ميقات الحج المجلد15

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري ، محمد، ‫1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي ، ‫1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : ‫BP188/8

رده بندي د... : ‫297/35705

ص: 1

الحج في احاديث الامام الخميني قدس سره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

العدد الخامس عشر

الحج في أحاديث الإمام الخميني قدس سره

«كثير من الأحكام العبادية تصدر عنها معطيات اجتماعية وسياسية، فعبادات الإسلام عادة تلائم سياساته وتدابيره الاجتماعيّة.

واجتماع الحجّ يؤدّي- بالإضافة إلى ما له من آثار خلقية وعاطفية- إلى نتائج وآثار سياسية. استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتّى تعمّ المعرفة الدينية والعواطف الأخوية، ويتمّ التعرف بين الناس، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتبحث المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة وحلولها.

في الدول غير الإسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيتها من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر إلى عنصر الصفاء وحسن النيّة، والإخاء المهيمن على الناس في اجتماعاتهم الإسلامية، ولا تؤدّي بالتالي إلى النتائج المثمرة التي تؤدّي إليها اجتماعاتنا الإسلامية.

وضع الإسلام حوافز ودوافع باطنيّة تجعل الذهاب إلى الحجّ من أغلى أماني الحياة، وتحمل المرء تلقائياً إلى حضور الجماعة والجمعة والعيد بكلّ سرور

ص: 6

وبهجة. فما علينا إلّاأن نعتبر هذه الاجتماعات فرصاً ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة؛ لنبيّن فيها العقائد والأحكام والأنظمة على رؤوس الأشهاد وفي أكبر عدد من الناس.

علينا أن نستثمر موسم الحجّ ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة إلى الوحدة والدعوة إلى تحكيم الإسلام في النّاس كافّة، علينا أن نبحث مشاكلنا ونستمدّ حلولها من الإسلام. علينا أن نسعى لتحرير فلسطين وغيرها.

فالمسلمون الأوائل كانوا يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم ومواقف حجّهم أحسن الثمار» (1).

الهوامش:

الحجّ في احاديث الامام الخامنئي


1- 1 من محاضرات الإمام في منفاه بالنجف الأشرف عام 1398 ه.

ص: 7

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

(مدّظلّه العالي)

قال اللَّه الحكيم: إِنَّ هذِهِ امّتُكُم أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ (الانبياء: 92)

يعود مرة أخرى موسم الحج، و يعود معه المشهد الاستعراضي العظيم المدهش المفعم بالحركة والنشاط في قاعدة الوحي والنبوة. أمواج بشرية هادرة من الشعوب الاسلامية تتحرك من كل حدب و صوب؛ لتصب في البحر الكبير، ولتجسد تعايش الأمة الواحدة تحت لواء التوحيد. مشاعر مترابطة تجمع هذه الكتل البشرية، تفصح عن آمال هذه الأمة الاسلامية العظيمة وآلامها وتطلعاتها وقدراتها.

ساحة الحج تستضيف الآن أناساً من ايران و العراق، من فلسطين و لبنان، من شبه القارة و شمال أفريقيا، من تركيا و البوسنة، و من أرجاء آسيا و اروبا. هذه الأفئدة المشتاقة تستطيع أن تتحدث عما تحمله قلوب الأمة الاسلامية، و إنما الحج من أجل هذا التقارب و التجاوب بين المسلمين من جميع أرجاء العالم.

الرباط المقدس الذي يشدّ كلّ هذه القلوب هو نفسه النداء الذي انطلق لأول مرّة من هذه الأرض، و ملأالخافقين طولًا و عرضاً و امتدّ على كل مساحة التاريخ ..

ص: 8

إنه نداء التوحيد والوحدة، توحيد اللَّه ووحدة الأمة. التوحيد: رفض ألوهية الطواغيت والمستكبرين و جبابرة الثروة والقوة. الوحدة: مظهر عزّة المسلمين وقدرتهم ...

العالم الاسلامي يحسّ بهبوب نسيم الصحوة الاسلامية على وجهه المرهق الملتهب. و يرى مظاهر ذلك في كل بقاع العالم الاسلامي خاصة في ايران العزّة والجهاد، و كذلك في فلسطين و لبنان. نور الأمل يملأ قلوب الشباب في كل مكان، وطلاسم تحكّم الغرب وإهانته وتحقيره للشعوب قد انفضّت. وهذه الفرصة لم تتوفر مجاناً، بل بتضحية آلاف الأرواح الطاهرة على هذا الطريق. وما نستقبله من درب هو أيضاً صعب طويل، لكنه مفعم باليقين وخالٍ من أيّ شك وترديد.

الشعب الفلسطيني أخذ على عاتقه اليوم السهم الأكبر من مسؤولية شقّ هذا الطريق والسير عليه. وعلى الجميع أن يعاضدوا هذا الشعب المظلوم و الشجاع والمتيقظ. الشعوب الأخرى تستطيع بمناصرتها الشعب الفلسطيني البطل؛ أن تفي بسهمها في مواصلة هذا الطريق.

العدو المستكبر الذي يرى في الصحوة الاسلامية تهديداً لأطماعه و مصالحه العدوانية، عمد إلى أهم ما في يده من سلاح لمواجهة هذا المدّ المتصاعد، وهو سلاح الحرب النفسية: بثّ اليأس، الاستهانة بالهوية، استعراض العضلات، وسيشهد المستقبل ممارسة آلاف الأدوات والأساليب الاعلامية الأخرى .. كلّ ذلك من أجل بثّ اليأس في قلوب المسلمين من مستقبلهم، و بالتالي دعوتهم إلى مستقبل منسجم مع أهدافه الخبيثة. هذه الحرب الثقافية والنفسية منذبداية عصر الاستعمار حتى الآن كانت أمضى أسلحة الغرب في فرض سيطرته على البلدان الاسلامية.

وكانت هذه السهام السامّة تستهدف بالدرجة الاولى النخبات والمثقّفين؛ ثم سائر الجماهير. ومواجهة هذه الدسيسة إنما يكون بالإعراض عن ثقافة الغرب المتهكمة المفروضة.

ص: 9

الثقافة الغربية يجب غربلتها حتى يؤخذ منها ما كان مفيداً، و يلفظ من الفكر والعمل ما كان منها مضراً و مخرباً و مفسداً.

والحَكمُ في هذه الغربلة الكبرى الثقافة الاسلامية و ما يقدمه القرآن والسنّة من فكر معطاء وضّاء و موجّه. هذا فصل أساسي من النضال الشامل الواعد الذي ينهض به علماءالدين والمثقفون والسياسيون المخلصون في جميع أرجاء العالم.

على أمل أن يستطيع حجّ هذا العام ترسيخ و تقوية عزم الجميع على مواصلة هذا الطريق المبارك الكريم (1).

الهوامش:

مناسك الحجّ لصاحب المعالم


1- 1- من نداء سماحة آيةاللَّه الخامنئي مدّظلّه العالي لحجاج بيت اللَّه الحرام، عام 1422 ه.

ص: 10

مناسك الحجّ لصاحب المعالم

تأليف: جمال الدين العاملي

تحقيق: هادي القبيسي

ترجمة المؤلّف (1)

اسمه ونسبه: الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن- الشهيد الثاني- الشيخ زين الدين بن علي بن أحمد العاملي الجُبعي قدس سره.

مولده ونشأته:

ولد بجُبع في السابع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع وخمسين وتسعمائة للهجرة، وعاش مدّة قصيرة مع والده- وقد وقع الخلاف في هذه المدّة ولسنا في صدد تحديدها فأقلّها أربع سنين وأكثرها اثنتا عشرة سنة- وكان تولّى تربيته وتعليمه تلميذ والده السيّد علي الصائغ، فدرس عليه وعلى السيّد علي بن أبي الحسن وهو والد السيّد محمّد صاحب المدارك، والسيّد محمد كان زميل الشيخ المترجم له في تمام مراحله الدراسية. واستفادا من السيّد الصائغ أكثر العلوم التي استفادها من الشهيد رحمه الله من معقول ومنقول وفروع واصول وغيرها، ولمّا انتقل السيّد علي إلى رحمة ربّه، ورد الفاضل المولى عبداللَّه اليزدي تلك البلاد فقرءا عليه في المنطق والمطول وغيرهما من الكتب. ثمّ بعد مدّة هاجرا إلى العراق ودرسا على


1- 1 أمل الآمل 1: 57. أعيان الشيعة 5: 92. الدرّ المنثور 2: 199. رياض العلماء 1: 225. لؤلؤة البحرين: 40. قصص العلماء: 302.

ص: 11

المولى الشيخ أحمد- المعروف بالمقدس الأردبيلي- فقالا له: نحن ما يمكننا الإقامة مدّة طويلة، ونريد أن نقرأ على وجه نذكره إن رأيت ذلك صلاحاً، قال: ما هو؟

قالا: نحن نطالع وكلّ ما نفهمه ما نحتاج معه إلى تقرير، بل نقرأ العبارة ولا نقف، وما يحتاج إلى البحث والتقرير تتكلّم فيه، فأعجبه ذلك وقرأا عنده عدّة كتب، في الفقه والاصول والمنطق والكلام وغيرها. وكان رحمه الله يكتب شرحاً على الإرشاد ويعطيهما أجزاءً منه ويقول: انظروا في عبارته وأصلحوا منها ما شئتم، فإنّي أعلم أنّ بعض عباراته غير فصيح. «فانظر إلى حسن هذه النفس الشريفة». وكان البعض يهزأ بطريقة دراستهما، وكان الشيخ يقول: عن قريب يرجعون وتأتيكم مؤلّفاتهما. وكانت إقامتهما مدّة قليلة، قيل: إنّها سنتان، ولمّا رجعا صنّف الشيخ حسن المعالم والمنتقى، والسيّد محمّد المدارك، ووصل بعض ذلك إلى العراق قبل وفاة الملّا أحمد الأردبيلي رحمه الله.

أقوال العلماء فيه

الحرّ العاملي في أمل الآمل: كان عالماً فاضلًا عاملًا متبحِّراً محقّقاً ثقةً، فقيهاً وجيهاً، نبيهاً محدِّثاً جامعاً للفنون، أديباً شاعراً زاهداً عابداً ورعاً. جليل القدر عظيم الشأن كثير المحاسن، وحيد دهره، أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال،... كان حسن الخط جيّد الضبط، عجيب الاستحضار حافظاً للرجال والأخبار والأشعار (1)...

الأفندي في رياض العلماء: الفقيه الجليل، والمحدِّث الاصولي الكامل النبيل المعروف بصاحب المعالم، ذو النفس الطاهرة والفضل الجامع والمكارم الباهرة، هو مصداق «الولد سرّ أبيه» بل هو أعلم، ومظهر المثل السائر «ومن يشابه أبه فما ظلم» كان رضي اللَّه عنه علّامة عصره، وفهّامة دهره، وهو وأبوه وجدّه الأعلى وجدّه الأدنى وابنه وسبطه «قدّس اللَّه أرواحهم» كلّهم من أعاظم العلماء (2).

السيّد مصطفى التفرشي في نقد الرجال: وجه من وجوه أصحابنا، ثقة، عين،


1- 1 أمل الآمل 1: 57 و 59.
2- 2 رياض العلماء 1: 225.

ص: 12

صحيح الحديث، ثبت واضح الطريقة، نقي الكلام، جيّد التصانيف (1).

السيّد علي خان المدني في سلافة العصر: شيخ المشايخ الجلّة، ورئيس المذهب والملّة، الواضح الطريق والسَنن، الموضح الفروض والسُنن، يمّ العلم الذي يفيد ويفيض، وخضم الفضل الذي لا ينضب ولا يغيض، المحقّق الذي لا يراع، والمدقّق الذي راق فضله وراع، المتفنّن في جميع الفنون، والمفختر به الآباء، والبنون، قام مقام والده في تمهيد قواعد الشرائع، وشرح الصدور بتصنيفه الرائق وتأليفه الرائع، فنشر للفضائل حللًا مطرّزة الأكمام، وأماط عن مباسم أزهار العلوم لثام الأكمام، وشنف الأسماع بفرائد الفوائد، وعاد على الطلّاب بالصِلات والعوائد، وأمّا الأدب فهو روضة الأريض، ومالك زمام السجع منه والقريض، والناظم لقلائده وعقوده، والمميّز عروضه من نقوده،.... (2).

البحراني في اللؤلؤة: أمّا صاحب المدارك وخاله المحقّق المدقّق ففضلهما أشهر من أن ينكر، ولاسيّما الشيخ حسن فإنّه كان فاضلًا محقّقاً، وكان ينكر كثرة التصنيف مع عدم تحريره، ويبذل جهده في تحقيق ما ألّفه وتحبيره وهو حقّ حقيق بالاتّباع... وهو أجود تصنيفاً وأحسن تحقيقاً وتأليفاً ممّن تقدّمه (3).

أساتذته ومشايخه في الرواية (4)

1- السيد علي الصائغ.

2- السيّد علي بن أبي الحسن والد السيّد محمّد صاحب المدارك.

3- الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي والد الشيخ البهائي.

4- الشيخ أحمد بن سليمان العاملي النباطي. وهؤلاء الأربعة من تلاميذ الشهيد الثاني رحمه الله.

5- مولانا الشيخ أحمد الأردبيلي. المعروف ب (المقدس الأردبيلي).

6- مولانا الشيخ عبداللَّه اليزدي.

7- ونقل أنّه مجاز من والده الشهيد رحمه الله.


1- 1 نقد الرجال 1: 25.
2- 2 سلافة العصر: 304.
3- 3 لؤلؤة البحرين: 44- 45.
4- 4 الأعيان 5: 96، أمل الآمل 1: 58. لؤلؤة البحرين: 48.

ص: 13

تلامذته والراوون عنه (1):

1- الشيخ نجيب الدين علي بن محمد بن مكّي العاملي الجبيلي.

2- الشيخ عبد اللطيف بن محيي الدين العاملي.

3- الشيخ عبد السلام بن محمّد الحرّ العاملي جدّ صاحب الوسائل لأُمّه وعمّ أبيه.

4- السيّد نجم الدين بن محمد الموسوي السكيكي.

5- ولده الشيخ محمد والد الشيخ علي صاحب الدرّ المنثور.

6- ولده الشيخ عليّ.

وفاته ومدفنه (2):

انتقل إلى جوار ربّه في شهر محرّم الحرام سنة 1011 ه، فيكون سنّه اثنتين وخمسين سنة وشيئاً. لم يختلف أحد في سنة الوفاة، لكن حفيده لم يتعرّض لشهر الوفاة، مع أنّه هو الذي حدّد سنّه يوم توفّي فيكون مقارناً لما ذكره السيّد الأمين والحرّ العاملي من أنّ وفاته في محرّم الحرام، ودفن في بلدة جُبَع، وقبره معروف ومشهور.

مصنّفاته:

1- منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان، خرج منه كتب العبادات ولم يتمّه.

2- معالم الدين وملاذ المجتهدين، خرج منه مقدّمة في الاصول وبعض كتاب الطهارة ولم يتمّه.

3- كتاب مناسك الحجّ وهو الذي بين أيدينا.

4- الرسالة الاثنا عشرية في الطهارة والصلاة، وقال بعض: إنّها في الصلاة.

5- أجوبة المسائل المدنيات الاولى والثانية والثالثة، سأله عنها السيّد محمد ابن جويبر.


1- 1 الأعيان 5: 96، أمل الآمل 1: 58. لؤلؤة البحرين: 48.
2- 2 الدرّ المنثور 2: 203، الأعيان 5: 92، أمل الآمل 1: 63.

ص: 14

6- التحرير الطاووسي، وهو تهذيب كتاب حلّ الإشكال في معرفة الرجال لابن طاووس.

7- شرح على ألفية الشهيد الأوّل. على ما وجد بخط الفاضل الهندي.

8- رسالة صغيرة في عدم جواز تقليد الميّت.

9- حواش على الكافي والفقيه والتهذيبين.

10- حواش على شرح اللمعة لوالده غير مدوّنة.

11- حاشية على مختلف العلّامة مبسوطة في مجلّد.

12- مشكاة القول السديد في تحقيق معنى الاجتهاد والتقليد.

13- ديوان شعر جمعه تلميذه الشيخ نجيب الدين علي بن محمد بن مكّي العاملي.

14- إجازة كبيرة معروفة أجاز بها السيّد نجم الدين ابن السيّد محمد الحسيني العاملي، وولدي المترجم الشيخ محمد والشيخ علي، فيها فوائد كثيرة وتحقيقات لا توجد في غيرها.

15- كتاب الإجازات وهو غير الإجازة الكبيرة.

16- ترتيب مشيخة من لا يحضره الفقيه.

17- وقد نسب إليه الشيخ عبد النبيّ الكاظمي العاملي في تكملة الرجال كتاب شرح اعتقادات الصدوق.

في رحاب الكتاب

أهمّيته:

لقد صنّف الكثير من العلماء كتباً في أحكام الحجّ والعمرة، ولكلّ ميزة يمتاز بها عن غيره في المطالب العلمية، وما يمتاز به هذا الكتاب هو أنّ الشيخ المترجم بيّن بعض مبانيه الفقهية المهمّة فيه. وقد ذكرها في طيّ أبحاثه ونحن نذكرها بالترتيب:

ص: 15

منها: ما ذكره في النية حيث قال: طال في بيانها كلام المتأخّرين وخلا منه حديث أهل البيت عليهم السلام رأساً، وكذلك قدماء فقهائهم، الذين لم يتجاوزوا المأثور عنهم فيما دوّنوه من الأحكام الشرعية، ولم يحتاجوا إلى مضاهاة أهل الخلاف في توليد المسائل.

ومنها: قال عند ذكر مواقيت الإحرام: ومن كان منزله دون هذه المواقيت إلى مكّة أحرم منه. والمعروف في كلام الأصحاب شمول هذا الحكم لأهل مكّة فيكون إحرامهم بالحجّ من منازلهم، مع أنّ النصّ الوارد بالحكم لا يتناولهم، وفي حديثين من مشهوري الصحيح ما يخالف ذلك:

أحدهما: ما روي عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبداللَّه عليه السلام قلت له: إنّي اريد الجوار فكيف أصنع؟ قال: إذا رأيت هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فاحرم منها بالحجّ.

الثاني: عن سالم الحنّاط قال: كنت مجاوراً بمكّة فسألت أبا عبداللَّه عليه السلام من أين أحرم بالحجّ؟ قال: من حيث أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم من الجعرانة.

والعجب من عدم التفات الأصحاب إلى هذين الحديثين مع انتفاء المنافي لهما من الأخبار وصحّة طريقهما.

ومنها: عند ذكر الطواف: ثمّ يقف بإزاء الحجر الأسود مستقبلًا له جاعلًا أوّل جزء منه ممّا يلي الركن اليماني، محاذياً لأوّل كتفه الأيسر، ولو ظنّاً على المعروف في كلام متأخّري الأصحاب، ولا بأس بالتزام ما ذكروه خروجاً من خلافهم، فأحاديث أئمّتنا عليهم السلام خالية عن التعرّض لهذا التحرير، ظاهرة في نفي المضايقة بهذا المقدار. ثمّ قال: ويراعى في آخر الشوط السابع الختم بما بدأ به، فيحاذي بأوّل بدنه أوّل جزء من الحجر على نحو ما ذكر في الابتداء. والحال هاهنا نظير ما قلنا هناك من عدم الدليل على اعتبار هذا التضييق، لكنّه المعروف في كلامهم، ولا بأس بوفاقهم، ولم يتعرّض للزوم الانحراف عند فتحتي الحجر أصلًا ممّا ضيق به

ص: 16

المتأخّرون بدون دليل.

ومنها: ما ذكره في أركان الحج... وأراد من الركن ما يبطل الحجّ بفواته عمداً لا سهواً، واستثنى منه فوات الموقفين، فجعله فيه بمعنى ما يبطل عمداً وسهواً. ولا ضرورة إلى هذا التكلّف مع أنّ الكلام لا يخلو من نظر. وستعلم الحال من تحقيق الحكمين فيهما عند الانتهاء إلى محلّه. ويظهر أنّ الوجه قصر الاستثناء على الوقوف بالمشعر.

نسبته وتسميته:

لم يتردّد أحد ممّن ترجم له في نسبة الكتاب إليه، فقد تعرّض السيّد الأمين في الأعيان لفقرات منه. وقال البحّاثة الكبير الشيخ آقابزرگ الطهراني في الذريعة:

مناسك الحجّ: لصاحب المعالم الشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفى 1011 ه، ابتدأ فيه بعد عدّة فصول في فضل الحجّ وثوابه وآداب السفر للحج بأعمال المدينة، قال بعد عدّة فصول: [فصل وحيث كان من توفيق اللَّه سبحانه في طريقنا إلى الحجّ الابتداء بدخول مدينة سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فلا بأس بتقديم القول في فضل زيارته وبيان وظائفها، وسائر ما يستحبّ من الأعمال بالمدينة، وإن كان المتعارف بين الأصحاب تأخير الكلام في [ (1).

وأمّا تسميته: فكلّ من عدّ مصنّفات الشيخ عدّ منها (مناسك الحج) ولم ينسب له كتاب في الحج بغير هذا الاسم سوى ما أورده الطهراني رحمه الله في الذريعة 22: 259 آخر الصحيفة حيث قال: «ورأيت نسخة كتابتها سنة 1221 وسمّاه على ظهرها (تلخيص المرام في فقه حجّ بيت اللَّه الحرام) انتهى.

أقول: ولعلّ الوهم الذي حصل ممّا ذكر في مقدّمة الكتاب حيث قال رحمه الله:

«وبعد فهذه نبذة من الكلام في فقه الحجّ إلى بيت اللَّه الحرام» وأنت تعلم أنّ هذا ليس في مقام التسمية، ثمّ إنّ هذا الكاتب على النسخة من أين أتى بالجملة الاولى


1- 1 الذريعة 22: 259.

ص: 17

وهي تلخيص المرام، والذي يهوّن الخطب أنّ هذه التسمية لم تنقل عن أحد من أصحاب التراجم، وإنّما وجدت مكتوبة على نسخة متأخِّرة التأريخ عن غيرها، ومع هذا فقد عملنا بالمشهور.

نُسخه:

نذكر ما عثرنا عليه من النسخ:

1- نسخة في الخزانة الرضويّة الفقرة الأولى من مجموعة رقم 19703 كتبت سنة 1014 ه، لم تفهرس إلى الآن.

2- نسخة في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره الفقرة السابعة من مجموعة 9899، كتبت سنة 1027، ذكرت في فهرسها 25: 194.

3- نسخة في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره الفقرة الرابعة من مجموعة رقم 6357 كتبت سنة 1048 ه، ذكرت في فهرسها 16: 322.

4- نسخة في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره الفقرة الاولى من مجموعة 1691 كتبت سنة 1359 ه، ذكرت في فهرسها 5: 85.

5- نسخة في مكتبة الإمام الرضا عليه السلام ضمن مجموعة 1: 959.

6- نسخة في مكتبة السيّد محسن الأمين العاملي، ذكرت في الأعيان 5: 96.

7- نسخة كتبت سنة 1221 ه ذكر الطهراني أنّه رآها. انظر الذريعة 22:

259، وهي التي قلنا: إنّ اسمها (تلخيص المرام في فقه حج بيت اللَّه الحرام).

8- نسخة في خزانة الميرزا محمد الطهراني وبخطّه. ذكرت في الذريعة 22:

259.

9- نسخة في مكتبة السيّد حسن الصدر عليها تملك صاحب المقابيس.

ذكرت في الذريعة 22: 259.

النُسخ المعتمدة في التحقيق:

1- نسخة الأصل المحفوظة في الخزانة الرضوية ضمن مجموعة

ص: 18

رقم 1: 19703، بعد لم تفهرس. جاء في أوّلها بخطّ السيد الصفائي: لا يخفى أنّ السطور المشتملة على فهرست هذه المجموعة من شريفِ خط نابغة زمانه واعجوبة أوانه علامة دهره وزين عصره، الشيخ الجليل والثقة النبيل، العديم النضير شيخ الإسلام والمسلمين الشيخ بهاء الملّة والدنيا والدين، محمّد العاملي، بهر بزمانه وعلى في أعلى جنانه، وهذه الجهة قد عدّت في نفائس هذه النسخة، فيلزم أداء حقّه وعدم رخص مهره حفظاً للجهات الراجعة إلى المعارف والديانة الإسلامية، ونشكر اللَّه على هذه النعمة...

وجاء في آخرها:... في شهر ربيع الثاني من شهور سنة 1014 في حوالى نخجوان. وفي هامشها: بلغ قبالًا. كتبت بخطّ النسخ حسنة الخط كاملة تحتوي على 72 ورقة بقياس 5/ 12* 5/ 18 سم.

2- نسخة (م) في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره ضمن مجموعة رقم:

7/ 9899، ذكرت في فهرسها 25/ 194. جاء في آخرها: بلغ قبالًا وللَّه الحمد ربّ العالمين. وهذا ما يشعر بمقابلتها والاعتناء بها، كتبت بخط النسخ جيّدة كاملة عديمة الأخطاء تمّت كتابتها سنة 1027 ه، تحتوي على 55 ورقة، بقياس 5/ 16* 10 سم.

3- نسخة (ن): في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره ضمن مجموعة رقم: 4/ 6357، ذكرت في فهرسها 16/ 319. ناقصة الأوّل بمقدار عدّة أسطر إلى قوله: «بالبيت خرج من ذنوبه»....

جاء في آخرها: نقل هذه المناسك من نسخة لا تخلو من الصحّة، فرغت من تسويده بعون اللَّه وتأييده في أواسط شهر صفر ختم بالخير والظفر سنة الثاني والأربعين بعد الألف (1042) من هجرة سيّد المرسلين عليه وآله المعصومين ألف ألف صلاة من اللَّه والملائكة والناس أجمعين. وأنا العبد المفتقر إلى اللَّه الغني الحافظ ابن محمد صابر الطبسي الفهنانجي، مجموعة الوعظ، عفا اللَّه عنهما وغفر ذنوبهما

ص: 19

وستر عيوبهما بحقّ محمّد وآله، انتهى. يظهر على صفحاتها توضيحات من الصحاح للجوهري والنهاية للشيخ. وتمتاز عن باقي النسخ بجعل عناوين للفصول كما ستلاحظ، ولست أدري من المصنّف هي أم من الناسخ؟

تحتوي النسخة على 109 أوراق، بقياس 19* 13 سم.

4- نسخة (ص): في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره ضمن مجموعة رقم: 1/ 1691، ذكرت في فهرسها 5/ 85. في الورقة الاولى تملك السيّد مصطفى الحسيني الصفائي الخوانساري.

جاء في آخرها: وحرّره الأحقر العاصي، أقلّ الخلائق حسن علي في 14 شعبان المعظّم 1359 تحتوي النسخة على 50 ورقة بقياس 5/ 15* 12 سم.

كتبت بخط النسخ جيّدة كاملة نظيفة مصحّحة لا تخلو من بعض الأغلاط والنواقص.

منهجية التحقيق:

بما أنّ النسخة الاولى هي أقرب النسخ إلى عصر المؤلّف قدس سره، وبما فيها من الميّزات المذكورة آنفاً، جعلتها الأصل وعرضتها على بقيّة النُسخ الاخرى مقابلة وتصحيحاً، مع مراعاة القواعد المتعارفة لتحقيق النصوص القديمة، فكان عملي كالتالي:

1- مقابلة النسخ والإشارة إلى الاختلاف في الهامش وإن كان نادراً.

2- استخراج الأقوال الفقهية من المصادر التي أشار إليها المصنّف، وقد ينقل بعض الأحيان من دون تسمية المصدر بل يكتفي بقوله: بعض الأصحاب، أو المتأخّرين عنهم.

3- استخراج الروايات الواردة من مصادرها الامّ.

4- تقطيع النص إلى فقرات حسب ما تعارفت عليه قواعد التحقيق.

5- تقويم النصّ، الذي هو عمدة التحقيق.

ص: 20

وبما أنّ هذا الكتاب سوف ينشر ضمن مجلّة ميقات الحجّ، فلا يسع المجال لنشره دفعة واحدة، فسوف نقدّمه للقرّاء الكرام على دفعات ثلاث متوالية إن شاء اللَّه.

والحمد للَّه الذي وفقنا لهذا العمل المقدّس وهو إحياء أثر من آثار علمائنا الأبرار «قدّس اللَّه أسرارهم». الّذين لم يألوا جهداً في صيانة المذهب الشريف، فحريٌّ بنا أن نعيد مجدهم بإحياء تراثهم واستنقاذه من أيدي الزمان الجائرة.

وحينما قرأت عبارة لحفيد المترجم، جعلتني أتشجّع لمواصلة هذا الطريق الصعب وفاءً لسلفنا الصالح حيث يقول (في الدرّ المنثور 2: 203): «جزى اللَّه عنّا سوء الجزاء من حرمنا من الكتب التي كانت عندنا اجتمعت في زمن الشيخ زين الدين والشيخ حسن ووالدي «رحمهم اللَّه» وأُضيف إليها كتب الشيخ محيي الدين «رحمه اللَّه»، وقد وقع عليها الفتور غير مرّة، منها قريب ألف كتاب احترقت وأنا إذ ذاك ابن سبع سنين أو ثمان، حرقها أهل البغي، ولمّا سافرت إلى العراق كان الباقي لنا في الجبل ودمشق وغيرهما ما يقرب من ألف كتاب وأكثرها منه ما أخذه الناس ومنه ما تلف من النقل والوضع تحت الأرض، والباقي نحو مائة كتاب وصلت إليّ بعد السعي التامّ...» وغيره من الكلام المحرق للقلب، وهذا ما يجعلنا نحسّ بالمسؤولية أكثر فأكثر.

وأخيراً، أتقدّم بخالص شكري إلى كلّ من ساعد وساهم وشجّع على إخراج هذا الكتاب، وأخصّ بالذكر منهم إدارة المكتبة العامّة للسيّد المرعشي النجفي رحمه الله حيث وضعت تحت اختياري النسخ الثلاثة وبكلّ لطف وعناية؛ والمجلّة التي آثرت نشره على صفحاتها كي تكون سهيمة في إحيائه. فجزى اللَّه الجميع خير جزاء المحسنين، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

ص: 21

نموذج من الصفحة الأولى والأخيرة من نسخة الأصل

ص: 22

نموذج من صفحات نسخة (ن)

ص: 24

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

مناسك الحجّ

الحمد للَّه الذي فرض حجّ البيت على من استطاع إليه سبيلًا، وأعدّ لمن أطاع أمره وحمّل مشاق هذا العمل نفسه أجراً عظيماً وثواباً جزيلًا، ودعا الموسرين إلى معاودة الحجّ في كلّ خمس سنين تعظيماً لشأن البيت الشريف وتبجيلًا.

والصلاة والسلام على محمّد الذي أرسله بالحقّ بشيراً ونذيراً، وجعله على كلّ خير دليلًا، وعلى آله السادة الأبرار الذين شهدت بكمالهم الآيات والآثار إجمالًا وتفصيلًا.

وبعد، فهذه نبذة من الكلام في فقه الحجّ إلى بيت اللَّه الحرام، أجبت بإملائها على جناح السفر التماس جماعة من الاخوان، وجعلتها تذكرة لي عند المنتفعين بها من أهل الإيمان.

روى معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لقيه أعرابي، فقال: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إنّي خرجت أُريد الحجّ ففاتني (1) وأنا رجل مميّل (2)، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: «فالتفت إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال له: انظر إلى أبي قبيس، فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل اللَّه ما بلغت ما يبلغ الحاج، ثمّ قال: إنّ الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئاً ولم يضعه إلّاكتب اللَّه له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيّئات، ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خُفّاً ولم يضعه إلّا كتب له مثل ذلك، فإذا طاف (3)بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر


1- 1 في الكافي: فعاقني أي عاقني عائق.
2- 2 الميّل: الرجل الكثير المال. القاموس المحيط 4: 70 مول.
3- 3 من البداية إلى هنا وقع نقص في نسخة ن.

ص: 25

خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه، قال: فعدّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كذا وكذا موقفاً إذا وقفها الحاجّ خرج من ذنوبه (1)، ثمّ قال: أنّى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج؟! قال أبو عبداللَّه عليه السلام: ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلّاأن يأتي بكبيرة» (2).

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح أيضاً عنه عليه السلام، قال: «الحاج يصدرون على ثلاثة أصناف، فصنف يُعتقون من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذلك أدنى ما يرجع به الحاج» (3).

وروي أيضاً في الصحيح عنه عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «الحجّ والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد» (4).

وروى محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليه السلام قال: «ودّ من في القبور لو أنّ له حجّة واحدة بالدنيا وما فيها» (5).

وروى عبداللَّه بن سنان في الصحيح أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «من مات في طريق مكّة ذاهباً أو جائياً أمن من الفزع الأكبر يوم القيامة» (6).

وروى الكليني في الصحيح عن داود بن أبي يزيد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«إذا أخذ الناس مواطنهم بمنى نادى منادٍ من قِبل اللَّه عزّوجلّ إن أردتم أن أرضى فقد رضيت» (7).

وروى ذريح المحاربي في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «من مضت له خمس حجج ولم يغد إلى ربّه وهو موسر إنّه لمحروم» (8).

فصل

ينبغي لمن أراد السفر إلى الحجّ أن يؤثر الخروج يوم السبت أو الثلاثاء، ويرغب عن الاثنين والخميس، وإذا افتتح سفره بالصدقة خرج أيّ يوم شاء وإن كان يوم الأربعاء. رواه حمّاد بن عثمان في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام (9).

وروى عبدالرحمن بن الحجّاج في الصحيح أيضاً عنه عليه السلام، أنّه قال: «تصدّق


1- 1 ورد في هامش نسختي الأصل و ص: «ربما يستشكل تكرار الخروج من الذنوب في هذا الحديث. ورُدّبأنّه مفروض فيمن تتخلل الذنوب بين أفعاله. ويفيد حكم غيره بالمفهوم. فإنّ استحقاق الذنب يدلّ على الموافقة على استحقاق غير الذنب، وإذا كان هذا النوع من الثواب ممتنعاً في حقّ غير المذنب فله من نوع آخر ما يساويه أو يزيد عليه. منه رحمه اللَّه.
2- 2 الوسائل 11: 113 باب 42 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه حديث 1.
3- 3 الوسائل 11: 93 باب 38 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه حديث 2، باختلاف يسير.
4- 4 الوسائل 11: 106 باب 38 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه حديث 43.
5- 5 الفقيه 2: 226 باب فضائل الحج حديث 2253.
6- 6 الوسائل 11: 100 باب 38 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه حديث 20 وص 107 حديث 46.
7- 7 الكافي 4: 262/ 42 باب فضل الحجّ والعمرة وثوابهما.
8- 8 الكافي 4: 278/ 1 باب من لم يحجّ بين خمس سنين.
9- 9 الوسائل 11: 375 باب 15 من أبواب آداب السفر حديث 2.

ص: 26

واخرج أي يوم شئت» (1).

وروى الكليني في الصحيح عن صباح الحذّاء، قال: سمعت موسى بن جعفر عليه السلام يقول: «لو كان الرجل منكم إذا أراد السفر، قام على باب داره وتلقا وجهه الذي يتوجّه له، فقرأ فاتحة الكتاب أمامه وعن يمينه وعن شماله، وآية الكرسي أمامه وعن يمينه وعن شماله، ثمّ قال: اللّهم احفظني واحفظ ما معي، وسلّمني وسلِّم ما معي، وبلِّغني وبلِّغ ما معي ببلاغك الحسن»، لحفظه اللَّه وحفظ ما معه، وسلّمه وسلّم ما معه، وبلّغه وبلّغ ما معه (2).

وعن علي بن الحكم عن مالك بن عطية عن أبي حمزة، قال: أتيت باب عليّ ابن الحسين عليه السلام فوافقته حين خرج من الباب، فقال: «بسم اللَّه آمنت باللَّه، وتوكّلت على اللَّه. ثمّ قال: يا أبا حمزة إنّ العبد إذا خرج من منزله عرض له شيطان، فإذا قال بسم اللَّه، قال الملكان: كُفيتَ، فإذا قال: آمنتُ [باللَّه ] (3) قالا: هُديتَ. فإذا قال:

توكّلتُ على اللَّه، قالا: وُقيتَ. فيتنحّى الشيطان، ويقول بعضهم لبعض: كيف لنا بمن هُدي وكُفي ووُقي...» (4).

وبالإسناد وغيره عن أبي حمزة قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السلام يحرِّك شفتيه حين أراد أن يخرج وهو قائم على الباب، فقلت: إنّي رأيتك تحرِّك شفتيك حين خرجت فهل قلت شيئاً؟ قال: «نعم إنّ الإنسان إذا خرج من منزله قال حين يريد أن يخرج:

اللَّه أكبر اللَّه أكبر ثلاثاً، باللَّه أخرج وباللَّه أدخل وعلى اللَّه أتوكّل ثلاث مرّات، اللّهمَّ افتح لي في وجهي هذا بخير واختم لي بخير، ووقّني شرّ كلّ دابّة أنت آخذ بناصيتها، إنّ ربي على صراط مستقيم. فإنّه لا يزال في ضمان اللَّه عزّوجلّ حتّى يردّه إلى المكان الذي كان فيه» (5).

وروى عمر بن يزيد في الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «من قرأ قل هو اللَّه أحد حين يخرج من منزله عشر مرّات، لم يزل في حفظ اللَّه عزّوجلّ وكلاءته حتّى يرجع إلى منزله» (6).


1- 1 المصدر السابق حديث 1.
2- 2 الكافي 4: 283/ 1 باب القول إذا خرج الرجل من بيته، وفيه زيادة: قال: ثمّ قال: يا صباح أما رأيت الرجل يحفظ ولا يحفظ ما معه ويسلم ولا يسلم ما معه ويبلغ ولا يبلغ ما معه؟ قلت: بلى جعلت فداك.
3- 3 الزيادة من الأصل والمصدر.
4- 4 الكافي 2: 541/ 2 باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله.
5- 5 المصدر السابق حديث 1. باختلاف يسير.
6- 6 الكافي 2: 543/ 8 باب الدعاء إذا خرج الإنسان من منزله.

ص: 27

وروى معاوية بن عمّار في الحسن أيضاً عنه عليه السلام قال: «إذا خرجت من بيتك تريد الحجّ والعمرة إن شاء اللَّه فادع دعاء الفرج، وهو: لا إله إلّااللَّه الحليم الكريم، لا إله إلّااللَّه العليّ العظيم، سبحان اللَّه ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، والحمد للَّه ربّ العالمين. ثمّ قل: اللّهم كن لي جاراً من كلّ جبّار عنيد، ومن كلّ شيطان رجيم. ثمّ قل: بسم اللَّه دخلت، وبسم اللَّه خرجت، وفي سبيل اللَّه، اللّهم إنّي أقدّم بين يدي نسياني وعجلتي بسم اللَّه وما شاء اللَّه في سفري هذا، ذكرته أو نسيته. اللّهم أنت المستعان على الامور كلّها، وأنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل. اللّهم هوِّن علينا سفرنا واطوِ لنا الأرض، وسيّرنا فيها بطاعتك وطاعة رسولك. اللّهم أصلح لنا ظهرنا وبارك لنا فيما رزقتنا وقِنا عذاب النار. اللّهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر، في الأهل والمال والولد. اللّهم أنت عضدي وناصري، بك أحلّ وبك أسير. اللّهم إنّي أسألك في سفري هذا السرور والعمل بما يرضيك عنّي. اللّهمّ اقطع عنّي بعده ومشقّته، واصبحني فيه واخلفني في أهلي بخير، لا حول ولا قوّة إلّا باللَّه. اللّهم إنّي عبدك وهذا حملانك، والوجه وجهك والسفر إليك، وقد اطلعت على ما لم يطّلع عليه أحد، فاجعل سفري هذا كفّارة لما قبله من ذنوبي، وكن عوناً لي عليه، واكفني وعثه ومشقّته، ولقّني من القول والعمل رضاك، فإنّما أنا عبدك وبك ولك.

فإذا جعلت رجلك في الرّكاب فقل: بسم اللَّه الرحمان الرحيم، بسم اللَّه واللَّه أكبر.

فإذا استويت على راحلتك واستوى بك محملك، فقل: الحمد للَّه الذي هدانا للإسلام [وعلّمنا القرآن ]، ومنَّ علينا بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، سبحان اللَّه، سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون، والحمد للَّه ربّ العالمين. اللّهم أنت الحامل على الظهر، والمستعان على الأمر، اللّهم بلّغنا بلاغاً إلى خير، بلاغاً

ص: 28

يبلغ إلى مغفرتك ورضوانك. اللّهم لا طير إلّاطيرك (1) ولا خير إلّاخيرك ولا حافظ غيرك (2).

فصل

وينبغي للمسافر أن يتحرّى السير في آخر الليل فإنّ الأرض تطوى في ذلك الوقت. رواه جميل بن درّاج وحمّاد بن عثمان في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام (3).

وإذا وجد في طريقه ما يتشاءم به من نحو الغراب الناعق والذئب العاوي والظّبي السانح فليقل: اعتصمت بك ياربّ من شرّ ما أجد في نفسي، فاعصمني من ذلك، فإنّه يعصم منه. رواه سليمان الجعفري في الصحيح عن الكاظم عليه السلام (4).

ويستحبّ له أن يسبِّح اللَّه كلّما هبط، ويكبّره إذا صعد، فقد روى معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يفعله (5).

وروى أبو عبيدة في الصحيح، عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال: «إذا كنت في سفر فقل: اللّهم اجعل مسيري عبراً وصمتي تفكّراً وكلامي ذكراً» (6).

وروى الصدوق رحمه الله في كتاب من لا يحضره الفقيه بطريقه الصحيح، عن محمّد ابن خالد البرقي، عن ابن أبي عمير، عن صفوان الجمّال، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال:

«كان أبي عليه السلام يقول: ما يعبؤ بمن يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خُلُق يخالق به من صحبه، وحلم يملك به غضبه، وورع يحجزه عن محارم اللَّه عزّوجلّ» (7).

وروى الكليني في الصحيح، عن علي بن الحكم، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «ما يعبؤ بمن يسلك هذا الطريق إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللَّه تعالى، وحلم يملك به غضبه، وحسن الصّحبة لمن صحبه» (8).

وروى الصدوق في الصحيح، عن شهاب بن عبد ربّه، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: قد عرفت حالي وسعة يدي وتوسيعي على إخواني، فأصحب النفر


1- 1 في الأصل: لا ضير إلّاضيرك.
2- 2 الكافي 4: 284، باب القول إذا خرج الرجل من بيته حديث 2 وما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
3- 3 الوسائل 11: 364 باب 10 من أبواب آداب السفر حديث 1.
4- 4 الوسائل 11: 363 باب 9 من أبواب آداب السفر حديث 1.
5- 5 الوسائل 11: 391 باب 21 من أبواب آداب السفر حديث 1.
6- 6 الفقيه 2: 273 باب ذكر اللَّه عزّوجلّ والدعاء في المسير، حديث 2423.
7- 7 الفقيه 2: 274 باب ما يجب على المسافر من حسن الصحبة حديث 2426.
8- 8 الكافي 4: 286 باب الوصية حديث 2.

ص: 29

منهم في طريق مكّة، فأوسع عليهم؟ قال: «لا تفعل يا شهاب، إن بسطت وبسطوا أجحفت بهم، وإن هم أمسكوا أذللتهم، فاصحب نظراءك فاصحب نظراءك» (1).

وفي الصحيح، عن محمد بن خالد البرقي، عن حمّاد بن عثمان، عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «ما من نفقة أحبّ إلى اللَّه من نفقة قصد، ويبغض الإسراف إلّافي حجّ أو عمرة» (2).

وروى عبداللَّه بن سنان في الحسن، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: «كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا سافر إلى الحجّ والعمرة، تزوّد من أطيب الزّاد من اللّوز والسكّر والسويق المحمّص والمحلّى» (3).

وروى محمد بن مسلم في الحسن أيضاً، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العُليا عليه فافعل» (4).

فصل [في زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة] (5)

وحيث كان من توفيق اللَّه سبحانه في طريقنا إلى الحجّ الابتداء بدخول مدينة سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فلا بأس بتقديم القول في فضل زيارته صلى الله عليه و آله، وبيان وظائفها، وسائر ما يستحب من الأعمال في المدينة. وإن كان المتعارف بين الأصحاب تأخير الكلام في ذلك إلى انقضاء مباحث الحجّ.

روى عبد الرحمن بن أبي نجران في الصحيح، قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جُعلت فداك ما لمن زار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قاصداً. فقال: «له الجنّة» (6).

وروى الكليني في الصحيح، عن الحسن بن علي الكوفي، عن علي بن مهزيار، عن حمّاد بن عيسى، عن محمد بن مسعود، قال: قال: رأيت أبا عبداللَّه عليه السلام انتهى إلى قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فوضع يده عليه وقال: «أسأل اللَّه الذي اجتباك واختارك وهداك وهدى بك أن يُصلّي عليك، ثمّ قال: إنّ اللَّه وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً» (7).

وروى في الحسن عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا دخلت


1- 1 الفقيه 2: 278 باب الرفقاء في السفر ووجوب حقّ بعضهم على بعض حديث 2443.
2- 2 الوسائل 11: 149 باب 55 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه حديث 1.
3- 3 الوسائل 11: 423 باب 42 من أبواب آداب السفر حديث 2، وفي نسخة المحمّض والمحلّى.
4- 4 الفقيه 2: 275 باب ما يجب على المسافر في الطرق من حسن الصحبة حديث 24229.
5- 5 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
6- 6 الوسائل 11: 332 باب 3 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 1.
7- 7 الكافي 4: 552 باب دخول المدينة وزيارة النبيّ صلى الله عليه و آله حديث 4.

ص: 30

المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها، أو حين تدخلها، ثمّ تأتي قبر النبيّ صلى الله عليه و آله فتسلّم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ تقوم عند الاسطوانة المقدّمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر عند زاوية القبر، وأنت مستقبل القبلة ومنكبك الأيسر إلى جانب القبر، ومنكبك الأيمن ممّا يلي المنبر، فإنّه موضع رأس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتقول:

أشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أشهد أنّك رسول اللَّه، وأشهد أنّك محمّد بن عبداللَّه، وأشهد أنّك قد بلّغت رسالة ربّك، ونصحت لُامّتك، وجاهدت في سبيل اللَّه، وعبدت اللَّه حتّى أتاك اليقين بالحكمة والموعظة الحسنة، وأدّيت الذي عليك من الحقّ، وأنّك قد رؤفت بالمؤمنين، وغلظت على الكافرين، فبلغ اللَّه بك أفضل شرف محلّ المكرمين، الحمد للَّه الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة، اللّهمَّ فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقرّبين، وعبادك الصالحين، وأنبيائك المرسلين، وأهل السماوات والأرضين، ومن سبّح لك ياربّ العالمين من الأوّلين والآخرين، على محمّد عبدك ورسولك ونبيّك وأمينك على وحيك، ونجيّك وحبيبك وصفيّك، وخاصّتك وصفوتك وخيرتك من خلقك. اللّهمَّ أعطه الدرجة والوسيلة من الجنّة، وابعثه مقاماً محموداً، يغبطه به الأوّلون والآخرون. اللّهمَّ إنّك قلت: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً (1)

وإنّي أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي، وإنّي أتوجّه بك إلى اللَّه ربّي وربّك ليغفر ذنوبي. وإن كانت لك حاجة فاجعل قبر النبيّ صلى الله عليه و آله خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك وسل حاجتك، فإنّك أحرى أن تقضى إن شاء اللَّه» (2).

قال: وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبيّ صلى الله عليه و آله فائت المنبر فامسحه بيدك وخذ برمانتيه وهما السفلاوان وامسح عينيك ووجهك به، فإنّه يقال: إنّه شفاء للعين، وقم عنده فاحمد اللَّه واثن عليه وسل حاجتك، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري على


1- 1 النساء 4: 64.
2- 2 الوسائل 14: 341 باب 6 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 1. باختلاف يسير.

ص: 31

ترعة من (1) الجنّة، والترعة هي الباب الصغير. ثمّ تأتي مقام النبيّ صلى الله عليه و آله فتصلّي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصلِّ على النبيّ صلى الله عليه و آله، وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله» (2).

وفي عدّة أخبار أنّ الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في غيره، إلّاالمسجد الحرام، فإنّه أفضل (3).

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إئت مقام جبرئيل عليه السلام وهو تحت الميزاب فإنّه كان مقامه إذا استأذن على النبيّ صلى الله عليه و آله، فقل:

أسألك أي جواد، أي كريم أي قريب أي بعيد (4) أن تردّ عليّ نعمتك» (5).

[زيارة فاطمة عليها السلام ] (6) وروى ابن أبي نصر في الصحيح عن الرضا عليه السلام: «أنّ فاطمة عليها السلام دفنت في بيتها، فلمّا زادت بنو اميّة في المسجد صارت في المسجد» (7) فإذا صرت إلى قبرها عليها السلام فقل: السلام على البتولة الطاهرة، والصدِّيقة المعصومة، والبرّة التقيّة، سليلة المصطفى، وحليلة المرتضى، امّ الأئمّة النجباء، اللّهمَّ إنّها خرجت من دنياها مظلومة [مغشومة]، قد مُلئت [داءً و] حسرة وكمداً وغصّة، تشكو إليك وإلى أبيها ما فُعل بها، اللّهمَّ انتقم لها وخذ لها بحقّها، اللّهمَّ صلِّ على الزّهراء الزكية، المباركة الميمونة، صلاةً تزيد في شرف محلّها عندك، وجلالة منزلتها لديك وبلّغها منّي السّلام حيث كانت» (8).

ويقول أيضاً: يا ممتحنة امتحنك [اللَّه ] الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك صابرة، وزعمنا أنّا لك أولياء مصدّقون وصائرون لكلّ ما أتانا به أبوك صلى الله عليه و آله، وأتى به وصيّه، فنسألكِ إن كنّا صدقناك إلّاألحقتنا بتصديقنا بهما لنبشّر أنفسنا بأنّا قد طُهّرنا بولايتك» (9).

[زيارة الأئمّة عليهم السلام بالبقيع ] (10) وإذا توجّهت إلى زيارة الأئمّة عليهم السلام بالبقيع، فاجعل القبر بين يديك وقُل: السلام عليكم أئمّة الهدى، السلام عليكم أهل التقوى، السلام عليكم الحجّة على أهل الدنيا، السلام عليكم القوّام في البرية


1- 1 في المصدر: من ترع.
2- 2 الكافي 4: 453 باب المنبر والروضة ومقام النبيّ صلى الله عليه و آله حديث 1.
3- 3 الكافي 4: 555 و 556 باب المنبر والروضة ومقام النبيّ صلى الله عليه و آله حديث 8 و 10- 12.
4- 4 في المصدر: أي بعيد أسألك أن تصلّي على محمّد وأهل بيته وأسألك.
5- 5 الوسائل 14: 346 باب 8 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 1.
6- 6 الزيادة في هامش نسخة الأصل.
7- 7 الوسائل 14: 368 باب 18 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 3.
8- 8 رواها المجلسي في البحار 100: 197 باب زيارة فاطمة عليها السلام وموضع قبرها حديث 15، وما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
9- 9 الوسائل 14: 367 باب 18 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 2 وفي نسخة الأصل أظهرنا بدل ظهّرنا.
10- 10 زيادة من هامش نسخة الأصل.

ص: 32

بالقسط، السّلام عليكم أهل الصفوة، السلام عليكم أهل النجوى، أشهد أنّكم قد بلّغتم ونصحتم وصبرتم في ذات اللَّه، وكُذِّبتم واسي ء إليكم فغفرتم (1)، وأشهد أنّكم الأئمّة الراشدون المهديّون، وأنّ طاعتكم مفروضة، وأنّ قولكم الصدق، وأنّكم دعوتم فلم تجابوا وأمرتم فلم تطاعوا، وأنّكم أركان الدين، ودعائم الأرض (2)، ولم تزالوا بعين اللَّه ينسخكم في أصلاب كلّ مطهّر، وينقلكم من أرحام المطهّرات، لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء، ولم تشرك فيكم فتن الأهواء، طبتم وطاب منبتكم، منّ بكم علينا ديّان الدين، فجعلكم في بيوتٍ أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وجعل صلواتنا عليكم رحمةً لنا وكفّارة لذنوبنا، إذ اختاركم لنا وطيّب خلقنا بما منَّ به علينا من ولايتكم، وكنّا عنده مسمّين بفضلكم، معترفين بتصديقنا إيّاكم، وهذا مقام من أسرف وأخطأ واستكان وأقرّ بما جنى ورجا بمقامه الخلاص، وأن يستنقذه بكم مستنقذ الهلكى من الردى، فكونوا لي شفعاء، فقد وفدت إليكم إذ رغب عنكم أهل الدنيا واتّخذوا آيات اللَّه هزواً، واستكبروا عنها، يا من هو قائم لا يسهو ودائم لا يلهو، ومحيط بكلّ شي ء، لك المنّ بما وفّقتني وعرّفتني ما ائتمنتني عليه إذ صدّ عنهم عبادك وجهلوا معرفتهم، واستخفّوا بحقّهم، ومالوا إلى سواهم، وكانت المنّة لك ومنك عليَّ مع أقوام خصصتهم بما خصصتني به، فلك الحمد إذ كنت عندك في مقامي هذا مذكوراً مكتوباً ولا تحرمني ما رجوت، ولا تخيبني فيما دعوت. وادعو لنفسك بما أحببت» (3).

وروى معاوية بن عمّار في الحسن، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «لا تدع إتيان المشاهد كلّها، مسجد قباء، فإنّه المسجد الذي أسّس على التقوى من أوّل يوم، ومشربة امّ إبراهيم، ومسجد الفضيخ، وقبور الشهداء، ومسجد الأحزاب، وهو مسجد الفتح، قال: وبلغنا أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان إذا أتى قبور الشهداء قال: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.

وليكن فيما تقول عند مسجد الفتح: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة


1- 1 في المصدر: فعفوتم.
2- 2 في المصدر: وأنّكم دعائم الدين وأركان الأرض.
3- 3 الكافي 4: 559 باب زيارة البقيع.

ص: 33

المضطرّين اكشف همّي وغمّي وكربي، كما كشفت عن نبيّك همّه وغمّه وكربه، وكفيته هول عدوّه في هذا المكان» (1).

وروى معاوية أيضاً في الحسن، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «إذا أردت أن تخرج من المدينة فاغتسل، ثمّ إئت قبر النبيّ صلى الله عليه و آله وبعدما تفرغ من حوائجك فودّعه، واصنع مثل ما صنعت عند دخولك، وقل: اللّهمَّ لا تجعله آخر العهد من زيارة قبر نبيّك، فإن توفّيتني قبل ذلك فإنّي أشهد في مماتي على ما شهدت عليه في حياتي: أن لا إله إلّاأنت وأنّ محمّداً عبدك ورسولك» (2).

وروى يونس بن يعقوب في الموثّق، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن وداع قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال: تقول: «صلّى اللَّه عليك، السلام عليك، لا جعله اللَّه آخر تسليمي عليك» (3).

وتقول في وداع الأئمّة عليهم السلام: السلام عليكم أئمّة الهدى ورحمة اللَّه وبركاته، أستودعكم وأقرأ عليكم السلام، آمنّا باللَّه وبالرسول، وبما جئتم به، ودللتم عليه.

اللّهمَّ اكتبنا مع الشاهدين. ثمّ ادع اللَّه واسأله أن لا يجعله آخر العهد من زيارتهم» (4).

فصل [في أقسام الحجّ ] (5)

لابدّ للحاج قبل شروعه فيه من معرفة الوجوه التي يقع عليها الحجّ، وهو ما فرضه منها إجمالًا؛ ليتمّ له القصد بالقيام إلى الفرض، وهي ثلاثة: تمتّع وقران وإفراد.

أمّا التمتّع: فهو فرض من بَعُدَ منزله عن مكّة بثمانية وأربعين ميلًا.

وصفته: أن يحرم بالعمرة أوّلًا في أشهر الحجّ من أحد المواقيت التي يأتي بيانها، فإذا قدم مكّة طاف بالبيت سبعة أشواط للعمرة وصلّى ركعتي الطواف، ثمّ سعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط لها، ثمّ يقصّر وقد أحلّ من كلّ شي ء كان حرم عليه بالإحرام سوى الحلق. ويبقى مرتبطاً بالحج ليس له أن يخرج من مكّة حتّى


1- 1 الوسائل 14: 352 باب 12 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 1.
2- 2 الوسائل 14: 358 باب 15 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 1.
3- 3 الوسائل 14: 359 باب 15 من أبواب المزار وما يناسبه حديث 2.
4- 4 التهذيب 6: 80 باب 28 من أبواب وداع من في البقيع.
5- 5 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 34

يأتي به على تفصيل مقرّر في محلّه.

فإذا كان يوم التروية أحرم بالحجّ من مكّة، وتوجّه إلى عرفة فوقف بها في يومها بعد زوال الشمس إلى غروبها، ثمّ يفيض إلى المشعر فيبيت به بقيّة ليلة النّحر، ويقف به بعد طلوع الفجر من يوم النحر، ثمّ يفيض إلى منى فيرمي بها ذلك اليوم جمرة العقبة، ثمّ يذبح الهدي، ثمّ يحلق أو يقصر، ويأتي من يومه أو بعده إلى مكّة فيطوف بالبيت سبعة أشواط للحجّ ويصلّي ركعتيه، ويسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ثمّ يطوف طوافاً آخر وهو طواف النساء ويصلّي ركعتيه، ثمّ يعود إلى منى فيبيت بها ليالي التشريق، ويرمي بها الجمرات الثلاث في أيّامها على ما سيجي ء تفصيله.

وأمّا القران والإفراد: فإنّهما فرضُ حاضري مكّة ومن كان بُعد منزله عنها لا يبلغ ثمانية وأربعين ميلًا، ويشتركان في معظم الكيفيّة، وهي: الإحرام بالحجّ أوّلًا في أشهره من أحد المواقيت، والإتيان بجميع أفعالها التي عددناها في حجّ التمتّع إلّا الهدي فإنّه ليس بواجب على المفرد مطلقاً، وأمّا القارن فستعرف حكمه فيه.

ثمّ يخرج إلى الجعرانة أو الحديبيّة أو التنعيم، فيحرم بعمرة مفردة ويطوف لها ويسعى، ثمّ يطوف لها أيضاً طواف النساء.

ويمتاز أحدهما عن الآخر بأنّ القارن يسوق في إحرامه بالحجّ هدياً، فيجب عليه بالسّياق ذبحه بمنى وإن كان تبرّعاً، وإنّما يستحقّ (1) السياق الموجب للذبح المقتضي لصيرورة الحجّ قِراناً بإشعار الهدي أو تقليده، سواء عقد إحرامه بأحدهما أو بالتلبية.

ومن حجّ تطوّعاً فهو بالخيار بين الأنواع الثلاثة وأفضلها التمتّع.

[في أركان الحجّ ] (2).

واعلم أنّ بعض الأصحاب (3) حصر الأركان من أفعال الحجّ والعمرة في ثلاثة عشر، نيّة الإحرام بالعمرة، وإحرامها، والتلبية لها، والطواف، والسعي،


1- 1 في الأصل: يتحقّق.
2- 2 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
3- 3 وهو الشهيد في الدروس 1: 328.

ص: 35

ومثلها للحج، والوقوف بعرفات، وبالمشعر، والترتيب.

وأراد من الركن ما يبطل الحج بفواته عمداً لا سهواً، واستثنى منه فوات الموقفين، فجعله فيه بمعنى ما يبطل عمداً وسهواً.

ولا ضرورة إلى هذا التكلّف مع أنّ الكلام في الوقوفين لا يخلو من نظر.

وستعلم الحال من تحقيق الحكمين فيهما عند الانتهاء إلى محلّه. ويظهر أنّ الوجه قصر الاستثناء على الوقوف بالمشعر.

فصل [في حقيقة النيّة] (1)

ولابدّ للحاج أيضاً من معرفة حقيقة النيّة التي يتوقّف عليها وقوع العبادة على وجهها المطلوب للشارع، فقد طال في بيانها كلام المتأخّرين وخلى منه حديث أهل البيت عليهم السلام رأساً، وكذلك قدماء فقهائهم، الّذين لم يتجاوزا المأثور عنهم فيما دوّنوه من الأحكام الشرعية، ولم يحتاجوا إلى مضاهاة أهل الخلاف في توليد المسائل وشدّة الرغبة في إكثار الاستنباط. والتنافي بين المسلكين في خصوص هذا الموضع ظاهر، ولكنّ التحقيق في وجه الجمع بينهما أنّ المقتضي للسكوت عنها سهولة الأمر وبُعد انفكاك أفعال العقلاء عن القصد إليها، وخلوّ عبادات المكلّفين عن إرادة الخروج بها من عهدة التكليف إذا كانت واجبة، أو عن قصد الموافقة لإرادة اللَّه سبحانه، والتعرّض لثوابه إذا كانت مندوبة، ولا وجه لاعتبار الزيادة عن هذا المقدار في نيّة كلّ من الواجب والندب، غاية ما هناك أنّ في المعنى الذي ذكرناه إجمالًا يمكن أن يفصّل إلى اعتبارات متعدّدة وجهات متغايرة تكثر في الصورة وتطول على قلّة طائل ومحصول.

والداعي للمتأخّرين إلى ما سلكوه وأطنبوا فيه من تحرير المعنى وتفصيله إلى (2) القيود المعروفة المؤداة بالعبارات المشهورة، هو ملاحظة حال العوام ومن يتعسّر عليه فهم المراد بدون ذلك وهو غرض هيّن، لكنّه يصلح عذراً.

وعلى كلّ حال فالذي يجب تحصيله في باب النيّة لأفعال الحجّ وغيرها: هو


1- 1 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
2- 2 في ن: أنّ بدل إلى.

ص: 36

تشخيص (1) الفعل في الذهن، وتمييزه (2) بوجه ما، ثمّ القصد إلى طاعة اللَّه سبحانه به إن كان واجباً، وموافقة إرادته إن كان ندباً.

ومن أراد التجاوز عن هذا المقدار ورغب في تعاطي ما يجده في كلام من يحسن به الظنّ من الأصحاب فلا حجر، لكن بشرط عدم اعتقاد توظيفه وأنّ المطلوب لا يحصل بدونه، فإنّه جهل فظيع وتشريع شنيع. وإن كان ولابدّ لبعض الأفهام من الاستعانة باللفظ فينبغي الاقتصار على القليل منه، كالعبارات التي لخّصها الوالد قدس سره في آخر الأمر (3).

ونحن نورد هنا نيات (4) أفعال حجّ التمتّع جملة على نهج إيراد أفعاله في الفصل السابق.

فنقول: صورة نيّة الإحرام بعمرة التمتّع: أُحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ طاعة للَّه أو موافقة لإرادته على حسب الوجوب أو الندب. وينبغي أن يعلم أنّ الغرض من التمتّع بها إلى الحجّ انضمامها إليه واتصالها به، فيراد من التمتّع الانتفاع، وتجعل إلى بمعنى مع.

وذكر جماعة من الأصحاب: أنّ معنى الكلام التي يتلذّذ بالتحلّل منها إلى حين الإحرام بالحجّ. وأراه (5) بعيداً.

وإن احتيج إلى نيّة التلبية، فصورتها: التي طاعة للَّه أو موافقة لأمر اللَّه.

ونيّة طواف العمرة: أطوف طواف عمرة التمتّع طاعةً للَّه.

ونيّة ركعيته: اصلّي ركعتي طواف العمرة طاعةً للَّه.

ونيّة السعي: أسعى سعي عمرة التمتّع طاعةً للَّه.

ونيّة التقصير: اقصّر طاعةً للَّه.

ونيّة الإحرام بالحج: احرم بحجّ التمتّع طاعةً للَّه، والتلبية كما في العمرة.

ونيّة الوقوفين والمبيت بالمزدلفة: أقف بعرفة إلى الغروب طاعةً للَّه. أبيت بالمزدلفة طاعةً للَّه، أقف بالمشعر طاعةً للَّه.


1- 1 في م: تخصيص بدل تشخيص.
2- 2 في م و ن: وتميّزه.
3- 3 وهي: نيّات الحجّ والعمرة رسالة صغيرة مطبوعة في نشرة ميقات الحج العدد 2 ص 80.
4- 4 في الأصل بيان بدل نيات.
5- 5 في م: «وأراده».

ص: 37

ونيّات منى يوم النحر: أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات طاعةً للَّه. أذبح هذا الهدي طاعةً للَّه. والأكل منه والتصدّق والإهداء: آكل من هذا الهدي أو أتصدّق أو أهدي طاعةً للَّه. أحلق رأسي طاعةً للَّه، وإن اقتصر على التقصير فكالعمرة.

ونيّات بقيّة مناسك مكّة: أطوف طواف حجّ التمتّع طاعةً للَّه، اصلّي ركعتي طواف حجّ التمتّع طاعةً للَّه، أسعى سعي حجّ التمتّع طاعةً للَّه، أطوف طواف النساء في حجّ التمتّع طاعةً للَّه، اصلّي ركعتي طواف النساء طاعةً للَّه.

ونيّات ما يبقى من المناسك بمنى: أبيت هذه الليلة بمنى طاعةً للَّه. أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات طاعةً للَّه. والإشارة في الموضعين بهذه إلى كلّ ليلة من الليالي الثلاث بخصوصها وإلى كلّ جمرة من الثلاث بانفرادها. فالعبارة في الجميع وإن اتّحدت فإنّ المعنى باعتبار الإشارة يتعدّد.

فصل [في المواقيت ] (1)

يستحبّ لمن أراد الحجّ أن يوفر شعر رأسه إذا رأى هلال ذي القعدة، وأن يتهيّأ للإحرام إذا انتهى إلى أحد المواقيت التي وقّتها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وهي خمسة، ذو الحليفة وهو مسجد الشجرة، والجحفة، والعقيق، وقرن المنازل، ويلملم؛ ومن لم يمر طريقه بأحدها يتحرّى المحاذي له ويحرم منه. ومن كان منزله دون هذه المواقيت إلى مكّة أحرم منه.

والمعروف في كلام الأصحاب شمول هذا الحكم لأهل مكّة فيكون إحرامهم بالحجّ من منازلهم، مع أنّ النصّ الوارد بالحكم لا يتناولهم. وفي حديثين من مشهوري الصحيح ما يخالف ذلك.

أحدهما: عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: إنّي أريد الجوار فكيف أصنع؟ فقال: إذا رأيت هلال ذي الحجّة فاخرج إلى الجعرانة فاحرم منها بالحج- وفي جملة الحديث وهو طويل أنّه عليه السلام قال-: «إنّ سفيان فقيهكم أتاني فقال: ما يحملك على أن تأمر أصحابك يأتون الجعرانة فيحرمون


1- 1 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 38

منها؟ فقلت له: هو وقت من مواقيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- وساق الكلام إلى أن حكى سفيان أنّه قال-: أما علمت أنّ أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحرموا من المسجد؟

فقال عليه السلام: إنّ أولئك كانوا متمتّعين، في أعناقهم الدماء، وإنّ هؤلاء قطنوا بمكّة فصاروا كأنّهم من أهل مكّة، وأهل مكّة لا متعة لهم فأحببت أن يخرجوا من مكّة إلى بعض المواقيت، ثمّ قال عليه السلام: فقال لي- يعني سفيان- وأنا أخبره أنّها وقت من مواقيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- يعني الجعرانة-: يا أبا عبداللَّه فإنّي أرى لك أن لا تفعل.

فضحكت وقُلت: ولكنّي أرى لهم أن يفعلوا» (1).

والحديث الثاني عن صفوان بن يحيى بن أبي الفضل سالم الحنّاط، قال: كنت مجاوراً بمكّة، فسألت أبا عبداللَّه عليه السلام من أين أُحرم بالحجّ؟ فقال: «من حيث أحرم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من الجعرانة» (2).

والعجب من عدم التفات الأصحاب إلى هذين الحديثين مع انتفاء المنافي لهما من الأخبار وصحّة طريقهما عند جمهور المتأخّرين، وما رأيت من تعرّض لهما بوجه سوى الشهيد في الدروس (3)، فإنّه أشار إلى مضمون الأوّل ساكتاً عليه، وبعض المتأخِّرين عنه، فقال بعد التنبيه عليه: إنّه غير معروف، والاحتياط في ذلك مطلوب، وليس بمتعسّر.

[في الإحرام ] (4)

إذا تقرّر هذا، فلنعد إلى إتمام الكلام في التهيؤ للإحرام، والغرض منه الاستطابة بأنواعها المعهودة شرعاً، من تقليم الأظفار وأخذ الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والإطلاء، والاستياك، والاغتسال، ثمّ يلبس الرجل ثوبي الإحرام يأتزر بأحدهما ويرتدي بالآخر بأن يغطّي منه منكبيه أو يتوشّح فيقتصر على أحدهما، ويعتبر فيهما أن يكونا من جنس ما يصحّ فيه الصلاة اختياراً. ولا بأس بالزيادة عليهما، ومن لا رداء يجعل على عاتقه عمامة.

ويستحب كون الثوبين من القطن الأبيض.


1- 1 الوسائل 11: 267 باب 9 من أبواب أقسام الحجّ حديث 5.
2- 2 الوسائل 11: 267 باب 9 من أبواب أقسام الحج حديث 6.
3- 3 الدروس 1: 484.
4- 4 ما بين المعقوفين زيادة من ن.

ص: 39

ويكره أن يحرم في الثوب الوسخ والمعلّم مع القدرة على غيره، وأن يغسل الثوب الذي يحرم فيه حتّى يحلّ إلّاأن يصيبه نجاسة فيغسله. ولا بأس بتغيير المحرم ثيابه ولكن إذا دخل مكّة لبس ثوبي إحرامه اللذين أحرم فيهما. ويكره بيعهما.

ولمن حجّ على طريق المدينة أن يتجهّز منها بجميع ما ذكرنا ثمّ يأتي مسجد الشجرة. وإن نام بعد الغسل أو لبس ما لا يلبسه المحرم أو أكل ما لا يأكله أعاد الغسل. ويجزيه غسل اليوم لليله، وغسل الليلة لليوم، ولا بأس أن يدّهن قبل الغسل وبعده بأيّ دهن شاء إذا لم يكن فيه مسك ولا عنبر ولا زعفران ولا ورس.

وليكن فراغه من ذلك كلّه عند زوال الشمس فإنّه أفضل، ولا ينشئ الإحرام إلّافي دُبر صلاة مكتوبة أو نافلة، فإن اتّفق في وقت فريضة أحرم بعد التسليم منها، وإلّا صلّى ركعتين نافلة وأحرم بعدهما، فإذا انفتل من الصلاة حمد اللَّه عزّوجلّ وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ يقول: اللّهم إنّي أسألك أن تجعلني ممّن استجاب لك، وآمن بوعدك، واتّبع أمرك، فإنّي عبدك وفي قبضتك، لا اوقي إلّاما وقيت، ولا آخذ إلّا ما أعطيت، وقد ذكرت الحج، فأسألك أن تعزم لي عليه على كتابك وسنّة نبيّك صلى الله عليه و آله، وتقوّيني على ما ضعفت عنه، وتتسلّم منّي مناسكي في يسرٍ منك وعافية، واجعلني من وفدك الذين رضيت وارتضيت وسمّيت وكتبت، اللّهمَّ إنّي خرجت من شقّة بعيدة، وأنفقت مالي ابتغاء مرضاتك، اللّهمَّ فتمِّم لي حجّتي وعمرتي، اللّهمَّ إنّي اريد التمتّع بالعمرة إلى الحجّ على كتابك وسنّة نبيّك صلى الله عليه و آله، فإن عرض لي عارض يحبسني فحلّني حيث حبستني بقدرك الذي قدّرت عليّ، اللّهمَّ إن لم تكن حجّة وعمرة، أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي وعظامي ومخّي وعصبي من النساء والثياب والطيب، ابتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. ثمّ قم فامشِ هنيئة فإذا استوت بك الأرض ماشياً كنت أو راكباً فلبّ. روى ذلك معاوية بن عمّار في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام (1).

وروى نحوه جماعة كثيرة، منهم منصور بن حازم، وعبداللَّه بن سنان،


1- 1 الوسائل 12: 340 باب 16 من أبواب الإحرام حديث 1.

ص: 40

ومعاوية بن وهب، وعبيداللَّه الحلبي، وعبد الرحمن بن الحجّاج والكلّ في الصحيح (1).

وروى هشام بن الحكم في الصحيح أيضاً عنه عليه السلام في الإحرام من العقيق أنّه قال: «إذا صلّيت قلت ما يقول المحرم في دبر صلاتك، وإن شئت لبّيت في موضعك.

والفضل أن تمشي قليلًا ثمّ تُلبّ» (2) فاعتبار المقارنة بين نيّة الإحرام والتلبية بنحو مقارنة تكبيرة الإحرام بنيّة الصلاة كما يوجد في كلام جمع من الأصحاب (3) خلاف ما تظاهرت (4) به الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام (5).

فصلٌ [في التلبية] (6)

والأولى في صورة التلبية أن تقول: لبّيك اللّهمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبّيك بمتعة بعمرة إلى الحجّ. روى ذلك معاوية بن وهب في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام (7).

ورواه بدون التلبية الأخيرة عبداللَّه بن سنان في الصحيح أيضاً عنه عليه السلام (8).

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح عنه عليه السلام أنّه قال: التلبية أن تقول: «لبّيك اللّهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك [لبّيك ] لبّيك ذا المعارج لبّيك، لبّيك داعياً إلى دار السلام لبّيك، لبّيك غفّار الذنوب لبّيك، لبّيك أهل التلبية لبّيك، لبّيك ذا الجلال والإكرام لبّيك، لبّيك تُبدئ والمعاد إليك لبّيك، لبّيك تستغني ويُفتقر إليك لبّيك، لبّيك مرهوباً ومرغوباً إليك لبّيك، لبّيك إله الحقّ لبّيك، لبّيك ذا النعماء والفضل الحسن الجميل لبّيك، لبّيك كشّاف الكُرب العظام لبّيك، لبّيك عبدك وابن عبديك لبّيك، لبّيك يا كريم لبّيك. تقول هذا في دبر كلّ صلاة مكتوبة أو نافلة، وحين تنهض بك بعيرك، وإذا علوت شرفاً أو هبطت وادياً، أو لقيت راكباً، أو استيقظت من منامك وبالأسحار. وأكثِر ما استطعت واجهر بها، وإن تركت بعض التلبية فلا يضرّك، غير أنّ إتمامها أفضل.

واعلم أنّه لابدّ لك من التلبيات الأربع التي كنّ أوّل الكلام، وهي الفريضة،


1- 1 التهذيب 5: 84 باب صفة الإحرام حديث 85- 87؛ والفقيه 2: 320 باب عقد الإحرام وشرائطه حديث 2564.
2- 2 الفقيه 2: 321 باب عقد الإحرام وشرطه ونقضه والصلاة له حديث 2565.
3- 3 منهم ابن إدريس في السرائر 1: 536، والشهيدين في اللمعة والروضة، انظر الزبدة الفقهية 3: 344، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد 3: 167.
4- 4 في هامش ن: «ما تظافرت».
5- 5 كما في الروايات الآنفة الذكر وغيرها.
6- 6 ما بين المعقوفين زيادة من ن.
7- 7 الوسائل 12: 382 باب 40 من أبواب الإحرام حديث 1.
8- 8 الكافي 4: 249 باب حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله حديث 7.

ص: 41

وهو التوحيد، وبها لبّى المرسَلون، وأكثِر من ذي المعارج فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يُكثر منها. وأوّل من (1) لبّى بها إبراهيم عليه السلام، قال: إنّ اللَّه يدعوكم أن تحجّوا بيته فأجابوه بالتلبية فلم يبق أحد أخذ ميثاقه بالموافاة في ظهر رجل ولا بطن امرأة إلّا أجاب بالتلبية» (2).

روى الكليني في الصحيح عن ابن فضّال عن رجال شتّى عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من لبّى في إحرامه سبعين مرّة إيماناً واحتساباً أشهد اللَّه ألف ألف ملكٍ ببراءة من النار وبراءة من النفاق» (3).

وفي خبر مرسل أنّ أبا عبداللَّه عليه السلام روئي وهو محرم قد كشف عن ظهره حتّى أبداه للشمس وهو يقول: «لبّيك في المذنبين لبّيك» (4).

