ميقات الحج المجلد14

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري ، محمد، ‫1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي ، ‫1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : ‫BP188/8

رده بندي د... : ‫297/35705

ص: 1

من احاديث الامام الخميني قدس سره

ص: 2

العدد الرابع عشر

من أحاديث الإمام الخميني قدس سره

انّما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللَّه على الكاذبين (1)

.

الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون


1- 1 النساء: 61.

ص: 3

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.

«عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ».

«أنا مدينة الحكمة وعليٌّ بابها، فمَنْ أراد الحكمة فليأتِ الباب».

«مثل عليّ فيكم- أو قال: في هذه الامّة- كمثل الكعبة المستورة، النظر إليها عبادة، والحجّ إليها فريضة».

«إنّما مثلك في الأمّة مثل الكعبة نصبها اللَّه علماً، وإنّما تؤتى من كلّ فجّ عميق، ونادٍ سحيق، وإنّما أنت العلم علم الهدى ونور الدين، وهو نور اللَّه» (1).

قال الإمام علي عليه السلام وقوله الحقّ وفعله الصدق:

«يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضت، أم إليَّ تشوّقت، هيهات هيهات. لقد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه، آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق.»

«... على أئمّة الحقّ أن يتأسّوا بأضعف رعيتهم حالًا في الأكل واللباس، ولا يتميّزون عليهم بشي ء لا يقدرون عليه، ليراهم الفقير فيرضى عن اللَّه تعالى بما هو فيه، ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً.»

الهوامش:


1- 1 انظر: ذخائر العقبى: 142، تاريخ بغداد 11: 204، كفاية الطالب: 161، المناقب لابن شهرآشوب: 3/ 2، كلّها عن أبي ذر، خصائص الأئمّة: 73 عن أبي موسى الضرير البجلي عن أبي الحسن عن أبيه عن الإمام علي عليهم السلام وغيرها.

ص: 4

ص: 5

إنّ ممّا يجب أن نأسف له أن أيادي الغدر والخيانة لم تمنح شخصية الإمام علي عليه السلام الفرصة لتتبلور وتظهر إلى حيّز الوجود بأبعادها المختلفة وزواياها المتعددة؛ بسبب ما افتعلته تلك الأيدي من حروب ومعارك خلال فترة خلافته القصيرة. إن لشخصية الإمام علي عليه السلام أبعاداً ليست لغيره فشخصيته تجمع صفات وخصائص خلقت منه شخصيّةً ربّانيّة وإذا قدر للصفات الربّانيّة أن تتجلّى في شخصٍ فإنّ علياً كان مظهراً لها كلّ ذلك بفضل رسول اللَّه الأكرم صلى الله عليه و آله. وما خفي من صفات تلك الشخصية وأبعادها، كان أعظم ممّا ظهر منها. إن ما تعرفت عليه البشريّة وستتعرّف عليه من صفات وأبعاد متناقضة ومتضادة كلّها تجمّعت في رجل واحد، ألا وهو أمير المؤمنين علي عليه السلام، الزاهد العابد والمقاتل المجاهد...، وهي صفات لا يمكن اجتماعها في رجلٍ واحد، فالزاهد لا يستطيع بطبيعة الحال أن يكون محارباً أو مقاتلًا صنديداً، والعكس صحيح. فمع كون علي بن أبي طالب عليه السلام كان قوي الساعدين شديد البنية قويّ الجسم، لكنه كان يعيش في زهد وقناعة كاملتين في مأكله ومشربه وطريقة معيشته، وفي الوقت الذي كان فيه يمتلك من

ص: 6

العلوم المعنوية والروحانية وسائر العلوم الإسلامية الأخرى ما لم يحظَ أحد غيره ولو بجزء ضئيل منها، كانت كل ملّة تصنّفه على أنه منها وأنه ينتمي إليها. فالأبطال والبواسل يعتبرونه منهم بطلًا مغواراً، والفلاسفة تعدّه واحداً منها، والعرفاء ينسبونه عليه السلام إليهم، والفقهاء يدّعون أنه ينتمي إلى مذهبهم، وهكذا الحال مع باقي الملل والنّحل الأخرى، والحق أن أمير المؤمنين عليه السلام هو واحد من كلّ تلك الطوائف وفرد من كلّ ملّة من تلكم الملل.

إنّ بعض كمالات أمير المؤمنين عليه السلام وصفاته المتميزة التي لا زالت غير معروفة للكثير يمكننا الاطّلاع عليها من خلال قراءة لبعض أدعيته عليه السلام المأثورة. فدعاء كميل هو أحد تلك الأدعية العجيبة، وأقول عجيبة لأن بعض الفقرات الواردة فيه لا يمكن أن تكون صادرة من إنسان عادي على الإطلاق. فلاحظ مثلًا عبارة: «إلهي وسيدي ومولاي وربي هبني صبرتُ على عذابك فكيف أصبر على فراقك؟»؛ مَن مِن البشر له القدرة على التفوّه بمثل هذا الكلام؟ مَن مِنّا يحبّ اللَّه تعالى بهذه الكيفيّة كما يحبّه عليّ عليه السلام؟ فهو يصرّح بأنه لا يخاف من جهنّم ولا يخشى نارها، بل إن جلّ ما يخشاه هو أن يؤدي دخوله إلى جهنم إلى إنزال مرتبته ومكانته بحيث يكون ذلك سبباً في حرمانه من حبّ اللَّه تعالى والقرب منه. إنه عليه السلام ينوح بسبب فراقه عن بارئه واحتمال ابتعاده عنه سبحانه. وليس لنا والحال هذه أن نتعجب أو نشك في أن أعماله وأفعاله وكل تصرفاته نابعة من صميم حبّه للَّه عزّوجلّ، ذلك الحبّ الذي ملك زمام قلبه، وسيطر على كيانه وهيكله في كلّ مكان وزمان. إن المعيار الذي يعتمده الإمام علي عليه السلام هو حبّه للَّه سبحانه والفناء في ذلك الحبّ من أجله تعالى ، وهو ما صرّح به الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله حينما قال: «ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين»...

من احاديث الامام الخامنئي مدّ ظلّه

ص: 7

من أحاديث الإمام الخامنئي (مدّ ظلّه)

من محاسن الصدف أنّ عيد الغدير تكرر مرتين فى سنة 1379 الشمسية (1)، وعلى هذا فليس هناك أجمل ولا أبهى من تسمية هذا العام ب (عام الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام). فلنحاول إذن الاقتراب من هذا الرجل العظيم والاقتداء به، فهو القدوة الحسنة لجميع الناس، فشبابه المليئ بالحماسة الجياشة والبطولة الفذة خير أسوة لكلّ الشباب. وحكومته التي كانت مليئةً بالعدل والإنصاف هي أنموذج صالح لكلّ المؤمنين، ومبادئه الحرّة كانت مناراً لكلّ الأحرار في العالم، وكلماته الحكيمة ودروسه الخالدة ظلت مشعل هداية لجميع العلماء والمفكرين والمثقفين..

لقد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يدير دفة الحكم ويطبّق أركان العدل والمساواة، بحزم وصلابة، ويأخذ بحقوق الضعفاء والمساكين والمحتاجين بقوّة ولا تأخذه في الله لومة لائم، لكنه كان عليه السلام متسامحاً فى حقه وحقوقه الخاصّة به، فلا يأبه بضياعها ما دامت حقوق الآخرين محفوظة مصانة. لقد كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام مثالًا رائعاً ونموذجاً عالياً للعبد الصالح، وشخصية فذة تتمتع بكل


1- 1 السنة الشمسيّة أكثر من السنة القمريّة بعشرة أيّام؛ ولهذا وقع عيد الغدير في أوّل هذه السنة وفي آخرها.

ص: 8

الصفات المعنوية والجهادية العالية. فيا حبذا لو سرنا على هذا النهج القويم والمثل السليم، وبهما نستطيع تحقيق أملنا المنشود وهدفنا المقصود فى إرساء أسس العدالة الاجتماعية وتثبيت قواعدها وهو ما ينشده بلدنا العظيم وشعبنا الغالي...

الهوامش:

بين يديك، سيّدي ابا تراب

ص: 9

بين يديك، سيّدي أبا تراب

محسن الأسدي

يا من كنتَ مصباحاً يتلألأ بل مشكاةً فيها مصباحٌ، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنّها كوكبٌ درّي.

ها هي بين يديك المباركتين، مجلّة ميقات الحجّ في عامها السابع وفي عددٍ خاصّ جاء تيمّناً بذكرى مولدك المبارك، وإطلالةً على عامك هذا (عام الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام) الذي تشرّف بإعلانه قائد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي حفظه اللَّه.

لهذا راحت مجلّتنا تعلن عن مشاركتها، فجاءت ببضاعتها المزجاة هذه رمزَ ولاءٍ وشكرٍ وحبّ ووفاءٍ ..

وتمشّياً مع اختصاصها ارتأينا أن تدور مضامينها حول ما أفردناه وأسميناه بالمرحلة الأولى من حياتك المباركة؛ التي قضيتها في الحجاز- إلّاإذا اقتضت الضرورة تجاوزها- بما انطوت عليه من صناعة ربّانية نبويّة صاغت لك مناقب وفضائل وصفاتٍ، تركت بصماتها على شخصيتك الفريدة، وارتسمت معالمها

ص: 10

وآثارها على سيرتك المفعمة بأحداث عظام وأمور جسام ومواقف عظيمة ومبادرات كريمة ...

ومع أنّي واكبتُ جميع أعداد المجلّة هذه محرّراً.. وسعيداً بها، إلّاأنّ تلك السعادة لم تغمر قلبي ولم أذق شربةً أنقع لغليلي من هذا العدد- على بساطته- الذي يعيش ذكراك ويتفيّأ ظلالك...

*** بدءاً نقول: لعلّ الحكمة- سيّدي- في إعلان هذا العام عاماً خاصاً، هي تجميع للجهود المحبّة والمتفانية فيك، وتذكيرٌ للغافلين، وفرصةٌ للمناوئين... وإلّا فإنّ من يقصد وجه اللَّه تعالى الذي أحببتَه وآمنتَ به وآثرتَه وسكنتَ إليه، وأفنيتَ عمرك الشريف فيه مؤمناً مجاهداً... حتّى قضيتَ نحبك في سبيله، وفاضت روحك إليه، مضرّجاً بدمك في محراب عبادته، في بيتٍ من بيوت اللَّه تعالى، في مسجد الكوفة، وقد انطلق صوتك، ودوّى صداه عالياً في جنبات المسجد وفي سمائه.. فُزتُ وربِّ الكعبة، فزتُ وربِّ الكعبة..

نعم، إنّ من يقصد ذلك الوجه الكريم ويرجو لقاءه بقلب سليم ويأمل أجره وفضله ويخشى حسابه ويخاف عقابه، يجب أن تبقى ذكراك ماثلةً أمامه، حيّةً في سيرته، فاعلةً في حياته، شجرةً خضراء ينعم بظلالها الوارفة ويشمّ عطرها ويستنشق عبيرها، ويرتشف من معينها قيماً جميلةً ومعاني عظيمة ومفاهيم جليلة، وأن يقرأك إنساناً وإيماناً وتقوًى وزهداً وجهاداً وعلماً وأدباً وفكراً..

إذن، أن يبقى كلّ منا يعيشك دائماً قدوةً صالحةً واسوةً حسنةً، وهو الذي يجب أن نعوّد أنفسنا عليه ونتبنّاه في حياتنا الدينية والاجتماعية بكلّ مفاصلها. لا ذكرى فقط تمرّ مرور الكرام..

ولعلّ الحكمة في أن يكون مولدك في جوف الكعبة؛ القبلة، لتكون قبلةً للأنام، للمؤمنين رعاةً كانوا أو رعيةً مهما بعدت بهم البقاع ونأى بهم الزمن، يستقبلونك مبادئ وقيماً ومثلًا عليا كلّما توجّهوا إليها في فرضٍ أو مستحبٍّ أو دعاءٍ..

لذاك قبلة من صلّى لخالقه غدا ومقصد من للحجّ يأتيه

حقّاً لتبقى بل ليبقى عليٌّ شاخصاً أمامنا بكلّ ما يحمله من قيم السماء ومبادئ الدين الحنيف، وبكلّ ما يتحلّى به من إيمانٍ ثابت وإسلام وثيق، وجهاد مرير وتضحيات جسام، ومن علمٍ غزير وأدب جميل وسيرة عطرة حسنة، تمنّاها كلّ مَن حولك والذين جاءوا من بعدهم.. فعصت عليهم جميعاً، ولم تجد غيرك إناءً صالحاً، وبوتقةً تصهرها، فتنتج عليّاً إسلاماً يتحرّك وقرآناً ناطقاً، وإيماناً حيّاً يجسِّد كلّ معاني السماء.

*** لقد كنت- سيّدي- بين محرابي الولادة والشهادة محراباً لا يدانيك أحدٌ أبداً، وكيف لا تكون كذلك وأنت أكثرهم جهاداً وأمضاهم عزيمةً وأشدّهم توثّباً حتّى قال فيك تلميذُك حبرُ الامّة عبداللَّه بن عبّاس: ما رأيتُ محراباً مثله؟!

كنت جريئاً على الموت مقتحماً لميادينه، لا تخشى ولا تهاب أحداً بالغاً ما بلغ من القوّة والشجاعة والاقدام، بل لا تجد هيبة هولاء الأبطال من قلبك شيئاً.

فقد نزل عمرو بن ودّ المعروف بقوّته وصلابته وصولته وبأنّه يعدل ألف فارس، وقد لفّه الحديد من هامته إلى أخمص قدمه، ينادي بصوت مخيف هل من مبارز؟

أين جنتكم التي زعمتم أنّكم داخلوها إن قتلتم؟.. ولا مجيب إلّاصوتك «أنا له يا رسول اللَّه» فوثبتَ إليه، وصوت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يلاحقك: «برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه» فإذا هو مجدّل بين يديك بضربة تعدل عبادة الثقلين، ولا ذت الأحزاب بالفرار.

وأنت في عبادتك الأواب المتبتّل الواله بربّه، الذي عبد اللَّه كأنّه يراه، وأنت القائل: أفأعبد ما لا أرى (1)؟

وأنت القلب الطاهر المطمئن الذي لا يخفق إلّابحبّ اللَّه وحبّ رسوله...

وأنت القِمّة السامقة في تسليمك وانقيادك إلى اللَّه سبحانه وتعالى ، فكنت الإيمان كلّه، وكنت الغاية في الإخلاص والغاية في الصدق.

وأنت في فصاحتك الخطيب الأوّل الغنيّ ببدائع الخطابة وألوان البيان وضروب الحكمة وفنون الكلام.


1- 1 انظر إجابته ذعلب اليماني حينما سأله: هل رأيت ربّك...؟ 179- من كلامه عليه السلام في نهج البلاغة: 285، صبحي الصالح.

ص: 12

وأنت الذي اتسمتَ بالثراء والفرادة في إيمانك وفي صدقك وعدلك وورعك وفي علمك وعبقريتك وحصافتك وفي زهدك وقناعتك وفي نهجك وطريقتك، فخصائصك ما أعظمها وأخلاقك وما أسماها وفضائلك ما أكثرها!

وهذه كتب التأريخ والحديث عند الفريقين.. وقد ملئت بخصالك ومناقبك وفضائلك وآثارك وجهودك ومواقفك ولم يذكر فيها لغيرك ما ذكر لك.

يقول أحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي وأحمد بن شعيب بن علي النسائي وأبو علي النيسابوري: «لم يرو في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام».

وليس هذا فحسب، بل كان الأوحد في صفاته وفضائله. دلّني على فضيلة لم يكن عليّ فيها الأشهر ولم يكن المتفرِّد بها دون غيره سواء أكانوا في زمنه أو الأزمان المتعاقبة الاخرى !

*** وهكذا أنت- سيّدي- في عطائك الذي كاد أن يبلغ حدّ الاسطورة، أثريت به تراثنا الديني والأخلاقي والإنساني... وما أحوجنا إلى تراثك الخالد خاصة في عالمنا الصاخب الملي ء بمختلف الأفكار والأمواج والأعاصير...

وإنّ الإحاطة بكلّ ما قدّمته في حياتك المباركة أمر صعب، كما أنّ محاولة التعمّق فيه وسبر أغواره هو الآخر أمر عسير فالرجل مهما اوتي من القدرة والاستعداد والصبر فإنّه يتخصّص بفنٍّ واحدٍ أو فنّين، إلّاأنت- سيّدي- فقد جمعت مناقب كثيرة، وفنوناً وعبقريات هي الاخرى متعدّدة.

ما فرّق اللَّه شيئاً في خليقته من الفضائل إلّاعندك اجتمعا

لقد اصطنعتك السماءُ وأفاضت عليك خصائص وفضائل خلقت منك إنساناً ربّانياً في كلّ ما حملتَه واتسمّتَ به. وأقحمتك عالَماً آخر غير ما ألفوه فتحيّرت عقولهم وأذهلت نفوسهم، فراحوا يتنازعون أمرهم فيك؛ تعدّدت آراؤهم وتنوّعت فيك اجتهاداتهم، وتقاطعت فيك مواقفهم، ولما أدحضتهم حجّتُك وألجمت ألسنتهم وخيّبت أدلّتهم وكشفت افتراءاتهم.. لم تطاوعهم أنفسهم المقيتة

ص: 13

على الرضوخ للحق والانصياع للعدل فأبت إلّانفوراً واستكباراً. وركن شانئوك ومن نصبوا لك العداء إلى سيوفهم فلعلّ آمالهم وأطماعهم تتحقّق، فما اشتبكت الأسنّة على أحدٍ كما اشتبكت عليك، ولا اختلفت الألسن والأقلام في أحدٍ كما اختلفت فيك.. فَظَلمك قومٌ وأنصفك آخرون، وختاماً تركوك وحيداً- وإن كنت حقّاً الوحيد بينهم بنعمٍ ظلّت حسرةً عليهم- إلّاأنّهم لم يتركوك حبّاً لغيرك وتفضيلًا له عليك، وهم يعرفون أن ليس هناك من يدانيك إيماناً وعلماً وفضلًا... بل تركوك؛ لأنّهم لم يتحمّلوا صدقك ولم يطيقوا عدلك.. خافوك على دنياهم وخفتهم على آخرتك.

*** إنّ تاريخك لحافل وإن حياتك لصالحة وإنّ ميراثك لعظيم وإنّك لفي مقام كريم.. استوقفت هيبتك الجميع، وبهرتهم صفاتك وأذهلتهم فضائلك حتّى لم يجدوا شيئاً منها في بشرٍ سواك.. فكانوا طوائف ثلاث:

فطائفة منهم أحبّتك حتّى ذابت فيك، وأنت القائل: «لو أحبّني جبل لتهافت» وذلك هو الفوز العظيم.

وأخرى أحبّتك حتّى العبادة، فيما بغى عليك قومٌ آخرون حسداً لما آتاك اللَّه من فضله، وكلاهما من أصحاب النار هم فيها خالدون.

حقّاً ما قلتَه: «هلك فيَّ اثنان، محبٌّ غالٍ ومبغضٌ قالٍ»!

يقول الدكتور الجميلي:

«الرجل الذي هلك في حبّه نفرٌ كثيرٌ، وهو ذات الرجل الذي أهلكت عداوته نفراً كثيراً، فإنّ من الذين غالوا في حبّه هلكى ، ومن الذين قلوه ونفسوا عليه هلكى أيضاً؛ لأنّ حبّه جدير بالتفاني فيه، وقلاه أجدر على أن يسحت أعداءَه ومبغضيه» (1).

*** لقد راح- سيّدي- قوم عاصروك وآخرون جاءوا من بعدهم ينتهلون من علمك ويتعلّمون من حلمك ويقلّدون شجاعتك.. إلّاأنّهم- وإن تمنّوا- لا يكونون مثلك أبداً.. وأنّى لهم وخصالك صنعتها يد الغيب، وسمات شخصيتك أفردتها لك


1- 1 انظر الدكتور السيد الجميلي في كتابه، صحابة النبي صلى الله عليه و آله: 62.

ص: 14

السماء، ومناقبك صاغتها مبادئ الدين الحنيف تحت ظِلال النبوّة المباركة.. كما راحت امّتنا واممٌ أُخرى ، من ديانات أُخر ومذاهب شتّى بمفكِّريها وعلمائها وادبائها وشعرائها.. يقفون أمام تراثك مبهورين وإزاء عبقريتك متحيّرين.. وقد عرفوا ذلك كلّه، إلّاأنّهم أبوا إلّاأن يقولوا فيك شيئاً. فراحت أفكارهم وأقلامهم ومع سموّها لا تستطيع كشف إلّاما ظهر من عظمتك ولا تذكر إلّاما بان من شخصيتك، وهو غني ثريّ عظيم.. أمّا ما خفي فاللَّه ورسوله أعلم به.

وصدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ قال: «يا عليّ ما عرفك إلّااللَّه وأنا وما عرفني إلّااللَّه وأنت».

حقّاً- سيّدي- إنّك نعمة كبرى أنعمتها علينا السماء، إنّك كنز عظيم غفلنا عنه، وينبوع لا ينضب جهلنا قدره، وصورة مضيئة للإسلام والإنسانية بكلّ معانيها الجميلة، لم نعطها حقّها..

لقد أكبرنا- سيّدي- الإسلام الذي تجسّد فيك، وفضائلك الرائعة ومناقبك الجميلة ومواقفك الشجاعة والجريئة.. التي باتت رصيد كلّ خير وعطاء، وثورة وإباء، وعدل ورحمة، وغدوت حياة لأولي الألباب..

إنّ اسمك- سيّدي- شفاء للنفوس، وذكراك ضياءٌ للعقول، وهدى للقلوب، وحافز للثورة والثوّار مهما كانت صولة الباطل مريرة وقسوته شديدة..

إنّ كلّ ما حولنا يستضي ء بنورك ويستهدي بهداك، وكلّ ما عندنا مدين لمبادئك وقيمك، التي هي قيم السماء، فذكراك لا يحدّها حدّ ولا يختصرها زمن. وكيف يكون ذلك وعليّ بين الولادة والشهادة تجده شمساً مضيئةً لا يحجبها شي ء، وقمراً منيراً لا يحبسه سحاب؟!

وتجده إيماناً لا يشوبه شكّ ولا يعتريه ريب، وكيف يخالط إيمانه ذلك وهو القائل: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً».

وتجده عِلماً لا جهل معه ولا نقص يعتريه، أليس هو القائل: «سلوني قبل أن تفقدوني» ولم يقلها غيره؟

كلّ ذلك وغيره بفضل النبوّة التي راحت تشرق عليه منذ نعومة أظفاره، وبنعمة

ص: 15

الرسالة التي احتضنته فأسبغت عليه حللها، وببركة ما أودعه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في صدر هذا الفتى حتّى يضحى امتداداً طبيعياً للرسالة والنبوّة يهدي به اللَّه من اتبع رضوانه سُبل السلام..

لقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعلمه مبادئ السماء ويبثّه علمه ويغذّيه أخلاقه طيلة طفولته وصباه، فتخلّق بأخلاقه صلى الله عليه و آله التي قالت عنها السماء: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ واتصف بجميع صفاته وتحلّى بجميع شمائله، كما راح يستقي منه علماً جمّاً ممّا جعله بلا ريب ولا شكّ أفضل أصحابه صلى الله عليه و آله وأعلمهم وأفقههم وأورعهم وأزهدهم وأشجعهم وأكثرهم عطاءً للإسلام ومبادئه..

فصاغ لنا تاريخاً مليئاً بالخير والعطاء وحاضراً مشرقاً بالحبّ ومستقبلًا زاهراً بالأمل، فسيرته المباركة الحافلة بمناقبها وفضائلها وما فيها من أحداث مريرة ووقائع عظام، ومواقف جليلة، والبعيدة عن كلّ وسائل اللهو والزيغ والانحراف..

المطبوعة بالاستقامة والتقوى .. خير دليل على عظمته.. بل كانت ولا زالت آيةً للحقّ والعدل والإنسانية والصدق والإخلاص والصلابة والثبات والشجاعة والفداء.

فقد قضى عمره الشريف كلّه في طاعة اللَّه وعبادته راجياً رضاه محارباً لأعدائه هادفاً تثبيت أركان دين اللَّه بكلّ ما عنده من قدرة وشجاعة.

يقول فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لولا أن يقول فيك الغالون من امّتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم؛ لقلت فيك قولًا لا تمرُّ بملإٍ من الناس إلّاأخذوا التراب من تحت قدميك يستشفون به».

الهوامش:

ص: 16

*** إطلالة على حياة الإمام علي (عليه السلام)

إطلالة على حياة الإمام علي عليه السلام

ذريّة بعضها من بعض

كان عليّ بن أبي طالب من سلالة ذرية طيّبة وعائلة كريمة في صفاتها، صالحة في أخلاقها وسيرتها، محمودة في خصالها، رفيعة في شمائلها، متميّزة في رجالها وسيادتها، فبنو هاشم، سادة قريش بل سادة الدنيا، «ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم، ولباب كلّ جوهر كريم، وسرّ كلّ عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، والمعدن الفهم، وينبوع العلم...» (1).

فقد كان منها أكرم خلق اللَّه تعالى على الإطلاق، محمّد بن عبداللَّه وكان منهم آله الطاهرون، وأعظمهم وأفضلهم سيّدهم عليّ بن أبي طالب الذي اجتمع فيه من الخصال ما لم يجتمع لغيره، ومن المكارم ما لم يحظ بها أحد غيره، ومن السجايا ما لم يحظَ بها الآخرون، فحسبٌ شريف، وخلقٌ عالٍ، وفطرةٌ سليمة لم تتلوّث ببراثن الجاهلية، وعقيدةٌ صافية، وعلم جمّ، وشجاعة لا مثيل لها...


1- 1 الجاحظ، زهرة الآداب: 59.

ص: 17

فأبوه: شيبة بني هاشم شيخ قريش وزعيمها وسيّد قومه أبو طالب، الذي انطوت نفسه على خصال كريمة كلّها شموخ وعزّة وفضائل...

وهو الكافل المدافع الذابّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والذي أحاط رسول اللَّه بعناية عظيمة ورعاية قلَّ نظيرها خصوصاً إذا عرفنا مكانته في قريش وبين زعمائها وما سبّبه ذلك من إحراج له وضيق وأذًى، ومع هذا كلّه فقد صبر أيما صبر دفاعاً عن محمّد ورسالته حتّى إنّ قريشاً لم تكن قادرةً على أذى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع رغبتها في ذلك حتّى توفي أبو طالب فراحت تكيد له..

يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «واللَّه ما نالت قريش منّي شيئاً أكرهه حتّى مات أبوطالب».

ولم يهاجر إلى المدينة إلّابعد وفاة عمّه رضوان اللَّه عليه. هذا أبوه.

وأمّا جدّه: فهو عبد المطّلب شيبة الحمد أمير مكّة وسيّد البطحاء له ولاية البيت الحرام من السقاية والرفادة.. وكان ذا مهابة ووقار وميل إلى الدين والنسك، وهو الذي قام بحفر بئر زمزم التي تفجّرت تحت قدمي جدّه إسماعيل من قبل، بعد أن غاب أثرها ولم يهتدِ إليها أحد حتّى هتف به هاتف في منامه، فراح يحفر حتّى اهتدى إليها مستعيناً بابنه الحارث الذي كان وحيده وقتذاك.

ثمّ هو الذي خذل اللَّهُ على يديه ابرهة الحبشي وجنده الذين جاؤوا لهدم الكعبة وصرف الحاجّ عنها إلى بيت بناه في اليمن، ولمّا التقى ابرهة بعبد المطلب أراد أن يستميله إلى جنبه، فما وجد منه إلّاالرفض، وإلّا الثقة العالية باللَّه، مكتفياً بأن يرد إليه إبله وشويهاته التي أخذها جنده.

فقال ابرهة: كنت في نفسي كبيراً وسمعت أنّك وجيه في قومك، فلمّا سألتك عن حاجتك وذكرت الإبل والشياه ونسيت بلدك وأهلك وبيتك المقدّس سقطت من عيني.

فقال عبد المطلب: الإبل لي، وللبيت ربّ يحميه.

ص: 18

فقال ابرهة: ما كان ليمتنع منّي.

فقال عبد المطلب: أنت وذلك، وصعد على الجبل وتضرّع إلى اللَّه وأنشد:

يارب عادِ من عاداك وامنعهموا أن يهدموا حماك

ثمّ راح يستحثّ قومه على ترك مكّة واللجوء إلى الجبل خشية بطش ابرهة وجيشه، والتوجّه إلى اللَّه بالدعاء. فحلّت الكارثة بابرهة وجنده... وهناك سورة الفيل تحكي هذه الحادثة..

أُمّه: فاطمة بنت أسد بن هاشم فهي ابنة عمّ أبي طالب وهي أوّل هاشمية تزوّجها هاشمي، وعليّ أوّل مولود (مع اخوته) ولد لهاشميين فقد تعوّد بنو هاشم أن يصهروا إلى اسر اخرى . كانت ذات منزلة رفيعة، جعلتها من اللائي امتازت حياتهنّ بمواقف جليلة في حركة الأنبياء ومسيرتهم عبر التاريخ، فقد أثنى عليها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان شاكراً لها ولمعروفها ورعايتها له، فكان يدعوها «امّي بعد امّي التي ولدتني» (1)

وراحت هي الاخرى تفضّله على جميع أولادها الأربعة، فقد كان طالب أكبر أولادها ثمّ عقيل، ثمّ جعفر ثمّ عليّ، وكلّ واحد أكبر من الذي بعده بعشر سنوات، وكان عليّ عليه السلام أصغر أولادها.

حظيت هذه السيّدة والمرأة المؤمنة الطاهرة بمكانة عظيمة في قلب رسول اللَّه، وتركت في نفسه آثاراً طيّبة راح يذكرها طيلة حياته، ويترحّم عليها ويدعو لها..

تقول الرواية:

لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُمّ عليّ- وكانت قد أوصت لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقَبِل وصيتها- ألبسها النبي صلى الله عليه و آله قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك يا رسول اللَّه صنعت هذا!

فقال: إنّه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرَّ بي منها، إنّما ألبستها قميصي لتكسى من حُلل الجنّة واضطجعت معها ليُهوَّن عليها.


1- 1 كنز العمّال 13: 636، 37607.

ص: 19

وفي دعاءٍ خاص لها قال: اللّهم اغفر لُامّي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجّتها، ووسِّع عليها مدخلها. وخرج من قبرها وعيناه تذرفان.

لقد كانت رضوان اللَّه عليها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمنزلة الامّ، بل كانت أُمّاً بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد كانت بارّة برسول اللَّه صلى الله عليه و آله «لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها» (1)

، فحنانها وشفقتها ورعايتها له بلغت مبلغاً عظيماً حتّى فاقت رعايتها لأبنائها وكأنّها تعلم أنّ له مكانة عظيمة وشأنا جميلًا، تقول بعض الروايات كان أولادها يصبحون شعثاً رمصاً ويصبح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كحيلًا دهيناً.

هذا في مداراتها لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله وحبّها له.

أمّا في إيمانها فقد كانت بدرجة عظيمة، ومن السابقات إلى الإسلام والمهاجرات الاول إلى المدينة وهي بدرية (2).

فذاك أبوه وجدّه وهذه امّه، فهو وليد هذه الاسرة الهاشمية المباركة.

ثمّ بعد هذا كان عليّ عليه السلام قد اختصّ بقرابة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فهو إضافة إلى كونه ابن عمّه وقد ربّاه في حجره تربية الوالد لولده و... كان زوجاً لابنته الزهراء التي كانت بضعة منه صلى الله عليه و آله، وأباً لريحانتيه المباركتين الحسن والحسين عليهما السلام وكان أخاه يوم المؤاخاة، وكان خليفته ووصيه ووزيره وعيبة علمه...

بين يدي النبوّة

لقد كنت سيّدي شجرة طيّبة توسّطت روضة فيحاء وباحة خضراء ودوحة معطاء، فكان أصلها ثابتاً وفرعها في السماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

ففي ربى النبوّة أبصرت النور بعد أن انبرى رسول الرحمة لرعايتك وتربيتك، ومن نسيمها العذب وأريجها الفوّاح تنشقت الحياة، ومن نمير ساقيتها الصافي الذي كانت النبوّة نبعه الدافق ارتشفت أوّل قطرة ماء، وعلى أديمها الأخضر كانت أوّل خطواتك. كان حضن النبوّة يرعاك فكنت في جنّة عالية، قطوفها دانية.

شممت رائحة النبوّة في مراحل حياتك الأولى، ورأيت نور الوحي والرسالة


1- 1 الاستيعاب 4: 446، 3486، سير أعلام النبلاء 2: 118.
2- 2 انظر مقالتنا جعفر الطيّار في العدد 8 مجلّة ميقات الحجّ مع بعض التغيير.

ص: 20

بعد أن وضعك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حجره وضمّك إلى صدره وكنفك في فراشه ومسّك جسده الطاهر وأشمّك عَرْفه.. فجنيت بروض النبوّة ورداً وذقت بكأسها شهداً.

وكيف لا تجني ذلك كلّه وقد اختارتك السماء برعماً تحتضنك شجرة النبوّة والرسالة، ثمّ لتكون بعد ذلك بقية النبوّة والامتداد الطبيعي للرسالة..؟!

روت فاطمة بنت أسد «امّ عليّ»: بينا أنا أسوق هدياً إذ استقبلني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهو يومئذ غلام شاب قبل البعثة فقال لي: يا أمّاه إنّي أُعلمك شيئاً فهل تكتمينه عليَّ؟

قلت: نعم.

قال: اذهبي بهذا القربان فقولي: كفرت بهبل (كبير آلهة المشركين وهو أوّل صنم نصب بمكة) وآمنت باللَّه وحده لا شريك له.

فقلتُ: أعمل ذلك لِما أعلمه من صدقك يا محمّد، ففعلت ذلك.

فلمّا كان بعد أربعة أشهر، ومحمّد يأكل معي ومع عمّه أبي طالب، إذ نظر إليَّ وقال: يا امّ ما لَك! مالي أراك حائلة اللون؟!

ثمّ قال لأبي طالب: إن كانت حاملًا انثى فزوجنيها.

فقال أبو طالب: إن كان ذكراً فهو لك عبد، وإن كان انثى فهو لك جارية وزوجة.

فلمّا وضعتُه- في الكعبة- جعلته في غشاوة، فقال أبو طالب: لا تفتحوها حتّى يجي ء محمّد فيأخذ حقّه.

فجاء محمّد ففتح الغشاوة فأخرج منها غلاماً حسناً فشاله بيده، وسمّاه عليّاً، وأصلح أمره، ثمّ إنّه لقمه لسانه فما زال يمصّه حتّى نام.

وقد سمّته أوّل الأمر حيدرة بمعنى أسد على اسم أبيها، فغلب عليه اسم عليّ الذي سمّاه به محمّد صلى الله عليه و آله.

***

ص: 21

ثمّ راح عليّ عليه السلام الذي ما إن فتح عينيه في بيت أبي طالب حتى وجد محمّداً صلى الله عليه و آله يضمّه إلى صدره ويبثّه كلماته ويعلمه خطواته...

ولمّا تزوّج خديجة رضوان اللَّه عليها انتقل إلى بيته الجديد، ففارق بيت عمّه أبي طالب ولكنّه لم يترك برّه لعمّه ورعايته لابن عمّه عليّ عليه السلام، ومنذ ذلك اليوم راح يتعهده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويرعاه رعاية خاصّة ومنذ نعومة أظفاره..

وبدأ عليّ عليه السلام يلتهم زاده الوحيد مبادئ السماء وقيمها حتّى شحن بها فكره الثاقب، وغدت نفسه الطاهرة ترتشف الايمان وتستنشق عقيدته وعبيرها؛ لتسمو نفسه ولتصبح مصباحاً يستضي ء به من حوله.

اخترتُ من اختاره اللَّه

ولمّا مرّ أبو طالب في سنة أصابته بل أصابت قريشاً وقحط حلّ بهم وهو ذو عيال كثيرة، ويبدو أنّ الابتلاء هذا كان عامّاً لقريش بسبب ما عانته من الجفاف.

تقول الرواية: إنّ قريشاً أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعمّيه حمزة والعبّاس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟

فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم وِلدَه ليكفوه أمرهم، فقال: دَعُوا لي عقيلًا وخذوا من شئتم- وكان شديد الحبّ لعقيل- فأخذ العبّاس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمّد صلى الله عليه و آله عليّاً، وقال لهم: «قد اخترتُ من اختاره اللَّه لي عليكم، عليّاً».

فكان علي عليه السلام في حجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منذ كان عمره ستّ سنين (1).

والذي أميل إليه أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ذلك القحط وهذا الجفاف هما السبب في ملازمته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل إنّ الأمر سبق هذا كلّه وسبق هذا العمر الذي يحددونه لبداية هذه الملازمة (6 سنوات) نعم الانتقال من بيت أبي طالب إلى بيت رسول اللَّه قد يكون تمّ وعليّ له 6 سنوات، إلّاأنّ تلك الرعاية من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعليّ وذلك الاهتمام كان منذ اليوم الأوّل لولادته عليه السلام فرسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما عاد من


1- 1 انظر شرح نهج البلاغة 1: 15، وانظر المستدرك على الصحيحين 3: 666، 6463، وسيرة ابن هشام 1: 262، والطبري 2: 313.

ص: 22

غار حراء وقد بشّر بولادة علي راحت يده المباركة تتوسّده وتضفي عليه بركات انعكست ثمارها على حياته عليه السلام في كلّ الميادين...

تقول الرواية عن يزيد بن قعنب: ولدت (فاطمة بنت أسد) عليّاً... في بيت اللَّه الحرام، إكراماً من اللَّه عزّ اسمه وإجلالًا لمحلّه في التعظيم...، فأحبّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حبّاً شديداً وقال لها: «اجعلي مهده بقرب فراشي»، وكان يتولى أكثر تربيته، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرِّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته، ويحمله على صدره (1).

وهنا نعيش لحظات جميلة مع عليّ عليه السلام نفسه، وهو يصوِّر لنا منزلته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويصف رعايته له وتعلّقه به وملازمته له حتّى يمكن وصفها بأنّها ملازمة الظلّ لصاحبه لا يفارقه إلّافي أوقاته المخصوصة، فتواشجت روحه مع أجواء ذلك البيت الطاهر وهي أجواء الرسالة والنبوّة والوحي، انظره في خطبة القاصعة حيث يصف تلك الملازمة والمواشجة بشكل دقيق طفلًا وصبيّاً وفتًى..

«ولقدعلمتم موضعي من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده ويُشمني عَرْفه، وكان يمضغ الشي ء، ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللَّه به صلى الله عليه و آله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر امّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري».

ولدتُ على الفطرة

من اللافت الذي أدهش من تتبّع حياته أنّ ولادته عليه السلام- التي كانت في الكعبة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب على قول الأكثر- كانت في اليوم الأوّل لدخول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غار حراء للتعبّد والمناجاة، وللتدبّر والتفكير في


1- 1 انظر: ارشاد القلوب: 211، كشف اليقين: 32.

ص: 23

ملكوت السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما.. وكان هذا بعد عام الفيل بثلاثين سنة، حقّاً أنّه أمر يثير العجب، أن السماء راحت تعدّ أمرين في آنٍ واحد ووظيفتين في وقت واحد؛ ففي غار حراء على بعد من الحرم المكّي أعدّت رسولًا نبيّاً، وفي داخل الحرم المكي راحت تعدّ إماماً ووزيراً وخليلًا وفيّاً؛ ليكمل الشوط ويملأ الفراغ «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبي بعدي أو لا نبوّة بعدي» «أنت أخي ووصيي وخليفتي...».

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه القيم لنهج البلاغة في قوله عليه السلام: «فإنّي ولدتُ على الفطرة» وفي جوابه عن قول من يقول: كيف علّل نهيه عن البراءة منه عليه السلام، بقوله: «فإنّي ولدتُ على الفطرة)؛ فإنّ هذا التعليل لا يختص به عليه السلام؛ لأنّ كلّ أحد (واحد) يولد على الفطرة، قال النبي صلى الله عليه و آله: «كلّ مولود يولد على الفطرة؛ وإنّما أبواه يهودانه وينصّرانه»؟

فكان أحد أجوبته الثلاثة: بأنّه عليه السلام علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع امور وعلل وهي كونه ولد على الفطرة، وكونه سبق إلى الإيمان والهجرة، ولم يعلّل بآحاد هذا المجموع، ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية؛ لأنّه ولد عليه السلام لثلاثين عاماً مضت من عام الفيل، والنبي صلى الله عليه و آله أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل؛ وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه و آله مكث قبل الرسالة سنين عشراً يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد، وكان ذلك إرهاصاً لرسالته عليه السلام فحُكم تلك السنين العشر حكم أيّام رسالته صلى الله عليه و آله فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيّامٍ كأيّام النبوّة، وليس بمولود في جاهلية محضة، ففارقت حاله حال من يدّعي له من الصحابة مماثلته في الفضل.

وقد روي أنّ السنة التي ولد فيها عليٌّ عليه السلام هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فاسمع الهتاف من الأحجار والأشجار، وكشف عن بصره، فشاهد أنواراً وأشخاصاً ولم يخاطب فيها بشي ء. وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها

ص: 24

بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حراء، فلم يزل حتّى كوشف بالرسالة وأنزل عليه الوحي. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتيمّن بتلك السنة، وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسمّيها سنة الخير وسنة البركة، وقال لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئاً: «لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح اللَّه علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة».

وهنا يقول ابن أبي الحديد: وكان كما قال صلى الله عليه و آله فإنّه عليه السلام كان ناصره والمحامي عنه، وكاشف الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت دين الإسلام وأرست قواعده.

كما يذكر تفسيراً آخر: بأنّه عليه السلام أراد بالفطرة العصمة، وأنه منذ أن ولد لم يواقع قبيحاً ولا كان كافراً طرفة عين قط ولا مخطئاً ولا غالطاً في شي ء من الأشياء المتعلّقة بالدين وهذا تفسير الإمامية (1).

فقد روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال: «إن سُبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا طرفة عين: علي بن أبي طالب وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون فهم الصدِّيقون وعليّ أفضلهم» (2).

وعن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ثلاثة لم يكفروا باللَّه قط: مؤمن آل ياسين وعلي بن أبي طالب وآسية امرأة فرعون» (3).

لم يسجد لصنم قطّ

بعد نعمة تربية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له وصناعته كما تريدها السماء، راحت نعمُ اللَّه تترى على هذا العبد الصالح، وتواكبه فلم تنجّسه الجاهلية بأنجاسها، لم يعبد صنماً قطّ بل لم تمل نفسه إليها أبداً، وهذا أمر ليس سهلًا خاصةً وهو يعيش في مجتمع حالك متسربل برداء الشرك يعيش ركاماً من الجهل والعبودية والطغيان، في بيئة أنّى اتجهت وجدت صنماً يُعبد وتمثالًا يركع له ويسجد، ومن حوله كبار قريش وزعماؤها وقد ملئت بيوتهم بهذه التماثيل وكانوا لها عاكفين.

في مجتمع فاسد كهذا تمّت صياغة علي عليه السلام لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحسن غذاءه


1- 1 شرح نهج البلاغة 4: 114- 115.
2- 2 المناقب لابن شهرآشوب 2: 61.
3- 3 تاريخ دمشق 42: 313، 8864.

ص: 25

وتنشئته وإعداده، وراحت يداه المباركتان ترعاه أحسن رعاية وتحفظه من كلّ تحديات مجتمعه وانحرافاته، فولد وعاش طفولته وصباه وقد كرّم اللَّه وجهه من أن يسجد للّآت أو يركع للعزّى أو يشطط به قدم هنا وهناك، ومثل هذا ما نراه في كلام العقّاد الآتي فيما بعد.

وكيف يسجد لصنم أو ينحرف به السير.. ولحمه لحم رسول اللَّه ودمه دمه وهو وعلي من نور واحد ومن شجرة واحدة وفي صلبه ذرية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو من رسول اللَّه ورسول اللَّه منه (1)؟!

ثمّ كيف يسجد لصنم وهو يكرهها صغيراً بل وهو جنين- فبغضه لها من بغض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لها- وهو الذي راح يقلعها كبيراً ويطهِّر الأرض منها والقلوب؟!

يقول عليه السلام: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الكعبة فقال لي: اجلس.

فجلست، فصعد على منكبي.

فقال لي: انهض.

فنهضت فعرف ضعفي تحته.

قال لي: اجلس.

فجلست، ثمّ نهض بي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فخيّل إلي أنني لو شئت نلت أُفق السماء، فصعدت إلى الكعبة.

وتنحّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال: ألق صنمهم الأكبر، صنم قريش. وكان من نحاس مُوتّدٍ بأوتاد من حديد في الأرض.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: عالجه.

فجعلت أُعالجه، حتى استمكنت منه. فقال: اقذفه، فقذفته حتّى انكسر.

ونزلت من فوق الكعبة، وانطلقت أنا والنبي صلى الله عليه و آله نسعى وخشينا أن يرانا أحد من قريش وغيرهم.

وهناك مصادر تقول: إنّ هذه القصّة مع بعض التغيير وقعت بعد فتح مكّة.


1- 1 مضامين لأحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأقواله في عليّ عليه السلام. انظر الخصال 31: 108 وآمال الصدوق: 307، 351، وشرح الأخبار 1: 220، 200، والفضائل: 82 و 108.

ص: 26

إسلامه

وقد تعدّدت واختلفت أقوال المؤرِّخين في عمره الشريف حين إسلامه وتصديقه بالنبوّة، بين من يقول كان له ثمان سنين وبين من يقول له تسع وآخر يقول له عشر، ورابع يقول له إحدى عشرة سنة وخامس يقول له اثنتا عشرة سنة وسادس يقول له ثلاث عشرة سنة وهناك من يقول: له خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة، وكلّ هذا إنّما يدلّ على تحديد عمره المبارك وقت أن أعلن الرسول رسالته للخاصّة من مريديه وموقفه الرسمي إن صحّ التعبير منها، وإلّا فإنّ روحه لم تتلوّث بالشرك فهو الذي لم يكفر باللَّه قط. وهذا ما نجده في الروايات أعلاه وفي قول الإمام زين العابدين جواباً عن سؤال من سأله عن عمر الإمام عليّ عليه السلام عند إيمانه، فقال عليه السلام: أو كان كافراً؟! إنما كان لعلي حين بعث اللَّه عزّوجلّ رسوله صلى الله عليه و آله عشر سنين ولم يكن كافراً (1).

والذي يؤيّد أن عمره كان عشر سنوات أنّ عمر الدعوة الإسلامية في مكّة ثلاث عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وله ثلاث وعشرون سنة وأنه استشهد سنة 40 ه وهو ابن ثلاث وستّين سنة.

ويميل ابن أبي الحديد إلى أنّ عمره الشريف كان ثلاث عشرة سنة، متقيداً من قوله عليه السلام: «لقد عبدتُ اللَّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمّة سبع سنين»، وقوله عليه السلام:

«كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعاً، ورسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينئذ صامت ما أُذِنَ له في الإنذار والتبليغ».

وذلك- والقول ما زال لابن أبي الحديد- لأنّه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أبيه وهو ابن ستّ، فقد صحّ أنّه كان يعبد اللَّه قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، وابن ستّ تصحّ منه العبادة، إذا كان ذا تمييز، على أنّ عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب... (2) وقد جاء في ترجمة الإمام علي عليه السلام في الاستيعاب أنّ: المروي عن سلمان وأبي


1- 1 الكافي 8.
2- 2 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 14.

ص: 27

ذر والمقداد وخبّاب وأبي سعيد الخدري وزيد بن أسلمه أنّ علياً عليه السلام أوّل من أسلم وفضّله هؤلاء على غيره.

وقال ابن إسحاق: أوّل من آمن باللَّه وبمحمّد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام وهو قول ابن شهرآشوب إلّاأنّه قال: من الرجال بعد خديجة.

وعن ابن عبّاس قال: سمعت عمر بن الخطّاب وعنده جماعة فتذاكروا السابقين إلى الإسلام فقال عمر: أمّا عليّ، فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول فيه ثلاث خصال لوددت أنّ لي واحدة منهنّ، فكان أحبّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس، كنت أنا وأبو عبيدة وأبو بكر وجماعة من الصحابة إذ ضرب النبي صلى الله عليه و آله بيده على منكب عليّ فقال له: يا عليّ أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّل المسلمين إسلاماً وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى (1).

يقول جورج جرداق عن إسلام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:

وإذا أسلم بعض الوجوه من قريش منذ أوّل الدعوة احتكاماً للعقل وتخلّصاً من الوثنية، وإذا أسلم كثير من العبيد والأرقّاء والمضطهدين طلباً للعدالة التي تتدفّق بها رسالة محمّد واستنكاراً للجور الذي يلهب ظهورهم بسياطه، وإذا أسلم قوم بعد انتصار النبي امتثالًا للواقع وتزلّفاً للمنتصر كما هي الحال بالنسبة لأكثر الأمويين. إذا أسلم هؤلاء جميعاً في ظروف تتفاوت من حيث قيمتها ومعانيها الإنسانية وتتّحد في خضوعها للمنطق أو للواقع الراهن فإنّ علي بن أبي طالب قد ولد مسلماً؛ لأنّه من معدن الرسالة مولداً ونشأةً وفي ذاته خلقاً وفطرةً، ثمّ إنّ الظرف الذي أعلن فيه عمّا يكمن في كيانه من روح الإسلام ومن حقيقته لم يكن شيئاً من ظروف الآخرين ولم يرتبط بموجبات العمر؛ لأنّ إسلام عليّ كان أعمق من ضرورة الارتباط بالظروف، إذ كان جارياً في روحه كما تجري الأشياء من معادنها والمياه من ينابيعها، فإنّ الصبي ما كاد يستطيع التعبير عن خلجات نفسه حتى أدّى فرض الصلاة وشهد باللَّه ورسوله دون أن يستأذن أو يستشير.


1- 1 تاريخ دمشق 42: 167، 8581.

ص: 28

لقد كان أوّل سجود المسلمين الأوّل لآلهة قريش، وكان أوّل سجود عليّ لإله محمّد! إلّاأنّه إسلام الرجل الذي اتيح له أن ينشأ على حبّ الخير وينمو في رعاية النبي ويصبح إمام العادلين من بعده وربّان السفينة في غمرة العواصف والأمواج (1).

كما أنّ العقاد يقول عن إسلام علي:

ولد عليٌّ في داخل الكعبة، وكرّم اللَّه وجهه عن السجود لأصنامها، فكأنّما كان ميلاده إيذاناً بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها. وكاد عليٌّ أن يولد مسلماً.. بل لقد ولد مسلماً على التحقيق إذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح؛ لأنّه فتح عينيه على الإسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام... (2).

الذبيح الثالث

إنّ من قدّر له أن يتصفّح حياته عليه السلام لا يجد فيها شيئاً من الخوف أو التردّد من الموت، إنّ قاموس حياته المباركة خالٍ من ذلك كلّه. إنّ عليّاً عليه السلام قهر الموت وقضى عليه فمن أي شي ء يا ترى يخاف؟!

ولهذا تراه يستسلم ويطيع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما يُلقي به في لهوات الحرب ويرمي به في أحلك الأمور وأعسرها.

حان الوقت، وجاء اليوم الموعود وتشابكت خيوط المؤامرة وتسابق القوم من هنا وهناك، واجتمع زعماء القبائل في دار الندوة في مكة، وكان فيهم أبو جهل وعروة بن هشام وأبو البختري، وقرّروا أن يضعوا لهذا الأمر نهاية وأن يطووا صفحته إلى الأبد. فجمعوا شجعانهم ليضربوا محمّداً ضربة رجل واحد فيتوزّع دمه هنا وهناك على جميع القبائل فيضيع وتضيع المطالبة به، وحدّدوا لمكرهم هذا وقتاً وموعداً.

هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خفيةً وأمر عليّاً بالمبيت تلك الليلة في فراشه، ليعتّم عليهم هجرته، إنّه فراش الموت، فما كان من عليّ إلّاالتسليم والانقياد وهو يعلم


1- 1 الإمام علي، صوت العدالة الإنسانية: 38.
2- 2 المجموعة الكاملة 2: 35.

ص: 29

جيّداً أنّ القوم قد تآمروا على ابن عمّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأنّهم قاتِلوه في فراشه، وأنّهم مباغتوه لا محالة، ولا ينجو منهم إلّاوهو أشلاء ممزّقة وأعضاء مقطّعة، مؤامرة نافذة واقعة لا شكّ فيها ولا ريب.

اختاره الرسول صلى الله عليه و آله لهذه المهمّة وهو شاب يافع في مقتبل العمر! إنّه ثالث قربان يقدَّم بعد إسماعيل وعبداللَّه والد النبي صلى الله عليه و آله وشتّان بين الذبيحين عليّ وإسماعيل، وعليّ وعبداللَّه، فكلّ منهما بيد أب شفيق رحيم يرقّ قلبه وترتجف يده، وهو بسيف عدوٍّ نزعت الرحمة من قلبه، وبخنجر يمسك بقوّة حاقد بغيض، وبيدٍ صلبة لا ينتابها الخوف ولا تربكها الرحمة..

إنّه امتحان عصيب لهم جميعاً، ولكن أي الثلاثة أشدّ محنةً وأقسى ؟! وأيّ امتحان هذا لإيمانه وانقياده واستسلامه؟!

لقد تيقّن فتى بني هاشم أنّه ما إن يغمض عينيه حتّى تنهال عليه مديّهم التي امتشطوها وسيوفهم التي حملوها وتبضعه خناجرهم... فلا تردّد ولا خوف بل لسان حاله يقول: نعم ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين..

فأنجاهما اللَّه برحمته من كيد المشركين ومكرهم، وأنزل في ذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (1).

زواجه المبارك

كان عمره عليه السلام حينما هاجر إلى المدينة بعد هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاثاً وعشرين سنة، وهناك كانت بضعة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاطمة الزهراء عليها السلام التي طالما تمنى التشرف بها كبار الصحابة؛ ومن أهل السابقة في الإسلام والفضل والشرف والمال؛ لأنّها بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولكثرة ما كانوا يسمعون منه صلى الله عليه و آله في ثنائه عليها واحترامها وتقديرها، ولموقعها العظيم منه صلى الله عليه و آله. راحت نفوسهم تطمح للاقتران بها، وكانوا كلّما تقدّم واحد منهم لم يجد عنده صلى الله عليه و آله إلّاأن يعرض بوجهه الكريم حتّى يخرج منه


1- 1 الأنفال: 30.

ص: 30

القادم وهو يظنّ أنّه صلى الله عليه و آله ساخط عليه وغير راضٍ عنه، وإلّا الرفض، وأنّه ينتظر في زواجها أمر اللَّه وقضاءه (1).

تقدّم عليٌّ عليه السلام بخطوات يكتنفها الحياء، وراحت نظراته تتوزع هنا وهناك، نظرة إلى وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخرى يرسلها بعيداً، وثالثة إلى ما بين يديه، ماذا يقول ويده خالية.

حانت نظرة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليه فعرف ما يريد: إنّ علياً جاء لحاجة، وحاجة عليّ يمنعه حياؤه من التحدّث بها، فبادره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مشجّعاً حتّى ينطق، وما إن نطق حتّى كان ذلك البيت من أبهى وأزهى وأزكى وأعظم بيوت الدنيا بل وأغناها إيماناً وطهارةً وأثراها أخلاقاً وعلماً... إنّه بيت عليّ وفاطمة ثمّ ريحانتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحسن والحسين عليهما السلام والذرّية الصالحة!

وفي السنن الكبرى يقول عليّ عليه السلام: «لقد خطبت فاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه و آله فقالت لي مولاة: هل علمت أنّ فاطمة تخطب؟

قلت: لا- أو نعم-

قالت: فاخطبها إليك.

قال: قلت: وهل عندي شي ء أخطبها عليه؟! قال: فواللَّه ما زالت ترجيني حتّى دخلت عليه،- وكنّا نجلّه ونعظّمه- فلمّا جلستُ بين يديه ألجمت حتّى ما استطعت الكلام.

قال: هل لك من حاجة؟ فسكتُ فقالها ثلاث مرّات.

قال: لعلّك جئت تخطب فاطمة!

قلت: نعم يا رسول اللَّه.

قال: هل عندك من شي ء تستحلّها به؟

قال: قلت: لا واللَّه يا رسول اللَّه.

قال: فما فعلت بالدرع التي كنتُ سلّحتكها؟


1- 1 انظر ذخائر العقبى : 70، تاريخ اليعقوبي 2: 41، المعجم الكبير 10: 156، 10350، تاريخ دمشق 42: 125، 8494.

ص: 31

قال عليّ: واللَّه إنّها درع حُطمية ما ثمنها إلّاأربعمائة درهم.

قال: اذهب فقد زوّجتكها، وابعث بها إليها فاستحلّها به» (1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ اللَّه أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ» (2).

وقال صلى الله عليه و آله أيضاً: «واللَّه ما ألوت (أي ما قصّرت في أمرك وأمري) أن أزوجك خير أهلي» (3).

وعن عائشة وأمّ سلمة: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن نجهّز فاطمة حتّى ندخلها على عليّ، فعمدنا إلى البيت ففرشناه تراباً ليّناً من أعراض البطحاء، ثمّ حشونا مرفقتين ليفاً فنفشناه بأيدينا ثمّ أطعمنا تمراً وزبيباً وسقينا ماءً عذباً، وعمدنا إلى عود فعرضناه في جانب البيت ليلقى عليه الثوب، ويعلّق عليه السقاء، فمارأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة (4).

العبادة عند عليّ عليه السلام

وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (5)

العبادة كانت عنده عليه السلام وقفة مع السماء يتأمّل فيها، ويتدبّر حياته وسيرته، ويربّي فيها نفسه ويبعدها عن كلّ مزالق الشيطان، ويقوّي فيها إيمانه، ويكسب فيها مزيداً من التقوى.

العبادة عنده عليه السلام عبادة الأحرار لا عبادة التجّار أو العبيد «وجدته أهلًا للعبادة فعبدته» إذن لا طمع في جنّة وثواب ولا خوف من نار وعذاب.

العبادة عنده عليه السلام نموّ مستمر وسمو متواصل واستلهام واعٍ لكلّ معاني العزّ والفخر والخير والعطاء. «إلهي كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحبّ».

العبادة عند عليّ عليه السلام خشوع وتواضع لخالق السماوات والأرض.

العبادة عند أمير المؤمنين عليه السلام شكر لنعمه تعالى المتواصلة على العباد.

العبادة عنده عليه السلام اعتراف بخالق الكون ورضا بقضائه وتسليمٌ لقدره.


1- 1 السنن الكبرى 7: 383، 14351، البداية والنهاية 3: 346، الطبقات الكبرى 8: 20...
2- 2 المعجم الكبير 10: 156، 10305.
3- 3 الطبقات الكبرى 8: 24، كنزالعمال 11: 605، 32926.
4- 4 انظر سنن ابن ماجة 1: 616، 1911.
5- 5 البيّنة: 5.

ص: 32

العبادة عنده عليه السلام تحمّل لأمانة السماء، ومسؤولية كبرى أمام اللَّه سبحانه وتعالى من جهة وإزاء المجتمع من جهة اخرى .

إذن فهي ليست عبارات جوفاء ومفردات لا معنى لها و حركات منتظمة وحسب.

هكذا يؤدّي عليّ عليه السلام عبادته بخشوع عظيم وبصوت حزين ونغمة شجيّ.

فيما رواه عروة بن الزبير: كنّا جلوساً في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فتذاكرنا أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أُخبركم بأقلّ القوم مالًا وأكثرهم ورعاً وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟

قالوا: مَنْ هو؟

قال: علي بن أبي طالب.

قال: فواللَّه لقد رأيت كلّ من كان في المجلس إلّاأعرض بوجهه عنّي. فقال: يا عَوَيمر لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد مذ أتيت بها.

فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيته. وليقلّ كلّ قوم ما رأى. شهدت علي بن أبي طالب عليه السلام بسويحات بني النجار، وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه، واستتر ببعيلات النخل فافتقدته وبَعُدَ عليّ مكانه، فقلت لحق بمنزله. فإذا بصوت حزين، ونغمة شجي وهو يقول:

«إلهي كم من موبقة حملتُها فقابلتَها بنعمتك. وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك. إلهي إن طال في عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا بغير غفرانك طامع، ولا أنا براجٍ غير رضوانك».

فشغلني الصوت واقتفيت الأثر. فإذا هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعينه.

فاستترت له لأسمع كلامه، فركع ركعات في جوف الليل، ثمّ فزع إلى الدعاء والتضرّع والبكاء والبثّ والشكوى . فكان ممّا ناجى به اللَّه أن قال:

«إلهي أُفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك، فتعظم

ص: 33

عليَّ بليتي».

ثمّ قال:

«آهٍ إن أنا قرأتُ في الصحف سيئة أنا ناسيها، وأنت محصيها، فتقول خذوه فيا لَه من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولاتنفعه قبيلته. يرحمه الملأ إذاأذّن فيه النداء».

ثمّ قال:

«آهٍ من نار تنضح الأكباد والكلى. آهٍ من نار نزّاعة للشوى. آهٍ من غمرة من ملهبات لظى ». ثمّ انفجر في البكاء، فلم أسمع له حسّاً ولا حركة فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أوقظهُ لصلاة الفجر (قال أبو الدرداء) فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، قلت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون.

مات واللَّه علي بن أبي طالب. فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم.

فقالت فاطمة عليها السلام: «يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه و من قصّته؟»، فأخبرتها الخبر.

فقالت: «هي واللَّه يا أباالدرداء الغشية التي تأخذه من خشية اللَّه»، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي.

فقال: ممَّ بكاؤك يا أباالدرداء؟

فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك.

فقال: يا أبا الدرداء، فكيف لو رأيتني ودُعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ، وزبانية حفاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنتَ أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية.

فقال أبوالدرداء: فواللَّه ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1) ممّا قالوه

ما تقول في عليٍّ عليه السلام؟

سؤال أجاب عنه الخليل بن أحمد الفراهيدي.


1- 1 الأمالي للصدوق: 136- 137 وغيره.

ص: 34

«فقال: هو إمام الكلّ.

قالوا: ما دليلك عليه؟

قال: استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه، دليل على أنّه إمام الكلّ».

حقّاً سيّدي إنّك لم تكن نبيّاً ولكنّك كنت إماماً ووصيّاً، لم تكن رسولًا ولكنّك كنت أخاً ووزيراً، وكنت قدوةً، وكنت جوهرةً يتيمةً، خلقها اللَّه وصاغها محمّد صلى الله عليه و آله وضيّعها الناس، كلمة ما أعظمها نطق بها جورج جرداق حينما سئل عن الإمام عليّ عليه السلام: «ما عساني أن أقول في جوهرة يتيمة، خلقها اللَّه وصاغها محمّد صلى الله عليه و آله!»

إذن ما عسانا أن نقول فيك- وأنت إمام الكلّ- وفي فضائلك ومناقبك وفي إيمانك وتقواك وجهادك وشجاعتك، وفي علمك وأدبك وفي فصاحتك وبلاغتك، أنستطيع أن نصوغ معانيها البليغة والجميلة والعظيمة؟ وكيف نجرؤ أن نفرغ منقبة من مناقبك سيدي في قوالب حروف وكلمات لا نراها إلّاميتة؟ اللّهم إلّاأن نقول وهو الحقّ: إنّها تبعث حيّة بذكر خصالك وفضائلك...

وحقّاً ما يقوله أبو إسحاق النظام: «عليّ بن أبي طالب محنة على المتكلّم، إن وفاه حقّه غلا وإن بخسه حقّه أساء!».

وحقّاً أيضاً ما يقوله المتنبي في جواب من اعترض عليه في عدم مدحك على كثرة أشعاره وقصائده..

وتركتُ مدحي للوصي تعمّداً إذ كان نوراً مستطيلًا شاملا

وإذا استطال الشي ء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

حقّاً كلمة يتيمة ولدت في غير زمنها ولكنّها مشيئة اللَّه.

مسك كلما حاول أعداؤه إخفاءَه انتشر عَرفه، وكلّما بذلوا جهودهم لأن يكتموه تضوع نشره، فشمسك يا سيدي لا تخفيها أكفُّ الظالمين والحاسدين

ص: 35

والمبغضين...

نعم كانوا لا يُطيقون ظهور فضائلك ولا الإصغاء إليها فضلًا عن الارتواء من نميرها.

لقد عثرتُ على قول آخر للخليل بن أحمد الفراهيدي:

«ما أقول في حقّ امرئٍ كتمت مناقبه أولياؤه خوفاً وأعداؤه حسداً، ثمّ ظهر ما بين الكتمين ما ملأ الخافقين. بل ظهر نزر يسير فكان له كلّ هذا».

ممّا فعلوه

لقد كنت سيّدي فريداً نأت عنه هذه الأمّة بسوء حظّها، ووحيداً جفته لسوء طالعها.

كم دأب الأعداء على محو آثارك ومعالمك، فلعلّ ذاكرة التاريخ تنساها، فخاب كيدهم، وأنصفك التاريخ، فهذه كتب التأريخ والحديث والآثار تحكي لنا أنّ الذي زيّن صفحاتها كان ذِكرك، وأنّ الذي لوّن لوحاتها كانت مناقبك وفضائلك، فقد بهر ما ظهر منها العيون وحيّر العقول خاصة إذا تتبعنا ما أفرغه الأعداء من جهود وما بذلوه من أموالٍ لشراء الذمم وما سخّروه من وسائلهم الإعلامية- بعد أن عقد حبّك وولاؤك على قلوب محبّيك ومريديك- على مدى سبعين سنة أو تزيد: منابر تشتمك، وألسن تتبرأ منك، وأخرى تلعنك.. وفي قبالها نفوس تزهق، وألسن قطعت؛ لأنّها لا تقول فيك شيئاً نكراً لطمس فضائلك ودفنها، فخابت جهودهم وبطلت أحلامهم.

لم يكتفوا بالحسد «فكلّ ذي نعمة محسود» ونعمتك ما أعظمها: فآيات نزلت بحقّك، وروايات تواترت بفضلك، وأقوال لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أخذت تشيد بك، ومواقف رسالية راحت تتباهى بك.. هذا فضلًا عن الصياغة الربّانية لك: قدرات عجيبة، وصفات فريدة، ومناقب جليلة... فكيف لا يحسدوك وكلّ منهم خال الوفاض منها؟!

ص: 36

يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ

إن يحسدوك على علاك فإنّما متسافل الدرجات يحسد من علا

بل مزجوا حسدهم بحقد دفين وثارات عقيمة، في حصيلتها النهائية كانت بغضاً للَّه ولرسوله وعداءً للدين الذي حلّ بين ظهرانيهم، فلم يستطيعوا الكيد له، رغم كلّ جهودهم، فكادوك لأنّ سيفك كان على رؤوسهم لينطقوا بالحقّ، وما كانوا ليهتدوا فقالوها مرغمين، ولم يستطيعوا شتم الرسول صلى الله عليه و آله فشتموك..

فهذا عبداللَّه بن عبّاس حبر الأمّة وترجمان القرآن، كان يقوده سعيد بن جبير- وقد كفّ بصره- فمرّ على زمزم فإذا بقوم من أهل الشام يسبّون عليّاً كرّم اللَّه وجهه، فسمعهم عبداللَّه بن عبّاس، فقال لسعيد: ردّني إليهم، فردّه إليهم فقال:

أيّكم السابّ للَّه عزّوجلّ؟

فقالوا: سبحان اللَّه ما فينا من سبّ اللَّه عزّوجلّ!

فقال: أيّكم السابّ لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

فقالوا: ما فينا من سبَّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!

فقال: أيكم السابّ لعليّ بن أبي طالب؟

فقالوا: أما هذا فكان منه شي ء.

فقال: شهدت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بما سمعته يقول لعليّ بن أبي طالب: «يا عليّ مَنْ سبّك فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ اللَّه، ومن سبّ اللَّه، أكبّه اللَّه على منخريه في النار». ثمّ تولّى عنهم... (1) يقول عبداللَّه بن أحمد بن حنبل: «سألت أبي عن عليّ وأعدائه، فقال: يا بني إنّ عليّاً كان كثير الأعداء، ففتش عليه أعداؤه شيئاً مكروهاً ولم يجدوا، وجاؤوا إليه وحاربوه وقاتلوه وخلعوه كيداً منهم له».

نعم، حاربوك فكانت حربهم ظالمة، كادوا لك فردّ كيدهم إلى نحورهم،


1- 1 نور الأبصار للشبلنجي: 110.

ص: 37

افتروا عليك فكانت افتراءاتهم جائرة.

لم يجدوا عيباً فيك سيّدي فلاذوا بطمس معالمك وفضائلك وألجموا الألسنة الناطقة بمناقبك، لقد بنوا كيانهم على شتمك وسبّك وطمس آثارك.. وكأن حكمهم ليس له هدف إلّاإنهاء ذكرك، وكأن ليس لهم همٌّ إلّاإخفاء فضلك...

أما آن لك- يا معاوية- أن تترك عليّاً وشأنه، وتأمر بترك مسبّته على المنابر؟

قال: لا، حتّى يموت عليها الكبير ويربو عليها الصغير.

فقد أبت نفوس هؤلاء الطلقاء قبول عليّ بفضائله ومناقبه ومواقفه الجليلة التي كانت دفاعاً عن الرسالة والرسول، وعن كلمة الحقّ والعدل.. أبت قلوبهم ذلك كلّه، فراحت سياستهم تقوم على نبذ هذه المناقب والفضائل بل التصدّي لها بكلّ حزم حتّى صارت أساس سياستهم والبناء الذي تقوم عليه، فأصدر زعيم هؤلاء القوم وعميدهم معاوية بن أبي سفيان أمراً سلطانياً: برئت الذمّة ممّن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته.

ولم يكتف بهذا بل عمّم كتاباً آخر إلى جميع عمّاله يقول فيه:

إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحدٌ من المسلمين في أبي تراب، إلّاوتأتوني بمناقضٍ له في الصحابة، فإنّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني، وأدحضُ لحجّة أبي تراب وشيعته (1).

وبسبب هذا كلّه وتشجيعاً من السلطان الظالم ظهر الوضّاعون وكثروا، وظهر البهتان وانتشر وشاعت المختلقات من الروايات وذاعت بين الآفاق، وتجرأ أعداء الدين على تشويه معالمه والكيد له..

معاوية يقدم قومه

ولكن هيهات هيهات! فالزوابع بغبارها لا تخفي الحقيقة التي علت ناصعةً تتحدّاهم جميعاً، فقد ذاع صيتك وعطّر الخافقين عبيرك، وحتّى هؤلاء الأعداء


1- 1 شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 11: 44- 46.

ص: 38

راحت ألسنتهم تنطق بالحقّ، نطقت بصفاتك، ونشرت مجالسهم عظيم مناقبك...

فلسان مناوئيك أنطقه اللَّه الذي أنطق كلّ شي ء، لتكون الحجّة عليهم أقوى ، فالفضل ما شهدت به الأعداء.

جاء ابن أحور التميمي إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من عند ألأم الناس، وأبخل الناس، وأعيا الناس، وأجبن الناس.

فقال: ويلك وأنّى أتاه اللؤم، ولكنا نتحدّث أن لو كان لعليّ بيتٌ من تبن وآخر من تبر، لأنفد التبر قبل التبن، وأنّى أتاه العي وإن كنّا لنتحدّث أنه ما جرت المواسي على رأس رجل من قريش أفصح من عليّ، ويلك وأنّى أتاه الجبن؟ وما برز له رجل قطّ إلّاصرعه، واللَّه يا ابن أحور، لولا أنّ الحرب خدعة لضربتُ عنقك، اخرج فلا تقيمن في بلدي (1).

وله أيضاً: فواللَّه لو أنّ ألسن الناس جمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان عليّ (2). ولو لم يكن للأمّة إلّالسان علي لكفاها (3).

ولمّا جاء ابن أبي محفن معاوية قال له: جئتك من عند أعيا الناس.

قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس؟! فواللَّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره (4).

قال معاوية لضرار بن ضمرة من أصحاب عليّ عليه السلام بعد مصرعه:

صِف لي عليّاً.

فقال ضرار: اعفني.

قال معاوية: لَتصِفنَّه.

قال: أمّا إذ لابدّ من وصفه، فكان واللَّه بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطلق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته.

وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام


1- 1 تاريخ دمشق 42: 414.
2- 2 الإمامة والسياسة 1: 134.
3- 3 شرح الأخبار 2: 99.
4- 4 شرح نهج البلاغة 1: 24.

ص: 39

ما خشن.

وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه. ونحن واللَّه- مع تقريبه إيّانا وقربه منّا- لا نكاد نكلِّمه هيبةً له.

ويعظّم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله.

وأشهد أنّي لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول:

يا دنيا غُرّي غيري! أإليّ تعرّضتِ أم إليَّ تشوّقتِ؟!

هيهات هيهات!

قد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل.

آه من قلّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق!

ولما انتهى ضرار من وصفه هذا يقول الخبر: فبكى معاوية حتّى اخضلّت لحيته وقال: رحم اللَّه أبا الحسن، كان واللَّه كذلك.

فكيف حزنك عليه يا ضرار؟

قال: حزن من ذُبحَ وحيدُها في حجرها.

ولمّا بلغ معاوية قتل علي عليه السلام قال:

ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب.

فقال له أخوه عتبة بن أبي سفيان: لا يسمع هذا منك أهل الشام.

فقال له: دعك منّي (1).

وكان يقول عن علم عليّ عليه السلام: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يغره العلمَ غرّاً (2) رحم اللَّه أباالحسن فلقد سبق من كان قبله، وأعجز من يأتي بعده (3).

... هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله (4) وهذا عمرو بن العاص العدوّ اللدود لعليّ عليه السلام حينما راح يخيِّر نفسه بين


1- 1 انظر «علي إمام المتّقين» لعبد الرحمن الشرقاوي: 20.
2- 2 فضائل الصحابة لابن حنبل 2: 675.
3- 3 شرح نهج البلاغة 11: 253.
4- 4 شرح نهج البلاغة 11: 253.

ص: 40

علي ومعاوية:

أمّا عليٌّ فدين ليس يشركه دنيا وذاك له دنيا وسلطان.

وفيما كتبه إلى معاوية قبل التحاقه به: ويحك يا معاوية! أما علمت أنّ أباالحسن بذل نفسه بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقد قال فيه يوم غدير خم: ألا من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاده... (1)... حيث نقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنّا إنّما أردنا هذه الدنيا...

وراح يخاطب معاوية... ومهما نسيت فلا تنسى أنّك على باطل...

أوهل يستغنون عنك؟!

فوجئ عليٌّ عليه السلام يوماً بجمع من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكان فيهم حبر الأمّة عبداللَّه بن عبّاس والخليفة أبو بكر ورجل يهودي يقرعون عليه باب داره.

ذلك أنّ مالك بن أنس روى أنّ يهودياً دخل المسجد فسأل الناس:

أين وصيّ رسول اللَّه؟ فأشار القوم إلى أبي بكر.

فقال الرجل: أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّاوصيّ أو نبيّ... قال أبوبكر: سل عمّا بدا لك.

قال اليهودي: اخبرني عمّا ليس للَّه، وعمّا ليس عند اللَّه.. وعمّا لا يعلمه اللَّه...

قال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي!

همّ أبو بكر والمسلمون رضي اللَّه عنهم باليهودي، فقال ابن عبّاس رضى الله عنه: ما أنصفتم الرجل!... فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلّم به؟

فقال ابن عبّاس: إن كان عندكم جوابه، وإلّا فاذهبوا إلى علي رضى الله عنه يجيبه، فإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لعلي بن أبي طالب: «اللّهم اهدِ قلبه وثبّت لسانه».

فقام أبو بكر رضى الله عنه، ومن حضره، فأتوا عليّ بن أبي طالب في داره، فاستأذنوا عليه.


1- 1 المناقب للخوارزمي: 199.

ص: 41

فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنّ هذا اليهودي سألني مسائل الزندقة!

فقال عليّ كرّم اللَّه وجهه: «ما تقوله يا يهوديّ؟»

قال: أسألك عن أشياء لا يعلمها إلّانبيّ أو وصيّ نبيّ.

فقال له: قلّ.

فأعاد اليهودي الأسئلة.

فقال عليّ رضى الله عنه:

أما ما لا يعلمه اللَّه فذلك قولكم معشر اليهود أن عزيراً ابن اللَّه، واللَّه لا يعلم أنّ له ولداً (إذ لو كان له ولد لكان يعلمه).

وأمّا قولك: أخبرني بما ليس عند اللَّه.

فليس عنده ظلمٌ للعباد.

وأمّا قولك: أخبرني بما ليس لِلَّه.

فليس لِلَّه شريك.

فقال اليهودي: أشهد أنّ محمّداً رسول اللَّه وأنّك وصيّ رسول اللَّه.

فارتاح أبو بكر والمسلمون من جواب عليّ، وقالوا: يا مفرِّج الكروب! (1).

وهكذا كان يفعل الخليفتان الثاني والثالث فهم جميعاً لم يستغنوا عن آراء الإمام عليّ عليه السلام في الفقه والقضاء والجهاد والسياسة والإدارة.. وكان يمدّ لهم يدَ العون والرشد ما دامت هناك مصلحة إسلامية، والشواهد كثيرة على هذا.

مع بعض أقواله عليه السلام

«لا يقيم أمر اللَّه سبحانه وتعالى إلّامن لا يصانع ولا يتبع المطامع..»

وممّا كان يعظ به من يتولّى أمراً من أُمور المسلمين صغر هذا الأمر أو كبر:

«لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي


1- 1 انظر إمام المتّقين، لعبد الرحمن الشرقاوي: 76- 77.

ص: 42

فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ولا المعطل للسنّة فيهلك الأمّة. ومَن نصب نفسه للناس فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلم الناس ومؤدّبهم».

ولمّا رأى الثراء فاحشاً في الناس وأخلاق السوء قد دبّت فيهم، ولما رآهم يتزاحمون على نيل المناصب والجاه، ولمّا رآهم يتّصفون بالتفاخر والتكاثر بالأموال والأنفس، ولمّا رآهم وقد عادت العصبية إلى سيرتهم والقومية تنهش بهم وقد نهى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

«دعوها إنّها نتنة»، و «ليس منّا من دعا إلى عصبية».

راح عليّ عليه السلام يعظهم ويحذّرهم ممّا يتركه ذلك على نفوسهم وعواقب ما هم فيه:

«أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

«من أصبح على الدنيا حزيناً، فقد أصبح لقضاء اللَّه ساخطاً».

«ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فقد أصبح يشكو ربّه».

«ومن أتى غنياً فتواضع لغناه ذهب ثلثا دينه».

«ما بال ابن آدم والفخر؟ أوّله نطفة، وآخره جيفة، لا يرزق نفسه ولا يدفع حتفه».

«ياابن آدم؛ كن وصي نفسك في مالك، واعمل فيه ما تؤثر أن يُعمل فيه من بعدك».

«ظلم الضعيف أفحش الظلم».

«لا تَظلم كما لا تُحبّ أن تُظلَم».

«من ظلم عباد اللَّه كان اللَّه خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللَّه أدحض حجّته، وكان اللَّه حرباً عليه حتّى ينزع عن ظلمه ويتوب، وليس شي ء أدعى إلى تغيير

ص: 43

نعمة اللَّه وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللَّه يسمع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد».

«لا يغرّنكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلٌّ ممدود إلى أجلٍ محدود».

مداخلات

وختاماً نكتفي بما ذكره بعض كبار الكتّاب والمفكّرين:

عبّاس محمود العقّاد

تدلّ أخباره- كما تدلّ صفاته- على قوّة جسدية بالغة في المكانة والصلابة على العوارض والآفات. فربما رفع الفارس بيده فجلد به الأرض غير جاهد ولا حافل، ويمسك بذراع الرجل فكأنّه أمسك بنفَسِهِ فلا يستطيع أن يتنفّس، واشتهر عنه انّه لم يصارع أحداً إلّاصرعه، ولم يبارز أحداً إلّاقتله، وقد يزحزح الحجر الضخم لا يزحزحه إلّارجال، ويحمل الباب الكبير يعيى بقلبه الأشدّاء، ويصيح الصيحة فتنخلع لها قلوب الشجعان... لا ينهض له أحد في ميدان مناجزة، فكان لجرأته على الموت لا يهاب قرناً من الأقران بالغاً ما بلغ من الصولة ورهبة الصيت...

ويزيد شجاعته تشريفاً أنّها ازدانت بأجمل الصفات التي تزين شجاعةالشجعان الأقوياء.. فلا يعرف الناس حلية للشجاعة أجمل من تلك الصفات التي طبع عليها عليّ بغير كلفة ولا مجاهدة رأي. وهي التورّع عن البغي، والمروءة مع الخصم قويّاً أو ضعيفاً على السواء، وسلامة الصدر من الضغن على العدوّ بعد الفراغ من القتال.

أمّا مروءته في هذا الباب فكانت أندر بين ذوي المروءة من شجاعته بين الشجعان. فأبى على جنده وهم ناقمون أن يقتلوا مدبراً أو يجهزوا على جريح أو يكشفوا ستراً أو يأخذوا مالًا. وصلّى في وقعة الجمل على القتلى من أصحابه ومن أعدائه على السواء، وظفر بعبداللَّه بن الزبير ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص

ص: 44

وهم ألدّ أعدائه المؤلّبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقّبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدّة فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءً لضربته.. وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفّين وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشاً.. فلمّا حمل عليهم وأجلاهم عنه سوَّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيّدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم اللَّه منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها شيئاً، ثمّ خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها. قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين! أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟

فانتهره وهو يقول: ويحك؟ إنّا أُمرنا أن نكفّ عن النساء وهن مشركات أفلا نكفّ عنهنّ وهن مسلمات؟ وإنّه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة فأمر بجلدهما مائة جلدة. ثمّ ودّع السيّدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالًا وأرسل معها من يخدمها ويحفّ بها. قيل: إنّه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهن بالعمائم وقلّدهن السيوف.. فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأفّفت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكّلهم بي.. فلمّا وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهنّ وقلن لها: إنّما نحن نسوة.

[وهنا تقول عائشة: ما ازددت واللَّه يا ابن أبي طالب إلّاكرماً.]

وكانت هذه المروءة سنّته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة رضي اللَّه عنها ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال..

وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له وأضرّهم به وأشهرهم بالضغن عليه. فنهى أهله وصحبه أن يمثِّلوا بقاتله وأن يقتلوا أحداً غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاءً محزون يفيض كلامه بالألم والمودّة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا

ص: 45

صفوفه وأفسدوا عليه أمره وكانوا شرّاً عليه من معاوية وجنده، لأنّه رآهم مخلصين وإن كانوا مخطئين وعلى خطئهم مصرِّين..

وعن صفة الثقة والاعتزاز بالنفس في المواقف الحرجة والعلم... يقول العقاد: فما منعته الطفولة الباكرة يوماً أن يعلم أنّه شي ء في هذه الدنيا وأنّه قوّة لها جوار يركن إليه المستجير. ولقد كان في العاشرة أو نحوها يوم أحاط القروم القرشيون بالنبيّ عليه السلام ينذرونه وينكرونه وهو يقلب عينيه في وجوههم ويسأل عن النصير ولا نصير.. لو كان بعلي أن يرتاع في مقام نجدة أو مقام عزيمة لارتاع يومئذ بين أولئك الشيوخ الذين رفعتهم الوجاهة ورفعتهم آداب القبيلة البدوية إلى مقام الخشية والخشوع. ولكنّه كان عليّاً في تلك السن الباكرة كما كان عليّاً وهو في الخمسين أو الستّين.. فما تردّد وهم صامتون مستهزئون أن يصيح صيحة الواثق الغضوب: أنا نصيرك.. فضحكوا منه ضحك الجهل والاستكبار، وعلم القدر وحده في تلك اللحظة أن تأييد ذلك الغلام أعظم وأقوم من حرب أولئك القروم..

عليّ هذا هو الذي نام في فراش النبيّ ليلة الهجرة، وقد علم ما تأتمر به مكّة كلّها من قتل الراقد على ذلك الفراش.

وعليّ هذا هو الذي تصدّى لعمرو بن ود مرّةً بعد مرّةً والنبيّ يجلسه ويحذّره العاقبة التي حذرها فرسان العرب من غير تحذير، يقول النبي: اجلس. إنّه عمرو.

فيقول: وإن كان عمراً.. كأنّه لا يعرف من يخاف ولا يعرف كيف يخاف، ولا يعرف إلّا الشجاعة التي هو ممتلئ بها واثق فيها في غير كلفة ولا اكتراث.

أن يعتصم المرء منه بثقة لا تنخذل، وأنفة لا تلين. فمن شواهد هذه الثقة بنفسه انّه حملها من ميدان الشجاعة إلى ميدان العلم والرأي حين كان يقول:

«اسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني في شي ء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدى مائة وتضلّ مائة إلّاأنبأتكم بناعقها وقائدها

ص: 46

وسائقها، ومناخ ركابها ومحطّ رحالها».

ومن شواهدها أنّه كان يقول والخارجون عليه يرجمونه بالمروق: «ما أعرف أحداً من هذه الامّة عَبَدَ اللَّه بعد نبيّنا غيري، عبدت اللَّه قبل أن يعبده أحد من هذا الامّة تسع سنين».

وزاده اتهام من حوله معتصماً بالثقة بنفسه، فلمّا عتب عليه خصماه طلحة والزبير أنه ترك مشورتهما قال: «نظرت إلى كتاب اللَّه وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتّبعته. وما استنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلّم فاقتديته. فلم أحتج في ذلك إلى رأيكما ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما واخواني المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما...».

ومن أقوال العقّاد الأخرى : كان مثلًا يخرج إلى مبارزيه حاسر الرأس ومبارزوه مقنّعون بالحديد. أفعجيب منه أن يخرج إليهم حاسر النفس وهم مقنّعون بالحيلة والرياء؟ وكان يغفل الخضاب أحياناً ويرسل الشيب ناصعاً وهو لا يحرم خضابه في غير ذلك من الأحيان. أفعجيب منه، مع هذا، أن يقل اكتراثه لكلّ خضاب ساتراً ما ستر، أو كاشفاً ما كشف، من رأي وخليقة؟

وعن صدقه وزهده فيقول العقاد:... فما استطاع أحد قطّ أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحقّ الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، ولعلّه كان أحوج إلى المصانعة بين النصراء ممّا كان بين الأعداء، لأنّهم أرهقوه باللجاجة وأعنتوه بالخلاف. فما عدا معهم قول الصدق في شدّة ولا رخاء، حتى قال فيه أقرب الناس إليه: إنّه رجل يعرف من الحرب شجاعتها ولكنّه لا يعرف خدعتها.

وكان أبدا عند قوله: «علامة الايمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتّقي اللَّه في حديث غيرك».

وصدق في تقواه وإيمانه كما صدق في عمل يمينه ومقالة لسانه. فلم يعرف أحد

ص: 47

من الخلفاء أزهد منه في لذّة دنيا أو سيب دولة، وكان وهو أمير المؤمنين يأكل الشعير وتطحنه امرأته بيديها، وكان يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير فيقول: «لا أحبّ أن يدخل بطني ما لا أعلم».. قال عمر بن عبد العزيز وهو من أسرة أميّة التي تبغض عليّاً وتخلق له السيّئات وتُخفي ما توافر له من الحسنات:

«أزهد الناس في الدنيا عليّ بن أبي طالب». وقال سفيان: «إنّ عليّاً لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة» وقد أبى أن ينزل القصر الأبيض بالكوفة إيثاراً للخصاص التي يسكنها الفقراء. وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام. وروى النضر بن منصور عن عقبة بن علقمة قال: «دخلت على عليّ عليه السلام فإذا بين يديه لبن حامض آذتني حموضته وكسر يابسة. فقلت: يا أمير المؤمنين، أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب، كان رسول اللَّه يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا- وأشار إلى ثيابه- فإن لم آخذ بما أخذ به خفت ألا ألحق به»..

... هذه صفات تنتظم في نسق موصول: رجل شجاع لأنّه قوي، وصادق لأنّه شجاع، وزاهد مستقيم لأنّه صادق، ومثار للخلاف؛ لأنّ الصدق لا يدور بصاحبه مع الرضا والسخط والقبول والنفور، وأصدق الشهادات لهذا الرجل الصادق أنّ الناس قد أثبتوا له في حياته أجمل صفاته المُثلى ، فلم يختلفوا على شي ء منها إلّاالذي اصطدم بالمطامع...

عبد الفتاح عبد المقصود:

أجل لقد واجه أبو طالب دنياه فقيراً، ومات عبد المطّلب عنه وهو بعد في نحو من السن لم يكن كدحه قد أفاء عليه من الخير ما يشتهيه. ولم يورثه أيضاً سيادة القوم لأنّه أوصى لآخر من بنيه هو الزبير. فلئن أقبلت الدنيا على هذا الفقير فحبته بمكرمة هي آية المكرمات فقد كان هذا من القدر غاية المرتجى عند ذي رجاء...

ص: 48

... فإذا تمّ لأبي طالب الفقير المعسر بعض أمره في جوار كعبة الحرم، فإنّ أمره هذا لجليل في عيون القوم لأنّه اكتسب أبلغ شرف بأشرف جوار في أقدس دار، فكيف لو تمّ له أمره ذاك بغير سابق ترتيب منه، بل بصدفة هي عند أولئك الناس منّة منّ اللَّه وحظوة أراد أن يشرف بها ابن عبد المطّلب كما لم يشرف بمثلها قبله أو بعده من الرجال كثير ولا قليل؟

*** تلك ليلة فذة في الليالي، أضاء نجمها على الدنيا مرّه ثمّ لم يقدر بعدها لضوئه أن يبزغ ثانية كمثل بزوغه لأنّ مثيلاتها لا تعود. ولكن ضياء أشدّ لمعاناً من نور النجم توهّج، ثمّ سطع، ثمّ فاض بنوره على الآفاق سيرة كوجه الشمس رفاقة الإشراق.. سيرة إن فاتها أن تنفرد وحدها بالمبنى الساحر فقليل سواها ضمّ ما كان لها من معنى قاهر، بل أقلّ القليل، بل الأندر منه. ولو أنّك استطعت أن تتحلّل من شباك الزمن وتنفض خيوطها عنك، وسبحت عائداً إلى الماضي لرأيت ابنة أسد- فاطمة- تجول بالبيت الحرام تلتمس البركة، لأنّها سيّدة تجمّعت فيها مزايا آلها الكرام وامتلأ- كمثلهم- قلبها طهراً. ثمّ لرأيتها تأتي الكعبة فتطوف بها مرّة فمرّات متمسّحة بأستارها آونة مقبّلتها أُخرى . ولكنّك لا تلبث حتّى تشهدها وقد أوشك أن يصيبها أعياء تكاد أن تنوء به، وتنكر هي- بادئ الأمر- ما تحسّه، ثمّ تمضي متجلّدةتستحثّ نفسها وتستنهضها. ولكنّها رغم هذا لا تقوى ، ولا تستطيع أن تقوم عودها. وإذا هي تتشبّث أصابعها بأستار الكعبة تستعين بها وقد أخذت تحسّ شيئاً غاب عن ذهنها، وتقف مجهودة لا يستقرّ بها موطئ القدمين، كمن على طرف كثيب رخو من الرمال. وتجيل فيما حولها عيناً حائرة لعلّها تبصر زوجها أبا طالب يسعى هنا أو هناك فتجد لديه عوناً على ما تلقى ، ولكنّها لا تراه لأنّ ما حضرها في هذه اللحظة غاب عن حسابه..

ثمّ لعلّك تتبعها وقد خشيت هي أن تلقفها الأبصار المتطلّعة ممّن حضر من

ص: 49

أناس كان دأبهم الاجتماع في أروقة البيت وفي أفنائه فإذا رأيتها قد انحازت ناحية، ودلفت إلى أستار الكعبة فتوارت خلفها عن عيون القوم فكفاك ما شهدت. وقف منها على ملقط السمع دون مرمى العين لأنّها شاءت أن تتّخذ من الستر المقدّس ردءاً. واسمع بعد هذا حسيساً خافتاً يأتيك من لدنها. وأنيناً يحكمه الجلد واصطناع الاحتمال، وصرخات مكتومة تكاد أن تضلّها الأذن كأنّها تأتي من مهوى سحيق بعيد القرار. ثمّ اسمع نبرة بكاء تخالط هذه الصرخات، لها غير جرسها وغير رنتها، رقيقة، رنانة في غير حدّة، كأنّها شدو طائر تفتّحت عيناه على شعاع فجر أسفر أو أوشك على اسفار. وقد يأخذك العجب، وتملكك الدهشة، ولكنّه عجب قصير أجله، ودهشة لن يطول بك مداها ما دامت فاطمة قد بدت ثانية لناظريك، واهنة، وأشدّ ضعفاً ممّا رأيتها من قبل، كسا وجهها الشحوب ومشت في أوصالها رجفة الاعياء، وقد احتملت- مدثراً بستر الكعبة الشريف- وليدها بين صدرها وكفّيها.

*** تلك ولادة لم تكن قبل طفلها هذا الوليد ولم يحز فخرها بعده وليد أكرمه بها اللَّه وأكرم امّه وأباه، فكان تكريماً لفرعي هاشم الذي انحدر منه الطفل عن فاطمة وعن أبي طالب حفيدي الأصل الثابت الكريم.

وأقبل القوم- حين انتبهوا- يستبقون إلى السيّدة، يعاونونها: ويأخذون بيدها، ويملأون الأبصار بطلعة ذلك الذي كان بيت اللَّه مولده، وستر الكعبة ثوبه، كأنّما أوسع له في الشرف باجتماعه في كلا المولد والمحتد وهم لو استطاعوا أن يسبقوا زمانهم كما تأخّرت أنت لرأوه أيضاً يجتمع له نفس هذا الشرف حين يقبل عليه الموت فيلقاه في بيت اللَّه يهمّ أن يقوم بالصلاة...

أمّا فاطمة فقد أحبّت أن تحي في وليدها اسم أبيها فدعته بمعناه وان لم تدعه بلفظه، وقالت لزوجها وهي تحاوره:

«هو حيدرة».

ص: 50

وأمّا أبو طالب فقد كان أكثر توفيقاً حين اختار. رأى وليده قد علا شرفاً بمكان مولده كما علا من قبل بأصله الرفيع فقال:

«بل علي».

وبدأت عند هذا حياة الرجل الذي ساير أخطر الأحداث في هذه الدنيا، وعاشر أطهر الخلق وسيّد النبيّين، واحتمل نصيبه من عب ء كبير ألقاه اللَّه على مختاره الأمين، الذي خصّه بوحيه ورسالته الإلهية لهداية العالم.

وعاش عليّ عمره لغيره من المثل ومن الرجال، فكان في صباه القريب المفتدي، وفي شبابه الصديق المقتدي بالنبي الكريم، وبين هذا وذاك من أطوار العمر وما جاء في أعقابها من فترات، التزم غايات الكمال في الفِعال والخِلال، فلمّا انطوى بعض أجله، ومضى من الدنيا وعن هاديه، كان المعقب له وقد ذهب العقب. وأجل من أخذ عنه فأجاد، وركب جادته فما حاد.

