ميقات الحج المجلد16

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري ، محمد، ‫1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي ، ‫1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : ‫BP188/8

رده بندي د... : ‫297/35705

ص : 1

مناسك الحجّ لصاحب المعالم (2)

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

العدد السادس عشر

مناسك الحجّ لصاحب المعالم (2)

تأليف: جمال الدين العاملي

تحقيق: هادي القبيسي

فصل: وبالتلبية ينعقد الإحرام، ويتعلق بالمحرم أحكام ينقسم إلى فروض وآداب:

أمّا الفروض: فاجتنابصيد البرّ المحلّل الممتنع بالأصالة، والمشهور اجتناب ستّة من المحرّم: الأسد والثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ، والرواية المتضمّنة لحكم الأسد ضعيفة، وكذا الثعلب، نعم حكم الأرنب مرويّ في الصحيح، وبالثلاثة الأخيرة رواية حسنة لمسمع بن عبد الملك عن أبي عبداللَّه عليه السلام، وظاهر بعض الأخبار الصحيحة المنع من قتل الزنبور، لكنّه مخصوص بما لم يرد قاتله بأذى. للتصريح في جملة من الأخبار بالإذن في قتل كلّ ما يخافه المحرم على نفسه.

وفي حكم الاصطياد الأكل والذبح والدلالة والإغلاق، واجتناب الاستمتاع بالجماع ومقدّماته حتّى العقد.

والفسوق، وهو الكذب والسباب والمفاخرة والجدال، وهو قول: لا واللَّه، وبلى واللَّه.

ص: 6

والطيب بأنواعه على الأحوط، ولو في الطعام، إلّافي خلوق الكعبة. ولا بأس بشمّ الإذخِر والشيح والقَيْصومُ والخُزامى (1) وأشباهها. روى ذلك معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام (2).

ولا بأس أيضاً بالريح الطيبة بين الصفا والمروة من ريح العطّارين، ولا يمسك على أنفه. رواه هشام بن الحكم في الصحيح عنه عليه السلام (3).

وفي خبرصحيح لابن سنان عنه عليه السلام: «المحرم إذا مرّ على جيفة فلا يمسك على أنفه» (4).

وفيصحيح آخر للحلبي عنه عليه السلام: «المحرم يمسك على أنفه من الريح الطيبة، ولا يمسك على أنفه من الريح الخبيثة» (5) واجتناب الاكتحال بالسواد، والإدهان مطلقاً، وإخراج الدم، وقلم الأظفار، وإزالة الشعر، ولبس الخاتم، والحنّاء للزينة، والنظر في المرآة، ولبس السلاح اختياراً، وقتل هوام الجسد كالقمل. وهذا كلّه يشترك فيه الرجل والمرأة.

ويختصّ الرجل بوجوب اجتناب لبس المخيط في المشهور. والأخبار إنّما تفيد المنع من خياطة مخصوصة، ولكن التعميم أحوط. وفي معناه ما يُحيط بالبدن كالدرع، لا الطيلسان، فيجوز لبسه لكن لا يزرّه. وله أن يعقد الإزار ويلبس المنطقة والهميان، ولا يعقد الرداء ولا يزره ولا يخلّله على الأحوط.

وفيصحيح عمران الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «المحرم يشدّ على بطنه العمامة،


1- 1 هذه الأربعة نباتات معروفة ذكية الرائحة.
2- 2 الوسائل 12: 453، باب 25، من أبواب تروك الإحرام، حديث 1.
3- 3 الوسائل 12: 448، باب 20، من أبواب تروك الإحرام، حديث 1.
4- 4 الوسائل 12: 453، باب 24، من أبواب تروك الإحرام، حديث 3.
5- 5 الوسائل 12: 453، باب 24، من أبواب تروك الإحرام، حديث 1.

ص: 7

وإن شاء يعصبها على موضع الإزار ولايرفعها الى صدره» (1).

واجتناب التظليل سائراً إلّالضرورة من أذى الشمس أو المطر أو من مرض، فيظلل ويكفر بشاة. وظاهرصحيح محمّد بن اسماعيل بن بزيع، عن الرضا عليه السلام: «أنها تذبح بمنى مطلقاً» (2) والعمل به أولى ، وإن استفيد من بعض الأخبار المعتمدة التخيير في العمرة المنفردة بينه وبين الذبح بمكة، وإن جعله بمكة أفضل.

روى موسى بن القاسم في الصحيح عن عليّ بن جعفر أنّه قال لأخيه عليه السلام:

أظلل وأنا محرم؟ فقال: «نعم وعليك الكفّارة»، قال موسى بن القاسم: فرأيت عليّاً- يعني ابن جعفر عليه السلام- إذا قدم مكة ينحر بدنة لكفارة الظل (3).

وهذا الحديث ربما عارض حديث ابن بزيع فيجمع بالتخيير خصوصاً في العمرة إلّاأن ذلك أرجح.

وأما المشي في ظل المحمل ونحوه فجائز.

واجتناب تغطية الرأس ولو بالارتماس، وستر ظهر القدم بالخف ونحوه إلّا مع الضرورة ولا كفارة حينئذ.

وتختص المرأة بالمنع من التنقيب- ويجوز لها سدل الثوب على وجهها من أعلاها إلى الذقن، وإذا كانت راكبة فإلى النحر- ومن لبس مالم تعتده من الحلي ومن المعتاد بقصد الزينة أو مع إظهاره للزوج.

وإذا فعل المحرم شيئاً من هذه المحرمات، فإن كان جاهلًا أو ناسياً فلا شي ء عليه، إلّافي الصيد، ومع التعمّد يأثم وتلزمه الكفارة، إلّافي الاكتحال والادّهان بغير الطيب.


1- 1 الوسائل 12: 533، باب 72 من أبواب تروك الاحرام، حديث 1.
2- 2 الوسائل 13: 155، باب 6 من أبواب بقية كفارات الاحرام، حديث 6. مضمون الخبر.
3- 3 الوسائل 13: 154، باب 6 من أبواب بقيّة كفارات الاحرام، حديث 2. باختلاف يسير.

ص: 8

وإخراج الدم، ولبس الخاتم والحنّاء، والنظر في المرآة، ولبس الحلّي، والفسوق. ولا فرق في لزوم الكفارة بالصيد بين العامد وغيره. ولتفصيل الكفارات محل آخر.

وأما الآداب: فروى معاوية بن عمار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال:

«إذا أحرمت فعليك بتقوى اللَّه، وذكر اللَّه كثيراً، وقلّة الكلام إلّابخير، فإنّ من تمام الحج والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلّامن خير، كما قال اللَّه تعالى عزّ وجل، فإنّ اللَّه يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ (1) (2)

.

وفي خبر آخر لمعاوية أيضاً عنه عليه السلام: «اتق المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي اللَّه، فإنّ اللَّه عزّ وجل يقول: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (3)

. ومن التفث أن تتكلم في إحرامك بكلام قبيح. فإذا دخلت مكة وطفت بالبيت تكلمت بكلام طيب، وكان ذلك كفارة لذلك» (4).

روى حماد بن عيسى [في الصحيح ] عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ليس للمحرم أن يلبّي من دعاه حتى ينقضي إحرامه، قلت: كيف يقول؟ قال يقول: ياسعد» (5).

روى حريز بن عبداللَّه في الصحيح عنه عليه السلام أنه قال: «لا بأس أن يؤدِّب المحرم عبده ما بينه وبين عشرة أسواط» (6).

روى معاوية بن عمار في الحسن عنه عليه السلام أنه قال: «إذا أحرمت فاتق قتل الدواب كلّها إلّاالأفعى ، والعقرب، والفأرة فإنها توهي السقاء وتحرق على أهل


1- 1 البقرة 2: 197.
2- 2 الوسائل 12: 463، باب 32 من أبواب تروك الاحرام، حديث 1. باختلاف يسير.
3- 3 الحج 22: 29.
4- 4 الوسائل 12: 465، باب 32 من أبواب تروك الاحرام، حديث 5. بتصرف.
5- 5 الوسائل 12: 561، باب 91 من أبواب تروك الاحرام، حديث 1. وما بين المعقوفين زيادة من الاصل.
6- 6 الوسائل 12: 564، باب 95 من أبواب تروك الاحرام، حديث 1.

ص: 9

البيت. وأما العقرب فإنّ نبي اللَّهصلى الله عليه و آله مدّ يده إلى الحجر فلسعته عقرب فقال: لعنك اللَّه لابراً تدعين ولا فاجراً. والحية إذا أرادتك فاقتلها، فإن لم تردك فلا تردها» (1).

فصل [في أنّ الحيض غير مانع للاحرام ] (2):

الحيض غير مانع من الإحرام، فلو اتفق في وقت انشائه أحرمت كغيرها، لكن لاتصلي السنّة (3). وإن كان ميقاتها مسجد الشجرة أنشأت الإحرام مجتازة فيه.

وينبغي لها أن تغتسل وتحتشي بالكرسف، وتستثفر وتلبس ثوباً دون ثيابها لإحرامها. ثم إن طهرت قبل وقت الطواف فلا بحث، وإلّا تنطّرت الطهر ما بقيت سعة الوقت للتلبس بالحج، فإن ضاق الوقت ولمّا تطهر عدلت إلى حج الافراد (4)، وخرجت إلى عرفة بإحرامها الأول، ثم تعتمر بعد إتمام الحج عمرة مفردة كما هو شأن المفرد. ولو انقضت عادتها قبل تضيّق وقت الحج ولكن استمر الدم ولم تبلغ العادة العشرة استظهرت بيومين أو ثلاثة، وهو أولى إن اتسع لها الوقت وأمكن قبل انقضاء العشرة، ثم تغتسل وإن بقي الدم، وتأتي ببقية أفعال العمرة مراعية لأحكام الاستحاضة، وتكتفي بالوضوء الواحد للطواف وركعتيه. وتحرم بعد فراغها من العمرة بالحج كغيرها. ثم إن اتّفق تجاوز الدم العشر فلا إشكال، وإن انقطع عليها أو على ما دونها ففي الحكم إشكال بناءً على ما ذكره جمع من الأصحاب من وجوب قضاء الصوم الواقع فيها بعد الاستظهار وقبل العشرة إذا لم


1- 1 الوسائل 12: 545، باب 81 من أبواب تروك الاحرام، حديث 2. بتصرف.
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
3- 3 في ن الستة بدل السنّة.
4- 4 في هامش ن: ونية العدول: أعدل من إحرام عمرة التمتع عمرة الاسلام إلى حج الافراد حج الاسلام لوجوبه قربة إلى اللَّه.

ص: 10

يتجاوزها الحيض نظراً إلى انكشاف الحال بانقطاعه على العشرة فما دونها (1)، وظهور كون الجميع حيضاً، فتكون العبادة الواقعة فيه فاسدة، ولم أقف على نص في ذلك ولا فتوى (2). وكلام الجماعة في قضية الصّوم منظور فيه، ولا يبعد القول بصحة العبادة الواقعة بعد الاستظهار مطلقاً؛ لاقتضاء الأدلة له، وعدم ثبوت المخصص.

هذا كله على تقدير اتساع الوقت للاستظهار والاتيان ببقية أفعال العمرة.

وإلّا عدلت إلى الحج عند ظهور الضيق.

فصل [في آداب دخول مكة] (3)

وإذا بلغ المتمتع الحرم فليغتسل حين يدخله وهو بالخيار بين أن يقدّم الغسل من بئر ميمونة أو من فخ، وبين أن يؤخّره فيغتسل من منزله بمكة.

والمقدِّم للغسل إذا نام قبل أن يدخل الحرم أعاده، وليأخذ نعليه بيده ويمشي ساعة في الحرم، ويأخذ من الإذخر فيمضغه. وإذا نظر إلى بيوت مكة فليقطع التلبية، وعليه بالتكبير والتهليل والتمجيد والثناء على اللَّه عزّ وجل بما استطاع. وإذا دخل مكة فليدخلها بسكينة غير متكبّر ولا متجبّر. فإذا دخل المسجد الحرام فليدخله حافياً على السكينة والوقار والخشوع، فمن دخله بخشوع غفر اللَّه له.

روى ذلك معاوية بن عمّار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام، ثم قال: «فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: السّلام عليك أيّها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، بسم اللَّه وباللَّه، ومن اللَّه وما شاء اللَّه، والسّلام على أنبياء اللَّه ورسله، والسّلام على رسول اللَّه، والسّلام على إبراهيم والحمد للَّه رب العالمين.


1- 1 هذا هو المشهور بل ربما حكي عليه الاجماع كما في الرياض 1: 375.
2- 2 ذهب اليه في المدارك 1: 336، وقريب منه في الرياض 1: 535.
3- 3 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 11

«فإذا دخلت المسجد فارفع يديك واستقبل القبلة وقل: اللّهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تقبل توبتي وأن تجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد للَّه الذي بلّغني بيته الحرام. اللّهم إني أشهد (1) أن هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابةً للناس وأمناً مباركاً وهدًى للعالمين. اللّهم إني عبدك، والبلد بلدك والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك، وأؤم طاعتك مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة المضطر إليك، الخائف لعقوبتك، اللّهم افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك» (2).

[في استلام الحجر وتقبيله ] (3) القواعد: فإذا دنوت من الحجر الأسود فارفع يديك واحمد اللَّه واثن عليه وصل على النبيصلى الله عليه و آله واسأل اللَّه أن يتقبل منك ثم استلم الحجر وقبله، فإن لم تستطع ان تقبله فاستلمه بيدك، فإن لم تستطع فأشر إليه وقل (4):

اللّهم أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، ليشهد لي بالموافاة، اللّهم تصديقاً بكتابك وعلى سنّة نبيكصلى الله عليه و آله أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وحده لا شريك له، وأن محمّداً عبده ورسوله، آمنت باللَّه، وكفرت بالجبت والطّاغوت وباللّات والعّزى وعبادة الشيطان، وعبادة كلّ ندٍّ يُدعى من دون اللَّه، وقل: اللّهم إليك بسطت يدي، وفيما عندك عظمت رغبتي، فاقبل سبحتي (5)، واغفر لي وارحمني، اللّهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة» (6).


1- 1 في التهذيب ونسخة ن: «اشهدك».
2- 2 الوسائل 13: 204، باب 8 من أبواب مقدمات الاحرام، حديث 1.
3- 3 مابين المعقوفين من هامش ن.
4- 4 توجد زيادة في ن: اللّهم إني أؤمن بوعدك وأوفي بعهدك، ولم توجد في المصدر.
5- 5 في هامش ن: السبّحة: التطوع في الذكر والصلاة، تقول: قضيت سبحتي.
6- 6 الوسائل 13: 313، باب 12 من أبواب الطواف، حديث 1. بتصرف. رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، وعن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى ، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:.

ص: 12

وسيأتي في حديث لمعاوية بن عمّار أيضاً، في زيارة البيت يوم النحر فإن لم تستطع أن تقبّل الحجر الأسود فاستلمه بيدك وقبّل يدك (1).

وفي كلام بعض قدماء الأصحاب أنّ من لم يستطع أن يقبّل الحجر الأسود أو يستلمه أشار إليه بيده وقبّلها (2).

روى الكليني عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: ما أقول إذا استقبلت الحجر؟ فقال: «كبّر وصل على محمد وآله، قال: وسمعته يقول إذا أتى الحجر الأسود: اللَّه أكبر والسّلام على رسول اللَّه (3).

فصل [في الطواف ] (4)

وإذا أراد الطواف لعمرة التمتع فليراع حصول شرائطصحّة الطواف، وهي:

ستر العورة، والطهارة من الحدث والخبث بنحو ما يُعتبر في الصلاة، والاختتان للرجل، ثم يقف بإزاء الحجر مستقبلًا له جاعلًا أوّل جزءٍ منه ممايلي الركن اليماني محاذياً لأوّل كتفه الأيسر ولوظناً على المعروف في كلام متأخري الأصحاب (5).

ولا بأس بالتزام ما ذكروه خروجاً من خلافهم، وإلّا فأحاديث أئمتنا عليهم السلام خالية من التعرض لهذا التحرير، ظاهرة في نفي المضايقة بهذا المقدار [والمفهوم منها مجرد الإبتداء من الحجر والانتهاء إليه، وليس يفهم تعيين الجزء الأوّل من الحجر] (6).


1- 1 الكافي 4: 511، باب الزيارة، والغسل فيها، حديث 4.
2- 2 ذهب إليه الصدوق في الفقيه 2: 531، وأبو الصّلاح الحلبي في الكافي: 210.
3- 3 الكافي 4: 407، باب الطواف واستلام الأركان، حديث 4.
4- 4 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
5- 5 الظاهر أنّ أوّل من ذهب إليه العلامة في التذكرة 8: 87 مسألة 454. وتبعه الشهيد الأوّل في المنسك الكبيرالمنشور في هذه المجلة عدد 4: 103، والشهيد الثاني في المسالك 2: 331.
6- 6 ما بين المعقوفين زيادة من م.

ص: 13

وفي بعض الأخبار المعتبرة ما يعطي أحسنيّة افتتاح الطّواف بالتكبير (1)، فإذا استحضر نيّة الطواف على الوجه الذي أسلفناه كبّر إن شاء، ثمّ ينفتل (2) ويجعل البيت على يساره، ويطوف به سبعة أشواط في القدر الذي بين البيت والمقام على الأحوط، والأولى مُدخِلًا للحِجْر في الطواف مخرجاً لجميع بدنه عن البيت والشاذروان؛ لأنّه من أساس الحائط القديم في المشهور. والأحوط أن لايمس الحائط ماشياً، بل يقف إذا أراده، ولا ينتقل (3) من مكانه حتى يخرج يده عنه.

ويراعي في آخر الشوط السابع الختم بما بدأ به، فيحاذي بأوّل بدنه أوّل جزءٍ من الحجر على نحو ما ذكر في الابتداء، والحال ههنا نظير ما قلناه هناك من عدم الدليل على اعتبار هذا التضييق، لكنّه المعروف في كلامهم، ولا بأس بوفاقهم، ولولاه لكان الظاهر أن نكتفي بقصد الاتمام عند محاذاة الحجر، وجعل مازاد على الشوط خارجاً عن الطواف.

والأولى موالاة الأشواط السبعة وإن كان المشهور هو الاقتصار في اعتبار الموالاة على الأربعة وتجويز تفريق الباقي لضرورة أو قضاء حاجة أوصلاة فريضة أو نافلة يخاف فوتها، فإنّ الدليل غير ناهض بإثبات هذه الجملة، والاحتياط في مثله أهم.

وإذا حصل الشّك في عدد الأشواط فإن لم يدر أستّة طاف أو سبعة؟ أعاد الطواف. وإن لم يدر أسبعة طاف أو ثمانية؟ بنى على السبعة. ولو حصل الشّك قبل إكمال الشوط أو تعلّق بما دون السبعة استأنف. ولا يلتفت إلى الشك الواقع بعد


1- 1 كما فيصحيح يعقوب بن شعيب المتقدم وأمثاله الدالة على التكبير عند استقبال الحجر، ولمّا كان افتتاح الطواف من الحجر، كان الأحسن افتتاح الطواف بالتكبير.
2- 2 في ن: «ينتقل».
3- 3 فيص: «ولا ينفتل».

ص: 14

الفراغ مطلقاً. وإذا عرض الشك في طواف النافلة بنى على الأقل.

ويستحب استلام الحجر وتقبيله في كلّ شوط، فإن لم يستطع أشار إليه كما مرّ. واستلام الأركان كلّها. وفي بعض الأخبار المعتبرة أنّ استلام الركن هو إلصاق البطن به (1).

وروى الكليني عن معاوية بن عمار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «تقول في الطواف: اللّهم إني أسألك باسمك الذي يمشى به على [طلل ] (2) الماء، [كما] (3) يمشى به على جدد الأرض، وأسألك باسمك الذي يهتزّ له عرشك، وأسألك باسمك الذي تهتز له أقدام ملائكتك، وأسألك باسمك الذي دعاك به موسى من جانب الطور الأيمن فاستجبت له وألقيت عليه محبّة منك، وأسألك باسمك الذي غفرت به لمحمدصلى الله عليه و آله ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وأتممت عليه نعمتك، أن تفعل بي كذا وكذا ما أحببت من الدّعاء. وكلّما انتهيت إلى باب الكعبة فصلّ على النبيصلى الله عليه و آله وتقول فيمابين الركن اليماني والحجر الأسود: ربّنا آتنا في الدنّيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النّار.

وقل في الطواف: اللّهم إني إليك فقير، وإني خائف مستجير، فلا تغيّر جسمي ولا تبدل اسمي (4).

وروي عن عبدالسّلام بن عبدالرحمن بن نعيم في الحسن أيضاً، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: دخلت طواف الفريضة فلم يفتح لي شي من الدعاء إلّاالصلاة على محمد وآل محمد فسعيت فكان كذلك، قال: «ما اعطي أحد ممن سأل أفضل مما أعطيت» (5).


1- 1 الوسائل 13: 324، باب 15 من أبواب الطواف، حديث 2. و 338، باب 22 حديث 4.
2- 2 في تمام النسخ ظل وما أثبتناه من المصدر، وطلل الماء أي ظهره.
3- 3 في تمام النسخ: «ويمشى» وما أثبتناه من المصدر.
4- 4 الوسائل 13: 333، باب 20 من أبواب الطواف، حديث 1.
5- 5 الوسائل 13: 336، باب 21 من أبواب الطواف، حديث 1.

ص: 15

وروى الشيخ في الصحيح عن عاصم بن حميد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«كان علي بن الحسين عليهما السلام إذا بلغ الحِجْر قبل أن يبلغ الميزاب رفع رأسه فقال:

اللّهم أدخلني الجنّة برحمتك، وعافني من السقم وأوسع عليَّ من الرزق الحلال، وادرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والإنس، وشر فسقة العرب والعجم» (1).

روى الكليني عن عمر بن أذينة في الحسن، قال سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول لما انتهى الى ظهر الكعبة حين يجور الحِجْر: «ياذ المنّ والطَوْل، والجود والكرم، إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي وتقبله مني إنك أنت السميع العليم» (2).

وروى معاوية بن عمار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الركن اليماني باب من أبواب الجنة لم يغلقه اللَّه منذ فتحه» (3).

روى العلاء بن المقعد في الحسن أيضاً، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «إنّ ملكاً موكلًا بالركن اليماني منذ خلق اللَّه السماوات والارض، ليس له عمل إلّا التأمين على دعائكم. فلينظر عبد بم يدعو» (4).

وعن عبداللَّه بن سنان، في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «يستحب أن تقول بين الركن والحجر الأسود: اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وقال: إنّ ملكاً موكلًا يقول: آمين» (5).

ويستفاد من حديث معاوية بن عمار المتضمن للدّعاء في الطواف أنّ المراد بالركن هاهنا اليماني.


1- 1 التهذيب 5: 105، باب الطواف، حديث 12. الوسائل 13: 335، باب 20 من أبواب الطواف ذيل حديث 5.
2- 2 الكافي 4: 407، باب الطواف واستلام الحجر، حديث 6. الوسائل 13: 335، باب 20 من أبواب الطواف، حديث 6.
3- 3 الوسائل 13: 342، باب 23 من أبواب الطواف، حديث 4.
4- 4 المصدر السابق، حديث 2، بتصرّف.
5- 5 الوسائل 13: 334، باب 20 من أبواب الطواف، حديث 2.

ص: 16

وعن حفص بن البختري في الحسن عنه عليه السلام، قال: «إنّ في هذا الموضع- يعني حيث يكون (1) الركن اليماني- ملكاً اعطي سماع أهل الارض، فمنصلّى على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله [حين يبلغه ] أبلغه إيّاه» (2).

عبداللَّه بن سنان [في الصحيح ] (3)، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا كنت في الطواف السابع فأت المتعوّذ وهو إذا قمت في دبر الكعبة حذاء الباب، فقل: اللّهم البيت بيتك والعبد عبدك، وهذا مقام العائذ بك من النّار، اللّهم من قِبَلِك الرّوح والفرج، ثم استلم الركن اليماني، ثم ائت الحجر فاختم به» (4).

روى معاوية بن عمار في الحسن، أن أبا عبداللَّه عليه السلام كان إذا انتهى إلى الملتزم قال لمواليه: «أميطوا عني حتى أقرّ لربي بذنوبي (5) في هذا المكان، فإنّ هذا مكان لم يقرّ عبد لربّه بذنوبه فيه ثم استغفر إلّاغفر اللَّه له» (6).

وعنه أيضاً في الحسن قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك وبلغت مؤخّر الكعبة وهو بحذاء المستجار دون الركن اليماني بقليل، فابسط يديك على الأرض، والصق بطنك وخدّك بالبيت، وقل: اللّهم البيت بيتك، والعبد عبدك وهذا مكان (7) العائذ بك من النّار، ثم أقرّ لربّك بما عملت، فإنّه ليس من عبد مؤمن يقرّ لربه بذنوبه في هذا المكان إلّاغفر اللَّه له إن شاء اللَّه. ويقول: اللّهم من قبلك الروح والفرج والعافية، اللّهم إنّ عملي ضعيف فضاعفه لي واغفر لي ما اطلعت عليه


1- 1 في م: حين يجوز بدل حيث يكون.
2- 2 الوسائل 13: 337، باب 21 من أبواب الطواف، حديث 3، وما بين المعقوفين زيادة من م.
3- 3 ما بين المعقوفين زيادة من م.
4- 4 الوسائل 13: 344، باب 26 من أبواب الطواف، حديث 1.
5- 5 قال في الوافي 13: 826: يعني به الذنب الذي ألقي عليه من شيعة علي عليه السلام ضماناً من اللَّه تعالى له بالمغفرة، وإلّا فالرسولصلى الله عليه و آله معصوم من الذنب. كذا عن الصادقين عليهما السلام.
6- 6 الوسائل 13: 346، باب 26 من أبواب الطواف، حديث 5.
7- 7 في ن: مقام.

ص: 17

مني وخفي على خلقك. ثم تستجير باللَّه من النّار. وتخيّر لنفسك من الدّعاء ثم استلم (1) الركن اليماني ثم ائت الحجر الأسود» (2).

وروى معاوية في الحسن أيضاً، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من طوافك فأت مقام ابراهيم عليه السلام فصل ركعتين واجعله أمامك، واقرأ في الأولى منهما سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ، ثم تشهّد واحمد اللَّه واثن عليه، وصلّ على النبيصلى الله عليه و آله واسأله أن يتقبل منك» (3).

وهاتان الركعتان هما الفريضة ليس يكره لك أن تصليهما في أيّ الساعات شئت، عند طلوع الشمس وعند غروبها، ولا تؤخرهما ساعة تطوف وتفرغ فصلّهما.

وأعلم (4) أنه لا بأس بالقِران بين الأسابيع في طواف النافلة، وتأخر الركعتين حينئذٍ.

روى ذلك زرارة في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه قال: «إنما يكره أن يجمع الرجل بين الاسبوعين والطوافين في الفريضة، فأما في النافلة فلا بأس» (5).

قال زرارة: ربما طفت مع أبي جعفر عليه السلام- وهو ممسك بيدي- الطوافين والثلاثة، ثم ينصرف ويصلي الركعات ستّاً (6).

روى زرارة أيضاً في الصحيح قال: طفت مع أبي جعفر عليه السلام ثلاثة عشر اسبوعاً قرنها جميعاً وهو آخذ بيدي، ثم خرج فتنحى ناحية فصلى ستاً وعشرين


1- 1 في المصدر: استقبل.
2- 2 الوسائل 13: 347، باب 26 من أبواب الطواف، حديث 9، بتصرف.
3- 3 الوسائل 13: 23، باب 71 من أبواب الطواف، حديث 3، باختلاف يسير.
4- 4 ورد في هامش ن قبل واعلم: «في عدم البأس بالقِران بين الطوافين وما زاد بدون الصلاة في طواف النافلة».
5- 5 الوسائل 13: 369- 370، باب 36 من أبواب الطواف، حديث 1 و 2.
6- 6 الوسائل 13: 369- 370، باب 36 من أبواب الطواف، حديث 1 و 2.

ص: 18

ركعة، وصليت معه (1).

وروى معاوية بن عمار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «تدعو بهذا الدعاء في دبر ركعتي طواف الفريضة، تقول بعد التشهد: اللّهم ارحمني بطواعيتي إياك وطواعيتي رسولكصلى الله عليه و آله، اللّهم جنبني أن أتعدّى حدودك، واجعلني ممن يحبك ويحب رسولك وملائكتك وعبادك الصالحين» (2).

وفي الحسن قال: «إذا فرغت من الركعتين فائت الحجر الأسود فقبّله واستلمه وأشر إليه فإنه لا بد من ذلك.

وقال: إن قدرت أن تشرب من ماء زمزم قبل أن تخرج إلى الصّفا فافعل، وتقول حين تشرب: اللّهم اجعله علماً نافعاً واسعاً وشفاءً من كلّ داء وسقم». قال: وبلغنا أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال حين نظر الى زمزم: «لولا أنّي أشقّ على أمتي لأخذت ذَنُوباً أو ذَنُوبين» (3).

وروى الحلبي في الحسن أيضاً عنه عليه السلام، قال: «إذا فرغ الرجل من طوافه وصلّى ركعتين فليأت زمزم ويستق منه ذَنُوباً أو ذَنُوبين، وليشرب منه وليصب على رأسه وظهره وبطنه، ويقول: اللّهم اجعله علماً نافعاً و رزقاً واسعاً و شفاءً من كلّ داء و سقم. ثم يعود إلى الحجر الأسود» (4).

و فيصحيح عبداللَّه بن سنان عنه عليه السلام: «أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله دخل زمزم بعد أنصلّى ركعتي الطواف، فشرب منها ثم قال: «اللّهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً واسعاً و شفاءً من كلّ داء و سقم. فجعل يقول ذلك و هو مستقبل الكعبة، ثم قال لأصحابه: ليكن آخر عهدكم بالكعبة استلام الحجر، فاستلمه ثم خرج


1- 1 الوسائل 13: 371، باب 36 من أبواب الطواف، حديث 5.
2- 2 الوسائل 13: 439 باب 78 من أبواب الطواف، حديث 1.
3- 3 الوسائل 13: 472 باب 2 من أبواب السعي، حديث 1.
4- 4 الوسائل 13: 473، باب 2 من أبواب السعي، حديث 2.

ص: 19

إلى الصفا» (1).

وروى الحلبي في الصحيح عنه عليه السلام أنه قال: «يستحب أن تستقي من ماء زمزم دلواً أو دلوين، فتشرب منه وتصب على رأسك وجسدك، وليكن ذلك من الدلو الذي بحذاء الحجر» (2).

روى علي بن مهزيار في الصحيح أنّ أباجعفر الثاني عليه السلام دخل زمزم فاستقى منها بيده بالدلو الذي يلي الحجر وشرب منه وصبّ على بعض جسده، ثم أطلع في زمزم مرتين. قال: وأخبرني بعض أصحابنا أنّه رآه بعد ذلك بسنة فعل مثل ذلك (3).

فصل [في السعي بين الصفا والمروة] (4)

و ينبغي المبادرة بعد الفراغ من الطواف إلى السعي، إلّامع العذر كشدّة الحر، فيؤخره إلى أن يبرد، أوالإعياء فإلى أن يزول، أودخول وقت الفريضة (5) للصلاة فإلى أن يصليها، ولا بأس بالتأخير في العذرين الأولين من النهار إلى الليل لا إلى الغد.

وفي خبر من الحسن لمعاوية بن عمّار أنّ أباعبداللَّه عليه السلام قال: «ثم اخرج إلى الصفا من الباب الذي خرج منه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو الباب الذي يقابل الحجر الأسود حتى تقطع الوادي، وعليك السكينة والوقار، فاصعد على الصفا حتى تنظر إلى البيت وتستقبل الركن الذي فيه الحجر الأسود، واحمد اللَّه واثن عليه، ثم اذكر


1- 1 الكافي 4: 249، باب حج النبيصلى الله عليه و آله حديث 7.
2- 2 الوسائل 13: 474، باب 2 من أبواب السعي، حديث 4.
3- 3 المصدر السابق، حديث 3.
4- 4 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
5- 5 في ن: وقت الفضيلة.

ص: 20

من آلائه وبلائه وحسن ماصنع اليك ما قدرت على ذكره، ثم كبّر اللَّه سبعاً واحمده سبعاً وهلله سبعاً، وقل: لا إله الّا اللَّه وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت وهو على كلّ شي ء قدير، ثلاث مرات. ثمصلِّ على النبيصلى الله عليه و آله وقل: اللَّه أكبر على ما هدانا والحمد للَّه على ما أولانا، والحمدللَّه الحي القيوم، والحمدللَّه الحي الدائم، ثلاث مرات.

وقل: أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله لا نعبد إلّا إيّاه مخلصين له الدين ولو كره المشركون، ثلاث مرات. اللّهم إني اسألك العفو والعافية واليقين في الدنيا والآخرة، ثلاث مرات. اللّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ثلاث مرات. ثم كبّر مائة مرة وهلل مائة مرة واحمد مائة مرة وسبّح مائة مرة. وتقول: لا إله إلّااللَّه وحده أنجز وعده ونصر عبده وغلب الاحزاب وحده فله الملك وله الحمد وحده وحده. اللّهم بارك لي في الموت وفيما بعد الموت، اللهم إني أعوذ بك من ظلمة القبر ووحشته، اللهم أظلّني في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلّاظلّك. وأكثر من أن تستودع ربك دينك ونفسك وأهلك. ثم تقول: استودع اللَّه الرحمن الرحيم الذي لا تضيع ودائعه نفسي وديني وأهلي [ومالي وولدي ] (1)، اللّهم استعملني على كتابك وسنة نبيّك وتوفني على ملّته وأعذني من الفتنة. ثم تكبر ثلاثاً. ثم تعيدها مرتين. ثم تكبر واحدة. ثم تعيدها، فإن لم تستطع هذا فبعضه.

وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان يقف على الصفا بقدر ما تقرأ سورة البقرة ترتيلًا» (2). وفي بعض نسخ كتب الحديث مترسّلًا (3)، والمعنى متقارب، وأحد اللفظين تصحيف. كما أنّ استحباب قراءة سورة البقرة [في هذا


1- 1 مابين المعقوفين زيادة من ن.
2- 2 الكافي 4: 431، باب الوقوف على الصفا والدعاء، حديث 1. في ن: مرتلًا.
3- 3 في ن: مرسلًا بدل مترسلًا.

ص: 21

الموضع بنص كلام بعض الأصحاب ] (1) تحريف.

وفي خبر من واضح الصحيح: «أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصعد الصفا فقام عليه مقدار ما يقرأ الانسان سورة البقرة» (2).

وروى الشيخ في الصحيح عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام كيف يقول الرجل على الصفا والمروة؟ قال: يقول: «لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كلّ شي ء قدير» ثلاث مرات (3).

وروى الكليني في الصحيح عن يعقوب بن شعيب، قال: حدثني جميل، قال:

قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: هل من دعاء موقّت أقوله على الصفا والمروة؟ فقال: «تقول إذا وقفت على الصفا: لا إله إلّااللَّه» (4)

الى آخر ما في حديث زرارة.

وإذا أراد الشروع في السعي نواه كما مرّ وقارن بها الحركة، إمّا من الدرج إن كان قدصعد، أو مع إلصاق عقبيه بالصفا إذا لم يصعد.

وروى معاوية بن عمار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «انحدر من الصفا ماشياً إلى المروة، وعليك السكينة والوقار حتى تأتي المنارة، وهي طرف المسعى، فاسع مل ء فروجك، وقل: بسم اللَّه واللَّه أكبر، وصلّى اللَّه على محمد وأهل بيته، اللّهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم. حتى تبلغ المنارة الاخرى فإذا جاوزتها فقل: ياذا المن والفضل والكرم والنعماء والجود، اغفر لي ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلّاأنت. ثم امش وعليك السكينة والوقار، حتى تأتي المروة، فاصعد عليها حتى يبدو لك البيت، واصنع عليها كماصنعت على الصفا،


1- 1 ما بين المعقوفين لم يرد في ن.
2- 2 الكافي 4: 249، باب حج النبيصلى الله عليه و آله، حديث 7.
3- 3 الوسائل 13: 478، باب 4 من أبواب السعي، حديث 2.
4- 4 الكافي 4: 432، باب الوقوف على الصفا والدعاء، حديث 2. الوسائل 13: 480، باب 2 من أبواب السعي، حديث 4.

ص: 22

وطف بينهما سبعة أشواط، تبدأ بالصفا وتختم بالمروة» (1).

واعلم أنّ الشوط في السعي يحسب من الصفا إلى المروة، ثم منها إلى الصفا وهكذا، فابتداءُ السبعة من الصفا وختمها بالمروة، كما تضمنه هذا الخبر. ويتخير في ابتداء الشوط وانتهائه بين الصاق عقبيه في الأوّل وأصابع رجليه في الثاني بالموضعين، وبين الصعود على الصفا ولو بدرجة، ودخول المروة بحيث يتجاوز حدّها.

والجاهل في زيادة عدد الاشواط معذور. والساهي بزيادة شوط مخير بين طرح الزيادة والاعتداد بالسبعة، وبين البناء على واحد والاكمال.

والشاك في جانب الزيادة يبني على الأقل، وفي النقصان يعيد على الأحوط.

ولا بأس بالجلوس على الصفا والمروة عند الجهد. وبالسعي على الدابة، والمشي أفضل.

ويجزي الراكب أن يقف تحت الصفا حيث يرى البيت، وليس عليه السعي بمعنى زيادة الاسراع في موضعه الذي مرّ بيانه في حديث معاوية بن عمار. ولا على النساء كما ورد في عدة روايات ضعيفة، لكنّها معتضدة بموافقة الاصل، وانتفاء العموم في دليل استحبابه، بحيث يصلح مخرجاً عنه.

فصل [في الآداب بعد الفراغ من السعي ] (2)

وإذا فرغ المتمتع من سعيه قصّر من جوانب شعره ولحيته، وأخذ من شاربه وقلم أظفاره، ولو اقتصر على التقصير من الشعر والظفر (3) أجزأ، ولكن الجمع أكمل.


1- 1 الكافي 4: 435، باب السعي بين الصفا والمروة وما يقال فيها، حديث 6.
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
3- 3 في ن: أو الظفر.

ص: 23

روى محمد بن اسماعيل في الصحيح قال: «رأيت أبا الحسن عليه السلام أحل من عمرته وأخذ من أطراف شعره كلّه على المشط، ثم أشار إلى شاربه فأخذ منه الحجام، ثم أشار إلى أطراف لحيته فأخذ منها، ثم قام» (1).

وفيصحيح جميل عن أبي عبداللَّه عليه السلام في محرم يقصّر من بعض ولا يقصّر من بعض؟ قال: «يجزيه» (2).

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح من عدة طرق، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا فرغت من سعيك وأنت متمتع، فقصر من شعرك من جوانبه ولحيتك، وخذ من شاربك، وقلم أظفارك وابق منها لحجّك، وإذا فعلت ذلك فقد أحللت من كلّ شي ء يحلّ منه المحرم، وأحرمت منه. فطف بالبيت تطوّعاً ما شئت» (3).

وأعلم أنّ الأخبار المعتمدة المستفيضة تساعد هذا الخبر، وتدل بأوضح دلالة على ما تضمنه من كون التقصير بعد السعي آخر أفعال عمرة التمتع، وأنّ به يحصل التحلل من كلّ ما أحرم منه، سوى الحلق كما سلف التنبيه عليه، وعدم التعرض له في الحديث اعتماداً على ظهور الحكم وتقرره (4). فلا تصغ الى متوهم لوجوب طواف النساء فيها، فإنّه تشريع بحت والقول به لم يحك إلّافي الدروس (5) واللمعة (6) ولم يبين فيهما القائل لتعرف أهليته، لمراعاة خلافه بالنظر الى تسويغ الاحتياط للمقلد، وإلّا ففساد هذا الرأي عند أهل الاستدلال في غاية الظهور،


1- 1 الوسائل 13: 516، باب 10 من أبواب التقصير، حديث 1.
2- 2 الوسائل 13: 507، باب 3 من أبواب التقصير، حديث 1.
3- 3 الوسائل 13: 506، باب 1 من أبواب التقصير، حديث 4.
4- 4 في ن: وتقريره.
5- 5 الدروس 1: 329.
6- 6 الزبدة الفقهية 3: 416.

ص: 24

لانحصار مأخذه في خبر ضعيف الطريق (1)، قاصر الدلالة على المدّعى (2)(3)، مع مخالفته للأصل والأخبار، التي كادت بالصحة والكثرة أن تبلغ حدّ التواتر، ولفتاوى جمهور علماء الامامية وفقهائها المعروفين.

فصل [في احرام الحج ] (4)

ويجب على المتمتع بعد التقصير والإحلال من عمرته الاحرام بالحج من مكة. ويستحب ايقاعه يوم التروية من المسجد الحرام، وأفضله المقام أو الحِجْر.

وصفته كما مرّ في احرام العمرة، إلّاالنيّة، فإنه ينوي الاحرام بالحج.

وفي خبر من مشهوري الصحيح عن أيوب بن الحرّ عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

قلت له: إنّا قد أطلينا ونتفنا وقلّمنا أظفارنا بالمدينة، فما نصنع عند الحج؟ فقال:

«لا تطل ولا تنتف ولا تحرك شيئاً» (5).

وروى معاوية بن عمار في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «إذا كان يوم التروية إن شاء اللَّه فاغتسل والبس ثوبيك وادخل المسجد حافياً وعليك السكينة والوقار، ثمصلِّ ركعتين عند مقام ابراهيم عليه السلام، أو في الحجر ثم أقعد حتى تزول الشمس، فصلّ المكتوبة، ثم قل في دبرصلاتك كما قلت حين أحرمت من الشجرة،


1- 1 وهو خبر سليمان بن حفص، عن الفقيه عليه السلام قال: إذا حج الرجل فدخل مكة متمتعاً فطاف بالبيت وصلّى ركعتين خلف مقام ابراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة وقصّر فقد حلّ له كل شي ء ما خلا النساء؛ لأنّ عليه لتحلّة النساء طوافاً وصلاة. الوسائل 13: 444، باب 82 من أبواب الطواف، حديث 7.
2- 2 في هامش نسختي الاصل و ن: وجه القصور أن مدعى القائل كونه من جملة أفعال عمرة التمتع وواجباتها، ولفظالحديث لأنّ عليه لتحلّة النساء طوافاً وصلاة. وغاية ماتفيده هذه العبارة، أنّ النساء لاتحل له إلّابطواف وصلاة، وهذا الفرض يتأتى في الواقع بعد الحج، فأين دلالته على كونه من جملة أفعاله؟! منه رحمه اللَّه.
3- 2 في هامش نسختي الاصل و ن: وجه القصور أن مدعى القائل كونه من جملة أفعال عمرة التمتع وواجباتها، ولفظالحديث لأنّ عليه لتحلّة النساء طوافاً وصلاة. وغاية ماتفيده هذه العبارة، أنّ النساء لاتحل له إلّابطواف وصلاة، وهذا الفرض يتأتى في الواقع بعد الحج، فأين دلالته على كونه من جملة أفعاله؟! منه رحمه اللَّه.
4- 3 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
5- 4 التهذيب 5: 168، باب الاحرام للحج، حديث 6.

ص: 25

وأحرم بالحج، ثم امض وعليك السكينة والوقار فإذا انتهيت إلى الرقطاء (1) دون الرَّدم فلبّ، فإذا انتهيت [إلى الرَّدْم ] (2) وأشرفت على الأبطح فارفعصوتك بالتلبية حتى تأتي منى» (3).

روى الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمّار والحلبي وعبدالرحمن بن الحجاج وحفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، في جملة حديث قال: «وإن أهللت من المسجد الحرام للحج، فإن شئت لبيّت خلف المقام، وأفضل ذلك أن تمضي حتى تأتي الرقطاء. وتلبي قبل أن تصير إلى الأبطح» (4).

وروى معاوية بن عمار في الحسن عنه عليه السلام، قال: «إذا توجهت إلى منى، فقل:

اللّهم إيّاك أرجو وإيّاك أدعو، فبلّغني أملي وأصلح لي عملي» (5).

«فإذا انتهيت إلى منى فقل: اللّهم هذه منى، وهي مما مَنَنْتَ به علينا من المناسك، فاسألك أن تمنَّ علينا بما مننت به على أنبيائك، فإنما أنا عبدك وفي قبضتك» (6).

ويستحب المبيت بها ليلة عرفة إلى أن يصبح، وأن لا يجوز وادي محسّر حتى تطلع الشمس.

وروى معاوية في الحسن أيضاً عنه عليه السلام، قال: «إذا غدوت إلى عرفة فقل وأنت متوجه إليها: اللّهم إليكصمدت، وإليك اعتمدت، ووجهك أردت،


1- 1 قال الفيض الكاشاني في الوافي 8: 1008: الروحاء وفي بعض النسخ الفضاء مكان الروحاء، وفي نسخ التهذيب والفقيه الرقطاء، قال في الفقيه: وهو ملتقى الطريقين حين تشرف على الأبطح، وكأنهصحّف في الكافي. والرّدم السَّدّ ويقال لذلك الموضع بمكة.
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من م.
3- 3 الوسائل 12: 408، باب 52 من أبواب الاحرام، حديث 1.
4- 4 الفقيه 2: 320، باب عقد الاحرام وشرطه، حديث 2562.
5- 5 الوسائل 13: 526، باب 6 من أبواب الحج والوقوف بعرفة، حديث 1.
6- 6 المصدر السابق، حديث 2.

ص: 26

فأسألك أن تبارك لي في رحلتي (1) وأن تقضي لي حاجتي، وأن تجعلني اليوم ممن تباهي به من هو أفضل مني. ثم تلبي وأنت غاد الى عرفات، فإذا انتهيت إلى عرفات فاضرب خباك بنمرة دون الموقف ودون عرفة، فإذا زالت الشمس يوم عرفة فاغتسل وصل الظهر والعصر بأذان واحد واقامتين، وإنّما تعجل العصر وتجمع بينهما لتفرّغ نفسك للدعاء، فإنّه يوم دعاء ومسألة» (2).

روى معاوية في الصحيح عنه عليه السلام فيصفة حج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّه انتهى إلى نمِرة وهي بطن عُرَنة بحيال الأراك. فضرب قبته وضرب الناس أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وقد اغتسل وقطع التلبية حتى وقف بالمسجد فوعظ الناس وأمرهم ونهاهم. ثمصلّى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين، ثم مضى إلى الموقف فوقف به، فجعل الناس يبتدرون أخفاف ناقته، يقفون إلى جنبها، فنحاها ففعلوا مثل ذلك.

فقال: «أيها الناس إنه ليس موضع أخفاف ناقتي الموقف، ولكن هذا كلّه موقف وأومأ [بيده ] إلى الموقف فتفرق الناس» (3).

واعلم: أنّ الواجب في الوقوف بعرفة هو الكون بها من زوال الشمس إلى أن تغيب. ومحلّ نية الوقوف بعد تحقق الزوال، فيستحضرها حينئذ بصورة ما مر في الكلام على النيّات.

وفي حديث من الحسن لمعاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «قف في ميسرة الجبل [فإنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقف بعرفات في ميسرة الجبل ] (4)، فإذا رأيت


1- 1 في ن: رحلي.
2- 2 الكافي 4: 461، باب الغدو الى عرفات وحدودها، حديث 3.
3- 3 الكافي 4: 247 باب حج النبيصلى الله عليه و آله، حديث 4، وما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
4- 4 ما بين المعقوفين لم يرد في المصدر وص، وما أثبتناه من بقية النسخ.

ص: 27

خللًا فسدَّه بنفسك وراحلتك فإنّ اللَّه عز وجل يحب أن تُسّد تلك الخلال. وانتقل عن الهضاب، واتق الأراك. فاذا وقفت بعرفات فاحمد اللَّه وهلّله ومجدّه واثن عليه وكبّره مائة تكبيرة، واقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ مائة مرة، وتخيّر تخيير لنفسك من الدعاء ما احببت، واجتهد فإنّه يوم دعاء ومسألة. وتعوذ باللَّه من الشيطان، فإنّ الشيطان لن يذهلك في موضع أحبّ إليه من أن يذهلك في ذلك الموضع، وإيّاك أن تشتغل بالنظر الى الناس. وأقبل قِبَل نفسك. وليكن فيما تقول: اللّهم ربّ المشاعر كلّها فكّ رقبتي من النار وأوسع عليّ من الرزق الحلال وأدرأ عنّي شرّ فسقة الجنّ والانس، اللّهم لاتمكر بي ولا تخدعني ولا تستدرجني يا أسمع السامعين ويا أبصر الناظرين، ويا أسرع الحاسبين، ويا أرحم الراحمين. أسألك أن تصلّي على محمد وآل محمد، وأن تفعل بي كذا وكذا. وليكن فيما تقول وأنت رافع يديك إلى السّماء: اللّهم حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرّني مامنعتني، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني. أسألك خلاص رقبتي من النار. اللّهم إني عبدك وملك يدك، وناصيتي بيدك، وأجلي بعلمك، أسألك أن توفقني لما يرضيك عني، وأن تسلّم مني مناسكي التي أريتها ابراهيم خليلك عليه السلام ودللت عليها حبيبك محمداًصلى الله عليه و آله. وليكن فيما تقول: اللّهم اجعلني ممن رضيت عمله وأطلت عمره وأحييته بعد الموت حياة طيبة» (1).

روى الصدوق عن معاوية بن عمار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: «ألا أعلمك دعاء يوم عرفة، وهو دعاء من كان قبلي من الأنبياء؟ فقال علي عليه السلام: بلى يارسول اللَّه. قال تقول: لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، ويميت ويحي وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شي ء قدير، اللّهم لك الحمد كما تقول، وخير ما يقول


1- 1 الكافي 4: 463، باب الوقوف بعرفة وحد الموقف، حديث 4.

ص: 28

القائلون. اللّهم لكصلاتي وديني ومحياي ومماتي ولك تراثي (1). ومنك حولي ومنك قوَّتي. اللّهم إنّي أعوذ بك من الفقر، ومن وسواس الصدر، ومن شتات الأمر، ومن عذاب النار ومن عذاب القبر. اللّهم إنّي أسألك من خير ما تأتي به الرياح، وأعوذ بك من شر ما تأتي به الرياح، وأسألك خير الليل وخير النهار» (2).

وروى الكليني عن علي بن ابراهيم عن أبيه، قال: رأيت عبداللَّه بن جندب بالموقف، فلم أرَ موقفاً كان أحسن من موقفه، ما زال مادّاً يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خديه حتى تبلغ الأرض، فلّما انصرف الناس قلت له: يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قط أحسن من موقفك. فقال: واللَّه ما دعوت إلّالإخواني. وذلك أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، أخبرني: «أنه من دعا لأخيه بظهر الغيب، نودي من العرش، ولك مائة ألف ضعف مثله». فكرهت أن أدَعَ مائة ألف ضعف مضمونة لواحدة، لا أدري تستجاب أم لا؟» (3).

وروي أيضاً عن عبداللَّه بن جندب من غير هذا الطريق، أنه قال: كنت في الموقف، فلما أفضت لقيت ابراهيم بن شعيب، فسلمت عليه وكان مصاباً بإحدى عينيه، وإذا عينه الصحيحة حمراء كأنها علقة دم، فقلت له قد أُصبت بإحدى عينيك، وأنا واللَّه مشفق على الاخرى، فلو قصّرت من البكاء قليلًا، فقال: لا واللَّه يا أبا محمد ما دعوت لنفسي اليوم بدعوة، قلت: فلمن دعوت؟ قال: دعوت لاخواني، إنّي سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «من دعا لأخيه بظهر الغيب وكلّ اللَّه به ملكاً يقول: ولك مثلاه، فأردت أن أكون إنّما أدعو لإخواني، والملك يدعو لي،


1- 1 في ن براءتي بدل تراثي المثبتة في هامشها أيضاً.
2- 2 الفقيه 2: 542، باب سياق المناسك، حديث 3135، الوسائل 13: 539، باب 14 من أبواب احرام الحج والوقوف بعرفة، حديث 2.
3- 3 الكافي 4: 465، باب الوقوف بعرفة وحد الموقف، حديث 7.

ص: 29

لأني في شك من دعائي لنفسي ولست في شك من دعاء الملك لي» (1).

وروي في الصحيح عن عبداللَّه بن ميمون قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام، يقول:

«إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقف بعرفات، فلما همّت الشمس أن تغيب قبل أن تندفع، قال:

اللّهم إني أعوذ بك من الفقر، ومن تشتت الأمر، ومن شر ما يحدث بالليل والنهار.

أمسى ظلمي مستجيراً بعفوك، وأمسى خوفي مستجيراً بأمانك، وأمسى ذلّي مستجيراً بعزّك، وأمسى وجهي الفاني مستجيراً بوجهك الباقي، يا خير من سئل ويا أجود من أعطى، جلّلني برحمتك وألبسني عافيتك، واصرف عني شر جميع خلقك» (2).

وروي في الحسن عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام:

تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحج ولينه؟ قال: وكان متكئاً فجلس، وقال:

«ويحك، أما بلغك ما قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حجة الوداع!! إنّه لما وقف بعرفة وهمت الشمس أن تغيب، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: قُل للناس، فلينصتوا، فلمّا نصتوا قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّ ربّكم تطوّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم وشفّع محسنكم في مسيئكم، فأفيضوا مغفوراً لكم» (3).

فكرة المؤتمر المكّي


1- 1 المصدر السابق، حديث 9.
2- 2 الكافي 4: 464، باب الوقوف بعرفة وحد عرفة، حديث 5.
3- 3 الكافي 4: 257، باب فضل الحجّ والعمرة وثوابها، حديث 24.

ص: 30

فكرة المؤتمر المكّي

رضوان السيّد

يصف محمد أسد، اليهودي النمساوي الذي اعتنق الإسلام، سعادته بالدخول إلى مكّة؛ لأداء فريضة الحجّ عام 1927، على النحو التالي: «.. ونتابع ركوبنا، هاجمين طائرين فوق السهل، ويخيَّلُ إلي أنّنا طائرون مع الريح، منغمسون في سعادةٍ لا تعرف نهايةً ولا حدوداً... وتزعقُ الريحُ في اذني بنشيد النصر: إنّك لن تكون غريباً بعد الآن، أبداً، أبداً! اخوانٌ لي عن اليمين، واخوانٌ لي عن اليسار، كلّهم لا أعرفهم، ولكنّ أحداً ليس غريباً عنّي؛ فنحن في فرحة سياقنا المضطربة جسمٌ واحدٌ يسعى إلى هدفٍ واحد.

إنّ العالمَ أمامنا لَفَسيحٌ، وفي قلوبنا تتألّق شرارةٌ من النار التي اشتعلت في قلوبصحابة النبي. إنّهم يعرفون، إخواني عن يميني وإخواني عن يساري، إنّهم قد قصّروا عمّا كان يُنتظرُ منهم، وأنّ (عَزَمات) قلوبهم قد تضاءلت عبر القرون. لكنّ وعد اللَّه الحقّ لم يُنتزعْ منهم... ووسط الضوضاء التي تُصِمُّ الآذان من خطوات الالوف من الإبل المندفعة، والمئات من البيارق المصفِّقة، تنموصرختُهم إلى زمجرةٍ منتشيةٍ ظاهرة: اللَّه أكبر! لبّيك اللّهمَّ لبّيك»! (1).

ولاشكّ أنّ هذه المشاعر القويّة تجاه امّ القرى، والحجّ إلى بيتها الحرام؛ كانت


1- 1- محمد أسد: الطريق إلى مكّة، نقله إلى العربية عفيف البعلبكي. دار العلم للملايين. الطبعة الخامسة/ بيروت 1977: 405- 404.

ص: 31

وراء اتجاه الكثيرين من دُعاة فكرة «المؤتمر»، من سياسيّين ومثقّفين، لعقده بمكّة وأثناء موسم الحجّ. أمّا الفكرة نفسها فجديدة، بمعنى أنّها لم تظهر قبل النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

وهي عندما ظهرت فإنّ قصدها إلى مكّة كانت له أسبابه الدينية والعلمية؛ أمّا أهدافُها أو مقاصدُها فكانت سياسية وثقافية إذاصحّ التعبير.

يذهب B. Bareilles (1)) إلى أنّ الصدر الأعظم خليل باشا كان أوّل من دعا حوالى العام 1865 إلى مؤتمر باسطنبول، تتوحّد فيه قوى الإسلام من رعايا السلطان، ومن غير رعاياه، لمواجهة الضغوط الأجنبية. ولا نملك دليلًا على ما ذهب إليه من ارشيف الدولة، أو من أيّ مصدر آخر. لكنّنا نملك مخطوطةًصغيرةً بالفرنسية تعود للعام 1871 م (2)، تحمل على فكرة «الاتحاد الإسلامي» أو «الوحدة الإسلامية»، بحجّة أنّ ذلك إن كان فلن يكون فيصالح المسلمين، ولا فيصالح الدولة العثمانية. لن يكون فيصالح المسلمين؛ لأنّه سيُظهرهم بمظهر المتعصّبين الذين يتوحّدون على أساس ديني. ولن يكون فيصالح الدولة العثمانية؛ لأنّه سيزيد من ضغوط الدول الأجنبية عليها، وبخاصّة تلك التي تحتلُّ دياراً من ديار المسلمين. وهكذا فإنّ دعوة الاتحاد عن طريق المؤتمر ليست فيصالح أحد. وعلى الرغم من أنّنا لا نعرف كاتب تلك الرسالة؛ فإنّ بدايات فكرة المؤتمر- كما يبدو- كانت لها علاقة وثيقة بالسلطنة العثمانية تأييداً أو معارضة. فقد كان الموقف آنذاك أنّ الدولة العلية خاضت عدّة حروب ضد روسيا والنمسا وبعض شعوب البلقان، وما استطاعت الانتصار في أيٍّ منها.

وكانت تعمدُ بعد كلّ من تلك الحروب إلى عقد معاهدة هدنة أوصلح تفقد بمقتضاه أراضي أُخرى، وتنحسر عن أقاليم. ومع الربع الأخير من القرن التاسع عشر كانت السلطنة قد فقدت أكثر أراضيها في القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان، وشمال افريقيا، كما كانت سيطرتها قد انحسرت عن اليونان ومصر والجزائر منذ الربع الأوّل من القرن التاسع عشر (3).


1- 2-B .Bareilles ,Les Turcs .Paris 7191 .P .702 -802
2- 3- عنوان الرسالة Unite Islamique، وقارن عنها:. noitazinagrO dna ygoloedI ,malsI -naP fo scitilop ehTudnaL pocaJ .23 -22 .p .1990 .drofxO
3- 4- قارن:..462 -443 , 1970 II , slessurB tneirO'D ecnadnopserroC ni ;hcieR nehcsinamsO muz rebarA redtatilayoL eid dnu malsI -la raD ,tafilaK ;tappetS ztirF ,133 -122 ,1968 ,yekruT nredoM fo ecnegremE ehT ,siweL dranreB

ص: 32

وهكذا فإنّه إذا كان خليل باشا قد دعا فعلًا إلى مؤتمر للتضامن مع السلطنة؛ فإنّ الدعوات الاخرى للمؤتمر- ومن جانب مسلمين لا يخضعون للدولة العثمانية- كان يمكن أن تكون تعبيراً عن اليأس من العثمانيّين، والتفكير في بدائل لحماية وجود الإسلام ووحدة المسلمين في البلاد التي لم تصلها سيطرة العثمانيين أو انحسرت عنها مثل الهند واندونيسيا وآسيا الوسطى وغيرها.

والواقع أنّ ثمانينيات القرن التاسع عشر ظهر فيها كلا التوجّهين. التوجّه الذي يسعى للاتحاد الإسلامي أو الجامعة الإسلامية عن طريق المؤتمر الذي يتّخذ شكل التضامن مع الدولة العثمانية تقويةً لجانبها في مواجهة القوى الأجنبية. والتوجّه الآخر الذي لا يُصارحُ الدولة العلية بالعداء، لكنّه يسعى عن طريق المؤتمر والاتحاد للقيام بما لا تستطيع الدولة العثمانية القيام به أو لم تعد تستطيع ذلك. وفي قلب التوجّه الثاني بالذات ظهرت فكرة المؤتمر بمكّة.

تحضر الدعوة لمؤتمرٍ بمكّة أثناء موسم الحجّ للمرّة الاولى في رسالةٍ بالتركية موجَّهة للسلطان عبد الحميد الثاني، عام 1881 م عنوانها: «رسالة في الاتحاد في سبيل سعادة الملّة الإسلامية» (1)، وكاتبها اسمه سليمان الحسبي (1327 ه/ 1909 م). يشرح المؤلّف دواعي الوحدة وبواعثها وفوائدها، ومساوئ التفرّق، ويدعو للسلطان عبد الحميد. لكنّه يقترح فجأةً من أجل جعل الاتحاد ممكناً مؤتمراً سنويّاً أثناء موسم الحجّ، وحجّته في ذلك أنّ الحجّ يجمع سائر كبراء المسلمين ممّن هم تحت السيطرة العثمانية، أو خارجها. كما أنّ مكّة بعيدةٌ ومُحايدةٌ وتغيب عنها مراقبة الأجانب ودسائسهم.

رسالة الحسبي هذه ليست معاديةً قطعاً للدولة العثمانية ولا للسلطان عبد الحميد، لكنّها تتصوّر مركزاً للاجتماع والتفكير والتقدير غير اسطنبول. ونحن نعلم اليوم لماذا لم يتجاوب معها السلطان عبد الحميد. إذ كان وقتها قد حوّل اسطنبول، عاصمة السلطنة والخلافة معاً، إلى مركز للدعاية لنفسه،


1- 5-... 67 -46 , 1966 1 /3 ,SEM ,''II dimahludbA dna inahgfA .laeppA cimalsI -naP ehT ,eiddeK .N

ص: 33

وللاجتماع حول شخصه ودولته، وباعتباره السلطان وأمير المؤمنين معاً.

وكان أكبر همّه دعوة المسلمين من خارج أقطار السلطنة للتضامن مع الدولة العلية، والولاء لسلطان أمير المؤمنين. وقد استخدم في ذلك أمثال الشيخ أبي الهدى الصيادي، ومحمد ظافر المدني، ونامق كمال، إضافةً لشخصيات أُخرى من خارج إطار الدولة العثمانية، ليكونوا دُعاةً له في الداخل والخارج (1).

ومن الواضح أنّه بالنسبة للسلطان العثماني فإنّ الاتحاد أو الجامعة، إنّما يكونان حول السلطان وحول الدولة؛ ولذلك فلا حاجة للمؤتمر حتّى لو كان لنُصرة السلطان أو في عاصمة الدولة.

ويبدو ذلك، أي عدم ربط الاتحاد- كما كانوا يقولون- بالمؤتمر بل بالسلطان/ الخليفة في تحمّس الهنود المسلمين الشديد للسلطان وللدولة العثمانية. فقد سقطت دولة المغول في الهند نهائياً بعد فشل تمرّد العام 1857، وعانى المسلمون الأمرَّين من الحكم البريطاني. ولذلك فقد كان كثيرون من مثقّفيهم يتطلّعون إلى السلطان العثماني ودولته باعتبارهما مصدر أملٍ، ورمزاً لوحدة امّة الإسلام. وقد تجلّت مشكلة المعتدلين منهم في أنّ أواخر القرن التاسع عشر شهدت تراجعاً في علاقات بريطانيا بالعثمانيّين، وتزايد التقارب العثماني مع ألمانيا، والمعروف أنّ بريطانيا كانت تسيطر على مصر أيضاً وهي من ممتلكات السلطان في الأصل.

ولذلك فإنّ الهنود (والمصريّين) في الوقت الذي كانوا يتضامنون فيه مع الدولة العلية في حربها مع الروس؛ كانوا يرجون منها أن تضغط لصالحهم لدى الانجليز وعليهم. وقد أفضت جهودهم إلى إنشاء «جمعية خدّام الكعبة» لمتابعة النشاطات، وتنظيم المؤتمرات، والتضامن مع الخليفة، وتحقيق الاتحاد الإسلامي في ظلّ الدولة العلية (2). وقد أدّى بالقائمين على الجمعية جهادهم من أجل العثمانيين إلى السجن عندما وقعت الحرب الاولى، ووقع البريطانيّون والعثمانيون في أحلافٍ متناقضة. فلمّا تهدّدت الخلافة العثمانية ثمّ زالت أطلق الهنود على حركتهم


1- 6- بطرس أبو منة: السلطان عبد الحميد الثاني والشيخ أبو الهدى الصيادي؛ بمجلة الاجتهاد، العدد الخامس، السنة الثانية، خريف العام 1989: 59- 88. وقارن:. .. 366 -346 .tic .PO ,malsI -naP foscitiloP ,uadnaL .J ni /1919 ,eciffO ngieroF hsitirB eht ta malsI -naP :fo noitpecreP
2- 7- قارن:... 156 -133 .PP ,1967 ,1964 -1857 natsikaP dna aidnI ni msinredoM cimalsI ,dmahA zizA

ص: 34

اسم: حركة الخلافة، وقد ظلّوا يناضلون زهاء السنوات العشر من أجل إعادة الخلافة باعتبارها مناط المشروعية (1).

ولهذا فإنّ فكرة المؤتمر التي بدا أنّهم يتّجهون إليها في البداية،- وإنْ مع ولاء للعثمانيّين- ما لبثت أن ضعُفت حيث انحصر جهدهم في إعادة الخلافة لاستعادة الرمز والمشروعية؛ ولم يلجأوا لإعادة النظر إلّافي وقتٍ متأخّرٍ وبعد أن تحطّمت آمالُهُم في النصف الثاني من العشرينيات. ففي العام 1924 م أرسلت حركة الخلافة وفداً إلى مكّة للنظر في أوضاع الحرمين، وإخبار الحجازيّين بمقاصد الحركة، وما استطاع الوفد الوصول إلّاإلى جدّة بسبب الصراع على مكّة وقتها؛ لذلك اكتفى بإرسال برقية إلى حكومة الحجاز جاء فيها: أنّ من أهداف حركة الخلافة إقامة دولةٍ مستقلّةٍ استقلالًا تامّاً بالحجاز لرعاية الحرمين، وصونهما عن التدخّل الأجنبي. وهكذا فإنّ الحركة تدعو إلى مؤتمرٍ بمكّة يشارك فيه مندوبون من الدول الإسلامية المستقلّة، ومن الحجاز؛ لإنشاء تلك الحكومة (2).

عادت الحركات الإسلامية بالهند وآسيا الوسطى وجاوه وسومطرة إذن، إلى فكرة المؤتمر بعد زوال الخلافة العثمانية. فقد كانت تلك الشعوب ونُخبُها تُعاني من الوقوع في إسار الاستعمار، وكان الكيان العثماني يمثِّل لها أملًا بالتحرّر، ورمزاً لوحدة المسلمين وسلطتهم وقوّتهم وتاريخهم العريق.

وإذا كان هؤلاء واهمين في قدرة الدولة العلية على مساعدتهم عسكرياً؛ فإنّهم لم يكونوا كذلك في إحساسهم باهتمام سلطات اسطنبول بقضاياهم ومشكلاتهم، ومحاولاتها لمساعدتهم دبلوماسيّاً واجتماعياً. فقد دأب السلطان عبد الحميد على استقبال رسلهم ووفودهم، وإعادة إسكان لاجيئهم، كما دأب على إيفاد مبعوثين إليهم لاستطلاع أحوالهم، والسعي لدى ممثّلي الدول الكبرى في اسطنبول من أجل تلبية مطالبهم. وفي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر كانت اسطنبول تعجُّ بأصحاب المشاريع والحركات من النخب الدينية والثقافية


1- 8- قارن:... 1598 -126 .PP ,1972 ,1924 -1919 aidnI ni tnemevoM tafilaK ehT ;rejiemeiN ;42 -39 .p ,1982 ,tnemevoM tafilahK ehT ,tluaniM
2- 9-. The Politics of Pan- Islam; OP. cit. p. 112.

ص: 35

الإسلامية، من رعايا السلطنة، والدول الإسلامية الاخرى، والشعوب الإسلامية الواقعة تحت سيطرة الاستعمار (1).

ولذلك ليس من السهل تصديق دعوى W. S. Blunt (1840- 1922)، النبيل البريطاني الذي عُرف بدعمه للثورة العُرابية؛ أنّ جمال الدين الأفغاني (1838- 1897) (ومحمد عبده تلميذه) كان يتفهّم مشروعه (أي مشروع بلنت) لإقامة خلافة عربية بديلة بمكّة انتقاماً من الأتراك، ومن استبداد عبد الحميد، وخدمةً للمصالح البريطانية، فبلنت نفسه يذكر أنّه عندما استنصح الأفغاني عام 1883 عشية زيارته للهند حول أسلوب تعامله مع المسلمين هناك، نصحه الأخير بأن لا يتحدّث معهم ضدّ السلطان أو الدولة العثمانية؛ لأنّ سائر المسلمين كارهون للانجليز وشديد والولاء للدولة العلية وللسلطان (2).

إنّ الذي أحسبُهُ أنّ Blunt لم يستطع متابعة أفكار جمال الدين الأفغاني حول الحلول الناجعة لمشكلات المسلمين مع الغرب الأوروبي. إذ كان جمال الدين وقتها قد توصّل إلى قناعةٍ مؤداها أنّ ضعف المسلمين في مواجهة الاستعمار ليس مردّه ما يقوم به السلطان العثماني أو لا يقومُ به؛ بل لذلك عِللٌ وأسبابٌ تتعلّق بالأوضاع الحضارية للُامّة الإسلامية أفضت إلى ضعفها وتشرذمها وتكالب الأمم المتقدّمة عليها، ولهذا فإنّ الأفغاني وعبده ما كانا يعارضان السلطان، بالدرجة الاولى، بل يريان أنّ ما يقوم به جيّدٌ ومفيدٌ، لكنّه غير كاف. وقد انهمكا بين العامين 1883 و 1887 في نشاطٍ محمومٍ على عدّة مستويات لبلورة رؤيتهما حول «وحدة المسلمين» أو «الجامعة الإسلامية» من جهة، وحول أسباب النهوض والقوّة من جهةٍ ثانية.

كان هناك من جهةٍ جهدُهُما لتصحيح المفاهيم والصُور حول الإسلام والعلم، والإسلام والتقدّم، والإسلام والسلطة الدينية (في مواجهة رينان وهانوتو، ونظرية دارون) (3).

وكان هناك من جهةٍ ثانية دعوة المسلمين لتفهّم أبعاد الرؤية الشاملة


1- 10-..;131 -8 .P .tic .po ;malsI -nap fo scitiloP ehT ,uadnaL ;10 -4 .PP .1986 .ssergnoC milsuM eht fo tnevdA ehT .delbmessA malsI ,remarK nitraM ;116 -103 , 1982 4 -10 /22 ,5 N ,malsI sed tleW eiD nI ".trednuhrhaJ .19 mi malsI sed gnureisitiloP eiD ",ezluhcS .R ولوثروب ستودارد: حاضر العالم الإسلامي، ترجمة وتعليق الأمير شكيب أرسلان، الطبعة الاولى بمطبعة المنار 1933 م.
2- 11- كان ويلفريد وسكاون بلنت يرى أنّ الدولة العثمانية أهمّ أسباب ضعف المسلمين، وأنّ بداية التصحيح تكون بإعادة الخلافة للعرب. وقد أتى إلى جدّة عام 1881 م محاولًا النفاذ إلى نجد من أجل كسب الوهّابيين فكرته لما كان يعتقده من عداء بينهم وبين العثمانيين. قارن عنه وعن آرائه هذه، التي عبّر عنها في مذكّراته، وفي كتابه: مستقبل الإسلام 1882 م:. .. 25 -10 .tic .PO ,delbmessA malsI ,remarK .M ;103 -87 .PP .1980 .tsaE elddiM eht dna eporuEni ,''tsaE eht fo laviveR eht dna dnulB newacS dirfliw ,inaruoH .A
3- 12- قارن بمحمد عمارة: الإسلام والعروبة والعلمانية، بيروت 1981: 14- 9؛ ومحمد عمارة: الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني. مع دراسة عن الأفغاني، بيروت 1968: 66- 38. وعبد العاطي محمد أحمد: الفكر السياسي للإمام محمد عبده، القاهرة 1987: 301- 289 .. .26 -16 .p .tic .po ;uadnaL

ص: 36

التي يعتنقانها من طريق إصدار مجلّة «العروة الوثقى» التي انصبّت مقالاتُها على أربعة امور: الدعوة للوحدة، والدعوة للتقدّم، وقراءة أسباب الخلل والتخلّف، وإيضاح خلفيات الأحداث الجارية.

وفي سياق المعالجة لأسباب الضعف، والحثّ على النهوض، عادت فكرة المؤتمر، وفي مكّة بالذات، وأثناء موسم الحجّ، إلى الظهور، فقد جاء في مقدّمة العدد الأوّل من «العروة الوثقى» (1): «.. وبما أنّ مكّة المكرّمة مبعث الدين ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كلّ عام يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقعها الطاهرة الجليل والحقير والغنيّ والفقير، كانت أفضل مدينةٍ تتوارد إليها أفكارهم، ثمّ تنبثُّ إلى سائر الجهات، واللَّه يهدي من يشاء إلى سواء السبيل..».

وفي مقالةٍ عنوانها «الوحدة والسيادة» تقول «العروة الوثقى» (2):

«إنّ الميل للوحدة والتطلّع للسيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام، كلّ هذهصفاتٌ كامنةٌ في نفوس المسلمين قاطبةً. ولكن دهاهم بعض ما أشرنا إليه في أعدادٍ ماضيةٍ فألهاهم عمّا يوحي به الدين في قلوبهم، وأذهَلَهم أزماناً عن سماعصوت الحقّ، فسهوا وماغَوَوا، وزلّوا وما ضلّوا، فَمَثَلُهم مَثلُ جُوّاب المجاهيل من الأرض في الليالي المظلمة، كلٌّ يطلبُ عوناً وهو معه ولكن لا يهتدي إليه. وأرى أنّ العلماء العاملين لو وجّهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلى مسامع بعضٍ؛ لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت. وليس ذلك بعسيرٍ عليهم بعدما اختصّ اللَّه من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام، وفرض على كلّ مسلمٍ أن يحجّه ما استطاع.

وفي تلك البقعة يحشُرُ اللَّه من جميع رجال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم فما هي إلّاكلمةٌ تُقال بينهم من ذي مكانةٍ في نفوسهم تهتزُّ لها أرجاء الأرض، وتضطربُ لها سواكن القلوب.

هذا ما أعدّتهم له العقائد الدينية، فإن أضفت إليه ما أذاب قلوبهم من تعدّيات الأجانب عليهم، وما ضاقت به


1- 13- جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، العروة الوثقى، تقديم الشيخ مصطفى عبد الرازق، دار الكتاب العربي. بيروت. الطبعة الثالثة، 1983: 46.
2- 14- العروة الوثقى، مصدر سابق: 119.

ص: 37

صدورهم من غارات الغرباء على بلادهم حتّى بلغت أرواحهم التراقي؛ ذهبت إلى أنّ الاستعداد بلغ من نفوس المسلمين حدّاً يوشك أن يكون فعلًا...».

كانت دعوة الشيخين الأفغاني وعبده دعوة للنهوض والتوحّد، وقد انطلقت من باريس عبر «العروة الوثقى»، لكنّها كانت ترى أنّ المآل ينبغي أن يكون في مكّة ومنها، لأنّها مهوى أفئدة المسلمين. والمعروف أنّ «العروة الوثقى» لم تصدر غير تسعة أشهرٍ من عام 1884 م. بعدها عاد محمّد عبده إلى بيروت، ثمّ سُمح له بالعودة إلى وطنه عام 1888 م.