الهوامش:


1- 1 في الأصل: ما.
2- 2 الوسائل 12: 382 باب 40 من أبواب الإحرام حديث 2. وما ورد بين المعقوفين من المصدر.
3- 3 الكافي 4: 337 باب التلبية حديث 8. الوسائل 12: 386 باب 41 من أبواب الإحرام حديث 1.
4- 4 الوسائل 12: 386 باب 40 من أبواب الإحرام حديث 9.

ص: 45

الحرمان الشريفان في كتاب «الحقيقة والمجاز»

الحرمان الشريفان

الحرمان الشريفان

في كتاب

الحقيقة والمجاز

«الحقيقة والمجاز»

تأليف: عبد الغني النابلسي ت 1143 ه. ق محمدعلي المقدادي

لا شك في أنّ السفر قد تولّد ونشأ من حين وجود البشر، فقد سافر الإنسان ورحل منذ أن خُلق؛ لمقاصد وأغراض شتّى، منها الزيارة...

وكتابة الرحلة من الأعمال التي قام بها الكثير من العلماء وغيرهم، وصارت ذخيرة طائلة وتراثاً عظيماً للشعوب والمجتمعات، ولأجل ذلك قام الادباء والمثقّفون بنشر وتحقيق العديد من الرحلات، وازدهر أدبها في العصور القديمة والأخيرة.

وبلاد الحجاز خاصّةً مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة أصبحتا مركزين تجاريين من قديم الدهر ولوقوعهما في طريق التجارة، ثمّ بعد أن جاء الإسلام ونزل القرآن الكريم في هذين الحرمين الشريفين. وصارت مكّة المكرّمة مركزاً للبعثة المحمّدية وقبلةً لكلّ المسلمين في أرجاء الأرض، وبعد أن هاجر منها الرسول صلى الله عليه و آله إلى المدينة الطيّبة و توفي فيها، تميّزت بلاد الحجاز عن غيرها بوجود هذين المعلَمين البارزين للزيارة وأداء الفريضة. فقد تشرّف المسلمون بزيارة الحرمين الشريفين لأداء

ص: 46

النسك وزيارة الرسول الأمين صلى الله عليه و آله، فكثرت الرحلات السنوية وغيرالسنويّة إليهما.

لقد كتب أهل الثقافة والعلم من العرب والعجم؛ حول هذين المركزين وعن السفر إليهما وفضيلته و آدابه و فوائده أكثر من كتابتهم عن سائر البلاد الاخرى، مماجعل الرحلة الحجازية أكبر ثروة في عالم الثقافة والمعرفة وأدب الرحلات. وقد بذل الأستاذ حمد الجاسر كلّ جهوده لتعريف كتب الرحّالة العرب، وقام بكتابة مقالات عديدة في مجلّته (مجلّة العرب)، إلا أنها كانت أقل مماكتبه المسلمون غير العرب، فقد كتبوا رحلات كثيرة بشتّى لغاتهم، فيا حبّذا لو يُنشأ مركز إسلامي لترجمتها؛ لكي يستفيد منها الباحثون والذين يحبّون أن يعلمواكيف كانت تتم هذه الرحلات، وكيف تؤدى المناسك و... من صدر الإسلام إلى زماننا هذا.

الحقيقة والمجاز

وكان من جملة الكتب التي دوّنت حول الرحلة الحجازية، هذا الكتاب المسمّى ب «الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز» لمؤلّفه العالم الأديب، الحنفي المذهب، الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي (1050 إلى 1143 ه. ق). وقد قام بنشر هذا الكتاب وتحقيقه مركز تحقيق التراث بجمهورية مصر العربية سنة 1986 م على طريقة أفسيت.

إنّ الشيخ تشرّف لزيارة الحرمين الشريفين ثلاث مرّات، والرحلة التي صدر لها هذا الكتاب لم تكن رحلته الوحيدة، فإنّ له رحلتين اخريين.

اولاهما في سنة 1100 ه. ق، وثانيتهما في سنة 1101 ه. ق. امّا الرحلة الأخيرة فهي صارت رحلة كبرى للمؤلّف، وقد قام بتأليف يوميّاتها

ص: 47

سنة 1105 ه. ق؛ وفرغ من تدوينها سنة 1110 ه. ق.

هذا الكتاب يحتوي على ثلاثة أقسام:

1- السفر إلى البلاد الشامية، من الصفحة 1 إلى الصفحة 169.

2- السفر إلى مصر، من الصفحة 170 إلى الصفحة 293.

3- السفر إلى الديار المقدّسة والأقطار الحجازية من الصفحة 294 إلى الصفحة 491.

وهذا القسم الأخير قد حظي بأكثر صفحات الكتاب، ونحن اقتصرنا على القسم الأخير لما فيه من الأهمّية، واقتصرنا أيضاً على ما كتب حول الأماكن والآثار؛ وبعض العقائد التي كانت سائدة في ذلك الزمان، فالكتاب وإن كان مملوءاً بالأشعار والحكايات الغريبة وتعريف الكتب الفقهية والتاريخية واللقاءات الكثيرة وغيرها، ويوجد فيه اشتباهات أيضاً، إلّاأنّ التعريف بكلّ هذا يحتاج إلى مجال أوسع من هذا المقال.

إنّ النابلسي قد بيّن غرضه من هذه الرحلة في الصفحة 3 و 4 من كتابه، وقال:

«لقد كنتُ فيما تقدّم من الزمان، مع جملة من الأصحاب والإخوان، والتبرّك بنفحات مجالسهم وهاتيك الحضرات، ويكون ختم ذلك بالحجّ الشريف، وزيارة النبيّ صلى الله عليه و سلم في ذلك البلد المنيف، إلى أن هيّأ اللَّه تعالى لنا الأسباب، وقطع عنّا العوايق، وفتح علينا هذا الباب... وكان ذلك في أواخر فصل الصيف، في شهر آب، فكنّا نتمتّع بمن ننزل عليهم نزول الضيف... لا نأتي إلى قرية إلّاويقوم لنا أهلها بما يجب من الإكرام، ولا ندخل إلى بلدة إلّابغاية المهابة والاحتشام... نجتمع بأهل الصلاح والدين... ونزور الأولياء، ونتبرّك بقبور السادة الأصفياء ونتباحث مع العلماء... وقضينا فريضة الحجّ، مع كمال العجّ والثّج، ثمّ رجعنا إلى

ص: 48

بلادنا دمشق الشام... فأردنا أن نثبت ذلك في هذا الكتاب؛ ليكون مذكّراً لنا بنعم اللَّه تعالى علينا وعلى بقيّة الأصحاب، وإنّ في ذلك لعبرة لُاولي الألباب، وقصدنا التحدّث بنعم اللَّه تعالى بين الأحباب».

بدأ المؤلّف رحلته يوم الخميس، غرّة المحرّم 1105 ه. ق، وانتهت في الخامس من شهر صفر 1106 ه. ق. ورافقه ابنه وبعض أصحابه، فاستغرقت رحلته 388 يوماً، قضى منها 99 يوماً في الطريق، من دمشق إلى حدود مصر الشرقية، ثمّ قضى في مصر 83 يوماً، ثمّ قضى 54 يوماً في الطريق من مصر إلى الحجاز، ثمّ قضى 109 أيام في البلاد الحجازية، ثمّ قضى 43 يوماً في طريق عودته من الحجاز إلى الشام، فهو تشرّف لزيارة المدينة المنوّرة مرّتين، مرّة قبل الحجّ ومرّة بعده.

***

ص: 51

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وقوع الحرب بين أعراب البادية وأمير الحجاز

وحين وصل الشيخ النابلسي إلى ينبع البحر، أخبروه أنّه قد وقعت الحرب بين أعراب البادية- قبيلة حرب- وبين أمير الحجاز، فخرج الشيخ من ينبع البحر حتّى وصل إلى ينبع النخل، وهي قرية كبيرة ذات نخل كثير ومياه غزيرة، وهي المنزل الرابع والعشرون من منازل الحاجّ، وبقي على الحاج إلى مكة ستّة منازل:

1- منزل بدر 2- منزل القاع 3- منزل رابغ 4- منزل قديد 5- منزل عسفان 6- منزل وادي فاطمة. ولقي الشيخ شريف الحجاز قرب ينبع النخل.

قال المؤلِّف- الصفحة 317-: «ثمّ إنّنا سألنا عن السير إلى المدينة المنوّرة فأخبرونا أنّ العرب الذين هم عرب حرب، حاصل بينهم وبين أمير الحجاز سعد ابن زيد منازعة وحرب، وأنّهم واقفون في وادي الصفراء، يمنعون كلّ من سار إلى المدينة، وقد ظهرت منهم للزائرين خصلة قبيحة كمينة، وأن لا محيص إلّا بالسفر إلى جوار سعد بن زيد الهاشمي أمير الحجاز، فإنّه يقدر إنفاذنا إلى تلك الجهة والجواز، وأمّا على غير هذا الوجه المذكور، فإنّه لا يمكن أصلًا كما قال الشاعر المشهور:

أيا دارها بالخيف إنّ مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال

فلمّا رأينا الأمر كذلك وتحقّقنا صعوبة هذه المسالك، طلبنا مَن نكتري معه خمسة من الجمال ونسير إلى جهة سعد بن زيد، لنبلغ به غاية الآمال... ثمّ ركبنا وسرنا فوصلنا وقت العصر إلى ينبع النخل على ماء جاري في وجه الأرض؛ عذب زلال، فشربنا وسقينا الدواب...، ثمّ ركبنا وسرنا قليلًا بين ذاك النخيل، وإذا بخيام

ص: 52

شريف الحجاز سعد بن زيد وعظيم ذلك الرحيل، فدخلنا عليه في رفيع ذلك المضرب الجليل، وشريف ذلك المخيّم الجميل، فتلقّانا بالقبول والاحترام، وأقبلنا عليه بلطائف التحية والسلام، وجلسنا معه حصّة من الزمان، نتحادث في وقايع هذا العصر والأوان، ثمّ أمر لنا بخيمة واسعة... ثمّ إنّنا طلبنا من حضرة الشريف المحترم أن يرسلنا إلى المدينة المنوّرة، فقال لنا: لو أرسلنا معكم مائة فارس أو أكثر لا يمكن ذلك في هذه الأوقات المكدرة، فإنّنا في محاربة هذه القبايل من عرب حرب، وعندنا هذه العربان المستكثرة، فاصبروا أيّاماً حتّى نذهب نحن وتذهبون معنا في عافية وسلامة...» (1).

شوق لزيارة الحبيب

صار المؤلِّف متعباً من طول الوقوف في الطريق، وأنشد بعض الأشعار شوقاً لزيارة المدينة المنوّرة.

قال المؤلِّف- الصفحة 321-: «... يوم الأحد الحادي والعشرون ومائتان وهو اليوم الخامس عشر من شعبان، وقد زاد بنا الشوق إلى زيارة الحبيب، وكثر الحنين إليه والنحيب:

وأكثر ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار

وللَّه درّ ابن أبي جابر المغربي حيث قال:

إذا بلغ المرء أرض الحجاز فقد نال أفضل ما أمّ له

وإن زار قبر نبيّ الهدى فقد أكمل اللَّه ما أمّله

وقد حال بيننا وبين زيارته والسفر إليه مع قرب المزار، قبيلة حرب المتفرّقة الأفخاذ في هاتيك الأقطار، فقلنا في ذلك من نوع الأشعار:

ألا يا رسول الإله الذي لداء الجفا زورة منه طب


1- 1 نهاية المتن في الصفحة: 320.

ص: 53

إلى كم وقد قرب الملتقى وما صار وصل ولا زال حجب

لئن كان بيني وبينك حرب (1) فما كان بيني وبينك حرب

وهذا المكان الذي نحن نازلون فيه مع حضرة الشريف حفظه اللَّه تعالى الذي هو ينبع النخل وما حوله من القرى، يسمّيه أهل الحرمين بالشام، فلعلّ ذلك لكثرة مائه وفواكهه، فأشبه بلاد الشام؛ أو لغير ذلك، فإذا أرادوا الذهاب إليه قالوا: نريد أن نذهب إلى الشام، كما سمعنا ذلك منهم...» (2).

جبل رَضْوى

قال المؤلِّف: «... اليوم السادس عشر من شعبان، ولم نزل في ذلك المكان، وكنّا نازلين تحت جبل يسمّى جبل رَضْوى ... وذكر السمهودي في تاريخ المدينة تلخيص الوفا قال: رضوى بالفتح كسكرى جبل على يوم من ينبع وأربعة أيّام من المدينة... وتزعم الكيسانية أنّ محمّد بن الحنفية مقيم به حيٌّ يرزق، انتهى.

قلت: وهو محمّد بن عليّ (3) بن عبد المطّلب، أبو القاسم، ويقال عبداللَّه الهاشمي المدني المعروف بابن الحنفية، وهي خولة بنت جعفر من سبي اليمامة. وقال الزبير ابن بكّار: وتسمّيه الشيعة المهدي...» (4).

أقول: هذه فلتة ظاهرة من المؤلّف ومن ابن بكّار؛ لأنّ الشيعة هم الإمامية وهم غير معتقدين أصلًا بإمامة محمّد بن الحنفية وليس هو المراد بالمهدي عندهم، بل المهدي عند الإمامية هو: الإمام الحجّة المهدي بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.

إنهاء الحرب بين الشريف وحرب

لقد نقل النابلسي قصّة إنهاء الحرب بين شريف الحجاز وقبيلة حرب، وذلك


1- 1 أراد المؤلف من الحرب في المصرع الأوّل، قبيلة حرب.
2- 2 الصفحة: 321 من الكتاب.
3- 3 الصحيح هو محمّد بن علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب.
4- 4 الحقيقة والمجاز: 322.

ص: 54

بسبب حضور نحو سبع وثلاثين قبيلة من قبائل المنطقة، واتّفقوا على غزوهم ضدّ «حرب» ولكن كلّ المشاكل رفعت بموت شيخ قبيلة حرب.

قال المؤلِّف: «... وكان الشريف يرسل لنا في كلّ ليلة من يحرسنا بلا طلب منّا، فيمكث الاثنان والثلاثة من عبيده حول خيمتنا إلى طلوع الصباح، حذراً علينا من همج الأعراب الذين معه، فضلًا عن أعدائه القباح... إلى أن أصبحنا في يوم الجمعة، السادس والعشرين ومائتين، وهو اليوم العشرون من شعبان، فأتى الخبر لحضرة الشريف أنّ شيخ قبيلة حرب واسمه «مُضَيان»- بضمّ الميم وفتح الضاد المعجمة وفتح الياء المثناة التحتيّة مشدّدة بعدها ألف ونون- قد مات بداء البطن، فاستبشر الجميع، بخذلان العدوّ الفظيع، فلمّا أصبحنا في يوم السبت... زاد اشتياقنا إلى المدينة والبقيع...» (1).

زيارة قبر الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام قرب الجابرية

قال المؤلّف: «... فأرسل إلينا الشريف بكرة النهار، فركبنا وركب معنا واحد من جماعتنا وركب هو بنحو مائة فارس وابنه الشريف سعيد حفظه اللَّه تعالى كذلك ركب بفرسان وقال لي: نذهب إلى زيارة الإمام حسن المثنّى ابن الإمام حسن ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، فسرنا نحو ساعة وإذا مكان هناك في داخله بيت وفي ذلك البيت قبر، عليه جلالة ومهابة فوقفنا وقرأنا الفاتحة ودعونا اللَّه تعالى راجين من كرمه وفضله حصول الإجابة، وقلنا في ذلك من النظام بحسب ما اقتضاه الإلهام:

زرنا الإمام المثنّى والقلب فيه تَهنّى فإنّه الحسن ابن السبط الإمام المكنّى

بالسيّد الحسن ابن الزهراء حسّاً ومعنى بنت الرسول إمام الأنام إنساً وجِنَّا...» (2)


1- 1 المصدر نفسه: 324.
2- 2 المصدر نفسه: 324- 325.

ص: 55

إحراق سعد بن زيد قرية سويقة ونخيلها

سويقة قرية من قرى ينبع النخل. قال المؤلّف: «... هي المشهورة الآن عندهم بسويق منازل بني إبراهيم... وقد وجدناها الآن خالية ليس بها أحد، وقد رحل أهلها وخرجوا على الشريف سعد بن زيد؛ لأنّهم حالفوا قبايل «حرب» فذهبوا معهم يساعدونهم على قتاله، وهذه القرية فيها ماء جارٍ ونخل كثير...

فجلسنا على حافّة ذلك الماء وشربنا القهوة مع الشريف سعد وولده وبقيّة من كان من فرسانهما، وقد أمر الشريف بحرق بيوت القرية، وإنّا لنرى النار تتأجّج في جدرانها التي هي من أخشاب النخل اليابس، والهواء يزيدها تأجّجاً والتهاباً، وقد أمر بقطع النخل، فيصعد العبد الأسود إلى أعلى النخلة ويقطع جمارها وعراجينها، فتسقط العراجين إلى الأرض، كلّ عرجون فيه البسر الأخضر... ثمّ قمنا من ذلك المكان وركبنا وسرنا نحن ومن كنّا معهم جميعاً حتّى أقبلنا على قرية الجابرية- نسبة إلى جابر- وهي بالقرب من قبر الإمام المثنّى الذي ذكرناه فيما مرّ، فخرج أهل القرية يلعبون بالأسلحة لملاقاة الشريف،...» (1).

زيارة قبر الحسن المثلّث

قال المؤلّف: «... اليوم السادس والعشرون من شعبان، فعزمنا على السير إلى المدينة المنوّرة... وأرسل- الشريف سعد- معنا فارساً من فرسانه، فذهب بنا على حسب طلق عنانه، بمكتوب منه إلى ولده الشريف مساعد... فركبنا وسرنا بعد الدعاء له وتوديعه... فمررنا على قرية سويقة المذكورة فيما تقدّم، ثمّ سرنا قليلًا فوصلنا إلى قرية سويق وقت الظهر، وكأنّما القريتان [سويقة وسويق ] كانتا في الزمان المتقدّم بلدة واحدة، وأسوارها المتهدّمة الآثار بذلك شاهدة، وهي الآن مسكن الأشراف من بني إبراهيم وهم من ذرّية الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه الكريم، ووجدنا الشريف مساعد هناك... ونزلنا عنده هناك في بيت من بيوت القرية المذكورة... وفي تلك القرية بساتين كثيرة من النخيل


1- 1 المصدر نفسه: 325- 326.

ص: 56

والفواكه والموز ونهر كبير تتشعّب منه سواقي جارية، وأخبرونا أنّ هناك قبر الإمام الحسن المثلّث، وهو الحسن المثلث ابن الحسن المثنّى ابن الحسن الأوّل وهو سبط النبيّ صلى الله عليه و سلم ابن فاطمة الزهراء زوج عليّ رضي اللَّه عنهم، فقرأنا الفاتحة ودعونا اللَّه تعالى، ثمّ بينما نحن جالسون هناك وإذا برجل من العرب جاء من الشريف سعد بن زيد بمكتوب إلى ابنه مساعد فقرأه وقال لنا: قد عيّن الشريف أبي معكم هذا البدوي من عرب جُهينة، واسمه رُوَيشد- بصيغة التصغير- يأخذكم إلى المدينة، ففرحنا بذلك غاية الفرح، وزال عنّا ما كان عندنا من التعب والترح...» (1).

المدينة المنوّرة

إنّ الشيخ النابلسي دخل المدينة المنوّرة في اليوم الثالث من شهر رمضان المبارك، بعد أن ذهب الثلثان من ليلته، وقد أغلق باب سور المدينة وكان يفتح كلّ يوم عند أذان الفجر، وصام هو وابنه ومن معه لهذا اليوم الثالث، بعد أن أكلوا السحور خارج سور المدينة المنوّرة.

وقد نقل الشيخ النابلسي في كتابه عن بعض الشعراء قطعة في مدح الرسول الأمين صلى الله عليه و آله:

يا شفيع العصاة أنت رجائي كيف يخشى الرجاء عندك خيبه

وإذا كنتَ حاضراً بفؤادي غيبة الجسم عنك ليست بغيبه

ليس بالعيش في البلاد انتفاع أطيبُ العيش ما يكون بطيبه (2)

***

زيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله ومحرابه

قال المؤلّف: «... فقمت أنا وابني وآخر من جماعتي ودخلنا إلى المدينة، وأبقينا بقيّة جماعتنا عند الباب، لحراسة الأسباب والدواب، ثمّ توجّهنا فقلت لمن


1- 1 المصدر نفسه: 328.
2- 2 المصدر نفسه: 332.

ص: 57

معنا: خذنا على باب السلام، لندخل منه بسلام، فاشتبه عليه الحال، وكان سبق له الزيارة قبل هذه السنة بأعوام وأحوال، فأدخلنا من باب الرحمة، حتّى دخلنا إلى الحرم الشريف، فوجدنا الجماعة في صلاة الصبح والزحمة، فقلت له: خذنا إلى شبّاك النبيّ صلى الله عليه و آله لنبدأ بالزيارة، ووصلنا إلى مرادنا... وصلّينا بقرب محراب النبيّ صلى الله عليه و آله في الروضة الشريفة صلاة الصبح مع الإمام... ولنا في ذلك العهد من النظام بحسب ما اقتضاه المقام:

ليت شعري في يقظتي أم منامي إنّني داخل بباب السلام

وعلى أحمد النبيّ صلاتي وعلى أحمد النبيّ سلامي...

كنتُ أرجو زيارةً منه حتّى حقّق اللَّه بُغيتي ومرامي...

وترى الناس في الشبابيك شتّى حول طه الرسول والشوق نامي

بين باكٍ وخاشعٍ بجواه يتشكّى وقائم باصطلام...

والقناديل أوقدت وشموع مشرقات في قبضة الخدّام...» (1)

بيت الإمام جعفر الصادق عليه السلام

إنّ الشيخ النابلسي ذهب إلى بيت شيخ الحرم يوسف آغا الطواشي، وكان في بيت شيخ الحرم محراب، وكان يشتهر هذا البيت، ب «بيت الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام».

قال المؤلّف: «... ثمّ أخذ بيدي يوسف آغا... وذهبنا إلى داره شرقي الحرم الشريف، خارج باب النساء، وأنزلنا مع جماعتنا في داخل داره في مكان يقال: إنّه بيت جعفر الصادق، وفيه محراب، ونحن صائمون في ذلك اليوم من شهر رمضان...

وصلّينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء والتراويح في الروضة الشريفة، وزرنا حضرة النبيّ صلى الله عليه و سلم، ورجعنا إلى منزلنا، وللَّه درّ الإمام أبي العبّاس أحمد المقري عند زيارته الحضرة النبويّة حيث قال:


1- 1 المصدر نفسه: 334- 335.

ص: 58

إليك أفرّ من زللي فرار الخائف الخجل

وكان مزار قبرك بال - مدينة منتهى أملي...

فتهديني إلى رشدي وتمنعني من الزلل

وتحملني على سنن يؤمنني من الوجل

فأنت دليل من عُميت عليه مسالك السُبلِ

وإنّك شافعٌ برٌّ ومؤئلنا من الوهل

وإنّك خير مبتعث وإنّك خاتم الرسل...

و ألحقني بجنّاتٍ لدى درجاتها الأُوَل...» (1).

ثمّ نقل المؤلّف مائة اسم للمدينة المنوّرة وقال: «وللمدينة أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى » وذكر تلك الأسماء في الشعر وذكر أيضاً سور المدينة وسكّتيها الطويلتين المشتملتين على حوانيت وبيوت وقصور وأسواق، ونقل أسماء الأزقّة وقال: «إنّها كثيرة يتشعّب بعضها من بعض، منها الأزقّة الضيّقة جدّاً، ومنها الواسعة كالمعتاد...» (2). ثمّ ذكر أبواب الحرم النبوي الشريف الأربعة، أعمدته ومناراته وآداب وكيفيّة صعود المؤذِّن إلى المنارة للأذان و...

قال المؤلّف: «وفي حائط الحرم الشرقي شبّاك مطلّ على الطريق قبالة الحجرة الشريفة، تمرّ الحجّاج عليه بجمالهم ودوابّهم بقصد التبرّك وزيارة النبيّ صلى الله عليه و سلم، وعموم البركة للإبل والدواب، فأبواب الحرم النبوي الأربعة؛ بابان يفتحان على الغرب، باب السلام وباب الرحمة، وبابان يفتحان على الشرق، باب البقيع وباب النساء، وطول الحرم النبوي الشريف من الحائط القبلي إلى الحائط الشمالي، اثنان وسبعون ذراعاً، كلّ ذراع ثلاثة أشبار، ومن الحائط القبلي إلى آخر المسقوف منه، اثنان وعشرون ذراعاً، ومن أوّل غير المسقوف إلى الحائط الشمالي ثمانية وأربعون


1- 1 المصدر نفسه: 335- 336.
2- 2 المصدر نفسه: 343.

ص: 59

ذراعاً، وعرضه من المشرق إلى المغرب ستّة وثلاثون ذراعاً.

وجملة العواميد التي في الحرم الشريف، مائتان وواحد وتسعون عموداً، فالعواميد التي داخل المسقوف من الحرم مائة وثلاثون عموداً، وعواميد الرواق الغربي الذي في صحن الحرم أربعة وأربعون عموداً، وعواميد الرواق الشمالي ستّة وخمسون عموداً في أربعة صفوف.

وفي صحن الحرم الشريف قبّة كبيرة يحيط بها جدران أربعة، وبابها يفتح إلى الشرق لوضع الشمع والزيت، وبقربها مكان فيه نخلتان أو ثلاث نخلات، وبئر ماؤه لطيف فيه بعض ملوحة.

وللحرم الشريف النبوي خمس منارات عاليات مرتفعات في الهواء يتراسل فيها المؤذِّنون في وقت السحر، وفي الأوقات الخمسة بالأذان والصلوات على النبيّ صلى الله عليه و سلم، فإذا دخل وقت الصلاة يأتي رئيس المؤذِّنين إلى شبّاك النبيّ صلى الله عليه و سلم ويسلم عليه ويقرأ الفاتحة، ويصلّي على النبيّ صلى الله عليه و سلم بأعلى صوته، ويفتح باب المنارة التي عند الحجرة الشريفة، ويدخل وحده بالأدب، ويقفل الباب من الداخل ثمّ يصعد ويبتدي هو بالأذان، وبقيّة المنارات الأربع إذا سمع المؤذِّنون صوته بالصلاة على النبيّ صلى الله عليه و سلم عند الشبّاك صعدوا إليها، فإذا أذّن أذّنوا، وتسمّى تلك المنارة «الرئيسية» فإذا فرغوا من الأذان يبتدي الرئيس بالصلاة والسلام على النبيّ صلى الله عليه و آله فيتبعه الثاني ثمّ الثالث، ثمّ الرابع، ثمّ يبتدي الرئيس فيتبعه الباقون كذلك، واحد بعد واحد، على ثلاث أو أربع مرّات، ثمّ يختم الرئيس فيختمون بعده بالترتيب، فيكون ذلك على نحو ساعة ..، وهذا الوضع في الأوقات الخمسة كذلك» (1).

أئمّة الحرم النبويّ الشريف وخطباؤه

قال المؤلِّف: «وللحرم الشريف خمسة عشر إماماً، منهم الحنفيّون، ومنهم الشافعيّون، وله أحد وعشرون خطيباً، منهم اثنا عشر خطيباً حنفيّون، وثمانية خطباء شافعيّون، خطيب واحد مالكي، فالأئمّة يصلّون بالنوبة في كلّ يوم إمام


1- 1 المصدر نفسه: 344- 345.

ص: 60

واحد من الحنفية وإمام من الشافعية، فيبتدئون من الظهر إلى الصبح، والإمام الشافعي يصلّي أوّلًا، ثمّ الإمام الحنفي إلّافي المغرب، فيتقدّم الإمام الحنفي لكراهة تأخير المغرب عنده. ويصلّي الإمام الحنفي يوماً في محراب النبيّ صلى الله عليه و آله الذي في الروضة الشريفة، فيصلّي الإمام الشافعي في ذلك اليوم في المحراب الذي خلف المنبر (محراب السلطان سليمان)، ثمّ في ثاني يوم يصلّي الإمام الشافعي كذلك ويصلّي الحنفي مثل ما صلّى هو أوّل يومٍ» (1).

بقيع الغرقد

قال المؤلّف: «ثمّ إنّنا ذهبنا إلى زيارة تربة البقيع وما فيها من قبور الصالحين... وهذه التربة واسعة مشتملة على مشاهد شريفة لجماعة من الصحابة وغيرهم. قال السمهودي: وفي مدارك عياض عن عياض عن مالك: أنّه مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف وهناك من سادات أهل البيت والتابعين ما لا يحصى ، غير أنّ غالبهم لا يعرف قبره ولا جهته، لاجتناب السلف البناء والكتابة على القبور مع طول الزمان، فمّما عرف من ذلك مشهد إبراهيم بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهناك قبر عثمان بن مظعون رضى الله عنه، روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه، لمّا توفي إبراهيم بن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر أن يدفن عند عثمان بن مظعون، فرغب الناس في البقيع وقطعوا الشجر واختارت كلّ قبيلة ناحية... ومشهد العبّاس بن عبد المطّلب، والحسن بن علي، ومن معه من آل البيت. وذكر ابن النجّار: أنّ مع الحسن في قبره ابن أخيه زين العابدين، ومحمّد الباقر بن زين العابدين وجعفر الصادق بن محمّد الباقر ومعهم أيضاً فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقرب المحراب، وقدّمنا أنّ قبرها- الكلام للنابلسي- في بيتها بقرب الحجرة الشريفة وهو المشهور واللَّه أعلم. وهذان المشهدان متقاربان في أوّل البقيع، وعلى كلّ واحد منهما بنيان وأبواب تقفل وتفتح للزيارة، ولمشهد العبّاس قبّة شامخة وله بابان: باب شمالي وباب غربي، ومشهد زوجات النبيّ صلى الله عليه و آله وفيه أربعة قبور ظاهرة، ولا يعلم تحقيق


1- 1 المصدر نفسه: 345.

ص: 61

من فيها منهنّ وعليه قبّة لها باب يفتح للزيارة وهو بالقرب من المشهدين المذكورين... فوقفنا عند تلك المشاهد وقرأنا الفاتحة، ودعونا اللَّه تعالى، ودخلنا إلى بعضها وجلسنا فيها متبرّكين بأنوار تلك الأرواح الطاهرة والأسرار الظاهرة، ومشينا من أوّل البقيع إلى آخره والتمسنا البركات ودعونا اللَّه تعالى بأنواع الدعوات وفضايل هذه المقبرة بقيع الفرقد كثيرة كثيرة» (1).

أقول: بما أنّ للشيخ النابلسي حظّاً وافراً في الشعر، فقد نظم أشعاراً عند كلّ موقف وعند زيارة قبر من قبور الصالحين، أو شخص جليل سواء أكان حيّاً أم ميّتاً. فقد أنشد شعراً عندما زار البقيع وقبور الأئمّة المدفونين فيه:

قد نعمنا بقبّة العبّاسِ وبآل البيت الشريف الراسي

يالها في البقيع من أفق نور ضاء بين القبور كالنبراسِ..!

والإمام المفضّل الحسن السبط وأخوه مطهِّر الأرجاس

وعليّ نجل الحسين وزين العابدين الذي به إيناسي

وابنه الباقر الذي بقر العلم بكشف عن أصله ومساس

وكذا الصادق ابنه جعفر الصدق ومن طاب في أجل غراس

نورهم ساطع بها وهداهم جلّ للاقتداء والاقتباسِ

صلوات الإله منه عليهم كلّ حين مع السلام المواسي.. (2)

حلقات التدريس

إنّ الشيخ النابلسي- بعد أن طلب منه بعض طلّاب المدينة المنوّرة أن يدرّس هناك- بدأ بالتدريس وذلك بعد أن قرّر أن لا يدرّس في المدينة إجلالًا لنبيّ اللَّه الأكرم صلى الله عليه و آله.

قال المؤلِّف: «... وكنت لمّا دخلت المدينة على شكل المذهول الطايش العقل من حين دخولي إليها، لا أتكلّم في شي ء من العلوم، ولا أبحث مع أحد في منطوق


1- 1 المصدر نفسه: 351.
2- 2 المصدر نفسه: 355.

ص: 62

ولا مفهوم، هيبةً من الحضرة المحمّدية وإجلالًا، وحقارة لنفسي وإذلالًا... حتّى وردت علينا جماعات ممّن في المدينة المنوّرة يقرؤون علينا في منزلنا، فكنّا نبقى في الدرس إلى وقت الظهر...» (1).

التبرّك بشَعر النبيّ صلى الله عليه و آله

قال المؤلِّف: «... وكان رجل من علماء الهنود اسمه غلام محمّد وكنيته أبو محمّد يقرأ علينا... الفتوحات المكّية للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي... وكان يخبرني أنّ في قطر الهند عند اناس متعدّدين في بلاد متعدّدة شعرات من شعر النبيّ صلى الله عليه و آله... وأخبرني عن رجل من الصالحين في الهند أنّه يخرج ذلك في كلّ سنة مرّة يوم التاسع من شهر ربيع الأوّل ويجتمع عنده ناسٌ كثيرون... وقد نقل بعض المؤرِّخين- والكلام لازال للنابلسي- بأنّ الملك العادل نور الدين الشهيد كان عنده في خزائنه شعرات من شعر النبيّ صلى الله عليه و آله وإنّه لمّا مات أوصى أن توضع في عينيه وأنّها الآن موضوعة في عينيه معه في قبره، وقالوا: ينبغي لمن يزوره أن يقصد التبرّك بذلك أيضاً، وهو الآن مدفون عندنا في دمشق الشام، في مدرسته التي بناها للعلماء والطلبة، وعليه قبّة رفيعة البناء...» (2).

زيارة الحجرة الشريفة من الداخل

قال المؤلِّف: «ذهبنا إلى الحرم الشريف فصلّينا الظهر بعد زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ صلّينا العصر على عادتنا واجتمعنا بشيخ الحرم، فقال لنا ابتداءً: تريدون أن تدخلوا إلى داخل الحجرة الشريفة؟ فقلنا له: إن أراد اللَّه تعالى كان ذلك، وكيف لنا بذلك؟ فقال: إن أردتم في هذه الليلة وقت المغرب، وإن أردتم في وقت الصباح فقلنا له: وقت المغرب أقرب.

فأرسل إلى الطواشية يأمرهم بإدخالنا، فشددنا فوق القبا من الصوف الأحمر الذي كنّا نلبسه شالة من صوف على هيئة الخدّام، وفتح باب الحجرة الذي هو باب فاطمة رضي اللَّه عنها، ودخل قدّامنا طواشي من الخدّام، ووراءنا طواشي اخر،


1- 1 المصدر نفسه: 367- 368.
2- 2 المصدر نفسه: 368.

ص: 63

وأعطونا شعلة من الحديد في رأسها شعلة من نار، والطواشي معه إناء من الفخار لوضع المشعلة فيه حتّى جئنا في داخل الحجرة... ورفعت يديّ وقرأت الفاتحة ودعوت اللَّه تعالى...» (1).

تمور المدينة

بما أنّ للشيخ النابلسي وقتاً خاصّاً للبحث والتحقيق فقد جمع مطالب جميلة عن تمور المدينة وأسمائها المختلفة وقال: «... والتمر في المدينة أنواع كثيرة وهو من أحسن التمر، ومنه نوع يسمّى الحلوى، كلّ واحدة مثل الخيارة الصغيرة، يقطر العسل منها،... انتهى ما وجدناه، فجملته مائة وثلاثة عشر نوعاً...» (2).

زيارة مسجد قبا

تشرّف المؤلّف بزيارة مسجد قبا في يوم الاثنين السادس من شهر شوّال، وقد نقل مطالب مفيدة من كتب الحديث والتاريخ حول قبا ومسجده، ونقل أيضاً من تلك المصادر مساحة المسجد وتجديد عمارته على مرّ العصور ثمّ يقول: «...

وهو الآن عتق بنيانه فهو محتاج إلى التجديد والعمارة، فنسأل اللَّه تعالى أن ييسّر ذلك على يد أهل الخير...» (3).

محراب الكشف

قال المؤلّف: «... وفي ذلك المسجد [مسجد قبا] محراب ومنبر عظيم وفي آخر الحائط القبلي محراب آخر يسمّى محراب الكشف؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كشف له هناك عن مكّة وعن الكعبة، وهناك محراب آخر يقال: إنّ الآية الشريفة نزلت هناك وهي قوله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ... (4)

الآية، وهذه الآية مكتوبة على المحراب وبالقرب منه محراب آخر يقال له: مبرك الناقة... وهي آثار حسنة في مسجد مبارك، فينبغي التبرّك بها على كلّ حال، فصلّينا في كلّ محراب ركعتين» (5).


1- 1 المصدر نفسه: 368.
2- 2 المصدر نفسه: 370- 371.
3- 3 المصدر نفسه: 389.
4- 4 سورة التوبة: 108.
5- 5 الحقيقة والمجاز: 390.

ص: 64

مسجد عليّ بن أبي طالب، ومسجد السيّدة فاطمة، ومسجد الشمس

وممّا يجدر ذكره أنّ النابلسي ذكر كلاماً حول هذه المساجد الثلاثة بأنّها كانت قريبة لمسجد قبا وكانت عامرة أيضاً، وإليك نصّه:

«... ثمّ خرجنا من ذلك المسجد [يعني مسجد قبا] ومشينا قليلًا، فدخلنا إلى مسجد الإمام علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وهو مسجد صغير فصلّينا فيه ركعتين ودعونا اللَّه تعالى، ثمّ خرجنا فمشينا قليلًا إلى مسجد السيّدة فاطمة رضي اللَّه عنها، فصلّينا فيه ركعتين ودعونا اللَّه تعالى، ثمّ خرجنا ومشينا قليلًا إلى مسجد يقال له مسجد الشمس،... فدخلنا ذلك المسجد وصلّينا فيه ركعتين ودعونا اللَّه تعالى...» (1).

زيارة حمزة رضى الله عنه بأحُد

قال المؤلّف: «... مزار سيّد الشهداء حمزة رضى الله عنه، وهو في ذيل جبل احد، وحوله في الخارج قبور شهداء أحُد، وكانت قصّة أحُد هناك مع المشركين، فدخلنا إلى مزاره الممتلي بالهيبة والجلال، وعليه قبّة عظيمة، وحوله مسجد شريف فيه محراب، وله منارة لطيفة عالية، وقبره كبير عظيم، وعليه داير من الخشب في غربي المسجد، وله شبكة من الحديد... وقفنا هناك بقرب قبر السيّد حمزة رضى الله عنه وقرأنا الفاتحة ودعونا اللَّه تعالى...» (2).

حفل المولد لحمزة سيّد الشهداء

قال المؤلّف: «... وخرجنا [من مزار حمزة] وقرأنا الفاتحة لبقيّة الشهداء، شهداء أحد، ودعونا اللَّه تعالى عند قبورهم، ورأينا تلك المصاطب (3) المعمّرة هناك لأكابر أهل المدينة المنوّرة، وعلمائها وأعيانها، كلّ واحد منهم له مصطبة معلومة، يجتمعون هناك في كلّ سنة في شهر رجب، يمكث الناس فيه من أوّل الشهر إلى ثاني عشر يوم منه، ويعملون المولد للسيّد حمزة رضى الله عنه، وتخرج إليه البيّاعون بأنواع المآكل وغيرها، ويصير الموسم كأيّام منى في مكّة، ويأتي إلى هذا المولد اناس من مكّة ومن الطائف ومن اليمن ومن العرب وغيرهم» (4).


1- 1 المصدر نفسه: 390- 391.
2- 2 المصدر نفسه: 395.
3- 3 المصاطب جمع مصطبة، هي مجتمع الناس، وهي أرض شبه الدكّان، يجلس عليها ويتّقى بها الهوام بالليل. مجمع البحرين 2: 607.
4- 4 الحقيقة والمجاز: 401.

ص: 65

قبر هارون بن عمران

قال المؤلّف: «... وقد رأينا في رأس جبل أحُد قبّة، فأخبرونا أنّ فيها قبر هارون بن عمران عليهما السلام، وقد ذكر السمهودي في تاريخ المدينة في أوائل الفصل الأوّل من الباب الثالث عن ابن شبّة بسند لا بأس به... أقبل موسى وهارون عليهما السلام حاجّين فمرّا بالمدينة فخافا من يهود فخرجا مستخفين فنزلًا أحُداً فغشى هارون الموت، فقام موسى عليه السلام فحفر له لحداً، ثمّ قال: يا أخي إنّك تموت، فقام هارون عليه السلام فدخل في لحده فقبض فحثى عليه موسى عليه السلام التراب؛ انتهى، فوقفنا قبالة ذلك وقرأنا الفاتحة ودعونا اللَّه تعالى ثمّ ذهبنا إلى مسجد القبلتين...» (1).

زيارة مسجد القبلتين

قال المؤلّف: «... دخلنا إليه [مسجد القبلتين ] متبرّكين به، ورأينا في داخله محراباً إلى جهة القبلة وفي خارجه محراباً آخر إلى جهة بيت المقدس، وهو مسجد قديم رثّ البنيان، بعضه متهدِّم... فدخلنا إلى داخله وصلّينا ركعتين إلى محرابه الذي نحو الكعبة ودعونا اللَّه تعالى، وقد بلغنا أنّ بعض الجهّال من الحجّاج يصلّي ركعتين إلى المحراب الذي نحو بيت المقدس بقصد التبرّك بالقبلة الاولى، بأمر الجهّال من المزورين، وهو فعل حرام لا يجوز، بل المعتمد لذلك يخشى عليه الكفر، ولا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العليّ العظيم» (2).

زيارة المساجد الخمسة

قال المؤلّف: «ثمّ ذهبنا مع الاخوان إلى زيارة المساجد الخمسة بين هاتيك الجبال فابتدأنا بالصعود إلى مسجد الفتح الذي هو أعلى الجميع... ثمّ نزلنا إلى المسجد الذي في أسفل الجبل، المعروف بمسجد أبي بكر... ثمّ دخلنا إلى مسجد سلمان الفارسي... ثمّ ذهبنا إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله الذي بات فيه ليلة الأحزاب، وهو مسجد واسع ليس له سقف، فدخلنا إليه ودعونا اللَّه تعالى فيه، وهو مكان يقال له شعب بني حرام... وهو الذي الآن يسمّى مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله؛ لأنّه صلّى فيه، وتحوّلهم


1- 1 المصدر نفسه: 401.
2- 2 المصدر نفسه: 401- 402.

ص: 66

إلى هذا الشعب كان بإذنه صلى الله عليه و سلم، ويقرب من ذلك مغارَة النبيّ صلى الله عليه و آله وهو كهف سلع وهو كهف بني حرام، مكان يقصد للتبرّك به» (1).

أقول: لم يذكر المؤلّف المسجد الخامس بل ذكر أربعة منها فقط وهي: مسجد الفتح، ومسجد أبي بكر، ومسجد سلمان الفارسي، ومسجد النبي، ويحتمل أنّ المراد من الخامس من تلك المساجد هو مسجد القبلتين.

ولا يخفى أنّ المساجد الموجودة الآن في هذه المنطقة المختصّة لحرب الأحزاب، هي كالتالي:

1- مسجد الفتح 2- مسجد سلمان الفارسي 3- مسجد أبي بكر 4- مسجد فاطمة، وهذا المسجد صغير جدّاً ليس له سقف، وقد سدّوا بابه بالجدار الاسمنتي سنة 1420 الهجرية، وقد ذكرت هذا المطلب حتّى يبقى كشاهد في زاوية من زوايا التاريخ؛ لأنّه يخاف هدمه وتخريبه. 5- مسجد الإمام علي بن أبي طالب.

زيارة مسجد النبيّ (مسجد غمامة)

قال المؤلّف: «ثمّ بعد صلاة العصر في الحرم النبوي وزيارة النبيّ صلى الله عليه و آله ذهبنا مع الإخوان إلى خارج الباب المصري وزرنا مسجد النبيّ صلى الله عليه و آله في خارج المدينة وعليه قبّة وفيه جلالة ومهابة وزرنا بالقرب منه مسجد أبي بكر ومسجد الإمام عليّ وتبرّكنا بتلك الآثار، وتملّينا بهاتيك الأنوار...» (2).

أقول: يبدو أنّ المراد من المسجد في قوله: مسجد النبي، هو مسجد غمامة وأراد من المسجد معنى اسم المكان فقط. أي المحلّ الذي سجد فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وليس المراد منه المسجد النبويّ الشريف، ومسجد غمامة معروف الآن وهو بقرب مسجد الإمام علي عليه السلام ومسجد أبي بكر وتقام فيه صلاة الجماعة.

ولا يخفى أنّ الباب المصري كان في غرب المسجد النبوي الشريف ومن أراد أن يذهب إلى مسجد غمامة و... كان يخرج من الباب المصري الذي كان ملاصقاً


1- 1 المصدر نفسه: 402.
2- 2 المصدر نفسه: 408.

ص: 67

بسور المدينة المنوّرة، ولم يكن آنذاك باب في الناحية الغربية من المدينة المنوّرة سوى الباب المصري.

قبر محمّد بن عبداللَّه المحض

خرج الشيخ النابلسي ذات يوم إلى ضيافة صديق له كان بيته خارج الباب الشامي- كان الباب الشامي شمال المسجد النبوي الشريف وقبال جبل أحُد- وكان هناك قبر محمّد بن عبداللَّه المحض بن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن المجتبى سلام اللَّه عليه.

قال المؤلّف: «... وكان في مقابلة المكان الذي نحن فيه، مدفن الإمام الزكي محمّد بن عبداللَّه المحض بن الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن السبط ابن الإمام علي المرتضى رضي اللَّه عنهم وعليه قبّة ذات هيبة وتلالي...» (1).

مكتبة الحرم النبوي الشريف

زار الشيخ النابلسي خزانة الكتب الموجودة في مكتبة الحرم النبوي الشريف في يوم الثلاثاء، الخامس من شهر ذي القعدة الحرام، فوجد كتباً كثيرة في علوم شتّى منها: الجامع الكبير في الحديث للسيوطي في خمسة مجلّدات كبار. ومنها:

تاريخ دمشق لابن عساكر في خمسمائة وسبعين مجلّداً، ونقل هذه العبارة من الجزء الأخير من تاريخ دمشق:

«... تمّ الجزء السبعون والخمسمائة، وهو آخر الأجزاء جميعها، وهذا آخر ما تيسّر من هذا الكتاب، واللَّه الموفّق فيه للرشاد والصواب...» (2).

ثمّ استعار النابلسي كلّ أجزاء هذا الكتاب من خزانة الكتب وقال:

«... فاستعرت هذه الأجزاء كلّها وجئت بها إلى منزلي وطالعت فيها ونقلت منها ما أردت، ثمّ أرجعتها إلى محلّها من خزانة الكتب المذكورة» (3).

ليلة الكنيس

قال المؤلّف: «... وكانت هذه الليلة [السابعة عشرة من شهر ذي القعدة


1- 1 المصدر نفسه: 415.
2- 2 المصدر نفسه: 425.
3- 3 المصدر نفسه: 426.

ص: 68

الحرام ] تسمّى عند أهل المدينة ليلة الكنيس؛ لأنّ في صبيحتها يكنسون الحرم الشريف، ورأينا بعض الناس من عادتهم أنّ من عليه ديناً منهم، يجمع شيئاً من حبّ القمح بمقدار ما عليه من الدين، ويضعه في خرقة بيضاء ويعقدها ويرميها من داخل الحجرة الشريفة من الشبّاك المكرّم، ويقولون: إنّ ذلك سبب لقضاء ما عليهم من الدين ببركة النبيّ صلى الله عليه و آله...

ثمّ من عادة أهل المدينة في مثل هذا اليوم [اليوم السابع عشر] أنّهم بعد فراغهم من كنس الحرم الشريف، يخرجون إلى خارج المدينة، ويذهبون إلى حدائق النخيل، يتنزّهون وينبسطون في المآكل والمشارب، ويحصل لهم الانشراح والصفاء... فيجتمعون في مكان يقال له القُرين؛ بصيغة التصغير، وهو قريب من المدينة على نحو نصف ساعة، ويبقون هناك إلى العشيّ، ثمّ يعودون كذلك بالذكر والنشيد، وتخرج النساء والرجال والأولاد لأجل الفرجة عليهم، ويصير يوماً عظيماً. وقد خرجنا نحن وجماعتنا إلى بستان هناك قريب من بئر بضاعة، يسمّى بالفيروزية وبقينا إلى آخر النهار...» (1).

زيارة قبر الإمام جعفر بن محمّد الصادق

قال المؤلّف: «... ذهبنا مع بعض الأصحاب إلى جهة بئر بصة من جهة البقيع، وهو في داخل بستان فيه نخيل، وهناك بركة ماء واسعة بجانب ذلك [تلك ] البئر... ثمّ عدنا إلى الحرم الشريف فزرنا في الطريق قبر سيّدنا جعفر الصادق رضى الله عنه، في مكان عظيم بقبّة مستقلّة، وقرأنا الفاتحة ودعونا اللَّه تعالى، وصلّينا المغرب والعشاء في الحرم الشريف وزرنا النبيّ صلى الله عليه و سلم» (2).

إلى الميقات

خرج الشيخ النابلسي من المدينة المنوّرة يوم الأربعاء، وهو اليوم السابع والعشرون من ذي القعدة الحرام، متوجّهاً إلى مكّة المكرّمة لأداء مناسك الحجّ.

وبما أنّ في مزاجه ضعفاً وأنّ الوقت غير قابل للتحمل، فلم يحرم من ميقات ذي


1- 1 المصدر نفسه: 431.
2- 2 المصدر نفسه: 435.

ص: 69

الحليفة؛ لأنّه أبعد المواقيت عن مكّة المشرّفة، فهو لأجل كلّ ذلك راجع الكتب المختصّة بفقه الحنفية، وبدأ أيضاً بكتابة رسالة حول الترخيص بالإحرام من رابغ.

وبعد أن أحرم مرافقوه من ميقات ذي الحليفة، سار إلى منزل الشهداء الذي يسمّى منزل التجّار وليس منزلًا للحجّاج، ثمّ سار إلى قرية الغزالة، ثمّ إلى قرية الجُدَيدة، ثمّ وادي الصفراء، وهي مشتملة على نحو ستّ أو سبع قرى؛ يمنة الذاهب إلى مكّة ويسرته... ثمّ إلى بدر.

قال المؤلّف: «... وبدر هذه كثيرة الماء يجري فيها الماء على وجه الأرض، غير البركة التي يستقي منها الحجّاج... وهناك محلّ الشهداء الذين استشهدوا في غزوة بدر مع النبيّ صلى الله عليه و سلم، وهناك جامع الغمامة، وهو جامع عظيم مبارك، فمكثنا في ذلك المنزل مع الحجّاج...» (1).

ثمّ سار النابلسي مع القافلة حتّى نزل في منزل القاع، وليس فيه ماء وهو برّية واسعة سهلة الجوانب، لا انخفاض ولا ارتفاع، ثمّ وصل إلى قرية المستورة، ثم سار نحو ساعتين حتّى وصل منطقة رابغ.

قال المؤلّف: «ذهبنا فاغتسلنا في تلك البركة الواسعة، وكان الماء في نصفها وهي غير نابعة، والناس ينزلون فيها للاغتسال، ثمّ أحرمنا بالعمرة من ذلك الميقات (2) بقصد التمتّع».

ثمّ قال: «... ثمّ مررنا بمكان فيه من الرمل الكثير... يسمّى ذلك المكان بالرمل الدفين... فقطعناه مع الحجّاج بجهد جهيد وتعب ما عليه من مزيد...» (3).


1- 1 المصدر نفسه: 438.
2- 2 لم نجد في رحلته هذه إشارة إلى ميقات الجحفة، بل المذكور فيما كتبه هو: «ثمّ أحرمنا بالعمرة من ذلك الميقات...». وكتب أيضاً في الصفحة 437: «وعملنا رسالة في الترخيص بالإحرام من رابغ...»، فعلى ذلك لا يعلم من هذين النصّين أنّ المؤلّف هل أحرم من الجحفة- نفس الميقات- أو أحرم من المحاذاة، ولا يخفى أنّه هل منزل رابغ كان محاذياً للميقات أم لا؟ فهذا أوّل الكلام!، ولابدّ للحصول على كلّ ذلك إلى الدقة والبحث والمراجعة.
3- 3 المصدر نفسه: 439.

ص: 70

منازل الحجيج في الطريق إلى مكّة سنة 1105 الهجرية

ميقات ذي الحليفة (المدينة المنوّرة)- منزل الشهداء- قرية الغزالة- قرية الجُديدة- وادي الصفراء- بدر- منزل القاع- قرية المستورة- رابغ- الجحفة- منزل القُديد (بالتصغير) قرية من قرى مكّة المشرّفة- عقبة السكر- خُليص (بالتصغير) قرية من قرى مكّة المشرّفة- مُدَرَّج عُسْفان وهو كثير الأوعار من الرمل والأحجار، وادي بين جبلين، فيه العلوّ والهبوط، والارتفاع والسقوط، والاستقامة والإعوجاج، بحيث يضرب به المثل بين الحجّاج، يقولون للمعوج غير المستقيم: من كلّ شي ء يهان، كأنّه مُدَرَّج عُسْفان- عُسْفان، وهو قرية من قرى مكّة المشرّفة- وادي فاطمة، ويقال: إنّما سمّي بذلك؛ لأنّه وقف للسيّدة فاطمة- سلام اللَّه عليها، وفيه ماء غزير، ونخل كثير، وبساتين مؤتلفة، وفواكه مختلفة- التنعيم (1).

مكّة المكرّمة

قال المؤلف: «... ذهبنا جهة مكّة المشرّفة... حتّى دخلنا قبل جميع الحجّاج... وكان ذلك اليوم؛ يوم الجمعة، وهو اليوم السادس من ذي الحجّة، فتفرّقت الحجّاج في مكّة... وحين شاهدنا الكعبة تذكّرنا بشعر محمّد بن محمّد البدري الأندلسي الغرناطي:

مولاي بالباب ذو فاقة وهذا محطّ خطايا الامم

فجُد لي بعفوك عن زلّتي فجود الكريم بقدر الكرم...» (2).

لقد ذكر الشيخ النابلسي مطالب حول مكّة المكرّمة من وجه تسميتها وأسمائها وجبالها وتجديد بناء الكعبة على مرّ العصور، واستفاد من المصادر الخاصّة بهذا المورد؛ كالأحكام السلطانية للماوردي، وأخبار مكّة للأزرقي، والإعلام بأعلام بيت اللَّه الحرام و...


1- 1 المصدر نفسه: 439- 440.
2- 2 المصدر نفسه: 441.

ص: 71

وللأسف الشديد أنّه لم يحكِ ما رأى بعينه في الحرم المكّي الشريف وما جاوره من الأماكن والآثار؛ لنستفيد منه ونعرف مافيها أيضاً، بل المؤلّف اكتفى بنقل ما جاء في المصادر الموجودة في أيدينا، والحقّ أنّه ذكر أشياء كثيرة من المشاهد والآثار التي لا يمكن التعرّف عليها بسهولة ولم يذكر في ساير الكتب مثلها.

الهوامش:

حدود الطواف ومكانه دراسة فقهيّة استدلالية مقارنة

ص: 73

حدود الطواف ومكانه دراسة فقهيّة استدلالية مقارنة

حيدر حبّ اللَّه

وقع بحث فقهي بين المسلمين في المدى الذي لابدّ أن يحتفظ به الطائف بالكعبة الشريفة حين طوافه، أو بتعبير آخر في مكان الطواف المحدّد في الشريعة الإسلامية، ففي الوقت الذي كان البحث على المستوى السنّي ينصبّ على مسألة الطواف داخل المسجد في قبال الطواف خارجه، كان البحث الفقهي في الدائرة الشيعيّة يتركّز في نطاقٍ أضيق ألا وهو اشتراط كون الطواف بين الركن- أي بين البيت- ومقام إبراهيم عليه السلام؛ ومن هنا يمكن القول بأنّ المسألة المبحوثة في الفقه الشيعي فيما يتعلّق بمكان وحدود الطواف ليس لها أثرٌ- كشرطيّة- في الوسط الفقهي السنّي على ما سوف يظهر إن شاء اللَّه تعالى، وأنّ المسألتين المبحوثتين في الفقهين تقع إحداهما داخل الاخرى تقريباً.

التأريخ الفقهي للمسألة

ووفق ما تقدّم من الضروري تقديم إطلالة تاريخية حول هذه المسألة على مستوى الفقه الإسلامي عامّةً؛ الشيعي والسنّي.

ص: 74

أ- المسألة على ضوء الفقه الشيعي

ذهب مشهور الفقهاء من الإمامية (1) إلى ضرورة كون الطواف الواجب بين البيت ومقام إبراهيم عليه السلام، بل ادّعى بعض الفقهاء الإجماع عليه كما في غنية النزوع (2)، وإن كانت عبارة الفيض الكاشاني تفيد عدم جزمه إن لم نقل جزمه بعدم انعقاد إجماعٍ؛ لأنّه عبّر «بل كاد يكون إجماعاً» (3)، بل في جامع المدارك أنّ مضمون خبر ابن مسلم الآتي متّفقٌ عليه بين المسلمين علماً وعملًا ولعلّ كلامه شاملٌ للحكم هنا (4).

وفي قبال هذا الرأي المشهور (5) أو الأشهر على حدّ تعبير صاحب الحدائق (6)هناك قولان آخران هما:

القول الأوّل: ما ذهب إليه ابن الجنيد كما نقل عنه العلّامة في المختلف (7)، وهو منسوبٌ أيضاً إلى الشيخ الصدوق (8)، والظاهر أنّ السبب في نسبة هذا القول إليه مع أنّه لم يذكره في المقنع والهداية هو نقله خبر الحلبي الآتي الذي استفيد من قبل البعض دلالته على هذا التفصيل في الفقه (9)، وفقاً لما تعهّد به في أوّل الكتاب من عدم إيراده إلّاما يراه حجّةً بينه وبين ربّه، وسيأتي أنّ الخبر غير دالّ، ومعه فيحتمل أنّ الصدوق قد فهم منه ما سوف نفهمه منه لاحقاً، وهذا كافٍ في عدم الجزم بنسبة هذا القول إليه.

وعلى أيّة حال فهذا القول يظهر شي ءٌ من الميل إليه أيضاً عند الحرّ العاملي والعلّامة الحلّي 0 وغيرهم (10)، وهو سقوط هذه الشرطية وجواز الطواف خارج المقام عند الضرورة، ولعلّ صاحب هذا القول قد اعتمد على صحيحة الحلبي الآتية كما تشير إليه بعض الكلمات، وإن كانت الصحيحة لا تفيد هذا القول كما سنلاحظ لاحقاً إن شاء اللَّه تعالى.

والذي يبدو في إطار الفرق بين هذا الرأي وما ذهب إليه المشهور؛ هو أنّ وقوع الطواف بين هذين الحدّين يمثِّل شرطاً لصحّة الطواف بصورةٍ دائمةٍ بحيث إنّه


1- 1 ذهب إلى هذا القول كلّ من الشيخ الطوسي في المبسوط 1: 356- 357، والنهاية: 237، وابن حمزة في الوسيلة: 172، وابن زهرة الحلبي في غنية النزوع: 172، والحلّي في السرائر 1: 572، وابن البرّاج في المهذب 1: 233، وإن لم يذكر هذا الشرط في «جواهر الفقه»، وابن مجد الحلبي في إشارة السّبق: 131، والشهيد الأوّل في الدروس 1: 394، واللمعة: 70، والشهيد الثاني في المسالك 2: 334، والروضة 2: 249، والمحقّق الحلّي في الشرائع 1: 199، والمختصر النافع: 93، والعلّامة الحلّي في المختلف 4: 200 وإن نسب إليه فيه غيره، والقواعد 1: 426، وإرشاد الأذهان 1: 324، وتحرير الأحكام 1: 581، وقطب الدين البيهقي في إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: 155، والفيض الكاشاني في مفاتيح الشرائع 1: 369 حيث يظهر منه الميل إليه فيه، والشيخ النجفي في جواهر الكلام 19: 295- 299، والمحقّق النراقي في المستند 12: 75- 76، والمحدّث البحراني في الحدائق 16: 110 لكنّه في آخر بحثه جعل المسألة في غاية الإشكال ومال إلى الاحتياط ص: 114، والسيّد الطباطبائي في الرياض 6: 536- 537، والفاضل الهندي في كشف اللثام 5: 420، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان 7: 85- 87، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد 3: 193، وابن سعيد الحلّي في الجامع للشرائع: 197، والمحقّق العراقي في شرح تبصرة المتعلِّمين 4: 115، والشيخ الأراكي في مناسك الحجّ: 124، والسيّد الخوانساري في ظاهر جامع المدارك 2: 494- 495، والإمام الخميني في تحرير الوسيلة 1: 397 و والسيّد السبزواري في مناسك الحجّ: 96 وإن كان له رأي آخر سيأتي. هذا واحتاط السيّد الگلپايگاني وجوباً في مناسك الحجّ: 111، وإن تغير رأيه أخيراً كما أنّ الشيخ الطوسي في الخلاف 2: 324- 325 ذكر عدم جواز الطواف بالسقاية وزمزم، ونسب للشافعي الجواز، واستدلّ الطوسي لرأيه بالقطع بالجواز دون ذلك وغيرُه غير مقطوع به فالاحتياط يقتضي عدمه.
2- 2 غنية النزوع: 172.
3- 3 مفاتيح الشرائع 1: 369.
4- 4 جامع المدارك 2: 495.
5- 5 نصّ على شهرة هذا القول النراقي في المستند 12: 75، والسيّد العاملي في المدارك 8: 131، والطباطبائي في الرياض 6: 536، والسيّد الخوئي في مناسك الحجّ: 145 مسألة 303، والشهيد في الدروس 1: 394، والخراساني في كفاية الأحكام: 66، والعراقي في شرح التبصرة 4: 113. هذا وقال الأكثر كما في الحدائق 16: 111، والمعروف من مذهب الأصحاب كما في ذخيرة المعاد: 628، ولا خلاف معتدّ به أجده كما في الجواهر 19: 295، وممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب كما في مجمع الفائدة والبرهان 7: 85 وغيرهم.
6- 6 الحدائق الناضرة 16: 110.
7- 7 كتاب مجموعة فتاوى ابن الجنيد: 136 نظّمه الإشتهاردي.
8- 8 نسبه إليه في مفاتيح الشرائع 1؛ 369.
9- 9 الفقيه 2: 247 باب 132 من الحجّ. ط دار التعارف 1990 م.
10- 10 يظهر منه الميل إليه في منتهى المطلب 2: 491، وتذكرة الفقهاء 8: 93، وهو ظاهر عنوان الحرّ العاملي في الوسائل ج 13 كتاب الحج- أبواب الطواف باب 28، والشيخ الأنصاري في رسالة مناسك الحجّ: 205- 207، وقد وافقه فيه حسب الظاهر كلٌّ من الميرزا محمّد حسن الشيرازي والآخوند الخراساني والسيّد كاظم اليزدي والشيخ عبد الكريم الحائري والميرزا محمد حسن أحمدي يزدي، وقد شرط الشيخ الأنصاري اتصال الطائف بالبقيّة لو تجاوز مع الضرورة.

ص: 75

حتّى لو عجز عنه الإنسان فإنّ الشرطية تبقى على حالها؛ لعدم شمول أدلّة الاضطرار ونحوه لها ما دامت لا تمثّل تكليفاً شرعياً بقدر ما تمثّل حكماً وضعياً يوجب انتقال الوظيفة في حال عدم توفّره للعجز إلى الاستنابة، وهذا بخلاف المنقول عن ابن الجنيد فإنّ الشرطية بنفسها مقيّدة بمورد القدرة دون العجز والاضطرار.

القول الثاني: عدم اعتبار هذاالشرط سواءٌ عند الاختيار و القدرة أوحال العجز والاضطرار، وإنّما العبرة بصدق الطواف بالكعبة المشرّفة عرفاً على الطائف، فلو كان بعيداً جدّاً بحيث لم يصدق عليه أنّه يطوف بالبيت إلّابعنايةٍ وتكلّفٍ لم يصحّ.

وقد ذهب إلى هذا الرأي السيّد الخوئي (1) والسيّد السبزواري في مهذّب الأحكام (2) وغيرهما (3)، فيما اعتبر في «كفاية الأحكام» أنّ العدول عن مقتضاه مشكلٌ فيما القول بالشرطية أحوط (4)، واستحسنه النراقي في المستند لولا الإجماعات والشهرات (5) و..، كما أنّ جملةً من الفقهاء لم يذكروا هذه الشرطية في أبحاثهم في الحجّ كالسيّد المرتضى في الناصريّات وجمل العلم والعمل والانتصار، وكذلك سلّار في المراسم العلوية، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي، والصدوق في كتابيه الفقهيّين المقنع والهداية، والشهيد الصدر في مناسك الحجّ وغيرهم، وقد يفهم من بعضهم بقرينة السياق أنّه لا يرى هذا الشرط. كما أنّ السيّد الگلپايگاني احتاط وجوباً في هذا الشرط في مناسكه ممّا قد يوحي بعدم ثبوته عنده علميّاً وقد أفتى آخر عمره بصحّة الطواف خارج الحدّ بشرط اتصال الطائفين (6).

وبهذه الصورة يتّضح- زائداً عن أنّ المسألة ذات مدركٍ واضح سنذكره لاحقاً يضعّف من حجّية الإجماع هنا- أن لا حجّية لدعوى الإجماع في المقام بعد ملاحظة ما تقدّم، وعليه فما ذكره في الغنية من الاستدلال بالإجماع (7) ونحوه غيره غير دقيقٍ، كما أنّ ما ذكره البعض من مناقشة لهذا الإجماع بأنّ المقدار المنعقد عليه هو صحّة الطواف بين الركن والمقام لا بطلانه في الزائد عن المقام (8)... وما ذكره


1- 1 مناسك الحج: 145 وجعل رعاية الاحتياط مع التمكّن أولى، والمعتمد 4: 342.
2- 2 مهذّب الأحكام 14: 61- 62.
3- 3 ففي الكفاية: 66 إنّ العدول عنه مشكلٌ والقول به أحوط، ونحوه الذخيرة: 628، وفي مدارك الأحكام 8: 131 أنّه غير بعيد والمشهور أولى، وذهب إليه أيضاً السيّد الروحاني في مناسكه: 125.
4- 4 ن. م.
5- 5 مستند الشيعة 12: 76.
6- 6 مناسك الحج: 111. وانظر آراء المراجع في الحجّ: 238.
7- 7 غنية النزوع: 172.
8- 8 رسالة مناسك الحجّ للشيخ الأنصاري- تعليقة الميرزا محمد حسن أحمدي يزدي: 220.

ص: 76

هذا البعض غير واضح، فإنّه على تقدير تحقّق الإجماع هنا من الواضح بملاحظة كلمات الفقهاء أنّ بطلان الطواف في الخارج عن المقام كان مصرّحاً به عندهم على حدّ تصريحهم بصحّة الطواف الواقع بينهما، والتفكيك بين الأمرين إن تمّ فإنّما يتمّ في مقدارٍ ضئيلٍ جدّاً من العبارات الفقهيّة، الأمر الذي لا يضرّ بقوّة الإجماع، لا سيّما وأنّ التفكيك ظهر بدلالةٍ سلبيّة سكوتيّةٍ ولم يصرّح به لديهم.

وعلى أيّة حال فالإجماع من الناحية الصغروية غير محرزٍ، لا سيّما وأنّ أمثال السيّد المرتضى وسلّار وأبي الصلاح والصدوق من المتقدّمين لم يذكروا مثل هذا الشرط في أحكام الطواف وواجباته.

كما ظهر أيضاً أنّ القول بلزوم كون الطواف داخل المسجد الحرام هو مقتضى الشرطيّة المتقدّمة، وعدم تصريح فقهاء الشيعة بشرطٍ كهذا؛ لعلّه كان من ناحية التسالم عليه ووضوحه عندهم.

ب- المسألة على ضوء الفقه السنّي

وأمّا على مستوى فقه المذاهب السنّية فقد:

1- ذكر عبد الرحمن الجزيري في (الفقه على المذاهب الأربعة). أنّ الحنابلة والمالكية جعلت من سنن الطواف القرب من البيت، فيما خصّصت الشافعية هذه السنّة بالرجال (1).

2- كما شرح الدكتور وهبة الزحيلي موقف المذاهب الأربعة في المسألة حيث ذكر:

أ- أنّ من شروط الطواف عند الحنفية هو الالتزام بالمكان المحدّد له وهو «أن يقع حول البيت في المسجد؛ لقوله تعالى: وليطوّفوا بالبيت العتيق، والطواف بالبيت هو الطواف حوله، فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريباً من البيت أو بعيداً عنه بشرط أن يكون في المسجد» (2).

ب- أمّا عند المالكية فيشترط في الطواف «أن يكون بداخل المسجد» (3).


1- 1 راجع الكتاب السابق 1: 859- 860.
2- 2 الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلّته، الطبعة الثالثة، دار الفكر، 1989 م، 3: 153.
3- 3 م، ن: 156.

ص: 77

ج- وتقول الشافعيّة: «إنّ الطواف داخل المسجد، للاتباع، فلا يصحّ حوله بالإجماع، ويصحّ داخل المسجد وإن وسّع» (1).

د- وهذا هو موقف الحنابلة حين يشترطون أن يكون الطواف «داخل المسجد لا يخرج عنه» (2).

هذا وقد أشار الزحيلي إلى أنّه يُستحب القرب من البيت للذكور (3).

3- وموقف الشافعية كلّه صرّح به الإمام الشافعي نفسه في كتاب «الأم» بقوله: «والمسجد كلّه موضعٌ للطواف» (4)، «وإن خرج من المسجد فطاف من ورائه لم يعتدّ بشي ءٍ من طوافه خارجاً من المسجد، لأنّه في غير موضع الطواف...» (5).

4- وقد صرّح الإمام الغزالي في الوسيط بأنّ الرابع من واجبات الطواف هو «أن يطوف داخل المسجد، فلو طاف خارج المسجد لم يجز، ولو وسّع المسجد يجوز الطواف في أقصى المسجد؛ لأنّ القرب مستحبٌّ لا واجب (6).

5- وفي حاشية ابن عابدين قال: «واعلم أنّ مكان الطواف داخل المسجد ولو وراء زمزم لا خارجه لصيرورته طائفاً بالمسجد لا بالبيت...» (7).

6- أمّا ابن حزم الأندلسي فقد أشار في «المحلّى» إلى شرطٍ أزيد لم يذكره فقهاء السنّة المعروفون إذ قال: «لا يجوز التباعد عن البيت عند الطواف إلّافي الزحام؛ لأنّ التباعد عنه عملٌ بخلاف فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعبثٌ لا معنى له فلا يجوز» (8).

ومن هنا يتّضح الفارق الذي أشرنا إليه في مطلع البحث من اختلاف مركز الاهتمام بين الشيعة والسنّة وإن اتّفقوا جميعاً على أنّ الطواف بالبيت لابدّ أن يكون داخل المسجد لا خارجه.

وعلى أيّ حال فسوف نبحث هنا كلّاً من الشرطيّة المتقدّمة عند الشيعة، وشرطيّة كون الطواف داخل المسجد ضمن محورين من الحديث هما:


1- 1 م، ن: 159.
2- 2 م، ن: 160.
3- 3 م، ن: 168.
4- 4 الإمام الشافعي، موسوعة الإمام الشافعي، كتاب الامّ، الطبعة الاولى، دار إحياء التراث العربي، 2000 م، 3: 25 و 26.
5- 5 م، ن: 27، وراجع أيضاً: 29.
6- 6 الإمام الغزالي، الوسيط في المذهب، الطبعة الاولى، 1997 م، دار السلام للطباعة، 2: 645.
7- 7 ابن عابدين، ردّ المحتار على الدرّ المختار المعروف بحاشية ابن عابدين، الطبعة الاولى، دار إحياء التراث العربي، 3: 451.
8- 8 ابن حزم الأندلسي، المحلّى، طبعة دار الجيل والآفاق الجديدة، بيروت، 7: 181.

ص: 78

المحور الأوّل: شرطيّة الطواف بين البيت ومقام إبراهيم عليه السلام

أدلّة القول بالشرطية:

وقد ذكر الفقهاء (رض) جملة وجوهٍ لإثبات هذه الشرطية المطروحة في الفقه الشيعي- كما تقدّم-، أبرزها- مع التغاضي عن الإجماع الذي تقدّم الحديث عنه- أمورٌ هي:

الوجه الأوّل: ما ذكره في الغُنية (1) من أنّ الطواف بين البيت والمقام هو طريقة الاحتياط، ونحن نحتاج إلى اليقين ببراءة الذمّة، الأمر الذي لا يحصل إلّابإيقاع الطواف في هذا الإطار المحدّد.

وهذا الوجه قد تعرّض- وفق الدراسات الأصوليّة الأخيرة- لانتقاداتٍ، فإنّ جريان أصالة الاشتغال إنّما يكون في مورد الشكّ في المكلّف به لا في التكليف الشامل لأصل الحكم ولقيده وشرطه، وبالتالي فالقضيّة تابعةٌ لمدى دلالة النصوص، وهل هي بحيث تفسح في المجال لسريان الشكّ إلى مرحلة المكلّف به أم أنّ الشكّ على ضوء ما تنتجه إنّما هو في دائرة التكليف والتي هي مجرى البراءة؟

وسوف يظهر أنّه وبقطع النظر عن الروايات الواردة في خصوص المقام فإنّ الأدلّة العامّة في باب الطواف شاملة للطواف خارج المقام أيضاً، وبالتالي فهناك دليل لفظي يبرّر ذلك فلا تصل النوبة إلى مرحلة الأصل العملي.

الوجه الثاني: رواية محمّد بن مسلم قال: «سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي من خرج عنه [منه ] لم يكن طائفاً؟ قال: كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يطوفون بالبيت والمقام، وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام والبيت، فكان الحدّ موضع المقام اليوم فمن جازه فليس بطائف، والحدّ قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلّها، فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد؛ لأنّه طاف في غير حدّ ولا طواف له» (2).


1- 1 الغنية: 172.
2- 2 الوسائل ج 13 كتاب الحج، أبواب الطواف باب 28 ح 1.

ص: 79

وتقريب الاستدلال بالرواية أنّ ظاهرها كون الطواف ما بين البيت وحيث هو المقام اليوم المسمّى فيها بالحدّ واجباً لا مفرّ منه، كلّ ما في الأمر أنّ المقام كان في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بقرب البيت حيث هو مقرّه الواقعي؛ لأنّ كلمة- مقام- مأخوذة لغةً من موضع قدم القائم- كما ذكره في الجواهر- فكأنّ إبراهيم عليه السلام كان يقوم عليه لبناء البيت أو لغير ذلك، وفي الأيّام اللّاحقة لعهد الرسالة- وعلى حدّ بعض النصوص كما سيأتي أنّه حصل في زمن عمر بن الخطّاب- تمّ جعله في موضعه الحالي حيث كان عليه قبل الإسلام وفق بعض النصوص الاخرى كما سنلاحظ.

وكيف كان فالرواية دالّة على الشرطية معتضدةً بعمل المشهور.

وقد يناقش في الرواية:

أوّلًا: أنّها ضعيفة من الناحية السنديّة وذلك من جهتين:

1- جهالة ياسين الضرير الوارد في سندها ومعه فلا يعتمد عليها (1).

2- الإضمار فإنّ محمّد بن مسلم لم يذكر اسم الشخص الذي روى عنه هذا الخبر، ومعه فلا يحرز أنّه الإمام عليه السلام فتسقط الرواية عن الاعتبار.

غير أنّه قد يرمّم هذا الخلل السندي بأمور هي:

أ- إنّ الشيخ الطوسي في الفهرست له سندٌ صحيح إلى جميع كتب وروايات حريز بن عبداللَّه السجستاني (2) والذي هو راوي هذا الحديث عن محمّد بن مسلم، ووفقاً لنظرية التعويض يمكن استبدال السند الذي يسبق حريزاً في هذه الرواية والذي اشتمل على ياسين الضرير بسند الشيخ الطوسي إلى حريز فتتمّ الرواية، وقد أشار إلى هذا الأمر الميرزا الأحمدي في تعليقته على رسالة المناسك (3).