محمود أبو ريّه

عليٌّ أوّل من أسلم وتربّى في حجر النبي وعاش تحت كنفه من قبل البعثة وظلّ معه إلى أن انتقل النبيّ إلى الرفيق الأعلى، لم يفارقه لا في سفر ولا في حضر، وهو ابن عمّه وزوج ابنته فاطمة الزهراء، شهد المشاهد كلّها سوى تبوك، فقد استخلفه النبيّ صلى الله عليه و آله فيها على المدينة فقال: يا رسول اللَّه، أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّاأنّه لا نبيّ بعدي؟».

هذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعاً في العلم...

ثمّ واصل أبورية حديثه تحت عنوان: غريبة توجب الحيرة:

من أغرب الأمور، وممّا يدعو إلى الحيرة أنّهم لم يذكروا اسم عليّ رضى الله عنه فيمن عهد إليهم بجمع القرآن وكتابته، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان! ويذكرون غيره ممّن هم أقلّ منه درجة في العلم والفقه!

ص: 51

فهل كان عليّ لا يُحسن شيئاً من هذا الأمر، أو كان من غير الموثوق بهم، أو ممّن لا يصحّ استشارتهم أو إشراكهم في هذا الأمر؟!

اللّهم إنّ العقل والمنطق ليقضيان بأن يكون عليّ أوّل من يعهد إليه بهذا الأمر، وأعظم من يشارك فيه، وذلك بما أُتيح له من صفات ومزايا لم تتهيّأ لغيره من بين الصحابة جميعاً، فقد ربّاه النبي صلى الله عليه و آله على عينه، وعاش زمناً طويلًا تحت كنفه، وشهد الوحي من أوّل نزوله إلى يوم انقطاعه، بحيث لم يند عنه آية من آياته!! فإذا لم يدع إلى هذا الأمر الخطير فإلى أيّ شي ء يدعى؟!

وإذا كانوا قد انتحلوا معاذير ليسوغوا بها تخطيهم إيّاه في أمر خلافة أبي بكر، فلم يسألوه عنها ولم يستشيروه فيها؛ فبأي شي ء يعتذرون من عدم دعوته لأمر كتابة القرآن؟

فبماذا نعلّل ذلك؟ وبماذا يحكم القاضي العادل فيه؟

حقّاً إنّ الأمر لعجيب، وما علينا إلّاأن نقول كلمةً لا نملك غيرها وهي:

لك اللَّه يا عليّ! ما أنصفوك في شي ء! (1) فتحي يكن في رحاب نهج البلاغة:

يصعب جدّاً الإحاطة بما تضمّنه كتاب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه ورضي اللَّه عنه وأرضاه، من موضوعات تتعلّق بمختلف شؤون الحياة، سابرة أغوارها، مستكشفة أبعادها، مقدمة المواعظ والعبر والدروس والحكم النافعة الجليلة من خلالها.

سأتناول من (نهج البلاغة) سفراً من أسفاره، وقبساً من قبساته، والذي يلفت فيه ببلاغة العالم، وعلم الرسالي، وإحاطة الداعية، وسرّ نجاح وفلاح الإمام حيث يقول: «من نصب نفسه للناس إماماً، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذّبها أحقّ بالإجلال من معلم الناس ومهذّبهم».


1- 1 أضواء على السنّة المحمّدية أو دفاع عن الحديث: 224، 225، 249.

ص: 52

إنّه سرّ نجاح الإمامة، وخلفية تألّق الإمام... سواء كانت إمامة دعوة، أو إمامة ولاية، وسواء كانت إمامة صغرى أو كبرى..

فسبب النجاح يبقى هو هو، وسرّ الأثر لا يتبدّل ولا يتغيّر... إنّه تأكيد للسنّة الإلهية الثابتة الماضية: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تلكم هي (سنّة التغيير) التي تتجلّى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.

فمن يتصدّى للإمامة.. للقيادة.. للدعوة.. للرسالة.. للإمامة... لابدّ وأن يكون تمكّن من إمامة نفسه، وقيادة ذاته برسالة الإسلام، كما لابدّ وأن يكون قد أحكم قياد حياته وفق أمر اللَّه وأمر رسوله صلى الله عليه و آله. وهذا مناط قوله عليه السلام: «فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره».

ومن يفعل ذلك يكن ماضياً وفق السنّة الإلهية.. ومن التزم السنن الإلهية لا يضلّ ولا يشقى، وإنّما يبقى مسدّداً مهتدياً راشداً مسترشداً.

إذا لم يكن عون من اللَّه للفتى فأوّل ما يقضي عليه اجتهاده

فالذي يُطلّ على الناس بحال الإسلام غير الذي يطل عليهم بمقال الإسلام..

والذي يترجم الإسلام بأعماله غير الذي يترجمه بلسانه.. وهذا مناط قوله رضى الله عنه:

«وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه».

إنّ حالة الانفصام بين الادّعاء والواقع، وبين القول والعمل، وبين الشعار والمضمون حالة مرضية ومذمومة، وقبيحة ومقبوحة، ورذيلة ومرذولة، ويجب أن لا ترى النور ضمن الدائرة الإسلامية التي تفرض التجانس والوئام بين النظرية والتطبيق؛ ليتحقّق الفوز والفلاح في الحياة الدنيا «ومعلّم نفسه ومهذّبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومهذّبهم». فضلًا عن الفوز برضا اللَّه تعالى، وذلك هو الفوز العظيم.

من هنا كان الخطاب القرآني يتهدّد ويتوعّد أولئك المصابين بداء انفصام

ص: 53

الشخصية فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَاتَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَاتَفْعَلُونَ.

سليمان كتّاني

... آتياً إلينا من فضاء لا ينتهي افقه، ولا ينتهي لألاؤه، إنّه الإمام عليّ:

انسوجة بكر- كأنّها أبداً- بكر.. سبحان اللَّه، وقد نسلَه من فسحات المعاني، كأن الفضائل كلّها فيه، إنّما هي من أجل صفوات المباني، شدّت إليه ليكون بها المثال، في بنية الإنسان، وكلّ مجتمعات الإنسان.

ولستُ أظنّ فضائله تُحصى برقم، فهي الوسيعة، والرفيعة، والمديدة...

يوسعها الحجى، ويرفعها الصدق، ويمدّدها الجمال... أما آفاقها- في نعيم انصباباتها- فهي اللَّه- جلّ شأنه- في اتصافه الوجودي المطلق، تمنطق بها الإمام عليّ، من أجل أن يفسّر جلالات الرسالة النازلة سوراً في قرآن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله... وكلّها لبناء مجتمعات الإنسان أكان هناك في الغرب أم هنا في الشرق..

يا للإمام عليّ! كيف له أن يُدرَك في معانيه الأنيقة وفي مبانيه الوثيقة... إنّ المعاني كلّها عند الإمام، لا تزل تثير فينا المحجات، وتوسّع لنا المسافات، وتشدّد بنا الخطوات...

الهوامش:

القرآن مع عليّ عليه السلام

ص: 56

القرآن مع عليّ عليه السلام

حسن الحاجّ

ماذا ينقمون منك؟ وهل ينقمون إلّاصدق إيمانك وسابقة ولائك وعظيم منزلتك وجهادك وخصالك ومناقبك الكثيرة؟!

إضافةً إلى أحاديث رسول اللَّه التي وردت فيك وأقوالٍ عظيمة تشيد بمكانتك وعلو قدرك... هناك آيات نزلت بحقّك وتفرّدتَ بها وأخرى وقد انضمّت إليك فيها نفوسٌ طاهرةٌ: سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء وولداك سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين عليهما السلام، نأتي على ذكر بعض هذه الآيات بما يتناسب وهذه المقالة المختصرة جدّاً البعيدة عن الإطالة والتفصيل الذي يتطلّبه الخوض في هذه الآيات وفي موردها وما أثير حولها من إيرادات وإشكالات والإجابة عنها، التي تكفّلت بها كتب ومصادر مطولة. ومن شبهات، غرضها إبعاد أيّ فضيلة للإمام عليه السلام تحملها آيات كريمة أو روايات شريفة أو مواقف جريئة أو أقوال صادقة، فراحت أقلامهم وأفكارهم تختلق منهجاً آخر في محاربتك فغدوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه ويبدلون قولًا غير الذي سمعوه وعقلوه... وهو أمر ورثوه من آبائهم وتعبدوا به.. وراحوا يلتزمون روايات مختلقة أو ضعيفة للوصول إلى

ص: 57

أهدافهم في تقويض فضائلك وإلغاء أو تهميش دورك ومواقفك الرسالية...

فبعيداً عن كلّ هذا، نشير إلى بعض تلك الآيات:

إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (1)

هناك حيث راح عليٌّ عليه السلام يؤدّي صلاته، إذ جاءه سائل يطلب شيئاً، فما كان من الإمام عليه السلام وهو في ركوعه وقد أوجع السائل قلبه، إلّاأنّ مدّ إليه يده متصدّقاً بخاتمٍ كان في إصبعه.

«وقد ذكرت روايات يقوي بعضها بعضاً- وهذا القول للدكتور وهبة الزحيلي- أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب، الذي سأله السائل وهو راكع في تطوع، فتصدّق عليه بخاتمه...» (2) الواحدي في أسباب النزول عن ابن عبّاس أنّه قال:

أقبل عبداللَّه بن سلام ومعه نفر من قومه قد آمنوا، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنّ منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا متحدّث، وإن قومنا لما رأونا آمنا باللَّه ورسوله وصدّقناه، رفضونا وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا، ولا يناكحونا ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا. فقال لهم النبيّ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا...

الآية.

ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فنظر سائلًا، فقال:

هل أعطاك أحدٌ شيئاً؟

قال: نعم خاتم من ذهب [فضّة].

قال: من أعطاكه؟

قال: ذلك القائم، وأومأ بيده إلى عليّ بن أبي طالب.

فقال: على أيّ حال أعطاك؟


1- 1 المائدة: 55.
2- 2 التفسير المنير 6: 232.

ص: 58

قال: أعطاني وهو راكع.

فكبّر النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ قرأ: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ (1)

.

وفي هذا يقول حسان بن ثابت:

أبا حَسَنٍ تفديك نفسي ومهجتي وكلّ بطي ءٍ في الهدى ومُسارع

فأنت الذي أعطيت إذ كنتَ راكعاً فدتك نفوس الخلق يا خير راكع

بخاتمك الميمون يا خير سيد ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بايع

فأنزل فيك اللَّه خير ولاية وبيّنها في محكمات الشرايع

وهناك مصادر كثيرة من الفريقين أكّدت هذا المورد لهذه الآية المباركة (2).

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (3)

.

قد ينتهي الجدال إلى باب أو طريق مسدود، فيقف كلا الطرفين متمسكاً بما عنده، وهنا قد يبادر أحدهما حرصاً منه على الثمرة، فيعلن شيئاً- بعيداً عن أدلّة كلّ منهما؛ لأنّ الحجج والأدلّة لم تؤدِ إلى نتيجة- يحسم ذلك النزاع، وهو ما فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- المتيقن للحقّ الذي بين يديه- في نقاشه الحاد مع نصارى نجران، الذين راحوا يتمسكون بباطلهم، وحتّى يكشف القناع عن وجوههم وعنادهم، فدعاهم إلى المباهلة بأن يدعو كلّ فريق أحباءه الخلّص، ثمّ يدعو اللَّه تعالى أن يصبّ لعنته وغضبه على الكاذب منهما وأن يطرده من رحمته.

الواحدي في أسباب النزول عن جابر بن عبداللَّه أنّه قال: قدم وفد أهل نجران على النبيّ صلى الله عليه و آله: العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا قبلك،


1- 1 المائدة: 56؛ أسباب نزول القرآن: 202.
2- 2 شواهد التنزيل 1: 223، 231، الدرّ المنثور 3: 105، تفسير الطبري 4: الجزء السادس، 289، سبط بن الجوزي في تذكرته وتفسير بن كثير 3: 130 وتفسير الفخر الرازي 12: 28، تذكرة الخواص 15، تاريخ دمشق 42: 357، المعجم الوسيط 6: 218، 6232 والخوارزمي في مناقبه: 186 ونصّ عليه الحافظ البلخي الحنفي في ينابيعه... إضافة إلى مصادر الإمامية.
3- 3 آل عمران: 61.

ص: 59

قال: كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام، فقالا: هات أنبئنا، قال:

حبّ الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير [وفي رواية أخرى عن الحسن أنّه عليه السلام قال لهما: كذبتما يمنعكما من الإسلام [ثلاث ]: سجودكما للصليب، وقولكما:

اتخذ اللَّه ولداً، وشربكما الخمر، فقالا: ما تقول في عيسى ؟

قال: فسكت النبيّ صلى الله عليه و آله ونزل القرآن: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ* إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ- إلى قوله- فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ.... فدعاهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى الملاعنة، فوعداه إلى الملاعنة على أن يغادياه بالغداة، فغدا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذ بيد عليّ وفاطمة، وبيد الحسن والحسين، ثمّ أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، فأقرّا له بالخراج، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله:

«والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لمطر الوادي ناراً».

قال جابر: فنزلت فيهم هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ.

قال الشعبي: أبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة، وأنفسنا: عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (1).

وفي الكشّاف... فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى ! إنّى لأرى وجوهاً لو شاء اللَّه أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة (2).

ولما سئل أبوعبدالرحمن محمّد بن عائشة عن أفضل أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، راح يعدد أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: أبوبكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبدالرحمن بن عوف، وأبوعبيدة بن الجرّاح.

فقال له السائل: فأين علي بن أبي طالب عليه السلام؟

قال: يا هذا! تستفتي عن أصحابه أم عن نفسه؟

قال: بل عن أصحابه.


1- 1 أسباب النزول: 108.
2- 2 الكشاف 1: 193.

ص: 60

قال: إنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ فكيف يكون أصحابه مثل نفسه؟! (1) وهناك مصادر أخرى (2).

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (3)

.

إنّ مسألة طهارة (الإمام علي وفاطمة الزهراء والحسن والحسين عليهم السلام) أمر متّفق عليه عند جميع المسلمين، بل حتّى عند أعدائهم يعدّ أمراً واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا شكّ يعتريه، وأمامك التأريخ والتراجم، فلا تجد شخصاً إلّا ويقول بتزكيتهم وطهارتهم بل لم يذكر لنا التاريخ عيباً فيهم أو خطأ ارتكبوه أو شططاً وقعوا فيه فيما كثرت زلّات غيرهم وعظمت أخطاؤهم ومعاصيهم سواء أكانوا رجالًا أو نساء... فسيرتهم عليهم السلام صالحة، ونفوسهم طاهرة، وحياتهم مباركة... نعم اختلفوا معهم، ناصبوهم العداء، ثاروا عليهم، تمرّدوا عليهم، افتروا عليهم... ولكن لا شك في طهارتهم وإنّما هي الدنيا ومطامعها و «إنّه الملك لو نازعتني عليه لأخذتُ الذي فيه عيناك» (4).

ثمّ إنّ عدل القرآن كالقرآن في طهارته وصفائه: «... إنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي..».

فقد راح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعدّهم ليكونوا منهلًا عذباً تنتهل منه الأمّة، ومصدرَ خيروعطاءللناس و منبع تبليغ لدين اللَّه و أحكامه و سنة نبيّه صلى الله عليه و آله، ومرجعاًللأمّة تعود إليهم دائماً في تلقّي الأحكام وفي اتّخاذ المواقف... فلا بدّ من أن يكونوا عليهم السلام على درجة عالية من تزكية النفوس وطهارتها وعلى يقين وبصيرة بدين اللَّه وسنة نبيّه الأكرم، فطهارتهم وبالتالي عصمتهم هبة إلهيّة اختصّهم بها اللَّه تعالى دون الآخرين.

وكانت أمّ المؤمنين أمّ سلمة تتمنّى أن تكون من أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا في بيتها مجتمعين تحت كساء واحد.


1- 1 أنظر المحاسن والمساوئ: 42.
2- 2 الفخر الرازي 8: 88، تفسير الطبري 3: 300، تذكرة الخواص: 14، الصواعق المحرقة: 145، 155، التفسير المنير 3: 248، دلائل النبوّة لابن نعيم: 354، 344، تفسير ابن كثير 2: 45، شواهد التنزيل 1: 163، 173. الدر المنثور 2: 231... ومصادر الإماميّة.
3- 3 الأحزاب: 33.
4- 4 من كلام هارون الرشيد لابنه المأمون.

ص: 61

فقد جمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً وفاطمة والحسن والحسن تحت كساء واحد وقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.»

فتقول أمّ سلمة لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: فأنا معهم يا نبيّ اللَّه؟!

فيقول لها: «أنتِ على مكانك، وأنت على خير».

انظر الواحدي في أسباب النزول: بسنده عن أمّ سلمة: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة رضي اللَّه عنها بِبُرمة فيها خزيرة، فدخلت بها عليه، فقال لها:

ادعي لي زوجك وابنيك، قالت: فجاء عليّ والحسن والحسين، فدخلوا فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، وكان تحته كساء خيبريّ، قالت:

وأنا في الحجرة أصلّي، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

قالت: فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يديه فألوى بهما إلى السماء ثمّ قال: اللّهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي [وحاميتي ] فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول اللَّه، قال: إنّك إلى خيرٍ إنّك إلى خير، ونقل أيضاً عن أبي سعيد أنّ هذه الآية «نزلت في خمسة: في النبيّ صلى الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضوان اللَّه عليهم أجمعين (1).

وانظر غيره من المصادر (2).

أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَايَسْتَوُونَ (3)

.

الطبري في تفسيره عن عطاء بن يسار؛ نزلت بالمدينة في عليّ بن أبي طالب عليه السلام والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بين الوليد وبين عليّ عليه السلام كلام، فقال الوليد بن عقبة: أنا أبسط منك لساناً، وأحدّ منك سناناً، وأردّ منك للكتيبة.

فقال علي عليه السلام: اسكت، فإنّك فاسق.


1- 1 أسباب نزول القرآن: 368- 369.
2- 2 ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان، والسيوطي في تفسيره الدرّ المنثور، والترمذي في تفسيره والحاكم عن عطاء بن يسار عن أم سلمه.. وقد صحّحه ووافقه الذهبي، وغيرها من كتب التفسير والحديث والتاريخ كالاستيعاب وأسد الغابة... إضافةً إلى روايات الإماميّة.
3- 3 السجدة: 18.

ص: 62

فأنزل اللَّه فيهما: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَايَسْتَوُونَ- إلى قوله- بِهِ تُكَذِّبُونَ.

وقال ابن عبّاس وغيره من المفسّرين: يعني بالمؤمن عليّاً وبالفاسق الوليد ابن عقبة (1).

وختاماً لهذا الإيجاز نقول: إنّ هذه بعض الآيات التي حظي عليٌّ إما بها كاملة وإمّا بنصيب وافر منها فعن حلية الأولياء أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «ما أنزل اللَّه آيةً فيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّاوعليّ رأسها وأميرها» (2).

وعن عبداللَّه بن عبّاس أنّه قال: «ليس من آية في القرآن فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلّاوعليّ رأسها وأميرها وشريفها، [وعن حذيفة بن اليمان... إلّا وكان لعليّ لبّها ولبابها. كما في شواهد التنزيل 1: 63، 67] وقد عاتب اللَّه أصحاب محمّد في القرآن، وما ذكر عليّاً إلّابخير» (3).

وعنه أيضاً: «ما نزل في أحد من كتاب اللَّه تعالى ما نزل في عليّ» (4).

الهوامش:

نظرة موجزة حول كتاب الولاية لمحمد بن جرير الطبريّ


1- 1 تفسير الطبري 11، الجزء 21: 107، وأنساب الأشراف 2: 380 وتاريخ بغداد 13، 321، 7191، الأغاني 5: 153، فضائل الصحابة لابن حنبل 2: 611، 1043 تاريخ دمشق 63: 235...
2- 2 حلية الأولياء 1: 64.
3- 3 فضائل الصحابة لابن حنبل 2: 654، 1114، المعجم الكبير 11: 211، 11687 تاريخ دمشق، ترجمة عليّ عليه السلام. تاريخ الخلفاء: 203 شواهدالتنزيل 1: 64، 70... ومصادر الإماميّة.
4- 4 شواهد التنزيل 1: 52، 49 وتاريخ الخلفاء: 203.

ص:63

ص: 64

نظرة موجزة حول كتاب «الولاية» لمحمد بن جرير الطبريّ

رسول جعفريان تمهيد:

قلّ مَن لا يعرف منّا محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبريّ الآمليّ (224- 28 شوال 310 ه) المحدّث والمفسّر والفقيه والمؤرّخ المشهور، من أهل السنّة الذي وُلِد في القرن الثالث وتوفي في أوائل القرن الرابع الهجري. وقد تمّ تأليف الكثير من كتب التحقيق والدراسات حول هذه الشخصية العلمية البارزة، وعلى هذا فلا حاجة بنا هنا إلى تكرار ذلك أو التذكير به (1). وعند مقارنتنا بين مؤلفات الطبريّ وبين ما أفرزته قريحة علماء آخرين من بغداد في القرن نفسه لا نشك بتقدّم منزلته عليهم في كثير من العلوم كالفقه (2) والحديث والتفسير، وخصوصاً في مجال التاريخ الذي تناول فيه معظم معاصريه في تلك الفترة. ويمكن اعتبار الطبري في عِداد كبار المؤرخين من أهل السنّة من أمثال الخطيب البغداديّ وابن الجوزي وشمس الدين الذهبي وابن حَجَر، وذلك لِما خلّفه من آثار قيّمة في تاريخ الفكر السنّيّ ومن تآليف جيّدة وخالدة- خصوصاً كتابيه المشهورين في التاريخ والتفسير- ويعرّف شخصيّته الفريدة، ما ولّدته تلك الكتب من تأثير كبير على


1- 1 تاريخ الإسلام للذهبي: 310- 320، 279- 286، حيث ذكرت هناك عشرات المصادر في شرح تلك الشخصية. راجع كذلك لسان العرب 5: 757، ش 7190، إذ ذكرت هناك بالترتيب المصادر التي شرحت فيها استناداً إلى مصادر كثيرة أخرى. وقد عدّ السيوطي في رسالته الموسومة «التنبيه بمن يبعثه اللَّه على رأس كل مائة» الطبري بأنه جدير اعتباره شخصية متميزة رأس المئة الثانية للهجرة.- خلاصة عبقات الأنوار 6: 94 طبعة قم 1404 ه، نقلًا عن الرسالة المذكورة-.
2- 2 يصف الطبراني المتوفى 360 المحدث الكبير وصاحب المعاجم الثلاثة الصغيرة المعروفة: الصغير والأوسطوالكبير، الطبريّ ب «الطبريّ الفقيه». راجع: المعجم الكبير 9: 292.

ص: 65

التأليفات التي كتبها كلّ من جاء بعده.

وقد تطرّقنا إلى معتقدات الطبري الدينية في مكان آخر وذكرنا الظروف العقائدية الغريبة التي كانت سائدة في بغداد في تلك الحقبة من التاريخ والتي قادت الطبري يومئذ إلى مواجهة مباشرة مع الحنابلة والمتطرّفين (1). ويمكننا القول: إنّه ليس بمقدورنا الوقوف على الحافز الرئيس الذي دفع الطبري إلى تأليف كتاب (الولاية) والذي جمع فيه كلّ طرق الحديث الخاصة بحادثة الغدير، دون مطالعة تلك الكتابات ودراسة أبعادها. فقد كان حنابلة بغداد الذين ورثوا العداوة للإمام علي عليه السلام عن الأمويين ينكرون فضائله عليه السلام جهراً وعلانية، حتى بلغت تلك العداوة مبلغاً أثارت معها حفيظة ابن قُتيبة (العالم والمحدّث وهو من أهل السنّة) وأشعلت نار الغضب والسّخط في أعماقه (2). أضف إلى ذلك نظرة العثمانيين إلى الحديث والأخبار وانقيادهم الأعمى وراء بعض الأحاديث المختلقة والمنسوبة إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله ممّا تسبّبت في عدم إجازتهم علماء الإسلام، ولو للحظة واحدة، التخطّي عن ظهور تلك الأحاديث. وفي خضم تلك الأحداث انبرى الطبريّ الذي كان يرى في نفسه أنّه أعلى مرتبة من الجميع بما فيهم أحمد بن حنبل، انبرى للتصدي لتلك المجموعة وفي مختلف الصُّعُد كاسراً بذلك طوق الحصار الذي فرضته تلك العناصر.

وسنعالج لاحقاً السبب وراء تأليف الطبريّ كتاب (الولاية). وأمّا ما نودّ التنويه إليه هنا هو أنّ مؤلف الكتاب المذكور- والذي فُقِدَت نُسخته الأصلية حسب ما لدينا من المعلومات- لا محالة هو محمد بن جرير الطبريّ المؤرّخ المشهور الذي ذاع صيته في بغداد. ولحسن الحظ توجد لدينا في هذا المجال مصادر قديمة يبدو أنّها دوّنت في الجيل الذي تلا الطبريّ وحتى القرن العاشر الهجري، وهي عبارة عن نصوص قيّمة تشير إلى ما نحن بصدده، وسنحاول التّعريف بها بعد حين.


1- 1 راجع المقالة تحت عنوان «أهل الحديث وكتاب- السنّة- للطبريّ» في قسم «المقالات التاريخية» المجلدالثاني؛ وكذلك مقالة «دور أحمد بن حنبل في تعديل مذهب أهل السنّة» في قسم «المقالات التاريخية» أيضاً المجلد السادس.
2- 2 يشير ابن قتيبة إلى تقصير أهل الحديث في نقل الأحاديث الخاصة بفضائل الإمام علي عليه السلام تعليقاً له على ردّفعلهم في مقابل الرافضة الذين قيل عنهم أنّهم يُغالون في رفع منزلة علي عليه السلام فوق كلّ منزلة، حيث يقول: «لقد أخرج هؤلاء علياً من زمرة أئمة الهدى مُدخلين إيّاه في جُملة قادة الفِتَن ولا يثبتون له حقاً الخلافة بحجة أنّ الناس لم يجتمعوا إليه لمبايعته، لكنّهم ومن جهة أخرى يقبلون بيزيد كونه خليفةً لاجتماع الناس إليه ومبايعته». ثم يستطرد ابن قتيبة بقوله: «وتحامى كثير من المحدثين أن يحدثوا بفضائله كرم اللَّه وجهه أو يظهروا ما يجب له، وكل تلك الاحاديث لها مخارج صحاح. وجعلوا ابنه الحسين عليه السلام خارجيّاً شاقّا لعصا المسلمين، حلال الدم، لقول النبيّ صلّى اللَّه عليه وسلم من خرج على امّتى و هم جميع، فاقتلوه كائناً من كان. و سوّوا بينه في الفضل وبين أهل الشورى لأن عمر لو تبيّن له فضله لقدّمه عليهم و لم يجعل الأمر شورى بينهم. وأهملوا من ذكره أو روى حديثاً من فضائله حتى تحامى كثير من المحدثين أن يتحدثوا بها وعنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص و معاوية كأنهم لا يريدونهما بذلك وإنما يريدونه. فإن قال قائل: أخو رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم علىّ وأبو سبطيه الحسن والحسين وأصحاب الكساء عليّ وفاطمة والحسن والحسين؛ تمعّرت الوجوه وتنكّرت العيون وطرّت حسائك الصدور. وإن ذكر ذاكر قول النبيّ صلّى اللَّه عليه و سلم من كنتُ مولاه فعلىّ مولاه و أنتَ مِنّي بمنزلة هارون من موسى؛ وأشباه هذا، التمسوا لتلك الأحاديث المخارج لينقصوه ويبخسوا حقّه بُغْضاً منهم للرّافضة وإلزاماً لعليّ عليه السلام بسببهم ما لايلزمه وهذا هو الجهل بعينه. والسلامة لك أن لاتهلك بمحبّته ولا تهلك ببغضته وأن لا تحتمل ضغناً عليه بجناية غيره، فإن فعلتَ فأنتَ جاهل مفرط فى بغضه وإن تعرف له مكانة من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم بالتربية والأخوة والصهر والصبر في مجاهدة أعدائه وبذل مهجته في الحروب بين يديه مع مكانه في العلم والدين والبأس والفضل من غير أن تتجاوز به الموضع الذي وضعه به خيار السلف لما تسمعه من كثير فضائله فهم كانوا أعلم به وبغيره ولأنّ ما أجمعوا عليه هو العيان الذي لاشكّ فيه، والأحاديث المنقولة قد يدخلها تحريف وشوب ولو كان إكرامك لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم هو الذي دعاك الى محبّة من نازع علياً وحاربه ولعنه إذ صحب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم وخدمه وكنت قد سلكت في ذلك سبيل المستسلم لأنت بذلك في عليّ عليه السلام أولى لسابقته وفضله وخاصته وقرابته والدناوة التي جعلها اللَّه بينه وبين رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم عند المباهلة، حين قال تعالى: «قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...» فدعا حَسناً وحُسيناً «و نساءنا و نساءكم» فدعا فاطمة عليها السلام «و أنفسنا و أنفسكم» فدعا عليّاً عليه السلام. ومن أراد اللَّه تبصيره بصّره ومن أراد به غير ذلك حيّره». راجع: الاختلاف في اللفظ: 41- 43 بيروت، دارالكتب العلمية.

ص: 66

صحيح أنّ هناك واحداً أو اثنين من الشّخصيات سميت كذلك باسم (الطبريّ) وأنّ أحدهم هو الطبريّ الشيعيّ صاحب كتاب (المسترشد) (1) والآخر هو الطبريّ مؤلّف كتاب (دلائل الإمامة) (2)، إلّاأنّ نسبة ذلك الكتاب (وأعني كتاب الولاية) وهو كتاب بُيّنت فيه طُرُق حديث (الغدير) إلى ذلك العالِم الشيعيّ لا يمكن أن يدلّ إلّاعلى جهل تامّ بالمعلومات الواردة في النصوص التأريخية المتقنة؛ وباختصار ليس ذلك إلّارَجماً بالغيب والظنون التي لا تستند إلى أيّ أساس تأريخيّ على الإطلاق (3).

عنوان الكتاب:

لقد أُطلِقت أسماء مختلفة على كتاب الطبريّ، كما جرت العادة على ذلك وكما هو الحال مع الكثير من الرسائل والكتب القديمة، ويمكننا تعليل ذلك في كون أنّ الأوائل كانوا يطلقون على بعض الكتب تسميات متعددة وذلك حسب ميولهم وحسب ما يقتضيه الموضوع العام للكتاب نفسه معتقدين بتناسب تلك التسميات مع ما تتضمّنه تلك الكتب من محتويات. إضافة إلى ذلك يبدو أنّ بعضاً من تلك التسميات يشير إلى مجموعة من الموضوعات المتنوعة والمكتوبة جنباً إلى جنب، وقد تشير تسميات أخرى إلى بعض أقسام أو فصول الكتاب نفسه والتي قد تُكتَب أحياناً بصورة مستقلة. فعلى سبيل المثال العنوان الذي ذكره ابن طاووس على أنّه عنوان الكتاب الذي ألّفه الطبري هو عنوان يمكن أن يشمل كذلك موضوع حديث الولاية وهو الموضوع الذي غدا بعد ذلك كتاباً مستقلًا بحدّ ذاته، إضافة إلى استخدام عنوان كتاب (الولاية) وتكرار ذكره من قِبَل الدّارسين والمطالعين لهذا الكتاب، فقد ذكره كذلك ابن شهراشوب في كتاب ببليوغرافيّ معروف وأشار إليه بالحرف الواحد (4).

وورد عنوان آخر للكتاب نفسه في الرجال للنجاشيّ، وهو: (الردّ على الحرقوصية) مؤكداً على أنّه كتاب للطبريّ (المؤرّخ السنيّ المعروف) مشيراً إلى أنّه


1- 1 تحقيق أحمد المحمودي، قم، مؤسسة الثقافة الإسلامية لكوشانپور، 1415 مقدمة المصحح.
2- 2 تحقيق قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة، قم، 1413.
3- 3 البداية والنهاية 11- 12: 167، ذيل حوادث سنة 310؛ والذريعة 16: 35؛ وشرح الأخبار 1: 131- 132 الهامش. وقال كلبرگ، مشيراً إلى اعتقاد آقابزرگ الطهراني في هذا المجال من أنّ كتاب مناقب أهل البيت والذي نسبه ابن طاووس إلى الطبريّ المؤرخ المعروف، إنّما يعود إلى الطبريّ الشيعيّ، قال: «الظاهر هو عدم وجود أيّ مصدر موثوق يؤيّد إعتقاد آقا بزرگ». مكتبة ابن طاووس: 398، ش 356.
4- 4 معالم العلماء: 106، ش 715؛ راجع كذلك عمدة عيون صحاح الاخبار لابن بطريق: 157.

ص: 67

قد تناول في الكتاب المذكور مسألة (حديث الغدير) حيث قال: «له كتاب الردّ على الحرقوصية، ذكر (فيه) طرق خبر يوم الغدير» (1).

وصرح ابن طاووس كذلك أنّ الطبري سمّى كتابه (الردّ على الحرقوصية) (2)، ويعتقد ابن طاووس أنّ السبب الذي دعا الطبريّ إلى تسمية كتابه بهذا الاسم هو كون أحمد بن حنبل ينحدر نسبه من حرقوص بن زهير زعيم الخوارج (3). وأما (روزنثال) فقد احتمل أن تكون تسمية الكتاب قد جاءت بسبب احتقار الطبريّ أبا بكر بن أبي داود السجستانيّ وازدرائه وهو الأمر الذي دعاه إلى تأليف كتاب (الولاية) كردّ على السجستانيّ هذا، مشيراً إلى أنّ كلمة (حرقوص) في اللغة تعني (ذبابة) أو (دويبة نحو البرغوث) (4). وربما أمكننا إضافة الاحتمال التالي إلى ما سبق وهو أنّ الطبريّ في استخدامه لهذا الاسم أراد الإشارة إلى فلسفته في تصنيف هذا الكتاب للردّ على شخص ناصبيّ إذا ما علمنا أنّ الخوارج كانوا أعداءً لعليّ عليه السلام وأنّ زعيمهم كان حرقوص بن زهير، ومن هنا استلهم الطبريّ اسم كتابه يريد بذلك إظهار الحنابلة المتطرفين بمظهر الخوارج والناصبين، وبذلك ينتفي الزّعم القائل بكون الاسم مستوحًى من نسب أحمد بن حنبل.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العنوان (رسالة في طرق حديث الغدير) يتلاءم تماماً مع مضمون الكتاب الذي أطلقت عليه هذه التسمية ودون أيّ التباس أو إبهام (5). وموازاةً مع ما ذُكِر، فقد أورد (كالبرگ) عنوان كتاب (الولاية) وكتاب (المناقب) في موضعين، في حين يشير هو شخصياً إلى إمكانية كون كتاب (الولاية) جزءاً من كتاب أشمل يدعى كتاب (الفضائل) أو كتاباً آخر بعنوان (المناقب) (6).

وأما كلّ من استند إلى هذا الكتاب أو تدارسه أو اقتبس منه فقد أشار إليه تارةً على أنّه كتاب (فضائل عليّ عليه السلام) أو (المناقب) تارةً أخرى، لكنهم جميعاً قاموا بنقل حديث الغدير من هذا الكتاب تماماً، كما فعل البعض من أمثال ابن


1- 1 رجال النجاشيّ: 322، ش 879.
2- 2 إقبال الأعمال 2: 30 قم 1415 ه.
3- 3 الطرائف: 142.
4- 4 مكتبة ابن طاووس: 288.
5- 5 للحصول على معلومات أكثر بهذا الخصوص راجع: مكتبة ابن طاووس: 286.
6- 6 مكتبة ابن طاووس: 286، ش 171؛ ص 398، ش 356.

ص: 68

شهراشوب حين أورد اسم كتاب (الولاية) في مُصنّفه الموسوم ب (المناقب) وقاموا بنقل الفضائل عنه. ومن هنا يتّضح لنا عدم مراعاة الدقة في هذه المسألة بالشكل الكافي.

من الذي كان يملك كتاب (الغدير) أو (المناقب)؟:

كلّ ما نعلمه هو أنّ كتاب (الغدير) أو (المناقب) كان بحيازة عدد قليل من المؤلفين والمؤرخين والمحدثين المسلمين والكبار منهم على الأخصّ وذلك حتى القرن التاسع (1)(2). وإليك أسماء بعض ممّن تداولوا الكتاب المذكور:

1- القاضي نعمان الإسماعيليّ (ت: 363) وهو أكثر من نقل عن هذا الكتاب.

2- النجاشيّ (372- 450)؛ ذكر اسم الكتاب وأشار إلى أنّه اعتمد عليه في تثبيت طرق اسناده.

3- الشيخ الطوسي (ت: 460) أيضاً.

4- ياقوت الحمويّ (ت: 626) الذي نوّه بالتفصيل إلى كيفية تصنيف هذا الكتاب.

5- ابن بطريق (ت: 600) الذي أشار إلى عدد الطرق في نقل حديث الغدير الوارد في هذا الكتاب.

6- ابن شهراشوب (ت: 588) والذي أورد اسم الكتاب خلال ترجمته للمصنّف، وأشار كذلك إلى عدد الطرق في نقل حديث الغدير الوارد في هذا الكتاب، وذكر أيضاً اسم هذا الكتاب في مواضع عديدة من كتابه (المناقب).

7- ابن طاووس (ت: 664)؛ فقد أورد اسم الكتاب وقام بالنّقل عنه.

8- شمس الدين الذهبيّ (ت: 748) الذي قيل إنّه رأى الكتاب المذكور بأمّ عينه وقام كذلك بنقل أحاديث كثيرة عنه.

9- ابن كثير (ت: 774) وهو كذلك ممّن رأى الكتاب وقام بنَقل عدة روايات عنه.


1- 1 الغريب أنّ فؤاد سزگين لم يُشر إلى أيّ من محتويات كتاب الطبريّ هذا لا من قريب ولا من بعيد تاريخ التراث العربي المجلّد الأوّل، التدوين التاريخيّ: 168، ولا حتى الإشارة إليه في فهرست أسماء الكتب بكونه من مصنفات الطبريّ سوى إلماعة بسيطة عن رسالة الردّ على الحرقوصية في ذيل هامش ت
2- 1 الغريب أنّ فؤاد سزگين لم يُشر إلى أيّ من محتويات كتاب الطبريّ هذا لا من قريب ولا من بعيد تاريخ التراث العربي المجلّد الأوّل، التدوين التاريخيّ: 168، ولا حتى الإشارة إليه في فهرست أسماء الكتب بكونه من مصنفات الطبريّ سوى إلماعة بسيطة عن رسالة الردّ على الحرقوصية في ذيل هامش تلك الصفحة نقلًا عن (بروكلمان) مشيراً إلى حديث النّجاشي دون التنويه في كتبه اللاحقة إلى باقي محتويات هذا الكتاب القيّم.

ص: 69

10- ابن حَجَر (ت: 852) وهو أيضاً كان قد شاهد الكتاب بنفسه.

والواقع أنّ هذا الأمر على قدر من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى مزيد إثبات من أحد. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أحداً لم يتطرّق إلى التعريف بهذا الكتاب النفيس مثلما فعل الأستاذ العلامة المرحوم السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ الذي أوقف جلّ عمره في التّحقيق فيما يخصّ الإمام أمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) عموماً (1).

والآن دعونا نطالع ما قيل في حقّ الكتاب الذي نحن بصدده:

إنّ القاضي نعمان- أبو حنيفة نعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ الكاتب العالِم والإسماعيليّ المذهب في عهد الدولة الفاطمية (ت: 363)- أكثر من نقل عن الكتاب المذكور (كتاب الولاية) وذلك في المجلد الأول من كتاب (شرح الأخبار فى فضائل الأئمة الأطهار)، وسنتحدّث عن ذلك بالتفصيل في السطور التالية.

كتب أبو العباس أحمد بن علي النّجاشيّ عن الطبريّ وكتابه (الغدير) يقول:

«أبو جعفر الطّبري عاميّ، له كتاب الردّ على الحرقوصية، ذكر طرق خبر يوم الغدير، أخبرنا القاضي أبو إسحاق إبراهيم بن مخلّد، قال: حدّثنا أبي، قال: حدّثنا محمد بن جرير بكتابه (الردُّ على الحرقوصية)» (2).

وقال الشيخ الطوسيّ كذلك مشيراً إلى الكتاب المذكور:

«محمد بن جرير الطبري، أبو جعفر، صاحب التاريخ، عاميّ المذهب. له كتاب خبر غدير خمّ، تصنيفه وشرح أمره. أخبرنا أحمد بن عبدون، عن أبي بكر الدوري، عن ابن كامل، عنه» (3).

وعلّق يحيى بن الحسن المعروف بابن البطريق (523- 600) بقوله:

«وقد ذكر محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمسة وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سمّاه كتاب (الولاية)» (4).

وأشار ابن شهراشوب إلى كتاب (الولاية) للطبريّ أيضاً حيث قال:


1- 1 الغدير في التراث الاسلاميّ: 35- 37؛ أهل البيت في المكتبة العربية: 661- 664.
2- 2 رجال النجاشيّ، تحقيق السيد موسى الشبيري، قم: 322، ش 879.
3- 3 كذا؛ وفي موضع آخر: كتاب خبر غدير خم وشرح أمره، تصنيفه. فهرسة كتب الشيعة وأصولها، تحقيق السيد عبدالعزيز الطباطبائي، قم، 1420: 424، ش 655.
4- 4 عمدة عيون صحاح الأخبار: 157 قم، 1412 ه.

ص: 70

«أبوجعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التاريخ، عاميّ، له كتاب غدير خمّ وشرح أمره، وسمّاه كتاب (الولاية)» (1).

وسنرى كيف أنّه (أي ابن شهراشوب) قام بنقل بعض الروايات عن هذا الكتاب في مصنّفه الموسوم ب (مناقب آل أبي طالب).

وخلال إثباته لتواتر حديث الغدير، أشار الشيخ سديد الدين محمود الحمصيّ الرازيّ (من علماء القرن السابع الهجريّ) إلى مؤلفات أصحاب الحديث، ومن جملة ما قال معلّقاً على ذلك:

«لأن أصحاب الحديث أوردوه من طرق كثيرة، كمحمد بن جرير الطبري فإنّه أورده من نيّف وسبعين طريقاً في كتابه» (2).

وكتب أحمد بن موسى بن طاووس (أحد العلماء الذين اشتهروا في منتصف القرن السابع الهجريّ) بهذا الصدد قائلًا:

«وساقه [أي حديث الغدير] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (صاحب التفسير والتاريخ الكبير) من خمسة وسبعين طريقاً» (3).

ونقل رضيّ الدين عليّ بن طاووس (589- 664) بعض النصوص من كتاب (مناقب أهل البيت) للطبريّ (4) وفي مكان آخر أشار كذلك إلى كتاب (الولاية) أيضاً والذي سنأتي على تفصيله فيما بعد. وأما ما قاله ابن طاووس تعليقاً على كتاب (الولاية) للطبريّ فهو كالآتي:

«ومن ذلك ما رواه محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير صنّفه وسمّاه كتاب (الردّ على الحرقوصية)، روى فيه حديث يوم الغدير وما نصّ النبي على عليّ عليه السلام بالولاية والمقام الكبير، وروى ذلك من خمس وسبعين طريقاً» (5).

وقال في مكان آخر:

«وأما الذي ذكره محمد بن جرير صاحب التاريخ فإنّه في مجلّد» (6).

وكتب في موضع غيره:


1- 1 معالم العلماء: 106، ش 715.
2- 2 المنقذ من الضلال 1: 334 قم، مؤسسة النشر الاسلامي، 1414 ه.
3- 3 بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية، مؤسسة آل البيت، قم، 1411 ه: 299- 300.
4- 4 اليقين: 215.
5- 5 إقبال الأعمال 2: 30 قم 1415 ه.
6- 6 المصدر السابق 2: 248.

ص: 71

«وقد روى الحديث في ذلك محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس وسبعين طريقاً وأفرد له كتاباً سمّاه (حديث الولاية)» (1).

وكتب شمس الدين الذهبيّ (673- 748) يقول:

«ولمّا بلغه أنّ ابن أبي داود تكلّم في حديث غدير خم، عمل كتاب (الفضائل) وتكلّم على تصحيح الحديث. قلت: رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير فاندهشْتُ له لكثرة الطرق» (2).

وسنرى أنّ الذهبيّ الذي نظنّه لم يرَ من الكتاب إلّاجزؤه الثاني، كيف ينقل بعض الروايات من هذا الكتاب في كتابه (طرق حديث- من كنتُ مولاه-). وقال الذهبيّ في موضع غير هذا:

«قال محمد بن جرير الطبري في المجلّد الثاني من كتاب (غدير خم) له، وأظنه بمثل جمع هذا الكتاب نسب الى التشيّع، فقال:...» (3).

وذكر ابن كثير (ت: 774) في ترجمته للطبريّ في ذيل حوادث سنة (310) مايلي:

«وقد رأيتُ له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلدين ضخمين» (4).

وكتب ابن حَجَر العسقلاني (773- 852) معلّقاً على ما أورده المزيّ في (تهذيب الكمال) بقوله:

«لم يزد على ما أتى به ابن عبد ربّه في الاستيعاب سوى نقله لحديث الموالاة (5) وقد جمعه ابن جرير الطبريّ في مؤلّف فيه أضعاف من ذكر (6) وصحّحه واعتنى بجمع طرقه أبو العبّاس بن عقدة فأخرجه من حديث سبعين صحابيّاً أو أكثر» (7).

هدف الطبريّ من تأليف كتاب (الولاية):

أشار بعض المصادر إلى الهدف الذي توخّاه الطبري وراء تأليفه لكتاب (الولاية). وخلاصة الأمر أنّ عالماً من سجستان (هو ابن السجستانيّ المعروف


1- 1 الطرائف: 142؛ وانظر أيضاً: 154 قم، 1400 ه.
2- 2 تذكرة الحفّاظ، بيروت، دار الكتب العلمية 2: 713.
3- 3 «طرق حديث من كنت...»: 62، ش 61.
4- 4 البداية والنهاية 11- 12: 167، ذيل حوادث سنة 310.
5- 5 تهذيب الكمال 20: 484.
6- 6 كتب في فتح الباري 7: 61 دون الإشارة إلى كتاب الطبري يقول: «وأوعب من جمع مناقبه [يعني علياً] من الأحاديث الجياد النسائي في كتاب الخصائص؛ وأما حديث من كنت مولاه فعلىّ مولاه، فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً، وقد استودعها ابن عقدة في كتاب مفرد؛ وكثير من أسانيدها صحاح وحسان».
7- 7 «تهذيب التهذيب» 7: 297 بيروت، دارالفكر. وكانت توجد نسخة من كتاب «جمع طرق حديث الغدير» لابن عقدة في حوزة ابن حجر. راجع: «المقالات التاريخيّة»، المجلد السادس، مقالة المصادر التاريخيّة لابن حجر في الإصابة: 363.

ص: 72

صاحب السنّن) قام بتفنيد حديث الغدير مّما حدا بالطبريّ إلى تأليف الكتاب المذكور (كردّ على تلك الصيحة). دعونا نتابع التقارير المدوّنة في المصادر القديمة فيما يخصّ هذا الأمر.

يعدّ القاضي نعمان أوّل من بيّن العلّة في تأليف كتاب (الولاية)، فهو القائل:

«فمن ذلك أنّ كتابه الذي ذكرناه وهو كتاب لطيف بسيط ذكر فيه فضائل عليّ عليه السلام وذكر أنّ سبب بسطه إيّاه، إنّما كان لأنّ سائلًا سأله عن ذلك لأمر بلغه عن قائل زعم أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن شهد مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله حجّة الوداع الّتي قيل إنّه قام فيها بولاية علي بغدير خمّ ليدفع بذلك- بزعمه- عنه حديث رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله: «من كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه». فأكثر الطّبريّ التّعجب من جهل هذا القائل واحتجّ على ذلك بالروايات الثابتة على قدوم عليّ من اليمن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله» (1).

وأمّا ياقوت الحمويّ فقد أخذ جلّ معلوماته من أبي بكر بن كامل بخصوص الطبريّ. فمن جملة ما قال (عند إحصائه لعدد من مؤلفات الطبريّ):

«وكتاب فضائل علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه تكلّم في أولّه بصحّة الأخبار الواردة في غدير خمّ، ثم تلاه بالفضائل ولم يتمّ» (2).

وفي إشارة له على كون الطبريّ كان قد غفر لكلّ مَن أساء إليه إلّاأولئك الذين اتّهموه بالبدعة، مدح ياقوت الحمويّ الطبريّ على سجيّته هذه، ثم ينقل ما قاله أبو بكر بن كامل:

«وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده وأطرحه. وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب حديث غدير خمّ، وقال: إنّ عليّ بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله بغدير خمّ. وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجةٍ يصف فيه بلدًا بلدًا ومنزلًا منزلًا يُلَوِّح فيها الى معنى حديث


1- 1 شرح الأخبار 1: 130- 132.
2- 2 معجم الأدباء 18: 80.

ص: 73

غدير خمّ فقال:

ثمّ مَرَرنا بغدير خمّ كم قائل فيه بزور جَمّ

على عليٍّ والنبيّ الأميّ

وبلغ أبا جعفر ذلك، فابتدأ بالكلام في فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام وذكر طريق حديث خُمّ، فكَثُر الناس لاستماع ذلك واستمع [اجتمع ] قوم من الرّوافض من بسط لسانه بما لايَصْلُحُ في الصّحابة فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر» (1).

ويُلاحظ في النصّ السابق عدم ذِكر اسم الشخص الذي طرح هذا الإشكال، لكنّ شمس الدين الذهبيّ يعطي صورة أوضح لهذه المسألة مقتبساً قوله من أبي محمد عبد اللَّه بن أحمد بن جعفر الفَرَغانيّ (الذي اعتبره الذهبيّ صديقاً للطبريّ (2) وأنّه هو الذي قام بنقل أغلب ما نعلمه عن الطبريّ، وهو الذي وشّح كتاب التاريخ للطبريّ بحاشيته) (3). يقول الذهبيّ:

«ولمّا بلغه [الطبريّ ] أنّ ابن أبي داود تكلّم في حديث غدير خمّ، عمل كتاب الفضائل وتكلّم على تصحيح الحديث» (4).

وفي مكان آخر حينما عدّ ما ألّفه الطبري من الكتب يقول الذهبيّ:

«ولمّا بلغه أنّ أبا بكر بن أبي داود تكلّم في حديث غدير خمّ، حمل كتاب الفضائل، فبدأ بفضل الخلفاء الراشدين، وتكلّم على تصحيح حديث غدير خمّ، واحتجّ لتصحيحه» (5).

والفرغانيّ هو القائل لهذه الكلمات وابن عساكر هو الذي نقلها بأكملها، فقد كتب يقول بعد أن عدّ مؤلفات الطبريّ بالتّفصيل:

«ولمّا بلغه أن أبا بكر بن أبي داود السجستانيّ [ت 316] تكلّم في حديث غدير خمّ عمل كتاب الفضائل، فبدأ بفضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رحمة اللَّه عليهم، وتكلّم على تصحيح حديث غدير خمّ واحتجّ لتصحيحه وأتى من فضائل


1- 1 المصدر السابق 18: 84- 85.
2- 2 تاريخ الإسلام للذهبيّ: 310- 320، 281.
3- 3 راجع بهذا الخصوص: سير أعلام النّبلاء 16: 132.
4- 4 تذكرة الحفّاظ 2: 713.
5- 5 تاريخ الإسلام للذهبيّ: 310- 320، 283.

ص: 74

أمير المؤمنين عليّ بما انتهى إليه ولم يتم الكتاب، وكان ممّن لايأخذه في دين اللَّه لومة لائم...» (1).

وهناك إشارات واضحة كذلك إلى الإشكال الذي صدر عن أبي بكر عبد اللَّه ابن أبي داود سليمان السّجستانيّ في مؤلفات الشيعة في مجال علم الكلام عند بحث مسألة حديث الغدير، وأُشير أيضاً إلى تصدّي الطبريّ للسجستانيّ هذا. فمن جملة تلك الإشارات ما ورد عن السيد الشريف المرتضى في (الذخيرة) حيث أبطل كلام السجستانيّ مشيراً إلى مواجهة الطبريّ له (2).

وعبّر المرتضى كذلك في (الشافي) عمّا صدر عن السجستاني بأنّه مجرد إشكال محض مشيراً إلى أنّ جميع الرواة من سُنة وشيعة قاموا بنقل حديث الغدير المتنازَع عليه. وإلى جانب ما ذكره من أنّ وجهة نظر السجستاني ليست إلّاوجهة نظر شاذّة وفريدة من نوعها، ونقل الشريف المرتضى كلام السجستانيّ الذي ينكر فيه حديث الغدير وذلك في خضم مواجهته للطبريّ ومنازعته في المسألة إيّاها (3).

وقد ورد في هذه المصادر أيضاً أنّ السجستانيّ فنّد هذه النسبة مصرّحاً بأنّه لا ينكر أصل الحديث وحسب، بل وينكر كذلك وجود مسجد باسم مسجد غدير خمّ حتى ذلك التاريخ.

وكتب أبو الصلاح الحلبيّ في (تقريب المعارف) مشيراً إلى تواتر حديث الغدير يقول:

«ولايقدح في هذا ما حكاه الطبريّ عن ابن أبي داود السجستاني من انكار خبر الغدير... على أنّ المضاف إلى السجستاني من ذلك موقوف على حكاية الطبري، مع ما بينهما من الملاحاة والشنآن، وقد أُكذب الطّبري في حكايته عنه، وصرّح بأنه لم ينكر الخبر وإنما أنكر أن يكون المسجد بغدير خم متقدّماً وصنّف كتاباً معروفاً يتعذّر مما قرفه به الطبري ويتبرّأ منه» (4).


1- 1 تاريخ دمشق 52: 198.
2- 2 الذخيرة: 442 تصحيح السيد أحمد الحسيني الأشكوري. على الرغم من الإشارة في نسختي كلتيهما من أنّ المقصود ب أبي بكر هو ابن أبي داود السجستانيّ صاحب السنن، فقد توهّم المصحّح وقام بتخطئة ذلك، فأورد اسم السجستاني نفسه في النصّ.
3- 3 الشافي في الإمامة 2: 264 تصحيح السيد عبد الزهراء الخطيب، طهران، مؤسسة الصادق عليه السلام.
4- 4 تقريب المعارف، تحقيق فارس حسون، قم، 1417 ه: 207- 208.

ص: 75

كتاب (الولاية) وتهمة (التّشيّع):

ذكر الذّهبيّ أنّ السبب وراء اتّهام الطبريّ بالتشيّع هو تأليفه كتاب (الولاية)؛ (1) وذلك لأنّ أصحاب الحديث لا يؤيّدون حديث (الغدير)، وحتى الذين يقبلون هذا الحديث (من أصحاب الحديث) لم يُجيزوا لأحد على الإطلاق تأليف كتب في طرق الحديث المذكور حتّى للطبريّ الذي كان يومها إماماً وعَلَماً مرهوب الجانب، ذلك أنّ من شأن كتاب كهذا أن يكون حجّة في يد الشيعة. بل ولم يجرؤ حتى البخاري على ذكر حديث الغدير واكتفى بنقل الأحاديث الموجودة في حوزة أهل الحديث مع أنّ للحديث المذكور طرقاً كثيرة ومتعدّدة.

وإذا سلّطنا الضوء على الكتاب الآخر الذي ألّفه الطبري والمعروف بكتاب (حديث الطير) الذي بيّن فيه بالتّفصيل أفضلية الإمام علي عليه السلام على باقي الصحابة، ستتّضح لنا الأسباب التي حدت بالكثيرين إلى اتهامه بالتشيّع.

وقد قال ابن كثير واصفاً الكتاب المشار إليه: «ورأيت فيه مجلّداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ». ثم يستطرد قائلًا بأنّ أبا بكر الباقلاني ألّف كتاباً في تضعيف طرق ودلالات هذه الرواية وذلك في معرض ردّه على كتاب الطبريّ (2).

وبعد كلّ ما ذكرنا، تبدو المسألة واضحة المعالم تماماً؛ فلم يكن أمام أعداء الطبريّ خيار آخر إلّااللّجوء إلى اتهامه بالتشيع وخصوصاً في ظروف مثل تلك التي كانت سائدة في بغداد آنذاك حيث تتمركز قوّة الحنابلة وثِقلها الأكبر فيخرج عليهم الطبريّ بتأليفاته في (حديث الغدير) تارةً، وفي كتاباته التي يبيّن فيها فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السلام صراحة تارةً أخرى، على ذلك فلا بدّ وان يتّهم بالتشيّع.

وطريف هنا أن نذكر أنّ ابن خزيمة (المحدّث السنّي المعروف وأحد رجال الحديث المشهورين وهو من المشبّهة) نزيل نيسابور كتب يقول: «ما أعلمُ على أديم الأرض أعلمَ من محمّد بن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة» (3).


1- 1 طرق حديث «من كنت...»: 62؛ وأظنه بسبب جمع هذا الكتاب نسب الى التشيّع.
2- 2 البداية والنهاية 7: 390 دار إحياء التراث العربي، 1413 ه.
3- 3 تاريخ بغداد 2: 164؛ تاريخ دمشق 52: 196؛ الأنساب 4: 46؛ مُعجم الأدباء 18: 43؛ تاريخ الإسلام للذهبيّ: 310- 320، 282.

ص: 76

وتجدر الإشارة إلى أنّ حقد الحنابلة على ابن جرير الطبريّ (1) له أسباب أخرى غير التي ذُكرت (2)، لكن هذه الواحدة تعتبر الأكبر بين أخواتها. والحقّ أنّه لم تكن بيد الحنابلة وسيلة أنجع من هذه ولا في جعبتهم حيلة أخرى غير تلك لاتّهام الطبريّ بالتشيع.

وكتب ابن مسكويه بهذا الخصوص يقول:

«وفيها [سنة 310] تُوُفّي محمّد بن جرير الطبريّ، وله نحو تسعين سنة، ودفن ليلًا، لأنّ العامة اجْتمعت و مَنَعَتْ من دفْنِه نهاراً. وادّعت عليه الرّفض، ثم ادّعت عليه الإلحاد» (3).

وقد نقل ياقوت الحمويّ كلاماً للخطيب البغداديّ حول الطّبري، منه:

«قال غير الخطيب: ودُفِنَ ليلًا خوفاً من العامّة لأنَّه كان يُتَّهم بالتشيع» (4).

ونقل ابن الجوزيّ كذلك ما قاله ثابت بن سنان عن الطبريّ جاء فيه:

«وذكر ثابت بن سنان في تأريخه: أنه إنّما أُخفيت حاله؛ لأنّ العامّة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنّهار و ادّعوا عليه الرّفض، ثم ادّعوا عليه الإلحاد» (5).

ويضيف ابن الجوزيّ أنّ السبب الآخر في اتّهام الحنابلة الطبري بالرّفض هو الفتوى التي أصدرها الطبريّ في جواز مسح القدم في الوضوء واعتباره الغسل والشطف أمراً غير ذي ضرورة، بقوله «فلهذا نُسب إلى الرّفض» (6).

وكتب ابن الأثير، مقتبساً ذلك من كلام لابن مسكويه، يقول:

«وفي هذه السنة [310] تُوُفِّيَ محمدُ بن جرير الطبري، صاحب التاريخ ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومئتين، ودفن ليلًا بداره، لأن العامّة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادّعوا عليه الرّفض، ثم ادعوا عليه الإلحاد» (7).

وتجدر الإشارة إلى أنّ ابن الأثير لايوافق على استخدام لفظة (العامّة) كتعبير عن أهل السّنة، وبعد تأكيده على عدم اتيان المخالفة من قِبَل العامّة (أي أهل


1- 1 قال: كانت الحنابلة تَمْنَع ولاتَتْرُك أحدًا يَسْمَع عليه. معجم الأدباء 18: 43.
2- 2 من جملة ذلك إنكار حديث الجلوس على العرش والذي كان عنه أنّه محال وكان يردّد البيت التالي: سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس ياقوت الحمويّ، معجم الأدباء 18: 58؛ الوافي بالوفيات 2: 287. ويضيف قائلًا: فلمّا سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث، وثَبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت الوفا، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتّلِّ العظيم، وركب نازوك صاحب الشُّرطة في عشرات الألوف من الجند يمنع عنه العامّة. ووقف على بابه يوما إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه. وكان قد كتب على بابه: سبحان من ليس له انيس و لا له في عرشه جليس فأمر نازوك بمحو ذلك. وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث... واستسلم الطبريّ أمام هذه الضغوط وكتب ما وافق مَيل الحنابلة. وإضافة إلى ما ذُكِر، فقد ذكر ابن الجوزي قولًا حول وجود اختلافات أخرى في وجهات النظر بين الطبري وأبي بكر بن أبي داود فيما يخصّ المسائل العقائدية، وحول سعي ابن أبي داود في إيصال الأمر إلى السلطات آنئذ وجواب الطبري عن ذلك. راجع: المنتظم 13: 217. والسبب الآخر وراء عداء الحنابلة للطبريّ يكمن في أنّه لم ير أهمية تُذكر لفِقه أحمد بن حنبل ولم يعتن به، فقد كتب ابن الوردي يقول: وصنّف كتاباً فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك، فقال: إنّما كان أحمد بن حنبل محدّثاً. فاشتدّ ذلك على الحنابلة وكانوا لايحصون كثرةً ببغداد، ورموه بالرّفض تعصّباً وتشنيعاً عليه. [تاريخ ابن الوردي 1: 356 النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1389 ق.؛ المختصر في أخبار البشر 1: 71 القاهرة، مكتبة المتنبي].
3- 3 تجارب الأمم 5: 142 تصحيح الدكتور أبو القاسم الإماميّ، طهران، سروش، 1998 م.
4- 4 معجم الأدباء 18: 40 دار الفكر.
5- 5 المنتظم 13: 217.
6- 6 المصدر السابق.
7- 7 الكامل في التاريخ 5: 74 ذيل حوادث سنة 310 بيروت، مؤسسة التاريخ العربي.

ص: 77

السّنة) يلقي باللّوم والتقصير على الحنابلة فيقول: «وإنّما بعض الحنابلة تعصّبُوا عليه ووقعوا فيه، فتَبِعهم غيرهم» (1).

وكتب ابن كثير أيضاً حول المواجهة التي كانت بين الحنابلة والطبريّ حيث قال:

«ودُفِنَ في داره؛ لأنّ بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهاراً ونسبوه إلى الرفض... وإنّما تقلّدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الفقيه الظاهري، حيث تكلّم فيه ويرميه بالعظائم وبالرّفض» (2).

وإذا أمعنا النّظر في عبارات ابن كثير السابقة نجده قد خلط (إن عمداً أو سهواً) بين أبي بكر عبد اللَّه بن أبي داود السجستانيّ (ت: 316) والمتهم بكونه ناصبيّاً وبين أبي بكر محمّد بن علي بن داود الفقيه الظاهريّ (3). فالشخص الذي كان يتّهم الطبريّ بالتشيّع هو السجستانيّ- ابن السجستانيّ صاحب السّنن- والذي هو نفسه كان متّهماً بأنّه ناصبيّ، ولهذا فعندما وصل الخبر إلى الطبريّ بأنّ السجستانيّ يروي فضائل علي عليه السلام علّق على ذلك بقوله: تَكبيرةٌ من حارس (4).

ثم يُشير الذّهبي بعد ذلك إلى العداء القائم بينهما، وعن السجستانيّ بأنّه ناصبيّ، حيث ينكر هو ذلك بالطّبع (5). وخلال شرحه لحال السجستانيّ يُشير ابن النّديم إلى قيامه بتصنيف كتاب في التّفسير وكان الطّبري قد سَبقه بتأليف مُشابه (6)، وهذا شاهد آخر على شدّة المنافسة بين هذين الرجلَين.

وأمّا ناصبية السجستاني فقد أدّت إلى قيام ابن فرات إلى نفيه إلى واسط وإبعاده عن بغداد إلى أن قيل عنه بأنّه بدأ يُشيع فضائل الإمام علي عليه السلام وحينئذ سمح له علي بن عيسى بالرجوع إلى بغداد حتى أصبح شيخاً للحنابلة «ثم تَحَنْبَلَ، فصار شيخاً فيهم وهو مقبول عند أهل الحديث. وقد وصل الأمر بالسجستاني حدّاً مزرياً حتى قال فيه أبوه: ابني عبد اللَّه كذّاب!» (7).

ونقل الذّهبيّ في كتابه (ميزان الاعتدال) عند ترجمته للطبريّ كلام أحد


1- 1 المصدر السابق.
2- 2 البداية والنهاية 11- 12: 167 بيروت، مؤسسة التاريخ العربي، 1413 ه.
3- 3 لا شكّ في وجود اختلاف في وجهات النظر بين الطبريّ وبين علي بن داود الظاهريّ، والذي كان السبب في قيام ابن الظاهريّ محمّد بن علي بن داود الظاهريّ، إلّاأنّ تلك الحادثة لا علاقة لها فيما نحن بصدده وهو مسألة الغدير. [راجع: معجم الأدباء 18: 79- 80].
4- 4 تاريخ الإسلام للذهبيّ: 310- 320، 516.
5- 5 المصدر السابق: 517.
6- 6 الفهرست: 288.
7- 7 تاريخ الإسلام للذّهبي: 310- 320، 518.

ص: 78

المحدثين من أهل السّنة حوله قائلًا: «أقذع أحمد بن علي السّليماني الحافظ فقال:

كان يضع للروافض» (1)، ثم قام بالردّ عليه مادحاً الطبريّ بقوله: «ثقةٌ صادقٌ فيه تشيّعٌ يَسير وموالاة لاتَضُرّ» (2)، واحتمل أنّ يكون السّليماني قاصداً الردّ على ابن جرير الشيعي الذي قام بتأليف كتاب (الرواة عن أهل البيت).

وبعد الأخذ بنظر الاعتبار النّصوص الموجودة لدينا والخاصة باتّهام الطبريّ بالتشيّع، يتأكد لنا من أنّ الشخص الذي قصده السليماني في كتابه هو الطبريّ لا غير، علاوةً على ذلك فإنّ ابن جرير الشيعيّ لم يكن معروفاً في الأوساط السنيّة.

وفي كتابه (لسان الميزان) قام ابن حجر بنقل كلام الذّهبيّ مؤيّداً إيّاه ومدافعاً عن السّليماني الذي اعتبره إماماً متقناً، ثم أكّد أنّه إنّما عنى بكلامه ابن جرير الثاني (أي الإماميّ المذهب)! لكنّه مع ذلك يُشير إلى نقطة مهمّة تتعلّق بالطبريّ بقوله: «وإنّما نُبِزَ بالتّشيّع لأنّه صحّح حديثَ غدير خُمّ» (3).

تشيّع الطبريّ (4)

قبل الشروع بالبحث في روايات الغدير في كتاب الطبري، لا بأس من طرح سؤال هنا على سبيل الاستدراك وهو: هل كان هذا هو السبب الوحيد الذي بواسطته اتُّهِمَ الطبريّ بالتّشيع، أم كانت هناك أسباب أخرى؟ ثم لِمَ لم يذكر بل لَم يُشر الطبريّ إلى حَديثي (الغدير) و (الطير) المشهورَين في كتابيه (التاريخ) و (التّفسير) ولكنّه قام في سنيّ عمره الأخيرة بتأليف كتاب يتناول الحديثَين المذكورين بشكل مفصّل وهو يعلم علم اليقين العواقب الخطيرة التي يمكن أن تترتّب على تأليفه مثل ذلك الكتاب؟

هل يمكن أن نقول: إنّ تحوّلًا جذريّاً قد طرأ على عقيدة الطبريّ الدينيّة؟ إنّ احتمالًا كهذا يبدو غير صحيح؛ وذلك إذا ما أخذنا شخصية الطبريّ وتآليفه المعروفة بنظر الاعتبار. الحقّ أنّ هذه المسألة تكمن وراءها أمور عديدة تعمل كلّها على تشويه الصورة الأصلية لها.


1- 1 ميزان الاعتدال 3: 499.
2- 2 المصدر السابق.
3- 3 لسان الميزان 5: 758 بيروت، تحقيق محمد عبد الرّحمن المرعشلي.
4- 4 إنّ هناك فرقاً بين الاتّهام بالتشيّع والاتهام بالرّفض. راجع بهذا الخصوص البحوث الأوليّة في كتاب- تاريخ التّشيع في إيران- المجلد الأول.

ص: 79

كلّ ما في الأمر أنّ أبا بكر محمّد بن عباس الخوارزميّ (316- 383) (1)الأديب المعروف والشاعر الذائع الصيت في العصر البويهيّ والمعروف بتشيّعه (2) كان ابن أخت الطبريّ، وهو نفسه يُشير إلى ذلك في أبيات شعريّة ذاكراً أنّه أخذ تشيّعه عن أخواله (أي عائلة ابن جرير الطبري هذا).

هذا وقد ثبتت نسبة الخوارزميّ إلى الطبريّ بكون الأخير خاله وذلك في نصوص المصادر القديمة من جملتها ما كتبه السّمعانيّ (ت: 562) في ذيل مدخل الخوارزميّ حيث قال: «... والشاعر المعروف أبو بكر محمد بن العبّاس الخوارزميّ الأديب، وقيل له: الطبريّ لأنّه ابن أخت محمد بن جرير بن يزيد الطبريّ» (3). وذكر هذا المسألة كذلك كلّ من ابن خلكان (4)، شمس الدين الذهبيّ (5)، الصفديّ (6)، ابن عماد الحنبليّ (7)، اليافعيّ (8) وغيرهم.

وربما اقتبس هؤلاء هذه النكتة من بعضهم البعض، لكنّ النصّ الأهمّ والأقدم من كلّ ما سبق، حتى من نصّ السمعانيّ نفسه، هو النصّ الذي كتبه الحاكم النيسابوريّ (ربيع الأول من عام 321- صفر عام 405) في كتابه المفقود (تاريخ نيسابور) والذي ذكر فيه كلّ تلك الأمور (9).

وكتب ابن فندق البيهقيّ في شرحه للتأليفات التأريخية يقول: «ثم صنّف بعده محمد بن جرير الطبريّ (وهو خال أبو بكر الخوارزميّ الأديب) (التاريخ الكبير)، وقد قادني ذلك إلى معرفة نسب محمّد بن جرير المؤرّخ كما ذكر هذا الحاكم أبو عبد اللَّه الحافظ في (تاريخ نيسابور)» (10). وكتب في مكان آخر أيضاً: «وكان الخواجة أبو القاسم الحسين بن أبي الحسن البيهقي رجلًا شجاعاً شهماً وكانت ملوك عصره تعزّه وتقدّره. والدته هي بنت أبي الفضل بن الأستاذ العالم أبي بكر الخوارزميّ.

والأستاذ العالم الفاضل أبو بكر الخوارزميّ هو ابن أخت محمّد بن جرير الطبريّ والذي إليه يُنسبون كتابي (التاريخ) و (التفسير) وقد ذكر هذا الحاكم أبو عبد اللَّه الحافظ في كتابه (تاريخ نيسابور)» (11).


1- 1 حول سنة ولادته، راجع: مقدمة ديوان أبي بكر الخوارزميّ، للدكتور حامد صدقي: 107.
2- 2 انظر رسالته إلى الشيعة في نيسابور والمجموعة في كتاب رسائل الخوارزميّ، طبعة بيروت: 16. وكان الأستاذ صدقي قد جمع كلّ عباراته التي يمكن من خلالها استشمام رائحة التّشيع عند الرجل ووضعها في مقدمة ديوان أبي بكر الخوارزميّ طهران، التراث المكتوب، 1997 م: 115- 117.
3- 3 الأنساب 2: 408.
4- 4 وفيات الأعيان 4: 192 و 400.
5- 5 سير أعلام النّبلاء 16: 526.
6- 6 الوافي بالوفيات 2: 284.
7- 7 شذرات الذهب 3: 105.
8- 8 مرآة الزّمان 2: 416.
9- 9 تاريخ نيسابور، تصحيح محمد رضا شفيعى كدكنى، طهران، 1996 م: 185. وردت هناك العبارة التالية: «محمد بن العباس، ابن أخت محمد بن جرير، أبو بكر الأديب الخوارزميّ»: 185، ش 2445.
10- 10 تاريخ بيهق: 16.
11- 11 المصدر السابق: 16.

ص: 80

إذاً، ومع كلّ تلك التّصاريح لا يبقى بوسع أحد تفنيدها بأيّ شكل من الأشكال، إلّاياقوت وحده حيث شكّك في هذا الأمر حين قال: «وكان يزعم أن أبا جعفر الطبريّ خاله» (1).

هذا وقد قام الأقا محمّد علي الكرمانشاهي (2)، مؤلّف (روضات الجنّات) (3) وصاحب (أعيان الشيعة) (4) بمساعدة القاضي نور اللَّه الشوشتريّ (5) بالردّ على ياقوت مبرهناً على كون الخوارزميّ هو ابن أخت الطبريّ الشيعيّ وهو لا ريب يناقض ما ورد في النّصوص التأريخيّة (6).

وأمّا محمد حسين الأعرجيّ فقد أورد إشكالًا في مقدمة كتاب (الأمثال) للخوارزميّ (7) حول تأريخ ولادة الخوارزميّ وتزامن ذلك مع فترة حياة الطبريّ المؤرخ، يريد بذلك دَحض مسألة كون الخوارزميّ ابن أخت الطبريّ. وتجدر الإشارة إلى أنّه لو ثبتت معاصرة محمد بن جرير الشيعيّ للطبريّ المؤرّخ فإنّ الإشكال عينه أيضاً سيبرز إلى السطح. إضافةً إلى ذلك فإنّ الفترة من وفاة الطبريّ المؤرّخ (ت: 310) إلى الفترة التي عاش خلالها الخوارزمي والتي تبلغ (73) سنة تبدو نادرة بعض الشي ء، لكنّها قد تصدق في نفس الوقت.

ثم ليس بالضرورة أن يكون الخوارزميّ ابن أخت الطبريّ مباشرةً، فقد يكون مثلًا حفيد أخت الطبريّ. على أيّة حال، المهمّ لدينا هنا هو النّصوص التأريخيّة وخصوصاً تلك المدوّنة في كتاب (تاريخ نيسابور)، فمؤلّف هذا الكتاب أعلم مِن أن يكون قد جهل شخصية الطبريّ المؤرّخ، أو أن يكون قد خلط بينه وبين غيره. ونتيجة لهذا لا يعقل أن يذكر الحاكم النيسابوريّ أمراً كهذا بالصدفة، ثم من ناحية أخرى يقوم أبو بكر الخوارزميّ بالإشارة إلى نفس الموضوع صراحةً في شعره. ومهما يكن من أمر، فبالرغم من كون مؤلفات الطبريّ المورّخ لا تمتّ إلى الإمامية ولا التّشيّع بصلة، وبالرغم كذلك من عدم وجود نصّ تأريخيّ يثبت ولو بقَدر ضئيل كون أبي بكر الخوارزميّ كان إماميّ المذهب (8)- برغم تشيّعه الشديد


1- 1 معجم البلدان 1: 77.
2- 2 مقامع الفضل 1: 464- 465 قم، تحقيق ونشر مؤسسة العلامة الوحيد البهبهاني، 1421 ه.
3- 3 المجلّد السابع: 293- 294.
4- 4 المجلّد التاسع: 377- 378.
5- 5 مجالس المؤمنين 1: 98.
6- 6 وعلى هذا استند المرحوم المحدّث الأرموي في تعليقات النّقض 2: 658؛ معتبراً الخوارزمي ابن أخت الطبري المؤرّخ، وهو ما أيّده الأستاذ حامد صدقي واعتبره مطابقاً لِما ورد في المصادر التأريخيّة. راجع: مقدمة ديوان أبي بكر الخوارزمي: 111.
7- 7 مقدمة ديوان أبي بكر الخوارزمي: 112- 113.
8- 8 سوى الأبيات التي سنأتي على ذكرها فيما بعد.

ص: 81

كما هو الحال مع الصاحب بن عباد- فإنّ هذا الإشكال قائم وباقٍ.

وبعد تجاوز مسألة النسبة بين الخوارزميّ والطبريّ، نواجه أمراً آخر لا يقلّ أهميّة عن سابقه، وهو نسبة أبي بكر الخوارزميّ نفسه إلى التّشيع والرّفض من خلال بَيتين للشعر ثم يُرجع ذلك إلى كون أخواله هم من الشيعة أيضاً.

كتب ياقوت الحمويّ (ت: 626) في مادة (آمل) (1) ما نصّه:

«ولذلك قال أبو بكر محمّد بن العباس الخوارزميّ، وأصله من آمل أيضا، وكان يزعم أن أبا جعفر الطبريّ خاله:

بآمُل مولدي وبنو جريرٍ فأخوالي، ويحكي المرءُ خالَهْ

فها أنا رافضيّ عن تراثٍ وغيري رافضيّ عن كَلاله

وكذب، لم يكن أبو جعفر، رحمه اللَّه، رافضياً، وإنّما حَسدته الحنابلة فرموه بذلك، فاغتنمها الخوارزميّ، وكان سبّاباً رافضياً مُجاهراً بذلك متبجّحاً».

وكتب عبد الجليل القزوينيّ (2) كذلك يقول:

«وأبو بكر الخوارزميّ معروف بتشيّعه ولا ينكر أحد من الفضلاء قَدره ومنزلته وفضله. والبيتان التاليان يدلّان على حقيقة ذلك وإن كان المصنّف (ويعني بذلك الشخص الذي ألّف عبد الجليل كتابه- النّقض- للردّ عليه) يعتقد بعدم تسمية الشيعيّ نفسه ب (أبي بكر):

بآمُل مولدي وبنو جريرٍ فأخوالي، ويحكي المرءُ خالَهْ

فمن يك رافضيّاً عن تُراث فإنّى رافضيّ عن كلالَهْ».

والمصرع الأول للبيت الثاني هنا وإن كان يشبه مثيله الذي ذكره ياقوت الحمويّ إلّاأنّه يبدو صحيحاً أكثر من سابقه. وأورد ابن فندق البيهقي كذلك البيت الأوّل دون الثاني (3).


1- 1 معجم البلدان 1: 77؛ أورد القاضي نور اللَّه البَيتين المذكورين كذلك في كتابه مجالس المؤمنين 1: 98.
2- 2 النّقض: 218.
3- 3 تاريخ بيهق: 108. بالرّغم من أنّ هذين البَيتين قد وردا في ثلاثة مصادر قديمة، إلّاأنّ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 2: 36 ذكر كلاماً غير هذا. فقد كتب مشيراً إلى كتاب المسترشد الذي صنّفه محمد بن جرير الطبريّ، يقول: «ذاك ليس بمحمد بن جرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة، وأعتقد أنّ أمّه من بني جرير من مدينة آمل بطبرستان. بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع، فنسب إلى أخواله». ثم يستطرد قائلًا: «وله بيتين من الشعر يؤكدان هذا الأمر». ثم أورد البيتين المذكورين مع تغيير طفيف: بآمل مولدي وبنو جرير فأخوالي ويحكى المرءُ خالَهْ فمَن يَكُ رافضيّاً عن أبيه فإني رافضيّ عن كلالَهْ ولا يُعرف السبب وراء نسبة ابن أبي الحديد تشيّع محمد بن جرير الرافضيّ وهو نفسه من بني جرير إلى أخواله الذين نسبهم كذلك إلى بَني جرير.

ص: 82

إضافةً إلى ذلك، فإنّ ما ذكره الطبريّ من نصوص في كتابه (مناقب أهل البيت عليهم السلام) رغم قوة شوكة الحنابلة في بغداد وقتئذ وتسلّطهم عليها، يمكن أن تكون خير شاهد على أنّ الطبريّ كان شيعيّاً وليس رافضياً. بل وهناك روايات تدلّ صراحةً ودون أيّ التباس على كونه شيعيّاً إماميّاً إثني عشريّاً. من جملة تلك الروايات، تلك التي ذكرها ابن طاووس في كتاب (اليقين) وفيها دلالة واضحة على أنّ سلمان [الفارسيّ ] نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصيّي ووارثي و قاضي ديني وعدتي وهو الفاروق بين الحقّ والباطل، وهو يعسوب المسلمين وإمام المتّقين وقائد الغرّ المحجلين والحامل غداً لواء ربّ العالمين. هو وولده من بعده. ثمّ من الحسين ابني، أئمة تسعة هداة مهديّون إلى يوم القيامة.

أشكو إلى اللَّه جحود أُمّتى لأخي وتظاهرهم عليه وظلمهم له وأخذهم حقّه».

ولأهميّة النصّ المذكور لديه ونقله على لسان الطبريّ، كتب ابن طاووس يقول: «إذا لم يكن في الإسلام حديث معتمد قد نُقِل إلّاهذا (الذي ينقله لنا الطبريّ الذي ما علمناه إلّاممدوحاً موثوقاً) لكان ذلك حَسب عليّ بن أبي طالب، والنبيّ صلى الله عليه و آله الذي صرّح باستقرار الإمامة في وُلد عليّ» (1).

القاضي نُعمان وكتاب الولاية:

يُعتَبر كتاب (شَرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار عليهم السلام) الذي صنّفه القاضي نُعمان بن محمّد التميميّ المغربيّ الإسماعيليّ المذهب (ت: 363) من أقدم المصادر التي تفرّدت بحصة الأسد في الاقتباس عن كتابي (الولاية) و (مناقب أهل البيت) للطبريّ. ولكن، وممّا يُؤسَف له أنّ الكتاب المذكور مع تصريحه بنقل معظم رواياته عن كتاب الطبري إلّاأنّ مؤلفه أسقط اسناد الكثير من الروايات المنقولة سوى النّزر اليسير منها، الأمر الذي أفقد الكتابَ اعتباره وأهميّته. فعلى سبيل المثال كتب القاضي نعمان تعليقاً بعد نقله لخبر «أنتَ أخي ووصيّى وخليفتي من بعدي» يقول فيه:


1- 1 اليقين: 488.

ص: 83

«وممّن رواه وأدخله في كتاب ذكر فيه فضائل علي عليه السلام- غير من تقدّم ذكره- محمد بن جرير الطبري وهو أحد أهل بغداد من العامة عن قرب عهد في العلم والحديث والفقه عندهم» (1)، ثم يذكر الطرق المختلفة التي نقل الطبري عنها ذلك الحديث (2). ثم بعد نقله لعدد من الروايات عن كتاب الطبريّ، أشار في نهاية ذكره للكثير من الأحاديث بهذه العبارة: «وهو كتاب لطيف بسيط ذكر فيه فضائل علي عليه السلام». ويبيّن بعد ذلك القسم الخاصّ برواية الغدير في كتاب الطبريّ والغرض الذي توخّاه في تصنيفه الكتاب المذكور والذي تقدّم شرحه (3).

ربما كان يقصد بكتاب (فضائل علي عليه السلام) كتاب (الولاية) أو كتاباً آخر في فضائل علي، والذي ربما كان قسم منه يتناول طرق حديث الغدير. وفي آخر نقله للأحاديث في باب الوصاية للإمام علي (عن الطبري) يشير مرة أخرى إلى البساطة التي استخدمها الطبريّ في كتابه في نقل فضائل الإمام علي عليه السلام حيث يقول: «وما رواه وبسطه من فضائل علي عليه السلام...» (4).

وعلى أيّ حال يمكن القول: إنّ القاضي نعمان هو الأكثر من بين الناقلين عن كتاب الطبريّ في مصنّفه (شرح الأخبار) قياساً بغيره. لكنّه كما ذكرنا أسقط اسناد الأحاديث التي أوردها الطبري في نقله لها، ونتيجة لذلك فهو لم يأتِ بتفصيل الروايات التي جاءت عند نقل الطبري لحديث الغدير؛ وذلك أنّ أسناد تلك الروايات وحدها كانت مختلفة. لكنّه صرّح مع ذلك بأنّ الطبريّ كان قد أفرد باباً خاصاً لرواية الغدير ردّاً على أبي بكر السجستاني.

وكان السجستانيّ قد ذكر بأنّ علياً عليه السلام لم يرافق النبيّ صلى الله عليه و آله في حجة الوداع وعلى هذا تكون رواية الغدير باطلة من أساسها. هذا الأمر هو الذي أثار حفيظة الطبري فقام بتأليف كتاب (الولاية). وكتب القاضي نعمان يقول: «واحتجّ [الطبريّ ] على ذلك بالروايات الثابتة على قدوم عليّ- صلوات اللَّه عليه- من اليمن على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله عند وصوله إلى مكة و...» (5). ويستطرد


1- 1 شرح الأخبار 1: 116.
2- 2 المصدر السابق: 117.
3- 3 المصدر السابق: 130- 131.
4- 4 المصدر السابق 1: 128.
5- 5 المصدر السابق 1: 132.

ص: 84

القاضي كذلك في بحثه عن كتاب (الولاية) الذي تناول جزءاً منه فضائل عليّ ثم عُرِفَ فيما بعد بشكله المستقلّ، بقوله: «ثم جاء أيضاً في هذا الكتاب بباب أفرد فيه الروايات الثابتة التي جاءت من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بأنّه قال قبل حجّة الوداع وبعده: «مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه، اللّهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله». وقوله: «عليّ أمير المؤمنين وعلي أخي، وعليّ وزيري، وعلىّ وصيّي، وعليّ خليفتي على أمّتي من بعدي، وعليّ أولى الناس بالناس من بعدي».

وغير ذلك ممّا يوجب له مقامه من بعده، وتسليم الأمّة له ذلك، وأن لايتقدّم عليه أحد منها، ولا يتأمّر عليه، في كلام طويل ذكر ذلك فيه، واحتجاج أكيد أطاله على قائل حكى قوله ولا نعلم أحداً قال بمثله، وما حكاه عنه من دفع ما اجتمعت عليه الأمّة عليه ونفيه أن يكون علي عليه السلام مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله في حجة الوداع. وعامة أهل العلم، وأصحاب الحديث مجمعون على أنّه كان معه... فأشغل الطبري أكثر كتابه بالاحتجاج على هذا القائل الجاحد الشاذّ قوله الذي لم يثبت عند أحد من أهل العلم» (1).

وقد تعجّب القاضي نعمان من أنّ الطبريّ رغم نقله لتلك الأحاديث، لماذا عمل طبق مذهب العامّة؟ حيث يقول: «وأغفل الطبري أو تجاهل خلافه، لما أثبته ورواه وصحّحه ممّا قدمنا ذكره. وحكايته عنه في عليّ عليه السلام وذهب فيه إلى ما ذهب أصحابه من العامة إليه من تقديم أبي بكر وعمر وعثمان عليه» (2).

وبعد نقله لروايات الغدير قام القاضي نعمان بنقل روايات أُخَر في فضائل الإمام علي عليه السلام من كتاب الطبري، وأوّلها حديث (الطيّر)، قائلًا: «ونحن بعد هذا نحكي ممّا رواه الطبري هذا من مناقب علي صلوات اللَّه عليه وفضائله الموجبة لما خالفه هو لنؤكّد بذلك ما ذكرناه عنه» (3). ثم قال (بعد نقله لحديث (الطير): «وجاء الطبري بهذا الحديث بروايات كثيرة وطُرُق شتّى » (4). ثم بعد أن يأتي بحديث


1- 1 المصدر السابق: 135. ويقصد الكلام الذي قيل فيه: إنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان موجوداً في اليمن وقت حجة الوداع.
2- 2 المصدر السابق 1: 136- 137.
3- 3 المصدر السابق: 137.
4- 4 المصدر السابق: 138.

ص: 85

(الراية) يقول: «فجاء الطبري بهذا الخبر وما قبله من الأخبار من طرق كثيرة» (1). وعَقب نقله للخبر الذي ذُكِر فيه أنّ الإمام عليّاً عليه السلام قال مخاطباً أصحابه: (ستُجبَرون على سَبّي مِن بَعدي) قال: «وهذا ممّا أثبتناه في هذا الكتاب مما آثره الطبريّ الذي قدّمنا ذكره» (2)، وجاء ببقيّة حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وأمّا الشخصية الأخرى التي اقتبست من كتاب (الولاية) للطبري بعد القاضي نعمان، هو ابن عبد البرّ الأندلسيّ (368- 463). والأندلسيّ هذا قام بنقل ثلاثة أحاديث من كتاب الطبري في الجزء الشيّق فيه الخاصّ بشرح حال الإمام علي عليه السلام (3) من كتابه «الاستيعاب»، لكن لا توجد دلائل تؤكّد على أنّ الأندلسيّ قام بنقل الأحاديث أو الروايات عن كتاب الولاية أو كتاب الفضائل، إلّاأنّه من المؤكّد أنّ الطبري قد أورد تلك الأحاديث في كتابه (فضائل علي عليه السلام).

ابن شهرآشوب وكتاب الولاية:

أبو جعفر رشيد الدين محمّد بن علي المعروف بابن شهرآشوب (ت: 588) هو الشخصية الأخرى التي أشارت إلى كتاب الولاية للطبري في كتاب «المناقب».

فقد كتب يذكر جملة من الذين ذكروا حديث (الغدير) خلال مؤلفاتهم، ومنهم الطبريّ حيث يقول:

«ابن جرير الطبريّ من نيّف وسبعين طريقاً في كتاب الولاية» (4). وقام ابن شهراشوب كذلك بالاقتباس عن كتاب (الولاية) في مواطن عديدة من كتابه المناقب، لكننا لا نعلم أنّه قد فعل ذلك بصورة مباشرة، والمهمّ لدينا هو أنّه قام بالاقتباس عن هذا الكتاب مواضع لم تُذكَر في مصادر أخرى. وقد اعتاد ابن شهرآشوب على ذكر المصادر في بداية كلّ جملة، كقوله: «حلية أبو نعيم وولاية الطبريّ، قال النبيّ...» (5)، أو قوله: «ابن مجاهد في التاريخ والطبري في الولاية» (6)، أو قوله في موضع آخر: «الطبريّان في الولاية والمناقب» (7). ولا ريب أنّه قد قصد كتابي (الولاية) و (المناقب) للطبريّ. وقال في مكان


1- 1 المصدر السابق 1: 149.
2- 2 شرح الأخبار: 164.
3- 3 الاستيعاب 3: 1090، 1118، 1126.
4- 4 المناقب 4: 25.
5- 5 المصدر السابق 3: 48.
6- 6 المصدر السابق 3: 67.
7- 7 المصدر السابق 3: 70 و 4: 73.

ص: 86

آخر: «والطبريّ في التاريخ والمناقب» (1). ويبدو من خلال ذِكره لعبارة: (أورد الطبريّ حديث الطير في كتابه- الولاية) أنّه كان يعتبر كتاب (الولاية) (2) أعمّ وأشمل من كتاب (الفضائل). وكان استعمل مرة هذه العبارة: (الطبريّ في الولاية) في كتابه الموسوم ب (متشابه القرآن) (3).

والنّقطة المهمة الأخرى هي أنّ ابن شهرآشوب راوح بين نَقله صراحةً من كتاب (الولاية) تارةً ومن كتاب (تاريخ الطبريّ) تارةً أخرى، لكننا نجده في مواطن أخرى يقوم بنقل الحديث عن الطبريّ دون أن يشير إلى أيّ كتاب من كتب الطبري، إلّاأنّه وبعد الّتمعّن بفحوى بعض تلك الأحاديث التي يستشف منها فضائل الإمام عليّ عليه السلام، يمكننا الاستنتاج بأنّها منقولة لا محالة عن كتاب (الولاية).

ابن طاووس وكتاب (المناقب) وحديث (الولاية):

وأمّا ابن طاووس (ت: 664) فقد ذَكر كتابي الطبريّ معاً ثم قام بنَقل بعض النصوص عن كتاب (المناقب) خاصة. يقول ابن طاووس في كتابه (اليقين): «فيما نذكره من كتاب المناقب لأهل البيت عليهم السلام تأليف محمد بن جرير الطبريّ صاحب التأريخ، من تسمية ذي الفقار لعليّ عليه السلام بأمير المؤمنين»، ثم يبدأ في نَقله عن الكتاب المذكور بالكلام التالي:

«قال في خُطبته ما هذا لفظه: حدّثنا الشيخ الموفق [المدقق ] محمد بن جرير الطبري ببغداد في مسجد الرصافة، قال: هذا ما ألّفته من جميع الروايات من الكوفيين والبصريين والمكّيين والشاميين وأهل الفضل كلّهم واختلافهم في أهل البيت عليهم السلام، فجمعْتُه وألّفْتُه أبواباً ومناقب ذكرت فيه باباً باباً وفصّلت بينهم وبين فضائل غيرهم. وخَصَصْتُ أهل هذا البيت بما خصّهم اللَّه به من الفضل».

ونستنتج من عبارات ابن طاووس هذه أنّه يريد الإشارة إلى أنّ كتاب الطبريّ كان مصنّفاً على أبواب وفصول لقوله (فجمعْتُه وألّفْتُه أبواباً ومناقب ذكرت فيه باباً باباً...)، لكنّه مع ذلك لم يوضّح الأساس الذي استند عليه في هذا


1- 1 المصدر السابق 3: 129.
2- 2 المصدر السابق 2: 282.
3- 3 متشابه القرآن، قم، منشورات «بيدار»، 1410 ه 2: 41.

ص: 87

التّبويب، إلّاإشارة واحدة من خلال كلام ذكره ابن طاووس في مكان آخر حيث قال: «قال محمد بن جرير الطبريّ المذكور في كتاب مناقب أهل البيت عليهم السلام في باب الهاء من حديث نذكر اسناده والمراد منه بلفظه» (1). وقال كذلك في كتاب (الطُرَف) مشيراً إلى كتاب (المناقب) للطبريّ: «ورتّبه أبواباً على حروف المعجم، فقال في باب الياء ما لفظه:» (2). وإذا أردنا تبيين المراد من (باب الهاء) أو (باب الياء) توجّب علينا التركيز أكثر على بعض الأمور (3). وعلى هذا تبدو إعادة ترتيب الكتاب بالشكل الذي كان قد رتّبه هو بنفسه أمراً صعباً بعض الشي ء.

ثمّ ينقل ابن طاووس كلاماً للخطيب البغداديّ (بحذافيره)- كما هو موجود في كتاب (تاريخ بغداد، 2/ 162) عند ترجمته لابن جرير الطبريّ (4). وضمن تأكيده على أنّه لم يَقُم بهذا النّقل إلّاليوطّد قاعدة استدلاله- قال ابن طاووس:

«وقد ذكر في كتاب المناقب المشار إليه من تسمية مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام بأميرالمؤمنين ثلاثة أحاديث نذكرها في ثلاثة أبواب ما هذا لفظه» (5)، ثم يأتي على ذكر نصوص تلك الأحاديث. ولابن طاووس أيضاً إشارات إلى كتاب (الولاية) والذي ذكرناه في مواضع أخرى نقلًا عن (الطرائف).

