ميقات الحج المجلد13

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري ، محمد، ‫1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي ، ‫1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : ‫BP188/8

رده بندي د... : ‫297/35705

ص: 1

الحجّ في احاديث الامام الخميني قدس سره

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

العدد الثالث عشر

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني قدس سره

إنّ حجّاج بيت اللَّه الحرام، الذين يتحررون من قفص البدن وقيود الدنيا، ويهاجرون إلى اللَّه ورسوله، حيث يصبح البيت القلب، ولا شي ء فيه غير المحبوب الحقيقي، بل لا شي ء غيره في الداخل والخارج. يجب أن يعلموا أنّ الحجّ الإبراهيمي المحمّدي صلوات اللَّه عليهما وآلهما، مهجور وغريب منذ سنين طويلة سواء من الناحية المعنوية والعرفانيّة أم من الناحية السياسية والاجتماعيّة، ويجب على الحجّاج الأعزّاء من سائر الدول الإسلامية أن يعيدوا الكعبة وبيت اللَّه من غربتهما وبجميع أبعادهما...

إنّ هذا المؤتمر الذي ينعقد بدعوة من إبراهيم ومحمّد وآلهما، ويقصد إليه من كلّ زوايا الدنيا، ومن كلّ فجّ عميق للإجتماع فيه، لأجل منافع النّاس والقيام بالقسط، وللاستمرار بتحطيم الأصنام التي بدأ بتحطيمها إبراهيم ومحمّد، وطواغيت فرعون التي محاها موسى ...

إنّ فريضة الحجّ التي هي لبّيك بحقّ، وهجرة إلى اللَّه إنّما هي ببركة إبراهيم ومحمّد صلوات اللَّه عليهما و آلهما؛ بمعنى «لا» لجميع الأصنام و الطواغيت و الشياطين وأبنائهم ..

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

ص: 6

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

- مدّ ظلّه العالي-

هذه المناسبة الخالدة التي يقدم الحجيج على أدائها، تشكّل بنفسها مجموعة ناطقة معبّرة طافحة بالذكر والنشاط المعنوي والداخلي في إطار حركة وسعي وتنسيق بناء جماعي.

إنّ الحجّ- بتعاليمه المفعمة بالأسرار والرموز، وبمظاهره الرائعة الجامعة بين العظمة والتذلل، والاقتدار والتواضع، والحركة الداخليّة والخارجيّة- تجسيد لجهاد الإنسان المسلم في مجالي النفس والعالم باتّجاه تحقيق الحياة الانسانيّة الطيّبة، وتدريب للحاج على واجباته الكبرى في الحياة.

إنّ المجتمعات البشريّة المختلفة- وهي تعاني اليوم من فراغ روحي وضياع وحيرة من مآس وويلات اجتماعيّة وفرديّة فرضها طواغيت الثروة والقوّة على الساحة العالمية- تحتاج إلى الإسلام وإلى تعاليمه ودروسه الكبرى . وإنّ الدعوة الإسلامية لتجعل عناصر الاستقطاب والنفوذ والأمل، ليس فقط للشعوب التي تحترق بنيران الفقر والاستضعاف، بل وبنفس القدر للشعوب التي تتخبّط في مستنقعات الفراغ والحيرة والفقر الروحي في البلدان الثريّة المتطورة. وما تذكره

ص: 7

الاحصائيات والدراسات من تزايد التوجّه إلى الإسلام بين فئات الشباب وبين كلّ الرافضين لخواء الحياة المادّية في البلدان الغربيّة المتطوّرة، دليل على هذا الاستقطاب والنفوذ.

المسلمون بتفهّمهم لهذه الثروة الكبرى ومنحها ما يناسبها من وعي، سيكونون قادرين على أن يخلقوا تحوّلًا حقيقياً في حياتهم، وأن ينقذوا البلدان الإسلاميّة ممّا تعانيه اليوم من ضعف وتبعية وتخلّف وانحطاط.

عجالة موجزة في فروض المناسك

ص: 8

عجالة موجزة في فروض المناسك

السيّد العلّامة بحرالعلوم

تحقيق: محمّد الإسلامي اليزدي

المؤلّف

هو السيّد محمّد مهدي بن السيّد المرتضى بن السيد محمّد الحسيني البروجردي المعروف ب (بحرالعلوم) الطباطبائي من نسل إبراهيم الملقب ب (طباطبا) من ذريّة الحسن المثنى (1).

ولد بكربلاء المقدّسة ليلة الجمعة في شوّال سنة 1155 ه، وتوفي بالنجف الأشرف سنة 1212 ه، ودفن قريباً من قبر الشيخ الطوسي رحمه الله.

دراسته:

في كربلاء تربّى و درس عند والده وفضلاء عصره المقدمات والسطوح وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة، و حضر بعد ذلك خارج الأصول على والده المرتضى رحمه الله وعلى أستاذ الكلّ الوحيد البهبهاني رحمه الله و خارج الفقه على الفقيه الكبير الشيخ يوسف البحراني (صاحب الحدائق) وذلك لمدّة خمسة أعوام حتّى بلغ درجة الاجتهاد.


1- 1 أعيان الشيعة 10: 158.

ص: 9

إلى النجف الأشرف:

وسافر إلى النجف الأشرف سنة 1169 ه ليكمل أشواطه الباقية في الجهاد والاجتهاد، فحضر دروس أعلامها وهم الشيخ مهدي الفتوني (1183 ه) والشيخ محمّد تقي الدورقي (1186 ه) والشيخ محمّد باقر الهزارجريبي (1205 ه) وغيرهم من الحجج والأعلام، وأصبح قطب رحى العلم والفضيلة في حين أن عمره المبارك بعد لم يتجاوز الثلاثين.

هو بحر العلوم بحر المعالي فالورى وارد إليه وصادر (1)

إلى إيران:

سافر إلى إيران، خراسان من سنة (1186- 1193 ه) و حضر درس الفيلسوف الشهير الميرزا مهدي الشهيدي الخراساني رحمه الله حتّى لقّبه ب (بحر العلوم).

إلى بيت الحرام:

وتشرف لحجّ بيت اللَّه الحرام سنة 1193 ه و بقي في مكّة سنتين أو أكثر؛ ليقيم المشاعر ويركّز المواقيت على ضوء الشرع الصحيح، ويناقش علماء المذاهب الأربعة هناك.

مدرسته:

أمّا تلامذة مدرسته العلميّة التي نشأت على يديه في النجف الأشرف، فلقد كانوا من عيون العلماء وكبار مفاخر الشيعة وهم كما عدّهم السيد محمّد صادق بحرالعلوم في مقدّمته على كتاب رجال السيّد بحر العلوم ما يقرب من ثمانين عَلماً، أشهرهم الشيخ أحمد النراقي- صاحب المستند- (1245 ه) الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228 ه) والسيد محمّدجواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة (1226 ه)


1- 1 رجال السيد بحر العلوم 1: 34.

ص: 10

والسيّد مير الطباطبائي صاحب الرياض (1231 ه) والسيّد محمّد المجاهد صاحب المناهل (1242 ه) والسيّد محسن الأعرجي الكاظمي صاحب المحصول (1227 ه) والشيخ محمّد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية على المعالم (1248 ه) (1).

مؤلّفاته:

للسيّد بحر العلوم ما يقرب من ثلاثةوعشرين مؤلّفاً، والمعروف منها: كتاب المصابيح، والفوائد الرجالية، والدرّة التحفية، ورسالة في مناسك الحجّ والعمرة وهي التي بين يديك.

آيات الثناء عليه:

لقد شهد لمقامه العلمي المخالف والمؤالف، كيف لا وهو الزعيم الروحي والمرشد إلى طريق التقوى والسلوك والعرفان، والمرجع الديني المطلق للشيعة على رأس القرن الثالث عشر للهجرة في النجف الأشرف.

ومن يراجع كتب التراجم والرجال يجد ما يرشد إلى هذا البحر المحيط.

الرسالة:

وهي مع كونها موجزة ومختصرة في مناسك الحجّ والعمرة كتبها السيّد بحرالعلوم إجابةً لطلب بعض إخوانه السالكين الناسكين، سهلة المرام، يستفيد منها الخاصّ والعام.

ونسختها الخطّية: هي النسخة الوحيدة المحفوظة بمكتبة المدرسة الفيضيّة برقم (218) كتبت على هامش كتاب المصابيح للسيّد بحرالعلوم رحمه الله وبخطّ نستعليق.


1- 1 رجال السيد بحر العلوم 1: 67.

ص: 11

ونسخة أخرى :

وذكرها العلّامة آقا بزرك الطهراني بعنوان: «العجالة الموجزةفي فروض الناسك» وهي موجودة عند السيّد جعفر بن علي بحرالعلوم من النجف الأشرف، تاريخ كتابتها 1239 ه (1).

وتمّ تحقيق الرسالة من الاستنساخ والتقطيع والاستخراج وغيرها بعون اللَّه.


1- 1 الذريعة إلى تصانيف الشيعة 15: 223.

ص: 12

ص: 13

مناسك السيد بحر العلوم

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه ماطاف طائف في المسجد الحرام، ووقف واقف بالمشاعر العظام، والصلاة والسلام على مبين مناسك الحج للأنام محمّد وآله الحجج الميامين الكرام.

وبعد: فهذه عجالة موجزة في فروض المناسك التي مايعذر بجهالتها سالك، قصدت بها إجابة أحد إخواننا السالكين، وفقه اللَّه تعالى لارتقاء معارج اليقين، ورتّبتها على مقدمة، وأبواب، وخاتمة.

أمّا المقدمة: ففي محرمات الإحرام والحرم وجملتها تسعة عشر نوعاً.

الأوّل: صيد البر وهو الحيوان الممتنع بالأصالة مما يعيش في البر ويبيض ويفرخ فيه، وإن عاش في الماء، حلالًا كان أو حراماً، وإن اختصّ التكفير بالأوّل وهو محرم مطلقاً (1).

وعلى المحل في الحرم، اصطياداً، أو أكلًا، أو إشارةً ودلالةً واغلاقاً.

الثاني: النساء وطياً وتقبيلًا ونظراً ولمساً بشهوة، وعقداً له ولغيره وشهادة عليه- وفي معناه الاستمناء باليد- أو الملاعبة أو التخييل أو غيرها.

الثالث: الطيب وهو كلّ مايَطيب ريحه، ويكون معظم الغرض منه التطيّب، فيخرج عنه الفواكه والأبازير (2) خلا الزعفران؛ لأنّ الغرض الأصلي منه الأكل والاستعمال فيه، والحناء لأنّ المقصود منها الخضاب والتداوي، وفي الريحان خلاف، والاجتناب أحوط.

وفي ثبوت الكفارة في غير


1- 1 سواء كان في الحرم أو في غيره التوضيح من الكاتب في الحاشية.
2- 2 الابازير: التوابل الصحاح للجوهري 2: 589 مادة: بزر.

ص: 14

المسك والعنبر والكافور والزعفران والعود والورس (1) إشكال، والأقرب العدم.

ويحرم الطيب أكلًا ولو مع الممازجة وبقاء الكيفية، وتطبباً اختياراً.

ومع الاضطرار يقبض على أنفه إن أمكن، ومن الاضطرار طيب الكعبة، إلّاالخلوق فإنه جائز اختياراً، وهو طيب معروف مركب من الزعفران وغيره.

وقيل: بجواز زعفرانها وحده أيضاً للمختار وهو قوي.

ويجوز الاجتياز في موضع يباع فيه الطيب إذا لم يكتسب منه، ويقبض على أنفه ويزيل ماأصابه ولو بنفسه على الأصح والأحوط، أو المحل بها إن أمكن.

الرابع: الإدّهان بالدهن بعد الإحرام مطلقاً اختياراً، أو قبله بما فيه طيب تبقى رائحته بعده على الأصح.

الخامس: الاكتحال بما فيه طيب، وبالسواد للزينة اختياراً، والأحوط اجتنابه مطلقاً.

السادس: النظر في المرآة على الأشهر الأظهر (2) فإن نظر فليُلّبِ.

السابع: إخراج الدم اختياراً على المشهور (3) ولو بالاستياك، وحكّ الجلد، وقيل: بالكراهة، والأوّل أظهر.

الثامن: قصّ الأظفار ومافي معناه إلّا إذا انكسر ظفر وآذاه، فيجوز له الإزالة، ويطعم مكان ظفر قبضةً من طعام.

التاسع: إزالة الشعر عن الرأس واللحية أو غيرهما بالحلق أو القص أو الطَلّ، أو غيرها قليلًا كان أو كثيراً اختياراً، ويجوز مع الضرورة، ولا يسقط بها الفدية، ولو وقع شي ء من شعره بمسه في الوضوء، أو الغسل أو التيمم أو إزالة الخبث، لم يجب عليه شي ء على الأصح، ولو قطع عضواً عليه شعر جاز، ولا يلزمه شي ء.

العاشر: لبْسُ المخيط للرجال ولو كانت خياطته قليلة على إشكال، إلّا في الضرورة فيجوز، ولا يسقط به الفدية إلّافي لَبْس السراويل لفاقد


1- 1 الورس: نبت أصفر يكون باليمن يتخذ منه الحمرة للوجه الصحاح للجوهري 3: 988 مادة: ورس.
2- 2 مختلف الشيعة 4: 103.
3- 3 مختلف الشيعة: 4/ 103.

ص: 15

الآزار، فإنه يجوز من غير فداء، وفي التوسّخ ومايشبهه إشكال، والاجتناب أحوط.

الحادي عشر: لَبْس مايستر ظهر القدم بتمامه كالخف والجورب، ويجوز لَبْس مايستر البعض كالنعل، والستر بغير اللَبْس ولو بالملبوس، ومنه الالتحاف والتوسد: ولا بأس بلبس النعال المخصوفة، ولو صدق عليها اسم المخيط.

الثاني عشر: لَبْس الخاتم للزينة على المشهور، وقيل يكره.

والأوّل هو الأصح، ويجوز لَبْسه للسنّة قولًا واحداً (1).

الثالث عشر: تغطية الرأس أي مافوق الوجه بثوب أو طين أو دواء أو حناء أو حمل متاع أو غير ذلك، ولو بالارتماس في الماء أو غيره كلًا أو بعضاً، إلّابما هو منه، كَيَدِهِ فإنه يجوز أن يستتر بعض جسده ببعض، أو بما لابدّ منه في العادة كما في النوم، والأقرب دخول الاذنين في الرأس فلا يجوز تغطيتهما، وكما تحرم التغطية ابتداءً تحرمُ استدامة، وهل يجب على الناسي تجديد التلبية دون الالقاء؟

الأظهر أنه مستحب...

الرابع عشر: التظليل للرجل السائر اختياراً، ويجوز التظليل في المنزل إجماعاً، والمشي تحت الظلال في الطريق، ولو بحيث يصير ذو الظل فوق رأسه على الأقرب، والأحوط تركه في الطريق مطلقاً.

الخامس عشر: لَبْس السلاح اختياراً على الأشهر الأظهر (2).

السادس عشر: قتل هوام الجسد بل قتل الحيوان مطلقاً إلّاالموذيات، ولا يجوز إلقاء القمل بل كلّ ماكان في الجسد، ويجوز النقل والتحويل وإلقاء ماليس من هوام الجسد، كالقراد والحَلَم (3) وغيرهما.

السابع عشر: الفسوق، وهو الكذب والسباب، وفي صحيحة علي ابن جعفر «إنه الكذب والمفاخرة» (4).

الثامن عشر: الجدال وهو قول:

لا واللَّه وبلى واللَّه، ويختصّ المنع بهذه الصيغة، فلا جدال بمثل لا عمري


1- 1 غاية المراد 1: 397.
2- 2 مختلف الشيعة 4: 105.
3- 3 الحَلَم: هو القراد الكبار واحدته حلمة حياة الحيوان 1: 237.
4- 4 التهذيب 5: 297. تفصيل وسائل الشيعة 12: 465 ح 4 باب 32 أبواب تروك الاحرام.

ص: 16

وبلى العمري.

وفي رواية هو قول: الرجل «لا واللَّه وبلى واللَّه وسباب الرجل الرجل» (1).

التاسع عشر: قطع شجر الحرم وحشيشه لا النخل وشجر الفواكه.

الباب الأوّل

في ماهية التمتع:

وصورته أن يحرم من الميقات بالعمرة المتمتع بها إلى الحج في وقته، ثم يطوف لها بالبيت سبعاً، ثم يصلي ركعتي الطواف، ثم يسعى لها بين الصفا والمروة، ثمّ يُقصّر، ثم يحرم من مكة للحج، ثم يمضي إلى عرفة، فيقف بها إلى الغروب يوم عرفة، ثم يفيض إلى المشعر، فيقف به بعد طلوع الفجر، ثم يمضي إلى منى، فيرمي جمرة العقبة يوم النحر، ثم يذبح أو ينحر هديه، ثم يحلق أو يقصِّر، ثم يمضي فيه أو في غده إلى مكة، فيطوف للحج ويصلي ركعتيه ويسعى للحج ويطوف طواف النساء ويصلي ركعتيه، ثم يمضي إلى منى، فيبيت بها ليالي التشريق، وهي ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر.

ويرمي في هذه الأيام الجمار الثلاثة، يَبْدَأُ بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة.

ولمن اتقى النساء والصيد في إحرامه أن ينفر في الثاني عشر، فيسقط عنه رمي يوم الثالث عشر والمبيت ليلته، ولا يجب في التمتع غير ماذكر على المشهور (2).

وقيل: بل يجب في عمرة التمتع طواف النساء، كما في المفردة، وهو شاذ، ومستنده ضعيف.

والأركان من هذه الأفعال للعمرة، الاحرام والطواف والسعي، وللحج الإحرام والوقوفان وطواف الزيارة والسعي.

والركن منها مايبطل بتركه النسك عمداً لا سهواً، ويختصّ الوقوفان منها بالبطلان بفواتهما مطلقاً، ولوفاته أحدهما فإن كان الوقوف بالمشعر مطلقاً بطل حجه، وإلّا صحَّ،


1- 1 تفصيل وسائل الشيعة 12: 467 ح 8 باب 132 أبواب تروك الاحرام.
2- 2 مختلف الشيعة 4: 323.

ص: 17

وإن كان اضطراري المشعر وحده على الأصح.

والمعتمر يحلّ بالتقصير من كلّ شي ء- أي محرّم الإحرامي دون الحرمي- على المشهور، ومن غير النساء على القول بوجوب طوافهن عليه، فيحل به منهن.

والحاجّ يحلّ بالحلق أو التقصير من كلّ شي ء إلّاالطيب والنساء والصيد، وهو التحليل الأوّل، فإذا طاف طواف الزيارة، وسعى بين الصفا والمروة حلّ الطيب، وهو التحليل الثاني. فإذا طاف طواف النساء حلّ منهنّ ومن الصيد الإحرامي دون الحرمي، وهو التحليل الثالث.

الباب الثاني

في تفصيل أفعال العمرة المتمتع بها إلى الحج وهي خمسة:

الأوّل: الإحرام والواجب فيه ثلاثة:

الأوّل: النية المعينة لكونه إحرام عمرة متمتع بالأصالة، أو النذر لنفسه، أولغيره، أداءً و قضاءً تقرباً إلى اللَّه تعالى.

الثاني: التلبيات الأربع وصورتها: «لَبَّيك، اللَّهُم لبّيك، لبّيك، لا شريك لكَ لَبَّيكَ» والأحوط أن يضيف إليها بعد الأربع «إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والملك، لا شريك لك لبّيك».

والأولى أن يوسطه بين الأخيرتين أيضاً بإسقاطه التوحيد بعد الثالثة، فيقول: «لبّيك اللَّهم لبّيك، لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريكَ لكَ لبّيك» كما ذكره جماعة من الأصحاب (1)، ولو اقتصر على الأول كان مجزياً.

الثالث: لَبْس ثوبي الإحرام يتزر بأحدهما ويتوشح بالآخر، أو يرتدي به، ونُهي عن عقده وشدّه بشي ء منفصل عنه، وروى الطبرسي في الاحتجاج: أنّ محمد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري كتب إلى صاحب الأمر عليه السلام يسأله: هل يجوز أن يشدّ عليه مكان العُقَد تكة؟ فأجاب عليه السلام:

«لا يجوز شدُّ الميرز بشي ء سواه من تكة أو غيرها» (2).


1- 1 مختلف الشيعة 4: 80.
2- 2 الاحتجاج للطبرسي 2: 574.

ص: 18

وكتب أيضاً يسأله: أيجوز أن يشدّ الميرز على عقبه بالطول، أو يرفع من طرفيه إلى حقويه، ويجمعهما في خاصريه أو يعقدهما ويخرج الطرفين الأخيرين بين رجليه، ويرفعهما إلى خاصريه ويشدّ طرفه إلى وركيه، فيكون مثل السراويل يستر ماهناك، فإن الميرز الأول كنا نتزر به إذا ركب الرجل جمله انكشف ماهناك، وهذا أستر؟

وأجاب عليه السلام: «جاز أن يتزر الإنسان كيف شاء إذا لم يحدث في الميرز حدثاً بمقراظ ولا إبرة يخرجه به عن حد الميزر وغرزه غرزاً (1) ولم يعقده، ولم يشدّ بعضه ببعض، وإذا غطّى السّرّة والركبة كليهما، فإنّ السنة المجمع عليها بغير خلاف تغطية السرة والركبتين، والأحبّ إلينا والأكمل لكل أحدٍ شدّه على سبيل المألوفة المعروفة للناس جميعاً إن شاء اللَّه تعالى» (2).

ويشترط فيهما مما يجوز فيه الصلاة من حيث النوع والوصف، ولا يجوز بالحرير، والجلد الغير المأكول، ولا في النجس، فإن أصابته نجاسة غسله فوراً، ويجوز الزيادة عليهما مراعياً للشرط، وكذا الإبدال، والأفضل الطواف فيما أحرم فيه، ومع فقدهما يلبس القبا منكوساً.

ومحل الإحرام للمار على طريق المدينة كما هو الشائع في هذا الزمان (ذو الحُلَيفة)، ولا يجزي الإحرام من غير المسجد على الأقوى وهو وادٍ على ستة أميال من المدينة- والسقايف الحادثة خارجة عنه، فلا يصح الإحرام منها، والأحوط الإحرام من مسجد الشجرة، وهو ببطن الوادي، بالقريب من الآبار المعروفة (بآبار علي).

والجانب القبلي منه موضع يظن بعض الناس أنه المسجد وليس به، فإنما هو معرّس (النبي صلى الله عليه و آله) وهو:

الموضع الذي يستحب النزول فيه للراجع على طريق المدينة.

والسقايف الحادثة خارجة عن المسجد، فينبغي الإحرام من وسطه،


1- 1 غرز الإبرة في الشي ء غرزاً وغرَّزها: أدخلها لسان العرب 5: 386.
2- 2 الاحتجاج للطبرسي 2: 573.

ص: 19

وفي وجوب التلبية في محل الإحرام، ومقارنة النية لها إشكال.

والأحوط أن يلبّي فيه سرّاً مقارناً بينهما وبين النية، ثم يجهر بها إذا بلغ البيداء، ويقطع التلبية إذا شاهد بيوت مكة، وحدّها عقبة المدنيّين، ومع الاشتباه، فالأحوط تعجيل القطع.

والأحوط في الحج أن يُلبي في مكة سرّاً وفي المدعى سرّاً وجهراً، وإذا أشرف على الأبطح جهراً.

الثاني: الطواف وواجباته عشرة:

الأوّل: الطهارة من الحدث والخبث عن الثوب والبدن، والظاهر العفو عن دم القروح والجروح اللّازمة دون مانقص على الدرهم.

الثاني: ستر العورة.

الثالث: الختان.

الرابع: النية المعينة مع القربة.

الخامس: العدد وهو سبعة أشواط، فلو نقص عنها أو زاد ولو خطوة بطل.

السادس: البدأة بالحَجَر الأسود والختُم به، ولابدّ من الابتداء بأول الحجر والانتهاء إلى حيث ابتدأ منه، ولو أدخل جزءاً من باب المقدمة مع استصحاب النية وقصد الابتداء من حيث يحاذى صحَّ، ولا يلتزم الزيادة كما في إدخال جزء من الرأس في غسل الوجه.

السابع: جعل البيت على يساره.

الثامن: خروجه بكله عن البيت.

التاسع: إدخال الحجر في الطواف.

العاشر: كونه بين البيت والمقام مع اعتبار قدره من المسافة في الجوانب كلها والمقام، وهو الحجر الذي عليه أثر القدم الشريفة، لا البناء.

الثالث: صلاة الطواف:

وهي ركعتان بعده في مقام إبراهيم عليه السلام حيث هو الآن اختياراً، فإن تعذّر صلّى خلفه، أو في أحد جانبيه مع تحري الأقرب، والخلف أحوط.

والمقام هنا، البناء دون الصخرة،

ص: 20

ويتخير فيهما بين الجهر والإخفات.

الرابع: السعي وواجباته ثلاثة:

الأول: النية المعينة مع القربة.

الثاني: البدأة بالصفا بحيث يلاصقه بالمروة بحيث يلاصقها أصابعه.

والأحوط اعتبار اللصوق في الرجلين معاً فيهما، ولا يجب الصعود على الدرج وإن كان أولى.

الثالث: رعاية العدد وهو سبعة أشواط من الصفا إليه شوطان.

الخامس: التقصير:

والواجب فيه المسمى أي إزالة شي ءٍ من الشعر، أو الأظفار بحديد أو بغيره.

الباب الثالث

في تفصيل أفعال حجّ التمتع وهي اثنا عشر فعلًا:

الأوّل: الإحرام ووقته مابين فراغ الحاج من عمرة التمتع إلى أن يضيق وقت الوقوف بعرفة، وأفضل أوقاته يوم التروية عند الزوال، ومحله مكة لا غير، وأفضل المواطن المسجد، وأفضله المقام والحجر، ويجب فيه ما يجب في إحرام العمرة.

الثاني: الوقوف بعرفة، ويجب فيه النيّة لكونه بعد تحقّق الزوال أحوط، والكون بها إلى الغروب اختياراً، فلو أفاض قبل الغروب عالماً عامداً فعليه بدنة، وإن لم يقدر صام ثمانية عشر، ولو عاد قبل الغروب لم يلزمه شي ء.

والركن منه مسمى الكون فيما بين الزوال والغروب، فإن لم يتمكن تداركه ولو قبل طلوع الفجر يوم النحر، فإن لم يتمكن، أو تردّد فيه اجتزأ بالمشعر.

الثالث: الوقوف بالمشعر، والواجب منه في حقّ المختار مسمى الوقوف بين طلوع الفجر وطلوع الشمس يوم النحر، فلو أفاض قبل طلوع الفجر اختياراً أثِمَ، وصحّ حجّهُ، ويجب عليه الجبران بشاةٍ على الأصحّ.

فالركن منه للمختار مسمى الوقوف من غروب الشمس ليلة

ص: 21

النحر إلى طلوع الشمس، ويجزى للمضطر مسمى الوقوف بعد طلوع الشمس إلى الزوال يوم النحر، وقيل:

إلى الغروب وهو ضعيف (1).

الرابع: رمي جمرة القصوى وهي العقبة، وهو واجب على الأصح، ووقته يوم النحر مقدماً على النحر والهدي.

ويجب فيه النية، ورمي سبع حصيات حرمية أبكاراً بما يسمى رمياً، وإصابة الجمرة بها بفعله، والتفريق في الرمي دون الوقوع.

الخامس: الهدي وهو واجب على من وجده، ويجب فيه النية، وكون الذبح أو النحر بمنى، ووقوعه بعد الرمي قبل الحلق، أو التقصير، فلو أخلّ أثم وصحّ.

واجتماع أوصاف الهدي، وهي كونه من النعم الثلاث، فمن الإبل مادخل في السادسة، ومن البقر والمعز مادخل في الثانية، والأحوط مادخل في الثلاثة، ومن الضَأنِ يجزي الجَذَعُ لسنة، وهو مالم يدخل في الثانية، والأحوط أن يكون له ستة أشهر فصاعداً، وأن لا ينقص عن واحد إلّا مع الاضطرار فيجوز الاشتراك فيه، وأن لا يكون ناقصاً، فلا تجزي العوراء، ولا العرجاء، ولا المقطوعة الاذنِ، ولا الخصيُّ، وأن لا يكون مهزولًا، ولا يعتقد كونه كذلك، فلو اعتقد سميناً ثم بان مهزولًا، ولا مهزولًا ثم بان سميناً أجزأ عنه على الأصح.

وفي وجوب الأكل من الهدي، والإطعام منه خلاف، والمشهور الاستحباب (2)، والوجوب مع التمكن قوي.

ولا يجب قسمته أثلاثاً، وفاقد الهدي إن وجد ثمنه خلفه عند من يشتري له طول ذي الحجة، وإلّا صام كما في الآية ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع (3).

السادس: الحلق والتقصير، ووقته يوم النحر بمنى بعد الذبح قبل الطواف ويتعين الحلق على الصرورة، والمُلَبِّد، والمُعَقِّصِ على الأصح، والتقصير في حق النساء.


1- 1 مختلف الشيعة 4: 264 و 268.
2- 2 مختلف الشيعة 4: 294.
3- 3 سورة البقرة: الآية 196.

ص: 22

السابع: طواف الزيارة.

الثامن: ركعتاه.

التاسع: السعي بين الصفا والمروة.

العاشر: طواف النساء.

الحادي عشر: ركعتاه.

ويعتبر فيها مايعتبر في طواف العمرة وصلاته، وسعيه، والترتيب فيها بينهما فلا يجوز تقديم السعي على طواف الزيارة، ولا تقديم طواف النساء عليه، وكذا بينهما وبين ماتقدّم عليهما، فلا يجوز تقديم الطوافين والسعي على الوقوفين ومناسك منى إلّا مع الضرورة، فيجوز في الجميع على الأصح.

الثاني عشر: العود إلى منى لبقية المناسك قبل غروب الشمس، فيبيت بها ليالي التشريق الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر لمن لم يتق الصيد والنساء في حجه، أو غربت الشمس عليه يوم الثاني عشر بمنى، وإلّا جاز له الاقتصار على الأوليين، ولو بات في غيرها وجب عليه من كلّ ليلة شاة إلّاإذا بات بمكة مشتغلًا بالعبادة، أو خرج من منى بعد انتصاف الليل.

ويجب عليه أن يرمي كلّ يوم من أيام التشريق الجمار الثلاثة مراعياً لشرائط الرمي المتقدمة، والترتيب يبدأ بالأولى ثم الوسطى، ثم يختم بالعقبة، ووقته من طلوع الشمس إلى غروبها، وبعد الزوال أحوط على الأصح الأشهر، ولا يجوز الرمي ليلًا إلّا لعذر، ولو بات مع عدم الوجوب أو ترك معه ففي وجوب الرمي إشكال.

أمّا الخاتمة

ففيها بحثان:

البحث الأوّل: في لوازم المحظورات:

محرمات الإحرام منها مالا يوجب فساداً، ولا كفارة، وهو الإدهان بغير الطيب على ماصرح به جماعة، والطيب الذي لا يدهن به كما هو ظاهر قول بعضهم، والمشهور أنه يوجب الكفارة (1).

ومنها مايوجبهما معاً وهو


1- 1 مختلف الشيعة 4: 192.

ص: 23

الجماع في إحرام الحج قبل الوقوف بالمشعر، وفي العمرة قبل السعي مع العلم بالتحريم، وذكر الإحرام فإنه يجب به الكفارة وهي بدنة، وقضاء النسك من قابل حجّاً كان أو عمرة، وعليه إتمام ماأفسده مطلقاً، وفي حكم الجماع الاستمناء على قول قريب قوي (1).

ومنها مايوجب الكفارة خاصة دون الفساد وهو أقسام:

الأوّل: مايوجب الكفارة مطلقاً مع العلم بالحكم والجهل، وتذكر الإحرام ونسيانه، وهو الصيد لا غير.

الثاني: مايوجبهما بشرط التعمد والعلم بالحكم مطلقاً من غير فرق بين المختار والمضطر، وهو لَبْسُ المخيط وإزالة الشعر وتقليم الأظفار، والإدهان بالطيب.

الثالث: مايوجبهما كذلك على المختار خاصة، كالتظليل ولَبْس ما يستر ظهر القدم على قول (2)، والأحوط ثبوت الكفارة في جميع المحرمات حتى الإدهان، وأنها لا تختصّ بالمختار في شي ء منها إلّا مايجري فيه الاضطرار كالفسوق والجدال والتزين؛ لقول الكاظم عليه السلام لأخيه علي بن جعفر: «لكلّ شي ء خرجت من حجك فعليك دم تهريقه» (3).

وقول الصادق عليه السلام في رواية عمر ابن يزيد فيمن عرض له الأذى أو وجع، فتعاطى مالا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحاً: «فالصيام ثلاثة أيام، والصدقةعلى عشرة مساكين يشبعهم الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم وإنماعليه واحد من ذلك» (4).

وقد تجب الكفارة مع إباحة الفعل للمحرم اختياراً عند بعضهم كما في قلع الضرس (5) وهو أحوط، ولبيان مقادير الكفارات وتفاصيلها محل آخر.

البحث الثاني

من فاته الحج سقط عنه أفعاله، ويتحلل بعمرةٍ مفردةٍ، وعليه الحجّ من


1- 1 مختلف الشيعة 4: 171.
2- 2 المقنعة: 434.
3- 3 قرب الاسناد: 104، تفصيل وسائل الشيعة 13: 158 ح 5 باب 8 أبواب بقية كفارات الاحرام.
4- 4 تفصيل وسائل الشيعة 13: 166 ح 2 باب 14 أبواب بقية كفارات الاحرام.
5- 5 النهاية: 235، مختلف الشيعة ح: 193.

ص: 24

قابل إنْ استقرّ في ذمته.

وليكن هذا آخر ما أوردناه في هذه الرسالة.

ثمّ الرجاء من كاتب هذه الأوراق إلى ناظرها أن يذكره في تلك المشاعر.

الهوامش:

جهة القبلة

ص: 26

جهة القبلة

العلّامة الشيخ البهائي

تحقيق: هادي القبيسي

الحمد للَّه الذي عرّفنا نفسه، وألهمنا شكره، ووفّقنا لطاعته، وهدانا إلى قِبلته، والصلاة والسلام على خاتم رسله والأئمّة من آله، المنقِذِين من الضلال، والهادِين إلى الحقّ.

وبعد،

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام: بُني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة، والحجّ، والصوم، والولاية. الحديث (1).

وقال عليه السلام لسلمان بن خالد: ألا أُخبرك بالإسلام، أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قال: بلى جعلت فداك؛ قال: أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد (2).

وقال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام في وصيّته للحسن عليه السلام: اللَّه اللَّه في خير العمل فإنّها عمود دينكم (3).

فأوّل الأعمال وخيرها وأساسها الصلاة التي تشكّل العامل الأساسي في رُقيّ الروح، وصفاء النفس، وطهارة السريرة، وعلوّ الدرجات، كما قال


1- 1 الوسائل 1: 13 باب 1 من أبواب مقدّمات العبادات ح 1.
2- 2 الوسائل 1: 14 باب 1 من أبواب مقدّمات العبادات ح 3.
3- 3 الفقيه 4: 190 باب رسم الوصيّة ح 5433.

ص: 27

النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم:

«من حبس نفسه في صلاة فريضة فأتمَّ ركوعها وسجودها وخشوعها ثمّ مجّد اللَّه عزّ وجلّ، وعظّمه، وحمده، حتّى يدخل وقت صلاة أُخرى لم يلغ بينهما، كتب اللَّه له كأجر الحاجّ المعتمر، وكان من أهل عِلِّيّين» (1).

فالصلاة من أجلى مصاديق تجسيد العبودية المتمحّضة للمولى جلّ وعلا، فكلّ فِعل من أفعال الصلاة يعطي معنًى من معاني العبوديّة، فالسجود من أعظم مراتب الخضوع وأحسن درجات الخشوع والاستكانة، والركوع يُظهر تواضع العبد واعترافه بعلوّ مرتبة ربّه، والقيام أيضاً يذكّر بالقيام بين يدَي اللَّه عزّ وجلّ، وأنّه أمام مَلِك جبّار.

وكذا الحال في التوجّه إلى القِبلة، فإنّه في الحقيقة توجّه إلى اللَّه عزّوجل، فلا بُدّ أن يكون العبد متأدبّاً أمامه؛ لأنّ التوجّه بالبدن يهيّئ القلبَ إلى الانقطاع للَّه تعالى ، لأنّا إنْ لم نتوجّه بقلوبنا وأبداننا يصرف اللَّه وجه رحمته عنّا.

ويؤيّده قول الصادق عليه السلام: «إذا استقبلت القبلة فآيس من الدنيا وما فيها، والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن اللَّه تعالى ، وعاين بسرّك عظمة اللَّه تعالى ، واذكر وقوفك بين يديه هُنَالِكَ تَبْلُوا كلّ نفس ما أسلفت ورُدّوا إلى اللَّه مولاهم الحقّ (2)

، وقف على قدم الخوف والرجاء» (3).

ثمّ إنّه وقع الخلاف بين علماء الإسلام في كيفية التوجّه إلى القِبلة من بعيد، وفي العلامات المؤدّية إلى جهتها.

فهذه الرسالة معقودة لبيان هذا الغرض المهمّ.