ب- إنّ الإضمار من أجلّاء ومشاهير الأصحاب يورث الوثوق برجوع الضمير إلى الإمام عليه السلام؛ لأنّ الغالبية الساحقة من روايات أمثال محمّدبن مسلم إنّما هي عنه عليه السلام، ووفقاً لذلك فإنّ احتمال أن تكون هذه الرواية المضمرة عن غير


1- 1 يراجع معجم رجال الحديث للسيّد الخوئي 20: 11، وقد صرّح بضعف سند الحديث جملة من الفقهاء كالسيّد الخوئي في المعتمد وغيره، راجع المصادر المتقدّمة.
2- 2 والسند هو «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته الشيخ أبو عبداللَّه محمد بن محمد بن النعمان المفيد رحمه اللَّه تعالى عن جعفر بن محمد بن قولويه عن أبي القاسم جعفر بن محمد العلوي الموسوي عن ابن نهيك عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن حريز. وأخبرنا عدّة من أصحابنا عن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن سعد بن عبداللَّه وعبداللَّه بن جعفر ومحمد بن يحيى وأحمد بن إدريس وعلي بن موسى بن جعفر كلّهم عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد وعلي بن حديد وعبد الرحمن بن أبي نجران عن حمّاد بن عيسى الجهني عن حريز. وأخبرنا الحسين بن عبيداللَّه عن أبي محمد الحسن بن حمزة العلوي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد عن حريز. راجع الفهرست ص 118 باب الواحد رقم [249]- 1- ط مؤسسة نشر الفقاهة 1417 ه. 34.
3- 3 مصدر سابق: 210.

ص: 80

الإمام عليه السلام مع ندرة لو لم نقل انعدام رواياته عن غيره عليه السلام هو احتمال منعدم عملياً طبقاً لحساب الاحتمالات الرياضي، وهذا ما يجعلنا نحصّل الوثوق بكون المضمرة منقولة عن الإمام عليه السلام.

نعم، على تقدير العثور على مقدارٍ مهمّ من روايات الراوي المباشر عن غير الإمام عليه السلام فإنّ هذا يرفع من احتمال كون المضمرة عن غيره أيضاً وبالتالي يفقدنا الوثوق المذكور، وهذا يعني أنّ الأخذ بالرواية المضمرة لا يرتبط- كما ذكر جمع من المحقّقين- بجلالة ومقام الراوي بقدر ما يرتبط بحجم رواياته إلى جانب المقدار الذي أحرزنا أنّه رواه عن غير الإمام عليه السلام، لا سيّما بملاحظة أنّ الرواة- كما كبار المحدّثين لاحقاً كان يهمّهم العثور على أكبر قدر ممكن من روايات أهل البيت عليهم السلام سواء كان ذلك عن طريق المباشرة أو عن طريق راوٍ آخر لا سيّما إذا كان هو الآخر جليلًا ومتقدّماً.

كما أنّ افتراض (1) أنّ طبيعة الإضمار تتطلّب أن يكون صاحب الضمير معروفاً وبارزاً حتّى يصحّ الإضمار حسبما تقتضيه أدبيّات اللغة العربية، هو الآخر افتراضٌ يتجاهل الفارق التدويني الذي حصل بين مرحلة الرواة الأوائل وبين مرحلة الكتب والمجاميع الحديثيّة، التي اتّسمت كما هو معروف بالتقطيع، وفرز تلك الأحاديث المتلاحقة ووضع كلّ واحدٍ منها في بابه، وهذا يعني أنّ من الممكن جدّاً- ونفس قوّة الاحتمال كافية هنا- أن يكون الإضمار قد حصل نتيجة ذكر المسؤول في الرواية أو الروايات السابقة بحسب ترتيب الراوي المتقدّم، وبالتالي فلا نرى ما يوجب حصر تفسير ظاهرة الإضمار بمعروفيّة صاحب الضمير.

ج- إنّ الرواية منجبرة بعمل المشهور كما أشار إليه في الرياض (2) وجامع المدارك (3) ومستند الشيعة (4) والجواهر (5)، فإنّه لا يتوفّر هنا غير هذه الرواية مدركاً للحكم لاسيّما بعد ورود النصّ الصحيح السند بما يدلّ على عكسها وهو خبر الحلبي الآتي، فإنّ قولهم بما تقتضيه رواية ياسين الضرير وتركهم لمضمون رواية


1- 1 وقد ذكر هذا القول الاستاذ الشيخ باقر الإيرواني في «دروس تمهيدية في القواعد الرجالية» ص 212- 213، مع أنّه ذكر عقيب ذلك وتحت عنوان منشأ الإضمار: أنّ طبيعة الكتب السابقة- كما ذكرناه في المتن- تقتضي رجوع الضمير إلى مذكور في أوّل الكلام وليس إلّاالإمام عليه السلام وناقشه باحتمال غيره، والجمع بين أطراف كلامه حفظه اللَّه قد يواجه بعض المشاكل.
2- 2 مصدر سابق: 536.
3- 3 مصدر سابق: 495.
4- 4 مصدر سابق: 75.
5- 5 مصدر سابق: 296.

ص: 81

الحلبي بالرغم من الصحّة السندية للرواية الثانية وضعف الاولى، يمثّل شاهداً مهمّاً لتبرير تجاهل الضعف السندي الفنّي بجهالة ياسين الضرير وبالتالي ارتقاء هذا الخبر إلى مستوى الصحّة، إذ كيف اعتمدوا عليه وتركوا بسببه خبراً صحيحاً مع عدم اعتقادهم بصحّته؟!..

غير أنّ هذا الترميم قابل للمناقشة بما حاصله:

أ- إنّ المقدار المتّضح لنا من موقف الفقهاء المتقدّمين والمقاربين لزمن الشيخ الطوسي، والذين يؤثّر موقفهم أحياناً في الحكم على نصٍّ أو حديث، ليس مقداراً قابلًا للاعتماد عليه في جبر خبرٍ ضعيفٍ؛ لأنّ هؤلاء الفقهاء هم الشيخ الطوسي وابن حمزة وابن زهرة وابن البرّاج وابن مجد، في حين يقف في قبالهم ممّن لم يذكر هذا الشرط أصلًا في واجبات الطواف كلّ من السيّد المرتضى وسلّار وأبي الصلاح والصدوق، بل ما نقل عن ابن الجنيد أيضاً، بل جملة فقهاء من تلك الحقبة لم يظهر موقفهم من أمثال الشيخ المفيد (وهو لم يتعرّض لهذا الشرط في بحث الطواف في كتابه المقنعة) والصدوق الأوّل وابن أبي عقيل والجعفي والرضي وابن حمزة الجعفري والمفيد الثاني ولد الطوسي وغيرهم، هذا فضلًا عن عشرات أو مئات العلماء من الطبقة الثانية في تلك الفترة الزمنية.. ووفقاً لذلك كيف نقول: بأن شهرةً قد انعقدت وأثّرت في تصحيح سند وصدور روايةٍ ضعيفةٍ؟!

وهنا من الضروري الإشارة إلى نقطة كبرويّة تجري في مثل ما نحن فيه وهي ما هو المحقّق الموضوعي للمشهور؟ بمعنى أنّ الشهرة التي يجري الاعتماد عليها اليوم وقبل اليوم أيضاً هي شهرةٌ لم تضع في حساباتها سوى حوالى خمسين فقيهاً (1) من فقهاء الإمامية على امتداد حوالى اثني عشر أو أحد عشر قرناً من الزمن، وتجاهلت الكثير من المجتهدين الذين صنّفوا العديد من الكتب والرسائل والذين يُعثر في مؤلّفاتهم على كثير من الآراء الاخرى، بل إنّ المادّة التي اعتمد عليها المدّعون للشهرة هي أيضاً مادّة محدودة نسبيّاً يلاحظها المتتبّع من خلال ملاحقة


1- 1 وحتّى هذا الرقم منّا مبالغٌ فيه جدّاً لمن تتبّع الكتب الفقهية.

ص: 82

المصادر التي تداولها هذا الفقيه أو ذاك، فكتاب مفتاح الكرامة للسيّد العاملي رحمه الله والذي يصنّف كجهد موسوعي هامّ على مستوى الفقه الشيعي لم يعتمد أكثر من ثلاثين كتاباً مع قطع النظر عن الكتب التي اعتمد عليها في مواضع قليلة... في تقديري فإنّ جهداً موسوعيّاً للفقه الشيعي يراعي مساحة أكبر في الاستقصاء يمكنه أن يبدّل كثيراً من الرؤية الموجودة اليوم.

وعلى كلّ حال فهذا موضوع طويل ومستقلّ يكتفى له بهذه الإشارة.

ب- إنّه من غير الواضح ما هي مبرّرات التصحيح السندي عند المتقدّمين في موردنا، فلعلّهم صحّحوا خبر ياسين الضرير لقرائن لو توفّرت لنا لم نقتنع بإفادتها صحّة الخبر.

كما أنّه ليس من الضروري أن يكون اعتمادهم على هذا الخبر قد نشأ من وثاقة الراوي عندهم حتّى يُلزم بذلك من يلتزم بحجّية خبر الثقة دون الموثوق.

ج- إنّه من المحتمل أنّهم أخذوا بخبر ياسين الضرير بملاك الرشد في خلافهم، فلاح لنا أنّهم تجاهلوا صحيحة الحلبي بلا مبرّر ممّا ضاعف عندنا من القيمة الاحتمالية لصحّة خبر ياسين. كما يحتمل أنّهم رجّحوا خبر ياسين لاشتماله على قصّة نقل المقام المؤيّدة برواياتٍ اخرى عن أهل البيت عليهم السلام...

ثانياً: أنّ الرواية معارضة بخبرٍ صحيح السند وهو ما رواه محمّد بن علي الحلبي، قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الطواف خلف المقام قال: ما أحبّ ذلك وما أرى به بأساً فلا تفعله إلّاأن لا تجد منه بُدّاً» (1).

فإنّ هذه الرواية ظاهرة في كراهة تجاوز المقام في الطواف على أبعد تقدير وأنّ هذه الكراهة ساقطة في مورد الاضطرار، ولعلّ ابن الجنيد قد اعتمد عليها في الحكم بالتفصيل بين حالتي الضرورة وعدمها، لكن ظاهرها غير ذلك، بل هو سقوط الكراهة حال الاضطرار لا الشرطية؛ فإنّ صيغة النهي عن الفعل وإن وردت في كلام الإمام عليه السلام بقوله «فلا تفعله» إلّاأنّ صدر الرواية المصرّح بنفي


1- 1 الوسائل ج 13- الحج- أبواب الطواف- باب 28 ح 2.

ص: 83

البأس عن الطواف خارج المقام مع إبرازه عليه السلام عدم محبّته لهذا الفعل الظاهر من سياقه الترفّع وأفضلية الاجتناب يمثِّل قرينة مساعدة وجيّدة على عدم إرادة الحرمة من النهي المذكور فيها.

وبناءً على ذلك كلّه فإذا قبلنا بما يصحّح سند الرواية الأولى من التعويض أو الانجبار... حصلت المعارضة بين الروايتين، وبالتالي نحتاج إلى ما يحلّ التعارض في المقام، وأمّا إذا لم نقبل بتصحيح الرواية الاولى فتكون الرواية الثانية هي المحكّمة وبالتالي يلتزم بعدم الشرطية.

غير أنّ الرواية الثانية في حدّ نفسها قد سجّلت عليها ملاحظات- لابدّ من تجاوزها للوصول إلى مرحلة استحكام التعارض- أبرزها:

الملاحظة الاولى: ما ذكره المقدّس الأردبيلي رحمه الله من توقّفه في شأن أبان الوارد في الرواية بعد أن استظهر أنّه أبان بن عثمان حيث ذهب إلى عدم الأخذ بمفرداته (1).

غير أنّ هذه الملاحظة غير واضحة، فأبان بن عثمان من أصحاب الإجماع بنصّ الكشّي، وهو ثقة على أكثر من مبنى رجالي؛ فقد ورد في كامل الزيارات وتفسير القمّي وهو من كثيري الرواية، وروى عنه الأجلّاء أمثال ابن أبي عمير والحسن بن علي بن فضّال والحسن بن محبوب وحمّاد وهشام بن سالم والوشّاء ويونس وغيرهم، ولم يرد ما يقدح فيه سوى اتّهامه بأنّه كان ناووسياً واقفاً على الصادق عليه السلام واخرى بأنّه فطحي، والاختلاف المذهبي لا يضرّ بالوثاقة والأخذ بالرواية كما قرّر، نعم هناك رواية واحدة عن إبراهيم بن أبي البلّاد تقدح فيه رواها الكشّي، لكنّها لا تقف إزاء دعوى كونه من أصحاب الإجماع، فتوقّف الأردبيلي فيه غير واضح (2).

الملاحظة الثانية: ما ذكره الميرزا الأحمدي من أنّ الرواية مبتلاة بالتناقض الداخلي بين أجزائها، إذ كيف يمكن التوفيق بين نفي الحبّ الظاهر في الحرمة ونفي


1- 1 مجمع الفائدة والبرهان 7: 86- 87.
2- 2 يراجع في حال أبان بن عثمان معجم رجال الحديث 1: 157- 164.

ص: 84

البأس الظاهر في الجواز لاسيّما مع ضمّ النهي الآخر أيضاً (1).

غير أنّ التقريب للاستدلال بالرواية يرفع هذه الملاحظة إذ نفي الحبّ غير ظاهر في الحرمة، لا سيّما بعد إسناده إلى شخص الإمام عليه السلام ولم يقل: إنّه غير محبوب للَّه مثلًا، ومن الممكن أن يعبّر عن الأمر المكروه بأنّه غير محبوب لا أقلّ أنّ صيغةً كهذه تعدّ صيغةً طيّعة لتأثير قرينة اخرى فيها، وأمّا التنافي بين نفي البأس والنهي فإنّ العرف يفهم منه المرجوحيّة لاسيّما وأنّ دلالة النهي على الحرمة من حيث المبدإ هي دلالة ظهورية، وأمّا صيغة نفي البأس فإنّها تُعدّ ذات دلالة نصّية وصريحة فتكون صالحة للقرينية على المراد من النهي.

وبعبارة اخرى لو القيت هذه الجملة على العرف لم يجد فيها أيّ تناقض فنحن نقول: «لا أحبّ هذا الفعل لكنّه لا بأس به» كما نقول «لا مشكلة في هذا الفعل لكن لا تقم به» ونقصد مرجوحية هذا الفعل. ولعلّ هذا هو مراد المستشكل نفسه هنا من أنّها دالّة بمجموعها على الكراهة (2).

الملاحظة الثالثة: ما ذكره الأحمدي أيضاً تفريعاً على ما ورد في الملاحظة المتقدّمة من أنّ نفي الحبّ في الرواية يفيد الحرمة، أمّا نفي البأس فهو لا يتعرّض للناحية التكليفيّة، وإنّما غرضه الآثار والمتطلّبات الناجمة عن الفعل على تقديره من قبيل الكفّارة ونحوها لا سيّما وأنّ الحجّ ملي ء بذلك، ومعه فتكون الرواية من أدلّة الشرطية لا معارضة لها (3).

غير أنّ هذا الوجه لا يمثِّل سوى مجرّد احتمال لا يصل إلى حدّ الظهور ولا توجد قرينة مؤيّدة له، ومجرّد أنّ تعبير نفي البأس ورد أحياناً نادرةً للدلالة على ذلك، لا يعني أنّ المراد هنا هو ذلك أيضاً ما دمنا لا نشعر بتناقض داخلي في الرواية يفرض علينا مثل هذا التفسير كما تقدّم.

ووفقاً لما تقدّم يتبيّن أنّ الرواية الثانية تامّة دلالةً وسنداً، وبالتالي وطبقاً لتصحيح الرواية الاولى فنحن بحاجة إلى ما يحلّ هذه المنافاة كما تقدّم بإبراز جمع


1- 1 مصدر سابق: 219.
2- 2 م. ن.
3- 3 مصدر سابق: 216.

ص: 85

عرفي بينهما أو ترجيح واحدةٍ على الاخرى، أو غير ذلك على تقدير استقرار التعارض.

وحاصل ما يذكر في هذا المجال المحاولات التالية:

المحاولة الاولى: أن يجمع بينهما بحمل الاولى على صورة عدم الضرورة فيما تحمل الثانية على صورة الضرورة كما أشار إليه الشيخ الأحمدي (1) كاحتمال، وذلك أنّ خبر محمد بن مسلم المثبت للشرطيّة لم يرد فيه ذكر اسم الإمام عليه السلام فنحمله على أنّه الباقر عليه السلام حيث عاصره ابن مسلم، وفي تلك الفترة لم يكن هناك ازدحام شديد، وأمّا خبر الحلبي فهو عن الصادق عليه السلام وفي تلك الفترة كان هناك تزايد يؤدّي إلى ازدحام المطاف بالطائفين، بل إنّه يمكن الأخذ بهذه المحاولة للجمع حتّى على تقدير أن محمّد بن مسلم متقدّم زماناً عن الحلبي فيما الحلبي متأخّر حيث روى عن الإمام الكاظم عليه السلام، وهذا يعني أنّ ابن مسلم قد روى الرواية أو سمعها في الفترات الاولى من حياة الإمام الصادق عليه السلام فيما سمع الحلبي الرواية الثانية في الفترات الأخيرة، وحيث إنّ الفترة الاولى لم يكن فيها ازدحامٌ بخلاف الثانية، فإنّ الروايتين لا تتعارضان.

وهذه المحاولة من حيث الخلفية التي انطلقت منها جيّدة، لكنّها غير صحيحة ظاهراً؛ لأنّها تفتقر إلى إبراز إثباتٍ تاريخيٍّ يفيد أنّ فترة خمسين سنة تقريباً قد ظهر فيها تزايد سكّاني أو تحسّن اقتصادي ملحوظ أو نحو ذلك، أدّى إلى تغيّر أحوال الطواف وظهور ازدحام شديد لم يكن من قبل موجوداً إلّانادراً، وما لم نثبت ذلك يصبح هذا الجمع تبرّعياً، خصوصاً وأنّ الفترة ليست طويلة وأنّ الامم الاخرى كانت قد دخلت في الإسلام قبل ذلك بعشرات السنين، وشخصياً ليس لديّ رؤيةٌ واضحةٌ في حدود تتبّعي حول هذا الموضوع تاريخياً فلا أجزم بالعدم لكنّي أستبعده، وعدم الدليل عليه بحكم الدليل على العدم عملياً تقريباً.

وتجدر الإشارة إلى أنّه وبناءً على هذا القول يصبح الموقف الشرعي في


1- 1 مصدر سابق: 214.

ص: 86

المسألة هو التفصيل بين صورة الازدحام الشديد وعدمه؛ فتكون النتيجة عين المنقول عن ابن الجنيد أو قريبة منه.

المحاولة الثانية: ما يفهم من كلمات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي من أنّ الخبر الثاني- خبر الحلبي- مطروحٌ، وذلك للأخذ بخبر ابن مسلم نظراً لاشتهاره حيث لم يقل أحد بمضمون صحيحة الحلبي (1).

غير أنّ هذه المحاولة قابلةٌ للنظر؛ إذ لو اريد الشهرة الروائية فهي غير واضحة، فلكلٍّ من الروايتين طريقٌ واحدٌ، وقد ورد أمثال أبان والحلبي والصفّار وأيّوب بن نوح ومحمد بن أبي عُمير وصفوان بن يحيى وغيرهم، وهؤلاء أهمّ في عالم الرواية لو لُوحظ مجموعهم وقوبل بأمثال محمّد بن يحيى وابن عيسى ومحمّد ابن عيسى وحريز وابن مسلم، ولا أقلّ من أنّ هذه المقايسة ترفع احتمال الأشهرية، كما ترفع احتمال أن يكون خبر الحلبي شاذّاً ونادراً حيث أورده الصدوق فيما أورد الآخر الكليني ونقله عنه الطوسي، وأمّا لو اريد الشهرة الفتوائية المؤثّرة على الخبر ضعفاً وتوهيناً كما هو الظاهر من كلام العراقي، فقد تقدّم معنى ما يفيد أنّ مثل هذه الشهرة غير واضحة في المقام حتّى لو سلّمت الكبرى.

وعليه فالتعارض بين الروايتين ثابتٌ وتامّ، فلا محيص ظاهراً عن سقوطهما والرجوع إلى الأدلّة العامّة في باب الطواف، والتي أخذت عنوان الطواف بالبيت بمعناه العرفي الصادق على الطواف داخل مقام إبراهيم عليه السلام وخارجه.

والمتحصّل: أنّ هذه الشرطية لم يظهر دليل حجّة عليها ومقتضى الأصل عدمها، والاقتراب قدر الإمكان من البيت أفضل، لا سيّما وأنّ هناك جملة مستحبّات عند جدران الكعبة تقتضي الاقتراب شبه الدائم منها كمستحبّات الحجر الأسود والمستجار وغيرهما.

المحور الثاني: الطواف داخل المسجد الحرام

وهو ما يظهر التسالم عليه بين الشيعة إذا بنينا على انعقاد الإجماع على


1- 1 شرح تبصرة المتعلّمين 4: 115.

ص: 87

الشرطيّة المتقدّمة، بل إنّ بعضاً من الذين ذهبوا إلى نفي الشرطيّة قد صرّحوا بلزوم إيقاع الطواف داخل المسجد كما تقدّم فلا نعيد، أمّا على مستوى الفقه السنّي فقد تقدّم أيضاً التصريح بذلك بشكلٍ واضحٍ وإن لم يذهب هذا الفقه إلى الشرطية المتقدّمة عند الفقه الشيعي.

وعلى أيّ حالٍ فإنّ أهمّ ما يمكن ذكره كأدلّةٍ لهذا الشرط امور هي:

الوجه الأوّل: ما تقدّم ذكره عن ابن عابدين من أنّ الطواف خارج المسجد غير جائز؛ لأنّه طوافٌ بالمسجد لا بالبيت، وهذا معناه عدم تحقّق الطواف الواجب الذي هو الطواف بالبيت (1).

إلّا أنّه يمكن المناقشة بأنّ كون الطواف في هذه الصورة كائناً بالمسجد لا يُلغي في حدّ ذاته كونه حاصلًا بالنسبة إلى البيت أيضاً ما لم يمنع العرف عنه، ويمكن تصوّر عدم المنع العرفي في حالة هدم المسجد كلّياً والطواف في فلاةٍ، فإنّ العرف في هذه الحالة وإن كان يقبل كون هذا الطواف طوافاً بأرض البيت إلّاأنّه لا يمنع من صدق عنوان الطواف بالبيت عليه، لا سيّما لو بنينا على البيت القديم لا التوسعة الحاصلة عبر الأيّام، وهذا معناه أنّ الملاك في تحديد عنوان الطواف بالشي ء هو العرف، وحكم العرف قابلٌ للتغيّر هنا بتغيّر الحالات الطارئة.

والذي يبدو أنّ ابن عابدين كان ينظر إلى الموقف العرفي في الحالات الطبيعيّة، ولعلّه لو قدّمت له صورة اخرى غير الحالة المتعارفة لقبِل بها.

الوجه الثاني: ما ذكره الدكتور وهبة الزحيلي عن الشافعية من التمسّك بدليل الاتباع والتأسّي، وهو ما يمكن استنتاجه من كلمات ابن حزم الأندلسي من أنّ البعد- وهو يشمل ما نحن فيه- عملٌ بخلاف فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبالتالي فهو غير جائز، وقد تقدّمت كلماتهما آنفاً.

إلّا أنّ هذا الوجه قابل للتأمّل وذلك:

أوّلًا: أنّ الاقتراب من البيت هو مقتضى الأداء الطبيعي للطواف بالبيت


1- 1 مصدر سابق: 451.

ص: 88

المأمور به شرعاً؛ ولهذا فإنّ قيام المعصوم عليه السلام به لا يدلّل على خصوصيةٍ دينيّةٍ؛ وذلك لأنّ الفعل الذي توجد له مبرّرات طبيعيّة واضحة، يكون احتمال نشوئه من دوافع دينية بعيداً، أو لا أقلّ لا يصل إلى حدّ الاطمئنان والتأكّد كما هو مبحوثٌ في دراسات علم اصول الفقه، وهذا يعني أنّ ما نحن فيه لا يوجد ما يؤكّده بالمعنى المطروح في الاستدلال.

ثانياً: أنّ الاقتراب من البيت من أهمّ المستحبّات المعروفة بين المسلمين جميعاً، وهذا من شأنه أن يفسّر لنا السبب في تركيز الرسول صلى الله عليه و آله على الاقتراب من البيت، وبالتالي فلا يكشف لنا- وبدرجةٍ واضحةٍ- عن حكم وجوبيّ في كون الطواف داخل المسجد؛ لأنّه لا يتحدّث عن عنوانٍ كهذا، وبعبارة اخرى أنّ استحباب الاقتراب من البيت يكون استحباباً مؤكّداً ويمكنه أن يفسّر لنا السيرة التي كان يجري عليها الرسول صلى الله عليه و آله، وبالتالي فلا يكون تفسير هذه السيرة مختصّاً بالوجوب حتّى يكون التأسّي تأسّياً بأمرٍ واجبٍ كما هو المدّعى.

الوجه الثالث: ما أشار له ابن حزمٍ أيضاً من العبثية في الابتعاد عن البيت كما تقدّم (1).

وهذا الوجه يمكن الملاحظة عليه:

أوّلًا: أنّ الابتعاد عن البيت قد يكون لرغبةٍ في إطالة الطواف بغية المزيد من الفعل المحبوب لديه تعالى، أو لرغبةٍ في الإكثار من الذكر الممدوح حال الطواف، وهذا- وغيره- مبرّرٌ كافٍ لرفع العبثيّة المفترضة هنا.

ثانياً: أنّ كبرى حرمة الفعل العبثي غير ثابتةٍ، ولا دليل عليها. نعم، الاجتناب عن الأعمال العبثيّة هو الفعل العقلائي، إلّاأنّ الإلزام به- ودائماً أمرٌ لا دليل عليه شرعاً.

الوجه الرابع: رواية ياسين الضرير المتقدّمة، فهي صريحة في تشبيه الإمام عليه السلام الطواف خارج مقام إبراهيم عليه السلام بالطواف خارج المسجد، وكأنّها بذلك


1- 1 مصدر سابق: 181.

ص: 89

تشير إلى مفروغيّة عدم جواز الطواف خارج المسجد: نظراً لجعلها إيّاه في مقام المشبه به الأجلى عادةً في وجه الشبه- الذي هو عدم الجواز هنا- من المشبّه، وهذا معناه عدم إجزاء الطواف خارج المسجد الحرام.

لكن يجاب عنه:

أوّلًا: أنّ الرواية لم تذكر الطواف خارج المسجد، وإنّما قالت «بمنزلة من طاف بالمسجد» أي أنّها تشير إلى صورة أن يطوف الإنسان بالمسجد الظاهرة في وجود المسجد، وقد قلنا سابقاً: إنّ العرف يحكم في هذه الصورة بعدم صدق الطواف بالبيت فيها، الأمر الذي يوجب البطلان.

ثانياً: أنّه من غير الواضح كون تشبيه الإمام عليه السلام الطواف خارج المقام بالطواف خارج البيت على نحو الإشارة إلى كبرى شرعية في المشبّه به، فلعلّه إشارة إلى الارتكاز العرفي بعدم صحّة مثل هذا الطواف؛ نظراً لعدم صدق الطواف بالبيت عليه لا تعبّداً بحرمة هذا الطواف حتّى لو صدق عليه أنّه طواف بالبيت عرفاً، وهذا معناه أنّ الرواية لا تؤكّد مقولة أزيد من مرجعيّة العرف هنا حتّى تكون مفيدةً لمطلبٍ زائدٍ على الأدلّة العامّة في الطواف.

هذا وقد يستدلّ لإثبات المسألة بما تقدّم في المحور الأوّل وقد عرفت المناقشة فيه.

والمتحصّل أنّ الشريعة الإسلاميّة قد أمرت بالطواف بالبيت العتيق، وتحديد مصداق الطواف أمرٌ راجعٌ إلى العرف العام، وهو لا يحكم بشي ءٍ اسمه جغرافيا الطواف، وإنّما يرى أنّ القضية متحرّكة، والمهم على كلّ الأحوال صدق الطواف عرفاً كما ركّز عليه السيّد أبو القاسم الخوئي رحمه اللَّه تعالى (1).

تنبيهات

وفي نهاية هذا البحث لا بأس بذكر تنبيهات مختصرة:

التنبيه الأوّل: بناءً على ثبوت الشرطيّة المتقدّمة، فظاهر ما رواه ياسين


1- 1 مصدر سابق.

ص: 90

الضرير ثبوتها من تمام الجهات لقوله عليه السلام «من نواحي البيت كلّها» فلا يكفي وقوعه كذلك من طرف المقام دون بقيّة الأطراف.

وأمّا على الرأي الآخر النّافي لهذه الشرطية، فلا بأس أوقع الطواف كلّه من تمام النواحي بين البيت والمقام أو خارجه أو في بعض النواحي في تمام الأشواط أو في بعضها أو في أحدها، ما لم يخل بالصدق العرفي للطواف كما تقدّم.

التنبيه الثاني: أنّ المراد بالمقام هو نفس الصخرة أو العمود من الصخر الذي كان إبراهيم عليه السلام يصعد عليه عند بناء البيت، أو الذي صعد عليه عند أذانه للناس ودعوتهم للحج أو غير ذلك كما ذكرته بعض الروايات.

وتشير المصادر المتعدّدة أنّه توجد عليه آثار القدمين الشريفتين لإبراهيم الخليل عليه السلام، وأنّ ذلك كان من دلائل نبوّته أو كرامة له عليه السلام كما قد يقال.

ومن هنا فما يتعارف في الإطلاق العرفي للمقام من أنّه البناء المرفوع على نفس الصخرة ليس هو الحدّ، وذلك ترجيحاً للمعنى اللغوي على العرفي الطارئ، وقد أشار إلى ذلك الشهيد الثاني (1) والمحقّق العراقي (2) (رحمهما اللَّه تعالى).

التنبيه الثالث: قد ذكر لقصّة تحديد موضع المقام روايات تأريخيّة عديدة نشير إليها وهي (3):

الرواية الاولى: إنّ أهل الجاهلية ألصقوا المقام بالبيت خوفاً عليه من السيول وبقي إلى زمن عمر بن الخطّاب كذلك حتّى ردّه عمر إلى الموضع الذي كان عليه أيّام الخليل عليه السلام.

وناقش صاحب الجواهر هذه الرواية ببعد ترك الرسول صلى الله عليه و آله لذلك خصوصاً مع علمه بموضعه وعدم علم عمر به.

وليس هذا هو بحث هذه الوريقات غير أنّه يوجد تعليقان على مناقشة صاحب الجواهر قدس سره بغضّ النظر عن إعطاء جواب نهائي حول صحّة هذه الرواية التاريخية أو عدم صحّتها وهذان التعليقان هما:


1- 1 الروضة 2: 249، والمسالك 2: 334.
2- 2 شرح تبصرة المتعلّمين 4: 115، وصرّح به الشيخ محمّد إبراهيم الجنّاتي أيضاً في مجلّة ميقات الحجّ العدد: 6: 116 عام 1417 ه. ق.
3- 3 جواهر الكلام، مصدر سابق، ولم نتعرّض لتحقيق هذه الروايات لعدم دخولها في مورد بحثنا.

ص: 91

التعليق الأوّل: إنّ مسألة استبعاد علم عمر به غير واضحة إذ من الممكن جدّاً أنّه وبحكم كونه من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد سمع منه هذا الأمر والموضع الحقيقي للمقام، وليس من الضروري أن يكون علم عمر مجامعاً لعدم علم الرسول صلى الله عليه و آله.

التعليق الثاني: وأمّا مسألة استبعاد ترك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لذلك فهي أيضاً غير واضحة، لأنّه لنفرض أنّه كان على عهد الخليل عليه السلام في هذا الموقع وأنّ العرب قد أزالوه عن موقعه لكن لماذا يجب أن يعيده الرسول صلى الله عليه و آله؟! فمن المحتمل جدّاً أنّ طبيعة مكان المقام ليست بالقضية ذات الاهتمام ما دام في المسجد الحرام ويمثّل رمزاً للحادثة، كما أنّه لعلّ إبراهيم عليه السلام- خصوصاً على بعض روايات المقام- قد جعله في الموقع الفلاني لأمرٍ استلزمته الظروف لا لضرورة دينيّة بحيث لم تكن القضية ذات بُعد ديني مقدّس كما هو المفروض فيما وراء ذهن المستشكل، ومن هنا لم يرجعه رسول اللَّه بينما توهّم عمر بأنّه لابدّ من إرجاعه أو استحسن إعادته إلى موقعه الأوّلي، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى من الممكن أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان أيضاً يريد إرجاعه إلى مكانه الطبيعي لكن الظروف الموضوعية لم تكن لتسمح له بذلك ربما لانزعاج العرب أو... وهذا الاحتمال وإن لم يكن بالقريب جدّاً لكن تعدّد الاحتمالات يفي برفع استبعاد صاحب الجواهر رحمه الله.

الرواية الثانية: ما هو محكيّ في الجواهر عن ابن أبي مليكة من أنّ موضعه اليوم هو موضع زمن الجاهلية، غايته أنّ السيل أخذه أيّام عمر، ولمّا جاء إلى مكّة رأى أنّهم بعد السيل قد ألصقوه بالبيت فردّه إلى موضعه الحالي بعد أن سأل عنه منهم.

الرواية الثالثة: أنّ موضعه- كما نقله في الجواهر أيضاً عن ابن سراقة- أيّام الجاهلية كان على تسعة أذرع من البيت، ووسّعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى حدود عشرين ذراعاً حتّى لا ينقطع الطواف بالمصلّين خلفه، ثمّ أخذه السيل أيّام عمر ثمّ ردّه عمر

ص: 92

إلى موضع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو موضعه الحالي.

غير أنّ هذه الرواية تفتقر إلى تبرير الستّة أذرع والنصف التي هي الفارق بين الموضع الحالي والموضع المذكور في الرواية، لأنّ المقام اليوم يبعد ستّة وعشرين ذراعاً ونصف الذراع عن البيت، ولكنّه من الممكن أنّ تعبير «حدود عشرين ذراعاً»- لو كان وارداً في كلام ابن سراقة بهذا الشكل- أريد به ما لا ينافي فارق ستّة أذرع ونصف، كما لعلّه المحتمل بشهادة أنّه يبعد أن يكون قد تغيّر الموقع بين زمن ابن سراقة وزماننا.

الرواية الرابعة: ما ورد في بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام من أنّ موضعه أيّام الجاهلية كان كموضعه الآن، ثمّ ألصقه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالبيت، ثمّ ردّه عمر إلى موضعه الذي كان أيّام الجاهلية وبقي إلى يومنا هذا، ويؤيّد روح هذا المضمون خبر ياسين الضرير المتقدّم كما لاحظنا.

الهوامش:

من فلسفة الحجّ

ص: 96

من فلسفة الحجّ

لؤي الدليمي

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجّ (1)(2)

.

أتى ابن أبي العوجاء الإمام الصادق عليه السلام يوماً فجلس إليه في جماعة من نظرائه، ثمّ قال له: يا أبا عبداللَّه إنّ المجالس أمانات، ولابدّ لكلّ من كان به سعال أن يسعل، فتأذن لي في الكلام؟

فقال الصادق عليه السلام: تكلّم بما شئت.

فقال ابن أبي العوجاء:

«إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجَر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟

من فكّر في هذا أو قدّر؟ إنّ هذا فعلٌ أسّسه غير حكيم ولا ذي [ذو] نظر، فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسّه ونظامه».

فكان ممّا قاله الإمام الصادق جواباً عن هذا الهجوم الساخر وغير المهذّب:

«... وهذا بيت استعبَد به اللَّه خلقه؛ ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة المصلّين، وهو شعبة من رضوانه، وطريق يؤدّي إلى غفرانه...» (3).


1- 1 البقرة: 197.
2- 1 البقرة: 197.
3- 2 أمالي الصدوق 4: 493، التوحيد 4: 253.

ص: 97

أمّا فلسفة الإمام علي للحج و «الهرولة حول هذا البيت» فكانت أكثر إبلاغاً وأفصح إيجازاً وأجلى بياناً، وكان ممّا قاله- سلام اللَّه عليه- في هذا السياق:

«ألا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تُبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائف الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبال خشنة ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقرًى منقطعة، لا يزكو بها خفّ ولا حافر ولا ظلف، ثمّ أمر سبحانه آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزوا مناكبهم ذللًا، يهلّلون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووُصلةً إلى جنته».

بعدها يبيّن أمير المؤمنين السرّ وراء ذلك الاختيار الإلهي لهذا المكان المقفر وعدم اختياره لمكان مورق مشجر، فيقول- عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام-:

«ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام، بين جنّاتٍ وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البنى ، متّصل القرى ، بين بُرّة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق عامرة؛ لكان قد صغُر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء».

أي أنّ التكامل الإنساني يأتي عبر الاختبار الشديد والابتلاء الأشدّ، وفي مواطن التضحية والعطاء وليس في محطّات الترف والرخاء، فيواصل سلام اللَّه عليه تفسيره مستأنفاً:

«ولو كان الأساس المحمول عليها،

ص: 98

والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتلج الريب من الناس، ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بألوان المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله وأسباباً ذُللًا لعفوه..» (1).

ومن كلام لأمير المؤمنين وسيّد البلغاء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في فلسفة الحج قولٌ آخر، جاء فيه: (2) «وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلةً للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولُوه الحَمام، و جعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، و إذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علَماً، وللعائذين حرماً، فرضَ حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه:

وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين» (3).

ويبدو في هذا العرض الوصفي البليغ لأمير المؤمنين عليه السلام أنّ اللَّه تعالى جعل من بيته العتيق ملاذاً (يألَه) إليه المؤمنون، أي يلوذون به ويعكفون عليه، ولكن بأيّ شكل؟ ولوه الحمام الوديع والطيور الآمنة إلى أعشاشها، كما جعله سبحانه وِرداً يردُه عباد اللَّه الصادقون بتواضع وانكسار مُقرّين بعظمة ربّ البيت سمّاعين لدعوته مؤدّين فريضته يقفون مواقف الأنبياء في تلبية النداء، مؤدّين واجبات الزيارة إتماماً لمظهر العبودية وترسيخاً لمبدإ الولاية والطاعة، وإقراراً بوحدانية الحقّ واستجابة لنداء الخالق العظيم ومن كلّ الأرض وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق» (4).

الحج سياحة وعبادة

وفي كلمة أخرى له (سلام اللَّه عليه)


1- 1 نهج البلاغة: الخطبة 192.
2- 2 نهج البلاغة- الخطبة الأولى .
3- 3 آل عمران: 97.
4- 4 الحج: 27.

ص: 99

وإضافة إلى ما أشار إليه في هذه الخطبة من أنّ الحج متجر عبادة وحرز أرباح حلال، يقول أمير المؤمنين:

«... وحجّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرْحَضان الذنب» (1)ويرحَض هنا، بمعنى يمنع أو يغسل. أي أنّ هذه الفريضة العبادية وفضلًا عمّا فيها من طلب رزق حلال وتجارة كريمة، ترفع غائلة الفقر وذلّ الحاجة، فإنّه موسم عبادي لانعتاق الروح وغسل الذنوب والتقرّب إلى اللَّه سبحانه وتعالى في أيّام معلومات يسمّيها (أيّام اللَّه) يلتقي فيه أبناء الشرق أبناء الغرب يتدارسون همومهم ويعيشون آمالهم وتطلّعاتهم، وفي أجواء عبادة وتسامي نحو الملكوت في بيتٍ أذن اللَّه تعالى أن يُذكر فيها اسمه، وبعيداً عن كلّ ألوان الوصاية الدنيوية والرقابة الأرضية التي يفرضها الطواغيت والظالمون على أممهم وشعوبهم..

ففي كتاب له عليه السلام إلى عامله على مكّة (قثم بن العبّاس) جاء فيه:

«أمّا بعد... فأقم للناس الحجّ وذكّرهم بأيّام اللَّه، واجلس لهم العصرين، فأفتِ المستفتي، وعلّم الجاهل، وذكّر العالم، ولا يكن إلى الناس سفيرٌ إلّالسانك، ولا حاجبٌ إلّا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها..» (2).

ويُسمّي أمير المؤمنين هنا أيّام الحجّ بأنّها أيّام اللَّه وهي الأيام التي يُعاقب فيها المذنبون بذنوبهم ويجازى الصالحون المؤمنون على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. وكأن أيّام الحجّ هذه هي أيّام اختبار وتمحيص ينكشف فيها من يلبّي داعي اللَّه لحجّ بيته، ومن ينكفئ غير عابئ بنداء السماء، فضلًا عمّا فيها من عروج في معاني القيم والفضائل وابتعاد عن اللغو والجدل والفسوق واللهو التي تكتنف أيّام الإنسان الأخرى حين يكون مشدوداً إلى أعماله اليومية بعيداً عن استحضار هذه القيم والمعاني التي يمكن استحضارها في لقاء الإنسان لأخيه الإنسان في أيّامٍ حرام وبيت حرام ومشعر حرام ولا يُذكر فيها غير اللَّه ولا تُستحضر غير رحمته ولطفه وعنايته، فالكلّ مشدود نحوه وبكلّ


1- 1 نهج البلاغة: الخطبة 110.
2- 2 نهج البلاغة: الكتاب 67 إلى قثم بن العبّاس.

ص: 100

الألسن واللهجات واللغات والكلّ يلهجون بذكر اللَّه ويتّجهون نحو قبلته وهم موحِّدون متّحدون وتحت شعار خالد واحد يهتف به الجميع مردّدين:

«لبّيك اللّهم لبّيك.. لبّيك لا شريك لك لبّيك.. إنّ الحمد والنعمة لك والمُلك لا شريك لك).

البُعد المفهومي للحجّ:

وحين يأتي الإمام علي عليه السلام ليشرح البُعد المفهومي للحجّ، وعند مقارنته مع الفرائض والعبادات الأخرى في دين الإسلام، يعطيه معنى خاصاً، ويفرد له مذاقاً خاصّاً فيقول (سلام اللَّه عليه):

«فرضَ اللَّه الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكِبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخَلق، والحجّ تقربةً للدين، والجهاد عزّاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء....» (1).

فالحجّ اذن، تقربة للدين كما هو علم للإسلام، وهي التفاتة سياسية دقيقة، بالمعنى الديني للسياسة طبعاً. أي أنّه وسيلة كسب واحتواء ومحطة تعبئة واستيعاب لمن يُراد لهم الاقتراب من الدين والدعوة له والترويج إليه.. فهو من ناحية الفرد نفسه يكون تقربةً لدينه، كماأنّ الزكاةتكون تسبيباً للرزق، والصلاة تنزيهاً عن الكبر. وهو من ناحية الجماعة المسلمة يكون تقريباً أيضاً وتعارفاً وتآلفاً وتحابباً يشدّ من عضد الجماعة، ويُشعرها بانتمائها لتحقيق أهدافٍ كبرى أومواجهة أزمة شاملة أو عدو مشترك. أي أنّ الحج وبهذا المؤتمر العالمي والحشد المليوني الهائل ومن كلّ أقطار العالم الإسلامي يمكن أن يكون مثابة انطلاق كبرى لإعزاز الدين والتقرّب إلى اللَّه أكثر، وفي أقلّ التقادير الاعتزاز بهذا الانتماء الكريم لدين اللَّه والتعرّف على أبناء الدين الواحد وفي هذه الأيّام الخالدة وانطلاقاً من قوله تعالى:

يا أيّها الذين آمنوا إنّا خلقناكم من ذكرٍ وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم (2).

إشارة استيعاب لافتة:

وفي إشارة دقيقة أخرى ، ومن بُعدٍ


1- 1 نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين- 252.
2- 2 الحجرات: 13.

ص: 101

آخر، وفي كلمة وصفية، يعالج الإمام علي عليه السلام الضعفاء من المسلمين ويُداريهم مداراة نفسية غاية في الدقّة، فيلمس جُرحهم ويلتمس لضعفهم عذراً، ويترك الباب مفتوحاً، لمن يرى نفسه مؤهّلًا يوماً ما لخطوة متقدّمة في الجهاد مثلًا فيقول- سلام اللَّه عليه-:

«والصلاة قربان كلّ تقي، والحجّ جهاد كلّ ضعيف» (1).

أي أنّه- سلام اللَّه عليه- يريد أن يستوعب الفقير الذي لا مال لديه يتقرّب به إلى اللَّه، فيجعل الصلاة بديلًا لهذا القربان أو عوضاً لمن لا يستطيع أو لا يملك مالًا يبذله في سبيل اللَّه أو ينفقه على عيال اللَّه. ويستوعب الضعيف كذلك الذي لا يقوى على الجهاد فجعل له الحجّ جهداً أو جهاداً يبذله مقابل الجهاد الذي ينوء بأدائه لضعفه أو استضعافه.

وفي هذا لمسة نفسية أو حالة تربوية لمن يُريد أن يحتفظ به في دائرة العطاء الصغرى تمهيداً للدائرة الأوسع التي فيها بذل وتضحية بالأموال والأنفس، وهي الدرجة التي امتدحها القرآن الكريم وأثنى على رجالها في قوله عزّ من قائل:

الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند اللَّه (2).

الحجّ دين ودنيا

ومن تلمّس هذه الإشارات في أقوال وحِكَم الإمام علي عليه السلام ودراستها والتأمّل فيها نرى أنّ الحجّ سياحة وجهاد، تجارة وعبادة، ترويح وعمل، وبه ومن خلاله يمكن تعبئة الفرد المسلم روحياً وتحشيد المسلمين في مؤتمر عبادي جهادي تجاري قلّما يتوفّر مثله لدين أو مذهب أو أتباع دين... ومن هذا الملتقى المليوني الذي يفرضه الدين الإسلامي على أتباعه تتحقّق أغراض عديدة يلتقي بعضها مع أحدث ما توصّل إليه علم النفس المعاصر في ضرورة ترويح النفس عبر السفر والسياحة وما فيها من تجربة مضافة وعلم مضاف ومستأنف، وهذا ما تسعى لتطبيقه العديد من الدول المعاصرة حين تفرض على رعاياها أو تمنحهم منحة سنوية تحت هذا العنوان، أي أنّها تحرّضهم على السفر والعودة


1- 1 نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين- 136.
2- 2 التوبة: 20.

ص: 102

بنفَسٍ جديد وطاقة جديدة لاستئناف العمل ومواصلة الكفاح مع الحياة.

وحين يأتي الحجّ تحت هذا العنوان فإنّه يجمع الدين والدنيا معاً، ويجمع العلم المضاف والتجربة المضافة مع الربح والتجارة، وحيث يعود الإنسان المسلم من موسم حجّه وهو مغفور الذنب نظيف الثوب مقبول التوب، معافىً نفسياً وروحياً، يستقبله أصدقاؤه وأحبّاؤه بعبارة معروفة:

«حجّاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً» ليبدأ رحلة كدح جديدة مع الحياة بروح سامية، غسلت أدرانها مشاهد ومواقف خالدة تذكّر فيها مواقف عظماء الإسلام وهم يطوفون حول البيت العتيق ليحملوا رسالة السماء إلى أهل الأرض وعبر تضحيات جسام ما كانوا لينالوا كلّ هذا الخلود لولاها...

استحضار القيم والمواقف

فكم هو رائع وبهي أن يستحضر «الحاجّ» مواقف النبي صلى الله عليه و آله وأصحابه وهم ينشرون الأخوّة والعدل والمساواة بين بني البشر بتلك التضحيات الغالية! وكم هو عجيب وغريب مثلًا أن يُمنح النبي صلى الله عليه و آله ذكراً حسناً ومجداً خالداً حيث لا تمرّ دقيقة واحدة في شرق الأرض وغريها إلّاويذكر فيها اسمه من مآذن المسلمين وعلى حساب المواقيت ومواعيد الصلاة وعلى امتداد ساعات الليل والنهار... وهكذا تستحضر مواقف أصحابه وجهودهم وجهادهم وهم ينتقلون بين مكّة والمدينة، وبين العراق والشام، وبين اشبيليا والصين وأفريقيا وأسبانيا، ومن أين؟ من غار حراء، من عرفات ومنى ، ومن يثرب والمسجد النبوي ومن شعاب مكّة وغار جبل ثور ومعارك المسلمين في أحُد وبدر وحنين.

وحين يستحضر الحاج كلّ تلك المشاهد والمواقف، وحيث يضع قدمه في موضع ربّما وطأه يوماً عدد من الصحابة الأجلاء، فإنّه يستحضر أوّل ما يستحضر مواقف عليّ وشجاعته وسيفه في معارك المسلمين ودوره الحاسم في انتصار الإسلام وانتشار دين اللَّه في الأرضين...

ولعلّ أفصح ما يستحضره الحاج في

ص: 103

أيّام اللَّه تلك هي حجّة الوداع التي ودّع فيها النبي امّته مشيراً أنّه ربما لا يلقاهم بعد عامهم هذا وكيف أنّه صلى الله عليه و آله أوصى بما أوصاه في علي عليه السلام وأقواله الخالدة فيه:

«من كنت مولاه فهذا علي مولاه...

اللّهم وال من والاه، وانصر من نصره، واخذل من خذله...» وكيف أنّ المسلمين بآلافهم المؤلّفة يصغون ويسمعون حتى راح بعضهم يهنئون عليّاً ويقولون له: بخّ لك ياعلي: لقد أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.. (1)، وكيف أعقب هذا الحديث الكبير نزول الوحي بقوله عزّ من قائل:

.. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. (2)

، وكيف أنّ عمر ابن الخطّاب نفسه لقي عليّاً وقال له:

«هنيئاً أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» (3).

وهكذا في مشاهد وأعمال الحجّ وحيث الطواف حول الكعبة، ومقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة واستحضار التاريخ ومواقف الأنبياء والأئمّة في عرفات وفي غيرها.

الهدف الأكبر بين الشكل والمحتوى :

ولعلّنا نأتي إلى ذروة ما أراده اللَّه سبحانه وتعالى في جعل الحجّ فريضةً على كلّ مسلم ومسلمة، في قوله عزّوجلّ:

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (4)

.

أمّا ذروة ما وصل إليه الإمام علي عليه السلام من توصيفه للحج وفلسفته فهو حين جعله «علماً للإسلام» و «تقربةً للدين» و «جهاداً للضعيف» ولم يُفته أن يوصي به عند وفاته قائلًا: «اللَّه اللَّه في بيتِ ربّكم، لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إنْ تُرك لم تناظروا» (5).


1- 1 الحديث مشهور وترويه كلّ كتب المسلمين بجميع فرقهم وطوائفهم. راجع: مسند أحمد بن حنبل 4: 381، 368 دار صادر. وتفسير ابن كثير 1: 22. وسنن ابن ماجه المقدمة: 1، باب 11، وراجع البداية والنهاية لابن كثير أيضاً بعدّة طرق 7: 360- 361.
2- 2 المائدة: 3.
3- 3 مسند الإمام أحمد بن حنبل 4: 281، وقد أشهد عليٌّ جمعاً من الناس، فشهد له ثلاثون أنّهم سمعوا هذا الحديث من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.
4- 4 الحج: 28- 30.
5- 5 نهج البلاغة: الكتاب 47.

ص: 104

ولم يكن الأئمّة عليهم السلام ليتركوا هذه الفريضة في إطارها الشكلي فقط، بل حرّكوا مضمونها ومقاصدها، إذ قال الإمام الصادق عليه السلام: «الحجّ حجّان:

حجّ للَّه وحجّ للناس، فمن حجَّ للَّه كان ثوابه على اللَّه الجنّة، ومن حجَّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة» (1).

أمّا الإمام الباقر عليه السلام فقد كان أكثر جرأة على أولئك الذين يكتفون بالشكل وينسون المحتوى ، أو يهتمون بالإطار ويتجاهلون المضمون، فقال سلام اللَّه عليه:

«لئن أعول أهل بيتٍ من المسلمين وأشبع جوعتهم وأكسو عُريهم وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة حتى انتهى إلى عشرة ومثلها ومثلها حتى انتهى إلى سبعين» (2).

وعن عبد الرحمن بن كثير قال:

حججتُ مع أبي عبداللَّه عليه السلام، فلمّا صرنا في بعض الطريق، صعد على جبل فأشرف فنظر إلى الناس فقال: ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج (3)!

وهكذا فصلَ أئمّتنا عليهم السلام بين الحج كهدف والحج كوسيلة، وكيف جعل بعضهم إغاثة ملهوف أفضل من الطواف حول الكعبة مثلًا، وجعلوا حرمة المؤمن أفضل من حرمة الكعبة، بل ترك إمامنا سيّد الشهداء الحسين عليه السلام الحجّ حين عزم على الرحيل إلى كربلاء لطلب الإصلاح في أمّة جدّه بعد أنْ شعر أنّ حدود اللَّه قد ديست وأنّ حرمات المؤمنين قد انتُهكت فقال قولته الشهيرة: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول اللَّه، لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر» وخاصة بعد أن شخّص- سلام اللَّه عليه- تجاوز الدعيّ حدود اللَّه، فأضاف:

«اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان ولا التماساً لفضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبيدك ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك».

وهذا ما يريده المصلحون على امتداد العهود والأزمان، بل ما أراده اللَّه


1- 1 ثواب الأعمال 16: 74.
2- 2 ثواب الأعمال: 170.
3- 3 بحار الأنوار للمجلسي 30: 181، 27.

ص: 105

تعالى في فرضه لبعض الشعائر والتعاليم والسنن، فكما أنّ القرآن مثلًا لم ينزل لكي يتمّ التبرّك به ويقرأ في المقابر وحدها وعلى الموتى وفي المحافل فقط، وإنّما للعمل به وتطبيق سننه وأحكامه، فإنّ الحجّ وزيارة البيت الحرام هو الآخر لم يُفرض لاستحصال الثواب وحسب وإنّما للتعبير عن الطاعة لربّ البيت والرفق بعبيد هذا الربّ واللطف بهم والإحسان إليهم، وذلك عبر إشباع حاجاتهم وإغاثة ملهوفهم وحفظ حرمات المستضعفين منهم.

الهوامش:

الارثُ العظيم

ص: 107

الإرثُ العظيم

محسن الأسدي

إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما ومَن تطوّع خيراً فإنّ اللَّه شاكر عليم سورة البقرة: 158

انطلق نبيّ اللَّه إبراهيم عليه السلام بأهله، يقطع الفيافي ويجوب البوادي في رحلة إيمانية ربّانية، لا ينتابه شكّ، ولا يخامره تردّد، بل طاعة خالصة لا شبهة فيها ولا ريب، وهو يصوّب ناظريه، إلى حيث تأمره السماء التي ما انفكت إرادتها ترافقه في سفره هذا، وكلّما لاحت لإبراهيم الزوج الكريم والأب الحنون بين تلال تلك الوديان واحةٌ تحيطها شجيرات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، أو لمح بقعة يحفّها زرع ويظلّلها نخيل إلّاوتمنّى أن تكون هي المكان الذي اختارته السماء مأوًى لأهله ولذرّيته من بعدهم.

إنّها مجرّد أمانٍ لا غير، وخواطر تخطر على قلب أبٍ مملوء رحمةً وحناناً، وهو أمر بشري وحالة طبيعية لم يتخلّ عنها الأنبياء مع منزلتهم السامية وشأنهم العظيم.. لا يتنافى هذا مع تسليمه وانقياده إلى خالقه وبارئه تعالى.

بيدَ أنّ وحي السماء راح يحدو بهذا الشيخ الكبير وبمن معه (زوجته هاجر

ص: 108

وابنه الرضيع إسماعيل) فأمامه شوط بعيد، في وديانٍ جدباء، وصحارى ملتهبة، ونظرات النبيّ إبراهيم توزّعت هنا وهناك؛ يرمق السماء ببعضها مبتهلًا داعياً فيما يحنو ببعضها الآخر على ولده الوحيد يومذاك، وزوجته المطيعة الأمينة التي اختارتها السماء لوظيفة عظيمة،... هي الاخرى ظلّت عيونها تارةً تحلّق بعيداً في هذه الفيافي القاحلة، وتارةً اخرى تذرف دموعها خوفاً على رضيعها الذي وقع اختيار السماء عليه أيضاً لدور آخر لا يقلّ عظمةً عن دور امّه، فراحت تستنزل بعبرتها وبرقّتها المعروفة وعواطفها الجيّاشة رحمة اللَّه...

ظلّ الثلاثة يواكبهم جبرايل ما إن يجتازوا هضبةً وعرة إلّالينحدروا في اخرى، وما إن يعبروا وادياً جديباً حتّى يهبطوا آخر أكثر منه جفافاً وجدباً... في أرض نائية لا زرع فيها ولا ظِلال... حتّى هبطوا البطحاء... إنّها بطحاء مكّة، حيث محطّ رحالهم..

إذن ماذا يُريد هذا الشيخ بأهله في هذه الصحارى وبين هذه الجبال؟ بل ماذا يُراد به وبأهله..؟

ونجد جواب ذلك في قول إبراهيم الخليل حيث همَّ بالرجوع من حيث أتى، وقد ترك زوجته وابنه مع زاد يسير وماء قليل عند بيتك المحرم.

نظرت إليه زوجته وقد رأته يهمّ بالعودة إلى الشام دونهما، فقالت:

يا إبراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيسٌ ولا ماءٌ ولا زرعٌ؟! إلى أين تذهب؟ ولمن تتركنا في هذا الوادي الموحش المقفر؟ وراحت تستعطفه، فأبان لها وقد رقّ قلبه ودمعت عيناه.. اللَّه الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم.

فما كان لها بعد أن وعت قوله إلّاالانقياد لحكم اللَّه والتسليم له، والركون لرحمته، وهي تردّد «لن يضيّعنا اللَّه»، فيما راح دعاء إبراهيم في وادي مكّة يتردّد صداه في سفوحها ووديانها وجبالها...

ص: 109

ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربَّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدةً من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون (1)

.

ليقيموا الصلاة

كلّ هذه الرحلة الشاقّة والمريرة والمحفوفة بالمخاطر من أجل هذا الهدف العظيم بكلّ ما يحمله من معانٍ سامية ويضمّه من مفاهيم عظيمة... نعم ليقيموا الصلاة بكلّ ما تحمله من معانٍ جميلة وأهداف جليلة.. لا في أيّ مكان، إنّما في هذه البقعة المباركة.. حيث القلوب التي تهوي وحيث الرزق الوفير.. وحيث الطمأنينة والأمان... وحيث البيت الطاهر، وحيث الطائفون والراكعون والساجدون... إنّه المكان الذي تظلّله السماء برحمتها وتنزل عليه بركاتها.. لتقام الصلاة كما تريدها السماء شكلًا ومضموناً.. لتنطلق إلى كلّ بقاع الدنيا وفجاجها..

*** عاد إبراهيم، وبدأت رحلة اخرى لهاجر لا تقلّ مشقّةً ومخاطر عن الرحلة الاولى، إن لم تكن أكثر خطورة منها وأعظم، حيث لا وحي ولا نبيّ يرافقها، إنّما لتبدأ حياتها وقد ارتدت لباس التقوى وتحلّت بالصبر الجميل، وحيدةً بجوار بيت اللَّه الحرام ولتتمّ رسالتها ووظيفتها، فقد تكفّلت رعاية نبي آخر، تدفع عنه الأذى ، وترعاه رضيعاً ويافعاً.. فمكثت ترعى وليدها وتأكل ممّا تركه لها إبراهيم عليه السلام حتى نفد ماؤها وقلّ زادها.. وجفّ ضرعها.. فعلا صراخ طفلها.

قامت تبحث عن منقذٍ في بطن وادٍ مخيف، تصوّب نظراتها إلى هذه الجبال الشاهقة وإلى تلك التلال البعيدة.. فهنا جبل أبي قبيس حيث الصخور الملساء، يقابله جبل قعيقعان حيث الحجارة الرخوة.. وهي في وادٍ لا حياة فيه إلّا لشجيرات عجفاء متناثرة هنا وهناك.. إنّها الصحراء.. ذات الشمس المحرقة واللهب اللافح.. تعيش حاضراً حزيناً وغداً غامضاً بهيماً.. لتخلد في ذاكرة


1- 1 سورة إبراهيم: 37.

ص: 110

التاريخ.. وتعيشها النفوس ذكرًى عظيمةً عبر شعيرة مقدّسة..

إذن هنا ابتلاء آخر لها في بطحاء مكّة.. فقد بدأ العطش يأخذ أثره ويحزّ في كبدها وكبد رضيعها.. الذي راح يلوك بلسانه باحثاً عن قطرة ماءٍ في فضاء فمه المتيبِّس.. فعلا بكاؤه وطال نحيبه.. فما كان من امّه التي اضطربت لمنظر ابنها.. إلّا أن تبحث له عن شربة ماءٍ تنقذ بها حياته.. اندفعت هنا وهناك تعلو صخرة وتهبط اخرى، وإذا بها بين جبلين ووادٍ يربط بينهما، فارتفعت فوق صخرات الصفا لتنظر بعيداً فترى سراباً تخيلته لجّةً فأسرعت إليها، فإذا هي بجبل لم تجد عنده شيئاً إلّا الأحجار.. فأدارت بوجهها من حيث جاءت متطلّعةً إلى الوادي الآخر الذي اجتازته.. فبعُد عنها مكان ابنها ولم تعد تراه، وإذا بها تجد شيئاً آخر عند بداية انطلاقتها الاولى إنّه ماء فعادت مسرعةً إليه.. لتغترف منه غرفةً تسعف بها غليل وليدها، وقد راح كلّ منهما يستغيث.. ولمّا لم تجد عنده شيئاً علت ملامحها خيبة وانكسار، نظرت إلى خلفها فوجدت هناك سراباً حسبته ماءً.. وهكذا حتّى أكملت بعملها هذا سبعة أشواط ذهاباً وإياباً؛ لتنتهي في شوطها السابع عند المروة..

تقول الرواية:... لما نفد الماء.. صعدت الصفا تستغيث بمن يأتيها بالماء، ثمّ سعت منه إلى المروة، ثمّ عادت إلى الصفا تستغيث سبع مرّات حتّى أغاثها جبريل بنبع الماء بجوار إسماعيل عليه السلام.. (1).

نظرت هناك إلى ابنها الذي علا صراخه وراح يضرب الأرض باحثاً عن قطرة ماء.. عادت إليه تعبة خائرة القوى.. قضت سبعة أشواط بين سرابين دون أن تحصل على قطرة ماء له.. هنا كانت المفاجأة، فقد وجدت إسماعيل يلهو ويلعب بماءٍ نبعَ من تحت قدميه وهي لاتصدّق ما تراه.. إنّها الرحمة الإلهية نزلت بعد أن امتحنها اللَّه تعالى، فما زادها هذا الامتحان إلّاصبراً وتحمّلًا وإيماناً.. وهي نفسها حكمة السعي والطواف بين هذين الجبلين لجوء المؤمن إلى ربّه والسعي نحوه


1- 1 الشارح الجامع للُاصول 2: 134.

ص: 111

والهرولة بين يديه المباركتين متوكّلًا عليه تائباً لائذاً به متوسلًا سائلًا ما ينجيه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة..

هاهي امنية إبراهيم تتحقّق، وها هو الماء الذي ستهوي إليه الأفئدة.. وها هو المكان الذي سيكون منبعَ خير وعطاء ورحمة للعالمين.

فحقّقت سيدتنا هذه شعيرة كانت ولا زالت من شعائر اللَّه تعالى، وأصبح سعيها بين هذين الجبلين منسكاً عظيماً من مناسك فريضة الحجّ التي أوجبها اللَّه تعالى على عباده المؤمنين، واحتلّت بذلك مكاناً مرموقاً في التشريع الإسلامي، وغدا ذا دلالات كبيرة ومعانٍ جمة، فراح الحجيج بمجموعهم يحذون حذوها، يسعون سعيها، يتذكّرون معاناة هذه المرأة التي دخلت التاريخ الإنساني والديني، وهي تعلو تلك الصخور الجرداء الملساء وتشقّ صعاب ذلك الوادي الأجرد الخالي من كلّ مقوّمات الحياة، في لفحة شمسٍ شديدة ورمالٍ ملتهبة وجوًى يلمّ بقلبها على وليدها الذي تركته غير بعيد، يعتصر قلبه عطش مرير، وهو في رمقه الأخير..

لم تكن تعلم أنّ جهدها هذا ومعاناتها وتعبها وقلقها وخوفها سيكون يوماً منسكاً يُتعبّد به في عبادة يهفو لها جميع المسلمين من كلّ فجٍّ عميق وواجباً وركناً ينهدم به الحجّ إن لم يؤتَ به..

فليس هناك ريب في أنّ السعي الذي سعته هاجر بين جبلي الصفا والمروة بأشواطه السبعة منسك من مناسك فريضة الحجّ عند جميع المسلمين وواجب من واجباتها وركن من أركانها التي هي: (النيّة، الإحرام، الوقوف بعرفة، الوقوف بالمشعر، الطواف، السعي) يبطل الحجّ بترك واحد منها، وهو ركن أيضاً في العمرة سواء أكانت عمرة التمتّع بالحجّ، أو في العمرة المفردة، ويشكّل واحداً من أركانهما الأربعة (النيّة، الإحرام، الطواف، السعي)، يبطل الحجّ وتبطل العمرتان المذكورتان بالترك العمدي لأيّ من هذه الأركان بما فيها السعي الذي نحن بصدده.

ص: 112

وهناك تفصيل خاصّ في الوقوفين يذكره الفقهاء ليس هذا محلّه...

حقّاً؛ إنّه إرث مبارك أورثته لنا هذه المرأة الصالحة المؤمنة باللَّه تعالى الوفية لزوجها نبي اللَّه إبراهيم، المتفانية في رعاية وليدها..

حقّاً؛ إنّه دورٌ عظيم وإرث مبارك صاغته يد الغيب، وحظيت هاجر؛ النموذج النسائي الرائع والمرأة المؤمنة والزوجة الصالحة والامّ المتفانية، التي عرفت بكمال انقطاعها إلى اللَّه تعالى، بأن تكون بطلة هذا الدور، وصاحبة هذا الإرث.

ورحم اللَّه حبر الامّة ابن عبّاس، وقد رأى قوماً يطوفون بين الصفا والمروة فقال:

هذا ما أورثتكم أُمُّكم امّ إسماعيل.

مع رواية ابن عبّاس

... ثمّ جاء بها (هاجر) إبراهيمُ وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتّى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكّة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جِراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثمّ قفى إبراهيم منطلقاً فتبعته امّ إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شي ء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: اللَّه أمرك بهذا؟ قال: نعم.

قالت: إذاً لا يُضيّعنا.

ثمّ رجعت، فانطلق إبراهيم حتّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: ربّ إنّي أسكنتُ من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع حتّى بلغ يشكرون وجعلت امّ إسماعيل تُرضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتّى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوّى- أو قال: يَتَلبَّط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها (إليها)، فقامت عليه، ثمّ استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً،

ص: 113

فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتّى إذا بلغت الوادي، رفعت طرف دِرعها، ثمّ سعت سعي الإنسان المجهود، ثمّ جاوزت الوادي، ثمّ أتت المروة فقامت عليه، فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً، ففعلت ذلك سبع مرّات.

قال ابن عبّاس: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «فذلك سعي الناس بينهما».

فلمّا أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت: صهٍ! تريد نفسها، ثمّ تسمّعت فسمعت أيضاً فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث (من الإغاثة وهي الإعانة)! فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحث بعقبه- أو قال بجناحه- حتّى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا (وهو حكاية فعلها وهو من إطلاق القول على الفعل) وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف.

قال ابن عبّاس: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «يرحم اللَّه امّ إسماعيل! لو تركت (زمزم)- أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانت زمزم عيناً معيناً».

قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإنّ هاهنا بيت اللَّه يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإنّ اللَّه لا يضيّع أهله...

القراءة

هناك قراءات متعدّدة لهذه الآية:

فقد روى عطاء عن ابن عبّاس أنّه قرأ فلا جُناح عليه ألّا يطوف بهما وهي قراءة ابن مسعود، ويُروى أنّها في مصحف أُبَيّ بن كعب كذلك ويروى عن أنس مثل هذا، وأنّ محمّد بن سيرين مولى أنس بن مالك كانت هكذا قراءته.

وإضافةً إلى كونها قراءة شاذّة، هناك ردود ذكرت على هذه القراءة منها:

(1) أنّها مخالفة لما ثبت في المصحف، ولا يصحّ الانتقال من الذي ثبت في المصحف إلى قراءة اخرى هي موضع خلاف ولا يُدرى أصحّت أم لا.

(2) أنّ عطاءً كان يكثر الإرسال عن ابن عبّاس من غير سماع.

ص: 114

(3) وأنّ الرواية عن أنس أيضاً غير مضبوطة.

وإن ثبتت هذه القراءة ففيها احتمالان:

الأوّل: أنّ (لا) زائدة كما في قوله تعالى، الآية 12 من سورة الأعراف: قال ما منعك ألّا تَسجُدَ.

وكما في قول أبي النجم:

وما ألومُ البيضَ ألّا تسخرا لمّا رأين الشَّمطَ القفندَرا

القفندر: القبيح المنظر.

إذن على فرض صحّة هذا الاحتمال فلا فرق بين القراءتين.

الثاني: أنّ (لا) غير زائدة، ويكون المعنى هكذا: أنّ رفع الجُناح في فعلِ الشي ء هو رفع في تركه، فهو تخيير بين الفعل والترك.

فلا تتّحد القراءتان على هذا الاحتمال، وبالتالي فيكون الفرق بينهما في أنّ القراءة الأولى أنّ يطوّف قد رفع فيها الجناح الذي يترتّب على الفعل أي السعي بين الصفا والمروة، فيما يكون رفع الجناح في القراءة الثانية قد ترتّب على ترك الفعل (1).

نحن والآية

مع أنّ كلماتهم اتّفقت على أنّ السعي واحد من واجبات فريضة الحجّ والعمرتين وإن اختلفوا في ركنيته، كما تدلّ عليه الروايات عند الفريقين والسيرة النبوية قولًا وفعلًا، وأقوال أئمّتهم وعلمائهم، إلّاأنّهم اختلفوا في أنّ الآية المذكورة بذاتها تدلّ على الوجوب هذا أو لا يمكن استفادة هذا الوجوب منها..، بل اتّخذ بعضهم الآية دليلًا على عدم وجوب السعي كما سنرى.

ونحن هنا نقف عند الذي اختلفوا فيه وهو الآية بعيداً عمّا اتّفقوا عليه من


1- 1 انظر في هذا الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون للسمين الحلبي 2: 188- 193 فإن فيه فوائد جمّة، ومعجم القراءات القرآنية 1: 128 وغيرهما.

ص: 115

السيرة والروايات.. لنرى هل الآية، التي نزلت في عمرة القضاء سنة 7 ه (وسميت كذلك لأنّها شرط من شروط صلح الحديبيّة سنة 6 ه والذي بدأ ب هذا ما قاضى به..) تصلح لأن يستدلّ بها على وجوب السعي أو نفيه، أو لا هذا ولا ذاك، وغاية ما تدلّ عليه هو الاستحباب أو لا تدلّ على شي ء من هذه الأحكام التكليفيّة أصلًا..

إذن وقع الخلاف في الاستفادة من هذه الآية، وهل فيها أو في ظاهرها دلالة على وجوب السعي، الذي ذهب إليه جمع من المفسّرين والفقهاء من الفريقين كما سنرى، أو لا دلالة فيها على ذلك، وكلّ ما تدلّ عليه هو استحباب السعي أو إباحته وهو ما استفاده آخرون.

وكلمة فلا جناح هي المحور الرئيس لهذا الخلاف في فهم الآية ودلالتها، فيما ظلّت فمن تطوّع خيراً... دليلًا آخر استعان به بعضهم على عدم دلالة الآية على وجوب السعي، وكلّ ما تدلّ عليه هو التخيير...

بعد هذه الخلاصة، نأتي إلى الآية الكريمة، وهي الوحيدة في موضوعها التي ذكرت في القرآن الكريم، والتي جاءت إمّا ردّاً على ما توهّموه من حظر السعي بين الصفا والمروة بعدما ذكر اللَّه تعالى في كتابه الطواف بالبيت ولم يذكر السعي، وإمّا جواباً عن تساؤلهم عن حكم السعي الآن، بعد أن كان من مناسك الجاهلية، أو درءاً لشبهة عرضت لهم أو رفعاً لحرجٍ وقعوا فيه بسبب وجود الأصنام على الصفا والمروة...

وقد رأيت أن تدرس الآية عبر مقاطعها الثلاثة:

المقطع الأوّل: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه.

المقطع الثاني: فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما.

المقطع الثالث: ومن تطوّع خيراً فإنّ اللَّه شاكرٌ عليم.

ومن خلال دراسة كلّ مقطع منها لوحده، وبتظافرها يمكن أن يستقيم معنى

ص: 116

الآية ويتّضح مرادها، فيرفع ما توهّمه بعضهم ورتّب عليه أموراً وأحكاماً غير ما تحمله الآية نفسها وتريده، ونأى بعيداً عمّا تهدفه...

وحاولتُ أن تكون هذه الدراسة للآية مستفادة من الآية نفسها عبر مقاطعها الثلاثة، وما جاء به المقطع الثاني والثالث من فوائد تفرّعت كلّها على المقطع الأوّل أو جاءت نتيجة له، مستعيناً في هذا كلّه بأسباب نزول الآية التي تحكي الأجواء والظروف وما رافقتها من أحداث وملابسات... وبما جاء في الروايات وأقوال المفسّرين والفقهاء... فنبدأ أوّلًا بذكر أسباب النزول.

أسباب النزول

إنّ معرفة الأجواء والظروف التي نزلت فيها الآية، والحالة المعاشة وما حدث فيها من تساؤلات وملابسات، وما أدّت إليه من توقّف أو إحراج وتردّد... كلّ هذا ولعلّ هناك غيره يمكن استفادته من دراسة أسباب النزول، فتعيننا هذه الدراسة على فهم مراد الآية، وتزيل كلّ لبس أو إشكال يحيط بفهمها، وتدفع بالتالي ما يوهمه- كما يقول بعضهم- ظاهر الآية، من أنّ السعي ليس بواجب ولا يتوقّف عليه الحجّ ولا العمرة، بل هو مباح، والحاج أو المعتمر مختار في الإتيان به أو تركه.. فإنّ معرفة السبب إن لم يورثنا العلم بالمسبّب وما يتضمّنه من معانٍ ومرادٍ، فإنّه- على الأقلّ- يقرّبنا من معرفة كلّ هذا..

فقد ذُكرت أسبابٌ متعدّدة ومختلفة لنزول هذه الآية نوجزها بما يلي:

1- إنّ الناس كانوا يطوفون كلّهم بالصفا والمروة، فلمّا ذكر اللَّه تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يارسول اللَّه، كنّا نطوف بالصفا والمروة، وإنّ اللَّه أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرجٍ أن نطوّف بالصفا والمروة؟ أو كما عن الانصار: إنّما أُمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل اللَّه تعالى إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه الآية.

ص: 117

2- وعن الإمام الصادق عليه السلام كما ذكر في «فروع الكافي» في حديث حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: إنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شي ء صنعه المشركون، فأنزل اللَّه: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه.. فبعدما طاف (النبيّ) بالبيت وصلّى ركعتيه (قرأ): إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه... وقال: أبدأ بما بدأ اللَّه عزّوجلّ (1).

3- وهو ما ورد عن أنس بن مالك حيث قال: كنّا نرى أنّهما من أمر الجاهلية، فلمّا كان الإسلام أسكنا عنهما، فأنزل اللَّه تعالى إنّ الصفا والمروة....

وعنه أيضاً: كنّا نكره الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنّهما كانا من مشاعر قريش في الجاهلية، أو أنّ طوافنا بينهما من أمر الجاهليّة فتركناه في الإسلام، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

4- عن عائشة قالت: انزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يحجّون لمناة، وكانت مناة حذو قُديدٍ، وكانوا يتحرّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلمّا جاء الإسلام سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن ذلك، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. وعنها أيضاً أنّها قالت: أنزلت هذه الآية في ناس من الأنصار كانوا إذا أهلّوا أهلّوا لمناة في الجاهلية، ولم يحلّ لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلمّا قدموا مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الحجّ ذكروا ذلك له، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

5- قال عمرو بن حُبيش: سألت ابن عمر عن هذه الآية، فقال: انطلق إلى ابن عبّاس فسله، فإنّه أعلم مَن بقي بما أنزل اللَّه على محمّد صلى الله عليه و آله فأتيته فسألته، فقال:

كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له: أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة؛ زعم أهل الكتاب أنّهما زنيا في الكعبة، فمسخهما اللَّه تعالى حجرين، فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما. فلمّا طالت المدّة عُبِدَا من دون اللَّه تعالى. فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا على الوثنين، فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام، كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمية فأنزل اللَّه تعالى


1- 1 فروع الكافي، باب حجّ النبيّ.