شمس الدين الذهبيّ وكتاب (الولاية):

ذكرنا آنفاً أنّ الذهبي كان قد اطّلع على مجلّد واحد من مجموع مجلّدَين لكتاب الطبري فيما يخصّ طرق حديث (الغدير) وأنّه دُهش لكثرة ما رأى من الطرق المذكورة لذلك الحديث. وقد قام الذّهبي محاكاةً- كما يبدو- لمُصَنَّف الطبري بتأليف رسالة مستقلة في طرق حديث (الغدير) ونقل عدداً من الروايات من كتاب الطبريّ في مواضع كثيرة في كتابه. وقال في موضع ما من كتابه، بعد إيراده لرواية:

«هكذا روى الحديث بتمامه محمد بن جرير الطبريّ» (6)، وقال أيضاً: «حدّثنا ابن جرير في كتاب غدير خمّ» (7)، وفي موضع آخر كتب يقول: «قال محمد بن جرير الطبري في المجلد الثاني من كتاب (غدير خمّ) له وأظنه به


1- 1 اليقين: 477.
2- 2 الطُرَف، ميراث اسلامى ايران، المجلد الثالث: 186.
3- 3 كتب كلبرگ- مكتبة ابن طاووس: 398، ش 356- يقول: إنّ المقصود من ذلك هو ترتيبه الأبواب بحسب أسماء الرواة. ومع ذلك لا يمكننا تأييد هذا القول بالكامل إذا ما علمنا أنّه قام مثلًا بنَقل حديث عن سلمان في اليقين: 477 لا يناسب وضعه في باب الهاء، وشبيه هذا الأمر موجود كذلك في كتاب الطُرَف.
4- 4 وقام كذلك بنقل نصوص أخرى لعلماء من أهل السنّة يمدحون فيها الطبريّ ويثنون عليه. [اليقين باختصاص مولانا عليّ بأمير المؤمنين، تصحيح الأنصاريّ، قم دار الكتب، 1413 ه: 487.].
5- 5 اليقين: 215- 216.
6- 6 طرق حديث «من كنت مولاه...»: 29.
7- 7 المصدر السابق: 41.

ص: 88

مثل جمع هذا الكتاب نسب إلى التشيع» (1)، وله كذلك: «رواه محمد بن جرير في كتاب (الغدير)» (2).

ابن كثير وكتاب (الولاية):

وذكرنا أيضاً أنّ ابن كثير قد أشار هو الآخر إلى كتاب (الولاية). فقد تطرّق إلى حديث (الغدير) في موضعَين في كتابه (البداية والنهاية)؛ الموضع الأول في حوادث سنة (10) للهجرة مشيراً إلى بعض طرقه (3)3 البداية والنهاية 5: 227- 233 بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 1412 ه.(4)4 المصدر السابق 7: 383- 387.(5)5 المصدر السابق 5: 227.


1- 1 المصدر السابق: 62.
2- 2 المصدر السابق: 91.
3- 3 البداية والنهاية 5: 227- 233 بيروت، دار إحياء التّراث العربي، 1412 ه
4- . والموضع الثاني جاء به في آخر أيام أمير المؤمنين عليه السلام وذلك خلال ذِكره فضائله سلام اللَّه عليه، وهنا كذلك أورد بعض طرق حديث (الغدير) إلّاأنّه لم يُشر، لا من قريب ولا مِن بعيد، إلى كتاب الطبريّ
5- . ففي الموضع الأول، وبعد التنويه إلى أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قام ببيان إحدى فضائل عليّ عليه السلام على الملإ بالقرب من غدير (خمّ) وذلك عند عودته من حجّة الوداع، كتب ابن كثير يقول: «ولهذا لمّا تفرّغ عليه السلام من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بيّن ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم (18) من ذي حجة عامئذ وكان يوم الأحَد بغدير خمّ تحت شجرة هناك. فبيّن فيها أشياء. وذكر من فضل عليّ وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه! ونحن نورد عيون الأحاديث الواردة في ذلك ونبيّن ما فيها من صحيح وضعيف بحول اللَّه وقوّته وعونه. وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتأريخ، فجمع فيه مجلّدين أورد فيهما طرقه وألفاظه وساق الغثّ والسمين والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدّثين يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز صحيحه وضعيفه»

ص: 89

الواقع جزءٌ من كتاب الطبريّ. ويبدو ممّا جاء في كتاب (البداية والنهاية) أنّ الرسالة المذكورة (في طرق حديث الغدير) كانت بحوزة ابن كثير.

البياضي وكتاب (الولاية):

ذكر زين الدين علي بن يونس العاملي في مقدمة كتاب (الصراط المستقيم) فهرساً من مصادره، ومن جملتها اسم كتاب (الولاية) للطبريّ (1). وفي مكان آخر وخلال ذِكره لمؤلفات أهل السنّة حول أهل البيت عليه السلام، بدأ بذِكر كتاب الطبريّ، حيث قال: «فصنّف ابن جرير كتاب الغدير وابن شاهين كتاب المناقب...» (2)، وعلى هذا الأساس قام بنقل بعض النّصوص من الكتاب المذكور مستنداً أغلب الظنّ إلى كتب لابن شهرآشوب وابن طاووس أو مصادر أخرى. ومن بين تلك المقتبسات، اقتباس مفصّل عن زيد بن أرقم نقلًا عن كتاب (الولاية) للطبريّ، والذي يبدو أنّ العلامة الأمينيّ قد قام بنقل ذلك عن البياضيّ (3)، وذلك لأننا لا نجد عين هذا النصّ في مكان آخر غير هذا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البياضي يذكر تارةً كتاب (الولاية) للطبريّ بصريح العبارة، وتارةً أخرى يقوم بنَقل نصّ عنه واضعاً اسمه إلى جانب أسماء الرواة الآخرين من أهل السنّة ممّا يؤكّد كون الطبريّ هذا هو نفسه الطبريّ المؤرّخ المعروف.

هذا وقد أشار البياضيّ في كثير من المواطن إلى كتاب (التأريخ) للطبريّ (4)، كما أشار أيضاً إلى الطبريّ الشيعيّ وكتابه (المسترشد) (5) واقتطف منه مقاطع كذلك. وجدير بالذكر، أنّه يصعب علينا تحديد مَن هو المقصود بكلمة (الطبري) التي يذكرها البياضي في بعض المواضع التي لا يذكر فيها الاسم الكامل سوى ذِكره لكلمة (الطبري) وحسب (6).

وقد نقل عن كتاب الطبري (المناقب) مورداً يتعلّق بأبي بكر (7).

ومن الشخصيات التي قامت بنقل بعض الروايات في فضائل الإمام علي عليه السلام


1- 1 الصراط المستقيم 1: 9.
2- 2 المصدر السابق 1: 153.
3- 3 الغدير 1: 214؛ راجع: الصراط المستقيم 1: 301.
4- 4 الصراط 3: 79، 81، و 162.
5- 5 المصدر السابق 1: 4، و 3: 255.
6- 6 المصدر السابق 1: 246. وفي 1: 261 يُدرج اسمه في عِداد كتّاب الشيعة كابن بطريق وابن بابويه، ويحتمل أنّه قد قصد من الطبري صاحب «المسترشد».
7- 7 الصراط 1: 233؛ وأسند ابن جرير الطبري في كتاب المناقب إلى النّبي...

ص: 90

كذلك عن الطبريّ، هو العالِم المحدّث المشهور لدى أهل السنّة علاء الدين علي المعروف ب (المتّقي الهندي) (ت: 975)، حيث قام بنقل العديد من الروايات في كتابه (كنز العمّال) (1) والخاصّة بفضائل الإمام علي عليه السلام واضعاً اسم ابن جرير في آخر تلك الروايات. ويقول المتّقي الهندي في مقدمة الكتاب ما شرحه: «إذا كان أورد اسم ابن جرير مطلقاً فحينئذ يقصد كتابه (تهذيب الآثار)، وأمّا إذا نقله عن كتاب (التّفسير) أو كتاب (التأريخ) فإنّه يذكر ذلك صراحةً. وهنا ننوّه أنّه لمّا كانت الروايات المنقولة عنه في باب فضائل أهل البيت كانت كذلك موجودة يقيناًفي كتاب (مناقب أهل البيت)، ولمّا كان بعضها يتعلّق بطُرق حديث (الغدير)، يمكن اعتبار هذه الأحاديث أيضاً بمثابة جزء من كتاب (الفضائل) أو كتاب (الولاية) اللّذين للطبريّ.

وتجدر الإشارة إلى أنّه لم يصل إلينا من كتاب (تهذيب الآثار) إلّاقسم من أجزائه فقط، وعلى هذا فالقسم الأكبر من تلك الروايات غير موجود في النسخة المطبوعة منه والموجودة في أيدينا اليوم.

وأخيراً لوحظ اهتمام بالغ بهذا الكتاب في كتاب (الغدير) للعلامة الأميني (1320- 1390 هجرية) الذي ذكر حديث (الغدير) برواية الطبريّ نقلًا عن (كنز العمّال) و (البداية والنهاية) (2). ونشير إلى أنّ الأستاذ المرحوم السيد عبد العزيز الطباطبائيّ (ت: 1416) قد ذكر أيضاً كتاب (الولاية) ضمن مؤلّفات أهل السنّة عن أهل البيت عليه السلام (3).


1- 1 بيروت، مؤسسة الرسالة، 1409 ه.
2- 2 حول كتاب الولاية راجع: الغدير 1: 152.
3- 3 الغدير في التراث الاسلامي، بيروت، دار المؤرخ العربي، 1414 ه: 35- 37؛ أهل البيت في المكتبة العربية، قم، مؤسسة آل البيت، 1417 ه: 661- 664، ش 852.

ص: 91

الهوامش:

ص:92

ص:93

ص:94

ص:95

ص:96

ص:97

ص:98

ص: 99

فقه الحجّ عند الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)

فقه الحجّ عند الامام علي بن ابي طالب عليه السلام

فقه الحجّ عند الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

عبد الكريم آل نجف

ما كادت الفضائل تجتمع في إنسان اجتماعها في علي بن أبي طالب عليه السلام وما كادت فضائله تبرز بروز علمه وفقهه وإحاطته بالأحكام والسنن والقضايا.

ويكفيه منقبة في ذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال في حقّه: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (1)

. فهو المفسِّر الأوّل والمتكلِّم الأوّل والفقيه الأوّل في الإسلام. رغم ما أبداه الزمان له من جفاء ومؤامرات وخيانة أدّت إلى إسدال الستار على الكثير من علومه وعطائه الثرّ للإسلام والإنسانية، إلى الحدّ الذي يتقطّع معه المنصف ألماً وهو يرى صحيحي البخاري ومسلم في احتفاء تامّ بأسماء الضعفاء والنكرات في الموازين الصحيحة للدين والفقه بعيداً عن ضوضاء السياسة وصخبها، أمثال أبي هريرة وعكرمة وكعب الأحبار بينما لم يرَ في أسانيدهما اسم علي بن أبي طالب عليه السلام إلّابنحو عفو الخاطر، وعروض العارض الطارئ.

ومقتضى إمامته الفكرية على المسلمين الرجوع إليه فيما يعترض حياتهم من مشكلات فكرية ومطالب دينية، ومن جملتها المطالب الفقهية.


1- 1 انظر مصادر ونصوص هذا الحديث في كتب الفريقين في هوامش الشيخ حسين الراضي على الفقرة التاسعةمن المراجعة 48 من كتاب المراجعات للإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين قدس سره.

ص: 100

والدراسة التي بين أيدينا محاولة لتسليط الضوء على ما وصل إلينا من تراث الإمام عليه السلام الفقهي في كتاب الحجّ من أبوابه المختلفة، نأمل أن تكون موفّقة في تحقيق ما نتوخّاه من أغراض تتّصل بتخليد تراث الإمام الفقهي من جهة، وتسليط أضواء علوية على فقه الحجّ من جهة ثانية.

ومصدر روايات وأحاديث هذه الدراسة يتمثّل بشكل أساس في:

1- ما ورد في وسائل الشيعة للحرّ العاملي من أخبار وروايات نُسبت إلى الإمام علي عليه السلام وعالجت جوانب الحجّ المختلفة.

2- ما جمعه الدكتور محمد روّاس قلعه چي في كتابه «موسوعة فقه علي بن أبي طالب» من أخبار وروايات عن الإمام علي عليه السلام في أبواب الحجّ المختلفة، من مصادر الحديث والفقه والتفسير المختلفة لدى مذاهب الجمهور.

والمصدر الأوّل هو الأساس، والمصدر الثاني جي ء به لغرض المقارنة والإضافة المناسبة لموضوع البحث. وقد قسّمنا هذه الدراسة إلى أبواب بحسب الأبواب الفقهية المتعارفة في كتاب الحجّ قدر الإمكان بعد حذف الأبواب التي لم يرد فيها أثر عن الإمام علي عليه السلام.

أوّلًا- مقدّمات الحجّ

وتشمل الأحكام الفقهية التمهيدية لفريضة الحجّ، ممّا له علاقة بمرحلة ما قبل الاحرام، وقد وردت عن الإمام علي عليه السلام آثار فقهية عن هذه المرحلة نوردها في النقاط التالية:

1- في وجوب الحج وفضيلته وأركانه

المعروف من شريعة الإسلام أنّ الحجّ هو من أعظم شعائر الإسلام، وأنّ من سوّف الحجّ حتى يموت بعثه اللَّه يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً، هذا لمن كان مستطيعاً كما في المروي عن النبي صلى الله عليه و آله (1).

وقد وردت في هذا المعنى آثار عديدة عن أمير المؤمنين عليه السلام منها ما قاله ضمن


1- 1 وسائل الشيعة 11: 32 ط مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

ص: 101

خطبة له: «ألا ترون أنّ اللَّه اختبر الأوّلين من لدن آدم إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار ما تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع.... ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه..» (1).

وقال عليه السلام في خطبة أخرى: «فرض عليكم حجّ بيته الذي جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته... فرض حجّه وأوجب حقّه وكتب عليكم وفادته...» (2)

، وكان عليه السلام يخاطب أبناءه بقوله: «انظروا بيت ربّكم فلا يخلونّ منكم فلا تناضروا» (3)

كلّ هذا في الحجّ الواجب.

أمّا في فضيلة الحجّ واستحبابه فقد ورد عنه عليه السلام في خبر روي في العلل وعيون الأخبار والخصال بسند ينتهي إلى الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّ رجلًا سأل أمير المؤمنين عليه السلام: كم حجّ آدم من حجّة؟

فقال له: سبعمائة حجّة ماشياً على قدميه، وأوّل حجّة حجّها كان معه الصرد يدلّه على الماء وخرج معه من الجنّة.. وسأله عن أوّل من حجّ من أهل السماء فقال: جبرئيل عليه السلام (4).

وروي عنه عليه السلام أنّه قال: «ضمنت لستّة الجنّة، وعدّ منهم من خرج حاجّاً فمات» (5).

وكيف كان ففضيلة الحجّ ممّا لا تحتاج إلى بيان، وإنّما وقع البحث في تحديد النوع الأفضل، فذهب مشهور السنّة إلى أفضلية الإفراد، وذهبت الإمامية إلى أفضلية التمتّع. قال في الجواهر: «لا خلاف أيضاً في أفضلية التمتّع على قسميه لمن كان الحجّ مندوباً بالنسبة إليه لعدم استطاعته أو لحصول حجّة الإسلام منه.

والنصوص مستفيضة فيه أو متواترة بل هو من قطعيات مذهب الشيعة، بل في بعضها عن الصادق عليه السلام: لو حججت ألفي عام ما قدمتها إلّامتمتّعاً» (6).

وقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك فأجاب عليه السلام: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول لكلّ شهر عمرة، تمتّع فهو واللَّه أفضل..» (7)، خلافاً لما ترويه المصادر السنيّة عنه من


1- 1 الوسائل 11: 11- 12.
2- 2 الوسائل 11: 15.
3- 3 الوسائل 11: 21.
4- 4 الوسائل 11: 128 ح 20.
5- 5 الوسائل 11: 102 ح 29.
6- 6 جواهر الكلام، محمد حسن النجفي 6: 442.
7- 7 الوسائل 11: 251 ح 18.

ص: 102

أنّه، كان يقول: «أفرد الحج فإنّه أفضل» (1).

2- النية

من المعلوم في شريعة الإسلام أنّ النيّة شرط في كلّ عبادة، والحجّ من جملة العبادات التي لا تتمّ إلّابالنيّة، وهذا ممّا لا إشكال فيه، ولا شكّ يعتريه، إنّما وقع البحث بين الفقهاء في الجهة التي تنعقد لها النيّة، هل هي نيّة الاحرام أم نيّة الخروج إلى مكّة أم نية النوع من تمتع أو إفراد أو قران، أم الجمع بين النية للنوع والنية لكلّ فعل من أفعاله؟

وجوه متعدّدة ذكرها الفقهاء، وأوردها صاحب الجواهر عنهم، ثمّ اختار منها القول بأنّ النية هي نية النوع (2).

وفي موسوعة فقه علي بن أبي طالب أورد نصّاً عن الإمام عليه السلام نقله عن مسند زيد استفاد منه فقهاء السنّة أنّ النية تكون للنوع، وهو قوله عليه السلام «من شاء ممّن لم يحجّ يتمتّع بالعمرة إلى الحجّ، ومن شاء قرنهما جميعاً، ومن شاء أفرد» (3).

ولكن تخصيص الكلام بمن لم يحجّ يفيد أنّ الإمام عليه السلام بصدد أمر آخر غير النية، فإنّ النية ثابتة في العبادة الواجبة والمستحبّة، فيمن حجّ سابقاً وأراد حجّة جديدة مستحبّة ومن لم يحجّ وأراد الصرورة.

3- يجب الحجّ على المرأة ولو لم يكن معها محرم

نقل عبداللَّه بن جعفر في قرب الاسناد، بإسناده عن الحسين بن علوان عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه نقل عن أبيه الباقر عليه السلام: «أنّ عليّاً كان يقول لا بأس أن تحجّ المرأة الصرورة مع قوم صالحين إذا لم يكن لها محرم ولا زوج» (4). فيكفي في الوجوب عليها غلبة ظنّها بالسلامة على نفسها لصدق الاستطاعة عليها إذا كانت مأمونة وكان معها في الرفقة ثقات، كما قال في الجواهر (5)، ومفهوم كلام علي عليه السلام وسائر الروايات في المقام أنّ الوجوب يرتفع إذا غلب عليها الخوف من الطريق.


1- 1 موسوعة فقه علي بن أبي طالب، د. رواية قلعه چي: 205، نقلًا عن سنن البيهقي، وكنز العمّال، والمجموع للنووي.
2- 2 الجواهر 6: 442.
3- 3 الموسوعة: 205.
4- 4 الوسائل 11: 155.
5- 5 الجواهر 6: 393.

ص: 103

4- حجّ الصبي والمملوك

المعروف من الفقه أنّ الحجّ لا يجب على الصبي والمملوك، ولو حجّ أحدهما لم يجزه ذلك عن حجّة الإسلام عند حصول البلوغ بالنسبة إلى الصبي وتحقّق العتق بالنسبة إلى المملوك، وفي ذلك روايات كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام منها ما عن الإمام الصادق عليه السلام «الصبي إذا حُجّ به فقد قضى حجّة الإسلام حتّى يكبر، والعبد إذا حُجّ به فقد قضى حجّة الإسلام حتّى يعتق» (1).

ولم يستدلّ فقهاء الإمامية في هذا الباب بحديث عن الإمام علي عليه السلام، غير أنّ فقهاء السنّة أوردوا عنه حديثاً يقول فيه: «إذا حجّ الصبي أجزأه ما دام صبياً، فإذا بلغ فعليه حجّة الإسلام، وإذا حجّ العبد أجزأه ما دام عبداً، فإذا عتق فعليه حجّة الإسلام» (2).

5- حجّ القران

ينقسم الحجّ إلى تمتّع وافراد وقران، الأوّل فرض البعيد عن مكة، والثاني والثالث فرض أهل مكة، ولم يرد في مصادر الحديث والفقه الإمامي عن علي عليه السلام في هذا الباب شي ء، بينما ذكرت المصادر السنّية أنّ أبا نصر السلمي قال: «أهللت بالحجّ فأدركت عليّاً فقلت: أهللت بالحجّ أفأستطيع أن أضمّ إليه عمرة؟ قال: لا لو كنت أهللت بالعمرة ثمّ أردت أن تضمّ إليها الحجّ ضممته، فإذا بدأت بالحجّ فلا تضمّ إليه عمرة، قال: فما أصنع إذا أردت؟ قال: صب عليك ادواة من ماء ثمّ تحرم بهما جميعاً فتطوف لهما طوافين» (3).

ورووا أيضاً «أنّ المقداد دخل على عليّ بن أبي طالب بالسقيا وهو يسقي بكرات له دقيقاً وخبطاً فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة، فخرج علي وعلى يديه أثر الدقيق والخبط حتّى دخل على عثمان فقال:

أنت تنهى عن أن يقرن بين الحجّ والعمرة؟ فقال عثمان: ذلك رأيي. فخرج علي مغضباً وهو يقول: لبّيك اللّهم لبّيك بحجّ وعمرة معاً» (4).


1- 1 الوسائل، الباب 16، من أبواب وجوب الحجّ، ح 2.
2- 2 الموسوعة: 24، نقلًا عن الروض النضير 3: 296.
3- 3 سنن البيهقي 4: 348، والمغني 3: 484.
4- 4 الموطأ 1: 336 وكنز العمّال ح 12465.

ص: 104

وروى ابن أبي شيبة عن مروان بن الحكم قال: «كنّا نسير مع عثمان فسمع رجلًا يلبّي بهما جميعاً فقال عثمان: من هذا؟ قالوا: عليّ، فأتاه عثمان فقال له: ألم تعلم أنّي نهيت عن هذا؟ فقال: بلى ولكن لم أكن لأدع فعل رسول اللَّه بقولك» (1).

واضطربت رواياتهم عنه في كيفيته ففي رواية عنه عليه السلام أنّ القارن يطوف طوافاً واحداً وسعياً واحداً، وفي أخرى أنّه يطوف طوافين ويسعى سعياً واحداً (2).

والمعروف في الفقه الإمامي أنّ القران يتمّ بسعي واحد وطوافين (3). ونقلوا عنه عليه السلام أنّه قال: «من شاء أن يجمع بين الحجّ والعمرة فليسق هديه معه» (4).

6- النيابة وأحكامها

وفي باب النيابة في الحجّ وردت عن الإمام علي عليه السلام روايات في نقطتين:

أولاهما- في استنابة الموسر في الحج إذا منعه مرض أو كبر أو عدوّ. فقد ورد أنّه عليه السلام رآى شيخاً لم يحجّ قط ولم يطق الحج في كبره، فأمره أن يجهز رجلًا فيحجّ عنه (5).

وردّ صاحب الجواهر دلالة هذا الحديث وأمثاله على الوجوب، خلافاً لما في الحدائق من دلالته على ذلك.

ونقلت المصادر السنّية هذا المضمون عن الإمام عليّ، حيث روي عنه قوله عليه السلام: «الشيخ الفاني الذي لا يستطيع أن يحجّ يجهّز رجلًا على نفقته فيحجّ عنه» (6)

. وروي عنه أيضاً أنّه لم يكن يرى بأساً أن يحجّ الرجل عن الرجل ولم يحجّ قط (7). وهو الموافق للفقه الإمامي فيما إذا كان النائب مستكملًا لشرائط الوجوب في ذلك العام (8).

وثانيتهما- في وجوب أن يأتي النائب بما شرط عليه من تمتّع أو قران أو افراد فقد وردت في ذلك رواية نقلها صاحب الوسائل عن التهذيب والاستبصار عن الحسن بن محبوب عن عليّ عليه السلام «في رجل أعطى رجلًا دراهم يحجّ بها حجّة بها حجّة مفردة قال: ليس له أن يتمتّع بالعمرة إلى الحجّ لا يخالف صاحب الدراهم» (9).


1- 1 الموسوعة: 207.
2- 2 الموسوعة: 207 نقلًا عن ابن أبي شيبة 1: 183، والمحلّى 7: 174، وسنن البيهقي 5: 108 وكنز العمّال: ح 14464.
3- 3 الجواهر 6: 462- 463.
4- 4 الموسوعة: 208 نقلًا عن المحلّى 7: 10 والمغني 3: 468.
5- 5 الوسائل 11: 63، ح 1، ومثله الحديث الثالث والخامس والسادس من الباب نفسه.
6- 6 الموسوعة: 204 نقلًا عن مصنف ابن أبي شيبة 1: 194، 169 والمحلّى 7: 61 والمجموع 7: 80 والمغني 3: 228.
7- 7 المصدر نفسه.
8- 8 الجواهر 6: 410.
9- 9 الوسائل 11: 182، ح 2.

ص: 105

ولم يعلم الإمام المسؤول في هذه الرواية لوضوح أنّ الحسن بن محبوب لا يروي عن الإمام عليّ عليه السلام، ففيها إرسال في أكثر من واسطة إذا كان المقصود بعليّ هو أمير المؤمنين عليه السلام وكانت الرواية منقولة عن الإمام الكاظم عليه السلام أو الإمام الرضا عليه السلام اللذين عاصرهما الحسن بن محبوب وروى عنهما، ويحتمل أن يكون الإمام المقصود هو علي بن موسى الرضا عليه السلام الذي عرف الحسن بروايته عنه، ولأجل تردّد الرواية بين هذين الاحتمالين، فقد اعتبرها الشيخ الطوسي في التهذيب موقوفة غير مسندة إلى أحدٍ من الأئمّة (1). واعتبرها صاحب الجواهر مضمرة لم يُعرف الإمام المسؤول فيها (2)، ولكن اشتهار التعبير عن الإمام علي عليه السلام في لسان الروايات بما هو وارد في هذه الرواية، واشتهار التعبير عن أسميائه من الأئمّة بالكنى أو بالألقاب أو بالاسم الثنائي أو الثلاثي بنحو جعل التعبير بالاسم المفرد وكأنّه من خواص الروايات عن الإمام علي عليه السلام يجعل احتمال كونها عنه قوياً، فتكون مرسلة حينئذٍ.

7- مَنْ نذر الحجّ ماشياً

المعروف في مسألة من نذر الحج ماشياً وجوب ذلك عليه، وادُّعي الإجماع على ذلك، وكتفريع على ذلك ظهرت مسألة حكم مواضع العبور التي يضطرّ الحاج إلى ركوب السفينة فيها، ونحوها، وقد روي عن الباقر عليه السلام عن آبائه: أنّ عليّاً سئل عن ذلك فقال: «فليقم في المعبر قائماً حتّى يجوز» (3).

8- المواقيت

لم تورد مصادر الحديث والفقه الإمامي شيئاً مأثوراً عن الإمام علي عليه السلام في باب المواقيت، بينما ذكرت بعض المصادر السنّية خبراً عنه عليه السلام يقول فيه: «ميقات من حجّ من المدينة أو اعتمر ذو الحليفة، فمن شاء استمتع بثيابه وأهله حتّى يبلغ ذو الحليفة، وميقات من حجّ أو اعتمر من أهل العراق العقيق، فمن شاء استمتع بثيابه وأهله حتّى يبلغ العقيق، وميقات من حجّ أو اعتمر من أهل الشام الجحفة، فمن


1- 1 الوسائل 11: 92.
2- 2 الجواهر 6: 410.
3- 3 الوسائل 11: 92.

ص: 106

شاء استمتع بثيابه وأهله حتّى يبلغ الجحفة، وميقات من حجّ أو اعتمر من أهل اليمن يلملم فمن شاء استمتع بثيابه وأهله حتّى يبلغ يلملم. وميقات من حجّ من أهل نجد واعتمر قرن المنازل، وميقات من كان دون المواقيت من أهله» (1). وهذه المواقيت مطابقة لما عليه الفقه الإمامي سوى تفاوت طفيف (2).

9- حكم الإحرام قبل الميقات

الميقات هو النقطة التي يجب عندها ارتداء ثوبي الإحرام، أمّا إذا كان الحاج قد أحرم قبل الميقات فما هو حكمه؟

المعروف في الفقه السني جواز ذلك وكونه من تمام الحج، ورووا في ذلك روايات عن الإمام علي عليه السلام أنّه يفسّر قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ بأنّ: «إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك»، وإنّ رجلًا أتى عمر فقال: إنّي ركبت السفن والخيل والإبل فمن أين أحرم؟ فقال: ائتِ علياً فاسأله، فسأل عليّاً فقال له: «من حيث بدأت أن تنشئها من بلادك»، وأنّه عليه السلام أحرم من المدينة المنوّرة (3)..

غير أنّ الفقه الإمامي قائم على عكس ذلك تماماً، وهو أنّ الإحرام لا ينعقد قبل الميقات وأنّه غير جائز (4)، وفي ذلك روايات عديدة عن أئمّة أهل البيت، منها رواية عن الإمام الباقر وروايتان عن الإمام الصادق عليه السلام في نقض ما يرويه أهل السنّة عن الإمام علي عليه السلام وفيها جميعاً الاستغراب من ذلك، وأنّ الأمر لو كان كما يقولون لما ترك الرسول صلى الله عليه و آله فضيلة ذلك ولأحرم من المدينة، مع أنّه قد أحرم من ذي الحليفة (5).

ثانياً- محرمات الاحرام وجزاء مخالفاتها

أمّا في باب محرّمات الاحرام فقد وردت عنه عليه السلام الآثار التالية من مصادر الفريقين:

1- عدم جواز صيد البر على المحرم وحرمة أكله على المحرم والمحل

فقد ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مرّ


1- 1 الموسوعة: 204 نقلًا عن الروض النضير 3: 138.
2- 2 الجواهر 6: 489- 498.
3- 3 الموسوعة: 208 نقلًا عن المغني 3: 266، المحلّى 7: 75، وسنن البيهقي 5: 30، 4: 341، ومسند زيد 3: 144 والمجموع 7: 201 وآثار أبي يوسف: 484، وابن أبي شيبة 1: 162- 164، وتفسير ابن كثير 2: 103.
4- 4 الجواهر 6: 500.
5- 5 الوسائل 11: 321 ح 5، ص 323 ح 2، ص 324 ح 4.

ص: 107

علي عليه السلام على قوم يأكلون جراداً فقال: سبحان اللَّه وأنتم محرمون؟ فقالوا: إنّما هو من صيد البحر، فقال لهم: إرموه في الماء إذن» (1).

ومقتضى شبهتهم في ذلك أنّه يكون حلالًا؛ لأنّ صيد البحر قد نصّ القرآن على حلّيته قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ فقال الإمام عليه السلام لهم في مقام دحض شبهتهم: ارموه في الماء، أي لو كان بحرياً لعاش في الماء.

ونقل في الجواهر عن المنتهى والتذكرة للعلّامة أنّ كونه من صيد البر قول أكثر علمائنا وأكثر علماء العامّة أيضاً، وعن المسالك أنّه لا خلاف فيه عندنا، خلافاً لأبي سعيد الخدري والشافعي وأحمد في رواية (2).

وجمع صاحب موسوعة فقه علي بن أبي طالب آثاراً عنه في هذا الباب وردت في المصادر السنية فكتب يقول:

يحرم على المحرم قتل الصيد، والإشارة إليه، والدلالة عليه، واتباعه، وأكله.

قال علي: «لا يقتل المحرم الصيد ولا يشير إليه ولا يدلّ عليه ولا يتبعه» (3)

فإن فعل شيئاً من ذلك فقتله هو أو قتله الحلال فالمحرم ضامن لذلك (4).

ولا يحل للمحرم أكل لحم الصيد سواء أصاده الحلال أو المحرم وسواء أصيد للمحرم أو لم يُصَدْ لَه (5).

فقد كان الحارث بن نوفل خليفة عثمان على مكة، فلمّا قدم عثمان مكة استقبل بقديد، فاصطاد أهل الماء حجلًا، فطبخ وقدم إلى عثمان وأصحابه، فأمسكوا، فقال عثمان: صيد لم نصده ولم نأمر بصيده، اصطاده قوم حل، فأطعمونا، فما بأس به، فبعث إلى علي فجاءه، فذكر له، فغضب علي وقال: «أنشد اللَّه رجلًا شهد رسول اللَّه حين أُتي بقائمة حمار وحش، فقال رسول اللَّه: إنّا قوم حُرُم فأطعموه أهل الحل، فشهد اثنا عشر رجلًا من أصحاب رسول اللَّه، ثمّ قال عليّ: أنشد اللَّه رجلًا شهد رسول اللَّه حين أتي ببيض النعام، فقال رسول اللَّه: إنّا قوم حرم فأطعموه أهل


1- 1 الوسائل 12: 428، ح 1.
2- 2 الجواهر 6: 590.
3- 3 الروض النضير 3: 221.
4- 4 المغني 3: 309 والمجموع 7: 337.
5- 5 المحلى 7: 250 والمغني 3: 312 والمجموع 7: 331.

ص: 108

الحل»، فشهد دونهم من العدّة- من الاثني عشر- قال: فثنى عثمان وركه من الطعام، فدخل رحله وأكل الطعام أهل الماء (1). وروى عبد الرزاق أنّ عليّاً كره الصيد وهو محرم وتلا هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً (2)

.

ويعتبر قتل الضبع غير العادي صيداً يوجب الجزاء، أما إذا عدا على المحرم فقتله المحرم فلا شي ء فيه، قال علي: «إذا عدا الضبع على المحرم فليقتله، فإن قتله قبل أن يعدو عليه فعليه شاة مسنة» (3)

.

ويحلّ للمحرم قتل الحية السوداء والأفعى، والعقرب، والكلب العقور، ويحلّ له أن يقتل من عدا عليه من الحيوان (4)، ويحلّ له قتل الغراب (5) ويحلّ له أن يقرد بعيره (6) (7).

وقال في الجواهر: إنّ المحرم إذا ذبح صيده البرّي كان ميتة حراماً على المحل والمحرم، كما صرّح به الشيخ والحلّي والقاضي ويحيى بن سعيد والفاضلان وغيرهم على ما حكي عن بعضهم... بل في النهاية والمبسوط والتهذيب والوسيلة والجواهر على ما حكي عن بعضها أنّه كالميتة، بل في الأخير الإجماع عليه أيضاً ثمّ استدلّ على ذلك بخبرين عن الإمام علي عليه السلام في هذا المورد وهما: «خبر وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام: إذا ذبح المحرم الصيد لم يأكله الحرام والحلال، وهو كالميتة، وإذا ذبح الصيد في الحرم فهو ميتة حلال ذبحه أم حرام، وخبر إسحاق عن جعفر عليه السلام أيضاً: إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: إذا ذبح المحرم الصيد في غير الحرم فهو ميتة لا يأكله محلّ ولا محرم، وإذا ذبح المحل الصيد في جوف الحرم فهو ميتة لا يأكله محل ولا محرم» (8).

2- جواز الإدهان قبل الإحرام

المعروف في فقه الحج حرمة الادهان على الحاج بعد الاحرام، وكذا يحرم عليه ذلك قبل الاحرام إذا كان للطيب ريح تبقى إلى بعد الإحرام (9) ويجوز له ذلك


1- 1 سنن البيهقي 5: 182 وسنن أبي داود في المناسك باب لحم الصيد للمحرم، والمغني 3: 312 ورواه ابن أبي شيبة مختصراً 1: 185 والأمّ 7: 170.
2- 2 عبد الرزاق 4: 427 وتفسير الطبري 7: 70 الطبعة الثالثة.
3- 3 ابن أبي شيبة 1: 203 و 1: 191 والأمّ 7: 171 والأوسط 2: 312 والإشراف 2: 319.
4- 4 الروض النضير 3: 269.
5- 5 ابن أبي شيبة 1: 204 ب والروض النضير 3: 269.
6- 6 ابن أبي شيبة 1: 198 والمحلى 7: 244.
7- 7 الموسوعة: 208- 209.
8- 8 الجواهر 6: 588 والخبران مذكوران في الوسائل 11: 432، ح 4 و 5.
9- 9 الجواهر 6: 633.

ص: 109

قبل الإحرام إذا لم يكن للطيب رائحة تبقى بعد الاحرام، وعلى ذلك يحمل الخبر الوارد عن محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام أنه: كان عليّ عليه السلام في هذا الباب يقول: «لا يدهن المحرم ولا يتطيّب، فإن أصابه شقاق دهنه ممّا يأكل، وإن اشتكى عينه اكتحل بالصبر، وليس بالزعفران» (1).

3- جواز الاحرام بثوب مصبوغ بالمشق

اشتهر بين الفقهاء القول بكراهة الاحرام بالثياب المصبوغة سوى ما استثني من ذلك بدليل. وممّا ورد الدليل باستثنائه الثياب المصبوغة بالمشق، وهو طين أحمر كانوا يصبغون به الثياب، فقد ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: «كان علي عليه السلام محرماً ومعه بعض صبيانه وعليه ثوبان مصبوغان فمرّ به عمر بن الخطّاب فقال:

يا أبا الحسن ما هذان الثوبان المصبوغان؟

فقال عليه السلام: ما نريد أحداً يعلّمنا السنّة إنّما هما ثوبان صبغا بالمشق» (2).

وأورد صاحب موسوعة فقه علي بن أبي طالب مضمون هذا الخبر وأخباراً أخرى تحت عنوان «ما يحرم على المحرم من اللباس» فكتب يقول:

ويباح للرجل لبس المورد من الثياب إذا لم يكن تورده بزعفران أو ورس أو عصفر (3)، فعن محمد بن علي بن الحسين قال: رأى عمر بن الخطّاب على عبداللَّه ابن جعفر ثوبين مضرّجين وهو محرم، فقال: ما هذا؟

فقال علي بن أبي طالب: «ما أخال أحداً يعلّمنا السنّة»، فسكت عمر (4).

ولا يجوز للمحرم أن يغطّي رأسه، قال عليّ: «إحرام الرجل في رأسه (5)، أما المرأة فإنّها تلبس ما شاءت من الثياب غير ما صبغ بطيب، وتلبس الخفين والسراويل والجبة (6) ولكنّها لا تتنقب- أي لا تتلثّم- فإن أرادت أن تستر وجهها فلتسدل الثوب عليه سدلًا. فقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن علي أنّه كان ينهى النساء عن النقاب وهن حرم، ولكن يسدلن الثوب على وجوههن سدلًا (7)، كما نهاهن عن لبس القفازين (8)، ويباح للمحرم لبس الخاتم، فعن إسماعيل بن


1- 1 الموسوعة: 210 نقلًا عن الروض النضير 3: 257، 265.
2- 2 الوسائل 12: 482.
3- 3 المحلّى 2: 82.
4- 4 المحلّى 7: 260.
5- 5 الروض النضير 3: 217.
6- 6 الروض النضير 3: 216.
7- 7 ابن أبي شيبة 12: 183 و 181 ب.
8- 8 المحلى 7: 82 و ر: المغني 3: 329.

ص: 110

عبدالملك قال: رأيت على علي خاتماً وهو محرم» (1) (2).

كما أورد أخباراً عنه عليه السلام وردت في المصادر السنية في أبواب حرمة النكاح على المحرم، وحرمة فصل شي ء من جسده، وإباحة الحجامة له فكتب يقول:

4- النكاح ودواعيه: ولا يجوز للمحرم النكاح فإن فعل ردّ نكاحه، قال علي كرّم اللَّه وجهه: «المحرم لا ينكح ولا ينكح، فإن نكح فنكاحه باطل» ومن رواية أنّه قال: «من تزوّج وهو محرم نزعنا منه امرأته» (3)

فإن وطئ زوجته فسد حجّه.

فقد سئل عليّ عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج فقال: «ينفذان، يمضيان لوجههما حتّى يقضيا حجّهما، ثمّ عليهما حجّ قابل والهدي، وإذا أهلّا بالحج من عام قابل تفرّقا حتّى يقضيا حجّهما (4).

وكما يحرم الجماع في الحج يحرم دواعيه كالقبلة ونحوها، ولكنّها لا تفسد الحج قال علي: «إذا قبّل المحرم امرأته فعليه دم» (5).

5- فصل شي ء من أعضاء جسده: كالسن والظفر والشعر. قال علي: «لا ينزع المحرم سنه ولا ظفره إلّاأن يؤذياه» (6).

وخرج حسين بن علي مع عثمان في سفره إلى مكّة فمرض في الطريق، فمر به عبداللَّه بن جعفر وهو مريض بالسقيا، فأقام عليه عبداللَّه بن جعفر، حتّى إذا خاف فوات الحج خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة، فقدما عليه، ثمّ إنّ حسيناً أشار إلى رأسه، فأمر علي برأسه فحلق، ثمّ نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيراً (7).

ويباح للمحرم: غسل بدنه ورأسه (8)، وتباح له الحجامة، قال علي كرّم اللَّه وجهه: «يحتجم المحرم إن شاء» (9) (10).

هذا ما ورد عنه عليه السلام في باب محرّمات الإحرام، أمّا في جزاء مخالفة هذه المحرّمات فقد وردت عنه جملة أخرى من الآثار هي:

1- حرمةوضمان صيد طير على فرع شجرة أصلها في الحرم وفرعها في الحلّ.


1- 1 ابن أبي شيبة 1: 181 ب.
2- 2 الموسوعة: 210.
3- 3 ابن أبي شيبة 1: 164 والمحلى 7: 199 وسنن البيهقي 5: 66 و 7: 213 وكنز العمّال 12845 والمجموع 7: 290.
4- 4 الموطأ 1: 381 والمحلى 7: 180 وابن أبي شيبة 1: 165 ب وسنن البيهقي 5: 167 والروض النضير 3: 250 وكنز العمّال 12815 والمجموع 7: 380 والمغني 3: 365 وكشف الغمة 2: 220.
5- 5 ابن أبي شيبة 1: 163 ب وسنن البيهقي 5: 168 وكنز العمّال 12798.
6- 6 الروض النضير 3: 265.
7- 7 الموطأ 1: 388 وابن أبي شيبة 1: 167 ب والمحلّى 7: 213 و 205 وسنن البيهقي 5: 218 والمغني 3: 498 و 545.
8- 8 المغني 3: 299.
9- 9 الروض النضير 3: 267.
10- 10 الموسوعة: 211.

ص: 111

فقد روي أنّه عليه السلام سُئل عن ذلك فأجاب عليه السلام: «عليه جزاؤه إذا كان أصلها في الحرم» (1).

2- في قتل الحمامة شاة

قال في الجواهر: «في قتلها شاة على المحرم في الحل على المشهور بين الأصحاب بل في التذكرة ومحكي الخلاف والمنتهى الإجماع عليه، بل في الأوّل أيضاً، وبه قال علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر..» (2) ولم أجد له خبراً يدلّ عليه في الوسائل، ولعلّ صاحب الجواهر نقله عن مصادر العامّة كما سيأتي.

3- في قتل القطاة حمل

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السلام في القطاة إذا أصابها المحرم حمل قد فطم من اللبن وأكل الشجر» ومثله خبر آخر عن الإمام الباقر عليه السلام (3)، وعلى ذلك فتوى الفقهاء (4).

4- حكم المحرم والمحلّ إذا قتلا صيداً

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه يقول: «كان علي عليه السلام يقول في محرم ومحلّ قتلا صيداً فقال: على المحرم الفداء كاملًا وعلى المحلّ نصف الفداء» (5)

وفي المسألة خلاف بين الفقهاء (6).

5- في كسر بيض النعام

وفي هذه المسألة صورتان، صورة ما إذا كان في البيض فرخ يتحرّك، وفيها ورد عن الإمام الصادق عليه السلام «أنّ في كتاب عليّ عليه السلام في بيض القطا بكارة من الغنم إذا أصابه المحرم مثل ما في بيض النعام بكارة من الابل» (7)

لكلّ بيضه. وصورة ما إذا كُسرت البيضة قبل أن يتحرّك فيها الفرخ، أو مع عدم وجود فرخ فيها أصلًا، وفيها ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه: «قضى فيها أمير المؤمنين عليه السلام أن يرسل الفحل في مثل عدد البيض من الإبل الاناث فما لقح وسلم كان النتاج هدياً بالغ الكعبة» (8)

. وجرت على ذلك كلمة الفقهاء في الصورتين (9).


1- 1 الوسائل 12: 561.
2- 2 الجواهر 7: 361.
3- 3 الوسائل 13: 18، ح 1 و 2.
4- 4 الجواهر 7: 368.
5- 5 الوسائل 13: 50.
6- 6 الجواهر 7: 382- 383.
7- 7 الوسائل 13: 55، ح 2 و 4.
8- 8 الوسائل 13: 52، ح 2 ومثله: 54، ح 6 ومثله: 53 ح 4.
9- 9 الجواهر 7: 352- 353.

ص: 112

6- لو جرح صيداً ولم يعلم حاله

لو جرح المحرم صيداً ومضى عنه ولم يعلم حاله بعد أن جرحه لزمه الفداء الكامل، وردت في ذلك رواية عن الإمام الباقر عن آبائه عن علي عليهم السلام «في المحرم يصيب الصيد فيدميه ثمّ يرسله قال: عليه جزاؤه» (1).

7- لو اضطرّ المحرم إلى أكل صيد أو ميتة

ما حكم المحرم إذا اضطرّ إلى تناول الصيد أو ميتة كانت عنده؟ ورد عن الإمام علي عليه السلام خبر في ذلك يقول فيه: «إذا اضطرّ المحرم إلى الصيد والميتة فليأكل الميتة التي أحلّ اللَّه له» (2)

، وهذه الرواية مخالفة لما استقرّ عليه المذهب الإمامي من اختيار الصيد مع التمكّن من الفداء، فإن لم يمكنه الفداء اجتنب الصيد وأكل من الميتة، ونقل صاحب الجواهر ادّعاء السيّد المرتضى الإجماع عليه، كما احتمل صاحب الجواهر أن يكون مورد الرواية ما إذا لم يكن واجداً للصيد وإن اضطرّ إليه (3).

أمّا ما أوردته المصادر السنّية من آثار فقهية عن الإمام علي عليه السلام في جزاء مخالفات الإحرام فقد جمع صاحب موسوعة فقه علي بن أبي طالب عليه السلام ما نصّه:

«لقد قضى علي في النعامة ببدنة- جمل- (4) وفي بيضها جنين ناقة، فعن ابن عبّاس قال: قضى علي بن أبي طالب في بيض النعامة يصيبها المحرم: ترسل الفحل على إبلك، فإذا تبيّن لقاحها سميت عدد ما أصبت من البيض فقلت: هذا هدي، ثمّ ليس عليك ضمان ما فسد، قال ابن عبّاس: فعجب معاوية من قضاء علي، قال ابن عبّاس: لم يعجب معاوية من عجب، ما هو إلّاما يباع به البيض في السوق فيتصدّق به (5)».

وفي سنن البيهقي أنّ هذا القضاء كان ممّا قضى به عليّ في حياة رسول اللَّه، فانطلق الرجل إلى نبي اللَّه فأخبره بما قال علي، فقال النبي صلى الله عليه و آله: «قد قال علي ما تسمع، ولكن هلم إلى الرخصة، عليك في كلّ بيضة صيام يوم أو إطعام مسكين» (6).


1- 1 الوسائل 13: 63.
2- 2 الوسائل 13: 87.
3- 3 الجواهر 7: 419- 420.
4- 4 المجموع 7: 403 و 421 والمغني 3: 509 و 517 والمحلى 7: 227 والروض النضير 3: 266.
5- 5 عبد الرزاق 4: 422 والمحلى 7: 234.
6- 6 سنن البيهقي 5: 208.

ص: 113

وقضى في الضبع يصيده المحرم دون أن يعدو عليه بكبش وإن عدا عليه فلا شي ء فيه (1).

وفي الظبي شاة (2).

وفي حمام الحرم يحكم به ذوا عدل منكم، قال: شاة (3).

وفي كلّ بيضتين من بيوض الحمام درهم (4).

جزاء حلق الشعر: قال علي فيمن يصيبه أذى من رأسه فحلق: «يصوم ثلاثة أيام، وإن شاء أطعم ستّة مساكين لكلّ مسكين نصف صاع، وإن شاء نسك ذبح شاة» (5)

، ويفعل ذلك أين شاء، وفي الحرم أو في غيره.

أما ذبحُ عليّ بدنة بالسقيا عندما حلق شعر ابنه حسين فهو تطوّع منه رضي اللَّه عنه (6).

جزاء الوطء: قال علي في الرجل يقع على امرأته- وهو محرم-: «على كلّ واحد منهما بدنة» (7)

، وعليه الحج من قابل.

جزاء القبلة واللمس بشهوة: قال علي: «إذا قبّل المحرم امرأته فعليه دم» (8)

، أي شاة.

ولا يجوز لمن ذبح هدياً جزاءً أن يأكل شيئاً منه، قال علي: «لا يأكل من النذر ولا من جزاء الصيد ولا ممّا جعل للمساكين» (9) (10).

ثالثاً- أفعال الحجّ

الواجب في الحجّ من الأفعال اثنا عشر: الاحرام، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر، ونزول منى، والرمي، والذبح، والحلق بها أو التقصير، والطواف، وركعتاه، والسعي، وطواف النساء، وركعتاه.

وقد وردت آثار عن الإمام علي عليه السلام في أكثر هذه الأبواب. وعلى النحو التالي:

1- من واجبات الاحرام التلبيات الأربع

ولا ينعقد إحرام عمرة التمتّع وحجّه إلّابها، والواجب منها مرّة واحدة،


1- 1 ابن أبي شيبة 1: 177 و 191 و 203 وعبد الرزاق 4: 403 والمحلى 7: 227 والروض النضير 3: 226 والمجموع 7: 401 والمغني 3: 510.
2- 2 المغني 3: 509 و 511 والروض النضير 3: 226.
3- 3 عبد الرزاق 4: 418.
4- 4 عبد الرزاق 4: 420 و 418 والمجموع 7: 339.
5- 5 الروض النضير 3: 248 وتفسير الطبري 2: 235.
6- 6 تفسير الطبري 2: 239.
7- 7 ابن أبي شيبة 1: 165 ب.
8- 8 ابن أبي شيبة 1: 163 ب وسنن البيهقي 5: 168 وكنز العمال 12798.
9- 9 ابن أبي شيبة 1: 166 ب.
10- 10 الموسوعة/ ص 212- 213.

ص: 114

ويستحبّ الإكثار والتكرار للحاج حتّى زوال يوم عرفة (1).

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المورد خبران، أحدهما يدلّ على استحباب رفع الصوت بالتلبية بالنسبة إلى الرجل. وهو قوله عليه السلام «جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال له: إنّ التلبية شعار المحرم فارفع صوتك بالتلبية» (2)

، وعلى ذلك مشهور الفقهاء، وقد استدلّوا عليه بأخبار أخرى ولم يوردوا هذا الخبر، ربّما لعلّة الإرسال فيه (3)، وثانيهما قوله عليه السلام: «تلبية الأخرس وتشهّده وقراءته القرآن في الصلاة تحريك لسانه وإشارته بأصبعه» (4).

أمّا المصادر السنية فذكر صاحب موسوعة فقه علي بن أبي طالب: «روى كلّ من ابن أبي شيبة والبيهقي وابن حزم في المحلّى بأسانيدهم أنّ عليّاً رضي اللَّه عنه ما زال يهلّ حتّى انتهى إلى جمرة العقبة، فعن عكرمة قال: أفضت مع الحسين بن علي فما زال- أسمعه- يُلبّي حتى رمى جمرة العقبة، وأخبرني أنّ رسول اللَّه كان يفعل ذلك.

وذكر النووي في المجموع أنّ عليّاً كان يقطع التلبية قبل الوقوف بعرفات، ويعارض هذا ما رواه ابن أبي شيبة بسنده أنه ذكر لابن عباس أنّ معاوية نهى عن التلبية يوم عرفة، فجاء حتّى أخذ بعمودي الفسطاط ثمّ لبّى، ثمّ قال:

«علم- معاوية- أنّ عليّاً كان يلبي في هذا اليوم فأحبّ أن يخالفه»، وذكر ابن قدامة في المغني أنّ عليّاً كان يلبّي حتّى تزول الشمس يوم عرفة» (5).

2- الوقوف بعرفات

الوقوف بعرفات من أركان الحج، فمن فاته الوقوف فيها عامداً من زوال يوم عرفة فقد فاته الحج؛ ولذا فقد ورد في بعض الآثار أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم عرفة، وفي ذلك ورد عن الإمام الصادق عليه السلام «أنّ فضيل بن عياض سأله عن الحج الأكبر، فقال عليه السلام: أعندك فيه شي ء؟ فقلت: نعم كان ابن عبّاس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة، يعني أنّه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد أدرك


1- 1 تحرير الوسيلة 1: 416.
2- 2 الوسائل 12: 379.
3- 3 الجواهر 6: 579.
4- 4 الوسائل 12: 381.
5- 5 الموسوعة: 213- 214.

ص: 115

الحج، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج... فقال الإمام الصادق عليه السلام له: قال أمير المؤمنين عليه السلام الحجّ الأكبر يوم النحر، واحتج بقول اللَّه عزّوجل: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فهي عشرون من ذي الحجّة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشر من ربيع الآخر، ولو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر ويوماً...» (1)

وورد عنه عليه السلام في مسند زيد أنّه قال: «من فاته الموقف بعرفة مع الناس أتاها ليلًا، ثمّ أدرك الناس في جمع قبل انصراف الإمام فقد أدرك الحجّ» (2).

3- أعمال منى

تجب في منى على الحاج ثلاثة أعمال هي: الرمي والهدي والحلق أو التقصير.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام آثار فقهية في الثاني والثالث، ولم أعثر على أثر له في الأوّل.

أمّا الهدي فوردت عنه فيه آثار عديدة نوردها ضمن المسائل التالية:

أقلّ ما يجري في الهدي

وردعنه أنّه عليه السلام يقول: «الثنية في الإبل، والثنية في البقرة، والثنية من المعز، والجذعةمن الضأن» (3)

والثني من الإبل ما كان له خمس سنوات و دخل في السادسة، ومن المعز والبقر ما له سنة ودخل في الثانية، على المشهور، أمّا الجذع ما أتمّ سنة ودخل في الثانية. هذا هو أقلّ ما يجزي في الهدي، وعلى ذلك رأي الفقهاء (4).

ما يشترط في الهدي

ذكر الفقهاء شروطاً في الهدي، قال المحقّق في الشرائع: «الثالث أن يكون تامّاً، فلا تجزي العوراء ولا العرجاء البين عرجها ولا التي انكسر قرنها الداخل، ولا المقطوعة الاذن، ولا الخصي من الفحول، ولا المهزومة وهي التي ليس على كليتيها شحم و.... والمستحب أن تكون سمينة تنظر في سواد وتبرك في سواد وتمشي في مثله..» (5).


1- 1 الوسائل 14: 44.
2- 2 الموسوعة: 215 نقلًا عن مسند زيد 3: 183.
3- 3 الوسائل 4: 103، وتكرّر هذا المعنى منه عليه السلام في روايتين أخريين في ص 105.
4- 4 الجواهر 7: 77.
5- 5 الجواهر 7: 79- 84، انظر كلام المحقّق واستدلال صاحب الجواهر عليه.

ص: 116

وقد وردت عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك أخبار صحيحة كانت مورد استدلال الفقهاء، وأخرى ضعيفة استأنسوا بها لأدلّتهم (1). مثل قوله عليه السلام «من تمام الأضحية استشراف عينها واذنها، وإذا سلمت العين والاذن تمت الأضحية، وإن كانت عضباء القرن أو تجر رجلها إلى المنسك فلا تجزي» (2).

وعنه عليه السلام: «إذا اشترى الرجل البدنة عجفاء فلا تجزي عنه، وإن اشتراها سمينة فوجدها عجفاء أجزأت عنه وفي هدي التمتّع مثل ذلك» (3)

، وعنه عليه السلام أيضاً «كان علي عليه السلام يكره التشريم في الاذان والخرم، ولا يرى بأساً إن كان ثغب في بعض المواسم..» (4).

الهدي يجزي مع الضرورة عن خمسة وعن سبعة

الأصل أنّ الهدي الواحد لا يجزي عن أكثر من مكلّف واحد، ووردت أخبار تفيد أنّ الهدي الواحد يجزي عند الضرورات عن أكثر من واحد إذا كانوا أهل خوان واحد، ومن ذلك ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال: «البقرة الجذعة تجزي عن ثلاثة من أهل بيت واحد، والمسنّة تجزي عن سبعة نفر متفرّقين، والجزور تجزي عن عشرة متفرقين».

وقد حمل صاحب الجواهر هذا الخبر وأمثاله عن سائر الأئمّة على الأضحية المندوبة، إذ لا تصريح فيها على الهدي الواجب (5).

حكم نتاج الهدي والحمل عليه

وورد عنه عليه السلام ما يفيد جواز الانتفاع بحليب الهدي والحمل عليه، فقد روي عنه أنّه كان: «يحلب البدنة ويحمل عليها غير مضرّ» (6)

و «كان إذا رأى ناساً يمشون قد جهدهم المشي حملهم على بدنة، وقال: إن ضلّت راحلة الرجل أو هلكت ومعه هدي فليركب على هديه» (7)

، وعلى ذلك كلمة الفقهاء (8).

أحكام الأضحية

من سنن الإسلام استحباب الأضحية حتّى قال علي عليه السلام: «لو علم الناس ما


1- 1 انظر: المصدر السابق.
2- 2 الوسائل 14: 110- 111.
3- 3 الوسائل 14: 115.
4- 4 الوسائل 14: 129.
5- 5 الجواهر 7: 70.
6- 6 الوسائل 14: 146.
7- 7 الوسائل 14: 147.
8- 8 الجواهر 7: 115.

ص: 117

في الأضحية لأستدانوا وضحوا، إنّه ليغفر لصاحب الأضحية عند أوّل قطرة تقطر من دمها» (1)

، وكان عليه السلام يضحي عن رسول اللَّه كلّ سنة بكبش، وعن نفسه بكبش آخر (2). وكان يقول: «ضح بثني فصاعداً وأشتره سليم الاذنين والعينين واستقبل القبلة...» (3)

، ونقل عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نهيتكم عن ثلاثة:...

ونهيتكم عن خروج لحوم الأضاحي من بعد ثلاثة أيّام فكلوا وادّخروا..» (4)، وورد عنه أيضاً أنّه يقول: «الأضحى ثلاثة أيّام وأفضلها أوّلها» (5)

وقد استدلّ الفقهاء على هذه المطالب الفقهية بأدلّة منها كلمات أمير المؤمنين عليه السلام هذه (6).

من لم يجد الهدي فصيام عشرة أيّام

إذا عجز الحاج عن الهدي ودفع ثمنه وجب عليه بدلًا عن ذلك صيام عشرة أيّام، ثلاثة منها في الحجّ، وسبعة في موطنه، وثلاثة الحج يجب أن تكون متوالية لا متفرّقة، وقال الإمام علي عليه السلام في آية فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ: «قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة فمن فاتته هذه الأيّام فلينشئ يوم الحصبة وهي ليلة النفر» (7)

هذه جملة الآثار الواردة عن الإمام علي عليه السلام في الهدي.

امّا الحلق وهو العمل الثالث في منى فقد ورد فيه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه يقول: «السنّة في الحلق أن يبلغ العظمين» (8)

وعلى ذلك فتوى الفقهاء (9).

هذا كلّه ما ورد عن أمير المؤمنين في أعمال منى من مصادر الإمامية، أمّا ما ورد عنه فيها من مصادر أهل السنّة فقد جمعها صاحب موسوعة «فقه علي بن أبي طالب» فكتب يقول:

«ومن مزدلفة يذهب الحجيج إلى منى وفي اليوم الأوّل من أيّام منى- وهو يوم النحر- يقوم الحجيج بعدّة أعمال مرتبة هي: رمي جمرة العقبة، فالذبح، فالحلق، فطواف الإفاضة. قال علي: «أوّل المناسك يوم النحر رمي الجمرة ثمّ الذبح ثمّ الحلق ثمّ طواف الزيارة» (10).


1- 1 الوسائل 14: 210.
2- 2 الوسائل 14: 206.
3- 3 الوسائل 14: 207.
4- 4 الوسائل 14: 170.
5- 5 الوسائل 14: 93.
6- 6 انظر: الجواهر 7: 121- 124.
7- 7 الوسائل 14: 183 وبهذا المعنى أخبار أخرى وردت عنه عليه السلام في ص 184.
8- 8 الوسائل 14: 229.
9- 9 الجواهر 7: 134.
10- 10 مسند زيد 3: 244.

ص: 118

رمي جمرة العقبة: قال علي: «في اليوم العاشر- من ذي الحجة- يرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، بسبع حصيات، ويكبّر مع كلّ حصاة، ولا يرمي يومئذ من الجمار غيرها» (1).

ذبح الهدي: إذا وجب على الحاج دم لكونه قارناً أو متمتعاً، أو جزاءً على مخالفة ارتكبها، فإن هذا هو وقت الذبح وإذا ذبح تحلّل التحلّل الأوّل.

الحلق أو التقصير: بعد الذبح يتحلّل بحلق شعره أو تقصيره ولا يجزئ التقصير عمّن لبّد أو عقص أو ضفر شعره، ولكن لابدّ له من الحلق (2). أمّا المرأة فإنّها تقصر شعرها ولا تحلقه، فقد روى الترمذي والنسائي عن علي رضى الله عنه قال:

«نهى رسول اللَّه أن تحلق المرأة رأسها» (3).

وكتب عن صيام بدل الهدي في فقه الإمام عليه السلام يقول:

«وهذه الأيّام الثلاثة التي عليه أن يصومها في الحج آخرها يوم عرفة قال علي في تفسير قوله تعالى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ: «آخرها يوم عرفة»، وقال: «صم قبل يوم التروية بيوم، ويوم التروية، ويوم عرفة» (4).

فإن لم يصم الأيّام الثلاثة حتّى يوم عرفة، فهل يصومها بعد ذلك؟ يرى علي أنه لا يجوز له أن يصومها أيّام منى؛ لأنّها أيّام تشريق، وأيّام التشريق أيّام أكل وشرب، وفي ذلك يقول علي: «يصوم بعد أيّام التشريق إن فاته الصوم» (5)

ويقول: «يصوم بعد ذلك ثلاثة أيّام في الحرم، وسبعة إذا رجع» (6).

4- الطواف

وبعد أعمال منى يجب على الحاج خمسة أعمال هي:

طواف الحجّ وركعتاه، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف النساء وركعتاه.

وقد وردت عن أمير المؤمنين عليه السلام في الطواف آثار فقهية نوردها ضمن النقاط التالية:

استحباب اختيار الطواف المندوب على الصلاة المندوبة في الكعبة وذلك


1- 1 مسند زيد بن علي 3: 194.
2- 2 كنز العمال 12733.
3- 3 الموسوعة: 216.
4- 4 ابن أبي شيبة 1: 196 وتفسير الطبري 2: 247.
5- 5 سنن البيهقي 5: 25 والمغني 9: 479.
6- 6 الموسوعة: 206.

ص: 119

في قوله عليه السلام: «إنّ للَّه مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام، منها ستّون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين» (1).

استحباب استلام الحجر الأسود عند الطواف

وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ عمر بن الخطّاب مرّ على الحجر الأسود فقال: واللَّه يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع إلّاانّا رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحبّك فنحن نحبّك، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «كيف يا ابن الخطّاب! فواللَّه ليبعثنّه اللَّه يوم القيامة وله لسان وشفتان فيشهد لمن وافاه، وهو يمين اللَّه عزّوجلّ في أرضه يبايع بها خلقه»، فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلد لا يكون فيه علي بن أبي طالب عليه السلام (2).

وهذا من جملة ما يدلّ على استحباب الوقوف عند الحجر ورفع اليدين بالدعاء عنده، واستلامه وتقبيله وذلك أثناء الطواف، وقد أورده صاحب الجواهر لدى بحثه هذه المسألة (3).

الأقطع يستلم الحجر من موضع القطع

روى الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ علياً عليه السلام سئل كيف يستلم الأقطع الحجر؟ قال:

يستلم الحجر من حيث القطع، فإن كانت مقطوعة من المرفق استلم الحجر بشماله» (4)

. وقد اعتمد الفقهاء على هذه الرواية في الإفتاء بهذه المسألة (5).

من زاد شوطاً أكمل اسبوعين

الواجب في الطواف سبعة أشواط، والمستحبّ لا حدّ له، وإذا كان في طواف واجب وزاد شوطاً وجب عليه الإتيان بستّة أشواط أخرى ليكمل بذلك اسبوعين من الطواف (6).

وعمدة الدليل في ذلك روايات عن أمير المؤمنين عليه السلام كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: «إنّ في كتاب عليّ عليه السلام إذا طاف الرجل بالبيت ثمانية أشواط الفريضة فاستيقن ثمانية أضاف إليها ستّاً..» (7)

، وعن الصادق عليه السلام قال:


1- 1 الوسائل 13: 312.
2- 2 الوسائل 13: 320.
3- 3 الجواهر 7: 184.
4- 4 الوسائل 13: 343.
5- 5 الجواهر 7: 187.
6- 6 الجواهر 7: 197- 199.
7- 7 الوسائل 13: 366.

ص: 120

«إنّ عليّاً طاف ثمانية أشواط فزاد ستّة ثمّ ركع أربع ركعات» (1)

.

هذا ما أوردته المصادر الإمامية عنه عليه السلام في باب الطواف.

وذكرت المصادر السنّية عنه في هذا الباب آثاراً أخرى مثل قوله عليه السلام: «يرجع من نسي الطواف ولو من خراسان» وقوله عليه السلام: «من حجّ فليكن آخر عهده بالبيت إلّا النساء في الحيض فإنّ رسول اللَّه رخّص لهن في ذلك» وقوله عليه السلام: «الحائض تعرّف- أي تقف بعرفات- وتنسك المناسك كلّها وتأتي المشعر الحرام وترمي الجمار وتسعى بين الصفا والمروة ولا تطوف بالبيت حتّى تطهر» (2).

وقوله عليه السلام: «إذا طفت في البيت فلم تدر أتممت أو لم تتم، فأتم ما شككت، فإنّ اللَّه لا يعذّب على الزيادة».

وقوله عليه السلام في الرجل ينسى فيطوف ثمانية: «فليرد عليها ستّة حتّى تكون أربعة عشر، ويصلّي أربع ركعات».

ورووا عنه أنّه كان عليه السلام إذا استلم الحجر الأسود يقول: «اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنّة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله» (3).

الهوامش:


1- 1 الوسائل 13: 365.
2- 2 الموسوعة: 217 نقلًا عن: مسند زيد 3: 208، 209، 275 وابن أبي شيبة 1: 165.
3- 3 الموسوعة: 114 نقلًا عن: ابن أبي شيبة 1: 168 و 205- ومسند زيد 3: 169 ومصنف عبد الرزاق 5: 501، والمجموع 8: 34 وكنز العمّال ح 12519.

الامام علي عليه السلام... والراي الآخر

ص: 126

الإمام علي عليه السلام... والرأي الآخر

حسن السعيد

حفلت الممارسة التاريخية الحضارية للإسلام في مسألة العلاقة مع «الآخر» ..

بنماذج إنسانيّة رفيعة... وهناك شواهد كثيرة تزخر بها صفحات التاريخ، وكلّها تدعم الاتجاه المنفتح على «الآخر» والمتفهّم له والمعايش معه، رغم ما اعتور التجربة الإسلامية من انحرافات وخروقات.

فلئن كان الشيعة والخوارج هما العنوانان الأكثر ضجّة في تاريخ المعارضات والثورات على امتداد التاريخ الإسلامي، إلّاأنّ الجذور التاريخية للمعارضة في الإسلام يرجعها البعض إلى عهد الرسول صلى الله عليه و آله، عبر تصنيف اليهود والمنافقين كمعارضة دينية سياسية داخل دولة المدينة (1).

والملاحظ أنّ التعامل العام مع هذه المعارضة، كان تعاملًا سلميّاً هادئاً، فلم يخسر اليهود مواطنتهم وحقوقهم في الدولة إلّابعد أن تحرّكوا عسكرياً، كما أنّ المنافقين واصلوا نهجهم ولم يتمّ التعامل معهم بسلبهم حقوق المواطنة، ولكن قد يُسجّل على هذه المعارضة بأنّها كانت مختلفة في الانتماء العقائدي أو ما يمكن تسميته مجازاً معارضة أقلّية دينية بالنسبة لليهود لا تلتقي مع


1- 1 إبراهيم العبادي؛ مقال «المعارضة في الدولة الإسلامية»، مجلّة قضايا اسلامية معاصرة، العدد الثاني 1418 ه- 1998 م، ص: 173.

ص: 127

القاعدة الفكرية للدولة، وإن شاركت مجتمع الدولة في حقوق المواطنة (1).

ويطول المقام لو سمحنا لأنفسنا استعراض الشواهد المؤكّدة على هذا المنحى ، بيد أننا سنقتصر، لأسباب منهجية، على نموذج واحد، هو الإمام علي عليه السلام، لما يمثِّله من موقع متقدّم في الدعوة؛ سابقة، وريادة، وأسوة، وما يعزّز ذلك شهادات الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بحقّ الإمام علي عليه السلام: «أنا وأنت يا عليّ أبوا هذه الامّة»، «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها» (2).

وقد أرسى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله هذا النهج الرسالي، بكلّ ما يتّسم به من سعة صدر، وامتداد افق، واستعداد للاستيعاب، وفيما يرويه الصحابي جابر ابن عبداللَّه: «لما قسّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله غنائم هوازن بين الناس بالجعرانة، قام رجل من بني تميم فقال:

- اعدلْ يا محمّد!

- فقال صلى الله عليه و آله: «ويلك! ومنْ يعدلْ إذا لم اعدلْ؟! لقد خبت وخسرت إنْ لم أعدلْ!».

فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول اللَّه، ألا أقوم فأقتل هذا المنافق؟!

فقال صلى الله عليه و آله: معاذ اللَّه أن تتسامع الامم أنّ محمّداً يقتل أصحابه» (3).

وجاء الإمام علي عليه السلام ليكرِّس هذا المنهج الربّاني والخصال النبوية، في حقبة هبّت عليها أعاصير الأهواء ولواقح الفتن، وهو ما سنستعرض بعض جوانبه:

الإمام علي عليه السلام النموذج المتألّق

ولئن كان بعض الصحابة يعدّون مشايخ الإسلام «فإنّ علي بن أبي طالب هو ابن الإسلام البار، والوريث للشريعة، وهو أقضى الصحابة، وأقدرهم على الحكم بما أنزل اللَّه، نشأ علي في بيت النبوّة وتفتح في صباه على الإسلام، وقد أتاه اللَّه عقلًا ذا ملكات فريدة، فشرب الإسلام وتكوّن عقله على فهمه ومعرفة أحكامه وخباياه.

وكان شأنه شأن نبي اللَّه يحيى حيث أتاه اللَّه الحكم صبيّاً. فكان رغم صغر سنّه بين الصحابة أقدرهم على معرفة أحكام الإسلام. وقد قال ابن الخطّاب:

«لولا علي لهلك عمر»، حيث كان إذا استشكل عليه أمر من أمور الدين لجأ


1- 2 المرجع نفسه.
2- 3 لمزيد الاطلاع على الروايات الواردة بحقّ الإمام عليه السلام تراجع موسوعة «ميزان الحكمة» لمحمدي ري شهري 1: 201- 226 مكتب الإعلام الإسلامي إيران، 1367 ه ش.
3- 4 رواه الإمام أحمد، نقلًا عن مقال الدكتور محمّد عمارة آنف الذكر.

ص: 128

إلى علي فاستشاره فيه. وكان علي أشبه بما نطلق عليه اليوم فيلسوف الدين الجديد، فقد كان حريصاً في كلّ موقف أن يظهر حكم الإسلام، وافقه الناس على رأيه أم خالفوه. فالنتائج ليست مهمّة عنده، بل المهم هو أداء الواجب.

وكان يرى أنّ واجبه يحتّم عليه أن يظهر حكم الشريعة، فهي عنده السيد الذي يجب احترامه وطاعته.. (1)

وظلّ الإمام علي عليه السلام ملتصقاً بهذا المنهج لا يحيد عنه، سواء قبل استلامه الخلافة أو بعدها. داخل الصفّ المسلم أو خارجه «ما شككت في الحقّ مُذ أريته» لذا كان سلام اللَّه عليه النموذج الفذّ للشخصية الإسلامية، بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، والتي يجب أن يحتذيها المسلمون اليوم، وهم يخوضون المعركة الضارية، لكي يستأنف الإسلام دوره من جديد.

وبالإمكان رصد موقف الإمام علي عليه السلام من «الآخر» على ثلاثة أصعدة:

أوّلًا: موقفه معارضاً من السلطة.

ثانياً: موقفه حاكماً من المعارضة.

ثالثاً: موقفه من «الآخر» غير المسلم.

موقفه معارضاً

يقول عبّاس محمود العقّاد: «في كلّ ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه..» (2)، وليس ثمّة شكّ في خصوصيته المتميّزة، إذ «اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخِلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف؛ مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيّأ لغيره من أفذاذ الرجال» (3).

إنّ الحديث عن أبعاد شخصية الإمام علي عليه السلام ليس بالأمر اليسير أبداً، إن لم يعجز عنه الفطاحل، أو يهابون الخوض فيه. ونحن إذ نسمح لأنفسنا أن نمسّ جانباً محدّداً من مواقفه، «لا نقصد انجاز مشروع صياغة وتحديد كامل فكر الإمام.. (في هذه الإثارة)، وإنّما نهدف من هذا العمل المتواضع الإطلالة على بعض ملامح وصور هذا الفكر العملاق» (4) ليس إلّا.

فعلى صعيد الحكم وتحمّل تبعاته، لم


1- 5 سمير الهضيبي؛ مقال «نظام الحكم في الإسلام: التجربة ومؤثّرات الثقافة والحضارة العربية»، مجلّة النور لندن، العدد 35- شوال 1414 ه، ص 27.
2- 6 عبّاس محمود العقاد؛ «عبقريّة الإمام علي» المجموعة الكاملة 2: 11، بيروت، 1974 م.
3- 7 تراجع المقدّمة القيّمة التي كتبها الأستاذ محمّد أبوالفضل إبراهيم، محقق شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،ط 2، القاهرة، 1385 ه- 1965 م، ص 3 وما بعدها.
4- 8 اقتبسنا هذه الفكرة، بشي ء يسير جدّاً من التصرّف، عن المقال الافتتاحي لمجلة المنطلق، العدد المزدوج 75/ 76: شعبان- رمضان 1411 ه/ شباط- اذار 1991 م، ص 5.

ص: 129

يكن الإمام علي عليه السلام طارئاً أو هامشياً، «فقد كان عليه السلام على تمام الأهبة لولاية الحكم، كان قد خبر المجتمع الإسلامي في أقطاره، وخالط كافّة طبقاته، وراقب حياتها عن كثب، ونفذ إلى أعماقها، وتعرّف على الوجدان الطبقي الذي يشدّها ويجمعها.

وقد مكّنه من ذلك كلّه المركز الفريد الذي كان يتمتّع به من النبي صلى الله عليه و آله، فهو وزيره ونجيبه، وأمين سرّه، وقائد جيوشه، ومنفِّذ خططه، ومعلن بلاغاته.. هذه المنزلة الفريدة التي لم يكن أحد من الصحابة يتمتّع بها أعدّته إعداداً تامّاً لمهمّة الحكم.

وقد كان النبيّ يبتغي من وراء إناطة هذه المهام كلّها به إعداده للمنصب الإسلامي، ليصل إليه وهو على أتمّ ما يكون أهليّة واستعداداً.

ولقد غدا من نافلة القول أن يُقال:

«إنّه عليه السلام هو الخليفة الذي كان يجب أن يلي حكومة النبيّ في المجتمع الإسلامي.

وإذا لم يُقدّر له أن يصل إلى الحكم بعد النبي فإنّه لم ينقطع عن الحياة العامّة، بل ساهم فيها مساهمة خصبة» (1)، وإنّ فسحة الربع قرن التي مرّت على علي ابن أبي طالب، منذ رحيل الرسول حتّى تسلّمه الخلافة «لم تكن بالفسحة البسيطة، لا بطول مداها ولا بقيمة الأحداث التي مرّت عليها. وهي وإنْ تكن تعتبر فراغاً بالنسبة لعدم تحمّله فيها أيّة مسؤولية إدارية، فإنّها بالحقيقة كانت فراغاً يمتلأ. وليس يفهم من كلمة «فراغ» أن ابن أبي طالب غاب في هذا الوقت الطويل عن الساحة، بل بالعكس، كان فيها مل ء السمع والبصر، غير أنّه كان يحتلّ فيها برج المراقبة» (2)، فقد كان أبو بكر ثمّ عمر ومن بعدهما عثمان لا يسعهم الاستغناء عن آرائه في السياسة والقضاء والحرب، وخاصّة في خلافة عثمان فقد كان فيها على أتمّ الصلة بالتيّارات التي تمخر المجتمع الإسلامي، لكن عثمان لم ينتفع كثيراً بالتوجيه الذي كان الإمام يقدّمه إليه لأنّ بطانة متعفّنة كانت تحيط بهذا الخليفة (3).

ورغم ما لقيه من جحود وإقصاء وتهميش، من لدن العقلية الحاكمة فإنّه لم يقابل ذلك بالمثل، وإنّما كان ينطلق،


1- 9 محمّد مهدي شمس الدين؛ «دراسات في نهج البلاغة»، ط 2، بيروت، 1392 ه- 1972 م، ص 204.
2- 10 سليمان كتاني؛ «الإمام علي: نبراس ومتراس»، النجف، 1386 ه- 1967 م، ص 115.
3- 11 محمّد مهدي شمس الدين؛ م. س: 205.

ص: 130

وفق الموقف الشرعي، من منطلق الحرص على وحدة الموقف وما تتطلّبه المصلحة العليا، ولهذا نجده- على طول الخط- «قد أعان أسلافه الثلاثة برأيه وعمله، وجاملهم مجاملة الكريم بمسلكه ومقاله. ولم يبدر منه قط ما ينم على كراهية وضغن مكتوم.. ولكنّه كان يأنف أن ينكر هذه الكراهية إذا رُمي بها كما يأنف العزيز الكريم. وفي ذلك يقول في خطابه إلى معاوية: «ذكرت ابطائي عن الخلفاء وحسدي إيّاهم والبغي عليهم، فأمّا البغي فمعاذ اللَّه أن يكون، وأمّا الكراهية لهم فواللَّه ما أعتذر للناس من ذلك».

وأولى أن يقال: إنّ دلائل وفائه في حياتهم، وبعد ذهابهم، كانت أظهر من دلائل جفائه. فإنّه احتضن ابن أبي بكر محمّداً وكفله بالرعاية ورشحّه للولاية، حتّى حُسب عليه وانطلقت الألسنة بانتقاده من أجله...» (1).

ورغم انفتاحه الإيجابي على مجمل الحياة الإسلامية، وبمختلف مشاربها، إلّا أنّ ذلك لا يلغي معارضة الإمام علي عليه السلام للنهج القائم، مع حرص شديد على الطابع السلمي لمعارضته تلك.

وهكذا بدأت أوّل معارضة من داخل الصفّ الإسلامي نفسه تتبلور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله، حينما تخلّف العديد من الصحابة الكبار عن بيعة أبي بكر وآزروا الإمام علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة عليهما السلام في معارضتهم لمنطق السقيفة عندما تولّى أبو بكر الخلافة بدون إجماع إسلامي (2) وكانت خطبة فاطمة عليها السلام في مسجد الرسول واحتجاجها العلني الصريح على الخليفة الأوّل معارضة فكرية- سياسية امتدّت لفترة من الزمن، وانتهت بمبايعة الإمام علي ومن تخلّف معه من الصحابة (3).

ويبقى موقف الإمام علي عليه السلام من مسألة «السقيفة» أوّل موقف معارض له، وظلّت القضية موضع إدانته، لأنّه أمر دُبِّر في ليل. ومن المعروف تاريخياً أن نَفَس رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاضت في حجر علي عليه السلام، وما إن انتقل صلى الله عليه و آله إلى ربّه الأعلى، حتى اشتغل علي عليه السلام وأهل بيته بتجهيزه من أجل مواراة جسده الطاهر في مثواه الأخير، حتّى عقدت الأنصار وبعض المهاجرين اجتماعاً في سقيفة


1- 12 عباس محمود العقاد؛ م. س: 130.
2- 13 إبراهيم العبادي؛ م. س: 173.
3- 14 المرجع نفسه.

ص: 131

بني ساعدة لتنصيب مَنْ يخلف النبي صلى الله عليه و آله في قيادة المسلمين.

وبعد مناقشات حادّة وطويلة سادها جوّ من التوتّر والقلق والعنف والخلاف بادر عمر بن الخطّاب إلى بيعة أبي بكر بالخلافة، وطلب من الحاضرين ذلك، ولم يكن علي عليه السلام على علم بما حدث، ولكن النبأ قد انساب إلى مسامعه من خلال الضجيج الذي أحدثه خروج القوم من السقيفة، وهم في طريق توجّههم للمسجد النبوي.

وحتّى تلك الساعة ما زال علي وأهل البيت عليهم السلام مشغولين بتجهيز فقيد الأمّة العظيم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذ ظلّ جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنّى للمسلمين توديعه والصلاة عليه.

ولعدم قناعة الإمام عليه السلام بما جرى ظلّ مؤمناً بحقّه في الخلافة واعتزل الناس وما هم ستّة شهور، ولم يسمع له صوت فيما يسمّى بحروب الردّة ولا سواها (1).

ومن الواضح أنّ هذا الاعتزال لم يكن سوى احتجاج سياسي على ما حدث تحت خيمة السقيفة. وبعيداً عن الاستنتاجات السطحية التي حاولت إظهار هذا الموقف وكأنّه انتصار للذات، فإنّ قراءة متأنّية للموقف وتداعياته تقودنا إلى تحليل آخر، وهو ما قام به باحث إسلامي معاصر، حين قال:

«نظنّ أنّ اعتراضه كان لثلاثة امور:

الأوّل: لكي يثبت حقّ المعارضة للمسلمين، حتّى لو كانوا أقلّية، وحتّى لو كانت المعارضة لما استقرّ عليه رأي الأغلبية، وكذلك حتّى لو كانت المعارضة لأكثر الامور حسّاسية وهي اختيار الحاكم.

الثاني: اعتراضه على طريقة اختيار الحاكم، لكي لا يثبت في ذهن الناس أنّ ما تمّ هو النموذج الأوحد أو الأمثل الذي يجب أن يسير عليه المسلمون، ولكي يفرّق الناس بين ما تمّ وما كان يجب أن يكون عليه الأمر. فالبيعة التي تمّت في سقيفة بني ساعدة هي أمر قُضي بليل ولا تصحّ أن تكون نموذجاً لاختيار المسلمين لحاكمهم.

الثالث: أنّه كان يرى في نفسه أقدر الناس على الحكم، ولو حكم لحمل الناس على الجادّة، وأظهر النموذج


1- 15 لجنة التأليف في دار التوحيد؛ «أمير المؤمنين علي بن أبي طالب» 1: 55، الكويت، 1398 ه- 1978 م.

ص: 132

الإسلامي الصحيح الذي كان يؤمن به هو، وهو يخالف منهج أبو بكر وعمر (1).

وبذا يكون الإمام علي أوّل مؤسِّس للمعارضة المسؤولة التي لم تخرق القاعدة الفكرية للدولة، وحرصت على وحدة الجماعة واستقرار التنظيم الاجتماعي السياسي (الدولة). فقد تحدّث بصراحة في خطبة له عن السبب الذي حدا به إلى رفض كلّ عروض الانشقاق السياسي مقدِّماً المصلحة العامة ووحدة الأمّة والدولة (2) مؤثراً أمور المسلمين على ما سواها، بما في ذلك شأنه الخاص وحقّه الشخصي:

«لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلّاعليَّ خاصّة» (3).

وقد هدرت منه، ذات مرّة، شقشقته المعروفة، متعرّضاً إلى ما لحق به من جور وحيف: «أما واللَّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة (4) وإنّه ليعلم أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرحا؛ ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إليَّ الطير.

فسدلتُ دونها ثوباً، وطويتُ عنها كشحاً، وطفقت ارتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء، أو أصبر على طخيّةٍ عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه!

فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين قذى ، وفي الحلق شجاً، أرى تُراثي نهباً، حتّى مضى الأوّلُ لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده (ثمّ تمثّل بقول الأعشي:).

شتّان ما يومي على كُورها ويومُ حيّانَ أخي جابرِ

فياعجباً!! بينا هو يستقيلُها في حياته إذْ عقدها لآخر بعد وفاته! لَشدَّ ما تشطّرا ضرعَيْها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مَسُّها، ويكثر العِثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرمَ، وإنْ أسلسَ لها تقحّم، فمُني الناسُ- لعمرُ اللَّه- بخبطٍ وشماس، وتلوّنٍ واعتراضٍ، فصبرتُ على طول المدّة، وشدّة المحنة، حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدُهم، فياللَّه وللشورى ! متى


1- 16 سمير الهضيبي؛ مرجع سابق، ومن المأثور تأريخياً، أنّ عبدالرحمن بن عوف قال للإمام عليه السلام أثناء تداول الشورى لاختيار خليفة لعمر بن الخطاب: «أبايعك على كتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه وسيرة الشيخين؛ أبي بكر وعمر. فقال: بل على كتاب اللَّه- وسنّة رسوله واجتهاد رأيي، فعدل عنه إلى عثمان..»- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، المرجع آنف الذكر، 1: 188.
2- 17 إبراهيم العبادي؛ مرجع سابق. هناك أكثر من محاولة تحريضيّة في هذا المقام، ومن ذلك لما قبض رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خاطبه العباس وأبوسفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر في السقيفة ولكنّه أبى الاستجابة ابتغاء للمصلحة العليا، ونأياً عن الفتنة والفرقة.
3- 18 نقلًا عن المرجع السابق.
4- 19 وفي بعض النسخ «فلان»، وأيّاً فالمقصود به هو أبوبكر.

ص: 133

اعترضَ الريبُ فيَّ مع الأوّل منهم، حتّى صِرتُ اقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففتُ إذْ أسفّوا، وطرتُ إذْ طاروا، فصغا رجلٌ منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هَنٍ وهَنٍ، إلى أن قام ثالثُ القوم نافجاً حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال اللَّه خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله، وأجهز عليه عمله، وكبتْ به بِطنته» (1).

بهذه النبرة المشحونة بالأسى والمرارة.. اختزل الإمام علي محنته المريرة مع مَنْ سبقوه في الخلافة..

ورغم كلّ ذلك وما رافقه من محاولات الاقصاء الدائبة والعمل على إبقائه في الظلّ، فإنّ هذا لم ينعكس سلباً على موقفه العام، ولم تفلح تلك الممارسات في تحقيق مآرب أصحابها، إذ لم تجعله بمنأى عن هموم الأمّة، إنْ لم يندك في عمق حركتها، ولم تشغله عن وعي التحدّيات التي تواجهها، فلم يعزف طرفة عين عن رصد خيوطها وقراءة نتائجها.

في عهد الخلافة الراشدة

فلم يمضِ إلّاوقت قصير على رحيل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، حتّى استجدّت أمور وأحداث خطيرة تتهدّد الإسلام وأمّته بالفناء، فقد قوي أمر المتنبئين بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واشتدّ خطرهم في الجزيرة العربية من أمثال: مسيلمة الكذّاب، وطلحة بن خويلد الأفّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة..

وغيرهم، وصار وجودهم يشكِّل خطراً حقيقياً على الدولة الإسلامية.

واشتد ساعد المنافقين وقويت شوكتهم في داخل المدينة، وكان الروم والفرس للمسلمين بالمرصاد. هذا عدا ظهور التكتلات السياسية في المجتمع الإسلامي على أثر بيعة السقيفة.

ولقد تعامل الإمام عليه السلام مع الخلافة حسب ما تحكم به المصلحة الإسلامية حفظاً للإسلام وحماية للجامعة الإسلامية من التمزّق والضياع، وتحقيقاً للمصالح العليا الإسلامية التي جاهد من أجلها.

وللإمام علي عليه السلام كتاب جاء فيه- بهذا الصدد- ما نصّه: «... فأمسكت


1- 20 نهج البلاغة؛ الخطبة 3.

ص: 134

يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمّد صلى الله عليه و آله، فخشيت إنْ لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنّما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه».

بيد أنَّ صوت علي عليه السلام كان يعلو عندما يستشار ويجهر عندما يستفتي، وقد تصدّى - في هذا المضمار- لتوجيه الحياة الإسلامية، وفقاً لما تقتضيه رسالة اللَّه تعالى في الحقول التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ومن أجل ذلك فإنّ الباحث التاريخي في حياة الإمام علي عليه السلام لا يلبث إلّا أن يلتقي مع مئات المواقف والأحداث- في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان- التي لا تجد غير علي عليه السلام مدبّراً لها ومعالجاً وقاضياً بأمر الشريعة فيها (1).

وطيلة هذا العهد مارس الإمام مهمّة النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديم المشورة- رغم اختلافه مع الحاكمين- حتّى في ذروة الثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان (2).

والخلفاء الثلاثة لم يروا بداً من استشارته إذا التبست عليهم الأمور، وهكذا نجده- مرّةً- مرشداً إلى الحكم الإسلامي الصحيح في أمرٍ ما، ومرّةً نجده قاضياً في شأن من شؤون الأمّة، وأخرى موجِّهاً للحاكم الوجهة التي تحقّق المصلحة الإسلامية العليا.

وبمقدورنا أن نلمس دوره الرسالي ذلك إذا طرحنا بعض مفردات منهجه المتبنى أيّام الخلفاء الذين سبقوه:

فكّر أبو بكر بغزو الروم، فاستشار جماعة من الصحابة فقدّموا وأخّروا، ولم يقطعوا برأي، فاستشار عليّاً عليه السلام في الأمر فقال عليه السلام: «إن فعلت ظفرت».

فقال أبو بكر: بشّرت بخير. وأمر الناس بالخروج، بعد أن أمّر عليهم خالد بن سعيد (3).

أراد أبو بكر أن يقيم الحدّ على شارب خمر... فقال الرجل: إنّي


1- 21 لجنة التأليف في دار التوحيد؛ مرجع سابق؛ 1: 57.
2- 22 إبراهيم العبادي؛ م. س: 174.
3- 23 للمزيد يُراجع؛ لجنة التأليف في دار التوحيد، مرجع سابق، 1: 58 وما بعدها.

ص: 135

شربتها ولا علم لي بتحريمها، فأرسل إلى الإمام يسأله في ذلك، فقال عليه السلام: «مر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين والأنصار وينشدانهم؛ هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدّ عليه، وإنْ لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلِّ سبيله» (1).

قدم جاثليق النصارى يصحبه مائة من قومه، فسأل أبا بكر أسئلة، فدعا عليّاً عليه السلام فأجابه عنها.. وأرسل ملك الروم رسولًا إلى أبي بكر يسأله أسئلة محيّرة.. لم يجد غير علي حريّاً بالإجابة عنها.

وحين أراد عمر بن الخطّاب أن يغزو الروم راجع الإمام عليّاً عليه السلام في الأمر، فنصحه الإمام بألّا يقود الجيش بنفسه مبيّناً علّة ذلك قائلًا: «.. فابعث إليهم رجلًا مجرّباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره اللَّه فذاك ما تحبّ، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس، ومثابةً للمسلمين» (2).

بعد أن فتح المسلمون الشام جمع أبو عبيدة بن الجرّاح المسلمين واستشارهم بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية، فقال له معاذ بن جبل:

اكتب إلى أمير المؤمنين عمر، فحيث أمرك فامتثله، فكتب ابن الجرّاح إلى عمر بالأمر، فلمّا قرأ الكتاب، استشار المسلمين بالأمر.

فقال علي عليه السلام: مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فإذا فتح اللَّه بيت المقدس، صرف وجهه إلى قيسارية، فإنّها تفتح بعدها إن شاء اللَّه تعالى، كذا أخبرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

قال عمر: صدق المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم، وصدقت أنت يا أبا الحسن.. ثمّ كتب إلى أبي عبيدة بالذي أشار به علي عليه السلام (3).

ورد إلى بيت مال المسلمين مال كثير من البحرين، فقسّمه عمر بين المسلمين، ففضل منه شي ء، فجمع عمر المهاجرين والأنصار واستفتاهم بأمره قائلًا: ما ترون في فضلٍ، فضلَ عندنا من هذا المال؟

قالوا: يا أمير المؤمنين إنّا شغلناك


1- 24 نقلًا عن المرجع السابق، 1: 59.
2- 25 نهج البلاغة، تبويب د. صبحي الصالح، بيروت، 1387 ه، ص: 192.
3- 26 نقلًا عن؛ «لجنة التأليف في دار التوحيد»، م. س: 1: 65.

ص: 136

بولاية أمورنا من أهلك وتجارتك وضيعتك، فهو لك.

فالتفت عمر إلى علي قائلًا: ما تقول أنت؟

قال الإمام: قد أشاروا عليك.

قال الخليفة: فقلْ أنت.

قال عليه السلام: لِمَ تجعل يقينك ظنّاً؟ ثمّ حدّثه بواقعة مشابهة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.. وأخيراً أشار عليه الإمام عليه السلام بتوزيعه على الفقراء، قائلًا:

«أُشير عليك أن لا تأخذ من هذا الفضل وأن تفضّه على فقراء المسلمين».

فقال عمر: صدقت واللَّه.

وقد ورد أنّ عمر بن الخطّاب رأى ليلة رجلًا وامرأة على فاحشة، فلمّا أصبح قال للناس: أرأيتم أنّ إماماً رأى رجلًا وامرأة على فاحشة، فأقام عليهما الحدّ ما كنتم فاعلين؟

قالوا: إنّما أنت إمام.

فقال علي بن أبي طالب: «ليس ذلك لك، اذن يُقام عليك الحدّ، إنّ اللَّه لم يأمن على هذا الأمر أقلّ من أربعة شهداء».

ثمّ إنّ عمر ترك الناس ما شاء اللَّه، ثمّ سألهم؛ فقال القوم مثل مقالتهم الأولى ..

وقال علي عليه السلام مثل مقالته. فأخذ عمر بقول الإمام عليه السلام.

شاور ابن الخطّاب أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في سواد الكوفة، فقال بعضهم: تقسمها بيننا، ثمّ شاور عليّاً عليه السلام في الأمر، فقال: إنْ قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجي ء بعدنا شي ء، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال عمر لعلي: وفّقك اللَّه.. هذا الرأي.

عن الطبري في تاريخه عن سعيد ابن المسيب، قال: جمع عمر بن الخطّاب الناس فسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟

فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وترك أرض الشرك، ففعله عمر (1)، وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرّخ به المسلمون.

الفتنة الكبرى

رغم ما مثلته مرحلة الخلافة من معاناة فادحة للإمام علي عليه السلام، بيد أنّ حقبة عثمان بن عفّان كانت من نوع آخر؛ أشدّ وطأةً، وأنكى جراحاً، وأمضّ فجاجةً.

لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ


1- 27 المرجع نفسه، 1: 65- 66.

ص: 137

كبير، ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام، على حدّ تعبير سيّد قطب، كما أنّ طبيعة عثمان الرخيّة، وحدبه الشديد على أهله، قد أسهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصحابة من حوله، وكانت لها معقبات كثيرة، وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها كثيراً (1).