أمّا جمال الدين فتردّد بين باريس ولندن وروسيا وإيران إلى أن قبل عام 1892 م دعوة السلطان عبد الحميد للإقامة والتحرّك من اسطنبول. وقد بقي هناك حتّى وفاته عام 1897 م. ولا نعلمُ شيئاً محقّقاً عن مآلات فكرة المؤتمر لديه؛ فالمعروف أنّ السلطان ما كان يحبّذ انعقاد مؤتمرٍ للبحث في شؤون المسلمين لا في مكّة ولا في اسطنبول (1). بيدَ أنّ هناك من قال: إنّ السلطان كلَّف الأفغاني بالعمل على توحيد الكلمة بين الشيعة والسنّة، وأنّه حاول الوصول لذلك عن طريق مؤتمرٍ لفقهاء الطرفين (2).

أمّا المخزومي الذي كان يحضر مجالس السيّد جمال الدين في اسطنبول، ويسجّل خاطراته، فينقل عنه دعوته للجامعة الإسلامية، لكن دونما مرور بفكرة المؤتمر من أجل ذلك (3).

على أنّ فكرة مؤتمر الحجّ بمكّة، بقيت حيّة فيما يبدو، لدى محمّد عبده (1849- 1905 م) تلميذ جمال الدين.

ففي العام 1897 م عُيّن محمّد عبده مفتياً لمصر. وفي السنة اللاحقة آزر المفتي الجديد السيّد محمد رشيد رضا (1865- 1935 م)، الشابّ المتحمّس الآتي إليه من طرابلس الشام، دعمه وآزره في تأسيس مجلّة المنار، التي سُرعان ما أصبحت أهمّ المجلّات الصادرة في العالم الإسلامي.

وفي مجلّد المجلّة الأوّل دعا السيّد محمّد رشيد رضا لتأسيس جمعية إسلامية بمكّة لها فروعٌ في سائر أنحاء


1- 15-... 22 -20 .tic .pO ;delbmessAamlsI ,remarK .M ;67 -46 .tic .po ,"II dimaH ldbAdna inahgfA :leippA cemalsI -naP ehT ",eiddeK .N
2- 16-. M. Kramer; op. cit. 22- 52.
3- 17- محمد باشا المخزومي. خاطرات جمال الدين، بيروت 1944: 42- 38. وكان جمال الدين في سنواته الأخيرة كثير الحديث عن تحالف ممكن وضروري بين العثمانيين والإيرانيين والأفغان.

ص: 38

العالم الإسلامي.

ورأى السيِّد رشيد أنّ تلك الفروع تُرسل كلّ عامٍ مندوبين عنها إلى مركز المؤتمر أثناء موسم الحج، فيحضرون الاجتماع السنوي، ثمّ يعودون بالمقرّرات إلى بني قومهم، ويطمئن رضا أمير المؤمنين باسطنبول إلى نواياه ومقاصده، فيخبره أنّه اختار مكّة بدلًا من اسطنبول، لبُعدها عن تدخّلات الأجانب، واستخباراتهم، ولإمكان اجتماع المسلمين بها بدون حرج سواءٌ أكانوا مواطنين عثمانيّين أم لا (1).

ويتابع رضا (وربما محمّد عبده) أنّه آن الأوان لتصحيح أفهام المسلمين للحجّ؛ وذلك أنّه لا ينحصر بأداء الشعائر بدقّةٍ وأمانةٍ والتزام، بل هو أيضاً فرصة لتشاور المسلمين في قضاياهم ومشكلاتهم، والتعرّف العميق على امّتهم، والإحساس بالمسؤولية عن الشأن الإسلامي العامّ؛ أفليس الحجّ عرفة؟ وأليس معنى عرفة التعارف؟! أمّا الثمرات المباشرة لهذا التعارف فينبغي أن تتمثّل في إصدار مجلة إسلامية تكافح البدع والتقاليد البالية، وتدعو للنهوض والتجدّد والتوحيد.

وإصدار كتاب يتضمّن العقائد الإسلامية الرئيسيّة ويوافق عليه السلطان (2).

ويبدو من مقالةٍ لرشيد رضا في المجلّد الثاني من المنار عام 1899 م أنّ دعوته ودعوة عبده لم تلقَ ترحيباً من أنصار العثمانيّين بالقاهرة (3). وربما كان من بين هؤلاء علماء الأزهر، ودعاة الجامعة الإسلامية العثمانية من الوطنيّين المصريّين من وراء مصطفى كامل. فقد اقترحوا- كما يقرّر رضا- اسطنبول مقرّاً للجمعية، ومؤتمرها السنوي.

ويرد رضا بالعودة لشرح أسباب اختياره مكّة. ثمّ يقول: إنّ السلطان نفسه لا يريد المؤتمر باسطنبول، بدليل أنّ الصحف العثمانية كلّها لم تذكر شيئاً عن ذلك.

إنّ اطروحة المنار هذه، والتي تعتبر السلطان العثماني عضواً رئيسيّاً في المؤتمر المكّي لا تقصد إلى مُعاداته، بل هدفها القول: إنّ المشكلات التي يعاني منها المسلمون أوسع وأعمق من أن تستطيع السلطنة حلّها. ومكّة توفِّر شرطين


1- 18- مجلّة المنار، 1/ 765: 66- 39 17 ديسمبر، 1898 ويذكر رشيد رضا في كتابه: تاريخ الاستاذ الإمام محمد عبده 1/ 287- 283 بعد ثلاثين عاماً على ذلك أنّ الشيخ عبده كان يملك مشروعاً تفصيليّاً للمؤتمر المكّي وفروعه في العالم الإسلامي.
2- 19- مجلّة المنار، 2/ 21: 325 5 أغسطس، 1899.
3- 20- مجلّة المنار، 2/ 1899: 345- 337؛ وبخاصّةص 342. وقارن: مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، إعداد وتحقيق يوسف أيبش، ويوسف الخوري، دار ابن عربي 1994: 1: 108- 100؛ الجامعة الإسلامية وآراء الجرائد فيها.

ص: 39

للنجاح: إمكان اجتماع أكبر عدد ممكن من نُخَب المسلمين فيها، وإمكان الحديث والتشاور بحرية لا يتيحها جوّ العاصمة العثمانية. وما تخلّى الرجلان عن المشروع رغم الاعتراضات والتحفّظات، بدليل مساعدتهما لعبد الرحمن الكواكبي (1845- 1902 م) في نشر كتابه: امّ القرى (1900 م) في طبعةٍ سريّة عليها تعليقات وحواش وتوسيعات لرضا، ثمّ المصير إلى نشر الكتاب نفسه على حلقات في مجلّة المنار بدءًا بمطلع العام 1902 م.

كان الكواكبي الذي وصل إلى القاهرة عام 1899 م قد بدأ بنشر كتابه: طبائع الاستبداد بجريدة المؤيّد للشيخ علي يوسف (1). وهو كتاب واضح العداء للسلطان عبد الحميد وللدولة العثمانية. أمّا في امّ القرى فيتحدّث الكواكبي (يسمّي نفسه السيّد الفراتي) عن مساعيه لعقد مؤتمر بمكّة للبحث في أسباب «الخلل والضعف» الذي حلَّ ب «كافّة المسلمين» مطلع القرن الرابع عشر الهجري.

خرج الفراتي من حلب مطلع العام 1316 ه (/ 1898 م)، وطاف بالبلاد العربية داعياً سراتها للقاء بمكّة أثناء موسم الحج من العام نفسه. وقد التحق به سائرهم كما يقول، باستثناء الأديب البيروتي (هل هو عبد القادر القبانيصاحب ثمرات الفنون؟) الذي اعتذر.

وفي مكّة ضمّ إلى العرب القادمين ممثِّلين لسائر الجهات الإسلامية، وعقد هؤلاء جميعاً اثني عشر اجتماعاً سريّاً في ناحية منعزلة من المدينة، تدارسوا فيها شؤون المسلمين، واقترحوا حلولًا وعلاجات لها، وأنشأوا سكرتيرية تنظيمية للمؤتمر لمتابعة تنفيذ المقرّرات (جمعية تعليم الموحديين)، ثمّ انفضّوا!

ذكر الكواكبي في المؤتمر المفترض «مجمل أسباب الفتور» (يقصد الانحطاط)، في ستّة وثمانين بنداً مقسّمةً على ثلاثة أنواع: الأسباب الدينية، والأسباب السياسية، والأسباب الأخلاقية- معتبراً أنّ هناك حاجة لإصلاح ديني جذري، وإصلاح سياسي قوي. وعمدتُهُ في عملية الإصلاح: فصل الخلافة عن السلطنة، وانتخاب خليفة قرشي مقرّه مكّة لمدّة


1- 21- الأعمال الكاملة للكواكبي، إعداد وتحقيق محمد جمال طحّان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1995،ص 82- 81.

ص: 40

ثلاث سنوات لا تتجاوز سلطاته السياسية منطقة الحجاز. أمّا بقيّة البلدان الإسلامية فتستقلّ بأمرها السياسي والإداري وترعى أمورها الكبرى من خلال الجامعة الإسلامية ومؤتمرها العام الذي يترأسه الخليفة بمكّة (1).

وعلى الرغم من راديكالية الحلّ السياسي الذي يطرحه، فلا شكّ أنّ مقترحات الكواكبي للاجتهاد والتجديد الديني تظلّ الأكثر لفتاً للانتباه. وهناك شَبَهٌ شديد بين تلك الآراء وما كانت عبّرت عنه المنار، بل و «العروة الوثقى» من قبل. لكن إذا كانت رسالة «امّ القرى» هي التعبير الأوضح عن أفكار الإصلاح الإسلامي؛ فإنّها من ناحية ثانية أفصحت عن الوعي الجديد لنُخَبٍ عربية ما عادت تعتبر الوجود العثماني قادراً على حلّ مشكلات شعوب الامبراطورية، أو تحقيق طموحاتها.

أمّا البديل الرمزي للسلطان ولاسطنبول لدى النُخب أو بعض أفرادها فالقائد العربي الذي ينطلق من مكّة أو يعود إليها فاتحاً كما فعل رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم؛ ليصبح موسم الحجّ في كلّ عام البيئة التي يجري فيها التشاور، وتحديد المشكلات، واتخاذ القرارات التي تُهمُّ سائر المسلمين.

أسهمت كتابات الكواكبي في «طبائع الاستبداد» ومن خلال فكرة المؤتمر في «امّ القرى» في دفع رهان الإصلاحيّين المسلمين على الشورى والدستور إلى الأمام.

وبذلك لم تعدّ الصورة عن الإسلام التقليدي الداعم للاستبداد الحميديصحيحة. بيد أنّ وفاة محمّد عبده عام 1905 م، أفقدت الإصلاحيّين قيادتهم العامّة المُطلّة على سائر أجزاء ديار الإسلام؛ بحيث بدا دُعاة الإصلاح والمعارضة لاستبداد السلطنة جماعةً شاميّةً سلفيةً ذات عصبيةٍ عربيةٍ محلّية تذكّر بما كان يدعو إليه بلنت في ثمانينيات القرن التاسع عشر.

وقد ظهر ذلك واضحاً في ردّة فعل رشيد رضا على اقتراحصحافي ومؤلّف تتري اسمه غاسبرنسكي Gasprinskii (1851- 1914 م) عقد «مؤتمر إسلامي عام» بالقاهرة، من


1- 22- الأعمال الكاملة للكواكبي، مرجع سابق، الصفحة: 358 وما بعدها.

ص: 41

أجل مناقشة أسباب التخلّف الاقتصادي لدى المسلمين عام 1907 م. فقد أزعج رضا إسراع الشيخ علي يوسف ومصطفى كامل (المواليين للخديوي) والشيخ محمد توفيق البكري (شيخ مشايخ الطرق الصوفية) للاستيلاء على اللجنة التحضيرية للمؤتمر؛ ولذلك بادر بعد تردّد إلى معارضته بحجّة أنّ الفكرة في الأصل للأفغاني، ثمّ لمحمّد عبده وتيّار المنار، وقد رأى هؤلاء جميعاً أن يكون المؤتمر بمكّة (1).

وهكذا فإنّ الصراع على مكان المؤتمر أصبح يخفي في الحقيقةصراعاً على السلطة داخل العالم الإسلامي بين السلطنة (اسطنبول)، ومصر (الخديوي عبّاس الثاني)، والتحالف الإصلاحي/ الشامي. وقد تراجع هذا الصراع عن واجهة الأحداث بقيام الحركة الدستورية في إيران (1905- 1906 م) ثمّ في الدولة العثمانية (1908 م)؛ إذ ما عاد الإصلاحيون يرون ضرورةً للاحتجاج السياسي (1908- 1912 م) ما دام العمل الداخلي ممكناً. على أنّ العمل الإصلاحي المرتبط بفكرة المؤتمر بمكّة ما عاد له طابعه الإسلامي العامّ حتّى في العهد الدستوري العثماني؛ بدليل حدوث مؤتمر باريس (1913 م)، الذي لم يشهدْهُ من الإصلاحيّين غير الشوام، والذي كانت مطالبه شامية وعربية تتراوح بين اللامركزية، وبين الدعوة للانفصال عن السلطنة بحجّة السياسة الطورانية والتتريكية للدستوريين الأتراك (2).

أمّا دعاة العالمية الإسلامية من بين الإصلاحيين غير الشوام؛ فإنّ مقترحاتهم للمؤتمر عادت للارتباط بالدولة العلية بدون تأكيد على الخلافة التي تراجعت ايديولوجيتها بتنحية السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 م.

فالتضامن الإسلامي كما يرى الإيراني ميرزا علي آغا (ت 1918 م) يتطلّب مؤتمراً يمكن أن ينعقد بمكّة أو باسطنبول، والتتري محمد مراد (1853- 1912 م) يرى عقد المؤتمر باسطنبول برئاسة شيخ الإسلام وليس الخليفة. واللجنة المركزية لجمعية


1- 23- مجلّة المنار مايو 1908 11 3: 184- 181. وانظر محمد توفيق البكري: المستقبل للإسلام، القاهرة، بدون تاريخ حوالي 1909: 119- 116.
2- 24- ما حضره السيد رشيد رضا لكن حضره أصدقاؤه: عبد الحميد الزهراوي، ومحبّ الدين الخطيب وأحمد طبارة؛ قارن: وثائق المؤتمر العربي الأوّل 1913: كتاب المؤتمر والمراسلات الدبلوماسية الفرنسية المتعلّقة به. تقديم ودراسة وجيه كوثراني. دار الحداثة بيروت 1980. وكان الأمير شكيب أرسلان ضدّ المؤتمر، قارن بشكيب أرسلان؛ سيرة ذاتية، بيروت، بدون تاريخ: 109.

ص: 42

الاتحاد والتراقي (المسيطرة باسطنبول) تقترح عقد مؤتمر سنوي باسطنبول لعلماء المسلمين من داخل الدولة وخارجها للبحث في الشؤون التي تهمّ المسلمين عامّة.

والشيخ عبد العزيز جاويش (1872- 1929 م) القريب من الحزب الوطني المصري، والمرتبط بقوّة بفكرة بقاء الدولة العثمانية، يقترح عام 1913 م (بالتضامن مع شكيب أرسلان في مواجهة الذين حضروا بمؤتمر باريس) مؤتمراً باسطنبول لدعم السلطنة وضع له برنامجاً من اثنتي عشرة نقطة (1).

ظلّ السيّد محمّد رشيد رضا حتّى العام 1912 م مصرّاً على أنّ المنار هي وارثة تقليد الإصلاح المرتبط بفكرة المؤتمر بمكّة. لكنّ خيبة أمله بالاتحاديين بعد زيارته لاسطنبول عام 1910 م، وتعاطف الإصلاحيين مع مؤتمر باريس أبعد المشاركين (الذين أعدم جمال باشا بعضهم بعالية ودمشق عام 1916 م بحجّة تآمرهم مع فرنسا، وتهديدهم لأمن الدولة أثناء الحرب) عن التيّار الإسلامي العامّ الداعم للدولة العثمانية، والداعي لإصلاحها في الوقت نفسه.

في حين تركّزت اهتمامات السيّد رشيد عشية الحرب الاولى وأثناءها (1913- 1918 م) على علاقات العرب بالترك، ومصائرالعرب؛ فإنّ الإصلاحيّين الآخرين ظلّوا يعملون على دعم الدولة العلية مادّياً ومعنوياً وسياسيّاً في مصر والشام واسطنبول والأقطار الأوروبية.

كما ظلّوا يقدّمون الأفكار والمقترحات ذات الأبعاد الحضارية والاقتصادية التي يمكن أن تبحثها مؤتمرات داخل الدولة أو خارجها (2).

وهكذا فإنّ الحرب التي مزّقت الدولة العثمانية، مزّقت أيضاً دُعاة العالمية الإسلامية إلى مستميتين في الدفاع عن الدولة والخلافة وبقائها، أو ساعين لإيجاد بديلٍ أو بدائل عن الدولة المتساقطة.

أمّا حركة الخلافة بالهند فهي نموذجٌ للفريق الأوّل. وأمّا مجموعة المنار فهي نموذجٌ للفريق الثاني. على أنّ الموقف انقلب انقلاباً راديكالياً بعد الحرب، بحيث ما عاد ممكناً الحديث عن عالمية


1- 25- M. Kramer, Islam Assmbled; op. cit. 54- 45.
2- 26- قارن بعلي يوسف: بيان ف يخطط المؤيّد تجاه الدولة العلية العثمانية، القاهرة 1916، وأوراق محمد فريد، نشر الهيئة العامّة، 1985، م 1،صفحات متفرّقة،. .. 211 -163 ,PP ,1986 ,yrotsiH nrdoM ni dahiJ ,sreteP .R

ص: 43

إسلامية يدور الخلاف حول وسائل تحقيقها بالمؤتمرات أو بغيرها؛ لذلك علينا هنا أن نقف وقفةً قصيرةً لإعادة قراءة المشروع العالمي الإسلامي ومآلاته في العشرينيات، قبل العودة لاستعراض وقائع المؤتمرين بمكّة عام 1924 و 1926 م، واللذين أظهرا وصول المشروع إلى مأزق، وليس فكرة المؤتمر بحدّ ذاتها.

لماذا جرى التفكير بالمؤتمر وبمكّة في الأصل؟

لقد سبق ذكر الرأي القائل: إنّ فكرة المؤتمر، وعقده بمكّة، عَنَتا تمرّداً على العثمانيّين. وقد رجّحت أنّ ذلك غيرصحيح، فالشخصيتان اللّتان اقترحتاه، إحداهما تركية، والاخرى جمال الدين الأفغاني. والاولى كانت في اسطنبول، والثانية انتهت في اسطنبول.

ولهذا فالمرجّح أنّ مشروع النهضويّين؛ أصحاب فكرة المؤتمر إنّما كان يريد إصلاح امور المسلمين لتقوية جانبهم في مواجهة الاستعمار، ومتابعة الإصلاحات التي أوقفها عبد الحميد الثاني للغرض نفسه.

وقد ذكروا هذه الأسباب لعقد المؤتمر أو المؤتمرات، كما أوضحوا أسباب اختيارهم لمكّة، والتي لا تخرج عن ثلاثة امور:

ارتباط المسلمين دينيّاً بها.

وبُعدها عن تأثيرات القوى الأجنبية.

وإمكان التقاء كبار المسلمين من داخل الدولة العثمانية وخارجها سنوياً في رحابها.

وحدثت تطوّرات في مطلع القرن العشرين وعقده الأوّل، عدّلت من معالم المشروع العالمي الإسلامي لدى الإصلاحيّين: يأس بعض الإصلاحيّين مثل الأميرصباح الدين (1877- 1948 م)، وعبد الرحمن الكواكبي من التأثير على عبد الحميد باتجاه الإصلاح بحيث رأى الأميرصباح الدين (ابن أخ عبد الحميد) ضرورة إسقاطه (1).

وبحيث رأى الكواكبي ضرورة فصل الخلافة عن السلطنة، وإقامة خليفة عربي بمكّة له سلطاتٌ روحية، ورأيٌ (من خلال الجمعية أو المؤتمر السنوي) في الشؤون العامّة والكبرى.


1- 27-J .Landau ,The Politics of Pan -Islam ;op .cit .72 -92 .

ص: 44

هكذا اتّخذ المشروع الإصلاحي معالم سياسية محدّدة كان يمكن أن تتراجع بعودة الدستور والحرّيات (1908- 1909 م) لولا وفاة محمّد عبده عام 1905 م، وافتقار الإصلاحيّين من تيّار المنار إلى شخصية مشابهة جامعة.

لذلك انقسم الإصلاحيّون إلى قسمين:

العرب (من أهل الشام بالتحديد) الذين فكّروا وعملوا من أجل لا مركزية تعطيهم حكماً ذاتيّاً ضمن الدولة. وقد اجتمعوا عام 1913 م بباريس، وظهرت أصوات تدعو للانفصال التامّ. وقد ضعُف تيّار اللامركزية خلال الحرب بسبب اتجاه كثيرٍ من دعاته (أهمّهم محمّد فريد وشكيب أرسلان) لدعم الدولة بدون شروط لخوفهم على الوجود-.

والقسم الثاني- وأكثره من مسلمين غير عثمانيّين- رآى ضرورة الانتظام ضمن الداعمين للدولة دونما اشتراط للأخطار الكبيرة التي تتهدّدها وتتهدّد المسلمين بشكلٍ عام.

وانتهت الحرب بهزيمة الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا، واحتلال اسطنبول، وتمرّد مصطفى كمال بالأناضول كما هو معروف. وتسارعت خطوات الاضمحلال بفصل السلطنة عن الخلافة عام 1912 م، وإلغاء الخلافة عام 1924 م. وتعاظم الإحساس بالفجيعة بسبب الهزيمة من ناحية، وقيام كياناتصغيرة منفصلة في ظلّ الاستعمار؛ لكن أيضاً وقبل ذلك بسبب فقد المشروعية بسقوط «دار الإسلام» أو نظامها (الخلافة) لصالح النظام الدولي المتبلور في حقبة ما بين الحربين.

لقد كان من الطبيعي والحال هذه، أن تعود فكرة المؤتمر وبمكّة للبروز بقوّة. فالشرعية العثمانية تتضاءل ثمّ تزول، وراديكاليو الإصلاحيّين كانوا قد رأوا مع الكوكبي إمكان عقد مؤتمر اختيار خليفة بمكّة. لكنّ الفريقين الإصلاحيين كانا قد تغيّرا أثناء الحرب، وما عاد يمكن تحديدهما حتّى ضمن مقاييس ما قبل الحرب.

فالمسلمون خارج السلطنة العثمانية، وعلى رأسهم محمد علي وشوكت علي من «حركة الخلاف» الهندية ظلّوا

ص: 45

يأملون ويعملون لإعادة الخلافة العثمانية؛ ولذلك ما وافقوا على تسمية الحسين بن علي في «مؤتمر الحجّ» بمكّة عام 1924 م، ولا على تسمية ملك مصر في «المؤتمر الإسلامي العام للخلافة» بمصر عام 1926 م، لارتباط الشريف حسين بالبريطانيين، ووجود الجيش البريطاني بمصر (1). ورشيد رضا الذي انهمك في نقاشات حول الخلافة والسلطنة (1922- 1924 م) وشروطهما التاريخية والشرعية تردّد قليلًا (1916- 1917 م) ثمّ رفض البيعة للشريف حسين للسبب نفسه الذي رفضه من أجل الهنود؛ ولم يحضر مؤتمر الحجّ عام 1924 م (2)، ثمّ استطاع هو وغيره التهرّب من البيعة لملك مصر عام 1926 م بحجّة تأجيل ذلك لمؤتمرٍ آخر ينعقد في السنة التالية، وهو ما لم يحدُث أبداً (3).

كان المؤتمر الأخير الذي ذُكرت فيه مسألة الخلافة هو المؤتمر العام الإسلامي الذي انعقد بمكّة عام 1926 م عقب مؤتمر القاهرة. وكان الملك عبد العزيز قدصارح المصريّين عندما دعوه لإرسال ممثّل عنه إلى المؤتمر القاهري، أنّه يؤيّد مصر في ذلك، وهو ليس مهتماً شخصياً بمسألة الخلافة. لكنّه لا يقبل أن تبحث امور الحرمين في المؤتمر المصري كما ردّد بعض المصرّين والهنود، إذ لا حاجة لذلك ما دام هو ملك نجدٍ والحجاز، والحرمان آمنان ومحميان (4).

أمّا الدعوة التي أرسلها الملك في 28 أبريل 1926 م لحضور مؤتمر العالم الإسلامي أثناء موسم الحجّ فقد نصّت على خدمة الحرمين وسكّانهما وضمان مستقبلهما، وتأمين الراحة للحجّاج والزائرين، وترقية أحوال الأراضي المقدّسة، والبحث في تعاون المسلمين من أجل الوصول إلى هذه الأهداف.

لقد كان يُريد طمأنة المسلمين إلى مجريات الامور بالحرمين بعد سيطرته عليهما عام 1924 م. وما كان يريد المطالبة بالخلافة، لكنّه لا يقبل أيضاً أن يتدخّل الآخرون في شؤونهما باقتراح نظامٍ معيّنٍ لهما. وكان من دلائل ذلك المبايعة له ملكاً على نجد والحجاز قبل انعقاد المؤتمر.


1- 28-M .Krmer ,Islam Assembled ,op .cit .18 ,48 -58 ,39 -59 .
2- 29- مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، 4: 1512، انتحال السيد حسين أمير مكّة للخلافة!
3- 30- مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، 4: 1930- 1911.
4- 31- M. Kramer, Islam Assembled, op. cit. 601- 221. وانظر عن المؤتمر: مقالات الشيخ رشيد رضا السياسية، مرجع سابق، م 4،ص 1938- 1947.

ص: 46

وقد لاحظ عالمٌ هنديّ كان حاضراً بمكّة أثناء البيعة أنّ ابن سعود حلّ مسألة المشروعية بأخذ البيعة لنفسه على الحكم بالكتاب والسنّة، وبذلك تضاءل الهمّ الذي كان يحرِّك علماء آخرين للبحث عن خليفة من أجل استعادة المشروعية التاريخية (1).

وعندما انعقد المؤتمر في النهاية كان الحاضرون من العلماء والرسميّين أكثر وأكبر تمثيلًا من مؤتمري الشريف حسين والقاهرة. وقد حضر ممثّلون لعدّة دول إسلامية من ضمنها مصر- التي كان مليكها يسعى للخلافة- لاطمئنانهم إلى أنّ الملك عبد العزيز لا يريد منافستهم على ذلك اللقب الذي استنفد أغراضه منذ زمن.

وقد تحدّث عدّة موفَدين فعلًا في الخلافة وشروطها، وفي طرائق العناية بالحرمين.

واقترح بعضهم ترشيح الملك عبد العزيز للمنصب أو بالأحرى للّقب.

وعندما تطرّق البحث إلى التضامن الإسلامي ومقتضياته حدث خلافٌ كبير. فالهنود والجاويّون والسودانيّون كانوا وما يزالون مهتمّين بالتعاون الإسلامي العامّ، وبإيجاد هيئة للعناية بذلك.

أمّا العرب فقدصاروا أحزاباً كلّ فريق مرتبط بهذه السلطة أو تلك من الدول التي قامت بعد الحرب في الأقطار المختلفة.

وكان السيّد رشيد رضا والأمير شكيب أرسلان، اللّذان اختلفا حول نصرة الدولة العثمانية في الحرب وبعدها، قد عادا للاتّفاق حول دعم الملك عبد العزيز باعتباره الأكثر استقلالًا ومشروعيةً في عالم الإسلام آنذاك. وقد أُنشئت للمؤتمر سكرتيرية تعمل لعقده سنوياً، لكنّه لم يعُدْ للانعقاد. والأمير شكيب أرسلان، الذي كان سكرتيراً عاماً للمؤتمر عام 1929 م طاف بالحجاز ذلك العام، ونشر مذكّراته الطريفة حوله تحت عنوان:

(الارتسامات اللطاف) (2)، دون أن يذكر شيئاً عن مصائر مؤتمر العالم الإسلامي، لكنّ الملك عبد العزيز- الذي لم يحضر أكثر جلسات مؤتمر العام 1926 م لكي يتيح للحاضرين أن يتناقشوا بحرية-


1- 32- Kramer; Op. cit. 901
2- 33- الارتسامات اللطاف في رحلة الحاج إلى أقدس مطاف. وهي الرحلة الحجازية لأمير البيان ونادرة الزمان الأمير شكيب أرسلان. نشر مجلّة المنار عام 1350 ه.

ص: 47

ظلّ يجتمع سنوياً بكبار العلماء والرسميّين القادمين للحجّ؛ فيتحدّث إليهم في شؤون الحرمين، والتضامن الإسلامي.

أظهرت المؤتمرات الثلاثة التي انعقدت بمكّة (1924 م) وبمصر (1926 م) ثمّ بمكّة (1926 م) أنّ النظام الإسلامي الكلاسيكي للمشروعية قد انتهى، وأنّ الدول المنتصرة بالحرب تُبلوِر نظاماً إقليميّاً متفرّعاً على نظام القوّة الدولي الذي ظهر بعد الحرب الاولى.

كما أظهرت تلك المؤتمرات أنّ المسلمين لا يملكون بدائل أو حلولًا لازمة المشروعية، غير البدائل القطرية (الدولة الوطنية) التي يعترف بها النظام الدولي الجديد. وفي حين ظلّ الإسلاميّون خلال العشرينيات يتقاذفون التهم والاقتراحات.

عمد الشاب وقتها عبد الرزاق السنهوري في اطروحة للدكتوراهصدرت بباريس عام 1927 م إلى اقتراح منظمةٍ للُامم الإسلامية، تحفظ معنى الوحدة، وتصون كبرى المصالح.

أمّا أمين الحسيني، مفتي القدس، فقد دعا عام 1931 م إلى مؤتمر إسلامي بالقدس للتضامن مع المقدسيين والفلسطينيّين في مواجهة الصهاينة، حرص فيه على أن لا يذكر أحدٌ شيئاً عن الخلافة أو استعادتها حتّى لا يُغضبَ الحكّام العرب من جهة، والبريطانيّين من جهةٍ ثانية...

الهوامش:

ص: 48

ص: 49

ص: 50

ص: 51

الركن العراقي حجر إسماعيل

الركن العراقي حجر إسماعيل

الركن العراقي حجر إسماعيل

الشيخ المامقاني/ إعداد: أبوالحسن المطلبي

نظراً لما في هذه المقالة من نقاط تحتاج إلى المزيد من الإيضاح والتحقيق، نأمل من الأساتذة المحقّقين خاصّةً في علم الهيئة موافاتنا بآرائهم حول ما دار فيها. إدارة المجلة

ترجمة المؤلّف

الشيخ عبداللَّه بن الشيخ حسن بن الشيخ عبداللَّه بن محمد باقر بن علي أكبر بن رضا المامقاني النجفي، ولد في النجف الأشرف سنة 1290 ه ونشأ فيها.

عالم، عامل، تقي، ورع، ثقة، أمين،صاحب التأليف والتصنيف، حجّ مكة المكرمة، وكان يكتب في طريقه وقد حمل معه مقداراً وافراً من كتب المصادر عن خلص أصحابه، وزار الرضا عليه السلام مع والده الحجة في أواخر أيّام والده، واستقبله أهل طهران وخراسان، وصار له ولوالده أكمل الإكرام والتبجيل، واستقبله التجار والوجوه والمعارف وأرباب الدولة ولا سيّما موجهو الترك.

ص: 52

أساتيذه

قرأ مقدّمات العلوم على والده الحجة وعلى العالم الشيخ هاشم التبريزي الأرونقي المتوفى سنة 1323 ه، وقرأ الفقه والأصول على الشيخ غلام حسين الدربندي التركي المتوفى 1321 ه والشيخ حسن ميرزا المتوفى 1313 ه، وحضر أبحاث العلماء المعاصرين وبحث والده الشيخ حسن.

مؤلفاته

ألّف كثيراً من الكتب منها: منتهى مقاصد الأنام في نكت شرائع الإسلام، مناهج المتقين، دورة كاملة في الفقه، نهاية المقال في تكملة غاية الآمال في الخيارات، مرآة الكمال في الآداب والسنن، مقباس الهداية في علم الدراية، مخزن المعاني في ترجمة المامقاني، تنقيح المقال في أحوال الرجال وهو من خيرة ما كتب. مرآة الرشاد في الوصية إلى الأحبة والأولاد، الاثناعشرية يتضمن اثنتي عشرة رسالة وهي رسالة وسيلة النجاة في أجوبة جملة من الاستفتاآت ورسالة مجمع الدرر في مسائل اثنتي عشرة ورسالة المسائل الأربعين العاملية ورسالة المسائل الخوئية ورسالة في المسافرة لمن عليه قضاء شهر رمضان مع ضيق الوقت، ورسالة عدم إيراث العقد والوطي لذات البعل شبهة حرمتها عليه أبداً، ورسالة المسألة الجيلانية تتضمن المحاكمة بين علمين من المعاصرين في فرع من فروع إرث الزوجة من الأراضي، ورسالة كشف الريب والسوء عن إغناء كل غسل عن الوضوء، ورسالة في إقرار بعض الورثة بدَين وإنكار الباقين، ورسالة كشف الأستار في وجوب الغسل على الكفار ورسالة غاية المسؤول في انتصاف المهر بالموت قبل الدخول، ورسالة مخزن اللئالي في فروع العلم الاجمالي، مطارح الافهام في

ص: 53

مباني الأحكام في الأصول على طرز حسن، هداية الأنام في أموال الامام عليه السلام، تحفة الصفوة في الحبوة، رسالة إزاحة الوسوسة عن تقبيل الأعتاب المقدسة طبعت مع مخزن اللئالي في النجف الأشرف، تحفة الخيرة في أحكام الحجّ والعمرة فارسية مبسوطة، السيف البتّار في دفع شبهات الكفّار، رسالة المسائل البصرية، رسالة وسيلة التقى في حواشي العروة الوثقى، رسالة الجمع بين فاطميّتين لم تطبع، رسالة في أحكام العزل عن الحرّة الدائمة لم تطبع، رسالة الدر المنضود فيصيغ الإيقاعات والعقود على وجه الاستدلال والبسط وفي حاشيته متن وفيصدر الصفحات أُرجوزة طبعت في النجف الأشرف وطبعت الأُرجوزة مستقلة أيضاً، وله ترجمة مرآت الكمال بالفارسية سمّاها بسراج الشيعة في آداب الشريعة، ورسالة المسائل البغدادية في الفروع، سؤال وجواب فارسي طبع في تبريز، منهج الرشاد سؤال وجواب فارسي، رسالة مناسك الحج وسيط عربي وفارسي وله حواشٍ على الرسائل العربية والفارسية كذخيرة الصالحين ومنتخب المسائل والجامع العباسي، وله كراريس في الفوائد الطبية وكراريس في بعض علم الحروف والأعداد.

وفاته

توفى في النجف بداء الصدر في اليوم التاسع عشر من شوال سنة 1351 ه وارتج البلد لموته وشيع تشييعاً حافلًا بالعلماء والوجوه، وغسل خارج النجف بالقناة على بحر النجف، وصلى عليه جماعة من العلماء ودفن في مقبرة والده الحجة الشهيرة، ولم يخلف إلّا ولداً واحداً لم يبلغ الحلم وثماني بنات من نساء شتى (1).


1- 1 «معارف الرجال» 2: 20- 22. ملخّصاً ومقدمة «تنقيح المقال» 1: 1.

ص: 54

ص: 55

ص: 56

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم وبه ثقتي

الحمد للَّه سبحانه على ما أنعم والصلاة والسلام على أشرف ولد آدم، محمّد وآله مصابيح الظُلَم. وبعد فيقول أحوج الورى إلى عفو اللَّه الباقي العبد الفاني عبداللَّه المامقاني عفا اللَّه سبحانه عن جرائمه: إنّه قد ورد إليّ من إخوان الدين أسئلة شريفة وفروع لطيفة كانوا ملتمسين الإشارة إلى المستند فأجبتهم إلى ذلك وأحببت جمعصورها لينتفع بها....

راجياً للثواب يوم لا ينفع غير الصالح من العمل. وفّقنا اللَّه تعالى وإيّاك للعمل الصالح بمنه وكرمه.... (1).

السؤال: إنّه قد بلغنا عنكم الإشكال في تعيين الركن العراقي للكعبة المقدّسة، فالرجاء من عميم فضلكم كشف النقاب عن ذلك.

الجواب: قد سَنَحَ (2) لي ما غرى إليّ من الإشكال في مكّةَ المشرفة حيث شاهدتُ محل الجَدي والشرق والغرب، فرأيتُ أنّ ما تعارفه الفقهاء رضوان اللَّه تعالى عليهم في بابَي القبلة والحجّ من غير نكير حتّى عزاه (3) في «فوائد الشرائع» إلى تصريح الأصحاب. وفي «كشف اللثام» (4) إلى قاطبتهم وبه طفحَت (5) عبائرهم حتّى المتون كالشرائع (6) و «القواعد» (7) وغيرهما، بل و «المقنعة» (8) وغيرها، بل


1- 1 «الاثناعشرية»: 1.
2- 2 «سَنَحَ لي رَأيٌ في كذا أي عَرَضَ وبابه خضع» «مختار الصحاح»: 207.
3- 3 «عزاه إلى أبيه: نَسَبَه إليه...» «مختار الصحاح»: 280.
4- 4 «كشف اللثام» 3: 141.
5- 5 «طَفَحَ الإناء امتلأ حتى يَفيضَ وبابه خضع...» «مختار الصحاح»: 257.
6- 6 «شرائع الاسلام» 1: 65- 66.
7- 7 «قواعد الأحكام»: 151.
8- 8 «المقنعة»: 96.

ص: 57

شاع ذلك بين أهل مكّة، عوامهم وخواصهم، من تسمية الركن الذي فيه الحَجَر الأسود بالركن العراقي غير مستقيم ولا واضح، ضرورة أنّ نسبة ركن إلى قوم لا تكون إلّاباستقبالهم له في الصلاة ونحوها.

ومن المعلوم وجداناً أنّ ركن الحَجَر الأسود في قبال المشرق، وأنّ الذي يستقبل القبلة في العراق لا يضع المشرق بين كتفيه حتّى يكون ركن الحجر الأسود قبال وجهه، بل يضع الجَدْي خلف المنكب الأيمن.

ومن الوجداني أنّ الذي في قبال الجَدْي هو الركن المتّصل بحِجْر إسماعيل من طرف الشمال المسمّى بالركن الشامي، فيلزم من ذلك اتّحاد الركن الشامي والعراقي لاشتراكهما في وضع الجَدْي وراءه؛ غايته أنّ العراقي يضعه خلف المنكب الأيمن والشامي خلف الكتف الأيسر، بل الشامي أقرب إلى ركن الحَجَر الأسود من العراقي بقدر أربع وستّين درجة سدس الدائرة تقريباً؛ لأنّ انحراف العراقي نحو المغرب إحدى وثلاثون درجة وانحراف الشامي نحو المشرق ثلاث وثلاثون درجة فبينهما أربع وستون درجة، وذلك أزيد من سدس مجموع الدائرة التي هي ثلاثمائة وستّون درجة كما لا يخفى ذلك كلّه على مَن له خبرة بعلم الهيئة. وقد وقع التصريح بذلك في كتب الفقه أيضاً كالروضة (1) وغيرها، فما معنى تسمية الركن المتصل بحِجْر إسماعيل الشامي والذي فيه الحَجَرُ الأسود المقابل للمشرق بالعراقي؟

وأيضاً ففي خبر إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام: «أستلم اليماني والشامي والعراقي والغربي؟ قال نعم» (2).


1- 1 «الروضة البهية» 1: 190.
2- 2 «تهذيب الأحكام»: 5، 106، ح 343، باب الطواف، ح 15؛ «الاستبصار» 2: 216، ح 743 باب استلام الأركان كلها، ح 1.

ص: 58

وفيه دلالة على أنّ الشامي غير العراقي، فيدور الأمر بين تسمية المتصل من جانب الشمال بحِجْر إسماعيل بالعراقي. والذي فيه الحَجَر الأسود بالشامي وبين العكس. وحيث إنّ انحراف الشامي عن نقطة الجنوب إلى المشرق أزيد من العراقي كان الأوّل متعيّناً دون الثاني فما معنى ارتكابهم الثاني؟

وأيضاً فقدصرّح بعض المتبحرين بكون مقابل اليمن هو العراق دون الشام.

ولازم ذلك كون الركن المتصل بشمال حِجْر إسماعيل هو العراقي لمقابلته الركن اليماني الذي هو في سمت الجنوب دون الشامي، بل التأمّل يقضي بعدم تسمية شي ء من الاركان بالشامي؛ لعدم محاذاة الشام لشي ءٍ منها أو جعل الشامي والعراقي متحداً.

وكلماتهم كخبر إبراهيم المتقدم (1) تقضي بالتعدّد.

وربما زعم بعض مَن أدخل نفسه في الصنف عدواناً من أهل العصر اندفاع الإشكال بفرض الأركان عبارة عن الصفحات الأربع.

وفيه أولًا: أنّه لا ينبغي الريب في كون الأركان عبارة عن الزوايا الأربع دون الصفحات، كما يكشف عن ذلك ما ورد في النصوص (2)، وكلمات الفقهاء (3)رضوان اللَّه تعالى عليهم من استحباب استلام الركن اليماني، والركن الذي فيه الحَجَر كما في بعض الأخبار الصحيحة (4) والذي فيه الأسود كما في


1- 1 تقدّم تخريجه فيص 5، الحاشية 2.
2- 2 «تهذيب الأحكام» 5: 105- 106، ح 341، باب الطواف، ح 13؛ «الاستبصار 2: 216- 217، ح 744، باب استلام الاركان كلها ح 2.
3- 3 كالشيخ في «المبسوط» 1: 356، وابن إدريس في «السرائر» 1: 572، وابن حمزة في «الوسيلة»: 172، والمحقق في «الشرائع» 1: 269، والعلامة في «تذكرة الفقهاء» 8: 103- 105، المسألة 470، و «منتهى المطلب» 2: 694.
4- 4 «الفقيه» 2: 317، باب الوقوف بالمستجار؛ «وسائل الشيعة» 5: 408، باب استحباب استلام الركن الذي فيه الحجر و...، ح 1- 3.

ص: 59

خبر غياث (1) فإنّ الاستلام يكون في الزوايا.

وأيضاً فقد نطقت الأخبار (2) وكلمات الفقهاء (3) رضوان اللَّه تعالى عليهم بأنّ مَن جاوز المستجار وبلغ الركن اليماني لا يرجع لالتزام المستجار مع أنّ التجاوز والوصول لا يتحقق إلّابوجود الفصل بين المستجار والركن اليماني، ولو كان الركن هي الصفحة لاتحد المستجار والركن وكان المستجار من جملة الركن.

وتوهّم كون الركن اليماني هي الصفحة المنتهية إلى الحجر الأسود ليتصور التجاوز والوصول غلط؛ لأنّ اليمن في قبال آخر الصفحة التي فيها المستجار، لا أوّل الصفحة المنتهية إلى الحجر الأسود كما لا يخفى على مَن له خبرة.

وأيضاً لازم جعل الأركان عبارة عن الصفحات هو كون الصفحة التي فيها باب الكعبة شرقياً وعراقياً وشاميّاً وهو ظاهر الفسّاد.

وأيضاً لو كان مستقبل العراقي ركن الحَجَر؛ لكان اللازم تشريع استحباب التيامن في العراق حتّى يتوسط الكعبة، فتشريع استحباب التياسر يكشف عن أنّ مستقبله الزاوية المتصلة بحِجْر إسماعيل.

وبالجملة فالإشكال المذكور لم أجد له حالّا. ومَن وفّقه اللَّه سبحانه لحلّه فلينبّه عليه في الهامش.

وها أنا أرسم لكصورة الكعبة وموضع الشرق والغرب والجَدْي حتّى


1- 1 «الكافي» 4: 408، باب الطواف واستلام الاركان، ح 8؛ «تهذيب الاحكام» 5: 105، ح 341، باب الطواف، ح 13؛ «الاستبصار» 2: 216- 217، ح 744، باب استلام الأركان كلها، ح 2.
2- 2 «تهذيب الاحكام» 5: 108، ح 350، باب الطواف، ح 22.
3- 3 كالمحقق في «الشرائع» 1: 269، ونظر «مدارك الأحكام» 8: 164- 165.

ص: 60

يتّضح لك:

ثم إنّي بعد حين عثرتُ على نقل كاشف اللثام (1) عن بعض معاصريه تخطئة الأصحاب قاطبة في قولهم: إنّ الركن الذي فيه الحَجَر قبلة أهل العراق. وزعمه أنّ قبلتهم الشامي وأنّه العراقي أيضاً. وتصريحه بأنّ السدس الأخير منصفحة الباب المنتهي إلى حِجْر إسماعيل هو قبلة بغداد والكوفة وسرّ مَن رأى، فحمدتُ اللَّه سبحانه على وجدان موافق لي فيما ذكرتُ.

وقد بانَ لك أنّ ما سمّاه كاشف اللثام زعماً ملوّحاً إلى تضعيفه هو حقّ اليقين، بل بانَ لك أنّ تسمية الركن المتصل بحِجْر إسماعيل من جانب الشمال بالعراقي حقيقة لمقابلتهم له حقيقة، وبالشامي مجازية لانحرافهم عنه أربعاً وستين درجة.

والعجب كُلّ العجب ممّا أجاب به كاشف اللثام عن كلام معاصره من أنّ


1- 1 «كشف اللثام» 3: 141.

ص: 61

العراق وما والاها لمّا ازدادت على مكّة طولًا وعرضاً، فلهم أنْ يتوجَّهوا إلى ما يقابل الشامي إلى ركن الحَجَر. قال: «وبالجملة إلى أيّ جزءٍ من هذا الجدار من الكعبة فبأدنى تياسر يتوجَّهون إلى ركن الحَجَر، وهو أولى بهم مِن أن يشرفوا على الخروج عن سمت الكعبة خصوصاً. وسيأتي أنّ الحرم في اليسار أكثر» (1). انتهى.

فإنّ فيه: إنّ جواز توجَّههم إلى أيّ جزءٍ كان من هذا الجدار غير نسبة الركن إليهم الدائرةمدار مقابلتهم إيّاه. وقدعرفت وقوعهم خلف الركن الشامي، ومقابلتهم إيّاه، فيلزم تسمية ذلك الركن بالعراقي لا الشامي لعدم محاذاة الشام إيّاه، بل محاذاته لما يقابل أربعاً وستّين درجة ممّا بعده إلى جانب الباب. واللَّه الهادي إلى الصواب.

وقد عثرتُ بعد حين على تصريح العلّامة في «التذكرة» (2) في المسألة الأولى من البحث الثاني في كيفية الطواف: بأنّ الركن الشامي يسمّى عراقياً أيضاً. وهو منافٍ لما في سائر كلماته. ويحتمل احتمالًا قويّاً أنّ منشأ اشتباه من جعل ركن الحَجَر الأسود عراقياً أنّه لم يكن قد حجّ حتى يرى وجداناً ما رأيناه، ووجد تعبير المطلع بالحال بركن الحَجَر مريداً به حِجْر إسماعيل، فزعم من اشتبه أنّ الحَجَر بفتح الحاء والجيم فسميّ ركن الحَجَر الأسود عراقياً، مع أنّ العراقي بالوجدان هو ركن الحِجْر بكسر الحاء وسكون الجيم، أي حِجْر إسماعيل.

*** السؤال: إنّ حِجْر إسماعيل على نبيّنا وآله وعليه السلام داخل في الكعبة أم لا؟ وعلى الأوّل فما ثمرة النزاع في الدخول وعدمه؟

الجواب: أمّا وجوب إدخال الحِجْر الذي هو موضع من الركن الشامي إلى الغربي يحوط بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة في الطواف فمماصرّح به الأصحاب قديماً وحديثاً، بل لا خلاف في ذلك ولا إشكال يحتمل، ونفى العلم


1- 1 «كشف اللثام» 3: 141- 142.
2- 2 «تذكرة الفقهاء» 8: 87، المسألة 453.

ص: 62

بالخلاف فيه بين الأصحاب في «الذخيرة» (1) ونفى وجدانه في «الجواهر» (2). وجزم بعدم الخلاف فيه في «الحدائق» (3)وفي «التذكرة» (4) أنّه كذلك عندنا. واستظهر في «مجمع الفائدة» (5) كونه إجماعياً، وادّعى إجماع الأصحاب عليه في «الخلاف» (6) و «الغنية» (7) و «الذكرى» (8) و «الكفاية» (9) و «الذخيرة» (10) و «المستند» (11) و «الجواهر» (12) ومحكي «المفاتيح» (13) وشرحه، وغيرها. والأصل في ذلك النصوص المستفيضة:

منها: الصحيح الذي رواه الشيخ رحمه الله بإسناده عن موسى بن القاسم عنصفوان، وابن أبي عمير عن ابن مسكان عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

قلت: رجل طاف بالبيت فاختصر (14) شوطاً واحداً في الحِجْر، قال: يعيد ذلك الشوط (15). ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان أنّه قال: يعيد


1- 1 «ذخيرة المعاد»: 628.
2- 2 «جواهر الكلام» 19: 292.
3- 3 «الحدائق الناضرة» 16: 104.
4- 4 «تذكرة الفقهاء» 8: 92، المسألة 458.
5- 5 «مجمع الفائدة» 7: 79.
6- 6 «الخلاف» 2: 324، المسألة 132.
7- 7 «غنية النزوع»: 172.
8- 8 «ذكرى الشيعة» 3: 170.
9- 9 «كفاية الأحكام»: 65.
10- 10 «ذخيرة المعاد»: 628.
11- 11 «مستند الشيعة» 2: 224.
12- 12 جواهر الكلام» 19: 292.
13- 13 «مفاتيح الشرائع» 1: 369.
14- 14 قال الاستاذ آية اللَّه حسن زاده آملي حفظه اللَّه: «اختصر الطريق أي سلك أقربه، يعني أنّه طاف بالبيت فقطولم يطف بالحِجْر بل أخرجه عن الطواف» «دروس معرفة الوقت والقبلة»: 515.
15- 15 «تهذيب الأحكام» 5: 109، ح 353، باب الطواف، ح 25.

ص: 63

الطواف الواحد (1).

ومنها: الصحيح على الصحيح على الصحيح الذي رواه الكليني رحمه الله عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يطوف بالبيت فيختصر في الحِجْر. قال: يقضي (2) ما اختصر من طوافه (3).

ومنها: الصحيح الذي رواه هو رحمه الله عنه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام. قال: من اختصر في الحِجْر في الطواف فليعد طوافه من الحَجَر الأسود (4).

ومنها: مارواه الشيخ رحمه الله بإسناده عن الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن سفيان قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام: امرأة طافت طواف الحجّ، فلمّا كانت في الشوط السابع اختصرتْ، فطافت في الحِجْر وصلّت ركعتي الفريضة. وسعت وطافت طواف النساء، ثمّ أتت منى فكتب عليه السلام: تعيد (5).

ومنها: ما رواه في المستدركات عن «دعائم الاسلام» عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام أنّه قال: في الطواف من وَراء الحِجْر، ومَن دخل الحِجْر أعاده (6).

ومنها: مارواه فيه عنه عليه السلام قال: «والشوط من الركن الأسود دائراً بالبيت


1- 1 «الفقيه» 2: 249، ح 1197، باب مايجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، ح 1.
2- 2 قال الاستاذ: «يقضي ما اختصر في طوافه من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود مدخلًا الحِجْر في الطواف» «دروس معرفة الوقت والقبلة»: 515.
3- 3 «الكافي» 4: 419، باب من طاف واختصر في الحِجْر، ح 1.
4- 4 «الكافي» 4: 419، باب من طاف واختصر في الحِجْر، ح 2. قال الاستاذ: «إنّما قال من الحَجَر الأسود؛ إلى الحَجَر الأسود لئلا يتوهم إعادة ما اختصر من ابتداء الحِجْر إلى انتهائه فقط» «دروس معرفة الوقت والقبلة»: 516.
5- 5 «الفقيه» 2: 249، ح 1199، باب مايجب على من اختصر شوطاً في الحِجْر، ح 3. قال الاستاذ: «يعني تعيد الشوط السابع فقط؛ لا جميع الأشواط الماضية التي أدخلت الحِجْر في الطواف فيها...» «دروس معرفة الوقت والقبلة»: 516.
6- 6 «دعائم الإسلام» 1: 314.

ص: 64

والحِجْر إلى الركن الأسود الذي ابتدأ منه» (1) إلى غير ذلك من الأخبار التي لا يبقى معها إشكال.

فائدة: قال في «المسالك»: «الإجماع واقع من المسلمين على أنّه ليس خارج الحِجْر شي ء آخَر يجب الخروج عنه، فيجوز الطواف خلفه ملاصقاًبحائطه من جميع الجهات وإنّما نبّهنا على ذلك؛ لأنّه قد اشتهر بين العامّة هناك اجتناب كل ما لا أصل له في الدين» (2). انتهى.

وأمّا أنّ الحِجْر هل هو من الكعبة أم لا؟

فقد وقع الخلاف فيه بين أصحابنا فحكى في «الدروس» (3) عن الصدوق رحمه الله القطع بعدم كونه منها. وهو الذي أفتى به جُلُّ متأخّري المتأخرين (4) وأفتى العلامة رحمه الله في «التذكرة» (5) بكونه منها حيث علّل عدمصحّة طواف من طاف داخل الحِجْر بأنّه يكون ماشياً في البيت. وحكي ذلك عن «النهاية» (6)، و «المنتهى» (7). وفي «الدروس» (8): أنّه المشهور. وفي «الذكرى» (9): إنّ ظاهر الأصحاب (10) أنّ الحِجْر من الكعبة بأسره.


1- 1 «دعائم الإسلام» 1: 314.
2- 2 «مسالك الأفهام» 2: 333.
3- 3 «الدروس الشرعية» 1: 394.
4- 4 راجع «مدارك الأحكام» 8: 128- 129.
5- 5 «تذكرة الفقهاء» 8: 91، المسألة 458.
6- 6 «نهاية الإحكام» 1: 392.
7- 7 «منتهى المطلب» 2: 691.
8- 8 «الدروس الشرعية» 1: 394.
9- 9 «ذكرى الشيعة» 3: 169.
10- 10 كالشيخ في «المبسوط» 1: 357، والقاضي في «المهذّب» 1: 233، والمحقق في «الشرائع» 1: 267.

ص: 65

وقد استغرب جمع من الأواخر ذلك من الشهيد رحمه الله لخلوّ كلمات من قبل العلّامة عن التعرّض للمسألة فضلًا عن الفتوى بكونه منها. وصرّح في «الكفاية» (1) و «الذخيرة» (2) و «الحدائق» (3) بعدم الوقوف في ذلك على رواية.

وأقول: ظنّي أنّ منشأ ماسمعته من الشهيد رحمه الله ما مرّ من اتفاقهم على لزوم إدخاله في الطواف. ولكنّك خبير بعدم الملازمة بين لزوم إدخاله في الطواف وبين كونه من الكعبة. وعلى كلّ حالٍ فتظهر ثمرة النزاع في مقامين:

أحدهما: كفاية استقبال الحِجْر في الصلاة على وجه لا يستقبل البناء الموجود الآن بناءً على القول الثاني لكونه من الكعبة دون القول الأوّل كما هو ظاهر؛ ولذا حكي عن العلّامة في «النهاية» (4) الجزم بالكفاية.

ثانيهما: أنّه على الأوّل لا يجوز البُعد عنه مالم يتجاوز ستّة وعشرين ذراعاً ونصفاً.

توضيح ذلك أنّ من جملة شروطصحّة الطواف عدم التباعد عن البيت في جميع الجوانب في الطواف أزيد ممّا بين البيت وبين مقام إبراهيم عليه السلام؛ لما رواه الكليني رحمه الله عن محمّد بن يحيى وغيره عن محمّد بن يحيى وغيره عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى عن ياسين الضرير عن حريز بن عبداللَّه عن محمّد بن مسلم قال: «سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي مَن خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت، قال: كان الناس على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يطوفون بالبيت والمقام، وأنتم اليوم تطوفون مابين المقام وبين البيت، فكان الحد من موضع المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف، فالحد قبل اليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي


1- 1 «كفاية الأحكام»: 65.
2- 2 «ذخيرة المعاد»: 628.
3- 3 «الحدائق الناضرة» 16: 105.
4- 4 «نهاية الإحكام» 1: 392.

ص: 66

البيت كلّها، فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت بمنزلة مَن طاف بالمسجد؛ لأنّه طاف في غير حدٍّ ولا طواف له» (1) الخبر.

ومن الوجداني أنّ بين المقام والبيت ستّاً وعشرين ذراعاً ونصفاً تقريباً.

وعرض حِجْر إسماعيل عليه السلام عشرون ذراعاً تقريباً. فعلى القول الأوّل لا يجوز التباعد في الطواف بأزيد من ستّة أذرع ونصف تقريباً. وعلى القول الثاني يجوز لكونه من البيت. وإذ قد عرفتَ ذلك فاعلم أنّ حجّة الصدوق رحمه الله ومن تبعه عدّة من الأخبار:

فمنها: الصحيح الذي رواه الكليني رحمه الله عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن معاوية بن عمّار قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن الحِجْر أمِن البيت هو، أو فيه شي ء من البيت؟ قال: لا ولاقلامة ظفر، ولكن إسماعيل دفن أُمّه فيه فكره أن توطأ فحجّر عليه حجراً، وفيه قبور أنبياء (2).

ومنها: الحسن الذي رواه هو رحمه الله عنه عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن النعمان عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ اسماعيل دفن أمّه في الحِجْر وحجره عليها؛ لئلّا يوطأ قبر أمّ إسماعيل في الحجر (3).

ومنها: مارواه هو رحمه الله عن بعض أصحابنا عن ابن جمهور عن أبيه عن محمّد بن سنان عن المفضل بن عمر عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: الحِجْر بيت إسماعيل عليه السلام. وفيه قبر هاجر وقبر إسماعيل (4).

ومنها: مارواه هو رحمه الله عن عدّة من أصحابه عن سهل بن زياد عن محمّد بن


1- 1 «الكافي» 4: 413، باب حد موضع الطواف، ح 1؛ «تهذيب الأحكام» 5: 108، ح 351، باب الطواف، ح 23.
2- 2 «الكافي» 4: 210، باب حج إبراهيم وإسماعيل وبنائهما البيت ومن ولى البيت بعدهما عليهما السلام، ح 15.
3- 3 «الكافي» 4: 210، باب حج إبراهيم واسماعيل و...، ح 13.
4- 4 «الكافي» 4: 210، باب حج إبراهيم واسماعيل و...، ح 14.

ص: 67

الوليد شباب الصيرفي عن معاوية بن عمّار قال أبو عبداللَّه عليه السلام: دفن في الحِجْر ممّا يلي الركن الثالث عذارى بنات إسماعيل رحمه الله (1).

ومنها: مارواه الصدوق رحمه الله عن النبيصلى الله عليه و آله والائمّة عليهم السلام قال: «صار الناس يطوفون حول الحِجْر ولايطوفون فيه؛ لأنّ أمّ إسماعيل دفنت في الحِجْر، ففيه قبرها فطيف كذلك لئلّا يوطأ قبرها» (2). قال: «وروي أنّ فيه قبور الأنبياء عليهما السلام وما في الحِجْر شي ءٌ من البيت ولاقلامة ظفر» (3). قال: «وروي أنّ إبراهيم عليه السلام لما قضى مناسكه أمره اللَّه بالانصراف فانصرف وماتت أمّ إسماعيل عليه السلام فدفنها في الحِجْر، وحجر عليها لئلا يوطأ قبرها» (4).

ومنها: مارواه هو رحمه الله في محكي «العلل» عن أبيه عن سعد بن عبداللَّه عن أحمد ابن محمّد بن عيسى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام في حديث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قال: «... وتوفي إسماعيل بعده وهو ابن ثلاثين ومائة سنة فدفن في الحِجْر مع أمّه» (5).

ومنها: مارواه إبن إدريس في مستطرفات السرائر نقلًا عن نوادر أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن الحِجْر فقال: إنّكم تسمّونه الحطيم وإنّما كان لغنم إسماعيل عليه السلام وإنّما دفن فيه أُمّه وكره أن يوطأ قبرها فحجر عليه وفيه قبور أنبياء (6). إلى غير ذلك من الأخبار.

حُجّة العلّامة ومَنْ وافقه أمور:


1- 1 «الكافي» 4: 210، باب حج إبراهيم وإسماعيل و...، ح 16.
2- 2 «الفقيه» 2: 125- 126، ح 541، باب علل الحج، ح 3.
3- 3 «الفقيه» 2: 126، ح 542، باب علل الحج، ح 4.
4- 4 «الفقيه» 2: 149، ح 658، باب نكت في حج الأنبياء والمرسلينصلوات اللَّه عليهم أجمعين، ح 8.
5- 5 «علل الشرائع»: 38، باب العلة التي من أجْلها تمنى إبراهيم الموت بعد كراهته له، ح 1.
6- 6 أورده الاستاذ دام ظله في «دروس معرفة الوقت والقبلة»: 518.

ص: 68

فمنها: ماتمسّك به في «الذكرى (1)» من أنّ الطواف يجب خارجه؛ فلولا كونه من الكعبة لجاز الطواف بينه وبين الكعبة.

وفيه: أنّ حكم الطواف تعبّدي لا يدلّ على الجزئيّة كما هوصريح ما مرّ من الأخبار.

ومنها: ما روته العامّة مِنْ أنّ عائشة قالت: «نذرتُ أنْ أُصلّي رَكعتَيْن في البَيْت، فقال النبيصلى الله عليه و آله:صلّي في الحِجْر؛ فإنّ ستة أذرع منه من البيت (2)». استدل به بعضهم (3).

وفيه: مضافاً إلى قصور السند بالإرسال والضعف أيُّ ضعف أنّه ملاك المدّعي المستدل وهو كون جميعه من البيت.

ومنها: ما تمسّك به في «الذكرى (4)» من دلالة النقل على «أنّه كان منها في زمن إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام إلى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه، وكان كذلك في عهد النبىصلى الله عليه و آله، ونقل عنه الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة، وبذلك احتجّ ابن الزبير حيث أدخَله فيها، ثُمّ أخرجه الحَجّاج بعده وردّه إلى ما كان».

وقريب منه ما [في ] «التذكرة (5)» من أنّ البَيْتَ «كان لاصقاً بالأرض، وله بابان شرقي وغربي، فَهَدَمَه السيل قبل مبعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعشر سنين، وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم، وقصرت الأموال الطيّبة والهدايا والنذور عن عمارته، فتركوا من جانب الحِجْر بعض البيت [...] وخلّفوا الركنين


1- 1 «ذكرى الشيعة» 3: 170.
2- 2 أورده الرافعي في «فتح العزيز» 7: 296.
3- 3 كابن قدامة المقْدسي في «المغني» 5: 230، المسألة 618.
4- 4 «ذكرى الشيعة» 3: 169- 170.
5- 5 «تذكرة الفقهاء» 8: 86، المسألة 453.

ص: 69

الشاميين عن قواعد إبراهيم عليه السلام وضيّقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى:

الشاذروان» انتهى.

ورُدَّ بما سمعتَ من أخبارنا المصرّحة بعدم كونه منها وبعدم الوقوف على هذا النقل في أخبارنا وبه اعترف جملة من علمائنا، بل الثابت في نصوصنا المشتملة على قصّة هدم الكعبة خلاف ذلك مثل ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم وغيره بأسانيد مختلفة رفعوه. قالوا: إنّما هدمتْ قريش الكعبة؛ لأنّ السيل كان يأتيهم من أعلى مكّة فيدخلها فانصدعت وسرق من الكعبة غزال من ذهب رجلاه من جوهر وكان حائطها قصيراً، وكان ذلك قبل مبعث النبيصلى الله عليه و آله بثلاثين سنة (1) فأرادت قريش أن يهدموا الكعبة ويبنوها ويزيدوا في عرصتها، ثمّ أشفقوا من ذلك وخافوا إن وضعوا المعاول أن تنزل عليهم عقوبة، فقال الوليد بن المغيرة: دعوني أبدأ فإن كان للَّه رضًى لم يصبني شي ءٌ وإن كان غير ذلك كففنا، فصعد على الكعبة وحرّك منه حَجَراً، فخرجت عليه حيّة وانكسفت الشمس، فلمّا رأوا ذلك بكوا وتضرّعوا وقالوا: اللهم إنّا لا نريد إلا الإصلاح فغابت عنهم الحيّة فهدموه ونحّوا حجارته حوله حتى بلغوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام فلمّا أرادوا أن يزيدوا في عرصته وحركوا القواعد التي وضعها إبراهيم عليه السلام أصابتهم زلزلة شديدة وظلمة فكفّوا عنه، وكان بنيان إبراهيم عليه السلام الطول (2) ثلاثون ذراعاً والعرض اثنان وعشرون ذراعاً والسمك تسعة أذرع، فقالت قريش: نزيد في سمكها فبنوها، فلمّا


1- 1 قال العلامة المجلسي رحمه الله: «هذا مخالف لما هو المشهور بين أرباب السير، أنّ هذا البناء للكعبة كان في خمس وثلاثين من مولدهصلى الله عليه و آله فيكون قبل البعثة بخمس سنين، وحمله على أنّ عمره في ذلك الوقت كان ثلاثين سنة بعيد» «مرآة العقول» 17: 57.
2- 2 «الطول» مرفوع بالابتداء واللام لعهد فهو مكان العائذ أي طوله، والجملة خبر كان» «مرآة العقول» 17: 58.

ص: 70

بلغ البناء إلى موضع الحَجَر الأسود تشاجرت قريش في وضعه فقال كل قبيلة:

نحن أولى به، نحن نضعه، فلمّا كثر بينهم تراضوا بقضاء مَن يدخل من باب بني شيبة، فطلع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقالوا: هذا الأمين قد جاء، فحكموه فبسط رداءه وقال بعضهم: كساء طاروني (1) كان له، ووضع الحَجَر فيه ثمّ قال: يأتي من كلّ ربع من قريش رجل فكانوا عتبة بن ربيعة من عبدشمس، والأسود بن المطّلب من بني أسد بن عبدالعزّى، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم، وقيس بن عدي من بني سهم، فرفعوه فوضعه النبيصلى الله عليه و آله في موضعه» (2) الحديث.

ونحوه وغيره وإن كان أخصر، وكلّها ظاهرة في أنّ البناء وقع على الأساس القديم الذي كان من زمان إبراهيم عليه السلام لا أنّهم نقصوا منه بحيث خرج منه شي ءٌ في الحِجْر، فتحصل من ذلك كلّه أنّ خروجه عن الكعبة هو الذي ينبغي الإذعان والفتوى به واللَّه العالم.

فهرس المصادر

1- «الاثناعشرية» للشيخ العلامة عبداللَّه بن محمد حسن المامقاني (1290- 1351 ق). النجف الأشرف، المطبعة المرتضوية، 1344 ق.

2- «الاستبصار فيما اختلف من الأخبار» لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالطوسي (385- 460). إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان. الطبعة الثالثة، بيروت، دار الأضواء، 1406 ه/ 1985 م.

3- «تذكرة الفقهاء» للعلّامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف المطهّر (648- 726). تحقيق مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث. الطبعة الأُولى، 1417 ه.

4- «تنقيح المقال في علم الرجال» للشيخ عبداللَّه بن محمّد حسن المامقاني


1- 1 «الطُرْنُ بالضم الخز، والطاروني ضَرْبٌ منه» «القاموس المحيط» 4: 346، «الطُرْن».
2- 2 «الكافي» 4: 217- 218، باب ورود تبّع وأصحاب الفيل البيت و...، ح 4.

ص: 71

(1290- 1351). النجف الأشرف، المطبعة المرتضوية، 1352 ه. ق.

5- «تهذيب الأحكام» لأبي جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460) إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان. الطبعة الثالثة، بيروت، دار الأضواء، 1406 ه/ 1985 م.

6- «جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام» للشيخ محمد حسن بن باقر النجفي (1266 م). إعداد عدة من الفضلاء. الطبعة السابعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، وطهران، دار الكتب الإسلامي، 1398 ه.

7- «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» للشيخ يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدارني البحراني (1107- 1186). قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

8- «الخلاف» لأبي جعفر شيخ الطائفة محمد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460). تحقيق عدة من الفضلاء. الطبعة الأولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ه.

9- «الدروس الشرعية في فقه الإمامية» للشهيد الأوّل شمس الدين محمد بن مكي العاملي (ت 786). قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1412 ه.

10- «دروس معرفة الوقت والقبلة» للشيخ حسن زاده الآملي، الطبعة الأُولى، قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1406 ه/ 1364 ش.

11- «دعائم الإسلام» لأبي حنيفة النعمان بن محمد بن أحمد بن حيوني التميمي المغربي، تحقيق آصف بن علي أصغر فيضي. القاهرة، دار المعارف، 1383 ه.

12- «ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد» للشيخ محمد باقر السبزواري. قم، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث.

13- «ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة» للشهيد الأول شمس الدين محمد بن مكّي العاملي (ت 786). قم، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث، 1419 ه.

14- «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية» للشهيد الثاني، زين الدين بن علي بن أحمد العاملي (911- 965). إعداد السيد محمدكلانتر، تقديم محمد مهدي الآصفي، قم، دار الهادي للمطبوعات، 1403 ه.

ص: 72

15- «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي» لمحمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلّي (543- 598). إعداد مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الأولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410- 1411.

16- «شرائع الاسلام في مسائل الحلال والحرام» للمحقق الحلّي، نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602- 676) إعداد عبدالحسين محمدعلي البقال، الطبعة الثانية، بيروت، دار الأضواء، 1403 ه/ 1983 م.

17- «علل الشرائع» لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381). تقديم السيد محمدصادق بحر العلوم. الطبعة الأولى، النجف الأشرف، المكتبة الحيدرية، 1386 ه/ 1966 م.

18- «غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع» لأبي المكارم السيد حمزة بن علي ابن زهرة الحسيني المعروف بابن زهرة (511- 585). تحقيق الشيخ ابراهيم البهادري، قم، مؤسسة الإمام الصادق 7، 1417.

19- «فوائد القواعد» للشهيد الثاني «قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام».

20- «فتح العزيز في شرح الوجيز». لأبي القاسم عبدالكريم بن محمّد بن عبدالكريم الرافعي القزويني (557- 623). المطبوع مع «المجموع شرح المهذّب». بيروت، دار الفكر.

21- «الفقيه» لأبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381). إعداد السيد حسن الموسوي الخرسان. الطبعة السادسة، بيروت، دار الأضواء، 1405 ه/ 1985 م.

22- «القاموس المحيط والقابوس الوسيط» لأبي طاهر مجدالدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (729- 817). بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1412 ه/ 1991 م.

23- «قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام» للعلامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726) المطبوع مع «فوائد القواعد» تحقق السيد أبو الحسن المطلبي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1419 ه/ 1377 ش.

ص: 73

24- «الكافي» لأبي جعفر ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (ت 329). تحقيق علي أكبر الغفاري. بيروت، دار الأضواء.

25- «كشف اللثام عن قواعد الأحكام» للفاضل الهندي، بهاء الدين محمد بن حسن ابن محمّد الإصفهاني (1162- حوالى 1135). قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1416.

26- «كفاية الأحكام» للمولى محمّد باقر بن المولى محمّد مؤمن الشريف الخراساني السبزواري (1017- 1090).

27- «المبسوط» لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385- 460). إعداد السيد محمّد تقي الكشفي ومحمّد باقر البهبودي. الطبعة الثاني، طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1387- 1393.

28- «مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان» للمحقق الأردبيلي أحمد بن محمّد (ت 993). إعداد عدّة من العلماء. الطبعة الأولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1402- 1414.

29- «مختار الصحاح». لمحمّد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي (كان حيّاً في 666).

تحقيق الدكتور مصطفى ديب البُغا. الطبعة الثانية، دمشق، اليمامة، 1407 ه/ 1987 م.

30- «مدارك الأحكام في شرح شرائع الاسلام» للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي (956- 1009). تحقيق ونشر، قم، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث، 1410.

31- «مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول» للعلامة محمّدباقر بن محمد تقي المجلسي (1037- 1110). إعداد هاشم الرسولي والسيد محسن الحسيني الأميني. الطبعة الأُولى، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1404- 1411/ 1363- 1369 ه ش.

32- «مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام». للشهيد الثاني، زين الدين بن علي ابن أحمد العاملي (911- 965). قم، مؤسسة المعارف الإسلامية، 1413.

33- «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي

ص: 74

(1185- 1245). طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1396.

واستفدنا أيضاً من «مستند الشيعة» الطبعة الحديثة: تحقيق ونشر قم المقدسة، مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث، 1415.

34- «معارف الرجال في تراجم العلماء والأدباء». للشيخ محمّد حرز الدين. نجف، مطبعة الآداب، 1384/ 1964 م.

35- «المغني». لأبي محمّد عبداللَّه بن أحمد بن محمّد بن قدامة المَقْدسي الحنبلي (541- 620). تحقيق الدكتور عبداللَّه بن عبدالمحسن التركي، الدكتور عبدالفتاح محمّد الحلو. القاهرة، هجر، 1408 ه/ 1988 م.

36- «مفاتيح الشرائع». لمحمد بن المرتضى المولى محسن المعروف بالفيض الكاشاني (1007- 1091). تحقيق السيد مهدي الرجائي، قم، مجمع الذخائر الإسلامي، 1401.

37- «المقنعة». لأبي عبداللَّه محمد بن محمد بن نعمان البغدادي المعروف بالشيخ المفيد (336- 413). قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1410.

38- «منتهى المطلب في تحقيق المذهب». للعلامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف ابن المطهّر (648- 726). الطبعة الحجرية، ايران، 1322.

39- «المهذّب». للقاضي ابن البراج أبي القاسم عبدالعزيز بن نحرير بن عبدالعزيز (حوالى 400- 481). إعداد عدة من الفضلاء. الطبعة الأولى، قم، مؤسسة النشر الإسلامي 1407- 1413.

40- «نهاية الإحكام في معرفة الأحكام». للعلامة الحلّي جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726). إعداد السيد مهدي الرجائي. الطبعة الأولى، بيروت، دار الأضواء، 1406- 1986 م.

41- «وسائل الشيعة». للشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي (1033- 1104). تحقيق الشيخ عبدالرحيم الرباني الشيرازي. بيروت، دار إحياء التراث العربي.

42- «الوسيلة إلى نَيْل الفضيلة». لعماد الدين أبي جعفر محمّد بن علي الطوسي المعروف بابن حمزة (القرن 6). إعداد الشيخ محمّد الحسون. الطبعة الأُولى، قم، مكتبة آية اللَّه المرعشي، 1408.

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ

ص: 75

«لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (1)

محسن الأسدي

الحجّ دعوةٌ ربّانيّة عظيمة، ونداءٌ سماويّ خالد، ومؤتمرٌ إسلاميّ كبير، وتظاهرةٌ إيمانية رائعة، تضمّ بينصفوفها أجناساً متعدّدة، ومذاهب وطبقات وقوميّات شتّى، جميعاً على موعد واحد، ووادٍ مقدّس، وحرم آمن، وبيت مبارك تهوي إليه أفئدة من الناس.

إنّها جموع مؤمنة، هدفها واحد، مناسكها واحدة، هتافها واحد، تلبيتها واحدة، عبودية خالصة للَّه وحده لا شريك له، تسليم وولاء للَّه وحده لا شائبة فيه..