ص: 118

هذه الآية.

6- وأمّا السُّدِّي فقد قال: كان في الجاهلية تَعزِفُ الشياطين بالليل بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة، فلمّا ظهر الإسلام قال المسلمون: يارسول اللَّه، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية، فأنزل اللَّه هذه الآية (1).

7- وفي البخاري عن أبي بكر بن عبدالرحمن أنّه قال: فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرّجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثمّ تحرّجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أنّ اللَّه تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتّى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت (2).

في أجواء الآية

ممّا لا شكّ فيه أنّ الآية المذكورة نزلت- حسب أسباب النزول- إمّا جواباً عن تساؤل وإمّا ردّاً لشبهات وإشكالات اثيرت هنا وهناك بنوايا صادقة وبدوافع إسلامية خالصة، واخرى خبيثة، راح الأعداء يحاولون استثمارها وتوظيفها- كعادتهم- لصالح أهدافهم ومكائدهم، التي لم يتوقّفوا عن تفعيلها في داخل الصفّ الإسلامي لتضعيفه أو على الأقلّ لزرع الشكوك بين أبنائه.

وليست هذه أوّل آية تنزل لمعالجة أمر خطير تتعرّض له الجماعة المسلمة، فقد عوّدنا القرآن الكريم التصدّي وبشكل مباشر لمعالجة ظواهر تتولّد فجأةً أو تأتي عبر مقدّمات أو نتيجة أحداث أو إعداد مسبق من قبل أيدٍ منافقة تريد العبث بأمن هذا المجتمع الجديد وسلامة معتقداته، وأمامك تحويل القبلة ودور يهود المدينة، وما حدث في معركة أحُد، ومباهلة أهل نجران، وحديث الإفك، وغيرها من الأحداث التي نزل فيها قرآن.

فجاءت هذه الآية المباركة لتحسم إشكالًا وتردّ شبهةً وترفع تحرّجاً وقع فيه جمع من المسلمين.. فقد تحرّج عددٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه و آله من السعي حينما


1- 1 انظرها في صحيح البخاري 2: 593، 4: 1635 وفي أسباب نزول القرآن للواحدي: 49- 50.
2- 2 انظر البخاري 2: 593.

ص: 119

عرضت لهم شبهة وإن كانت في بدايتها ذات دوافع إيمانية صادقة، إلّاأنّها كادت أن تتوسّع وتترك آثارها على الجماعة المسلمة فيما لو تركت دون معالجة ومعالجة حاسمة، وخير دليل على هذا الموقف القرآني عبر آية جاءت لتؤكّد بقوّة هذا المنسك ثمّ ترفع الحرج وأخيراً ترغب في الإكثار منه حتّى لا تكون مادّة يستغلّها الأعداء ومَن في قلوبهم مرض...

عن التحرّج هذا، يقول سيّد قطب: كان هذا التحرّج ثمرة التعليم الطويل، ووضوح التصوّر الإيماني في نفوسهم، هذا الوضوح الذي يجعلهم يتحرّزون ويتوجسّون من كلّ أمر كانوا يزاولونه في الجاهلية، إذ أصبحت نفوسهم من الحسّاسية في هذه الناحية بحيث تفزع من كلّ ما كان في الجاهلية، وتتوجّس أن يكون منهيّاً عنه في الإسلام، الأمر الذي ظهر بوضوح في مناسبات كثيرة..

ثمّ راح سيّد قطب يواصل حديثه عن بواعث هذه الظاهرة ودور العقيدة الإسلامية والرسول صلى الله عليه و آله فيها قائلًا:

كانت الدعوة الجديدة قد هزّت أرواحهم هزّاً وتغلغلت فيها إلى الأعماق، فأحدثت فيها انقلاباً نفسيّاً وشعوريّاً كاملًا، حتّى لينظرون بجفوة وتحرّز إلى ماضيهم في الجاهلية، ويحسّون أنّ هذا شطر من حياتهم قد انفصلوا عنه انفصالًا كاملًا، فلم يعد منهم، ولم يعودوا منه، وعاد دنساً ورجساً يتحرّزون من الإلمام به!

وإنّ المتابع لسيرة هذه الفترة الأخيرة في حياة القوم ليحسّ بقوّة أثر هذه العقيدة العجيب في تلك النفوس، يحسّ التغيّر الكامل في تصوّرهم للحياة؛ حتّى لكأنّ الرسول صلى الله عليه و آله قد أمسك بهذه النفوس فهزّها هزّةً نفضت عنها كلّ رواسبها، وأعادت تأليف ذرّاتها على نسق جديد، كما تصنع الهزة الكهربية في تأليف ذرّات الأجسام على نسق آخر غير الذي كان!

وهذا هو الإسلام.. هذا هو: انسلاخاً كاملًا عن كلّ ما في الجاهلية، وتحرّجاً بالغاً من كلّ أمر من امور الجاهلية، وحذراً دائماً من كلّ شعور وكلّ حركة كانت

ص: 120

النفس تأتيها في الجاهلية، حتّى يخلص القلب للتصوّر الجديد بكلّ ما يقتضيه..

فلمّا أن تمّ هذا في نفوس الجماعة المسلمة أخذ الإسلام يقرِّر ما يريد الإبقاء عليه من الشعائر الأولى ممّا لا يرى فيه بأساً، ولكن يربطه بعروة الإسلام بعد أن نزعه وقطعه من أصله الجاهلي، فإذا أتاه المسلم، فلا يأتيه لأنّه كان يفعله في الجاهلية، ولكن لأنّه شعيرة من شعائر الإسلام، تستمدّ أصلها من الإسلام.

وهنا- والقول ما زال لسيّد قطب- نجد مثالًا من هذا المنهج التربوي العميق، إذ يبدأ القرآن بتقرير أنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه...

فإذا اطوف بهما مطوف، فإنّما يؤدّي شعيرة من شعائر اللَّه، وإنّما يقصد بالطواف بينهما إلى اللَّه، ولقد انقطع ما بين هذا الطواف الجديد وطواف الجاهلية الموروث، وتعلّق الأمر باللَّه- سبحانه- لا بأساف ونائلة وغيرهما من أصنام الجاهلية!

ومن ثمّ فلا حرج ولا تأثم، فالأمر غير الأمر، والاتجاه غير الاتجاه (1)...

إذن فبقراءة أسباب النزول المذكورة على التنافي في مضامينها وما تذكره من أسباب نعرف أنّ هذه الآية جاءت لتدفع ما وقع به بعض المسلمين من أنّ هذه الشعيرة باتت بعيدةً عن المنهج السليم للإيمان وبالتالي فهي إن وقعت فلا مناص من أنّها امتداد واضح لأجواء الجاهلية وما يعبد فيها من أوثان.. فاجتثّت هذه الآية هذا التصوّر، ولم تكتفِ بذلك بل وضعت هذا المنسك في مكانته من العقيدة الإسلامية والشريعة المقدّسة، وأنّه ليس خارجاً عنهما أو هو شي ء طارئ لا أساس له شرعي وتأريخي وإنّما هو نسكٌ ربّاني إبراهيميّ.. وركّزت في الأذهان- أيضاً أنّ خلوّ هذا المكان من الأصنام بل مع وجودها لا يضرّ أبداً بطهارة هذه الفريضة وشرعيتها، وأنّ العبادة ما دامت نابعة من الارتباط باللَّه وتؤدّى للَّه فقط دون غيره، وقائمة على اسس وضوابط شرعية فلا يحجبها عن القبول شي ء


1- 1 في ظلال القرآن، سيّد قطب، 1: 149.

ص: 121

ولا يعكّر صفوها شي ءٌ آخر سواءً أكان أصناماً أو اموراً اخرى تقع في ساحتها.

ثمّ إنّ حرجهم هذا وقع بعد أن اعيدت الأصنام إلى الجبلين الصفا والمروة فقد رفعت بطلب من النبيّ صلى الله عليه و آله، حسب الرواية التي تقول: إنّها رفعت وقد تأخّروا لسبب من الأسباب عن السعي مع النبيّ والمسلمين الآخرين، فلمّا رأوها اعيدت تولّد حرجهم هذا ووقع إشكالهم وتساؤلهم..

وإلّا لو أنّها لم ترفع بدايةً لما تحرّجوا من السعي بينهما، وخير دليل هو أنّهم طافوا جميعاً بالكعبة والأصنام موجودة حولها، ولم يحسب لها النبيّ صلى الله عليه و آله والمسلمون أيّ حساب أو يرتّبوا عليها أي أثر، واعتقد أنّه لو رفعت هذه الأصنام من حوالى الكعبة وتمّ طواف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومعه المسلمون، وتخلّف جمع عن هذا الطواف، واعيدت الأصنام لوقع في نفوسهم الحرج نفسه الذي نشأ عندهم في قضية السعي بعد إعادة الأصنام.

قلنا هذا على ضوء ما تحمله الرواية القائلة بأنّ سبب النزول هو إعادة الأصنام بعد رفعها، وعلى القول المشهور بأنّ الرسول صلى الله عليه و آله طاف حول الكعبة والأصنام الموجودة..

فخلاصة الكلام أنّ الآية جاءت لرفع الإحراج أو الاشتباه.. الذي وقع فيه جمع من الصحابة وقتذاك، ووضّحت لهم الموقف الأسلم الذي ينبغي بل يجب الالتزام به.

أساف ونائلة

شأن مناسك الحجّ شأن كلّ الديانات السماوية، التي لم تسلم من التحريف والتشويه والتدنيس، فبعد أن سرى الشرك، وراح يبني كيانه في الواقع الاجتماعي، ظهرت له آثار سيّئة على مجمل الحياة بنواحيها المختلفة، ومنها مناسك الحجّ، حيث نصبت للشرك أعلام وأصنام وأوثان في كلّ زاوية من البيت الحرام، معقل التوحيد الخالص، فحول الكعبة أصنام وعلى الصفا وثن يدعى (أساف)

ص: 122

وعلى المروة آخر يدعى (نائلة)، وكأنّ يد الشرك والجهل أبت إلّاأن تدنّس كلّ بقعة من المسجد الحرام.. ولكي تذكّرهم هذه الأصنام وتشدّهم هذه الأوثان إلى دين الشرك الذي هم له عاكفون.. وهم يؤدّون مناسك إبراهيم من طواف وسعي... والتي هي معالم للتوحيد الإبراهيمي الخالص وغير المشوب بأدران الشرك والوثنية..

وإنّ وجود هذين الصنمين اللّذين كادا أن يُعبدا إن لم نقل: إنّهما قد عُبدا في الجاهلية، دليلٌ واضح على ما اقترفته أيديهم العابثة بطهارة هذه الأمكنة وهذه الشعائر.

وقفة قصيرة:

رفع الأصنام من حول الكعبة والمسعى لم يذكر في شروط صلح الحديبية، وأمامك كلّ مصادر التأريخ والسيرة، اللّهم إلّاما ذكره صاحب تفسير العيّاشي، فقد ذكر خبراً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «كان من شرط رسول اللَّه عليهم: أن يرفعوا الأصنام...» (1).

فهل عبارة «كان من شرط رسول اللَّه عليهم..» أنّه شرط من شروط صلح الحديبيّة، أو أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما جاء لأداء عمرته شرط على قريش أن يرفعوا الأصنام من المسعى فقط أو من المطاف والمسعى؟!

والجواب واضح وهو أنّ جميع مصادر السيرة والتاريخ... لم تذكر مثل هذا الشرط وأنّه من شروط صلح الحديبية، ولو كان لبان، فهو إذن ليس شرطاً ثابتاً من شروط الصلح هذا أوّلًا.

وأمّا ثانياً: أنّ مشركي مكّة لم يقبلوا أو رفضوا طلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يدخل الكعبة، فقد بعث لهم ليسمحوا له بدخول الكعبة فأبوا وقالوا: لم يكن هذا في شرطك، أي في شروط صلح الحديبية. فتوقّف عن دخولها.

وقبل هذا بعثت قريش مِكرز بن حفص في نفرٍ منهم، فالتقوا بالنبيّ في بطن


1- 1 تفسير العياشي 1: 70/ 133.

ص: 123

يأجج- وقد وردهم خبرٌ أنّ النبيّ والمسلمين حملوا معهم كامل سلاحهم- فقالوا:

يا محمّد! واللَّه ما عُرفتَ- صغيراً ولا كبيراً- بالغدر، تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت أن لا تدخل إلّابسلاح المسافر: السيوف في القُرُب؟!

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا ندخلها إلّاكذلك.

فرجع مكرز إلى مكّة مسرعاً يقول لهم: إنّ محمّداً لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لكم.

فمن هذا يظهر أنّ قريشاً كانت تراقب بدقّة أن لا تُخترق بنود صلح الحديبيّة، أو يُزاد عليها، وترفض أيّ شي ء يستجد بعد ذلك، وإن كان هذا توجّساً منها وخوفاً وحذراً. وإلّا فليس من أخلاق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مخالفة ما تعاهد عليه، وعظيم قول مكرز وجميل: يا محمّد واللَّه ما عُرفت- صغيراً ولا كبيراً- بالغدر.

إذن: أبى مشركو قريش أن يقبلوا طلب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منهم أن يدخل الكعبة، وقد رفضوا ذلك معلّلين رفضهم بأنّه ليس من شروط الصلح، فكيف برفع الأصنام؟ فهل يقبلونه وهو بالنسبة إليهم أمر كبير وخطير، ولم يذكر في شروط صلح الحديبية؟!

ولو سلّمنا بأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله طلب رفع الأصنام من المسعى، وسلّمنا أيضاً بأنّ قريشاً قبلت بذلك، فلماذا فقط يطلب الرسول صلى الله عليه و آله رفع الأصنام من المسعى فقط دون البيت، وقد احيطت الكعبة بالأصنام، والطواف أعظم من السعي أحكاماً وآداباً...؟

ثمّ هل الأصنام التي حول الكعبة أكثر قدسية عند مشركي مكّة من أساف ونائلة، حتّى يهون الأمر عليهم فيستجيبوا لرفع هذه ويتركوا تلك على حالها، أو أنّ الأصنام التي حول الكعبة أقلّ خسّةً وقذارة من تلك التي على الصفا والمروة، فيطلب النبي رفع هذه وترك تلك؟!

اللّهم إلّاأن نقول: إنّ المقصود ب «أنّ رسول اللَّه كان شرط عليهم أن يرفعوا

ص: 124

الأصنام..» مطلق الأصنام سواء التي كانت على الصفا والمروة أو حول الكعبة، وهو ما يؤيده إطلاق العبارة «أن يرفعوا الأصنام» ثمّ إنّ رواية العياشي هذه لا يمكن الاستفادة منها أنّ هذا الشرط هو من شروط صلح الحديبيّة وهو ما ذهب إليه بعضهم بل هو شرط متأخر عنها وقع في عمرة القضاء، ودفعاً لهذه الإشكالات والتساؤلات التي تحضرني ولعلّ هناك غيرها، التي تترتّب على رواية رفع الأصنام وإعادتها، وأنّها كانت سبباً للحرج الذي وقع به بعض المسلمين وبالتالي فهي سبب لنزول الآية، يمكن الأخذ بواحد من الأسباب الاخرى لنزول الآية؛ والتي منها الرواية التي تذكر كسبب للآية من قبل الفريقين.

فعن فروع الكافي في حديث حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله عن الصادق عليه السلام قال: إنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شي ء صنعه المشركون، فأنزل اللَّه: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه... فبعدما طاف (النبيّ) بالبيت وصلّى ركعتيه (قرأ):

إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه... وقال: أبدأ بما بدأ اللَّه عزّوجلّ (1).

مع الفرق الإسلامية الاخرى

قبل أن أبدأ بذكر روايات أهل السنّة وأخبارهم ثمّ أقوال فقهائهم ومفسّريهم بخصوص الآية المذكورة ومرادها.. أعرض أوّلًا للوهم الحاصل الذي ملخّصه: أنّ ظاهر الآية يوهم بأنّ السعي بين الصفا والمروة هو من الامور المباحة، فمن شاء سعى ومن شاء لم يسعَ فلا جَناح عليه وبالتالي فإنّ فريضة الحجّ والعمرتين كلّها تصحّ دون سعي بين هذين الجبلين.

فصيغة الآية تنفي وجوب السعي كمنسك، وهذا ما ذهب إليه واحد من فقهاء المدينة السبعة أو الأربعة عروة بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر، وهو من التابعين (23- 91 ه).

فقد روى ابنه أنّ أباه كان قد سأل خالته امّ المؤمنين عائشة قائلًا: أرأيت قول اللَّه تعالى: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر


1- 1 انظر: فروع الكافي، وتفسير الميزان..

ص: 125

فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما ثمّ راح يقسم لها بقوله: فواللَّه ما على أحدٍ جُناح، أو ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً، وما أبالي ألّاأطوف بينهما.

فأجابته بقولها:

بئس ما قلت ياابن اختي، إنّ هذه الآية لو كانت كما أوّلتها عليه كانت لا جُناح عليه ألا يتطوّف بهما، ولكنّها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلّل، وكان مَن أهلّ لها يتحرّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن ذلك؛ قالوا: يارسول اللَّه إنا كنّا نتحرّج أن نطوف بالصفا والمروة، فأنزل اللَّه تعالى إنّ الصفا والمروة... (1).

ويبدو أنّ هذا الوهم كما يسمّونه لم يكن مختصّاً بعروة، فهناك غيره فقد روى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال: «سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة، فقال: كانا من شعائر الجاهلية، فلمّا كان الإسلام أمسكنا عنهما، فأنزل اللَّه عزّوجلّ إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه.

وقد استفاد بعض آخر عدم الوجوب، مستندين إلى قراءة بعض الصحابة وبعض التابعين لا جناح عليه أن (لا) يطوّف بهما.

وعن أبي عاصم كما أخرجه الطبري، قال: حدّثنا جُريج قال: قال عطاء: لو أنّ حاجّاً أفاض بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسعَ، فأصاب امرأته، لم يكن عليه شي ء لا في حجّ ولا في عمرة، من أجل قول اللَّه- كما في مصحف ابن مسعود-: فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن (لا) يطوّف بهما.

قال: فعاودته بعد ذلك، فقلت: إنّه قد ترك سنّة النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: ألا تسمعه يقول: فمن تطوّع خيراً فأبى أن يجعل عليه شيئاً..؟ فقد أخذ التطوّع بمعنى التبرّع.

ونحو هذا عن مجاهد أنّه قال: لم يُحرّج من لم يطف بهما.. أي لم يأتِ إثماً؛ لأنّه غير واجب. وأيضاً عن عطاء عن عبداللَّه بن الزبير قال: هما تطوّع (2).


1- 1 تفسير الطبري 2: 29.
2- 2 انظر في هذا تفسير الطبري 2: 30.

ص: 126

فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما قال: هما تطوّع، مَن تطوّع خيراً فإنّ اللَّه شاكرٌ عليم قال: هذا حديث حسن صحيح» (1).

وأخرج عن سفيان بن عاصم الأحول قال: سمعت أنساً يقول: الطواف بينهما تطوّع.. أي تبرّع ومندوب إليه.

وهذا أبو حنيفة قد احتجّ لعدم ركنية هذا المنسك مكتفياً بوجوبه من أدلّة خارجة عن الكتاب؛ لأنّ الآية عنده ليس فيها ما يدلّ على وجوبه فضلًا عن ركنيّته، فقال كما ينقل الرازي في تفسيره: احتجّ أبو حنيفة لعدم الركنيّة بوجهين:

أحدهما: هذه الآية فلا جُناح... قال: وهذا لا يُقال في الواجبات، وقد أكّده تعالى بقوله: ومن تطوّع خيراً... فبيّن أنّه تطوّع وليس بواجب.

وثانيهما: قوله صلى الله عليه و آله: «الحجّ عرفة» ومن أدرك عرفة فقد تمّ حجّه...».

وهنا راح الرازي يردّ ذلك، نكتفي بردّه عن الوجه الأوّل محلّ كلامنا، فيقول:

والجواب عن الأوّل- والكلام للرازي- من وجوه:

الأوّل: ما بيّنا أنّ قوله فلا جُناح عليه ليس فيه إلّاأنّه لا إثم على فاعله، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب.

ثمّ راح يثبت له ذلك بآية اخرى حيث يقول:

والذي يحقّق قوله تعالى: فليس عليكم جُناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم والقصر عند أبي حنيفة واجب، مع أنّه قال فيه: فلا جُناح عليه فكذا هنا.

الثاني: أنّه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما، وعندنا الأول غير واجب، وإنّما الثاني هو الواجب.

الثالث: قال ابن عبّاس: كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم، وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسّحون بهما، فلمّا جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

إذا عرفت هذا، فنقول: انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا


1- 1 البخاري 2: 593.

ص: 127

إلى نفس الطواف. ويضرب الرازي لهذا مثلًا فيقول: كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جُناح عليك أن تصلّي فيه، فإن رفع الجُناح ينصرف إلى مكان النجاسة، لا إلى نفس الصلاة.

الرابع: روي عن عروة أنّه قال لعائشة: إنّي أرى أن لا حرج عليَّ في أن لا أطوف بهما.

فقالت: بئس ما قلتَ، لو كان كذلك لقال: أن لا يطوف بهما. ثمّ حكى ما تقدّم في الصنمين.

وهنا يعلّق الرازي بقوله: وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين.

ولو احتجّ على الرازي بقراءة ابن مسعود فلا جُناح عليه أن لا يطوّف بهما باعتبارها تصلح مؤيّداً لما ذهب إليه عروة، علماً بأنّ هناك آيات توافق قراءة ابن مسعود كقوله تعالى: يبيّن اللَّه لكم أن تضلّوا أي أن لا تضلّوا، وكقوله تعالى: أن تقولوا يوم القيامة معناه: أن لا تقولوا.

ويجيب الرازي عن هذا بقوله: القراءة الشاذّة لا يمكن اعتبارها في القرآن؛ لأنّ تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً.

ويخلص أخيراً كما في الفقرة التالية.

الخامس: أنّ قوله فلا جناح عليه لا يطلق على الواجب فكذلك لا يطلق على المندوب، ولا شكّ في أنّ السعي مندوب، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.

وفي ردّه على من تمسّك بقوله تعالى ومن تطوّع خيراً... يستدلّ على أنّ السعي بين هذين الجبلين تطوّع وليس بواجب وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قبله على ما رُوي أنّ ابن عبّاس قد ذهب إليه وكذا ابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين.

فقد قال الرازي: وأمّا التمسّك بقوله فمن تطوّع خيراً فضعيف؛ لأنّ هذا لا

ص: 128

يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوّع هو الطواف المذكور أوّلًا، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر.

وراح يستشهد بآية اخرى على صحّة هذا، فقال: قال اللَّه تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ثمّ قال: فمن تطوّع خيراً فهو خير له فأوجب عليهم الطعام، ثمّ أندبهم إلى التطوّع بالخير، فكان المعنى: فمن تطوّع وزاد على طعام مسكين كان خيراً، فكذا هاهنا يحتمل أن يكون هذا التطوّع مصروفاً إلى شي ء آخر، وهو من وجهين:

أحدهما: أنّه يزيد في الطواف، فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.

والثاني: أن يتطوّع بعد حجّ الفرض وعمرته، بالحجّ والعمرة مرّة ثانية، حتّى طاف الصفا والمروة تطوّعاً... (1).

أمّا الآلوسي في تفسير روح المعاني فيقول:... فلمّا جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.

ومنه يعلم دفع ما يتراءى أنّه لا يتصوّر فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنّهما من الشعائر، بل ربما لا يتلازمان، إذ أدنى مراتب الأوّل الندب وغاية الثاني الإباحة.

وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحجّ والعمرة؛ لدلالة نفي الجناح عليه قطعاً، لكنّهم اختلفوا في الوجوب.

فروى أحمد أنّه سنّة، وبه قال أنس وابن عبّاس وابن الزبير؛ لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى: فلا جناح عليهما أن يتراجعا. وليس مباحاً بالاتّفاق ولقوله تعالى: من شعائر اللَّه فيكون مندوباً.

ثمّ راح الآلوسي يضعف هذا بقوله: بأنّ نفي الجناح وإن دلّ على الجواز المتبادر منه عدم اللزوم، إلّاأنّه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه- والمقصود ذلك- فلعلّ هاهنا دليلًا يدلّ على الوجوب كما في قوله تعالى: لا جناح عليكم أن


1- 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 3: 181.

ص: 129

تقصروا من الصلاة. ولعلّ هذا كقوله لمن عليه صلاة الظهر مثلًا، وظنّ أنّه لا يجوز فعلها عند الغروب، فسأل عن ذلك: لا جناح عليك إن صلّيتها في هذا الوقت، فإنّه جواب صحيح، ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر... (1).

فيما ذكر البيضاوي في تفسيره الإجماع على أنّه مشروع في الحجّ والعمرة، وإنّما الخلاف في وجوبه، فعن أحمد أنّه سنّة، وبه قال أنس وابن عبّاس؛ لقوله تعالى:

فلا جُناح عليه... فإنّه يفهم منه التخيير. ثمّ عقّب قائلًا: وهو ضعيف؛ لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه... (2).

وتحقيق القول فيه- كما يقول ابن العربي- أنّ قول القائل: لا جناح عليك أن تفعل، إباحة الفعل.

وقوله: لا جناح عليك ألا تفعل، إباحة لترك الفعل.

فلمّا سمع عروة قول اللَّه تعالى: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما. قال: هذا دليل على أنّ ترك الطواف جائز، ثمّ رأى الشريعة مطبقة على أنّ الطواف لا رخصة في تركه، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين.

فقالت له عائشة: ليس قوله: فلا جناح عليه أن يطوّف بهما دليلًا على ترك الطواف، إنّما يكون دليلًا على تركه لو كان «فلا جناح عليه ألّا يطوّف بهما» فلم يأتِ هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف، ولا فيه دليل عليه؛ إنّما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه في الجاهلية، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصداً للأصنام التي كانت فيه فأعلمهم اللَّه سبحانه أنّ الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصداً باطلًا» (3).

وقال ابن قدامة:... وقول عائشة في ذلك- بكونه ركناً- معارض بقول من خالفها من الصحابة.. (4).

ويقول صاحب تفسير التحرير والتنوير:

ونفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة، لا يدلّ على أكثر من


1- 1 انظر روح المعاني للآلوسي 1: 25.
2- 2 تفسير البيضاوي 1: 156.
3- 3 ابن عربي في تفسيره.
4- 4 التفسير الكبير 4/ 160.

ص: 130

كونه غير منهيّ عنه فيصدق بالمباح والمندوب، والواجب والركن؛ لأنّ المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات، فيحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر؛ ولذلك قالت عائشة لعروة: لو كان كما تقول لقال: فلا جناح عليه ألّايطوف بهما.

دراسة الآية

بعد هذا نأتي لدراسة الآية عبر مقاطعها الثلاثة:

المقطع الأوّل:

إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه

الإعراب:

إنّ: من الحروف المشبّهة بالفعل، تفيد توكيد النسبة، بل هي في التوكيد أقوى من اللام، وليست هذه وظيفتها فقط، بل هناك غيرها، فهي يؤتى بها لنفي الإنكار والشكّ، وتفيد- أيضاً- التقرير والتحقيق.

الصفا: اسم إنّ والمروة عطفت على الصفا. من شعائر اللَّه: خبرها.

قال أبو البقاء: «وفي الكلام حذفُ مضاف، تقديره: «طواف الصفا، أو سعي الصفا».

فهذا المقطع من الآية الذي ابتدأ بأنّ المؤكّدة، يقرّر ويؤكّد أنّ كلّاً من الصفا والمروة أو طواف الصفا والمروة، شعيرةٌ من شعائر اللَّه تعالى الثابتة والمحبوبة إليه حيث أضافها إلى نفسه تعظيماً لشأنها وعلوّ منزلتها عنده.

وفي الوقت الذي تقرّر وتؤكّد الآية منسكية السعي بين الصفا والمروة؛ وذلك بالاستفادة من «إنّ» المؤكّدة، تنفي كلّ شكّ بمنسكيتهما ونكرانٍ لمشروعيتهما- وأيضاً- باستعمالها ل «إنّ» التي كما قلنا من وظائفها النفي. وهي وإن لم تكن أمراً صريحاً بل كانت خبراً لكنّها بقوّة الأمر يقول الطبري في تفسيره للآية:... وإن كان مخرجه مخرج الخبر فإنه مراد به الأمر... (1)


1- 1 جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 2: 27 تفسير الآية.

ص: 131

فالتوكيد ب (إنّ) جاء حاسماً لنقاش ترتّبت عليه أحداث وملابسات وشبهات أحاطت بموضوع السعي بين هذين الجبلين (الصفا والمروة) إمّا لوجود صنمين (أساف ونائلة) أو لأيّ سبب من الأسباب التي ذكرناها في أسباب النزول.

فأنزل اللَّه تعالى قرآناً لينهي به هذا الفزع الذي دخل قلوب البعض والخلاف حول مشروعية السعي، ولا يدعه يتعمّق بين الجماعة المسلمة، وليثبت أنّ السعي بين هذين الجبلين أمر إلهي ومنسك ربّاني، وأنّه من مناسك فريضة الحجّ ومن مناسك العمرة.. وبالتالي فإنّها جاءت ردّاً لكلّ من امتنع عن أداء هذا النسك أو توقّف أو شكّك به ظنّاً منه أنّه من شعائر الجاهلية...، ونفت كلّ مزاعم القوم فقالت بضرس قاطع: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه....

وبالتالي فإنّ السعي بين هذين الجبلين أمرٌ لابدّ منه؛ لأنّه من شعائر اللَّه، ومن مناسك إبراهيم، التي هي مناسك فريضة الحجّ والعمرة، ولا يكتمل كلّ منهما إلّا بأداء أجزائهما كاملة غير منقوصة، ولا يصحّ وصف العمل بالكمال إلّابأداء مفرداته وأجزائه التي يتكوّن منها.

المقطع الثاني:

... فمن حجّ البيت او اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما..

فهذا المقطع جاء متفرّعاً على المقطع الأوّل ومكمّلًا لما أكّده من نسبة هذا المنسك لأعمال الحجّ والعمرة، ونفي أي زعمٍ أودعوى تخالف هذه النسبة.. ليرفع ذلك التحرّج وما اعتقدوه من ترتّب الإثم في حالة سعيهم بين هذين الجبلين- نافياً- ضمناً- كلّ الأسباب التي ذكرت، وأنّها منفردة أو مجتمعة غير جديرة بتعطيل هذه الشعيرة المقدّسة، أو حتّى التوقّف بشأنها أو تأخيرها ريثما ترفع الموانع، أو تنتهي الأسباب التي تصوّروها موجبة لمثل هذا التردّد أو الامتناع.. لهذا جاء هذا المقطع سريعاً وحاسماً ومبيّناً أنّ هذا المنسك الذي كرهته

ص: 132

نفوس قوم وراحت تصوّر لهم أنّه فيه ميلٌ عن الحقّ وبعدٌ عن الصواب، لا أساس له، وهو مجرّد أهواء لا غير، هذا وأنّ هذا المقطع لم يكتف بدفع تحرّجهم الذي أوقعهم به توهّمهم حظر هذا المنسك، بل يمكن الاستفادة منه تشجيعه لهم وحثّهم- ضمناً- على أدائه.

ثمّ إنّ الحرج أو الإثم.. الذي سمّته الآية «جُناح» جاء ليحكي لنا الحالة التي عاشها بعضهم، وجاءت الآية لتحصين النفوس منه، ودفعه عنها، ولم يأتِ ليتناول أو يبحث أصل وجوب السعي، فأصل وجوب السعي بين الصفا والمروة لا غبار عليه، وإن حدث شي ء من هذا فقد دفعه المقطع الأوّل وأكّد وجوده وثباته... وإنّما جاء التعبير «فلا جناح» ليدفع ذلك الحرج الذي وقعوا فيه، وأنّه لا إثمَ عليكم وأنتم تؤدّون واجباً ومنسكاً من مناسك الحجّ والعمرة، ولا يضرّ بهذا الأداء وجود الصنمين أو سبب من تلك الأسباب حيث شكّل وجودها حرجاً لمن يسعى ، ما دامت نواياكم صادقةً خالصة متقرّبة بهذا الأداء إلى اللَّه تعالى لا إلى غيره.

يقول الطبري: فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام فلا جناح... وقد قلت لنا: إنّ قوله: إنّ الصفا والمروة... وإن كان ظاهره ظاهر الخبر فإنّه في معنى الأمر بالطواف بهما، فكيف يكون أمراً بالطواف، ثمّ يقال لا جناح...؟ والأمر بالطواف بهما والترخيص في الطواف بهما غير جائز اجتماعهما...

وكان جوابه: أنّ النبي صلى الله عليه و آله لمّا اعتمر عمرة القضيّة تخوّف أقوام كانوا يطوفون بها في الجاهليّة... (1) فهو- إذن- جاء ليصحّح لهم ما اختلّ فهمه عليهم وارتبك تفسيرهم له، ممّا جعلهم يتساءلون: أيصحّ السعي أو لا يصحّ، فيه إثم أو لا إثم فيه؟

فأصل السعي لم يتعرّض له هذا المقطع، فهو منسك ثابت وواجب لا ريب


1- 1 جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 2: 27 تفسير الآية.

ص: 133

فيه وشعيرة مقدّسة من شعائر إبراهيم في الحجّ والعمرة، فلا يمكن التحرّش فيه أو الخدشة في وجوبه كجزء مهمٍّ من المناسك فضلًا عن إلغائه أو إنكاره أو تعطيله.

والمقطع الأوّل واضح في هذا.

وكلّ الكلام هو كما يقال: لا إثم عليك إن صلّيت وأنت ترتدي ثوباً ذا لون أسود مثلًا، فلا نقاش في الصلاة وفي أصل الصلاة وأنّها واجبة، وإنّما الكلام ينصبّ فقط على نفي الإثم عنك وأنت تصلّي في الثوب الأسود.

ثمّ إنّ السعي منسك قديم قِدم الطواف، فما أن أتمّ إبراهيم عليه السلام رفع قواعد البيت، وكان معه ابنه إسماعيل، راح يؤذّن في الناس بالحجّ ويؤدّي مناسكه، ومنها السعي بين جبلي الصفا والمروة، ووجود أساف ونائلة وهو وجود طارئ لابدّ له أن ينتهي، لا يشكّل أي مانع لطهارة هذا المنسك وقدسيّته، ولا يُعطّله، وهل يُعطّل الطواف بالبيت الحرام وجود الأصنام من حوله وما أكثرها؟!

ثمّ لو كان السعي مباحاً أو مندوباً- كما استفاده بعضهم- فلماذا هذا النزول السريع للآية؟

ولماذا هذا التوكيد، ونكران ونفي كلّ زعم على عدم منسكيّته أو التحرّج من أدائه، وهو ما يحمله المقطع الأوّل من الآية، ونفي أيّ حرج أو بأس وهو ما جاء به المقطع الثاني من الآية ما دام الأمر لا يتعدّى كونه مندوباً إليه أو لا يخرج عن كونه مباحاً؟!

هذا وأنّ التعبير ب «فلا جناح...» في القرآن الكريم لا يعني دائماً نفي الوجوب، وأنّه لا يُقال في الامور الواجبة، وبالتالي فالأمر متروك للمكلّف، له أن يفعله وله أن يتركه، وإلّا فأين نحن من آية قصر الصلاة: فليس عليكم جُناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم... وهو ما عليه روايات أهل البيت عليهم السلام وآراء جمع من فقهائهم، وهو ما استفاده أيضاً أبو حنيفة من هذه الآية، والقصر عنده واجب كما هو في أقوال فقهاء أهل السنّة؟

ص: 134

مع روايات أهل البيت عليهم السلام

فعن أبي عبداللَّه عليه السلام- في حديث قصر الصلاة- قال: أوليس قال اللَّه عزّوجلّ:

إنّ الصفا والمروه من شعائر اللَّه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض؛ لأنّ اللَّه عزّوجلّ قد ذكره في كتابه، وصنعه نبيّه صلى الله عليه و آله؟

والرواية الاخرى، فقد سئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنّة؟

فقال: فريضة.

قلت (السائل): أو ليس قد قال اللَّه عزّوجلّ: فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما؟

قال عليه السلام: كان ذلك في عمرة القضاء، إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل ترك السعي حتّى انقضت الأيّام واعيدت الأصنام فجاؤوا إليه فقالوا: يارسول اللَّه، إنّ فلاناً لم يسعَ بين الصفا والمروة وقد اعيدت الأصنام، فأنزل اللَّه عزّوجلّ: فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما أي وعليهما الأصنام.

عن زرارة ومحمّد بن مسلم أنّهما قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السلام: ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟

فقال: إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصلاة فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: إنّما قال اللَّه عزّوجلّ: فليس عليكم جُناح ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟

فقال عليه السلام: أوليس قد قال اللَّه عزّوجلّ في الصفا والمروة: فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض؛

ص: 135

لأنّ اللَّه عزّوجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه عليه السلام، وكذلك التقصير في السفر شي ء صنعه النبيّ صلى الله عليه و آله وذكره اللَّه تعالى ذكره في كتابه..؟ (1).

فهذا المقطع والتعبير الوارد فيه فلا جناح عليه لا يدلّ على نفي الوجوب الذي يتّصف به هذا المنسك، بل هو ينفي وهمهم أنّه محرّم.

مع بعض علماء الإماميّة

يقول البلاغي في تفسيره: «فرفع توهّم التحريم بقوله لا جناح؛ لأنّها من شعائر اللَّه، وذلك لا ينافي الوجوب كما ثبت من السنّة وعليه إجماع الإمامية وأكثر الجمهور» (2).

يقول العلّامة الطباطبائي في تفسيره: فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما إنّما هو للإيذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة لا لإفادة الندب، ولو كان المراد إفادة الندب، كان الأنسب بسياق الكلام أن يمدح التطوّف لا أن ينفي ذمّه.

ثمّ واصل سماحته حديثه هذا قائلًا:

فإنّ حاصل المعنى أنّه لمّا كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد اللَّه، فلا يضرّكم أن تعبدوه فيهما، وهذا لسان التشريع.

وأمّا بالنسبة إلى الندب فيقول سماحته:

ولو كان المراد إفادة الندب، كان الأنسب أن يفاد أنّ الصفا والمروة لمّا كانا من شعائر اللَّه، فإنّ اللَّه يحبّ السعي بينهما- وهو ظاهر- والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الإلزام في مقام التشريع شائع في القرآن كقوله تعالى في الجهاد: ذلكم خيرٌ لكم (3)

، وفي الصوم: وأن تصوموا خيرٌ لكم (4)

، وفي القصر: فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة (5)

انتهى كلام العلّامة (6).

هذا وأنّ ظاهر الآية يفيد الوجوب، وأيضاً الجزئية، وهو ما ذهب إليه الشيخ


1- 1 من لا يحضره الفقيه 1: 295 باب الصلاة في السفر.
2- 2 آلاء الرحمن للبلاغي: 141.
3- 3 الصف: 11.
4- 4 البقرة: 184.
5- 5 النساء: 100.
6- 6 انظر الميزان في تفسير القرآن، الآية، للعلّامة الطباطبائي.

ص: 136

الفاضل اللنكراني في كتاب الحجّ، فبعد أن يقول: لا خلاف بين المسلمين في وجوب السعي وكونه جزءاً من الحجّ والعمرة، يذكر قوله تعالى: إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حجّ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما... ثمّ يقول: وظاهره الوجوب والجزئية، والتعبير بقوله: لا جناح إنّما هو كالتعبير بمثله قصر الصلاة في السفر (1)، وهو ما ذهب إليه أيضاً صاحب كتاب الأمثل الشيخ مكارم الشيرازي في تفسير الآية (2)، وصاحب براهين الحجّ، المدني الكاشاني (3) وغيرهم.

المقطع الثالث

ومن تطوّع خيراً فإنّ اللَّه شاكرٌ عليم

هذا المقطع يلقي ضوءاً على أهمّية هذا المنسك واهتمام السماء به، وجاء تأييداً للمقطعين الأوّل والثاني وتفريعاً عليهما، حيث إنّ الآية لم تكتفِ بما قدّمته في المقطعين من أنّه منسك وشعيرة إلهية ومن نفي الإثم عن أدائه ولو مع وجود الأسباب المذكورة عند القوم، راحت تقدّم عطاءً آخر للمؤمنين ترغيباً وتشجيعاً لهم للإكثار من هذا المنسك والاستزادة منه بعد أداء الواجب، فأجره عظيم وجزاؤه جليل، وكان التعبير عن هذا الأجر والجزاء بأنّ اللَّه شاكر عليم.. فقد أطلق الشكر وأراد به الجزاء بطريق المجاز مبالغةً في الإحسان على العباد.

فإذا ما تظافرت هذه المقاطع الثلاثة يتّضح لنا شأن هذا المنسك وعلوّ قدره وأنّ وجود الأصنام أو عبادتها أو أنّه من شعائر الجاهلية أو لعزف الشياطين أو غيرها من الأسباب... لا يضرّ بأهمّيته وأنّه عبادة اختارتها السماء وليس للساعي في حجٍّ أو عمرةٍ إلّاإطلاق النيّة للَّه تعالى..

وختاماً فإنّ هذه الآية بمقاطعها الثلاثة ما جاءت لرفع وجوب السعي، أو تستبد له بالإستحباب أو بشي ء آخر، وإنّماجاءت- إن لم نقل لإثبات وجوب السعي كما هو صريح بعض الروايات وأقوال جمع من الفقهاء- كما هو ظاهرها، إلى توكيد هذه الشعيرة المقدّسة والدفاع عن وجوبها وأنّها جزء من مناسك الحجّ والعمرة.


1- 1 تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحج/ السعي 5: 9.
2- 2 الأمثل في تفسير كتاب اللَّه المنزل 1: 380- 381.
3- 3 براهين الحجّ.

ص: 137

الهوامش:

ص: 139

منهج الرشاد لِمَنْ أراد السَداد (1)

منهج الرشاد لِمَنْ أراد السَداد (1)

منهج الرشاد لِمَنْ أراد السَداد (1)

رسالة الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء

إلى الأمير عبد العزيز بن سعود

تقديم وتحقيق: الدكتور جودت القزويني

هذه الرسالة حصيلة مراسلة بين شخصيّتين كبيرتين تمثَّلتا بالشيخ جعفر كاشف الغطاء- زعيم الطائفة الإمامية في عصره-، المتوفّى سنة 1228 ه/ 1813 م، وبين الأمير عبد العزيز بن سعود- أحد قادة الحركة الوهابيّة في عهدها الأوّل-، المتوفّى سنة 1218 ه/ 1803 م.

والسبب الذي دعا إلى تأليفها هو أنّ الأمير عبد العزيز كتب رسالة إلى الشيخ كاشف الغطاء، انتقد فيها الممارسات التي يُطبّقها زوّار المراقد الدينيّة المقدّسة،- وهي حسب العقيدة الوهابية تقارب الشرك في مقام التوحيد- المبتنية على مفردات نظرية مثل: الشفاعة، والتوسّل، والاستغاثة.

ولمعرفة ما تنطوي عليه هذه الأوراق من مناقشة وجدل يتحتّم فهم الظروف التي كانت سائدة في منطقة الجزيرة، والتي بدأت تؤثّر في المناطق المحيطة تأثيراً بالغاً وفعّالًا.

فقد كانت منطقة الجزيرة العربيّة سياسياً واقعة تحت نفوذ السيادة

ص: 140

العثمانية (عدا مسقط)، كما كان حال الدول الاخرى مثل: العراق، وبلاد الشام، ومصر. ولم تكن سيطرة الدولة العثمانية على هذه البلدان سيطرة فعلية حيث تكتفي من الولاة بتقديم المبالغ المناسبة دليلًا لخضوع الوالي لها.

وفي القرنين (الثاني عشر والثالث عشر الهجريّين/ الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديّين) بدأ النفوذ البريطاني يدخل منطقة الشرق لتأمين سلامة المواصلات التجارية بين الهند وانكلترا، ووصول بضائع شركة الهند الشرقية الانكليزية إلى موانئ الخليج.

وكانت إيران تحت سلطة الافشاريين بعد سقوط الدولة الصفوية سنة 1135 ه/ 1722 م.

وفي أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، أصبح نفوذ البريطانيّين شبه منفرد في المنطقة، لانشغال الدولتين الكبيرتين القاجارية والعثمانية بأوضاعهما الداخلية المضطربة والنزاعات المتكرّرة بينهما.

ففي هذا الوسط ظهرت الدعوة الوهابية، وامتدّت بتحالفٍ تمَّ عام 1157 ه/ 1744 م بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود على أن يكون صاحب السيف حارساً للدين وناصراً للسُنّة، وأن يستمرّ الداعية على العمل بدعوته الإسلامية الجديدة.

وقد اتّسعت الامارة في عهد محمّد بن سعود (1) فشملت أكثر (نجد) حيث تكرَّست فتوحاته على القرى المحيطة (بالدرعيّة) والتي نجح في القضاء على زعاماتها المحلّية، ولم يبق خارجاً عن قبضته سوى مدن الرياض والاحساء والقصيم.

وقد حكم محمّد بن سعود عشرين عاماً حتّى وفاته سنة 1179 ه/ 1765 م


1- 1 كانت إمارة آل سعود لا تتعدّى البلدتين أو الثلاثة في زمن أبيه سعود بن محمد بن مقرن، وقد اتّسعت الفتوحات بعد تولّي محمّد بن سعود الزعامة سنة 1139 ه/ 1727 م.

ص: 141

حيث تولّى الحكم بعده ولدُهُ عبد العزيز.

أمّا ولدُه (المُعنى بهذه الرسالة) عبد العزيز بن محمّد بن سعود، فقد حكم (39) عاماً، وخلال هذه الفترة الزمنيّة اتّسعت فتوحاتُهُ اتساعاً امتدَّ بسلطانه من شواطئ الفرات إلى رأس الخيمة وعُمان، ومن الخليج الفارسي إلى أطراف الحجاز وعسير.

إنّ العلاقة (الوهابية- الاثنا عشرية) مرّت بمرحلتين:

الأولى: في حياة شيخ الوهابية محمد بن عبد الوهاب حتّى وفاته عام 1206 ه/ 1792 م.

الثانية: ما بعد رحيل الإمام محمد بن عبد الوهاب، أي خلال مرحلة حكم الأمير عبد العزيز بن سعود (1206 ه- 1218 ه).

ففي المرحلة الأولى لم تشهد المدن المقدّسة الشيعيّة أيّ هجوم وهابي.

والسبب يعود- كما ذكر صاحب العبقات- إلى علاقة الشيخ جعفر الطيّبة مع الشيخ محمد بن عبد الوهّاب. وبالرغم أنّ المصادر التأريخية لم تُشِر إلى علاقة كهذه سوى ما ذُكر في (العبقات) فإنَّ سياق الأحداث التأريخية يؤكّد وجود علاقة بين الطرفين، ربّما امتدّت منذ إقامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيّام دراسته في بغداد، وبقيت حتّى تولّي الشيخ كاشف الغطاء زعامة الطائفة الإمامية.

أمّا المرحلة الثانية- والتي تبدأ بعد وفاة الشيخ محمد بن عبدالوهاب-، فإنّها اتّسمت بالحوار الدبلوماسي في سنيّها الأولى، لكنّها لم تستمرّ على هذه الوتيرة بعد الغزو الوهابي لمدينة كربلاء عام 1216 ه، وإحلال الدمار والقتل فيها.

وتتجلّى أهمّية هذا الحوار في المراسلات التي دارت بين الأمير عبد العزيز بن سعود والشيخ كاشف الغطاء، حيث كتب الأمير عبد العزيز

ص: 142

رسالة (نقل قسماً من مضامينها كاشف الغطاء) وردّ عليها برسالة أشبه ما تكون بالمناقشة الشاملة لما ورد من الشبهات التي أُثيرت حول الفكر الإمامي، وممّا لم يرد منها أيضاً.

قد تميّز منهج كاشف الغطاء في رسالته بسمات، أهمّها:

1- امتازت الرسالة بالموضوعيّة والصدق والواقعية وغزارة المعرفة، وقوّة الاستدلال؛ حيث نهج مؤلّفها منهجاً عقلانياً متكاملًا ردَّ فيه المنطق بالمنطق، والحجّة بالحجّة والبرهان، ممّا جعلها- على رغم أنّها نافت على القرنين من الزمن- رسالةً فتيةً ما زالت حجّيتها قائمة، طريّة الأفكار، متينة المباني، عذبة المحاججة وخالية ممّا اعتاد عليه المؤلِّفون في مثل هذه الميادين من الخروج عن ذريعة العلم إلى ذرائع اخرى لا تتّصل إلى نهج المعرفة بصلة.

2- يبدو أنّ كاشف الغطاء كان يدرك أنّ الفتوحات الجديدة تهدّدُ أمن المنطقة بشكل عام، وستصل إلى العراق لضعف السلطة الحاكمة فيه، وانشغالها بالمشاكل الداخلية وغيرها؛ لذلك كان حديثه في الردّ حديثاً حاول من خلاله إقناع عبد العزيز بن سعود- بما استطاع من إمكانات- بالرجوع عن معتقداته الدينيّة، والتخلّي عن نظريته المذهبية التي اعتنقها وتبنّاها- على فرض الإمكان- أو احترام وجهات النظر المتغايرة- على فرض آخر- لذلك كان خطابه إليه خطاباً يُشعر أنّه خطاب صادر من سلطة دينيّة عُليا إلى سلطة قتالية عُليا.

وبالرغم من احترامه المتزايد للأمير الفاتح، إلّاأنّ (رسالته) لم تخلُ من واقعيّة في التعامل مع هذا الأمير، فقد حدَّثه فيها باللغة المباشرة التي يفهمها هذا الأمير العربي. وكان يعزو تبنّيه للمذهب الوهابي إلى عدم خبرته في اختيار المذهب الذي عليه أن يتبنّاه ويناضل من أجله،

ص: 143

بسبب ضآلة معرفته الفكرية.

3- تناولت الرسالة ردّاً للشبهات التي نشرها الوهابيّون، وقد رتّبها على مقدّمة وفصول ومقاصد، وكان لا يملُّ من تكرار كلمة «أخي»، و «أقسم عليك»- نهاية كلّ موضوع- بعد بيان النتيجة التي يتوصّل إليها بعد إيراده جملة من الأحاديث النبويّة لعلّ ذلك يكون سبباً لمراجعة المُعتقد من جديد.

4- استخدم في طيّات رسالته أسلوب الموعظة، وإلفات النظر إلى أنّ النفوذ الدنيوي مهما بلغ فإنّه سيؤول إلى الزوال. وقد أطنب في اختيار بعض المرويّات المتعلّقة بنهاية الإنسان وفنائه في الفصل الثالث، تحت عنوان أي حياة سائر الموتى.

5- نسب كاشف الغطاء نفسه في رسالته هذه إلى أنّه من تلامذة مدرسة (بغداد). وقد ذكر محمّد حسين كاشف الغطاء أنّ الشيخ جعفراً أراد بذلك أن يظهر بمظهر أهل السُنّة؛ ليتوصّل إلى أهدافه، ويُقلع عبد العزيز عمّا هو عليه. ولم يكن هذا الرأي موافقاً للصواب لعلم الأمير عبد العزيز بهويّة كاشف الغطاء، ومخاطبته الصريحة في رسالته التي انتقد فيها زوّار قبر الإمام عليّ في النجف.

ويمكن الاستنتاج أنّ العلاقة التي يشير إليها صاحب (العبقات) نفسه بين الشيخ كاشف الغطاء وابن عبد الوهاب، يمكن أن تكون ممتدّة إلى أيّام تتلمذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب على يد شيوخ الحنابلة البغداديّين. فأراد كاشف الغطاء أن يظهر أمام عبد العزيز بن سعود أنّه بمنزلة شيخه، الذي نهض بأعباء الدفاع عن فكره ونشر معتقداته بالقوّة.

6- لمّا كان المذهب الوهابي يعتمد على صحاح الأحاديث السُنّية، فقد

ص: 144

التزم كاشف الغطاء في نقل أحاديثه ومناقشاته على الصحاح فقط، ولم يتطرّق إلى غيرها من كتب الحديث. كما نقل أقوال كبار علماء السُنّة في بحثه، ولم يتطرّق إلى كتب الحديث الشيعيّة سوى ما نقله فقط عن كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي في حديث عام يتّصل بالمجادلة بين النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله وبعض المناوئين له من العصر الجاهلي.

7- كُتبتْ هذه الرسالة في سنة 1210 ه/ 1795 م، أي في حياة العلّامة السيّد مهدي بحر العلوم الذي تُوفي سنة 1212 ه/ 1797 م. وكانت المرجعية في هذه المرحلة مقسَّمة بين عدد من المجتهدين، حيث تخصّص بحر العلوم بالتدريس، وكاشف الغطاء بالزعامة والفُتيا، والشيخ حسين نجف بالصلاة جماعة، ممّا يُبرهن على انحصار مرجعيّةالتقليد السياسيّة والدينيّة في شخص كاشف الغطاء دون غيره من المجتهدين الكبار من طبقته.

لقد كان الشيخ كاشف الغطاء مدركاً المتغيّرات السياسيّة، والصراع القائم بين القوى المتنازعة على الخليج، فحاول أن يُظهر النجف مركزاً مستقلّاً عن مدار صراعات دول المنطقة، وأن يجنّب المرجعية الدينيّة العليا من الدخول في هذا الصراع.

ومن هنا يمكن تفسير العلاقة الودّية التي أقامها مع شيخ الوهابية بالمكاتبة مرّة، وبتقديم الهدايا مرّة اخرى، ونجاحه في حفظ الكيان الشيعي بعيداً عن المتغيّرات السياسية التي شهدتها المنطقة.

وبمقدار النجاح الذي حقّقه كاشف الغطاء مع الشيخ عبد الوهاب، فإنّه أراد أن ينحو المنحى نفسه مع وريثه الأمير عبد العزيز بن سعود، وهو وإن نجح في تحييده قرابة العقد من الزمن، إلّاأنّ ذلك لم يمنع ابن سعود من غزو مدينة كربلاء المقدّسة عام 1216 ه، ونهب (الكنوز)

ص: 145

المودعة في حرم الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، وقتل أهالي البلدة قتلة مأساوية شنعاء.

إنّ الهجوم الوهابي على (كربلاء) عام 1216 ه، لم يكن مستهدفاً الشيعة بمقدار ما كان يهدف إلى إحلال الفوضى في الامبراطورية العثمانية، وتهديد سلامتها وسرقة الخزائن التي ملأها ملوك الهند والفرس بنفائس الجواهر في النجف وكربلاء.

وبعد واقعة كربلاء عام 1216 ه/ 1801 م أحسَّ كاشف الغطاء بضرورة تحصين النجف، وتعبئة الأهالي للدفاع عنها. فتهيّأت لذلك مراكز تدريب قتالية خارج البلدة يشرف عليها كاشف الغطاء بنفسه. كما تمَّ تعيين عدد من المقاتلين للحراسة، وتنظيم المجاميع الاخرى؛ للتصدّي للغزو الخارجي من وراء الأسوار (1).

وقد فشلت جميع الهجمات الوهابية الخمسة التي تكرّرت على النجف، والتي كان أعنفها الهجمة التي حدثت أواخر عام 1218 ه/ 1803 م حيث دافع النجفيّون دفاعاً عنيفاً، ولم تستطع القوّة الغازية من اقتحام المدينة.

وفي عام 1221 ه/ 1806 م تعرّضت النجف لغارة مفاجئة، إلّاأنّ ثقة النجفيّين بممارساتهم القتالية وتحصّنهم بالأسوار والأسلحة، جعلهم يتغلّبون هذه المرّة على القوّة المهاجمة بسهولة.

«منهج الرشاد»- النسخة الخطّية

وهي نسخة مكتوبة في حياة المؤلّف وقريبة لزمن التأليف، كتبها العلّامة الشيخ قاسم الدلبزي سنة 1210 ه/ 1795 م، وعليها تعليقٌ له.

وهذه النسخة- كما يظهر- مطابقة للأصل تمام المطابقة، سليمة العبارة صحيحة، وهي تتكوّن من (55) صفحة، كلّ صفحة تحتوي


1- 1 انتدب كاشف الغطاء الصدر الأعظم محمّد حسين خان وزير فتح علي شاه ببناء سور محصّن للمدينة، وفعلًا فقد بدأ العمل ببنائه سنة 1218 ه/ 1803 م، واستمرّ العمل فيه ما يقارب العقد من الزمن، فأصبحت النجف بسببه بلدة محصّنة يصعب اقتحامها حيث تضمّن خندقاً عميقاً وأبراجاً ومراصد، ومخافر، وجُعلت في طبقاته منافذ مختلفة لوضع فوهات المدافع والبنادق.

ص: 146

على (23) سطراً عدا الصفحة الاولى، ويتكوّن السطر الواحد- غالباً- من (12) كلمة.

أمّا ناسخُها العلّامة الدلبزي فهو من العلماء المجهولين الذين اختفى تراثهم، ويبدو أنّه من تلامذة المؤلّف كاشف الغطاء، والسيّد مهدي بحر العلوم، كما يظهر من بعض المخطوطات أنّه كان حيّاً سنة 1231 ه/ 1816 م. واستظهر بعضهم أنّه مات بالطاعون سنة 1247 ه/ 1831 م.

وولده الشيخ حسين الدلبزي المتوفى بالطاعون أيضاً سنة 1247 ه من العلماء المشهود لهم بالفضل، وغزارة العلم، والأُدباء الكبار، الذين احتفظت المجاميع الأدبية بنماذج من قصائدهم البليغة الجزلة.

وعلى هذه النسخة (تملُّكُ) جملة من الأعلام منهم: الشيخ سليمان العاملي، والسيّد صدر الدين الصدر (صهر المؤلّف)، والعلّامة السيّد عبداللَّه بن محمد رضا شبّر، والشيخ محمد رضا بن علي بن محمد جعفر الاسترابادي (وهي من مقتنيات مكتبة آية اللَّه العظمى المرعشي النجفي، برقم 3892 من تعداد الكتب الخطّية).

النسخة المطبوعة

أمّا النسخة الثانية فهي نسخة طُبعت بالمطبعة الحيدرية في النجف في شهر شعبان سنة 1342 ه/ 1924 م، باهتمام العلّامة السيّد عبّاس التبتي، وتقع في (82) صفحة.

وعلى صفحتها الاولى كُتبَ هذا النصّ: «كتاب منهج الرشاد لمن أراد السداد من تأليف واحد الدهور، ونادرة العصور، أفضل الربّانيّين، وأعظم أساطين الدين، شيخ الطائفة الشيخ الأكبر (الشيخ جعفر النجفي) عطّر اللَّه مرقده، صاحب كتاب كشف الغطاء، وشرح القواعد، والحقّ المبين، وغيرها من المؤلّفات الشهيرة، المُتوفّى في رجب سنة

ص: 147

ثمانية وعشرين بعد الألف والمائتين هجريّة.

كتبه بعنوان جواب مكتوب، كتبه إليه بعض امراء (نجد) من أبناء سعود الذين هم الدُّعاة إلى مذهب الوهابيّة. وهو كتابٌ جليل لم يُكتب مثله في هذا الباب.

وكان طبعه ونشره باتّفاق حضرة حجّة الإسلام، ومرجع الأنام، وحيد الناس، سيّدنا الأجلّ الحاجّ سيّد عبّاس التبّتي مُدّ ظلّه العالي. طُبعت بمطبعة (الحيدرية) في النجف الأشرف سنة 1343 ه».

وقد ذكر الطهراني أنّ منهج الرشاد هو أوّل كتاب كُتبَ في الردّ على الوهابيّة، ووصفه بأنّه حوى حقائق علمية وحججاً دامغة.

أمّا العلّامة الأمين فذكر أنّ هذه الرسالة هي أوّل رسالة كتبت في هذا الموضوع (إلّا أن يكون سبقها كتاب سليمان بن عبد الوهاب أخي محمّد ابن عبد الوهاب). وامتدح مؤلّفها وقال: «إنّها حوت كثيراً ممّا لم يحوه بعضُ ما تأخّر عنها، فهي من مفاخر ذلك العصر».

جواب الأمير عبد العزيز بن سعود

عند وصول الرسالة إلى الأمير عبد العزيز بن سعود، كتب إلى مؤلّفها الشيخ جعفر كاشف الغطاء هذه الرسالة المختصرة، وهذا نصّها:

يصل الخط إن شاء اللَّه إلى عبد اللَّه جعفر

راعي «المشهد»

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين

السلام التام، والتحيّة والإكرام، يُهدى إلى سيّد الأنام، محمّد عليه من اللَّه أفضل الصلاة والسلام، ثمّ ينتهي إلى جناب الأجلّ الأكرم عبداللَّه جعفر سلّمه اللَّه من كلِّ شرّ، وأسكنه يوم القيامة جنّة المُستقرّ، وأعاذه من

ص: 148

عذاب النار الذي يحذر.

أمّا بعد: فوصل كتابك، وفهمنا ما تضمّنه من خطابك، وما ذكرت أنّه بلغك عنّا من حُسن الطريقة، واستقامة السيرة من الصلاة والزكاة، والصيام، والحجّ، وغير ذلك من شرائط الإسلام، فالحمد للَّه الذي هدانا للإسلام، وجنّبنا من عبادة الأصنام، حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزِّ جلاله.

الصفحتان الأولى والأخيرة من مخطوطة «منهج الرشاد»

ص: 149

منهج الرشاد لمن أراد السداد

مقدّمة المؤلّف

الحمد للَّه الذي تفرّد بالأزلية والقِدم، واشتقّ نور الوجود من ظلمة العدم، أسّس قواعد الشرع على وفق المصالح والحكم، وفضّل أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله على سائر الامم، وأنزل القرآن فيه آيات محكمات هنّ امّ الكتاب وأُخر متشابهات، وحذّر عن اتّباع الملاذ والشهوات، وأمر بالوقوف عند الشبهات، وأنذر عن متابعة الآباء والامّهات، والصلاة والسلام على من قدَّمه على جميع أنبيائه، وفضّله على كافّة أصفيائه، (محمّد) المختار، صلّى اللَّه عليه وعلى آله، ما أظلم ليل، وأضاء نهار.

أمّا بعد: فقد ورد- إلى المقصّر مع ربّه، التائب إليه من ذنبه، الطالب من اللَّه السداد، (جعفر) أقلّ طلبة أهل (بغداد)- كتاب كريم، مشتمل على كلمات كالدرّالنظيم، ممّن لم يزل بالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً زاجراً، الآمر بعبادة المعبود، الشيخ عبد العزيز بن سعود (1). فلمّا نظرته وتدبّرته وتأمّلته وتصوّرته، خلوتُ في زاوية من الدار، وتصفّحته تصفّح الإنصاف والاعتبار. وقلت متّهماً لنفسي بالميل إلى العصبية والعناد، والركون إلى ما عليه الآباء والأجداد: يا نفس اعرفي قدر دنياك، واحذري شرّ من أغوى أباكِ، لقد تخلّيت عن نعيم الدنيا بحذافيرها، وقنعت بقليلها، ولو بقرص شعيرها، وتجنّبت دار العزّة والوقار، واخترتِ العزلة والخمول في هذه الديار.

فلو كنتِ في كبار البلدان، من ممالك بني (عثمان)، أو في بعض بلدان فارس وإيران، لجاءت إليك الدنيا من كلّ جانب ومكان، ونلتِ من النعيم ما لم ينله إنسان، فاحذري أن تكوني مع الإعراض عن هذه النعم الفاخرة، ممّن قد خسر الدنيا والآخرة.


1- 1 عبد العزيز محمد بن سعود أمير آل سعود في دولتهم الاولى، ولد سنة 1132 ه/ 1720 م، وولّي بعد وفاةأبيه عام 1179 ه/ 1765 م، وكانت عاصمة حكمه الدّرعية بنجد، واتّسعت الفتوحات في أيّامه، وامتدّ مُلكه من شواطئ الفرات إلى رأس الخيمة وعُمان، ومن الخليج الفارسي إلى أطراف الحجاز وعسير. اغتاله رجلٌ من أهل العمادية من ديار الجزيرة في جامع الدرعية سنة 1218 ه/ 1803 م. الأعلام للزركلي 4: 27.

ص: 150

فلمّا شممتُ منها رائحة التصفية، ورأيت أنّ نسبة المذاهب- لولا اللَّه عندها- على التسوية، وجّهتها إلى الكشف عن حقيقة الجواب عن الشُبهِ الموردة في ذلك الكتاب، ورأيت أن أشرح في الحال رسالةً على وجه الاختصار، مستمّداً من فيض الواحد القهّار، وسمّيتها «منهج الرشاد لمن أراد السداد».

فاقسم عليك- بمن جعلك متبوعاً بعد أن كنت تابعاً، ومطاعاً بعد أن كنت لغيرك مطيعاً سامعاً، وأعزّك بعدما كنت ذليلًا، وكثّر جمعك بعدما كان نزراً قليلًا- أن تنظر ما رسمته سطراً سطراً، وتمعن في تحقيق ما رقمته نظراً وفكراً، متوحشاً من الناس وقت النظر، متحذِّراً من النفس الأمّارة كلّ الحذر، طالباً من اللَّه كشف الحقيقة، سالكاً في المناظرة واضح الطريقة، فلعلّه يظهر أنّه ليس بيننا نزاع، فنحمد اللَّه على الاتّفاق والاجتماع. وقد رتّبتها على مقدّمة، ومقاصد، وخاتمة.

أمّا المقدّمة، فتشتمل على ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل

في أنّ الأفعال والكلمات تختلف باختلاف المقاصد والنيّات

فمن قال: يد اللَّه، وعين اللَّه، وجنب اللَّه، وأراد الجوارح على نحو ما في الأجسام، أو قال: إنّ اللَّه على العرش استوى، أو في جهة الفوق، وأراد الحلول والاختصاص التامّ، أو أسند الرحمة إليه، أو الغضب، وأراد رقّة القلب، أو ثوران النفس على نحو ما يعرف بين الأنام، أو أسند الرزق إلى المخلوق، أو دعاه، أو استغاث به على نحو ما يسنده إلى الملك العلّام، كان خارجاً عن مقالة أهل الإسلام.

وأمّا من قصد بها معاني اخر، فليس عليه من بأس ولا ضرر. وليس هذا كصنيع المشركين، فإنّ الفرق ظاهر، كما سنبيّنه كمال التبيين، فالمستغيث بالمنسوب مستغيث بالمنسوب إليه، والمستجير بالمكان مستجيرٌ بمن سلطانه عليه.

فمن أراد الاستجارة والاستغاثة ب (زيد) فله طريقان:

أحدهما: أن يهتف باسمه.

ص: 151

وثانيهما؛ أن ينادي بصفاته، أو مكانه، أو خدمه.

وثانيهما أقربُ إلى الأدب، وأرغب لطباع أرباب الرُتب، فلا يكون المستغيث ببيت اللَّه، أو بصفات اللَّه، أو برسل اللَّه، أو المقرّبين عند اللَّه، إلّا مستغيثاً باللَّه؛ فكلّما دعا مخلوقاً مقرّباً عند اللَّه، أو استغاث به قاصداً بحسن التعبير الاستغاثة باللطيف الخبير، فليس عليه بأسٌ في ذلك، بل هو سالكٌ في الآداب أحسن المسالك.

وكذلك من أسند تلك الأشياء لمجرّد الربط الصوري، لا على قصد التأثير الحقيقي، كما يقال: «أنبتَ الربيعُ البقل»، والمُنْبِتُ هو اللَّه، و «بنى الأميرُ القصرَ»، والباني ظاهراً بناه (1).

فإطلاق (السيّد) و (المالك) على غير اللَّه، «وإضافة (العبد) و (المملوك) في الأحرار إلى غير اللَّه» (2)، إن اريد بها الملكية الحقيقيّة، كان خروجاً عن الطريقة الشرعية، وإلّا لم يكن في ذلك بأسٌ بالكلّية.

ولهذا ورد في الأخبار النبويّة إطلاق (السيّد) على غير اللَّه.

روى أبو هريرة (3) عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة (4).

وعن أبي سعيد الخدري (5) عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة (6).

وعن عليّ عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنّة (7).

وعن فاطمة عليها السلام: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أخبرني أنّي سيّدة نساء العالمين، رواه الترمذي (8).

وروى أبو نعيم الحافظ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: ادعوا لي سيّد العرب عليّاً.

وفي حلية الأولياء أنّه قال النبيّ صلى الله عليه و آله لعليّ: مرحباً بسيّد المؤمنين (9).

وعن أبي بكرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال للحسن: إبني هذا سيّد (10)(11).

وعن عائشة (12) عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه سار ابنته الزهراء، فقال لها: أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين، أو نساء المؤمنين (13)؟

وروي ذلك عن الصحابة أيضاً، فعن جابر (14) أنّ عمر كان يقول: أبو بكر سيّدنا، وأعتقَ سيّدنا، (يعني: بلالًا)،


1- 1 في المطبوع: سواه.
2- 2 لا توجد في المخطوطة.
3- 3 أبو هريرة: عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، تُوفي سنة 57 ه/ 677 م في المدينة.
4- 4 سنن الترمذي كتاب المناقب حديث 3548؛ وصحيح مسلم كتاب الفضائل حديث 4223؛ ومسند أحمد باقي مسند المكثرين، حديث 10549؛ وسنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب 37؛ سنن الدارمي، المقدّمة، باب 8.
5- 5 أبو سعيد الخدري: سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري، تُوفي في المدينة سنة 74 ه/ 693 م، وهو من الصحابة، ورتبهم أسمى مراتب العدالة والتوثيق.
6- 6 سنن الترمذي كتاب المناقب، حديث 3701، 3714؛ وابن ماجة المقدّمة، حديث 115؛ ومسند أحمد باقي مسند المكثرين، حديث 10576، 11166، 11192، 11351. ورواه أيضاً في باقي مسند الأنصار، حديث 22240، 22241.
7- 7 سنن الترمذي كتاب المناقب، حديث 3597، 3599. ومثله حديث 3598؛ وسنن ابن ماجة المقدّمة، حديث 92، 97؛ ومسند أحمد بن حنبل مسند العشرة المبشَّرين بالجنّة، حديث 568.
8- 8 سنن الترمذي، حديث رقم 3828.
9- 9 حلية الأولياء 1: 66.
10- 10 البخاري كتاب المناقب، حديث 3357، 3463. وكذلك رواه في كتاب الصلح، حديث 2505؛ والترمذي كتاب المناقب، حديث 3706.
11- 10 البخاري كتاب المناقب، حديث 3357، 3463. وكذلك رواه في كتاب الصلح، حديث 2505؛ والترمذي كتاب المناقب، حديث 3706.
12- 11 عائشة بنت أبي بكر التيميّة، امّ المؤمنين، تُوفيت في المدينة سنة 58 ه/ 678 م.
13- 12 صحيح البخاري كتاب المناقب، حديث 3353؛ وصحيح مسلم فضائل الصحابة، حديث 4486، 4488؛ والترمذي كتاب المناقب، حديث 3807؛ وسنن ابن ماجة ما جاء في الجنائز، حديث 1610؛ ومسند أحمد باقي مسند الأنصار، حديث 23343، 24829، 25210.
14- 13 جابر بن عبداللَّه بن عمرو الأنصاري، صحابي، أقام في المدينة، وتُوفي فيها سنة 78 ه/ 697 م.

ص: 152

رواه البخاري (1).

وعن أبي بكر رضى الله عنه أنّه قال: أتقولون:

هذا شيخ قريش وسيّدهم؟ (2).

وعن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

أنا سيّد ولد آدم، وعليّ سيّد العرب.

وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنّ سادات النساء أربعة: خديجة، وفاطمة، وآسية، ومريم.

وعن عليّ عليه السلام: أنا سيّد البطحاء.

إلى غير ذلك ممّا يزيد على التواتر.

فالجمع بين ذلك وبين ما روي في الكتب المعتبرة أنّه جاء وفدٌ إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، فقالوا: أنت سيّدنا، فقال:

السيّد اللَّه (3). باختلاف القصد في معنى (السيّد).

وكذا ما وردَ من المنع من قول السيّد عبدي وأَمَتي، فقول العبد لمولاه ربّي، مع وجود ذلك في كلام يوسف (4).

وكذلك الاستغاثة بغير اللَّه، إن أُريد بها الصورة، أو من باب استغاثة العبد بقصد المعبود، فلا بأس بها، وعلى ذلك قوله تعالى: فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شيعَتِهِ عَلَى الّذي مِنْ عَدُوِّه (5)

وكذا قوله يَسْتَصْرِخُهُ (6).

وكذلك إطلاق الربّ في بعض المعاني على غير اللَّه كفر، مع أنّ الصدِّيق يوسف عليه السلام قال: اذْكُرْنِي عِنْدَ ربِّكَ (7)

، وكذلك طلب الرزق من غير اللَّه على وجه الحقيقة كفر، وقال اللَّه تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8)

وقولُهُ:

يا أيُّها الْعَزيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُرُّ (9)

، ونحوه اسْتَطْعَما أَهْلَها (10).

ومن ذلك قول القائل: لولا (فلان) لكان (كذا) فإن أراد أنّه الفاعل المختار، دخل في أقسام الكفر، وإن أراد العليّة الصورية بمجرّد رابطة جزئية، لم يكن عليه بأس بالكلّية.

ولذلك ورد عن سيّد الأنام أنّه قال:

لولا قومك حديثو عهد بالإسلام لهدمتُ الكعبة (11).

وعن سفيان الثوري أنّه قال: لولا هذه الدنيا لكان الملوك صعاليك.

وعن عمر أنّه قال لعلي عليه السلام لمّا أشار عليه بعدم أخذ حلي الكعبة: لولاك لافتضحنا.

وعن النبيّ أنّه قال لعليّ: لولا أن


1- 1 صحيح البخاري، باب مناقب بلال بن رباح 4: 217، حديث رقم 3471؛ وسنن الترمذي، كتاب المناقب، حديث 3589.
2- 2 صحيح مسلم باب فضائل سلمان، وصُهيب، وبلال 4: 1947.
3- 3 سنن أبي داود كتاب الأدب، حديث 4172؛ ومسند أحمد مسند المدنيّين، حديث 15717، 15726. وجاء فيه «أنت سيّد قريش، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: السيّد اللَّه».
4- 4 إشارة إلى قول يوسف عليه السلام: قال معاذ اللَّه إنّه ربّي أحسنَ مثواي- سورة يوسف، الآية 23- وقوله أيضاً: فلمّا جاءه الرسول قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهنَّ- يوسف، الآية 50-.
5- 5 سورة القصص: 15.
6- 6 سورة القصص: 18.
7- 7 سورة يوسف: 42.
8- 8 سورة النساء: 5.
9- 9 سورة يوسف: 88.
10- 10 سورة الكهف: 77.
11- 11 عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا عائشة لولا أنّ قومَك حديثو عهد بشرك لهدمتُ الكعبة، فألزقتُها بالأرض». صحيح مسلم كتاب الحجّ، حديث 2370؛ والبخاري كتاب العلم، حديث 123. وكذلك رواه في كتاب الحجّ:- حديث عهدهم بالجاهلية- حديث 1480، 1483.

ص: 153

تقول الناس فيك ما قالت النصارى لقلتُ فيك مقالًا.

وورد في صحيح الأثر، عن الفاروق عمر أنّه قال: «لولا عليٌّ لهلكَ عُمر».

ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، إلى غير ذلك.

وكذا الحلف بغير اللَّه إن اريد به الحلف على جهة إثبات الدعوى، كان خارجاً عن الشريعة، وإلّا لم يكن قسماً على الحقيقة.

والحديث الذي فيه: «من حلف بغير اللَّه، فقد أشرك» (1) محمول على حقيقة الحلف، وسيجي ء تفصيله في المقصد الخامس. وكذلك إطلاق اليد، والرِجل، والقدم، وغير ذلك بالنسبة إلى اللَّه على الحقيقة، لا يُوافق الطريقة من غير تأويل، لم يتوهّمه سوى نزر قليل.

مع أنّه روى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنّ النار لا تمتلئ حتّى يضع اللَّه رجله فيها (2). وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنّ النار لا تمتلئ حتّى يضع اللَّه قدمه فيها (3).