ويبدو أنّ الفرع الأموي، بزعامة أبي سفيان، قد رأى في تولّي عثمان الخلافة فرصة طالما انتظروها كي تعود لهم المكانة الأولى التي فقدوها منذ ظهور الإسلام على يد محمّد بن عبداللَّه.. لقد سنحت لهم الفرصة، ورأوا في شخصية عثمان المناخ المناسب كي يحقّقوا ما يريدون.. (2).

كان القلق يستبدّ بالصحابة الذين لم يجرفهم تيّار الترف، وهم يرون عثمان قد أطلق العنان لبني أمية في الاستئثار بالمواقع والامتيازات والخروج على الشرع الحنيف. بل إنّ عثمان قد دشّن خلافته بمخالفة صريحة للحكم الشرعي، حينما عفا عن عبيداللَّه بن عمر بن الخطّاب ولم يُقِمْ عليه الحدّ.

وقد كان عمر أمر بسجن ابنه عبيداللَّه ليحكم فيه الخليفة من بعده.

يقول ابن الأثير: «.. جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيداللَّه بن عمر بن الخطّاب، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جُفَيْنةَ رجلًا نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك، وقتل الهرمزان، فلمّا ضربه بالسيف قال: لا إله إلّااللَّه! فلمّا قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيداللَّه يقول: واللَّه لأقتلن رجالًا ممّن شرك في دم أبي، يعرّض بالمهاجرين والأنصار، وإنّما قتل هؤلاء النفر لأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشيّة أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة وجُفينة وهم يتناجون، فلمّا رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضُرب به عمر، فقتلهم عبيداللَّه. فلمّا أحضره عثمان قال:

أشيروا عليَّ في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن


1- 28 سيّد قطب؛ «العدالة الاجتماعيّة في الإسلام»، 1397 ه- 1977 م، دون ذكر لمكان الطبع.
2- 29 د. محمّد عمارة؛ «مسلمون ثوار» ط 3، القاهرة، 1408 ه- 1988 م، ص 79.

ص: 138

تقتله. فقال بعض المهاجرين: قُتل عمر أمس ويُقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إنّ اللَّه قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليّه وقد جعلتها دية واحتملها في مالي.. (1).

غير أنّ هذا الحلّ الترقيعي كان بمثابة الثغرة الأولى في حقبة عثمان، ولتتوالى الثغرات لاحقاً، ويتّسع الخرق على الراقع. دون أن يتمكّن عثمان من دفع الشبهات عن حكمه، فلقد «أكثر الناس في دم الهرمزان وإمساك عثمان عبيداللَّه بن عمر، فصعد عثمان المنبر فخطب الناس، ثمّ قال: ألا أنّي وليّ دم الهرمزان، وقد وهبته للَّه ولعمر، وتركته لدم عمر.

فقام المقداد بن عمر فقال: إنّ الهرمزان مولى للَّه ولرسوله، وليس لك أن تهب ما كان للَّه ولرسوله. قال:

فننظر وتنظرون. ثمّ أخرج عثمان عبيداللَّه بن عمر من المدينة إلى الكوفة، وأنزله داراً، فنُسب الموضع إليه، كُوَيْفَة ابن عمر (2).

ما يجدر ذكره؛ أنّ الغماذيان بن الهرمزان كان هو ولي الدم ولم يتنازل عن حقّه، ولمّا ولي علي عليه السلام الخلافة أراد إقامة الحدّ على عبيداللَّه بن عمر بقتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرّض له علي (3).

وحول هذه النقطة يعلِّق عبّاس محمود العقّاد على موقف الإمام عليه السلام منها قائلًا: «يُخطئ جدّاً منْ يتّخذ فتواه في مقتل الهرمزان دليلًا على كراهيته لعمر أو نقمة منه في أبنائه.. فقد أسرع عبيداللَّه بن عمر إلى الهرمزان، فقتله انتقاماً لأبيه، ولم ينتظر حكم ولي الأمر فيه ولا أن تقوم البيّنة القاطعة عليه.

فلمّا أُستفتي في هذه القضية أفتى بالقصاص منه، ولم يغيّر رأيه حين تغيّر رأي عثمان، فأعفاه من جريرة عمله..

لأنّه هو الرأي الذي استمدّه من حكم الشريعة كما اعتقده وتحرّاه، وبهذا الرأي دان قاتله عبدالرحمن بن ملجم، فأوصى وكرّر الوصاية ألّا يقتلوا أحداً غيره لمظنّة المشاركة بينه وبين رفقائه في التآمر عليه» (4).


1- 30 في صفوف بني أميّة، والتي طفحت على لسان أبي سفيان غداة تولّي عثمان الخلافة، إذ قال في اجتماع خاصّ ضمّ بني ميّة في دار عثمان: «أفيكم أحدٌ من غيركم؟ (وقد كان عَمِي)، فقالوا: لا، قال: يا بني أميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبوسفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة..»- مروج الذهب للمسعودي، 2: 351- 352، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد، ط 4، مصر، 1384- 1964 م.
2- 31 إبن الأثير؛ «الكامل في التاريخ»، تحقيق علي شيري، بيروت، 1408 ه- 1989 م. المجلّد الثاني: 225- 226.
3- 32 يُراجع: تاريخ اليعقوبي، المجلّد الثاني: 163- 164، بيروت د. ت.
4- 33 عباس محمود العقّاد؛ مرجع سابق: 130.

ص: 139

ولمّا قام عثمان بالخلافة طال عتب (الإمام) عليّ عليه؛ لأنّه أباح للعمّال والولاة ما ليس بمباح في رأيه (1)، ومن كلام له عليه السلام، حول تقييمه لسياسة عثمان: «... وأنا جامع لكم أمره، استأثر فأساء الأثرة» (2).

ومن أسوإ أساليب الأثرة تلك اتخاذه أبناء عمومته من بني أميّة بطانة سوء، إذ أوطأهم رقاب الناس، وولّاهم الولايات وأقطعهم القطائع، وافتُتحت افريقيا في أيّامه، فأخذ الخمس كلّه فوهبه لمروان فقال عبدالرحمن بن حنبل الجمحي:

أحلف باللَّه ربِّ الأنا م ما تركَ اللَّهُ شيئاً سُدى

ولكن خلقت لنا فتنةً لكي نبتلي بك أو تُبتلى

فإنّ الأمينين قد بيّنا منارَ الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهماً غيلةً ولا جعلا درهماً في هوى

وأعطيتَ مروان خُمْس البلاد فهيهاتَ سعيُك ممّن سعى

وطلب منه عبداللَّه بن خالد بن أسيد صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم.

وأعاد الحكم بن أبي العاص، بعد أن كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد سيّره ثمّ لم يردّه أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم.

وتصدّق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بموضع سوق بالمدينة يُعرف بمهزور على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم.

وأقطع مروان فدكاً، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات اللَّه عليهما، تارةً بالميراث، وتارةً بالنحلة فدُفعت عنها.

وحمى المراعيَ حول المدينة كلّها من مواشي المسلمين كلّهم إلّاعن بني أميّة.

وأعطى عبداللَّه بن أبي سرح جميع ما أفاء اللَّه عليه من فتح افريقيا بالمغرب- وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة- من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين.

وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر


1- 34 عبّاس محمود العقّاد؛ مرجع سابق: 51.
2- 35 نهج البلاغة؛ مرجع سابق: 73.

ص: 140

فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوّجه ابنته أمّ أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى ، فقال عثمان: أتبكي أن وصلتُ رحمي؟! قال: لا، ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت هذا المال عوضاً عمّا كنت أنفقته في سبيل اللَّه في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. واللَّه لو اعطيتَ مروان مائة درهم لكان كثيراً، فقال: ألقِ المفاتيح يابن أرقم؛ فإنّا سنجد غيرك.

وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسّمها كلّها في بني أمية.

وأنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضاً بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه.

وانضمّ إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون، كتسيير أبي ذرّ رحمه اللَّه تعالى إلى الربذة؛ وضرب عبداللَّه بن مسعود حتّى كسر أضلاعه (1) ومن ذلك ما نال عمّار بن ياسر من الفتن والضر (2) وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود وردّ المظالم، وكفّ الأيدي العادية، والانتصاب لسياسة الرعية، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين (3).

وهكذا كثر الطعن على عثمان، وظهر عليه النكير (4) ولقد كان الصحابة يرون هذه التصرّفات الخطيرة العواقب، فيتداعون إلى المدينة لإنقاذ تقاليد الإسلام، وإنقاذ الخليفة من المحنة، والخليفة في كبرته لا يملك أمره من مروان (5).

وفي هذا الاتجاه أفاضت كتب التاريخ بالأحداث المؤلمة. وقد أُتيح لشاهد عيان أن يصوّر لنا جانباً من ذلك المشهد المفجع، فعن أبي كعب الحارثي (المعروف بذي الأدواة) قال: «أتيتُ عثمان بن عفّان وهو الخليفة يومئذٍ فسألته عن شي ء من أمر ديني، وقلت:

يا أمير المؤمنين، إنّي رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب، وإنّي اريد أن أسألك فأمرْ حاجبك ألّا يحجبني، فقال: يا وثّاب، إذا جاءك هذا الحارثيّ فأذن له. قال: فكنت إذا جئت، فقرعت الباب، قال: مَنْ ذا؟


1- 36 للمزيد يُراجع؛ «شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد»، مرجع سابق 1: 198- 199.
2- 37 تاريخ المسعودي؛ مرجع سابق 2: 347.
3- 38 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مرجع سابق 1: 199، وتذكر المصادر التاريخيّة أنّ كتاباً يحمل توقيع عثمان موجّه إلى عامله بمصر عبداللَّه بن أبي سرح يأمره بقتل حاملي الكتاب!
4- 39 تاريخ المسعودي؛ مرجع سابق 2: 347، وقد أسهب بعض المؤرخين في تبيان المطاعن التي طُعن بها على عثمان، وللمزيد من الاطلاع، يُراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 11- 70.
5- 40 سيد قطب، مرجع سابق: 279.

ص: 141

فقلت: الحارثي، فيقول: ادخل، فدخلت يوماً فإذا عثمان جالس، وحوله نفر سكوت لا يتكلّمون، كأنّ على رؤوسهم الطير، فسلّمت ثمّ جلست، فلم أسأله عن شي ء لِما رأيتُ من حالهم وحاله، فبينا أنا كذلك إذْ جاء نفر، فقالوا: انّه أبى أن يجي ء. قال:

فغضب وقال: أبى أنْ يجي ء؟! اذهبوا فجيئوا به؛ فإنْ أبى فجرّوه جرّاً.

قال: فمكثت قليلًا، فجاءوا ومعهم رجل آدم طوال أصلع، في مقدّم رأسه شعرات، وفي قفاه شعرات، فقلت: مَنْ هذا؟ قالوا: عمّار بن ياسر، فقال له عثمان: أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجي ء؟! قال: فكلّمه بشي ء لم أدرِ ما هو، ثمّ خرج. فمازالوا ينفضّون من عنده حتّى ما بقي غيري، فقام، فقلت:

واللَّه لا أسأل عن هذا الأمر أحداً أقول حدّثني فلان حتّى أدري ما يصنع.

فتبعته حتّى دخل المسجد، فإذا عمّار جالس إلى سارية، وحوله نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يبكون، فقال عثمان: يا وثّاب عليّ بالشُّرَط، فجاءوا، فقال: فرّقوا بين هؤلاء، ففرّقوا بينهم.

ثمّ أُقيمت الصلاة، فتقدّم عثمان فصلّى بهم، فلمّا كبّر قالت امرأةٌ من حجرتها: يا أيّها الناس. ثمّ تكلّمت، وذكرت رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، وما بعثه اللَّه به، ثمّ قالت: تركتم أمر اللَّه وخالفتم عهده... ونحو هذا، ثمّ صمتت وتكلّمت امرأة اخرى بمثل ذلك، فإذا هما عائشة وحفصة.

قال: فسلّم عثمان، ثمّ أقبل على الناس، وقال: إنّ هاتين لفتّانتان، يحلّ لي سبّهما، وأنا بأصلهما عالم.

فقال له سعد بن أبي وقّاص: أتقول هذا لحبائب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم؟! فقال: وفيمَ أنتَ؟! وما هاهنا؟ ثمّ أقبل نحو سعد عامداً ليضربه، فانسلّ سعد.

فخرج من المسجد، فاتبعه عثمان، فلقي عليّاً عليه السلام بباب المسجد، فقال له عليه السلام: أين تريد؟ قال: أريد هذا الذي كذا وكذا- يعني سعداً يشتمه- فقال له علي عليه السلام: أيّها الرجل، دع عنك هذا، قال: فلم يزل بينهما كلام، حتّى غضبا، فقال عثمان: ألست الذي خلّفك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم تبوك؟! فقال علي:

ألست الفارّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم أحُد؟!

ص: 142

قال: ثمّ حجز الناس بينهما. قال: ثمّ خرجتُ من المدينة حتّى انتهيتُ إلى الكوفة، فوجدت أهلها أيضاً وقع بينهم شرّ، ونشبوا في الفتنة، وردّوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم، فلمّا رأيت ذلك رجعت حتّى أتيت بلاد قومي» (1).

ووقفة متأمّلة ازاء هذا المشهد الكاريكتيري تثير علامات الاستفهام حول طبيعة الوضع الذي كان يقوده عثمان، وهو يوزّع الشتائم والإهانات إلى الصحابة وحتّى زوجات النبي صلى الله عليه و آله لم يسلمن منه، فأيّ حضيض آلت إليه الامور؟!

وفيما كان عثمان يتعامل بهذا الاسلوب الفظّ الذي أبكى بعضاً من صحابة رسول اللَّه، وجرح كبرياء بعض آخر.. فإنّه- في الوقت نفسه- كان يحيط نفسه بحفنةٍ من المنتفعين، ومعظم ولاته غلمان تثور حول تدينهم وحول أخلاقهم شبهات كثيرة، ولم يكن لهم شي ء من الصلاحيات ينفعهم غير صِلاتهم بالخليفة (2)، وفي مقدّمة هؤلاء عمّه الحكم بن أبي العاص- وهو الذي طرده الرسول من المدينة- وولداه مروان والحارث اللذان صاهرهما عثمان وجعل من الأوّل وزيره المتصرّف (3)، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان من أمّه، والذي عيّنه والياً على الكوفة، وكان يشرب الخمرة حتى صلاة الفجر، فيصلّي بالناس أربعاً! وهو ممّن أخبر النبي صلى الله عليه و آله أنه من أهل النار.. وعبداللَّه بن أبي سرح (أخوه من الرضاعة) الذي ولّاه مصر، ومعاوية على الشام (ويلتقيان في الجدّ الثاني أميّة) وعبداللَّه بن عامر على البصرة (وهو ابن خاله).

ولقد لقي الإمام علي عليه السلام من عثمان وبطانته ما لقي من العنت، ونكتفي هنا بإيراد نموذج واحد لهذا الأمر؛ روى الزبير بن بكّار في «الموفقيات» عن رجال أسند بعضهم عن بعض، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة (نصف النهار في القيظ)، فتقنعت بثوبي وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره، وفي يده قضيب، وبين يديه مال دثر (أي كثير):

صُبرتان من ورق وذهب، فقال: دونك


1- 41 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، مرجع سابق 9: 4- 5.
2- 42 د. محمّد رضا محرم؛ «أفكار الآخرين»، مجلّة المسلم المعاصر العدد 29 صفر 1402 ه يناير 1982 م: 28.
3- 43 سيّد قطب؛ مرجع سابق: 279.

ص: 143

خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فقلت: وصلتك رَحِم! إنْ كان هذا المال ورثتَه، أو أعطاكه معطٍ، أو اكتسبته من تجار؛ كنتُ أحد رجلين:

إمّا آخذ وأشكر، أو أوفّرَ وأُجْهَد، وإنْ كان من مال اللَّه وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل، فواللَّه مالك أن تعطينيه ولا لي أن آخذه. فقال: أبيت واللَّه إلّاما أبيت. ثمّ قام إليّ بالقضيب فضربني، واللَّه ما أردّ يده، حتّى قضى حاجته، فتقنّعتُ بثوبي، ورجعت إلى منزلي، وقلت: اللَّه بيني وبينك إن كنتُ أمرتُك بمعروف أو نهيتُ عن منكر! (1).

على خلفيّة هذه الممارسات غير المسؤولة من الطبيعي أن يتفشّى الفساد في جهاز السلطة ويضرب بأطنابه في كلّ الاتجاهات. والسؤال هو: ما هو موقف الإمام عليه السلام من كلّ هذا الذي يجري باسم الإسلام؟

هناك ثلاثة خيارات لا غير: إمّا أن يجاري الوضع على ما هو عليه، أو يلوذ بالصمت مكتفياً بالتفرّج، أو يتصدّى للانحراف.

ولمّا كان الإمام علي عليه السلام عارفاً وظيفته الشرعية، فإنّه ليس بمقدوره إلّا الخيار الأخير، وهو التأشير على مواطن الخلل بالنصيحة تارةً، والعقاب أُخرى ، والتحذير ثالثة، وقد كاشف الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة، في كتاب منه إليهم، جاء فيه: «من عبد اللَّه علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب، أمّا بعد، فإنّي أخبركم عن أمر عثمان حتّى يكون سمعُه كعيانه، إنّ الناس طعنوا عليه، فكنت رجلًا من المهاجرين أُكثر استعتابه (أي استرضاءه)، وأقلّ عتابَه...» (2).

ولم يكف الإمام علي عليه السلام عن نصيحة عثمان ولم يهتبل فرصة متاحة إلّا وحاول إنقاذ عثمان ممّا هو في مأزق، ولكن دون جدوى ، فرأينا كيف كان عثمان يقابل ذلك بمزيد من الانفعال الذي لا يخلو من مظنّة السوء. فقد صوّرت له حاشيته الفاسدة انّ الإمام علياً عليه السلام في طليعة حسّاده على نعمته وإمرته!، ولطالما أشار عثمان إلى هذه التهمة، تصريحاً أو تلميحاً، سواء في مجالسه الخاصّة أو في خطبه يوم الجمعة.


1- 44 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ مرجع سابق 9: 16.
2- 45 نهج البلاغة مرجع سابق: 363.

ص: 144

وذات جمعة تطرّق إلى هذا الأمر، حتّى كاد أن يسمّي علياً، وبعد انتهاء الخطبة.. «همّ بالنزول فبصر بعليّ بن أبي طالب عليه السلام ومعه عمّار بن ياسر رضى الله عنه، وناس من أهل هواه يتناجون؛ فقال:

إيهاً إيهاً! إسراراً لا جهاراً! أما والذي نفسي بيده ما احنق على جرّة، ولا أوتَى من ضعف مِرّة؛ ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم، لعاجلتكم؛ فقد اغتررتم، وأقلتم من أنفسكم.

ثمّ رفع يديه يدعو.. فتفرّق القوم عن علي عليه السلام» (1).

ولا يسع المراقب المحايد إلّاأن يستحضر القول المأثور: «يكاد المريب أن يقول خذوني»!

هذه الحادثة وغيرها كثير جعلت الإمام علياً عليه السلام يتجنّب الاحتكاك بعثمان، وهذا ما أوضحه في كتاب له إلى معاوية:

«ولعمري يا معاوية، لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ أنّي كنتُ في عزلة عنه إلّاأن تتجنّى ؛ فتجنَّ ما بدا لك! والسلام» (2).

غير أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لا يستكين إذا ما رأى منكراً يجب ردعه، حتّى يتمكّن من تحقيق ذلك. ويطول المقام في هذا الباب، بيد أننا نكتفي بموقفين له مع اثنين من رؤوس الفساد والإفساد في عهد عثمان، هما: الوليد بن عقبة بن أبي معيط (أخو عثمان من أمّه)، وصهره المدلّل مروان بن الحكم.

سكران في محراب الكوفة

يذكر المسعودي في تاريخه: «أنّ الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه ومغنّيه من أوّل الليل إلى الصباح، فلمّا آذنه المؤذِّنون بالصلاة خرج متفضّلًا في غلائله، فتقدّم إلى المحراب في صلاة الصبح، فصلّى بهم أربعاً، وقال:

أتريدون أن أزيدكم؟ وقيل: إنّه قال في سجوده وقد أطال: اشرب واسقني، فقال له بعض من كان خلفه في الصفّ الأوّل: ما تزيد لا زادك اللَّه من الخير.

واللَّه لا أعجب إلّاممّن بعثك إلينا والياً وعلينا أميراً.

وخطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد، فدخل قصره يترنّح، ويتمثّل بأبيات لتأبّط شرّاً:


1- 46 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ مرجع سابق 9: 7.
2- 47 نهج البلاغة؛ م. س: 367.

ص: 145

ولستُ بعيداً عن مدام وقينة ولا بصفا صلد عن الخير معزل

ولكنني أروي من الخمر هامتي وأمشي الملا بالساحب المتسلسلِ

وفي ذلك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه أنّ الوليد أحقُّ بالعذرِ

نادى وقد تمّت صلاتهم أأزيدكم؟! ثَمِلًا وما يدري

ليزيدهم أخرى ، ولو قبلوا لقرنت بين الشفع والوترِ

حبسوا عنانك في الصلاة ولو خلّوا عنانك لم تزل تجري

وأشاعوا في الكوفة فعله، وظهر فسقه ومداومته على شرب الخمر، فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي وجندب بن زهير الأزدي وغيرهما، فوجدوه سكران مضطجعاً على سريره لا يعقل، فأيقظوه من رقدته، فلم يستيقظ، ثمّ تقيأ عليهم ما شرب من الخمر، فانتزعوا خاتمه من يده وخرجوا من فورهم إلى المدينة، فأتوا عثمان بن عفّان، فشهدوا عنده على الوليد أنّه شرب الخمر، فقال عثمان: وما يدريكما أنّه شرب خمراً؟ فقالا: هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية وأخرجا خاتمه فدفعاه إليه، فزجرهما ودفع في صدورهما، وقال: تنحّيا عنّي، فخرجا من عنده وأتيا عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه وأخبراه بالقصّة، فأتى عثمان وهو يقول: دفعت الشهود، وأبطلت الحدود، فقال له عثمان: فما ترى؟ قال: أرى أن تبعث إلى صاحبك فتحضره فإنْ أقاما الشهادة عليه في وجهه ولم يدرأ عن نفسه بحجّة أقمت عليه الحدّ، فلمّا حضر الوليد دعاهما عثمان: فأقاما الشهادة عليه ولم يُدْلِ بحجّة فألقى عثمان السوط إلى علي، فقال علي لابنه الحسن: قم يا بُني فأقم عليه ما أوجب اللَّه عليه، فقال: يكفينيه بعض مَنْ ترى ، فلمّا نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحدّ عليه توقّياً لغضب عثمان لقرابته منه أخذ علي السوط ودنا منه، فلمّا أقبل نحوه سبّه الوليد.. فقال عقيل بن أبي طالب وكان ممّن حضر: إنّك لتتكلّم يا ابن أبي مُعَيْط

ص: 146

كأنّك لا تدري من أنت، وأنت علج من أهل صفّوريّة- وهي قرية بين عكا واللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية، وكان ذكر أن أباه كان يهودياً منها- فأقبل الوليد يروغ من علي، فاجتذبه علي فضرب به الأرض، وعلاه بالسوط، فقال عثمان: ليس لك أن تفعل به هذا، قال: بل وشرّاً من هذا إذا فسق ومنع حقّ اللَّه تعالى أن يؤخذ منه (1).

مروان بن الحكم: الصهر المدلّل

أمّا عن موقفه عليه السلام من مروان بن الحكم فهو معروف، إذ كانا على طرفي نقيض تماماً. وقد تفجّر الوضع بينهما إثر حادثة نفي عثمان لأبي ذر رضوان اللَّه عليه إلى الربذة، على خلفيّة مشادّة حصلت بينه وبين كعب الأحبار في مجلس عثمان انتصر فيها هذا الأخير لجانب كعب الأحبار، «وأمر عثمان أن يتجافاه الناس، حتّى يسير إلى الربذة، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب رضى الله عنه ومعه ابناه [الحسن والحسين ] وعقيل أخوه وعبداللَّه بن جعفر وعمّار بن ياسر، فاعترض مروان فقال: يا علي إنّ أمير المؤمنين قد نهى الناس أن يصحبوا أبا ذر في مسيره ويشيّعوه، فإن كنت لم تدرِ بذلك فقد أعلمتك، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين اذني راحلته، وقال: تَنَحَّ نحّاك اللَّه إلى النار، ومضى مع أبي ذرّ فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف، فلمّا أراد علي الانصراف بكى أبو ذر، وقال: رحمكم اللَّه أهل البيت، إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرت بكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. فشكا مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب، فقال عثمان: يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له، وفعل كذا، واللَّه لنعطيّنه حقّه، فلمّا رجع علي استقبله الناس، فقالوا له: إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال علي:

غَضَبَ الخيل على اللَّجمِ.

فلمّا كان بالعشي جاء إلى عثمان، فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان ولِمَ اجترأتَ عليَّ ورددت رسولي وأمري؟! قال: أمّا مروان فإنّه استقبلني يردّني فرددته عن ردّي، وأمّا


1- 48 تاريخ المسعودي؛ م. س 2: 344- 345.

ص: 147

أمرك فلم أردَّه، قال عثمان: ألم يبلغك أنّي قد نهيتُ الناس عن أبي ذرّ وعن تشييعه؟ فقال علي: أوكل ما أمرتنا به من شي ء نرى طاعة اللَّه والحقّ في خلافه اتبعنا فيه أمرك؟ باللَّه لا نفعل.

قال عثمان: أقِدْ مروان، قال: وممّ أُقيده؟ قال: ضربت بين أذني راحلته، وشتمته فهو شاتمك وضارب بين أذني راحلتك. قال علي: أما راحلتي فهي تلك فإنْ أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل. وأمّا أنا فواللَّه لئن شتمني لأشتمنّك أنت مثلها بما لا أكذب فيه ولا أقول إلّاحقّاً. قال عثمان: ولِمَ لا يشتمك إذا شتمته، فواللَّه ما أنت عندي بأفضل منه؟! فغضب علي بن أبي طالب: ألي تقول هذا القول؟ وبمروان تعدلني؟ فأنا واللَّه أفضل منك، وأبي أفضل من أبيك، فغضب عثمان واحمرّ وجهه، فقام ودخل داره، وانصرف علي، فاجتمع إليه أهل بيته، ورجال من المهاجرين والأنصار.

فلمّا كان من الغد واجتمع الناس إلى عثمان شكا إليهم عليّاً وقال: إنّه يعيبني ويُظاهر مَنْ يعيبني، يريد بذلك أبا ذر وعمّار بن ياسر وغيرهما، فدخل الناس بينهما حتّى اصطلحا وقال له علي: واللَّه ما أردت بتشييع أبي ذرّ إلّااللَّه تعالى.» (1)

وإضافة إلى ما تقدّم، تبدت مظاهر الثراء والبذخ على عدد كبير من الصحابة، في عهد عثمان، ويطول الحديث في هذا المقام، ونكتفي بالإشارة إلى أحد هؤلاء، وهو عبد الرحمن بن عوف، إذ أصبحت ثروته مضرب الأمثال كما يقول الدكتور محمد عمارة «فعلى مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم»، وعندما توفي قدّرت ثروته بأكثر من مليونين ونصف من الدراهم، ولقد بلغ حجم القدر الذي أُحضر منها إلى عثمان ابن عفّان في «البِدَر» و «الأكياس» قدراً من العظم جعله يحجب رؤية عثمان عن الرجل الواقف أمامه! (2)

أمّا فيما يتعلّق بالخليفة نفسه، والذي يفترض به أن يكون قدوة ويعيش كأضعف الناس «كيلا يتبيّغ بالفقير فقره» (3) كما يقول الإمام علي عليه السلام، فإنّ المصادر التاريخية تشير إلى أنّ عثمان


1- 49 المرجع نفسه 2: 350- 351.
2- 50 د. محمّد عمارة؛ «مسلمون ثوّار»، م. س: 81، وللمزيد يراجع تاريخ المسعودي 2: 342، وما بعدها.
3- 51 نهج البلاغة: 400 الخطبة 207.

ص: 148

كان أوّل خليفة يترك عند مماته ثروة طائلة، فيحصون له يوم مقتله «عند خازنه من المال خمسين ومائة ألف دينار، وألف ألف درهم» وذلك غير قيمة ضياعه بوادي القرى وحنين، تلك التي قدّرت بمبلغ مائة ألف دينار، هذا عدا الخيل والإبل وغيرها من الممتلكات والمقتنيات (1).

ويمضي عثمان بعيداً في سياسته هذه المصحوبة بإغداق المنح والأموال على بني عمومته الذين أطلق لهم العنان ليعيثوا في الأرض فساداً وعتوّاً.. فيما يحرم الصحابة ويضرب بعضهم على مشهد من الملإ ضرب إهانة وإيجاع (2)، وليوسّع دائرة تبرّمه من الأمّة نفسها، دونما مبرّر سوى ضيق الصدر. إذ روي عن عبيد بن حارثة قوله: «سمعت عثمان وهو يخطب، فأكبّ الناس حوله، فقال:

اجلسوا يا أعداء اللَّه! فصاح به طلحة:

انّهم ليسوا بأعداء اللَّه؛ لكنّهم عباده، وقد قرأوا كتابه» (3).

فهذا يعني- فيما يعني- أنّ هناك حاجزاً نفسيّاً خطيراً بين الراعي ورعيته. وتحوّل الحاجز النفسي هذا إلى عقدة مستحكمة من عدم الثقة المتبادلة بين الطرفين، حاول عثمان أن يردمها أو يعوّضها بالارتماء أكثر فأكثر في أحضان الشلّة الفاسدة من بني عمومته، كلّ ذلك انعكس بشكل سلبي على مجمل الأوضاع، الأمر الذي أوجد مناخاً اجتماعياً ونفسيّاً «ولّد وشهد العديد من التناقضات والصراعات» (4).

ولقد كان صوت علي بن أبي طالب في مقدّمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي على عهد عثمان بن عفّان.. بل لا نغالي- يقول د. محمد عمارة- إذا قلنا: إنّ صوت معارضته ونقده كان أعلى هذه الأصوات (5).

ولمّا لم تجد نصائح الإمام علي عليه السلام أذناً صاغية من عثمان، رغم أنّه بذل ما في الوسع لتقديم النصيحة.. فقد اعتزل عثمان بعدما ألقى عليه الحجّة تلو الأخرى . ووصل الأمر إلى امتناع الإمام علي عليه السلام عن الاستشفاع بالبعض إلى عثمان، إذ روى سفيان بن عيينة


1- 52 د. محمّد عمارة؛ المرجع السابق: 81، أمّا عن بقيّة الطبقة الاستقراطيّة فيراجع حول مظاهر ثرائها تاريخ المسعودي 2: 342، وما بعدها.
2- 53 عباس محمود العقاد؛ م. س: 56.
3- 54 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ م. س 9: 17.
4- 55 د. محمّد عمارة؛ م. س: 82.
5- 56 المرجع نفسه: 107.

ص: 149

قائلًا: جاء رجل إلى علي عليه السلام يستشفع به إلى عثمان، فقال: حمّال الخطايا! لا واللَّه لا أعود إليه أبداً. فآيسه منه (1).

بيد أنّ مقاطعة الإمام علي عليه السلام لعثمان لم تخفّف من درجة المعارضة المستعرة للسلطة إن لم تساهم أكثر في إذكائها «ومن ثمّ فإنّ حركة المعارضة والنقد، ثمّ الثورة، ضد الأوضاع الجديدة قد اتخذت من عليّ رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع التي طرأت على المجتمع في ذلك الحين» (2).

وحين تألّب الناس على عثمان..

أرسل في طلب عليّ ليصرفهم عنه، فلمّا قدم إليه استأذنه في إعطائهم بعض الرفد العاجل من بيت المال، فأذن له..

فانصرفوا عن زعماء الفتنة، وهدأوا إلى حين.

ثمّ توافد المتذمِّرون من الولايات إلى المدينة مجنّدين وغير مجنّدين.. وتولّى زعامة المتذمّرين في بعض الأحيان جماعة من أجلّاء الصحابة، كتبوا صحيفة وقّعوها وأشهدوا فيها المسلمين على مآخذ الخليفة.. فلمّا حملها عمّار بن ياسر إليه، غضب وزيره مروان بن الحكم، وقال له: «إنّ هذا العبد الأسود قد جرّأ عليك الناس.. وإنّك إنْ قتلته نكلت به منْ وراءه» فضربوه حتّى غُشي عليه.

وفي مرّات أخرى ، كان الخليفة يصغي إلى هذه الشكايات ويندم على ما اجترحه أعوانه بعلمه أو بغير علمه، ثمّ يعلن التوبة إلى رعاياه، ويؤكّد لهم الوعد بإقصاء أولئك الأعوان واخلافهم في أعمالهم بمن يرضي المسلمين، ويرضي اللَّه.

ثمّ يغلبه أولئك الأعوان على مشيئته، فيبقيهم حيث كانوا ويملي لهم فيما تعودوه من الترف والنكاية، وعلى رأسهم مروان بن الحكم. أبغض أولئك الأعوان إلى المسلمين (3).

وعندما زحفت جموع الثائرين على ولاة عثمان والتغييرات الاجتماعية التي أحدثها.. عندما زحفوا من الولايات:

مصر، والعراق، واليمن، والشام- على العاصمة المدينة- يطلبون التغيير، ذهبت هذه الجموع إلى عليّ وكلّموه،


1- 57 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد؛ م. س 9: 17.
2- 58 د. محمّد عمارة؛ مسلمون ثوار: 107.
3- 59 عبّاس محمود العقاد: 57.

ص: 150

وطلبوا منه أن يحمل مطالبهم إلى عثمان، ثمّ يأتيهم بالجواب. ويحكي الإمام علي وقائع مقابلته لعثمان عندما دخل عليه فقال له: «إنّ الناس ورائي وقد استفسروني (أي جعلوني سفيراً) بينك وبينهم، وواللَّه ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا ادلّك على أمر لا تعرفه.. فاللَّه اللَّه في نفسك!..

وإنّ الطرق لواضحة، وإنّ أعلام الدين لقائمة. فاعلم أنّ أفضل عباد اللَّه عند اللَّه إمام عادل.. وإنّ شرّ الناس عند اللَّه إمام جائر ضَلّ وضُلّ به، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة، وإنّي سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقى في نار جهنّم، فيدور كما تدور الرحى ، ثمّ يرتبط في قعرها». وانّي أُنشدك اللَّه ألّا تكون إمام هذه الأمّة المقتول، فإنّه كان يُقال:

يُقتل في هذه الأمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويُلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحقّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكونن لمروان سَيِّقةً (أي ما استاقه العدوّ من الدواب) يسوقك حيث شاء بعدَ جلال السنّ وتقضّي العمر».

فقال له عثمان: «كلّم الناس في أن يؤجلوني، حتّى أخرج إليهم من مظالمهم» فقال عليه السلام: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصولُ أمرِك إليه (1).

من نافلة القول التأكيد بأنّ هذه ليست الأولى التي حذّر فيها الإمام علي عليه السلام عثمان من مغبّة اعتماده المفرط على سفهاء بني أميّة، فقد سبق وأن طرق هذا الباب غير مرّة.

وقد روى الواقدي في كتاب «الشورى » عن ابن عبّاس رحمه الله، أنّه شهد عتاب عثمان لعليّ عليه السلام ذات مرّة، ذكّره فيه بموقفه المساند للشيخين (ولست بدون واحد منهما، وأنا أمسّ بك رحماً، وأقرب إليك صهراً.. ولم أقصّر عنهما في ديني وحسبي وقرابتي، فكن لي كما كنت لهما).

وفي معرض ردّه أجاب الإمام علي عليه السلام عثمان على تساؤلاته، وممّا قاله:

«.. وأمّا التسوية بينك وبينهما، فلست


1- 60 نهج البلاغة: 234.

ص: 151

كأحدهما، انّهما وليا هذا الأمر فظلفا (أي كفّا) أنفسهما وأهلهما عنه، وعُمْتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجّة، فارجع إلى اللَّه أبا عمرو، وانظر هل بقي من عمرك إلّاكظم الحمار! فحتى متى وإلى متى ؟! ألا تنهى سفهاء بني أميّة عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟! واللَّه لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان اثمه مشتركاً بينه وبينك.

قال ابن عبّاس: فقال عثمان: لك العتبى ، وافعلْ واعزلْ من عمّالي كلّ مَنْ تكرهه ويكرهه المسلمون؛ ثمّ افترقا، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك، وقال: يجترئ عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم» (1).

وهكذا يتّضح مدى الدور القذر الذي كان يلعبه بنو أمية عموماً، ومروان خاصة، في الوقوف بوجه أيّة محاولة اصلاح لتدارك الامور، وإيقاف التداعي. ولمّا آيس الناس من إذعان عثمان واستماعه إلى شكاواهم، عمّ الاستياء، وإلى الحدّ الذي «لم يبق أحد في المدينة إلّاحنق على عثمان» على ما يقول السيوطي (2).

ثار الناس وتجمهروا حول قصره «وكانت مدّة حصار عثمان في داره أربعين يوماً أو أكثر قليلًا..» وطلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إمّا أن يعزل نفسه أو يسلّم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه. لكنّه رفض العروض الثلاثة..

وكانت الثورة (3).

في تلك الأثناء، كانت مشاعر الغضب على عثمان وبطانته تعتمل في صدور الصحابة، وبلغ الأمر ببعضهم مشاركة الثوّار، فيما كانت عائشة تؤلِّب على قتل عثمان «اقتلوا نعثلًا، قتل اللَّه نعثلًا! تعني عثمان، وكان هذا منها لما غاضبته وذهبت إلى مكّة» (4).

أمّا علي فقد كان موقفه أصعب موقف يتخيّله العقل في تلك الأزمة المحفوفة بالمصاعب من كلّ جانب..

كان عليه أن يكبح الفَرس عن الجماح، وكان عليه أن يرفع العقبات والحواجز من طريق الفَرس.. كلّما حيل بينها وبين الانطلاق.

كان ناقداً لساسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه.. ناصحاً


1- 61 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 15.
2- 62 نقلًا عن كتاب «الطاغية» للدكتور إمام عبدالفتاح إمام، عالم المعرفة، الكويت 1414 ه- 1994 م، ص 197 هامش 48. وللمزيد يراجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 129- 161.
3- 63 المرجع السابق: 197. ويحسن بنا الاستشهاد بمقولة للكاتب الإسلامي المعروف الدكتور عمادالدين خليل إذ يقول، وهو في معرض الحديث عن «المعارضة والسلطة»: «وها هنا يتوجّب ألّانقع في الوهم الخادع الذي يصوّر السلطة أو القيادة الإسلامية التاريخية كما لو كانت أمراً مقدّساً أو تفويضاً إلهيّاً، فإنّ أيّة قيادة في مدى عام الإسلام، ما أن تعزف بهذه الدرجة أو تلك، وما أن ترفض النقد والتقويم والرجوع إلى الطريق، حتّى يغدو على المسلمين أن يثوروا لتحقيق ما عجزت الكلمة والحوار عن تحقيقه» ثمّ يضيف: «.. لقد كان الحاكم المسلم الحقّ هو الذي يضع خدّه على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف، وليس ذلك الذي يعلن نفسه ظلًاّ للَّهِ في الأرض، لا يستمع لنقد، ولا يغني لحقّ، ولا يكفكف طغيانه صوت مظلوم.. إنّ طاعة أولي الأمر تتحقّق يوم يكون أولو الأمر مسلمين حقّاً، وإلّا فإنّ الرفض والمجابهة تغدو واجبة كوجوب الصلاة والزكاة والصيام». يراجع مقاله القيّم: «حول المعارضة والسلطة»، مجلّة المسلم المعاصر، العدد 41، محرّم، صفر، ربيع الأوّل 1405 ه، ص 8- 9.
4- 64 نقلًا عن كتاب الطاغية؛ مرجع سابق، ونعثلة هذا رجل يهودي من أهل مصر كان طويل اللحية، قيل: إنّه كان يشبه عثمان، وكان يعمل اسكافياً، وشاتمو عثمان كانوا يسمونه نعثلًا يراجع لسان العرب، لابن منظور، المجلّد الحادي عشر، دار صادر، بيروت.

ص: 152

للخليفة بإقصاء تلك البطانة، وتبديل السياسة التي تزيّنها له وتغريه باتباعها وصم الأذان عن الناصحين له بالإقلاع عنها. وكان مع هذا أوّل منْ يُطالب بالغوث، كلّما هجم الثوار على تلك البطانة، وهمّوا بإقصائها عنوة من جوار الخليفة.

كان الثوّار يحسبونه أوّل مسؤول عن السعي في الإصلاح، وكان الخليفة يحسبه أوّل مسؤول عن تهدئة الحال وكفّ أيدي الثوّار. ولم يكن في العالم الإسلامي كلّه رجل آخر يعاني مثل هذه المعضلة التي تلقاه من جانبيه كلّما حاول الخلاص منها، ولا خلاص!

وضاعف هذا الحرج الشديد الذي كان يلقاه في كلّ خطوة من خطواته، أنه لم يكن بموضع الحظوة والقبول عند الخليفة حيثما وجب الإصغاء إلى الرأي والعمل بالمشورة. وإنّما كان مروان بن الحكم موضع الحظوة الأولى بين المقرّبين إليه.. لا ينجو من إحدى جناياته التي كان يجنيها على الحكومة والرعية حتى يعود إلى الخليفة فيوقع في روعه أنّ عليّاً واخوانه من جلّة الصحابة هم الساعون بين الناس بالكيد له وتأليب الثائرين عليه، وأنّه لا أمان له إلّاأن يوقع بهم ويعرض عنهم..

ويلتمس الأمان عند عشيرته وأقربائه، ومن هم أحقّ الناس بسلطانه وأصدقهم رغبة في دوامه.

ففي المؤتمر الذي جمعه الخليفة للتشاور في إصلاح الأمر وقمع الفتنة، لم يكن عليّ مدعوّاً ولا منظوراً إليه بعين الثقة والمودّة.. بل كان المدعوون إلى المؤتمر من أعدائه والكارهين لنصحه..

وهم معاوية وعمرو بن العاص وعبداللَّه ابن أبي سرح وعبداللَّه بن عامر وسعيد ابن العاص، وهم في جملتهم من أولئك الولاة الذين شكاهم عليّ وجمهرة الصحابة وبرحت بهم صدور المهاجرين والأنصار.

كان هؤلاء هم الوزراء والنصحاء وأهل الثقة عند عثمان، ومن ورائهم مروان بن الحكم يلازمه ويكفل لهم أن يحجب النصحاء عنه، وفي مقدّمتهم عليّ واخوانه.. ثمّ تفرّق المؤتمرون وقد ردّ عثمان كلّ عامل إلى عمله، وأمره بالتضييق على من قبله.

ص: 153

فكانت حيلة عليّ في تلك المعضلة العصيبة جدّ قليلة، وكان الحول الذي في يديه أقلّ من الحيلة.

إلّا أنّه مع هذا قد صنع غاية ما يصنعه رجل معلّق بالنقيضين، معصوب بالتبعتين، مسؤول عن الخليفة أمام الثوّار ومسؤول عن الثوّار أمام الخليفة (1).

فحينما تناهى إلى سمعه، أنّ الثوّار يريدون قتل عثمان، بعث الإمام علي عليه السلام بابنيه الحسن والحسين مع مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته، وأمرهم أن يمنعوه منهم (2) وهكذا حذا حذوه بعض الصحابة اقتداءً بالخطوة، فصدّوهم عن الدار.. واشتبك القوم، وجُرح الحسن، وشُجّ قنبر، وجرح محمد بن طلحة، فخشي القوم أن يتعصّب بنو هاشم وبنو أميّة، فتركوا القوم في القتال على الباب، ومضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوّروا عليها، وكان ممّن وصل إليه محمّد بن أبي بكر ورجلان آخران.. (3).

وبينما كان البعض يشحذ سيفه استعداداً لخوض الجولة الأخيرة مع عثمان، والبعض الآخر يمنّي نفسه بالأمر.. جاء الثوّار إلى الإمام علي عليه السلام يعرضون الخلافة عليه.. فلقيهم أسوأ لقاء، وأنذرهم لئن عادوا إليها ليكونن جزاؤهم عنده وعند الخليفة القائم، جزاء العصاة المفسدين في الأرض (4).

ووقع المحذور، ويهرع الإمام علي عليه السلام إلى دار الخليفة المقتول، ولطم الحسن وضرب الحسين، وشتم محمّد ابن طلحة وعبداللَّه بن الزبير وجعل يسأل ولديه: كيف قُتل الرجل وأنتما على الباب؟ فأجاب طلحة: لا تضرب يا أبا الحسن ولا تشتم ولا تلعن، لو دفع مروان ما قُتل (5).

وبقيت المدينة خمسة أيّام بعد مقتل عثمان، وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر، والمصريون يلحوّن على عليّ وهو يهرب إلى الحيطان (البساتين).. وكلّهم يقول: لا يصلح لها إلّاعلي (6).

وهنا، يصل المأزق إلى مرحلة الخيارات الصعبة، فأمّا أن يقبل أمير المؤمنين علي عليه السلام بالتصدّي لُامور المسلمين ويتسنّم قيادتهم رسميّاً أو أن


1- 65 عباس محمود العقاد: 60- 61، 62.
2- 66 تاريخ المسعودي 2: 353.
3- 67 المرجع نفسه، 2: 354.
4- 68 عباس محمود العقاد: 62.
5- 69 تاريخ المسعودي 2: 354.
6- 70 عباس محمود العقاد: 65.

ص: 154

يلقي الحبل على غاربه، مع ما يترتّب على الخطوة الأخيرة من نتائج خطيرة ومهوّلة لا تتوقّف آثارها على حقبة تاريخية معيّنة وإنّما تتعدّاها بجملة تشويهاتها إلى كلّ العصور؛ لأنّ المشكلة كانت تكمن في المنهج المعتمد لا في غيره. وأمام فداحة تلك النتائج المتوقعة، قبل الإمام علي عليه السلام بتسلّم السلطة، حاملًا معه اطروحته بكلّ دقائقها، محاولًا استئناف العمل بالمشروع الإسلامي البعيد (1).

ولكن؛ هل أُتيحت الفرصة المواتية للإمام علي عليه السلام لإنجاز مشروعه هذا؟!

علي.. والمعارضة

إذا كان الإمام عليه السلام قد أسّس المعارضة الشرعية في الإسلام بعد الرسول صلى الله عليه و آله، وهو يومئذ في موقع الفرد إزاء السلطة الحاكمة، فإنّه يعتبر كذلك المنظِّر الأوّل لمنهج التعامل مع المعارضة يوم أصبح حاكماً على المسلمين (2).

ومنذ البداية كان الشكّ يخامر البعض، لأسباب عديدة، رغم أنّ الإمام عليّاً عليه السلام، وبشهادة حتّى أعدائه، الأقدر والأصلح، ولكن ثمّة غيوم كانت تتلبّد في أجواء ملبّدة أساساً.

فحينما أجمع المسلمون على بيعة الإمام علي عليه السلام بعد مقتل عثمان، تخلّف عدد من الصحابة عنه، وثار عليه آخرون، وتمرّد عليه بعض، وانحرف فريق آخر، فكيف كان موقفه من هذه الفئات المختلفة (3)؟

بدءاً، كان امتناع البعض عن تقديم البيعة للإمام عليه السلام أوّل اختبار لمنهجه في التعاطي مع «الآخر» المختلف. وبالرغم ممّا كان يمثِّله الامتناع عن البيعة من خروج سافر على مبدأ الطاعة لخليفة المسلمين، لاسيما وأنّ بيعته كانت الوحيدة من بين مَنْ سبقوه تحقّقت بمشاركة شعبية واسعة وبإجماع شامل، إلّا أنّ النفر الذين تخلّفوا وهم؛ سعد بن أبي وقّاص، وعبداللَّه بن عمر، واسامة ابن زيد، وآخرون لا يتجاوزون بضعة نفر.. لم يعاملوا المعاملة المتوقّعة بمقاييس المسلمين في ذلك العصر. لقد حصل مع علي بن أبي طالب والذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر، أنّهم هُدّدوا وحوصروا في بيت علي، وتمّ كشف البيت بالقوّة في الحادثة التي ندم عليها


1- 71 حسن جابر؛ «الحركة التاريخية للمشروع الإسلامي السياسي وأفقه المستقبلي»، مجلّة المنطلق بيروت، العدد 64- شعبان 1410 ه- آذار 1990 م، ص: 23.
2- 72 إبراهيم العبادي، مرجع سابق: 175.
3- 73 المرجع نفسه: 174.

ص: 155

أبو بكر في لحظات احتضاره، إلّاأنّ الإمام عليّاً ترك من تخلّف عنه وشأنه ولم يرغمه في شي ء لم يكن مقتنعاً به، حتى ندم النادمون في لحظة فوات الأوان، مع أنّ أحاديث البيعة والسمع والطاعة للأمير البرّ والفاجر كانت من السِمات المعروفة عن عبداللَّه بن عمر، ممّا يوحي بأنّ موقفه كان سياسياً وليس نابعاً من شبهات حالت بينه وبين أن يساوي بين علي في سنة 36 هجرية وبين يزيد بن معاوية في سنة 60 هجرية، واحتفظ المتخلّفون بكامل حقوقهم في دولة عليّ، بينما لم يؤدّوا واجباتهم المفترضة، وعلى رأسها القبول بالرئيس الأعلى للدولة الإسلامية.

لقد كان مفهوماً أنّ عليّاً يمنح بذلك معارضيه فرصة التعبير عن مواقفهم، ويبيّن ما أشكل عليهم معرفته وفهمه، والدوافع التي كانت تقودهم إلى تبنّي تلك المواقف، ولم يحجر على أحد أو يقطع عطاء أحد من بيت المال.

ويتكرّر الموقف نفسه مع أهالي «صرنا» في مصر حين امتنعوا عن بيعته، بكلّ ما يعنيه ذلك من تمرّد ورفض لسلطة زعيم الدولة الذي اختاره المسلمون ومن بينهم زعماء المصريين أنفسهم الذين شاركوا في الثورة على عثمان (1).

ومن الواضح أنّ خلافة الإمام علي عليه السلام جاءت في ظروف بالغة الخطورة والتعقيد، فذووا النفوذ من الناس قد ألفوا الاستئثار واستراحوا إليه، وليس يسيراً أبداً أن يذعنوا لأيّة محاولة إصلاحية تضرّ بمصالحهم الذاتية.

ثمّ إنّ المطامع قد تنبّهت لدى الكثير من الرجال، بعد أن أصبحت الخلافة مغنماً لا مسؤولية لحماية الشريعة والأمّة. ولقد كان الإمام عليه السلام مدركاً لحقيقة الموقف بدقائقه وخفاياه بشكل جعله يعتذر عن قبول الخلافة حين أجمعت الأمّة على بيعته بعد مقتل الخليفة عثمان قائلًا: «دعوني والتمسوا غيري فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وأنّ الآفاق قد أنماحت والمحجة تنكّرت..» (2). ولكن جماهير


1- 74 المرجع نفسه.
2- 75 نهج البلاغة: 136.

ص: 156

المدينة المنورة، وجماهير الثوّار من العراق ومصر أصرّوا على استخلافه عليهم، فنزل الإمام عند رغبتهم، ولكن وفقاً لشروطه الخاصّة هو:

«واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أُصغِ إلى قول القائل وعبث العابث» (1).

حتى إذا قام بالأمر وأراد إرجاع الحقّ إلى نصابه، تألّب عليه الكثيرون من الساعين وراء مصالحهم الشخصية، ومنهم الزبير وطلحة، مختلقين الأعذار الواهية. فحارب الناكثين من أصحاب الجمل في البصرة، ثمّ حارب القاسطين من أصحاب معاوية في صفّين، ثمّ حارب المارقين من الخوارج في النهروان، يبغي تطهير المجتمع الإسلامي من الفتن.. والنفوس المريضة (2).

وفي خطبته الشقشقية أشار إلى التحدّيات الكبرى التي واجهته، وحدّد بدقّه حقيقة منطلقاتها: «فلمّا نهضتُ بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أُخرى ، وقسط آخرون [يشير بذلك عليه السلام إلى أصحاب الجمل (وهم الناكثون) وإلى أصحاب النهروان الخوارج (وهم المارقون) وإلى أصحاب صفّين (وهم القاسطون)]. كأنّهم لم يسمعوا كلام اللَّه سبحانه حيث يقول: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. بلى واللَّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها (أي زينتها)» (3).

هنا وقفة مقتضبة أمام ثلاث جبهات تباينت في شعاراتها ولكنّها اتّفقت على مناوأة الإمام عليه السلام، وفي كلّ مرّه، كان الموقف من قبل الإمام عليه السلام والتعاطي مع هؤلاء منسجماً واضحاً وصادراً من موقف شرعي محدّد.

مع الناكثين

على الرغم من أنّ طلحة والزبير كانا من أشدّ الناقمين على سياسة عثمان، ومع أنّهما سبقا الناس في البيعة للإمام علي عليه السلام بعد قتل عثمان، فإنّ الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام عليه السلام في الحياة الإسلامية لم تجد هوى في نفسيهما (4) فبدآ في العمل للخروج على الإمام عليه السلام وإثارة المسلمين عليه (5)


1- 76 نقلًا عن؛ «لجنة التأليف في دار التوحيد»، م. س، 3: 61- 62.
2- 77 لبيب بيضون: «تصنيف نهج البلاغة»، ط 2، مكتب الاعلام الإسلامي ايران، 1408 ه ص: 489.
3- 78 نهج البلاغة: 49 خطبة 3.
4- 79 لجنة التأليف في دار التوحيد، م. س، 2: 43.
5- 80 المرجع نفسه، 2: 42.

ص: 157

وقاما مع عائشة يوهمون الناس بأنّ عليّاً عليه السلام قتل عثمان، مع أنّه كان أوّل المدافعين عنه، ولكنّهم أرادوا أن يبعدوا تهمة قتله عنهم (1) فكانت حصيلة ذلك فتنة كبّدت الأمّة خسارة فادحة.

وقد بذل الإمام عليه السلام جهداً كبيراً لتحاشي هذه الفتنة فلم يألُ جهداً في بذل النصح لهم وتحميلهم مغبّة ما سيكون إذا نشبت الحرب. وهذه نصيحته عليه السلام لهما:

«أمّا بعد يا طلحة، ويا زبير، فقد علمتما أنّي لم أرد الناس حتى أرادوني، ولم أُبايعهم حتى أكرهوني، وأنتما أوّل من بادر إلى بيعتي، ولم تدخلا في هذا الأمر بسلطان غالب ولا لعرض حاضر. وأنت يازبير ففارس قريش، وأنت يا طلحة شيخ المهاجرين، ودفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه بعد إقراركما، ألا وهؤلاء بنو عثمان هم أولياؤه المطالبون بدمه، وأنتما رجلان من المهاجرين، وقد أخرجتما امّكما من بيتها الذي أمرها اللَّه تعالى أن تقرّفيه، و اللَّه حسبكما ..» (2).

وناشدهم اللَّه أن لا يقوموا بفتنة في الإسلام يقتل فيها المسلمون بعضهم بعضاً، فلم يُجْدِ ذلك نفعاً. وطلب الإمام أن يجتمع بالزبير بين الصفّين، وناجاه مذكِّراً إيّاه بقول النبيّ صلى الله عليه و آله له: «تقاتله يا زبير وأنت له ظالم». فما كان من الزبير إلّا أن اعتزل الجيشين وتركهما يقتتلان، فلمّا كان في بعض الصحراء لحقه ابن جرموز فقتله (3) وحينما جي ء إليه عليه السلام بسيف الزبير وخاتمه قال عليه السلام: سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم (4).

ثمّ نادى عليه السلام طلحة حين رجع الزبير:

يا أبا محمّد، ما الذي أخرجك؟ قال:

الطلب بدم عثمان، قال علي: قتل اللَّه أولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»؟ وأنت أوّل من بايعني ثمّ نكثت، وقد قال اللَّه عزّوجلّ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ؟ فقال:

استغفر اللَّه، ثمّ رجع، فقال مروان بن الحكم: رجع الزبير ويرجع طلحة، ما أُبالي رميتُ هاهنا أم هاهنا، فرماه في أكحله فقتله، فمرّ عليه بعد الوقعة..


1- 81 لبيب بيضون؛ م. س: 529.
2- 82 نقلًا عن لجنة التأليف في دار التوحيد، 2: 43.
3- 83 لبيب بيضون: 529.
4- 84 تاريخ المسعودي، 2: 373.

ص: 158

فوقف عليه، فقال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون واللَّه لقد كنت كارهاً لهذا (1).

وبعد أن ذهبت كلّ محاولاته عليه السلام لإصلاح الموقف سدًى.. تفجّر الموقف، غير أنّ الإمام راح يخاطب جيشه- بعد اندلاع القتال- مطالباً أصحابه بالالتزام بما يريده اللَّه: «أيّها الناس أنشدكم اللَّه أن لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تستحلّوا سبياً، ولا تأخذوا سلاحاً ولا متاعاً». طارحاً بذلك أحكام شريعة اللَّه تعالى في البغاة.

وبعد انتصار الإمام عفا عن المشتركين في الحرب فقال بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا نساؤهم؟ فقال عليه السلام:

كذلك السيرة في أهل القبلة (2).

وأحسن الإمام عليه السلام معاملة عائشة:

«يا حميراء! رسول اللَّه أمرك بهذا؟ ألم يأمرك أن تقرّي في بيتك؟ واللَّه ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك».. وأمر أخاها محمّداً فأنزلها في دار صفيّة بنت الحارث.. وأتاها في اليوم الثاني ودخل عليها ومعه الحسن والحسين وباقي أولاده وأولاد اخوته وفتيان أهله من بني هاشم وغيرهم من شيعته من همدان، فلمّا بصرت به النسوان صحن في وجهه وقلن: يا قاتل الأحبّة، فقال:

لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت مَنْ في هذا البيت، وأشار إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم وعبداللَّه بن الزبير وعبداللَّه بن عامر وغيرهم..

طلبت منه عائشة أن يؤمّن ابن اختها عبداللَّه بن الزبير، فأمنه، وتكلّم الحسن والحسين في مروان فأمنه، وأمن الوليد بن عقبة، وولد عثمان وغيرهم من بني أميّة، وأمّن الناس جميعاً، وقد كان نادى يوم الواقعة: مَنْ ألقى سلاحه فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن (3).

أرجع الإمام علي عليه السلام عائشة إلى بيتها في المدينة، وقد بعث معها أخاها محمّد بن أبي بكر وثلاثين رجلًا وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان وغيرهما، ألبسهن العمائم وقلّدهن السيوف، وقال لهن: لا تُعلمن عائشة انّكن نسوة وتلثمن كأنكنّ رجال، وكُنّ اللاتي تلين خدمتها وحملها، فلمّا أتت المدينة قيل لها: كيف


1- 85 المرجع نفسه.
2- 86 نقلًا عن المرجع السابق: 47.
3- 87 تاريخ المسعودي، 2: 378.

ص: 159

رأيت مسيرك؟ قالت: كنت بخير واللَّه، لقد أعطى علي بن أبي طالب فأكثر، ولكنّه بعث معي رجالًا أنكرتهم، فعرفها النسوة أمرهن، فقالت: ما ازددت واللَّه يا ابن أبي طالب إلّاكرماً، ووددت أنّي لم أخرج.. وإنّما قيل لي:

تخرجين فتصلحين بين الناس، فكان ما كان.. (1).

وهكذا أبدى الإمام عليه السلام أكثر من موقف إنساني فريد يعكس مدى نبل المشاعر وقمّة الأريحية تجاه الخصم.

مع القاسطين

بعد اندحار الناكثين، توجّه الإمام عليه السلام إلى الكوفة، ومن هناك بعث كتاباً إلى معاوية يدعوه إلى البيعة.

فكان ردّ معاوية للإمام علي عليه السلام: «إنّما أفسد عليّ بيعتك خطيئتك في عثمان..» (2)، وتبودلت الرسائل بين الفريقين، وفي إحداها طلب معاوية من الإمام علي عليه السلام أن يجعل له الشام ومصر جباية (3)، وبلغ عليّاً أنّ معاوية قد استعد للقتال (4).

بدأ الإمام عليه السلام يبذل مساعيه لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية، فأرسل وفداً ثلاثياً إلى معاوية، يدعوه إلى تقوى اللَّه والحفاظ على وحدة الصف والدخول في إجماع الأمّة.. التقى الوفد بقائد المعارضة، وأبلغوه بنوايا الإمام عليه السلام ووضعوه أمام اللَّه تعالى وحذّروه مغبّة ما يقدم عليه، غير أنّ معاوية أبدى إصراراً، وقد ختم ردّه على الوفد: «انصرفوا عنّي فليس عندي إلّاالسيف».

وحينما عسكر الجيشان في صفّين، عمل معاوية من جانبه على الحيلولة دون حصول جيش الإمام علي عليه السلام على الماء لأنّه كان السبّاق في التجحفل.

فأرسل الإمام عليه السلام رسولًا إلى معاوية ليبلغه «أنّ الذي جئنا له غير الماء، ولو سبقناك إليه لم نمنعك عنه» فردّ عليه معاوية بقوله: «لا واللَّه ولا قطرة حتّى تموت ظمأ»! الأمر الذي اضطرّ الإمام عليه السلام إلى استعمال العنف في الحصول على الماء لجيشه، ومن ثمّ ليأذن للباغين بالتزوّد منه متى شاءوا: «خلّوا بينهم وبين الماء، واللَّه لا أفعل ما فعل الجاهلون».

وحيث إنّ همّ الإمام عليه السلام أن يحقن


1- 88 المرجع نفسه، 2: 379.
2- 89 ابن قتيبة الدينوري: «الإمامة والسياسة» 1: 102، القاهرة، 1388 ه- 1969 م.
3- 90 المرجع نفسه، 1: 95.
4- 91 تاريخ اليعقوبي، 2: 187.

ص: 160

دماء المسلمين ويصونهم من التمزّق، ويدرأ التصدّع عن صفّهم، فقد طلب من معاوية أن ينازله إلى ميدان القتال فيتقاتلا دون الناس لكي تكون إمامة الأمّة لمن يغلب: «يا معاوية علام يقتتل الناس؟ ابرز إليَّ ودع الناس، فيكون الأمر لمن غلب».

إلّا أنّ معاوية رفض ذلك خوفاً من الإمام عليه السلام..

ولمّا لم تلقَ محاولات الإمام عليه السلام لرأب الصدع- الذي أوجده معاوية في صفّ الأمّة- استجابة، تفجّر الموقف بحرب واسعة النطاق.. وحين لاحت تباشير النصر لصالح معسكر الإمام عليه السلام وأوشكت القوى الباغية على الانهزام دبّروا «خدعة المصاحف» فرفعوا المصاحف على رؤوس الرماح والسيوف.

كانت مناورة رفع المصاحف مُقدّمة لمسلسل التداعيات اللاحقة والمتلاحقة، في صفوف جيش الإمام علي عليه السلام.. وتمثّل الفصل الثاني من المأساة باختيار الغوغاء أبا موسى الأشعري لتمثيل معسكر الإمام عليه السلام في التحكيم، بينما اختار معاوية عمرو بن العاص.

ومنذ اللحظة الاولى ، رفض الإمام عليه السلام فكرة تمثيل الأشعري، لأسباب عديدة، دونها ضعفه ووهن رأيه إضافة إلى مرتكزاته الفكرية وموقفه من حكومة الإمام عليه السلام.. ورجّح الإمام عبداللَّه بن عبّاس، غير أنّ الغوغاء أصرّوا على اختيار أبي موسى الأشعري.. وهنا يخاطب الإمام عليه السلام المخدوعين بقوله: «قد عصيتموني في أوّل الأمر- يشير إلى قبول التحكيم وإيقاف القتال- فلا تعصوني الآن، لا أرى أن تولّوا أبا موسى الحكومة فإنّه ضعيف عن عمرو ومكائده..» (1).

إلّا أنّهم أصرّوا على اختيار الأشعري، فاستجاب الإمام عليه السلام كارهاً وعلى مضض، معبِّراً بذلك أروع تعبير بقوله: «لا رأي لمن لا يُطاع»!

وانتهت المأساة بهذه المهزلة أو انتهت بهذه المأساة، كما يقول عبّاس محمود العقّاد (2)، ليبدأ فصل آخر من هذه المهزلة- المأساة.. إنّها فتنة الخوارج.


1- 92 تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي، ص: 74، نقلًا عن لجنة التأليف في دار التوحيد، 2: 54.
2- 93 نقلًا عن موسوعة أعيان الشيعة للعلّامة محسن الأمين، طبعة دار التعارف، بيروت 1: 516 د. ت.

ص: 161

مع المارقين

والخوارج هم الذين كانوا أصحاب الإمام عليه السلام وأنصاره في الجمل وصفّين قبل التحكيم (1) ثمّ أنكروا التحكيم الذي وقع يوم صفّين، وقالوا: «لا حكم إلّا للَّه»، وتحت هذه اللافتة العريضة التي وصفها الإمام عليه السلام بأنّها كلمة حقّ يُراد بها باطل.. انبثقت ظاهرة خطيرة ولا سابقة لها في المجتمع الإسلامي، تلك هي تكفير كلّ من ارتضى التحكيم، رغم أن أقطابهم كانوا في مقدّمة أولئك الذين فرضوا التحكيم!، ولعلّنا نتحسّس اليوم بصماتهم لدى بعض الجهات التي تبيح دماء المسلمين وتسير على خطى هذا النهج التكفيري.

فالخوارج الذين تحوّلوا إلى مذهب ديني- سياسي لاحقاً، كانوا طائفة من جيش الإمام عليه السلام تمرّدت عليه بعد واقعة التحكيم. وبهذا فهم معارضة فكرية- سياسية، طالبوا بالتحكيم أوّلًا، ثمّ رفضوه لاحقاً، ثمّ جاؤوا يكفّرون الحاكم والمحكومين الذين قبلوا التحكيم بسبب ضغطهم وإلحاحهم. إنّهم بكلّ صراحة حَمَلة فكر ديني ذي مشروع سياسي يعارض شرعية الدولة (2).

فالخوارج إذن يتّسمون بخصوصية فكرية يفتقرها الآخرون، وإنْ كانت هذه الخصوصية لا تحول دون القدح في توجّهاتهم، بيد أنّ هذه النقطة بالذات كانت موضع تقييم خاص من لدن الإمام عليه السلام إذ يقول: «ليس مَنْ طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»، وهو بصدد النهي عن مقاتلة الخوارج (3).

وبظهور نتائج التحكيم نادت الخوارج معلنة مبرّرات خروجها تحت شعار: «لا حَكَم إلّااللَّه، لا نرضى بأن تحكم الرجال في دين اللَّه، قد أمضى اللَّه حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يدخلوا معنا في حكمنا عليهم، وقد كانت منّا خطيئة وزلّة حين رضينا بالحكمين، وقد تبنا إلى ربّنا، ورجعنا عن ذلك، فارجع- يقصدون الإمام عليه السلام- كما رجعنا، وإلّا فنحن منك براء».

بيد أنّ الإمام عليه السلام أوضح لهم حينئذٍ أنّ الخُلق الإسلامي يقتضي الوفاء بالعهد- الهدنة لمدّة عام- الذي أُبرم بين


1- 94 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، 4: 132.
2- 95 إبراهيم العبادي؛ مرجع سابق: 175.
3- 96 نهج البلاغة: 94.. «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ... الخ».

ص: 162

المعسكرين قائلًا: «ويحكم! بعد الرضا والعهد والميثاق أرجع؟ أوليس اللَّه يقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (1).

إلّا أنّهم لم يصغوا إلى توجيهات الإمام عليه السلام، ورغم هذا.. لم يوصد الإمام عليه السلام باب المحاججة في وجوههم، ولم يعلن الحرب عليهم.. بل نجده يفسح المجال لحوار مفتوح بينه وبين خصومه السياسيين، وهذا «الخريت بن راشد الناجي» (وكان قدم مع ثلاثمائة من عمومته من البصرة، وكانوا قد خرجوا إلى الإمام عليه السلام يوم الجمل، وشهدوا معه صفّين).. أقبل الخريت إلى الإمام في جمع من أصحابه، حتى قام بين يديه، فقال له: «واللَّه يا علي لا أطيع أمرك، ولا أصلّي خلفك، وإنّي غداً لمفارقك».

بهذا الكلام أعلن هذا الرجل انخلاعه عن البيعة رسمياً (2) فلم يعتقله الإمام، ولم يأمر بإعدامه، ولم ينهه عن التحدّث بهذا الاسلوب، بل قال له:

«ثكلتك امّك إذن تنقض عهدك، وتعصي ربّك، ولا تضرّ إلّانفسك.. أخبرني لِمَ تفعل ذلك؟!

قال: لأنّك حكّمتَ في الكتاب، وضعفتَ عن الحقّ إذْ جدّ الجدّ، وركنتَ إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك راد وعليهم ناقم ولكم جميعاً مباين.

فماذا كان جواب الإمام علي عليه السلام لهذا «المعارض» العنيف ولكلامه الناقد الصريح؟ هل رفع عليه السلام العصا أو السيف في وجهه؟ كلّا، بل قال له مرّة أُخرى بكلّ هدوء: «ويحك.. هلمّ إليّ أدارسك وأُناظرك في السنن وافاتحك أموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك فلعلّك تعرف ما أنت له منكر، وتبصر ما أنت الآن عنه عمٍ وبه جاهل».

فقال الخريت: «فإنّي غاد عليك غداً».. فقال الإمام: «اغدُ ولا يستهوينّك الشيطان ولا يقتحمنّ بك رأي السوء، ولا يستخفنّك الجهلاء الذين لا يعلمون، فواللَّه إن استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لأهدينّك سبيل الرشاد». بيد أنّ


1- 97 نصر بن مزاحم: «وقعة صفّين»، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، ط 2، القاهرة، 1382 ه، ص 517.
2- 98 يُراجع مقال «نصيحة أئمّة المسلمين: بحث في مرتكزات المشروعية وآليّات التنفيذ»، لمحمد سروش محلاتي، ترجمة جواد علي كسّار، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الأوّل، 1418 ه- 1998 م، ص: 71.

ص: 163

الخريت غادر الكوفة من ليلته، ولم يعد إلى أمير المؤمنين (1).

وذات مرّة قال لهم الإمام عليه السلام بكلّ وضوح: «لكم علينا ثلاث؛ لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فيها اسم اللَّه، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفي ما دامت أيدينا معكم».

ويعقّب باحث معاصر على ما تقدّم بقوله: «إنّ عدم منعهم المسجد يعني تركهم أحراراً في الدعوة لأفكارهم دون مطاردة، ودون حرمان من الحقوق المالية التي كانت لهم، وعدم البدء بقتالهم يعني اللجوء إلى أساليب الحوار الفكري والإقناع والمناظرة، وهو ما فعله الإمام معهم حينما أرسل إليهم عبداللَّه بن عبّاس محاوراً ومناظراً، بل تركهم يعلنون أفكارهم بصراحة في حضوره مع المسلمين، داخل المسجد قاطعين كلامه، ولم يقاتلهم الإمام إلّابعد أن أعلنوا الحرب المسلّحة، وقاتلوا الوالي الذي عيّنه لهم (عبداللَّه بن خباب) فقتلوه وزوجته، وعندئذ طالبهم بتسليم قاتله، فرفضوا وادّعوا على أنفسهم أنّهم شاركوا جميعاً في قتله (2).

الهوامش:


1- 99 يُراجع المرجع السابق، وكذلك: زينب الدهوي؛ «حريّة المعارضة ضرورة اجتماعية أقرّها الإسلام.. كيف طبّقها الإمام علي عليه السلام؟»، مجلة النور لندن- العدد 34، رمضان 1414 ه- آذار 1994 م، ص: 35.
2- 100 مجلة قضايا إسلامية معاصرة، مرجع سابق، 1: 72.

ص: 164

ص: 165

ص: 166

ص: 167

قراءة في كتاب عليّ وليد الكعبة

ص: 168

قراءة في كتاب «عليّ وليد الكعبة»

للمحقّق الأديب الشيخ محمد علي الأردوبادي

محمّد سليمان

المؤلف:

الميرزا محمد علي بن الميرزا أبو القاسم بن محمد تقي بن محمد قاسم الأردوبادي التبريزي النجفي.

أردوباد المدينة التي استمدّ لقبه منها تقع على الحدود بين أذربيجان والقَفْقَاز قرب نهر أرس.

ولادته كانت في تبريز في 21 رجب سنة 1312 ه. بعد ثلاث سنوات من ولادته اصطحبه والده في رحلته إلى النجف الأشرف حيث المرقد الطاهر للإمام عليٍّ عليه السلام وحيث الحوزة العلمية المباركة وكان ذاك سنة 1315 ه فراح يتعاهده تربيةً وتعليماً... «كان والده عالماً فقيهاً تقيّاً ورعاً، خشناً في ذات اللَّه، أحد مراجع التقليد في آذربيجان وقَفْقَاسيا... وتوفّي رحمه الله سنة 1333» (1).

درس عند جمع من العلماء الكبار فقد حضر في الفقه والاصول على والده وشيخ الشريعة الأصفهاني وأخذ عن الأخير علمَي الحديث والرجال كما درس عند الميرزا علي ابن الحجّة الشيرازي. ودرس الفلسفة عند الشيخ محمد حسين


1- 1 انظر أعيان الشيعة 2: 410.

ص: 169

الأصفهاني وحظي بدراسة كلّ من علمي الكلام والتفسير على يد الشيخ محمد جواد البلاغي، ودامت دروسه هذه عند الأساتذة المذكورين لأكثر من عشرين سنة، كانت حصيلتها- وهو صاحب الذكاء الحاد والاستعداد والنبوغ- أن شهد له بالاجتهاد كلّ من استاذه الشيرازي والنائيني والشيخ عبد الكريم الحائري والشيخ محمد رضا- أبي المجد- الأصفهاني والسيد حسن الصدر والشيخ محمد باقر البيرجندي وغيرهم. ونال بعد ذلك مكانة عظيمة في الحوزات العلمية وبين علمائها وأساتذتها، واستجازه في رواية الحديث أكثر من ستين عالماً من أجلّاء علماء العراق وايران وسوريا ولبنان وغيرها. وله إجازات متعدّدة ضمّنها طرقاً للحديث وفوائد رجالية وتراجم المشايخ...

له مؤلّفات وآثار قاربت العشرين مؤلّفاً في تفسير القرآن والاصول وله تقريرات معتبرة لمشايخه.. ومنها الدرة الغروية والتحفة العلوية تناول فيها طرق حديث الغدير؛ ومنظومة في واقعة الطف...

كانت وفاته في النجف ليلة الأحد 10 صفر سنة 1380 ودفن في الصحن الشريف.

كتابه الذي بين أيدينا كتاب- كما وصفه الناشر- «فريد في بابه، عزيز في وجود نظائره، غزير في مادته، ضمّنه المؤلف بحثاً استدلالياً معتمداً في ذلك على ما ساقته كتب الفريقين المعتبرة بالأسانيد الصحيحة التي تضمّ بين مبتداها إلى منتهاها شيوخ المحدِّثين وثقات الرواة والنسابين الأثبات والمؤرِّخين الأعلام ومهرة الفن وصاغة القريض والمحقّقين الخبراء والشعراء المبدعين...»

كلّ هؤلاء راحوا يثبتون هذه الكرامة وهذا الشرف لتضاف بهذه الفضيلة منقبة أخرى إلى مناقب سيدنا وإمامنا علي بن أبي طالب وهي أوّل منقبة رافقت ولادته الميمونة. فرح بها المحبّون لهذا البيت الهاشمي العريق في قيمه وشيمه والتزامه والذي يشكِّل أرقى البيوت القرشية والعربية وأجلّها وأسماها في وقت

ص: 170

أثارت هذه المكرمة ضغائن الآخرين وأعداء الدين فراحوا يبذلون جهودهم لتقويض هذا الخبر وإماتة هذا الذكر بتضعيف رواته.

وقد بوّب الكتاب هذا تبويباً جميلًا بعناوين هي الأخرى دقيقة. فعدد صفحاته 137 مع كلمة الناشر وترجمة حياة المؤلف، أما فصوله فهي:

حديث المولد الشريف وتواتره.

حديث الولادة الشريفة مشهور بين الأمّة.

نبأ الولادة والمحدّثون.

حديث الولادة والنسابون.

حديث الولادة والمؤرِّخون.

حديث الولادة والشعراء.

حديث الولادة مجمع عليه.

ثمّ تأتي الفهارس العامة «الآيات القرآنية، والاعلام، والأشعار والأرجاز ثمّ فهرس الموضوعات».

وكان جميلًا اطراءُ الشيخ العلّامة الأميني صاحب كتاب الغدير: «شيخنا الأوردبادي ألّف في الموضوع كتاباً فخماً، وقد أغرق نزعاً في التحقيق ولم يبقِ في القوس منزعاً» (1).

المقدّمة

إنّ فضائل علي عليه السلام ومناقبه وصفاته التي تميّز بها ولدت معه ورافقته حتى استشهاده، من ولادته في جوف الكعبة وهي أعظم بيت من بيوت اللَّه سبحانه وتعالى، وكانت هذه الولادة «إيذاناً بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها» كما يقول عباس محمود العقاد (2)، حتى استشهاده في محراب صلاته في بيت آخر من بيوت اللَّه في مسجد الكوفة، وهي ولادة ثانية له، ولكن هذه المرّة حيث جوار اللَّه سبحانه وتعالى وحيث الحياة الأبدية التي فيها الخلودوحيث الأنبياء والصديقون ...


1- 1 كتاب الغدير 6: 37.
2- 2 المجموعة الكاملة 2: 35.

ص: 171

الولادة في هذه البقعة المباركة المقدّسة تعدّ أولى مناقبه عليه السلام التي كرّمها اللَّه فيها، والتي لم تنجو من كيد أعدائه وحقدهم وحسدهم، فراحت جهودهم تتضافر وأقلامهم المأجورة تنشط لتكيد كيدها لهذه الفضيلة، وبما أنّهم لا يستطيعون نكرانها بالمرّة لشهرتها وتواترها.. اختلقوا ولادة أخرى؛ ولادة حكيم بن حزام في الكعبة، ليصلوا من خلال ذلك إلى أنّ ولادة عليّ لا تعدّ منقبةً يفخر بها أحبّاؤه وأولياؤه، وهي ليست كرامة له، فقد ولد غيره داخل الكعبة، فلماذا لا نعدّها كرامة أيضاً؟ وعلى فرض أنّها كرامة له فلم يتفرّد بها؛ لأنّ حكيماً ولد هو الآخر في الكعبة، وبالتالي توهين هذه المنقبة.

وحكيم هذا هو ابن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مُرّة (1)، فهو ابن أخٍ لخديجة بنت خويلد (أمّ المؤمنين رضوان اللَّه عليها) ويلتقي بمصعب بن ثابت بن عبداللَّه بن الزبير المتوفى سنة ست وثلاثين ومئتين الذي كان من رواة ولادته في الكعبة إلّاأنّه تفرّد بإضافة منه (ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد) لمآرب في نفسه، يلتقي به في جدّهم خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرّة.

علماً بأنّ هذه الإضافة لم أجدها عند غيره ممّن رووا ولادة حكيم في الكعبة وكلّهم كانوا في القرن الثالث للهجرة، فهي رواية ولدت متأخّرة جدّاً ومقطوعة الإسناد وتعاني من ضعف رواتها وشذوذها..

ولم تكن ولادة حكيم معروفة قبل هذه الرواية بل لم تذكر أبداً في المصادر التأريخية ولا الروائية، كما أنّ حكيماً نفسه لم يذكر أنّ ولادته كانت في الكعبة، لا في جاهليته ولا في إسلامه، وهو شرف عظيم كانوا يفتخرون به في الجاهلية ويتمنّونه، فكيف سكت حزام عن ذكر ذلك ولم يشر إليه ولو إشارة بسيطة؟ ولم يكن صاحب مناقب كثيرة حتّى يترك ذكرها كما لم يكن زاهداً فمنعه زهده عن ذكرها. كما لم يذكرها من حوله وهو من وجهاء قريش في الجاهلية والإسلام ومن


1- 1 تاريخ دمشق 15: 93.

ص: 172

علمائها بالنسب، كما كان جواداً كريماً، وهو بالتالي ليس نكرة حتى يُنسى خبر ولادته في بقعة مباركة.. وكان إذا سئل عن ولادته فلم يزد في إجابته عن: ولدتُ قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث عشرة سنة.. وذلك قبل مولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بخمس سنين (1).

وكان إسلامه يوم الفتح وقيل يوم أحُد، وكان من المؤلفة، أعطاه النبي صلى الله عليه و آله و سلم من غنائم حنين مائة بعير. عاش مئة وعشرين سنة؛ ستّين في الجاهلية وستّين في الإسلام، وتوفي في المدينة سنة أربع وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين (2).

الروايات

رواية مصعب بن عثمان الذي لم أجد له ترجمة تذكر في تاريخ دمشق ولا في غيره اللّهم إلّاما ذكره صاحب التبيين في أنساب القرشيين مكتفياً باسمه: مصعب ابن عثمان بن عروة بن الزبير وبأنّه كان عالماً بأخبار قريش (3).

فلا أقلّ من أن حاله مجهول، إن لم يكن من أولئك الضعفاء الذين أكثر ابن بكار في الرواية عنهم في الجمهرة أشياء منكرة كثيرة خاصّة أنه كان واسطةً بين عامر بن صالح وعامر هذا وابن بكار المعروف بالكذب وأنّه ليس ثقة كما أنّ عامّة حديثه مسروق وبالتالي فقد يكون مصعب قد تأثّر بأُستاذه عامر، يروي الموضوعات (4).

هذا وأن الزبير بن بكار المتوفى سنة 256 ه صاحب جمهرة نسب قريش متّهم هو الآخر بالضعف وبأنّه منكر الحديث ويضعه وهو ما يذكره صاحب كتاب الضعفاء الحافظ أحمد بن علي السليماني (5).

وقال في ميزان الاعتدال 2: 66: لا يلتفت إلى قوله. وإن ردّه ابن حجر في التهذيب بقوله: هذا جرح مردود، فلعلّه استنكر إكثاره عن الضعفاء مثل محمد بن الحسن بن زبالة وعمر بن أبي بكر المؤملي وعامر بن صالح الزبيري وغيرهم، فإن في كتاب «النسب» عن هؤلاء أشياءً كثيرةً منكرةً (6).


1- 1 تاريخ دمشق 15: 98.
2- 2 تاريخ دمشق 15: 95.
3- 3 التبيين في أنساب القرشيين: 266.
4- 4 تهذيب الكمال 14: 46، سير أعلام النبلاء 4: 429.
5- 5 انظر سير أعلام النبلاء 12: 314، تهذيب التهذيب 3: 313، وميزان الاعتدال 2: 66.
6- 6 انظرها في سير أعلام النبلاء 12: 314.

ص: 173

فسواء أكان الزبير ضعيفاً بنفسه أو ينقل عن هؤلاء الضعفاء في كتابه. فهو بالتالي يفقد الثقة به وبكتابه ولا يعتمد على ما فيه إلّابعد تمحيص دقيق وجهد كبير.

فإذا عرفنا حال مصعب بن عثمان وصاحب كتاب جمهرة نسب قريش فالرواية بعد ذلك لا يمكن أن تكون محل اعتماد.

أمّا روايته فكما نقلها أيضاً صاحب تاريخ دمشق هي: أخبرنا أبو غالب بن الحسن وأخوه أبو عبداللَّه يحيى، قالا: أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة، أنبأنا أبو طالب المخلّص، أنبأنا أحمد بن سليمان الطوسي، أنبأنا الزبير بن بكّار، حدّثني مصعب بن عثمان، قال: دخلت أمّ حكيم بن حزام الكعبة مع نسوة من قريش وهي حامل متمّ بحكيم بن حزام، فضربها المخاض في الكعبة فأُتيت بنطعٍ حيث أعجلها الولادة، فولدت حكيم بن حزام في الكعبة على النطع (قطعة من الجلد) وكان حكيم بن حزام من سادات قريش ووجوهها في الجاهلية (1).

روايتا المستدرك

الرواية الاولى:... سمعت أبا الفضل الحسن بن يعقوب يقول: سمعت أبا أحمد محمد بن عبد الوهاب يقول: سمعت علي بن غنام العامري يقول: ولد حكيم بن حزام في جوف الكعبة، دخلت امّه الكعبة فمخضت فيها فولدت في البيت (2).

الرواية الثانية: أخبرنا أبو بكر بن أحمد بن بالعرية، ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي، ثنا مصعب بن عبداللَّه فذكر نسب حكيم بن حزام وزاد فيه وامّه فاختة بنت زهير بن أسد بن عبد العزى، وكانت ولدت حكيماً في الكعبة وهي حامل فضربها المخاض وهي في جوف الكعبة، فولدت فيها فحملت في نطع وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.

هذه العبارة الأخيرة لم ترد في الروايتين السابقتين فهي إضافة منه، وليس هذا غريباً عليه ولم يكن هذا منه بلا قصد ولا هدف فهو يعرف جيّداً ماذا يقصد


1- 1 تاريخ دمشق 15: 98.
2- 2 المستدرك 3: 549/ 6041/ 1639.

ص: 174

بهذا النفي «ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد»، وكيف يعذر وهو يعرف جيّداً تواتر خبر ولادة علي عليه السلام في الكعبة ولم يكن جاهلًا به أو غافلًا عنه. وإنّما هي «شِنشنة أعرفها من أخزم» حقّاً إنّه حقد موروث وبغض مستحكم ضد عليّ عليه السلام توارثته هذه العائلة من يوم الناكثين يقول الإمام علي عليه السلام: «وما زال الزبير منّا حتّى ولد له عبداللَّه ابنه». فأراد أن ينفي هذه الكرامة لعليّ عليه السلام ولم يرضَ بأن تبقى الرواية «ولادة حكيم» كما رواها غيره وإن كانت أيضاً لا تخلو من الضعف والإرسال، فأضاف عليها ما سوّلت له نفسه.

وبعد ذكر الحاكم النيسابوري لها قال: وهَمَ مصعب في الحرف الأخير.

أقول: وقد عرفت حال الرواية وما تعانيه من ضعف وانقطاع.. وقد يفهم من قول الحاكم هذا وهم، أنّ مصعباً أصاب في كلامه الأوّل حول ولادة حكيم في الكعبة، إلّاأنّ هذا نفاه الحاكم في كلام آخر له في كفاية الطالب للكنجي الشافعي.

ثمّ راح يعزّز بشكل قاطع ردّه هذا بقوله: فقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه في جوف الكعبة (1).

علماً بأنّ حكيم بن حزام- وكما قلنا- لم يكن شخصاً مجهولًا في الجاهلية وغير معروف في الإسلام مع هذا لم يذكر هذه الفضيلة لنفسه يوماً ولم تُذكر عنه بل ولم يذكرها أحدٌ له على الإطلاق حتّى رواها كلّ من مصعب بن عثمان بن عروة بن الزبير ومصعب بن عبداللَّه.. بعد أكثر من 200 سنة أي في القرن الثالث الهجري.

إنّ أوّل كتاب ذكرت فيه ولادة حكيم هو (جمهرة النسب) لابن الكلبي، والكلبي وإن ورد فيه أنّه متروك الحديث، وأنّه غير ثقة وأنّه يروي العجائب والأخبار التي لا أصول لها (2).

إلّا أنّه ورد فيه مدح كثير، وأن مبعث ما ذكر من مطاعن واتّهامات أنّ الرجل كان شيعيّاً لا غير.


1- 1 المستدرك 3: 550/ 6044/ 1642.
2- 2 أنظر سير أعلام النبلاء والأنساب وجمهرة النسب.

ص: 175

وأمّا كتابه جمهرة النسب فقد تعرّض لإضافات كثيرة يعود سببها إلى أنّ أباسعيد السكري راوي الكتاب لم ينجو من الاتّهام بأنّه كان وراءها. فالدكتور ناجي حسن الذي يذكر في مقدّمة تحقيقه لجمهرة النسب: «لقد وصلتنا جمهرة النسب لابن الكلبي برواية أبي سعيد السكري عن محمّد بن حبيب عن ابن الكلبي، ومع ذلك ظهرت فيه إضافات واضحة وزيادات وتعليقات بيّنة لم ترد في أصل الجمهرة بل أضافها الرواة والنسّاخ. ولا يستبعد أن يكون أبو سعيد السكري هو نفسه الذي قام بهذا العمل حين وجد لديه فيضاً من الأخبار ذات الصلة بالأنساب» (1).

أمّا الرواية الأخرى التي يذكرها النيسابوري فهي عن علي بن عثام العامري كما هو اسمه في سير أعلام النبلاء ويبدو أنّه حرِّف من عثام إلى غنام عند النيسابوري. ولو كانت روايته هذه محل اعتماد لما تغاضى عنها الذهبي في سيره وهو المعروف بموقفه المضاد لمن يذكر مناقباً لعليّ عليه السلام. وهذا يكفي في أنّها من الضعف والهزال ما جعل الذهبي يتجاهلها.

وهناك رواية شاذة ذكرها الأزرقي في أخبار مكّة: حدّثني محمد بن يحيى، حدّثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبداللَّه بن أبي سليمان عن أبيه أنّ فاختة بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى- وهي امّ حكيم بن حزام- دخلت الكعبة وهي حامل، فأدركها المخاض فيها، فولدت حكيماً في الكعبة، فحُملت في نطعٍ وأُخذ ما تحت مثبرها (موضع الولادة) فغسل عند حوض زمزم، وأخذت ثبابُها التي ولدت فيها فجعلت لقىً (2).

فأوّلًا أنّ محمد بن يحيى كما في كتاب الجرح والتعديل للرازي قال: سألت أبي عنه فقال: كان رجلًا صالحاً وكانت به غفلة، رأيت عنده حديثاً موضوعاً. توفي سنة 243 ه (3).

أمّا عبد العزيز بن عمران فيقول عنه البخاري: إنّه لا يكتب حديثه، منكر


1- 1 مقدّمة جمهرة النسب.
2- 2 أخبار مكة للأزرقي 1: 174.
3- 3 تذكرة الحفّاظ 2: 501. الجرح والتعديل 8/ 124، سير أعلام النبلاء 12: 96.

ص: 176

الحديث، وقال عنه النسائي: متروك الحديث، وقال عنه الرازي: متروك الحديث، ضعيف الحديث، منكر الحديث جدّاً، وقال محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري: عليّ بدنة إن حدّثت عن عبد العزيز بن عمران حديثاً (1).

هذا مضافاً إلى أن الازرقي في نفسه محل كلام حيث لم أعثر على شي ء يدلّ على توثيقه وأمامك حياته في كتابه أخبار مكّة.

والمتحصّل من هذا المختصر ومن غيره أنّ رواية ولادة حكيم إن لم نقل بسقوطها فهي غير معتبرة عند كثير من المحدِّثين والمؤرِّخين، بل نفاها جمع منهم بنفيهم ولادة غير أمير المؤمنين عليه السلام كما سنرى في مضامين هذا الكتاب (2).

فصول الكتاب

حديث المولد الشريف وتواتره

يفتتح المؤلف حديثه في هذا الباب بمقدّمة قصيرة جميلة تنمّ على قدرة عجيبة في اختيار الألفاظ ودقّتها على المراد.

يقول فيها: «إنّ المنقب في التاريخ والحديث جدّ عليم بأنّ هذه الفضيلة من الحقائق التي تطابق على إثباتها الرواة، وتطامنت النفوس على اختلاف نزعاتها على الإخبات بها حيث لا يجد الباحث قطّ غَمِيزَة في إسنادها، ولا طعناً في أصلها، ولا مُنتدحاً للكلام على اعتبارها، وتضافر النقل لها وتواترت الأسانيد إليها، وإن وجدَ حولها صَخَباً من شذّاذ الناس وطأه بأخمص حجاه، وأهواه إلى هوة البطلان السحيقة».

بعد هذه المقدّمة راح ينقل الرواية التي تحكي ولادةً أخرى غير ولادة علي عليه السلام داخل الكعبة. ولادة حكيم بن حزام، التي يرويها مصعب بن عبداللَّه..

والتي ما إن يصل النيسابوري إلى الفقرة الثانية فيها «.. ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد» وهي من زيادة هذا الراوي حتّى قال: «وهَم مصعب في الحرف


1- 1 التاريخ الكبير 6: 29؛ التاريخ الصغير 2: 234؛ الجرح والتعديل 5: 390؛ تاريخ بغداد 10: 441؛ تهذيب التهذيب 6: 351؛ ميزان الاعتدال 2: 632.
2- 2 من ضمن المصادر التي اعتمدتها في هذه المقدمة المختصرة مقالة قيّمة ونافعة للأستاذ شاكر شبع الولادة في الكعبة المعظّمة نشرت في مجلّة تراثنا العدد 26.

ص: 177

الأخير وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- كرّم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة» (1).

من هذا يتضح أنّ الحاكم وإن لم يناقش الفقرة الأولى من الرواية (ولادة حكيم في الكعبة) بل سكت عنها مكتفياً بأنّه وصف مصعباً بالتوهّم إلّاأنّه نفاها في كلامٍ آتٍ له أثبته الحاكم الكنجي.

أقول: إنّه لم يكن متوهّماً بل يقول ما يعني ويعني ما يقول، إنّه كان قاصداً لمآرب في نفسه كما ذكرنا ذلك في المقدّمة.

ومع هذا فإنّ الشيخ الأردوبادي راح ينقل الإطراء على الحاكم: والحاكم من أذعن الكلّ بثقته وحفظه وضبطه وتقدّمه في العلم والحديث والرجال والمعاجم طافحة بإطرائه والثناء عليه، والكتب مفعمة بالاحتجاج به والركون إليه، وتآليفه شاهدة بنبوغه وتضلّعه، فناهيك به حاكماً بتواتر الحديث، أي حديث ولادة أمير المؤمنين عليه السلام في جوف الكعبة.

ثمّ نقل نصوصاً أخرى توافق ما ذكره الحاكم في مستدركه، ومن هذه النصوص:

نصّ لشاه ولي اللَّه أحمد بن عبد الرحيم المحدِّث الدهلوي وهو والد عبد العزيز الدهلوي مصنّف (التحفة الاثنا عشرية) في الردّ على الشيعة. «قد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّاً في جوف الكعبة، فإنّه ولد في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة في الكعبة ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده».

هذا النصّ ورد في كتابه (إزالة الخفاء 2: 251 ط الهند) ويتضمّن أمرين مهمّين:

تواتر الأخبار بالولادة.

نفيه لأي ولادة أخرى غير ولادة أمير المؤمنين عليه السلام.


1- 1 المستدرك 3: 483.