حقّاً هي حركة جماهيرية لا مثيل لها، تترك بصماتها وآثارها في النفوس، فتزيد المؤمنين إيماناً وتسليماً، فيما تزيد الكافرين عجباً ورهبةً وخذلاناً.

عجباً!! إنّها عظمة الحج

يفيض على الأقطار يُمناً ورحمةً ويزأر في أذن العتاة ويصخب

صفٌّ مرصوص، وبنيان متماسك يشدّ بعضه بعضاً في فريضة هي محور عباديّ تلتقي عنده منافع دنيويّة ومنافع أخروية، وتتداخل فيما بينها في أكثر من موقع ومفصل في هذه الفريضة المباركة.

إنّ الحجّ محراب عبادة ما أعظمه!

وموسم تجارة ما أنفعه!

ومؤتمر إخاء وتوادٍّ وتعارف ومسؤولية ما أروعه!

إنّه آيةٌ مباركة بل آيات مباركة من سورةٍ مباركة، جاءت لتذكر حِكَماً خمساً للأذان الذي تحمله أو لإتيان الناس هذا الموسم وحضورهم فيه، فكانت المنافع على تفاوت ألوانها وتعدد أشكالها واختلاف أنواعها أُولى هذه الحِكَم. أو هي كما سمّاها بعضهم علّة إتيان الناس الحجّ أو علّة التأذين به (2).

قال تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (3).

لقد اكتفى الرازي في تفسيره بأن جعل قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ حكمة الأمر بالحجّ، حيث قال:

وأمّا قوله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ففيه مسائل:

المسألة الاولى: أنّه تعالى لمّا أمر بالحجّ في قوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ...

ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (4).


1- 1 ابن عاشور، تفسير التحرير والتقرير في تفسير الآية.
2- 1 ابن عاشور، تفسير التحرير والتقرير في تفسير الآية.
3- 2 سورة الحجّ: 27- 28.
4- 3 التفسير الكبير للرازي 23: 28 في تفسير الآية.

ص: 77

فيما ذكرصاحب الأساس في التفسير أنّ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ أولى الحِكم الخمس التي ذكرت متعاقبة في الآية الكريمة (1).

إذن يمكن ترتيب هذه الحكم كالتالي حيث إنّها جميعاً تتضمّن منافع عظيمة وفوائد جليلة سواءً المقطع الأوّل منها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ أو المقاطع التالية، وترتيبها:

الأولى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.

الثانية: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.

الثالثة: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ.

الرابعة: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.

الخامسة: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

فشهود المنافع تتقدّم تكاليف الحجّ أو حكمه، وكأنّ السماء أرادت بهذا أن تتفضّل بعطائها أولًا (حسنة الدُّنيا وحسنة الآخرة) لضيوف الرحمن الذين لبّوا نداءه، تكرّماً منه تعالى ورحمة قبل تكليفهم بأيّ شي ء آخر من الأمور التي تعاقبت في الآية الأولى وفي الآية الثانية.

فلنقف عند هذا المقطع: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ إعراباً ولغةً وفي الروايات وأقوال المفسِّرين وبعد هذا عبر بيانٍ عامّ أخير.

الإعراب واللغة

اللّام: لام التعليل. يشهدوا فعل مضارع من الأفعال الخمسة منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون.


1- 1 الأساس في التفسير، سعيد حوى، في تفسير الآية.

ص: 78

منافع: مفعول به منصوب بالفتحة وهو ممنوع من الصرف.

لهم: جار ومجرور.

يقول العلّامة الطباطبائي: اللّام: للتعليل أو الغاية، والجار والمجرور متعلّق بقوله: يأتوك والمعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم ... (1).

فيما جوّز أبو البقاء تعلّقها بأذّن. وأن تعلّق ب (يأتوك) (2).

فيما قال ابن العربي في أحكامه: هذه لام المقصود والفائدة التي ينساق الحديث لها، وتنسّق عليه، وأجلّها قوله تعالى: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (3).

وقد تتّصل هذه اللّام بالفعل كما في الآية محلّ البحث، وتتّصل بالحرف كما في قوله تعالى: لئلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ (4).

يشهدوا: أي يحضروا؛ لأنّ الشهود بمعنى الحضور.

منافع: النفع ضدّ الضرّ، النفع هو الخير وهوما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه.

والمنفعة: الفائدة، يقال: هو حاضر النفيعة أي المنفعة والفائدة.

ومنافع: جمع منفعة، كلّ شي ء يُنتفع به.

يقول الراغب في مفرداته: النفع يستعان به في الوصول إلى الخيرات، وما يتوصّل به إلى الخير فهو خير، فالنفع خير وضدّه الضرّ، قال تعالى: لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً (5)

وقال: قُلْ لَاأَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً (6). (7).


1- 1 الميزان في تفسير القرآن للعلّامة السيد الطباطبائي 14: 405 في تفسير الآية.
2- 2 إملاء ما منَّ به الرحمن 2: 143.
3- 3 سورة الطلاق: 12.
4- 4 سورة الحديد: 29.
5- 5 سورة الرعد: 16.
6- 6 سورة الأعراف: 188.
7- 7 المفردات للراغب الاصفهاني: 502.

ص: 79

تنكير منافع:

ومنافع جاءت نكرةً، وللمفسّرين آراء في هذا، حيث يقول الفخر الرازي في تفسيره: إنّما نكّر المنافع؛ لأنّه أراد منافع مختصّة بهذه العبادة؛ دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادات (1).

وأمّا البروسوي فقد قال مثل قول الرازي، فتنكيرها؛ لأنّ المراد به نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة لا يوجد في غيرها من العبادات (2).

وما أجمل ما ذكره النسفي في تفسيره للآية حيث قال: نكرها لأنّه أراد منافع مختصّة بهذه العبادة دينية ودنيوية، لا توجد في غيرها من العبادة، وهذا لأنّ العبادة شرعت للابتلاء بالنفس، كالصلاة والصوم، أو بالمال كالزكاة، وقد اشتمل الحجّ عليهما، مع ما فيه من تحمّل الأثقال، وركوب الأهوال، وخلع الأسباب، وقطيعة الأصحاب، وهجر البلاد والأوطان، وفرقة الأولاد والخلان، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، فالحاجّ إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلّاعلى عتاده، ولا يأكل إلّامن زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطئ الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلّاما سعى في معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلّاما كان يأنس به من أوراده، وغسل من يُحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط، وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه مطيباً بالحنوط، ملفّفاً في كفن غير مخيط، ثمّ المحرم يكون أشعث حيران، فكذا يوم الحشر، يخرج من القبر لهفان، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رَغَباً ورهباً، سائلين خوفاً وطمعاً، وهم من بين مقبول ومخذول، كموقف العرصات، لا تكلّم نفس إلّابإذنه، فمنهم شقيّ وسعيد، والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل


1- 1 التفسير الكبير، للرازي 23: 29 من تفسير الآية.
2- 2 روح البيان للبروسوي 6: 26.

ص: 80

القضاء، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف، والبيت الحرام الذي مَن دخله كان آمناً، من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال، غير أنّ الجنّة حفّت بمكاره النفس العادية، كما أنّ الكعبة حفّت بمتالف البادية، فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي) (1) فيما قال الآلوسي: «منافع» أي عظيمة الخطر، كثيرة العدد، فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير، ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين، وقد ذكر رواية ابن عبّاس التي ستأتي وقد أخرجها ابن أبي حاتم (2).

فيما يقولصاحب تفسير الفرقان: وتنكير «منافع» هو تنكير تعظيم لما يجهل من منافع، فلم يقل «منافعهم» أو «المنافع» لكي لا يُخيّل إليهم أنّها المنافع المعروفة لديهم، الحاصلة في غير ذلك المؤتمر العالمي، وإنّما «منافع لهم» مجهولة لمن لم يأتوا ذلك المشهد المسرح، وهي لهم جميعاً، دون المنافع الفردية الحاصلة في كلّ مطرح! (3).

فما أعظم هذه المنافع التي اتّسمت بالخصوصية، وأنّها غير متوفّرة في كلّ العبادات الاخرى على عظيم منزلتها!! حتّى راح بعضهم يفاضل بين العبادات قبل أن يحجّ، فلمّا حجّ فضّل الحجّ على العبادات كلّها لما شاهد من تلك الخصائص.

المراد من المنافع:

أوّلًا: في روايات أهل البيت عليهم السلام:

لقد ذكرت الروايات تفاسير لهذه المنافع، فذهب أكثر هذه الروايات إلى أنّ


1- 1 انظر تفسير النسفي، سورة الحجّ الآية 28.
2- 2 روح المعاني للآلوسي 9: 144- 145.
3- 3 الفرقان في تفسير القرآن، محمد الصادقي 17: 65.

ص: 81

المراد بها هو عموم المنافع؛ المنافع الأخروية والمنافع الدنيوية بكلّ أبعادها ونواحيها، سواء أكانت منافع فردية للشخص نفسه أو لعموم المجتمع. فهي إذن منافع عامّة ومحال أن تكون منافع دنيوية فقط؛ لأنّه لو كان الأمر كذلك لكانت دعوة الحجّ منصبّة على تحقيق منافع الدُّنيا، وأنّها المقصودة بأذان الحجّ، وهذا قطعاً غيرصحيح، فالحجّ عبادة خالصة للَّه تعالى، ينتفع فيها الحاجّ أجراً وثواباً وغفران ذنوب، فيما تكون منافع الدُّنيا تابعة لذلك وليست هي المقصود الأوّل فيها.

إلّا أنّ القليل من الروايات ذهب إلى أنّ المقصود بالمنافع هي المنافع الأخروية.

وهذا لا يضرّ فإثبات إحدى المنفعتين كما يقول السيّد الطباطبائي لا ينفي العموم.

ففي الكافي بإسناده عن الربيع بن خثيم أنّه قال: شهدتُ أبا عبداللَّه عليه السلام وهو يُطاف به حول الكعبة في محمل وهو شديد المرض، فكان كلّما بلغ الركن اليمانيّ أمرهم فوضعوه بالأرض، فأخرج يده من كوّة المحمل حتّى يجرّها على الأرض، ثمّ يقول: ارفعوني.

فلمّا فعل ذلك مراراً في كلّ شوط قلت له: جعلت فداك يابن رسول اللَّه، إنّ هذا يشقّ عليك، فقال: إنّي سمعت اللَّه عزّوجلّ يقول: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.

فقلت: منافع الدُّنيا أو منافع الآخرة؟

فقال: الكلّ (1).

فهي منافع غير مختصّة بالدُّنيا دون الآخرة، أو بالآخرة دون الدُّنيا إنّما هي لكلا الدارين.

وهذا أحد أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام وهو هشام بن الحكم يسأله


1- 1 وسائل الشيعة للحرّ العاملي، كتاب الحجّ: 9.

ص: 82

عن الحجّ: ما العلّة التي من أجلها كلّف اللَّه العباد بالحجّ والطواف بالبيت؟

قال الإمام عليه السلام: «إنّ اللَّه خلق الخلق... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر الدُّنيا، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب؛ ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى .

ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ» (1).

وهناك تعليل آخر للإمام الرضا عليه السلام وهو ما يرويه الفضل بن شاذان حول منافع الحجّ وآثاره الاجتماعية التي يجنيها الفرد والمجتمع فهو يقول:

«إنّما امروا بالحجّ لعلّة الوفادة إلى اللَّه عزّوجلّ، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد، تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس عن اللذّات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً على ذلك دائماً، مع الخضوع والاستكانة والتذلّل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع مَن في شرق الأرض وغربها، ومَن في البرّ والبحر، ممّن يحجّ وممّن لم يحجّ، من بين تاجر وجالب وبائع ومشترٍ وكاسب ومسكين ومكارٍ وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف من المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمّة إلى كلّصقع وناحية كما قال اللَّه عزّوجلّ: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (2). ليشهدوا منافع لهم (3).


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 سورة التوبة: 122.
3- 3 وسائل الشيعة، كتاب الحجّ: 7.

ص: 83

حقّاً ليشهدوا منافع لهم، ليحضروا منافع لهم، كلّ جيل بحسب ما تقتضيه ظروفه وتطوّرها وحاجاته وتجارته وهو بعض ممّا أراده سبحانه وتعالى بالحجّ منذ أن فرضه على المسلمين، ومنذ أن أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن به في الناس.

إذن فالمنافع على ضوء هذه الروايات عامّة تشمل منافع الدُّنيا ومنافع الآخرة، إلّاأنّ هناك رواية عن الإمام أبي جعفر الباقر يذكر فيها أنّ المنافع هي:

منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة، وهو المروي عن سعيد بن المسيب وعطية العوفي أيضاً (1). وهذه لا تضرّ العموم أو لا تنفيه كما ذكر سابقاً.

ثانياً: عند المفسِّرين

اختلف المفسِّرون في المراد من المنافع، فعن الشيخ الطبرسي في تفسيره:

فالذي يُروى عن الإمام الباقر عليه السلام هو منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة، وهو المروي عن سعيد بن المسيب وعطية العوفي. وعندئذ يكون المعنى: ليحضروا ما ندبهم اللَّه إليه ممّا فيه النفع لهم في الآخرة (2).

إذن فالمنافع هنا قد خُصّت بالمنافع الأخروية فقط.

فيما ذهب ابن عبّاس في قولٍ له وسعيد بن جبير إلى أنّها التجارات، وفي قول ثانٍ لابن عبّاس: أسواق كانت، ما ذكر المنافع إلّاللدُّنيا.

وعن مجاهد: التجارة وما يرضي اللَّه من أمر الدُّنيا والآخرة (3).

استفاد بعض الفقهاء- على ضوء هذه الرواية- جواز الاتّجار في الحجّ، وعلى ضوء الآية الاخرى 98 من سورة البقرة: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.

فقد ذهب جمع إلى أنّ الفضل الوارد في هذه الآية هو التجارة، فيما نفى القرطبي


1- 1 مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 7: 129 في تفسير الآية.
2- 2 انظر مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 7: 129.
3- 3 المصدر نفسه، وغيره من كتب التفسير للآية.

ص: 84

الخلاف في أنّ المراد بالفضل في الآية التجارة، وذكر ثلاثة أقوال في المراد من المنافع: المغفرة، التجارة، والعموم أي ليحضروا منافع لهم أي ما يُرضي اللَّه تعالى من أمر الدُّنيا والآخرة (1).

أمّا مجاهد وعطاء فقد جمع كلاهما بين الاثنين تجارة الدُّنيا وأجر الآخرة حيث قالا: التجارة في الدُّنيا والأجر والثواب في الآخرة (2).

وهناك قول ثالث لابن عبّاس في الآية أخرجه ابن أبي حاتم حيث قال:

منافع في الدُّنيا ومنافع في الآخرة، فأمّا منافع الآخرة فرضوان اللَّه تعالى، وأمّا منافع الدُّنيا فما يصيبون من لحوم البُدْن (الإبل والبقر ونحوهما) في ذلك اليوم، والذبائح والتجارات.

إذن فالمراد من منافع (التي هي على قولٍ: المغفرة، وعلى قولٍ آخر: التجارة) هو عموم المنافع سواء أكانت منافع دنيوية أو اخروية، فالحجّ دعوة إلى أن يشهد الحجيج منافع تنتظرهم في موسم الحجّ بلا تحديد لطبيعة هذه المنافع ولا تحجيم لها ولا تضييق، فهي واسعة شاملة متعدّدة جعلها اللَّه تعالى وهو الكريم المتفضّل على عباده كذلك، فلماذا نضيّق الواسع ونحجره؟! وهو ما سيأتي في كلمات الإمامين الصادق والرضا عليهما السلام.

إلّا أنّ هناك من قد يذهب إلى أنّها فقط المنافع الدنيوية دون الأخروية باعتبار أنّ الثانية ذكرت في قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ... فهذا الجانب العبادي.

والجواب أنّه لا بأس بأن تكون المنافع عامّة للدنيوية والأخروية، ثمّ جاء المقطع الثاني وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ... خاصّاً بالعبادة، فيكون من باب ذكر الخاصّ


1- 1 أحكام القرآن للقرطبي 12: 41.
2- 2 مجمع البيان للطبرسي: 129.

ص: 85

بعد العام.

وانطلاقاً من عموم المنافع، فقد ذكر المفسِّرون تفاصيل متعدّدة لها، نذكر أقوال بعضهم:

يقول الفخر الرازي: واختلفوا فيها، فبعضهم حملها على منافع الدُّنيا، وهي أن يتّجروا في أيّام الحجّ، وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة عن محمّد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعاً، وهو الأولى (1).

في حين يقول ابن العربي في أحكامه: «منافع» فيها أربعة أقوال:

الأوّل: المناسك، الثاني: المغفرة، الثالث: التجارة، الرابع: من الأموال، وهو الصحيح، وذلك كلّه من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وآخرة.

ثمّ يقول: والدليل عليه (على كلّ ذلك أنّه المنافع المقصودة): عموم قوله:

منافع فكلّ ذلك يشتمل عليه هذا القول، وهذا يعضده بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (2)

، وذلك هو التجارة بإجماع من العلماء (3).

أمّا السيِّد الطباطبائي في ميزانه فيقول: وقد اطلقت المنافع ولم تتقيّد بالدنيوية أو الأخروية.

ثمّ راح يفصِّل هذه المنافع بشقّيها فيقول:

والمنافع نوعان:

منافع دنيوية: وهي التي تتقدّم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش وترفع بها الحوائج المتنوّعة، وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير، وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات، ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها.


1- 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 23: 28.
2- 2 سورة البقرة: 98.
3- 3 أحكام القرآن لابن العربي 3: 282- 283.

ص: 86

فإذا اجتمعت أقوام وامم من مختلف مناطق الأرض وأصقاعها على ما لهم من اختلاف الأنساب والألوان والسنن والآداب، ثمّ تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة الحقّ وإلههم واحد وهو اللَّه عزّ اسمه، ووجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام، حملهم اتحاد الأرواح على تقارب الأشباح، ووحدة القول على تشابه الفعل، فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه وأعطاه ما يرضيه، واستعان قوم بآخرين في حلّ مشكلتهم وأعانوهم بما في مقدرتهم فيبدّل كلّ مجتمع جزئي مجتمعاً أرقى، ثمّ امتزجت المجتمعات فكوّنت مجتمعاً وسيعاً له من القوّة والعدّة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أيّ قوّة جبّارة طاحنة، ولا وسيلة إلى حلّ مشكلات الحياة كالتعاضد، ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كتفاهم الدين.

هذه هي المنافع الدنيوية، أمّا المنافع الأخروية فقد ذكرها قائلًا:

ومنافع أخروية: وهي وجوه التقرّب إلى اللَّه تعالى بما يمثِّل عبودية الإنسان من قول وفعل، وعمل الحجّ بما له من المناسك يتضمّن أنواع العبادات من التوجّه إلى اللَّه وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعي إليه بتحمّل المشاق والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والإنفاق والصيام وغير ذلك.

... إنّ عمل الحجّ بما له من الأركان والأجزاء، يمثِّل دورة كاملة ممّا جرى على إبراهيم عليه السلام في مسيره في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبودية للَّه سبحانه.

فإتيان الناس إبراهيم عليه السلام أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أخرويّها ودنيويّها، وإذا شهدوها تعلّقوا بها، فالإنسان مجبول على حبّ الدُّنيا (1).

أمّا سيِّد قطب فيذهب إلى العموم أيضاً حيث يقول:


1- 1 الميزان في تفسير القرآن 14: 405- 406.

ص: 87

والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير؛ فالحجّ موسم ومؤتمر. الحجّ موسم تجارة وموسم عبادة، والحجّ مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدُّنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة... أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحجّ سوقاً رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كلّ شي ء.. من أطراف الأرض، ويقدم للحجيج من كلّ فجّ ومن كلّ قطر، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرّق في أرجاء الأرض في شتّى المواسم. يتجمّع كلّه في البلد الحرام في موسم واحد. فهو موسم تجارة ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كلّ عام.

ويواصل كلامه فيقول:

وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من اللَّه في بيته الحرام، وهي ترفّ حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترفّ كالأطياف من قريب ومن بعيد..

ثمّ راح سيّد قطب يذكر تلك الأطياف في تفصيلٍ جميل رائع يذكره في تفسيره، نكتفي نحن بذكر عناوينها:

طيف إبراهيم الخليل وهو يودّع البيت ولذة كبده إسماعيل وامّه..

طيف هاجر... وهي تهرول بين الصفا والمروة..

طيف إبراهيم إذ يقول لابنه إسماعيل يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ (1)..

طيفهما وهما يرفعان القواعد من البيت..

طيف عبدالمطّلب وهو ينذر دم ابنه العاشر (عبداللَّه) إن رزقه اللَّه عشرة أبناء ..

ثمّ تتواكب الأطياف والذكريات، من محمّد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو يدرج في


1- 1 سورة الصافات: 102.

ص: 88

طفولته وصباه فوق هذا الثرى، حول البيت... وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين القبائل.. وهو يصلّي..

وهو يطوف.. وهو يخطب.. وهو يعتكف... (1).

أمّاصاحب تفسير التحرير والتنوير فقد ذكر في تفسير هذه الآية وقوله تعالى : ليشهدوا يتعلّق بقوله: يأتوك فهو علّة لإتيانهم الذي هو سبب على التأذين بالحجّ، فآل إلى كونه علّة في التأذين بالحجّ.

ومعنى ليشهدوا ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم، إذ يحصّل كلّ واحد ما فيه نفعه.

وأهمّ المنافع ما وعدهم اللَّه على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب، فكُني بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم اللَّه على ذلك بالتعيين، وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد فيصعيد واحد؛ ليلتقي بعضهم بعض ما به كمال إيمانه.

أمّا بخصوص تنكير «منافع» للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأنّ في مجمع الحج فوائد جمة للناس؛ لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكلّ حاجّ، ولمجتمعهم لأنّ في الاجتماعصلاحاً في الدُّنيا بالتعارف والتعامل.

ثمّ قال: وخصّ من المنافع أن يذكروا اسم اللَّه في أيّامٍ معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذلك هو النحر والذبح للهدايا... (2).

وأمّا مغنية فيقول:

الحجّ هو العبادة الوحيدة التي تجمع بين المنافع الدينية والدنيوية، أمّا الدينية فطاعة اللَّه بأداء الفريضة، والتوبة من الخطايا والذنوب واستشعار الهيبة والجلال.

ثمّ يذكر عن ابن عربي في الفتوحات المكّية أنّه قال: كنت في ذات يوم أطوف


1- 1 في ظلال القرآن لسيِّد قطب 4: 2418- 2420.
2- 2 تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور 17: 245- 246.

ص: 89

بالكعبة، فرأيتها فيما خُيِّل إلي أنّها ارتفعت عن الأرض، وتوعدتني بكلام، واللَّه سمعتُه، وهي تقول: «تقدّم حتّى ترى ما أصنع بك، لِمَ تضع من قدري، وترفع من قدر بني آدم؟!».

ثمّ يردف مغنية قائلًا: فنقول عن يقين: ما من أحد يسعى أو يطوف في بيت اللَّه بإخلاص إلّاويستشعر شيئاً من هذا النوع (1).

بيان أخير

على ضوء كلّ ما تقدّم من تفسيرٍ للآية الكريمة عبر الروايات وأقوال جمع من المفسِّرين، يمكننا أن نقول:

إنّ الإنسان بما أنّه لم يكن ذا بُعد واحد بل تجتمع فيه أبعاد متعدّدة، وهي ليست منفصلة عن بعضها بل هي متكاملة، يلتقي فيها البُعد الفردي لشخصيته بالبُعد الاجتماعي، البُعد الروحي بالبُعد المادّي، فلا يستطيع كلّ بُعد من هذه الأبعاد أن يحقّق وجوده ويثبت كيانه بمفرده بعيداً عن البُعد الآخر المكمّل له، فهذه الأبعاد بكلّ مفاصلها أبعاد ممتزجة مختلطة؛ متوقّف بعضها على بعض، ويشدّ كلّ بُعد أزر البُعد الآخر، ويتفاعل معه سلباً أو إيجاباً، فيغدو الإنسان سالماً بسلامتها، ومعيباً إذا عيب ولو بعدٌ منها.

لهذا راحت نظرة السماء شاملةً لهذه الأبعاد التي تتضمّنها النفس الإنسانية، فنراها في أحكامها ومفاهيمها ومبادئها سواء أكانت عبادية أم حياتية ترعى هذه الأبعاد وتهتمّ بها وتجعلها مواضيع لأحكامها... وغدت تشريعاتها تصاغ لتنظيم حياة هذا الكائن الذي كرّمه اللَّه وفضّله على جميع مخلوقاته دون أن تهمل بُعداً من أبعاد شخصيته. أَوَيصحّ أن تهمل السماء بُعداً من أبعاد كيانه وشخصيته وقد أناطت


1- 1 التفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية 5: 323.

ص: 90

به مسؤولية كبرى ألا وهي الخلافة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (1)

؟ أوليس النظر إلى بعض أبعاده دون بعضها الآخر خلاف التكريم وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ... (2) بل وخلاف العدل؟ حاشَ للَّه أن يظلم عباده وما ربّك بظلّامٍ للعبيد (3).

إذن فالإسلام في جميع تشريعاته.. لا يفرط ببُعد من تلك الأبعاد ولا يهمل بُعداً على حساب البُعد الآخر، فتشريعاته ومفاهيمهصيغتصياغة خاصّة لتلبّي كلّ هذه الأبعاد الروحية والمادّية في النفس الإنسانية، بل راحت تحثّ على رعايتها وعلى التوازن بينها، محذّرةً من رعاية بعضها دون الآخر أو إهمال شي ء منها «ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه» وهذا رعاية لمتطلّبات وحاجات الجسد وتلبية لما تشتاق إليه الروح وتهفو إليه النفس «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً» إنّه إخلاص لكلا الحياتين الدنيوية والأخروية ودقّة في التفاني لبنائهما وتعميرهما بجدٍّ وصبر ومثابرة.

وعلى هذا الأساس بنيت أحكام الإسلام وتشريعاته وهي تحمل هذا الهمّ الكبير وهذا الهدف العظيم (بناء الشخصية المؤمنة بناءً محكماً) وهي نواة لبناء المجتمع المؤمن بناءً محكماً أيضاً، ولا يتمّ هذا البناء ولا يتكامل، بل ولا يسلم من أن ينهدّ إلّابمراعاة جميع خصوصيات هذا الكائن المادّية والمعنويّة.

وفريضة الحجّ واحدة من تلك التشريعات العبادية قد جاءت بكلّ مناسكها لتحمل ذلك الهدف العظيم، وتحقّق لهذه الشخصية المؤمنة ولكلّ جانب من جوانبها حركة روحية خاصّة قد لا تتوفّر في غيرها من العبادات الاخرى، إلّاأنّها تمتاز عليها بمشقّة أكبر وثمار أعظم.. وبالتالي تمتدّ هذه الحركة وتتّسع لبناء مجتمع إيمانيّ


1- 1 سورة البقرة: 30.
2- 2 سورة الإسراء: 70.
3- 3 سورة فصلت: 46.

ص: 91

كبير ينصهر في بوتقته الأفراد المؤمنون جميعاً.

المنافع المعنوية:

أوّلًا: من منافع الحجّ الكبرى أنّه دورة إيمانية جاء لتعميق الارتباط بالسماء بذكر اللَّه سبحانه المتواصل الدائم في هذه الأيّام المعدودة وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ... (1)، فيترك هذا الارتباط بصماته على حياة الحاج اليومية، ويستشعر عظمة اللَّه تعالى في كلّ أنفاسه وخطواته، ويرقبه في كلّ أعماله وسكناته.

كما يربّي الحاج نفسه في هذه الأيّام ويصوغها على الطاعة والانقياد والصبر عليهما، تأمره الشريعة فيأتمر، وتنهاه فينتهي، لا يشغله شاغل عن ذلك، ولا يصرفه أحد عمّا فيه رضا اللَّه.

تقول الرواية وهي عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أردت الحجّ فجرِّد قلبك للَّه عزّوجلّ- من قبل عزمك- من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوّض امورك كلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلِّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدُّنيا والراحة».

إذن فالحجّ مدرسة عظيمة ودورة تربويةصالحة يعدّ فيها الحاجّ فرداً وجماعةً إعداداً تربوياًصالحاً، ففيها يتجذّر إيمانه ويترسّخ يقينه أكثر فأكثر، وتزداد نفسه سموّاً وارتقاءً وتحليقاً في عالم المُثُل والقيم والمبادئ.

إنّ الحاجّ في هذا الموسم المبارك يتحلّى بأخلاق جميلة وصفات حميدة، فتراه وقد عوّد نفسه على الصبر وتحمّل المشاقّ والأتعاب، وعلى الإنفاق والبذل والعطاء، واتّصف بالشهامة والتواصل والتواضع...

وكلّ هذا نجده في كلام أئمّة أهل البيت عليهم السلام:


1- 1 سورة البقرة: 203.

ص: 92

يقول الإمام علي عليه السلام: «وجعله (حجّ بيته الحرام) سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزّته».

ومن كلام للإمام الرضا عليه السلام: «مع ما فيه من إخراج الأموال وتعب الأبدان والاشتغال عن الأهل والولد، وحظر النفس [الأنفس ] عن اللّذات شاخصاً في الحرّ والبرد ثابتاً على ذلك أبداً مع الخضوع والاستكانة والتذلّل».

فقد ألغى الحجّ كلّ ما يؤدّي إلى الفوارق بينهم، فظهروا بلباس بسيط واحد، يشير أن لا فرق لأحدهم على الآخر، مظهر هذا اللباس واحد غير متميِّز لا بشكله ولا بلونه، فهو شكل واحد ولون واحد يرتديه العالم والجاهل، الرئيس والمرؤوس، الأبيض والأسود، الوجيه ومَنْ هو أدنى وجاهةً منه، الغنيّ ومن هو أقلّ غناءً منه.. فتراهم مجرّدين عن كلّ ميزة وآصرة إلّاميزة الإسلام وآصرته وصبغته، فقد ألغى الإسلام أيّ سمة لقريش التي تضمّ ثلاث وعشرين قبيلة، فكانوا لا يقفون في عرفات حيث يقف الحجاج الآخرون ولا يفيضون من حيث يفيضون، فأمرهم جميعاً ب ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس... (1)

فلا ميزة لأحد على آخر ولا لطائفة على اخرى.. الكلّ متساوون حيث لا تفاضل بينهم إلّا بالتقوى ، فيحسّون بوحدتهم، ويستشعرون أصلهم أنّهم لآدم وآدم من تراب، فهم أهل أصل واحد، ودين واحد، وبلد واحد، لا حدود ولا فواصل تشتتهم وتفرّقهم،صحيح أنّهم لا تجمعهم لغة واحدة، فهم أهل لغاتٍ مختلفة، بل هم أهل تقاليد وعادات ومستويات مختلفة، وهذا أمرٌ لا ينكره أحد، إلّاأنّهم أهل عقيدة واحدة، وكفى بها جامعاً لهم مانعاً للتباعد والاختلاف وما يترتّب عليه من جدلٍ ونفرةٍ ونزاعٍ بل وقتال..

لهذا تراهم لبّوا نداء العقيدة هذه واستجابوا ل وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ


1- 1 سورة البقرة: 199.

ص: 93

رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (1).

جاءوا إلى هذه البقاع وقد قطعوا آلاف الأميال جوّاً وبرّاً وبحراً، كم هو عظيم أثر العقيدة على النفوس! وليس هناك أقوى منها تأثيراً على القلوب وصياغةً للأرواح!

وعندئذٍ يلتفت كلّ واحد وكلّ جماعة منهم إلى أنّهم بتلبيتهم هذه اخوة يدفعهم أذان واحد وعقيدة واحدة، وأنّ الذي باعد بينهم هو الحدود التي رسمتها الأنانيات والأطماع.

يقول سيّد قطب: والحجّ مؤتمر جامع للمسلمين كافّة، مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُم الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا.. (2)..

يجدون محورهم الذي يشدّهم جميعاً؛ هذه القبلة التي يتوجّهون إليها جميعاً ويلتفّون عليها جميعاً، ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارق الأجناس والألوان والأوطان.. ويجدون قوّتهم التي قد ينسونها حيناً، قوّة التجمّع والتوحّد والترابط الذي يضمّ الملايين، الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدّد.. راية العقيدة والتوحيد (3).

فالحجّ إذن تربيةصالحة للجسم والروح، ودورة إيمانية وأخلاقية لسلوك الإنسان المسلم، تتهذّب فيها أخلاقه، ويسمو فيها سلوكه، ويتعوّد الالفة مع الآخرين وإن اختلفوا عنه، فتنمو في نفسه الروح الاجتماعية والتفاعل بشكل رائع وبأرقى درجاته وأجلى مراتبه.


1- 1 سورة الحجّ: 27.
2- 2 سورة الحجّ: 78.
3- 3 في ظلال القرآن لسيّد قطب 4: 2419- 2420.

ص: 94

ثانياً: الحجّ فريضة تتضمّن مناسك عبادية تؤدّى هنا وهناك في أوقات مخصوصة وأماكن معيّنة وبقاع محدودة، يترتّب عليها أجر عظيم وثواب جزيل قد تكفّل اللَّه بهما وبالمغفرة والرضوان، فعن ابن حزم قال:

قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما يصنع اللَّه بالحاج؟

قال: مغفور واللَّه لهم لا أستثني فيه.

وعن الصادق عليه السلام في سؤال موسى عليه السلام جبرئيل عليه السلام: ما لمن حجّ البيت بنيّةٍصادقة ونفقة طيّبة؟

قال: فرجع إلى اللَّه عزّوجلّ، فأوحى إليه قل له: أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

وفي رواية قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: للحاجّ والمعتمر إحدى ثلاث خصال؛ إمّا أن يُقال له: قد غفر لك ما مضى، وإمّا أن يُقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يقال له: قد حفظت في أهلك وولدك وهي أخسّهنّ.

وفي رواية اخرى: مَن حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته امّه.

ثالثاً: التعارف: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (1)

وعلى مستوى الوضع العام، يلتقون في مؤتمر كبير يضمّهم جميعاً يتعارفون فيه، ف (الحجّ عرفة) يتذاكرون فيه شؤونهم ومشاكلهم وما ينتظرون من حلول لها وإجابات عمّا يطرحونه من تساؤلات، وعمّا يصبون إليه من أهدافهم وآمالهم وطموحاتهم، يتدارسون كلّ ما يخصّ عقيدتهم الإسلامية التي كان وما يزال الحجّ علماً لها كما يقول الإمام علي عليه السلام «وجعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً»


1- 1 سورة الحجرات: 13.

ص: 95

ويتعرّفون على دوره العظيم وقدرته على الدفاع عنهم، يتبادلون تجاربهم ويستفيدون من خبراتهم، ويستنيرون بآرائهم وأفكارهم، ويتشاورون فيما بينهم، ويطّلعون على أخبارهم ومعلوماتهم ومشاكلهم وكلّ ما يحدث في بلدانهم، وحتّى على العادات المختلفة لشعوبهم وآثارها، فلكلّ شعب عاداته وقصصه وآثاره...

وبذلك تسقط أغلبية أوكل الحواجز سواء أكانت مادية أو نفسية، التي هي نتيجة للفواصل القوميّة والعرقية بين بني البشر، يجمعهمصعيد الإيمان الواسع بعيداً عن الدوائر الضيقة المنطوية على نفسها... فهو مؤتمر وعي حيث تتمّ فيه توعية المسلمين على أهداف دينهم ومبادئه، وفي الوقت نفسه يتمّ فضح مخطّطات الأعداء وردّ شبهاتهم.

يقول سيِّد قطب: «وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب» (1).

فيعود الحاج وهو يحمل ثقافة اخرى، ومعلومات قد لا يستطيع أن يجدها مدوّنةً في كتاب أو مطروحةً في محفل من المحافل التي تعوّد على ارتيادها، بل ولم يسمع بها أو يعثر عليها، يجدها في هذا المؤتمر العظيم الذي يزيده ثروة علمية وثقافية، بل وخبرة مضافة تسعفه في حياته وتفتح له آفاقاً اخرى غير ما اعتاده من الآفاق.

هذا إضافةً إلى أنّه سيعيش الهمّ الإسلامي الكبير بأن يفكِّر خارج دائرته الشخصية والعائلية أو الاجتماعية الضيّقة، فيصوّب ناظريه إلى حيث إخوانه الذين يبعدون عنه آلاف الأميال، يهمّ بهمّهم ويهمّون به، يرصد أخبارهم ويرصدون أخباره... لعلّه كان يسمع أنّ هناك مسلمين في غابات أفريقيا وفي مجاهيلها، وفي آسيا وأوربا والأمريكيتين... فإذا به يتعرّف عليهم وعلى ثقافاتهم وعاداتهم،


1- 1 في ظلال القرآن 4: 2420.

ص: 96

فيأتي يتحدّث بها بين أهله وعشيرته وإخوانه... فينمو الترابط والتواصل بين الجميع و يترسّخ الحبّ و تنمو العلاقات، و تُستشعر المسؤولية بشؤون الامّة الإسلامية مهما ترامت أطرافها، وتشحذ الهمم للإصلاح والبناء والتغيير والتطوّر، فينبري من له القدرة والكفاءة لتأسيس المشاريع هنا وهناك وإنشاء المؤسسات والمراكز بمستوياتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، وتبدأ الاستعانة بالخبرات، فتصبح الامّة وكأنّها جسد واحد وكيان واحد وروح واحدة.

فالتعارف إذن من المنافع التي تتوفّر على الجانبين المعنوي والمادي وتتكامل عندها المنفعتان بشكل جليّ وواضح.

فهذه الثمار والمعطيات أو التي أسماها القرآن المنافع، معنوية أيضاً يمكن أن يجنيهاالفرد في الدار الدُّنيا استقامة على الصراط وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ (1)

إيمان أكثرصدقاً وخُلق عال وعلم غزير ومعرفة وثقافة واسعة، يتبعه أجر في الآخرة ويرافقه عفو ومغفرة.

المنافع المادّية:

فإضافةً إلى كون الحجّ فريضة عبادية يجني الحاجّ من أدائها تلك المنافع المعنوية.. في الدنيا والآخرة تربيةصالحة وإيمان واعٍ وغفران للذنوب... وأجر عظيم وثواب جزيل.. تتداخل جميعها في أكثر من مفصل وموقع مع المنافع المادية، لتكتمل دائرتها التي تلبي تلك الأبعاد والحاجات المتعدّدة للنفس البشرية؛ لهذا فإنّ الفصل بين المنافع المعنويّة والماديّة قد لا يكون أمراً ميسوراً.

فهو مناسبة كبيرة وفرصة عظيمة تنضج فيها ثمار يستطيع الحاج بإخلاصه وصدقه اقتطافها، على مستوى الفرد باعتباره نواة المجتمع الكبير، وعلى مستوى المجتمع باعتباره الإطار العام الذي يتواجد فيه الأفراد ويتألّف منهم، ويقوى


1- 1 سورة الشورى: 15.

ص: 97

بتلاحمهم وتقدّمهم واتّحادهم ويضعف بضعفهم وتخلّفهم وتفرّقهم.

فهناك منافع تعمّ الجميع، أفراداً ومجتمعات، وتتوزّع على نواحٍ متعدّدة في حياتنا فمنها منافع اقتصادية واخرى اجتماعية وثالثة سياسية.. تساهم جميعها في بناء الجماعة المسلمة وبالتالي المجتمع الإسلامي الكبير، وتزيد في تطويره ومعرفته وعلمه ووعيه، وفي توجيهه الوجهة الحسنة، فيما تساهم أنشطة هذه المنافع في حلّ مشاكل أجيالنا المعاصرة والتعاون وفي تثبيت مواقعها وتنشيط مسيرتها نحو التطوّر والتكامل.

وتستفيد هذه الأجيال من منافع الحجّ بحسب تنوّع قدراتها وتطوّر إمكانياتها، وبحسب ظروفها وأزمنتها ومستوياتها، فلا تتوقّف هذه المنافع عند جيل معيّن وقدرات محدودة، ثمّ تنتهي بنهاية ذلك الجيل، وتتوقّف وتنضب، بل هي تتجدّد على مرّ الأزمان.

يقول السيِّد الإمام الخميني قدس سره: «الحجّ كالقرآن مائدة ينتفع منها الجميع» جميع الأجيال وفي جميع الأحوال.

فما شهده مجتمع إبراهيم الخليل عليه السلام من منافع مادّية غير تلك التي شهدها جيل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وغير التي نشهدها نحن في عصرنا الحاضر. فهي في تطوّر مستمرّ وتوالد متواصل، وعطاء وافر يتجدّد بألوان متنوّعة وأشكال متعدّدة.

ومنافع الحجّ كثيرة وهي كما ذكرنا متداخلة، وقد ذكرنا أشياء منها، ونكتفي هنا- وباختصار- بذكر محور مهمّ من محاورها، وهو يشكّل أهمّ محور في حياتنا لدوره الخطير ولما يتركه من آثار على مجمل أوضاعنا المعنوية والمادية.

المنافع الاقتصادية

أمّا على المستوى الاقتصادي فالحجّ يعدّ تجمّعاً بشريّاً يتّصف بالقوة والضخامة والكثافة والثراء، يستقطب الحشود الكبيرة من المسلمين من شتّى البقاع والأمصار، فيولّد حركة هائلة يترتّب عليها وضع اقتصادي وتجاري ومالي

ص: 98

ضخم، فالسفر والنقل وحمل البضائع والاستهلاك، وتبادل العملات وشراء الهدايا والأضاحي، وما يحتاجه الحجّ ويستلزمه من مال يدفع ورسوم تؤخذ ومواد تصرف وبضائع تستهلك وأماكن تستأجر وسياحة وتجارة... كلّ هذه الحركات والأنشطة الاقتصادية والمالية والتجارية والسياحيّة... يشهدها مجتمع الحجّ وموسمه، فتدرّ على الجميع خيراً عميماً وربحاً وفيراً شريطة أن يحسن التصرّف، بعيداً عن التبعيّة والإسراف والتبذير والتقتير وما إلى ذلك.

صحيح أنّ الذي نلاحظه في مواسم الحجّ هو أنّ المستفيد من الوضع الاقتصادي والتجاري هو الآخر البعيد عن الإسلام بل المتحرّك ضدّه والمتآمر عليه، إلّاأنّ هذا يحدث لسوء تصرّفاتنا وعدم وعينا بخطورة السوق التي استولى عليها الآخرون؛ لتأخّرنا وتقدّمهم، وتكاسلنا ونشاطهم، ولعدم شعورنا بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا دولًا ومجتمعات وأفراداً، فراح الآخر يملأ أسواقنا بما يعود عليه من نفع كبير، ورحنا نتسابق لشراء ما يقدِّمه لنا دون الاهتمام بإنتاجنا وبتطويره، ولأنّنا مبهورون به وببضاعته وإن ضعفت واشمئزازنا منصناعاتنا وإن قويت.. هذه الروح التي تمكّن أعداؤنا من زرعها في نفوسنا، روح التخاذل والضعة والصغار، والشعور بالضعف والهوان، نزعت الثقة منّا وبالتالي فقدنا كلّ شي ء، فصار عطاء هذا الموسم يصبّ في جيوب أعدائنا بأضعاف ما نحصل عليه.

وليس هذا عيباً في الآية الكريمة أو نقصاً فيها، لا أبداً، بل هي دعت الناس المؤمنين بأداء هذه الفريضة للاستفادة من منافع الحجّ ولم تدعو أعداءها وأعداءهم والمتربّصين بهم، بل نحن الذين دعوناهم وفتحنا لهم أسواق هذه المواسم، لقد كانت الدعوة خاصّة بمن يؤدّي المناسك ويؤمن بها وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ... وبالتالي فهم الذين ينبغي بل يجب أن يقتطفوا ثمار هذه المواسم وخيراتها لا غيرهم.

وها هو الإمام الخميني رضوان اللَّه تعالى عليه وقد تنبّه إلى ذلك الأمر الخطير

ص: 99

فراح يطلق تحذيراته المتكرّرة حيث يقول:

«إنّ أسواق البلدان الإسلامية أصبحت مركز تنافس بضائع الغرب والشرق، حيث تتّجه إليها سيول البضائع الأمريكية والأوربية واليابانية، الكمالية منها واللعب والاستهلاكيات.

ومع الأسف الشديد فإنّ مكّة المعظّمة وجدّة والمشاهد المشرّفة في الحجاز...

حيث مركز الوحي ومهبط جبريل وملائكة اللَّه، ومحلّ تحطيم الأصنام والبراءة منها، أصبحت مملوءة ببضائع الأجانب، وغدت سوقاً رائجاً لأعداء الإسلام وأعداء الرسول الأعظمصلى الله عليه و آله» (1)..

وقد عدّ الإمام عرض هذه البضائع مخالفةًصريحة لمقاصد الحجّ ولأهدافه ومنافعه.. وليس هذا فقط بل إنّ شراءها يعدّ هو الآخر دعماً لأعداء اللَّه ورسوله فيقول:

«... فإنّ عرضها مخالف للأهداف الإسلامية بل مخالف للإسلام تماماً، وشراءها دعم لأعداء الإسلام وترويج للباطل، فيجب الاجتناب عنها» (2).

وختاماً، فإنّ منافع هكذا بيت مبارك يحجّ إليه منذ نداء نبيّ اللَّه إبراهيم عليه السلام وإلى يومنا هذا، لا تقف عند حدٍّ، وهي التي تجدّد بتجدّد الأزمان وتطوّر أجيالها وعلومها ومعارفها ووسائلها وأدواتها التقنية... وتنبثق من كلّ منسك من مناسكها، ويلمسها كلّ من وفّقه اللَّه تعالى لأداء هذه الفريضة بقلب طاهر ونيّة خالصة، وهو الذي يستفيد منها ويتحسّسها ويستشعرها أكثر من الآخر الذي لا همّ له إلّاإسقاط واجب تعلّق بذمّته.


1- 1 من خطاب الإمام في 28 ذي القعدة/ 1405 ه.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 100

منهج الرشاد لمن أراد السداد

منهج الرشاد لمن أراد السداد (2)

منهج الرشاد لمن أراد السداد (2)

رسالة كاشف الغطاء إلى عبدالعزيز آل سعود

تقديم وتحقيق: الدكتور جودت القزويني

المقصد الأوّل: في تحقيق ضروب الكفر:

وأقسامه كثيرة:

أوّلها: كفر الإنكار بإنكار وجود الإله، أو إثبات أنّ غير اللَّه هو اللَّه، أو بإنكار المعاد، أو نبوّة نبيّنا أشرف العباد.

ثانيها: كفر الشرك بإثبات شريك للواحد القهّار، أو في النبوّة للنبيّ المختار.

ثالثها: كفر الشكّ، بالشكّ في إحدى الثلاثة التي هي اصول الإسلام في غير محلّ النظر، ولا عبرة بالأوهام (1).

رابعها: كفر الهتك لهتك حرمة الدين، بالبول على المصحف، أو في الكعبة، أو سبّ خاتم النبيّينصلى الله عليه و آله.

خامسها: كفر الجحود، بأن يجحد باللسان أُصول الإسلام، ويعتقدها


1- 1 في المطبوع زيادة عبارة: «التي هي كخيالات المنام».

ص: 101

بالجَنان، قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ (1).

سادسها: كفر النفاق، بأن ينكر في الجنان، ويقرّ باللسان، كما قال تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (2).

سابعها: كفر العناد، بأن يقرّ بلسانه، ويعتقد بجنانه، ولم يدخل نفسه في ربقة العبودية، بل يتجرّأ على الحضرة القدسية، كإبليس (لعنه اللَّه).

ثامنها: كفر النعمة، بأن يستحقر نعمة اللَّه، ويرى نفسه كأنّه ليس داخلًا تحت مِنّة (3) اللَّه.

تاسعها: كفر إنكار الضروري (4).

عاشرها: إسناد الخلق إلى غير اللَّه على قصد الحقيقة.

وليست جميع المعاصي العظام مخرجة عن الإسلام، فإنّ المعاصي لا تنفك على الدوام، حتّى في مبدأ حدوث الإسلام؛ ولذلك وضعت الحدود والتعزيرات، واقيمت الأحكام على ممرّ الأوقات.

نعم قد يُطلق على كثير منها اسم (الكفر) تعظيماً للذنب، وتحذيراً منه، وتشبيهاً لمؤاخذته؛ لعظمها بمؤاخذة الكفر.

فهو إذن في الشرع قسمان: كفرٌصغير، لا يُخرجُ عن اسم الإسلام. وكبيرٌ مخرجٌ عن اسمه بلا كلام.

ولو بنينا على أنّ كلّ ما أطلق عليه اسم الكفر يكون مكفّراً، لم تنجُ إلّا شرذمةٌ قليلة من الورى. فإطلاق اسم الكفر قد يكون استعظاماً للذنب- كما مرّ-، وقد يراد أنّه ربما انجرّ بالأخرة إلى ذلك. كما ورد في الحديث: إنّ في قلب المؤمن


1- 1 سورة النمل: 14.
2- 2 سورة البقرة: 8.
3- 3 في المطبوع: نعمة.
4- 4 في المطبوع: الإنكار للضروري.

ص: 102

نكتة بيضاء، فإذا عصى اللَّه اسودّ منها جانب، وهكذا إلى أن يتمّ سوادها، فذلك الذي طبع اللَّه على قلبه (1).

وممّا يدلّ على أنّ لفظ (الكفر) يُطلق على سائر المعاصي كثيراً في كلام الشارع منها: ما رواه أنس، عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: لا دين لمن لا عهدَ له (2).

وعن أبي هريرة، عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن (3).

وعن أبي هريرة، عن النبيصلى الله عليه و آله: إنّ علامة النفاق الكذب، وسوء الخلق، والخيانة (4).

وعن عبداللَّه بن عمرو، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ النفاق عبارة عن أربع: الخيانة، والكذب، والغدر، والفجور (5).

وعن أبي هريرة، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ المرآء في القرآن كفر (6).

وعن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: لا يترك (7) حضور الجماعة إلّامنافق (8).

وعن أبي ذرّ، عن النبيّصلى الله عليه و آله: المسلم من سَلِمَ المسلمون من يده ولسانه (9).


1- 1 الموطأ باب الكلام، باب 18.
2- 2 مسند أحمد بن حنبل 3: باب 135، 154، 210، 251.
3- 3صحيح البخاري كتاب الأشربة، حديث 5256؛ وصحيح مسلم كتاب الأيمان، حديث 86؛ والنسائي كتاب قطع السارق، حديث 4787.
4- 4صحيح مسلم، حديث 107.
5- 5 أيضاً، حديث 106.
6- 6 سنن أبي داود كتاب السنّة، حديث 4؛ ومسند أحمد بن حنبل الباب الثاني، حديث 2، 258، 286.
7- 7 في المطبوع: يُفَوِّت.
8- 8صحيح مسلم 1: 451.
9- 9 البيهقي 10: 187.

ص: 103

وعن عبداللَّه بن مسعود، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ الرُقى والتمائم من الشرك (1).

وعن أبي هريرة، عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ قال: مطرنابكوكب كذا، فهو كافر (2).

وعن زيد بن خالد (3)، عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه مَنْ قال: مطرنا بنوء كذا، فهو كافر (4).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها، فقد كفر بما أُنزل على محمّد، رواه الدارقطني، وابن ماجة، والترمذي (5).

وروى عمر بن لبيد، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ الرياء الشرك الأصغر (6).

وعن أبي سعيد، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ الرياء الشرك الخفيّ (7).

وعن عمر بن الخطّاب، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنَّ يسير الرياء شرك.

وعن شدّاد بن أوس (8)، عن النبيّصلى الله عليه و آله: منصلّى برياء (9)، فقد أشرَكَ، ومَنْصام برياء، فقد أشرك، ومَنْ تصدّق برياء، فقد أشرك.

وروي: إنَّ تارك الصلاة كافر (10)، إلى غير ذلك.

بل قلّما يسلم شي ء من المعاصي ومن إطلاق اسم الكفر، فلا تبقى ثمّة حدود ولا تعزيرات، ولزم الحكم بالارتداد، وكفر العباد، ولا ينجو من الكفر إلّاقليلٌ من الأحياء والأموات، ولنادت الخطباء بذلك على رؤوس الأشهاد، ولشاع ذلك في


1- 1 المستدرك للحاكم 4: 217.
2- 2صحيح مسلم 1: 84.
3- 3 زيد بن خالد الجهني المدني، أبو عبد الرحمن،صحابي، أقام بالكوفة، وتوفي في المدينة سنة 68 ه/ 687 م.
4- 4صحيح مسلم باب بيان كفر مَنْ قال مطرنا بالنوء.
5- 5 سنن ابن ماجة 1: 209، حديث 639، وسنن الترمذي 1: 243.
6- 6 مسند أحمد بن حنبل 5: 428.
7- 7 ابن ماجة 2: 1406، حديث 4204.
8- 8 شدّاد بن أوس بن ثابت الخزرجي، تُوفي سنة 58 ه/ 678 م عن 75 عاماً.
9- 9 في المطبوع: «وهو يُرائي».
10- 10 سنن ابن ماجة 1: 342.

ص: 104

أقاصي البلاد، مع أنّ المعهود من سيرة النبيّصلى الله عليه و آله والصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين معاملة الناس على الاكتفاء بإظهار الشهادتين.

وعنهصلى الله عليه و آله: امرتُ أن اقاتل الناس حتّى يقولوا الشهادتين.

وعن أبي هريرة أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أُتي بمخنّث قد خضب يديه ورجليه بالحنّاء، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: يتشبّه بالنساء، فنفاه إلى (البقيع)، فقيل:

يارسول اللَّه ألا تقتله؟ فقال: نُهيتُ عن قتل المصلِّين.

وروى عبداللَّه بن مسعود، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ قتال المسلمين كفر (1).

وعن ابن عمر، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنّ نسبة المسلم إلى الكفر كفر (2).

وعن أبي هريرة، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم (3).

وعن ابن عمر قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أُمرت أن اقاتل الناس حتّى يشهدوا أن لا إله إلّااللَّه، وأنّ محمّداً رسول اللَّه، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإنْ فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم، وحسابهم على اللَّه (4).

وعن أنس أنّه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: مَنْصلّىصلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمّة اللَّه وذمّة رسوله (5).

إلى غير ذلك من الأخبار.

وليس غرضي أنّه لا طريق للكفر سوى ذلك، ولكن يستفاد منها أنّه بعد إظهار الشهادتين يبنى على الإسلام ما لم يُعلم شي ء ينافيه، ولا حاجة إلى التجسّس، بل نهى اللَّه تعالى عنه.


1- 1صحيح مسلم 1: 81. باب بيان قول النبيّصلى الله عليه و آله سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
2- 2صحيح مسلم 1: 79 باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر.
3- 3 مسند أحمد بن حنبل 2: 465.
4- 4صحيح مسلم 1: 53، حديث 36.
5- 5 النسائي باب المناسك، حديث 211.

ص: 105

وبيان الأمر على التحقيق: هو أنّه قد عُلم أنّ لسان الشارع جارٍ على نحو لسان العرب، ففيه حقائق، ومجازات، واستعارات، وكنايات، وخطابات، تشتمل على المبالغات، كما أنّ لساننا يشتمل على ذلك من غير إنكار، فإنّ الذنب إذاصدر من شخص وأردنا استعظامه،صحَّ لنا أن نُسمِّيه كفراً، وأنْ نسمّي فاعله كافراً. ولا يزال ذلك يقع على مرور الأزمان من أيّام النبيّصلى الله عليه و آله إلى هذا الآن، مع أنّه ليس في ذلك إنكار، بل قد يُعَدُّ من أفعال الأبرار، على أنّ كُلَّ مَنصدر منه ذنبٌ ولوصغير، لم يفِ بجزاء نِعَم اللطيف الخبير.

فإطلاق الكفر لعلّه من باب الكفر ببعض النعم الذي هو كفرصغير.

على أنَّ أنظار الأنبياء والأولياء ليس إلى المعاصي، حتّى يكون فيهاصغيرٌ وكبير، بل إلى مَنْ عصاه الناس وهو اللطيف الخبير.

فإذا لاحظت أنّ المعصية كانت في حقّ اللَّه، تجدها- ولوصغرت- أكبر من الجبال الرواسي، حتّى أنّه بلسان الورع والتقوى دون الفقه والفتوى، ربما لا يفرق بين الصغائر والكبائر. بل ربما نقل عن بعض الأولياء أنّه لا فرق بين المكروه والحرام، والمسنونات وفرائض الأحكام، قال: لأنّ الكُلّ مطلوب للملك العلّام.

وإذا بُني على هذا استُحسن هذا الإطلاق، وحسن إطلاق اسم المعاصي والمحرّمات على فعل المكروهات، والفرائض والواجبات على فعل المستحبّات والمندوبات، وكبائر الخطيئات علىصغائر التبعات، والكفر والكفّار على كلّ مَنْ عمل ما يوجب دخول النار.

ولولا ذلك للزم كفر أكثر من في الأرض؛ لأنّه قلّما خلت معصية من هذا الغرض، ولو عملنا بجميع ظواهر الأخبار؛ لاختلّت علينا أحكام ملّة النبيّ المختار، وفّقنا اللَّه وإيّاك، وهدانا اللَّه إلى الحقّ وهداك (1).


1- 1 في المطبوع: وفّقنا اللَّه وإيّاكم، وهداك إلى الحقّ المبين.

ص: 106

المقصد الثاني: في تحقيق معنى العبادة

لاريب أنّه لا يراد بالعبادة التي لا تكون إلّاللَّه، ومن أتى بها لغير اللَّه، فقد كفر مطلق الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، وإلّا لزم كفر العبيد والأُجراء، وجميع الخدّام للُامراء، بل كفر الأبناء في خضوعهم للآباء، وجميع مَن تواضع للاخوان، أو لأحد من أصحاب الإحسان.

وإنّما الباعث على الكفران، الانقياد لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجّه الأمر من الكريم المتعال، وأنّ لهم تدبيراً واختياراً.

ولفظ (العبد) و (العبادة) قد يُطلق على مطلق المطيع والطاعة، فقد ورد: أنّ العاصي عبد الشيطان، وأنّه عبد الهوى، وأنّ الإنسان عبد الشهوات، وأنّ مَنْ أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده.

ثمّ مَنْ اتبع قول قائل؛ لأنّه مُخْبِرٌ عن غيره، فهو عابد للمُخْبَر عنه، لا للمُخْبِر. ومَن خدم شخصاً بأمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ومن تبرّك بشي ء لأمره، كان ذلك من عبادة الآمر، فالملائكة في سجودهم لآدم، ويعقوب في سجوده ليوسف، والناس في تقبيلهم للحجر الأسود والأركان، لم يعبدوا سوى مَن أمرهم بذلك.

ثمّ السجود والخضوع لعروض بعض الأسباب، لا يُنافي الإخلاص لربّ الأرباب.

روى أبو داود والترمذي، عن عكرمة، قال: قيل لابن عبّاس: ماتت (فلانة)- بعض أزواج النبيّصلى الله عليه و آله-، فخرَّ ساجداً، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟

فقال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إذا رأيتم آيةً فاسجدوا، وأيّ آية أعظم من ذهاب

ص: 107

أزواج النبيّصلى الله عليه و آله (1).

فعلى هذا لو سجَدَ مَنْ رأى ميّتاً، أو قبراً، أو شيئاً عجيباً، ذاكراً لعظمة اللَّه- كما يصنعه بعض العارفين- لم يكن به بأس.

وعبادة الأصنام وبعض الصالحين، مع نهي الأنبياء والمرسلين الذين دلَّتْ علىصدقهم المعاجز (2) والبراهين، محض عناد وخلاف على ربّ العباد، ولو أنّهم أخذوا عن قول اللَّه ورسله، لم يكن عليهم إيراد.

كما أنّ (السيّد) لو قال لعبده: تبرّك بثياب (فلان)، ونعله، وترابه، فَفَعلَ، كان عابداً للمولى، وأمّا لو نهاه المولى، أو أخذ بمجرّد الظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً، أو الخَرْص (3)، لكان عاصياً مخالفاً.

ألا ترى أنّ مَن جعل المرضعات امّهات، ليس كمن جعل المصاهرات، ومَنْ حرّم الوصيلة، والسائبة، والحام (4)، ليس كمن حرم الجلالة (5) من الأنعام؟

وليس تحريم الأشهر الحرام كتحريم غيرها من باقي أشهر العام، وليسصيام آخر شهر رمضان كصيام أوّل شوّال. كلّ ذلك للفرق بين الأمر والاختراع،


1- 1 سنن أبي داود 1: 311، حديث 1197؛ وسنن الترمذي 5: 665، حديث 3891.
2- 2 في المطبوع: المعجزات.
3- 3 الخرْص: الحدس، والكذب والافتراء.
4- 4 من معتقدات العرب أنّ الوصيلة من الغنم وهي الشاة إذا ولدت أُنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً- أوقفوه لآلهتهم، فإنْ ولدت ذكراً وانثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. أمّا السائبة فقد كان الرجل إذا نذر للقدوم من سفر، أو الشفاء من علّة، فإنَّ ناقته ستكون سائبة أي لا تستخدم للانتفاع بها، ولا تخلّى عن ماء، أو تمنع عن مرعى. والحام هو الذكر من الإبل إذا أنتجت من صُلب الفحل عشرة أبطن. قال العرب قدحمى ظهره، فلايُحمل عليه. وقد حرّم القرآن هذه المعتقدات كما ورد في سورة المائدة، آية 103 قوله تعالى: «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ». والبحيرة هي الشاة التي تُبحرُ أُذنُها أي تُشقّ علامة على تحريم الانتفاع بها.
5- 5 الحيوان الجلّال: هو الذي يأكل العذرة، وقد ورد النهيّ عن أكل لحمه، وشرب لبنه.

ص: 108

والقول بمجرّد الابتداع (1).

ثمّ (العبادة) تختلف باختلاف النيّات، فمَنْ قصد حقيقة العبادة اختراعاً وابتداعاً، ومخالفة لأمر اللَّه سبحانه كان كافراً، سواءً قصد القرب إلى اللَّه زلفى أو لا، بل هذا في الحقيقة عين العناد والشقاق بعد نهي الأنبياء والرُّسل.

كما قال قوم (شعيب) له: يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ (2).

وقال الصدِّيق: يَاصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ (3).

وحكى اللَّه عن قوم نوح وعاد وثمود أنّهم ردّوا أيديهم في أفواههم، وقالوا:

إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (4)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ردّهم على الأنبياء، وبنائهم على الاختراع والابتداع.

وفي الاحتجاج: في حديث طويل عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه أقبل في مشركي العرب، فقال لهم: وأنتم فلِمَ عبدتم الأصنام من دون اللَّه؟ فقالوا: نتقرّب بها إلى اللَّه زُلفى، فقال: أوهي سامعة مطيعة عابدة لربّها حتّى تتقرّبوا بها إلى اللَّه؟ قالوا: لا، قال:

أفأنتم نحتّموها بأيديكم؟ فقالوا: نعم، قال: فلئن تعبدكم هي أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العالم بمصالحكم، وعواقبكم، والحكيم فيما يكلّفكم (5).


1- 1 في المطبوع: للفرق بين الأمر والاتباع، والقول بمجرّد الاختراع والابتداع.
2- 2 سورة هود: 87.
3- 3 سورة يوسف: 39- 40.
4- 4 سورة إبراهيم: 9.
5- 5 أوردها أحمد بن علي الطبرسي من علماء القرن الخامس الهجري في كتاب الاحتجاج 1: 26 بيروت، 1981.

ص: 109

فإذا كان اللَّه قد نهى على لسان أنبيائه عن عبادة الأصنام والصالحين من الأنام، على نحو عبادة الصلاة والصيام، ففعلُهم بعد ذلك ردٌّ لكلام العليم العلّام.

وكشف الحقيقة: إنّ العبادة إن اريد بها مجرّد الامتثال والطاعة، كانت الزوجة، والأمَة، والعبد، والخادم، والأجير، ونحوهم، عابدين لغير اللَّه.

وإن اريد الامتثال والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة، لا بواسطة أمر غيره، فأين ذلك من أفعال المسلمين؟!

فاقسمُ عليك بمَنْ سلّطَكَ على طائفة من عباده، ومكّنك من كثير من بلاده، أنْ تخلي نفسك من حب الانفراد، الباعث على الامتياز بين العباد، وتحذر من قولهم «لكلّ جديد لذّة»، و «خالِف تُعرفْ». كما أنّي احذِّر نفسي، وأصحابي من حبّ اتّباع الآباء والأجداد، وإرادة الدخول في الجماعة، وكراهة الانفراد.

وأمّا ماصدر من أهل الإسلام، فإنّما هو عن أمر زعموه، فإنْ كان حقّاً أُثيبوا، أو كان خطأً فكذلك.

فأين حال المسلمين من حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، واتّخذ الملائكة أرباباً، واتّخذ بعض المخلوقين أنداداً وشركاء، يُعبَدُون من دون اللَّه أو مع اللَّه، إمّا لأهليّتهم، أو لترتّب التقرّب إلى اللَّه زُلفى من دون أمر اللَّه لهم بذلك، قال تعالى: مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (1)

؟!

ورُوي أنّ (قريشاً) كانوا يعبدون الأصنام، ويقولون: ليقرّبونا إلى اللَّه، ولا طاقة لنا على عبادة اللَّه، وسيجي ء في بعض المقامات الآتية ما يكشف عن حقيقة ذلك.

وإن أردتَ تمام الكلام في هذا المقام، فانظر بعين البصيرة إلى ما نحاول في هذا المقام تحريره.


1- 1 سورة يوسف: 40.

ص: 110

اعلم أنّ الألفاظ اللغوية والعُرفية العامّة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواءً وردت في السنّة أو القرآن.

وأمّا إذا نُقلتْ عن المعاني الأوّلية إلى غيرها، أو استُعمِلت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة والصيام والحجّ، فإنّه لو لم يبيّنها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والإمساك والقصد، بل معنى جديد، تتوقّف معرفته على بيان وتحديد.

ومن هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فإنّه لا يراد بهما في لحوق الشرك بهما المعنى القديم، وإلّا للزم كفر الناس من يوم آدم إلى يومنا هذا؛ لأنّ العبادة بمعنى الطاعة، والدعاء بمعنى النداء والاستغاثة للمخلوق لا يخلو منها أحد.

ومن أطوع من العبد لسيِّده، والزوجة لزوجها، والرعية لملوكها، ولا زالوا ينادونهم، ويطلبون إعانتهم ومساعدتهم، بل الرؤساء لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم ويندبونهم.

فعُلِمَ أنّه لا يُراد بهذه المذكورات، المعاني السابقات، وتعيَّن إرادة المعاني الجديدة، فصارت بذلك من المجملات والمتشابهات، فلا يجوز الحكم بمقتضاها، إلّا في الموضع المعلوم دون المشكوك والموهوم.

وإنّما هو خطاب الوضيع لمن شأنه رفيع، على أن يكون مالك التصرّف، أو خدمته الخاصّة لرفعته الذاتية، وشرافته الأصلية، من دون أمر آمر، ولا تكليف مكلّف، بل من مجرّد الابتداع والاختراع.

وأمّا ما كان عن أمر آمر، فالمعبود هو الآمر، ولا فرق بين أن يقول: ضع جبهتك في الصلاة على الأرض، أو على بدن إنسان، أو غير ذلك، وبين أن يقول:

ضعها على (قبر) كذا، أو (حجر) كذا.

وإنّما كُفِّرَ عبدةُ الأصنام؛ لأنّهم فعلوا ما يُعدُّ عبادةً من دون أمر اللَّه، ولأنّهم

ص: 111

خالفوا أنبياء اللَّه في نهيهم عن تلك الأشياء، فكانت قصد تقرّبهم فيما نهى اللَّه عنه.

إمّا بناءً على أنّ الأصنام للجبّار قاهرون، فيقرّبونهم قهراً، أو كان استهزاءً بالرسل، وتكذيباً لهم، وكلّ من الكُفْرَين أعظم من الآخر، فإنَّ المتقرّبين محصّل كلامهم أنّا نخالف أمر اللَّه وأمر رسوله، ونعبد ما نُهينا عن عبادته ليقرّبنا إلى اللَّه!

المقصد الثالث: في الذبح لغير اللَّه

لا يشكّ أحدٌ من المسلمين في أنّ من ذبح لغير اللَّه ذبح العبادة (كما يذبح أهل الأصنام لأصنامهم حتّى يذكروا على الذبائح أسماءهم، ويهلون بها لغير اللَّه) خارجٌ عن ربقة المسلمين (1)، سواءً اعتقدوا إلهيّتهم، أو قصدوا أن يقرّبوهم زُلفى؛ لأنّ ذلك من عبادة غير اللَّه تعالى.

وأمّا من ذبح عن الأنبياء أو الأوصياء أو المؤمنين ليصل الثواب إليهم، كما يُقرأ القرآن ويُهدى إليهم، ونصلّي لهم وندعو لهم، ونفعل جميع الخيرات عنهم، ففي ذلك أجرٌ عظيم، وليس قصد أحد من الذابحين للأنبياء أو لغيرهم سوى ذلك.

أمّا العارفون منهم، فلا كلام. وأمّا الجُهّال، فهم على نحو عرفائهم.

وقد رُوي عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه ذبح بيده، وقال: اللّهمَّ هذا عنّي، وعن مَنْ لم يُضح من امّتي. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (2). وفي سنن أبي داود أنّ عليّاً كان يُضَحّي عن النبيّصلى الله عليه و آله بكبش، وكان يقول: أوصاني أن اضحّي عنه دائماً (3).

وعن علي عليه السلام أنّ النبيّصلى الله عليه و آله أوصاني أن اضحّي عنه (4).


1- 1 هكذا في الأصل.
2- 2 مسند أحمد بن حنبل 3: 356؛ وسنن أبي داود 3: 99، حديث 2810؛ وسنن الترمذي 4: 77، حديث 1505.
3- 3 سنن أبي داود 3: 94، حديث 2790.
4- 4 مسند أحمد بن حنبل 1: 150.

ص: 112

وعن بُريدة، عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّ امرأةً سألتْهُ هل تصوم عن امّها بعد موتها؟ وهل تحجّ عنها؟ قال: نعم (1).

وعن ابن عبّاس عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: تقضي البنتُ نذْرَ امِّها (2).

ورُوي أنّ العاص بن وائل أوصى بالعتق، فسأل ابنه عمرو النبيّصلى الله عليه و آله عن العتق له، فأمره به.

ورُوي عن عائشة أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال عند الذبح: اللّهمَّ تقبّل من محمّد وآله، وامّته.

والحاصل، لا كلام ولا بحث في أنّ أفعال الخير تُهدى إلى الموتى، ومَنْ أولى بالهدايا من أنبياء اللَّه وأوصيائه، فليس الذبح لهم وباسمهم، حتّى يكون الإهلال لذكرهم، وإنّما ذلك عملٌ يُهدى إليهم ثوابه كسائر الأعمال، حتّى أنّه لو ذكر اسمهم على الذبيحة، كان ذلك عند المسلمين منكراً، فهو ذبح عنهم لا لهم.

وإنّي- والذي نفسي بيده- منذ عرفتُ نفسي إلى يومي هذا، ما رأيتُ، ولا سمعتُ أحداً من المسلمين ذبحَ أو نحرَ، ذاكراً لاسم نبيّ، أو وصيّ، أو عبدصالح، وإنّما يقصدون إهداء الثواب إليهم، فإن كان في أطرافكم قبل تسلّطكم مثل ذلك، (فصاحب الدار أدرى بالذي فيها).

ولا شكّ أنّ نجداً وأعرابها قبل أن تُظْهِروا فيها أمر الصلاة والصيام، وتأمروهم بالملازمة لعبادة الملك العلّام، كانوا كالأنعام أو أضلَّ سبيلًا، وقد رفع اللَّه عنهم الشقاق، وحصل بينهم الاتّفاق، وفرّقوا بين الحلال والحرام، وتوجّهوا لأوامر الملك العلّام.

ويؤيّد ذلك ما رواه ابن عمرو عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: اللّهمَّ بارك لنا في


1- 1صحيح مسلم 2: 805، حديث 1149.
2- 2 سنن ابن ماجة 2: 904.

ص: 113

شامنا، اللَّه بارك لنا في يمننا، قالوا: يارسول اللَّه وفي نجدنا، فقال: اللّهمَّ بارك لنا في شامنا، وفي يمننا، ثمّ قالوا: يارسول اللَّه وفي نجدنا، فأظنّه قال في الثالثة: هناك موضوع الزلازل والفتن، وبها (مطلع) قرن الشيطان، رواه البخاري (1). وإلحاق غير أهل (نجد) بهم من قياس الشاهد على الغائب.

وكيف يخفى على فحول العلماء وأساطين الفقهاء الذين أقاموا الجمعات والجماعات، وأقاموا الأحكام، وأوضحوا الشبهات، وأمعنوا نظرهم في فهم الآيات والروايات، أنّ الذبح لا يكون إلّالجبّار السماوات؟ مع أنّ ذلك تلقّاه عن الأكابر الأصاغر، وعن الأوائل الأواخر. فلم يزل أهل الإسلام من قديم الأيّام يذبحون للأنبياء والأوصياء والعباد الصالحين، ويهدون الثواب إليهم طلباً لمرضاة ربّ العالمين.

واختيارهم للأماكن الشريفة، كحرم النبيّصلى الله عليه و آله ونحوه، لما ورد من أنّ الأعمال يتضاعف أجرُها لشرف الزمان والمكان، كشرف الكوفة.

روى الأصبغ بن نباتة (2) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ الخضر قال له: إنّك في مدينة لا يريدها جبّار بسوء إلّاقصمه اللَّه.

ورُوي أنّ البركة فيها على اثني عشر ميلًا من سائر جوانبها.

وإنّ المسلمين كافّة يتبرّؤون ممّن يدعو غير اللَّه، أو يستغيث بغير اللَّه، أو يذبح وينحر لغير اللَّه، أو يحلف بغير اللَّه، على النحو الذي وقع في نظركم أنّهم يقصدونه ويتعمّدونه، ومعاذ اللَّه أن يكونوا كذلك.

والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لو علمتُ منهم ذلك، لكفرتُهم، وهاجرتُ عنهم، معتقداً وجوب ذلك عليَّ، لكن وحقِّ مَنْ اشتقّ من ظُلمة العدم نور


1- 1صحيح البخاري 9: باب الفتن، حديث 16؛ وسنن الترمذي كتاب المناقب، حديث 73.
2- 2 الأصبغ بن نباتة المجاشعي التميمي الكوفي، تُوفي أوائل القرن الثاني الهجري.

ص: 114

الوجود، ما وجدتُ ذلك منهم، ولاصدرَ ذلك عنهم، ولا بأس عليكم فربّما افترى الحاضرون لديكم تقرُّباً بذلك إليكم، فاقتصر على حدودِك التي أنت فيها، فإنّ النفس إذا قنعت، قليلٌ من الدُّنيا يكفيها.

وفي المشكاة: عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّي لستُ أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدُّنيا أن تنافسوا فيها فتهلكوا، كما هلك مَنْ كان قبلكم (1).

وبعد التأمّل الصادق لا نجد- عند مَنْ شاهدناه ممّن يدّعي الإسلام وينتسب إلى ملّة سيِّد الأنام- ذبحاً، ولا نحراً، ولا نذراً، ولا عتقاً، ولا تصدّقاً، ولا وقفاً، ولا شيئاً من العبادات ممّا يتعلّق بالماليّات أو البدنيّات، ولا توسّلًا، ولا تقرّباً، إلّا إلى جبّار الأرضين والسماوات، ولو أعلمُ ذلك منهم لما قبلت كلمة الإسلام الصادرة عنهم.