ومن ذلك نسبة الضحك والعجب إلى اللَّه تعالى، فإنَّ إرادة الحقيقة بعيدة عن الطريقة؛ مع أنّ أبا هريرة روى عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لقد عجب اللَّه، أو ضحك اللَّه، عن (فلان) و (فلانة)، ونقل قصّته (4).

فباختلاف المعاني اختلفت المباني، وكذلك في مسألة الأفعال، فإنّها شبيهة الأقوال، فإنّ القيام للتواضع قد ورد النهي عنه.

روى أبو أسامة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه خرج مُتّكئاً على عصى، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم بعضهم لبعض، رواه أبو داود (5).

وروى ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا يقوم الرجل من مجلسه، ثمّ يجلس فيه، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا (6).

وعن أنس أنّه قال: لم يكن شخصٌ أحبّ إليهم من النبيّ صلى الله عليه و آله، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك، رواه الترمذي، وقال: هذا خبرٌ صحيح (7).

فينبغي أن ينزل المنع على قيام خاصّ؛ كأن يقوم منحنياً على نحو ما


1- 1 سنن الترمذي كتاب النذور والأيمان، حديث 1455.
2- 2 صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن، حديث 4472؛ وصحيح مسلم كتاب الجنّة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 5082.
3- 3 صحيح البخاري كتاب التوحيد، حديث 6895؛ وصحيح الترمذي كتاب صفة الجنّة، حديث 2480، 2484.
4- 4 صحيح البخاري كتاب المناقب، حديث 3524، وصحيح مسلم كتاب الأشربة، حديث 3829، 3830؛ وسنن الترمذي باب تفسير القرآن، حديث 3226.
5- 5 سنن أبي داود كتاب الأدب- باب قيام الرجل للرجل، حديث 5230.
6- 6 مسند أحمد 2: 17.
7- 7 سنن الترمذي كتاب الأدب- باب كراهية قيام الرجل للرجل، حديث 2678.

ص: 154

يصنع الأعاجم. وفي الخبر ما يرشدُ إليه اختلاف الأغراض والمقاصد.

كما روي عن معاوية أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: مَنْ سرّه أن يتمثّل له الرجال قياماً، فليتبوء مقعده من النار (1).

وحديث «ولا يقوم الرجل»، ظاهره اختصاص الجالس مجلسه، وربما ينزل ما دلّ على كراهته، كذلك على نحو كراهته لملاذ الدنيا، وزهده في القيام كزهده في مباحاتها.

فقد روى أبو سعيد الخدري أنّ سعداً جاء على حمار، فلمّا دنا من المسجد، قال النبيّ صلى الله عليه و آله للأنصار: قوموا إلى سيّدكم (2).

وعن عائشة قالت: كنت جالسةً متربّعة، فجاء النبيّ صلى الله عليه و آله فأردتُ القيام، كما هي عادتي عند دخوله، فمنعني (3).

فإنَّ فيه دلالة على أنّ ذلك كان معتاداً لها، ولعلّ هذا المنع كان لسبب خاصّ، أو كزهد الدنيا، وكسر النفس.

وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه لمّا قدم جعفر مبشّراً بفتح خيبر، قام، فقال: ما أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحاً، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟! (4).

وقيام الاحتمال في هذه الأخبار لا يمنع الاستناد إليها كما لا يخفى على أُولي الأنظار، مع ما ورد في الأخبار الكثيرة من استحباب تعظيم المؤمن، ويدخل في تعظيم شعائر اللَّه على نحو ما ورد في التفاسير المعتبرة.

وعن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان جلس معنا في المسجد يحدّثنا، فإذا قام قمنا لقيامه، حتّى نراه دخل بعض بيوت أزواجه.

وعن واثلة (5) قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ للمسلم لحقّاً إذا رآه أخوه تزحزح له، رواه البيهقي في شعب الإيمان (6).

ولعلّ هذا مبني على أنّ التواضع تختلف أقسامه باختلاف الأزمان، وكيف كان فالذي يظهر بعد التأمّل التامّ اختلاف الأقوال والأفعال باختلاف المقاصد. ومن ذلك اختلاف أحوال الزُهّاد، فبعض ترك المآكل والملابس الحسان، واقتصر على الجشب والخشن، وبعضهم يأكل من أطيب المأكول، ويلبس من أنعم الملبوس.

وباعتبار اختلاف النيّات دخل


1- 1 سنن أبي داود كتاب الأدب، حديث 4552؛ وسنن الترمذي كتاب الأدب، حديث 2679.
2- 2 سنن أبي داود، حديث 5216.
3- 3 أيضاً، حديث 5217.
4- 4 علّق العلّامة الشيخ قاسم الدلبزي ناسخ الكتاب على هذا الموضوع بقوله: «لقائل أن يقول: إنّ حديث جعفر ليس فيه دلالة على المطلوب؛ لأنّ قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «ما أدري أنا بأيّهما أشدُّ فرحاً» لا دلالة فيه لاحتمال أن يكون من جمعة الفرح؛ يعني ما أدري فرحي لقدوم جعفر، أو لفتح خيبر؛ لأنّ مطلوبنا القيام، وهذا لا دلالة فيه على أنّ القيام كان من النبيّ لجعفر من جمعة فرحه بفتح خيبر. وكذلك حديث أبي هريرة، وحديث واثلة؛ لأنّ قول الأصحاب قمنا قياماً، حتّى قوله دخل بيوت بعض أزواجه لا دلالة فيه على أنّهم قائمين- هكذا وردت في الأصل- له صلى الله عليه و آله، وكذا قوله في حديث واثلة: فإذا رآه أخوه تزحزح له لاحتمال أن يكون التزحزح، والتفسُّح بمعنى واحد. والمنكر لا ينكر التفسّح». قاسم الدلبزي
5- 5 واثلة بن الأسقع بن كعب، تُوفي سنة 83 ه/ 702 م بدمشق عن 105 سنين.
6- 6 سنن البيهقي، كتاب شعب الإيمان.

ص: 155

(العَمَلان) في قسم العبادات.

ثمّ إنّ الأفعال المختلفة بعضها لا ينسب إلى غير اللَّه، كإيجاد الكائنات، وصنع المصنوعات. وبعضها لا ينسب إلى اللَّه، كأفعال القبائح والمُنَفِّرات، وبعضها تختلف معانيها ومقاصدها، فتنسب إلى الخالق مرّة، والمخلوق أخرى. وهذا الحُكم متمشٍ على قول مَنْ لم يُثبتْ فاعلًا سوى اللَّه، وعلى قول من أثبت.

والمعيار أنّه متى قام احتمال إرادة وجه صحيح بني عليه، لقوله صلى الله عليه و آله:

«ادرؤا الحدود بالشبهات»، «ولا تقل في الناس إلّاخيراً». وما دلّ على النهي عن سوء الظنّ، فكيف بالشكّ.

وعن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه و آله: ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم (1).

فالناس إذن في صدور أمثال هذه الامور عنهم على أنحاء:

بين علماء عاملين، مقاصدهم صحيحة، فلا يتعمّدون بالأقوال والأفعال، إلّاالوجوه السليمة من القيل والقال.

وبين عوام جُهّال بنوا على ما بنى عليه علماؤهم على الإجمال، وليس لهم قابلية التفتيش على حقيقة الحال، فهم أيضاً معذورون عند ربِّ العزّة والجلال.

وبين من بنوا على طريق الضلال، وعليهم المؤاخذة بضروب النكال.

والتحقيق أنَّ تبدّل الأحكام بتبدّل الموضوعات، ليس من باب التشريع والإبداع، مثلًا يستحبّ للنساء التزيّن لرجالهن، فمنذ كان لبس السواد زينة استُحب، فإذا انعكس وصار الميل إلى الأحمر والأصفر انعكس الخطاب.

وألوان اللباس تختلف باختلاف الناس، ففي كلّ بلاد يستحبّ لون ونوع، فإنّه قد يكون في مكان لبس شهرة، وفي آخر بعكسه، وفي موضع من لباس النساء، وفي موضع بعكسه.

وكذا كانت رغبة الناس في طيب الكافور، فكرهه اليوم. وكذلك إكرام الضيف بالمآكل، وكذا المراكب، فيختلف الحال باختلاف الأحوال.

وكذا طريق التواضع، وتعلية البناء، ولباس الزهد.

والزهد في المأكول يختلف باختلاف


1- 1 المستدرك للحاكم 1: 384.

ص: 156

الأزمنة، والأمكنة، والأحوال، والمقاصد، وعلى ذلك مبنى كثير من اختلاف الأخبار.

وكذا يستحبّ التأهّب لجهاد الكفّار بأحسن السلاح، وكان أطيبها السيوف والرماح، وصار الأحسن في هذه الأيّام (التفك) (1) المعروف بين الأنام.

وكذا الوصول إلى بعض الأرضين لايستحب، حتّى تجعل مقبرة للمسلمين.

فاختلاف الأزمنة والأمكنة والجهات، قد يبعث على اختلاف الأحكام؛ لاختلاف الموضوعات، وربما بني على ذلك اختلاف كثير من الأخبار، وطريقةالمسلمين على اختلاف الأعصار.

وفّقنا اللَّه وإيّاكم لسلوك الجادّة المستقيمة، والأخذ بالطريقة السليمة، وردّني اللَّه إليك إن كنتَ أنتَ على الحقّ، وردَّكَ إليَّ إنْ كان الحقُّ معي، ومع أكثر الخلق.

الفصل الثاني

في بيان اختلاف ظواهر الآيات والروايات

وإن لكلٍّ من الحقّ والباطل مأخذاً، كما روي: أنَّ لكلّ حقّ حقيقة، ولكلّ صواب نوراً، فمن أراد الحقّ اهتُدي إليه، ومَنْ أراد الباطل كان له ميدان في المجادلة عليه. فمن خرج عن جادّة الإنصاف، وسلك طريق الغيّ والاعتساف، ولم يرجع إلى سيرة الصحابة والتابعين، أمكنه أن يستند إلى ظاهر القرآن المبين، فيما يخرج عن شريعة سيّد المرسلين.

فإنّ (الوعيدية) المنكرين للعفو، الموجبين للمؤاخذة على المعاصي، يمكنهم الاستدلال بآية سورة الزلزال فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (2)

، و (الوعدية) القائلين برفع المؤاخذة بالكلّية، وإنّ اللَّه لا يعاقب على معصية، لهم الاستناد إلى قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً (3)

، ووعده لا خلف فيه.

والمثبتون للرؤية في الآخرة يستندون إلى قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إلى رَبِّها ناظِرَةٌ (4)

، والنافون إلى قوله تعالى:


1- 1 وفي نسخة البُندق، ويقصد بها البنادق.
2- 2 سورة الزلزلة: 7- 8.
3- 3 سورة الزمر: 53.
4- 4 سورة القيامة: 22- 23.

ص: 157

لا تُدركُهُ الأبصار وهو يُدرِكُ الأبصار (1).

والقائلون بأنّ اللَّه على العرش بآية عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (2)

، والنافون بقوله تعالى: إنَّ اللَّه مَعَنا (3)

و إنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدينِ (4) ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَة إلّاهُوَ رابِعُهُمْ (5).

والقائلون بالتجسيم على الحقيقة يستندون إلى مثل قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْديِهِمْ (6)

، والنافون إلى قوله:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ءٌ (7)

ونحوها.

والقائلون بجواز المعصية على الأنبياء يستندون إلى مثل قوله تعالى:

وَعصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (8)

، والنافون بمثل قوله: لا يَنالُ عَهْدِى الظّالِمينَ (9).

والقائلون باستناد جميع الأفعال إلى اللَّه، استندوا إلى قوله: خَالِقُ كُلِّ شَي ءٍ (10)

وقوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (11).

والآخرون إلى قوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّه وَمَا أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنَ نَفْسِكَ (12).

والقائلون بأنّ الكفّار مخاطبون بالفروع بعموم: يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ (13)

، والنافون لذلك بخطاب: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا (14)

إلى غير ذلك.

وكذا في الفروع الفقهيّة، فإنَّ كلّاً من الفقهاء له مآخذ من الكتاب والسنّة، مغاير لمآخذ صاحبه، كما لا يخفى على المتتبّع، فلمن أراد أن يُبيحَ جميع الأشياء قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما في الأَرْضِ (15)

ومن قصر التحريم على أربعة استند إلى ما دلّ على تحليل جميع الأشياء ما عدا الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أُهِلَّ به لغير اللَّه، من جميع ما خلق اللَّه.

والحاصل: أنَّ كُلَّ مَنْ أراد العناد والعصبية، فله مَدْرَك يتشبّث به من آية قرآنية، أو سنّة محمّدية، ويكون صاحب مذهب ورأي، يباحث الفضلاء، ويُناظر أساطين العلماء، ما لم يكن له حاجب من تقوى اللَّه.

ولقد أجاد بعض القدماء، من فحول العلماء حيث يقول: إنَّ المسائل الشرعيّة عندي بمنزلة الشمع اللّين، أُصوّره كيف شئت لولا تقوى اللَّه.


1- 1 سورة الأنعام: 103.
2- 2 سورة طه: 5.
3- 3 سورة التوبة: 40.
4- 4 سورة الشعراء: 62.
5- 5 سورة المجادلة: 7.
6- 6 سورة الفتح: 10.
7- 7 سورة الشورى : 11.
8- 8 سورة طه: 121.
9- 9 سورة البقرة: 124.
10- 10 سورة الأنعام: 102.
11- 11 سورة النساء: 78.
12- 12 سورة النساء: 79.
13- 13 سورة البقرة: 21.
14- 14 سورة البقرة: 104.
15- 15 سورة البقرة: 29.

ص: 158

ونُقلَ أنَّ بعض الفضلاء أخذ قطعةً من قرطاس في محفل من الناس، فأورد عليهم براهين على أنّها قطعة ذهب، حتّى أقرّوا بذلك.

ولكن مَنْ أراد رضا الجبّار، ورجا الفوز بالجنّة، وخاف عذاب النار، ينظر إلى المعادلة في الدلالات، ثمّ ينظر المرجّحات الخارجيّات، وأولاها التأمّل في طريقة الصحابة وسيرتهم، فإنّها أعظم شاهد على ما حَكمَ به الجبّار، وجرت عليه سُنّة النبيِّ المختار صلى الله عليه و آله فإنَّ لكلّ ملّة طريقةً يرجعون إليها، ويُعوِّلون عند وقوع الاشتباه عليها.

وقد يحصل العلم بما عليه الأمراء، من النظر إلى عمل أتباعهم، وأشياعهم، ورعاياهم، وخدمهم، وحشمهم؛ لأنَّ الأثر يدلّ على مؤثّره، والمنتهى يدلّ على مصدره.

وبُعدُ العهد بيننا وبين زمان (الصدور)، ربّما أخفى علينا كثيراً من الامور، فإذا حصل الإجماع والاتفاق، ارتفع النزاع والشقاق، وكذلك إذا اشتهر أمر بين السلف وظهر، فلا وجه للانصراف عنه إلى ما شذَّ وندر.

فقد علم أنّ الميزان الذي لا عيب فيه، ولا نقص يعتريه، هو الرجوع إلى كلام الصحابة، والتابعين، وتابعي التابعين؛ لأنّه موضح وكاشف لحكم سيّد المرسلين.

ولمّا اختلفت الأخبار في بعض ما أوردناه وشرحناه، لزم الرجوع إليهم، والاعتماد في تصحيح الأخبار- بعد اللَّه- عليهم.

على أنّ الأخبار الدالّة على جواز ما منعه المانعون أكثر مورداً، وأوفر عدداً، وأقرب إلى ظاهر الكتاب والسنّة وكلام الأصحاب.

وفّقنا اللَّه وإيّاكم لإدراك حقائق الامور، والتوفيق للسعادة يوم النشور، وجعلنا من المتمسّكين بالعروة الوثقى، والمتشوّقين إلى دار الآخرة التي هي خيرٌ وأبقى، واللَّه وليّ التوفيق، وبيده أزمة التحقيق.

الفصل الثالث

في بيان الميزان (1) التي يُرجع إليها إذا تشابهت الامور

وهي ما عليه الصحابة والتابعون، وما أجمع عليه المسلمون. قال اللَّه


1- 1 الميزان مذكّر، وقد يكون بتأنيثها أراد آلاله التي توزن بها الأشياء.

ص: 159

تعالى: وَمَنْ يَتَّبع غَيْرَ سَبيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى(1)

وقال:

إنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ (2)

.

وعن ابن عمر، أنّه قال: لا تجتمع امّتي- أو قال: (أُمَّة مُحمَّد)- على ضلال، ويد اللَّه على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، رواه الترمذي (3).

وعن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: اتّبعوا السواد الأعظم، فإنّه من شذَّ شذّ في النار (4).

وعن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

مَنْ سرَّهُ بُحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد، وهو من الاثنين أبعد (5).

وعن أُسامة بن شريك (6)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أيما رجل يفرق بين امّتي فاضربوا عنقه، رواه النسائي (7).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ اللَّه أجاركم من ثلاث خلال، وعدَّ منها: أن تجتمعوا على الضلال (8).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: ما اجتمعت امّتي على الخطأ (9).

وقال عليّ عليه السلام في بعض خطبه:

عليكم بالسواد الأعظم، وإنّ الشاذّة للذئب (10).

وعن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم.

وعن رزين، عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: سألتُ ربّي عن اختلاف أصحابي، فأوحى إليَّ: إنَّ أصحابك بمنزلة النجوم، بعضها أقوى من بعض، ولكلٍّ نور، فمَنْ أخذ بما هم عليه من اختلافهم، فهو عندي على هدى (11).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّ مثل أهل بيتي كسفينة نوح، مَنْ ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها هلك (12).

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: لو سلك الناس وادياً، وسلك الأنصار وادياً أو شعباً، لسلكتُ وادي الأنصار (13).

وعن زيد بن أرقم (14)، قال: قام النبيّ صلى الله عليه و آله خطيباً، فقال: أيّها الناس إنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسولُ ربّي فأُجيب، وأنا تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب اللَّه فيه الهدى، وأهل بيتي، أُذكّركم اللَّه في أهل بيتي، رواه مسلم (15).

وعن جابر (16)، قال: رأيتُ النبيّ صلى الله عليه و آله


1- 1 سورة النساء: 115.
2- 2 سورة الأحزاب: 33.
3- 3 سنن الترمذي كتاب الفتن- باب ما جاء في لزوم الجماعة-.
4- 4 مسند أحمد بن حنبل 4: 383.
5- 5 سنن الترمذي، حديث 2165.
6- 6 أُسامة بن شريك الثعلبي الذبياني، كان من الصحابة، سكن الكوفة.
7- 7 سنن النسائي كتاب تحريم الدم، حديث 3957؛ وصحيح مسلم 3: 1479.
8- 8 سنن أبي داود، حديث 4253.
9- 9 سنن ابن ماجه، حديث 3950.
10- 10 نهج البلاغة، الخطبة 127.
11- 11 كنز العمّال 1: 181، حديث 917.
12- 12 مستدرك الحاكم 3: 150.
13- 13 صحيح مسلم، حديث 135.
14- 14 زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، أقام بالكوفة أيّام المختار، وتُوفي فيها سنة 66 ه، وقيل سنة 68 ه/ 687 م.
15- 15 صحيح مسلم فضائل الصحابة، حديث 4425؛ ومسند أحمد بن حنبل، مسند الكوفيّين، حديث 8464، وسنن الدارمي فضائل القرآن، حديث 3182.
16- 16 جابر بن عبداللَّه الأنصاري، توفّي سنة 78 ه/ 697 م، عن 94 عاماً.

ص: 160

في حجّة يخطب، فسمعته يقول: يا أيُّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي، رواه الترمذي (1).

وقريبُ منه ما رواه زيد بن أرقم (2).

وعن حذيفة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر (3).

وعن جبير بن مطعم (4)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: أنَّ امرأته قالت للنبيّ صلى الله عليه و آله: إن لم أجدك فإلى مَنْ أرجع؟ فقال: إئت أبا بكر (5).

وعن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: وُضعَ الحقّ على لسان عمر يقول به (6).

وعن أبي داود، عن أبي ذرّ، قال:

إنَّ الحقّ وضع على لسان عمر يقول به (7).

وعن عقبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لو كان بعدي نبيّ لكان عمر ابن الخطّاب (8).

وعن سعد بن أبي وقّاص أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال لعليّ عليه السلام: أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى (9).

وعن عبداللَّه بن عمرو (10)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: ما أظلّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة، أصدق من أبي ذرّ، رواه الترمذي (11).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: اللّهمَّ أدرِ الحقَّ مع عليّ حيث ما دار، رواه الترمذي (12).

وعن عمّار، أنَّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: إذا سلك الناس طريقاً، وسلك عليّ غيره، فاسلك طريق عليّ عليه السلام.

وعن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال:

مَنْ كان مستنّاً فليستنّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله كانوا أفضل هذه الامّة، أبرّها قلوباً، وأعمقها علماً.

إلى أن قال: فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوهم على إثرهم، وتمسّكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرتهم، فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم، رواه رزين (13).

وعن عرباض بن سارية (14)، قال:

صلّى بنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ووعظ ثمّ قال:

إنّه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، تمسّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم


1- 1 سنن الترمذي باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله، حديث 3786.
2- 2 أيضاً، حديث 3788.
3- 3 أيضاً، حديث 3662.
4- 4 جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي، تُوفي سنة 59 ه/ 260 م.
5- 5 سنن الترمذي، حديث 3676.
6- 6 أيضاً، حديث 3682.
7- 7 أيضاً، حديث 3682.
8- 8 سنن الترمذي، حديث 3686.
9- 9 المصدر السابق، حديث 3731.
10- 10 هو ابن عمرو بن العاص السهمي القرشي، صحابي، أقام في مصر، وتُوفي في الطائف سنة 63 ه/ 683 م.
11- 11 سنن الترمذي، حديث 3801؛ وسنن ابن ماجة المقدّمة، حديث 152.
12- 12 سنن الترمذي كتاب المناقب، حديث 3647.
13- 13 صحيح مسلم، ج 4، ص 1962.
14- 14 عرباض بن سارية السلمي الحمّصي، صحابي، أقام في الشام، وتُوفي سنة 75 ه/ 694 م.

ص: 161

ومحدثات الامور، فإنّ كلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، (رواه أحمد، وغيره) (1).

وعن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه:

من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية (2).

وعن الحارث الأشعري (3)، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ خرجَ عن الجماعة قدر شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.

وعن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنَّ مَنْ فارق الجماعة قدر شبر مات ميتة جاهلية (4).

وعن عبداللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: إنَّ امّته تفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، وليس فيها ناج سوى واحدة، فسُئِلَ عنها، فقال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (5).

إلى غير ذلك من الأخبار.

ومقتضى ذلك أنّه من اللّازم الرجوع إلى سيرة الصحابة وطريقتهم، وأنّها الميزان إذا اشتكلت علينا الامور، وتعارضت علينا الأدلّة، وسيتّضح أنّ جميع ما ينكر من هذه الأفعال الموردة صادرة عن الصحابة، وطريقتهم مستمرّة عليه، مع أنّ في السنّة ما يدلّ على جوازه.

وما ورد عنه صلى الله عليه و آله أنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً (6)، فلا ينافي ما ذكرناه؛ لأنّ فرقة الإسلام بين طوائف الكفر كنقطة في بحر.

وروى أبو سعيد الخُدري عن النبيّ صلى الله عليه و آله: ما أنتم في الناس إلّاكالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود (7).

وعوده غريباً في أيّام الدجّال، ونحوه يكفي في صدق الخبر.

وروى عبداللَّه بن مسعود (8) عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا تقوم الساعة إلّا على شرار الخلق، رواه مسلم (9).

وعن أبي سعيد الخدري (10) عن النبيّ أنّه قال: لا تقوم الساعة حتّى لا يقال في الدنيا اللَّه (11).

وكلّ ما صدر في زمان الصحابة من الأعراب بمحضر منهم ولم ينكروه، فهو موافق لرضاهم، وإلّا لأنكروه؛ ولهذا أوردنا في هذه الرسالة كثيراً ممّا صدر في زمانهم من غيرهم.

وعلى كلّ حال، فلا كلام في أنّ


1- 1 مسند أحمد بن حنبل مسند الشاميّين، حديث 16692، 16694، 16695؛ وسنن الدارمي المقدّمة حديث 95؛ والترمذي كتاب العلم، حديث 2600؛ وابن ماجه المقدّمة، حديث 42، 43.
2- 2 وفي النسخة المطبوعة ورد الحديث كالآتي: «مَنْ مات، ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» صحيح مسلم كتاب الامارة، حديث 3441.
3- 3 هو الحارث بن الحارث الأشعري، صحابي، أقام في الشام.
4- 4 مسند أحمد بن حنبل مسند الشاميّين، حديث 16718 ضمن حديث طويل، وحديث 17344.
5- 5 سنن الترمذي كتاب الايمان، حديث 2565.
6- 6 صحيح مسلم، حديث 145.
7- 7 صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن، حديث 4464؛ وصحيح مسلم كتاب الأيمان، حديث 327؛ ومسندأحمد بن حنبل باقي مسند المكثرين، حديث 10892.
8- 8 في صحيح مسلم ورد اسم عبداللَّه بن عمرو بن العاص.
9- 9 صحيح مسلم كتاب الامارة، حديث 3550.
10- 10 في المصادر «أنس بن مالك».
11- 11 مسلم كتاب الأيمان، حديث 211؛ والترمذي كتاب الفتن، حديث 2133؛ ومسند أحمد باقي مسند المكثرين، حديث 11632. وزاد في المصادر كلمة اللَّه مرّة ثانية في نهاية الحديث.

ص: 162

الأدلّة فيها عام، وفيها خاصّ، وفيها ناسخ، وفيها منسوخ، وفيها مجمل، وفيها مبيّن، وفيها مطلق، وفيها مقيّد، ومنها قطعي الصدور ظنّي الدلالة، ومنها قطعي الدلالة ظنّي الصدور، ومنها ظنّيهما، ومنها قطعيهما. ومن جهة اختلاف السند: منها صحيح، وضعيف، وحسن، ومُوَثَّق، وقوي إلى غير ذلك.

فإذا تعارضت الأدلّة، فلابُدَّ من النظر إلى المرجّحات: من جهة السند، أو من جهة الدلالة، أو من جهة سبك العبارة، أو من جهة كثرة الرواية، أو من جهة شهرة الفتوى، أو من جهة موافقة الاصول ومخالفتها، أو من جهة موافقة العمومات ومخالفتها، أو من جهة موافقة الكتاب وعدمها، إلى غير ذلك.

فإذا فُقِدت المرجّحات، وقامت الحَيْرة، فلا يبقى مدارٌ إلّاعلى سيرة الأصحاب، وطريقتهم، والنظر إلى ما هم عليه صاغراً عن كابر، وما عليه الأوّل والآخر.

وما نحنُ عليه اليوم من طريقة القوم أكثر الروايات موصلة إليه، وطريقة الأصحاب والصحابة مستمرّة عليه، وقد ذكرتُ منها قليلًا من كثير ليُعْلَم حال السلف، ويرتفع الإنكار على خلفهم.

فيا أخي فَوَحقّ من رفع السماء، وبسط الأرض على الماء، إنّي لمّا أحببتُكَ لمكارم أخلاقك، وحسن سيرتك مع الناس، وإرفاقك، أخشى عليك من سراية القَدْح إلى المشايخ الكبار، والعلماء الأبرار، الذين هم للشارع نوّاب، ولأبواب الشرع بواب، عصمنا اللَّه وإيّاكم، وكفانا شرَّ الجهل وكفاكم، واللَّه الموفّق.

وأمّا المقاصد فثمانية...

في العدد القادم

الهوامش:

علل الحجّ في كتب الشيخ الصدوق

ص: 168

علل الحجّ في كتب الشيخ الصدوق

فارس حسّون كريم المقدّمة

لا يخفى أنّ مكتباتنا الإسلاميّة- العربيّة منها والفارسيّة والأردويّة والتركيّة وغيرها- تدفن في زواياها ثروات علميّة هائلة تمثّل تراثاً ضخماً ناصعاً ينتظر انتشاله بأيدٍ مخلصة وفيّة لتراثها العبق، وخلال مطالعة لعناوين ذخائر تراثنا نجدها قد حوت من العلوم والفنون ما يقف الإنسان أمامها منبهراً.

ومن تلك الدقائق الرائقة التي تناولها العلماء بالتأليف والتصنيف: موضوع «العلل»، فكتبوا «علل الشرائع»، و «علل الأشياء»، «علل الأحكام»، «الجامع في العلل»، و....

ومن المؤسف جدّاً أن نرى بعض هذه الآثار القيّمة قد انعدمت بمرور الزمان وعوادي الحدثان، ونتيجة غفلة بعض مَن ليس له إلمام بما ينتج عن ضياعها من خسارة فادحة وعاقبة أليمة.

ولا يسعنا- والحال هذه- إلّاأن نحمد اللَّه على بقاء القسم الأعظم منها محفوظاً سالماً قد أخطأته يد الدهر، وزاغت عنه أبصار الطواغيت.

ص: 169

هذا القسم الباقي من تراثنا العظيم كثير منه مخطوط في خزائن الكتب، والاستفادة منه محدودة!

وقد ترك لنا الشيخ أبو جعفر بن بابويه الصدوق رضى الله عنه لوحده الكثير من المؤلَّفات والمصنَّفات النافعة والشيّقة ك: «معاني الأخبار»، «الخصال»، «علل الشرائع»، «من لا يحضره الفقيه»، وغيرها.

وإضافة إلى ذلك فَقَد فُقِد العديد من كتبه المفيدة هذه ولم يصل إلينا منها شي ء.

ومن هذه المؤلّفات المفقودة كتابه «جامع علل الحجّ» الذي ذكره الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ في الذريعة (1) قائلًا:

«جامع علل الشرائع» للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن عليّ القمّي، المتوفّى 381 ه، ذكره النجاشيّ (2).

ونتيجة لافتقار مكتبتنا الإسلاميّة لمثل هذا الكتاب بادرت لإحياء كتاب على غراره، معتمداً في عملي هذا على مؤلّفات الصدوق نفسه، وبالخصوص منها:

«من لا يحضره الفقيه» و «علل الشرائع»، وقد رغب البعض أن أسمّيه بنفس تسمية الصدوق، أي: «جامع علل الحجّ» إلّاأنّي امتنعت عن تلبية تلك الرغبة، وذلك لما اعتقده من أنّ كتاب الصدوق هو بلا شكّ بترتيب آخر، أي غير ما رتّبناه نحن هنا، ولو أنّ غالب الظنّ أنّ ما أورده رحمه الله في كتابه لا يختلف كثيراً عمّا أوردناه هنا.

وفي الختام أحمده تعالى أن وفّقني لإنجاز عملي هذا، وأسأله تعالى أن يمنّ عليّ مستقبلًا بأن احيي أثراً آخر من آثار هؤلاء الجنابذة، لاسيّما وأنّ في إحياء آثارهم حياة الدين والامّة، وامتداداً لحياة القرآن الكريم والسنّة الشريفة وآثار المعصومين عليهم السلام.


1- 1 الذريعة 5: 63 رقم 245.
2- 2 رجال النجاشيّ: 389.

ص: 170

(1)

أبواب علل الأسماء

1- باب علّة تسمية مكّة

1- عن محمد بن سنان: أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه في ما كتب من جواب مسائله: سمّيت مكّة مكّة، لأنّ الناس كانوا يمكّون فيها، وكان يقال لمن قصدها: قد مكا، وذلك قول اللَّه عزّوجلّ: وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً (1)

فالمكاء: التصفير، والتصدية: صفق اليدين (2).

2- وسئل أمير المؤمنين عليه السلام: لِمَ سمِّيت مكّة؟ قال عليه السلام: لأنّ اللَّه تعالى مكّ الأرض من تحتها- أي دحاها- (3).

2- باب علّة تسمية بكّة

1- عن العرزميّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّ الناس يتباكون فيها (4).

2- وسئل أمير المؤمنين عليه السلام: فلِمَ سمّيت بكّة؟ قال: لأنّها بكّت رقاب الجبّارين وأعناق المذنبين (5).

3- عن عبداللَّه بن سنان، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام: لِمَ سمّيت الكعبة بكّة؟

فقال: لبكاء الناس حولها وفيها (6).

3- عن سعيد بن عبداللَّه الأعرج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: موضع البيت بكّة (7)، والقرية مكّة (8). (9) 4- عن الفضيل، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّما سمّيت مكّة بكّة لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء، والمرأة تصلّي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك وعن يسارك ومعك، ولا بأس بذلك، إنّما يكره في سائر البلدان (10).


1- 1 سورة الأنفال: 35.
2- 2 علل الشرائع: 397 ب 136 ح 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 90، بحار الأنوار 99: 77 ح 6.
3- 3 إرشاد القلوب: 377، المحتضر: 88، مشارق أنوار اليقين: 84، بحار الأنوار 10: 127 ضمن ح 6، و 57: 64 ح 37 وص 232 وص 337 ضمن ح 27، و 99: 85 ح 45.
4- 4 علل الشرائع: 397 ب 137 ح 1، بحار الأنوار 99: 78 ح 7، تفسير البرهان 1: 657 ح 10.
5- 5 المحتضر: 88، مشارق أنوار اليقين: 84، إرشاد القلوب: 377، بحار الأنوار 10: 127 ضمن ح 6، و 57: 232 وص 337 ضمن ح 27، و 99: 85 ح 45.
6- 6 من لا يحضره الفقيه 2: 193 ح 2119، علل الشرائع: 397 ب 137 ح 2، روضة المتّقين 4: 17، بحار الأنوار 99: 78 ح 8، تفسير البرهان 1: 657 ح 11.
7- 7 ويؤيّده قوله تعالى في سورة آل عمران: 96 انّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة.
8- 8 روى الكليني في الكافي 4: 210 ح 17 و 211 ح 18 عنه بحار الأنوار 15: 170 ح 97 بالإسناد إلى أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام قال: لم يزل بنو إسماعيل ولاة البيت، يقيمون للناس حجّهم وأمر دينهم، يتوارثونه كابر عن كابر حتّى كان زمن عدنان بن ادد، فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وأفسدوا وأحدثوا في دينهم، وأخرج بعضهم بعضاً، فمنهم من خرج في طلب المعيشة، ومنهم من خرج كراهية القتال وفي أيديهم أشياء كثيرة من الحنيفيّة من تحريم الامّهات والبنات، وما حرّم اللَّه في النكاح، إلّاأنّهم كانوا يستحلّون امرأة الأب وابنة الاخت والجمع بين الاختين، وكان في أيديهم الحجّ والتلبية والغسل من الجنابة، إلّاما أحدثوا في تلبيتهم وفي حجّهم من الشرك، وكان فيما بين إسماعيل وعدنان بن ادد موسى عليه السلام. وروي أنّ معد بن عدنان خاف أن يدرس الحرم فوضع أنصابه، وكان أوّل من وضعها، ثمّ غلبت جُرهُم على ولاية البيت، فكان يلي منهم كابر عن كابر حتّى بغت جرهم بمكّة، واستحلّوا حرمتها، وأكلوا مال الكعبة، وظلموا من دخل مكّة، وعتوا وبغوا، وكانت مكّة في الجاهلية لا يظلم ولا يبغي فيها ولا يستحلّ حرمتها ملك إلّاهلك مكانه.... فلمّا بغت جرهم واستحلّوا فيها بعث اللَّه عزّوجلّ عليهم الرعاف والنمل وأفناهم، فغلبت خزاعة واجتمعت ليجلوا من بقي من جرهم عن الحرم ورئيس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو ورئيس جرهم عمرو بن الحارث بن مصاص الجرهمي، فهزمت خزاعة جرهم، وخرج من بقي من جرهم إلى أرض من أرض جهينة، فجاءهم سيل أتي فذهب بهم، ووليت خزاعة البيت، فلم يزل في أيديهم حتّى جاء قصيّ بن كلاب وأخرج خزاعة من الحرم وولي البيت وغلب عليه.
9- 9 من لا يحضره الفقيه 2: 193 ضمن ح 2119، علل الشرائع: 397 ح 3، روضة المتّقين 4: 17، بحار الأنوار 99: 78 ح 9، تفسير البرهان 1: 657 ح 12.
10- 10 علل الشرائع: 397 ح 4، بحار الأنوار 83: 334 ح 2، و 99: 78 ح 13، تفسير البرهان 1: 657 ح 13.

ص: 171

5- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام: لِمَ سمّيت مكّة بكّة؟

قال: لأنّ الناس يبكّ بعضهم بعضاً فيها بالأيدي (1). (2) 6- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّ بكّة موضع البيت، وإنّ مكّة الحرم، وذلك قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (3)

. (4) 7- عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: إنّ بكّة موضع البيت، وإنّ مكّة جميع ما اكتنفه الحرم (5).

8- عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: مكّة جملة القرية، وبكّة موضع الحَجَر الذي يَبُكّ الناس بعضهم بعضاً (6).

9- سئل عليّ عليه السلام: أين بكّة من مكّة؟

قال عليّ عليه السلام: مكّة أكناف الحرم، وبكّة موضع البيت (7).

10- عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أقوم اصلّي والمرأة جالسة بين يديّ أو مارّة؟

فقال عليه السلام: لا بأس، إنّما سمّيت بكّة، لأنّه يبكّ فيها الرجال والنساء (8).

11- وكانت تسمّى بكّة؛ لأنّها تبكّ أعناق الباغين إذا بغوا فيها (9).

12- عن علي بن جعفر بن محمد، عن أخيه موسى عليه السلام، قال: سألته عن مكّة لِمَ سمّيت بكّة؟

قال: لأنّ الناس يبكّ بعضهم بعضاً بالأيدي- يعني يدفع بعضهم بعضاً بالأيدي في المسجد (10) حول الكعبة (11).

3- باب علّة تسمية امّ القرى

1- سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السلام: لِمَ سمّيت مكّة امّ القرى؟

قال عليه السلام: لأنّ الأرض دحيت من تحتها (12).

2- سمّيت مكّة امّ القرى؛ لأنّها أوّل بقعة خلقها اللَّه من الأرض، لقوله: إِنَ


1- 1 أي يزدحم أو يدقّ أو يدفع بعضهم بعضاً بالأيدي.
2- 2 المحاسن للبرقي 2: 66 ح 113، تفسير العيّاشي 1: 187 ح 95، من لا يحضره الفقيه 2: 193 ح 2118، علل الشرائع: 398 ح 5، روضة المتّقين 4: 17، بحار الأنوار 99: 77 ح 3 و 4 وص 79 ح 14- 16، تفسير البرهان 1: 657 ح 14 وص 659 ح 22.
3- 3 سورة آل عمران: 97.
4- 4 تفسير العيّاشي 1: 187 ح 94، بحار الأنوار 99: 78 ح 10، تفسير البرهان 1: 659 ح 21.
5- 5 تفسير العيّاشي 1: 187 ح 96، بحار الأنوار 99: 78 ح 11، تفسير البرهان 1: 659 ح 23.
6- 6 تفسير العيّاشي 1: 187 ح 93، بحار الأنوار 99: 78 ح 12، تفسير البرهان 1: 659 ح 20.
7- 7 إرشاد القلوب: 377، بحار الأنوار 99: 85 ح 45.
8- 8 المحاسن 2: 66 ح 116، الكافي 4: 526 ح 7، بحار الأنوار 83: 298 ح 6 وص 334 ح 3، و 99: 83 ح 40، تفسير البرهان 1: 655 ح 3.
9- 9 الكافي 4: 211 ضمن ح 18.
10- 10 في القرب: ولا يكون إلّافي المسجد.
11- 11 قرب الإسناد: 237 ح 929، تفسير العيّاشي 1: 187 ح 98، تفسير البرهان 1: 659 ح 25.
12- 12 عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 241، علل الشرائع: 593 ح 44، بحار الأنوار 10: 76، و 75: 64 صدر ح 36، و 99: 79 ح 17.

ص: 172

أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً (1)

. (2) 4- باب علّة تسمية الباسّة أو البسّاسة

1- وتسمّى بسّاسة كانوا إذا ظلموا فيها بسّتهم وأهلكتهم (3).

2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: أسماء مكّة خمسة: امّ القرى، ومكّة، وبكّة، والبسّاسة- كانوا إذا ظلموا بها بسّتهم أي أخرجتهم وأهلكتهم-.... (4).

3- وفي حديث مجاهد: «من أسماء مكّة الباسّة» سمّيت بها لأنّها تحطِم من أخطأ فيها (5).

5- باب علّة تسمية الناسّة أو النسّاسة

1- وكانت العرب تسمّي مكّة الناسّة؛ لأنّ من بغى فيها أو أحدث حدثاً اخرج منها، فكأنّها ساقته ودفعته عنها (6).

2- الناسّة والنسّاسة: مكّة؛ سمّيت لقلّة الماء بها إذ ذاك، أو لأنّ من بغى فيها ساقته- أي اخرج عنها- (7).

6- باب علّة تسمية امّ رُحْم

1- وتسمّى امّ رُحْم كانوا إذا لزموها رُحِموا (8).

2- ومنه حديث مكّة، هي امّ رحم- أي أصل الرحمة- (9).

7- باب علّة تسمية الكعبة

1- عن الحسن بن عبداللَّه، عن آبائه، عن جدّه الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فسألوه عن أشياء؛ فكان فيما سألوه عنه أن قال له أحدهم: لأيّ شي ء سمّيت الكعبة كعبة؟

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: لأنّها وسط الدنيا (10). (11) 2- وروي عن الصادق عليه السلام أنّه سُئل: لِمَ سمّيت الكعبة كعبة؟

قال: لأنّها مربّعة.


1- 1 سورة آل عمران: 96.
2- 2 تفسير القمّي 2: 268، بحار الأنوار 57: 64 ح 35، و 99: 76 ح 1.
3- 3 الكافي 4: 211 ضمن ح 18.
4- 4 الخصال: 278 ح 22، بحار الأنوار 99: 77 ح 5.
5- 5 النهاية لابن الأثير 1: 127- بسس-، لسان العرب 6: 27- بسس-. وقال الفيروزآبادي في القاموس المحيط 2: 201: الباسّة والبسّاسة: مكّة شرّفها اللَّه تعالى .
6- 6 النهاية لابن الأثير 5: 47- نسس-، لسان العرب 6: 231- نسس-.
7- 7 القاموس المحيط 2: 254- نسس-. وقال الصاحب بن عبّاد في المحيط في اللغة 8: 251: والنسّاسة من أسماء مكّة، وهي الناسّة أيضاً. وقال الجوهريّ في الصحاح 3: 983: ويقال لمكّة الناسّة لقلّة الماء بها. وقال ابن منظور في لسان العرب 6: 231: الناسّة والنسّاسة- الأخيرة عن ثعلب- من أسماء مكّة لقلّة مائها.
8- 8 الكافي 4: 211 ضمن ح 18، الخصال: 278 ذ ح 22، بحار الأنوار 99: 77 ذ ح 5.
9- 9 النهاية لابن الأثير 2: 210- رحم-. وقال ابن منظور في لسان العرب 12: 232: امّ رُحْم وامّ الرُحْم: مكّة... والمرحومة: من أسماء مدينة سيّدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وكذا قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط 4: 118- رحم-.
10- 10 أي مرتفعة شرفاً وصورة في وسطها بالنظر إلى المشرقيّ والمغربيّ.
11- 11 من لا يحضره الفقيه 2: 190 ح 2109، الأمالي للصدوق: 255 ضمن ح 1، علل الشرائع: 398 ب 138 ح 1، روضة المتّقين 4: 3، بحار الأنوار 9: 294 ح 5، و 99: 57 ح 8.

ص: 173

فقيل له: ولِمَ صارت مربّعة؟

قال: لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع.

فقيل له: ولِمَ صار البيت المعمور مربّعاً؟

قال: لأنّه بحذاء العرش، وهو مربّع.

فقيل له: ولِمَ صار العرش مربّعاً؟

قال: لأنّ الكلمات التي بُني عليها الإسلام أربع؛ وهي: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلّااللَّه، واللَّه أكبر (1). (2) 3- وفي حديث قَيْلة: «واللَّه لا يزال كَعْبُكِ عالياً» هو دعاء لها بالشرف والعلوّ. والأصل فيه كعب القَناة، وهو انبوبها وما بين كلّ عُقْدتين منها كعب. وكلّ شي ء علا وارتفع فهو كعب. ومنه سمّيت الكعبة للبيت الحرام؛ وقيل: سمّيت به لتكعيبها، أي تربيعها (3).

8- باب علّة تسمية بيت اللَّه الحرام

1- عن حنان، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: لِمَ سمّي بيت اللَّه الحرام؟

قال: لأنّه حرِّم على المشركين أن يدخلوه (4). (5) 9- باب علّة تسمية البيت العتيق

1- عن أبي خديجة (6)، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: لِمَ سمّي البيت العتيق؟

قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أنزل الحجر الأسود لآدم من الجنّة، وكان البيت درّة بيضاء، فرفعه اللَّه إلى السماء وبقي اسّه فهو بحيال هذا البيت، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبداً، فأمر اللَّه إبراهيم وإسماعيل يبنيان البيت على القواعد، وإنّما سمّي البيت العتيق؛ لأنّه اعتق من الغرق (7). (8) 2- عن أبي حمزة الثماليّ، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام في المسجد الحرام: لأيّ شي ء سمّاه اللَّه العتيق؟


1- 1 قال المولى محمد تقي المجلسي:... ويمكن أن يكون العرش هنا بمعنى العلم، وتكون المحاذاة معنويّة كما يظهر من قوله عليه السلام: «صار العرش- إلى قوله:- أربع» لأنّ كلمة «سبحان اللَّه!» تدلّ على الصفات التنزيهيّة الجلاليّة، و «الحمد للَّه» تدلّ على الصفات الجماليّة، لأنّه يدلّ على أنّ جميع المحامد والإثنيّة مختصّة به تعالى، فيدلّ على أنّ جميع الكمالات له وهو مستحقّ لأن يعبد بجميع أنواع العبادات، فيدلّ على جميع التكاليف، وكلمة التوحيد تدلّ على أنّه واجب الوجود بالذات، وعلى وحدته تعالى بل على جميع صفات الجلال والإكرام، ومستحقّ لأن لا يشرك به أحد بالشرك الجليّ والخفيّ، وكذا التكبير مع دلالته على أنّ ذاته تعالى أعلى وأرفع من أن تصل إليه العقول والأفهام، فظهر أنّ جميع العلوم مندرجة فيها فتكون المحاذاة للعرش الذي بمعنى العلم من حيث الدلالة عليه.
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 190 ح 2110، علل الشرائع: 398 ب 138 ح 2، روضة المتّقين 4: 3، بحار الأنوار 58: 5 ح 2، و 99: 57 ح 9.
3- 3 الغريبين للهرويّ: 842- كعب-، النهاية لابن الأثير 4: 179- كعب-. وقال الصاحب بن عبّاد في المحيط في اللغة 1: 231: ويقال: كعبة البيت الحرام: تربّع أعلاه.
4- 4 وقيل: لاحترامه وحرمة القتال في الأشهر الحرم لأجله.
5- 5 من لا يحضره الفقيه 2: 191 ح 2111، علل الشرائع: 398 ب 139 ح 1، روضة المتّقين 4: 4، بحار الأنوار 99: 59 ج 20.
6- 6 هو: أبو سلمة سالم بن مكرم بن عبداللَّه، مولى بني أسد. «رجال النجاشيّ: 188 رقم 501».
7- 7 وذلك في طوفان نوح عليه السلام ولم يقربه الماء كما في حائر الحسين صلوات اللَّه عليه.
8- 8 الكافي 4: 188 ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 191 ح 2112، علل الشرائع: 398 ب 140 ح 1، روضة المتّقين 4: 4، بحار الأنوار 58: 57 ح 2، و 99: 58 ح 12، مرآة العقول 17: 10 ح 2.

ص: 174

قال: ليس من بيت وضعه اللَّه على وجه الأرض إلّاله ربّ وسكّان يسكنونه غير هذا البيت، فإنّه لا يسكنه أحد ولا ربّ له إلّااللَّه وهو الحرام، وقال: إنّ اللَّه خلقه قبل الخلق، ثمّ خلق اللَّه الأرض من بعده فدحاها من تحته (1).

3- عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: لِمَ سمّي البيت العتيق؟

قال: لأنّه بيت حرّ عتيق من الناس، ولم يملكه أحد (2).

4- عن سعيد الأعرج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّما سمّي البيت العتيق؛ لأنّه اعتق من الغرق واعتق الحرم معه، كفّ عنه الماء (3).

5- عن ذريح بن يزيد المحاربيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ اللَّه عزّوجلّ أغرق الأرض كلّها يوم نوح عليه السلام إلّاالبيت، فيومئذ سمّي العتيق؛ لأنّه اعتق يومئذ من الغرق.

فقلت له: أصعد إلى السماء؟

فقال: لا، لم يصل إليه الماء ورفع عنه (4).

10- باب علّة تسمية الحطيم

1- عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الحطيم، فقال: هو ما بين الحجر الأسود وباب البيت.

قال: وسألته: لِمَ سمّي الحطيم؟

قال: لأنّ الناس يحطم بعضهم بعضاً هنالك (5).

2- وفي حديث تَوبة كعب بن مالك: «إذن يحطمكم الناس»: أي يدوسونكم ويزدحمون عليكم.

ومنه سمّي حطيم مكّة، وهو ما بين الركن والباب.

وقيل: هو الحجر الُمخرج منها، سمّي به؛ لأنّ البيت رُفع وتُرك هو محطوماً.

وقيل: لأنّ العرب كانت تطرَح فيه ما طافت به من الثياب فتبقى حتّى تَنْحَطِم


1- 1 الكافي 4: 189 ح 5، علل الشرائع: 399 ح 2، روضة المتّقين 4: 4، بحار الأنوار 57: 64 ح 40، و 99: 58 ح 13، مرآة العقول 17: 11 ح 5.
2- 2 المحاسن 2: 66 ح 114، الكافي 4: 189 ح 6، من لا يحضره الفقيه 2: 191 ح 2113، علل الشرائع: 399 ح 3، روضة المتّقين 4: 5، وسائل الشيعة 13: 241 ح 13، بحار الأنوار 99: 58 ح 16 وص 59 ح 17، مرآة العقول 17: 12 ح 6.
3- 3 المحاسن 2: 66 ح 112، علل الشرائع: 399 ح 4، بحار الأنوار 99: 59 ح 18 و 19.
4- 4 علل الشرائع: 399 ح 5، قصص الأنبياء للراوندي: 83 ح 73، بحار الأنوار 11: 325 ح 43، و 99: 58 ح 14 و 15.
5- 5 الكافي 4: 527 ح 12، من لا يحضره الفقيه 2: 192 صدر ح 2115، علل الشرائع: 400 ب 141 ح 1، تهذيب الأحكام 5: 451 ح 221، روضة المتّقين 4: 13، وسائل الشيعة 5: 274 ح 6، بحار الأنوار 99: 229 ح 2، مرآة العقول 18: 224 ح 12، ملاذ الأخيار 8: 489 ح 221.

ص: 175

بطول الزمان... (1).

11- باب علّة تسمية الحجّ (2)

1- عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: لِمَ سمّي الحجّ حجّاً؟

قال: الحجّ الفلَاح.

يقال: حجّ فلان أي أفلح فلان (3).

12- باب علّة تسمية الصفا والمروة

1- عن عبد الحميد بن أبي ديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمّي الصفا صفا؛ لأنّ المصطفى آدم عليه السلام هبط عليه، فقطع (4) للجبل اسم من اسم آدم عليه السلام، يقول اللَّه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (5)

وهبطت حوّاء على المروة، وإنّما سمّيت المروة؛ لأنّ المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة (6).

13- باب علّة تسمية يوم التروية

1- عن عبيداللَّه بن عليّ الحلبيّ، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سألته: لِمَ سمّي يوم التروية يوم التروية؟

قال: لأنّه لم يكن بعرفات ماء، وكانوا يستقون من مكّة من الماء لريّهم، وكان يقول بعضهم لبعضٍ: تروّيتم تروّيتم، فسمّي يوم التروية لذلك (7).

2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمّيت التروية؛ لأنّ جبرئيل عليه السلام أتى إبراهيم عليه السلام يوم التروية، فقال: يا إبراهيم، ارتو من الماء ولأهلك، ولم يكن بين مكّة وعرفات ماء... (8).

3- في حديث ابن عمر: «كان يلبِّي بالحجّ يوم التروية» هو اليوم الثامن من ذي الحجّة، سمِّي به؛ لأنّهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده: أي يَسْقون ويَسْتَقون (9).


1- 1 النهاية لابن الأثير 1: 403.
2- 2 لقد ذكر أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الحجّ وفضله في إحدى خطبه في نهج البلاغة: 45 قائلًا: وفرضَ عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويأْلهون إليه وُلُوه الحمام، وجعله سبحانه علامةً لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام عَلَماً، وللعائذين حَرَماً، فرض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليكم وِفادته، فقال سبحانه: وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين [سورة آل عمران: 97].
3- 3 علل الشرائع: 411 ب 148 ح 1، معاني الأخبار: 170 ح 1، بحار الأنوار 99: 2 ح 1 و 2.
4- 4 قال المولى محمد تقي المجلسي رحمه الله: قطع: أي اشتقّ. والمناسبة بين الصفا والمصطفى ظاهرة. وأمّا المناسبةبين المروة والمرأة يمكن أن تكون لفظيّة أو بإبدال الهمزة واواً، والأوّل أظهر. والمروة لغة: حجر أبيض برّاق.
5- 5 سورة آل عمران: 33.
6- 6 المحاسن للبرقي 2: 65 ح 109، الكافي 4: 190 ح 1، من لا يحضره الفقيه 2: 195 ذ ح 2121، علل الشرائع: 431 ب 165 ح 1، روضة المتّقين 4: 23، بحار الأنوار 11: 194 ح 48 وص 205 ح 6، و 99: 44 ضمن ح 31 وص 233 ح 2، مرآة العقول 17: 13 ح 1.
7- 7 المحاسن للبرقي 2: 56 ذ ح 93 وص 65 ح 111، من لا يحضره الفقيه 2: 196 صدر ح 2125، علل الشرائع: 435 ب 171 ح 1، مستطرفات السرائر: 35 ح 45، روضة المتّقين 4: 27، بحار الأنوار 99: 43 ذ ح 29 وص 254 ح 19 و 20.
8- 8 المحاسن 2: 65 ح 110، بحار الأنوار 99: 44 ح 32.
9- 9 النهاية لابن الأثير 2: 280.

ص: 176

14- باب علّة تسمية مِنى

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّ جبرئيل أتى إبراهيم عليه السلام، فقال: تمنّ، يا إبراهيم. فكانت تسمّى منى، فسمّاها الناس مِنى (1).

2- عن محمد بن سنان أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه العلّة التي من أجلها سمّيت منى منى أنّ جبرئيل عليه السلام قال هناك: يا إبراهيم، تمنّ على ربّك ما شئت، فتمنّى إبراهيم في نفسه أن يجعل اللَّه مكان ابنه إسماعيل كبشاً يأمره بذبحه فداءً له، فاعطي مناه (2).

3- مِنىً بمكّة... سمّيت بذلك لما يُمنَى فيها من الدماء أي يُراق، وقال ثعلب:

هو من قولهم: مَنَى اللَّه عليه الموت أي قدّره، لأنّ الهَدْي يُنحر هنالك... قال ابن شميل: سمّي مِنىً لأنّ الكبش مُنِيَ به أي ذُبح. وقال ابن عيينة: اخذ من المنايا (3).

4- ابن عبّاس: لأنّ جبرئيل عليه السلام لمّا أراد أن يُفارق آدم قال له: تمنّ.

قال: أتمنّى الجنّة، فسمّيت مِنىً لُامنيّة آدم (4).

5- ومِنى مكّة سمّيت؛ لأنّها تتّسع للناس، وقيل: لأنّها يُمنى فيها للأضاحي الذَّبح: أي يُقدَّر (5).

15- باب علّة تسمية عرفات

1- عن معاوية بن عمّار، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن عرفات لِمَ سمّيت عرفات؟

فقال: إنّ جبرئيل عليه السلام خرج بإبراهيم صلوات اللَّه عليه يوم عرفة، فلمّا زالت الشمس، قال له جبرئيل: يا إبراهيم، اعترف بذنبك واعرف مناسكك، فسمّيت عرفات لقول جبرئيل عليه السلام: اعترف، فاعترف (6).

2- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام:- في حديث طويل- قال: ثمّ انطلق به إلى عرفات فأقامه على العرف، وقال له: إذا غربت الشمس فاعترف بذنبك سبع مرّات، ففعل ذلك آدم عليه السلام، ولذلك سمّي المعرف لأنّ؛ آدم


1- 1 من لا يحضره الفقيه 2: 197 ح 2126، علل الشرائع: 435 ب 172 ح 1، روضة المتّقين 4: 28، بحار الأنوار 12: 108 ح 25، و 99: 271 ح 1.
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 197 ح 2127، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 91، علل الشرائع: 435 ب 172 ح 2، روضة المتّقين 4: 29، بحار الأنوار 6: 97، و 12: 108 ح 26، و 99: 272 ح 4.
3- 3 لسان العرب 15: 293- 294- مني-.
4- 4 القاموس المحيط 4: 392- منى-.
5- 5 المحيط في اللغة 10: 417- منى-.
6- 6 المحاسن للبرقيّ 2: 64 ح 108 وص 65 ضمن ح 110، من لا يحضره الفقيه 2: 196 ضمن ح 2125، علل الشرائع: 436 ب 173 ح 1، روضة المتّقين 4: 27، بحار الأنوار 12: 108 ح 27، و 99: 44 ضمن ح 32 وص 253 ح 17 و 18.

ص: 177

اعترف عليه بذنبه (1).

3- سمّيت لأنّ آدم وحوّاء عليهما السلام تعارفا بها.

أو لقول جبرئيل لإبراهيم عليهما السلام لما علّمه المناسك: أعرفت؟ قال: عرفتُ.

أو لأنّها مقدّسة معظّمة كأنّها عُرِفَت أي طُيِّبت (2).

4- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام- في حديث يأتي (3)- قال:... ثمّ انطلق به (4) إلى عرفات فأقامه على العرفة، وقال له: إذا غربت الشمس فاعترف بذنبك سبع مرّات، ففعل ذلك آدم عليه السلام؛ ولذلك سمّي العرفة؛ لأنّ آدم عليه السلام اعترف عليه بذنبه، فجعل ذلك سنّة في ولده يعترفون بذنوبهم كما اعترف أبوهم، ويسألون اللَّه عزّوجلّ التوبة كما سألها أبوهم آدم عليه السلام (5).

16- باب علّة تسمية الخَيْف (6)

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: قلت له: لِمَ سمّي الخيف خيفاً؟

قال: إنّما سمّي الخيف؛ لأنّه مرتفع عن الوادي، وكلّ ما ارتفع عن الوادي سمّي خيفاً (7).

باب علّة تسمية المُزْدَلِفَة

1- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: في حديث إبراهيم عليه السلام: إنّ جبرئيل عليه السلام انتهى به إلى الموقف، فأقام به حتّى غربت الشمس، ثمّ أفاض به، فقال: يا إبراهيم، ازدلف إلى المشعر الحرام، فسمّيت مزدلفة (8).

2- عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: إنّما سمّيت مزدلفة؛ لأنّهم ازدلفوا إليها من عرفات (9).

3- والمزدلفة موضع بين عرفات ومنًى؛ لأنّه يتقرّب فيها إلى اللَّه تعالى (10).

أو لاقتراب الناس إلى منًى بعد الإفاضة (11).

أو لمجي ء الناس إليها في زلفٍ من الليل.


1- 1 علل الشرائع: 400 ب 142 ح 1. ويأتي الحديث كاملًا مع تخريجاته في أبواب 2 باب 5 ح 1.
2- 2 القاموس المحيط 3: 173- عرف-.
3- 3 يأتي في باب علّة وجوب الحجّ والطواف بالبيت وجميع المناسك.
4- 4 المراد أنّ جبرئيل انطلق بآدم عليهما السلام.
5- 5 علل الشرائع: 400 ب 142 ضمن ح 1، بحار الأنوار 11: 167- 168 ضمن ح 15، و 99: 30 ضمن ح 5.
6- 6 هو الموضع الذي فيه المسجد. قال ابن الأثير في النهاية 2: 93: الخيف: ما ارتفع عن مَجْرى السيل وانحدر عن غِلَظ الجبل. ومسجد منىً يسمّى مسجد الخيف؛ لأنّه في سفح جبلها.
7- 7 المحاسن للبرقي 2: 71 ح 128، من لا يحضره الفقيه 2: 197 ح 2128، علل الشرائع: 436 ب 174 ح 1، روضة المتّقين 4: 29، بحار الأنوار 99: 271 ح 2 وص 272 ح 3.
8- 8 من لا يحضره الفقيه 2: 196 ضمن ح 2125، علل الشرائع: 436 ب 175 ح 1، روضة المتّقين 4: 28، بحار الأنوار 99: 266 ح 1.
9- 9 علل الشرائع: 436 ب 175 ح 1، روضة المتّقين 4: 28، بحار الأنوار 99: 266 ح 2.
10- 10 النهاية لابن الأثير 2: 310- زلف-.
11- 11 المحيط في اللغة 9: 56- زلف-.

ص: 178

أو لأنّها أرض مستوية مكنوسة، وهذا أقرب (1).

18- باب علّة تسمية المزدلفة «جَمْعاً»

1- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سمّيت المزدلفة جمعاً؛ لأنّ آدم عليه السلام جمع فيها بين الصلاتين: المغرب والعشاء (2).

2- قال الصدوق: قال أبي رضى الله عنه في رسالته إليَّ: إنّما سمّيت المزدلفة جمعاً؛ لأنّه يجمع فيها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.

3- ويقال أيضاً للمزدلفة: جَمعٌ، لاجتماع الناس فيها (3).

4- جَمْع: عَلَم للمزدلفة، سمّيت به لأنّ آدم وحوّاء عليهما السلام اجتمعا بها (4).

5- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث يأتي (5)- قال: ثمّ انتهى به (6) إلى جمع ثلث الليل فجمع فيها بين صلاة المغرب وبين صلاة العشاء الآخرة؛ فلذلك سمّي جمعاً؛ لأنّ آدم جمع فيها بين صلاتين، فوقت العتمة في تلك الليلة ثلث الليل في ذلك الموضع (7).

19- باب علّة تسمية الحجّ الأكبر

1- عن حفص بن غياث النخعيّ القاضيّ، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (8)

فقال:

قال أمير المؤمنين عليه السلام: كنت أنا الأذان (9) في الناس.

قلت: فما معنى هذه اللفظة «الحجّ الأكبر»؟

قال: إنّما سمّي الأكبر؛ لأنّها كانت سنة حجّ فيها المسلمون والمشركون ولم يحجّ المشركون بعد تلك السنة (10).

20- باب علّة تسمية الطائف

1- عن إبراهيم بن مهزيار، عن أخيه، بإسناده، قال: قال أبو الحسن عليه السلام في الطائف: أتدري لِمَ سُمّي الطائف؟

قلت: لا.


1- 1 القاموس المحيط 3: 149- زلف-.
2- 2 علل الشرائع: 437 ب 176 ح 1، بحار الأنوار 99: 266 ح 3.
3- 3 الصحاح للجوهري 3: 1198- جمع-.
4- 4 النهاية لابن الأثير 1: 296- جمع-.
5- 5 يأتي في باب علّة وجوب الحجّ والطواف بالبيت وجميع المناسك ح 1.
6- 6 المراد أنّ جبرئيل انتهى بآدم عليهما السلام.
7- 7 علل الشرائع: 400 ب 142 ح 1، بحار الأنوار 11: 168 ح 15، و 99: 30 ح 5.
8- 8 سورة التوبة: 2.
9- 9 أي المؤذّن لما بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خلف أبي بكر وأخذ سورة براءة منه ورجع أبو بكر وقال: هل نزل فيَّ شي ء؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: أمرني ربّي أن لا يبلغ عنّي إلّاأنا أو رجل منّي. انظر: مسند أحمد بن حنبل 1: 3 و 151، و 2: 299.
10- 10 المحاسن للبرقي 2: 52 ح 82، من لا يحضره الفقيه 2: 198 ح 2132، علل الشرائع: 442 ب 188 ح 1، معاني الأخبار: 296 ذ ح 5، روضة المتّقين 4: 32، تفسير البرهان 2: 733 ذ ح 27 وص 735 ح 33، بحار الأنوار 35: 293 ح 9، و 99: 322 ح 7 وص 323 ح 8.

ص: 179

فقال: إنّ إبراهيم عليه السلام دعا ربّه عزّوجلّ أن يرزق أهله من كلّ الثمرات فقطع لهم قطعة من الاردن، فأقبلت حتّى طافت بالبيت سبعاً، ثمّ أقرّها اللَّه تعالى في موضعها، فإنّما سمّيت الطائف للطواف بالبيت (1).

2- عن أحمد بن محمد، قال: قال الرضا عليه السلام: أتدري لِمَ سُمّيت الطائف طائفاً؟

قلت: لا.

قال: لأنّ اللَّه تعالى لمّا دعاه إبراهيم عليه السلام أن يرزق أهله من كلّ الثمرات أمر بقطعة من الاردن، فسارت بثمارها حتى طافت بالبيت، ثمّ أمرها أن تنصرف إلى هذا الموضع الذي سمّي الطائف، فلذلك سمّي الطائف (2).

21- باب علّة تسمية الأبطح

1- عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: سُمّي الأبطح أبطح؛ لأنّ آدم عليه السلام امر أن ينبطح (3) في بطحاء جَمْع، فانبطح حتّى انفجر الصبح، ثمّ امر أن يصعد جبل جمع، وامر إذا طلعت عليه الشمس أن يعترف بذنبه، ففعل ذلك آدم (4) عليه السلام، فأرسل اللَّه تعالى ناراً من السماء فقبضت قربان آدم عليه السلام (5).

22- باب علّة تسمية مسجد الفَضِيخ (6)

1- عن أبي بصير ليث المرادي، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: لِمَ سُمّي مسجد الفضيخ مسجد الفضيخ؟

قال: النخل سمّي الفضيخ فلذلك سمّيه (7). (8)23- باب علّة تسمية التلبية

1- عن أبان بن عثمان، عمّن أخبره، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: قلت له: لِمَ سمّيت التلبية تلبية؟

قال عليه السلام: إجابة أجاب موسى عليه السلام ربّه عزّوجلّ (9).

2- وسمّيت التلبية إجابة؛ لأنّه أجاب موسى عليه السلام ربّه عزّوجلّ وقال:

لبّيك (10).


1- 1 المحاسن 2: 71 ح 130، قرب الاسناد: 361 ح 1291، تفسير العيّاشي 1: 60 ح 97، علل الشرائع: 442 ب 189 ح 1، بحار الأنوار 12: 109 ح 30، و 99: 79 ح 18- 20 وص 80 ح 21.
2- 2 علل الشرائع: 442 ب 189 ح 2، بحار الأنوار 12: 109 ح 31، و 99: 80 ح 22.
3- 3 لعلّ المراد من الانبطاح هنا مطلق التمدّد للنوم وإن لم يكن على الوجه، مع أنّه يحتمل أن لا يكون ذلك مكروهاً في شرعه عليه السلام. وقيل: هو كناية عن الاستقرار على الأرض للدعاء لا للنوم. وقيل: كناية عن طول الركوع والسجود في الصلاة.
4- 4 زاد في المحاسن: وإنّما جعله اعترافاً ليكون سنّة في ولده، فقرَّب قرباناً.
5- 5 المحاسن للبرقي 2: 65 ذ ح 109، الكافي 4: 193 ضمن ح 2، من لا يحضره الفقيه 2: 199 صدر ح 2134، علل الشرائع: 444 ب 194 ح 1، روضة المتّقين 4: 34- 35، بحار الأنوار 11: 166 ح 12، و 99: 44 ضمن ح 31 وص 80 ح 23، مرآة العقول 17: 16 ضمن ح 2.
6- 6 قال الطريحي في مجمع البحرين 2: 440: هو مسجد من مساجد المدينة، روي أنّ فيه رُدّت الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام...
7- 7 قال المجلسي رحمه الله: الأشهر في وجه التسمية هو أنّ الفضخ الكسر، والفضيخ شراب يتّخذ من بسر مفضوخ، وكانوا في الجاهلية يفضخون فيه التمر لذلك فبه سمّي المسجد. وأمّا الفضيخ بمعنى النخل فليس فيما عندنا من كتب اللغة، ولا يبعد أن يكون اسماً لنخلة مخصوصة كانت فيه. ويؤيّده أنّ في الكافي: لنخل يسمّى الفضيخ.
8- 8 الكافي 4: 561 ح 5، علل الشرائع: 459 ب 220 ح 1، تهذيب الأحكام 6: 18 ح 20، بحار الأنوار 100: 214 ح 5، مرآة العقول 18: 276 ح 5، ملاذ الأخيار 9: 46 ح 20.
9- 9 علل الشرائع: 418 ح 4، وسائل الشيعة 12: 376 ح 4، بحار الأنوار 13: 10 ح 11، و 99: 185 ح 12.
10- 10 من لا يحضره الفقيه 2: 235 ذ ح 2284، روضة المتّقين 4: 115.

ص: 180

الهوامش:

ص: 186

ظاهرة الحجّ

ظاهرة الحجّ دراسة سوسيولوجيّة

ظاهرة الحجّ دراسة سوسيولوجيّة

الدكتور حسن الضيقة

مقدّمة

إنّ القهر العسكري والسياسي والاقتصادي الذي مارسه النظام الغربي المعاصر على المجتمع الإسلامي في القرون الأخيرة، بلغ أوجه في الفترة التي تلت الحرب العالميّة الأولى ... فقد تمكّن النظام الغربي أثناء هذه الفترة من إحكام سيطرته على الجزء الأكبر من المجتمع الإسلامي عبر قواه المباشرة أو عبر القوى السياسيّة المحلّية التي أفرزها في سياق القهر هذا. وكان من الطبيعي أن تنمو وتزدهر في ربوع العالم الإسلامي كلّ المدارس الفكريّة المولعة بتبرير وتدعيم وتسويق نظام القهر هذا. طبعاً هذا لا يعني أنّ الحالة الإسلاميّة آلت إلى الفناء، بل انكمشت ململمة جراحها العميقة وجاهدة في استيعاب دروس المعركة الكبيرة، التي أدت إلى هزيمة العالم الإسلامي أمام جبروت المجتمع الغربي المعاصر، ممهّدة الطريق لنهضة جديدة، انتقلت تدريجاً من حالات المقاومة عبر هذه النقطة أو تلك وصولًا إلى حالة النهوض الشامل وعلى كلّ المستويات. والنهوض الشامل يعني قدرة العالم الإسلامي على بلورة حركة إسلاميّة متكاملة قادرة على فرض نموذجها

ص: 187

الإسلامي الأصيل على مستوى جميع التحديّات التي يواجهها الفرد أو الأمّة. ولعلّ أحد تعبيرات هذه الحركة الإسلاميّة المتكاملة تدشين العالم الإسلامي بداية جديدة لنشاطه الإبداعي التوحيدي في مجال علوم الإنسان، تعيد مسيرة الفكر الإسلامي إلى نصابها الطبيعي متخطية بذلك حالة الوهن والضعف السابقتين أو حالة المقاومة السلبيّة- رغم أهمّيتها الكبيرة في فترة الهزيمة- إلى حالة من النموّ والتفتّح الإيجابي الذي ينسج يوماً بعد يوم مزيداً من خيوط الانعتاق والحريّة حول محور التوحيد ومحور الإسلام. ثمّ ليتقدّم بعد ذلك معلناً الخروج على الفلسفات الوثنيّة المعاصرة مفنّداً إيّاها، مظهراً تناقضاتها متجاوزاً إيّاها تجاوزاً توحيديّاً خالصاً.

إنّ تثبيت الحالة الإسلاميّة والارتقاء بها إلى مستوى الأمّة، يضع بين أيدي الجيل الذي نحن منه كثيراً من الخبرات الفكريّة التي تحثّنا للعمل على بلورة آفاق عملنا الفكري بمايتناسب ويواكب حركة الأمّة ونهضتها المباركة.

وليس ما يمنعنا من أن ننكبَّ على دراسة الحالة الاسلاميّة الضاجّة بالحياة، هادفين إلى الإسهام ولو بنصيب في عمليّة تحرير الشخصيّة الفكريّة للأمّة الإسلاميّة من قيود الفكر الوثني المعاصر على هدى خطّ التوحيد والعدل، خطّ العبوديّة للَّه والخروج على طواغيت العصر.

إنّ السموم والآفات والاختلالات المختلفة التي زرعتها الفلسفات الغربيّة المعاصرة سواء كانت ليبراليّة أم قوميّة اشتراكيّة أم شيوعيّة في جنبات الأمّة الإسلاميّة، لا بدّ أن تتعمّق وتتركّز مواجهتنا لها ليس على المستوى العقائدي والفلسفي فقط، بل أيضاً على مستوى تعبيرات حركة الأمّة ونهضتها في معاقل العلوم الإنسانيّة المختلفة وتفاصيل أبنيتها الجزئيّة كي نحكم المعركة باتّجاهين:

الأوّل: سدّ جميع الثغرات حتّى التفصيليّة منها، والتي يمكن أن تشكّل أماكن تسرب لوحوش الوثنيّة المعاصرة.

ص: 188

والثاني: لاستكمال أدوات الصراع الفكري في مواجهة طغيان الفكر الفرعوني المعاصر.

من هنا نرى أنّ تعميق فهمنا لظاهرة الحجّ، بهدف تكوين أفق موسوعي، يسدّ ثغرة كبيرة في الذاكرة الفكريّة ويعطي للمزاج الإبداعي الإسلامي دفعة مهمّة للأمام تحصيناً لشخصيتنا الفكريّة وتدعيماً لقوّتها في مواجهة جميع الأفكار الخبيثة التي بثّتها الوثنيّة المعاصرة في ثنايا الجسد الإسلامي حول عقيدته وفكره وشخصيّته.

المجتمع التوحيدي (تعريف)

المجتمع التوحيدي، هو المجتمع الذي يستمدّ من القرآن الكريم أسس وقواعد تكوينه الكلّية، ويحاول التواصل مع هذا النصّ في عقيدته وعبادته، في تشريعاته ونظامه، وفي نظمه الخلقية والسلوكيّة. كما يستمدّ المجتمع التوحيدي من القرآن الكريم «منهجاً» و «نظرة» محددتين؛ بهما يواجه هذا المجتمع قضاياه المختلفة، وعلى هديهما يتعامل مع الآخرين.

إنّ هذه العقيدة وهذا المنهج يزودان المجتمع التوحيدي بنظرة معيّنة للإنسان والأمّة، والوجود والكون، والقضايا المختلفة التي يواجهها. بذلك لا يكون المجتمع التوحيدي عبارة عن مجموعة «المسلمين»، بل يتخطّى ذلك إلى حالة اجتماعيّة تاريخيّة كليّة، تعبر عن نفسها في مختلف المجالات والميادين العقيديّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفنّية والفقهيّة «إنّ التصور الإسلامي للألوهيّة وللوجود الكوني وللحياة، وللإنسان... تصوّر شامل كامل. ولكنّه كذلك تصوّر واقعي إيجابي».

- «لا إله إلّااللَّه»:

أي ردّ الحاكميّة للَّه في أمرهم كلّه، طرد المعتدين على سلطان اللَّه بادّعاء هذا الحقّ لأنفسهم، إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم.

ص: 189

إن الحكم إلّاللَّه أمرَ ألّاتعبدوا إلّاإيّاه ذلك الدين القيّم... (1) ومن لم يحكم بما أنزل اللَّه فأولئك هم الكافرون (2).

فإن تنازعتم في شي ء فردّوه إلى اللَّه والرسول (3).

وخلق كلّ شي ء فقدّره تقديراً (4).

ملاحظة أوّلية

1- يعتبر المسلمون أنّ القرآن الكريم وحي إلهي يخطّط (نظاماً شاملًا) لحياتهم. ولكنّ المجتمع الإسلامي التاريخي، رأى في «حواره» مع النصّ القرآني الكريم إطارين:

الإطار الأوّل: يشمل مجموع العقائد والكلّيات والأسس.

وإطاراً ثانياً: ينطوي على جملة فرائض وتشريعات تفصيليّة.