ص: 178

وأمّا الحافظ الكنجي الشافعي (ت 658) فقد حمل إلينا في كتابه (كفاية الطالب). الذي ذكره الجلبي في كشف الظنون ونقل عنه ابن الصباغ المالكي في فصوله المهمّة واحتجّ به ابن حجر قال:

«أخبرنا الحافظ أبو عبداللَّه محمد بن محمود النجار بقراءتي عليه ببغداد، قلت له: قرأت على الصفار بنيسابور: أخبرتني عمّتي عائشة، أخبرنا ابن الشيرازي، أخبرنا الحاكم أبو عبداللَّه محمد بن عبداللَّه الحافظ النيشابوري قال:

ولد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بمكّة في بيت اللَّه الحرام، ليلة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت اللَّه الحرام سواه، إكراماً له بذلك، وإجلالًا لمحلّه في التعظيم» (1).

وهو أيضاً نصّ من الحاكم لا ريب فيه على أنّ الولادة تمّت في الكعبة وفيه نفي لأي ولادة أخرى مزعومة كولادة حكيم.

لشهاب الدين أبو الثناء السيّد محمود الآلوسي المفسِّر ورد في شرحه لعينية العمري حينما قرأ:

أنت العليّ الذي فوق العُلى رُفعا ببطن مكّة عند البيت إذ وضعا

قال: «وفي كون الأمير- كرّم اللَّه وجهه- ولد في البيت، أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنّة والشيعة... إلى قوله: ولم يشتهر وضع غيره- كرّم اللَّه وجهه- كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه. وما أحرى بإمام الأئمّة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، وسبحان من يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين» (2).

أقول: وحينما وصل إلى بيت آخر من قصيدة العمري نفسها:

وأنت أنت الذي حطّت له قدم في موضع يده الرحمن قد وضعا

وقيل: أحب عليه الصلاة والسلام (يعني عليّاً) أن يكافئ الكعبة حيث ولد في


1- 1 كفاية الطالب: 407، وانظر الغدير للشيخ الأميني 6: 22.
2- 2 الغدير للشيخ الأميني 6: 22.

ص: 179

بطنها بوضع الصنم عن ظهرها، فإنّها كما ورد في بعض الآثار كانت تشتكي إلى اللَّه تعالى عبادة الأصنام حولها وتقول: أي ربّ حتّى متى تعبد هذه الأصنام حولي؟

واللَّه تعالى يعدها بتطهيرها من ذلك، وإلى هذا المعنى أشار العلّامة السيّد رضا الهندي بقوله:

لمّا دعاك اللَّه قِدماً لأن تولد في البيت فلبّيته

شكرته بني قريش بأن طهّرت من أصنامهم بيته (1)

وبعد ذلك راح المؤلِّف ينقل أقوالًا أخرى لعلماء من الشيعة منهم العلّامة السيّد الحسيني الآملي صاحب كتاب (الكشكول فيما جرى على آل الرسول): «أنّه ولد في الكعبة بالحرم الشريف فلم يسبقه أحد، ولا يلحقه أحد بهذه الكرامة...» (2).

ومنهم العلّامة السيّد هاشم البحراني في (غاية المرام):

«إنّ رواية أمير المؤمنين عليه السلام ولد في الكعبة بلغت حدّ التواتر، معلومة في كتب العامّة والخاصّة» (3).

ومنهم السيّد محمد الهادي الحسيني في كتابه (أُصول العقائد وجامع الفوائد) حيث قال: «كان مولده عليه السلام في جوف الكعبةعلى ما روته الشيعة وأهل السنّة ..» (4).

فهو يريد- والكلام للمؤلّف- أنّ الحديث ممّا تصافقت الأيدي على نقله، وتطامنت النفوس على روايته، وأصفقت الجماهير من الفريقين على إثباته، وذلك الذي نريد إثباته، وبه يثبت التواتر.

خبر الولادة عند من لا يعمل إلّابالخبر المتواتر:

وبعد كلّ ذلك انتقل المؤلف إلى أنّ هناك بعضاً من العلماء لا يأبه في عمله إلّا بالخبر المتواتر في وقت يعمل فيه جمعٌ منهم بالآحاد.

ومن أولئك: الشيخ الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان (ت 548) حيث


1- 1 انظر الغدير 6: 22- 23.
2- 2 الكشكول: 189.
3- 3 غاية المرام: 13.
4- 4 أُصول العقائد: 165 مترجماً من الفارسية وملخصاً.

ص: 180

قال في كتابه (إعلام الورى):

«لم يولد قط في بيت اللَّه تعالى مولود سواه لا قبله ولا بعده، وهذه فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا لمحلّه ومنزلته وإعلاءً لقدرته» (1).

ومن أولئك: الشريف المرتضى (ت 436) وهو يشرح القصيدة المذهبة للسيّد الحميري، قال:

«وروي أنّها- يعني فاطمة بنت أسد- ولدته في الكعبة، ولا نظير له في هذه الفضيلة» (2).

وهنا يقول المؤلف:

وليس قصده في إيرادها بلفظ «روي» إسنادها إلى رواية مجهولة، وإنّما جرى فيها على ديدنه في هذا الكتاب من سرد الحقائق الراهنة مقطوعة عن الأسانيد لشهرتها وتضافر النقل لها وتداولها في الكتب لفتاً للأنظار إليها وإشادة بذكرها على نحو الاختصار، وعلى ذمّة الباحث إخراجها من مظانّها، ولذلك تراه يقول بعد الرواية غير متلكئ ولا متلعثم: «ولا نظير له..» كجازم بحقيقتها، مؤمن بصحّتها وتواترها، وإلّا للفظها كما هو دأبه في غير واحد من الأحاديث.

والشريف الرضي (ت 406) في كتابه (خصائص الأئمّة) حيث قال: «ولد عليه السلام بمكة في البيت الحرام لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، وامّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وهو أوّل هاشمي في الإسلام ولد من هاشم مرّتين، ولا نعلم مولوداً في الكعبة غيره» (3).

كما حذا حذوهما شيخ الطائفة الطوسي (ت 460) في (التهذيب) ثالث الكتب الأربعة المعوّل عليها عند الشيعة حيث قال: «ولد بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة ...» (4).

وروى في (مصباح المتهجد) تاريخ شهر الولادة ومحلّها... (5) ومنهم أيضاً الشيخ المفيد (413) قال في الإرشاد:


1- 1 اعلام الورى: 153.
2- 2 شرح القصيدة المذهبة: 51.
3- 3 خصائص الأئمّة: 39.
4- 4 التهذيب 6: 19 كتاب المزار.
5- 5 مصباح المتهجد: 741 و 754.

ص: 181

«ولد بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة.. ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت اللَّه سواه، إكراماً له من اللَّه جلّ اسمه له بذلك، وإجلالًا لمحلّه في التعظيم» (1) كما روى في مزاره وشاركه في هذا كلّ من الشهيد في مزاره وابن طاووس في مصباح الزائر ما علّمه الإمام الصادق عليه السلام لمحمّد بن مسلم حين زيارته أمير المؤمنين عليه السلام:

السلام عليك يا من ولد في الكعبة أو السلام على المولود في الكعبة (2).

والشيخ المفيد- والقول للمؤلّف- من عرفته الأمّة بالنقد والتمحيص وأنه كيف كان يردّ الأخبار لأدنى علّة في أسانيدها أو متونها أو يتردّد في مفادها، يعرف ذلك كلّه من سبر كتبه ورسائله ومسائله، أو هل تراه مع ذلك يعدل عن خطته القويمة فيرمي القول على عواهنه بذكر الواهيات على سبيل الجزم بها، لا سيما في كتاب (الإرشاد) الذي قصد فيه إعلاء ذكر آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم والتنويه بفضلهم وإمامتهم وتقدّمهم فيها، فهل يذكر فيه إلّاما هو مسلّم بين الفريقين أو الملأ الشيعي على الأقلّ؟! وتبع الشيخ المفيد معاصره النسّابة ابن الصوفي (3).

مع السيّد الحميري

وقد أوشك هذا الفصل على نهايته، ارتأى الشيخ أن يقتطع شيئاً ممّا نظمه السيّد الحميري (ت 179) فيما يخصّ ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة:

ولدته في حرم الإله وأمنه والبيت حيث فناؤه والمسجدُ

بيضاء طاهرة الثياب كريمة طابت وطاب وليدها والمولدُ

وله أبيات أخرى منها:

طِبت كهلًا وغلاماً ورضيعاً وجنينا

وببطن البيت مولو داً وفي الرمل دفينا (4)

وقد أعدّ المؤلّف نظم السيّد الحميري هذا أثبت لمفاده من أسانيد متساندة.

والسبب في هذا- كما يقول المؤلّف-: هو أنّ السيّد الحميري الذي كان يسير بشعره


1- 1 الإرشاد: 90 والمقنعة: 72 ومسار الشيعة: 35.
2- 2 انظر الإقبال: 608، ومصباح الزائر: 106، والمزار الكبير: 267، والبحار 100: 374.
3- 3 انظر المجدي: 11.
4- 4 انظر مناقب ابن شهرآشوب 2: 175، 176، روضة الواعظين: 81، أعيان الشيعة 1: 324.

ص: 182

الركبان في القرن الثاني، والذي راح ينافح الآخرين من أعداء أهل بيت الوحي عليهم السلام وحتّى تكون حجّته قويّة لابدّ له من أن يحاججهم لا بالواهيات ولا بما لا يعرفه الناس أو لا يعترفون به.

وممّا نظمه كلّ من السرخسي:

ولدته منجبة وكان ولادها في جوف الكعبة أفضل الأكنان

والشفهيني:

أم هل ترى في العالمين بأسرهم بشراً سواه ببيت مكّة يولدُ؟

ويختم هذا الفصل بقول ثقة الإسلام النوري: إنّ هذه الفضيلة الباهرة جاءت في أخبار غير محصورة، ومنصوص بها في كلمات العلماء وفي ضمن الخطب والأشعار...».

وهنا يقول المؤلّف: ومهما حملنا قوله إنّها: «جاءت في أخبار غير محصورة» على المبالغة، فإن أقل مراتبه أن تكون متواترة..

حديث الولادة الشريفة مشهور بين الأمّة

تحت هذا العنوان كتب سماحته:

إنّ أيسر ما يسع الباحث إثباته هو شهرة هذا النبأ العظيم بنصوص أئمّة الحديث بذلك من ناحية، وبتداول ذكره في الكتب من ناحية اخرى، وبالتسالم على روايته واطراد أسانيده من جهة ثالثة. ولها شواهد أخرى لعلّك تقف عليها في غضون هذه الرسالة إن شاء اللَّه.

ثمّ راح يذكر أقوال كبار علماء الحديث، نكتفي بأسمائهم وكتبهم وبعض أقوالهم، لننتقل بعد ذلك إلى روايات الولادة المباركة للإمام علي عليه السلام.

العلّامة المجلسي في جلاء العيون: «إنّ ولادته عليه السلام في البيت، يوم الجمعة

ص: 183

الثالث عشر من رجب، سنة ثلاثين من عام الفيل، مشهورة بين المحدّثين والمؤرِّخين من الخاصة والعامة» (1).

المولى محمود بن محمد باقر في تحفة السلاطين: «إنّ حديث ولادته عليه السلام في البيت يوم انشقّ جداره لفاطمة بنت أسد فدخلته، مشهور كالشمس في رائعة النهار» (2).

السلطان محمد بن تاج الدين في تحفة المجالس: «إنّ الأقرب إلى الصواب أنّه عليه السلام ولد في الكعبة» وذكر بعض أخبارها. ثمّ قال: «وفي الأخبار أنّه لم يكن شرف الولادة في البيت لأي أحد قبله ولا بعده» (3).

الشيخ العاملي الاصبهاني (ت 1100) في ضياء العالمين: «إنّ الولادة في البيت كانت مشهورة في الصدر الأوّل، بحيث لم يمكن إنكارها مع أنّهم- يعني أهل الخلاف- أنكروها أيضاً أخيراً» (4).

هذا وأن هذه الشهرة في الأخبار لا يبارحها التواتر في الأسانيد.

وانظر العلّامة الحلّي (ت 726) في كشف الحق وكشف اليقين (5).

والإربلي (ت 692) في كشف الغمّه حيث قال: «ولم يولد في البيت أحد سواه قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصّه اللَّه بها إجلالًا له وإعلاءً لرتبته وإظهاراً لتكرمته» (6).

ومثله الشيخ ابن الفتال النيسابوري في روضة الواعظين.

والحافظ ابن شهرآشوب المازندراني (ت 588) في مناقبه وبعد أن روى أحاديث الولادة (7).

العلّامة العاملي في الصراط المستقيم ذاكراً ارجوزة السيّد الحسيني:

ومولد الوصيّ أيضاً في الحرم بكعبة اللَّه العليّ ذي الكرم (8)

العلّامة الطبرسي الآملي في تحفة الأبرار (9).


1- 1 جلاء العيون 1: 232 فارسي.
2- 2 تحفة السلاطين 2، فارسى.
3- 3 تحفة المجالس: 64 فارسي.
4- 4 ضياء العالمين 2.
5- 5 نهج الحق وكشف الصدق: 232، كشف اليقين: 5.
6- 6 كشف الغمّة 1: 59.
7- 7 مناقب ابن شهر آشوب 2: 175.
8- 8 الصراط المستقيم 2: 215.
9- 9 تحفة الأبرار، ب 4، ف 2.

ص: 184

القاضي السعيد الشهيد سنة 1019 التستري حين طفق ينازل ويناضل القاضي روزبهان من علماء المعقول والمنقول، حنفي الفروع أشعري الأصول، في إحقاق الحق حيث قال: «إنّ الفضيلة والكرامة في أنّ باب الكعبة كان مقفلًا، ولما ظهر آثار وضع الحمل على فاطمة بنت أسد- رضي اللَّه عنها- عند الطواف خارج الكعبة انفتح لها الباب بإذن اللَّه تعالى، وهتف بها هاتف بالدخول.

كما عقّب التستري على مسألة ولادة حكيم قائلًا:

وعلى تقدير صحّة تولّد حكيم بن حزام قبل الإسلام في وسط بيت اللَّه الحرام، فإنّما كان بحسب الاتفاق كما يتّفق بسقوط الطفل من المرأة، والعجل من البقرة في الطريق وغيره، على أنّ الكلام في تشرّف الكعبة بولادته فيها، لا في تشرّفه بولادته في الكعبة» (1).

أبو الحسن المالكي في (الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة) يذهب المذهب نفسه في ولادة حكيم: فبعد أن يذكر ولادة عليّ في جوف الكعبة قال: وأمّا حكيم بن حزام فولدته أمّه في الكعبة اتفاقاً لا قصداً» وقد أصفق في هذا الكلام معه البحّاثة عبد الرحمن الصفوري الشافعي في نزهة المجالس (2).

بعد هذا فإنّ كتباً كهذه «المتينة المبنية على الحجاج والنضال لاسيما كتب العلّامة والقاضي التستري وابن بطريق لم يتوخّ مؤرخوها- والكلام ما زال للشيخ المؤلف- سرد الوقائع التاريخية من أينما حصلت، وإنّما قصدوا فيها إلزام الخصوم بالحجج النيّرة، فهل يمكنهم إذن أن يسترسلوا بإيراد ما توسع بنقله القالة من دون تثبت؟ لا، ولكن شريعة الحجّ والدين تلزمهم بإثبات الشائع الذائع المتلقّى عند الفريقين بالقبول المشهور نقله، الثابت إسناده بحيث لا يدع للمتعنت وليجة إلى إنكاره، وإلا لعاد ما يذكره ثلماً في بيانه، وفتّاً في عضد برهانه، فمن الواجب إذن أن يكون هذا الجواب ممّا يخضع له الخصم ولا يتقاعس عن الإخبات به الأولياء لمكان شهرة النقل له.


1- 1 انظر إحقاق الحقّ.
2- 2 الفصول المهمّة: 30 وأيضاً نزهة المجالس 2: 204.

ص: 185

روايات الولادة المباركة

وهنا راح الشيخ المؤلِّف يذكر بعض روايات الباب، نذكر بعضها ونكتفي بمصادر الأخرى .

روى الوزير السعيد الإربليّ في (كشف الغمّة) عن كتاب (بشارة المصطفى) مرفوعاً إلى يزيد بن قَعْنَب، قال:

كنت جالساً مع العبّاس بن عبد المطلب- رضى الله عنه- وفريق من بني عبد العزى بإزاء بيت اللَّه الحرام، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد أُمّ أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حاملًا به لتسعة أشهر، وقد أخذها الطَلقُ فقالت: ياربّ، إنّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل، وأنّه بنى البيت العتيق، فبحقّ الذي بنى هذا البيت، وبحقّ المولود الذي في بطني إلّاما يسّرت عليَّ ولادتي.

قال يزيد بن قَعْنَب: فرأيت البيت قد انشقّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا، وعاد إلى حاله، والتزق الحائط، فرُمْنَا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنّ ذلك من أمر اللَّه عزّوجلّ، ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام... (1).

ورواه ابن الفتّال في (روضة الواعظين) وفي (كشف اليقين) للعلّامة الحلّي، و (كشف الحقّ) عن (بشارة المصطفى) وفي (الإرشاد) لأبي محمّد الحسن الديلميّ عن البشارة أيضاً مثله (2). وروى مختصراً منه محمّد صالح الترمذي في مناقبه (3).

ورواه مع بعض التغيير الشيخ الصدوق (ت 381) في (الأمالي) و (علل الشرائع) و (معاني الأخبار) (4).

ورواه الشيخ الطوسيّ في (أماليه) عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن الحسن ابن شاذان، عن أحمد بن محمد بن أيّوب، عن عمر بن الحسن القاضي، عن عبداللَّه ابن محمد، عن أبي حبيبة، عن سفيان بن عُيينة، عن الزُّهريّ، عن عائشة؛


1- 1 كشف الغمّة 1: 60، بشارة المصطفى: 7.
2- 2 إرشاد القلوب: 211.
3- 3 مناقب مرتضوي: 87 ط بومباي 1321 ه.
4- 4 الأمالي 114: 9، علل الشرائع 1: 135، 3، معاني الأخبار 62: 10.

ص: 186

وعن محمّد بن أحمد بن شاذان، عن سهل بن أحمد، عن أحمد بن عمر الربيعي، عن زكريا بن يحيى، عن أبي داود، عن شُعْبة، عن قَتَادة، عن أنس بن مالك، عن العبّاس بن عبد المطلب؛

قال الشيخ: وحدّثني إبراهيم بن عليّ، بإسناده عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد عليهما السلام، عن آبائه عليهم السلام قال:

كان العبّاس بن عبد المطلب ويزيد بن قَعْنَب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بإزاء بيت اللَّه الحرام، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أُمّ أمير المؤمنين عليه السلام، وكانت حاملة بأمير المؤمنين عليه السلام لتسعة أشهر، وكان يوم التمام.

قال: فوقفت بإزاء البيت الحرام وقد أخذها الطلق، فرمت بطرفها نحو السماء...

رأينا البيت قد انفتح من ظهره، ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا.

وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيّام.

قال: وأهل مكّة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك، وتتحدّث المخدّرات في خدورهنّ.

قال: فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه، فخرجت فاطمة وعليّ على يديها...

وفي (المناقب) لابن شهر آشوب روايتان:

رواية شُعبة، عن قَتادة، عن أنس، عن العبّاس بن عبدالمطلب؛ وفي رواية الحسن بن محبوب، عن الصادق عليه السلام، والحديث مختصر، أنّه انفتح البيت من ظهره، ودخلت فاطمة فيه، ثمّ عادت الفتحة والتصقت، وبقيت فيه ثلاثة أيّام...

عن يزيد بن قَعْنَب؛ وجابر الأنصاري: وهو المعروف بحديث الراهب المثرم بن دعيب.

فلمّا قربت ولادته أتت فاطمة إلى بيت اللَّه وقالت: ربِّ إنّي مؤمنة بك...

ص: 187

فانفتح البيت ودخلت فيه فإذا هي بحوّاء، ومريم، وآسيه، وأُمّ موسى وغيرهنّ، فصنعن مثل ما صنعن برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقت ولادته.

وحديث الراهب رواه ابن الفتّال في (روضة الواعظين) على وجه هو أبسط من هاتين الروايتين المفصلتين (1) كما ذكره غيره (2).

وفي هذه المصادر وفي غيرها روايات مفصّلة أيضاً حول الولادة المباركة (3).

وقد نظّم مضامينها صاحب الوسائل الحرّ العاملي (ت 1104) ارجوزةً نذكر بيتين منها:

مولده بمكّة قد عُرفا في داخل الكعبة زيدت شرفا

على رُخامة هناك حمرا معروفة زادت بذاك قدرا (4)

والمشهور بين الخاصة والعامّة أنّه ولد بين العمودين على البلاطة الحمراء.

وذكر العالم الشكوئي (ت 1330) في كتابه (مصباح الحرمين) في وداع الكعبة اموراً، منها «الصلاة بين الاسطوانتين على الرُّخامة الحمراء، وهي على رواية بعض العلماء محل ولادة أمير المؤمنين عليه السلام كما مرّ في فصل المستجار...» (5).

وقال الشيخ أحمد بن الحسن الحرّ في (الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء والملوك) في الفصل الرابع، في ذكر أمير المؤمنين علي عليه السلام... ولادته في الكعبة في البيت على الحجر.

إذن فحديث ولادته عليه السلام أمر مشهور وروايته متواترة عند الفريقين.

نبأ الولادة والمحدِّثون

حتّى يصل سماحة الشيخ إلى المراد من المحدّثين راح يميّز بين المحدّثين الذين يصفهم بأنّهم سذج، لم يجيدوا إلّانقل الأساطير أو قول بسيط مثل حدّثني فلان فيحشد أساطير وأقوالًا بعيداً عن التفقّه في مغزى الحديث والتبصّر في مؤداه...


1- 1 روضة الواعظين: 77- 81.
2- 2 الفضائل لشاذان بن جبرئيل: 54، جامع الأخبار: 15.
3- 3 علل الشرائع 3: 135. معاني الأخبار 10: 62، أمالي الصدوق 9: 114. أمالي الطوسي 2: 317، مناقب ابن شهرآشوب 2: 172، روضة الواعظين: 77.
4- 4 منظومة في تواريخ المعصومين عليهم السلام، مخطوطة.
5- 5 مصباح الحرمين: 194.

ص: 188

يميّز بين هذا النوع من الذين يطلق عليهم أنّهم المحدِّثون وبين نوع آخر أولئك هم أئمّة الحديث ومهرة فنّه النياقد، الذين- كما يعبِّر الشيخ عنهم- لا يروقهم رمي القول على عواهنه، فلا يؤمنون بالمنقول إلّابعد التفرّغ من أمر إسناده والتثبّت فيه والتروي في متنه، حذار مخالفته لمعقول أو مصادمته لشي ء من الأصول، وبالتالي فإنّ هذا المحدث هو الحبر الناقد الضليع في العلم الذي ضرب فراغاً في أوقاته للتبصّر في هذا الفن، والإحاطة به من أطرافه.. فهو محدِّث وهو فقيه وهو مفسِّر حين يتحرّى مغازي آي الكتاب الكريم واكتشاف مخبآتها وهو فنيّ إذا عطف النظر على أيّ من العلوم. وهذا هو المحدِّث الذي يقصده سماحته ويريده وذكر لهذا مصاديق كالسيّد المرتضى والسيّد الرضي والشيخ الطوسي وقبلهم الصدوق وبعدهم ابن شهرآشوب وابن الفتال والعلّامة الحلّي وابن بطريق... ومن أهل السنّة كالحاكم وغيره..

وقفة قصيرة مع ابن أبي الحديد

يقول ابن أبي الحديد في شرح النهج: واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان؟

فكثير من الشيعة يزعمون أنّه ولد في الكعبة، والمحدّثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أنّ المولود في الكعبة حكيم بن حزام... (1).

كيف يصحّ هذا والحاكم النيسابوري من أئمّة الحديث يقول:... وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- كرّم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة، وما قاله المحدّث الدهلوي بتواتره وقول الآلوسي: إنّه أمر مشهور في الدنيا» وغيرهم من المحدّثين كما أسلفنا وكما هو آتٍ؟! اللّهم إلّاأن يقصد ابن أبي الحديد بالمحدِّثين أولئك الذين وصفهم الشيخ بالسذج... لا مهرة الحديث وأئمّته.

وهذا العلّامة المحدّث أبو الفتح الكراجكي قال في (كنز الفوائد) بعد أن ذكر أحاديث في مقدّمة الولادة من خبر الكاهن ورؤيا فاطمة بنت أسد وتعبير الكاهن


1- 1 شرح نهج البلاغة 1: 14.

ص: 189

لها ما لفظه: وفي الحديث أنّها- يعني فاطمة بنت أسد- دخلت الكعبة على ما جرت به عادتها، فصادف دخولها وقت ولادتها فولدت أمير المؤمنين عليه السلام داخلها» (1).

وممّن يذكر خبر الولادة المباركة كلّ من الشيخ أبو الفوارس في كتاب (الأربعين) والرواية التي يذكرها بسندها الطويل المضطرب إلى ميثم التمّار وفيها عدّة مناقب للإمام منها الولادة في الحرم (2).

والفقيه ابن المغازلي المالكي في مناقبه الذي يذكر حديث الولادة مرفوعاً إلى علي بن الحسين عليهما السلام.

وأبو عبداللَّه الشافعي الكنجي الحافظ (ت 658) في كفاية الطالب الذي ذكر رواية الولادة لعليّ عليه السلام بسندها عن جابر بن عبداللَّه... (3) حديث الولادة والنسّابون

نظراً للأهمّية الكبيرة التي يمتاز بها النسّابون في معرفة فنّهم «النسب وأخباره» نرى شيخنا قد أفرد لهم باباً خاصّاً في هذه المسألة مبيّناً مدى أهمّية خبرتهم ووظيفتهم في هذا الموضوع، متعرّضاً لبعض أقوالهم في خصوص ولادة الإمام عليّ عليه السلام. فنصوصهم فيها من الحجج القويمة على إثباتها، ولهم قضاء فصل فيها وحكم عدل.

ومن هؤلاء النسّابة:

العمري في (المجدي): وولدت- يعني فاطمة بنت أسد- عليّاً عليه السلام في الكعبة، وما ولد قبله أحد فيها (4).

جمال الدين الداودي الحسني (ت 828) في (عمدة الطالب): ذكر أنّ الولادة كانت في الكعبة... ونفى أن يكون أحد ولد في البيت سواه قبله وبعده، إكراماً له من اللَّه عزّوجلّ (5).

العلّامة السيّد محمد الحسيني النجفي في (المشجّر الكشاف لأصول السادة الأشراف)، ولد علي بمكّة ثمّ قال: «ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت اللَّه


1- 1 كنز الفوائد 1: 255.
2- 2 الأربعون حديثاً، مخطوط، نوادر المعجزات: 10، اليقين: 73، فضائل ابن شاذان: 2.
3- 3 كفاية الطالب: 405.
4- 4 المجدي: 11.
5- 5 عمدة الطالب: 58.

ص: 190

الحرام سواه».

ومثلهم النسّابة أبو عبداللَّه الراضي صاحب (مناهل الضرب في أنساب العرب). وهناك ارجوزة للنسّابة أبي صالح النباطيّ النجفي (ت 1183):

مولده الجمعة يوم السابع في شهر شعبان ببيت الصانع

حديث الولادة والمؤرِّخون

إنّ السابر زُبُر التأريخ وحوادثه يجد هذا الحديث- والكلام للشيخ- من أثبت ما تعرّض له مؤلّفوها، وقد أثبتوه مخبتين به، مذعنين بحقيقته، ومنهم من نصّ بصحّته عندهم جميعاً.

وقد اختار الشيخ من هؤلاء المؤرِّخين جمعاً وصفهم بالبراعة في فنّهم وقدرتهم على الوقوف على المختلف فيه والمتّفق عليه. وإن تعرّضت بحوث هذا الكتاب لمثل أقوال هؤلاء المؤرِّخين أو بما يربو عليها أو يقاربها، ومع هذا نقرأ لبعضهم:

المؤرخ محمد خاوندشاه في (روضة الصفا)، قال: «كانت ولادته عليه السلام في رواية يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل... وكان ميلاده عليه السلام في جوف الكعبة، فإنّ امّه كانت تطوف بالبيت، أو أنّ المشيئة الإلهية أجاءتها إلى فنائه، وكانت في أوّل الطلق، فكانت ولادته فيها، ولم تتح هذه السعادة لأيّ أحد منذ بدء الخليقة إلى الغاية. وإن لصحّة هذا الخبر بين المؤرِّخين المتحفّظين على الفضائل صيتاً لا تشوبه شبهة، وتجاوز عن أن يصحبه الشكّ والترديد» (1).

والرجل مع ذلك- كما يقول الشيخ- يصافق مَن تقدّمه على أنّها ممّا اختصّ بها أمير المؤمنين عليه السلام ولا يشاركه فيها أيّ أحد.

ولا ريب في ذلك غير أنّ أعداء آل البيت النبوي افتعلوا حديث حكيم بن


1- 1 روضة الصفا، مترجماً من الفارسية وملخّصاً.

ص: 191

حِزام فتّاً في عَضُد هذه الفضيلة، لكن المنقّبين من الفريقين لم يأبهوا به، وبذلك تعرف قيمة ما هملج به القاضي روزبهان من أنّ ذلك مشهور بين الشيعة ولم يصحّحه علماء التاريخ، بل عند أهل التواريخ أنّ حكيم بن حِزام ولد في الكعبة ولم يولد فيه غيره... إلى آخره.

وستجد نصوص التاريخ بذلك، وعرفت ردّ الحاكم النيسابوريّ على مَن حصر ولادة البيت بحكيم، وذكر تواتر النقل بولادة أمير المؤمنين عليه السلام فيه.

ومرّ أيضاً رواية أساطين أهل السنّة، ولذلك ما يتلوه:

المسعودي وهو الحجّة عند الفريقين يقول في (مروج الذهب) عند ذكر خلافة أمير المؤمنين عليه السلام مثبتاً هذه الحقيقة، جازماً بها من غير ترديد، قال: «وكان مولده في الكعبة» (1).

وقد احتجَّ بكتابه هذا الموافق والمخالف وهو من المصادر الموثوقة وقد راعى فيه- والقول للمؤلّف- جانب التقيّة بما يسعه، بتأليفه على نسق كتب أهل السنّة وما يرتضونه من رواياتهم، حتّى حسبه بعض من لم يرَ من كتبه غيره أنّه منهم.

فهل من السائغ إذن أن يذكر في كتاب هذا شأنه غير الثابت المتسالم عليه عند الأمّة جمعاء، لا سيّما في مثل المقام الذي يكثر فيه بطبع الحال وَرَطات القالة؟

وذكر في كتابه الآخر (الوصية):

«وروي أنّ فاطمة بنت أسد كانت تطوف بالبيت، فجاءها المخاض وهي في الطواف، فلمّا اشتدّ بها دخلت الكعبة، فولدته في جوف البيت... وما ولد في الكعبة قبله ولا بعده غيره» (2).

و (إثبات الوصيّة) من أنفس كتب الإمامية، وليس من الجائز أن يحتجّ ويتبجّح فيه بما لا يقرّ به الخصم، ولا تذعن به امّته، ثمّ يقول بكلّ صراحة: «وما ولد...» وبمشهد منه ومسمع ما تحذلقوا به من أمر حكيم بن حِزام، غير أنّ المؤرّخ لا يُقيم له وزناً.


1- 1 مروج الذهب 2: 349.
2- 2 إثبات الوصية: 111.

ص: 192

وذكر حمد اللَّه المستوفى (ت 750 ه) في (تاريخ گُزيده): «أنّ مولده عليه السلام كان سنة ثلاثين من عام الفيل، وكان في الكعبة حيث كانت أُمّه في الطواف فبان عليها أثر الطَلَق، فأشارت إلى البيت ووضعته في جوفه» (1).

محمد بن طلحة الشافعي في (مطالب السؤول) وقيل: ولد في الكعبة، البيت الحرام» (2).

ولا نكترث بإسناد ولادة البيت إلى القيل، بعد قول الحاكم بتواترها، وقول الآلوسي باشتهارها في الدنيا.

المؤرخ نشانجيّ في (مرآة الكائنات): «أنّه عليه السلام ولد ولرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ثلاثون سنة، كانت أُمّه فاطمة زائرة البيت فولدته فيه لحكمة للَّه سبحانه فيه، ولم يرزق هذا غيره وغير حكيم بن حزام» (3). حيث عدّ ولادته عليه السلام من حكم اللَّه سبحانه.

عبد الحميد خان الدهلوي في (سير الخلفاء) نقل عن غير واحد من المؤرّخين، أنّه «ولد في مكّة المكرّمة...، ولم يتولّد أحد قبله في حِصَار البيت»... (4).

المؤرِّخ والمحدِّث القمي في (تاريخ قم) سنة 378: «إنّ ولادة أمير المؤمنين في الكعبة...» (5).

وقال السيّد عليّ الحسينيّ المؤرّخ المصريّ في كتابه (الحسين عليه السلام): «أنّه [الإمام علي عليه السلام ] ولد بمكّة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب، سنة ثلاثين من عام الفيل... (6).

أحمد الغفاري القزويني من مؤرِّخي القرن العاشر ذكر في (تاريخ نگارستان) أنّه عليه السلام ولد في جوف الكعبة (7).

المؤرخ الشروانيّ أنّه عليه السلام ولد في جوف الكعبة وأنّ غيره لم يولد هناك (8).

الكاشفي ذكر حديث بن قعنب في (روضة الشهداء) عن (بشارة المصطفى).


1- 1 تاريخ گُزيده فارسي: 192 مترجماً وملخصاً.
2- 2 مطالب السؤول: 11.
3- 3 مرآة الكائنات 1: 383.
4- 4 سير الخلفاء: 208 مترجماً من الهندية وملخّصاً.
5- 5 تاريخ قم: 191.
6- 6 كتاب الحسين عليه السلام 1: 16.
7- 7 تاريخ نگارستان: 10، وانظر بشأنه كشف الظنون 2: 1976، الذريعة 24: 308.
8- 8 روضة الصفا الجزء العاشر مترجماً من الفارسية وملخّصاً كتاب خاماسب: 51.

ص: 193

الإمام البناكتي أنّه «لم يولد أحد قبله ولا بعده في البيت» (1).

عبد المسيح الأنطاكي صاحب مجلّة (العمران) المصرية، ونحن نقتبس طاقة من خمسة آلاف بيت نظمها في حياة أمير المؤمنين عليه السلام:

في رحبة الكعبة الزهرا قد انبثقت أنوار طفل وضاءت في مغانيها

واستبشر الناس في زاهي ولادتهِ قالوا: السُّعود له لابدَّ لاقيها

قالوا: ابن مَنْ؟ فأُجيبوا أنّه ولدٌ من نسل هاشم من أسمى ذراريها

هنّوا أبا طالب الجواد والده والأُمّ فاطمة هُبُّوا نُهنّيها

إنّ الرضيع الذي شام (2) الضياء ببي - ت اللَّه عزّته لا عزّ يحكيها

أمّا الوليد فلاقى الأرض مبتسماًفما رغا رهباً ما كان خاشيها

وعام مولده العام الذي بدأت بشائر الوحي تأتي من أعاليها

فيه الحجارة والأشجار قد هتفت للمصطفى وهو رائيها وصاغيها

وإذ درى المصطفى فيه ولادة مولانا العليّ غدا بالبشر يطريها

وبات مستبشراً بالطفل قال به لنا من النعم الزهراء ضافيها

ثمّ راح الأنطاكي يقول:

«كانت ولادة سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين في العام الثلاثين لولادة المصطفى- عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام- على ما حقّق المحقّقون، فتكون ولادته الشريفة حول سنة ستّة مائة وواحد مسيحية، ومن بشائر سعده- عليه صلوات اللَّه- أنّه ولد في الكعبة كرّمها اللَّه، ولدته أُمّه فيها فاستبشر بذلك أبوه وعمومته.

وعند ولادته الشريفة- والكلام ما زال للناظم الأنطاكي- دعته أُمّه:

حيدرة، ومعنى هذه الكلمة: الأسد، فكأنّها أرادت أن تسمّيه باسم أبيها، فلمّا وقع نظر أبيه أبي طالب عليه توسَّم بملامحه العَلاء، ودعاه عليّاً. وقد صدقت الأيّام


1- 1 روضة الشهداء: 146.
2- 2 شام: تطلع، انظر «لسان العرب- شيم- 12: 329».

ص: 194

فراسته، فكان عليه صلوات اللَّه عليّاً في الدنيا والآخرة.

وعام مولد سيّدنا أمير المؤمنين- عليه صلوات اللَّه- هو العام المبارك الذي بُدئ فيه برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ يسمع الهُتاف من الأحجار والأشجار ومن السماء، وكشف عن بصره فشاهد أنواراً وأشخاصاً. وفي هذا العام ابتدأ بالتبتّل والانقطاع والعزلة في جبل حِراء، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتيمن بذلك العام وبولادة سيّدنا عليّ- عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام- وكان يسمّيه: سنة الخير، وسنة البركة.

وقال المصطفى صلى الله عليه و آله لأهله عندما بلغته بشرى ولادة المرتضى: «لقد ولد لنا الليلة مولود، يفتح اللَّه علينا به أبواباً كثيرة من النعمة والرحمة». وكان قوله هذا أوّل نبوءته، فإنّ المرتضى- عليه صلوات اللَّه- كان ناصره، والحامي عنه، وكاشف الغماء عن وجهه، وبسيفه ثبت الإسلام، ورسخت دعائمه وتمهّدت قواعده» (1).

وقد ضمّن قصيدته كلّ ذلك وغيره من حياة الإمام عليه السلام.

العلّامة السيّد محمّد الطباطبائي في الرسالة الموضوعة لتأريخ مواليد أئمّة الدين عليهم السلام ووفياتهم: أنّه عليه السلام «ولد بمكّة في جوف الكعبة، ولم يولد قبله ولا بعده أحد فيه سواه، إكراماً له من اللَّه جلّ اسمه بذلك...».

السيّد أبو جعفر الحسينيّ في شرح قصيدة أبي فراس الحمداني، تعيين يوم ولادته بالجمعة... ومحلّها بالكعبة (2).

قال الكفعميّ في (المصباح): «... ولد عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة،...» (3).

شيخ الإسلام الزنوزيّ في (بحر العلوم): «أنّ محلّ ولادته عليه السلام الكعبة».

النخجوانيّ في (تجارب السلف في تواريخ الخلفاء ووزرائهم)، فرغ منه سنة 724: «أنّ عليّاً عليه السلام ولد في الكعبة... وسمّاه النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً، وكنّاه بأبي تراب» (4).

قال الحلبيّ في سيرته (إنسان العيون): «إنّه عليه السلام ولد في الكعبة...».


1- 1 القصيدة العلوية: 61، وهذه القصيدة تشتمل على 5595 بيتاً، انظر الذريعة 17: 120، والأعلام للزركلي 4: 297.
2- 2 شرح الشافية: 15.
3- 3 مصباح الكفعمي: 512.
4- 4 تجارب السلف: 37، ط طهران سنة 1313 ه. ش، مترجماً من الفارسية.

ص: 195

ثمّ قال: «وقيل: الذي ولد في الكعبة حكيم بن حِزام، قال بعضهم: لا مانع من ولادة كليهما في الكعبة، لكن في (النور) حكيم بن حِزام ولد في الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره، وأمّا ما روي أنّ عليّاً عليه السلام ولد فيها، فضعيف عند العلماء» (1).

وأنت تجد من سياق العبارة- وهذا القول للشيخ- أنّ المعتمد عند الرجل هو ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة، ولذلك ذكرها أوّلًا مُرسِلًا إيّاها إرسال المسلّم، ثمّ عزا ولادة حكيم بن حزام فيها إلى القيل إيعازاً إلى وهنه، ولذلك أردفه بجواب البعض عنه، لكنّه وجد لصاحب (النور) كلمة لم يرقه الإغضاء عنها بما هو مؤرّخ، أخذ على عاتقه إثبات المقول في كلّ باب، وإذ لم يجد جواباً عنها لغيره لم يشفعها به، واكتفى هو بما ذكرناه من اعتماده على حديث الولادة عن أن يردّ كلمة الرجل، لأنّه مؤرّخ لا مُنِقّب.

وقفة مع صاحب كتاب النور:

ويكفينا تفنيداً لقول صاحب النور نصوص علماء أهل السنّة في ذلك، ورواياتهم، كنصّ الحاكم والمحدِّث الدهلويّ بتواتر حديثه، وقول الآلوسيّ: «إنّه أمر مشهور في الدنيا».

ثمّ واصل شيخنا كلامه: وأيّ عالم يردّ المتواتر، أو يعدوه أمر مشهور ثبوته في الدنيا فيضعّفه حتّى يقول الرجل بمل ء فيه: «إنّه ضعيف عند العلماء»؟! وإن تعجب فعجب إثباته ولادة حكيم التي لم يستقم إسنادها، ولا اعترف بها مخالفوه وأُمم من موافقيه، وعلى فرض وقوعها فقد ذكرنا في غير مورد من هذه الرسالة وذكر الصفوريّ الشافعيّ: «أنّها من الصدف التي لا تُثبت فضيلة ولا تخرق عادة».

ثمّ تضعيفه ولادة أمير المؤمنين التي أخبت بها أئمّة الحديث، وأثبتها نَقَلَة التاريخ، وطفحت بها كتب الأنساب، ونظّمتها الشعراء، وقال بها العلماء، وفيهم من ينفي أن يكون لغيره- صلوات اللَّه عليه- مولد في البيت، وهو ما ورد عن الحاكم: «ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت اللَّه الحرام سواه». وما عن البدخشيّ


1- 1 إنسان العيون 1: 165.

ص: 196

قوله: «ولم يولد في البيت أحد سواه، قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصّه اللَّه بها».

وقد مرّ ما عن أبي داود البناكتي. وكلمة ابن الصبّاغ المالكيّ السابقة: «ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا له، وإعلاءً لمرتبته، وإظهاراً لتِكْرُمَتهِ». وقول الدهلوي في (سِيَرِ الخلفاء): أنّه «لم يتولّد أحد قبله في حصار البيت».

والآلوسيّ في أوليات هذه الرسالة: «ولم يشتهر وضع غيره كرّم اللَّه وجهه، كما اشتهر وضعه» يوعز إلى وهن حديث حكيم، وانحياز الشهرة عنه. وقول الدهلويّ في (ازالة الخفاء): «ولم يولد فيها أحد سواه قبله ولا بعده».

هذه كلمات بعض مهرة الفن وأئمّة النقل، وهنا يقول الشيخ: فلو كان يُقام لولادة حكيم في البيت وزن عند هؤلاء لما أطلقوا القول بمل ء الأفواه أنّ تلك خاصّة لأمير المؤمنين عليه السلام لا يشاركه فيها أحد، مع وقوفهم على أمر حكيم، وفيهم مَن أورد خبر ولادة حكيم في كتابه لكنّه غير آبه به.

وقفة مع الدياربكري:

ويقرب من هذه الهملجة ما جاء به الديار بكري في (تاريخ الخميس) قال:

«ولد بمكّة بعد عام الفيل بسبع سنين، ويقال: كانت ولادته في داخل الكعبة ولم يثبت» (1) ولم يترك الشيخ المؤلّف هذا الزعم دون جواب فيقول:

وليت شعري بماذا تثبت الحقائق التاريخية؟ أبالوحي، أم بأخبار الأنبياء، وهتاف الكتب السماوية، أم أنّ المرجع فيها الرجل والرجلان من النَقَلَة والرواة؟

وهل التزم الدياربكري في كتابه بأكثر مِن هذا؟ فما بال هذه الحقيقة التي هَتَفَتْ بها المئات والألوف، وأثبتتها طبقات الناس جيلًا بعد جيل لم تثبت عنده، وثبتت لديه هَفَوات التاريخ، التي لو أحصيتها لخرجت عن وضع الرسالة؟

ثمّ ما بال الدياربكري يعتمد على (شواهد النبوّة) كلّما نقل عنه، ولا يرتضيه في خصوص المقام؟


1- 1 تاريخ الخميس 2: 307.

ص: 197

ثمّ ما باله يغضّ الطرف عن غلطه الشائن من أنّ ولادته عليه السلام كانت بعد عام الفيل بسبع سنين، لكنّه يردّ حديث ولادة البيت بعدم الثبوت؟

أنا أدري لماذا، وأنت تدري، وقبلنا الدياربكري يدري.

حديث الولاة والشعراء

وللشعر والشعراء قصب السبق في إثبات هذه الفضيلة للإمام عليه السلام وقد بلغت من الشهرة حتى لم تدع مجالًا لإنكارها أو التشكيك فيها.. وهنا يبدأ المؤلّف هذا الفصل وقبل أن يذكر القصيدة وقائلها، بمقدّمة جميلة جدّاً لا يسعنا تجاوزها أو اختصارها فهو يقول:

عرفت أن الحديث بلغ من الشهرة والثبوت بحيث لا يسع أيّ مُعْنِت إنكاره؛ ولذلك احتجّ به فريق كبير من المحقّقين في كتب الإمامة، وأرسله إرسال المسلّمات جموع من نياقد فن الحديث في باب الفضائل، وتبجّح به زُرافات من حَملة العلم ونقّاده في مؤلّفاتهم، وهنالك لفيف لا يُستهان بعدّتهم، ولا يُغمز في شي ء من تثبّتهم وضبطهم من صيارفة القول، وصاغة القريض، وزبناء الشعر، بين عالم ضليع، وأديب بارع، وشاعر مبدع، تصدّوا لإثبات هذه الفضيلة فيما أفرغوه في بوتقة النظم، أو حاكوه على نول الحقيقة، فسار ذكرها مع الركبان وانتشر نشرها مع مهب الريح، كما مرّ عن الحميري والسرخسي والشفهيني والحرّ العاملي والأفتوني وغيرهم. ثمّ أخذ يذكر آخرين إتماماً لما ذكره سابقاً، أنظر الكتاب نفسه.

حديث الولادة مجمع عليه

بهذا العنوان صدّر الباحث الفصل الأخير من كتابه القيم هذا، بعد أن أثبت في فصوله السابقة حديث الولادة عند الفريقين وأنه حديث مشهور عندهم حيث أعاد قول الآلوسي «إنّه أمر مشهور في الدنيا»، وأنه «في المناقب المتسالم عليها التي لا يفتقر ناقلها إلى كتاب» كما ذكر ذلك السيّد حيدر الآملي، وأنّ روايته مسندة عند الفريقين مصفقين على نقله وهو ما عرفناه عن ابن اللوحيّ. وأنّ العلّامة النوري

ص: 198

ترقّى أكثر مصرّحاً بأنّ تلك الفضيلة لا يبعد كونها من ضروريات مذهب الإمامية، وأنها جاءت في أخبار غير محصورة وفي كلمات العلماء وفي ضمن الخطب والأشعار في جميع الأعصار، وهو إجماع الشيعة عليه كما نقل ذلك صاحب «مدينة المعاجز» عمّا ذكره ابن شهرآشوب في مناقبه، وفي مناقب المعصومين أنه إجماع أهل البيت عليهم السلام ثمّ ذكر أقوال بعض علماء الشيعة حيث أرسلوا ولادته عليه السلام في الكعبة إرسال المسلّمات نافين عنه أي شبهة وارتجاف، ومنهم العلّامة قطب الدين اللاهجي في كتابه (محبوب القلوب) فبعد أن نصّ على أنّ ولادته عليه السلام تمّت داخل الكعبة يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب قبل الهجرة بثلاثة وعشرين عاماً قال: «ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه» مبيّناً أنّها «فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لكرامته».

ويقرب من هذا أقوال كلّ من السيّد عباس الموسوي المكّي في رحلته (نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس) والسيّد نعمة اللَّه الموسوي الجزائري (ت 1112) في (الأنوار النعمانيّة)، ونظام الدين الساوجي في تكملة الجامع العباسي لبهاء الدين العاملي ناصّاً أنّ «ولادته في جوف الكعبة».

وفي مزار «أبواب الجنان وبشائر الرضوان» أرسله إرسال المسلم الشيخ خضر العفكاوي النجفي (ت 1255).

ومن ذلك ما ذهب إليه العلّامة الشريف الشيرواني في كتابه «الشهاب الثاقب» قائلًا: «إنّه ولد في مكّة ببيت اللَّه الحرام» معقباً ذلك بقوله: «ولم يولد فيه قطّ سواه لا قبله ولا بعده» مخالفاً بذلك غيره من أنّ ولادته يوم 13 رجب ناسباً ولادته يوم الجمعة إلى القيل.

وفي «تقويم المحسنين» أثبت الفيض الكاشاني (ت 1091) في حوادث رجب: ولد علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة قبل النبوّة باثنتي عشرة سنة وللنبي صلى الله عليه و آله يومئذ ثمان وعشرون سنة. وقد ماثله في ذلك الشيخ أبو محمد الديلمي

ص: 199

في (إرشاده) ذاكراً أنّها من فضائله عليه السلام الجمّة المخصوصة به.

وقد ماثلهم في ذلك أيضاً صاحب (منهاج البراعة) في شرح نهج البلاغة السيّد حبيب اللَّه الموسوي الخوئي بقوله «وقد خصّه اللَّه بهذه الفضيلة على سائر الأنام، ولم يولد في البيت أحد قبله ولا بعده...».

ونهج منهجهم أيضاً العلّامة السيد حيدر الكاظمي (ت 1265) في كتابه (عمدة الزائر).. ناقلًا رواية ذكرها الشيخ في الصحيح عن الإمام الصادق عليه السلام:

كانت ولادته يوم الأحد لسبع خلون من شعبان، وكان بين مولده ومولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ثلاثون سنة، ولم يولد قبله ولا بعده في بيت اللَّه الحرام سواه إكراماً له وتعظيماً له من اللَّه تعالى بذلك وإجلالًا لمحلّه».

ويقول السيد مهدي القزويني (ت 1300) في (فلك النجاة): ولد يوم الجمعة ثالث عشر رجب، وروي سابع شعبان، والأوّل أشهر بعد مولد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بثلاثين سنة، في الكعبة البيت الحرام،...».

وأمّا السيد محسن الأعرجي فقد نسب ولادته في شعبان إلى القيل ذاكراً حديث يزيد بن قَعنَب الذي ذكره الصدوق.

وهنا يقول شيخنا عن السيد الأعرجي: «وهذا العالم البحّاثة النيقد وجد خلافاً في شهر الولادة فأوعز إليه، لكنّه لم يجد في حديث البيت أي ترديد، فلم ينبس عنه ببنت شفّة، ولو كان مثله يجد شيئاً لما آثر تركه؛ وهو ذلك الصريح الشديد في البحث.

وهكذا كلّ من الشيخين عبد النبيّ الجزائري في (حاوي الأقوال) والشيخ أبو علي الرجالي في (منتهى المقال) وهما من أعلام الدين وقد أخبتا بها ولصحتها.

وفي الحدائق الندية في شرح الفوائد الصمدية للسيد علي خان المدني الشيرازي (ت 1210)، قد أذعن بحقيقة وحقيّة ما نقله عن (الفصول المهمّة) لنور الدين علي الصباغ المكي المالكي (ت 855) «ولد عليّ عليه السلام بمكة المشرّفة بداخل

ص: 200

البيت الحرام... ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه وهي فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا له وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته».

وفي عقائد الشيعة لعلي أصغر البروجردي الذي ذكر فيه بأنّ مولده عليه السلام في وسط البيت ضحى الجمعة بعد ثلاثين عاماً من ولادة النبي الأعظم.

بعد هذا كلّه يعلن المؤلف عن اكتفائه بهذه النماذج قائلًا: ولعلّها جمعاء كقطر من بحر بالنسبة إلى ما يجده السابر لكتب علمائنا.

علماء أهل السنّة:

ثمّ راح يعلن إصفاق علماء أهل السنّة ومحدّثيهم وعرفائهم معنا في إثبات هذه المأثرة الفاضلة، وعدّ هذا من أجلى الحقائق وأثبتها.

فكلام الحاكم في مستدركه وحكمه بتواتر النقل به، وما نقله الحافظ الكنجي الشافعي عنه ذلك وما حكم بتواتره المحدّث الدهلوي وقد وافقهم الآلوسي بما نصّه ب «أنّ ذلك مشهور في الدنيا» ومثله ما ورد عن الصفوري الشافعي وفي «تاريخ گُزيده» لحمد اللَّه المستوفي، و (مطالب السؤول) لابن طلحة الشافعي و (مرآة الكائنات) لنشانجي زاده و (سير الخلفاء) للدهلوي المعاصر وكتاب (الحسين) للسيد علي جلال الدين الحسيني، وعبد الباقي أفندي العمري والمولى الرومي، ومعين الدين الجشتي وعبد الرحمن الجامي في شعرهم والأمير محمد صالح الترمذي في مناقبه.

ثمّ بعد كلّ هذا أخذ شيخنا أيضاً ينقل بعض أسماء العامّة ممّن لم يمتاروا في صحّة خبر الولادة بل فسّروه خاضعين لأمره كما يصفهم بذلك شيخنا، فنور الدين الصبّاغ المكي المالكي (ت 855) في (الفصول المهمّة) قال صريحاً: ولد علي عليه السلام بمكّة المشرّفة بداخل البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من شهر اللَّه الأصمّ رجب الفرد، سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة،... ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا له

ص: 201

وإعلاءً لمرتبته وإظهاراً لتكرمته» (1)

وقد نقل هذه العبارة كلّ من الصفوري الشافعي في (نزهة الحلبي) (2) والسيد علي خان المدني في (الحدائق الندية) (3) والشبلنجي الشافعي في (نور الأبصار) والسمهودي في (جواهر العقدين) وبرهان الدين الحلبي في (انات العيون)، وما ذكره السبط ابن الجوزي في (تذكرة خواص الأمّة) هو: «روي أنّ فاطمة بنت أسد كانت تطوف بالبيت وهي حامل بعليّ عليه السلام فضربها الطلق، ففتح لها باب الكعبة، فدخلت فوضعته فيها، وكذا حكيم بن حزام ولدته أمّه فيها».

وهنا راح يفرّق بين الولادة المزعومة لحكيم بن حزام داخل الكعبة وبين ولادة عليّ عليه السلام داخل الكعبة فيقول:

إنّ ولادة حكيم فيها، على تقدير صحّتها- والكلام للمؤلّف- من جملة الصدف والاتفاقات غير القصدية، فليس فيها فضل ما غير تلويث البيت بالمخاض، ويجب تطهيره. وأين هذه من ولادة أمير المؤمنين عليه السلام الذي فُتح لأُمّه الباب، كما في عبارة السبط نفسه (ففتح لها باب الكعبة فدخلت فيها)، ولم يُفتح لغيرها بالرغم من جهدهم في ذلك كما سبق في أحاديث كثيرة، أو انشقّ لها جدار البيت فدخلته كما في أحاديث الشيعة، ولا يعدو ذلك أن يكون الأمر إلهياً قصد به التنويه بشريف المولود المبارك الذي تشرّف البيت بولادته فيه؟!

وهناك حديث طويل أخرجه أبو نعيم الحافظ يبدو أنّه في فضل فاطمة بنت أسد أو في فضل ولادة علي داخل الكعبة إلّاأنّهم قالوا: «في إسناده رَوح بن صلاح ضعّفه ابن عديّ فلذلك لم نذكره».

وروح هذا في الوقت الذي ضعّفه ابن عدي فإنّ ابن حبّان ذكره في الثقات كما أنّ الحاكم قال عنه: ثقة مأمون (4).

كما أن نقل ابن الجوزي حديث الولادة المباركة لعليّ عليه السلام داخل الكعبة بصيغة المجهول «روي» لم يكن فيه- والكلام للشيخ- أي إيعاز إلى الوهن فيه بعدما عرفنا


1- 1 انظر الفصول المهمّة: 30.
2- 2 نزهة الحلبي 2: 204.
3- 3 الحدائق الندية: 10.
4- 4 انظر العسقلاني في لسان الميزان 2: 465.

ص: 202

أنّ المعهود من ابن الجوزي في غير مورد من هذا الكتاب من إرداف الحديث بنقده أو تعميمه أو حذفه رأساً لضعفه، وإنّما جاء به كذلك لتكثر طرقه الموجب للإطناب إذا تصدّى لسردها، ولشهرته المغني عن ذكر الأسانيد، وإنّما الغرض الإشارة إلى إحدى المسلّمات بأوجز بيان.

ومثل السبط ابن الجوزي مثل السيد ابن طاووس (ت 664) في كتابه «الإقبال» حيث كان يذكر رواية ولادة الإمام عليه السلام في الكعبة بصيغة المبني للمجهول فكان يقول: روي أن يوم ثالث عشر رجب كان مولد مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام في الكعبة قبل النبوّة باثنتي عشرة سنة» (1).

والمتحصل من ذلك كلّه أنّ الولادة محل إجماعهم وتأريخها محل خلافهم.

وقفة المؤلف مع الكازروني

قال أحمد بن منصور الكازروني في (مفتاح الفتوح):

ولدت فاطمة عليّاً عليه السلام في الكعبة، ونقل عنها أنّها كانت إذا أرادت أن تسجد لصنم وعليّ في بطنها لم يمكِّنها؛ ولذا يقال عند ذكر اسمه: «كرّم اللَّه وجهه، أي كرّم اللَّه وجهه عن أن يسجد لصنم».

وهنا يقول الشيخ: أنا لا أحاول تصديق الرجل في كلّ ما يقول غير ما أتيت به من كلامه شاهداً لموضوع الرسالة، فإني لا أصافقه على أنّ فاطمة كانت تسجد للصنم، وإن كان ابنها أكبر وازع عن عبادة الأوثان، ولو كنت أجوّز لها تلكم الاسطورة، لما عداني اليقين بما ذكره من أمر جنينها. لكنّي أعتقد أنّ كون الإمام سلام اللَّه عليه في بطنها حملًا، وتقدير كونها حاملًا له عليه السلام من اللَّه سبحانه منذ الأزل، كان عاصماً لها عن عبادة الأصنام كبرهان الربّ (العصمة) المانع يوسف عن الزنا، وهذا هو الذي نعتقده في آباء النبيّ والأئمّة عليهم وعليه السلام وأُمّهاتهم، فهم مبرّؤون عمّا يصمهم في دين أو دنيا.


1- 1 الإقبال: 655.

ص: 203

... ثمّ قال: إنا لا نقيم لهاتيك الرواية الساقطة وزناً، وإن وافق راويها في إخراجها ابن حجر في (الصواعق) ولقد أُسرَّ ناقلها حَسواً في ارتغاء يزيد وقيعة في امّ الإمام كما تحامل على أبيه المقدّس فحكم بكفره لأمر دبّر بليل، فصبّها في قالب الفضيلة له وتلقّاها الغير في غير ما رويّة، انتهى.

أما عبد الرحمن الجامي في (شواهد النبوّة) (1) فقد أسند حديث ولادة الإمام علي عليه السلام إلى بعضهم. وإن خلط الحابل بالنابل- كما يقول عنه المؤلّف- وجاء بعثرات لا تقال حول تاريخ الولادة مخالفة للضرورة والإجماع، إلّاأنّ المهمّ في كلامه هو إسناد حديث الولادة.

وما قاله الشيخ عبد الحق بن سيف الدين المحدّث الدهلوي في (مدارج النبوّة)... وقالوا: إنّ ولادته كانت في جوف الكعبة» (2).

وأمّا حديث الولادة الذي رواه يزيد بن قعنب فقد ذكره الأمير محمد صالح الكشفي الترمذي الأكبر آبادي في كتابه (المناقب) بأسانيد متكرّرة، وقد أرسله إرسال المسلّم في كتابه المذكور، ونقل أيضاً في كتابه هذا قول أبي داود البناكتي: «لم يحظ أحد قبل الإمام عليه السلام ولا بعده بشرف الولادة في البيت» (3).

وصدر الدين أحمد البردواني وهو من متأخّري علماء السنّة في (روائح المصطفى) قال: كانت ولادته عليه السلام في جوف الكعبة...» (4).

وشاه محمد حسن الجشني في كتاب (آئينه تصوف) قال: إنّه عليه السلام ولد في الكعبة... وميرزا محمد بن رستم البدخشي قال في (مفتاح النجا في مناقب آل العبا):... ولم يولد في البيت الحرام أحد سواه، قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصّه اللَّه بها».

وأمّا العلّامة الشيخ الشنقيطي المدرس بالأزهر في (كفاية الطالب لمناقب علي ابن أبي طالب) وهو شديد التحرّز من أحاديث الروافض المكذوبة كما يزعم؛


1- 1 شواهد النبوّة: 198.
2- 2 مدارج النبوّة 2: 531 مترجماً من الفارسية.
3- 3 مناقب مرتضوي: 87 ط بومباي سنة 1321 ه. مترجماً من الفارسية.
4- 4 روائح المصطفى: 10 ط كابنور سنة 1302 مترجماً من الفارسية.

ص: 204

لأن الإمام عليه السلام في غنى عنها كما يرى الشنقيطي لكثرة ما ثبت في السنّة من أحاديث فضائله، أرسله إرسال المسلّم أن من مناقبه- كرّم اللَّه وجهه- أنّه ولد في داخل الكعبة، ولم يعرف ذلك لأحد غيره إلّاحكيم بن حزام رضي اللَّه عنه.

وقد أوضحنا القول في هذه الولادة الأخيرة المزعومة في المقدّمة وفي متون هذا الكتاب فلا نعيد.

وقفة أخيرة:

ويفرد المؤلف ختام فصله الأخير من كتابه القيم هذا بمناقشة مختصرة لما قاله الشيخ علي القاري في (شرح الشفا) بعد أن قال في حكيم بن حزام: «ولا يعرف أحد ولد في الكعبة غيره على الأشهر» ما نصّه: «وفي" مستدرك الحاكم" أن عليّ بن أبي طالب- كرّم اللَّه وجهه- أيضاً ولد في داخل الكعبة» (1).

فيقول الشيخ المؤلف بعد ذكره لما قاله القاري:

ليت القاري لم يسحب ذيل أمانته على كلمة الحاكم الموجودة في (المستدرك)... وليته ذكر قوله: تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين في جوف الكعبة. ثمّ واصل الشيخ ردّه بقوله: ليت! وهل ينفع شيئاً ليتُ؟

عذرته، فهو حين رمى القول على عواهنه في ولادة حكيم بن حزام بإسناده إلى الأشهر المستخرج من عُلبة مخيّلته لم يكن يسعه المصارحة بأنّ خلافه ممّا تواترت به الأخبار، فلا أقلّ من التكافؤ بأن يكون كلّ منهما مشهوراً. فكان الأحفظ لسمعته والأستر لَمينه، أي (لكذبه) أن يمسخ كلمة الإمام الحاكم إلى رأيت، وكان من المحتمل القريب أن لا يناقشه أحد الحساب، لكن الحقيقة لابدّ وأن تبرز نفسها.


1- 1 كفاية الطالب: 25 و 37، وشرح الشفا 1: 151، المستدرك 3: 483.

ص: 205

الهوامش:

الامام علي عليه السلام في مرآة الشعر

ص: 209

الإمام علي عليه السلام في مرآة الشعر

لم يكن لغيره من الصحابة على كثرتهم وعظيم فضائل بعضهم ما كان له عليه السلام في ديوان الشعر قديماً وحديثاً منذ صدر الإسلام وإلى عصرنا هذا... (1) فقد راح الشعراء المبدعون والأدباء البارعون من المسلمين وغيرهم يحلّون دواوينهم وقصائدهم بمناقب وفضائل عليٍّ حتّى سارت بها الركبان وانتشر عبيرها..، وقد تعرّض بعض الشعراء الكبار والمكثرين من الشعر إلى اللوم والعتب مرّةً وإلى التقريع أخرى إذا خلا ديوانهم من قصيدة تتضمّن فضيلة لعليّ أو شيئاً من صفاته وخصاله، وهذا الشاعر الكبير المتنبي عوتب مراراً على عدم ذكره لعلي عليه السلام، فسما جوابه وتألّق حيث قال:

وتركتُ مدحي للوصي تعمّداً إذ كان نوراً مستطيلًا شاملا

وإذا استطال الشي ء قام بنفسه وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا

وها نحن أمام لفيف منهم ومقتطفات من قصائدهم التي سجّلوا فيها مواقف عظيمة ومشاهد جليلة كانت من نصيبه، ومناقب وخصالًا فريدة تحلّى بها بفضلٍ


1- 1 أنظر كتاب الغدير للشيخ الأميني، ونهاية الجزء الأوّل من كتاب في رحاب أئمّة أهل البيت عليهم السلام وبداية المجلّدالتاسع من موسوعة الإمام علي عليه السلام وغيرها.

ص: 210

من اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله فزهت قصائدهم ولو بشي ء يسير من ذلك الطود الشامخ؛ من المناقب والصفات والمشاهد لسيّد المتّقين ومولى الموحدين كما خلدوا بها.

ومن هولاء:

الشيخ محمد بن عبد المطلب المصري (ت 1350) نقتبس شيئاً من قصيدته الطويلة جداً:

أبا السبطين كيف تفي المعاني نثاراً في مديحك أو نظاما

مقام دونه نُجب القوافي وإن كانت مسوّمة كراما

فحسبك يا أخا الشعراء عذراً رميت بها مكاناً لن يراما

وما أدراك ويحك ما عليّ فتكشف عن مناقبه اللثاما

تبصر هل ترى إلّاعليّاً إذا ذكر الهدى ذاك الغلاما

غلام يبتغي الإسلام ديناً ولما يعد أن بلغ الفطاما

وصلّى حيدر فشأى قريشا إلى الحسنى فسمّوه الإماما

كأنّي بالثلاثة في المصلّى جميعاً عند ربّهم قياما

تحييهم ملائكة كرام وتقرئهم عن اللَّه السلاما

يمد إلى النبي يد ابن عم بحبل اللَّه يعتصم اعتصاما

وإذ يدعو العشيرة يوم جمع لينذر في رسالته الأناما

فكهل في جهالته تولى وشيخ في ضلالته تعامى

وأيده على التقوى أخوه إذا ما خاف كل أخ وخاما

صغير السن يخطر في اباء فلا ضيماً يخاف ولا ملاما

وقد جمع الحجى والدين فيه خلائق تجمع الخير اقتساما

فما أوفى على العشرين حتى شهدنا من عظائمه عظاما

فلن ينسى النبيّ له صنيعاً عشية ودع البيت الحراما

فأرخصها فدًى لأخيه لما تسجى في حظيرته وناما

ص: 211

وأقبلت الصوارم والمنايا لحرب اللَّه تنتحم انتحاما

فلم يأبه لها أنفاً عليّ ولم تقلق بجفنيه مناما

وأغشى اللَّه أعينهم فراحت ولم ترَ ذلك البدر التماما

وفي أمّ القرى خلى أخاه على وجد به يشكو الأواما

أقام بها ليقضيها حقوقاً على الهادي بها كانت لزاما

كأني بابن عتبة يوم بدر يعاني تحت مجثمه جثاما

ولو علم الوليد بمن سيلقى لألقى قبل مصرعه السلاما

ومن غدت البتول إليه تهدى بنى في النجم بيتاً لا يسامى

بأمر اللَّه قد زفّت إليه عشية راح يخطبها وساما

كأنّي بالملائك إذ تدلت بذاك البيت تزدحم ازدحاما

فلو كشف الحجاب رأيت فيه جنود اللَّه تنتظم انتظاما

أطافوا بالحظيرة في جلال صفوفاً حول فاطمة قياما

تفيض على منصتها وقاراً وتكسو حسن طلعتها وساما

فلا يحزن خديجة أن تولّت ولم تبلغ بجلوتها مراما

تولاها الذي ولى أباها رسالته وزوّجها الإماما

قران زاده الإسلام يمناً وشملٌ زاده الحبّ التئاما

فإن تك خير من عقدت ازاراً وأكرم كلّ من ارخت لثاما

فإن تسأل فسائل عنه احداً غداة هناك طير الموت حاما

وحطم غمد صارمه عليّ وذبّ عن النبيّ بها وحامى

هنالك بادر الكرّار لمّا غدوا والرعب قد منع الكلاما

إذا ما همّ أقعده أخوه وزاد إلى اللقاء جوًى فقاما

مكانك يا علي فذاك عمرو له الأبطال يوم وغى تحامى

فقال وإن يكن عمراً فإنّي علي سوف ألجمه الحساما

ص: 212

فلم يك غير أن أودى ابن ودٍّ وخاض السيف في دمه وعاما

وسائل يوم خيبر عن علي تجدفيهامآثره جساما

ولم تغن الحصون ولا الصياصي وإن قام الحديد لها دعاما

وأقبل مرحب في البأس يحبو وكان البأس صاحبه لزاما

وما علم الفتى انّ المنايا خططن بذي الفقار له مناما

وان له من الكرّار يوماً عبوساً مدنياً منه الحماما

علاه بضربة لو انّ رضوى تلقاها لعاد بها هياما (1)

وسل اهل السلام تجد علياًإمام الناس يبتدر السلاما

حوى علم النبوّة في فؤادطما بالعلم زخاراً فطاما (2) ونفساً لم تذق طعم الدناياولا لذت من الدنيا طعاما

طوى عنها على الضراء كشحاوعن فاني زخارفها تسامى

غذاها الدين مذ كانت فشبّت على التقوى رضاعاً وانقطاما

الشيخ عبد المهدي مطر:

ارصف بباب علي أيّها الذهب واخطف بأبصار من سروا ومن غضبوا

وقل لمن كان قد أقصاك عن يده عفواً إذا جئت منك اليوم اقترب

لعلّ بادرة تبدو لحيدرة أن ترتضيك لها الأبواب والعتب

فقد عهدناه والصفراء منكرة لعينه وسناها عنده لهب

ما قيمة الذهب الوهّاج عند يدٍ على السواء لديها التبر والترب

ما سره أن يرى الدنيا له ذهباً وفي البلاد قلوب شفها السغب

ولا تضجر أكباد مفتتة حتى يذوب عليها قلبه الحدب

أو يسقط الدمع من عيني مولهة أجابها الدمع من عينيه ينسكب

تهفو حشاه لأنات اليتيم بلا أمّ تناغي ولا يحنو عليه أب


1- 1 الهيام: الرمل المهيل.
2- 2 طام: حسن عمله.

ص: 213

هذي هي السيرة المثلى تموج بها روح الوصي وهذا نهجه اللحب

فاحذر دخول ضريح أن تطوف به إلا بإذن عليّ أيّها الذهب

باب به ريشة الفنّان قد لعبت فأودعته جمالًا كلّه عجب

تكاد لا تدرك الأبصار دقّته ممّا تماوج في شرطانه اللهب

كأن لجّة أنواع تموج به خلالها صور الرائين تضطرب

سبائك صبها الإبداع فارتسمت روائع الفن فيها الحسن منسكب

يدنو الخيال لها يوماً لينعتها وصفاً فيرع منكوساً وينقلب

أدلت بها يد فنان منقمة تعنو لروعتها الأجيال والحقب

مل ء الجوانح مل ء العين رهبتها ومربض الليث غاب ملؤه رهب

العالم الجليل السيّد محمّد جمال الهاشمي:

أأبا الحسين

خشعتْ يُهلِّلُ حبّها ويكبّرُ روحٌ تموتُ على وِلاكَ وتحشرُ

أنّى نظرتُ أراكَ ترقب نظرتي فكأنَّ عيني في وجودك تنظر

هذا جمالُكَ وهو يغمر عالمي حبّاً تذوب به الحياةُ وتصهر

في كلِّ آونةٍ أراك بصورة تخفى ملامحها عَليَّ وتظهر

كالروح تظهرها الحياة وإنّما ناموسها بظهورها يتستَّر

قسماً بحبّكَ وهو أقدس ما به أزهو على كلِّ الوجود وأفخر

ما حاولتْ نجوى ولاك قريحتي إلّا وغَصَّ شعوري المتفجِّر

فإذا نطقتُ فإن وحيك ناطقٌ بفمي، وإن أمسكتُ فيكَ أفكر

روحي فداكَ، وسر روحي كامنٌ بكَ، فالفدا لكَ منكَ فضل يؤثر

زدني هوًى تزدد بذاك ذخيرتي في النشأتين، ومثل حبّكَ يذخر

***

ص: 214

أ أبا الحسين، وفي حسينكَ صورة فيها ملامحك الكريمة تسفر

عفواً إذا زلَّ الشعور، فموقفي يعفى به زلل الشعور ويغفر

ناجيتُ حقَّك وهو نهبُ مطامع محمومةٍ فيها الكرامة تهدر

ونظرتُ روحك وهي من لاهوتها تستعرض المتكالبين فتسخر

وقفوا وسرتَ مع الخلود، وهكذا تبقى الحقيقة، والسفاسف تقبر

ولأنتَ أقدرُ لو أردت إمارةً منهم، وأثبتُ في الجهاد وأخبر

ولكَ المواقف لا يغيب شعاعها أبداً، ولا أطيابها تتغور

يزهو بها بدرٌ، ويفخر خندق ويشيعها أحدٌ، ويهتف خيبر

وشواهد نبويّة ما كررّتْ في محضرٍ، إلّا وفاح المحضر

ولتلكَ أوسمةٌ إذا ما قوبلت بالشمس راح جلاها يتكور

السيّد مصطفى جمال الدين:

سيّدي أيّها الضمير المصفى والصراط الذي عليه نسيرُ

لكَ مهوى قلوبنا وعلى زا دِك نُربي عقولنا ونمير

نحن عشّاقك الملحون في العش - ق وإن هام في هواك الكثيرُ

نحن نهواك لا لشي ء سوى أنّك من أحمد أخٌ ووزيرُ

ومفاتيح من علوم حباها لك إذ أنت كنزها المذخورُ

ضرب اللَّه بين وهجيكما حدّاً فأنت المنار وهو المنيرُ

وإذا الشمس آذنت بمغيب غطّت الكون من سناها البدورُ

بولس سلامة، من ملحمته التأريخيّة الكبرى (عيد الغدير):

سمع الليل في الظلام المديد همسة مثل أنّةِ المفؤودِ (1)

من خفيّ الآلام والكبت فيها ومن البشر والرجاء السعيدِ

حرّة لزّها المخاض فلاذت بستار البيت العتيق الوطيدِ


1- 1 في الغدير: المفقود.

ص: 215

كعبة اللَّه في الشدائد تُرجى فهي جسر العبيد للمعبودِ

لا نساء ولا قوابل حفَّت بابنة المجد والعُلا والجودِ

يذر الفقر أشرف الناس فرداًوالغنيّ الخليع غير فريدِ

أينما سار واكَبَتْهُ جباهٌ وظهورٌ مخلوقةٌ للسجودِ

صبرت فاطم على الضيم حتّى لهث الليل لهثة المكدودِ

وإذا نجمةٌ من الافق خفّت تطعن الليل بالشعاع الحديدِ

وتدانت من الحطيم وقرّت وتدلّت تدلّي العُنقُودِ

تسكب الضوء في الأثير دفيقاًفعلى الأرض وابلٌ من سعود

واستفاق الحمام يسجع سجعاًفتهشُّ الأركان للتغريدِ

بَسَمَ المسجد الحرام حبوراًوتنادت حجاره للنشيدِ

كان فجران ذلك اليوم فجرٌلنهار وآخرٌ للوليدِ

هالت الامّ صرخةٌ جال فيهابعض شي ء من همهمات الأُسودِ

دعت الشبل حيدراً وتمنَّت وأكبَّت على الرجاء المديدِ

أسداً سمّت ابنها كأبيهالِبْدَة الجَدّ أُهديت للحفيدِ

بل علياً ندعوه قال أبوه فاستفزَّ السماء للتأكيدِ

ذلك اسم تناقلته الفيافي ورواه الجُلمود للجُلمودِ

يهرم الدهر وهو كالصبح باقٍ كلّ يوم يأتي بفجرٍ جديد (1) لبيب بيضون، وقصيدته في فضائل الإمام عليه السلام نذكر بعضاً منها:

هو الأمير وساقي الحوض منفرداً هو الإمام بلا شك ولا ريب

أعداؤه شهدوا بالحقّ إذ عجزوا أن ينكروا فضله في كلّ منقلب


1- 1 وردت هذه الأبيات في الغدير 6: 37 و 38.

ص: 216

قد حاولوا كتمها دوماً وما علموا أنّ الروائح ما إن تخفها تطب

وكيف يمكنهم طمساً لشمس ضحى تختال مشرقةً مشبوبة اللهب

نارٌ على علمٍ في كلّ موقعة حسامه مشرق الحدَّين لم يغب

ويوم موقعة الأحزاب ضربته دكت صروح العدا رأساً على عقب

وفي العبادة ما أحلى تعبده على الجبين ترى سيماه والركب

إن شئته بطلًا في الحرب منتصباً أو ساجداً تلقه والدمع في سلب

وفي السياسة حكم اللَّه ديدنه دون الدهاء قرين الكفر والكذب

الهوامش:

حديث الغدير في ضوء الكتاب واللغة

ص: 217

حديث الغدير في ضوء الكتاب واللغة

نوري حاتم

مصادر حديث الغدير:

قبل البحث في دلالات حديث الغدير أجد من الضروري إلقاء نظرة على صيغة الحديث في مصادره عند الشيعة والسنّة، ليحصل الاطمئنان بأنه من الأحاديث المتواترة الثابتة في كتب الفريقين، وللتأكيد بأنّ اللفظ وهو (المولى) الذي نستدل به على جعل الإمامة لعليّ عليه السلام من قبل النبي صلى الله عليه و آله، موجود في جميع الصيغ الواردة في كتب علماء الفريقين.

حديث الغدير في مصادر أهل السنة:

1- قال النبي صلى الله عليه و آله يوم غدير خم:

«ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي أمهاتهم؟ فقلنا بلى يارسول اللَّه. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (1).

2- وعن زاذان أبي عمر قال:

سمعت عليّاً في الرحبة، وهو ينشد الناس: من شهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم غدير خم وهو يقول ما قال.

فقام ثلاثة عشر رجلًا فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه» (2).

3- «إنّ النبي صلى الله عليه و آله قال يوم غدير خم: «من كنتُ مولاه» فعلي مولاه قال


1- 1 مسند أحمد، رقم الحديث 915.
2- 2 مسند أحمد، رقم الحديث 906.

ص: 218

(ربما الراوي وهو أبو مريم أو غيره) فزاد الناس بعد: والِ من والاه وعادِ من عاداه» (1).

وفيه: أنّ هذه الزيادة ليست من الناس، بل هي رواية عن النبي صلى الله عليه و آله عن زيد عن رسول اللَّه في حديث رقم 18522 في مسند أحمد.

ثم إن هذه الإضافة موجودة في مصادر الحديث الأخرى عند الطائفتين، فلا إشكال في ثبوت صدورها عن النبي صلى الله عليه و آله، ثم إن مورد الاستشهاد إنما بصدر الحديث أي قوله صلى الله عليه و آله: «من كنتُ مولاه فعلي مولاه». وليس بذيله، أي: (اللهم والِ من والاه...).

4- وعن أبي سرحة أو زيد بن علي عن النبي صلى الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (2).

5- وقال سعد بن أبي وقاص لمعاوية بن أبي سفيان بعد أن نال الأخير من عليّ عليه السلام: «تقول هذا لرجل سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه» (3).

6- «وعن عامر بن سعد عن سعد، أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطب فقال: أما بعد، أيّها الناس فإني وليكم قالوا: صدقت، ثم أخذ بيد عليّ فرفعها ثم قال: هذا ولييّ والمؤدي عني، والِ اللهم من والاه، وعادِ اللهم من عاداه.

7- وعن عائشة بنت سعد عن سعد قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيد علي فخطب فحمد اللَّه وأثنى عليه ثم قال:

ألم تعلموا أني أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: نعم، صدقت يارسول اللَّه. ثم أخذ بيد علي فرفعها: فقال: من كنت وليه فهذا وليه، وإن اللَّه ليوال من والاه ويعادي من عاداه» (4).

8- «وعن عائشة بنت سعد عن سعد أنه قال: كنا مع رسول اللَّه بطريق مكّة، وهو متوجه إليها، فلما بلغ غدير خم الذي بخم وقف الناس ثم ردّ من مضى ولحقه من تخلف فلما اجتمع الناس قال: أيّها الناس هل بلغت؟

قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد. ثم قال:

أيها الناس هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال:

اللهم اشهد ثلاثاً (ثم قال) أيها الناس من وليكم؟

قالوا: اللَّه ورسوله- ثلاثاً- ثم أخذ


1- 3 مسند أحمد، رقم الحديث 1242.
2- 4 مسند الترمذي، كتاب المناقب- رقم الحديث 3646.
3- 5 سنن بن ماجة، رقم الحديث 118.
4- 6 خصائص الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: 176 حديث رقم 94 و 95.

ص: 219

بيد علي بن أبي طالب فأقامه فقال: من كان اللَّه ورسوله وليه فإن هذا وليه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (1).

9- «روى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد اللَّه، قال: لما بلغ عليّاً عليه السلام أنّ الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي صلى الله عليه و آله وتفضيله إياه على الناس، قال عليه السلام: أنشد اللَّه من بقي ممّن لقى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسمع مقاله في يوم غدير خم إلّا قام فشهد بما سمع؟

فقام ستة ممن عن يمينه من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وستة ممن على شماله من الصحابة أيضاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول ذلك اليوم وهو رافع بيدي علي: من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله، وأحبَّ من أحبَّه وأبغض من أبغضه» (2).

«وفي مكان آخر من كتاب النهج ينقل ابن أبي الحديد هذه القطعة الإضافية «وأنس بن مالك في القوم لم يقم: فقال له يا أنس! ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها؟

فقال: ياأمير المؤمنين كبرت ونسيت. فقال: اللهم إن كان كاذباً فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة.

قال طلحة بن عمير: فواللَّه لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض من عينيه» (3).

10- «قال صلى الله عليه و آله يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (4).

11- «وقام النبيّ صلى الله عليه و آله خطيباً وأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

قالوا: بلى يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (5).

12- وقال النبي صلى الله عليه و آله للمسلمين في عودته من حجّة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (6).

حديث الغدير في كتب الشيعة:

ومن الواضح أن جميع كتب الشيعة التي تعرضت لسيرة النبي صلى الله عليه و آله، أو


1- 7 ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 2: 53.
2- 8 شرح ابن أبي الحديد 2: 287.
3- 9 شرح نهج البلاغة 4: 4.
4- 10 الصواعق المحرقة: 122.
5- 11 تاريخ اليعقوبي 2: 112.
6- 12 المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين، المجلد الرابع: الخلفاء الراشدون: 443.

ص: 220

لفضائل علي عليه السلام ومناقبه، أو التي تعرضت لمسائل الإمامة ذكرت حديث الغدير، ونحن هنا نشير إلى بعض ماسجله علماء الشيعة في نقل حديث الغدير كنموذج لذلك:

1- فلما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من حجة الوداع نزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (1).

فنادى الناس فاجتمعوا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ياأيها الناس مَن وليكم وأولى بكم من أنفسكم؟

فقالوا: اللَّه ورسوله.

فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه- ثلاث مرات-» (2).

2- قال النبي صلى الله عليه و آله: «إني قد دعيت ويوشك أن أجيب، وقد حان مني خفوق من بين أظهركم وإني مخلف فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا:

كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض.

ثم نادى بأعلى صوته: ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟

قالوا: اللهم بلى.

فقال: فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» (3).

3- وقال النبي (صلى اللَّه عليه وآله وسلم): ألا وإني أشهدكم أني أشهد أنّ اللَّه مولاي وأنا مولى كلّ مسلم وأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فهل تقرّون لي بذلك وتشهدون لي به؟

فقالوا: نعم، نشهد لك بذلك.

فقال: ألا من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله» (4).

4- قال النبي صلى الله عليه و آله: من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه» (5).

5- قال النبي صلى الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (6).

6- قال النبي صلى الله عليه و آله: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره


1- 13 سورة المائدة: 67.
2- 14 الأصول من الكافي 1: 295.
3- 15 الارشاد، للمفيد: 94.
4- 16 الخصال: 166 حديث رقم 98.
5- 17 كمال الدين وتمام النعمة: 103.
6- 18 التوحيد: 212- باب أسماء اللَّه تعالى.

ص: 221

واخذل من خذله» (1).

وأثبت المحدث هاشم البحراني 88 حديثاً في الغدير من طرق العامة و 36 رواية من طرق الشيعة (2).

ولقد أحصى السيّد المحقّق الطباطبائي في كتابه (الغدير في التراث الإسلامي) 164 كتاباً صنف حول واقعة الغدير.

معاني حديث الغدير:

وبعد أن ألقينا ضوءاً كافياً على أصل الحديث، واهتمام رواة الحديث وأرباب السنن بنقله، نتناول دلالة حديث الغدير على ثبوت امامة علي بن أبي طالب عليه السلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله، ونستعرض أهم الشبهات التي اثيرت على ذلك، وحاولت- بعد التسليم بصدور الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله- تفسيره بمعانٍ لا تساعد عليها اللغة والاستعمال والقرائن العامة التي حفّت بالحديث.

استعمال لفظ المولى:

استعملت لفظة المولى في القرآن الكريم في اللغة في معانٍ عديدة:

1- فقد وردت بمعنى (الأولى) في تفسير قوله تعالى: فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (3).

واختاره أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه في القرآن (المجاز)، في تفسيره الآية المتقدمة، واستشهد ببيت لبيد:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها (4)

وقال به الزجاج والفراء أيضاً.

2- ووردت بمعنى المتصرف بالأمر في تفسير قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ (5).

قال الفخر الرازي في تفسيره ناقلًا عن القفال:

هو مولاكم: سيدكم والمتصرف فيكم (6).

3- وردت بمعنى المتولي في الأمر في تفسير قوله تعالى:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا (7) كما اختاره أبو العباس (8).

4- وردت بمعنى الناصر في تفسير قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَى لَهُمْ


1- 19 معاني الاخبار: 63 حديث رقم 1.
2- 20 راجع كتاب كشف المهم في طريق خبر غدير خم.
3- 21 سورة الحديد: 16.
4- 22 الشافي 2: 177.
5- 23 سورة الحج: 78.
6- 24 تفسير الرازي 6: 210.
7- 25 سورة محمد: 11.
8- 26 الغدير 1: 367.

ص: 222

(1) كما ذكر ذلك الشيخ المفيد قدس سره (2) وفسر لفظ المولى بمعنى الولي أيضاً كما عن الحاكم الحسكاني (3).

5- ووردت بمعنى الوارث كما في تفسير قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ... (4) «وقال السدي: إنّ الموالي بمعنى الورثة وهو أقواها» (5).

6- ووردت بمعنى الصاحب في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ لَايُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (6) كما اختاره الطبرسي في تفسيره (7).

7- ووردت بمعنى المالك كما في تفسير قوله تعالى:

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَايَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ (8).

كما أشار إليه ابن الجوزي في تذكرته (9).

8- وجاءت بمعنى العبد، وقيل: ابن العم (10) في تفسير قوله تعالى:

ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ (11).

9- ووردت بمعنى ابن العم، قال الفضل بن العباس في ذلك:

مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا لا تظهرون لنا ماكان مدفونا (12)

10- ووردت بمعنى الحليف، حيث قال الشاعر:

موالي حلف لاموالي قرابة ولكن قطينا يسألون الاتاويا (13)

11- ووردت بمعنى الربّ ومنه قول القائل:

«وقد وكلكم إلى المولى الكافي» أي الرب (14).

12- ووردت بمعنى السيد، فقد ورد في مجمع البحرين: «وتنكيل المولى بعبده بأن يجذع أنفه» (15).

وقال الخليل الفراهيدي:

والموالي بنو العم، والموالي من أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله من يحرم عليه الصدقة.

والمولى: المعتق والحليف والولي (16).

والولي والمولى يستعملان في ذلك كل واحد منهما، يُقال في معنى الفاعل أي الموالي وفي معنى المفعول أي الموالي


1- 27 سورة محمد: 11.
2- 28 عدة رسائل: 186 للشيخ المفيد.
3- 29 شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 2: 174.
4- 30 النساء: 33؛ راجع تفسير الميزان 4: 363.
5- 31 التبيان في تفسير القرآن 3: 186.
6- 32 سورة الدخان: 42.
7- 33 مجمع البيان 9: 101.
8- 34 سورة النحل: 76.
9- 35 تذكرة الخواص: 37.
10- 36 مجمع البيان 7: 528.
11- 37 سورة الاحزاب: 5.
12- 38 التبيان في تفسير القرآن 3: 187.
13- 39 تذكرة الخواص: 38.
14- 40 البداية والنهاية 6: 334.
15- 41 مجمع البحرين 4: 373.
16- 42 كتاب العين 8: 365، للخليل الفراهيدي.

ص: 223

يُقال للمؤمن هو ولي اللَّه ولم يرد مولاه (1).

وقد يُقال: بأنه إذا كان النبي صلى الله عليه و آله أراد أن ينصب علياً إماماً للمسلمين من بعده، فلماذا لم يذكر ذلك بلفظ يكون نصّاً في المعنى، فلا يقع النزاع بعد ذلك؟

والجواب:

إنّ حديث الغدير وماتقدمه من كلام وما تأخر عنه يدل دلالة واضحة على مراد النبي صلى الله عليه و آله في تعيين علياً إماماً بعده، فإذا أمكن النقاش في دلالة حديث الغدير؛ ودعوى عدم وضوحه في إفادة المعنى، فإنه يمكن النقاش في كل نص يرد لا يحتمل معنى آخر غير معنى الإمامة على تقدير صدوره من النبي صلى الله عليه و آله كما ردّ طلب النبي- وهو على فراش الموت- في أن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا من بعده أبداً، حيث رفض عمر بن الخطاب ذلك الطلب وقال: إنّ الرجل ليهجر (2) أو غلب عليه الوجع كما روى ذلك البخاري بسنده عن عبيداللَّه بن عبد اللَّه عن ابن عباس قال:

لما اشتد بالنبي صلى الله عليه و آله وجعه قال: أئتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده قال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه و آله غلب عليه الوجع وعندنا كتاب اللَّه حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط قال صلى الله عليه و آله: قوموا عني ولا ينبغي عندنا النزاع، فخرج ابن عباس يقول: الرزيئة كل الرزيئة ماحال بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبين كتابه (3).

وفي رواية أخرى روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: لما حضر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وفي البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه و آله: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللَّه (4).

هذه أهم موارد استعمال لفظة (المولى) التي جاءت في القرآن الكريم وفي كلمات العرب وشعرهم، ولكن علماء الحديث والعقائد ذكروا للفظ المولى معانٍ أُخر غير التي ذكرناها، فقد ذكر ابن الجوزي: أن علماء العربية قالوا: إن لفظة المولى ترد على عشرة وجوه وهي:

الأول: المالك، ومنه قوله تعالى:


1- 43 مفردات غريب القرآن: 523.
2- 44 على ماأخرجه أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة كما روى ذلك ابن أبي الحديد 2: 20، طبعة مصر راجع كتاب الفصول المهمة في تأليف الأمة، للسيد شرف الدين: 105.
3- 45 صحيح البخاري 1: 37.
4- 46 صحيح البخاري 5: 137.

ص: 224

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَايَقْدِرُ عَلَى شَيْ ءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ.

أي على مالك رقه.

والثاني: بمعنى المولى المعتق بكسر التاء.

والثالث: بمعنى المعتق بفتح التاء.

والرابع: بمعنى الناصر ومنه قوله تعالى:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَامَوْلَى لَهُمْ.

أي لا ناصر لهم.

والخامس: بمعنى ابن العم قال الشاعر:

مهلًا بني عمنا مهلًا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقال آخر:

هم الموالي حتفوا علينا وإنا من لقائهم لزور

وحكى صاحب الصحاح عن أبي عبيدة أن قائل هذا البيت عني بالموالي بني العم، قال: وهو كقوله تعالى:

ثم يخرجكم طفلًا.

والسادس: الحليف قال الشاعر:

موالي حلف لا موالي قرابة ولكن قطينا يسألون الاتاويا

يقول هم حلفاء لا أبناء عم قال في الصحاح وأما قول الفرزدق:

ولو كان عبد اللَّه مولى هجوته ولكن عبد اللَّه مولى موالينا

فلأنّ عبد اللَّه بن أبي إسحاق مولى الحضرميين، وهم حلفاء بني عبدشمس ابن عبدمناف، والحليف عند العرب مولى، وإنما نصب المواليا لأنه رده إلى أصله للضرورة، وإنما لم ينون مولى لأنه جعله بمنزلة غير المعتل الذي لا ينصرف.

والسابع: المتولي لضمان الجريرة وحيازة الميراث، وكان ذلك في الجاهلية ثم نسخ بآية المواريث.

والثامن: الجار وإنما سمي به لماله من الحقوق بالمجاورة.

والتاسع: السيد المطاع وهو المولى المطلق قال في الصحاح: كل من ولي

ص: 225

أمر أحد فهو وليه.

والعاشر: بمعنى الأولى، قال اللَّه تعالى: فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمْ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ أي أولى بكم (1).

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري في كتابه في القرآن المعروف ب (المشكل):

«والمولى في اللغة ينقسم إلى ثمانية أقسام:

المنعم، المعتق، والمعتق بالفتح-، والاولى بالشي ء والجار، وابن العم، والصهر والحليف، وقد استشهد على كل قسم من أقسام المولى بشي ء من الشعر» (2) وجعلها شيخنا الامين قدس سره في غديره سبعة وعشرين معنى (3).

معنى لفظ المولى في لغة العرب:

وهكذا يتضح أنّ لفظ المولى في اللغة استعمل في عدة معانٍ، ولكن نسأل هل اللفظ موضوع- لغةً- لمعنى الأولى، واستعمل في سائر المعاني على نحو المجاز كما في استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع بمناسبة شجاعته، فيكون الاستعمال فيها مجازاً وفي الأولى على نحو الحقيقة، أو أن تلك المعاني أيضاً معانٍ حقيقية للفظ المولى، فالاشتراك معنوي، أو أن الاشتراك في اللفظ بنحو الاشتراك اللفظي؟

هل لفظ المولى مشترك لفظي؟

عُرف المشترك اللفظي ب:

«أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنيين، أو لمعانٍ بأوضاع متعددة كلفظ العين للباصرة والجارية والذهب» (4).

وقد عرفه أهل الاصول بعبارة أوضح: «اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل اللغة» (5).

ومن الواضح أنّ لفظ المولى ليس كذلك، إذ معانيه ليست متباينة، إنما فيها معنى مشترك، وإن كان يوجد تفاوت في نسبة صدق المعنى الواحد عليها بنحو سواء، كما أنه من تتبع معاني لفظ المولى يستشعر أنّ اللفظ لم يوضع لتلك المعاني بنحو الوضع المستقل لكل معنى عن وضعه للآخر.

هل لفظ المولى حقيقة في الأولى مجاز في غيره؟

عرف المعنى الحقيقي بأنه: «استعمال


1- 47 تذكرة الخواص: 37- 38.
2- 48 الشافي 2: 181.
3- 49 راجع الغدير 1: 362.
4- 50 جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 1: 118.
5- 51 هامش كتاب مبادئ الوصول إلى علم الأصول عن كتاب المزهر 1: 369.

ص: 226

اللفظ فيما وضع له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب».

وعرف المعنى المجازي بأنه: استعمال اللفظ في غير ماوضع له في أصل تلك المواضعة للعلاقة (1).