وفي كلّ حقبة من الزمن تبرز شخصيّات فذّة عظيمة الشأن يشار إليها بالبَنان، قد تجلّت فيها المواهب الحميدة، والطبائع الكريمة، والهمم العالية، والنفوس الزاكية، فعاشت برهة من الزمن وغابت أشخاصها عنّا، إلّاأنّها لا زالت تعيش في قلوبنا وأفكارنا، في محافلنا وأقلامنا العلمية، بل في كلّ كتاب


1- 1 الفقيه 1: 211 باب فضل الصلاة ح 642.
2- 2 يونس 5: 30.
3- 3 مصباح الشريعة: 91.

ص: 28

وقرطاس، وكأنّها خُلقت لأكثر من زمانها التي عاشت فيه.

وليس ببعيد هذا، لأنّها كرّست كلّ جهودها وطاقاتها لخدمة المذهب الشريف والدين الحنيف، فقد أنارت الدرب وخطّت لنا نهجاً نسير عليه، ويحق لنا أن نقول: إنّها عاشت لغيرها أكثر ممّا عاشت لأنفسها.

ومن هؤلاء الأفذاذ شيخنا المترجَم، العالِم الأوحد، عَلَم الأئمّة الأعلام، عضد الإسلام والمسلمين، الشيخ محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمّد الجبعي العاملي الهَمْداني، نوَّر اللَّه مرقده.

ولا يسعنا المجال بهذا المختصَر ذِكر إنجازاته وخدماته في الحقول العلمية والعملية، بل نحيل القارئ الكريم إلى المصادر المعقودة لهذا الغرض.

وكما سيأتي أنّ مصنّفاته كثيرة وفي كلّ فنون الإسلام. فمن جملة مصنَّفاته هذه الرسالة التي بين يديك عزيزي القارئ.

ترجمة المؤلّف

المترجِمون لشيخنا الجليل كثيرون، ولا أُريد أن أستوعب حياته الفذّة، لئلّا يطول بنا المقام، وإنّما أذكرها على سبيل الاختصار، وقد وقفت قليلًا على بعض النقاط المهمّة في حياته قدس سره.

اسمه ونسبه:

هو الشيخ الجليل بهاء الدين، محمّد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن صالح الحارثي الهَمْداني الجبعي العاملي، نسبةً إلى الحارث الهَمْداني، من خواصّ أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (1).

ولادته ونشأته:

وُلِد في بعلبك- وقال أبو المعالي الطالوي: إنّه وُلد بقزوين- يوم الخميس لثلاث عشرة بقين من شهر محرم الحرام- وفي السلافة عند غروب الشمس يوم


1- 1 أمل الآمل 1: 155، سلافة العصر: 289- 302، لؤلؤة البحرين: 16، روضات الجنّات 7: 56، الأعلام 6: 102، أعيان الشيعة 9: 234، رياض العلماء 5: 88.

ص: 29

الأربعاء، لثلاث بقين من ذي الحجّة الحرام- سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة (1).

ثمّ انتقل به والده وهو صغير إلى بلاد العجم، فنشأ في حجره بتلك الأقطار المحميّة، وأخذ عن والده وغيره من الجهابذة، حتّى أذعن له كلّ مناضل ومنابذ، فلمّا اشتدّ كاهله، وَصَفَتْ له من العلم مناهله، وُلِّي بها شيخ الإسلام، وفوِّضت إليه أُمور الشريعة الغرّاء، على صاحبها وآله الصلاة والسلام.

ثمّ رغب في الفقر والسياحة، واستهبَّ من مهابِّ التوفيق رياحه، فترك تلك المناصب، ومال لِما هو لحاله مناسب، فقصد بيت اللَّه الحرام، وزيارة النبيّ وأهل بيته الكرام، عليهم أفضل الصلاة والتحيّة والسلام، ثمّ أخذ بالسياحة، فساح ثلاثين سنة .. فإلى القدس مروراً بمصر، وإلى الحجاز ثمّ حلب، وإلى قزوين وغيرها من بلاد إيران، ثمّ رجع إلى إصفهان محتداه، وأُوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، واجتمع في أثناء ذلك بكثير من أرباب الفضل والحال، ونال من فيض صحبتهم ما تعذّر على غيره واستحال، ثمّ عاد إلى مسكنه إصبهان، وهناك همى غيث فضله وانسجم، فألَّف وصنَّف، وقَرّط المسامع وشنَّف (2).

أُسرته:

عاش شيخنا البهائي وسط أُسرة علمية، شريفة، كريمة، عريقة، حافلة بالمفاخر.

فوالده:

الشيخ عزّ الدين، الحسين بن عبد الصمد بن محمّد الحارثي الهَمْداني الجبعي العاملي، كان عالماً ماهراً، محقّقاً، مدقّقاً، متبحّراً، جامعاً، أديباً، مُنشئاً، شاعراً، عظيم الشأن، جليل القدر، ثقة ثقة، من فضلاء تلامذة شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله، له مناظرة لطيفة مع فضلاء حلب (3).

وجدّه:

الشيخ عبد الصمد بن محمّد بن عليّ الجبعي العاملي، كان فاضلًا عالماً (4)،


1- 1 يقول الميرزا الأفندي رحمه الله في رياض العلماء 5: 97: ورأيت بخطّ بعض الأفاضل- نقلًا عن خطّ البهائي- أنّ مولده سنة 951.
2- 2 سلافة العصر: 289- 302، عنه أمل الآمل 1: 157- 158، روضات الجنّات 7: 62، لؤلؤة البحرين: 22، أعيان الشيعة 9: 239، رياض العلماء 5: 91، الأعلام 6: 102.
3- 3 أمل الآمل 1: 74، الأعلام 2: 240، وقد طُبعت مؤخراً.
4- 4 أمل الآمل 1: 109، عنه رياض العلماء 3: 128.

ص: 30

وقد عبّر عنه الحرّ في ترجمة ولده الحسين ب: الشيخ الصالح، العالم العامل، المتّقي المتفنّن، خلاصة الأخيار.

وجدُّ أبيه:

وهو الشيخ شمس الدين محمّد بن عليّ بن الحسين بن صالح الجبعي العاملي، فاضل، جدّ الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي، وقد أثنى عليه الشهيد الثاني قدس سره في إجازته لابن ابنه (1).

وعمّه:

الشيخ نور الدين أبو القاسم عليّ بن الشيخ عبد الصمد بن الشيخ شمس الدين محمّد الجبعي العاملي، فاضل، عالم، جليل، فقيه شاعر، من تلامذة الشهيد الثاني قدس سره، له رسالة «الدرّة الصفيّة في نظم الألفية» للشهيد الثاني، التي ذكر فيها أنّه من تلاميذه (2).

وأخوه:

الشيخ عبد الصمد بن الحسين بن عبد الصمد العاملي، كان فاضلًا جليلًا، وقد صنّف لأخيه «الصمدية» في النحو (3).

وزوجته:

الشيخة بنت الشيخ عليّ المنشار العاملي، كانت عالمة، فاضلة، فقيهة، كان في جهازها يوم زُفّت إلى الشيخ البهائي كتب تامّة في فنون العلم، وهي أربعة آلاف مجلّد.

وكان أبوها شيخ الإسلام بإصبهان أيّام السلطان شاه طهماسب الصفوي، وكان قد جاء من الهند في سفره الذي سافر بكتب كثيرة، ولم يكن له غير هذه البنت، ولمّا مات انتقل كلّ ما كان عنده من الكتب والأملاك والعقار إليها (4).

وأولاده:

المشهور أنّه لم يعقب أولاداً، وقيل: أعقب بنتاً، يقول صاحب (الرياض):


1- 1 أمل الآمل 1: 138، رياض العلماء 5: 48، تكملة أمل الآمل: 356.
2- 2 رياض العلماء 4: 114، أعيان الشيعة 8: 262، تكملة أمل الآمل: 302.
3- 3 أمل الآمل 1: 109، رياض العلماء 3: 123، أعيان الشيعة 8: 16.
4- 4 رياض العلماء 5: 407، أعيان الشيعة 2: 275.

ص: 31

وكان لها حفدة معاصرون لنا (1). والبعض يقول: إنّه كان عقيماً (2).

أقوال العلماء فيه:

قال السيّد عليّ خان المدني في «سلافة العصر»: علم الأئمّة الأعلام، وسيّد علماء الإسلام، وبحر العلم المتلاطمة بالفضائل أمواجُه، وفحل الفضل الناتجة لديه أفراده وأزواجُه، وطود المعارف الراسخ، وفضاؤها الذي لا تحدّ له فراسخ، وجوادها الذي لا يؤمل له لحاق وبدرها الذي لا يعتريه محاق ... إليه انتهت رئاسة المذهب والملّة، وبه قامت قواطع البراهين والأدلة ... فما من فنٍّ إلّاوله فيه القدح المعلّى ، والمورد العذب المحلّى ، إنْ قال لم يدع قولًا لقائل، أو طال لم يأت غيره بطائل ... (3).

وقال الحر في الأمل: ... حاله في الفقه والعلم والفضل والتحقيق والتدقيق، وجلالة القدر، وعظم الشأن وحسن التصنيف، ورشاقة العبارة، وجمع المحاسن، أظهر من أن يذكر، وفضائله أكثر من ان تحصر.

وكان ماهراً، متبحراً، جامعاً، كاملًا، شاعراً أديباً منشئاً ثقة، عديم النظير في زمانه في الفقه، والحديث والمعاني والبيان والرياضي وغيرها (4).

وقال السيد حسين بن السيد حيدر الكركي في بعض إجازاته: شيخنا الامام العلامة ومولانا الهمام الفهامة أفضل المحقّقين وأعلم المدقّقين خلاصة المجتهدين ...

كان أفضل أهل زمانه بل كان متفرداً بمعرفة بعض العلوم الذي لم يحم حوله من أهل زمانه ولا قبله على ما أظن (5).

وقال السيّد مصطفى التفريشي: جليل القدر، عظيم المنزلة، رفيع الشأن، كثير الحفظ، ما رأيت بكثرة علومه ووفور فضله، وعلوّ مرتبته أحداً في كلّ فنون الإسلام كمن كان له فنّ واحد (6).

وقد أطراه جملة من العلماء الأعلام، أعرضنا عن ذِكر مديحهم لئلّا يطول المقام.


1- 1 رياض العلماء 5: 94.
2- 2 أعيان الشيعة 9: 242، تكملة أمل الآمل: 447.
3- 3 سلافة العصر: 289- 303، عنه في أعيان الشيعة 9: 234.
4- 4 أمل الامل 1: 155.
5- 5 أعيان الشيعة 9: 234.
6- 6 نقد الرجال: 303.

ص: 32

أساتذته ومشايخه:

وهم كثيرون، نذكر منهم:

1- الشيخ عبدالعالي بن الشيخ علي الكركي العاملي.

2- الشيخ محمد بن الشيخ حسن (صاحب المعالم).

3- السيد محمود بن علي الحسيني المازندراني.

4- الشيخ عبداللَّه اليزدي.

تلامذته والرواة عنه:

كثيرون أيضاً، نخصّ منهم بالذِّكر:

1- السيّد حسين بن السيد حيدر الكركي.

2- السيّد ماجد البحراني.

3- المولى محمد صالح بن احمد المازندراني.

4- الشيخ زين الدين بن محمد بن صاحب المعالم.

5- المجلسي الأول الشيخ محمد تقي.

6- ملا محسن الفيض الكاشاني.

وفاته ومدفنه:

توفّي سنة 1030 ه. بإصفهان وصلّى عليه تلميذه المجلسي الأوّل بحشد من الفضلاء والناس، ونقل إلى خراسان، ودفن في المشهد الرضوي في بيته الذي كان عند رجلَي الضريح المقدّس (1).

و قال في سلافة العصر: إنّه تو فّي سنة 1031 (2)، و قيل: إنّه تو فّي سنة 1035 ه (3).

تصانيفه (4):

وهي كثيرة جدّاً نذكر بعضها على نحو الاستعراض:

الحديث:

1- شرح الأربعين حديثاً.


1- 1 رياض العلماء 5: 97، روضات الجنّات 7: 59، أعيان الشيعة 9: 234، الأعلام 6: 102.
2- 2 سلافة العصر: 289- 302.
3- 3 انظر: رياض العلماء 5: 92.
4- 4 أمل الآمل 1: 155- 157، الأعلام 6: 102، رياض العلماء 5: 88- 90، روضات الجنّات 7: 60- 61، لؤلؤة البحرين: 20- 22، أعيان الشيعة 9: 144.

ص: 33

الفقه:

1- الحبل المتين.

2- رسالة في ذبائح أهل الكتاب.

3- رسالة في الطهارة.

4- الرسالة الاثنا عشرية في الصلاة.

5- رسالة في الصوم.

6- رسالة في الزكاة.

7- رسالة في الحجّ.

8- رسالة في الكرّ.

الأُصول:

1- حاشية شرح العضدي على مختصر الأُصول.

2- الزبدة في الأُصول.

3- لغز الزبدة.

الدراية:

1- رسالة في الدراية.

الرجال:

1- حاشية خلاصة العلامة مختصرة.

العقائد:

1- رسالة مختصرة في إثبات وجود صاحب الزمان عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف.

2- رسالة في تحقيق عقائد الشيعة في الفروع والأُصول، مفصّلًا على اختصار.

التفسير:

1- حاشية البيضاوي.

ص: 34

2- رسالة في شرح قول البيضاوي في تفسير قوله تعالى : فسحقاً لأصحاب السعير

الأدعية:

1- مفتاح الفلاح.

2- الحديقة الهلالية.

3- شرح الصحيفة السجّادية، الموسوم ب: حدائق الصالحين.

البلاغة والنحو والأدب:

1- الكشكول، كبير.

2- المخلاة.

3- الصمدية.

4- حاشية المطوَّل.

5- سوانح الحجاز، في شعره وإنشائه.

الفلك والهيئة والرياضيات:

1- رسالة في أنّ أنوار سائر الكواكب مستفادة من الشمس.

2- رسالة الاصطرلاب، سمّاها: الصحيفة.

3- خلاصة الحساب.

4- رسالة في حلّ إشكالَي عطارد والقمر.

5- رسالة في القبلة (جهة القبلة).

نحن والرسالة:

وهي رسالة هَيَوِيّة فقهية، تبحث عن أهمّ الموضوعات الفقهية التي يتوقّف عليها عمل المكلَّف، وهو جهة القِبلة، طبق القواعد الهَيَوِيّة، مرفقة بشكل هندسي دقيق ذي زوايا قوائم وحوادّ ومنفرجات، حاول فيها المصنِّف إثبات الجهة بطريقة علميّة متقنة، مع استعراض لآراء فطاحل العلماء، وإيراد الملاحظات على

ص: 35

تعريفاتهم، وإثبات مدّعاه بقوّة علميّة كما سترى .

ثمّ إنّ كلّ من تعرّض من العلماء لترجمة شيخنا رحمه الله عدَّ هذه الرسالة من مصنّفاته (1) قائلًا: ورسالة في القبلة، ولم يسمها، إلّا أن المصنف رحمه الله قال في مقدمة الرسالة: ... إن تحقيق حقيقة جهة القبلة، فالظاهر أنه استفيدت تسميتها من هذه العبارة.

ولذا قال العلّامة البحّاثة الشيخ آقا بزرك الطهراني رحمه الله:

جهة القِبلة رسالة متوسّطة، تقرب من مائة وخمسين بيتاً، في بيان المراد من الجهة وما فُسِّرت به من السمت، للشيخ البهائي، المتوفّى سنة 1031، أوّله:

أمّا بعد الحمد والصلاة، فيقول أقلّ العباد محمّد، المشتهر ... إنّ تحقيق حقيقة جهة القِبلة التي يجب على البعيد تحصيلها والتوجّه إليها، من المهمّات (2).

نسخ الرسالة:

1- نسخة في مكتبة آية اللَّه السيّد المرعشي النجفي قدس سره، ضمن مجموعة رقم 104، كتبت سنة 1018، ذكرت في فهرسها.

2- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 3280، كتبت سنة 1117، ذكرت في فهرسها 10: 898.

3- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 3347، كتبت سنة 1090، ذكرت في فهرسها 10: 1147.

4- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 1805، ذكرت في فهرسها 9: 361.

5- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 2761، ذكرت في فهرسها 9: 163.

6- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 4471، كتبت سنة 1079، ذكرت في فهرسها 12: 151.


1- 1 رياض العلماء 5: 90، روضات الجنّات 7: 61، أعيان الشيعة 9: 244.
2- 2 الذريعة 5: 301.

ص: 36

7- نسخة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة رقم 4900، كتبت سنة 1079، ذكرت في فهرسها 14: 77.

8- نسخة في مكتبة فاضل في خوانسار، رقم 147، كتبت سنة 1062.

9- نسخة في المكتبة المركزية لجامعة طهران، ضمن مجموعة باسم الدستور، رقم 2144، كتبت سنة 1079.

النسخ المعتمدة في التحقيق:

اعتمدت في عملي على نسختين:

1- نسخة محفوظة في مكتبة البرلمان الإيراني السابق، ضمن مجموعة 4471، رقم الرسالة 16، مذكورة في فهرست المكتبة 12: 151، وفي نهايتها كُتب: تمّت في 17 شعبان 1079 هجرية، تقع هذه النسخة في ثلاث صفحات، كلّ صفحة تحتوي على 25 سطراً، بقياس 17* 25 سم، وقد رمزنا لها ب (م).

2- نسخة محفوظة في المكتبة المركزية لجامعة طهران، ضمن مجموعة كبيرة، باسم: الدستور، برقم 2144، والرسالة في الورقة 97 منها، مذكورة في فهرست المكتبة 9: 408، وعلى هامشها تعليقة من المصنِّف أثبتناها في موضعها، وعلى هامشها في موضعين كلمة (بلغ) التي تدلّ على مقابلتها والعناية بها، وكُتب في نهايتها: تمّت في 17 شعبان 1079، والملاحظ أنّ هذا الإنهاء يوافق إنهاء النسخة السابقة، وهي في صفحتين، كلّ صفحة تحتوي على 55 سطراً، وقد رمزنا لها ب (ج).

منهجيّة التحقيق:

اعتمدتُ عمليةَ التلفيق بين النسختين مشيراً إلى الاختلاف في الهامش، فكان عملي كالتالي:

1- مقابلة النسختين والإشارة إلى الاختلاف في الهامش.

2- تقويم النصّ وتقطيعه إلى فقرات.

ص: 37

3- تخريج الأحاديث الواردة من مصادرها الرئيسية.

4- تخريج الأقوال الفقهيّة التي نقلها المصنّف من مصادرها.

وفي الختام:

أُقدّم جزيل شكري إلى كلّ من آزرني وساعدني على إخراج هذه الرسالة بحلّة لائقة، وأخصّ بالذِّكر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ومجلّتها «تراثنا» التي نشرتها، كما أشكر إدارة مجلّة ميقات الحجّ على إعادة نشر هذه الرسالة في مجلّتها المذكورة تعميماً لفوائدها القيّمة ..

والحمد للَّه أوّلًا وآخراً، وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.

صورة الصفحة الأُولى من نسخة (م)

ص: 38

صورة الصفحة الأخيرة من نسخة (م)

ص: 39

الرموز المذكورة في الرسالة مشيرة إلى هذا الشكل الهندسي الذي اعتمده المصنّف رحمه الله

ص: 40

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

أمّا بعد الحمد والصلاة؛

فيقول أقلّ العباد محمّد، المشتهر ب: بهاء الدين العامليّ، عفا اللَّه عنه:

إنّ تحقيق حقيقة جهة القِبلة، التي يجب على البعيد تحصيلها، والتوجُّهُ إليها، من المهمّات؛ ليكون المتوجّهُ عارفاً- في الجملة- بحقيقة ما يتوجّه إليه ويستقبله.

وقد اختلف كلام فقهائنا- قدّس اللَّه أرواحهم- في الكشف عنها، وبيان ماهيّتها، مع أنّه لا مريةَ لأحدٍ في أنّها: «ما يكون العاملُ بالعلامات المقرَّرة متوجّهاً إليها».

لكن، لمّا لم يكن هذا القدر كافياً في شرح حقيقتها- لكونه من قبيل تعريفها ب:

«ما يجب استقباله في الصلاة» وهو كالردّ إلى الجهالة- لأنّ الغرض شرح حقيقة ذلك الشي ء الذي يجب استقباله، فلهذا لم يعوّل الفقهاء- رحمهم اللَّه- على تعريفها بذلك، وأوردوا ما يشرح ماهيّتها في الجملة:

[1] فعرّفها العلّامة- طاب ثراه- في المنتهى : ب «السمت الذي فيه الكعبة» (1).

وقد يُفسَّر السمت هنا: بامتدادٍ (2) معترضٍ في أحد جوانب الأُفق.

[2] وعرّفها في التذكرة بأنّها: «ما يظنّ أنّه الكعبة حتّى لو ظنّ خروجه عنها لم تصحّ» (3).

والظاهر أنّه أراد ب «ما يظنّ أنّه الكعبة» ما يظنّ اشتماله عليها، ويؤيّده قوله:

«حتّى لو ظنّ خروجه عنها».

[3] وعرّفها شيخنا- قدّس اللَّه روحه- في الذكرى : ب «السمت الذي يُظنّ كون الكعبة فيه» (4).


1- 1 منتهى المطلب 1: 218.
2- 2 في هامش «ج» تعليقة من المصنّف رحمه الله هذا نصّها: الظاهر أنّ المراد بالامتداد خطّ مستقيم، فإنّه هو المتبادر عند الإطلاق. منه.
3- 3 تذكرة الفقهاء 3: 7، وعنه في مفتاح الكرامة 2: 75.
4- 4 ذكرى الشيعة: 162، وعنه في مفتاح الكرامة 2: 75.

ص: 41

[4] وقال شيخنا المحّقق الشيخ عليّ- أعلى اللَّه قدره- في شرح القواعد:

«الذي ما زال يختلج بخاطري أنّ جهة القبلة هي: المقدار الذي شأن البعيد أن يجوّز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه» (1).

[5] وعرّفها شيخنا الشهيد الثاني- نوّر اللَّه مرقده- في شرح الشرائع:

ب «القدر الذي يجوّز على كلّ بعض (2) منه كون الكعبة فيه، ويقطع بعدم خروجها عنه، لأمارة يجوز التعويل عليها شرعاً» (3).

[6] وعرّفها بعضهم بأنّها: «قوس من الأُفق يجوّز على كلّ خطٍّ خارجٍ من جهة الساجد (4)، منتهياً إليه أن يمرّ بالكعبة».

فهذه تعريفات (5) ستّة للجهة.

وظنّي أنّه لا يسلم شي ءٌ منها من خلل، كما ستحيط به خُبراً.

[7] ولو عُرِّفَتْ بأنّها «أعظم سمتٍ يشتمل على الكعبة قطعاً أو ظنّاً، بحيث تتساوى نسبةُ أجزائه إلى هذا الاشتمال من غير ترجيح» لكان أقربَ إلى السلامة، كما ستعرفه إن شاء اللَّه تعالى .

تمثيل:

لنفرض دائرةً أُفقاً من الآفاق العراقية، كالكوفة، والمصلّي على مركزها وهو نقطة (د).

وقد أدّته الدلائلُ أو الأماراتُ إلى أنّ قِبلة الكوفة في جانب الجنوب ..

إمّا بالسفر منها إلى مكّة وتدبّر الطريق.

أو للعمل بالأمارات المعروفة لأهل العراق، كجعل الجَدْي على المنكب الأيمن، والمغرب والمشرق (6) على اليمين واليسار، ولنفرضه قاطعاً أو ظانّاً وقوعَ الكعبة في امتداد (ب- ج) (7)

بحيث يُجوِّزُ على كلّ جزءٍ منه أنْ يكونَ فيه الكعبةُ، ويقطع بعدم خروجها عن مجموعه (8).


1- 1 جامع المقاصد 2: 49.
2- 2 في المصدر: كلّ جزءٍ.
3- 3 مسالك الأفهام 1: 151.
4- 4 في «م»: المساجد.
5- 5 في «م»: تفريعات.
6- 6 في «م»: والمشرق والمغرب.
7- 7 في «م»: ب- ح.
8- 8 لفظ «عن مجموعه» لم يرد في «م».

ص: 42

فخطُّ (ب- ج) هو السمتُ الذي هو عبارة عن جهة القِبلة على التعريفات الخمسة الأُوَلِ، والسابعِ.

فإذا استقبل المصلّي أيَّ جزء من أجزائه كان مستقبِلًا للقِبلة، سواءً كان الخطّ الخارج من موضع سجوده منتهياً إليه، مقاطعاً له على قوائم كخطّ (د- ه) أو حَوادّ ومنفرِجات كخطَّي (د- ب)، (د- ج).

ومن ثَمَّ حكموا باتّساع الجهة واغتفارٍ يسير الانحراف، وربّما نزّلوا ما يتراءى من التخالف بين علامات قِبلة العراق، على ذلك.

وأمّا على التعريف السادس: فسمت القِبلة- أعني جهتها- هو: قوس (ط- ي) ووجه عدم حمل الجهة في التعريفات الأُوَل على هذا القوس، ظاهر، لظهور أنّ الكعبة غير واقعة على محيط الأُفق الحقيقيّ ولا الحسّيّ.

ولو أُريد بالأُفق ما ينصّف الأرضَ فقط، لم يلزم وقوعها على محيطه أيضاً، وإنّما يتحقّق ذلك في بلدٍ يكون غايةُ ميل أُفقه عن أُفق مكّة بقدر ربع الدور.

ثمّ لا يخفى أنّ مرور الخطّ المذكور في التعريف السادس بالكعبة إنّما يتحقّق في موضع تكون الكعبة واقعةً فوقَ أُفقه، فلا تغفل.

*** فصل

اعترضَ شيخُنا المحقّقُ الشيخ عليّ- أعلى اللَّه قدره- في (شرح القواعد) على تعريف (التذكرة): «بأنّ البعيد لا يُشترط في صحّة صلاته ظنُّ محاذاة الكعبة، وبأنّ الصفّ المستطيل يحكم بخروج بعضهم عنها، فيلزم بطلان صلاتهم، وأظهر منه مَنْ يصلّي بعيداً عن محراب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بأزيد من مقدار الكعبة» (1).

ثمّ إنّه رحمه الله أرجَعَ تعريف (الذكرى ) إلى تعريف (التذكرة) (2)، وظاهر كلامه أنّه


1- 1 جامع المقاصد 2: 48 باختلاف يسير.
2- 2 حيث قال: «وما ذكره لا يكاد يخرج عن كلام التذكرة» المصدر السابق ص: 49.

ص: 43

حمل (السمت) فيه على الخطّ المتوهَّم امتدادُه مِن المستقبِل في الصوب الذي يستقبله.

وهو كما ترى .

والظاهر أنّ مراد العلّامة ما ذكرناه قُبيل هذا، وأنّ المراد بالسمت في تعريف (الذكرى ): هو الامتداد المعترِض، لا الطولي.

وكيف يُظنّ بهذين الشيخين- طاب ثراهما- القول بأنّ عين الكعبة قِبلة للبعيد؟! مع أنّهما مصرِّحان في كتبهما بخلافه، بل لم يذهب أحد من علمائنا إلى ذلك، وإنّما هو مذهبُ بعض العامة (1).

توضيح:

الباعث على اشتراط الشيخين- أعلى اللَّه قدرهما- أن يجوّز على كلّ بعض من ذلك المقدار (2) أن يكون هو الكعبة، المحافظة على طرد التعريف، لصدقه بدونه على مقدار يُقطع أو يُظنّ عدم وقوع الكعبة في بعض أجزائه، كمجموع خطّ (ز- ح) فإنّه يقطع بعدم خروج الكعبة عن مجموعه، مع أنّه ليس هو بمجموعه الجهة، وإنّما الجهة بعضه، أعني خطّ (ب- ج) (3)

(فلا يجوز استقبال شي ء من أجزاء خطّ (ز- ب) (4)

، ولا خطّ (ج- ح)، وهذا ظاهر.

وأمّا سبب تقييدهما بالقطع بعدم خروج الكعبة عن مجموع ذلك المقدار، فلأنّه لولا هذا القيد لصدق التعريف على خطّ (ه- ج) (5)

مثلًا، فإنّه يجوز على كلّ جزءٍ منه أن يكون هو الكعبة، مع أنّه بعض الجهة لا نفسها، فإنّ الجهة تبطل الصلاة بالخروج عنها، وليس خطّ (ه- ج) كذلك.

ومن هذا يظهر عدمُ مانعيّة التعريف السادس، لصدقه على قوس (ك- ي) مثلًا.

ونحن لمّا اعتبرنا في التعريف الأخير «أعظم سمت» سَلِمَ طردُه من هذا الخدش.


1- 1 وهم: الجرجاني من الحنفيّين وأحد قولَي الشافعي. انظر: المجموع 3: 207 و 208، فتح العزيز 3: 242، شرح فتح القدير 1: 235، الكفاية 1: 235، شرح العناية 1: 235، عمدة القاري 4: 126، المغني 1: 491 و 492 و 519، نيل الأوطار 2: 180.
2- 2 في «م»: المقدّر.
3- 3 في «م»: ز- ب.
4- 4 ما بين القوسين لم يرد في «م».
5- 5 في «م»: ه- ح.

ص: 44

تتمّة:

ثمرة تقييد شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله بقوله: «لأمارة يجوز التعويل عليها شرعاً» إخراج الجهات الأربع للمتحيّر.

وقد صرّح- طاب ثراه- بذلك حيث قال: «احترزنا بالقيد الأخير عن فاقد الأمارات، بحيث يكون فرضه الصلاة إلى أربع جهات، فإنّه يُجوّز على كلّ جزء من الجهات الأربع كَوْن الكعبة فيه، ويقطعُ بعدم خروجها عنه، لكن لا لأمارةٍ شرعيّة» (1). انتهى .

ومراده رحمه الله بالقطع المذكور: القطعُ بعدم خروج الكعبة عن مجموع أجزاء الجهات الأربع، لا ما يُعطيه ظاهر العبارة.

فإنْ قلتَ: كلّ واحدةٍ من الجهات الأربع جهةُ القِبلة في حقّ المتحيّر، فكان الواجب إدراجُها في التعريف لا إخراجها.

قلتُ: لعلّه لمّا لم تبرأ الذمّة بالتوجّه إلى واحدة بعينها لم يجعلوها جهةً، فإنّ الجهة ما تبرأ الذمّةُ من الاستقبال بالتوجّه إليها.

هذا، وأنت خبير بأنّ زيادته رحمه الله هذا القيد على تعريف المحقّق الشيخ عليّ- أعلى اللَّه قدره- كالتصريح بعدم سلامة طرده بدونه.

وظنّي أنّه- أعلى اللَّه قدره- أراد بالمقدار: السمت، على ما مرّ تفسيره، فلم يحتج إلى ذلك القيد، إذ لا قطع للمتحيّر بعدم خروج الكعبة عنه.

*** فصل

إذا حصل القطع بعدم خروج الكعبة عن سمتٍ معيّنٍ كسمت ز- ح مثلًا، وجُوِّزَ على كلّ بعض من أبعاضه- كخطوط ز- ب، ب- ج، ج- ح، اشتماله عليها.

فلا يخلو:


1- 1 المسالك 1: 151.

ص: 45

إمّا أنْ يكونَ جميع تلك الأبعاض متساوية الأقدام في احتمال هذا الاشتمال من غير ترجيح.

أو يكون اشتمال بعضها- كامتداد (ب- ج) مثلًا- أرجحَ في ظنّه عن سائر الأجزاء.

وعلى الأوّل: لا ريب في أنّ مجموع ذلك السمت هو الجهة في حقّه، وأنّ ذمّته تبرأ بالاستقبال أيّ بعضٍ من الأبعاض شاء.

وأما على الثاني، فوجهان:

أحدهما: أن يكون حكمه كالأوّل من غير تحتّم استقبال الأجزاء الراجحة الاشتمال.

والثاني: أن يجب عليه تخصيص الاستقبال بتلك الأجزاء، فلا تصحّ صلاتُه إلى الأجزاء المرجوحة الاشتمال.

وهذا هو الأصحُّ، لِقُبح التعويل على المرجوح مع التمكّن من الراجح، ولقول الصادق عليه السلام في موثّقة سماعة: «تَعَمَّد القِبلةَ جُهْدَكَ» (1).

ومن ثَمَّ، حكموا بوجوب رجوع من فَرْضُه التقليد- في القِبلة أو غيرها- إلى أعلم المجتهدَيْنِ وأوثقهما.

وأنت خبير بأنّ المستفاد من تعريفَي الشيخَيْن في الشرحين هو الوجهُ الأوّل، وللبحث فيه مجال واسعٌ، فلا تغفل.

إشارة:

اشتراط (2) الشيخين- طاب ثراهما- في الشرحين القطع بعدم خروج الكعبة عن ذلك المقدار، موضع نظر.

فإنّه يُعطي أنّ: مَنْ لم يقدرْ على تحصيل القطع المذكور، بل جَوَّزَ على كلّ واحد من المقادير الأربعة في جوانب الأُفق أن يكونَ فيه الكعبة، لكن كان وقوعُها في واحد معيّن منها أرجَح في نظره من وقوعها (3) فيما عداه، لم يكنْ (4) ذلك المقدار


1- 1 الوسائل 4: 308 باب 6 من أبواب القِبلة ح 2 و 3، الكافي 3: 284 ح 1، التهذيب 2: 46 ح 147، و 2: 255 ح 1009، والاستبصار 1: 295 ح 1089.
2- 2 في «م»: إشارة الشيخين.
3- 3 في «م»: وقوعهما.
4- 4 «لم يكن» جزاء «من لم يقدر».

ص: 46

المظنونُ- وقوعُ الكعبة فيه- جهةً في حقّه (1): لأنّه غير قاطع بعدم خروج الكعبة عنه.

وهو كما ترى .

والحقُّ: أنّ كونَه جهةً (2) في حقّه ممّا لا ينبغي الامتراء فيه (3).

إيضاح:

قد ذكر علماؤنا- رضي اللَّه عنهم-: أنّه إنّما يجوز التعويلُ في تحصيل جهة القِبلة على الظنّ، مع العجز عن العلم.

أمّا مَن كان قادراً على تحصيل العلم بالجهة، من غير مشقّة شديدة، عادةً، فلا يجوز له التعويل على الظنّ، وقد دلّت على ذلك صحيحةُ زرارة، عن الباقر عليه السلام، قال: «يجزي المتحيّر (4) أبداً أينما توجّه إذا لم يعلم أين وجه القِبلة» (5).

فإنّها تعطي بمفهومها الشَرطي (6) أنّ التحرّيَ- أعني: الاجتهادَ- إنّما يُجزي إذا لم يكن للمكلَّف طريقٌ إلى العِلم.

وبهذا يظهر أنّ تعريف (المنتهى ) أقربُ إلى الصواب من تعريفَي (التذكرة) و (الذكرى )؛ لشموله ما فيه الكعبة قطعاً، وما هي فيه ظنّاً لا غير، واختصاصُهما (7)بالظنّ، فيختلّ عكسهما بالجهة المقطوع كون الكعبة فيها.

تنبيه:

يظهر ممّا تلونا عليك سابقاً: أنّ التعريفات الثلاثة- أعني تعريف: المنتهى ، والتذكرة، والذكرى - منتقضة الطرد بالسمت الذي يُقطع بخروج الكعبة عن بعض أجزائه، إذا قطع أو ظنّ اشتمال الأجزاء الأُخَرِ عليها.

كما أنّ الثانيَ والثالثَ منها مُنْتقضا العكسِ بالجهة المقطوع كون الكعبة فيها.

وأمّا تعريفا الشيخين في الشرحين (8): فقد لَوَّحْنا إليك قُبَيْل هذا بما يُشير إلى اختلالهما أيضاً طرداً وعكساً.


1- 1 في «م»: «جهة» بدل «حقه».
2- 2 في «م»: حجّة.
3- 3 كتب في هامش «ج» هنا: «بلغ».
4- 4 في «ج»: المتحرّي.
5- 5 الوسائل 4: 311 باب 8 من أبواب القِبلة ح 2، الفقيه 1: 179 ح 845.
6- 6 في «م»: بمفهومها الشرعي.
7- 7 في «م»: واختصاصها.
8- 8 وهما: الشهيد الثاني في شرح الشرائع، والكركي في شرح القواعد.

ص: 47

أمّا الطرد: فبالسمت المقطوع عدم خروج الكعبة عنه، إذا ترجّح وقوعُها في بعض أجزائه على الوقوع في البواقي، فإنّ الجهة إنّما هي الأجزاء المظنونة الاشتمال عليها لا غير.

وأمّا العكس: فبالسمت الذي يُظنّ عدمُ خروج الكعبة عنه مع العجز عن تحصيل القطع بذلك.

وأمّا التعريف السادس: فهو وإنْ سَلِمَ طردُه ممّا انتقض به طردُ التعريفات الثلاثة، الأوَّل من السمت المقطوع بخروج الكعبة عن بعضه، كما سلم عكسه ممّا انتقض به عكس الثاني والثالث من الجهة المقطوع كون الكعبة فيها، لكنّه لم يَسْلَمْ طردُه من الانتقاض ببعض أجزاء الجهة، وبما انتقض به طرد تعريفَي الشيخين- قدّس اللَّه روحهما-.

تبصرة:

قد استبان لك عدم سلامة شي ء من التعريفات الستّة من اختلالٍ في الطرد، أو العكس، أو فيهما معاً.

فلنعُدْ إلى التعريف السابع، الذي اخترناه، فنقول:

إنّما اعتبرنا فيه «أعظم سمت» لئلّا ينتقض طرده ببعض أجزاء الجهة.