وهذا ما يطرح على الباحث سؤالًا وهو: كيف تعامل المسلمون مع العقائد والكلّيات والأسس العامّة؟

يرى المسلمون أنّ المشكلة محسومة فيما يخصّ الفرائض والتشريعات، ولكنّه يطرح الإشكال فيما يخصّ الإطار الأوّل، أي مجموعة العقائد والكلّيات والأسس، إذ كيف يمكن للمسلمين في «الزمان والمكان» أن يستلوا من هذه الكلّيات قواعد تفصيليّة زمنية؟

2- يعتبر المسلمون أنّ التجربة المحمّدية التاريخيّة، هي الشكل الأرقى للحوار ما بين المسلم وبين كلّيات النصّ القرآني الكريم، إذ بلور وجسّد الرسول في دعوته وممارساته المختلفة، نهجاً وقواعد تاريخية، إليها يرجع المسلمون في الزمان والمكان، ليتشكلوا منهاجاً وعقيدة وسلوكاً بما يسمح لهم بالتواصل مع النصّ القرآني بأرقى الأشكال التي عرفت في التاريخ الإسلامي.

إذاً هنا تتوسط التجربة المحمّدية العلاقة ما بين المسلمين في ظروفهم التاريخية المختلفة، وما بين النصّ القرآني الكريم، تشريعاً، ومنهاجاً وسلوكاً.


1- 1 يوسف: 40.
2- 2 المائدة: 44.
3- 3 النساء: 59.
4- 4 الفرقان: 2.

ص: 190

وبذلك يتقدم المجتمع التوحيدي خطوات كبيرة في حلّ إشكاليّة العلاقة ما بين الظرفي والزمني والمحدود والخاص (أي التاريخي) وما بين الكلّي والمطلق والعام (القرآن الكريم).

3- يطرح المسلمون سؤالًا حول كيفيّة حلّ المعضلات التي لم يواجهها الرسول في عمره، وواجهت المسلمين فيما بعد. هنا يرجع المسلمون إلى مقولتي:

الإجماع والاجتهاد.

4- الإجماع: «هو اتّفاق المجتهدين من هذه الأمّة في عصر من العصور على كلّ حكم شرعي، والاتفاق هو الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل».

5- الاجتهاد أي الاجتهاد في الظرف والمكان، على ضوء ما تقدّم من نصّ وسنّة وإجماع، وفق شروط و مقاييس محدّدة.

الحجّ كظاهرة

يحتلّ الحجّ كفريضة موقعاً أساسياً في بناء وحركة المجتمع التوحيدي، إذ تعتبر هذه الفريضة أحد أركان الإسلام، فالجماعة المسلمة تتعامل مع الحجّ باعتباره فريضة على كلّ مسلم ومسلمة إلى «يوم الدين»، مهما تغيّرت الظروف وتقلبت الأحوال.

وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غنيّ عن العالمين (1).

ويتواصل الحجّ مع منظومة عبادات لدى المسلمين، تبدأ بالصلاة والصوم، وتتوج بالحجّ. إلّاأنّ هذه العبادات المختلفة، رغم ما يجمعها من خصائص مشتركة، يبقى لكلّ منها خاصّية وفرادة، تتطلّب من الباحث والعالم إعمال الفكر من أجل تحديد هذه الخاصّية؛ لذا فالحجّ، كظاهرة يمكننا القول: إنّها في الوقت الذي تندرج فيه ضمن نظام أعم من العبادات تحمل منطقها وقواعدها ووظائفها المميّزة، إلّاأنّنا معنيّون في الوقت نفسه بكشف أبعاد وخصائص وسمات هذه


1- 1 آل عمران: 97.

ص: 191

الظاهرة بالذات؛ لحجّة منطقها الذي تتواصل فيه مع غيرها من العبادات من جهة، ولحجّة فرادتها وتميزها من جهة أخرى .

إنّ هذه المنظومة من العبادات تتبدّى للوهلة الأولى بالنسبة للباحث، على أنّها مجموعة عبادات فرديّة متناثرة، لا يجمعها جامع، وبالتالي، فبإمكاننا مواجهتها معرفياً، كممارسة فرديّة، انطلاقاً من منهج نفسي- ثقافي، نظراً «لطبيعتها» هذه أو على أنّها امتداد لتجربة مجتمع في مرحلة معيّنة من التاريخ على المستوى الأيديولوجي. وبالتالي فإنّنا إمّا أن نعتبرها ظاهرة تاريخيّة انتهت بانتهاء المرحلة التي ولدتها، وإمّا أن نعتبرها استمراراً لبعض الشعائر والمعتقدات التي كانت سائدة في مرحلة معيّنة من تاريخ المجتمع الذي وَلَّدَ هذه الممارسة.

ولكن مراجعة دقيقة لمعطيات الواقع المُعاش من قبل المسلمين وغير المسلمين من جهة، ولمعطيات الحقب التاريخية المختلفة، تكشف لنا أنّ ظاهرة الحجّ، تتّسم بالاستمرارية التاريخيّة من جهة، وبتعدد الأبعاد الاجتماعيّة التي تنطوي عليها هذه الظاهرة من جهة أخرى ، بحيث تغدو هذه الظاهرة إحدى الظواهر الأساسيّة، التي يتكثف فيها وعبر أشكالها المختلفة المنطق العام أو الأوليات العامّة، التي تنظم البناء المجتمعي التوحيدي بكليته، من عقائد وفقه، واقتصاد وسياسة، وفنون ومعاناة فردية وجماعيّة معاشة. أي أنّها ظاهرة متعدّدة الأبعاد، يمكننا أن نطال بالدراسة لها البعد العقدي والاجتماعي، والاقتصادي والسياسي والنفسي، والجمالي. كما يمكننا أن نخطو خطوة أخرى من أجل تحديد بنية هذه الظاهرة والعناصر المختلفة المكونة لهذه الظاهرة في «ثبوتها» وحركيتها، في شكلها ومضمونها.

ومن جهة أخرى ، يمكننا انطلاقاً من الحيز الذي تحتلّه هذه الظاهرة في البناء الاجتماعي العام، وانطلاقاً من جملة العلاقات والممارسات والأسس المتميّزة التي تطبع هذه الظاهرة؛ في تدعيم وجود واستمراريّة المجتمع الإسلامي ككلّ،

ص: 192

واستمرار «الحالة الإسلاميّة»، على مستوى الأفراد والجماعات من جهة أخرى ، في مجتمع تاريخيّ محدّد يحتضن هذه الظاهرة.

إنّ ما تقدّم، يسمح لنا بالتحرّر من المناهج السائدة في ميادين علم النفس الغربي، والتي ترى في ظاهرة الحجّ ظاهرة عباديّة فرديّة ومنفصلة عن ميادين الحياة الأخرى ، وتعيش على هامش البناء الاجتماعي للجماعة المسلمة؛ كي نتعامل مع هذه الظاهرة بوصفها إحدى الركائز المكوّنة والخاصّة لمختلف السمات والخصائص والبنى التي تشكّل مجتمعة، البناء الاجتماعي الكلّي للجماعة المسلمة.

إنّ إحالة هذه الظاهرة إلى مجموعة طقوس وشعائر تمارس من قبل العجائز والأميين في كثير من الكتابات الاجتماعيّة أو في الرأي الشائع، تكشف لنا رؤية أيديولوجيّة خاطئة وعدائية في آن واحد، تحاول تجزيئ هذه الظاهرة واختزالها إلى معطى ثقافي أو «تراثي» يتموضع داخل طيات البنية الثقافية العامّة للمجتمع.

وتذهب المدرسة الماركسية من جهة والمدرسة الاجتماعيّة الفرنسيّة من جهة أخرى (أوغست كونت، دوركهايم) إلى أبعد من ذلك، حيث ترى الماركسيّة هذه الظاهرة مخلفات وعي غير علمي ينتمي إلى حقبة تاريخيّة ماضية، وهو يستمرّ بحكم العادة أو التأخر ويلعب دور معيق للنمو الفكري العام، وبالتالي يجب العمل على تدمير هذا النمط من الظواهر.

وهذا ما يؤدّي عند أتباع هذه المدرسة أو المتأثرين بها إلى منزلقين خطيرين:

الأوّل: ذو طابع فكري يعمل على طمس وتغييب أبعاد هذه الظاهرة.

والثاني: ذو طابع ايديولوجي سياسي تتولّد منه مواقف وممارسات سياسيّة ذات طابع عدائي في مواجهة المسلمين.

أمّا المدرسة الاجتماعيّة الفرنسيّة (أوغست كونت، دوركهايم...) فترسي منهجاً معيّناً يرى في هذه الظاهرة إمّا وعياً غير علمي أو فكراً ذا طابع قهري تفرضه المجتمعات على أفرادها، وما يؤدّي إليه ذلك من عمليّة اغتراب ومسخ

ص: 193

لشخصيّة الفرد في مواجهة القهر الاجتماعي العام.

إنّ تبنّي هذه المناهج، أو الاستناد إليها في دراسة ظاهرة الحجّ، يجعل من الباحث أو المفكّر أداةً طيعة تعمل على إبعاده عن رؤية الواقع كما يعبّر عن نفسه فعليّاً، بعيداً عن كلّ تصوّر مسبق للمعطيات التاريخيّة التي تعيشها وتبنيها المجتمعات أفراد وجماعات.

التزوّد بمنهج ومفاهيم أدوات صالحة للعمل البحثي:

بعد التوصل إلى وضع تصوّر ومنهج ملائم لدراسة الظواهر المختلفة التي يحتضنها المجتمع التوحيدي، أو الحالة التوحيديّة (في حال عدم وجود مجتمع توحيدي كامل) وما يستتبع ذلك من تطوير وبناء مفاهيم وأدوات منهجيّة مختلفة، تسمح لنا بالتقاط وتفسير مختلف عناصر وجزئيات الظاهرة التوحيديّة (منها الحجّ)، علينا أن نتقدّم خطوة أخرى من أجل معرفة ما تقدّم، كما يمارس ويعاش ويعمل في الواقع التاريخي، حيث تأخذ الظاهرة التوحيديّة (الحجّ) أشكالها المحدّدة ومضامينها المميّزة، في الزمان والمكان، وفقاً للخصائص المميّزة للمجتمع الإسلامي المعني بالدراسة.

ففي الواقع التاريخي، على اختلاف حقبه، تأخذ هذه الظاهرة بالتداخل والتفاعل والصراع مع معطيات وظواهر أخرى متعددة، مشدودة إلى أطر ومرجعيات تاريخيّة مختلفة، تتعايش وتتصارع وتتكيف وتكيف النسق التوحيدي العام.

فالانتماءات العصبية، والقوميّة، والسلطويّة، وغيرها من الظواهر، تفعل فعلها في الواقع المعاش، باتّجاه الانفعال أو الفعل في علاقتها بالظواهر التوحيديّة المختلفة على مستوى الفرد، والجماعة، والأمّة، ممّا يعطي لهذه الظاهرة لونها المجسد.

بهذا نكون قد تمكّنا من جهة، من بلورة أدوات نظرية ومفهوميّة قادرة على

ص: 194

ضبط ومعرفة واقع الظاهرة وحركيّتها، كما تحصل في التاريخ، بكلّ أبعادها وبكلّ تناقضاتها المعاشة في مرحلة تاريخيّة محدّدة. وبذلك نكون قد اقتربنا من إمكانيّة صياغة استنتاجات مقاربة ومعبّرة عن واقع التجربة أو الظاهرة موضوع الدراسة.

إنّ هذا الجهد يسمح للمسلمين بمواجهة أنفسهم، عبر مواجهة تجربتهم التاريخيّة الخاصّة بالتحليل والتقييم. فالتجربة التاريخيّة للمجتمع الإسلامي ليست ذات طابع مقدس، كما أنّها بالمقابل ليست تجربة منحرفة خارجة على المرجعيّة التوحيديّة. فممّا لا شك فيه أنّ التجربة التاريخيّة للمجتمع الإسلامي مرجعها الأساسي النموذج التوحيدي، أمّا فيما يتعدى ذلك فإنّ هذه التجربة تجاذبتها نماذج اختلالية عدّة (الملك، القهر، الفساد، الظلم، العصبيّة...)، والتعمّق في فهم أبعاد وخلفيات هذا الواقع يفسح المجال واسعاً لاستخلاص الدروس الفكريّة والمنهجيّة والسياسيّة بما يخدم متطلبات النهضة الإسلاميّة المعاصرة على طريق تواصلها مع النموذج التوحيدي، وتصفية أسباب الاختلال والتحلل العائدة إلى تجربتها الخاصّة قبل أيّ شي ء آخر. فمع قناعتنا الكاملة بأنّ الوضعيّة الراهنة للمسلمين تتحكّم بها أساساً علاقات السيطرة الدولية، إلّاأنّ مشروع النهضة الإسلاميّة يجد نفسه مسؤولًا في آن واحد عن مواجهة المستعمر ومواجهة الاختلالات العائدة إلى التجربة التاريخيّة الإسلاميّة. إنّ وضع اليد على نقاط الضعف والانحراف لا يضرّ الإسلام بشي ء، بل يحرّر المسلمين من كثير من الأوثان والانحرافات التي لازمت تجربتهم التاريخيّة الرائدة، والتي أوجدت فيها ندوباً سمحت لمشاريع القهر الخارجيّة بالنفاذ وإيجاد التربة الملائمة لتأسيس قواعد سيطرتها داخل المجتمع الإسلامي نفسه.

الحجّ ظاهرة عالمية

عند كلّ ديانة من الديانات، أماكن مقدّسة يؤمها أتباع الديانة وفق تقاليد وطرق وآداب محدّدة وفي مناسبات مختلفة، فالديانات اليهوديّة ومن بعدها الديانة

ص: 195

المسيحيّة، تعتبر أنّ بيت المقدس وما حوله من آثار ومشاهد مركزها الروحي الأصيل.

فقد جاء في «دائرة المعارف اليهوديّة» (1) ما يلي:

«إنّ الحجّ إلى بيت المقدس الذي كان يدعى بالزيارة يؤدى في زمن ثلاثة أعياد (وهي عيد الحصاد، وعيد الفصح، «اليهودي»، وعيد المظال) وكان الحجّ فريضة على جميع اليهود، باستثناء الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، والإناث، والعميان... وكانت الشريعة الموسويّة توجب على كلّ «حاج أو زائر» أن يأخذ معه «تقدمة للرب»... وهناك مشاهد وضرائح وأمكنة، تُشد إليها الرحال في كلّ قطر وبلد».

كذلك في الديانة المسيحيّة، فإنّ الحجّ (2)«اسم للرحلة التي يقوم بها الإنسان لزيارة المشاهد المقدّسة، مثل مشاهدة الحياة الدنيويّة لسيّدنا عيسى عليه السلام في فلسطين، أو مراكز زعماء الدين المقدّسة في «روما» أو الأمكنة المقدّسة التي تنسب إلى المقبولين من الزّهاد، والشهداء».

«وقد شاعت زيارة مشاهد روما من القرن الثالث عشر على حساب زيارة الأرض المقدّسة، وإن لم تنقطع زيارة الأرض المقدّسة بتاتاً، وكانت «روما» المدينة التي تلي بيت المقدس في الأهميّة».

أمّا الديانات الهنديّة (كالبوذيّة والبرهمية) فقد كثرت فيها المشاهد والمعابد «وأكثر هذه المشاهد والأمكنة المقدّسة على ساحل نهر «الكنج» المقدس، يجتمع فيهاأهل البلاد في عدد هائل للاغتسال في النهر المقدس، ومنها ما يجتمعون فيها سنويّاً، أو عدّة مرات في السنة...» (3).

إنّ ظاهرة الحجّ والزيارة لدى كلّ من هذه الديانات وغيرها، تتميّز بخصائص وسمات محدّدة انطلاقاً من الموقع الذي تحتلّه في النظمة العامّة للديانة المعيّنة، كما تلعب هذه الظاهرة في كلّ من هذه الديانات والأمم أو الشعوب التي


1- 1 أبوالحسن الندوي الأركان الأربعة: 279.
2- 2 المصدر نفسه: ص 282.
3- 3 المصدر السابق: 285.

ص: 196

تعتنقها أدواراً متعدّدة تطال مختلف المستويات والبُنى الاجتماعيّة التي تشكّل مجتمعة البناء الاجتماعي العام.

الحجّ في المجتمع التوحيدي

وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ... (1).

المنظومة الفقهيّة الضابطة

إنّ القيام بالحجّ، ليس أمراً عفوياً يقوم به المسلم كيفما اتّفق، انطلاقاً من قناعاته الفرديّة، أو تأثراً بالمناخ الحقوقي والقانوني الذي ينظم العلاقات الاجتماعيّة المختلفة في البلد الذي يعيش فيه، ولا انطلاقاً من العرف الذي يحكم القبيلة أو الطائفة التي ينتمي إليها.

فالحجّ تحكمه منظومة فقيهّة تفصيليّة، يتعامل معها المسلمون على أنّها شروط إلهيّة ورساليّة، لا يحقّ للفرد أو الجماعة أو الأمّة، في أيّة مرحلة من مراحل التاريخ وفي أيّة بقعة من بقاع الأرض، أن يُجروا أيَّ تعديل عليها، مهما كان الموقع الذي يتبؤونه في السلطة وفي الحياة العامّة.

إنّها نظمة فقهيّة متكاملة، يحكمها منطق متكامل مقصود بذاته فيما يتخطى ارتباطات الأفراد والجماعات والشعوب.. هذه النظمة الفقهيّة، سواء درسناها في كلّياتها أو في جزئياتها، نجدها تتضافر وتتفاعل لتعطي للظاهرة بعداً فقهياً توحيدياً، يتجاوز مجموع انفعالات وقناعات وممارسات الذين يحجّون، دون أن يشكل بذلك قطيعة أو حالة تعارض وانقطاع مع فعل الحجّ هذا، بل تشكل هذه النظمة نقطة بداية ووصول لحالة «الفطريّة البشريّة» التي تشكل المنظومة الفقهيّة المذكورة «نموذج قياس» بالنسبة لها، تعيد على أساسه وزن سلوكها الخاص والعام وانطلاقاً منه ورجوعاً إليه، إذ بذلك يعتقد المسلمون أنّهم يسيرون على الطريق المؤدي إلى نمو وازدهار شخصيتهم وحياتهم عبر التاريخ وفق المنهج والرؤية


1- 1 الحجّ: 27- 29.

ص: 197

التوحيديّة.

إنّ التعمّق في فهم معاني ودلالات المنظومة الفقهيّة الناظمة لظاهرة الحجّ، له فوائد معرفيّة جمة فيها يخصّ مختلف فروع المعرفة الإنسانيّة المتعلقة بالقانون:

فلسفة القانون، علم القوانين، علم السياسة، علم الاجتماع القانوني، القانون التاريخي المقارن... ففلسفة القانون الغربي والوضعي عموماً، تستند في أساسها إلى مبدإ القوّة والغلبة الزمنيين.

فالقانون في التحليل الأخير، هو فرض الحدود والتوازن على قاعدة قوّة زمنيّة ما، قبيلة كانت أو فئة اجتماعيّة ما، أو سلطة ملك أو دولة ما. أي أنّ الاختلال متضمّن في نقطة الانطلاق هذه؛ لأنّ الحدود المفروضة هنا هي حدود القوّة الزمنيّة القاهرة. «والتوازن» المفروض، هو توازنات مصالح القوى الغالبة بحيث يغدو مبدأ المساواة هنا متعلقاً بمعطى تجزيئي زمني، يطرح نفسه ناظماً لمبادئ كليّة وعامّة.

فالوحدة هي شأن تابع لمعطى أصيل أساسه التجرؤ والغلبة بالقوّة. بينما نجد بالمقابل أنّ الإسلام يطرح التوحيد والوحدة كأصل وكهدف. فالوحدة في المفهوم الإسلامي، ليست وحدة القوّة الجزئيّة الغالبة على الأجزاء والمتحكّمة بها. بل هي وحدة المدار التكويني للإنسان، والاختلال هو العنصر الطارئ عليها. وهذه الوحدة التكوينيّة ليست قهريّة؛ لأنّ لحمتها لا تقوم على أساس تجزيئي بل تتعلّق بتجلّيات المحور التوحيدي منذ البداية.

يترتّب على ما تقدّم إعادة فتح النقاش حول كثير من الموضوعات الفكريّة السائدة على المستوى العالمي حول أسس التشريع وموقع الإنسان منها، وحول تاريخيّة النظم القانونيّة وعلاقتها بحركة الناس والأمم في الزمن الوجودي المعاش.

إنّ ديمومة النظم الفقهيّة الإسلاميّة وثبات مدارها، هما الوجه الآخر لديمومة السعي للانعتاق من ذلّ العبوديّة. فالتشريع الإسلامي بهذا المعنى ، يطرح ثوابت للانعتاق من الوحدة الوثنيّة على طريق الوحدة التوحيديّة إن جاز التعبير.

ص: 198

فالثبات بهذا المعنى هو عين الحركة الآيلة إلى دفع الإنسان نحو التعلّق بقيم التوحيد المتعالية، يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه (1).

البعد العقائدي: التوحيد والتنزيه

يرسي الإسلام كعقيدة في وعي وممارسة أتباعه «تصوراً» للخالق، مفاده أن اللَّه متعال عن كلّ الصفات والتشبيهات التي يمكن أن تتراءى للمسلم في تجربته وواقعه المعاش، أي أنّ اللَّه لا يمكن تجسده وفق شكل ومظهر محدّد. وهذا ما يقابله بالنسبة للإنسان أن يركن إلى علاقة مع اللَّه لا توسط فيها، مهما كان الشكل الذي يمكن أن يأخذه هذا التوسط: صور، أصنام، هياكل، طبقة كهان، أو أية فئة بشريّة بعينها سواء اتخذت شكل فرد أم طبقة أم طائفة أو أي شكل مجتمعي آخر، وهذا ما تؤكّده الآية التي تقول:

وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (2).

إنّ الإسلام يفرض على أتباعه- ضمن هذا الفهم- مستوًى من التجريد بالنسبة لأيّ واقعة بعينها، تسمح لهم بالانعتاق والتحرّر من أيّ من الوقائع الطبيعيّة والبشريّة بغرض التواصل مع «الواحد المتعال»، عن أيّ من مخلوقاته.

ولكن هذا التعالي المطلق لا يحيل الخالق إلى معطىً فارق ومفصول عن الوجود.

بل إنّ آياته مبثوثة في الوجود كلّ الوجود. ومن هنا يبدأ المسلم في إقامة علاقة توازن- صراع- توحيد مع محيطه الطبيعي والبشري. دون أن يجعل من أيّ من هذه المظاهر نقطة قياس متعالية، بل يرى فيها النسبي والزمني والمتغير والجزئي الذي يتوازن ويقاس إلى مثل الأعلى اللامتناهي...

وبحكم أنّ اللَّه هو المطلق، إذن الطريق أيضاً لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان نحو اللَّه هو اقتراب مستمرّ بقدر التقدم الحقيقي نحو اللَّه، ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً، يبقى مجرد خطوات على الطريق من دون أن يجتاز هذا


1- 1 الانشقاق: 6.
2- 2 البقرة: 186.

ص: 199

الطريق... أي أنّه ترك له (للإنسان) مجال الإبداع إلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إلى اللّانهاية...» (1).

في هذا المناخ العقائدي، تندرج جملة الشعائر التي يقوم بها المسلمون، تقرّباً وتعظيماً للَّه وخروجاً على كلّ ما يتعارض ويعيق هذا المسار التوحيدي. فالقيام بالشعائر ليس تعظيماً للشي ء بعينه، بقدر ما هو تقرّب إلى اللَّه تعالى :

ذلك ومن يعظّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب (2).

بهذا المعنى تأخذ شعيرة الحجّ معنىً وسلوكاً توحيدياً شمولياً، يمارسها المسلم بالشكل والمعاناة، بسلوكه السياسي والاقتصادي، بنظرته لنفسه وللآخرين...

الحجّ عامل تزكية وتوازن نفسي وعقلي وعاطفي

- والذين آمنوا أشدّ حبّاً للَّه (3).

- قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللَّه ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربّصوا حتّى يأتيَ اللَّه بأمره واللَّه لا يهدي القوم الفاسقين (4).

ينظر الإسلام إلى الإنسان- بالمعنى الفردي والاجتماعي- باعتباره مشدوداً دائماً إلى جملة العلاقات والمواقع الاجتماعيّة التي تحيط به. فالإنسان ليس «مجرداً أو مطلقاً خارجاً عن النظام المادّي والعلل والعوامل العينيّة والعمليّة... ولكنّه (أي الإنسان) يستطيع استغلال الجبر الطبيعي والوراثة والتاريخ والمجتمع، ويكون مدبر الدنيا المادية، أي صاحب السيادة على الوجود، ويقطع هذه المسيرة العلمية من «التراب» إلى «اللَّه»... وفي هذا المسير تجد فلسفة بناء الذات وجهتها وفلسفتها.

ليس بناء الذات في الإسلام «رياضة سلبية»، لكنّها، «تربية إيجابية» (5).

إنّ الحجّ كسلوك فردي وجماعي، يمكن أن يندرج ضمن هذه الوجهة التي تحاول تحويل وضع الإنسان المسلم من ظاهرة سلبية تكون محصلة لولائه العائلي


1- 1 محمّد باقر الصدر: مقدّمات في التفسير الموضوعي للقرآن، دار التوجيه الإسلامي، 1980: 152.
2- 2 سورة الحجّ: 32.
3- 3 البقرة: 165.
4- 4 التوبة: 24.
5- 5 د. علي شريعتي: بناء الذات الثوريّة، من كتاب الثورة الإيرانيّة: الجذور الإيديولوجيّة، جمعها، د. إبراهيم الدسوقي شتا، الوطن العربي، 1979: 89.

ص: 200

أو الطبقي وما شابه من علاقات اجتماعيّة مختلفة إلى ظاهرة إيجابيّة قادرة على استيعاب وضعيّتها هذه وتخطيها، انطلاقاً من عقيدتها التوحيديّة ومن المؤسسات التوحيديّة المختلفة التي تشكل دوائر متكاملة ضمن المسار نفسه.

بهذا المعنى يحتلّ الحجّ موقعاً متميّزاً في عمليّة بناء الذات المسلمة، بموجب أهداف محدودة ووسائل تاريخيّة محدّدة.

فالحجّ توجّه يحاول إرساء علاقات وممارسات محدّدة تتخطّى حدود العلاقات والممارسات التي يعيشها المسلم في مجتمع ومحيط معينين.

فعندما يأخذ المسلم قراراً بتأدية فريضة الحجّ، يكون قد دخل في مسار سلوكي يحتم عليه اتخاذ جملة من القرارات الواعية، تبدأ بتنفيذ شروط القيام بالحجّ وما يستلزمها من دفع الزكاة والخمس، والبدء بمراقبة حازمة لسلوكه إذ يضع نفسه في موضع المراقب من قبل نفسه والجماعة المحيطة به. هذا المناخ الجديد يلاحقه، من لحظة توجهه إلى الحجّ وفي أثناء الحجّ وفي المرحلة اللاحقة، والتي تمتدّ إلى آخر العمر (1)في مجمل علاقاته مع الناس.

إنّ هذا القرار الواعي بتأدية فريضة الحجّ، يستتبع جملة من الممارسات الواعية في مراحل الحجّ المختلفة.

إنّ السفر وما يمكن أن يكتنفه من متاعب وهجر لمجمل العلاقات العائليّة والاجتماعيّة المختلفة، التي يكون قد استقرّ عليها المسلم، تخلق في نفسه مناخاً جديداً، متحرّراً من ضغط الولاءات المعاشة، ومنخرطاً في عمليّة معاناة تحريرّية تضع عبوديّته للَّه من جديد في الموضع الأوّل، وذلك في مواجهة العبادات «الوثنيّة المختلفة من سلطة ومال وجاه... ففي الإحرام ينزع عنه ثيابه، ويتخفف في الملبس مجارياً بذلك الحجاج الآخرين، إلى أيّ مجتمع انتموا، وإلى أيّة فئة انتسبوا. ونزع الثياب هنا كشكل ذو دلالة رمزيّة، تؤكّد نزع الملبس والامتياز السلطوي أو المالي الذي يرمز إليه، مؤكّداً انتماءه إلى اللَّه وتساويه المطلق مع باقي المسلمين.


1- 1 نلحظ في الوعي الشائع، النقد القاسي الذي توجّهه العامّة لأيّ حاجّ اقترف خطأً ما في الوقت الذي تتهاون أمام شخص عادّي ارتكب نفس الخطأ.

ص: 201

كذلك امتناعه عن جملة من الاحتياجات النفسيّة والبيولوجيّة (المجامعة، والزواج) تركز في ذهن المسلم مفاهيم التوازن والقدرة على التحمّل والحرمان، والقدرة على التضحية والإيثار، وتصليب الإرادة والجسد في وجه احتياجاته المادّية والنفسية المختلفة، أي بجملة تأكيد وممارسة نهج تربوي، فردي وجماعي على قاعدة التوحيد، قادر على تجاوز الحالة السلبيّة التي يعيشها الإنسان تجاه حاجاته وممتلكاته المختلفة.

وفي الحجّ تنمية وتطوير للطاقات العاطفيّة الإيجابيّة نحو الآخرين، وتأكيد لقدرة الإنسان على تجاوز عواطفه الفرديّة والتضحية بها من أجل المجموع.

تلك هي دلالات قصّة إبراهيم الخليل وزوجته هاجر، والتجربة التي خاضاها في مراحل مختلفة في الهجرة إلى هذا المكان النائي (مكّة)، وفي سعيها لإيجاد الماء، وفي قرار ذبح ولده إسماعيل...

استحضار التاريخ

قصّة إبراهيم في القرآن:

«ولد إبراهيم في بيت سادن من أعظم سدنة البلد، ينحت الأصنام ويبيعها ويقوم على الهيكل الكبير، ويتّصل به عن طريق العقيدة، وعن طريق الخدمة...».

ولكن في هذا المناخ السلطوي الوثني، قام إبراهيم بتحطيم الأصنام... وما تبع ذلك من أحداث (1)... أدّت إلى رحيله إلى بلاد الشام... ومن ثمّ أمر بالتوجّه إلى وادٍ ضيّق، أحاطت به الجبال الجرداء من كلّ جانب، وقسا عليه الجوع، يؤمر بترك زوجته والمولود الصغير... فيرضى بالأمر الواقع، ويغلب على الطفل العطش، ممّا يدفع الأم للبحث عن الماء، معتبرة أنّ «البحث عن الأسباب لا ينافي الإيمان والثقة باللَّه، فهي مضطربة في غير يأس، ومؤمنة في غير تعطل وتواكل» (2).


1- 1 راجع حول ذلك: أبوالحسن الندوي: الأركان الأربعة: 251.
2- 2 المرجع السابق: 253.

ص: 202

إنّ حركة هاجر هنا مزيج من الإيمان والثقة باللَّه، والاتكال على النفس، والمجاهدة بحثاً عن الماء.

في هذه القصّة دلالات متعدّدة، نفسيّة وعاطفيّة وعقلية، تلحظ في أوج تفتّحها واشتغالها على يد امرأة في أرض نائية مجدبة.

كذلك في قصّة نيّة ومبادرة إبراهيم لذبح ابنه إسماعيل، ثمّ افتدائه، «إذ لم يكن المقصود ذبح إسماعيل، إنما كان المقصود ذبح الحبّ الذي ينازع الحبّ الإلهي ويقاسمه، وقد ذبح (هذا الحبّ) بوضع السكين على الحلقوم، إنّما ولد إسماعيل ليعيش ويزدهر وينسل، ويولد في ذريته آخر الأنبياء» (1).

إنّ مختلف القصص التي وردت في القرآن تعكس خط التواصل الذي أرساه الإسلام فيما بين الدعوة المحمّدية وخط التوحيد والخروج على الوثنيّة والتسلط وعبادة الأوثان، سواء اتخذت شكل جماد أو شكل بشر.

إنّ خط التوحيد في نظرته للتاريخ- كما تعبّر قصّة إبراهيم وغيرها- يرسي منهجاً واضحاً قائماً على عدم وجود انقطاع كلّي فيما بين مختلف الحقب التاريخيّة التي مرّت بها البشريّة. فلا ينظر الإسلام إلى نفسه على أنّه انقطاع كلّي ونوعي عمّا سبقه من تجارب ووقائع تاريخيّة، بل يعتبر نفسه تكملة وتتويجاً لخطّ الصدام والصراع مع مختلف المؤسسات والقوى والأعراف والعادات، التي حاولت أن تضرب خطّ التوحيد لترمي خطّ الإشراك والوثنيّة، الذي يعبّر عن نفسه بأشكال عدّة، تلتقي حول جعل وثن، أو فرد، أو جماعة محدّدة، مركز الكون ومصدر سلطته.

إنّ الرؤية الإسلاميّة لحركة التاريخ على ضوء ما تقدّم ترفض عمليّة تحقيب التاريخ إلى مراحل متميّزة نوعياً انطلاقاً من مقياس تجزيئي ما، يؤدّي إلى جعل كلّ مرحلة لاحقة نفياً للمرحلة التي سبقتها، كما يؤدّي إلى رسم خطّ تطوري لحركة التاريخ على قاعدة المميزات التي استجدت على واقع التجربة الصناعيّة في المجتمع


1- 1 المرجع السابق: 254.

ص: 203

الغربي المعاصر.

فالمدرسة الماركسية ترى في مستوى تطور القوى التقنيّة معياراً للتقدم والتأخر، والمدرسة الاجتماعيّة ترى أنّ الحالة الفكريّة مقياس لخطّ التطور التاريخي.

وعلى قاعدة ما تقدّم ترسي نظرة اختلالية لمقاييس التقدّم والتقهقر، تفصل بين مقاييس العدل ومقاييس القوّة (التكنولوجيا، العلوم)، لتذهب أبعد من ذلك حيث تجعل مقاييس العدل ملحقة بمقاييس القوّة أو تابعة لها. من هنا نفهم تحوّل هذه المدرسة تدريجيّاً إلى أداة بيد المجتمعات الصناعيّة في مواجهة المجتمعات المستتبعة، تعمل على تبرير ما تقوم به الأولى من تخريب بحقّ المجتمعات الأقل تطوراً على مستوى القوّة والثروة. حتّى إنّ المرء يشك فيما إذا كانت الفلسفات الغربيّة المعاصرة، قد استنسبت المقاييس التي يمتاز بها المجتمع الصناعي؛ وجعلتها ميزاناً للحقّ والعدل أي حقّها هي وعدلها هي بالذات. من هنا نجد سهولة تحوّل هذه الأيديولوجيات إلى لغة تبريريّة لعنف المجتمعات الصناعيّة في مواجهة المجتمعات المستتبعة. ألم يحتل نابليون مصر تحت شعارات الثورة الفرنسيّة؟ ثمّ ألم يجتح الاتحاد السوفياتي افغانستان تحت شعار التقدّم والاشتراكيّة؟... إنّ هذه الفلسفات تأكل شعاراتها أثناء الطريق بعد أن تكون قد جعلت منها ترسا حصيناً تحمي به جسمها. فمبدأ المساواة في الفكر اللبرالي، ومبدأ ضرب الاستغلال في الفكر الماركسي، تمّ التهامهما من قبل هاتين المدرستين على طاولة الآلة وحريّة السوق. فالمساواة والحريّة هنا، هما حريّة مالك الآلة ومالك السوق...

لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتصالح الفكر الإسلامي مع هذه الفلسفات. إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن ينظر المسلمون إلى المجتمع الفرعوني على أنّه متقدّم عن مجتمع إبراهيم الخليل، بسبب القوّة المدنيّة والماليّة التي يتمتّع بها المجتمع الفرعوني.

ص: 204

كما لا يمكن للمسلمين أن يروا في المجتمع العباسي وقبله الأموي نموذجاً متقدّماً على نموذج دولة المدينة التي أسسها رسول اللَّه، لا لسبب إلّالأنّ هذين المجتمعين متقدّمان مادياً وتقنياً بما لا يقاس مع مجتمع المدينة. فالمسلمون يرون في دولة الرسول الكريم نموذج القياس الذي تقرأ على أساسه التجارب اللاحقة وبغض النظر عن مقدار القوّة التي تملكها أيّ منهما.

هنا تبقى مقاييس العدل والتوحيد والتقوى ، هي العنصر الثابت في قراءة طبيعة انشدادتها. طبعاً هذا لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّ الإسلام يطرح تناقضاً مبدئياً وعلى الدوام مع المقاييس الأخرى ، بل جلّ ما في الأمر أنّه ينظر إلى ميزان التوحيد على أنّه المحور الناظم والمهيمن والمتحكم بموازين القوّة التي تقرأ على قاعدة خطّ التوحيد والعدل. فهي إمّا متواصلة معه أو مختلفة عنه أو مناقضة له. وبذلك يمكننا أن نفهم لماذا ينظر المسلمون إلى تجربة المدينة على أنّها مقياس قراءة التجارب اللاحقة لها باعتبارها متقدّمة بمقياس العدل والتوحيد رغم كونها مختلفة بمقاييس المدنية والقوّة الماديّة؟

وبذلك يكون الإسلام قد قدّم تصوراً لا يغدر بأيّ حال من الأحوال بأفراد المسلمين أو بكتاب الأمّة الإسلامية أو بعالم المستضعفين على المستوى العالمي.

لهذه الأسباب نقول: إنّ الإسلام لا ينفي ما قبله وبالتالي لا ينفي ما دونه، بل يخلق عند أتباعه رؤية ومنهاجاً في التعامل مع الوقائع والأحداث تسمح لهم بعمليّة فرز التجربة التوحيديّة عن التجربة الوثنية. وتمثل استيعاب المسلك التوحيدي ونبذ المسلك الوثني.

ممّا يبرر هذا النهج وهذه الرؤية ما كان عليه الحجّ عشية الدعوة، وكيف تعامل معه الإسلام. فمن ذلك أنَّ قريشاً لم يكونوا يدخلون عرفات مع الحجيج، بل يقفون في الحرم، ويقولون: نحن أهل اللَّه في بلدته وقطان بيته، ويقولون: نحن الحمس، وما إلى ذلك إلّاليتميزوا عن سائر الناس، ويحافظوا على مركزهم

ص: 205

الجاهلي، وعلى ما كانوا يتخيّلونه من سموّ وامتياز، فأبطل اللَّه هذا الامتياز الجاهلي، وأمرهم بأن يعملوا كما يعمل الناس، ويقفوا بعرفات وقال: ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس (1).

ومن سمات الحجّ في الجاهليّة، أنّه كان عيداً من أعيادهم، ومكاناً للمفاخرة بالأنساب القبليّة ومآثر الآباء، وللَّهو والخصام، فرفض القرآن ذلك في الآية التي تقول: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ (2).

إنّ هذا المنهج في مغالبة المنحى «الاشراكي» تبدو معالمه جيلة فيما أُرسي من ممارسات معينة ونبذ أخرى كانت سائدة، بهدف رسم مسار توحيدي خالص للحجّ بهدف تخليد خصائص تجربة إبراهيم ومآثره، وتجديد دعوته وتعليمه، عقيدة وممارسة.

هذا التواصل مع الخطّ التوحيدي السابق للرسالة الإسلامية، نجد له استمراراً بعد ثلاثةعشر قرناً في تجربة الحجّ لدى مسلمين في القرن العشرين. ففي توصيف لمحمّد أسد حول تجربته في الحجّ يقول: «... وإذا وقفت على رأس التلة أُحدق إلى أسفل نحو سهل عرفات الغائب عن ناظري، شعرت كأنّ زرقة الأرض أمامي، التي كانت ميتة منذ لحظة، قد دبت فيها الحياة من جديد بتلك التيارات من الأنفس البشرية التي مرت عبرها، وامتلأت بالأصوات الغريبة تصدر عن ملايين الرجال والنساء الذين مشوا أو ركبوا ما بين مكّة وعرفات في أكثر من ألف وثلاثمائة حجة... إنّ أصواتهم وخطواتهم، وأصوات حيواناتهم، وخطواتها، تستيقظ وتسمع من جديد: إنّي أراهم يمشون ويركبون ويتجمعون، كلّ تلك الملايين من الحجاج بثيابهم البيضاء عبر ألف وثلاثمائة عام... إخوان لي عن اليمين، وإخوان لي عن اليسار، كلّهم لا أعرفهم، ولكنَّ واحداً منهم ليس غريباً عنّي» (3).

وفي تجربة حجّ آخر نقرأ: «إنّ الإنسان عندما يتواجد في مكّة المكرّمة منطلق


1- 1 البقرة: 199.
2- 2 البقرة: 197.
3- 3 محمّد أسد، الطريق إلى مكّة، دار العلم للملايين: 404.

ص: 206

الدعوة الإسلامية المباركة وفي المدينة المنوّرة، دولة الإسلام الأولى ، يعي من الذكريات في أرضها انطباعات روحية كبيرة: هنا نزل الوحي، ومن هنا انطلق الرسول صلى الله عليه و آله، داعياً ومبشراً ونذيراً، وفي هذه الأمكنة عُذب دعاة الإسلام الأوائل واستشهد بعضهم مواجهين الطاغوت... وعلى هذه الطريق هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة...» (1).

وكما تتواصل تجربة الحجّ مع النسق التوحيديّة في التاريخ، استمر الصراع ما بعد الدعوة الإسلامية بين خط الممارسة التوحيدية وخطّ الوثنيّة والتسلط. ففي تاريخ هذه الظاهرة وواقعها الراهن نلحظ جملة من الظواهر والممارسات التي تحاول ضرب هذه التجربة، أو على الأقل إضعافها وجعلها ممارسة شكلية.

ففي كثير من العهود التاريخيّة اللاحقة لمرحلة الدعوة، نلحظ انعكاسات الاختلال العام في بنية المجتمع الإسلامي على ظاهرة الحجّ. إذ ظهرت تجربة تعيين أمير الحجّ من قبل السلاطين، وما استتبع ذلك من امتيازات وممارسات مختلفة أدت إلى جعل هذا المنصب فرصة للترقي وجمع المال وتوظيف شرعيّة هذا الموقع من أجل مكاسب ومنافع مختلفة. كما أدى الاختلال العام في حقب معينة إلى تعيين عدة أمراء للحجّ، وبالتالي خلق فجوة وشرخ فيما بين الحجيج ذات طابع جغرافي أو عرقي أو مذهبي (2).

أضف إلى ذلك، هجمات عصابات متعدّدة على طريق الحجّ، للاستيلاء على قوافل الحجيج وسلبهم. كذلك محاولة التجار والبدو في مكة فرض أسعار عالية جداً على ما يبيعونه من ماشية.

وفي الوقت الراهن نلحظ ما للحدود السياسيّة للدولة التي يعيش فيها المسلمون من أثر كبير على حريّة الحجّ خاصّة بالنسبة للدولة التي تقع مكّة فيها.

فهناك قيود ومراقبة أمنية وسياسية وتداخلات لمنع الحجيج من التفاعل والتواصل بهذا الشكل أو ذاك.


1- 1 محمّد الخنسا، مجلّة الحكمة، عدد 4: 701.
2- 2 دائرة المعارف الإسلامية، المجلّد الرابع، مادة: أمير الحجّ.

ص: 207

ومع ذلك تستمر هذه الظاهرة بالعيش وتزداد قوّة واتساعاً. (بلغ عدد الحجاج عام 1980 قرابة المليون، بينما لم يبلغ عام 1914 سوى 70 ألفاً) (1) وبالتالي يستمر الصراع بين هذه الظاهرة وبين كافّة الظواهر والعلاقات المعيقة لها بهذا الشكل أو ذاك.

البعد السياسي للحجّ

كانت القبائل عندما تؤم مكّة في موسم الحجّ، تحمل كلّ منها أعلامها المميّزة وأصنامها ولباسها، مؤكّدة بذلك على تمايزها القبلي أو على رتبتها وعلوّ شأنها بين القبائل الأخرى . ولكنّ الحجّ بعد الدعوة، أرسى مؤسسة جديدة تتعارض بل تلغي كلّ هذه الممارسات والشعائر. خالقة حالة توحيديّة خالصة، تؤمن للمسلمين إحدى الدعائم التي تجعلهم قادرين على مقاومة الانشدادات المختلفة من قوميّة وقبلية وما إلى ذلك. «فالمسلمون لا تبتلعهم القوميات، كما ابتلعت أمماً كثيرة، ولا يصبحون ضحيتها، ولا تكون بلادهم التي يحبونها بسائق الفطرة والعاطفة والعصبيّة، قبلة يتوجهون إليها، وكعبة يحجون إليها، إنّما هي قبلة واحدة يتوجّه إليها الشرقي والغربي، والعجمي والعربي، وإنّما هي كعبة واحدة يحجّ إليها الهندي والأفغاني والمسلم والأوروبي والأمريكي... فالحجّ انتصار على القوميات الوطنيّة والعنصريّة واللسانية، التي قد يصبح بعض الشعوب الإسلامية فريستها تحت ضغط عوامل كثيرة، فتتجرّد جميع الشعوب الإسلاميّة من جميع ملابسها وأزيائها الإقليميّة، التي تميز بعضها عن بعض ويتعصب لها أقوام، وتظهر كلّها في مظهر واحد يسمى (الإحرام) في لغة الدين والفقه، وفي مصطلح الحجّ والعمرة، حاسرة رؤوسها ما بين رئيس ومرؤوس، وصغير وكبير، وغني وفقير، وتهتف كلّها لغة واحدة ونغمة واحدة: «لبّيك اللهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» (2).

والطواف حول الكعبة يرى فيه الإمام الخميني رمزاً لحرمة «الطواف


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، عدد: 103، 1975، القاهرة، مادة: الحجّ.
2- 2 أبوالحسن الندوي، المصدر السابق: 263- 264.

ص: 208

والسعي حول (أية مبادئ) غير مبادئ اللَّه، وإن رجم الشيطان هو رمز لرجم كلّ شياطين الإنس والجنّ في الأرض. أيّها الحجّاج... احملوا من ربّكم نداءً إلى شعوبكم، أن لا تعبدوا غير اللَّه وأن لا تخضعوا لغيره» (1).

ويندرج الحجّ ضمن سلسلة اجتماعات المسلمين، بحيث يأتي تتويجها لها، وأهمها لجهة الشمول والاتساع:

أما أوّل هذه الاجتماعات فهو «على مستوى أهل الحي الواحد من البلد، يتكرّر في اليوم خمس مرات وقد شرع اللَّه صلاة الجماعة.

أمّا ثانيهما فاجتماع على مستوى أهل البلدة الواحدة، يتوالى مع كلّ أسبوع، وقد شرع له صلاة الجمعة.

وأمّا ثالثهما فاجتماع على مستوى العالم الإسلامي أجمع...» (2).

حيث يتلاقى المسلمون من شتّى بقاع الأرض؛ ليتعارفوا، ويتبادلوا الآراء والخبرات، ويغلّبوا وحدتهم على ما يغالبها من انتماءات تاريخيّة واجتماعيّة وثقافية مختلفة.

يورد أحمد شلبي معلومات قيّمة عن تجربته في الحجّ (3)، عندما يشير إلى النقاط التالية:

- الحجّ اجتماع عام للمسلمين «لم يختر له مندوبون يمتازون بالحجيج والجدل، بل ترك الباب مفتوحاً لمن يستطيع أن يأخذ في هذا المؤتمر الشامل بنصيب، والحجيج على هذا يمثلون كلّ الأقطار بل كلّ القرى ، ويمثلون كلّ الثقافات وكلّ الطبقات.

- ومن مآثر الحجّ كذلك التعارف بين طوائف شتى جاءت من كلّ ربوع العالم الإسلامي، وطالما جلست وأنا أؤدّي هذه الفريضة مع رفاق من هنا وهناك وتدارسنا مشكلات العالم الإسلامي» (4).

- «وهنا مأثرة مهمّة للحجّ أدركتُ عمقها من صِلاتي ببلاد شتّى بالعالم


1- 1 رسالة الإمام الخميني قدس سره إلى الحجاج عام 1399 هجرية.
2- 2 د. محمّد سعيد رمضان البوطي: مقدّمة كتاب مناسك الحجّ والعمرة: 12.
3- 3 أحمد شلبي: الإسلام، مكتبة النهضة المصريّة، 1979: 160- 165.
4- 4 المصدر نفسه: 163.

ص: 209

الإسلامي، ففي كثير من هذه البلدان يوجد اهتمام كبير بلقب «حاج» الذي يحمله من أدّى هذه الفريضة، ويبلغ اهتمام الناس بهذا اللقب أن الأبناء يرثونه عن الآباء والأجداد كما يحدث كثيراً في أندونيسيا وماليزيا والسودان، ولا ينسى رجل ذهب للحجّ ثمّ لزمه هذا اللقب أن يتّجه إلى الطيبة والاستقامة؛ ليكون أهلًا لحمله» (1).

إنّ الدلالات السياسيّة المختلفة التي تتضمّنها ظاهرة الحجّ في المجتمع الإسلامي تنطوي على سمات خاصّة بهذا المجتمع. فالسياسة ليست مؤسسة قائمة بذاتها ومنفصلة عن باقي جوانب وأبعادالحياة الفرديّة والجماعية. بل هي لحظة تندرج ضمن ممارسة شموليّة متعدّدة الجوانب تعطي للنسق السياسي الإسلامي بعداً توحيدياً متميزاً.

ومن هنا خطأ موضوعتين شائعتين في فهم دلالات الحجّ عند بعض المحللين والدارسين لهذه الظاهرة:

فالموضوعة التي تحاول أن تختزل الحجّ إلى ظاهرة تعبّدية مقتصرة على تنفيذ بعض الشرائع والفرائض، منظور إليها على أنّها ممارسات منفصلة عن باقي جوانب الحياة الاجتماعيّة، تجد لها تعبيراً في كثير من الدراسات والمواقف التي تتّخذها مؤسسات سياسيّة مختلفة. وهي بذلك تعكس موقفاً وممارسة تاريخيين، طالما تداخلا وتشابكا مع ظاهرة الحجّ ووسماها بهذا الطابع عبر التاريخ. غير أنّ هذه الوجهة لم تستطع تدجين ظاهرة الحجّ واستيعابها إلّالفترات معيّنة من التاريخ. وبقيت هذه الظاهرة حيّة تنبض بالحياة وتنتظر المناخ المناسب لتعيد سيرتها الأولى كإحدى ركائز المجتمع التوحيدي الأساسيّة.

والموضوعة الثانية، إحالة الحجّ إلى مؤتمر سياسي سنوي على النمط الذي نلحظه في الممارسة السياسيّة الحديثة. (الاجتماع أو المؤتمر الحزبي وما شابه). إنّ خطأ هذه الوجهة يكمن في إسقاط الفهم المعاصر والسائد لطبيعة المؤسسة السياسية على ظاهرة مختلفة، لها أسّها ومنطقها الخاصان بها، واللذان يعبران عن


1- 1 المصدر نفسه: 162.

ص: 210

أنفسهما في ظاهرة الحجّ الشموليّة، والتي يندرج فيها في زمن واحد، المستوى العقدي، والفكري، والنفسي، والاقتصادي والسياسي... ممّا يعطي لهذه الممارسة خاصيّة وفرادة مميزتين، كما يعطي لكلّ بعد من أبعاد هذه الممارسة طابعاً مميزاً له أسسه وقواعده ومنطقه اللازم له.

لذا نؤكّد ضرورة العمل على كشف المنطق العام الذي يحكم هذه الظاهرة، مستندين إلى منهج شمولي مرن، يسمح للباحث بالانفتاح على حقائق الواقع ومعطياته، دون أن يسمح للروى المنهجيّة والنظرية المختلفة، أن تكون قالباً جامداً، عاجزاً عن التقاط دلالات وأبعاد هذه المؤسسة. فلا بدّ والحالة هذه من تطوير مفاهيم وأساليب منهجيّة و نظريّة علميّة دقيقة تستجيب و تتلاءم مع طبيعة الموضوع المدروس، بغض النظر عن المواقف القيمية والنظرية التي تسود علم الاجتماع العام وخاصّة المناهج السائدة في المجتمع الغربي الحديث في تجلياته المختلفة.

فمفهوم التوحيد، والجماعة، والفطرة، والعبادة، والشرع، وما إلى ذلك من موضوعات منهجية ونظرية، كمفهوم العصبية، والقبلية والأمة،... كلّها مفاهيم أساسيّة في دراسة التجربة التاريخية والمعاشة من قبل الجماعة التوحيدية. كي يتمكن الباحث من بلورة مفاهيم اجتماعية دقيقة تصلح للتعامل مع طبيعيّة الواقع ودلالات ممالكه المختلفة.

إنّ المخاض الذي تعيشه الشعوب الإسلامية، والذي بلغ أشده في هذه المرحلة سيفتح الطريق أمام الشخصية الفكرية الإسلامية لأن تستعيد حركتها بعد أن طال زمن الانكماش والسير المتعثر، أي أنّ عمق الجراح وكثافة الأصفاد تستدعي بالضرورة نهضة شاملة لن يستقيم أيّ بنيان منها إلّاعبر التواصل والتآزر مع الأبنية الأخرى .

إنّها بداية امتحان لقدرة المسلمين على المواجهة الحضاريّة الشاملة في ميادين الجهاد المختلفة.

ص: 211

الهوامش:

الحجّ في الادب العربي

ص: 213

الحجّ في الأدب العربي

إعداد: محمّدرضا الأنصاري

قصيدة الحجرة النبويّة الشريفة

أنشأ هذه اليتيمة العصماء السلطان عبدالحميد خان بن السلطان أحمد خان عام 1191 ه، واستحقت بإخلاص ناظمها وحبّه الصادق لسيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن تنقش على الحجرة النبوية الشريفة، وقد استخرجت من كتاب تركي قديم هو:

«مرآة الحرمين» لأيوب صبري باشا.

يا سيّدي يا رسولَ اللَّهِ خُذ بيدي مالي سواكَ ولا ألوِي على أحدِ

فأنتَ نورُ الهدى في كلّ كائنةٍ وأنتَ سرُّ الندى يا خيرَ مُعتَمد

وأنت حقّاً غياثُ الخلق أجمعهم وأنت هادِي الورى للَّه ذي المدد

يا من يقوم مقامَ الحمدِ منفرداً للواحدِ الفردِ لم يُولد ولم يلدِ

يا من تفجّرتِ الأنهارُ نابِعةً من أصبعيه فروّى الجيش ذا العدد

إنّي إذا سامني ضيمٌ يُرَوِّعُني أقول: يا سيّدَ السادات يا سَنَدي

كُن لي شفيعاً إلى الرحمن من زلَلي وامنُن عليَّ بما لا كان في خَلَدي

وانظر بعين الرضا لي دائماً أبداً واستُر بفضلِك تقصيري مدى الأمد

ص: 214

واعطف عليَّ بعفوٍ منك يشملني فإنّني عنك يا مولاي لم أحدِ

إنّي توسّلتُ بالمختار أشرفِ من رقى السموات سرّ الواحدِ الأحدِ

رَبُ الجمالِ تعالى اللَّه خالقُه فمثلَه في جميع الخلقِ لم أجِد

خيرُ الخلائق أعلى المرسلين ذُرًى ذخر الأنام وهاديهم إلى الرشدِ

به التجأتُ لعلّ اللَّه يغفر لي هذا الذي هو في ظنّي ومعتقدي

فمدحه لم يزل دأبي مدى عُمري وحُبّه عند ربّ العرش مستندي

عليه أزكى صلاة لم تزل أبداً مع السلام بلا حصر ولا عدد

والآل والصحب أهل المجدِ قاطبة بحر السماح وأهل الجودِ والمدد

رسالة وقصيدة

تمتلك مكتبة البرلمان الإيراني (كتابخانه مجلس شوراى اسلامى) مخطوطات نفيسة ونادرة، منها مجموعة برقم 14448 (جاء وصفها في الجزء 38 ص 589 من فهرس المكتبة) فيها عدّة رسائل وكتب، منها الرسالة المسمّاة ب (تذكرة ابن عِراق)، وهو أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عِراق الحِجازيّ المدنيّ الكنانيّ، المتوفّى سنة 963 ه، وهو معدود في أعلام الشافعية.

أمّا أصل التذكرة فيبدو أنّها فُقِدت وبقي لنا منتخبٌ منها، وأدرج جامع المجموعة الجزء الثاني من هذا المنتخب فيها، وهذا المنتخب من التذكرة يحتوي على قصائد ومقطوعات شعريّة ونثريّة، وبعض الرسائل الصغيرة، وقد اخترنا منه رسالة وقصيدة.

أمّا الرسالة: فهي تحتوي على وصفٍ للسّفرة التي قام بها العلّامة الأديب شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان إلى الديار المقدّسة، وقد نعت في صدر الرسالة بأنّه (كاتب سرّ الشريف بدمشق سنة 689 ه).

والرسالة تتضمّن أحاسيس أبي الثناء ومشاعره الجيّاشة في تلك المواقف

ص: 215

الشريفة، وخاصّة حين زيارته لمثوى النبيّ صلى الله عليه و آله ورؤيته للمليحة الملفوفة في الخمار الأسود أي الكعبة المشرّفة، وقد مزج أبوالثناء بين النثر الرائق والشعر العاطفي، وأبرز من خلال اسلوبه الأخّاذ المتردّد بين الشعر والنثر عواطفه وأحاسيسه، وهو في الواقع ترجمان لمشاعر كلّ مسلم تطأ قدماه تلك الرحاب الطاهرة.

والرسالة من ورق 152 پ إلى ورق 155 ر من المجموعة.

أمّا القصيدة: فهي لأحمد بن محمد الزعفرانيّ، ولا نعرف شيئاً عن تفاصيل حياته، سوى ما يستفاد من مطاوي شعره أنّه كان عارفاً صوفيّاً، أو لعلّه يتظاهر بهما في هذه القصيدة، والقصيدة تحتوي على 17 بيتاً، أوردها الجامع في الورق 127 من المنتخب.

[152 پ ] العلّامة الأديب شهابُ الدّين أبو الثَّناء محمود بن سليمان، كاتب السرّ الشريف بدمشق المحروسة، كتب إلى بعض أصدقائه لمّا حجَّ سنة 689، يَصفُ فيها ما جرى له:

أمّا بعدُ: اللَّه المُسيّرُ في البحر، المُيسِّرُ أداء نُسكِ الحجّ؛ مع السَّلامة من النَّحر (1). والصّلاة على نَبيّه الذي تُشَدُّ الرِّحالُ إلى حَرَمه (2)، وتحذّى الآمال إلى روضة كرمه.

فإنّا سِرْنا لأداء حَجّة الإسلام، وزيارة (3) قبر النبيّ عليه أفضل الصّلاة والسلام، نستوطئ للشَّوق الوهاد (4)، ونُؤثِرُ النُّومَ على الفتاد الوثير مِنَ المَهاد، لا يستقرُّ بنا دارة منزلٍ، ولا نَبِيتُ بحمًى إلّاوالكرى عنّا بمَعْزل.

ونسألُ والدارُ تَدْنُو بنا عن القُرب في كُلّ يومٍ مراراً

وَما ذاك إنّا سَئِمْنا الثّرى وَلكِنْ دَنونا؛ فزدنا انتظاراً

وما منّا إلّامَنْ لَبِس الدُّجى ، وأدْرعَ النّهار، وأرخى ركائب دُمُوعه حتّى


1- 1 التلف والهلاك.
2- 2 إشارة إلى الحديث النبوي المشهور: «لا تُشدّ الرحال إلّاإلى ثلاثة مساجد ...» ومنها مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لأجل درك فضيلة المسجد، وزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله.
3- 3 إشارة إلى الحديث النبوي الذي رواه أصحاب السنن والمسانيد، أنّه: «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْني فَقَد جفاني» وقدواظب المسلمون على زيارة قبره صلى الله عليه و آله؛ إمّا قبل بدء المناسك، أو بعد الانتهاء منها، أو فيهما.
4- 4 الصحاري والبراري المقفرة.

ص: 216

جعلها في أوّل القطار، وكلّما خشيتُ على النُّوقِ الكلال، وعلى الحِداة (1) المَلال، أنشدتُ بلسان الحال:

لا تَسْأمي يا نُوقُ طُولَ السّري فقد بَدَتْ أعلامُ وادي القُرى

ولا تَملَّي قَطْعَ عَرْضِ الفَلا وشِدَّة السّير وجَذْبَ البُرى

فَقَدْ عَرَضْنا الرُّوح في حُبّ مَنْ سِرْنا إليه والحبيبُ اشْتَرى

غداً ترين الدّار مأهولةً وحُسن مَنْ تهوينَ قد أسفرا

قَصَدتُ مَنْ عَمَّ جُودُه (2) فاسْتَبْشِري منه بِحُسْنِ القِرى (3)

كلّما قيل: غَداً تدنو الدار، ويقرب المَزار، طربتُ على السّماع، وتقرّبتُ المُلتقى مِنْ ثَنيّات الوِداعِ (4)، وكفكفتُ العَبَرات، وأضَفْتُ إلى ما سلف من الأبيات:

قالوا: غداً ندنُو؛ فواحَسْرتا لو كانَ بالعُمر غداً يُشترى

ياليلةٌ قد بقيَتْ هل تُرى أحمدَ في صُبْحِ دُجاك السُّرى ؟

أحسدُ ريحاً خَطَرتْ بالحِمى وَبَارقاً في ساحتيه سَرى

وحين وصلنا إلى ثَنِيَّة المدينة النبويّة، عَلِمْنا أنّ لمشاركة اسمها استَحَقَّت الثَّنايا التقّبيل، ولمّا انجلت عنه بارقة اللّقاء، اتّصفَ بها الاشراق واتّصل، فشاهدنا نوراً خالف العادة إشراقه، وعزَّ على ضوء النّهار لِحاقُه، وخَرْقُ العادة دَليلُ الإعجاز، والنُّور الذي يَشرقُ به القلوب، هو المستحقّ لاسم الحقيقة، وما سواه مجازٌ؛ ففسحتُ لِطرف طَرْفي في ذلك الافُق مجالًا، وأرسلتُ دمعي سِجالًا، وأنشدتُ إرتجالًا:

اللَّهُ أكبر أيُّ بَرْقٍ لاحَا لي مِنْ ثَنِيّاتِ الوداعِ صَباحا

مَلأَ الوجودَ فَخِلْتُ أنّ الشّمسَ قَدْ طَلَعتْ وما نَشَرَ النّهارُ جناحا

ياليلةً بالنُّجْحِ أسْفر صُبْحُها نفسي فداك وإنْ غَرمَتْ أرواحاً


1- 1 الذي يحدو للإبل.
2- 2 هكذا ورد.
3- 3 الضيافة.
4- 4 موضعٌ على طريق قباء جنوب المدينة المنوّرة، كان مُستَقبل ومستودع الحجيج.

ص: 217

وصبيحةٌ قد بَشّرتْ بمُحمّدٍ هاك القُلوب، ودونَكَ الأرواحا

هذي النّخيل، وهذه الدّارُ التي جِبْرِيلُ كان بها مَسا وصَبَاحا

فَعَلامَ لا تطؤُ الجُفُون تُرابها ويقلُّ ذلك لو يكونُ مباحاً

ولمّا تحدّرنا مِنَ النّصاب، وقَذَفتنا بُطُونُ الأودية مِنْ أفواه الشِّعاب، ولاحَتْ لنا الأنوار النبويّة مِنْ تلك القِباب، وابتدرنا إلى الحرم الشريف، والكريمُ قَد فَتَح الباب، ورَفَع الحِجاب، ومَلأ بالبرّ الرِحاب، فاسْتَعظمنا الإقدام على المُقام، وعَجَزنا عن أداء ما يجبُ من السَّلام، فعبرتُ العبرات عن الكلام، واقتدينا بقاضي قضاة الإسلام (1)، في الوقوف بين يدي ساكنه عليه أفضَلُ الصَّلاة والسَّلام، وانتظمنا في زمرته؛ لِنُساهم في قِراهُ، إذْ مِنْ سُنّة الرسول صلى الله عليه و آله إكرام الكرام.

وحينَ فزتُ بكون مع تلك الزُّمرة فوزاً عظيماً، وإنّي دخلتُ مع تلك الفوجة مُدْخَلًا كريماً، وثقتُ بعد الاستغفار بالتوبة والرّحمة لقوله تعالى: ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا اللَّه واستغفر لهم الرسولُ لوجدوا اللَّه توّاباً رحيماً (2)

. وأخذنا في تلاوة القرآن المُنزل عليه في حضرته، وشكَّ (3) كلٌّ منّا نفسه جالساً بين يديه، يَعْرِضُ درسه في سورته، ولمّا خَتَمنا التلاوة بالدُّعاء، وأطفأنا؛ بل أضرمنا نيران الشَّوق بماء البُكاء، هنّأنا النفوسَ ببلوغِ المُنى، وزوالِ العَنا، وأنشدتُ مُعْلناً:

بلغتُ مرادي ونِلْتُ المُنى وزاد السُّرور وزالَ العَنا

فماذا الذي تَرْتَجي بَعْدَها وَهذا الرَّسولُ وهَذا أنا

فَبُشراك بُشْراك يا ناظري تَملّ وإيّاك أنْ تُغْبنا

فحيثُ الْتَفْتُ رأيتُ الرسول وآثاره مِنْ هُنا أو هنا

تمل فهذا مكان الحبيب وهذا التواصل قد أسكنا

وَخَلّ الدُّموع إلى وقتها فإنّ حُسن الدُّموعِ عند الهنا (4)


1- 1 أشار كاتب الرسالة في هامش المخطوطة إلى أنّ القاضي هو شهاب الدين الجويني.
2- 2 سورة النساء: آية 64.
3- 3 أي ظنّ وتخيّل.
4- 4 هكذا ورد.

ص: 218

فَهَبّتْ علينا نَفَحات القبول من ذلك الخباب، ونفحتنا أرواحُ الرَّحمة فاجتلينا (1) المحبوب مِن وراء الحجاب، وأقمنا كذلك ثلاثة أيّام، وهي العادة في ضيافة العرب الكِرام، وفي كلّ ليلةٍ يتجدّدُ لنا مِنَ اللّطائف والظُّرف، والطرائف والزُّلف، ما تَقْصُرُ الألسنة عن نَعْتها، وما ترى مِنْ آية إلّاهِي أكبر من اختها (2)

، ولمّا نَشبت قلبي بأهداب تلك الخيام، ووطّن نفسه دون بقيّة الجسد على المُقام، خادعتُ مَرامه، وأنشدتُ أمامه:

للَّه أيُّ هوًى يُرامُهُ حَيثُ القلوبُ المُسْتهامةُ

لم يبقَ قلبٌ في الحِمى إلّا وقد أعطى زِمامَهُ

ولمّا استلفتُ نجائب الرِفاق، وتهادينا تُحف الأسواق، وتَشاركنا روعة الفِراق، أعدى المطايا تشاكبة الغِرام، فلو أمّن مِن زَجْرة الحادي رجعن بنا، وحين حَمِدْنا السَّرى، ووصلنا إلى امّ القرى ، وعَلِمْنا أنّا أضياف اللَّه، فوَثِقْنا منه بحُسن القِرى ، وتبدّت لنا الكعبة الغرّاء في أستارها، وتجلّلتْ علينا المليحةُ في أنوارها:

وضعنا جُباهاً في الّذي قَدْ تهلّلتْ أسارِيرُها منها وزاد سُرورها

وطفْنا بها سَبْعاً ورقّت ظِلالُها على خائفٍ مثلي أتى يَسْتجيرها

وحين وقع نظري عليها، ومَثلتُ لديها، أنشدتُ بلسان الخُضُوع، وكتبتُ بماء الدُّموع:

ياربَّ ذا البيت قد وافيتُ ساحته خَجْلانَ أحمِلُ بين الناس أوزاري

فَاجعل قِراي وإن لم استَّحقّ قِرًى بما تحمّلتُه عِتْقي مِنَ النّارِ

وحين أخذنا في طواف القدوم، عَجّل لنا الحقُّ الكرامة بموجوده على المعدوم، فجادت السَّماءُ بمائها، وسُحب الرَّحمة من أرجائها، وقضينا المناسك مهتدين بقاضي


1- 1 كشفنا.
2- 2 سورة الزخرف: آية 48.

ص: 219

القُضاة في قضائها، مقتدين بعلمه في مشروع آدابها، وعُدنا إلى البيت الحرام نطوفُ به ونستلم، ونُقبِّل أركانه ونلتزم، ونصير عند استلام الحَجَر على اصطلاء الاصطرام، ونغتفر الزحام عند الورود على منهله، والمنهل العذب كثيرُ الزحام، فكمْ بِتُّ في صُحبته ليالي أيّام الكعبة، نستنزلُ الألطاف بالمطاف، ونلذُّ المُقام بين الرُّكن والمَقام، وعرضتُ على سمعه الكريم قصيدة في الكعبة، من جملتها:

تبدَّتْ وقد مَدّت عليها سُتُورها ولو سفرتْ، أعني عن الحُجب نورها

ممتعةٌ لا عِزَّ إلّالجارها وليس الغنيُّ المحض إلّافقيرُها

تَجلّتْ فأخْفى ما عليها مِنَ الحلي سناها كما تُخْفي الليالي بدورها

يطوفُ بها الأملاكُ في كلّ ساعةٍ وإن لم يكن بين الأنام مُرُورها

ويسجدُ مِنْ كلّ الجهاتِ لوجهها سواءٌ تراءت أو توارت قُصُورها

قطعنا إليها البَيْد ليس يَرُوعنا سُهولُ الفيافي دونها وَوُعُورها

وهل تَرْهبُ الأخطاءَ نفسٌ مشوقةٌ تبيتُ وليلٌ بالحمى تستزيرُها

وكيف يَخافُ النفس مِنْ دونها الرَّدى وقَدْ قصدتها والنبيُّ خَفِيرُها

وحين طفنا طواف الوداع، وتعيّن العزْمُ على الأزماع (1)، وَدّعنا البيتَ الحرام، والدُّموع تستوقف القَطار، وتستوكف الأمطار، ولمّا وصلنا إلى رأس وادي العقيق (2)، وتراءت لنا بعد البعاد أعلام ذلك الفريق، أعجلني فَرَق الفراق عن استكمال الخطّ مِنْ فَرَح التّلاق، فأنشدتُ قصيدة من جُملتها:

ذاك الفراقُ وإنْ أصمّ مَسامِعي لم يَخْلُ مِنْ هذا اللّقاء مَطامعي

فَلِذاك لمْ يبلُغْ بي الظّمأ المدى حتّى أعاد إلى العذيب مشارعي

لم يَبْقَ بعد البُعد إلّاأنّني فارقتُ أحبابي بنيّة راجعِ

ما الشأنُ في بينٍ توقّعتُ اللّقاء في منتهاهُ، فكانَ أقرب واقعِ


1- 1 المضاء في الأمر والعزم عليه.
2- 2 من الوديان المشهورة ببساتينها ونخلها وزرعها بأطراف المدينة المنوّرة وهي تقع في الشمال الغربي منها.

ص: 220

الشأنُ في هذا الذي أخْشَى به إنّ الحمام يكونُ عنهم قاطعي

لو لم اعلّل مُهْجتي بلقائكم لم يستَقرّ القلبُ بين أضلاعي (1)

خلّوا فؤادي في الحِمى وُحشاشتي كَرَماً لأذكر عندكم بودائِعي

وتشارعنا إلى الرُّوضة الشريفة، وكنّا ظننا أنّ الدموعِ نَفَدت، وأنّ نيرانَ القلوبِ خمدت، فتراكمتْ مِنَ العُيُون سجّيها، وتزايدَ مِنَ القُلوب لهيبها، وأخذنا بعد السلام في شرح الأشواق، وإنْ كانت الإحاطة بوصفها ما لايُطاق، وبتنا نُطفئ نيران الأشواق بماء العبرات، وننادي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مِنْ أمام الحُجرة؛ لا من وراء الحُجُرات، وخَرَجنا بنيّة العود قبل الرحيل، وعزمنا على الرجعة والقدر يتلو، ونحنُ على ذلك الحال وحيل، ومنعنا دخول الحرم لتوقّع السَّفر، وزعموا أنّ من خطر له الدخول كان على خَطَر، فانقطع بي الرَّجاء، وضاقتْ بي الأرجاء، وأنشأتُ من الأبيات المقدّم ذكرها:

قالوا: الرحيل، وما تَمَلّت باللّقا عيني، ولا امتلأت بغير مدامعي

فَتَيقَنتْ روحي بأنّ مقالهم أن يَصْدُق الحادي أشد مصارعي

فوقفتُ بين تأمّلٍ وتَململٍ يبدو السُّرور على فؤادي الجازع

حَيْرانَ لا أدْري لقُربٍ رائقٍ أذْري المَدامِعَ، أم لبُعدٍ راجع

تمّت الرسالة.

وإليكم القصيدة:

لأحمد بن محمّد الزعفراني، قال وقد حجَّ:

إليك حَجّي لا لِلْبيتِ ذي المَدَر وأنتَ قَصْدي لمحو الوَهْمِ والأثر

وأنتَ رُكْني لا أبْغِي به بَدَلًا ولا أحجُّ إلى حِجْرٍ ولا حَجَر


1- 1 هكذا ورد.

ص: 221

وَصَفْوَتي فِيكَ أنْ أصفُو مِنَ الكَدَر ومَروْتَي أن يمرَّ الكُلُّ عن نَظَر

وزمزمي زَمّ قَلْبي عن هواي وما أخافُ منه على خَدّي من بَصَر

والسَّعي سَعيان: سعيُ القَلْبِ أشرفُ من سعيٍ عَلى قدمٍ مَذْمُومة الخَطَر

والحَجُّ حَجّان: حَجٌّ مفرد نُسُكاً وقارنٌ عُمْرةً بالورد والصّدر

وكونه مُفرداً أعلى لرُتْبته لفظاً ومعنىً وعند البحث والنظر

وزُلفتي غير ما سَمّوه مُزْدَلِفاً بالقُرْبِ منك وهَدْيُ الرّوح للحَزر

وفي مِنًى لي أمانٌ لستُ أنكرها عند المعرّف أقضي فيهما وَطَري

وما جِمارِي أحْجَارٌ بلا شَرَر مِنْ حرّ جَمْرِ فؤادٍ دائم الشَّرر

ومسجدُ الخَيفِ خوفُ الفوت مَنْ أملي وآهٍ آهٍ على قلبي مِنَ الحَذَر

وأينَ لا أينَ لي زادٌ يُبلّغُني غير الرَّجاء الذي أحْدُو به سَفَري

لَقَد حَجَجتُ وَمَا قرّبتُ راحلةً غَير اليقين، وفيه أيُّ مُعتبرِ

ص: 222

زادي اليقين، ومائي عَبْرتي أسفاً خوفاً مِنَ الرَّد، والإشفاقُ مِنْ غَرري

يا زعفرانيُّ صَحّح ما نَطَقْتَ به وامْهِد لِنَفْسِك قَبْل المكث في الحُفر

وَحاسِب النَّفْسَ في الأوهام، وابكِ على ما كانَ مِنْكَ، وإلّا فَابْكِ لِلْعُمر

اسْتَغفرِ اللَّهَ مِنْ قولٍ بلا عَمَلٍ ومِنْ مقامي على الإنكار مع كِبرى

*** الهوامش:

ص: 224

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (6)

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (6)

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (6)

حسن السعيد

بورتون؛ ضابط مخابرات متنكِّر يطالب باحتلال مكّة!

في الحلقات السابقة من هذا الموضوع، تطرّق الحديث إلى ظاهرة قيام عدد من الغربيّين بالمجي ء إلى المنطقة الإسلامية، خاصّة الحجاز بغية استكشافها والاطّلاع عليها عن كثب.

كانت البدايات المتردّدة الخجول مطلع القرن السادس عشر؛ لتغدو لاحقاً ظاهرة مثيرة للانتباه، لاسيّما في أعقاب حملة نابليون على مصر (1798 م)، عبر الحضور المكثّف لشتّى الدول المتنافسة على إيجاد مواطئ قدم..

وفي غمرة تصاعد التنافس الاستعماري.. أمست جزيرة العرب بشكل عام، والحجاز خاصّة، مسرحاً لمغامرات عديدة، قام بها دبلوماسيّون وضبّاط وموظّفون ومغامرون وجواسيس، مع حرص شديد على إخفاء هويّاتهم الحقيقيّة، والتظاهر بأنّهم مسلمون يؤدّون فريضة الحجّ، منتحلين أسماء إسلامية إمعاناً في التمويه، بل ذهب بعضهم إلى الزعم بأنّه من سلالة الأشراف!

هنا نواصل رصد هذه الظاهرة، من خلال التعرّف على أبرز شخوصها،

ص: 225

محاولين تسليط الضوء الكاشف على الجزء الطافي من مهمّاتهم المشبوهة.

