من الدُّنيا زادي». ثمّ أفض حيث يشرق لك ثبير وترى الإبل مواضع أخفافها» (1).

وفي صحيح معاوية بن عمّار عنه عليه السلام، المتضمّن لبيان حجّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أنّه أقام بالمزدلفة حتّى صلّى فيها الفجر، وعجّل ضعفاء بني هاشم بالليل، فلمّا أضاء له النهار أفاض» (2).

وروى هشام بن الحكم في الحسن عنه عليه السلام قال: «لاتجاوز وادي محسّر حتّى تطلع الشمس» (3). أورده الكليني في باب الوقوف بالمشعر والإفاضة منه (4).

ويستحبّ التقاط الحصى لرمي الجمار من المشعر: فيأخذ منها مقدار الحاجة وهو سبعون حصاة، ولا بأس بالزيادة عنه؛ لاحتمال سقوط بعضها، أو عدم إصابتها حال الرمي.

وفي حسنة هشام بن الحكم عنه عليه السلام في حصاء الجمار قال: «كره الصمّ منها وقال: خذ البرش» (5).

وفي حسنتي معاوية بن عمّار وربعيّ، عنه عليه السلام، قال: «خذ حصى الجمار من جمع، وإن أخذته من رحلك بمنى أجزأك» (6).

وفي حسنة زرارة عنه عليه السلام، قال: حصى الجمار إن أخذته من الحرم أجزأك،


1- 1 الوسائل 14: 20 باب 11 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1.
2- 2 الكافي 4: 247 باب حجّ النبي صلى الله عليه و آله حديث 4.
3- 3 الوسائل 14: 25 باب 15 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 2.
4- 4 الكافي 4: 470 باب الوقوف بالمشعر والإفاضة منه، حديث 6.
5- 5 الوسائل 14: 33 باب 20 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1.
6- 6 الوسائل 14: 31 باب 18 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1.

ص: 10

وإن أخذته من غير الحرم لم يجزئك. قال: وقال: لا ترم الجمار إلّابالحصى» (1) وإذا أفاض من المشعر وبلغ وادي محسر، استحبّ له الإسراع فيه، والدعاء حالته.

روى ذلك معاوية بن عمّار في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا مررت بوادي محسر- وهو وادي عظيم بين جمع ومنى، وهو إلى منى أقرب- فاسع فيه حتّى تجاوزه، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حرّك ناقته فيه، وقال: «اللّهمّ سلّم عهدي، واقبل توبتي وأجب دعوتي، واخلفني بخير فيمن تركت بعدي» (2).

وروى محمّد بن إسماعيل بن بزيع في الصحيح، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«الحركة في وادي محسّر مائة خطوة» (3).

فصل: [في الوقوف بالمشعرين] (4)

واعلم أنّ للوقوفين أحكاماً مختلفة بحسب اختلاف حال الناسكين.

بالاختيار والعذر، ومن جهة صحّة الحجّ، بتقدير الإخلال ببعض الواجب منهما وعدمها، وتفصيل القول في ذلك، أنّ ما تقدّم بيانه من التوقيت في الوقوفين معاً وهو وقت المختار. ويجوز لذوي الأعذار والنساء الاقتصار في الوقوف بالمشعر على الليل، والإفاضة إلى منى قبل طلوع الفجر.

روى هشام بن سالم في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّه قال- في التقدّم من منى إلى عرفات قبل طلوع الشمس-: «لا بأس به». والتقدّم من مزدلفة إلى منى يرمون الجمار، ويصلّون الفجر في منازلهم «لا بأس» (5).

وحمل على العذر في حقّ الرجال لما مرّ في صحيح معاوية بن عمّار من حكاية


1- 1 الوسائل 14: 32 باب 19 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1.
2- 2 الوسائل 14: 22 باب 13 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1.
3- 3 المصدر السابق ص 23 حديث 3.
4- 4 ما بين المعقوفين زياد من ن.
5- 5 الوسائل 14: 30 باب 17 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 8.

ص: 11

فعل النبي صلى الله عليه و آله وتعجيله لضعفاء بني هاشم. وترك على عمومه في النساء، للتصريح بالإذن لهنّ في التقدّم فيما رواه الكليني، عن سعيد الأعرج، في الصحيح المشهور.

قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك معنا نساء، فأفيض بهنّ بليل؟

قال: «نعم تريد أن تصنع كما صنع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ قلت: نعم، فقال: أفض بهنّ بليل، ولا تفض بهنّ حتّى تقف بهنّ بجمع- وساق الحديث إلى أن قال:- وقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أرسل معهنّ اسامة» (1).

والمشهور بين الأصحاب صحّة حجّ المفيض ليلًا من غير عذر، وإن أتمّ مع التعمّد، لكن يجب عليه في صورة العمد شاة، ومع النسيان لا شي ء عليه، وفي الجاهل قولان (2).

وبحكم العامد وعدم وجوب شي ء على الجاهل حديث من الحسن لمَسْمع، عن أبي إبراهيم عليه السلام (3). ولعلّ النسيان داخل في العذر. ثمّ إنّ القدر (4) المعتبر في صحّة الحجّ من الوقوفين للمختار، هو مسمّى الكون فيما بين زوال الشمس وغروبها في عرفة، وما بين طلوع الفجر والشمس في المشعر، وباقي الكون واجب لا غير؛ وإن وجبت البدنة على المفيض من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ووقت المضطرّ في عرفة ليلة النحر. وفي المشعر ما بين طلوع الشمس وزوالها يوم النحر. ولا ريب في إجزاء الاضطراري لأحدهما مع اختياري الآخر، وفي إجزاء اختياري المشعر وحده، كما لا ريب في عدم إجزاء اضطراري عرفة وحده.


1- 1 الوسائل 14: 28 باب 17 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 2.
2- 2 أحدهما إلحاقه بالعامد فيجب عليه شاة وهو قول الشهيد في المسالك 2: 286، والآخر إلحاقه بالناسي فلا شي ء عليه وهو ما احتمله بعض الناس، كذا عبّر عنهم في الجواهر 19: 79.
3- 3 الوسائل 14: 27 باب 16 من أبواب الوقوف بالمشعر، حديث 1. «في رجل وقف مع الناس بجمع ثمّ أفاض قبل أن يفيض الناس، قال: إن كان جاهلًا فلا شي ء عليه، وإن كان أفاض قبل طلوع الفجر فعليه دم شاة».
4- 4 في ن و م: العذر بدل القدر.

ص: 12

وأمّا سائر الأقسام، وهي اختياري عرفة وحده، واضطراري المشعر وحده، والاضطراريان.

والمشهور في الأوّل بحيث لا يعرف فيه خلاف، إلّامن العلّامة في المنتهى أنّه غير مجزي، ومختاره في المختلف (1) الإجزاء، وهو متأخّر عن المنتهى، فيكون رجوعاً إلى الموافقة. لكن الشأن في تحقّق الإجماع بهذا القدر؛ ليكون دليلًا على الحكم، إذ (2) الأمر منحصر فيه؛ وكأنّ فتوى العلّامة في المنتهى بعدم الإجزاء ينافيه. وللأصحاب في حكم الثاني اختلاف، منشؤُه إطلاق (3) ظاهر الأخبار فيه.

والأظهر عندي: عدم إجزائه، وقد حقّقنا وجهه في المنتقى (4)، ومثله القول في الثالث، فإنّ الخلاف فيه واقع. وبالإجزاء حديث من مشهوري الصحيح واضح الدلالة، إلّاأنّ الاعتماد على مثله في حكمٍ مخالف للأصل مشكل.

فصل: [في مناسك منى يوم النحر] (5)

إذا وصل المتمتّع إلى منى، أخذ في أداء مناسكها يوم النحر، وهي ثلاثة مترتّبة:

أوّلها: رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بسبع حصيات حرميّة أبكار، ناوياً له في أوّله كغيره بصورة ما سلف، مصيباً للجمرة في كلّ حصاة.

ويستحبّ فيه الطهارة من الحدث، وقيل: يجب (6)، فمراعاتها أحوط، والمشي إليه مع عدم العذر. واستدبار القبلة. ومقابلة الجمرة. والتباعد عنها بعشرة أذرع


1- 1 المختلف 4: 251.
2- 2 في ص: «إذاً».
3- 3 في م و ن: «اختلاف» بدل «إطلاق».
4- 4 منتقى الجمان 3: 356.
5- 5 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
6- 6 والقائل: المفيد والسيّد المرتضى، كما عنهما في المدارك 8: 10.

ص: 13

إلى خمسة عشر.

والرمي خذفاً. ويُعزى إلى جماعة من الأصحاب إيجابُه (1)، واختلفوا في كيفيّته، فقيل (2): إنّ الحصاة توضع فيه على ظهر الإبهام. وقيل: على بطنها والدفع بالسبّابة في قول (3)، وبالوسطى في آخر (4).

روى الكليني بإسناد غير نقي، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن [الرضا عليه السلام] (5) قال: «حصى الجمار يكون مثل الأنملة، ولا تأخذها سوداء ولا بيضاء ولا حمراء، خذها كحلية منقّطة. تخذفهن خذفاً وتضعها على الإبهام وتدفعها بظفر السبّابة» (6). الحديث. وموافقة الرواية أولى.

وروى معاوية بن عمّار في الحسن، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «خذ حصى الجمار، ثمّ ائت الجمرة القصوى التي عند العقبة، فارمها من قبل وجهها، ولا ترمها من أعلاها، وتقول والحصى في يدك: «اللّهمَّ هؤلاء حصياتي، فاحصهنّ لي وارفعهنّ في عملي». ثمّ ترمي وتقول مع كلّ حصاة: « [اللَّه أكبر] اللّهمَّ ادحر عنّي الشيطان، اللّهمّ تصديقاً بكتابك وعلى سنّة رسولك صلى الله عليه و آله اللّهمَّ اجعله حجّاً مبروراً، وعملًا مقبولًا، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً». وليكن فيما بينك وبين الجمرة قدر عشرة أذرع أو خمسة عشر ذراعاً. فإذا أتيت رحلك، ورجعت من الرمي فقل: اللّهمَّ بك وثقت، وعليك توكّلت، فنعم الرّب، ونعم المولى، ونِعم النصير؛ قال: ويستحبّ أن ترمي الجمار على طهر» (7).


1- 1 منهم السيّد المرتضى وابن إدريس كما عنهما في المدارك 8: 11.
2- 2 والقائل أبو الصلاح كما عنه في المدارك 8: 12.
3- 3 لابن البراج، المصدر السابق.
4- 4 للسيّد المرتضى، المصدر السابق.
5- 5 ما بين المعقوفين لم ترد في ن.
6- 6 الكافي 4: 478 باب حصى الجمار ومن أين تؤخذ، حديث 7.
7- 7 الوسائل 14: 58 باب 3 من أبواب رمي جمرة العقبة، حديث 1.

ص: 14

وفي خبر من الصحيح المشهوري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قلت: ما أقول إذا رميت؟ قال: «كبّر مع كلّ حصاة» (1).

وثانيها: ذبح الهدي، وأقلّ الهدي الواجب على المتمتّع شاة، وأوسطه بقرة، وأفضله بدنة، ويجزي في الشاة الجذع من الضأن لا المعز، فيعتبر في الهدي منه أن يكون ثنياً، وكذا البقر والإبل والمعروف في كلام الأصحاب أنّ الجذع من الضأن ما له سبعة أشهر أو ستّة (2) على اختلاف الرأيين فيه. وأنّ الثني من الغنم والبقر ما دخل في الثانية.

والمشهور في كلام أهل اللغة (3) أنّ ولد الضأن في أوّل سنة حمل، ثمّ يكون في الثانية جذعاً، وفي الثالثة ثنيّاً.

والمعز في أوّل سنة جدي، وفيمابعدها كولد الضأن، فلا يصير ثنيّاً إلّافي الثالثة.

وكذا البقر، وهذا الخلاف يُثمر نوع إشكال؛ لعدم تحقّق الإجماع من الأصحاب؛ ليكون هو الحجّة في عدم الالتفات إلى كلام أهل اللغة. وحيث إنّ الاحتياط في ذلك سهل، فلا ينبغي أن يعدل عنه.

وأمّا الإبل، فكلام الكلّ متّفق على أنّ الثني منها ما دخل في السادسة.

ويعتبر في الهدي أن يكون تامّ الخلقة، غير مهزول.

ويستحبّ كونه من إناث الإبل والبقر، وفحول الغنم، وأن يكون ممّا عرّفَ به. ويكفي فيه إخبار البائع.

ثمّ إنْ تولّى الذبح بنفسه نواه بصورة ما مرّ. وإن استناب فيه، فالأولى أن


1- 1 الوسائل 14: 67 باب 11 من أبواب رمي جمرة العقبة، حديث 1.
2- 2 ذهب إلى الستّة العلّامة في التذكرة والمنتهى، وإلى السبعة المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان، كماعنهما في المدارك 8/ 30.
3- 3 انظر الصحاح للجوهري 4: هامش ص 1708، وتاج العروس 7: 342، ولسان العرب 11: 280.

ص: 15

ينوياه معاً، ولو انفرد بها النائب، فالظاهر الإجزاء، وفي المستنيب نظر (1).

وروى معاوية بن عمّار، في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا اشتريت هديك، فاستقبل به القبلة وانحره أو اذبحه، وقل: «وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي للَّه ربّ العالمين، لا شريك له، وبذلك امرت وأنا من المسلمين، اللّهمَّ منك ولك، بسم اللَّه واللَّه أكبر، اللّهمَّ تقبّل منّي. ثمّ أمرّ السكّين» (2)

الحديث.

ويجب بعد ذبح الهدي الأكل منه، والإطعام. أمّا الأكل فيكفي فيه مسمّاه، وإن كان الأكمل التأسّي فيه بفعل النبيّ صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام.

فقد روي في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام «أنّهما لمّا نحرا بدنهما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يؤخذ من كلّ بدنة منها جذوة من لحم، ثمّ يوضع في برمة (3) ثمّ يطبخ، فأكل منها هو وعليّ صلوات اللَّه عليهما، وحسيا من مرقها» (4).

وأمّا الإطعام، فأقوال الأصحاب فيه مختلفة، ومداركها مضطربة.

والذي يقوى في نفسي أنّه إن وجد القانع والمعتر، وجب إطعامهما ما يناسب حالهما.

وقد اختلف في معناهما جمهور أهل اللغة على أنّ القانع السائل، والمعتر


1- 1 اشتهر في كلام الأصحاب استحباب جعل يد المستنيب مع يد النائب في الذبح، والذي في بعض الأخبار الحسنة أنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام كان يجعل السكّين في يد الصبيّ ثمّ يقبض الرجل على يد الصبيّ فيذبح، وبه استدلّ على الحكم بعض المتأخّرين ولا دلالة فيه على مدّعاهم. «منه رحمه اللَّه»
2- 2 الوسائل 14: 152 باب 37 من أبواب الذبح، حديث 1.
3- 3 البرمة: القِدْرُ من الحجر. المصباح: 45 برم.
4- 4 الوسائل 14: 162 باب 40 من أبواب الذبح، حديث 11.

ص: 16

المتعرّض للعطيّة من غير أن يسأل (1).

وفي خبر من مشهوري الصحيح: «أنّ القانع هو الذي يقنع بما أرسلت إليه من البضعة فما فوقها، والمعتر ينبغي له أكثر من ذلك هو أغنى من القانع، يعتريك فلايسألك» (2). وهذا ينافي اعتبار السؤال في معنى القانع؛ ويناسب ما ذهب إليه بعض الأصحاب (3) من وجوب إهداء بعض الهدي، لكنّه غير ناهض بإثبات الحكم. فالظاهر ترجيح مراعاة السؤال.

وإن لم يوجد قانع ولا معتر، وجب إطعام الفقير ما يصدق معه الاسم عُرفاً.

ويستحبّ صرف ثلثي الهدي إلى القانع والمعتر والمساكين، ولو احتاط بإهداء الثلث إلى من لا يسأل من الفقراء، والصدقة بالثلث الآخر خروجاً من خلاف الموجب لذلك كان أكمل، لكن مع مراعاة صدق إطعام القانع والمعتر، بتقدير وجودهما. ولا يعتبر في السائل الإيمان على الأظهر.

وإذا لم يجد المتمتّع هدياً أو لم يقدر على ثمنه، وجب عليه أن يصوم بدله ثلاثة أيّام متوالية في ذي الحجّة، وسبعة إذا رجع إلى أهله. وإن جاور أخّر صومها مقدار مسيره إلى أهله أو شهراً، ثمّ يصومها. ويتأكّد في صوم الثلاثة استحباب كونها يوماً قبل التروية ويوم التروية ويوم عرفة، فإن فاته ذلك فليصمها بعد انقضاء أيّام التشريق في مقامه بمكّة. وإن لم يقم ففي الطريق أو في أهله.

وثالثها: حلق الرأس أو التقصير بنحو ما مرّ في العمرة مخيّراً بينهما، والحلق أفضل وخصوصاً للصرورة، بل حتّم الشيخ (4) عليه الحلق وليس


1- 1 المصباح: 517، لسان العرب 8: 297، قنع.
2- 2 الوسائل 14: 160 باب 40 من أبواب الذبح، حديث 3.
3- 3 منهم ابن إدريس في السرائر، والشهيدان في الدروس والمسالك، واستقربه العلّامة في المختلف كما عنهمافي المدارك 8: 43.
4- 4 النهاية: 262. وهو مذهب المفيد كما في المقنعة: 419.

ص: 17

بواضح (1). ويتعيّن التقصير على المرأة، والحلق على من عقص شعره أو لبّده، بأن جعل فيه شيئاً من الصمغ؛ لئلا يشعث في الإحرام؛ ولا يختصّ ذلك بالحجّ، بل يتعيّن في الإحلال من العمرة، وإن كانت تمتّعاً على الأظهر، وفاقاً للمفيد (2)، وظاهر الشيخ في التهذيب (3). فإذا أراد الحلق أمر الحلّاق بوضع الموسى على قرنه الأيمن استحباباً، ونوى الحلق بصورة ما مرّ، ثمّ يأمره أن يحلق، ويسمّي هو ويدعو استحباباً أيضاً، فيقول: «اللّهمَّ أعطني بكلّ شعرة نوراً يوم القيامة» ويستحبّ دفن الشعر بمنى.

ويجب على من خرج من منى قبل الحلق أو التقصير، أن يعود إليها فيحلق بها أو يقصّر، وإن تعذّر عليه الرجوع حلق أو قصّر مكانه، وبعث بالشعر إلى منى وجوباً على الأحوط.

واعلم أنّ الترتيب بين المناسك الثلاثة على الوجه الذي ذكرناه مع كونه واجباً على الأظهر، لا حرج في خلافه مع الجهل أو النسيان، والظاهر اختصاص أثره مع التعمّد بالإثم.

ثمّ إنّه بالحلق أو التقصير الواقع بعد النسكين الآخرين، يتحلّل من جميع ما حرّم عليه بالإحرام سوى الطيب والنساء والصيد. فيتوقّف الأوّل على طواف الحجّ وسعيه، والآخران على طواف النساء.


1- 1 أقول: ولست أدري عدم وضوحه بعد بيانه لمدرك هذا الحكم في التهذيب 5: 243، حديث 821، في صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ينبغي للصرورة أن يحلق، وإن كان قد حجّ فإن شاء قصر وإن شاء حلق. وكذا ما رواه عن بكر بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ليس للصرورة أن يقصر. حديث 820، وما رواه الكليني بإسناده إلى أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: على الصرورة أن يحلق رأسه ولا يقصر إنّما التقصير لمن حجّ حجّة الإسلام. حديث 819.
2- 2 لم نعثر عليه، وقد نسبه إليه المصنّف في المنتقى.
3- 3 التهذيب 5: 160، باب الخروج إلى الصفا، ذيل حديث 57، بل وصريحه في النهاية: 262.

ص: 18

ويستحبّ له ترك تغطية الرأس، ولبس الثياب، واستعمال الطيب حتّى يفرغ من مناسكه كلّها.

فصل:

وينبغي للمتمتِّع أن يزور البيت للطواف والسعي يوم النحر، أو من الغد، ولا بأس بالتأخير إلى النفر، إلّاأنّ التعجيل أفضل. وصار بعض الأصحاب إلى منعه من التأخير عن الغد، وليس بمعتمد. وإنّما يظهر أثره في حصول الإثم؛ للاتّفاق على صحّة الطواف والسعي طول ذي الحجّة.

ويستحبّ الغسل للزيارة والدُّعاء عند الانتهاء إلى باب المسجد. بما رواه معاوية بن عمّار في الحسن، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في زيارة البيت يوم النحر، قال:

«زره فإن شغلت، فلا يضرّك أن تزور البيت من الغد، ولا تؤخّره أن تزور من يومك، فإنّه يكره للمتمتِّع أن يؤخّره، وموسع للمفرد. فإذا أتيت البيت يوم النحر، فقمت على باب المسجد، قلت: «اللّهمَّ أعنّي على نسكك، وسلّمني له وسلّمه لي، أسألك مسألة العليل الذليل المعترف بذنبه، أن تغفر لي ذنوبي، وأن ترجعني بحاجتي، اللّهمَّ إنّي عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، متّبعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة المضطرّ إليك، المطيع لأمرك، المشفق من عذابك، الخائف لعقوبتك، أن تبلغني عفوك، وتجيرني من النّار برحمتك». ثمّ تأتي الحجر الأسود فتستلمه وتقبّله، فإن لم تستطع فاستلمه بيدك، وقبّل يدك، فإن لم تستطع فاستقبله وكبّر، وقل كما قلت حين طفت بالبيت يوم قدمت مكّة، ثمّ طف بالبيت سبعة أشواط كما وصفت لك يوم قدمت مكّة، ثمّ صلِّ عند مقام إبراهيم عليه السلام ركعتين: تقرأ فيهما ب قل هو اللَّه أحد وقل يا أيّها الكافرون، ثمّ ارجع إلى الحجر الأسود فقبّله إن استطعت، واستقبله وكبّر، ثمّ اخرج إلى الصّفا، فاصعد عليه، واصنع كما صنعت يوم دخلت مكّة، ثمّ ائت المروة فاصعد عليها، وطف بينهما سبعة أشواط، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة،

ص: 19

فإذا فعلت ذلك، فقد أحللت من كلّ شي ء أحرمت منه إلّاالنساء، ثمّ ارجع إلى البيت وطف به اسبوعاً آخر، ثمّ تصلّي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام، ثمّ قد أحللت من كلّ شي ء، وفرغت من حجّك كلّه، وكلّ شي ء أحرمت منه» (1).

وهذا الحديث وافٍ ببيان أفعال الزيارة، مع التنبيه على مشاركة الطوافين والسعي لطواف العمرة في الأحكام التي سلف تحريرها، ولا يحتاج إلى إعادة القول في تفصيلها، بل يراجع ما لم يحفظ منها هناك، كما تلاحظ نيّات هذه الأفعال في محلّها إن دعت الحاجة إليها (2).

وإذا فرغ من الطواف والسعي، وجب عليه العود إلى منى ليبيت بها ليالي التشريق الثلاث، ويرمي في أيّامها الجمرات الثلاث. ويجوز- إن اتّقى الصيد والنساء في إحرامه على المشهور (3) بين الأصحاب- ترك مبيت الثالثة، إلّاأن تغرب الشمس وهو بمنى، فيتعيّن عليه مبيتها. ورمي اليوم الثالث تابع لمبيت ليلته.

ولكلّ من المبيت والرمي أحكام نوضحها:

أمّا المبيت: فينبغي استحضار نيّته في كلّ ليلة عند الغروب على الوجه الذي مرّ في بحث النيّة. والواجب منه هو الكون بها إلى أن ينتصف الليل، ولا بأس بالخروج منها بعده. ولو بات بغيرها كان عليه عن كلّ ليلة شاة. ويستثنى من ذلك ما إذا كان قد زار البيت نهاراً فيشغله نسكه عن الرجوع قبل الليل، بل الظاهر جواز الخروج للزيارة، وقضاء النسك وإن دخل الليل، لكنّه يقتصر على مقدار الإتيان بالطواف والسعي. ويبادر إذا فرغ منها ليلًا بالعود إلى منى. والأفضل تحرّي بلوغها قبل الانتصاف، فإن لم يتّفق فقبل الفجر، ويتعيّن عليه الخروج من


1- 1 الكافي 4: 511، باب الغسل والزيارة فيها، حديث 4، وأورد بعضه في الوسائل 14: 249، باب 4 من أبواب زيارة البيت، حديث 1.
2- 2 كما مرّ سابقاً في العدد 15: 395 من هذه المجلّة.
3- 3 انظر التذكرة 8: 356، وكشف الرموز 1: 385، والشرائع 1: 205، والدروس 1: 458، والمدارك 8: 229.

ص: 20

مكّة حينئذٍ، بحيث يجوز البيوت وعقبة المَدنيّين قبل طلوع الفجر، وإن نام قبل أن يأتي بمنى إلى أن يصبح. ولو لم يفرغ من الطواف والسعي حتّى طلع الفجر، لم يكن عليه شي ء.

وأمّا الرمي: فقد مضى طرف من أحكامه في الكلام على رمي جمرة العقبة؛ لاشتراك الكلّ في تلك الأحكام، سوى استدبار القبلة ومقابلة الجمرة، فإنّه مختصّ بجمرة العقبة، وسيعلم حكم غيرها في بيان بقيّة الأحكام. وهي امور:

منها: مراعاة وقت الرمي، وفيه خلاف بين الأصحاب (1)، والأقوى أنّه ما بين طلوع الشمس إلى غروبها، وإن كان التأخير به إلى ارتفاع النهار أفضل، وإلى الزوال أكمل، إلّافي اليوم الثالث، فيقدم على الزوال؛ لأنّ النفر فيه قبله كما سيأتي بيانه. ويجوز للخائف الرمي بالليل. ومن فاته الرمي يوماً لعارض، قضاه في اليوم الذي بعده مقدّماً على رمي ذلك اليوم.

ويستحبّ التفريق بينهما، فيأتي بالقضاء بكرة، وبالآخر عند زوال الشمس، ولو جهل أن يرمي حتّى نفر إلى مكّة. فالمروي في الصحيح: «أنّه يرجع فيرمي الجمار كما كانت تُرمى» (2).

وفي حسنة معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: رجل نسي أن يرمي الجمار حتّى أتى مكّة، قال: «يرجع فيرميها، يفصل بين كلّ رميتين بساعة» (3).

والمعروف بين الأصحاب تقييد الحكم في الموضعين بعدم انقضاء أيّام


1- 1 فذهب الشيخ في النهاية والمبسوط والسيّد المرتضى في جمل العلم والعمل وأبو الصلاح الحلبي وابن الجنيدوغيرهم إلى ما اختاره المصنّف، وذهب إلى خلافه الشيخ في الخلاف وهو مختار ابن زهرة في الغنية، كما عنهم في المدارك 8: 230.
2- 2 الوسائل 14: 261، باب 3 من أبواب العود إلى منى، حديث 1.
3- 3 المصدر السابق حديث 2.

ص: 21

التشريق، وإلّا أخّر القضاء إلى القابل، فإن تعذّر عليه استناب. والخبران مطلقان كما رأيت، ومستند التقييد حديث غير نقي الطريق (1). وحيث إنّ الاحتياط في مثله مطلوب، فينبغي إيثار ما يقتضيه.

ومنها: جواز الاستنابة في الرمي لمن لا يستطيعه، كالمريض المغلوب، والكبير والمبطون، بل في صحيح رفاعة بن موسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنّه سأله عن رجل اغمي عليه، فقال: «يُرمى عنه الجمار» (2). وهو يدلّ على إجزاء رمي المتبرّع في صورة الإغماء، وإن لم يستنبه من به العذر، إلّاأن يُحمل على حصول الإفاقة، والخوف من عود الإغماء بالسعي إلى الرمي، فيجزيه الاستنابة، لكنّه بعيد.

ومنها: وجوب الترتيب في الرمي بين الجمرات الثلاث، فيبدأ بالأولى، ثمّ الوسطى، ثمّ جمرة العقبة، فلو نكس أعاد على الوسطى، وجمرة العقبة. ويكفي في حصول الترتيب إذا اتفق نقصان بعض حصيّات الجمرة نسياناً أو جهلًا رميها بأربع. فيكمل الناقصة فقط، ولا يعيد ما بعدها، ولو كان الرمي بما دون الأربع، أعاد الناقصة وما بعدها.

ومنها: استحباب استقبال القبلة في رمي الجمرة الاولى والثانية ورميها عن يساريهما ويمين الرامي، والوقوف عندهما والدُّعاء.

روى الكليني في الصحيح، عن صفوان بن يحيى، عن يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الجمار، فقال: «قم عند الجمرتين، ولا تقم عند جمرة


1- 1 وهو ما رواه الشيخ بإسناده إلى عمر بن يزيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من أغفل رمي الجمار أو بعضها حتى تمضي أيّام التشريق فعليه أن يرميها من قابل، فإن لم يحج رمى عنه وليّه، فإن لم يكن له ولي استعان برجل من المسلمين يرمي عنه، فإنّه لا يكون رمي الجمار إلّايوم التشريق. التهذيب 5: 264، باب الرجوع إلى منى ورمي الجمار، حديث 13. الوسائل، المصدر السابق، حديث 4.
2- 2 الوسائل 14: 76 باب 17 من أبواب رمي جمرة العقبة، حديث 5.

ص: 22

العقبة». قلت: هذا من السنّة؟ قال: «نعم». قلت: ما أقول إذا رميت؟ قال: «كبّر مع كلّ حصاة» (1).

وفي حسنة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «ارم في كلّ يوم عند زوال الشمس، وقل كما قلت يوم النحر حين رميت جمرة العقبة. فابدأ بالجمرة الأولى، فارمها عن يسارها في بطن المسيل، قم عن يسار الطريق فاستقبل القبلة، واحمد اللَّه واثن عليه، وصلِّ على النبيّ صلى الله عليه و آله، ثمّ تقدّم قليلًا فتدعو وتسأله أن يتقبّل منك، ثمّ تقدّم أيضاً ثمّ افعل ذلك عند الثانية، واصنع كما صنعت بالاولى، وتقف وتدعو اللَّه كما دعوت. ثمّ تمضي إلى الثالثة، وعليك السكينة والوقار، فارم، ولا تقف عندها» (2).

واعلم أنّ في كيفيّة الوقوف عند الجمرتين الأوليتين نوع اشتباه.

وتلخيص القول في بيانها: أنّ الطريق الذي هو بطن المسيل آخذ نحو القبلة وهو وإن كان متّسعاً. والجمرتان وخصوصاً الاولى في وسطه، إلّاأنّ النظر فيه إلى الجانب، الذي من جهة يسار المتوجّه إلى القبلة، وهما بالنسبة إليه على اليمين. ثمّ إنّ القدر الذي بين كلّ واحدة منهما وبين طرف الطريق من ناحية اليسار متّسع أيضاً.

واليمين واليسار أمران إضافيان، ومن شأن الامور الإضافية أن تختلف باختلاف ما تضاف إليه. فمجموع هذا القدر من الطريق، وإن كان يساراً بالإضافة إلى الجمرتين، لكنّه بالإضافة إلى المارّ فيه نحو القبلة يصير له يمين ويسار، فيمينه إلى جهة الجمرتين، ويساره ما يقابلها.

وإذا تبيّن هذا، فالمراد بالقيام عن يسار الطريق- في الحديث الحسن (3)-


1- 1 الكافي 4: 481، حديث 2، الوسائل 14: 64 باب 10 من أبواب رمي جمرة العقبة، حديث 1.
2- 2 الكافي 4: 480، باب رمي الجمار في أيّام التشريق، حديث 1، الوسائل المصدر السابق ص 65 حديث 2.
3- 3 في نسخة الأصل و ص: «ليس» بدل «الحسن».

ص: 23

الوقوف في جانبه الذي عن يسار المارّ فيه نحو القبلة من خلاف ناحية الجمرة، فيستقبل القبلة حينئذٍ، ويحمد اللَّه ويُثني عليه ويصلّي على النبي صلى الله عليه و آله، ثمّ يأخذ في التقدّم نحو الجمرة قليلًا، وهو يدعو كما وصف في الخبر، إلى أن يصير منها على المسافة التي يستحبّ التباعد بها (1)، وقد مضى في رمي جمرة العقبة. فإذا بقي والحال هذه على استقبال القبلة، كانت الجمرة عن يمينه، والذي إلى جهة منها هو يسارها، فيرميها ويفعل مثل ذلك بالثانية.

فصل: [في بقيّة أفعال منى] (2)

ويستحبّ للمقيم بمنى إيثار الصلاة في مسجد الخيف، وأفضل ما كان مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

روى معاوية بن عمّار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «صلِّ في مسجد الخيف، وهو مسجد منى، وكان مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على عهده عند المنارة، التي في وسط المسجد وفوقها إلى القبلة نحواً من ثلاثين ذراعاً، وعن يمينها وعن يسارها وخلفها نحواً من ذلك، قال: فتحرَّ ذلك. فإن استطعت أن يكون مصلّاك فيه فافعل، فإنّه قد صلّى فيه ألف نبيّ. وإنّما سمّي الخيف؛ لأنّه مرتفع عن الوادي، وما ارتفع عن الوادي سمّي خَيفاً» (3).

ويستحبّ أيضاً التكبير بمنى. وأوجبه بعض الأصحاب (4)، ويكون عقيب خمس عشرة صلاة، أوّلها ظهر يوم النحر، والأخيرة فجر يوم الثالث لمن أقام إلى النفر الثاني، وإلّا فعقيب عشر، والأكمل في صفة التكبير أن يقول: اللَّه أكبر اللَّه


1- 1 في ن: «عنها».
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
3- 3 الوسائل 5: 268، باب 50 من أبواب أحكام المساجد، حديث 1، باختلاف يسير.
4- 4 وهو السيّد المرتضى كما عنه في المدارك 8/ 242.

ص: 24

أكبر لا إله إلّااللَّه واللَّه أكبر، اللَّه أكبر وللَّه الحمد، اللَّه أكبر على ما هدانا، اللَّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد للَّه على ما أبلانا.

واختلفت الروايات في أفضلية المقام بمِنى على زيارة البيت بعد زيارة الحجّ في أيّام التشريق، والمتضمّن منها الإذن في الزيارة، ونفي البأس عنها إذا طاف، ولم يثبت أكثر عدداً وأقوى أسناداً.

وإذا أراد النفر، فإن كان في الأوّل، فلا ينفر إلّابعد الزوال، وإن كان في الثاني، نفر متى شاء بعد رمي الجمار. وظنّ بعض الأصحاب (1) أفضلية تأخيره إلى الزوال رعاية لحال الرمي، وتوهّماً لاطراد استحباب إيقاعه عند الزوال. والأخبار الدالّة على أفضلية المبادرة قبل الزوال كثيرة، مع قوّة الطرق ووضوح الدلالة، فالعجب من هذا التوهّم. وأوضحها دلالة ما رواه الكليني، عن أيّوب بن نوح، في الصحيح، قال: كتبتُ إليه أنّ أصحابنا قد اختلفوا علينا، فقال بعضهم: إنّ النفر يوم الأخير بعد الزوال أفضل. وقال بعضهم: قبل الزوال، فكتب: «أَما علمت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله صلّى الظهر والعصر بمكّة، ولا يكون ذلك إلّاوقد نفر قبل الزوال»؟ (2).

ويستحبّ لمن نفر في الأخير التحصيب تأسّياً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقد استفاض نقل ذلك من فعله، حتّى قال العلّامة في المنتهى (3): إنّه لا خلاف فيه.

وروي من عدّة طرق معتبرة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «كان أبي عليه السلام ينزل الحصبة قليلًا، ثمّ يرتحل فيدخل مكّة من غير أن ينام» (4).


1- 1 وهو الشهيد الثاني في الروضة، انظر الزبدة الفقهية 3: 524.
2- 2 الكافي 4: 521، باب النفر من منى الأوّل والآخر، حديث 8. الوسائل 14: 282، باب 12 من أبواب العود إلى منى، حديث 2.
3- 3 منتهى المطلب 2: 777.
4- 4 انظر الوسائل 14: 284- 285، باب 15 من أبواب العود إلى منى، حديث 1 و 3.

ص: 25

وفي بعض الروايات: «وكان ينزل الأبطح، ثمّ يدخل البيوت». وفيه دلالة على أنّ المحصب بالأبطح.

وذكر جماعة منهم الشهيد الأوّل (1) رحمه اللَّه: أنّ مسجد الحصبة بالأبطح، نزل به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فيستحبّ النزول به، والاستراحة فيه قليلًا، والاستلقاء على القفا.

قال الشهيد: وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله صلّى فيه الظهرين والعشاءين، وهجع هجعة ثمّ دخل مكّة. وحكي عن بعض الأصحاب (2) أنّه قال: لا أثر للمسجد الذي هناك، وأنّ السنّة تنادي بالنزول بالمحصب من الأبطح، وهو ما بين العقبة وبين مكّة.

وقال العلّامة في المنتهى (3): إنّه ليس للمسجد اليوم أثر، وإنّما استحبّ النزول بالمحصّب، والاستراحة فيه قليلًا اقتداءً برسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وحيث إنّ الحكم في أخبار أهل البيت عليهم السلام جاء بعنوان النزول بالأبطح، فعليه ينبغي أن يكون العمل، ويكتفي مؤنة البحث عمّا زاد ذلك.

فصل: [في العَود إلى مكّة لطواف الوداع ودخول البيت] (4)

ويستحبّ العَود إلى مكّة؛ لطواف الوداع ودخول البيت، ولكلّ منهما وظائف نذكرها مفصّلة إن شاء اللَّه. وإن كان له بمكّة مقام فليكثر من الصلاة والدُّعاء في المسجد الحرام.

فقد روى الكليني في الصحيح، عن علي بن الحكم، عن الكاهلي، قال: كنّا


1- 1 انظر الدروس 1: 464 والمحقّق الثاني في جامع المقاصد 3: 271، والشهيد الثاني في المسالك 2: 376.
2- 2 وهو ابن إدريس في السرائر 1: 613.
3- 3 المنتهى 1: 111.
4- 4 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 26

عند أبي عبداللَّه عليه السلام، فقال: «أكثروا من الصلاة والدُّعاء في هذا المسجد، أما إنّ لكلّ عبد رزقاً يُحاز إليه حوزاً» (1). وأفضل بقاعه الحطيم، وهو ما بين الباب إلى الحجر الأسود، والحِجْر وعند المقام، وليس الحِجْر من البيت.

بل في عدّة أخبار منها صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه:

«لا شي ء فيه من البيت، ولا قلامة ظفر» (2).

وزاد في حديث مؤيّد (3): «إنّ إسماعيل دفن فيه امّه، فكره أن توطأ، فحجر عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء» (4).

وليستكثر أيضاً من الطواف، بل هو أفضل للمجاور من الصلاة، ما لم يأت عليه سنة.

ويستحبّ له أن يحصي أسبوعه في كلّ يوم وليلة.

روى الصدوق، عن أبان بن عثمان في الصحيح، أنّه سأل أبا عبداللَّه عليه السلام، أكان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله طواف يعرف به؟ فقال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطوف بالليل والنهار عشرة أسابيع، ثلاثة أوّل الليل، وثلاثة آخر الليل، واثنين إذا أصبح، واثنين بعد الظهر. وكان فيما بين ذلك راحته» (5).

وفي صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «يستحبّ أن تطوف ثلاثمائة وستّين أسبوعاً عدد أيّام السنة، فإن لم تستطع، فثلاثمائة وستّين شوطاً، فإن لم تستطع، فما قدرت عليه من الطواف» (6).

وعلى ظاهر قوله في الحديث ثلاثمائة وستّين شوطاً إشكال، باعتبار ردّ العدد


1- 1 الكافي 4: 526 باب فضل الصلاة في المسجد الحرام، حديث 4.
2- 2 الوسائل 13: 353، باب 30 من أبواب الطواف، حديث 1.
3- 3 في م و ن: «معاوية» بدل «مؤيد».
4- 4 المصدر السابق.
5- 5 الفقيه 2: 411، باب نوادر الطواف حديث 7، الوسائل 13: 307، باب 6 من أبواب الطواف، حديث 1.
6- 6 الوسائل 13: 308، باب 7 من أبواب الطواف، حديث 1.

ص: 27

إلى أسابيع، فإنّه يحصل منه أحد وخمسون أسبوعاً وثلاثة أشواط. والتعبّد بالناقص عن الاسبوع أو الزائد غير معهود.

وذكر جماعة من الأصحاب (1): أنّ الثلاثة تلحق الاسبوع الأخير، فتصير عشرة، وهو ذهاب منهم إلى إفادة الحديث تسويغ هذه الزيادة، فتكون مستثناة من عموم ما دلّ على منع التقيّد (2) بالزائد عن الاسبوع، وليس بشي ء.

والتحقيق عندي: أنّ في الكلام إجمالًا موكول البيان إلى الاعتبار الصحيح، وأنّ الغرض من ذكر هذا العدد إفادة قيام الشوط مقام الاسبوع عند تعذّره، لا تعيّن صورة العددية. فإذا روعي مع ذلك- ما هو المعهود المتقرّر من عدم التعبّد بما دون الأسبوع وما فوقه- علم أنّ تحصيل هذا العدد، إنّما يتمّ بضميمة ما يكمل به البقيّة أسبوعاً، وأنّ تلك الضميمة، وإن لم تلحظ لذاتها، فهي مقصودة للتوصّل بها إلى تصحيح العمل. ولهذا الاعتبار شاهد ونظير قريب.

أمّا الشاهد: فحديث متضمّن لجعل قدر (3) هذا العدد بالأسابيع، اثنين وخمسين أسبوعاً، لكنّه غير نقي الطريق (4).

وأمّا النظير: فاشتراط جواز دخول مكّة بالإحرام، مع أنّه لا ينعقد إلّابأحد النسكين: الحجّ أو العمرة، ولم يجعل أحدهما شرطاً، بل اكتفي في اعتبار القصد (5) إليه بمجرّد ظهور توقّف صحّة الإحرام عليه. فالشرط في الحقيقة هو الإحرام،


1- 1 منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 7: 106، والسيّد العاملي في المدارك 8: 167.
2- 2 في ن و ص: «التعبّد».
3- 3 في ن: «فذلكة» بدل «قدر».
4- 4 الوسائل 13: 309، باب 7 من أبواب الطواف، ذيل حديث 2.
5- 5 في م: «قصد التعبّد».

ص: 28

وقصد أحد النسكين وسيلة إليه ملحوظ بالعرض؛ لغرض التوصّل به إلى تصحيح الشرط الذي هو المقصود بالذات.

[في أنّ الطواف عن غير المقيم بمكّة من الاخوان مستحبّ] (1)

ويستحبّ الطواف عن غير المقيم بمكّة من الاخوان، وعمّن به علّة من المقيمين.

وفي صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا أردت أن تطوف عن أحد من إخوانك، فائت الحجر الأسود، فقل: بسم اللَّه، اللّهمَّ تقبّل من فلان» (2).

وروى الكليني في الصحيح المشهور، عن علي بن مهزيار، عن موسى بن القاسم، قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك، فقيل لي: إنّ الأوصياء لا يُطاف عنهم، فقال: «بل طف ما أمكنك، فإنّ ذلك جائز». ثمّ قلت له بعدُ بثلاث سنين: إنّي كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شاء اللَّه، ثمّ وقع في قلبي شي ء فعملت به. قال: وما هو؟ قلت: طفت يوماً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فقال ثلاث مرّات: صلّى اللَّه على رسول اللَّه، ثمّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ طفت الثالث عن الحسن عليه السلام، والرابع عن الحسين عليه السلام، والخامس عن عليّ بن الحسين عليه السلام، والسادس عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السلام، واليوم السابع عن جعفر بن محمّد عليه السلام، واليوم الثامن عن أبيك موسى عليه السلام، واليوم التاسع عن أبيك علي عليه السلام، واليوم العاشر عنك يا سيّدي، وهؤلاء الذين أدين اللَّه بولايتهم. فقال:

«إذاً واللَّه تدين اللَّه بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره» قلت: وربما طفت عن


1- 1 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
2- 2 الوسائل 13: 398، باب 51 من أبواب الطواف، حديث 4.

ص: 29

امّك فاطمة عليها السلام، وربّما لم أطف. فقال: «استكثر من هذا، فإنّه أفضل ما أنت عامله إن شاء اللَّه» (1).

فصل: [في آداب دخول البيت زيدت مهابتها] (2)

فأمّا آداب دخول البيت ووظائفه:

فروى الشيخ، عن هشام بن الحكم، في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«ما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الكعبة إلّامرّة، وبسط ثوبه تحت قدميه وخلع نعليه» (3).

وفي صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يدخل الكعبة في حجّ ولا عمرة، ولكنّه دخلها في الفتح فتح مكّة، وصلّى ركعتين بين العمودين، ومعه اسامة بن زيد» (4).

وروى حمّاد بن عثمان في الصحيح قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام، عن دخول البيت، فقال: «أمّا الصرورة فيدخله، وأمّا من قد حجّ فلا» (5).

وفي صحيح عبداللَّه بن سنان، عنه عليه السلام أنّه سُئل عن دخول النساء (6) الكعبة، فقال: «ليس عليهنّ، وإن فعلن فهو أفضل» (7).

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا أردت


1- 1 الكافي 4: 314، باب الطواف والحجّ عن الأئمّة عليهم السلام، حديث 2، الوسائل 11: 200، باب 26 من أبواب النيابة في الحجّ، حديث 1.
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من ن كذا وردت.
3- 3 التهذيب 5: 491 باب الزيادات في فقه الحج، حديث 406. الوسائل 13: 284، باب 42 من أبواب مقدّمات الطواف، حديث 1.
4- 4 التهذيب 5: 279 باب دخول الكعبة، حديث 11. الوسائل 13: 285، باب 42 من أبواب مقدّمات الطواف، حديث 3.
5- 5 التهذيب 5: 277، باب دخول الكعبة، حديث 6. الوسائل، المصدر السابق حديث 2.
6- 6 في نسخة الأصل و ص: «في الحج» ولم ترد في باقي النسخ والمصدر.
7- 7 التهذيب 5: 448، باب الزيادات في فقه الحج، حديث 207. الوسائل 13: 283، باب 41 من أبواب مقدّمات الطواف، حديث 1.

ص: 30

دخول الكعبة، فاغتسل قبل أن تدخلها، ولا تدخلها بحذاء، وتقول إذا دخلت:

«اللّهمَّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمناً (1) فآمنّي من عذابك عذاب النار. ثمّ تصلّي بين الاسطوانتين على الرخامة الحمراء، تقرأ في الاولى حم السجدة، وفي الثانية عدد آياتها من القرآن. وصلِّ في زواياه، وتقول: اللّهمَّ من تهيّأ وتعبّأ وأعدَّ واستعدّ لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده وجوائزه ونوافله وفواضله، فإليك كانت ياسيّدي تهيئتي و تعبئتي و استعدادي رجاء رفدك وجائزتك ونوافلك، فلا تخيّب اليوم رجائي. يامن لا يخيّب سائله ولا ينقص نائله، فإنّي لم آتك اليوم بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوقٍ رجوته، ولكنّي أتيتك مقرّاً بالذنوب والإساءة على نفسي، فإنّه لا حجّة لي ولا عذر، فأسألك يا من هو كذلك، أن تصلِّ على محمّد وآل محمّد، وأن تعطيني مسألتي وتقيلني عثرتي وتقلبني برغبتي، ولا تردّني محروماً ولا مجبوهاً ولا خائباً، يا عظيم يا عظيم يا عظيم، أرجوك للعظيم، أسألك يا عظيم أن تغفر لي الذنب العظيم، لا إله إلّاأنت؛ ولاتدخلنّ بحذاء ولا تبزق فيها ولا تمتخط. ولم يدخلها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّايوم فتح مكّة» (2).

وروى الكليني في الصحيح عن سعيد الأعرج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«لابدّ للصرورة أن يدخل البيت قبل أن يرجع، فإذا دخلته فادخله بسكينة ووقار، ثمّ ائت كلّ زاوية من زواياه، ثمّ قل: اللّهمَّ إنّك قلت: ومن دخله كان آمناً فآمنّي عذاب يوم القيامة. وصلِّ بين العمودين اللذين يليان الباب على الرخامة الحمراء. وإن كثر الناس فاستقبل كلّ زاوية في مقامك حيث صلّيت، وادعُ اللَّه واسأله» (3).


1- 1 آل عمران: 97.
2- 2 التهذيب 5: 276، باب دخول الكعبة، حديث 3. الوسائل 13: 275، باب 36 من أبواب مقدّمات الطواف، حديث 1.
3- 3 الكافي 4: 529، باب دخول الكعبة، حديث 6.

ص: 31

[في وداع البيت] (1)

وأمّا وظائف الوداع:

فروى الشيخ، عن معاوية بن عمّار في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«إذا أردت أن تخرج من مكّة فتأتي أهلك، فودّع البيت وطف أسبوعاً، وإن استطعت أن تستلم الحجر الأسود والركن اليماني في كلّ شوط فافعل، وإلّا فافتح به واختم به، وإن لم تستطع ذلك فموسّع عليك، ثمّ تأتي المستجار، فتصنع عنده مثل ما صنعت يوم قدمت مكّة، ثمّ تخيّر لنفسك من الدُّعاء، ثمّ استلم الحجر الأسود، ثمّ الصق بطنك بالبيت، واحمد اللَّه واثنِ عليه، وصلِّ على محمّد وآله، ثمّ قل:

اللّهمَّ صلِّ على محمّد عبدك ورسولك وأمينك وحبيبك ونجيبك وخيرتك من خلقك، اللّهمَّ كما بلّغ رسالتك، وجاهد في سبيلك، وصدع بأمرك، واوذي فيك وفي جنبك حتّى أتاه اليقين، اللّهمَّ اقلبني مفلحاً منجحاً مستجاباً لي بأفضل ما يرجع به أحد من وفدك من المغفرة والبركة والرضوان والعافية ممّا يسعني أن أطلب، فأسألك أن تعطيني مثل الذي أعطيته أفضل من عندك وتزيدني عليه، اللّهمَّ إن أمتّني فاغفر لي، وإن أحييتني، فارزقنيه من قابل، اللّهمَّ لا تجعله آخر العهد من بيتك، اللّهمّ إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتكَ، حمّلتني على دابتك، وسيّرتني في بلادك حتّى أدخلتني حرمك وأمنك، وقد كان في حسن ظنّي بك أن تغفر لي ذنوبي، فإن كنت قد غفرت لي ذنوبي، فازدد عنّي رضى، وقرّبني إليك زلفى، ولا تباعدني، وإن كنت لم تغفر لي فمن الآن فاغفر لي قبل أن تنأّي عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي إن كنت أذنت لي، فغير راغب عنك ولا عن بيتك، ولا مستبدل بك ولا به، اللّهمَّ احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي حتّى تبلّغني أهلي، واكفني


1- 1 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 32

مؤنة عبادك وعيالي، فإنّك وليّ ذلك من خلقك ومنّي.

ثمّ ائت زمزم فاشرب منها، ثمّ اخرج فقل: آئبون تائبون عابدون، لربّنا حامدون، إلى ربّنا راغبون، إلى ربّنا راجعون. قال: وإنّ أبا عبداللَّه عليه السلام لمّا ودّعها، وأراد أن يخرج من المسجد خرّ ساجداً عند باب المسجد طويلًا، ثمّ قام فخرج» (1).

وروي عن إبراهيم بن أبي محمود في الصحيح، قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام ودّع البيت، فلمّا أراد أن يخرج من باب المسجد خرّ ساجداً، ثمّ قام فاستقبل الكعبة، فقال: «اللّهمَّ، إنّي أتقلّب على لا إله إلّااللَّه» (2).

وروى الكليني في الصحيح المشهوري، عن علي بن مهزيار، قال: رأيت أبا جعفر الثاني عليه السلام في سنة خمس وعشرين ومائتين، ودّع البيت بعد ارتفاع الشمس، وطاف بالبيت يستلم الركن اليماني في كلّ شوط، فلمّا كان في الشوط السابع، استلمه واستلم الحجر ومسح بيده، ثمّ مسح وجهه بيده، ثمّ أتى المقام فصلّى خلفه ركعتين، ثمّ خرج إلى دبر الكعبة إلى الملتزم فالتزم البيت، وكشف الثوب عن بطنه، ثمّ وقف عليه طويلًا يدعو، ثمّ خرج من باب الحنّاطين وتوجّه.

قال: ورأيته في سنة سبع عشرة ومائتين، ودّع البيت ليلًا، يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كلّ شوط، فلمّا كان في الشوط السابع، التزم البيت في دبر الكعبة قريباً من الركن اليماني، وفوق الحجر المستطيل، وكشف الثوب عن بطنه، ثمّ أتى الحجر فقبّله ومسحه، وخرج إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فصلّى خلفه، ثمّ مضى، ولم يعد إلى البيت، وكان وقوفه على الملتزم بقدر ما طاف بعض أصحابنا سبعة


1- 1 التهذيب 5: 280، باب الوداع، حديث 1.
2- 2 التهذيب 5: 281، باب الوداع، حديث 2.

ص: 33

أشواط، وبعضهم ثمانية» (1).

وروى في الحسن عن جماعة منهم الحلبي ومعاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: ينبغي للحاج إذا قضى نسكه وأراد أن يخرج، أن يبتاع بدرهم تمراً يتصدّق به، فيكون كفّارة لما لعلّه دخل عليه في حجّه من حكٍّ أو قملة سقطت أو نحو ذلك» (2).

وفي الحسن أيضاً، عن الحسين الأحمسي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من خرج من مكّة لا يريد العود إليها، فقد اقترب أجله ودنى عذابه» (3).

ويستحبّ النزول بالمعرس للمنصرف من مكّة على طريق المدينة.

روى معاوية بن عمّار في الصحيح، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا انصرفت من مكّة على المدينة، وانتهيت إلى ذي الحليفة، وأنت راجع إلى المدينة من مكّة، فائت معرس النبيّ صلى الله عليه و آله، فإن كنت في وقت صلاة مكتوبة أو نافلة، فصلِّ فيه، وإن كان غير وقت صلاة مكتوبة، فانزل فيه قليلًا، فإن النبيّ صلى الله عليه و آله كان يعرس فيه ويصلّي (4).

وروى الصدوق في الصحيح، عن محمّد بن القاسم بن الفضيل، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جُعلت فداك إنّ جمّالنا مرّ بنا ولم ينزل المعرّس؟ فقال: «لابدّ أن ترجعوا إليه، فرجعت إليه» (5).

وعلى هذا القدر نقطع الكلام، حامدين للَّه تعالى على توفيقه للإتمام،


1- 1 الكافي 4: 532 باب وداع البيت حديث 3. الوسائل 14: 289، باب 18 من أبواب العود إلى منى، حديث 3.
2- 2 الكافي 4: 533، باب ما يستحبّ من الصدقة عند الخروج من مكّة حديث 1. الوسائل 14: 292، باب 20 من أبواب العود إلى منى، حديث 2.
3- 3 الكافي 4: 270، باب من يخرج من مكّة لا يريد العود إليها، حديث 1.
4- 4 الوسائل 14: 370، باب 19 من أبواب المزار وما يناسبه، حديث 1.
5- 5 الوسائل 14: 372، باب 30 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 2.

ص: 34

ومتوسِّلين إليه برسوله المصطفى وآله الكرام عليه وعليهم الصلاة والسلام، أن يجعله سبباً لمثوبته ووسيلةً إلى عفوه ورحمته، إنّه أكرم الأكرمين (1). (2). (3)(4) هذا آخر ما أملاه قدّس سرَّه، وحشره مع أئمّته محمّد وآله. في شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1014، في حوالى نخجوان (5).

تمّ تحقيقه بالاعتماد على أربع نسخ أهمّها النسخة الرضويّة.

رمي الجمرات في بحث جديد


1- 1 جاء في نهاية نسخة ص: وحرّره الأحقر العاصي أقل الخلائق حسين علي في 14 شعبان المعظّم 1359.
2- 2 جاء في آخر نسخة م: تمّ في سنة 1027، وفي هامشها: بلغ قبالًا وللَّه الحمد ربّ العالمين، والصلاة على نبيّه وآله المعصومين.
3- 3 جاء في نهاية نسخة ن: فرغت من تسويده بعون اللَّه وتأييده، في أواسط شهر صفر ختم بالخير والظفر، لسنة الثامن والأربعين بعد الألف من هجرة سيّد المرسلين عليه وآله المعصومين ألف ألف صلاة من اللَّه والملائكة والناس أجمعين، وأنا العبد المفتقر إلى اللَّه الغني الحافظ ابن محمّد صابر الطبسي الفهنانجي محمود الواعظ عفا اللَّه عنهما وغفر ذنوبهما وستر عيوبهما بحقّ محمّد وآله. وورد في هامش النسخة من الكاتب: رحم اللَّه امرأً نظر إلى هذا المنسك وعمل بما فيه إذا رزقه اللَّه حجّ بيته الحرام، وزيارة نبيّه سيّد الأنام وآله البررة الكرام، أن يدعو للكاتب دعاء الخير وذكره في الأماكن الشريفة. نقل هذا المنسك من نسخة لا تخلو من صحّة أي منسك الشيخ حسن بن الشيخ محمّد بن الشيخ زين الدين العاملي رضي اللَّه عنهما.
4- 3 جاء في نهاية نسخة ن: فرغت من تسويده بعون اللَّه وتأييده، في أواسط شهر صفر ختم بالخير والظفر، لسنة الثامن والأربعين بعد الألف من هجرة سيّد المرسلين عليه وآله المعصومين ألف ألف صلاة من اللَّه والملائكة والناس أجمعين، وأنا العبد المفتقر إلى اللَّه الغني الحافظ ابن محمّد صابر الطبسي الفهنانجي محمود الواعظ عفا اللَّه عنهما وغفر ذنوبهما وستر عيوبهما بحقّ محمّد وآله. وورد في هامش النسخة من الكاتب: رحم اللَّه امرأً نظر إلى هذا المنسك وعمل بما فيه إذا رزقه اللَّه حجّ بيته الحرام، وزيارة نبيّه سيّد الأنام وآله البررة الكرام، أن يدعو للكاتب دعاء الخير وذكره في الأماكن الشريفة. نقل هذا المنسك من نسخة لا تخلو من صحّة أي منسك الشيخ حسن بن الشيخ محمّد بن الشيخ زين الدين العاملي رضي اللَّه عنهما.
5- 4 جاء في هامش الأصل: «بلغ قبالًا». وهذا كما أشرنا في المقدّمة ممّا يدلّل على الاهتمام والعناية بها.

ص: 35

رمي الجمرات في بحث جديد

آية اللَّه مكارم الشيرازي

إنّ المتاعب العظيمة والمخاطر الجليلة عند رمي الجمرات أدّت في أكثر الأوقات إلى وقوع ضحايا بين الحجّاج الكرام، ولهذا الأمر أسبابه الكثيرة، التي منها الفتاوى التي تلزم الحاجّ بأنّ يتيقّن إصابة الاسطوانة نفسها، وقد فتحت مجلّتنا باباً لمعرفة وجهات نظر فقهائنا العظام حول هذه المسألة.

إدارة المجلّة

*** من مشاكل الحجّاج المهمّة مسألة رمي الجمرات، خاصّة يوم عيد الأضحى، عندما تتوجّه جموع الحجّاج الغفيرة وتندفع بقوّة وبزحام شديد، فسبّب هذا- خاصّة في السنوات الأخيرة- خسائر كبيرة في الأرواح، فجرح وقُتل حول الجمرات كثيرون، وطالما أُصيبت الرؤوس والوجوه والعيون!

إنّ جُلّ هذه الخسائر كان منشؤه تصوّر عامّة الناس- اتّباعاً للفتاوى- أنّ الواجب في رمي الجمرات هو أن يصيب الحصى العمود الخاصّ، في حين لا يتوفّر

ص: 36

دليل واضح على ذلك، بل إنّ لدينا أدلّة مخالفة تشير إلى الاكتفاء بأن يُرمى الحصى على الجمرة، وأن يقع في الدائرة التي تتجمّع فيها الحصيات. والواقع أنّ «الجمرة» هي «مجتمع الحصى»، وليست هي الأعمدة!

وقد اعدّت هذه الرسالة لتبيّن الأدلّة العلمية لهذه المسألة، ولتكون مورد اطّلاعٍ من قبل فقهاء المسلمين، وليعلم الجميع أنّ هذه الأعمدة لم يكن لها وجود في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا في عصور الأئمّة عليهم السلام، بل إنّها معالم وُضِعت بعدئذ في مواضع الجمرات، وقد تُنصب فوقها مصابيح من أجل الذين يضطرّون إلى الرمي ليلًا. ونرجو من القرّاء الأعزّاء كافّة ألّا يتعجّلوا في الحكم على هذه الرسالة قبل الانتهاء من مطالعتها كلّها.

ما هي الجَمرة؟

إنّ أصل وجوب رمي الجمرات- بوصفه من مناسك الحجّ- من مسلّمات أحكام الحجّ وضروريّاته، وهو ممّا اتّفقت عليه آراء جميع علماء الإسلام، ولكنّ المسألة المهمّة في باب رمي الجمرات أن نتعرّف على معنى الجمرة، التي يجب أن نرميها بالحصى، فهل الجمرة هي الأعمدة، التي نقذفها اليوم بالحصى، أو هي قطعة الأرض المحيطة بالأعمدة، أو هي كلاهما، وبالتالي يكفي رمي أحدهما بالحصى؟

إنّ الكثير من الفقهاء سكتوا عن بيان هذا المطلب، بَيْدَ أنّ فريقاً منهم عبّروا بتعابير تشير بوضوح إلى أنّ «الجمرة» هي الأرض المحيطة بالأعمدة، أي قطعة الأرض، التي يتجمّع فيها الحصى عند رميه.

وفي كتب اللغويّين وأحاديث المعصومين عليهم السلام أيضاً إشارات حاكية لهذا المعنى، بل إنّ القرائن تدلّ على أنّ موضع الجمرات لم يكن فيه عمود إبّان عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي أيّام الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وكان الحجيج يرمون حصياتهم على قطعة الأرض، حيث يتجمّع الحصى، ومن هنا قيل لها جمرة، أي «مُجتمع الحصى».

ص: 37

وللوصول إلى هذه الحقيقة نمضي أوّلًا إلى عبارات فقهاء أهل السنّة والشيعة، ثمّ إلى كلام اللغويّين، لنبحث بعدئذٍ في روايات هذا الباب.

عبارات فريق من فقهاء أهل السنّة في معنى الجمرة

أشرنا من قبل إلى أنّ كثيراً من الفقهاء، قد التزموا الصمت إزاء معنى الجمرة؛ لكنّ فريقاً منهم لهم تعابير تدلّ على أنّ الجمرة هي الأرض المحيطة بالأعمدة، ونورد هنا أقوالًا من أربعة عشر كتاباً (سبعة كتب لفقهاء أهل السنّة، وسبعة كتب لفقهاء الشيعة) تشير إلى أنّ الجمرة في تلك العصور هي قطعة الأرض التي تُرمى بالحصى، وتعابير بعض فقهاء أهل السنّة شاهدة على أنّه ما كان في عصرهم وجود لعمود وأنّ الجمرة هي قطعة الأرض التي تقذف بالحصى.

1- يقول الشافعي أحد أئمّة أهل السنّة الأربعة:

«فإنْ رمى بحصاة فأصابت إنساناً أو محملًا، ثمّ استنت حتّى أصابت موضع الحصى من الجمرة أجزأت عنه» (1).

وهنا نرى بجلاء أنّه يتحدّث عن مسألة تدحرج الحصاة على الأرض وإصابتها موضع الحصى، ويرى ذلك مُجزياً. وفي هذا دلالة على عدم وجود عمود.

2- وفي هذا السياق يقول أحد أئمّة أهل السنّة المعروفين:

«وإن وقعت في موضع حصى الجمرة، وإن لم تبلغ الرأس أجزأ» (2).

ومن البيّن أنّ المراد ب «الرأس»: رأس الحصى، أي أعلاه.

3- يقول محيي الدِّين النّوَوي من فقهاء العامّة في كتاب «روضة الطالبين»:

«ولا يُشترط كونُ الرامي خارج الجمرة، فلو وقف في الطرف ورمى إلى الطرف الآخر جاز» (3).


1- 1 كتاب الأمّ 2: 213، نشر مكتبة الكليّات الأزهرية، الطبعة الأولى 1381 ه.
2- 2 المدوّنة الكبرى 1: 325، دار الفكر 1411 ه.
3- 3 روضة الطالبين 3: 115، الطبعة الثالثة، 1412 ه.

ص: 38

وهذا التعبير يدلّ بوضوح على أنّ الجمرة هي الدائرة التي يُرمى فيها الحصى، ولا يرى من اللّازم أن يقف المرء خارج هذه الدائرة، بل يجزيه أن يقف في طرف من الدائرة ويرمي الحصاة إلى الطرف الآخر.

4- ويقول النَّووي أيضاً في كتابه الآخر «المجموع»:

«والمراد (من الجمرة) مجتمع الحصى في موضعه المعروف، وهو الذي كان في زمان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله... ولو نُحّي من موضعه الشرعي، ورمى إلى «نفس الأرض» أجزأ؛ لأنّه رمى في موضع الرمي. هذا الذي ذكرته هو المشهور، وهو الثواب» (1).

إنّ هذه العبارات تصرّح تصريحاً جليّاً أنّ الجمرة هي هذه القطعة من الأرض، حتّى أنّها تدّعي الشهرة وتقول: إنّها هي التي كانت على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

5- يقول شهاب الدِّين أحمد بن إدريس، وهو فقيه آخر من فقهاء العامّة:

«فإنْ رمى بحصاة... وقعت دون الجمرة وتدحرجَت إليها، أجزأ» (2).

6- جاء في كتاب «عمدة القاري في شرح صحيح البخاري»:

«والجمرة اسم لمجتمع الحصى، سُمّيت بذلك لاجتماع الناس بها» (3).

وفي هذا الكلام تصريح كذلك بأنّ الجمرة هي موضع تجمّع الحصى.

7- وورد في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة»:

«الحنابلة قالوا: ولو رمى حصاة، ووقعت خارج المرمى، ثمّ تد حرجت حتّى سقطت فيه أجزأته، و كذا إنْ رماها فوقعت على ثوب إنسان فسقطت في المرمى» (4).


1- 1 المجموع 8: 175، مكتبة الإرشاد، جدّة.
2- 2 الذخيرة 3: 276.
3- 3 عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 10: 9.
4- 4 الفقه على المذاهب الأربعة 1: 667.

ص: 39

عبارات فريق من فقهاء الشيعة في معنى الجمرة

1- يقول السيّد أبو المكارم بن زُهرة في كتاب «الغُنية»:

«وإذا رمى حصاة، فوقعت في محمل، أو على ظهر بعير، ثمّ سقطت على الأرض أجزأت... كلّ ذلك بدليل الإجماع المشار إليه» (1).

2- يقول العلّامة الحلّي في كتاب «منتهى المطلب»:

«إذا رمى بحصاة فوقع على الأرض، ثمّ مرّت على سَنَنها (2)، أو أصابت شيئاً صُلباً كالمحمل وشبهه، ثمّ وقعت في المرمى بعد ذلك أجزأه؛ لأنّ وقوعها في المرمى بفعله ورميه» (3).

يومئ هذا التعبير إلى أنّ موضع الرمي كان منخفضاً قليلًا، فإذا ما وقعت قربه حصاة وتدحرجت حتّى سقطت فيه كان مجزياً. وهذا دليل على أنّه لم يكن في هذا الموضع عمود بعنوان «مرمى».

3- جاء في كتاب فقه الرضا:

«فإنْ رَميتَ ووقَعَت في مَحمِل، وانحدَرَت منه إلى الأرض أجزأ عنك». وفي ذيله عن بعض النسخ: «وإنْ أصابت إنساناً أو جملًا، ثمّ وقعت على الأرض أجزأه» (4).

وسواء أكان فقه الرضا مجموعة روايات أم كتاباً فقهيّاً لأحد القدماء، (والواقع أنّ قرائن كثيرة في فقه الرضا تشير إلى أنّ هذا الكتاب كتاب فقهيّ لأحد كبار قدمائنا) فإنّ العبارة السابقة شاهد حيّ على مدّعانا أنّ الجمرات لم تكن


1- 1 الغنية، قسم الفروع، ص 189.
2- 2 السَّنَن على وزن البَدَن بمعنى الطريق. و «امضِ على سنَنَك» يعني امضِ في طريقك، وعلى هذا يكون معنى الجملة: وقعت الحصاة على الأرض ومضت في طريقها وسقطت في الجمرة.
3- 3 منتهى المطلب 2: 731، الطبعة القديمة.
4- 4 مستدرك الوسائل، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، حديث 1.

ص: 40

أعمدة، بل كانت ذلك الجزء من الأرض.

4- يقول العلّامة في «التذكرة»:

«ولو رمى بحصاة، فوقعت على الأرض، ثمّ مرّت على سنَنَها أو أصابت شيئاً صُلباً كالمحمل وشبهه، ثمّ وقعت في المرمى بعد ذلك أجزأه؛ لأنّ وقوعها في المرمى بفعله ورميه... وأمّا لو وقعت الحصاة على ثوب إنسان فنفضها، فوقعت في المرمى، فإنّه لا يجزئه» (1).

لقد وردت في هذه العبارات تعبيرات مختلفة، بعضها صريح (مثل: وقعت على الأرض) وبعضها ظاهرة في المدّعى (مثل: وقعت في المرمى)، وهي تدلّ على أنّ المرمى هو الموضع من الأرض.

5- يقول الشيخ الجليل الطوسي في كتابه القيّم «المبسوط»:

«فإنْ وقعت على مكان أعلى من الجمرة وتدحرجت إليها أجزأه» (2).

6- يقول يحيى بن سعيد الحلّي في كتاب «الجامع للشرائع»:

«واجعل الجِمار على يمينك، ولا تقف على الجمرة» (3).

إذا كانت الجمرة العمود الخاصّ، فلا معنى للوقوف عليه؛ ذلك أنّ أحداً لا يقف على العمود. وهذا يدلّ على أنّ الجمرة هي الموضع من الأرض، الذي يتجمّع فيه الحصى، والذي يوقَف خارجه للرمي لا عليه.

7- وصاحب الجواهر ممّن عنُوا بمعنى الجمرة، فأورد احتمالات عديدة. ويدلّ كلامه في آخر البحث على إجزاء رمي الحصى في موضع الجمرات، يقول:

«ثمّ المراد من الجمرة البناء المخصوص، أو موضعه إن لم يكن، كما في كشف اللثام. وسمّي بذلك لرميه بالحجارة الصغار المسمّاة بالجِمار، أو من الجمرة بمعنى


1- 1 التذكرة 8: 221.
2- 2 المبسوط 1: 369 و 370.
3- 3 الجامع للشرائع: 210.

ص: 41

اجتماع القبيلة لاجتماع الحصاة عندها... وفي الدروس: أنّها اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه ممّا يجتمع من الحصى. وقيل: هي مجتمع الحصى لا السائل منه. وصرّح عليّ بن بابويه بأنّه الأرض، ولا يخفى عليك ما فيه من الإجمال.

وفي المدارك- بعد حكاية ذلك عنه- قال: «وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده؛ لأنّه المعروف الآن من لفظ الجمرة، ولعدم تيقّن الخروج من العهدة بدونه، أمّا مع زواله فالظاهر الاكتفاء بإصابة موضعه». وإليه يرجع ما سمعته من الدروس وكشف اللثام، إلّاأنّه لا تقييد في الأوّل بالزوال، ولعلّه الوجه لاستبعاد توقّف الصدق عليه» (1).

من كلام صاحب الجواهر هذا، يمكن استخلاص نقطتين:

الاولى: أنّه نفسه يميل إلى إجزاء كلٍّ من إصابة الأعمدة والأرض. وهذا يتوافق ومقصودنا من كفاية رمي الحصى في النُّقرة المحيطة بالعمود.

الثانية: يُفهم ممّا أورده عن صاحب المدارك أنّه يتمسّك لإصابة الحصى العمودَ بشيئين، أحدهما: أصل الاشتغال والاحتياط، والآخر أنّ المعروف من لفظ الجمرة في عصره هو العمود، ولكنْ كِلا الدليلين غير مُقنع، ذلك أنّ وجود الأعمدة في عصره، لا يعني وجودها في عصر المعصومين عليهم السلام، وتقتضي قاعدة الاحتياط هنا إصابة العمود، ووقوع الحصاة في موضع اجتماع الحصى. وبناءً على هذا لا يجزئ أن يصيب كثير من الحصى العمودَ ثمّ ينزلق خارجاً، وهذا يولِّد مشكلة كبيرة أُخرى للحجّاج في مراعاة أن يصيب الحجرُ الموضعين، إضافةً إلى أنّ الرجوع إلى أصل الاحتياط إنّما يكون إذا لم يكن لدينا دليل على وجوب الرمي في مجتمع الحصى، في حين لدينا على هذا دليل كافٍ؛ ولا دليل لدينا على أنّ المراد من


1- 1 جواهر الكلام 19: 106.

ص: 42

رمي الجمرات هو الأعمدة، بل إنّ الشواهد تبيّن بوضوح أنّ الأعمدة لم يكن لها في العصور السابقة من وجود، ولم يكن إلّاهذا الموضع الذي تجتمع فيه الحصى.

*** إنّ هذه الفتاوى التي أوردنا نماذج متعدّدة منها إنّما تنادي بأعلى صوتها قائلة:

إنّ الجمرة لم تكن على شكل عمود، بل كانت هذه النُّقرة هي التي يُرمى فيها الحصى.

ويُلاحظ في كلام مشاهير فقهاء العامّة والخاصّة وفرة تعابير مثل «على الجمرة» و «في الجمرة» و «في المرمى» ممّا يطول نقله. وفي هذه التعابير ما يؤيّد تأييداً جليّاً أنّ الجمرة لم تكن بمعنى العمود، كما صار في العصور المتأخّرة، بل إنّها هذه القطعة من الأرض التي يُرمى فيها الحصى، ذلك أنّ تعبير «في الجمرة» أو «على الجمرة» إنّما يناسب قطعة الأرض هذه، لا الأعمدة (فلاحِظ).

تذكرتان لازمتان

1- يبدو أنّ بناء العمود الحاضر لم يكن له وجود مطلقاً في زمان قدماء الأصحاب؛ فإنّ عبارة «المبسوط» (1) تدلّ بوضوح على عدم وجوده. وما لدينا من كلام يحيى بن سعيد الحلّي في «الجامع للشرائع» يشهد أيضاً لهذا المعنى بجلاء، فإنّه يقول: «ولا تقف على الجمرة» (2).

ومن المتيقّن أن لو كانت الجمرة عموداً، لكان الوقوف عليه أمراً مضحكاً، بل إنّ المراد أن لا تقف على طرف النُّقرة أو على مجتمع الحصى؛ ذلك أنّ بعض الفقهاء يَرَون أنّه يمكن الوقوف في طرف منها ورمي الطرف الآخر، لكنّ بعضهم يَرَون هذا غير جائز.


1- 1 المبسوط 1: 369- 370.
2- 2 الجامع للشرائع: 210.

ص: 43

ويستفاد من كلام صاحب «المدارك» أيضاً أنّه لم يكن يعتقد اعتقاداً قطعيّاً بوجود الأعمدة في الأزمنة السابقة، فإنّه يقول:

«وينبغي القطع باعتبار إصابة البناء مع وجوده، لأنّه المعروف الآن من لفظ الجمرة، ولعدم تيقّن الخروج من العهدة بدونه، أمّا مع زواله فالظاهر الاكتفاء بإصابة موضعه» (1)ولعلّه أوّل من أفتى بهذه الفتوى.

وفي كلام بعض فقهاء السنّة أو الزيديّة (أي المتأخّرين منهم) إشارة كذلك إلى وجود العمود في زمانهم. منهم الإمام أحمد المرتضى من فقهاء الزيدية في القرن التاسع، الذي أشارت عبارة له إلى وجود العمود في زمانه، لكنّ الطريف أنّه يصرّح بأنّ بعض الفقهاء قالوا: لا يجزئ رمي الأعمدة بالحجر، ويجب أن يصيب موضع الجمرة (مجتمع الحصى). وهذه عبارته:

«فإنْ قَصَد إصابة البناء فقيل لا يجزي؛ لأنّه لم يقصد المرمى. والمرمى هو القرار لا البناء المنصوب» (2).