فمهلًا يا أخي مهلًا مهلًا، فإنّ القوم ليس حالهم كما وصل إليكم، وورد عليكم، فإنّي بهم خبير، وبأحوالهم بصير، وليس غرضي تزكيتهم، ولكن- واللَّه- هذا الذي علمتُهُ من سيرتهم، واللَّه الموفّق.

المقصد الرابع: في النذر لغير اللَّه

هذا المقام من مزال الأقدام، وإنّما كثرت فيه الأقاويل، لخفاء الموضوع إلّا على القليل، فإنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ النذر لغير اللَّه على أنّه أهل لأنْ يُنذرَ له، لأنّه مالك الأشياء وبيده زمامها من الكفر والشرك، لأنّ النذر من أعظم العبادات، وإن اريد أنّه ينعقد بذلك وإن لم يُذكَر اسم اللَّه عليه فهي مسألة فقهية فرعية. واعتقاد


1- 1صحيح البخاري كتاب المغازي، حديث 17؛ و كتاب الجهاد، حديث 38؛ وصحيح مسلم كتاب الزكاة، حديث 121؛ وسنن ابن ماجة كتاب الفتن، حديث 18؛ ومسند أحمد بن حنبل، الباب الخامس، حديث 48.

ص: 115

ذلك لا عن دليل تشريع حرام، لا يُخرِج عن ملّة الإسلام.

وليس المعروف في هذه البلدان النذر لغير اللَّه إلّاعلى معنى أنّهصدقة يُهدَى ثوابها إلى أولياء اللَّه، فمعنى النذر للنبيّصلى الله عليه و آله مثلًا أنّهصدقة منذورة يُهدى ثوابها له، وهكذا النذر لسائر الأولياء. فلا يزيد هذا على من نذر لأبيه وامّه، أو حلف، أو عاهد أن يتصدّق عنهم، كما رُوي عنهصلى الله عليه و آله أنّه قال للبنت التي نذرت لُامّها عملًا: فِ بنذْركِ (1).

فإن كان النذر للآباء والامّهات كفراً، كان هذا كفراً، وإلّا فلا. فمَنْ حاول بالنذر حصول الثواب والتقرّب إلى اللَّه زُلفى من المنذور له، على أن يكون الفعل له لا على أن يكون الثواب له، فهو ضالٌّ مضلٌ. وأمّا مَنْ قصد خلاف ذلك، فلا بأس عليه.

واختيار بعض الأمكنة للنذور طلباً لشرف المكان، حتّى يتضاعف ثواب العبادة، كما يختار بعض الأزمنة لبعض العبادات، لا بأس به، بل لا بأس بتخصيص بعض الأمكنة المباركة، وهو مستفادٌ من الأخبار، كما لا يخفى على من حام حول الديار.

روى ثابت بن الضحّاك (2)، عن النبيصلى الله عليه و آله أنّ رجلًا سأله أنّه نذر أن يذبح ببوّانة، قال: هل كان فيها وثن يُعبد؟ قال: لا، قال: فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ فقال: لا، فقال: فِ بنذرك (3).


1- 1صحيح البخاري كتاب الاعتكاف، حديث 5، 15، 16؛ وصحيح مسلم كتاب الأيمان، حديث 27؛ سنن أبي داود كتاب الأيمان، حديث 22؛ سنن الترمذي كتاب النذور، حديث 12؛ وابن ماجه كتاب الطلاق، حديث 36.
2- 2 ثابت بن الضحّاك بن خليفة بن ثعلبة بن عدي الأنصاري مات سنة 45 ه/ 665 م.
3- 3 سنن أبي داود كتاب الأيمان و حديث 22؛ سنن ابن ماجة باب الكفّارات، حديث 18؛ مسند أحمد بن حنبل، الباب الأوّل، حديث 90.

ص: 116

ثمّ إنّي أعلم واللَّه أنّك لو وضعت منادياً ينادي في بلاد الإسلام، ويُعلن بصوته في كلّ مقام، ليجد شخصاً يُعَدُّ من نوع الإنسان يقصد بنذره غير وجه الملك الديّان، لرجع إليكصفر اليدين، ولم يجد ناذراً للنبيّصلى الله عليه و آله، أو الصحابة، أو الحسنين عليهما السلام.

وكيف يقصدونهم بنذورهم وعباداتهم مع علمهم بمماتهم؟ وإذا دخلوا إلى مواضع قبورهم قرأوا لهم القرآن، وأهدوا إليهم منصلاتهم بعض ما كان، ودعوا لهم برفعة الدرجات، وزيادة الأجر عند ربّ السماوات، فإن كانوا معبودين باعتقادهم، فكيف يهدون إليهم عبادة العبيد؟!

ليتَ شعري كم من الفرق بين مَن يَعبدُ ليُقرَّب إلى اللَّه زُلفى، وبين من يُعْبَدُ اللَّه عنه ليُقرِّبه اللَّه زُلفى.

واللَّه ما نُذِرتْ نذور، ولا جُزِرَتْ جزور، ممّن يتّصف بالايمان، ويقرُّ بالشهادتين بالقلب واللسان، إلّالوجه الملك الديّان، وطلباً لرضا الواحد المنّان.

فمن كانت هذه مقاصدهم، وعلى ذلك بنوا قواعدهم، كيف ينسبون إلى عبادة غير اللَّه، ويُشَبَّهُون بعبدة الأصنام المُثْبِتين شريكاً للملك العلّام؟!

ليتَ شعري لو أنّ الرُّسل جاءت بالسجود للأحجار، أو لبعض الكواكب والأشجار، لم يكن ذلك السجود إلّاعبادة للملك الجبّار؛ لأنّ الطاعة للآمر لا لمن يكون له في ذلك الاظهار.

ولو أنّ الناظر لصور الكواكب وهيئة الأفلاك، تدبّرها تفكُّراً في عظمة الخالق، وسجد، كان عابداً لمدبِّرها.

ثمّ ليس المراد بالعبادة مجرّد الخضوع والتذلّل، كما هو المعنى القديم، بل يُراد معنى جديد، وهو التذلُّل الخاصّ، على شرط أن يكون في كمال الصفاء والإخلاص.

وعلى فرض أن يصدر من بعض أعوام المسلمين؛ لعدم قربهم من محالّ

ص: 117

العلماء العاملين، فلا ينبغي معاملة الجميع بهذه المعاملات، والبناء على نسبتهم إلى الشرك من دون قيام البيّنات.

فقف يا أخي في مواضع الشبهات؛ لئلّا تقع في الهلكات. وإنّي- واللَّه- فرحٌ مسرورٌ بدفعك عن أبناء السبيل كلّ محذور، وأمرك بالصلاة والصيام، وإنفاذ ما شرع النبي (صلّى اللَّه عليه) من الأحكام، إلّاأنّي أخشى عليك أن تأخذ العالم بذنب الجاهل، والمنصف بورطة المعاند المجادل، وفّقنا اللَّه لطريق الصواب، والفوز برضاه في يوم الحساب، فإنّه أرحم الراحمين.

المقصد الخامس: في القسم بغير اللَّه

لا يرتاب مسلم في أنّ القَسَمَ بغير اللَّه، على وجه إرادةصاحب العظمة والكبرياء والملكوت والقدرة والجبروت، باعث على الخروج عن ربقة المسملين (1).

وأمّا إرادة مجرّد التأكيد، فلا يلزم منه كفر ولا إشراك بديهةً، إذ ليس مدار الكفر على مجرّد العبارات. ويدلّ على ذلك أنّه قد ورد القسَم بغير اللَّه متواتراً في كلام الصحابة والتابعين، بل في كلام خاتم النبيّينصلى الله عليه و آله.

ففي كتاب علي عليه السلام إلى معاوية: لعمري، لإنْ نظرتَ بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ الناس من دم (عثمان) (2).

وفي كلام له آخر: وأمّا تحذيرك إيّاي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام، فلعمري، لو كنتُ الباغي عليك لكان لك أنْ تحذِّرني ذلك.


1- 1 هكذا في الأصل.
2- 2 نهج البلاغة: 367.

ص: 118

وفي كتاب معاوية: فإن كنت أبا حسن إنّما تحارب عن الإمرة والخلافة، فلعَمْري، لوصحّت خلافتك لكنت قريباً من أن تعذر في حرب المسلمين.

وقد وقع هذا القَسَمُ بلفظ (لَعَمْري) في كلام الصحابة والتابعين، في نثرهم وشعرهم كثيراً، بحيث يتعذّر ضبطه.

وعن بعض أهل البيت أنّ واحداً من أصحابه حلفَ عنده: وحقّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وحقّ عليٍّ ما فعلت (كذا)، وأقرّه على ذلك.

وفي حديث طلحة: إنّ رجلًا من أهل (نجد) جاء يسأل عن الإسلام، فقال:

أفلح الرجل- واللَّه- إنْصدق (1).

وفي شرح مصابيح الطيبي عنهصلى الله عليه و آله: أفلح الرجل وأبيه- واللَّه-.

وحُمِلَ على أنّها لم يرد بها حقيقة القَسَم، وإنّما تجري على اللسان لمجرّد التأكيد.

وروى نصر بن مزاحم (2)، عن رجاله، عن عمرو بن العاص أنّه سمعَ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو يقول لعمّار: تقتُلك الفئة الباغية، وكان ذكره لأهل الشام قبل وقعة (صفّين) بعشرين سنة، فسمعه عبداللَّه بن عمر العَبْسي، وكان أعبد أهل زمانه، فخرج ليلًا وأصبح في عسكر علي عليه السلام، فحدَّث الناس بقول عمرو، وقال شعراً:

والراقصاتُ بركب عابدينَ له إنّ الذي جاء من عمروٍ لمأثورُ

ما في مقال رسول اللَّه في رجلٍ شكٌّ، ولا في مقال الرسل تحبيرُ

ومن الشعر المنقول عن علي بن الحسين قوله:

«نحنُ وبيت اللَّه أولى بالنبيّ»


1- 1صحيح البخاري كتاب الأيمان، حديث 3؛ وسنن أبي داود كتاب الصلاة، حديث 1؛ سنن النسائي كتاب الصلاة، حديث 4؛ سنن الدارمي كتاب الصلاة، حديث 208.
2- 2 وقعةصفّين لنصر بن مزاحم: 343.

ص: 119

وكم للصحابة والتابعين من حلف بشيبة رسول اللَّه، وضريحه وعينيه، وتربته، وليس هذا من القَسَم الحقيقي في شي ء، إذ المراد مجرّد التأكيد والتثبّت دون حقيقة القَسَم التي هي مدار القضايا والحكومات، وتدور عليها ما لزم من الكفّارات.

فما ورد عن ابن عمر، عن النبيّصلى الله عليه و آله؛ إنّ اللَّه نهاكم أن تحلفوا بآبائكم (1).

وفي الصحيحين: إنّ اللَّه ينهاكم أنْ تحلفوا بآبائكم، فمَنْ كان حالفاً فلا يحلف إلّا باللَّه، أو يصمت (2).

وعن عبد الرحمن بن سمرة، عن النبيّصلى الله عليه و آله: لا تحلفوا بالطواغي، ولا بآبائكم، رواه مسلم (3).

وعن أبي هريرة عن النبيصلى الله عليه و آله أنّه قال: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بامّهاتكم، ولا بالأنداد، رواه أبو داود، والنسائي (4).

وعن بريدة، قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: من حلف بآبائه فليس منّا (5).

فهذه الأخبار محمولة على من قصد اليمين الحقيقي المثبتة والنافية التي تترتّب عليها الكفّارة، فإنّها لا تكون إلّاباللَّه، كما يرشد إليه ذكر الطواغيت، والأنداد.

ونُقِلَ عن أحمد أنّ الحلف بالنبيّصلى الله عليه و آله ينعقد؛ لأنّه أحد ركني الشهادة، أو يُحمَلُ على الكراهة، كما في شرح (المنهاج) وفيه: الحلف بالمخلوق كالنبيّ، والكعبة، وغيرهما مكروه، لقولهصلى الله عليه و آله: لا تحلفوا بآبائكم، ولا بامّهاتكم، ولا تحلفوا إلّاباللَّه.

والتحقيق أنّ الحلف غير المقصود معناه لا بأس به.


1- 1 سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور 4: 4.
2- 2صحيح مسلم كتاب الأيمان، باب النهي عن الحلف بغير اللَّه تعالى، حديث 3.
3- 3صحيح مسلم كتاب الأيمان، حديث 6. والطواغي هي الأصنام. ومفردها طاغية. وكلّ مَن طغى وجاوزَ الحدّ المعتاد من الشرّ سُمّي طاغية.
4- 4 سنن أبي داود 3: 222، حديث 3248؛ وسنن النسائي كتاب الأيمان والنذور 4: 5.
5- 5 سنن أبي داود 3: 223، حديث 3253.

ص: 120

روى أبو هريرة عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال: اليمين على نيّة المستحلف (1).

القسم الثاني: أن يُراد به الإثبات والنفي، فإن كان مأخوذاً عن دليل، لم يكن فيه بأس، وترتّب عليه الأثر عند الفقيه المُثْبِت له، ولم يكن عليه شي ء، وإن قصد بالحلف بالمخلوق أنّه ذو الكبرياء والجبروت والمُلك والملكوت، فهو كفر.

وربّما نزل عليه ما رواه ابن عمر، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنَّ مَنْ حلف بغير اللَّه فقد أشرك، رواه الترمذي (2).

وروي عن ابن عمر، عن النبيّصلى الله عليه و آله: إنَّ مَن حلف بغير اللَّه فقد كفر.

أو ينزّل هذا على المبالغة، كما ورد في كثير من فعل المعاصي وترك الواجبات، وما عدا هذا القسم والذي قبله بناؤه على الكراهة، إذ لو كان حراماً ماصدر من الصحابة بمحضر من الناس، ولم ينكر عليهم.

مضافاً إلى أنّه ممّا توفّر الدواعي على نقله، ولو كان محرَّماً للهجتْ به ألسنة الخطباء والوعّاظ، ولم يخفَ على الصبيان، فضلًا عن العلماء الأعيان، وليس الغرض المهمّ سوى دفع الكفر عن الناس إذاصدر منهم مثل ذلك.

وتفصيل الحال: أنَّ القَسَمَ والعهد بغير اللَّه إن قُصِدَ بهما ذو العزّة والجلال، والعلو فوق كلّ عال، كما يحلف المربوب بربّه، فلذلك كفرٌ وإشراك.

وإنْ قصد ترتّب الأحكام عليه من إثبات حقوق الناس، ولزوم الكفّارات، فذلك تشريعٌ وعصيان، إلّامَنْ أثبت ذلك بزعم الدليل والبرهان، وإن رأى وجوب العمل بذلك لمجرّد الإكرام؛ لأنّ عدم العمل ينافي الاحترام، فلا أرى فيه بأساً في المقام.

وإنْ اريد به مجرّد التأكيد من دون ترتّب بشي ء من الأحكام، فأولى بالدخول


1- 1 هذا هو القسم الأوّل.
2- 2 سنن الترمذي كتاب النذور، باب 9؛ وسنن النسائي كتاب الأيمان، باب 4، وابن ماجة كتاب الكفّارات، باب 2؛ سنن الدارمي كتاب النذور، باب 6.

ص: 121

في المباح، والخروج من الحرام. وإنْ وقعَ لغواً وهذراً من غير قصد، فلا يُعدُّ من الأيمان، ولا مدار عليه في شي ء كائناً ما كان، واللَّه الموفّق.

المقصد السادس: في الاستغاثة

لا يخفى أنّ الاستغاثة بالمخلوق على أنّه الفاعل المختار مدخل للمستغيث في أقسام الكفّار، وإنّما المراد منه طلب الشفاعة وسؤال الدعاء.

وقد روى النسائي والترمذي في حديث الأعرابي أنّ النبيّصلى الله عليه و آله علّمه قول:

يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى اللَّه، ونحوه ما في حديث ابن حنيف (1).

وروى البيهقي في خبرٍصحيح أنّه في أيّام عمر رضى الله عنه جاء رجل إلى قبر النبيّصلى الله عليه و آله، فقال: يا محمّد استسق لُامّتك فَسُقَوا (2).

وروى الطبراني وابن المقري وأبو الشيخ أنّهم كانوا جياعاً، فجاؤوا إلى قبر النبيّصلى الله عليه و آله فقالوا: يارسول اللَّه الجوعَ، فأُشبعوا.

وروى البيهقي عن مالك الدار خازن عمر رضى الله عنه، قال: أصاب الناس قحط، فذهب إلى قبر النبيّصلى الله عليه و آله فقال: استسق لُامّتك فقد هلكوا، فأتاه النبيّصلى الله عليه و آله في المنام، وقال له: قُلْ لعمر: إنّهم سقوا.

ومن ذلك قوله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ (3).

وعن معاذ أنّه لمّا كان في اليمن جاءه نعي النبيّصلى الله عليه و آله، فرجع وهو يقول:

يا محمّداه، يا أبا القاسماه، وبقي على ذلك برهة من الزمان. وفيه ظهور بالاستغاثة.


1- 1 سنن الترمذي كتاب الدعوات، باب 118؛ وسنن ابن ماجة كتاب إقامة الصلاة والسنّة فيها، باب 189، حديث 1385. وابن حنيف هو عثمان بن حنيف الأنصاري، سكن الكوفة، ومات في خلافة معاوية.
2- 2 سنن البيهقي 3: 326.
3- 3 سورة القصص: 15.

ص: 122

وعن أبي بكر بن محمّد بن الفضل أنَّ (بلالًا) لمّا أخذ في النَزْع، قالت امرأته:

وا ويلاه وا حزناه، فقال لها: لا تقولي وا حزناه، فإنّي قصدتُ الذهاب إلى محمّدٍ وحزبه.

وروى الكازروني ندبة الزهراء عليها السلام، وروى ندبة معاذ النبيّصلى الله عليه و آله. وعن النعمان ابن بشير، قال: أُغمي على عبداللَّه بن رواحة، فجعلت اخته عمرة تبكي وتقول:

وا جبلاه (1).

وما رُوي عن أبي موسى عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه ما من ميّت يموت، فيقوم باكيه ويقول: وا جبلاه، وا سيّداه إلّاوكّل اللَّه به ملكين يلهزانه، ويقولان له: أكان هكذا؟! فمبنيٌّ على النهي عن العزاء والبكاء.

وفي قصّة إدريس أنّ المطر انقطع عن قومه عشرين سنة، فجاؤوا إليه يدعو لهم.

وعن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ ملكاً غضب اللَّه عليه، فأُهبط من السماء، فأتى إدريس، فاستشفع به، فدعا له، فأذن له في الصعود، فصعد.

وفي الحقيقة أنّ المستغيث بالمخلوق إن أراد طلب الدعاء والشفاعة من المُستَغاث به، فلا بأس به، وإن أراد إسناد الامور بالاستقلال إليه، فالمسلمون منه براء.

على أنّا بيّنا فيما سبق أنّ الاستغاثة بدار (زيد)، وصفاته، وغلمانه، وخَدَمه، ربّما اريد بها الاستغاثة به، فيكون هذا أولى في بيان ذلّ المستغيث، وأنّه لا يرى لسانه أهلًا لأن يجري عليه اسم المولى؛ ولهذا ترى أنّ طاعة اللَّه تُذكر بعدها طاعة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ورضاه يذكر بعد رضا اللَّه ورسوله، وإذا انفردت إحداهما دخلت فيها الاخرى.


1- 1 سنن البيهقي 4: 64.

ص: 123

روى أبو هريرة عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه قال؛ مَنْ أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومَنْ عصاني فقد عصى اللَّه، ومَن يُطع الأمير فقد أطاعني، ومَنْ يَعْص الأمير فقد عصاني (1).

وكيف يُستغاث حقيقةً بمن لا يدفع عن نفسه ضُرّاً ولا شرّاً، ولا يملك رزقاً، ولا موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً، المبدأ من تراب، ثمّ نطفة مودعة في الأصلاب، ثمّ جسم مُعرَّض للبليّات، ثمّ بعدها يكون من الأموات.

وإنّما شرّفه بالعبودية والانقياد للحضرة القدسية، ولولا أمر اللَّه ما سُمِعَ له كلام، ولا رُفعَ له مقام، وليس بيننا وبينه ربط سوى أمر الملك العلّام.

فليس المراد بالاستغاثة إلّاطلب الدُّعاء من المُستغاث به، لما في الحديث القدسي: يا موسى ادعني بلسانٍ لم تَعْصِني فيه، فقال: ياربّ وأين ذلك؟ فقال:

لسان الغير.

فالمستغيث إن طلب أصالةً واستقلالًا من المستغاث به، كان معوّلًا عليه في كلّ أمر يرجع إليه، وإلّا فالمستغاث به حقيقةً هو الذي تنتهي إليه الامور.

وكذلك الدعاء إن قُصِدَ أنّ المدعوّ هو الفاعل المختار الذي تنتهي إليه الأشياء، فذلك كفر بربّ السماء، وإن اريد المجاز، فلا يدخل تحت حقيقة الدعاء.

ولا ريب أنّ كلّ مَنْ قال لشخص: أعنّي على بناء الدار، أو قضاء الدَّين، أو قال: أعطني، أو غير ذلك، بقصد الدعاء، أعني: طلب المربوب من الربّ، فهو كفرٌ وإشراك. وإن قصد الطلب لا على ذلك النحو، لم يكن كفراً.

ولو كان المدار على هذه الصورة، لكُفِّرت الخلائق من يوم آدم إلى يومنا هذا، بلصدور هذه العبارات عن الأنبياء والأوصياء أبين من الشمس.


1- 1صحيح البخاري كتاب الجهاد، باب 109؛صحيح مسلم كتاب الامارة، باب 23؛ سنن النسائي كتاب البيعة، باب 27؛ ابن ماجة المقدّمة، باب 1. وقد رويت الإمام، أميري.

ص: 124

وكذلك (الاستجارة)، و (الندبة)، ونحوهما، فإن كانت على الطور المعهود، كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ (1)

، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ (2) فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ (3)

، فلا محيص عن القول بجوازه. فتفاوت العبارات باختلاف النيّات.

فمن كان داعياً دعاء الأصنام وسائر الأرباب، أو مستغيثاً كذلك، فهو كافر مشرك. وإن أراد المُتَعارف بين سائر الناس، فليس به بأس.

فبحقِّ مَنْ شقَّ سمعك وبصرك، أن تُمْعِن في هذا المقام نظرَك، وتُصفِّي نفسك عن حبّ الانفراد، كما يلزمنا التخلية عن حبّ متابعة الآباء والأجداد.

ولا فرق بين الأحياء والأموات؛ لأنّ من استغاث بالمخلوق أو استجار على أنّه فاعلٌ مختار، فقد دخل في أقسام الكفر، فالاستغاثة بعيسى أو بمريم، حيّين أو ميّتين، تقع على القسمين.

واعتقاد أنّ الميّت يسمع أو لا يسمع، ليس من عقائد الدين التي تجب معرفتها على المسلمين، فمن اعتقدَها: فإمّا أن يكون مصيباً مأجوراً، أو مخطئاً معذوراً.

ومن ذلك القبيل الألفاظ التي تفيد الرجاء، والتوكّل، والاعتماد، والتعويل، والالتجاء، والاستعانة بغير اللَّه، فإنّ هذه العبارات لو بُني على ظاهرها لم يبقَ في الدُّنيا مسلمٌ، إذْ لا يخلو أحدٌ من الاستعانة على الأعداء، والاعتماد على الأصدقاء، والالتجاء إلى الامراء، ونحو ذلك.

إلّا أنّه إن قصد الملتجأ إليه والمعوّل عليه من المخلوقين له اختيارٌ وتدبيرٌ في العالم لنفسه لا عن أمر اللَّه، فذلك كفرٌ باللَّه، وإلّا فلا بأس.

وممّا يناسب نقله في هذا المقام ما نقله القتيبي، قال: كنت جالساً عند قبر


1- 1 سورة التوبة: 6.
2- 2 سورة القصص: 15.
3- 3 سورة البقرة: 61.

ص: 125

رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فجاء أعرابيٌّ، فسلَّمَ على النبيّصلى الله عليه و آله، ثمّ أنشأ يقول:

يا خير مَن دُفنت بالقاع أعظمُهُ فطابَ من طيبهنّ القاعُ والأكمُ

نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكنهُ فيه العفافُ، وفيه الجودُ والكرمُ

ثمّ قال: ها أنا ذا يارسول اللَّه، فقد ظلمتُ نفسي، وأنا أستغفر اللَّه وأسألك يارسول اللَّه أن تستغفر لي. قال القتيبي: ثمّ نمتُ، فرأيتُ النبيّصلى الله عليه و آله في المنام، فقال: يا قتيبي أدرك الأعرابي وبشِّره أنّه قد غَفَر اللَّه له، قال: فأدركتُهُ وبشّرتُه.

المقصد السابع: في التوسّل

ولا ريب أنّه من سنن المرسلين، وسيرة السلف الصالحين، ودلّت عليه الأخبار والآثار.

نُقِلَ أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة، قال: ياربّي أسألك بحقِّ محمّدصلى الله عليه و آله لما غفرت لي، فقال: يا آدم كيف عرفت؟ قال: لأنّك لمّا خلقتني نظرتُ إلى العرش، فوجدتُ مكتوباً فيه: (لا إله إلّااللَّه، محمّدٌ رسول اللَّه)، فرأيتُ اسمه مقروناً مع اسمك، فعرفتُهُ أحبّ الخلق إليك.صحّحه الحاكم (1).

وعن عثمان بن حنيف أنّ رجلًا ضرير البصر أتى النبيّصلى الله عليه و آله فقال: ادعُ اللَّه أن يعافيني، فقال النبيّصلى الله عليه و آله: إن شئتصبرتَ فهو خيرٌ لك، وإن شئت دعوت، قال:

فادْعُهُ، فأمره أن يتوضّأ، ويدعو بهذا الدعاء: (اللّهمَّ إنّي أسألُك وأتوجّه إليك بنبيِّك محمّد نبيِّ الرّحمة، يا محمد إنّي توجّهتَ بك إلى ربّي في حاجتي ليقضيَها، اللّهمَّ شفِّعْهُ فيَّ) (2).


1- 1 مستدرك الحاكم 2: 615.
2- 2 سنن الترمذي كتاب الدعوات، باب 119، حديث 3578؛ وسنن ابن ماجة كتاب إقامة الصلاة، باب 189، حديث 1385.

ص: 126

وفيه دلالة على جواز الشفاعة في الدُّنيا، وعلى الاستغاثة، رواه الترمذي، والنسائي، وصحّحه البيهقي، وزاد: فقام وقد أبصر.

ونقل الطبراني عن عثمان بن حنيف أنَّ رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجته، فكان لا يلتفت إليه، فشكا ذلك لابن حنيف، فقال له: اذهب وتوضّأ وقل:... (وذكر نحو ما ذكر الضرير)، قال: فصنع ذلك، فجاء البوّاب، فأخذه وأدخله على (عثمان)، فأمسكه على (الطنفسة) وقضى حاجته (1)..

وروي أنّه لمّا دعا النبيّصلى الله عليه و آله لفاطمة بنت أسد، قال: اللّهمَّ إنّي أسألك بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي... (إلى آخر الدعاء) (2).

وفي الصحيح عن أنس أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كان إذا أقحط الناس استسقى بالعبّاس، فقال: اللّهمَّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيِّك فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيِّك، ونستشفع إليك بشيبته، فَسُقوا (3).

وروى الشيخ عبد الحميد (بن أبي الحديد) عن علي عليه السلام أنّه قال: كنتُ من رسول اللَّه كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد، ربّانيصغيراً، وواخاني كبيراً، سألته مرّةً أن يدعو لي بالمغفرة، فقام فصلّى، فلمّا رفع يديه سمعته يقول:

اللّهمَّ بحقّ علي عندك اغفر لعلي، فقلتُ: يارسول اللَّه ما هذا؟ فقال: أوَ أحدٌ أكرم منك عليه، فأستشفعُ به إليه؟ (4).

وفي هذين الخبرين دلالةٌ على شفاعة الدُّنيا.

وفي مسند ابن حنبل أنّ عائشة قال لها مسروق: سألتك بصاحب هذا القبر ما الذي سمعت من رسول اللَّه (يعني: في حقّ الخوارج)؟ قالت: سمعته يقول: إنّهم


1- 1 سنن ابن ماجة كتاب إقامة الصلاة، باب 189، حديث 1385.
2- 2 كنز العمّال 6: 189.
3- 3صحيح البخاري كتاب الاستسقاء، باب 3؛ و كتاب فضائل أصحاب النبيّ، باب 11.
4- 4 شرح نهج البلاغة 4: 558.

ص: 127

شرُّ الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند اللَّه وسيلة (1).

وعن الأعمش أنّ امرأةً ضريرةً بقيت ستّة ليال تُقْسِمُ على اللَّه بعليّ، فعوفيت.

فما رواه جبير بن مطعم عن النبيّصلى الله عليه و آله أنّه أتاه أعرابي، فقال: جهدت الأنفس، وجاع العيال، فاستسق لنا، فإنّا نستشفع بك إلى اللَّه، ونستشفع باللَّه عليك، فقال النبيّصلى الله عليه و آله: «ويحك إنّه لا يستشفع باللَّه على أحد، شأن اللَّه أعظم»، فليس ممّا نحن فيه؛ لأنّه نهى عن الاستشفاع باللَّه لا بأحد إلى اللَّه.

وعن عليّ أنّه قال لسعد بن أبي وقّاص: أسألك برحم ابني هذا، وبرحم حمزة عمّي منك ألّا تكون مع عبد الرحمن (2).

وعن عائشة (رض) أنّ النبيَّ أسرَّ إلى فاطمة سرّاً، فبكتْ بكاءً شديداً، فسألتها، فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فلمّا قُبِضَ سألتُها وقلتُ لها:

عزمتُ عليك بما لي عليك من الحقّ، (... الخبر) (3).

وروى أبو مخنف عن أبي الخليل، قال: لمّا نزل طلحة والزبير في موضع (كذا)، قلت: ناشدتكما اللَّه وصُحبة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

وعن علي عليه السلام أنّ يهودياً جاء إلى النبيّصلى الله عليه و آله، فقام بين يديه، وجعل يحدّ النظر إليه، فقال: يا يهودي ما حاجتُك؟ فقال: أنت أفضل أم موسى؟ فقال له: إنّه يكره للعبد أن يزكّي نفسه، ولكن قال اللَّه تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (4)

إنّ آدم لمّا أصابته خطيئته التي تاب منها كانت توبته (اللّهمَّ إنّي أسألُكَ بمحمّد وآل محمّد لما


1- 1 سنن الدارمي كتاب الجهاد، باب 39؛ مسند أحمد بن حنبل 1: 140؛ سنن ابن ماجه المقدّمة، باب 12، حديث 170.
2- 2 الترمذي 5: حديث 170.
3- 3صحيح البخاري 4: 210؛ وصحيح مسلم 4: 1905؛ والترمذي 5: 658.
4- 4 سورة الضحى: 11.

ص: 128

غفرت لي)، فغُفِرَ له (1).

وعن علي عليه السلام أنّه بعد دفن النبيّصلى الله عليه و آله قام عند قبره الشريف، فقال مخاطباً له:

طبتَ حيّاً وطبتَ ميِّتاً، انقطع عنّا بموتك ما لم ينقطع بموت أحد سواك من النبوّة والأنباء، وأخبار السماء، (والحديث طويل) إلى أن قال: بأبي أنت وامّي اذْكُرْنا عند ربّك، واجعلنا من بالك وهمك.

ونقل الشيخ عبد الحميد أنّ معاوية سأل عقيلًا عن عليّ عليه السلام، فقال له عقيل:

يا معاوية جاءته زقاق عسل من اليمن، فأخذ الحسين منها رطلًا واشترى إداماً لخبزه، فلمّا جاء عليّ ليقسّمها قال: يا (قنبر) أظنُّ أنّه قد حَدَثَ بهذا حدثٌ؟ قال:

نعم، وأخبره بقصّة الحسين عليه السلام فغضب، وقال عَليَّ (بحسين) فرفع الدرّة عليه، وقال:

بعمّي (جعفر)، (وكان إذا سُئل بحقّ جعفر سكن)، فأجابه (الحسين) بما أجاب.

ونقل الشيخ عبد الحميد أنّ رجلًا وفد من مصر، فاستعاذ بعُمر.

وكيف كان فقد بانَ أنّ مَنْ توسّل إلى اللَّه (بمعظَّم) من: قرآن، أو نبيّ، أو عبدصالح، أومكان شريف، أو بغير ذلك، فلا بأس عليه، بل كان آتياًبماهوأولى وأفضل.

ولا بأس بالتوسّط بحقّ المخلوقات، فإنّ للمولى على عبده حقّ المالكية، وللعبد حقّ المملوكية، وللخادم حقّ الخدمة، وللأرحام حقّ الرحم، وللصديق حقّ الصداقة، وللجار حقّ الجوار، وللصاحب حقّ الصحبة. فالحقّ عبارة عن الرابطة بأيّ نحوٍ اتّفقت، وعلى أيّ جهةٍ كانت.

وعلى ذلك جرت عادة السلف من أيّام النبيّصلى الله عليه و آله إلى يومنا هذا، لا ينكره أحدٌ من المسلمين، والدعوات، والمواعظ مشتملة عليه، والإجماع منعقدٌ عليه، فلم يبقَ في المقام إشكال، ولا بقي محلّ للقيل والقال، واللَّه وليّ التوفيق، وهو أرحم الراحمين.


1- 1 كنز العمّال 11: 455.

ص: 129

طواف النساء ونبذة من أحكامه في فقه الشيعة

طواف النساء ونبذة من أحكامه في فقه الشيعة

طواف النساء ونبذة من أحكامه في فقه الشيعة

عبد الكريم آل نجف

يقع البحث الفقهي في طواف النساء من جهات متعدّدة نأتي عليها تباعاً:

اختصاص الفقه الإمامي بهذا الطواف

يعدّ القول بوجود طواف في الحج اسمه طواف النساء من جملة مختصّات الفقه الإمامي، قال السيّد المرتضى في الانتصار: «وممّا انفردت الإمامية به القول: بأنّ من طاف طواف الزيارة فقد تحلّل من كلّ شي ء كان به محرّماً إلّاالنساء فليس له وطؤهنّ إلّابطواف آخر متى فعله حللن له وهو الذي يسمّونه طواف النساء» (1).

وليس لدى المذاهب الاخرى طواف بهذا الاسم وهذه الصفة، وقد لخّص ابن قدامة أطوفة الحجّ عند الجمهور بقوله: «الأطوفة المشروعة وطواف القدوم وهو سنّة لا شي ء على تاركه، وطواف الوداع واجب ينوب عنه الدم إذا تركه، وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري... وما زاد على هذه الأطوفة فهل نفل» (2)


1- 1 الانتصار: 255.
2- 2 المغني، عبد الدين قدامة 3: 468 ط دار الكتاب العربي.

ص: 130

وعلّق عبد الرحمن بن قدامة على كلام المغني بما يؤيّده وذلك في الشرح الكبير (1).

إلّا أنّ الذي يراجع الفقه الزيدي يجد فيه عنوان طواف النساء مذكوراً كتسمية من تسميات طواف الزيارة لا كطواف مستقلّ. ففي كتاب الأحكام لحسين ابن الحسين (ت 298) نقرأ أنّ طواف النساء هو طواف الزيارة (2).

وفي شرح الأزهار لأحمد المرتضى (ت 840) نقرأ في بعض التعليقات والحواشي: «أنّ طواف الزيارة يقال له طواف النساء وطواف الإفاضة وطواف الفرض؛ لأنّه يحلّ به النساء ولأنّ فيه زيارة البيت العتيق ولا يتمّ الحجّ إلّابه» (3).

وواضح أنّ ما يقوله الإمامية شي ء غير التسمية، وهو أنّ طواف الزيارة يحلّل ما غير النساء من المحرّمات، وأنّ النساء لا تحلّ إلّابإتيان طواف آخر يكون في نهاية الحجّ اسمه طواف النساء.

هل يقوم طواف الوداع مقام طواف النساء؟

والمسألة لا خلاف عندهم فيها سوى خدشة وردت من مصادر متعدّدة، وأفادت بأنّ طواف الوداع يقوم مقام طواف النساء.

فقد ورد في التهذيب عن إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام قال: «لولا ما منَّ اللَّه به على الناس من طواف الوداع؛ لرجعوا إلى منازلهم ولا ينبغي لهم أن يمسّوا نساءهم...» (4).

ونقل العلّامة في المختلف عن الصدوق الأب قوله: «ومتى لم يطف الرجل طواف النساء لم يحل له النساء حتّى يطوف، وكذلك المرأة لا يجوز لها أن تجامع حتّى تطوف طواف النساء، إلّاأن يكونا طافا طواف الوداع فهو


1- 1 المصدر نفسه 3: 469 عبارة الشرح الكبير في هامش المغني.
2- 2 الأحكام 1: 297، 302.
3- 3 شرح الأزهار 2: 129، طصنعاء.
4- 4 تهذيب الأحكام 5: 253، ح 856. تحقيق السيّد حسن الخرسان.

ص: 131

طواف النساء..» (1).

ثمّ جاء من بعده ابنه الصدوق الثاني فقال في من لا يحضره الفقيه:

«وروي فيمن ترك طواف النساء أنّه إن كان طاف طواف الوداع فهو طواف النساء» (2).

فأصبحت هذه النقولات الثلاثة مثار بحث بين فقهاء الإمامية حول حقيقة طواف الوداع وما له من دور في التحليل.

فقد استشكل العلّامة على كلام ابن بابويه بأنّ «هذا القول في غاية الإشكال فإنّ طواف الوداع مستحبّ وطواف النساء واجب، فكيف يجزئ طواف الوداع عن طواف النساء» (3).

وتعرّض إلى رواية التهذيب فقال: «فإن استند إلى رواية إسحاق بن عمّار عن الصادق عليه السلام... قلنا: إنّ في إسحاق بن عمّار قولًا ومع ذلك فهي معارضة بغيرها من الروايات، وابن الجنيد سمّى طواف النساء طواف الوداع وأوجبه» (4).

وعلى هذا المعنى مشهور الفقهاء فنجد في المتأخّرينصاحب الجواهر يقول:

«وعلى كلّ حال فظاهر ما سمعته من النصّ والفتوى وجوب قضائه وإن كان قد طاف طواف الوداع مضافاً إلى كونه مستحبّاً فلا يجزئ عن الواجب، لكن قال الصادق عليه السلام في خبر إسحاق: لولا ما منَّ اللَّه به على الناس من طواف الوداع...

الخ، بل عن علي بن بابويه مع إمكان اختصاصه بالعامّة الذين لا يعرفون وجوب طواف النساء وإرادة المنّة على المؤمنين بالنسبة إلى نسائهم الغير العارفات، وكون المراد أنّ الإتفاق على فعل طواف الوداع سبب لتمكّن الشيعة من طواف النساء إذ


1- 1 المختلف 4: 202. ط جماعة المدرّسين- قم.
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 391. ط جماعة المدرّسين- قم.
3- 3 المختلف 4: 302، كذلك: 202.
4- 4 المصدر نفسه: 203.

ص: 132

لولاه لزمتهم التقيّة بتركه غالباً» (1).

سوى أنّ المحقّق البحراني ناقش العلّامة الحلّي فأورد كلامه السابق ثمّ علّق عليه بقوله: «أقول: لا يخفى عليك أنّ مستند الشيخ على بيانه في غير موضع وهذه العبارة عين عبارته عليه السلام في الكتاب المذكور، ولكنّ الجماعة لم يصل إليهم الكتاب فاعترضوا عليه بمثل ما هو مذكور هنا وغيره، وإلى هذه الرواية أشار ابنه في من لا يحضره الفقيه أيضاً حيث قال بعد رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام...

وروي في من نسي طواف النساء أنّه إن كان طاف طواف الوداع فهو طواف النساء. وظاهر جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد في الدروس حمل الناس في رواية إسحاق بن عمّار المذكورة على العامّة، والظاهر أنّ الوجه فيه من حيث إنّ العامّة لا يرون وجوبه، وكان برجوعهم دون الإتيان به تحرم عليهم النساء، فوسّع اللَّه بكرمه عليهم جعل طواف الوداع لهم قائماً مقامه في تحليل النساء لهم، إلّا أنّه لما ورد في أخبارنا كما عرفت من كلامه عليه السلام في كتاب الفقه ثبوت ذلك للناس أيضاً، فالواجب حمل خبر إسحاق على ذلك فيكون من نسي طواف النساء منّا فإنّه تحلّ له النساء بطواف الوداع وإن وجب عليه التدارك، ولا بعد في ذلك بعد قيام الدليل عليه وإن لم يكن مشهوراً عندهم، وأمّا ما اعتلّ به في المختلف من أنّ طواف الوداع مستحبّ ولا يجزئ عن الواجب فهو على إطلاقه ممنوع فإنّصيام يوم الشكّ مستحبّ من شعبان ويجزي عن شهر رمضان لو ظهر كونه منه واللَّه العالم» (2).

ووافق الفيض الكاشاني كلام البحراني في قيام طواف الوداع مقام طواف النساء مع لزوم التدارك (3).


1- 1 جواهر الكلام 19: 390 ط دار الكتب الإسلامية.
2- 2 الحدائق 16: 185- 186، ط جماعة المدرّسين- قم.
3- 3 الوافي 14: 1231، ط اصفهان.

ص: 133

وهنا عدّة مواقع للنظر:

1- في السند، فإنّ العلّامة حاول الخدشة فيه حينما قال: إنّ في إسحاق بن عمّار قولًا، وغرضه ما قاله الشيخ في الفهرست عن إسحاق بن عمّار الساباطي:

كان فطحياً إلّاأنّه ثقة، فمع التوثيق تُعدّ فطحيته خدشة فيه، وقد قال بعض أعلام الرجال إلى اتّحاده مع إسحاق بن عمّار الساباطي الذي ذكره النجاشي ووصفه بأنّه:

شيخ من أصحابنا ثقة.. وهو في بيت كبير من الشيعة (1).

فترفع الخدشة بذلك كلّياً.

2- حاول المحقّق البحراني أن يؤكّدصحّة متن رواية إسحاق بمرسلة الصدوق الابن معتبراً كلام الصدوق الابن إشارة إليها، وأكّدها أيضاً بأنّ كلام علي بن بابويه الصدوق الأب يستند إلى كلام الإمام الرضا عليه السلام في الكتاب المنسوب إليه باسم فقه الرضا وأنّ متن عبارته وارد في الكتاب المذكور. إلّاأنّ الذي يطالع النسخة المطبوعة حاليّاً وفي الكتاب لا يجد فيها ما يطابق رواية إسحاق، ولعلّ نسخة البحراني غيرها. كما أنّ الفقه الرضوي احتمل فيه الأعلام احتمالات عديدة أضعفها نسبته إلى الإمام الرضا عليه السلام، وهو الاحتمال الذي اعتقده المجلسي الأب والابن ومن قارب عصرهما ومنهم المحقّق البحراني، وأقواها نسبته إلى الشلمغاني وأنّه كتاب التكليف الذي كتبه في أيّام استقامته ورواه عنه علي بن بابويه القمّي رحمه الله (2)، كما هو الرأي الذي اعتقده السيّد حسن الصدر، واستدلّ عليه في كتابه «فصل القضاء في الكشف عن حال فقه الرضا».

ومهما يكن من أمر فإنّ كلام الصدوقين الأب والابن يصلح لتعضيد رواية إسحاق ويجعلها في مقام تستحقّ فيه اعتباراً كافياً.


1- 1 معجم رجال الحديث 3: 222- 223، ط 5.
2- 2 الذريعة 16: 234.

ص: 134

3- أمّا ما نقله العلّامة عن ابن الجنيد من أنّه سمّى طواف النساء طواف الوداع وأوجبه فإنّه يصلح شاهداً للطرفين معاً، ولا تختصّصلاحيته بمعارضة من يقول بقيام طواف الوداع مقام طواف النساء، بل قد يدّعي هذا القائل بأنّ دلالة عمل ابن الجنيد على ذلك أكبر من دلالته على عدم قيام طواف الوداع مقام طواف النساء، فلعلّ ابن الجنيد يريد بذلك أنّ طواف النساء عندنا هو نفسه الذي يسمّيه العامّة بطواف الوداع سوى أنّهم لم يلتفتوا إلى أثره في تحليل النساء على الرجال وبالعكس فادّعوا استحبابه، وغفلتهم هذه لا تؤثّر في الواقع الشرعي شيئاً. ولا أقلّ من إجمال لأدلّة عمل ابن الجنيد، فلا يكون مرجّحاً لقول على آخر.

4- أمّا مسألة أنّ المستحبّ لا يقوم مقام الواجب فكلام البحراني فيها أولى بالاعتبار من كلام العلّامة. وإضافة إلى ما قاله البحراني في ردّه فإنّ القائل بقيام طواف الوداع مقام طواف النساء في التحليل ينظر إلى نفس العمل ويعتبر التسمية أمراً طارئاً لا أثر له في الواقع الشرعي. فمن أدّى هذا العمل ترتّب عليه الأثر الشرعي سواء كان ذلك العمل اسمه طواف الوداع أم طواف النساء. وما دام المكلّف يقصد امتثال التكليف فإنّ الأثر الشرعي يترتّب وإن كان المكلّف قد اشتبه الحال عليه اجتهاداً أو تقليداً وتصوّر بأنّ ما جاء به مستحبّاً وكان في الحقيقة واجباً.

5- أمّا مسألة احتمال أن يكون المقصود به العامّة فهو احتمالصحيح جدّاً، لكنّه ينفع القائل بقيام طواف الوداع مقام طواف النساء، ولا ينفع من ينفي ذلك، فإنّ كلام الإمام عليه السلام في رواية إسحاق يجري مجرى الامتنان على العامّة بأنّ قيامهم بطواف الوداع ينفعهم في التحليل بحيث كأنّهم يأتون بطواف النساء وإن لم يقصدوه، بما يعني أنّ قصد الوجه ليس دخيلًا في أن يأخذ طواف الوداع اثر طواف النساء، فالمهمّ أن يأتي المكلّف في نهاية الحجّ بطواف، فإن أتى به نفعه في التحليل سواء كان بهذا الاسم أم بذاك، أو بلا اسم أصلًا، ولا خصوصية للعامّي في هذه

ص: 135

المسألة حينئذٍ، فكلام الإمام وإن كان موجّهاً نحو العامّة إلّاأنّ النتيجة المأخوذة منه أعمّ وهي احتياج المكلّف إلى طواف في آخر الحجّ تحلّ به النساء له، وأنّ العامي والإمامي يأتيان بهذا الطواف أحدهما يسمّيه طواف الوداع والثاني يسمّيه طواف النساء ولولا إتيان العامّي بذلك لما حلّت له النساء، كما أنّ العامّية المتزوّجة من إمامي ما كان يحلّ لها فراش زوجها لولا ما تأتي به من ذلك الطواف الذي تسمّيه بطواف الوداع. وتفسير رواية إسحاق بهذا الوجه يطابق القول بقيام طواف الوداع مقام طواف النساء، ومن الغريب أن يحملصاحب الدروس وصاحب الجواهر كلمة الناس فيها على العامّة، ثمّ يردّا القول بقيام طواف الوداع مقام طواف النساء.

6- وبذلك ينتفي التعارض بين رواية إسحاق وبين الروايات الاخرى الدالّة على أنّ من نسي طواف النساء لم تحلّ له النساء حتّى يأتي به أو يبعث من يؤدّيه نيابة عنه، فكأنّ العلّامة فهم التعارض بين الطرفين فرجّح روايات من نسي طواف النساء على رواية إسحاق باعتبار أنّها رواية واحدة من غير إمامي، وتلك روايات عديدة من مشاهير الإمامية فلا تصلح رواية إسحاق لمعارضتها.

وقد اتّضح الآن عدم وجود تعارض بينهما، ولا تحتاج إلى الترجيح، ضرورة أنّ الذي يتمّ به التحليل إنّما هو الطواف لا التسمية ولا قصد من يقصدها، فإذا جاء المكلّف به حلّت النساء للرجال والرجال للنساء وإن لم يأتِ به لم يحصل التحليل بغضّ النظر عن التسمية وعن قصد من يقصدها. وعلى هذا فروايات من نسي طواف النساء ليست معارضة لرواية إسحاق بن عمّار؛ لأنّ الجميع بقوّة أن يقول القائل: من نسي الطواف الذي تحلّ به النساء على الرجال... الخ وهذا العنوان ينطبق على كلّ طواف يؤتى به في آخر الحجّ مهما كانت تسميته فإن نسيه الحاج ولم يأتِ به وجب عليه العود والإتيان به أو أن يُنيب عنه من يأتي به.

7- وبذلك اتّضح عدم وجاهة ما ذهب إليهصاحب الحدائق من لزوم

ص: 136

التدارك حتّى على من أتى بطواف الوداع تقيّداً منه بروايات من نسي طواف النساء، وكأنّ الذي جاء بطواف الوداع قد نسي طواف النساء فوجب عليه التدارك وأنّ طواف الوداع قد نفعه في حلّيةالنساء فقط. ثمّ قال: ولا بعد في ذلك بعد قيام الدليل عليه وإن لم يكن مشهوراً عندهم، فكأنّصاحب الحدائق قد جمع بين الدليلين بهذه الصورة. وقد اتّضح أنّ الدليلين لا يحتاجان إلى الترجيح الذي ذهب إليه العلّامة ولا إلى الجمع الذي ذهب إليه البحراني، بل إنّهما بمثابة دليل واحد؛ لأنّ الفرق بين من يأتي بطواف الوداع ومن يأتي بطواف النساء فرق في التسمية فقط، والتسمية لا أثر موضوعي لها في البين، فروايات من نسي ناظرة إلى من نسي الطواف الذي يكون به تحليل النساء على الرجال وهذا العنوان يصدق على طواف الوداع، ومن يأتي به لا يكون ناسياً للطواف الذي يتمّ به التحلّل من حرمة النساء، فلا يكون مورداً لتلك الروايات، ولا يكون ملزماً بالعود ولا الاستنابة.

وجوب طواف النساء

استدل الشريف المرتضى في الانتصار على وجوبه ب «الإجماع المتردّد ولأنّه لا خلاف أنّ النبيّصلى الله عليه و آله فعله وقد روي عنه عليه السلام: خذوا عنّي مناسككم. وروي أيضاً عنه أنّه عليه السلام قال: من حجّ هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف وظاهر الأمر الوجوب» (1).

واستدلّ عليه الشيخ في الخلاف بإجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (2).

واستدلّ عليه العلّامة في المختلف بأنّ النبيّصلى الله عليه و آله فعله، ورواية منصور بن حازم عن الصادق عليه السلام: ثمّ قد حلّ له كلّ شي ء إلّاالنساء حتّى يطوف بالبيت طوافاً آخر


1- 1 الانتصار: 256. ط جماعة المدرّسين.
2- 2 الخلاف 2: 198. ط جماعة المدرّسين.

ص: 137

ثمّ قد حلَّ له النساء، وبالإجماع (1).

واستدلّ على وجوبه في التذكرة بما رواه العامّة عن عائشة قالت: فطاف الذين أهلّوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثمّ حلّوا ثمّ طافوا طوافاً آخر، ومن طريق الخاصّة قول الرضا عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ قال: هو طواف النساء (2).

والخلاصة أنّ وجوبه ممّا لا ينبغي الشكّ فيه ولا طريق للوسوسة إليه؛ لاستفاضة الأخبار عن الأئمّة عليهم السلام فيه وقيام الإجماع عليه، إنّما يقع البحث في تفاصيل وجوبه في كونه واجباً في نفسه أم لأجل تحليل النساء؟ وهل نسيانه مبطل للحجّ أم لا؟ وهل تلزم الكفّارة بتركه أم لا؟ وهل وجوبه خاصّ بمن له إربة في النساء أم عام يشمل غيره؟ وهل يجب في كلّ حجّ وعمرة أم لا؟ وهل تحريم النساء بنسيان الطواف يشمل العقد عليهن أم لا؟ وما حكم المواقعة قبل طواف النساء؟

وأمثال هذه الجهات التي ترتبط بوجوب طواف النساء وتستحقّ البحث والدراسة.

نوع الوجوب في طواف النساء

إنّ كلّ أمر يطلب الإتيان به من قبل الشارع في عبادة من العبادات لابدّ وأن يكون على واحدة من عدّة مراتب:

1- أن يكون ركناً في تلك العبادة، بمعنى أنّ الإخلال به سهواً أو عمداً يبطل تلك العبادة فيحتاج المكلّف إلى إعادتها من جديد.

2- أن يكون واجباً غيريّاً لا يقصد به لنفسه وإنّما يقصد به التوصّل إلى غرض آخر مترتّب عليه.


1- 1 المختلف 4: 301. ط جماعة المدرّسين.
2- 2 التذكرة 8: 353.

ص: 138

3- أن يكون واجباً نفسياً يقصد به لنفسه.

4- أن يكون واجباً غيريّاً من جهة ونفسيّاً من جهة اخرى.

5- أن يكون واجباً تترتّب على تركه الكفّارة.

وفي ضوء ذلك نتساءل عن رتبة طواف النساء ضمن هذه المراتب.

أمّا الرتبة الاولى فقد اتّفقت كلمات الأعلام على نفيها عن طواف النساء، قال الشهيد الأوّل في الدروس: «كلّ طواف واجب ركن إلّاطواف النساء» ثمّ قال: «لا يبطل تعمّد ترك طواف النساء، ويجب الإتيان به ولو كان تركه نسياناً» (1).

وأيّده السيّد العاملي في المدارك (2) والمحقّق البحراني في الحدائق (3) والشهيد الثاني في المسالك (4) وادّعى الإجماع عليه. وقال الشيخ النجفي في الجواهر: «هو غير ركن فلا يبطل النسك بترك هيئته من غير خلاف كما عن السرائر لخروجه عن حقيقة الحجّ، قال الصادق عليه السلام في حجّ الحلبي: وعليه- يعني المفرد- طواف بالبيت وصلاة ركعتين خلف المقام وسعي واحد بين الصفا والمروة وطواف بالبيت بعد الحج» (5) فإنّ تعبيره عن طواف النساء بأنّه طواف بعد الحجّصريح في كونه خارجاً عن حقيقة الحجّ.

والاحتمال الثاني هو المتبادر من النصوص ومن كلمات الفقهاء، ففي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام: في رجل نسي طواف النساء حتّى أتى الكوفة؟ قال: لا تحلّ له النساء حتّى يطوف بالبيت، قلت: فإن لم يقدر؟ قال: يأمر


1- 1 الدروس 1: 403- 404، ط جماعة المدرّسين.
2- 2 المدارك 8: 173، ط مؤسسة آل البيت.
3- 3 الحدائق الناضرة 16: 157، ط جماعة المدرّسين.
4- 4 مسالك الافهام 2: 348، مؤسسة المعارف الإسلامية.
5- 5 جواهر الكلام 18: 372، دار الكتب الإسلامية.

ص: 139

من يطوف عنه (1). وفتاوى الفقهاء على ذلك، قال الشيخ في النهاية: «ومن ترك طواف النساء متعمّداً لم يبطل حجّه إلّاأنّه لا تحلّ له النساء حتى يطوف» (2) وعادة ما يعدّ الفقهاء طواف النساء التحليل الثالث في الحجّ (3).

ولذاصرّح السيّد الخوئي بأنّ وجوب طواف النساء «لأجل تحلة النساء ولو كان جزءاً للحجّ وجب عليه الإتيان به حلّت به النساء أم لا، فيعلم أنّه لا مانع من حيث الحكم الوضعي من الرجوع إلى البلد بدون طواف النساء إلّامن حيث حلّية النساء، فكأنّه فرض لهم جواز الرجوع اختياراً ولكن لا تحلّ لهم النساء، والحاصل طواف النساء وإن كان يجب الإتيان به ولا يجوز تركه بالمرّة، ولكن يظهر من الرواية أنّ وجوبه ليس بملاك وجوب الإتيان بأعمال الحجّ وأجزائه بل لأجل تحلّة النساء» (4).

ولكن مع ذلك كلّه يصعب القطع بهذه النتيجة لوجود ما ينافيها، وأبرز ما ينافيها الروايات الدالّة على لزوم قضاء الولد عن أبيه إن فاته طواف النساء، فإنّ أصل هذا الحكم يناسب الواجب النفسي، كما أنّ التعبير عنه بالقضاء يؤكّده؛ لأنّ القضاء يكون في واجبات نفسية كالصوم والصلاة وأصل الحجّ والكفّارات ونحو ذلك.

ففيصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام ورد قوله عليه السلام: فإن هو مات فليقض عنه وليّه أو غيره، فأمّا ما دام حيّاً فلا يصلح أن يقضى عنه (5).


1- 1 وسائل الشيعة، أبواب الطواف، باب 58، ح 4، ج 13: 406، انظر الحديث الثاني والسادس من الباب ط دارالأندلس- بيروت.
2- 2 النهاية: 272.
3- 3 الخلاف 2: 328 ط دار الأندلس.
4- 4 المعتمد 2: 358.
5- 5 وسائل الشيعة 13: 406. ط آل البيت.

ص: 140

وفي رواية اخرى: فإن توفّي قبل أن يطاف عنه فليطف عنه وليّه (1)، وفي رواية ثالثة: يأمر أن يقضى عنه إن لم يحجّ، فإن توفّي قبل أن يطاف عنه فليقض عنه وليّه أو غيره (2)، وفي رابعة: يأمر من يقضي عنه إن لم يحجّ (3).

فلو كان طواف النساء بملاك تحلة النساء فقط، فلا معنى لأن يقوم الولي به بعد وفاة أبيه، ولا معنى أن يسمّى عمل الولي بأنّه قضاء عن أبيه، ولو كان الرجوع اختياراً إلى البلد بلا طواف للنساء جائزاً في نفسه، فما الذي يقضيه الولد عن أبيه بعد وفاته؟

إنّ القضاء يحكي عن ذمّة مشغولة بتكليف متروك، وهذا ما يجعلنا نؤمن بأنّ طواف النساء وإن لم يكن ركناً في الحجّ ولا جزءاً من أجزائه، إلّاأنّه واجب لابدّ من الإتيان به بعد الحجّ فإن تركه عمداً أو سهواً بقيت ذمّته مشغولة به في حياته وبعد مماته، واستمرّ حكم تحريم النساء عليه، ولا تبرأ ذمّته ولا ينقطع تحريم النساء عليه إلّابالعود ثانياً إلى مكّة وتدارك ما فاته من طواف النساء أو إنابة شخص محلّه، وفي حال الوفاة تبرأ ذمّته بقضاء وليّه عنه.

وهذا المعنى يتناسب مع الاحتمال الرابع وهو أن يكون طواف النساء واجباً نفسيّاً وغيريّاً في آن واحد.

بقي الاحتمال الخامس وهو أن تترتّب الكفّارة عى تركه فقد ورد ذلك في رواية لعمّار الساباطي عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن الرجل نسي أن يطوف طواف النساء حتّى رجع إلى أهله قال: عليه بدنة ينحرها بين الصفا والمروة» (4).


1- 1 المصدر نفسه: 407.
2- 2 المصدر نفسه: 408.
3- 3 المصدر نفسه: 408.
4- 4 وسائل الشيعة 13: 407، ط آل البيت.

ص: 141

إلّا أنّ الشهيد في الدروس حملها على من واقع بعد الذكر (1)، وحملها السبزواري في الذخيرة على الاستحباب (2)، وحملها البحراني على المواقعة مطلقاً أو مع الذكر (3).

ثمّ يقول في موضع لاحق: «ما تضمّنته موثّقة عمّار من وجوب البدنة على من نسي طواف النساء حتّى يرجع إلى أهله لم أرَ به قائلًا ولا عنه مجيباً ولعلّه من جملة غرائب أحاديث عمار، فإنّ الأخبار المعتضدة فاتّفاق كلمة الأصحاب دالّة على أنّ الحكم في ذلك الرجوع أو الاستنابة مع ما تقدّم في جملة من الأخبار أنّه لا كفّارة على الناسي والجاهل إلّافي الصيد خاصّة» (4).

ومهما يكن من حال فإنّها رواية واحدة شاذّة ومن تراث الفطحية فلا يمكن الاعتماد عليها.

من يجب عليه طواف النساء

لا يختصّ طواف النساء بمكلّف دون آخر، بل يجب الإتيان به على الجميع؛ النساء والرجال والكبار والصغار، ولا يختصّ بمن له إربة في النساء. وفي ذلك روايةصريحة رواها الحسين بن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخصيان والمرأة الكبيرة أعليهم طواف النساء؟ قال: نعم عليهم الطواف كلّهم (5).

قال الشيخ في النهاية: «وطواف النساء فريضة على النساء والرجال والشيوخ والخصيان لا يجوز لهم تركه على حال» (6).


1- 1 الدروس 1: 464.
2- 2 ذخيرة العاد.
3- 3 الحدائق الناضرة 16: 182.
4- 4 الحدائق الناضرة 17: 291.
5- 5 وسائل الشيعة 13: 298، ط آل البيت.
6- 6 النهاية: 265.

ص: 142

وقال العلّامة في التذكرة: «طواف النساء واجب عند علمائنا أجمع على الرجال والنساء والخصيان من البالغين وغيرهم..» (1). وعلى ذلكصاحب الجواهر في جواهره (2).

وهذا الحكم يشهد للقول بأنّ طواف النساء واجب في نفسه إضافة إلى كونه شرطاً في التحلّل من تحريم النساء في الحجّ.

مواطن وجوب طواف النساء

اتّفقت كلمة أكثر الفقهاء على وجوب طواف النساء في الحجّ بأقسامه والعمرة المبتولة؛ دون العمرة التي يتمتّع بها إلى الحجّ.

قال الشيخ في النهاية: «واعلم أنّ طواف النساء فريضة في الحجّ وفي العمرة المبتولة وليس بواجب في العمرة التي يتمتّع بها إلى الحجّ..» (3)، ثمّ قال: «والطواف بالبيت إن كان متمتّعاً ثلاثة أطواف طواف للعمرة وطواف للزيارة وطواف للنساء وإن كان قارناً أو مفرداً طواف للحجّ وطواف للنساء» (4). وهكذا قال العلّامة في قواعد الأحكام (5).

وقال في التذكرة: «ليس في إحرام عمرة التمتّع طواف النساء بل في إحرام العمرة المبتولة؛ لأنّ أبا القاسم مخلد بن موسى الراي كتب إلى الرجل يسأل عن العمرة المبتولة هل علىصاحبها طواف النساء؟ وعن العمرة التي يتمتّع بها إلى


1- 1 تذكرة الفقهاء 8: 353، ط جماعة المدرّسين.
2- 2 جواهر الكلام 19: 260، 410.
3- 3 النهاية: 265.
4- 4 النهاية: 271.
5- 5 قواعد الأحكام 1: 429، ط جماعة المدرّسين.

ص: 143

الحجّ، فكتب: أمّا العمرة المبتولة فعلىصاحبها طواف النساء، وأمّا التي يتمتّع بها إلى الحجّ فليس علىصاحبها طواف النساء» (1).

ثمّ قال: «وهذا الطواف واجب في الحجّ والعمرة المبتولة عند علمائنا أجمع؛ لأنّ إسماعيل بن رباح سأل أبا الحسن عليه السلام: عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟

قال: نعم» (2).

وهناك من خالف في طواف النساء في كلا العمرتين فأوجبه في التمتّع بها، ونفى الوجوب في المبتولة، ففي مدارك السيّد العاملي أنّ الروايات التي استدلّ بها على وجوب طواف النساء في العمرة المفردة «كلّها قاصرة من حيث السند، وبإزائها أخبار اخر دالّة بظاهرها عى سقوط طواف النساء في العمرة المفردة كصحيحة معاوية بن عمّار... وصحيحةصفوان بن يحيى... ورواية أبي خالد مولى علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟ قال: ليس عليه طواف النساء، ورواية يونس رواه قال: ليس طواف النساء إلّاعلى الحاجّ.

وحكى الشهيد في الدروس عن الجعفي الافتاء بمضمون هذه الروايات، وهو غير بعيد لاعتبار سند بعضها وضعف معارضها ومطابقتها لمقتضى الأصل، إلّاأنّ المصير إلى ما عليه أكثر الأصحاب أولى وأحوط» (3).

وقال في عمرة التمتّع: «وحكى الشهيد في الدروس عن بعض الأصحاب أنّ في المتمتّع بها طواف النساء كالمفردة، وربما كان مستنده رواية سليمان بن حفص المروزي عن الفقيه عليه السلام قال: إذا حجّ الرجل فدخل مكّة متمتّعاً فطاف بالبيت وصلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة وقصر فقد حلّ له كلّ شي ء ما خلا النساء فإنّ عليه لتحلة النساء طوافاً وصلاة»، وهذه الرواية ضعيفة السند بجهالة الراوي.


1- 1 تذكرة الفقهاء 8: 151.
2- 2 المصدر نفسه: 353.
3- 3 مدارك الأحكام 8: 197- 198.

ص: 144

وقال الشيخ في التهذيب: ليس في هذا الخبر أنّ الطواف والسعي اللذين ليس له الوطء بعدهما إلّابعد طواف النساء أهما للعمرة أو للحجّ وإذا لم يكن في الخبر ذلك حملناه على من طاف وسعى للحجّ، وبالجملة فالخلاف في هذه المسألة غير متحقّق لعدم ظهور قائله ولو تحقّق لكان معلوم البطلان» (1).

وردّصاحب الجواهر الروايات التي استدلّ بهاصاحب المدارك على عدم وجوب طواف النساء في العمرة المفردة المسمّاة بالمبتولة، بين مناقشة في سند ومتن، ثمّ قال: «فمن الغريب ميل بعض متأخّري المتأخِّرين إلى العمل بهذه النصوص القاصرة عن معارضة غيرها من وجوه، وترك المعتبرة الأولى التي عليها العمل قديماً وحديثاً المعتضدة مع ذلك بأصالة بقاء حرمة النساء» (2).

ما يحرم بسبب ترك طواف النساء

وقع البحث بين الفقهاء في أنّ ما يحرم بترك طواف النساء هل هو خصوص الجماع أم يعمّ سائر الاستمتاعات والمقدّمات كالعقد أيضاً؟

ذهب العلّامة في القواعد إلى أنّ التحريم يختصّ بالوطء دون العقد (3)، وأضاف الفاضل الهندي في كشف اللثام ما بحكم الوطء كالتقبيل والنظر واللمس، ثمّ احتمل قويّاً حرمة العقد أيضاً (4).

وقال المحقّق الكركي بأنّ «الأصحّ تحريم العقد أيضاً وكلّما حرّمه الإحرام ممّا يتعلّق بالنساء عملًا بالاستصحاب» (5)، ومالصاحب الجواهر إلى ذلك أيضاً (6).


1- 1 المصدر نفسه: 199.
2- 2 الجواهر 19: 407.
3- 3 قواعد الأحكام 1: 445، ط جماعة المدرّسين.
4- 4 كشف اللثام 6: 229، ط جماعة المدرّسين.
5- 5 جامع المقاصد 3: 260.
6- 6 جواهر الكلام 19: 262، 390.

ص: 145

وناقش السيّد الخوئي في ذلك كلّه، فقال: «أمّا بالنسبة إلى العقد فلا ينبغي الريب في الجواز؛ لأنّ المتفاهم من النساء هو الاستمتاعات منهنّ فالظاهر جواز العقد له بعد الحلق، ودعوى أنّ مقتضى الاستصحاب حرمة العقد أيضاً؛ لأنّه قد حرم بالإحرام ونشكّ في زواله بعد طواف الحجّ وقبل طواف النساء والأصل بقاؤه، مدفوعة: أوّلًا بأنّه من الاستصحاب في الأحكام الكلّية ولا نقول به كما حقّق في محلّه، وثانياً: بأنّه يكفي في رفع اليد عن ذلكصحيحة الفضلاء لقوله: إلّا فراش زوجها، فإنّه يدلّ على أنّه لو طاف طواف الحجّ وسعى يحلّ له كلّ شي ء إلّا فراش زوجها المراد به الوطء خاصّة، ولا شكّ أنّ فراش زوجها لا يشمل العقد ولا الاشهاد عليه قطعاً، وسيأتي أنّ حليّة العقد بل الاستمتاعات لا تتوقّف على طواف الحجّ وسعيه. وأمّا بالنسبة إلى بقيّة الاستمتاعات كالتقبيل واللمس بشهوة فلا ريب في شمول النساء لذلك، ولكن هذه الصحيحة كالصريحة في أنّ المحرّم هو الجماع خاصّة دون بقيّة الاستمتاعات، فإنّ المراد بفراش زوجها كناية عن المقاربة فإنّها تحتاج إلى الفراش، وأمّا بقيّة الاستمتاعات من التقبيل واللمس فلا تحتاج إلى الفراش.

ولا شك أنّ مجرّد النوم على فراش زوجها غير محرم عليها حتّى في حال الإحرام، فالمراد بفراش زوجها هو الوطء خاصّة» (1)، ثمّ قال: «إنّ المستفاد من النصوص أنّه لو لم يأت بطواف النساء حرم عليه من النساء خصوص الجماع، وأمّا بقيّة الاستمتاعات فتحل له، وأمّا بالنسبة إلى ما بعد الحلق أو التقصير فمقتضى إطلاق النساء حرمة بقيّة الاستمتاعات ولكن مقتضىصحيح الحلبي جواز الاستمتاعات بعد الحلق وبقاء حرمة الجماع خاصّة، فقد روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام


1- 1 المعتمد في شرح المناسك: 29، من موسوعة السيّد الخوئي: 356- 357.

ص: 146

قال: سألته عن رجل نسي أن يزور البيت حتّى أصبح، فقال: ربما أخّرته حتّى تذهب أيّام التشريق ولكن لا تقربوا النساء والطيب، فإنّ الظاهر من قرب النساء هو الجماع كما في قوله تعالى: ولا تقربوهنّ حتّى يطهرن فيعلم أنّ الممنوع بعد الحلق إنّما هو الجماع والطيب، وأمّا بقيّة المحرّمات فتحلّ بعد الحلق حتّى العقد عليهن والاستمتاع بهنّ» (1).

كفّارة الجماع قبل طواف النساء

أجمع الفقهاء علىصحّة حجّ من جامع بعد الوقوف بالمشعر قبل أن يطوف طواف النساء.

قال السيّد العاملي في المدارك: «إنّ من جامع زوجته بعد الوقوف بالمشعر قبل طواف النساء كان حجّهصحيحاً وعليه بدنة لا غير. وهو مجمع عليه بين الأصحاب، حكاه في المنتهى، ويدلّ على سقوط القضاء مضافاً إلى الأصل مفهوم قول الصادق عليه السلام فيصحيحة معاوية: إذا وقع الرجل بامرأته دون المزدلفة أو قبل أن يأتي مزدلفة فعليه الحجّ من قابل، ويدلّ على وجوب البدنة روايات: منها ما رواه الشيخ الحسن عن معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل وقع على امرأته قبل أن يطوف طواف النساء قال: عليه جزور سمينة وإن كان جاهلًا فليس عليه شي ء» (2).

واستدلّصاحب الحدائق على المسألة بالصحيح المروي عن الصادق عليه السلام أنّ سلمة بن محرز قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل وقع على أهله قبل أن يطوف طواف النساء، قال: ليس عليه شي ء، فخرجت إلى أصحابنا فأخبرتهم فقالوا:

اتقاك هذا ميسر قد سأله عن مثل ما سألت فقال له عليك بدنة، قال: فدخلت عليه، فقلت: جعلت فداك انّي أخبرت أصحابنا بما أجبتني فقالوا: اتقاك هذا


1- 1 المصدر نفسه: 359- 360.
2- 2 المدارك 8: 413- 414.

ص: 147

ميسر قد سأله عمّا سألت فقال له: عليك بدنة، فقال: إنّ ذلك كان بلغه فهل بلغك؟

قلت: لا، قال: ليس عليك شي ء» (1).

ثمّ قال عن الكفّارة: «إنّ الأصحاب (رض) قدصرّحوا بأنّه مع العجز عن البدنة فبقرة أو شاة وبعض رتّب الشاة على البقرة فأوجب البقرة أوّلًا ثمّ الشاة مع تعذّرها.

قال في المدارك بعد نقل ذلك: إنّه قد اعترف جملة من الأصحاب بعدم الوقوف على مستنده، والظاهر أنّه أشار بذلك إلى ما ذكره جدّه 0 في المسالك والروضة حيث قال... الخ.

أقول: لا ريب أنّ مستند الأصحاب في الحكم المذكور هو ما رواه الصدوق في الفقيه عن خالد بياع القلانس قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء قال: عليه بدنة، ثمّ جاءه آخر فسأله عنها فقال: عليه بقرة، ثمّ جاءه آخر فسأله عنها فقال: عليه شاة، فقلت بعدما قاموا: أصلحك اللَّه كيف قلت عليه بدنة؟ فقال: أنت موسر وعليك بدنة وعلى الوسط بقرة وعلى الفقير شاة» (2).

وقت طواف النساء

يجب إيقاع طواف النساء بعد أعمال منى وبعد السعي، ولا يجوز تقديمه على السعي ولا على أعمال منى إلّامع الضرورة.

قال الشيخ في النهاية: «وأمّا طواف النساء فإنّه لا يجوز إلّابعد الرجوع من منى مع الاختيار، فإن كان هناك ضرورة تمنعه من الرجوع إلى مكّة أو امرأة تخاف الحيض جاز لهما تقديم طواف النساء ثمّ يأتيان الموقفين ومنى... ولا يجوز تقديم


1- 1 الحدائق 15: 376.
2- 2 الحدائق 15: 378- 379.

ص: 148

طواف النساء على السعي فمن قدّمه عليه كان عليه إعادة طواف النساء وإن قدّمه ناسياً أو ساهياً لم يكن عليه شي ء وقد أجزأه» (1).

وعلّق السيّد العاملي في المدارك بقوله: «أمّا انّه لا يجوز تقديم طواف النساء على السعي لمتمتّع ولا لغيره مع الاختيار فهو مذهب الأصحاب لا أعرف فيه مخالفاً، ويدلّ عليه الأخبار الكثيرة المتضمّنة لوجوب تأخيره عن السعي...

ويؤيّده رواية أحمد بن محمّد عمّن ذكره قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام: جعلت فداك متمتّع زار البيت فطاف طواف الحجّ ثمّ طاف طواف النساء ثمّ سعى فقال: لا يكون سعي إلّامن قبل طواف النساء، وأمّا جواز تقديمه على السعي مع الضرورة والخوف من الحيض فمقطوع به في كلام الأصحاب ولم أقف فيه على نصّ بالخصوص، وربّما أمكن الاستدلال عليه مضافاً إلى الحرج والمشقّة اللازمين من إيجاب تأخيره مع الضرورة..» (2).

وادّعىصاحب الجواهر الإجماع على عدم جواز التقديم اختياراً، ووافقصاحب المدارك فيما قاله عن جواز التقديم في حال الضرورة إلّاأنّه استدرك قائلًا:

«ولكن مع ذلك كلّه لا ينبغي ترك الاحتياط في ذلك ولو بالاستنابة؛ لأنّه يحتمل عدم الجواز لأصول عدم الإجزاء مع مخالفة الترتيب وبقائه في الذمّة وبقائهنّ على الحرمة مع ضعف الخبر واندفاع الحرج بالاستنابة وسكوت أكثر الأصحاب على ما في كشف اللثام، وقد سمعت ما عن ابن إدريس من منع تقدّمه على الموقفين. واللَّه العالم» (3).