وعرف أيضاً بأنّ المعنى الحقيقي هو:

«استعمال الكلمة فيما وضعت له في اصطلاح التخاطب».

أما المجاز فهو: «استعمال الكلمة في غيرما وضعت له في اصطلاح التخاطب» (2)والتعريفان متطابقان في المضمون.

و هذا التعريف لا ينطبق على لفظ المولى في معانيه المتعددة، و ذلك لأنه كما استعمل في معنى (الاولى) بلاقرينة، كذلك أستعمل في سائر المعاني بلا قرينة أيضاً، مع أن الاستعمال المجازي للفظ لا يصح بلا قرينة، وهذا يدل على أن بقية المعاني هي أيضاً معاني حقيقة للفظ المولى.

هل لفظ المولى مشترك معنوي؟

المشترك المعنوي:

«هو أن يكون اللفظ موضوعاً لمعنى كلي كالانسان للحيوان الناطق» (3).

وحيث إنّ هذا التعريف ينطبق على لفظ المولى للأدلة التي سنذكرها لاحقاً، يكون لفظ المولى موضوعاً- في اللغة- لمعنى الأولى، غاية الأمر أن الأولوية تختلف في كل مورد عن المورد الآخر فمثلًا النبي صلى الله عليه و آله مولى المؤمنين يعني: هو أولى بهم من أنفسهم في أمورهم، وله الأمر والنهي، وله عليهم حقّ الطاعة، والمولى بمعنى الوارث، يعني أن الابن أو غيره من الورثة أولى من أي شخص آخر بمال مورثه المتوفى، والمولى بمعنى الناصر، كأن يُقال العباس بن علي مولى الحسين عليه السلام يعني: أن العباس عليه السلام أولى الناس بنصرة الحسين عليه السلام من غيره لمعرفته به، وهكذا يكون معنى الأولوية موجوداً في جميع معاني لفظ المولى مع اختلاف في مصداق الأولوية كما يطلق لفظ إنسان على زيد وعمرو وبكر فإنهم جميعاً يصدق عليهم لفظ إنسان مع اختلاف كل مصداق عن المصداق الآخر ببعض الأمور.

والصحيح هو: أنّ لفظ المولى مشترك معنوي بدلالة تبادر معنى الأولوية منه رغم تعدد كيفيات الأولوية، وبدليل صحة استعمال لفظ


1- 52 مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 76.
2- 53 تلخيص المفتاح في المعاني والبيان والبديع: 262.
3- 54 جامع العلوم في اصطلاحات الفنون 1: 118.

ص: 227

الأولى مكان المولى، فيصح القول:

«النبي صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين» بدل قولنا «النبي صلى الله عليه و آله مولى المؤمنين» ويصح القول: (الاب أولى بالولد) بدل قولنا:

(الاب مولى ولده) وهكذا، وهذا يدل على أن لفظ المولى يعني الأولى.

برهان المعاني الباقية:

ويمكن الاستدلال على أن النبي صلى الله عليه و آله أراد معنى الأولى من لفظ المولى بالقول:

إن النبي صلى الله عليه و آله لا يريد بالمولى المعتق أي مالك الرق الذي يملك المولى عبده وله أن يبيعه ويهبه، إذ ليس كل من ملكه النبي صلى الله عليه و آله ملكه علي. ولا يريد به العبد.

ولا يقصد النبي صلى الله عليه و آله من لفظ المولى (ابن العم)، لأن من كان ابن عم النبي صلى الله عليه و آله فهو ابن عم علي عليه السلام بلا حاجة إلى تجشم عناء بيان ذلك تحت أشعة الشمس الحارقة وإبلاغ المسلمين بذلك.

وكذلك لا يقصد النبي صلى الله عليه و آله بلفظ المولى (العاقبة) إذ لا معنى له في جملة (فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه).

ولا يمكن أن يريد به معنى الناصر؛ لأن المسلمين كلهم أنصار لمن نصره النبي صلى الله عليه و آله فلا معنى لتخصيص علي عليه السلام بالنصرة عن جماعة المسلمين.

ولا يقصد به صلى الله عليه و آله معنى الحليف، لأن علياً حليف لجميع حلفاء النبي صلى الله عليه و آله.

وكذلك لا يريد النبي صلى الله عليه و آله من لفظ المولى أن علياً وارث لكل من يرثه النبي صلى الله عليه و آله.

أما معنى المتولي بالأمر والمتصرف فيه، فإنه لو قصد هذا المعنى فإنه يقصد الأولى؛ لأن المتولي للأمور والمتصرف فيه إنما يكون للأولى بالتصرف في الأمور، أي من له حق الأمر والنهي والطاعة... وكذلك لا يريد النبي صلى الله عليه و آله سائر معاني المولى نظير الصاحب والشريك والرب والجار ويظهر ذلك بأدنى تأمل في سياق الرواية، وفي القرائن العامة، فيبقى المعنى الوحيد المحتمل وهو الأولى بالمسلمين من أنفسهم فيجب حمله عليه.

ويدل على أولويّة علي عليه السلام بالخلافة من جميع الأنصار والمهاجرين اعتراف هؤلاء بأولوية علي عليه السلام منهم في ذلك، إلّا أنهم طعنوا ذلك ببعض الأمور.

ففي شرح النهج لابن الحديد

ص: 228

المعتزلي ورد:

«أن عمر قال: يا ابن عباس أما واللَّه إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إلّاأنّا خفناه على اثنين... فقلت:- أي ابن عباس- قال: وماهما يا أمير المؤمنين؟

قال: خفناه على حداثة سنّه، وحبّه بني عبد المطلب» (1).

وفيما يلي بعض الشواهد على أن المراد بلفظ المولى في حديث الغدير معنى الأولوية دون غيرها من المعاني:

الشاهد الأول: شعر حسان بن ثابت:

مانظمه حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه و آله بعد فراغ النبي صلى الله عليه و آله من واقعة الغدير، حيث فهم منه حسان أن النبي صلى الله عليه و آله قد نصب علياً عليه السلام ولياً للمؤمنين، وأولى بهم من أنفسهم كما أن النبي صلى الله عليه و آله كذلك- أي ولى بالمسلمين من انفسهم- حيث إنّ حسان بن ثابت استأذن النبي صلى الله عليه و آله أن يقول شعراً في الواقعة، فأذن له النبي صلى الله عليه و آله فأنشد أبياتاً منها:

فقال له قم ياعلي فإنني رضيتك من بعدي إماماً وهادياً

«ويروى أن النبي صلى الله عليه و آله قال لحسان بعد أن فرغ من شعره: لا تزال مؤيداً بروح القدس مانصرتنا أو نافحت عنا بلسانك» (2).

وكذلك ما قاله الصحابي الجليل قيس بن سعد بن عبادة الانصاري:

وعلي إمامنا وإمام لسوانا أتى به التنزيل

يوم قال النبي من كنت مولاه فهذا علي خطب جليل (3)

الشاهد الثاني: كلام ابن منظور الديلمي

قال: أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبداللَّه بن منظور الديلمي (إمام الكوفيين في النحو واللغة والادب) في كتاب (معاني القرآن): الولي والمولى في كلام العرب واحد و في قراءة عبداللَّه بن مسعود:

«إنما مولاكم اللَّه ورسوله مكان وليكم» (4) وإنما يكون الولي ولياً، إذا كان أولى من كل أحد في الأمر والنهي والطاعة من قبل الآخرين.


1- 55 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10: 20.
2- 56 تذكرة الخواص: 39.
3- 57 الغدير 1: 340. وراجع كتاب خصائص الأئمة للشريف الرضي: 43.
4- 58 تلخيص الشافي 2: 180.

ص: 229

الشاهد الثالث: كلام ابن الجوزي

مانقله ابن الجوزي:

«قال أحمد في الفضائل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حبيش بن الحرث بن لقيط النخعي عن رياح بن الحرث قال:

جاء رهط إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا:

السلام عليك يامولانا وكان بالرحبة فقال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟

قالوا: سمعنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه. قال رباح: فقلت: من هؤلاء؟

فقيل: نفر من الانصار فيهم أبو أيوب الانصاري صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (1).

الشاهد الرابع: تهنئة عمر بن الخطاب لعليّ عليه السلام

ما ورد عن الخليفة الثاني أنه قال لعلي بعد حديث الغدير: «هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» (2).

ومن الواضح أنّ عمر لا يريد أن عليّاً أمسى ناصراً أو محبّاً لكل مؤمن ومؤمنة، إذ هذا المعنى صادق على الصحابة الأخيار (رض) بل يريد ثبوت الولاية له من قبل النبي صلى الله عليه و آله، لأن هذا المعنى هو الذي يستحق التهنئة عليه إذ مجرد الحب والنصرة لا يوجب تهنئة الشخص عليها، فلابد أن يكون المراد بالمولى هو المعنى العظيم لها وهو الأولوية والامامة على المسلمين، وهو المعنى الذي يستوجب التهنئة عليه، وإن كان في الحقيقة مسؤولية عظيمة.

الشاهد الخامس: احتجاج علي عليه السلام بحديث الغدير:

احتجاج علي عليه السلام على جماعة الشورى بعد وفاة عمر بن الخطاب، حين رأهم قد عزموا على مبايعة عثمان، حيث قال لهم عليه السلام:

«نشدتكم باللَّه هل منكم أحد نصبه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم غدير خم بأمر اللَّه تعالى فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه غيري؟

قالوا لا.» (3).

فقد استشهد علي عليه السلام بهذا الحديث على أنه أولى من غيره (عثمان وغيره) بمقام الولاية، وليس هذا إلّاأنّ حديث


1- 59 تذكرة الخواص: 36، وراجع شرح ابن أبي الحديد 3: 208.
2- 60 مسند أحمد، حديث رقم 17749.
3- 61 الاحتجاج 1: 136.

ص: 230

الغدير يدل على ذلك، وأنّ النبي صلى الله عليه و آله نصبه إماماً للمسلمين في يوم الغدير.

المخاض الأخير:

وهكذا يتضح أن لفظ المولى من المشترك المعنوي، وأن معناه (الأولى) محفوظ في جميع مصاديقه المتعددة.

ولكن حتى لو قلنا- مع القائلين- بأن لفظ المولى من المشترك اللفظي، وأنه يحتمل أن يراد به معنى الناصر، أو المحب، أو أحد المعاني الأُخر غير معنى (الأولى)، فإنّا يمكن أن نبرهن على أن لفظ المولى في كلام النبي صلى الله عليه و آله في حديث الغدير استعمل في خصوص المعنى الاول وهو: (الأولى) دون سائر المعاني، وذلك بقرائن كثيرة نذكرها فيما يلي:

القرينة الاولى: دلالة المقدمة على المعنى

لا شك في أن حديث الغدير قد بدأه النبي صلى الله عليه و آله بمقدمة استفهامية هي:

«ألست أولى بكم من أنفسكم» (1) ثم قال صلى الله عليه و آله بعدها: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» وفي ضوء ذلك نقول: لا شك في أن الأولى في المقدمة يراد به الأولى في الطاعة، وحق الأمر والنهي للنبي صلى الله عليه و آله على الأمة بالدليل النقلي والعقلي، فلابد أن يريد النبي صلى الله عليه و آله من لفظ المولى في قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، المعنى الثابت في المقدمة أي الأولى، دون سائر المعاني للمولى، حيث جرت عادة اللغة على تفسير اللفظ الذي يحتمل معاني متعددة، والمعطوف على نفس اللفظ السابق عليه، والذي هو ظاهر في معنى محدد من المعاني الكثيرة بالمعنى السابق، والذي عطف عليه اللفظ الذي يحتمل معاني متعددة، فمثلًا لو قال المتكلم:

(بعت كتابي إلى عمي زيد) ثم قال بعد ذلك متصلًا: (وعمي موجود الآن في بيتي)، فإن العم في الجملة الثانية يحتمل أنه أراد به العم الذي اشترى الكتاب ويحتمل أن يريد عمّاً آخر، وحيث إن المتكلم عطف الجملة الثانية على الأولى حيث قال:

(بعت كتابي إلى عمي زيد وعمي موجود في بيتي) فإن العرف يفهم أن العم الموجود في البيت هو نفس العم الذي اشترى الكتاب أي هو زيد، وإن كان يحتمل أن يريد بالعم في الجملة


1- 62 وقد روى هذه المقدمة 1- أحمد بن حنبل. 2- ابن ماجة. 3- النسائي. 4- الترمذي. 5- الطبري. 6- الذهبي. 7- الدارقطني وخلق كثير من المحدثين العلماء.

ص: 231

الثانية عمّاً آخر غير زيد الذي اشترى الكتاب، وكذلك لو قال: مطرت السماء البارحة مطراً عظيماً؛ وأنا احتفظت بشي ء من ماء المطر، فإن العرف يفهم أن ما احتفظ به من ماء المطر هو من مطر البارحة، وإن كان يحتمل أنه احتفظ بماء مطر اليوم الماضي أو الشهر الماضي، والحقّ أنّ مثل هذا الاحتمال بعيد جدّاً.

القرينة الثانية: آية التبليغ

حدّث الحافظ الكبير الحسكاني الحنفي النيسابوري بسنده المتصل إلى ابن عباس في قوله عز وجل:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (1) إنها نزلت في علي.

أمر رسول اللَّه أن يبلغ فيه فأخذ رسول اللَّه بيد علي فقال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (2).

وحدث الحافظ الحسكاني بسنده إلى أبي صالح «عن ابن عباس وجابر ابن عبد اللَّه قالا: أمر اللَّه محمداً أن ينصب علياً للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول اللَّه أن يقولوا حاباً ابن عمه يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى اللَّه إليه: «يا أيها الرسول بلغ ما أُنزل إليك من ربك... فقام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بولايته يوم غدير خم» (3).

وقال علي بن إبراهيم: «إن هذه الآية يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... نزلت في علي عليه السلام (4).

وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في حق علي عليه السلام في غدير خم، فقد نقل المالكي في الفصول المهمة عن الإمام أبو الحسن الواحدي في أسباب النزول رفعه إلى أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت يوم غدير خم في علي ابن أبي طالب، ورواه صاحب فتح القدير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابي سعيد الخدري، وكذلك في تفسير الدر المنثور للسيوطي (5)ومع هذا فإن السيوطي في لباب المنقول في أسباب النزول قال:

أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه و آله يُحرس حتى نزلت


1- 63 سورة المائدة: 67.
2- 64 شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 1: 189.
3- 65 شواهد التنزيل لقواعد التفضيل 1: 192. وراجع الاحتجاج: 57.
4- 66 تفسير القمي 1: 171.
5- 67 تفسير الميزان 1: 60.

ص: 232

هذه الآية واللَّه يعصمك من الناس فأخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني اللَّه. في هذا الحديث دليل على أنها... أي الآية ليلية فراشية!! أي والرسول في فراشه» (1).

ولم تذكر عائشة (رض) شيئاً عن الشطر الأول من الآية، ولا عن الشي ء المهم الذي إذا لم يبلغه النبي صلى الله عليه و آله فكأنه لم يبلغ شيئاً!! وكأن الآية الواحدة نزلت شطرين!.

القرينة الثالثة: آية إكمال الدين

روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي هريرة، قال: «لما أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بيد علي بن أبي طالب فقال: ألست أولى بالمؤمنين؟

قالوا: نعم يارسول اللَّه.

قال: فأخذ بيد علي بن أبي طالب فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه.

فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك ياابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم.

قال: فأنزل اللَّه عز وجل اليوم أكملت لكم دينكم.

قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام كتب اللَّه له صيام ستين شهراً» (2).

القرينة الرابعة:

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل فقرة إثبات المولوية لعلي عليه السلام: كأني دعيت فأجبت، أو أنه يوشك أن ادعى فأجيب (3) ثم قال صلى الله عليه و آله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فإن تلك المقدمة تلقي ضوءاً على غرض الرسول صلى الله عليه و آله من لفظ المولى، وتعّين أن المراد به معنى يرتبط فيما بعد وفاته صلى الله عليه و آله ومن الواضح أن هذا المعنى هو إمامة علي عليه السلام وولايته على أمته من بعده.

المولى ترادف الولي:

وقد تثار شبهة وهي: حتى لو اتفقنا على أن معنى المولى هو الأولى، لكن الأولى لا تعني الولي. فلو كان النبي صلى الله عليه و آله قد قال: «فمن كنت وليه فعلي وليه» لكان هذا اللفظ يدل على أن النبي صلى الله عليه و آله جعل علياً إماماً للمسلمين بعده.

والجواب:

أولًا: إذا كان إطلاق لفظ الولي على علي عليه السلام يرفع الشبهة، فإن القرآن الكريم أنزل في حق علىّ مدحاً ووصفه


1- 68 تفسير الجلالين: 216.
2- 69 تاريخ دمشق فقرة رقم 569 من ترجمة علي بن أبي طالب عليه السلام وراجع شواهد التنزيل 1: 158.
3- 70 الغدير 1: 375.

ص: 233

بأنه ولي المسلمين، وذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (1).

فقد روى الحافظ الكبير النيسابوري بسنده إلى ابن عباس: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال: نزلت في علي بن أبي طالب» (2) وبسنده عن عطاء بن السائب: «إنما وليكم اللَّه ورسوله قال: في علي مرّ به سائل وهو راكع فناوله خاتمه» (3).

وإن قيل: إنّ لفظ الذين آمنوا عام فكيف خصصت في علي؟ قيل: «ان الروايات متكاثرة من طرق الشيعة وأهل السنة على أن الآيتين نازلتان في أميرالمؤمنين بما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة، فالايتان خاصتان غير عامتين» (4).

وثانياً: أن لفظ المولى والولي معناهما واحد «فقد قال الفراء في كتاب معاني القرآن: الولي والمولى في كلام العرب واحد في قراءة عبد اللَّه بن مسعود: (إنما مولاكم اللَّه ورسوله) مكان وليكم (5).

ومع كل ذلك فقد كتب عباس محمود العقاد- وهو يتحدث عن علاقة النبي صلى الله عليه و آله بعلي-:

إنّ النبي صلى الله عليه و آله كان «يحبه ويمهد له وينظر إلى غده، ويسره أن يحبه الناس كما أحبه، وأن يحين الحين الذي يكلون فيه أمورهم إليه....

وكل ماعدا ذلك، فليس بالممكن وليس بالمعقول... ليس بالممكن أن يكره له التقديم والكرامة... وليس بالممكن أن يحبهما له، وينسى في سبيل هذا الحب حكمته الصالحة للدين والخلافة.

وإذا كان قد رأى الحكمة في استخلافه، فليس بالممكن أن يرى ذلك، ثم لا يجهر به في مرض الوفاة أو بعد حجة الوداع...

وإذا كان قد جهر به، فليس بالممكن أن يتألب أصحابه على كتمان وصيته وعصيان أمره. أنهم لا يريدون ذلك مخلصين، وأنهم إن أرادوه لا يستطيعون بين جماعة المسلمين، وإنهم إن استطاعوا لا يخفى شأنه ببرهان مبين، ولو بعد حين...


1- 71 سورة المائدة: 55.
2- 72 شواهد التنزيل 1: 161.
3- 73 شواهد التنزيل 1: 168.
4- 74 الميزان في تفسير القرآن 6: 5.
5- 75 الميزان في تفسير القرآن 6: 5.

ص: 234

فكل أولئك ليس بالممكن، وليس بالمعقول (1) ولا أدري هل جعل الولاية لعلي (2) بنص النبي صلى الله عليه و آله من قبيل إجتماع النقيضين، أو الضدين حتى يكون ذلك غير ممكن وغير معقول!

وإذا كان جعل الإمامة لعلي ليس فيه استحالة عقلية، فلماذا لا يمكن أن يجعله النبي صلى الله عليه و آله لعلي، وهو المعروف بسابقته وقربه وجهاده وإخلاصه وعلمه وشجاعته؟ فلماذا لا يمكن أن يجعله النبي صلى الله عليه و آله ولياً للمسلمين بعده، وهل القرب من النبي صلى الله عليه و آله يوجب حرمانه من مقام يستحقه دون سائر الأصحاب، أو القرب من النبي موجب للفضيلة كما استدل أبو بكر على الأنصار بأن الخلافة في قريش، لأنهم أقرب للنبي صلى الله عليه و آله من الأنصار؟

*** بعد الذي عرفت من وضوح أن لفظ المولى معناه (الأولى) أو على أقل تقادير أن النبي صلى الله عليه و آله استعمله في هذا المعنى للقرائن اللفظية والمقامية التي حفت بالحديث بعد ذلك. نذكر عدة تفسيرات أخرى لحديث الغدير تستهدف تجريده عن دلالته الثابتة له بموجب اللغة:

التفسير الأول: شكاية أهل اليمن على علي عليه السلام

إنّ المراد من لفظ (المولى) هو الناصر أو المحب، وذلك الحديث صدر عن النبي صلى الله عليه و آله بعد شكاية أهل اليمن علياً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ويرشد بذلك أنه أشاد في خطابه بعلي خاصة فقال: من كنت وليه فعلي وليه وبأهل البيت عامة فقال صلى الله عليه و آله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي فكان كالوصية لهم بحفظه في علي بخصوصه وفي أهل بيته عموماً وقالوا: ليس فيها- أي بالوصية وفي حديث الغدير- عهد بخلافة ولا دلالة على إمامة» (3).

نقل الواقعة:

ومن المفيد أن ننقل أولًا الواقعة من سيرة ابن هشام ثم نعلّق عليها:

«قال ابن إسحاق: وحدّثني يحيى بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: لما أقبل عليّ رضي اللَّه عنه من اليمن ليلقى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بمكة تعجّل إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واستخلف على جنده


1- 76 مجموعة العقاد 2: 128.
2- 77 المراجعات: 202، كما ورد على لسان شيخ الازهر الشيخ سليم البشري وهو يحاور السيد عبد الحسين شرف الدين.
3- 78 السيرة النبوية لابن هشام 4: 603.

ص: 235

الذين معه رجلًا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كلّ رجل من القوم حُلّة من البزّ الذي كان مع عليّ رضي اللَّه عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحُلل قال: ويلك اما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملّوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

قال: فانتزع الحُلل من الناس، فردّها في البزّ، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صُنع بهم» (1).

والغريب أن صاحب كتاب المغازي محمد بن عمر بن واقد، نقل القصة بتمامها، ثم كتب: «أن النبي صلى الله عليه و آله دعا علياً فقال: ما لأصحابك يشكونك؟ فقال:

ما أشكيتُهم؟ قسمتُ عليهم ماغنموا وحبست الخمس حتى يقدم عليك، وترى رأيك فيه، وقد كانت الأمراء يفعلون أموراً: يُنفلون من أرادوا الخمس، فرأيت أن أحمله إليك لترى فيه رأيك فسكت النبي صلى الله عليه و آله» (2).

ولم يذكر الواقدي ما قاله النبي صلى الله عليه و آله تعليقاً على شكاية أهل اليمن، والذي ذكره ابن هشام في سيرته من مدح عليّ، وأنه يغضب للَّه، وأنّه قوي من ذات اللَّه تعالى، ولا أدري لماذا لم ينقل كلام النبي صلى الله عليه و آله في حق علي في تلك القصة؟!

ردّ التفسير الأول:

إن قصة أهل اليمن لا يمكن جعلها قرينة على حمل لفظ (المولى) على الناصر، أو المحب وماشاكل وذلك:

أولًا: أن أهل الشكاية إنما شكوا علياً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل التاسع من ذي الحجة، وواقعة غدير خم في يوم الثامن عشر منه، فالذي ينبغي لو كان الدافع إلى حديث الغدير هو تلك الواقعة أي يأتي مدح علي بذلك الحديث في وقت وقوعها، كما قال النبي صلى الله عليه و آله عقيب الشكاية في رواية ابن هشام:

«ياأيها الناس لا تشكوا علياً فواللَّه إنه لأخشن في ذات اللَّه» أو في سبيل اللَّه من أن يشكى».

ولم يتكلم صلى الله عليه و آله بكلام آخر غير هذا.

وثانياً: أن مدح النبي صلى الله عليه و آله لعليّ إذا كان على أثر هذه الواقعة ينبغي أن يكون مناسباً مع المقام، كما قال صلى الله عليه و آله:


1- 79 سيرة ابن هشام 4: 603.
2- 80 المغازي 3: 1081.

ص: 236

(إنه لأخشن في ذات اللَّه) وما شاكل ذلك، ومن الواضح أن حديث الغدير وما حفّ به من قرائن وعلائم قرن فيه النبي صلى الله عليه و آله بين العترة والكتاب، وجعل علياً مولًى للمسلمين كما أنه صلى الله عليه و آله مولى لهم، وهذا يناسب جعل علي عليه السلام اماماً على الأمة، ولا يريد صلى الله عليه و آله أن يدفع عن علي عليه السلام اتهامات أهل اليمن إنما يريد إثبات مقام عظيم له، وهو مقام الإمامة بعده صلى الله عليه و آله.

وثالثاً: وقع خلط في تاريخ الشكاية على عليّ عليه السلام، إذ إن النبي صلى الله عليه و آله بعث علياً إلى اليمن مرتين: الأولى في السنة الثامنة، والأخرى في السنة العاشرة من الهجرة، والذي نقل في كتب التاريخ أن الشكاية على عليّ إنما كانت في البعث الأول أي السنة الثامنة الهجرية وليس في البعث الثاني أي: السنة العاشرة الهجرية، فقد روي أنه بعث رسول اللَّه بعثين إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الآخر خالد بن الوليد، فقال: إذا التقيتم فعلي على الناس، وإن افترقتم فكل واحد منكما على جنده، قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن، فاقتتلنا فظهر المسلمون على المشركين، فقتلناالمقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى علي امرأة من السبي لنفسه، وقال بريدة: فكتب معي خالد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، يخبره بذلك، فلما أتيت النبي صلى الله عليه و آله دفعت الكتاب، فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجهه، فقلت: يا رسول اللَّه هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا تقع في علي فإنه مني، وأنا منه، وهو وليكم بعدي وأنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي» (1).

التفسير الثاني: الحديث جواب لأسامة بن زيد:

ونقل بعض أن حديث الغدير إنما قاله النبي صلى الله عليه و آله على أثر نزاع شخصي بين أسامة بن زيد وبين علي عليه السلام حيث قال إسامةلعلي عليه السلام: لست مولاي إنما مولاي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال صلى الله عليه و آله بعد أن سمع بالنزاع: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (2).

والجواب:

أولًا: إن أراد اسامة أن علياً ليس


1- 81 المراجعات، للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي: 153.
2- 82 الغدير 1: 383.

ص: 237

مولاه، بمعنى ليس أولى به من نفسه، وأنه ليس كالنبي صلى الله عليه و آله، وقبل أن يثبت النبي صلى الله عليه و آله إمامة علي على المسلمين. فإن هذا المعنى صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه و آله بعد لم يجعل الولاية (الظاهرة) حسب الفرض إذ إن النبي صلى الله عليه و آله بعد لم ينطق بذلك الكلام. وإن أراد به أن النبي صلى الله عليه و آله فقط سيده وأسامة عبد للنبي صلى الله عليه و آله وأن علياً ليس سيده فمن الواضح أن أُسامة ليس عبداً رقاً للنبي صلى الله عليه و آله أو لعلي. وإن أراد أنه يطيع النبي صلى الله عليه و آله فقط ولا يطيع علياً عليه السلام أو غيره، فمن الواضح أن علياً عليه السلام لم يتأمر على اسامة ولم يتأمر على أحد إذا لم يؤمّره رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وثانياً: حتى لو فرضنا أن منشأ كلام النبي صلى الله عليه و آله في حديث الغدير المرتبط بعلي عليه السلام هو النزاع الذي وقع بينه وبين أُسامة، فإن ذلك لا يوجب صرف معنى (المولى) عن معناه الظاهر فيه وهو الأولى إلى غيره، بل لعل هذا النزاع وكلام النبي صلى الله عليه و آله عقيبه؛ يؤكد مولوية علي عليه السلام على اسامة وغيره قبل يوم الغدير وبعده!! إذ معناه أن أولوية علي ثابتة على اسامة حين النزاع وأن اسامة تجاوز حده في رعاية حق علي عليه السلام.

التفسير الثالث: حديث الغدير كان جواباً لبريدة:

أخرج أحمد بن حنبل في مسنده عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة (1) فلما قدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتغير فقال صلى الله عليه و آله: يا بريدة! ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: من كنتُ مولاه فعلي مولاه» (2).

والجواب:

أولًا: ماتقدم سابقاً من أنه لم ترد شكوى على عليّ في بعثه الثاني إلى اليمن، إنما الشكاية كانت في البعث الأول أي السنة الثامنة، وحديث الغدير في السنة العاشرة من الهجرة، فلا يمكن أن يكون حديث الغدير جواباً لشكاية بريدة على علي عليه السلام التي تقدمت قبل عامين.

وثانياً: حتى لو سلمنا: أن قوماً، أو بريدة شكى علياً إلى النبي صلى الله عليه و آله عند العود من بعثه إلى اليمن، فإن ذلك لا


1- 83 ولعل الجفوة ما تقدم في حديث خمس اليمن من حلل غنمه علي عليه السلام في غزوته حيث إن جيش علي عليه السلام لبس الحلل في ذهابه إلى لقاء النبي صلى الله عليه و آله ثم يرى فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رأيه، أو تكون الجفوة منه لأنه لا تأخذه في طاعة اللَّه ورسوله لومة لائم.
2- 84 راجع الغدير 1: 384.

ص: 238

يوجب صرف معنى المولى إلى غير معناه الثابت أي: أولوية علي عليه السلام بالمؤمنين من أنفسهم كما هي ثابتة للنبي صلى الله عليه و آله، نعم لو كان النزاع والشكاية قرينةلفظية تصحيح صرف لفظ (المولى) عن معناه وهو الأولى إلى معنى آخر من معانيه المتعددة لأمكن رفع اليد عن معنى الأولى المدلول للفظ المولى، ولكن من الواضح أن مجرد النزاع والشكاية على علي عليه السلام ليست قرينة لفظية توجب صرف اللفظ عن معناه.

التفسير الرابع: علي الأولى بالتفضيل

وقيل: حتى لو اتفقنا مع الشيعة بأن لفظ مولى يعني الأولى، لكن إنما يصح الاستدلال بالحديث على إمامة علي عليه السلام على تقدير القول بأن الأولى هنا لا يراد به الأولى بالتفضيل والتعظيم والاحترام، وإنما يراد به الأولى من أنفسهم في أمرهم ونهيهم وتدبير أمورهم وشؤون حياتهم، ولكن إذا قلنا بأن المراد بالأولى هنا هو الأولى بالتعظيم والاحترام، فإن ثبوت هذه الأولوية لعلي عليه السلام لا يساوق ثبوت الإمامة له.

ويرد عليه:

أولًا: أن الظاهر من الأولى عند استعمالها مطلقاً- أي من غير قرينة لفظية أو مقامية- أن المتكلم يريد الأولى بأن يأمر وينهي فإن أضيفت الأولى إلى الغير؛ وقيل مثلًا: الحاكم أولى من رعيته، فإن المراد به أن الحاكم أولى من الرعية في الأمر والنهي وإدارة أمورهم، وهذا المعنى يساوق معنى الإمامة.

وثانياً: أن النبي صلى الله عليه و آله صدّر كلامه بقوله صلى الله عليه و آله: «ألستُ بأولى من المؤمنين بأنفسهم؟» ثم قال صلى الله عليه و آله بعد ذلك: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».

وهذا الصدر في كلام النبي فيه دلالة على أن المراد بالأولوية الثابتة لعلي في قوله صلى الله عليه و آله: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه». إنما هي الأولوية التي تناظر الأولوية الثابتة له صلى الله عليه و آله وصرح بها في صدر كلامه، إذ المفروض ان جملة «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» معطوفة على صدر كلامه صلى الله عليه و آله الذي ثبتت فيه أولويته

ص: 239

على المؤمنين من أنفسهم، فيكون صدر الكلام دالًا على الأولوية الثابتة، وأنها كأولوية النبي صلى الله عليه و آله.

التفسير الخامس: علي عليه السلام إمام بعد البيعة:

يرى ابن حجر في الصواعق أن علياً عليه السلام أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وله عليهم حق الأمر والنهي والطاعة، إنما ذلك بعد البيعة له- أي بعد الخليفة الثالث- وإلّا لكان أولى بالطاعة والأمر والنهي في حياة النبي صلى الله عليه و آله، وهذا مما لا يمكن الالتزام به (1).

والجواب:

أولًا: أن هذا المعنى للحديث- أي أن علياً سيكون إماماً أولى بالمسلمين من أنفسهم بعد عقد البيعة- يعني أن علياً ليس مولًى للذين ماتوا قبل البيعة له في خمسة وثلاثين من الهجرة، وهذا ينافي عموم مولوية علي عليه السلام لجميع المسلمين، سواء الذين ماتوا قبل البيعة لعلي والذين عاشوا بعدها.

ثانياً: أما ما قيل: بأنه لو حملنا الحديث على فعلية الإمامة لا الصلاحية أو الشأنية، فهذا مما يتنافى مع فعلية أولوية النبي صلى الله عليه و آله بالأمر والنهي والطاعة، فإن ذلك صحيح لو قلنا بأن المراد بإمامة علي إمامة مستقلة في عرض وجود النبي صلى الله عليه و آله؛ ونحن لا نقول ذلك بل إنما نرى أن ولاية علي عليه السلام في طول ولاية النبي على الأمة وفي امتدادها، وليس في عرضها.

وثالثاً: لو كان مفاد حديث الغدير هو: أن علياً له حق الأمر والنهي والطاعة على الأمة وأنه أولى بالمسلمين من أنفسهم ولكن بعد البيعة، فإن هذا المعنى يشترك فيه كل من يظفر بالبيعة على وفق النظرية السياسية للمذاهب الأربعة السنية، فإن كل شخص تبايعه الأمة يكون أولى بالمسلمين من أنفسهم بعد البيعة، فلا يتميز علي عليه السلام بشي ء، ولا معنى أيضاً لكلام النبي صلى الله عليه و آله في حديث الغدير، وحاشاه عن ذلك، لأنه يريد فقط أن يقول: إذا بايعت الأمة علياً فهو صالح للإمامة، فيكون معنى كلام النبي صلى الله عليه و آله وحاشاه: لو صار علياً إماماً فهو صالح للإمامة!!!

وهذا المعنى صادق على كل شخص تبايعه الأمة للإمامة- بل هذا على وفق


1- 85 المراجعات: 206.

ص: 240

المذهب السياسي لأهل السنة- يكون عبثاً في الكلام، والنبي صلى الله عليه و آله يتنزه عن ذلك، فما هي ميزة علي عليه السلام عن الآخرين حتى يخصه النبي بذلك الخطاب تحت الشمس الحارقة، ولماذا هذه الآيات التي نزلت بلزوم التبليغ، ولماذا نزلت آية إكمال الدين بعد حديث الغدير؟!!

التفسير السادس: تقديم المفضول على الفاضل:

وهذا التفسير ما يستظهر من كلمات المعتزلة الظاهرة في التسليم بأن عليّاً أفضل الصحابة، وبالتالي هو أولى بمقام الإمامة لو لم تقم مصلحة تستوجب تقديم غيره عليه.

والجواب:

أولًا: لو كانت ثمة مصلحة من هذا القبيل لكان النبي صلى الله عليه و آله أولى من غيره بدرك تلك المصلحة، ولاقتضت تلك المصلحة تسمية الخليفة الأول لإمامة الأمة بعد النبي صلى الله عليه و آله من أجل استيفاء تلك المصلحة... وتكون تسمية علي بأنه مولى المسلمين بمعنى أنه إمام المسلمين فعلًا قبيحاً يتنزه النبي صلى الله عليه و آله عن فعله.

وثانياً: إنا نعتقد بأن تنحية علي عليه السلام عن مقامه فتح على الأمة ألوان المحن والبلوى، حيث افترق المسلمون إلى طوائف وفرق تتناصر على السلطان والمال كالجاهلية الأولى. وأية محنة وبلوى أكبر من هذه التي وقع فيها المسلمون نتيجة تنحية علي عليه السلام عن مقامه.

الهوامش:

ص: 241

ص: 242

ص: 243

المصلحة الاسلامية ووحدة المسلمين في منهج الامام علي عليه السلام

ص: 244

المصلحة الإسلامية ووحدة المسلمين في منهج الإمام علي عليه السلام

علي خير اللَّه

المصلحة الإسلامية هي الوضع الأفضل للإسلام باعتباره دعوة ومبدأ وقاعدة للدولة، والوضع الأفضل للمسلمين بوصفهم أُمّة لها جانبها الرسالي وجانبها المدني، فكلّ ما كان يساهم في إيجاد الوضع الأفضل للإسلام والمسلمين على هذا النحو فهو مصلحة إسلامية، وعلى هذا الأساس تكون الوحدة الإسلامية أهمّ مقوّمات الحفاظ على هذه المصلحة وإدامتها في الواقع، وهي ضرورة عقلية وشرعية قد أثبت التاريخ ضرورتها في تتبّعه لسير الحضارات التي نمت وترعرعت وازدهرت بالوحدة، وتدهورت واضمحلت حينما بدأ التمزّق يدبّ في سيرها.

والوحدة الإسلامية ممكنة التحقيق ما دامت الأمّة الإسلامية تجتمع حول عقيدة واحدة، ومصالح واحدة، ومصير واحد، وتواجه عدوّاً واحداً وحّد صفوفه وإمكاناته من أجل إيقاف المسيرة الإسلامية، وعرقلة حركتها التاريخية لتصفيتها عقيدةً وقيادةً وكياناً، وقد جسّد الإمام علي عليه السلام مفاهيم الوحدة في منهجه وسيرته وترجمها إلى أعمال وممارسات وعلاقات متجسّدة في الواقع، فقد جعل المصلحة الإسلامية العليا قاعدة الانطلاق في سكناته وحركاته، وحافظ على وحدة الدولة

ص: 245

والأمّة متوجهاً نحو الآفاق العليا المشتركة ونحو الهدف الكبير؛ وهو تقرير مبادئ الإسلام في واقع الحياة، وخير مصداق لتجسيد مفاهيم الوحدة والمصلحة الإسلامية يتمثّل بموقفه من الخلفاء؛ حيث التعاون والتآزر ضمن الأهداف المشتركة، وفيما يلي نستعرض أهم المواقف والممارسات الواقعة في طريق الوحدة والنابعة من مراعاة المصلحة الإسلامية العليا.

الاعتراض السلمي

بعد أن تمخّض اجتماع السقيفة عن إعلان بيعة أبي بكر اعترض الإمام علي عليه السلام على هذا الاعلان اعتراضاً سلمياً بحدود تبيان وجهة نظره طبقاً للأُسس والموازين المساعدة لهذا الاعتراض، وكان يقول: «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم لا أُبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي» (1).

وكان يوجّه أنظار المهاجرين إلى خصائص من هو أهلًا للخلافة طبقاً للثوابت الشرعية والعقلية، حيث يقول: «واللَّه يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به، لأنّا أهل البيت، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا إلّاالقارئ لكتاب اللَّه، الفقيه في دين اللَّه، العالم بسنن رسول اللَّه، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيّئة، القاسم بينهم بالسوية، واللَّه إنّه لفينا...» (2).

وكان اعتراضه حقّاً طبيعياً طبقاً للظروف الموضوعية واستناداً للمبرّرات التي تمنحه الحقّ في الاعتراض والدعوة إلى نفسه، وإذا غضضنا النظر عن نقاط الاختلاف في هذه المبررات من حيث التفسير والتأويل، وتمسّكنا بالنقاط المشتركة التي لا يختلف فيها بين الصحابة نجد أنّ اعتراضه على الشورى أو نتائجها لا يخرج عن المألوف من أُسس وموازين ثابتة لدى الجميع وأهمّها: غياب بني هاشم وأغلب الصحابة عن اجتماع السقيفة، وبروز القبلية في الحوار الساخن مع المغالبة والتهديد، واعتراف المشاركين بفقدان أسس الشورى ، وعدم اختيار الأعلم والأفقه، والاحتجاج بالقرابة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على الرغم من قرب بني


1- 1 الإمامة والسياسة 1: 11- ابن قتيبة الدينوري- مطبعة البابي- مصر- 1388 ه.
2- 2 المصدر السابق 1: 12.

ص: 246

هاشم والإمام علي عليه السلام له صلى الله عليه و آله.

وفي جميع موارد ومواقع الاعتراض كان الإمام علي عليه السلام محافظاً على القواعد الشرعية في أدب الحوار والنقاش والاعتراض، وكان موقفه سلمياً لا يتعدّى تبيان حقّه بالخلافة، وممّا جاء في ذلك قوله لأبي بكر: «كنّا نرى أنّ لنا في هذا الأمر حقّاً، فاستبدتم به علينا» (1).

البيعة والوحدة الإسلامية

مهما اختلف الرواة والمؤرخون في وقت بيعة الإمام عليه السلام لأبي بكر وأسلوبها، فإنّ النتيجة كانت حفاظاً على وحدة الدولة الإسلامية ووحدة الامّة الإسلامية، وحاجة الدولة الفتية إلى دور الإمام علي عليه السلام في إنجاح المسيرة، وفي المرحلة التي سبقت البيعة أو التي تلتها بقليل رفض الإمام عليه السلام جميع المواقف والممارسات التي تدعو إلى التباغض والعداء والتشتّت، ومنها: موقفه من عتبة بن أبي لهب حينما قال:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف عن هاشم ثمّ منها عن أبي حسن

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم وأعلم الناس بالقرآن والسنن

فبعث إليه الإمام عليه السلام فنهاه وأمره أن لا يعود وقال: «سلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره» (2).

وحينما قدم أبو سفيان المدينة قال: «... واللَّه، إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلّا دم... أين المستضعفان أين الأذلّان عليّ والعبّاس».

وقال: «أبا حسن ابسط يدك حتّى أُبايعك» فزجره الإمام وقال له: «إنّك واللَّه ما أردت بهذا إلّاالفتنة، وانّك واللَّه طالما بغيت الإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك» (3).

واستمر أبو سفيان في تحريضه فقال: «... فواللَّه إن شئت لأملأنّها على أبي


1- 3 تاريخ الطبري 2: 236- دار الكتب العلمية- بيروت- 1408 ه- ط 2.
2- 4 شرح نهج البلاغة 6: 21- ابن أبي الحديد- دار إحياء الكتب العربية- القاهرة- 1378 ه- ط 1.
3- 5 تاريخ الطبري 2: 237.

ص: 247

فصيل خيلًا ورجالًا» (1).

فزجره الإمام عليه السلام لأنّ موقف أبي سفيان مخالف لأهداف الإمام عليه السلام الكبرى في الحفاظ على الكيان والوجود الإسلامي؛ لأنّ الهدف من الخلافة هو تقرير مبادئ الإسلام في واقع الحياة وجعلها حاكمة على الأفكار والعواطف والممارسات، ولا يتحقّق هذا الهدف بتصديع الجبهة الداخلية وإشغالها بالمعارك الجانبية، إذ لا قيمة للخلافة أمام تلك الأهداف السامية.

وقد تعدّدت الروايات في الأسباب والعوامل التي دفعته للبيعة بين السلبية والإيجابية، ونحن نختار الايجابي منها لأنّه الأقرب للواقع ولحرص الإمام عليه السلام على المصلحة الإسلامية والوحدة الإسلامية، ومن هذه الروايات: «انّ عثمان قال له: يا ابن العمّ! إنّه لا يخرج أحد إلى قتال هذا العدوّ وأنت لم تبايع، ولم يزل به حتّى مشى إلى أبي بكر، فسرَّ المسلمون بذلك وجدّ الناس في القتال» (2).

وإذا تبنينا رواية تهديده بالقتل فالأمر لا يختلف؛ لأنّ قتله عليه السلام سيؤدي إلى الفرقة والتشتّت، وهذا ما يخالف أهدافه الكبرى في الحفاظ على وحدة المسلمين.

وقد عبّر الإمام عليه السلام عن موقفه الوحدوي قائلًا: «إنّ اللَّه لمّا قبض نبيّه، استأثرت علينا قريش بالأمر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافّة، فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالإسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقلّ خلف» (3).

فكان توحيد الصف أهم من حقّه بالخلافة، وقد راعى المصلحة الإسلامية الكبرى في هذا الموقف.

وقال عليه السلام في موقف آخر: «... فما راعني إلّاانثيال الناس على أبي بكر، وإجفالهم إليه ليبايعوه، فأمسكت يدي، ورأيت أنّي أحقّ بمقام محمّد صلى الله عليه و آله في النّاس ممّن تولّى الأمر من بعده، فلبثت بذاك ما شاء اللَّه حتّى رأيت راجعة من الناس


1- 6 الكامل في التاريخ 2: 221- ابن الأثير- دار صادر- بيروت- 1385 ه.
2- 7 بحار الأنوار 28: 310- محمد باقر المجلسي- مؤسسة الوفاء- بيروت- 1403 ه- ط 2.
3- 8 شرح نهج البلاغة 1: 308.

ص: 248

رجعت عن الإسلام، يدعو إلى محق دين اللَّه وملّة محمّد صلى الله عليه و آله، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً يكون المصاب بهما عليَّ أعظم من فوات ولاية أُموركم... فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث، حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة اللَّه هي العليا» (1).

دوره في إخماد الفتنة

لم ينعزل الإمام عليّ عليه السلام عن الأحداث في عهد أبي بكر، فهو وإن لم ينصّب والياً أو قائداً عسكرياً إلّاأنّه كان يتفاعل مع الأحداث ليؤدّي دوره في الإصلاح والتغيير وفي ترشيد وتسديد الأعمال والممارسات، فكان له دور ملموس في حركة الدولة والأمّة، ففي أوائل خلافة أبي بكر اعتزل بعض الأنصار عنه، فغضب بعض المهاجرين من هذا الموقف وتطوّر الأمر وهجا عمرو بن العاص وأبو سفيان الأنصار وحرّضوا على قتالهم، فلمّا سمع الإمام عليه السلام بالأمر خرج مغضباً حتّى دخل المسجد فذكر الأنصار بخير، وردّ على عمرو بن العاص قوله، فلمّا علمت الأنصار ذلك سرّها وقالت: «ما نبالي بقول من قال مع حسن قول عليّ» (2).

وكان لموقفه في الدفاع عن الأنصار الدور الأكبر في إخماد الفتنة؛ لأنّه أحد رؤوس المهاجرين في نظر الأنصار، ولم يتطوّر الموقف أكثر من ذلك، فقد كانت لحكمته الدور الأكبر في تجاوز الأزمة وسكون الفتنة.

الدفاع عن الدولة وإسنادها

على الرغم من وجود فواصل فكرية وسياسية بين الإمام علي عليه السلام وقادة الدولة الإسلامية إلّاأنّه تعامل معها كفواصل جزئية لا تعزله عنهم، بل تتحرّك فيها الخطى والممارسات والمواقف نحو الأهداف المشتركة الكبرى ، وكان يتعامل مع الأحداث انطلاقاً من المصلحة الإسلامية العليا، في ظروف تكالبت فيها قوى الكفر والشرك للقضاء على هذه الدولة، وكان أعداء الدولة والأمّة الإسلامية لا يفرّقون في عدائهم بين الإمام علي عليه السلام وغيره، وكانوا يتصيّدون كلّ حجّة وكلّ


1- 9 شرح نهج البلاغة 6: 95.
2- 10 تاريخ اليعقوبي 2: 128- دار صادر- بيروت.

ص: 249

فرصة وكلّ ثغرة لينفذوا منها إلى الطعن في صحّة الرسالة، وإلى بلبلة الأفكار وإشاعة الاضطرار في العقول والقلوب وخلق الفتن في صفوف الكيان الإسلامي.

وفي هذه الظروف والأجواء دافع الإمام عليه السلام عن الدولة وساندها كما لو كان هو الخليفة، فحينما جاءت وفود أسد وغطفان وهوازن إلى أبي بكر وطالبوه بإعفائهم من الزكاة، وحينما رجعوا أخبروا عشائرهم بقلّة أهل المدينة وأطمعوهم فيها، فطلب أبو بكر من الإمام عليه السلام أن ينصب كميناً على أطراف المدينة، فاستجاب عليه السلام للطلب، فلم يستطيعوا الهجوم وتراجعوا لأنّهم وجدوا أنّ المدينة محروسة (1).

وردّ الإمام عليه السلام هجوم قبيلتي عبس وذبيان وبعض القبائل التي اغتنمت فرصة انشغال الجيش بإطفاء نار الارتداد (2).

وكان عليه السلام حريصاً على سلامة القيادة السياسية والعسكرية المتمثِّلة بأبي بكر؛ لأنّ مقتله سيشجِّع الطامعين على الإسراع في مخطّطاتهم الرامية لتقويض الكيان الإسلامي، فحينما أراد أبو بكر الخروج بنفسه لقتال المرتدين منعه الإمام علي عليه السلام وقال:... لا تفجعنا بنفسك..» (3).

وحينما أراد أبو بكر غزو الروم «استشار جماعة فقدّموا وأخّروا، ولم يقطعوا برأي، فاستشار عليّاً في الأمر، فقال: إن فعلت ظفرت، فقال: بشّرت بخير» (4).

فالإمام علي عليه السلام لمكانته ومقامه بين المسلمين إضافةً إلى خبرته العسكرية كان رأيه بشارة وانطلاقاً للتوجّه إلى غزو الروم، وكان الفتح حليف المسلمين.

حل المسائل المستعصية

كان أبو بكر يحترم مكانة الإمام عليه السلام العلمية، وكان يشيد به ويعترف بحقّه وفضله، وكان يمدحه في كثير من المواقف ومن أقواله في حقّه: «من سرّه أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأقربه قرابة، وأفضله دالّة، وأعظمه غناءً عن نبيّه فلينظر إلى هذا» (5).


1- 11 المنتظم 4: 75- عبد الرحمن بن الجوزي- دار الكتب العلمية- بيروت- 1412 ه- ط 1.
2- 12 لا سنّة ولا شيعة: 21- د. محمد علي الزعبي- دار التراث الإسلامي- 1394 ه.
3- 13 تاريخ الخلفاء: 57- عبد الرحمن السيوطي- دار الكتب العلمية- بيروت- 1408 ه.
4- 14 تاريخ اليعقوبي 2: 123.
5- 15 مختصر تاريخ دمشق 17: 320- ابن عساكر- دار الفكر- دمشق- 1988 م.

ص: 250

وكان يلتجأ إليه في المسائل المستعصية، سأله اليهود فأجابهم، ثمّ سألوه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال: «ولكنّ الحديث عنه شديد وهذا عليّ بن أبي طالب» فأرسلهم إلى الإمام علي عليه السلام فأجابهم (1).

وسأله ملك الروم عن مسائل فأخبر بذلك عليّاً فأجابه، وأراد أن يقيم الحدّ على شارب خمرٍ، فقال الرجل: إنّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، فأرسل أبو بكر إلى الإمام يسأله، فقال: مرّ نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين والأنصار وينشدانهم: هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم؟ ففعل، ثمّ خلّى سبيله ولم يحدّه (2).

عدم التدخّل في الأمور الجزئية

كان الإمام علي عليه السلام لا يتدخّل في الامور الجزئية التي لا ضرر فيها على المصلحة الإسلامية العليا، أو ليست من الامور المهمّة للمسلمين، فلم يحدّثنا التاريخ أنّه اعترض على تعيين بعض الولاة أو بعض قادة الجيش، وخصوصاً الذين لا يراهم أهلًا للمسؤولية، ولم يتدخّل في تبديلهم أو عزلهم، أو يقترح تعيين البعض دون البعض الآخر، ولم يعترض على بعض الأخطاء التي ارتكبت؛ لأنّه وجد أنّ غيره قد اعترض عليها كبعض الأخطاء التي حدثت في حروب الردّة أو حروب مانعي الزكاة.

استخلافه على المدينة في خلافة عمر بن الخطّاب

أصبح عمر بن الخطّاب خليفة بعهد من أبي بكر، فلم يعترض الإمام على هذا الاستخلاف، ولم يتخلّف عن مختلف الأعمال والنشاطات والممارسات الميدانية التي تحتاج إلى رأيه وجهده، وكان ينفذ ما يطلب منه ما دام منسجماً مع قواعد وأُسس الشريعة الإسلامية.

وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر في كثير من القضايا إلّاأنّ ذلك لم يمنع من التعاون والتآزر تحت ظلّ الآفاق العليا للمنهج الإسلامي.


1- 16 ذخائر العقبى : 80- محمد بن جرير الطبري- مؤسسة الوفاء- بيروت- 1401 ه.
2- 17 مناقب آل أبي طالب 2: 397- ابن شهرآشوب- دار الأضواء- بيروت- 1412 ه.

ص: 251

وإذا تتبعّنا سيرة عمر نجده لم يعهد إلى الإمام عليه السلام منصباً في ولاية أو إمرة جيش أو في أي مجال آخر، وكان هذا شأنه مع الكثير من المهاجرين، ومع ذلك كان يستخلفه على المدينة، وخصوصاً في الوقائع التي يشترك فيها الخليفة أو المتوقّفة على اشتراكه، فقد استخلفه على المدينة في سنة 14 ه، وفي سنة 15 ه، وفي سنة 18 ه (1).

واستخلافه على المدينة يعبّر عن ثقة عمر به، وشهادة له بالإخلاص للإسلام وللدولة الإسلامية، وإيماناً منه بتقدير المصلحة الإسلامية العليا، والعمل الدؤوب من أجل تحقيق وحدة الدولة والأمّة.

الاستعانة بالإمام عليه السلام في المجال العسكري

كان عمر بن الخطّاب يستعين بأصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما يريد اتخاذ موقف معيّن، وكان اختصاصه بالإمام علي عليه السلام أكثر من غيره، وكان الإمام عليه السلام لا يبخل بإبداء توجيهاته وملاحظاته وكان مخلصاً في النصيحة ما دامت مصلحة الإسلام هي العليا.

فحينما شاوره في الخروج إلى غزو الروم، نصحه بعدم الخروج بنفسه، وقال له: «إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك؛ فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فابعث إليهم رجلًا محرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر اللَّه فذاك ما تحبّ، وإن تكن الاخرى ، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين» (2).

وفي غزوة نهاوند نصحه بالبقاء في المدينة وإبقاء أهل الشام وأهل اليمن في بلدانهم خوفاً من هجوم الروم والحبشة عليهم من الخلف أو فراغ بلدانهم من الرجال، وكان الرأي الأمثل هو الاستعانة بثلث أهل البصرة وثلث أهل الكوفة، وممّا جاء في نصيحته: «... إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشدّ لكلبهم وألبتهم على نفسك» (3).


1- 18 الكامل في التاريخ 2: 450، 500 وتاريخ الطبري 2: 381، 449.
2- 19 شرح نهج البلاغة 8: 296.
3- 20 المنتظم 4: 273 وتاريخ الطبري 2: 524.

ص: 252

وحينما تحصّن المشركون ببيت المقدس أجابوا إلى الصلح بشرط قدوم الخليفة عليهم، فاستشار الإمام بذلك فأشار عليه (بالمسير إليهم ليكون أخفّ وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم) (1).

وقال له: «إنّ القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذلّ والصِغار ونزولهم على حكمك عزّ لك وفتح للمسلمين... حتّى تقدم على أصحابك وجنودك، فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء اللَّه» فأخذ عمر بمشورته (2).

ولم يتخلّف أنصار الإمام علي عليه السلام- وهم الذين يرون أحقّيته بالخلافة- عن الغزوات والفتوحات التي قادها الخليفة أو من نصّبه قائداً عسكرياً، تبعاً لإمامهم الذي ربّاهم على تحكيم المصلحة الإسلامية العليا على جميع المصالح، فاشترك أبناء عمّه العبّاس فيها، واشترك أبناء اخوانه فيها، ومنهم محمد بن جعفر الذي استشهد في تستر، واشترك عمّار بن ياسر وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وجابر بن عبداللَّه بأغلب الغزوات والفتوحات (3).

وقد أطاعوا الخليفة وقادة الجيش كما لو كان الإمام هو الخليفة، وقد أخلصوا لهذه الدولة متعالين على جميع الفواصل الجزئية ما دام المنهج الإسلامي هو المحور المشترك للجميع.

الاستعانة بالإمام عليه السلام في القضاء

كان عمر بن الخطّاب يستعين برأي الصحابة وخصوصاً رأي الإمام عليه السلام وكان الإمام عليه السلام يسانده ويؤازره في اختيار الموقف الأصوب، وكان يتدخّل ابتداءً لتغيير حكم أو تنفيذه، وكان عمر يمتدحه بعد نجاح الموقف ويرى أنّه السبب في إنقاذه من المواقف الحرجة في القضاء والحكم بين الناس.

استشاره في عقوبة شارب الخمر فقال: «أرى أن تجلده ثمانين، فإنّه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى » فجلد عمر في الخمر ثمانين (4).

وبلغه عن امرأة من قريش أمر مريب فبعث إليها يدعوها، فارتاعت وسقط


1- 21 البداية والنهاية 7: 55- ابن كثير- دار الفكر- بيروت.
2- 22 الفتوح 1: 225.
3- 23 الكامل في التاريخ 2: 512 و 3: 9.
4- 24 تاريخ المدينة المنوّرة 2: 732- ابن شبّة النميري- مكّة المكرّمة- 1399 ه.

ص: 253

جنينها، فاستشار جماعة من الصحابة، فقالوا: ما نرى عليك شيئاً، فقال الإمام علي عليه السلام: «أرى أنّك قد ضمنت ديته»، فقال عمر: صدّقتني (1).

وذكر الطبري بعض الروايات في الاستعانة بالإمام في القضاء؛ وكان يتدخّل أحياناً دون استشارة ليغيّر الحكم، فيمضي عمر حكمه عليه السلام ومن ذلك:

أمر عمر برجم امرأة حامل اعترفت بالفجور، فتلقاها عليّ فردّها وقال: «فما سلطانك على ما في بطنها» فخلّى سبيلها.

وجي ء بامرأة أصابها العطش فأجبرها رجل على الفاحشة، ففعلت، فشاور عمر عليّاً فقال: «هي مضطرّة إلى ذلك» فخلّى عمر سبيلها.

وأراد عمر رجم امرأة ولدت لستّة أشهر خلافاً للمتعارف، فأثبت عليّ له صحّة الحمل لستّة أشهر، فرجع عن قراره.

واشتكى رجل عنده على عليّ لأنّه لطمه، فسأله عمر فقال: «لأني رأيته يتأمّل حرم المؤمنين في الطواف»، فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن (2) فلم يجد بأساً في أن يقوم عليّ عليه السلام بتأديب الرعية دون علمه ودون أمره.

وأراد عمر رجم امرأة محصنة فجر بها غلام فقال الإمام عليه السلام: «لا يجب الرجم لأنّ الذي فجر بها ليس بمدرك».

وسأل رجل عمر حول حليّة زوجته التي طلّقها مرّة وهو مشرك ومرّتين وهو مسلم، فقال عمر: كما أنت حتّى يجي ء عليّ، فأتى عليّ فقال: «هدم الإسلام ما كان قبله» واعتبرها تطليقتين (3).

الاستعانة برأي الإمام في تداول الثروة

الثروة واسلوب تداولها من الامور الحسّاسة بعد القضاء، ولها تأثيرها الواضح على سير الأعمال والنشاطات والممارسات؛ ولهذا فإنّ الإمام عليه السلام بذل ما يمكن بذله من إبداء النصح والتوجيه ليكون أسلوب تداول الثروة منسجماً مع أساسيات الشريعة الإسلامية ومع المصلحة العامّة للدولة وللُامّة وللإسلام.


1- 25 انساب الأشراف 2: 178- البلاذري- مؤسسة الأعلمي- بيروت- 1394 ه.
2- 26 ذخائر العقبى : 81، 82.
3- 27 مناقب آل أبي طالب 2: 402، 405.

ص: 254

وأوّل بادرة للاستشارة حينما أراد عمر بن الخطّاب التفرّغ لتسيير حركة الدولة وحركة المسلمين استشار الصحابة في حقّه في بيت المال، فاختلفت أقوالهم، فقال: ما تقول يا عليّ؟ فقال: «ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك من هذا المال غيره» فقال الصحابة: القول قول ابن أبي طالب (1).

وقدم على عمر مال فيه مجوهرات وذهب وفضّة، فاستشار الصحابة فقال الإمام عليه السلام: «لم يجعل اللَّه علمك جهلًا ويقينك شكّاً، إنّه ليس لك من الدُّنيا إلّاما أعطيت فأمضيت أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت، وإنّك إن تبعته على هذا اليوم لم تعدم في غدٍ من يستحقّ به ما ليس له» فقال عمر: صدقتني ونصحتني (2).

وشاور عمر الصحابة في سواد الكوفة، فقالوا له: تقسمها بيننا، فشاور الإمام عليه السلام فقال: «إن قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجي ء بعدنا شي ء، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا».

فقال عمر: «وفّقك اللَّه هذا الرأي» (3).

وكان عمر متردّداً في خزائن بيت اللَّه وما فيها من أموال وسلاح، أيتركها أم يوزّعها فقال له الإمام عليه السلام: «... لست بصاحبه، إنّما صاحبه منّا شاب من قريش يقسمه في سبيل اللَّه في آخر الزمان» (4).

وحينما وضع عمر الدواوين وفرّق بين المسلمين بالعطاء على أساس السبق في الايمان والهجرة، فقدّم المهاجرين على الأنصار، والأنصار على مسلمي الفتح، ومسلمي الفتح على المتأخّرين إسلاماً، لم يعترض الإمام عليه السلام على طريقة التوزيع، وإن كان قد ساوى في العطاء في وقت خلافته كما يذكر جميع المؤرّخين، فقد يكون مراعياً للظروف الموضوعية في ذلك، أو عدم رغبته في مخالفة الخليفة أو الصحابة، أو انّ اسلوب التداول والعطاء من صلاحيات الخليفة في حدود المصلحة العامّة ولا محذور شرعي فيه، وعلى العموم فإنّ الإمام عليه السلام لم يعترض على طريقة التوزيع، ولم يخالف رأي عمر في حينه.


1- 28 تاريخ الطبري 2: 453 والمنتظم 4: 197.
2- 29 الكامل في التاريخ 2: 518.
3- 30 تاريخ اليعقوبي 2: 151، 152.
4- 31 كنز العمّال 14: 591- حسام الدين الهندي- مؤسسة الرسالة- بيروت- 1405 ه.

ص: 255

بذل الإخلاص في المشورة في جميع الجوانب

كان عمر يستعين برأي الإمام عليه السلام في جميع جوانب الحياة وفي جميع المرافق التي تحتاج إلى مشورة وإلى تسديد وتوجيه، وكان الإمام عليه السلام يبدي توجيهاته ونصائحه المنسجمة مع المصلحة الإسلامية العليا.

حينما أراد عمر كتابة التاريخ ارتأى أن يكتبه من مبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وارتأى بعض الصحابة أن يكتبه من تاريخ وفاته صلى الله عليه و آله، فكان رأي الإمام عليه السلام أن يكتب من يوم الهجرة إلى المدينة، واستقرّ الأمر على ذلك (1).

وأراد عمر بيع أهل السواد فقال الإمام عليه السلام: «دعهم شوكة للمسلمين» فتركهم على أنّهم عبيد (2).

وبلغ عمر أنّ أحد عمّاله باع ما يحرم بيعه وجعل الثمن في بيت المال، فاستشار الإمام بذلك، فقال: «امّا أن تعزله وإمّا أن تكتب إليه أن لا يعود» (3).

وكان يستقي من آراء الإمام عليه السلام ويتقبّلها، ففي أحد أيّام الحجّ قبّل الحجر الأسود، ثمّ قال: (إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا انّي رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقبِّلك ما قبّلتك).

فقال الإمام عليه السلام: «... بل هو يضرّ وينفع، فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود» (4).

واستعان بأنصار الإمام عليه السلام في أعماله- إيماناً منه بإخلاص الإمام عليه السلام وإخلاص أنصاره- فعيّن سلمان والياً على المدائن، وعمّاراً على الكوفة، وأسند بعض المناصب الحسّاسة لأنصاره الآخرين، فكان بعضهم حلقة الوصل بين الخليفة وقادة الجند (5).

وقد أخلصوا في أعمالهم كما أخلص الإمام عليه السلام في مشورته، فكانوا ينظرون إلى المصلحة الإسلامية العليا وإلى وحدة الدولة والأمّة.

وقد عبّر عمر بن الخطّاب عن تلك السيرة وذلك الحرص من قبل الإمام عليه السلام


1- 32 الكامل في التاريخ 2: 526 وتاريخ المدينة المنوّرة 2: 758.
2- 33 مناقب آل أبي طالب 2: 407.
3- 34 أنساب الأشراف 2: 78.
4- 35 إحياء علوم الدين 1: 242- أبو حامد الغزالي- دار الندوة الجديدة.
5- 36 الكامل في التاريخ 2: 512، 548 و 3: 9، 18.

ص: 256

على المصلحة الإسلامية، وعلى حفظ وحدة الكيان الإسلامي ووحدة المسلمين؛ بأقواله بحقّه، تقديراً منه للجهود التي بذلها في تسيير الأحداث والوقائع المختلفة، ومن أقواله بحقّ الإمام عليه السلام قوله: «لا أبقاني اللَّه بعدك يا أبا الحسن» و «أعوذ باللَّه أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن» و «لولا علي لهلك عمر» (1).

وقال لعبد اللَّه بن عبّاس: «إنّ عليّاً ابن عمّك لأحقّ الناس بها، ولكنّ قريشاً لا تحتمله، ولئن وليهم ليأخذنّهم بمرّ الحقّ لا يجدون عنده رخصة» (2).

الموقف من الشورى

حينما طعن عمر جعل أمر الخلافة بيد ستّة من الصحابة يختارون أحدهم، وأمر بقتل كلّ من خالف الاختيار، وكان الإمام عليه السلام يتوقّع النتائج، وكان يقول:

«فسعد لا يخالف ابن عمّه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون» (3).

ومع علمه بالنتائج إلّاأنّه قبل بالاجتماع واشترك فيه، فحينما قال له عمّه العبّاس لا تدخل معهم كان جوابه: «إنّي أكره الخلاف» (4).

وحينما تمخّضت النتائج بترشيح عثمان خليفة من قبل عبدالرحمن بن عوف اكتفى الإمام عليه السلام بالقول: «ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (5)...» (6).

فقد عبّر عن رأيه بلا موقف سلبي، وقال لعبد اللَّه بن عبّاس: «إنّي رأيت الجميع راضين به فلم أحبّ مخالفة المسلمين حتّى لا تكون فتنة بين الأمّة» (7).

ووضع عليه السلام ميزاناً ثابتاً في التعامل مع السلطة والخلافة، فقدّم مصلحة الإسلام العليا على جميع المصالح، وقدّم الوحدة الإسلامية على جميع المغانم والمكاسب الآنية والذاتية، فخاطب أهل الشورى قائلًا: «لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، وواللَّه لأُسلمنَّ ما سلمت أُمور المسلمين؛ ولم يكن فيها جور إلّاعليَّ خاصّة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه» (8).

وكان يقول: «فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد


1- 37 ذخائر العقبى : 82 وتاريخ الخلفاء: 171 والطبقات الكبرى 3: 339.
2- 38 تاريخ اليعقوبي 2: 159.
3- 39 تاريخ الطبري 4: 230.
4- 40 الكامل في التاريخ 3: 66.
5- 41 سورة يوسف الآية: 18.
6- 42 الكامل في التاريخ 3: 71.
7- 43 الفتوح 1: 235.
8- 44 شرح نهج البلاغة 6: 166.

ص: 257

أخذ لغيري، فبايعت عثمان فأديت له حقّه» (1).

فقد تعالى عليه السلام على كثير من الامور حفاظاً على المصلحة الإسلامية العليا، وعلى وحدة الدولة والأمّة، ووقف بجانب الخليفة الجديد لتحقيق الهدف الأكبر وهو تقرير مبادئ الإسلام في واقع الحياة، وممّا نسب إليه في هذا الأمر قوله: «لو سيّرني عثمان عنه إلى صرار لسمعته وأطعت الأمر» (2). وصرار موقع على بعد عدّة أميال من المدينة.

مشاركة أتباعه في الغزوات

لم يحدّثنا التاريخ عن اشتراك الإمام عليه السلام في الغزوات، وإنّما حدّثنا عن مشاركة أتباعه وأنصاره وأبنائه فيها، فقد اشترك أبو أيّوب الأنصاري وأبو ذر الغفاري في بعض الغزوات، واشترك عبداللَّه بن عبّاس في فتح افريقية، واشترك الحسن والحسين وابن عبّاس وآخرون في غزو طبرستان بإمرة سعيد بن العاص (3).

وهذه المشاركة تدلّ دلالة واضحة على تأييد وإسناد الإمام عليه السلام للغزوات والفتوحات؛ لأنّها بالنتيجة تقع في طريق المصلحة الإسلامية العليا متمثّلة بالدعوة إلى الإسلام وإلى توسيع رقعة الدولة الإسلامية و فرض سلطانها على أرجاء الأرض.

الاستعانة برأي الإمام عليه السلام

إيماناً من عثمان بن عفّان بإخلاص الإمام عليّ عليه السلام للمنهج الإلهي وجهاده من أجل المصلحة العليا ووحدة المسلمين كان يستعين برأيه لترشيد وتسديد المسيرة، وكان الإمام عليه السلام يتدخّل أحياناً لتغيير بعض قرارات الحكم وإن لم يستشار بها.

فقد تدخّل لمنع إجراء الحدّ بامرأة، بعد أن أثبت براءتها بالأدلّة الحسيّة (4) وهنالك وقائع عديدة تدخّل فيها الإمام عليه السلام لتكون الأحكام منسجمة مع قواعد الشريعة.

وقد وردت روايات عديدة تنصّ على أنّ عثمان إذا جاءه الخصمان (قال لأحدهما اذهب ادع عليّاً...) (5).


1- 45 تاريخ الخلفاء: 141.
2- 46 تاريخ المدينة المنوّرة 4: 1201.
3- 47 الكامل في التاريخ 3: 77، 89، 109.
4- 48 مناقب آل أبي طالب 2: 413.
5- 49 السنن الكبرى 10: 112.

ص: 258

وكان يستشيره في اختيار الموقف المناسب من المعارضين لسياسته، فيشير عليه بإصلاح الأوضاع وتغيير بعض الولاة (1).

واتفق رأي عثمان مع رأي الإمام علي عليه السلام في جمع المصاحف على قراءة واحدة (2).

سيرة الإمام عليه السلام بعد الفتنة

بعد ستّة أعوام من خلافة عثمان بدأت بوادر المعارضة له ولسيرته من قبل بعض الصحابة، ومن قبل بقيّة المسلمين في بعض الأمصار كالكوفة والبصرة ومصر، وقد خلقت هذه المعارضة جوّاً من الاضطراب والتخلخل في تماسك ووحدة الكيان الإسلامي، وفي ظلّ هذه الأجواء لم يقف الإمام علي عليه السلام موقف الحياد أو الانعزال عن الأحداث وعن الميدان، وإنّما قام بواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظاً على تماسك الكيان الإسلامي وحفاظاً على سلامة تطبيق المنهج الإسلامي من قبل الخليفة والولاة والأمّة، وكان يحاول تهدئة الأوضاع والعلاقات المتشنجة؛ لكي لا تحدث الفتنة وتتوسّع ولكي لا يتمزّق الكيان الإسلامي.

وكان أوّل موقف له عليه السلام أن حذّره من بعض الولاة الذين سبّبوا إثارة المعارضين؛ لأنّهم يدّعون أنّ مواقفهم وأعمالهم كانت بأمر من عثمان (3).

وكان ينصحه كثيراً كلّما خلي به، وكان يقول له: «أمّا الفرقة فمعاذ اللَّه أن أفتح لها باباً، واسهّل إليها سبيلًا، ولكنّي أنهاك عمّاينهاك اللَّه ورسوله عنه، وأهديك إلى رشدك. ألا تنهي سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم، واللَّه لوظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك» (4).

وكان يحذّره من مروان بن الحكم ومن الأخذ برأيه فيقول: «فلا تكوننّ لمروان سيقة يسوقك حيث شاء» (5).

وكان الوسيط بينه وبين المعارضين، وكان عثمان يدعوه أحياناً للتدخّل من


1- 50 البداية والنهاية: 7: 171.
2- 51 الكامل في التاريخ 3: 112.
3- 52 تاريخ الطبري- حوادث سنة 34 ه.
4- 53 شرح نهج البلاغة 9: 15.
5- 54 شرح نهج البلاغة 9: 262.

ص: 259

أجل تهدئة الأوضاع، قال له في أحد المواقف: «... ارددهم عنّي فانّي أعطيهم ما يريدون من الحقّ من نفسي ومن غيري».

فقال له الإمام عليه السلام: «إنّ الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك وانّهم لا يرضون إلّابالرضا، وقد كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تفِ به، فلا تغرر في هذه المرّة، فإنّي معطيهم عنك الحقّ».

قال: اعطهم فواللَّه لأفينَّ لهم.

فخرج الإمام عليه السلام إلى المعارضين فقال: «إنّكم إنّما تطلبون الحقّ وقد أعطيتموه وإنّه منصفكم من نفسه».

وكتب عثمان بينه وبين المعارضين كتاباً على ردّ كلّ مظلمة، وعزل كلّ عامل كرهوه، فكفّوا عنه (1).

إلّا أنّ مروان بن الحكم اعتبر ذلك ضعفاً وأنّه سيجرئهم عليه فخطب في المعارضين وقبّحهم دون علم عثمان، فتأزّمت الأوضاع، وتدخّل الإمام مرّة أخرى فأرجع المعارضين وحذّره من مروان قائلًا: «واللَّه ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيم اللَّه إنّي لأراه سيوردك ثمّ لا يصدرك».

وبعد رجوعهم إلى بلدانهم أمسكوا بغلام عثمان، وبيده كتاب يختمه يأمر والي مصر بقتلهم، فاقتنعوا أنّه مكتوب من قبل مروان، فطالبوا عثمان بتسليمه إليهم فأبى فحدث الحصار (2).

موقف الإمام عليه السلام بعد الحصار

فشلت جميع محاولات المصالحة بين عثمان والمعارضين؛ لأنّهم أصرّوا على تسليم مروان وأصرّ هو على عدم تسليمه، وبدأ الحصار ليستمرّ أربعين يوماً، وفي مدّة الحصار حاول الإمام عليه السلام تهدئة الأوضاع إلّاأنّ الظروف لم تساعده، و استمرّ عليه السلام على نهجه في تهدئة الأوضاع وإخماد الفتنة.

فقد وردت الأخبار أنّ عثمان اشتكى من موقف طلحة، فتوجّه الإمام عليه السلام إلى


1- 55 شرح نهج البلاغة 3: 151.
2- 56 تاريخ الطبري- حوادث سنة 35 ه.

ص: 260

طلحة وقال له: «يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟». فقال: «يا أبا الحسن بعدما مسّ الحزام الطبِّيين».

فانصرف الإمام عليه السلام حتّى أتى بيت المال، فقال: افتحوه، فلم يجدوا المفاتيح، فكسر الباب وأعطى الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتّى بقي وحده، وسرّ بذلك عثمان (1).

وحينما اشتدّ الحصار نصح الإمام عليه السلام المعارضين بعدم قطع الماء عنه، فلم يستجيبوا له، فبعث إليه ثلاث قرب مملوءة بالماء (2).

وبعث إليه عثمان فأتاه، فتعلّق به المعارضون ومنعوه، فحلّ عمامة سوداء على رأسه ورماها داخل بيت عثمان ليعلمه وقال: «اللّهم لا أرضى قتله... واللَّه لا أرضى قتله» (3).

وحينما أصبح الحصار أشدّ وطأة خرج الإمام عليه السلام ومعه الحسن والحسين عليهما السلام فحملوا على المعارضين وفرّقوهم ثمّ دخلوا على عثمان، فأعفاهم عثمان من الدفاع عنه، فخرج الإمام عليه السلام وهو يقول: «اللّهم إنّك تعلم أنّا قد بذلنا المجهود» (4).

وأرسل الإمام عليه السلام ولديه في الدفاع عنه، فمنعوا المعارضين من الدخول إلى منزله، وقد أصابت الحسن عليه السلام عدّة جراحات في الدفاع عنه (5).

وكان الإمام عليه السلام من أشدّ المدافعين عن عثمان كما اعترف مروان بقوله للإمام زين العابدين عليه السلام: «ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم».

قال له الإمام عليه السلام: «فما بالكم تسبّونه على المنابر؟».

قال: «إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلّابذلك!!» (6).

موقف وحدوي صريح

في فترة الحصار توجّه عدد كبير من المسلمين إلى الإمام عليه السلام ليصلّي بهم جماعة، ولكنّه رفض هذا الطلب وأجابهم «لا اصلّي بكم والإمام محصور ولكن اصلّي وحدي» (7).


1- 57 الكامل في التاريخ 3: 167.
2- 58 تاريخ الخميس 2: 262- حسين الدياربكري- مؤسسة شعبان- بيروت- بدون تاريخ.
3- 59 الطبقات الكبرى 3: 68- ابن سعد- دار صادر- بيروت- 1405 ه.
4- 60 تاريخ الخميس 2: 263.
5- 61 البداية والنهاية 7: 181 وتاريخ المدينة المنوّرة 3: 1131.
6- 62 أنساب الأشراف 2: 184، وشرح نهج البلاغة 13: 220.
7- 63 تاريخ الخميس 2: 263.

ص: 261

فقد رفض الإمام عليه السلام الصلاة بالمسلمين- وإن وجد المبرّر لها- ليحافظ على وحدة الصفّ الإسلامي ووحدة الخلافة، وليحافظ على حرمة وقدسية منصب الخلافة، وللحيلولة دون حدوث تصدّع في الجبهة الداخلية، ودون حدوث خلل واضطراب في العلاقات بين الصحابة وبين المسلمين عموماً.

وهكذا كانت سيرته عليه السلام في تعامله مع الأشخاص ومع المواقف ومع الأحداث، حيث كان منقاداً للمصلحة الإسلامية العليا، ولوحدة الكيان الإسلامي؛ ولهذا تعاون وتآزر مع معاصريه من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية الكبرى ، ولم يثنه عن ذلك أيّ عارض أو عائق، فقد جعل الفواصل بينه وبين الخلفاء في حدودها الضيّقة، وتعامل معها كفواصل جزئية من أجل أن يتوجّه الجميع نحو الأفق الأوسع الذي يجمعهم تحت راية واحدة ومصلحة واحدة.

الهوامش:

ص: 262

ص: 263

البعد المعنوي للحجّ في رؤى الامام عليّ عليه السلام

ص: 264

البعد المعنوي للحجّ في رؤى الإمام عليّ عليه السلام

محمد علي المقدادي

حينما نقف عند كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حول الحجّ، ونلاحظ أحاديثه العطرة، نجد أبعاداً فكرية ومعنوية للشخص وللمجتمع، والحقّ أنّ تلك الأبعاد هي الأسوة التي لابدّ لنا منها طيلة حياتنا، فهي صالحة لكلّ إنسان، ولكلّ العصور.

في هذه المقالة الموجزة بعد أن نتعرّف على مواضع تحصيل المعنوية، ننتخب من آثاره عليه السلام ما له صلة بالبحث:

ما هي المعنوية؟

إنّ استفتاح رحمة اللَّه الواسعة، واستنزال بركاته الثمينة، يحتاج إلى مقدّمات ومبادئ، كلّما حصل منها شي ء، حصل القرب إليه سبحانه وتعالى بمقدار ذلك، فالتقرّب إلى الحقّ المبين يساوق المعنوية، فلا معنوية إلّا بالتقرّب.

يقول بعض العلماء المهذّبين:

«اعلم أيّها الطالب للوصول إلى بيت اللَّه الحرام؛ أنّ للحضرة الأحديّة- جلّ شأنه العظيم- بيوتات مختلفة:

منها: الكعبة الظاهرية.

ومنها: البيت المقدّس.

ومنها: البيت المعمور.

ومنها: العرش.

ومنها: القلب.

ص: 265

ومنها: الكعبة الحقيقية.

ولا شكّ ولا ريب في أنّه لكلّ بيت من البيوت لطالبه رسوم وآداب... ثمّ اعلم أنّه لعلّ الغرض من تشريع الحجّ أنّ المقصود الأصلي من خلق الإنسان هو معرفة اللَّه، والوصول إلى درجة حبّه والأنس به، ولا يمكن حصول هذين الأمرين إلّابتصفية القلب، ولا يمكن ذلك إلّابكفّ النفس عن الشهوات، والانقطاع من الدنيا الدنيّة، وإيقاعها على المشاق من العبادات، ظاهرية وباطنية» (1).

إنّ الإمام عليّاً عليه السلام كتب إلى الحارث الهمداني كتاباً يكون بمثابة فصل الخطاب حول تحصيل مواضع العبودية، والوصول إلى المراتب المعنوية، والآن نذكر فقرات من ذلك الكتاب تتميماً للفائدة:

«وتمسّك بحبل القرآن واستنصحه، وأحلّ حلاله، وحرِّم حرامه،... واحذر منازل الغفلة والجفاء وقلّة الأعوان على طاعة اللَّه،... وأطع اللَّه في جُمَلِ أمورك، فإنّ طاعة اللَّه فاضلةٌ على ما سواها، وخادع نفسك في العبادة، وارفق بها ولا تقهرها،...

وإيّاك أن ينزل بك الموت وأنت آبِقٌ من ربّك في طلب الدنيا، وإيّاك ومصاحبة الفُسّاق، فإنّ الشرّ بالشرّ ملحقٌ، ووقّر اللَّه وأحبب أحبّاءه، واحذر الغضب، فإنّه جُندٌ عظيم من جنود إبليس، والسّلام» (2)

.

فتبيّن من هذا أنّ تحصيل الكمالات يحتاج إلى العمل الصالح، والزجر والابتعاد من حرمات اللَّه، وبهذا وبغيره يصير الإنسان وعاءً صالحاً للمعنويات، ويصير أيضاً حقيقاً لاستفتاح الرحمة واستنزال البركة، وجديراً لأن يكون عالَماً ربّانياً.

وفّقنااللَّه لإدراك هذه المراتب والدرجات.

البُعد المعنوي للحجّ

جرت السيرة العقلائية على الرجوع إلى الخبراء الأخصّائيين، للتحقيق والبحث حول أمر ما، أو لرفع مشكل عند بروزه، وهذا أمر بديهي لا ينكره أحد، مثلًا، المريض إذا أراد أن يبرأ من المرض؛ لا يراجع غير المستشفى، ليفحص الطبيب مرضه ثمّ يداويه


1- 1 تذكرة المتّقين، لآية اللَّه الشيخ محمد البهاري الهمداني رحمه الله.
2- 2 نهج البلاغة، فيض الإسلام، الكتاب رقم: 69.

ص: 266

حتّى يبرأ.

وإذا ما أردنا نحن البحث عن البعد المعنوي للحج فعلينا المراجعة إلى أخصائي خبير في هذا الموضوع، ألا وهو الإمام علي عليه السلام، فهو الإنسان الكامل الذي بذل كلّ جهوده لصالح الأمّة المسلمة، وهو الخبير الذي يكون كالبحر الواسع، ولا تزال تجري من وجوده العلوم بكلّ فروعها، ويترشّح من زلال معنوياته كلّ الخير.

والعجيب أنّه لم يحدّث حتى برواية واحدة طيلة حياة الرسول صلى الله عليه و آله، ولم ينقل منه عليه السلام خبر قطّ خلال تلك الفترة، إنّ هذا يحكي عن توقيره وشدّة احترامه لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بل الإمام عليه السلام قد بادر بأخذ العلم والحكمة من الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وأخذ ما أخذ، حتّى صار أفضل صحابته علماً وعملًا...

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (1)

. ولأجل هذا قرّرنا أن نستفيد من كلماته الحكيمة (سلام اللَّه وصلواته عليه) في هذه الوجيزة.

المناسك

إنّ المناسك التي أوجبها اللَّه تعالى للحاج والمعتمر؛ مملوءة من الدروس والعبر، بعد أن كانت أحكاماً تبدأ من الميقات وتنتهي إلى الحلق أو التقصير، وإلى طواف النساء وصلاته، وتتجلّى أهمّية هذه المناسك عندما نرى أحكامها المتعدّدة التي نحتاج لأدائها إلى ساعات بل أيّام كالإحرام وتروكه، والطواف وصلاته، والسعي، والحلق أو التقصير، والوقوف بعرفات، والوقوف بالمشعر الحرام، والنفر إلى منى، والرمي، والذبح، والبيتوتة في منى أيّام التشريق، وغيرها.

ولا يخفى أنّ ما يتحمّله الحاجّ من المعاناة والتعب والمشاق، يتيح له الفرصة لأن يفكّر لماذا أمر اللَّه سبحانه وتعالى عباده الأغنياء- ولا الفقراء- أن يأتوا من كلّ فجٍّ عميقٍ إلى أداء المناسك؟ وقال عزّ من قائل: وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (2)

. وإثر هذه الأهمية فقد كتب الإمام عليه السلام رسالة إلى قثم بن العبّاس، وهو عامله على مكّة:

«أمّا بعد، فأقم للناس الحجّ،


1- 1 تاريخ دمشق 2: 464، تحت الرقم 991 من ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. ومناقب الإمام أمير المؤمنين، لمحمد بن سليمان الكوفي القاضي، من أعلام القرن الثالث 2: 558.
2- 2 سورة آل عمران 3: 97.

ص: 267

وذكِّرهم بأيّام اللَّه، واجلس لهم العصرين (1)، فأفتِ المُستفتي، وعلِّم الجاهل، وذاكر العالِم، ولا يكن لك إلى الناس سفيرٌ إلّالسانك، ولا حاجبٌ إلّا وجهك. ولا تحجبنَّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت (2) عن أبوابك في أوّل وِردها (3)، لم تحمد فيما بعد على قضائها...» (4)

.

أفاد الإمام عليه السلام خلال هذه الجمل الحكيمة، أنّ زائر بيت اللَّه الحرام يحتاج إلى تعلّم الأحكام والمناسك، وإذا نسي أو جهل فلابدّ وأن يسأل العلماء عن كلّ ما يجهله. ونستفيد أيضاً لزوم مرافقة عالم ديني في هذه الأزمنة؛ للحاج أو المعتمر؛ لئلا يبقى جاهلًا، بل يبادر بتدارك أعماله العبادية طبقاً لوظيفته.

ولذلك نرى كلّ قوافل الحجّ تستفيد من عالم ديني عارف بالأحكام والمناسك، وهو يرافقهم في هذا السفر الإلهي المبارك، لأنّ آثار بطلان الحجّ والعمرة ربّما تثير إلى فشل علاقات اجتماعية، كحرمة الزواج، وحرمة المواقعة، وإلى وجوب أداء الكفّارة وأمثالها.

وفي ضوء ذلك يقول الإمام علي عليه السلام في كتابه إلى عامله على البصرة؛ عثمان ابن حنيف الأنصاري: «... ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ويستضي ءُ بنور علمه...، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقُرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ وعفّةٍ وسدادٍ...» (5)

.

النظر إلى بيت اللَّه

ومن وصاياه عليه السلام: «... إذا حججتم فأكثروا النظر إلى بيت اللَّه فإنّ للَّه مائة وعشرين رحمة عند بيته الحرام، منها ستّون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين...» (6)

.

إنّ السياحة والزيارة من الأسباب التي يمكن تحصيل المعنوية بها؛ لأنّ البصيرة تحصل بالبصر. ولكن هل يكون لكلّ سياحة ولأيّ زيارة هذا الأثر العظيم، أم يلزم ذلك زيارة خاصّة؟

والهدف من السياحة والنظر إلى الأماكن والآثار التأريخية الموجودة في أنحاء العالم، هو الوقوف على الفنون


1- 1 العصران: هما الغداة والعشيّ، على سبيل التغليب.
2- 2 ذيدت: أي دُفعت ومُنعت، مبني للمجهول من «ذاده يذوده» إذا طرده ودفعه.
3- 3 بالكسر: ورودها.
4- 4 نهج البلاغة، الدكتور صبحي الصالح، كتاب رقم: 67، الصفحة: 457.
5- 5 نهج البلاغة، فيض الإسلام: 966.
6- 6 تحف العقول: 107.

ص: 268

المعمارية القديمة وجهود الفنّانين في تلك العصور، والعلم بالحضارات والثقافات الفانية التي أحدثتها الملل السابقة، وقد يكون الهدف من السياحة نفس السياحة، وليس شيئاً آخر؛ وحينئذٍ لا يوجد أي باعث معنوي لتلك السياحة ولذاك النظر.

نعم، قلّما يتّفق إثارة الباعث المعنوي، كأن يكون الزائر من الأشخاص الذين لا ينظرون إلى الظاهر فقط، بل يتوجّهون إلى المعنى والباطن، وفي أثر هذا يدّخرون الحسنات ليوم المعاد.

ثمّ إنّه ليس للنظر ثواب ورحمة إلّا في بعض الأشياء، كالنظر إلى وجه العالم، ونظر الولد إلى وجه والديه و...، وأما النظر إلى الكعبة الشريفة، فله ثواب أكثر لم يرد في الأحاديث مثله.

إنّ ساحة المسجد الحرام مملوءة بالرحمات الكثيرة، ولا يمكن الحصول على هذه الخيرات إلّافي هذا المكان المقدّس، فالزائر لبيت اللَّه الحرام والمتواجد فيه، لا يخرج من هذه الحالات الثلاث:

إمّا أن يكون طائفاً، وإمّا أن يكون مصلّياً، وإمّا أن يكون ناظراً.

فأمّا الطائف، تنزل لصالحه ستّون رحمة.

وأمّا المصلّي، فتنزل لصالحه أربعون رحمة.

وأمّا الناظر- سواء أكان جالساً في المسجد أو قائماً- عندما ينظر إلى بيت اللَّه الحرام، فتنزل لصالحه عشرون رحمة.

وأنت ترى ما أنتج هذا السفر الإلهي من المعنويات والآثار المقدّسة، فهل يمكن استنزال الرحمة في سائر الأماكن كاستنزالها في بيت اللَّه الحرام؟

فالسير إلى ديار الوحي، والنفر من الأهل والولدان، للحضور في بلد اللَّه الآمن الذي سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ...، ليس إلّالباعث معنوي قوي؛ وهو النظر إلى الكعبة، وآيات اللَّه البيّنات، والتوجّه إلى وسمات العبودية للَّه سبحانه وتعالى ، وقطع العلاقات عن كلّ شي ء وعن كلّ شخص وحتى عن نفسه.

وفي هذه الساحة المباركة- المسجد

ص: 269

الحرام- يمكن إحساس اللحاق باللَّه تعالى وبالخلد والخلود والرجوع إلى الفطرة السليمة البعيدة من التلوّث والانحراف، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (1)

.

إقرار العبد عند البيت

إنّ عظمة وجمال المسجد الحرام وخصوصاً الكعبة الشريفة، والأروقة المحيطة بها، والمطاف، ومقام إبراهيم، وحجر إسماعيل والميزاب والحطيم والملتزم والمستجار وبئر زمزم، كلّ منها يشير إلى الذكريات التأريخية المهمّة، وأجمل من ذلك مناجاة الناس في المطاف المقدّس بمختلف لغاتهم حينما يبدأ كلّ منهم بالإقرار بالعبودية والتوبة من الذنوب.

والحقّ أنّ هذا المكان الرفيع المقدّس أفضل الأ مكنة للإقرار بالذنوب والمعاصي وطلب العفو من اللَّه سبحانه وتعالى.

إنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «... أقرُّوا عند بيت اللَّه الحرام بما حفظتموه من ذنوبكم، وما لم تحفظوه فقولوا: ما حفظتَه ياربّ علينا ونسيناه فاغفر لنا، فإنّه من أقرَّ بذنوبه في ذلك الموضوع، وعدّدها وذكرها واستغفر اللَّه جلّ وعزّ منها، كان حقّاً على اللَّه أن يغفرها له» (2).

ينبغي للإنسان أن يكون عارفاً بما يفعل ويعمل، ويلزم عليه أن يحفظ في ذاكرته كلّ أعماله، خصوصاً ما كان منها يحتاج إلى طلب عفو، أو إعطاء حقّ، أو غيرهما. فإذا نسي ما لا بدّ له من الجابر، فلا يمكن للناسي الفرار من سخط اللَّه سبحانه وتعالى وعذابه، سيّما إذا كان ذلك من حقوق الناس.

ولنعم ما قال صاحب تفسير آلاء الرحمان، العلّامة الشيخ محمد جواد البلاغي رحمه الله حول هذا الموضوع، حيث قال: «... إنّ كثيراً من النسيان والخطأ ما يقع بسبب التساهل والتقصير في التحفّظ لتحصيل ما كلّف به، وهذا ممّا لا تقبح فيه المؤاخذة على مخالفة الواقع، فطلبوا من اللَّه أن لا يؤاخذهم في ذلك» (3).

فقوله عليه السلام: «... ومالم تحفظوه فقولوا:

ما حفظته يا ربّ علينا ونسيناه فاغفر لنا». يشعر بذلك المعنى؛ لأنّه لا يخفى على اللَّه شي ء في الأرض ولا في السماء.


1- 1 سورة البقرة: 138.
2- 2 تحف العقول: 107.
3- 3 تفسير آلاء الرحمان 1: 252- 253.

ص: 270

قال سبحانه وتعالى: ما يلفظ من قولٍ إلّالديه رقيبٌ عتيدٌ (1).

وقال تعالى: إنْ كلُّ نفسٍ لمّا عليها حافظٌ (2).

وقال تعالى : إنَّ اللَّه لا يخفى عليه شي ءٌ في الأرض ولا في السماء (3).

ثمّ إنّه لا يخفى على المتدبّر أنّ النسيان من النعم الكبيرة التي رزقها اللَّه تعالى عباده، فلو لم يكن النسيان وكان الإنسان متذكّراً دائماً بما أصابه من المصيبات والغموم والهموم، وبما ظلمه الظالمون، لم يبقَ حجر على حجر، ولكثرت الأحقاد والضغائن، والحوادث الدامية في المجتمع.

فالناظر إلى بيت اللَّه الحرام، والحاضر في تلك الساحة المقدّسة، يحقّ أن يباهي جميع الناس بأنّه الزائر وأنّ المزور يغفر لزائره، ويا حبّذا من هذا المقام المنيع، يقرّ العبد في ذلك المكان المقدّس الطاهر بذنوبه، واللَّه سبحانه وتعالى يغفرها.

وبما أنّ الإنسان محلّ للزلّة والخطإ، فلا بدّ وأن يجد مكاناً لغفران ذنوبه وزلّاته، فهل يوجد مكان أفضل من المسجد الحرام لذلك الغرض؟ ولهذا أمرنا الإمام عليه السلام بالحضور الدائم فيه وأوصى الناس أن لا يتركوا البيت العتيق خالياً:

قال عليه السلام في وصيّته لابنه الحسن المجتبى عليه السلام: «... اللَّه اللَّه في بيت ربّكم فلا يخلو منكم ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا وأدنى ما يرجع به مَن أمَّهُ أن يغفر له ما سلف» (4).