أجَل، إنّنا كلّما بحثنا في كلام فقهاء الشيعة والسنّة تأكّد وصولنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ موضع الرمي هو قطعة الأرض، وإنّما بُني العمود بعدئذٍ ليكون علامة.

2- من اللّازم الالتفات إلى هذه النقطة أيضاً، وهي أنّ طائفة من متأخّري الفقهاء يَعدّون رمي الموضع مجزياً، منهم الشهيد الأوّل في كتاب الدروس، حيث يقول:

«والجمرة اسم لموضع الرمي، وهو البناء أو موضعه ممّا يستجمع من الحصى.


1- 1 المدارك 8: 9.
2- 2 شرح الأزهار 2: 122.

ص: 44

وقيل: هي مجتمع الحصى لا السائل منه. وصرّح عليّ بن بابويه بأنّه الأرض» (1).

ومنهم الفاضل الاصفهاني في كشف اللثام حيث يقول في تفسير «الجمرة»:

«هي المِيل المبنيّ، أو موضعه» (2).

ويقول الشهيد الثاني كذلك في شرح اللمعة لدى تعريفه الجمرة:

«وهي البناء المخصوص أو موضعه وما حوله ممّا يجتمع من الحصى، كذا عرّفه المصنّف في الدروس، وقيل: هي مجمع الحصى... وقيل: هي الأرض» (3).

وقد قرأنا في الأبحاث السابقة ما ورد في آخر كلام صاحب الجواهر أنّ هذا الفقيه الماهر كان يميل إلى إجزاء إصابة كلٍّ من الاثنين (الموضع والبناء) (4).

الجمرات في كتب اللغويّين

ذكرت النصوص اللغوية المعروفة المشهورة أربعة معانٍ للجمرة:

1- الجمرة في الأصل بمعنى اجتماع القبيلة، وسمّيت الجمرات بهذا؛ لأنّها موضع اجتماع الحصى.

2- الجمرة بمعنى الحصاة، وقيل للجمرات جمرات؛ لأنّها موضع الحصى.

3- الجمرة من «الجِمار» بمعنى «سرعة الابتعاد»؛ لأنّ آدم عليه السلام لمّا وجد إبليس في هذا الموضع رماه بحجر، فأسرع الشيطان بالابتعاد.

4- الجمرة بمعنى القطعة الملتهبة من النار (وربّما هي إشارة إلى القطع الصغيرة التي تنقذف أحياناً من بين شعلة النار شبيهة بالحَصيات).

ونضع الآن أمام القرّاء الأعزّاء طرفاً من كلام اللغويّين:

أ- نقرأ في «المصباح المنير» للفيّومي المتوفّى سنة 770 ه:


1- 1 الدروس 1: 428، الطبعة الجديدة.
2- 2 كشف اللثام 6: 114.
3- 3 شرح اللمعة.
4- 4 مصدر سابق.

ص: 45

«كلّ شي ء جمعته فقد جمّرته. ومنه الجمرة، وهي مجتمع الحصى بمنى؛ فكلّ كومة من الحصى جمرة، والجمع جَمَرات».

ب- يقول الطريحي (المتوفّى سنة 1087 ه) في «مجمع البحرين»:

«الجمرات مجتمع الحصى بمنى؛ فكلّ كومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات، وجمرات منى ثلاث».

ج- يقول ابن منظور (المتوفّى سنة 711 ه) في «لسان العرب»:

«والجمرة اجتماع القبيلة الواحدة... ومن هذا قيل لمواضع الجمار التي تُرمى بمنى: جمرات؛ لأنّ كلّ مجمع حصى منها جمرة، وهي ثلاث جمرات».

د- يقول ابن الأثير (المتوفّى سنة 606 ه) في «النهاية»:

«الجمار هي الأحجار الصغار، ومنه سمّيت جمار الحجّ للحصى التي يُرمى بها.

وأمّا موضع الجمار بمنى فسمّي جمرة لأنّها تُرمى بالجمار. وقيل: لأنّها مجمع الحصى التي يُرمى بها».

ه- يقول الزبيدي (المتوفّى سنة 1205 ه) في «تاج العروس في شرح القاموس»:

«وجمار المناسك وجمراتها: الحصيات التي يُرمى بها في مكّة... وموضع الجمار بمنى سمّي جمرة لأنّها تُرمى بالجمار، وقيل: لأنّها مجمع الحصى».

*** يستفاد من مُجمل الكلام السابق، ومن عبارات طائفة أخرى من اللغويّين أنّ الجمرات إنّما سمّيت الجمرات؛ لأنّها موضع اجتماع الحصى، أو لاجتماع الجِمار فيها.

ولم يعتبروا الجمرة بمعنى العمود كما رأينا، بل بمعنى الأرض التي يجتمع فيها الحصى.

وهذه العبارات والكلمات- إضافةً إلى دلالتها على أنّ العمود لم يكن مبنيّاً في عصور كثير منهم- تدلّ على أنّ مجتمع الحصى هو الوجه في تسمية الجمرات وفي جذرها اللغويّ.

ص: 46

ومن اللّازم هنا التذكير أنّ «الجمرات» يقيناً ليست من الألفاظ التي لها حقيقة شرعية أو متشرّعة، وعلى هذا ينبغي الرجوع في فهم معناها إلى كتب اللغة، وأنّ إطلاقها على المواضع الثلاثة، إنّما هو من قبيل إطلاق الكلّي على الفرد، ثمّ صارت هذه الكلمة بالتدريج علماً لهذه المواضع.

متى بُنيَت هذه الأعمدة؟

إنّه سؤال مهمّ قلّما أُجيب عنه، وربّما لم يمكن العثور على جواب دقيق عنه.

ولكنّ القرائن الكثيرة، التي تستفاد من كلمات فقهاء الشيعة والسنّة، وكذلك من كلام اللغويّين، تشير إلى أنّ هذه الأعمدة لم تكن موجودة في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وقدماء الأصحاب، ثمّ وُجِدت في العصور التالية. ويُحتمل احتمالًا قويّاً أنّ بناءها من أجل أن تكون علامة على هذا الموضع، ثمّ تُصوِّر بالتدريج أنّ الأعمدة هي التي تُرمى، وراح هذا التصوّر يقوى بمرور الزمان.

وقد جاء في كلمات كثير من الفقهاء- كما رأينا في البحوث المتقدّمة- أنّ الرمي يجب أن يكون للأرض، وفي العصور المتأخِّرة، قال بعضهم بالتخيير بين رمي العمود ورمي الأرض، حتّى وصل الأمر ببعضهم أن جعل رمي العمود هو المتعيّن!

شهادة الروايات

لقد وردت روايات رمي الجمرات في كتاب «وسائل الشيعة» على قسمين:

الأوّل: في أبواب «رمي جمرة العقبة»، إذ ذُكرت في ضمن سبعة عشر باباً روايات وفيرة حول أحكام الجمرات، ولكن لا نجد في أيّ منها تفسيراً وتوضيحاً للجمرة، وهل هي العمود، أم مجتمع الحصى؟

ثمّ ذُكرت من جديد أحاديث أخرى كثيرة بعد أبواب الذبح والتقصير، تحت عنوان «أبواب العَود إلى منى ورمي الجمار...» تتحدّث في ضمن سبعة أبواب عن رمي الجمرات الثلاث بعنوان أعمال اليوم الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجّة، ولا نجد في أيّ من هذه الروايات أيضاً كلاماً حول تفسير الجمرات.

ص: 47

ولكنّ الدراسة الدقيقة لمجموع هذه الأبواب الأربعة والعشرين قد بيّنت أنّ في روايات متعدّدة منها إشارات ذات دلالة على ما ذهبنا إليه من كون الجمرة هي موضع الحصى.

لاحظوا هذه الروايات السبع:

1- نقرأ في حديث معتبر عن معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«فإنْ رَمَيتَ بِحَصاةٍ فَوَقَعَتْ في مَحمِلٍ فأعِدْ مكانَها، وإنْ أصابت إنساناً أو جَمَلًا ثمّ وَقَعتْ على الجِمارِ أجزأك» (1).

وتعبير «على الجمار» يشير إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض التي تقع فيها الحصيات. ولنتذكَّر هنا أنّ كثيراً من أرباب اللغة قد فسّروا «الجمار» بصغار الأحجار.

منهم ابن الأثير في «النهاية» حيث يقول: «الجمار هي الأحجار الصغار».

ويقول الفيّومي في «المصباح المنير»: «والجمار هي الحجارة».

ويقول ابن منظور في «لسان العرب»: «الجمرات والجِمار: ا لحصيات التي ترمي بها في مكّة».

وبناءً على هذا، فإنّ وقوع الحجر على الجمار يعني وقوعه على الحصى، وهذا مُجزٍ طبق الروايات.

إضافةً إلى هذا أنّ الحجر الذي يقع على بدن الإنسان، أو على جمل ليست له في رجوعه القوّة الكافية، لأن تجعله يصيب الأعمدة (على فرض وجودها)، وأكثر ما يمكن أنّه يقع على الحصى.

2- نقرأ في حديث البزنطي (أحمد بن محمّد بن أبي نصر) عن أبي الحسن (عليّ بن موسى الرضا عليه السلام):


1- 1 الوسائل، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، حديث 1.

ص: 48

«واجْعَلْهُنَّ عَلَى يَمينِكَ كُلَّهُنَّ، ولا تَرْمِ عَلى الجَمْرَةَ» (1).

وهذا الحديث يدلّ دلالة بيِّنة على أنّ الجمرة هي موضع الحصى، ذلك أنّ بعضهم يقف على جانب منه ويرمي الجانب الآخر. والإمام عليه السلام ينهى عن هذا العمل، وإلّا فإنّ أحداً لا يقف على العمود عند رمي الجمرة.

وقد مرّ بنا هذا المعنى أيضاً لدى ذكر كلام فقهاء العامّة في البحث السابق، حيث يقول بعضهم: لا يجوز الوقوف على الجمرة.

3- نقرأ في حديث معتبر آخر، عن معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«خُذْ حَصَى الجِمارِ ثمّ ائْتِ الجَمْرَةَ القُصوى التي عندَ العَقَبَة فارْمِها مِن قِبَلِ وَجهِها، ولا تَرْمِها مِن أعلاها» (2).

يدلّ هذا التعبير وتعابير الفقهاء على أنّ جمرة العقبة قطعة أرض أحد جانبيها أعلى من الآخر، وبعبارة أُخرى أنّ أحد جانبيها وادٍ، وجانبها الآخر تلّة. وقد أُمِر أن يُرمى من جانب الوادي الذي هو في الواقع مستدبر لمكّة لا من جانب التلّة (لأنّه يستفاد من روايات أخرى أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد فعل ذلك).

وإذا كانت الجمرة بمعنى العمود فإنّ جملة «ولَا تَرْمِها مِنْ أعلاها» تكون بلا معنى؛ لأنّ أحداً لايصعد إلى أعلى العمود للرمي.

4- جاء في كتاب فقه الرضا عليه السلام:

«وإن رَمَيتَ ودَفَعتَ في مَحمِلٍ وانحَدَرتْ منهُ إلى الأرض أجزأتْ عنك».

وفي نسخة أُخرى: «إنْ أصابَ إنساناً ثمَّ أو جَمَلًا ثُمّ وقَعَت على الأرض أجزأه» (3).


1- 1 الوسائل، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 10، حديث 3.
2- 2 الوسائل، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، حديث 1.
3- 3 المستدرك، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 6، حديث 1. وفي المصدر: وإن رميت ودفعت.

ص: 49

ومن الواضح جليّاً أنّ المراد بهذه العبارة التدحرج والوقوع في أرض موضع الرمي، وعلى هذا لا يبدو موجّهاً إشكال صاحب الجواهر حين قال: «والحديث مبهم».

5- جاء في حديث آخر في فقه الرضا حول كيفيّة رمي الجمرة:

«وتَرمي مِن قِبَل وَجهِها، ولا تَرْمِها مِن أعلاها...» (1).

إذا كانت الجمرة بمعنى العمود، فلا معنى لأن يصعد عليه أحد ثمّ يرميه، إنّما مفهومه- بقرينة قوله: «تَرمي مِن قِبل وَجهِها ولا تَرمها مِن أعلاها»- هو أنّ هذه القطعة من الأرض كانت- كما قلنا- في مُنحدَر، ويستحبّ أن ترمى من جانبها الأسفل، لا من جانبها الأعلى، كما نُقل عن فعل النبيّ صلى الله عليه و آله.

سؤال: إذا قيل: ربّما كان المراد لا تَرم أعلى العمود وارمِ أسفله.. فماذا تقولون؟

نقول في الجواب:

أوّلًا: إذا كان هو المراد، فإنّ العبارة ينبغي أن تكون: «ولا تَرْمِ أعلاها» وليس «ولا تَرْمِ مِن أعلاها» (فلاحِظ).

ثانياً: أنّ المقابلة بين «تَرمي مِن قِبَل وَجهِها» و «ولا تَرْمِها مِن أعلاها» دليل واضح على أنّ المراد تلك القطعة من الأرض، التي هي منخفضة من جانب ومرتفعة من جانب آخر، أي: ارمِ من الجانب المنخفض (الوادي)، لا من الجانب المرتفع. وسواء أكان فقه الرضا حديثاً أم فتوى، فإنّه شاهدٌ حَسَن على هذا المدّعى.

6- وفي كتاب «دعائم الإسلام» حديث عن الإمام الصادق عليه السلام شبيه بهذا المعنى، قال: وهذا التعبير يشير أيضاً إلى أنّ الجمرة هي قطعة الأرض، التي أحد جانبيها أكثر ارتفاعاً. وفي هذه الرواية نهي عن الرمي من هذا الجانب، وإلّا فإنّ


1- 1 المستدرك، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 3، ح 1.

ص: 50

أحداً لايقف على العمود.

7- في سنن البيهقي عن عبداللَّه بن يزيد أنّه قال: كنت مع عبداللَّه بن مسعود، فأتى جمرة العقبة فاستبطَنَ الوادي فرماها من بطن الوادي، فقلت له:

«الناس يرمونها من فوقها»، فقال: هذا- والذي لاإله غيره- مقام الذي أُنزلت عليه سورة البقرة (1). يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رماها من أسفلها، وما وقف في أعلى الجمرة.

وثمّة حديث ربّما يُظنّ أنّه يشير إلى وجود عمود للجمرات:

«عن أبي غَسّان حُمَيد بن مسعود، قال: سألتُ أبا عبداللَّه عليه السلام عن رَمْي الجِمار على غير طهور، قال: الجِمار عندنا مِثل الصَّفا والمَروَةِ: حِيطان إن طُفْتَ بينهما على غير طهورٍ لم يَضُرَّكَ، والطُّهر أحبُّ إليّ، فلا تَدَعْهُ وأنتَ قادرٌ عليه» (2).

فقد استفاد بعض الفقهاء المتأخّرين من أنّ الحيطان (جمع حائط بمعنى الجدار) تشير إلى وجود جدار هناك، وهذا الجدار من المحتمل أنّه أعمدة الجمرات.

ولكنّ هذا الاستدلال قابل للمناقشة من عدّة جهات، لأنّه:

أوّلًا: سند الحديث ضعيف، فإنّ حُميد بن مسعود من المجاهيل، وبناءً على هذا، فإنّ هذا الحديث- وهو خبر واحد ضعيف- لا يمكن أن يُثبت شيئاً، فيما كانت الروايات السابقة متظافرة، إضافةً إلى أنّ بينها حديثاً صحيحاً ومعتبراً أيضاً.

ثانياً: إذا لم يكن هذا الحديث- من حيث الدلالة أيضاً- لا يدلّ على خلاف مطلوبهم، فإنّه ليس على وفق مطلوبهم؛ لسببين:

1- إنّ «حيطان» جمع «حائط» بمعنى جدار، يحوط شيئاً ما. وهذه الكلمة مشتقّة من مادّة «حوط» و «إحاطة»، ومن يقال للبستان المحاط بجدار: حائط.

يقول ابن منظور في «لسان العرب»: «والحائط: الجدار، لأنّه يحوط ما فيه،


1- 1 السنن الكبرى للبيهقي 5: 129.
2- 2 الوسائل، ج 10، أبواب رمي جمرة العقبة، باب 2، حديث 5.

ص: 51

والجمع حيطان».

واللافت أنّ المعنى الأصلي ل «حوط» حياطة الشي ء وحفظه، ويقال للجدران التي حول الشي ء حائط؛ لأنّه يحوطه ويحفظه.

وعلى هذا لا معنى لأن يسمّى عمود شبيه بعمود الجمرات الحالي حائطاً.

وإذا كان ثمّة حائط فهو جدار شبيه الجدار الحالي لنقرة الجمرات، الذي بُني حول قطعة من الأرض مخصوصة، وليس له من ارتباط بالعمود (فلاحِظْ).

2- إنّ النسبة بالصفا والمروة يعطي هنا معنىً خاصّاً، وذلك أنّ الصفا والمروة جبلان أحدهما أعلى قليلًا من الآخر، وليس حولهما حيطان. ولو كان ثمّة حائط، فما وجه ارتباطه بمسألة الوضوء حتّى قال: إنّهما (الصفا والمروة والجمرات) حيطان فلا حاجة إلى طهور؟

تصوّرنا أنّ المراد من الحديث ا لآنف الذكر أنّ الصفا والمروة ساحة عاديّة مثل الجمرات، ليس لها حكم الكعبة والمسجد الحرام حيث يجب الوضوء للطواف، ويستحبّ لدخول المسجد.

وبناءً على هذا لا دلالة في الحديث المذكور على وجود عمود في الجمرات، إذا لم يدلّ على خلاف ذلك. إضافةً إلى هذا، فإنّ هذا الحديث- كما قلنا سابقاً- حديث ضعيف لا يُثبت شيئاً.

*** نتيجة البحث الروائي

على الرغم من أنّ كلّ الروايات، التي ذكرناها فيما سبق، لم يرد فيها كلام عن ماهيّة «الجمرة»، لكن يمكن حصول الاطمئنان- من خلال تعابيرها- إلى أنّه لم يكن في هذه القطعة من الأرض المحدّدة في منى خلال عصر النبيّ صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، غير موضع اجتماع الحصى، واستمرّ الوضع أيضاً على هذه الحال في زمان الفقهاء القدامى من الفريقين.

ص: 52

وبعبارة أخرى: لم يكن في منى عمود بعنوان الجمرة تُرمى بالحجر، بل إنّ الحجيج كانوا يرمون هذا الموضع المبنيّ الآن حول الجمرات بشكل حوض صغير بالحجر.

ملاحظة

يستفاد من التواريخ المعروفة، مثل تاريخ «مروج الذهب للمسعودي» و «الكامل لابن الأثير» أنّهم كانوا في الجاهلية يرجمون قبر بعض الأفراد المنبوذين الخونة.

يقول المسعودي في مروج الذهب: عندما سار أبرهة بأصحاب الفيل إلى مكّة لإخراب الكعبة... فعَدَل إلى الطائف، فبعثت معه ثَقيف بأبي رُغال؛ ليدلّه على الطريق السهل إلى مكّة، فهلك أبو رغال في الطريق بموضع يقال له المُغَمَّس بين الطائف ومكّة، فَرُجم قبره بعد ذلك، والعرب تتمثّل بذلك. وفي ذلك يقول جرير ابن الخطفي في الفرزدق:

إذا ماتَ الفرزدقَ فارجُموهُ كما تَرمُونَ قبرَ أبي رُغالِ

ويقول هذا المؤرّخ في رواية اخرى: وقيل: إنّ أبا رُغال وَجَّهه صالح النبيّ على صدقات الأموال، فخالَفَ أمرَه وأساء ا لسيرة، فوثب عليه ثقيف- وهو قَسِّي بن منبه- فقتله قتلةً شنيعة... وفي ذلك يقول مسكين الدارمي:

وارجمُ قبرَهُ في كلِّ عامٍ كرجمِ الناسِ قبرَ أبي رُغالِ (1)

ومن المحتمل أنّهما اثنان، كان أحدهما في زمن أبرهة والآخر في زمن النبيّ صالح عليه السلام.


1- 1 مروج الذهب 2: 78، ذكر اليمن وملوكها.

ص: 53

وينقل ابن الأثير في «الكامل» قصّة أبرهة وأبي رغال، فيقول بعد ذكر موته في «المُغمَّس»:

«فرَجَمت العربُ قبره، فهو القبر الذي يُرجَم» (1).

وجاء في سفينة البحار (مادّة: لَهَبَ) عند ذكر قصّة أبي لهب، لمّا مات أبو لهب بقي جسده ثلاثة أيّام حتّى أنتن في بيته، ثمّ دفنوه بأعلى مكّة (في طريق العمرة) وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه، وبعد انتشار الإسلام كان قبره يُرمى بالحجر.

يُستفاد من هذه العبارات أنّ العرب قبل الإسلام وبعده كانوا يرمون قبور المنبوذين، ولعلّه قد اخذ من رمي الجمرات. ولم يُذكر في هذه التواريخ أنّهم قد اتّخذوا أعمدة لهذه القبور يرمونها، ولو كان للجمرات عمود في ذلك الزمان، لكان المناسب أن يكون تقليد العرب على هذه الصورة. ولا نريد أن نطرح هذا المطلب بعنوان دليل، بل إنّه يُعدّ مؤيّداً وحسب.

النتيجة النهائية للبحث

من مجموع ما سبق يمكن استخلاص هذه النتيجة:

1- لا دليل، في نظر الفقه الإسلامي- شيعيّاً وسنيّاً- على لزوم إصابة الحصى الأعمدة، بل إنّ إجزاء رمي الأعمدة فيما لو لم تقع الحصيات في الدائرة التي تحفّ بالأعمدة، محلّ تأمّل (فلاحِظْ). والمسلّم إجزاء رمي الحصى في الدائرة المحيطة بالأعمدة.

2- بناءً على ما تقدّم لا ينبغي للحجّاج المحترمين أن يشقّوا على أنفسهم متلقّين مخاطر شتّى في رمي الأعمدة، بل يمكن بسهولة ويُسر رمي الحصيات السبع الصغار في الدائرة المحيطة بالعمود، ثمّ يغادرون المكان على الفور فاسحين المجال


1- 1 الكامل في التاريخ 1: 284، ذكر أمر الفيل.

ص: 54

أمام الآخرين.

3- إذا أصابت الحصاة العمود ووقعت عند أسفله أجزأ، لكن لا لزوم لتحمّل هذه المشقّة.

4- متى كان الرمي من الطابق الأعلى وقُذفت الحصاة في الحوض الصغير الموجود في الطابق الأعلى أجزأ؛ لأنّ هذه الأحواض الصغيرة العُليا قد بُنيت بشكل قمعٍ تنزل منه الحصيات إلى الأحواض السُّفلى.

5- جدير بالباحثين الإسلاميّين أن يدرسوا هذه المسألة. ومتى اتّفق علماء الشيعة الأعلام وكبار أهل السنّة على هذه المسألة بعد البحث، فإنّه ستُحلّ إن شاء اللَّه إحدى مشكلات الحجّ الكبيرة التي تسبّب ازدحاماً متزايداً، وتؤدّي في أحيانٍ كثيرة إلى هلاك أو جرح عدد كبير من الحجّاج الأعزّاء، وفي الوقت نفسه سيكون عملهم هذا موافقاً لأعمال رسول اللَّه وأئمّة الهدى عليهم السلام.

ص: 55

تعريف بكتاب: الحرم المكّي... (1)

تعريف بكتاب: الحرم المكّي... (1)

تعريف بكتاب: الحرم المكّي... (1)

تأليف: أ. د. عبدالملك بن دهيش

تقديم وتعريف: محسن الأسدي

هناك حيث ظلّت بلاد الحجاز، مكّة والمدينة وما بينهما وما حولهما، منبع الإسلام، تلك الرسالة السماوية العظيمة التي اختارها اللَّه تعالى مصدر نور يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ... وأرضاً صالحةً لدعوة وجهادرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وآله الطيّبين وصحبه المنتجبين والشهداء والصالحين ...

ولها أن تفتخر بكلّ هذا وتسمو به على غيرها من بلدان الأرض.

ظلّت هذه الأرض المباركة مصدر الخير والعطاء، مهداً لكلّ هذا ولكثير من العلماء والفقهاء والمؤرّخين والأدباء والشعراء.. الذين أثروا بما تفضّلت به جهودهم من أعمالٍ جليلة ومواقف كبيرة، تراثنا الإسلامي ومكتباتنا في شتّى صنوف المعرفة فقهاً وتفسيراً وتأريخاً وآداباً.. وما زالت هذه الأرض الولود ترفدنا بين حين وآخر بعالم زاهد ومؤرّخ جليل واستاذ خبير وأديب بارع، تزهو بمحاضراتهم ومؤلّفاتهم مجامعنا العلمية ومحافلنا الثقافية ومنتدياتنا الأدبية...

ومؤرّخنا الباحث الدكتور عبد الملك بن عبداللَّه بن دهيش واحد من

ص: 56

ذلك الجمع الطيّب، ومن الذين اتّصفت شخصياتهم بأجمل ما يتحلّى به الباحث العلمي، وهو الإنصاف واحترام الآخر وعدم التحامل على مخالفه فيما يؤمن به وفيما يطرحه من أفكار، فتراه يستمع إلى آرائهم، فيسلّم للصحيح منها، ويناقش غيره بكلّ سعة صدر وحسن خلق... كلّ ذلك لمسناه في عدد من المؤرّخين في بلد الحرمين الشريفين، وعبر حوارات تتّسم بالمودّة وبالبحث عن الحقيقة أينما وجدها الإنسان التقطها، جرت بينهم وبين آخرين من مذاهب أخرى.

وقد التحق الدكتور بن دهيش بأخلاقه ودقّته العلمية بركب المؤرِّخين المنصفين، الذين خدموا التراث خدمة علميّة مخلصة تستحقّ الوقوف عندها، والاستنارة بما حوته، والاستفادة ممّا توفّرت عليه.

ونحن إذ نقف عند هذا المحقّق الباحث ومؤلّفاته نقدّم خدمة وإن كانت متواضعة لتراثنا بذكر عَلمٍ من أعلامه المعاصرين، الذين تمتّعت حياتهم الشخصية بسيرة طيّبة، وحياتهم العلمية الخصبة والغنيّة بمنهج علمي رائع، فبوقفتنا هذه نكشف للقارئ الكريم والمتتبّع الجاد أهمّ خصلة في هذا الرجل تنفع كثيراً كلّ من أراد أن يكون منصفاً دقيقاً في علاجه للمشاكل وفي مناقشاته للأحداث وفي سرده للوقائع ودراستها؛ ليُعطي بعد ذلك حكمه فيها بلا تحيّز ولا تطرّف..

فإنصافه ومنهجه العلمي ودقّته العالية هو الخصلة الرائعة فيما يؤلّف ويكتب وفي دراساته وتحقيقاته، فقد كان يتمتّع بنَفسٍ علمي وعلمي فقط بعيداً عن الضغائن التي كثيراً ما اتّصفت بها أقلام آخرين، فكانوا من الذين ابتعدوا عن الأمانة العلمية في نقدهم وفي إجاباتهم عمّا يطرح عليهم من أسئلة، ولم يكتف بعضهم بهذا القدر ويقف عنده، بل راح يلوذ بشتائم واتّهامات للآخرين ممّن هم على غير مذهبه، ما لها من حجّة ولا دليل.

ص: 57

أمّا الدكتور عبد الملك، فمع أنّه كان مكثراً في أعماله وانتاجاته، لكنّها لم تكن على حساب أمانته العلمية ودقّتها... ولم تزلّ به قدم، ولم يتحامل على الآخر، وليس في هذا المجال فقط. بل كان مخلصاً أيضاً فيما تولّاه من مناصب إدارية وعلمية أتاحت له خدمة أهدافه وآماله، التي هي الاخرى تنصبّ في خدمة ديننا الإسلامي الحنيف وتراثنا القيّم.

ومعالم شخصيته بدت لا من خلال ما كتبه فقط، بل من خلال مواقفه الرصينة، أيضاً، فتراه- مثلًا- مع أنّه حنبلي المذهب بل من علمائه، إلّاأنّ بحثه عن الحقيقة يشكّل في حياته مراده الأوّل وهدفه الأسمى من أي لسان صدرت ومن أيّ جهة انبثقت، بعيداً عن التحامل والتعصّب الأعمى.

وهذا ما جعله ينصف الآخرين من مذاهب أخرى، ويدافع ويدرأ عنهم ما يثيره الآخرون من شبهات واتّهامات، فتجده- بعد درسٍ وتحقيقٍ- ينأى عن الأفكار الفاسدة والأقلام الحاقدة، وهذا هو شأن الباحث المنصف، والأخلاقية العالية، التي يجب أن يتمتّع بها كلّ من يريد أن يحترم فكره وعقله وقلمه.

فتركت مواقفه هذه وجهوده العلمية وأنشطته الاخرى بصمات واضحة نتلمّس من خلالها منهجاً علميّاً دقيقاً تحلّت به هذه الأنشطة وتلك الخدمات، ومن يريد معرفة الرجل، فليرجع وليحتكم إلى ما تفضّلت به يداه في كلّ الموارد التي توفّر عليها بوعي وبصيرة.

وختاماً وقبل أن نتحدّث عن نسب الرجل واسرته، وأنشطته وجهوده العلمية، وما توفّرت المكتبة الإسلامية عليه من مؤلّفاته وآثاره حتّى غدت زاهيةً بما خطّته أنامله، وما أفاءه علينا من معرفة جمّة وعلمٍ غزير.

ألخص قولي فيه- فقد عرفته من خلال كتبه، وممّا سمعته عنه- أنّ هذا الرجل عرف في الأوساط العلمية وأوساط المؤرِّخين بحذاقته، وبدماثة

ص: 58

الخلق، وسعة الصدر، وحبّه للرأي الآخر، وتقبّله للنقد، وبعده عن الطائفيّة والعصبيّة «دعوها فإنّها منتنة» هكذا عبّر عنها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما كان يربّي أصحابه، ويحذّرهم من العادات الجاهلية وقذاراتها..

لهذا نرى الرجل في لقاءاته على كثرتها منفتحاً على الآخرين، يسمع لهم، ويجيبهم، بعيداً عن التوتّر والتعالي..

إنّ ما يتمتّع به الدكتور بن دهيش من صفات جعلت منه رجلًا يقبل عليه الآخرون بكلّ شوق وحبّ واحترام، كما راح يقدّم كلّ ما عنده من معرفة وعطاء لا يبخل بشي ء منَّ اللَّه به عليه.. حقّاً أنّها زكاة العلم، وما أعظمها من فضيلة أن يتّصف بها طلبة العلم والمعرفة!

وقد هيّأته هذه الخصال العلمية والأخلاقية لأن يدرج اسمه مع كبار المؤرِّخين والمؤلِّفين، خاصّة الذين حظيت أقلامهم بشرف الكتابة عن الحرم المكّي وتحقيق بعض ما ألّف بخصوصه.

ابن دهيش نسباً واسرةً

وجدير بنا ونحن نقرأ هذا الأثر القيّم أن نعرج على مؤلّفه، لنلقي نظرة عليه أسرةً وعلماً وأنشطةً.

إذن تعالوا لنقرأ معاً ما ذكر عن أسرته موطناً ونشأةً؛ قديماً وحديثاً وعن مؤلّفاته وأنشطته والوظائف التي تقلّدها. فهو: معالي الدكتور عبد الملك ابن عبداللَّه بن عمر بن دهيش، من مواليد مدينة حائل، التي تقع في شمال المملكة العربية السعودية.

فقد كان موطن هذه الاسرة قديماً يقع بجبلي أجا وسلمى، ويعرفان الآن ب (حائل)، وقد انتقل مؤسّسها عبداللَّه الشمري إلى منطقة سدير سنة 820 ه.

وفي هذه السنة عمرت بلدة المجمعة المعروفة، عمّرها عبداللَّه الشمري،

ص: 59

من آل ويبار من عبدة، من شمّر، وكان عبداللَّه المذكور من المقرّبين عند حسين بن مدلج بن حسين الوائلي- رئيس بلدة التويم، فلمّا مات حسين، قدم عبداللَّه الشمري المذكور على ابنه إبراهيم بن حسين في بلدة حرمة (1)، فطلب منه قطعة من الأرض، لينزلها ويغرسها هو وأولاده، فأشار أولاد إبراهيم على أبيهم أن يجعله أعلى الوادي، لئلّا يحول بينهم وبين سعة الفلاة والمرعى، فأعطاه موضع بلد المجمعة، وصار كلّما حضر أحد من بني وائل، وطلب من إبراهيم ابن حسين ومن أولاده النزول عندهم، أمروه أن ينزل عند عبداللَّه الشمّري، طلباً للسعة، وخوفاً من التضييق عليهم في منزل وحرث وفلاة (2).

وقد ذكر محمّد العثمان القاضي في روضة الناظر: أنّ عبداللَّه الشمري كان أمير المجمعة وقاضيها والتفّ إليه من الحاضرة والبوادي من حولها حتّى أصبحت عاصمة سدير (3).

ونقل الشيخ حمد الجاسر عن بن لعبون في تاريخه كلامه عن نسب آل مدلج (4).


1- 1 عمّرها إبراهيم بن حسين بن مدلج الوائلي سنة 770 تقريباً، وذلك أنّ إبراهيم بن حسين المذكور انتقل من التويم إلى موضع بلد حرمة، وهي مياه وآثار منازل، قد تعطّلت من منازل بني عايذ من بني سعيد، فعمّرها وغرسها هو وبنوه، ونزل عنده كثير من قرابته وأتباعه. انظر: تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ووفيات بعض الأعيان وأنسابهم وبناء بعض البلدان من 700 ه إلى 1340 ه لإبراهيم بن عيسي ص 31.
2- 2 تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ووفيات بعض الأعيان وأنسابهم وبناء بعض البلدان من 700 ه إلى 1340 ه لإبراهيم بن عيسي، ص 32- 33، وانظر: روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين لمحمّد بن عثمان قاضي عنيزة: 1/ 198.
3- 3 المصدر نفسه 1: 198.
4- 4 جمهرة أنساب الأسر المتحضّرة لحمد الجاسر 1: 426.

ص: 60

وذكر ابن بسّام (1): أنّ عبداللَّه الشمري من ويبار أحد بطون طيّ (2) من عبدة من شمّر، وأولاده ثلاثة هم: سيف، ودهيش، وحمد (3).

ودهيش له عدّة أولاد دبّ الخلاف بينهم وبين بني عمّهم سيف منذ سنة 914 ه وتحوّل إلى معارك هدرت فيها الدماء من الطرفين من أجل رئاسة بلدة المجمعة.

وكان أهل حرمة قد وعدوا آل دهيش النصرة، فيما بادر جماعة من أهل المجمعة وأصلحوا بينهم (4).

ومع هذا ظلّ الخلاف والصلح يتناوبان بينهما حتّى ارتحل آل دهيش إلى مرات، التي تبعد حوالى 145 كم في الشمال الغربي لمدينة الرياض في منطقة الوشم، ومرات هذه مدينة قديمة سُكنت قبل الإسلام ولا تزال مسكونة منذ ذلك الحين، وهي بلدة امرئ القيس (5)، بعد أن لم يجد آل دهيش بدّاً من الرحيل من المجمعة وحرمة إلى مكان يجدون فيه الطمأنينة والاستقرار، وقد ملكوا عدّة عقارات بمرات وذلك في أوائل القرن الثالث عشر الهجري، ولهم حائط باسم (حويط دهيش) على يمين المتّجه شرقاً، ولا يزال قائماً حتّى الآن، وبقي أفراد هذه الاسرة في هذه المدينة يعملون بالتجارة حتى سنة 1236 ه، فساعدوا عبداللَّه بن حمد الجبري، الذي تأمّر على بلدة مرات في زمن تركي بن عبداللَّه بن محمّد بن سعود، مؤسّس


1- 1 تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق لعبد اللَّه بن محمّد البسام 2: 7/ 71- 72.
2- 2 انظر المنتخب: 85، ومعجم قبائل العرب 2: 668، وجمهرة أنساب الأسر: 887، ومعجم قبائل المملكة العربية السعودية، وكلّها للشيخ حمد الجاسر: 866.
3- 3 انظر: جمهرة أنساب الأسر لحمد الجاسر 1: 427 نقلًا عن تاريخ ابن لعبون.
4- 4 تحفة المشتاق 3/ 5/ 19.
5- 5 انظر: المنتخب للمغيري: 245، 393.

ص: 61

الدولة السعودية الثانية (1).

وبعد أن قامت الدولة السعودية الثانية، وخلال الفترة الثانية من حكم فيصل بن تركي الذي عيّن دخيل اللَّه بن دهيش أميراً على بلدة مرات سنة 1267 ه/ 1850 م تقريباً. فاستمرّ دخيل اللَّه أميراً لهذه البلدة طوال فترة حكم فيصل بن تركي وحتّى وفاته في عام 1282 ه. فرحل عنها سنة 1283 مع أسرته إلى الاحساء وبقي فيها يعمل بالتجارة.

ولمّا ضمّت الأحساء إلى السعودية على يد الملك عبد العزيز آل سعود عام 1331 أصبح عمر بن عبداللَّه بن دخيل اللَّه بن دهيش وهو جدّ الدكتور عبدالملك صاحب هذا الكتاب، من المقرّبين لأمير الأحساء عبداللَّه بن جلوي، لفراسته وذكائه، وهو لم ينجب سوى والد الدكتور عبد الملك، فضيلة الشيخ عبداللَّه بن عمر بن دهيش، وقد تولّى عدّة مناصب في سلك القضاء، تولّى آخرها وهو رئاسة المحاكم الشرعية بمكّة المكرّمة بناءً على الأمر الملكي بتاريخ 17/ 9/ 1371 ه.

وكان لفضيلته الكثير من المؤلّفات والمحقّقات بلغت أكثر من عشرين كتاباً، وله مكتبة عامرة تضمّ كثيراً من المطبوعات والمخطوطات، ما زالت بحوزة ابنه فضيلة الدكتور عبد الملك بعد أن توسّعت بفضل ما ضمّه الدكتور إليها ممّا لديه من كتب ومخطوطات.

مؤهّلاته العلمية

لفضيلة المؤلّف مؤهّلات ذاتية أكسبته بدورها مؤهّلاتٍ علمية، فبعد أن تلقّى تعليمه الابتدائي بالأحساء، ثمّ في الخبر، فالمدرسة الرحمانية بمكّة المكرّمة، أنهى الدراسة المتوسّطة والثانوية في المعهد العلمي السعودي بمكّة المكرّمة.


1- 1 انظر: تحفة المشتاق: 284.

ص: 62

حصل شيخنا المؤلّف على شهادة الماجستير عن تحقيقه لكتاب (أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه) لمحمّد بن إسحاق الفاكهي.

ونال بعدها الدكتوراه عن اطروحة، وهي كتابه هذا الذي بين أيدينا.

فيما نال درجة الاستاذية في اطروحته الأخرى، وكانت بعنوان (مصطلحات الفقه الحنبلي).

أساتذته:

- والده فضيلة الشيخ العلّامة عبداللَّه بن دهيش.

- فضيلة الشيخ العلّامة عبد اللَّه خيّاط.

- فضيلة الشيخ العلّامة يحيى أمان- مساعد رئيس المحكمة الكبرى بمكّة المكرّمة.

- فضيلة الشيخ العلّامة حسن مشاط- القاضي بالمحكمة الكبرى بمكّة المكرّمة، والمدرس بالمسجد الحرام.

- فضيلة الشيخ أحمد علي أسد اللَّه- مدير كلّية الشريعة.

- فضيلة الشيخ العلّامة علي الهندي- المدرّس بكلّية الشريعة بمكّة المكرّمة، والمدرّس بالمسجد الحرام.

الإجازات العلميّة:

- حصل على إجازة في السيرة النبويّة وغيرها من الكتب العلميّة من الشيخ/ أبو الحسن علي الحسني الندوي.

- حصل على إجازة في رواية أحاديث الصحيحين والسنن الأربع، ومسند الإمام أحمد، وسنن الإمام البيهقي، وسنن الدارقطني، ومسند أبو داود الطيالسي من الشيخ/ سيّد صبحي البدري السامرائي.

- حصل على شهادة تقديرية لأعماله في الفكر الإسلامي ودراساته الأصيلة عن البلد الحرام من سوق الفسطاط للشعر والنقد بمصر.

ص: 63

- حصل على الزمالة الفخرية لعام 1995 م لرابطة الأدب الحديث من الرئيس محمّد حسني مبارك بمصر.

- حصل على إجازة في رواية الحديث وعلومه من الشيخ عبداللَّه ابن الصديق من المغرب.

- حصل على إجازة في الحديث وعلومه من الشيخ محمّد بن ياسين الفاداني من علماء الحرم المكّي.

- حصل على شهادة تقدير من الملك خالد بن عبد العزيز في عام 1401 ه على دوره في نشر العلم وإنارة الفكر النافع المفيد.

نشاطه العلمي:

1- حقّق كتاب «أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه» للفاكهي في ستّة مجلّدات وطبع طبعتين.

2- صنّف بحثاً بعنوان «الحرم المكّي الشريف والأعلام المحيطة به»، ويعدّ هذا أوّل دراسة تأريخية وميدانيّة في هذا المجال.

3- حقّق كتاب «جامع المسانيد والسنن الهادي لأقوم سنن» للإمام ابن كثير في اثني عشر مجلّداً.

4- حقّق كتاب «شرح الزركشي على مختصر الخرقي» في أربعة مجلّدات.

5- حقّق كتاب «معونة أولي النهى- شرح المنتهى» لابن النجّار الفتوحي الحنبلي، في 13 مجلّد.

والمجلّد ال 13 خاصّ بمعجم الألفاظ الفقهية.

6- حقّق كتاب «الأحاديث المختارة» للمقدسي في ثلاثة عشر مجلّداً، وطبع ثلاث مرّات.

7- حقّق كتاب «المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح» للدمياطي وطبع إحدى عشرة طبعة.

ص: 64

8- علّق على كتاب «وظائف شهر رمضان» لابن رجب الحنبلي.

9- حقّق كتاب: «إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى» للشيخ منصور بن إدريس البهوتي الحنبلي (ت 1051 ه) وهو حاشية على متن المنتهى قبل أن يشرحه، ويقع في مجلّدين.

10- حقّق كتاب: «الممتع في شرح المقنع» للشيخ زين الدين أبي البركات المنجي بن عثمان بن أسعد بن المنجي التنوخي المصري الدمشقي الحنبلي (631- 695 ه) في ستّة مجلّدات.

11- صنّف كتاباً عن المشاعر المقدّسة بمكّة المكرّمة اسمه حدود وأحكام المشاعر المقدّسة (منى- عرفات- مزدلفة) يبيّن فيه حدودها وأحكامها.

12- صنّف كتاباً سمّاه مصطلحات الفقه الحنبلي، اعتمد فيه على علماء الحنابلة ومصطلحاتهم في مؤلّفاتهم، ويقع في مجلّد واحد.

13- حقّق كتاب الواضح في شرح مختصر الخرقي لنور الدين عبد الرحمن بن عمرو أبي القاسم بن علي بن عثمان الضرير (ت 684 ه) في خمسة مجلّدات.

14- حقّق كتاب المستوعب لنصير الدِّين السامري الحنبلي في ثلاثة مجلّدات.

15- حقّق مسند أبي هريرة للإمام ابن كثير الدمشقي في مجلّدين.

16- صنّف بحثاً عن تعلّم البنات في مجلّد واحد.

17- له العديد من المقالات العلميّة المنشورة في الصحف والمجلّات العلمية المتخصّصة.

18-

THE HOLY SHRIFE OF MAKKA THE BOUBDARY

MA RKSSURROUBDING IT :A HISTORICAL

FIDLD STUDY

.

ص: 65

وهو ترجمة لكتابه «الحرم المكّي الشريف والأعلام المحيطة به».

19- له العديد من الدراسات والتحقيقات تحت الإعداد.

20- جملة ما صدر له حتّى تاريخه (79) تسعة وسبعون مجلّداً.

21- أصدر على نفقته كتاب التاريخ القويم لمكّة والحرم الكريم، في ثلاثة مجلّدات في (6 أجزاء) بعد أن صحّحه وقدّم له.

وللدكتور أنشطة أخرى كثيرة عبر الوظائف المتعددة التي تقلّدها في بلده، في القضاء والتعليم والتربية والإدارة، وعبر المؤتمرات والندوات واللجان، التي كان له دورٌ بارز فيها.

*** تمهيد:

إنّ ممّا لا يختلف فيه اثنان أنّ الحديث أو الكتابة أو البحث عن الحرمين المباركين، الحرم المكّي، الحرم المدني، له من جلال الشأن وعلوّ القدر ما لا يضاهيه شي ء أبداً، خاصّة إذا كان الباحث ممّن يرجو اللَّه واليوم الآخر، فيدفعه هذا الاهتمام الدقيق بهما، وتقصّي كلّ شؤونهما، وما يتضمّناه من تاريخ طويل ضارب في عمق التاريخ، وما يستوحيه الإنسان من خلال تواجده فيهما من مفاهيم إيمانية وأخرى أخلاقية وسياسيّة واجتماعية...

ويستحضر تلك المواقف الجليلة لأولئك الأفذاذ، الذين قدّموا كلّ غالٍ في سبيل المحافظة عليهما ورعايتهما وإيصالهما للآتي من الأجيال..

ولئن كان الحرم المكّي قد تظافرت عليه جهود أنبياء ثلاثة (إبراهيم وإسماعيل ومن ثمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله) حتّى صار بالصورة، التي أرادتها السماء مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ و قِيَاماً لِلنَّاسِ و حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وليكون مكاناً لعبادة اللَّه تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ... لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِى أَيَّامٍ

ص: 66

مَعْلُومَاتٍ... و..

فإنّ الحرم المدني كان مديناً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقط وفقط، الذي ما إن وطأت قدماه المباركتان تراب يثرب، وما إن ضمّ ترابها جسده الشريف حتّى صارت المدينة حرماً آمناً بعد مكّة في المنزلة، تشتاق إليها- كمكّة- الأرواح وتهفو إليها الأفئدة، ويتسابق إلى زيارتها جيل بعد جيل منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فلا نرى حاجّاً لمكّة أو معتمراً إلّاوقد أكمل حجّه أو عمرته بزيارة المدينة المنوّرة حيث المرقد الطاهر المبارك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وحيث المراقد المباركة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام، وللشهداء والصحابة رضوان اللَّه عليهم، وحيث المعالم المباركة وآثار الرسالة الخالدة...

*** والكتاب الذي بين أيدينا واحد من تلك البحوث والمؤلّفات، إنّه «الحرم المكّي الشريف والاعلام المحيطة به»، وهو دراسة ميدانية، تاريخية، فقهية، كانت أُطروحةً نال بها المؤلّف شهادة الدكتوراه، كتاب قيّم جدّاً، ومهمّ، لايستغني عنه أيّ باحث أو متتبّع للحرم المكّي تأريخيّاً وفقهيّاً..

فأهمّيته الكبيرة وقيمته العلمية العالية يكتسبها هذا الكتاب من كونه دراسة خارج المكاتب المتعارفة للكتابة والتأليف، فهو أي المؤلّف لا يكتفي بأن ينزوي هنا أو هناك في زاوية من زوايا مكتبته أو مكتبة أخرى يراجع كتاباً أو يتصفّح مصدراً، ليتّخذه مدركاً لرأي رآه، أو قولٍ ذكره، أو شي ء آخر لابدّ له من توثيقه، وإلّا كان كلاماً أو شيئاً لا يتّصف بالعلمية والدقّة.. فهو إضافة إلى هذا الذي تعارف عليه الكتّاب والمؤلّفون والمحقّقون... راح يتسلّق تلّةً أو جبلًا ويهبط وادياً.. يستقبله قوم، ويتركه آخرون، يستضيفونه تارةً، وقد يبخلون عليه أخرى، يأمنون به مرّةً، ليحذروه

ص: 67

أخرى.. أسئلته التي يحملها في ذهنه، قد تتعبهم إجاباتها، وقد لا يحيطون إلّا بشي ء يسير لا يغني ولا يسمن، إن لم يكن يجهلونها.. فصحيح هم من أهل هذه المنطقة، إلّاأنّهم ليسوا بالضرورة يحيطون بعلمٍ عنها أو بإثارةٍ منها.. فيقبض على ما ينفعه..

إنّها دراسة ميدانية، مصادرها مواضع منبثّة هناك بعيداً لا تصلها إلّابشقّ الأنفس، وأخرى أبعد منها، الوصول إليها أمر يحتاج إلى صبر ومصابرة، بل ومرابطة تكلّف الباحث جهوداً كبيرة وآلاماً كثيرة، والعجيب في الأمر أنّ هذا الرجل الصالح الصابر المثابر الدؤوب، لم يتهيّب ذلك، ولم ينكل عن مهمّته التي عاشها حلماً سنين طويلة، وهاهي الآن أمامه واقعاً وإن كان مرّاً، إلّاأنّه سيترك له بضاعة كبيرة، وثماراً يانعةً، ونتائج جميلة، يزول بسببها كلّ ألم ومعاناة، بل وينسى عثراتٍ وصعاباً وإن كانت عظاماً، مقابل ما جناه من ثمارٍ وما حصل عليه من منافع..

*** قصّة الكتاب

بداية طيّبة، وطموح عظيم، ومنهجية عالية، هذا ما وجدناه فيما كتبه الدكتور بن دهيش من مقدّمة امتازت بجمالها وجاذبيّتها وهي ترسم، إضافة إلى منهجية بحثه وطريقة تحقيقه، آماله، ومعاناته التي لم تعقه عن عمله المنشود، بل راحت تدفعه هي الاخرى إلى مزيد من البحث والتدقيق.

لقد حملت مقدّمة كتابه هذا أمله الذي تاقت نفسه إليه، بل وهمّه الذي رافقه لأكثر من عقدين: «ونفسي تتوق لمعرفة مواضع الحرم المكّي الشريف وذلك أنّه- وما زال الكلام للدكتور المؤلّف- كان لي شرف المشاركة في بعض اللجان المكلّفة بهذا الأمر بصحبة والدي فضيلة الشيخ عبداللَّه عمر بن دهيش رحمه الله عندما كان رئيساً لمحاكم مكّة المكرّمة، حيث

ص: 68

حوَّمنا فوق بعض مواضع حدود الحرم بطائرة عمودية (هيلكوبتر) فُرغت يومها لهذا الغرض، وبعدها بسنوات كنت قد أشرفت على وضع أحد العلامات الدالّة على موضع الحدّ، على أحد الطرق الرئيسيّة المؤدّية إلى البلد الحرام».

ابن دهيش يخطو الخطوة الأولى

ثمّ راح يواصل حديثه، الذي يبيّن فيه بداية مشروعه هذا حيث يقول:

«وبعد أن ابتعدت عن المشاغل الرئيسيّة، ومنها سلك القضاء، تاقت نفسي للاطّلاع على ما كتب عن تاريخ البلد الحرام، في القديم وفي الحديث، ويسَّر اللَّه لي الوقوف على صورة من مخطوطة كتاب: «أخبار مكّة في قديم الدهر وحديثه» للإمام محمّد بن إسحاق الفاكهي المكّي، المتوفّى في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري».

وبعد أن تمّ له تحقيق كتاب الفاكهي هذا، يقول: «عاد الشوق يحدوني من جديد لمعرفة مواضع حدود الحرم المكّي الشريف، والوقوف عليها، واشتدّت رغبتي في ذلك، وأخذ الحماس لهذا الأمر يزداد يوماً بعد يومٍ، كلّما تعمّقت في دراسة المباحث الجغرافية، التي ذكرها الفاكهي في كتابه».

لقد كان الدكتور بن دهيش منهجيّاً في تحقيقه لكتاب الفاكهي حيث لم يدع موضعاً ذكره الفاكهي وعرّفه، إلّاوقف عليه ووصفه وصوّره وحتّى لا يدع شيئاً إلّاوذكره عنه، وإن كان اسماً جديداً له.

ولم يتوقّف في عمله هذا عن سؤال أهل الخبرة فهم مصدر من مصادره، التي اعتنى بها في تحقيقه لكتاب الفاكهي، وفي كتابه الذي بين أيدينا، فيقول: «فلقد اتّصلت بأكثر من رجل ممن لهم خبرة في مواضع مكّة وجبالها ووهادها وأعلامها وشعابها، ومنهم خبراء عملوا في هيئة النظر في محكمة مكّة، تنتدبهم محاكم مكّة لفضّ المنازعات، وتثبيت الحدود

ص: 69

والحقوق والممتلكات في المواضع المحيطة بمكّة المكرّمة... وخلاصة القول: إنّ هؤلاء أعلم بالمواضع التأريخية والأثرية في مكّة، لا بل أعلم أهلها بأسماء جبالها، وريعانها وأوديتها وشعابها وآبارها وغير ذلك، وأعلم من عرفت بمواضع حدود الحرم المكّي الشريف... واختبرت أحدهم في أكثر من أمر، فوجدته من الصدق والورع والتحرّي.

وكنت أديم النظر في كتاب: «أخبار مكّة» للأزرقي، وفي كتاب الفاسي:

«شفاء الغرام» و «العقد الثمين» ومصادر أخرى. وقلّما سمعت بكتاب يتحدّث عن البلد الحرام إلّااقتنيته وقرأته...».

ويواصل حديثه قائلًا: «وكنت أتلهّف لمعرفة ما يتعلّق بالتاريخ المكّي في الكتب المخطوطة بخاصّة، فاجتمع لديّ في هذا الحقل الشي ء الكثير؛ نظراً لاهتمامي الشديد في هذا الجانب من المعرفة.

ثمّ شرعت في تحقيق ما في بطون الكتب المخطوطة أو المطبوعة، وسألت واستفسرت من العلماء والخبراء، ودرست الخرائط الجغرافية والتأريخية، ثمّ قمت بمسح عملي لتلك المواضع وغيرها».

*** وقبل الخوض في الكتاب المذكور، أوجعني ما عثرت عليه من أخطاء نحوية وإملائية.. ما كان ينبغي أن تقع خاصّة وهو يصدر تأليفاً وطباعةً من بلد هو موطن القرآن واللغة وآدابها، آمل أن يُراجع الكتاب جيّداً قبل طبعته الاخرى.

وهذه الملاحظة تجري أيضاً على الكتيب، الذي اعتمدتُه في ترجمة حياة المؤلّف، وقدفات المؤلّف أن يذكر فيه تاريخ ولادة الدكتور عبدالملك.

وأرجو ألّاأكون في هذا ممّن قيل فيهم:

فإن رأوا هفوةً طاروا بها فرحاً منّي وما علموا من صالح دفنوا

إنّ أوّل ما يراه القارئ لهذا الكتاب مقدّمةً راح قلمه الجميل، يصوّر همّاً عاشه عقدين أو أكثر، تتوق خلاله نفسه، لا لدنيا فارهة، بل لمعرفة أمر آخر، يترك له ذكراً طيّباً في الدُّنيا، وأجراً كبيراً في الآخرة، إنّه توقٌ جميل وأمل كبير، وعمل مشروع تباركه السماء، إنّه بحث في أقدس مكانٍ عرفته الدُّنيا، وفي أعظم بقعة باركتها السماء، وفي موضع أراد اللَّه أن يعبد فيه، وفي وادٍ وصفته السماء بأقصر عبارة وأوضح بيان وأدقّ تعبير، إلّاأنّه يحمل معاني عظيمة إنّه وَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ. راح إبراهيم عليه السلام، عبر جهادٍ مرير، ومعاناة شاقّة يؤسس لمشروعٍ سماويّ كريم.

وتذكّرني معاناة الدكتور دهيش، وما قاساه في مهمّته هذه من آلام وعقبات، على قلّتها، بتلك التي عاناها ذلك الشيخ العظيم المبارك نبيّ اللَّه إبراهيم، وقد اصطحب معه زوجته وابنه إسماعيل ومتاعه، وظلّ يغذّ السير على هدًى من اللَّه تعالى، ويقطع الجبال والوديان والصحاري والفلوات حتّى وصل إلى وادٍ مجدب مقفر تحيطه الجبال وتحفّ به التلال.

وهو المكان الذي أمره اللَّه تعالى بأن يلقي به بذور رسالة السماء إلى أهل الأرض، ويودع في ذلك الوادي فلذة كبده، وأهله وأعزّ ما عنده في وقت ما أحوجه إليهم!.. وكم هو عظيم وخطير أن يترك الزوج زوجته والأب ابنه في مثل ذلك المكان المخيف، وفي مثل تلك الظروف الصعبة والأحوال القاسية.. لكنّها الطاعة المطلقة للَّه والانقياد التامّ له.. فكانت حقّاً بذوراً مباركةً مورقة ذات بهجة، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، في عصره وفيما تلته من عصور، فغدت كلّها عصوراً نابضةً بآيات الإيمان، زاخرةً بمعالم الخير والعطاء، شاخصةً بالعزّ والشموخ، فقد راح هذا الوادي- الذي كان مقفراً في جوف تلك الصحراء النائية- راح يضجّ بحياة تدبّ في كلّ مظاهر دنياه، وتُضفى عليها السلامة والطمأنينة والأمان.

ص: 71

بين يدي كتاب

الحرم المكّي الشريف والأعلام المحيطة به

دراسة تاريخية وميدانية

بحث وإعداد: د. عبد الملك بن عبداللَّه بن دهيش

مكّة المكرّمة 1418 ه- 1997 م مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة

استعراض سريع لمحتوياته

يتضمّن الكتاب المذكور محتويات تمدّدت على مساحة خمسمائة وثلاث وثلاثين صفحة، توفّرت- إضافةً إلى مواضيع الكتاب الرئيسيّة- على هوامش لإرجاعاته، وشرح المؤلّف في بعضها كلّ ما يصادفه من مفردات ومصطلحات تحتاج إلى التوضيح، مع بعض التراجم، وملحق خرائط، فيه اثنتان وأربعون خارطة للجبال، وآخر للصور ويشتمل على أربع وستّين صورة ملوّنة، تبيّن الأعلام، وبعضها توضح تحرّك المؤلّف وجولاته على مواقع حدود الحرم، وانتقاله من جبل إلى جبل وهو يبحث عن الأعلام المثبتة هنا وهناك بين الجبال وصخورها،

كما أنّ هناك صورة فوتغرافية لخطاب أرسله المؤلّف إلى بعض المعامل العالمية المتخصّصة في تحليل الآثار القديمة لمعرفة تأريخها.

ويضمّ الكتاب فهارس متعدّدة:

أوّلًا: فهرس الآيات.

ثانياً: فهرس أطراف الحديث والآثار مع ذكر الراوي.

ثالثاً: فهرس الأعلام مرتّب حسب الحروف الهجائية.

رابعاً: فهرس القبائل والامم.

ص: 72

خامساً: فهرس المواضع مرتّب حسب الحروف الهجائية.

سادساً: فهرس المصادر والمراجع وهما قسمان:

أ- المصادر المخطوطة والوثائق، وفيه اثنان وعشرون مصدراً.

ب- المصادر المطبوعة، وفيه اثنان وتسعون مصدراً.

سابعاً: فهرس الموضوعات.

أمّا هذا الفهرس فيحتوي على ثلاثة أبواب، تتضمّن فصولًا، وكلّ فصل يشتمل على مباحث متعدّدة.

وفيه:

المقدّمة: التي ذكر فيها ما كان يأمله في تحقيق هذه الدراسة، وأسبابها، والمصادر التي اعتمد عليها..

خطّة البحث: وتقوم على البحث العلمي الميداني، أي هي عبارة عن رحلة علمية تبحث عن أعلام مندثرة، لاكتشافها وتعيينها...

الباب الأوّل، وعنوانه:

تاريخ أعلام الحرم المكّي الشريف

وجهود المؤرِّخين المكّيين في ضبط حدوده

وفيه فصلان:

الفصل الأوّل: تاريخ أعلام الحرم المكّي الشريف، ويبدأ من الصفحة 35 وينتهي بالصفحة 94.

الفصل الثاني: جهود المؤرِّخين المكّيّين في ضبط مواضع حدود الحرم الشريف، ويتضمّن مواضيع تتمدّد على الصفحات 97- 126.

الباب الثاني، وعنوانه:

مواضع حدود الحرم المكّي الشريف

وفيه أربعة فصول، في أعداد الأعلام ومواضعها في الجبال والثنيّات

ص: 73

والوديان. تتمدّد بحوثها على الصفحات 133- 345.

يحتوي الفصل الأوّل، وعنوانه: أعلام الحدّ الشرقي، على ستّة عشر مبحثاً من الصفحة 133- 160.

فيما يشتمل الفصل الثاني، وعنوانه: أعلام الحدّ الشمالي، على اثنين وعشرين مبحثاً من الصفحة 165- 256.

أمّا الفصل الثالث وعنوانه: أعلام الحدّ الغربي، فيتضمّن خمسة مباحث من الصفحة 261- 284.

والفصل الرابع، وعنوانه: أعلام الحدّ الجنوبي، فيشتمل على أربعة عشر مبحثاً من الصفحة 289- 345.

أمّا الباب الأخير، وهو الباب الثالث، فقد عنونه المؤلّف ب (الخاتمة والنتائج).

خطة العمل:

وأنا أقرأ هذا الكتاب، رأيت أن لا بدّ لي من ذكر خطّة العمل، التي اتّبعها الدكتور في إنجاز مشروعه القيّم هذا، وهي تتلخص بما يلي:

فقد كان يسجّل ما يراه من أعلام على أوراق خاصّة، ويبدأ برسم مخطط للجبل من بدايته، وكلّما صعد أو مرّ بقمة جبل أثبتها على الرسم، وإذا ما مرّ بشعب وهو ما انفرج بين جبلين، يميناً كان هذا الشعب أو يساراً، أثبته على الرسم، ولا ينتهي من الرسم إلّاوقد انتهى الجبل، مستفيداً في عمله هذا من الرسم التخطيطي، فيذكر المسافة بين علم وآخر ووصف كلّ علم ومعالمه وحجمه واتجاهه.

وإن كانت عليه نورة يذكرها، كما يذكر حجارته المنحوتة والمرضوضة وانخفاضه وارتفاعه... فيقدم بهذا صورة متكاملة لكلّ علم وما يتعلّق به، ثمّ يذكر كيفيّة الارتباط بين هذا الجبل والآخر وارتباط الحدّ بينهما والأعلام؛ لكي تترابط مواضع الحدّ ترابطاً يمنع الشك والاضطراب عند القارئ، ويذكر أيضاً عدد هذه الأعلام ووصفاً عامّاً لحدود الجبل وأبعاده وحتّى لون حجارته...

ص: 74

وبعدانتهائه من عمله الميداني هذا، يعود إلى مكتبه، ليرتّب جميع ما كتبه حتّى اسم الجبل وضبط لفظه، إن وجد له اسماً قديماً، وما يعثر عليه من معلومات حوله في المصادر القديمة، ويذكر ما عليه من أعلام... ثمّ يتحقّق من صحّة مواضع تلك الأعلام، مستعيناً بالمصادر القديمة وبالعلماء والخبراء، قبل أن يبيّض ما رسمه وما خطّطه مراعياً الرموز والقياسات المثبّتة في الخرائط الجويّة المعتمدة لمكة المكرّمة.

فهو إذن يقوم برسم خريطة عامة، معتمداً على خرائط جويّة للجبال، التي يمرّ عليها الخط، الذي رسمه كحدّ لأعلام الحرم المكّي، ثمّ يستخلص من هذه الخارطة العامّة خرائط مكبّرة لكلّ جبل، أو ثنية أو مدخل لمكّة المكرّمة، ومواضع الأعلام على تلك الخرائط، فتأتي الخرائط منضبطة، وقد التزم بعمله هذا بالقواعد الأصوليّة لفنّ الخرائط، ذاكراً محيط الشكل المنحرف أو المتعرّج وارتفاعات قمم الجبال والخطوط البيانيّة الأخرى...

ولم يكتفِ بذلك بل استعان بمكتب هندسي لمساعدته في تنزيل الأعلام على هذه الخرائط الجويّة، فكان عمله عملًا علمياً موفّقاً مستعملًا في مقاساته المتر الطولي، أمّا المسافات بين الجبال، فغالباً ما كان يقيسها بالسيّارة.

وعند انتهائه من مهمّته هذه، وجد أنّ الصور التي التقطها فاقت (2000) صورة، فراح ينتخب منها ما هو أجود وأصلح وأدلّ، فوضعه في بحثه هذا. كما أنّ ما تجمع بين يديه من أعلام الحرم المصوّرة قد بلغت (64) صورة، هذه هي خطّته، التي سار عليها في وصف الأعلام ومواضعها.

*** فبعد رحلة الشيخ الدكتور ابن دهيش وتجواله الطويل، حول حدود الحرم المكّي، وبعد تلخيصنا لخطّة العمل والأبحاث التي ذكرنا عناوينها في استعراضنا المختصر هذا، وهي أبحاث ميدانيّة قيّمة جدّاً، وسجّلت منافع هي الاخرى ذات قيمة علمية وبدرجة عالية، لا أبالغ إذا قلت: إنّها.. وبحسب ما تيسّر لي من

ص: 75

الاطّلاع- نادرةٌ وفاردةٌ في بابها وفيما توصّلت إليه من نتائج، وفيما تركته من آثارٍ كبيرة في دائرتنا المعرفية عن الحدود الجغرافية للحرم، قد لا نجدها بهذه المنهجة والترتيب والدقّة عند كلّ من كتب حول الحرم المكّي قديماً وحديثاً، ولا غرابة إن قلت: إنّها تعبّر عن منهج جديد، وطريقة مبتكرة في هذه الدراسات والبحوث، يستحقّ صاحبها منّا الشكر والتقدير والإجلال؛ لما بذله من جهود علميّة وفكريّة، وأخرى متاعب نفسية وبدنية، لا يعلم بقدرها إلّااللَّه تعالى، والراسخون في دائرة مثل هذه الدراسات خاصّة الميدانية منها. حتّى اضطرّته لأن يعلن صراحةً: «فمن يقرأ هذه الدراسة بعين الإنصاف، يعرف مقدار الجهد البدني والنفسي والفكري، الذي بُذل فيها» ثمّ إنّه يعقّب، بعيداً عن الغرور العلمي، ودرءاً للتفاخر والتكاثر والعجب الذي يقتل صاحبه.. فتراه يعيد الفضل في كلّ ذلك إلى الباري تعالى ولأجل قبوله ورضاه، فيقول: «والفضل كلّه للَّه سبحانه وتعالى، ومنه نرجو القبول، وجزيل الثواب».

ونحن بدورنا نقرأ: ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء ونسأله تعالى أن يجعله ذخراً له: يَوْمَ لَايَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ.

فبعد كلّ هذا التطواف والتجوال، يصل الشيخ إلى اللابدّية التي يصرّح بها بقوله: «لابدّ من تقييد ما خرجت به هذه الدراسة من نتائج واقتراحات».

ثمّ راح يسجّل أهمّ هذه النتائج، التي تمخّضت عنها دراسته، إضافةً إلى الاستنتاجات والتنبيهات، التي نثرها شيخنا الجليل هنا وهناك في ثنايا بحوثه، لا تغيب عن القارئ الكريم.

القراءة:

بعد هذا التعريف المختصر للكتاب، تبدأ قراءتنا لأبواب الكتاب فصولًا وبحوثاً، مبتدئينها بالأهمّ الذي تحوم الدراسة حوله وهو ما ذكره الدكتور في مقدّمة كتابه ص 11: «وكان لابدّ أن أستعرض الحدود، كما ذكرها لي بعض من

ص: 76

سألته عن حدود الحرم، فقال أكثرهم: إنّ الحدود:

أ) الحدّ الشرقي: (قرْن) في منتصف (وادي عُرَنَة)، ثمّ (جبل عارض)، ثمّ (قرن العابديّة)، ثمّ (جبل نَمرة)، ثمّ (جبل الخَطْم)، ثمّ (جبل الستار)، ثمّ (شرفة أسلع)، ثمّ (عارض الحصن)، ثمّ (جبل المقطع)، على (ثنية خَلّ)، ثمّ (ستار لحيان).

ب) الحدّ الشمالي: (ثنية النقواء)، ثمّ (جبال حمر) بعد هذه الثنية حتّى تصل إلى (شرفة بشم)، ولم تُسمّ (الجبال الحمر) باسمٍ، وبعد (شرفة بشم) (جبل نعمان)، ثمّ (التنعيم)، ثمّ جبل (نعيم)، ثمّ (ريع رَحا) ثمّ (ريع المصانيع)، ثمّ (ريع العُمير)، ثمّ (ريع المُريد)، ثمّ (الأعشاش).

ج) الحدّ الغربي: جبل (أظلم)، ثمّ الجبال الصغيرة التي عند رأسه، حتّى يوازي (أُمّ هشيم).

د) الحدّ الجنوبي: (أُمّ هشيم)، ثمّ (الدومة الحمراء)، ثمّ (جبل بُشيم)، ثمّ (جبل لين)، ثمّ (جبل الستار)- جبل ستار لحيان- ثمّ (جبل الغربان)، ثمّ (ثنية المستوفرة)، ثمّ (البيان)، ثمّ (جبل غراب)، ثمّ (مهجرة)، ثمّ (صيفة). انظر الصحفة 12- 13.

كلّ هذه كانت مشمولةً لتتبّعه ودراسته الميدانيّة، فرأى في رحلته هذه (934) علماً، تحيط بالحرم المكّي، كانت مبثوثة هنا وهناك على الجبال، انهدم ثلثها أو أكثر، وقد تناولها المؤلّف بالبحث في الباب الثاني من كتابه هذا موضعاً وعدداً وصوراً وخرائط.

ونحن نشاركه عجبه، الذي استولى عليه من صبر أولئك الأجداد، على تحمّل المشاق والصعاب، وهم يحملون على ظهورهم الماء والنورة أو الصخر، ويتسلّقون تلك الجبال التي ترتفع أكثر من (500 م) عن سطح البحر، وانحدارها الشديد، ليصلوا إلى قممها، لكي يضعوا علماً، فعثر على أعلام كانت مبنيّة هناك بالصخر المنقور المنحوت، وبالنورة البيضاء، فكيف استطاعوا أن يوصلوا الماء

ص: 77

الكثير للبناء، والنورة الكثيرة إلى هذه القمم الوعرة الصخرية المرتفعة، وهي قليلة الشجر، منعدمة الماء، شاهقة الارتفاع، ملتهبة الحرارة؟!

وقفة إعجاب وإكبار!

نعم، لقد استوقفتني عبارة في الصفحة 9 من كتابه هذا، وهو يذكر ما عاناه من صعوبات عمله، وما لا قاه من أتعاب طيلة رحلته التي كان عمرها تسعة أشهر، وكيف تنسيه ذلك فرحة حصوله على مراده، فيقول بعد أن يجد الفاكهي يصرّح بمواضع هي من حدود الحرم، جبال وثنايا وأراض منبسطة، وغير ذلك، وأنّ هناك أعلاماً على هذه المواضع: «فكنت أذهب بشغف ولهفة إليها، وأتسلّق الجبال، وكم تكون فرحتي غامرةً وشديدةً عندما أجد تلك الأعلام التي ذكرها الفاكهي، وكم تكون فرحتي أشدّ وأكثر عندما أجد على هذه الأعلام آثار النورة البيضاء (1) القديمة. ولقد كانت هذه الفرحة تنسيني التعب والمشقّة في تسلّق العالي من الجبال، وتنسيني ما يدخل في قدميّ من أشواك، وما يسيل منها من دماء».

وعبارته الاخرى وهو يصف تطوافه في هذا الوادي وجباله...

«عندذلك قرّرت إكمال معرفة هذه الأعلام والوقوف عليها جميعاً، مهما كلّفني ذلك من جهد ومشقّة، وهذا يعني السير حول مكّة المكرّمة ليس بالسيّارة وعلى أرض منبسطة سهلة، وإنّما على جبال مرتفعة، قد يصل ارتفاع بعضها إلى أكثر من (2500) فوق سطح البحر، بعضهالا يؤمن من تسلّقها من وجودالأفاعي والهوامّ والوحوش، ويخشى أن تزلّ القدم، فأقع في وادٍ عاقبته وخيمة لا قدّر اللَّه، وهذا يعني أيضاً أن أسير على قدميّ الساعات تلو الساعات على أرض جبلية وعرة


1- 1 أي الجير الأبيض، ويستعمل في البناء قديماً والذي يسمّونه الآن «الجص» أو «كبريتات الكالسيوم»،، وقدطلبت، والكلام للدكتور المؤلّف، من مركز الأبحاث بالمتحف الرئيسي بفرانكفورت بألمانيا تحليل عينة من الأحجار الجيرية المذكورة لمعرفة تاريخ عمارتها، فوردني الجواب المرفق صورته في ملحق الصور، ومضمونه أنّه ليس من السهل تحديد عصر هذه العيّنات الجيرية.

ص: 78

يابسة، لا يُرى فيها ماء ولا خضرة...».

لقد استوقفتني هذه الصعوبات الكبيرة والخطيرة التي يذكرها الدكتور، طويلًا، فرحت هناك أنظر بعيداً بعيداً في عمق التاريخ، وأستحضر ما أراه وكأنّه أمامي، إنّه ذلك الشيخ الكبير القادم من بعيد بأهله، يقطع الفيافي والوديان والجبال وصخورها، لقد احتواه العراء الواسع هذا، وسرحت عيناه فيما يحيطه، وقد توزّعت نظراته هنا وهناك، يرمق السماء ببعضها مبتهلًا وداعياً، فيما يحنو ببعضها الآخر على ولده الوحيد يومذاك، وزوجته المطيعة الأمينة، التي اختارتها السماء لوظيفة.. هي الاخرى ظلّت عيونها تارةً تحلّق بعيداً.. جبال صخورها وعرة.. وديان جدباء.. فيافي قاحلة.. صحاري ملتهبة.. إذن ماذا يريد منّا هذا الشيخ الكبير؟!

فراحت عيونها تحلّق تارةً بعيداً وقد يصيبها الدوار ممّا ترى.. وتارةً أخرى تحملق في وجه نبيّ اللَّه دون أن ترى علامة أو تسمع كلمة لعلّها تهدئ روعها وتطمئن بها نفسها.. وثالثة نحو رضيعها فتذرف دموعها خوفاً عليه، والذي اختارته السماء لدور آخر لا يقلّ عظمة عن دور أبيه وامّه.. ثمّ تعود من نظراتها هذه نحو السماء، لتستنزل بعبراتها وبرقّتها المعروفة وعواطفها الجيّاشة رحمة السماء.

ظلّ الثلاثة هكذا ما إن يجتازوا هضبة إلّالينحدروا في أخرى، وما إن يعبروا وادياً جديباً، حتّى يهبطوا آخر أكثر منه جفافاً وجدباً.. في أرضٍ نائية لا زرع فيها ولا ظلال.. حتّى هبطوا البطحاء، إنّها بطحاء مكّة، حيث محطّ رحالهم بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ هناك تركهم إبراهيم؛ ليعود من حيث أتى، مع زادٍ يسير وماء قليل، ولكن عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.

تذكّرني كلمات الشيخ الدكتور بهذه المرأة العظيمة، وهي ترى نفسها وحيدةً في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع، إلى أين أنت ذاهب يا إبراهيم؟

ص: 79

ولمن تتركنا في هذا الوادي الموحش المقفر؟

إن كان لي ذنب، فما ذنب الرضيع؟

وراحت تستعطفه، فأبان لها وقد رقّ قلبه، وهو قلب رقيق رحيم، ودمعت عيناه... اللَّه الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان وهو يكفيكم.

فتجيبه: إذن «لن يضيّعنا اللَّه».

رحلة عظيمة من أجل هدف عظيم، رحلة شاقّة مريرة محفوفة بالمخاطر من أجل مبادئ سامية ومفاهيم عظيمة..

فمكثت هاجر ترعى وليدها، وتأكل ممّا تركه إبراهيم عليه السلام حتّى نفد ماؤها وقلّ زادها وجفّ ثدياها، فتعالى صراخ طفلها، وهنا بدأت رحلة أخرى أقسى وأمرّ.