ولم نقتصر على الظنّ- كما في تعريفَي التذكرة والذكرى - لئلّا ينتقض عكسه بالسمت الذي يُقطع بعدم خروج الكعبة عنه.

ولا على القطع- كما في تعريفَي الشيخين- لئلّا يُنتقض بالجهة المظنون كون الكعبة فيها، عند العجز عن تحصيل القطع بذلك.

وأمّا قيد الحيثية؛ فلإخراج سمتٍ يكونُ اشتمال بعض أجزائه على الكعبة أرجح، إذ الحقّ: أنّ الجهةَ- حينئذٍ- ليست مجموعَ ذلك السمت، بل بعضه، أعني:

الأجزاء التي يترجّحُ اشتمالها على الكعبة، بشرط تساوي نسبة الرجحان إلى جميعها، فلا يجوزُ للمصلّي استقبال الأجزاء المرجوحة الاشتمال عليها، خلافاً

ص: 48

للمستفاد من تعريفَي الشرحين.

واللَّه سبحانه أعلم (1) بحقائق الأُمور.

هذا ما خطر بالبال، الكثير الاختلال، مع ضيق المجال، وتراكم الأشغال، والحمد للَّه أوّلًا وآخراً، وباطناً وظاهراً (2).

مصادر التحقيق:

1- أعيان الشيعة: للسيّد محسن الأمين، دار التعارف، بيروت.

2- الاستبصار: للشيخ الطوسي، دار الأضواء، بيروت.

3- الأعلام: لخير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت.

4- أمل الآمل: للحرّ العاملي، مكتبة الأندلس- بغداد.

5- تذكرة الفقهاء: للعلّامة الحلّي، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم.

6- تكملة أمل الآمل: للسيّد حسن الصدر، منشورات المكتبة العامة للمرعشي النجفي، قم.

7- تهذيب الأحكام: للشيخ الطوسي، افسيت دار الأضواء، بيروت.

8- جامع المقاصد: للمحقّق الكركي، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم.

9- الذريعة: لآقا بزرك الطهراني، افسيت دار الأضواء، بيروت.

10- الذكرى : للشهيد الأوّل، مكتبة بصيرتي، قم.

11- روضات الجنّات: للميرزا باقر الخوانساري، مؤسّسة إسماعيليان، قم.

12- رياض العلماء: للميرزا الأفندي، منشورات المكتبة العامة للمرعشي النجفي، قم.

13- سلافة العصر: للسيّد علي خان المدني، المكتبة المرتضوية، طهران.

14- شرح العناية: لمحمّد بن محمود البابرتي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

15- شرح فتح القدير: لكمال الدين محمّد بن عبد الواحد، دار إحياء التراث العربي، بيروت.


1- 1 في «م»: عليم.
2- 2 ورد في نهاية «م» و «ج»: تمّت في 17 شعبان تسع وسبعين وألف.

ص: 49

16- عمدة القاري: لبدر الدين أبي محمّد محمود بن أحمد العيني، دار الفكر، بيروت.

17- فتح العزيز: لأبي القاسم عبد الكريم بن محمّد الرافعي، دار الفكر، بيروت.

18- الكافي: لثقة الاسلام الكليني، افسيت دار الأضواء، بيروت.

19- الكفاية: لجلال الدين الخوارزمي الكرلاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

20- لؤلؤة البحرين: للشيخ يوسف البحراني، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم.

21- المجموع: لأبي زكريّا محيي الدين بن شرف النووي، دار الفكر، بيروت.

22- مسالك الأفهام: للشهيد الثاني، مؤسسة المعارف الاسلاميّة، قم.

23- المغني: لموفّق الدين وشمس الدين ابنَي أبي قدامة، دار الفكر، بيروت.

24- منتهى المطلب: للعلّامة الحلّي، إيران.

25- من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم.

26- نقد الرجال: للسيّد مير مصطفى التفريشي، انتشارات الرسول المصطفى ، قم.

27- نيل الأوطار: لمحمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، دار الجيل، بيروت.

28- وسائل الشيعة: للحرّ العاملي، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم.

الهوامش:

لقاء و حوار مع سماحة آية اللَّه الهاشمي الرفسنجاني

ص: 52

لقاء و حوار مع سماحة آية اللَّه الهاشمي الرفسنجاني

: سماحة آية اللَّه الهاشمي! نشكركم في بدء هذا اللقاء على ما خصصتموه لنا من وقتكم وكما تعلمون أنّ مؤتمر الحجّ العظيم يُقام في كلّ عام على أبهى صورة بحضور حشد غفير من مسلمي العالم. نرجو أن تبيّنوا لنا كم مرّة تشرّفتم إلى حجّ بيت اللَّه الحرام، ومتى كان أوّل سفر لكم إلى تلك الديار؟

الشيخ الهاشمي: تشرّفت بحجّ بيت اللَّه الحرام أربع مرّات حتّى الآن؛ مرّتان قبل الثورة، ومرّتان بعد انتصار الثورة. كنت في السفر الأوّل شابّاً صغيراً حينما عزم والدي ووالدتي على الذهاب إلى مكّة. وبما أنني كنت أدرس العلوم الدينية وأعرف شيئاً من اللغة العربية، وكان بإمكاني أن أكون لهما عوناً، فقد اصطحباني معهما. وكان ذلك الحجّ نيابة عن شخص متوفّى من أقاربنا.

وصادف سفرنا حينذاك في فصل الصيف وكان الجوّ حارّاً، والمستلزمات الضرورية لدى القوافل قليلة جدّاً. وكان السفر يتّصف بالمشقّة الشديدة؛ إذ لم يكن هناك ماء وطعام بالقدر الكافي، ولم يكن النقل يجري على النحو

ص: 53

المطلوب. وخلاصة القول هي أنّ شؤون الحجّ كانت تدار إدارة ضعيفة.

وكان المطوّفون يؤذون الحجّاج كثيراً.

وفي المرّة الثانية ذهبت أيضاً على نحو مشابه لتلك الصورة، غير أنّ سفري في هذه المرّة كان برفقة بعض طلبة العلوم الدينية المتوائمين فكرياً، فكُنا أكثر ارتياحاً من هذا الجانب. بيد أنّ الوضع لم يختلف عمّا كان عليه في السابق.

وعلى العموم فإنّ السفر إلى مكّة لم يكن قبل الثورة أمراً سهلًا.

: كم كان عمركم في الحجّ الأوّل؟

الشيخ الهاشمي: أظنّ أنّ ذلك كان في عام 1952 أو عام 1953 وكان سنّي فيه أقلّ من عشرين سنة.

: ما هو شعوركم في أوّل مرّة وقد وقع فيها بصركم على بيت اللَّه الحرام؟

الشيخ الهاشمي: لقد انتابني شعور غامر؛ فالإنسان في سنّ الشباب يتّصف عادةً بالشوق والاندفاع، وكنت طوال سفري أُفكِّر في كل لحظة وأتمنّى أن أرى الحرم والكعبة، وبعد رجوعي إلى إيران كنت كلّما أتوجّه نحو القبلة للصلاة أشعر وكأنني داخل الحرم، وبقي هذا الشعور يساورني على نحو قوي. كان الحجّ في تلك الأيّام من الأماني التي قلّما تُنال.

وبعد انتصار الثورة ذهبت مرّة واحدة لأداء الحج الواجب، وكان آخر سفر لي في العام الماضي لأداء العمرة.

: بما أنّكم تشرّفتم بزيارة مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة قبل وبعد

ص: 54

الانتصار الباهر للثورة الإسلامية، ما هي التغييرات التي شاهدتموها في إقامة شعائر الحج؟

الشيخ الهاشمي: في تلك الأيام أيضاً كان الحجّاج يتّصفون بحالات روحية ومعنوية طيبة، فهذه المشاعر لا تختص بحالة الحجّاج في الوقت الحاضر. غير أن هذا السفر كان له انعكاسات أكثر في بناء الذات وتهذيب النفس بسبب المصاعب التي كانت تتخلّله. كُنّا في تلك المرحلة نعيش في أجواء التقية، وكُنّا على استعداد لتحمّل أيّ لون من ألوان الرياضة الروحية.

كانت العربية السعودية تعاني حينذاك من أزمة شديدة في المياه، وكُنّا مضطرين لشراء الماء حتّى لأغراض الغسل!

كانت القوافل تعاني صعوبة في توفير الطعام؛ إذ كان توفير الطعام في تلك الأجواء الحارة موكولًا إلى الحجّاج أنفسهم، أمّا في الوقت الحاضر فقد أُخذ بنظر الاعتبار توفير مستلزمات رفاهية خاصّة للزوّار. ويوجد في كل قافلة شخص أو عدّة أشخاص كمرشدين روحيين ينهضون بمهمّة تعليم وإرشاد الحجّاج، وتوجد هناك أيضاً برامج ثقافية وإعلامية من قبيل توزيع النشرات باللغة الفارسية للحجّاج الايرانيين.

وبعبارة أخرى: أن وضع الحج حالياً لا يمكن مقارنته بما كان عليه قبل الثورة. في تلك الأيّام كان أكثر الحجّاج يتوجّهون إلى الحج وهم يحملون مشاعر الغربة، حتّى كان يُتخيَّل بأن التقشّف والرياضة الروحية كانت جزءاً من مناسك الحجّ!

أمّا من حيث العلاقات الاجتماعية والدينية والسياسية فلم تكن الحالة المطلوبة هي الحالة السائدة في حج ما قبل الثورة. لكن الحج اتخذ طابعاً سياسياً في مقطع تاريخي تزامن مع جهاد الشعب الجزائري مثلًا. كان الجزائريون والفلسطينيون ناشطين في الحج، وكانوا يجمعون التبرّعات

ص: 55

للمجاهدين ويوزّعون البيانات في الحرم، وكُنّا نشاهد الجزائريين والفلسطينيين يلقون الخطابات الثورية هنا وهناك، وكان الكلام الذي نسمعه هناك بمثابة شي ء جديد متحف لنا. وكُنت أرى في ذلك الحين أنّ الحج مقرون بالسياسة. وكان يترآى لي أنّ المملكة العربية السعودية لا تمانع من قيام مجاهدي البلدان الاخرى بنشاط إعلامي سياسي على أراضيها. لقد اتّخذت تلك الشعائر السياسية في الوقت الحاضر طابعاً أكثر رسمية وصارت تُعقد على شكل «مراسم البراءة» وما شاكلها.

كان يحصل أحياناً أننا نتباحث مع علماء السنّة، وكانت أكثر النقاشات وتبادل الآراء يدور حول محور المسائل الكلامية وكذلك المسائل السياسية في إطار جهاد الشعبين الفلسطيني والجزائري، على اعتبار أنّهما كانتا تمثّلان القضيّتين الأساسيّتين في العالم الإسلامي آنذاك.

والحقيقة هي أنني لم يكن لدي في السفرين الأوّلَيْن استعداد كافٍ في مجال المباحث السياسية والحكومية.

: سماحة الشيخ الهاشمي! بما أن عام 1378 ه. ش [وفقاً للتقويم الهجري الشمسي المتخذ في إيران كتقويم رسمي للبلاد] قد أُعلن من قبل قائد الثورة باسم عام الإمام الخميني (قدّس سرّه)، يرجى من سماحتكم أن تسلّطوا الأضواء على الرؤى العامّة لسماحة الإمام الخميني ونظرته إلى مختلف أبعاد الحجّ.

الشيخ الهاشمي: للإمام الخميني أقوال معروفة بشأن الحج. وقد وصف الحج ب «المؤتمر العبادي- السياسي». هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بما أنَّ سماحته كان يحمل نزعة تعبّدية ويميل إلى العرفان والسلوك، فهو كان يعير أهمّية كبيرة للأبعاد المعنوية لهذه الفريضة، ولا ينبغي أن يتوهّم أحد بأنّه

ص: 56

كان يعطي الغلبة للمسائل السياسية في الحج. وأنا إنّما أطرح هذا الادّعاء بناءً على ما كنت أستوحيه من كلامه قبل الثورة. فأنا أتذكّر بأننا حينما كُنّا نتحدّث عن الحج في مجالسه آنذاك، ما كان يرضى لنا بأن نعطي الحج نشاطاً سياسياً واسعاً بحيث يطغى على المسائل العبادية.

ولا زال يحضرني أنّ سماحته كان يؤكّد على هذا الحديث، وهو أن الحاج يصبح بعد الطواف وكأنّه قد وُلِد من جديد. إذاً أقلّ ما ينبغي استحصاله من الحج هو أن يتطهّر الحاج ممّا لحق به من دنسٍ في الماضي، وعند العودة إلى وطنه يبدأ حياته من جديد بتلك الطهارة التي ولدته عليها أُمُّه.

أمّا بالنسبة إلى الأُفق السياسي في الحج فينبغي القول: إنّ الإمام الخميني قد أحيا هذا الجانب الذي كان متروكاً. وممّا يسترعي الانتباه هو أن هذا البُعد قد دخل في فلسفة الحج كحكم ديني وليس بالضرورة كنظرية سياسية. والحج الحقيقي كان مقروناً بالسياسة منذ بدايته، غير أن هذا الجانب قد أُهمل منذ مدّة مديدة، وبقي البُعد السياسي للحج يجري على نحو غير رسمي، ويقتصر مجاله على عدد محدود من القوى الثورية والجماعات المجاهدة. بيد أن هذا النوع من النظرة إلى الحج لم تكن شائعة بين عموم الناس. ولم يكن اتخاذ الحج كأرضية للعمل السياسي أمراً مقبولًا لدى الحكومات. وما كانت الحكومات ترجو من الحجاج الذين تبعثهم لزيارة بيت اللَّه سوى الاكتفاء بالمسائل العبادية للحج.

وأنا أظنّ أن هذا التغيير الذي حصل في نظرة الحكومات إلى فلسفة الحج كان من ابتكار الإمام الخميني، ولكن كان له وجود سابق لدى الأحزاب والتيارات والحركات السياسية التي كانت تستفيد من الحج لأهدافها بسبب ما فيه من حشد جماهيري غفير.

ولمّا كان الإمام الخميني إلى جانب قيادته، مرجعاً للتقليد، فقد نفذ

ص: 57

كلامه- ولحسن الحظ- في أعماق قلوب أبناء شعبنا والكثير من أبناء الشعوب الأخرى ، وأدّى إلى أن تصطبغ شعائر الحج بصبغة جديدة وذات طابع رسمي. ولكن من المؤسف أن هذا المكسب العظيم تلوّث بمسائل مثيرة للاختلاف والنزاع والتخاصم وغيرها من المشاكل والحوادث الأخرى التي خلقت معوّقات في طريق تكامله.

وأعتقد لو أننا أرسينا أسس حركة البراءة هذه وفقاً لرؤية واقعية وبالتنسيق مع الحكومة السعودية وبعض الدول المؤثِّرة بحيث يحظى طرح المسائل السياسية للعالم الإسلامي وللقضايا الإسلامية الدولية في الحج بقبول رسمي ولا يجابه معارضة من بقية الدول الإسلامية، فسيكون لها تأثير بنّاء إلى حدٍّ بعيد.

: لا شكّ في أن مؤتمر الحج يشكّل أهم تجمّع إسلامي، وتشارك في هذا الملتقى الإسلامي الواسع تيّارات شتّى من تيارات الثقافة الإسلامية وشخصيات يحملون رؤى مختلفة. فما هي في رأي سماحتكم الفوائد المهمّة التي يمكن جنيها من شعائر الحج، خاصة في المجال الثقافي؟

الشيخ الهاشمي: إنني اعتبر المعطيات السياسية لهذا السفر الديني مهمّة إضافة إلى ما فيه من فوائد ثقافية. وعلى كل حال فإنّ المناخ الذي يوفّره حضور الحجّاج هناك يختلف عن الأجواء الفكرية والثقافية الاخرى ؛ فالشخص الذي يتوجّه إلى بيت اللَّه الحرام لأداء مناسك الحج ينطلق من داره إلى هناك بنوع من الاستعداد والتأهّب لاستلهام الحقائق الثقافية والمسائل العرفانية والحياة المعنوية التي سيلقاها هناك. والجو الثقافي الذي يعيشه الحجّاج هناك يختلف عن الأجواء الثقافية الموجودة في ملتقيات أخرى كالملتقيات الشعرية، أو المسابقات الرياضية أو المؤتمرات السياسية

ص: 58

والاقتصادية وما شاكل ذلك. فالحج يسوده مناخ خاص، والمستمعون فيه مستمعون أجلّاء. ولو أنّ البعض هناك يقلّلون من حدّة العصبيات القومية والمذهبية ويتحلّون بدل ذلك بروح متحرّرة؛ لأصبح ذلك المكان موضعاً للبحث الجاد في سبيل اختيار الأفضل، ولتسنّى لبلدان العالم الإسلامي أن ترسل إلى هناك مفكِّرين يحملون رؤًى فكرية متباينة، لكي يطرحوا هناك الشؤون الثقافية والاجتماعية لبلدانهم في أجواء ودية وحرّة وبعيداً عن التعصّب والمطبّات التي تعترض سبيل التفكير، امتثالًا لأمر وجادلهم بالتي هي أحسن واتخاذ الخطوات الجادّة لبلوغ وضع أفضل من خلال الحوارات البنّاءة المشفوعة بالتدبير السليم.

تعلمون أنّ العالم الإسلامي يعيش مشاكل كثيرة، ابتداءً من اندونيسيا وجزيرة تيمور، وإلى المغرب، والصحراء الغربية، والجزائر، وايران، والعراق، وأفغانستان، وتركيا، وافريقيا، وأكثر بلدان آسيا الوسطى والقوقاز، بل لا يوجد لدينا أساساً مكان خالٍ من المشاكل.

وحتّى في البلدان الغربية كأمريكا واوربا حيث يعيش المسلمون كأقلّية، يلاحظ أن المسلمين يواجهون هناك مشاكل من نوع خاص. وحينما تؤخذ بنظر الاعتبار فرصة فريدة من نوعها اسمها الحج- وهي فرصة تُتاح سنوياً بشكل تلقائي وبدون حاجة للدعاية والإعلان، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار العمرة أيضاً تكون القضية أشدّ حساسية- فمعنى ذلك أننا نستطيع أن نقيم على الدوام تجمّعاً عالمياً ضخماً يتجدّد حُضّارُه باستمرار، بيد أن موضوعاته يمكن تكرارها، ثمّ تدوّن نتيجة المناقشات وتطبع سنوياً ككتاب يوزّع في كلّ مكان. ويجب أن تتولّى العربية السعودية هذا العمل بصفتها الدولة المتولّية للحج.

من حسن الحظّ أن علاقاتنا حالياً مع المملكة العربية السعودية تسير

ص: 59

نحو التحسّن، والوقت مؤاتٍ حالياً لنطرح أفكارنا عليهم، ونتوصّل إلى تنسيق في هذا المجال. ويجب أن تشارك مصر أيضاً في القرارات التي تتخذ بصفتها بلداً فيه جامعة دينية ومفكّرون كثيرون. ولابدّ من أن تكون هناك نواة ثابتة تُؤخذ بنظر الاعتبار عند بحث المسائل وإعلان نتائجها النهائية.

ولو تحقّقت هذه الغاية لاتخذت حصيلة العمل طابعاً مركزياً يتّسم باستعداد نفسي فريد لا نظير له في أيّ مكان من العالم ولا حتى في منظمة الأمم المتّحدة.

تعلمون أنّ الامم المتّحدة يوجد فيها مندوبون رسميون من جميع البلدان ولهم مهام معيّنة. في حين أن مركز مؤتمر الحجّ يعقد إلى جوار منطقة مقدّسة سواء في المدينة أم في مكّة وهو غني بخصائص وطاقات هائلة وفّرها الباري تعالى للعالم الإسلامي. فلو أننا تحرّكنا قليلًا وتمكّنا من استغلال تلك الطاقات، واستفدنا من تلك البقعة بما يتناسب ومتطلّبات العصر، لوجد كلام الإمام الخميني الذي اعتبر فيه الحج مؤتمراً مهمّاً ودائماً طريقه إلى حيّز التطبيق.

: أنتم على بيّنة من أن لأعمال ومناسك الحج أسراراً ورموزاً كثيرة، نذكر على سبيل المثال أن شعائر الطواف أو السعي بين الصفا والمروة أو الوقوف بعرفات لها معانٍ يستشعرها المرء بكلّ جلاء، وبما أنّ سماحتكم على معرفة بمختلف الأديان وشتّى الأفكار، نرجو أن تبيّنوا لنا الأسرار والرموز التي تستوحونها من شعائر الحج، وما هي الدروس التي نستقيها منها؟

الشيخ الهاشمي: سأجعل سفري الأوّل للحج أساساً للإجابة عن سؤالكم هذا، ومع أنَّ ذلك السفر مضت عليه مدّة طويلة، بيد أن حلاوته لا زالت عالقة في

ص: 60

ذهني. فالحاج يعتريه شعور جديد منذ اللحظة التي يتحرّك فيها من داره بقصد زيارة بيت اللَّه. وعندما يكون في الطريق ينهمك بقراءة أذكار معيّنة.

وعندما يركب الطائرة ويلبّي يعلن التزامه بعهده مع اللَّه طوال الطريق وعلى جميع الأحوال، ويقطع عهداً على نفسه بأن يكون عبداً مخلصاً للَّه.

وتبقى هذه الحالة مهيمنة على الإنسان منذ البداية وإلى حين انتهاء مناسك الحج، وتقترن بحالات من الشدّة والضعف.

وأنا شخصياً شعرتُ منذ لحظة ارتدائي لثياب الإحرام بأنني دخلت عالماً جديداً مختلفاً عمّا سَبَقه. فخلع الثياب السابقة، والاكتفاء- بعد الاغتسال- بستر البدن بثوبي الإحرام يخلق لدينا شعوراً بالانقطاع عن جميع الوشائج غير الإلهية، وأننا قد فوّضنا أنفسنا إلى اللَّه وأننا عبيد حقيقيون له. ومن المحتمل أنّ هذا الشعور وهذا الشغف يحصل للآخرين أيضاً.

في المرّة الاولى التي سرتُ فيها نحو الحرم الطاهر لم أكن واثقاً هل خطواتي ستساعدني على المسير ريثما أصل إليه أم لا؟ تصوّر اللحظات التي أدخل فيها بيت اللَّه ويقع فيها بصري على ذلك البناء! تُعَدُّ حالات عرفانية وثمينة جدّاً، ولكنّها في الوقت ذاته لا دوام لها، ومن الممكن أن تتكرّر غير أنّها لا تحمل سمتها الروحية الأولى . شعرت في اللحظة التي دخلتُ فيها من الباب الأخير، ووقع بصري على ذلك البناء الحجري بأنني لا أودّ أن أغمض عيني أو أُحوّل عنه بصري إلى مشهد آخر. وكنت لا أرى قدمي إلّا بصعوبة بالغة.

عندمايطوف الحاج حول بيت اللَّه أوّل مرّة، يرى الحجر الأسود، ويشاهد مقام إبراهيم، وهذه المشاهد تسمو كلّها في تلك اللحظة بروح الإنسان.

وهكذا الحال أيضاً في المرّة الأولى التي يرى فيها الحاج الصفا والمروة

ص: 61

ومنى وعرفات؛ إذ تتسارع فيها دقّات قلبه. وأنا لا أرى- من الوجهة المعنوية- فارقاً بين هذه الأماكن. وأعتقد بأنَّ هذه المشاعر تبلغ ذروتها عندما يقع البصرُ على الكعبة ويكمن سرُّ ذلك كلّه في الشعور بالارتباط الوثيق مع اللَّه، واستشعار العبودية بين يديه. في ذلك الموقف تمرّ المشاعر أمام عين الإنسان، ومتى ما بلغت نقطة معيّنة تعتريه عندها مشاعر جيّاشة ويواصل مسيرته؛ وهذا أشبه ما يكون برسم خط تصاعدي وتنازلي على ورقة.

إنّ زائر بيت اللَّه الحرام يستلهم المعاني من رمال صحراء منى وحتّى من أبواب الحرم ومن المرايا والشمعدانات، ومن كلّ واحدة من تلك المفردات، توحي إليه بشعور معيّن. وأنا أتحدّث هنا عن تجربتي الشخصية فحسب، ولا أدري إن كان الآخرون أيضاً تراودهم هذه المشاعر نفسها، خاصة في بداية الدخول إلى ذلك المكان المقدّس، أم لا؟ لا يُستبعد أن كلّ شخص تبلغ مشاعره الدينية وعشقه الإلهي ذروته في نقطة معيّنة بما يتناسب مع حالته وطبيعته.

وأقول في ضوء ما مرّ ذكره: إنني لستُ بصدد إثبات أن نكتة جديدة قد انكشفت لي في منى وعرفات والكعبة وما إلى ذلك، كلّا، ولكن كانت هناك حالة عرفانية دائمة ولكنّها عرضة للصعود والهبوط؛ ومثل ذلك كمثل إنسان يرتقي تلّاً ضمن سلسلة تلال؛ ثمّ ينحدر منه، فالمسير متواصل ولكن الحالات متغيّرة.

: لاحظنا في السنوات الأخيرة حصول تغييرات كثيرة في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة. فما هو تقييم سماحتكم لها؟

الشيخ الهاشمي: إنني أرى في هذه التغييرات شيئاً إيجابياً. وقد شاهدت مشاريعهم

ص: 62

العمرانية في المرّة الأخيرة التي سافرت فيها إلى المملكة العربية السعودية.

وقدّم لي المهندسون والمعماريون توضيحات وافية في هذا المضمار، واطلعت على تلك المشاريع وأهدافها. ففي ذلك السفر ذهبت إلى أحد المراكز العلمية في جامعة أُمّ القرى ، وأعتقد أنهم كانوا قد أعدّوا لي معرضاً خاصّاً يتضمّن مشاريعهم الموضوعة قيد البحث من أجل الارتقاء بمستوى الخدمات التي تُقدّم للزوّار، وكمثال على ذلك عرضوا دراساتهم حول بئر زمزم منذ بداية ظهوره، وحينما يدقّق الناظر فيه يعرف حتى سبب ارتفاع وانخفاض ماء زمزم، وما هي العوامل المؤثّرة فيه، وعرضوا أمام أنظار المتفرّجين طروحات لتقليل شدّة الزحام فيما يخصّ رمي الجمرات والمشاكل التي تواجه الحجّاج بسبب كثرة العدد. وكان هناك كلام حول العدد المتزايد للحجاج سنوياً، وأن وجود مثل هذا العدد في بلد واحد يؤدّي إلى حدوث بعض المضاعفات. ثمّ طُرحت على بساط البحث كيفية الاستفادة من أوقات السنة الأخرى حيث يقلّ الازدحام. وبعد اطلاعي على تلك المشاريع أدركت بأنَّ الحكومة السعودية تعمل برغبة وشعور بالمسؤولية.

ومن جملة الأعمال الباهرة التي أنجزوها ويمكن أن يُضرب بها المثل هو توسيع الحرم والشوارع المفضية إليه. وأنجزوا في منى مشروع نقل الماء الحلو، ومخازن ضخمة ومنشآت هائلة لتحلية مياه البحر، وقد شجّروا أماكن كثيرة من منى وعرفات، وكانوا يفكّرون بإنشاء أبنية بدلًا من الخيام التي كانت على الدوام سبباً للمشاكل. إلّاأن النكتة الجديرة بالالتفات هي أن هذه الأبنية يُستفاد منها مدّة ثلاثة أيّام فقط وتبقى سائر أيّام السنة خالية لا يُستفاد منها. واستقر رأيهم في نهاية المطاف على أن نصب الخيام أفضل! على أن تكون خياماً مجهّزة وكفيلة بتوفير الراحة للحجاج والحيلولة دون حدوث مخاطر.

ص: 63

وقاموا بأعمال كبيرة في المدينة المنوّرة على جوانب الحرم الشريف.

وأنشأوا خارج المدينة تأسيسات للتهوية تمتدّ إلى مسافة سبعة أو ثمانية كيلومترات تحت سطح الأرض وتنتهي بمرأب للسيارات، وهو عمل جدير بالمشاهدة. كما وتوجد لديهم مشاريع لتوسيع جوانب الحرم الشريف. وأعتقد أنّ خطواتهم في هذا المجال محسوبة ومنطقية في ضوء الإنفاق السخي الذي يبذلونه في هذا المجال، وانطلاقاً من المشاريع الموضوعة قيد التنفيذ.

: تعدّ صيانة الآثار الوطنية والدينية من جملة الأمور التي تُخصص لها استثمارات هائلة في العالم كلّه. وقد لاحظنا في السنوات الأخيرة أن تلك الآثار المذكورة قد دُمّرت أو أصبحت معرّضة للأفول بفعل زحف المشاريع العمرانية. فما العمل الذي ينبغي القيام به- في رأي سماحتكم- من أجل أن تتواصل مشاريع العمران إلى جانب الحفاظ على الآثار الدينية القيّمة؟

الشيخ الهاشمي: لقد وضعتم اصبعكم دقيقاً على نقطة ضعف الحكومة السعودية، وقد نبهتُهُم إلى هذا الموضوع أيضاً. عندما كُنّا في الرياض أخذونا لمشاهدة قلعة كانت قد سقطت في أيدي آبائهم السعوديين عندما أرادوا البدء بمحاربة خصومهم. وهذه القلعة موضوعة حالياً تحت حراسة مشدّدة وهم يحفظون حتّى بعض التفاصيل التاريخية عن الطرق التي دخلوا منها والمعارك التي دارت فيها. وبعد الانتهاء من زيارة تلك القلعة المثيرة كتبتُ في دفتر المذكّرات الذي وضعوه هناك: أنّ الحفاظ على مثل هذه إجراء جدير بالثناء، ويا حبّذا لو يجري على الأماكن الأخرى في هذا البلد.

يوجد في كل شبر من أرض المدينة المنوّرة أثر ومَعْلَمٌ من عهد

ص: 64

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهناك مليارد ونصف مليارد مسلم مشدودة أبصارهم إلى هذه الأرض ويعشقونها من أعماق قلوبهم. فالأماكن التي جلس فيها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أوقام فيها بعمل تاريخي معيّن، وكذلك دُور الصحابة والتابعين والأئمّة المعصومين ينبغي أن لا تُهمل وتتعرّض للتخريب على مرّ الزمان.

ومن جهة أخرى اثرتُ هناك مبحثاً حول ما يُستشفُّ من القرآن الكريم من وجود آثار للأنبياء السابقين في العربية السعودية، أَلا ينبغي السعي في سبيل إحياء تلك الآثار واستخراجها من تحت الأرض؟ ألا يجب أن يجري إعداد تعريف بها وتقديم دعوة عامّة إلى العالم الإسلامي لزيارتها؟ ومن المؤسف أن هذه الإجراءات لم تُنفَّذ، ويُعزى أحد أسباب ذلك إلى أننا لم تكن لدينا علاقات سليمة مع المملكة العربية السعودية. ولو كانت لدينا في السنوات السابقة مثل هذه العلاقات الحسنة الموجودة حالياً مع هذا البلد؛ لكُنّا قد استطعنا المشاركة في مشروع توسيع الحرم. ومن المؤسف أن بعض الآثار التاريخية في هذا البلد قد مُحيت من الوجود كلياً ولا توجد إمكانية لإعادة بنائها. ولكن يمكن بطبيعة الحال بناء أماكن مشابهة لها في مواضع أخرى ، وقد عرضت عليهم هذا الاقتراح.

وأنا أعتقد بإمكانية الحفاظ على تلك الآثار التي تُعدُّ بمثابة هوية للعالم الإسلامي، إلى جانب مواصلة تجميل المدن، ولكن توجد هناك في السعودية قيود في هذا المجال وذلك بسبب وجود مذهب خاص وبسبب الرؤية التي يحملها علماؤهم. وأنا لم تسنح لي الفرصة الكافية للتباحث مع علمائهم. وهذه واحدة من النقاط التي يجب القيام بها حيث ينبغي أن نتباحث مع علمائهم ونثبت لهم أنّ العناية بالبقاع الشريفة لا تُعتبر شركاً أو عبادة أوثان. ولا ريب في أنّ التباحث مع العلماء السعوديين والتوصّل إلى نقطة مشتركة من خلال هذه المباحث يعدّ أمراً واجباً وملحّاً.

ص: 65

لا تواجه العربية السعودية مشكلة مالية في هذا المجال. وحتى إذا كانت لديها، يمكنها أن تدرجها في جدول أعمال منظمة المؤتمر الإسلامي، كي تخصص البلدان الأخرى مبالغ لغرض إحياء الآثار التاريخية في هذا البلد على اعتبار أن هذه المسألة تخصّ العالم الإسلامي كلّه.

وعلى كل الأحوال فأنا أظنّ تعصّب الزعماء السعوديين أصبح أقلّ على إثر المباحثات التي أجريناها معهم، أو لأنّهم اكتسبوا على مرّ الزمن رؤية أكثر انفتاحاً، وسنشهد في المستقبل تطوّرات على هذا الصعيد بإذن اللَّه.

: نظراً إلى أنكم تتحدّثون عن الحج وأعماله باندفاع وحماس فائق، وحينما تتحدّثون يبدو التأثر واضحاً عليكم، سؤالنا في هذا المجال هو:

في أي أعمال الحج يبلغ الحج ذروة عظمته في رأيكم؟

الشيخ الهاشمي: تجربتي الخاصّة كما أشرت سابقاً هي أنني انتابني شعور خاص عند ارتداء ثوبي الإحرام، وبقي هذا الشعور يرتفع حيناً وينخفض حيناً آخر.

وفي الكعبة وعرفات ومنى تبرز مثل هذه الحالة أيضاً؛ خاصة في منى . كان المبيت في ذلك المكان مرهقاً جدّاً في العام الذي ذهبتُ فيه، ونتيجة لذلك الإرهاق تتسامى روح الإنسان، غير أن الذروة النهائية وقمّة هذا المنحنى الافتراضي تكون عند رؤية الكعبة. وهذه تجربتي الذاتية. ولعل تجربة الآخرين تكون على نحو آخر.

: كانت إحدى رؤى الإمام الخميني للحج هي إيجاد الوحدة الإسلامية وإزالة أسباب التوتّر، فكيف تقيّمون نجاح سماحته في هذا الميدان؟

الشيخ الهاشمي: عندما ذهبنا إلى مكّة قبل انتصار الثورة كُنّا قلقين حول كيفية أداء الأدعية والأعمال الخاصّة بالشيعة، وكانت تساورنا هواجس حول جواز

ص: 66

أو عدم جواز المشاركة في صلاة الجماعة للسُنّة.

ومن دواعي السرور أن سماحة الإمام الخميني قد اقتلع هذه الهواجس من نفوسنا بسلاح الفتوى ، وذلك بقوله: عندما تذهبون إلى هناك نحّوا النزعات المذهبية جانباً وشاركوا في صلاة جماعتهم وتصرّفوا مثلهم كي لا تكونوا مدعاة للفرقة... فجعل الحجّ أطيب طعماً عبر ما أبداه من تسهيلات في هذا المجال.

وأرى لزاماً علينا هنا أن نعرب عن تقديرنا لآراء الإمام رحمه الله، ومن بعده للمراجع الآخرين الذين قدّموا فتاوى بالترخيص والتخفيف. ونحن لا نواجه في الوقت الحاضر مشكلة في هذا الجانب. وشباب اليوم أقل معرفة بالهواجس المثيرة للاضطراب التي كان يعاني منها حجّاج الأمس.

: كيف تقيّمون دور فتوى سماحة الإمام بشأن تعامل الإيرانيين مع سائر الحجّاج؟

الشيخ الهاشمي: كان لها تأثير فاعل في تخفيف حدّة الفرقة والاختلافات. وأدرك جميع الناس بأنَّ الاتحاد وتآلف القلوب ينطوي على قيمة أكبر من الجمود على ظواهر بعض مناسكنا. وهناك طبعاً من يذهب إلى القول بأننا يجب أن نعطي الأصالة لهذا الجانب في حين أن الأمر ليس كذلك.

: لاحظنا في السنوات الأخيرة أن العلاقات الايرانية السعودية شهدت تطوّراً باهراً، وأخذت تسير نحو التحسّن، وكان لسيادتكم دور أساسي في ذلك. نرجو أن تبيّنوا لنا كيفية بلورة هذا التطوّر ومدى ضرورته؟

الشيخ الهاشمي: قررت منذ أن أصبحت مسؤولًا تنفيذياً أن أتعامل مع المملكة العربية السعودية من باب الصداقة. وكان واضحاً لديَّ بأنّنا لو كانت لنا

ص: 67

علاقات طيبة مع السعودية وكانت هناك ثقة متبادلة بيننا، لكانت الأمور تسير على نحو أفضل فيما يخص قضايا النفط، والحرب، والتطوّرات السياسية في المنطقة والنشاطات الدينية والتعليمية التي نمارسها في العالم.

بدأت نشاطي في هذا الاتجاه منذ مؤتمر قمّة البلدان الإسلامية الذي عقد في السنغال. حيث كان الأمير عبداللَّه هناك، وتقرّر أن يجري لقاء بيننا. كان من المقرّر في البداية أن يأتي هو إلى الجناح الذي كنتُ أنا فيه من قاعة المؤتمر. ولكن اتّضح لاحقاً بأنّه كان يتوقّعني أن أذهب أنا إليه! وذهبت أنا إليه وكان دافعي إلى ذلك سبب واحد وهو شعوري بأنّ هذا التنازل سيساعد على تحسين العلاقات. ووجهت هناك دعوة إلى الملك «فهد» لزيارة ايران، ولكنّهم قالوا: بأنّه يعاني من مشاكل صحّية في رجله وركبته ويتعذّر عليه السير.