إنّ الإمام عليه السلام لم يوص بهذا الأمر فقط، بأن لا يخلو البيت وأن يكون دائماً مملوءاً من المستغفرين، بل إنّه عليه السلام عمل بهذا المعنى ليعلّمنا كيف نستغفر اللَّه وكيف نتقرّب إليه؟! وإليك بعض النصوص الواردة في هذا الأمر:

كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا صعد الصفا استقبل الكعبة ثمّ يرفع يديه ويقول:

«اللّهمّ اغفر لي كلّ ذنب أذنبته قطّ، فإن عدتُ فعد عليَّ بالمغفرة، فإنّك أنت الغفور الرحيم، اللّهمّ افعل بي ما أنت أهله، فإنّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني، وإن تعذّبني فأنت غني عن عذابي وأنا محتاج إلى رحمتك، فيامن


1- 1 سورة ق: 18.
2- 2 سورة الطارق: 4.
3- 3 سورة آل عمران: 5.
4- 4 تحف العقول: 198.

ص: 271

أنا محتاج إلى رحمته ارحمني، اللّهمّ لا تفعل بي ما أنا أهله، فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذبني ولن [لم ] تظلمني، أصبحتُ أتّقي عدلك، ولا أخاف جورك، فيا من هو عدلٌ لا تجور ارحمني» (1).

الوقوف

لقد بلغت أركان الحجّ مرتبة رفيعة من الأهمّية، بحيث لو ترك واحدة منها لبطل الحجّ ويجب على التارك التدارك في العام المقبل.

ومن تلك الأركان: لزوم الوقوف بالموقفين، عرفات والمشعر الحرام.

فالحاجّ بعد أن أحرم في الحرم يجب عليه أن يخرج من الحرم حتى يهيّئ نفسه للدخول فيه مرّة أُخرى .

ولا يكاد يسمح للحاجّ الدخول في الحرم الآمن إلّابعد أن يتعب نفسه في أداء المناسك، والصبر على الحرّ والبرد، وصرف المال الحلال؛ لأنّه إن صرف المال المشتبه في هذا السفر المعنوي لم يصحّ حجّه، ولا يصير حاجّاً، فحينئذٍ بقي العناء وذهب الأجر ولا العكس.

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئل عن الوقوف بالجبل (2)، لِمَ لم يكن في الحرم؟

فقال عليه السلام: «لأنّ الكعبة بيته والحرم بابه، فلمّا قصدوه وافدين، وقفهم بالباب يتضرّعون».

قيل له: فالمشعر الحرام لِمَ صار في الحرم؟

قال عليه السلام: «لأنّه لمّا أذن لهم بالدخول وقفهم بالحجاب الثاني، فلمّا طال تضرّعهم بها أذن لهم بتقريب قربانهم، فلمّا قضواتفثهم تطهّروابهامن الذنوب التي كانت حجاباً بينهم وبينه، أذن لهم بالزيارة على الطهارة».

قيل: فلِمَ حرّم الصيام أيّام التشريق؟

قال عليه السلام: «لأنّ القوم زوّار اللَّه، فهم في ضيافته، ولا يجمل بمضيف أن يصوّم أضيافه».

قيل: فالتعلّق بأستار الكعبة لأيّ معنى هو؟

قال عليه السلام: «هو مثل رجل له عند آخر جناية وذنب، فهو يتعلّق بثوبه يتضرّع إليه ويخضع له أن يتجافي عن ذنبه» (3).

الرمي

لسنا الآن بصدد بيان فلسفة أحكام الحجّ وكم لها من علل وأسباب، بل


1- 1 وسائل الشيعة 13: 478.
2- 2 المراد هو جبل الرحمة بعرفات.
3- 3 وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب أقسام الحج، الحديث رقم 18.

ص: 272

أردنا أن ننظر إلى البُعد المعنوي الذي به قوام الحكم، وفي ضوئه يتّضح طريق الحقّ ومسيرة الفلاح.

ولا يستثنى الرمي هنا، إنّ رمي الجمار ليس المقصود به مجرّد رمي الجمرات الثلاث؛ الأولى والوسطى والعقبة بعدد من الحصى، بل الرمي هو رمي الشيطان، فبالرمي يبتعد الإنسان المؤمن عن الشيطان، ويتقرّب أكثر فأكثر من حضرة الحقّ، ولا يحصل ذلك للرامي إن كان من حزب الشيطان، وبالتالي فلا يرمي إلّانفسه، فيجب عليه أوّلًا أن يخرج من ذلك الحزب الخاسر، حتى يستطيع اللحاق بحزب اللَّه تعالى.

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الجمار إنّما رميت لأنّ جبرئيل حين أري إبراهيم المشاعر برز له إبليس، فأمره جبرئيل أن يرميه، فرماه بسبع حصيات، فدخل عند الجمرة الأخرى تحت الأرض فأمسك، ثمّ برز له عند الثانية فرماه بسبع حصيات أُخر، فدخل تحت الأرض موضع الثانية، ثمّ إنّه برز له في موضع الثالثة فرماه بسبع حصيات، فدخل في موضعها» (1).

وقد نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«رمي الجمار ذخر يوم القيامة» (2).

وقال صلى الله عليه و آله أيضاً: «الحاجّ إذا رمى الجمار خرج من ذنوبه» (3).

فتبيّن من جميع ما ذكر أنّ الرمي ليس عملًا عبادياً جافّاً فقط، إنّه عمل معنوي مقارن مع قصد القربة إلى اللَّه سبحانه وتعالى ، ويفسد هذا العمل بسبب الرياء الذي هو جند من جنود إبليس.

الذبح

إنّ الأضحية من الواجبات التي أوجبها اللَّه في الحج. ويرجع ذلك إلى الامتحان الذي ابتلى إبراهيمَ الخليل ربّهُ به، وقال عزّ من قائل:... قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ (4).

وإبراهيم عليه السلام علم في المشعر الحرام بأنّ وظيفته هي (ذبح ابنه). روى علي ابن إبراهيم في تفسيره ذيل هذه الآية الشريفة روايةً ننقل فقرات منها:


1- 1 وسائل الشيعة، الباب 4 من أبواب العود إلى منى، الحديث رقم 6.
2- 2 وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب رمي جمرة العقبة، الحديث رقم 7.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 سورة الصافات: 102.

ص: 273

«ثمّ أمره اللَّه بالذبح، فإنّ إبراهيم عليه السلام حين أفاض من عرفات بات على المشعر الحرام وهو فزع فرأى في النوم أن يذبح ابنه... وأقبل شيخ [ظهر الشيطان في صورته ] فقال: يا إبراهيم! ما تريد من هذا الغلام؟

قال: أريد أن أذبحه.

فقال: سبحان اللَّه! تذبح غلاماً لم يعصِ اللَّه طرفة عين!.

فقال إبراهيم عليه السلام: إنّ اللَّه أمرني بذلك.

فقال: ربّك ينهاك عن ذلك وإنّما أمرك بهذا الشيطان.

فقال له إبراهيم عليه السلام: ويلك إنّ الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به، والكلام الذي وقع في أذني...» (1).

فلمّا تبيّن أنّه عليه السلام عازم جدّاً لذبح ابنه، أرسل اللَّه سبحانه وتعالى له كبشاً عوضاً عنه، حيث قال سبحانه:

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِي الُمحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (2).

وصار الذبح سنّةً ودخل في الإسلام كواجب شرعي، فوجب على كلّ حاج أن يشتري من صفو ماله هدياً ليذبحه.

لقد ذكر العالم والعارف الربّاني ملّا أحمد النراقي رحمه الله كلاماً ننقل منه بعض ما يرتبط بالذبح: «... إنّ الحاج عندما ذبح هديه، يتنبّه أنّ هذه الذبيحة تشير إلى حقيقة هي: بسبب الحجّ قد ظفرتُ على الشيطان والنفس الأمّارة وقتلت كليهما وفرغت من العذاب الإلهي. وبعد هذا (الذبح) لزم أن يتعهّد على عدم تراجعه أبداً إلى فعل المعاصي التي ارتكبها سابقاً، وأن يتوب عن الأعمال القبيحة. ويلتزم أيضاً أن يكون صادقاً في هذا الميثاق. ثمّ إنّه قد أظهر الحاج بعمله هذا أنّه طرد الشيطان وبادر على تذليل النفس الأمّارة» (3).


1- 1 تفسير علي بن إبراهيم القمّي 2: 224- 225.
2- 2 سورة الصّافات: 102- 111.
3- 3 كتاب مصباح الشريعة الباب 22، الصفحة: 142، مجلة الميقات الفارسية العدد 7، الصفحة: 48، 1373 ه. ش.

ص: 274

ولا يخفى أنّه إذا احتاج أداء الواجب الشرعي لصرف الأموال وبذل النقود فحينئذٍ يكشف البخيل عن الجواد ويفترق المؤمن المنقاد عن غيره وهكذا.

إنّ بذل المال بلغ مرتبة من الأهمّية بحيث صار تلواً لبذل النفس، قال اللَّه عزّوجلّ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ... (1)

بل المال عند كثير من الناس صار أهم من النفس، فوا سوأتا! لو ترى من يعيش لجمع المال ولا يصرف المال ليعيش!

والحاجّ حينما وصل إلى منى وصرف المال لأداء الواجب الشرعي، ألا وهو الذبح، فقد رغم أنف الشيطان وهيّأ أرضيةً مناسبة لغفران ذنبه وقبول توبته.

قال الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام:

«لو علم الناس ما في الأضحية لاستدانوا وضحّوا، إنّه ليغفر لصاحب الأضحية عند أوّل قطرة تقطر من دمها» (2)

.

وقال عليه السلام أيضاً: «سمعتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطب يوم النحر، وهو يقول: هذا يوم الثجّ والعَجِّ. والثجُّ؛ ما تهريقون فيه من الدماء، فمن صَدَقت نيّته كانت أوّل قطرة له كفارة لكلّ ذنبٍ. والعَجُّ؛ الدعاء، فعجُّوا إلى اللَّه، فوالذي نفس محمّدٍ بيده لا ينصرف من هذا الموضع أحد إلّامغفوراً له، إلّا صاحب كبيرةٍ مصرّاً عليها لا يحدّث نفسه بالإقلاع عنها» (3)

.

فقد تبيّن أنّ الذبح طريق لاستنزال رحمة اللَّه وغفرانه وقد علّمنا الرسول صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام أنّ هذا الطريق سبب لقبول توبة العباد وغفرانهم.

ولما للذبح من أهمّية وفوائد نرى الإمام عليّاً عليه السلام يضحي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ويقول في بداية الذبح:

«بسم اللَّه، وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه ربّ العالمين، اللّهم منك ولك، اللّهم هذا عن نبيّك»، ويذبح كبشاً آخر عن نفسه (4).


1- 1 سورة التوبة: 111.
2- 2 وسائل الشيعة، المجلّد 14، الباب 64 من أبواب الذبح، الحديث رقم 2. الحج في السنّة: 263.
3- 3 الحج والعمرة في الكتاب والسنّة: 235.
4- 4 وسائل الشيعة، المجلّد 14، الباب 37 من أبواب الذبح، الحديث رقم 2.

ص: 275

الهوامش:

الكعبة المشرّفة: سرُّ البناء والموقع قراءة في خطبة القاصعة

ص: 277

الكعبة المشرّفة: سرُّ البناء والموقع (قراءة في خطبة القاصعة)

عبد السلام زين العابدين

احتلّ حديث الإمام عليّ عليه السلام حول الكعبة المشرّفة في خطبة (القاصعة) مساحةً واسعةً، ركّز فيها على سرّين أساسيين:

السرّ الأوّل: طبيعة البناء (أحجارٌ لا زمرّد، ولا ياقوت).

السرّ الثاني: طبيعة الموقع (جبالٌ خشنة ورمالٌ دمثة).

لقد كشف الإمام عليه السلام أسرار كون بيت اللَّه الحرام من أحجار «لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع».

لماذا كانت الاسس والبناء من حجارة، وليس «من زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونورٍ وضياء»؟!

ولماذا كان الموقع الجغرافي «بأعور بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الأرض مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبالٍ خشنة ورمالٍ دمثة وعيون وشلة»؟!

لماذا لم يضع اللَّه- عزّوجلّ- بيته الحرام ومشاعره العظام «بين جنّات وأنهار،

ص: 278

وسهلٍ وقرار، جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البنا، متّصل القرى ، بين بُرّةٍ سمراء، وروضة خضراء، وأريافٍ محدقة وعراصٍ مغدقة، ورياضٍ ناضرة، وطرق عامرة» (1)؟!

وبكلمةٍ واحدة: لماذا كانت الكعبة أحجاراً بوادٍ غير ذي زرع؟!

أسئلةٌ مهمّة يجيب عنها أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في خطبة هي من أروع خطبه التي جمعها الشريف الرضي في نهج البلاغة تسمّى (القاصعة).

المبحث الأوّل

خطبة القاصعة: الهيكلية ودلالات السياق

جاء في الحديث عن مكّة والكعبة في سياق خطبة القاصعة منسجماً مع محورها العام، وموضوعها الأساس الذي ركّزت عليه من أوّلها إلى آخرها، وفي جميع فقراتها.

وقد سمّيت الخطبة ب (القاصعة) لأنّها تزيل الكبر عن قلب سامعها أو قارئها إذا أصغى قلبه إلى كلماتها، كما يقصع الماء العطش، من قَصَعَ بمعنى أزال، أو لأنّها تحقر وتشجب المتكبِّرين والمترفين الذين ينازعون اللَّه رداء عزّه وكبريائه، قصع بمعنى حقر وصغّر، وقيل غير ذلك.

يطرح العلّامة ميثم البحراني وجوهاً أربعة قد ذكرها الشارحون لنهج البلاغة في معنى (القاصعة) جاء الوجه الثالث منها: «سمّيت بذلك لأنّها هاشمة كاسرة لإبليس، ومصغّرة ومحقّرة لكلّ جبّار، وهو وجه حسن»، أمّا الوجه الرابع: «لأنّها تسكِّنُ نخوة المتكبّرين وكبرهم فأشبهت الماء الذي يسكِّنُ العطش، فيكون من قولهم: قصَعَ الماء عطشه إذا سكّنه وأذهبه» (2).

وجاء في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي في معنى (القاصعة) «من قصع فلانٌ


1- 1 نهج البلاغة، خطبة 192 القاصعة.
2- 2 ميثم البحراني، شرح النهج 4: 234.

ص: 279

فلاناً: أي حقّره؛ لأنّه عليه السلام حقّر فيها حال المتكبّرين» (1).

تبدأ خطبة (القاصعة) بتقرير حقيقة إذا غفل عنها الإنسان أصابه الكبر؛ ألا وهي أنّ «العزّ والكبرياء» للَّه عزّ وجلّ فحسب، لا يشاركهما فيه أحد:

«الحمدُ للَّه الذي لبس العزّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمىً وحَرَماً على غيره، واصفاهما لجلاله، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده».

المستكبرون عبر التاريخ: نماذج ومصاديق

ثمّ تبدأ فقرات الخطبة باستعراض المصاديق الصارخة لأولئك الذين نازعوا اللَّه رداء العزّة والكبرياء، فعاشوا الاستكبار والاستعلاء، منذ مرحلة التمهيد للخلافة (دور جنة آدم عليه السلام) وهي مرحلة ما قبل هبوط آدم، إلى الأرض، إلى (الناكثين) و (القاسطين) و (المارقين) الذين قاتلهم عليّ عليه السلام، وجاهدهم ودوّخهم!

المصداق الأوّل: إبليس إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين؛ لذا فإنّ خطبة القاصعة تبدأ بمصداق الاستكبار الأوّل إبليس الذي هو أوّل من قال (أنا)، فأسّس الأنيّة والأنانية: أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين، لذلك أبى السجود بقوله: أأسجدُ لمن خلقت طيناً، أأسجد لبشرٍ خلقته من صلصالٍ من حمإ مسنون:

«ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين، لتميزَ المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب، ومحجوبات الغيوب:

إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ اعترضته الحميّة فافتخر على آدم بخلقه، وتعصّب عليه لأصله. فعدّه اللَّه إمام المتعصّبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية ونازع اللَّه رداء الجبريّة، وادّرع لباس


1- 1 شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار 2: 520.

ص: 280

التعزّز، وخلع قناع التذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللَّه بتكبّره، ووضَعَه بترفّعه، فجعله في الدنيا مدحوراً، وأعدَّ له في الآخرة سعيراً؟!».

ولم يكن إبليس شخصاً عادياً، فله تأريخٌ عبادي طويل، ترسمه خطبة (القاصعة) بأبلغ وصف:

«فاعتبروا بما كان من فعل اللَّه بإبليس إذْ أحبط عمله الطويل، وجهدهُ الجهيد، وكان قد عبد اللَّه ستّة آلاف سنة، لا يُدرى أمِنْ سِني الدُّنيا أم من سِني الآخرة، عن كبر ساعةٍ واحدة».

ثمّ يتساءل أمير المؤمنين عليه السلام محذِّراً:

«فمن ذا بعد إبليس يسلمُ على اللَّه بمثلِ معصيته؟ كلّا»

المصداق الثاني: قابيل

«ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللَّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللَّه به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة».

المصداق الثالث: فرعون الطاغية

وفي سياق التحذير من طاعة السادات والكبراء والأدعياء «الذين تكبّروا على حسبهم، وترفّعوا فوق نسبهم»، والاعتبار «بما أصاب الأمم المستكبرين...

من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه ومثلاته» (1)، يذكر الإمام عليه السلام مصداقاً صارخاً للطاغية المستكبر الذي ما فتئ يدقُّ على طبل «أنا ربّكم الأعلى» و «ما علمت لكم من إله غيري»:

«ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العِصيّ فشرطا له إنْ أسلم بقاء ملكه ودوام عزّه، فقال:

«ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ وبقاء الملك وهما بما ترون من حال


1- 1 العقوبات.

ص: 281

الفقر والذلّ، فهلّا أُلقي عليهما أساوِرةٌ من ذهب»؟ إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه!. ولو أراد اللَّه لأنبيائه حيث بعثهم أنْ يفتح لهم كنوز الذِّهبان (1)، ومعادن العِقيان (2)، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء، ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء (3)، وبطل الجزاء (4)، واضمحلّت الأنباء (5)، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين (6)، ولا لزمت الأسماء معانيها» (7).

«ولكنّ اللَّه سبحانه جعل رسله أولي قوّةٍ في عزائمهم، وضعفةٍ فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعةٍ تملأُ القلوب والعيون غنًى، وخصاصةٍ تملأُ الأبصار والأسماع أذًى».

وفي هذا السياق؛ سياق الحديث عن الابتلاء في ساحة الصراع، وميدان المواجهة بين المترفين والأنبياء، وسرّ ما يعيشه الأنبياء عليهم السلام، على مرّ التاريخ، من استضعافٍ ومحنةٍ ومعاناةٍ وخصاصة، لأسباب ومقاصد عديدة.. عرّج الإمام عليه السلام على مكّة المكرّمة والكعبة المشرّفة كمصداقٍ من مصاديق الاختبار والابتلاء، من خلال طبيعة المادّة والبناء أوّلًا، وطبيعة الموقع الجغرافي الصعب ثانياً.

المبحث الثاني

طبيعة البناء: حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء

النصّ الأوّل: «ألا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً»!

النصّ الثاني: «ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدةٍ خضراء، وياقوتة حمراء، ونورٍ وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في


1- 1 جمع ذهب.
2- 2 نوع من الذهب ينمو في معدنه.
3- 3 البلاء في ساحة الصراع بين المستضعفين والمستكبرين إذ لا مستضعف يبتلي به المتكبرون: ص وكذلك جعلنا لكلّ نبيّاً عدوّاً من المجرمين ش.
4- 4 لأنّ العبادات والطاعات تكون عن رهبةٍ أو رغبة دنيويتين.
5- 5 فلا رسالة ولا رسل.
6- 6 حيث لا معاناة ولا مجاهدة ولا عطاء ولا تضحية.
7- 7 فلا معنى لكلمة مؤمن ومجاهد وصابر وزاهد.. فتصدق الأسماء بدون مسمّيات.

ص: 282

الصدور، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب من الناس.

ولكنّ اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلًا لعفوه».

في هذين النصّين الرائعين يرسم أمير المؤمنين سرَّ طبيعة بناء الكعبة المتواضع المتكوّن من أحجارٍ جامدة، ينظرُ إليها الناظر فيراها لا تمتلك شعوراً ولا إحساساً.. فلا بصر ولا سمع، ولا ضرّ ولا نفع.. ومع كلّ ذلك يسعى الحجيج للطواف حولها بكلِّ خشوع واستكانة وخضوع. بل نراهم (يتقاتلون) على استلام الحجر الأسود والسلام عليه ومعاهدته!! وهو لا يملك بريق الزمرّد، وتلألأ الياقوت..

وفي ذلك سرٌّ كبير يكشفه لنا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته القاصعة.. لأنّ البناء لو كان من «زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونورٍ وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب، ولنفى معتلج الرّيب من الناس».

ما معنى ذلك؟ وكيف يحصل كلُّ ذلك؟

لقد أراد اللَّه عزّوجلّ أنْ يكون القصد لبيته الحرام نابعاً من معاناة ووعي وإيمان، خالصاً من الدوافع المادّية العاجلة.. ولو كان البيت من تلك الأحجار النفيسة (الزمرّد والياقوت):

أوّلًا: «لخفّف ذلك مصارعة (1) الشكّ في الصدور»، لأنّ نفاسة تلك الأحجار هي التي تدفعهم إلى التصديق والاعتقاد بأنَّ البيت بيته، كما تدفعهم إلى الطواف حولها.

ثانياً: «ولوضع مجاهدة إبليس في القلوب»، لأنَّ قصد البيت وزيارته تكون من منطلق الانبهار بجواهره، والتأثّر بدرره ونفاسة أحجاره، والتمتّع برؤية زينته


1- 1 وقرئ مسارعة، كما قرين مضارعة.

ص: 283

ومنظره، وليس من منطلق مجاهدة إبليس الداعي إلى التخلّف عن حجّه وإيثار الدعة والسلامة على قصده.

ثالثاً: «ولنفى معتلج الرَّيب من الناس»، أي لزال تلاطم واضطراب الريب والشكّ من صدور الناس.

إشكاليّة ابن أبي العوجاء:

لو لم يكن البيت من أحجار عادّية لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية: «من الأوّلين من لدن آدم عليه السلام إلى الآخرين من هذا العالم»، حيث تنجلي قصّة العبودية للَّه عزّوجلّ، والطاعة لأوامره فيما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا يمارسها إلّاالذين اختلّت عقولهم.. فما قيمة الطواف حول بيت من حجارة صمّاء، والسعي بين جبلين صلدين، والرجم لأحجار كبيرة بأحجارٍ صغيرة، واستلام حجر أسود كالفحم، وما إلى ذلك من المناسك والممارسات؟

وهذا النمط من التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة عليهم السلام من أمثال ابن أبي العوجاء، فخاطب الإمام الصادق عليه السلام قائلًا:

«إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكر في هذا أو قدّر، علم أنَّ هذا فعل أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر».

ثمّ خاطب الإمام قائلًا:

«فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك أسّه ونظامه؟»

فأجابه الإمام عليه السلام قائلًا:

إنَّ من أضلّه اللَّه وأعمى قلبه استوخم الحقّ، فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه، يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره».

ص: 284

«وهذا بيت استعبد اللَّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة المصلّين، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدِّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال..» (1).

فقد أكّد الإمام في المقطع الأوّل من جوابه على مدى ضلال تلك النظرة، وعمى قلب صاحبها، ممّا تجعله يستوخم الحقّ، ولا يدرك مدى دلالات وإيحاءات تلك المناسك المشحونة بالدلالات والإيحاءات.

وأعطى في المقطع الثاني بعضاً منها، كان أوّلها استعباد اللَّه خلقه بهذا البيت «ليختبر طاعتهم في إتيانه».

وهكذا نلتقي بمقصد الابتلاء والاختبار الذي أكّدته خطبة القاصعة: «ألا ترون أنَّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع...».

الحجر الأسود: تجديد العهد والميثاق

لا يتصورنَّ أحدٌ أنَّ مناسك الحجّ هي مجرّد فعّاليات تقام تعبّداً ليس إلّا، من دون أن تختزن أسراراً وبواطن وقيماً وتأريخاً.. لننظر إلى الحجر الأسود- مثلًا- مجرّداً عن كلّ تأريخ ومعنى، بعيداً عن عالم الملكوت.

مرَّ عمر بن الخطّاب على الحجر الأسود. فقال: واللَّه يا حجر إنّا لنعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع، إلّاأنّا رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يحبّك فنحن نحبِّك.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: كيف يا ابن الخطّاب! فواللَّه ليبعثنّه اللَّه يوم القيامة وله لسانٌ وشفتان، فيشهد لمن وافاه، وهو يمينُ اللَّه عزّوجلّ في أرضه يبايع بها خلقه.

فقال عمر: لا أبقانا اللَّه في بلدٍ لا يكون فيه علي بن أبي طالب (2).

وسئل الإمام الصادق عليه السلام: لأيّ علّة وضع اللَّه الحجر في الركن الذي هو فيه؟

ولأيّ علّةٍ يُقبّل؟

فقال عليه السلام: إنّ اللَّه وضع الحجر الأسود، وهو جوهرة اخرجت من الجنّة إلى


1- 1 بحار الأنوار 99: 29.
2- 2 علل الشرائع للصدوق: 425، والرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ينقلها الشيخ الصدوق بهذا السند: «عن محمد بن الحسن، عن الصفّار، عن علي بن حسّان الواسطي عن عمّه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام. راجع: الوسائل 13: 320، تحقيق مؤسسة أهل البيت عليهم السلام، ط 3.

ص: 285

آدم عليه السلام فوضعت في ذلك الركن لعلّة الميثاق، وذلك أنّه لمّا أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريّاتهم حين أخذ اللَّه عليهم الميثاق في ذلك المكان..

وأمّا القُبلة والاستلام فلعلّة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق، وتجديداً للبيعة ليؤدّوا إليه العهد والميثاق، وتجديداً للبيعة ليؤدّوا إليه العهد الذي أخذ اللَّه عليهم في الميثاق، فيأتوه في كلِّ سنة ويؤدّوا إليه ذلك العهد والأمانة اللذين أخذا عليهم. ألا ترى أنّك تقول: أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة.

وواللَّه ما يؤدّي ذلك أحدٌ غير شيعتنا- إلى أن قال:- وذلك أنّه لم يحفظ ذلك غيركم، فلكم واللَّه يشهد، وعليهم واللَّه يشهد بالخفر (1) والجحود والكفر...» (2).

وروى الصدوق مثله في (علل الشرائع) عن أبيه عن محمّد بن يحيى (3).

وجاء في (علل الشرائع) عن عبداللَّه بن سنان قال: «بينا نحن في الطواف إذ مرَّ رجل من آل عمر فأخذ بيده رجل فاستلم الحجر فانتهره وأغلظ له وقال له: بطل حجّك، إنّ الذي تستلمه حجر لا يضرّ ولا ينفع، فقلت لأبي عبداللَّه عليه السلام...

فقال عليه السلام: كذب ثمّ كذب ثمّ كذب. إنّ للحجر لساناً ذلقاً يوم القيامة يشهد لمن وافاه بالموافاة- ثمّ ذكر حديث خلق آدم وأخذ الميثاق على ذريّته، وأنّ الحجر التقم الميثاق من الخلق كلّهم، إلى أن قال:- فمن أجل ذلك أمرتم أنْ تقولوا إذا استلمتم الحجر:

أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» (4).

ولهذاكان الناس منذ عصرالنزول يتقاتلون على استلام الحجر الأسود وتقبيله، رغم استحباب ذلك وعدم وجوبه، ولشدّة الزحام على استلامه كان الإمام الصادق عليه السلام يترك ذلك لمن يستغرب عليه فعله: «أكره أن أؤذي ضعيفاً أو أتأذّى» (5).

وقد أجاب عن سؤال حول امرأة حجّت وهي حبلى يزاحم بها حتى تستلم الحجر؟ فقال عليه السلام: «لا تغرّروا بها» (6).


1- 1 خفر العهد: نقضه.
2- 2 الكافي 4: 184، وعنه: وسائل الشيعة 13: 317 باب 13 استحباب استلام الحجر، الحديث 5.
3- 3 علل الشرائع: 429.
4- 4 علل الشرائع: 425. عنه: وسائل الشيعة 13: 319- 320.
5- 5 الكافي 4: 409.
6- 6 التهذيب 5: 399.

ص: 286

لذا جاء في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام: «إنّ اللَّه وضع عن النساء أربعاً، وعدَّ منهنّ استلام الحجر» (1).

المبحث الثالث: طبيعة الموقع (بين جبال خشنة ورمالٍ دمثة)

لم يكن هناك سرّ في طبيعة البناء فحسب، بل هناك سرٌّ بل أسرارٌ في طبيعة الموقع الجغرافي لبيت اللَّه الحرام، والذي يعبّر عنه القرآن الكريم على لسان إبراهيم الخليل عليه السلام: بوادٍ غير ذي زرع.

وقد ركّزت خطبة (القاصعة) على طبيعة الموقع في سياق حديثها عن الاختبار الربّاني التاريخي للبشرية في طبيعة البناء:

النصّ الأوّل: «ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مَدَراً، وأضيق بطون الأودية قُطرا، بين جبال خشنة، ورمال دمثة، وعيون وشلة، وقُرًى منقطعة؛ لا يزكو بها خُفّ ولا حافر، ولا ظلف».

إنّه وصف رائع وبليغ لمدى صعوبة ذلك الموقع على صعيد الجغرافيا.. فقد اجتمعت فيه كلّ العناصر التي تجعله موقعاً صعباً، يشقّ على الحجيج مزاره؛ فهو ليس بوادٍ غير ذي زرع فحسب، بل إنّه «من أضيق بطون الأودية قطراً» و «أقلّ نتائق الأرض مدراً» و «أوعر بقاع الأرض حجراً»!!، لتكون تلك البقعة للناس رغم صعوبتها وجدبها وضيقها «مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغايةً لمُلقى رحالهم».

النصّ الثاني: «ولو أراد اللَّه- سبحانه- أنْ يضع بيته الحرام ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار، وسهلٍ وقرار، جمَّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البُنى، متضيّل القرى، بين بُرّةٍ سمراء، وروضةٍ خضراء، وأريافٍ محدقة، وعراصي مغدقة، ورياضٍ ناضرة، وطُرقٍ عامرة، لكان قد صغّر قدْرُ الجزاء على حسب ضَعْفِ البلاء».

يقول العلّامة ميثم البحراني بخصوص النصّ الثاني:

«صغرى قياس ضمير استثنائي حذف استثناؤه. وهي نتيجة قياس آخر من متصلتين تقدير صغراهما: إنّه لو أراد أنْ يضع بيته الحرام بين هذه المواضع الحسنة


1- 1 من لا يحضره الفقيه 2، 1، 4: 210، 194، 263.

ص: 287

المبهجة لفعل، وتقدير الكبرى: ولو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، وتقدير استثناء هذه المتّصلة؛ لكنّه لا يجب منه ذلك ولا يجوز؛ لأنّ مراد العناية الإلهية مضاعفة الثواب وبلوغ كلّ نفس غاية كمالها، وذلك لا يتمّ إلّا بكمال الاستعداد بالشدائد والميثاق؛ فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع لاستلزامها ضعف البلاء» (1).

لقد أراد اللَّه عزّوجلّ لبيته الحرام أن يكون محكّاً لمدى الإرادة والعزم، والتضحية والبذل، والخشوع والخضوع، والحبّ والعشق: «تهوي إليه الأفئدة من مفاوز قفارٍ سحيقة، ومهاوي فجاجٍ عميقة، وجزائر بحارٍ منقطعة، حتى يهزّوا مناكبهم ذلُلًا يُهلِّلون للَّه حوله، ويرمُلونَ على أقدامهم شُعثاً غُبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووُصلة إلى جنّته».

وهكذا نلتقي مرّة اخرى بقصّة الابتلاء والامتحان والاختبار والتمحيص..

التي هي سبب الرحمة والوصلة إلى الجنّة، لتكون المعادلة كما ترسمها خطبة «القاصعة»:

«كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل».

معادلة الجزاء على قدر الابتلاء

إنّها المعادلة ذاتها التي أراد اللَّه للكعبة أنْ تكون من أحجار عادية وليس من زمرّد وياقوت، كانت مشيئة اللَّه عزّوجلّ أن يكون الإنسان (آدم) من طين، يقول عليّ عليه السلام في (القاصعة):

«ولو أراد اللَّه أن يخلق آدم من نورٍ يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رُواؤه، وطيبٍ يأخذ الأنفاس عَرفُه، لفعل.

ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة.


1- 1 شرح النهج للبحراني 4: 282.

ص: 288

ولكنّ اللَّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم».

وهكذا الحال في تفسيره عليه السلام للأنبياء في استضعافهم وخصاصتهم:

«ولو كانت الأنبياء أهل قوّةٍ لا تُرام، وعزّةٍ لا تُضام، ومُلكٍ تمتدُّ نحوه أعناق الرجال، وتشدُّ إليه عُقد الرحال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبةٍ قاهرةٍ لهم، أو رغبةٍ مائلةٍ بهم، فكانت النيّات مشتركة، والحسنات مقتَسَمة»!

الكعبة: الامتداد التاريخي

من خلال خطبة القاصعة ندرك أنَّ إبراهيم عليه السلام لم يكن هو المؤسّس الأوّل لبنائها:

«ألا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً».

يتجلّى من خلال هذا النصّ أنّ البيت الحرام من لدن آدم عليه السلام.. وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا...، حيث يمكن أن نفهم من الآية أنّ القواعد كانت موجودة، وقد عمل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام على رفعها.

وقد يكون قوله تعالى : إنّ أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً (1)

، شاهداً على ذلك.

وممّا يؤيّد ذلك الروايات الكثيرة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم والتي تتحدّث عن (دحو الأرض) من تحت الكعبة، نذكر منها ما جاء في علل الصدوق عن الإمام الباقر عليه السلام.

«لمّا أراد اللَّه أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً ثمّ


1- 1 آل عمران: 96.

ص: 289

أزبد فصار زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت، ثمّ جعله جبلًا من زبد ثمّ دحى الأرض من تحته، وهو قول اللَّه: إنَّ أوّل بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً فأوّل بقعةٍ من الأرض الكعبة، ثمّ مدّت الأرض منها» (1).

يرى العلّامة الطباطبائي أنّ «الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، وليست مخالفة للكتاب، ولا أنَّ هناك برهاناً يدفع ذلك».

كما يرى العلّامة أنّ ما ورد من الروايات من أنّ الكعبة أوّل بيت بمعنى أوّل بقعة من الأرض، وأنّ الظاهر من قوله تعالى: إنَّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً ما تشتمل عليه الروايات التي تقول: «قد كان قبله بيوت، ولكنّه أوّل بيت وضع للناس مباركاً»، أو «كانت البيوت قبله، ولكنّه كان أوّل بيت وضع للعبادة».

بينما يرى العلّامة الطبرسي أنّ الآية فيها دلالة على أنّه «لم يكن قبله بيت مبني، وإنّما دُحيت الأرض من تحتها، وهو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق اللَّه تعالى السماء والأرض من تحتها...»، ثمّ أمر اللَّه تعالى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام «ببنيان البيت على القواعد» (2).

وينقل الطبرسي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام، حيث سئل عن الحطيم- وهو ما بين الحجر الأسود والباب- لِمَ سمّى الحطيم؟ قال عليه السلام: «لأنّ الناس يحطّم بعضهم بعضاً، وهو الموضع الذي فيه تاب اللَّه على آدم عليه السلام» (3).

والبحث التاريخي يحتاج إلى وقفةٍ أكثر تفصيلًا لا يسع لها المقام.

الهوامش:

دور عليّ في فتح مكّة


1- 1 تفسير الميزان 3: 356. نقلًا عن علل الشرائع.
2- 2 مجمع البيان 1- 2: 606 ط: بيروت عام 1992 م.
3- 3 المصدر نفسه: 607.

ص: 291

دور عليّ في فتح مكّة

عفيف النابلسي- زهير الأعرجي

كان للإمام عليّ عليه السلام دورٌ مهمّ في فتح مكّة، وقد تكفّلت هذه المقالة بذكر هذا الدور عبر قلمين لعلمين جليلين، كلّ منهما يكمّل الآخر.

بقلم عفيف النابلسي:

إن الدخول الجماعي في الإسلام الذي شهدته قبائل العرب المتاخمة لبلاد الشام بعد غزوة مؤتة لم يهز قريشاً وحلفاءها، ولم تفكر قريش بما قد تصير إليه الأحوال في قاصِ الجزيرة وأدناها، فظلت على وهمها بأن المسلمين قد هزموا في موقعة مؤتة هزيمةً نكراء، وأنهم باتوا في حالةٍ يرثى لها، أقلها الضعف والهوان وهذا ما أعادها الى مراجعة حساباتها وردّها إلى التفكير بحرب محمد صلى الله عليه و آله، ونبذ مواقفها السابقة معه، وهي المواقف التي أجبرت فيها بعد الحديبية على التخلي عن السيطرة التي كانت لها. وقد أفقدتها تلك المواقف الهيبة التي كانت تتصف بها، وخسرت مكانتها الأولى بعد عمرة القضاء فما عليها إذن والحالة تلك إلا العمل لاستعادة تلك السيطرة كاملة، واسترداد الهيبة والمكانة اللتين كانتا لها غير منقوصتين، وهذا لن

ص: 292

يكون إلا بمقاومة محمد صلى الله عليه و آله مقاومةً ضاريةً، والشروع في قتال من دخلوا معه بحكم عهد الحديبية (1).

صلح الحديبيّة:

كان صلح الحديبية بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقريش قد قضى أنّه مَن أحبَّ أن يدخلَ في عهد محمد وعقده فليدخل فيه، ومَن أَحب أن يدخل في عهد قريش وعقدهم فليدخل فيه. وكانت خزاعة قد دخلت في عهد محمد صلى الله عليه و آله، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكانت بين خزاعة وبني بكر ثاراتٌ قديمةٌ سكنت بعد صلح الحديبية، وانحاز كلٌّ من القبيلتين الى فريق المتصالحين، فلما كانت مؤتة- وصل لقريش أن المسلمين قُضي عليهم- خُيّل الى بني الدِّيل من بني بكر بن عبد مناة أن الفرصة سنحت لهم، ليصيبوا من خزاعةبثاراتهم القديمة، وحرّضهم على ذلك جماعة من سادات قريش منهم عكرمة بن أبي جهل، وأمدوهم بالسلاح.

وقوع الحرب:

وبينما خزاعة ذات ليلة على ماء لهم يدعى الوتير إذ فاجأتهم بنو بكر فقتلوا منهم جماعة، ففرت خزاعة الى مكّة ولجأوا الى دار بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، وشكوا له نقض قريش، ونقض بني بكر عهدهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وسارع عمرو بن سالم الخزاعي فغدا متوجهاً إلى المدينة حتى وقف بين يدي محمد صلى الله عليه و آله وهو جالس في المسجد فقال:

لا هُمَّ إنّي ناشدٌ محمدا حلفَ أبينا وأبيك الاتلدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكّدا

هم بيتونا بالعراء هجّدا فقتلونا ركعاً وسُجّدا

فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: نُصرت يا عمرو بن سالم!

ثم خرج بُديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة فأخبروا


1- 1 مجمع البيان الحديث، 2: 611.

ص: 293

النبيّ صلى الله عليه و آله بما أصابهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم، عند ذلك رأى النبيّ صلى الله عليه و آله أن ما قامت به قريش من نقض عهده لا مقابل له إلا فتح مكّة.

وعاد وفد خزاعة فرحاً بما حظي من التأييد، وظهرت مخاوف قريش، واجتمع حكماؤها وقرروا بعث أبي سفيان لتجديد العهد، وتمديده الى عشر سنوات.

أبو سفيان في المدينة:

تأهب أبو سفيان، وسار من وقته وساعته حتى وصل المدينة على وجل خصوصاً بعدما رأى بُديلًا ورفاقه على بعض المياه، وجعل وجهته ابنته أمَّ حبيبة زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله التي تزوجها النبيُّ بعدما تركها زوجُها وتنصر في أرض الحبشة فخطبها إلى النجاشي. وعادت بعد فتح خيبر مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام وجماعته الذين كانوا مهاجرين إلى الحبشة.

وأمُّ حبيبة كانت قد عرفت ما حدث، وعرفت ما نوى عليه النبيُّ صلى الله عليه و آله، فلم تهتم بأبيها المشرك. ولما أراد أن يجلس على فراش النبيّ صلى الله عليه و آله طوته عنه فسألها أبوها: أطوته رغبةً بأبيها عن الفراش أم رغبةً بالفراش عن أبيها؟

فكان جوابها: هذا فراش رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحبّ أن تجلس عليه. وفوجئ أبو سفيان بما لم يكن يتوقعه من ابنته التي وجهت إليه صفعةً جعلته ذليلًا مهيناً فقال لها: لقد أصابك بعدي شرٌّ، قالت: بل هداني اللَّه تعالى للإسلام، وأنت تعبد حجراً لا يسمع ولا يبصر، وا عجباً منك وأنت سيد قريش وكبيرها! قال: أأترك ما يعبد آبائي وأتبع دين محمد؟

وخرج أبو سفيان بعد هذه الصفعة مكلوم الفؤاد مضعضع الفكر، مهزوز الجانب مهيض الجناح، لا يدري ماذا يفعل، أيرجع قبل أن يحقق شيئاً، أو يستمر في محاولة يائسة. فذهب إلى المسجد لعلّه يرى محمداً صلى الله عليه و آله ودخل على الفور يكلمه في توثيق المعاهدة وزيادة المدة، إلا أن الرسول صلى الله عليه و آله لم يرد عليه بشي ء، وألح أبو

ص: 294

سفيان والنبي صلى الله عليه و آله لا يجيب، وأصابته الحمى من هذه الصفعة الثانية فخرج على بعض مَن كان يعرف من الصحابة، فلم ير من يساعده على مهمته، أو يتكلم مع النبيّ صلى الله عليه و آله حوله.

دور عليّ عليه السلام:

الدور الأول:

وكان لابدّ لأبي سفيان- الذي يعرف مواقع القوة- من أن يلجأ الى بيت عليّ حيث دخل على أمير المؤمنين عليه السلام فوجده مع زوجته وعندهما ولداهما الحسن والحسين عليهم السلام.

فقال: يا علي! أنت أمسُّ القوم بي رحماً، قد جئتُ في حاجة؛ فلا أرجعنّ كما جئتُ خائباً، اشفع لنا عند محمد صلى الله عليه و آله.

فقال علي عليه السلام: ويحك يا أبا سفيان! واللَّه، لقد عزم رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله على أمر فلا نستطيع أن نكلّمه فيه.

وأدرك أبو سفيان حراجة الموقف فالتفت الى فاطمة عليها السلام قائلًا: وأنت يا بنت محمد! هل لكِ أن تأمري ابنك هذا- يعني الحسن- فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب الى آخر الدهر؟

قالت فاطمة عليها السلام: واللَّه، ما بلغ ابني هذا أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

قال: يا أبا الحسن! إني أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني.

فقال: واللَّه، ما أعلم شيئاً يُغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك.

قال: أو ترى مغنياً عني شيئاً؟!

قال أبو الحسن: لا واللَّه، ما أظنّ؛ لكني لا أرى غير ذلك.

وقام أبو سفيان فأتى المسجد، قائلًا: أيها الناس! إني قد أجرتُ بين الناس،

ص: 295

ولم يلبث أن خرج بركب بعيره، وينطلق عائداً الى مكة، خالي الوفاض، يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة، إذ لم يستطع أن يحقق شيئاً مما جاء اليه.

وقدم أبو سفيان على قومه، فسألوه ما وراءك يا أبا سفيان؟

قال: جئت محمداً فكلمته، فو اللَّه، ما ردَّ علي شيئاً، ثم جئت بعض أصحابه فوجدتهم أعدى الناس إليّ، ثم جئت عليّ بن أبي طالب فوجتُه ألينَ القوم، وقد أشار عليّ بشي ءٍ صنعته، فو اللَّه، ما أدري هل يغنيني شيئاً أم لا؟

قالوا: وبما أمرك؟

قال: أمرني أن أُجير بين الناس ففعلت.

قالوا: فهل أجاز محمدٌ ذلك؟

قال: لا.

قالوا: ما زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت (1).

أرأيت إلى علي الشاب النابغة الذي يزن الرجال بميزان، ويعرف كيف يضرب ضربته الذكية؟ فهو كمن يطعن خصمه في المعركة فيرديه بكلامه وموقفه ودرايته، ويجعل الخصم المجرب قائد القوم وكبيرهم ولداً وطفلًا لا يدري ماذا يفعل. أرأيت علياً كيف طعن خصمه السياسي دون أن يخرج السيف من غمده؟

أرأيت إلى العقل الموجه، كيف يفعل فعلته فيشوش على خصومه ما يجعلهم حيرى لا يدرون ما يفعلون؟

هكذا تعامل علي العبقري الشاب مع شيخ قريش وسيد كنانة، وأرجعه طفلًا. وهكذا فهم أبو سفيان، وفهم معه قومه أن علياً لعب بأبي سفيان، وضربه ضربةً موجعة بعد الضربتين اللتين تلقاهما من ابنته أمّ حبيبة ومن الرسول صلى الله عليه و آله هذا هو الدور الأول الذي لعبه علي لتسفيه أبي سفيان واذلاله وجعله كالطفل الصغير.

الدور الثاني:

بدأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يخطط لغزو مكة وفتحها، فأمر بشحذ السلاح وجمعه،


1- 1 خاتم النبيين، 2: 620- الطبري، 2: 163.

ص: 296

وبعث إلى القبائل المحيطة بالمدينة أن يتأهبوا ويأتوا إلى المدينة، فكانت الوفود تأتي ولكنها لا تعرف وجهة المسير، ووضع الحرس والعيون على المدينة يراقبون كل خارج منها وكلّ داخل إليها، ويفتشون من يمرّ ليلًا ونهاراً. وبينما هو يتهيأ للمسير نحو مكة تسرّب الخبر الى أحد أصحابه وهو حاطب بن بلتعة الذي رأى أن رسول اللَّه إذا ذهب بهذا الجيش الجرّار الى مكة ربما تكون نهاية قريش وعزّ عليه ذلك، وكان له فيها أرحام وأقارب، وقد تكون العاقبة لقريش فيكون له عندها يد.

هكذا أصحاب النفوس الضعيفة يفكرون في علاقات ذاتية حتى في أحرج الأوقات، ويتخذ لنفسه حصناً يأوي إليه عند تقلبات الأحوال، وهكذا يقوم حاطب بن بلتعة بعملية خيانية لا عهد للمسلمين بها، وهي ايصال أخبار عسكرية سرية الى الأعداء.

وفكّر حاطب في ايصال الخبر كثيراً؛ لأنّه خاف من تفشي الأسرار، وافتضاح أمره، فعمد الى امرأة قينة مغنية أغراها بالمال، وكان هواها في قريش، ولم تكن أسلمت بعدُ، واتفقا على كيفية وضع الكتاب في ضفائرها لقاء أجر باهض ونسي حاطب أن اللَّه مطلعٌ على كلّ شي ء، وأن الوحي يوصل الأخبار السرية بأقل من لمح البصر. وكان الكتاب يحتوي على أسرار عسكريّة بالغة الخطورة عن أهمية الجيش، وعدد الفرسان والرجالة، وكثرة السلاح والخيل والبغال والجمال.

وخوفاً من التفتيش العسكري وضعت الكتاب مطوياً في ضفائرها، بحيث لا يمكن لأحد حتى- لو فتشها- أن يهتدي إلى الكتاب، ثم خرجت تسلك طريقاً بعيداً عن عيون الحراس، توهمهم بالحشمة والحياء، وتتستر بهذه المظاهر، لتخفي جاسوسيتها على الدين وعلى الرسول.

وما إن غادرت المدينة حتى نزل الوحي المبارك يخبر النبي صلى الله عليه و آله بالكتاب، وأين موضعه، وما فعل حاطب، فدهش النبيّ صلى الله عليه و آله لهذه المفاجأة، وهذه الخيانة من أحد أصحاب بدر، فدعا علياً على الفور، قائلًا له: إن أحدَ أصحابي كتب إلى أهل مكّة

ص: 297

يطلعهم على أخبارنا، وقد كنت سألتُ اللَّه عزّ وجلّ أن يعمي أخبارنا عنهم، وقد حملت الكتاب امرأة سوداء فهيا أدركها وانتزع منها الكتاب. ثم استدعى الزبير وقال له: اذهب مع ابن عمتك وأعنه على تخفيف مأربه، وخرج علي ومعه الزبير فأدركاها في (الخُليقة)، وتقدم منها الزبير فسألها عن الكتاب فأنكرت عليه التعرض لها من جانب، والسؤال عما لا يعنيه من جانب آخر، كما أنكرت عليه هذه التهمة الشنيعة، مما جعل الزبير يتردّد أولًا، ثم يعود الى عليّ يُقنعه بأنه ليس عندها شي ء، بعدما بكت المرأة لهذا التعرض والإهانة، وبدأت دموع التماسيح على خديها، وأوشك قلب الزبير أن يرقّ لها فارتد نحو عليّ يقول: لَم أرَ معها كتاباً يا أبا الحسن، ولم يلتفت الزبير الى لازم قوله هذا، الذي يعني تكذيب الوحي، وتكذيب الرسول صلى الله عليه و آله وما كاد عليّ يسمع هذا القول من الزبير حتى غضب وصاح: ويحك يا زبير! يخبرني رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله بأنها تحمل كتاباً، ويأمرني بأخذه منها، ونأتي لذلك ثم تقول أنت: إنه لا يوجد معها كتاب!

وتظهر قدرة علي عليه السلام وفراسته، وتصديقه المطلق الذي لا شك فيه، ويظهر ضعف الزبير وأنه غير صالح للقيام بهذا الدور إلا برفقة علي عليه السلام. ولم يلبث عليّ عليه السلام أن اخترط السيف، وتقدم من المرأة قائلًا وعيناه تقدحان شرراً قائلًا لها:

أَما واللَّه، لتخرجن الكتاب، أو لنكشفنك، ثم لاضربن عنقك بسيفي هذا، وحاولت المرأة أن تراوغ كما راوغت مع الزبير، ولكنها رأت عناداً واصراراً، مما جعلها تتأكد بأن الرجل متأكد من وجود الكتاب الذي تحمله، وأنها إن لم ترضخ للطلب سوف تنال عقابها المناسب، وقد يكون هو الموت، وإزاء هذا التخوف على حياتها قالت له: أعرض بوجهك عني، وأشاح علي بوجهه عن المرأة الماكرة فاذا بها تحل ضفائرها، وتخرج منها الكتاب، ثم تدفعه الى عليّ، فيأخذه عليٌّ عليه السلام دون أن يقول لها شيئاً، ثم يأتي الزبير معه الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يسلمانه الكتاب (1).

أرأيت معي- أيها القارئ- موقف الزبير الذي يعني أنه لو اقتنع بكلام المرأة


1- 1 خاتم النبيين، 2: 627- البحار، 21: 94 وكل من ذكرها من المؤرخين.

ص: 298

لكذب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي لا ينطق عن الهوى، ولكان يعني أن تفشى الأسرار العسكرية الى الأعداء فيعرفون خطط الهجوم فيفشل.

ولكن اليقين الثابت في صدر علي بصدق رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو الذي جعله يقف موقفاً مميزاً وحاداً، وأنه غير مستعد لسماع كلامها، وقبول أي موقف آخر منها؛ لأنه على يقين بأن الكتاب معها. أخبره بذلك من لا ينطق إلا عن وحي يوحي به إله السماء والأرض، والمطلع على خفايا الأمور وظواهرها.

وعليّ هو الحريص كلّ الحرص أن يبقى للجيش الفاتح هيبته حينما يباغت الآخرين، ويغزوهم في عقر دارهم لتنهى معركة الفتح دون إراقة دماء. وهيهات هيهات أنى لنا بمثل عليّ وهو النسخة الفريدة والشخصية الوحيدة في عالم اليقين والصدق والاخلاص.

الدور الثالث:

بعدما عثر الإمام علي عليه السلام على الكتاب مع المرأة التي لا تعرف من مضمونه شيئاً، أعمى الأمر على قريش، فلم تعرف شيئاً عن استعداد الرسول صلى الله عليه و آله لفتح مكة، وكان النبي صلى الله عليه و آله قد دعا ربّه أن يعمي أخبار جيشه عن قريش حتى يباغتها كي لا تقع معركة طاحنة في مكة. فالنبي صلى الله عليه و آله يريد الحفاظ على شرف الحرم، وإن كان أهله يستحقون الذبح، لمعاداتهم الشديدة لرسول الهداية، ولكنه محمدٌ رسولُ الإنسانية، المحافظ على القيم. فقد هيأ النبيّ صلى الله عليه و آله كلّ مقدمات المعركة، وأمر الجيوش بالزحف الهادئ، واستمر حتى وصل الى مر الظهران- وقيل إنه بالجحفة- وهناك أمر الجيش بالنزول، وكان الوقت عشياً فطلب من الناس أن يوقدوا النار، كلّ واحد يشعل ناراً، وكان الغرض من هذا اظهار عظمة الجيش، وقوة العسكر بهذه النار التي ترى من بعيد، حتى تأخذهم الدهشة ولا يفكرون إلا بحماية أنفسهم إما بالإسلام أو بالهروب من المواجهة، ويكون بهذا قد حقّق الفتح الهادئ الذي يحافظ فيه على شرف الكعبة.

ص: 299

وهناك التحق به عمّه العباس، الذي كان بقاؤه بمكة بأمر النبيّ حيث كان يقدم المعلومات عن قريش، ومظاهرها العسكرية وقوتها الاقتصادية، وما كانت تكيد وتدبر لحرب الرسول صلى الله عليه و آله.

ولما رأى العباس عظمة هذا الجيش الفاتح وقوته تأكّد لديه أن الجيش إذا دخل بهذه القوة والعنجهية ستذهب قريش والى الأبد. فكان يحاول أن يساعد النبي صلى الله عليه و آله على الفتح الهادئ حتى لا تراق في هذا الفتح محجمة دم.

وبينما هو غارق في التفكير لاح بخاطره أن يجول على أطراف المعسكر، لعلّه يرى آتياً أو ذاهباً، يمكنه أن يوصل خبراً لقيادة قريش حتى تأتي وتستأمن لدمها وأموالها، فتحفظ قريش ويحفظ الحرم.

وبينا هو كذلك إذا بأبي سفيان ومعه نفر جاءوا يستمعون الأخبار، وقد أذهلهم ما رأوا من نيران حتى أن بعضهم قال: هذه نار خزاعة، قال أبو سفيان:

خزاعة أقل وأذل. وينادي العباس أبا حنظلة! فيجيبه أبو سفيان فداك أبي وأمي بعدما عرفه، وهو مندهش من هول ما رأى عدةً وعدداً، ثم خاطبه ما ترى في أمرنا؟ قال: الإسلام- التحق بي حتى لا يقتلك الناس، وأردفه خلفه مؤمناً له مانعاً قتله حتى وصل إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، وعرض عليه الاسلام، ولكنه كان صلب الشكيمة، شديد السخيمة يعزّ عليه فقدان اللّات والعزى والهبل الأعلى، وقد حاول عمر بن الخطاب قتله عن طريق إثارة النبيّ صلى الله عليه و آله، وأن اللَّه قد أمكن منه بلا عهد ولا عقد، ولكن العباس الحريص على الإسلام رأى الحكمة في بقائه، ليرى عزّة الإسلام، وشرف النبي المطرود، وذلة قريش وصغار أبي سفيان، وطلب من أبي سفيان أن يسلم فتمهل، ولكن النبيّ صلى الله عليه و آله قال لعمّه العباس: أبقه عندك الليلةَ، وآتني به صباحاً.

وفي الصباح أسلم بعد محاورة قصيرة، وقال العباس للنبي: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه و آله في معرض توصياته لرؤساء الجند

ص: 300

وقادة الكتائب: مَن ألقى سلاحه فهو آمن، ومَن دخل بيتَه وأغلق بابه فهو آمن، ومَن دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وكان الغرض من ذلك أن يذهب أبو سفيان، ويخذل الناس عن الحرب ويجلس في بيته، لأنه رجل له قوة تحريضية هائلة على اثارة البلابل، فاسكته النبيّ بهذه المكانة المتساوية مع رجل أغلق بابه، ولا شي ء غير ذلك.

وفرح أبو سفيان بهذه الرتبة الجديدة والشرف، وذهب مسرعاً إلى مكة يطلب إلى الناس أن يدخلوا داره، وهو لا يعنيه من الشعارات إلا أمان داره، وهو قادر على تجيير الجو لصالحه، فصار يدعو الى داره فقط ليوهم الناس أنه وحده قد حظي بهذا الشرف، وهذا ما جعل الآخرين إما يلتزمون بيوتهم، أو يهربون إلى الجبال المحيطة بمكة.

ويزحف الجيش الإسلامي المقدام، ويدخل مكّة من طرق أربعة يطوقها من كلّ مكان حتى لا يفكر أحد في إراقة دم في بيت اللَّه الحرام، وفي البلد الحرام.

وذكروا أن النبيّ صلى الله عليه و آله كان داخلًا وقلبه خاشع للَّه على هذا التوفيق، ولسانه يردّد إذا جاء نصر اللَّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان تواباً.

ومضت فرق الجيش تدخل مكة دون أدنى مقاومة، وقد أخذت الحميةُ سعد ابن عبادة الأنصاري وهو يمرّ أمام أبي سفيان بن حرب فقال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى أو تستحل الحرمة. وتردّد قولُه بين المسلمين فنقلوه إلى النبي صلى الله عليه و آله وقالوا:

يا رسولَ اللَّه! ما نأمن أن يكون لسعد في قريش صولة. وقيل: إن العباس سمع ذلك فقال للنبيّ صلى الله عليه و آله: يا رسول اللَّه! أما تسمع ما يقول سعد؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله لأمير المؤمنين عليه السلام: يا علي! أدرك سعداً، فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها مكة.

فأدركه أمير المؤمنين عليه السلام فأخذها منه، ولم يمتنع عليه سعد بل دفعها إليه.

ولم ير رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أحداً من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من

ص: 301

سيد الأنصار سوى أمير المؤمنين علي عليه السلام.

قال الشيخ المفيد رضى الله عنه: واعلم أنه لو رام ذلك غيره، لامتنع عليه سعد، وكان في امتناعه فسادُ التدبير، واختلاف الكلمة بين الأنصار والمهاجرين، ولم يكن وجه الرأي تولي رسول اللَّه أخذ الراية بنفسه، وولى ذلك من يقوم مقامه، ولا يتميز عنه، ولا يُعظم أحدٌ من المقرين بالملة عن الطاعة له، ولا يراه دونه في الرتبة، وفي هذا من الفضل الذي تخصص به أمير المؤمنين عليه السلام ما لم يشاركه فيه أحد، ولا ساواه في نظير له مساو، وكان علم اللَّه تعالى ورسوله في تمام المصلحة بانفاذ أمير المؤمنين عليه السلام دون غيره ما كشف به عن اصطفائه لجسيم الأمور كما كان علم اللَّه تعالى فيمن اختاره للنبوة وكمال المصلحة ببعثه كاشفاً عن كونهم أفضل الخلق أجمعين (1).

وهذا الدور لا يحتاج الى تعليق، لأن وضوح أخذ الراية من سعد لا يتم الّا برسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث لا يتنازل سعد زعيم الأنصار إلّاللنبيّ صلى الله عليه و آله، ولما كان سعد يعرف أن علياً هو الرجل الثاني في الإسلام، وأنه سيصبح الرجل الأول سلم الأمر إليه بلا تنازع.

الدور الرابع:

التفاف الجيش الإسلامي على أطراف مكة المكرمة، مكّن النبي صلى الله عليه و آله من السيطرة العامة على المدينة، حيث لم تحدث أية مشكلة تذكر، وطبقت أوامر النبيّ بعدم سفك الدماء في البلد الحرام.

وأسلم على أثر الفتح سادةُ مكة، منهم حكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وجبير بن مطعم، وأقبل أبو سفيان يركض فاستقبلته قريش، وقالوا: ما وراءك وما هذا الغبار؟ قال: محمد في خلق عظيم، ثم صاح وهو مذعور: يا آل غالب! البيوت البيوت! مَن دخل داري فهو آمن، فعرفت هند زوجته فجعلت تطردهم، ثم قالت: اقتلوا الشيخ الخبيث لعنه اللَّه من وافد قوم، وطليعة قوم. قال لها: ويلك إني رأيتُ ذات القرون، ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت ملوك كندة وفتيان


1- 1 الارشاد للشيخ المفيد: 71.

ص: 302

حمير يسلمن آخر النهار، ويلك اسكتي، فقد واللَّه جاء الحقّ ودنت البلية.

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد عهد إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم سوى نفر كانوا يؤذون النبيّ صلى الله عليه و آله منهم مقيس بن صبابة، وعبد اللَّه بن أبي سرح، وعبد اللَّه بن خطل، وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة. فأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث، وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً فقتله وقتل مقيس بن صبابة في السوق، وقتل علي عليه السلام إحدى القينتين وأفلتت الأخرى، وقتل أيضاً الحويرت بن نفيل بن كعب.

وبلغ علياً عليه السلام أن أُخته امَّ هاني بنت أبي طالب قد أوت ناساً من بني مخزوم، منهم الحارث بن هاشم، وقيس بن السائب، فقصد نحو دارها مقنعاً بالحديد فنادى:

أخرجوا من آويتم، فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى خوفاً منه، فخرجت إليه أمُّ هاني وهي لا تعرفه فقالت: يا عبد اللَّه أنا أمُّ هاني بنت عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأخت عليّ بن أبي طالب، انصرف عن داري، فقال: أخرجوهم. فقالت: اللَّه! لأشكونّك الى رسول اللَّه. فنزع المغفر عن رأسه فعرفته فجاءت تشتد حتى التزمته فقالت:

فديتك، حلفت لاشكونك الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال لها: اذهبي فبرى قسمك فإنه بأعلى الوادي. قالت أمّ هاني: فجئت إلى النبي صلى الله عليه و آله وهو في قبة يغتسل وفاطمة عليها السلام تستره، فلما سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كلامي، قال: مرحباً بك يا أمّ هاني، قلت: بأبي وأمي ما لقيت من علي اليوم، فقال صلى الله عليه و آله وقد فهم ما تريد: قد أجرتُ من أجرتِ، فقالت فاطمة عليها السلام تشكين علياً عليه السلام، لأنه أخاف أعداء اللَّه، واعداء رسوله، فقلت:

احتمليني فديتك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: قد شكر اللَّه سعيه وأجرتُ من أجارت أم هاني لمكانتها من علي بن أبي طالب (1).

هل قرأت معي كيف نفذ الأوامر، وقتل الأعداء، ولاحقهم ولم يتراجع، ولم يراعِ بذلك بيوت أهله وأقاربه، ولا بيت أخته الوحيدة، التي لم يرها منذ زمن؟


1- 1 البحار، 21: 132 طبعة بيروت.

ص: 303

ولكنه عليّ المعروف بفنائه بالحقّ، ومعاداته لأهل الباطل، وهو القائل: ما ترك لي الحقّ صاحباً. فبينا ترى بعض الصحابة يخاف على أهله لتصور شيطاني، أو يخاف على مستقبل وضعه لظنه أو احتماله غلبة قريش، فإذا به يفشي الأسرار العسكرية، أو يتراجع حين البأس ويفرّ من المعركة، أما علي هو هو في المسجد والمحراب وفي المعركة والمواقف مع الأهل والأخت والبنت والأولاد على حدّ سواء، لا يقدم على الحقّ أحداً.

الدور الخامس:

بعدما لوت مكة جيدها، وأذعنت لبيرق النبوة، وتحولت الى سلطة الرسول صلى الله عليه و آله، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجاً حيث خرجت الرجال من مخابئها، وأسلمت وخرجت النساء من خدورهن واسلمن، وانضوى الناس في ظل الرسالة الإسلامية، وعادت مكة الى دورتها الأولى يوم خلق اللَّه السماوات والأرض، وعاد البلد الحرام حيث يحرم فيها سفك الدماء، وأصبحت واحة الأمان والراحة والاطمئنان، دخل النبي صلى الله عليه و آله فاتحاً لا كما يدخل الفاتحون عنوةً بل كما يدخل الرسل المتواضعون ذاكراً ربّه، ناظراً الى قربوس فرسه، لم يدخل مستعلياً ولا مستكبراً وإنما دخل ذاكراً شاكراً مسبحاً مستغفراً.

وبما أن مكةَ المكرمة كانت مجمع عبادة العرب، ومركز التجمع الصنمي أيضاً، وكان الغرض الأساس من الحرب الفكرية والنفسية والمادية إزالة دولة الصنمية، وتأسيس دولة الإله الواحد الحقّ مكانها، كان لابد من تركيز الألوهية في أذهان الناس، وتحطيم المظاهر الصنمية وقلعها من الأذهان، وتحطيم كل المظاهر الصنمية الموجودة في الكعبة وفي جوارها. قال الإمام الرضا عليه السلام- كما في البحار- وكانت ثلاثمائة وستين صنماً حول الكعبة عندما فتح النبيّ صلى الله عليه و آله مكة فمر بها وجعل يطعنها بمخصرة في يده ويقول: جاء الحقُّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، فجعلت تكب لوجهها (1). وفي رواية ابن شهر آشوب: إن الإمام علياً عليه السلام صعد على أكتاف


1- 1 البحار، 21: 116.

ص: 304

النبي وكسر الأصنام الموجودة على ظهر الكعبة.

واذكر بعض الأبيات التي أرويها من حافظتي، وكنت قد حفظتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً، والمصدر الآن غير موجود في مكتبتي التي أحرقها الظالمون.

وهذه هي الأبيات:

قيلَ لي قلْ في علي مِدَحاً ذكرها يطفئ ناراً مؤصدهْ

قلت هل أمدح مَن في فضله حار ذو اللب الى أن عبدهْ

والنبيّ المصطفى قال لنا ليلة المعراج لما صعَّدهْ

وضع اللَّه على ظهري يداً فأحس القلب أن قد بَرَدَهْ

كان هدف الإسلام محو الصنمية من الوجود الخارجي، بل الوجود الذهني أيضاً، والعقيدة الصنمية حالة مستعصية، مركوزة في الذهن والوجدان، وبعضهم رضع عقيدة الصنم وعبادة الصنم مع الحليب فأنّى له أن يترك هذه العبادة ولو كانت خرافة فوقها خرافة؟ والذي عشق الخرافة ورضع الخرافة، لا يراها خرافةً وإنما يراها صحيحة، وهذا هو الجهل المركب. ومشكلة الرسالة كانت مع هذا الجهل المركب، مع التعقيد النفسي والذهني. فهل كان الرسول بإمكانه غرس العقيدة الإلهية دون إزالة العقيدة الصنمية من الأذهان؟ وهل يمكن محوها من الذهن قبل محوها من الواقع؟ ومَن الذي يساعده على هذه المهمة الصعبة إلّارجل الصعاب، رجل المواقف، إلا عليّ الذي صعد على كتف النبيّ، وحمل فأس النبوة بيده القوية وزنده المتين، حتى كسرها تكسيراً؟ وبذلك تمّ الانتصار الحقيقي للإسلام بازالة كل آثار الصنمية ومحوها من الوجود.

الدور السادس:

سدانة البيت العتيق في الجاهلية والإسلام مكانة مرموقة، وكان أولاد أبي طلحة قد ثبتوا هذا الشرف، ولا ينافسهم فيه غيرهم من قريش وظلوا على ذلك

ص: 305

زماناً، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد قال لعثمان بن أبي طلحة- يوماً من الأيام-: ربما يأتي زمان يكون هذا المفتاح في يدي أضعه حيث أشاء، فهزع عثمان بهذا الكلام.

ومن الطبيعي بعد سقوط مكّة وفتحها بهذا الجيش الجرّار، أن يركز فيها المواقع الأساسية كالسدانة والسقاية والولاية وما إليها، وأحسّ عثمان بأن أيامهم انتهت فأغلق الباب، وصعد بالمفتاح على السطح، وكأنه أراد أن يختبئ وينجو بهذا العلو فوق سطح الكعبة قائلًا: لو أعلم أنه رسولُ اللَّه لم أمنعه- يعني بقي على عناده بعد أن دخل الناس في دين اللَّه أفواجاً- وعندها أمر النبيّ صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام أن يصعد السطح، ويأخذ المفتاح منه، ولما وصل عليّ عليه السلام الى عثمان حاول التمنع، ولكن علياً أمسكه فحاول الانفلات، ولكن هيهات فقد أمسكه ذو قوة لو اجتمع جيش عرمرم على ازالته منه لما أمكنه ذلك، ثم لوى يده وأخذ المفتاح منه، وفتح باب الكعبة ودخل الرسول صلى الله عليه و آله إلى الكعبة فصلى ركعتين، فلما خرج سأله عمّه العباس أن يعطيه المفتاح فنزل قوله تعالى: إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها فأمر النبي صلى الله عليه و آله علياً أن يرد المفتاح الى عثمان، فقال: يا علي! أكرهت وأديت ثم جئت برفق. قال لقد أنزل اللَّه عزّ وجلّ بشأنك قرآناً، وقرأ الآية عليه، فأسلم عثمان فأقرّه النبي صلى الله عليه و آله في يده (1).

كل دعوة تحتاج- مهما كانت محقة- الى قوة تساندها، قوة المال، وقوة الزند والسيف، وقد كان رسول الهداية محمد صلى الله عليه و آله يحتاج الى الاثنين معاً كغيره من أصحاب الدعوات الصالحة، وقد وفق اللَّه بمال خديجة فانفقته حتى لم يبق منه شي ءٌ، وبقي زند علي عليه السلام الذي رافق الدعوة الإسلامية حتى ثبّت أركانها.

وفروسية علي وقوته وشجاعته كانت لا تخفى على أحد، وكانوا يهابونه صغيراً وكبيراً، وإذا تصدى علي عليه السلام لموقف كانوا يعرفونه لا يرجع حتى يفتح اللَّه على يده.

من هنا لم يكن بإمكان عثمان بن طلحة ولا غيره أن يختبئ، أو يصعد على


1- 1 البحار، 21: 116.

ص: 306

سطح الكعبة هروباً من وجود هذا الجيش، خصوصاً وجود الذراع التي تطوي الحديد. فهل بإمكانه مقاومة هذا الساعد الذي يحمل الفرس والفارس أو يضرب الفارس المقنع بالحديد فيقده نصفين؟

ظنَّ عثمان أنه بإمكانه أن يمتنع وهو بعد لم يعرف قدرة علي، وشدّة ساعده، كان يسمع في عليّ وقوته، والآن تحقق له عندما أمسك علي بيده ماذا حلّ به. كيف استلم دون مقاومة كأنه كان أمام أمرين إما أن يقع بدون حركة، أو يقدم المفتاح بدون ضجيج، فكان التسليم للصاعقة الإلهية لسيف علي وساعده؛ ليدخل النبي الكعبة وليعلن موقفه واضحاً دون قتال في هذا البيت العتيق.

الدور السابع:

لا يكفي أن يفتح النبيّ صلى الله عليه و آله مكة المكرمة ويترك ما حولها من جيوب، يترك المحيط بعيداً عنها عقائدياً وأخلاقياً، بل لابد من الدعوة الشاملة والخير العميم حتى تعود مكة بجوارها وقراها، لتعود أمّ القرى بأولادها وأحفادها كما أراد لها ربّ العزة، تمشي في الطريق السوي ليدخل الناس في دين اللَّه أفواجاً.

ومن هنا عندما هدأت العاصفة، واستتبَّ الأمن في البلد الحرام، وأمن من آمن، وقتل من قتل، وتحقق النصر الإلهي، ونصر اللَّه عبده وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. بث السرايا إلى القرى المجاورة تدعو الناس للإسلام، وكانت القرى- التي سمعت بنصر اللَّه، وخذلان قريش- على شي ء من الاستعداد تنتظر هذه السرايا؛ لتعلن كلمة التوحيد وتنضوي تحت لواء الدين الجديد.

وكان ممن بعث خالد بن الوليد على رأس سرية الى بني جذيمة، وكانت بنو جذيمة قد أصابت في زمن الجاهلية عوف بن عوف أبا عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة، وكان من أقارب خالد، فلما وصل خالد إلى القبيلة حملوا السلاح في وجهه، فطلب اليهم إلقاء السلاح فلم يقبلوا لخوف من أخذ الثأر منهم، قال رجل منهم يقال له جحدم: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد واللَّه، ما بعد إلقاء

ص: 307

السلاح إلا الأسر، وما بعد الأسر إلا القتل، فأخذه رجال من قومه، وقالوا يا جحدم تريد أن تسفك دماءنا؛ إن القوم قد أسلموا، ووضعت الحرب وأمن الناس وما زالوا به حتى نزعوا منه سلاحه، ووضع القوم السلاح امتثالًا لطلب خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اللهم اني أبرأ إليك مما صنع خالد (1).

ثم دعا علياً عليه السلام فقال: يا علي أخرج الى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج حتى جاءهم، ومعه مال قد بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فودَى لهم الدماء، وما أصيب من الأموال حتى إنه لَيدِي مِيلغَةَ الكلب، حتى إذا لم يبق شي ء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي عليه السلام حين فرغ منهم: هل بقي لكم دمٌ أو مالٌ لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذا المال الباقي احتياطاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل ووافقوا شاكرين، ثم رجع الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره الخبر. فقال: أصبت وأحسنت، ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى إنه ليُرى بياض ما تحت منكبيه وهو يقول: اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات (2).

إنَّ تثبيت الدولة يكون بإرخاء رواسي العدل والمساواة بين الناس، والإسلام جاء ليمحو أوضاع الجاهلية وما عليها من شنآن ويمشي في الناس بالحق والعدل ولا تزر وازرة وزر أخرى. وما قام به خالد لا علاقة له بالإسلام، بل هو الراسب الجاهلي المتحكم في عقل هذا الرجل الذي أسلم متأخراً ولا تزال رواسب الجاهلية في كيانه، فهو لم يستطع أن يترفع عنها مع أن النبي قال في خطبته البليغة أمام أهالي مكة: كل دم في الجاهلية فهو تحت قدميَّ هاتين. وكأن خالد لم يسمع أو لم يعِ ما قاله المصلح الكبير، ولهذا تبرأ منه النبي صلى الله عليه و آله ومن أفعاله، وتأثر لهذه الحادثة النكراء، وبعث علياً الذي هو نفسه ليمثله في رأب الصدع واستنكار الجريمة ودفع


1- 1 الطبري، 2: 164.
2- 2 نفس المصدر.

ص: 308

الديات وتعويض الخسائر المادية، حتى ميلغة الكلب- أي الجرن الذي يشرب منه الكلب، وهو وعاء من حجر أو خشب لا قيمة له- حتى يثبت الحق ويرسي دعائم العدل، ومن أولى من علي الأعلم الأقضى بفك الخصومات، وحلّ المشاكل وإرضاء الناس، وإعادة الأمور إلى نصابها؟ علي الحكيم في القضاء، والحكيم في المواقف ومداراة عواطف الناس حتى رجع والقوم مطمئنون كأنه لم يصبهم شي ء، فبورك علي وبورك هذا اللطف الرسالي الذي يحمله بين حناياه، عالماً وقاضياً ومدافعاً عن الإسلام الحقّ.

وقفة عتاب خفيفة مع محمد حسين هيكل:

بلغ كتاب هيكل مجده، حيث وزع على أكثر الدول العالمية المهتمة بالتراث، خصوصاً أن هيكل كتب كتابه وفق الأنظمة الحديثة للكتابة، حتى يجعله مرجعاً سهلًا للباحثين الغربيين والشرقيين على السواء، ولكل من أراد أن يدرس حياة محمد صلى الله عليه و آله. والحق أن الكتاب اختصر التاريخ وأجاد كاتبه في كثير من المناسبات، بل حلق في بعض المواقف. والكتاب موفق كماً ونوعاً ومنهجاً واسلوباً.

غير أننا ونحن نعتز بأحد أهم كتاب العصر الحديث، نأسف لكاتب من هذا النوع- وهو يسبر أغوار التاريخ ويشهد الحقائق بكل نصاعتها- أن يبقى في ذهنه شي ء من رواسب الماضي العفن حيث الحزبية والطائفية المقيتة ونربأ به أن يكون في ذهنه شي ء على عليّ إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، خصوصاً أن له موقفاً مميزاً في كتابة الطبعة الأولى من كتابه المطبوع في مصر عندما يتحدث عن يوم الدار، ويثبت فيه الوصية لأمير المؤمنين عليه السلام ويثور عليه المتعصبون أتباع بني أمية، ويقولون له:

هذا عين ما تقوله الشيعة، فيقول لهم: هذا عين ما يقوله التاريخ، ثم يمحو ويحذف هذا الكلام من الكتاب عندما يتفق معه على شراء خمسمائة نسخة في الطبعة الثانية، فيهدم بهذا هيكل كل ما بناه من تحقيق علمي نزيه وبحث موضوعي مجرد.

وهنا في هذا الموضوع عندما يتعرض لموضوع فتح مكة المكرمة يجرد علياً

ص: 309

عن أي مكرمة بحذف مقصودٍ واهمال مقصود، وإذا اضطرته حقائق التاريخ التي يكتبها الطبري وابن الأثير واليعقوبي وابن هشام وغيرهم ممن تعرضوا لأكثر تفاصيل الفتوحات المباركة، يختصرها اختصاراً يكاد معه يمحو ذكر الحادثة. فهو مثلًا في مسألة الراية لا يذكر العباس ولا يذكر علياً عليه السلام، وفي مسألة أم هاني لا يذكر علياً وفي مسألة هدور دم الأعداء الألداء في العداوة الذين أمر النبي صلى الله عليه و آله علياً بقتلهم لا يذكر علياً، وفي مسألة تكسير الأصنام يتجاهل علياً تماماً، وهكذا يبدو هيكل وكأنه في حرب مع علي عليه السلام غير معلنة بل معلنة... (1) بقلم السيّد زهير الأعرجي:

كانت مكة معلماً شاخصاً في حياة الامام أمير المؤمنين عليه السلام. ففيها ولد، وفيها ترعرع صبياً بجنب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وفيها آمن برسالة السماء يوم كان الشرك يخيم عليها. لقد كانت مكة بالنسبة للامام عليه السلام مدينة تحمل كل معاني الصراع بين الحق والباطل. فقد بقي عليه السلام أياماً بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله منها يرد الامانات، وكان له دور رئيسي تحت امرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فتح مكة، وكان عليه السلام المؤهل الوحيد الذي بعثه النبي صلى الله عليه و آله لتبليغ سورة براءة في حج السنة التاسعة للهجرة.

وبكلمة، فإن لمكة المكرمة في حياة امير المؤمنين عليه السلام وضعاً خاصاً في النشاط الديني الاجتماعي، نعرض له في الصفحات التالية، بإذنه تعالى .

علي عليه السلام وفتح مكّة

فُتحت مكة المكرمة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة. وخبرُها أنه كان من شروط صلح الحديبية بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبين قريش أنه من أحب أن يدخل في عَقْد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عقد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعهده.


1- 1 اقتبس هذا من مجلّة ميقات الحجّ العدد الثاني.

ص: 310

ولكن بنو بكر وقريش تظاهرت على خُزاعة واصابوا منهم مقتلًا ونقضوا عهدهم مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فقدم عمرو بن سالم الخزاعي الى المدينة ووقف على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو جالس في المسجد بين الناس، فقال يستثيره على قتال اهل مكة من المشركين:

ياربّ إني ناشدٌ محمداً حِلْفَ أبينا وأبيه الأتلدا (1)

قد كنتمُ وُلداً وكنا والدا ثمّتَ أسلمنا فلم ننزِع يدا (2)

فانصُر هداك اللَّه نصراً أعتداوادعُ عبادَ اللَّه يأتوا مددا (3) فيهم رسولُ اللَّه قد تجرّداإن سِيم خَسْفا وجهه تربَّدا (4) في فيلق كالبحر يجري مُزبِداإنّ قريشاً أخلفوك الموْعِدا (5) ونقضوا ميثاقك المؤكداوجعلوا لي في كداء رُصّدا (6) وزعموا أنْ لستُ ادعو أحداًوهم أذلّ وأقلّ عددا

هم بيتونا بالوتير هُجَّداوقتّلونا رُكعَّا وسُجّدا (7) وأحست قريش بعظمة الجريمة التي ارتكبتها ضد المسلمين. وتسارعت الاحداث، فقدم ابو سفيان المدينة واراد أن يكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لتصحيح ما ارتكب من خطأ فادح بنقضه العهد مع المسلمين ولكنه لم يفلح، فلم يردّ صلى الله عليه و آله عليه شيئاً.

فعندها «دخل على علي بن ابي طالب رضوانُ اللَّه عليه، وعنده فاطمة بنتُ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وعندها حسنُ بن علي غلام يدبّ بين يديها. فقال: ياعليّ، إنك أمسّ القوم بي رحماً (8)، واني قد جئتُ في حاجة فلا ارجعنّ كما جئتُ خائباً، فاشفع لي الى رسول اللَّه. فقال: ويحك يا ابا سفيان! واللَّه لقد عزم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أمر ما نستطيع ان نكلمه فيه. فالتفتَ الى فاطمة فقال: يابنة محمد، هل لك أن تأمري بُنَيَّك هذا فيُجيرَ بين الناس، فيكون سيدَ العرب الى آخر الدهر؟ قالت:

واللَّه ما بلغ بُنيَّ ذاك أن يُجير بين الناس، وما يُجير أحدٌ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.


1- 1 ناشد: طالب ومذكِّر. والاتلد: القديم.
2- 2 يريد ان بني عبد مناف امهم من خزاعة، وكذلك قصي امه فاطمة بنت سعد الخزاعية.
3- 3 أعتد: حاضر، والمدد: العون.
4- 4 تجرد: شمر وتهيأ للحرب. وسيم: طلب منه وكلف. الخسف: الذل. وتربد: تغير الى السواد.
5- 5 الفيلق: العسكر الكثير.
6- 6 كداء: موضع باعلى مكة.
7- 7 الوتير: اسم ماء باسفل مكة لخزاعة. والهجد: النيام.
8- 8 عندما خسر ابو سفيان كل شي ء اراد الضرب على وتر الرحم والدم، وهو الذي قاتل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام من بني هاشم اشد القتال. لكنه اليوم يتحدث عن علاقة بني امية ببني هاشم من ناحية الرحم والاجداد!

ص: 311

قال: ياأبا الحسن، إني أرى الامور قد اشتدت عليّ، فانصحني.

قال عليه السلام: واللَّه ما أعلم لك شيئاً يغني عنك شيئاً، ولكنك سيد بني كِنانة، فقُم فأجِرْ بين الناس، ثم الحق بأرضك.

قال: أو ترى ذلك مُغنياً عني شيئاً؟

قال عليه السلام: لا واللَّه، ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك.

فقام ابو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرتُ بين الناس. ثم ركب بعيرَه فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئتُ محمداً فكلمته فواللَّه ما ردَّ عليّ شيئاً... ثم جئتُ علياً فوجدته ألين القوم، وقد اشار عليّ بشي ء صنعتُه، فواللَّه ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا؟...» (1).

وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالجهاز، فتجهز عشرة آلاف من المسلمين، ولم يتخلف عنه أحد. وخرجوا جميعاً نحو مكة. فلما نزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «مرَّ الظهران» قدم ابو سفيان يستظهر الخبر، فأخذه العباس بن عبد المطلب الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فلما رآه صلى الله عليه و آله، قال: ويحك ياأبا سفيان، ألم يأنِ لك ان تعلم انه لا إله الا اللَّه؟ قال: بأبي انت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! واللَّه لقد ظننت ان لو كان مع اللَّه إلهٌ غيره لقد اغنى عني شيئاً بعد. قال: ويحك ياابا سفيان! ألم يأنِ لك أن تعلم أني رسول اللَّه؟ قال: بابي أنت وامي، ما احلمك واكرمك واوصلك! أما هذه واللَّه فإن في النفس منها حتى الآن شيئاً. فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله الا اللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه قبل أن تُضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق، فاسلم!

قال العباس: قلت يارسول اللَّه، إن ابا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. قال: «نعم. من دخل دار ابي سفيان فهو آمن، ومن اغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» (2).

وعندما رأى ابو سفيان جنود اللَّه تمر من امامه في مضيق الوادي التفت الى


1- 1 سيرة ابن هشام 4: 39.
2- 2 سيرة ابن هشام 4: 45- 46.

ص: 312

العباس وقال: «واللَّه يا اباالفضل، لقد اصبح مُلكُ ابن اخيك الغداة عظيماً، قال العباس: ياابا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم اذن» (1).

وحينما دخلوا قال سعد بن عبادة: اليومُ يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحُرمة! وهو رأي لم يُستشر فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويدلّ على الآثار المترسبة ما قبل الاسلام على اولئك المسلمين. فتدارك النبي صلى الله عليه و آله الموقف الذي يمكن ان يتطور الى سفك دماء، وقال صلى الله عليه و آله لعلي بن ابي طالب عليه السلام: أدركه، فخذ الراية منه، فكن انت الذي تدخل بها (2). وهكذا كان، فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبيد علي عليه السلام الراية ثم جيش النبي صلى الله عليه و آله من ورائهما.

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد عَهِدَ الى امرائه من المسلمين، حين امرهم ان يدخلوا مكة، ان لا يقاتلوا الا من قاتلهم. لكنه امرهم بالخصوص بقتل اربعة نفر هم: عبد اللَّه بن سعد بن ابي سرح، والحويرث بن نفيل، وابن خطل، ومقبس بن ضبابة.

وأمرهم ايضاً بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وقال صلى الله عليه و آله: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين باستار الكعبة. فقتل علي عليه السلام الحويرث بن نفيل واحدى القينتين وأفلتت الاخرى . وقتل مقبس بن ضبابة في السوق. وادرك ابن خطل وهو متعلق باستار الكعبة، فاستبق اليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر، فسبق سعيد عماراً فقتله.

اما عبد اللَّه بن سعد الذي كان قد ارتد مشركاً بعد ان كتب بعضاً من الوحي وحرّفه، فظُفر به ولكن عثمان بن عفان غيّبه وطلب له الامان من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في قصة ذكرت في سيرة ابن هشام. ثم ولاه عمر بن الخطاب بعض اعماله في خلافته، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر (3)!!

ولما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكة، دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون ان السيف لا يرفع عنهم. فاتى صلى الله عليه و آله الحرم وقام على باب الكعبة فقال: «لا اله الا اللَّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده، الا كل مأثُرة او


1- 1 سيرة ابن هشام 4: 47.
2- 2 سيرة ابن هشام 4: 49.
3- 3 سيرة ابن هشام 4: 52.

ص: 313

دم او مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين إلا سدانة البيت (1) وسقاية الحاج... يامعشر قريش، إنّ اللَّه قد اذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظُّمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ياايها الناسُ إنا خلقناكم من ذكرٍ وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند اللَّه اتقاكم الآية كلها. ثم قال:

يامعشر قريش، ماتروَن اني فاعل فيكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن اخ كريم.

قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء» (2).

وكان اللَّه سبحانه قد امكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً، فلذلك سُمي اهل مكة الطلقاء.

و «لما فتح اللَّه مكة على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله امر النبي صلى الله عليه و آله علياً (كرم اللَّه وجهه) ان يصعد على منكبه ليقذف الصنم التي كانت اعظم الاصنام عن المسجد الحرام» (3).

وتفصيل ذلك على لسان علي بن ابي طالب عليه السلام كما يرويها احمد بن حنبل، قال عليه السلام:

«انطلقت أنا والنبي صلى الله عليه و آله حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اجلس وصعد على منكبي فذهبت لانهض به فرأى مني ضعفاً فنزل وجلس لي نبي اللَّه صلى الله عليه و آله وقال:

اصعد على منكبي، فصعدتُ على منكبيه، فنهض بي. قال: فانه يخيل اليّ اني لو شئت لنلتُ افق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صِفر او نحاس، فجعلت ازاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى اذا استمكنتُ منه قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اقذف به، فقذفتُ به فتكسر كما تنكسر القوارير» (4)

. وفي رواية اخرى أن علياً عليه السلام لما عالجه كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول له: ايه ايه... جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقاً (5)

» (6).

تصرفات خالد بن الوليد: آثار ما قبل الاسلام

وعندما فتحت مكة، بعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله السرايا فيما حول مكة تدعو الى اللَّه عزّوجلّ، ولم يأمرهم بقتال. وكان ممن بَعثَ خالد بن الوليد وأمره أن يسير بأسفلِ تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلًا، ومعه قبائل من العرب: سُليم بن منصور، ومُذلج بن


1- 1 سدانة البيت: خدمته.
2- 2 سيرة ابن هشام 4: 54- 55.
3- 3 مفتاح النجاء، البدخشي: 46.
4- 4 مسند احمد، رواه احمد بن حنبل باسناده عن ابي مريم عن علي عليه السلام 1: 84.
5- 5 سورة الاسراء: آية 81.
6- 6 المستدرك على الصحيحين 2: 366.

ص: 314

مُرَّة. فوطئوا بني جذيمة بن عامر. فلما رآه القوم اخذوا السلاح. فقال خالد: ضعوا السلاح، فان الناس قد اسلموا.

فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك. فكُتِفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رفع يديه الى السماء، ثم قال: اللهم اني أبرأُ اليك مما صنع خالد بن الوليد (1).

فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علي بن ابي طالب (رضوان اللَّه عليه)، فقال: يا علي، اخرج الى هؤلاء القوم، فانظر في امرهم، واجعل امر الجاهلية تحت قدميك. فخرج علي عليه السلام حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فوَدَى لهمُ الدماء وما أصيب لهم من الاموال، حتى انه لَيدي لهم ميلَغة الكلب (2).

حتى اذا لم يبق شي ء من دم ولا مال إلا وَدَاه، بقيت معه بقية من المال. فقال لهم علي (رضوان اللَّه عليه) حين فَرَغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم او مال لم يُودَ لكم؟ قالوا: لا. قال: فإني اعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل. ثم رجع الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأخبره الخبر، فقال صلى الله عليه و آله: أصبت وأحسنت. ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى انه ليرى ما تحت مَنكبِيه، يقول: «اللهم إني ابرأ اليك مما صنع خالد بن الوليد، ثلاث مرات» (3).

الدلالات العلمية للنصوص

هناك دلالات علمية يمكن استنباطها من النصوص التي اوردناها في فتح مكة. ومن تلك الدلالات: تنبأ الدين ببقاء الحق وزوال الباطل، والطراز الرفيع لفتح مكة بين الفتوحات، وبطولة الامام عليه السلام التي كان من اهم آثارها: فتح مكة وانكسار دولة الشرك الى الابد.

1- الحق والباطل: من زاوية فلسفية

عندما تكسرت اصنام قريش في فتح مكة على يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلي بن


1- 1 سيرة ابن هشام 4: 72.
2- 2 ميلغة الكلب: شي ء يحفر من خشب، ويجعل ليلغ فيه الكلب. وكان يستعمل عند اهل البادية واصحاب الغنم.
3- 3 سيرة ابن هشام 4: 72- 73.

ص: 315

ابي طالب عليه السلام، قال صلى الله عليه و آله: ايه ايه جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقاً (1)

. فما هو الباطل الذي حُكم عليه بالموت والزوال؟ وما هو الحق الذي اقرّ له بالحياة؟

يعبّر الحق عن صفات الكمال المطلق، وكل شي ء يتصل باللَّه سبحانه هو حق: هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق (2)

، فتعالى اللَّهُ هو الملك الحق (3)

، هنالك الولاية للَّه الحق هو خير ثواباً وخير عقبا (4)

، ذلك بان اللَّه هو الحق وانه يحيي الموتى (5)

. بينما لا يمثّل الباطل الا الشيطان وكل ما يدعو اليه هو شر وفساد، كما اشار تعالى : فماذا بعد الحق الا الضلال فأنى تصرفون (6)

، ذلك بان اللَّه هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل (7).

أ- الباطل:

هناك تساؤل وجيه يمكن ان يُطرح في هذا المقام وهو: هل الباطل قضية متعلقة بالاخلاق ام انه قضية متعلقة بالدين؟ وهل يمكن طرد الباطل من العقل، ثم من الحياة الاجتماعية، من دون مساعدة الدين؟

طبيعياً، يعدُّ الباطل حقيقة مستقلة بذاتها بسبب قابلية النفس الانسانية على الاقتراب منه او الابتعاد عنه. واهم مصاديق الباطل: الفجور والكفر. فقد خلق اللَّه سبحانه النفس الانسانية والهمها الفجور والتقوى فقال: ونفس وماسواها. فالهمها فجورها وتقواها... (8).

فالنفس الانسانية كيان يمتلك القدرة والعلم والحكمة، وقد سواها سبحانه وتعالى ورتب خلقها ونظّم قواها واعضاءها. والقى في روعها وافاض عليها صوراً علمية من التصور والتصديق، وعرّفها صفات الافعال من التقوى والفجور.

فالعنوان المشترك بين التقوى والفجور هو متن الفعل. مثال ذلك: اكل المال وهو مشترك بين اكل مال اليتيم وهو فجور، واكل المال الحلال وهو من التقوى . ومثال آخر: المباشرة وهو عمل مشترك بين الزنا وهو فجور، والزواج الشرعي وهو من


1- 1 سورة اسراء: آية 81.
2- 2 سورة التوبة: آية 33.
3- 3 سورة طه: آية 114.
4- 4 سورة الكهف: آية 44.
5- 5 سورة الحج: آية 6.
6- 6 سورة يونس: آية 32.
7- 7 سورة الحج: آية 62.
8- 8 سورة الشمس: آية 7- 8.

ص: 316

التقوى . ومثال ثالث: العبادة وهو عمل مشترك بين عبادة الصنم وهو فجور، وعبادة اللَّه سبحانه وهو تقوى .

والمحصَّل من الآيات الشريفة هو ان اللَّه عز وجل عرّف الانسان بخصائص الافعال من فجور او تقوى ، وميّز له الافعال المتصلة بالتقوى والاخرى المتصلة بالفجور.

ومن تلك الآيات الشريفة نستلهم أن هناك تناقضاً منطقياً بين الحق والباطل. فلابد ان يهزم احدهما الآخر ويدحره، ولا يمكن ان يجتمعا في مكان واحد في نفس الوقت. بل لابد من استقلالية تحمي احدهما عن الآخر. فاما هذا واما ذاك. اي اما الفساد والظلم والشيطان: وهو الباطل. واما الخير والصلاح والعدالة: وهو الحق.