حيث بدأ العطش يأخذ أثره ويحزّ في كبدها وكبد رضيعها، الذي راح يلوك بلسانه يبحث عن قطرة ماء في فضاء فمه المتيبِّس، فاندفعت هنا وهناك تعلو صخرة وتهبط أخرى، وعاشت في دوّامة بين سرابين، وقد تمثّل لها على الصفا والمروة ما حسبته ماءً، وهي لا تعلم بأنّ جهدها الشاقّ هذا سيكون يوماً منسكاً عظيماً من مناسك أرادها اللَّه لعبادته، فراح الملايين بأجيالهم التي لا تحصى يسعون بينهما، فرحم اللَّه حبر الامّة ابن عبّاس، وقد رأى قوماً يطوفون بين الصفا والمروة أو يسعون بينهما، فقال: هذا ما أورثتكم امّكم أمّ إسماعيل. إذن فهي وقفة إعجاب وإكبار للثلاثة الذين خلدوا لنا هذا فخُلدوا!

*** الباب الأوّل: تأريخ أعلام الحرم المكّي الشريف، وجهود المؤرِّخين المكّيّين في ضبط حدوده.

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: تاريخ أعلام الحرم المكّي الشريف، وقد تناول المؤلّف في هذا الفصل، وتحت عنوان فرعي: «اختيار الحرم على سائر الأرض».

ص: 80

تناول موقع مكّة المكرّمة، وأنّها تقع ضمن سهل تهامة الساحلي الممتدّ على طول ساحل البحر الأحمر من أقصى شماله عند خليج العقبة إلى نهايته الجنوبية عند باب المندب، وفي منطقة تحيط بها التلال القاحلة الجرداء والصخور والجبال المتشابكة والأودية الجرانيتية، على دائرة العرض 25/ 21 شمالًا، وخط طول 49/ 39 شرقاً، وترتفع عن سطح البحر بحوالى 360 متراً، وأنّ مكّة المكرّمة تشكّل مركز الأرض، وتعتبر منتصف العالم، ممّا يجعلها جديرة بأن تكون مركزاً لدعوة تعمّ العالم، مستعيناً بما توصّل إليه أحد الباحثين المسلمين وهو الدكتور حسين كمال الدين في بحثه القيّم المنشور في مجلّة البحوث الإسلامية لسنة 1395 ص 289 وعنوانه: إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكّة المكرّمة، وقد أعدّ هذا الباحث خريطة للكرة الأرضية يحدّد من خلالها اتجاهات القبلة وإن بعد المسلمون عن الكعبة.

ثمّ تحدث عن عظمتها وحرمتها وآداب الدخول إليها، وعن منع المنكر والظلم والأذى فيها ذاكراً آيات قرآنية وأحاديث نبويّة وأقوال جمع من الصحابة والمفسّرين والمؤرّخين.

وتحت عنوان فرعي: «متى حرّمت مكّة المكرّمة؟!» يصل المؤلّف- وانطلاقاً من الآيات القرآنية والأحاديث النبويّة- إلى أنّها حرمت يوم خلق السماوات والأرض، فعن ابن عبّاس، قال النبيّ صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة: «... فإنّ هذا بلد حرّمه اللَّه يوم خلق السماوات والأرض...» ذاهباً إلى أنّ الحكمة في تحريمها التزام ما يثبت لمكّة وحرمها من أحكام.

«المسجد الحرام هو الحرم كلّه» وتحت هذا العنوان ذكر المؤلّف أنّ المسجد الحرام ذكر في القرآن في مواضع عدّة، وقد استدلّ ببعضها أنّ المسجد الحرام هو الحرم كلّه بحدوده، والكتاب هذا بصدد التعريف بها، ومن هذه الآيات: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ... وأنّ المسجد المذكور يطلق على

ص: 81

جميع الحرم، وبالآية الاخرى: سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... وقد نزلت والرسول نائمٌ في بيته، فالمسجد هنا يعني مكّة..

وتحت عنوان فرعي: «المواقيت ودوائر الحرم» ذكر المؤلّف أنّ الكعبة تحيط بها دوائر ثلاث، وراح المؤلّف يعدّدها، دائرة المسجد، دائرة الحرم، دائرة المواقيت.

فالمسجد: هو حرم المسجد مهما وسع أو زيد فيه من الزيادات.

والحرم: هو ما أحاطت به أعلام الحرم، وهو موضوع بحث هذا الكتاب.

والمواقيت: مواضع حدّها الشارع وهي ذو الحليفة، والجحفة، وذات عرق، وقرن المنازل، ويلملم.

وهناك عنوان فرعي «سبب تحريم الحرم» ذكر المؤلّف تحته روايات متعدّدة في سبب تحريمه وكيف حرّم، فذكر أربعة أسباب وخامسها ما ذكره محبّ الطبري في القرى لقاصد امّ القرى: 652 من الوجوه الأربعة في ذلك.

أمّا في «خصائص الحرم المكّي وأحكامه» فقد ذكر تحت هذا العنوان الفرعي خصائص مكّة المكرّمة وما يوجب الاستيطان والاستقرار والاطمئنان فيها، من خلال آيات قرآنية وأحاديث نبويّة، منها: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا ومنها: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ..

والأجر والثواب على ما يؤدّيه الإنسان من أعمال سواء أكانت أعمالًا عبادية أم غيرها من أعمال البرّ والخير، فيتضاعف الأجر فيها، وتتضاعف السيّئة كما عند بعض العلماء.

ثمّ بعد هذا كلّه ينتقل المؤلّف إلى بداية موضوعه الرئيسي في هذا الكتاب إلى «تجديد أعلام الحرم المحيطة به» مبتدئاً عنوانه هذا بعنوان فرعي وهو:

أوّل من وضع أعلام الحرم، وبدءاً يقول: لا شكّ أنّ معرفة حدود الحرم من أهمّ ما ينبغي أن يعتنى به، فإنّه يتعلّق به أحكام كثيرة، وقد اعتنى بذلك

ص: 82

الأنبياء عليهم السلام، والصحابة والتابعون وأئمّة المسلمين وفقهاء الإسلام.

فعن ابن عبّاس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث يوم الفتح- وهو السنة الثامنة من الهجرة- بتميم بن أسد الخزاعي، فجدّد أنصاب الحرم.

وأنّ إبراهيم وضع هذه الأنصاب يريه إيّاها جبريل.

وفي تفسير الآية: أَرِنَا مَنَاسِكَنَا (1)

وهو قول إبراهيم عليه السلام، نزل إليه جبريل فذهب به، فأراه المناسك، ووقفه على حدود الحرم، فكان إبراهيم يرضم الحجارة، ويحثي عليها التراب، وكان جبريل يقفه على الحدود (2)، فأوّل من نصب هذه الأعلام هو إبراهيم عليه السلام بدلالة جبريل.

وهذه العلامات مبنيّة في جوانب الحرم الأربعة، وما زالت موجودة وتجدّد في كلّ عصر عند حدوث تلف فيها. ويطلق عليها العلماء (أنصاب الحرم) أي حدود الحرم من عموم جهاته، كانت رضوماً كما سمّيت بالأحاديث، ثمّ بنيت بعد ذلك.

وقد مرّت هذه الأعلام بعد إبراهيم وإلى أن جدّدها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعمليات تجديد متعدّدة لها.

وراح المؤلّف يذكر هؤلاء الذين جدّدوها مبتدئاً ذلك بإسماعيل عليه السلام، وعدنان ابن أدد، وقصيّ بن كلاب، ثمّ قريش أثناء البعثة، ثمّ بعد ذلك تجديد النبيّ صلى الله عليه و آله لأعلام الحرم.

فيقول: «لم يكن باستطاعة النبيّ صلى الله عليه و آله أن يجدّد أعلام الحرم قبل الهجرة، حيث لم يكن يملك سلطة يومذاك، لكنّه ما كادت أقدامه تصل إلى مكّة فاتحاً عام (8 ه) حتّى أرسل من يقوم بهذه المهمّة العظيمة».

وذكر المؤلّف في هذا الخصوص أخباراً تبيّن أسماء من أرسلهم النبيّ صلى الله عليه و آله بهذه


1- 1 البقرة: 128.
2- 2 انظر في هذا الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 295، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1: 185، ومصنّف عبد الرزاق 5: 25، وأخبار مكّة للأزرقي 2: 128، 129.

ص: 83

الوظيفة فقد كلّف تميم بن أسد، والأسود بن خلف، أمر بهذا مع عظيم مشاغله وخطورة الأعداء، علماً بأنّه لم يبق في مكّة- على أصحّ الروايات كما يقول المؤلّف- إلّا عشرة أيّام، وراح يذكر مسؤولياته الجسام وأعماله الجليلة التي عليه إنجازها في هذه الأيّام المعدودة، ومع هذا لم ينس تجديد أعلام الحرم، فكم هي مهمّة إذن؟!

ولهذا نالت اهتماماً كبيراً من لدن الصحابة والخلفاء والامراء، بدءاً بتجديدها من قبل الخليفة الثاني ومروراً بتجديد الخليفة الثالث حتّى قامت هيئة في زمن عثمان بن عفّان مهمّتها تجديد الحرم وأعلامه كلّ عام.

إلّا أنّ المصادر- كما يقول المؤلّف- سكتت عن التجديد في أيّام عليّ رضى الله عنه وأيّام خلافته إنّما قضاها في معالجة ما جدّ من الأحداث، ثمّ إنّه أقام في الكوفة، وربّما أنّها لا تحتاج إلى تجديد لقرب العهد في تجديدها.

ثمّ راح المؤلّف يذكر الذين قاموا بعملية التجديد من معاوية وعبد الملك بن مروان، فالمهدي العبّاسي، وفي زمن هذا الأخير اقتصر التجديد لأعلام رؤوس الجبال، أو توقّف، أو أنّ المؤرّخين سكتوا عن ذلك، لكنّهم لم يسكتوا عن تجديد أعلام الطرق المؤدّية إلى مكّة، ولو رأوا شيئاً أو سمعوا شيئاً لكتبوه، فيما كان التجديد في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وما بعده حتّى المهدي العبّاسي يشمل جميع أعلام الحرم من جميع جوانبه، سواء التي كانت على رؤوس الجبال، أو التي تقع على الطرق الرئيسيّة المؤدّية إلى مكّة.

أمّا بقيّة خلفاء بني أميّة أو بني العبّاس غير المذكورين أعلاه، لم يعرف عنهم أنّهم جدّدوا أعلام الحرم، ولم يعرف عن خلفاء هذا العصر أي بعد المهدي العبّاسي إصلاحات في أعلام الحرم، اللّهمّ إلّافي عهد الراضي.

أمّا الدليل الذي ساقه المؤلّف على توقّف تجديد أعلام الحرم على رؤوس الجبال، فيقول: ودليلي على ما أقول: إنّني سرتُ حول الحرم باحثاً عن الأعلام، التي على رؤوس الجبال، فرأيت (932 عَلماً) بعضها متساقط، ما عدا علمين

ص: 84

أحدهما مبنيّ والآخر مرضوم رضماً جيّداً، ثمّ إنّ بعض الأعلام منذ سقوطها لم تحرّك حجارتها، وهذا يدلّ على توقّف تجديد أعلام الحرم، التي فوق رؤوس الجبال، منذ عهد المهدي العبّاسي، أي منذ ما يزيد على اثني عشر قرناً من الزمان.

ثمّ يخلص المؤلّف إلى أنّ أعلام الحرم الدائرة به قد جُدّدت عشر مرّات.

بدءاً بتجديد إسماعيل عليه السلام ومروراً بتجديد عدنان أدد وقصي بن كلاب وقريش أثناء البعثة، ثمّ تجديد النبيّ صلى الله عليه و آله، فتجديد عمر بن الخطّاب، وعثمان، وانتهاءً بتجديد معاوية وعبد الملك فالمهدي العبّاسي.

*** هذا بالنسبة إلى ما يتعلّق بالأعلام المحيطة بالحرم إحاطة السوار بالمعصم كما يعبّر المؤلّف عنها.

وأمّا بالنسبة للنوع الثاني من هذه الأعلام وهي الواقعة في مداخل مكّة المكرّمة، فلا يزال التجديد والتحديث يتعاهداها من زمن إلى زمن حتّى وقتنا الحاضر، والمداخل المذكورة هي:

من طريق المدينة: ثلاثة أميال عند بيوت السقيا، ويقال لها: بيوت نِفار، وهي دون التنعيم.

من طريق اليمن: سبعة أميال عند إضاة لِبْن.

من طريق العراق: سبعة أميال على ثنية خَلّ، وهو جبل بالمقطع.

من طريق الطائف: من بطن نمرة، فذلك أحد عشر ميلًا عند طرف عرفة.

من طريق الجعرانة: تسعة أميال في شعب عبداللَّه بن خالد.

من طريق جدّة: عشرة أميال عند منقطع الأعشاش.

وهذه الأعلام جدّدت سبع مرّات من قبل كلّ من:

الراضي العبّاسي، من جهة التنعيم سنة 325 ه.

المظفّر صاحب أربل، من جهة عرضة سنة 616 ه.

ص: 85

المظفّر صاحب اليمن، من جهة عرفة سنة 683 ه.

قايتباي، من جهة عرفة سنة 874 ه.

السلطان أحمد خان الأوّل العثماني، من جهة عرفة، وأعلام التنعيم، وأعلام الحرم التي في طريق يلملم سنة 1023 ه.

رمّم الشريف زيد بن محسن حدود الحرم سنة 1073 ه.

السلطان الغازي عبد الحميد خان العثماني أعلام التنعيم سنة 1262 ه.

أعلام الحرم في طريق التنعيم سنة 1262 ه.

أعلام الحرم في طريق جدّة سنة 1263 ه.

نكتفي بهذا آملين مواصلة تعريفنا بهذا الكتاب وقراءته في العدد القادم من مجلّتنا ميقات الحجّ إن شاء اللَّه تعالى.

منهج الرشاد لمن أراد السداد (3)

ص: 86

منهج الرشاد لمن أراد السداد (3)

رسالة كاشف الغطاء إلى عبدالعزيز آل سعود

تحقيق: د. جودت القزويني

المقصد الثامن: في الشفاعة

الشفاعة- في الحقيقة- قِسمٌ من الدّعاء والرجاء، وليس من خواصّ الأنبياء والأوصياء، وليس لأحد على اللَّه قبول شفاعته، وإنّما ذلك من ألطافه ومننه، ولا شفاعة إلّابإذنه ورضاه، والأخبار فيها متواترة.

روى محمّد بن عمرو بن العاص، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: من سأل اللَّه لي الوسيلة، حلّتْ عليه الشفاعة، رواه مسلم (1).

وعن جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله: من سمع الأذان ودعا بكذا، حلّت له شفاعتي يوم القيامة، رواه البخاري (2).


1- 1 صحيح مسلم كتاب الصلاة، باب 11؛ سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب 26؛ سنن الترمذي كتاب المناقب، باب 1؛ سنن النسائي كتاب الأذان، باب 37؛ مسند أحمد بن حنبل الباب الثاني، الباب 168.
2- 2 البخاري كتاب الأذان، باب 8؛ وصحيح مسلم كتاب الصلاة، باب 11؛ وسنن أبي داود كتاب الصلاة، باب 36.

ص: 87

وعن عبداللَّه بن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا، لا يُشْرِكون باللَّه شيئاً، إلّاشفَّعهم اللَّه فيه، رواه مسلم (1).

وعن عائشة (رض)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما من ميّت تصلّي عليه أُمّةٌ من الناس يبلغون مائة، كلّهم يشفعون له إلّا شُفِّعوا فيه، رواه مسلم (2).

وعن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: أُعطيت خمساً... (وعدَّ منها الشفاعة) (3).

وعن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنا أوّل شافع وأوّل مشفع في يوم القيامة ولا فخر (4).

وعن جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنا أوّل شافع وأوّل مشفع. ونحوه عن أنس (5)، وأبيّ بن كعب (6).

وعن جبير بن مطعم، عن عثمان بن عفّان، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: يُشفَّعُ يوم القيامة ثلاثة (وعدَّ منهم الأنبياء).

وعن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ الشفاعة على مراتب الناس في القابلية (7).

وعن عبداللَّه بن مالك عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه أتاني آتٍ من ربّي، فخيَّرني بين أن يدخل نصف أُمّتي الجنّة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة.


1- 1 صحيح مسلم كتاب الجنائز، باب 19 مَنْ صلّى عليه أربعون شفعوا فيه، حديث 59.
2- 2 المصدر نفسه كتاب الجنائز، باب 18، حديث 58.
3- 3 المصدر نفسه كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 5، حديث 3.
4- 4 المصدر نفسه كتاب الفضائل، باب 2، تفضيل نبيّنا صلى الله عليه و آله على جميع الخلق، حديث 2278.
5- 5 المصدر نفسه كتاب الأيمان، باب 330.
6- 6 سنن الدارمي المقدّمة، الباب 8.
7- 7 سنن ابن ماجة 2: 1443.

ص: 88

وعن عبداللَّه بن أبي الجذعاء، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنّه يدخل الجنّة بشفاعة رجلٍ (1) من أُمّتي أكثر من بني تميم، رواه الترمذي والدارمي (2).

وعن أنس قال: سألتُ النبيّ صلى الله عليه و آله أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلتُ: فأين أطلبك؟ قال: أوّلًا على الصراط، قلت: فإن لم ألقك؟ قال: عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك، قال: عند الحوض، فإنّي لا أخطئ هذه المواضع، رواه الترمذي (3).

وعن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنَّ اللَّه يقول بعد فراغ الشافعين من الشفاعة: شُفِّعت الملائكة، وشُفِّعَ النبيّون، وشُفِّعَ المؤمنون، ولم يبقَ إلّا أرحمُ الراحمين (4).

وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه يحبس المؤمنون يوم القيامة، فيقولون لو استشفعنا، فيأتون (آدم)، فيعتذر بخطيئتهِ، ثمّ (إبراهيم) فيعتذر بثلاث كذبات كذبهن، ثمّ (موسى) فيعتذر بقتل النفس، ثمّ (عيسى)، فيقول:

لست هناك، فيقول اللَّه تعالى بعد أن أسجد له: اشفع تشفع... (الخبر وهو طويل) (5).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله أنَّ مَلَكاً غُضِبَ عليه، فأُهبِطَ من السماء، فجاء إلى إدريس فقال له: اشفع لي عند ربّك، فدعا له، فأُذن له في الصعود. وفيه دلالةٌ على الشفاعة في الدُّنيا. وستجي ء في باب زيارة القبور أخبارٌ كثيرةٌ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ


1- 1 في المطبوع: «بشفاعتي رجال».
2- 2 الترمذي 4: 541.
3- 3 المصدر نفسه باب صفة القيامة 4: 537.
4- 4 المصدر نفسه 4: 541.
5- 5 المصدر نفسه 4: 537.

ص: 89

زارني كنتُ له شفيعاً» (1).

وبيان الحال: أنّ (الشفاعة) إن كانت من قبيل الدّعاء، فيرجع طلبها إلى التماس الدّعاء من الأنبياء والأولياء، فتكون عبارة عن دعاء مخصوص لنجاة الغير، أو قضاء حاجته في أمور الدُّنيا والآخرة، فلا كلام ولا بحث في جواز طلبها من كلّ أحد، فهي كما لو سألتَ إخوانك الدّعاء. ويؤيّد ذلك أنّه لمّا سئل إدريس عليه السلام الشفاعة دعا.

ولا فرق بين الأحياء والأموات، فإنّا سنُبيِّنُ- إن شاء اللَّه- تواتر الأخبار في أنّ الأموات يسمعون وينطقون، لكنَّ الناس لا يسمعون كلامهم. فالشفاعة بهذا المعنى لا غضاضة في طلبها، إذ لسنا في ذلك بمنزلة من قالوا لا طاقة لنا بعبادة اللَّه، ونحن نعبد الأصنام، وهم يوصلوننا إلى اللَّه.

وإنْ اريد بالشفاعة منصبٌ أعطاه اللَّه لنبيّه صلى الله عليه و آله وأوليائه، فيدفعون بالأذن العام عن الناس، بمعنى أنَّ اللَّه أذن إذناً عامّاً لنبيّه صلى الله عليه و آله في إنقاذ بعض أهل العذاب من العذاب يوم يقوم الحساب، فبهذا المعنى تكون مخصوصةً في الآخرة.

ولا ريب أنّ المستشفع بالنبيّ صلى الله عليه و آله، والأولياء في دار الدُّنيا، يريد المعنى الأوّل.

فليتَ شعري ما الذي يُنْكَرُ من طلب الشفاعة، أمن جهة خطاب الموتى فذلك لا يوجب كفراً ولا إشراكاً، لو كان خطأ، فكيف لو كان صواباً، أو من جهة إسناد الأمر إلى غير اللَّه سبحانه، وهذا أعجب من السابق، فإنَّ الدّاعي والساعي في حاجة أحد إلى مولاه لا يرتفع عن درجة العبودية، ولاسيّما إذا لم يحدث شيئاً إلَّا عن إذنه؟!


1- 1 سنن البيهقي 5: 245.

ص: 90

ومن البديهة (1) أنّ العبيد والخدّام القائمين بشرائط العبودية والخدمة مع الأذن يُشَفَّعَوْنَ عند مواليهم في قضاء حوائج الناس، ولا يخرجهم ذلك عن العبودية والخدمة، بل هذا نوع من العبودية.

وفي أحاديث الشفاعة ما يدلّ على عموم الشفاعة في دفع المضار الدنيوية والأخرويّة.

وقد نقل عن الصحابة بطرق معتبرة أنّ الصحابة كانوا يلجأون إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، ويندبونه في الاستسقاء ورفع الشدائد والأغراض الدنيوية.

روى البيهقي بطريق صحيح عن مالك الدارخازن عمر رضى الله عنه أنّه أصاب الناس قحط، فذهب رجل إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله استسق لُامّتك فقد هلكوا، فأتاه النبيّ صلى الله عليه و آله في المنام، فقال له: قل لعمر: قد سُقوا (2).

وقد روي أنّ من رأى النبيّ صلى الله عليه و آله في نومه فكأنّما رآه في يقظته؛ لأنّ الشيطان لا يتمثّل به (3).

وروى البيهقي بطريق صحيح أنَّ رجلًا في أيّام عمر رضى الله عنه جاء إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: يا محمّد استسقِ لُامّتك (4).

وروى الطبراني وابن المقري أنّهم كانوا جياعاً، فجاؤوا إلى قبر النبيّ، فقالوا:

يارسول اللَّه الجوع، فاشبعوا.

والغرض أنّ ذلك ظاهر بين الصحابة والسلف، ولا يتناكرونه أبداً، وحيث كان لا يزيد على سؤال الدّعاء، واتّضح في البحث الآتي أنّ الأنبياء والأولياء أحياء، لا يبقى كلام أصلًا.


1- 1 في النسخة المطبوعة: «الأمور البديهيّة».
2- 2 البيهقي 3: 344.
3- 3 صحيح مسلم كتاب الرؤيا، باب 1، حديث 11.
4- 4 البيهقي 3: 350.

ص: 91

الخاتمة

وأمّا الخاتمة، فتشتمل على أبواب:

الباب الأوّل

في حياة الأموات بعد موتهم

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله بعد موته

وأنّه يسمع الكلام ويردّ الجواب كما في حياته، غير أنّ اللَّه حبس سمع الناس إلّا قليلًا من الخواص، ولا بُعد في ذلك بعد الإقرار بعموم قدرة الجبّار، فإنّ من أودع تلك النطفة روح الإنسان، قادر أن يودعها في أيّ محلّ كان.

ولا ينافي ذلك إطلاق اسم الموت عليه، وأنّ الحياة إنّما هي وقت البعث؛ لأنّ المراد أنَّ عود تلك الأجسام على الحال السابق والكيفيّة السابقة، إنّما يكون في ذلك الوقت، وأنّ ظهور ذلك للناظرين، إنّما يكون في ذلك الحين، ولابدّ أن تتلقّى ما ورد عن النبيّ الكريم بأشد القبول والتسليم.

روي عن امّ سلمة (رض)، قالت: رأيت النبيّ صلى الله عليه و آله والتراب على شيبته، فسألتُه، فقال: شهدتُ قتل الحسين عليه السلام.

وعن ابن عبّاس أنّه رأى النبيّ صلى الله عليه و آله في المنام، وفي يده قارورة، فقلت: وما هذه؟ فقال: هذا دم الحسين عليه السلام (1).

وقال المبارزي: نبيّنا حيٌّ بعد وفاته.


1- 1 تاريخ ابن عساكر: 263.

ص: 92

وقال شيخ الشافعي (1): نبيّنا حيٌ بعد وفاته، فإنّه يستبشر بطاعات أُمّته، ويحزن من معاصيهم، وتبلغه صلاة مَنْ يُصلّي عليه.

وعن عليّ عليه السلام أنَّ أعرابياً جاء إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: يارسول اللَّه استغفر لي، فنودي من داخل القبر ثلاث مرّات: قد غفر اللَّه لك (2).

وروى أبو داود في مسنده، عن أبي هريرة، مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: ما مِنْ أحدٍ يسلِّم عليَّ إلّاردّ اللَّه روحي حتّى أردّ عليه.

وذكره ابن قدامة من رواية أحمد أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: إنّ للَّه ملائكة سيَّاحين في الأرض، يبلغونني من امّتي السلام.

فعلى هذا لا فرق بين السلام من قربٍ، أو بُعد.

وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ صلّى عليَّ عند قبري سمعتُه (3).

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: من صلّى عليَّ عند قبري، وكّل اللَّه به ملكاً يبلغني (4).

وروى ابن أوس مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنّ صلاتكم معروضةٌ عليَّ، قالوا: أوَكيفَ تعرض عليك وأنت رميم؟! فقال: إنَّ اللَّه حرَّم على الأرض لحوم الأنبياء (5). وهذا يعمّ الأنبياء (صلّى اللَّه عليهم).

وروى الحافظ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: علمي بعد مماتي كعلمي في حياتي (6).


1- 1 عبد القاهر بن طاهر البغدادي الأسفراييني، ولد ونشأ في بغداد، ورحل إلى خراسان واستقرّ في نيسابور، ومات في أسفرائين. له مؤلّفات كثيرة.
2- 2 كنز العمّال 1: 506.
3- 3 المصدر نفسه 1: 488، الباب السادس في الصلاة عليه وعلى آله، حديث 2197.
4- 4 المصدر نفسه، حديث 2196.
5- 5 المصدر نفسه 1: الباب السادس، حديث 2141.
6- 6 المصدر نفسه 1: الباب السادس، حديث 2242.

ص: 93

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنَّ اللَّه وكّل ملكاً يُسمعُني أقوال الخلائق، يقوم على قبري، فلا يُصلّي عليَّ أحدٌ إلّاقال: يا محمّد (فلان) بن (فلان) يُصلّي عليك، صلّوا عليَّ حيثما كنتم، فإنّ صلاتكم تبلغني.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنَّ أعمالكم تُعْرَضُ عليَّ (1).

والأخبارفي ذلك أكثر من أن تحصى، وفيها دلالة على أنّه صلى الله عليه و آله يُخاطَبُ في مماته كمايُخاطَبُ في حياته، بل يظهر من بعض الروايات (2) أنَ كلامه يسمعه بعض الخواص.

أخرج أبو نعيم في دلائل النبوّة، عن سعيد بن المسيب، قال: لقد كنتُ في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فما يأتي وقت صلاة إلّاسمعتُ الأذان من القبر.

وأخرج ابن سعد في الطبقات، عن سعيد بن المسيب أنّه كان يلازم المسجد أيّام الحرّة، فإذا جاء الصبح سمع أذاناً من القبر الشريف (3).

وأخرج زبير بن بكّار (4) في أخبار المدينة، عن سعيد بن المسيب، قال: لم أزل أسمع الأذان والإقامة من قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيّام الحَرّة، حتّى عاد الناس.

وأخرج الدارمي في مسنده، عن مروان، عن سعيد بن عبد العزيز أنّه كان لا يعرف وقت الصلاة إلّابهمهمةٍ تخرج من القبر (5).

الفصل الثاني: في حياة سائر الشهداء والأنبياء

قد سبق أنّ الأرض لا تأكل لحومهم.

قال البيهقي في كتاب الاعتقاد (6): إنّ الأنبياء بعدما قُبِضوا رُدَّتْ إليهم


1- 1 صحيح مسلم كتاب المساجد، باب 57؛ ومسند أحمد بن حنبل، الكتاب الخامس.
2- 2 في النسخة المطبوعة: الأخبار.
3- 3 الطبقات الكبرى 5: 132.
4- 4 الزبير بن بكّار، من أهل المدينة، تُوفي سنة 256 ه/ 870 م عن 84 عاماً. له مؤلّفات في الأنساب والتاريخ.
5- 5 سنن الدارمي 1: 56.
6- 6 الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للحافظ البيهقي الشافعي، طبع في بيروت سنة 1988 م.

ص: 94

أرواحهم، فهم أحياءٌ كالشهداء.

وقال القرطبي في التذكرة (1): الموت ليس عدماً محضاً، يدلّ على ذلك أنّ الشهداء أحياء، فالأنبياء أولى، وقد صحّ أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء.

وقال الاستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعي: إنّ الأنبياء لا تبلى أجسادهم، ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد التقى نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله مع إبراهيم، وموسى بن عمران.

وعن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه مرَّ بقتلى بدر فكلّمهم، فقال له أصحابه: كيف تُكلِّم أجساداً لا أرواح فيها؟! فقال: لستُم أسمعَ منهم لكنّهم لا يتكلّمون.

وعن قتيبة وأبي الفضل، عن ابن عبّاس أنّ الحواريّين قالوا لعيسى: أحي لنا يحيى بن زكريا، حتّى ننظر إلى وجهه، فخرج معهم وأحياه، وإذا نصف شعر رأسه أبيض، وقد كان أسود فسألوه، فقال: لمّا نوديت زعمتُ أنّها القيامة، فقال عيسى: أتريد أن أسأل اللَّه أن يردّك إلى الدُّنيا؟ فقال: إنّ مرارة الموت لم تخرج من حلقي بعد.

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه مرَّ بإبراهيم يُصلّي، وبموسى يُصلّي. وفي حديث المعراج أنّه مرَّ بكثير من الأنبياء يصلّون.

وقال الحافظ شيخ السنّة أبو بكر البيهقي في الاعتقاد: أنّ الأنبياء تُردُّ إليهم أرواحهم بعدما يقبضون، فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء، وقد رأى النبيّ صلى الله عليه و آله جماعة منهم، وصلُّوا خلفه، وقد أخبر هو عن ذلك، وخبرُهُ صدق، أنَّ صلاتنا تُعرضُ عليه، وأنَّ الأرض لا تأكل من لحمه.


1- 1 التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة لشمس الدِّين محمّد بن أحمد القرطبي المتوفّى سنة 671 ه، وهومطبوع بالقاهرة سنة 1981 م ضمن جزأين.

ص: 95

وعن الشيخ عفيف الدِّين أنّ الأولياء من جملة خصائصهم رؤيا الأنبياء.

وقال الشيخ تقيّ الدِّين السبكي: إنّ حياة الأنبياء والشهداء في القبور كحياتهم في الدُّنيا، ويدلّ عليه صلاة موسى وجماعة من الأنبياء ليلة الإسراء مع النبيّ صلى الله عليه و آله.

وروى الثقات عن أنس مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنَّ الأنبياء أحياءٌ في قبورهم.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: مررتُ بقبر موسى بن عمران فرأيتهُ يُصلّي (1).

وقال اللَّه تعالى في حقّ مَنْ قُتلوا في سبيل اللَّه: أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (2)

إلى غير ذلك من الأخبار.

الفصل الثالث: في حياة سائر الموتى

روى ابن عبّاس مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما من أحدٍ يمرّ بقبر أخيه المؤمن فيسلّم عليه، إلّا عرفَهُ، وردَّ عليه السلام.

وفي رواية: ما من أحدٍ يمرّ بقبر رجلٍ يعرفه، إلّا عرَفَهُ، وردَّ عليه السلام (3).

ونقل أبو عبداللَّه البخاري أنَّ الشهداء وسائر المؤمنين إذا زارهم المسلم وسلَّم عليهم، عرفوه وردّوا عليه السلام.

وروى الثعلبي في تفسيره، وابن المغازلي الواسطي في المناقب: أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله، وأصحابه لمّا حملهم البساط، وصَلَوا إلى موضع أهل (الكهف)، فقال: سلِّموا عليهم، فسلَّموا عليهم، ولم يردّوا، فسلّم النبيّ صلى الله عليه و آله عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة اللَّه (4).


1- 1 تُراجع هذه الأحاديث في كنز العمّال، الفصل الثالث في زيارة القبور، المجلّد الخامس.
2- 2 القرآن الكريم: 3/ 169 سورة آل عمران.
3- 3 كنز العمّال 1: 646.
4- 4 ابن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب: 2.

ص: 96

وأخرج الشيخ ابن حيارة في كتاب (الوصايا)، عن قيس، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: من لم يوص، لم يُؤذَنْ له في الكلام مع الموتى، قيل: يارسول اللَّه الموتى يتكلّمون؟ فقال: نعم ويتزاورون.

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه رأى جعفراً يطير في الجنّة.

ونقل أبو بكر محمّد بن عبداللَّه الشافعي أنّ عيسى لمّا دفن مريم، قال: السلام عليك يا امّاه، فأجابته من جوف القبر: وعليك السلام حبيبي، وقرّة عيني، فقال لها: كيف وجدتِ طعم الموت؟ فقالت: والذي بعثك بالحقّ ما ذهبتْ مرارة الموت من حَلْقِي، ولا خشونته من لساني.

وروى الحاكم عن سالم بن أبي حفصة قال: توفّي أخٌ لي، فوضعتُهُ في القبر، وسوّيتُ عليه التراب، ثمّ وضعتُ أُذني على لحده، فسمعتُ قائلًا يقول له: مَنْ ربُّكَ، فسمعتُ أخي يقول بصوتٍ ضعيف: ربّي اللَّه، فقال له: وما دينُك؟ فسمعتُ أخي يقول بصوتٍ ضعيف: ديني الإسلام، فسمعتهُ يقول له: ومَنْ نبيُّك؟ فسمعتُهُ يقول بصوتٍ ضعيف: محمّد نبيّي، فسمعتهُ يقول له: نَمْ نومَ العروس، وسمعتُ المَلَك الآخر يقول له: أبشر برَوْحٍ وريحان، وربٍّ غير غضبان (1).

وفي الأخبار، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: ما من ميّت يموت، يوضع على سريره، فَيُخْطَى ثلاثَ خُطوات، إلّاويُنادى بنداءٍ يسمعه ما شاء اللَّه من الخلائق من الثقلين، فيقول: يا إخوتاه، يا خدماه، يا حملة نعشاه، لا تغرّنكم الدُّنيا كما غرّتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلَّفتُ ما جمعتُ لورثتي، ولم يحملوا من خطيئتي شيئاً، والديّان يحاسبني، وأنتم تشيّعون جنازتي، ثمّ تدعونني في لحدي.

وزِيدَ في آخر: ثمّ تسلّمونني إلى منكرٍ ونكير، واندامتاه،


1- 1 كنز العمّال 1: 605.

ص: 97

واندامتاه، واندامتاه (1).

وعن الفقيه الزاهد إسماعيل بن الحسن، عن عمر بن الخطّاب أنّه دخل المقابر، فنادى يا أهل المقابر، الأموال قد قُسِّمتْ، والدور قد سُكنتْ، والأزواج قد نُكحتْ، فهذا خبر ما عندنا، فاخبرونا ما عندكم؟ قال: فهتف به هاتف، وهو ينادي ويقول: يابن الخطّاب وجدنا ما عملنا ربحاً، وما خلفنا خسراناً، والجبّار سألنا عن جميع ما فعلنا، ثمّ سكت.

وعن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا يمرُّ أحدٌ بالمقابر إلّاويناديه أهل القبور:

ياغافلًا لو علمتَ بما نحن فيه لذاب لحمك وجسمك، كما يذوب الثلج في النار (2).

وعن الضحّاك، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: إنّ الموتى ينادون في كلّ يوم ثلاث مرّات من قبورهم: يا أهل الديار عجّلوا عجّلوا، فإنّما نحن محبوسون من أجلكم، الرحيل الرحيل، لا تحبسوا إخوانكم، خرِّبوا ما بنيتم، واتركوا ما جمعتم، نوّرتم البيوت، وأظلمتم القبور، وبنيتم البيوت، ونسيتم القبور، وعمّرتم البيوت، وخرّبتم القبور، ووسّعتم البيوت، وضيّقتم القبور، (وذكروا غير ذلك) (3).

وعن أبي عبداللَّه محمّد بن عمر، يروي عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما مَنْ يوم يمضي إلّاومَلَكٌ يهتف: يا أهل القبور مَن تغبطون اليوم؟ فيقولون: نغبط أهل المساجد، يصلّون في مساجدهم، ويصومون ويصدَّقون، ولا نقدر نصلّي ونصوم ونتصدّق.

وعن محمّد بن أبي عبداللَّه بن الفضل، عن محمّد بن كعب، قال: مرَّ عيسى على قبر، فرأى فيه عذاباً شديداً، فدعا اللَّه حتّى أحياه، فقال له عيسى: فَلِمَ تُعذَّب؟


1- 1 كنز العمّال 1: 596.
2- 2 في النسخة المطبوعة: الملح بالماء.
3- 3 كنز العمّال 15: 626.

ص: 98

قال: كنت جالساً في سوق (مصر)، وقد أكلت شيئاً، فأخذتُ عُودةً من حزمة شوكٍ لأُخلّل أسناني بها، ومتُّ منذ أربعة آلاف سنة وأنا في عذابها، ثمّ قال:

ياروح اللَّه منذ أربعة آلاف سنة ومرارة الموت باقيةٌ في حلقي. فقال عيسى: اللّهُم يسِّر عليه سكرات الموت.

وعن وهب بن منبه أنّ عيسى عليه السلام مرَّ على نهرٍ فيه ماء عذب، وحوله خابية (1)، كلّما يوضع فيها من ذلك الماء يصير مالحاً، فقال: إلهي ما خبر هذا الماء المالح؟! فأذن اللَّه للخابية بالكلام، فقالت: إنّي كنتُ آدميّاً، فبقيتُ في قبري ثلاثمائة سنة، ثمّ جاء لبَّانٌ، فضرب ترابي لِبْنَاً، وبنيت في قصر ثلاثمائة سنة، ثمّ خرّب القصر، فبقيتُ تراباً مائتي سنة، ثمّ جاء شخص فجعلني (حِبّاً)، ووضعني سقايةً على شاطئ هذا النهر من مائة سنة وكلّ ما يجعل فيَّ يكون مالحاً، لما فيَّ من مرارة نزع الروح، وأنا معذّبٌ منذ متُّ، لأنّي أخذتُ إبرةً من جاري، وما رددتُها حتّى مِتُّ. فما أدري أنَّ عذابي أشدّ أم مرارة الموت، فقال عيسى: اللّهُم يسِّرْ عليَّ الموت، ونجّني من عذاب القبر... (الحديث) وقد ذكرنا من مضمونه محلّ الحاجة.

وعن عائشة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنَّ أشدّ الأحوال على الميّت حين يدخل (الغسّال) داره ليغسله، فيخرج خواتم الشبّان من أصابعهم، وينزع قميص العروس من بدنها، ويرفع عمائم المشايخ عن رؤوسهم. فعند ذلك يقول بصوتٍ يسمع الخلائق غير الثقلين: يا غسّال باللَّه عليك انزع ثيابي برفق، فإنّي الساعة استرحتُ من مخاليب مَلَك الموت، فإذا صبّ عليه الماء صاح كذلك. فإذا رُفعَ عن المغتسل، وشدَّ مواضع قدميه بالكفن، يقول: باللَّه عليك لا تشدّ رأس كفني ليرى وجهي أهلي وأولادي وعروسي التي كنتُ أحبّها، وينظرُ إلى وجهي أقربائي، وأحبّائي وإخواني، وجيراني، ورفقائي، فإنّ هذه آخر رؤياي.


1- 1 الخابية: الجرّة الكبير المُستعملة لحفظ الماء.

ص: 99

فإذا خرج من الدار، نادى باللَّه عليكم يا حملة نعشي لا تُعَجِّلوا بي، حتّى أودِّعَ داري التي بنيتُها، وزيَّنتُها ونقّشتُها بأنواع النقوش، وأهلي ومالي وأولادي، فإنّ هذا خروجٌ لا مردَّ بعده إلى يوم القيامة.

فإذا رُفعت الجنازة، نادى يا حملَة نعشي باللَّه عليكم لا تُعجِّلوا بي، حتّى أسمع أصوات أولادي الذين يَعْوَلُونَ خلف جنازتي، وعروسي التي تبكي عليَّ، ووالدي الذي تقوّس ظهره لموتي، ووالدتي التي شدَّتْ وسطها بالمنديل لمفارقتي، وقد نشرتْ شعرها، وضربتْ صدرها، وتقوّس ظهرها، وابيضَّتْ عيناها لفقدي.

فإذا صُلّي على جنازته، ورُفعَ من المصلّى، ورجع بعض أصدقائه، يقول:

يا إخوتاه كنتُ أعلمُ أنَّ الميّت ينساه الأحياء، لكن لا بهذه السرعة، رجعتم قبل أن تدفنوني، ونسيتموني بهذه السرعة، وجسمي بعد بين أظهركم.

فإذا وُضعَ في لحده، وَوُضعَ عليه التراب، ينادي وا ورثتاه، تركتُ لكم الكثير، فلا تنسوني، تصدَّقوا عنّي على فقرائكم، ولو بكسرة خبز محترق، وعلّمتكم القرآن والأدب، فلا تنسوني من الدعاء، فإنّي صرت محتاجاً، كفقرائكم على أبوابكم، ومحتاجاً إلى دعائكم، كصاحب حاجتكم إلى ساداتكم (1).

وممّا يدلّ على بقاء حياتهم في قبورهم، ما دلَّ على أنَّ الميّت بعدما يُسأل، يُفتح له بابٌ إلى الجنّة، إن كان من أهل الخير، أو إلى النار إنْ كان من أهل الشرّ، وبقاء اللّذة والألم ظاهرٌ في بقاء أثر الحياة.

وعن عبداللَّه بن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إذا مات أحدكم، عرض عليه مقعده بالغدوة والعشيّ، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنَّ الميّت يُسأل في قبره عن النبيّ صلى الله عليه و آله، فإن


1- 1 تُراجع هذه الأحاديث في الجزء الخامس عشر من كنز العمّال في الباب الأوّل في ذكر الموت وفضائله، حديث 42094 حتّى حديث 43011 من ص 548 حتّى ص 758.

ص: 100

أجاب بالحقّ قيل له: نَمْ نومةَ العروس، وإلّا فُتِحَ له بابٌ إلى قبره يكون معذّباً إلى يوم القيامة (1).

وعن البراء بن عازب، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: يأتيه ملكان يجلسانه، ثمّ ذكر أنّهما يسألانه، فإن أجاب بحقّ، فُتح له بابٌ إلى الجنّة، فيأتيه من روحها وطيبها، وإلّا يُفتحُ له بابٌ إلى النار، فيأتيه من حرّها وسمُومِها. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّهم في قبورهم يتلذذون ويتألّمون، وهذا من توابع الحياة ولوازمها.

وكيف كان فقد بلغت هذه الأخبار فوق التواتر، وبعد عموم قدرة الفاعل المختار، لا بُعدَ ولا غرابة في مداليلها.

وما دلَّ من الكتاب والسنّة على أنّ الإحياء يكون عند النفخ في (الصُور)، فقد بيَّنا أنَّ المراد: إمّا الحياة على النحو المعهود من تلك الأشخاص الخاصّة بعينها، أو يُرادُ أنّه يوم البروز والظهور على عيون الأشهاد.

وإذا تبيّن بهذه الأخبار المتواترة، أنّهم يسمعون ويعقلون ويعرفون مَنْ يُخاطبُهم، صحَّ لنا أنْ نخاطبهم مخاطبة الأحياء فنلتمس دعاءهم، ونقسم عليهم بالأقسام في أنْ يكونوا شفعاء لنا في الدُّنيا وفي يوم القيام؛ لأنّ الشفاعة أظهر فرديها أنّها دعاءٌ خاصّ، واختصاص الخواص بها باعتبار قبولها.

فلو قال قائلٌ لنبيّ، أو وصيّ، أو عبدٍ صالح: اشفع لي، أو ادعُ لي، أو أغثني، أو أعنِّي (أي بدعائك)، أو قال: اقض لي حاجتي، أو ارزقني مالًا، وادفع الضرر عنّي، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسّط بالدّعاء وسؤال اللَّه، لم يكن عليه شي ء.

وقد وقع كثيرٌ من ذلك في كلام الصحابة والتابعين، بل ربّما كان هذا التعبير أولى؛ لدلالته على قرب منزلة العبد عند مولاه واحترامه، فتكون شهادة له


1- 1 سنن الترمذي كتاب الجنائز، باب 70- ما جاء في عذاب القبر- حديث 1071.

ص: 101

بنبوّته، وقرب منزلته.

وليس على مَن قال للعبد المقرّب، أو إلى الخادم المقرّب: اقض حاجتي، (بمعنى اسعَ لي في قضائها عند مولاك)، بأسٌ، بل هو أنسب في التواضع إلى المولى.

وأمّا مَنْ قال مثل ذلك معتقداً أنّ الأنبياء والأوصياء بأيديهم الأمر أصالةً، يفعلون ما يشاؤون، فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين.

وإنّي قد طفتُ بشطرٍ من بلاد المسلمين، وخالطتُ كثيراً منهم منذ سنين، فلم أرَ أحداً يعتقد أنَّ في الوجود فاعلًا مختاراً سوى الفاعل المختار العزيز الجبّار تبارك وتعالى، وذلك مراد (العوام) في خطاباتهم، فضلًا عن العلماء الأعلام، إلّاأنّهم لا يمكنهم كشف الحال، وإن كان مقصدهم ذلك على الإجمال. نسأل اللَّه وإيّاكم طريق السداد والنجاة من أهوال يوم المعاد.

الباب الثاني

في الزيارات

وفيه فصلان:

الفصل الأوّل: في زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله

روى الدارقطني في السنن وغيرها، والبيهقي، وغيرهما من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبداللَّه العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَن زار قبري وجبتْ له شفاعتي.

وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ جاءني زائراً ليس له حاجة إلّازيارتي، كان حقّاً عليَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.

وعن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله: مَنْ حجَّ وزار قبري بعد وفاتي، كان كمَنْ زارني في حياتي.

ص: 102

وروي عن عائشة أيضاً، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ، قال: مَنْ زارني كنتُ له شهيداً أو شفيعاً.

وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: مَن حجَّ فلم يزرني، فقد جفاني (1).

وعن أبي هريرة مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَنْ زارني بعد موتي، فكأنّما زارني حيّاً (2).

وعن أنس مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: مَن زارني في المدينة، كنتُ له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة (3).

وعن أنس مرفوعاً عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَنْ زارني ميّتاً كمَنْ زارني حيّاً، ومَنْ زار قبري وجبتْ له شفاعتي يوم القيامة.

وعن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَن زارني في مماتي، كان كمن زارني في حياتي، ومَنْ لم يزرني فقد جفاني.

وعن عليّ عليه السلام مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: مَنْ زار قبري بعد مماتي، فكأنّما زارني في حياتي، ومَنْ لم يزرني فقد جفاني.

وعن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَنْ حجَّ وقصدني في مسجدي، كانت له حجّتان مبرورتان.

وروى ابن عساكر، عن علي عليه السلام قال: مَن زار قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كان في جوار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وعن بكر بن عبداللَّه مرفوعاً، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَن أتى المدينة زائراً لي، وجبت له الجنّة.


1- 1 تُراجع هذه الأحاديث في سنن البيهقي 5: كتاب الحجّ، باب زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله.
2- 2 كنز العمّال باب زيارة قبر النبي، المجلّد الخامس، حديث 12382.
3- 3 المصدر نفسه باب زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله المجلّد 15، حديث 42584.

ص: 103

وعن كعب الأحبار أنّ عمر لمّا فتح بيت المقدس قال لي: هل لك أن تسير معي إلى المدينة تزور قبر النبيّ صلى الله عليه و آله؟ فذهبت معه، فلمّا دخل بدأ بالمسجد، وسلَّم على النبيّ صلى الله عليه و آله.

وفي الموطأ عن ابن عمر كان يقف عند قبر النبيّ صلى الله عليه و آله فيُسلِّم عليه، وعلى أبي بكر، وعمر.

وسئل نافع: هل كان ابن عمر يسلّم على قبر النبيّ صلى الله عليه و آله؟ فقال: رأيته مائة مرّة أو أكثر يُسلِّم على النبيّ صلى الله عليه و آله، وعلى أبي بكر، وعمر.

وعن ابن عمر: أنّ سُنّة السلام من قبل القبلة.

ونقل الدارقطني، عن علي عليه السلام أنّه دخل المسجد فسلّم على القبر. ورُوي عن آل الخطّاب، وعن بعض الحفّاظ زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله.

وكيف كان، فالروايات في استحباب زيارته وشفاعته لزوّاره، داخلةٌ في قسم المتواتر، وعمل الصحابة والتابعين وأهل البيت أجمعين على ذلك.

قال عياض: زيارة قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سنّة، أجمع عليها المسلمون. وروى غيره إجماع المسلمين قولًا وفعلًا على استحباب زيارته، وصريحٌ بعضها (1) أنّ شدّ الرحال إليها لا مانع منه.

وفيما دلّ على استحباب التعظيم، وأنّ حرمة الأموات كحرمة الأحياء، كفاية.

الفصل الثاني: في زيارة باقي القبور

قد مرَّ في الأخبار الماضية زيارة الصحابة قبري الشيخين.

وروى بريدة عن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (2).


1- 1 في النسخة المطبوعة: وصرّح بعضهم.
2- 2 صحيح مسلم كتاب الجنائز، المجلّد الثاني، باب 36، حديث 106؛ وسنن ابن ماجه باب ما جاء في زيارة القبور، باب 47، حديث 1571.

ص: 104

ولعلّ السرّ- واللَّه أعلم- أنّه في مبدأ الإسلام كانت زيارة القبور وتذكار الموتى والقتلى، باعثاً على الجبن عن الجهاد، حتّى إذا قوي الإسلام أمرهم بها.

ونحو ذلك في خبر آخر.

وعن أبي هريرة، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله زار قبر أُمّه، ولم يستغفر لها، قال: أُمرتُ بالزيارة، ونهيتُ عن الاستغفار، فزوروا القبور، فإنّها تذكّر الموت (1).

وعن بريدة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان إذا خرج إلى المقابر، قال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين»، رواه مسلم (2).

وعن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يخرج إلى البقيع آخر الليل، فيقول: السلام عليكم... (الخبر)، رواه مسلم (3).

وكيف كان، فالأخبار متظافرة على زيارة القبور، ولا حاجة لنقل جميعها.

وفيما ورد من أنَّ حرمة المسلم ميّتاً كحرمته حيّاً دلالة على ذلك، وزيارة النبيّ صلى الله عليه و آله، والصحابة لقبور الشهداء أوضح من الشمس في رابعة النهار.

الباب الثالث: في التبرّك بالقبور ونحوها

اختلف العلماء من أهل السنّة والجماعة في جواز التبرّك بالقبور، فمنهم: من أجازه على كراهة.

قال النووي: لا يجوز أنْ يُطاف بقبر النبيّ صلى الله عليه و آله، ويكره إلصاق البطن والظهر به. قال: ويكره مسّهُ باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه، كما لو حضر في حياته.

وكلامه ظاهرٌ في أنَّ المسّ أبعد من التعظيم، وشبهة العبودية.

وذكر ابن عساكر في (تُحَفِهِ)، عن ابن عمر أنّه كان يكره مسّ قبر النبيّ صلى الله عليه و آله.

ويظهر من بعضهم ندبه واستحبابه.


1- 1 صحيح مسلم كتاب الجنائز، باب استئذان النبيّ صلى الله عليه و آله ربّه في زيارة قبر امّه، حديث 108.
2- 2 المصدر نفسه كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 104.
3- 3 المصدر نفسه كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور، حديث 102.

ص: 105

نقل عبداللَّه بن أحمد بن حنبل في كتاب العلل والسؤالات، قال: سألتُ أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يتبرّك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاء ثواب اللَّه تعالى، فقال: لا بأس به.

وعن إسماعيل أنّ ابن المنكدر (1) يصيبه الصمَّات، فكان يقوم ويضع خدّهُ على قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فعُوتبَ في ذلك، فقال: يستشفى بقبر النبيّ صلى الله عليه و آله. والاستشفاء أعظم من التبرّك.

ونقل عن ابن أبي الضيف، والمحبّ الطبري، جواز تقبيل قبور الصالحين، وظاهره الندب.

وفي رواية عن ابن حنبل أنّي لا أعرف التمسّح بالقبر، أمّا المنبر فنعم، لما روي أنّ ابن عمر كان يفعله.

ونقل عن مالك التبرّك بالمنبر.

وروي عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنّه حينما أراد الخروج إلى العراق، جاء إلى المنبر، وتمسّح به.

وقال السبكي: مَنْعُ التمسّح بالقبر ليس ممّا قام الإجماع عليه. واستدلّ بما رواه يحيى بن الحسن، عن عمر بن خالد، عن أبي نباتة، عن كُثير بن يزيد، عن المطلب ابن عبداللَّه، قال: أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجلٌ ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته وقال: ما تصنع؟! فقال: إنّي لم آتِ الحجر ولا اللبن، إنّما جئتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وذكر رواية أحمد، قال: وكان الرجل أبا أيّوب الأنصاري.

ونقل هذه الرواية أحمد، وزاد فيها: أنّه قال: سمعت رسول اللَّه يقول: لاتبكوا على الدِّين إذا ولّيه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا ولّيه غير أهله.

وعن أبي الدرداء أنّ بلالًا رأى النبيّ صلى الله عليه و آله في المنام، فقال له: ما هذه الجفوة يا


1- 1 محمّد بن المنكدر القرشي التيمي أحد الأئمّة التابعين، تُوفي سنة 130 ه/ 748 م.

ص: 106

بلال، أمَا لَكَ أن تزورني؟ فانتبه حزيناً خائفاً، فركب راحلته، وقصد المدينة، فأتى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله فجعل يبكي عنده، ويمرِّغ وجهه عليه، إلى أنْ ذكر حضور الحسنين وبكاء أهل المدينة، وأذان بلال، قال: فما رُئي أكثر باكياً ولا باكية بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من ذلك اليوم.

وذكر ابن حملة أنّ (بلالًا) وضع خدّيه على القبر، وأنّ ابن عمر كان يضع يده اليمنى عليه.

ونُقلَ عن مالك، والزعفراني تحريمه، وهو الظاهر من كلام أنس بن مالك، حيث قال: ما كنّا نعرفه.

وكيف كان، كيف يدّعى المسّ والتبرّك عبادة مع أنّه أبعد عن التعظيم؟! وقضية الذمّ على عبادة يعوق ويغوث ونسر، ليس من جهة التبرّك، كما نصَّ عليه المفسِّرون (1)، حيث قالوا: تبرّكت الآباء فانتهى الأمر إلى عبادة الأبناء، فوقع الذمّ على الأبناء.

وتحقيق الحال: أنّ التقبيل على أنحاء:

منها: تقبيل المحبّة؛ لأنّ من أحبّ شخصاً أحبّ مكانه، وثيابه، وداره، ومزاره، فلا يكون تقبيل الأعتاب، والجدران، والأبواب إلّاكتقبيل بعض ثياب الأحباب، فهو من قبيل قوله:

أمرُّ على الديار ديارِ (ليلى) أُقبِّلُ ذا الجدارَ ولا الجدارا

وما حُبُّ الديار شغفنَ قلبي ولكنْ حُبُّ مَنْ سكنَ الديارا

وسُئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن تقبيل اليد، فنهى عن ذلك، إلّافي تقبيل يد الزوجة للشهوة، ويد الولد للمحبّة.


1- 1 في تفسير الآية 23 من سورة نوح.

ص: 107

وعن عليّ عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد فتح خيبر: لولا أن تقول فيك طوائف من امّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلتُ اليوم فيك مقالًا، لا تمرّ على ملإ من المسلمين إلّاأخذوا تراب رجليك، وفضل طهورك يستشفون به، ولكن حسبك أنّك منّي وأنا منك (1).

وروي عن علي عليه السلام أنّه قال: قدم علينا أعرابيٌ، بعد دفن النبيّ صلى الله عليه و آله بثلاثة أيّام، فرمى بنفسه على القبر، وحَثَا من ترابه على رأسه.

وعلى كلّ حال، فالذي يظهر بعد تحقيق النظر أنّ التقبيل للمحبّة من قبيل تقبيل الوالد لولده (2)، والأرحام بعضهم لبعضٍ فلو قبَّل بعضهم جدران بعض، أو ثياب بعض، أو مكان بعض، حبّاً وإرادةً، لا تعظيماً ولا عبادةً، فليس فيه بأس.

وأمّا قصد التعظيم والإكرام، فليس فيه خروجٌ عن ملّة الإسلام، قصارى ما هناك أنّه عدّه بعض العلماء من الآثام، فليس على الفاعل عن دليل في الردّ عليه من سبيل. وأمّا من فعل مشرعاً فهو عاصٍ لربّه، حتّى يتوب عن ذنبه.

ولقد نقل عن بعض أمراء دار السلام بغداد أنّه وشى بعض الوشاة على جماعة أنّهم يُقبِّلون أعتاب الأولياء، فقال: سبحان اللَّه في كلّ يوم تقبّلون جلد الميتة «يعني الفروة التي هو لابسها»، ولا تقبِّلون أعتاب أبواب الأولياء.

وعلى أيّ تقدير، فالغرض إنّما هو نفي (التكفير). ونسبة فعل هؤلاء إلى فعل عبدة الأصنام خروجٌ عن الإنصاف في هذا المقام؛ لأنَّ الذاهبين إلى الجواز منّا إنّما أخذوا عن الدليل، لا لمجرّد الاختراع والابتداع، فإن اشتبهوا عُذِروا وأُجِروا.

فمن قبَّل الحجر الأسود، والركن اليمانيّ، أو باقي الأركان، أو مسَّها، أو لزم المستجار، فقد تبرّك بتلك الأحجار؛ لأنّها بأمرٍ من العزيز الجبّار، ولو أخطأ


1- 1 نهج البلاغة 2: 449.
2- 2 في النسخة المطبوعة: «الوالدة لولدها».

ص: 108

الأمر، كان مثاباً.

ومن طاف بين (المروتين)، عملًا بالكتاب وسنّة سيّد الثقلين، لم يكن عليه مؤاخذة في البين.

وطوائف المسلمين بأجمعهم لا يتبرّك منهم أحدٌ بقبر أو غيره، إلّابزعم أنّه مأمورٌ من اللَّه، ومَنْ تبرّك قاصداً للعبادة، فهو خارجٌ عن ربقة المسلمين.

ومن البين المعلوم أنّه لو أمر (المولى) عبده بالتبرّك بثياب عبده المقرّب، أو مكانه، أو قبره، فامتثل، كان مطيعاً لمولاه، لا للعبد الذي قرّبه وأدناه.

فأقسمتُ عليك بمَنْ جمعَ بيننا في كلمة الإسلام، وألَّفَ بين قلوبنا في هذه الأيّام، أنْ تنفرد عن الأصحاب إذا ورد عليك (الكتاب)، وترى نفسك كأنّك الآن خلقت من تراب، وتبذل الجهد في تمييز الخطأ من الصواب، فإنّه- واللَّه (1)- لاحاجة بنا إلّاإليه، ولا اعتماد لنا إلّاعليه.

وليس لنا مع الأنبياء والأولياء قرابة نسب، ولا لهم علينا ما نخاف منه الطلب، وإنّما عظّمناهم لأمر اللَّه، وأخذنا بأقوالهم عملًا بقول رسول اللَّه، وما أُبرّئُ نفسي إنَّ النفس لأمّارةٌ بالسوء إلّاما رحم ربّي.

وكشف الحال على وجه يدفع ما قيل أو يقال: إنّ التواضع والتبرّك والإكرام والاحترام لما هو مُعظَّم عند الملك العلّام من تعظيم اللَّه، كما أنّ قرآنه وبيته، ومساجده لانتسابها إليه، احترامٌ له تبارك وتعالى. فمن عظَّمَ عيسى ومريم وعزير لعبوديّتهم، وقرب منزلتهم، فهو معظّم للَّه.

كماأنّ من عظّم بيت السلطان وعبيده وغلمانه وأتباعه من حيث التبعيّة، يكون معظّماً للسلطان. وأمّامن (وجدها) قابلة للتعظيم، وأهلًا له من حيث ذاتها لا لأجل العبودية والتابعيّة، وإنْ كان غرضه التقريب زلفى، إنّما يكون معظّماً لها، لا للسلطان.


1- 1 في النسخة المطبوعة؛ فأنا وأنتَ.

ص: 109

وإنّي منذ ثلاثين حجّة أنظرُ في حال طوائف المسلمين، محقّيهم ومبطليهم، فلم أجد أحداً يعظّم كتاباً، أو نبيّاً، أو مكاناً، أو عبداً صالحاً من غير قصد قربة من اللَّه، أو انتسابه إليه، فقد ظهر أنّ هذا كلّه من باب طاعة اللَّه وتعظيمه.

وأمّا عبدة الأصنام والعباد الصالحين، فإنّما أرادوا عبادتهم حقّ العبادة، كأنْ يُصلّوا لهم، ويصوموا، ويكون ذلك لاستحقاقهم بربوبيّتهم في أنفسهم، أو للتقريب زلفى، فهي عبادة حقيقيّة على الوجهين.

وعلى كلّ من الاحتمالين على أنّي ذكرتُ مكرّراً أنّهم عاندوا الرُّسل، وكذّبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضاً: لا طاقة لنا بعبادة اللَّه، وإنّما نعبد الأصنام لأنَّ عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقرّبونا إلى اللَّه زلفى، ولقد نقلتُ روايةً مشتملةً على ذلك المعنى في مقام آخر، فالفرق بين الأمرين أوضح ممّا يُرى رأي العين.

فبحقّ مَنْ شقَّ لك السمع والبصر، وسلَّطك على طوائف من الأعراب والحضر، أنْ توجِّه ذهنك الوقّاد، وفكرَك النقّاد، صافياً عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنّها حين حلولنا في المقابر، وانصرافنا عن مرارة الدُّنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبّار الأرض والسماء، وكأنّ الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا إلى ربّ العباد.

اللّهُمَّ اجمعْ بيننا بالحقّ، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخَلْق.

الباب الرابع: في بناء قبور الأنبياء والأولياء وتعميرها وتعلية بنائها وتشييد أركانها

لا يخفى على مَنْ أمعنَ النظر، وتتبَّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فرُبَّ شي ءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الاستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان.

وحيث إنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ

ص: 110

الإسلام لمّا كان المعاش ضيِّقاً، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبيّ صلى الله عليه و آله، والصحابة في أيّامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخَلقَة؛ لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فإنّهم إذا رأوا سيّد الجميع لابساً رَثَّ اللباس، وآكلًا أدنى المأكول، استقرّت نفوسهم، واطمئنّتْ قلوبهم، وارتفعت كدورتهم.

ثمّ لمّا توسّعت أحوال الناس، وقوي الإسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضاً.

ولذلك نقول في أمر بناء (المساجد) و (الحَضْرَات)، فإنّهم كانوا لا يرفعون البناء، ولا يزيّنون الدور، لما بهم من القصور، فإذا كانت بيوت اللَّه، وبيوت أنبيائه لم يرفع بناؤها طابت نفوس الفقراء، واطمئنّت قلوبهم.

وأمّا في مثل هذه الأيّام ونحوها، حيث ارتفع بناءُ الدور، فلا وجه لجعل بيوت اللَّه أخفض منها، ومَنْ يرضى بتعلية بيوت الخلق على بيوت الخالق مع أنّ في تعليتها تعظيماً لشعائر اللَّه، وهي البيوت التي أذِن اللَّه أن تُرفع ويُذْكر فيها اسمه.

و (القباب) منها؛ لأنّها جُعلتْ للعبادة، وليس في بناء القباب تجديد قبر، لأنّ القبر باقٍ على حاله لم يجدّد، وإنّما وضع أساس القبّة بعيداً عنه، ليكون فيها علامة على (المزار) الذي نَدَب إلى زيارته العزيزُ الجبّار، ولتكون ظلالًا للزائرين، فلا تدخل في باب التجديد أصلًا، وكذا صندوق الخشب، فإنّه أجنبيٌّ عن القبر لا دخل له به.

وعلى كلّ حال، فأصل وضع البناء لهذه المقاصد الجليلة ليس فيه بأس أصلًا، ولو تُركت العلامات ما أمكن التوصّل إلى زيارة أكثر الأموات لاندراس آثارهم، فوُضعَ هذا للتمكّن من إدراك فضيلة زيارة القبور، وكلّما كان الشاهد أحكم، كانت دلالتهُ على المشْعَر أدوم.

ص: 111

وأمّا قضيّة (الزينة) فقد رُويَ عن علي عليه السلام أنّ بعض الصحابة أشاروا على عمر أنْ يأخذ زينة الكعبة ليقوّي بها جيوش المسلمين، فقال له عليّ عليه السلام: إنّ الأموال قسّمها النبيّ صلى الله عليه و آله على الفقراء، وكانت في ذلك اليوم الحليّ موجودة ولم يقسّمها، فلا تخالف وضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال عمر رضى الله عنه: «لولاك افتضحنا»، وأبقى الحليّ على حالها.

والأصل في بناء (القباب) وتعميرها، ما رواه البناني (واعظ أهل الحجاز) عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه الحسين، عن أبيه عليّ أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال له:

واللَّه لتقتلنّ في أرض العراق، وتدفن بها. فقلت: يارسول اللَّه ما لمن زار قبورنا وعمَّرها وتعاهدها؟ فقال لي: يا أبا الحسن إنّ اللَّه جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنّة، وإنّ اللَّه جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحنُّ إليكم، ويعمّرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقرّباً إلى اللَّه تعالى، ومودّةً منهم لرسوله.

يا عليّ مَنْ عمَّرَ قبوركم وتعاهدها، فكأنّما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجّة بعد حجّة الإسلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه.

ونُقِلَ نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين: نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسندٍ آخر غير ذلك السند، ورواه أيضاً محمّد بن عليّ بن الفضل.

فبعد دلالة هذه الأخبار على تعمير (القباب)، واستمرار طريقة الأصحاب، مع أنّها داخلة في المواضع المعدّة للطاعات، كالمساجد، والمدارس، والرباطات، مع أنّ فيها تعظيماً لشعائر الإسلام، وإرغاماً لمنكري دين النبيّ عليه الصلاة والسلام.

وبعد أن بيّنا أنّ الحكم والمصالح تختلف باختلاف الأوقات، وذكرنا اعتضاد ذلك بالروايات، لم يبق بحثٌ من جميع الجهات.

وعلى تقدير ثبوت الخطأ في هذا الباب، لا يلزم على المخطئ تكفير

ص: 112

ولا عصيان، بل ربّما يُثاب، لأنّ الخالي من التقصير وإن اتّصف بالقصور معذور كلّ العذر، بل هو مأجور.

فيا أخي لا تعارض المسلمين فيما هم عليه إن لم تركن إلى ما ركنوا إليه، واحملهم على المحامل الحسان، فانّا هكذا أمرنا بحمل الاخوان، وفّقنا اللَّه وإيّاكم، وهدانا وهداكم، واللَّه وليّ التوفيق.

وحيث انتهى ما أردنا ذكره، وأحببنا رسمه وسطره، على غاية من السرعة والاستعجال، وعدم التمكّن لاستيفاء كثير ممّا يناسب هذا المجال، والاستقصاء لما في كتب الأخبار والاستدلال، أحببنا أن نضيف إلى ذلك:

كشفُ الجواب: عمّا تَضَمَّنهُ ذلك الكتاب من الإنكار على أكثر المسلمين في جميع الأقطار (1).

أقول: إنْ اريد بدعوة غير اللَّه والاستغاثة إسناد الأمر إلى المخلوق على أنّه الفاعل المختار الذي تنتهي إليه المنافع والمضارّ، فذلك من أقوال الكفّار، والمسلمون بجملتهم براءٌ من هذه المقالة ومن قائلها، وما أظنّ أنّ أحداً ممّن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا.

وإن اريد أنَّ المدعو والمستغاث به له اختيار وتصرّفٌ في أمر اللَّه تعالى، فيحكم على اللَّه، فهذا أشدّ كفراً من الأوّل.

وإنْ أُريد دعاؤه والاستغاثة به للدّعاء والشفاعة، أو من التصرّف في العبارة، كما تقول: يا رحمة اللَّه، ويا بيت اللَّه، ويا عبد اللَّه، ولا تريد إلّانداء اللَّه ودعاءه، واستغاثته، فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كلّ الجهات.


1- 1 ورد في النسخة المطبوعة: واللَّه الملهم للسداد والصواب، فنقول: أمّا ما ذكرت من الإنكار على كثير من الناس الاستغاثة بغير اللَّه ودعوة غير اللَّه.

ص: 113

وكون الدُّعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه، وهو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلَّ شأنُهُ عن الأشباه والنظائر. ولو جعلت كلّ دعاء عبادة، للزم أنّ دعاء (زيد) لإصلاح بعض الامور، أو دفع بعض المحذور، وطلب الأفعال، كلّها من قبيل الكفر.

فالسؤال، والأزواج، والعبيد، والخُدّام في طلب المآكل والملابس مربوبون، و مقابلوهم أرباب، فيكون ذلك مكفّراً، و إن أقررت بالتخصيص خصّصناه بما ذكرناه.

وبيانُهُ: أنّ لفظ «الدُّعاء» لا يُراد به المعنى اللغوي، وإلّا لكفر جميع الخلق، فالمراد دعاء العبودية والمربوبيّة، كمن دعا الأصنام أو الصالحين، مع اعتقاد ربوبيّتهم، وقصد عبوديّتهم، مكتفين بها عن عبادة اللَّه، أو مشركين أولئك مع اللَّه لقصد وصول النفع إليهم منهم، وليقرّبوا إلى اللَّه زُلفى.

وأمّا ما ذكرتَهُ من (النذر لغير اللَّه تعالى) و (الذبح لغير اللَّه)، وهذا أيضاً إن اريد أنّهم يذبحون مُهلِّينَ باسم غير اللَّه، أو ينذرون تعبّداً لغير اللَّه. فذلك لم يصدر من أحد من المسلمين، وكلّ من فعل ذلك، فهم منه براء، سواء كان ذلك عبادةً لغير اللَّه، أو كان لأجل أن يقرب إلى اللَّه.

وأمّا لو كان من باب إهداء ثواب المذبوح والمنحور والمنذور إلى أولياء اللَّه وعباده الصالحين، فهو من أعظم الطاعات، وأفضل القربات، وقد بيّنا ذلك في بعض المقامات.

قولك: إنّ ذلك حقيقة دين المشركين أعداء رسل ربّ العالمين، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم، فأخبر اللَّه عنهم بذلك في كتابه المبين، حيث يقول وهو أصدق القائلين: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ (1)

فأخبر اللَّه أنّهم ما عبدوهم إلّاليقرّبوهم إلى اللَّه زلفى، وقال


1- 1 سورة يونس 10: 18.

ص: 114

سبحانه وتعالى: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (1).

فتأمّل كيف أخبر اللَّه سبحانه عنهم أنّهم ما قصدوا بعبادتهم غير اللَّه إلّا التقرّب إلى اللَّه والشفاعة عنده، وإلّا فهم مُقِرُّون أنّ اللَّه هو المدبِّر لأمر هذا العالم العلوي والسفلي، كما أخبر اللَّه عنهم أنّهم أقرّوا بذلك، قال اللَّه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (2).

أقول: إنَّ لكلِّ حقّ حقيقة، وإنّ على كلّ صواب نوراً، إنَّ عبدة غير اللَّه قد اتّخذوا آلهة دون اللَّه تعالى أو مع اللَّه وجعلوا لهم أنداداً وأمثالًا للَّه، قال اللَّه تعالى:

أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (3)

، وقال: فَلَا تَجْعَلُوا للَّهِ أَندَاداً (4)

، وقال: وَجَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ (5)

، وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ (6)

، وقال: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (7)

، وقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (8).

ثمّ المذمّة لم تكن على اعتقاد الشفاعة، أو التقرّب زلفى، بل على العبادة بهذا


1- 1 سورة الزمر 39: 3.
2- 2 سورة يونس 10: 31.
3- 3 سورة المائدة 5: 76.
4- 4 سورة البقرة 2: 22.
5- 5 سورة الأنعام 6: 100.
6- 6 سورة المائدة 5: 73.
7- 7 سورة المائدة 5: 116.
8- 8 سورة الأنعام 6: 19.

ص: 115

القصد، والمراد بالعبادة أعمال خاصّة كما بيّناه.

وقولك: «إنّ ذلك حقيقة دين المشركين، كقوم نوح وعاد وثمود» كيف ذلك، وقد أخبر اللَّه عنهم بقوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍوَثَمُودَ، إلى قوله: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ (1)

. وأخبر عن قوم (عاد) أنّهم قالوا لهود: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ (2)

، وعن قوم صالح أنّهم قالوا له: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (3)

، وعن قوم شعيب أنّهم قالوا له: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (4)

، وعن قوم إبراهيم أنّهم كذّبوا الرُّسل؟

فهؤلاء الطوائف بصريح القرآن كذّبوا الرّسل، وردّوا قولهم، وعاندوهم، فلو كانوا مقرّبين؛ لكانوا كفّاراً لكفر العناد ككفر إبليس.

فيا أخي أقسمتُ عليك بمَنْ خَلَقَنا من تراب، ثمّ أودعنا الأصلاب أن تترك الجدال، وتتأمّل في حقيقة الحال، كيف تُشَبِّهُ أعمال المسلمين بأعمال عَبَدَة الأصنام وغيرها مع أنّهم أنكروا نبوّة الأنبياء، وردّوا عليهم بعد أن أمروهم، ولم يسمعوا لهم قولًا، ولا قبلوا لهم فعلًا؟!

ثمّ إنّهم عبدوا طواغيتهم بالعبادة الحقيقيّة؛ لاعتقاد أنّ لهم تصرّفاً في الأكوان، أو في إرضاء الملك الدّيان، وإلّا لم يذمّهم الرحمن، ولا أنكر عليهم كلّ فعل كان.

ثمّ تعلّلوا بأنّا لا نقدر على عبادة اللَّه سبحانه، فنعبدهم ونكتفي بعبادتهم وهم يقرّبونا، كما أوردنا بذلك بعض الروايات في بعض المقامات.

وعلى كلّ حال، لا يتأمّل مسلم في أنّ العبادة الحقيقيّة من الصلاة والصيام


1- 1 سورة إبراهيم 14: 9.
2- 2 سورة هود 11: 53.
3- 3 سورة هود 11: 62.
4- 4 سورة هود 11: 78.

ص: 116

وغيرهما لا تكون لغير اللَّه، فإن كان التصدّق عن الأولياء والذبح لهم والنذر لهم عبادة، فنحن عبيد آبائنا وامّهاتنا وأمواتنا الذين نتصدّق عنهم، أو ننذر لهم، ونذبح لهم.

وإن كان طلب الدُّعاء منهم وندبتهم على الدُّعاء والشفاعة كفراً، فعلى الإسلام السلام، فإنّه ليس في الوجود أحدٌ لا يلتمس الدُّعاء من إخوانه، أو يستغيث بهم في طلب نجاته، وإنّ دعاء المؤمن للمؤمن أسرع للإجابة؛ لأنّه دعاء بلسان لم يعص به.

فيا أخي، المقاصد متفاوتة، وإنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئٍ ما نوى (1)، فرُبّ كلمة ظاهرها الإسلام، تصير بالنيّة كلمة كفر، وبالعكس.