موقف رسالي من أسرى بدر، وبني قريظة


1- 1 النهاية: 241.
2- 2 المدارك 8: 190- 191.
3- 3 الجواهر 19: 398.

ص: 149

موقف رسالي من أسرى بدر، وبني قريظة

يوسف مبارك

أسرى بدر:

قبل أن نتحدّث حول المحور الأوّل، لابدّ لنا من إلقاء نظرة ولو خاطفة على المعاملة القاسية التي راحت قريش تعامل بها من آمن برسول اللَّهصلى الله عليه و آله ودعوته في مكّة، هذه المعاملة كانت سبباً مباشراً لاستحكام العداء بين هؤلاء المستضعفين الذين كلّ ذنبهم وجريمتهم في نظر مشركي مكّة أنّهم كانوا يشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وآمنوا بما جاء به محمّد بن عبداللَّه لا غير، بين هؤلاء وقريش استحكم العداء وأنتج آلاماً ومصائب حلّت بهذا الجمع المؤمن الذي ما استطاع أن يعيش في مكّة بأدنى مراتب العيش وأقلّها، فاضطرّ أخيراً إلى أن:

(1) يهاجر جمع منهم بعقيدته إلى بلد آخر (الحبشة) تاركاً بلده وقومه وماله وكلّ شي ء لقريش، بعد أن أذن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لهم بالهجرة.

(2) فيما هاجر بعد ذلك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وجمع آخر إلى المدينة تاركاً وطنه مكّة التي أحبّها قائلًا:

ص: 150

«ما أطيبك من بلدة وأحبّك إليّ! لولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت (1). وفي رواية ما سكنت غيرك».

(3) ثمّ جاءت هجرة من تخلّف من المسلمين في مكّة، فهاجر هذا القسم إلى المدينة ملتحقاً برسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتاركاً كلّ ما يملكه قليلًا كان أو كثيراً غنيمةً لمشركي قريش حتّى يسمحوا له بالهجرة.

فهذاصهيب وهو شيخ كان واحداً من هؤلاء المعذَّبين المهاجرين، حينما همَّ بالخروج من مكّة منعه المشركون، فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم أو لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم يضرّكم أو لم أضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

إنّ أكثر من هاجر كان معذَّباً من قبل قريش، ولم تكتفِ قريش بهذا فتتركهم وشأنهم، بل راحت تجرّدهم من جميع أموالهم وما يملكون، فيماصادرت أموال الآخرين ممّن كانوا من أشراف قريش ومن ساداتها الذين آمنوا برسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهاجروا معه.. وعندئذ تميّزت أكثر دائرةُ العداء بل واستفحل أمره بين المسلمين والمشركين، حيث لم ينته هؤلاء الطغاة من ملاحقة أولئك المؤمنين حتى بعد هجرتهم، وبعد استيلائهم على ما عندهم من أموالٍ في مكّة، وحتّى بعد أن ابتعدوا عن المجتمع المكّي... وراحت جذور هذا العداء تمتدّ في العلاقة بينهما حتّى بعد فتح مكّة وإن هدأت شيئاً قليلًا.

لقد راح كلّ واحد من الطرفين يترصّد بالآخر، المسلمون بقيت مشاعرهم مشدودة إلى بلدهم وعيونهم مفتوحةً على أموالهم التي استحلّها أعداؤهم المشركون في مكّة، وكانوا ينتظرون فرصةً تمنّ بها السماء عليهم لإعادتها، وهذا أمر طبيعي لا يختلف فيه اثنان.


1- 1 بحار الأنوار للعلّامة المجلسي 57: 229، روايات عدّة بألفاظ متقاربة.

ص: 151

فيما راح المشركون يعدّون أنفسهم بمواصلة وملاحقة المسلمين خاصّة المهاجرين وإن فرّوا بأنفسهم وتركوا أموالهم لاستئصالهم.. خوفاً من أن تقوى شوكتهم وينتشر أمرهم، ويذيع بين قبائل العربصيتهم، فتدور الدائرة على قريش وسلطانها..

كانت لقريش رحلتان تجاريتان لِإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ... (1).

وكانت هاتان الرحلتان تشكِّلان العصب التجاري والاقتصادي المهمّ في حياتها بما تدرّان عليها من نعمٍ عظيمة ومالٍ وفير.

التفت المسلمون لذلك ورأوا أنّ فرصتهم آتية، وأنّ مسير قوافل قريش قريب منهم، وبالتالي إذا تمكّنوا منها فإنّهم يحصلون عوضاً عمّا ضيّعوه وتركوه في مكّة من أموالهم.. ويثأرون لأنفسهم، ويشفونصدورهم من مشركي قريش الذين أذاقوهم العذاب تلو الآخر، خاصّة وأنّ هذه القوافل هي لزعماء قريش وكبرائها لا لعوام الناس وسوادهم.

في خريف السنة الثانية للهجرة وردت أخبار إلى المدينة مفادها أنّ قريشاً خرجت قافلتها إلى الشام وعلى رأسها أبو سفيان مع ثلاثين أو أربعين رجلًا، وبما أنّهم محارِبون للَّه ولرسوله، راح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وجمع من الصحابة يترصّدون أخبار عودتها من الشام وهي محمّلة، فقطعوا عليها طريق عودتها إلى مكّة، وكانت أهداف المسلمين من هذا العمل ويصحّ أن تكون أسباباً له:

أوّلًا: تنفيذ ما ندبهم إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حيث قال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلّ اللَّه يُنفلكموها».

ثانياً: أخذ ما تحمله من أموالٍ عوضاً عمّا تركوه في مكّة واستحوذ


1- 1 سورة قريش: 1- 2.

ص: 152

عليه المشركون.

ثالثاً: إعلام المشركين بأنّهم لا يستطيعون أن يجنوا شيئاً من مؤامراتهم ومواقفهم الشريرة ضدّ المسلمين.

رابعاً: لعلّ قريشاً توقف اضطهادها لمن بقي من المسلمين في مكّة من الذين لم يستطيعوا مغادرتها بسبب تضييقها عليهم وتعسّفها في معاملتهم.

خامساً: تنبيه قريش أنّ تجارتها مع الشام في خطر ولاسيّما هي عصب حياتها، وتهديدها اقتصادياً، وهو ما أربكها وخلق الاضطراب فيصفوفها.

لم يكتف أبو سفيان زعيم القافلة- بعد أن علم بترصّد المسلمين للقافلة- بأن يغيّر طريقها إلى موازاة البحر، بل بعث إلى مكّة من يخبر قريشاً بخطّة المسلمين وبما يناله من خطر إن لم يسعفوه بمددٍ.

وما إن سمع المشركون وبالذات كبراؤهم بالتهديد الذي يشكّله المسلمون على القافلة حتّى هبّوا بتسعمائة أو ألف مقاتل أو يزيدوا ليدافعوا عن أموالهم. وإذ هم في مسيرهم أقبل مخبر آخر من أبي سفيان يبشِّرهم بأنّ القافلة قد نجت وليس هناك خوف عليها بعد أن غيّر مسيرها.

إلّا أنّ أبا جهل وكثيراً من مشركي قريش رفضوا العودة إلى مكّة مصرّين على أن يواصلوا مسيرتهم نحو المدينة؛ لتلقين المسلمين درساً بليغاً يجعلهم لا يعيدون ما فعلوا مرّةً اخرى أو يحسبون له ألف حساب.

وهنا وردت الأخبار إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ القافلة نجت، وأنّ المشركين لم يقنعوا بذلك ويكتفوا بنجاة قافلتهم، فيعودوا من حيث أتوا بل قرّروا التوجّه نحو المدينة وتهديدها.

لقد خرجت قريش بعددها وعدّتها، بخُيلائها وفخرها، وكان الحقد يملأ قلوبهم- إلّاقليلًا منهم- على المهاجرين، انبعث هذا الجمع الحاقد من قريش بكامل رغبتهم، أي لم يكونوا مقاتلين عاديّين مكرهين، بل كانوا مخطّطين لهذه

ص: 153

المعركة ومؤجِّجين لها، وكان همّهم الأوّل أن ينتقموا من أبناء قومهم الذين فارقوهم، فحينما تقابل الجيشان في المعركة خرج عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن ربيعة، طالبين المبارزة، فخرج لهم فتية من الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبداللَّه بن رواحة، ولمّا أبصرهم عتبة قال: لا شأن لنا معكم، أو ما لنا بكم من حاجة، وحينما انتسبوا قال لهم: أكفّاء كرام، إنّما نريد قومنا، فليخرج لنا من بني قومنا، أي من المهاجرين؛ ليصبّوا عليهم غضبهم وحقدهم ويشفوا قلوبهم.

فخرج إليهم عندئذ ثلاثة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطّلب وعليّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، فقتلوا عتبة و من كان معه بعد مبارزة شرسة قاسية.

أمّا القليل من جيش المشركين فكانوا من المغلوبين على أمرهم ولهم فضل على المسلمين حينما كانوا في مكّة، فأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أصحابه أن لا يقتلوهم وأمرهم بأسرهم، ومن هؤلاء بنو هاشم وكان العبّاس أحدهم وهو الذي تحمّل ألم مقاطعة قريش لبني هاشم في الشعب ثلاث سنوات، وطالما وقفوا ضدّ المشركين مدافعين عن المؤمنين.

ومنهم أبو البختري بن هشام الذي كان له الفضل في إنهاء المقاطعة تلك، وتوجّه إلى البيت لشقّ الصحيفة التي أكلتها الأرضة ولم يبقَ منها إلّالفظ (باسمك اللّهم)، إلّاأنّ هذا الرجل لم يسمح للمسلمين بأسره وأصرّ على القتال حتّى قتل.

فكانت بدر، وكان النصر حليف المسلمين، والخزي والعار لأعدائهم، وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون آخرون كان منهم عشرون من كبراء قريش وقادتها.

ونحن هنا نكتفي بإلقاء الضوء على واحدة من نتائج هذه المعركة، وهم الأسرى وكيف كان الموقف الإسلامي منهم، وكيف تمّ التعامل معهم.

ص: 154

الموقف من أسرى بدر

كان الموقف من هؤلاء الأسرى يتمحور حول أمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: موقف الصحابة.

الأمر الثاني: موقف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

الأمر الثالث: موقف القرآن الكريم.

وهذا الموقف له شكلان:

الأوّل: الأسر وحكم الأسرى ، الآيات (67- 69) الأنفال.

الثاني: بعث الأمل في نفوس الأسرى ... (70- 71) الأنفال.

موقف الصحابة:

حتى نهاية معركة بدر، لم ينزل شي ء أو حكم من السماء بخصوص الأسرى، وإن كان هناك خبر بحلية الفداء (1) فما كان من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- بعد غياب مثل ذلك الحكم- إلّاأن يستشير أصحابه ويسمع لهم في مصير السبعين أسيراً.

فبعد أن عاد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من بدر إلى المدينة، التفّ حوله في المسجد كبارصحابته، وطرح موضوع أسرى بدر وكيفية التعامل معهم، وإلى الآن لم ينزل بشأن الأسرى شي ء من السماء أيضاً، فراح كلّصحابي يدلي برأيه فيهم:

فريق من الصحابة كان رأيه أن يبادوا جميعاً وكان منهم عمر بن الخطّاب حيث قال:

يارسول اللَّه.. كذّبوك وأخرجوك، قدّمهم واضرب أعناقهم. حتّى قال قائل: لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم.


1- 1 انظر السيرة الحلبية 2: 192.

ص: 155

فيما قال عبداللَّه بن رواحة الأنصاري أشدّ من قول عمر وإن كان ينتهي إلى النتيجة نفسها وهو قتلهم:

«يارسول اللَّه.. انظر وادياً من حطب فأدخلهم فيه ثمّ أضرمه عليهم ناراً».

فسمع العبّاس بن عبد المطّلب وكان واحداً من الأسرى قول الأنصاري هذا، فقال له: قطعتك رحمك.

فيما رأى أبو بكر و فريق معه الرأفة بهم والتأنّي في شأنهم، فقال: يا رسول اللَّه.. قومك وأهلك، استبقهم واستأن بهم، لعلّ اللَّه أن يتوب عليهم (1).

موقف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

كان لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله موقفان من هؤلاء الأسرى :

الأوّل: كان يتمثل في رعايتهم، حيث إنّ من أهمّ الامور التي يجب توفيرها للأسير هو أن تحترم إنسانيّته وأن يؤمّن له أكله وملبسه، وأمّا سكناه فلابدّ من أن يوضع في مكان يأمن به ويؤمن عليه أي في مكان يتعذّر معه الهرب.

وهذا ما أمّنه الرسولصلى الله عليه و آله للأسير، وبما أنّه لم يكن هناك مكان خاص يجمع به الأسرى، ولأنّهم كانوا قلّة، ولم تكن الحروب يومذاك طويلة بحيث تستدعي الإبقاء على الأسرى مدّة الحرب وزيادة، لهذا نرى أنّهم وزّعوا بأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على الصحابة، فكلّصحابي يتكفّل بأسير منهم، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله يوصي بهم خيراً.

فهذا أحد أسرى معركة بدر وهو أبو عزيز بن عمير وكان أخاً لمصعب بن عمير، يقول: كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا كلّما قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز وأكلوا التمر لوصيّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إيّاهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلّانفحني بها، وكنت أستحي فأردّها على


1- 1 انظر أسباب النزول للواقدي: 242- 245.

ص: 156

أحدهما فيردّها عليَّ ما يمسّها (1).

وعندما وقع آخر أسيراً في يد المسلمين وهو ثمامة بن آثال، أُتي به إلى المدينة وربط بسارية من سواري المسجد حتّى يحكم فيه الرسولصلى الله عليه و آله فقالصلى الله عليه و آله: أحسنوا اساره واجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا إليه. وكان يقدّم إليه لبن لقحة (ناقة حلوب) رسول اللَّه غدواً ورواحاً ولمّا منَّ عليهصلى الله عليه و آله أسلم وحسن إسلامه.

والعبّاس بن عبد المطّلب هو الآخر كان أسيراً من أسرى معركة بدر الكبرى، فلاحت من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله نظرة إليه وقد تمزّق ثوبه، فالتفتصلى الله عليه و آله ليجد له قميصاً يصلح، فوجد قميص عبداللَّه بن أُبي فطلب منه فكساه إيّاه (2).

وهذا هو الموقف الإسلامي في رعاية الأسرى والاهتمام بهم فقد جعله القرآن الكريم ثالث ثلاثة إن أطعموا فإنّ ذلك يكون مورداً لنيل رضا اللَّه سبحانه وتعالى:

وعدّ الإنفاق عليهم من القربات ذات الأجر العظيم وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناًوَيَتِيماً وَأَسِيراً* إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لانُرِيدُمِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (3).

الثاني: بعد أن أعلن جمع من الصحابة موقفهم الذي ذكرناه راح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يُثني عليهم ويشبه موقف كلّ فريق بموقف نبيّ من أنبياء اللَّه تعالى.

فشبّه الأوّل بموقف نبيّ اللَّه نوح عليه السلام إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اْلأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (4).

فيما شبّه الثاني بموقف نبيّ اللَّه عيسى عليه السلام إذ قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5).


1- 1 موسوعة الغزوات الكبرى لمحمد أحمد باشميل: 224- 225، مجمع الزوائد 6: 86.
2- 2 فتح الباري 6: 485.
3- 3 سورة الدهر: 8- 10.
4- 4 سورة نوح: 25.
5- 5 سورة المائدة: 118.

ص: 157

وكان رأيه الأخير أن خيّر الأسرى فقال:

«أنتم اليوم عالة، فلا يفلتن منكم أحد إلّابفداء أو ضرب عنق».

وتمّ إبلاغ مشركي مكّة بقرار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله هذا، وهم يعيشون الذهول ممّا حلَّ بهم والحزن والألم ممّا أصابهم والذلّ والعار ممّا جرح كبرياءهم وأطاح بعنجهيتهم كلّ هذا في معركة بدر، فغدوا يفكِّرون في مصير أسراهم... وقد كان المطلب بن وداعة السهمي ممّن كان حاضراً مجلساً لزعماء قريش، وقد سمع ما قرّروه فيه من عدم التعجيل في فداء أسراهم حتّى لا يتغالى المسلمون فيه، إلّاأنّه ما إن خرج من مجلسه هذا حتّى توجّه نحو المدينة، وفدى أباه الذي كان واحداً من أسرى بدر بأربعة آلاف درهم.

ولما سمعت قريش بهذا، أرسلت من يطلق أسراها ودفعت عن كلّ واحد منهم أربعة آلاف درهم.

وانتهت مسألة الأسرى هذه عملياً.

إمّا بفداء دفعه الموسرون منهم وكان مقداره أربعة آلاف درهم لكلّ أسير.

وإمّا بمنٍّ تكرّم به الرسولصلى الله عليه و آله على فقرائهم.

وإمّا بتعليم جمع من أطفال المسلمين القراءة والكتابة، فقد كان من الأسرى من يقرأ ويكتب، فجعل عمله هذا فداءه.

ما آلت إليه مواقف بعض الأسرى :

قلنا: كان من بين الأسرى عمّ النبيصلى الله عليه و آله العبّاس بن عبد المطّلب، وقد أبلغ المسلمون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رغبتهم في إعفاء العبّاس من الفداء وإطلاقه مجّاناً؛ لقربه من رسول اللَّه، فرفضصلى الله عليه و آله ذلك، وكلّف العبّاس بأن يدفع الفداء كغيره من الأسرى، هذا ما ذكره ابن كثير (1).


1- 1 البداية والنهاية لابن كثير 3: 299.

ص: 158

وأراد العباس أن يخرج من الأسر بلا فداء يقدّمه، ولمّا وجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مصرّاً على أن يقدِّم الفداء، طلب منه أن يحسب كمّية الذهب التيصودرت منه يوم بدر من الفداء، فرفض الرسولصلى الله عليه و آله طلبه وقال: لا.. ذلك شي ء أعطانا اللَّه عزّوجلّ. أي هو غنيمة.. وفي رواية: أمّا شي ء خرجتَ تستعين به علينا فلا. (1) ثمّ قال للنبيصلى الله عليه و آله: يارسول اللَّه، إنّي كنت مسلماً، ولكنّ القومَ استكرهوني.

إلّا أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أصرّ على أن يدفع الفدية، وقد كان من الموسرين، من أغنياء مكّة، فدفع الفداء عن نفسه وعن ابني أخيه وهما عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن عبد المطّلب، وعن حليف بني هاشم عتبة بن عمرو بن جحدم، وهؤلاء كانوا من أسرى بدر، وكان فداء كلّ واحد منهم مئة أوقية من الذهب، وكان ذلك بأمر من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلّاأنّ العبّاس حاول جهده في أن يفلت من هذا أيضاً معتذراً، فقال: لا مال لي. فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أين المال الذي وضعتَه عند امّ الفضل، وقلتَ لها: إن أصبت، فللفضل كذا، ولعبيد اللَّه كذا؟

قال: والذي بعثك بالحقّ، ما علم به أحد غيري وغيرها، وإنّي لأعلم أنّك رسول اللَّه.

وفدى نفسه وابني أخويه وحليفه (2).

وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ الآية الكريمة: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اْلأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ... نزلت في هذا المورد، ويأتي الكلام فيه.

ثمّ رجع العبّاس بعد إطلاقه إلى مكّة، ويقال: إنّه أسلم وكتم إسلامه، فكان عيناً على المشركين، يبعث بأخبارهم إلى النبيّصلى الله عليه و آله، ثمّ ترك مكّة قبل الفتح، وعاد


1- 1 انظر أسباب النزول للواقدي: 245.
2- 2 انظر: الكامل لابن الأثير 2: 92.

ص: 159

إليها وقد شهد فتحها مع المسلمين، وكان ممّن ثبت في معركة حنين، وسجّل دوراً مهمّاً فيها وبالذات لصوته الجهوري حينما راح يدوي في سماء المعركة ويحضّ المنهزمين من المسلمين على الثبات..

أمّا الأسير الآخر من بني هاشم فهو عقيل بن أبي طالب، فقد أسلم عام الفتح وشهد معركة حنين وثبت فيها، وشهد معركة مؤتة. وأمّا نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف وهو ابن عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، أسلم هو الآخر.

وأمّا أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس فقد بعثت زوجته زينب بقلادة سبق وأن أهدتها لها يوم زواجها من أبي العاص هذا امّ المؤمنين خديجة، فلمّا رآها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله رقَّ لها رقّةً شديدة، فقال للمسلمين: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها الذي لها فافعلوا. فأطلقوا سراح زوجها وردّوا إليها قلادتها. وقد أسلم أبو العاص.

وكان من الأسرى الذين افتدوا أنفسهم من الأسر سهيل بن عمرو بن عبد شمس العامري، وهو من أشراف مكّة ومن خطبائها المشهورين الذين كان لخطبهم أثر كبير في الدعوة إلى حرب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

فقد قدم مِكرز بن حفص في فدائه، فلمّا قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا: هات الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتّى يبعث إليكم بفدائه، فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزاً مكانه عندهم..

يقول الخبر: لمّا جاء وقت دفع الفداء عنه، طلب عمر بن الخطّاب من الرسولصلى الله عليه و آله أن يحدث له عاهة لا يتمكّن بعدها من أن يقوم خطيباً ضدّ النبيّصلى الله عليه و آله حيث قال: يارسول اللَّه، انزع ثنيتي سهيل يدلع لها لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موضع أبداً.

فرفض الرسولصلى الله عليه و آله طلب ابن الخطّاب وقال:

لا أمثّل فيمثّل اللَّه بي وإن كنتُ نبيّاً، ثمّ قال النبيّصلى الله عليه و آله لعمر: دعه فعسى أن

ص: 160

يقوم مقاماً نحمده.

وصدق رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيما قاله. فقد عاد سهيل بعد إطلاق سراحه من الأسر إلى مكّة، وهو الذي عقدصلح الحديبيّة مع النبيّصلى الله عليه و آله، ورفض أن يكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، التي أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بكتابتها، قائلًا: لا أعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللّهم، ورفض أيضاً ما أمر به رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يكتب: هذا ماصالح عليه محمّد رسول اللَّه.. قائلًا: لو شهدت أنّك رسول اللَّه لم أُقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

هذا سهيل وهذه مواقفه قبل إسلامه، ولكنّه أسلم عام فتح مكّة وله موقف يذكر حينما توفّي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وارتدّ بعض أهل مكّة وقف خطيباً وقال:

يا أهل مكّة، لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأوّلهم ارتداداً، واللَّه مَن رابنا مِن أمره شي ء ضربنا عنقه كائناً من كان..

فكان بهذا قد أخمد الفتنة.

وله موقف آخر ينصر به المعذَّبين، فقد حضر الناس باب عمر بن الخطّاب، وفيهم أبو سفيان بن حرب وشيوخ من قريش، وكان سهيل معهم، فخرج إذن عمر يأذن لأهل بدر.. لصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم من أهل بدر.

فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنّه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا.

فقال سهيل بن عمرو:

أيّها القوم، إنّي واللَّه قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما واللَّه لما سبقوكم به من الفضل أشدّ عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسون فيه، ثمّ قال: أيّها القوم، إنّ هؤلاء قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم واللَّه إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فألزموه، عسى اللَّه عزّوجلّ أن يرزقكم الشهادة، ثمّ نفض ثوبه ولحق

ص: 161

بالشام، وخرج بجماعة أهله- إلّاابنته هند- إلى الشام مجاهداً حتّى ماتوا كلّهم هناك، واستشهد في معركة اليرموك (1).

حقّاً فعسى أن يقوم مقاماً نحمده!

والوليد بن الوليد كان من الأسرى أيضاً فأرسل كلّ من خالد وهاشم وهما أخواه بفدائه، وعاد إلى مكّة ثمّ أعلن إسلامه فيها، ولمّا سُئل عن سبب إسلامه:

هلّا أسلمت قبل الفداء؟

فقال: خفتُ أن يعدّوا إسلامي خوفاً.

وقد منعه أخواه حينما عزم على الهجرة إلى المدينة ليلتحق بركب المؤمنين، إلّا أنّه فرّ إلى النبيّصلى الله عليه و آله في عمرة القضاء.

وهب بن عمير الجمحي، وأبوه عمير من شياطين قريش وكان كثير الإيذاء لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله وللمؤمنين، وقد وهبه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأبيه عمير في قصّة ملخّصها:

أنّ عمير بن وهب وصفوان بن أميّة جلسا يتذاكران ما حلّ بهم في معركة بدر من هزيمة كبرى وذكر أصحاب القليب فقال عمير: أما واللَّه لولا دَين عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي، لركبت إلى محمّد حتّى أقتله، فإنّ لي قبلهم علّة، ابني أسير في أيديهم.

فاغتنمصفوان هذا وتكفل بدينه وعياله.

فدخل عمير المدينة متوشحاً سيفه، فأدخله جمع من الصحابة على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال له:... فما جاء بك يا عمير؟

قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه.

قالصلى الله عليه و آله: فما بال السيف في عنقك؟

قال: قبّحها اللَّه من سيوف، وهل أغنت عنا شيئاً؟!


1- 1 انظر الاستيعاب، والإصابة في تمييز الصحابة 2: 110.

ص: 162

قالصلى الله عليه و آله: أصدقني، ما الذي جئت له؟

قال: ما جئت إلّالذلك.

قالصلى الله عليه و آله: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثمّ قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتّى أقتل محمّداً، فتحمل لكصفوان بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، واللَّه حائل بينك وبين ذلك.

قال عمير: أشهد أنّك رسول اللَّه، قد كنا يا رسول اللَّه نكذبك بما كنت تأتينا من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلّاأنا وصفوان، فواللَّه إنّي لأعلم ما أتاك به إلّااللَّه، فالحمد للَّه الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثمّ شهد شهادة الحقّ.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن، وأطلقوا له أسيره، ففعلوا. (1) ومن الذين منَّ عليهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ولم يأخذ منهم فداءً، أبو عزّة، عمرو بن عبداللَّه بن عثمان، كان محتاجاً ذا بنات، فكلّم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه، لقد عرفت ماليَ من مالٍ، وإنّي لذو حاجة وذو عيال، فامنن عليَّ.

فمَنَّ عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وأخذ عليه ألّا يظاهر عليه أحداً، فقال أبو عزّة في ذلك يمدح رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فذكر فضله في قومه:

من مُبلَغ عنّي الرسول محمّداً بأنّك حقّ والمليك حميد

وأنت أمرؤٌ تدعو إلى الحقّ والهدى عليك من اللَّه العظيم شهود

وأنت امرؤٌ بُوّئت فينا مباءةً لها درجات سهلة وصعود

فإنّك مَن حاربتَه لُمحارب شقيّ ومَن سالمته لسعيد

ولكن إذا ذُكّرتُ بدراً وأهلَه تأوّبَ ما بي حسرةً وقعود

أسيران قُتلا!

كان من بين أسرى معركة بدر أسيران: النضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار وقد حمل راية المشركين في بدر، والثاني عقبة بن أبي معيط من بني أُمية ابن عبد شمس بن عبد مناف.

وكانا عنيفين بعداوتهما للمسلمين، حريصين على التنكيل بهم، شديدين في إيذاء المستضعفين منهم، وكانا من ألدّ خصوم الدعوة وأشدّهم. إنّهما مجرما حرب أكثر من كونهما أسيرين.

ففي طريق عودتهصلى الله عليه و آله من معركة بدر وعندما وصل إلى الصفراء أمر عليّاً عليه السلام أن يقتل النضر بن الحارث أو أن يضرب عنقه بالأثيل.

ولمّا رأى النضر أن يقتل طلب من مصعب بن عمير أن يكلِّم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في أمره، فقال له مصعب: كيف يمكن هذا؟

أما كنت تقول في كتاب اللَّه وفي نبيّه كذا وكذا؟

وأما كنت تقوم على تعذيب أصحابه؟

وراحت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه، ومَن سمع شعرها قال: إنّ شعرها أكرم شعر موتور وأحسنه:

أيا راكباً إنّ الأثيل مظنة من بطن خامسة وأنت موفق

أبلغ به ميتاً فإنّ تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق

منّي إليه وعبرة مسفوحة جاءت لماتحها وأخرى تخفق

فليسمعن النضر أن ناديته إن كان يسمع ميتٌ أو ينطق

ظلّت سيوف بني أبيه تنوشه للَّه أرحام هناك تشقق

أ محمّد ولأنتصفو نجيبة (2) في قومها والفحل فحل معرق


1- 1 أمحمد يا خير ضن ء كريمة.
2- 1 أمحمد يا خير ضن ء كريمة.

ص: 164

ما كان ضرك لو مننت وربمامنّ الفتى وهو الغيظ (1) الخنق

فالنظر أقرب من تركت قرابةوأحقهم إن كان عتق يعتق

وروي: أنّ النبيّصلى الله عليه و آله قال: لو سمعت هذا الشعر قبل أن أقتله ما قتلته (2)، والجواب: أنّ النبيّصلى الله عليه و آله أقام عليه الحكم العدل الذي لا تغيره أبيات من الشعر على جودتها وحسنها، فما نسب إلى النبيّصلى الله عليه و آله من القول المذكور لا أظنه يصمد أمام النظر الدقيق، وعن بن هشام أنّ هذه غيرصحيحة، وهو الحقّ.

وموقف عقبة مجرم الحرب الثاني لا يقلّ عن موقف النضر.

فما إن وصل إلى عرف الظبية حتّى أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، والذي قتله عاصم بن ثابت الأنصاري.

تقول الرواية: إنّ النبيّصلى الله عليه و آله لمّا أمر بقتل عقبة، قال: أتقتلني يا محمّد من بين قريش؟

قالصلى الله عليه و آله: نعم.

ثمّ قالصلى الله عليه و آله لأصحابه: أتدرون ماصنع هذا بي؟

جاءني وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها، فما رفعها حتّى ظننت أنّ عينيَّ ستندران من رأسي، وجاء مرّة اخرى بسلا شاة (وهو ما يعقب الولادة من أوساخ وقاذورات) فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي.

إذن فهما الأسيران الوحيدان اللذان قتلاصبراً للأسباب التالية:

1- كانا من أشدّ الناس كفراً وبغياً.

2- كانا من أكبر مثيري الحرب (معركة بدر) ومن الدعاة إليها والمحرّضين


1- 1 المغيض.
2- 2 أنظر بلاغات النساء: 235.

ص: 165

عليها بقوّة.

3- كانت لهما جرائم ارتكبوها،صحيح أنّهما لم يكونا الوحيدين اللذين ارتكبا الجرائم، ولكن مَن كان مثلهما في الجريمة قتل داخل المعركة وانتهى أمره، ولو بقوا أحياءً؛ لكان مصيرهم القتل كذلك.

4- كان لهما تأثير واضح على مشركي مكّة، فهم يسمعون لهما ويطيعون، ولهما القدرة على إقناعهم بما يريدان ويدبّران.

5- إن بقيا حيّين فهما يشكِّلان مصدر خطر عظيم على الإسلام والرسولصلى الله عليه و آله والمؤمنين، ولاسيّما أنّ الحرب والمواجهة مع قريش لم تنته بعد، وهناك جولات مقبلة..

6- كانا يسخران من القرآن ويقولان فيه ما لا يناسب من القول.

7- لطالما وجّها لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله إهاناتهم وأسمعوه الشي ء الكثير من الكلام البذي ء، وطالما حرّضا عليه، وتربصا به الدوائر سواء في مكّة أو المدينة.

8- كانا يلتمسان أيّ وسيلة وكلّ ما يتمكّنان منه ليوقعا الأذى بالمسلمين في مكّة، وتنفير الناس منهم.

فرأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ قتلهما فيه مصلحة كبرى للإسلام والمسلمين ودرءاً للفتنة، وقد قتلا قبل أن يصل الرسولصلى الله عليه و آله إلى المدينة وقبل اتخاذ قراره بخصوص الأسرى.

موقف القرآن الكريم:

قلنا: إنّ الموقف القرآني من أسرى بدر، وهو الموقف الثالث بعد موقفي الصحابة والرسولصلى الله عليه و آله له شكلان:

الأوّل:

يدور حول الأسر وبيان حكم الأسرى ، وهو ما تناوله قوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ

ص: 166

الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيَما أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1).

اللغة

الثخانة لغةً: الغلظة، فكلّ غليظ: ثخين، والإثخان في كلّ شي ء عبارة عن قوّته وشدّته، يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدّت قوّته عليه (2). واثخان النبيّ في الأرض استقرار دينه بين الناس كأنّه شي ء غليظ انجمد فثبت بعد ما كان رقيقاً سائلًا مخشي الزوال بالسيلان... (3).

القراءة:

قرأ أبو الدرداء وأبو حياة: ما كان للنبيِّ... (4).

البيان:

كانت معركة بدر الكبرى أوّل معركة خاضها المسلمون ولما تنزل بعدُ أحكام الجهاد وأحكام تخصّ المعارك ونتائجها من غنائم وأسرى وغير ذلك. وجاءت الآيات لتبين أنّ هناك هدفين أو همّين:

هم يراود المقاتلين المسلمين وهمّ تريده الآيات.

كان الهمّ الأوّل لأغلب المسلمين هو أن يغنموا ما في قافلة قريش التي كانت برئاسة أبي سفيان عوضاً عمّا خسروه وتركوه من أموالهم في مكّة.. وتهديداً لقريش ومصالحها.. لعلّها تكفّ عن ملاحقتهم والتآمر عليهم..

ولمّا علمت قريش بذلك غيّرت خطّتها ثمّ حشدت مقاتليها لخوض المعركة مع المسلمين.. توجّه المسلمون لميدان المعركة وما زال ذلك الهمّ يراودهم في


1- 1 سورة الأنفال: 67- 69.
2- 2 مجمع البيان للطبرسي 4: 857.
3- 3 الميزان في تفسير القرآن للعلّامة الطباطبائي 5: 134.
4- 4 أنظر معجم القراءات القرآنية، الآية.

ص: 167

الحصول على الغنائم.

كان الهمّ القرآني على العكس من ذلك، همّه قتل الكفّار وتقتيلهم وإنزال أقسى الضربات بهم... فَاضْرِبُوا فَوْقَ اْلأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (1)

ولم ترد في الآية كلمة الأسر، الغنائم...

وقد عبّرت عن هذه الضربات وذلك القتل والتقتيل بالإثخان..

وملاحقتهم، واجتثاثهم من الأرض، حتّى يكونوا عبرةً لغيرهم، في أن لا يعاودوا الكرّة على المسلمين.

فإذا تمّ الإثخان بكلّ ما يحمله من معانٍ، من القتل والغلبة والشدّة والرعب..

جاء دور الأسر كما قال تعالى بعد ما استقرّ الإسلام في الحجاز واليمن:

... أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ...

ثمّ تأتي المرحلة الاخرى بعد الأسر فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً (2)

، هذه المراحل التي أرادها القرآن الكريم وبيّنها فيما بعد.

وهذا الموقف القرآني كان هو موقف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أيضاً كما سيتّضح لنا من البحث.

إذن ما كان لكم أيّها المقاتلون المسلمون أن تبتغوا عرض الحياة الدُّنيا بأسر أعدائكم لتفدوهم أو تمنّوا عليهم، فكلّ هذا متاع الدُّنيا الزائل، وهذا ليس من شأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما كان لنبيّ... وعلى قراءة أخرى ما كان للنبيّ أي ليس له ولا في عهد اللَّه إليه. لأن يكون له أسرى من المشركين ليفديهم أو يمنّ عليهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي اْلأَرْضِ حتّى يبالغ في قتل المشركين ليرتدع به مَن وراءهم... (3) قبل أن تعملوا السلاح بقوّة في رقابهم، وما كان لكم أن تتهاونوا فيهم بغية أسرهم ليكونوا غنيمةً


1- 1 سورة الأنفال: 12.
2- 2 سورة محمّد: 4.
3- 3 مجمع البيان للطبرسي 3: 858.

ص: 168

لكم، فهو الدُّنيا بعينها وحبّ بأعراضها، وكان الأجدر أن لا يجدوا فيكم هوادةً أو رأفةً أبداً وأن لا تتركوهم إلّاوهم يعيشون الرعب من قوّتكم وفتككم بهم، وأن تجعلوا الضعف يلازمهم والوهن يلاحقهم طيلة حياتهم حتّى لا يعودوا لمثل ما جاؤوا به وما فعلوا، وهي فرصة عظيمة لكم كان بإمكانكم استثمارها داخل ميدان القتال، فإذا بالغتم في قتلهم وقهرهم يرتدع مَن وراءهم، وأكثر من هذا تواصلوا القتال لتغلبوهم على بلادهم وتذليل أهلها كما على رأي بعض في تفسير الإثخان، حتّى تتمكّنوا في الأرض، لا أن يكون همّكم أسرهم ومفاداتهم والحصول على الغنائم وهو هدف ليس فيه بُعد نظر للمستقبل، فيما التفكير السليم أن تجعلوهم لا يفكّرون في العودة لكم، بعد أن جاءوا للقضاء عليكم.

فقد كانت كفّة الميزان راجحة للمقاتلين المسلمين، وكانت ساحة المعركة بأيديهم فكان بإمكانهم أن ينزلوا العقاب الرادع بعدوهم، وخير دليل على هذا هو قلّة شهدائهم فقد كانوا أربعة عشر رجلًا، ستّة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، فيما كان قتلى العدو سبعين رجلًا بينهم من قادة قريش وزعمائها، وأمّا أسراهم فكانوا سبعين أيضاً بينهم زعماء من قريش، ولم يؤسر أحد من المسلمين.

فمع جلالة وعظمة البدريين، وأن بجهودهم ودمائهم رويت شجرة الإسلام وأزهرت، لم يترك القرآن الكريم عملهم هذا بلا تعريض أو عتاب أو لوم، ليكون ذلك لهم درساً في مستقبل حياتهم الجهادية، إنّها تربية السماء التي ما انفكت تلاحق المؤمنين فتثني عليهم إن أحسنوا، وتعاتبهم إن أخطأوا، ليكون هذا ضمن دروس إيمانية متواصلة، وابتلاءات متلاحقة ورقابة مستمرة؛ لإعدادهم الإعداد الذي تبتغيه السماء وتريده لهم في دنياهم وأخراهم.

حقّاً كان الأولى استئصالهم من جذورهم ولا يتركونهم يعودون إلى أهلهم، ولاختصر المسلمون لو عملوا هذا الوقتَ في نيل أهدافهم وتحقيقها بكبح أقوى قوّة تواجّههم في دعوتهم الجديدة ولما وقع ما وقع لهم، ولما عادت قريش لهم في

ص: 169

أحُد وما حلَّ بالمسلمين من خسائر فادحة..

والذي يؤيّد هذا وأنّ الكثير منهم كان يبغي من هذه الفرصة المتاحة هو الظفر بالقافلة، وبما أنّهم لم يظفروا بها تراهم بذلوا جهدهم في أن يأسروا منهم ما يستطيعون به تعويض ما لم ينالوه، فراحوا في المعركة يبذلون جهدهم في تجريد أعدائهم من السلاح ومنعهم من القتال، بدلًا من أن يُعملوا السلاح بشدّة في رقابهم وهم في ساحة الوغى. إنّ القرآن جاء يبيّن لهم خطأ ما فعلوه. وأنّ ما أرادوه لا تريده السماء بل تريد الآخرة لهم، وتنالوها لو قاتلتم هؤلاء الطغاة الذين أذاقوكم الخوف والذلّ والهوان ولم تدخل قلوبهم الرحمة بكم، ولم يفكّروا يوماً بالعفو عنكم، أو يتركوكم وشأنكم..

يقول سيّد قطب: الإثخان المقصود: التقتيل حتّى تضعف شوكة المشركين وتشتدّ شوكة المسلمين، وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبيّ والمسلمين أسرى، يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر، فعاتب اللَّه المسلمين فيه.

ثمّ يواصل قوله: لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الاولى بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون ما يزالون قلّة والمشركون ما يزالون كثرة، وكان نقص عدد المحاربين من المشركين ممّا يكسر شوكتهم ويذلّ كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرّة على المسلمين، وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء.. (1).

وهناك في داخل معركة بدر ما يؤيّد هذا، وأنّ ما فعله بعض المسلمين لم يكن محلّ قبول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وإنّما كان خلاف ما يريده، لهذا جاءصدر الآية نافياً ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ... حتّى يثخن القتل والتقتيل في أعدائه، ولا يكون أكبر همّه أسرهم بل إنزال العقاب الصارم بهم؛ لأهداف عظيمة تبتغيها السماء.


1- 1 في ظلال القرآن، سيّد قطب 3: 1552.

ص: 170

تقول الرواية عن ابن إسحاق: «فلمّا وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله متوشّحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يخافون عليه كرّة العدوّ، ورأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيما ذكر لي في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «واللَّه لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم! قال:

أجل واللَّه يارسول اللَّه، كانت أوّل وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان أحبَّ إليَّ من استبقاء الرجال!

وممّا يدلّ على هذه الرغبة الجامحة بأسر أعدائهم، أنّ عبد الرحمن بن عوف أسر أُميّة بن خلف، فأبصره بلال الحبشي وقد ذاق منه الأمرّين في مكّة إذ كان يضع علىصدره في شدّة الحرّصخرة كبيرة ويطلب منه ذكر الرسولصلى الله عليه و آله بسوء والعودة إلى عقيدة الشرك، فيأبى بلال، وكلّما اشتدّ عليه الألم قال: أحدٌ أحد، فقال رأس الكفر أمية بن خلف: لا نجوت إن نجا واستعان ببعض الأنصار لقتله وعبد الرحمن يحرزه منهم، إذ كان يطمع في فدائه بمال، ولكن تمّ التمكّن منه والقضاء عليه، وكان مع عبد الرحمن أدرع من السلب، فقال اميّة حين أسره: أنا خيرٌ لك من هذه الأدرع فألقاها وانفرد بأُميّة، ولمّا قتل اميّة قال عبد الرحمن: رحم اللَّه بلالًا فجعني بأدرعي وأسيري (1).

النضر بن الحارث كان أسيراً للمقداد، وكان يطمع أن ينال من فدائه مالًا كثيراً، ولمّا رأى أنّ الأمر يدور حول قتلهصاح: النضر أسيري، ولكن الرسولصلى الله عليه و آله أمر بقتله ودعا لمقداد أن يُغنيه اللَّه من فضله.

مرّ مصعب بن عمير بأخيه أبي عزيز بن عمير وقد أخذ به أحد الأنصار أسيراً ووضع القيود في يديه، فقال مصعب للأنصاري: شدّ يديك به، فإنّ أمّه ذات


1- 1 انظر زاد المعاد لابن القيم 2: 100.

ص: 171

متاع لعلّها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بي؟ فقال مصعب: إنّه أي الأنصاري أخي دونك.

ومع عظمة موقف مصعب هذا إلّاأنّ القصة هذه تبيّن لنا همّ الربح (الفداء) الذي كان يراودهم الحصول عليه.

وليس هذا في الأسرى فقط بل في الغنائم عموماً. كان موقف أكثرهم ينصبّ على الغنائم، فتراهم يتنازعون في حيازتها، فقال من جمعها: هي لنا، وقال الذين يقاتلون العدو ويطلبونه: واللَّه لو لا نحن ما أصبتموها، لنحن شغلنا عنكم القوم حتّى أصبتم ما أصبتم، وقال الذين كانوا يحرسون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مخافة أن يصل إليه العدو: واللَّه ما أنتم بأحقّ بها منّا، لقد كنّا ونحن نحرس رسول اللَّه نرى الغنائم وما يحملها أحد، وكنّا نستطيع حيازتها لو أردنا، ولكنّنا آثرنا حماية رسول اللَّه عليها، لقد خفنا أن يقتحمه العدو فقمنا دونه، فما أنتم بأحقّ بها منّا.

صحيح أنّ هذا الموقف لم يكن موقفاً عاماً يتصف به جميع المقاتلين، وصحيح أنّه موقف بعض فقرائهم وهم الذين بلغ منهم الفقر مبلغاً رقّ منه لهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ودعا لهم فقال: «اللّهم إنّهم حُفاة فاحملهم... اللّهم إنّهم عراة فاكسهم». وصحيح أنّهم لم يطلبوا باطلًا بل كانوا يعتقدون أنّهم يطلبون الحقّ، ولو كانوا يعرفون أنّ ما يطلبونه باطل لما تمسكوا به أبداً، فهم تركوا كلّ شي ء من أجل الحقّ ومرضاة اللَّه... إلّاأنّ هذا ترك أثره، فجاءت الآية معرضة بموقفهم هذا أو معاتبة... لكي لا يكرروه مستقبلًا.

وقفة قصيرة:

لابدّ من وقفة مع تفسير الآية مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

أوّلًا: الذي يبدو من ظاهر الآية أنّها جاءت رافضة للحالة التي انتابت جمعاً من المسلمين في ميدان المعركة من الرغبة في أسر المزيد من المشركين، وأنّ العتاب

ص: 172

أو التعريض الوارد في الآية كان ينصبّ على هؤلاء المقاتلين، الذين راحوا يتسابقون داخل المعركة لأخذ المشركين أحياءً أسرى ليفادوهم فيما بعد، لا أنّ التعريض القرآني جاء للذين قبلوا الفداء من الأسرى بعد انتهاء المعركة، وبعدما قرّر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ذلك، وإلّا فإنّهم أخذوا الفداء منهم أو من الموسرين منهم بأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حينما اختار الفداء واحداً من عدّة وسائل لتحرير أسرى بدر، وبالتالي إن قلنا: إنّ التعريض يشمل هؤلاء، فهو إذن يشمل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأنّه قرّره من ضمن خياراته لإطلاق سراحهم، ولو لم يقرّره لما تجرّؤوا على أخذه.

يقول العلّامة الطباطبائي: والعتاب به على ما يهدي إليه سياق الكلام في الآية الأوّل إنّما هو على أخذهم الأسرى كما يشهد به قوله في الآية الثانية لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أي في أخذكم، وإنّما أخذوا عند نزول الآيات الأسرى دون الفداء، بل يشهد قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً...، حيث افتتحت بفاء التفريع التي تفرّع معناها على ما تقدمها... (1)، هذا أوّلًا.

وثانياً: لم يكن النصّ القرآني من موافقات القرآن الكريم لرأي عمر الذي أراد قتل الأسرى هو وعبداللَّه بن رواحة وفريق معهم؛ لأنّ تعريض القرآن الكريم لم يأتِ بخصوص الذين قبلوا الفداء بعدما رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ذلك حتّى نقول: إنّه جاء موافقاً لما أراده عمر من قتل الأسرى كما يحلو لبعض المفسّرين ذلك، بل التعريض القرآني جاء للذين راحوا يهمّون بالحصول- داخل المعركة- على أسرى، قبل أن يبالغوا في تعميق جراح المشركين، وراحوا يتسابقون في الحصول على أكبر عدد منهم أحياءً طمعاً في الفداء من قبل أن يجعلوهم عبرةً لغيرهم وبالتالي فلا يعاودون الكرّة على المسلمين أو على الأقلّ يحسبون لها ألف حساب قبل أن يقدموا عليها.


1- 1 الميزان في تفسير القرآن 5: 135، ففيه تفصيل وافٍ.

ص: 173

وإن قبلنا أنّ الآية جاءت موافقة لرأي أحدهم، فمن باب الإنصاف أنّها جاءت موافقة لرأي سعد بن معاذ لا عمر بن الخطّاب؛ لأنّ التفاتة سعد سبقت موقف عمر، وهي التفاتة داخل المعركة لا بعد أن وضعت المعركة أوزارها، واتّخاذ القرار حول الأسرى.

تقول الرواية: رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: واللَّه لكأنّك يا سعد تكره ما يصنع القوم! قال: أجل واللَّه يا رسول اللَّه، كانت أوّل وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال.

ثالثاً: أنّ الإثخان الذي ذكرته الآية، المقصود به الإثخان حينما كانت المعركة قائمة، وحينما كان السلاح بأيدي المقاتلين المسلمين، فهذا أكثر وقعاً على أعدائهم وهم مسلحون، وهو ما أراده سعد «... فكان الإثخان في القتل أحبّ إليّ من استبقاء الرجال». لا الإثخان فيهم وهم مجرّدون من السلاح، فالإثخان فيهم قتلًا وتقتيلًا وهم مقاتلون يكون أكثر عبرة، لا وهم عزل أسرى، فتثار عندئذٍ الشبهات، فالأسر بعد أن يثخن النبيّ في الأرض، يثخن فيهم في ساحة الوغى قتلًا وتقتيلًا واستيلاءً على معاقلهم وأرضهم... عندئذ يأتي الأسر إن كان هناك من يؤسر، لا أن يكون الهمّ الأوّل للمقاتل المسلم أن يأسر، بل الهمّ الأوّل يجب أن يكون القتل والردع وزرع الرعب في قلوب المشركين ومَن خلفهم وهو ما تريده الآية وتهدف إليه.

بينما الذي أراده عمر هو الإثخان بهم وهم أسرى، وبما أنّه لا قتل بعد الأسر باستثناء مجرمي الحرب، فقد حلّ الفداء وجاز الانتفاع والتمتّع بما يقدّمه الأسير من مال لفكّ رقبته خاصّة بعد أن أقرّه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأمر به.

تقول الآية: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ

ص: 174

فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً (1).

أي أكثرتم فيهم القتل والجروح في ساحة الوغى فضعفوا عن المقاومة عند إذن يأتي دور الأسر، وقد ذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد أبو جعفر بن علي بن الحسين، قال... فقال: ما كانَ لِنَبِيٍّ أي قبلك أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى من عدوّه حَتَّى يُثْخِنَ فِي اْلأَرْضِ أي يثخن عدوّه حتّى ينفيه من الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي المتاع، الفداء بأخذ الرجال. يقول الطبرسي: وهذا خطاب لمن دون النبيصلى الله عليه و آله من المؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى في أول وقته ورغبوا في الحرب للغنيمة... (2) وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثواب الآخرة أي بقتلهم؛ لظهور الدين الذي يريد إظهاره والذي تدرك به الآخرة (3).

إذن فالإثخان المراد هو الإثخان في المعركة، لا الإثخان في الأسرى الذي أراده عمر بن الخطّاب وفريقه.

أمّا بخصوص الآية التالية لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ فقال: أي من الأسارى والمغانم عَذابٌ عَظِيمٌ أي لولا أنّه سبق منّي أنّي لا اعذّب إلّابعد النهي ولم يكن نهاهم أو حتّى يبين لهم ما يتّقون...، لعذّبتكم فيماصنعتم، ثمّ أحلَّها له ولهم رحمةً منه، وعائدةً من الرحمن الرحيم فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (4).

فبعد أن بيّنت الآية الكريمة متى يقع الأسر، إنّه بعد الإثخان، عرّضت بما فعلوه من أخذ الأسرى طمعاً في دنيا زائلة، وبعد هذا التعريض الذي أرادته الآية


1- 1 سورة محمّد: 4.
2- 2 مجمع البيان 3: 858.
3- 3 السيرة النبوية لابن هشام 2: 676- 677.
4- 4 مجمع البيان للطبرسي 3: 858.

ص: 175

درساً بليغاً لهم... راحت تبيح لهم ما أخذوه من غنائم وما أخذوه من فداء على الأسرى. على أن يتّقوا اللَّه تعالى، وأن لا يعودوا لمثلها بأن يكون همّهم هو الغنائم والأسرى، فأين هذا ممّا ذكره بعض المفسّرين وممّا أسموه- بلا وجل- بالموافقات لقول عمر؟!

الثاني: بعث الأمل في نفوسهم...

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اْلأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (1).

نزلت هذه الآية المباركة في أسرى بدر؛ لتشكّل بذلك موقفاً قرآنياً لصالحهم، فلم يقف القرآن الكريم عند تبيين حكم الأسرى، بل راح يسلّيهم عمّا فقدوه من أجر عظيم بسبب موقفهم ضدّ الرسالة الجديدة، ويفتح لهم أبواباً اخرى للخير والعطاء، يمكن أن تعوّضهم عمّا خسروه من أجر ومن فداء؛ ليشتروا به حرّيتهم التي ذهبت بأسرهم، وربّ ضارّة نافعة كما يقال، إذا أحسنوا واتّقوا.

فقد روي عن العباس بن عبدالمطلب أنّه قال: نزلت هذه الآية فيَّ وفي أصحابي، كان معي عشرون أوقية ذهباً فأخذت منّي، فأعطاني اللَّه مكانها عشرين عبداً، كلّ منهم يضرب بمال كثير، وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني زمزم، وما أُحبّ أنّ لي بها جميع أموال أهل مكّة، وأنا أنتظر المغفرة من ربّي.

فيما قال قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ اللَّهصلى الله عليه و آله لمّا قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً، وقد توضّأ لصلاة الظهر، فماصلّى يومئذ حتّى فرّقه، وأمر العبّاس أن يأخذ منه


1- 1 سورة الأنفال: 70.

ص: 176

ويحثي فأخذ، فكان العبّاس يقول: هذا خيرٌ ممّا أخذ منّا وأرجو المغفرة.. (1).

يقول سيّد قطب: ثمّ يلمس قلوب الأسرى لمسةً تُحيي فيها الرجاء، وتطلق فيها الأمل، وتشيع فيها النور، وتعلّقها بمستقبل خير من الماضي، وبحياة أكرم ممّا كانوا فيه، وبكسب أرجح ممّا فقدوا من مال وديار، وبعد ذلك كلّه بالمغفرة والرحمة من اللَّه.

ثمّ واصل حديثه بقوله: هذا الخير كلّه معلّق بأن تصلح قلوبهم فتنفتح لنور الإيمان فيعلم اللَّه أنّ فيها خيراً.. والخير هو الإيمان حتّى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص. الخير محض الخير، والذي لا يسمّى شي ء ما خيراً إلّاأن يستمدّ منه وينبثق منه ويقوم عليه.

ثمّ قال: إنّ الإسلام إنّما يستبقي الأسرى لديه؛ ليلمس في قلوبهم مكامنَ الخير والرجاء والصلاح، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقّي والتأثّر والاستجابة للهدى، لا ليستذلّهم انتقاماً، ولا ليسخّرهم استغلالًا، كما كانت تتّجه فتوحات الرومان وكما تتّجه فتوحات الأجناس والأقوام (2).

إذن فالإسلام طَموحٌ ويأمل الخير من هذه النفوس التي كانت بالأمس تقاتله وتريد الإطاحة به وبمبادئه التي جاءت لإنقاذ الإنسان، نعم إنّه لا يقنط من أن يفجّر فيها منابع الخير ومنابت العطاء. لهذا تراه يرعى الأسرى ويمدّهم بكلّ ما يخرجهم من هذا الأسر ومن ماضيهم التعيس.

فجاءت هذه الآية دليلًا واضحاً وبرهاناً ساطعاً على هدف الإسلام العظيم.

بنو قريظة:


1- 1 انظر مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي 4: 860- 861 وغيره من التفاسير.
2- 2 انظر في ظلال القرآن، سيّد قطب 3: 1553.

ص: 177

اليهود بطوائفهم الثلاث بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، هؤلاء الثلاثة كانوا قد اتّخذوا من أطراف المدينة سكناً لهم بعد أن طردهم نبوخذنصر من الشام وشتّت جموعهم ولاحقهم حتّى لم يجدوا مكاناً يأوون إليه ويأمنون به من ملاحقة نبوخذنصر ومن بطشه بهم، إلّايثرب، سكنوا فيها وصارت لهم أسواقهم واتسعت تجارتهم وقويت شوكتهم، ولكنّهم لم تطهر نفوسهم كأنّها اورثت الحقد والخبث على غيرهم، حقّاً ما في الآباء يرثه الأبناء.

ولمّا حلّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالمدينة بعد هجرته من مكّة، وراح يبني أُسس دولته الفتية على أكتاف جموع من المؤمنين به وبرسالته الجديدة، من المهاجرين والأنصار، كان من مهامّه الأساسية وهو عارف بتركيبة مجتمع يثرب وقبائلها وطوائفها المتعدّدة والتي كان منها قبائل اليهود الثلاث، أن يوادع هذه القبائل متعهِّداً باحترامهم واحترام عقائدهم مع ضمان حرّية عبادتهم وشعائرهم ولهم أن يعيشوا ويعملوا كالآخرين بأمنٍ وسلام.. ما داموا موادعين مسالمين، لا يهجمون على مسلم ولا ينصرون عدوّاً للمسلمين، ولا يعكّرون أمناً ولا يسيئون إلى جوار...

لم يتمالك هؤلاء أنفسهم وما فيها من بغض لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله وللمسلمين وقد جبلوا على الفتنة والتآمر، فسرعان ما نقض بنو قينقاع العهد وتبعهم على ذلك بنو النضير، فراحوا يحرّضون الأعداء، ويتعاونون معهم ويقدّمون ما يحتاجه المنافقون داخل المجتمع المدني الجديد، فما كان من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلّاأن أجلاهم عن قراهم، فذهب جمعٌ منهم إلى منطقة أدرعات فيما ذهب الآخرون إلى خيبر، واكتفى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بهذا الإجراء؛ لأنّ عملهم لم يرتقِ إلى أكثر من هذه العقوبة.

فيما كان لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله مع بني قريظة أمر آخر وحكم أشدّ، وكانت عقوبتهم على قدر جريمتهم النكراء وخيانتهم الكبرى ، وأخيراً فقد كلّفتهم هذه الجريمة حياتهم.

جريمتهم القذرة:

حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وهما من كبار ومن زعماء يهود بني

ص: 178

النضير، ذهبا مع آخرين منهم في السنة الخامسة من الهجرة النبوية إلى مكّة حيث المشركون من قريش وحيث زعماؤهم لإقناعهم وتحريضهم على الدين الجديد ونبيّه محمّدصلى الله عليه و آله، وعلى قتالهم ووضعوا قدراتهم بين أيديهم ووعدوهم بغيرها كثمار خيبر لعام كامل، ثمّ ذهبوا إلى غطفان للمهمّة نفسها، وراحوا يحزّبون قريشاً وغطفان ويقولون لهم: إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله...

ولمّا سألتهم قريش: يا معشر اليهود، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خيرٌ أم دينه؟

قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه وأنتم أولى بالحقّ منه.

فأنزل اللَّه في موقفهم هذا قرآناً (الآيات 51- 55 من سورة النساء).

فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فاجتمعوا لذلك واتّعدوا له... (1).

ولم يكتفوا بهذا بل راحوا يحرّضون يهود بني قريظة على نقض عهدهم مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والانضمام إليهم وإلى عشرة آلاف مقاتل من مشركي قريش وغطفان، الذين تمركزوا بأطراف المدينة بقيادة أبي سفيان، والذي منعهم عن اجتياز المدينة وهو الخندق، فبإشارة من الصحابي الجليل سلمان الفارسي، حفر المسلمون خندقاً في ستّة أيّام، في الجانب المكشوف من المدينة، وراحت عساكرهم الثلاثة آلاف تخندق إلى جانبه وظهورهم كانت إلى جبل سلع الذي يحميهم من الخلف.

في هذه الحالة التي يعيشها المسلمون اقتنع زعيم بني قريظة كعب بن أسد بآراء حيي بن أخطب فنقض عهده مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، ليتحوّل إلى طابور يقوّض وحدة المسلمين من الداخل، كما وعد المشركين بأنّه معهم في قتالهم مع المسلمين،


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 3: 226.

ص: 179

وبدأ يمدّهم بالعون والمساعدة، فشكّل بعمله هذا دوراً قذراً وخطيراً على الجماعة المسلمة.

ما إن سمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بما آلت إليه امور بني قريظة وأفعالهم، حتّى أرسل رسولين منه وهما سعد بن معاذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة سيّد الخزرج مع شخصين آخرين؛ ليستطلعوا الأمر، فوجدوا بني قريظة مصرّين على موقفهم هذا، وباءت جهود الوفد في إقناع بني قريظة بعدم نقض عهدهم وإلّا سيحلّ بهم الجزاء العادل كما حلّ بإخوانهم اليهود من بني قينقاع وبني النضير، باءت جهود الوفد هذه بالفشل، وكان جواب كعب يتّصف بالغلظة والشدّة، ناكراً أن يكون قد عاهد الرسولصلى الله عليه و آله بشي ء، وراح وزمرته الخبيثة يشتمون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

ولم يقف عملهم هذا عند حدٍّ، بل استعدّ كعب وبنو قريظة وأرسلوا إلى الأحزاب يستمهلونهم عشرة أيّام؛ لإكمال عدّتهم وطلبوا من الأحزاب مشاغلة المسلمين، ريثما يرتّبون أُمورهم، فيما راح الأحزاب يوزّعون أنصارهم على ثلاث فئات أو جماعات، كلّ واحدة تقف في مكان قرب الخندق لمواجهة المسلمين.

هذان العدوّان راحا يتفاعلان مع المنافقين داخل المدينة، هؤلاء الذين أسسوا علاقات سرّية مع كلا الجانبين، مع المشركين في أطراف المدينة ومع اليهود خاصّة بني قريظة داخل المدينة.

بدأ الخوف يدخل قلوب مسلمي المدينة خاصّة مَن ضعف إيمانه منهم، فأتى جمع منهم إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قائلين له: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ... أي هي غير حصينة ولا منيعة وتجيب عن ذلك السماء: وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (1).

هذا الواقع المرير وخطورته راح يصوّره لنا القرآن الكريم بقوله:

إِذْ جاؤوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ اْلأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ


1- 1 الأحزاب: 13.

ص: 180

الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً* وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ... (1).

مقابل هذا هناك تصوير آخر يبيّن فيه تعالى وضع المخلصين الصادقين من المسلمين حيث يقول: وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ اْلأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً (2).

الحرب خدعة

قدّر لرجل من آل غطفان يكتم إسلامه، دورٌ عظيم،، فقد خلط على الأحزاب واليهود أوراقهم، وراح ينفّر بعضهم من بعض عبر خطّة ذكيّة.

لم يكن هذا الرجل حتّى وقت قريب من مشروعه هذا مسلماً، بل عرف بين المشركين واليهود بأنّه عدوّ لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وهذا ما نفعه كثيراً في تخذيلهم عبر خطّته التي أمره بها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حينما جاء ليسلم.

وكان أوّل عمله أن ذهب إلى بني قريظة، وكان من ندمائهم في الجاهلية، ولم يكن لهم علم بإسلامه، فقال لهم: إنّكم نكثتم العهد وقرّرتم مناصرة الأحزاب، ولكن ماذا تكون نتيجتكم لو رجعت الأحزاب دون نصر، فإنّ الدائرة تدور عليكم وحدكم؛ لذا أرى أن ترسلوا إلى قريش وغطفان وتطلبوا منهم رُهُناً حتّى تضمنوا بقاءَهم.

قالوا: لقد أشرت بالرأي.

ثمّ مضى على وجهه إلى قريش فغطفان وأسرّ إليهم أنّ بني قريظة ندموا على


1- 1 الأحزاب: 10- 27.
2- 2 الأحزاب: 22.

ص: 181

نقض العهد، وأنّهم أرسلوا إلى الرسول يسترضونه ويقولون: إنّهم يأخذون منكم رهائن ويرسلونهم إليه ليضرب أعناقهم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوها. هذه خلاصة خطته، وأما تفصيلها:

فيقول الخبر عن نعيم هذا: أتى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: يارسول اللَّه، إنّي قد أسلمت، وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّما أنت فينا رجل واحد، فخذّل عنّا إن استطعت، فإنّ الحرب خدعة.

فخرج نعيم بن مسعود حتّى أتى بني قريظة، وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال:

يا بني قريظة، قد عرفتم ودّي إيّاكم، وخاصّة ما بيني وبينكم، فقالوا:صدقت، لست عندنا بمتّهم، فقال لهم: إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره، وإنّ قريشاً وغطفان قد جاءوا لحرب محمّد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بعيدة، فليسوا كأنتم، فإن رأوا نُهزة (انتهاز الفي ء واختلاسه) أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتّى تأخذوا منهم رُهناً من أشرافهم، يكونوا بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمّداً حتّى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثمّ خرج حتّى أتى قريشاً، فقال لأبي سفيان بن حرب ومَن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمّداً، وإنّه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّاً أن أبلغكموه نُصحاً لكم، فاكتموا عنّي، فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أنّ معشر يهود قد ندموا على ماصنعوا فيما بينهم وبين محمّد، وقد أرسلوا إليه: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يُرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، من قريش وغطفان رجالًا من أشرافهم، فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتّى نستأصلهم؟

ص: 182

فأرسل إليهم: أن نعم.

فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رُهناً من رجالكم، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلًا واحداً.

ثمّ خرج حتّى أتى غطفان، فقال: يا معشر غطفان، إنّكم أصلي وعشيرتي، وأحبّ الناس إليّ، ولا أراكم تتّهمونني، قالوا:صدقت، ما أنت عندنا بمتّهم.

قال: فاكتموا عنّي، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم (1).

فعلًا إنّها مكيدة ذكية، راحت تفعل فعلها فيهم جميعاً وتؤتي نتائجها، فقد أرسل الأحزاب جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل إلى بني قريظة، قائلين لهم: إنّا لسنا بدار مُقام، قد هلك الخفّ والحافر، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً، ونفرغ ما بيننا وبينه، فأرسلوا إليهم أنّ اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً... وطلبوا من الأحزاب رهائن ضماناً لبقائهم معهم.

وهنا لم يبقَ عند الأحزاب- بعد الذي سمعوه- شكّ فيما قاله نعيم، فداخلهم الشك والقلق من حلفائهم بالأمس، ثمّ راحت الأحوال الجوّية هي الاخرى تؤدّي دوراً آخر، فهطول الأمطار وغزارتها وهبوب الرياح وبرودتها والعواصف وشدّتها قلعت خيام الأحزاب وبعثرت أمتعتهم، فأدخلت بذلك الرعب والخوف عليهم.

وهم في هذه الحالة المقلقة، داخلهم وهمٌ أنّ المسلمين بدأوا يقتربون من مواقعهم، مقدّمةً لمداهمتهم.

وراحت هذه الأوهام والمخاوف تتجذّر في نفوسهم فإذا بطلحة بن خويلد وقد نادى: أنّ محمّداً يعبر إلينا ويورثنا الهلاك فالتمسوا النجاة، وما إنصكّ هذا


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 3: 240- 242.

ص: 183

النداء آذان أبي سفيان حتّى نادى بمثله.

فرحلت الأحزاب تحت جنح الظلام، وعند الصباح لم يكن لهم أثرٌ يذكر.

قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها... (1).

والجنود الأولى هم: قريش وغطفان وبنو قريظة، والجنود الاخرى هم الملائكة. وباءت خطّة يهود بني قريظة بالفشل الذريع، وحلّ بهم جزاء فعلتهم هذه العقابُ العادل.

إذ كان دورهم وغدرهم مساوياً إلى دور قريش وغطفان ولا يقلّ عنهما أبداً إن لم يكن أشدّ من ذلك وأمضى فعدو الداخل قد يكون أكثر خطراً من عدو الخارج وأعظم كيداً. لهذا ترى القرآن الكريم يذكرهم جميعاً بمنزلة واحدة إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ...، إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ... والجنود هم: بنو قريظة الذين جاءوهم من فوقهم، والذين جاءوهم من أسفل منهم قريش وغطفان (2).

جزاؤهم

إذن بنو قريظة ارتكبوا خيانةً كادت تودي بالجماعة المسلمة وتقضي على الدين الجديد، وفي أقلّ التقادير عرّضت المجتمع الجديد ورسالته لأخطر موقف وأشدّه، وكاد أن يترك آثاره السيئة على الحالة الإسلامية لولا رحمة السماء، وقد استشهد من المسلمين نتيجة هذا التحالف القذر والتآمر الدني ء ستّة نفر.

فخيانتهم للعهد وغدرهم برسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وممالأتهم لمشركي قريش وتقديم العون لهم، وتعاونهم مع منافقي المدينة في أن يجعلوا أنفسهم عامل هدم للمسلمين


1- 1 الآيات 9- 25 من سورة الأحزاب.
2- 2 انظر الآيات الخاصّة بوقعة الخندق وبني قريظة 9- 27 من سورة الأحزاب.

ص: 184

من داخل المدينة، لتشتيتصفّهم وتضعيف كيانهم.

وأيضاً إصرارهم على مواقفهم هذه التي منبعها الخبث والحقد مع كلّ جهود رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في أن يحيّدهم، إلّاأنّهم زادوا عناداً وإصراراً على موقفهم هذا.

خيانة عهد وعداء قذر للمسلمين، وإعلام مضاد شنّوه ضدّهم، وتعاون مع المنافقين، وتحريض الأحزاب وإمدادهم بما يحتاجون إليه.

ما إن مكث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والمسلمون قليلًا لصلاة الظهر حتّى أمر مناديه أن يؤذن في الناس: «مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يصلّين العصر إلّافي بني قريظة».

فتوجّه المسلمون من فورهم إلى حيث حصونها وقلاعها يتقدّمهم الإمام علي عليه السلام برايته. حتّى إذا دنا سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله فرجع حتّى لقى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالطريق، فقال: يارسول اللَّه، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث، قال: لِمَ؟ أظنّك سمعت منهم أذى؟ قال: نعم، يارسول اللَّه، قالصلى الله عليه و آله: لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً.

تقول الرواية: فلمّا دنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من حصونهم، قال: يا إخوان القِردة، هل أخزاكم اللَّه وأنزل بكم نقمته؟

قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولًا.

وكما تقول الرواية: إنّ جبريل سبق رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- بعد أن أبلغه أمر السماء بالتوجّه إليهم- نحو بني قريظة ليزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم.

وحاصرهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خمساً وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وقذف اللَّه في قلوبهم الرعب، ولمّا تيقّنوا أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال أحدهم وهو كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارض عليكم خلالًا ثلاثاً، فخذوا أيّها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال:

نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فواللَّه لقد تبيّن لكم أنّه نبيٌّ مرسل، وأنّه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.

ص: 185

قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره.

ثمّ طلب منهم أن ينزلوا إلى المسلمين ليقاتلوهم، فاعتذروا مرّةً بأنّهم لا يستطيعون قتل نسائهم وأبنائهم كما طلبها هو، ومرّةً بأنّهم لا يريدون إفساد سبتهم.

فقال لهم: ما بات رجل منكم منذ ولدته امّه ليلة واحدة من الدهر حازماً (1).

ثمّ طلبوا من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يبعث لهم أبا لبابة بن المنذر؛ ليستشيروه لكنّه لم يحسن التصرّف، وقصّته معروفة (2).

ولمّا يئسوا من مقاومتهم للمسلمين وإنهاء الحصار المضروب عليهم طيلة هذه المدّة، نزلوا على حكم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وشفعت لهم الأوس وهم حلفاؤهم في الجاهلية، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: فذاك إلى سعد بن معاذ. وقبل اليهود بحكمه قائلين: ننزل على حكم سعد بن معاذ، ثمّ قال له جمع: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إنّما ولّاك ذلك لتحسن فيهم... فقال: عليكم بذلك عهد اللَّه وميثاقه،... فإنّي أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبى الذراري والنساء.

تقول الرواية: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة (سموات، الواحدة: رقيع) (3).

وهذا نتيجة خيانتهم وغدرهم وتآمرهم، وتمّ قتلهم وفيهم حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأسهم، واختلف في عددهم فقول: إنّهم ستمائة أو سبعمائة، وقول:


1- 1 انظر السيرة النبوية 3: 246- 247.
2- 2 انظر السيرة النبوية 3: 247 وما بعدها.
3- 3 انظر السيرة النبوية 3: 251.

ص: 186

إنّ عددهم كان بين ثمانمائة وتسعمائة (1).

ولم يقتل من نسائهم إلّاامرأة واحدة، تلك التي طرحت الرحى على خلّاد بن سويد فقتلته، أمّا بقية نسائهم وأطفالهم فقد قسمت بين المسلمين، وبعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بحصة الدولة منها إلى نجد فبيعت هناك، واشترى بها سلاحاً وخيلًا عدّة للمسلمين.

قال تعالى:

وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْصَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (2).

ويبدو أنّ سعد بن معاذ لم يكن في حكمه هذا بعيداً عمّا ورد في شريعة اليهود في أعدائهم إذا ظفروا بهم، ومن العدل أن يحكم فيهم بما يحكمون به أعداءَهم.

فهذه التوراة، في سفر التثنية 10- 15 تقول:

«حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير وتستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة كلّ غنيمة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربّ إلهك».

حوار مع رئيس بنك التنمية الاسلامي


1- 1 السيرة النبويّة 3: 252.
2- 2 سورة الأحزاب: 26- 27.

ص: 187

حوار مع رئيس بنك التنمية الإسلامي

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس بنك التنمية الإسلامي المحترم:

بدءاً نقدِّم لكم جزيل شكرنا، لهذه الفرصة الطيّبة لإجراء هذا اللقاء الخاصّ لمجلة ميقات الحجّ الذي تفضّلتم به علينا ونحن لكم من الشاكرين، وندعو اللَّه سبحانه وتعالى طيب الإقامة لكم في الجمهورية الإسلامية.

: في بدء لقائنا هذا، يودّ قرّاء مجلّة ميقات الحجّ التعرّف على شخصكم الكريم، فهلّا تتفضّلون بذلك مشكورين؟!

أحمد محمّد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية، من مواليد المدينة المنوّرة حيث أكملت بها دراساتي الابتدائية والثانوية، ثمّ التحقت بجامعة القاهرة وتخرّجت من كلّية التجارة وكلية الحقوق، ثمّ عملت في وزارة المعارف لمدّة ثلاث سنوات قبل أن أذهب للدراسة في الولايات المتّحدة الأمريكية حيث حصلت على الماجستير من جامعة ماشگن، والدكتوراه في الإدارة العامّة والإدارة المالية من جامعة ولاية نيويورك، بعدها عُينت رئيس جامعة

ص: 188

الملك عبد العزيز بالنيابة عند إنشاء هذه الجامعة وخدمت بها خمس سنوات، ثمّ عُيِّنت وكيلًا لوزارة المعارف بالشؤون الفنّية وبعدها تشرّفت بأن انتُخبتُ رئيساً للبنك الإسلامي للتنمية في عام 1395 ه- 1975 م.

ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل رئيساً للبنك الإسلامي للتنمية باستثناء فترة سنتين كنت انتخبت أميناً عامّاً لرابطة العالم الإسلامي، فمعنى ذلك أنّني خدمت الآن حوالى ما يقرب من سبعة وعشرين عاماً في البنك الإسلامي للتنمية رئيساً لهذه المؤسّسة.