وعلى العموم فقد كنت طوال عهد مسؤوليتي مهتّماً بحلّ المسائل العالقة بين ايران والسعودية. ولكن كانت هناك معوّقات ظاهرية من قبيل «مراسم البراءة»، وأخرى خفية تتمثّل في العراقيل التي كانت تضعها أمريكا والآخرون على هذا الطريق.

إلّا أنَّ الرسائل والزيارات المتبادلة كانت متواصلة ممّا أدّى إلى زوال حالة التنافر وإلى ترطيب أجواء العلاقات. وبلغ هذا النجاح ذروته في إسلام آباد في باكستان وفي آخر اجتماع لرؤساء بلدان المؤتمر الإسلامي، حيث كنّا قد اتّفقنا أنا والأمير عبداللَّه مسبقاً على عقد لقاء بيننا. ولكن كان من المتوقّع أن يأتي هو إليَّ هذه المرّة في ضوء ما حصل في اللقاء السابق حيث كنتُ أنا الذي ذهبت إليه في السنغال. ووصلني الخبر بأنَّ الأمير عبداللَّه ينتظركم! فقلت: نحن ننتظر أن يأتي هو.

ص: 68

ومع ذلك نهضتُ من مكاني وذهبتُ إلى قرب غرفته، وفجأةً خرج هو من غرفته وقال: أريد المجي ء إلى غرفتك! قلتُ: لا فرق في ذلك، ها أنا ذا قد جئت الآن! هذه أيضاً غرفتنا. ولكنّه لم يوافق. ويبدو أن المعتمدين الذين كانوا ينقلون الرسائل الشفويّة بين غرفتينا قد أخطأوا وألغوا الموعد الأوّل الذي كان من المقرّر أن يأتي فيه الأمير عبداللَّه إلى غرفتي. وقد يكون لذلك العمل سبب آخر.

وعلى كل حال، حينما وصلت الامور إلى هذا الحدّ، جاء هو إلى غرفتي وتحدّثنا هناك حول جميع القضايا بشكل صريح. وكان أحد الموضوعات الأساسية التي تحدّثنا حولها هو أن يعقد المؤتمر القادم لزعماء البلدان الإسلامية في طهران. والعجيب في ذلك هو أن البيان الذي صدر في جدّة قبل ذلك اللقاء بيوم واحد كان قد عيّن مكاناً آخر لعقد المؤتمر القادم.

فطرحت المسألة على الأمير عبداللَّه في ذلك اللقاء وطلبت توضيحاً لذلك الموقف. وكان وزير خارجيتهم موجوداً واستطعنا حلّ المسألة هناك.

وكانت تلك هي الثمرة الأولى لذلك اللقاء. وبعد ذلك حلَّ موعد الغداء وكُنّا في حينها ضيوفاً على السيّد نواز شريف رئيس وزراء پاكستان آنذاك، وفي تلك الأثناء ركب ولي العهد السعودي في سيارتي وخرجنا وسط أجواء مثيرة مدهشة، وشاهد عدد كبير من الأشخاص هذا الحدث النادر. فأنتم تعلمون بأنّ للشخصيات حماية وموكب شرف وكوكبة ومرافقين. إلّاأنّه تركها كلّها وركب في سيارتي، وكان عمله هذا خلافاً للأعراف السائدة، وجاء كثمرة لذلك الاجتماع الودّي والصريح. وهو موقف لم يبق خافياً على من شاهدوه.

ومنذ ذلك الحين لاحظت أن الكثير من المسائل التي كانت عالقة بيننا قد حُلَّت. وقرّر ولي العهد السعودي بعد ذلك أن يدعم مؤتمر طهران، وجاء

ص: 69

إلى طهران، وأُتحيت لنا الفرصة للتحدّث مع بعضنا أكثر. وساعد سفري إلى المملكة العربية السعودية وسفر السيد الخاتمي إليها على إكمال هذا الشوط إلى حدٍّ بعيد.

: ما هي في رأي سماحتكم التأثيرات التي تتمخّض عن توسيع العلاقات الايرانية السعودية، على الصعيد الدولي، خاصة فيما يتعلّق بالاستفادة من الحج إلى أقصى حدّ ممكن؟

الشيخ الهاشمي: تقييمي لهذا الجانب هو أنّ تحسين العلاقات بين ايران والسعودية يُعتبر ضرورة؛ لأنّ تعاون هذين البلدين يُعتبر أهم قاعدة لتقوية مواقف العالم الإسلامي على الصعيد السياسي والاقتصادي والأبعاد الأخرى .

والواقع هو أن أصدقاءنا وأصدقاء السعودية مُختلفون في وجهات نظرهم، وتقليص الهوّة الفاصلة بيننا وبين السعودية ستكون له معطيات إيجابية في الأوساط والمؤتمرات الدولية، وأحد تلك المعطيات يتعلّق بقضية النفط.

فقد لاحظنا أن جشع مستهلكي النفط وكيفية عرضه وطلبه في الأسواق العالمية أدّى إلى هبوط قيمته إلى أقلّ من عشرة دولارات للبرميل الواحد. وهذا غبن فاحش للدول المنتجة للنفط خاصة للدول الإسلامية المطلّة على حوض الخليج الفارسي؛ لأنّ قوام وجودها مرتبط بهذه المادّة الحيوية. وقد أدّى تحسين العلاقات بين طهران والرياض إلى حلّ الكثير من المشاكل، وإلى تقليل حدّة التوتّر في الخليج الفارسي.

قضية العراق مهمّة جدّاً بالنسبة لنا، ولو أننا تعاونّا لسكنت بؤرة التوتّر هذه في المنطقة.

أمّا القضية الأساسية التي لم نتناولها على نحو جاد حتّى الآن فهي القضية الفلسطينية؛ إذ يوجد اختلاف طفيف في وجهات النظر في هذا المجال. ولو

ص: 70

كان بيننا تعاون جاد بشأن القضية الأفغانية لما شاهدنا الوضع القائم حالياً.

وأعتقد أن تعاوننا بنّاء في الكثير من قضايا العالم الإسلامي. ونأمل بتحقيق بعض النجاحات تدريجياً من خلال البحث وإقناع بعضنا الآخر.

وقد تحدّثت مع ولي العهد السعودي حول هذه الموضوعات في الاجتماعات الخاصّة الودّية التي عقدناها. والأوضاع تسير نحو الأفضل تدريجياً.

: من المؤسف أن ايران والسعودية لم تكن بينهما في السنوات الأخيرة علاقات على صعيد الأوساط العلمية والدينية والمذهبية، وقد لحقتنا بسبب ذلك خسائر كبيرة. فما هو رأيكم في ذلك؟ وما مدى الأهمّية التي تعيرونها لإيجاد هذه العلاقة؟ وما هو اقتراحكم في هذا الصدد؟

الشيخ الهاشمي: الأمر كما تقولون. ففي الوقت الحاضر لم يحصل تقارب خاصّ مع المملكة العربية السعودية على النطاق العلمي؛ سواء على صعيد الطاقات العلمية الجامعية أم على صعيد علماء الدين، بنفس المستوى الذي حصل فيه تقارب على مستوى العلاقات بين رجال الدولة والشخصيات السياسية. وأنا أعتقد بوجوب وضع برنامج يتيح لعلماء كلا البلدين لقاء بعضهما الآخر والتحاور بعيداً عن التعصّب من أجل تقريب وجهات نظرهم. فعلماء الدين في كل من ايران والسعودية كان لهم دور مؤثّر في بلدهم، وهناك ضرورة محسوسة للتقارب بينهما. إن دعامة العلاقات السياسية والاقتصادية الموجودة بيننا وبين السعودية هو التعاون الديني، ويبدو موسم الحج فرصة مناسبة لتحقيق هذه الغاية. وعلى علماء الدين الذين يذهبون من ايران إلى الحجّ في كل عام أن يتّخذوا الإعدادات الكفيلة بإقامة علاقات مع العلماء العرب ودعوتهم للسفر إلى ايران

ص: 71

وزيارة مدن كمشهد وقم ومشاهدة حوزاتنا وجامعاتنا. فأنا لازلت استشعر في نفسي تأثير زياراتي للجامعات والمراكز العلمية في المملكة العربية السعودية، حتّى إنّ هذا الشعور يزداد لديّ أحياناً.

: منذ سنوات وهناك كلام يدور هنا وهناك حول جعل مسؤولية نقل الحجّاج إلى الديار المقدّسة بعهدة القطاع الخاصّ بعد أن كان هذا الأمر بيد الدولة (منظمة الحجّ والزيارة) ألَن يكون في تطبيق هذه الفكرة- نظراً للظروف الخاصّة للمملكة العربية السعودية- ضرر لنا، إضافة إلى الأضرار التي لحقتنا من جرّاء تبني القطاع الخاصّ سفر الزوار إلى سوريا؟

الشيخ الهاشمي: لست على اطّلاع بمدى اثارة هذه المسائل. والكيفية التي يُدار فيها الحج إلى الآن مرضية لنا وللحجّاج وللمملكة العربية السعودية؛ حيث كانوا يقولون لنا في السعودية: بأنّ حجَّ ايران أكثر نظماً من حج جميع العالم الإسلامي، ويُعزى هذا النظم إلى أنّ الدولة هي التي تتولّى إدارة شؤون الحجّ. ونحن لا ننظر إلى هذه القضية بمنظار اقتصادي، إضافة إلى أننا نراعي جميع الجوانب في القضية الاقتصادية؛ فنحن لا نتقشّف في الإنفاق إلى الحدّ الذي يحول دون رفاه الحجّاج ورضاهم، ولا ننفق إلى حدّ الإسراف.

الخلل الوحيد البارز للعيان هو أنّ بعض الأشخاص سجّلوا أسماءهم للحجّ مبكّراً، وبعض آخر من الناس لا يستطيعون الذهاب إلى الحج في السنة التي تتوفّر لهم فيها الاستطاعة. ويجب علينا العمل لحلّ هذه المعضلة.

في السابق لم يكن من الممكن لنا التفاهم مع الحكومة السعودية. غير أن إمكانية هذا التفاهم أصبحت متوفّرة لدينا في الوقت الحاضر. وعلينا أن نسعى للوصول إلى مرحلة إرسال الحاجّ إلى مكّة في السنة التي يرغب

ص: 72

فيها. وعلى العموم فنحن- وكما أشرتم- لا نحمل ذكرى طيّبة عن تجربة خصخصة السفر إلى سوريا.

: من جملة المكتسبات الكبرى التي تمخّضت عن زيارتكم إلى الحرمين الشريفين هي أنّكم وفقتم للدخول إلى داخل الكعبة وضريح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. نرجو أن تبيّنوا لنا ما هو الشعور الذي راودكم أثناء دخولكم إلى تلك الأماكن؟ واشرحوا لنا الوضع في داخل هذين المكانين المقدّسين. فرؤية هذه الأماكن سعادة كبرى قلّما ينالها شخص.

الشيخ الهاشمي: الحقيقة هي أنّ اللَّه تعالى مَنَّ عليَّ بهذا التوفيق نتيجة لكثرة الدعاء.

فحينما دخلت ضريح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فقدت صوابي، ولم ألتفت إلى المسائل والدقائق التي يلتفتُ إليها السائح عادةً. وفقدت نقوش الباب والجدران وشكل الضريح والستائر والسقف وأمثال ذلك أهمّيتها عندي. ولهذا السبب لم يبق شي ء منها عالقاً في بالي، وكلّ من سألني عن شي ء بهذا الخصوص بعد سفري ذاك، لم يكن لديّ جواب أُقدّمه له. وهذه الحالة تختصّ طبعاً بمن يسافر إلى تلك الأماكن للمرّة الأُولى . أمّا في المرّات اللاحقة فالقضية تصبح عادية تقريباً. ويعود سبب ذلك إلى أن المرء يشعر في الزيارة الأولى وكأن أمنية بعيدة المنال كان قد أقنع نفسه بتصويرها في ذهنه عمراً طويلًا، قد تحقّقت أمام عينيه. ولكن هذه الحالة تصبح عادية في المرّات اللاحقة.

وعندما دخلتُ إلى الكعبة، كنتُ بصدد أداء الأعمال والمناسك الواردة في هذاالخصوص، إذ من المستحب الصلاة في عدّة نقاطمن ذلك المكان المقدّس.

وقمتُ بأداء ذلك العمل. وقد شعرتُ في ذلك الموقف بسكينة خاصّة. وبعد الانتهاء من الصلاة، أخذت أتأمّل الآفاق المعنوية الموجودة في ذلك

ص: 73

المكان. فقد كان الجلال المعنوي هناك خليقاً عندي بالنظر والمشاهدة.

وقد راودني شعور مشابه لهذا الشعور في ضريح الرسول صلى الله عليه و آله و سلم؛ إذ كان هناك مرقدالرسول صلى الله عليه و آله و سلم وإلى هناك منه بيت السيّدة الزهراء عليها السلام أو قبر تلك السيدة الكريمة. وإن كانت الكتابات غير قابلة للقراءة بسبب ظلمة المكان.

وعند دخول البقيع انتابتنا حالة من نسيان الذات أيضاً، وقادتنا أقدامنا لا إرادياً نحو أقرب مسافة إلى قبور الأئمّة المعصومين، وجلسنا هناك على الأرض.

: منذ سنوات والبقيع باقٍ على حالته هذه. وأنتم تعلمون أنّ هذا المكان يؤلم قلب كلّ مسلم بسبب هذا الوضع الذي يظهر فيه أمام أعين الزوّار.

فهل تحدّثتم مع المسؤولين السعوديين حول إعادة بناء البقيع، وإذا كان ردّهم إيجابياً فما الذي قالوه في هذا المجال؟

الشيخ الهاشمي: نعم تحدّثت مع الكثير من المسؤولين هناك. وقلت لهم: إنّكم تصرّفتم وفقاً لعقيدة علماء يحملون أصولًا غير منطقية، وعقيدتهم غير مقبولة لدينا، وتركتم هذه المقبرة على حالها هذا. وهذا الوضع يؤلم الملايين من الشيعة المحبّين لأهل البيت الذين يأتون إلى هنا من أقصى بقاع العالم ويشاهدون هذا المشهد. فما الذي تجنونه من هذا الألم؟ إنّ هذا يمنع وحدة العالم الإسلامي ويتسبّب في إيذاء قلوب المسلمين. وأضفتُ قائلًا: لدينا اطروحة معتدلة في هذا الخصوص. وهي أن تأذنوا لنا برصف ساحة مقبرة البقيع بحجر ايراني ونبني حائطاً حول قبور الأئمّة، ونبني ظلّاً للزوّار على مسافة معقولة من المقابر.

ولم يقدّم لنا المسؤولون ردّاً سلبياً، وإنّما أوكلوا الأمر إلى موافقة العلماء.

وكنتُ راغباً في التحدّث مع كبار العلماء في السعودية حول هذا الموضوع.

ص: 74

وفي مكّة تحدّثت مع متولّي الحرم وإمام الجمعة وكان شخصاً متنوّراً إلى حدٍّ بعيد، ووجدته شخصاً يقبل التفاهم. ولكن أُعلِن وجوب استحصال رأي العلماء الأصليين من أهل الفتوى مثل «ابن باز» في هذا المجال. وقد وضعوا مقابلته ضمن جدول أعمالي، إلّاأنّ تلك المقابلة لم تتمّ.

ويبدو أنّهم لم يأخذوا انطباعاً حسناً عن الفكرة التي قدّمناها حول إصلاح ظاهر مقبرة البقيع، ولم يحصل لقاء حتّى مع العلماء الآخرين، وبقيت القضية معلّقة. ومعنى هذا أنّها تحتاج إلى فرصة أخرى .

وتحدّثت معهم أيضاً حول مقبرة «أُحد». فهذا المكان الذي يعتبر مزاراً للشهداء، لا يبدو مشهده لطيفاً. وبعد رؤيتي لذلك المكان قُلتُ للمسؤولين المعنيين: إنّكم لم تتصرّفوا مع المزارات الأخرى على هذا النحو. فما ضرَّ لو أوجدتم هنا أجواءً يمكن تحمّلها؟

: أثناء وجودكم في المدينة المنوّرة ومشاركتكم في صلاة الجمعة، أورد خطيب الجمعة في صلاته بعض المطالب المهينة، وقد واجه ردّ فعل من قبل سماحتكم. ونحن نرغب في سماع أصل القضية من لسانكم- إن رأيتم مصلحة في ذلك- لتدوّن في التاريخ، وليطّلع عليها قرّاء مجلّة «ميقات الحجّ».

الشيخ الهاشمي: نعم، لقد كانت تلك القضية مريرة، إلّاأنّ خاتمتها كانت طيّبة. فقد وصلنا في ذلك اليوم إلى صلاة الجمعة ونحن في حالة تعب مفرط من جرّاء السفر، ولم يكن لدينا غرض سوى الإسهام في التقارب والوحدة. وجلسنا كما هو المعتاد لسماع الخطب؛ غير أن خطيب الجمعة تكلّم في أثناء خطبته بكلام غير صحيح. وكان يجلس إلى جانبي أحد الوزراء في الحكومة السعودية، وكان يرافقني عادة، فقلت له: «نظراً للكلام الذي قاله هذا

ص: 75

الشخص، فنحن لا يمكننا الصلاة خلفه».

فقال الوزير: «وأنا أيضاً لا أرى تبريراً لهذا العمل».

كنتُ في شكّ هل ذلك الخطيب قد انتبه أصلًا إلى مجيئي أم لا؟ لأنّ المسجد كان يغصُّ بالحاضرين، وكانوا قد حجزوا لنا مكاناً من قبل.

فنهضنا وذهبنا إلى غرفة مخصّصة لنا من غرف الحرم، وصلّينا مع الايرانيين والعرب الذين جاءوا معنا إلى الغرفة. ولم أنطق بعد ذلك بكلمة واحدة حول ذلك الموضوع. إلى أن جاءني عالم من العلماء المتولّين لشؤون الحرم وقال لي: «هذا هو دأبه، وهو يتحدّث كما يشاء من غير أن يأخذ سياسة الدولة بنظر الاعتبار، فلا تضمروها في قلبكم، وكونوا على ثقة بأننا لن نترك هذا العمل بلا جواب، ونحن نشعر كأننا نحنُ أُهِنّا أيضاً.

والإساءة إلى الضيف جرم قبيح في عاداتنا».

وبعد ذهابنا إلى الفندق اتصل بي الأمير عبداللَّه هاتفياً وأعرب عن كامل أسفه، واعتبر كلام خطيب الجمعة تصرّفاً فردياً صريحاً وإهانة للمسؤولين السعوديين. وقد حاولت التخفيف من شدّة غضب ولي العهد السعودي، فقلت:

«نحن ندرك حالات علماء الدين أكثر منكم، ونعلم أنّه تقع من بعضهم أمثال هذه الامور». فأكّد لي مرّة أخرى بأنّكم ستشاهدون لاحقاً بأننا لا نتحمّل توجيه إهانة لضيوفنا، أو تصرّفاً مخالفاً لسياستنا. والحقيقة أنّهم وفوا بعهدهم، مع أننا لم نطلب منهم متابعة القضية.

: نرجو أن تبيّنوا لنا شيئاً من الذكريات المثيرة والمسائل المهمّة التي وقعت لكم في سفركم إلى المملكة العربية السعودية.

الشيخ الهاشمي: كان سفري إلى العربية السعودية طويلًا وكانت جميع مراحله

ص: 76

مثيرة. فقد عَنتْ لي أثناء زيارتي لمنى وعرفات اطروحات عرضتها عليهم، وكان بعضها موضع قبول لديهم. وكان السفر إلى منطقة «أصحاب الحجر» في العُلى سفراً جميلًا عندي؛ حيث كان ذلك المكان موضع وقوع بعض قصص القرآن، وكنت راغباً في مشاهدة ذلك المكان عن كثب. فالبيوت التي كانت منحوتة في الجبال، والمكان الذي خرجت منه ناقة صالح، وبقاء المكان على تلك الهيئة ليكون عبرة للآخرين كانت خليقة بالمشاهدة. وقد سمعت أن المكان المذكور قد ازدهر وكثرت زيارة الناس له بعد زيارتنا لتلك المنطقة وإذاعة خبر تلك الزيارة.

كنتُ أطّلع طوال سفري على المشاريع الاقتصادية في السعودية وأوضاع الجامعات هناك. والحقُّ أقول: إنّ لدى السعوديين جامعات جيّدة وقد أحرزوا تقدّماً مشهوداً. وقد زرتُ مستشفياتهم المجهّزة وحرسهم الوطني وهو أشبه ما يكون بحرس الثورة الإسلامية لدينا، ويضطلع هناك بمهمّة الأمن والمخابرات. وتعاملوا مع الاستيضاحات المتعلّقة بتلك الأجهزة الأمنية برؤية منفتحة تَنُمُّ عن مستوى صداقتنا وثقتهم بنا. وتحدّث قائد ذلك الحرس الوطني وهو نجل الأمير عبداللَّه خلال اجتماع أُقيم في قاعة واسعة وضمّ كبار القادة وحضرناه نحن أيضاً، وقال أثناء حديثه: «قال لي أبي أن أجيب عن جميع أسئلتكم». وقد حاولت أن أتجنّب طرح الأسئلة التي كانت الإجابة عنها أمام ذلك الحضور تنطوي على محذور بالنسبة لهم، وتركت ذلك الأمر إلى اجتماعات أكثر خصوصية.

توصّلت من خلال تجوالي في مناطق «جبيل» الصناعية إلى نتيجة، وهي أنّهم قد أحرزوا تقدّماً في مجال الصناعة، وهم في وضع أفضل منّا فيما يتعلّق

ص: 77

بالصناعات البتروكيماوية.

وتفقّدت قوّاتهم البحرية في ساحل الخليج الفارسي، وقال قائد القوّة الجوية هناك: «لقد أمروني أن لا أترك أسئلتكم بلا جواب، يمكنكم أن تسألوني عن كل ما تشاءُون».

وبما أنني لديَّ إلمام بالمسائل العسكرية وأعرف التفاصيل الجزئية المتعلّقة بقاعدتنا في بندر عبّاس، فقد أخذت أطرح عليهم في القاعدة السعودية أسئلة فنّية، وكان القائد المذكور يجيب عن أسئلتي. وعلى كلّ الأحوال فقد وجد هناك جوّ من الثقة بيننا.

بعد ذلك أخذونا إلى الطائف وشاهدنا هناك أشياء جديرة بالمشاهدة.

وقد رأينا تقريباً جميع الأشياء التي كنّا نرغب بمشاهدتها في المملكة العربية السعودية من غير أن يبخلوا علينا بشي ء من ذلك. وإذا لم نكن قد حصلنا في بعض الحالات على المعلومات، فذلك يُعزى إلى ضيق وقتنا.

وذهبنا أيضاً لرؤية جامعة النفط في الظهران، ورأينا الأوضاع هناك جيّدة، وكان لديهم مركز بحوث ومختبرات متطوّرة.

: أشكركم على هذه التوضيحات. ما هو المقترح الذي تقدّمونه لمسؤولي الحج ولعموم أبناء الشعب للاستفادة من الحج بشكل أفضل؟

الشيخ الهاشمي: أعتقد أن المسؤولين عن إقامة شعائر الحج بما لديهم من إحاطة وخبرة، وبما يحملونه من أفكار وطروحات في هذا يعلمون أفضل منّي ما الذي يجب عمله، وأنا لا أعرف أكثر منهم. وأؤكّد فقط على توفير أجواء يتسنّى لنا فيها عقد لقاءات بين العلماء في أيّام الحجّ كي نتمكّن من إتمام المباحث غير التامّة. وهذا الأمر يتوقّف إلى حدٍّ ما على طبيعة تعاملنا وجهودنا.

ص: 78

: سنكون لكم شاكرين لو عرضتم لنا رأيكم بشأن مجلّة «ميقات الحجّ».

الشيخ الهاشمي: هذه المجلّة تعجبني. وعندما تصلني كلّ مرّة أنظر إلى عناوينها، وإذا أثار انتباهي فيها موضوع أقرأه. وإصدار هذه المجلّة عمل إيجابي.

قرن المنازل (3)

ص: 79

قرن المنازل (3)

على إبراهيم المبارك البحراني

الهدى:

معجم البلدان (1): هدى: بالفتح منقول عن الفعل الماضي من هدى يهدي إذا أرشد: موضع في نواحي الطائف.

وقال: الهدأة: موضع بين عُسفان ومكة، وكذا ضبطه عبيد البكري الأندلسي، وقال أبو حاتم: يقال لموضع بين مكة والطائف الهَدَة، بغير ألف وهو غير الأول.

وقال أيضا في نفس الصفحة: الهدَّة: وهو موضع بين مكة والطائف والنسبة إليها هدوي، وهو موضع القرود وقد خفف بعضهم داله.

ووصفه لها بأنها موضع القرود يدل على أنها هي الهدى المعروفة الواقعة في جبل كرا، والتي يقع عندها ميقات وادي محرم حيث قد ذكر العياش والكردي (2):

أن جبل كرا مملوء بالقرود، ومع ذلك لم يذكر ياقوت أنها ميقات أو مكان يحرم منه الحاج ولا يمرّ على طريقها.

نعمان:

قال ياقوت في (3): نعمان بالفتح وآخره نون هو فعلان من نعمة العيش وهو


1- 1 معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 593.
2- 2 مقتطفات من رحلة العياشي: 108- التاريخ القويم- محمد طاهر الكردي 2: 27.
3- 3 معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 293.

ص: 80

غضارته وحسنه، وهو نعمان الأراك: وهو واد يُنبته ويصب إلى ودّان، بلد غزاه النبيُّ وهو بين مكة والطائف، وقيل: وادٍ لهذيل على ليلتين من عرفات. وقال الأصمعي: نعمان واد يسكنه بنو عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، بين أدناه ومكة نصف ليلة، به جبل يقال له: المدراء، ونعمان من بلاد هذيل وأجبلاها الأصدار، وهي صدور الوادي التي يجي ء منها العسل إلى مكة، وقول بعض الأعراب فيه دليل على أنه واد:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا

نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وَحبَّ إلينا بطن نعمان واديا

عهدنا به صيداً كثيراً ومشربا به ننقع القلب الذي كان صاديا

وقال أبو العميثل في نعمان الأراك:

أما والراقصات بذات عرق ومن صلّى بنعمان الأراك

لقد أضمرت حبّك في فؤادي وما أضمرت حبّاً من سواك

ولم يذكر ياقوت في نعمان كونه يمرّ على الميقات ولا طريقاً للحاج، وأما قول ابن العميثل: ومن صلى بنعمان الأراك، فإنه إنما ذكر الصلاة بنعمان لقربها من عرفة واتصاله بها، قال الفرزدق:

دعون بقضبان الأراك التي جنى لها الركب من نعمان أيام عرفوا

محمد بن عبد المنعم الحميري في (1): نعمان بفتح أوله وادي عرفة دونها إلى مكة، وهو كثير الأراك قال الشاعر:

تضوع مسكاً بطن نعمان إذ مشت به زينب في نسوة خفرات

وقال الفيروز آبادي (2): نعمان كسيحان أيضا وادي وراء عرفة.


1- 4 الروض المعطار- عبد المنعم الحميري: 577.
2- 5 القاموس المحيط- الفيروزآبادي 4: 258.

ص: 81

وكلام صاحب الروض المعطار مخالف لما في القاموس؛ لأن ظاهر ما في الروض أنه بين منى وعرفات، والصحيح ما ذكره القاموس.

كرا:

ذكرها ياقوت (1)قال: ورواه ابن دريد والغوري كَرَاء بالفتح والمد: ثنية ببيشة وقيل بالطائف.

مقارنة المسافة بين مكة والطائف على الطريقين:

من الشواهد التي تدلنا على أن قرن المنازل هو السيل دون الهدى، هو المسافة بين قرن المنازل ومكة والطائف؛ لأنها إنما تناسب السيل دون الهدى، ولبيان هذه الدعوى نذكر المسافات بين قرن المنازل وبين مكة والطائف، ثم نقارنها بالمسافات بين كلًاّ من السيل والهدى، وبين مكة والطائف، لنرى أيّهما أنسب بقرن المنازل.

المسافة بين قرن المنازل ومكة:

اختلفت تعبيرات القدماء في تحديد المسافة بين قرن المنازل ومكة فبعضهم حددها بمرحلتين (2) وبعضهم قال: على يوم وليلة (3) أو ليلتين (4)، ولكن الاختلاف لفظي؛ لأنّ المرحلة مسيربياض يوم أو سواد ليلة (5) والمراد باليوم هو اليوم الشرعي الذي هو النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس (6)، والليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر والليلة تساوي مرحلة، فالمرحلة تساوي 28 ميلًا تقريباً قد تزيد وقد تنقص. والمرحلتان تساوي 48 ميلًا.

وقال الحسن بن محمد المهلبي (7): قرن قرية بينها وبين مكة 15 ميلًا.

إذاً المسافة بين قرن المنازل ومكة تتراوح بين 48 ميلًا (552/ 88) وبين 51 ميلًا (420/ 93).

بين قرن المنازل والطائف:

قال المهلبي (8): وبينها وبين الطائف ذات اليمنين 36 ميلًا، وهو ما يساوي ب (56. 186) كيلو متراً.


1- 6 في معجم البلدان 4: 442.
2- 7 الكردي في التاريخ القويم 4: 288- مرآة الحرمين 1: 226- الرياض 6: 190- كشف اللثام 1: 306- الجواهر 18: 133.
3- 8 القاضي عياض- معجم البلدان 4: 332.
4- 9 المبسوط.
5- 10 المصباح المنير الفيومي: 223.
6- 11 الحدائق الناضرة- البحراني 11: 303
7- 12 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 332.
8- 13 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 332.

ص: 82

وذكر الحربي والكردي (1): أن الطريق بين مكة والطائف على قرن المنازل ثلاثة أيام وهي تساوي 72 ميلًا، فإذا طرح منها يومان التي هي المسافة بين مكة وقرن بقي يوم وهو يساوي 24 ميلًا (772/ 43).

المسافة بين مكة والطائف على قرن المنازل:

ذكر الحربي في طريق الطائِف إلى مكة بقرن المنازل: أنه ثلاثة أيام فإذا كان اليوم كما تقدم يساوي 24 ميلًا (776/ 43) تكون المسافة 72 ميلًا وهي (328/ 131).

وما ذكره المهلبي: أنّ بين مكة وقرن المنازل 51 ميلًا، وبين قرن والطائف 36 ميلًا يكون المجموع 78 ميلًا، وتساوي (886/ 158) كيلومتراً.

هذه هي المسافات بين قرن المنازل وبين مكة والطائف والمسافة بين مكة والطائف على الطريق المار بقرن المنازل، وقد عرفت أنّ هناك طريقين وهما مسلوكان قديماً وحديثاً، أحدهما الطريق السالك على السيل، والآخر الطريق السالك على الهدى، وإذا أردنا أن نعرف أن قرن المنازل واقع على أي الطريقين؛ ليتعين أيهما هو قرن المنازل، فلا بد من معرفة المسافات على كلا الطريقين، ومقارنتها بالمسافات المتقدمة في قرن المنازل.

أولا: السيل:

بين السيل ومكة:

حدّدها دهيش (2): تبعد عن مكة 80 كم وعن الطائف ب 35 كم، وحددها الفالح (3) ب 78 كم من بطن الوادي و 75 من المكان الذي يحرم منه الحجاج والمعتمرون، كما حدّدها مغنية (4) ب 94 كم، وفي خرائط المهندس زكي محمد علي فارسي (5) يظهر أنّ بين السيل ومكة 95 كم.

بين السيل والطائف

ذكر دهيش (6) أنّ قرن المنازل يبعد عن الطائف ب 53 كم.


1- 14 كتاب المناسك- إبراهيم الحربي: 653- 654؛ التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم 2: 27.
2- 15 حاشية كتاب أخبار مكة للفاكهي- عبد الملك دهيش 5: 100
3- 16 مواقيت الحج والعمرة المكانية- مساعد الفالح: 27.
4- 17 فقه الإمام الصادق- محمد جواد مغنية.
5- 18 أطلس الطرق السعودية: ت 9
6- 19 حاشية أخبار مكة للفاكهي 5: 100

ص: 83

بين مكة والطائف على طريق السيل

محمد صادق باشا (1): والزمن الذي استغرقناه في قطع الطريق من مكة إلى الطائف 36 ساعة أمتطينا فيها الإبل.

من كلام دهيش يظهر أنّ المسافة بين مكة والطائف على طريق السيل 133 كم، كما أنّ مقدار مسير 36 ساعة على الإبل تقدر ب 24 فرسخاً وهي تساوي 72 ميلًا/ 328/ 131.

وذكر إبرهيم رفعت باشا (2) في جداول المسافات بين مكة ومهمات المدن الإسلامية: أنّ بين الطائف ومكة 40 ميلًا، وهي تساوي 96/ 72 كيلومتراً.

ملحس (3): الطائف تبعد عن مكة 137 كم عن طريق السيل.

ثانياً الهدى:

بين الهدى ومكة:

يظهر من فارسي (4): أنّ بين الهدى ومكة 59 كم. وذكر (5): أن بين مكة والطائف 88 كم وذكر أيضا (6): أنّ بين الهدى والطائف 15 كم، فتكون المسافة بين الهدى ومكة 73 كم.

وفي معجم البلدان: (7) أنها 24 ميلًا (776/ 43) كم.

بين الهدى والطائف:

ذكر فارسي أنها 15 كيلو متراً، ويظهر من معجم البلدان، أنها 12 ميلًا وتساوي (888/ 21) كم.

إبراهيم رفعت باشا (8): وبساتين الطائف قليلة وأشهرها (الهدة) غربي البلد بثلاث ساعات.

فإذا كانت المرحلة التي هي مسير يوم (12 ساعة) تساوي 24 ميلًا، فثلاث ساعات تقارب 6 أميال/ 11 كيلو متراً تقريباً.


1- 20 مرآة الحرمين- أبراهيم رفعت باشا 1: 347.
2- 21 مرآة الحرمين- أبراهيم رفعت باشا 1: 367.
3- 22 تعليقة كتاب أخبار مكة للأزرقي 2: 157.
4- 23 أطلس الطرق السعودية: ت 9.
5- 24 أطلس الطرق السعودية: جدول المسافات بين مدن المملكة الرئيسية.
6- 25 أطلس الطرق السعودية: 18.
7- 26 كما هو المستفاد من قوله: مسيرة يوم للطالع من مكة- معجم البلدان 4: 8
8- 27 مرآة الحرمين- إبراهيم رفعت باشا 1: 347.

ص: 84

بين مكة والطائف على طريق الهدى:

محمد صادق باشا (1): ولها طريقان يقطع أقصرهم في 18 ساعة، وهي تساوي يوماً ونصفاً، وتساوي 36 ميلًا (668/ 65).

وقال (2)(3): فتكون المسافة من الطائف إلى مكة خمس عشرة ساعة وربعاً بالبغال، وبعض الناس يقطعها في 13 ساعة.

ومقدار مسير 15 ساعة وربع/ 30 ونصف ميل/ 632/ 55، أو أقل؛ لأنّ مسير البغال أسرع من مسير القطار من الإبل الذي هو المقياس في السير.

الكردي (4): فتكون المسافة بين مكة والطائف عن طريق كرا الجديد حوالى 85 كم.

و الحربي (5): حدّد المسافة على طريق كرا بيومين وهي تساوي 48 ميلًا/ (522/ 87).

زكي فارسي (6): حدّدها ب 88 كم.

الروض المعطار (7): الطائف مخلاف من مخاليف مكة على مرحلتين من مكة.

والمرحلتان تساوي 48 ميلًا/ (522/ 87) كم.

أقول: ما ذكره الروض المعطار وإن لم يذكر أنه على أي طريق إلا أنه لا يتفق إلا على طريق الهدى.

الحموي (8): والطائف: هو وادي وج، وهو بلاد ثقيف، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخاً، وهي تساوي 36 ميلًا (866/ 65) كم.

أقول: وهو لا يتفق إلا على طريق الهدى، والشاهد على ذلك أنه قال في ص 8: وبالطائف عقبة وهي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، عمّرها عبد نوبي وزرّ لأبي الحسين بن زياد صاحب اليمن في حدود سنة 430، فعمر هذه العقبة عمارة يمشي في عرضها ثلاثة جمال بأحمالها.

وهذه العقبة هي جبل كرا، واليوم يساوي 24 ميلًا، ونصف اليوم يساوي


1- 28 مرآة الحرمين- إبراهيم رفعت باشا 1: 344 نقلًا عن كتاب دليل الحج للوارد إلى مكة من كلّ فج، لمؤلفه محمد صادق باشا من ضباط أركان الحرب ومن المهندسين.
2- 28 مرآة الحرمين- إبراهيم رفعت باشا 1: 344 نقلًا عن كتاب دليل الحج للوارد إلى مكة من كلّ فج، لمؤلفه محمد صادق باشا من ضباط أركان الحرب ومن المهندسين.
3- 29 مرآة الحرمين- إبراهيم رفعت باشا 1: 353.
4- 30 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم 2: 27.
5- 31 المناسك- إبراهيم الحربي: 653، 654.
6- 32 أطلس الطرق السعودية- زكي محمد علي فارسي 30
7- 33 الروض المعطار: 379.
8- 34 وفي معجم البلدان 4: 9

ص: 85

12 ميلًا، فيكون المجموع 36 ميلًا و هي تساوي 12 فرسخاً و تساوي (866/ 65) كم.