وأمّا قولك: فإنّ الذي يُفعلُ عندنا في مشهد عليّ رضى الله عنه من دعوة، واستغاثة، ورجاء، وخوف، وخشية. إنّه ليس بعبادة، فإنّهم ما قصدوا بدعوتهم (عليّاً) وغيره إلّاليشفع لهم عند اللَّه.

فإن قلت: أولئك يدعون الأصنام، ونحن لا ندعو إلّاالصالحين.

قلنا: وكذلك المشركون منهم يدعون الصالحين ويعبدونهم مع اللَّه، كعيسى ومريم والملائكة.

فإن قلتم: إنّ الدعوة لا تُسمّى عبادة.

قلنا: بل هي عبادة وأيّ عبادة، ففي الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الدُّعاء هو العبادة. ويلي قوله تعالى: ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ (2).

وأصل دين الإسلام هو إخلاص العبادة بجميع أنواعها من الذبح والدعوة، والنذر، والتوكّل، والخشية، والرغبة، والإنابة، ولا يقبل اللَّه من الأعمال إلّاما


1- 1 البخاري بدء الوحي، باب 1؛ وصحيح مسلم كتاب الأمارة، باب 155؛ والنسائي كتاب الطهارة، باب 59؛ وابن ماجة كتاب الزهد، باب 26.
2- 2 سورة غافر 40: 60.

ص: 117

اجتمع فيه شرطان:

الأوّل: ألّا يعبد إلّااللَّه وحده.

الثاني: ألّا يعبد إلّابما شرع على لسان رسوله، كما قال اللَّه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (1).

أقول: إن كان المدار على الصور دون الحقائق، فسجود الملائكة لآدم، وسجود يعقوب ليوسف، قاضٍ بأنّهما عبدا غير اللَّه.

وإن قلت: بأنّ تعلّق إرادة الشرع دفعت المنع. فقد أوردنا من الأخبار وكلام الصحابة ما يفيد عدم المنع، من أمثال الصور التي ذكرت.

ثمّ باللَّه عليك أنصفْ، ما الفرق بين قول الصديق لصاحبه في السجن:

اذْكُرْنِى عِنْدَ رَبِّكَ (2)

وبين قولنا لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اذكرني عند ربّك»؟

ثمّ كيف باستغاثة ولي موسى (3)، ولم يحكم عليه بالكفر؟! ثمّ كيف باستطعام موسى والخضر أهل القرية (4)؟ ثمّ كيف يقول أصحاب موسى: لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ (5)

؟ ثمّ ما معنى قول الأسباط ليعقوب: اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فقال: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى (6)

؟!

وعلى كلّ حال، إن اريدت الحقائق في الاستغاثات والدعوات وغيرها، ففي ذلك خروج عن طريقة الإسلام، وإلّا فلا بأس، وإلّا للزم ألّا يخرج من الكفر أحدٌ


1- 1 سورة الكهف 18: 110.
2- 2 سورة يوسف 12: 42.
3- 3 إشارة إلى الآية 15 من سورة القصص: فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوّه.
4- 4 إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف، الآية 77: فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أنْ يضيفوهما.
5- 5 سورة البقرة 2: 61.
6- 6 سورة يوسف 12: 97.

ص: 118

من العالم، ولا يمكنك واللَّه ولا يسعك إلّاأن تقول إنّما يُراد دعاءٌ خاصّ، واستغاثة خاصّة ونحو ذلك، فيرتفع المحذور.

وأمّا مَنْ قصد حقيقة العبادة مع غير اللَّه، ليتقرّب إلى اللَّه زلفى، أو لغير ذلك، فهو خارج عن ربقة الإسلام.

وما ذكرتم من أنّا نفرِّق بين الصالحين وغيرهم، فمعاذ اللَّه أن نفرّق بين مَنْ يعبد موسى أو محمّداً صلى الله عليه و آله، أو يناديهم ويدعوهم، أو يستغيث بهم أحياءً وأمواتاً، ويلجأ إليهم على أنَّ لهم الأمر أو ليقرّبوه زلفى، وبين مَنْ يعبد فرعون، وهامان، وإبليس.

أين النفوس المقرونة بالأبدان التي تتغيّر من أدنى حوادث الزمان، ولا زالت مورداً للأمراض، ومحلّاً للأغراض، لا تدفع شيئاً من حوادث الدهر، وليس لها في كلّ الأمور من أمر من رتبة المعبود. ومن لا يصلح لغيره الركوع والسجود، إنّما هم عبيد زادت علينا عبوديتهم، وخدّام سبقت خدمتنا خدمتهم.

فإن امرنا بتقبيل بنائهم، أو تعظيم أبنائهم، أو التماس دعائهم، فعلنا امتثالًا لأمر ربّنا، كما صنعنا ذلك في أحجار الكعبة وأركانها. وإن نهانا تركنا، إذ لا خوف إلّا من اللَّه، ولا رجاء إلّاله.

وأمّا قولك: إنّه قد ورد في الحديث عن الصادق الصدوق، قال: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة»(1).

وفي الحديث الثاني، قال: افترقت اليهود والنصارى عن اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الامّة عن ثلاث وسبعين فرقة، كلّها في النار إلّاواحدة.

وسُئِلَ عن الواحدة، فقال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) (انتهى).


1- 1 سنن الترمذي 5: حديث 2676؛ وسنن أبي داود 4: حديث 4607، وسنن ابن ماجة 1: حديث 42.
2- 2 كنز العمّال 1: 1060.

ص: 119

أقول: اللّهمّ إنّي رضيتُ بسنّة الخلفاء الراشدين حكماً، وما عليه أصحاب محمّد متمسِّكاً وملتزماً، فأُحِلُّ ما أحلّوه، وأفعلُ ما فعلوه، وهذه أقوالهم وسيرتهم في هذه الرسالة أوضحتُها، فلا أزيغ عنها، ولا أبعد مسافةً منها، فتتبّع ما رويتُ من أخبارهم، وما نقلتُ من آثارهم، رزقني اللَّه وإيّاكم حلاوة الإنصاف، وجنّبنا مرارة الجدال والاعتساف.

وأمّا قولك: «فلا تغترّ بالكثرة وهذا الثابت عن نبيّك، واللَّه يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِى الشَّكُورُ (1)

، وقال: إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (2)

. وفي الحديث: إنَّ بعث الجنّة من الألف واحد، فأنت اختر لنفسك، والمهدي من هداه اللَّه»، انتهى.

أقول: يا أخي، الوصية مشتركة بيني وبينك، فالذي عَليَّ ألّا تأخذني حميّة الآباء والأجداد، وحبّ الطريقة المأنوسة بين العباد، بل أنظر بعين البصيرة وإخلاص السريرة.

وأمّا أنت فإنّي أخشى عليك من حبّ الانفراد، حتّى لا تكون كبعض الآحاد، فإنّ الأصابع لم تزل ممدودة إلى مَنْ ركب جادة غير معهودة، وقد ورد في المثل: (خالفْ تُعْرَفْ).

ثمّ إنّي- واللَّه- أخشى عليك من جهة أنّك كنت خالي البال، بعيداً عن هذه المحال، فوردتْ عليك شبهاتٌ لم تستطع ردّها، وخيالاتٌ لم تبلغ حدَّها، فكان الحال كما قال: (صادف قلباً خالياً فتمكّنا) (3).


1- 1 سورة سبأ 34: 13.
2- 2 سورة الأنعام 6: 116.
3- 3 إشارة إلى قول القائل: عرفتُ هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوى فصادفَ قلباً خالياً فتمكّنا

ص: 120

وأمّا اليوم، فليس لك عند اللَّه عذرٌ، فقد علمت بالأخبار، وسمعتَ بطريقة الخلفاء الأبرار، فأجدَّ نظرك، واستعمل فكرك، واخلع عن نفسك ربقة التقليد، واطلب من ربّك التأييد والتسديد.

ثمّ ما ذكرت إنّما يدلّ على أنّ الحقَّ مع القليل من المكلّفين لا من المسلمين، فإنّ أكثر أهل الأرض كفّار من يهود، ونصارى، ومشركين، وجاحدين، وغيرهم، حتّى أنّ نسبة اقليم المسلمين إلى سائر الأقاليم أقلُّ قليل.

فنحن نقول بأنّ مَن أطاع أكثر الخلق ضالّ، لأنّ أكثر الناس من أهل الكفر والضلال، وأنّ الشكور قليل، وأنّ بعث أهل الجنّة من الألف واحد، ولو استندت في هذا إلى حديث الفرق، فوحدة الفرقة لا تنافي زيادة أفرادها على ألف فرقة.

والحقّ أنّه لا ملازمة بين القلّة والكثرة، وبين الحقّ والباطل، فكم من قليل هُدي إلى الصواب، وكثير حلَّ عليه المؤاخذة والعقاب، وكم قد انعكس الأمر في هذا الباب، والمدار على طلب العصمة والنجاة من ربّ الأرباب، ولا حول ولا قوّة إلّا باللَّه العليّ العظيم.

تمّت على يد أقلّ العباد عملًا، وأكثرهم زللًا محمّد قاسم ابن شيخ محمّد بن حمزة الدلبزي في سنة ألف ومائتين وعشرة.

في رحاب آية الحجّ

ص: 121

في رحاب آية الحجّ

محمّد سليمان

وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا

هناك آيات قرآنية متعدّدة جاءت تخصّ الحجّ وجوباً وأحكاماً وآداباً وتأريخاً، وهي تدلّ على أهمّية هذه الفريضة ومكانتها في الإسلام وحتّى في الديانات السابقة. كما تدلّ على فضل البيت الحرام وعظيم منزلته...

ففي وجوبه آيات، وفي أحكامه آيات أخرى...

ونحن نقتصر الحديث عن آية واحدة من تلك الآيات، التي تخصّ وجوب الحجّ في بحث فقهي وتأريخي عند الفريقين، وهي:

وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غنّي عن العالمين (1).

الحجّ لغة: بفتح الحاء وكسرها وتشديد الجيم هو القصد مطلقاً، وبلوغ الفلاح كما عن الإمام الباقر عليه السلام: حجَّ، بمعنى: أفلح (2).


1- 1 آل عمران: 97.
2- 2 انظر دائرة المعارف 15: 16، الأعلمي، طبعة طهران.

ص: 122

وهو تحقّق القدوم (1).

وطول التردّد (2) على الديار أو الأشخاص إذ يقال: حجّ إلينا فلان أي قدم، وحجَّه يحجُّه حَجّاً: قَصَدَهُ... ورجل محجوج أي مقصود، وقد حجَّ بنو فلان فلاناً: إذا أطالوا الاختلاف إليه (3).

وقيل: الحِجّ بالكسر، اسمُ الحجّ- المصدر- والحِجّة بالكسرة، المرّة الواحدة وهو من الشواذ؛ لأنّ القياس بالفتح (4).

إلّا أنّه لم يسمع من العرب على ما حكاه ثعلب، يدلّ على ذلك ذو الحجّة من أشهر الحجّ (5).

إذ إنَّ مصدر المرّة- حسب القواعد النحوية- على صيغة فَعْلَة بالفتح، ومصدر الهيئة على صيغة فِعْلة بالكسر.

الحجّ اصطلاحاً

فالحج في الاصطلاح الشرعي: هو قصد الكعبة المعظّمة وزيارة البيت الحرام، وأفعال وأعمال في الأزمنة المخصوصة تقرّباً إلى اللَّه سبحانه وتعالى (6).

وهناك إشارات تبيّن العلاقة بين الحجّ اصطلاحاً والحجّ لغةً، فقد أشار المطرزي إلى علاقة الاصطلاح بالدلالة اللغوية الأوّلية، فقال: «غلب الحجّ على (قصد الكعبة) للنسك المعروف».

وقد صرّح ابن منظور بهذه العلاقة إذ قال: «الحجّ قصد التوجّه إلى (البيت)


1- 1 لسان العرب، لابن منظور 2: 226، طبعة بيروت.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 انظر المطرزي في المغرّب في ترتيب المعرّب: 103 طبعة بيروت.
6- 6 انظر دائرة المعارف للأعلمي: 264.

ص: 123

بالأعمال المشروعة فرضاً وسنّةً، تقول: حججتُ البيت أحجّه حجّاً إذا قصدته، وأصله من ذلك، ثمّ تعورف استعماله في القصد إلى (مكّة) للنسك والحجّ إلى (البيت خاصّة)» (1).

فيما قال الأزهري: «الحَجّ: قضاء (نُسُك سَنَة واحدة)، وبعض يكسر الحاء، فيقول: الحِجّ والحِجّة، وقُرئ: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» (2).

هذا وأنّ القراءة بكسر الحاء لم تأتِ في القرآن الكريم، إلّافي هذه الآية كما سنرى عند التعرّض لقراءتها.

*** إعراب الآية

وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غنّي عن العالمين

الواو: استئنافية، والجملة بعدها مستأنفة.

للَّه: جار ومجرور، خبر مقدّم.

على الناس: جار ومجرور متعلّق بما تعلّق به الخبر وهو للَّه.

حِجّ: مبتدأ مؤخّر مضاف والبيت مضاف إليه.

مَنْ: اسم موصول بمعنى الذي، بدل من الناس، بدل بعض من كلّ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لابدّ في كلّ منهما من ضمير يعود على المبدل منه، نحو: أكلت الرغيف ثلثه، وسلب زيد ثوبه، وهنا الضمير غير موجود، وأُجيب عن هذا بأنّ الضمير هنا محذوف تقديره (منهم) من استطاع منهم.

وجملة استطاع صلة الموصول.


1- 1 لسان العرب 2: 226.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 124

إليه: جار ومجرور متعلّقان بمحذوف حال؛ لأنّه كان في الأصل صفة ل (سبيلًا) فلمّا تقدّمت عليه أعربت حالًا.

والهاء في (إليه): الظاهر أوّلًا: عوده على الحجّ؛ لأنّه مُحدَّثٌ عنه. والثاني:

عوده على البيت. وإليه: متعلّق باستطاع.

سبيلًا: مفعول به؛ لأنّ استطاع متعدّ بنفسه، قال تعالى: لَايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ (1).

ومن: الواو عاطفة، من اسم شرط جازم، في محلّ رفع مبتدأ.

ويجوز أن تعرب مَن اسم موصول بمعنى الذي أي والذي كفر.

كفر: فعل ماضٍ في محل جزم فعل الشرط والفاعل هو.

فإنّ: الفاء تعليل لجواب الشرط المقدر أي فلن يضرّ اللَّه، فإنّ اللَّه عنه غني.

والجملة بما أنّها صلة الموصول، فلا محلّ لها من الإعراب. وفعل الشرط وجوابه خبر للمبتدأ مَن.

وإنّ: الواو عاطفة، وإنّ من الحروف المشبّهة بالفعل، واللَّه اسمها، وغني خبرها.

عن العالمين، جار ومجرور متعلّقان بغني..

المبالغات

وقد جي ء في هذه الآية بمبالغات كثيرة:

منها: قوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.

يعني أنّه حقّ واجب عليهم للَّه في زمانهم، لا ينفكّون عن أدائه، والخروج عن عهدته.

ومنها: أنّه ذكر النَّاسِ ثمّ أبدل منهم مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.


1- 1 سورة الأعراف: 197.

ص: 125

وفيه ضربان من التأكيد:

أحدهما: أنّ الإبدال تثنيةُ المراد وتكرير له.

والثاني: أنّ التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام، إيراد له في صورتين مختلفتين (1).

ومنها: الألف واللّام في الْبَيْتِ جاءتا للعهد، لتقدّم ذكر البيت في الآية السابقة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ.. (2).

ومنها: أنّ (البيت) هنا عَلمٌ بالغَلَبة، كالثريا: نجم. فإذا قيل: «زار البيت»، فلا يتبادر الذهنُ إلّاإلى الكعبة شرّفها اللَّه تعالى (3).

القراءة

قرأ أبو عمرو النّاسِ بالإمالة.

حِجّ: كما في المصحف، بكسر الحاء، قرأها كلّ من حمزة والكسائي وحفص.

فيما قرأ كلّ من نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الحاء.

ويقول الطبرسي: وقرأ أهل الكوفة غير أبي بكر وأبي جعفر حِجّ البيت بكسر الحاء والباقون بفتحها.

وهناك من يقول: إنّ الفتح قراءة الجمهور في جميع القرآن باستثناء كلّ من حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، فقرؤوا بالكسر.

فيما قرأ كلّ من الحسن وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، أمّا نصّ المصحف ففي جميعه بالفتح إلّاهذه الآية بالكسر.

وهما لغتان بمعنى، الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية، وقيل: هما لغتان لأهل الحجاز وبني أسد، فيما الفتح لغة أهل نجد لا الكسر.


1- 1 انظر الزمخشري في الكشّاف 1: 449.
2- 2 سورة آل عمران: 96.
3- 3 انظر الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي 3: 321- 323.

ص: 126

فيما فرّق سيبويه بين القراءتين، فجعل المكسور مصدراً أو اسماً للعمل، وأمّا المفتوح فمصدر فقط (1).

وقت نزولها

اختلف في وقت نزول هذه الآية وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...، فذهب بعضهم إلى أنّها نزلت في السنة الثالثة من الهجرة الشريفة، أي بعد معركة أُحد.

فيما ذهب آخرون إلى القول: إنّها نزلت في السنة التاسعة، عام الوفود، وهي السنة التي فرض فيها الحجّ.

والذي يبدو من تتبّع تأريخ الحجّ، أنّه مرّ بمرحلتين، وأنّ هذه الآية كانت تشكّل الفاصل بين المرحلتين المذكورتين:

فمرحلة قبل نزول هذه الآية.

والثانية بعد نزول هذه الآية.

فالمرحلة الأولى: كان الحجّ يؤدّى من قَبل هذه الآية، استصحاباً للحنيفيّة، وإن كان لا يخلو من التقرّب إلى اللَّه تعالى، فقد كان حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله والمسلمين يتمّ وفقاً لهذا حتّى ذكر أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حجّ مرّتين وهو بمكّة مع الناس، قبل الهجرة المباركة.

وأمّا المرحلة الثانية؛ فهي مرحلة وجوب الحجّ في الشريعة الإسلامية، وأنّه صار فرضاً من الفروض العبادية، وفرعاً من فروع الدين الجديد. حيث لا دليل يذكر على أنّ الحجّ كان وقوعه واجباً، إلّابعد نزول هذه الآية.

وقد تمالأ علماء الإسلام- كما يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير- على الاستدلال بها على وجوب الحجّ، فلا يعدّ ما وقع من الحجّ قبل نزولها، وبعد البعثة، إلّاتحنثاً وتقرّباً (2).


1- 1 انظر مجمع البيان للطبرسي، الوسيط في تفسير القرآن المجيد للنيسابوري 1: 467 الهامش، ومعجم القراءات القرآنية 2: 55، والدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي 3: 321- 323 و 2: 304.
2- 2 تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور 3: 21.

ص: 127

فبنزول هذه الآية بدأت تأخذ هذه الفريضة وجوبها، وإن اختلف المفسِّرون في السنة، التي فرض فيهاالحجّ؛ فقيل: سنة خمس، وقيل: سنة سبع، وقيل: سنة تسع.

وهذه الأقوال الثلاثة ذكرها القرطبي في أحكامه (1)، إلّاأنّه لم ينسب هذه الأقوال إلى أصحابها، سوى أنّه نقل ما ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي أنّه كان ذلك في عام الخندق، بعد أن انصرفت الأحزاب خائبةً من حيث أتت. وكان انصراف الأحزاب آخر سنة خمس هجرية، وهناك رأي للشافعي كما في مقدّمات ابن رشد يقتضي أنّ الحجّ كان وجوبه في السنة التاسعة...

إلّا أنّ القول الراجح هو أنّ دليل وجوب الحجّ هذه الآية وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

وبما أنّ نزولها كان في السنة الثالثة للهجرة، فإنّ هذه السنة هي السنة التي فرض فيها الحجّ، إلّاأنّهم وأقصد المسلمين لم يتمكّنوا من أدائها حتّى سنة تسع أو سنة عشر (2)؛ لأنّهم محصرون من قبل المشركين عن أدائها حتّى تمَّ لهم فتحُ مكّة..

*** نأتي الآن إلى الآية الكريمة بمقاطعها الثلاثة:

المقطع الأوّل: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ.

المقطع الثاني: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

المقطع الثالث: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ.

ولنبدأ بالمقطع الأوّل، فهل يدلّ على وجوب الحجّ؟

بعبارة أُخرى: لو تركنا نحن والآية بعيداً عن الروايات، فهل نستفيد من


1- 1 أحكام القرآن للقرطبي 4: 144 في تفسير الآية.
2- 2 انظر جامع الأحكام الفقهية للقرطبي 1: 382 وغيره.

ص: 128

مقطع الآية الأوّل وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ الوجوب؟

ممّا لا ريب فيه أنّ الآية المذكورة تدلّ على الوجوب والإلزام خصوصاً إذا عرفنا أنّ التعبير القرآني في موارد التكاليف الإلزامية، ألفاظه مختلفة، ففي مثل الصلاة نرى الآيات القرآنية تستعمل كلمة الإقامة للدلالة على وجوب هذا النوع من العبادات، والتي يُراد بها نفس إيجادها، كما في: أَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِى النَّهَارِ... (1) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.. (2)

، ولذا يُقال في فصول الإقامة: قد قامت الصلاة. وكذلك الحال في الزكاة، التي تعبّر الآية عن إعطائها بالإيتاء وَآتَى الزَّكَاةَ (3) الَّذِينَ لَايُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (4).

وفي هذه الآية وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ عبّر عن وجوب الحجّ ب (اللّام وعلى)، وهو كالتعبير في باب الدَّين: لزيد على عمرو عشرة دنانير، أو لفلانٍ عليَّ كذا..

فاللّام تدلّ على الإلزام والتوكيد، كما أنّ تقدّم ما من شأنه التأخير وهو الخبر يدلّ على التوكيد والحصر أيضاً حيث قدّم الخبر (للَّه) وتقديره حجّ البيت للَّه...

ولابدّ لنا من ذكر ما قاله صاحب كنز العرفان لما فيه من منافع علمية:

إنّه تعالى ذكر في الآية أموراً من التوكيد لأمر الحجّ ما لم يذكره في غيرها من وجوه:

الأوّل: إيراده بصيغة الخبر.

الثاني: إيراده في صورة الاسمية.

الثالث: إيراده على وجه يفيد أنّه حقّ للَّه في رقاب الناس.


1- 1 سورة هود: 115.
2- 2 سورة الإسراء: 78.
3- 3 سورة البقرة: 177.
4- 4 سورة السجدة: 7.

ص: 129

الرابع: تعميم الحكم أوّلًا ثمّ تخصيصه وهو كإيضاح بعد إبهام وتثنية وتكرار للمراد، فهو أبلغ من ذكره مرّة واحدة.

الخامس: تسمية ترك الحجّ كفراً من حيث إنّه فعل الكفرة، وأنّ تركه من أعظم الكبائر؛ ولذلك قال صلى الله عليه و آله: فليمت.

السادس: ذكر الاستغناء، فإنّه في هذا الموضع، يدلّ على شدّة المقت والخذلان وعظم السخط.

السابع: قوله: عن العالمين ولم يقل عنه؛ لما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان؛ لأنّه إذا استغنى عن العالمين، فقد استغنى عنه لا محالة، ولأنّه يدلّ على الاستغناء الكامل، فكان أدلّ على السخط (1).

وممّا اشتملته الآية: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ من توكيدات، يبيّن الرازي أقسامها بقوله:

أحدها: قوله: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والمعنى أنّه سبحانه؛ لكونه إلهاً ألزم عبيده هذه الطاعة، فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا.

ثانيها: أنّه ذكر الناس، ثمّ أبدل منه من استطاع إليه سبيلا، وفيه ضربان من التوكيد:

أمّا أوّلًا؛ فلأنّ الإبدال تثنية للمراد وتكرير، وذلك يدلّ على شدّة العناية.

وأمّا ثانياً؛ فلأنّه أجمل أوّلًا، وفصّل ثانياً، وذلك يدلّ على شدّة الاهتمام.

وثالثها: أنّه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين:

إحداهما: لام الملك في قوله: وللَّه.


1- 1 انظر كنز العرفان في فقه القرآن للسيوري.

ص: 130

وثانيهما: كلمة (على) وهي للوجوب في قوله: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ.

ورابعها: أنّ ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كلّ إنسان يستطيعه، وتعميم التكليف يدلّ على شدّة الاهتمام.

وخامسها: أنّه قال: ومن كفر مكان ومن لم يحجّ، وهذا تغليظ شديد في حقّ تارك الحجّ.

وسادسها: ذكر الاستغناء، وذلك ممّا يدلّ على المقت والسخط والخذلان.

وسابعها: قوله: عن العالمين ولم يقل عنه؛ لأنّ المستغني عن كلّ العالمين، أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته، فكان ذلك أدلّ على السخط.

وثامنها: أنّ في أوّل الآية قال: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ فبيّن أنّ هذا الإيجاب كان لمجرّد عزّة الإلهية وكبرياء الربوبية، لا لجرّ نفعٍ ولا لدفع ضرٍّ، ثمّ أكّد هذا في آخر قوله: فإنّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين» (1).

فيما يقول القرطبي في أحكامه:

قوله تعالى: وَللَّهِ [في قوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ...]

اللّام في قوله وللَّه لام الإيجاب والإلزام، ثمّ أكّده بقوله تعالى: على، التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان عَليّ كذا، فقد وكّده وأوجبه.

فذكر اللَّه الحجّ بأوكد ألفاظ الوجوب تأكيداً لحقّه وتعظيماً لحرمته (2).


1- 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 8: 165- 116 في تفسير الآية.
2- 2 جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي، جمعه فريد عبد العزيز الجندي 1: 380.

ص: 131

فيما ذهب غيره إلى أنّ في هذه الآية صيغتين من الوجوب:

الصيغة الأولى: لام الاستحقاق.

الصيغة الثانية: على، التي تدلّ على تقرّر حقّ في ذمّة المجرور بها (1).

إذن فالآية نفسها تدلّ على وجوب الحجّ عند الفريقين.

والمهمّ أنّ هذه الآية هي آية وجوب الحجّ عند الجمهور، وقد ثبتت فرضيته عندهم بالكتاب إضافةً إلى السنّة والإجماع، أمّا الكتاب فقوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (2).

وإيجاب الحجّ على المكلّف في العمر مرّة واحدة بالنصّ والإجماع.

فقد ذكروا روايات عديدة بهذا الخصوص تدلّ على أنّ الحجّ فرض لمرّة واحدة، وما زاد عن ذلك فهو تطوّع، ومن تلك الروايات:

عن أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه وغيرهما أيضاً:

عن أبي هريرة أنّه قال:

خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

أيّها الناس، إنّه فرض اللَّه عليكم الحجّ فحجّوا.

فقال رجل: أكلّ عام يارسول اللَّه؟ فسكت حتّى قالها ثلاثاً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لو قلت: نعم؛ لوجبت، ولما استطعتم.

ثمّ قال: ذروني ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شي ء فدعوه.

وروى أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عبّاس أنّه قال:


1- 1 التحرير والتنوير: 3/ 23.
2- 2 الفقه على المذاهب الأربعة 1: 631.

ص: 132

خطبنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أيّها الناس، إنّ اللَّه كتب عليكم الحجّ، فقال الأقرع بن حابس: يارسول اللَّه، أفي كلّ عام؟

فقال: لو قلتها؛ لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولن تستطيعوا أن تعملوا بها، الحجّ مرّةً، فمن زاد فهو تطوّع.

هذا وأنّ الآية هل تدلّ على:

(1) تشريع جديد.

(2) أو هي إخبار عن تشريع سابق؟

نكتفي هنا بما يقوله السيّد الطباطبائي في ميزانه:

والآية تتضمّن تشريع الحجّ إمضاءً لما شرع لإبراهيم عليه السلام كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم وَأَذِّنْ فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ... (1). ومن هنا يظهر أنّ وزان قوله: وللَّه على الناس حجّ... وزان قوله تعالى:

ومن دخله كان آمناً في كونه إخباراً عن تشريع سابق، وإن كان من الممكن أن يكون إنشاءً على نحو الإمضاء، لكن الأظهر من السياق هو الأوّل.. (2).

التفاتة جميلة!

ممّا يلفت النظر- في التعبير وكما يقول سيّد قطب- هذا التعميم الشامل في فريضة الحجّ على الناس.

ففيه:

أوّلًا: إيحاء بأنّ هذا الحجّ مكتوب على هؤلاء اليهود، الذين يجادلون في توجّه المسلمين إليه في الصلاة. على حين أنّهم هم أنفسهم مطالبون من اللَّه بالحجّ إلى هذا البيت والتوجّه إليه، بوصفه بيت أبيهم إبراهيم، وبوصفه أوّل بيت وضع للناس


1- 1 الحج: 27.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن للسيّد الطباطبائي 3: 391 في تفسير الآية.

ص: 133

للعبادة، فهم- اليهود- المنحرفون، المقصّرون، العاصون!

وفيه:

ثانياً: إيحاء بأنّ الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدِّين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحجّ إلى بيت اللَّه، الذي يتوجّه إليه المؤمنون به... هذا وإلّا فهو الكفر (1).

وقفة قصيرة

وهنا لابدّ لنا من وقفة، فقد استفاد بعضهم من هذه الآية شمول عمومها للناس جميعاً بما فيهم الكفّار، وبالتالي فالحجّ واجب عليهم- وإن كان هناك بحث في أنّهم مكلّفون بالفروع كما هم مكلّفون بالأصول- ولعلّ حكمة شمولهم به كما يذهب إليه هذا الفريق- أن يكون موجباً لهدايتهم، وإن نوقش في دلالة الآية نفسها عليهم من قبل فريق ثانٍ، بدعوى أنّها وإن كان الخطاب الوارد في نفسه عامّاً، إلّاأنّ المنصرف من الآية أو من على الناس عرفاً، توجّه الخطاب نحو المسلمين بالخصوص، كما هو حال الخطابات الصادرة ممّن لهم أتباع مخصوصون، فخطابهم يتوجّه أو ينصرف نحوهم دون غيرهم، وإن كان ظاهر خطابه العموم، وهناك ما يؤيّد هذا الانصراف وهو امتناع تكليف الكافر، وهذا يصلح قرينة على تقييد المطلقات.

ويردّ عليه:

أنّه كيف يصحّ قياس خطاب اللَّه تعالى خالق الناس جميعاً، وذي القدرة المطلقة غير المحدودة على خطاب مخلوق من مخلوقاته فينصرف خطابه هذا إلى أتباع وينحصر بهم، دون الآخرين، بحكم قدرته وسلطته المحدودة، أو أن يكون مساوياً له.


1- 1 انظر سيّد قطب في ظلال القرآن 2: 435.

ص: 134

ثمّ هناك مصالح تترتّب على فاعل هذه التكاليف، فلماذا يحرم اللَّه تعالى كثيراً من مخلوقاته من رحمته وما أرسل رسوله إلّارحمةً للعالمين، فلعلّ تكليفهم يكون موجباً لهدايتهم، وقد يسعون لإزالة أي مانع عن هذه الهداية كالكفر إذا ما عرفوا أنّ السماء لم تمنع رحمتها لهم رغم كفرهم بها وتمرّدهم عليها...؟!

ثمّ هي بيان آية ثالثة من آيات هذا البيت، جاءت بصيغة الإيجاب والفرضية في معرض ذكر مزاياه ودلائل كونه أوّل بيوت العبادة المعروفة للمعترضين من اليهود على استقبال المسلمين له في الصلاة.

فهو يفيد بمقتضى السياق معنىً خبرياً، وبمقتضى الصيغة معنىً إنشائيّاً، وهو وجوب الحجّ على المستطيع من هذه الامّة.

يقول محمّد عبدة: هذه الجملة- وإن جاءت بصيغة الإيجاب- هي واردة في معرض تعظيم البيت، وأي تعظيم أكبر من افتراض حجّ الناس إليه؟! وما زالوا يحجّونه من عهد إبراهيم إلى عهد محمّد صلّى اللَّه عليهما وعلى آلهما وسلّم. ولم يمنع العرب من ذلك شركها، وإنّما كانوا يحجّون عملًا بسنّة إبراهيم.

يعني أنّ الحجّ عمل عام جروا عليه جيلًا بعد جيل على أنّه من دين إبراهيم، وهذه آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبراهيم.

ثالثاً: وبماأنّ على الناس جاءيحمل العموم كما قلنا، فهو يشمل كلّ فرد يدخل تحت عنوان الناس ذكوراً كانوا أوإناثاً وحتّى الخناثي، إلّاأنّ هذا العام خصّ بأمرين:

الأمر الأوّل: وهو أمر عقلي، يتلخّص باستحالة تكليف غير العاقل، والتكاليف الشرعية مبنية على ذلك.

الأمر الثاني: وهو أمر نقلي، ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من حديث الرفع:

«رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي والمجنون حتّى يفيق والنائم حتّى ينتبه» (1).


1- 1 الوسائل، باب 4 من أبواب مقدّمات العبادات ح 11، مستدرك الوسائل عن دعائم الإسلام 1: 7.

ص: 135

فخرج هؤلاء جميعاً عن هذا الوجوب وعمومه.

وأيضاً يخرج عن هذا الوجوب العبد فهو محجور عليه وبالتالي لا قدرة له على التصرّف في نفسه، فلا يكون مستطيعاً والاستطاعة شرط في الوجوب.

إلّا على من ملك مائتي درهم؟ (1) إلّا أنّ هذه الرواية لا تخلو من المناقشة عندهم، ممّا جعل الفريق الأوّل يحملها- على تقدير صحّة سندها- على ما يموّن به عياله لذهابه وإيابه.

ثمّ إنّ الزاد والراحلة لا يشترط ملكهما، بل يكفي التمكّن من الانتفاع بهما، فلو بذلهما باذل له، وجب عليه الحجّ لصدق الاستطاعة عليه.

نأتي إلى المقطع الثاني من الآية: من استطاع إليه سبيلًا.

فالاستطاعة تعدّ من شروط وجوب الحجّ باتّفاق جميع المذاهب الإسلامية، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإن وقع كلام بينهم في المراد منها وفي تفسيرها وتفاصيلها، واختلفوا في بعض مصاديقها ووجوهها وحدودها كالمرأة والأعمى..

نبدأ أوّلًا بالمذاهب الاخرى غير الإمامية، وبالروايات ثمّ بالمفسّرين قبل الفقهاء ..

السبيل لغةً

السبيل: الطريق، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى، وقال أيضاً: وَإِنْ يَرَوْاسَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي طريقاً.

السبيل: الحيلة، ومنه قوله تعالى: فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي لا يستطيعون في أمرك حيلة.

وبما أنّ الحَيل: القوّة، ومنه: وماله حَيل أي قوّة، وكذلك الحَيل والحول:


1- 1 الوسائل، أبواب وجوب الحجّ، ح 1.

ص: 136

يقال: لا حَيل ولا قوّة إلّاباللَّه لغة في لا حول ولا قوّة وفي الدُّعاء الذي يرويه ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «اللّهمَّ ذا الحيل الشديد» أي ذا القوّة.

والسبيل: السبب والوصلة يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي سبباً ووصلة.

وأنشد أبو عبيدة لجرير:

أفبعدَ مقتلِكم خليلَ محمّد ترجو القُيونُ مع الرسول سبيلا؟

أي سبباً ووصلة.

يقول صاحب تفسير المنار: استطاعة السبيل: فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه، وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم، وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه، وكلّ مكلّف أعلم بنفسه- وإن كان عامّياً- من غيره وإن كان عالماً نحريراً...

ثمّ يقول: وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلّابُعداً عن حقيقتها الواضحة من الآية أتمَّ الوضوح.

ثمّ راح يذكر الأقوال: دون أن يذكر أصحابها.

إذ قال بعضهم: إنّ الاستطاعة صحّة البدن والقدرة على المشي.

وقال بعضهم: بأنّها القدرة على الزاد والراحلة.

واشترطوا فيها: أمن الطريق، ولم يشترطوا الأمن في أرض الحرم؛ لأنّها كانت آمنةً قطعاً...

وفي الاستطاعة يقول محمّد عبدة: من استطاع إليه سبيلًا: إنّه بيان لموقع الإيجاب ومحلّه، وإعلام بأنّ الفرضية موجّهة أوّلًا وبالذات إلى هذا العمل، ولكن اللَّه رحم من لا يستطيع إليه سبيلًا.

ثمّ قال: والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص.

ص: 137

فيما يقول الرازي في تفسير هذه الآية:

استطاعة السبيل إلى الشي ء عبارة عن إمكان الوصول إليه.

قال تعالى: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (1).

وقال: هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (2).

وقال: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ (3).

ثمّ واصل قوله: فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحّة البدن، وزوال خوف التلف من السبع أو العدو، وفقدان الطعام والشراب، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة، وأن يقضي جميع الديون، ويرد جميع الودائع، وإن وجب عليه الإنفاق على أحد، لم يجب عليه الحجّ، إلّاإذا ترك من المال ما يكفيهم في المجي ء والذهاب (4)..

وذكر الجصّاص في أحكامه بعد ذكره للآية المباركة... قال: هذا ظاهر في إيجاب فرض الحجّ، على شريطة وجود السبيل إليه.

والذي يقتضيه من حكم السبيل أنّ كلّ من أمكنه الوصول إلى الحجّ، لزمه ذلك إذا كانت استطاعة السبيل إليه هي: إمكان الوصول إليه، كقوله تعالى:

فهل إلى خروج من سبيل (5)

يعني: من وصول، و هل إلى مرد من سبيل (6)

يعني من وصول (7).


1- 1 سورة غافر: 11.
2- 2 سورة الشورى: 44.
3- 3 سورة التوبة: 91.
4- 4 الفخر الرازي في تفسيره للآية.
5- 5 سورة غافر: 11.
6- 6 سورة الشورى: 44.
7- 7 أحكام القرآن للجصّاص 2: 36 وانظر تفسير الطبري، الآية.

ص: 138

الاستطاعة والمذاهب الإسلامية:

الإمامية:

يقول صاحب كنز العرفان بعد أن يذكر الاستطاعة عند غيرهم من فقهاء الفرق الإسلامية الأخرى، وبعد أن يذكر الحديث القائل: الاستطاعة: الزاد والراحلة... ثمّ يصل إلى قول أبي حنيفة: إنّها مجموع الأمرين، فلم يوجب إلّاعلى من قدر على الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب فاضلًا عن حوائجه الأصلية ونفقة عياله إلى حين عوده.

بعد أن ينقل هذا عنهم يقول: وبذلك قال أصحابنا الإمامية. غير أنّ بعضهم يشترط مع ذلك الرجوع إلى كفايةٍ من مال أو صناعة أو حرفة.

وينقل دليل هؤلاء، فيقول: ويحتجّ أي هذا البعض من فقهاء الإمامية بما رواه أبو ربيع الشامي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه سئل ما الاستطاعة؟

فقال: ما يقول هؤلاء؟

فقيل: يقولون: الزاد والراحلة.

فقال عليه السلام: قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السلام، فقال: هلك الناس إذن، إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما، ممّا يمون به عياله، ويستغني عن الناس، يجب عليه الحجّ، ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه فقد هلك إذن.

فقيل له: ما السبيل عندك يابن رسول اللَّه؟

فقال: السعة في المال، وهو أن يكون له ما يحجّ ببعضه، ويبقي بعضه يمون به عياله.

ثمّ قال: أليس قد فرض اللَّه الزكاة، فلم يجعل إلّاعلى من ملك مائتي درهم؟!

وعلى فرض صحّة السند، الذي ذهب بعضهم إلى صحّته؛ لاعتماد القوم عليه، ولأنّه رواه المشايخ الثلاثة، تحمل الرواية على أن يبقى له ما يمون به عياله لذهابه وإيابه.

ص: 139

ولكن مع هذا، يغضون النظر عن هذه الرواية وما يترتّب عليها، ويلتزمون بالأوّل أي الزاد والراحلة ونفقة الذهاب والإياب فاضلة عن حوائجه الأصلية ونفقة عياله إلى حين عودته..

ثمّ هناك مَن لم يشترط ملك الزاد والراحلة، بل يكفي فيهما التمكّن من الانتفاع بهما، لهذا صحّحوا مسألة البذل، فلو بذل باذل له، وجب عليه الحجّ، لحصول الاستطاعة بذلك.

فيما ذهب كلّ من أبي حنيفة وأحمد ومالك إلى عدم وجوب الحجّ إذا ما بذل له. وكان للشافعي قولان في ذلك (1).

الحنفية:

والاستطاعة عندهم أنواع ثلاثة:

البدنية: وتعني صحّة البدن فلا حجّ على المريض، والأعمى وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير، والممنوع من قبل السلطان... لأنّ المراد من الاستطاعة عندهم استطاعة التكليف وهي تتضمّن سلامة الأسباب ووسائل الوصول، مستندين في هذا إلى ما فسّره ابن عبّاس من استطاع إليه سبيلًا أنّ السبيل: أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يحجب.

المالية: وهي ملك الزاد والراحلة ذهاباً وإياباً زائداً عن حاجة مسكنه وأثاثه وخادمه.. ونفقة عياله الملزم بنفقتهم إلى حين عودته.

الأمنية: أي أن تكون طرق الحج آمنةً تغلب عليها السلامة ولو بالرشوة، وبالتالي لا تثبت استطاعة الحجّ بدون الأمن، وهي شرط وجوب عندهم، وإن نقل عن أبي حنيفة أنّه شرط أداء... (2).


1- 1 انظر كنز العرفان 1: 265- 266.
2- 2 انظر الفقه الإسلامي وأدلّته للزحيلي 3: 26- 27، والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 1: 633.

ص: 140

الشافعية:

وعندهم الاستطاعة تتشكّل من:

القدرة البدنية: أي أن يكون صحيح الجسد، وعلى الأعمى الحجّ والعمرة إن وجد قائداً، والمحجور عليه بسفه يجب عليه الحجّ كغيره، لكن لا يدفع المال إليه لئلا يبذره، بل يخرج معه الولي بنفسه إن شاء؛ لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو يرسل الولي شخصاً ثقة ينوب عنه ليصرف عليه ولو بأجرة، إذا لم يجد متبرّعاً ينفق عليه بالمعروف.

القدرة المالية: وتتحقّق بوجود الزاد ومؤونة ذهابه لمكّة وإيابه، ويكونان فاضلين عن مسكنه اللائق ودَينه الحال أو المؤجّل، وعمّن تلزمه نفقته مدّة ذهابه وإيابه لئلّا يضيعوا، وقد قال صلى الله عليه و آله: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت».

الاستطاعة الأمنية: الأمن العام وإلّا لم يجب عليه لحصول الضرّ...

الحنابلة:

الاستطاعة المشترطة عندهم هي القدرة على الزاد والراحلة، انطلاقاً ممّا روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه فسّر الاستطاعة بالزاد والراحلة، فقد سئل النبيّ صلى الله عليه و آله: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة، أو ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة.

والزاد ما يحتاج إليه ذهاباً وإياباً... وزائداً عن حاجة عياله، واتّفق كلّ من الشافعية والحنابلة على أنّه لا يلزم الحجّ إذا بذل المال ولد أو أب أو أجنبي، ولا يجب قبوله لما في قبول المال من المنّة.

المالكية:

والاستطاعة التي يأخذون بها: هي إمكان الوصول إلى مكّة بحسب العادة، إمّا ماشياً وإمّا راكباً، أي الاستطاعة ذهاباً فقط، ولا تعتبر الاستطاعة عندهم في الإياب، إلّاإذا لم يمكنه الإقامة بمكّة أو في أقرب بلد يمكنه أن يعيش فيه، ولا يلزمه الرجوع لخصوص بلده، وأيضاً تتحقّق هذه الاستطاعة في مذهبهم ب:

ص: 141

1) قوّة البدن أي بالقدرة على المشي وهو ممّا تفرّدوا به، حتّى أنّ الأعمى القادر على المشي، يجب عليه الحجّ إذا ما وجد قائداً يقوده.

2) وجود الزاد بحسب أحوال الناس وعوائدهم، ويقوم مقام الزاد الصنعة إذا كانت لا تزري بصاحبها وتكفي حاجته.

وهذا يدلّ على أنّ المالكية لم يشترطوا الزاد والراحلة بالذات، فالمشي يغني عن الراحلة لمن قدر عليه، والصنعة التي تدرّ ربحاً كافياً تغني عن اصطحاب الزاد أو النفقة.. وتتحقّق الاستطاعة عندهم بالقدرة على الوصول إلى مكّة ولو بثمن شي ء يباع- وحتّى لو صار فقيراً بعد حجّه، أو ترك أولاده ومن تلزمه نفقته عرضةً للصدقة عليهم من الناس، إلّاإذا خشي عليهم الهلاك أو أذًى شديداً، فلو توفّر السبيل بحراً أو برّاً أو جوّاً بشرط السلامة فيه غالبة وجب الحجّ وإلّا لا يجب إن لم تغلب السلامة على النفس والمال.

المقطع الثالث:

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ

ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين جميعاً علماء وغيرهم، أنّ الحجّ فريضة واجبة، وضرورة من ضروريات الدين، وركن من أركان الإسلام، تماماً كالصلاة والصيام...

إلّا أنّ الذي يستوقفنا في هذا المقطع من الآية هو: كلمة الكفر الواردة فيه.

فما معنى الكفر؟

الكفر لغةً: ضدّ الإيمان، وقد كفر باللَّه، أي لم يؤمن بوحدانيّته، مأخوذ من كفر الشي ء يكفِره كفراً: ستره، والكفر: الجحود أي جحود النعمة، وهو ضدّ الشكر، ومنه كفر نعمة اللَّه وبها: جحدها، وسترها، أو الستر على الحقّ، فهو

ص: 142

كافر، وكفّار وكفور مبالغة... (1).

ومنها: أنّ الكفر هو الردّ والآية تحتمله، وعلى حسب الموارد تتعيّن له مصاديق.

وورد عن ابن عبّاس والحسن أنّ معناه من جحد فرض الحجّ ولم يره واجباً (2).

وبخصوص فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أي لم يتعبّدهم اللَّه تعالى بهذه العبادة- كما هو الحال في غيرها من العبادات- لأنّه في حاجة إليها، وإنّما أمرهم بالعبادات، وبهذه العبادة، الحجّ، لأنّه يعلم أنّ فيها تتحقّق مصالح للناس جميعاً ومنافع كبيرة، وفيها صلاحهم في الدُّنيا ونجاتهم في الآخرة، ولهذا فالحجّ جاء فريضة عامّةً للناس جميعاً لا يستثنى منها إلّاذو عذر، أو من سقط عنه التكليف لأسباب..

ولهذا قيل: إنّ المعني بالآية ومن كفر... اليهود وهم طائفة من الناس المأمورين بالحجّ، فإنّه لمّا نزل قوله وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.

قالوا: نحن مسلمون فأمروا بالحجّ، فلم يحجّوا.

وعلى هذا- كما يقول الطبري- يكون معنى من كفر: من ترك الحجّ من هؤلاء فهو كافر، واللَّه غنيّ عن العالمين.

وقيل المراد به- والكلام للطبرسي- كفران النعمة؛ لأنّ امتثال أمر اللَّه شكر لنعمته.

وقد روي عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: من لم يحبسه حاجة ظاهرة من مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّاً وإن شاء نصرانيّاً.

وروي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الحجّ والعمرة ينفيان الفقر


1- 1 انظر المختار من صحاح اللغة، مادّة كفر، 454، والإفصاح في فقه اللغة 2: 1259.
2- 2 انظر مجمع البيان للطبرسي 2: 799 في تفسير الآية.

ص: 143

والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد.

ثمّ يقول الطبرسي: إنّ في هذه الآية دلالة على فساد قول من قال: إنّ الاستطاعة مع الفعل؛ لأنّ اللَّه أوجب الحجّ على المستطيع، ولم يوجب على غير المستطيع، وذلك لا يمكن إلّاقبل فعل الحجّ (1).

فيما ذهب السيّد الطباطبائي إلى أنّ الكفر هذا هو الترك، وهو نظير الكفر بترك الصلاة والزكاة..

ثمّ يواصل كلامه بقوله: والكلام من قبيل وضع المسبّب أو الأثر مقام السبب أو المنشأ، كما أنّ قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ... من قبيل وضع العلّة موضع المعلول، والتقدير: ومن ترك الحجّ فلا يضرّ اللَّه شيئاً فإنّ اللَّه غنيّ عن العالمين (2).

وقد يكون بمعنى الترك وهو ما ورد عن الإمام الصادق- كما في تفسير العيّاشي- ومن كفر، قال: الترك. ورواه الشيخ الطوسي في تهذيبه: وقد عرفت أنّ الكفر ذو مراتب كالإيمان، وأنّ المراد منه الكفر بالفروع.

وفي الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام، في حديث، قال: قلت:

فمن لم يحجّ منّا فقد كفر؟

قال: لا، ولكن من قال: ليس هذا هكذا، فقد كفر.

أمّا سيّد قطب فيقول، وقد ذكرنا قسماً ممّا استوحاه من الآية:

بأنّ الناس جميعاً مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحج إلى بيت اللَّه الذي يتوجّه إليه المؤمنون به.. هذا وإلّا فهو الكفر، مهما ادّعى المدّعون أنّهم على دينٍ!

ثمّ يواصل كلامه بقوله:


1- 1 مجمع البيان للطبرسي 2: 799- 800.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن 2: 391 في تفسير الآية.

ص: 144

فإنّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فما به حاجة- سبحانه- إلى إيمانهم وحجّهم. إنّما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة (1).

سبب النزول:

ذكر بعض المفسّرين أنّ سبب نزول هذا المقطع من الآية هو أنّه بعد نزول المقطع وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وكلمة الناس الواردة في الآية كلمة عامّة تشمل جميع الناس بكلّ أديانهم وطوائفهم... وكما عن الضحّاك ورواه أحمد ومسلم والنسائي- جمع الرسول صلى الله عليه و آله أهل الأديان الستّة:

المسلمين، والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين فخطبهم وقال:

«إنّ اللَّه تعالى كتب عليكم الحجّ فحجّوا».

فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلّي إليه، ولا نحجّه، فأنزل اللَّه تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (2).

ويعقّب الرازي قائلًا: وهذا القول هو الأقوى.

فيما هناك قول آخر أو سبب لنزول الآية وهو أنّه لمّا نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً....

قالت اليهود: فنحن مسلمون.

فقال لهم النبيّ صلى الله عليه و آله: فرض اللَّه على المسلمين حجّ البيت، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا، فأنزل اللَّه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (3)

.

*** هذا وأنّ الكفر المذكور في الآية، اختلفت أقوالهم فيه:

فبعضهم عدّه من النوع الثاني: الجحود، أي من جحد فرض الحج ولم يره


1- 1 انظر في ظلال القرآن 2: 435.
2- 2 التفسير الكبير للرازي.
3- 3 انظر التفسير المنير 4: 12.

ص: 145

واجباً، عن ابن عبّاس والحسن (1).

فيما قال الحسن البصري وفريق معه في أنّ من ترك الحجّ وهو قادر عليه فهو كافر (2).

وللفخر الرازي تفصيل لطيف بهذا الخصوص، فيقول بعد أن يذكر الآية:

وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ:

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في هذه الآية قولان:

أحدهما: أنّها كلام مستقلّ بنفسه، ووعيد عام في حقّ كلّ من كفر باللَّه، ولا تعلّق له بما قبله.

القول الثاني: أنّه متعلّق بما قبله، والقائلون بهذا القول:

منهم: من حمله على تارك الحجّ.

ومنهم: من حمله على من لم يعتقد وجوب الحجّ.

أمّا الذين حملوه على تارك الحج، فقد عوّلوا فيه على ظاهر الآية. فإنّه لمّا تقدّم الأمر بالحجّ، ثمّ أتبعه بقوله: ومن كفر فُهم منه أنّ هذا الكفر ليس إلّاترك ما تقدّم الأمر به، ثمّ إنّهم أكّدوا هذا الوجه بالأخبار.

روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من مات ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديّاً، وإن شاء نصرانيّاً».

وعن أبي أمامة قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم تمنعه حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائر، فليمت على أيّ حال شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً».


1- 1 انظر مجمع البيان للطبرسي 2: 799.
2- 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4: 153.

ص: 146

وعن سعيد بن جبير، لو مات جار لي، وله ميسرة، ولم يحجّ، لم أصلِّ عليه.

ثمّ يذكر الرازي سؤالًا: فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحجّ؟

ويذكر جواب القفال عن ذلك: يجوز أن يكون المراد منه التغليظ، أي قد قارب الكفر، وعمل ما يعمله من كفر بالحجّ، ونظيره قوله تعالى: وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ (1)

أي كادت أن تبلغ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: «من ترك صلاةً متعمّداً فقد كفر»، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر».

ثمّ يردف الرازي قائلًا: وأمّا الأكثرون: فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحجّ.

صاحب المنار:

وقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ...

تأكيد لما سبق، ووعيد على جحوده، وبيان لتنزيه اللَّه تعالى بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى اللَّه، والعلم بفرضه على الناس أن يحجّوه من كونه محتاجاً إلى ذلك.

فالمراد بالكفر: جحود كون هذا البيت أوّل بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة، بعد إقامة الحجج على ذلك، وعدم الإذعان لما فرض اللَّه من حجّه والتوجّه إليه بالعبادة، هذا هو المتبادر.

ثمّ قال بعد هذا: وحمله بعضهم على الكفر مطلقاً، على أنّه كلام مستقل لا متمّم لما قبله. وهو بعيد جدّاً.

وبعضهم على ترك الحجّ وهو بعيد أيضاً، وإن دعموه بحديث أبي هريرة


1- 1 سورة الأحزاب: 10.

ص: 147

مرفوعاً «من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً».

ثمّ راح ينقل بعض الأحاديث التي يدعمون بها قولهم هذا، ولم يظهر تأييده لها، بل راح يظهر ضعف سندها ومتنها (1).

فيما ذكر الزحيلي في تفسيره؛ أنّ الجمهور حملوا ذلك على تارك الحجّ إعراضاً عنه مع توافر الاستطاعة، وراح ينقل بعض رواياتهم التي تعضدهم فيما ذهبوا إليه فيقول: روى الترمذي- ولم ينس أن يذكر أنّ فيه ضعفاً- «من مات ولم يحجّ، فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً»، وبدليل ما روي عن الضحّاك في سبب النزول... (2).

إذن فإنّ عدم امتثال المكلّف الحجّ وقد توفّرت شروطه لديه، ودون أن يكون عنده عذر معقول يمنعه عن أدائه، فإنّه يعدّ جاحداً له ممتنعاً عن أدائه وقد يكون رادّاً لهذا الوجوب، وهو ما يوصف بالكفر.


1- 1 تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 4: 9- 12.
2- 2 التفسير المنير 4: 15.

ص: 148

خيبر؛ ذات الحصون والنخيل

خيبر ذات الحصون والنخيل

خيبر ذات الحصون والنخيل

عاتق بن غيث البلادي

الفصل الأوّل:

موقع خيبر وتأريخها

موقع خيبر:

تقع خيبر شمال المدينة المنوّرة، على نحو (160) كيلًا. ويشقّ خيبر الطريق المزفّت، بين المدينة المنوّرة وتبوك. ومنها إلى تبوك نحو (544) كيلًا. والطريق التي تمرّ في خيبر تستمرّ إلى تبوك فعمّان فدمشق، فإلى تركية.

تاريخ خيبر:

من نافلة القول: إنّ خيبر وجدت بهذا التكوين، منذ أن خلق اللَّه السماوات والأرض. غير أنّ تاريخها الموغل في القدم لم يصل إلينا إلّافي إيحاءات، واستنتاجات، لم تستند على مصادر موثوقة. فلا شكّ أنّها كانت تحت نفوذ ثمود قوم صالح عليه السلام، ثمّ دانت للدولة اللحيانية، التي كانت قاعدتها ما يعرف اليوم بالعلا (وادي القرى قديماً) والتي تبعد عن خيبر (142) كيلًا شمالًا غربياً، ثمّ دخلت تحت

ص: 149

نفوذ العماليق، الذين حكموا الحجاز والشام زمناً طويلًا. وكان من ملوكهم:

أبيجاد، وهوّز، وحطّي، إلى آخر الأسماء، التي اتّخذت منها حروف (الجُمَّل). وبعد هذه الدولة أو هذا الشعب (العماليق)، توزّعت (البلاد العربية بين نفوذ الامبراطوريات: الفارسية، والرومانية، واليمنية (في عنفوان التّبابعة) ولاشكّ أنّ خيبر ظلّت تدين لمن تدين له المدينة المنوّرة، وأنّها كانت جزءاً لا يتجزأ من هذه المنطقة التي تتوسّطها المدينة.

طروء اليهود على شمال الحجاز:

في زمن يختلف المؤرِّخون في تحديده؛ لأنّه غير موثّق، ويخضع للروايات الإسرائيليّة، طرأ على هذه البلاد شعب غريب، هم اليهود.

قالوا: إنّهم بقايا جيش أرسله نبيّ اللَّه موسى عليه السلام، ويروّجون لأمر نبيّ اللَّه.

موسى منه براء، ولا نريد إيراده.

وقالوا: بل جيش أرسله يوشع.

وقالوا: بل هم الفرار من غزوة بختنصّر، الذي دمّر دولتهم، وسباهم إلى العراق.

والأقوال في هذا الموضوع كثيرة، وإنّما الذي يهمّنا هذا القول: إنّ اليهود احتلّوا شمال الحجاز: تبوك، وتيماء، ووادي القرى، وخيبر، حتّى استوطنوا المدينة النبويّة، وصاهروا العرب، وراضعوهم، وأتقنوا لغتهم، وتسمّوا بأسمائهم.

في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

أرسل اللَّه رسوله محمّداً بالهدى ودين الحقّ، فأنذر قومه، وبلّغهم رسالة ربّه، ولم يألو جهداً في نصحهم، والبرّ بهم، غير أنّ قريشاً منها من آمن ومنها من كفر، ممّا اضطرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، إلى الهجرة إلى المدينة المنوّرة. فوصل إليها في السنة الأولى من الهجرة سنة 622 م.

لكن اليهود ناصبوه العداء، وظاهروا عليه كفّارالعرب، وتآمروا مع الأحزاب.

ص: 150

فحمل عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمؤمنين، فأجلاهم عن المدينة، قبيلة إثر قبيلة، فمنهم من ذهب إلى الشام، ومنهم من انضمّ إلى يهود خيبر، ونزل معهم، وتناصروا معهم ضدّ الدعوة الإلهية، ونابذه رجال منهم بالأذى والأشعار الهجائية، فتسلّط عليهم العرب بالقتل، بإذن من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

بدء الحرب مع يهود خيبر:

1- سرية قتل كعب بن الأشرف:

وبدأت المناوشات مع يهود خيبر بأن انتدب نفر من الأنصار رضي اللَّه عنهم لقتل كعب بن الأشرف اليهودي، وسبب ذلك أنّ كعباً كان يحرّض ضدّ رسول اللَّه ويقول الأشعار الحماسية، ويثير الثارات فدعا عليه صلى الله عليه و آله و سلم قائلًا: (اللّهمَّ اكفني ابن الأشرف بما شئت) في إعلانه الشرّ وقول الأشعار، ثمّ قال: من لي بابن الأشرف فقد آذاني؟ فقال محمّد بن مسلمة: أنا به يارسول اللَّه، وأنا أقتله.

فقال: افعل وشاور سعد بن معاذ في أمره.

فقتلوه وحملوا رأسه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان مقتله في الرابع عشر من ربيع الأوّل من السنة الثالثة للهجرة (1).

2- سرية عبداللَّه بن عتيك إلى أبي رافع:

ثمّ سرية عبداللَّه بن عتيك إلى أبي رافع سلام بن أبي الحُقيق النضري، في شهر رمضان سنة ست من مهاجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، قالوا: كان أبو رافع بن أبي الحُقيق قد أجلب في غطفان، ومن حوله من مشركي العرب، فكثر شرّه، واجتمع له عدد منهم، فبعث رسول اللَّه عبداللَّه بن عتيك ونفراً من المسلمين فقتلوه (2).


1- 1 رحلات في بلاد العرب، عن الطبقات، ج 2، وسيرة ابن هشام ج 3.
2- 2 نفس المصدرين السابقين: ج 2، ج 3، وسيرة ابن هشام مج 3.

ص: 151

وقال حسّان بن ثابت الأنصاري رضى الله عنه يمدح هذا الفعل الجهادي:

للَّه دَرّ عصابةٍ لاقيتهم ياابن الحقيق وأنت ياابن الأشرف

يسيرون بالبيض الخفاف إليكم مرحا كأسد في عرين مغرف

حتّى أتوكم في محلّ بلادكم فسقوكم خنقاً ببيض دفف

3- فتح خيبر:

في السنة السابعة للهجرة/ 629 م في شهر جمادى الأولى (1).

ويتوّج صلى الله عليه و آله و سلم هذه الأعمال الخفيفة في ظاهرها، القاصمة في نتائجها ظهور أعداء اللَّه ورسوله، يتوّجها بفتح عظيم يقضي به على بؤرة الفساد، ويدكّ حصون بني صهيون، فلا تقوم لهم بعده قائمة أبداً، فيسير إليهم، في السنة السابعة من الهجرة في شهر جمادى الأولى، فحاصرهم وقاتلهم حتّى استولى على حصونهم وضياعهم، وكانت لهم حصون منيعة إلّامن اللَّه، ومن تلك الحصون: النطاة، وناعم، وحصون الكتيبة مثل: القموص والوطيح وسلالم، وقتل منهم عدداً كثيراً وسبا وغنم، وتزوّج صفية بنت حيي بن أخطب.

ويحدّثنا ابن هشام: أنّ بعضهم أسلم في المدينة، وأسلم بعضهم في خيبر.

ويصف مسيره إليهم من المدينة، فيقول: ثمّ خرج في بقيّة المحرّم إلى خيبر..

واستعمل على المدينة نميلة بن عبداللَّه اللّيْثي، ودفع الراية إلى عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه وكانت بيضاء.

ورجز عامر بن الأكوع- بأمر من رسول اللَّه- بين يديه وهو سائر:

واللَّه لولا اللَّه ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا


1- 1 نفس المراجع السابقة.

ص: 152

إنّا إذا قوم بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا (1)

فانزلن سكينة عليناوثبت الأقدام إن لاقينا

فلمّا أشرف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم على خيبر- وكانت تسمّى قرية الحجاز- قال:

اللّهمّ ربّ السماوات وما أظللن، وربّ الأرضين وما أقللن، وربّ الشياطين وما أضللن، وربّ الرياح وما أذرين، فإنّا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها، أقدموا بسم اللَّه، وكان يقولها صلى الله عليه و آله و سلم لكلّ قرية دخلها.

وصبّح رسول اللَّه بجيشه خيبر، فكبّر، قائلًا: اللَّه أكبر خربت خيبر، إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذرين.

يقول ابن إسحاق (2): ثمّ أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حتّى نزل بواد يقال له الرجيع، وتدنّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الأموال يأخذها مالًا مالًا، ويفتحها حصناً حصناً، فكان أوّل حصونهم افتُتح حصن ناعم، وعنده قُتل محمود بن مسلمة.

قتل مرحب اليهودي (الحِمْيَري)

قال ابن إسحاق: ولمّا افتتح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من حصونهم ما افتتح، وحاز من الأموال ما حاز، انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسُلالم، وكان آخر حصون أهل خيبر افتتاحاً، فحاصرهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بضع عشرة ليلة.

خرج مرحب اليهود من حصونهم، وهو يقول: من يبارز؟

قال ابن هشام: ومرحب من حِمْير.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: مَن لهذا؟ قال محمّد بن مَسْلمة: أنا له يارسول اللَّه، أنا واللَّه الموتور الثائر، قُتل أخي بالأمس؛ فقال: فقم إليه، فقام إليه محمّد بن


1- 1 لم يظهر في هذا البيت جواب الشرط.
2- 2 سيرة ابن هشام، غزوة خيبر.

ص: 153

مسلمة، فقتله.

فخرج بعده أخوه ياسر، فخرج إليه الزبير بن العوّام، فقتله (1).

فاستعصى حصن على الفتح (2)، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: لأعطين الراية غداً رجلًا يحبّ اللَّه ورسوله، يفتح اللَّه على يديه، ليس بفرّار. قال: يقول سلمة، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّاً رضى الله عنه وهو أرمد، فتفل في عينه، ثمّ قال: خُذ هذه الراية، فامض بها حتّى يفتح اللَّه عليك.

قال: يقول سلمة: فخرج واللَّه بها يأنح، يهرول هرولة، وإنّا لخلفه نتبع أثره، حتّى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن، فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن، فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب. قال: يقول اليهودي:

علوتم، وما أنزل على موسى، أو كما قال. قال: فما رجع حتّى فتح اللَّه على يديه.

قال ابن إسحاق: حدّثني عبداللَّه بن الحسن، عن بعض أهله، عن ابن رافع، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: خرجنا مع عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، حين بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود، فطاح ترسه من يده، فتناول عليّ عليه السلام باباً كان عند الحصن، فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتّى فتح اللَّه عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نَفَر سبعة معي، أنا ثامنهم، نَجْهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه.

مصالحة الرسول أهل خيبر:

وحاصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم، حتّى إذا أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيّرهم، وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل. وكان


1- 1 ببعض التصرّف عن ابن هشام، ج 3.
2- 2 هو حصن القموص.

ص: 154

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قد حاز الأموال كلّها: الشّق ونَطاة والكتيبة وجميع حصونهم، إلّا ما كان من ذينك الحصنين.

فلمّا سمع بهم أهل فَدَك قد صنعوا ما صنعوا. بعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يسألونه أن يسيّرهم، وأن يحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل. وكان فيمن مشى، فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك، سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يعاملهم في الأموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم، وأعمر لها؛ فصالحهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم على النصف، على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم؛ فصالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت خيبر فيئاً بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّهم لم يجلبوا عليها بخيلٍ ولا ركاب.

قال معدّ البحث: كان صلح أهل خيبر على الثمرة فقط، أمّا صلح أهل فدك، فكان على الأرض والثمرة.

وفي سيرة ابن هشام 3: 341: كان فتح خيبر في صفر.

قلت: وهو أقرب إلى الصواب؛ لأنّه خرج صلى الله عليه و آله و سلم من المدينة في شهر المحرّم سنة سبع للهجرة، كما تقدّم.

جلاء اليهود من خيبر:

قال مالك: أوّل من جلّى يهود خيبر عمر رضى الله عنه، فقال له رئيس من رؤوسائهم:

أتجلينا وقد أقرّنا محمّد؟ فقال عمر رضى الله عنه: أتراني نسيت قوله: كيف بك لو قد رقصت بك قلوصك نحو الشام ليلة بعد ليلة؟ فقال: إنّما كانت هُزَيْلَة من أبي القاسم. فقال له عمر رضى الله عنه: كذبت، كلّا والذي نفسي بيده، إنّه لفصل وما هو بالهزل.

قال ابن جريج: وأخبرني عامر بن عبداللَّه بن نسطاس قال: بعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عبداللَّه بن رواحة رضى الله عنه فخرص بينهم، فلمّا خُيّروا أخذت اليهود التمر، فلم يزل بيد يهود حتّى أخرجهم عمر رضى الله عنه منها، فقالت اليهود: ألم يصالحنا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على كذا وكذا؟ فقال: إنّ غدركم ما بدا للَّه ولرسوله، فهذا حين بدا لي إخراجكم منها. ثمّ

ص: 155

قسّمها بين المسلمين، ولم يعط منها أحداً لم يحضر فتحها، فأهلها الآن المسلمون ليس فيها اليهود، أي في عهد ابن جريج.

وعن سليمان بن يسار: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعث عبداللَّه بن رواحة رضى الله عنه إلى أهل خيبر خارصاً عليهم، فلمّا جاءهم تلقّوه بالهدايا، فقال: لا أرب لي بهداياكم، تعلمون معشر اليهود ما خلق اللَّه قوماً أبغض إليَّ منكم، وما خلق اللَّه قوماً أحبّ إليّ من قوم خرجت منهم، وإنّي واللَّه لا يحملني حبّهم ولا بغضي إيّاكم أن لا تكونوا في الحقّ عندي سواء.

قال الزهري: فأخبرني عبداللَّه بن عبيداللَّه: أنّ عمر رضى الله عنه بلغه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال في مرضه الذي مات فيه: (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)، ففحص عمر رضى الله عنه عن الخبر في ذلك حتّى وجد عليه الثبت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال عمر رضى الله عنه: من كان من أهل الحجاز- يعني من أهل الكتاب- عنده عهد من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فليأت به أنفذ له عهده وأقرّه، ومن لا فإنّ اللَّه تعالى قد أذن في إجلائكم- أو بجلائكم- فأجلى عمر رضى الله عنه يهود الحجاز إلى الشام.

عن عثمان بن محمّد الأخنسي، قال: غزا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خيبر ففتحها اللَّه له، فقال للمسلمين: (إنّ خيبر كانت لمن شهد الحديبيّة خاصّة، وإنّ إخوانكم هؤلاء شهدوا معكم، فألّا تشركونهم؟) وكان قد أدركه بها ركب من شنوءة، فيهم الطُّفيل بن عمرو، وأبو هريرة، فقال المسلمون: (نعم، افعل يارسول اللَّه، فأسهمهم معهم، وكانت قُسّمت نصفين، فكانت الشق ونطاة نصفاً، وكانت الوطيح وسُلالم ووحيدة (1) نصفاً، فهذا النصف لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان للمسلمين الشقّ ونطاة.

عن بشير بن يسار قال: لمّا أفاء اللَّه على رسوله صلى الله عليه و آله و سلم خيبر، قسّمها على ستّة


1- 1 المؤلّف:- أخذ هذا البحث عن تأريخ المدينة المنوّرة لابن شبة، وحذفنا العنعنة اختصاراً، فإن شئت راجع الجزء الأول من المصدر المذكور. وحيدة هنا صوابها مكيدة، واللَّه أعلم.

ص: 156

وثلاثين سهماً، جمع كلّ مائة سهم، وعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به، وقسّم بين المسلمين الشقّ ونطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف الوطيح والكتيبة وسُلالم وما حيز معهنّ، فلمّا صارت الأموال بيد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، لم يكن لهم من العمّال ما يكفون عمل الأرض، فدفعها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى اليهود، ويعملونها على نصف ما خرج منها، فلم يزل كذلك على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأبي بكر رضى الله عنه، حتّى كان عمر رضى الله عنه، وكثر العمّال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر رضى الله عنه اليهود إلى الشام، وقسّم المال بين المسلمين إلى اليوم.

ومن شأن خيبر: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم نزل في وادي السُّرير؛ الوادي الأدنى، وبه الشقّ والنّطاة، فبرز إليه أهلها لقتاله، ثمّ إنّ اللَّه هزمهم، ثمّ نزلوا على حصن بني نزار، ففتحه اللَّه بغير صلح، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جعله لأهل الحديبية، ولخيل كانت معه عشرين ومائة فرس، ولامرأتين حضرتا القتال: امرأة من بني حارثة يقال لها أمّ الضحّاك بنت مسعود أخت حُويّصَة ومُحَيّصَة، والاخرى أُخت حذيفة بن اليمان، أعطى كلّ واحدة مثل سهم رجُل. وقدِم عليه هناك وفد الطُّفيل بن عمرو الدوسي، وفيهم أبو هريرة، وذلك حين هاجروا، فزعموا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال:

(إنّ خيبر لم تكن إلّالمن شهد الحديبية) ثمّ ذكر إعطاء الدوسيّين كما تقدّم. وخيبر موصوفة بكثرة النخل والتمر؛ قال حسّان بن ثابت:

أتفخرُ بالكتّان لمّا لبسته، وقد تلبس الأنباط ريطاً مقصرا

فلا تكُ كالعاوي، فأقبل نحرُه ولم تخشه سهماً من النبل مضمرا

فإنّا، ومن يهدي القصائد نحوه، كمستبضع تمراً إلى أرض خيبرا

ونقل البكري: وقال ابن لُقَيْم العبسي في الشّق ونطاة، وذلك عند فتح خيبر:

رُمَيتْ نَطاة من الرسول بفليقِ شَهْباءَ ذاتِ مَناكبِ وفِقارِ

ص: 157

واسْتَيْقَنَتْ بالذلّ لمّا أصبحتْ ورجالُ أسْلَم وسْطها وغِفار

ولكلّ حِصن شاغلٌ من خَيْلِهمْ من عبد أشْهَلَ أو بَني النّجّار

صَبَحَتْ بني عمرو بن زُرْعة غُدوةً والشّق أظلمَ ليلُهَا بنهار

عَمَالة خيبر:

خيبر كما تقدّم في فتحها، وكثافة سكّانها، ويذكر المؤرِّخون، ومنهم ياقوت:

إنّها ولاية. ومن المؤكّد أنّهاكانت تتبع المدينة المنوّرة عبر عصور الجاهلية والإسلام.

ولكن ما بين يدي من مراجع، لا يذكر شيئاً عن ولاية وولاة خيبر. والمعتقد أنّها كانت كأقسام الجزيرة، كان يكتفَى منها بالحاصلات الشرعية كالزكاة، ونحو ذلك، وأنّ هذا كان يقوم عظيم المنطقة بموجب شي ء معيّن يؤدّيه كلّ سنة.

فما استقام به استقام أمره، وسترى فيما يلحق خمول ذكر خيبر، ولم نجد أنّ أميراً من الحجاز، أو من المدينة خاصّة جيّش على خيبر.

ثمّ خبأ ذكر خيبر:

فلم نجد لها- بعد الخلفاء- ذكراً، إلّاإلمامات لا تكاد ترى. وهذا في نظري، يعود إلى عوامل، منها:

1- وجود خيبر في معزل عن طريق الحجّاج، الذين غالب ما ينبه ذكر البلاد التي يمرّون بها، فطريق العراق يمرّ شرقها بعيداً، والدرب الشامي يمرّ غربها، وبينها وبينه جبال وأودية.

2- إنّها منطقة وعرة، لا يوصل إليها- آنذاك- إلّابمشقّة، وقد انقطعت ريادة الريف.

ص: 158

3- عدم وجود والي لها، يذكره مؤرِّخو المدينة، أو تثور بينه وبين أهل خيبر منازعات.

4- يبدو أنّ أهلها ليسوا سريعين إلى نجدة الأمراء في حالة حربهم كبيشة وزهران، وحرب، وغيرهم، فلم يرد لهم اسم في الحروب. أمّا القبائل فإنّ اسمهم إذا ورد، فإنّما يرد باسم القبيلة لا البلد. حتّى في العهد الحديث، لم يتحرّك اسم خيبر حتّى زارها بعض الدارسين، ومرّ فيها الطريق بين المدينة والشام.

بعد إتمام هذا البحث، وردت إليّ معلومات عن بعض ولاة لخيبر، سأثبتها في الأصل.

فَدَك (1):

هي إحدى القرى المهمّة في منطقة خيبر، ولها نصيب من وصف خيبر، من استولى على خيبر استولى عليها.

قال ابن شبة: بقيت بقيّة من أهل خيبر تحصّنوا، فسألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يحقن دماءهم ويسيّرهم. ففعل، فسمع بذلك أهل فدك، فنزلوا على مثل ذلك، فكانت للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خالصة؛ لأنّه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب (2).

وقال ابن إسحاق: لمّا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من خيبر، قذف اللَّه في قلوب أهل فدك حين بلغهم ما أوقع اللَّه بأهل خيبر، فبعثوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يصالحونه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر، أو بالطريق، أو بعدما قدم إلى المدينة، فقبل منهم. فكانت فدك لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم خالصة؛ لأنّه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فهي من صدقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فاللَّه أعلم على النصف صالح أهلها أم عليها كلّها، فكلّ ذلك قد جاءت به الأحاديث.


1- 1 تعرف اليوم بالحائط.
2- 2 تاريخ ابن شبة 10: 193.

ص: 159

الفصل الثاني:

جغرافية خيبر وسكّانها

خيبر محافظة من محافظات المدينة، اليوم. وكانت ولاية من ولاياتها كما تقدّم.