: منذ سنوات عديدة والحجّاج خاصّة الإيرانيين منهم كانوا يتمنّون أن تكون هناك طريقة للاستفادة من ذبائح الهدي، فمن أيّ وقت فكّر معاليكم في حلّ هذه المشكلة؟

في الحقيقه البنك الإسلامي للتنمية يشرف حالياً على تنفيذ مشروع المملكة العربية السعودية للإفادة من أضاحي الحجّ الذي انشئ عام 1403 هجرية بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين، وقد تمّ تنفيذه والإشراف عليه من قبل لجنة مكوّنة من عدد من الجهات الحكومية، وهناك العديد من الوزارات وهي: وزارة الأشغال العامّة والإسكان باعتبارها الجهة المشرفة على مشاريع وزارة الداخلية ووزارة المالية والاقتصاد الوطني ووزارة الحجّ ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ووزارة العدل ووزارة الشؤون البلدية والقروية ممثّلةً بأمانة العاصمة وهي إمارة منطقة مكّة المكرّمة لها ممثِّلون في هذه اللجنة التي تشرف على تنفيذ مشروع المملكة العربية السعودية للإفادة من أضاحي الحجّ، واسند تنفيذ هذا المشروع إلى البنك الإسلامي الدولي، ومنذ عام 1403 هجرية وهذا المشروع يتطوّر تدريجيّاً بفضل الإمكانات التي وفّرتها حكومة المملكة العربية السعودية

ص: 189

لإنشاء المجازر الحديثة المجهّزة. وقد تطوّر هذا المشروع منذ عام 1403 هجرية فاستفيد من حوالى 63 ألف رأس في حين وبحمد اللَّه في العام الماضي تجاوزت الأغنام التي استفيد منها 600 ألف رأس إلى جانب حوالى 6000 رأس من الجمال والبقر، فالمشروع بحمد اللَّه تطوّر تدريجيّاً. الآن جميع المجازر الموجودة في المشاعر تعمل في إطار هذا المشروع، في الأوّل بدأت مجزرة واحدة نموذجية هي معيصم رقم واحد، ثمّ مجزرة نموذجية معيصم رقم اثنين، ثمّ معيصم رقم ثلاثة، ثمّ مجزرة الجمال والأبقار، ثمّ مجزرة السنبلة بعد ذلك المجزرة القديمة ازيلت وحلّت محلّها خيام حديثة للحجّاج وانشئت المجزرة الحديثة التي افتتحت من قبلصاحب السموّ الملك عبداللَّه بن عبد العزيز وليّ العهد نائب رئيس مجلس الوزراء العام قبل الماضي.

فالمجزرة هذه لها سنتان تعمل من العام الماضي كما شاهدتم بأنفسكم كانت الإدارة أحسن من العام السابق، ونتوقّع السنة القادمة تكون أفضل، وكلّ سنة إن شاء اللَّه نستفيد من تجارب السنوات الماضية لخدمة حجّاج بيت اللَّه الحرام، ونحن أيضاً سعيدون للتعاون القائم مع منظمة الحجّ والعمرة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وللتعاون الوثيق والقوي القائم بين المشروع وبين بعثة المنظمة المذكورة.

: معالي رئيس بنك التنمية الإسلامي، في الوقت الحاضر المشروع في أيّ مرحلة من مراحله؟ وكم هو عدد الحجّاج الذين يقومون بذبح الأضاحي عن طريق البنك؟

طبعاً الإحصاءات التي بأيدينا هي إحصاءات متعلّقة بعدد الذبائح، وهناك بعض الحجّاج يأتون بوكالات عن أشخاص ربما أنّهم ما حجّوا يطلبون

ص: 190

منهم تقديمصدقات نيابة عنهم، فالإحصاء الذي لدينا لا يدلّ بدقّة على عدد الحجّاج، ولكن لدينا إحصاء عدد الأغنام التي تمّ شراؤها من الحجّاج، نحن عندنا إحصائيات، سوف نعطيكم إحصائية كاملة، من بداية المشروع عام 1403 هجرية إلى حجّ العام الماضي 1420 هجرية، سنعطيكم إيّاها بدقّة إن شاء اللَّه تعالى.

: بقيّة الحجّاج من ناحية ذبح الأضاحي ماذا يعملون، هل يقومون بأداء حجّ الافراد أو يذبحون من مسالخ مكّة المكرّمة؟

طبعاً هناك عدّة فئات كما تفضّلت، بعض الحجّاج المفردين الذين ليس عليهم دم أي أنّهم لا يذبحون طبعاً هم في خيار الصيام فبعضهم يصومون ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعوا وتلك عشرة كاملة، وعند الشوافع هؤلاء يذبحون الهدي بمجرّد التمتّع حينما يأتي متمتّعاً، فبمجرّد أنّه يتمتّع بالعمرة يقوم بذبح الهدي، فيقومون بأداء هديهم قبل الحجّ من مجازر مكّة العادية، وقليل من الحجاج أيضاً حتّى أيّام الحجّ يذبحون في مجازر موجودة في مكّة وفي مجزرة البديرة هذه البعيدة عن منى، أمّا المجازر الموجودة حاليّاً حول مشعر منى وأنتم تعرفون أنّها لصيقة بحدود منى الشرعية، هذه المجازر كلّها تأتي في إطار مشروع المملكة للإفادة من الحجّ.

: كيف أقدمتم على حلّ المسائل الشرعية بالنسبة لنحر الأضاحي؟

طبعاً هناك كثير من الامور الشرعية كما تعلم، وهناك العديد من المدارس الفقهية. فنحن والحمد للَّه تعالى نعتزّ بثروة الفقه الإسلامي، كما تعلمون عندنا ثروة كبيرة؛ فلذلك هناك العديد من الآراء في طرق أداء المناسك، فنحن نحاول بقدر المستطاع أن نلبّي وجهات نظر جميع هذه

ص: 191

المدارس من أجل أن يقتنع الحجّاج بما يقومون به والاسلوب الذي يقومون به بأداء هذا النسك العظيم، فمثلًا بالنسبة للاخوة الأحناف والاخوة في المذهب الجعفري الذين يرون، أو الذين يأخذون بالآراء الفقهية التي ترى وجوب ترتيب أعمال أيّام النحر بمعنى أنّهم يرون أنّ الحاج بعد أن يرمي جمرة العقبة عليه أن يقوم بأداء الهدي، ثمّ بعد ذلك الحلق أو التقصير ثمّ التحلّل الأوّل في حين أنّ- كما تعلمون- رأي الجمهور يرى عدم وجوب هذا الترتيب وإنّما إذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصّر يؤذن له أن يتحلّل في أداء اثنين من الثلاثة، فهؤلاء الناس طبعاً ممكن أنّهم يحلّون إحرامهم خلافاً للمدارس الفقهية الاخرى التي هي غير ذلك، فلمساعدة هؤلاء المشروع أوجد نظام الوكالة، فهذا المشروع يُتيح لكلّ ثلاثين حاجّاً أن يرسلوا وكيلًا عنهم، وهذا الوكيل يُعطى تصريح بدخول المجزرة والإشراف على أداء النسك الخاصّ به وبموكّليه وله أيضاً إذا رغب أن يذكّي أصالةً عن نفسه أو نيابةً عن موكِّليه ويأخذماشاء من اللحوم ومن الذبائح، وهذا الوكيل حينئذٍ يخبر موكّليه أنّه تمّ أداء النسك في تلك الساعة، وحينئذٍ يتمكّنون من أن يفكّوا الإحرام ويتمكّنوا من التحلّل الأوّل بعد أن يكونوا قد رموا جمرة العقبة. هذه وسيلة من الوسائل التي أمكن معالجة ما يذهب إليه الاخوة الحجّاج الذين يتّبعون المذهب الجعفري أو يتّبعون رأي الإمام الحنفي. هناك العديد من التوصيات الاخرى أنا كنت ذكرت بعضها.

: هل يرى معاليكم أنّ في حالة ازدياد عدد المسالخ وإيجاد تسهيلات أكثر للحجّاج، فسوف يتمكّن أكثر عدد من هؤلاء الحجّاج من نحر الأضاحي عن طريق بنك التنمية الإسلامي؟

الرسولصلى الله عليه و آله قرّر أربعة أيّام للذبح وهي يوم عيد النحر وأيّام التشريق

ص: 192

بأكملها، فنحن الآن الإمكانات الموجودة تفي بجميع احتياجات الحجّاج، ففي العام الماضي على سبيل المثال من بعد عصر اليوم الثاني قفلنا وحدتين من الوحدات الأربع في المجزرة الحديثة واكتفينا بوحدتين فقط، لأنّ الطاقة موجودة، لو كان الطلب أكثر لما قفلنا وحدتين، فمعنى ذلك الطاقات الموجودة الآن في المجازر كافية لتلبية جميع حاجة حجّاج بيت اللَّه الحرام في السنوات القليلة المقبلة بإذن اللَّه تعالى.

: في السنة الماضية كثير من الحجّاج الإيرانيّين كانوا مسرورين بالطريقة التي يستفاد بها من لحوم الأضاحي، وهذا عمل خير وكانوا مسرورين لهذا، ولكن في بعض الامور هناكصعوبات حدثت لبعضهم؛ منعتهم من الاستفادة، وكان السبب الذي لمسه المسؤولون عندنا أنّ بعض الرجال الذين كانوا موجودين هناك والمأمورين لم يكن عندهم النشاط اللازم من أجل القيام بهذه المهمّة، فكيف تقيِّمون هذه المشكلة، وهل رأيتم حلّاً لها؟

الحقيقة في العام الماضي هناك نقص في أعداد الجزّارين العمّال بعد ظهيرة اليوم الأوّل، لكن الحمد للَّه أمكن التغلّب ومعالجة هذه المشكلة بحيث إنّه أمكن ذبح أكثر عدد ممكن في اليوم الأوّل، ولا تحضرني الآن الإحصائية لكن أُحاول أن أحصل عليها، ذُبحت أعداد كبيرة جدّاً وفي اليوم الثاني بعد الظهر تقريباً المجزرةصار فيها عدد قليل من الناس يعني ظهيرة اليوم الثاني كان أغلب الحجّاج تقريباً قد تمكّنوا من استكمال الذبح أو النحر بحيث كما أخبرتك أنّنا تقريباً بعد ظهر أو بعد عصر اليوم الأوّل أقفلنا وحدتين من وحدات المجازر الأربع؛ لأنّه ما كان عليها طلب ما كان هناك حجّاج وهذا تقريباً من عصر اليوم الثاني. فمعنى ذلك الحمد للَّه جميع احتياجات الحجّاج لُبّيتْ قبل مغرب اليوم الثاني وهذا شي ءٌ عظيم.

ص: 193

: هل بإمكانكم توفير العدد اللازم من الأضاحي التي تتوفّر فيها الشروط اللازمة وفقاً لمذهب الشيعة، فمثلًا على سبيل المثال سلامة آذانها والقرون وباقي الأشياء؟

مشروع المملكة لنحر الأضاحي الهدف الأساسي من قيامه هو توفّر جميع الشروط الشرعية والبيطرية في كلّ ما يعرض من الأنعام في المجازر، هذا هو الهدف الأساسي والأوّل؛ فلذلك حينما يعلن عن توفير الأغنام توضع جميع الشروط الشرعية والتي يجب توفّرها، فإذا كان هناك شروط اخرى غير التي نحن نعرفها في رأي الجمهور خاصّة بالمذهب الجعفري أرجو إعطائي إيّاهاو والبنك يسعى بإذنه تعالى إلى توفير الأغنام والأنعام التي تحمل هذه الشروط، ونحن على استعداد لمراجعة العلماء الأجلّاء في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

: معالي رئيس بنك التنمية الإسلامي، ماذا تتوقّعون من الحجّاج الإيرانيّين حين ذبح الأضاحي في المكان المخصّص؟

أوّل شي ء نرجوه هو أن يأتوا من الصباح الباكر حين يبدأ الذبح فبعد أن يسلِّم الإمام فيصلاة المشهدصلاة العيد ويقول: السلام عليكم، بعد انتهاء هذه الصلاة يبدأ الذبح يعني تقريباً من الساعة السابعة والسابعة والنصفصباحاً إلّاأنّ وكلاء الحجّاج لا يأتون إلّاالساعة 30/ 9- 10 فيضيع وقت ثمين من الصباح الباكر تكون المجازر خالية؛ لذلك نحن رجونا من الاخوة المسؤولين في منظّمة الحجّ والعمرة أنّ وكلاء السيّدات باعتبارهنّ ينفرن من مزدلفة بعد منتصف الليل مباشرة ويتمّ رمي جمرة العقبة مبكّراً، وكلاء السيّدات يأتون إلينا مبكِّرينصباحاً حتّى نستفيد من فترة الصباح يعني ساعات مهمّة جدّاً هذه واحدة.

ص: 194

الأمر الثاني: بالنسبة للتفويج أن يكون هناك تفويج منظّم بحيث فترات الندوة ما يكون فيها ازدحام أكثر ممّا يجب.

الأمر الثالث: أنّه طبعاً لا يمكن ذبح جميع الأغنام في اليوم الأوّل؛ لأنّه كما ذكرت يتمّ ذبح ما بين 600 إلى 700 ألف في خلال فترة الحجّ فلا يمكن ذبح الكلّ في اليوم الأوّل، فلذلك نرجو أن يكون هناك تنظم بحيث إنّه جزء من الهدي يتمّ ذبحه في اليوم الثاني ونحن نعد بإذن اللَّه بأنّه في اليوم الثاني جميع ما يتبقّى من الهدي يتمّ ذبحه قبل مغرب اليوم الثاني بإذنه تعالى.

: كيف يتمّ الاستفادة من الأضاحي؟ ولأيّ الدول تصدّر هذه الأضاحي؟

وبالنسبة لمصاريف النقل هل بنك التنمية يقوم بدفعها أو الدول التي تصدَّر إليها تدفع مصاريف النقل؟

بالنسبة للاستفادة كما تعلم وكما ذكرت أوّل شي ء بعد التأكّد من جميع الشروط الشرعية والصحّية، والتأكّد من سلامة الأغنام والذبائح وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي، يتمّ التوزيع من أوّل أيّام العيد- عيد الأضحى المبارك- على حجّاج بيت اللَّه الحرام في منى كما يتمّ التوزيع أيضاً على فقراء الحرم، وبعد ذلك يتمّ إرسال كمّيات إلى حوالى 27 دولة من الدول الإسلامية، ويتمّ الشحن بكلّ وسائل النقل، فعن طريق البرّ يتمّ الشحن برّاً إلى الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين وإن كان هذه السنة قد منعت السلطات الإسرائيلية من دخول الأغنام إلى الأراضي الفلسطينية، ولكن في السنوات السابقة كنّا نرسل شحنات أيضاً إلى فلسطين عن طريق البر، يتمّ الشحن جوّاً أيضاً ابتداءً من ثاني أيّام عيد الأضحى المبارك للاجئين الأفغان في الباكستان وإلى الدول الافريقية التي لا موانئ لها، وهناك شحنات جوّية تنقل إلى الخرطوم في السودان وإلى جمنة في شاد وإلى

ص: 195

نيامي في النيجر وإلى وكدوگو في بركي نقاسو وإلى ماكو من مالي، ويتمّ الشحن بحراً إلى موانئ البحر الأحمر في السويس والسودان، جيبوتي وحينما تكون الأحوال مستتبّة في الصومال نرسل إلى الصومال وشرق افريقيا كانت ترسل شحنات إلى بمبسة من كينيا وإلى دار السلام من تنزانيا وزنجبار وإلى جزر القمر وإلى موزنبيق، وهناك باخرة يكون فيها حوالى ما يزيد عن 55 ألف رأس إلى بنگلادش مباشرة وهناك باخرة اخرى لغرب افريقيا تنقل إلى جميع الموانئ- موانئ الدول الإسلامية في غرب افريقيا بدءاً من نواكشوط موريتانيا إلى دكار في السنغال وإلى بنجو في گامبيا إلى غينيا بياو وغينيا كركلي وفري تاون في سيرالؤن وهناك شحنة أيضاً تُرسل إلى آذربايجان وإلى ألبانيا وإلى البوسنة والهرسك، هذه تقريباً بإيجاز الأماكن التي تمّ التوزيع لها.

بالنسبة إلى تكاليف الشحن أوّل ما بدأ المشروع من أوّل سنة في البنك الإسلامي للتنمية، كانت التكلفة حوالى 10 مليون ريال تحمّل البنك الإسلامي في التنمية التكلفة كاملة، ثمّ بعد ذلك كان الحجّاج يصرّون على المساهمة في تكاليف الجزّارين والبيطريين والمشرفين وتكاليف الإيصال إلى المستحقّين، وفعلًاصار الحجّاج يسهمون في هذه التكاليف في السنوات الاولى كان يصير عجز كان البنك الإسلامي يسدّد هذا العجز، ثمّ بعد ذلك أصبح الآن مساهمات الحجّاج تغطّي المصاريف الجارية التي هي كما ذكرت مصاريف الجزّارين والأطبّاء البيطريين والمشرفين وتكاليف النقل، أمّا تكاليف إنشاء المجازر فهي طبعاً تكاليف عالية جدّاً، يعني الحاج لا يساهم في تكاليف المجازر، وبالنسبة للتوزيع هذا تقريباً التكاليف إلى الآن يساهم فيها الحاج بتغطية كامل تكاليف النقل حالياً، الآن لو نبغي نقلها إلى أماكن اخرى تحتاج إلى تكاليف اخرى ولئلّا نضيف تكاليف إضافيةصرنا نطلب

ص: 196

أي طلب جديد يأتينا الآن أو نطلب من الجهة التي تتقبّل بأن تتحمّل تكاليف النقل إلى تلك البلدان وذلك لأنّه في الوقت الحاضر ما عندنا أيّ مبالغ إضافية لنقل إضافي إلى أماكن جديدة، ولهذا السبب نحن شاكرون لمؤسسة إمداد الإيرانية التي تفضّلت ووافقت على أن تنقل على نفقتها 20 ألف رأس من ميناء جدّة إلى إيران، ونرجو أن يكون ذلك في الوقت القريب إن شاء اللَّه. أرجو أن أكون قد أجبت عن سؤالك.

: معالي رئيس بنك التنمية الإسلامي؛ نشكركم جزيل الشكر على هذا اللقاء وعلى هذه الفرصة التي أتحتموها لمجلّتنا وكان عندنا أسئلة اخرى لكنّ وقتكم ضيّق ولا نريد مزاحمتكم أكثر من هذا، نتمنّى لقاءكم في فرصةٍ اخرى.

الحجّ في الأدب العربي

ص: 197

الحجّ في الأدب العربي

مكّة والبيت المبارك في عيون الشعراء

بيتٌ بَنَتْهُ يد التقوى وشيّده أبو النبيّين.. للأجيال يرفعهُ

أمجاده في كتاب الدهر حافلةٌ ثوبُ الجلال عليه الربُّ يخلعهُ

تدرّعت بسياج الدين حُرمتهُ واللَّه من عبث الباغين يمنعهُ

أوْلاهُ بالحجّ تشريفاً وتكرُمَةً حتّى غدت موئل التقديس أربعُهُ

وكعبةُ الروح بالتوحيد شاهِدَةٌ كالشمس تسطعُ نوراً وهي مَنْبعهُ

ولمّا رأت أبصارهم بيته الذي قلوب الورى شوقاً إليه تضرّمُ

كأنّهم لم ينصبوا قطّ قبْلَهُ لأنَّ شقاهُمْ قد ترحَلَّ عنهُمُ

فلِلَّهِ كم من عبرةٍ مُهراقةٍ واخرى على آثارها لا تقدَّمُ

وقد شرِقت عين المحبّ بدمعها فينظر من بين الدموع ويُسجمُ

إذا عايَنَتْهُ العين زال ظَلَامُها وزال عن القلب الكئيب التألّمُ

ولا يعرفُ الطرفُ المُعاين حُسنهُ إلى أن يعود الطرفُ والشوق أعظمُ

ولا عجبٌ من ذا فحينَ أضافه إلى نفسه الرحمن فهو المعظَّمُ

كساه من الإجلال أعظم حُلّةٍ عليها طِرازٌ بالملَاحَةٍ معْلَمُ

فَمِنْ أجل ذا كلُّ القلوب تحِبّهُ وتخضع إجلالًا له وتُعظّمُ

***

في عيوني من بيت مكّة نورٌ وبقلبي ومهجتي وشعوري

ص: 199

مِل ءُ روحي، وحقِّ نافخ روحي لهفةٌ نحو بيته المعمورِ

إنّه في بصيرتي يتراءى رغم غَمضي وحُلْكَةِ الدَّيجورِ

وكأنّ الآيات من كِسوة الكع - بةِ، تزهو على السواد الوقورِ

نُقِشَتْ فوق غُرّةِ الدهرِ هَدْياً أبديّاً، بجوهرٍ من نُورِ

بسمةُ المؤمن النقيّ يُناجي في الدّجى ربّه بقلبٍ طهورِ

مشرقٌ كالسنا، كومضة نارٍ أوقدتْ للسراة في رأس طور

***

وكأنّي والبيت يُشرقُ حولي شامخ المجد في سنا الأسحارِ

ذاب جُرمي في ماء زمزمَ حتّى خِلْتُني طِرتُ من خِلال إزاري

جاوز الروح بي معالِمَ أرضي فالسموات والعوالم داري

والمفاهيمُ، في مسارِح روحي والمِساحاتُ، غيرُ ذات قرارِ

فقيامي في الحِجْر، لاحَ سُجوداً وسجودي، سبْحٌ مع الأقمارِ

ص: 200

وانطلاقي أسعى، هدوءٌ مريحٌ ووقوفي، سياحةٌ في البراري

وضجيجُ الحجيج حولي سكونٌ وبسمعي جأرة الأحجارِ

وتلّفت الأقصى وبين جُفونهِ دمعٌ وبين ضلوعه نيرانُ

يتناجيان وكُلّ نجوى حُرْقة ولَظَىً يزيد أواره الحدثان

لا تلتقي العينان إلّاوالدِّما لهبٌ وكُلُّ بطاحِهِ بُركانُ

يا لوعةَ الأقصى! ودوّتْصرخَةٌ يطويصداها ذِلّةٌ وهوانُ

أين التُّقاة! وما تقوم بآية إلّا وكانصدى القيام سِنانُ

مناجاة في الحجّ

قد فاض قلبك أشواقاً وتحنانا لبيته الطاهر المعمور إيمانا

نوازع الشوق في الأضلاع ثائرةٌ حرّى تؤجّج في الأعماق نيرانا

هَاهمْ ضيوفك في شوقٍ وفي لهفٍ جاءوا إليك زَرافاتٍ ووحدانا

مهلّلين ولحن الحبّ يجمعهم والقلبُ يُرسِل في الأعماق ألحانا

ص: 201

وكلّهم أملٌ يرجون مغفرةً وهم يناجون بالإخلاص رَحمانا

إنّي لأعجز عن تصوير مشهدهم حيث الصفاء وحيث الكونُ مزدانا

طافوا على حُرقٍ والنفس في قَلقٍ حتّى غدا القلب بالإيمان ريّانا

اللَّه أكبر ما أحلى اجتماعهمُ قد أصبحوا في ظلال البيت إخوانا!

كأنّهم ولباس الطهر زينتُهم ملائِكٌ مُلِئوا حبّاً وإيمانا

جئناك ياربّ والأشواق تغمرنا هاجت بنا الروح أفراحاً وتحنانا

وهذه (الكعبة الشمّاءُ) قِبلتُنا مهوى القلوب وفيها السَعْدُ وافانا

تَسْلُو همومك في أعتاب حضرته والقلبُ من ظمأٍ قد بات لهفانا

فأنت عند كريمٍ في ضيافته تخلى نفسك في الفردوس نشوانا

لا يفترون عن التكبير عاليةً أصواتهم كهدير الموج مِرْنانا

يامَنْ يُجيب دُعا المضطرّ يرحمهُ فهب لنا من لدنْكَ اليوم غفرانا

ص: 202

أحسِنْ إلينا تجاوز عن مساوئِنا يا مَنْ يُجازي على العصيان إحسانا

فرّجْ كروباً دَهَتْنا- وهي مظلمةٌ واغفر ذنوباً وصفحاً عن خطايانا

ولا تُحمّلُ نفوساً فوق طاقِتها نشكو إليك فهل واسيت شكوانا؟

كلُّ ابن آدم خطّاءٌ وخيْرهُمُ مَنْ بات معترفاً بالذنب أشوانا

وهاهي الفرحةُ الكبرى تموجُ بنا فكلُّ قلبٍ غدا بالصفو جَذْلانا

ربّاه وارحم (عُبَيْداً) ذابَ من وجَلٍ وراح يسكبُ في الأنفاس أشجانا

وقد تجلّى عليهم بالرِضى كَرَماً ما أكرم اللَّه ما أسماه مولانا!

تبارك اسمك بالإحسان تنفحُنا تبارك اسمك بالغفران تغشانا

إنّا عبيدُك حاشا أن تُخَيّبَنا وأنْ نرى منكَ إعراضاً وحرمانا

فاشمل بعفوكَ يا مولاي جمعهمُ واجعل (ضيوفك) أوفى الخلق ميزانا

صلّى الإله على طه وعترته الكون أصبح بالمختار مُزدانا

شخصيات من الحرمين الشريفين (12) خبّاب بن الأَرَتّ من الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون

ص: 203

شخصيات من الحرمين الشريفين (12) خبّاب بن الأَرَتّ من الذينصبروا وعلى ربّهم يتوكّلون

حسن محمّد

الحديث عن مدرسة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الأولى لا ينتهي ولا يقف عند حدٍّ، فما إن نختم الكلام عن تلميذ من تلامذتها وشخصية من شخصياتها وعظيم من عظمائها وشهيد من شهدائها.. حتّى يجرّنا الحديث أو يبدأ عن آخر هو في العظمة لا يقلّ عنصاحبه، وفي التضحية والإيثار لا يكون أدنى منه.. وفيصدق الإيمان وعمقه لا أظنّه إلّامساوياً له أو قد سما عنه، فهم يتبارون بإيمانهم ويتسابقون لنيل أرقى مراتبه ودرجاته في الدنيا وفي الآخرة.

إنّها مدرسة عظيمة ذات آفاق واسعة وجذور عميقة ثابتة، فهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين؛ لأنّصانعها ومؤسّسها عظيم، راحت يداه المباركتان تمدّانها بقوّة، وراح قلبه الحاني يخصّها بحنانه وشفقته، وراح علمه يُصبّ عليها، ولا ينضب له نبعٌ ولا يضوي له طلع، إنّه ماء موصول وطلع نضيد..

وها نحن الآن أمام شخصية من شخصيات هذه المدرسة النبويّة المحمّدية الأصيلة، أمامصحابي جليل انتشله الإسلام من واقع مرير، قنٍّ ضعيف وعبد

ص: 204

ذليل فإذا هو فارس مُهاب، ومقاتل شجاع، يحسب له أعداؤه ألف حساب...

فكان عظيماً من عظماء الإسلام.. من فرسان الجهاد في سبيله تعالى، يدعو إلى الحقّ لا لغيره، ويدعو إلى العدل لا لسواه، ويدعو للإسلام الحنيف لا لدين غيره وكيف يدعو لغيره، وهو يعلم أنّه وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (1)

؟! إنّه قمّة في المبادئ والقيم وفي الصدق والإخلاص حتّى نال حظوة كبيرة عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وعند المسلمين ومن قبلهم عند اللَّه تعالى.

ونِعمَ ما قال عنه إمامُ الموحِّدين عليّ عليه السلام: «رحم اللَّه خبّاباً! أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر، ولن يُضيع اللَّه أجر من أحسن عملًا» (2).

لقد كان سلاحه اليقين والتقوى، قلبٌ مملوء بهما، وكفٌّصلبة تمسك سيفاً أبىصاحبه أن يضعه ما دام الإسلام بحاجة إليه، لم يفتأ هذا السيف يطارد الكفر والشرك والطغيان، فقد شهد مشاهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كلّها، تراه في بدر يعلو هامات الأعداء وتراه في أحُد هو الآخر يمزّق جموعهم، وتراه في معارك الإسلام الاخرى فارساً جوّالًا بين الصفوف لا يهاب عدوّاً ولا يخاف باطلًا...

كان هذا الصحابي الجليل من أولئك الأوائل الذين حظوا بأن يكونوا قاعدة الانطلاق الاولى للإسلام والنخبة الصالحة له بعد أن آمنت به دعوةً وجاهدت في سبيلهصادقةً، يوم لم تكن هناك مطامع دنيوية يبغونها، ويوم لم تكن هناك منافع شخصية يحوزونها، بل عذاب مستمرّ وصبر دائم وجهاد متواصل ضد المشركين، الذين راحوا يكيدون لهم الكيد كلّه ويذوقونهم أنواع العذاب، لقد آمنت هذه الطليعة إيماناً خالصاً وأحبّت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حبّاًصادقاً، وسعت في الدفاع عنه يوم


1- 1 سورة النحل: 42.
2- 2 انظر العقد الفريد لابن عبد ربه 3: 201.

ص: 205

كان وحيداً لا يقف معه إلّانخبةصالحة من عشيرته وعدد قليل من أصحابه، لا يشوبهم شك فيه ولا ينتابهم ريب في دعوته وصدقه- لقد ادرعت هذه العصابة بالايمان والإيمان وحده لتقاوم ماصبّ عليها من بلاء وما نالته من أذى وعذاب، خاصّة هؤلاء الذين هم ضعاف المجتمع الحجازي يومذاك، العبيد، طبقة سخّرت لمصالح اقتصادية وتجارية وخدمية، قام على أكتافها المجتمع المكّي، خَدَمته بأقلّ الأثمان، رغيف خبز لا غير، ووضع ذليل وسخرية تنصبّ عليهم من أسيادهم، وسياط تنهال على ضلوعهم وظهورهم...

لقد كان خبّاب واحداً من أولئك الذين وصفهم المشركون الطغاة بأنّهم «الأرذلون» وراحت هذه التسمية يطلقونها عليهم ويعيّرونهم بها حتّى بعد أن أعلن هؤلاء الزعماء المشركون إسلامهم، بقيت في نفوسهم وعلى ألسنتهم، بغض قديم وسخرية متأصّلة لم يتخلّوا عنها حتّى بعد إعلانهم الشهادتين.

لفظة ليست جديدة إنّها قديمة قدم دعوة التوحيد وقد رافقت أكثر مَن آمن بدعوة نوح وهود وصالح وإبراهيم... أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ اْلأَرْذَلُونَ (1)

، وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ (2)

. إنّه استعلاء بل طغيان اتصف به هؤلاء الذين أرادوا علواً في الأرض وأرادوا فيها فساداً، يسمّون أنفسهم أشراف القوم أو ساداتهم وزعماءهم..

إنّها الجاهلية العمياء التي لا ترى لأصحاب الدعوات الصالحة أي فضل وأي كرامة ما دام الذين سبقوا إليها هم من ضعاف الناس وأقلّهم مالًا وسلطاناً.

كيف يؤمن طغاة قريش برسالة محمّدصلى الله عليه و آله وقد سبقهم إليها عمّار وأبوه ياسر وامّه سمية، وخباب،...؟!


1- 1 الشعراء: 111.
2- 2 هود: 27.

ص: 206

لقد أدرك خبّاب الفرق بين الحرية والعبودية فنأى عن الثانية مصوّباً وجهه نحو الاولى وكان يعلم الثمن الباهظ الذي سيدفعه فداءً لعمله هذا، يعلم أنّ الثمن قد يكون حياته، لكنّه رأى أنّ الموت بعزٍّ خيرٌ من الحياة بذلّ، الموت مؤمناً أفضل من الموت كافراً، الموت قويّاً أجمل من أن يموت ضعيفاً.

لقد أدرك خبّاب البون الشاسع بين الحقّ والباطل... بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ (1)

فنبذ الباطل وأعرض عنه والتحق بصفوف الحقّ متجاوزاً ما سيتركه فعله هذا عليه من عذاب واضطهاد وتشريد.

لقد أدرك خبّاب طعم العلم وذلّ الجهل، فأدار بوجهه بعيداً عن جاهلية عمياء نحو نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ... (2)

؛ لهذا فقد خلد خبّاب واخوانه، وخلد ظالموهم أيضاً، إلّاأنّ الفرق كبير والبون شاسع بين الفريقين، وبين الخلودين، فأولئك دخلوا التاريخ مؤمنين مجاهدين غير ظالمين وقد خلدوا فيه وهم يحملون هذه الصفات العظيمة فيما دخل هؤلاء التاريخ طغاة متجبّرين ظالمين، وقد خلدوا فيه أيضاً، وهم يحملون أبشع الصفات وأقذرها. فشتّان شتّان بين الخلودين!

*** خبّاب، الأرت. لغةً

ما إن يقرأ شخص أو يسمع باسم هذا الصحابي الجليل حتّى يلتفت إلى غرابة اسمه دون أسماء الصحابة الآخرين، فيعود إلى معاجم اللغة، ليرى ماذا تقول في خبّاب وفي الأرتّ، فيجد أنّ الخبب: هو نوع أو ضرب من العدو، أو الرمل، أو هو السرعة، وقد خبّت الدابّة تخبّ بالضمّ خبّاً وخَبباً وخَبيباً.


1- 1 سورة الحجّ: 62.
2- 2 سورة المائدة: 15- 16.

ص: 207

وهناك قول آخر: إنّ الخبب هو أن ينقل الفرس أيامَنه جميعاً، وأياسره جميعاً أيضاً، وقيل: هو أن يراوح كلّ من الفرس والبعير بين يديه ورجليه.

ومن العجب أنّ هذه كلّها منصفات الفارس والفروسية.

إلّا أنّي عثرت على معنى آخر للخبب وهو الخداع، فرجل خبٌّ أي خدّاع، خبّب فلان غلامي أي خدعه، والقول المأثور: الحرب خدعة. هذا في خصوص خبّاب.

أمّا ما يتعلّق بالأرتّ فتاؤه مشدّدة، وهو الذي في لسانه عجلة أو عقدة أو قلة أناةٍ... فلا يطاوعه لسانه عند إرادة الكلام، فإذا شرع يتكلّم اتّصل كلامه، وهناك من يقول: إنّ أبا خبّاب كان كذلك يرتل في كلامه، أو في لسانه رتّة أي عجمة (1).

فيما نسب كلّ من الواقدي والبلاذري هذه الرتّة في اللسان إلى خبّاب نفسه، حيث قال الواقدي: كان ألكن، إذا تكلّم بالعربية، فسمّي الأرتّ، وقال البلاذري:... وإنّه كانت به رتّة، وهما يتحدّثان عن ترجمة خباب (2).

نسبه وكنيته:

بعد أن عرّفته كتب التاريخ ومراجعه بأنّه خبّاب بن الأرتّ بن جندلة بن سعد ابن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم، وكنيته أبو عبداللَّه أو أبو يحيى أو أبو محمّد، إلّاأنّها اختلفت في نسبه (3).

فهو بين خزاعي، وتميمي، وزهريّ، وسباعيّ، والذي يبدو لي من مراجعة


1- 1 انظر في هذا لسان العرب لابن منظور 1: 341، 2 34، أعيان الشيعة لمحسن الأمين 6: 304، وتنقيح المقال للمامقاني 1: 395.
2- 2 انظر قاموس الرجال للعلّامة التستري 4: 155.
3- 3 أنظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير 2: 98؛ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني 1: 423؛ وأعيان الشيعة لمحسن الأمين 7: 75.

ص: 208

حياته أنّ السبب في هذا الاختلاف، هو الموضع الاجتماعي الذي عاشه والسباء الذي آلت إليه حياته، ممّا سبّب له هذا الانتماء المختلف فيه.

فلنستعرض أقوال المؤرّخين، فبعضهم قالوا: إنّه تميمي بالنسب، خزاعي بالولاء، زهري بالحلف، كان سبياً اشترته امرأة من خزاعة وأعتقته فهو خزاعي لحقه هذا بالولاء، وبما أنّها كانت من حلفاء عوف بن عوف بن عبد الحرث بن زهرة فهو زهري حلفاً، وأمّا نسبه الحقيقي فهو ابن مناة بن تميم جدّه السابع وبالتالي فهو تميميّ.

وهناك من يقول: إنّ سيّدته التي اشترته هي أُمّ أنمار بنت سباع الخزاعية، وأبوها سباع حليف عوف بن عبد عوف من بني زهرة (1). فسبّب هذا له أن يكون خزاعياً، وسباعياً من الأسباع، وزهرياً.

وقيل: بل هي أُمّ سباع بن عبد العزى الذي قتله حمزة يوم أحُد، وهي التي عنا حمزة بن عبد المطّلب، حين قال لسباع بن عبد العزى: هلمّ يا ابن مقطعة البظور (2)، وهو ما حدا ببعض المؤرِّخين إلى الذهاب بأنّ امّ خبّاب كانت ختانةً في مكّة. وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ امّ أنمار وامّ سباع كانت واحدة (3).

وقال غيرهم: هو عربي لحقه سباء في الجاهلية (4). وقال بعض: لم يلحقه سباء ولكنّه انتهى إلى حلفاء امّه بني زهرة (5).

وأنا إذ أبحث عن حياة هذا الصحابي عثرت على شخص آخر وهو أيضاًصحابي يحمل اسم خبّاب واسم أبيه، إلّاأنّه كان يكنّى أبا يحيى وكان عبداً لعتبة


1- 1 الإصابة 1: 423 وصفة الصفوة لابن الجوزي 1: 427.
2- 2 البداية والنهاية لابن كثير 7: 322.
3- 3 المنتظم لابن الجوزي 5: 138.
4- 4 أسد الغابة 2: 98.
5- 5 الإصابة 1: 423.

ص: 209

ابن غزوان المازني، وشهد معارك الإسلام ومنها معركة بدر الكبرى، وتوفي في المدينة أيّام خلافة عمر بن الخطّاب، سنة 17 أو 19 هجرية وله خمسون سنة، وصلّى عليه الخليفة (1).

وأنّه هو الذي كان طبّاعاً للسيوف بمكّة، لا هذا الذي هو موضع كلامنا، كما أنّ الثاني لم يكن قيناً فيما كان الأوّل قيناً (2)، إلّاأنّ ما اشتهر بين المؤرخين أنّ خبّاباً كان يقول: كنت رجلًا قيناً... وكان في الجاهلية قيناً حدّاداً يعمل السيوف (3).

وهو أقلّ شهرة من الذي هو محلّ كلامنا هذا. وإن ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّه هو واحد وليس شخصين اثنين.

خباب يصنع السيوف:

قدر لهذا الصبيّ أن يقع بين يديّ أمِّ أنمار الخزاعية، التي كانت تفتش لها عن غلام في سوق النخاسين في مكّة، وهو مكان يكتظّ بالعبيد، فوقع نظرها على هذا الغلام، فأعطت ثمنه وانطلقت به إلى منزلها، وإذ هي في طريقها راحت تحدثه وتسأله عن اسمه فقال لها: خباب.

وما اسم أبيك، فقال لها: الأرَتُّ.

فقالت له: ومن أين أنت؟

قال: من نجد.

فقالت: إذن أنت عربي!

قال: نعم ومن بني تميم.

قالت: وما الذي أوصلك إلى أيدي النخاسين في مكّة؟

قال: أغارت على حيِّنا قبيلة من قبائل العرب، فاستاقت الأنعام، وسبت


1- 1 انظر أسد الغابة 2: 101.
2- 2 تصحيفات المحدثين لأبي هلال العسكري: 111.
3- 3 أسد الغابة 2: 98؛ الطبقات الكبرى 3: 164، دلائل النبوّة للبيهقي 2: 55.

ص: 210

النساء، وأخذت الذراري. وكنت فيمن أخذ من الغلمان، ثمّ مازالت تتداولني الأيدي حتّى جي ء بي إلى مكّة، وصرت في يدك (1).

وما إن وصلت أم أنمار إلى منزلها حتّى دفعته إلى مَن يعلمهصناعة السيوف، فأتقنها، ثمّ استأجرت له دكاناً واشترت له عدّة، وراحت تستثمر قدرته وتستفيد من مهارته، وتستغله أيما استغلال. لكنّه اشتهر بهذه الصناعة وبدقّة عمله.

إسلامه:

لقد وجدت قلوب المستضعفين أمانها وطمأنينتها بالدعوة الجديدة، فقد عانت من الهوان والذلّ ما جعلها تصبوا لمنقذ لها كانت تعيشه حُلماً جميلًا فإذا به واقع أمام أعينهم، فراحوا يبادرون إلى التصديق به والتضحية في سبيله.

وخبّاب هذا واحد من أولئك العبيد الذين كانوا فئة كبيرة في المجتمع المكّي يسخّرهم سادة ذلك المجتمع في نواحٍ متعدّدة تجارية وزراعية وخدمية بأثمان رخيصة لا تتجاوز رغيف الخبز وافتراش الأرض، معاملة سيئة للغاية، وظلم نزل بهم، وحيف لا يفارقهم، وتعذيب لا يتوقّف؛ لهذا ما إن رأوا نور الإسلام يبزغ في مكّة إلّاوتراهم يؤمنون به ويتفانون في الدفاع عنه.

لقد كان سادس الذين آمنوا في مكّة وهو سبق عظيم ناله ومنزلة رفيعة ظلّت ترافقه في حياته، وذكرى حسنة ظلّت هي الاخرى وساماً خالداً.

تقول الرواية:

إنّ خبّاب بن الأرت أسلم سادس ستّة له سدس الإسلام (2).

والاخرى تقول:

أوّل من أظهر الإسلام سبعة، وعدّت منهم خبّاباً (3).


1- 1صور من حياة الصحابة، للدكتور عبدالرحمن رأفت باشا: 431- 432.
2- 2 أسد الغابة 2: 98؛ حلية الأولياء للأصفهاني 1: 143.
3- 3 أسد الغابة 2: 98؛ الوسائل إلى معرفة الأوائل لعبد الرحمن السيوطي: 96.

ص: 211

وثالثة تقول:

كان إسلامه قبل أن يدخل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله دار الأرقم وقبل أن يدعو بها (1).

فعن الإمام علي عليه السلام: السبّاق خمسة، فأنا سابق العرب، وسلمان سابق فارس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وخبّاب سابق النبط (2).

وذكر اليعقوبي في تاريخه:

كان أوّل من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء، وعلي بن أبي طالب من الرجال، ثمّ زيد بن حارثة، ثمّ أبو ذرّ، وقيل: أبو بكر قبل أبي ذرّ، ثمّ عمرو بن عبسة، ثمّ خالد بن سعيد بن العاص، ثمّ سعد بن أبي وقّاص، ثمّ عتبة بن غزوان، ثمّ خبّاب بن الأرت، ثمّ مصعب بن عمير (3).

وبإسلامه وإسلام رفاقه، بدأت حياتهم من جديد، حيث عبق الحرية والمساواة، وهم يسمعون: لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلّا بالتقوى. وقد آخى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعد الهجرة بين خباب وجبر بن عتيك، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلّها مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فيما وقع الخلاف بين علماء الرجال والمؤرخين في أنّه هل أدرك معركتيصفين والنهروان؟ فمنهم من قال:

أدركهما مع الإمام عليّ عليه السلام، ومنهم من قال: حال بينه وبينهما المرض والموت، فيما أدرك ابنه عبد اللَّه بن خباب النهروان فذبحه الخوارج وبقروا بطن امرأته (4).

إنّه لمن المعذَّبين!

ما إن علموا بإسلامه حتّى تحولقوا حوله، ولم ينفضّوا منه إلّاوقد أخذت سياطهم من جسمه مأخذها، لكنّها لم تنل شيئاً من إيمانه ولم تنخر عزيمته، ولم


1- 1 الطبقات الكبرى 3: 165.
2- 2 الخصال للشيخ الصدوق 1: 312.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 2: 23.
4- 4 انظر المامقاني في التنقيح 1: 395؛ والتستري في قاموسه 4: 158.

ص: 212

تضعف بناءه، إنّه إيمان عظيم وعزيمة لا تهين وبناء كالجبل لا يُهدّ...

كان خبّاب ممّن يعذّب في اللَّه سبحانه بمكّة في الرمضاء حتّى برص ظهره (1).

وعن عروة بن الزبير أنّه قال: كان خبّاب بن الأرت، من الذين يعذّبون بمكّة ليرجع عن دينه (2).

ويقول الشعبي عنه:

لقدصبر «خبّاب» ولم تلِن له بين يدي الكفّار قناة أو أعطوهم [بعض المعذَّبين من المسلمين ] ما أرادوا حين عذّبوا إلّاخباب بن الأرت، أو إنّ خباباًصبر ولم يعطِ الكفّار ما سألوا، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرَّضَف (3)، حتّى ذهب لحمه أو لحم متنه (4).

لقد حوّل كفّار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل «خبّاب» والذي كان يصنع منه السيوف.. حوّلوه كلّه إلى قيود وسلاسل، كان يُحمى عليها في النار حتّى تستعر وتتوهّج، ثمّ يطوّق بها جسده ويداه وقدماه... (5).

لقد ذهب خبّاب بن الأرت وبعض رفاقه المعذَّبين إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، لا أظنّهم جزعين من التضحية بل كانوا راجين العافية.

يقول خبّاب: شكونا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وهو متوسّد بُردةً له في ظلّ الكعبة، قلنا له: ألا تدعو اللَّه لنا؟

قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، ويمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدّه ذلك عن دينه، واللَّه ليُتمّنَّ هذا الأمر حتّى


1- 1 انظر تصحيفات المحدّثين: 111.
2- 2 الطبقات الكبرى 3: 165.
3- 3 الرضف: الحجارة المحمّاة.
4- 4 ذكر هذا خالد محمد خالد في رجال حول الرسول: 293.
5- 5 خالد محمد خالد، رجال حول الرسول: 293.

ص: 213

يسير الراكب منصنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلّااللَّه، أو الذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون (1).

راحت كلمات رسول اللَّهصلى الله عليه و آله تترك بصماتها عليهم، فعادوا منه وقد ازدادوا إصراراً على مواقفهم وعاهدوا ربّهم أن يجعلوا أنفسهم نماذج للعطاء والتضحية والاستبسال في سبيله، حتّى يجعلوا كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.

لم يبقَ أحدٌ من المشركين وزعمائهم بل وحتى سيّدته امّ أنمار التي كان عبداً لها راحت هي الأُخرى تشفي غليلها منه، تمسك حديدة محمّاة ملتهبة لتضعها مرّة فوق رأسه وأُخرى فوق جسده، وكان خبّاب بين هذه وتلكصامتاًصابراً لا ينطق بشي ء ولا يظهر لهم حتّى الأنين، فيشفيصدورهم، ويُرضي كبرياءَهم وجبروتهم، فراح غيضهم يزداد، وحنقهم يعظم... وكان يعينها على ذلك أخوها سباع بن عبد العُزى... وقد أقرّ اللَّه تعالى عيني خباب برؤية سباع هذا وقد نال جزاء شركه وظلمه حيثصرعه سيّد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب في معركة أحد.

وهو بهذه الحال يعذّب بين أيديهم إذ به يسمعصوت حبيبه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو ينطلق من قلبٍ مملوء شفقة وألماً ومرارةً عليه: «اللّهمَّ انصر خبّاباً».

ما أعجل الجزاء الذي نزل بسيّدته العنيد أُمّ أنمار! راحت تعوي كالكلاب بعد أن اصيبت بسعار عصيب، حتّى وصفوا لها علاجاً لا ينفعها إلّاأن تضع رأسها بالنار كي يكوى، وقد قدر لخباب أن يتولى هذا العمل فكان يأخذ الحديدة المحماة فيكوي بها رأسها. (2) فكان عقابها من جنس ما اقترفته يداها، إنّه العقاب العدل!.


1- 1صحيح البخاري 3: 1322 ح 3416.
2- 2 أسد الغابة 2: 98.

ص: 214

آيات ترعاهم:

وراحت قيم الإسلام وكلمات الرسول الكريم تدقّ إسفيناً بينهم وبين كبار قريش ومترفيهم وطغاتهم..

إنّه الإسلام، إنّه النور الذي يشقّ الظلام ويبعث الحياة من جديد.

كما راح القرآن يواكبهم ويرافقهم ويحيطهم بالرعاية، ضدّ قريش التي ما انفك طغيان زعمائها وكبرائها من ملاحقة هؤلاء المستضعفين، والسخرية منهم والتعالي عليهم... حتّى بعد إعلانهم الشهادتين والتحاقهم بالصفّ الإسلامي ظاهراً وهو ما يبدو من المتابعة الدقيقة لحياة الكثير منهم، فقد كانوا أقرب للنفاق منه إلى الإسلام...

فيما راحت آيات القرآن الكريم تدحض كيدهم وتطيح بتآمرهم ودسائسهم، التي ما انفكوا يحيكونها ضدّ هذه الفئة المظلومة المستضعفة من الصحابة المؤمنين، كما راحت تشيد بهؤلاء الثلّة المؤمنة وبصدق إيمانهم، وتحضّ على الوقوف معهم وعدم تركهم وحدهم وسخرية واستهزاء زعماء قريش تلاحقهم، والتصدّي لكلّ تآمر ضدّهم، وعدم الاستجابة لمطالب هؤلاء الطغاة والمستكبرين، بل أخذت هذه الآيات تغدق على هؤلاء المعذّبين أوسمةً عظيمةً ظلّت تشكّل ذكرى طيّبة خالدة لهم في الدُّنيا والآخرة:

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (1).

نزلت بعد أن مكثت قريش على ضلالها وعنادها وكبريائها وهي ترى ضعاف مجتمعها يؤمنون برسالة محمّدصلى الله عليه و آله ليكونوا شوكةً تنخر مجتمعها الفاسد وكيانها الضالّ، وجنوداً لثورة عارمة ضد طغيانها وجبروتها.. كانت تدرك كلّ


1- 1 سورة النحل: 41.

ص: 215

هذا.. لهذا راحت تصبّ عليهم غضبها وتنزل بهم العذاب فلعلّها تحدّ من انتشار هذا الدين بينصفوفهم إن لم تستطع إيقافه وإماتته.. وإعادتهم إلى ما تعبد إلى دين آبائها وأجدادها أذلّةً خاسئين.

نزلت هذه الآية- على ما قاله الشيخ الطبرسي- في المعذَّبين بمكّة مثل:

صهيب وعمّار وبلال وخبّاب وغيرهم مكّنهم اللَّه بالمدينة، وذكر أنّصهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنتُ معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضرّكم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. فقال له أبو بكر:

ربح البيع ياصهيب.

ويروى أنّ عمر بن الخطّاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، قال له: خذ هذا ما وعدك اللَّه في الدُّنيا، وما أخّره لك أفضل، ثمّ تلا هذه الآية (1).

فيما قال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيّصلى الله عليه و آله بمكّة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذّبوهم وآذوهم، فبوّأهم اللَّه تعالى المدينة بعد ذلك (2).

حقّاً أنّ اللَّه تعالى بوّأهم مكاناً محموداً في الدُّنيا ومنحهم أجراً عظيماً في الآخرة، راحت تتغنّى بأمجادهم هذه الأجيال ويقتدي بسيرتهم الثوّار والمجاهدون، وراحوا يقفون عند مفاصل حياتهم الجهادية وهم يعذّبون وهم يخوضون غمار معارك الإسلام الأولى، كلّ هدفهم الشهادة فيكتمل بذلك موقفهم الإيماني، وتنزل بذلك النعم عليهم فهم بها غير زاهدين وليسوا بقليلها مقتنعين، إنّما كانوا يطلبون المزيد من كرامة الدُّنيا وثواب الآخرة، وكان ديدنهم الشكر قولًا وعملًا ومزيداً من التضحيات والتحمّل والصبر، وكانوا مصداقاً لقوله تعالى:


1- 1 تفسير مجمع البيان للطبرسي: 6/ 557، وفي تفسير الآية من سورة النحل.
2- 2 أسباب النزول للواحدي: 285.

ص: 216

لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ (1).

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ... (2).

نزلت في سلمان وأبي ذرّ وصهيب وعمّار وخبّاب وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّصلى الله عليه و آله وذلك أنّ المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يارسول اللَّه إن جلست فيصدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء روائحصنانهم (نتن الابط) وكانت عليهم جباب الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّاهؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّصلى الله عليه و آله يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللَّه عزّوجلّ، فقال: الحمد للَّه الذي لم يمتني حتّى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من امّتي، معكم المحيا ومعكم الممات (3).

.. وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ (4).

بعد أن يئست قريش من أن تصل إلى غايتها بأساليبها القذرة، بدأت باتّباع اسلوب آخر في تعاملها وملاحقتها للثوّار البررة لا يقلّ قذارةً عن الذي سبق، ألا وهو أن اطرد يا محمّد هؤلاء «عمّار وصهيب وبلال وخبّاب وسلمان وأبو ذرّ وغيرهم من الفقراء الذين آمنوا به حين كذّبه هؤلاء الذين يسمونهم بالأشراف، ونصروه حين خذله الناس الآخرون ومنهم هؤلاء الأثرياء وكبار قريش...»


1- 1 سورة إبراهيم: 7.
2- 2 سورة الكهف: 28.
3- 3 انظر مجمع البيان، للطبرسي 6: 717- 718.
4- 4 سورة الأنعام: 52.

ص: 217

فيكون لنا مجلس معك وكلام؛ لأنّه لا يليق بنا أن يضمّنا مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء العبيد وذوي الثياب الرثة، فنتساوى معهم، فلو نحيتهم عن مجلسك لتوافد عليك أهل الثراء والإشراف، وقد نتبعك، ما أشبه اليوم بالبارحة، حيث قال زعماء قوم نوح عليه السلام له: وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ (1)

إنّها الشأنية القذرة!

فلعلّها بهذه الطريقة توقع بين محمّد وصحبه وتزرع الشقاق في الجماعة المسلمة وتنخر بالجسم الواحد فيتفتّت، ولخطورة هذا الاسلوب، ولفداحة ما ينتجه وما يتركه على نفوس هؤلاء المعذّبين وهم يرون معذِّبيهم بين يدي رسول اللَّه معزّزين مفضّلين وهم عنه بعيدون إنّها ذلّة لا تستطيع نفوسهم تحمّلها! وهل هذا جزاؤهم؟! وهل هذه مكافأتهم؟!

سارعت السماء فأنزلت قرآناً يحسم هذا الكيد ويطيح به، وتثمن مواقف المعذّبين وتدين مواقف غيرهم.

يقول عبداللَّه بن مسعود:

مرّ الملأ من قريش على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وعندهصهيب وخبّاب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيتَ بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منَّ اللَّه عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل اللَّه تعالى: ولا تطرد....

قال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية؛ جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلّفة قلوبهم، فوجدوا النبيّصلى الله عليه و آله قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخبّاب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقّروهم، وقالوا:

يارسول اللَّه لو نحيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك، فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحي


1- 1 هود: 27.

ص: 218

أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثمّ إذا انصرفنا، فإن شئت فادعهم إلى مجلسك، فأجابهم النبيّصلى الله عليه و آله إلى ذلك، فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر عليّاً ليكتب.

قالا: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه السلام بقوله تعالى: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ... إلى قوله: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.

فنحّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الصحيفة، وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة. فكنّا نقعد معه (1).

وعن عكرمة قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفرٌ معهما سمّاهم أبو طالب، فقالوا: لو أنّ ابن أخيك محمّداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنّما هم عبيدنا وعُسفاؤنا (2) كان أعظم فيصدورنا، وأطوع له عندنا، فأتى أبو طالب النبيّصلى الله عليه و آله فحدّثه بالذي كلّموه، فأنزل اللَّه عزّوجلّ الآية.

قال: وكانوا بلالًا وعمّار بن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى اسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو وخبّاباً مولى امّ أنمار.

وكانت قصّة دَين خبّاب على العاص بن وائل سبباً في نزول آيات:

فعن خبّاب أنّه قال: كان لي على العاص بن وائل دَينٌ، حين كان قد باعه سيوفاً عملها له، فأتيته أتقاضاه، فقال لي: لن أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.

قال: فقلت له: إنّي لن أكفر بمحمّد حتّى تموت، ثمّ تبعث.

قال: وإنّي لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد.


1- 1 مجمع البيان للطبرسي، في تفسير الآية.
2- 2 العسيف: الأجير المستهان به، انظر لسان العرب: عسف.

ص: 219

قال وكيع: كذا قال الأعمش.

قال: فنزلت أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً* أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً* كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا* وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (1).

علمه:

كان خبّاب بن الأرت ممّن يُرجع إليه في القرآن قراءةً وحفظاً وفقهاً لمعانيه وفهماً لمقاصده، وكان استاذاً لجمع من الصحابة الذين كان منهم عبداللَّه بن مسعود، فقد كان من تلاميذه ومريديه.

ولمّا كانت الدعوة الإسلامية تعيش مرحلة الكتمان والسرّية في مكّة، كان هذا الصحابي الجليل يختلف سرّاً إلى إخوانه ممّن آمنوا وكتموا إيمانهم خوفاً من بطش مشركي مكّة وكبريائهم؛ ليحفّظهم ما ينزل من آيات القرآن الكريم ويعلّمهم ما تتضمّنه من معانٍ جميلة ومقاصد عالية. وهذه من النعم الكبيرة التي هيّأها الإسلام له بعد إسلامه وإخلاصه وجدّيته في تلقي علوم الإسلام ومعرفة آيات القرآن الكريم ومفاهيمه.

ممّا رواه وقاله:

ذكرت له عدّة روايات في كتب الأحاديث، لعلّها تصل إلى 38 حديثاً، منها:

تلك الرواية التي ذكرناها والتي قال فيها وجماعته لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا رسول اللَّه ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو اللَّه لنا؟... (2).

وهذه الرواية تبيّن طغيان وقسوة المستكبرين، وما عاناه هؤلاء المؤمنون بل ما تعانيه الأجيال المؤمنة على مرّ التاريخ من ظلم الطغاة وتعذيبهم وبشاعتهم...


1- 1صحيح مسلم 4/ 2064 ح 12،صحيح البخاري 2: 736- 737 ح 1985.
2- 2صحيح البخاري 3: 1322 ح 3416.

ص: 220

قال: هاجرنا مع النبيّصلى الله عليه و آله نريد وجه اللَّه، فوقع أجرنا على اللَّه، فمنّا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، وعلى قول آخر حمزة عمّ النبيّ، قتل يوم احد، وترك نمرةً (بردة)، فكنّا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن نغطّي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من إذخِر، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يَهديها (1).

ومنها الرواية التي نقلناها فيما سبق وكانت سبباً لنزول الآية أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا... (2).

أخبر جماعة من أصحاب خباب: بينما نحن في المسجد إذ جاء خباب بن الأرتّ فجلس فسكت، فقال له القوم: إنّ أصحابك قد اجتمعوا إليك لتحدّثهم أو لتأمرهم.

قال: بم آمرهم؟ ولعلّي آمرهم بما لستُ فاعلًا.

قال قيس: أتيت خبّاباً وهو يبني حائطاً له، فقال: إنّ أصحابنا. وفي رواية اخرى أصحاب محمّدصلى الله عليه و آله مضوا لم تنقصهم الدُّنيا شيئاً، إنّا أصبنا من بعدهم شيئاً، وفي رواية: وإنّا أصبنا من الدُّنيا ما لا نجد له موضعاً إلّاالتراب (3).

موقفٌ خالدٌ:

قضى الشطر الأكبر من حياته رضوان اللَّه عليه في فقر وفاقة، حاله حال الكثير من إخوانه المؤمنين، إلّاأنّه في أواخر عمره منَّ اللَّه تعالى عليه فاغتنى حتّى ذكر أنّه ملك ما لم يكن يحلم به من الذهب والفضّة.

ومع هذا كلّه بقي هذا الرجل كما عرف عنه زاهداً لم تغيره الدنيا ولم تضعف إيمانه؛ لهذا راح يتصرّف فيما جعله اللَّه مستخلفاً فيه بوجه لا يخطر على بال أحد.


1- 1 المصدر نفسه 3: 1415 ح 3684.
2- 2صحيح البخاري 2: 736- 737 ح 1985.
3- 3 المصدر نفسه 5: 2362- 6069 ح 6066.

ص: 221

وضع ماله ودراهمه و دنانيره في مكان من بيته غير مستور، أي لم يخبئه، ولم يشدد عليه رباطاً ولم يحكم عليه قفلًا، وقد أذن لمن هو في حاجة أن يأخذ منه ما يسدّ حاجته دون أن يسأله أو يستأذن منه؛ لينال بذلك رضا اللَّه تعالى .

ومع موقفه هذا من الذي بين يديه، تراه يخشى من أن يكون غناه وثراؤه هذا أجراً لما قدمه من مواقف وتضحيات في سبيل اللَّه، استوفاه في الدنيا. فقد حدّث جمع من أصحابه قائلين:

دخلنا على خباب في مرض موته، فقال:

إنّ في هذا المكان ثمانين ألف درهم، وإنّي ما شددت عليه رباطاً قطّ، ولا منعت سائلًا قطّ، ثمّ بكى .

فقالوا له: ما يبكيك؟

فقال: أبكي لأنّ أصحابي مضوا ولم ينالوا من أجورهم في هذه الدنيا شيئاً، وأنني بقيتُ فنلتُ من هذا المال ما أخاف أن يكون ثواباً لتلك الأعمال، أو لقد خشيت أن يذهب بأجورنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ما أصبنا من الدنيا.

الكوفة:

لأسباب عديدة، قد يكون الوضع السياسي في خلافة عثمان بن عفان واحداً منها، غادر جمع من الصحابة مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله متوجّهين نحو الكوفة، حيث سبق وأن أقطع عثمان جمعاً من المسلمين ومنهم خباب والزبير... قطيعةً من أرض الخراج في الكوفة، اتخذوها سكناً لهم حينما تركوا المدينة.

تقول الرواية:

... كان الناس يقدمون على عثمان بن عفّان، وكان منهم ابن مسعود وابن ياسر والزبير وغيرهم، فيسألونه أن يعوّضهم مكان ما خلّفوا من أرضهم بالحجاز وتهامة، ويُقطعهم عوضه بالكوفة والبصرة، فأقطع خبّاب بن الأرت

ص: 222

استينيا، قرية بالكوفة (1).

وفي خبر إنّما القطائع كانت على وجه الفضل من خمس ما أفاء اللَّه.

وفي رواية اخرى:

وابتنى- خبّاب بن الأرت- بالكوفة داراً في جهار سوج خُنيس (2)..

وفي معجم البلدان: يعرف بجهار سوج الهيثم بن معاوية من القوّاد الخراسانية، وهي كلمة فارسية... وهي من محالّ بغداد في قبلة الحربية، خرب ما حولها من المحال وبقيت هي والنصيريّة والعتّابيون ودار القزّ متّصلة بعضها ببعض كالمدينة المفردة في آخر خراب بغداد (3).

بعض ما قاله فيه علماء الرجال:

كان لخباب عند علماء الرجال منزلة محمودة وأنّه ثقة جليل، فقليلًا ما تخلوا كتبهم من ذكر اسمه وترجمة حياته والإشادة به.

فهذا شيخ الطائفة عدّه من جملة رجاله (4)، فيما قال عنه بحر العلوم (5) في رجاله: خباب بن الأرتّ التميمي أبو عبد اللَّه أحد السابقين الأولين الذين عذّبوا... فيما قال التستري في قاموسه:... وممدوحية خباب مسلمة كما عرفت من مدح أميرالمؤمنين عليه السلام له (6).

فيما ذكره العامّة ابن عبد البرّ وابن مندة وأبو نعيم... بأنّهصحابيّ جليل وأنّه كان من فضلاء المهاجرين الأولين... (7)


1- 1 انظر معجم البلدان، لياقوت الحموي. وتاريخ الطبري 2: 438.
2- 2 انظر تاريخ الكوفة: 398.
3- 3 انظر معجم البلدان 2: 193.
4- 4 رجال الطوسي: 19.
5- 5 رجال بحر العلوم.
6- 6 القاموس للعلّامة التستري 4: 156.
7- 7 المصادر نفسها.

ص: 223

وفاته رضوان اللَّه عليه:

كان هذا الصحابي الجليل على موعد مع ظهر (أي ما غلظ وارتفع) الكوفة، هناك حيث رقد جسده المعذّب بعدصبرٍ طويل ومثابرة عظيمة وثبات منقطع النظير في أن يبقى على العهد مؤمناًصادقاً مجاهداً حتّى يلقى اللَّه تعالىصابراً محتسباً. وبوفاته ودفنه في الكوفة كان أوّلصحابي يدفن فيها.

تقول الرواية وهي عن ابن خبّاب: كان الناس يدفنون موتاهم بالكوفة في جبابينهم، فلمّا ثقل خبّاب قال لي: أي بُني إذا متُّ فادفني بهذا الظهر، فإنّك لو قد دفنتني بالظهر قيل: دُفِنَ بالظهر رجل من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فدفن الناس موتاهم، فلمّا مات خبّاب رحمه اللَّه، دفن بالظهر فكان أوّل مدفون بظهر الكوفة (1).

وهذا محلّ اتّفاق المؤرِّخين إلّاأنّهم اختلفوا في سنة وفاته رضوان اللَّه عليه، فهناك من يقول:صلّى عليه عليٌّ وجهة منصرفه منصفّين (2)، وقول: في السنة السادسة والثلاثين من الهجرة (3). وقول آخر: إنّه توفّي في السنة التاسعة عشرة من الهجرة (4). وآخر بعد معركة النهروان سنة 39 هجرية. إلّاأنّ الأكثر شهرة أنّه توفّي في السنة السابعة والثلاثين من الهجرة، بعد ما شهدصفين مع عليٍّ رضي اللَّه عنه والنهروان، وصلّى عليه عليّ، وكان عمره إذ مات ثلاثاً وسبعين سنة...

فيما قال ابن الأثير بعد هذا: الصحيح أنّه مات سنة سبع وثلاثين وإنّه لم يشهد


1- 1 انظر الطبقات الكبرى 3: 167.
2- 2 حلية الأولياء 1: 147.
3- 3 الاستيعاب 1: 32.
4- 4 المصدر نفسه: 423- 424 والإصابة 1: 416.

ص: 224

صفّين، فإنّه كان مرضه قد طال به فمنعه من شهودها (1).

إذاً كان الإمام علي عليه السلام مشغولًا في حربصفّين، وترك خباباً مريضاً في الكوفة ولعلّ الذي يؤيّد كونه مريضاً، ما ورد في كلام الإمام عليه السلام الآتي. «وابتلي في جسمه فصبر». ولم يكن حاضر وفاته وهو ما توهّمه بعض.

الإمام علي عليه السلام مؤبِّناً

ما إن عاد الإمام علي عليه السلام من معركةصفّين ووصل إلى ظهر الكوفة حتّى سأل: ما هذه القبور؟ فقال قدامة بن العجلان اليزدي: يا أمير المؤمنين، إنّ خبّاب ابن الأرت توفّي بعد مخرجك، فأوصى بأن يُدفن في الظهر، وكان الناس إنّما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، فدفن بالظهر رحمه اللَّه، ودفن الناس إلى جنبه.

فوقف الإمام عليه السلام على هذه القبور قائلًا:

السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحالّ المقفرة! من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا فرط، ونحن لكم تبع، نزوركم عمّا قليل، ونلحق بكم بعد زمان قصير. اللّهمَّ اغفر لنا ولهم، وتجاوز عنّا وعنهم.

الحمد للَّه الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، والحمد للَّه الذي منها خلقنا، وعليها ممشانا، وفيها معاشنا، وإليها يُعيدنا، طوبى لمن ذكر المعاد، وقنع بالكفاف، وأعدّ للحساب (2)!

ثمّ قال عليه السلام مؤبّناً وقد انفرد بقبر غضٍّ رطيبٍ يضمّ رفات هذا العبد الصالح:

رحم اللَّه خبّاباً! لقد أسلم راغباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتلي في جسمه فصبر!

ولن يُضيع اللَّه أجر من أحسن عملًا (3).

اسرار وعلوم الحج


1- 1 أسد الغابة 2: 100.
2- 2 انظر: تاريخ الطبري 3: 108، وأسد الغابة 2: 100، ووقعةصفّين: 530، شرح نهج البلاغة 19: 206- 257.
3- 3 انظر العقد الفريد 3: 201، أسد الغابة 2: 100.

ص: 225

أسرار وعلوم الحج

عبدالقادر (1)

تقديم:

الحج عبادة عظيمة سنوية شرعها اللَّه للعباد ولما فيها من المنافع العظيمة وما تهدف إليه من المقاصد الجليلة ولما يترتّب عليها من خير في الدنيا والآخرة، وهي فريضة على جميع المكلّفين في جميع أقطار العالم رجالًا ونساءً إذا استطاعوا السبيل إليها حيث قال اللَّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ* فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (2)

، فالحج من أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، فهو يجمع معاني العبادات كلّها، فمن حج فكأنّماصام وصلّى واعتكف وزكى ورابط في سبيل اللَّه وغزا وجاهد الشياطين من الجن والإنس.

والحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عرضة سنوية للملّة الإسلامية


1- 1 استاذ مساعد في قسم اللغة العربيّة والدراسات الإسلامية في جامعة شيتاغونغ- بنغلاديش.
2- 2 سورة آل عمران: 96- 97.

ص: 226

يرجع إليها الفضل في نقاء هذه الأمّة وأصالتها وفي بقاء هذا الدين، بعيداً عن التحريف والغموض والالتباس، وفي بقاء هذه الامّة، بعيدة عن الانقطاع عن الأصل والمصدر والأساس، محفوظة من المؤامرات والمغالطات التي وقعت أمم كثيرة فريستها في الزمن الماضي، وعن طريق هذه المؤسسة العظيمة الحكيمة تبقى هذه الامة تحتفظ بطبيعتها الإبراهيمية الواعية، الثائرة القوية الحنفية السمحة وتتوارثها جيلًا بعد جيل فكأنها القلب الحيّ القويّ الذي يوزع الدم إلى عروق الجسم وشرايينه وبها تستعرض هذه الامّة مجموعها فيصعيد واحد، فينفي بذلك علماؤها وزعماؤها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وخرافة المخرفين ويردونها إلى الأصل الإبراهيمي الحنيفي وإلى الشرعة المحمّدية الصافية وإلى الدين الخالص، وبها تستطيع هذه الامة أن تحافظ على وحدتها الدينية والعقلية والثقافية وتعتصم عن أن تؤثر فيها الاقليمية والمحلية تأثيراً بفقدها الوحدة الحنيفية الإبراهيمية والصبغة الإسلامية المحمدية، فالحج هو الطريق الوحيد الذي يلتمس به الامّة الإسلامية مآثرهم القديمة كما تلتمس طرق حلّ مشاكلهم الفردية والاجتماعية والدولية التي تواجهها الامة في العصر الراهن.

معنى الحج لغة:

الحج- بفتح الحاء وكسرها- لغة هو القصد والإرادة، يقال: حج إلينا فلان:

أي قدم، وحجه يحجه حجاً أي قصده، ويقال: رجل محجوج أي مقصود، وقال جماعة من أهل اللغة: الحج: القصد لمعظم، والحج بالكسر: الاسم، والحجّة: المرّة الواحدة، قال الشاعر:

وقفت بها من بعد عشرين حجّة فهلا عرفت الدار بعد توهم

وهو من الشواذ، لأن القياس بالفتح، وقال ابن منظور: تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك والحج إلى البيت خاصة، تقول: حج يحج حجّاً، والحج

ص: 227

قصد التوجّه إلى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً وسنّة (1).

الحج في الاصطلاح:

الحج هو القصد إلى بيت اللَّه الحرام لأعمال مخصوصة في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة، أي: أنّ الحج هو قصد موضع مخصوص وهو بيت اللَّه الحرام وعرفة في وقت مخصوص وهو أشهر الحج للقيام بأعمال مخصوصة وهي الوقوف بعرفة والطواف والسعي بشرائط مخصوصة (2).

ثبوت فريضة الحج:

إنّ اللَّه تعالى قد فرض الحج على المسلم المستطيع في العمر مرّة واحدة فحسب، قد نزلت الآية بمناسبة فرض الحج عام الوفود في أواخر سنة تسع من الهجرة النبوية، فالنبيّصلى الله عليه و سلم قد أدّى فريضة الحج في حياته الطيبة مرّة واحدة في السنة العاشرة من الهجرة، في هذه السنة قد طهر بيت اللَّه الحرام من الرجس والأوثان كما طهّره من آثار الشرك والعصيان وعن نشاطات المشركين في رحاب الكعبة المشرّفة كما أمره تعالى: وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ اْلأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ (3)

وأيضاً قال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا (4).

قدثبت فرض الحج بالكتاب المحكم و السنّة النبويةصلى الله عليه و سلم وإجماع الامّة الإسلامية.

أ- ثبوت الحج بالقرآن:

قال اللَّه تعالى: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (5)

، وقال


1- 1 ابن منظور، لسان العرب 2: 226.
2- 2 الموسوعة الفقهية 17: 23.
3- 3 التوبة: 3.
4- 4 التوبة: 28.
5- 5 آل عمران: 97.

ص: 228

تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّه (1)

، وقال تعالى: وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (2).

ب- ثبوت الحج بالسنّة:

عن عبداللَّه بن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً رسول اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان (3)، وعن عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب وشديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منّا أحد حتى جلس إلى النبيّصلى الله عليه و سلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفّيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا... (4).

ج- ثبوت الحج بالإجماع:

قد وقع الإجماع في فريضة الحج حيث إنه لم يخالف أحد في فرضه من عصر الرسولصلى الله عليه و سلم إلى يومنا هذا (5).

فمن هذه الأدلّة- نحن نلاحظ- أنّ الحج واحد من أركان الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها، فمن جحد وجوبه وأنكر فرضيته أو شك فيه فهو خارج عن دائرة الايمان وعن حدود الإسلام وعن زمرة المسلمين، ومن أقرَّ بوجوبه وامتنع من فعله مع القدرة والاستطاعة عليه فكفى باللَّه حسيباً، فقد روى سعيد بن


1- 1 البقرة: 196.
2- 2 الحج: 27.
3- 3 الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح: 12.
4- 4 المصدر نفسه: 11.
5- 5 أبو الحسن علي الندوي: فقه العبادات: 465.

ص: 229

منصور عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطّاب: لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين (1). وأيضاً روي عن عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً (2).

فضائل الحج:

الحج له فضائل عظمى ومكانة سامية وأثر كبير في غفران الذنوب والآثام، وفي بناء المجتمع على أساس الشريعة الإسلامية، فالمرويات التالية تدل عليها:

أ- عن ابن شبرمة قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلًا وقال: لما جعل اللَّه تعالى الإسلام في قلبي أتيت النبيّصلى الله عليه و سلم فقلت: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم أبسط يمينك لأبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يغفر لي، قال: ما علمت يا عمرو أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها وأنّ الحج يهدم ما كان قبله (3).

ب- عن أبي هريرة قال: سُئل رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان باللَّه ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل اللَّه، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجّ مبرور، والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم (4) وقال الحسن: أن يرجع زاهداً في الدنيا وراغباً في الآخرة.

ج- عن أبي هريرة أن رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم قال: جهاد الكبير والضعيف والمرأة


1- 1 الحافظ أبو الفدا إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، مصر 1: 386.
2- 2 المصدر نفسه: 386.
3- 3 الخطيب التبريزي، مشكاة المصابيح: 14.
4- 4 المصدر نفسه: 221.

ص: 230

الحج والعمرة (1).

د- عن عائشة أنها قالت: يا رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم ترى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور (2).

ه- عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امّه (3).

و- وعن أبي هريرة عن النبيصلى الله عليه و سلم أنه قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلّاالجنّة (4).

الحج حكمته وفلسفته:

إنّ الحكمة والفلسفة في الحج هي تسلية الحج والبيت للمسلمين وتشويقهم وتقوية إيمانهم وغفران ذنوبهم... لأنّ الشوق غريزة في الإنسان الحي السليم وحاجة من حاجاته، فيبحث له عمّا يقضي به حاجاته ويروي غلته، وكان البيت العتيق وما حوله من شعائر اللَّه والحج وما فيه من مناسك خير ما يحقّق رغبته ويسلّي شوقه وعاطفته، وقد قال اللَّه تعالى في بيان هذه الحكمة والفلسفة: وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اْلأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (5)

، وأيضاً قال تعالى:


1- 1 سنن النسائي 2: 2.
2- 2صحيح البخاري 1: 206.
3- 3 المصدر نفسه: 206.
4- 4 الصحيح لمسلم 1: 436.
5- 5 الحج: 26- 29.

ص: 231

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (1).