*** (الحاج) بورتون!

صبيحة يوم الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 1853 م، وصل المدينة المنوّرة بريطاني متنكِّر باسم «الحاج عبداللَّه»؛ ليغدو أحد أبرز الرحّالة الأوروپيين الذين قاموا بمهمّتهم المناطة بهم خير قيام.

ولم يكن هذا (الحاج) سوى «السير ريتشارد فرنسيس بورتون» الموظّف في شركة الهند الشرقية المعروفة، وقد حظي «بورتون» من الشهرة الواسعة، بسبب مهمّته تلك، حتّى إنّ العديد من الأوساط قد أولته اهتماماً خاصّاً، إذ لم يُكتب عن أحد بقدر ما كُتب عن رحلة «بورتون» إلى جزيرة العرب (1).

هذا الاهتمام الخاصّ لم يولد من فراغ، كما لم يكن محض تقليد بريطاني إزاء رجالاتها المغامرين الكبار، بقدر ما يتعلّق الأمر بالديناميكية التي اتّسم بها بورتون. فليس هناك بين جميع الرحّالة الذين ذهبوا إلى الوطن العربي من هو أكثر نشاطاً أو أغزر قلماً من الرحالة الفيكتوري، في أواسط القرن التاسع عشر وريتشارد بورتون. ما من رحّالة في جزيرة العرب، باستثناء تي.

إس. لورنس، كتبت سيرة حياته مرّات أكثر منه، بل إنّ أوّل سيرة نُشرت عنه قبل عشر سنوات من وفاته. لقد رحل إلى افريقيا والهند وسوريا وشمال أفريقيا والبرازيل وجزيرة العرب التي ظلّت بين هذه جميعاً، كما قال هو نفسه:

«البلاد التي تولّعت بها» (2).

كتب بورتون تقريباً في كلّ المواضيع من تربية الصقور، إلى المناجم، إلى الآثار، إلى الطبّ، إلى الهندسة، إلى تسلّق الجبال إلى آخره. وكتب عن رحلاته في كلّ مكان من الأرض تقريباً، ووضع عن أفريقيا وحدها 13 كتاباً تقع في 4600 صفحة، غير أنّ الجزيرة العربية ورحلته إليها ظلّت، كما قال أفضل ما فعله في حياته (3).

وإذا كانت مقولة «المرء ابن بيئته» تحظى بقدر كبير من المصداقية، فإنّ بورتون سيكون بالتأكيد ابن عصره الفيكتوري [نسبة إلى عهد حكم ملكة


1- 1 سمير عطا اللَّه؛ «قافلة الحبر: الرحالة الغربيون إلى الجزيرة والخليج 1762- 1950 م، دار الساقي، لندن، 1994 م: 81، وصحيفة الحياة ط لندن: الاثنين 4 أيار مايو 1992 م، مقال مسلسل؛ «أوروپيون في الشرق- 7» لرلى الزين.
2- 2 د. حلمي خضر ساري؛ «صورة العرب في الصحافة البريطانية»، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1988 م: 43.
3- 3 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 81.

ص: 226

بريطانيا فيكتوريا الممتدّ من 1838- 1901 م ] والذي اتّسم بتصعيد وتائر التطلّع الاستعماري، في الغرب عموماً، وفي بريطانيا بشكل خاصّ.

من هنا؛ كان مستشرق القرن التاسع عشر إمّا باحثاً (مختصّاً بالصين، أو بالإسلام، أو بالدراسات الهندو- أوروپية)، أو متحمّساً موهوباً (مثل هوغو في «الشرقيون»، وغوته في «الديوان الغربي الشرقي»)، أو كلا هذين (مثل ريتشارد بورتون، ادواردلين، فردرك شليغل) (1)، وقد كان بورتون- كرحّالة- مغامراً حقيقيّاً، كما كان- كباحث- قادراً على الوقوف ندّاً لأيّ مستشرق جامعي في أوروپا، وكان- كشخصيته- واعياً وعياً تامّا لضرورة التصادم بينه وبين المعلّمين الرسميّين، الذين أداروا أوروپا والمعرفة الأوروپية بهذه اللاهويّة الدقيقة وتلك الصرامة العلمية. ويشهد كلّ شي ء كتبه بورتون، لهذا الاستعداد للصدام، بازدراء لمنافسيه نادراً ما بلغ الدرجة التي بلغها في تمهيده لترجمته لألف ليلة وليلة. ويبدو أنّه قد وجد نوعاً خاصّاً من المتعة الطفولية في إظهار أنّه كان ذا معرفة تفوق معرفة أيّ باحث محترف، وأنّه قد اكتسب تفاصيل تفوق كلّ ما اكتسبوه، وأنّه كان قادراً على التعامل مع المادّة بفطنة وكياسة وطراوة هم عنها عاجزون.

وقد اعتبر بورتون بحقّ الأوّل في سلسلة من الرحّالة الفيكتوريّين إلى الشرق الذين كانوا فرديين بعنف (2)..

وسيكون لتصاعد روح الثقة بالنفس والشعور بالقوّة في أوروپا القرن التاسع عشر مع تقدّم عقود القرن، أثره في نوع الرحالة ومهمّاتهم ومقدار تصميمهم.

وسنجد في هذا العصر رجلًا مثل بورتون يتجوّل في طول الجزيرة وعرضها، غير متورّع عن ارتكاب جريمة القتل بعد شكّ أحد الأهالي بأنّ (الحاج) عبداللَّه ليس سوى رجل نصراني لا يحسن المعرفة بالإسلام أو اللغة العربية. ولكنّ (الحاج) عبداللَّه سيعود ليغذّي المخيّلة العربية من خلال أوراقه التي نشرتها زوجته بعد وفاته ومن قصص ألف ليلة وليلة التي ترجمها. كما أنّه سيمهِّد السبيل إلى


1- 1 ادوارد سعيد؛ «الاستشراق: المعرفة. السلطة. الانشاء»، تعريب كمال أبو ديب، ط 2، 1984 م: 81.
2- 2 المرجع نفسه: 206.

ص: 227

مكتشف آخر هو بلغريف وتاليه داوتي. وسيضع هذان الرجلان تقليداً جديداً في تاريخ الرحلات إلى الجزيرة العربية ذلك هو تخلّيهما عن اتّخاذ صفة المسلم (1).

الشخصية المغامرة

وككلّ الشخصيّات المثيرة للجدل، فإنّ المؤرِّخين- والبريطانيّين تحديداً- اختلفوا في تقييم بورتون، ولو أنّ الخلاف لم يتناوله كرجل غامض.. لكن البعض رأى فيه، في تلك المرحلة التوسّعية من تاريخ بريطانيا، شيئاً شبيهاً بالجنرال غوردون الذي حاول تطويع السودان بقوّة المدفع..

وفي حين ينظر «روبن بيدويل» بخِفّة إلى بدايات بورتون واختياره اللغة العربية في اوكسفورد، فإنّ مؤرّخين آخرين يرون في هذا الاختيار تكريساً للغة أحبّها منذ البداية.

وفي حين يرى بيدويل في سفر (والده) جوزيف بورتون إلى فرنسا وايطاليا شيئاً من «الغجريّة» في دماء العائلة، فإنّ البعض الآخر يرى تفسيرات أكثر دقّة في سِيَر بورتون الاخرى . والواقع أنّ سفر جوزيف بورتون في العام 1821، أي بعد قليل من رؤيته للنور، هو الذي سيغيّر الكثير من مجرى حياته.

كان هناك محرِّك واحد لريتشارد بورتون هو حبّ الشهرة، إنّها الرغبة التي لن تشبع أبداً.. كما كان بورتون مجموعة من المتناقضات (2) فقد كان يواجه إهمال وعدم احترام بعض الناس له بشجاعة ومرارة، حتّى إنّه كان يطيب له أن يظلّ مجهولًا، ومع ذلك فقد كان على يقين أنّ العالم لا يمكن أن يغفل اسمه في النهاية.

لقد كان بورتون محبّاً للظهور بشكل ربّما اعتبره أبناء طبقته من الانگليز ممجوجاً ومبتذلًا، وكان طيلة حياته متضايقاً، أو ربّما أتلفه ضيق الافق الذي كان رجال طبقته على النقيض يتفاخرون به. ويجب أن نضيف أيضاً- يقول بيتربرينت-: «إنّ القوّة الدافعة والزخم الذي جعل من بورتون ذلك الرجل الاسطوري يعود الفضل فيه إلى حبّ زوجته له حبّاً يقرب من العبادة، بشكل يفوق أي مجهود آخر بذله هو


1- 1 يُراجع مقال «رجال على ظهر الرمال العربيّة» لعبد الرحيم حسن، مجلّة العالم لندن، العدد 276- 27 آيار مايو 1989 م- 22 شوّال 1409 ه: 51.
2- 2 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 87- 88.

ص: 228

لنفسه، لخلق تلك الشعبية الواسعة. فقد كان طيلة حياته بريطانياً غيوراً. وكان كلّ ما يطلبه احترام الجمهور له والمكافآت التي يستحقّها من حكّام البلاد والمسؤولين. ولكي يحرز هذه الامور عمل على إنجاز الواجبات التي ربّما أظهرته للعيان. ولكن الأمر المؤسف والمأساوي، من وجهة نظر مواطنه برينث، هو أنّ أحداً لم يفهمه، ولم ينل أي إعجاب أو استساغة من الجمهور، وهكذا فلم تتوفّر له الفرصة لنيل مقاصده (1).

وتظلّ المفارقات تلازم بورتون كالظلّ، فهذا الرجل الذي طرد من أوكسفورد؛ لأنّ زميلًا له سخر من شاربيه، سوف يرى خلال تنقّله في جزيرة العرب أنّ شاربيه الكثّين هما اللّذان حبّباه إلى الناس، حتّى إنّ أحد مشايخ بني حرب سمّاه «أبو الشوارب»! على أنّ ذروة أعماله سوف تظلّ، في العرب طبعاً، ذلك الوصف الذي وضعه لمكّة المكرّمة ولحظة الانبهار أمام الكعبة (2).

إنّ ما يثير الغرابة في حياة بورتون هو أنّ نجاحه الخالد غير المشكوك فيه، كان مؤسّساً على اعتقاد جازم بأنّه أوّل رجل اوروپي دخل إلى (مكّة) وأنّ هذا الاعتقاد كان مجرّد خيال محض.

ولم يكن بورتون هو الذي عزّز ورعى هذا الاعتقاد فهو عند وصفه لذلك المكان القدسي (أي مكّة) اعتمد كلّياً وبصراحة وإعجاب على عمل ذلك السويسري بيركهارت. فلم يكن بورتون أوّل شخص يقوم بأداء مناسك الحجّ متخفّياً بل لقد رأينا كيف أن دومينگو باديا ليبلش قد وصل في العقد الأوّل من القرن التاسع عشر إلى مكّة راكباً ظهر جمل، ومنتحلًا اسم «علي بك العبّاسي». ولربّما كان أوّل مصدّق لتلك القصة، التي تقول: إنّ بورتون هو أوّل من قد دخل مكّة، هو وزوجته الليدي بورتون، التي كانت من خلال ترمّلها، قد صمّمت على وضع زوجها السير ريتشارد بورتون في المكان الملائم لكفاءاته.. (3).

إنّ الليدي بورتون هي التي تحاول الإيحاء بذلك، في مقدّمة النسخة التذكارية لكتاب الحجّ، والتي تتألّق


1- 1 بيتربرينث؛ «بلاد العرب القاصية: رجلات المستشرقين إلى بلاد العرب»، ترجمة خالد عيسى أسعد وأحمد غسّان سبانو، دار قتيبة، بيروت، 1411 ه- 1990 م: 142.
2- 2 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 88.
3- 3 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق: 142- 143.

ص: 229

منظر عام للمدينة المنوّرة (رسم بورتون)

ريتشارد بورتون (لوحة من رسم لويس دوزانج)

ص: 230

منها نظرات الإعجاب الرومانسي إلى الحدّ الذي يقف فيه كلامها كستار أو حاجز رقيق بيننا وبين أولئك المغامرين الذين دبّروا أمورهم، ودخلوا مكّة فعلًا منذ أيّام ثاريتما.

وفي هذه المقدّمة لا تدّعي كاتبتها أنّ رحلة زوجها كانت الرحلة الاولى (فهي لا تستطيع ذلك ما دام أنّ بورتون نفسه يذكر الشي ء الكثير عن رحلات الآخرين) ولكنّها تستعمل أسلوباً يشير ضمناً إلى ذلك. وهذا يقودنا إلى اعتبار عمل هذه السيّدة نوعاً من المغامرات لا يجرؤ كثير من الناس على القيام بها، حتّى إنّ القليل من الناس ينجحون في مثل هذه الأعمال، ولكن لا بأس أن نذكر أنّه حتّى لو كانت لهجتها مضلّلة، إلّا أنّها لا تخلو من شي ء من الصواب في آرائها (1).

ولعلّ النجاح المتميِّز الذي حقّقه بورتون في وصف رحلة الحجّ، هو الذي حفّز زوجته إلى المضي بعيداً في مضمار المباهاة. وإذا كان المستر بيركهارت لم يستطع في بعض الأحيان القيام بجميع مناسك الحجّ وتفاصيله على الوجه الأكمل، فقد استطاع السير ريتشارد بورتون أن يفعل ذلك بعده بأربعين سنة من دون أن يُكتشف أمره على الإطلاق. وكان الفضل في ذلك يعود إلى إتقانه التخفّي، بعد أن تعلّم العربية والفارسية والتركية، وأتقن تعلّم الفروض الدينية المعروفة عند المسلمين، وقد استعدّ لذلك قبل أن يقدم على رحلته الخطرة بأشهر عديدة، واتّخذ جميع التدابير اللازمة للقيام بمهمّته خير قيام، ومن جملة ذلك أنّه عمد إلى الاختتان وهو يومئذٍ في الثانية والثلاثين من عمره! وقد جرّب علاوة على ذلك تأثيرات الصبغات المختلفة في جلده ومظهره، وتعلّم التنعّل واستعمال الرمح وما أشبه (2).

ولذلك فإنّ المرء ليأخذه العجب حينما يطّلع على مغامرات بورتون، التي جعلت منه اعجوبة من الأعاجيب، فقد كان يتقن لغات عدّة، بالإضافة إلى كثير من اللهجات المحلّية المعروفة في الشرق الأوسط والأقصى .. وقد جعلت منه أخبار رحلاته ومغامراته رجلًا اسطورياً، وهو فوق هذا كاتب


1- 1 المرجع السابق: 143، بشي ء يسير جدّاً من التصرّف.
2- 2 جعفر الخليلي؛ «موسوعة العتبات المقدّسة- 2، قسم مكّة»، مؤسّسة الأعلمي، ط 2، بيروت، 1407 ه- 1987 م: 294.

ص: 231

مبرز، ترك عند وفاته أكثر من ثمانين كتاباً يصف فيها رحلاته، وما لقي من أخطار.

ومن رحلاته التي خلّدته رحلته إلى مكّة والمدينة، وكشفه عن أسرار قلب جزيرة العرب؛ فقد فضي عنه ثيابه الأوروپية، واستبدلها بملابس مسلم أفغاني في طريقه لأداء فريضة الحجّ، وتسمّى باسم الحاج عبداللَّه. وقد وصف لنا «بورتون» بدقّة رحلته هذه في كتاب ممتع من جزأين ضخمين هو «الحجّ إلى المدينة ومكّة» [1855- 1856 م ].. وقد عدّه الباحثون من أشهر روّاد قلب جزيرة العرب (1).

فمن هو هذا البريطاني المتأفغن؟ وما هي حكايته؟ وماذا عن طبيعة مهمّته الخاصّة؟

سيرة حياة

يقول الزركلي: «ريتشارد فرنسيس بورتون Burton Francis Richard مستشرق انكليزي رحّالة، ولد في «هرتفورد شاير» (عام 1821)، وكان والده «جوزيف نيترفيل بورتون» ضابطاً في الجيش البريطاني، وجدّه «ادورد بورتون» قسيساً في آيرلنده» (2).

قيل: إنّ عائلته تنحدر من أصل غجري، أو هكذا قال المؤرِّخون والباحثون، مع أنّ امّه تدّعي أنّها تنحدر بصورة غير شرعيّة من سلالة لويس السادس عشر. ومع أنّ والده كان ضابطاً في الجيش، لكنّ الدلائل على «غجريّة» بورتون كثيرة (3) ممّا دفع بعض الباحثين إلى التساؤل عن الغموض الذي يكتنف أصل بورتون، بل أنّ سحنته كانت مدعاة لتعزيز التكهّنات المثارة حوله، وقد ساهمت زوجته الليدي بورتون في تعميق ذلك، إذ تميل- وهي التي تتّصف بالرومانسية دوماً- إلى التلميح إلى أنّه كانت تجري في عروق زوجها دماء اخرى غير الدماء الأوروپية كدماء العرب والقرباط مثلًا، والتي أورثته شهوة التجوال (4).

ثمّة إثارة اخرى في هذا الاتجاه؛ إذ ما إنْ رأى بورتون النور في العام 1821 م، حتّى رمى والده الثياب العسكرية خلفه، وراح يتيه في فرنسا وايطاليا،


1- 1 د. محمود السمرة؛ «مراجعات حول العروبة والإسلام وأوروپا»، كتاب العربي الرابع، الكويت 1984 م: 123. ومن المثير للاستغراب انّ الباحثة الفرنسية جاكلين بيرين قد أهملت الإشارة إلى بورتون في كتابها «اكتشاف جزيرة العرب». كما فعل ذلك عبد الرحمن بدوي في «موسوعة المستشرقين!!».
2- 2 خير الدين الزركلي؛ «الأعلام»، دار العلم للملايين، ط 7، بيروت، 1986 م، المجلّد الثالث، ص: 38، وكذلك نجيب العقيقي؛ «المستشرقون»، دار المعارف، ط 4، القاهرة د. ت، الجزء الثاني: 59.
3- 3 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 81.
4- 4 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق: 144.

ص: 232

وهكذا لم يتلق سوى القليل من التعليم الرسمي. وكان الكولونيل بورتون ينوي إدخال ابنه في سلك الكهنوت؛ ولذا أرسله إلى أوكسفورد لتعلّم مبادئ اللاهوت (1)، بيد أنّ الشاب جُبل على التمرّد فلم يتقيّد بقواعد التقاليد البريطانية، فضلًا عن أنّه تصرّف بطريقة منافية لقواعد الرصانة والوقار، فقد سبق وأن تعلّم في منزل والده المبارزة بالسيف، وصار يتحدّى الجميع إلى منازلته، وخلال الدراسة الكهنوتية دعا أحد رفاقه إلى المبارزة؛ لأنّ هذا سخر من شاربيه (2).

ولهذا وذاك، فقد طُرد من الجامعة طرداً مؤقّتاً، وقد كان في نيّته الرجوع إلى الجامعة، لولا سماعه نشوب الحرب في بلاد الأفغان في آسيا، فبدأت أحلام المغامرات تنتابه، فأقنع والده بشراء براءة لمرتبة عسكرية، وفي عام 1842 م، وعندما كان في الحادية والعشرين من العمر أبحر إلى الهند، وسرعان ما أصبح ضابطاً في فرقة المشاة، وهي الفرقة الثامنة عشرة (3).

في تشرين الأوّل (اكتوبر) 1842 م وصل بورتون إلى بومباي، في أولى رحلاته حول العالم، وهو ضابط برتبة ملازم ثانٍ في «شركة شرق الهند الامبراطورية». وسرعان ما أظهر مقدرته الفائقة على تعلّم اللغات، حين راح يتقن لغة جديدة كلّ بضعة أشهر، حتّى قيل: إنّه في أواخر عمره كان قد صار يتقن 29 لغة و 12 لهجة إقليمية (4).

بخصوص تعلّمه اللغة العربية، فقد بدأ دراستها في جامعة أوكسفورد، ولكنّه لم يكمل دراسته هذه لانضمامه إلى الجيش البريطاني في الهند، حيث استأنف دراسة العربيّة عن طريق سكنه في المقاطعات الإسلامية (5) وتعلّم الفارسية على أساتذة مسلمين (6).

لم يكتفِ بورتون بإتقان اللغات، بل كان يتنكّر بثياب أهل البلد وينتحل هويّة محلّية، ففي الهند مثلًا، كان يستأجر متجراً في السوق ويجلس كباقي الباعة يفاصل في الأسعار مع الزبائن الذين لم يتمكّنوا من التفرقة بينه وبين باقي التجّار (7)، وفي بلاد كالهند تكثر


1- 1 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 82.
2- 2 المرجع نفسه: 82.
3- 3 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق: 145.
4- 4 قافلة الحبر؛ مرجع سابق:
5- 5 سورة العرب في الصحافة البريطانية؛ مرجع سابق: 43.
6- 6 المستشرقون؛ مرجع سابق 2: 59.
7- 7 صحيفة الحياة؛ مرجع سابق.

ص: 233

اللغات لم يكن الناس يهتمّون بالأخطاء اللغوية في اللفظ أو في نبرة الكلام التي تدلّ على إتقان المصطلحات اللغوية، ولماذا يشكّ ذلك الشعب الفقير بشخصية فقير غريب آخر يحتشد معهم في عالمهم الخاصّ يا ترى ؟ (1).

غير أنّ ممارسة هوايته المفضّلة هذه لم تستمر، إذ حالت دونها العوائق؛ لأنّ تقمّص شخصيّة الباعة والنزول إلى الأسواق من دون أن يلاحظه أحد جلبا له المتاعب من قبل مرؤوسيه في الجيش، الذين لم ترق لهم هذه التصرّفات، خصوصاً أنّه أرفقها ذات مرّة باختطاف راهبة، أو بمل ءِ منزله بالسعادين التي كان يجلسها معه إلى طاولة الطعام.

لكن اختلافه وتآلفه مع شريحة من الشعب، كان معظم زملائه الضبّاط يحتقرونها، سبّب له نوعاً من الازدراء والاحتقار أكثر من الإعجاب من قبل زملائه. فقد كان هؤلاء الضبّاط يتّخذون الخليلات أو الزوجات المؤقّتات من بين أفراد الشعب حولهم، ولكنّهم لم يتنازلوا بفعل أكثر من ذلك.

ولكن بورتون من جهة اخرى اتّخذ شخصية «الميرزا عبداللَّه» وهو بائع متجوّل من أصل نصفه فارسي ونصفه عربي؛ ولهذا لا عجب أن نرى «السير تشارلز نايير» الذي أخمد الثورة في السند يعمد إلى استخدام بورتون لمساعدته، بعد أن اكتشف أنّه كان بحاجة إلى معرفة المهارات اللغوية التي تختلف عن المهارة في نشر الجنود وإدارة المعارك. وتلت ذلك خطوة اخرى وهي إرسال ذلك الشاب في مهمّات سريّة تُظهر النزعات الامبراطورية التوسّعية- كما يقول الباحث البريطاني بيتربرينث- وكانت إحدى المهمّات جمع المعلومات حول الميول الجنسية للسكّان الذكور في المنطقة؛ ولذلك فقد عمد بورتون إلى إصدار تقرير وافٍ شامل عن ذلك الموضوع. وفي أثناء تلك الفترة ترك «نابيير» الهند، ولكن سرعان ما تسرّبت الإشاعات عن تقرير بورتون هذا، ووصلت إلى الرأي العام البريطاني، وهكذا تحطّمت سمعة بورتون على صخرة النطاق البشري.

وبعدها بدأ البريطانيّون الجدد


1- 1 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق: 145.

ص: 234

الآتون من بريطانيا، والذين لم يكن لديهم أي مواهب أو مقدرة يرتقون في وظائفهم فوق رأس بورتون. أمّا بورتون فقد بدأ بالاهتمام بالثقافة، أو الثقافات الهندية. وقيل: إنّه انضمّ إلى البراهمة، لكن ربّما كان هذا الخبر لا يخلو من المبالغة. ونظراً لإجادته اللغة العربية والفارسية فمن المعقول والمقبول ظاهرياً أنّه قد انغمس في أساليب ومفاهيم أولئك الأساتذة المسلمين من الصوفية، فقد قيل: إنّه قد أصبح من «الدراويش»، وإنّه أصبح «استاذاً» إذ ربما حدث ذلك، ولكن مدّة إقامته في الهند كانت قصيرة غير كافية لرجل أجنبي للارتفاع إلى المراتب العليا في المذاهب الدينية في نظام قاسٍ كالنظام الذي كان سائداً هناك، على حدّ تعبير بيتر برينث (1).

أمضى بورتون حوالى سبع سنوات من الإقامة في الهند، وقد خاض فيها تجربة خاصّة لا تخلو من غرابة وثراء واستحقاقات. ولمّا رأى أنّ كلّ طرق التقدّم في الهند قد سُدّت في وجهه طلب إجازة مرضية مطوّلة وعاد إلى أوروپا، حيث أمضى أربع سنوات في الدراسة والكتابة (2).

ورغم أنّه عاد إلى بلاده مثقلًا بأوزار الفشل وقد أنهكه المرض والحمّى .. غير أنّ حادثين حاسمين صادفاه في انگلترا وفرنسا بدّلا مجرى حياته. ففي بولون قابل الفتاة ايزابل التي كان ينوي مؤجّلًا الزواج منها (ولكن تلك النيّة كانت حقيقة واقعة بالنسبة إليها) والأمر الثاني هو أنّه عرض نفسه للعمل مع الجمعية الجغرافية الملكيّة في لندن لاكتشاف ما وصفه ب «البقعة الشاسعة البيضاء في خرائطنا التي تدلّ إلى المناطق الشرقية والوسطى في شبه الجزيرة العربية» وكانت خطّته تقضي بالنزول في مسقط وعبور الربع الخالي إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة.

كانت مسألة استكشاف المناطق البعيدة في منتصب القرن التاسع عشر، تثير الاهتمام بقدر ما يثير الاهتمام اليوم اكتشاف الفضاء الخارجي. ولم يكن العثور على مموّل لمشروع مفصّل ومدروس أمراً صعباً. وعندما تقدّم


1- 1 المرجع نفسه: 146.
2- 2 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 82.

ص: 235

بورتون بمشروع رحلته تبنّته «الجمعية الملكية الجغرافية» فوراً. إلّاأنّ «شركة الهند الشرقيّة» التي كان ما يزال يعتبر موظّفاً فيها، رفضت الرحلة على اعتبار انّها خطيرة. وبدلًا من ذلك سُمح لبورتون بإجازة إضافية لدراسة اللغة العربية في «المناطق التي تدرّس فيها اللغة بجدّية» فغيّر بورتون خطّته وقرّر العبور من مكّة المكرّمة إلى مسقط ومنها بحراً إلى الهند قبل أن تنتهي إجازته. وكان يعتقد أنّ زيارة مكّة المكرّمة، واجتياز مناطق مجهولة في شبه الجزيرة العربية وحصوله على لقب حاج، قد تساعده في رحلات لاحقة في المناطق المسلمة، وكذلك في موضوع شراء الأحصنة العربية للجيش البريطاني في الهند (1).

وهكذا قرّر أن يبدأ رحلته، فتوجّه من التو صوب مصر؛ ليشرع من هناك بمغامرته الكبرى .. وليقتحم التاريخ من أبوابه الواسعة.

في الطريق إلى مكّة

بعد أن أكمل الاستعدادات جميعها أبحر من انگلترة إلى الاسكندرية، في اليوم الثالث من نيسان (أبريل) 1853 م، باسم المرزا عبداللَّه من بوشهر. ويقول سيتون ديردون مؤلّف كتاب «الفارس العربي»: إنّه قبل أن يتوجّه إلى مهمّته علم أنّ رحّالة انگليزياً يدعى «فالين Wallin» كان قد تمكّن من الدخول إلى مكّة والحجّ مع الحجّاج في 1845، لكنّه لم يستطع تدوين شي ء عمّا فعل ورأى؛ لأنّه كان خائفاً على حياته، بعد أن لاحظ أنّ اثنين من اليهود قد اكتشف أمرهما في مكّة تلك السنة، فقتلهما الحجّاج الهائجون شنقاً. فقرّر أن يستفسر منه عن أشياء كثيرة قبل أن يقدم على الاضطلاع بمهمّته، وكتب له بذلك، لكن كتابه لم يصل إلى فالين إلّابعد أن كان قد توفّي؛ ولذلك عمد إلى دراسة ما كان قد كتبه بيركهارت قبله من تفصيلات، فدرسه دراسة مستفيضة، واستعدّ للرحلة على ضوء ما جاء فيها (2).

وفي طريقه إلى الشرق، كان يعمل على إتقان دوره كمسلم في تفاصيل الحياة اليومية، منتحلًا شخصية نبيل فارسي، لكن بعد وصوله إلى مصر قرّر


1- 1 يُراجع: بلاد العرب القاصية: 146- 147، وصحيفة الحياة، وقافلة الحبر: 82 مراجع مذكورة.
2- 2 موسوعة العتبات المقدّسة؛ مرجع سابق 2: 295.

ص: 236

التخلّي عن هويّته الفارسية.. واتّخذ بدلًا منها هويّة درويش متجوّل (1).

وعن سبب إقدامه على هذه الخطوة، يقول بورتون: «لقد أصلحت لقبي وعدّلته من ميرزا عبداللَّه إلى الشيخ عبداللَّه. إذ ليس هنالك من شخصيّة مناسبة للتخفّي في العالم الإسلامي أكثر من شخصية الدرويش. فهذه الشخصية يمكن لأيّ رجل من أيّ طبقة أن يتلبّسها، من أي عمر أو من أي مذهب، فالنبيل الذي أُهين في بلاط أحد الملوك يمكنه تلبُّس تلك الشخصية، وكذلك الفلّاح الذي لا يرغب لكسله في حراثة الأرض، أو أولئك الفاسقون الذين تعبوا في مسالك الحياة، أو أولئك الشحّاذون الذين ينتقلون من باب إلى باب.. جميعهم يستطيعون أن يصبحوا دراويش.

وفوق ذلك فالدراويش يسمح لهم بتجاوز أو تجاهل أصول الأدب والمعاملة كأشخاص قد انسلخوا عن المجتمع، وتوقّفوا عن الظهور على مسرح الحياة. فهو يستطيع أن يصلّي أو لا يصلّي حسبما يريد. ويمكنه أن يتزوّج أو يظلّ عازباً حسب رغبته، ويمكنه أن يرتدي الملابس أو لا يرتدي شيئاً، ولا يمكن أن يُوجَّه أي سؤال لذلك المتشرّد المعفى من المسؤوليات، لماذا أتى هذا المكان أو ذاك؟».

ثمّ يضيف بورتون بشكل طريف:

«كلّما كان الدرويش متكبّراً متعجرفاً على الناس زاد احترامهم له» (2).

على أنّ بورتون عاد وبدّل هويته وجنسيّته، بعد فترة من تنكّره بزيّ درويش، منتحلًا شخصية اخرى، كانت هذه المرّة مواطناً بريطانياً من أصل أفغاني درس الطبّ في الهند.

وكان لون بشرة بورتون (ربما بفضل أصوله الغجريّة) قريباً من العرب ممّا ساعده في تنكّره.

وروى بورتون أنّه اشترى عدداً من الثياب الأنيقة لرحلته؛ ذلك أنّه اكتشف أهمّية الإناقة في منطقة «تنظر إلى الذين لا يهتمّون بمنظرهم كفقراء، وإلى الفقير كنصّاب، إلّاإذا كان ينتمي إلى طريقة أو زاوية دينية» (3)، وكان بين مشترياته أيضاً مظلّة صفراء واسعة «تشبه حديقة مرتفعة الأعناق»،


1- 1 صحيفة الحياة؛ مرجع سابق.
2- 2 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق: 147.
3- 3 صحيفة الحياة؛ مرجع سابق.

ص: 237

ومشط خشبي، وظرف من جلد الماعز، وسجّادة فارسيّة «التي إلى جانب كونها تكاية فهي أيضاً كرسي وطاولة ومنبر ووسادة قطنية.. كذلك اقتنى خنجراً ومحبرة من النحاس، ومشكاك أقلام، وإبراً، وعلبة نحاسية خضراء «قادرة على تحمّل السقوط عن ظهر جمل مرّتين في النهار». وكانت موازنته للرحلة 25 ليرة انگليزية ذهباً، لفّها في حزام تحت ثوبه (1).

ويبدو أنّ بورتون كان معجباً بطريقة الحياة في مدينة الاسكندرية وبما أسماه ب «الكيف» الذي وصفه كالتالي:

«التراخي اللذيذ، والراحة الحالمة، وبناء القصور الخياليّة، وكلّ ما يناقض الحياة المركّزة والمكثّفة والنشيطة في أوروپا..» ويمضي بورتون في وصفه هذا: «في الشرق لا يحتاج المرء إلى أكثر من الراحة والظلّ. إنّه يرتاح سعيداً على حافّة جدول يخرخر أو في ظلّ شجرة عاطرة، يدخِّن غليوناً أو يحتسي فنجاناً من القهوة، أو يتناول كوباً من الشراب، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّه لا يزعج جسده.. إلّاقليلًا، معتبراً أنّ حدّة المحادثة ومرارة الذكريات والإغراق في التفكير امور مفسدة كثيراً للكيف!» (2).

لم يطل الوقت به، حتّى غادر بورتون الاسكندرية متوجِّهاً إلى القاهرة التي وصلها على ظهر مركب صغير، وليستقرّ به المقام في فندق صغير، وراح يمارس مهنته كطبيب، وذاعت شهرته بسرعة، حين استطاع أن يشفي عبدتين حبشيتين من «الشخير»، والأهمّ من ذلك أنّه التحق فيما بعد بجامعة الأزهر، لمتابعة الدراسات الدينية وإتقان اللغة العربية..

تحسّباً للوصول إلى مكّة المكرّمة. فقد كان عرف أنّه ليس من الضروري للمسلم- أو لمدّعي الإسلام- أن يكون ضالعاً في اللغة العربية، لكن من الضروري له أن يكون ملمّاً بشؤون دينه والفرائض.

أضاف بورتون إلى موازنة السفر 80 جنيهاً اخرى، وبدأ السعي للحصول على جواز سفر. واتّجه أوّلًا إلى القنصل الفارسي الذي طلب 4 جنيهات لقاء ذلك، فثارت ثائرة


1- 1 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 83.
2- 2 صحيفة الحياة؛ مرجع سابق، وقافلة الحبر؛ مرجع سابق: 83.

ص: 238

بورتون الذي أصرّ على أن يدفع جنيهاً واحداً! وقام من بين معارفه من دلّه على رئيس «الزاوية الأفغانية» في الأزهر، وكان هذا رجلًا طيّب القلب، فأعطاه الوثيقة اللازمة لسفره لقاء شلن واحد (1).

ولنزعته الفيكتورية وما يتّصف به الغربيّون عموماً من غطرسة، راح بورتون يكيل السخرية اللاذعة لهذا الرجل الذي قدّم إليه خدمة بلا مقابل، وفيما كان بورتون يستعدّ للرحيل تعرّف إلى نزيل في الفندق الذي يقيم فيه، وهو ضابط ألباني كان قادماً من الحجاز في إجازة، ودعاه الضابط إلى غرفته، فلبّى الدعوة، وهناك وضع كلّ منهما خنجره جانباً وراحا يتعاطيان الخمر، ثمّ أخذا يدعوان النزلاء الآخرين إلى مشاركتهما، إلى أن تحوّل المنزل إلى ساحة للهو والصخب، واجتمع الجيران يؤنّبون السكارى (2).

في صباح اليوم التالي بدأ «الحاج والي» وهو مرشده ومعلّمه الخاص بإسداء النصح له قائلًا: «ليتك تبدأ في رحلة الحجّ حالًا»، وقد سُرّ بورتون من هذه النصيحة وعمل بها حالًا (3).

فترك القاهرة في أسرع وقت ممكن، وعثر على بدوي من سيناء متّجه في الطريق نفسها، فاستأجر جملين بقيمة جنيه واحد، وتوجّه مع خادم هندي إلى السويس. وفي الطريق التقى بعض التّجار المحترمين من المدينة الذين كانوا عائدين إلى بلادهم، ومعهم شاب من مكّة كان تعرّف إليه في القاهرة ويدعى محمد البسيوني، الذي أخذ بورتون في رعايته طوال الرحلة (4).

عن هذا الشاب يحدّثنا بورتون بأنّه من مواليد مكّة، وكان في حوالى الثامنة عشرة من العمر، وكان حنطي البشرة، عالي الملامح، جسوراً. وقد قرّر هذا الشاب أن يبقى مع بورتون ويقوم بخدمته حتّى انتهاء الحجّ. ويقول عنه بورتون:

إنّه كان ملمّاً بالقراءة ولكن بصورة بسيطة، ويستطيع كتابة اسمه وهو ماهر في المساومة، وقد تعلّم التكلّم باللغة العربية الفصحى وهو في مكّة، كما أنّه يستطيع أن يتخلّص بسهولة وطلاقة من مواقف الشبهة، وكان يصلّي ويقوم بمناسك الحجّ بكلّ إتقان.


1- 1 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 84.
2- 2 المرجع نفسه: 84.
3- 3 بلاد العرب القاصية؛ مرجع سابق؛ 148.
4- 4 قافلة الحبر؛ مرجع سابق: 84.

ص: 239

وفي السويس استقل بورتون سفينة تسمّى سلك الذهب، وقبل الانطلاق حصلت مشاجرة بين ركّابها سرعان ما تدخّل بورتون لحسمها، كما يزعم، وفي ظهيرة يوم 6 تموز (يوليو) عام 1853 م انطلقت سفينة الحجّاج التي هدأت الامور فيها.. ويقول بورتون: إنّه لم يسعه إلّاالنظر إلى العلم البريطاني الذي كان يرفرف فوق القنصلية البريطانية في السويس. ولكن ما لبث سروره أن اختفى واختنق عندما اشتدّ وجيب قلبه وخفقانه عند التفكير بالمحنة والمغامرة القادمة (1)، إلّاأنّ السفينة تعرّضت للغرق في مرحلة لاحقة، كما تعرّض قبطانها للضرب المبرح، غير أنّ المسافرين وصلوا إلى ينبع في نهاية المطاف (2) بعد اثني عشر يوماً. وبدأ بورتون بالاستعداد للجزء التالي من الرحلة وهو التوغّل في الداخل (3) ولدى نزولهم إلى البرّ داس بورتون، على ما يبدو، على شي ء سام جعله يتألّم من قدمه طوال الرحلة. ومن هنا استأجرت المجموعة جمالًا كلفة الواحد منها ثلاثة دولارات واتّجهت إلى المدينة في رحلة مسافتها 130 ميلًا، استغرقت ثمانية أيّام (4).

اختراق جزيرة العرب

هاهو بورتون أمام مهمّته العسيرة وجهاً لوجه، ولابدّ أن يأخذ للأمر عدّته، بمنتهى الحيطة والحذر، لاسيّما وأنّه غير مسلم يجوس خلال الديار، من جهة، فضلًا عن أنّه ينبري لأداء مهمّة سرّية محدّدة يعوّل عليها، وكذلك الدوائر التي وراءه، الشي ء الكثير. ولهذا وذاك، كان عليه أن يُهيئ الاستعدادات اللازمة لخوض هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر. وبالفعل فقد أنجز المطلوب قبل مغادرة ينبع.

كان يحمل دفتر ملاحظاته، وهو عبارة عن دفتر طويل كان يحفظه في صدره، وقد صنع هذا الدفتر وهو في القاهرة. وكان يعلّق إلى جانبه محفظة تتدلّى من كتفه وتصل إلى خصره، وكانت هذه المحفظة يحمل بها نسخة من القرآن الكريم تبرّكاً، ولكنّه قسّم هذه المحفظة إلى ثلاثة جيوب، وضع ساعة وبوصلة في الجيب الأوّل، وفي الجيب الثاني وضع بعض النقود كمصروف


1- 1 بلاد العرب القاصية: 150.
2- 2 قافلة الحبر: 84.
3- 3 بلاد العرب القاصية: 151.
4- 4 قافلة الحبر: 84.

ص: 240

للجيب، وفي القسم الثالث وضع سكّيناً وبعض أقلام الرصاص وأوراقاً صغيرة يستطيع إخفاءها، وكان يستطيع أن يكتب أو يرسم على هذه الأوراق بسرعة تامّة. ثمّ ينقل نسخاً من هذه الأوراق في دفتر ملاحظاته عندما تسنح الفرصة. وفي جيب سرّي من جيوبه وضع مسدّساً ومعه خنجراً كباساً، وكان شديد الاعتماد عليه، ولم يجعل أحداً يعلم أنّه يحمل هذه الأسلحة. وكان ينظّف المسدّس ويحشوه ليلًا.

وبعد استئجار الرجال لسَوْق الجمال والحيوانات، وبعد أن جمع أمتعته ودفاتر ملاحظاته وجيوبه السرّية والمحفظة، التي لم تكن تحوي قرآناً كريماً بل كانت كاذبة موضوعة على جانبه، استعد بورتون للرحيل وهو يقول:

«وفي صباح أحد أيّام منتصف شهر تموز مررنا خلال بوّابة ينبع واتجهنا إلى الشرق. وقد صاحب الحجّاج قافلة، مؤلّفة من حوالى 200 جمل، حاملة القمح لأهالي المناطق الداخلية، وكان معهم حرس مؤلَّف من سبعة جنود من الأتراك» (1).

ويمضي بورتون في ذكر المصاعب والمخاطر التي واجهت القافلة، وهي تغذّ سيرها نحو هدفها المنشود، لتصل فجر يوم 25 تموز 1853 م إلى مشارف المدينة المنوّرة. وعن الانطباعات التي اعترت الحجيج وما شعر به هو شخصيّاً، كتب يقول: «عند وصولنا إلى قمّة ذلك الجبل رأينا طريقاً ضيّقاً منحدراً تتألف جوانبه من بقايا الحمم البركانية القديمة، وبعد بضع دقائق بدت المدينة المنوّرة أمامنا، وعندها أدركت معنى ذلك القول المأثور الذي يتردّد على ألسنة المسلمين في طقوسهم الدينيّة، وهو عندما تقع عينا الحاجّ على أشجار المدينة عليه أن يرفع صوته بالتسبيح والشكر والثناء على رسول اللَّه بأبهج الصلوات والدعوات الصالحات، إذ إنّه من خلال ذلك المنظر الجميل لم يكن هنالك من شي ء أثّر على تفكيرنا ووجداننا أكثر من منظر تلك البساتين والحدائق الواقعة تحتنا».

وحالما ارتفعت أصوات رفقائه بالصلوات والدعوات الصالحات


1- 1 بلاد العرب القاصية: 151.

ص: 241

والشكر، بدأ بورتون للحظة من الزمن وكأنّه قد أُخِذ بنفس حماسهم، ولكن سرعان ما هدأت أحواله وشرع في كتابة الملاحظات والرسوم بكلّ برود كعادته (1)، وممّا كتبه: «عندما نظرنا شرقاً كانت الشمس تطلع من وراء تلال منقّطة بأشجار صغيرة، وكانت الأرض مصبوغة بالذهبي والارجواني، أمامنا امتدّ سهل واسع، وإلى اليسار حاجز من الحجارة، جبل أحُد الشهير الذي ظهرت عند أسفله النباتات وقباب بيضاء» (2)، وفي أسفل السهل على بعد ميلين منّا، كانت تربض المدينة المنوّرة، فتبدو كأنّها مكان كبير متّسع، لكنّنا ما دنونا وتبيّناها عن قرب حتّى تبيّن لنا أنّ انطباعنا ذلك كان شيئاً وهميّاً (3).

ويصف بورتون بعد ذلك ساعة الوصول والاستقبال فيقول خلال هذا:

إنّ العرب يبدون في هذه المناسبات من العواطف أكثر ممّا تبديه سائر الأقوام الشرقية التي يعرفها، ففي طبيعتهم من الحنان والمحبّة الشي ء الكثير، وهم أكثر تعبيراً عن عواطفهم بكثير من الهنود (4).

ومع ذلك فقد شرع في القيام بالشعائر الضرورية (أو الطقوس على حدّ تعبيره) والتي يصفها بالتفصيل.

ومن المفارقات التي تعرّض لها، بسبب إصابته بألم حاد في رجله لحظة نزوله إلى ينبع، أنّه بدأ زيارة المدينة راكباً على حمار!، وقد أمّن له الشيخ حامد، وهو أحد الحجّاج الذين رافقوه من القاهرة، حماراً عاري الظهر به عرج في إحدى رجليه وتعوزه اذن واحدة، ولكنّ الشيخ حامداً رافقه إلى المسجد النبوي، حيث دخلوا من باب الرحمة من خلال درجات.

ورغم أنّه أبدى اندهاشه، لأوّل وهلة، بيد أنّه لم ينس معاييره الغربية في رؤيته للأشياء: «كنت مندهشاً من ذلك المنظر البسيط المبهرج لأقدس مكان في جميع أنحاء العالم الإسلامي»، ثمّ يضيف: أنّ المسجد كان شديد الشبه بمتحف للفنون من الدرجة الثانية! أو بمكان تُعرض فيه التحف وهو مملوء بالزينة والزخارف العادية الشعبية المألوفة!

أمّا عن رؤيته لمقام النبيّ محمّد صلى الله عليه و آله


1- 1 المرجع نفسه: 153.
2- 2 صحيفة الحياه؛ م. س.
3- 3 موسوعة العتبات المقدّسة 3: 261 قسم المدينة المنورة.
4- 4 المرجع نفسه 3: 262.

ص: 242

فيقول: «بعد أن حدّقت بعيني برهة من الزمن رأيت ستارة مكتوباً عليها بخطوط ذهبية أنّ قبر رسول اللَّه والخليفتين بعده يقع خلفها، وفوق قبر النبيّ تدلى الكوكب الدرّي وهو مجموعة من اللآلي والماس رُكّبت بشكل نجم وعُلّقت في الظلام، باعتقاد أنّ عيون البشر لا تستطيع تحمّل إشعاعها. وكان ذلك الكوكب رائعاً حقّاً.. إنّ هذا الكوكب يشبه ماسّة «كوه نور Koh- Nur» الشهيرة» (1).

ثمّ يمضي يصف المدينة المنوّرة بدقّة مرشد السيّاح. ويلاحظ من الرحلة التفصيليّة الرائعة التي طبعت بجزأين كبيرين أنّ السير ريتشارد لم يترك شاردة وواردة إلّاذكرها في نصوص الرحلة أو شروحها وهوامشها الضافية. ومع ما في هذه الرحلة من تحامل وأغلاط في فهم الإسلام وشريعته، فإنّها تعدّ شيئاً ممتازاً من ناحية البحث والتحقيق، ودراسة لها قيمتها التاريخية والجغرافية (2).

في رحاب المدينة المنوّرة

في فصل خاصّ يفرده بورتون لزيارة قبر النبيّ صلى الله عليه و آله، يستهلّ الكتابة بالخوض في موضوع المفاضلة بين مكّة والمدينة. فيقول: إنّ المسجد النبوي هو أحد الحرمين، وثاني الأماكن المقدّسة الثلاثة المعدّة للعبادة، أمّا الاثنان الآخران فهما؛ المسجد الحرام في مكّة، والمسجد الأقصى في القدس الشريف.

ثمّ يوضّح الفرق بين استحباب (زيارة) الرسول صلى الله عليه و آله ووجوب فريضة الحجّ إلى بيت اللَّه الحرام.. ليستعرض الآراء حول منزلة المسجد النبوي ومكانته الروحية، خاصّة لدى المذاهب الإسلامية، وأنّ الشرف الذي حظيت به المدينة يعود إلى أنّ ثراها قد ضمّ رفات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ثمّ يعرج إلى تبيان موقف الوهابيّين قائلًا: «ولمّا كان الوهابيّون من جهة اخرى لا يعترفون بشفاعة الرسول يوم القيامة، ويعتبرون قبر الرسول قبراً مثل سائر القبور وشيئاً لا يُعتدّ به، ووسيلة للعبادة (الوثنية) التي يمارسها بعض المسلمين (الحمقى )، فقد نهبوا المبنى المقدّس بعنف ينطوي على التدنيس، ومنعوا الزوّار القادمين من البلاد النائية عن الدخول


1- 1 بلاد العرب القاصية: 153- 154.
2- 2 موسوعة العتبات المقدّسة 3: 260. يصف نجيب العقيقي كتاب «الحج إلى مكّة والمدينة» بأنّه من أوثق المراجع عند الغربيّين المرجع المذكور 2: 60، أمّا خير الدين الزركلي فيقول عن الكتاب بأنّه يعدّ من أعظم المراجع عند الغربيّين في موضعه الاعلام 3: 38.

ص: 243

إلى المدينة (1).

بعد هذه الإطلالة، يشرع في وصف مظهر الحرم النبوي الشريف، فالمسجد متوازي الأضلاع يناهز الأربعمائة وعشرين قدماً في الطول والثلاث مائة وأربعين في العرض، وهو مثل سائر المباني الدينيّة الإسلامية المعتادة مبنى فيه ساحة وسطى مكشوفة تسمّى الصحن، أو الحوش.. يحيط بها بهو له صفوف عديدة من الأعمدة على شاكلة الأديرة الايطالية. والأروقة فيها سقوف منبسطة، لكنّها مقبّبة من فوق بقبب تشبه القبب الأسبانية نصف التاريخية..

ويمتدّ على طول الجدار الشمالي القصير من داخله الرواق المجيدي المسمّى باسم السلطان الحاكم (عبد المجيد)، كما يشغل الجدار الغربي الطويل رواق باب الرحمة، والجدار الشرقي رواق باب النساء، ويستمدّ الرواق الأخير اسمه هذا من قربه من قبر السيّدة فاطمة عليها السلام ويدخل النساء منه عندما يردن زيارة القبر المطهّر.

ويحتضن الطول الداخلي للجدار الجنوبي القصير صفّ الأعمدة الرئيس المحيط بالروضة، أي الموضع المحتوي على جميع ما هو مقدّس في الحرم.

وهذه الأروقة الأربعة المقدّسة من الخارج تحملها من الداخل أعمدة تختلف بعضها عن بعض في الشكل والمادّة. وقد بُلّط الرواق الجنوبي الذي يقوم فيه الضريح بقطعة جميلة من الرخام الأبيض المشغول بشغل التطعيم، المغطّى هنا وهناك بالحصر الخشنة التي فُرش فوقها السجّاد غير النظيف المتآكل بأرجل المؤمنين (2).

ثمّ يستعرض المنائر في الحرم الشريف، ويبلغ عددها خمساً، لكن منارة واحدة هي الشكيلية التي تقوم في الزاوية الشمالية الشرقية من المبنى قد هُدّمت وما تزال تُبنى بشكل جديد. أمّا المنائر الأربعة الاخرى فهي؛ منارة باب السلام، منارة باب الرحمة، المنارة السليمانية المسمّاة باسم بانيها السلطان سليمان القانوني، والمنارة الرئيسية.

ويقول بورتون: إنّ هذه الأخيرة سُمّيت رئيسيّة؛ لأنّها مخصّصة لرؤوساء المؤذِّنين.. وتعلّق بمنصّات المنارتين الأخيرتين مصابيح نفطية في الأعياد


1- 1 يُراجع:..noitidE lairomeM . 1863 nodnoL notrub lebasi efiW sih yB detidE .hacceM hanidaM -LA ot egamirgliP A fo evitarraN lanosreP -fdrahciR ,nitruB
2- 2 موسوعة العتبات المقدّسة 2: 265.

ص: 244

والمناسبات، مثل مناسبة وصول موكب الحجّ الشامي (1).

أمّا الأروقة والأعمدة المحيطة بالصحن المربّع المكشوف في الوسط أيضاً، فيمضي في وصفها بإسهاب، مبدياً عدم إعجابه فيما راح يعدّدها:

«ومن بين هذه الأعمدة التي لا تستحقّ الثناء، هناك ثلاثة لها شهرة في تاريخ الإسلام، ولذلك كُتبت أسماؤها عليها بالدهان، وتتمتّع خمسة اخرى بشرف التسميات المشهورة، فيسمّى الأوّل «المخلق» لأنّه لطّخ بالخلوق في مناسبة من المناسبات.. ويقع هذا بالقرب من المحراب النبوي إلى يمين المكان الذي يصلّي فيه الإمام، كما يدلّ على البقعة التي كان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قبل اختراع المنبر يتّكئ فيها على «الاسطوانة الحنانة» ويلقي خطبة الجمعة، والعمود الآخر هو ثالث عمود من المنبر وثالث من الحجرة، ويسمّى «عمود عائشة» وكذلك «اسطوانة القرعة» لأنّ الرسول على ما تقول بعض الروايات صرّح قائلًا: إنّ الناس حينما يعرفون قيمة هذا المكان سوف يستعينون بالقرعة للصلاة فيه، ويذكر في بعض الكتب باسم «عمود المهاجرين»، كما أنّ آخرين يسمّونه «المخلق» كذلك.

وعلى بُعد عشرين ذراعاً من عمود عائشة، وعمودين من الحجرة، وأربعة أعمدة من المنبر يقع «عمود التوبة» أو عمود أبي لبابة، وقد سمّي كذلك على إثر حادثة وقعت لأبي لبابة أحد الأنصار.. أمّا الأعمدة التي تقلّ في شهرتها فهي «اسطوانة السرير» التي كان من عادة النبيّ أن يجلس في موقعها للتأمّل فوق سريره المتواضع المصنوع من جريد النخل. وتشير «اسطوانة علي» إلى المكان الذي كان الإمام علي يصلّي فيه إلى جنب ابن عمّه النبيّ. وفي موقع «اسطوانة الوفود» كان النبيّ صلى الله عليه و آله يستقبل الوفود والرسل والمبعوثين من البلاد الاخرى، وتدلّ «اسطوانة التهجّد» على المكان الذي كان النبي يمضي ليله فيه مصلّياً متهجّداً. وأخيراً «مقام جبرائيل» الذي لم يجد بورتون تفسيراً لاسمه الآخر «مربعة البعير».

وتطلّ الأروقة الأربعة في مسجد


1- 1 المرجع نفسه 2: 266.

ص: 245

المدينة على صحن أوسط مكشوف متوازي الأضلاع في شكله. والشي ء الوحيد الذي يلفت النظر فيه سياج خشبي مربّع الشكل يحيط بتربة حسنة الارواء تدعى «حديقة سِتّنا فاطمة»، وتوجد فيها اليوم (أي يوم زيارة بورتون في 1853 م) اثنتا عشرة شجرة يهدي خصيان المسجد تمرها إلى السلطان وعظماء المسلمين. وتوجد بين النخلات بقايا لسدرة قديمة يُباع ثمرها بأسعار عالية. أمّا البناية الصغيرة التي ذكرها بيركهارت قبل أربعين سنة، وقال: إنّها توجد بالقرب من هذا الموقع، فقد هدّمت قبل ثلاث أو أربع سنوات، وكانت تسمّى «قبّة الزيت» أو «قبّة الشمع» (1).

وينهي بورتون فصله الطويل الذي كرّسه لوصف الحرم الشريف (الفصل السادس عشر من الجزء الأوّل) بالتشكيك في صحّة المكان الذي دُفن فيه النبي الأعظم، مستنداً إلى أسباب تافهة. ومن بينها أنّ الشيعة ربما نقلوه إلى مكان آخر، حينما ظلّ القبر المقدّس بعهدتهم قروناً عديدة! ومعلوم أنّ الأسباب التي اعتمدها والرأي الذي رجّحه كلّها لا تستحقّ الرد لتهافتها، إن لم تكن ذات غرض سي ء (2).

المدينة: التاريخ.. والحاضر

وأفرد بورتون الفصل السابع عشر (من الجزء الأوّل) لتاريخ المسجد النبوي، تطرّق في بدايته إلى تاريخ المدينة القديم، والأقوام التي قطنتها، وعلاقة النبيّ صلى الله عليه و آله بالمدينة وكيفيّة وقوع الهجرة المباركة.. الخ.

وعن تشكيلات الحرم النبوي فيقول: إنّ هذه التشكيلات قد تغيّرت كثيراً منذ أيّام الرحّالة بيركهارت (1814 م). وعلى هذاالأساس لم يعد «شيخ الحرم» من الخصيان، وكان على أيّام بورتون رجلًا من پاشوات الأتراك يدعى عثمان، ونائبه «رئيس الأغوات».. ويطلق على رئيس الخزانة «مدير الحرم»، وله مساعد يُسمّى «نقيباً»، وهناك شيوخ ثلاثة للخصيان البالغ عددهم حوالى مائة وعشرين.

وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاث طوائف:

(البوّابون، الخبزية، البطّالين).

وهناك إلى جانب الخصيان عدد من


1- 1 المرجع نفسه 2: 267- 269.
2- 2 لمزيد من الاطّلاع يراجع المرجع السابق 2: 269.

ص: 246

الخدم الأحرار يطلق عليهم (الفرّاشون).. وهناك طبقة دنيا من الخدم الذين يقومون بفرش الساحات وسقي الحدائق وتقديم الماء للزوّار.

أمّا التشكيلات الدينيّة فهي على نطاق أوسع من التشكيلات الإدارية، فهناك القاضي الذي يُبعث كلّ سنة من استانبول، ويشتغل في معيّته ثلاثة مفتين: (شافعي، حنفي، مالكي). أمّا المؤذِّنون، ويسمّون الرؤساء، فهم كثيرو العدد، 48- 49 مؤذِّناً، يترأسهم ستّة من المؤذِّنين الكبار، وهؤلاء يرأسهم شيخ الرؤوساء الذي يحقّ له فقط أن يؤذِّن من فوق «المنارة الرئيسيّة». وهناك في الحرم خمسة وأربعون خطيباً، وهم تبع لرئيس الخطباء. وتصرف الأموال الشرعية على مستحقّيها من: (العلماء والمدرّسين الذين يعظون، الأئمّة والخطباء، السادة من نسل النبيّ، الفقهاء والملالي، العوام بمن فيهم أهالي المدينة والمجاورون).

ثمّ يتطرّق بورتون إلى سكّان المدينة وأهمّ الأسر القاطنة فيها، ليعرج إلى ذكر النخاولة الشيعة فيورد نقاطاً وتهماً ما أنزل اللَّه بها من سلطان عنهم، ولعلّ ذلك من خيال المتعصّبين الذين نقلوا له هذه الأخبار عن مثل هذه الطبقة من الناس، التي كانت تشتغل في صدر الإسلام في الفلاحة عند الإمام الحسن عليه السلام..

ويحلّل بعد ذلك أوضاع سكّان المدينة من جميع الوجوه بفصل يستغرق ثمانٍ وعشرين صفحة كاملة. وقد زار بورتون مقبرة البقيع زيارة خاصّة، وهو يقول: إنّ هناك خبراً يقول: إنّ سبعين ألف قدِّيس، وفي رواية مائة ألف، سوف يبعثون يوم القيامة من البقيع، وإنّ عشرة آلاف صحابي وعدداً لا يُحصى من السادة، قد دُفنوا في هذه المقبرة على مرّ السنين فاندرست قبورهم. ويشير إلى ما تعرّضت له هذه المقبرة من عبث وتخريب أيّام الأمير سعود؛ لاعتقاد الوهابيين بأنّ خير القبور الدوارس! «ويرجع الفضل لما بُني منها بعد ذلك إلى السلطان عبد الحميد ومحمود..».

ويقول بورتون كذلك: «.. وقد

ص: 247

دخلت المقبرة المقدّسة مقدِّماً رجلي اليمنى كما لو كنت أدخل إلى المسجد، وحافي القدمين لأتحاشى اعتباري من الرافضة، ثمّ بدأنا بقراءة الزيارة العامّة المألوفة... وبانتهائها رفعنا أيدينا وقرأنا الفاتحة قراءة خافتة، ومسحنا أيدينا على وجوهنا وتحرّكنا».

وبشي ء من التفصيل يستعرض أهم المراقد هناك، وعلى التوالي: [قبر الخليفة عثمان، أبي سعيد الخدري، حليمة السعدية، قبور شهداء البقيع الذين قتلهم مسلم قائد كبير الفاسقين يزيد (1)(2)، إبراهيم بن النبيّ صلى الله عليه و آله، نافع بن عمر، مالك بن أنس، عقيل بن أبي طالب، أزواج النبي جميعهنّ عدا خديجة، بنات النبيّ ].

وبعد أن يصف بورتون الشحّاذين وأنواعهم وكيف يستقبلون الزوّار يقول:

«.. وقبل أن نترك البقيع وقفنا وقفتنا الحادية عشرة في القبّة العبّاسيّة، أو قبّة العبّاس عمّ النبيّ.. هذه القبّة التي بناها الخلفاء العبّاسيون من قبل في 519 للهجرة أكبر وأجمل جميع القبب الاخرى ، وتقع على يمين الداخل من باب المقبرة. ويدلّ على أهمّيتها تجمّع الشحّاذين بقربها، فقد جاءوا إليها وتكأكأوا عليها حينما وجدوا الايرانيين متجمّعين فيها بكثرة وهم يبكون ويصلّون.. وتوجد في القسم الشرقي قبور الحسن بن علي سبط النبيّ، والإمام زين العابدين بن الحسين، وابنه محمّد الباقر (الإمام الخامس)، ثمّ ابنه الإمام جعفر الصادق، وهؤلاء جميعاً من نسل النبيّ وقد دُفنوا في نفس المرقد الذي دُفن فيه العبّاس بن عبد المطّلب عمّ النبيّ.. وبعد أن خرجنا وتخلّصنا من أيدي الشحّاذين الصغار وجهنا وجهنا نحو الجدار الجنوبي الذي يوجد بقربه قبر ينسب إلى السيّدة فاطمة وقرأنا الدعاء المعروف» (3).

وفي حاشية مستفيضة استعرض بورتون الغموض الذي يكتنف مدفن السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام والروايات المتداولة حول مكان دفنها.. لينتقل مباشرة إلى الحديث عن مساجد المدينة التي يوجد فيها، على ما يذكر بورتون، ما بين الخمسين وخمسة وخمسين مسجداً وبقعة مقدّسة، لا يعرف معظمها


1- 1 يقول بورتون في حاشية له ص: 37 من الجزء الثاني من كتابه: إنّ الإمام الشافعي يسمح لأتباعه بسبّ يزيدابن معاوية الذي جعلته قساوته مع آل البيت، وجرائمه وموبقاته، يهودا الأسخربوطي المسلم، وقد سمع بورتون مسلمين أحنافاً يسبّون يزيداً كذلك موسوعة العتبات المقدّسة 3: 282.
2- 1 يقول بورتون في حاشية له ص: 37 من الجزء الثاني من كتابه: إنّ الإمام الشافعي يسمح لأتباعه بسبّ يزيدابن معاوية الذي جعلته قساوته مع آل البيت، وجرائمه وموبقاته، يهودا الأسخربوطي المسلم، وقد سمع بورتون مسلمين أحنافاً يسبّون يزيداً كذلك موسوعة العتبات المقدّسة 3: 282.
3- 2 موسوعة العتبات المقدّسة 3: 283- 284.

ص: 248

اليوم حتّى أهالي المدينة أنفسهم، وذكر أهمّها نقلًا عن أفواه الناس، بشي ء من التفصيل، وفيما عدا هذه احصيت أسماء، أسماء فقط، أربعين مسجداً آخر.. (1).

على أنّ بورتون الذي استغرق في وصف أدقّ التفصيلات عن خصوصيات المدينة المنوّرة، لا يفوته تذكير القارئ أو الدوائر المعنيّة بمهمّته على السواء، بأنّ حجم المدينة أكبر بمرّة وثلث من حجم مدينة السويس، أو بقدر نصف حجم مكّة، وهي عبارة عن مكان مسوّر يؤلّف شكلًا بيضويّاً غير منتظم ولها أربع بوّابات.. وهناك بنايات ضخمة وأبراج مزدوجة متقاربة.. وفي داخل المدينة الظليل ترى الجنود يحرسون المدينة، وأصحاب الجمال يتشاجرون، وكثيراً من الرجال الذين لا عمل لهم يتسكّعون.

ثمّ يصف البنايات العامّة فيقول: إنّ هناك أربعة خانات كبيرة وبضع مقاهٍ صغيرة وحمّاماً ممتازاً، ويقدّر عدد السكّان ب (16) ألف نسمة... ويقول:

إنّ المدينة تشبه جبل طارق بالنسبة للبدو الوهابيّين (2).

وبعد أن اطلع على ما في المدينة وأماكنها المقدّسة، وانتهاء فترة الاستجمام والاسترخاء، تلك الأيّام التي اعتبرها أيّام راحة حقيقيّة، بالنسبة للأخطار القادمة التي كانت ماثلة أمام عينيه كلّ يوم، كان عليه أن يتوجّه مع موكب الحجّ الشامي إلى مكّة في يوم 31 آب 1853 م (3)، وهكذا بدأ يستعدّ للرحلة على عجل، وجمع مؤونة 15 يوماً له ولمرافقه محمّد، واستأجر من بدوي ناقتين ب (20) دولاراً. وكان أصدقاؤه نصحوه بأن يأكل مرّة كلّ 24 ساعة مع مرافقيه لكي «يبقى في معدتهم ملح من عنده، فذلك قد يمنعهم من خيانته أو الغدر به»! كانوا يسافرون في الليل، وفي إحدى المراحل ساروا من الساعة الثالثة بعد منتصف الليل وحتّى الحادية عشرة من صباح اليوم التالي (4).

بورتون في مكّة

في 11 أيلول (سبتمبر) 1853 م، وصل بورتون إلى مكّة المكرّمة بعد رحلة متعبة حافلة بالمخاطر، ليستقرّ به


1- 1 للمزيد يراجع المرجع السابق 3: 285- 289.
2- 2 بلاد العرب القاصية: 154.
3- 3 موسوعة العتبات المقدّسة 3: 296. ولابدّ من الإشارة هنا إلى اضطراب رواية «بيتر برينث» حول موعدانطلاقة بورتون التي حدّدها بتاريخ كانون الأوّل ديسمبر 1853، ليعود إلى تحديد وصوله إلى مكّة بتاريخ 11 أيلول من العام نفسه.. ولعلّ الاشتباه كان في الترجمة!
4- 4 قافلة الحبر: 85، وكذلك صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992.

ص: 249

المقام في بيت مرافقه الشاب محمّد البسيوني الذي كان خير دليل له، خاصّة وأنّ أهل مكّة أدرى بشعابها.

يقول بورتون عن مكّة حينما وصلها لأوّل مرّة: إنّه لم يجد فيها ذلك الجمال الرشيق المتناسق الذي يتجلّى في آثار اليونان وايطاليا، ولا الفخامة البربرية المتجلّية في أبنية الهند، ومع هذا فقد كان المنظر غريباً فريداً في بابه بالنسبة إليه (1)، وكتب: «شاهدت احتفالات دينية في مناطق مختلفة، لكنّني لم أرَ مثل هذه المشاهد المهيبة والرائعة في أي مكان آخر» (2).

ويقول كذلك: «.. ويمكنني أن أقول حقّاً: إنّه من بين جميع الحجّاج الذين كانوا يتعلّقون بأستار الكعبة وهم يبكون، أو يضغطون بقلوبهم النابضة على الحجر، لم يكن هناك أحد في تلك اللحظة أشدّ شعوراً وأطغى عاطفةً من (الحاج) القادم من بلاد الشمال، فقد بدا لي كأنّ أساطير العرب الشعرية جميعها كانت تنطق الصدق، وكأنّ أجنحة الملائكة الخفّاقة، وليس نسيم الصبح العذب، كانت هي التي تحرّك الكسوة السوداء التي تجلّل الكعبة المقدّسة.

لكنّني لابدّ لي من أن أعترف اعترافاً متواضعاً بأنّ عاطفة أولئك الحجّاج المتدفّقة كان مبعثها الحماسة الدينيّة، أمّا عاطفتي فقد كان مبعثها نشوة الكبرياء المطمئن» (3).

لقد كتب بورتون عن زيارته إلى المدينة ومكّة بتفصيل مسهب استغرق مجلّدين كبيرين، لكنّ الملاحظ أنّ المومى إليه كتب عن جميع ما دوّنه سلفه بيركهارت، ولكن بطريقة مختلفة وتعليقات لا تشبه تعليقات بيركهارت في كثير من المناسبات. غير أنّ الوصف العام لا يختلف عند الاثنين اختلافاً جوهرياً (4)؛ ولذلك نجد بورتون يشير إلى أنّه قد وصف ما رآه قدر الاستطاعة، ولكنّه اعترف أنّه لا يستطيع أن يصل إلى دقّة بيركهارت الذي يعترف بورتون أنّه مَدين له ليس بالشكر والامتنان فحسب، بل بالاقتباس عنه بصورة جلية واسعة واضحة!، ولكن تعليقات بورتون على العموم كانت عملية واقعية (5).

فهو يقول: «وكان جمهور من الناس


1- 1 موسوعة العتبات المقدّسة 2: 296.
2- 2 صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992.
3- 3 نقلًا عن موسوعة العتبات المقدّسة 2: 296.
4- 4 المرجع نفسه.
5- 5 بلاد العرب القاصية: 161.

ص: 250

قد احتشد حول الكعبة، ولم أكن راغباً في أن أقف حاسر الرأس حافي القدمين في شمس أيلول. فصاح أحدهم يقول:

افتحوا الطريق للحاج الذي يريد أن يدخل البيت، وعند ذاك أفسح المتجمهرون الطريق.. وتقدّم رجلان قويّان من أهالي مكّة كانا يقفان تحت الباب المرتفع، فرفعاني بأذرعهما بينما سحبني رجل ثالث من أعلى إلى داخل المبنى ، فحيّاني في المدخل عدد من خدّام الكعبة وهم من المكيّين سمر البشرة الذين كان أشدّهم سمرة وبساطة شاب من اسرة بني شيبة سدنة الكعبة.. وسرعان ما جلس على مسطبة خشبية في ركن الكعبة الأيسر، وابتدرني بالسؤال رسميّاً عن اسمي وقوميتي وتفصيلات اخرى. ولمّا كانت أجوبتي وافية بالمرام أمر الفتى محمّداً الذي كان يصحبني بأن يقودني حول المبنى ويرتّل أمامي الصلاة، ولا أنكر أنّني حينما نظرت إلى الجدران الخالية من الشبابيك، ولاحظت وجود السدنة بالباب، وجمهور (المتعصّبين) الهائجين في أسفل الكعبة، شعرت وكأنّني فأرة في المصيدة، على أنّ ذلك لم يمنعني عن ملاحظة ما كان يحيط بي بدقّة خلال صلاتنا الطويلة، ورسم مخطّط تقريبي بقلم الرصاص فوق قماش إحرامي الأبيض» (1).

ثمّ يتحدّث بورتون عن الكعبة وأركانها الأربعة، وعن باب التوبة، ليستعرض بشي ء من التفصيل كسوة الكعبة المشرّفة، ومن أيّ قماش تصنع، وعمّن بدأ بتجهيز الكعبة، وكيف تطوّر الأمر على مرّ العصور التاريخية..

وآخرها العهد العثماني.

ويقول بورتون في الأخير: إنّ الكسوة في عهده (1853 م) كانت تصنع في مصنع النسيج القطني المسمّى «الخرنفش» في باب الشعرية في القاهرة، ثمّ يذكر أنّ الكسوة تتألّف عادةً من ثماني قطع، اثنتان منها لكلّ وجه من أوجه الكعبة، ويغطّي محلّ اتّصال القطعتين بحزام ذهبي المظهر، ثمّ تُبطّن بخام أبيض وتجهّز بحبال قطنية.

ويُقال: إنّ الكسوة كانت تنسج خلال حياكتها الآيات القرآنية كلّها فيها..

وحينما تتمّ حياكة الكسوة في الخرنفش


1- 1 موسوعة العتبات المقدّسة 2: 296.

ص: 251

تنقل إلى مسجد سيّدنا الحسين في القاهرة بموكب خاصّ، وهناك تبطّن وتخاط فتكون جاهزة للرحلة إلى البيت الحرام (1).

مشاهدات.. وانطباعات

وفي رحلة بورتون فصل قيّم كثير الفائدة عن الحياة في مكّة، يصف فيها مكّة نفسها وأحوال سكّانها بشي ء غير يسير من التفصيل، فهو يقول عنها: إنّها تعدّ مدينة حديثة نسبيّاً، برغم أنّ منشأ بيت اللَّه الحرام تضيع جذوره العميقة بين طيّات الماضي السحيق.. وهي تحتوي على ثلاثين إلى خمسة وأربعين ألف نسمة من السكّان. مع وجود أماكن فيها لسكنى ثلاثة أضعاف هذا العدد من الناس على الأقلّ. وتبنى بيوتها بالطابوق وحجر الغرانيت والحجر الرملي المستمدّ من الجبال المجاورة. ومنظر مكّة أشبه بوادٍ متموّج متعرِّج يمتدّ فوق هضبة صغيرة من الهضاب. ويبلغ أقصى عرضها ما بين أبي قبيس في الشرق (الذي تمتدّ على سفوحه الغربيّة البلدة معظمها) وجبل هندي في الغرب. وتقوم الكعبة في مركز هذا الخطّ (2).

ويخبرنا بورتون، خلال تحدّثه عن سكّان مكّة، أنّ بشرة أهالي مكّة كانت أكثر اسمراراً من بشرة أهالي المدينة، وأنّهم يفسِّرون هذه الظاهرة هناك بتأثير حرارة الشمس اللافحة على مناخ مكّة. ولكنّه يعلّق على ذلك فيقول: «إنّي أفضّل أن أعزو السبب في سمرتهم الشديدة إلى كثرة الإماء السوداوات اللواتي كنّ يأتين إلى (سوق النخاسة)..!».

ويمكن للقارئ أن يتصوّر لهجته التهكميّة عند الإدلاء بهذا الرأي! فبورتون، كما يقول «بيتربرينث» شأنه شأن معظم الغرباء الذين اخترقوا الحواجز، وتسرّبوا ودخلوا إلى مكّة، لا تخلو أفكارهم من الازدراء والاحتقار للسكّان وذلك حين يقول:

«إنّ أهالي مكّة طمّاعون ومبذِّرون» ولكنّه يعود فيقول: «من جهة اخرى أنّ المكّيين يتمتّعون بصفات الصراحة، وهم مستعدّون لتحكيم العقل والاعتراف بالخطإ، وليس لديهم أي نوع من العناد لدى اقتراف الذنب،


1- 1 للمزيد يراجع المرجع السابق 2: 298- 301.
2- 2 المرجع نفسه 2: 301.

ص: 252

الأمر الذي يميّز الآثمين منهم عن آثمي الشعوب الاخرى» (1).

والخلاصة التي يتوصّل إليها بيتربرينث هي: أنّ بورتون يتصرّف في حكمه كقاضٍ غير متحيّز، وليس هناك من يحاسبه على استنتاجاته فيقول: «إنّ الصفات التي تعوّض عن هذه النقائص هي شجاعة المكّي، وحبّه للإحسان، ورجولته وإحساسه المُتّقد بالشرف، وارتباطاته العائلية القويّة، واقترابه من صفة حبّ الوطن وثقافته العامّة». أمّا القسم المظلم من الصورة فينحصر في الكبرياء والتعصّب الأعمى ، وقلّة الدين، والجشع وحبّ الربح، وانعدام المُثل الأخلاقية، والإسراف الذي يُقصد منه التظاهر والفخفخة، ويبدو عند فحص الصورة أنّ القسم المظلم يتفوّق على القسم المضي ء، مع أنّ بورتون قد وصف المكّيين في مناسبات سابقة بالذكاء والفكاهة، شأن بقيّة الساميين (2).

بيد أنّ أخطر الانطباعات التي ذكرها بورتون عن أهل مكّة هو ما سمعه منهم عن مستقبل الإسلام، إذ ذكر أنّ الكثيرين ممّن عرفهم يذكرون أنّ الإسلام مكتوب له أن يصادف كثيراً من الإحن والنكبات في مقتبل الأيّام.

ويخلص من هذا إلى القول: إنّ المسيحيّين المتحمّسين لنشر عقيدتهم وديانتهم في العالم يمكن أن يجدوا في وضع المسلمين الفكري هذا فرصة للانتشار والتغلغل بينهم في الأجيال المقبلة. ثمّ يذكر في حاشية له أنّ الوضع لا يحتاج إلى كثير من التنبّؤ قبل الأوان؛ ليستنتج منه المرء بأنّ الانگليز لابدّ أن تضطرّهم الأحوال السياسيّة لأن يحتلوا بالقوّة ينبوع الإسلام هذا وقبلته المقدّسة (3).