تقع خيبر في منطقة جبلية، يتكوّن جلّها من الحرار السود، وفي الشمال عدد من الجبال الشوامخ، وتتوسّط قاعدتها قرى الحرّة، المعروفة بحرّة خيبر، وتقع القاعدة، وتسمّى الشُّريف أو قرية بشر، على بُعد (160) كيلًا من المدينة المنوّرة شمالًا على الطريق الذاهب إلى الشام.

وتتبعج من هذه الحرار العيون الغزيرة الماء، فتجري في أودية صالحة للزراعة، يغرس فيها النخيل، وتجود بالتمر الذي كان يوماً مثوبة للناس في تلك الديار.

تقدّر عيون خيبر بمائة وثمانين عيناً، تسقي نحو ثلاثة ملايين نخلة، عدا زراعات أُخر، كان أهمّها الشعير، وقد زرعت اليوم زراعات كثيرة، منها الخضار، لبيعها في المدينة بعد تحسّن المواصلات.

التكوين الجغرافي لخيبر (1):

1- الحرّة:

حرّة خيبر حرّة واسعة تتخلّلها الأودية، التي تجعل منها حراراً عديدة ذات أسماء متفرّقة، وتبدأ هذه الحرّة من مشارف الصويدرة والشقرة في الجنوب عند


1- 1 رحلات في بلاد العرب: 21.

ص: 160

طريق المدينة إلى القصيم ثمّ تمتدّ شمالًا. وكانت هذه تسمّى حرّة النار، فتمرّ بالصلصلة وخيبر، ثمّ شرق سلاح إلى أن تنتهي بضرغط شمال شرقي سلاح وكان القسم الشرقي الشمالي منها يسمّى حرّة ليلى.

وتسيل مياه هذه الحرة في ثلاث جهات:

أ- شرقاً في وادي الرمة. كأودية: الحائط (فدك قديماً) والحويّط (بديع قديماً) والحليفة.

ب- جنوباً كأودية: نجار (وادي الصويدرة) والشقرة، ووادي الحناكية (نخل قديماً).

ج- أودية خيبر، وهذه أفردنا لها فصلًا فيما يتبع.

وكانت خيبر سوقاً من أسواق العرب في الجاهلية تحت حماية قبيلة غطفان.

وتشمل اليوم مكاناً إدارياً يمتدّ من مشارق الصلصلة جنوباً إلى حفيرة الأيدا شمالًا، وتضمّ في الشرق الحائط والحويط، وغرباً برمة وما حولها.

أودية خيبر:

الأودية الرئيسية التي تتكوّن منها أمارة خيبر (1) هي ستّة أودية، وهي من الجنوب إلى الشمال:

1- وادي الغَرَس: بفتح الغين المعجمة، والراء المهملة: وادٍ يأخذ أعلى مساقط مياهه من جنوب الحرة ومن جبلي أشْد ثمّ يتّجه شمالًا. فإذا مرّ عند البحرة المتقدّمة سمّي وادي الثمد وقد يسمّى وادي الدوم، ثمّ ينحرف غرباً مارّاً بقرية زَبَران جاعلًا الصهباء بينه وبين الشريف قاعدة خيبر، ثمّ يدفع في المجامع حيث تصبّ كلّ أودية خيبر.

2- وادي السلمة: وادٍ ليس كبيراً، ينشأ من قرب الطريق، ثمّ يمرّ بين عطوة


1- 1 قبل نظام المحافظات.

ص: 161

(الصهباء) جنوباً والشريف شمالًا، وفيه بلدة (مكيدة) ثمّ يتّجه غرباً إلى المجامع.

3- وادي الصوير: أحد الأودية الزراعية الرئيسية، يمرّ تحت الشريف من الشمال آتياً مطلباً من بعيد، وهو كثير العيون والنخيل، وقيل: إنّ ما يقرب من 50% من نخل خيبر هو في هذا الوادي، يذهب مغرباً فيتجمّع بسابقيه في المجامع.

4- وادي أبي وشيع: وادٍ يقرب من وادي الصوير في كثرة النخل والمياه سمّي بالقرية الرئيسية فيه، يقطعه الطريق بعد الصوير مباشرة شمالًا بينهما حرّة ممتدّة بامتدادهما من الشرق إلى الغرب، ثمّ يعانق سابقاته في المجامع.

5- وادي المضاويح: قليل القرى والمزارع يقطعه الطريق شمال أبي وشيع، وفي صدره قرية العين ليست بعيدة من الطريق يميناً، لها ذكر في محطّات الطريق قديماً، وهو أيضاً يجتمع مع السابقة. وأظنّه سمّي لبياض تربته؛ لأنّ الضحية عند العرب البياض أو الضوء.

6- وادي الزهيراء: من أطول أودية خيبر مدى ومن أقلّها خصباً، يأتي من الأطراف الجنوبية للجانب متّجهاً جنوباً حتّى يصل إلى بلدة (العشاش) سلاح قديماً، ثمّ يأخذ في الانحراف جنوباً غربياً حيث يقطعه الطريق بين العشاش والشريف، وقد تسمّيه العامّة وادي غَمْرة؛ لأنّ جبل غَمْرة؛ يشرف على العشاش من الجنوب. ومن روافد هذا الوادي وادياً يمن وجبار الآتي ذكرهما.

وإذا اجتمعت أودية خيبر في المجامع تكوّن وادي الطّبْق: وادٍ فحل كثير الروافد تقع فيه آثار برمة، يستمرّ مغرباً من خيبر حتّى يدفع في وادي الحمض (إضم) ولا صحّة للقول: إنّ هذه الأودية تذهب إلى وادي القرى، أو أنّ مياه الحرّة الغربية تذهب إلى هناك، ولا تقربه كما أشار بعض الباحثين، فجميع المياه المنحدرة من الحرّة غرباً، أو من سلسلة حَجَر الواقعة غرب العشاش، تتحوّل إلى هذا الوادي الفحل ثمّ تصبّ في إضم. ومن تلك الأودية وادي الصحن، الذي يمرّ الطريق به بين خيبر والعلا، أمّا وادي القرى، فأوّل سيول تتّجه إليه من الشرق هي

ص: 162

سيول الهضب الآتي ذكره، والذي يبعد من هنا قرابة تسعين كيلًا.

القرى الرئيسيّة في خيبر:

تتكوّن خيبر من قرى عديدة أهمّها: الشُّريْف، وقد تقدّم الحديث عنها، ثمّ أبو وشيع، ومكيدة وزَبَرَان، والعين، والعِشَاش، وسيأتي الحديث عنها.

ونظراً لافتراق أودية خيبر في رؤوسها، واجتماعها في مصابّها، فقد أطلقنا عليها اسم:

التاج الخيبري

إذا ألقيت نظرة على أودية خيبر ألفيتها تشبه التاج في تكوينها، فوادي الغرس- كما تقدّم- يأتي من الجنوب متّجهاً شمالًا ثمّ يعدل إلى الغرب، ووادي الزهيراء يأتي من الشمال متّجهاً جنوباً، ثمّ يعدل غرباً وهما يكوّنان طرفي التاج، وواديا الصوير وأبي وشيع يسيران في الوسط فيشبهان رأس التاج، ثمّ وادي السلمة ووادي المضاويح وهما كالضلعين القصيرين في التاج، ثمّ تجتمع هذه الأودية جميعها في المجامع كقاعدة التاج.

سكّان خيبر:

كأيّ بلدة عريقة لها ضواحي كثيرة يكون سكّانها مزيجاً من الحضر والبدو، فالسكّان الذين لهم الاسم والشهرة هما قبيلتا عنزة وبني رشيد، فالأولى تمتلك جلّ نخيل خيبر وتمتدّ ديارها من جنوب خيبر إلى الجناب فتيماء ثمّ مشرقة إلى قرب حائل، والثانية تمتدّ ديارها من شمال المدينة شاملة جلّ الحرار حيث لها الصلصلة والبحرة ومارّة شرق نخيل خيبر إلى جبل جرس ثمّ شمالًا شرقياً إلى حرّة ضرغط، مائلة شرقاً على فروع وادي الرمة، ولها هناك الحائط والحويط والحليفة. أمّا السكّان الحضر في قرى خيبر فجلّهم من السود المولدين.

وإليهم العناية بتلك النخيل كالتأبير والسقي والجداد، فصاروا بيوتاً لها أسماء وأنساب، وأصبحوا يشاركون الملّاك في المزارع على نظام المعامر

ص: 163

المعروف في الحجاز.

ونوع آخر كثر في هذا العهد يتكوّن من الوافدين المستوطنين كالتجّار وموظّفي الدولة وغيرهم، وقد فضّل بعضهم الإقامة الدائمة هنا، وصارت لهم ضياع وأملاك. وكان خيبر- من قديم الزمن- مشهوراً بحمى الملاريا التي كانت تفتك بالسكّان غير أنّ سود البشرة لديهم مناعة طبيعيّة ضدّ الحمى. وكان العرب الأقدمون إذا أمّ أحدهم خيبر عَشر كما يُعشّر الحمار، اعتقاداً منهم أنّ من يفعل ذلك لا تصبه الحمى، غير أنّ بعضهم كان يأنف ذلك ويرفضه.

مساحة خيبر:

من السير على هذه الطريق، واستعلام أهل الخبرة من السكّان. تقدّر مساحة خيبر (المحافظة) بنحو (160) كيلًا طولًا، من الجنوب إلى الشمال، ولعلّها في نحو (100) كيل عرضاً من الشرق إلى الغرب، أي أنّ مساحة محافظة خيبر تقارب (16000) ستّة عشر ألف كيل.

الفصل الثالث

الآثار في خيبر:

أ- المساجد:

1- مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حين افتتح خيبر.

جاء في معجم البكري- خيبر-: مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الذي كان طول مقامه بخيبر يصلّي فيه، وبنى عيسى بن موسى هذا المسجد، وأنفق عليه مالًا جليلًا، وهو على طاقات معقودة، له رحاب واسعة، وفيه الصخرة التي صلّى إليها صلى الله عليه و آله و سلم، وقد تقدّم فيما أحلناه على معجم البكري. قال ذلك فيما نقله عن السكوني.

ص: 164

2- مسجد عليّ رضى الله عنه: لازال ماثلًا يصلّى فيه تحت الحصن، الذي فتحه عليّ كرّم اللَّه وجهه، والشيعة يزورونه...

3- مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، بسفح الصهباء، حيث بنى بصفية مرجعه من خيبر، وهذا قد اندثر اليوم.

4- مسجد: لم تبقَ إلّاآثار، بجوار سد الحصيد، ذكر في القرى الأثرية التالي ذكرها، ولا أعتقد أنّ له علاقة بفتح خيبر، ولا زمنه، وذلك أنّه بعيد عن المكان، الذي جرت فيه المعارك.

ب- الحصون:

الحصون المشهورة في خيبر، والمعروفة إلى يومنا هذا، هي:

1- حصن النطاة.

2- حصن ناعم.

3- حصن الشّق.

4- حصون الكتيبة، ومنها:

أ- القموص.

ب- الوطيح.

ج- سلالم.

5- حصن الصَّعب بن معاذ.

ومن هذه الحصون، ما هو قائم، شبه صالح للعمل، ولكن بأسها واستعمالها أذهبه اللَّه منذ افتتاحها.

ج- القرى الأثرية، والمآثر، والسدود:

من القرى ذات الأثر في خيبر:

ص: 165

1- قرية مكيدة.

2- قرية زبران.

3- قرية الشُّريف نفسها، قاعدة خيبر.

4- هناك كثير من الآثار في جنبات الحرار، وبين الحصون، وبعضها يشبه القرى، ولكن لا تعرف أسماء كثير منها. وهي تحتاج إلى مسح من دائرة الآثار، وتحتاج إلى وجود أدلّاء متمكِّنين، يدلّون الباحث والسائح على الآثار.

5- وغير بعيد غرباً من خيبر: آثار بُرْمة، وهي تابعة لخيبر، وكانت قرية داثرة، فيها آثار المباني وأفلاج العيون، ثمّ أُحييت في العهد الحالي.

6- قرية سلاح: وتعرف اليوم بالعشاش، كانت داثرة، فأحياها الشيخ فرحان الأيدي، وشيخ ولد علي من عنزة، وعياله فيها اليوم، منهم فهد بن فرحان المذكور، فيها فُلُج ظاهرة، يحاولون إحياءها.

7- وهناك ما يمكن أن يسمّى (قرية أثرية)، ذلكم هو (سد الحصيد) وما حوله من آثار منها: قصر البنت، قلعة مهدّمة، ومسجد، وآثار متناثرة ذكرها سنت فلبى في رحلة (أرض الأنبياء).

وكلّ هذه الآثار تقع في وادي يسمّى: وادي الحصيد، أحد فروع وادي الثمد، الذي هو جزء من وادي الغرس أحد أودية خيبر الرئيسيّة.

الفصل الرابع

خيبر في عصرنا الحالي:

خيبر في العصر الحالي:

أ- المحافظة:

(1) حدودها: تمتدّ محافظة خيبر كما تقدّم من جنوب قرية الصلصلة على

ص: 166

(118) كيلًا شمال المدينة المنوّرة، إلى ما وراء حفيرة الأدى شمالًا وتقدّمت مساحتها توّاً.

(2) عددمراكزها: يتبع محافظة خيبر عدد من المراكز، وأهمّها: مراكز الحائط (فدك قديماً). ومركز الصلصلة، المتقدّمة. ومركز العشاش (سلاح قديماً). ومركز آخر لعلّه في برمة.

ب- الدوائر الحكومية في محافظة خيبر:

محكمة شرعية، وأشراف من وزراء المعارف، وآخر من تعليم البنات، ومندوبية زراعية، وشرطة.

وجميع المرافق التي تعنى بشؤون الناس والأمن.

وبها مستشفى متوسّط، ومراكز صحّية عديدة.

وكلّ دوائرها وقطّاعاتها، تراجع فروع الوزارات المختصّة في المدينة المنوّرة.

ج- القرى العامرة:

في خيبر نحو خمسين قرية من أهمّها:

1- القاعدة (الشُّريف) فيها جميع الدوائر الحكومية.

2- قرية الصلصلة، والمتقدّم تحديدها.

3- قرية البحرة، وهم يسكنون الباء، بين الصلصلة والشريف.

4- قرية زبران. في وادي الغرس يسار الطريق.

5- العشاش: سلاح قديماً.

6- الحائط: قرية كبيرة في وادٍ يذهب إلى وادي الرمّة. وغيرها من القرى التي أخذت تنمو بسرعة.

7- الحُويّط: يديع قديماً، قرية عامرة شرق الحرّة.

د- الزراعة ونشاط السكّان:

يدلّ ما فيها من المزروعات وخاصّة النخيل أنّها بلد خصب كثير المياه، وأنّ

ص: 167

أهلها في الزراعة يتوارثونها كابراً عن كابر.

(1) أنواع المزروعات: أصل الزراعة في خيبر النخل، ذلك لبعدها وقلّة المواصلات مع المدينة في الزمن السابق، أمّا اليوم فقد أصبح الزمن بين خيبر والمدينة نحو ساعتين بل أقلّ، لذا أخذوا يزرعون إلى جانب النخل جميع أنواع الخضار.

(2) عدد العيون الجارية: يقول أهل خيبر: إنّ بها مائة وثمانين عيناً (180) لازالت كلّها جارية.

(3) عدد الآبار الزراعية: لم أجد من أحصى الآبار الزراعية، غير أنّني في رحلتي إلى هناك قبل نيف وعشرين سنة، رأيت كثيراً من الآبار في المحافظة (الإمارة آنذاك) وعليها زرائع.

(4) عدد النخيل: يتوارث الناس، ومنهم أهل خيبر أنّ بخيبر ثلاثة ملايين نخلة. ولم أرَ إحصاءً يركن إليه، وأعتقد أنّ العدد أقلّ من هذا، ولكنّه كثير كثير.*

-

* وإذ نحن ننتهي من هذه المقالة القيّمة، التي حازت على جائزة مؤسسة السيّد أمين مدني الرابعة، في مكّة المكرّمة عام 1422 ه، لابدّ لنا من أن نقدّم جزيل شكرنا وتقديرنا للأستاذ المؤرّخ الشيخ عاتق بن غيث البلادي، الذي طالما تشرفت مجلّتنا بجزء ثمين من عطائه العلمي الوفير.

نسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يثري ساحتنا الإسلامية والعلمية بأمثاله، وأن يوفّق استاذنا المؤرّخ لمزيد من العطاء والجهود العلميّة المثمرة.

الحجّ في الادب العربي مختارات شعريّة

ص: 168

الحجّ في الأدب العربي مختارات شعريّة

على كلّ افق بالحجاز ملائك تزفّ تحايا اللَّه والبركات

لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات

وفي الكعبة الغرّاء ركنُ مُرَحِّبٌ بكعبة قُصّادٍ، ورُكنِ عُفاة

وما سكب الميزاب ماءً وإنّما أفاض عليك الأجر والرّحماتِ

وزمزمُ تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجّرات

***

يكاد إذا مرّ الحجاز بذكره وجيرته من صدره يتوثّبُ

بلاد بها الرحمن ألقى ضياءه على لابتيها والعوالم غيهبُ

يجلّلها قدس من اللَّه سابغ وينفحها نشر من الخلد طيّبُ

إذا نسب الناس البلاد رأيتها إلى جنّة الفردوس تُعزى وتنسبُ

وإن نضبت أنهارها فبحسبها من الدين نهرٌ للدوى ليس ينضبُ

يفيض على الأقطار يُمناً ورحمة ويزأر في اذن العتاة ويصخبُ

تفجّر من نبع النبوّة ماؤه له الحقّ وِرْدٌ والسماحة مشربُ

ناد زوّاري أنا أدعوهم نحو بيتي لينالوا شرفا

فهم وفدي إذا ما نزلوا بحريمي إذ دنوا مُزدلفا

ولهم عندي مزيدٌ ولهم من نوالي ما أحبّوا طرفا

فارقوا أوطانهم إذ قصدوا نحو بابي يطلبون الزُّلفى

فلهم منّي ما قد أمّلوا سَلفا ينمى ويُنشِي خَلَفا

***

أمَا والذي حجّ المحبّون بيتهُ ولبّوا له عند المُهَلِّ وأحرُموا

وقد كشفوا تلك الرؤوس تواضعاً لعِزّةِ من تعنو الوجوه وتُسْلِمُ

يُهِلُّونَ بالبيداء لبّيك ربّنا لك الملكُ والحمدُ الذي أنت تعلمُ

دعاهم فلبّوه رضاً ومحبّةً فلمّا دعوه كان أقرب منهمُ

ترى على الانضاء شُعثاً رؤوسهم وغُبراً وهم فيها أسرُّ وأنعمُ

وقد فارقوا الأوطان والأهل رغْبَةً ولم يُثنِهِم لذّاتُهُم والتَّنعُم

يسيرون من أقطارها وفجاجها رجالًا وركباناً وللَّه أسلموا

الأجر والمغفرة

وراحوا إلى التعريف يرجون رحمةً ومغفرةً ممّن يجود ويكرم

فللَّه ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم

ويدنو به الجبّار جلّ جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم

يقول عبادي قد أتوني محبّة وإنّي بهم برٌّ أجود وأرحم

فأشهدكم أنّي غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أمّلوه وأنعم

فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي به يغفر اللَّه الذنوب ويرحم

فكم من عتيق فيه كمل عتقه وآخر يستسعي وربّك أرحم

وما رؤي الشيطان أغيظ في الورى وأحقر منه عندها وهو ألأمُ

ص: 170

وذاك لأمر قد رآه فغاظه فأقبل يحثو الترب غيظاً ويلظم

وما عاينت عيناه من رحمة أتت ومغفرة من عند ذي العرش تقسم

بنى ما بنى حتّى إذا ظنّ أنّه تمكّن من بنيانه فهو محكم

أتى اللَّه بنيانا له من أساسه فخرّ عليه ساقطاً يتهدّم

وكم قدر ما يعلو البناء وينتهي إذا كان يبنيه وذو العرش يهدم

وفي الإحرام

يا لها من لحظة تساوي العمر وتورث الق - رب ساعة الإحرام والإهلال من الميقات

لمّا رأيت مُناديهم ألمّ بنا شددت مئزرَ إحرامي ولبّيتُ

وقلت للنفس جدّي الآن واجتهدي وساعديني فهذا ما تمنيتُ

لو جئتكم قاصداً أسعى على بصري لم أقض حقّاً وأيّ الحقّ أدّيتُ

***

ص: 171

شخصيات من الحرمين الشريفين (13)

شخصيات من الحرمين الشريفين (13)

بلال أحدٌ احد مؤذِّن رسول اللَّه

بلال أحدٌ أحد مؤذِّن رسول اللَّه

حسن محمّد

ما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بكلمات لم يسبقك إليها أحدٌ، حتّى غدت سلاحك الوحيد الذي تدافع به عن نفسك، حيث كانت تخلق فيك صموداً لا يهزم، وثباتاً لا يلين، وقد تلوّت على ظهرك سياطهم، ومزّقت جسدك حديدتهم المحماة.

في رمضاء مكّة ولهيب رمالها، وأنت تردّدها كلماتٍ خالدة .. أحدٌ أحد، أحدٌ أحد ..

حتّى غدت انشودتك التي لم تجد أجمل منها وأحلى .. ولم ينطق لسانك بشي ء غيرها .. فكانت أمضّ سلاح ينخر صدورهم، ويهزّ كبرياءَهم .. ويغيض قلوبهم، وهو ما كنت تبحث عنه وتتمنّاه.

وما أعظمك يا بلال، وقد اقترن اسمك بأعظم نداء عرفته الدُّنيا وردّدته الأجيال!

وما أحسن عاقبتك يابلال، وقد خلدت بخلود كلّ فصل من فصول هذا الأذان، وكلّ كلمة من كلماته، بل وكلّ حرفٍ من حروفه، ولحن من ألحانه، ونغمةٍ من نغماته...!.

وما أعظم ذكراك، وقد امتزجت بذكرى هذا الأذان، الذي راح يدوّي خمس

ص: 172

مرّات في أرجاء السماء، تردّده الألسن، وتهفو إليه القلوب، وتطمئن به النفوس فما إن يسمع أحدُنا مؤذِّناً يرفع الأذان حتّى يتبادر إلى الذهن بلال، وما إن نسمع صوتاً نديّاً شجيّاً إلّاوراح بلال بصوته الجميل شاخصاً حيّاً، وكيف لا يحيى وقد اقترنت حياته بحياة هذا الأذان فنعم القرين!؟

*** إنّه واحد ممّن قضى عمره بين عبوديّتين: عبودية للناس، وقد أكره عليها وكلّها تسخير وذلّ وظلم، مقابل ثمن بخس لا يتعدّى رغيف خبز وافتراش أرض..

وعبودية للَّه، خطى نحوها بإرادته ورغبته، فكانت عزّاً في الدُّنيا وكرامةً في الآخرة، وكانت خلوداً هي الأخرى في الدُّنيا، وخلوداً في الآخرة... فشتّان شتّان بين العبوديّتين!!

كان بلال من فئة العبيد تلك التي سخّرها سادة المجتمع المكّي وكبراؤه في نواحٍ خدمية كثيرة وأخرى قتالية...

وما إن منَّ اللَّه تعالى بدعوته المباركة الجديدة، رحمةً للناس جميعاً، حتّى راحت قلوبُ هؤلاء الضعفاء تجد أمانها فيها وطمأنينتها...

فتوجّهوا نحوها كأعظم ملجإٍ لهم وملاذٍ، لتنتشلهم ممّا هم فيه من اضطهاد متواصل وعذابٍ دائمٍ وذلٍّ مستمرّ، من خزي في الدُّنيا وعذاب في الآخرة، إلى عبق الحرية والمساواة، وإلى فردوس ينتظرهم في الآخرة..

وهم يسمعون: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلّا بالتقوى».

وهم يقرأون: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

لقد كانت هذه الفئة من الناس تشخص بأبصارها بعيداً وكأنّها تنتظر من ذلك

ص: 173

الأفق البعيد منقذاً ظلّت تعيشه حُلماً جميلًا يهوّن عليها ما هي فيه من هوان ويزرع في نفوسها الأمل والطموح والرغبة في حياة إيمانيّة تنقذهم ممّا هم فيه من ضلال وعذاب،.. فما إن رأته واقعاً أمامها حتّى بادرت إلى التصديق به والتضحية في سبيله، فكان لهم قصب السبق في نصرة هذه الدعوة الخالدة والدفاع عنها بأرواحهم وأجسادهم وما يملكون حتّى تمّ نصر اللَّه والفتح.

لم يتأخّر بلال كثيراً، فقد ردّد الشهادتين، وأعلن بذلك إسلامه مع رفاقه في الآلام، فبدأوا بذلك حياةً جديدةً.. إلّاأنّ الأيدي الظالمة لم تتركهم، فقد راح أسيادهم يصبّون عليهم جام غضبهم، وينزلون بهم أقسى أساليب التعذيب وأشكاله..

ومع كلّ هذا رأت هذه الفئة التي هانت عليها نفوسها في اللَّه تعالى، أنّ ما ينزل بها من عذابٍ هو غير ذلك العذاب، وأنّ ما يحلّ بها من ظلم وقسوة هي غير تلك القسوة، لقد رأت بهذا كلّه حلاوةً ونشوةً، ولهذا تحمّلت، وراحت تردّد مع بلال كلماته المشهورة على لسانٍ واحدٍ، ومن قلوب ملئت إيماناً وحبّاً للَّه حتّى غدت كيانهم كلّه: أحدٌ أحد. وجدت بها بلسمها ودواءها وحرّيتها، التي فقدتها سنين طويلة، فيما راحت الأجيال المؤمنة تعيش ذكراهم، وتردّد صدى ما تعوّدته ألسنتهم، ووعته قلوبهم..

لقد أسلم بلال، وهو من الأوائل الذين أعلنوا إسلامهم، وراح يشهد مشاهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كلّها بدراً وأحُداً والخندق، وفتح مكّة..

*** إنّه بلال بن رباح الحبشي، أبو عبد الكريم، وأبو عمرو الحبشي، أمّه حمامة. وكان مولى أميّة بن خلف، الذي كان واحداً من طغاة قريش، وقد أوغل في ظلمه لبلال... ثمّ بعد ذلك اشتراه أبو بكر بن أبي قحافة، فظلّ مولى له حيناً من الوقت.

ص: 174

صفاته

كان بلال أدم، شديد الأدْمَة، نحيفاً طُوالًا، أجنأ أي في كاهله انحناء، إلّاأنّه ليس بالأحدب، له شعر كثيف، خفيف العارضين.

أمّا صوته فجميل قوي، ينتشر بعيداً، وكانت له ترنيمة شجيّة، عرفته أرجاء مكّة بندائه الجميل، شفيت به الأبدان المكدودة، وتماثلت به النفوس المعتلّة السقيمة..

هيّأه هذا الصوت لأن يكون أوّل منادٍ بنداء التوحيد، ينبذ الشرك والشركاء، عبر أجمل وأعظم فصول تردّدها الشفاه، وتنطلق بها الألسن، وتتعلّق بها القلوب، وتشتاق لها الأنفس، وتشفى بها الأجسام، «أرحنا يا بلال»، هكذا كان يناديه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

نعم، أُنيط به أذان أعظم أركان الإسلام، وأقدس شعيرة جاء بها الدين الحنيف، إنّها الصلاة، إنّها اللقاء المباشر بين العبد وربّه..

وهذا ما كان يتمنّاه بلال، فينتقل من مجرّد عبد حبشي لا غير إلى عبد صالح للَّه وحده، فتنهال عليه بركات السماء، فيخلد مؤمناً صلباً، ذلّت له عنجهية قريش وكبرياؤها، بعد أن تكسّرت عليه سياطهم، سياط الجلّادين، دون أن تنال منه شيئاً، بل ما زادته إلّاعزّاً وكبرياء.

بلال واميّة

بلال بين يدي سيّده أميّة بن خلف في رحلة العذاب، حيث راح هذا الأخير يذيق ذاك العبد الصالح، والسابق الأوّاب، صنوفاً من العذاب.

في كلّ ظهيرة، حيث شمس الحجاز المحرقة، ورمالها الملتهبة في بطحاء مكّة، يوضع هذا الجسد العظيم بين نارين ونار ثالثة يمسك بها أميّة وأعوانه، وصخرة كبيرة ترقد على صدر بلال فتقطع عليه أنفاسه، ها أنت يا بلال بين خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا أن تموت بسياطنا وصخورنا وحديدنا المكواة، وإمّا أن تكفر بمحمّد

ص: 175

ابن عبداللَّه، فتعود إلى (عبادة اللّات والعزّى)، فتنال محبّتنا... إلّاأنّهم خابوا وخابت جميع محاولاتهم، وخسئت سياطهم وعصيهم وحديدهم من أن تنال من عزمه الراسخ وإيمانه العظيم، الذي لا يلين أو يضعف... كلمة واحدة مختصرة لا غير، راح لسان بلال يلهج بها، وتركها عبر التاريخ والأجيال خالدةً مدويّةً تعلّم الأحرار والمؤمنين الصمود والإباء، حروف ثلاثة، كلّ حرف يعدل الوجود كلّه خيراً وعطاءً: أحدٌ، أحد، لم يتلفّظ غيرها أبداً، وهو بين رمالٍ ملتهبة وشمس محرقة، وصخرة تجثم على صدره فتقطع أنفاسه، فلا ينطق إلّابهذه الحروف وما أعظمها وأقدسها وأجملها! بصوت ضعيف قد لا يسمعه أحدٌ حتّى هو بعد أن أضعفه الجوع والعطش والألم.. شفاه تتحرّك، بل تتمتم بها.. أحدٌ أحد، نعم أحدٌ أحد.

صمودٌ ما أعظمه، غدا بعده مدرسةً، وظلّ ذكرى عظيمة، لا تملّها الأجيال، راحت كلمات بلال تدوّي في بطحاء مكّة وأجوائها... كما راحت ألسن الجميع تردّدها من بعده... فكانت صاعقةً تنزل على مسامع مشركي قريش، فيجنّ جنون أُميّة، وتسيطر سورة الغضب عليه... فينهال على بلال بوسائله البشعة، بسياطه وحديده، وألفاظه القذرة، يركله، يضربه، يشتمه...

وبلال يزداد صموداً وتألّقاً.. أحدٌ، أحد.. وهكذا ظلّ هذا المعذَّب أيّاماً وليالي.. بلال لا نريد منك شيئاً.. اذكر فقط آلهتنا بخير.. لقد أتعبهم بلال وثباته..

حتّى غدا كلّ واحد منهم وكأنّه هو المعذَّب لا بلال.

فسئم أميّة.. يا أبا جهل عليك به.. فصبّ عليه جام غضبه.. وأذاقه صنوف العذاب.. حتّى كلّوا وعجزوا.. فاستعانوا بصبيانهم وسفهائهم، ليضعوا حبلًا في عنق بلال... ليطوفوا به بين أخشبي مكّة، بين أزقّة هذين الجبلين اللذين يحيطان بمكّة «أبو قبيس والأحمر».

ولم يترك كلماته العظيمة.. إنّها انشودته التي لا يملّها ولا تملّه.. وبصوته

ص: 176

الرخيم: أحدٌ أحد.. فتذهل أنفسهم، وتقشعر جلودهم.. ويسقط ما في أيديهم..

إنّها أنشودة بلال، التي غدت شعاراً للمسلمين في أولى معارك الإسلام في بدر.

يا أميّة ألا تتّقي اللَّه في هذا المسكين؟!

يا أميّة حتّى متى؟!

فيجيب أميّة: أنت أفسدته، فأنقذه ممّا ترى.

فما كان من أبي بكر، إلّاأن اشتراه بخمس أواقٍ... وفكّروا أن يربحوا منه فهو أفضل من موته بين أيديهم، بعد أن يئسوا من عودته إليهم... واستوقفهم مرّةً أميّة ابن خلف قائلًا لأبي بكر: خذه، فواللّات والعزى، لو أبيت إلّاأن تشتريه بأوقية واحدة لبعته بها.

فيجيبه أبو بكر: واللَّه لو أبيتم إلّامئة أوقية لدفعتها.

ثمّ أعتقه لوجه اللَّه تعالى، ليواصل جهاده ودعوته إلى اللَّه.

يقول عمّار بن ياسر وهو يصف بلالًا وقوّته وصموده..

جزى اللَّه خيراً عن بلال وصحبه عتيقاً وأخزى فاكهاً وأبا جهل

عشية هما في بلال بسوءَة ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل

بتوحيده ربّ الأنام وقوله شهدت بأنّ اللَّه ربّي على مهل

فإن يقتلوني يقتلوني فإن أكن لأشرك بالرحمن من خيفة القتل (1)

المؤاخاة

بعد أن هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة، راح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبني أسس المجتمع المؤمن على أسس متينة، وكانت المواخاة واحدة من تلك الأسس، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكان نصيب بلال من هذه


1- 1 حلية الأولياء 1: 148.

ص: 177

المؤاخاة أن آخى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينه وبين أبي رويحة عبداللَّه بن عبد الرحمن الخثعمي.

ظلّ هذا العبد الصالح وفياً لهذه الأخوّة.

يقول ابن هشام في سيرته: (فلمّا دوّن عمر بن الخطّاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، فأقام بها مجاهداً.

قال عمر لبلال: إلى مَن تجعل ديوانك يا بلال؟

قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوّة التي كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عقد بيني وبينه، فضُمَّ إليه (1).

الثلّة المعذَّبة وآيات قرآنية

بلال وعمّار وخبّاب وصهيب وأبو جندل... وغيرهم، مؤمنون معذَّبون انصبّ جام غضب قريش عليهم تجويعاً وتعذيباً وتنكيلًا وسخريةً... وقبال كلّ ما عانوه من آلام وسياط وظلم واضطهاد...

ظلّ كتابُ اللَّه تعالى يواكبهم في بعض آياته مواساةً لهم ورعايةً وتثبيتاً ومؤازرةً... كما راحت تعلّم الآخرين من المؤمنين على الاهتمام بهذه الشريحة المؤمنة، وعدم تركها بعيدةً عن اهتمامهم، فتبقى وحيدةً فريدةً أمام جبروت المشركين وطغيانهم حتّى بعد أن أعلن هؤلاء إسلامهم، لكنّ عنجهيتهم الجاهلية وكبرياءهم كانا يأبيان عليهم مجاملة هذه الفئة المضطهدة المستضعفة... ظلّت سخريتهم تلاحق هؤلاء، وظلّ التعالي عليهم علامةً بارزةً في تعاملهم مع الشريحة المؤمنة هذه.. بل مكثوا على سيرتهم هذه وتعاملهم هذا طيلة حياتهم، وكأنّ الإسلام الذي أعلنته ألسنتهم لم يترك أثره على قلوبهم، فظلّوا أقرب للنفاق منه إلى الإيمان بالدين الجديد.. إنّها صفات الجاهلية القذرة


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 1: 507.

ص: 178

التي امتزجت بها أرواحهم، وعكفت عليها قلوبهم، وانطوت عليها سريرتهم، ولولا سيف الإسلام؛ لبقوا على حالتهم الأولى وآلهتهم، التي ظلّوا عليها وآباؤهم عاكفين.

ومثال واحد نذكره يبيّن لنا موقف كبار هؤلاء القرشيين من المعذّبين واحتقارهم لهم حتّى بعد أن أعلنوا الشهادتين.

فقد حضر الناس يوماً باب عمر بن الخطّاب في خلافته، وفي هؤلاء الناس أبو سفيان بن حرب وشيوخ من قريش، وكان مع هؤلاء الناس سهيل بن عمرو ابن عبد شمس العامري، وهو الذي عقد صلح الحديبية مع النبيّ صلى الله عليه و آله ورفض أن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، التي أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بكتابتها، قائلًا: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللّهمّ، ورفض أيضاً ما أمر به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يكتب: هذا ما صالح عليه محمّد رسول اللَّه.. قائلًا: لو شهدت أنّك رسول اللَّه لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

هذه مواقف سهيل قبل إسلامه، وما أجمل مواقفه بعد إسلامه!

كان مع هؤلاء الناس الذين قدموا للدخول على الخليفة، فبعد أن خرج الإذن من الخليفة الثاني لأهل بدر دون الآخرين، أي لصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم من المعذّبين.. لم يتحمّل أبو سفيان وزمرته هذا، فقال: ما رأيت كاليوم قط، إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا.

وهنا تصدّى له سهيل بن عمرو مدافعاً عن هؤلاء المعذّبين، أيّها القوم، إنّي واللَّه قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً، فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما واللَّه لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون فيه.

ثمّ قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم واللَّه إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فألزموه، عسى اللَّه عزّوجلّ أن

ص: 179

يرزقكم الشهادة... (1).

ومن الآيات التي نزلت فيهم:

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (2).

ما انفكّت قريش تلاحق هؤلاء المعذّبين انطلاقاً من ضلالها وعنادها وكبريائها، وظلّ كبرياؤها وتعنّتها يزداد ضدّ هؤلاء المؤمنين خوفاً من استفحال أمرهم، وبالتالي القضاء على زعامتها وسيادتها التي تطمح أن تخلد لها دون منازع من العالمين؛ لهذا لم تطق قريش ما تراه من إيمان هذه الفئة وصمودها، فراحت تصبّ عظيم غضبها عليهم، لتحدّ من توسّع هذا الدين الجديد بين شباب قريش، إن لم توقفه وتميته.. وبذلت جهوداً كبيرة ترغيباً وترهيباً من أجل إعادتهم إلى عبادة آلهتها صاغرين..

فنزلت هذه الآية في هؤلاء المعذَّبين مثل: بلال وخبّاب وصهيب وعمّار وغيرهم بعد أن مكّنهم اللَّه تعالى في المدينة المنوّرة بعد هجرتهم، وكانت لهؤلاء منزلة كبيرة عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعند الصحابة، فهذا أبو بكر كان يقول لصهيب:

ربح البيع يا صهيب، فقد ذكر أنّ صهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنت عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ويروى أنّ عمر بن الخطّاب في خلافته، كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، يقول له: خذ، هذا ما وعدك اللَّه في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل.. ثمّ يتلو هذه الآية وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا


1- 1 انظر الاستيعاب والإصابة في تمييز الصحابة 2: 110.
2- 2 سورة النحل: 41.

ص: 180

حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (1)

هذا ما ذكره الشيخ الطبرسي في تفسيره.

فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم اللَّه تعالى المدينة بعد ذلك (2).

لقد كان ما وعدهم ربّهم حقّاً حيث بوّأهم مقاماً محموداً في دنياهم ومنحهم أجراً عظيماً في أخراهم. ففازوا بالحسنتين: حسنة الدُّنيا وحسنة الآخرة.

وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (3).

لم تجنِ قريش من قسوتها وتعذيبها للنخبة الفقيرة المعذّبة إلّااليأس والخزي، فقد باءت كلّ أساليبها القذرة بالفشل وراحت تفكّر بطريقة أخرى للتنكيل بهم وملاحقتهم وإنزال العذاب النفسي بهم بعد أن خابت أساليبها الأخرى التي انصبّت عليهم طيلة هذه الفترة.

يتمحور أسلوبها الجديد هذا بأن اطرد يا محمّد هؤلاء: «عمّار وصهيب وبلال وخبّاب وسلمان وأبو ذرّ وغيرهم من الفقراء الذين آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الطغاة، الذين يسمّون بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون، ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش..».

فيكون لنا مجلس معك وكلام؛ لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء العبيد وذوي الثياب الرثّة، فنتساوى معهم، فلو نحّيتهم عن مجلسك؛ لتوافد عليك أهل الثراء والأشراف، وقد نتّبعك..


1- 1 سورة النحل: 41.
2- 2 أسباب النزول للواحدي: 285.
3- 3 سورة الأنعام: 52.

ص: 181

فكاد هذا الأمر أن يزرع اليأس والإحباط في نفوس هذه الفئة المظلومة لولا أن تدخّلت السماء، فنزلت هذه الآية حسماً لهذا الموقف قبل أن يترك آثاره على هؤلاء المعذَّبين، ويشعر بنشوة النصر كبار قريش وزعماؤها.

يقول عبداللَّه بن مسعود:

مرّ الملأ من قريش على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعنده صهيب وخبّاب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت هؤلاء من قومك؟

أفنحن نكون تبعاً لهم؟

أهؤلاء الذين منَّ اللَّه عليهم؟

اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل اللَّه تعالى: وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ....

فيما قال سلمان وخبّاب أيضاً: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه و آله قاعداً مع بلال وصهيب و عمّار و خبّاب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقّروهم، وقالوا:

يارسول اللَّه لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلوا بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء العبيد، ثمّ إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّ صلى الله عليه و آله إلى ذلك، فقالوا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً ليكتب.

قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه السلام بقوله تعالى: وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

فنحّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة، فكنّا نقعد معه (1).


1- 1 مجمع البيان للطبرسي، في تفسير الآية.

ص: 182

هذا وكان بلال واحداً من أولئك النفر، الذين راح مشركو مكّة وإن أعلنوا إسلامهم، يلاحقونهم تنديداً وسخريةً، وخاصّة بلال بن رباح الذي ترك خيبة في نفوسهم تأكل كبرياءَهم وتطيح بطغيانهم، وموقفهم هذا كان استمراراً لمواقفهم وهم في مكّة وهم على شركهم حينما سمعوا بنبأ إيمان هذه الثلّة من الفقراء، أو العبيد، فعن عكرمة أنّه قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفرٌ معهما سمّاهم أبو طالب.

فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا (والعسيف هو الأجير المستهان به) كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه و آله فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل اللَّه عزّوجلّ الآية المذكورة وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ...

قال: وكانوا بلالًا وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وخبّاباً مولى أمّ أنمار.

وفي قوله تعالى: مَا لَنَا لَانَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ* أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (1)

.

قال: يقول أبو جهل: أين بلال أين فلان أين فلان؟ كنّا نعدّهم في الدُّنيا من الأشرار، فلا نراهم في النار! أم هم في مكان لا نراهم فيه، أم هم في النار لا يرى مكانهم؟!

وفي رواية: أين عمّار، أين بلال؟

وعن ابن عبّاس: كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ خبّاباً وبلالًا (2).


1- 1 سورة ص: 62- 63.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 5: 263.

ص: 183

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (1).

تقول الرواية: لمّا كان يوم الفتح رقِيَ بلال فأذّنَ على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس: يا عبداللَّه، لهذا العبد الأسود، وفي قولٍ أصحّ (فقال بعض الناس: ياللَّه! هذا العبد الأسود أن يؤذّن) أن يؤذن على ظهر الكعبة! فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه يغيِّره.

وفي خبر أنّه لما جاء أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بلالًا أن يؤذّن على ظهر الكعبة، وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان، ومنهم من قد آمن.

فلمّا أذّن وقال: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم اللَّه أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة!

وقال خالد بن أسد: لقد كرّم اللَّه أبي، فلم ير هذا اليوم! فيما قال الحارث بن هشام: ليتني متُّ قبل هذا! وقال جماعة نحو هذا (2).

فأنزل اللَّه جلّ ذكره الآية المذكورة أعلاه (3).

مكانته عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين

لقد حظي المعذَّبون بمكانة عظيمة أخرى.. إضافةً إلى مكانتهم في القرآن الكريم- فقد كان يحبّهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويأنس بهم، يجالسهم، يحدّثهم، يأكل ممّا يأكلون، لا يميّز بينهم، إلّاأنّ بلالًا كان يحظى بمعية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبمنزلة أقرب عنده..

حتّى راح الصحابة يكرمون هذه الثلّة المؤمنة المعذَّبة إكراماً للَّه ولرسوله.

تقول الرواية، عن عائذ بن عمرو: إنّ أبا سفيان مرَّ على سلمان وصهيب


1- 1 الحجرات: 13.
2- 2 انظر قاموس الرجال للتستري 2: 398.
3- 3 مختصر تاريخ دمشق 5: 263.

ص: 184

وبلال في نفر، فقالوا: ما أخذت سيوف اللَّه من عنق عدوّ اللَّه مأخذها.

فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟

وأتى النبيّ صلى الله عليه و آله فأخبره.

فقال صلى الله عليه و آله: «يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم؟ وإن كنت أغضبتهم، لقد أغضبت ربّك».

فأتاهم أبو بكر، فقال: يا إخوتاه، أغضبتُكم؟ قالوا: ما غضبنا، يغفر اللَّه لك يا أخي (1).

فبقي الصحابة يجلّونهم ويكرمونهم، لما سمعوه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بحقّهم، ولما رأوه من عنايته بهم وتفقّده لهم.

ومن علوّ مكانته عند رسول اللَّه ورفعتها أنّ كانوا ينسبونه إليه فيقولون:

بلال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فقد حدث مرّة أنّ شاعراً امتدح شخصاً اسمه بلال وكان ابن عبداللَّه بن عمر، فقال في شعره من الطويل:

بلال بن عبداللَّه خير بلال

فقال له ابن عمر: كذبت، بل بلال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خير بلال.

ولم يعهد من عمر بن الخطّاب إلّاأنّه كان ينادي بلالًا (سيّدنا) وكان يأذن له ولإخوانه المعذّبين بدخول مجلسه قبل أن يأذن لشيوخ قريش وأشرافها كما مرّ بنا.

وفي خبر آخر- يدلّ على ملاحقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أصحابه تربيةً وتهذيباً من أدران الجاهلية وما علق بنفوسهم منها- يقول: عيّر أبو ذرّ بلالًا بأمّه فقال: يابن السوداء!، وإنّ بلالًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره، فغضب! فجاء أبو ذرّ ولم يشعر، فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: ما أعرضك عنّي إلّاشي ء بلغك يارسول اللَّه، قال:

أنت الذي تعيّر بلالًا بأمّه؟


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 5: 266.

ص: 185

قال النبيّ صلى الله عليه و آله: والذي أنزل الكتاب على محمّد- أو ما شاء اللَّه أن يحلف- ما لأحدٍ على أحدٍ فضل إلّابعمل، إن أنتم إلّاكطفِّ الصّاع.

أي كلّكم قريب، بعضكم من بعض، فليس لأحد فضل إلّابالتقوى؛ لأنّ طفّ الصاع قريب من ملئه، فليس لأحد أن يقرُب الإناء من الامتلاء (1).

وفي رواية تقول: إنّ بني أبي البُكير جاؤوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: زوّج أختنا فلاناً، فقال لهم:

أين أنتم من بلال؟

ثمّ جاؤوا مرّة أخرى، فقالوا: يارسول اللَّه أنكح أُختنا فلاناً.

فقال: أين أنتم عن بلال؟

ثمّ جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح اختنا فلاناً.

فقال: أين أنتم عن بلال، أين أنتم عن رجل من أهل الجنّة؟!

قال زيد بن أسلم صاحب هذه الرواية: فأنكحوه (2).

رحمتها رحمكَ اللَّه

وحظي بلال بدعاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له بالرحمة حينما مرَّ بلال ببيت من البيوت التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حيث يقول بلال: مررتُ على فاطمة عليها سلام اللَّه، وهي تعالج الرّحا، قال: وابنها الحسين يبكي، قال: وحانت الصلاة، قال بلال:

فقلت لفاطمة: أيما أعجب إليك؟! أكفيك الرَّحا أو الصبي؟

فقالت فاطمة: أنا ألطف بصبيّي.

قال: فأخذتُ بقيّة الطحن، فطحنته عنها.


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 5: 262، وانظر لسان العرب: طفف.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 5: 262.

ص: 186

فأتيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

يا بلال ما حبسك؟

فقلت: يارسول اللَّه، مررتُ على فاطمة وهي تعالج الرَّحا، فأعنُتها على طحنها.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: رحمتَها رحمكَ اللَّه (1).

ذرني أذهب إلى اللَّه:

كلمات ما أعظمها نطق بها لسان هذا العبد الصالح! فقد قال يوماً لأبي بكر: إن كنت أعتقتني للَّه فدعني حتّى أعمل للَّه، أو فذرني أذهب إلى اللَّه. وإن كنت أعتقتني لتتخذني خادماً فاتّخذني.

فبكى أبو بكر وقال: إنّما أعتقتك للَّه، فاذهب فاعمل للَّه تعالى.

ولمّا كانت خلافة أبي بكر، تجهّز بلال ليخرج إلى الشام.

فقال له أبو بكر: ما كنت أراك يا بلال تدعنا على هذا الحال، لو أقمت معنا فأعنتنا.

قال: إن كنت إنّما أعتقتني للَّه تعالى، فدعني أذهب إليه، وإن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني عندك.

بلال المؤذّن وأجره العظيم

روي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان قد بشّر بلالًا والمؤذنين بالجنّة:

نعم المرء بلال، ولا يتبعه إلّامؤمن، وهو سيِّد المؤذِّنين، والمؤذِّنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة.

يحشر المؤذِّنون يوم القيامة على نوق من نوق الجنّة، يقدمهم بلال رافعي أصواتهم بالأذان، ينظر إليهم الجمع، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: مؤذِّنو امّة


1- 1 انظر مختصر تاريخ دمشق 5: 262- 263.

ص: 187

محمّد صلى الله عليه و آله، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون.

اتّخذوا السودان، فإنّ ثلاثةً منهم من سادات الجنّة، لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذِّن.

أبشر يا بلال، فقال: بِمَ تبشّرني يا عبداللَّه بن عمر؟

فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: يجي ء بلال يوم القيامة معه لواء يتبعه المؤذِّنون حتّى يدخلهم الجنّة.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:... ثمّ نظر إلى بلال فقال:

يُحشر هذا على ناقةٍ من نوق الجنّة، فيقدُمنا بالأذان مَحضاً، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، قالت الأنبياء مثلها: ونحن نشهد أن لا إله إلّااللَّه.

فإذا قال: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه، فمن مقبول منه ومردود عليه.

قال: فيُتلقّى بحلّة من حلل الجنّة، وأوّل من يكسى يوم القيامة من حُلل الجنّة بعد الأنبياء، الشهداء وصالح المؤذِّنين.

وفي رواية أخرى: وأوّل من يكتسي من حلل الجنّة بعد النبيّين والشهداء بلال وصالح المؤذِّنين.

.. أنفق يا بلال، ولا تخشى من ذي العرش إملاقاً.

«يا بلال مت فقيراً ولا تمت غنيّاً» قلت: فكيف لي بذلك يارسول اللَّه، كيف لي بذلك؟ قال: «هو ذلك أو النار».

وعن أنس بن مالك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اشتاقت الجنّة إلى ثلاثة: إلى عليٍّ، وعمّار، وبلال.

يا بلال، ليس شي ء أفضل من عملك، إلّاالجهاد في سبيل اللَّه.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه: «نعم المرء بلال، وهو سيِّد المؤذِّنين».

وفي اخرى: يجي ء بلال يوم القيامة مع لواء يتبعُهُ المؤذّنون حتّى يدخلهم الجنّة.

ص: 188

من صفاته الجميلة: الصدق والتواضع

لم تزده سابقته في الإسلام وجهاده وعطاؤه واحترام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له وحبّه إيّاه واحترام المسلمين له، إلّاتواضعاً وحياءً وصدقاً، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجّه إليه، وتغدق عليه، إلّاويحني رأسه ويغضّ طرفه ويقول ودموعه على وجنتيه تسيل: إنّما أنا حبشيّ.. كنت بالأمس عبداً..!.

وتقول الرواية:

خطب بلال رضي اللَّه عنه، وأخوه إلى أهل بيت من اليمن.

فقال: أنا بلال، وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كُنّا ضالّين، فهدانا اللَّه، وكنّا عبدين فأعتقنا اللَّه، إن تنكحونا فالحمد للَّه، وإن تمنعونا فاللَّه أكبر (1).

وفي رواية أنّ أخاه كان يزعم أنّه من العرب، فخطب امرأة من العرب، فقالوا:

إن حضر بلال بن رباح، وهذا أخي وهو امرؤ سوء في الخلق والدين، فإن شئتم أن تزوّجوه فزوّجوه، وإن شئتم أن تدعوا فدعوا، فقالوا: من تكون أخاه نزوّجه فزوّجوه.

مواقف تغيضهم

طالما كان بلال يبحث عن أي موقف أو كلمة يغيض بهما الكفّار والظالمين، بل غيضهم وغضبهم عليه، يعدّ في قاموسه عزّاً له وسعادةً يكتسبها في الدُّنيا والآخرة، انطلاقاً من قوله تعالى: وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (2).

فقد كان بلال من السبعة الأوائل، الذين أعلنوا إسلامهم، فكان موالي بلال


1- 1 الطبقات الكبرى 3: 237.
2- 2 التوبة: 120.

ص: 189

يأخذونه فيضجعونه في الشمس، ثمّ يأخذون الحجر فيصّفونه على بطنه ويعصرونه، ويقولون: دينُك اللّات والعزّى.

فيقول: ربّي اللَّه، ويقول: أحدٌ أحد، فقال: وايْمُ اللَّه، لو أعلم كلمةً هي أغيظُ لكم منها لقلتُها.

دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الكعبة عام الفتح ومعه بلال، فأمره أن يؤذِّن.

وأبو سفيان وعتّاب بن أُسيد والحارث بن هشام، جلوس بفناء الكعبة.

فقال عتّاب بن أُسيد: لقد أكرم اللَّه أسيداً ألّا يكون سمع هذا، فيسمع منه ما يغيظه.

فقال الحارث بن هشام: أما واللَّه لو أعلم أنّه مُحقّ لاتّبعته.

فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلّمت لأخبرت عنّي هذه الحصى.

فخرج عليهم النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: قد علمتُ الذي قلتم، ثمّ ذكر لهم.

فقال الحارث وعتّاب: نشهد أنّك رسول اللَّه، واللَّه ما اطّلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.

وفي خبر آخر- ما كان أعظمه وأشدّه على قلب بلال- لما كان يوم الفتح، رقِيَ بلال فأذّن على ظهر الكعبة، فقال بعض الناس:... لهذا العبد الأسود أن يؤذِّن على ظهر الكعبة.

فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه بغيره، وقال آخر يخاطب أبا جهل في قبره:...

ولا تنظر هذا الحمار ينهق.

حقّاً ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفّار....

الجزاء العادل

لم ينسَ بلال أميّة أبداً... أمنية راودته بل عاشت في كيانه وأخذت عليه حياته، أن يمكِّنه اللَّه منه، وقد كان لا ينساه، لأنّه معذّبه ومخرجه من مكّة، يقول الخبر: كان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:

ص: 190

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليل

وهل أرِدَنْ يوماً مياه مجنَّةٍ وهل يَبْدوَنْ لي شامةٌ وطفيل

ثمّ يبدأ بلعنهم: اللهمّ العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأميّة بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء (1).

حتّى جاءت معركة بدر، فكان اللقاء، وكانت تصيفة الحساب..

نعم، تأتي بدر وتقع قريش في هزيمة نكراء، حلّت بها، ولقّنتها درساً عجيباً... وهنا همّ أميّة بن خلف بالنكول، لولا أنّ صديقه عقبة بن أبي معيط وهو المحرّض على تعذيب المؤمنين، أخذ يحفّزه ويشجّعه حيث جاءه حاملًا معه (مجمرة) حتّى إذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي استجمر بهذه، فإنّما أنت من النساء.. وصاح به أُميّة قائلًا: قبّحك اللَّه، وقبّح ما جئت به.. ثمّ لم يجد إلّاأن يترك نكوصه ويخرج إلى بدر، ليتقدّم في المعركة..

هذا ما شاءته الأقدار.. حيث خرج أميّة للمعركة واشتجرت الأسنّة وتعانقت السيوف.. فالتقى الخصمان وجهاً لوجه.. إنّه أميّة وهو يسمع انشودة بلال وشعاره أحدٌ أحد،.. إنّه بلال!

نعم أميّة بن خلف.. بلال بن رباح

زعيم من زعماء قريش.. عبدٌ حبشي.. إنّه الكفر كلّه قبال الإيمان كلّه.

حقّا، إنّها إرادة اللَّه، يخذل الطغاة وينصر المستضعفين المعذّبين: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ.

فيصرخ بلال بأعلى صوته: إنّه «رأس الكفر أميّة بن خلف..» ثمّ يعلو صوته، صوت المعذَّب: لا نجوت إن نجا، لا نجوت إن نجا...».

وينقض عليه بلال بسيفه كالأسد الهصور ليقضي عليه، بضربة نجلاء،


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 5: 258- 259.

ص: 191

قاضية نافذة، يروي بها ظمأ الهاجرة في فؤاده، لولا أن صاح به عبد الرحمن بن عوف، فيقول: أي بلال.. إنّه أسيري.

لم يقنع بلال نفسه بهذا الأسر، لرأس طالما أثقله الكبر والغرور.. وهنا وقف بلال وهو في أعلى درجات غضبه، كاسف البال مهموماً، فهو يريد أن ينتقم من أكبر أعداء اللَّه والإسلام. لكن حمى عبد الرحمن بن عوف مصون..

فقد غنم أدراعاً يوم بدر فمرّ بأميّة بن خلف وابنه، فقال له: نحن خير لك من هذه الأدرع- أي خذنا أسيرين نسلم من القتل وتأخذ فداءنا فطرح الأدرع وأخذ بيدهما ومشى بهما.. إلّاأنّه خسر الأدرع وخسر أسيره أميّه، فقد قتل هذا الأخير حتّى قال عبدالرحمن: رحم اللَّه بلالًا ذهبت إدراعي وفجعني بأسيري.

فقد التفت بلال إلى الجموع المقاتلة من المسلمين ليؤلّبهم ويستعديهم على هذا الظالم، وإن تركه هو رعايةً لحمى عبد الرحمن، فليروا رأيهم فيه، وهو يتمنّى أن لا يتركوه حيّاً.. فإن لم يستطع أن يشفي بيده قلبه... فليدع الأمر لهم.

فصاح بهم إنّه أميّة بن خلف، يا أنصار اللَّه، رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت إن نجا.. إلّاأنّه حيل بينه وبين ما يريد..

فانقضّ عليه المسلمون ضاربين حرابهم ومسدّدين قذائفهم إلى صدر غريمهم، وعدوّ الإسلام، وفي هذه اللحظة لم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يحميه (1).

وهناك من يقول: إنّ بلالًا هو الذي قتله، حتّى قال فيه أحد الشعراء أبياتاً منها قوله:

هنيئاً زادك الرحمن خيراً فقد أدركت ثأرك يا بلال (2)


1- 1 انظر صحابة النبيّ للجميلي: 176.
2- 2 انظر أعيان الشيعة 3: 604.

ص: 192

وقد يسأل سائل: لماذا لم يصفح بلال الصفح الجميل؟

إنّ من يطلب ذلك، عليه أن يجعل نفسه مكان بلال نفسه، وأن يمرّ بما مرّ به بلال وما ناله من معذِّبيه، ونترك خالد محمّد خالد يجيب عن هذا التساؤل:

لا أظنّ أنّ من حقّنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام.

فلو أنّ اللقاء بين بلال وأميّة تمّ في ظروف أخرى؛ لجاز لنا أن نسأل بلالًا حقّ التسامح، وما كان لرجل في مثل إيمانه وتقواه أن يبخل به.

لكن اللقاء الذي تمّ بينهما، كان في حرب، جاءها كلّ فريق ليفني غريمه..

السيوف تتوهّج، والقتلى يسقطون... والمنايا تتواثب، ثمّ يبصر بلال أميّة الذي لم يترك في جسده موضع أنملة إلّاويحمل آثار تعذيبه..

وأين يبصره وكيف؟

يبصره في ساحة الحرب والقتال، يحصد بسيفه كلّ ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ؛ لطوّح به..

في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شي ء أن نسأل بلالًا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل؟!

بلال والفاجعة الكبرى

ظلّ بلال مواكباً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله طيلة حياته الإيمانيّة معه، قريباً منه، وعينان تتبركان برؤيته.. فدخل بلال على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأنّه في هذه المرّة وجده مسجّى على فراشه.

فما كان منه وهو الحبيب إلّاأن انحدرت دموعه غزيرة، واستقرّ حزنه في قلبه.

نزل الأمر المحتوم، صلّى على الجثمان الطاهر، ثمّ خرج ودموعه على وجنتيه..

وما إن دفن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى جلس بلال في زاوية من زوايا المسجد وحده

ص: 193

في حزن عظيم.. وظلّ هكذا متألِّماً باكياً حتّى حان وقت الأذان، والمسلمون ينتظرون بلالًا وصوته الندي.. لكنّه لم يؤذِّن.

وأحسّ بالفراغ الكبير، ثمّ راح يتساءل مدهوشاً لمن يؤذِّن؟

لم ينم حتّى الصباح، حيث اللقاء في المسجد، فحان وقت صلاة الفجر، وعلى بلال أن يؤذِّن لها..

فقيل له: الأذان يا بلال.

ارتفع صوت بلال ندياً جميلًا رائعاً:

اللَّه أكبر اللَّه أكبر

اللَّه أكبر اللَّه أكبر

أشهد أن لا إله إلّااللَّه

أشهد أن لا إله إلّااللَّه

وهنا عادت المصيبة ماثلةً أمام عينيه.. فاحتبست الشهادة الثانية في فيه، وحشرجت آهاته في صدره.. وانهمرت دموعه.. ولم يتمالك نفسه فراح الجميع يشاركه البكاء..

بقي بلال طويلًا لا ينطق بها... ثمّ تغلّب الرجل على عواطفه وأحزانه وعبراته المتدفِّقة فنطق بها، ولكن بصوت هادئ هذه المرّة ثمّ أكمل فصول الأذان، إنّه الأذان الأخير..

فقال والدموع في عينيه: لن أؤذِّن بعد اليوم، فليؤذِّن غيري، وفعلًا ظلّ هكذا ولم يؤذِّن، وحتّى بعد أن تولّى الخلافة أبو بكر، وقال لبلال: أذِّن.

فأبى بلال وقال له: إن كنت إنّما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت اشتريتني للَّه، فدعني وعملي للَّه، فقال أبو بكر: ما أعتقتك إلّاللَّه.

فأجابه بلال والحزن مرتسم على وجهه: فإنّي لا أؤذِّن.

ثمّ لم يطق البقاء في المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله، وحاول مرّات أن يخرج إلى

ص: 194

الجهاد في أيّ مكان كان بعيداً عن أجواء المدينة.

إلّا أنّ جمعاً من الصحابة منعوه، وكان منهم أبو بكر، حيث قال له متوسِّلًا:

أنشدك باللَّه يا بلال! وحرمتي وحقّي، فقد كبرت وضعفت واقترب أجلي، فأقام معه حتّى توفّي (1).

وفي خلافة عمر ألحّ عليه أن يؤذِّن فأبى.

فقال له: إلى من ترى أن أجعل النداء؟

قال: إلى سعد، فقد أذّن لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فجعله إلى سعد وعقبه (2).

ثمّ قرّر بلال أن يخرج إلى الجهاد في الشام، فذهب إلى عمر يستأذنه بالخروج فقال له:

ألا تبقى يا بلال بجواري، كما كنت بجوار النبيّ صلى الله عليه و آله وبجوار أبي بكر؟

فقال بلال: أحنّ إلى الجهاد يا أمير المؤمنين، وأرى الجهاد من أفضل الأعمال.

فقال له عمر: لك ما تريد يا بلال.

وأذِن له، فخرج إلى الشام ولحق بجيش أبي عبيدة الجرّاح، وظلّ مجاهداً في سبيل اللَّه.

ويزور عمر بن الخطّاب الشام أثناء خلافته، ويلتقي مع بلال، ويتوسّل المسلمون إلى عمر أن يطلب من بلال ليؤذِّن لهم ولو بصلاة واحدة!

ولما حان وقت الصلاة، رجاه عمر أن يؤذِّن لها، واستجاب بلال لطلبه، وصعد بلال، فأرهف الناس سمعهم، وانطلق صوته النديُّ يسري كالنسيم، ويسمع الناس صوته للمرّة الأولى بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله، ولم يُرَ يوماً كان أكثر باكياً من


1- 1 سير أعلام النبلاء 1: 356.
2- 2 سير أعلام النبلاء 1: 356- 357.

ص: 195

يومئذٍ، ذكراً منهم للنبيّ صلى الله عليه و آله (1).

بلال عند علماء الرجال والحديث

كانت لبلال منزلة كبيرة ومرموقة عند علماء الرجال والحديث، ولم أجد- فيما تيسّر لي- قادحاً ذامّاً له أبداً، نذكر شيئاً ممّا قاله بعضهم فيه:

فقد قال عنه الشيخ الطوسي في رجاله:

شهد بدراً، وتوفي بدمشق، في الطاعون سنة (18)، كنيته أبو عبداللَّه، وقيل:

أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الكريم وهو بلال بن رباح، مدفون بباب الصغير بدمشق، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وقال عنه الكشي: كان بلال عبداً صالحاً.

وروى الصدوق في باب الأذان والإقامة من الفقيه:

... عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: إنّ بلالًا كان عبداً صالحاً، فقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فترك يومئذٍ (حي على خير العمل).

وروى أيضاً: أنّه لمّا قبض النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، امتنع بلال من الأذان، وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ فاطمة عليها السلام قالت ذات يوم: إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذِّن أبي صلى الله عليه و آله و سلم، فبلغ ذلك بلالًا، فأخذ في الأذان، فلمّا قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، ذكرت أباها عليه السلام وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه، شهقت فاطمة عليها السلام شهقةً، وسقطت لوجهها وغشي عليها.

فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال، فقد فارقت ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الدُّنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه ولم يتمّه.

فأفاقت فاطمة عليها السلام وسألته أن يتمّ الأذان، فلم يفعل، وقال لها: ياسيّدة النسوان، إنّي أخشى عليك ممّا تنزيلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته


1- 1 انظر سير أعلام النبلاء 1: 357.

ص: 196

عن ذلك (1).

وروى منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لمّا هبط جبرئيل عليه السلام بالأذان على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان رأسه في حجر علي عليه السلام، فأذّن جبرئيل عليه السلام وأقام، فلمّا انتبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، قال: يا علي سمعت؟

قال عليه السلام: نعم يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال: حفظت؟

قال: نعم.

قال: ادع بلالًا، فعلّمه.

فدعا بلالًا، فعلّمه (2).

هذا وقد ذكر الصدوق في الفقيه حديثاً طويلًا لبلال، يحدّث به عمّا سمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم حول المؤذِّنين، وظيفتهم، وأجرهم ... (3).

وعن المجلسي الأوّل أنّه قال: رأيت في بعض كتب أصحابنا عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام، وعن أبي البختري قال: حدّثنا عبداللَّه بن الحسن أنّ بلالًا أبى أن يبايع أبا بكر وأنّ عمر أخذ بتلابيبه، وقال له: يا بلال هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك، فلا تجي ء تبايعه.

فقال: إن كان قد أعتقني للَّه فليدعني للَّه، وإن كان أعتقني لغير ذلك، فها أنذا، وأمّا بيعته فما كنت أُبايع من لم يستخلفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، والذي استخلفه بيعته في أعناقنا إلى يوم القيامة.

فقال له عمر: لا أبا لك، لا تقم معنا، فارتحل إلى الشام وتوفي بدمشق ودفن بباب الصغير، وله شعر في هذا المعنى:


1- 1 من لا يحضره الفقيه، للصدوق 1: 298.
2- 2 انظر معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي 4: 270- 272.
3- 3 من لا يحضره الفقيه 1: 292- 297.

ص: 197

باللَّه لا بأبي بكر نجوت ولو لا اللَّه نامت على أوصالي الضبع

اللَّه بوّأني خيراً وأكرمني وإنّما الخير عند اللَّه يتبع

لا تلقيني تبوعاً كلّ مبتدع فلست مبتدعاً مثل الذي ابتدعوا (1)

ولابدّ لي من كلمة ولو قصيرة: إنّ ترك بلال المدينة والابتعاد إلى الشام يبدو أنّه لا يخلو من موقف من الوضع القائم بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وحتّى امتناعه من الأذان.

وختاماً

لم تكتب لهذا الصحابي الجليل الشهادة التي تمنّاها طويلًا، وسعى إليها سعياً حثيثاً أي مسرعاً حريصاً على أن ينالها فيلتحق بركبها، ركب الشهداء، إلّاأنّ السماء شاءت لهذا العبد الصالح أن يبقى متعلّقاً بوصالها، مشتاقاً لها... حتّى كان موعده مع الطاعون الذي اجتاح الشام يومذاك فقضى على حياة الكثير، وأُصيب به بلال سنة عشرين للهجرة فكانت وفاته بدمشق، وبعد أن أُصيب بلال به وتغيّر لونه وغارت عيناه، قالت له زوجته مواسيةً:

كيف حالك يا أبا عبداللَّه؟

فكان يقول لها: دنا الفراق.

فقالت له: واحزناه.. واحزناه..

وعندها، فتح بلال عينيه، وهو يصارع المرض ويجود بأنفاسه الأخيرة.

بل، وافرحتاه، غداً نلقي الأحبّة، محمّداً وصحبه!!

إذ حرمت يا بلال من الشهادة، وكنت حريصاً عليها حرصاً شهد لك به الجميع منذ لحظات إسلامك الأولى، فإنّك لم تحرم أجرها ومنزلتها عند مليكٍ مقتدر... دفن في مقبرة.. في دمشق بباب الصغير...

فسلام عليك عبداً صالحاً وفيّاً...

علل الحجّ في كتب الصدوق (3) ابواب علل الاحكام وغيرها


1- 1 انظر أعيان الشيعة 3: 603.

ص: 198

علل الحجّ في كتب الصدوق (3) ابواب علل الأحكام وغيرها

فارس حسّون كريم

17- باب علّة عدم عذوبة ماء زمزم في وقت دون وقت

1- عن ابن عقبة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: ذكر ماء زمزم، فقال: تجري إليها عين من تحت الحِجر، فإذا غلب ماء العين عذب ماء زمزم (1).

18- باب علّة تحريم المسجد والحرم، ووجوب الإحرام

1- عن العبّاس بن معروف، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

حرّم اللَّه المسجد لعلّة الكعبة، وحرّم الحرم لعلّة المسجد، ووجب الإحرام (2) لعلّة الحرم (3).


1- 1 المحاسن للبرقي 2: 400 ح 23، الكافي 6: 386 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 195 ضمن ح 2121، علل الشرائع: 415 ب 155 ح 1، روضة المتّقين 4: 22- 23، بحار الأنوار 99: 243 ح 4 و 5، مرآة العقول 22: 237 ح 2.
2- 2 أي للحجّ والعمرة.
3- 3 المحاسن للبرقي 2: 55 ح 91، من لا يحضره الفقيه 2: 195 ح 2122، علل الشرائع: 415 ب 156 ح 1، روضة المتّقين 4: 23، وسائل الشيعة 12: 314 ح 5، وج 13: 224 ح 5، بحار الأنوار 99: 43 ح 28 وص 134 ح 5.

ص: 199

2- عن عبداللَّه بن محمد الحجّال، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا (1).

3- عن حميد بن المثنّى العجليّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: كانت بنو إسرائيل إذا قرّبت القربان تخرج نار فتأكل قربان من قبل منه، وإنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل الإحرام مكان القربان (2). (3) 19- باب علّة التلبية

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته: لِمَ جعلت التلبية؟

فقال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا (4)

فنادى فاجيب من كلّ فجّ (5) عميق يلبّون (6).


1- 1 من لا يحضره الفقيه 2: 195 ح 2123، علل الشرائع: 415 ح 2، تهذيب الأحكام 2: 44 ح 7، روضة المتّقين 4: 24، وسائل الشيعة 4: 303 ح 1 وص 304 ح 3، بحار الأنوار 84: 50 ذ ح 4، ملاذ الأخيار 3: 435 ح 7.
2- 2 قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: روي أنّهم- أي بنو إسرائيل- كانوا إذا عبدوا اللَّه سنين قرّبوا قرباناً، فإن جاءت نار وأحرقت قربانهم علموا أنّ اللَّه تقبّل أعمالهم، فالمراد به انّ الإحرام في هذه الامّة علامة أو علّة لقبول الأعمال المتقدّمة أو مطلقاً. وقال ابنه العلّامة محمد باقر المجلسي رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد انّ الإحرام بمنزلة تقريب القربان، وذبح الهدي بمنزلة قبولها، أو المراد انّ الإحرام مع سياق الهدي بمنزلة القربان.
3- 3 الكافي 4: 335 ح 16، من لا يحضره الفقيه 2: 203 ح 2139، علل الشرائع: 15 ح 43، روضة المتّقين 4: 45، وسائل الشيعة 12: 313 ح 1، بحار الأنوار 99: 134 ح 6، مرآة العقول 17: 265 ح 16.
4- 4 سورة الحجّ: 27.
5- 5 الفجّ: الطريق الواسع البعيد.
6- 6 الكافي 4: 335 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 195 ذ ح 2123، علل الشرائع: 416 ب 157 ح 1، روضة المتّقين 4: 24، وسائل الشيعة 12: 374 ح 1، بحار الأنوار 12: 107 ح 20، وج 99: 184 ح 11، مرآة العقول: 17: 265 ح 1.

ص: 200

2- عن عبد الكريم الحلبيّ (1)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت:

فلِمَ جعل التلبية؟

قال عليه السلام: لأنّ اللَّه قال لإبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ فصعد إبراهيم عليه السلام على تلّ، فنادى وأسمع، فاجيب من كلّ وجه (2).

3- عن سليمان بن جعفر، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن التلبية وعلّتها، فقال:

إنّ الناس إذا أحرموا ناداهم اللَّه تعالى ذكره، فقال: عبادي وإمائي لأحرمنّكم على النار كماأحرمتم لي، فيقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، إجابة للَّه عزّوجلّ على ندائه إيّاهم (3).

4- عن الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ ابن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: جاء رجل إلى الرضا عليه السلام، فقال: ياابن رسول اللَّه، أخبرني عن قول اللَّه عزّوجلّ: الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (4)

ما تفسيره؟

فقال: لقد حدّثني أبي، عن جدّي، عن الباقر، عن زين العابدين، عن أبيه عليهم السلام أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن قول اللَّه عزّوجلّ: الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ما تفسيره؟

فقال: الْحَمْدُ للَّهِ هو أن عرّف اللَّه عباده بعض نعمه عليهم جملًا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال لهم: قولوا: الحمد للَّه على ما أنعم به علينا ربّ العالمين، وهم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات.


1- 1 لعلّ الصحيح: عبد الكريم، عن الحلبيّ.
2- 2 المحاسن للبرقيّ 2: 56 ح 93، مستطرفات السرائر: 35 ح 44، وسائل الشيعة 11: 238 ح 37، بحار الأنوار 99: 43 ضمن ح 29.
3- 3 من لا يحضره الفقيه 2: 196 صدر ح 2124، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 83 ح 21، علل الشرائع: 416 ح 2، روضة المتّقين 4: 25، وسائل الشيعة 12: 375 ح 3، بحار الأنوار 99: 184 ح 10.
4- 4 سورة الفاتحة: 1.

ص: 201

أمّا الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته، ويغذوها من رزقه، ويحوطها بكَنَفِهِ (1)، ويدبّر كلّاً منها بمصلحته.

وأمّا الجمادات فهو يمسكها بقدرته، يمسك المتّصل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت (2) منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلّابإذنه، ويمسك الأرض أن تنخسف إلّابأمره، إنّه بعباده لرؤوف رحيم.

قال عليه السلام: رَبِّ الْعَالَمِينَ مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم، من حيث هم يعلمون، ومن حيث لا يعلمون، والرزق مقسوم، وهو يأتي ابن آدم على أيّ سيرة سارها من الدنيا، ليس تقوى متّقي بزائدة، ولا فجور فاجر بناقصة، وبيننا وبينه ستر وهو طالبه، ولو أنّ أحدكم يفرّ من رزقه لطلبه رزقه كما يطلبه الموت.

فقال اللَّه جلّ جلاله: قولوا: الحمد للَّه على ما أنعم به علينا، وذكّرنا به من خير في كتب الأوّلين قبل أن نكون.

ففي هذا إيجاب على محمّد وآل محمّد وعلى شيعتهم أن يشكروه بما فضلهم، وذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لمّا بعث اللَّه عزّوجلّ موسى بن عمران عليه السلام واصطفاه نجيّاً وفلق له البحر ونجّى بني إسرائيل، وأعطاه التوراة والألواح، ورأى مكانه من ربّه عزّوجلّ فقال: ياربّ، لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحداً قبلي.