يقول الإمام الغزالي: فالشوق إلى لقاء اللَّه تعالى يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أنّ المحبّ مشتاق إلى كلّ ما له إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى اللَّه تعالى،- فالبحري أن يشتاق اليه بمجرّد هذه الإضافة- فضلًا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل (2).

يقول الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي: ربما يشتاق الإنسان إلى ربّه أشد شوق، فيحتاج إلى شي ء يقضي به شوقه فلا يجده إلا في الحج (3).

أسرار الحج:

إنّ للحج ديناً يهدف- بعباداته- إلىصلاح الدين والدنيا، فالحج المؤتمر الإسلامي العظيم والاجتماع الحاشد، فيه من المنافع الدينية والدنيوية والثقافية والاجتماعية والسياسية ما يفوت الحصر والعد.

فأما المنافع الدينية: فما يقوم به الحاج من هذه العبادات الجليلة التي تشتمل على أنواع من التذلل والخضوع بين يدي اللَّه تعالى، فمنها تقحم الأسفار وإنفاق الأموال والخروج من ملاذ الحياة بخلع الثياب واستبدالها بإزار ورداء، حاسر الرأس وقد ترك الطيب والنساء وترك الترفه بأخذ الشعور والأظفار ثم التنقل بين هذه المشاعر، كلّ هذا بقلوب خاشعة وأعين دامعة وألسنة مكبِّرة ملبية، قد حدا بهم الشوق إلى بيت ربّهم، ناسين، في سبيل ذلك، الأهل والأوطان والأموال والنفس والنفيس، فما ترى ثوابهم عند ربّهم؟!

وأما المنافع الثقافية: فقد أمر اللَّه بالسير في الأرض للاستبصار والاعتبار


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين 1: 24.
3- 3 الشيخ ولي اللَّه الدهلوي، حجّة اللَّه البالغة 1: 75.

ص: 232

ففيه من معرفة أحوال الناس والاتصال بهم والتعرّف على شؤون الوفود التي تمثّل أصقاع العالم كلّه ما يزيد الإنسان بصيرة وعلماً إذا التقى بعلمائهم واتصل بنبهائهم فيجد لكل علم وفن طائفة تمثِّله.

وأما المنافع الاجتماعية والسياسية: فإنّ الحج مؤتمر عظيم يضمّ وفوداً متنوّعة العلوم، مختلفة الثقافات، متباينة الاتجاهات والنزعات، فإذا اجتمع كلّ حزب بحزبه وكلّ طائفة بشبيهتها ومثلوا «لجان الحكومة الواحدة» ودرسوا وضعهم الغابر والحاضر والمستقبل، ورأوا ما الذي أخّرهم وما الذي يقدِّمهم وما هي أسباب الفرقة بينهم وما أسباب الائتلاف والاجتماع وتوحيد الكلمة، وبحثوا شؤونهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس المحبّة والوئام وبروح الوحدة والالتيام، أصبحوا يداً واحدة ضد عدوّهم، وقوّة مرهوبة في وجه المعتدي عليهم على ضوء قوله تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ (1)

، وبهذا يصير لهم كيان مستقلّ خاص، له مميّزاته وأهدافه ومقاصده، يسمعصوته ويصغى إلى كلمته ويحسب له ألف حساب، وبهذا يعود للمسلمين عزّهم ويرجع إليهم سؤددهم ويبنون دولة إسلامية دستورها كتاب اللَّه وسنّة رسوله، شعارها العدل والمساواة، وهدفها الصالح العام وغايتها الأمن والسلام، حينئذ تتجه إليهم أنظار الدنيا وتسلم الزمام إليهم فيمسكونه بأيديهم، ويقوّضون مجالس بنيت على الظلم والبغي، ويبنون على أنقاضها العدل والإحسان، وبهذا يقرّ السلام ويستتب الأمن وتتجه المصانع التي تصنع للموت الذريع أسلحة الدمار والخراب، إلى أن تخترع المعدّات التي تساعد على التثمير والتصنيع وإخراج خيرات الأرض، فتحقق حكمة اللَّه بخلقه، ويحلّ الخصب والرخاء والأمن والسلام مكان الجدب والغلاء والخوف والدماء، كما قال


1- 1 الأنفال: 60.

ص: 233

تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً (1).

مقاصد الحج وأهدافه:

من مقاصد الحج الرئيسية تجديد الصلة بإمام الملّة الحنيفية ومؤسسها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والتشبّع بروحه، والمحافظة على إرثه، والمقارنة بين حياتنا وحياته وعرضها عليها، واستعراض ما يعيش فيه المسلمون في العالم، وتصحيح ما وقع في حياتهم من أخطار أو فساد أو تحريف، وإعادة ذلك كلّه إلى أصله ومنبعه. فالحج عرضة سنوية للملة تضبط أعمال المسلمين وحياتهم ويتخلّصون بها من نفوذ الامم والمجتمعات التي يعيشون فيها (2). قال الشيخ أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي: ومن مقاصده موافقة ما توارث الناس عن إبراهيم وبنيه إسماعيل عليهما السلام....

.... فمن الواجب المحافظة على ما استفاض عن إمامها كخصال الفطرة ومناسك الحج، حيث قال عليه الصلاة والسلام: قفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم (3).

إنّ مقاصد الحاج وأهدافه الفوز بالجنة والنجاة من النار وغفران الذنوب وحط الخطايا، إن ابراهيم عليه السلام قد دعا إلى ربّه لهذا البلد فاستجاب اللَّه هذا الدعاء فبعث محمّداًصلى الله عليه و سلم بالأمور التي بيّنها إبراهيم عليه السلام فرفعهم بالأخلاق الفاضلة وطهّرهم من الأخلاق الدنيئة والصفات المنكرة. إنّ أعظمصفات الامم الإسلامية التوحيد للَّه وحده وإخلاص العبادة له في جميع الأحوال وترك عبادة ما سواه والايمان به وبرسوله وبكلّ ما أخبر اللَّه به ورسله عمّا كان وما يكون، والايمان بنبيّه محمّدصلى الله عليه و سلم والاستقامة على دينه، هذا أصل هذا الدين وأساسه وتوحيد اللَّه والاخلاص له،


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 أبو الحسن علي الندوي، الأركان الأربعة: 249.
3- 3 ولي اللَّه الدهلوي، حجة اللَّه البالغة 2: 56.

ص: 234

وهو أعظم هدف للحج وأعظم مقصد أن يأتي العبد مخلصاً للَّه ويترك كل ما سواه ويقصد وجهه الكريم بالتلبية والدعاء ويكرّر: لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.

إنّ الحج هو العبادة الوحيدة الذي يمكن أن يظهر القوة والوحدة الإسلامية أمام الملحدين والغالين والمخالفين للدين الحنيف، ويطهر الأرض المقدّسة من المشركين الكافرين بأن يعبدوه وحده عند بيته الكريم ويطهروا ما حول البيت من الأصنام والأوثان وسائر ما حرّم اللَّه، ومن النجاسات ومن مؤامرات الشياطين ومن كل ما يؤذي الحجيج أو العمار أو يشغلهم عن هدفهم، فالبيت للمصلين وللطائفين وللعاكفين وهم المقيمون عنده يعبدون اللَّه فيه وفي حرمه الذي يجب أن يطهر لهم من كلّ ما يصد عن سبيل اللَّه أو يلهي الوافدين إليه من قول أو عمل.

قد أذن ابراهيم عليه السلام في الناس بأداء الحج، فأسمع اللَّهصوته لمن شاء من العباد، وأجاب الناس هذه الدعوة من عهده إلى يومنا هذا، ففي الحج منافع عاجلة وآجلة، فمن أعظم المنافع أن يشهدوا توحيد اللَّه تعالى والإخلاص له في الطواف ببيته والصلاة في رحاب بيته والدعوة له والإنابة إليه والتضرّع إليه واجتماعهم كاجتماع يوم المحشر وإتاحة الفرصة لهم حتّى يتبادلوا أفكارهم ومشاكلهم الفردية والاجتماعية والعالمية والتشاور فيما بينهم للتفتش لحل هذه المشاكل.

ومن مقاصد الحج أن يتعارف المسلمون ويتواصوا بالحق ويتناصحوا، فهم يأتون من كل فج عميق من غرب الأرض وشرقها وجنوبها وشمالها أي من أقطار الأرض كلّها، فيجتمعون في رحاب بيت اللَّه العتيق وفي عرفات وفي مزدلفة وفي منى وفي رحاب مكة يتعارفون ويتناصحون ويرشد بعضهم بعضاً ويسعون لمصالح عاجلة وآجلة، فيسعون في رحاب بيت اللَّه ومسجد رسول اللَّه لما فيه من الهداية والبلاغ والصلاح والفلاح والرشاد، فالحج- لا شك- موسم يشهده المسلمون من آفاق الأرض ونواحي العالم الإسلامي ليشهدوا منافع لهم.. يستطيعون فيه أن

ص: 235

يتبادلوا الرأي السديد والفكر الحصيف ويتعرّف بعضهم ببعض يجتمعون على كلمة واحدة راجحة راشدة.

تعاليم الحج:

في الحج فوائد عظمى وآثار كبرى تعود بالخير العميم والنفع الجليل للفرد والجماعة، فمنها:

الأوّل: الحج برهان عملي من المؤمن على أنه يفضل حبّ اللَّه تعالى على أهله وماله وعمله ودياره، فيتحمل مشاق السفر ومخاطر الطريق، تلبية لدعوة اللَّه تعالى وابتغاء لرضوانه.

الثاني: في الحج تعويد للحاج على الصبر؛ تحمل الشدائد، مفارقة الأهل والأولاد والأوطان وتمرين عملي على حياة الخشونة وشظف العيش لكي يكون المسلم مدرباً على خوض المعارك واقتحام الخطوب.

الثالث: فيه تقوية للايمان وتهذيب للنفس وتكفير للذنوب؛ لأن المؤمن يتفرّغ فيه للعبادة والتفكّر وذكر اللَّه تعالى، لا تشغله هموم الحياة ولا تفتنه بهارجها الزائلة.

الرابع: وفي الحج المساواة التامة، والاخوّة الإنسانية تتحقّق بأجلىصورها، فلا فرق بين أبيض وأسود ولا فرق بين فقير وغني ولا بين عربي وأعجمي...

فتكون هذه المشاهد سبيلًا لغرس هذه المبادئ الإنسانية في نفس المسلم بشكل عملي.

الخامس: يكتسب المسلم في الحج ثقافة واسعة وخبرة عملية حيث يختلط بالناس بمختلف ديارهم وأوطانهم، فيتعرّف أخبارهم ومشاعرهم.

السادس: يرى المؤمن البقاع الطاهرة التي شهدت مولد الإسلام واعتزت بمواقف الرسول الكريم وصحبه المجاهدين الأبطال الذين ضحوا بكلّ غال ورخيص، فتثور في نفسه كوامن العزّة والكرامة ودوافع الجهاد لإعادة عزّنا ومجدنا.

ص: 236

السابع: الحج وسيلة قوية لتعارف المسلمين وتعاونهم وائتلاف قلوبهم وجمع كلمتهم، فبالحج تحطم محاولات الأعداء في تمزيق الشمل وتفريق الصفوف وإقامة الحدود المصطنعة، ويشعر المسلمون في الحج: أنّ لهم قوّة كبيرة تحقّق لهم أهدافهم لو نظمت ووحّدت ووجّهت التوجيه الصحيح.

الثامن: الحج تجمّع إسلامي عام دوري يستطيع فيه قادة الرأي من المسلمين في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد أن ينتهزوا فرصة اجتماعهم لعرض مشكلاتهم في إطار الدين ومناقشتهم في جوّ من الحب والاخاء واتخاذ الحلول والسبل الحازمة لها.

التاسع: في الحج تكتّل واتحاد للكلمة في التوجّه إلى جهة واحدة ونحو هدف واحد وجمع لأشتات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها (1).

الحج مظهر الجامعة الإنسانية الإسلامية:

الحج انتصار للقومية الإسلامية على القوميات الوطنية والعنصرية واللسانية التي قد يصبح بعض الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، وهو إظهار لشعار هذه القومية، فتتجرّد جميع الشعوب الإسلامية عن جميع ملابسها وأزيائها الاقليمية التي تميّز بعضها عن بعض ويتعصّب لها أقوام، وتظهر كلّها في مظهر واحد يسمّى «الاحرام»، حاسرة رؤوسها ما بين رئيس ومرؤوس وصغير وكبير وغني وفقير وتهتف كلّها في لغة واحدة ونغمة واحدة: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».

هكذا تتجلّى القومية الإسلامية في اللباس والهتاف، وهما من أوضح ما تجلّت فيه قومية، وفي وحدة المناسك والغايات التي يقوم بها جميع الأفراد والشعوب ويسعى إليها العرب والعجم ويلتقي عليها القاصي والداني، فكلّهم يطوفون حول


1- 1 محمدصادق حسين، الحج عبادة وفلسفة، البعث الإسلامي، 1417 ه، العدد 4: 60- 61.

ص: 237

بيت واحد، ويسعون بين غايتين مشتركتين «الصفا والمروة» وكلهم يقصدون «منى» وكلّهم يؤمون «عرفات» ويقفون في موقف واحد وكلّهم يبيتون في مبيت واحد، فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (1)

، ويفيضون إفاضة واحدة، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (2)

، وكلّهم يقفون أياماً في منى تجمع بينهم اشغال واحدة من نحر وحلق ورمي.

الحج فريضة باقية إلى يوم القيامة ومؤسسة خالدة خلود هذه الامّة، فالمسلمون لا تبتلعهم القوميات كما ابتلعت امماً كثيرة ولا يصبحون ضحيتها ولا تكون بلادهم التي يحبّونها... قبلة يتوجّهون إليها وكعبة يحجّون إليها، إنما هي قبلة واحدة يتوجّه إليها الشرقي والغربي والعجمي والعربي، إنما هي كعبة واحدة يحج إليها الهندي والايراني والأفغاني والتركي والمسلم الأوربي والأمريكي وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (3)

، ويحنّ إليها المسلم في أقصى الأرض وينذر لهذه الرحلة النذور ويسعى إليها على الرأس والعين، ويعتبر ذلك غاية الأوطار وأقصى الأماني وأعظم السعادات (4).

الجوانب الإعلامية في الحج:

إنّ ما يقوم به الحجيج من أعمال التعارف والذكر والاجتماع على كلمة واحدة، وهتاف واحد فيصعيد واحد، وما يتجلّى في أداء مناسك الحج من مظاهر الوحدة والثقة ودعم عقيدة التوحيد، ورفع التلبية وتكرارها، يحمل كلّ ذلك من الفوائد الإعلامية الواقعية ما لا تتحمّله أجهزة الإعلام في عصر التقدّم العلمي والرقي


1- 1 البقرة: 198.
2- 2 البقرة: 199.
3- 3 البقرة: 125.
4- 4 أبو الحسن علي الندوي، الحج عرضة شرعية سنوية، البعث الإسلامي، 1412 ه، العدد 4: 19- 20.

ص: 238

الحضاري، فمن المعلوم أنّ الاعلام لا يهدف إلّاتركيز الفكرة أو الصورة، وترسيخ المفاهيم والمشاهد بوسائله المتعدّدة، ثم التأثير بذلك كلّه في عقول الناس ومرئياتهم، وقد قيل: إنّ الإعلام سلاح ذو حدّين، يبني ويهدم وينفع ويضرّ، كذلك أعمال الحج تحقّق هذه الغاية الإعلامية من تركيز العقائد وفضائل الأخلاق وتحريك الهمم وإيقاظ الروح وإشعال جمرة الايمان وإذكاء نار العداوة والبغضاء ضد الشياطين والوثنيات والكفر والعادات الخبيثة والأعمال القبيحة والمعاصي المدمّرة، وهي تبني معالم الهدى والسعادة والعلم والايمان وتخطّط للمستقبل الإنساني النيّر، وتوفّر لأهلها فرصاً سانحة للوحدة والتضامن والتعاون على البرّ والتقوى، وتهدم مسالك الغي والضلال، ومناهج الظلم والطغيان وتحطّم أغلال الشرك والعبودية والخنوع لغير اللَّه.

إذا كان الاعلام يرسم الخطوط ويضع القواعد ويفصل المناهج لتركيز الفكرة وتصويرالآلام والأحلام والآمال والأهواء، و تمثيل مناظر اللهو والمجون والفواحش والنكبات والصور الإنسانية من جميع الأنواع، فإنّ اعمال الحج ومناسكه تمثّل المشاهد الإنسانية والمناظر الجذّابة من الرباط الوثيق بين العبد وربّه وبيته و مشاعره والعلاقة المخلصة الجادة بصاحب الشريعة و حامل الوحي و رسالة الإسلام محمّدصلى الله عليه و سلم الذي بعث رحمة للعالمين، إنها تصور ذلك الواقع الإنساني الذي رفع البشر إلى أعلى قمّة من السعادة والهداية والطمأنينة والهدوء، كذلك فإنّ في الحج كلّ نوع من الاعلام والإبلاغ والتوجيه والدعوة والتمثيل والتصوير، فيه كلّ نوع من دروس الحبّ والهيام والتفاني في سبيل الهدف السامي، وفيه تزكية العواطف وتنزيه المشاعر وتنمية روح الفضائل بإزاء العداوة للشيطان والكراهية للرذائل والفرار من خداع النفس، وأخذ الحذر من كلّ ما يغري العبد المؤمن في طريقه إلى اللَّه، ومن كلّ ما يخدعه من المظاهر الكاذبة المزخرفة والاستفادة من الجوانب الإعلامية المتوافرة في هذا الركن العظيم، في النواحي الإيجابية والسلبية كلتيهما...

ص: 239

ثم إنّ جماعات الحجيج التي تمثّل جميع عواصم العالم وطبقات الامّة ومجتمعات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، تحمل الأنباء والأخبار عمّا يجري حول العالم من الظروف والأوضاع المتنوّعة، وتتولّى مهمة كشف الحقائق عن كثير من شؤون السياسة والاجتماع العالمية والنوايا والتحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي والمسلمين لتصفية الوجود الإسلامي حيناً، وإضعاف معنويتهم وثقتهم بخلود الإسلام وعالمية رسالته حيناً آخر (1).

كذلك تتضاعف البرامج بأنواعها وألوانها بنقل المشاهد والحقائق بأجهزة الاعلام المختلفة إلى جميع أنحاء العالم ممّا يفيد المجتمعات الإنسانية في العالم كلّه، ويزوّدها بصورة حيّة وبأشكال متحرّكة لمناسك الحج وأعماله في أجواء الربوع المقدّسة حيث يعيش ملايين الحجاج في وحدة ووئام ليس له نظير في أي أمّة ولا تاريخ، ولا سيما الخطبة التي تلقى في يوم عرفة لأحكام المناسك ودروس الحج، كما يذكر فيها مشاكل الامة الإسلامية وطرق حلّها، ويذكر فيها تعاليم الإسلام ومفاهيمه التي تكونصالحة لبناء الحياة الإسلامية... لقد علم النبيّصلى الله عليه و سلم امّته مناسك الحج وفسّر لها معالمه ومراميه ومفاهيمه بحيث لم يتركصغيرة ولا كبيرة، دقيقة ولا جليلة إلا أحصاها، فقد سجل التاريخ خطبته التي ألقاها بعرفات مخاطباً العدد الهائل من أصحابه الكرام وكان يبلغ هذا العدد أكثر من مائة ألف، إنما كانت خطبته هذه ميثاقاً للحياة الإسلامية والاجتماعية، ولكل ما جاء في هذه الخطبة من حرمة الحياة الإنسانية والأموال والأعراض وحقوق النساء والأولاد وشؤون سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية (2).


1- 1 بتغيير يسير من مقال «جوانب إعلامية مشرقة في الحج» لسعيد الأعظمي، البعث الإسلامي، 1413 ه، العدد 4: 3- 8.
2- 2 السيرة النبوية لابن هاشم 2: 603- 605، قد ذكرت فيه هذه الخطبة، أيضاً ذكرت في كتاب البيان والتبيين للجاحظ 2: 15- 17.

ص: 240

الختام:

لقد قدّر اللَّه لهذه الامّة الخالدة أن تعيش في بيئات مختلفة وفي أقاليم عديدة وتجتاز أدواراً كثيرة جدّاً، مختلفة جدّاً، من حرارة وقوّة وجمود وخمود وعنف وقسوة ومصارعة ومقاومة واغراءات مادية وسياسية، وتقدّم في الحضارة والمدنية وتوسع في المال وضيق وضنك وبذخ وترف وعسر ويسر وشدّة ورخاء وتسلّط عدو قاهر وملك جائر، وكانت الامّة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الايمان وإثارة عاطفة الحبّ والحنان وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فجعل الحج ربيعاً تورق فيه أغصان هذه الشجرة الخالدة كل عام، تؤتي أكُلها كل حين بإذن ربّها، وتكتسي فيه هذه الشجرة العالمية لباساً جديداً قشيباً غضّاً طريّاً. قال الشيخ ولي اللَّه الدهلوي: كما أنّ الدولة تحتاج إلى عرضة بعد كل ليتميّز الناصح من الغاش والمنقاد من المتمرّد، ليرتفع الصيت وتعلو الكلمة ويتعارف أهلها فيما بينهم، فكذلك الملة تحتاج إلى حج، ليتميّز الموفق من المنافق وليظهر دخول الناس في دين اللَّه أفواجاً وليرى بعضهم بعضاً فيستفيد كلّ واحد ما ليس عنده (1).

يأتي موسم الحج كلّ عام ولكنّ المسلمين يعيشون حياة لا طموح فيها ولا ثقة، تحيط بهم ظروف قاسية وتهدّدهم بالذوبان حيناً في تيّار الأحداث والأوضاع المفروضة عليهم والانسياق حيناً آخر مع المصالح السياسية والاجتماعية دون أن يكون لهم رصيد من الذاتية والاستقلال النفسي والفكري في مجالات الحياة المهمة، ذلك بالإضافة إلى ما يكتنفهم من الغموض فيما تصير إليه الحياة الاجتماعية وتتجه إليه المجريات من الامور، لقد أنهكتهم المآسي التي تولتها الأيدي الأثيمة لقوى الظلم والبغي والطغيان وقضت على الأمن والهدوء النفسي


1- 1 الشيخ ولي اللَّه الدهلوي، حجة اللَّه البالغة 1: 59- 60.

ص: 241

وعكّرت جوّ الحبّ والثقة والاخوّة، ذلكم الواقع المشرق الذي عاشته الامّة الإسلامية في العالم الإسلامي على امتداد تاريخها الطويل، منذ أن أضفى عليهم الإسلام لباس الحب والاخوة الايمانية ولون الطهر والعفاف، فقال تعالى: وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها (1).

يتوجّه الحاج المسلم إلى بيت اللَّه الحرام لأداء مناسك الحج ولكنه بمجرّد حضوره إلى بلد اللَّه الأمين وطوافه ببيت اللَّه العتيق وسعيه بين الصفا والمروة سيجد في نفسه راحة وطمأنينة وينصرف عن جميع الأحاسيس والمخاطر التي كانت تزعجه وتعكر عليهصفو العبادة ولذّة العيش في رحاب البيت، ومع قرب أيام التشريق والذهاب إلى منى وعرفات والمزدلفة مشاعر اللَّه في الأرض، يتناسى هموم الدنيا وأحزان الحياة ومتاعب الأحداث والمآسي التي مرّت عليه كأمواج البحر الطامة وظلمات الليالي المدلهمة وتعود إليه الطمأنينة بجميع مظاهرها ومعانيها وتغطي كيانه من كلّ جهة. إنّ الحج كلّه ذكر وعبادة وهو حبّ وتضحية وجهاد، يقول الدكتور زهير الأعرجي: «التعابير الإنسانية كالبكاء والشعور بالذنب والتوبة الخالصة للَّه سبحانه، والإشارات المنظمة كانتظام الطواف وأفعال الصلاة ورمي الجمرات وتقليد الهدي ونحوها، كلّها تمثِّل رموزاً نتفاعل بها مع ديننا الحنيف وخالقنا العظيم إلّاأنّ هذه الرموز الموحّدة لا تساعدنا على التفاعل الروحي مع خالق الوجود فحسب، بل تساعدنا على التفاعل الاجتماعي أيضاً؛ لأننا نشعر عن طريق ممارسة هذه المناسك والأعمال التعبدية أنّ للآخرين أنفساً تشابه أنفسنا في الدعاء والابتهال والتذلّل لخالقنا العظيم» (2).


1- 1 آل عمران: 103.
2- 2 الدكتور زهير الأعرجي، الأبعاد الاجتماعية لفريضة الحج: 112.

ص: 242

إنّ الحجيج يتزوّد بزاد التقوى ويودع أهله وإخوانه وأقاربه بشعور رقيق من الخشية والتواضع وعواطف الشكر للَّه تعالى كما يودّع الملابسات الدنيوية والعلائق النفسية والوشائج المادية، ويتطهّر من الذنوب والآلام ومن الهموم والأحزان، ويتحوّل إلى خلق جديد بعيد عن الأهواء ومزالق النفس والشيطان والطاغوت، ويتمثّل فيصورة عبد خاشع للَّه ولا يلتجئ إلّاإليه فيناجيه في امور تهمّه في دينه ودنياه، وتساعده على بناء ما تهدّم من القيم والأخلاق والمعنويات وإصلاح الفساد الذي عمّ بين الأفراد والمجتمعات، واستبدال الظلم والخوف بالعدل والأمن والثقة برفض الصهيونية والرأسمالية والاشتراكية والقوى الطاغية والشياطين الكبرى بإعلان: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (1).

أخيراً نسأل اللَّه التوفيق على اداء فريضة الحج كما أدّى سيد الشهداء الحسين ابن علي عليهما السلام بشعور إسلامي عميق، وذلك أنه أراد الرحيل إلى كربلاء قبيل موسم الحج، فقال كثير من معه: قد قرب الموسم، إن أردت فتؤدي فريضة الحج ثم ترتحل، فأجاب: الحج الذي يؤدى برئاسة يزيد فليس بحج إبراهيمي.

علل الحجّ في كتب الصدوق (2) ابواب علل الاحكام وغيرها


1- 1 الممتحنة: 4.

ص: 243

علل الحجّ في كتب الصدوق (2) أبواب علل الأحكام وغيرها

فارس حسّون كريم

1- باب علّة جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس

1- عن أبي بصير- ليث المراديّ-، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة (1). (2) 2- باب علّة وضع البيت

1- عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: لو عطّل الناس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ «3» إن شاءوا وإن أبوا؛ لأنّ هذا البيت إنّما


1- 1 قال الفيض الكاشاني رحمه الله: يعني بقيامها قيام طوافها وحجّها كما قال سبحانه: جعل اللَّه الكعبة.. قياما للناس، [المائدة: 97]، ويحتمل قيام بنيانها.
2- 2 الكافي 4: 271 ح 4، من لا يحضره الفقيه 2: 243 ح 2307، علل الشرائع: 396 ب 132 ح 1، روضة المتّقين 4: 132، الوافي 12: 40 ح 8، وسائل الشيعة 11: 21 ح 5، و 13: 242 ح 15، بحار الأنوار 99: 57 ح 10، مرآة العقول 17: 154 ح 4. 3 قال المجلسي رحمه الله: أي يجبر من وجب عليه الحجّ منهم. ويحتمل: أن يكون مع عدم الاستطاعة أيضاً واجباً كفائيّاً لئلّا يتعطّل البيت كما هو ظاهر الخبر، ولم أرَ قائلًا به.

ص: 244

وضع للحجّ (1).

3- باب علّة وضع البيت وسط الأرض

1- عن محمد بن سنان: أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علّة وضع البيت وسط الأرض؛ لأنّه الموضع الذي من تحته دحيت الأرض، وكلّ ريح تهبّ في الدنيا فإنّها تخرج من تحت الركن الشامي، وهي أوّل بقعة وضعت في الأرض؛ لأنّها الوسط ليكون الفرض لأهل المشرق والمغرب (2) سواء (3).

4- باب علّة ما كان ينبغي أن يوضع لدور مكّة أبواب

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته عن قول اللَّه تعالى : سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ (4).

فقال: لم يكن ينبغي أن يُصنع على دور مكّة أبواب؛ لأنّ للحاجّ أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدار حتّى يقضوا مناسكهم، وإنّ أوّل من جعل لدور مكّة أبواباً معاوية (5).

2- عن حفص بن البختريّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: ليس ينبغي لأهل


1- 1 الكافي 4: 259 ذ ح 30، علل الشرائع: 396 ب 133 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 23 ذ ح 12، وسائل الشيعة 11: 24 ح 1 وص 119 ذ ح 1، بحار الأنوار 99: 18 ح 65، مرآة العقول 17: 132 ذ ح 30، ملاذ الأخيار 7: 223 ذ ح 12.
2- 2 في بعض المصادر: لأهل الشرق والغرب.
3- 3 من لا يحضره الفقيه 2: 191صدر ح 2114، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 90 ضمن ح 1، علل الشرائع: 396 ب 134 ح 1، روضة المتّقين 4: 5، وسائل الشيعة 13: 241 ح 13، بحار الأنوار 6: 97 ضمن ح 2، و 57: 64 ح 39، و 99: 57 ح 11.
4- 4 سورة الحجّ: 25.
5- 5 من لا يحضره الفقيه 2: 194صدر ح 2121، علل الشرائع: 396 ب 135 ح 1، روضة المتّقين 4: 20- 21، وسائل الشيعة 13: 268 ح 3، بحار الأنوار 99: 81 ح 31.

ص: 245

مكّة أن يجعلوا على دورهم أبواباً، وذلك أنّ الحاجّ ينزلون معهم في ساحة الدار حتّى يقضوا حجّهم (1).

5- باب علّة وجوب الحجّ، والطواف بالبيت، وجميع المناسك (2)

1- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لمّا أراد أن يتوب على آدم عليه السلام أرسل جبرئيل، فقال له: السلام عليك يا آدم، الصابر على بليّته، التائب عن خطيئته، إنّ اللَّه تبارك وتعالى بعثني إليك لُاعلّمك المناسك التي يريد أن يتوب عليك بها، وأخذ جبرئيل بيده وانطلق به حتّى أتى البيت، فنزلت عليه غمامة من السماء، فقال له جبرئيل: خطّ برجلك


1- 1 تهذيب الأحكام 5: 463 ح 261، وسائل الشيعة 13: 269 ح 5، ملاذ الأخيار 8: 519 ح 261.
2- 2 لقد ذكر أمير المؤمنين علي عليه السلام بعض علل الحجّ في خطبته المسمّاة «القاصعة» في نهج البلاغة: 292- 294 خطبة رقم 192: ألا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدمصلوات اللَّه عليه إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً. ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرًى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، ولا حافر ولا ظِلف. ثمّ أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم. تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفارٍ سحيقةٍ، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزّوا مناكبهم ذللًا يهلّلون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنّته. ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار داني الثمار، ملتفّ البنى، متّصل القرى، بين برّه سمراء، وروضة خضراء، وأريافٍ محدقة، وعراصٍ مغدقة، ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قدصغر قدر الجزاء على حسب ضَعف البلاء. ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكنّ اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلًا لعفوه.

ص: 246

حيث أظلّك هذا الغمام.

ثمّ انطلق به حتّى أتى به منى فأراه موضع مسجد منى، فخطّه وخطّ المسجد الحرام بعدما خطّ مكان البيت.

ثمّ انطلق به إلى عرفات فأقامه على العرفة وقال له: إذا غربت الشمس فاعترف بذنبك سبع مرّات، ففعل ذلك آدم، ولذلك سمّي العرفة؛ لأنّ آدم عليه السلام اعترف عليه بذنبه، فجعل ذلك سنّة في ولده يعترفون بذنوبهم كما اعترف أبوهم، ويسألون اللَّه عزّوجلّ التوبة كما سألها أبوهم آدم عليه السلام (1).

ثمّ أمره جبرئيل عليه السلام فأفاض من عرفات، فمرّ على الجبال السبعة، فأمره أن يكبّر على كلّ جبل أربع تكبيرات، ففعل ذلك آدم.

ثمّ انتهى به إلى جمع ثلث الليل فجمع فيها بينصلاة المغرب وبينصلاة العشاء الآخرة، فلذلك سمّي جمعاً؛ لأنّ آدم جمع فيها بينصلاتين، فوقت العتمة في تلك الليلة ثلث الليل في ذلك الموضع (2).

ثمّ أمره أن يتبطّح في بطحاء جمع، فانبطح حتى انفجر الصبح.

ثمّ أمره أن يصعد على الجبل جبل جمع، وأمره إذا طلعت الشمس أن يعترف بذنبه سبع مرّات، ويسأل اللَّه تعالى التوبة والمغفرة سبع مرّات، ففعل ذلك آدم كما أمره جبرئيل وإنّما جعل اعترافين ليكون سنّة في ولده، فمن لم يدرك عرفات وأدرك جمعاً فقد وفى بحجّة، فأفاض آدم من جمع إلى منى فبلغ منى ضحًى، فأمره أن يصلّي ركعتين في مسجد منى، ثمّ أمره أن يقرّب إلى اللَّه تعالى قرباناً ليتقبّل اللَّه منه ويعلم أنّ اللَّه قد تاب عليه ويكون سنّة في ولده القربان، فقرّب آدم عليه السلام قرباناً فقبل اللَّه منه قربانه، وأرسل اللَّه عزّوجلّ ناراً من السماء فقبضت قربان آدم، فقال له


1- 1 تقدّمت هذه الفقرة في أبواب 1 باب علّة تسمية عرفات ح 2.
2- 2 تقدّمت هذه الفقرة في باب علّة تسمية المزدلفة جمعاً ح 5.

ص: 247

جبرئيل عليه السلام: إنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أحسن إليك إذ علّمك المناسك التي تاب عليك بها وقبل قربانك، فاحلق رأسك تواضعاً للَّه تعالى إذ قبل قربانك، فحلق آدم رأسه تواضعاً للَّه تبارك وتعالى.

ثمّ أخذ جبرئيل عليه السلام بيد آدم عليه السلام فانطلق به إلى البيت، فعرض له إبليس عند الجمرة العقبة، فقال له: يا آدم، أين تريد؟

قال جبرئيل: يا آدم: ارمه بسبع حصيّات وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة، ففعل ذلك آدم عليه السلام كما أمره جبرئيل، فذهب إبليس.

ثمّ أخذ جبرئيل بيده في اليوم الثاني فانطلق به إلى الجمرة الاولى فعرض له إبليس، فقال له جبرئيل: ارمه بسبع حصيّات وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة. ففعل آدم ذلك فذهب إبليس.

ثمّ عرض له عند الجمرة الثانية، فقال له: يا آدم، أين تريد؟ فقال جبرئيل:

ارمه بسبع حصيّات وكبّر مع كلّ حصاة. ففعل ذلك آدم فذهب إبليس.

ثمّ عرض له عند الجمرة الثالثة، فقال له: يا آدم، أين تريد؟

فقال له جبرئيل عليه السلام: ارمه بسبع حصيّات وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة. ففعل ذلك آدم فذهب إبليس.

ثمّ فعل ذلك به في اليوم الثالث والرابع فذهب إبليس، فقال له جبرئيل: إنّك لن تراه بعد مقامك هذا أبداً.

ثمّ انطلق به إلى البيت فأمره أن يطوف بالبيت سبع مرّات، ففعل ذلك آدم عليه السلام، فقال له جبرئيل: إنّ اللَّه تبارك وتعالى قد غفر لك، وقبل توبتك، وحلّت لك زوجتك (1).

2- عن يحيى بن أبي العلاء الرازي أنّ رجلًا دخل على أبي عبداللَّه عليه السلام، فقال:


1- 1 علل الشرائع: 400 ب 142 ح 1، بحار الأنوار 11: 167 ح 15، و 99: 29 ح 5.

ص: 248

جعلت فداك، أخبرني عن قول اللَّه تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)

، وأخبرني عن قول اللَّه عزّوجلّ لإبليس: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (2)

، وأخبرني عن هذا البيت كيفصار فريضة على الخلق أن يأتوه؟

قال: فالتفت أبو عبداللَّه عليه السلام إليه وقال: ما سألني عن مسألتك أحد قطّ قبلك، إنّ اللَّه عزّوجلّ لمّا قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ضجّت الملائكة من ذلك وقالوا: ياربّ، إن كنتَ لابدّ جاعلًا في الأرض خليفة فاجعله منّا ممّن يعمل في خلقك بطاعتك، فردّ عليهم: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَاتَعْلَمُونَ (3)

، فظنّت الملائكة أنّ ذلك سخط من اللَّه تعالى عليهم، فلاذوا بالعرش يطوفون به، فأمر اللَّه تعالى لهم ببيتٍ من مرمر، سقفه ياقوتة حمراء، وأساطينه الزبرجد، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه بعد ذلك إلى يوم الوقت المعلوم.

قال: «ويوم الوقت المعلوم» يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الاولى والثانية (4).

وأمّا «نون» فكان نهراً في الجنّة أشدّ بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل، قال اللَّه تعالى له: كن مداداً، فكان مداداً، ثمّ أخذ شجرة فغرسها بيده، ثمّ قال:

واليد القوّة وليس بحيث تذهب إليه المشبّهة (5)، ثمّ قال لها: كوني قلماً، ثمّ قال له: اكتب.

فقال له: ياربّ، وما أكتب؟


1- 1 سورة القلم: 1.
2- 2 سورة الحجر: 37 و 38، سورةص: 80 و 81.
3- 3 سورة البقرة: 30.
4- 4 اخرجت هذه الفقرة في: تفسير البرهان 3: 365 ح 1، بحار الأنوار 6: 328 ح 10.
5- 5 المشبِّهة: هم الذين حملوا الصفات على مقتضى الحِسّ الذي يوصف به الأجسام. فقالوا: إنّ للَّه تعالى بصراًكبصرنا، ويداً كأيدينا، وقالوا: إنّه ينزل إلى السماء الدنيا من فوق، فهم يشبّهونصفات اللَّه بصفات المخلوقين. والمشبِّهة أصناف. «معجم الفرق الإسلامية: 225».

ص: 249

قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ففعل ذلك، ثمّ ختم عليه، وقال: لا تنطقنّ إلى يوم الوقت المعلوم (1).

3- عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أحدهما عليهما السلام أنّه سئل عن ابتداء الطواف، فقال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى لمّا أراد خلق آدم عليه السلام قال للملائكة:

إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فقال ملكان من الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (2)

، فوقعت الحجب فيما بينهما وبين اللَّه عزّوجلّ، وكان تبارك وتعالى نوره (3) ظاهراً للملائكة، فلمّا وقعت الحجب بينه وبينهما علما أنّه قد سخط قولهما، فقالا للملائكة: ما حيلتنا، وما وجه توبتنا؟

فقالوا: ما كنّا نعرف لكما من التوبة إلّاأن تلوذا بالعرش.

قال: فلاذا بالعرش حتّى أنزل اللَّه تعالى توبتهما ورفعت الحجب فيما بينه وبينهما، وأحبّ اللَّه تبارك وتعالى أن يعبد بتلك العبادة فخلق اللَّه البيت في الأرض، وجعل على العباد الطواف حوله، وخلق البيت المعمور في السماء يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (4).

4- عن الفضل (5) بن يونس، قال: كان ابن أبي العوجاء (6) من تلامذة الحسن البصري فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركتَ مذهبصاحبك ودخلتَ فيما لا أصل له ولا حقيقة.


1- 1 علل الشرائع: 402 ح 2، بحار الأنوار 11: 108 ح 17، و 57: 367 ح 4، و 99: 32 ح 7.
2- 2 سورة البقرة: 30.
3- 3 قال المجلسيّ قدس سره: المراد بنوره تعالى إمّا الأنوار المخلوقة في عرشه، أو أنوار الأئمّةصلوات اللَّه عليهم، أوأنوار معرفته وفيضه وفضله، فالمراد بالحجب على الأخير الحجب المعنوية.
4- 4 علل الشرائع: 402 ح 3، بحار الأنوار 11: 109 ح 23، و 99: 31 ح 6.
5- 5 في من لا يحضره الفقيه والتوحيد والاحتجاج: عيسى.
6- 6 هو عبد الكريم بن أبي العوجاء، أحد الزنادقة في أواسط القرن الثاني للهجرة. انظر في ترجمته والحديث: الكنى والألقاب 3: 192.

ص: 250

فقال: إنّصاحبي كان مخلطاً (1)، كان يقول طوراً بالقدر، وطوراً بالجبر، وما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه.

قال: ودخل مكّة تمرّداً وإنكاراً على من يحجّ، وكان يكره العلماء مساءلته إيّاهم ومجالسته لهم لخبث لسانه وفساد سريرته، فأتى جعفر بن محمد عليهما السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثمّ قال له: يا أبا عبداللَّه، إنّ المجالس أمانات، ولابدّ لكلّ من به سعال أن يسعل، أفتأذن لي في الكلام؟

فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: تكلّم بما شئت.

فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر (2)، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطُّوب والمدر (3)، وتهرولون هرولة البعير إذا نفر، إنّ من فكّر في الأمر قد علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه، وأبوك أسّه ونظامه؟

فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: إنّ من أضلّه اللَّه وأعمى قلبه استوخم الحقّ (4) فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، وهذا بيت استعبد اللَّه تعالى به خلقه؛ ليختبر به طاعتهم في إتيانه فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له، فهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، خلقه اللَّه تعالى قبل دحو الأرض بألفي عام، وأحقّ من اطيع فيما أمر، وانتهي عمّا نهى عنه وزجر، اللَّه المنشئ للأرواح والصور.


1- 1 أي لم يكن له رأي مستقيم، كان مرّة له رأي القدريّة الذين يقولون بقدرة العبد، ومرّة له رأي الجبريّة بأن لاقدرة للعبد، وإذا تكلّم بالجبر لم يدع قدرة العبد، وإذا تكلّم بالاستطاعة لم يترك التوفيق من اللَّه لعبده، أو لم يكن له مذهب مستقيم.
2- 2 البيدر: الموضع الذي يداس فيه الطعام.
3- 3 الطوب: الآجر. والمدر: قطع الطين اليابس.
4- 4 أي وجده وخيماً ثقيلًا ولم يسهل عليه إساغته.

ص: 251

فقال ابن أبي العوجاء: ذكرت يا أبا عبداللَّه فأحلت على غائب.

فقال: ويلك وكيف يكون غائباً من هو في خلقه شاهد، وإليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم، ويرى أشخاصهم، ويعلم أسرارهم؟! وإنّما المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذيصار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه. فأمّا اللَّه العظيم الشأن، الملك الديّان، فإنّه لا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة وأيّده بنصره، واختاره لتبليغ رسالاتهصدّقنا قوله بأنّ ربّه بعثه وكلّمه.

فقام عنه ابن أبي العوجاء فقال لأصحابه: من ألقاني في بحر هذا سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة فألقيتموني إلى جمرة (1).

قالوا: ما كنت في مجلسه إلّاحقيراً.

قال: إنّه ابن من حلق رؤوس من ترون (2). (3) 5- عن محمد بن سنان أنّ أبا الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: إنّ علّة الحجّ الوفادة إلى اللَّه تعالى، وطلب الزيادة،


1- 1 الخمرة: ما يخمر به وعكر النبيذ، وحصيرةصغيرة من السعف، والورس، وأشياء من الطيب تطلي به المرأة لتحسّن وجهها، ولكلٍّ مناسبة. أمّا الجمرة: أي النار الموقدة.
2- 2 أي أبوه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان في طالعه أو قدرته واستيلائه على قلوب العالمين كان بحيث حلق رؤوسهم، وحلق الرأس في العرب كان عاراً عظيماً لتكبّرهم ونخوتهم لئلّا يعلى على رؤوسهم، فإذا كان الأب بهذه القدرة فلا يستبعد أن أصير مغلوباً له.
3- 3 الكافي 4: 197 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 249 ح 2325، علل الشرائع: 403 ح 4، الأمالي للصدوق: 714 ح 4، التوحيد: 253 ح 4، الإرشاد للمفيد 2: 199- باختلاف-، كنز الفوائد 2: 75، الاحتجاج 2: 206، روضة المتّقين 4: 145، بحار الأنوار 3: 33 ح 7، و 10: 209 ح 11، و 57: 64 ح 38، و 84: 57 ح 8، مرآة العقول 17: 22 ح 1.

ص: 252

والخروج من كلّ ما اقترف، وليكون تائباً ممّا مضى، مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذّات، والتقرّب في العبادة إلى اللَّه عزّوجلّ، والخضوع والاستكانة والذلّ، شاخصاً في الحرّ والبرد، والأمن والخوف، دائباً في ذلك دائماً وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، والرغبة والرهبة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ومنه ترك قساوة القلب، وخساسة الأنفس، ونسيان الذكر، وانقطاع الرجاء والأمل، وتجديد الحقوق، وحظر الأنفس عن الفساد، ومنفعة من في المشرق والمغرب ومَن في البرّ والبحر، ممّن يحجّ وممّن لا يحجّ، من تاجر وجالب وبائع ومشتري، وكاسب ومسكين، وقضاء حوائج أهل الأطراف والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها كذلك ليشهدوا منافع لهم.

وعلّة فرض الحجّ مرّة واحدة؛ لأنّ اللَّه تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوّة، فمن تلك الفرائض الحجّ المفروض واحد، ثمّ رغّب أهل القوّة على قدر طاعتهم (1). (2)


1- 1 قال الشيخ الصدوق رحمه الله: جاء هذا الحديث هكذا والّذي أعتمده وأفتي به أنّ الحجّ على أهل جدة في كلّ عام فريضة: 1- حدّثنا محمد بن الحسن رحمه الله، قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصفّار، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن أبي جرير القمّي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: الحجّ فرض على أهل جدة في كلّ عام. [انظر: علل الشرائع: 405، بحار الأنوار 99: 113 ح 2]. 2- وحدّثنا أحمد بن محمد، عن أبيه، عن محمد بن أحمد، عن السنديّ بن الربيع، عن محمد بن القاسم، عن أسد بن يحيى، عن شيخ من أصحابنا، قال: الحجّ واجب على من وجد السبيل إليه في كلّ عام. [انظر: علل الشرائع: 405، بحار الأنوار 99: 113 ح 3]. 3- حدّثنا أحمد بن الحسن، قال: حدّثنا أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن مهزيار، عن عبداللَّه بن الحسين الميثمي، رفعه إلى أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ في كتاب اللَّه تعالى فيما أنزل: وللَّه على الناس حج البيت- في كلّ عام- من استطاع إليه سبيلا [سورة آل عمران: 97]. [انظر: علل الشرائع: 405، بحار الأنوار 99: 113 ح 4].
2- 2 علل الشرائع: 404 ح 5، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 90، بحار الأنوار 99: 32 ح 8 و: 113 ح 1.

ص: 253

6- عن هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام فقلت له: ما العلّة التي من أجلها كلّف اللَّه العباد الحجّ والطواف بالبيت؟

فقال: إنّ اللَّه تعالى خلق الخلق لا لعلّة، إلّاانّه شاء ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجّل، وأمرهم ونهاهم ما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم في أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربّح كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كلّ قوم إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجَلَب (1) والأرباح، وعميت الأخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحجّ (2).

7- عن محمد بن سنان أنّ الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله:

علّة الطواف بالبيت أنّ اللَّه تبارك وتعالى قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ (3)

فردّوا على اللَّه تبارك وتعالى هذا الجواب، فعلموا أنّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش فاستغفروا، فأحبّ اللَّه تعالى أن يتعبّد بمثل ذلك العباد، فوضع في السماء الرابعة بيتاً بحذاء العرش يسمّى الضراح، ثمّ وضع في السماء الدنيا بيتاً يسمّى البيت المعمور بحذاء الضراح، ثمّ وضع هذا البيت بحذاء البيت المعمور، ثمّ أمر آدم عليه السلام فطاف به، فتاب اللَّه عليه، وجرى ذلك في ولده إلى يوم القيامة (4).


1- 1 الجَلَب: ما يجلب من خيل وغيرها.
2- 2 علل الشرائع: 405 ح 6، وسائل الشيعة 11: 14 ح 18، و 27: 97 ح 66، بحار الأنوار 99: 33 ح 9.
3- 3 سورة البقرة: 30.
4- 4 علل الشرائع: 406 ح 7، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 91، بحار الأنوار 11: 110 ح 24، و 58: 58 ح 5، و 99: 33 ح 10.

ص: 254

8- عن أبي حمزة الثمالي، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام وهو جالس على الباب الذي إلى المسجد وهو ينظر إلى الناس يطوفون، فقال: يا أبا حمزة، بما امروا هؤلاء؟

قال: فلم أدر ما أردّ عليه.

قال: إنّما أمروا أن يطوفوا بهذه الأحجار، ثمّ يأتونا فيعلمونا ولايتهم (1).

9- عن عبد الرحمان بن الحجّاج، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل رمىصيداً في الحلّ وهو يؤمّ الحرم فيما بين البريد والمسجد فأصابه في الحلّ فمضى يرميه حتّى دخل الحرم، فمات من رميه، هل عليه جزاء؟

فقال: ليس عليه جزاء، وإنّما مثل ذلك مثل رجل نصب شركاً في الحلّ إلى جانب الحرم، فوقع فيهصيد فاضطرب حتّى دخل الحرم، فمات فليس عليه جزاء؛ لأنّه نصب وهو حلال، ورمى حيث رمى وهو حلال، فليس عليه فيما كان بعد ذلك شي ء.

فقلت: هذا عند الناس القياس.

فقال عليه السلام: إنّما شبّهت لك شيئاً بشي ء لتعرفه (2).

10- عن خلّاد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل ذبح حمامة من حمام الحرم، قال: عليه الفداء.

قال: فيأكله.

قال: لا.

قال: فيطرحه.


1- 1 علل الشرائع: 406 ح 8، وسائل الشيعة 14: 324 ح 9، بحار الأنوار 99: 34 ح 11. وأورد قطعة منه في مجمع البيان 6: 85، بحار الأنوار 12: 90.
2- 2 الكافي 4: 234 ح 12، من لا يحضره الفقيه 2: 260 ح 2361، علل الشرائع: 454 ح 8، تهذيب الأحكام 5: 360 ح 1252، الاستبصار 2: 206 ح 704، روضة المتّقين 4: 175، وسائل الشيعة 13: 66 ح 2 و: 67 ح 3، و: 68 ح 4، بحار الأنوار 99: 153 ح 29، مرآة العقول 17: 88 ح 12، ملاذ الأخيار 8: 312 ح 165.

ص: 255

قال: إذن يكون عليه فداء آخر.

قال: فما يصنع به؟

قال: يدفنه (1).

11- عن معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: مكّة والمدينة كسائر البلدان؟

قال: نعم.

قلت: قد روى عنك بعض أصحابنا أنّك قلت لهم: أتمّوا بالمدينة بخمس.

فقال: إنّ أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلذلك قلته (2).

12- عن معاوية، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ معي والدتي وهي وجعة.

فقال: قل لها فلتحرم من آخر الوقت، فإنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل المغرب الجحفة.

قال: فأحرمت من الجحفة (3).

13- قال إبراهيم الكرخيّ: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أحرم بحجّة في غير أشهر الحجّ من دون الوقت الذي وقّت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال: ليس إحرامه بشي ء، إن أحبّ أن يرجع إلى منزله فليرجع ولا أرى عليه شيئاً، وإن أحبّ أن يمضي فليمض، فإذا انتهى إلى الوقت فليحرم منه ويجعلها عمرة، فإنّ ذلك أفضل


1- 1 الكافي 4: 233 ح 8، من لا يحضره الفقيه 2: 259 ح 2356، علل الشرائع: 454 ح 9، تهذيب الأحكام 5: 378 ح 1319، الاستبصار 2: 215 ح 739، روضة المتّقين 4: 172، وسائل الشيعة 12: 102 ح 1 و: 431 ح 2، بحار الأنوار 99: 153 ح 30، مرآة العقول 17: 87 ح 8، ملاذ الأخيار 8: 347 ح 232.
2- 2 علل الشرائع: 454 ح 10، وسائل الشيعة 8: 531 ح 27، بحار الأنوار 89: 80 ح 5.
3- 3 علل الشرائع: 455 ح 11، وسائل الشيعة 11: 316 ح 2، بحار الأنوار 99: 129 ح 15.

ص: 256

عن رجوعه؛ لأنّه أعلن الإحرام بالحجّ (1).

14- عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المحرم يشدّ على بطنه المنطقة التي فيها نفقته، قال: يستوثق منها، فإنّها تمام الحجّة (2).

15- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام في المحرم يأتي أهله ناسياً قال: لا شي ء عليه إنّما هو بمنزلة من أكل في شهر رمضان وهو ناس (3).

6- باب علّة جعل الطواف سبعة أشواط

1- عن أبي حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين عليهما السلام، قال: قلت: لِمَصار الطواف سبعة أشواط؟

قال عليه السلام: لأنّ اللَّه تبارك وتعالى قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فردّوا على اللَّه تبارك وتعالى وقالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ قال اللَّه: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَاتَعْلَمُونَ (4)

وكان لا يحجبهم عن نوره، فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام، فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة، فرحمهم وتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور الذي في السماء الرابعة وجعله مثابة (5) وأمناً، ووضع البيت الحرام تحت البيت المعمور، فجعله مثابة للناس وأمناً، فصار الطواف سبعة أشواط واجباً على العباد لكلّ ألف سنة شوطاً واحداً (6).


1- 1 الكافي 4: 321 ح 1، علل الشرائع: 455 ح 12، تهذيب الأحكام 5: 52 ح 159، الاستبصار 2: 162 ح 530، وسائل الشيعة 11: 319 ح 2، بحارالأنوار 99: 129 ح 16، مرآةالعقول 17: 240 ح 1، ملاذالأخيار 7: 287 ح 5.
2- 2 الكافي 4: 343 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 346 ح 2646، علل الشرائع: 455 ح 13، روضة المتّقين 4: 413، وسائل الشيعة 12: 491 ح 2 وص 492 ح 5 و 6، بحار الأنوار 99: 144 ح 14، مرآة العقول 17: 286 ح 2.
3- 3 علل الشرائع: 455 ح 14، وسائل الشيعة 10: 51 ح 4، و 13: 109 ح 7، بحار الأنوار 99: 171 ح 11.
4- 4 سورة البقرة: 30.
5- 5 مثابة: أي مرجعاً، أو محلّاً لحصول الثواب.
6- 6 علل الشرائع: 406 ب 143 ح 1، وسائل الشيعة 13: 331 ح 2، بحار الأنوار 11: 110 ح 25، و 58: 58 ح 4، و 99: 201 ح 6.

ص: 257

2- عن أبي خديجة، قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: مرّ بأبي عليه السلام رجل وهو يطوف فضرب بيده على منكبه، ثمّ قال: أسألك عن خصال ثلاث لا يعرفهنّ غيرك وغير رجل آخر (1)، فسكت عنه حتى فرغ من طوافه، ثمّ دخل الحجر فصلّى ركعتين وأنا معه، فلمّا فرغ نادى: أين هذا السائل؟

فجاء وجلس بين يديه فقال له: سل، فسأله عن ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (2)

فأجابه، ثمّ قال: حدّثني عن الملائكة حين ردّوا على الربّ حيث غضب عليهم وكيف رضي عنهم.

فقال: إنّ الملائكة طافوا بالعرش سبع سنين (3) يدعونه ويستغفرونه ويسألونه أن يرضى عنهم فرضي عنهم بعد سبع سنين.

فقال:صدقت.

ثمّ قال: حدّثني عن رضا الربّ عن آدم.

فقال: إنّ آدم انزل فنزل في الهند، وسأل ربّه تعالى هذا البيت فأمره أن يأتيه فيطوف به اسبوعاً ويأتي منى وعرفات فيقضي مناسكه كلّها، فجاء من الهند وكان موضع قدميه حيث يطأ عليه عمران، وما بين القدم إلى القدمصحارى ليس فيها شي ء، ثمّ جاء إلى البيت فطاف اسبوعاً وأتى مناسكه فقضاها كما أمره اللَّه، فقبل اللَّه منه التوبة وغفر له.

قال: فجعل طواف آدم لمّا طافت الملائكة بالعرش سبع سنين (4)، فقال


1- 1 قال المجلسي رحمه الله: لعلّ المراد بالرجل الآخر: الصادق عليه السلام.
2- 2 سورة القلم: 1.
3- 3 كذا في البحار، وهو الصحيح، وفي العلل: سبعة آلاف سنة.
4- 4 قال المجلسي رحمه الله: أي كانت العلّة في جعل طواف آدم وسيلة لقبول توبته طواف الملائكة قبل ذلك وتوسّلهم بذلك إلى قبول التوبة، وفيه إيماء إلى علّة عدد السبع أيضاً... ويمكن الجمع بين ما ورد في هذا الخبر من كون قبول توبتهم بعد سبع سنين وما ورد في خبر الثماليّ... من سبعة آلاف سنة بحمل هذا على أصل القبول، وحمل ذلك على كماله. ثمّ إنّ هذا الخبر يدلّ على أنّ الملائكة كانوا يظهرون لائمّتنا عليهم السلام وينافيه بعض الأخبار.

ص: 258

جبرئيل: هنيئاً لك يا آدم، قد غفر لك، لقد طفتُ بهذا البيت قبلك بثلاثة آلاف سنة. فقال آدم: ياربّ، اغفر لي ولذرّيّتي من بعدي.

فقال: نعم، من آمن منهم بي وبرسلي.

فقال:صدقت، ومضى.

فقال أبي عليه السلام: هذا جبرئيل أتاكم يعلّمكم معالم دينكم (1).

7- باب علّة الطواف حول الحجر

1- عن أبي بكر الحضرميّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ إسماعيل دفن امّه في الحجر وجعله عليّاً، وجعل عليها حائطاً لئلّا يوطأ قبرها (2). (3) 2- عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي ء من البيت؟

فقال: لا، ولا قلامة ظفر، ولكنّ إسماعيل عليه السلام دفن امّه فيه فكره أن توطأ فحجّر عليه حجراً. وفيه قبور أنبياء (4).

3- وصار الناس يطوفون حول الحجر ولا يطوفون فيه؛ لأنّ امّ إسماعيل دُفِنت في الحجر، ففيه قبرها، فطيف كذلك كيلا يوطأ قبرها (5).


1- 1 علل الشرائع: 407 ح 2، بحار الأنوار 11: 169 ح 17، و 26: 351 ح 2، و 99: 201 ح 7.
2- 2 في الكافي: دفن امّه في الحجر وحجر عليها لئلّا يوطأ قبر امّ إسماعيل في الحجر.
3- 3 الكافي 4: 210 ح 13، علل الشرائع: 37 ب 34 ح 1، قصص الأنبياء للراونديّ: 111 ح 108، وسائل الشيعة 13: 353 ح 2، بحار الأنوار 12: 104 ح 13، روضة المتّقين 4: 17، مرآة العقول 17: 46 ح 13.
4- 4 الكافي 4: 210 ح 15، مدارك الأحكام 8: 128- 129، روضة المتّقين 4: 17، وسائل الشيعة 13: 353 ح 1، بحار الأنوار 12: 117 ح 55، مرآة العقول 17: 47 ح 15. وروي صدره في: تهذيب الأحكام 5: 469 ح 289، وسائل الشيعة 5: 276 ح 2، ملاذالأخيار 8: 530 ح 289. وروي ذيله في: من لا يحضره الفقيه 2: 193 ح 2117، وسائل الشيعة 13: 355 ح 6.
5- 5 من لا يحضره الفقيه 2: 193 ذ ح 2116، روضة المتّقين 4: 16، وسائل الشيعة 13: 354 ح 5.

ص: 259

8- باب علّة جعل العمرة واجبة على الناس بمنزلة الحجّ

1- عن معاوية بن عمّار الدهنيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ من استطاع؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ (1)

وإنّما نزلت العمرة بالمدينة، وأفضل العمرة عمرة رجب (2).

2- عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّ العمرة واجبة بمنزلة الحجّ؛ لأنّ اللَّه يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ هي واجبة مثل الحجّ، ومن تمتّع أجزأته، والعمرة في أشهر الحجّ متعة (3).

9- باب علّة جواز المسواك للمحرم

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت: المحرم يستاك؟

قال: نعم.

قلت: فإن أدمى، يستاك؟

قال: نعم، هو من السنّة (4). (5) 10- باب علّة كراهية لبس الطَيلَسان (6) المزرّر للمحرم

1- عن عبيداللَّه الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: وجدنا في كتاب


1- 1 سورة البقرة: 196.
2- 2 تفسير العيّاشي 1: 88 ح 223، علل الشرائع: 408 ب 144 ح 1، دعائم الإسلام 1: 342 ح 1383 وذ ح 1386، بحار الأنوار 99: 331 ح 2 و: 332 ح 8 و 11 و: 333 ذ ح 13.
3- 3 تفسير العيّاشي 1: 87 ح 219، بحار الأنوار 99: 97 ح 11 و: 332 ح 10.
4- 4 قال الكليني رحمه الله: وروي أيضاً: لا يستدمي؛ أي إن أمكنه، لا بأن يترك السواك إذا لم يمكن بدون الإدماء. كما روى الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام 5: 313 ح 76 عن الحلبيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن المحرم يستاك؟ قال: نعم، ولا يُدمي. أي يسعى في الرفق حتّى لا يدمي. عنه وسائل الشيعة 12: 534 ح 3.
5- 5 الكافي 4: 366 ح 6، من لا يحضره الفقيه 2: 347 ح 2650، علل الشرائع: 408 ب 145 ح 1، روضة المتّقين 4: 416، وسائل الشيعة 12: 532 ح 4 و: 561 ب 92 ح 1، بحار الأنوار 99: 180 ح 2، مرآة العقول 17: 331 ح 6.
6- 6 قيل: الطيلسان: ثوب منسوج محيط بالبدن. وقيل: شبه الأردية يوضع على الرأس والكتفين والظهر.

ص: 260

جدّي عليه السلام: لا يلبس المحرم طيلساناً مزرّراً، فذكرت ذلك لأبي، فقال: إنّما فعل ذلك كراهية أن يزرّه عليه الجاهل، فأمّا الفقيه فإنّه لا بأس أن يلبسه (1).

11- باب علّة عدم استحباب الهدي إلى الكعبة، وما يجب أن يعمل بما قد جعل هدياً للكعبة

1- جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام، قال: لو كان لي واديان يسيلان ذهباً وفضّة ما أهديت إلى الكعبة شيئاً؛ لأنّه يصير إلى الحجبة دون المساكين (2).

2- وإنّما لا يستحبّ الهدي إلى الكعبة؛ لأنّه يصير إلى الحجبة دون المساكين (3).

3- عن عليّ بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن رجل جعل ثمن جاريته هدياً للكعبة كيف يصنع بها؟

فقال: إنّ أبي عليه السلام أتاه رجل قد جعل جاريته هدياً للكعبة فقال له: قوِّم الجارية أو بعها، ثمّ مر منادياً يقوم على الحجر فينادي: ألا من قصرت نفقته أو قطع به طريقه أو نفد طعامه، فليأت فلان بن فلان، ومره أن يعطي أوّلًا فأوّلًا حتّى ينفد ثمن الجارية (4).


1- 1 الكافي 4: 340 ح 7 و 8، من لا يحضره الفقيه 2: 338 ح 2614، علل الشرائع: 408 ب 146 ح 1، روضة المتّقين 4: 400، وسائل الشيعة 12: 475 ح 2 و 3، بحار الأنوار 99: 144 ح 13، مرآة العقول 17: 280 ح 7 و: 281 ح 8.
2- 2 علل الشرائع: 408 ب 147 ح 1، روضة المتّقين 4: 19، وسائل الشيعة 13: 255 ح 2، بحارالأنوار 99: 67 ح 5.
3- 3 من لا يحضره الفقيه 2: 193 ضمن ح 2119، روضة المتّقين 4: 19، وسائل الشيعة 13: 255 ح 1.
4- 4 قرب الاسناد: 246 ح 971، الكافي 4: 242 ح 2 وص 543 ح 18، علل الشرائع: 409 ح 2، تهذيب الأحكام 5: 440 ح 175 و: 483 ح 364، و 9: 214 ح 20، روضة المتّقين 4: 19، وسائل الشيعة 13: 247 ب 22 ح 1 و: 248 ح 2، و: 250 ح 7، و 19: 392 ح 1، بحار الأنوار 99: 68 ح 6 وصدر ح 9، مرآة العقول 17: 104 ح 2، و 18: 249 ح 18، ملاذ الأخيار 8: 466 ح 175 و: 560 ح 364، و 15: 123 ح 18.

ص: 261

4- عن حريز، قال: أخبرني ياسين، قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ قوماً أقبلوا من مصر، فمات رجل فأوصى إلى رجل بألف درهم للكعبة، فلمّا قدم الوصيّ مكّة سأل عن ذلك فدلّوه على بني شيبة، فأتاهم فأخبرهم الخبر، فقالوا:

قد برئت ذمّتك ادفعها إلينا، فقام الرجل فسأل الناس فدلّوه على أبي جعفر محمد ابن علي عليهما السلام.

قال أبو جعفر محمد بن عليّ عليهما السلام: فأتاني فسألني فقلت له: إنّ الكعبة غنيّة عن هذا، انظر إلى من أمّ هذا البيت وقطع، أو ذهبت نفقته، أو ضلّت راحلته، أو عجز أن يرجع إلى أهله، فادفعها إلى هؤلاء الّذين سمّيت لك.

قال: فأتى الرجل بني شيبة فأخبرهم بقول أبي جعفر عليه السلام فقالوا: هذا ضالّ مبتدع ليس يؤخذ عنه ولا علم له، ونحن نسألك بحقّ هذا البيت وبحقّ كذا وكذا لما أبلغته عنّا هذا الكلام.

قال: فأتيت أبا جعفر عليه السلام فقلت له: لقيت بني شيبة فأخبرتهم فزعموا أنّك كذا وكذا، وأنّك لا علم لك، ثمّ سألوني باللَّه العظيم لما أبلغك ما قالوا.

قال: وأنا أسألك بما سألوك لما أتيتهم فقلت لهم: إنّ من علمي لو ولّيت شيئاً من امور المسلمين لقطّعت أيديهم ثمّ علّقتها في أستار الكعبة، ثمّ أقمتهم على المِصْطَبّة (1)، ثمّ أمرت منادياً ينادي: ألا إنّ هؤلاء سرّاق اللَّه فاعرفوهم (2).

5- عن أبي الحرّ- أبو أبي الحسن-، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: جاء رجل إلى أبي جعفر فقال: إنّي أهديت جارية إلى الكعبة فاعطيت بها خمسمائة دينار فما ترى ؟

قال: بعها، ثمّ خذ ثمنها، ثمّ قم على هذا الحائط- يعني الحجر-، ثمّ ناد وأعط


1- 1 المِصْطبَّة- بالتشديد-: مجتمع الناس، وهي أيضاً شِبْه الدُّكان، يُجلس عليها ويُتّقى بها الهوامّ من الليل. «النهاية لابن الأثير 3: 28-صطب-».
2- 2 الكافي 4: 241 ح 1، علل الشرائع: 409 ح 3، تهذيب الأحكام 9: 212 ح 18، وسائل الشيعة 13: 249 ح 6، بحار الأنوار 99: 66 ح 1، مرآة العقول 17: 103 ح 1، ملاذ الأخيار 15: 121 ح 16.

ص: 262

كلّ منقطع به وكلّ محتاج من الحاجّ (1).

6- عن سعيد بن عمر الجعفيّ، عن رجلٍ من أهل مصر، قال: أوصى أخي بجارية كانت له مغنّية فارهة وجعلها هدياً لبيت اللَّه الحرام، فقدمت مكّة فسألت، فقيل لي: ادفعها إلى بني شيبة، وقيل لي غير ذلك من القول فاختلف علي فيه، فقال لي رجل من أهل المسجد: ألا ارشدك إلى من يرشدك إلى الحقّ؟

قلت: بلى.

قال: فأشار إلى شيخ جالس في المسجد فقال: هذا جعفر بن محمد عليهما السلام فاسأله.

قال: فأتيته فسألته وقصصت عليه القصّة، فقال: إنّ الكعبة لا تأكل ولا تشرب وما أهدي لها فهو لزوّارها، فبع الجارية، وقم على الحجر فناد: هل من منقطع به؟ وهل من محتاج من زوّارها؟ فإذا أتوك فسل عنهم (2) وأعطهم واقسم فيهم ثمنها.

قال: فقلت له: إنّ بعض مَن سألته أمرني بدفعها إلى بني شيبة، فقال: أما إنّ قائمنا لو قد قام لقد أخذهم وقطع أيديهم وطاف بهم، وقال: هؤلاء سرّاق اللَّه (3).

7- عن أحمد بن أبي عبداللَّه البرقي، عن أبيه، بإسناده عن بعض أصحابنا،


1- 1 الكافي 4: 242 و: 545 ح 24، علل الشرائع: 409 ح 4، تهذيب الأحكام 5: 486 ح 380، روضة المتّقين 4: 19، وسائل الشيعة 13: 250 ح 8، بحار الأنوار 99: 67 ح 4، مرآة العقول 17: 105 ح 3، و 18: 252 ح 24، ملاذ الأخيار 8: 567 ح 380.
2- 2 أي: سل الناس عنهم هل يصدقون فيما يدّعون، فيدلّ على عدم جواز الاعتماد على ادّعاء الفقر بغير بيّنة.
3- 3 الكافي 2: 242 ح 4، علل الشرائع: 410 ح 5، تهذيب الأحكام 9: 213 ح 19، وسائل الشيعة 13: 251 ح 9، بحار الأنوار 99: 67 ح 3، مرآة العقول 17: 105 ح 4، ملاذ الأخيار 15: 122 ح 17. وأورد قطعة منه في: من لا يحضره الفقيه 2: 194 ضمن ح 2119، روضة المتّقين 4: 19. وروي ذيله في: الإرشاد للمفيد 2: 383، الغيبة للطوسي: 472 ح 492، روضة الواعظين: 265، إعلام الورى 2: 289، بحار الأنوار 52: 317 ح 14 و: 373 ح 168.

ص: 263

قال: دفعت إليّ امرأة غزلًا وقالت لي: ادفعه بمكّة ليخاط به كسوة الكعبة، فكرهت أن أدفعه إلى الحجبة وأنا أعرفهم، فلمّاصرت إلى المدينة دخلت على أبي جعفر عليه السلام فقلت له: جعلت فداك، إنّ امرأة أعطتني غزلًا وأمرتني أن أدفعه بمكّة ليخاط به كسوة الكعبة، فكرهت أن أدفعه إلى الحجبة.

فقال: اشتر به عسلًا وزعفراناً وخذ طين قبر أبي عبداللَّه عليه السلام واعجنه بماء السماء واجعل فيه شيئاً من العسل والزعفران وفرّقه على الشيعة ليداووا به مرضاهم (1). (2) 12- باب علّة وجوب التمتّع بالعمرة إلى الحجّ دون القران والافراد

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ الحجّ متّصل بالعمرة؛ لأنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي (3)

فليس ينبغي لأحد إلّاأن يتمتّع؛ لأنّ اللَّه عزّوجلّ أنزل ذلك في كتابه وسنّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم (4).

13- باب علّة غسل دخول البيت

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام: أتغتسل النساء إذا أتين البيت؟

قال: نعم، إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ


1- 1 قال الشيخ الحرّ العامليّ رحمه الله: لعلّ المراد على حجّاج الشيعة المحتاجين على أنّ ذلك الدواء لا يستعمل إلّامع الحاجة والضرورة، أو لعلّه مخصوص بهذه الصورة أو بالماء القليل جدّاً الذي لا يمكن قسمته على المحتاجين كالغزل المذكور.
2- 2 الكافي 4: 243 ح 5، علل الشرائع: 410 ح 6، روضة المتّقين 4: 20، وسائل الشيعة 13: 252 ح 10، بحار الأنوار 99: 68 ح 7، مرآة العقول 17: 106 ح 5.
3- 3 سورة البقرة: 196.
4- 4 علل الشرائع: 411 ب 149 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 25 ح 4، الاستبصار 2: 150 ح 493، وسائل الشيعة 11: 240 ح 2، بحار الأنوار 99: 91 ح 10، ملاذ الأخيار 7: 229 ح 4.

ص: 264

السُّجُودِ (1)

، فينبغي للعبد أن لا يدخل إلّاوهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهّر (2). (3) 14- باب علّة الرَّمَل (4) بالبيت

1- عن زرارة أو محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الطواف أيرمل فيه الرجل؟

فقال: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لمّا أن قدم مكّة وكان بينه وبين المشركين الكتاب الذي قد علمتم، أمر الناس أن يتجلّدوا، وقال: أخرجوا أعضادكم، وأخرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عضديه ثمّ رمل بالبيت ليريهم أنّهم لم يصبهم جهد، فمن أجل ذلك يرمل الناس، وإنّي لأمشي مشياً، وقد كان عليّ بن الحسين عليه السلام يمشي مشياً (5).

2- عن يعقوب الأحمر، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: لمّا كان في غزوة الحديبيّة وادع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أهل مكّة ثلاث سنين، ثمّ دخل فقضى نسكه، فمرّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بنفرٍ من أصحابه جلوس في فناء الكعبة، فقال: هؤلاء قومكم على رؤوس الجبال لا يرونكم فيروا فيكم ضعفاً، قال: فقاموا فشدّوا ازرهم وشدّوا أيديهم على أوساطهم ثمّ رملوا (6).


1- 1 سورة البقرة: 125.
2- 2 مراده عليه السلام: أنّه تعالى أراد بتطهيرهما للبيت أمرهما الناس بالاغتسال، والظاهر أنّ المراد أنّ اللَّه تعالى لمّا أراد بتطهير البيت لكم إعظاماً وإكراماً فينبغي أن تتطهّروا أيضاً تعظيماً له.
3- 3 الكافي 4: 400 ح 3، علل الشرائع: 411 ب 151 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 98 ح 6 و: 251 ح 12، وسائل الشيعة 13: 200 ح 3 و: 281 ح 1، و 14: 247 ح 3، بحار الأنوار 99: 369 ح 3، مرآة العقول 18: 9 ح 3، ملاذ الأخيار 7: 373 ح 6، و 8: 105 ح 12.
4- 4 الرَّمَل: هو الهرولة، وهو إسراع المشي مع تقارب الخطا. «مجمع البحرين 5: 385- رمل-».
5- 5 علل الشرائع: 412 ب 152 ح 1، وسائل الشيعة 13: 351 ح 2، بحار الأنوار 99: 195 ح 5.
6- 6 علل الشرائع: 412 ح 2، وسائل الشيعة 13: 352 ح 3، بحار الأنوار 99: 195 ح 5.

ص: 265

15- باب علّة عدم تمتّع النبيّصلى الله عليه و آله و سلم بالعمرة إلى الحجّ، وأمر بالتمتّع

1- عن الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: خرج رسول اللَّه حين حجّ حجّة الوداع خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى مسجد الشجرة فصلّى بها، ثمّ قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها (1)وأهلّ بالحجّ وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلّهم بالحجّ لا يريدون عمرة، ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول اللَّه مكّة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثمّصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم واستلم الحجر، ثمّ أتى زمزم، فشرب منها وقال: لولا أن أشقّ على امّتي لاستقيت منها ذَنوباً أو ذَنوبين (2)، ثمّ قال: ابدؤا بما بدأ اللَّه عزّوجلّ به، فأتى الصفا فبدأ به، ثمّ طاف بين الصفا والمروة سبعاً.

فلمّا قضى طوافه عند المروة قام فخطب أصحابه وأمرهم أن يحلّوا ويجعلوها عمرة، وهو شي ء أمر اللَّه عزّوجلّ به، فأتى الصفا فبدأ به، فأحلّ الناس. وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولكن لم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الّذي معه، إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (3).