المسافةقرن المنازل الهدى السيل

مكة 5/ 87- 93 8/ 43- 59 78- 95

الطائف 7/ 43- 6/ 66 21 53

المجموع 131- 6/ 159 8/ 64- 80 131- 148

الطريق بين مكة والطائف

على قرن على الهدى على السيل

131- 7/ 158 7/ 65- 5/ 88 133- 7/ 159

بالمقارنة بين المسافات نجد أنّ المسافة بين قرن المنازل ومكة والطائف تقارب المسافة بين السيل وكلّ منهما، بينما يكون الفارق كبيراً مع مقارنة المسافات بينهما وبين قرن المنازل بالمسافة بينهما وبين الهدى، وكذلك أنّ مسافة الطريق بين مكة والطائف على طريق قرن المنازل تتقارب جدّاً مع طريق السيل بينما يكون الفارق كبيراً مع طريق الهدى.

ومن هذا نستنتج أنّ قرن المنازل لايقع على طريق الهدى، بل على طريق السيل.

إشكال:

قد يورد على كون قرن المنازل هو السيل وتأييداً لكونه الهدى؛

أنه ورد في كلمات بعض اللغويين والفقهاء:

معجم البلدان (1): قال الغوري: وهو ميقات أهل اليمن والطائف.

وقال الحسن بن محمد المهلبي (2): وهي ميقات أهل اليمن.

قال ابن خربوذ (3): قرن المنازل قرية عظيمة وهي ميقات أهل اليمن للحج


1- 35 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 233.
2- 36 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 233.
3- 37 صبح الأعشى- أبو العباس القلقشندي 5: 43.

ص: 86

يحرمون منها.

وقال الأزرقي (1): وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء.

وذكر الحميري (2) في موضع عكاظ: وقيل: هي وراء قرن المنازل بمرحلة في طريق صنعاء.

كما ورد في بعض الروايات أنّ قرن المنازل ميقات أهل اليمن أيضاً.

عن علي بن رئاب (3): قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الأوقات التي وقتها رسول اللَّه للناس، فقال عليه السلام: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهي الشجرة، ووقت لأهل الشام الجحفة، ووقت لأهل اليمن قرن المنازل ولأهل نجد العقيق.

وروى علي بن جعفر (4) عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن إحرام أهل الكوفة وخراسان ومن يليهم وأهل مصر من أين هو؟

قال: إحرام أهل العراق من العقيق ومن ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل اليمن من قرن المنازل، وأهل السند من البصرة أو مع أهل البصرة.

وفي قرب الإسناد (5) عن عبد اللَّه بن بكير ... قال: فدخلنا على أبي عبداللَّه عليه السلام فقال ضريس بن عبد الملك: إنّ هذا زعم أنه لا ينبغي الإحرام إلا من العقيق.

قال: صدق، ثم قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن قرن المنازل، ولأهل نجد العقيق.

وهذا لا يتناسب مع كونه السيل، الذي يقع في الشمال الشرقي عن مكة، وإنما يتناسب مع كونه وادي محرم القريب من الهدى، الذي يقع في الجنوب الشرقي لمكة؛ لأنّ اليمن تقع إلى الجنوب من مكة مع انحراف إلى جهة الشرق.

والجواب:

أولا: أنّ جلّ الفقهاء من العامة ذكروا أنّ قرن المنازل ميقات أهل نجد وعليه عامة رواياتهم، وعلماء الإمامية اتفقوا على أنّ قرن المنازل ميقات أهل الطائف


1- 38 أخبار مكة- أبو الوليد الأزرقي 1: 190
2- 39 الروض المعطار- محمد بن عبد المنعم الحميري: 411.
3- 40 الوسائل 8، باب 1 من أبواب المواقيت ح 7.
4- 41 الوسائل 8، باب 1 من أبواب المواقيت ح 8.
5- 42 قرب الإسناد للحميري القمّي: 81.

ص: 87

وعليه أكثر الروايات، وقد ورد في بعض الروايات أنه ميقات أهل نجد، كما ورد في بعضها كما مرّ أنها ميقات أهل اليمن، كما أن في بعض الروايات أن النبيّ وقت لأهل نجد العقيق، كما وقت لأهل اليمن يلملم.

وقد أجابوا (1) عن هذا بأن لنجد طريقين أحدهما يمرّ بالعقيق والآخر بقرن المنازل، وقد أتفق الفقهاء على أن المواقيت مواقيت لأهلها ولمن مرّ عليها من غير أهلها، وأنه لو سلك أهل ميقات طريقاً غير طريق ميقاتهم أحرموا من ذلك الميقات، ولا يلزمهم الرجوع إلى ميقاتهم، وبمثل هذا الجواب نجيب عن هذا فإنّ لليمن طريقين: أحدهما يمرّ على قرن المنازل، والآخر يمرّ على يلملم، ونذكر ما يؤيد ذلك:

1- روى الشافعي في الأم (2): عن سعيد بن سالم قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عطاء: أنّ رسول اللَّه وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل المغرب الجحفة، ولأهل المشرق ذات عرق، ولأهل نجد قرناً، ومن سلك طريق نجد من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم.

2- قال أبو زيد الكلابي (3): نخلة واد من الحجاز بينه وبين مكة مسيرة ليلتين، إحدى الليلتين من نخلة يجتمع بها حجاج اليمن وأهل نجد، ومن جاء من قبل الخط وعمان وهجر ويبرين فيجتمع حاجهم بالوباءة، وهي أعلى نخلة، وهي تسمى النخلة اليمانية.

وقد بينا موقع النخلة اليمانية والبوباة، فيتبين أنّ لأهل اليمن طريقاً يمرّ بقرن والنخلة اليمانية.

3- ذكر الحربي (4) طريقين لليمن إلى مكة أحدهما طريق البحر والآخر طريق على تهامة، [ثم ذكر طريق البحر من صنعاء ..... إلى أن قال ]: ومن بيشة إلى تبالة، ومن تبالة إلى أجرب، ومن أجرب إلى كراء، وهي حرة بني سليم، ومن كرا إلى تربة، ومن تربة إلى صفن، ومن صفن إلى أوقح، ومن أوقح إلى الفتق، ومن


1- 43 الحدائق الناضرة: مواقيت الاحرام.
2- 44 الأم: 137.
3- 45 المناسك: 643.
4- 46 المناسك: 646.

ص: 88

فتق إلى قرن، ومن قرن إلى نخلة وهي البستان ومن نخلة إلى مكة.

وذكر الطريق الآخر وهو طريق تهامة من صنعاء [إلى أن قال ]: ومن الليث إلى مركوب، ومن مركوب إلى يلملم، ومن يلملم إلى ملكان، ومنها إلى مكة (1).

وذكر طريق حضرموت (2) [إلى أن قال ]: ومنها إلى وادي عقيل، ومنها إلى الكرا، ومنها إلى تربة، ومنها إلى صفن، ومنها إلى أوقح، ومنها إلى العقيق، ومنها إلى قرن، ومنها إلى نخلة، ومنها إلى مكة.

وكراء في كلام الحربي ليس هي جبل كرا؛ لأنه عرّفها بأنها حرة بني سليم، إضافة إلى أنّ جبل كرا لا تقع بين تبالة وتربة، وقال الجاسر (3): كراء واد عظيم معروف ينحدر، فيشق الحرة حتى يفضي إلى واد، وقال: إنّ الصواب حرة بني هلال وتسمى الآن حرة البقوم، وفي معجم البلدان (4): وقيل: واد يدفع سيله في تربة، وذكرالفرق بينها وبين جبل كرا: قال ابن السكيت في قول عروة بن الورد:

تحل بواد من كراء مضلة تحاول سلمى أن أهاب وأحصرا

قال: كراء هذه التي ذكرها ممدودة هي أرض بيشة، كثيرة الأسد، وكرا غير هذه، مقصورة: ثنية بين مكة والطائف.

ووادي عقيل قال الجاسر (5): المقصود منه عقيق عُقيل المعروف الآن بإطم وادي الدواسر. وفي معجم البلدان (6): ومنها العقيق الذي في بلاد بني عقيل. قال أبو زيد الكلابي: عقيق بني عقيل فيه منبر من منابر اليمامة، وقال السكوني: عقيق اليمامة لبني عقيل.

والعقيق الذي مرّ في كلام الحربي أيضاً ليس هو العقيق الذي تقع فيه ذات عرق، والذي هو ميقات أهل العراق، بل هو عقيق اليمامة المسمى بعقيق تمرة. قال الحموي (7) قال أبو منصور: وفي بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية شقتها


1- 47 انظر هذه الأماكن في أطلس الطرق السعودية خارطة ب 17.
2- 48 حاشية كتاب المناسك: 647.
3- 49 حاشية كتاب المناسك: 644.
4- 50 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 442.
5- 51 حاشية كتاب المناسك: 648.
6- 52 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 139.
7- 53 معجم البلدان- ياقوت الحموي 4: 139.

ص: 89

السيول، وقال الأصمعي: الأعقة الأودية، قال: فمنها عقيق عارض اليمامة: وهو واد واسع مما يلي العرمة يتدفق فيه شعاب العارض وفيه عيون عذبة الماء. قال السكوني: عقيق اليمامة لبني عقيل فيه قرى ونخل كثير. ويقال: أهل عقيق تمرة، وهو عن يمين القرط منقطع عارض اليمامة في رمل الجزء، وهو منبر من منابر اليمامة عن يمين من يخرج من اليمامة يريد اليمن، عليه أمير.

وعن القاضي عياض في ذكر الأعقة: ومنها عقيق تمرة: قرب تبالة وبيشة، وقد مرّ وصفه في زبية، وقيل: عقيق تمرة هو عقيق اليمامة وقد ذكر ..

وقال: (1) قال الواقدي: تربة وزبية واديان بعجز هوازن، وقال عرام: وفي حدّ تبالة قرية يقال لها: زبية، وفيه عقيق تمرة (2).

وبيشة وتبالة وتربة معروفات حتى الآن، ويمكنك مراجعة خرائط المملكة السعودية (3) لتعرف أماكنها، وتتعرف على الطريق الذي ذكره الحربي فإنه لا يمرّ على الهدى، وإنما يمرّ شرق الطائف إلى طريق قرن المنازل الذي هو السيل ثم نخلة.

الهدى أعلى قرن المنازل:

هناك محاولة من بعض الكتاب لإدخال الهدى في قرن المنازل، نذكرها؛ لنرى هل تعارض ما قدمناه من شواهد على كون السيل هو قرن المنازل أم تكون مؤيدة له؟

الفالح (4): وقد اشتهر اسم هذا الميقات الآن باسم السيل الكبير، ويتصل هذا الوادي بوادي محرم المسمى قرناً، والذي يمرّ به الطريق المسمى كرا المتّجه إلى مكة.

أما وادي محرم فهو أعلى من قرن المنازل، وكذا من السيل الكبير. ووادي محرم يطلق عليهما اسم قرن الميقات المذكور، فمن أحرم من أحدهما فقد أحرم من الميقات الشرعي، ولذلك لا يعتبر وادي محرم ميقاتاً مستقلًا من حيث الاسم؛ لأنه هو قرن المنازل، فاسم قرن شامل للوادي كلّه سواء عن طريق ما يسمى بالسيل الكبير، أو عن الطريق المسمى الآن بالهدا.


1- 54 معجم البلدان- ياقوت الحموي 3: 133.
2- 55 انظر أطلس الطرق السعودية رقم 31.
3- 56 أطلس الطرق السعودية، رقم 13، ب 51- 61.
4- 57 مواقيت الحج والعمرة المكانية: 27.

ص: 90

وفي الحاشية قال: وهذا ما أكده تقرير كتبته لجنة علمية شكلت بتوجيه من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم حيث قال الشيخ: بعد أن سعي في تسهيل طريق كرا، وغلب على ظني نجاح ذلك، صرت إلى مزيد من الاحتياط لهذا الميقات المسمى محرماً، فعمدت إلى لجنة علمية، مؤلفة من عالمين فاضلين، لديهما من الملكة العلمية والخبرة الوطنية والفقه والنباهة ما لا يوجد عند كثير من أضرابهما، وهما: الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن جاسر رئيس هيئة التمييز للمنطقة الغربية، والشيخ محمد ابن علي البيز رئيس محكمة الطائف، أن يذهبا إلى وادي محرم المذكور، وينظرا هو أعلى وادي قرن المسمى بالسيل، فذهبا ونظرا وبذلا وسعهما واستصحبا في مسيرهما خبراء من أهل تلك الناحية، وتحصل لديهما أنه هو أعلى وادي قرن المنازل، وكتبا لنا بذلك كتابة صريحة واضحة بأنه هو أعلى وادي قرن المنازل، وقد صرحت كثير من وثائق عقارات أهل وادي محرم الموجودة في سجلات محكمة الطائف بما لا يدع مجالًا للشك: أن وادي محرم هو وادي قرن، ولا نظن أن تلك العقارات هي في أسفل الوادي المسمى بالسيل، بل كلها أو أكثرها في أعلاه إلى وادى محرم كالدار البيضاء وقرية المشائخ ونحوها.

نقل ذلك عن الشيخ ملخصاً فضيلة الشيخ عبد اللَّه البسام في كتابه الاختيارات الجلية من المسائل الخلافية 2: 379.

ونستفيد من هذا الكلام اموراً:

الأول: أنّ الطريق السالك قديماً كان هو طريق السيل، وأنّ الناس كانوا يحرمون منه حتى سهل طريق كرا فأصبح صالحا لسلوك الحجاج، وهذا يظهر أيضا من تعبير بعضهم- كالبلادي والكردي- عن طريق السيل بالقديم.

الثاني: أنّ الشيخ محمد بن إبراهيم كان في بدء أمره شاكاً في كون وادي محرم من الميقات الشرعي، وأنه هل هو واقع في وادي قرن بحيث يكون من الميقات الشرعي أم أنه خارج عن قرنٍ، وهذا التشكيك من مثل الشيخ محمد بن إبراهيم

ص: 91

يكشف لنا عن عدم كونه معروفاً بأنّه من الميقات الشرعي من قبل.

الثالث: أنّ الشيخ محمداً لم يشك في كون السيل هو الميقات الشرعي وأنه قرن المنازل بل هو قاطع بذلك، لذلك أوصى الشيخين بالذهاب إلى وادي محرم لينظرا:

هل وادي محرم أعلى وادي قرن المسمى بالسيل أم أنه خارج عنه؟

أما نتيجة تتبع هذه اللجنة وبحثها فهو أنّ وادي محرم هو أعلى وادي قرن، وقد اعتمدوا على أمرين:

الأول: ما أفاده أهل الخبرة أو من أهل المنطقة من أن وادي محرم أعلى وادي قرن.

الثانى: أنّ الوثائق المسجلة للعقارات الموجودة في أعلى وادي السيل إلى وادي محرم كالدار البيضاء وقرية المشايخ مسجلة باسم قرن.

المناقشة:

ويمكننا أن نناقش في هذه النتيجة بأمور:

أولًا: أننا لم نجد تصريحاً لأحد من المتقدمين بأنّ وادي قرن يشمل الهدى أو أن الهدى في قرن المنازل، ولا أنه يصل إلى حد جبل كرا، بل أنّ كلّ الشواهد تشير إلى أنّ قرناً واقع عند النخلة اليمانية وقريباً من البستان.

أما أنّ إطلاق قرن على هذا الوادي فغير معروف من قبل، كما يظهر من كلام الذين وصفوا كلا الطريقين كالحربي والكردي وغيرهما، فإنه لم يذكر أحد أنّ طريق كرا يمرّ بقرن، ولو كان وادي قرن شاملًا للهدى لذكروا مرور طريق كرا (طريق الهدى) عليه كما ذكروا مرور طريق قرن بالنخلة اليمانية ويدعان وغيرها، وكما ذكروا مرور طريق الهدى بكرا وبنعمان الأراك وبعرفة ... الخ.

ثانياً: لو سلمنا بشمول قرن إلى وادي محرم الواقع عند قرية الهدى، فإنّ الشواهد التي ذكرناها في تحديد الميقات كلها تشير إلى كونه في أسفل الوادي، وهو ما يسمى بالسيل الكبير، وقد مرّت كلّها مفصلة، ومنها مكان إحرام الرسول الذي

ص: 92

ذكرناه في طريقه إلى مكة عائداً من غزوة الطائف حيث أحرم بالعمرة.

ثالثاً: أما السجلات فإنه قد تعدّ منطقة تابعة لمنطقة أخرى في الإدارات، فتسجل العقارات والإجراءات القانونية والعمرانية في البلديات والمحاكم وغيرها باسم تلك المنطقة المتبوعة، وهذا أمر متعارف في هذه الأزمنة، لكنه لا يعني شمولها لها حتى في مثل المواقيت الشرعية، التي لا ربط لها بالمقررات الدولية والقوانين الوضعية.

وعلى أي تقدير فإنّ القدر المتيقن من الميقات الشرعي الذي هو قرن المنازل هو السيل الكبير، وهو المتسالم عليه الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

مصادر البحث:

1- الأزهار الأرجية- الشيخ فرج العمران.

2- أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه- عبد اللَّه بن محمد بن إسحاق الفاكهي- تحقيق عبد الملك بن عبداللَّه بن دهيش- ط الثانية 1414 ه، 1994 م- نشر دار خضر للطباعة والنشر- بيروت.

3- أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار- أبو الوليد محمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي- تحقيق رشدي الصالح ملحس- ط الثالثة 1402 ه 1983 م- نشر دار الأندلس- بيروت.

4- إرشاد الساري إلى مناسك ملا علي القاري.

5- أطلس الطرق السعودية ودليل السياحة- زكي محمد علي فارسي- ط الأولى 1415 ه، 1995 م.

6- الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني.

7- الأمّ- محمد بن إدريس الشافعي.

8- أودية مكةالمكرمة- عاتق بن غيث البلادي- نشردارمكة- طالأولى 1405 ه- 1985 م.

ص: 93

9- تاج العروس.

10- التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم- محمد طاهر الكردي- ط الأولى 1385 ه.

11- تاريخ الطبري.

12- تحفة الناسك بأحكام المناسك- سليمان بن عبد اللَّه بن عبد الوهاب- ط 1364 ه- مكة المكرمة.

13- الجواهر- الشيخ محمد حسن النجفي- ط دار الكتب الإسلامية قم 1373 ه.

14- حاشية أخبار مكة للفاكهي- عبد الملك بن عبد اللَّه بن دهيش [مع كتاب أخبار مكة للفاكهى ].

15- حاشية أخبار مكة للأزرقي- رشدي الصالح ملحس- مع كتاب أخبار مكة للأزرقي.

16- حاشية الجامع الصحيح.

17- حاشية كتاب المناسك للحربي- حمد الجاسر [مع كتاب المناسك ].

18- الروض المعطار- محمد بن عبد المنعم الحميري- ط مكتبة لبنان.

19- الحدائق الناضرة- الشيخ يوسف آل عصفور- ط جماعة المدرسين- قم.

20- رياض المسائل- السيد علي العاملي- ط جماعة المدرسين 1415 ه.

21- السيرة النبوية- ابن هشام.

22- شرح السيوطي على النسائي- السيوطي.

23- صحاح اللغة.

24- صبح الأعشى- أبو العباس القلقشندي- ط وزارة الثقافة والإرشاد القومي- مصر.

25- فقه الإمام الصادق- محمد جواد مغنية.

26- القاموس المحيط- مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي- ط الأولى- دار إحياء التراث العربي- بيروت- 1412 ه- 1991 م.

27- كشف اللثام-- الطبعة الحجرية.

28- لسان العرب- ابن منظور- ط الأولى الجديدة المحققة- بيروت 1416 ه- 1995 م.

29- مختار الصحاح. 30- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع- صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق

ص: 94

البغدادي- تحقيق علي محمد البجاوي- ط الأولى 1374 ه، 1955 م- نشر دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت.

31- مرآة الحرمين- اللواء إبراهيم رفعت باشا- ط الأولى- مط دار الكتب المصرية- القاهرة سنة 1344 ه 1925 م.

32- المصباح المنير- أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي ط الثانية 1414 ه- نشر دار الهجرة- إيران.

33- معالم مكة التاريخية- عاتق بن غيث البلادي- نشر دار مكة- ط الثانية 1403 ه- 1983 م.

34- معجم البلدان- ياقوت بن عبد اللَّه الحموي- ط دار إحياء التراث العربي- بيروت.

35- معجم متن اللغة- أحمد رضا.

36- معجم مقاييس اللغة.

37- المغازي.

38- المغرب- المطرزي.

39- المطالعة السعودية- عبد الجبار الرفاعي.

40- كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة- إبراهيم بن إسحاق الحربي تحقيق حمد الجاسر- نشر دار اليمامة للبحث والترجمة- الرياض.

41- مقتطفات من رحلة العياشي (ماء الموائد)- لعبد اللَّه بن محمد العياش (1090 ه)- حمد الجاسر- ط الأولى 1404 ه، 1084 م- نشر دار الرفاعي- الرياض.

42- مواقيت الحج والعمرة المكانية- مساعد بن قاسم الفالح- ط الأولى 1413 ه- 1993 م نشر مكتبة المعارف- الرياض.

43- ميقات الحج (مجلة)- عدد 5- السنة الثانية 1417 ه.

44- النهاية- ابن الأثير.

ص: 95

الهوامش:

ص: 96

مختارات شعرية حسان بن ثابت يرثي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

ص: 97

مختارات شعرية حسان بن ثابت يرثي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

بِطيبَةَ رَسْمٌ لِلرَّسُولِ وَمَعْهَدُ مُنِيرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُومُ وَتَهْمَدُ

وَلا تَنْمَحِي الآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ بِهَا مِنْبَرُ الْهَادِي الَّذِي كانَ يَصْعَدُ

وَوَاضِحُ آيَاتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ وَرَبْعٌ لَهُ فِيهِ مُصَلَّى وَمَسْجِدُ

بِهَا حُجُرَاتٌ كانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا مِنَ اللَّهِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوقَدُ

مَعالِمُ لمْ تُطْمَسْ عَلى الْعَهْدِ آيُهَا أَتَاهَا الْبِلَى فالآيُ مِنْها تَجَدَّدُ

عرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُولِ وَعَهْدَهُ وَقبْراً بِهِ وَارَاهُ في التُرْبِ ملْحِد

ص: 98

ظَلِلْتُ بِهَا أَبْكي الرَّسُولَ فأَسْعَدَتْ عُيُونٌ وَمِثْلَاها مِنَ الْجَفْنِ تُسْعِدُ

تَذَكَّرُ آلَاءَ الرَّسُولِ وَما أَرَى لَها مُحْصِياً نَفْسِي فَنفْسِي تَبلَّدُ

مُفَجَّعَةٌ قَدْ شَفَّها فَقْدُ أَحْمَدٍ فَظَلَّتْ لِآلَاءِ الرَّسُولِ تُعَدِّدُ

وَمَا بَلغتْ مِنْ كلِّ أَمْرٍ عَشِيرَه وَلكِنَّ نَفْسِي بَعْضَ مَا فِيهِ تَحْمَدُ

أَطَالَتْ وُقُوفاً تَذْرِفُ الْعَيْنُ جُهْدَهَا علَى طَلَلِ الْقَبْرِ الَّذِي فِيهِ أَحْمَدُ

فَبُورِكتَ يَا قَبْرَ الرَّسولِ وَبورِكَتْ بِلَادٌ ثَوَى فيها الرَّشيدُ المُسَدَّدُ

وَبُورِكَ لَحْدٌ مِنْكَ ضُمِّنَ طَيِّباً علَيهِ بناءٌ من صفيحٍ مُنَضَّدُ

تَهيلُ عليْهِ التُّرْبَ أَيْدٍ وَأَعْيُنٌ عليهِ وَقَدْ غَارَتْ بذَلِكَ أَسْعُدُ

لَقَدْ غَيَّبوا حِلْماً وعلْماً وَرَحْمَةً عشِيَّةَ عَلَّوْهُ الثَّرَى لا يُوَسَّدُ

وَراحوا بُحزْنٍ لَيْسَ فيهِمْ نَبِيُّهمْ وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظُهورٌ وَأَعْضُدُ

يُبكُّونَ مَن تبكي السمواتُ يَوْمَه وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكمَدُ

ص: 99

وَهَلْ عَدَلَتْ يَومْاً رَزِيَّةُ هَالِكٍ رَزِيةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحمدُ

تقَطَّعَ فيهِ منزلُ الوَحْىِ عَنهُمُ وقَدْ كانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ ويُنْجِدُ

يَدُلُّ عَلى الرَّحمنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ

إِمامٌ لَهمْ يَهْدِيِهُم الحقَّ جاهداً مُعلِّمُ صدْقٍ إنْ يُطيِعوه يَسْعدُوا

عَفُوٌّ عن الزلاتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ وَإِنْ يُحْسِنُوا فَاللَّهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ

وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لم يَقُوموا بحَمْدِهِ فَمِنْ عِنْدِه تيْسيرُ مَا يَتَشدَّدُ

فَبينا هُمُ فِي نِعْمةِ اللَّه بينَهُمْ دليلٌ به نَهْجُ الطَّرِيقةِ يُقْصَدُ

عزيزٌ عليْهِ أَنْ يَحِيدُوا عن الهدَى حَرِيصٌ علَى أَنْ يَسْتَقِيموا ويَهْتدُوا

عطُوفٌ عَليهم لَايُثنِّي جنَاحَهُ إلَى كَنفٍ يَحْنُو عليهم وَيَمْهِدُ

فَبَيْنَاهُمُ في ذَلِكَ النُّورِ إِذْ غدَا إِلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ من المَوْتِ مُقْصِدُ

فأَصْبَحَ محمُوداً إِلَى اللَّهِ رَاجعاً يُبَكِّيهِ جَفْنُ المُرْسَلَاتِ وَيَحْمَدُ

ص: 100

وَأَمْسَتْ بِلَادُ الْحَرْمِ وحْشاً بقاعُهَا لِغَيْبَةِ مَا كانَتْ مِنَ الْوَحْيِ تَعْهدُ

قِفَاراً سِوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضافها فَقِيدٌ يُبَكِّيهِ بَلَاطٌ وَغَرْقدُ

وَمَسجِدُهُ فالمُوحِشاتُ لِفَقْدِهِ خَلاءٌ لَهُ فِيهِ مَقامٌ وَمَقْعَدُ

وَبالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ أَوْحَشَتْ دِيَارٌ وَعَرْصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ

فَبَكِّي رَسُولَ اللَّهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً وَلَا أَعْرِفَنْكِ الدَّهْر دَمْعَكِ يَجْمَدُ

وَمَالَكِ لَا تَبْكينَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتي على النَّاسِ مِنْها سَابغٌ يَتَغَمَّدُ

فَجُودِي علَيْهِ بالدُّمُوعِ وَأَعْوِلي لِفَقْدِ الَّذِي لامِثْلُهُ الدَّهْرُ يُوجَدُ

وَمَا فَقَدَ المَاضُونَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ وَلَا مِثْلُهُ حَتى الْقِيَامةِ يُفْقَدُ

أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةٍ بَعْدَ ذِمَّةٍ وَأَقْرَبَ مِنْهُ نائِلًا لَايُنَكَّدُ

وَأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيفِ وَتَالِدٍ إِذَا ضَنَّ مِعْطَاءٌ بمَا كانَ يُتْلِدُ

وَأَكرَمَ حَيَّاً فِي الْبُيُوتِ إِذَا انْتَمَى وَأَكْرَمَ جَدَّاً أَبْطَحِيّاً يُسَوَّدُ

ص: 101

وَأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وَأَثْبَتَ فِي الْعُلَى دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ

وَأَثْبَتَ فَرْعاً فِي الْفُرُوعِ وَمَنْبِتاً وَعُوداً غَدَاةَ المُزْنِ فالْعُودُ أَغْيَدُ

رَبَاهُ وَلِيداً فَاسْتَتَمَّ تَمَامَهُ عَلى أَكْرَمِ الخيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدٌ

تَنَاهَتْ وَصَاةُ المُسْلِمينَ بِكَفِّهِ فَلَا الْعِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلَا الرَّأيُ يُفْنَدُ

أَقُولُ وَلَا يُلْفَى لِقَوْلِيَ عائِبٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا عَازِبُ الْعَقْل مُبْعَدُ

وَلَيْسَ هَوَائِي نَازِعاً عَنْ ثَنَائِهِ لَعلِّي بِهِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ أَخلُدُ

مَعَ المُصطَفى أَرْجُو بِذَاكَ جِوَارَهُ وَفي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أَسْعَى وَأَجهَدُ

***

ما بَلُ عَيْنِكَ لَاتَنَامُ كأَنَّمَا كُحِلَتْ مَآقِيهَا بكُحْلِ الأَرْمَدِ

جَزَعاً علَى المَهْدِيِّ أَصْبَحَ ثَاوِياً يَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ الحصَى لَا تَبْعُدِ

وَجْهِي يَقِيكَ التُّرْبَ لَهْفِي لَيْتَني غُيِّبْتُ قَبْلَكَ فِي بَقيعِ الْغَرْقَدِ

بأَبي وَأُمِّي مَنْ شَهِدْتُ وَفَاتَهُ فِي يَوْمِ الاثْنَينِ النَّبيُّ المُهْتَدِي

ص: 102

فَظلِلْتُ بَعْدَ وَفاتِهِ مُتَبَلِّداً مُتَلَدِّداً يَا لَيْتَني لَمْ أُولَدِ

أَأُقِيمُ بَعْدَكَ بالمَدِينَةِ بَينْهُمْ يَا لَيْتَنِي صُبِّحتُ سَمَّ الأسْوَدِ

أَوْ حَلَّ أَمْرُ اللَّهِ فِينَا عَاجِلًا فِي رَوْحَةٍ مِنْ يَوْمِنَا أَوْ فِي غَدِ

فَتقُومَ سَاعَتُنا فَنَلْقَى طَيِّباً مَحْضاً ضَرَائِبُهُ كَرِيمَ المَحْتِدِ

يَا بِكْرَ آمِنَةَ المُبَارَكِ بِكْرُهَا وَلَدَتْهُ مُحْصَنَةً بِسَعْدِ الأسْعُدِ

نُوراً أَضَاءَ علَى البَرِيَّةِ كُلِّها مَنْ يُهْدَ لِلنُّور المُبَارَكِ يَهْتَدِي

يَا رَبِّ فاجْمَعْنَا مَعاً وَنَبِيَّنَا فِي جَنَّةٍ تَثْنِى عُيُونَ الْحسَّدِ

فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ فاكْتُبْهَا لَنا يَا ذَا الجلَالِ وَذَا الْعُلَا وَالسُّؤدَدِ

وَاللَّهِ أَسْمَعُ مَا بَقِيت بِهَالِكٍ إِلَّا بَكَيْتُ على النَّبيِّ مُحَمَّدِ

يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبيِّ وَرَهْطِهِ بَعْدَ المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المَلْحَدِ

ضَاقَتْ بِالانْصَارِ الْبِلَادُ فأَصْبَحَتْ سُوداً وُجُوهُهُمُ كلَوْنِ الإِثْمِدِ

ص: 103

وَلَقَدْ وَلَدْنَاهُ وَفِينَا قَبْرُهُ وَفُضُولُ نِعْمَتِهِ بِنَا لَم يُجْحَدِ

وَاللَّهُ أَكْرَمَنَا بِهِ وَهَدَى بِهِ أَنْصَارَهُ في كُلِّ سَاعَةِ مَشْهَدِ

صَلَّى الإلهُ وَمَنْ يَحُفُّ بِعَرْشِهِ وَالطيِّبُون علَى المُبَارَكِ أَحَمدِ

***

آلَيْتُ مَا فِي جَمِيعِ النَّاس مُجْتَهِداً مِنِّي أَلِيَّةَ بَرٍّ غَيْرِ إِفْنَادِ

تَاللَّهِ مَا حَملَتْ أُنْثَى وَلَا وَضعَتْ مِثْلَ الرَّسُولِ نَبيّ الأُمَّةِ الْهَادِي

وَلا بَرَا اللَّهُ خلْقَاً مِنْ بَرِيَّتهِ أَوْفَى بِذمَّةِ جَارٍ أَوْ بِميِعادِ

مِنَ الَّذِي كان فِينا يُسْتَضَاءُ به مُبارَكَ الأَمْرِ ذَا عَدْلٍ وَإرْشَادِ

مُصَدِّقاً لِلَّنبِيين الأُلَى سَلَفُوا وَأَبْذَلَ النَّاسِ لِلْمَعْرُوفِ لِلْجَادِي

يَا أَفْضَلَ النَّاسِ إِنّي كُنْتُ فِي نَهَرٍ أَصْبَحْتُ مِنْهُ كَمِثْلِ المُفْرَدِ الصَّادِي

أمْسَى نِسَاؤُكَ عَطَّلْنَ الْبُيُوتَ فَمَا يَضْرِ بْنَ فَوْقَ قَفَا سِتْرٍ بأوْتَادِ

مِثْلُ الرَّوَاهِبِ يَلْبَسْنَ المُسُوحَ وَقَدْ أَيْقَنَّ بِالبُؤْسِ بَعْدَ النِّعْمَةِ الْبَادِي

البَيت العَتيق ... خَواطر وأشجان

البَيت العَتيق ... خَواطر وأشجان

محمّد النّقدي

تقديم: منذ عدة أشهر والحكومة السعودية تضرب طوقاً خشبياً حول الكعبة الشريفة، قِبلة المسلمين في العالم، للقيام ببعض التعميرات وإصلاح الشقوق التي ألمّتْ بالسقف وترميم الخسف الحاصل بأرض البيت الحرام.

هذا الذي بين يديك، عزيزي القارئ، يضمّ مُشاهدات أحد رجال الدين الذين تشرّفوا بالدخول إلى عُمق البيت العتيق في رحلة العمرة المفردة، نهاية شهريور عام 1375 شمسي (جمادى الأولى 1417 ه/ أيلول 1996 م).

الذين سُعِدوا ونالوا شرف زيارة مكة المكرمة يعلمون جيداً أيّ شعور ينتاب من تكتحل عيناه برؤية ذلك المكان الطاهر وهو يطوي الأرض باتّجاه المسجد الحرام. هناك تنقلب حاله بمجرد وقوع بصره على قبلة المسلمين وملاذهم الوحيد، فتسيل دموعه جارية دون إرادة، وتخرج الآهات المصحوبة باللّوعة من أعماق صدره خلال مناجاته ربّ الأرباب.

ص: 105

إنّ عظمة الكعبة المشرفة وبهاءَها، والأروقة البديعة المحيطة بالمسجد الحرام، ومقام إبراهيم وحجر إسماعيل، والميزاب الذهبيّ المُشرِف من سطح البيت العتيق، ... كلّ واحد من تلك المشاهد المقدسة والمعالِم الطاهرة تنبئ بالجلال والعظمة، وتأسر فؤاد أيّ ناظر إليها لا محالة، ومهيّجة في نَفس الملهوف عليها ذكريات تأريخيّة خالدة، لا يمحوها الزمن ولا تغيّرها الأيام. لكن أكثر ما يُلفت النظر في ذلك المكان المهيب، هي حالة المناجاة التي تعتري الزائرين المجتمعين في تلك البقعة المقدسة الوافدين من كلّ الأصقاع والأمصار، الحافّين بالكعبة المشرفة كالفَراش الذي يحيط بالسراج.

وما أروع نشيد «لبّيك» وهو ينطلق من حناجر ملايين المؤمنين المُلبّين دعوة إبراهيم خليل اللَّه، وهم يرسمون أجمل لوحة وأبهى صورة، رغم اختلاف ألوانهم وتعدّد ألسنتهم وتفاوت قوميّاتهم، طائفين حول الكعبة الحبيبة في حركة هادئة وانسجام تامّ! والمسجد الحرام هو الوحيد من بين مساجد الدنيا الذي يحمل في ثناياه ذكرى طواف نحوٍ من ألف نبيّ وصلاتهم فيه (1)، وهو المكان الذي تزول عنده الاعتبارات الظاهرية، حيث يقف المَلك والفقير والسلطان والصّعلوك والأبيض والأسود والكبير والصغير جنباً إلى جنب صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، معبّرين بدموعهم وآهاتهم عن أقصى حالات العجز والخضوع والعبودية. إنّه حقّاً لمشهد مؤسر تَصغر دونه المشاهد.

وليت شعري ما بالُ فنّانينا المسلمين الملتزمين لا يحذون حَذوَ باقي فنّاني الشعوب الأخرى.. يقيمون النّصب التذكارية الخالدة لِما خلّفه الأنبياء والصالحون والشهداء والصّديقون، ويحيون طقوسهم وشعائرهم التي وردت في الكتب السماوية المقدسة، ويُفرغون ما بداخلهم من إبداع وآثار فنيّة.. يصوّرون بذلك هذا الطواف الرائع الذي لا يُضاهى والمُعبِّر عن جوهر التوحيد، والذي يروي قصة ماضٍ تليد يمتدّ آلاف السنين في عُمق التأريخ، ويحكي عن ارتباطه بسائر الأديان


1- 1 مستدرك الوسائل 2: 145.

ص: 106

التوحيديّة الأخرى بآصرة لاانفصام لها.