فقال اللَّه جلّ جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ محمّداً أفضل عندي من جميع ملائكتي وجميع خلقي؟

قال موسى عليه السلام: ياربّ، فإن كان محمد أكرم عندك من جميع خلقك فهل في آل الأنبياء أكرم من آلي؟

قال اللَّه جلّ جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ فضل آل محمد على جميع النبيّين


1- 1 أي يحفظها ويصونها ويذبّ عنها.
2- 2 التهافت: التساقط قطعة قطعة. «الصحاح 1: 271- هفت-».

ص: 202

كفضل محمّد على جميع المرسلين؟

فقال موسى عليه السلام: ياربّ، فإن كان آل محمد كذلك فهل في امم الأنبياء أفضل عندك من امّتي، ظلّلت عليهم الغمام (1)، وأنزلت عليهم المنّ والسلوى (2)، وفلقت لهم البحر؟

فقال اللَّه جلّ جلاله: يا موسى، أما علمت أنّ فضل امّة محمد على جميع الامم كفضله على جميع خلقي؟

فقال موسى عليه السلام: ياربّ، ليتني كنت أراهم.

فأوحى اللَّه عزّوجلّ إليه: يا موسى، إنّك لن تراهم، وليس هذا أوان ظهورهم، ولكن سوف تراهم في الجنان جنّات عدن والفردوس بحضرة محمّد في نعيمها يتقلّبون، وفي خيراتها يتبحبحون (3)، أفتحبّ أن اسمعك كلامهم؟

قال: نعم، يا إلهي.

قال اللَّه جلّ جلاله: قم بين يديّ، واشدد مئزرك قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، ففعل ذلك موسى عليه السلام فنادى ربّنا عزّوجلّ: يا امّة محمّد، فأجابوه كلّهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام امّهاتهم: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

قال: فجعل اللَّه عزّوجلّ تلك الإجابة منهم شعار الحجّ.

ثمّ نادى ربّنا تعالى: يا امّة محمّد، إنّ قضائي عليكم أن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي قبل عقابي، فقد استجبت لكم من قبل أن تدعوني، وأعطيتكم من قبل أن


1- 1 الغَمام: السحاب الأبيض: «مجمع البحرين 6: 128- غمم-».
2- 2 المنّ: شي ء حلو، كان يسقط من السماء على شجرهم فيجتنونه، ويقال: ما منّ اللَّه به على العباد بلا تعب ولا عناء. «مجمع البحرين 6: 318- منن-». والسلوى: طائر. «الصحاح 6: 2380- سلا-».
3- 3 التبحبح: التمكّن في الحلول والمُقام. «الصحاح 1: 354- بحح-». وفي بعض المصادر: يتبجّحون: أي يتنعّمون.

ص: 203

تسألوني، من لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صادق في أقواله، محقّ في أفعاله، وأنّ عليّ بن أبي طالب أخوه ووصيّه من بعده ووليّه، ملتزم طاعته كما يلزم طاعة محمّد، وأنّ أولياءه المصطفين المطهّرين المباينين (1) بعجائب آيات اللَّه ودلائل حجج اللَّه من بعدهما أولياؤه، أدخله جنّتي وإن كانت ذنوبه مثل زبد البحر.

قال: فلمّا بعث اللَّه تعالى محمّداً صلى الله عليه و آله قال: يا محمّد، وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا (2)

امّتك بهذه الكرامة، ثمّ قال عزّوجلّ لمحمّد: قل: الحمد للَّه ربّ العالمين على ما اختصّني به من هذه الفضيلة، وقال لُامّته وقولوا أنتم: الحمد للَّه ربّ العالمين على ما اختصّنا به من هذه الفضائل (3).

5- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: أحرم موسى عليه السلام من رملة مصر، ومرّ بصفائح الروحاء (4) محرماً يقود ناقته بخطام من ليف فلبّى تجيبه الجبال (5). (6)


1- 1 اختلف ضبطها في المصادر، فجاءت بهذه الصور: الميامين، المنبئين، المبلغين. والمباينة المفارقة. فالمراد: المفارقين والممتازين عن الخلق بعجائب اللَّه.
2- 2 سورة القصص: 46.
3- 3 التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام: 30- 33 ح 11، من لا يحضره الفقيه 2: 327 ح 2586، علل الشرائع: 416 ح 3، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 282 ح 30، بشارة المصطفى: 212- 214، تأويل الآيات 1: 418 ح 12، روضة المتّقين 4: 373- 374، وسائل الشيعة 12: 384 ح 5، تفسير البرهان 1: 111 ح 18، وج 4: 269 ح 4، بحار الأنوار 13: 340 ح 18، وج 26: 274 ح 17، وج 92: 224 ح 2 وص 245- 248 ضمن ح 48، وج 99: 185 ح 16.
4- 4 قال المجلسي رحمه الله: موضع بين الحرمين على ثلاثين أو أربعين ميلًا من المدينة. وصفح الشي ء ناحيته، وصفح الجبل مضطجعه، والجمع صفاح، ويمكن أن يكون المراد بصفاح الروحاء مضطجعها أي منخفضها وأن يكون اسماً للموضع باعتبارها، والخطام: الزمام.
5- 5 أي حقيقة بالإعجاز، أو هو كناية عن رفع الصوت.
6- 6 الكافي 4: 213 ح 5، من لا يحضره الفقيه 2: 234 صدر ح 2283، علل الشرائع: 418 ح 5، روضة المتّقين 4: 115، وسائل الشيعة 12: 314 ح 2 وص 376 ح 5، بحار الأنوار 13: 11 ح 14، وج 99: 185 ح 13، مرآة العقول 17: 53 ح 5.

ص: 204

6- عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: مرّ موسى بن عمران عليه السلام في سبعين نبيّاً على فجاج الروحاء (1)- على جمل أحمر خطامه ليف- عليهم العباء القَطَوانيّة (2) يقول: لبّيك عبدك وابن عبدك لبّيك (3).

7- عن هشام بن الحكم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: مرّ موسى النبيّ عليه السلام بصفائح الروحاء على جمل أحمر خطامه من ليف عليه عباءتان قطوانيتان وهو يقول: لبّيك يا كريم لبّيك.

ومرّ يونس بن متّى عليه السلام بصفائح الروحاء وهو يقول: لبّيك كشّاف الكرب العظام لبّيك.

ومرّ عيسى بن مريم عليه السلام بصفائح الروحاء وهو يقول: لبّيك عبدك وابن أمتك لبّيك.

ومرّ محمّد صلى الله عليه و آله بصفائح الروحاء وهو يقول: لبّيك ذا المعارج لبّيك (4).

20- باب علّة من يحجّ من الناس حجّة، وفيهم من يحجّ حجّتين أو أكثر، وفيهم من لا يحجّ أبداً

1- عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لمّا أمر اللَّه عزّوجلّ إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتمّ بناؤه أمره أن يصعد ركناً ثمّ ينادي في الناس: ألا هلمّ الحجّ هلمّ الحجّ، فلو نادى: هلمّوا إلى الحجّ لم يحجّ إلّامن كان يومئذ إنسيّاً مخلوقاً


1- 1 الفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق الواسع بين الجبلين.
2- 2 عباءة بيضاء قصيرة الخمل، نسبة إلى قطوان، موضع بالكوفة.
3- 3 الكافي 4: 213 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 234 ذيل ح 2283، علل الشرائع: 418 ح 6، روضة المتّقين 4: 115، وسائل الشيعة 12: 385 ح 7، بحار الأنوار 13: 10 ح 12، وج 99: 185 ح 14، مرآة العقول 17: 51 ح 3.
4- 4 الكافي 4: 213 ح 4، من لا يحضره الفقيه 2: 234 ح 2284، علل الشرائع: 419 ح 7، روضة المتّقين 4: 115، وسائل الشيعة 12: 385 ح 6، بحار الأنوار 13: 10 ح 13، وج 14: 247 ح 28 وص 255 ح 50 وص 386 ح 5، وج 99: 185 ح 15، مرآة العقول 17: 52 ح 4.

ص: 205

ولكنّه نادى: هلمّ الحجّ فلبّى الناس في أصلاب الرجال: لبّيك داعي اللَّه، لبّيك داعي اللَّه، فمن لبّى عشراً حجّ عشراً، ومن لبّي خمساً حجّ خمساً، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك، ومن لبّى واحداً حجّ واحداً، ومن لم يلبّ لم يحجّ (1).

2- عن غالب بن عثمان، عن رجل من أصحابنا، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

إنّ اللَّه جلّ جلاله لمّا أمر إبراهيم عليه السلام ينادي في الناس بالحجّ قام على المقام فارتفع به حتّى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحجّ، فأسمع مَنْ في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة (2).

3- عن عليّ بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: من لم يكتب له في الليلة التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم لم يحجّ تلك السنة وهي ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان، لأنّ فيها يكتب وفد الحاجّ، وفيها يكتب الأرزاق والآجال وما يكون من السنة إلى السنة.

قال: قلت: فمن لم يكتب في ليلة القدر لم يستطع الحجّ.

فقال: لا.

قلت: كيف يكون هذا؟

قال: لست في خصومتكم من شي ء هكذا الأمر(3).

21- باب العلّة التي من أجلها صار مقدار الحرم على ما هو

1- عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطيّ، قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الحرم وأعلامه كيف صار بعضها أقرب من بعض، وبعضها أبعد من بعض؟


1- 1 الكافي 4: 206 ح 6، من لا يحضره الفقيه 2: 199 ذيل ح 2133 وص 232، علل الشرائع: 419 ب 158 ح 1، روضة المتّقين 4: 34 وص 109، وسائل الشيعة 11: 10 ح 9، بحار الأنوار 12: 105 ح 17، وج 99: 187 ح 18، مرآة العقول 17: 40 ح 6.
2- 2 علل الشرائع: 419 ح 2، وسائل الشيعة 11: 15 ح 19، بحار الأنوار 12: 106 ح 18، وج 99: 188 ح 19.
3- 3 علل الشرائع: 420 ح 3، بحار الأنوار 97: 17 ح 37.

ص: 206

فقال: إنّ اللَّه تعالى لمّا أهبط آدم من الجنّة أهبطه على أبي قبيس (1)، فشكا إلى ربّه عزّوجلّ الوحشة، وأنّه لا يسمع ما كان يسمع في الجنّة، فأهبط اللَّه تعالى عليه ياقوتة حمراء فوضعها في موضع البيت، فكان يطوف بها آدم عليه السلام، وكان ضؤوها يبلغ موضع الأعلام، فعلّمت الأعلام على ضوئها، فجعله اللَّه عزّوجلّ حرماً (2).

2- عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن آبائه عليهم السلام، أنّ اللَّه تعالى أوحى إلى جبرئيل عليه السلام: أنا اللَّه الرحمان الرحيم، إنّي قد رحمت آدم وحوّاء لمّا شكيا فأهبط عليهما بخيمة من خيم الجنّة فإنّي قد رحمتهما لبكائهما ووحشتهما ووحدتهما فأضرب الخيمة على الترعة (3) التي بين جبال مكّة.

قال: والترعة مكان البيت وقواعده التي رفعتها الملائكة قبل آدم، فهبط جبرئيل على آدم عليه السلام بالخيمة على مقدار مكان البيت وقواعده فنصبها.

قال: وأنزل جبرئيل عليه السلام آدم من الصفا وأنزل حوّاء من المروة وجمع بينهما في الخيمة.

قال: وكان عمود الخيمة قضيباً من ياقوت أحمر فأضاء نوره وضوؤه جبال مكّة وما حولها.

قال: فامتدّ ضوء العمود فهو مواضع الحرم اليوم من كلّ ناحية من حيث بلغ ضوؤه.

قال: فجعله اللَّه تعالى حرماً لحرمة الخيمة والعمود لأنّها من الجنّة. قال:


1- 1 لعلّ المراد به الصفا لأنّه جزء من أبي قبيس، أو لأنّه نزل أوّلًا على الصفا ثمّ صعد الجبل.
2- 2 قرب الاسناد: 360 ح 1290، الكافي 4: 195 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 192، علل الشرائع: 420 ب 159 ح 1 و 2 وص 422 ح 4، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 284 ح 31 وص 285 ح 32، تهذيب الأحكام 5: 448 ح 208، روضة المتّقين 4: 9- 11، وسائل الشيعة 13: 221 ح 1، بحار الأنوار 11: 213 ح 23، وج 99: 72 ح 2- 4 وص 73 ح 5 و 6، مرآة العقول 17: 18 ح 1، ملاذ الأخيار 8: 482 ح 208.
3- 3 الترعة: الروضة في مكان مرتفع، أو مسيل الماء إلى الروضة. وفي بعض المصادر: النزعة: وهو موضع انحسار الشعر من جانبي الجبهة، فتكون كناية عن المكان الخالي عن الأشجار تشبيهاً بنزعة الرأس.

ص: 207

ولذلك جعل اللَّه تعالى الحسنات في الحرم مضاعفات والسيّئات مضاعفة.

قال: ومدّت أطناب الخيمة حولها فمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام.

قال: وكانت أوتادها صخراً من عقيان (1) الجنّة وأطنابها من ضفائر الأرجوان.

قال: وأوحى اللَّه تعالى إلى جبرئيل عليه السلام بعد ذلك: أهبط على الخيمة بسبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الشيطان ويؤنسون آدم ويطوفون حول الخيمة تعظيماً للبيت والخيمة.

قال: فهبط بالملائكة فكانوا بحضرة الخيمة يحرسونها من مردة الشيطان ويطوفون حول أركان البيت والخيمة كلّ يوم وليلة كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور.

قال: وأركان البيت الحرام في الأرض حيال البيت المعمور الذي في السماء.

قال: ثمّ إنّ اللَّه تبارك وتعالى أوحى إلى جبرئيل عليه السلام بعد ذلك أن اهبط إلى آدم وحوّاء فنحّهما عن موضع قواعد بيتي وارفع قواعد بيتي ولملائكتي لخلقي من ولد آدم، فهبط جبرئيل عليه السلام على آدم وحوّاء فأخرجهما من الخيمة ونحّاهما عن ترعة البيت ونحّى الخيمة عن موضع الترعة.

قال: ووضع آدم على الصفا وحوّاء على المروة فقال آدم عليه السلام: يا جبرئيل، أبسخط من اللَّه تعالى جلّ ذكره حوّلتنا وفرّقت بيننا أم برضا وتقدير علينا؟

فقال لهما: لم يكن بسخط من اللَّه تعالى ذكره عليكما ولكنّ اللَّه تعالى لا يسئل عمّا يفعل. يا آدم، إنّ السبعين ألف ملك الّذين أنزلهم اللَّه تعالى إلى الأرض ليؤنسوك ويطوفوا حول أركان البيت والخيمة سألوا اللَّه تعالى أن يبني لهم مكان الخيمة بيتاً


1- 1 العِقيان من الذهب: الخالص. يقال: هو ما ينبت نباتاً في معدنه وليس ممّا يحصَّل من الحجارة. «الصحاح 6: 2433- عقا-».

ص: 208

على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور، فأوحى اللَّه تبارك وتعالى إليّ أن انحّيك وأرفع الخيمة.

فقال آدم عليه السلام: رضينا بتقدير اللَّه تعالى ونافذ أمره فينا، فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصفا، وحجر من المروة، وحجر من طور سيناء، وحجر من جبل السلام وهو ظهر الكوفة، فأوحى اللَّه تعالى إلى جبرئيل عليه السلام أن ابنه وأتمّه، فاقتلع جبرئيل عليه السلام الأحجار الأربعة بأمر اللَّه تعالى من مواضعها بجناحه فوضعها حيث أمره اللَّه تعالى في أركان البيت على قواعدها الّتي قدّرها الجبّار جلّ جلاله ونصب أعلامها، ثمّ أوحى اللَّه إلى جبرئيل: ابنه وأتمّه من حجارة من أبي قبيس واجعل له بابين باباً شرقاً وباباً غرباً.

قال: فأتمّه جبرئيل، فلمّا فرغ طافت الملائكة حوله، فلمّا نظر آدم وحوّاء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا سبعة أشواط ثمّ خرجا يطلبان ما يأكلان (1).

22- باب علّة تأثير قدمي إبراهيم عليه السلام في المقام، وعلّة تحويل المقام من مكانه إلى حيث هو الساعة

1- عن عمّار بن موسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام. أو عن عمّار، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لمّا أوحى اللَّه تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن أذّن في الناس بالحجّ أخذ الحجر الّذي فيه أثر قدميه وهو المقام فوضعه بحذاء البيت لاصقاً بالبيت بحيال الموضع الّذي هو فيه اليوم، ثمّ قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره اللَّه تعالى به، فلمّا تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه، فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعاً، فلمّا كثر الناس وصاروا إلى الشرّ والبلاء ازدحموا عليه،


1- 1 علل الشرائع: 420 ب 159 ح 3، بحار الأنوار 11: 208 ح 11، وج 99: 70 ح 1.

ص: 209

فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الذي هو فيه اليوم ليخلو المطاف لمن يطوف بالبيت، فلمّا بعث اللَّه تعالى محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام، فما زال فيه حتّى قبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وفي زمن أبي بكر وأوّل ولاية عمر، ثمّ قال عمر: قد ازدحم الناس على هذا المقام، فأيّكم يعرف موضعه في الجاهليّة؟

فقال له رجل: أنا أخذت قدره بقدر.

قال: والقدر عندك؟

قال: نعم.

قال: فائت به، فجاء به فأمر بالمقام فحمل وردّ إلى الموضع الّذي هو فيه الساعة (1).

23- باب علّة استلام الحجر الأسود، وعلّة استلام الركن اليمانيّ والمستجار

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته: لِمَ يستلم الحجر؟

قال: لأنّ مواثيق الخلائق فيه.

وفي حديث آخر: قال: لأنّ اللَّه تعالى لمّا أخذ مواثيق العباد أمر الحجر فالتقمها، فهو يشهد لمن وافاه بالموافاة (2).

2- عن محمّد بن سنان، أنّ أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام كتب إليه- فيما كتب من جواب مسائله علّة استلام الحجر-: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لمّا أخذ مواثيق بني آدم التقمه الحجر، فمن ثمّ كلّف الناس بمعاهدة ذلك الميثاق، ومن ثمّ يقال عند الحجر: أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، لتشهد


1- 1 علل الشرائع: 423 ب 160 ح 1، بحار الأنوار 99: 232 ح 1.
2- 2 المحاسن للبرقيّ 2: 55 ح 93، تفسير العيّاشي 2: 39 ح 106، الكافي 4: 184 ح 2، علل الشرائع: 423 ب 161 ح 1، مستطرفات السرائر 34: ح 42، وسائل الشيعة 13: 317 ح 4 وص 319 ح 8 و 9، بحار الأنوار 99: 43 ح 29 و 30 وص 219 ح 4 و 5 وص 227 ح 28، مرآة العقول 17: 4 ح 2.

ص: 210

لي بالموافاة.

ومنه قول سلمان رضى الله عنه: ليجيئنّ الحجر يوم القيامة مثل جبل أبي قبيس له لسان وشفتان، يشهد لمن وافاه بالموافاة (1).

3- عن محمد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: طوفوا بالبيت واستلموا الركن فإنّه يمين اللَّه في أرضه يصافح بها خلقه مصافحة العبد أو الدخيل ويشهد لمن استلمه بالموافاة (2). (3) 4- عن يونس، عمّن ذكره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن الملتزم لأيّ شي ء يلتزم وأيّ شي ء يذكر فيه؟ فقال: عنده نهر من الجنّة يلقى فيه أعمال العباد كلّ خميس (4).

5- عن أبي بصير وزرارة ومحمد بن مسلم، كلّهم عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

إنّ اللَّه تعالى خلق الحجر الأسود، ثمّ أخذ الميثاق على العباد، ثمّ قال للحجر: التقمه، والمؤمنون يتعاهدون ميثاقهم (5).


1- 1 علل الشرائع: 424 ح 2، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 91 ح 1، وسائل الشيعة 13: 318 ح 7، بحار الأنوار 99: 219- 220 ح 6 و 7.
2- 2 قال الشيخ الصدوق رحمه الله: معنى يمين اللَّه طريق اللَّه الذي يؤخذ به المؤمنون إلى الجنّة، ولهذا قال الصادق عليه السلام: «إنّه بابنا الذي ندخل منه الجنّة» ولهذا قال عليه السلام: «إنّ فيه باباً من أبواب الجنّة لم يغلق منذ فتح، وفيه نهر من الجنّة تلقى فيه أعمال العباد وهذا هو الركن اليمانيّ لا ركن الحجر. وقال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: ظاهر الخبر أنّ المراد به الركن الّذي فيه الحجر، لكنّ الصدوق حمله على الركن اليمانيّ ... ولا منافاة بينهما، إذ لا يبعد أن يكون هذا المعنى في كلّ واحد منهما، على أنّ الأخبار المتظافرة واردة بأنّ الحجر يمين اللَّه في أرضه.
3- 3 من لا يحضره الفقيه 2: 208 ح 2163، علل الشرائع: 424 ح 3، روضة المتّقين 4: 56، وسائل الشيعة 13: 339 ح 8 و 9، بحار الأنوار 99: 220 ح 8.
4- 4 الكافي 4: 525 ح 3، علل الشرائع: 424 ح 4، وسائل الشيعة 13: 347 ح 7، بحار الأنوار 99: 220 ح 10، مرآة العقول 18: 222 ح 3.
5- 5 علل الشرائع: 424 ح 5، وسائل الشيعة 13: 319 ح 10، بحار الأنوار 99: 221 ح 11.

ص: 211

6- عن عبداللَّه بن سنان، قال: بينا نحن في الطواف إذ مرّ رجل من آل عمر فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره وأغلظ له وقال له: بطل حجّك، إنّ الّذي تستلمه حجر لا ينفع ولا يضرّ، فقلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك، أما سمعت قول العمريّ لهذا الّذي استلم الحجر فأصابه ما أصابه؟

فقال: وما الّذي قال؟

قلت: قال له: يا عبد اللَّه، بطل حجّك، ثمّ إنّما هو حجر لا يضرّ ولا ينفع.

فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: كذب ثمّ كذب ثمّ كذب، إنّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة، ثمّ قال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لمّا خلق السماوات والأرض خلق بحرين بحراً عذباً وبحراً اجاجاً فخلق تربة آدم من البحر العذب وشنّ عليها من البحر الاجاج، ثمّ جبل آدم فعرك عرك الأديم فتركه ما شاء اللَّه، فلمّا أراد أن ينفخ فيه الروح أقامه شبحاً فقبض قبضة من كتفه الأيمن فخرجوا كالذرّ، فقال:

هؤلاء إلى الجنّة، وقبض قبضة من كتفه الأيسر، وقال: هؤلاء إلى النار. فأنطق اللَّه تعالى أصحاب اليمين وأصحاب اليسار، فقال أهل اليسار: ياربّ، لِمَ خلقت لنا النار ولم تبيّن لنا ولم تبعث إلينا رسولًا؟

فقال اللَّه عزّوجلّ لهم: ذلك لعلمي بما أنتم صائرون إليه وإنّي سأُبليكم، فأمر اللَّه تعالى النار فأسعرت، ثمّ قال لهم: تقحّموا جميعاً في النار فإنّي أجعلها عليكم برداً وسلاماً.

فقالوا: ياربّ، إنّما سألناك لأيّ شي ء جعلتها لنا هرباً منها ولو أمرت أصحاب اليمين ما دخلوا، فأمر اللَّه عزّوجلّ النار فأسعرت، ثمّ قال لأصحاب اليمين: تقحّموا جميعاً في النار، فتقحّموا جميعاً فكانت عليهم برداً وسلاماً، فقال لهم جميعاً: ألست بربّكم؟

قال أصحاب اليمين: بلى- طوعاً-، وقال أصحاب الشمال: بلى- كرهاً-، فأخذ منهم جميعاً ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم، قال: وكان الحجر في الجنّة فأخرجه

ص: 212

اللَّه عزّوجلّ فالتقم الميثاق من الخلق كلّهم، فذلك قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (1)

فلمّا أسكن اللَّه تعالى آدم الجنّة وعصى أهبط اللَّه تعالى الحجر فجعله في ركن بيته وأهبط آدم على الصفا فمكث ما شاء اللَّه، ثمّ رآه في البيت فعرفه وعرف ميثاقه وذكره، فجاء إليه مسرعاً فأكبّ عليه، وبكى عليه أربعين صباحاً تائباً من خطيئته ونادماً على نقضه ميثاقه.

قال: فمن أجل ذلك امرتم أن تقولوا إذا استلمتم الحجر: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة (2).

7- عن عبداللَّه بن أبي يعفور، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها في الميثاق ائتلف هاهنا، وما تناكر منها في الميثاق هو في هذا الحجر الأسود، أما واللَّه إنّ له لعينين واذنين وفماً ولساناً ذلقاً، ولقد كان أشدّ بياضاً من اللبن، ولكنّ المجرمين يستلمونه والمنافقين فبلغ كمثل ما ترون (3).

8- عن علي بن حسّان الواسطي، عن عمّه عبد الرحمان بن كثير الهاشمي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: مرّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود، فقال: واللَّه يا حجر، إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، إلّاأنّا رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحبّك فنحن نحبّك.

فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: كيف يابن الخطّاب، فواللَّه ليبعثنّه اللَّه يوم القيامة وله لسان وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمين اللَّه عزّوجلّ في أرضه يبايع بها خلقه.

فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلد لا يكون فيه عليّ بن أبي طالب (4).


1- 1 سورة آل عمران: 83.
2- 2 علل الشرائع: 425 ح 6، وسائل الشيعة 13: 320 ح 11، بحار الأنوار 5: 245 ح 35، وج 99: 217 ح 2.
3- 3 علل الشرائع: 426 ح 7، وسائل الشيعة 13: 320 ح 12، بحار الأنوار 61: 139 ح 17، وج 68: 206، وج 99: 220 ح 9.
4- 4 علل الشرائع: 426 ح 8، وسائل الشيعة 13: 320 ح 13، بحار الأنوار 99: 221 ح 12.

ص: 213

9- عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: أتدري لأيّ شي ء صار الناس يلثمون الحجر؟

قلت: لا.

قال: إنّ آدم عليه السلام شكا إلى ربّه عزّوجلّ الوحشة في الأرض، فنزل جبرئيل عليه السلام بياقوتة من الجنّة كان آدم إذا مرّ عليها في الجنّة ضربها برجله، فلمّا رآها عرفها فبادر يلثمها، فمن ثمّ صار الناس يلثمون الحجر (1).

10- عن ابن عبّاس أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال لعائشة وهي تطوف معه بالكعبة حين استلما الركن وبلغا إلى الحجر: يا عائشة، لولا ما طبع اللَّه على هذا الحجر من أرجاس الجاهليّة وأنجاسها إذاً لاستشفي به من كلّ عاهة، وإذاً لُالفي كهيئة يوم أنزله اللَّه تعالى، وليبعثنّه اللَّه على ما خلق عليه أوّل مرّة، وإنّه لياقوتة بيضاء من ياقوت الجنّة، ولكنّ اللَّه عزّوجلّ غيّر حسنه بمعصية العاصين، وسترت بنيّته عن الأئمّة والظلمة لأنّه لا ينبغي لهم أن ينظروا إلى شي ء بدؤه من الجنّة، لأنّ من نظر إلى شي ء منها على جهته وجبت له الجنّة، وإنّ الركن يمين اللَّه تعالى في الأرض، وليبعثنّه اللَّه يوم القيامة وله لسان وشفتان وعينان، ولينطقنّه اللَّه يوم القيامة بلسان طلق ذلق ليشهد لمن استلمه بحقّ، استلامه اليوم بيعة لمن لم يدرك بيعة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وذكر وهب أنّ الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة انزلا فوضعا على الصفا فأضاء نورهما لأهل الأرض ما بين المشرق والمغرب كما يضي ء المصباح في الليل المظلم، يؤمن الروعة ويستأنس إليهما، وليبعثنّ الركن والمقام وهما في العظم مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة، فرفع النور عنهما وغيّر حسنهما ووضعا حيث هما (2).


1- 1 علل الشرائع: 426 ح 9، وسائل الشيعة 13: 321 ح 14، بحار الأنوار 99: 221 ح 13.
2- 2 علل الشرائع: 427 ح 10، بحار الأنوار 99: 219 ح 3.

ص: 214

24- باب العلّة التي من أجلها صار الحجر أسود بعدما كان أبيض، والعلّة التي من أجلها لا يبرأ ذو عاهة يمسّه الآن

1- عن حريز بن عبداللَّه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: كان الحجر الأسود أشدّ بياضاً من اللبن، فلولا ما مسّه من أرجاس الجاهليّة ما مسّه ذو عاهة إلّا برئ (1).

2- عن عبداللَّه بن أبي يعفور، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه ذكر الحجر، فقال: أما إنّ له عينين وأنفاً ولساناً، ولقد كان أشدّ بياضاً من اللبن، أما إنّ المقام كان بتلك المنزلة (2).

25- باب العلّة التي من أجلها صار الناس يستلمون الحجر والركن اليماني ولا يستلمون الركنين الآخرين، والعلّة التي من أجلها صار مقام إبراهيم عليه السلام على يسار العرش

1- عن يزيد بن معاوية العجليّ، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: كيف صار الناس يستلمون الحجر والركن اليمانيّ ولا يستلمون الركنين الآخرين؟

فقال: قد سألني عن ذلك عبّاد بن صهيب البصريّ، فقلت له: لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله استلم هذين ولم يستلم هذين، فإنّما على الناس أن يفعلوا ما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وساخبرك بغير ما أخبرت به عبّاداً، إنّ الحجر الأسود والركن اليمانيّ عن يمين العرش، وإنّما أمر اللَّه تبارك وتعالى أن يستلم ما عن يمين عرشه.

قلت: فكيف صار مقام إبراهيم عن يساره؟

فقال: لأنّ لإبراهيم عليه السلام مقاماً في القيامة ولمحمّد صلى الله عليه و آله مقاماً، فمقام محمّد عن يمين


1- 1 من لا يحضره الفقيه 2: 192 ذ ح 2114، علل الشرائع: 427 ب 162 ح 1، روضة المتّقين 4: 11- 12، وسائل الشيعة 13: 318 ح 6، بحار الأنوار 99: 221 ح 14.
2- 2 علل الشرائع: 428 ب 162 ح 2، روضة المتّقين 4: 12، بحار الأنوار 99: 221 ح 15.

ص: 215

عرش ربّنا عزّوجلّ، ومقام إبراهيم عن شمال عرشه، فمقام إبراهيم في مقامه يوم القيامة، وعرش ربّنا مقبل غير مدبر (1). (2) 2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: بينا أنا في الطواف إذا رجل يقول: ما بال هذين الركنين يمسحان- يعني الحجر والركن اليمانيّ- وهذين لا يمسحان؟

قال: فقلت: لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يمسح هذين، ولم يمسح هذين، فلا نتعرّض لشي ء لم يتعرّض له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (3).

3- عن جعفر بن محمد الكوفيّ، عن رجل من أصحابنا، رفعه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لمّا انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الركن الغربيّ قال له الركن: يا رسول اللَّه، ألستُ قعيداً من قواعد بيت ربّك؟ فما لي لا استلم؟

فدنا منه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقال له: اسكن عليك السلام غير مهجور (4).


1- 1 قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: حاصله أنّه ينبغي أن يتصوّر أنّ البيت بإزاء العرش وحذائه في الدنيا وفي القيامة، وينبغي أن يتصوّر أنّ البيت بمنزلة رجل وجهه إلى الناس ووجهه طرف الباب، فإذا توجّه إلى البيت يكون المقام إلى جانب اليمين والحجر إلى يسار المتوجّه، لكن الحجر يمين البيت والمقام يساره، وكذا العرش الآن ويوم القيامة والحجر بمنزلة مقام نبيّنا صلى الله عليه و آله، والركن اليماني بمنزلة مقام أئمّتنا عليهم السلام. وكما أنّ مقام النبيّ والأئمّة صلوات اللَّه عليهم في الدنيا في يمين البيت وبإزاء يمين العرش؛ كذلك يكون في الآخرة، لأنّ العرش مقبل وجهه إلينا غير مدبر، لأنّه لو كان مدبراً لكان اليمين لإبراهيم عليه السلام واليسار للنبيّ والأئمّة عليهم السلام. هذا تفسير الخبر بحسب الظاهر. ويمكن أن يكون إشارة إلى علوّ رتبة نبيّنا صلى الله عليه و آله ورفعته وأفضليّته على رتبة إبراهيم الذي هو أفضل الأنبياء بعد النبي والأئمّة صلوات اللَّه عليهم ...
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 192 ذيل ح 2115 وصدر ح 2116، علل الشرائع: 428 ب 163 ح 1، روضة المتّقين 4: 13- 14، وسائل الشيعة 13: 340 ح 12، بحار الأنوار 7: 339 ح 34، وج 60: 10، وج 99: 222 ح 16.
3- 3 علل الشرائع: 428 ب 163 ح 2، وسائل الشيعة 13: 340 ح 13، بحار الأنوار 99: 222 ح 17.
4- 4 علل الشرائع: 429 ح 3، وسائل الشيعة 13: 341 ح 14، بحار الأنوار 99: 222 ح 18.

ص: 216

26- باب العلّة الّتي من أجلها وضع اللَّه الحجر في الركن الّذي هو فيه ولم يضعه في غيره، والعلّة التي من أجلها يقبّل، والعلّة التي من أجلها اخرج من الجنّة، والعلّة التي من أجلها جعل الميثاق فيه

1- عن بكير بن أعين، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام: لأيّ علّة وضع اللَّه الحجر في الركن الذي هو فيه ولم يوضع في غيره؟ ولأيّ علّة يقبّل؟ ولأيّ علّة اخرج من الجنّة؟ ولأيّ علّة وضع فيه ميثاق العباد والعهد ولم يوضع في غيره؟ وكيف السبب في ذلك تخبرني- جعلت فداك- فإنّ تفكّري فيه لعجب؟

قال: فقال: سألتَ وأعضلتَ (1) في المسألة، واستقصيت فافهم، وفرّغ قلبك، وأصغ سمعك، اخبرك إن شاء اللَّه؛ إنّ اللَّه تبارك وتعالى وضع الحجر الأسود وهو جوهرة اخرجت من الجنّة إلى آدم عليه السلام فوضعت في ذلك الركن لعلّة الميثاق، وذلك انّه لمّا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم حين أخذ اللَّه عليهم الميثاق في ذلك المكان وفي ذلك المكان تراءى لهم ربّهم (2)، ومن ذلك الركن يهبط الطير على القائم، فأوّل من يبايعه ذلك الطير، وهو واللَّه جبرئيل عليه السلام، وإلى ذلك المقام يسند ظهره، وهو الحجّة (3) والدليل على القائم، وهو الشاهد لمن وافى ذلك المكان، والشاهد لمن أدّى إليه الميثاق والعهد الذي أخذ اللَّه به على العباد.

وأمّا القبلة والالتماس فلعلّة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق، وتجديداً للبيعة، وليؤدّوا إليه في ذلك العهد الذي اخذ عليهم في الميثاق فيأتونه في كلّ سنة،


1- 1 أي جئت بمسألة معضلة مشكلة.
2- 2 تراءى: أي جبرئيل أو الحجر.
3- 3 الضمير إمّا راجع إلى الحجر أو الطائر.

ص: 217

وليؤّدوا إليه ذلك العهد، ألا ترى أنّك تقول: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة، واللَّه ما يؤدّي ذلك أحد غير شيعتنا، ولا حفظ ذلك العهد والميثاق أحد غير شيعتنا، وإنّهم ليأتونه فيعرفهم ويصدقهم، ويأتيه غيرهم فينكرهم ويكذّبهم، وذلك انّه لم يحفظ ذلك غيركم، فلكم واللَّه يشهد، عليهم واللَّه يشهد بالخفر (1) والجحود والكفر، وهو الحجّة البالغة من اللَّه عليهم يوم القيامة يجي ء وله لسان ناطق وعينان في صورته الاولى يعرفه الخلق ولا ينكرونه، يشهد لمن وافاه وجدّد العهد والميثاق عنده بحفظ الميثاق والعهد وأداء الأمانة، ويشهد على كلّ من أنكر وجحد ونسي الميثاق بالكفر والإنكار.

وأمّا علّة ما أخرجه اللَّه من الجنّة فهل تدري ما كان الحجر؟

قال: قلت: لا.

قال: كان ملكاً عظيماً من عظماء الملائكة عند اللَّه تعالى، فلمّا أخذ اللَّه من الملائكة الميثاق كان أوّل من آمن به وأقرّ ذلك الملك، فاتّخذه اللَّه أميناً على جميع خلقه، فألقمه الميثاق وأودعه عنده، واستعبد الخلق أن يجدّدوا عنده في كلّ سنة الإقرار بالميثاق والعهد الذي أخذ اللَّه به عليهم، ثمّ جعله اللَّه مع آدم في الجنّة يذكره الميثاق ويجدّد عنده الإقرار في كلّ سنة، فلمّا عصى آدم فاخرج من الجنّة أنساه اللَّه العهد والميثاق الذي أخذ اللَّه عليه وعلى ولده لمحمّد ووصيّه، وجعله باهتاً حيراناً، فلمّا تاب على آدم حوّل ذلك الملك في صورة درّة بيضاء فرماه من الجنّة إلى آدم وهو بأرض الهند، فلمّا رآه أنس إليه وهو لا يعرفه بأكثر من انّه جوهرة فأنطقها اللَّه عزّوجلّ فقال: يا آدم، أتعرفني؟

قال: لا.

قال: أجل، استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربّك، وتحوّل إلى الصورة التي كان بها في الجنّة مع آدم، فقال لآدم: أين العهد والميثاق؟ فوثب إليه آدم عليه السلام وذكر الميثاق وبكى وخضع له وقبّله، وجدّد الإقرار بالعهد والميثاق، ثمّ حوّله اللَّه


1- 1 الخفر: نقض العهد.

ص: 218

تعالى إلى جوهر الحجر درّة بيضاء صافية تضي ء، فحمله آدم على عاتقه (1) إجلالًا له وتعظيماً، فكان إذا أعيى حمله عنه جبرئيل عليه السلام حتّى وافى به مكّة، فما زال يأنس به بمكّة ويجدّد الإقرار له كلّ يوم وليلة، ثمّ إنّ اللَّه تعالى لمّا أهبط جبرئيل إلى أرضه وبنى الكعبة هبط إلى ذلك المكان بين الركن والباب (2)، وفي ذلك المكان تراءى لآدم حين أخذ الميثاق، وفي ذلك الموضع ألقم الملك الميثاق، فلتلك العلّة وضع في ذلك الركن ونحّى آدم من مكان البيت إلى الصفا وحوّاء إلى المروة، فأخذ اللَّه الحجر فوضعه بيده (3) في ذلك الركن، فلمّا أن نظر آدم من الصفا وقد وضع الحجر في الركن كبّر اللَّه (4) وهلّله ومجّده، فلذلك جرت السنّة بالتكبير في استقبال الركن الذي فيه الحجر من الصفا، وإنّ اللَّه عزّوجلّ أودعه العهد والميثاق وألقمه إيّاه دون غيره من الملائكة؛ لأنّ اللَّه تعالى لمّا أخذ الميثاق له بالربوبيّة، ولمحمّد بالنبوّة، ولعلّي عليه السلام بالوصيّة اصطكّت (5) فرائص الملائكة، وأوّل من أسرع إلى الإقرار بذلك الملك ولم يكن فيهم أشدّ حبّاً لمحمّدٍ وآل محمّد منه، فلذلك اختاره اللَّه تعالى من بينهم، وألقمه الميثاق، فهو يجي ء يوم القيامة وله لسان ناطق وعين ناظرة ليشهد لكلّ من وافاه إلى ذلك المكان وحفظ الميثاق (6).


1- 1 العاتق: ما بين المنكب والعنق.
2- 2 قال الصدوق رحمه الله: جاء هذا الخبر هكذا، ومعنى قوله: إنّ اللَّه أهبط إلى أرضه وبنى الكعبة أهبطهم إلى ما بين الركن والمقام، وفي ذلك المكان ثوابه جزيل لآدم فأخذ الميثاق.
3- 3 أي بقدرته.
4- 4 أي جبرئيل أو الحجر، ويحتمل آدم عليه السلام.
5- 5 اصطكّت: اضطربت. وأمّا سبب اصطكاك فرائصهم فقيل: كان ذلك لعلمهم بإنكار من ينكره من البشر، والظاهر أنّه كان للدهشة وعظم الأمر وتأكيد الفرض وخوف أن لا يأتوا في ذلك بما ينبغي.
6- 6 الكافي 4: 184 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 191- 192 ضمن ح 2114، علل الشرائع: 429 ب 164 ح 1، روضة المتّقين 4: 7، وسائل الشيعة 13: 317 ح 5، بحار الأنوار 11: 205 ح 7، وج 15: 17 ح 26، وج 26: 269 ح 6، وج 52: 279 ح 2 وص 299 ح 63، وج 99: 223 ح 19، مرآة العقول 17: 4 ح 3.

ص: 219

27- باب علّة جعل السعي بين الصفا والمروة

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه، قال: إنّ إبراهيم عليه السلام لمّا خلّف إسماعيل بمكّة عطش الصبيّ، وكان فيما بين الصفا والمروة شجر، فخرجت امّه حتّى قامت على الصفا، فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد.

فمضت حتّى انتهت إلى المروة فقال: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، ثمّ رجعت إلى الصفا فقالت كذلك حتّى صنعت ذلك سبعاً فأجرى اللَّه ذلك سنّة، فأتاها جبرئيل عليه السلام فقال لها: من أنت؟

فقالت: أنا امّ ولد إبراهيم.

فقال: إلى من وكّلكم؟

فقالت: أمّا إذا قلت ذلك فقد قلت له حيث أراد الذهاب: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟

فقال: إلى اللَّه تعالى.

فقال جبرئيل: لقد وكّلكم إلى كاف. قال: وكان الناس يتجنّبون الممرّ بمكّة لمكان الماء، ففحص الصبيّ برجله فنبعت زمزم، ورجعت من المروة إلى الصبيّ وقد نبع الماء فأقبلت تجمع التراب حوله مخافة أن يسيح الماء ولو تركته لكان سيحاً.

قال: فلمّا رأت الطير الماء حلّقت (1) عليه قال: فمرّ ركب من اليمن فلمّا رأوا الطير حلّقت عليه قالوا: ما حلّقت إلّاعلى ماء، فأتوهم ليستقونهم فسقوهم من الماء، وأطعموا الركب من الطعام، وأجرى اللَّه تعالى لهم بذلك رزقاً، فكانت الركب تمرّ بمكّة فيطعمونهم من الطعام، ويسقونهم من الماء (2).

2- عن الحسين بن أحمد الحلبيّ، عن أبيه، عن رجل، عن أبي عبداللَّه عليه السلام،


1- 1 تحليق الطير ارتفاعه في طيرانه.
2- 2 الكافي 4: 202، وعلل الشرائع: 432 ب 166 ح 1، روضة المتّقين 4: 25، وسائل الشيعة 13: 470 ح 10، بحار الأنوار 12: 106 ح 19، وج 99: 233 ح 3، مرآة العقول 17: 33.

ص: 220

قال: جعل السعي بين الصفا والمروة مذلّة للجبّارين (1).

28- باب علّة الهرولة بين الصفا والمروة

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: صار السعي بين الصفا والمروة لأنّ إبراهيم عليه السلام عرض له إبليس، فأمره جبرئيل عليه السلام فشدّ عليه فهرب منه، فجرت به السنّة- يعني بالهرولة- (2).

2- عن الحلبيّ، قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام: لِمَ جعل السعي (3) بين الصفا والمروة؟

قال عليه السلام: لأنّ الشيطان تراءى لإبراهيم عليه السلام في الوادي فسعى، وهو منازل الشيطان (4). (5) 29- باب العلّة التي من أجلها صار المسعى أحبّ البقاع إلى اللَّه تعالى

1- عن معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ما للَّه تعالى منسك أحبّ إلى اللَّه تبارك وتعالى من موضع المسعى، وذلك أنّه يذلّ فيه كلّ جبّار عنيد (6).

2- عن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: ما من بقعةٍ أحبّ إلى اللَّه عزّوجلّ من المسعنى لأنّه يذلّ فيه كلّ جبّار (7)

كتاب التحفة اللطيفة


1- 1 الكافي 4: 434 ذ ح 3 وح 5، روضة المتّقين 4: 27، وسائل الشيعة 13: 468 ح 3 و 4، مرآة العقول 18: 72 ح 5.
2- 2 علل الشرائع: 432 ب 167 ح 1، روضة المتّقين 4: 26، وسائل الشيعة 13: 470 ح 11، بحار الأنوار 12: 108 ح 23، وج 99: 234 ح 4.
3- 3 المراد بالسعي هنا: الهرولة.
4- 4 في بعض المصادر: الشياطين.
5- 5 المحاسن للبرقيّ 2: 56 ح 93، من لا يحضره الفقيه 2: 196 ضمن ح 2124، علل الشرائع: 433 ب 167 ح 2، السرائر 3: 561، روضة المتّقين 4: 25 و 26، وسائل الشيعة 13: 470 ح 12، بحار الأنوار 12: 108 ح 24، وج 99: 43 ضمن ح 29 وص 234 ح 5.
6- 6 الكافي 4: 34 ح 4، علل الشرائع: 433 ب 168 ح 1، روضة المتّقين 4: 26، وسائل الشيعة 13: 471 ح 13، بحار الأنوار 99: 234 ح 6، مرآة العقول 18: 72 ح 4.
7- 7 الكافي 4: 434 ح 3، من لا يحضره الفقيه 2: 196 ذ ح 2124، علل الشرائع: 433 ب 168 ح 2، ورضة المتّقين 4: 26، وسائل الشيعة 13: 471 ح 14، بحار الأنوار 99: 234 ح 7، مرآة العقول 18: 72 ح 3.

ص: 221

كتاب التحفة اللطيفة

في عمارة المسجد النبوي وسور المدينة الشريفة

تأليف: محمّد بن خضر الرومي (ت: 948 ه)

إعداد: محمّدرضا الأنصاري القمّي

الرسالة التي بين يديك- أيّها القارئ الكريم- مأخوذة عن مخطوطة تحتفظ بها مكتبة دير الاسكوريال بإسبانيا وهي في مجموعة برقم (1708) وتبدأ رسالتنا من ورقة 88 ب وتنتهي في ورقة 93 ب، وعنوان الرسالة كما هو مثبّت في صدر الرسالة هكذا: «كتاب التحفة اللطيفة في عمارة المسجد النبوي وسور المدينة الشريفة. تأليف العلّامة الإمام شيخ الإسلام قاضي الحنفيّة بها الجلالي محمّد بن خضر الرومي الحنفي تغمّده اللَّه برحمته وأسكنه فسيح جنّته. آمين.»

والرسالة كتبها الشيخ محمّد بن خضر الرومي قاضي الحنفيّة بالمدينة المنوّرة والمتوفّى عام 948 ه، وهي تتحدّث عن سقوط أجزاء من سور المدينة وتهدّم أعاليه وخوف أهالي المدينة المنوّرة من هجمات الأعراب عليهم والنهب والسلب المتواصل منهم، فاستلزم ذلك الاستنجاد بالخليفة العثماني سليمان الأوّل (927- 974 ه) حيث أمر بإجراء تعميرات واسعة في سور المدينة وأبراجها وأبوابها، فشرعوا: بالتعمير عام 939 ه، وأكملوا بناء السور والأبراج، ثمّ وصل التعمير إلى جدران المسجد النبويّ الشريف

ص: 222

ومآذنه ومرافق أخرى في المسجد، والأعمدة والسقف والأرضيّة والمحراب والمنبر وغير ذلك. واستمرّ البناء مدّة عشر سنوات (من عام 939 ه لغاية 948 ه) مع انقطاع لعدّة أشهر في كلّ سنة لأسباب عديدة.

والرسالة تشرح مراحل التعمير والاصلاحات ومواقعها وتذكر أسماء المشرفين عليها وأسماء بعض المهندسين وعدد العمّال وكمّيات الأموال المصروفة وحجم المواد الانشائيّة المستعملة في البناء من الأعمدة والحجر والمرمر والرخام والحديد وغير ذلك. كما تتحدّث الرسالة في طيّاتها عن أحوال المدينة المنوّرة الاجتماعيّة والسياسيّة، فتشير إلى بعض حالات القحط والجوع، كما تشير إلى الخلافات والنزاع القائم بين الأحناف (المدعومين من البلاط العثماني في الباب العالي) والشوافع، أثر تجديد محراب الحنفيّة في المسجد النبوي وتقديمه ليحاذى محراب الشافعيّة، وتقديم القاضي الحنفي على القاضي الشافعي في جميع الأمور، ممّا أثار حنق الشوافع (ووصل من بعض الشافعيّة بسبب ذلك كلمات).

ولا شك أنّ هذه الرسالة تنفع الدارسين عن المدينة المنوّرة وتطورات أحوالها.

(88 ب) بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمدُ للَّهِ ربّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيّد الخلق أجمعين، محمّد وآله، وصحبه والتابعين.

أمّا بعد، فهذه نبذة لطيفة، ونخبة شريفة، تتضمّنُ ما وقع من العمائر الشريفة، بسور المدينة النبويّة، والمسجد الشريف، والمنارة السنيّة.

وذلك أنّه لمّا أنهى إلى مولانا، السلطان الأعظم، والخاقان الأكرم، صاحبِ السّيفِ والقَلَم، والبند (1) والعَلَم، ظِلّ اللَّه في الأرضين،


1- 1 البَنْد: علم الفرق التي يقودها القائد، تحت كلّ بند عشرة آلاف رجل، أو أقلّ أو أكثر.

ص: 223

قَهْرمان (1) الماء والطين، قامع الكفرة والمبتدعة والمشركين، نصرة الغزاة والمجاهدين، حسنة اللَّه في الأرض، القائم بالسنّة والفرض، خادم الحرمين الشريفين، والمحلين المنيفين؛ سلطان الغرب والعراقين، والشرق واليمن، والروم والحِجاز وعدن، سلطان الإسلام والمسلمين، السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان ابن السلطان أبو [المظفّر] (2) خان، السلطان سليمان شاه، ابن السلطان سليم شاه، ابن السلطان بايزيد، ابن السلطان محمّد، ابن السلطان بايزيد خان، نَصَره اللَّه تعالى نصراً عزيزاً مؤيّداً، وفتح له فتحاً مبيناً سرمداً، وأدام أيّام دولته الزاهرة، وجعلها مسعودة؛ [و] على أعدائها متظاهرة، بجاه سيّد أهل الدنيا والآخرة.

إنّ سور المدينة قد تهدّم أعاليه، وأشرف الباقي على السقوط بمعاليه، وأنّ أهل المدينة المنوّرة يحصل لهم بخراب السور ضرر كثير من العربان، وفساد عظيم على طول الزمان، وأنّهم قد رفعوا شكواهم، وبثّوا (89 ا) نجواهم إلى مولانا السلطان الأعظم خَلّد اللَّه دولته، فحينئذٍ برز الأمرُ العالي، من مولانا السلطان الأعظم المشار إليه- أعزّ اللَّه نصرته- إلى وزيره المقام العالي، ذي العِزّ المتعالي، مدبّر الممالك الإسلاميّة، كافل الأقطار المصريّة والحجازيّة، آصف عصره، ولقمان دهره، [حضرة] سليمان پاشا أعزّ اللَّه تعالى مقامه، وأدام أيّامه؛ بأن يتقدّم المقام العالي بتجهيز المال من الخزانة الشريفة بالقاهرة المحروسة، لعمارة سور المدينة المنوّرة، وتجهيز ما يحتاج إلى ذلك من الدّواب والعُدَد (3) والمعلمين (4) والبنائين والحمارين (5)


1- 1 قهرمان: كلمة فارسية معربة، تعنى الشجاع والغالب على الأعداء.
2- 2 فى الأصل: كلمة ممسوحة.
3- 3 العدد: جمع عدة.
4- 4 المعلمين: صغار الهال.
5- 5 الحمّار: صاحب الحمار وسائقه.

ص: 224

وغيرهم، وتجهيز ما يحتاج ذلك من الغَلال (1)، بالسمع والطاعة، وشمر على ساق الجد والاجتهاد، لما يعود نفعه لأشرف البلاد، وجهز الأموال صحبة الجناب العالي الزيني محمود چلبي كاتب جدّة المعمورة، كان... وعينه أميناً على العمارة الشريفة، وجعل الناظر على العمارة الجناب العالي السيّد أحمد الرفاعي، شيخ الحرم الشريف النبويّ، وجهّزت الجمال والبهائم نحو مائة جمل ومائة بهيم، صحبة أمير الحجّ الركب المصريّ، وجهزت الغَلال؛ من القمح والشعير والفول من البحر على ظاهر المراكب الشريفة، إلى أنْ وصلت إلى الينبوع (2)، وكان وصول ذلك كلّه في غرّة سنة تسع وثلاثين وتسعمائة، وكان المهندس على العمارة المذكورة المعلم علي بن الصياد، والمعلم عبدالقادر القليوبي. وكان جملة البنائين والحجّارين والنحّاتين والعتالين (3) والنجارين والطوابين (4) والحمّالين والتّرابين أكثر من ثلاثمائة نفراً [نفرٍ]، من غير الفَعَلَة (5)وتوابعهم.

(89 ب) وكان في خدمة العمارة الشريفة، من المماليك السلطانيّة نحو خمسون [خمسين] نفراً، منها أرباب الخيل نحو خمسة وعشرين نفراً، والباقون رُماة بالبندق والقوس.

ثمّ إنّهم شرعوا في هدم سور المدينة المنوّرة، فأوّل ما هدم باب سويقة، غربي المدينة، المسمّى بباب المصريّ، ثمّ هُدّم أعالي الجدار الغربي من السور، من الباب الصغير الشامي إلى باب سويقة المذكورة، ثمّ من باب سُويقة إلى الركن القبلي (6)،


1- 1 الغَلال والغَلّة: الدخل.
2- 2 كذا في «الأصل» والصحيح: ينبُع.
3- 3 الظاهر أنّ المقصود من العتّالين هم الحدادون.
4- 4 الطوب: الآجر.
5- 5 الفعلة: صغار العمّال.
6- 6 القبلي نسبةً الى القبلة.

ص: 225

وطول ذلك سبعمائة ذراع وأربعة عشر ذراعاً بذراع العمل، وإنّما لم يُهْدم إلى أساسه؛ لأنّ الجدار المذكور جدّده الملك الأشرف قايتباى (1)، وبناه بالحجر إلى أعالي العقود، التي من خلفه من داخل المدينة المنوّرة، وبناء [وبنى] أعاليه باللّبن.

فهدّموا اللّبن المذكور، وعرضوه (2) بالآجر، ورمّموا ما احتاج فيه إلى الترميم.

ثمّ إنّهم هدموا الباب الصغير الشامي، والباب الكبير الشامي، وشرعوا في بناء الباب المصري بالأحجار المنحوتة؛ بعد أن حفر له لذلك أساس جيّد، ثمّ إنّ بعض المهندسين ذكر للنّاظر أنّ الحجر المنحوت يذهب عليه مال عظيم، فأمرهم ببناء الباب الصغير الشامي بالحجر الغشيم (3)، فلمّا أن كمل بناء الباب المصري والباب الشامي المذكور، وشاهد النّاظر حسن الباب المصري بالحجر المنحوت، وقباحة الباب الشامي بالحجر الغشيم، أمرهم ببناء الباب الشامي الكبير بالحجر المنحوت.

ثمّ بعد مدّة يسيرة بعد الشروع في البناء، حصل بين الناظر- السيّد الرفاعي المذكور- وبين محمود چلبي الأمير المذكور شنآن (4) عظيم، ثمّ انتقل محمود چلبي المذكور إلى رحمة اللَّه تعالى في سابع عشر رمضان (90 ا) المعظّم قدره، سنة تسع (بتقديم التاء) وثلاثين وتسعمائة ودفن ببقيع الغرقد.

ثمّ إنّ الناظر المذكور باشر عمل العمارة الشريفة بنفسه، خصوصاً الباب الشامي الكبير والصغير، ثمّ انتقل إلى رحمة اللَّه تعالى في عشر ذي الحجّة الحرام


1- 1 من ملوك المماليك في مصر في القرن التاسع الهجري، قام هذا الملك بترميم المسجد النبوي الشريف ولا زالت ترميماته باقية، خاصّة ترميم الحجرة النبويّة الشريفة وترميم حجرة فاطمة الزهراء عليها السلام، ولا زال اسمه باقياً على الشباك، الذي يحيط بالحجرتين الشريفتين.
2- 2 أي وسعوه وجعلوه أعرض من ذي قبل.
3- 3 الغشيم: الردي ء.
4- 4 التنافر والعداء.

ص: 226

سنة تسع وثلاثين وتسعمائة [و] توجّه غالب المعمارية إلى الحجّ إلى بيت اللَّه الحرام، واستمرّت العمارة بطالة (1)، وكان من قضاء اللَّه وقدره أنّ مولانا الباشا المذكور عيّن عوض (2) الزيني محمود چلبي المذكور، بسبب مكاتبات السيّد الرفاعي فيه، أميناً على العمارة الشريفة، وكاتب الأمين هو الجناب الزيني مصطفى چلبي، أحد ساعي الدولة العادلة العثمانيّة، والكاتب هو الزيني نصوح، أحد الأعيان من العساكر العثمانيّة بالطور (3)، ووصل صحبتهم أيضاً مهندسٌ على العمارة كلّها من طايفة الأروام (4)، يسمى مصطفى خليفة؛ فوصلوا جميعاً من البحر إلى المدينة المنوّرة غرّة صفر الخير سنة أربعين وتسعمائة، ولمّا وصل إلى مولانا الباشا المذكور خبر وفاة السيّد الرفاعي شيخ الحرم الشريف، وبرز أمره الكريم الزيني إلى مصطفى چلبي الأمير المذكور، بأن يضبط معلقات (5) شيخ الحرم الشريف، ويباشر المنصب المنيف؛ إلى أن يرد من الأبواب الشريفة الجندكارية ما يُعتمد عليه.

فاستمرّ الزيني مصطفى چلبي المذكور، مع الكاتب نصوح، والمباشر المذكور، والمهندس بخدمة سور المدينة المنوّرة، فشرع في هدم الجدار القبليّ (6) منه إلى الأساس، لكنّه لم ينقض أساسه، وبناه بالحجر إلى أعاليه، (90 ب) وجعل عليه الشراريف (7) الموجودة الآن، واستمرّ في بناء الجدار القبلي.

ثمّ إنّ الزيني نصوح الكاتب المذكور انتقل إلى رحمة اللَّه تعالى في سلخ ذي الحجّة الحرام سنة أربعين وتسعمائة.


1- 1 أي متوقفة.
2- 2 بدل.
3- 3 هكذا في الأصل.
4- 4 الأروام: جمع روم، ويقال لهم أيضاً الروملي نسبة إلى منطقة في الجانب الأوروبي من البلاد العثمانيّة.
5- 5 الظاهر يقصد المناصب الموكولة إلى شيخ الحرم.
6- 6 نسبة إلى القبلة، أي السور الجنوبي من المدينة المنوّرة.
7- 7 الشراريف: جمع شُرفه.

ص: 227

ثمّ وصل في العام المذكور من البحر إلى مكّة المشرّفة مولاي المعزّ الكريم العالي، المولويّ الذخرى، عين الأماثل والأدان، فخر الأماجد والأعيان، المتحصّن بعناية الملك المعبود، الزيني محمود چلبي وهو متوليّ لمشيخة الحرم الشريف، وناظر على العمارة السلطانيّة.

فوصل إلى المدينة المنوّرة غرّة سنة إحد [ى] وأربعين وتسعمائة، وباشر خدمة الحجرة الشريفة، وقام بالنظر على العمارة المنيفة كما ينبغي.

واستمرّ المهندس مصطفى خليفة المذكور، قائماً بهندسة البناء المذكور، من الركن الغربي من جهة القبلة إلى الباب الشرقي- باب بقيع الغرقد- وطول ذلك سبعمائة ذراع بذراع العمل، ثمّ انتقل المهندس المذكور إلى رحمة اللَّه تعالى.

وكان لمّا وصل البناء إلى مشهد السيّد اسماعيل (1)، أدخل بعض البناء داخل المدينة المنوّرة من غير أساس تحته، فبعد وفاته هدّمه أمين العمارة الزيني مصطفى چلبي المذكور مع المهندس عليّ بن الصياد المذكور، [و] قاما ببناء باب البقيع أتمّ قيام، بعد أن وصلوا بأساسه إلى الماء، وشرعوا بهدم سور المدينة المنوّرة من باب البقيع من الجهة الشاميّة إلى أن وصلوا بالهدم إلى الباب الشامي الكبير، ونقض جميع أساسه، [و] بني على هذه الهيئة الموجودة عليه الآن على زيادة الإحكام والإتقان، ثمّ قصر النفقة على العمارة، واقتضى الحال إلى أن توجّه الأمين مصطفى المذكور للقاهرة المحروسة من البرّ (91 ا) صحبه القاصد، فوصل إلى القاهرة


1- 1 هو إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، توفّي في حياة أبيه ودفن بتربة له كانت تقع حتّى السنوات الأخيرة خارج جدران بقيع الغرقد من الجهة الغربيّة. ثمّ إنّه في سنة 1395 ه وعندما وصلت أعمال الهدم والتوسعة لمشروع توسعة الحرم النبويّ الشريف إلى الشارع المحاذي للبقيع والواقع فيه قبر إسماعيل رحمه الله قام العمال بهدم القبر لأجل نقل رفاته إلى البقيع، لكنّهم عثروا على جثته سالمةً بعد مُضيّ ما يقارب ثلاثةعشر قرناً، وقد شاهده كثير من زوار الحرم النبوي، ومنهم والدي الذي سمعت منه تفاصيل الحادث، فنُقل الجثمان إلى البقيع ودفن فيه بالقرب من قبر إبراهيم ابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

ص: 228

المحروسة، فوجد مولانا الباشا سليمان المذكور قد اعتد إليها، وكان قد صرف خسرو باشا، ثمّ إنّ الباشا سليمان دفع للأمين المذكور ما تحتاج إليه العمارة الشريفة من الأموال، وأمر نائب جِدّة المعمورة بأن يدفع له جميع ما يحتاج إليه من الأموال، وجهّز من البحر غِلالًا كثيرة، وعيّن صحبته كاتباً على العمارة الشريفة؛ وهو الجناب العالي الزيني رمضان چلبي، ووصلا جميعاً إلى المدينة المنوّرة سنة أربع وأربعين وتسعمائة، ووصل أيضاً في هذا العام من البحر عسكراً معيناً [عسكر معين] بسبب الإقامة بالقلعة (1)التي بالمدينة المنوّرة، وهو نحو ستّون [ستّين] نفراً رماة بالبندق، وجعل عليهم باش (2)، ويسمى دزدار، فوصلوا إلى المدينة المنوّرة، وكانت القلعة حينئذ لم يشرع في بنائها.

ثمّ إنّ الأمين مصطفى چلبي المذكور أتمّ باقي السور، وباب البقيع، وهدم القلعة القديمة، وكانت مبنيّة على هيئة القاعة من غير أبراج، ثمّ إنّ الأمين المذكور غيّرها، وأحكم بناءها وشيّد أبراجها، وأحدث لها جداراً وباباً من داخل المدينة المنوّرة، وجعل البناء محيطاً بها، وجعل بيوتاً للعسكر في داخلها، وجعل بيتاً لنائب القلعة على الجبل الذي هناك في محلّ القلعة، وذرع داير (3) القلعة من الباب الشامي الكبير إلى الباب الصغير خمسمائة وثمانية عشر ذراعاً وذرع الجدار الشرقي لها من داخل المدينة المنوّرة مائة واحد وستون ذراعاً، وذلك بذراع العمل.

واستمرّ في بناء ذلك، وتكميل ما بقي من سور المدينة المنوّرة، إلى أن تمّ جميع


1- 1 بنت الخلافة العثمانيّة قلعة عسكريّة حصينة؛ لأغراض الدفاع عن المدينة ومحاربة الأعراب، وتأمين طريق الحجّاج وغيرها. وكانت قلعة متينة مبنيّة من الصخر الأملس على ربوة صخريّة في الجهة الشمالية الغربيّة من الحرم النبوي الشريف وكانت تسمّى القلعة أو القشلة. وبقيت هذه القلعة تخدم الخلافة العثمانيّة حتّى زوالها، ثمّ بقيت وكانت تعدّ من معالم المدينة في شارع العنبريّة إلى أن رأيت الجرافات تهدمها وتزيلها ضمن ما هدّمت من معالم المدينة القديمة- وهي الربوة الصخرية المبنيّة عليها سنة 1419 ه.
2- 2 باش: كلمة تركيّة تعني الرأس، أو القائد في الجيش.
3- 3 أي المحيط.

ص: 229

ذلك (91 ب) في النصف من شهر شعبان المعظّم قدره، سنة ستّ وأربعين وتسعمائة، فكان مدّة الإقامة بالبناء بسور المدينة سبع سنوات ونصف سنة، بما في ذلك من تخلّل البطالات (1) المذكورة.

وفي هذا التاريخ تمّ بناء جميع سور المدينة المذكور، بما فيه الأبواب والأبراج من التجاويف نحو أربعين ألف ذراعاً [ذراع]، وبدون التجاويف المذكورة ثلاثة آلاف وأربعمائة واثنين وثمانين ذراعاً بذراع العمل.

وفي آخر الشهر المذكور توجّه كلّ من الأمين مصطفى المذكور، والزيني رمضان چلبي الكاتب المذكور إلى الأبواب العالية (2)، وسمعت من الأمين المذكور أنّ المصروف بسبب بناء السور المذكور على من تقدّم ذكرهم من العسكر والبنائين وغيرهم، من الغلال كالقمح والشعير والفول، نحو خمسة عشر ألف أردبا (3)، والمصروف من الذهب السليماني (4) الجديد الوازن نحو مائة ألف ديناراً [دينار] ذهباً.

وكان المعزّ الكريم العالي، ذو الخصايل الحميدة، والآراء السديدة الزيني محمود چلبي، شيخ الحرم الشريف النبويّ وناظره، أعزّه اللَّه تعالى وأدام أيّامه، توجّه إلى الأبواب العاليّة السلطانية، فكان ممّا عرضه على مولانا السلطان الأعظم والخاقان الأكرم (5)، احتياج المسجد الشريف النبوي إلى بناء وترميم جدرانه، وهدم المنارة المسمّاة بالسنجاريّة (6)، وغير ذلك من المشاهد والآثار.


1- 1 أي توقّف العمل.
2- 2 الأبواب العالية، جمع الباب العالي، وهي كناية عن بلاط الخلافة العثمانيّة في اسطنبول.
3- 3 أحد الأوزان المتعارفة في تلك الأزمنة ويعدل كلّ أردب ما يقارب 50 كيلوغراماً.
4- 4 الذهب السليماني: الليرات الذهبيّة المضروبة في عهد الخليفة العثماني سليمان خان.
5- 5 من ألقاب الخلفاء العثمانيين، وهنا يقصد السلطان سليمان خان العثماني.
6- 6 وهي المنارة، التي كانت قائمة في الركن الشامي أيّ في الشمال الغربي من المسجد النبوي.

ص: 230

فبرز الأمر الشريف العالي ببناء ذلك، فجهّز مولانا المقام العالي، ذي [ذو] المجد المتعالي، من الجمال والدّواب والبنائين والحجارين والنحاتين، وجهّز من البحر ما يحتاج إليه من الغلال وجهز من البحر (1) (92 ا) أيضاً الأهلّة (2) المجهزّة من الأبواب الشريفة (3)، برسم القبة المنيفة، فوصل إلى المدينة الشريفة، ووُضع الهلال على القبّة الشريفة في تاسع عشر شوال المبارك سنة ستّ وأربعين وتسعمائة، وهو الموجود على القبّة الشريفة الآن، وهو من نحاس مطلي بالذّهب، وأرسل أيضاً بخمسة أهلّة؛ لكلّ منارة هلال، وللمنبر الشريف هلال أيضاً، ووضع ذلك عليهم.

ويقال: إنّ المصروف على طلاء الأهلّة من الذهب السليماني المسكوك ألف وثمانمائة ديناراً [دينار] ذهباً.

وفي ذي الحجّة الحرام سنة ستّ وأربعين وتسعمائة وصلت الجمال والبهايم المذكورة صحبة الأمين الذي عُيّن للعمارة الشريفة، وهو الجناب العالي الزيني حسن أحد المماليك السلطانيّة، وعدّتها مائة جمل وخمسون بهيماً، ووصل من البرّ المعلمين المذكورين [المعلمون المذكورون].

وفي أوائل ربيع الثاني سنة سبع وأربعين وتسعمائة وصل الكاتب على العمارة، وهو الزيني عبدي چلبي، والمباشر على ذلك، وهو تاج الدين الخضيري، وصحبتهم الغلال الشريفة من القمح والشعير والفول.

ثمّ إنّ أمين العمارة المذكور ورد بالمراسيم (4) الشريفة، التي من مضمونها: أنّ ما


1- 1 أيّ حملت المؤن من الغلال وغيرها عن طريق البحر إلى جدّة، ثمّ المدينة المنوّرة.
2- 2 الأهلة: جمع هلال، والمقصود هنا إرسال الأهلة الذهبيّة المنصوبة على القبة النبويّة الشريفة وعلى رؤوس المآذن.
3- 3 إشارة إلى الباب العالي مقرّ الخلافة العثمانيّة.
4- 4 يقصد بها الأحكام الصادرة من الخليفة أو الوالي بشأن أمر من أمور الدولة.

ص: 231

يحتاج إليه المسجد الشريف من العمارة يعمّر، والنظر في جميع ذلك جزئيّةً وكليةً لمولانا المعزّ العالي، شيخ الحرم الشريف المذكور.

فجمع مولانا شيخ الحرم الشريف السّادة القضاة، والأمين المذكور، والمهندس على العمارة المذكورة وهو المعلّم علي بن تبك، ومن حضر من البنائين الواردين إلى المدينة المنوّرة والمقيمين بها، فكشفوا على المسجد الشريف النبويّ، فكان ممّا رآه المهندس والبنائين [البنائون] في ذلك أنّ بعض جدار المسجد الغربيّ من باب الرّحمة، محتاج إلى الهدم والإعادة، وأنّ الباقي (92 ب) من الجدار الغربي مع الجدار الشرقي محتاجٌ إلى الترميم، بهدم بعض أسافله، وترك العلوّ على حاله، وأنّ باب النساء محتاج إلى تقويته بأبراج خلفه من خارج المسجد، وأنّ المنارة السنجاريّة، التي هي في الركن الشامي من جهة الشرق، تحتاج إلى هدمها كلّها.

فاقتضى الحال الشروع في الهدم والبناء، فأوّل ما بنى باب الرّحمة، ورمّم الجدار الذي يليه غربي المسجد النبويّ، وكان مائلًا من جهة المنارة الخشبيّة، التي هي في الركن الشامي غربي المسجد النبوي، ليرى هل الميذ في النزايه (1) أم لا؟ ثمّ هُدمت المنارة المذكورة، ونقض أساسها، وزيد في الحفر على الأساس القديم؛ إلى أن وصل الماء، بحيث إنّ الماء تزايد على المعلمين، حتّى نقلوه بالقرب (2)، فلمّا رأوا أيضاً نقله بالقرب لا يفيد، جعلوا ثلاثة دواوير كبار من الخشب السمر، ووضعوها في الماء، وبنوا على الأخشاب، إلى أن علا البناء على الأخشاب قدر قامة، ثمّ حفروا تحت الدواوير حتّى نزل بما عليها من البناء إلى أصل الأرض الطيّبة، ثمّ أزيل الماء المجتمع في جوف الدواوير، ودكّ وسطها بالحجر، الملوّنة الطيّبة الجيّدة، وكان


1- 1 كذا في الأصل.
2- 2 القِرَب: جمع قربة، وهي الوعاء الجدلي الذي يوضع فيه الماء.

ص: 232

عمق أسسها ثلاثة عشر ذراعاً، بذراع العمل، وعرضه سبعة أذرع في سبعة أذرع، وبنيت بالحجر المنحوت.

ثمّ لمّا وصل البناء إلى وجه الأرض، اختصر من عرضها ذراع، وبنيت على التربيع إلى أن تعلت على سطوح المسجد فتمت.

وفي أثناء ذلك هدم ما يحتاج من الهدم من الجدار الشرقيّ- جدار المسجد الشريف النبوي- ورمم، ولم يهدم شي ء من أعاليه، وإنّما نقض بعض أسافله من خارج المسجد، وبني أيضاً باب النساء، وجُعل له برجين عظمين [برجان عظيمان] تقويةً.

وكتب التاريخ على كلّ من البابين باب الرحمة، وباب النساء- باسم مولانا (93 ا) السلطان الأعظم نصره اللَّه تعالى وأدام أيّامه.

واستمرّت العمارة في المنارة الشريفة، ثمّ في غرّة محرم الحرام سنة ثمان وأربعين وتسعمائة توجّه مولانا المعزّ الكريم العالي محمود چلبي شيخ الحرم الشريف المذكور إلى الأبواب العالية؛ صحبة المصري لعرض أحوال أهل المدينة المنوّرة، وما هم عليه من الأذى والشدّة بسبب تأخير إرسال قمح الدشيشة وغيره، كتب اللَّه تعالى سلامته وأنجح مقاصده آمين.

ثمّ بيّض داخل المسجد الشريف النبويّ واسطواناته ممّا كان محتاجاً إلى التبييض، فجي ء على حاله، وكتب التاريخ أيضاً باسم مولانا السلطان الأعظم نصره اللَّه تعالى في جدار المسجد الشريف من جهة الغربي في الخشب المسقوف برفوف عليه، كما جعل للملك الأشرف قايتباى في الجدار القبلي والشرقي (1).

وكانوا في أواخر سنة سبع وأربعين وتسعمائة ورد صحبة أمير الحاج المصري، مراسيم شريفة من مضمونها تجديد محراب الحنفيّة وتقديمه ليحاذي


1- 1 لا زالت الكتابة باسم السلطان قايتباي موجودة على باب حجرة النبيّ صلى الله عليه و آله في الجانب الشرقي وبالقرب من اسطوانة الحرس.

ص: 233

محراب الشافعيّة (1)، وتقديم القاضي الحنفيّ على القاضي الشافعي في جميع الأمور؛ من الجلوس والمصالح والأنظار وغير ذلك.

وفي سابع عشر محرّم الحرام سنة ثمان وأربعين وتسعمائة، شرع في بناية محراب الحنفيّة، وجعل محلّه بين المنبر وحدّ المسجد النبوي محاذياً لمحراب الشافعية (2)، وحصل من بعض الشافعيّة بسبب ذلك كلمات سامحهم اللَّه في ذلك، ولا شكّ أنّ الإمامين منزهين [منزهان] من ذلك، نسأل اللَّه العظيم أن يوفقنا لاتّباعهم في العلم والعمل بحقّ محمّد وآله وصحبه أجمعين.

وفي ليلة مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ثاني عشر ربيع الأوّل (3) (93 ب) تقدّم إمام الحنفيّة وصلّى في المحراب المذكور، وجعل من الرّوضة الشريفة إلى حدّ المسجد النبوي درابزين (4) من الخشب أمام محراب الحنفيّة، وجعل مقابل الروضة المطهرة درابزين عالية تمنع ضرر المار لكي لا يقطع الصفّ، ثمّ مدّ الوتر الخشب الذي يوضع عليه القناديل الصغار في الليالي الشريفة، فزيد فيه من الروضة المطهّرة إلى حدّ المسجد النبوي، وكان أولًا إلى حدّ الروضة المطهّرة فقط، وكان متعلّقاً إلى جهة المنبر الشريف.

تمّ بذلك بحمد اللَّه وعونه، والحمد للَّه.