من جهة اخرى، يذكر بورتون أنّ المشروبات الكحولية التي يذكر بيركهارت وجود أمكنة خاصّة لبيعها في مكّة لم يعد لها وجود مطلقاً في أيّامه، وقد أكّد له بعض الضبّاط الأرناؤوط أنّهم وجدوا صعوبة فائقة في تهريب بعض القناني من هذه المشروبات من جدّة إلى مكّة. ثمّ يشرح في الحاشية أنّ زيارة بيركهارت كانت في عهد استيلاء محمد علي باشا عليها، ويعزو السبب


1- 1 بلاد العرب القاصية: 161.
2- 2 المرجع نفسه: 161- 162.
3- 3 موسوعة العتبات المقدّسة 2: 302.

ص: 253

إلى هذا الوضع بطبيعة الحال.

ومن طريف ما يذكره بورتون في هذا الفصل (32 من ج 2) أنّ أحد المطوفين كان يصحبه في ذهابه وإيابه إلى العمرة، فأصرّ عليه أن ينيبه للحجّ بالنيابة عن أبيه وامّه، فألقى نفسه مجبراً على الإذعان للطلب، وأخبره أنّ أباه يسمّى يوسف بن أحمد، وامّه فاطمة بنت يونس، ففعل المطوّف ذلك وأخذ اجرته المقنّنة عن عمله هذا (1).

وقد زار بورتون مقبرة مكّة المقدّسة كما يسمّيها، التي كان يُطلق عليها «جنّة المعلّى ».

وهو يقول: إنّه شاهد فيها المكان الذي علّقت فيه جثّة عبداللَّه بن الزبير بأمر من الحجّاج بن يوسف الثقفي، وقبر عبد الرحمن بن أبي بكر، يذكر أنّه موضع تقديس السنّة والشيعة معاً، وقبر السيّدة خديجة الكبرى الذي كان مغطّى بقماش أخضر، وقبر آمنة والدة النبيّ صلى الله عليه و آله الذي أُعيد بناؤه بعد أن خرّبه الوهابيّون، وبعد هذا يذكر بورتون قيامه بزيارة الأماكن الاخرى التي ذكرها بيركهارت من قبل. ويشير في الحاشية إلى أنّ الكتب التي رجع إليها تذكر اثني عشر مكاناً آخر للزيارة في مكّة، لا يعرف عن أكثرها غير اسمها.

وأخيراً؛ يشير بورتون إلى دعوة عشاء دعاه إليها رجل يُقال له علي بن ياسين الزمزمي. وقد أكل فيها أكلات كثيرة.. وقد أكل بعض ذلك بملعقة خشبية، وهو يقول، في هذه الأثناء: إنّ العرب يتجاهلون فنّ الأكل الفرنسي..

ويذكر بالمناسبة أنّ مكّة تتجهّز من الطائف ووادي فاطمة بكمّيات كثيرة من الخضر والفواكه التي يبلغ مقدارها في موسم الحجّ وحده مئة حمل بعير في اليوم على الأقل، وممّا يؤتى به إلى مكّة الرقّي والتمر والليمون والعنب والخيار وما أشبه (2).

وهكذا انتهت حدّة مغامرات بورتون، ولم يبقَ لديه من عمل سوى مغادرة مكّة والرجوع إلى جدّة، حيث سارع إلى إنجاز قضيّتين؛ الاولى أنّه كشف للمستر كول القنصل البريطاني في جدّة عن هويّته (3)، والثانية هي صرف الحوالة المالية التي كانت الجمعية الجغرافية الملكية قد أرسلتها إليه؛


1- 1 المرجع نفسه 2: 302.
2- 2 المرجع نفسه 2: 302- 303.
3- 3 المرجع نفسه 2: 303.

ص: 254

ليطرد الفقر ويسدّ بعض الديون (1)، دون أن ننسى أنّ هذه الحوالة هي جزء من المبلغ المرصود لبورتون قبال قيامه بمهمّته السريّة تلك.

بعد مغادرته مكّة، سمح بورتون لنفسه بنيل قسط من الراحة، في أعقاب تجربة مثيرة: «وعندما وصلت إلى السهل الفسيح شعرت بهزّة من الفرح تنتابني، ذلك الشعور الذي لا يحسّ به إلّا السجين الذي خرج من غياهب السجن» (2).

ولكن؛ ماذا عن مرافقه محمّد البسيوني؟

لقد كان محمّد البسيوني بصحبة بورتون حتّى نهاية المطاف، حيث رافقه إلى جدّة. ولكنّ ثمّة تغيّراً طرأ على الموقف، لحظه بورتون على مرافقه الشاب، الذي ودّعه ببرود لم يستطع بورتون تفسيره، بيد أنّ البسيوني كان قد أسرّ للشيخ نور (خادم بورتون الهندي) بأنّ هناك شكّاً يخامر عقله حول حقيقة بورتون، وقد قال لخادمه:

«إنّني قد فهمت الآن أنّ سيّدك ليس مسلماً.. بل هو بريطاني من الهند، ضحك على ذقوننا» (3).

ولكن هل فهم الآخرون سرّ بورتون كما فهمه محمّد؟ فلقد انتشرت بعض الإشاعات التي تدلّ على أنّ الكثيرين قد فهموه، وأنّ تنكّر بورتون لم يكن ناجحاً تماماً كما يبدو من نظرته.

إذ قيل: إنّه اضطرّ لقتل رجل رآه يتغوّط بغير الشكل المألوف، وقد تحدّى هذا الرجل مصداقيّته نتيجة لذلك، ممّا جعل بورتون يقوم بقتله.

ومع ذلك فهاهو بورتون قد أتمّ رحلته ولا يكاد أيّ إنسان أن يصدّق أن يصل بورتون إلى نهاية رحلته سالماً دون أيّ ضرر في تلك الظروف الصعبة، وبين جمهور متديّن متحمِّس مقاتل، وسلطات شديدة المراقبة والحذر.. لو أنّ الشكّ تطرّق إلى البعض..

أمّا بورتون نفسه فقد أنكر أنّ شخصاً ما قد شكّ في أمره، أو فكّر أنّه لم يكن ذلك الشخص الذي يعرفه الجميع أنّه من الحجّاج السائرين في طريق الحجّ (4)، وبهذا يكون بورتون قد أجاد لعب دوره المرسوم بمهارة فائقة، وإنْ كان قد اكتشف أمره في


1- 1 بلاد العرب القاصية: 162.
2- 2 المرجع نفسه: 162.
3- 3 المرجع السابق: 162، وكذلك صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992.
4- 4 بلاد العرب القاصية: 162- 163.

ص: 255

اللحظة الأخيرة، وبعد فوات الأوان، من قبل مرافقه البسيوني، خلافاً لبعض أسلافه الرحّالة الغربيّين الذين كانت تحوم حولهم الشبهات منذ الخطوة الاولى.. اللّهم ما عدا هذه الحادثة العابرة التي تمكّن بورتون أن يتلافاها على وجه السرعة، رغم أنّه حاول إنكارها!

مهمّات اخرى

عاد بورتون إلى القاهرة، حيث أمضى ما تبقّى من إجازته محافظاً على تنكّره.. خادعاً أصدقاءه البريطانيّين الذين كانوا يمرّون في المدينة (1) بعدها غادر القاهرة إلى انجلترا، ومنها قصد إلى أفريقيا الشرقية والحبشة متنكِّراً بزيّ تاجر عربي (2).

وكان أوّل أوروپي يدخل مدينة هرار في أثيوبيا عام 1855 م، واصيب بحربة في فكّه الأسفل، ووضع كتاب «خطوات في أفريقيا الشرقيّة». وأقام سنتين في تركيا. وفي عام 1858 م أرسلته الحكومة البريطانية في بعثة لكشف منابع النيل، فكتب عن مناطق البحيرات في أفريقيا الاستوائية، واكتشف بحيرة تنجانيقيا (3).

بعد ذلك غيّر بورتون مسار رحلاته، وتوجّه إلى شمال أمريكا لدراسة «المورمون» (طائفة دينية نشأت في القرن التاسع عشر اعتبر مؤسّسها أنّ تعاليمه مكمِّلة للإنجيل) في سولت ليل سيتي (ولاية يوتا). وفي عام 1861 تزوّج من «ايزابيل ارونديل» التي لعبت دوراً كبيراً في تعيينه في المراكز القنصلية في أفريقيا الغربية والبرازيل ودمشق، ثمّ تريستا في شمال ايطاليا (4).

في العام 1866 م منحته الملكة فيكتوريا رتبة فارس، جرّاء خدماته التي قدّمها إلى بريطانيا العظمى ، وفي العام 1869 م نُقل من البرازيل إلى دمشق التي قصدها مع زوجته بصحبة «ادوارد بالمر» (أحد كبار العملاء السريّين البريطانيين في الشرق)، ومنذ اللحظات الاولى انخرط بورتون وزوجته في حياة دمشق بكلّ ما أُوتيا من وقت ومن قوّة، وقد كان بورتون المثال الوحيد، كما تقول زوجته، للرجل غير المسلم الذي ما إن أدّى


1- 1 صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992.
2- 2 المستشرقون للعقيقي؛ مرجع سابق 2: 59.
3- 3 الاعلام للزركلي؛ مرجع سابق 3: 38، والمستشرقون 2: 59، وصحيفة الحياة.
4- 4 صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992.

ص: 256

الحجّ، حتّى صار مثل المسلمين يعتبرونه واحداً منهم، ويسمّونه الحجّي عبداللَّه، ويعاملونه كأنّه واحد منهم..

وفيما تنغمس الزوجة ايزابيل في أعماق المجتمع الدمشقي.. كان زوجها يمارس هواية غير مألوفة في السلك الدبلوماسي، وهي العودة إلى حياة التقنّع والتخفّي التي طالما أجادها، وكان يجوب أسواق دمشق القديمة متزيّياً كلّ مرّة بشخصية مختلفة من الشخصيّات المحلّية.. كذلك كانت ايزابيل بورتون ترتدي أحياناً الزي العربي (من دون أن تتخفّى ) وتنزل إلى دمشق لكي تتذوّق شيئاً من حياة الشرق، حسب زعمها.

وحين كانت تسافر في الصحراء بمعيّة زوجها كانت ترتدي ثياب الرجال مدّعية أنّها ابنة ريتشارد!

قبل مضيّ وقت غير طويل، بدأت علامات الاستفهام تُثار حول تحرّكات السفير وزوجته التي بدأ مسلمو دمشق يتّهمونها بالتعصّب للكثلكة والتبشير بها كلّما سنحت لها الفرصة، وحينما بلغت تدخّلات بورتون في سياسات دمشق المحلّية ذروتها اضطرّت وزارة الخارجية البريطانية نقل قنصلها بورتون إلى تريستا الايطالية، وذلك في 16 آب (اغسطس) 1871 م (1).

وفي إيطاليا، حيث كان الضجر يطغى على حياته، تذكّر بورتون أنّ أحد معارفه في القاهرة كان أخبره بأنّه خلال عودته من الحجّ اكتشف مغارة مليئة بالذهب في مقطع تقع شمال الجزيرة العربية، يفصلها عن سيناء خليج العقبة.. وهكذا نجد بورتون على رأس بعثة ضمّت مهندساً فرنسيّاً وبعض الجنود المصريّين، بعدما تمّ إقناع الخديوي إسماعيل، وغادرت المجموعة السويس في آذار (مارس) 1877 م، وأمضت ثلاثة أسابيع في المنطقة وجدت خلالها النقوش القديمة والحشرات والنباتات الجديدة، إلّاأنّها لم تكتشف أيّ ذهب، ولكن هذا لم يمنع بورتون من إرسال برقية إلى الخديوي مليئة بالآمال والاحتمالات بوجود الذهب، فوافق إسماعيل على توسيع البعثة، فعاد بورتون من جديد مع مجموعة مؤلّفة من أربعة أوروپيين وستّة ضبّاط مصريين و 32 جندياً


1- 1 للمزيد يراجع؛ قافلة الحبر: 90- 92.

ص: 257

و 30 عاملًا في مقالع الأحجار، وطبّاخ يوناني ونجّار.

وعلى امتداد أربعة أشهر، أخفق بورتون في الحصول على مبتغاه، بيد أنّه تمكّن من مسح مساحة 2500 ميلٍ، وعادوا ب 25 طنّاً من النماذج المختلفة، ودرسوا 18 موقعاً قديماً، في مقدّمتها مدينة مدين.. ويعتبر علماء الجغرافيا أنّ مسح بورتون الجيولوجي لهذه المنطقة كان أهمّ إسهام قدّمه لدراسة شبه الجزيرة العربية.

وبعد هذه الرحلة، خفّف بورتون تنقّلاته، وتفرّغ لنشاطات أدبية عدّة، فأكمل عام 1886 م أكبر مهمّة نذر نفسه لها وهي ترجمته الانكليزية لكتاب «ألف ليلة وليلة» التي وصلت إلى 16 مجلّداً، بما فيها الملاحظات والهوامش المطوّلة (1)، وقد صدرت في العام نفسه الذي حصل فيه على لقب سير. كما اهتمّ بنشر كتبه وإعادة طبع بعضها. وإضافة إلى ما تمّت الإشارة إليه في ثنايا البحث من كتبه، هناك عدّة مؤلّفات له كتبها كلّها بالانكليزية ونشرت وهو حيّ؛ وأهمّها: سوريا غير المكتشفة، زنجبار، مناطق البحيرات في أواسط أفريقيا، وكان قد حاول مع غيره ترجمة القرآن بالسجع الشعري (2).

وفي تشرين الأوّل (اكتوبر) 1890 م، توفي السير ريتشارد بورتون في تريستا، وهو في التاسعة والستّين من عمره، ودفن في لندن، وقد شيّدت له زوجته ضريحاً فريداً اتّخذ شكل خيمة عربية (3)، كما وضعت كتاباً عن حياته.

العدد القادم

الهوامش:


1- 1 صحيفة الحياة: 4/ 5/ 1992، وللمزيد حول ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة تُراجع «دائرة المعارف الإسلامية» بقلم نخبة من المستشرقين، ترجمة أحمد الشنتناوي وآخرين، دار المعرفة، بيروت د. ت، المجلّد الثاني، ص: 534، حيث يذهب كاتب المادّة مكدونالد إلى أنّ بورتون اعتمد كثيراً على ترجمة «پاين» بل نقل منها نقلًا حرفيّاً في كثير من الأحيان.
2- 2 يراجع الاعلام للزركلي 3: 38، والمستشرقون للعقيقي 2: 60.
3- 3 صحيفة الحياة؛ مرجع سابق، وقد وقع د. حلمي خضر ساري في اشتباه، حين ذكر وفاته في القاهرة. رغم اعتماده منهجاً علمياً صارماً. وجلّ مَنْ لا يُخطئ!

ص: 262

شخصيّات من الحرمين الشريفين (11)

ابو ايّوب الأنصاري

أبو أيّوب الأنصاري

رجال صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه

حسن الحاج

تلك هي مدرسة مباركة، أصلُها ثابت وفرعُها في السماء لا يضرّها من كبا، ولا يعكر صفوها من ولى وجهه بعيداً عنها.. وكيف يكدر مسيرتها من شطط، ويضعف كيانها من جفا، وها هو رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائم عليها، يؤسس بنيانها على تقوى من اللَّه ورضوان، يمدّها بعطائه الذي لا ينضب، وبخلقه الذي لا يحد ولا يتوقف، وبعلمه الذي لا يبور..؟!

فكان منهم الصادقون حقّاً، وكان منهم الصالحون، وكان منهم الشهداء...

وهكذا ظلّت شجرتها خضراء مورقة معطاء بفضل دمائهم وجهودهم ومواقفهم ...

رغم ما تعرّضت له من كيد وتآمر، وما توغّل في صفوفها من نفاق، وما حيك حولها من اتهامات وأثير عليها من شبهات..

فالصحابة والصحبة مدرسة قلّ نظريها وفقد شبيهها في التاريخ، إنّهم طليعة آمنوا بربّهم فزادهم اللَّه هدًى؛ لهذا لا تجد مثيلًا لهم في حياتنا قديماً وحديثاً إلّامن رحم ربّي، نخبة صالحة تفرّدت بصفاتٍ وخصائص.. راحت تتمّناها الأجيال المؤمنة وتتحلّى بها وهي تكدح متمنّية رضوان اللَّه وجنانه..

ص: 263

إنّ من يقرأ حياتهم مهاجرين وأنصاراً يضع يده على مزايا عالية وأخلاق رفيعة ومناقب راقية وبسالة وجهاد، تحلى بكلّ هذا وبغيره من قيم السماء جمعٌ كثير منهم، حتّى إنك تجد وكأنّ بعضاً منهم اصطفته السماء واصطنعته يدُ الغيب لمهامٍ رساليّة، وليبقى نموذجاً فذّاً، ومثالًا يتحذّى ، وحجّةً على غيره ممّن عاصروه والذي جاؤوا من بعدهم،.. والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم.

لقد حظيت هذه الشريحة من الصحابة بنصيبٍ وافرٍ من رعاية الرسول الكريم صلى الله عليه و آله واهتمامه وهديه وتربيته وتعليمه، فراحت تستوعب كلّ ذلك بوعي ورغبة، وتمثّلت ما اكتسبته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أسلوباً عملياً ومواقف صلبة- لم تهن ولم تنكل ولم تنقلب ولم تغيّر ولم تبدّل ولم تحد عن منهجه ولم تتجاوز خطاه، ظلّت مستقيمة على مبادئها وفيّه لقيمها، حتّى غدت أمّةً رساليّة فحملت أعباءً عظيمة ومخاطر جسيمة..

والأنصار هؤلاء الذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقّاً يحبّون من هاجر إليهم.

وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار». وهذا الصحابيّ الجليل واحد منهم.

فهو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عمرو بن عوف بن غنم بن مالك بن النجّار بن ثعلبة بن الخزرج، المعروف ب «أبو أيّوب الأنصاري الخزرجي المالكي» من أشراف الأنصار وساداتهم. صحابي جليل آخى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينه وبين مصعب بن عمير.

مضيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بهذا عرف هذا الصحابي الجليل، فقد أكرمه اللَّه تعالى بكرامة أعلت في الدنيا قدره حين اختار بيته من دون البيوت؛ ليحلّ فيه

ص: 264

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين هاجر من مكّة، ورحل صلى الله عليه و آله من قباء إلى المدينة، فبعد أن اقتربت قافلته صلى الله عليه و آله من تخوم هذه البلدة الطيّبة، وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة مهاجراً، وراحت تحييه بدءاً بسعيفات نخلها التي استقبلته بظلالها الوارفة، ومروراً بقلوب أهلها التي راحت هي الاخرى تستقبله بأفضل ما يتلقّى به مقبلٌ، وتطلّعت عيونهم إليه، وفتحت له أفئدتهم... وانتهاءً ببيوتها التي أشرعت أبوابها..

وحسب هذا الأنصاري بذلك فخراً وشرفاً وكرامة...

دعوها إنّها مأمورة!

فقد راح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصوّب ناظريه إلى حيث المكان الذي عيّنته السماء لتبليغ دعوتها وحمل رسالتها إلى الناس كافّة... فشدّ صلى الله عليه و آله رحاله عبر صحراء محرقة ملتهبة ورياح مغبرة تلفح وجهه الشريف... وعبر هضاب صعبة وصخور صمّاء ووديانٍ جافّة... حتّى اقتربت قافلته صلى الله عليه و آله من تخوم يثرب... إنّها معاناة شاقّة وتعب مرير..

علت وجهه المبارك ابتسامة وهو يلمح معالم هذه البلدة الطيّبة.. وسرعان ما ينظر خلفه- حيث مدينته التي ولد ونشأ بين هضابها وجبالها ولصق بها، وتعلّق قلبه بحبّها، يودّعها بدموعٍ منهمرة وفؤادٍ حزين...

هاهي يثرب، وها هو النور قد قدم، وها هي الجموع عند ثنيّات الوداع، وقد أحاطت برسول اللَّه صلى الله عليه و آله من كلّ جانب، يتسابقون للترحيب به، ولخدمته وضيافته. كم هي امنية عظيمة عاشت في نفوسهم جميعاً صغيراً وكبيراً أن يحلّ هذا المهاجر الكريم بين ظهرانيهم؟! ومَن هو صاحب الحظّ الأوفر الذي ادّخرته السماء ليضع رسول الرحمة رحله عنده؟!

راحت أصواتهم تعلو وأهازيجهم تملأ ذلك المكان، وقد فتحت له قلوبهم وتطلّعت له عيونهم... وراح كلّ واحد منهم يُهلك نفسه امنية وحسرة ليتشرّف بضيافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهم يعترضون ناقته، آخذين بزمامها..

ص: 265

نحن بنو سالم،... أقم عندنا في العدد والعدّة والمنعة.. نحن بنو بياضة،...

هلمّ إلينا، إلى العدد والعدّة والمنعة،... نحن بنو ساعدة... نحن بنو الحارث...

نحن بنو النجّار....

اغمرنا بالسعادة يا رسول اللَّه، انزل فدوُرنا لك عامرة، حتّى راحت دموعهم تنهمر توسّلًا به صلى الله عليه و آله، وخوفاً من أن لا يلبّي طلبهم.

لم تفارق محيّاه صلى الله عليه و آله ابتسامة الشكر لهم والثناء عليهم، ولم يزد على قوله لهم:

خلّوا سبيلها، فإنّها مأمورة.. أي الأمر ليس بيدي إنّه بيد السماء، فقد امِرت هذه الناقة بشي ء وهي منقادة إليه، وها هو زمامها مرسلًا.. فخلّوا سبيلها، وما زالت عيونهم تلاحقها وقلوبهم تحفّ بها..

رمق صلى الله عليه و آله السماء بطرفه «اللّهم خِر لي، واختر لي».

كان أبو أيّوب الأنصاري أحدهم وقد ابتلّت لحيته بدموع الأمل والفرح..

وراحت نفسه تتوق إلى أن تكون صاحبة تلك الضيافة وتلك الحظوة، حقّاً لا ينالها إلّاذو حظٍّ عظيم.

لقد بركت الناقة في أرضه.. لكنّها نهضت ثمّ عادت ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله يرخي لها زمامها، لا يثنيها به.. وبركت بجوار بيته واستقرّت... فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عنها وقد ملئت أسارير وجهه بشراً وسروراً..

وخطى نحوه صاحب الحظّ الأوفر والسعادة العظمى ، أبو أيّوب وقد علا وجهه الفرح والغبطة.. إنّه الرحل إذن أحمله وراح يحمل رحله وكأنّه يحمل كنوز الدنيا وما فيها، واتجه به إلى بيته، وسمع رسول اللَّه يقول للناس وهم يدعونه إلى منازله... «المرء مع رحله» فراحت العيون تغبط أبا أيّوب على هذا النصيب الوافر والحظّ الوافي..

مع رواية الطبري:

إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ركب ناقته وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمرّ بدار من دور

ص: 266

الأنصار إلّادعاه أهلها إلى النزول عندهم، وقالوا له: هلمّ يا رسول اللَّه إلى العدد والعدّة والمنعة، فيقول لهم صلى الله عليه و آله: «خلوا زمامها فإنّها مأمورة» حتّى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يؤمئذ مربدٌ لغلامين يتيمين من بني النجار في حجر معاذ بن عفراء، يقال لأحدهما سهل وللآخر سهيل ابنا عمرو ابن عباد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، فلمّا بركت لم ينزل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثمّ وثبت فسارت غير بعيد، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله واضع لها زمامها لا يَثنيها به، ثمّ التفتت خلفها، ثمّ رجعت إلى مبركها أوّل مرّة، فبركت فيه ووضعت جرانها، ونزل عنها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فاحتمل أبوأيّوب رحله، فوضعه في بيته، فدعته الأنصار إلى النزول عليهم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: المرءُ مع رحله. فنزل على أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب في بني غنم بن النجار... وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن المربد لمن هو؟ فأخبره معاذ بن عفراء، وقال: هو ليتيمين لي، سأُرضيهما.

فأمر به رسول اللَّه أن يبنى مسجداً، ونزل على أبي أيوب، حتّى بنى مسجده ومساكنه. وقيل: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اشترى موضع مسجده ثمّ بناه.

وقد أعقب هذه الرواية بما قاله أنس بن مالك: كان موضع مسجد النبي صلى الله عليه و آله لبني النجار، وكان فيه نخل وحرث وقبور من قبور الجاهليّة، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: ثامنوني به، فقالوا: لا نبتغي به ثمناً إلّاما عند اللَّه.

فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالنخل فقطع، وبالحرث فأفسد، وبالقبور فنبشت...

وتولّى بناء مسجده صلى الله عليه و آله هو بنفسه وأصحابه من المهاجرين والأنصار (1).

فقد شاءت السماء أن يكون جوار مبرك هذه الناقة مسجداً عظيماً، ثاني الحرمين الآمنين بعد مكّة المباركة، ومدرسة للقرآن وعلومه، وموضعاً يحكم فيه بين العباد وترسم فيه مناهج السياسة وخطط الحرب.. إنّه بقعة مباركة طالما كانت مكاناً آمناً وملتقىً عظيماً تهفو إليه قلوب المؤمنين، يتحلقون حول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يبلغهم ما توحيه السماء من آيات مباركة وأحكام تنظيم حياتهم، ويملأ قلوبهم إيماناً


1- 1 السيرة النبويّة لابن هشام 2: 494- 496 تاريخ الطبري 2: 8 السنة الهجرية.

ص: 267

ويثبت أقدامهم... ويلبّي حوائجهم ويجيب عن أسئلتهم ويقضي بينهم حتّى غدا هذا المكان من المقدّسات الكبرى يؤمّه الملايين من المسلمين والمؤمنين، يأتونه من كلّ بقاع الدنيا ترفع فيه الدعوات ويُبتهل فيه إلى العليّ القدير.. وتذكرهم أجواؤه بتلك الوجوه الطاهرة أنصاراً ومهاجرين وهم يضعون أسسه ويرفعون بناءَه.

وأن يكون ضريحاً يضمّ الجسد الطاهر لخاتم النبيّين، وأن ترد في فضله الروايات والأحاديث لتبيّن فضله وعلوّ مكانه..

لقد كان بيت الصحابي الجليل أبي أيّوب الأنصاري الذي مكث فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله شهراً قبل ابتنائه المسجد مؤلّفاً من طبقتين؛ طبقة سفلى فوقه عُلِّية، آثر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن ينزل الطبقة السفلى منه ليبقى الآخر لأبي أيّوب وأهله.

لمّا حلّ الليل، وقد آوى نبيّ الرحمة إلى فراشه، صعد أبو أيّوب وزوجته إلى حيث فراشهما في الطبقة الثانية، فانتبه أبو أيّوب إلى عمله واستنكر فعلته قائلًا لزوجته:

ويحك، ماذا صنعنا؟!

أيكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أسفل، ونحن أعلى منه؟!

أنحشي فوق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟!

أنصير بين النبيّ والوحي؟! إنّا إذن لهالكون، ولم تسكن نفساهما بعض السكون إلّاحين انحازا إلى جانب العلية الذي لا يقع فوق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله! والتزماه لا يبرحانه ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط.

فلمّا أصبح أبو أيّوب قال للنبي صلى الله عليه و آله: واللَّه ما أغمض لنا جفنٌ في هذه الليلة لا أنا ولا امّ أيّوب.

فقال عليه الصلاة والسلام:

وممَّ ذاك يا أبا أيّوب؟!

ص: 268

قال: ذكرتُ أنّي على ظهر بيت أنت تحته، وأنّي إذا تحرّكت تناثر عليك الغبار فآذاك، ثمّ إنّي غدوت بينك وبين الوحي.

فقال له الرسول صلى الله عليه و آله:

هوِّن عليك يا أبا أيّوب، إنّه أرفق بنا أن نكون في السُّفل، لكثرة من يغشانا من الناس.

قال أبو أيّوب:

فامتثلت لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرّةٌ وأُريق ماؤها في العُلِّيّة، فقمتُ إلى الماء أنا وامّ أيّوب، وليس لدينا إلّاقطيفة كنّا نتّخذها لحافاً، وجعلنا ننشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فلمّا كان الصباح غدوت على الرسول صلوات اللَّه عليه وقلت: بأبي أنت وامّي، إنّي أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل منّي، ثمّ قصصت عليه خبر الجرّة، فاستجاب لي، وصعد إلى العُلِّية، ونزلت أنا وامّ أيّوب إلى السُّفل.

إنّه لقاء عظيم مبارك لأبي أيّوب برسول الرحمة وهو اللقاء الثاني، بعد أن كان واحداً من ثلاثة وسبعين رجلًا وكانت معهم امرأتان وهم الذين بايعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيعة العقبة الثانية فقد قويت بهم شوكة الإسلام والمسلمين، وكانوا بها للمهاجرين إخواناً، وداراً يأوون إليها ويأمنون بها، وكانت هذه المصافحة الثانية ليد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، الاولى كان فيها مبايعاً مؤمناً، والثانية مبايعاً مضيّفاً.

من رواياته

قال: قلتُ يارسول اللَّه، ما هذه الأربع ركعات التي تصلّيها عند الزوال؟

قال: «هذه الساعة تفتح فيها أبواب السماء فلا ترتج حتّى تصلّي الظهر، فأحبّ أن أقدّم خيراً» (1).

وعنه أيضاً أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: قل هو اللَّه أحد تعدل ثلث القرآن (2).

وله أيضاً أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا تهاجروا ولا تدابروا وكونوا عباد اللَّه


1- 1 حلية الأولياء 10: 218.
2- 2 حلية الأولياء 7: 734.

ص: 269

إخواناً، هجرة المؤمن ثلاث، فإن تكلّما وإلّا أعرض اللَّه عنهما حتّى يتكلّما» (1).

وعنه أيضاً أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ليلته بثلث القرآن؟».

فأشفقنا أن يأمرنا بأمر نعجز عنه، قال: فسكتنا. فقال ثلاث مرّات: «أن يقرأ بثلث القرآن فإنّه من قرأ اللَّه الواحد الصمد، فقد قرأ ليلته ثلث القرآن» (2).

وممّا رواه أنّ رجلًا جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: دلّني على عمل أعمله يدنيني من الجنّة ويباعدني من النار، قال صلى الله عليه و آله: «تعبد اللَّه لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصِل ذا رحمك».

قال: فأدبر الرجل.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إن تمسّك بما أمر به دخل الجنّة» (3).

وله أيضاً: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من أخلص للَّه تعالى أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة على لسانه» (4).

ومن حكمه:

من أراد أن يكثر علمه وأن يعظم حلمه، فليجالس غير عشيرته.

مكانته

كان أبوأيوب من الواعين للحالة التي انتابت المجتمع الإسلامي أيام الخلافة الثالثة، وما دبّ في هذه الأمّة من فساد وانحراف فبادر هو وجمع من الصحابة لعليّ عليه السلام قائلين له: إنّ هذا الأمر قد فسد، وقد رأيت ما صنع عثمان، وما أتاه من خلاف الكتاب والسنّة، فأبسط يدك نبايعك، تصلح من أمر الأمّة ما قد فسد.

ولمّا وقع حصار بيت عثمان من قبل الثوّار الذين راحوا يحيطون ببيته من كلّ جانب، بعد أن يئسوا من تلبية الخليفة لمطالبهم التي وعدهم بها مراراً ولم يفِ، فلم يقصدغيره لإمامة صلاة الجماعة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فجاء مؤذِّن المسجد يومذاك سعد القَرظ إلى الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في ذلك اليوم، فقال: مَنْ


1- 1 حلية الأولياء 7: 95.
2- 2 حلية الأولياء 1: 117.
3- 3 حلية الأولياء 4: 374.
4- 4 حلية الأولياء 5: 189.

ص: 270

يصلّي بالناس؟

فقال عليّ عليه السلام: نادِ خالد بن زيد.

فنادى خالد بن زيد، فصلّى بالناس.

وهنا يقول الطبري في تاريخه: فإنّه لأوّل يوم عرف أنّ أبا أيّوب خالد بن زيد.

فكان يصلّي بهم أيّاماً، ثمّ صلّى عليّ عليه السلام بعد ذلك بالناس (1).

وشبيه بهذا ما حدّث به عبداللَّه بن نافع عن أبيه عن ابن عمر، قال: لمّا حُصر عثمان صلّى بالناس أبو أيّوب أيّاماً، ثمّ صلّى بهم عليّ الجمعة والعيد (2).

وهذا الأمر يدلّنا على أنّ لأبي أيّوب مكانةً مرموقةً في قلوب الناس، وله منزلة رفيعة عند الإمام عليّ عليه السلام فاختاره دون الآخرين ليؤمّ المسلمين.

وكان ابن عبّاس يجلّه كثيراً ويحفظ له موقفه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقد قدِم أبو أيّوب البصرة فنزل على ابن عبّاس وكان الأخير والياً عليها، ففرغ له بيته، وقال له: لأصنعنّ بك كما صنعت برسول اللَّه صلى الله عليه و آله. ثمّ قال له: كم عليك من الدين؟

قال: عشرون ألفاً.

فأعطاه أربعين ألفاً وعشرين مملوكاً، ثمّ قال له:

لك ما في البيت كلّه.

موقفه من معاوية

بعد معارك الإسلام الكبرى شارك أبو أيّوب الأنصاري في معارك اخرى خاضها الإمام علي عليه السلام ومنها معركة صفّين، فقد كان إلى جوار الإمام علي عليه السلام ضدّ معاوية وجنده.

سُئل أبو أيّوب يوماً: يا أبا أيّوب قد أكرمك اللَّه بصحبة نبيّه صلى الله عليه و آله ونزوله عليك، فما لي أراك تستقبل الناس تقاتلهم، تستقبل هؤلاء مرّةً وهؤلاء مرّةً؟


1- 1 تاريخ الطبري 2: 694.
2- 2 تاريخ الطبري 2: 694.

ص: 271

فقال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ الناكثين، فقد قاتلناهم، وعهد إلينا أن نقاتل مع عليّ القاسطين، فهذا وجهنا إليهم، يعني معاوية وأصحابه، وعهد إلينا أن نقاتل مع عليٍّ المارقين، فلم أرهم بعدُ (1).

وحينما أراد الإمام عليه السلام الرجعة إلى صفّين لحرب معاوية ثانيةً، كان أبو أيّوب قائداً من قيادات الجيش، فقد عقد الإمام عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيّوب في عشرة آلاف، ولغيرهم على أعداد اخرى، وهو ينادي بأعلى صوته:

الجهاد الجهاد عباد اللَّه! ألا وإنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرواح إلى اللَّه فليخرج!

إلّا أنّ الغدر المتمثِّل بضربة ابن ملجم قد حال بينه وبين مراده، وكما يقول أحد أصحابه بعد استشهاده عليه السلام:... فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان (2).

ولمّا وجد معاوية أنّ أبا أيّوب الأنصاري أشدّ الأنصار عليه وأنّ له دوراً مهمّاً ومكانة رفيعة عند عليّ عليه السلام، راح يراسله فلعلّه يستميله بعض الشي ء، ولا أقلّ يزرع الشكّ في موالاته للإمام عليّ عليه السلام وفي تشويه مواقفه، فكتب إليه كتاباً وكان سطراً واحداً:

عن الأعمش وهو أحد أعلام كتاب صفّين أنّه قال:

كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، صاحب منزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان سعيداً معظماً من سادات الأنصار، وكان من شيعة علي عليه السلام، كتاباً،... قال فيه: لا تنسى شيباءُ أبا عذرتها، ولا قاتل بكرها، أو أمّا بعد، فإنّي ناسيتك ما لاتنسى الشيباء.

فلمّا قرأ أبو أيّوب كتابه المختصر هذا، لم يدرِ ما هو، فأتى به عليّاً عليه السلام، وقال:

يا أمير المؤمنين، إنّ معاوية ابن آكلة الأكباد، وكهف المنافقين، كتب إليَّ بكتابٍ


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 7: 340.
2- 2 انظر نهج البلاغة لصبحي الصالح: 264.

ص: 272

لا أدري ما هو، فقال له عليّ: وأين الكتاب؟ فدفعه إليه فقرأه وقال: نعم، هذا مثلٌ ضربه لك، يقول: ما أنس الذي لا تنسى الشيباءُ، لا تنسى أبا عذرتها، والشيباء:

المرأة البكر ليلة افتضاضها، ولا تنسى بعلها الذي افترعها أبداً، ولا تنسى قاتل بكرها وهو أوّل ولدها أو لا تنسى ثكل ابنها، وكذلك لا أنسى أنا قاتل عثمان (1).

فكتب إليه أبو أيّوب: إنّه لا تنسى الشيباء ثكل ولدها، وضربتها مثلًا لقتل عثمان، فما نحن وقتلة عثمان؟ إنّ الذي تربّص بعثمان، وثبّط أهل الشام عن نصرته لأنت، وإنّ الذين قتلوه غير الأنصار، والسلام.

دوره في فتنة الخوارج

وكان لأبي أيّوب الأنصاري دوره المتميِّز في الحوار مع الخوارج وإقناع شريحة واسعة منهم بأن يعتزلوا الحرب قبل وقوعها أو تحييد جمع منهم وإبعادهم عن قتال مرير أطاح بمن لم يزده نداء الخير والحقّ إلّاعناداً ونفوراً، فقد خرج إليهم الإمام عليّ عليه السلام وقد عبّأ الناس لقتالهم بعد أن سفكوا الدم الحرام، فجعل على ميمنة جيشه حُجر بن عدي وعلى ميسرته شبث بن ربعي، وعلى رواية معقل بن قيس الرياحي، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة وهم سبعمائة أو ثمانمائة رجل، قيس بن سعد بن عُبادة الأنصاري. فيما راح الصحابي الجليل أبو أيّوب الأنصاري يقف على الخيّالة... (2).

وعبّأت الخوارج مقاتليها، فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزة بن سنان الأسدي، وعلى الرجّالة حُرقوص بن زهير السعدي.

بعد هذا الحشد الكبير للفريقين، واستعدادهم للقتال، وبعد نداءات ومواعظ الإمام علي عليه السلام المتكرِّرة، رفع الإمام عليه السلام أخيراً راية أمانٍ وكان إلى جواره أبو أيّوب الأنصاري، الذي راح يناديهم بأعلى صوته- بعد أن أذن له الإمام عليه السلام- قائلًا: مَنْ جاء هذه الراية منكم ممّن لم يقتل ولم يستعرض فهو آمن، ومن انصرف


1- 1 وقعة صفّين: 366، والإمامة والسياسة: 169- 170.
2- 2 الطبري، وانظر الإمامة والسياسة 1: 169.

ص: 273

منكم إلى الكوفة أو إلى المدائن، وخرج من هذه الجماعة فهو آمن؛ إنّه لا حاجة لنا بعد أن نصيب قَتلة إخواننا منكم في سفك دمائكم.

وعلى إثر خطابه رضوان اللَّه عليه، قال فروة بن نوفل الأشجعي وهو من كبار الخوارج: واللَّه ما أدري على أيّ شي ء نقاتل عليّاً! لا أرى إلّاأن أنصرف حتّى تنفذ لي بصيرتي في قتاله أو اتّباعه. وانصرف في خمسمائة فارس حتّى نزل البندنيجين والدسكرة.

وخرجت طائفة اخرى متفرّقين فنزلت الكوفة، وخرج إلى عليّ منهم نحو من مائة. وبقي منهم ألفان وثمانمائة خرجوا زاحفين على جيش الإمام علي عليه السلام بقيادة صاحبهم عبداللَّه بن وهب.. فاستقبلت المرامية وجوههم بالنبل وعطفت عليهم الخيّالة بقيادة أبي أيّوب الأنصاري من الميمنة والميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فواللَّه ما لبثوهم أن أناموهم.. (1).

ولمّا أراد الإمام علي عليه السلام الانصراف من معركة النهروان والتي انتهت بانتصار عظيم له وهزيمة ساحقة للخوارج، وقف خطيباً مرّتين، وممّا قاله في خطبته الاولى، بعد أن حمد اللَّه تعالى:

أمّا بعد، فإنّ اللَّه قد أحسن بلاءكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى معاوية وأشياعه القاسطين، الذين نبذوا كتاب اللَّه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلًا، فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.

فكان جوابهم أن قالوا: يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا، وكلّت أذرعنا، وتقطّعت سيوفنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فارجع بنا نحسن عدّتنا...

إلّا أنّهم ما إن أقبل بهم الإمام ونزل بهم معسكر النخيلة حتّى راحوا يتسلّلون ويدخلون الكوفة حتّى تركوا عليّاً وما معه إلّانفرٌ يسير..

ثمّ ارتقى المنبر ثانيةً واستحثّهم واستنهضهم مرّة اخرى لقتال عدوّهم معاوية، فقال بعد حمد اللَّه تعالى والثناء عليه:


1- 1 تاريخ الطبري 3: 121- 122.

ص: 274

أيّها الناس، استعدّوا للمسير إلى عدوّ في جهاده القربة إلى اللَّه، ودرك الوسيلة عنده، فأعدّوا ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل، وتوكّلوا على اللَّه وكفى به وكيلًا.

ولم يجد فيهم العزم على ذلك، فقال لهم: عباد اللَّه، ما لكم إذا أمرتكم أن تنفروا في سبيل اللَّه اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة (1)

، وبعدما انتهى الإمام من خطبته، قام أبو أيّوب الأنصاري خطيباً فقال:

إنّ أمير المؤمنين أكرمه اللَّه قد أسمع من كانت له أذُن واعية، وقلب حفيظ، إنّ اللَّه قد أكرمكم به كرامة ما قبلتموها حقّ قبولها، حيث نزل بين أظهركم ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وخير المسلمين وأفضلهم وسيّدهم بعده، يفقهكم في الدين، ويدعوكم إلى جهاد المحلّين، فواللَّه لكأنّكم صمٌّ لا تسمعون، وقلوبكم غلف مطبوع عليها فلا تستجيبون.

عباد اللَّه، أليس إنّما عهدكم بالجور والعدوان أمس، وقد شمل العباد، وشاع في الإسلام، فذو حقٍّ محروم، ومشتوم عرضه، ومضروب ظهره، وملطوم وجهه، وموطوء بطنه، وملقى بالعراء، فلمّا جاءكم أمير المؤمنين صدع بالحقّ، ونشر بالعدل، وعمل بالكتاب، فاشكروا نعمة اللَّه عليكم، ولا تتولّوا مجرمين، ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، اشحذوا السيوف، وجدّدوا آلة الحرب، واستعدّوا للجهاد، فإذا دُعيتم فأجيبوا، وإذا امرتم فأطيعوا، تكونوا بذلك من الصادقين (2).

مواقف اخرى

كان هذا الصحابي مؤمناً تقياً مجاهداً واعياً يبحث عن الحقّ ويتحرّاه في كلّ نواحي حياته، في قوله وفعله، ويقف بقوّة مدافعاً عن الحقّ والعدل، فتراه واحداً من شيعة عليّ حينما رأى أنّ عليّاً مع الحقّ والحقّ مع عليّ، مبتغياً رضا اللَّه تعالى الذي نذر له حياته، وفي عبادته تراه ذلك الرجل الذي إن صلّى كانت صلاته صلاة


1- 1 التوبة: 38.
2- 2 الإمامة والسياسة 1: 169- 173.

ص: 275

مودّع، وإن تكلّم فلا يتكلّم بما يضطرّه للاعتذار، وإن تعامل مع إخوانه كان اليأسُ شعاره ممّا في أيديهم، فقد كانت القناعة ديدنه وسلوكه المتميِّز، فهو بين عابد مودّع قتله الشوق لمولاه، وبين عازف إلّامن رحمة اللَّه تعالى، وبين مقاتل ملأت قلبه الرحمة حتّى على أعدائه الذين هم أعداء الدين والحقّ، فتراه يوعظهم ويناديهم بلسان عطوف قبل أن يهزّ رمحه وينتشل سيفه ليجد له موقعه في أعداء اللَّه.

ولا ريب في ذلك وقد راح ينتهل من معِين النبوّة الصافي، ومن صحبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، كان يستمع لنبيّ الرحمة صلى الله عليه و آله ويعي ما يسمع، قال له: «إذا صلّيت فصلِّ صلاة مودّع، ولا تكلّمنَّ بكلام، تعتذر منه.. والزم اليأس ممّا في أيدي الناس».

هذا في عبادته، وأمّا في شجاعته فقد كان شعاره- رضوان اللَّه عليه- انفروا خفافاً وثقالًا فلم يتخلّف عنه، في بدر وأحُد والخندق، وفي كلّ المعارك والمشاهد التي خاضها، والتي كان لها دور واضح في معالم حياته، فقد ملأت عليه كلّ وجوده ولم تترك له وقتاً يبعد به عن الأسنّة والرماح، أو يأخذ قسطاً من الراحة بين أحبّته ولمشاغله الخاصّة.

كانت حياته رضوان اللَّه عليه همّاً متواصلًا للإسلام ولدعوته المباركة، يترفّع عن الفتن الصغيرة والمطامع الزائفة، محلّقاً بناظريه إلى حيث الهدف الأعلى الذي يُرضي اللَّه ورسوله.

لقد وهب أبو أيّوب الأنصاري حياته وماله وحشاشة قلبه للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، ولا يهمّه من يكون على رأس قيادة الجيش، وشعاره (ما عليَّ مَن استعمل عليَّ)، ما دام الهدف هو الإسلام ودعوته، فكان مع مكانته العالية لا يريد أن يعيش إلّاجنديّاً تحت راية لا إله إلّااللَّه، وأن يعيش مأموماً لا إماماً؛ لهذا تراه لا يبغي عنواناً بقدر ما يأمل أن ينال الشهادة في سبيله تعالى، وأن يرزقه اللَّه خير الدنيا وخير الآخرة، فراحت بطولاته تتجلّى في كلّ معارك الإسلام

ص: 276

الكبرى التي خاضها جنديّاً مخلصاً وفدائياً متفانياً، وحسبه فخراً أنّه مع شدّة تواضعه نال حظوة تلو اخرى منذ أن آمن وحتّى اثخن بالجراح وهو مقاتل عنيد تحت راية الإسلام، وصدق من قال: ما زال أبو أيّوب شاخصاً في سبيل اللَّه حتّى دفن بأرض الروم.

نعم، كان أبو أيّوب في كلّ معاركه يُلقي بنفسه في لهواتها لا يأبه بعدّة ولا عدد، ويدافع عن كلّ من يسير بسيرته هذه، ويتهالك في الفداء واقتحام حشود أعدائه.

تقول الرواية: كنّا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا جمعاً عظيماً من الروم، وخرج إليهم مثله أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتّى دخل فيهم، فصاح به الناس وقالوا:

سبحان اللَّه، يُلقي بيده إلى التهلكة.

وهنا خشي أبو أيّوب من أن يسري هذا التأويل للآية فيثبّط عزائم قومه وجند الإسلام، فقام وسط الجند وقال:

أيّها الناس إنّكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل، وإنّما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنّا لمّا أعزّ اللَّه الإسلام وكثّر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سرّاً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إنّ أموالنا قد ضاعت، وإنّ اللَّه قد أعزّ الإسلام وكثّر ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل اللَّه عزّوجلّ على نبيّه صلى الله عليه و آله يرد علينا ما قلنا أو ما هممنا به وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إنّ اللَّه يحبّ المحسنين (1)

.

فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها وتركنا الغزو.

ثمّ تقول الرواية:

وما زال أبو أيّوب شاخصاً في سبيل اللَّه حتّى دفن بأرض الروم (2).

في وصية له وهو جندي مقاتل في أرض الروم:

اذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم، ثمّ ادفنوني هناك. (ما عليّ من


1- 1 سورة البقرة: 195.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 7: 341، أسباب النزول للواحدي: 60.

ص: 277

استُعمل عليَّ) شعاره هذا.

كان هذا وهو يرى جموع المسلمين يصوّبون أنظارهم إلى حيث القسطنطينية، وراح يحدّث نفسه: إنّها الشهادة التي طالما حدّثت بها نفسي ولم اوفّق لها.. امتطى جواده، وامتشق سيفه.. وعلاه رمحه.. وراح يصول ويجول مقاتلًا عنيداً يردّد كلمة «لا إله إلّااللَّه محمّد رسول اللَّه» حتّى اثخن بالجراح.

تقدّم أحدهم نحوه وقد وجده يصارع سكرات الموت في ساحة الوغى ، لابدّ أن تكون له حاجة...

هل لك يا أبا أيّوب من حاجة؟

(اذهبوا بجثماني بعيداً بعيداً في أرض الروم ثمّ ادفنوني هناك).

إنّه اليقين بالفتح والنصر، وكأنّه يريد أن يقول: إنّي اريد مواصلة القتال بروحي، واريد أن أُواكب أعلام النصر الخفّاقة وصهيل خيولكم ووقع أقدامكم وصلصلة سيوفكم.. لا اريد أن أكون بعيداً عن أجواء المعركة وغبارها. ولا أريد أن تثنني الجراح عن خوض غمارها حتّى النصر...

في وسط تلك المدينة (القسطنطينية) استنبول في تركيا اليوم، مدينة الألف مسجد المليئة بالأذان الذي يشقّ أُذني أبي أيّوب في كلّ حين.. وهو يردّد:

هذا ما وعدنا اللَّه ورسوله وصدق اللَّه ورسوله.

رقد جثمان ذلك الفارس العنيد الذي كانت الشهادة امنيته منذ أوّل لحظة التقى بها برسول الرحمة، فكان مضيّفه في الدنيا؛ لينزل عند رسول اللَّه في الدار الآخرة ضيفاً عزيزاً كريماً، كما نزل عنده رسول اللَّه ضيفاً عظيماً..

وظلّ هذا الجثمان وهذا المرقد مزاراً حتّى للروم أنفسهم، الذين راحوا يتعاهدون قبره ويرمّمونه ويزورونه ويستسقون به إذا قحِطوا..

كانت وفاته رضوان اللَّه عليه بالقسطنطينية سنة خمس وخمسين، وقيل: في سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمسين، تقول الرواية: لم يزل أبو أيّوب مجاهداً في

ص: 278

سبيل اللَّه حتّى دُفن بالقسطنطينية.

ولمّا توفي دفن مع سور المدينة وبُني عليه، فلمّا أصبحوا أشرف عليهم الروم فقالوا: يا معشر العرب، قد كان لكم الليلة شأن.

فقالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبيّنا صلى الله عليه و آله... وقد أوصى بهذا؛ لئلّا يكون أحد من المجاهدين ومن مات في سبيل اللَّه أقرب إليكم منه.

ولمّا عرف الروم مكانة هذا المجاهد تعهّدوا قبره وبنوا عليه قبّة بيضاء، وأسرجوا عليه قنديلًا، وإذا أمحلوا كشفوا عن قبره فأُمطروا (1).

وكانت وصيّته الأخيرة رضوان اللَّه عليه:

إذا متُّ فاحملوني، فإذا صاففتم العدوّ، فادفنوني عند أقدامكم...

وساحدّثكم حديثاً سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لولا حالي هذه ما حدّثتكموه، سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول:

«من مات لا يشرك باللَّه شيئاً دخل الجنّة».

الهوامش:


1- 1 انظر مختصر تاريخ دمشق 7: 342- 343.

ص: 279

ص: 280

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (10)

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (10)

معجم ما كتب في الحجّ و الزيارة (10)

1617- فائدة عن جبال الحجاز ومنبسط أراضيه

محمّد نصيف

المنهل (جدّة) مج 6: ج 9 (9/ 1365 ه/ 8/ 1946 م) ص 427

1618- فتاوى الحجّ والعمرة

محمّد بن صالح بن عثيمين

مكّة المكرّمة: دار ابن القيم، ط 2، 1990 م، 83 ص، 24 سم

1619- الفتح المبين في جواز الدعاء وإهداء ثواب الأعمال لسيّد المرسلين

محمّد بن حسن بن همان الدمشقي الحنفي ت 1175 ه

ظ

إيضاح المكنون 2/ 171

1620- فتح المسالك في إيضاح المناسك

محمّد أمين بن فتح اللَّه الكردي الأربلي

القاهرة: د ت.

1621- فتح مكّة

خ: الجامع الكبير بصنعاء برقم 2167 في 291 ورقة

1622- فتح مكّة

أحمد بن عبداللَّه بن محمّد البكري

ص: 281

القاهرة: 1278 ه/ 1861 م.

ظ:

مصادر التراث العسكري عند العرب

3/ 167

1623- فتح مكّة

حسين أمين

البلاغ (بغداد): ع (12/ 1967 م)

ص 92- 94

1624- فتح مكّة (بالفارسية)

خليل بن أبو طالب صميري كمره اي

طهران: محمّد رضا تناوش،

74 ص، 12* 18 سم

قم: 72 ص

1625- فتح مكّة

سمير عبد الرزاق قطب

بيروت: دار التوفيق (السلسلة الإسلامية)

1626- فتح مكّة

(مسرحية)

عبد الجبّار شوكة البخار

بغداد: المطبعة العربية، 1954 م

1627- فتح مكّة

عبد الحميد جودة السحّار

منبر الإسلام. س 24: ع 3 (1966 م)

ص 274- 279

1628- فتح مكّة

عبد السلام محمود الشافعي

بيروت: المكتبة العصرية، د. ت، 94 ص

1629- فتح مكّة

(قصيدة)

عبد الغني أحمد ناجي

منبر الإسلام س 49: ع 9 (رمضان 1411 ه مارس 1991 م)

ص 44

1630- فتح مكّة

عبد المنعم شميس

القاهرة: الدار القومية، 1962 م،

62 ص، 20 سم

1631- فتح مكّة

عبد الوهاب آشي

المنهل (جدّة) مج 15: ج 9 (11/ 1374 ه/

ص: 282

6- 7/ 1955 م) ص 360- 361

1632- فتح مكّة

علي شعيب

المعارج (بيروت) مج 1: ع 3، 4 (8، 9/ 1411 ه- 3، 4/ 1991 م)

ص 199- 203

1633- فتح مكّة

محمّد أحمد باشميل

بيروت: دار الفكر، 1972 م،

398 ص (من معارك الإسلام الكبرى، 8)

1634- فتح مكّة

محمّد محمّد حسين.

1635- فتح مكّة: دراسة حديثيّة

محسن أحمد الدوم

المدينة المنوّرة: الجامعة الإسلامية،

1400 ه (رسالة ماجستير).

عالم الكتب (الرياض) مج 2: ع 2

(8/ 1981 م)، ص 240

1636- فتح مكّة

شوقي أبو خليل

دمشق: دار الفكر، ط 1، 1983 م، 168 ص.

1637- فتح مكّة: نبردهاى بزرگ مسلمانان

(بالفارسية)

حسن باهنرى

پيام انقلاب س 14: ع 315 (15 دى 1372 ش)

ص 28- 31

1638- فتح مكّة وأثره في حياة الرسول صلى الله عليه و آله

صفاء الدين محمّد محمّد

الفيصل س 14: ع 159 (4/ 1990) ص 47- 50

1639- فتح مكّة والعوامل التي ساعدت عليه

أحمد شلبي

القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،

1981 م، 44 ص.

1640- فتح مكّة ومكارم الأخلاق

رؤوف شلبي

الأزهر س 61: ع 9 (4/ 1989)

ص 992- 997، ع 10 (5/ 1989)

ص 1104- 1109

ص: 283

1641- فقرة مجهولة في تاريخ طيبة الطيّبة

حمد الجاسر

مجموعة مقالات متسلسلة في المجلّة العربية 1415- 1416 ه

1642- فتنة قرامطه در مكّه

(بالفارسية)

يعقوب جعفري

ميقات حج س 2: ع 5 (بائيز 1372 ش)

ص 71- 87.

1643- فتوح الحرمين

عبداللَّه بن الحسين الأزرنجاني الرومي.

خ:

خزانة آياصوفية بجزأين

ظ:

المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 206

1644- فتوح الحرمين

(منظوم، موضوع، بالفارسية)

محمّد يوسف حسينى بلگرامى

ظ:

مرآت العلوم 3/ 93،

فهرستواره فنروى 1/ 145

1645- فتوح الحرمين

(رحلة منظومة)

محيى لارى (ق 10 ه)

قم: 1373

1646- فتوى بجواز الإحرام من جدّة لمن يحجّ بطريق الجوّ

عبداللَّه كنون

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 119- 120

(1398 ه) ص 88- 91

1647- الفتوحات الكوازية في السياحة إلى الأراضي الحجازيّة

عبداللَّه باش أعيان

العراق: 1809 م.

1648- فذلكة المناسك

(بالفارسية)

كريم خان الكرماني

خ: ميرزا محمود كلباسى.

1649- فرحة الزائر وبهجة الخواطر

أحمد بن أبي القاسم علي بن طاووس

ص: 284

ظ:

الذريعة 16/ 158، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت صلوات اللَّه عليهم 10/ 23

1650- فرحة العيد وسنة الأضحية

محمّد صابر البريسي

الأزهر (القاهرة) س 60: ع 12 (7/ 1988 م)

ص 1565- 1588.

1651- فرهنگ آثار تاريخي مكه

(بالفارسية)

عاتق بن غيث بلادي، وحسن إسلامي

ميقات حج: ع 13 (پائيز 1374 ش)

ص 150- 160.

ع 15 (بهار 1375 ش، ص 91- 110.

1652- فرهنگ دانستنى هاى پيش از سفرخانه خدا

(بالفارسية)

مهدي ملتجي

طهران: أشرفي، 1363 ش، 327 ص.

1653- فرهنگ نامه حج وعمره

(بالفارسية)

طهران: كوكب.

1654- فرهنگ نامه حج وعمره واماكن مربوطه

(بالفارسية)

مهريزى

قم: در راه حق، ط 2،

1367 ش، 464 ص، 21 سم.

1655- فريد عقد اللآل في التوسل بالنبي والآل

محمود قبادو التونسي ت 1288 ه

تونس: 1288 ه، 17 ص.

1656- فريضة الحج

عبد الرزاق نوفل

بيروت: دار الكتاب العربي.

1657- فريضه حج: نسخه الهى

(بالفارسية)

إبراهيم وحيدى

طهران: انتشارات حرفه اول، 1371 ش، 60 ص

1658- فصل من الرحلة الحجازية

محمّد السنوسي

ص: 285

حوليات الجامعة التونسية: ع 7 (1970 م)

ص 79- 111 (علي الشنوفي).

1659- فصول من تاريخ المدينة المنوّرة

علي عبد القادر حافظ

ت 1408 ه

المدينة المنوّرة: 1388 ه.

جدّة: شركةالمدينة للطباعة والنشر، ط 2، 1405 ه، 408 ص، 24 سم.

1660- الفصول المهمّة في مشروعية زيارة النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة

مهدي صحين بن علي الساعدي،

فرغ منه سنة 1356 ه

ظ:

الذريعة 16/ 246.

1661- فضائل الأنصار

أبو البختري بن وهب ت 200 ه

ظ:

فهرست النديم 113، العرب.

س 31: ج 7، 8 (1، 2/ 1417 ه/ 6، 7/ 1996 م) ص 453.

1662- فضائل بني هاشم

علي بن معروف البزاز

3 أجزاء

ظ: صلة الخلف بموصول السلف

315.

1663- فضائل تمر المدينة وترابها

جمال الدين بن حمزة العمري

ظ: المدينة المنوّرة في التاريخ 209،

العرب. س 31: ج 827 (1، 2/ 1417 ه

6، 7/ 1996 م) ص 454.

1664- كتاب فضائل الحج

عبيداللَّه بن أحمد بن نهيك النخعي

رجال النجاشي ظ: 232، الذريعة 16/ 257.

1665- كتاب فضائل الحجّ

محمّد بن أبي عُمير الأزدي ت 217 ه

ظ: رجال النجاشي 327.

1666- كتاب فضائل الحجّ

معاوية بن وهب البجلي

ظ: رجال النجاشي 412،

الذريعة 16/ 257.

ص: 286

1667- فضائل الحرمين الشريفين

محمّد بن عبد السلام بناني ت 1163 ه

ظ: فهرس الفهارس والإثبات 225.

1668- فضائل قريش

قاسم بن أصبغ الأندلسي ت 430 ه

ظ: معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 47.

1669- فضائل قريش والأنصار

محمّد بن إدريس الشافعي

ظ: معجم الادباء 17/ 326.

1670- فضائل المدينة

ابن الجوزي ت 597 ه

ظ: العرب، س 31: ج 827 (1، 2/ 1417 ه/ 6، 7/ 1996 م) ص 454.

1671- فضائل المدينة

أحمد بن محمّد القشتاشي

خ: الخزانة الملكية بالرباط برقم 1224.

ظ: معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 96.

1672- فضائل المدينة

القاسم بن علي بن عساكر ت 600 ه

ظ: طبقات الشافعيّة للسبكي 8/ 352،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 96.

1673- فضائل المدينة

المفضل بن محمّد بن إبراهيم الجندي اليمني المكّي ت 308 ه.

تحقيق: محمّد مطيع الحافظ، وغزوة بدير

دمشق: دار الفكر، 1985 م،

72 ص.

دمشق: دار الفكر، 1987 م، 72 ص.

ميقات حج. س 2: ع 5 (پائيز 1372 ش) ص 149- 168

(أصغر قائدان).

1674- فضائل المدينة المنوّرة

خليل إبراهيم

جدّة: دار القبلة للثقافة

الإسلامية- بيروت:

ص: 287

مؤسسة علوم القرآن، 1413 ه، 3 مج.

1675- فضائل المدينة المنوّرة

محمّد بن يوسف الصالحي الشامي

حقّقه: محيي الدين مستو

دمشق: دار الكلم الطيّب، 1990، 160 ص.

1676- فضائل مكّة

(ترجمة فارسية لرسالة الحسن البصري)

خ: سپهسالار برقم 7522.

ظ: الذريعة 16/ 264،

فهرس مشترك باكستان 10/ 43.

1677- فضائل مكّة

أبو بكر عبداللَّه بن الزبير القرشي الحميدي، صاحب الشافعي ت 219 ه

ظ: المنهل (جدّة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)

ص 194.

1678- فضائل مكّة

عبد الغني عبد الواحد المقدسي (ابن سرور)

ظ: المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 206

1679- فضائل مكّة

محمّد بن علي بن علان المكّي

الصديقي (ت 1057)

ظ: المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 206.

1680- فضائل مكّة

ابن اللباد محمّد بن محمّد بن وشاح اللخمي ولاء

(250- 333 ه)

ظ: تراجم المؤلّفين التونسيّين 4/ 200.

1681- فضائل مكّة

المفضّل بن محمّد بن إبراهيم الجندي الشعبي ت 308 ه

ظ: صلة الخلف بموصول السلف 320،

تاريخ التراث العربي لسزكين مج 1:

ج 2/ 208،

معجم ماألّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله 19.

1682- فضائل مكّة على سائر البقاع

ص: 288

أحمد بن سهل البلخي

ظ: معجم الادباء 3/ 67.

1683- فضائل مكّه معظمة

(ترجمة فارسية لرسالة فضائل مكّة المعظّمة لحسن البصري)

باهتمام:

علي صدرايى خويى

ميقات حج. س 4: ع 12

(تابستان 1374 ش)

ص 27- 41.

1684- فضل مكّة وحرمة البيت الحرام

عاتق بن غيث البلادي

مكّة المكرّمة: دار مكّة، 1989 م،

254 ص.

مكّة المكرّمة: دار مكّة، 1993 م،

254 ص، 21 سم.

1685- فضائل مكّة والسكن فيها

الحسين البصري ت 100 ه

الكويت: 1980 م، (بعناية: سامي مكّي العاني).

1686- فضائل مكّة والمدينة

مجهول المؤلِّف

خ: أياصوفيا برقم 3090، 404 ص، 836 ه.

ظ: رحلات لحمد الجاسر 148،

العرب. س 31: ج 827 (1، 2/ 1417 ه) ص 455.

1687- فضائل مكّة والمدينة

أحمد بن محمّد المكّي الهاشمي

الحضراوي (1252- 1327 ه)

ظ: فهرس الفهارس والاثبات 348.

1688- فضائل مكّة والمدينة

بلدر زاده محمّد بن مصطفى القاضي

(ت 1060 ه)

ظ: المنهل (جدّة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م) ص 206.

1689- فضايل الحرمين

(بالفارسية)

مجهول المؤلِّف

ظ: ازبكستان، طاشقند 6/ 77،

فهرستواره منزوى 1/ 240.

1690- فضل الصلاة على النبي

أبو الحسين أحمد بن فارس الزاهد

ص: 289

ظ: صلة الخلف بموصول السلف

317.

1691- فضل الصلاة على النبي

إسماعيل بن إسحاق

ظ: صلة الخلف بموصول السلف

317.

1692- فضل الصلاة على النبي وبيان معناها وكيفيّتها وشي ء ممّا ألّف فيها، وعقيدة أهل السنّة والجماعة في الصحابة الكرام

عبد المحسن بن حمد العباد

المدينة المنوّرة: الجامعة الإسلامية، ط 4، 1410 ه، 37 ص.

1693- فضل الليالي العشر

(لماذا استحقّت الليالي العشر من ذي الحجّة الفضل والتشريف؟)

أحمد عبد التوّاب

منارالإسلام (أبوظبي) س 20: ع 12

(12/ 1415 ه- 5/ 1995 م)

ص 16- 19.

1694- فضل المدينة على مكّة

محمّد بن عبداللَّه بن محمّد بن صالح الأبهري

(287- 375 ه).

ظ: الفهرست لابن النديم 253.

1695- فضل مكّة

علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي (499- 571 ه)

ظ: مقدّمة المجلّد الأوّل من تاريخ ابن عساكر 1/ 28،

معجم الأدباء 13/ 82.

1696- فضل مكّة المكرّمة

عبداللَّه دهيش

المنهل (جدّة) مج 20: ج 10 (12/ 1379 ه/

5- 6/ 21960) ص 692- 695.

1697- فقه الحج الاستدلالي المقارن

محسن الأراكي

ميقات الحج ع 1 (1415 ه) ص 108- 134.

1698- فقه الحجّ وحكمة مشروعيّته

سيّد فاضل

المجاهد (القاهرة) س 9: ع 91 (7/ 1988 م)

ص 7- 12.

ص: 290

1699- فقه السنّة (في فقه الحجّ وأدعيته)

سيّد سابق

القاهرة: دار الكتاب العربي،

ط 1، 1374 ه.

1700- فقه الصلوات والمدائح النبوية:

بحث جديد في فقه الصلوات على الرسول

محمّد زكي إبراهيم

القاهرة: العشيرة المحمّدية، ط 2،

1985، 66 ص.

1701- فقه العبادات: الحجّ

حسن أيّوب

بيروت: دار الندوة الجديدة،

1986 م، 263 ص.

1702- فقه النساء في الحجّ

محمّد عطية خميس

بيروت: دار القلم، 1960 م، 160 ص.

بيروت: دارالقلم، 1980، 160 ص.

1703- فلسفه برائت از مشركين

(بالفارسية)

محمّد محمّدي ري شهري

ميقات حج س 2: ع 4 (تابستان 1372 ش) ص 39- 44.

1704- فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه

عباس علي عميد الزنجاني

ميقات الحج. س 4: ع 7

(1418 ه) ص 11- 48.

1705- فلسفة الحج وأسراره

أحمد عبد القادر المعبي

المنهل (جدّة) مج 53: ع 496

(12/ 1412 ه) ص 14- 16.

1706- فلسفة الحجّ ومصالحه في الإسلام

محمّد الصدر

النجف: مط الآداب، 1970 م، 87 ص.

1707- فلسفه حج

(بالفارسية)

محمّد جواد الموسوي الغروي

مكتبة اقبال، ط 2، 1361 ش، 448 ص، 24 سم.

1708- فلسفه حج در اسلام

(بالفارسية)

ص: 291

محمّد علي العاملي الدزفولي

طهران: 1351 ش، 232 ص.

1709- فلسفه واسرار حج

(بالفارسية)

محمّد إمامي خوانساري

طهران: 1393 ه، 198 ص.

1710- فلسفه حج واسرار مناسك آن

(بالفارسية)

عباس علي عميد زنجاني

طهران: وزارة الإرشاد الإسلامي، ط 1، 1363 ش.

1711- فلسفه واسرار حج به ضميمه مختصرى از مناسك حج

(بالفارسية)

محمّد تقي الحكيم

طهران: نشر فرهنگ اسلامى، ط 5، 1361 ش.

1712- فلسفه واسرار حج همراه با مناسك حج علامه حلى

(بالفارسية)

ترجمة: أبو القاسم سحاب

كتاب سحاب، ط 4، 1366 ش، 216 ص، رحلى.

1713- فلسفه واسرار حج يا ارمغان مكه

(بالفارسية)

عبد الغفور ذوقي

طهران: 1350 ش، 355 ص،

21 سم.

1714- فن العمارة الإسلامية في الحرمين الشريفين

محمّد مصطفى صبرة

الدارة س 7: ع 4 (مايو 1982 م)

ص 89- 96.

1715- الفوائح المسكية والفتواح المكّية

عبد الرحمن بن محمّد البسطامي

ت 858 ه

خ: مكتبة الحرم المكّي،

برقم 122.

1716- فوائد الحج وحكمه

ياسين تركي

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 119- 120

(1398 ه) ص 36- 39.

ص: 292

1717- في التذوّق الجمالي لهمزية حسّان بن ثابت حول فتح مكّة

محمّد علي أبو حمدة

عمّان (الأردن): مكتبة الرسالة، 1988 م، 69 ص، 17 سم.

1718- في الحج: دلالات الألفاظ وحكمة التشريع

معوض عوض إبراهيم

الهداية (البحرين) س 12: ع 142 (7/ 1989 م)

ص 89- 91.

1719- في الحج رياضة سامية للروح والجسد

عبد القدوس الأنصاري

المنهل (جدّة) مج 31: ج 11 (12/ 1390 ه/

2/ 1970 م) ص 1385- 1386

1720- في خدمة ضيوف الرحمن

وزارة الاعلام، الشؤون الإعلامية، الإعلام الداخلي

مكّة المكرّمة: دار الموسوعة

العربية للنشر والتوزيع، 1411 ه،

176 ص، 24 سم.

1721- في الذكرى الثانية لانتهاك حرمة البيت الآمن

علي الخامنئي

التوحيد (طهران) س 7: ع 42 (9/ 1989)

ص 108- 128.

1722- في رحاب بيت اللَّه

(قصيدة)

عمر بن الفارض

المنهل (جدّة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)

ص 22- 24.

1723- في رحاب البيت الحرام

محمّد بن علوي بن عباس المالكي

[السعودية]: دار القبلة، 1405 ه، 275 ص.

1724- في رحاب البيت العتيق

الراية (مكّة المكرّمة)

س 26: ع 281

(7/ 1988 م) ص 29- 30

1725- في رحاب الحرمين

إدريس بن عبد الهادي

العلوي الشاكري ت 1331 ه

ص: 293

العرب. س 14: ع 7- 8

(1، 2/ 1400 ه/ 12، 1/ 1980 م)

ص 521- 523 (حمد الجاسر)

1726- في رحاب الحرمين

محمّد بن محمّد التامراوي ت 1285 ه

العرب. س 13: ع 9- 10 (3، 4/ 1399 ه/ 3، 4/ 1979 م)

ص 665- 670 (حمد الجاسر).

1727- في رحاب الحرمين: رحلات القطبي من مكّة إلى المدينة

محمّد بن أحمد النهروالي

ت 990 ه.

العرب. س 16: ع 7- 8

(1، 2/ 1402 ه/ 11، 12/ 1981 م)

ص 502- 552 (حمد الجاسر).

1728- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات

إلى الحجّ

أحمد بن محمّد الدرعي

تلخيص وتحقيق: حمد الجاسر

العرب س 12: ج 5، 6 (11- 12/ 1977 م)

ص 419- 472.

1729- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحجّ

أحمد بن محمّد الهشتوكي

ت 1127 ه

العرب. س 13: ع 1- 2 (7، 8

/ 1398 ه/ 7، 8/ 1978 م)

ص 48- 61 (حمد الجاسر).

1730- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

إسماعيل بن موسى الحامدي ت 1316 ه

العرب س 13: ج 5، 6 (11- 12/ 1978 م)

ص 352- 368

(تحقيق وتلخيص: حمد الجاسر).

1731- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

بدر الدين تابع آل الصديق

العرب. س 12: ع 11- 12

(5، 6/ 1398 ه/ 5/ 1978 م)

ص 837- 850

(حمد الجاسر).

ص: 294

1732- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

حمد الجاسر

العرب. س 9: ع 5- 6 (11، 12/ 1394 ه/ 12، 1/ 1974 م)

ص 321- 336.

1733- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

خالد بن عيسى البلوي

ت نحو 765 ه

العرب. س 11، ع 9- 10 (3، 4/ 1397 ه/ 3، 4/ 1977 م)

ص 728- 753 (حمد الجاسر).

1734- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

عبداللَّه بن محمّد العياشي

ت 1090 ه.

العرب. س 12: ع 1- 2 (7، 8/ 1397 ه/ 6، 8/ 1977 م)

ص 65- 115

ع 3- 4 (9، 10/ 1397 ه/

9، 10/ 1977 م) ص 210- 281

(حمد الجاسر).

1735- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

عبد المجيد بن علي الزبادي المنالي ت 1163 ه.

العرب س 12: ج 7، 8 (1- 2/ 1978 م)

ص 526- 560 (تلخيص وتحقيق:

حمد الجاسر).

1736- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

محمّد بن الطيب بن كيران المغربي ت 1314 ه

العرب س 13: ج 7، 8 (1- 2/ 1979 م)

ص 504- 515 (حمد الجاسر).

1737- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

محمّد بن عبد السلام ت 1239 ه

العرب. س 9: ع 7- 8 (1، 2/

1395 ه/ 2، 3/ 1975 م) ص 486- 496.

ع 9- 10 (3، 4/ 1395 ه/ 4، 5

/ 1975 م) ص 652- 663.

ص: 295

ع 11- 11 (5، 6/ 1395 ه/ 6، 7/ 1975 م) ص 836- 847.

س 10: ع 1- 2 (7، 8/ 1395 ه

/ 8، 9/ 1975 م) ص 44- 70.

ع 3، 4 (9، 10/ 1395 ه/ 10- 11/ 1975 م) ص 173- 195.

س 11: ع 1- 2 (7- 8/ 1976 م) ص 40- 53.

ع 3- 4 (9- 10/ 1976 م) ص 168- 186.

ع 5- 6 (11، 12/ 1976 م) ص 413- 224 (حمد الجاسر).

1738- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

محمّد بن عثمان السنوسي ت 1318 ه

العرب. س 13: ع 3- 4 (9، 10/

1398 ه/ 9، 10/ 1978 م)

ص 250- 306 (حمد الجاسر).

1739- في رحاب الحرمين من خلال كتب الرحلات إلى الحج

محمّد بن محمّد العبدري ت نحو 700 ه

العرب س 10: ج 9، 10 (3- 4/ 1977 م)

ص 715- 745 (حمد الجاسر)

1740- في رحاب الصلوات على خير الأنام

إعداد وشرح: محمّد محيي الدين الحسيني

القاهرة: 1986 م، 62 ص.

1741- في زحمة الحج

إبراهيم هاشم فلالي

المنهل (جدّة) مج 4: ج 6 (5/ 1359 ه/

6/ 1940 م)

ص 5- 9.

1742- في ضيافة رب البيت والحرم

عبداللَّه الشيخلي

الرسالة الإسلامية (بغداد)

ع 45 (1391 ه) ص 3- 4.

1743- في غار حراء

إبراهيم أمين فودة

المنهل (جدّة) مج 15: ج 7- 8 (7- 8/ 1374 ه/ 3- 4/ 1955 م)

ص 340- 341.

ص: 296

1744- في قلب نجد والحجاز

محمّد شفيق مصطفى

67 ص.

1745- في كتابه الإعلام بأعلام البيت الحرام

القطبي

المنهل (جدّة) مج 12: ج 6- 7 (6- 7/ 1371 ه/

3- 4/ 1952 م) ص 212- 216.

1746- في الكعبة

سيّد محمود الأبوز

القاهرة: ط 1، 1985 م،

68 ص.

1747- الفيض العام والنعيم التام من فوائد زيارة بيت اللَّه الحرام وأداء حجّة الإسلام

محمّد بن علي بن أشرف الطالقاني

ظ: الذريعة 16/ 407.

1748- في المملكة الروحية للعالم

الإسلامي (رحلة إلى الحجاز

سنة 1930- 1931 م)

مصطفى محمّد

المدينة المنوّرة: 230 ص.

1749- في منزل الوحي:

حج در آينه سفرنامه ها نوشته محمّد حسين هيكل (بالفارسيه)

ترجمة: حسن إسلامي

ميقات حج س 3: ع 9 (پاييز 1373 ش)،

ص 212- 224

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.