إنّ لليالي المسجد الحرام، لو اطّلعتَ عليه من الطابق الثاني أو الثالث، روعةً وجمالًا وخلوداً في الذاكرة لا توصَف.

رويَ عن أحد الأئمة المعصومين عليهم السلام أنّ هناك مئة وعشرين باباً للرحمة حول الكعبة، جُعِلت ستون منهاللطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين إليها (1).

نعم، إنّ ها هُنا بَيتاً يُثاب النّاظرُ إليه بعبادة سنين.

*** ما أسطّره من خواطر هنا يرجع تأريخها إلى جمادى الاولى من عام 1417، أثناء رحلتي الأخيرة لمكة المكرمة بقصد العُمرة.

إنّ الكعبة الشريفة، وإن كانت جغرافياً تقع في شبه جزيرة العرب، إلّاأنّها تقطن في الواقع قُلوب المُلهفين إليها والمتيمّنين بها في بقعة من بقاع المعمورة، ويتطلّعون إلى اليوم الذي يتمكنون فيه من زيارتها ورؤيتها عن كثب، فيطوفون حولها، ويؤدون المناسك الخاصة بها على أكمل وجه. ولقد مُنِحتُ أنا العبد الفقير هذا الشرف الكبير مرةً أخرى بفضل اللَّه وبركة صاحب العصر والزمان (عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف)، إذ كنتُ قد سُعِدتُ بزيارة الكعبة قبل هذا عدة مرات، وما كنتُ في خضمّ ذلك الجمّ الغفير إلّاكقطرة من ماء في بحر لجيّ متلاطم الأمواج من البشر، الذين وفدوا على الحرم الإلهيّ الطاهر الآمِن ليؤدّوا واجب الولاء والخشوع. لكنني حُرِمتُ في رحلتي الأخيرة هذه، على غير توقّع وانتظار، من إمتاع ناظريّ بجدران الكعبة، حيث ضُرِبَ حولها طوق من الألواح الخشبية الشبيهة بألواح الفايبر، طول الواحدة منها متران وعرضها متر واحد، وسُدَّت كلّ المنافذ الواصلة إليها. وبلغ الطوق المذكور، الذي غطى جهات البيت الأربع، من الارتفاع بحيث كان يتعذّر علينا رؤية الكعبة حتى من الطابق الثاني للمسجد الحرام. كان السور الخشبيّ العالي هذا، والذي طُليَ باللون الأبيض، لكنّه أشبه


1- 1 كتاب الوسائل، باب الحج 2: 303.

ص: 107

بسحابة سوداء، تُحيط بالبيت الذي وضع إبراهيم الخليل أساسه. زرعت الحسرة في قلوب كلّ المشتاقين.

كانت المسافة من السور المذكور إلى الكعبة الشريفة (من جهة مقام إبراهيم) نصف مطاف كامل، وغطى السور كذلك حجر اسماعيل بصورة تامة بل وجاوزه الى بُعد ثلاثة أمتار. كان الزحام أشدّ عند باب الكعبة والركن اليماني في الجهة المقابلة، وذلك لوجود رافعة عملاقة نُصِبت هناك أُحيطت بسور بلغ ارتفاعه حوالى (15) متراً، وقد وُضِعَت في الفناء الذي يَلي الرافعة مواد إنشائية مختلفة.

ولايَبعد السور الخشبيّ عن الركن اليمانيّ والكعبة الشريفة إلّاقرابة مترين فقط.

وهكذا لَم تَبِن من البيت العتيق إلّازاوية صغيرة عند ركن الحجر الأسود لا تكاد تَكفي لتَقبيله أو لَمسه.

ولم أكن الوحيد من بين الزائرين لبيت اللَّه الذي بهُت ودهش بمشاهدته ذلك المنظر الغريب، بل لقد بَهُتَ كذلك كلّ الواردين على المسجد الحرام، وأصابتهم الحيرة والدهشة عند دخولهم إلى ساحته ورؤيتهم ذلك السور الجاثم على أنفاس الكعبة الشريفة كالضباب الكثيف الغليظ. فخيّم عليهم، وأنا منهم، حزن كبير وألمٌ شديد، وظلّ الحزن والألم مصاحبَين لي حتى اليوم الأخير من رحلتي تلك، فكنتُ كمَن يبحث عبثاً عن ضالّته. كنتُ أتمنى أن يُسعفني الحظّ فأبكي ذنوبي عند حائط الكعبة ثم أمسح الدموع بجدارها. ربّ قائل يقول: إنّ هذا الجدار إنّما هو حجارة ولِبن، وهذا صحيح، لكن ما تحمله هذه الحجارة وذلك اللّبن من ذكريات عزيزة ومعانٍ جليلة تتمثل في الإحساس بوجود بصمات مُعظم الأنبياء والأولياء يفوق الحبّ والعشق، ويجعله جديراً بأن يُقَبَّل ويُشَمّ، ولم يكن ذلك في تصوّري، بل وفي تصوّر الجميع، إلّاجُزءاً لا يتجزّأ من العبادة والتّقرّب إلى البارئ عزّوجلّ.

كنتُ وجميع زائري بيت اللَّه الحرام مُنهمكين طيلة أسبوع بالطواف حول البيت المعمور وإقامة الصلاة وتلاوة القرآن، وذلك بالطّبع بعد الانتهاء من أداء

ص: 108

مناسك العمرة ... لكنّ حسرة لقاء بيت المَعشوق ظلّت راسخة في عُقر فؤادي ومُقيمة في أعماقي.

وأملًا مني في أن أحظى بلَمس البيت الحرام جلستُ (يوم الثلاثاء 3/ 7/ 1375/ 24/ 9/ 1996/ 10/ جمادى الاولى/ 1417) بالقرب منه بعد انتهائي من ختم القرآن وأداء صلاة الظهر، منتظراً مترقّباً فرصة السماح لي بذلك.

كانت أشعة الشمس مُحرقة، يحول لظاها وحرّها دون المكوث هناك طويلًا. ومع ذلك فقد انظمّت إليّ مجموعة أخرى من المشتاقين للكعبة آملين أن يُفتَح لنا الطريق بين لحظة وأخرى، لكنّ التعامل الخشن لأفراد الشرطة وقوات الأمن الذين كانوا يأمرون الناس جميعاً بالإبتعاد عن البيت زاد من درجة يأسنا المشحونة داخلنا، فرأى بعضهم العدول عن الأمر، وإعادة الكَرّة وقت صلاة العصر من جديد.

وبالرغم ممّا شاهدته من تعنّت وصلابة لا مبرّر لهما من قِبَل أفراد الشرطة وقوات الأمن، لكنّ نَفسي لم تُطاوعني على الرجوع والعدول عن تصميمي وترك المكان، فكنتُ أتنقّل هنا وهناك بحُجج مختلفة، وتمّ لي الطواف حول الكعبة مرات عدة منتظراً اقتناص الفرصة المناسبة.

وفي هذه الأثناء، لفتَ أعرابيّ لبس لباساً عادياً انتباهي وهو يُدخِل مجموعة من الزوار، الواحد تلو الآخر، إلى داخل «المنطقة الممنوعة!» موصياً إيّاهم بعَدَم التّجمهر في مكان واحد. وما إن هممتُ بالانضمام إلى تلك الجماعة حتى ازداد الزحام واشتدّ التّدافع بيننا، لكنني، مع ذلك، وُفِّقتُ بالانضمام إليهم على أيّة حال، حتى بلغ الأمر حدّاً فقدت فيه الشرطة سيطرتها على الجموع الهائجة، فأغلقوا الباب الرئيسية وشرعوا يطردون كلّ من صادفهم عندها بقسوة وفظاظة لا نظير لهما ... وهكذا خانني الحظّ ثانية وحُرِمتُ من الدخول إلى الكعبة الشريفة. فقلتُ لنَفسي: «يبدو أنّ صحيفة أعمالي سوداء إلى الحدّ الذي لم أُعطَ فرصة الدخول إلى بيت حَبيبي ...»، فأجابَتني على الفور: «تُكثِرُ الحَزّ وتُخطِئ المَفْصِل!».

ص: 109

خرجت بعد ذلك، أجرّ ورائي أذيال الخيبة والخسران، والندم والحرمان، وبدأتُ باغتنام الفرصة فقمتُ بالطواف حول البيت منهمكاً في الدعاء والمناجاة مع ربّ العزة.

وبعد مرور قليل من الوقت، صادفني بعض العمال الباكستانيّين الذين كانوا يرتدون زيّاً خاصاً ويحملون بطاقات دخول خاصّة بهم، فقلتُ لأحدهم: «هل لي بالدخول معكم إلى حيث تقصدون؟!» فأجاب: «عليك باستحصال الإذن أولًا من الشرطة، فهذا ليس بمقدورنا!». فعاودني اليأس من جديد وكان يشدّني إلى ترك المكان والرحيل، لكنّ ذلك لم يكن ما أريد ولا ما عانيتُ من أجله. فعاودتُ الطواف ثانية حتى عدتُ إلى سابق مكاني، وهناك لمحتُ أحد المواطنين العرب ممّن يلبسون العقال والكوفية مصطحباً معه شخصين أو ثلاثة، قاصداً إدخالهم إلى داخل الكعبة الشريفة، وبعد اصطدامه بالجموع المزدحمة هناك، فرّقهم ودخل إلى البقعة الممنوعة بعصبية وغضب كبيرين. فتبعتهم دون وَعي أو شعور مني بالخطر الذي قد يلمّ بي، بل وسبقتهم بالدخول، وسرتُ معهم جنباً إلى جنب بصمت وهدوء مصحوبين بالحذر الشديد حتى وصلنا إلى إحدى الأبواب. وحال وصولنا إليها أوصدها السدنة بوجهنا بقوة، ثم فُتِحَت منها نافذة صغيرة (10* 20 سم) لتُغلَق هذه أيضاً بعد قليل. ولمّا رأى العربيّ ذلك غضب وطرق الباب بشدة منادياً أحد الأشخاص باسمه، ففتح الشخص المُنادى الباب، ولما وقعت عيناه على العربيّ رحّب به واستقبله بحفاوة وتكريم، فدخل الجميع ودخلتُ معهم كذلك. ثم خَطونا نحو الباب الرئيسية التي تبعد عن الساحة الأولى حوالى خمسة أمتار أو ستة. ولا أُكذبكم الخبر، فقد كان الخوف متمكّناً مني ويتملّكني القلق ممّا سيحدث. على كلّ، وصلنا الباب الثانية ودخلنا. هناك، كان أنين الأيام وحُزن السنين يحكيان قصة المكان من خلال حديث مُسهب ذي شجون، وشُغِل كلّ مجنون منّا بليلاه، فانقلب حالنا، وآل المآل إلى حيث أراد شديد المحال ...

ص: 110

لقد وقع بصرنا أوّل ما وقع على سقالات حديدية نُصبت على طول ارتفاع البيت الكريم غطّته من جهاته الأربع، وكنا نسير على ممرّ ثلاثي الطبقات من الخشب يمرّ بحجر إسماعيل ويتحول منه إلى سلّم خشبيّ أيضاً حتى وصوله إلى الركن الذي يقع عند مقام إبراهيم، ثم ينتهي بنا إلى داخل البيت الشريف. فعبرنا الألواح ووصلنا إلى باب البيت العتيق الذي أزيل عنه مصراعاه، ووضع بدل ذلك داخل إطار حديديّ مُحكم. دخلنا هذا الباب إلى داخل البيت، فوجدنا حوالى 10 أو 15 شخصاً كلّهم كانوا مشغولين بإقامة الصلوات وكان معظمهم من عمّال البناء، منهم من نزل إلى السجود وآخرون بين قيام وقعود. فأسرعتُ إلى الصلاة موجّهاً وجهي نحو إحدى أركان البيت الحرام. لقد كان حال الموجودين منقلباً انقلاباً شديداً، وكان صوت بكائهم الممزوج بالرهبة والخوف والخشوع يتردّد صداه في زوايا البيت وحناياه. كانت بصمات الدهر الماضي واضحة المعالِم في كلّ نقطة وبقعة من الجدران الداخلية، ولحسن الحظ لم تمتدّ إليها يَد التّعمير بعد. وعلى عكس الأحجار التي تُرى من الخارج، كانت أحجار الجدار غير المصقولة من الداخل تتراوح بين حجر كبير وآخر صغير ... كأنّها طُليت بالإسمنت وحسب ...! كان واضحاً أنّ أرضية البيت التي غطّاها الإسمنت حتى حافة باب البيت، قد خضعت لبعض التعميرات في السابق، باستثناء بعض السنتيمترات التي خُصّصت لقطع وصقل أحجار المرمر. لكنّ الذي لفتَ انتباهي هنا هو أنّ الإسمنت الموجود لم يكن من نوع الإسمنت الذي نعهده، إذ كان يبدو ممزوجاً ببعض المواد الغريبة الأخرى ...! أما أرضية البيت فقد سُوّيت بدقّة متناهية، وكانت تُلاحَظ وجود طبقة من العازل (عازل الرطوبة) بسُمك 10 سنتيمترات واضحة للعيان من خلال حافّات الإسمنت المصبوب على الأطراف، والتي ستزول لا محالة سريعاً بعد إكساء الأرضية بالمرمر.

وبدا لي كذلك أنّ السقف قد أُزيل أيضاً واستحدث مكانه سقف جديد

ص: 111

يتكوّن من طبقتين يمكن تمييزهما عن بعضهما بوضوح، مفتوح في إحدى زواياه عند باب الكعبة المنتهي بحجر إسماعيل بمقدار 5/ 1* 5/ 1 متر مربّع لأجل القيام بأعمال البناء ومرور الرافعة من خلاله كذلك. وكان السقف العلويّ مغطًى بأخشاب ضخمة بنيّة اللّون، وأما السفليّ فمن الخشب الرقيق البنيّ اللون والمزيّن بالخطوط. ثم رأيت عمودين إسطوانيّين جميلين يتوسّطان ساحة البيت حيث تفصل بينهما مسافة 4 أمتار، وقد استقرّ الأول عند جهة حجر إسماعيل والآخر على بعد مترين من الجدار (من جهة الركن اليمانيّ إلى ركن الحجر الأسود)، قيل: إنّهما إنّما وُضِعا لُيمسكا السقف، لكنني لم أستطع معرفة المواد التي يتكون منهما هذان العمودان المَطليان بلون بنيّ.

وكما أشرتُ، فقد أزيل عن باب البيت العتيق مصراعاه ووضع داخل إطار حديديّ جميل مُحكم، وربما كان ذلك موجوداً من قبل، ورفِعت كذلك روابط الأحجار عنده على أمل شدّها بأربطة جديدة أخرى بعد وضع الباب ثانية في المستقبل. وكانت توجد في أعلى الباب لوحة خشبية كبيرة بنيّة اللون يزيد عَرضها على عرض الباب، ويبلغ سمكها حوالى 30 سنتيمتراً تحتوي على بعض الثقوب.

أمّا جدران الكعبة من الداخل فقد غُطّيت من الأرضية وحتى ارتفاع (5/ 2- 3 أمتار) بطبقة من المعدن الذي ثُبّت على الجدار بالبراغي والصامولات وبفاصلة (10) سنتيمترات وهي مكان للأغطية التي ستوضع فيما بعد والتي قد تكون من المرمر أو ما شابه ذلك. والى الأعلى من الطبقة المعدنية يمكن مشاهدة الجدران الأصلية على حالها. وعند الركن اليماني قِبالة الباب كان الوضع شبيهاً بوضع الباب السابقة للكعبة التي كانت مُغطاة بالمرمر. ويتوسط البيت صندوق من الخشب المُزخرف والُمخرّم يبلغ طوله 4 أمتار وارتفاعه متراً واحداً وعرضه حوالى 60 إلى 70 سنتيمتراً، موضوع عليه قطعة من المرمر الأخضر المطعّم بالعروق السود الشبيهة بالفيروزج الرائع الجميل.

ص: 112

وهكذا، فقد صلّيتُ ركعتين أخيرتين باتجاه مقام ابراهيم في الوقت المتبقي لي.

وكان ألطف ما خطر ببالي وأجمل ما سكن خيالي أثناء القنوت هو الدعاء بطلب السلامة و العافية لمولانا صاحب الزّمان عليه السلام. ثم قام السدنة با ستعجالنا للخروج فقمتُ بلمس جدار الكعبة مودّعاً إيّاه و طالباً منه عدم جَعل ذلك آخر العهد مني لزيارته ...!

وعند خروجي من البيت الشريف لاحظتُ غياب أحجار الشاذروان بأكملها من حوالى البيت، وصُبّ الإسمنت تحت المرمر بشكل مشابه لِما هو موجود في الداخل وغطّي بأكياس الجوت، وكان العمال يرشّون الماء عليه. فلم يَعُد هناك أيّ وجود للشاذروان أو السلّم الذي كان موجوداً عند جهة حجر اسماعيل وتحت الميزاب الذهبي، وكانت أرضيّته منخفضة بعض الشي ء.

واغتنمتُ هذه الفرصة كذلك وصليّتُ ركعتين تحت الميزاب الذهبي، وهنا شعر أحد رجال الشرطة بوجودي، لكنّه تركني وشأني بسبب انشغالي بالصلاة واتّجه الى داخل البيت الحرام. وبعد فراغي من الصلاة عند حجر اسماعيل شرعتُ بتَقبيل جدران البيت واستشمام عبيرها الفردوسيّ الطاهر وكان معي أحد الباكستانيين (من العمّال المشتغلين بالتعميرات الجارية على الكعبة). كان رجلًا لطيفاً ودمث الأخلاق، فقد كان يمسح رأسي ووجهي وصدري بيده، وقد إغرورقت عيناه بالدموع وهو يكرّر من قول: «أنا من عمال الكعبة ...!».

وخلال صيحات أفراد الشرطة، قمتُ باختلاس نظرة أخيرة من بيت اللَّه العزيز، توجّهتُ بعدها الى المسجد الحرام.

أللهمّ أرزقنا في كلّ عام زيارة بيتكَ الحرام، بحقّ محمّد وآله عليهم السلام.

الهوامش:

الحجّ عبر الحضارات والأمم (3) القدس- الكعبة

ص: 113

الحجّ عبر الحضارات والأمم (3) القدس- الكعبة

ماجدة المؤمن

القدس، هل كانت مركزاً لحج الأنبياء؟

بيت المقدس أو القدس، مدينة تاريخية قديمة عرفت في التاريخ مدينة مقدسة، اهتمت بها الأديان الرئيسية الثلاثة: الديانة اليهودية والديانة المسيحية والدين الإسلامي الحنيف...

ولفرط قداستها اعتبرها اليهود رمزاً لبيت اللَّه تعالى ، واعتبرها النصارى رمزاً لروح القدس، واعتبرها المسلمون أولى القبلتين ومحل إسراء الرسول صلى الله عليه و آله...

وقد حفلت هذه المدينة بالأماكن المقدسة كقبة الصخرة والمسجد الأقصى و هيكل سليمان وحائط المبكى و... مما تقدسه الأديان الثلاثة.

ومن هنا جاء اهتمام التاريخ والأديان بها والصراع عليها، وكلٌ يستطيع أن يؤدي شعائره وطقوسه فيها...

وقد عاش فيها عدد من الأنبياء والمرسلين، فهي في حقيقتها مدينة الأنبياء والأولياء، وليس هناك مدينة في تاريخ العالم تمتعت بقدسية مستديمة منذ أن أسسها

ص: 114

(اليبوسيون الكنعانيون) (1) قبل نحو خمسة آلاف عام حتى يومنا هذا، مثل مدينة أورشليم، (بيت المقدس الحالية): فهي الأرض المباركة «دار السلام» كما سمّاها الأقدمون، وقد حمل ملوكها القدماء لواء عقيدة التوحيد للإله العلي لأول مرة في التاريخ البشري، على ما يرى كثير من المؤرخين (2).

وقد خصّها اللَّه تعالى بالعديد من الأنبياء حتى قيل: إنّ بناءها تم على أيديهم وسكنوها وعمروها «ومافيها موضع شبرإلّا وقد صلّى فيه نبي أو قام فيه ملك» (3)، كما خصّها اللَّه تعالى بإسراء خاتم الأنبياء، ثم إنها قبلة اليهود والنصارى وصلّى إليها المسلمون مع رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله في بداية الدعوة الإسلامية فترة قصيرة حتى منَّ اللَّه تعالى على رسوله المصطفى بقبلةٍ يرضاها:... فلنولينك قِبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثُ ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الذين اوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحقّ من ربّهم وما اللَّه بغافلٍ عما يعملون (4)

.

وبالرغم من هذه القدسية لبيت المقدس لكننا لم نجد في القرآن الكريم ما يشير الى أن اللَّه تعالى ، ينسبه إلى نفسه في الكيفية، التي نتلمسها في الكعبة والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالى : بيتي (5)

و بيتك. كما ورد في قوله ابراهيم عليه السلام مناجياً ربّه عند بيتك المحرم (6)

. ولو رجعنا إلى التوراة التي دونها اليهود أنفسهم في الأسر، بعد السبي البابلي وبعد مضي ثمانمئة عام من نزول الوصايا العشر على موسى عليه السلام وتعاليم الشريعة الموسوية، ثم حشر تاريخ بني اسرائيل فيها والتشويه والتحوير الذي جاء لخدمة مقاصد خاصة وأهداف معينة، حيث اتخذت من شخصية النبي موسى عليه السلام قوة دينية تتشبث بها ضد أعدائها، كما اتخذت من إرجاع أصلها إلى إبراهيم الخليل عليه السلام وحفيده «يعقوب عليه السلام» النسب الأصيل الذي يجعلها أهلًا لتكون «شعب اللَّه المختار»، ومن بيت المقدس عقيدة (الوطن الموعود) الذي يفيض عليها قدسية وروحانية، وعزت كلّ ذلك إلى الإله «يهوه» والى ابراهيم الخليل ويعقوب وكلهم بريئون منها، ولو رجعنا إلى الانجيل فحاله حال


1- 1 اليبوسيون: أقدم سكان أورشليم يرجع الخبراء تاريخ وجودهم في المدينة إلى ما قبل خمسة آلاف سنة حين نزحوا من جزيرة العرب. وكوّنوا في موطنهم الجديد حضارة ذات حكومة وصناعة وتجارة وديانة، المصدر: العرب واليهود في التاريخ: 391.
2- 2 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 386.
3- 3 معجم البلدان، ياقوت الحموي 1: 112.
4- 4 البقرة: 144.
5- 5 البقرة: 125. الحج: 26.
6- 6 ابراهيم: 37.

ص: 115

التوراة، ومع كلّ ما شوهت وكتبت ودست لكننا لا نلمس أثراً ولا نصاً يقول: إنّ اللَّه تعالى نسبه إلى نفسه أو أمر الناس أن يحجوا إليه بينما وجدنا ابراهيم الخليل عليه السلام عندما أقام البيت الحرام (الكعبة) جاءه الخطاب الإلهي وأذّن في الناس بالحج... وجاء تأكيد القرآن الكريم أولوية الكعبة فقال: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة.

هجرة النبي ابراهيم عليه السلام إلى القدس

لقد توصل علماء الآثار في أحدث بحوثهم إلى أن ابراهيم الخليل عليه السلام ظهر في القرن التاسع عشر قبل الميلاد أي قبل حوالى أربعة آلاف عام في بلاد الرافدين، وعاش في زمن نمرود، الملك الذي دفعته أحلامه المزعجة إلى مراقبة الحوامل وقتل الذكور من المواليد.

وزار عُملاؤه والدة ابراهيم عليه السلام ليكشفوا ما في بطنها قبل أن يأتيها المخاض، وجسّوا جانبها الأيمن، فاختفى الجنين في الجانب الأيسر، وجسّوا الأيسر، فاختفى في الجانب الأيمن، فانصرفوا دون أن يظفروا بما ستلد، الأمر الذي اضطر أمَّ ابراهيم أن تلجأ إلى كهفٍ بالقرب من «كوثا» (1)، وهناك رأى ابراهيم الخليل نور الحياة للمرة الأولى (2).

ولما بلغ ابراهيم رشده، كما ورد في القرآن الكريم، من محاورته لأبيه وقومه من عبدة الأوثان، قال تعالى : ولقد آتينا ابراهيم رُشدَه من قبلُ وكُنّا به عالمين* إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلالٍ مبين* قالوا أجئتنا بالحقِّ أم أنت من اللاعبين* قال بل ربّكم ربّ السماوات والأرض الذي فطرهُنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين (3)

.

ثم صمم ابراهيم عليه السلام على تحطيم أصنامهم وأقسم باللَّه على ذلك وتاللَّه لأكيدن أصنامكم بعد أن تُوَلّوا مدبرين* فجعلهم جُذاذاً إلّاكبيراً لهم لعلهم يرجعون*


1- 1 كوثا: مدينة في العراق بالقرب من مدينة بابل الحالية، وكانت مركزاً مهماً للساميين.
2- 2 نقله الطبري، الثعلبي، الكسائي، ابن ميمون، الزمخشري، البيضاوي، ابن الأثير مع اختلاف بسيط في التعابير والألفاظ.
3- 3 الأنبياء: 51- 56.

ص: 116

قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتًى يذكُرهم يُقال له ابراهيم (1)

.

وكانت هذه القضية سبباً لمحاكمته العلنية أمام الأشهاد، وانتصر ابراهيم عليهم من خلال محاججته المنطقية والموضوعية: قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون* قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم* قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون* فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا انكم أنتم الظالمون* ثم نُكسوا على رؤوسهم لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون (2)

.

وبهذا فشل القوم مع ابراهيم عليه السلام، وزادتهم العِزةُ بالإثم عناداً وعداءً لإبراهيم عليه السلام، وأصروا على التخلص منه: قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين* قُلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم* وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين* ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (3)

.

من هنا اتخذ ابراهيم عليه السلام خليل الرحمن، رأياً محدداً في تقرير مصيره، فحين نجّاه اللَّه تعالى من النار التي أضرمها القوم للقضاء عليه، صمم الرحيل والهجرة عن الوطن إلى الأرض المباركة (المقدسة) التي باركها اللَّه تعالى للعالمين كما ذكرتها الآية الكريمة.

أجل إنها كانت مُقدسة، وكان فيها العابد الكاهن الموحّد للَّه تعالى المؤسس لبيت المقدس (ملكي صادق) الذي بارك لإبراهيم عليه السلام كما ذكر المؤرخون والباحثون، وذكروا أيضاً أنّ (ملكي صادق) من سلالة كنعان، وكان محافظاً على سُنة اللَّه القديمة بين شعب وثني، وقد عُرف بالتقوى والزهد، وقيل: إنه كان يسكن هو وقومه في الكهوف، وكان أول من اختط (أورشليم) القدس وبناها وكان محباً للسلام حتى أطلق عليه «ملك السلام» ومن هنا جاء اسم المدينة «سالم» اي مدينة السلام، ثم «شالم» و «شليم» فهي اليوم «أورشليم» (4).


1- 1 الأنبياء: 57- 60.
2- 2 الأنبياء: 62- 65.
3- 3 الأنبياء: 68- 71.
4- 4 انظر العرب واليهود في التاريخ: 385- 387.

ص: 117

هاجر ابراهيم خليل اللَّه مع زوجه سارة ولوط وعدّة من أتباعه تحفهم رعاية اللَّه ورحمته إلى مدينة (حاران) (حرّان الحالية) ومنها إلى أرض كنعان «شليم» فلسطين الحالية، ليستقر هو وأتباعه بالقرب من الرجل الصالح «ملكي صادق».

أمّ إبراهيم تخفي ولدها في كهف بالقرب من «كوثا»

ص: 118

وبعد فترة، أصاب المدينة قحط وغلاء، فانحدر ابراهيم عليه السلام وزوجه إلى مصر، ثم غادرها عائداً إلى «شليم» وأقام في حبرون مدينة الخليل الحالية، ثم رزقه اللَّه ذكراً من الجارية المصرية هاجر أسماه اسماعيل الذي فداه اللَّه تعالى بالذبح العظيم كما ذكرنا سابقاً بعد بناء الكعبة الشريفة.

من خلال ما وصل إلينا من أخبار المؤرخين ومن بحوث المنقبين في الآثار ومن القرآن الكريم وغيرها، لم يذكر أحدهم أنّ ابراهيم عليه السلام هاجر إلى القدس ليحج فيها، أو رجع من مصر ليؤدي مراسم الحج في القدس، أو أنه اتخذها مكاناً للحج أو دعا للحج فيها، بل هي دار هجرته وغربته كما تذكر التوراة: «تغرب ابراهيم في أرض الفلسطينين» (1). وكذلك «وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه في أرض كنعان» (2).

وهذا ما قد عرفنا أنّ وطن ابراهيم الأول هو بلد وادي الرافدين أي في العراق الحالي، بل انه عراقي المولد كنعاني الأصل يرجع إلى الجزيرة العربية التي انحدر منها آباؤه وأجداده إلى بابل. والجزيرة العربية أصبحت بعد ذلك موطن ذريته من اسماعيل بعد أن أسكنه هو وأمه فيها...

القدس في عهد يوسف عليه السلام

ورزق اللَّه ابراهيم عليه السلام في شيخوخته ولداً آخر سمّاه (اسحاق) أسكنه وأمه العجوز سارة في مدينة حبرون (الخليل الحالية)، وآلَ أمر اسحاق عليه السلام أن يكون نبياً ويرزق بيعقوب نبياً، وشاء اللَّه تعالى ان يرزق يعقوب أحدَ عشرَ ولداً ذكراً من زوجاته الأربع من بينهم كان يوسف الأثير عند أبيه يعقوب يخصّه بقسط عظيم من محبته ويميزه على اخوانه، وكان يوسف عليه السلام حسن السيرة، جميل الصورة، كثير الأحلام الصادقة، مما جعل يعقوب عليه السلام يهتم به ويؤثره عليهم فسبب ذلك حقد اخوته عليه، ثم كان سبباً في محنته وغُربته عن الوالد حوالى ثلاثين عاماً لكنها- المحنة والغربة- كانت خيراً وبركة عليه وعلى الأمم القريبة من مصر وعلى


1- 1 العهد القديم، التوراة، سفر التكوين.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 119

مصر نفسها وعلى اورشليم موطن غربتهم...

وذُكرت قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم بشكل مفصل وجميل كما ذكرتها التوراة مع فارقٍ بسيط، وفي هذا الحديث لا يهمنا من قصة يوسف وأحداثها سوى أنه عندما خرج من بيت المقدس مباعاً إلى «فاطيفور» (1) الجندي الفرعون، ثم دخل مصر. هل رجع إلى القدس حاجاً لها؟... هذا ما ستبينه المفاجأت في حياة يوسف عليه السلام!

تغرب يوسف عليه السلام عن الأهل والأحبة والاخوان عدداً من السنين، وبعد معاناة طويلة صار وزيراً على مصر كلّها، فبعث وراء أبويه وعشيرته عن طريق اخوته الذين أرسلهم أبوهم (يعقوب عليه السلام) نتيجة القحط والفقر والجدب الذي أصاب مدينة «أورشليم» وما حولها من البلدان الا مصر بشهامة يوسف عليه السلام وعقله الناضج، حيث ادّخر المواد الغذائية في المخازن المصرية الفرعونية في أيام الوفرة لأيام القحط (2)...

واستقر آل يعقوب «بنو اسرائيل» (3) في مصر الفرعونية، حتى وفاة يعقوب عليه السلام حيث جهزه يوسف عليه السلام مع وفد من أهل بيته ورجاله في موكب عزٍّ وجلال ودُفن في منطقة «بئر الحي الرائي» (4) بالقرب من قبر أبيه اسحاق وجده ابراهيم عليه السلام، في مدينة الخليل الحالية.

وبقي بنو اسرائيل في مصر وتوفي يوسف عليه السلام، ولم يذكر التاريخ لنا أو الآثار أو التوراة أو أي كتاب سماوي أن يوسف عليه السلام خلال مدة إقامته في مصر أنه حجَ بيت المقدس أو دعا القوم للحج إليه، بل كلّ ما وصلنا أنّ بيت المقدس وما حولها في عهد يوسف عليه السلام أصابها جدب وقحط وقلة في الأمطار حتى تركها الأغلبية من سكنها طلباً للماء والغذاء.

إذن دخول بني اسرائيل- بني يعقوب- مصر وكان عام (1656) ق. م عن طريق يوسف عليه السلام في عهد الملك (أبو فيس) ملك الهكسوس في الأسرة السادسة


1- 1 نقلت المصادر التاريخية وكذلك التوراة أن الذي اشترى يوسف عليه السلام من اخوته كان هذا الجندي، راجع التوراة، العهد القديم، سفر التكوين.
2- 2 راجع القرآن الكريم الآيات الشريفة من سورة يوسف، والتوراة، العهد القديم، سفر التكوين.
3- 3 يعقوب: هو اسرائيل وتعني بالعربية عبداللَّه وسمّيَ ابناؤه باسمه بنو اسرائيل.
4- 4 راجع، التوراة، العهد القديم، سفر التكوين.

ص: 120

عشرة، وكان عددهم كما ورد في التوراة سبعين شخصاً بقيادة يعقوب عليه السلام (1)...

واستقرت هذه الأسرة حوالى (400) عام حتى ظهر موسى عليه السلام بينهم...

هذا ما كان للقدس منذ زمن اسحاق عليه السلام حتى موسى عليه السلام فلم يحج أحدهم إليها رغم قدسيتها ومقامها عند الجميع، والقدسية شي ء والأمر الإلهي شي ءٌ آخر.

موسى الكليم عليه السلام والقدس

وقصة موسى عليه السلام، قصة العظات والعبر والدروس، ذكرها القرآن الكريم بكامل تفاصيلها لأهميتها، ولبيان حماقة قومه الذين كانوا مستضعفين ومضطهدين، فأنجاهم موسى عليه السلام ليسير بهم إلى الأرض المقدسة، فيسكنهم فيها، لكنهم لجوا وكفروا فباءوا بغضبٍ من اللَّه إلى يوم يُبعثون.

وذكرت التوراة قصته بما يشابه ما قصّه القرآن الكريم في ذكر عنادهم ولجاجتهم، إلّاأن التوراة حوّرت في نهاية مطاف بني اسرائيل مع موسى عليه السلام وأخبار الأجداد والسلف منهم في شرعية استحلال القدس ودخولها وقتل أهلها وسلبهم وحرق ما حلى لهم من ممتلكات سكان أهلها. فقد ذكروا أنّ ابراهيم الخليل حين دخل مدينة «ملكي صادق» باركه الرب وقطع معه ميثاقاً هذا نصّه:

«لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير إلى نهر الفرات» (2).

وفي موضع آخر من التوراة نجد النص التالي: «وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك. كلّ أرض كنعان لك ملكاً أبدياً» (3).

ولو رجعنا إلى كليم اللَّه موسى عليه السلام واستقرأنا تاريخه منذ الولادة حتى الوفاة والرحيل إلى الملكوت الأعلى ، لنفهم ما هي علاقته عليه السلام بالأرض المقدسة وبيت المقدس، وهل كان يزورها ويحج إليها؟... هذا ما ستمليه علينا النصوص الواردة فيه.

وموسى عليه السلام: هو ابن عمران بن قاهان بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وُلد في مصر، وتربى في بيت «رمسيس الثاني» (4) الملك الفرعوني


1- 1 فرعون موسى ، د. سيد كريم، الهلال، العدد 5: 75.
2- 2 العهد القديم، سفر التكوين، الاصحاح، الفقرة.
3- 3 المصدر نفسه، الاصحاح، الفقرة.
4- 4 وهذا هو فرعون موسى ! نجيب فرج، اكتوبر، مجلة عام 1976: 26، وفرعون موسى ، د. سيد كريم، العدد 5: 73 وغيرها.

ص: 121

وعدو بني اسرائيل، الذي كان يتوقع أن تلد بنو اسرائيل ذكراً يقضي على عرشه وسلطانه (1).

كبر موسى عليه السلام في البيت الفرعوني، وبلغ أشده، فأنعم اللَّه تعالى عليه بالعلم والحكمة بالاضافة إلى ما تعلمه من علوم في بيت مربيه، ولما بَلغَ أشده واستوى آتيناه حُكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين (2)

.

لقد أعدَّ اللَّه تعالى موسى عليه السلام لرسالته ودعوته بعد محنٍ كثيرة وغُربة وهجرة وابتلاءات، اصطفاه نبياً ورسولًا، وأمره بالدعوة إلى اللَّه، فسأل موسى عليه السلام من اللَّه أن يشرك أخاه هارون معه في هذه المهمة، واجابَ اللَّه سؤله، وأمره أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون مؤيدين بالآيات والمعجزات، وأمرهما أن يقصداه بالذات لأنه طغى وفسد في الأرض (3)، وبعد جدال ومحاججات، أيقن فرعون انه لم يقهر موسى وأخاه، بل هم قهروه وانتصروا عليه، فضاق فرعون ذرعاً بموسى ، فأتمر على قتله والخلاص من دعوته، ومن قوة بيانه التي قد تؤثر في القوم.

فجاءَ الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بالخروج من مصر مع بني اسرائيل المعذبين فيها، فانطلق بهم سرّاً متوجهاً إلى الأرض المقدسة...

خاطب موسى عليه السلام قومه في صحراء سيناء، مذكراً إياهم نعم اللَّه تعالى عليهم، وخروجهم من رقّ العبودية، وهدايتهم في بعثه نبياً فيهم و...