مشاكل الحجاج


1- 1 كانت الخلافة العثمانية تتبّع المذهب الحنفي وتروجه بشتّى الطرق والوسائل. منها تعيين القضاة والحكام من أتباع المذهب الحنفي، والمرسوم السلطاني بتقديم محراب الحنفيّة بحيث يحاذي محراب الشافعيّة وتقديم قاضي الحنفيّة على الشافعيّة يندرجان في هذا المسعى.
2- 2 لازال محراب الأحناف موجوداً غرب منبر النبي صلى الله عليه و آله، أمّا محراب الشوافع فلا أثر له اليوم.
3- 3 اختلف في تاريخ مولده الشريف صلى الله عليه و آله، وقد ذكر الرواة وأهل السير تواريخ متعدّدة، لكن المشهور عند أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله- وهم أدرى من غيرهم- أنّ مولده الشريف يوم السابع عشر من شهر ربيع الأوّل.
4- 4 سياج خشبي.

ص: 234

مشاكل الحجاج

السيّد علي قاضي عسكر

تقديم

كان منذ القدم ومازال للحج عند الإيرانيين مكانة كبيرة للغاية، وأوضح دليل على ذلك ما كتبه المسعودي (وهو مؤرخ عاش في القرن الرابع الهجري) حيث قال:

«... وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به، تعظيماً له، ولجدّها إبراهيم عليه السلام وتمسكاً بهديه، وحفظاً لأنسابها. وكان آخر من حجّ منهم ساسان بن بابك، وهو جدّ أردشير بن بابك، وهو أول ملوك ساسان وأبوهم الذي يرجعون إليه كرجوع ملوك المروانية إلى مروان بن الحكم، وخلفاء العباسيين إلى العباس بن عبد المطلب. ولم يَلِ الفرس الثانية أحدٌ إلّا من ولد أردشير بن بابك هذا، فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزمزم على بئر إسماعيل، فقيل: إنما سميت زمزم لزمزمته عليها، هو وغيره من فارس، وهذا يدلّ على ترادف كثرة هذا الفعل منهم على هذه البئر. وفي ذلك يقول الشاعر في قديم الزمان:

ص: 235

زَمزمتِ الفرسُ على زَمزمِ وذاك من سالِفها الأقدمِ

وقد افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام بذلك، فقال من كلمة:

وما زِلنا نحجّ البيتَ قِدماً ونُلفى بالأباطِحِ آمنينا

وساسان بن بابك سار حتى أتى البيتَ العتيقَ يطوفُ دينا

فطافَ به، وزمزمَ عند بئر لإسماعيل تروي الشاربينا

وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا في صدر الزمان، وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا، أهدى غَزالَيْن من ذهب وجوهراً وسيوفاً وذهباً كثيراً فقذفه [فدفن] في زمزم.

وقد ذهب قوم من مصنفي الكتب في التواريخ وغيرها من السير، أنّ ذلك كان لجرهم حين كانت بمكة، وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها، ويحتمل أن يكون لغيرها، واللَّه أعلم.» (1) ومنذ ذلك الوقت وحتى عام 438 ه وهو العام الذي حجّ فيه ناصر خسرو القبادياني (394- 481 ه) وكان إسماعيلي المذهب، ودوّن خلاله يومياته عن الحجّ، لم يُقدم أحد على تأليف كتاب حول الحجّ وكيفية أداء الإيرانيين له، وإن كان قد ورد ذكر مكة والحرم الشريف في أشعار بعض شعراء القرنين الثالث والرابع، وهو ما يدلّ صراحة على حضور هذه المقدسات في أدبيات ذلك العصر.

ويعدّ (رودكي) وهو أقدم شعراء الفرس (م 329- 330 ه)، أول من ذكر الكعبة في أشعاره، حيث قال:

مكى به كعبه فخر كند مصريان به نيل ترسا به اسقف وعلوى به افتخار جدّ (2)


1- 1 مروج الذهب 1: 265، طبع دار الأندلس، بيروت، 1385 ه
2- 2 «فليفتخر المكيّ بالكعبة والمصريّ بالنيل، والنصرانيّ بالأسقف والعلويّ بجدّه».

ص: 236

وقال في بيتَين آخرين:

از كعبه كليسا نشينم كردى آخر در كفر بى قرينم كردى

بعد از دوهزار سجده بر درگه دوست اى عشق چه بيگانه زدينم كردى (1)

وأنشد (بسام كورد)، وهو شاعر عاش في القرن الثالث الهجري، وكان من الخوارج الذين ظهروا في عهد (يعقوب ليث)، قطعة شعرية من أبيات خمسة يمدح فيها الأخير لتغلّبه على عمّار الخارجي وانتصاره عليه، وجاء ذكر مكة والحرم في بيتَين من تلك الأبيات وهما:

مكه حرم كرد عرب را خداى عهد تو را كرد حرم در عجم

هر كه درآمد همه باقى شدند باز فنا شد كه نديد اين حرم (2)

ومنذ ذلك الوقت تطوّر هذا الفنّ من الشعر واتّسع، فقام العديد من شعراء الفرس بإنشاد القصائد حول مكة والمدينة، إمّا صراحةً أو تلميحاً إليهما باستخدام بعض العبارات التي تخصّ هذين الحرمين الشريفين. ومن ذلك قول الشاعر:

به موقف عرفات وبه مجمع عرصات به حشر ونشر وبقا ولقا وحور وقصور


1- 1 «لقد أنسيتني الكعبة وجعلتني من روّاد الكنيسة، فأصبحتُ في الكفر فريداً، فبعد أدائي لألفي سجدة عند عتبة الحبيب، جعلتني أيها الحبّ غريباً عن ديني». كتاب حج در آئينه شعر فارسى: 21.
2- 2 «جعل اللَّه مكة حرماً آمناً للعرب، وجعل عهدكَ وملكك حرماً للعجم، فخلُدَ كلّ من عاش عهدك، وفنيَ من لم ير هذا الحرم». المصدر السابق.

ص: 237

به قدس وكعبه وجودى ويثرب وعرفات به حق زمزم وركن ومقام ومسجد نور (1)

وتجدر الإشارة إلى أنّ أغلب يوميات الحجّ، التي زيّنت المكتبة الأدبية الفارسية بعد ناصر خسرو هي تلك التي تعود إلى عهد الصفويين ثم القاجاريين؛ وذلك للتطور الثقافي الذي بدت ملامحه واضحةً على المجتمع في ذلك العصر، وللدافع الأدبي الذي كان مسيطراً على الأشخاص وعلى مختلف الطبقات الاجتماعية، خاصةً العلماء والمثقفين، وكذلك أصحاب المناصب الحكومية، وشغفهم في تدوين الأخبار والمعلومات المتعلقة بالحجّ، وتسجيل خواطرهم، وكتابة ذكرياتهم الحلوة منها والمرّة. ولا ننسى ما للتخصّص العلمي والميول الفكرية لدى الكتّاب من أثر واضح وسمة مميزة تضع بصماتها بوضوح على يومياتهم المكتوبة.

فمنهم من عمد إلى جمع المعلومات التأريخية، ومنهم من ركّز اهتمامه على الناحية الجغرافية. ومن الكتّاب من أخذ في وصف المنازل والأماكن في الطريق إلى الحرم المكيّ، في حين تطرّق آخرون إلى بيان الأوضاع الاجتماعية للناس في تلك الفترة والإشارة إلى نماذج من سلوكهم. لكن الوجهة الرئيسية لأغلبهم كانت تتجه نحو إرشاد الحجيج من بعدهم؛ ليتفادوا قدر الإمكان المشاكل والصعوبات التي قد تصادفهم في رحلتهم إلى الديار المقدسة.

ومهما يكن من أمر فإنّ الاختلاف الموجود بين الرّؤى لدى مؤلفي اليوميات أصبح العامل الأساس، الذي ساعد في جمع قدر لا يُستهان به من المعلومات حول حقبة معينة من الزمان. فمثلًا كان يضطرّ بعض الرّحالة إلى البقاء مدة أطول في محلّ


1- 1 «وحقّ الموقف في عرفات وعرصاتها والحشر والنشر والبقاء واللقاء والحور والقصور، وقدسية الكعبة وجبل الجودي ويثرب وعرفات، وزمزم والركن والمقام ومسجد النور». المصدر السابق.

ص: 238

أو مكان ما أثناء الطريق؛ وذلك لعدم توفّر وسائط النقل السريعة كما هو الحال في عصرنا الحاضر، وكذلك لندرة الطرق الواصلة بين تلك الأماكن، وهو ما اضطرّهم للمكوث أطول فترة ممكنة في تلك المناطق التي نزلوا فيها وجعلهم يتعرّفون عليها وعلى أهلها فراحوا يدونون أسماءها وأسماء المناطق المجاورة لها وما فيها من آثار ومعالم وكتابة خصوصياتها وتثبيت كلّ ذلك على صفحات مؤلفاتهم. ومع ذلك، فقد دوّن بعض المؤلفين الأسماء بصورة مغلوطة، أو اشتبهوا في بيان الخصائص الأخلاقية والاجتماعية لسكّان تلك المنطقة أو المدينة أو القرية في ذلك الزمن.

ويرجع السبب في ذلك إلى حصول أولئك الرّحالة على تلك المعلومات من أشخاص غرباء أو أمّيّين أو لا يملكون المعلومات الكافية والمطلوبة. ولحسن الحظ، فإنّ مثل هذه الحالات من الأخطاء يمكن تصحيحها بالرجوع إلى المصادر التأريخية الموثوقة.

هذا وتمتاز بعض اليوميات بخصائص وميزات معينة؛ وذلك لكونها مصاغة بشكل أبيات شعرية. ويمكن الإشارة إلى كتاب (فتوح الحرمين) ل (محيي اللاري)- القرن العاشر-؛ ومنظومة لسيدة إصفهانية (في القرن الثاني عشر) باعتبارهما أهم اليوميات على هذا الصعيد. (1) وتجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من الرّحالة عمد إلى تخصيص الجزء الأعظم من يومياته؛ لبيان الصعوبات والمشاكل الكبيرة في ذلك الزمان. ولا يخفى ما لذلك من أهمية كبيرة خاصة بعد مقارنة تلك الحالات مع الواقع الموجود في وقتنا الحاضر. لكن كل ذلك لم يكن ليمنع الحجيج من شدّ رحالهم إلى تلك الديار المقدسة وأداء مراسم الحجّ؛ تلك الفريضة الإلهية المقدسة، لِما كانوا يحملونه من حبّ لها وتعلّق بزيارة ما في تلك البلاد من آثار وأماكن تهفو إليها قلوب المؤمنين.


1- 1 قام الشيخ الفاضل رسول جعفريان بتحقيق هاتين اليوميّتَين، وتمّ طبعهما.

ص: 239

فقد أنشد الشاعر حافظ الشيرازي:

در بيابان گر به شوق كعبه خواهى زد قدم سرزنش ها گر كند خار مغيلان غم مخور (1)

وأما نحن، فهدفنا من كتابة هذه السطور هو سرد قسم من تلك المشاكل والصعوبات التي كانت تواجه الحجيج في رحلتهم إلى الديار المقدسة، وما لاقوه من مِحَن وشدائد، مستندين على أقوال الرّحالة أنفسهم:

1- صعوبة الطرق والمواصلات:

إنّ صعوبة الطرق والمواصلات هي في الواقع واحدة من تلك المشاكل الرئيسية، التي كانت تواجه الحاجّ في الزمن الغابر. وقد ورد ذكر ذلك بوفرة في يوميات الرّحالة وأشعار الشعراء الفرس، فقد أنشد الخاقاني البيت التالي واصفاً ذلك بقوله:

گر زخم يافته است از رنج باديه ديدار كعبه مرهم راحت رسان شده (2)

وفي أبيات أخرى يصف الشاعر نفسه بعضَ ما يُعانيه فيقول:

ساربانا به وفا بر تو كه تعجيل نماى كز وفاى تو زمن شكر موفا شنوند

حاش للَّه اگر امسال ز حج وامانم نز قصور من وتقصير تو حاشا شنوند


1- 1 «إن كنتَ تريد قَطع الأشواط والسّير في البرّيّة شوقاً للوصول إلى الكعبة، فلا تَخشَ ملامة أحد ولا تحزن». ديوان حافظ: 112.
2- 2 «إذا كان ما ألاقيه من صعوبات في طريقي إلى الكعبة أمراً لا يُمكن احتماله، فإنّ رؤيتها هو البلسم الشافي الذي يُريحني ويزيل عني ثقل تلك الصعوبات».

ص: 240

دوستان يافته ميقات وشده زى عرفات من به قيد و ز من آوازه به بطحا شنوند (1)

وقال شاعر آخر هو (أنوري)- م 583 ه-:

خوان خواجه كعبه است و نان او بيت الحرام نيك بنگر تا به كعبه جز به رنج تن رسى

بر نبشته بر كران نان او خط سياه لم تكونوا بالغيه إلّابشقّ الأنفسِ (2)

وقال الشاعر (خواجوى كرمانى) بهذا الخصوص أيضاً:

به راه باديه هر كَس كه خون نكرد حلال حرام باد مر او را وصال بيت حرام (3)

وأما (مولوي) فقد أنشد الأبيات التالية:

عزت مقصد بود اى مُمْتَحَن پيچ پيچ راه و عقبه و راهزن


1- 1 «أيها الجَمّال! عجّل بالرحيل وأوفِ بوعدك، ولك مني جزيل الشكر. وإن عجزتُ عن الذّهاب إلى الحجّ هذا العام لا سمح اللَّه فليس ذلك لتقصير مني ولا منك. لقد وصل الأصحاب الميقات ووطأوا عرفات، في حين ما زلتُ أسيراً، أقطع طريق البطحاء». ديوان الخاقاني: 102.
2- 2 «إنّ مائدة الخواجة هي الكعبة وخبزها البيت الحرام، فتأمّل فإنّكَ لن تصل إلى الكعبة إلا بتحمّل المشاقّ. فقد كُتِبَ علينا بقلم غليظ: لم تكونوا بالغيه إلّابشقّ الأنفسِ» اقتباساً من الآية الكريمة 7 من سورة النحل. كتاب «حج در آئينه شعر فارسى»: 44.
3- 3 «حرام على مَن لَم يُرِق دَمَه وهو في طريقه نحو الكعبة وصال بيت اللَّه الحرام». ديوان خواجوى كرمانى: 33.

ص: 241

عزت كعبه بود آن ناحيه دزدى اعراب و طول باديه (1)

ويقول الشاعر المعروف (سعدي):

ساربانا جمال كعبه كجاست كه بمرديم در بيابانش (2)

وكذلك أنشد الشاعر (جامى) يقول:

گر آرى رو در آن كعبه چو ريگ گرم زير پا سپردن بايدت سر كوه آتش در بيابانش (3)

ولا يخفى أنّ إحدى المشاكل المستعصية، التي يواجهها الحجيج في الطريق إلى مكة هي هبوب الرياح السود الحارّة والخطِرة المعروفة ب (السموم)، وهي رياح طالما جلبت المشاقّ لهم، وربما تسببت أحياناً في موت العديد منهم.

وكتب مؤلف كتاب (تمدّن اسلامى) «الحضارة الإسلامية» في معرض حديثه عن المهالك، التي تصادف الحاج في طريقه نحو الكعبة، يقول:

«هبّت عام 402 ه ريح سوداء على قافلة الحجيج، فطمست بهبوبها مصادر المياه، فهلك معظمهم من جرّاء ذلك، حتى قيل: إنّ كأس الماء صار يُباع بمئة درهم.» (4)


1- 1 «إنّ عزّة المقصد أيّها المُمتَحَن يكمن في تلافيف الطريق وعقباته، وقُطّاع الطرق. واعلم أنّ حبّ الكعبة ومعزّتها عندك يُحتّمان عليك تحمّل اللصوص والبدو وأعباء الطريق» [المترجم]. شرح مثنوى مولوى للعلامة الجعفري 12: 432.
2- 2 «يا جمّال! أينَ جمالُ الكعبة؟ لقد فدينا أرواحنا في صحرائه». غزليات سعدى: 215.
3- 3 «لا تُبال بحر الحصى تحت قدميك. فلو أردتَ الوصول إلى الكعبة؛ عليك أن تتحمّل جبالًا من النار». ديوان جامى: 49.
4- 4 تمدّن اسلامى 2: 54.

ص: 242

وذكر (مير سيد أحمد هدايتي) كذلك في يومياته:

«قبل يومين تعرّض ستون أو سبعون نفراً هنا (في جدّة) إلى السموم، وهلكوا جميعاً.» (1) وأما الشاعر (نزاري) فقد وصف السموم في شعره بأنها أطيب من ظلال شجرة طوبى لِمَن يريد وصال حبيبه، وهو ما يدلّ على حبّه العميق للكعبة والرغبة الشديدة التي تحدوه للوصول إليها. فهو يقول:

روندگان ره كعبه را ز غايت شوق سموم باديه خوش تر ز سايه طوبى (2)

وأورد (سنائي) الشاعر المعروف بعضاً من مشاكل الطريق ومشاقّه في المقطوعة الشعرية التالية:

پاى چون در باديه خونين نهاديم از بلا همچو ريگ نرم پيش باد سرگردان شويم

زان يتيمان پدر گم كرده ياد آريم باز چون يتيمان روز عيد از درد دل گريان شويم

از پدر وز مادر وفرزند وزن ياد آوريم ز آرزوى آن جگربندان جگر بريان شويم

همرهان حج كرده باز آيند با طبل وعَلم ما به زير خاك در، با خاك ره يكسان شويم

قافله باز آيد اندر شهر بى ديدار ما ما به تيغ قهر حج كشته غريبستان شويم


1- 1 «داستان باريافتگان»: 150.
2- 2 الحج في مرآة الشعر الفارسي: 48.

ص: 243

همرهان با سرخ رويى چون به پيش ماه سيب ما به زير خاك چون در پيش مه كتان شويم

دوستان گويند حج كرديم و مى آييم باز ما به هر ساعت همى طعمه دگر كرمان شويم

نى كه سالى صد هزار آزاده گردد منقطع هم دريغى نيست گر ما نيز چون ايشان شويم (1)

ولا ريب في أنّ الطرق الجبلية، والمعابر الضيقة للوديان، والسبل المتعرّجة، والبراري الجرداء الخالية من الماء والخضرة؛ كلّ ذلك زاد من خطورة الوضع الذي كان يعانيه الحجيج.

وكان على الحجّاج الإيرانيين أن يسلكوا واحداً من الطرق الأربعة المعروفة إذا أرادوا الذهاب إلى الحجّ، وتلك الطرق هي:

طريق البحر، وذلك عن طريق إحدى الموانئ الإيرانية الواقعة على الخليج إلى ميناء (جدّة)، حيث يُنقَل الحجيج من ميناء (بوشهر) و (بندر عباس) و (بندر لنگه) وبعض الموانئ الأخرى نحو اليمن مروراً ببحر عُمان والمحيط الهندي، ثم الدخول إلى البحر الأحمر والرسوّ في ميناء (جدّة).


1- 1 «فلمّا أن وطِئت أقدامنا البادية بعد مشقة وجهد عظيمين، أصبحنا كرمال الصحراء التي تتقاذفها الرياح وترمي بها هنا وهناك. فتذكّرنا اليتامى الذين فقدوا آباءَهم، وشرعنا نذرف الدموع من الألم كاليتامى يوم العيد. ثم تذكّرنا آباءَنا وأمّهاتنا وأولادنا وزوجاتنا، فدخلت اللّوعة قلوبنا وأحرق الحزن أكبادنا. فأما الذين أدّوا فريضة الحج فقد بدأوا بالعودة إلى ديارهم وأوطانهم ترافقهم طبول الفرح وأعلام الفخر، وأما نحن فقد أصبحنا نحن والتراب سواء. وبدأت قوافل الحجاج تمرّ بالقرب منّا راجعة إلى بلادها، في حين ما زلنا نعاني وطأة العذاب والمرارة في الصحراء. فترى وجوه الذين حجّوا البيت زاهية في ضوء القمر، ووجوهنا نحن يعلوها لون الغبرة. فالإخوة فرحون بما نالوا ويتواعدون للمجي ء ثانية، ونحن ما فتئنا أن أصبحنا لقمة سائغة لديدان البرّ والقفر. فياليتنا نكون من جملة تلك الألوف المحررة كلّ عام.». ديوان سنائي: 416.

ص: 244

وأما الطريق الآخر فهو الطريق المعروف بالجبل أو نَجد، ويبدأ من العراق إلى جزيرة العرب. وقد كان السير في هذه الطريق خطيراً للغاية، حتى إنّ بعض العلماء قام بتحريم السفر خلاله في ذلك الزمان. ومن ذلك ما أصدره المرحوم الشيخ فضل اللَّه النوري المتوفى عام 1320 ه بهذا الشأن.

طريق الشام، وهو الطريق الذي اعتاد الحجيج على السفر خلاله إبّان العهد الصفويّ وبداية العهد القاجاري. ويمرّ هذا الطريق بحلب ودمشق وصولًا إلى المدينة المنورة، وهو أطول من طريق نَجد، لكن وبسبب توفّر المياه وكثرة المراتع والأراضي الخضر فيه، يعدّ أقلّ خطورةً وأندر سوءاً من غيره.

طريق تركيا ومصر وجدّة، حيث كان الحجاج الإيرانيون ينطلقون في البدء من (بادكوبه) و (تفليس) ثم يسلكون طريق البحر الأسود إلى إسطنبول، ومن هناك يركبون الباخرة ويسيرون في البحر الأحمر حتى يصلوا إلى ميناء (ينبُع) أو (جدّة).

ويعدّ طريق الجبل أو نَجد الذي كان يُسيطر عليه آل رشيد من أصعب الطرق المذكورة وأخطرها؛ وذلك للضغوط والأذى اللّذين كان الحجيج يلاقيهما من أمير الجبل وأعوانه، ومن العشائر التي كانت تسكن تلك المنطقة، والذين اعتادوا الهجوم على قوافل الحجيج وسرقة أموالهم ونهب ممتلكاتهم، مما اضطر شهيد المشروطة في إيران المرحوم الشيخ فضل اللَّه النوري إلى إصدار فتوى حرّم فيها السفر في ذلك الطريق. وجاء في نصّ الفتوى المذكورة ما يلي:

«... لقد ثبت لدينا اليوم أنّ السفر عن طريق الجبل ذهاباً وإياباً مظنون الضرر، مالًا وعرضاً ونفساً، بل هو مؤكّد الضرر. وعلى هذا فإنّ السفر في هذا الطريق حرام. فإن احتمل أحدهم الضرر أو قال بعدم وقوعه قطعاً، فلا أقلّ من أن نتّبع الاحتمال العقلائي، وهذا يكفي في حرمة الإقدام ... ومن محاسن الصدف فإن العبد للَّه وخلال تشرّفي بزيارة النجف الأشرف والعتبات المقدسة سنحت لي

ص: 245

الفرصة للالتقاء بعدد من العلماء الأعلام وحجج الإسلام في تلك البقعة الشريفة، فألفيتُ أنّ جميع العلماء قد اتفقت كلمتهم على حرمة سلوك طريق الجبل ذهاباً وإياباً على نحو لا يقبل الشبهة بعد سماعهم لمظالم الحجيج وتراكم شهاداتهم حول ما حصل لهم. وهذا خير دليل على مصداقية هذا الحكم ومرضاة صاحب الشريعة عليه. وواضح أنّ مخالفة رأي هذا الجمع من العلماء هو أمر حرام في حدّ ذاته.» (1) ولا شك في أنّ السبب الرئيس وراء هذا التحريم هو المخاطر التي قد يواجهها حجّاج بيت اللَّه الحرام في ذلك الطريق وتعريض أموالهم للسرقة والإغارة والنهب والسّلب. وكذلك سوء معاملة الحملداريّة واضطرار الحجيج إلى دفع الرشوة لقطّاع الطرق لمنع أو تقليل تصرفاتهم اللاإنسانية معهم.

2- النّقليات الرديئة:

وأما المشكلة الأخرى التي يواجهها الحجيج هي رداءة وسائط النّقل. فقد كانت أغلب وسائط النّقل آنذاك هي الدّواب، خاصة الجِمال.

وقد كتبت ابنة (فرهاد ميرزا) في يومياتها تقول:

«... إنّ الحجيج يُعانون إمّا من قلّة الجِمال أو من سيرها البطي ء وبشكل لا يمكن معه للقلم تصويره.» (2) وقال الحاج الشيخ (جعفر ترشيزي) يوماً لأمين الدولة: «إنّه بينما كنتُ على ظهر دابّتي مشغولًا بالتّهجد، والليل قد انتصف، فإذا بالسّرج يسقط من على ظهر الدابة، وإذا بي أسقط معه كذلك، وبهذا تخلّفتُ عن القافلة. لكن القدر ساعدني، حيث وجدتُ هِمياني قد سقط معي أيضاً. فوجدني عربيّ أسمر على هذه الحال، فرأف بي وترحّم على حالي، وأسرع إلى داره فرجع ومعه رجل آخر يجرّان


1- 1 كتاب أداء الإيرانيين للحج في عهد القاجاريين، لرسول جعفريان: 21.
2- 2 مجلة ميقات الحج، العدد 19: 78.

ص: 246

وراءهما جملًا. فأخذاني إلى مضيف القبيلة وبقيتُ لديهم أربعين يوماً أُعالَج من الكسور التي أصابتني. وبعد أن عوُفيتُ وتماثلتُ إلى الشفاء، أخذني ذلك العربي وأوصلني إلى النجف». (1) ويُقال: إنّ معتمد السلطان، رئيس السّقاة عند ناصر الدين شاه، أوصى الزوّار الذين أرادوا السفر عِبر طريق الجبل وعلى لسان نائب الصدر عام 1305 ه بقوله:

«على الحاج أن يكون قادراً على ركوب الهودج أو التّخت. ولا تنسوا أن تحملوا الماء معكم لتُزيلوا به مشقّة الطريق عنكم. وليعلم الذين يريدون السفر مترجّلين أنّهم إنّما يعرّضون أرواحهم بذلك إلى التهلكة، ولا يحق لهم أن يُصبحوا عِبئاً على الآخرين.» (2) وكتب (مير سيد أحمد هدايتي) يذكر بعضاً من مصاعب الطريق وقلّة الإمكانيّات، حيث قال:

«... فتحرّكت القافلة لأربع ساعات بقين لغروب الشمس، وعند الغروب وصلنا إلى وادٍ عريض وبدأنا بالصعود. وكانت الطريق زلقة بسبب الرمل الناعم، وقد تشابكت أنواع كثيرة من الأشجار على جانبي الوادي، خاصة شجرة (أم غيلان)، فكان الوادي يبدو وكأنه غابة كثيفة بأشجار خاوية. فوصلنا في أوّل الليل إلى سفح جبلٍ شاهق يُدعى (جبل غاير)، ولذلك يدعى الطريق من مكة إلى المدينة ب (طريق غاير). فكان لزاماً علينا أن نعبر في ذلك الممر الضيّق والمُلتوي.

فأمروا المسافرين جميعهم بالنزول عن الجِمال وجعلوها تسير في صفّ، الواحد تلو الآخر. ولم تكن معابر (جبل غاير) ضيقة وكثيرة الالتواء فحسب، بل صخرية


1- 1 سفرنامه أمين الدولة- 1316 ه-، باهتمام إسلام كاظمية: 90.
2- 2 كتاب أداء الإيرانيين للحج في عهد القاجاريين، لرسول جعفريان: 19.

ص: 247

وشديدة الانحدار وغير متناهية، بحيث تُزهق روح المسافرين وتقضي على ما بقي لديهم من الصّبر والعزيمة؛ فلذلك اضطررنا جميعاً إلى السير على الأقدام حتى صباح اليوم التالي. فكنّا نشاهد على جانبي الطريق وفي كلّ خطوة نخطوها جِمالًا ساقطة في جوف الوادي، إما ميتة أو تكاد. وقد اعتاد الجمّالون على نقل حمولة الجَمل الساقط من جمالهم إلى جمل آخر، وترك الجمل الساقط وحيداً في تلك المنطقة.» (1) السفر بالباخرة:

وكان بعض آخر من الحجيج يضطر إلى السفر إلى الحجاز بالباخرة. وكانت البواخر قذرة للغاية وتفتقر إلى أبسط الخدمات الاجتماعية والمرافق الصحية. هذا من جهة، ومن جِهة أخرى فقد كادت أمواج البحر الهائج ودَواره تودي بالمسافرين إلى شفير الهاوية والهلاك. وفعلًا قضى بعض منهم نحبه، وقذفوا إلى البحر، فحرم هذا المسكين من حجّ بيت اللَّه الحرام.

وكتب (ظهير الملك) الذي وُفّق للحجّ عام 1306 ه عن الحالة المزرية داخل البواخر، خاصة عند إحرام الحجيج بالقرب من (يَلملم) فقال:

«إنّ القذارة والوساخة تقطر من أبدان أصحاب البواخر والسفن. وهم الآن يتهيّأون للإحرام؛ فأيّ إحرام هذا الذي لا يلبسون فيه ما يستر أبدانهم، ولا وشاحاً يغطي رؤوسهم، وهم يغتسلون وعوراتهم مكشوفة لعدم وجود ما يسترهم؟! وأيّ غسل هذا الذي يؤدون؟! وأيّ أوانٍ وسخة يستخدمون؟! وأيّ ماء قذر به يغتسلون ...؟! المكان كلّه قذر، سُبحان اللَّه، إنّها مشكلة عويصة حقّاً!» (2)


1- 1 «داستان باريافتگان»: 184.
2- 2 يوميات ظهير الملك، باهتمام رسول جعفريان، تراث اسلامى ايران، المجلد الخامس: 255.

ص: 248

وأما المشكلة الأخرى التي يواجهها الحجيج هي سوء معاملة أصحاب البواخر والسفن لهم، أو كما وصف (ميرزا عبد الغفار خان نجم الملك منجّم باشي) الذي كان يستخدم العمّال الأجانب، حيث قال: إنّ الحجّاج الذين كانوا يُضطرون إلى السفر إلى الحجاز عن طريق البحر، كانوا يعانون بشدّة من سوء معاملة أصحاب السفن وبعض المستخدمين لهم، إضافةً إلى أسلوبهم الفظّ وغير المهذّب.

وكتب حول ذلك فقال: «كانت هناك باخرة تعود إلى ابن المرحوم الحاج زين العابدين، التاجر الشيرازي والمقيم في بومباي، وكان فيها مُستخدم أجنبي غير مؤدّب، وفاسد وطمّاع إلى حدّ بعيد. والمشكلة أنّ جميعهم يتظاهر بالإسلام، لكنّهم لا يتورعون عن فعل أي منكر وقبيح على الإطلاق، ويسرقون وينهبون بلا حدود. ومع أنّ الباخرة المذكورة كانت حديثة الاستخدام لنقل الحجاج وأمتعتهم، ومع أنّ صاحبها المسكين كان يجاهد؛ لكي تكون لباخرته سمعة طيبة حتى يستميل الحجاج لركوبها، ويجني ما قسمَ له الدهر من الأرباح، لكن، وعلى غير ما كان يشتهي، لم يكن الذين وكّلهم للإشراف على باخرته كفوئين ولا حريصين، فكانوا يزجّون بالحجاج المساكين داخل مخازن ضيقة وعلى أرضية الباخرة. ماذا أقول عمّا كان يلاقيه أولئك المساكين من صعوبات ومشاكل. كان كثير منهم يتعرض إلى الأمراض بسبب تلوّث الهواء في المخازن ونتانته. ولما لم تكن هناك أدوية ومواد صحية كافية، كان العديد من الحجّاج يقضي نحبه، وتُرمى جثته في البحر فيكون طعاماً للأسماك». (1) 3- سوء معاملة الحملدارية (مسؤولي القوافل) للحجيج:

وأما المشكلة الأخرى التي كانت تُصادف الحجيج هي المعاملة غير الإنسانية لهم من قِبل بعض الحملداريّة والمطّوفين الذين كانوا يُرافقونهم في تلك الرحلة.


1- 1 مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 174.

ص: 249

فالحملداريّة هم أشخاص يرافقون الحجّاج في رحلتهم، ويأخذون على عاتقهم الاهتمام بشؤونهم منذ خروجهم من محلّ سكناهم حتّى عودتهم إليه كما هو المفروض، إلّاأنّهم ولغرض حصولهم على أرباح أكثر كانوا لا يتورعون عن أيّ عمل قبيح أو أذى. وبهذا الصدد كتب مؤلف كتاب (تير أجل در صدمات راه جبل) يقول:

«عَمدَت زمرة من العرب والعجم الذين لا ينتمون إلى أي دين أو مذهب، ممّن يسمون أنفسهم بالحملدارية، إلى استغلال عباد اللَّه أبشع استغلال. هؤلاء الأفراد يطوفون مدن إيران وقراها كلّ عام، متلبّسين بلباس باطنه المكر والخداع، ويحاولون إقناع الناس البسطاء للسفر عن طريق الجبل، مُصوّرين لهم أنّه أفضل الطرق من حيث الأمان والهدوء وقِصَره ورُخصه، ويعدونهم عبر مواثيق غليظة بأنهم سيأخذونهم من محلّ سكناهم إلى مكة المكرمة ويعودون بهم في أحسن حال وراحة بال. لكن، وبمجرد وصولهم النجف الأشرف واستلامهم لثلث المبلغ المقرّر لهم، يقوم مناديهم وينادي أنّ أجرة الجلوس في الهودج مئتان وخمسون توماناً والركوب مئة تومان. فمن كان دفع أقل من ذلك حسب المكاتبة السابقة يقطعون منه الباقي في الطريق. فيصيح الحجيج ويمتعضون، فيقومون بإسكاتهم وتهدئتهم، فيرى الحاج المسكين نفسه قد دفع ثلث المبلغ ولمّا يبلغ مرامه. فإذا رفض الدفع لم يحصل على شي ء سوى أمتعته، فيضطر المسكين إمّا إلى الاستدانة متحمّلًا الذلّ والعار، أو بيع أمتعته أملًا في الحصول على الراحة والاستقرار ... وبعد الخروج من النجف واليأس من العودة إلى الديار، يقومون بالتضييق على الحجيج في المأكل والمشرب بشكل لم يره أذلّ الأسرى. فهم يضيّقون على الحجيج حتى في إعطائه الماء للطهارة والوضوء.» (1)


1- 1 كتاب تير أجل در صدمات راه جبل، مجلة ميقات الحجّ، العدد 35: 89.

ص: 250

وكتب الحاج (ميرزا علي الأصفهاني) حول سوء معاملة الحملدارية للحجيج يقول:

«إبتُليتْ إحدى النساء المحترمات، من العائلة المالكة في (تويسرگان)، وهي شابة في مقتبل العمر، بالماليخوليا في مدينة (كظيمة) وبسبب ذلك، وضعت جنينها في الطريق ولمّا يبلغ السبعة أشهر. فعمد العكّام الظالم (على ما نُقِل) بدفن ذلك الجنين البري ء حيّاً! وعلى أثر ذلك، وبسبب مشاهدة الأم لهذا المنظر، فقدت المسكينة عقلها، واختلّت أعصابها، واظلمت الدنيا في عينيها. فلو كانت هذه المجللّة المحترمة في وطنها وبين أهلها وأرادت الولادة لحفّ بها الخدم والحشم، ولتوفّرت لها كل أسباب الراحة والاستقرار، من القابلات وأدوات الولادة الكاملة والصحية، لكنها الآن تضع جنينها في وسط الصحراء، بعيدة عن أهلها، في هودج في وسط الطريق! يا إلهي! ما الذي حدث لأبناء عمومتها وأقاربها عند سماعهم عن حالة هذه المسكينة وكيفية وضعها لحملها، ودفن طفلها بهذه الكيفية؟! وها هي أسيرة المرض والألم، حتى لبّت نداء ربّها في الساعة الخامسة وستّ دقائق ليلًا، حيث نزلت عليها الرحمة الإلهية، ففارقت تلك العفيفة المحترمة هذه الحياة بهدوء وسكينة! لقد أدمت مصيبتها القلوب حقاً ... وتمّ دفن تلك المرحومة في الصحراء تحت ثرى الغربة. لا حول ولا قوة إلا باللَّه.» (1) وكان للمطّوفين أحياناً نفس الأسلوب الذي كان يستخدمه الحملداريّة مع الحجيج. فقد كانوا يُجبرون الحجّاج على دفع إتاوات ورشاوى، بعيداً عن أي مذهب أو دين.

كتب (نجم الملك منجّم باشي) حول ذلك فقال:

«جرت العادة على هذه الحال سنوات عديدة، حيث يقوم كلّ حاج بدفع


1- 1 به سوى أم القرى، يوميات ميرزا علي الأصفهاني: 206.

ص: 251

ريالين إفرنجيّين (ويعادل ذلك اثني عشر ألف دينار) إلى السيد حسن المطوّف ليقسمها بعد ذلك على الخدام والسدنة. فهذا الرجل المتوحش والقليل الأدب يقتحم هو وجماعة من الخواجات والعسكر خيم الحجّاج في أنصاف الليالي لتحصيل تلك المبالغ. ويقوم أحياناً بالإغارة ليلًا على الحجّاج وهم نيام لوحدهم أو مع عيالهم دون إذن وبلا وازع. ثم يبتزّون منهم المبالغ عنوة مستخدمين أخسّ الأساليب.» (1) وكتبت ابنة (فرهاد ميرزا) كذلك في يومياتها تقول:

«اليوم، بقي بعض الحجيج في المدينة (المنورة) عند خروجنا منها؛ لأنهم دخلوها بينما كنّا نروم الخروج منها، ومنهم من جاء عن طريق (ينبُع) ومنهم من استطاع الفرار من (رابغ)، وقد أعطوا الحملدار مبلغ ألف ريال كإتاوة، فأخذها وهرب. وقطع بعض الرجال الطريق على الحجيج في (رابغ) وطالبوهم بدفع الإتاوة، ولما كان هؤلاء الحجيج المساكين قد أعطوا جميع أموالهم إلى الحملدار، فقد أُجبِروا على البقاء هناك، لكن بعضهم استطاع الفرار والخلاص من أيديهم. ويبدو أنّ الحجّاج الذين جاءوا عن طريق (ينبُع) قد قابلوا الشريف هناك. وقد أراد هؤلاء الأشرار من قبل تمرير هذه الحيل والألاعيب علينا يوم تحرّكنا من المدينة، وعندما لم يتمكنوا من ذلك معنا استغلوا هؤلاء الحجيج المساكين ...» (2) 3- حيل الحملدارية وألاعيبهم:

يُمارس جماعة من الحملدارية بعض الحيل والخدع مع الحجيج أثناء مسيرهم إلى الحج. ومن جملة تلك الحيل، ما أورده صاحب كتاب (تير أجل در صدمات راه جبل):


1- 1 سفرنامه شيرين وپر ماجرا، مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 181.
2- 2 سفرنامه مكه، بقلم إبنة فرهاد ميرزا، مجلة ميقات الحجّ، العدد 17: 92.

ص: 252

«أولًا: لمّا كان أغلب الحجّاج يفضلون السفر بطريق البحر هذه الأيام، وإنّ معظم حجيج البحر يصلون إلى مكة قبل حجيج طريق الجبل؛ لهذا يُحاول الحملدارية الوصول قبل الحجّاج إلى مكة خلسةً قبل يوم أو يومين متجاوزين بذلك الإحرام، فيرتدون أفخر الملابس ويقومون باصطياد ضحاياهم بلسان ناعم، خاصة القرويين والرعايا السّذج، فيعطونهم الجِمال ليذهبوا بها إلى منىً وعرفات. وبعد رجوع الحاج من هناك يُصفّون حسابهم معه وينتهي كل شي ء حسب الظاهر. لكنهم في طريق العودة يطالبون الحاج المذكور بأجرة ركوبه الجمل الذي أخذه إلى منى وعرفات، ولا ينفع حينئذ صراخ الحاج عندما يريد إفهامهم أنّه قد صفّى الحساب مع أولئك الرجال وبضمنه أجرة ركوب الجمل المذكور.

فيضطر المسكين إلى دفع الأجرة وقدرها تومان واحد مقابل كلّ جمل.

ثانياً: وقد يتّفق بعض الحملدارية مع هذا النوع من الحجّاج ويتمّ صفقته معهم شفهياً، ثم يقول الحملدار: الآن وقد تمّ كلّ شي ء فليدفع كل واحد منكم (4) تومانات ليطمئنّ قلبي! وفي الوقت المناسب، خاصة عند خروج الحجيج ورجوعهم وانشغالهم بعدة أمور، يأتي إلى الحجيج وهم في عجلة من أمرهم مع شخص يؤيّده كذباً أنّه يطلبه فعلًا، قائلًا لهم: إنّه اشترى من هذا الشخص بعيراً ويريد بعض المال منهم لأداء دَينه! فيقولون له: حسنٌ، اعطه وسجّل ذلك على الحساب. فيقول مستعجلًا كذلك: لا وقت لدي الآن. تحاسبوا أنتم معه أو اعطوه ثلث المبلغ على الحساب! وعندئذ يعطونه أو يعطون المُرسَل من قِبل أمير الحاج مبلغ ليرة أو إمپريال واحد! وعند خروج الحجيج من المدينة واطمئنان الحملدار أن لا طريق للعودة أمام الحاج، تبدأ محاسبته ويبدأ بالمماطلة والتّسويف، ويصرخ الحاج! فإذا احتكموا إلى الشرع، يُؤمر الحاج بدَفع مبلغ ما إلى الحملدار. وهكذا، يجني الأخير بعض المال بهذه الحيلة وهي على أنواع كثيرة، لكننا سنكتفي بهذا المقدار.

ص: 253

ثالثاً: قد يحصل على الأغلب أن يدفع الحاج الإتاوة ويأخذ وصلًا بذلك، وعند المحاسبة ينكر الحملدار أنّه كان قد قبض من الحاج أيّ مبلغ، وأنّه (أي الحملدار) قام بإعطاء الوصل إلى الحاج الذي وعده بإعطائه الإتاوة فيما بعد. ثم يُقتاد المسكين إلى أمير الحاج فيخبره الأخير أنّ أي وصل لا يحمل ختمه يُعتبر باطلًا، وأنّ على الحجّاج أن لا يُعطوا أي مبلغ للحملدار دون علمه، ممّا يضطر الحاج المسكين إلى دفع تلك الإتاوة ثانية. فإذا كان الحاج ذا قوة وبأس، يقتادونه إلى الشرع، فيتمّ إرغامه على دفع المبلغ كلّه أو نصفه بعد القسم أو المصالحة!

رابعاً: يتعهّد الحملدارية في النجف أو مكة المكرمة في المقاولة التي تتمّ بينهم وبين الحجيج بالالتزام بأخذهم إلى المكان المقصود بمبلغ معيّن يتضمّن تحمّل الحملدارية كل المصاريف في الطريق ودون أيّ استثناء. وقد يُكتب ذلك بالتفصيل أيضاً، لكنّ الحملدارية لا يوفون بأيّ التزام يُذكر». (1) 5- المخاطر والسرقات:

يُعتبر قَطع الطريق أو السرقة من بين المشاكل الكبيرة الأخرى، التي كان يواجهها حجّاج بيت اللَّه الحرام.

يقول الشاعرالفارسي الكبير (سعدي) في كتابه المشهور (گلستان): «كنتُ في أطراف مكة لا أقوى على المشي من قلة النوم، ومع ذلك قلتُ للجمّال:

أتركني لحالي!».

پاى مسكين پياده چند رود كزتحمل ستوده شد بُختى

تا شود جسم فربهى لاغر لاغرى مرده باشد از سختى (2)


1- 1 كتاب تير أجل در صدمات راه جبل، مجلة ميقات الحجّ، العدد 35: 99.
2- 2 «وترى هذه الرِجل المسكين تقطع الطريق حافية؛ متحملة كل المشاق، حتى يغدو الجسم الناصع ضعيفاً هزيلًا، والجسم الضعيف يصير ميتاً من شدة الصعوبات، وأما الإبل القوي فيمدح فى هذا الطريق فقط» [المترجم].

ص: 254

فأجاب: يا أخي! إنّ الإحرام أمامك واللّص وراءك. فإذا ركبتَ نجوت، وإذا تخلّفتَ هلكت!»

وأما (مولوي) فقد أنشد الأبيات التالية لنفس الغرض:

عزّت مقصد بود اى مُمْتَحَن پيچ پيچ راه و عقبه و راهزن

عزّت كعبه بود آن ناحيه دزدى اعراب و طول باديه (1)

وأنشد (جُنيد الشيرازي) البيتين التالين واصفاً اللّصوص وقطّاع الطرق:

مباز عشق اگرت طاقت ستم نبود كه در طريق وفا جز بلا و غم نبود

حريم كعبه مقصود بى حرامى نيست تو را كه خوف بود راه در حرم نبود (2)

ويصف (ميرزا علي الأصفهاني) اللصوص والإغارة على أموال الحجيج بقوله:

«بعد أن تحركنا من المدينة وسرنا مسافة قصيرة، لاحظنا أنّ الحملدار قد انحرف في مسيره عن (مسجد الشجرة)، فبدأت الهواجس تنتابنا والأفكار تأخذنا في سبب عدم مرورنا بالمسجد المذكور. وقال مسؤولو القافلة: إنّه لا يمكننا المرور بمسجد الشجرة وإنّ علينا أن نُحرم بمحاذاته.

فنزلنا عن جِمالنا واغتسلنا وأدّينا تلبية الإحرام. فبينما كان جمع منّا مشغولًا بالتلبية، وكان جمع آخر قد انتهى من ذلك، تغمرنا حالة الخشوع والخضوع والتّوجه نحو البارئ عزّ وجل، تعالت أصوات الطلقات النارية خلف القافلة،


1- 1 مرّت ترجمة هذين البيتين في ص 5.
2- 2 «لا تخسر الحبّ إذا لم تكن قادراً على تحمّل الظلم والقهر، واعلم أنك لن تصادف شيئاً في طريق الوفاء إلا البلاء والهمّ. واعلم كذلك أنّ حرم الكعبة لا يخلو من اللّصوص، فإن كنت ممّن يخاف فلن تجد طريقك إلى ذلك الحرم.». ديوان جُنيد الشيرازي: 19.

ص: 255

واستعرت نيران الحرب والفتنة.

فأسرع الحجيج المساكين إلى ركوب جمالهم وهم حفاة وانطلقوا هاربين، في حين ما انفك الغزاة يواصلون إطلاق النيران. وأما المسؤولون عن القافلة، فلكي يُبعدوا عن ساحتهم كلّ شبهة، راحوا يتحرّكون هنا وهناك متظاهرين بالدفاع والمقاومة. فيما تزايد إطلاق العيارات النارية من الجبال المحيطة. وكانت قافلة الحجيج بالطبع هي الهدف المقصود. فجفلت على أثر ذلك بعض الجمال وتفرّقت مرتبكةً هنا وهناك، وسقطت الكثير من الهوادج من على ظهورها. فاستغلّ الجمّالون الخبثاء هذا الوضع وبدأوا بنهب أموال الحجيج. بل وكانوا يُسقطون الأحمال والحجّاج المساكين من على ظهور الجمال. وما فتئت أعداد اللصوص تكثر وتزداد، وبدأت الطلقات النارية تتجه نحو القافلة من ثلاث جهات. وهكذا تجسّمت أمامنا أبشع الأعمال. فالجمال بدأت بالهروب واحدة تلو الأخرى، والأمتعة والهوادج طريحة الأرض، وظلّ المعتمرون المحرمون يتراكضون على صخور الصحراء وأحجارها، ويدوسون الأشواك حفاة، حيارى لا يعلمون شيئاً عن مصيرهم.

وأما النساء المجلّلات، فقمن بالهروب حفاةً على غير هدًى كذلك، وهنّ لابسات لباس الإحرام، ينشدن الخلاص والنجاة. لكن الغزاة الطغاة لم يكونوا ليعطوا أحداً فرصة الهروب أو الفرار. الحقّ أنّ ذلك المنظر كان يمثل مشهداً من مشاهد يوم القيامة! فالطلقات النارية تمرّ بالقرب من آذان المسلمين، الذين تعالت صيحاتهم وأصواتهم وملأت أركان الصحراء قائلين: وا محمّدا! كان مثلهم كمثل قطيع الغنم الذي تلاقفته الذئاب. وسقطت جموع الأطفال الأبرياء والمرضى المساكين والنساء الخائفات تحت أقدام الجمال، وظلّوا هدفاً للطلقات النارية وهم محاصرون بين الجبال وحجارة الصحراء. كان ذلك تقدير العزيز القهار! وظلّت الحالة هكذا مدة ثلاث ساعات تقريباً، وتمّ للصوص ما أرادوا من تخويف الحجيج

ص: 256

برصاصاتهم، ومال مقدّم القافلة نحو وادٍ قريب على الجهة اليمنى من القافلة. فاشتدّ الأمر هناك، وسقط الكثير من الهوادج على الأرض، فكان حالها بشكل لا يمكن للقلم أن يوصفه. الحقّ أنّ ذلك المنظر كان يعبّر عن مصداق الآية القائلة يَوْمَ يَفِرّالمَرْءُ مِنْ أخِيِهِ (1)

. إضافةً إلى كل ما لاقاه الحجيج من الخوف والرهبة والتعب والهروب حفاةً على صخور الصحراء وحصاها، فقد أخذ الظمأ منهم كلّ ما ادخروه من طاقة، ويبست أفواههم حتى من اللّعاب. وسمعتُ السيد المسكين يقول: لم أعد أرى شيئاً، واظلمت السماء والأرض أمامي.

گر نويسم شرح آن بى حد شود مثنوى هفتاد من كاغذ شود (2)

وعلى كلّ حال، فقد وصل الجمّالون الزنادقة إلى ما أرادوا ولعبوا لعبتهم مع الحجّاج، فكانوا يُلقون الحاج من على ظهر دابّته ويسرقون متاعه. وأضحت تلك الأجساد الرقيقة الوديعة طُعماً لرصاص أولئك الظالمين الذين انشغلوا بالنهب والسّلب، وانهمك كلّ امرئٍ فيما يَعنيه، فلا يُعلم منهم الحي ولا الميّت. وأخيراً، نزلنا من ذلك الوادي وإذا بمحيا المدينة الطيبة يتجلّى من بعيد، ولاحت السكك الحديدية، وعلم عساكر القطار بالأمر فهرعوا للنجدة، واقتتلوا مع أعداء الدين وتمكنوا من طردهم والحيلولة بينهم وبين ملاحقة قافلة الحجيج الذين تطلّعوا إلى المدينة، بين مسلوب ومنهوب ومجروح وجائع وظمآن وحافٍ وعريان، في حال يُرثى لها. ونزلوا بظهر المدينة، بينما ظلّ كثيرون منهم في ذلك الوادي المهول، يتخطّفهم الموت من كلّ جانب، لا يقوى واحد منهم على السير. وكانت حصيلة الحادثة أن سقط الكثيرون برصاص الأعداء، وجُرِح عدد آخر، ونُهبت اللّيرات والأمتعة والصكوك والذهب والحليّ والسجّاد، وأشياء أخرى لا يمكن للقلم أن


1- 1 سورة عبس: الآية 34.
2- 2 «ولو أردتُ شرح ذلك المنظر وتدوينه على الورق لاحتجتُ إلى سبعين منّاً من الورق.».

ص: 257

يحصيها جميعاً ...» (1) وقد أشارت ابنة (فرهاد ميرزا) أيضاً إلى بعض الجرائم التي ارتكبها أولئك اللصوص الجفاة و قُطّاع الطرق الأجلاف، و تصرّفهم اللّا إنساني مع الحجيج، فقالت:

«تخلّف عنا يوم الأحد حاج من جرجان، وكان لزوجته كذلك هودج في قافلتنا، فلما وصلنا منزلًا في الليل، علمنا بأنه ظلّ في الصحراء. فبعث المسؤولون عن القافلة رجلًا للبحث عنه، فعاد به صباح يوم الثلاثاء. ثم تبيّن بعد ذلك أنّ فارسين من الأعراب وآخر كان راجلًا قد سألوه عن سبب تخلّفه عن القافلة.

فأجابهم هذا المسكين التعيس أنّ السبب في ذلك هو بعيره الذي توقّف ولم يعاود السير! فقالوا له: إذا أعطيتنا نقوداً فسوف نحمل لك أمتعتك. على كلّ حال حمل أولئك الرجال أمتعة هذا الحاج على جمالهم وبدأوا بالسير ببطء حتى اختفوا عن أنظار ذلك المسكين. فاضطر الرجل إلى السير مشياً وكانت معه ستون توماناً، أخذوها منه وقسّموها عليهم أمامه، وفكّروا في النهاية التّخلّص منه بقتله، فندب المسكين حاله وتمسكن أمامهم، فانصرفوا عن قتله، واستعاضوا عن ذلك بضربه حتى كاد يهلك، ثم خلعوا عنه ملابسه الداخلية واخلوا سبيله قائلين له: اذهب في هذا الاتجاه إلى أي مكان تريد! فقضى الحاج المسكين تلك الليلة في عرض الصحراء يبكي ويصيح حتى اليوم التالي؛ فعثر عليه الرجال الذين ذهبوا للبحث عنه، فأركبوه بعد أن كان على شفير الهاوية.» (2) وتضيف ابنة (فرهاد ميرزا) في مكان آخر من يومياتها قائلة:

«تحرّكنا يوم الخميس، لخمس ساعات بقين على الغروب، من (بئر خلع).

وقبل وصولنا المنزل في الليل، تعالت الأصوات من الجهات الأربع قائلة:


1- 1 سفرنامه حج لميرزا علي الأصفهاني: 193 و 194.
2- 2 سفرنامه مكه بقلم ابنة فرهاد ميرزا، مجلة ميقات الحج، العدد 17: 74.

ص: 258

لصوص ... لصوص!. ثم تبيّن أنّ اللصوص قد سرقوا هِميان ابن الحاج عبد الهادي الإسترابادي الذي يُتاجر في بغداد، مع رزمة ثيابه من تحته. فكانوا يرمون بالحجارة على المشاعل لإطفائها؛ ليتمكنوا من التّحرك خلال صفوف الحجيج ويقوموا بهذه الحركات، كما قيل عن (حسين كُرد) في الكتب من أنه ...» (1) ثم تُضيف:

«وما إن وصلنا منزل (ربّ الحسان) وأراد الحجّاج المساكين أخذ قسط من الراحة حتى ارتفعت الأصوات تصيح: لصوص ... لصوص! فعلمنا بعد حين أنّ متاع (حسن خان نامي) من أهالي شيراز، قد سُرِق. لكن (حسن) هذا أبدى شجاعة وجرأة، حيث طارد اللّص، والليل قد بلغ منتصفه، لكن اللّص استطاع أن يضربه على رأسه، فرجع المسكين برأس مشدوخ. وقد كان متاع (حسن خان نامي) يحتوي على شي ء من الرّز والدقيق وملابسه بالطّبع. وهكذا فلم يبقَ له إلا رأسه المكسور ...!» (2) وقد أورد (ميرزا داود) وزير الوظائف آنذاك وقائع فظيعة في يومياته تُشير بوضوح إلى أنّ القتل والنّهب والإغارة على أموال الناس كان أمراً عادياً. يقول ميرزا داود:

«ومن الحوادث المروعة التي حصلت في الطريق في ذلك الوقت، هي أنّه كان يوجد شاب (وهو ابن أخي مقوّم باشي)، وكان يتمتع بشخصية متميزة بين الحملدارية. وقد اعتاد هذا الشاب الوسيم على ركوب الفرس. وكان يوجد في (بئر جديد) مكتب للتلغراف وبئر كبيرة وخمس خيام يسكنها الأعراب. وتقع (بئر جديد) على بعد منزلين من (هدية). وصلنا هناك بعد غروب الشمس بساعة،


1- 1 المصدر السابق: 17.
2- 2 المصدر السابق: 85.

ص: 259

وكان الشابّ المذكور قد وصل قبلنا إلى هناك بوقت قصير، وذلك لشراء العلف من أولئك الأعراب، فحدث جِدال بينه وبين البائع حول سعر العلف، فضرب الشابُ الأعرابيَ على رأسه بعود خيزران كان في يده، فبادر الأعرابي بضرب الشاب بطلق ناريّ من بندقية اعتاد أولئك الأعراب حملها معهم، وأصاب ظهر الشاب فسقط مقتولًا في الحال. ثم سارع الأعرابي إلى جبل لا يبعد عن المكان سوى مئة قدم وجلس هناك يراقب قافلة الحجيج، بينما انشغل أهله وأمّه بالبيع والشراء، وكأن شيئاً لم يحصل. وخلال هذه المدة تمّ غسل جثة الشاب ودفنها، وغاب الأعرابي عن الأنظار!

فعمد (عبد الرحمن پاشا) إلى القبض على رجلين من الأعراب وزجّهما في السجن ساعات قليلة. وقيل: إنّه قد أُصدِرَ أمرٌ بالقبض على القاتل وإرساله إلى الشام بعد عشرين يوماً، لكن لا أحد يعلم متى سيتمّ تسليم المطلوب! لقد قُتِل الشابّ المسكين دون أيّ مبرّر. وبالرغم من محاولات (السلطان) لإشاعة الأمن والاستقرار، إلّاأنّ حالة الفوضى واللّاأمن ما زالت تسود الوضع هناك. ويعمد الأعراب اللصوص إلى مطاردة القوافل حتى (مَعان) للتربّص بمن يتخلّف عن القافلة، أو القيام بسرقة متاع شخص ما في ظلمة الليل. فما فُقِد لن يُستردّ أبداً!» (1) 6- مشكلة الحجر الصحي الذي يواجهه الحجيج:

توجد في المدن الواقعة على الطريق، وكذلك في بداية الدخول إلى (جدّة) أماكن وُضِعت خصيصاً لحجر الحجّاج صحيّاً. حيث ينزل الحجيج من المراكب وتبدأ عملية تعقيم ملابسهم وأمتعتهم، وإجراء الكشوفات الصحية عليهم بعد ذلك، فإذا اكتشفوا عند أحدهم علامة لمرض ما، يقومون بحجره صحيّاً ولعدة


1- 1 سفرنامه ميرزا داود وزير الوظائف: 172.

ص: 260

أيام. وبالرغم من أهمية هذا العمل وضرورته، فقد كانت تلك مشكلة حقيقية يواجهها الحجيج هناك، وذلك بسبب سوء معاملة المسؤولين عن الشؤون الصحية للحجيج والعقبات التي يضعونها أمامهم. إضافة إلى التأخير الزائد عن حدّه في الحجر الصحي، إلى درجة يحاول معها بعض الحجّاج الهروب من المسؤولين والنجاة بأنفسهم.

وحول هذا الموضوع كتب (الجزائري) في يومياته ما يلي:

«كانت إحدى المشاكل التي تصادف الحاج الإيراني وغير الإيراني فيما يتعلق بمسألة الحجر الصحي، هي إيقافهم عراة في طابور أمام الطبيب واضعين ملابسهم وأمتعتهم في صندوق كبير، ثم يضعون ذلك الصندوق في جهاز للبخار حتى يتم تَعقيم الملابس التي فيه تماماً، ثم يحجرون على الحجيج هناك عدة أيام، قد تصل أحياناً إلى عشرة أيام أو اثني عشر يوماً، ثم يسمحون لهم بالعودة بعد ذلك إلى البواخر من جديد.» (1) وعند عودة القوافل من الحجّ، يتعرّض الحجيج في بعض المناطق أحياناً إلى التأخير بسبب إجراء الحجر الصحي عليهم من جديد. وقد كتب (اعتماد السلطنة) في تقرير له عن حجّه في عام 1363 ه حيث قال:

«يوضع كلّ من يأتي عن طريق الحجاز والشام في حجر صحيّ مدة اثني عشر يوماً، سواء عليه أكان ينتمي إلى طبقة اجتماعية راقية أم متدنية. وقد عُيّن ناظرٌ لهذا الغرض؛ يقوم بأخذ مبلغ قدره اثنان وعشرون قرشاً ونصف القرش (أو ما يُعادل أربعة آلاف وأربعمائة دينار إيراني) عن كلّ مسافر يُطلَق سراحه من الحجر الصحيّ.» (2)


1- 1 كتاب حج گذاري إيرانيان در دوره قاجار- أداء الإيرانيين لمراسم الحج في العهد القاجاري: 14.
2- 2 كتاب سفرنامه ميرزا علي خان بقلم اعتماد السلطنة: 141.

ص: 261

7- المعاملة السيئة التي يتلقاها الحجيج عند وصولهم جدة:

لا شكّ في أنّ أهمّ المسائل التي يجب مراعاتها في تاريخ السياحة والسفر هي معاملة المسؤولين للسيّاح أثناء وصولهم إلى البلد المقصود. ولا ريب كذلك في أنّ المعاملة السيئة التي يتّبعها بعض المسؤولين في ذلك البلد، واستخدامهم العنف والقسوة في التعامل مع السّياح ستترك آثارها السلبية عليهم، فيعودوا إلى أوطانهم محمّلين بذكريات لا تسرّ، وقد يعمدون إلى كتابة كلّ ذلك في مؤلَّف ويضعونه في متناول أيدي الأجيال القادمة من بعدهم.

لقد وصف (ميرزا داود) وزير الوظائف آنذاك طريقة وصوله إلى جدة أيضاً حيث قال:

«وصلنا الجمارك في الساعة الواحدة بعد منتصف ليلة الأحد بعد عناء وتعب شديدين، لقد كان المنظر هناك يشبه يوم المحشر إلى حدّ كبير، فالزحام خانق في البواخر وفي الممرات الخاصة بالذهاب والإياب، وقد قيل لنا: إنّ أحد الشيوخ من (بخارى) قد سقط تحت أقدام الجمع الحاشد وقضى نحبه! الحقّ أنه لم يكن هناك مكان في هذا العالم أسوأ من (جدّة)، حيث يؤخرون الناس مدة من الزمن في البواخر وخاصة الرعايا الإيرانيين، حيث يبعث سعادة (مفخم السلطنة)، أخي السفير الكبير (البرنس أرفع الدولة) مبعوثاً من قِبله، فيصعد المبعوث المذكور إلى ظهر السفينة وهي راسية ويقوم بعدِّ الحجّاج الإيرانيين؛ ليأخذوا خمسة قروش عن كلّ مسافر من صاحب الطرّاد. وأما الرعايا الروس والإنكليز وغيرهم فيؤخذ من كلّ واحد منهم قرشين اثنين فقط، وأمّا الإيرانيون فيأخذون منهم سبعة قروش ونصف القرش عن كلّ واحد، ولا ينفع حينئذ صراخ صاحب الطراد وهو يقول:

إنّ في الطّراد اثنين وخمسين مسافراً وحسب! فالمبعوث عن القنصل يلحّ قائلًا: بل هم سبعة وخمسون مسافراً، وأنت معهم كذلك، فيكون المجموع ثمانية وخمسين!

ثم يُدخلون المسافرين بعد ذلك إلى مكان ضيّق يحيط بهم جدار وموانع

ص: 262

خشبية وقضبان حديدية، ويسمونه ب (القفص)، وهذا القفص هو مكان الحجر الصحيّ. يأخذون من الرعايا الأجانب مبلغ قرشين ونصف القرش فقط، بينما يقبضون من الإيرانيين ما يعادل نصف مجيدي على حساب الحجر الصحيّ المذكور. ومن جهة أخرى يقوم حضرة القنصل الإيراني بتقاضي خمسة قروش من كلّ حاج إيراني مسكين، مُسلِّماً إيّاه ورقة صغيرة كإيصال للمبلغ، وعند الباب يقوم شخصان بأخذ هذه الورقة من صاحبها ثم يُخرجونه من ذلك القفص ليُدخلوه قفصاً آخر لا يقلّ عن الأول. فالزحام هو هو، والحجيج المساكين عراة في ذلك الجوّ القارس. فيقوم أحدهم بأخذ البطاقة ومبلغ قرشين عن كلّ واحد كذلك ويسلمّه ورقة صغيرة؛ يأخذونها منه عند الباب. وعند ذلك فقط يُسمَح للحاج بالخروج من الحجر الصحيّ! وبعد هذا، يستلمه الحمّال ثم يذهب به إلى مقرّ إقامته.

ويطالب الحمّالُ الحاجَ هناك بمبلغ تومانين اثنين مقابل حمله الأمتعة. وقلنا للحمّال مرّة: إنّ هذا كثير! فأجاب بالعربية: مكتوب على ...! ثم يتبيّن أنّ هذا الحمّال يقسّم المبلغ المذكور ويعطي نصفه إلى السيّد القنصل! مسكين هو الحاج الإيرانيّ!» (1) 8- ابتزاز الحجيج:

إنّ أهم مشكلة تصادف الحجّاج في رحلتهم هي تعوّد الحملدارية ومسؤولي القوافل، والعشائر في الطريق، ورجال الأمن على ابتزاز الحجيج وأخذ الأموال منهم، ويسمون ذلك بال (خاوة) أو (اخوة).

وكتب محمد ولي ميرزا القاجاري في عام 1260 ه حول ذلك فقال:

«... في طريق الجبل يقومون بأخذ (72) إخوة (وتعادل الإخوة الواحدة غازيين اثنين أو 8500 دينارٍ متداولًا آنذاك) ... ويأخذون من الأعاجمٍ (غازيين اثنين) ومن العرب غازياً واحداً، ونصف غازي من المرأة العربية وغازياً واحداً


1- 1 سفرنامه ميرزا داود وزير الوظائف: 89.

ص: 263

من المرأة الفارسية، بينما لا يأخذون من الهندي ولا الدرويش شيئاً. ويعادل الغازي (4250) ديناراً متداولًا.» (1) وذكر مؤلّف كتاب (تير أجل در صدمات راه جبل) ما يشبه الكلام الذي ذكره محمد ولي ميرزا، حيث قال:

«يقوم شيخ الجبل خلال ذهابه إلى مكة المكرّمة بأخذ حوالى (30) توماناً من الحاج الإيراني إن كان رجلًا، بينما يأخذ من المرأة الإيرانية والرجل العربي نصف ذلك المبلغ، في حين يأخذ ربع المبلغ المذكور من المرأة العربية، ولا يأخذ من أهل السنّة شيئاً، أو ربما أخذ شيئاً قليلًا. وعند العودة يأخذ من كلّ واحد حوالى (10) تومانات دون استثناء. ويتمّ تعيين شخص من قِبل شيخ الجبل مع جماعة من قطّاع الطرق لعدّ أنفار الحجّاج، بعد غلقهم معظم الطرق؛ لكي لا يتسنى لأحد الهرب من أيديهم. وأما الحملدارية، فلكي ينجوا من دفع تلك (الخاوة)، يقومون بممارسة شتى الأفعال مع الحاج المسكين. فيغيّرون هيئة الرجل الفارسي ليبدو عربياً، ويُلبسون بعض الرجال ثياب النساء، أو يُركبون شخصين مثلًا في هودج واحد، أو يُخفون آخر داخل الأمتعة والأحمال، أو يجعلون السّيد جمّالًا، أو يأمرون جماعة أخرى بالسير على الأقدام مع الفقراء، وهكذا! فيكون نصيب أولئك المساكين إما السّجن والضرب بالعصا أو البقاء في البرد أو الحرّ في تلك الصحراء، دون طعام أو شراب! وقد تدوم عملية التنكّر هذه ليلة أو اثنتين، وعلى المتنكِّر تحمّل مشاقّها من ظلمة وخوف وجزع قبل وصوله المنزل الآخر. ولا خيار للحاج المسكين في قبول مثل تلك اللعبة الدنيئة، خوفاً من تلك الجماعة أن يوقعوه في تهلكة جديدة أو تسليمه جملًا لا يحقّ له ركوبه من بداية الرحلة حتى النهاية.

فإذا نجح الحملدار في تمرير حيلته هذه على اللصوص، كان ذلك في مصلحته حيث


1- 1 كتاب به سوي أم القرى: 238.

ص: 264

سيوفّر بذلك مبلغ (30) توماناً في الذهاب و (20) في الإياب، ومع ذلك فهم لا يشكرون الحاج على صنيعه لهم ولا حتى بجرعة ماء أو اعفائه من مبلغ ما.» (1) وكتب المرحوم (مير سيد أحمد هدايتي) حول هذا الموضوع فقال:

«اليوم هو السبت، الثالث من صفر، وقد استطاع الحملدارية أخذ ما أرادو من ضعفاء الحجيج بعد صراخ وعراك. ثم علمنا أنّ (شيخ المحلّ) لن يأذن للقافلة بالتّحرك حتى تُدفَع له (الخاوة) وحقّ العبور. وبعد جدال طويل ذهب معاونو الحملدارية إلى هناك. وعَقِب انقضاء مدة ساعة، رجعوا وقد جمعوا من أصحابهم بعض المال وقدّموه إلى شيوخ المحلّ وحصلوا على إذنٍ للعبور ...» (2) 9- شحّة المياه:

وكانت شحّة المياه في بعض المناطق من ضمن المشاكل التي كان يواجهها الحجيج في سفرهم. وقد أشار السيد محسن الأمين إلى هذا الأمر بقوله:

«كانت هناك شحّة في المياه في منطقة (بئر الدراويش) وقد حُرِمَ الذين وصلوا متأخرين من الماء! حتى إنّ بعض الحمير والجمال هلكت نتيجة العطش ...» (3) وكتب (ميرزا داود) وزير الوظائف، حول ظمإ الحجيج وشحّة المياه في بعض المناطق يقول:

«لا أستطيع نسيان منظر تلك المرأة المصرية التي جاءتني لتريني أنّ لسانها قد يبس من العطش، وعرضت عليّ سواراً في يدها مقابل جرعة ماء! فلما أعطيتها الماء ورفضتُ أخذ السوار منها، عمدت إلى يدي فقبّلتها، وأرادت السجود أمام شخصي الحقير! لقد وهبتُ اليوم كلّ ما كان لدي من ماء فلم يبقَ لدي شي ء منه


1- 1 كتاب تير اجل در صدمات راه جبل، مجلة ميقات الحجّ، العدد 35: 93.
2- 2 كتاب داستان باريافتگان: 216.
3- 3 كتاب پا به پاى امين جبل، مجلة ميقات الحجّ، العدد 28: 219.

ص: 265

حتى للوضوء، ولم أستطع كذلك التطهّر من النجاسة، فقد شربوا حتى ماء النارجيلة! وصلنا بعد ظهر اليوم إلى (بئر العلم) ولم يكن فيها ماء كذلك.

سبحان اللَّه! لم يبقَ لدى الناس أيّ مقدار من الصبر. فجاوزنا (بئر العلم) حتى وصلنا (بئر درويش) لساعة بقيت للغروب. كان يشتغل عندي شاب شاميّ لم يتجاوز العشرين من عمره اسمه (عبد اللَّه)، وكان هذا الشابّ شجاعاً وذكياً، ذهب بعد ظهر اليوم حاملًا معه بعض القِرَب وركب حماراً وغاب عن الأنظار، ثم عاد لساعتين بقين لوصولنا إلى المنزل وقد ملأ قربتين بالماء فسلّمهما إلينا، ثم أسرع إلى قربة أخرى وأخذها وذهب في عجالة من أمره، وكان يردّد قوله: إنّ الماء قليل هنا! وقد يشحّ هذه الليلة أيضاً. فأعطيتُ قربة من تينك القربتين إلى الجمع هناك.

فلما وصلنا المنزل الآخر جاء الشاب (عبد اللَّه) حاملًا معه قربتين مملوءتين بالماء كذلك. كان الزحام شديداً عند البئر وكان الماء قليلًا لا يكفي الجميع. ربما شحّ الماء في الغد أيضاً. وأما العبد للَّه فلم أضع في فمي جرعة ماء واحدة طيلة اليومين الماضيين. كانت معي بطيخة وكنتُ آكل منها كلّما شعرتُ بالعطش. رجع اليوم جماعة من الحجيج، حوالى عشرة أشخاص، مع اثنين من الحملدارية كانوا قد ذهبوا لجلب الماء. وتبيّن أنّ ستة من الأعراب قد سلبوهم أموالهم وأمتعتهم وثيابهم! لكنّ المسؤول عن قافلتنا كان قد وصل بعدهم، وكان سالماً حيث لم يتعرّض إلى السّلب والنّهب. كان الماء قليلًا وشحيحاً جدّاً حتى منتصف هذه الليلة، ولا سؤال للناس هنا إلا عن الماء. وازداد الماء بعد منتصف الليل بعض الشي ء، فاستطاع الأشداء والأقوياء من الحصول على ما أرادوا منه، ثم حصل المشاة المساكين أيضاً على الماء وارتاح بال الجميع. قيل: إنّ (11) نفراً من أهالي المغرب كانوا قد هلكوا من العطش.» (1)


1- 1 سفرنامه ميرزا داود وزير الوظائف: 154.

ص: 266

هذا وقد سرد (ميرزا داود) قصة محزنة حيث قال:

«وأما الحادثة العجيبة التي وقعت لنا ونحن في الطريق بين (مكة) و (المدينة)، فهي أنه لما تحركنا من (أبيار حسن) في اليوم التالي، وقد أخذ العطش والجوع من الحجيج كلّ مأخذ، خاصة المشاة منهم، وبالتحديد المغاربة، كنا نصادف في الأزقة باستمرار بعض الزنوج يسألوننا عن الماء والطعام، بينما كنّا جالسين على جانب الزقاق نتناول طعام الغداء. وفي هذه الأثناء جاء صبيّ لا يتجاوز عمره (12) أو (13) سنة يتكدّى منا، فرمتْ إليه والدة (ميرزا عليقلي) قطعة من الخبز، فهرع صبيّ آخر ليحمل قطعة الخبز، فاشتبك الصبيّان مع بعضهما! وبينما هما على تلك الحال إذ مرّ بعير يحمل على ظهره هودجاً وأمتعة، فداس على ظهر الصبيّ الأول فسقط على الأرض، ثم عاد البعير وداسه برجله ثانيةً وجاوزه! فشعرتُ أنّ الصبيّ قد أصيب في ظهره، وعنّفتُ والدة (ميرزا عليقلي) على رميها للخبز! لكنها كانت محقّة في ذلك، ولم يكن أمامها غير هذا الفعل، فلا يمكننا التغاضي عن سؤال السائلين ونحن نجلس ونتناول الطعام، خصوصاً إذا كانوا بسنّ هؤلاء الصِّبية. وبعد ربع ساعة، جاء شخصان ورفعا ذلك الصبيّ ووضعاه على ظهر البعير وربطاه به بعد أنّ حرّك عينيه بعض الشي ء. وعلمنا بعد ذلك من (حاجي محمد علي) المسؤول عن الهودج، أنّ الصبيّ قد توفي!

ولقد تألمتُ كثيراً لهذه الحادثة وكذلك جميع الموجودين في المنزل. إذ كنّا نروم الحصول على الثواب فقتلنا نفساً بغير نفس ولا فساد في الأرض! لقد مرّ علينا ذلك اليوم وليلته كأصعب ما يكون، واللَّه هو العالم.

وفي اليوم التالي وعند وصولنا إلى (المدينة) رأيتُ وكأنّ الصبيّ راكباً على ظهر البعير وصحّته جيدة، وكانت في يده قطعة من الخبز يأكل منها! لكنّ عينيه ما زالتا تبدوان ضعيفتين ولا يقوى على فتحهما كثيراً. فسررتُ لذلك وفرحت لبقائه حيّاً.

وكان الباشا قد أركبه دابّة حتى المدينة المنورة. وفي اليوم التالي أبدى الباشا اهتمامه

ص: 267

بالحجيج، فأركب المشاة منهم، وجاءوا بالماء بعد فرسخين أو ثلاثة.» (1) 10- المشاكل الصحية:

تعدّ مشكلة العلاج والأمور الصحية الأخرى من المشاكل المهمة التي كانت تُصادف الحاج في رحلته. فلم يكن بإمكان الحجيج الحصول على المستلزمات الصحية والعلاجية أثناء الطريق أو في مكة والمدينة على حدّ سواء، ممّا كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى وفاة العديد منهم في الطريق، أو تعرّض بعض آخر إلى أمراض والتهابات مزمنة ظلّوا يعانون منها لعدة سنوات. وأما المسافرون بالبواخر والسّفن فكانوا عاجزين عن معالجة بعض الأمراض غير المعروفة؛ لعدم وجود طبيب على ظهر السفينة.