ولم يقف القرآن الكريم موقفاً حيادياً من الباطل بل ادانه في مواطن عديدة، فخاطب اهل الكتاب: يااهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون (1)

، وخاطب عبدة الاوثان: أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللَّه يكفرون (2)

، ونقل عن المنكرين: ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق (3)

. ونقل عن الكافرين ومجادلتهم بالباطل لدحض الحق: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب (4)

، وخاطب المسلمين بضرورة مراعاة شرعية التعامل التجاري عبر قوله: ياايها الذين آمنوا لا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل الا ان تكون تجارةً عن تراضٍ منكم (5)

، وادان الكافرين اجمالًا بقوله: والذين آمنوا بالباطل وكفروا باللَّه اولئك هم الخاسرون (6).

ومن ذلك نفهم ان طبيعة الاشياء في الكون تتناغم مع الخير والصلاح والعدالة والتوحيد، ومع كل ما يمثله الحق من مفاهيم وافكار. وعندما يقوم الانسان بفعل الباطل من فساد وظلم وعبادة للشيطان والوثن، فانه انما ينتهك


1- 1 سورة آل عمران: آية 71.
2- 2 سورة النحل: آية 72.
3- 3 سورة الكهف: آية 56.
4- 4 سورة غافر المؤمن: آية 5.
5- 5 سورة النساء: آية 29.
6- 6 سورة العنكبوت: آية 52.

ص: 317

طبيعة الاشياء التي خلقها اللَّه سبحانه. فهنا لابد من دحر الباطل الذي ينتهك النظام الكوني المبني على اساس العدالة والخير والتوحيد. كما قال تعالى : ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموات والارض... (1).

ومجي ء الاسلام كان انذاراً للباطل بالتوقف عن الوجود في ذات المؤمن على الاقل. فالمؤمن بتعاليم الدين السماوي يؤمن بالحق ويبني وجوده الاجتماعي والذاتي الجديد على اساس ايقاف الباطل وحذفه من حياته. وهذا يعني اننا اذا الغينا الباطل من الساحة الاجتماعية، كما فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام بتحطيم الاصنام، فان ذوات الناس سوف تنفتح على الخير والاستماع الى الحق. وهنا يتخير الانسان بحرية، في ذلك الجو المنفتح وتلك الارضية الواسعة، بين الحق والباطل.

ولو كان الباطلُ قضيةً متعلقةً بالاخلاق لاستطاع الانسان دحرها من دون مساعدة الدين، بل لكان العقل سلاحاً كافياً من اسلحة دحر الباطل. ولكن الحقيقة تقول بان للباطل كياناً مستقلًا لا يقف امامه الا الدين. فمع ان العقل يدعو الى التوحيد والعدل، الا ان العقل المجرد عن الايمان قد يدعو الى الفساد والدمار والشرك. فالعقل لوحده لا يستطيع دحر الباطل. ولو كان العقل كافياً لادراك معاني الوجود لانتفى دور الدين في الحياة الانسانية. فقضية الباطل اذن ليست متعلقة بالفلسفة الاخلاقية فقط، بل ان ازالة الباطل موكولة الى تعاليم الدين ومقدار ادائها من قبل المؤمنين.

فلاشك ان زوال الباطل يتحقق عندما يمارس المكلّفون تكاليفهم الشرعية ويتنعمون برحمة القوانين الدينية، وعندها ينتفي الفساد والظلم والشرك. فتثبيت الحق مرهون بتقوية شوكة الدين. ومن هنا نفهم مغزى مخاطبته صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: ايه ايه... جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقاً (2)

. فبتحطيم رمز الوثنية والشرك في مكة، بدأ الاذعان لتقبل فكرة انتصار الاسلام وانتشار قيمه السماوية


1- 1 سورة المؤمنون: آية 71.
2- 2 سورة الاسراء: آية 81.

ص: 318

في الخير والعدالة والمحبة والصلاح على مبادئ الظلم والفساد والشرك. ومن هنا جاء الحق وزهق الباطل بكل ما تحمله تلك الالفاظ من معانٍ ومفاهيم وافكار.

فقد جاء الحق عبر رسالة السماء محمّلًا بمفاهيم العدالة والخير والاخوة والمحبة والتعاون، وعندها انفتح الباب للانسان لاختيار طريق الخير بدل طريق الشر، وعندها كانت الحكمة الالهية: لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي... (1)

لان الانسان بطبيعته يختار الخير على الشر، ويختار الحق على الباطل.

ذلك ان الباطل يؤدي دائماً الى الالم والمعاناة على صعيد الانسانية، ولا يؤدي الشر الا الى الحرب، والظلم، والاجحاف بحقوق الآخرين. ولذلك فان الدين يحارب الباطل أينما وُجد؛ لان الدين لا ينمو ولا يستقر بوجود الباطل. فالدين يدعو الى الصفاء، والامانة، والمحبة، والولاء. بينما يدعو الباطل الى الخيانة، والبغض، والدماء، والاضطراب.

وبكلمة فان الشر يحطم الروح الانسانية، ويعكر الصفاء الذهني والنفسي الذي يجلبه الدين، ويدمر الفرص العقلائية لانتخاب الدين كبديل في الحياة تمشياً مع قوله تعالى : لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي... (2)

. اما الخير- وهو احد مصاديق الحق- فانه يجلب على الانسان سعادة ابدية، لان الخير يربط الانسان باللَّه سبحانه، ويربط الافراد بعضهم ببعض عن طريق القيم العليا في الحب والتعاون والتآخي. وجوهر الفكرة ان العقل لاينهض الى مستوى طرد الباطل. فلابد من تدخل الدين في طرد الباطل من النفس اولًا ثم سحق الباطل على المستوى الاجتماعي واحقاق الحق عن طريق الادارة الدينية للمجتمع.

ب- الحق:

ان الحق في ذاته امرٌ حسنٌ له قيمة اخلاقية عليا في حياة الانسان. فالحق يشمل الخير في كل جوانبه، ولذلك وصف اللَّه سبحانه نفسه بانه الحق المبين كما


1- 1 سورة البقرة: آية 256.
2- 2 سورة البقرة: آية 256.

ص: 319

قال: ويعلمون ان اللَّه هو الحق المبين (1).

ولكن يمكن تصنيف الحق الى صنفين: الحق على الصعيد الذاتي، والحق على الصعيد الموضوعي.

فعلى الصعيد الذاتي: فقد وصف اللَّه عز وجل نفسه بالحق، لان الحق يمثل كل جوانب الخير، فهو تعالى الحق الذي يحقق كل شي ء حق، ويجري في الاشياء النظام الحق. فالمولى عز وجل هو الذي يمسك باسباب الخير والعدالة والقوة والعزة والقدرة. وهو الذي خلق الخلق والحياة وصمم الكون والاشياء لتكون خيراً بذاتها. وقد ورد في القرآن الكريم مايدلل على ذلك. فهو علّة جميع العلل من الايجاد والتدبير والمُلك والإماتة والبعث، كما في قوله: ثم ردوا الى اللَّهِ مولاهم الحق الا له الحكم (2)

، فذلكم اللَّه ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فانى تصرفون (3)

. والامر كله بيده فهو الخالق لكل شي ء المدبر لكل امر، وليس لغيره الا الاوهام من اجل الابتلاء والامتحان، فقال: هنالك الولاية للَّه الحق هو خير ثواباً وخير عقباً (4)

، فتعالى اللَّه الملك الحق... (5)

، ذلك بان اللَّه هو الحق وانه يحيي الموتى (6)

، ويعلمون ان اللَّه هو الحق المبين (7)

. وتلك بديهيات لا ستار عليها بوجه من الوجوه. فالحق من اسماء اللَّه الحسنى لثبوته تعالى بذاته وصفاته ثبوتاً لا يقبل الزوال ويمتنع عن التغيير.

وعلى الصعيد الموضوعي: فان الحق- بقيمه الاخلاقية- قد تمثل بالاسلام.

فالاسلام ليس فرداً ولا شخصاً ولا مفردة، بل هو موضوعٌ للخير العام. فهذا الدين يمثل حالة معنوية لنشر العدالة بين الناس، ويعكس صورة لنظامٍ في ادارة صلة الانسان بربه، وصورة لنظام الادارة الاجتماعية والحقوقية. ولذلك عُبّر عن الدين بانه الحق، كما يُستخلص من التأمل في قوله تعالى : فاما الذين امنوا فيعلمون انه الحق من ربهم (8)

، انا ارسلناك بالحق بشيراً ونذيراً (9)

، فهدى اللَّه الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه (10)

، ولا تتبع اهواءهم


1- 1 سورة النور: آية 25.
2- 2 سورة الانعام: آية 62.
3- 3 سورة يونس: آية 32.
4- 4 سورة الكهف: آية 44.
5- 5 سورة طه: آية 114.
6- 6 سورة الحج: آية 6.
7- 7 سورة النور: آية 25.
8- 8 سورة البقرة: آية 26.
9- 9 سورة البقرة: آية 119.
10- 10 سورة البقرة: آية 213.

ص: 320

عما جاءك من الحق (1)

، هو الذي ارسل رسوله بالهدى ودين الحق (2)

. وفي الآيات الكريمة دلالة ظاهرة على ان الدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه و آله هو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب، وحقٌ فيما خالفه لكون القرآن مهيمناً على جميع الكتب السماوية السابقة.

وبذلك يكون الحق الذي بشرّ بمجيئه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما كان علي عليه السلام يكسر الاصنام يمثل كل معاني الخير والعدالة والتوحيد والعبودية للَّه الواحد القهار. وان كان ذلك الحقُ يغطي مساحة قانونية او معنوية او انسانية او طبيعية، فانه انما يدلّ على شمولية الدين لكل تلك الحقوق. فالدين يحفظ حق الانسان في التعبد، وحق الانسان في العيش بكرامة تحت اجواء الخير. وبكلمة، فان الحق هو بشرى السماء للبشرية المعذّبة التي تبحث عن طريق للهداية والنجاة من العذاب.

2- فتح مكة: طراز الفتوحات الكبرى

لو اردنا ادراك اهمية «فتح مكة» باطار الفهم المعاصر الحديث، لافترضنا اننا يجب ان نفهم آثارها او مقتضياتها بنفس درجة فهم اسبابها او عللها. فمع ان شجاعة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وامير المؤمنين عليه السلام الفائقة كانا من اهم عللها، فان آثارها كانت خطيرة للغاية. ذلك أن فتح مكة وضعَ القيادة الدينية الاجتماعية للعالم بيد المسلمين بعد ان كان المشركون يعيثون في الارض فساداً. فدخل الناس، مؤمنين باطناً او ظاهراً، في دين اللَّه افواجاً. وقد تنبأ كتاب اللَّه المجيد بتلك الاحداث بالقول: اذا جاء نصر اللَّه والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين اللَّه افواجاً* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً (3).

وتلك سورة مدنية نزلت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة. حيث كانت السورة إخباراً بتحقق أمر لم يتحقق بعد. وهو الوعد الجميل بالنصر والفتح. وتلك السورة تنطبق على فتح مكة الذي هو امّ فتوحاته صلى الله عليه و آله في حياته، حيث تكلل ذلك النصر بهدم بنيان الشرك في جزيرة العرب. ولذلك طلب اللَّه عز وجل من


1- 1 سورة المائدة: آية 48.
2- 2 سورة التوبة: آية 33.
3- 3 سورة النصر: آية 1- 3.

ص: 321

رسوله صلى الله عليه و آله أن يسبحه وينزهه بقوله: فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان تواباً الآية. حيث تم اذلال الشرك وتعزيز التوحيد وابطال الباطل وأحقاق الحق.

واصبح الاسلام بعد فتح مكة قوة عالمية تستطيع مواجهة قوى الفرس او الروم والانتصار عليهما، وتثبيت الامن العالمي في ذاك الوقت تحت شعار: لا اله الا اللَّه، محمد رسول اللَّه. وهذا كله يمثّل مصداقاً من مصاديق المقولة القرآنية: جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.

ولاشك أن فتح مكة لم يكن مجرد عملية انهيار قوة عالمية وهي قوة المشركين، وانتصار قوة اعظم في المبدأ والعقيدة وهي قوة المسلمين. بل كانت عملية بدء عصر جديد يستمر فيه الاسلام حياً نابضاً فعّالًا الى يوم القيامة؛ لان الاسلام بطبيعته دين عالمي وليس ديناً محلياً يهتمّ بعرق معين او طائفة معينة.

ويؤيده قول اللَّه تبارك وتعالى : وما ارسلناك الا كافّة للناس بشيراً ونذيراً (1)

.

وقد كان للبطولة الخارقة دور حاسم في فتح مكة وتحطيم الاصنام فوق الكعبة وحولها، كما بحثنا ذلك سابقا. وبتحطيم الاصنام أزف الوقت لإعلان عدم شرعية الشرك في معقل المشركين بمكة بقوة السلاح والايمان، واعلان انتقال السلطة العالمية من يد الشرك الى يد الايمان، وانتهاء التحدي الفكري للشرك القرشي ضد الاسلام.

ومن منطلق تلك الاحداث لابد من ادراك مقدار المكاسب التي حققتها بطولة اهل بيت النبوة عليهم السلام في المعارك الاسلامية الكبرى . فقد دمر ذلك التفاني العجيب من اجل الدين، كل احلام الوثنية في البقاء. فلم تكن تلك المعارك صراعاً شخصياً بين بني هاشم وبني امية. ولم تكن مواجهة شخصية بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وابو سفيان، او بين حمزة وابو جهل، او بين علي عليه السلام ومعاوية.

بل كان الصراع بين الخير والشر او الحق والباطل صراعاً تأريخياً بين معسكرين ذي مبدأين متصارعين الى ابد الدهر. ولم يكن تسامح رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مع


1- 1 سورة سبأ: آية 28.

ص: 322

اهل مكة الطلقاء ليغير من موقف النخبة الجاهلية. فحتى مع اظهار اسلامه، لا يزال ابو سفيان في قلبه شي ء من رسالة محمد صلى الله عليه و آله، ولا يزال يؤمن بانه المُلْك الذي حازه محمد صلى الله عليه و آله واصبح عظيماً به، لا النبوة الخاتمة. ولا يزال خالد بن الوليد يتصرف على ضوء عنجهيته الجاهلية فيقتل من لا يجوز قتله، وعندها يتبرأ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من افعاله.

ان العداء التأريخي الذي كانت تكنّه قريش للاسلام ولرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولعلي عليه السلام لم يكن ليزول باعلان الشهادتين على اللسان دون القلب. ذلك ان فتح مكة كان اظهار قدرة اللَّه سبحانه على اعزاز الاسلام وتكريمه وتجليل خاتم الانبياء صلى الله عليه و آله. وقد نصر اللَّه الاسلام على رغم انوف صناديد قريش من الذين تشربت في قلوبهم عبادة الاوثان والاصنام.

ولذلك كانت النبوة امراً لا تستطيع قريش هضمه او استيعابه. فما هي تلك القوة الهائلة التي تستطيع ان تحرك القلوب نحو اللَّه ضد الشيطان والشرك والرجس؟ وما هو سر ذلك التسامي العظيم لرسالة محمد صلى الله عليه و آله بين الامم؟ وما هو سر شجاعة علي عليه السلام الفائقة وتفانيه في حماية الرسالة السماوية؟ وما هو السر في استبسال تلك النخبة المؤمنة التي كانت تحيط برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتصحبه؟ لاشك ان تلك النخبة كانت اشد تماسكاً في اتباع قائدها صلى الله عليه و آله من غيرها من نخب الملل والمذاهب، فهذا علي عليه السلام يصعد على كتف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليحطم الاصنام، في وقت كان شعارهما: جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقاً. وكان حمزة (رض) متفانياً في الدفاع عن الاسلام ونبيه صلى الله عليه و آله، وكان ابو طالب ومواقفه الاجتماعية العظيمة تفصح عن عمق ايمانه برسالة محمد صلى الله عليه و آله، وكان تفاني جعفر بن ابي طالب مشهوداً من اجل الاسلام ورسالته السماوية للبشرية.

وبذلك فقد كان الشعور الوجداني بين النخبة المؤمنة هو ان يزدهر الخير بين البشر وتتحقق كلمة التوحيد وعبادة اللَّه سبحانه. وبذلك كان فتح مكة اعادة لبناء

ص: 323

التركيب السياسي والاجتماعي للعالم على ضوء الدين الجديد. في وقت كان العالم يبحث فيه عن قيادة جديدة تحقق العدل الاجتماعي والامان والتوحيد، فكانت قيادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تحقق ثبات دولة الايمان العالمية ونظامها الامني والحقوقي.

والسبب في ذلك ان العالم يتضمن شعوباً متباينة في التقاليد والعادات واللغات، ولايمكن ان يجمعها الا دين سماوي واحد. فكان الاسلام هو الدين القادر على جمع ذلك العدد الهائل من البشر تحت سقف خيمة واحدة في ظل لواء واحد. ولا يستطيع احد تحمل مسؤولية ادارة ذلك التجمع العالمي اجتماعياً وسياسياً الا رسولٌ يوحى اليه. فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هو حامل المسؤولية العالمية.

وكان من خلفه المؤهل الاول لتسلم القيادة الدينية بعده صلى الله عليه و آله امير المؤمنين عليه السلام.

فقد كان عليه السلام موضع ثقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في فتح مكة. فعندما قال الناس: اليومُ يوم الملحمة، اليوم تُستحل الحرمة. دعاه النبي صلى الله عليه و آله لتدارك الوضع الخطير الذي كان سيؤدي حتماً الى سفك الدماء. فكان علي عليه السلام منقذ الموقف. وعندما قام خالد بن الوليد بقتل من قتل من بني جذيمة، وداهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فبعث علياً عليه السلام لتسوية الوضع.

وقبلها كان علي عليه السلام ثقة ابو سفيان رأس الشرك الذي حارب الاسلام والنبي صلى الله عليه و آله وعلياً عليه السلام اشد حرب. فكان علي عليه السلام، اذا صحت الرواية، ألينهم معه. وهكذا كان خلق الانبياء والاوصياء عليهم السلام. وهكذا تعامل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مكة مع الطلقاء.

ويمكننا الآن ان نقول باطمئنان بان فتح مكة كان من طراز الفتوحات الكبرى للاسباب التالية:

1- رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منتصراً الى البلدة التي حاربته واضطهدته وتآمرت على قتله واخرجته بالإكراه. فبعد ثمان سنوات فقط من الهجرة الكبرى من مكة الى المدينة، رجع المصطفى صلى الله عليه و آله الى بلدته مكللًا بالانتصار.

2- دخل خاتم الانبياء صلى الله عليه و آله الكعبة وبجنبه علي عليه السلام وحطما الاصنام التي كانت تعتبر رمز الشرك في عالم ذلك الزمان، وفي كل زمان. وارجع صلى الله عليه و آله للكعبة الشريفة

ص: 324

حرمتها النبوية التي وضعها النبي ابراهيم عليه السلام ولوثتها جاهلية الاوثان والاصنام.

3- كان رداء المصطفى صلى الله عليه و آله التسامح مع ألد اعدائه: مشركي قريش. فاعطاهم الامان، وقال لهم: اذهبوا فانتم الطلقاء. وكان هؤلاء قد ارتكبوا اعظم الفظائع ضد الموحدين المسلمين.

4- كان بفتح مكة سقوط الجزيرة العربية تحت سلطان الاسلام. وتهيؤ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لمحاربة القوى الاخرى في العالم.

3- فتح مكة: استراتيجية جاء الحق وزهق الباطل

ان الآية الشريفة: وقل جاء الحق وزهق الباطل. ان الباطل كان زهوقاً (1)

حبلى بالمعاني العديدة التي يمكن ان يستظهرها ذهن العالِم باحكام الدين وتشريعاته. ومن تلك المعاني نظرية «حتمية ازهاق الشرك والظلم وحتمية انتصار الدين» على المدى البعيد. فتلك النظرية تعرض علينا امكانية صياغة استراتيجية الاسلام بالنسبة للدنيا والتأريخ. فالدين هو الحق، والكفر هو الباطل.

ولابد ان ينتصر الدين ويندحر الباطل ويموت. لان الحق باقٍ الى الابد، والباطل ميتٌ الى الابد بظهور الاسلام وانتشاره في آفاق الارض. وفي الآية دلالة على ان الباطل لا دوام له ومصيره الهلاك كما قال تعالى في مكان آخر عن الباطل حيث مثّله بالشجرة الخبيثة:... مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار (2).

وفي هذه المناسبة لابد من استخدام بعض المصطلحات الحديثة التي دخلت قاموس اللغة الاجتماعية والسياسية وهما اصطلاحا: البعيد المدى «الاستراتيجية»، والقصير المدى «التكتيك». وهما مصطلحان اعجميان دخلا اللغة العربية. فالمعروف في الاوساط العلمية: ان التكتيك هو حركة ميكانيكية لاجسام وضعت في مسار بواسطة الخطة الاستراتيجية. وبتعبير اوضح ان الاعمال التي تتطلب زمناً طويلًا في الانجاز تحتاج الى خطة وتصميم مسبق، وتحتاج ايضاً


1- 1 سورة الاسراء: آية 81.
2- 2 سورة ابراهيم: آية 26.

ص: 325

الى من يقوم بالحركة الآن هو ما يسمى بالمدى القصير او التكتيك. فحركة السيارة او العربة هو تكتيك لخطة يضعها السائق من اجل الوصول الى المدينة المقصودة «الاستراتيجية».

واذا كانت الحرب تكتيكاً قصير المدى ، فان التخطيط لها واستثمار نتائجها في النصر هو استراتيجية بعيدة المدى . وقد كان فتح مكة من هذا القبيل. فقد كان الفتح جزءًا من خطة مستقبلية بعيدة المدى لنشر الاسلام خارج حدود الجزيرة العربية ليصل العالم الواسع كله.

وبصورة اخرى ، فان النهوض باعباء الرسالة السماوية من اجل نشرها في العالم الى يوم القيامة لا يمكن ان يتم ما لم يجتاز المسلمون مرحلة الانتصار النهائي على الشرك في الحروب التكتيكية التي كان يخوضها علي عليه السلام جنباً الى جنب مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ثم ينتقلون الى مرحلة الاستراتيجية البعيدة المدى . فهنا انتقل المسلمون من مرحلة الدائرة المحلية الى مرحلة الدائرة العالمية. فالاسلام انذارٌ وبشارةٌ... كافّة للناس (1)

، بعد ان كان الانذار محصوراً ب... ام القرى ومن حولها (2)

ومن قبلهم ب... عشيرتك الاقربين (3).

ان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يخطط لاهداف استراتيجية بعيدة المدى في المعارك التي كان يخوضها، لانه كان قائداً عسكرياً ملهماً من الطراز الاول، ولانه كان صلى الله عليه و آله مكلّفاً بدعوة الناس جميعاً الى الاسلام. وكان علي عليه السلام الى جنبه دائماً الوسيلة القوية «التكتيك» التي تحقق نبؤات المصطفى صلى الله عليه و آله وطموحاته في نشر الدين على بقاع المعمورة. والاستراتيجية لا يمكن ان تحقق اهدافها ما لم يكن التكتيك فعالًا وحيوياً.

ولاشك ان تكتيك المعركة في ذاك الوقت كان ينصّب على شجاعة المقاتل بالدرجة الاولى وبطولته القصوى في انتزاع النصر من العدو؛ لان معارك الاسلام الاولى ضد الشرك كانت معارك برية بسلاح رئيسي واحد هو السيف. فلم تكن


1- 1 سورة سبأ: آية 28.
2- 2 سورة الانعام: آية 92.
3- 3 سورة الشعراء: آية 214.

ص: 326

هناك معارك جوية وبحرية وبرية كما هو الحال اليوم مع عشرات الانواع من الاسلحة المعقدة. ولذلك فان اي معركة اسلامية تقع بدون وجود بطل استثنائي مقدام كعلي عليه السلام لا يُكتب لها النصر. فلم يحقق المسلمون شيئاً في معارك غاب عنها علي عليه السلام كمعركة ذات السلاسل، ومعركة خيبر قبل استلامه عليه السلام الراية، ومعركة مؤتة.

ان فلسفة الزمان والمكان تدعونا للايمان بان نزول الرسالة السماوية في ذلك الوقت وفي تلك البقعة من الارض، كان له معانٍ سامية تبقى مع التأريخ والبشرية الى يوم القيامة. فقد كان ذلك الزمان وسطاً بين تأريخ سابق وتأريخ لاحق، وكان ذلك المكان ولا يزال قلب العالم قديماً وحديثاً. وبذلك، فان احداثاً جسيمة- كاحداث الاسلام ومعاركه ضد الشرك- ستبقى في ضمير البشرية يمكن فهمها واستيعاب معانيها الجليلة الى آخر يوم يعيش الانسان فيه على وجه الارض.

ولاشك ان احداثاً جسيمة كتلك كانت تقتضي وجود بطل عظيم مطيع يذود عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المخاطر، ويستوعب اهداف الرسالة، وعلى استعداد تام للتضحية من اجل مبدئه. فكان علي عليه السلام يمثل ذلك الرجل المثالي الذي تفهمه البشرية في كل وقت وتفهم بطولته النادرة وتضحياته الجسيمة من اجل الاسلام.

وبلحاظ فلسفة الزمان والمكان لابد من الايمان بان اساليب القتال تتغير وتتبدل من زمن لزمن ومن مكان لمكان، الا ان الثابت الذي نفهمه في كل جيل هو اخلاقية الحرب وتعامل المحاربين فيها وطبيعة دوافعهم الخيرة. واذا فهمنا ذلك وآمنا بان اخلاقية الاسلام في الحروب كانت القمة في الكمال، استطعنا فهم بطولة علي عليه السلام وتضحياته في سبيل مبدئه وعقيدته. واذا كان قول النبي صلى الله عليه و آله للامام عليه السلام:

«ايه ايه. جاء الحق وزهق الباطل. ان الباطل كان زهوقاً» يفُسَر بان الحق قد انتصر وسوف ينتصر، وان الباطل قد سُحق وسوف ينهزم في كل مرة يتواجد فيها مؤمنون مخلصون متفانون، فاننا لابد ان نؤمن بان تلك هي اهداف استراتيجية

ص: 327

بعيدة المدى للاسلام ولرسالته السماوية. ومن هنا نفهم ان فتح مكة كان البوابة العظمى للانفتاح على البشرية في القلب والعقل والادراك على طول الزمن.

وهناك دوران مهمّان للإمام عليّ عليه السلام في مكّة، تعرّض لهما السيّد الأعرجي وللضرورة نذكرهما:

اخلاقية رد الامانات الى الناس

اقام علي عليه السلام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله الى المدينة يردّ الودائع ويقضي الديون (1). وكان وضعه عليه السلام مع المشركين في مكة خطيراً للغاية، فما الذي دعاه لذلك؟

إنّ الحديث عن رد الامانات الى الناس يقودنا الى الحديث عن الاخلاقية الدينية عند علي عليه السلام والتي تعلّمها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فلاشك ان اهم ثمار الشخصية الاخلاقية التي كان يحملها عليه السلام هو أن سلوكه بين الناس كان ترجمة عملية لمفاهيم الدين. فهو الاسلام المتحرك في المجتمع، ومن هنا كان سلوكه الاخلاقي متطابقاً مع النظرية الاخلاقية للسماء. ومن الطبيعي فان السلوك الاخلاقي في رد الامانات والودائع وقضاء الديون يساهم في نشر الانسجام الديني والاخلاقي بين الناس. ومع ان مجتمع مكة كان مشركاً، الا ان العديد من افراده كانت عندهم القابلية على اعتناق الاسلام اذا لمسوا من الدين تغييراً في حياتهم الاجتماعية والاخلاقية.

فكان رد الامانات التي كانت بعهدة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الى الناس مهمة- من الناحية الاخلاقية- الى درجة ان تلك الاهمية كانت متناسبة مع حجم الخطورة التي كان يواجهها علي عليه السلام وهو في مكة دون مناصر. ورد الامانات تعدُّ من القيم الاخلاقية التي يحنُّ لها المجتمع الانساني ايّاً كان منشؤه وايّاً كانت اهدافه وطموحات اعضائه ومنتسبيه. ولاشك ان فضيلة الوفاء برد الامانة كان قد


1- 1 الطرائف، ابن طاووس 1: 34.

ص: 328

امضاها الدين الحنيف، بينما اوكل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام بتنفيذ تلك المهمة الصعبة.

ومن هنا نفهم امضاء الدين الاتفاق الاجتماعي حول الوفاء برد الامانة، لانها عمل خيّر يؤدي- عاجلًا او آجلًا- الى استتباب الامن الاجتماعي والاقتصادي بين الناس، واظهار الروحية المثلى للمسلم الملتزم بتعاليم الاسلام. وبذلك فقد عمل الاسلام في انارة الامور التالية:

اولًا: ان الوفاء برد الامانات كان عملًا اخلاقياً امضى فيه الاسلام عمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل البعثة وبعدها. حيث اؤتمن صلى الله عليه و آله باموال الناس وحاجاتهم، ولذلك شاع عنه صلى الله عليه و آله بانه الصادق الامين.

ثانياً: لم تؤخذ في قضية الوفاء برد الامانة حجم الخسارة والربح من حيث احتمالية مقتل علي عليه السلام من قبل مشركي قريش او انزال مطلق الاذى به عليه السلام. وبذلك يعدُّ الوفاء برد الامانة من الاعمال الاخلاقية التي تنظر الى قيمة العمل، لا الى حجم الربح والخسارة.

ثالثاً: ان الوفاء برد الامانات طُبّق على المجتمع الوثني الكافر. حيث ان اغلب الذين ائتمنوا محمداً صلى الله عليه و آله بعد البعثة ولم يهاجروا الى المدينة وبقوا في مكة كانوا من الذين لم يسلموا بعد. ولذلك بقي علي عليه السلام في مكة لردها. ولو اسلموا لهاجروا. نعم بقي عدد قليل من المسلمين في مكة في الخفاء. ولكن لسان دليل الروايات المتعلق بهذه المسألة لايخص تلك القلّة، بل إن ظهور اللفظ يدل على اطلاقها على المسلمين وغيرهم. وفيه قوله تعالى : إن اللَّه يأمركم أن تؤدّوا الامانات الى اهلها (1).

وردّ الامانة الى الكافر فضلًا عن المسلم تعدُّ قيمة اخلاقية مُثلى تبناها الاسلام، وحثَّ اتباعه والمؤمنين به على تطبيقها في حياتهم.

رابعاً: متانة الرابط بين الاخلاق والدين. فالاسلام هو الذي أمر برد الامانات الى اهلها، حتى لو كان اصحابها من المشركين. فيكون الوفاء برد الامانات من القيم الدينية الاجتماعية. ذلك أن الدين واحكامه الشرعية تدعوان


1- 1 سورة النساء: آية 4.

ص: 329

الى القيم الاخلاقية الفاضلة، وضرورة تطبيقها على النظام الاجتماعي.

خامساً: كان الوفاء برد الامانات من قبل الدين احتراماً للفرد المؤتمِن، ولا يمثلّ احتراماً لسلطة المشركين من قريش. وبذلك فقد كان الحكم هنا تحكيماً للحق على الباطل على مستوى شريحة خاصة من الافراد من الذين وضعوا ثقتهم برسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وبكلمة أخيرة، فان الوفاء برد الامانات الى اهلها كشف عن قدرة الدين الفعالة على التمييز بين الابعاد الموضوعية والذاتية للقيم الاخلاقية. فقد كانت تضحية الامام عليه السلام في البقاء ثلاثة ايام متواصلة في مكة تضحية ذاتية، رغم المخاطر المحيطة به، من اجل ان يبقى موضوع الوفاء برد الامانات حكماً ثابتاً يلتزم به المؤمنون الى يوم القيامة.

علي عليه السلام وسورة براءة: «لا يؤدي عني الا رجل من اهل بيتي»

رجع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من غزوة تبوك في شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة. وفي ذي الحجة من نفس السنة تحرك المسلمون بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لاداء فريضة الحج وكان على امرتهم ابي بكر. فلما «نزلت سورة التوبة (براءة) قيل له: يا رسول اللَّه، لو بعثت بها الى ابي بكر. فقال صلى الله عليه و آله: لا يؤدي عني الا رجل من اهل بيتي. ثم دعا علي بن ابي طالب (رضوان اللَّه عليه)، فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذّن في الناس يوم النحر اذا اجتمعوا بمنى ، انه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان له عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهد فهو الى مدته... فعندما كان يوم النحر قام علي بن ابي طالب (رضي اللَّه عنه)، فأذّن في الناس بالذي أمره به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. فقال: ايها الناس، انه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومن كان له عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهدٌ فهو الى مدته. وأجّلَ الناس اربعة اشهر من يوم أذّن فيهم، ليرجع كل قوم الى مأمنهم او بلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة الا أحدٌ كان له

ص: 330

عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عهد الى مدة، فهو له الى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عُريان» (1).

وسورة براءة امرت بنقض ما بين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبين المشركين من العهد العام الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم، والعهود الخاصة بينه صلى الله عليه و آله وبين بعض قبائل العرب، وتحدثت عمن تخلّف من المنافقين عنه في تبوك، فكشفت سرائر الناس خصوصاً المنافقين. فكان عليّ عليه السلام البديل الوحيد لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تبليغ تلك السورة المبعثِرة المقشقشِة الحافرة، بكل قوة، في مكة. فهو لا يخاف مشركاً ولا كافراً ولا شجاعاً ولا فارساً ولا راجلًا، بل انه ارعب في ساحات الوغى ابطال المشركين وقتلهم شر قتلة. وكان اطهر الناس بعد النبي صلى الله عليه و آله واكثرهم خشوعاً وتعلقا باللَّه سبحانه واكثرهم زهداً وتعففاً عن الدنيا.

ولذلك كان علي عليه السلام ابلغ المؤمنين في توصيل سورة (براءة) الى عالَم ذلك الزمان، من اجل ايقاع اقصى التأثير بهم، ليؤمنوا وتخشع قلوبهم لذكر اللَّه سبحانه.

الهوامش:

الامام علي عليه السلام باقلام المعاصرين


1- 1 سيرة ابن هشام 4: 190- 191.

ص: 334

الإمام علي عليه السلام بأقلام المعاصرين

ماجد محمّد علي

مقدّمة

لم تختلف أمّة في دنيا الناس على عظيم من عظمائها كما اختلفت الأمّة الإسلامية حول شخصية الإمام علي عليه السلام ولعلّ سرّ هذا الاختلاف هو حكمة وجود الاختلاف نفسه بين بني البشر، وذلك لتجلية فلسفة التدافع والابتلاء، وإتمام رحلة التكامل والارتقاء التي يقضي الإنسان عمره كلّه كادحاً لقطعها نحو خالقه سبحانه يا أيّها الإنسان إنّك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه.

وكلّما اشتدّ الاختلاف، تعمّق الوعي وألقيت الحجّة وتكشّفت الحقيقة، رغم ما في ذلك من ألم ومرارة ومعاناة لابدّ من دفع ضريبتها لمن يريد الوصول إلى الحقيقة، فيتكامل من يتكامل ويتسافل من يتسافل، وفي رحلة كدح ومكابدة سيكون شعارها يوم الحساب اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.

لم نكن في هذا العرض الموجز راغبين في تقديم قراءة واحدة لشخصية الإمام علي عليه السلام بأقلام الكتّاب الشيعة القدماء والمعاصرين، وإنّما صار الخيار أن نقدّم هذه القراءة بأقلام أخرى حُسِب بعضها على التشيّع وبعضها لم يُحسب... فكان منها مثلًا (سلطة الحقّ)

ص: 335

للمفكِّر الشيوعي المعروف عزيز السيّد جاسم، وأخرى للكاتب المصري الأستاذ صالح الورداني، ومثلها للكاتب المغربي إدريس الحسيني وعلى شاكلتها قراءة الشيخ معتصم سيد أحمد من السودان، وقراءة للكاتب المصري عبد الكريم الخطيب في كتابه «علي بن أبي طالب- بقيّة النبوّة وخاتم الخلافة» لنعيش ساعة أو ساعتين مع ما كتبه هؤلاء من مشارب مختلفة وأقطار مختلفة في العالم الإسلامي، وحول شخصية عظيمة ألّهها أُناس وعبدوها، فيما شتمها آخرون بعد رحيلها، ثمانين عاماً كاملة، لُتمنح الدهر كلّه بعد ذلك خلوداً وعزّاً ومجداً.

فإلى بعض القطرات التي ابتلّت بها أصابع هؤلاء الكتّاب من بحر هذه الشخصية الفريدة، وإلى بعض السطور ممّا اقتطفناه نحن من إنصافهم وموضوعيّتهم وشرف كلماتهم وبحثهم عن الحقيقة والحقّ.

السيف والسياسة: صالح الورداني: هذا هو عنوان كتاب معروف للكاتب والصحفي المصري الاستاذ صالح الورداني، وقد وسمه بعنوان آخر مرادف هو «صراع بين الإسلام النبوي والإسلام الأموي» مؤكّداً أنّ السياسة بدأت تلعب لعبتها بعد وفاة الرسول مباشرة حيث انشطر الإسلام شطرين وتوزّع على خطّين (خط الإسلام القبلي) و (خط الإسلام النبوي)- حسب تعبيره- وراح الأخير مشتبكاً في ساحة المواجهة يُصارع السيف تارةً، والسياسة تارةً أُخرى ويصارعهما معاً تارةً ثالثة.

يؤكّد الكاتب في معرض كتابه أنّ رائد الإسلام النبوي في هذه المعركة هو الإمام علي عليه السلام ويصفه بالقول:

«هذه الشخصية الربّانية تربّت على يد الرسول صلى الله عليه و سلم وارتوت من معينه، وهذا أمر له دلالته وانعكاساته على شخصية الإمام، فتربية الرسول له ثمّ مصاهرته إنّما يعني الاصطفاء، فكما أنّ الرسول تمّ اصطفاؤه فإنّ عليّاً أيضاً تمّ اصطفاؤه» (1).

ويروح الاستاذ الورداني يستدلّ على الاصطفاء هذا من أقوال النبي صلى الله عليه و سلم نفسه التي منها:


1- 1 السيف والسياسة- صالح الورداني، الطبعة الأولى 1417 ه: 106.

ص: 336

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » (1).

«عليّ منّي وأنا منه» (2).

«من كنتُ مولاه فعليّ مولاه» (3).

«لا يحبّه إلّامؤمن ولا يبغضه إلّا منافق» (4).. ويضيف الكاتب قائلًا:

«ويكفي في حقّ عليّ شموله بقوله تعالى:

إنّما يريد اللَّه ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً معلّقاً: وهذا النصّ دليل ساطع وبرهان قاطع على ربانيّته» (5).

كما يؤيّد بأنّ علي بن أبي طالب هو الأفقه من بين جميع صحابة النبي، فيقول:

«وقد تفوّق الإمام علي بفقهه على جميع الصحابة ولم يضاهِه في ذلك أحد حتّى إنّ عمر بن الخطّاب الذي يشهدون له بالفقه والعلم شهد لصالح عليّ وأقرّ بتفوّقه عليه» (6)، ويضيف:

«وهناك شهادات للإمام علي على لسان كثير من الصحابة وعلى رأسهم عمر نفسه الذي كان يستعين بعليّ في كلّ معضلةٍ وكان يتعوّذ باللَّه من معضلةٍ ليس فيها (أو لها) أبو الحسن» (7).

وفي دليل آخر، أو أدلّةٍ أخرى على اصطفاء علي عليه السلام واختياره من قبل النبي في إعدادٍ خاصّ وتربيةٍ خاصّة، يشير الورداني في كتابه هذا إلى هذه الحقيقة قائلًا:

«يروي ابن عبّاس: دفع رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم الراية إلى عليّ وهو ابن عشرين سنة» (8).

«وقال الرسول صلى الله عليه و سلم يوم خيبر:

لأعطينّ الراية غداً رجلًا يفتح اللَّه على يديه يحبّ اللَّه ورسوله، ويحبّه اللَّه ورسوله؛ فلما كان الغد دعا عليّاً فدفعها إليه» (9).

«وكان الصحابة- والكلام كلّه هنا للاستاذ صالح الورداني- يردّدون:

لاسيف إلّاذو الفقار ولا فتى إلّاعلي.

وقد قتل أشهر فرسان العرب يوم الخندق وأصاب المشركين بنكسة معنوية كبيرة» (10).

ويستدلّ الكاتب على الدور الذي أُنيط بعليّ وعلى المهمّة التي أختُزن لها في مسلسل الرسالة السماوية بقوله:

«وشهادة الرسول صلى الله عليه و سلم لعليّ في حجّة


1- 1 انظر البخاري ومسلم- كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي... وانظر الترمذي.
2- 2 انظر صحيح البخاري.
3- 3 انظر مسند أحمد ج 1.
4- 4 انظر مسلم كتاب الإيمان.
5- 5 السيف والسياسة: 107 عن مسلم: كتاب فضائل الصحابة- مناقب علي وآل البيت.
6- 6 نفس المصدر السابق: 107 عن: طبقات ابن سعد ج 2، ومسند أبو داود الطيالسي.
7- 7 نفس المصدر السابق: 108، عن: طبقات ابن سعد، ومستدرك الحاكم، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، وسير أعلام النبلاء للذهبي.
8- 8 نفس المصدر: 110 عن الطبراني.
9- 9 نفس المصدر: 110 عن البخاري مسلم، باب فضائل علي، ومسند أحمد ج 2.
10- 10 نفس المصدر: 110.

ص: 337

الوداع أمام أكبر حشد من الصحابة والمسلمين في تاريخ الدعوة إنّما تؤكّد هذه الخاصّية وهذا الدور الذي وكّل إليه، وهي تؤكِّد من جانب آخر شرعية هذا الدور وارتباط خطوات الإمام ومواقفه المستقبلية بحدود الشرع وبالإسلام النبوي» (1) مضيفاً:

«يروى أنّ عليّاً نشد الناس قائلًا:

من سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يقول يوم غدير خمّ إلّاقام. فقام اثنا عشر بدرياً فشهدوا أنّهم سمعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يقول لعليّ يوم غدير خم: أليس اللَّه أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى ، قال: اللهمّ من كنتُ مولاه فعليّ مولاه. اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه» (2).

ويبدو من دراسة السيّد الورداني لهذا الاصطفاء وتحليله له أنّه أراد التمييز بين الإسلامين المذكورين لئلّا يُذرّ الرماد في عيون المسلمين ولكي لا تلتبس عليهم خطوط الإسلام النبوي عن الآخر الأموي، فيقول مندّداً بمن يحاول تسطيح الفكرة أو عدم التمييز بينهما:

«إنّ محاولة رفع بني أميّة، أو التقليل من شأن الإمام علي، أو مساواته بمعاوية كما هي عقيدة (البعض) ليس فقط تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الصراع الذي دار بين الإمام وخصومه كما هو الهدف الظاهر منها، وإنّما سوف تؤدّي إلى التمويه على حقيقة الإسلام النبوي الذي يمثِّله الإمام نيابةً عن الرسول صلى الله عليه و سلم وبالتالي سوف تكون النتيجة ارتفاع الإسلام القبلي، إسلام بني أمية وعلوّ مكانته على حساب الإسلام النبوي» (3).

وهذا ما هو حاصل فعلًا- كما يرى الكاتب- وما تبرّم منه ويتبرّم متألّماً متوجّعاً حيث يقول:

«وتلك هي النتيجة التي استقرّت عليها الأمّة بعد وقعة صفّين وبعد اختفاء الإسلام النبوي وسيادة الإسلام القبلي على يد بني أمية، ذلك الإسلام الذي تُعبّر عنه عقيدة أهل السنّة، والذي تحوّل إلى دين الأغلبية بدعم الحكومات المتعاقبة من عصر بني أمية وحتّى اليوم» (4) وهو الإسلام المزيّف الذي روّج لمفاهيم عجيبة غريبة وصفها أنّها «لا تخرج عن كونها أطروحات


1- 1 نفس المصدر: 111.
2- 2 نفس المصدر السابق: 111 عن مسند أحمد ج 1.
3- 3 نفس المصدر السابق: 112.
4- 4 نفس المصدر السابق: 112.

ص: 338

فرضتها السياسة وباركها الفقهاء» (1)مشيراً إلى بعض هذه المفاهيم بقوله:

«لماذا يحاول الفقهاء إجبار الأمّة على الاعتقاد بضرورة الصلاة وراء كلّ برٍّ وفاجر؟ ولماذا تحيّز فقهاء السلف لرأي يناقض القرآن والعقل؟» (2).

وعلى طريقته في التنديد والتحليل والإثارة وإلفات نظر جمهور المسلمين إلى المسألة الجوهرية في سرّ تمزّق وحدة المسلمين، وسرّ عدم موفقيتهم في الوصول إلى الهدف المنشود، يقول الورداني ويتساءل:

«كنتُ على الدوام أطرح على نفسي السؤال التالي: هل ما بين أيدينا تراث أم دين؟» (3) ويضيف:

«ليس هناك ما يُسمّى بشيعة أو سنّة أو شافعية أو مالكية أو أحناف أو حنابلة.. فكلّ هذه تسميات تأريخية من اختراع السياسة.. والحقّ أنّ هناك إسلام حقّ وإسلام باطل وإسلام ربّاني وإسلام حكومي.. ولكن الذي ساد على مرّ التاريخ هو الإسلام الحكومي، والذي اختفى هو الإسلام الرباني..» (4).

وللخروج من هذا المأزق ولتأكيد حقّانية الإمام علي عليه السلام في اصطفائه وريادته أو ضرورة ريادته (أي ريادة منهجه) للإسلام النبوي يوصي الورداني بأنّ الباحث عن الحقّ يجب أن يتّبع النصّ وليس أقوال الرجال؛ لأنّ الثاني يجعل بين الباحث والنص وسائط، وهؤلاء يجعلون (الباحث رهين الرجال لا رهين النص) حسب تعبيره- وحتّى في مسألة هؤلاء الوسائط يشير الكاتب إلى أنّ النصّ الشيعي، أو التراث الشيعي يعتمد على آل البيت، فيما يعتمد الآخر على الصحابة، وفيما يرفض التراث الشيعي التعايش مع الحكام يؤكّد تراث الآخر على التعايش معهم، وقاعدة الشيعة ترتكز على متن الرواية فيما يعتمد الآخر على سندها وهكذا (5).

ومن هنا جاء نص رواية مالك أو تمّ الاحتفاظ بها، والقائلة «إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب اللَّه وسنّتي» وحُجبت، أو اختفى نص رواية مسلم التي تقول «كتاب اللَّه وعترتي» (6).

أمّا فكرة (عدالة الصحابة) التي


1- 1 الخدعة، صالح الورداني، طبعة 1995: 30.
2- 2 نفس المصدر السابق: 29 حتّى وصل الأمر حسب قول الورداني أيضاً إلى «أن تسمع وتطيع للأمير وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك» عن كتاب «الامارة وطاعة الأمير» صحيح مسلم.
3- 3 الخدعة، المصدر السابق: 39.
4- 4 نفس المصدر السابق: 45.
5- 5 نفس المصدر السابق: 45- 50.
6- 6 نفس المصدر السابق: 66.

ص: 339

فنّدها الاستاذ أحمد حسين يعقوب في كتابه الشهير (نظرية عدالة الصحابة) وضعّف عدالة الكثير منهم بالأرقام والوثائق التاريخية المعتبرة، والتي غمطت حقّ عليّ عليه السلام باعتباره واحداً من (الصحابة) فقط دون أي امتياز، فإنّ الورداني فنّد هو الآخر هذه الفكرة مفنداً معها فكرة الإجماع التي أفرزتها السياسة قائلًا:

«إنّ الهدف من فكرة الإجماع هو نفس الهدف من فكرة العدالة، كلاهما يدفع الأمّة إلى الاستسلام للخط السائد وإضفاء المشروعية عليه. وكما أنّ فكرة العدالة من اختراع السياسة، فإنّ فكرة الإجماع أيضاً من اختراع السياسة» (1).

إنّ مواجهة الهدف هو الذي قاد المؤسسة الدينية الشيعية لأن تقف في حالة صِدام مع الواقع الظالم أو الحكّام الظلمة رافضةً مبدأ الطاعة المذكور، فيما جاءت المؤسسة الدينية للآخر عكس هذا الاتجاه، فهي كما يقول الورداني:

«مؤسسة مرتبطة بالحكّام وواقعة في دائرة نفوذهم ويتقاضى الفقهاء منهم أجورهم من الحكّام، ومن ثمّ فإنّ ولاءهم يتّجه على الدوام نحو الحاكم وليس نحو الجماهير، وفتاواهم تصدُر لحساب الحاكم لا لحساب الجماهير ..» (2).

ومن هنا تأتي ضرورة الاصطفاف مع الجماهير قبال الحكام، والعمل على إقناع الحكّام بتحقيق مطالب الأمّة، وليس إلزام الأمّة بتحقيق مصالح الحكّام، وانطلاقاً من وصية الإمام علي عليه السلام لواليه على مصر مالك الأشتر والتي جاء فيها:

«وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإن سخط الخاصّة يفتقر مع رضا العامّة» (3).

إدريس الحسيني- نموذج آخر

في كتابه (الخلافة المغتصبة) فقد عبّر عن تقديره وإجلاله لشخصية الإمام علي عليه السلام- موضوع بحثنا- ودور هذا الإمام العظيم في ترسيخ كيان الإسلام ولو على حساب حقّه الشخصي وسكوته عن أولئك الذين اغتصبوا


1- 1 نفس المصدر السابق: 102.
2- 2 نفس المصدر السابق: 153.
3- 3 نهج البلاغة ج 3.

ص: 340

الخلافة- حسب تعبيره- فيقول:

«أدرك الإمام علي عليه السلام بعد كلّ ما وقع أنّه قد وقع في مأزق وداخل شراك خطير، فالعرب تظاهرت عليه واستضعفته وتيّار الاغتصاب لم يركب الخلافة فحسب، وإنّما طوّق بيت الإمام عليه السلام وحاصره بعد أن مدّ جسور التعاون مع المنافقين...».

وهذا يعني أنّ على الإمام أحد طريقين لفكّ هذا الحصار وتدمير هذا التعاون غير المقدّس: فهو إمّا أن يثور ويجهز على هذا التيّار المتحالف ضدّه مع ما في ذلك من مجازفة قد تأتي على الإسلام كلّه ورجاله المخلصين، وإمّا أن يصبر حتّى يعيد الأمور إلى نصابها.

يقول إدريس الحسيني في هذا السياق:

«.. أمّا الخيار الأوّل فهو يسير على علي عليه السلام وهو مَنْ أرعبَ بسيفه العرب واهتزّ لشجاعته الأبطال، وتيّار الاغتصاب كان مدركاً لكلّ ذلك، غير أنّهم أدركوا أنّ أبا الحسن لا يُقاتل في أمر لا مصلحة للشرع فيه، أدركوا ذلك على مدى سنوات من الجهاد الذي كان يتزعمه. ولذلك تجاسروا عليه وأبدوا بطولاتهم المزيّفة...» أمّا الخيار الثاني، والقول للكاتب طبعاً، «والإمام علي وهو ينتظر، لم يقف مكتوف اليدين، لم يكن انتظاره سلبياً كما يبدو للكثير..

كان نشيطاً يعمل حسب ما تسمح به الظروف متحرّكاً خلف الحصار المفروض عليه (1).. (كان مقدّراً سلام اللَّه عليه) أنّ الذين التفّوا حوله لم يكونوا على نفس الدرجة من الإخلاص (وربّما الوعي)..

ويذكر اليعقوبي أنّه اجتمع جماعة إلى علي بن أبي طالب يدعونه إلى البيعة فقال لهم:

«اغدوا عليّ محلّقين الرؤوس فلم يغدُ إلّاثلاثة نفر» (2).

وهنا يقول الإمام علي عليه السلام: «لو وجدتُ أربعين ذوي عزم لناهضتهم» ثمّ قال قولته المشهورة: «فرأيتُ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرتُ وفي العين قذى وفي الحلق شجى » (3).

وحين اشتدّ الحصار، وكثر الابتعاد عن الدين وتحوّل الخلاف إلى صراع حقيقي بين ما كان يفعله عثمان وما يريده


1- 1 تاريخ اليعقوبي 2: 126، وهم- كما هو معروف- أبو ذر والمقداد وسلمان.
2- 2 المصدر السابق نفسه.
3- 3 شرح نهج البلاغة 1: 151.

ص: 341

الإمام، راح الإمام يعلن اعتراضه على عثمان بشكل واضح وصريح. يقول السيّد إدريس الحسيني في هذا الإطار:

«لقد كان ثمّة صراع حقيقي بين عليّ وعثمان، وبلغ بالإمام أنّه بدأ يُبدي اعتراضه الصريح على عثمان ولا يأبه بأيّ تهديد منه، كيف يسكت علي وهو لم يسكت قبلها، إذْ سكت إلّامراعاةً لحرمة الإسلام وحواريي الرسول صلى الله عليه و آله.

أما وقد بدأ عثمان يختلف في الدين ويستهزئ بشريعته، وينزّل من مقام حواري الرسول ويرفع من شأن الطلقاء» (1)، «فلم يكن السكوت أحجا وليكن ما يكون» (2).

ولعلّ أكثر مواقف الصراع بين الرجلين هو ما يذكره التاريخ عن نفي عثمان لأبي ذر ووقوف الإمام مع الثاني في تشييعه له وتوديعه، وما ينقله الكاتب إدريس الحسيني عن كتب التاريخ المعتبرة، إذ يقول:

«إنّه عندما أزمع عثمان على تسيير أبي ذر الغفاري رضى الله عنه إلى الربذة ومنع الناس أن يسيروا معه، فلمّا طلع عن المدينة ومروان يسير عنها طلع عليه علي بن أبي طالب ومعه ابناه وعقيل أخوه وعبداللَّه بن جعفر وعمّار بن ياسر، فاعترض مروان فقال: يا علي انّ أمير المؤمنين (عثمان) قد نهى الناس عن أن يصحبوا أباذر في مسيره ويشيّعوه.

فإذا كنت لم تدر بذلك فقد أعلمتُك، فحمل عليه علي بن أبي طالب بالسوط وضرب بين أُذني راحلته، وقال: تنحّ نحّاك اللَّه إلى النار. ومضى مع أبي ذر فشيّعه ثمّ ودّعه وانصرف. فلمّا أراد الانصراف بكى أبو ذر، وقال: رحمكم اللَّه أهل البيت إذا رأيتك يا أبا الحسن وولدك ذكرتُ بكم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

فشكا مروان إلى عثمان ما فعل علي بن أبي طالب، فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من علي؟ ردّ رسولي عمّا وجّهته له، وفعل كذا، واللَّه لنعطينه حقّه. فلمّا رجع عليّ استقبله الناس، فقالوا له: إنّ أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر، فقال:

غضب الخيل على اللجم» (3).

وفي محاولة جادّة من قبل الاستاذ إدريس الحسيني لإعادة كتابة التاريخ، والانعتاق من الموروث المؤدلج


1- 1 الخلافة المغتصبة: 103.
2- 2 مروج الذهب 2: 352.
3- 3 الخلافة المغتصبة، مصدر سابق: 104، عن مروج الذهب 2: 351.

ص: 342

والمصبوغ بأصباغ الحكومات ومعجون السياسة، أي محاولة إعادة الحقّ إلى نصابه بعد تغييب متعمّد أو غير متعمّد دام قروناً عديدة، وخاصّة فيما يتعلّق بمنهج الإمام علي عليه السلام مقارنة بمناهج غيره، يقول الكاتب:

«لقد كان وما يزال أغلب المؤرِّخين والناقدين للتراث، يسبحون في بحر التكرار، ويبنون إبداعاتهم النقدية على عناصر وهمية، ومعطيات جاءت بها رغبة الخلفاء وطمع المؤرّخين. وإذا ما انتبهنا إلى الماضي ومجريات أحداثه سوف يتبيّن لنا الأمر على درجة كاملة من الوضوح، فالسياق التاريخي الذي ظهر فيه التدوين والتأريخ هو نهاية العصر الأموي والعصر العبّاسي، وهو سياق شهد نموّاً خطيراً ومنظّماً لتيّارات مختلفة الاتجاه، وشهد- أيضاً- صراعاً سياسياً حادّاً تفتّق عن صراعات ايديولوجية. ولمّا كانت السلطة طرفاً في هذا الصراع، كان من الطبيعي أن تستثمر إمكانياتها وموقعها كسلطة صاحبة القرار في سبيل تدمير الأطراف الاخرى ، وتشكيل ايديولوجية الدولة.

وكان الدين دائماً هو الضحية الأساس.

لأنّ تشكيل الايديولوجية هذه لا يستقيم إلّابإجراء سلسلة من التحريفات ليكتمل التناغم والانسجام بين الاثنين..» (1).

خلاصة الذي أراد ويريد الكاتب إدريس الحسيني قوله في كتبه الثلاثة؛ (الانتقال الصعب)، (الخلافة المغتصبة) وآخرها (لقد شيّعني الحسين) أنّ الإمام عليّاً عليه السلام استشهد مهضوم الحقّ مظلوماً، لم يعرف التاريخ حقّه والمؤرّخون بعد، ولئن كانت حُلّت أزمة التاريخ بعد توفّر الدراسات العلمية الدقيقة فإنّ أزمة المؤرِّخين لم تحلّ بعد، وهذا ما يقتضي استنهاض هؤلاء لإنصاف دينهم ورسالتهم ودعوتهم لدراسة التاريخ بعيداً عن الايديولوجية الجاهزة، ومحاولة التعرّف على الرجال من خلال الحقّ وليس العكس.

علي بن أبي طالب- سلطة الحقّ:

عزيز السيّد جاسم

جاء هذا العنوان أو هذا الكتاب بقلم عزيز السيّد جاسم عضو اللجنة


1- 1 نفس المصدر السابق: 236.

ص: 343

المركزية للحزب الشيوعي العراقي في الستينيات ومسؤول صحيفة (الثورة) العراقية في الخمسينيات، فراح يلقي أضواء جديدة على إمام المتّقين ومدينة العلم وبابها- حسب تعبيره- ويوضّح لماذا وكيف اصطفاه الرسول صلى الله عليه و آله ليصبح وريث علمه والمحافظ على سلالته؟

ويستعرض الكاتب في كتابه هذا حياة الإمام علي عليه السلام واقفاً على أهمّ أحداثها بالتحليل والدراسة ابتداءً من جهاده مع الرسول صلى الله عليه و آله مروراً بمحنتي الجمل وصفّين وحتى استشهاده موضّحاً أهمّ صفات أو سمات شخصية هذا الإمام العظيم الأخلاقية والفكرية والنفسية، وكذلك سياساته الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ومنهج حكمه الذي يُعتبر أو يتمحور العدل فيه درّة لم يتخلّ عنها حتّى مع قاتله (1)، وينتهي الكاتب مع الإمام في اسلوب الإمام الخطابي وبلاغته الفذّة التي عُبّر عنها أو عَبّر عنها البلغاء والفصحاء أنّها تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ثمّ أفصح الكتاب عن شخصية الإمام كقدوة تحتذى ، محرّكاً سيرته وملامح شخصيته من بطون كتب التراث إلى حيث نبض الحياة وعراكها- حسب تعبير الكاتب أيضاً- ليتحقّق الهدف الأكبر من دراسة هذه الشخصيات الخالدة وهو التواصل بين التراث وهمومنا المعاصرة، أي كي لا يبقى هؤلاء العظماء مجرّد قمم شامخة في سماء الناس معلّقين في الهواء للإعجاب والانبهار والتجارة بالسِير والكلمات والمواقف.

يقول الكاتب في مقدّمة كتابه هذا:

«ثمّة قادة عسكريون كبار، ومفكِّرون، وفقهاء عظماء، وبلغاء وزهّاد وعباقرة، وعلماء وأُدباء. وفي التاريخ هناك الاسكندر العظيم يعشق الفلسفة، فيأخذ معه (ارسطو) استاذه، وهناك (افلاطون) الفيلسوف واستاذه سقراط، وهناك بوذا وكونفوشيوس، وقادة الثورات والمصلحون، كلٌّ متخصّص في ميدانه، أمّا علي بن أبي طالب، فهو الحاوي على جميع سمات العبقريات المتعدّدة، فهو الخليفة القائد، وهو المحارب العظيم، وهو الفيلسوف، وهو الاستاذ في العدل والمؤسس لعلم


1- 1 من تقريض الناشر للكتاب في ظهر الطبعة الثانية.

ص: 344

النحو، وهو الفقيه، القاضي، العالم بالحساب والفلك، وهو أمير البلاغة والشاعر، والحكيم والحافظ لتراث محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو الأخلاقي الرفيع، والأنموذج في كلّ شي ء» (1).

ويضيف:

«يستطيع المرء أن يتعلّم أشياء كثيرة من علي أو يعلم عنه ولكنّه لا يستطيع أن يكون مثله.. فكان في زمنه وحيداً إلّا من قلّة مخلصة إخلاصاً نادراً، ومن أنصار ومؤيّدين يجتمعون ويتفرّقون لأمر أو أمور كان علي أعلم بها من غيره. وحين خذلته المحنة في زمنه، أنصفه التاريخ، إذ أصبح أفواج المحبّين من رجال الفكر والكفاح الإنساني، والعدل والمعرفة، يتّصلون به بحسب الفكر والإيمان ونسبهما، وأصبح حبّ علي بن أبي طالب حقيقة موضوعية يقرّ بها المحبّ والمبغض» (2).

أمّا لماذا ناوأه المناوئون وناجزه المناجزون، واعترض عليه المعترضون، فقد اختصر ذلك عزيز السيد جاسم بأروع اختصار وأوجزه بأجمل إيجاز قائلًا:

«كان الرجل وحيداً في عبقرياته، عجيباً في مسلكه، لذلك لم يكن جميع أعدائه من طينة واحدة، فبعض الذين حاربوه كانوا يرون فيه عدوّهم الأكبر، أي عدوّ باطلهم، أو كفرهم أو شركهم أو ظلمهم، وبعض الذين حاربوه رأوا فيه المقياس الذي يكشف عن بُعدهم من الحقّ والعدل، رأوا- من خلاله- هُزالهم في حين كانوا يحسبون أنفسهم مهمّين. فإذا بهم في الضآلة، بالمقارنة مع شخصية عليّ. وكانوا يهيئون أنفسهم لدور كبير بين أتباعهم، فيأفل نجمهم أمام شمس عليّ النيّرة، فحاربوه لافتضاحهم بالمقارنة ولعجزهم عن الارتفاع إلى مستوى الحقّ والصدق...» مضيفاً:

«أمّا الذين تركوا معسكره- وهم كثرة- فإنّهم إنّما فعلوا ذلك لأنّهم لم يطيقوا عدله، وحقّه وصدقه» مستشهداً بمقولة الاستاذ عبّاس محمود العقّاد الذي يُفسّر هذه الظاهرة قائلًا:

«وهكذا فُرضت على الرجل العظيم ضريبة العظمة الغريبة في ديارها وبين آلها وأنصارها، فالعلاقة بينه وبين كبار


1- 1 علي بن أبي طالب، سلطة الحقّ: عزيز السيّد جاسم- مقدّمة الطبعة الثانية: 10.
2- 2 نفس المصدر السابق: 11.

ص: 345

الصحابة كانت علاقة الزمالة التي ينوب فيها الواجب مناب الإلفة. والعلاقة بينه وبين الخصوم كانت علاقة حسد غير مكفوف وبغضٍ غير مكتوم، والعلاقة بينه وبين سواد العامّة كانت علاقة غرباء يجهلونه ولا ينفذون إلى لبابه.

وإن قاربه الناس معجبين، وباعده أُناس نافرين. تلك أيضاً آية الشهيد».

ثمّ يعلّق السيّد عزيز السيّد جاسم على هذا ويروح يتساءل:

«هل كان ممكناً نجاح شخصية علي بن أبي طالب- في عصرها- نجاحاً سياسياً على ما هو عليه من (الحقّانية) التامّة والعدل التامّ؟» ويضيف:

«لقد أحبّه- في زمنه- أُناس حبّاً خارقاً وبالغ بعضهم في الحبّ فألّهوه وكفروا، فأمر بالقذف بهم في النار، وهم غير نادمين. وهذا أمر عجيب نادر. يفرض نفسه في طلب التحليل لظاهرته الغريبة المثيرة» (1).

هذه التساؤلات وغيرها، وهذا التدافع في تحليل شخصية الإمام، وهذا الاستغراق في دراسة مواقفه ومواقف الناس منه وموقفه من الناس ترك للتاريخ والناس لكي يغترف كلّ غارفٍ غَرفة، ويقول كلّ محلّل قولة، وهذا هو العمق وحيازة التاريخ والخلود...

يقول عزيز السيّد جاسم في هذا السياق:

«لقد حسم اغتيال الإمام علي المناقشة.. وقطع الطريق أمام محاولته التصدّي للهجمة المضادّة، ووجد في الموت فوزه الأكبر وهو يرقب مغادرة روحه: «فزت وربّ الكعبة» واستمرّ الناس فيما همّ عليه من صراعات سياسية ودنيوية ودينية ومصلحية» (2).

ويصف الكاتب عجزه عن دراسة هذه الشخصية العظيمة بالحبّ العظيم له وكيف أنّه (سلام اللَّه عليه) جدير بالحبّ والاحترام والإكرام من قبل كلّ إنسان حرّ ذي ضمير نجيب- حسب تعبيره-... وكيف أنّ كلّ شي ء يمكن أن يختتم إلّاالكتابة عن علي فإنّها لا تختتم. ولا يجد الكاتب مناصاً للتعويض عن عجزه هذا إلّاالاستشهاد ببعض كلمات وصية الإمام عليه السلام لولده الحسن حيث يجد فيها ناموساً فكرياً


1- 1 نفس المصدر السابق: 11.
2- 2 نفس المصدر السابق: 11.

ص: 346

وأخلاقياً، ودليلًا للضمير، ودستوراً للناس، وخاصة حين يسمعه يقول في هذه الوصية الخالدة:

«يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فاحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تُحب أن تُظلَم، واحسن كما تحبّ أن يُحسن إليك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك... وارضَ من الناس بماترضاه لهم من نفسك ...» ..

ويروح الكاتب في معظم فصول الكتاب يضع عناوين شاخصة معبِّرة يستظهر من خلالها دلالات واضحة على عظمة الإمام وعدم تكرار نموذجه في دنيا الناس، فيضع عنوان الفصل الأوّل مثلًا: «مشيئة الرب» مؤكّداً أنّ للإمام علي مواقف وصفات وسمات لم يشاركه أحد فيها من دنيا الناس على الإطلاق. ويأتي عنوان الفصل الثالث «شجاعة علي: البدء المتطابق» وما يحمله هذا العنوان من دلالة التطابق بين علي الإنسان وعلي النموذج الفريد، وكيف أنّ جميع الذين أسلموا لم يكونوا بطبيعة الحال مؤمنين، ولم يحافظ جميع الذين أسلموا على جوهر الإسلام، فمنهم من ارتدّ مكشوفاً، ومنهم من كانت ردّته خفية أو حتى لا شعورية..

مع أنّ الإسلام في زمن الابتداء كان ذروة التربية وثورة التربية» (1) إلّاعلي الذي تطابق إسلامه مع إيمانه ولم يحدْ لحظة أو قيراطاً.

ويأتي عنوان الفصل الخامس والسادس على التوالي: «السياسة العسكرية لعلي بن أبي طالب، وتاريخ لأوليات سياسية» ويقول العنوان الثاني:

«من المؤكّد مع أنّ اللوحة الاجتماعية العامة للكثير من الصراعات في زمن الجاهلية كانت تشير إلى صراعات اقتتالية بين أبناء العمومة في العشيرة الواحدة، بأن أشهر الحروب وأخطرها كانت حروباً من النوع المذكور، فحرب (البسوس) التي استمرّت ما يقارب الأربعين عاماً كانت حرباً بين (بكر) و (تغلب) ابني وائل بسبب ناقة كانت تملكها امرأة عجوز من بكر تدعى البسوس، وكذلك كانت حرب (داحس والغبراء) وهي حروب


1- 1 نفس المصدر السابق: 41.

ص: 347

قيس بن عبس وذبيان ابني بغيض بن وريث بن غطفان، واستمرّت أيضاً أربعين عاماً..» ليؤكّد أنّ جذور هذه الأوّليات هي تلك حتّى شاءت تلك المقدّمة (الدراماتيكية)- حسب تعبيره- أن توفّر ما توفّر بين بني عبد شمس وبني عبد مناف (1).

وحين يصل الكاتب إلى الفصل السابع من كتابه يضع عنوانه المفصح المعبِّر: «سلطة الحقّ في رفض السلطة» ليكون عنوان الكتاب نفسه، وفيه، أي في هذا الفصل يضع الكاتب ديباجته من كلامٍ صريح واضح للإمام عليه السلام يقول فيه:

«أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللَّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها...» ويشير عزيز السيّد جاسم أنّ السلطة ليست مهمّة بحدّ ذاتها وأنّها ليست هدفاً للعظماء بحدّ ذاته وإنّما هي مهمّة بمقدار النتائج التي يحقّقها صاحب السلطة للناس وللأجيال والتاريخ، فيقول:

«ولا يهمّ البشرية أن يقال هذا حاكم قويّ، وذاك حاكم ضعيف، فقد حفل التاريخ الإسلامي مثلًا بآلاف الأمثلة في ذلك دون فائدة تُذكر» ويضيف:

«إنّ البشرية بحاجة إلى الحاكم النبراس الذي يقدِّم للمجتمعات ثماراً أبدية في العدل وفي الفكر، وفي الممارسة. أي أنّ المقياس في تقويمات كهذه، هو مقياس موضوعي يخصّ الفوائد الوطيدة للبشر، وليس مقياساً فردياً، كما يجنح عادة بعض الكتّاب والمؤرِّخين إلى تفصيل الخصائص الشخصية والعائلية للحاكم...» (2).

ولا يقتصر هذا الخلط على الكتّاب والمؤرِّخين والنخب السياسية والاجتماعية، بل إنّه يمتدّ ويكون خطره أفظع حين يعمّ كلّ مساحة الناس ممّن سمّاهم الإمام عليه السلام «الهمج الرعاع: أتباع كلّ ناعق (الذين) يميلون مع كلّ ريح، ولم يستضيئوا بنور العلم. ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق».

وهنا يدعو السيّد جاسم إلى تحرير


1- 1 نفس المصدر السابق: 122.
2- 2 نفس المصدر السابق: 166.

ص: 348

النفس البشرية من هذه الرعوية والهمجية والغوغائية، والتي هي كما يسمّيها طبيعة حيوانية غير مهذّبة فيقول:

«وشخّص عليّ تشخيصاً فذّاً تلك المجاميع من الجماهير، التي هي من طراز الهمج الرعاع، وهي مجاميع لا تشكِّل جوهر المجتمع، وليست هي الجماهير بتمامها بل هي شرائح اجتماعية رهينة شروطها الفكرية الذاتية وبنت التخلّف الطويل المقيم.. وأولئك الهمج الرعاع أعداء كلّ تقدّم، وتطوّر، واستقرار، وهم يعاكسون إرادة الحقّ، ومسار العلم، واتجاه العدل، ويعطون الشرعية التهريجية للظالمين، فهم خدمهم الذين يُنفِّذون إرادتهم الطغيانية، وهم لا مانع لديهم من استبدال سلطان بآخر، فهم مع الأقوى والمنتصِر. وكان عليّ في رؤيته متنبئاً بما سيحمله (الشرق) من كوارث سياسية، سببها الصراعات الدامية حول السلطة، ودور الهمج الرعاع في تأجيجها وفي دفعها إلى الثورة...» (1).

هؤلاء الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح والذين لا ينصرون حقّاً ولا يخذلون باطلًا ويحدّدون مواقفهم (مع مَنْ غلب) كما يقول التاريخ هم الذين ملأوا قلب الإمام علي قيحاً وشحنوا صدره غيضاً.. والأسوأ منهم هم أعوان الظلمة وحواشيهم وبطانتهم من الذين تنقل الروايات أنّ منادي يوم القيامة يعلو صوته منادياً: «أين أعوان الظلمة قبل الظلمة» باعتبارهم أذرع السلطان وأدواته التنفيذية الذين مكّنوا الظالم وحكّموه وتحكّموا به...

هذا التشخيص الواعي للإمام علي بن أبي طالب (سلام اللَّه عليه) هو الذي جرّعه ألوان الغصص، فلا هو قادرٌ على مجاراة الهمج الرعاع أو مسايرتهم في أهوائهم وأطماعهم، ولا هو قادر عن التخلّي عنهم وهو المسؤول عن تربيتهم وتأديبهم... فلا هم أطاعوه ليرتاح من زجرهم وتقريعهم ولا فهموه لكي يستقرّ على قرار... فبقي حياته كلّها مقارعاً مستغيثاً نادباً حظّه وحظّهم إذْ ابتُلي بهم وابتلوا به كما يقول عليه السلام وحيث أرادهم لدينه وأرادوه لدنياهم، وشتّان بين الإرادتين...


1- 1 نفس المصدر السابق: 168.

ص: 349

علي بن أبي طالب، بقيّة النبوّة، وخاتم الخلافة: عبد الكريم الخطيب

هذا هو العنوان الذي اختاره عبد الكريم الخطيب لكتابه وذيّله بحديث شريف للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول فيه: «يا عليّ لا يُحبّك إلّامؤمن، ولا يبغضك إلّا منافق»، ثمّ راح يدوّن في تقديمه لكتابه هذا قائلًا:

«إنّ تاريخ العظماء ليس مجرّد حياة وموت، وأحداث وقعت فيما بين الحياة والموت فضبطتها صحف التاريخ، وختم عليها الزمن بخاتمه، وإنّما تاريخ حياتهم ميراث كريم تتوارثه الإنسانية كلّها، وتقتدي بما فيه من عظات وعبر، وتقطف من مجانيه، ما تطول يدها وتبلغ همّتها من قدوة صالحة ومثَلٍ كريم» (1).

وحين يصل إلى الإمام علي عليه السلام بعد زفراتٍ طرحها على ما حلّ بالمسلمين من اختلاط مرويّاتهم عن صحابة رسول اللَّه وكيف (اختلط فيها الحقّ بالباطل والصدق بالكذب، والواقع بالخيال)- حسب تعبيره- راح يقول:

«... وعلي- كرّم اللَّه وجهه- هو بقيّة النبوّة، وخاتم خلافة النبوّة، وحياته كلّها معركة متّصلة في سبيل اللَّه، وإيثار سخيّ لإعزاز دين اللَّه، وإعلاء راية الإسلام التي حملها رسول اللَّه، والتفّ حولها المهاجرون والأنصار، فكانوا جند اللَّه وكتيبة الإسلام...

واحتملوا تبعات الجهاد في سبيل اللَّه، صابرين مصابرين... أمّا عليّ، فقد كان صدره درعاً واقياً لدعوة الإسلام، من أوّل يوم الإسلام إلى أن تداعت حصون الشرك، وذهبت معالمه..» وأضاف:

«وكان سيفه شهاباً راصداً، يرمي أعداء الإسلام بالمهلكات، ويشيع في جموعهم الخزي والخذلان، ويُلبس أبطالهم وصناديهم المذلّة والهوان، حتّى ليكون سيفه علماً يسمّى (ذا الفقار) وحتّى ليكون صاحب السيف مثلًا يحدِّث الناس به في مواقف البطولات الخارقة فيقال (فتىً ولا كعليّ)» (2).

وحين يأتي إلى موضوع الخلافة ككاتب يرى رأياً آخر- لا يجد مناصاً من التصريح بالحقيقة رغم مرارتها فيقول:


1- 1 علي بن أبي طالب، بقية النبوّة، وخاتم الخلافة، عبد الكريم الخطيب، الطبعة الثانية سنة 1975: 8.
2- 2 نفس المصدر السابق: 21.

ص: 350

«فقد كانت الخلافة أقرب إليه بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أيّ صحابي آخر» ولكنّه يضيف:

«فلمّا تمّت البيعة لأبي بكر، توقّف قليلًا وأمسك يده عن البيعة له بالخلافة، حتّى إذا رأى القبائل تتنادى بالردّة والخروج عن طاعة الخليفة الجديد، بادرَ فسدّ هذه الثغرة، وأعطى الخليفة كلّ ولائه ونُصحه» (1).

ويأتي عبد الكريم الخطيب إلى فتنة الخليفة الثالث عثمان بن عفّان وابن عمّه مروان ويفتح ملفّها ولا يستطيع غلقه فيقول:

«أسلم الحكم (والد مروان) عام الفتح إسلام الطلقاء، وكان طريد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولعينه... وقد قال فيه البلاذري: إنّ الحكم بن العاص كان جاراً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الجاهلية وكان أشدّ جيرانه له أذًى في الإسلام...

وكان قدومه إلى المدينة بعد فتح مكّة، وكان مغموصاً عليه في دينه (أي مطعوناً عليه ومتّهماً في دينه» (2).

وبعد رحيل النبي صلى الله عليه و آله كلّم عثمان أبا بكر في ردّ الحكم وولده فكان جوابه «ما كنتُ لآوي طرداء رسول اللَّه» ولمّا استُخلف عمر، قال قول أبي بكر، ولما استُخلف عثمان أدخلهم المدينة فأنكر عليه المسلمون إدخالهم المدينة، ثمّ ولّي الحكم صدقات قضاعة (حيّ في اليمن)- والكلام للخطيب طبعاً- فبلغت ثلاثمائة ألف درهم، فوهبها له حين أتاه...

ومات الحكم (طريد رسول اللَّه) في خلافة عثمان فصلّى عليه عثمان وضرب على قبره فسطاطاً» (3).

وعن مروان بن الحكم ينقل الخطيب ما ذكره ابن سعد في طبقاته حين قال:

«فلم يزل مروان مع ابن عمّه عثمان ابن عفّان، وكان كاتباً له، وأمر له عثمان بأموال، وكان عثمان يتأوّل في ذلك صلة قرابة، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبه مروان وطاعته له، ويرون كثيراً ممّا ينسب إلى عثمان لم يأمر به، وأنّ ذلك عن رأي مروان، دون عثمان، فكأنّ الناس شنّعوا بعثمان، لما كان يصنع بمروان ويقرّبه» (4).

ومن هنا جاء تعليق الإمام علي عليه السلام على الفتنة التي أودت بحياة عثمان مخاطباً الثوّار: «جزعتم فأسأتم الجزع،


1- 1 نفس المصدر السابق: 22.
2- 2 نفس المصدر السابق: 45.
3- 3 نفس المصدر السابق: 46 عن أنساب الأشراف للبلاذري 5: 27.
4- 4 نفس المصدر السابق: 46.

ص: 351

واستأثر فأساء الأثرة».

«والحقّ أنّ عليّاً كان أوفر الناس حظّاً، وأطولهم صحبةً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فمنذُ وُلد عليّ، وهو بين يدي محمد، قبل النبوّة وبعدها. لم يفترق عنه في سلم أو حرب، وفي حلٍّ أو سفر، بل كان بين يدي النبي، وتحت سمعه وبصره إلى أن لحق الرسول بالرفيق الأعلى، وهو على صدر عليّ، حيث سكب آخر أنفاسه في الحياة» (1) ويضيف:

«فقد كان علي بطل الإسلام دون منازع... وكان فقيه الإسلام، وعالم الإسلام، وحكيم الإسلام، غير مدفوع عن هذا أو منازَع فيه...» إلى أن يقول:

«ولو أنّ إنساناً غير علي بن أبي طالب، امتُحن بما امتحن به من شدائد وأهوال، لتبلّدت مشاعره، وعطّلت ملكاته، ولما وجد العقل الذي يفكِّر ويقدّر ولا اللسان الذي ينطق ويبين! ولكنّها النفس الكبيرة العميقة، تمرّ بها الأحداث المزلزلة، والكوارث المكربة، كما تمرّ الأعاصير بالجبال الشامخة فتتطاحن عندها وتتخاشع بين يديها، وتتكسّر متداعية تحت قدميها...» (2).

وفي مقاربة معبّرة بين زواج الخليفة عثمان من بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رقية وأمّ كلثوم ومنحه لقب (ذي النورين)، وبين زواج الإمام علي من فاطمة عليها السلام يقول عبد الكريم الخطيب أو يكتب قائلًا:

«.. فإنّ في زواج عليّ من فاطمة شيئاً أكثر من هذا الذي ظفر به عثمان! فأوّلًا، فاطمة (رض) اختُصت من بين أخواتها بهذه الدرجة الرفيعة التي رفعها اللَّه إليها فجعلها في مقام مريم ابنة عمران، حيث وصفها الرسول صلى الله عليه و آله بأنّهما خير نساء العالمين، وثانياً: أنّ فاطمة- وحدها من دون أبناء النبي وبناته- هي التي كان منها سبطا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الحسن والحسين ومنهما كلّ نسل رسول اللَّه. وإذْ ننظر إلى هذا الأمر- والكلام للخطيب- مع ضميمة ما سبق من مواقف في هذا المقام، نجد أنّ ذلك الموقف متسق مع ما سبقه، جار على الغاية المُنجحة له، والبالغة بابن أبي طالب، ما أراد اللَّه له من كرامة وتكريم!


1- 1 نفس المصدر السابق: 58.
2- 2 نفس المصدر السابق: 88.

ص: 352

فهذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يكون له بنين وبنات ثمّ يختارهم اللَّه جميعاً إلى جواره في حياة الرسول، عدا فاطمة (رض)، ثمّ لا يقف الأمر عند هذا، بل يكون من حكمة اللَّه ألا يعقب أحد من أبناء الرسول وبناته ولداً، ومن كان له ولد من بناته مات هذا الولد صغيراً..

وهكذا يصبح الرسول- صلوات اللَّه وسلامه عليه- لا يرى له ولداً غير فاطمة، ولا نسلًا متّصلًا إلّاما كان من فاطمة وعلي» (1).

ويأتي الخطيب إلى قضية حسّاسة يحاول أن يتجاوزها بفذلكة وذكاء وذلك عند تمييزه بين شخص الرسول ورسالته، فيقطع الطريق على الرأي الآخر القائل بأنّ الإمام عليّاً عليه السلام إنّما هو امتداد لرسالة الرسول وإنْ كان لشخصه فيه النصيب الأوفى ، فيقول في هذا الإطار معترفاً ممرّراً:

«فإذا قيل: إنّ عليّاً أخو النبي وزوج ابنته فاطمة، سيّدة نساء العالمين، وأبو السبطين، ريحانتي شباب الجنّة، الحسن والحسين.. ثمّ إذا قيل: إنّ عليّاً هو الشخص القائم مقام الرسول في كلّ موقف يُلتمس فيه شخص الرسول، لا رسالة الرسول، إذا قيل ذلك في (علي) فإنّه لا يعطي أكثر من دلالة واحدة، هي أنّ عليّاً أقرب الناس إلى الرسول، وألصقهم به وأولاهم، فيما يمسّ ذاته، ويتّصل بشخصه!» (2).

وعن عدل (علي) وترفّعه عن حطام الدنيا واندكاكه بمبادئ الدين وعدم اهتمامه بما تقوله السياسة ورجالها فيه، يقول عبد الكريم الخطيب:

«روي أنّه حين تفرّق أصحاب علي بعد مقتل الخوارج ودخل مسجد الكوفة فخطبهم، وكشف لهم عن الحال التي صاروا إليها، وما ينتظرهم من ذلّ على أيدي أهل الشام بعدها، قام إليه بعض أصحابه فقال:

«يا أمير المؤمنين... أعطِ هؤلاء هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي، ممّن يتخوّف خلافه على الناس وفراقه، إنّ هذا هو الذي كان يصنعه معاوية بمن أتاه، وإنّما عامّة الناس همّهم الدنيا، ولها يسقون، وفيها يكدحون، فاعط هؤلاء الأشراف، فإذا استقام ذلك ما تريد


1- 1 نفس المصدر السابق: 126.
2- 2 نفس المصدر السابق: 128.

ص: 353

عُدت إلى أحسن ما كنتَ عليه من القسْم» (1).

ويواصل الخطيب رؤيته هذه معلّقاً:

«هذه هي السياسة التي كان يمكن أن يغلب بها الإمام، وأن يستكثر بها من الأنصار والأتباع! ولكنّه يأبى بأن يستجيب لهذا الرأي، ويردّ على أصحابه قائلًا:

«أتأمروني أن أطلب النصر بالجور.. فواللَّه لا أفعل ذلك ما لاح في السماء نجم، واللَّه لو كان المال مالي لسويتُ بينهم! فكيف وهي أموالهم».

هذا هو حكم الدين- والتعليق هنا للخطيب طبعاً- ودعوة الحقّ والعدل! ولكن أين الناس من الدين، ومن الحقّ والعدل؟! لقد تعثّرت أقدامهم على هذا الطريق وثقل خطوهم عليه، وتقطّعت بهم الأسباب دونه... أتريدون شاهداً؟

وهل شاهد بعد أن نرى عليّاً وحده في الميدان، لا يقوم تحت رايته غير خمسين رجلًا؟» (2).

لكن المؤلم المؤسف أنّ الخطيب نفسه وفي طول الكتاب وعرضه استمرّ مدارياً متهيباً يقترب من قول الحقيقة الساطعة وينسلّ منها، وتسطع شمسه فتضلّلها غيمة الموروث وغمامة الحكم الجاهز وكأنّي به يريد أن يقول شيئاً ولكن الضريبة باهضة والموقف صعب والحقّ مرّ ولا حول ولا قوّة إلّاباللَّه العلي العظيم.

الحقيقة الضائعة: الشيخ معتصم سيد أحمد:

رغم أنّ (الحقيقة) لا تضيع ولن تضيع، وإنْ كانت ضُيعت أو غُيّبت لهذه الفترة أو تلك، إلّاأنّ (الحقيقة) عند الاستاذ والكاتب السوداني الشيخ معتصم سيد أحمد قد ضاعت، أي ضاعت عليه هو نفسه فراح يبحث عنها في كتابه هذا بجدّية وصدق وإخلاص حتّى عثر عليها موفقاً مسدّداً إن شاء اللَّه.

ولعلّ أوّل ما يبدأ به الكاتب في بحثه عن الحقيقة هو تنقيبه الدقيق وفحصه الأكثر دقّة لمتون وأسانيد الحديث الشريف: «إنّي تارك فيكم الثقلين:

كتاب اللَّه وسنّتي، أو عترتي أهل بيتي» وصراعه بين هذين الاثنين


1- 1 نفس المصدر السابق: 566 عن: الإمامة والسياسة: 1- 160.
2- 2 نفس المصدر السابق: 567.

ص: 354

(سنّتي أم عترتي) وارتياحه في اكتشاف الخيط الدقيق بين سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعترته أهل بيته وعلى رأسهم أو في مقدّمتهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

وبعد فراغه من هذا البحث الذي قال: إنّه كلّفه «مجهوداً فكرياً ونفسياً، وجعلني أعيش صراعات مع ضميري وأخرى مع زملائي وأساتذتي في الجامعة» (1) وانتهائه إلى أنّ الآية القرآنية الكريمة إنّما وليّكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يُقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون إنّما نزلت في علي عليه السلام وانّ لها دلالة خاصّة- حسب رؤية الكاتب- راح غائصاً في تقصّيها والبحث في مغزاها وأسباب نزولها.

بعدها راح الكاتب يبحث في مغزى الآية القرآنية الكريمة الاخرى : يا أيّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من الناس وكيف أنّ هذا الأمر الإلهي الواجب تبليغه صار يوازي تبليغ الرسالة فإذا لم يبلِّغه فكأنّما لم يبلِّغ الرسالة» (2) ويضيف:

(وإنّ هذا الأمر، هو مردّ خلاف عظيم بين الناس، بل إنّ الرسول خاف على نفسه من الناس ولذا طمأنه اللَّه تعالى بقوله عزّ من قائل: واللَّه يعصمك من الناس) (3).

ومن استجلاء معاني هذه الآيات البيّنات وغيرها يروح الاستاذ معتصم يلقي باللائمة على المؤرِّخين الذين يكتمون الحقائق ولا ينقلونها إلى الناس، وهذا ما يقصده بضياع الحقيقة إذْ يقول:

«وما تعانيه الأمّة الإسلامية اليوم من فرقة وشتات وتمزّق في الصفوف ما هو إلّانتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت في التاريخ من تدليس المؤرِّخين وكتمهم للحقائق.. من أجل مصالح سياسية (ودنيوية).. وهو مخطّط استهدف مدرسة أهل البيت على كافّة الأصعدة والمستويات ليشكِّل تيّاراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي» (4).

ولم تكن المسألة مسألة مصالح سياسية فقط وإنّما مسألة رعب ورهبة


1- 1 الحقيقة الضائعة: الشيخ معتصم سيد أحمد، الطبعة الاولى 1417 ه: 109.
2- 2 نفس المصدر السابق: 165.
3- 3 نفس المصدر السابق: 165.
4- 4 نفس المصدر السابق: 172.

ص: 355

وخوف لمن يجرأ ويكشف الحقيقة إذْ «كان مجرّد التظاهر بالحبّ لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيل بهدم الدار وقطع الرزق، حتّى تتبّع معاوية شيعة علي قائلًا: اقتلوهم على الشبهة والظنّة، وحتّى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تُغتفر..» (1).

وأكثر ما يجرح قلب الكاتب ويمزّق فؤاده في مواقف هؤلاء المؤرّخين هو جناية التكتّم على مظلومية الإمام علي عليه السلام وحذفهم لرسائل عديدة مهمّة كان عليه السلام بعثها إلى معاوية وحذف أخرى بين هذا الأخير ومحمد بن أبي بكر، وراح الكاتب يندِّد بموقف الطبري كمثال قائلًا:

«أخفى المؤرِّخون وأوّلهم الطبري الرسائل التي جرت بين محمد بن أبي بكر ومعاوية بن أبي سفيان..

فاعتذر الطبري بعدما ذكر إسناد الرسالتين، بأنّ فيهما ما لا يتحمّل العامة سماعه، ثمّ جاء من بعده ابن الأثير وفعل ما فعله الطبري، ثمّ سار على نهجهم ابن كثير فأشار إلى رسالة محمد ابن أبي بكر، وحذف الرسالة وقال (فيها غلظة)» إلى أن يقول (أي الكاتب):

«وما فعله المؤرِّخون الثلاثة هو من أبشع أنواع كتْم الحقائق، وهو يكشف بكلّ وضوح عدم أمانتهم العلمية» (2).

ولم يتردّد الكاتب في ذكر بعض فقرات هذه الرسالة التي (فيها غلظة) وينقلها عن مروج الذهب للمسعودي، وجاء فيها:

«من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر، وبعد الثناء على النبي وكيف أنّ اللَّه أرسله رحمة وبعثه رسولًا ومبشِّراً ونذيراً، فكان أوّل من أجاب وأناب وآمن وصدّق وأسلم وسلم أخوه وابن عمّه علي بن أبي طالب:

صدقه بالغيب المكتوم وآثره على كلّ حميم، ووقاه بنفسه كلّ هول وحارب حربه وسالم سلمه... لا نظير له...

اتّبعه ولا مقارب له في فعله، وقد رأيتُك تُساميه وأنت أنت، وهو هو، أصدق الناس نيّة، وأفضل الناس ذريّة، وخير الناس زوجةً... وأنت اللعين ابن اللعين لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله الغواية وتجهدان


1- 1 نفس المصدر السابق: 173.
2- 2 نفس المصدر السابق: 179.

ص: 356

في إطفاء نور اللَّه، تجمعان على ذلك الجموع وتبذلان فيه المال، وتؤلّبان عليه القبائل، وعلى ذلك مات أبوك وعليه خلفته...» إلى أن يقول:

«فكيف يا لك الويل! تُعدل أو تقرن نفسك بعلي وهو وارث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووصيّه وأبو ولده؛ أوّل الناس اتباعاً وأقربهم به عهداً، يخبره بسرّه، ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه، فتمتّع في دنياك ما استطعت بباطلك وليمددك ابن العاص في غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى وكيدك قد وهن ثمّ يتبيّن لمن تكون العاقبة العليا...» (1).

أمّا رسالة معاوية في الردّ على محمد بن أبي بكر، فقد جاء فيها، ما تهيّب عن ذكره المؤرِّخون الثلاثة المذكورون سابقاً، ولكن الشيخ معتصم أورد بعضاً من نصوصها كما جاء في مروج الذهب أيضاً. نذكر فقرات منها خدمةً للقارئ الكريم وبدون تعليق:

«من معاوية بن صخر، إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر... ذكرتَ ابن أبي طالب، وقديم سوابقه وقرابته إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومواساته إيّاه في كلّ هول وخوف فكان احتجاجك عليَّ وعيبك لي بفضل غيرك لا بفضلك، فاحمد ربّاً صرف هذا الفضل عنك وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا، فلما اختار اللَّه لنبيّه عليه الصلاة والسلام ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته وأبلج حجّته، وقبضه اللَّه إليه صلوات اللَّه عليه، فكان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه وخالفه على أمره، على ذلك اتّفاقاً واتساقاً، ثمّ إنّهما دعوه إلى بيعتهما فأبطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهمّا به الهموم وأرادا به العظيم. ثمّ إنّه بايعهما وسلّم لهما وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما اللَّه...» إلى أن يقول:

«أبوك مهّد مهاده وبنى لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدّ به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل أبوك قبل ما خالفنا ابن أبي طالب وسلّمنا إليه، ولكن رأينا أباك فعل ذلك به قبلنا فأخذنا بمثله، فعِبْ


1- 1 نفس المصدر السابق: 179- 180 عن مروج الذهب للمسعودي 3: 20 تحقيق محمد محيي الدين، دار المعرفة- بيروت.

ص: 357

أباك بما بدا لك أو دع ذلك. والسلام على من أناب» (1).

وهنا لا يملك الشيخ معتصم نفسه فيروح مذيعاً ما استفزّ سريرته واستصرخ وجدانه فيقول:

«وقد عرفتُ بذلك السرّ الذي منع الطبري وابن الأثير وابن كثير من نقل هذه الرسالة؛ لأنّها تكشف واقع الصراع والخلاف الذي حدث بين المسلمين في أمر الخلافة، التي هي حقّ لعلي- كما يرى طبعاً-» ويضيف:

«فهذا معاوية يعترف بذلك ولكنّه يعتذر بأنّ خلافته هي امتداد لخلافة أبي بكر وشنّع بذلك على ابنه... ولكن لا عليك يا معاوية- والكلام للكاتب- فإنْ لم يسكت محمد بن أبي بكر ولم يستر أمرك فقد سكت عنه الطبري وابن الأثير وابن كثير...» (2).

وهكذا هو التاريخ والمؤرِّخون على امتداد العصور والأزمان، يُظهرون نصف الحقيقة، ويسدلون الستار على نصفها الآخر فيتركون الناس في طرائق شتّى لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي، وكلّ ذلك من أجل مصالح خاصة أو مواقف سياسية مدفوعة الثمن تروح ضحيتها الحقيقة أو المؤرِّخ، وما أعظم المؤرِّخ الذي يروح ضحيةً للحقيقة! وما أعظم الحقيقة التي لا يعتّمها مؤرِّخ ولو غيّبها الزمن والسلاطين وسنين طويلة من عمر الدهر الخؤون!

الهوامش:


1- 1 نفس المصدر السابق: 181 عن مروج الذهب 3: 21.
2- 2 نفس المصدر السابق: 181.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.