رغم استمرار موسى عليه السلام في إصلاحهم وهدايتهم، لكنهم عارضوا وعاندوا وقسوا، وغضب اللَّه عليهم مراراً ثم تابوا ثم أنعم عليهم ثم عصوا ولجّوا ثم تابوا ثم عصوا. وكان سلوكهم مع نبي اللَّه موسى الكليم هكذا، حتى اشرفوا على حدود الأرض المقدسة، طلب موسى عليه السلام منهم الدخول فيها، بعد أن أرسل رواداً للاستطلاع على الأوضاع هناك، (وهذا دليل على أنّ موسى عليه السلام لم يدخلها قبل هذا الوقت ولم يعرف عنها شيئاً، وأنه سيدخلها لأول مرة في حياته)، فلما رجع الرواد أخبروه أن قومها أقوياء طوال الهامات، وأن مدنها حصينة، فارتاع بنو اسرائيل ولم


1- 1 كان الفرعون قد أخبرته السحرة والكهنة ان ذكراً من بني اسرائيل يقضي على عرشه فجعل يقتل الذكور من مواليدهم، لكن موسى عليه السلام نجى ، بايحاء اللَّه تعالى لأم موسى فقال: «إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى * أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدوٌ لي وعدوٌ له» سورة طه 28- 29.
2- 2 القصص: 14.
3- 3 القرآن الكريم، الآيات 42- 47 من سورة طه و 18- 22 من سورة الشعراء.

ص: 122

يمتثلوا لأمر موسى عليه السلام بمباشرة الغزو بل قالوا له: إنّ في هذه الأرض جبابرة لا طاقة لنا بهم فلن ندخلها ماداموا فيها، فإذا خرجوا منها نلبي طلبك وندخلها، قال تعالى :

وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يُؤتِ أحداً من العالمين* يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب اللَّه لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين* قالوا يا موسى إنّ فيها قوماً جبّارين وإنّا لن نَدخُلها حتى يَخرجوا منها فإن يخرُجُوا منها فإنّا داخلون (1)

.

هكذا كانت نهاية المطاف مع موسى عليه السلام نهاية الجهد والتعب والسفر الطويل والعناء في سبيل دخول الأرض المقدسة، أن يقول بنو اسرائيل لموسى عليه السلام: لن ندخلها أبداً ما داموا فيها* فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون* قال ربّ إنّي لا أملك إلّانفسي وأخي (2)

ثم دعا عليهم فقال: فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين* قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (3)

. فاستجاب اللَّه تعالى دعاءه وأخبره بأنّ الأرض المقدسة لن يدخلوها وسيتيهون في صحراء سيناء أربعين سنة فلا يأخذه الحزن عليهم، إنهم خارجون عن طاعة اللَّه تعالى ...

وبعدسنين التيه وقبل دخول الأرض المقدسة، أمر اللَّه تعالى موسى عليه السلام أن يذهب إلى جبل «نبو» وأن ينظر إلى الأرض المقدسة ولا يدخلها، فصعد موسى عليه السلام، ونظر إليها من فوق الجبل، وتوفي فوق الجبل، ودُفن على الفسجة وهو الكثيب الأحمر (4).

يقول البيضاوي نقلًا عن النجار عن المدينة المقدسة التي نظر إليها موسى من الجبل، يقول: «إنّ المدينة هي بيت المقدس أي «أورشليم» أو «أريحا». ولعل القول بأنها «أورشليم» الذي دعا أهلها لأن يسموا أحد أبوابها «باب حطة» والقرآن لم يبين المدينة، والتوراة لم يذكر المسألة أصلًا» (5).


1- 1 المائدة: 20- 21.
2- 2 المائدة: 24.
3- 3 المائدة: 23- 26.
4- 4 انظر: قصص الأنبياء، عبدالوهاب النجار: 298.
5- 5 المصدر نفسه.

ص: 123

ومما سبق يتبين لنا- خلال عرض حياة موسى عليه السلام- أنّ القدس «بيت المقدس» كانت «بيت حج» موسى عليه السلام أو أنه دعا قومه أن يدخلوها ليحجوا إليها ويطوفوا حولها، كلُّ ما في الأمر أنهم كانوا قد استضعفوا عند الفراعنة حيث قال اللَّه تعالى عن تلك الفترة التي عاشوها في مصر: وإذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُذبّحون أبناءَكم ويستحيون نساءَكم وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم (1).

وحين استضعفوا وظُلموا أرسل اللَّه تعالى لهم موسى عليه السلام ليخرجهم من الظلمات إلى النور، لكنهم أبوا أن يطيعوا اللَّه ورسوله، فحرمهم من الأرض المقدسة وغضب عليهم.

سليمان يبني الهيكل المقدس

دخل بنو اسرائيل مدينة «أورشليم» القدس بقيادة «يوشع بن نون» سبط يوسف عليه السلام، بعد وفاة موسى وهارون عليهما السلام، وكان أول بلد احتلوه هو مدينة «أريحا»، وقيل: «أورشليم»، وقد أمرهم ربّهم أن يدخلوا باب المدينة خاشعين متذللين للَّه تعالى ، وأن يقولوا «حطّة» أي حطّ يا رب عنّا خطايانا، ولكن هؤلاء القوم خالفوا أمر اللَّه تعالى - كعادتهم- فدخلوا متكبرين، وفسقوا بدل أن يستغفروا ربهم كما دعاهم لذلك (2). وولي يوشع أمرهم حتى وافاه الأجل فوليَ أمرهم بعده قضاة حكموا فترة من الزمن دون أن يكون لهم ملك ذو سطوة وعزّة، وكانوا عرضة لغزوات الأُمم المجاورة لهم، وكانت العادة المتبعة عندهم أنهم إذا خاضوا حرباً ضد أعدائهم جعلوا «تابوت العهد» (3) أمامهم يستنصرون به لتقوى عزائمهم.

وكان بنو اسرائيل في عهد القضاة في حالة بدوية، وكانت عصبتهم تتجه نحو القبلية واستمروا كذلك حتى عام (1040) ق. حين ظهر فيهم زعيم وحد شمل قبائلهم وجمعها تحت راية واحدة، وقبض بيده على زمام الحكم وكان بذلك أول


1- 1 البقرة: 49.
2- 2 انظر الآيات الكريمة 58- 59 من سورة البقرة.
3- 3 تابوت العهد: صندوق من خشب حفظ فيه موسى ألواح الشريعة التي أُنزلت عليه في جبل سيناء، استولى عليه الفلسطينيون إثر انتصارهم في معركة افيق، ووضعوه في قرية «يعاريم». وقام داود من ثَمّ بنقله في موكب رسمي إلى أورشليم حيث بنى له سليمان هيكلًا. وحفظه في قدس الأقدس. وزال تابوت العهد أثناء حريق الهيكل عام 587 أو 586 ق. م على يد نبوخذ نصر، انظر معجم الحضارات السامية، هنري س. عبودي: 264.

ص: 124

ملك في بني اسرائيل، وقد عُرف في التاريخ اليهودي باسم «شاول» وسمّاه القرآن الكريم «طالوت».

ظهر لطالوت عدوٌ جبار عرف باسم «جالوت» وشاع شرّه وفساده، دعا طالوت قومه للجهاد في سبيل اللَّه وحثهم على قتال أعدائهم، وخرج جالوت ووقف وسط الوادي ونادى صفوف بني اسرائيل أن يختاروا رجلًا منهم لمبارزته وقال: إن استطاع رجلكم أن يغلبني صرنا لكم عبيداً، وإن ظفرت أنا به وقتلته تصيروا لنا عبيداً، فارتاع بنو اسرائيل واحجموا عن محاربته، وظل يتحداهم أربعين صباحاً ومساءً، حتى برز شاب يرعى غنمه، جاء يتفقد اخوته الذين اشتركوا مع جنود طالوت، أرسله أبوه ليخبره بحال أولاده، وكان هذا صغيرهم المسمى «داود»، حين رأى بأمّ عينيه توعدات جالوت لبني اسرائيل وتمرجله عليهم، لم يطق داود الموقف، فقذف جالوت بحجر أخرجه من مقلاعه، فضربهُ على جبهته فخرَّ الجبار على أثرها على الأرض يتلوى ، وفي سرعة البرق الخاطف وثبَ عليه داود واستل سيفه وقطع رأسه، فبهرت بنو اسرائيل من هذا الموقف الجبار، وأكبرت داود وجعلته مقدماً بين رجال الحرب في بني اسرائيل... ثم ما لبث فترة حتى صار ملكاً عليهم.

«وتولى داود الحكم في بني اسرائيل، فجمع كلّ بني اسرائيل وذهب معهم «أورشليم»... وأقام في الحصن «حصن صهيون» لذلك دعيت «مدينة داود».

وبنى مستديراً من القلعة... واختار القسم الشمالي... وبنى فيه مذبحاً للرب» (1).

ثم جعل داود ابنه سليمان وليَّ عهده قبل أن يموت، ولمّا وليّ سليمان عرش الملوكية، أتَمَّ أعمال أبيه وواصل الفتوحات ونظّمَ المملكة تنظيماً حديثاً وشيّد الهيكل، وأوتي الحكمة، وجمع بين النبوةِ والملك، والحُكم والعدل، ودعا ربّه قائلًا:

ربِّ اغفر لي وهبْ لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب (2)

فاستجاب له ربه، فقال تعالى : فسخّرنا له الريح تجري بأمره رُخاءً حيث


1- 1 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 398.
2- 2 و 37 سورة ص: 35- 40.

ص: 125

أصاب* والشياطين كلَّ بناءٍ وغواص* وآخرين مقرنين في الأصفاد* هذا عطاؤنا فأمنن أو أمسك بغير حساب* وإنَّ له عندنا لزُلفى وحُسن مآب (1)

.

مَلّكَ اللَّه تعالى سليمانَ ما يشاء من الملك، فوسع سليمان بيت المقدس وبنى الهيكل المسمى ب «هيكل سليمان» (2)، ويسمى الآن موضع الهيكل القديم (الحرم الشريف) وفي وسطه- في الوقت الحاضر- مسجد قبة الصخرة والمسجد الأقصى الى الجنوب منه.

إذن فالهيكل المعروف في القدس كان من إنشاء نبي اللَّه سليمان عليه السلام، لكن هذا الهيكل العظيم الضخم، لم يرد فيه أنّ سليمان بعد اتمامه للبناء أنه أذن في الناس للحج فيه، أو أنه حجَّ إليه يوماً من الأيام بأمرٍ من اللَّه تعالى ...

وهنا لنا أن نتساءل من أين جاء تشريع الحج لليهود والنصارى إلى الهيكل أو الى بيت المقدس واقامة الطقوس التي يمارسونها الآن في بيت المقدس؟

زكريا ويحيى وخدمة الهيكل

زكريا عليه السلام من أنبياء بني اسرائيل، قضى عمره الشريف في الدعوة إلى اللَّه وخدمة الهيكل المقدس في بيت المقدس «أورشليم» وعلى هذا فهو «لاوي» لأن خدّام الهيكل «لاويّوا» النسب، أي من نسل لاوي بن يعقوب النبي عليه السلام.

كان زكريا عليه السلام قد بلغ من الكبر عتياً، وامتلأ رأسه شيباً، وكانت امرأته عجوزاً عاقراً غير قادرة على الإنجاب، وبلغ زكريا درجة اليأس من أن يكون له ولد يخلفه في خدمة الهيكل المقدس والدعوة إلى اللَّه تعالى ؛ لأنّ أقاربه- بني اسرائيل- أصبحوا شِرار القوم- حسب تعبيره عليه السلام- ويخاف أن لا يقيموا أمور الدين ولا يتولوا الناس بالعدل بعد موته، لعلمه بحالهم وعدم تمسّكهم بالشريعة الإلهية وخاف تحريفها، فدعا اللَّه تعالى بنداء خفي يطلبُ منه الولد، وحفزه ما يراه من إكرام اللَّه تعالى مريم، إنه كلما دخل عليها المحراب فيسألها يا مريم أنى لك هذا (3)

تجيبهُ قائلة: هو من عند اللَّه إن اللَّه يرزق من يشاء بغير حساب (4)


1- 1..
2- 2 هيكل سليمان: بناء ضخم ومحل عبادة، بلغ ارتفاعه 180 قدماً حين بناه سليمان عليه السلام، مرصع بالذهب، وكان الذهب يغشي أجزاء كثيرة من الهيكل، وجي ءَ بمعظم مواد بنائه من فينيقية، وكان يقوم بمعظم الأعمال الفنية صنّاع من صيدا وصور... واستمر بناؤه والعمل في تشييده سبع سنين، كان فيه 100 حوض من الذهب، وكانت الحجارة الكريمة ترصع أجزاء متفرقة منه، كما كان ملكان مغطيان بصفائح الذهب يحرسان تابوت العهد، وهذا الصرح الضخم لم يبق منه حجر واحد، بل إن موضعه نفسه لا يعرفه أحد على وجه التحقيق، انظر قصة الحضارة مج 1، 2: 336 فما بعد...
3- 3 آل عمران: 37.
4- 4 آل عمران: 37.

ص: 126

وحفزه ما يراه من عبادة مريم عليها السلام وخدمتها للهيكل المقدس، فطرق باب الدعاء إلى اللَّه تعالى ، واستجاب له ربه: فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن اللَّه يبشّرك بيحيى مصدقاً بكلمة من اللَّه وسيداً وحصوراً (1)

.

أجل... استجاب اللَّه تعالى دعاء نبيه زكريا عليه السلام خادم الهيكل والمسؤول عنه والمبشر والنذير لبني اسرائيل المعاندين، استجاب له بولد يخلفه في النبوة والرسالة والهداية، وأرسل إليه ملائكة تبشّره بذلك، واختار له اللَّه تعالى اسماً لم يكن أحد من قبله قد سمي بذلك الاسم: يا زكريا إنّا نبشّرك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً (2)

تعجب زكريا عليه السلام بهذه البشرى وقال: ربِّ أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً قال كذلك قال ربك هو عليَّ هينٌ وقد خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً (3)

.

وتحققت إرادة اللَّه تعالى وحملت زوجة زكريا واسمها «اليصابات»، ويقول أهل الكتاب: كان حملها في الزمن الذي كانت مريم حاملًا في عيسى . ولا دليل على صحة هذا الادعاء عندنا- في وقت الحمل وزمنه-.

لقد كان يحيى عليه السلام على أكمل أوصاف الصلاح والتقوى منذ صباه، وقد أوتي الحكمة، قال تعالى : يا يحيى خذ الكتاب بقوةٍ وآتيناه الحكم صبيا (4)

. وكذلك خصّه اللَّه تعالى بحنانه ورحمته لتقواه منذ الصبا، وحناناً من لدنا وزكاةً وكان تقياً (5)

. هذا ما كان من حياة زكريا وعلاقته في الهيكل المقدس، وبعد وفاة زكريا عليه السلام، وقيل قُتِلَ، حسب ما جاء في انجيل برنابا: «أنّ عيسى قال لليهود:

ستأتي عليكم دماء الأنبياء الذين قتلتموهم إلى دم زكريا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح» (6).

فتسلم يحيى زمام الأمور بعد زكريا عليه السلام في امور الدين والقضاء وخدمة الهيكل المقدس والصلاة والعبادة في معبد الهيكل، وكان بارعاً في الشريعة الموسوية- شريعة موسى عليه السلام- ومرجعاً مهماً لكلّ من يستفتي في أحكامها...


1- 1 آل عمران: 39.
2- 2 مريم: 7.
3- 3 مريم: 9.
4- 4 مريم: 12.
5- 5 مريم: 13.
6- 6 قصص الأنبياء/ عبدالوهاب النجار: 368. بيروت- لبنان.

ص: 127

وتذكر كتب التاريخ والتفسير أنّ في زمن نبوةِ يحيى عليه السلام كان أحد حكام فلسطين يقال له «هيرودس» وكانت له بنت أخ تدعى «هيروديا» بارعة الجمال، عشقها عمّها وأراد الزواج منها. وكانت البنت وأمها ترغبان في ذلك، غير أن يحيى عليه السلام كان معارضاً لهذا الزواج؛ لإنه محرّم في الشرائع السماوية، وكان يحيى آنذاك سيداً نبياً يُحترم كلامه، ولما عرفت أم الفتاة أن يحيى معارضاً لهذا الزواج، هيأت بنتها في كامل زينتها وأخرجتها على عمّها، ورقصت البنت أمامه، فسَرَّت قلبه، فقال لها: اطلبي ما تتمنين لأَسُرَّ قلبك، وكانت أُمّها قد لقّنتها أن تطلب منه رأس يحيى بن زكريا في طبق، ففعلت ووفى لها عمّها وأمر بقتل يحيى في محرابه ومحراب أبيه بين الهيكل المقدس ومذبح الرب (1).

وبذلك صار هذا المحراب له قدسية خاصة عند أتباع زكريا ويحيى ، يُطافُ حوله في مراسم حجّهم السنوي في ذكرى يوم الغدر بهما.

منطقة الهيكل في ادوارها الثلاثة من عهد سليمان حتى العهد الاسلامي «عن كتاب» دليل فلسطين التاريخي


1- 1 المصدر السابق: 368- 369. وكذلك في كتاب مع الأنبياء في قصّة يحيى .

ص: 128

ومن خلال ما تقدم لم نجد أن زكريا أذن للناس بالحج في بيت المقدس ومحراب صلاة زكريا أو ابنه يحيى مع أنهم كانوا في خدمة بيت المقدس من الناحية الدينية.

روح اللَّه عيسى عليه السلام والقدس

الى جذع النخلة في الموضع الذي فيه مدينة (بيت لحم)، على بضعة كيلومترات من بيت المقدس، جاءت بنت عمران «مريم القديسة» لتستتر أو لتعتمد على النخلة اليابسة، وهي في حالة المخاض قالت في نفسها: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً* فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً* وهزي اليك بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جنياً* فكلي واشربي وقري عيناً (1)

.

لقد أراد اللَّه تعالى أن يسكن روع مريم القديسة العذراء، ولتعلم أن من أوجد لها الرطب من النخلة اليابسة في الشتاء، وأوجد لها الماء الجاري في تلك الهضبة التي كانت عليها من الجبل- جبل صهيون- قادر أن يرد عنها كلّ سوء وحتى عيب العائبين، وقذف القاذفين، وسيأتي المولود الذي خلقه اللَّه بكلمة «كن» على غير الطريقة العادية في التوالد، وهذا الولد اسمه المسيح عيسى ، وسيجعله اللَّه تعالى ذا مكانة في الدنيا وذا جاه وشرف وعلو قدر، كما أنه في الآخرة من الصفوة المقربين الى اللَّه تعالى ... وإنه خاتم أنبياء بني اسرائيل، ومَثَلُ خلقهِ كمثل آدم عليه السلام: إن مثل عيسى عند اللَّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (2)

.

وضعت مريم العذراء مولودها! وهي وجلة من القوم وبما سيرمونها من الفاحشة والفجور، لكنَّ الملك جبرئيل «الوحي» علّمها بأمرٍ من اللَّه تعالى ، أنها إذا أتت قومها أن تقول لهم: إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً (3)

.

وجاءت قومها تحمله، سألوها يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أُمك بغياً (4)

فأشارت إلى وليدها، وتكلم بإذن اللَّه تعالى قائلًا:


1- 1 سورة مريم: 23- 26.
2- 2 آل عمران: 59.
3- 3 مريم: 26.
4- 4 مريم: 28.

ص: 129

إنّي عبد اللَّه آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّاً... (1)

.

وبذلك ظهرت براءة مريم العذراء العابدة القديسة المنذورة لبيت المقدس والعاكفة على صلاتها فيه.

ومضت ثلاثون عاماً (2) على هذه المعجزة لمريم عليها السلام أتتها المعجزة الأخرى أن بُعث عيسى روح اللَّه عليه السلام نبياً ورسولًا في بني اسرائيل وأُنزل عليه الإنجيل، وبدأ بالدعوة إلى اللَّه، ففريق صدّقوه واتبعوه حقاً، وفريقٌ كذّبوه وحاربوه، وفريقٌ ثالث انبهرت عقولهم به وبشخصه ومعجزة مجيئه إلى الدنيا من غير أب ومن إحيائه الموتى وشفائه للأكمه والأبرص وغيرها من المعاجز التي جاء بها عليه السلام، هذا الفريق من الناس جعلوه إلهاً يُعبد أو إبناً للَّه الكبير وأنه نظير للمعبود الأب وغيرها من الاصطلاحات التي ميزووا به بقية مخلوقات اللَّه تعالى ...

أجل... أنزل اللَّه تعالى على عيسى عليه السلام الإنجيل: وقفّينا بعيسى بن مريم و آتيناه الإنجيل (3)

. ولكن اين هو الإنجيل الذي من عند اللَّه والذي ذكره القرآن الكريم؟

لقد ضاع «الإنجيل الأصل» وبقيت أناجيل متعددة محرّفة كتبتها أيادي النصارى ، أو بكلمة أخرى ألّفها تلاميذ المسيح عليه السلام من بعده بزمن طويل، وهي عبارة عن تعريف بأحوال المسيح وأعماله وأقواله وعظاته ومعجزاته وخوارق العادات التي أجراها اللَّه تعالى على يده.

أهم الأناجيل التي تعترف بها الكنيسة، أربعة هي:

1- انجيل متى 2- انجيل مرقس 3- انجيل لوقا 4- انجيل يوحنا.

«إنّ هذه الأناجيل وغيرها من الأناجيل الكثيرة، لم تكتب زمن عيسى عليه السلام بل بعد عهده بفترة، قام بعض تلامذته وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم وكتبوا قصصاً كثيرة. وكلّ واحد يسمي ما كتبه «انجيلًا» حتى قيل: إنّ الأناجيل بلغت:


1- 1 مريم: 30- 31.
2- 2 بموجب روايات الإنجيل انه بُعث نبياً بعمر الثلاثين.
3- 3 الحديد: 27.

ص: 130

نيفاً ومائة انجيل» (1).

والجدير بنا بيانه: أن هذه الأناجيل في الظاهر لا ذكر فيها للأمر بالحج إلى بيت المقدس أو إلى أماكن ذكريات عيسى عليه السلام أو مسقط رأسه مثلًا، ولكنّا نرى النصارى يحجون إلى بيت المقدس والى جبل صهيون حيث مسقط رأس المسيح عليه السلام وبيت لحم.

هذا المكان في القدس بدأ الحج إليه منذ أن بُنيت أول كنيسة هناك...

«... وبيت لحم، بعثها الامبراطور قسطنطينوس الأول الكبير، بعثها مدينة دينية وبنى فيها عام 326 م كنيسة إلى جانب مغارة يرجح أن يكون المسيح ولد فيها، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم، كما بنى فيها (يوستينيانوس) الأول 526- 565 كنيسة مزخرفة بالفيسانوس...» (2).

وعلى هذا، فليس هناك مجال للاعتقاد بأنّ المسيح عليه السلام جعل أوامر الحج مكان مسقط رأسه الشريف، وإنما طقوس وألاعيب نسجت بعده عليه السلام.

إسراء محمد صلى الله عليه و آله إلى القدس

وبُعث محمد صلى الله عليه و آله بعد ميلاد المسيح ب (610) أعوام؛ ليكون خاتماً لجميع الأنبياء والرسل وسيدهم، وخصه اللَّه تعالى بخصائص ومعجزات كثيرة كان منها الإسراء والمعراج.

لقد أسريَ بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى (3) في بيت المقدس، ثم عُرج به من بيت المقدس إلى السموات العُلى ، وقد اتفقوا على وقوع الإسراء والمعراج لوجود النصّ عليهما في القرآن والسُنة، قال تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا... (4)

.

جاء عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن هُشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في تفسير هذه الآية قال: جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى


1- 1 قصص الأنبياء، النجار: 399.
2- 2 معجم الحضارات، هنري س. عبودي: 253.
3- 3 المسجد الأقصى : مكان للعبادة ولفظة مسجد مأخوذة من الفعل سَجَدَ، فالمسجد موضع السجود، وحين أُسري بالرسول الأكرم، لم يكن في ذلك المكان بناء معروف بالمسجد الأقصى ، وانما سمي في الآية الكريمة ب المسجد الأقصى لأنه مكان يُسجد فيه في العبادة.
4- 4 الاسراء: 1.

ص: 131

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخذ واحد باللجام وواحد بالركاب وسوى الآخر عليه ثيابه، فتضعضعت البراق فلطمها جبرئيل ثم قال لها: اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله ولا يركبك بعده مثله.

قال: فرفَّت به ورفعته ارتفاعاً ليس بالكثير ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى منادٍ عن يميني: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه، ثم نادى منادٍ عن يساري: يا محمد فلم أجبه ولم التفت إليه، ثم استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمد انظرني حتى اكلمك فلم التفت إليها، ثم سِرتُ فسمعتُ صوتاً أفزعني فجاوزتُ، فنزل بي جبرئيل فقال: صلِّ فصليتُ. فقال: أتدري أين صليتَ؟ قلتُ: لا، فقال: صليتَ بطورِ سيناء حيث كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام تكليماً، ثم ركبتُ فمضينا ما شاء اللَّه ثم قال لي: انزل فصلِّ فنزلتُ وصليتُ فقال لي: أتدري أين صليتَ؟ فقلتُ: لا، قال:

صليتَ في بيت لحم، وبيت لحم بناحية بيت المقدس حيثُ ولد عيسى بن مريم.

ثم ركبتُ فمضينا حتى انتهينا إلى بيت المقدس، فربطتُ البراق بالحقة التي كانت الأنبياء تربط بها، فدخلتُ المسجد ومعي جبرئيل إلى جانبي، فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى فيمن شاء اللَّه من أنبياء اللَّه عليهم السلام فقد جمعوا إليَّ واقيمت الصلاة ولا أَشُكُ إلّاوجبرئيل يستقدمنا، فلما استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدمني وأممتهم ولا فخر.

ثم أتاني الخازن بثلاثِ أوانٍ وإناء فيه لبن وإناء فيه خمر وإناء فيه ماء، وسمعتُ قائلًا يقول: إن أخذ الماء غرق وغرقت أُمته، وإن أخذ الخمر غوى وغويت أُمته، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أُمتُه، قال: فأخذتُ اللبن وشربتُ منه، فقال لي جبرئيل: هديت وهديت أُمتك. ثم قال لي: ماذا رأيت في مسيرك؟ فقلتُ: ناداني منادٍ عن يميني فقال: أوأجبتهُ؟ فقلتُ: لا ولم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود، لو أجبتهُ لتهودت أمتك من بعدك، ثم قال ماذا رأيت؟ فقلتُ: ناداني منادٍ عن يساري

ص: 132

فقال لي: أوأجبته؟ فقلتُ: كلا ولم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى ولو أجبته لتنصرت أمتك من بعدك.

ثم قال: ماذا استقبلك؟ فقلتُ: لقيتُ امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا، فقالت: يا محمد انظرني حتى أكلمك. فقال: أوكلمتها؟ فقلتُ: لم أكلمها ولم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا ولو كلمتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة (1).

الصخرة المشرفة، منها عرج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى السماء

سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

ومن بيت المقدس انتقل النبي محمد صلى الله عليه و آله إلى السماء- فكان المعراج- وهناك فُرض عليه وعلى أُمته الصلوات الخمس في اليوم والليلة وغيرها، ثم عاد


1- 1 نقله القمي في تفسيره للآية الأولى من سورة الاسراء، والطباطبائي في الميزان، ومحمد جواد مغنية في الكاشف، وسيد قطب في تفسيره في ظِلال القرآن، ونقله كُتّاب التاريخ الإسلامي باتفاق السُنة والشيعة، فراجع.

ص: 133

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى مكة وجَرى ذلك كُله في ليلة واحدة (1)...

ومن تلك الليلة قدّس المسلمون المسجد الأقصى في بيت المقدس، وتوجهوا إليه في صلاتهم بأمرٍ من اللَّه ثلاثة عشر عاماً وبضعة أشهر.

المسجد الأقصى حالياً

ولم يكن عجباً أن يتخذه المسلمون مكاناً مقدساً لهم، وأن يكون عندهم بالمنزلة الثانية من الحرم المكّي والمدني من حيث القداسة والصيانة والرعاية...

فصلاة النبي فيه إماماً لأنبياء اللَّه دليلًا على أن اللَّه تعالى يورث الأرض لعباده


1- 1 المصدر السابق.

ص: 134

الصالحين، ودليلًا على قدسية هذا المكان العظيم، لكن القدسية شي ء والحج الذي نحن بصدده شي ء آخر.

فالمسلمون يقدسون بيت المقدس، ويعتبرونه من مقدساتهم المهمة، لكنهم لم يحجوا إليه لأنهم لم يؤمروا بذلك... ولم تأمر به الأديان السماوية السابقة.

والجدير بالذكر أنّ النبي محمداً صلى الله عليه و آله قيّد البراق بالصخرة المقدسة (1) حين بلغ به الإسراء إلى بيت المقدس، وحتى يومنا هذا يُسمى الجدار الغربي للحرم القدسي بجدار البُراق (2)، وجاء في الروايات أيضاً أنّ النبي صلى الله عليه و آله صلى على أطلال هيكل سليمان إماماً لإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وبقية الأنبياء...

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من معجزات حبيب اللَّه محمد صلى الله عليه و آله وهي تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى محمد صلى الله عليه و آله خاتم النبيين، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنما أُريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الخاتم لمقدسات الرُسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعاً، قال تعالى : إن الأرض للَّه يورثها من يشاء من عباده (3)

.

وهذه أروع رابطة وأروع علاقة بين الإسلام وبيت المقدس (محل عبادة الأنبياء)، وقد مثلها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه و آله.

لقد احترم الإسلام بيت المقدس، فهو فعلًا بيت مقدس ومحل عبادة للَّه تعالى ، وفيه مقدسات الأنبياء من أولهم حتى خاتمهم صلى اللَّه تعالى عليهم جميعاً وسلم، ولكن مع هذا لم يجعله لحظة واحدة مركزاً للحج ولا أخبر نبيه الكريم أنه أمر أحداً من الأنبياء بالحج إليه، بل الاتجاه المأمور به منذ خلق البشرية إلى نهاية الأرض، بالحج إلى مكة المكرمة حيث بيت اللَّه العتيق، فالإذن إليه لا لغيره.


1- 1 الصخرة المقدسة: صخرة ذات تاريخ قديم جدّاً قدسها أهل أورشليم وتصوروا أنها نزلت من السماء كالحجرالأسود في الكعبة.
2- 2 جِدار البراق: هو الحائط الذي ربط فيه رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله البُراق الدابة في ليلة الاسراء فسمي بجدارالبُراق.
3- 3 الأعراف: 128.

ص: 135

الكعبة لا القدس مركزاً لحج الأنبياء...

من كلّ ذلك، ومن خلال ما أوردناه من حياة الأنبياء، لم نقرأ أنهم حجوا بيت المقدس، كما قد يتبادر إلى الذهن من خلال اسم البيت وقدسيته، ووجود الأنبياء فيه وممارستهم بعض شعائرهم... وعباداتهم و...

لكن البيت الحقيقي الذي حجّه الأنبياء ومارسوا فيه شعائر اللَّه تعالى ، هو بيت اللَّه العتيق والكعبة الشريفة، كما وردت في الروايات عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله وعن آله الأطهار أنه أول بيت وضع للحج فيه، وهو أول بيت للَّه عُبد اللَّه تعالى فيه، وهو أول بيت أسست شعائر الحج فيه، إلّاأنّ المنحرفين عن الجادة المستقيمة، اتّخذوا أماكن حج وشعائر حج على غرار الحج لبيت اللَّه.

وكما أنّ لبيت اللَّه الأولوية في كلّ شي ء، فإنه أعظم بيت وضع على الأرض، فقد قال الأزرقي: حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج قال: «أخبرني ابن جريج، قال: بلغنا أنّ اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء، ولأنه في الأرض المقدسة، وقال المسلمون: الكعبة أعظم، فبلغ ذلك النبيّ محمداً صلى الله عليه و آله فنزل: إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مبارك حتى بلغ فيه آيات بينات مقام ابراهيم وليس ذلك في بيت المقدس، ومن دخله كان آمناً وليس ذلك في بيت المقدس» (1).

وبيت المقدس بيت مُقدّس واقعاً، وبيت عُبد فيه اللَّه، وكلّ بيت يُعبد فيه اللَّه فهو مسجد، وكُلُّ مسجد هو بيت اللَّه، لكن الكعبة شي ء آخر، ولها شأنٌ آخر، فقد قال اللَّه تعالى لآدم عليه السلام: «سأجعلُ فيها (2) بيوتاً ترفع لذكري، ويسبحني فيها خلقي، وسأبوئك فيها بيتاً أختاره لنفسي، وأختصّه بكرامتي، وأوثره على بيوت


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 75.
2- 2 أي في الأرض.

ص: 136

الأرض كلّها باسمي، فأسميه بيتي، وأنطقه بعظمتي، وأجوزه بحرماتي، وأجعله أحقّ بيوت الأرض كلّها وأولاها بذكري، وأضعه في البقعة التي اخترتُ لنفسي، فإني اخترتُ مكانه يوم خلقت السموات والأرض... ومن عظّم شأنه عظم في عيني، ومن تهاون به صغر في عيني، ولكلّ ملك حيازة ما حواليه، وبطن مكة خيرتي وحيازتي وجيران بيتي وعمارها وزوّارها... فأجعله أول بيت وضع للناس ...» (1).

المسجد الحرام


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 46- 47، منشورات الشريف الرضي.

ص: 137

الكعبة في التاريخ

لا أعتقد أنّ أحداً يجهل قِدم الكعبة الشريفة، فلهذا البيت الشريف تاريخ طويل وتاريخ عريق موغل في القِدم، فهو- كما ذكرنا- أول بيت وضع للناس ليعبدوا فيه اللَّه سبحانه، من هنا جاءت تسمية «بيت اللَّه العتيق».

ولا أظنّ أحداً يجهل القداسة التي تمتع بها هذا البيت الشريف، الذي حاز من الشرف في امتداد تاريخه الطويل، أن يُعتق زائره وقاصده، من ذنوبه وآثامه ومعاصيه، ويخرج منه كيوم ولدته أُمه، ويحصل على مراده في الدعوة فيه، إضافة الى ذلك فقد كان مركزاً لحج الملائكة قبل آدم عليه السلام بألفي عام، ثم حج إليه أبو البشر آدم عليه السلام وولده من بعده...

ولماجاءزمن نوح عليه السلام والطوفان الكبير الذي حدث في أيامه، زالت معالم البيت، وقيل رُفع إلى السماء، وبقي أثره على الأرض فقط، حيث كان أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول. والناس يعرفون أنّ هذا المكان هو موضع بيت اللَّه الكريم، وكان يزوره المظلوم والهارب من جور الأرض وظلمها، فيدعو اللَّه فيه فيستجاب له، حتى بوّأه اللَّه تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام، ومَنَّ مرةً أخرى على عباده بالحج لهذا البيت الشريف المقدس والعبادة فيه والدعاء وطلب الحاجة من اللَّه تعالى فيه للدنيا والآخرة ...

أما الموقع الجغرافي للكعبة الشريفة: فهي في منتصف الجزيرة العربية الغربي، على بُعد ثمانية وأربعين ميلًا من البحر الأحمر في وادٍ غير ذي زرع، تحيطها جبالٌ جرداء تكادُ تُطبقُ عليها من جميع الجهات، صيفها حار لا يُطاق. وموقعها هذا جعلها محطة صالحة في طرق القوافل الطوال التي تجمع في بعض الأحيان ألف جمل بعضها وراء بعض، والتي تحمل المتاجر بين جنوبي بلاد العرب (ومن ثم بين الهند وافريقية الوسطى ) وبين مصر، وفلسطين، وبلاد الشام. وكان التجار أصحاب هذه التجارة يؤلفون فيما بينهم شركات محاصة، ويسيطرون على أسواق

ص: 138

عُكاظ (1).

ويقومون بالشعائر الدينية المجزية حول الكعبة وحجرها الأسود المقدس (2).

وقد وصف الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الكعبة، بقوله: «أَلا ترونَ أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدُن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضر ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً، ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلَّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قُطراً، بين جبالٍ خشنة ورمالٍ دَمِثة، عيون وشلة، وقُرًى منقطعة، لا يزكو بها خُفّ، ولا حافر ولا ظلف» (3).

ثم بيّن عليه السلام قِدم الكعبة بقوله: «ثم أمر آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابةً لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة. من مفاوزِ قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحارٍ منقطعة حتى يهزّوا مناكبهم ذُللًا، يُهلّلون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً غُبراً له. قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم و...» (4).

وعن تاريخ بناء الكعبة وإعادة بناءها وتجديدها يحدثنا ولِ ديورانت قائلًا:

«إنّ الكعبة بُنيت ثم أُعيد بناؤها عشر مرات، فقد بناها في فجر التاريخ ملائكة السماء، وبناها في المرة الثانية آدم أبو البشر، وفي المرة الثالثة ابنه شيث ثم بناها في المرة الرابعة إبراهيم وإسماعيل... وبناها في المرة السابعة قُصي زعيم قبيلة قريش، وبناها في المرة الثامنة كِبارُ قُريش في حياة محمد صلى الله عليه و آله عام (605) م وبناها في المرتين التاسعة والعاشرة زُعماء المسلمين في عامي 681 و 696 م والكعبة كما بُنيت في المرة العاشرة هي كعبة هذه الأيام في معظم أجزائها» (5).