وصوّر المرحوم (مير سيد أحمد هدايتي)- م 1264 ه- الحالة داخل السفينة بقوله:

«... أصيب معظم المسافرين ببقع وبثور حمر على أجسامهم. وعند الغروب قضى أحد المسافرين الأتراك نحبه بسبب ذلك، وألقي بجسده إلى البحر. (2) وفي اليوم التالي تعرّضت السفينة إلى عاصفة بحرية وتعالت الأمواج في البحر كالجبال، وأخذت تقذف بالسفينة يمنة ويسرة، وتساقط الرّكاب بعضهم فوق بعض، فلم نستطع أداء الصلاة قياماً. وأصيب معظم المسافرين بالإسهال والغثيان، فكانت نتيجة ذلك أن توفي ثلاثة أشخاص وألقي بجثثهم إلى البحر بعد غسلها وتكفينها.» (3) ثم أضاف قائلًا:

«... وأما أنا فقد ابتليتُ بداء البحر ... وبقيتُ مُنهك القوى حتى الظهر، ثم


1- 1 المصدر السابق: 167.
2- 2 كتاب داستان باريافتگان: 111.
3- 3 المصدر السابق: 112.

ص: 268

فقدتُ بعد ذلك وعيي! وعندما فتحتُ عينيّ لساعتين أو ثلاث بقين للغروب، رأيت أصحابي مجتمعين حولي وهم يسقونني عصير البطيخ، وإذا بجسمي كله محمرّ وقد انتشرت البثور عليه وانتابتني الحمى ... وكان الحجّاج في جدّة يُصابون بحمًى خاصّة تدوم حوالى يومين أو ثلاثة ثم يُشفَون منها.» (1) وكتب (ميرزا علي خان اعتماد السلطنة) حول مرضه وعدد من الحجّاج قائلًا:

«وكالمعتاد تحرّكنا من (مزيرب) الخربة يوم الثامن والعشرين من شوال. ولا أظنّ أنّ هناك مكاناً في الدنيا أتعس من (مزيرب) ماءً وهواءً، حيث يُصاب أغلب الحجيج الإيرانيين الذين يمكثون فيه بالأمراض، ويهلك معظمهم بسبب تلك الأمراض. ومن جملة المعروفين الذين تعرّضوا لذلك هي زوجة (سليمان خان قاجار) بنت (حاجي رضا قلي خان قاجار) وكانت امرأة وجيهة وجميلة، حيث توفيت في منزل (تبوك) الذي يبعد أربعة عشر منزلًا عن المدينة. فدُفع مبلغ (120) توماناً إلى الحملدار لتُحمل جنازتها وتُؤخذ إلى المدينة خُفية حيث دُفِنت في البقيع؛ لأنّ أهل السنة هناك لم يكونوا ليسمحوا بتحريك الجنازة من مكانها.

وامرأة أخرى (جارية تركية) كذلك من (مهد عليا) وهي والدة (أقدس همايوني) و (رفيع خان نائب فراش باشي) تعرّضت لمثل هذا الحادث، وغيرها كثير.

وأنا شخصياً كنتُ من ضمن المرضى بل الموتى آنذاك لولا رحمة اللَّه، حيث تعرّضنا إلى حمىً قبل ثلاثة أيام من تحرّكنا من (مزيرب) فاتّصلنا بميرزا محمود حكيم باشي (والد الشاه) لكنه لم يهتمّ بالأمر. كان معنا الطبيب (حيدرخان شيرازي) المقيم في (الشام) لكنه قال: بأنه لا يعلم شيئاً عن الطبّ، وأعطاني ثلاثة أنواع من الدواء في يوم واحد، فأصابت قلبي حُرقة شديدة، بل لظى مشتعلة،


1- 1 المصدر السابق: 144 و 221.

ص: 269

والعياذ باللَّه. وأدى ذلك إلى إصابتي بالغيبوبة في نفس اليوم الذي كنا نروم التحرّك من (مزيرب). فعلم (حاجي آقا محمد حكيم التبريزي) ابن المرحوم الطبيب (آقا إسماعيل) بالأمر، وبسبب ما كان بيننا من ودّ وصداقة، أسرع إلى هناك ودرس حالتي فطلب نقّالة في الحال ووضعني عليها، وهيّأ لي الطعام والدواء. وعند (عين الزرقاء) على بعد ثلاثة منازل من (مزيرب) يئس الجميع مني حيث كنتُ فاقداً للوعي ولا أعلم شيئاً عن نفسي.» (1)وكتب (ميرزا داود) وزير الوظائف، عن مرض أحد أصدقائه وهو (حاجى آقا نور الدين گنابادي) الذي أودى في النهاية بحياته في المدينة، حيث قال:

«عندما كنتُ راجعاً من الحرم ليلًا، صادفتُ (حاجى آقا نور الدين گنابادي) فسألته عن أحوال أخيه (آقا جلال الدين) فأجاب: أنه مريض منذ مجيئه بالأمس.

وقبل يوم من وصولنا وأثناء نزولنا لتناول طعام الغداء، كان هودجهم قد استقرّ بالقرب منّا، فرأيته وسألته عن أحواله، وقد لاحظت ورماً تحت عينيه وفي قدمه، فسألته عن ذلك، فأجاب: ليست حالتي على ما يرام، وأنا مُصابٌ بالإسهال كذلك. فقلت له: ربما كان ذلك بسبب التيبّس والانقباض. وأوصيته بتناول دُهن الخروع عند وصوله إلى المدينة، وعلمتُ أنه لم يعمل بنصيحتي، فلما زرته في المرة القادمة شاهدتُ أنه موضوع لجهة القبلة وهو في حالة اللّاوعي، وقد أتوا إليه بالطبيب بعد أن غطّوا رجليه بشمع الخردل. فعدتُ إلى منزلي في الساعة السادسة، وتناولتُ شيئاً من الطعام ثم خلدتُ إلى النوم. وعند الصباح الباكر جاء نفر وأعلمونا أنّ (آقا جمال) قد توفي! فهنيئاً له! لقد قُبضت روحه في ليلة الجمعة التي صادفت يوم عاشوراء. سبحان اللَّه! لم يقسم اللَّه لهذا الرجل العودة إلى إيران ليتابع أعماله من جديد، فشاء سبحانه أن يقبض روحه هنا. فقمتُ من مكاني وذهبتُ


1- 1 سفرنامه ميرزا عليخان اعتماد السلطنة: 93.

ص: 270

لتهيئة مراسم الجنازة. وتمّ دفنه في (البقيع) بمحاذاة الحرم الشريف من جهة القبلة أمام قبر السيدة (فاطمة بنت أسد عليها السلام) وجاء نفر من طرف دائرة المحاسبة وطالبوا بتسليم أمواله ومتعلّقاته ليجردها بيت المال. فكلّمتهم بحدّة، فأسفر ذلك عن نتيجة إيجابية، فاكتفوا بتدوين اسمه، ورحلوا بعد أن طلبوا منا دفع ثلاث أو أربع ليرات، فمنعتهم من دفع ذلك أيضاً.» (1) 11- عدم الاهتمام بأعمال الحجيج ومناسكهم:

لقد كان على الحجيج تحمّل الكثير من المشاقّ؛ لكي يتمكنوا من أداء مراسم الحجّ بشكل صحيح ومقبول. وكان التأخير الحاصل في تحرّك القوافل أو الإسراع في لبس الإحرام وأداء الأعمال الأخرى كالطواف والسعي، كان كلّ ذلك وغيره يسبب المشاكل للحجيج. وقد شرح مؤلف كتاب (تير أجل در صدمات راه جبل) تاسع مشاكل سفره إلى الحجّ كما يلي:

«تاسعاً: عدم التوقّف في الميقات لغرض الإحرام، وهذا ظلم عظيم يكابده الحاج، رغم أنّ ذلك لا يدرّ عليهم أيّ نفع أو فائدة. فرغم مجي ء هؤلاء المساكين من بلاد نائية، وتحمّلهم لكلّ تلك المصاريف والمشاقّ لأداء فريضة الحجّ بدءًا بالإحرام الذي يجب أن تُقام طقوسه في الميقات، فيبادر هؤلاء القوم لحرمانهم من ذلك. وكما هو معلوم لأهل العلم فإنّ أداء مقدّمات الإحرام كتنظيف البدن وتطهيره والتنوير والغسل والصلاة وذكر النيّة والنّطق بها، وغير ذلك من الأمور التي يجب تلقينها للحاج، كلّ ذلك لا يمكن أداؤه بدون وجود المنزل الخاص بها. وكانت عادة أمير الحاجّ خلال السنوات الماضية التوقّف هناك في وسط النهار مدة ساعتين.

لكن مالعمل؟ فلم يصل الحجيج بعد. يجب على الحاج أن يتغلب أولًا على خوفه ويحذر قطّاع الطرق والتّخلف عن القافلة. وإذا فعل ذلك فلن يبقى له أيّ وقت كافٍ


1- 1 سفرنامه ميرزا داود وزير الوظائف: 156.

ص: 271

لتبديل ملابسه وأداء التلبية. وإذا حسبنا تكاليف الماء الذي يحتاجه الحاجّ فقد تصل تلك التكاليف إلى خمسين توماناً، هذا إذا كان قد تأخر عن الركب، وإذا كان موجوداً في القافلة فلن يكون لديه الوقت الكافي لفعل ذلك. وبالجملة فإنّ الحاج غالباً ما يُحرم من فيض الإحرام.»

وذكر في يومياته أيضاً:

«... وأسوأ ما في الأمر هو وصول الحاج على الأغلب إلى مكة في السابع من ذي الحجة، فيتوجّب عليه حينئذ الإحرام في الثامن (من الشهر المذكور) ليتهيّأ لمراسم الحجّ، ثم الذهاب إلى منًى. وهناك، وبين العدد الهائل من الحجيج الذي يزيد على مئة ألف، يتخبط الحاج المسكين يومين وليلة وهو يجهل كيفية تأديته لمراسم الحجّ. فأيّ الأعمال يؤدي؟ فعند وصوله عليه أن يبحث عن منزل له ونقل حاجياته إليه وغير ذلك، ولهذا لن يبقى لديه الوقت الكافي لأداء أعمال العمرة من غسل وطواف وتقصير ومستحبّات أخرى. فهو لن يجد الوقت الكافي لفِعل ذلك أبداً، فالوقت قصير ولن يستطيع الحاج إلا أداء اليسير من تلك الأعمال. وإذا بفريضة الحج التي جاء من أجلها تبدو وكأنها عمرة وليست حجّاً! فهذا ما يصادفه الحاج، خاصة عند وصوله إلى عرفات ومنًى، حيث يرى كلّ أعماله وقد ذهبت هباءً. وفي مكة كذلك لا يجد الحجيج وقتاً كافياً للاستفسار والسؤال عن شي ء لتعويض ما فاته. لكن إذا وصل الحجيج قبل يومين أو ثلاثة من ذلك، فلن يعاني من هذه الأمور بالطّبع. فالمساكين رغم تحمّلهم كلّ تلك المشاقّ والكفّارات فهم لا محالة عائدون بخُفّي حنين!» (1) 12- عدم رعاية الشؤون الصحية في الأماكن المقدسة:

وأما المشكلة الأخرى التي يعانيها الحجّاج هي عدم رعاية الشؤون الصحية


1- 1 كتاب تير أجل در صدمات راه جبل، مجلة ميقات الحجّ، العدد 33: 94.

ص: 272

في الأماكن المقدسة خاصة في الحرمين الشريفين.

فقد كتب (ميرزا عبد الغفار خان نجم الملك منجّم باشي)- 1296 ه- بهذا الخصوص قائلًا:

«إنّ الصفا والمروة جبلان صغيران يقعان على أطراف المسجد الحرام على بُعد 300 ذراع ... وبينهما سوق ومعبر عام. ويقع المسجد الحرام على جانب من ذلك المعبر في حين تحتلّ بعض العمارات والدكاكين الجانب الآخر منه. وتعتبر هذه البقعة من الأرض مقدسة وطاهرة للغاية، فلا شكّ في أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وبعض الأنبياء في السابق والأئمة الطاهرين والأولياء قد مرّوا بهذه البقعة مراراً وتكراراً.

ومع ذلك فإنّ أهالي مكة قد حوّلوا هذه البقعة إلى أقذر ما يمكن تصوّره، وأصبحت مأوًى لكلاب مكة قاطبة.» (1) وقال في مكان آخر من يومياته ذاكراً مشاهداته في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله:

«لقد رأينا بأمّ أعيننا في المسجد النبويّ جماعة من الهنود وقد أقاموا هناك؛ بادية عليهم علامات القذارة والوساخة. وكان دَيدَنهم كلّ يوم الجلوس على البُسُط النظيفة، منشغلين بقتل القمّل، والاضطجاع والتّحرك هنا وهناك بكلّ وقاحة، دون أن يجرُؤَ أحد على الاعتراض على ما يقومون به. (2) ولفقدان المستلزمات الضرورية في منًى أثناء تقديم القرابين، يضطر بعض الحجيج إلى نحر الذبيحة هناك أمام الخيم، ورمي اللحوم وفضلات الحيوانات في نفس المكان تحت أشعة الشمس المحرقة! فينتج عن ذلك فساد تلك اللحوم وانتشار الأمراض المختلفة.

إضافة إلى ذلك فقد اعتاد بعض الأهالي هناك أو الحجيج القادمين من بلدان


1- 1 مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 178.
2- 2 كتاب سفرنامه شيرين وپر ماجرا، مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 181.

ص: 273

أخرى إلى تقطيع لحم الذبيحة ونشرها في الهواء الطلق؛ لتجفّ وتتمّ الاستفادة منها طوال السنة، وهو عامل مساعد لنشر الأمراض.»

وكتب (نجم الملك منجّم باشي) حول ذلك فقال:

«إنّ الذبائح التي تُقدّم في عرفات تؤول معظمها إلى جماعة من السّود، حيث يتمّ نشر تلك اللحوم على صخور الجبال وتحت أشعة الشمس؛ لتجفّ بسرعة، تمهيداً لخزنها لتكون ذخيرة لهم طوال العام.» (1) ويضيف قائلًا:

«لقد تمّ حفر بعض الخنادق لدفن دماء القرابين وفضلات الحيوانات، لكن الحجيج لا يعيرون أيّ اهتمام لذلك، فكلّ منهم ما زال يذبح قربانه أمام خيمته؛ ولهذا السبب فقد أصبح الجوّ هناك موبوءاً إلى درجة كبيرة بالرغم من جمع تلك الفضلات بالتدريج ...» (2) 13- المعاملة غير الإنسانية التي يعامل بها المرضى والموتى:

لقد كان التعامل الذي يُبديه بعض الحملدارية مع المرضى بل وحتى مع جثث الموتى مزرياً للغاية، ولا يحتاج هذا الأمر إلى شاهد ممّا كتبه الرحالة، فهم متفقون على هذا.

14- التمييز في معاملة الحجيج:

إنّ مشكلة اتباع أسلوب التمييز في المعاملة هي من ضمن المشاكل التي كانت تصادف الحجيج الإيرانيين، بل وغير العرب عموماً.

كتب (ميرزا عبد الغفار خان نجم الملك منجّم باشي) الذي تشرّف بأداء مراسم الحجّ في عام 1296 السطور التالية حول هذا الموضوع فقال:


1- 1 المصدر السابق 19: 177.
2- 2 المصدر السابق.

ص: 274

«إنّ ما رأيته أنا، سليل الخانات، في أرض الحجاز، زاد من دهشتي بسبب اعتبار العجم هناك أناساً مغضوباً عليهم وحقراء في نظرهم. وبالرغم من تمتّع الحجّاج بشي ء من الرفاهية هذا العام نتيجة الجهود التي بذلها (حاجي ميرزا حسن) المفوّض المقيم في جدّة، فما زالت هناك بعض الأخطار التي تواجهنا، خاصة في المدينة المنورة، حيث يعتبرون دم الأعجميّ وماله حلالًا عليهم ومُباحاً لهم، ولا يتورّعون عن إيذائه أبداً. وحتى (السيد حسن مطوّف) المكلَّف والمسؤول عن المطوّفين الإيرانيين من قِبل (معين الملك) يتصرّف بشكل لاأخلاقيّ معهم ...» (1) ويضيف (ميرزا عبد الغفار خان) قائلًا:

«أراد أحد المزارعين الإيرانيين التشرف بالطواف في بيت اللَّه الحرام. فوضع نعله في شاله وربط الشال على ظهره ودخل المسجد الحرام. فلمحه أحد خواجات الحرم وضربه على ظهره عدة ضربات بالهراوة وهو يطوف! فشاهد أحد أقرباء المسؤولين في (البيت الإيراني) الحادثة من بعيد، وأخبر قريبه المسؤول عن ذلك، فأمر الأخير بالقصاص من ذلك الخواجة. فأُخذ ذلك الخواجة بإذن حضرة الشريف والباشا المسؤول عن مكة وضُرِب في نفس المكان الذي ضرب فيه ذلك المزارع.

ومثل هذه الانتقادات لا تُوجّه إلا نحو الإيرانيين دون العرب الذين اعتادوا على حمل نعولهم تحت آباطهم والدخول إلى المسجد دون أن يتعرّض لهم أحد.» (2) وكتب في مكان آخر من يومياته يقول:

«ومن جملة ما رأيتُ من الامتيازات التي تُعطى إلى العرب في جميع أنحاء الجزيرة العربية هي أنّه إذا حصلت منازعة بين عربيّ وأعجميّ، يحقّ للعربي المذكور توجيه أيّ نوع من التّهم إلى الأعجميّ أو سبّه بشتى أنواع السبّ، في حين


1- 1 مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 181.
2- 2 المصدر السابق: 182.

ص: 275

لا يحقّ للأعجمي التكلم ببنتِ شفة، وإلّا فسيهجم عليه الأعراب هناك ويضربونه حتى الهلاك.» (1) 15- أخذ الرشوة مقابل الزيارة:

وأخذ الرشوة هي كذلك من ضمن المشاكل التي كانت تُصادف الحجيج، حيث كان مسؤولو الأماكن المقدسة وحرّاسها يُطالبون الحاج بمبالغ من المال، فيضطر الزوّار الذين يرغبون في الدخول إلى المسجد الحرام، أو الذهاب إلى البقيع لزيارة الأئمة إلى دفع مثل تلك المبالغ وإعطاء الرشوة، وإلّا حرموا من ذلك كلّه.

وكتب الكازروني الذي تشرّف بالحجّ سنة 1936 م بهذا الصدد ما يلي:

«لم يتمكّن الحقير من دخول المسجد الحرام مع (حاجي شيخ عبد الحميد) إلّا بعد دفعنا لريالَين إفرنجيين.» (2) وأما (ميرزا داود) وزير الوظائف فكتب يقول:

«تشرّفتُ بزيارة الحرم الطاهر ليلة الجمعة، في السادس والعشرين من الشهر، الساعة الثالثة، فرأيتهم يبادرون بفتح باب البيت العتيق. فقررت الدخول إلى البيت غير مبالٍ بما يكلفني عملي هذا، وكنت حاملًا للمصحف الشريف، فوصلتُ إلى السّلم مع مطوّف كان يرتدي العمامة، فسمعته يقول بالعربية لرجل أعرابي يرتدي عمامة بيضاء عند الباب وقد فتحه قليلًا: إنّ هذا السيّد يريد الدخول وسيدفع لك ريالًا! فأجابه بالعربية كذلك: ما يخالف! (لا بأس). فأخذ العربيّ الريال، ثم وضعتُ قدمي على السّلم، ومدّ الشيخ المسنّ يده فمسكتها ودخلتُ الكعبة الشريفة وشرعتُ بتلاوة الأدعية. وكان هناك شابّ يجلس خلف الباب، فلمّا رآني دخلتُ وطاب لي المقام، جاء نحوي ووقف بجانبي ثم همس في


1- 1 المصدر السابق: 182.
2- 2 كتاب سفرنامه كازروني ميراث اسلامى ايران، المجلد الخامس: 368.

ص: 276

أُذني قائلًا: عليك أن تدفع لي مجيدياً واحداً! فقد دفعتَ (12) قرشاً فقط، ويتوجّب عليك دفع الباقي أو الخروج! ويبدو أنّه كان (ابن شيبة)! فلم أرَ بُدّاً من ذلك فدفعتُ إليه ريالًا في الحال.» (1) وأما في المدينة فكان الأمر أسوأ من ذلك، كان الحرس الموجودون في البقيع يأخذون من الناس مبالغ للسماح لهم بالدخول إلى البقيع.

وقد كتب (ميرزا عبد الغفار خان نجم الملك منجّم باشي) حول ذلك فقال:

«يُشرف على مقبرة البقيع (مقابر أهل البيت) بوّابٌ كريه المنظر، عبوس، يحمل بيده هراوة. يقوم وبقسوة بأخذ (صاحبقران) (2) من كلّ إيراني يودّ الدخول إلى البقيع بقصد الزيارة. فإذا أراد الزائر نفسه الدخول إلى ذلك المكان خمس مرات في اليوم، توجّب عليه دفع خمسة قرانات! وإذا تمّ للزائر دخول المكان، يعمد البوّاب (اللعين) إلى طرده بعد وقت قصير، ولمّا ينتهي المسكين بعد من الزيارة!» (3) كتب (محمد ولي ميرزا) الذي تشرّف بالحجّ سنة 1260 ه بهذا الشأن حيث قال:

«كانوا يأخذون مبلغ ألف دينار من كلّ واحد يريد الدخول إلى البقيع، وثلاثة قروش ممن يريد الدخول إلى الفِناء هناك، ويعادل القرش الواحد عباسياً واحداً. ويأخذون مبلغاً من المال كذلك عند قبة حرم البقيع، إذا أُريد زيارة السيدة فاطمة (ع) حتى يتمكّن الزائر من تقبيل الضريح المبارك.» (4) وكتب (فراهاني) عام 1302 ما يلي:

«يقوم قليل من الحجّاج من أهل السنة بزيارة قبور الأئمة في البقيع ومع ذلك


1- 1 كتاب سفرنامه ميرزا داود وزير الوظائف: 131- 130.
2- 2 عُملة قديمة.
3- 3 مجلة ميقات الحجّ، العدد 19: 182.
4- 4 كتاب به سوى أم القرى: 249.

ص: 277

فلا أحد يأخذ منهم شيئاً، في حين لا يُسمح لأيّ من الحجّاج الشيعة بالدخول إلى هناك إلّابعد دفعهم لمبلغ معيّن، وبعد دفعهم المبلغ يُسمَح لهم حينئذ فقط وبدون تقيّة بالزيارة كيفما شاءوا.» (1) وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ (ميرزا معصوم نائب الصدر شيرازي) الذي تشرّف بزيارة المدينة المنورة عام 1305 ه، كان قد اعترض على المسؤولين هناك بسبب عدم وضعهم المصابيح للإنارة في الليل، وكذلك على أخذهم المال من الناس للسماح لهم بالزيارة، فقيل له: إذا دُفِع لنا مبلغ (1500) تومان سنوياً، فسوف نتعهّد بإنارة المكان، والكفّ عن أخذ أيّ مبلغ من العجم عند دخولهم هناك!» (2)16- جهل الحجيج اللغة العربية:

وأما المشكلة الأخرى التي تُصادف الحجّاج هي عدم تكلّمهم اللغة العربية، وهو السبب الرئيس الذي كان يحول بينهم وبين بيان ما يريدون للآخرين، أو فهم ما يُقال لهم، خاصة عند مرورهم بالمدن والقرى الواقعة في طريق رحلتهم؛ ولذلك كانوا يقعون في عدة مشاكل، وربما فقدوا حياتهم نتيجة لذلك.

وما زال هذا الواقع موجوداً حتى الوقت الحاضر، حيث لا يتمكن الكثير من الحجّاج القادمين من أقطار إسلامية مختلفة من التّحدّث إلى الحجّاج الآخرين.

فربما جلس بعضهم إلى جانب بعض آخر ساعات طويلة في الحرم الشريف دون أن يتعرّف أحدهم على الآخر، أو ينبسّ معه ببنتِ شفة!

وختاماً:

لقد استطاع مؤلفو الكتب الخاصة بالرحلات كتابة يومياتهم بدقّة واصفين ما لاحظوه من نواحٍ اجتماعية واقتصاديّة ولم ينسوا حتّى الأحوال المناخيّة التي


1- 1 كتاب ميراث اسلامى ايران، المجلد السادس: 777.
2- 2 كتاب تحفة الحرمين: 257؛ و حج كذارى ايرانيان در دوره قاجار: 71.

ص: 278

صادفتهم في سفرهم فضلًا عن الحكّام الذين كانت لهم اليد الطولى على أرض الحجاز في الزمن الغابر، وتمكنوا من تسجيل العديد من ملاحظاتهم، وذكر الكثير من المشاكل التي كان يتعرض لها كل واحد منهم. وإذا رُمنا التّطرق إلى كلّ ما جاء في تلك اليوميات، فلن يتّسع هذا الكتيّب الصغير لاحتواء ذلك. لكنّ الأمل يحدونا في أن نجد الفرصة المناسبة في المستقبل بإذن اللَّه لنضع الكثير من المعلومات حول ذلك في متناول يد القرّاء وذوي العلاقة على السواء.

وبهذه المناسبة، نودّ الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أنّ الكثير من المشاكل والصعوبات، التي تطرّقنا إليها في الصفحات السابقة قد تمّ القضاء عليها في الوقت الحاضر بفضل اللَّه تعالى ولطفه، حيث يتمتّع حجّاج الأقطار الإسلامية اليوم بأفضل طرق المواصلات والنّقل الحديثة كالطائرات مثلًا، وينعمون بأعلى درجات الرفاهية والتغذية المناسبة، إضافة إلى حالة الأمن والاستقرار عند أدائهم لمراسم الحجّ، ممّا يَسّرَ لهم أداء هذه الفريضة العزيزة في أقصر وقت وأقلّ مجهود، والعودة إلى أوطانهم سالمين غانمين. فلا أقلّ من أن يشكروا اللَّه على نعمه، ويسعوا جاهدين إلى الاستفادة من هذه الفرصة الثمينة إلى أقصى حدّ ممكن لتنمية العناصر الروحية والمعنوية داخلهم، وكذلك الوصول إلى الهدف الذي تنشده لهم الآية الشريفة لِيَشْهَدوا مَنافِعَ لَهُم.

نسأل اللَّه تعالى أن يوفّقنا جميعاً للوقوف على هذه المسؤولية الخطيرة والمهمة، ليتسنّى لجميع حجّاج بيت اللَّه الحرام أداء مراسم الحجّ المبرور والمقبول إن شاء اللَّه، بروح متألقة وأخلاق حميدة وسلوك منسجم مع التّعاليم الدينية والإسلامية، والرجوع إلى بلدانهم في أمن وسلام.

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (12)

ص: 279

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (12)

1881- گزارش آتش سوزى مسجد نبوى در سال 866 هجرى وبناى مجدد آن از زبان يك شاهد عينى

(ترجمة فارسية ل (رسالة هداية التصديق الى حكاية الحريق) لفضل اللَّه ابن روزبهان خنجي ت 927 ه)

رسول جعفريان

ميقات مج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش) ص 106- 116.

1882- گزارش از اعزام دانشجويان به عمره

(بالفارسية)

ميقات مج: ع 22 (زمستان 1376 ش) ص 152- 162.

1883- گزارش از دو باز سازى كعبه ومسجد الحرام

محمد رضا فرهنگ

ميقات حج: ع 20 (تابستان 1376 ش) ص 104- 114.

1884- گزارش از طرح قرباني حج سال 1372

(بالفارسية)

طهماسب مظاهرى

ميقات حج س 2: ع 7 (بهار 1373 ش) ص 67- 80.

1885- گفتگو با نماينده محترم ولى فقيه در امور حج وزيارت پيرامون حج

ص: 280

(بالفارسية)

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش) ص 156- 173.

1886- گوشه اى از اسرار حج

(بالفارسية)

جعفر سبحاني

ميقات حج س 2: ع 8 (تابستان 1373 ش) ص 32- 36.

1887- لبيك اللهم لبيك: هنا الكعبة المشرفة وهذا هو البيت الحرام

محمد طنطاوي

العربي (الكويت) ع 7 (6/ 1959 م) ص 23.

1888- لقاء الحج يكشف لنا الطريق

أبو عمر

لواء الاسلام (القاهرة) س 45: ع 4 (6/ 1990 م) ص 20- 21.

1889- لقاء مع المؤرخ الحجازي عاتق ابن غيث البلادي

ميقات الحج. س 3: ع 6 (1417 ه) ص 195- 216.

1890- لقاء وحوار (حول الحج)

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه) ص 207- 237.

1891- لقاءات مجلة الموسم حج عام 1408 هجرية

بدر رشاد الدوبي

التضامن الاسلامي (مكة المكرمة) س 43: ع 7 (9/ 1988 م) ص 76- 85.

1892- للحجاج... وغيرهم

محمد سيد طنطاوي

منبر الاسلام (القاهرة) س 49: ع 12 (6/ 1991 م) ص 6- 10.

1893- اللطائف المنيفة في فضل الحرمين وما حولهما من الاماكن الشريفة

عبداللَّه عبدالقادر المصري الحنفي الفيومي ت 1011 ه

ظ

المنهل (جده) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 206.

1894- لماذا اختار النبي المدينة موطناً لهجرته؟

محمد خليفة التونسي

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 34 و 35 (1391 ه) ص 90- 101.

ع 36 (1391 ه) ص 91- 99.

ص: 281

ع 37 (1391 ه) ص 11- 20.

1895- لماذا بعث الرسول في مكة؟

عبدالقادر أحمد عطا

القاهرة: دار الاعتصام.

1896- لماذا ظهر الاسلام في جزيرة العرب؟

أحمد موسى سالم

بيروت: دار الجيل، 1977 م، 335 ص، ط 2، 1981 م، 335 ص.

1897- لماذا ظلت مكة ملتقى العلم والثقافة؟

عبدالمنعم الجداوي

الهلال (القاهرة) س 96: ع 7 (7/ 1989 م) ص 100- 107.

1898- لماذا لا يجوز لغير المسلمين دخول مكة والمدينة والاقامة فيها؟

عبدالوارث كبير

العربي ع 84 (11/ 1965 م) ص 144.

1899- لمحات فنية من آيات الحج

محمود البستاني

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه) ص 62- 70.

1900- لمحات في نشوء الحركة العلمية في الحجاز في صدر الاسلام: دور المسجد في حياة المسلمين ولا سيما الحياة العلمية خلال تلك الفترة.

سامي الصفار

في:

الندوة العلمية الثالثة لدراسات تاريخ الجزيرة العربية في عصر الرسول صلى الله عليه و آله والخلفاء الراشدين.

(الرياض: كلية الآداب- جامعة الملك سعود، 15- 12/ محرم/ 1404 ه).

1901- لمحات من فلسفة الحج في الاسلام

عبدالنافع محمود

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 108- 109 (1397 ه) ص 5- 8.

1902- لمحة تاريخية عن المدينة المنورة

علي حافظ

المنهل (جدة) حج 27: ج 10 (10/ 1386 ه/ 1/ 1967 م) ص 1292.

ج 12 (12/ 1386 ه/ 4/ 1967 م) ص 1417.

1903- لمحة عن الحج ومناسكه

محمد جواد حجتي كرماني

ص: 282

ميقات الحج: ع 8 (1418 ه) ص 79- 103.

1904- لمحة في بعض آيات الحج

عبداللَّه خياط

المنهل (جدة) حج 11: ج 9- 10 (11- 12/ 1370 ه/ 8- 9/ 1951 م) ص 389- 394.

1905- لمنْ هذه الدوارس في جنبات العقيق

أحمد سباعي

المنهل (جدة) حج 2: ج 10 (9/ 1357 ه/ 10/ 1938 م) ص 22- 27.

1906- اللهجات العاميّة في الحجاز ونجد، اسباب حدوثها وردّها الى اصولها الصحيحة

عبدالقدوس الانصاري

المنهل (جدة) حج 2: ج 1 (12/ 1356 ه/ 2/ 1938 م) ص 3- 7.

1907- ليالي مكة

علي الجمبلاطي وعبدالمنعم قنديل

مصر: دار النهضة، 221 ص، 21 سم.

1908- ليشهدوا منافع لهم

وهبة الزحيلي

ميقات الحج ع 2 (1415 ه) ص 28- 39.

1909- ليلة مكة

(على هامش رحلتي في الحجاز)

عبدالكريم جرمانوس

الرسالة (القاهرة) س 5: ع 207 (21 يونيو 1937) ص 1018- 1020.

1910- مأساة المدينة المنوّرة

عبد الحقّ النقشبندي

المنهل (جدّة) مج 23: ج 5 (5/ 1382 ه/ 10/ 1962 م) ص 279- 282.

1911- ماء الموائد

(رحلة إلى مكّة والمدينة)

عبد اللَّه بن محمّد العيّاشي ت 1090 ه

فاس: 1316 ه، 1890 ص (هجرية).

فاس: 1397 ه (اوفسيت).

1912- مائدة الزائرين

(وهو كبير جامع لأنواع الزيارات)

محمّد جعفر الاسترآبادي الشريعتمدار ت 1263 ه

ظ: الذريعة 19/ 9.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 10/ 63.

ص: 283

مائدة الزائرين الصغيرة

(مختصر من كتابه «المائدة» المبسوطة، اقتصر فيه على خصوص الزيارات، التي يمكن الإتيان بها على الوجه المأثور».

ظ: الذريعة 19/ 9.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 64.

1913- 100 سؤال حول الحج، العمرة، الزيارة

فاروق فهمي

القاهرة: 1985 م، 96 ص.

1914- ماالذي سيحدث في موسم حج هذا العام؟

أحمد أبو كفّ

التصوّف الإسلامي (القاهرة)

س 10: ع 6 (5/ 1988 م) ص 30- 32.

1915- ما انفرد به أهل مكّة

محمّد بن حبان بن أحمد ابن حبّان ت 354 ه

ظ المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 1989 م) ص 208

1916- ماذا بعد مؤتمر الحجّ الأكبر؟

محمود عبد الوهاب فايد

الاعتصام (القاهرة) س 50؛ ع 4 (8/ 1988 م)

ص 16- 18.

1917- ما رأيت وما سمعت

(مذكّرات لرحلة الزركلي للحجاز سنة 1340 ه)

خير الدين الزركلي

مطبوع في 256 ص.

1918- ما لا تعرفه عن المقصورة النبويّة والقبّة الخضراء

عبد الستار محمّد فيض

الوعي الإسلامي س 25: ع 301 (8/ 1989)

ص 110- 123.

1919- ما هي الاستطاعة، ومَنْ هو المستطيع؟

جعفر شهيدي

ميقات الحج ع 2 (1415 ه) ص 161- 169.

1920- مبادئ فن الميقات

محمّد بن يوسف الخيّاط

مكّة المكرّمة: المطبعة الميرية،

1323 ه (ضمن مجموعة من 1- 11).

ص: 284

1921- مباني حج إبراهيمى از ديدگاه امام خميني قدس سره (بالفارسية)

محمّد محمّدى رى شهرى

ميقات حج س 1: ع 2 (زمستان 1371 ش)

ص 31- 41.

1922- مبانى دينى برائت از مشركان (بالفارسية)

جواد ورعي

ميقات حج: ع 25 (پاييز 1377 ش) ص 29- 41.

264 (زمستان 1377 ش) ص 27- 42.

1923- متى حدثت الهجرة إلى المدينة المنوّرة؟

مصطفى رجب

منار الإسلام س 16: ع 1 (7/ 1990 م)

ص 34- 35.

1924- مثير شوق الأنام إلى حجّ بيت اللَّه الحرام

محمّد بن علي ابن علان

(996- 1076 ه)

ظ المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 207.

1925- مثير عزم الساكن إلى أشرف الأماكن

(في تاريخ مكّة والمدينة)

ابن الجوزي (508- 597 ه)، تحقيق:

مرزوزق علي ابراهيم

الرياض: دار الراية، 1415 ه.

1926- المجتمع الإسلامي في المدينة المنوّرة

إبراهيم الدسوقي

منبر الإسلام س 48: ع 1 (8/ 1989 م)

ص 30- 63.

1927- المجتمع الإسلامي في المدينة المنوّرة في عصر الرسالة

أكرم ضياء العمري

المدينة المنوّرة: مكتبة الدار، 1415 ه.

1928- المجتمع الإسلامي في مكّة

عبد العزيز كامل

بيروت: مطابع معتوق اخوان، 1967، 92 ص.

1929- مجتمع الشناقطة في المدينة المنوّرة

محمّد صالح حمزة عسيلان

جامعة الملك سعود، كلّية الآداب،

ص: 285

1404 ه (رسالة ماجستير).

1930- مجتمع قريش السياسي والديني في عام الفيل: أضواء على أحناف النصارى واليهود

عطا اللَّه جليان

بيروت: مؤسسة دار الكتاب الحديث، ط 1، 1987 م، 200 ص، 22 سم.

1931- المجتمع المدني: جهاد ضدّ المشركين

أكرم ضياء العمري

المدينة المنوّرة: مكتبة الدار، 1415 ه.

1932- المجتمع المدني في عهد النبوّة:

خصائصه وتنظيماته الأولى

(محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد الروايات التأريخية)

أكرم ضياء العمري

1933- المدينة المنوّرة: الجامعة الإسلامية،

1403 ه/ 1983 م، 188 ص، 24 سم

(المجلس العلمي- إحياء التراث الإسلامي، 10).

1934- مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

أكرم ضياء العمري

الرابطة (مكّة المكرّمة) س 21: ع 1 (1/ 1403 ه/ 11/ 1982 م) ص 64- 75.

1935- مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها

حسن خالد

بيروت: دار النهضة العربية،

1406 ه/ 1986، 3200 ص، 24 سم.

1936- مجتمع المدينة المنوّرة في عصر النبوّة كما يصوّره القرآن

محمّد لقمان الأعظمي

القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الآداب،

1988 م (رسالة دكتوراه).

القاهرة: دار الاعتصام، 510 ص، 24 سم.

1937- مجتمع المدينة المنوّرة وتنظيم القبائل سياسياً واجتماعياً في عصر الرسول محمّد صلى الله عليه و آله و سلم (1- 11 ه/ 622- 623 م)

عبداللَّه بن عبد العزيز بن إدريس

الرياض: جامعة الرياض، كلية الآداب، 1399 ه/ 1979 م.

(اطروحة ماجستير)،

ص: 286

الرياض: عمادة شؤون المكتبات بجامعة الملك سعود، ط 1، 1402 ه: 1982 م، 279 ص.

المنهل (جدّة) مج 41: ج 726 (6- 7/ 1400 ه، 5- 6/ 1980 م) ص 477- 480.

1938- مجلس في فضل يوم عرفة

ابن ناصر الدين وابن حجر

تحقيق: محمّد عوامة

جدّة: دار القبلة للثقافة الإسلامية.

1939- مجمع الزيارات

(في زيارات الأئمّة عليهم السلام، بالفارسية).

عناية اللَّه بن غيب اللَّه

ظ: الذريعة 20/ 30.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 69.

1940- مجمع المقال في الزيارات والأعمال

محمّد صالح آل طعان البحراني

ت 1333 ه.

ظ:

الذريعة 20/ 45.

الموسم مج 3: ع 9، 10 (1411 ه) ص 437.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 69.

1941- مجمع المناسك ونفع الناسك في نسك الحج وفضائل الحرمين والقدس والحجاج والمجاور على الفضيل

رحمة اللَّه بن عبداللَّه السندي الحنفي

الاستانة؛ 1289 أو 1291 ه، 430 ص.

1942- المجموع الظريف في حجّة المقام الشريف

الأشرف قايتباى، عن حج الأشرف قايتباي

أحمد بن يحيى المعروف بابن الجيعان ت 930 ه

العرب. س 10: ج 1029، ص 659 (حمد الجاسر).

1943- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، 107 ورقة، من وقف المولى علي أصغر، سنة 1250 ه.

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 74.

1944- مجموعة الأدعية والزيارات

ص: 287

خ: الرضوية، من وقف محمّد المتخلص بعصار سنة 1309 ه.

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 76.

1945- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، من وقف محمّد إبراهيم سنة 1257 ه.

ظ: الذريعة 20/ 64.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1946- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، من وقف المولى محمّد حسن

ظ: الذريعة 20/ 64.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1947- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، 109 ورقة، 1177 ه.

ظ: الذريعة 20/ 64.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1948- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، 80 ورقة،

تاريخ الوقف 1271 ه، بخط غلام رضا الخراساني

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1949- مجموعة الأدعية والزيارات

خ: الرضوية، 1277 ه، بخط محمّد رحيم الكرماني

ظ: الذريعة 20/ 64.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 76.

1950- مجموعة الأدعية والزيارات

عبد الخالق اليزدي

خ: الرضوية في 3 مج

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1951- مجموعة الأدعية والزيارات

محمّد طاهر بن مقصود علي الاصفهاني

كتبه سنة 1129 ه.

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 76.

1952- مجموعة الأدعية والزيارات

ص: 288

جمال الدين محمّد بن محمّد رضا بن حسن بن يحيى بن أحمد بن علي النقيب

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 76.

1953- مجموعة الأدعية والزيارات المأثورة المعتبرة

علي بن عبد الخالق الحسيني الرازي، فرغ من بعض أجزائها سنة 1175 ه.

ظ: الذريعة 20/ 67.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 76.

1954- مجموعة الأدعية والزيارات وبعض الأذكار

حسين القاري بن رضا علي الهندي

ظ: الذريعة 20/ 65.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 75.

1955- مجموعة أدعية وزيارة الحج

النجف الأشرف: مطبعة النعمان، 1384 ه/ 1964، 64 ص، 24 سم.

1956- مجموعه شعر بقيع

(بالفارسية)

باهتمام: محمّد علي مجاهدي

سازمان أوقاف وأمور خيريه، ط 1، 1372 ش، 653 ص، 24 سم.

1957- مجموعة مقالات في الحج

طهران: مؤسسة الحجر، ط 1، 1364 ش، 312 ص، 24 سم.

1958- المحاسن اللطيفة في معاهد المدينة الشريفة

شمس الدين محمّد ابن طولون الصالحي

ت 953 ه

ظ: الفلك المشحون 46.

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 97.

1959- محاضرات في الحج والعمرة

محمّد رشدي محمّد اسماعيل

القاهرة: ط 1، 1986 م، 142 ص.

1960- محاولة لوضع أطلس للسيرة النبوية الشريفة والعصر النبوي

حسين مؤنس

المؤرّخ العربي (بغداد): ع 16 (1981 م)

ص 222- 255.

الفكر الإسلامي س 12: ع 1 (3/ 1403 ه/ 1983 م) ص 68- 73.

1961- المحبوبة مدينة الحبيب

ناجي محمّد حسن عبد القادر

ظ: موسوعة الأدباء والكتّاب

ص: 289

2/ 257.

العرب. س 31: ج 7، 8 (221/ 1417 ه) ص 461.

1962- المحتوى المكيروبي لهواء منى في موسمي حج 1398/ 1399 ه.

جدّة: جامعة الملك عبد العزيز، 30 ص.

1963- محجّة الحاج

أبو محمّد الكعبي الأهوازي

قم: نشر نهضت، ط 1، 1413 ه، 143 ص، 17 سم.

1964- محرّك سواكن الغرام إلى حج بيت اللَّه الحرام

مرعي بن يوسف الكرمي

ظ: المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

1965- محرمات إحرام

پژوهشى گسترده در معانى و مفاهيم اصطلاحى و فقهى (حج) (بالفارسية)

على حجّتى كرمانى

ميقات حج س 2: ع 6 (زمستان 1372 ش)

ص 59- 69

1966- محظورات الحج

محمّد الهادي أبو الأجفان

الهداية (توس) س 15: ع 6 (5/ 1991 م)/ ص 34- 37.

1967- محل دفن عبداللَّه پدر رسول خدا صلى الله عليه و آله

(بالفارسية)

محمّد صادق نجمى

ميقات حج: ع 22 (زمستان 1376 ش) ص 102- 114.

1968- محمدٌ في المدينة

مونتجومري وات

تعريب: شعبان بركات

بيروت: المكتبة العصرية، (د. ت)، 593 ص.

1969- محمّد في مكة

مونتجومري وات

تعريب: شعبان بركات

بيروت: المكتبة العصرية، (د. ت)، 276 ص.

1970- محمّد ويهود الجزيرة

ج، ج.

مجلة الثقافة س 7؛ ع 364 (ديسمبر 1945 م) ص 9- 11.

ص: 290

1971- المختار عن شعراء المدينة المنوّرة في العهد السعودي

عبد الحق عبد السلام نقشبندي

(1322- 1402 ه)

ظ: معجم مؤرِّخي الجزيرة 145.

العرب. س 31: ج 7، 8 (221/ 1417 ه) ص 641.

1972- مختصر أعمال حجّ التمتّع: مع شرح الأماكن والمساجد المقدّسة في مكّة المكرّمة

روح اللَّه الخميني قدس سره

قم: المنار، 1375 ش، 48 ص، 21 سم.

1973- مختصر تبصرة الناسكين بسنن الحجاج والمعتمرين

محسن آل عصفور

قم: أنوار الهدى، 1415 ه، 384 ص.

1974- مختصر عجالة القرى في تاريخ امّ القرى

تقي الدين محمّد بن أحمد الحسيني الفاسي المكي ت 832 ه

خ: مكتبة المرعشي النجفي 148 ص، 22* 5، 13 سم.

1975- مختصر فضائل المدينة المنوّرة

خليل إبراهيم

جدّة: دار المطبوعات الحديثة،

1409 ه: 1989 م، 80 ص.

1976- مختصر لطيف في مناسك الحج والعمرة

محمّد بن موسى القري، ت 890 ه،

خ: افغانستان، ضمن مجموعة برقم 222.

1977- مختصر مزار البحار

بعض الفضلاء من أهل استرآباد

مازندران

ظ: الذريعة 20/ 208.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 82.

1978- مختصر مزار التهذيب

محمّد الجاوجاني

فرغ منه سنة 1239 ه

ظ: الذريعة 20/ 208.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 82.

1979- مختصر معجم معالم مكة التاريخية

عاتِق بن غيث البلادي

ميقات الحج ع 3 (1416 ه) ص 141-

ص: 291

160

ع 4 (1416 ه) ص 193- 204.

ع 5 (1417 ه) ص 218- 227.

ع 7 (1418 ه) ص 224- 242.

1980- المختصر من كتاب نشر النور والزهر

(تراجم أفاضل أهل مكّة في القرن العاشر حتى الرابع عشر الهجري)

تأليف: عبداللَّه مرداد أبي الخير

اختصره: محمّد سعيد العامودي، وأحمد علي

الطائف: نادي الطائف الأدبي، 2 مج:

465 ص.

1981- مختصر مناسك الحج

(بالفارسية)

ابراهيم الميلاني

طهران: انتشارات سعدي

1351 ش، 94 ص، 17 سم.

1982- مختصر مناسك الحج

الحسين بن عبيداللَّه بن إبراهيم الغضائري ت 401 ه

ظ:

رجال النجاشي 69.

الذريعة 22: 261.

1983- مختصر مناسك الحج

الأصل: حجّة الإسلام الشفتي

المختصر: ميرزا فتح اللَّه الحسيني التستري المعروف بكمپاني

ظ: الذريعة 20/ 212.

1984- المختصر الوجيز في مَنْ رحلوا إلى بلد اللَّه العزيز

أمحند بن علال البخلاخي

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)

ص 130- 193

1985- مخطوطات عن الجزيرة العربية في مكتبة جامعة اسطنبول

خليل الساحلي اوغلي

في: الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض: 5/ 1397 ه- 4/ 1977 م).

ظ: مصادر تاريخ الجزيرة العربية، ج 2 (1979 م) ص 145- 162.

1986- مخطوطات في مكتبة الحرم المكّي

نوري القيسي

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 25 و 26 (1390 ه) ص 28- 42.

ص: 292

1987- المخطوطات والوثائق العربية لتاريخ الجزيرة العربية في تونس

رشاد الإمام

دراسات تاريخ الجزيرة العربية ج 2 (1979 م) ص 177- 183.

المؤرِّخ العربي: ع 6، ص 145- 153.

1988- مخطوطة الدرّة الثمينة في أخبار مكّة والمدينة

عبد محمود نور الدائم

تاريخ العرب والعالم س 3: ع 34 (آب 1981 م)

ص 37- 43 (يحيى محمّد ابراهيم).

1989- مخطوطة مهمّة لكتاب أخبار الكرام بأخبار المسجد الحرام

حافظ غلام مصطفى

مجلّة المجمع العلمي الهندي مج 1: ج 1

(يونيو 1976 م) ص 69- 90.

1990- مخطوطة نادرة لكتاب قديم في منازل مكّة

محمّد حسن آل ياسين

الأقلام (بغداد) س 1: ع 6 (1965 م) ص 140- 143.

1991- مدائن صالح وما جاورها

رانا احسان الهي

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 46 (1392 ه) ص 24- 35.

مدارس مكّة

ناجي معروف

بغداد: 1966 م.

1992- مدخل لرحلة الحضيكي الحجازيّة

عباس الجراري

مصادر تاريخ الجزيرة العربية ج 2

(1979 م) ص 373- 384.

1993- المدن العربية في القرن الأوّل الهجري

عادل نجم عبو

مجلة آداب الرافدين ع 13 (نيسان 1981 م)

ص 583- 601

1994- مدننا في الموسوعات العلمية الحديثة، جدّة

في دائرة المعارف الإسلامية البريطانية

عبد القدّوس الأنصاري

المنهل (جدّة) مج 27: ج 1 (10/ 1386 ه/ 1/ 1967 م) ص 1157- 1160.

1995- مديريت در كاروانهاى حج

ص: 293

على ورسه اى

طهران: مشعر، ط 1، 1375 ش، 88 ص، 21 سم.

1996- مدينتا الإسلام المقدّستان، مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة: مهبط الوحي وموطن الرسول ودار هجرته.

جدّة: دار الريشة، ط 1، 1992 م، 134 ص (خرائط)، 20 سم.

1997- مدينتنا الحجاز: مكة والمدينة في العصر الجاهلي وعصر الرسول صلى الله عليه و آله

أحمد إبراهيم الشريف

القاهرة: جامعة عين شمس، كلية الآداب، 1963 م، 264 ص (رسالة ماجستير).

المدينة

روبرت بارك- ارسنت برجس- رودرك ماكنيزي

ترجمة: سيد عبد العاطي، وأبو بكر أحمد باقادر.

جدّة: وكالة تبر للدعاية والنشر، والإعلام، 1409 ه- 1989 م، 301 ص.

المدينة

أبو الحسن علي بن محمّد بن عبداللَّه بن أبي سيف المدائني (135- 215 ه).

ظ: الفهرست لابن النديم 115.

المدينة

علي بن أحمد العقيقي العلوي

ظ: معالم العلماء 68.

1998- مدينه از ديدگاه جهانگردان اروپايى

جعفر الخياط، محمّد رضا فرهنگ

ميقات حج: ع 17 (پاييز 1375 ش) ص 142- 185.

ع 19 (بهار 1376 ش) ص 148- 164.

1999- المدينة اليوم

محمّد صالح البليهشي

المدينة المنورة: نادي المدينة الأدبي.

ط 1، 1402 ه، 346 ص، 24 سم.

المدينة بين الحاضر والماضي

(دراسة)

الشريف إبراهيم بن علي العياشي ت 1400 ه

المدينة المنوّرة: المكتبة العلميّة، بيروت- مؤسسة الأصمعي، 1972،

ص: 294

400 ص.

2000- مدينة جدّة

عبد الوهاب السنوسي

المنهل (جدّة) مج 24: ج 9 (9/ 1383 ه/ 1- 2/ 1964 م) ص 544.

2001- مدينه در زمان هجرت رسول خدا صلى الله عليه و آله

رسول جعفريان

ميقات حج: ع 20 (1376 ش)

ص 91- 102.

2002- مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم

سلمان غفاري

طهران؛ انتشارات بنياد همدمى، ط 1، 1362 ش.

2003- مدينة الرسول تحتضن أوّل ندوة عن المدينة العربية وتراثها الحضاري عدد خاص بمناسبة انعقاد ندوة المدينة المنوّرة

علي حسون

مكة المكرّمة؛ مجلّة المدينة المنوّرة، ط 1، 1401 ه.

2004- مدينة شناسي

(بالفارسية)

محمّد باقر النجفي

أكاديمية العلوم الإسلامية، ط 1، 1364 ش، 435 ص.

2005- مدينة العرب في الجاهلية والإسلام

محمّد رشدي

المقتبس: مج 6، ص 383- 384 (محمّد كرد علي).

2006- المدينة في صدر الإسلام: الحياة الأدبية

محمّد العيد الخطراوي

المدينة: مكتبة دار التراث، 1404 ه، 121 ص.

دمشق- بيروت: مؤسسة علوم القرآن، 1984 م، 481 ص، 24 سم (دراسات حول المدينة المنوّرة، 6).

2007- المدينة في العصر الأموي (دراسة سياسية وإدارية واجتماعية واقتصادية وفكرية).

محمّد محمّد حسن شرّاب

المدينة المنوّرة: مكتبة دار التراث، دمشق: مؤسسة علوم القرآن، ط 1، 1404 ه/ 1984 م، 432 ص، 24 سم.

2008- المدينة في العصر الجاهلي

ص: 295

(الحياة الأدبية)

محمّد العيد الخطراوي

المدينة المنوّرة: دار التراث، 1404 ه، 624 ص.

2009- المدينة في العصر الوسيط

عبد الأحد السبتي وحليمة خرجات

بيروت: المركز الثقافي العربي.

2010- المدينة قاعدة الإسلام

عبد العزيز كامل

الرسالة س 22: ع 1121 (يوليو 1965 م) ص 15- 19.

2011- المدينة المنوّرة

المعرفة (موسوعة) مج 10 (1981 م)

ص 1681- 1683.

2012- مدينه منوره

(بالفارسية)

صائح لمعى مصطفى

ترجمة: صديقة وسمقى

طهران: وزارت فرهنگ وارشاد اسلامى، سازمان چاپ وانتشارات، كانون پرورش فكرى كودكان ونوجوانان، ط 1، 1372 ش، 340 ص.

2013- المدينة المنوّرة

عمر فاروق السيد رجب

المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومعهد البحوث والدراسات العربية، 1977 م سلسلة الدراسات الخاصة برقم 9.

الفكر العربي ع 30 (كانون الأوّل 1982 م) ص 199- 201.

2014- المدينة المنوّرة

محمّد بك لبيب البتانوني

نقلها: محمّد فريد وجدي، في:

دائرة معارف القرن العشرين، 10/ 913- 926.

بيروت: دار المعرفة، ط 3، د. ت.

2015- المدينة المنوّرة

(تحليل جغرافي للمدينة وأقليمها بالمملكة العربية السعودية)

محمّد شوقي بن إبراهيم مكّي

[بريطانيا]: 1982 م، 231 ص.

2016- المدينة المنوّرة

محمّد صالح البليهشي

(د. م): الادارة العامة للنشاطات الثقافية بالرئاسة العامة لرعاية الشباب، (الكتاب، 7).

2017- المدينة المنوّرة

ص: 296

محمّد محمّد حسن شرّاب

(د. م): دار التراب- دمشق: مؤسسة علوم القرآن، 1404 ه.

2018- المدينة المنوّرة

محمود الشرقاوي

ظ: المدينة اليوم 22، العرب. س 31:

ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 464.

2019- المدينة المنوّرة أوّل عاصمة للدولة الإسلامية

محمّد بدر الدين خليل

العربي: ع 73 (12/ 1964 م) ص 68.

2020- المدينة المنوّرة بين الأدب والتاريخ

عاصم حمدان علي حمدان

المدينة: نادي المدينة المنوّرة الأدبي، ط 1، 1991 م، 142 ص، 24 سم.

2021- المدينة المنوّرة بين عطر النبوّة وذكريات التاريخ وحرارة الأيمان

أحمد أبو كفّ

التصوّف الإسلامي س 10: ع 10 (10/ 1988 م)

ص 24- 27.

2022- المدينة المنوّرة بين الماضي والحاضر

إبراهيم علي العياشي

المنهل (جدّة) مج 23: ج 4 (4/ 1382 ه/ 9/ 1962 م) ص 257- 258.

2023- المدينة المنوّرة: تطوّرها العمراني وتراثها الحضاري

صالح لمعي مصطفى

بيروت: دار النهضة العربية، ط 1، 1981 م،

356 ص+ صور، 24 سم.

2024- المدينة المنوّرة حيث يرقد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم

محمّد طنطاوي

العربي ع 167 (10/ 1972) ص 100.

2025- المدينة المنوّرة (دراسة في جغرافية العمران)

خالد الصالح القاضي

جامعة الإمام، كلية العلوم الاجتماعية، قسم الجغرافية، 1403 ه (رسالة ماجستير).

2026- المدينة المنوّرة دراسة وصفية تاريخية

عبد العزيز محمّد الربيع ت 1402 ه

ظ: موسوعة الأدباء والكتّاب السعوديّين 387.

ص: 297

2027- المدينة المنوّرة طيبة الحجاز

مصطفى نبيل

العربي: ع 252 (11/ 1979 م) ص 68.

2028- المدينة المنوّرة: عاداتها وتقاليدها

منذ عام 925 حتى عام 1409 ه

عبداللَّه فرج الزامل

جدّة: دار تهامة،

ط 1، 1411 ه/ 1991 م، 82 ص، 21 سم.

2029- المدينة المنوّرة عاصمة الإسلام الأولى

محمّد أحمد الوكيل

جدّة: دار المجتمع لنشر والتوزيع، ط 1، 1406 ه، 228 ص، 24 سم.

[موسوعة المدينة التأريخية: 2]

جدّة: دار المجتمع، 1989 م، 228 ص.

2030- المدينة المنوّرة عبر التأريخ

(دراسة شاملة)

عبد السلام هاشم حافظ

المدينة المنوّرة: 1381 ه.

المدينة المنوّرة: نادي المدينة المنوّرة الأدبي، 1402، 216 ص.

2031- المدينة المنوّرة عبر التاريخ الإسلامي

أحمد محمّد صالح البرادعي

بيروت: مطبعة العزارية، ط 1 1372 ه.

بيروت: مطابع دار الكتب، 1972 م، 159 ص، 19 سم.

2032- المدينة المنوّرة في رحلة العيّاشي

(دراسة وتحقيق)

محمّد أمحزون

الكويت: دار الأرقم، ط 1، 1408 ه، 275 ص، 24 سم.

2033- المدينة المنوّرة في الشعر

جمعه ونسّقه: فؤاد عبّاس

في: موسوعة العتبات المقدّسة ج 3:

قسم المدينة ص 113- 128.

بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1407/ 1987 م.

2034- المدينة المنوّرة في العصر الجاهلي

(دراسة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية)

محمّد العيد الخطراوي

المدينة المنوّرة: دار التراث، 1403 ه،

ص: 298

288 ص.

2035- المدينة المنوّرة في القرن الثالث عشر الهجري

عبد الرحمن عثمان

المنهل (جدّة) مج 7: ج 2 (2/ 1366 ه/ 1/ 1947 م) ص 69- 71.

ج 3 (3/ 1366 ه/ 2/ 1947 م) ص 113- 115.

ج 5 (5/ 1366 ه/ 4/ 1947 م) ص 210- 212.

ج 8 (8/ 1366 ه/ 7/ 1947 م) ص 346- 347.

2036- المدينة المنوّرة في المراجع الغربيّة

كتبه وترجمه من مختلف المصادر الغربية:

جعفر الخيّاط

في: موسوعة العتبات المقدّسة ج 3:

قسم المدينة ص 171- 339

بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1407 ه/ 1987 م.

2037- المدينة المنوّرة في مطلع القرن الثاني عشر كما يصفها النابلسي في رحلته

عبد الغني بن إسماعيل النابلسي

العرب مج 1: ج 2 شعبان 1386 ه) ص 143- 146،

ج 3، (رمضان 1386 ه) ص 225- 230،

ج 4، (شوّال 1386 ه) ص 331- 335،

ج 5، (ذو القعدة 1386 ه) ص 428- 430،

ج 6، (ذو الحجّة 1386 ه) ص 560- 562،

ج 7، (1/ 1387 ه) ص 644- 647،

ج 8، (2/ 1387 ه) ص 744- 748،

ج 9، 10 (3/ 4/ 1387 ه) ص 873- 880،

ج 11، (5/ 1387 ه) ص 1036- 1042، 1044.

(حمد الجاسر).

2038- المدينة المنوّرة في معجم الأدباء

لياقوت الحموي

ابن القاسم

المنهل (جدة) مج 3: ج 4 (3/ 1358 ه/ 4/ 1939 م) ص 24- 25.

المدينة المنوّرة قديماً

(إلمامة تأريخية شاملة عن المدينة 2039- المنوّرة منذ أوّل

ص: 299

تمصيرها حتّى قيام الإسلام)

جعفر الخليلي

في: موسوعة العتبات المقدّسة ج 3 قسم المدينة ص 5- 112.

بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1407 ه/ 1987 م.

2040- المدينة المنوّرة

مثوى الرسول صلى الله عليه و آله وعاصمة دولته

(استطلاع تاريخي)

إعداد: قسم الاستطلاعات في مجلّة نور الإسلام

نور الإسلام س 1: ع 7، 8

(3، 4/ 1409 ه- 10، 11/ 1988)

ص 67- 82.

2041- المدينة المنوّرة مدينة الأنبياء

أسد اللَّه

طبع عام 1931 م.

2042- المدينة النبويّة في فجر الإسلام والعصر الراشدي

محمّد محمّد حسن شرّاب

دمشق: دار القلم- بيروت: الدار الشامية، 1415 ه.

2043- المدينة وأخبارها

عبيداللَّه بن أبي سعيد الورّاق (197- 274 ه)

ظ: فهرست النديم: 121.

العرب، س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه) ص 465.

2044- المدينة وأوّل بلدية في الإسلام

صدقة حسن خاشقجي

ومحمّد عبد الجليل النمر

المدينة المنوّرة: بلدية المدينة، 1400 ه.

2045- المدينة وزيارة قبر النبيّ والأئمّة عليهم السلام

الشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ت 381 ه

ظ: رجال النجاشي: 390.

الذريعة 20/ 251.

2046- مذكّرات عن رحلة عبر الجزيرة العربية خلال عام 1819 م.

الكابتن ج. فواستر سادلير

ترجمة: أنس الرفاعي

اشراف: سعود بن غانم الجمران

دمشق: دار الفكر، ط 1، 1403 ه- 1983 م، 300 ص، 24 سم.

2047- مرآة جزيرة العرب

ص: 300

أيّوب صبري باشا

ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد فؤاد متولي، والصفصافي، وأحمد المرسي

الرياض: دار الرياض، ط 1، 1403 ه/ 1983 م، 395 ص، 24 سم.

2048- مرآة الحجّ

(بالفارسية)

علي مولانا

تبريز: ط 3، 1372 ش، 208 ص.

2049- مرآة الحرمين

إبراهيم رفعت باشا، ت 1353 ه

(كان قائد حرس المعمل المصري سنة 1318 ه، وأمير الحج في سني 20، 21، 25).

مصر: 1344 ه، 2 مج.

2050- مرآة الحرمين

أيّوب صبري باشا الرومي، ألّفه سنة 1302 ه.

الآستانة: 1306 ه.

(مطبوع باللغة التركية وهو في تاريخ المدينتين المقدّستين في خمس مجلّدات).

ظ: المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2051- مرآة الحرمين

(بالفارسية)

أيّوب صبري باشا

ترجمة: عبد الرسول مننشي

خ: كتابخانه ملي، برقم 1863.

ظ: العرب س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م) ص 36.

2052- مراسيم الحج وفرائضه

جواد شبّر

في: موسوعة العتبات المقدّسة ج 2:

قسم مكة ص 337- 365.

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط 2، 1407 ه- 1987 م.

2053- مرافق الحج والخدمات المدنية للحجّاج في الأراضي المقدّسة

سليمان عبد الغني مالكي

الرياض: دارة الملك عبد العزيز، 1987 م، 174 ص.

الدارة (الرياض) س 14: ع 1 (5/ 1988)

ص 181- 183.

2054- مراقد أهل بيت در شام

ص: 301

(بالفارسية)

أحمد فهري

طهران: أمير كبير، ط 1، 1367 ش، 116 ص، 21 سم.

2055- مراقد أهل البيت عليهم السلام

جواد شبّر

الإيمان (النجف الأشرف) س 1: ع 9، 10 (1384 ه) ص 164- 165.

2056- المراقد المقدّسة في العراق

عبد الرزاق الحسني

مخطوط في ثلاثة أجزاء

2057- المرام في أحوال البيت الحرام

مصطفى بن سنان الطوسي

(من مستغربي الروم 1032 ه).

ظ: المهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 208.

2058- المرجاني: مؤرّخ المدينة النبوية

عبد القدوس الأنصاري

المنهل (جدّة) مج 31: ج 3 (3/ 1390 م/ 5/ 1970 م) ص 348- 359.

2059- مرشد الحاج

جدّة: الإعلان السعودي،

ط 1، 1399 ه.

2060- مرشد الحاج

جعفر حسن الطريحي

النجف: مط النجف، ط 2، 1969 م، 88 رجب.

2061- مرشد الحاج

عبد الوهاب مظهر

طبع في: 1347 ه، 103 ص.

2062- مرشد الحاج

عماد الدين البحراني

بيروت: مؤسسة الأعلمي.

2063- مرشد الحاج في تطبيق مناسك الحج

داود صبري سليمان

بغداد: 1963 م.

2064- مرشد الحاج إلى الأماكن المقدّسة

محمّد حسن غالي

القاهرة: الرحمانية، 1923، 200 ص.

2065- مرشد الزوّار إلى قبور الأبرار

موفّق الدين عبد الرحمن بن أبي الحرم مكي بن أحمد بن محمّد الخزرجي الأنصاري الشافعي

ظ: إيضاح المكنون 2/ 466.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 87.

ص: 302

2066- المرشد العام لحج بيت اللَّه الحرام وزيارة قبر المصطفى عليه السلام

حسين محمّد مصطفى

القاهرة: المطبعة السلفية، 1348 ه، 76 ص.

2067- مرشدك أيّها الحاج

عبد الوهاب الأعظمي

بغداد: 1958 م.

2068- مرشد المؤمنة الحاجة إذا فاجأها الطمث

مهدي السماوي

النجف: مطبعة النعمان، 1972 م، 13 ص (مستل من كتاب وفد اللَّه وحجّاج بيته).

2069- كتاب المزار

إبراهيم بن محمّد بن معروف، أبو إسحاق المذاري

ظ: رجال النجاشي 19.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 87.

2070- كتاب المزار

بعض علماء القرن الحادي عشر

ظ: الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 87.

2071- المزار

آقا جمال الخوانساري

ظ: الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 87.

2072- كتاب المزار

الحسن بن أحمد بن ريذويه القمي

ظ: رجال النجاشي 62.

الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 88.

2073- كتاب المزار

(بالفارسية)

حسين بن الحسن الجيلاني الاصفهاني اللبناني ت 1129 ه.

ظ: الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 88.

2074- المزار

الحسين بن عبيداللَّه السعدي

ظ: رجال النجاشي 42.

الذريعة 20/ 318.

ص: 303

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 88.

2075- كتاب المزار

حيدر بن إبراهيم العطّار الكاظمي الحسني ت 1234 ه.

النجف الأشرف: المطبعة المرتضوية (د. ت) 400 ص، حجرية.

2076- كتاب المزار

حيدر علي بن محمّد حسن الشيرواني

خ: مكتبة السيّد المرعشي النجفي، بقلم جمال الدين بن أبي الوفاء، كتابتها 1170 ه.

ظ: الذريعة 20/ 318.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 88.

2077- كتاب المزار

داود بن كثير الرقّي أبو سليمان

ظ: رجال النجاشي 156.

الذريعة 20/ 318.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 10/ 88- 89.

2078- كتاب المزار

درويش علي بن درويش محمّد

ظ: الذريعة 20/ 318.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2079- كتاب المزار

سعد بن عبداللَّه بن أبي خلف الأشعري القمّي، أبو القاسم ت 299 ه، أو 301 ه.

ظ: رجال النجاشي 178.

الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 10/ 89.

2080- كتاب المزار

شرف الدين محمّد بن محمّد التبريزي المتخلّص بمجذوب

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2081- كتاب المزار

عبداللَّه بن عبد الرحمن الأصمّ المسمعي البصري

ظ: رجال النجاشي 217.

الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2082- كتاب المزار

ص: 304

عبداللَّه بن محمّد رضا الحسيني الكاظمي ت 1242 ه.

ظ: الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2083- كتاب المزار

علي بن أسباط بن سالم بيّاع الزُطّي المقرئ

ظ: رجال النجاشي 252.

الذريعة 20/ 319.

إيضاح المكنون 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2084- كتاب المزار

أبو الحسن علي بن الحسن الزواري

ظ: الذريعة 20/ 276.

319، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 89.

2085- كتاب المزار

أبو الحسن علي بن مهزيار الدورقي الأهوازي

ظ: رجال النجاشي 253.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2086- كتاب المزار

رضي الدين علي بن طاووس الحلّي ت 664 ه.

ظ: الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2087- المزار

كاظم الگلپايگاني، فرغ منه سنة 1283 ه

خ: الرضوية، في 66 ورقة

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2088- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران بن عبداللَّه بن سعد بن مالك الأشعري القمّي

ظ: رجال النجاشي 349.

الذريعة 12/ 78، 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2089- كتاب المزار

أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود بن

ص: 305

علي القمّي ت 368 ه.

ظ: رجال النجاشي 384.

فهرست الطوسي 136.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2090- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن اورمة القمّي

ظ: رجال النجاشي: 330.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 90.

2091- المزار

محمّد بن جعفر بن علي بن جعفر المشهدي المعروف بابن المشهدي

خ: مكتبة السيّد المرعشي، برقم 4903، في 482 ورقة.

ظ: الذريعة 20/ 323، 324.

فهرس المرعشي 13/ 84.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2092- كتاب المزار

محمّد بن الحسن بن فرّوخ الصفّار ت 290 ه

ظ: رجال النجاشي 354.

الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2093- كتاب المزار

أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي ت 460 ه.

ظ: الذريعة 20/ 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2094- كتاب المزار

أبو المفضّل محمّد بن عبداللَّه بن المطلب الشيباني

ظ: فهرست الطوسي 140.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2095- كتاب المزار

أبو الفرج محمّد بن علي بن محمّد بن محمّد بن أبي قرّة العيناتي.

ظ: الذريعة 20/ 317، 320.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91.

2096- كتاب المزار

محمّد بن محمّد بن النعمان الشيخ المفيد

ص: 306

ت 413 ه.

تصحيح وتعليق: مدرسة الإمام الهادي عليه السلام

قم: مدرسة الإمام الهادي عليه السلام 1408 ه.

2097- كتاب المزار

أبو النضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي

ظ: رجال النجاشي 352.

الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 91- 92.

2098- المزار

(يشتمل على بابين يضمّان آداب زيارة النبي صلى الله عليه و آله والصدِّيقة الزهراء البتول وأمير المؤمنين والأئمّة الأحد عشر من ولدهما صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين).

للشهيد الأول أبو عبداللَّه شمس الدين محمّد بن مكّي الجزيني العاملي المستشهد سنة 786.

تحقيق ونشر: مدرسة الإمام المهدي عليه السلام.

قم: 1410 ه.

كتاب المزار

أبو عبداللَّه الدبيلي محمّد بن وهبان بن محمّد بن حمّاد بن بشر الأزدي

ظ: رجال النجاشي 397.

الذريعة 20/ 321.

إيضاح المكنون 2/ 331.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

كتاب المزار

محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري ت 1090 ه.

ظ: الذريعة 20/ 317.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

المزار

(في زيارات الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام).

محمّد الحسني الطباطبائي، فرغ منه في كربلاء سنة 1140 ه.

خ: المرعشي، 3331، 151 ورقة، سنة 1351 ه.

ظ: هفرس المرعشي 9/ 108- 109.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

كتاب المزار

محمّد صالح بن عبد الواسع الحسيني

ص: 307

الخواتون آبادي الاصفهاني ت 1116 ه.

ظ: الذريعة 20/ 319.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

كتاب المزار

المير محمّد مهدي

خ: الرضوية

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

كتاب المزار

يونس الجبعي العاملي

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92- 93.

كتاب المزار

يونس بن علي القطّان

ظ: رجال النجاشي 448.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 92.

مزار الآقا باقر

الوحيد البهبهاني بن محمّد أكمل ت 1206 ه.

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

مزار بقيع

(بالفارسية)

علي أكبر حسني

ميقات حجس 1: ع 1 (پائيز 1371 ش) ص 153- 137.

مزار قديم

استظهر الكفعمي أنّه مجموع الدعوات لأبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، تاريخ كتابته (746 ه) وصرّح في أوّل البحار أنّ كتابته سنة 576 ه.

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

مزار اللنباتي

(بالفارسية)

حسين بن حسن الجيلاني

الاصفهاني اللنباتي ت 1129 ه.

ظ: الذريعة 20/ 323.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

ص: 308

مزار المولى إسماعيل الطهراني

(بالفارسية)

مطبوع

ظ: الذريعة 20/ 321.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 93.

مزارات

(رسالة في مراقد أبناء الأئمّة المعصومين في العراق وخراسان ومازندران وآذربايجان كُتبت أيّام عبّاس الأوّل الصفوي (995- 1037 ه)، بالفارسية).

نور الدين محمّد بن أبو القاسم حبيب اللَّه واعظ خطيب مدرس اصفهاني

ظ: نشريه 8/ 125.

فهرستواره منزوى 1/ 248.

مزارات الأئمّة

غلام حسين الهندي الموسوي

النجف الأشرف: 21 ص.

النجف الأشرف: المطبعة المرتضوية، (د. ت)، 21 ص، 21 سم، حجرية.

مزارات أهل البيت

محمّد حسين الحسيني الجلالي

بيروت: 1409 ه/ 1988 م.

مزارات إمامان وإمام زادگان

(في ذكر مراقد الأئمّة وأبنائهم، بالفارسية)

معين الدين علي بن نصير قاسم انوار

(757- 837 ه)

ظ: الذريعة 9/ 861 «ديوان قاسم انوار».

سنا 1/ 74 [في مجموعة واحدة تشتمل على رسائل عرفانيّة له ولنعمت اللَّه كرماني].

فهرستواره منزوى 1/ 248.

مزارات خراسان

(بالفارسية)

كاظم مدير شانه چى

1345 ش.

مزارات الطالبيين

شهاب الدين المرعشي النجفي

(1318- 1411 ه)

ظ: الموسم مج 2: ع 5 (1990 م- 1410 ه) ص 214.

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 94.

مزيح الاحتياج في حكم منسك المحاج

(ارجوزة في الحج)

ص: 309

ميرزا علينقي بن حسن ابن السيد محمّد المجاهد الطباطبائي ت 1289 ه

ظ: الذريعة 20/ 328، 22/ 276.

مسألة في زيارة القبور وقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

صالح بن عبداللَّه الغماس، كان حيّاً سنة 1340 ه مخطوط، في: جامعة الملك سعود برقم 4001، في 5 ورقات، بخط المؤلّف، تاريخها سنة 1340 ه.

المسائل الاتّفاقية بين الأربعة من علماء الإمامية (قسم الحج)

منصور الحبشي

طهران؛ المؤلّف، ط 1، 1372 ش، 392 ص، 17 س.

مسائل اجراييى حج- گفتگو با محمّد حسين رضايى مسؤول سازمان حج و زيارت (بالفارسية)

ميقات حج س 1: ع 1 (بائيز 1371 ش)

ص 191- 185.

مسائل حج

(بالفارسية)

أحمد بن محمّد مهدي بن أبي ذر

خ: فرهنگ مشهد، (ش: 5 ب).

مسائل حج

(بالفارسية)

الإمام الخميني

طهران: انتشارات الزهراء، ط 1، 1361 ش.

مسائل الحج

الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي ت 381 ه

ظ: رجال النجاشي 392.

مسائل وأجوبة في أعمال عمرة وحج التمتّع الواجبة

محسن الطباطبائي الحكيم

النجف: مط النعمان، (1963 م)، 40 ص.

مسائل ورهنماى حج

(بالفارسية)

محمّد شفيع عثماني، محمّد حسن بيجارزمي.

الحوزة العلمية المركزية، ط 1، 1364 ش، 160 ص، 21 سم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.