فقام سراقة بن مالك بن جعثم الكنانيّ، فقال: يارسول اللَّه، علّمتنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم لكلّ عام؟

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: لا، بل للأبد.

وإنّ رجلًا (4) قام، فقال: يارسول اللَّه، نخرج حجّاجاً ورؤوسناتقطرمن النساء؟


1- 1 لعل المراد بالإحرام هنا عقد الإحرام بالتلبية، أو إظهار الاحرام وإعلامه لئلّا ينافي الأخبار المستفيضة الدالّةعلى أنّهصلى الله عليه و آله أحرم من مسجد الشجرة.
2- 2 الذَّنوب: الدَّلْو العظيمة؛ وقيل: لا تسمّى ذَنوباً إلّاإذا كان فيها ماء.
3- 3 سورة البقرة: 196.
4- 4 هو عمر بن الخطّاب.

ص: 266

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إنّك لن تؤمن بها أبداً.

وأقبل عليّ عليه السلام من اليمن حتّى وافى الحجّ فوجد فاطمة عليها السلام قد أحلّت، ووجد ريح الطيب، فانطلق إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مستفتياً ومحرشاً (1) على فاطمة عليها السلام.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: يا عليّ، بأيّ شي ء أهللت؟

فقال: أهللت بما أهلّ النبيّصلى الله عليه و آله و سلم.

فقال: لا تحلّ أنت، وأشركه في هديه، وجعل له من الهدي سبعاً وثلاثين (2)، ونحر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم ثلاثاً وستّين نحرها بيده، ثمّ أخذ من كلّ بدنة بَضعة (3) فجعلها في قدر واحد، ثمّ أمر به فطبخ، فأكلا منها وحسوا من المرق، فقال: قد أكلنا الآن منها جميعاً، فالمتعة أفضل من القارن السائق الهدي وخير من الحجّ المفرد، وقال: إذا استمتع الرجل بالعمرة، فقد قضى ما عليه من فريضة المتعة.

وقال ابن عبّاس: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة (4).

2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع لمّا فرغ من السعي قام عند المروة فخطب الناس فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: يا معشر الناس، هذا جبرئيل- وأشار بيده إلى خلفه- يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحلّ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت (5) لفعلت كما


1- 1 أي مغضباً. والمراد هنا نوع عتابه لها، وهذه اللفظة ليست في أخبارنا، بل هي في أخبار العامّة.
2- 2 لعل أحد الخبرين في العدد محمول على التقيّة أو نشأ من سهو الرواة.
3- 3 البَضعة: القطعة من اللحم.
4- 4 الكافي 4: 248 ح 6، من لا يحضره الفقيه 2: 236 ح 2288، علل الشرائع: 412 ب 153 ح 1، روضة المتّقين 4: 117، وسائل الشيعة 11: 222 ح 14، بحار الأنوار 21: 395 ح 18، و 99: 88 ح 6 و: 89 ح 7 و: 242 ح 1، مرآة العقول 17: 116 ح 6.
5- 5 أي لو عنَّ لي هذا الرأي الّذي رأيته آخراً وأمرتكم به في أوّل أمري، لما سقت الهَدي معي وقلَّدته وأشعرته، فإنّه إذا فَعل ذلك لا يُحلّ حتّى ينحر، ولا ينحر إلّايوم النحر، فلا يصحّ له فسخ الحجّ بعمرة، ومن لم يكن معه هديٌ فلا يلتزم هذا، ويجوز له فسخ الحجّ. وإنّما أراد بهذا القول تطييب قلوب أصحابه؛ لأنّه كان يشقّ عليهم أن يُحلّوا وهو مُحرِم، فقال لهم ذلك لئلّا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أنّ الأفضل لهم قبول ما دعاهم إليه، وأنّه لولا الهديُ لَفَعَله. «النهاية لابن الأثير 4: 10- قبل-».

ص: 267

أمرتكم، ولكنّي سقت الهدي وليس لسائق الهدي أن يحلّ حتّى يبلغ الهدي محلّه، فقام إليه سراقة بن مالك بن جعثم الكنانيّ، فقال: يارسول اللَّه، علّمنا ديننا فكأنّا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أم لكلّ عام؟

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: لا، بل للأبد.

وإنّ رجلًا قام، فقال: يارسول اللَّه، نخرج حجّاجاً ورؤوسنا تقطر من النساء (1)؟

فقال له رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: إنّك لن تؤمن بها أبداً (2).

3- عن فضيل بن عياض، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن اختلاف الناس في الحجّ فبعضهم يقول: خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم مهلّاً بالحجّ، وقال بعضهم: مهلّاً بالعمرة، وقال بعضهم: خرج قارناً، وقال بعضهم: خرج ينتظر أمر اللَّه عزّوجلّ، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: اعلم اللَّه عزّوجلّ أنّها حجّة لا يحجّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بعدها أبداً فجمع اللَّه عزّوجلّ له ذلك كلّه في سفرة واحدة ليكون جميع ذلك سنّة لُامّته، فلمّا طاف بالبيت وبالصفا والمروة أمره جبرئيل عليه السلام أن يجعلها عمرة إلّامن كان معه هدي فهو محبوس على هديه لا يحلّ لقوله عزّوجلّ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ (3)

فجمعت له العمرة والحجّ، وكان خرج على خروج العرب الاول؛ لأنّ العرب كانت


1- 1 أي من ماء غسل الجنابة، وقد قال ذلك تقبيحاً وتشنيعاً على ما أمر اللَّه تعالى ورسولهصلى الله عليه و آله و سلم به.
2- 2 الكافي 4: 246 ضمن ح 4، علل الشرائع: 413 ح 2، تهذيب الأحكام 5: 455 ضمن ح 234، مستطرفات السرائر: 22 ح 3، وسائل الشيعة 11: 214 ضمن ح 4 و: 218 ح 5، بحار الأنوار 99: 90 ح 8، مرآة العقول 17: 112 ضمن ح 4، ملاذ الأخيار 8: 500 ضمن ح 234.
3- 3 سورة البقرة: 196.

ص: 268

لا تعرف إلّاالحجّ وهو في ذلك ينتظر أمر اللَّه تعالى، وهو يقول عليه السلام: «الناس على أمر جاهليّتهم إلّاما غيّره الإسلام» وكانوا لا يرون العمرة في أشهر الحجّ فشقّ على أصحابه حين قال: اجعلوها عمرة لأنّهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحجّ، وهذا الكلام من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم إنّما كان في الوقت الذي أمرهم فيه بفسخ الحجّ فقال: دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة وشبّك بين أصابعه- يعني في أشهر الحجّ- قلت: أفيعتدّ بشي ء من أمر الجاهلية؟

فقال: إنّ أهل الجاهليّة ضيّعوا كلّ شي ء من دون إبراهيم عليه السلام إلّاالختان والتزويج فإنّهم تمسّكوا بها ولم يضيّعوها (1).

16- باب علّة عدم عذوبة ماء زمزم وصار غوراً

1- عن ابن عقبة، عمّن رواه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: كانت زمزم أبيض من اللبن، وأحلى من الشهد، وكانت سائحة، فبغت على المياه (2)، فأغارها اللَّه عزّوجلّ، وأجرى إليها عيناً منصبر (3).

تعليق على رسالة ابن باز


1- 1 علل الشرائع: 414 ح 3، بحار الأنوار 99: 90 ح 9.
2- 2 قال المجلسيّ قدس سره: يدلّ بظاهره على أنّ للجمادات شعوراً ما، ويمكن أن يكون المراد بغي أهلها بحذف المضاف كقوله: واسأل القرية [سورة يوسف: 82] أو يكون كناية عن أنّها لما كانت لشرافتها مفضّلة على سائر المياه، نقص من طعمها للعدل بينها، فكأنّها بغت لفضلها.
3- 3 المحاسن للبرقي 2: 400 ح 22، الكافي 6: 386 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 195 ضمن ح 2121، علل الشرائع: 415 ب 154 ح 1، روضة المتّقين 4: 22، بحار الأنوار 66: 449 ح 10، و 99: 242 ح 2 و 3، مرآة العقول 22: 237 ح 1.

ص: 269

تعليق على رسالة ابن باز

حسن السقاف

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي اللَّه عنصحابته المتقين.

أما بعد: فقد قرأت ذلك الكتيب الذي حوى رسالتين إحداهما لفضيلة الشيخ العلامة محمد واعظ زاده الخراساني والثانية للشيخ العلامة ابن باز الحنبلي، وكان الشيخ العلامة واعظ زاده قد بدأ فوجَّه رسالة إلى الشيخ ابن باز ناقشه بأدب جم في قضيتين:

الأولى: قضية تعبير الوهابيين في مسألة التوسل والاستغاثة واستلام الجدران والأبواب بأنها وسيلة للشرك.

والثانية: في قضية افتاء الشيخ ابن باز بجواز الصلح مع اليهود!!

وقد أرسل فضيلة الخراساني رسالته للشيخ ابن باز سنة 1413 ه، ولم يجب عليها الشيخ ابن باز إلّابعد سنتين وبضعة أشهر بعد أن نشر الشيخ الخراساني رسالته!! فأجاب الشيخ ابن باز عن القضية الأولى وسكت عن الثانية فلم يجب عنها!! وقد طبعت الرسالتان في كتيب واحد ووصلتني نسخة منه، وبعد قراءتها

ص: 270

أحببت التعليق والتعقيب على بعض ما جاء في رسالة الشيخ ابن باز، واللَّه الهادي إلى الصواب:

فأقول:

أقرَّ فضيلة الشيخ ابن باز في مقدمة كلامه بعد أن ذكر شيئاً من كلام فضيلة الشيخ الخراساني أنَّ التبرك بما مسّ جسده عليه الصلاة والسلام من وضوء أو عرق أو شعر أو نحو ذلك أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم وأتباعهم، وأقرَّ أيضاً بأنَّ استلام الحجر الاسود وتقبيله واستلام الركن اليماني كذلك.

وهنا ننبه على شيئين:

الأول: أنه بذلك ثبت إقراره بأنّ التمسح بالحجارة في هذين الموضعين دون غيرهما، والتي وصفها بأنها لا تضر ولا تنفع هو إقرار بقاعدة عظيمة، وهي أنَّ التمسح والتبرك إذا لم يقترن معه اعتقاد تأثير الممسوح المُستلم لم يكن شركاً ولا كفراً ولا بدعة ولا يجب سد الذريعة فيها، ولا يتحوَّل ذلك إلى كفر وشرك إلا إذا قارن ذلك أو أضيف له اعتقاد التأثير أي الضر والنفع!!

وهنا نسأل الشيخ ابن باز مؤكدين هذه القضية هل تعتبر شرعاً مَنْ استلم هذين الحجرين معتقداً أنهما يضران وينفعان من دون اللَّه تعالى ويؤثران بنفسهما كافراً مشركاً أم لا؟

ثم يثبت بإقراره الأول المتقدم أنَّ مسح الشي ء ليس كفراً إن كان مشروعاً، لكن هو بدعة ومن وسائل الشرك إن لم يكن مشروعاً.

الثاني: أنَّه عبَّر عن التبرك بما مسَّ جسده الشريفصلى الله عليه و آله بأنه أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي اللَّه عنهم وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وأستغرب أنا من هذا التعبير!! (عند الصحابة، من تبعهم بإحسان) وكان اللائق أن يقول: (إنه أمر معروف وجائز شرعاً) لا سيما وأنَّ في الصحابة من يخالف

ص: 271

ذلك كما اعترف الشيخ وأقرَّ بذلك في سيدنا ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما حيث كان يستلم منبر النبيّصلى الله عليه و آله!!

وقول الشيخ (لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره) غيرصحيح إذ لم يثبت نهي أبيه له أو نهي الصحابة رضي اللَّه عنهم له عن فعله ذلك!! ثمَّ لم يثبت ما أورده الشيخ من أنَّ سيدنا عمر رضى الله عنه قطع الشجرة (شجرة بيعة الرضوان) بل المعروف عند علماء السلف ومنهم ابن جرير الطبري أنَّ سيدنا عمر رضى الله عنه ذهب يسأل عنها ولم يجدها!! ففي تفسير الإمام الحافظ الطبري السلفي (26/ 87) عند تفسير الآية الكريمة التي ذُكِرَت فيها الشجرة قال:

«وزعموا أنَّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرَّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هنا، وبعضهم يقول هاهنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا تكلّف، فذهبت الشجرة وكانت سمراء إما ذهب بها سيل وإما شي ء سوى ذلك».

فلو كان سيدنا عمر رضى الله عنه قطعها لما قيل ذلك، ولما خفي الأمر على مثل الحافظ ابن جرير ولكان نبَّه عليه!!

وعلى كل الأحوال، فالاصل في ذلك ليس فعل الصحابة وإنما هو نصوص الشرع القرآن والسنة وهي تفيد أنَّ ذلك ليس كفراً ولا شركاً بدليل جواز التمسح أو استلام الحجر الأسود والركن اليماني والملتزم، والشرك والكفر لا يكون شركاً عند التمسح بشي ء دون آخر مع اعتقاد عدم التأثير والضر والانتفاع في الكل!!

وقد سُئل الإمام أحمد كما هو ثابت في كتاب العلل المروي عنه عن تقبيل قبر النبيصلى الله عليه و آله وتقبيل منبره فقال: لا بأس بذلك.

وأنتم تعلمون ذلك!!

فلو كانت هذه الأمور ذرائع للشرك والكفر لما شُرِع استلام الحجر الأسود وتقبيله ولا الركن اليماني ولا التبرك بعرق النبيصلى الله عليه و آله وشعره وغير ذلك إذ يستحيل

ص: 272

شرعاً وعقلًا أن يكون في هذه الأمور غير شرك أو غير ذريعة للشرك وفي غيرها شرك!!

وقول الشيخ ابن باز: (وأما ما نقل عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما من تتبع آثار النبيصلى الله عليه و آله واستلامه المنبر فهذا اجتهاد منه رضى الله عنه، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبيصلى الله عليه و آله، وهم أعلم منه بهذا الأمر وعلمهم موافق لما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضى الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبيصلى الله عليه و آله في الحديبية لمّا بلغه أنَّ بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفاً من الفتنة وسداً للذريعة) فقول غيرصحيح من أوجه:

منها: أنّ ابن عمر مجتهد، وكان أبوه عمر مجتهداً أيضاً رضي اللَّه تعالى عنهما، وقول المجتهد لاينقض بقول مجتهد آخر كما هو مقرر في علم الأصول!!

ثمَّ هذا على فرضصحة ثبوت عدم موافقة سيدنا عمر لما فعله ابنه وهذا لم يثبت!! على أنَّ الحافظ ابن حجر أجاب عن هذا على ثبوته إذ قال في «الفتح» (1/ 569):

«لأنَّ ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغيرصلاة، أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجباً، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر.... فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين».

وما كتبه المعلق هناك على ذلك الكلام هو محض اجتهاد لا يصمد أمام النصوص التي ستأتي بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى في الكلام على أسطورة قطع سيدنا عمر للشجرة!!

هذا ولم يثبت أنَّ سيدنا عمر وغيره من الصحابة رضي اللَّه عنهم لم يوافقوا ابن عمر على ما فعله البتة وهو محض تقوّل لا دليل عليه ودون إثباته والجزم به إظهار أين روي ذلك وما هي درجة إسناده من الصحة والضعف!! ونحن نطالب الشيخ ببيان ذلك!! وإن لم يجب ولم يبين بأن ذلك ثابت بسندصحيح لا علة له تبينصحة

ص: 273

قولنا بعدم ثبوت ذلك عنه!!

إذا ثبت ذلك فإنه لاينقض اجتهاد سيدنا ابن عمر لا سيما والأدلة الشرعية والعقل السليم موافق لما فعل ابن عمر!! فيكون بين الصحابة خلاف في ذلك!! فلا يكون ذلك كفراً ولا ذريعة للشرك والكفر؛ بل ليس ذلك ببدعة طالما أنَّ له دليلًا وعمل به الصحابة والسلف وأفتى الإمام أحمد بأنه لا بأس به!!

وإنني هنا لا أودّ عرض جميع النصوص التي تثبت متابعة ابن عمر وإثبات التبرك عن غيره من الصحابة واستقصاء ذلك!! بل أكتفي أن أقول بأنَّ الدارمي روى في سننه (92) بسندصحيح عن أبي الجوزاء أوس بن عبداللَّه قال: «قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر النبيصلى الله عليه و آله فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمِّي عام الفتق» (1).

أما قوله (وقد قطع عمر رضى الله عنه الشجرة.... وسداً للذريعة) فهذا غيرصحيح ولا ثابت!! وذلك لأنَّ هذه القصة رواها ابن سعد في «الطبقات الكبرى» (2/ 100) عن نافع وإسنادهاصحيح إلى نافع كما قال ابن حجر في «الفتح» (7/ 448) لكنها منقطعة بين نافع وسيدنا عمر!! لأنَّ نافعاً لم يدرك سيدنا عمر ولم يرو عنه، وقدصرَّح الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (10/ 370) في ترجمة نافع أنَّ الإمام أحمد بن جنبل قال:

«نافع عن عمر منقطع». وقد توفي نافع سنة 120 ه، وهذا مما يؤكد أنه لم


1- 1 إسنادهصحيح، أبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي الملقب بعارم، إمام ثقة، قال الدارقطني: لم يظهر له بعد اختلاطه حديث منكر. وسعيد بن زيد: ثقة، قال ابن معين وابن سعد والعجلي وسليمان بن حرب: ثقة، وقال البخاري والدارمي:صدوق حافظ. وصحح له ابن القيم في كتاب «الفروسية»ص 20 وقالصديقكم الألباني عنه في «إرواء الغليل» 5/ 338: «لا ينزل به حديثه عن رتبة الحسن إن شاء اللَّه تعالى». وعمرو بن مالك النكري ثقة، انظر «تناقضات الألباني الواضحات» 2/ 70.

ص: 274

يدرك ذلك، وكان ينبغي له أن يصرح بذكر اسم شيخه في هذه الرواية!! وكان أحياناً يجتهد في إبداء بعض الآراء ويخطئ في ذلك كما سيتبين بعد قليل إن شاء اللَّه تعالى!! ونحن وإنصححنا السند إلى نافع فإنَّه لا بدَّ من التنبيه على أنَّ في سند هذه القصة عبدالوهاب بن عطاء وليس بالقوي عند أبي حاتم وغيره، كما يجد ذلك من يطالع ترجمته في مثل تهذيب الكمال وغيره.

فالمعروف المقرر عند الحديث أنَّ مثل هذا القول المنقطع ليس بحجة!! لا سيما وقدصرّح بعض الحفاظ كالإسماعيلي بأنَّ هذاومثله هو من قول نافع ولا يعتبر مسنداً (1)!! ولا سيما قد ثبت عنه وعن سيدنا ابن عمر ما يخالفه!! كما ثبت عن غير سيدنا ابن عمر بإسنادصحيح ما هو ضده أيضاً!!

أما ثبوت ما يخالف هذا عنه: فروى ابن سعد (2/ 105) قال: [أخبرنا علي ابن محمد عن جويرية بن أسماء عن نافع قال: خرج قوم من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بعد ذلك- أي بعد نزول الآية التي ذُكِرَت فيها الشجرة- بأعوام فما عرف أحد منهم الشجرة واختلفوا فيها، قال ابن عمر: كانت رحمة من اللَّه ].

فهذا النص يبين أنهم لم يكونوا يعرفونها بعد ذلك، فكيف يَقْطَع سيدنا عمر ما ليس بمعلوم ولا معروف؟! ولو فرضنا أنه قطع شجرة- وليس هذا بصحيح ولا ثابت- فمعناه أنه قطع شجرة أخرى ادّعى بعض الناس أنها شجرة بيعة الرضوان!!

ويؤكد ما قررناه ويبطل أسطورة قطع سيدنا عمر للشجرة ما رواه نافع نفسه بسندصحيح عنه عن عبداللَّه بن عمر!! فقد روى البخاري في الصحيح (6/ 117/ 2958) من طريق نافع قال: قال ابن عمر:

«رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من اللَّه.- يقول راوي الحديث-: فسألنا نافعاً: على أي شي ء بايعهم،


1- 1 انظر «الفتح» 6/ 117/ 2958، وشرح ذلكص 118 هناك.

ص: 275

على الموت؟ قال: لا، بل بايعهم على الصبر».

أقول: أما قوله في هذا الأثر (رجعنا) يعني هو وبعض الصحابة الآخرين ومنهم المسيب والد سعيد بن المسيب حيث جاء عنه كما في البخاري (7/ 447/ 4163 و 4164) أنَّ سعيداً قال: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله تحت الشجرة قال: «فلما رجعنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها» وفي الرواية الأخرى «فرجعنا إليها العام المقبل فعمت علينا». وهذا في حياة النبيصلى الله عليه و آله وقبل خلافة سيدنا عمر بدهر طويل، وتقدَّم نقلًا من تفسير الحافظ ابن جرير (26/ 87): أنَّ عمر بن الخطاب مرَّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، والظاهر أن ذلك كان في خلافته فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول هنا، وبعضهم يقول: هاهنا. فلما كثر اختلافهم قال: سيروا هذا تكلّف، فذهبت الشجرة وكانت سمراء إما ذهب بها سيل وإما شي ء سوى ذلك. اه من تفسير ابن جرير.

فكيف بعد هذا يقال: إنَّ سيدنا عمر قطعها أي في خلافته؟!!!

وأما قول ابن عمر (كانت رحمة من اللَّه) فيه قولان ذكرهما في الفتح (6/ 171) الصحيح منهما عندنا للقرائن هو قوله هناك:

«ويحتمل أن يكون معنى قوله: رحمة من اللَّه، أي: كانت الشجرة موضع رحمة اللَّه ومحل رضوانه؛ لنزول الرضا عن المؤمنين عندها» هذا لا شك فيه!!

وقوله (فسألنا نافعاً على أي شي ء بايعهم.... قال: بل بايعهم على الصبر) مردود وغيرصحيح البتة!! لأنَّ البخاري روى بعد هذا حديثين أثبت فيهما تصريحصحابيين بأنهم كانوا يبايعون على الموت!!

فيدلّ هذا على أنَّ ما لم يسنده نافع لا حجة فيه، وهذا أوضح مقال على ذلك فتدبَّر!!

لا سيما وأنَّ البخاري والأئمة لم يعوِّلوا على ما يُنقل بإسناد منقطع عن سيدنا

ص: 276

عمر، بل قاموا بسرد كثير من الأحاديث والآثار المروية عن ابن عمر، والتي كان يتتبع فيها المواضع التي كان قدصلى النبي فيها ليصلي فيها، ثمَّ جاء سالم بن عبداللَّه ابن عمر بعد ذلك فاقتدى بأبيه فكان يتتبع المواضع التيصلى فيها أبوه وأخبره أنَّ النبيصلى الله عليه و آله كان يصلي فيها!! ولو كان قد ثبت عن عمر شي ء في هذا لأوردوه وهو والدهم مع كون اجتهاده لا ينقض اجتهادهم!! وقد عقد البخاري فيصحيحه (1/ 567/ 483- 491) باباً سمّاه: (باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التيصلى فيها النبيصلى الله عليه و آله) أورد فيه تسعة نصوص تدل على أنَّ هذا التبرك والتتبع هو مذهب الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين!! وليس كما يقول المعلّق على الفتح (1/ 569) في الحاشية هناك بكل جرئة غريبة من أنَّ ذلك من ذرائع الشرك!! كبرت كلمة لا دليل عليها لا سيما وأنَّ فيها تسفيهاًصريحاً لفعل الصحابة والتابعين والأئمة ونبذ أقوالهم وأفعالهم لرأي ليس له دليل معتبر، وإنما هو قائم على الخيالات والأوهام البعيدة عن النصوص الثابتة الشرعية!!

لا سيما والحافظ ابن حجر يقول هناك (1/ 569 فتح):

«وقد تقدَّم حديث عتبان وسؤاله النبيصلى الله عليه و آله أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى، وأجابه النبيصلى الله عليه و آله إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين».

وقد ذكر الحافظ نحو هذا الكلام أيضاً في الفتح (1/ 522) وحاول أن يرد عليه المعلّق هناك بكلام لادليل عليه وإنما يقوم على الرأي المخطئ الصريح!!

وقد روى البخاري (483) عن موسى بن عقبة أنه قال:

«رأيت سالم بن عبداللَّه يتحرّى أماكن من الطريق فيصلي فيها ويحدّث أنَّ أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبيصلى الله عليه و آله يصلي في تلك الأمكنة».

وبذلك يتلخص أنَّ قضية قطع سيدنا عمر لشجرة بيعة الرضوان غيرصحيحة ولا يتصوَّر أن يفعل ذلك سيدنا عمر رضى الله عنه، ويثبت بما قدمناه أن من الأمور المستحبة عند الصحابة رضي اللَّه عنهم أيضاً استلام الأشياء المتعلقة بالأنبياء

ص: 277

والصالحين وأنها ليست من الشرك في شي ء.

ثم ذكر الشيخ ابن باز أنَّ دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم من الشرك الأكبر!!

وأقول: لنا رسالة مستقلة في هذا الموضوع أسميناها «الإغاثة بأدلة الاستغاثة» أثبتنا فيها جواز الاستغاثة بالأحاديث والآثار الصحيحة الثابتة وأنَّ ذلك ليس شركاً ولا كفراً!! ومن ذلك ما رواه البخاري فيصحيحه (3/ 338) عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«إنَّ الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك إذ استغاثوا بآدم ثمَّ بموسى ثمَّ بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق».

قال الحافظ ابن حجر عند شرح مثل هذا الحديث في الفتح (11/ 441):

«وفيه أنَّ الناس يوم القيامة يستصحبون حالهم في الدنيا من التوسل إلى اللَّه في حوائجهم بأنبيائهم».

وقد ثبت أيضاً في البخاري (2/ 501) وغيره أن الناس يلجأون إلى النبيصلى الله عليه و آله عند القحط؛ ليدعو اللَّه لهم في إنزال الغيث، ولم يقل لهم النبيصلى الله عليه و آله: إنَّ المطر بيد اللَّه وليس بيدي، وعليكم أن تدعو اللَّه تعالى أنتم لقوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ.

فإذا قال الشيخ: (بأنَّ هذا توسل واستغاثة بالحي وكلامنا في الميت)!!

قلنا: الجواب عن هذا من وجهين:

الأول: أن الشركَ شركٌ سواء كان في الدنيا أو في الآخرة وسواء كان المستغاث أو المتوسل به إلى اللَّه تعالى حيّاً أو ميتاً؛ لأنَّ الكفر كفر في جميع الأحوال طالما أنك لا تنظر إلى الاعتقاد والنية والقصد!! وعمومات مثل هذه النصوص تكفي أن تشمل الاستغاثة بالنبيصلى الله عليه و آله قبل وفاته وبعد وفاته وفي الآخرة!!

الثاني: أنه قد ثبتت نصوص غير هذه تثبت الاستغاثة بهصلى الله عليه و آله بعد وفاته،

ص: 278

فحديث الدارمي الصحيح الذي تقدّم في مسألة التبرك وفتح الكوى وإمطارهم، وما رواه ابن أبي شيبة بإسنادصحيح كما تعلمون فيما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (2/ 495) من رواية أبيصالح السمان عن مالك الدار الذي كان خازن سيدنا عمر رضى الله عنه حيث قال:

«أصاب الناسَ قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبيصلى الله عليه و آله فقال:

يا رسول اللَّه استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا....».

وقد أقره سيدنا عمر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فصارت المسألة حائزة على الإجماع السكوتي!! فلو كان ذلك شركاً أو كفراً لما وسع سيدنا عمر والصحابة رضي اللَّه عنهم السكوت والإقرار على ذلك!!

وليس المقام هنا مقام حصر للأدلة، ومن أراد أن يتتبعها فعليه برسالتنا «الإغاثة» وغيرها من كتب أهل العلم!! لكن يكفي أن أقول هنا: إنَّ أمام الشيخ ابن باز، وهو الإمام أحمد بن حنبل جوَّز الاستغاثة بغير اللَّه تعالى:

فقد روى الإمام الحافظ البيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر من طريق عبداللَّه ابن الإمام أحمد، بإسنادصحيح اعترف بصحته حتى الألباني المتناقض!! في ضعيفته (2/ 111) وهو في كتاب المسائل لعبداللَّه ابن الإمام أحمد (217) قال:

سمعت أبي يقول:

«حججتُ خمس حجج منها ثنتين راكباً وثلاثاً ماشياً، أو ثنتين ماشياً وثلاثاً راكباً، فضللتُ الطريقَ في حجة وكنتُ ماشياً فجعلتُ أقول: يا عباد اللَّه دلّونا على الطريق. فلم أزل أقول ذلك حتى وقعت على الطريق».

وهذا تطبيق لحديث سيدنا عبداللَّه بن مسعود رضى الله عنه المرفوع:

«إذا ضلَّ أحدكم شيئاً أو أراد غوثاً وهو بأرضٍ ليس بها أنيس فليقل:

يا عباد اللَّه أغيثوني، يا عباد اللَّه أغيثوني، فإنَّ للَّه عباداً لا نراهم». وهذه استغاثةصريحة بغير اللَّه تعالى!! وللحديث عدة ألفاظ تجدها في رسالتنا الإغاثةص (22).

ص: 279

وقد نص جماعة من أهل الحديث على أنَّ ذلك جُرِّبَ فتحقق، منهم:

الحافظ الطبراني عقب روايته لهذا الحديث، و الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 132) والإمام النووي في الأذكار (1) و اعترف بحسنه الألباني في ضعيفته (2/ 111) حيث قال هناك:

«وبعد كتابة ما سبق وقفت على إسناد البزار في زوائده... قلت: وهذا إسناد حسن كما قالوا...».

وهذا كله وغيره كثير يثبت أن ما ذكره الشيخ ابن باز من قوله: إنّ ذلك شرك أكبر، ليس بصحيح!! بل ليس شركاً أصغر، وإنما هو من الأمور المستحبات التي وردت في الأحاديث الثابتة و استعملها السلف الصالح!!

وأذكر القارئ هنا بأنّ الحافظ المحدث الذهبي نقل عبارات عديدة عن السلف تفيد بكلصراحة بأن هذه الأمور ليست شركاً بل هي من الأمور المشروعات أو المستحبات، فمن ذلك قول الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (9/ 343) قال ابراهيم الحربي: «قبر معروف الترياق المجرّب. يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأنّ البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء».

وقال الذهبي في «السير» (10/ 107) أيضاً في ترجمة السيدة نفيسة:

«والدعاء مستجاب عند قبرها، بل وعند قبور الأنبياء والصالحين».

أما الآيات الكريمة التي أوردها الشيخ فإنها لا تدل على ما يريد!! وذلك لأنّه ليس كل دعاء عبادة، و معنى حديث «الدعاء هو العبادة» أي دعاء اللَّه تعالى من جملة عبادة اللَّه أو من أعظم العبادات كما قال ذلك المناوي في «الفيض» (3/ 540)!! لا أنّ كل دعاء عبادة البتة!! و تدلُّ على ذلك النصوص مثل قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً وقد توسعتُ في شرح


1- 1ص 331 من طبعة دار الفكر دمشق بتحقيق أحمد راتب حموش.

ص: 280

ذلك وبيانه وما يتعلق به في كتابي «التنديد بمن عدّد التوحيد»ص (30- 42) فليراجع!!

والعجب أن الشيخ أورد قوله تعالى: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وأنّ اللَّه تعالى ردَّ عليهم!!

وأقول مجيباً: لا يمكن تطبيق هذه الآية على المسلمين المؤمنين الموحدين، الذين يتوسلون و يستغيثون بالنبيصلى الله عليه و آله وغيره من عباد اللَّه الصالحين!! وذلك لأنّ معنى الاستغاثة أنّ زوار الأنبياء و قبور الأولياء يطلبون منهم أن يدعوا اللَّه لهم في قضاء حوائجهم، ولايعبدونهم ولا يعتبرونهم آلهة، ويعتقدون أنهم لا يستقلّون من دون اللَّه تعالى بالضر والنفع، ولا يسجدون لهم!! خلافاً لأولئك الكفار الذين نزلت فيهم هذه الآية وغيرها من الآيات الكريمة حيث كانوا يسجدون لتلك الأصنام ويعبدونها من دون اللَّه تعالى!! أما قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه فمثل هذه المقالة منهم هي محض كذب منهم عند محاججة النبيصلى الله عليه و آله لهم وإقامة الحجة عليهم، فلا يذعنون ولاينقادون للأنبياء ولا يدرون بماذا يجيبون فيقولون هذه الجمل التي لا يعتقدونها ولا يؤمنون حقيقة بمضمونها فهي كذب بحت منهم، وقد بيَّن اللَّه تعالى لنا أنّ هذه الجمل هي محض كذب منهم حيث قال في الآيات الأخرى التي أوردها الشيخ مفسراً لها على غير ما قررناه وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فبين اللَّه تعالى لنا أنّ هؤلاء الكفار كاذبون فيما زعموه؛ لأنهم لا يعرفون اللَّه ولا يريدون السجود له ولا يعترفون ولا يؤمنون به، والدليل على ذلك وهو الذي لا يختلف فيه اثنان قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً الفرقان 60، وقوله تعالى: وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي الرعد: 30، وقال تعالى: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ*

ص: 281

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ يس: 79، وقال تعالى: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ الأنعام: 108، فهذه الآيات جميعها تثبت خطأ الاستدلال بالآيات الأخرى التي ذكرناها على أن الاستغاثة ومطلق الدعاء شرك!! لأنّ هذه الآيات تثبت أن أولئك ما كانوا يؤمنون باللَّه تعالى مطلقاً، فضلًا عن أن يعتقدوا بأنّ أولئك الأصنام وغيرها ممن اتخذوا آلهة من دون اللَّه تعالى ما هي إلا وسيلة تقربهم للَّه تعالى وتشفع لهم عنده!! فلو كان كذلك لعظموا اللَّه تعالى، ولكن شي ء من ذلك لم يكن لذلك قال اللَّه تعالى عنهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ وبذلك ينهدم كلام الشيخ واستدلاله بتلك الآيات الكريمة.

وهنا نعيد له كلامه الذي هناك بعد هذا البيان الواضح ونقول له:

(فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية)!!

وما أورد الشيخ هناكص (5) في مقالته من آيات فسرها كما يريد على أنّ دعاء غير اللَّه من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم شرك!! فلا يتم له بها الاستدلال؛ لأننا قدَّمنا ما هو الصحيح من معناها لا سيما وقد خالفه في الملائكة في هذه القضية الشيخ الألباني حيث استثنى الملائكة لحديث حسن أورده في ضعيفته (2/ 111) هناك إذ قال:

«فهذا الحديث إذاصح يعين أنَّ المراد بالحديث الأول (ياعباد اللَّه) إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يلحق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب».

ثم اعترف بعد ذلك بأسطر بأنه وقف على إسناد الحديث في زوائد البزار وأنّه حسن كما قال الحفاظ!!

(ملاحظة): ثمّ ألفت النظر هنا إلى مسألة الاستغاثة بالأنبياء- أي سؤالهم عند الوقوف على قبورهم وخاصة بالنسبة إلى سيدنا محمّدصلى الله عليه و آله أن يدعو اللَّه لنا في قضاء الحاجات كما نص على ذلك جمع من الأئمة منهم الإمام الحافظ النوري في المجموع

ص: 282

شرح المهذب 8/ 274 في باب ما يستحب أن يقول عند الزيارة- أن الأنبياء أحياء وكذا الشهداء وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ولانحتاج لتأويل كلمة أحياء وإخراجها عن المعنى الذي نفهمه؛ والذي تدل عليه اللغة العربية التي نزل بها القرآن إلى معنى لا نفهمه؛ لأنّ اللَّه تعالى يخاطبنا في هذه الآية بما نفهم و نعقل!! فإذا كانوا أحياءً وبعد سلام الزائر عليهم خاطبهم ليدعو اللَّه له في قضاء حاجته فما هو المانع من ذلك؟! وما هو الشرك في هذا؟!!

لا سيما و ابن قيم الجوزية يقول في كتابه «الروح» كما نقل المحدّث الكتاني عنه في «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» (حديث رقم 115):

«صحَّ عن النبيصلى الله عليه و آله أنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأنهصلى الله عليه و آله اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء... وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلّم عليه إلا ردَّ اللَّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأنّ موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غُيّبوا عنا بحيث لاندركهم وإن كانوا أحياءً موجدين كالملائكة فإنهم أحياء موجودون ولانراهم». انتهى ماأردنا نقله.

فتأمل!!

ثمَّ نقل الشيخ كلاماً لابن تيمية لم يخرج ما فيه من الكلام عمّا ذكرناه وفندناه من أقوال لا دلالة فيها وإنما هو إعادة الكلام وإبدائه فيما لا تحقيق فيه!!

ونلفت النظر هنا إلى أنّ كلام ابن تيمية لا قيمة له عندنا؛ لأنه هو الأساس في هذه الخصومة بينه وبين باقي المسلمين، فلا يجوز أن نأتي بكلام الخصم سواء من الفتاوى أو من رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر فنورده على أنه حجة أو كلام من شخص معتبر!! فإنّ الشيخ العلامة الخراساني لو جلب للشيخ كلام أحد أئمة الإمامية لم يقبل منه الشيخ ذلك، ولقال له: هذا لا يعترف به عندنا فلا فائدة من إيراد كلامه هنا!!

ص: 283

فكذلك ابن تيمية لا قيمة و لا اعتبار له عند جمهور علماء أهل السنة من غير المتمسلفين في القديم والحديث، وكم لهم عليه وعلى أفكاره من ردود يعرفها الشيخ، وكذا لا قيمة له عند الإمامية والزيدية والإباضية وغيرهم من المسلمين الموحدين!!

فكلام ابن تيمية لا يصح إيراده وهو غير مقبول، ومن كانت لديه حجة فليوردها بعيداً عن ابن تيمية!!

والمناظرة أو المباحثة والمناقشة يجب أن تكون الأدلة والأقوال التي يتم الحوار بناءً عليها متفقاً عليها أو معترفاً بها عند الخصم، وإلا كان إيرادها من العبث الذي لا قيمة له!!

وبقي شيئان في كلام الشيخ يجب الجواب عنهما باختصار وإلّا فإننا سنطيل تفصيله والاستدلال عليه وهما:

الأول: اعتباره أن تقبيل الشي ء واستلامه نوع من أنواع العبادة!!

والجواب عنه: أنَّ الأمر ليس كذلك فقد قبَّل النبيصلى الله عليه و آله وجه الصحابي الجليل عثمان بن مظعون وهو ميت وقبّل ما بين عينيه!! انظر «مجمع الزوائد» (3/ 20) وغيره.

ومن ذلك تقبيل يد الوالدين واستلامهما مع تعظيمهما واحترامهما لا يعتبر عبادة بالاتفاق!!

فاستلام الشي ء لا يعتبر من العبادات حتى يحكم بذمه وأنه من الشركيات والبدع المذمومات!!

والثاني: أنَّ حديث «لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» لايصح وإن رواه الشيخان؛ لأنَّ معناه مصادم لما جاء في القرآن كما سنبين وليس هذا بعجب!! فقد أمر الإمام أحمد بالضرب على أحاديث وقد خرجها فيما بعد الشيخان!! منها حديث «يهلك أمتي هذا الحي من قريش قالوا: ما تأمرنا يا

ص: 284

رسول اللَّه قال: «لو أنّ الناس اعتزلوهم».

قال عبداللَّه ابن الإمام أحمد في المسند (2/ 301) عقبه مباشرة:

«قال أبي في مرضه الذي مات فيه: اضرب على هذا الحديث، فإنه خلاف الأحاديث عن النبيصلى الله عليه و آله يعني قوله: اسمعوا وأطيعوا».

وهذا الحديث الذي فيه اتخاذ اليهود والنصاري قبور أنبيائهم مساجد فيه بكلصراحة تعظيم أنبيائهم!! لكن القرآن الكريم بين أن اليهود لم يكونوا يحترمون الأنبياء بل كانوا يكذبونهم ويقتلونهم!! قال تعالى: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ البقرة: 87، وقال تعالى:

قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ البقرة: 91.

ولذلك أورد هذا الحديث المحدث الشريف عبداللَّه ابن الصديق الغماري أعلى اللَّه درجته في كتابه «الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة».

وأورد السيد المحدث الغماري هناك: أنّ اللَّه تعالى أثبت في القرآن الكريم إذاية اليهود لنبيهم الأكبر سيدنا موسى عليه السلام في عدة آيات منها قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الصف: 5، هذا ولايُعلم أنهم أقاموا لأكبر وأعظم أنبيائهم سيدنا موسى قبراً يزورونه ويعظمونه حتى الآن!! فكيف يقال بعد ذلك: إنهم عظموا قبور أنبيائهم واتخذوها مساجد؟!!

وأما النصارى فليس لهم إلا نبي واحد!!

وأما إنكار الشيخ التوسل بالأنبياء في آخر جوابه أو مقاله، فجوابه أنَّ الأحاديث الصحيحة في هذا الموضوع كثيرة جداً أفردت بتصنيفات مستقلة معلومة عندكم فيها أحاديث كثيرةصحيحة منها حديث عثمان بن حنيف في قصة الأعمى الذي علمه النبيصلى الله عليه و آله أن يقول: «اللهم إني أتوجّه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة» رواه الترمذي والنسائي والحاكم وغيرهم وصححه الأئمة، وفي رواية ابن

ص: 285

أبي خيثمة في تاريخه بإسنادصحيح زيادة: «وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك» وكذا علّم سيدنا عثمان بن حنيف رضي اللَّه عنه- راوي هذا الحديث- رجلًا بعد وفاتهصلى الله عليه و آله أن يدعو بمثل هذا الدعاء، وهوصحيح، ورغم محاولات بعضهم لتضعيفه، وتجد تفنيد أقوال من يحاول تضعيفه والكلام على تلك الروايات وعلى سندها وتحقيق ذلك في كتاب المحدث الغماري «إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي» (ص 17 من طبعة دار الإمام النووي الثانية) فلتراجع!! ويكفي أن يُعلم بأنّ الحافظ ابن كثير وهو أحد تلاميذ ابن تيمية نقل في «البداية والنهاية» (14/ 45) أنَّ ابن تيمية أقرَّ أخيراً بجواز التوسل وأصرّ وبقي منكراً للاستغاثة!!

والأصل في ذلك كله قوله تعالى: وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وقوله تعالى:

يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ.

هذا ونسأل اللَّه تعالى أن يمنحنا وإياكم وسائر المسلمين الرجوع للحق وتقوى اللَّه تعالى في السرّ والعلن، وأن يكرمنا جميعاً بالتفقه في دينه والثبات على التوحيد الخالص، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يكرمهم بالفقه في الدين والحرص على الخيرات وترك المنكرات، وأن يولي عليهم خيارهم ليحكموا بشرع اللَّه تعالى انصياعاً لقوله جلَّ جلاله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ولقوله تعالى: أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللهمصلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضوان اللَّه تعالى علىصحابته المتقين، وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين.

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (11)

ص: 286

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (11)

1750- قاعدة الاسلام في المدينة

محمد جمال الدين محفوظ

الدارة س 7: ع 1 (8/ 1981 م)ص 260- 286.

1751- قافلة مكة

عصام عبد القادر غندور

بيروت: دار التوفيق، 1401 ه/ 1981 م، 469ص، 24 سم.

1752- قاموس الحج والعمرة من حجة النبي وعمرته

أحمد عبدالغفار عطار

بيروت: دار العلم للملايين، 1399 ه، 276ص.

1753- قبائل مكة قبل الاسلام

حسين أمين

في: موسوعة العتبات المقدسة ج 2:

قسم مكةص 61- 102.

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمعلومات، ط 2، 1407 ه- 1987 م.

1754- قبسات من حج عام 1400 ه

جدة: وزارة الحج والأوقاف، ط 1، 1400 ه.

1755- قبسات من حج عام 1402 ه

جدة: وزارة الحج والأوقاف، ط 1، 1402 ه.

1756- قبسات من موسم الحج 1409 ه

جدة: وزارة الحج والأوقاف، 403ص، 24 سم.

ص: 287

1757- قبسات من موسم الحج 1410 ه

مكة المكرمة: وزارة الحج والأوقاف، 1410 ه، 387ص، 24 سم.

1758- قبل سفرك إلى الحج

السيد سلامة السقا

منار الإسلام (أبوظبي) س 20: ع 11 (11/ 1415 ه- 4/ 1995 م)ص 11.

1759- القبلة الى المسجد الحرام

بيروت: دار الكتاب اللبناني، (لمحات من حياة الرسولصلى الله عليه و آله، 10).

1760- القبلة والطواف

محمد مهدي الآصفي

ميقات الحج ع 3 (1416 ه)ص 120- 140.

1761- قبة اليهود- وقبة الشراب في المسجد الحرام

حمد الجاسر

البيان (الكويت)ص 19: ع 223 (1/ 1404 ه/ 10/ 1984 م)ص 9- 12.

1762- قداست وأمنيت حرم

(بالفارسية)

عبداللَّه جوادي آملي

طهران: مركز تحقيقات وانتشارات حج، ط 1، 1367 ش، 49ص، 21 سم.

1763- قداسة الحرم وأمنه وآثارها الاجتماعية والسياسية

محمد علي التسخيري

التوحيد (طهران) ع 32 (5- 6/ 1408 ه)ص 78.

1764- قدسية الحرم وأمنه

عبداللَّه جوادي آملي

مكتب مندوب الامام الخميني والمشرف العام على الحجاج الايرانيين، ط 1، 1367 ش، 44ص، 21 سم.

1765- قدسية الحرمين الشريفين

إعداد: وحدة بحوث اللغات الاسلامية

لبنان: هجر- أرض اللواء، ط 1، 1408 ه/ 1988 م، 87ص، 24 سم.

1766- القديم والجديد في دار الهجرة

علي القاضي

منبر الاسلام س 50، ع 1 (7/ 1991)ص 30- 34.

1767- قرآن واحكام (كعبه كانون همبستگى اسلامى)

(بالفارسية)

ص: 288

عبدالكريم بي آزار شيرازي

طهران: بعثت، 1352 ش، 53ص.

1768- القرآن والكعبة والخلافة

أحمد حسن الباقوري

الوعي الاسلامي س 7: ع 83 (1391 ه)ص 12- 19.

1769- قربانى ارزشمند خدا وعيد قربان (بالفارسية)

السيد علي خامنئي

طهران: وزارة الارشاد الاسلامي، 1361 ه، 15ص.

1770- قربانى در حج تمتع

(بالفارسية)

يعقوب علي برجى

ميقات حج: ع 20 (تابستان 1376 ش)ص 42- 57.

1771- قربانى در منى و مشكل اسراف

(بالفارسية)

محمد جواد ارسطا

ميقات حج: ع 25 (پاييز 1377 ش)ص 44- 72.

1772- قربانى در منى

(بالفارسي)

محمد جواد موسوي غروى

طهران: 1363 ش، 182ص.

1773- القرامطة وفتنتهم في مكة

يعقوب الجعفري

ميقات الحج: س 4: ع 7 (1418 ه)ص 201- 223.

1774- القرى لقاصد أم القرى

أبوالعباس أحمد بن عبداللَّه بن محمد ابن أبي بكر محب الدين الطبري

تصحيح: مصطفى السقا

بيروت: دار الفكر، ط 3، 1403 ه.

1775- قرن المنازل

عبدالهادي الفضلي

ميقات الحج: س 3، ع 5 (1417 ه)ص 84- 93.

1776- قرن المنازل

(بالفارسية)

عبدالهادى الفضلي، ومهدى پيشوايى

ميقات حج: ع 15 (بهار 1375 ش)ص 72- 81.

1777- قرن المنازل

دراسة وتحقيق في موضعه

علي ابراهيم المبارك البحراني

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه)ص 40- 61.

ص: 289

1778- قريش في ضواحي مكة

العرب س 16:ص 307.

1779- قريش قبيلة العرب (قبل الاسلام)

أحمد ابراهيم الشريف

كلية الآداب والتربية (الكويت): ع 1 (حزيران 1972 م)ص 101- 132.

1780- قريش وأخبارها

أحمد بن محمد الجهمي

ظ: معجم الادباء 4/ 132.

1781- قِسم المدينة المنورة

جعفر الخليلي

في: موسوعة العتبات المقدسة، ج 3

بيروت: مؤسسة الأعلمي، ط 2، 1407 ه/ 1987 م، 343ص.

1782- قصة بناءالخليل إبراهيم وابنه إسماعيل الكعبة المشرفة

محمد محمد أبو شهبة

الرابطة (مكة المكرمة) س 21: ع 12 (ذو الحجة 1403 ه- 10/ 1983 م)ص 24- 26، ع 11 (ذو القعدة 1403 ه- سبتمبر 1983 م)ص 26- 28.

1783- قصة الكعبة

أبوعبيدة معمر بن المثنى البصري

المنهل ظ (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 207.

1784- قصي الشاب يُعيد بناء مكة

أحمد السباعي

المنهل (جدة) مج 11: ج 4 (4/ 1370 ه/ 1- 2/ 1951 م)ص 189- 191.

1785- قصيدة في مشاهد أهل البيت

زين العابدين المكي عبد الشكور

مكة المكرمة: المطبعة الماجدية، (في ذيل: درة العقد الثمين، لمحمد تقي الدين الزرعة الطائفي المكي).

1786- قضاء (قضاة) أهل المدينة

أبوالحسن علي بن محمد المدائني 225 ه

ظ: فهرست النديم 117، العرب.

س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 455.

1787- القطائع النبوية في بلاد بني سليم

حمد الجاسر

العرب س 8: ع 1 (7/ 1393 ه/ 8/ 1973 م)ص 1- 8.

ع 2 (8/ 1393 ه/ 9/ 1973 م)ص 81- 90.

ع 3 (9/ 1393 ه/ 10/ 1973 م)

ص: 290

ص 177- 191.

ع 4 (105/ 1393 ه/ 11/ 1973 م)ص 241- 254.

ع 5- 6 (11، 12/ 1393 ه/ 12، 1/ 1974 م)ص 358- 366.

ع 7- 8 (1، 2/ 1394 ه/ 2، 3/ 1974 م)ص 509- 513.

ع 9- 10 (3، 4/ 1394 ه/ 4، 5/ 1974 م)ص 659- 662.

1788- القطائع النبوية: حمام والسد

حمد الجاسر

العرب. س 22: ع 5- 6 (11، 12/ 1407 ه/ 6، 7/ 1987 م)ص 289- 293.

1789- قطب الدين النهروالي مؤرخ مكة:

حياته وآثاره ومشاهير آله

حمد الجاسر

العرب. س 1: ع 1 (7/ 1386 ه/ 10/ 1966 م)ص 55- 62.

ع 2 (8/ 1386 ه/ 11/ 1966 م)ص 147- 156.

ع 3 (9/ 1386 ه/ 12/ 1966 م)ص 238- 244.

ع 4 (10/ 1386 ه/ 1/ 1967 م)ص 336- 238.

ع 5 (11/ 1386 ه/ 2/ 1967 م)ص 431- 433.

ع 6 (12/ 1386 ه/ 3/ 1967 م)ص 557- 551.

ع 7 (1/ 1387 ه/ 4/ 1967 م)ص 630- 636.

ع 8 (2/ 1387 ه/ 5/ 1967 م)ص 727- 733.

ع 9- 10 (3، 4/ 1387 ه/ 6/ 1967 م)ص 875- 873.

ع 11 (5/ 1387 ه/ 8/ 1967 م)ص 1029- 1035.

1790- قلائد الدرر في مناسك مَن حج واعتمر

أحمد كاشف الغطاء

بغداد: مط دار اليوم، ط 1، 1924 م.

النجف: المط العلمية، ط 2، 1948 م، 168ص، طبع حجر.

1791- قلب جزيرة العرب

فؤاد حمزة

الرياض: مكتبة النصر الحديثة، ط 2، 1388 ه/ 1968 م، 470ص، 24 سم.

1792- قلب الحجاز (بحوث جغرافية

ص: 291

وتاريخية وأدبية)

مكة المكرمة: دار مكة، ط 1، 1405 ه/ 1985 م، 236ص، 24 سم.

1793- قنديل حرم

(رحلة الى الحج في سنة 1289 ه، بالفارسية)

نواب محمد كلبعلى خان رامپورى

رامپور: 1290 ه 24ص.

1794- القول التام في واقعة بيت اللَّه الحرام

محمد بن أبي السرور

خ: سپهسالار، ج 5/ 412.

القول المحقق المحكم في زيارة الحبيب المكرم

بشير بن بدر الدين السهواني

ظ: الثقافة الاسلامية في الهند 245.

1795- القول المختار الجلي في جواز التوسل بالنبيصلى الله عليه و آله والولي

محمد سعيد بن عبداللَّه الرباطابي

القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1955 م، 76ص.

1796- القول المنصور في زيارة سيد القبور

(في الرد على الكلام المبرم في نقض القول الحكم).

بشير بن بدر الدين السهواني.

ظ: الثقافة الاسلامية في الهند 245.

1797- القول المنصور في زيارة سيد القبور

أبو عبداللَّه محمد بن يحيى بن مهدي الجرجاني الحنفي ت 398 ه

ظ: إيضاح المكنون 2/ 255.

1798- القوم لا يقرأون ومتى كان طريق الفيل مجهولًا؟

(في جغرافية الحجاز)

حمد الجاسر

العرب. س 24: ع 3، 4 (9، 10/ 1410 ه/ 3، 5/ 1989 م)ص 253- 258.

1799- قيام كعبه سر آغاز خونين قرن

(بالفارسية)

شاكر كسرائى

طهران: انتشارات نور، 1360 ش، 142ص، 21 سم.

1800- كامل الزيارات

جعفر بن محمدبن جعفر بن موسى ابن قولويه ت 367 ه

تصحيح وتعليق: عبد الحسين الأميني

ص: 292

تقديم: محمد علي الاوردبادي

النجف الأشرف: المطبعة المرتضوية، 1356 ه، 335ص، حجرية.

تقوم بتحقيقه: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث في قم.

1801- الكتائب في الحرمين الشريفين وما حولهما

عبداللطيف عبداللَّه دهيش

مكة المكرمة: مكتبة النهضة الحديثة، 1406 ه/ 1986 م،

73ص، 24 سم.

1802- كتاب أدعية المواقف

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ت 381 ه

ظ: رجال النجاشي 390.

1803- كتاب بين المسجدين

علي بن أحمد بن علي بن محمد بن جعفر ابن عبداللَّه بن الحسن بن علي ابن أبي طالب العقيقي

ظ: معجم المؤلفين 7/ 21، العرب.

س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 455.

1804- كتاب الحراث (في الحجاز)

أبو عبيدة معمر بن المثنى

ظ: فهرست النديم 60، العرب.

س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 456.

1805- كتاب عن المدينة والحجاز

أبوعبيداللَّه عمرو بن بشر السكوني

ظ: العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 456.

1806- كتاب عن وقعة الحرة

علي محمد المدائني ت 225 ه

ظ: العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 456.

1807- كتاب في تاريخ المدينة

ابن فرحون ابراهيم بن علي بن محمد بن برهان الدين ت 799 ه

ظ: الدرر الكامنة 1/ 49، إبناء الغمر 1/ 53، العرب. س 31: ج 7، 8 (ا، 2/ 1417 ه)ص 457.

1808- كتاب في تاريخ المدينة

جعفر حسين بن يحيى بن ابراهيم بن هاشم الحسيني ت 1342 ه

ظ: معجم مصنفي الكتب العربية 133، العرب.

س 31: ح 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 457.

ص: 293

1809- كتاب في تاريخ المدينة

أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن ابن المُستفاض الغريابي

ظ: الاعلان بالتوبيخ 273، العرب.

س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 457.

1810- كتاب في تاريخ المدينة

الجمال المطري محمد بن أحمد بن خلف ابن عيسى

ظ: العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 457.

1811- كتاب في تاريخ المدينة

محمد بن موسى بن علي المراكشي (789- 823 ه)

ظ: معجم مصنفي الكتب العربية، العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 457.

1812- كتاب في تاريخ مكة

العرب س 22:ص 843.

1813- كتاب في الحج

أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري

ظ: رجال النجاشي 82، الذريعة 6/ 250.

1814- كتاب في الحج

علي بن عبيداللَّه بن حسين العلوي (يرويه كله عن موسى بن جعفر عليهما السلام)

ظ: رجال النجاشي 256، الذريعة 6/ 251.

1815- كتاب في العقيق

هارون بن زكريا الهجري (ق 3، 4 ه)

ظ: وفاء الوفاء 3/ 1083، 1093، العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 458.

1816- كتاب في فضائل المدينة والحجة لها

محمد بن أحمد بن عمر التستري (283- 345 ه)

ظ: معجم مصنفي الكتب العربية 427، العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 458.

1817- كتاب القربان

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ت 381 ه

ظ: رجال النجاشي 390.

1818- كتاب المجموع الظريف في حجة المقام الشريف

أحمد بن يحيى بن الجيعان ت 930 ه.

العرب. س 10: ع 9- 10 (3،

ص: 294

4/ 1396 ه/ 3، 4/ 1976 م)ص 659- 696 (حمد الجاسر).

1819- كتاب المدينة وزيارة قبر النبي والأئمة عليهم السلام

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ت 381 ه

ظ

رجال النجاشي 39.

1820- كتابات اسلامية عن مكة المكرمة

دراسة وتحقيق: سعد عبد العزيز الراشد

[السعودية]: 1416 ه.

1821- الكتابة في مجتمع المدينة

شاكر محمود عبد المنعم

التضامن الاسلامي س 36: ع 9 (3/ 1402 ه)ص 49- 51.

1822- كتب الأنساب وتاريخ الجزيرة العربية

عبدالعزيز الدوري

دراسات تاريخ الجزيرةالعربية ج 1 (1979 م)ص 129- 141.

مجلة مجمع اللغة العربية الاردني س 2:

ع 5، 6 (5- 12/ 1979 م)ص 5- 29.

1823- كتب منازل الحج من روافد الدراسات

العرب: س 12:ص 321.

1824- كسوة الكعبة

أبو عبدالباسط

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 144 (1401 ه)ص 69- 73.

1825- كسوة الكعبة

فريال داود عبدالخالق

المورد مج 9: ع 4 (شتاء 1980 م)ص 171- 178.

1826- كسوة الكعبة الشريفة

موسىصالح شرف

منار الإسلام (أبو ظبي) س 15: ع 1 (8/ 1989 م)

ص 40- 54.

1827- كسوة الكعبة عبر التاريخ

محمد اسماعيل فرج

نور الاسلام (بيروت) ع 27، 28 (11- 12/ 1412 ه)ص 14- 20.

1828- كسوة الكعبة المشرفة

عبدالعزيز مؤذن

مكة المكرمة: قسم الدراسات العليا الحضارية بجامعة أم القرى ، 1403 ه (رسالة ماجستير).

ص: 295

1829- كسوة الكعبة المشرفة عبر العصور

محمد بيبر

الفيصل. س 16: ع 126 (12/ 1407 ه/ 8/ 1987 م).

1830- كسوة الكعبة المشرفة... وفنون الحجاج

ابراهيم حلمي

القاهرة: مؤسسة أخبار اليوم، 1411 ه/ 1991 م (كتاب اليوم، 230).

1831- كسوة الكعبة المعظمة عبرالتاريخ

السيد محمد الدقن

القاهرة: ظ، 1986، 320ص،صور، لوحات.

1832- كشف الحجب والستور عما وقع لأهل المدينة مع أمير مكة سرور

محمد زين العابدين البرزنجي

خ: جستربتي

العرب س 20: ع 7- 8 (1، 2/ 1405 ه/ 9، 10/ 1985 م)ص 433- 456.

ع 9- 10 (3، 4/ 1406 ه/ 10، 11/ 1985 م)ص 591- 608.

ع 11- 12 (5، 6/ 1406 ه/ 1، 2/ 1986 م)ص 767- 775 (حمد الجاسر).

ظ:

المورد: ج 24،ص 191.

1833- الكعبات المقدسة عند العرب قبل الاسلام

شريف يوسف

مجلة المجمع العلمي العراقي مج 29 (1398 ه)ص 188- 218.

1834- الكعبة

جمال الدين الآلوسي

الرسالة الاسلامية: ع 31، 32 (1390 ه)ص 49- 56.

1835- الكعبة

عبد القدوس الانصاري

المنهل (جدة) مج 40: ج 7 (7/ 1399 ه/ 5- 6/ 1979 م)ص 482- 490.

1836- الكعبة

محمد بن مسعود بن محمد ابن عياش السلمي السمرقندي العياشي (ت 320 ه)

ظ: رجال النجاشي 352.

1837- كعبه در آيينه تشبيه

(بالفارسيه)

ص: 296

محمد شجاعي

ميقات مج: ع 15 (بهار 1375 ش)ص 112- 124.

1838- الكعبة على مرّ العصور

علي حسين الخربوطلي

القاهرة: دار المعارف، ط 2، 1986، 124ص، (اقرأ، 291).

1839- الكعبة: قريش تبني الكعبة سنة 14 قبل الهجرة/ 806 ميلادية.

كريزويل، ك. أس

ترجمة: محمد رجب

المجلة التاريخية المصرية مج 2: ع 2 (اكتوبر 1949 م)ص 25- 35.

1840- الكعبة مركز الارض

محمد عوض محمد

المنهل (جده) مج 13: ج 10 (12/ 1372 ه/ 8/ 1953 م)ص 575- 578.

1841- الكعبة المشرفة

أمينة الصاوي

القاهرة: مكتبة الخانجي، 1976 م، 304ص.

القاهرة: مؤسسة أخبار اليوم، 1988، 319ص، (كتاب اليوم، العدد 282).

1842- الكعبة المشرفة آدابها وأحكامها

محمد بن المسعودي

المدينة المنورة: مطابع الرشيد، 88ص، 24 سم.

1843- الكعبة المشرفة: تاريخاً وتقديساً

صالح حتحوت

المجاهد س 9: ع 91 (7/ 88)ص 30- 31.

1844- الكعبة المشرفة: دراسة أثرية لمجموعة أقفالها ومفاتيحها المحفوظة في متحف طوب قابي باستانبول

تأليف: طرجان يلماز

ترجمة: تحسين عمر طه أوغلي

مراجعة: أحمد محمد عيسى

تقديم: أكمل الدين احسان أوغلي

استانبول: مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الاسلامية، 1993 م (98صورة فوتوغرافية).

1845- الكعبة المشرفة ذلك الجمال القائم حتى قيام الساعة

فاطمة

شموع: ع 6 (7- 9/ 1987 م).

ص: 297

1846- الكعبة المشرفة في الشعر العربي القديم

عبد الغني زيتوني

الخفجي س: ع 7 (7/ 1991 م)ص 2- 4.

1847- الكعبة المشرفة قلب العالم

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 12- 13.

1848- الكعبة المعظمة على مرّ التاريخ

احمد الشنواني

التصوف الإسلامي (القاهرة) س 10:

ع 7 (7/ 1988 م)ص 22- 24.

1849- كعبه مغناطيس دلها:

(شعر بالفارسية)

جواد محدثي

ميقات حجص 3: ع 9 (پاييز 1373 ش)،ص 149- 150.

1850- كعبة- مناسك حج

(بالفارسية)

ناصر الدين شاه الحسيني

طهران: مؤسسة چاپ و انتشارات علمي، 1337 ش، 220ص، 21 سم.

1851- الكعبة والحج في العصور المختلفة مع أهم مناسك الحج على المذاهب الأربعة

أبو القاسم زين العابدين

مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، طا، 1406 ه/ 1986 م، 250ص، 24 سم.

1852- الكعبة والكسوة منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم

أحمد عبدالغفور عطار ت 1411 ه

بيروت: ط 1، 1397 ه، 200ص.

1853- كفاية الزوار في زيارة النبي والأئمة الاطهار الأخيار

(بالفارسية)

عبدالحي بن محمد رفيع

خ: مكتبة السيد المرعشي بقم 4395 في 132 ورقة

ظ: فهرسها 11/ 394- 395.

1854- كل شي ء عن الندوة العالمية الثانية لدراسة تاريخ الجزيرة العربية

عبدالقدوس الانصاري

المنهل (جده) مج 40: ج 7 (7/ 1399 ه/ 5- 6/ 1979 م)ص 426- 450.

1855- الكلام المبرور في الرد على القول المنصور

ص: 298

(حول زيارة الرسولصلى الله عليه و آله)

عبد الحي بن عبدالحليم الانصاري اللكهنوي ونُسِب إلى تلميذه عبد العزيز

ظ: الثقافة الاسلامية في الهند 245.

1856- الكلمات المفيدة على أخبار المدينة

(وهو شرح مذيل بأخبار المدينة لابن شبة)

عبداللَّه بن محمد الدويش (1373- 1408 ه)

ظ: العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه).

1857- كنز الزائرين في الزيارات

محمدصالح بن الآقامحمد

ظ: الذريعة 18/ 157، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 10/ 54.

1858- كنز المطالب في فضل البيت الحرام والشاذروان وما في زيارة القبر الشريف من المآرب

حسن الحمزاوي المالكي العدوي المصري (1210- 1303 ه).

ظ: ريحانة الأدب 2/ 73، ايضاح المكنون 2/ 387.

1859- كنگره اسلامي حج (بالفارسية)

أحمد بن حسن المطهري الساوجي

النجف الأشرف: مطبعة النعمان، 1385 ه/ 1966 م، 140ص.

1860- كنگره اسلامي حج

(بالفارسية)

علي گلزاده غفوري.

طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1353 ش، 260ص.

1861- كنوز الاسرار في الصلاة والسلام على النبي المختارصلى اللَّه تبارك وتعالى عليه وسلم وعلى آله واصحابه الأبرار.

عبداللَّه بن محمد الهاروش

القاهرة: مطبعة الكيلاني 1987 م، 88ص (سبيل اللَّه).

1862- كنوز الاسرار في الصلاة والسلام على النبي المختار

جمعها: عبدالفتاح القاضي

راجعها: عبدالجليل قاسم

القاهرة: 1985 م، 175ص.

1863- الكواكب الزهرية في ليالي الدورية

ص: 299

(مجموعة اشعار ومحاورات أدبية بين أدباء أهل المدينة)

جعفر بن اسماعيل بن جعفر البرزنجي

ظ: العرب. س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه)ص 458- 459.

1864- الكواكب السيارة في الحث على الزيارة

أبو محمد المكي بن مريدة المراكشي

ظ: فهرس الفهارس والاثبات 800.

1865- كوكب الحج في سفر المحمل بحراً وسيره براً

محمدصالح

(وهو ذيل مشعل المحمل يبين فيه منازل الحج من مصر الى مكة المشرفة ومنها الى المدينة المنورة، ويصف هاتيك المنازل والبقاع، ويشرح قبائل العرب الحجازية وفضائلها وأخلاق بعضها ومساكنها أتم الشرح).

القاهرة: بولاق، 1303 ه، 73ص.

1866- الكوكب المضي ء في زيارة سيدنا محمد النبي العربي

عبدالقادر بن محمد الحواري المدني الحنفي

القاهرة: مكتبة بهنسي، 1927 م، 129ص.

1867- كيف أرسى الرسول قواعد المجتمع الاسلامي في المدينة؟

محمد رعد

المنطلق: ع 2 (ربيع الثاني 1398 ه)ص 47- 51.

1868- كيف تؤدي مناسك الحج والعمرة؟

محمد الصالح العثيمين

المدينة المنورة: الجامعة الاسلامية، ط 2، 1410 ه، 8ص.

1869- كيف تؤدي مناسك الحج والعمرة؟

يونس السامرائي

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 140 (1400 ه)ص 55- 61.

1870- كيف تحج الى بيت اللَّه الحرام؟

محمد الحسين الأديب

النجف: مطالحيدرية، (1955 م)، 160ص.

1871- كيف تحج وتعتمر؟

الرابطة (مكة المكرمة) س 26: ع 261 (7/ 1988 م)ص 25- 28.

1872- كيف حج رسول اللَّه؟

ص: 300

عبدالرحمن العدوي

المجاهد (القاهرة) ع 128 (6/ 1991 م)ص 39- 41.

1873- كيف حج النبي؟

صالح حتحوت

المجاهد س 9: ع 92 (8/ 1988 م)ص 35- 36.

1874- كيف حج النبي؟ دليل عملي في مسائل الحج والعمرة

محمود مهدي الاستامبولي

دمشق: المكتب الاسلامي، ط 3، 1402 ه.

1875- كيف حج واعتمر الرسول وكيف تزور قبره الشريف؟

ابن عمّار الأقفهي

القاهرة: المكتبات الازهرية.

1876- كيفصنع اللَّه الهجرة لرسوله؟

عبدالقدوس الانصاري

المنهل (جده) مج 11: ج 1 (1/ 1370 ه/ 10- 11/ 1950 م)ص 7- 10.

1877- كيف نجعل من الحج مؤتمراً سنوياً يعالج مشاكل المسلمين؟

محمد بكر

التصوف الاسلامي (القاهرة) س 13:

ع 7 (6/ 1991 م)ص 18- 20.

1878- كيف ينظر المسلمون الى الحجاز وجزيرة العرب، مشاعر وأحاسيس ودراسات وملاحظات.

أبو الحسن علي الحسني الندوي

مصر: دار الاعتصام، ط 2، 1399 ه/ 1979 م، 125ص، 21 سم.

1879- كيفية الحج والعمرة

عبده غالب أحمد عيسى

بيروت: دار الجيل، 1987 م، 80ص.

1880- كيفية الصلاة على النبي

النعمان بن محمد التميمي المغربي ت 363 ه

ط: شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (المقدمة) 68، مصادر الأدب لاسماعيل لپونا، 64.

ص: 301

1881- گزارش آتش سوزى مسجد نبوى در سال 866 هجرى وبناى مجدد آن از زبان يك شاهد عينى

(ترجمة فارسية ل (رسالة هداية التصديق الى حكاية الحريق) لفضل اللَّه بن روزبهان خنجي ت 927 ه)

رسول جعفريان

ميقات مج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش)ص 106- 116.

1882- گزارش از اعزام دانشجويان به عمره

(بالفارسية)

ميقات مج: ع 22 (زمستان 1376 ش)ص 152- 162.

1883- گزارش از دو باز سازى كعبه ومسجد الحرام

محمد رضا فرهنگ

ميقات حج: ع 20 (تابستان 1376 ش)ص 104- 114.

1884- گزارش از طرح قرباني حج سال 1372

(بالفارسية)

طهماسب مظاهرى

ميقات حج س 2: ع 7 (بهار 1373 ش)ص 67- 80.

1885- گفتگو با نماينده محترم ولى فقيه در امور حج وزيارت پيرامون حج

(بالفارسية)

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش)ص 156- 173.

1886- گوشه اى از اسرار حج

(بالفارسية)

جعفر سبحاني

ميقات حج س 2: ع 8 (تابستان 1373 ش)ص 32- 36.

1887- لبيك اللهم لبيك: هنا الكعبة المشرفة وهذا هو البيت الحرام

محمد طنطاوي

العربي (الكويت) ع 7 (6/ 1959 م)ص 23.

1888- لقاء الحج يكشف لنا الطريق

أبو عمر

لواء الأسلام (القاهرة) س 45: ع 4 (6/ 1990 م)ص 20- 21.

1889- لقاء مع المؤرخ الحجازي عاتق

ص: 302

بن غيث البلادي

ميقات الحج. س 3: ع 6 (1417 ه)ص 195- 216.

1890- لقاء وحوار (حول الحج)

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه)ص 207- 237.

1891- لقاءات المجلة الموسم حج عام 1408 هجرية

بدر رشاد الدوبي

التضامن الاسلامي (مكة المكرمة) س 43: ع 7 (9/ 1988 م)ص 76- 85.

1892- للحجاج... وغيرهم

محمد سيد طنطاوي

منبر الاسلام (القاهرة) س 49: ع 12 (6/ 1991 م)ص 6- 10.

1893- اللطائف المنيفة في فضل الحرمين وما حولهما من الاماكن الشريفة

عبداللَّه عبدالقادر المصري الحنفي الفيومي ت 1011 ه

ظ

المنهل (جده) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 206.

1894- لماذا اختار النبي المدينة موطناً لهجرته

محمد خليفة التونسي

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 34 و 35 (1391 ه)ص 90- 101.

ع 36 (1391 ه)ص 91- 99.

ع 37 (1391 ه)ص 11- 20.

1895- لماذا بقت الرسول في مكة؟

عبدالقادر أحمد عطا

القاهرة: دار الاعتصام.

1896- لماذا ظهر الاسلام في جزيرة العرب؟

أحمد موسى سالم

بيروت: دار الجيل، 1977 م، 335ص، ط 2، 1981 م، 335ص.

1897- لماذا ظلت مكة ملتقى العلم والثقافة؟

عبدالمنعم الجداوي

الهلال (القاهرة) س 96: ع 7 (7/ 1989 م)ص 100- 107.

1898- لماذا لا يجوز لغير المسلمين دخول مكة والمدينة والاقامة فيها؟

عبدالوارث كبير

العربي ع 84 (11/ 1965 م)ص 144.

ص: 303

1899- لمحات فنية من آيات الحج

محمود البستاني

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه)ص 62- 70.

1900- لمحات في نشوء الحركة العلمية في الحجاز فيصدر الاسلام: دور المسجد في حياة المسلمين ولا سيما الحياة العلمية خلال تلك الفترة.

سامي الصفار

في:

الندوة العلمية الثالثة لدراسات تاريخ الجزيرة العربية في عصر الرسولصلى الله عليه و آله والخلفاء الراشدين.

(الرياض: كلية الآداب- جامعة الملك سعود، 15- 12/ محرم/ 1404 ه).

1901- لمحات من فلسفة الحج في الأسلام

عبدالنافع محمود

الرسالة الاسلامية (بغداد) ع 108- 109 (1397 ه)ص 5- 8.

1902- لمحة تاريخية عن المدينة المنورة

علي حافظ

المنهل (جدة) حج 27: ج 10 (10/ 1386 ه/ 1/ 1967 م)ص 1292.

ج 12 (12/ 1386 ه/ 4/ 1967 م)ص 1417.

1903- لمحة عن الحج ومناسكه

محمد جواد حجتي كرماني

ميقات الحج: ع 8 (1418 ه)ص 79- 103.

1904- لمحة في بعض آيات الحج

عبداللَّه خياط

المنهل (جدة) حج 11: ج 9- 10 (11- 12/ 1370 ه/ 8- 9/ 1951 م)ص 389- 394.

1905- لمنْ هذه الدوارس في جنبات العقيق

أحمد سباعي

المنهل (جدة) حج 2: ج 10 (9/ 1357 ه/ 10/ 1938 م)ص 22- 27.

1906- اللهجات العاميّة في الحجاز ونجد اسباب حدوثها وردها الى اصولها الصحيحة

عبدالقدوس الانصاري

المنهل (جدة) حج 2: ج 1 (12/ 1356 ه

ص: 304

/ 2/ 1938 م)ص 3- 7.

1907- ليالي مكة

علي الجمبلاطي وعبدالمنعم قنديل

مصر: دار النهضة، 221ص، 21 سم.

1908- ليشهدوا منافع لهم

وهية الزحيلي

ميقات الحج ع 2 (1415 ه)ص 28- 39.

1909- ليلة مكة

(على هامش رحلتي في الحجاز)

عبدالكريم جرمانوس

الرسالة (القاهرة) س 5: ع 207 (21 يونيو 1937)ص 1018- 1020.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.