وفي بيان قِدم الكعبة يقول الإمام الباقر عليه السلام: «لما أراد اللَّه تعالى أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجاً، ثم أزبد فصار زبداً واحداً


1- 1 أسواق عُكاظ: أسواق تجارية مهمة، تدر بالأرباح المالية الهائلة خصوصاً في موسم الحج قبل الاسلام وبعده.
2- 2 قصة الحضارة، وِل ديورانت مج 1، 1: 18.
3- 3 نهج البلاغة، الخطبة 192 القاصعة: 293 منشورات دار الهجرة إيران. قم
4- 4 الخطبة نفسها.
5- 5 قصة الحضارة، وِل ديورانت مج 7، 1: 18.

ص: 139

فجمعه في موضع البيت، ثم جعله جبلًا من زبد، ثم دحا الأرض من تحته وهو قول اللَّه عزّوجل: إن أول بيت.. فأول بيت خُلق من الأرض الكعبة، ثم مدت الأرض منها» (1).

هذا موجز سريع استعرضتُ فيه تاريخ الكعبة؛ ليكون مدخلًا ومقدمة لقراءتها من التاريخ وتمهيداً للتفصيلات اللاحقة...

هبوط آدم عليه السلام وبناء الكعبة

آدم عليه السلام، الكعبة الشريفة، قَدِما الينا من أعماق التاريخ، قَدِما مجملين، فقد ورد ذكر آدم عليه السلام ضرباً في القرآن الكريم ووردت قصته وأمر خلقه وهبوطه الأرض، ووردت الكعبة كمركز مقدس هام في القرآن الكريم أيضاً... ولكن متى بُنيت؟ وهل كان آدم عليه السلام فعلًا هو بانيها أم هناك غيره؟ فذلك ما حدثتنا به الروايات، والروايات في هذا الموضوع كثيرة تحكي صراحةً بأنّ باني الكعبة الأول هو آدم، ومن هذه الروايات الكثيرة في بناء آدم عليه السلام الكعبة حين هبوطه إلى الأرض، نذكر ما ذكره الأزرقي في كتابه «أخبار مكة»:

فقد ورد عنه: «وحدثني جدي قال: وحدثني إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن الزهري، عن عبداللَّه بن عبداللَّه عتبةبن مسعود، عن ابن عباس رضوان اللَّه تعالى عليه قال: كان آدم عليه السلام أول من أسس البيت، وصلى فيه حتى بعث اللَّه الطوفان ...» (2).

وفي الروايات الأخرى تفصيلات يطول ذكرها... ولكن الحقيقة أنّ القراءة الدقيقة والتفصيلية، لا مجال لها في هذا الموضوع، وإنما أردنا مجرد ذكر ما ورد في تاريخ بناء الكعبة، وهذه رواية أخرى عن ابن عباس ونكتفي بها؛ لأن ما جاء في هذا الأمر روايات يشابه بعضها الآخر.

يقول ابن عباس: «لما أهبط اللَّه تعالى آدم من الجنة كان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض وهو مثل الفلك في رعدته، قال: فطأطأ اللَّه عزّوجل منه ستين


1- 1 الكافي، الكليني 1: 189.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 40.

ص: 140

ذراعاً، فقال يا رب مالي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: خطيئتك يا آدم ولكن اذهب فابن لي بيتاً فطف به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، قال: فأقبل آدم عليه السلام يتخطا، فطويت له الأرض وقبضت له المفاوز فصارت كلّ مفازة يمرّ بها خطوة وقبض له ما كان من مخاض ماء أو بحر فجعل له خطوة، ولم تقع قدمه في شي ء من الأرض إلّاصار عمراناً وبركة حتى انتهى مكة فبنى البيت الحرام، وإنّ جبرئيل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أسٍ ثابت على الأرض السُفلى ، فقذفت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة منها ثلاثون رجلًا، وإنه بناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، والجودي، وحواء، وطور زيتا حتى استوى على وجه الأرض» (1).

فإن صحت هذه الأخبار والروايات التي وصل إلينا منها الحشد الكثير، فيكون الباني والمؤسس والحاج الأول للكعبة الشريفة هو أبو البشر آدم عليه السلام، ولكن القرآن الكريم لم يخبرنا بهذه التفاصيل إنما جاءت قصة آدم عليه السلام مجملة مختصرة...

إنّ ارتباط آدم عليه السلام بالكعبة الشريفة، ووجودها في زمانه، وفي عمق التاريخ يعطيها أهمية كُبرى فوق أهميتها الذاتية الحقيقية، التي أعطاها اللَّه تعالى ، ونسبها اليه عزّوجل...

لقد كرّمها اللَّه تعالى يومَ خُلقت، ويوم حجّها أول إنسان، والى اليوم ما زالت ذلك الصرح الإلهي المقدس العظيم...

زوال معالم الكعبة في الطوفان

كلّ شي ء آيل إلى التغير والتبدل والزوال، على مستوى الدنيا، ولا يبقى سوى اللَّه تعالى كلّ شي ء هالك إلّاوجهه (2) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (3).

ولكن عين اللَّه تعالى التي لا تنام، حارسة لمن تحب وما تحب وما تريد أن يبقى


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 36- 37.
2- 2 القصص: 88.
3- 3 الرحمن: 27.

ص: 141

الى قيام الساعة.

فحين غضب اللَّه تعالى على قوم نوح عليه السلام وطغى الطوفان الكبير على سطح الكرة الأرضية، لم تكن الكعبة المشرفة بمنأى عن هذا الطوفان، فغرقت ضمن ما غرق من موجودات الكرة الأرضية، ولكونها مركزاً إلهيّاً مقدساً لم تكن كساير أشياء الأرض التي غرقت وانتهى كلّ شي ء، وإنما أراد اللَّه لها شيئاً آخر، أراد لها اللَّه بقاءً أبدياً إلى قيام الساعة؛ لتكون نقطة الاتصال المركزية بين العبد وربّه، من هنا ومن خلال اللطف الإلهي الشامل لكلّ الوجود، قيض اللَّه لها نبياً من عظماء الأنبياء ألا وهو إبراهيم الخليل عليه السلام وابنه الحليم اسماعيل عليه السلام ليعيدا بناءها من جديد، وليرفعا قواعد البيت... وهكذا بلغ أمر اللَّه وتربعت الكعبة على سطح الكرة الأرضية؛ لتكون شامخة وعالية، وامتداداً بين السماء والأرض.

والقرآن الكريم لم يتحدث عن الطوفان بشكل مفصل، وكيف كانت الكعبة وكيف زالت(1)، وإنما ذكر الموضوع بشكل مجمل، تعرض بشكل أساس عن العبرة والموعظة دون التفاصيل والجزئيات والأجزاء والأماكن.

أما الروايات التي تحكي حال الكعبة الشريفة في الطوفان الكبير فهي كثيرة جدّاً، لا يسعنا سوى ذكر واحدة أو اثنتين ونكتفي بها.

عن ابن عباس رضوان اللَّه عليه قال: «فكان أول من اسس البيت وصلّى فيه وطاف به آدم عليه السلام حتى بعث اللَّه تعالى الطوفان: وكان غضباً ورجساً. قال: فحيث ما انتهى الطوفان ذهب ريح آدم عليه السلام قال: ولم يقرب الطوفان أرض السند والهند، قال: فدَرَسَ موضع البيت في الطوفان حتى بعث اللَّه تعالى ابراهيم واسماعيل فرفعا قواعده وإعِلامه...» (2).

وفي رواية مجاهد قال الأزرقي: قال: «بلغني أنه لما خلق اللَّه عزّوجل السماوات والأرض كان أول شي ء وضعه فيها البيت الحرام وهو يومئذ ياقوتة حمراء جوفاء لها بابان أحدهما شرقي والآخر غربي فجعلهُ مستقبل البيت المعمور،


1- 1 ليس من اختصاص القرآن الكريم ذكر التفاصيل في طرح التاريخ وغيره، وانما يُشيرُ إليها بما ينسجم والعبرةوالبيان، والتفاصيل تؤخذ من الأحاديث الشريفة والأخبار والروايات.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 37.

ص: 142

فلما كان زمن الغرق رُفع في ديباجتين فهو فيهما إلى يوم القيامة، واستودع اللَّه عزّوجل الركن أبا قبيس قال: وقال ابن عباس: كان ذهباً فرفع زمان الغرق فهو في السماء. وعن سعيد عن مقاتل يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه و آله في حديث حدّثَ به آدم عليه السلام قال: أي ربّي إنّي أعرف شقوتي، إني لا أرى شيئاً من نورك يعبد، فأنزل اللَّه عزّوجلّ عليه البيت المعمور على عرض هذا البيت في موضعه من ياقوتة حمراء، ولكن طوله كما بين السماء والأرض، وأمره أن يطوف به، فأَذهبَ اللَّه عنه الغم الذي كان يجده قبل ذلك، ثم رُفع على عهد نوح عليه السلام» (1).

ابراهيم عليه السلام يجدد بناء الكعبة

والنبي العظيم أبو الأنبياء خليل الرحمن ابراهيم عليه السلام، جاء ليعيد مجد الكعبة الشريفة التي درسها الفيضان والطوفان النوحي، ولكن من أين بدأ؟ وأين كان مكانها؟ وفي أية بقعة من بقاع الكرة الأرضية؟ إنّ موضع الكعبة كان قد خُفي ودرس في زمن الغرق فيما بين عهد نوح عليه السلام وابراهيم عليه السلام، وقد ذكر مجاهد، كان موضع الكعبة أكمة حمراء مدرة لا تعلوها السيول غير أنّ الناس يعلمون أنّ موضع البيت فيما هنالك ولا يثبت موضعه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ويدعو عنده المكروب، فقلَّ من دعا هنالك إلّااستجيب له، وكان الناس يحجون الى موضع البيت حتى بوأ اللَّه تعالى مكانه لإبراهيم عليه السلام لما أراد من عمارة بيته وإظهار دينه وشرائعه، فلم يزل منذ أهبط اللَّه تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض معظماً محرماً بيته تتناسخه الأُمم والملل أمة بعد أمة وملّة بعد ملّة، قال: وقد كانت الملائكة تحجهُ قبل آدم عليه السلام (2).

وقد ذكرنا في الفصل الثالث، كيفية بناء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام البيت الحرام، والكعبة الشريفة بالتفصيل، وهنا نضيف كيفية مجي ء ابراهيم عليه السلام إلى هذا المكان المقدس، كيف كان والى اين آل.

فقد خرج ابراهيم عليه السلام من الشام، أو من مدينة أورشليم «بيت المقدس» يحمل


1- 1 المصدر السابق: 50- 51.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 52- 53.

ص: 143

زوجته وولده الوحيد اسماعيل عليه السلام، فخرج بهم ومعه جبرئيل عليه السلام يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، يقول محمد بن إسحاق: «فخرج... لا يمرّ ابراهيم عليه السلام بقرية من القرى إلّاقال: يا جبرئيل أبهذا أُمرت؟ فيقول له جبرئيل عليه السلام: أمضه حتى قدم

الحجر الأسود

مكة وهي إذ ذاك عضاة من سلم وسمر، وبها ناس يُقال لهم العماليق خارجاً من مكة فيما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال ابراهيم عليه السلام لجبريل: أهاهنا أُمرتُ أن أضعهما؟ قال: نعم! قال: فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر

دو فصلنامه «ميقات الحج»، ص: 144

هاجر أمّ اسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً ثم قال: ربنا إنّي أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع (1)

ثم انصرف إلى الشام وتركهما عند البيت الحرام (2)، في رعاية اللَّه ورحمته.

وقال ابن جريج: «وبلغني أنّ جبرئيل عليه السلام حين هزم بعقبة في موضع زمزم قال لأُم اسماعيل:..- وأشار لها إلى موضع البيت- هذا أول بيت وضع للناس، وهو بيت اللَّه العتيق، وأعلمني أنّ ابراهيم واسماعيل يرفعانه للناس ويعمرانه فلا يزال معموراً، محرماً، مكرماً إلى يوم القيامة، ويضيف ابن جريج: أنّ أمّ اسماعيل ماتت قبل أن يرفعه ابراهيم وإسماعيل، ودُفنت في موضع الحجر» (3).

زواج إسماعيل عليه السلام وولاية أبنائه الكعبة

ليس من المحتم أن ندرك حكمة اللَّه تعالى للوهلة الأولى ، فقد يأمر اللَّه أمراً يبدو في الظاهر غيرمناسب، ولكن مناسبته وأهميته تظهر أخيراً، وقدأشارالقرآن الكريم إلى هذه الحالة الإنسانية، إلى استعجال الانسان في الأمور وطلب الحقيقة فوراً دون تأنٍ، قال تعالى : خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (4).

وهذا ما حدث لهاجر زوجة النبي ابراهيم عليه السلام المؤمنة باللَّه الطائعة لأمره وأمر نبيه، والدة اسماعيل عليه السلام الحليم الممتثل لأوامر اللَّه تعالى ، وصاحب تلك الاطاعة المثالية في الذبح وبناء الكعبة وغيرها من الأمور...

ولمثالية النبي اسماعيل عليه السلام وسلوكه القويم منحه اللَّه تعالى ولاية أقدس بقعة من بقاع الأرض، وأحبّها إلى اللَّه، الكعبة الشريفة ومن بعده ولاية أبنائه عليها...

وإذا رجعنا إلى قصة ابراهيم عليه السلام وزوجه هاجر ووحيدهما اسماعيل عليه السلام والمكان المقفر الذي أُنزلوا فيه، فسنجد الحكمة والموعظة والمعجزة.

لقد استجاب النبي ابراهيم عليه السلام لأمر ربه الكريم، إذ أخذ هاجر وطفلها الرضيع اسماعيل من الشام إلى أرضٍ قفراء خالية بعيدة عن العمران، ولا ماء ولا غذاء،


1- 1 إبراهيم: 37.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 1: 54.
3- 3 المصدر السابق: 56.
4- 4 الأنبياء: 37.

ص: 144

ص: 145

فأنزلهما وقفل راجعاً، تبعته هاجر ملتاعة وقالت له، إلى أين تذهب؟ ولمن تتركنا بهذا الوادي الموحش المقفر؟ قالت له ذلك مراراً خائفة وجلة، مستعطفة، وهو يمضي في سبيله، عندئذ قالت: اللَّه آمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا اللَّه، وحُسن ظنها وإيمانها باللَّه تعالى طمأن قلبها، وقيل: إن جبرئيل عليه السلام طمأن قلبها، أن أخبرها أنّ هذا المكان سيكون مكان خير وبركة ومهوى الأفئدة.

وقد خطهُ اللَّه تعالى لها ولابنها أن جعل البركة في إسماعيل وحيدها، وجعله أمة، وجعل ذلك المكان المقفر تهوي إليه أفئدة الناس، وجعل الخير والبركة والأمن والأمان فيه.

عن ابن عباس قال: لما أخرج اللَّه تعالى ماء زمزم لأم إسماعيل، فبينا هي على ذلك إذ مرَّ ركب من جرهم قافلين من الشام في الطريق السفلى فرآى الركب الطير على الماء، فقال بعضهم: ما كان بهذا الوادي من ماء ولا أنيس، يقول ابن عباس:

فأرسلوا رجلين لهم حتى أتيا أمّ اسماعيل فكلّماها ثم رجعا إلى ركبهما، فأخبراهم بمكانها، قال: فرجع الركب كلّهم حتى حيّوها فردت عليهم وقالوا: لمن هذا الماء؟

قالت أم اسماعيل: هو لي، قالوا لها: أتأذنين لنا أن ننزل معك عليه؟ قالت: نعم! (1) ويضيف ابن عباس قائلًا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: القى ذلك أمّ اسماعيل وقد أحبت الأنس بهم، فنزلوا وبعثوا إلى أهاليهم، فقدموا إليهم وسكنوا تحت الدوح، واعترشوا عليها العرش فكانت معهم هي وابنها، حتى ترعرع الغلام وأنفسوا فيه وأعجبهم، وتوفيت أم اسماعيل، فلما بلغ أنكحوه جارية منهم (2).

وقد ذكر المفسرون والمؤرخون، أنّ اسماعيل عليه السلام طلّقَ زوجته الأولى (تلك الجارية) بطلب من ابراهيم عليه السلام (3)، وتزوج بأخرى بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، فولدت له اثني عشر رجلًا. وقد ذُكرت أسماؤهم وأحوالهم في كتب الصحاح وأخبار مكة وغيرها من كتب الخاصة والعامة. وجاء ما يشابه ذلك من الأسماء في التوراة. والذي يهمنا من ولد اسماعيل عليه السلام «نابت» و «قيدار» كبار ولد


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 57، وصحيح البخاري، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و آله.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 انظر، الأزرقي، أخبار مكة، ج 1، وكتب الصحاح، وتفاسير القرآن الكريم، والتوراة، سفر التكون وفي التوراة جاءت قصة اسماعيل وهاجر مع زيادات ونقصان كثير وكذب وتحريف أشهر من نارٍ على علم.

ص: 146

اسماعيل ومنهما نشر اللَّه العرب، وبعد وفاة اسماعيل عليه السلام تولى نابت إمارة البيت المعمور، وبعد أن توفي نابت بن اسماعيل عليه السلام وليَ أمرها- أمر الكعبة- جده لأمّه (مضاض بن عمرو الجرهمي) وضمَّ بني نابت وبني اسماعيل عليه السلام إليه فصاروا مع جدهم أبي أمهم ومع أخوالهم من جرهم.

وهكذا توارث آل اسماعيل (وهم في الحقيقة آل ابراهيم عليه السلام) الكعبة البيت الحرام. وهكذا كرّم اللَّه تعالى ابراهيم واسماعيل عليهما السلام.

جُرهم وولايتها الكعبة

بعد وفاة اسماعيل عليه السلام وابنه نابت نصّبت قبيلة جُرهم (الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي) (1) ملكاً عليهم، وفي نفس الوقت ضعنت قبيلة قطورا (وهم من العماليق) من اليمن إلى مكّة فولّوا عليهم (السميدع) (2) ملكاً، فلما نزلوا مكة رأوا بلداً طيباً وماءً وشجراً فأُعجبوا بها، فكان الحارث بن مضاض ومن معه قد نزلوا أعلى مكة وقعيقعان، ونزل السميدع ومن معه أسفل مكة وأجيادين، وكان (الحارث) يعشّر (3) من دخل مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشّر من يدخل مكة من أسفلها، لا يدخل واحد منهما على صاحبه في ملكه، ثم إنّ جرهماً وقطوراً بغى بعضهم على بعض وتنافسوا الملك بها واقتتلوا بها حتى نشبت الحرب بينهم على المُلك وولاة الأمر بمكة، وصارت ولاية البيت إلى العماليق، ثم كانت لجُرهم عليهم، وأقامت جُرهم بولاية البيت نحو ثلاثمائة سنة، وكان آخر ملوكهم الحارث ابن مضاض الأصغر بن عمرو بن الحارث بن مضاض الأكبر وزادوا في بناء البيت، ورفعته على ما كان عليه من بناء ابراهيم واسماعيل عليهم السلام (4).

وقال ابن اسحاق: ثم نشر اللَّه تعالى بني اسماعيل بمكة، وأخوالهم من جُرهم إذ ذاك الحكّام بمكة وولاة البيت، كانوا كذلك بعد نابت بن اسماعيل عليه السلام، فلما ضاقت عليهم مكة وانتشروا بها، انبسطوا في الأرض وابتغوا المعاش والتفسح في الأرض، فلا يأتون قوماً ولا ينزلون بلداً إلّاأظهرهم اللَّه عزّوجل عليهم بدينهم فوطئوهم،


1- 1 قال الأزرقي ونصبت قبيلة جُرهم مضاض بن عمرو في أخبار مكة، أما المسعودي فقد ثبتَ عنده أنه الحارث بن مضاض في مروج الذهب 2: 54.
2- 2 السميدع: هو ملك العماليق، وهو ابن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدلا، مروج الذهب، المصدرالسابق.
3- 3 التعشير: هو ضريبة تعادل عُشر قيمة البضاعة يدفعها المار من الناس والتّجار لسيد الأرض، مروج الذهب، المصدر السابق.
4- 4 انظر أخبار مكة، للأزرقي 1: 90- 93 منشورات الشريف الرضي، ومروج الذهب 2: 54.

ص: 147

وغلبوهم عليها حتى ملكوا البلاد ونفوا عنها العماليق، ومن كان ساكناً بلادهم التي كانوا اصطلحوا عليها من غيرهم، وجُرهم على ذلك بمكة ولاة البيت لا ينازعهم إياه بنو اسماعيل لخؤولتهم وقرابتهم وإعظام الحرم أن لا يكون به بغي أو قتال (1).

أما المسعودي فيقول: «وكثر ولد إسماعيل وصاروا ذوي قوة ومَنَعَة فغلبوا على أخوالهم جُرهم وأخرجوهم من مكة، فلحقوا بجُهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم، وكان الموضع يُعرف (بإضم) وقد ذكر ذلك أمية بن أبي الصّلت الثقفي في شعر له فقال:

وجُرهم دفنوا تُهامة في الد هر فسالت بجمعهم إضَمُ (2)

خُزاعة وولاية الكعبة

حكمت جُرهم فترة طويلة في مكة كما ذكرنا سابقاً مع ولايتها على الحرم والكعبة «ولما طالت ولايتهم استحلوا من الحرم أموراً عظاماً، ونالوا ما لم يكونوا ينالون، واستخفوا بحرمة الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدى إليها سِراً وعلانية، وكلّما عدا سفيه منهم على منكر وجد من أشرافهم مَنْ يمنعه ويدفع عنه، وظلموا من دخلها من غير أهلها» (3).

ويذكر المؤرخون والرواة أنّ جرهماً بعد أن صاروا أكثر سُكان مكة رجالًا وأموالًا وسلاحاً وأعزهم عزة، طغوا وتنازعوا أمرهم بينهم واختلفوا، وضعفوا بعد ذلك، فقام (مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض الجُرهمي) ناصحاً لهم (4). ولم ينفع النصح فيهم، فدخل عمرو بن عامر نازحاً من اليمن مع أهله وأمواله وكاهنة لهم تُدعى (طريفة الكاهنة) مُطاعٌ أمرُها عندهم، فكانوا لا يطأون بلداً إلّاغلبوا عليه وقهروا أهله حتى قاربوا مكة واقتتلوا مع جُرهم ثلاثة أيام فانتصروا وانهزمت جُرهم، فلم ينفلت منهم إلّاالشريد، وكان مضاض بن عمرو ابن الحارث قد اعتزل جرهماً ولم يعنِ في ذلك، فرحل هو وولده وأهل بيته حتى


1- 1 انظر أخبار مكة، 1: 80- 90.
2- 2 مروج الذهب 2: 55.
3- 3 أخبار مكة 1: 90.
4- 4 يذكر الأزرقي خطبتهُ لهم في كتابه أخبار مكة 1: 90- 103.

ص: 148

نزلوا قنونا وحلى أودية على ساحل البحر الأحمر.

وتشتت جُرهم، وفُنيت البقية الباقية بالسيف، وجاء دور خزاعة في ولاية الكعبة، فحازت أمر مكة وصاروا أهلها، وجاءهم بنو اسماعيل فسألوا السكنى مع خزاعة فأذنوا لهم. فلما رأى ذلك (مضاض بن عمرو بن الحارث) أرسل خزاعة يستأذنها في الدخول عليهم والنزول معهم بمكة في جوارهم ومتَّ إليهم برأيه وتوديعه قومه عن القتال وسوء السيرة في الحرم واعتزاله الحرب، فأبت خزاعة أن تقررهم ونفتهم عن الحرم كلّه ولم يتركوهم ينزلون معهم، فقال عمرو بن لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر لقومه: من وجد منكم جرهمياً قد قارب الحرم فدمهُ هدر (1).

وبذلك سيطرت خزاعة على مكة وأخرجت جُرهماً منها ونفتهم عن آخرهم الى اليمن، وحزنت جُرهم حزناً شديداً، وندموا على ما فعلوا في مكة ندماً ذريعاً، وبكوا على مكة وألفوا الأشعار فيها (2).

هذا... وحازت خزاعة ولاية البيت الحرام والكعبة الشريفة، وحُكم مكة، ثلاثمائة عام، وقد تعرضت مكة إلى عدوان أرادوا تخريبها وهدمها، ودافعت خزاعة دفاعاً عظيماً، وقاتلت دونها قتالًا شديداً... وقيل: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان يلي البيت وولده بعده خمسمائة سنة حتى كان آخرهم حليل بن حبشة بن سلول بن كعب بن عمرو، الذي تزوج قصي بن كلاب ابنتهُ «حُبى » (3).

وقال المسعودي: كان أول من ولي البيت من خزاعة عمرو بن لُحي، واسم لحي حارثة بن عامر، فغيّر دين إبراهيم وبَدّله، وبعث العرب على عبادة التماثيل، حين خرج إلى الشام ورآى قوماً يعبدون الأصنام، فأعطوه منها صنماً فنصبه على الكعبة، وقويت خزاعة، وعمَّ الناس ظلم عمرو بن لُحي (4).

ولمّا أكثر عمرو بن لحي من نصب الأصنام حول الكعبة، وغلب على العرب عبادتها، وانمحت الحنيفية منهم إلّالمعاً، قال في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي:


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 أخبار مكة 1: 105.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 مروج الذهب، المسعودي 2: 61.

ص: 149

يا عمرو، إنك قد أحدثت آلهةً شتى بمكة حول البيت أنصابا

وكان للبيت رَبٌّ واحدٌ أبداً فقد جعلتَ له في الناس أربابا

لتعرفَنّ بأنّ اللَّه في مَهَل سيطفي دونكم للبيت حُجّابا (1)

ولاية قصي بن كلاب الكعبة

تذكر كتب التاريخ عن قصي عندما توفي والده كلاب كان طفلًا رضيعاً فتزوجت أمّه (فاطمة بنت عمرو) ربيعة بن حزام، فخرجت معه من مكة إلى بلاده أرض عذرة من أشراف الشام وحملت معها قصيّاً لصغر سنه، فولدت من ربيعة «رزاح» (2) ولما شب قصي حدث بينه وبين رجل من قضاعة شي ء، فقال له القُضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي، فسألها عما قال له، فقالت: واللَّه أنت يا بني خيرٌ منه وأكرم، أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، وقومك عند البيت الحرام وما حوله. فأجمع قصي للخروج إلى قومه واللحاق بهم وكره الغُربة في أرض قُضاعة (3).

دخل قصي مكة في شهر الحج أحد الأشهر الحُرم، وكان رجلًا جليداً حازماً بارعاً، فلما أنهى حجهُ دخل على حليل الخُزاعي خاطباً ابنتهُ «حُبى »، فلما عرف حليل نسب قُصي رغب فيه وزوجه، وحليل يومئذ وليُ أمر الكعبة ومكة. ولما حضرت حليل الوفاة نظر إلى قصي والى ما انتشر له من الولد من ابنته، فرآى أن يجعل إمارة الكعبة وحكمها في ولد ابنته فدعا قصياً، فجعل له ولاية البيت وسلّم إليه مفتاح الكعبة (4).

وقال حليل لقصي: إنها لا تقوم بفتح الباب وغلقه (5)، فجعل ولاية البيت إليها وفتح الباب وغلقه إلى رجل من خزاعة يُعرف بأبي غبشان الخزاعي، فباعه أبو غبشان إلى قصي ببعير وزق خمر، فأرسلت العرب ذلك مثلًا، فقالت: «أخسرُ من صفقة أبي غبشان» وفي بيعه لولاية البيت ببعير وزق من الخمر، ونقله ولاية


1- 1 المصدر السابق.
2- 2 انظر أخبار مكة، الأزرقي 1: 104.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 المصدر السابق 1: 107.
5- 5 أي «حُبى » لأن فتح الباب وغلقه تحتاج إلى قوة رجل أما الولاية فلها بالوراثة.

ص: 150

البيت من قومه من خُزاعة إلى قُصي بن كلاب، يقول الشاعر:

أبو غبشان أظلم من قصيٍّ وأظلم من بني فِهْرٍ خُزاعة

فلا تَلحوا قصياً في شِراهُ ولوموا شيخكم إذ كان باعهْ (1)

ولما مات حليل الخزاعي، أبت خُزاعة أن يكون قصي ولي أمر الكعبة ومكة المكرمة، فأخذت المفتاح منه، فاستنصر قصي قريشاً وبني كنانة فأجابوه إلى النصر، وأرسل إلى أخيه لأمه «رزاح» فخرج رزاح واخوته لأبيه في حاج العرب مجتمعين لنصر قصي والقيام معه، فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خُزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل، وعظموا عليهم القتال في الحرم، وحذروهم الظلم والبغي بمكة، وذكروهم ما كانت فيه جُرهم، وما صارت إليه حين ظلموا وبغلوا فيها، فأبت خزاعة ذلك واقتتلوا قتالًا شديداً. آلَ الأمر بالنهاية أن يحكموا لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة وأسلمت خزاعة لقصي، وتملك على قومه فملكوه، وكان قصي أول رجل من بني كنانة أصابَ ملكاً وأطاع له به قومه، فكانت له الحجابة، والرفادة، والسقاية، والندوة، واللواء، والقيادة.

وجمع قريشاً بمكة وسُمي بذلك مجمعاً أو قرشياً (2). وقصي الجد الخامس للنبي محمد صلى الله عليه و آله وهو من بني اسماعيل النبي عليه السلام بن إبراهيم الخليل عليه السلام (3).

وقد كانت ولاية البيت في خُزاعة ثلاثمائة سنة، واستقام أمر قصي، وعشّر من دخل مكة من غير قريش، وبنى الكعبة، ورتب قريشاً على منازلها في النسب بمكة، وبيّن الأبطحيَّ من قريش، وهم الأباطح، وجعل الظاهري ظاهرياً (4).

ظهور قريش واستيلاؤها على الكعبة

ظهرت قريش في عهد قصي كما ذكرنا، وكان السبب في تسميتهم لأن تفسير ذلك الأمن، وتقرّشت، والتقرش: الجمع، ومنه قول ابن حِلِّزة اليشكري:

إخوة قَرَّشوا الذُنوب علينا في حديث من دَهرِنا وقديم (5)


1- 1 مروج الذهب، المسعودي 2: 63.
2- 2 أخبار مكة 1: 107.
3- 3 معجم الحضارات السامية: 688.
4- 4 مروج الذهب: ص 63.
5- 5 مروج الذهب 2: 65.

ص: 151

وكانت قريش قبائل متفرقة جمعها قصي بن كلاب، فسميت قريشاً، فالتجمع في بعض كلاب العرب يعني التقرش، ويُقال: كان يُقال لقصي القرشي ولم يسم قرشي قبله، ويُقال أيضاً: إنّ النضر بن كنانة كان يُسمى القرشي وقد قيل: إنما سميت قريش قريشاً لأنها كانت تجاراً تكتسب وتتجر وتحترش فشبهت بحوت في البحر تسمى «قريشاً» (1).

وظهرت قريش على ساحة مكة، فلما حاز قصي بن كلاب شرف مكة، وأنشأ دار الندوة، كانت قريش تقضي فيها أمورها، ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلّاابن أربعين للمشهورة، وكان يدخلها ولد قصي كلهم، وحلفاؤهم، فلما كبر قصي ولّى ولده عبدالدار وعبدمناف أمور الكعبة، فأعطى عبدالدار السدانة وهي الحجابة، ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة.

وبعد وفاة عبدالدار جعل الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبدالدار، وجعل دار الندوة إلى ولده عبدمناف بن عبدالدار، ثم ولي أمورها عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار وجاء بعده عثمان، ثم وليها عبدالعزى بن عثمان بن عبدالدار، ثم وليها طلحة بن عبداللَّه بن عبدالعزى ، ثم وليها ولده حتى كان فتح مكة، فقبضها رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله بن عبداللَّه بن عبدالمطلب (2) وحطّم أصنام الكعبة وولي الأمور كلّها؛ ليعيد الحج الإبراهيمي الأصيل فيها بعد أن حُرّف الحج وتغيرت معالمه.

عبادة الأصنام في الكعبة الشريفة

اتفق المؤرخون والرواة، أنّ أول من نصب الأصنام في الكعبة «عمرو بن لحي» وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وهو خُزاعي، وقد نقل فكرة الوثنية من بلاد الشام التي زارها، ورأى وثنية أهلها، فتأثر بها وغيّبَ معالم التوحيد ودنّس البيت الحرام. وجاء بالصنم الكبير «هُبل» من هيت (3)، من


1- 1 أخبار مكة 1: 109.
2- 2 المصدر السابق: 110.
3- 3 هيت: بلدة في العراق.

ص: 152

أرض الجزيرة فنصبه في بطن الكعبة، فكانت قريش والعرب تستقسم عنده بالأزلام، وهو أول من غيّر الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام وولده إسماعيل وكان أمره «عمرو» بمكة في العرب مطاعاً لا يُعصى له أمر، وقد ذكرنا سابقاً أنه زعيم خزاعة، وانتصرت بقيادته على قبيلة جُرهم، وبلغ بمكة وفي العرب من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده في الجاهلية.

ذكر الأزرقي في أخبار مكة عن هذا الرجل وتأكيده على الأصنام قائلًا: «إنّ جرهماً لما طغت في الحرم، دخل رجل منهم بامرأة منهم الكعبة ففجر بها، ويقال إنما قبّلها فيها فمسخا حجرين اسم الرجل أساف بن بغاء، واسم المرأة نائلة بنت ذئب، فأخرجا من الكعبة، فنصب أحدهما على الصفا والآخر على المروة، وإنما نصبا هنالك ليعتبر بهما الناس، ويزدجروا عن مثل ما ارتكبا... فلما كان عمرو بن لحي (قد ولي الكعبة) أمر الناس بعبادتهما والتمسح بهما» (1) (2).

وظلَّ الحجاج من أهل مكة ومن غيرهم يعبدون هذين الصنمين المذكورين، ويتمسكون ويتمسحون بهما ويقدمون لهما النذورات والذبائح وينحرون لهما حتى جاء قصي بن كلاب، فصارت إليه الحجابة وأمر مكة، فنقلهما من الصفا والمروة، وجعل أحدهما بلصق الكعبة، وجعل الآخر في موضع زمزم، وكان أهل الجاهلية يمرون بأساف ونائلة ويتمسحون بهما، وكانوا إذا طافوا بالبيت يبدأون بأساف فيستلمه الحاج، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، فكانا كذلك حتى كان يوم الفتح، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فكسّرهما، وحين دخل الرسول صلى الله عليه و آله والمسلمون فاتحين مكة المكرمة، كان عدد الأصنام فيها وقد كسرها جميعاً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ثلاثمائة وستين صنماً» (3).

وفي ذلك يقول فضالة بن عمير بن الملوح الليثي في ذكر يوم الفتح:

أوما رأيت محمداً وجنوده بالفتح يوم تكسر الأصنام؟!


1- 1 انظر أخبار مكة 1: 119- 120.
2- 2 وذكر المسعودي في مروج الذهب 2: 55، الخبر نفسه وأضاف وقيل: بل هما حجران نحتا ومُثّلا بمن ذكرنا وسميا بأسمائها أساف ونائلة.
3- 3 أخبار مكة 1: 121.

ص: 153

لرأيت نور اللَّه أصبح بيننا والشرك يغشى وجهه الاظلام (1)

حادثتا (تبع) و (الفيل) ومنزلة الكعبة

للكعبة الشريفة منزلة عظيمة عند اللَّه تعالى ، فقد حفّها برعايته، وخصّها بكرامات سجّلها التاريخ، منها صيانتها من الشر والخراب، فقد تشتت قوم جُرهم لظلمهم فيها وطغيانهم، وخزاعة هي الأخرى ، وكذلك قريش وكلّ من يحاول الاعتداء عليها أو الاستخفاف بها، فقد قضت حُرمة الكعبة على قوم تبّع وأصحاب الفيل، أما تُبّع فهو اسم لأحد ملوك اليمن، والتبابعة لقب ملوك اليمن، وكان للتبابعة دولة وصولة في اليمن وغيره، وكانوا أحسن حالًا وأكثر مالًا من قريش، ولما عتو عن أمر ربهم أخذهم بالهلاك والدمار.

قال تعالى : أهم خير أم قوم تبّع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (2)

.

والتبابعة الذين أرادوا هدم الكعبة وتخريبها ثلاثة، وقد كان قبل ذلك منهم من يسير في البلاد، فإذا دخل مكة عظم الحرم والبيت.

وتُبّع الثالثة التي صممت على هدم البيت الحرام كانت بالدّفِ من جمدان بين أمج وعسفان، دفت بهم دوابهم، وأظلمت الأرض عليهم، فدعا- تُبع ملكهم- أحباراً كانوا معه من أهل الكتاب، فسألهم فقالوا: هل هممتَ لهذا البيت بشي ء؟

قالَ: أردتُ أن أهدمه. قالوا: فانوِ له خيراً أن تكسوه، وتنحر عنده، ففعل، فانجلت عنهم الظلمة (وإنما سُمي الدف من أجل ذلك)، فسار وتكررت الحالة ثلاث مرات، فقال الأحبار له: واللَّه ما أرادت هذيل (3) في دفعك بهذا إلّاهلاكك وهلاك قومك، إنّ هذا بيت اللَّه الحرام ولم يرده أحد قط بسوء إلّاهلك... فضرب تُبّع اعناق الهذليين وصلبهم، فرآى في المنام أنه يكسي الكعبة، فكساها كسوة كاملة، كساها العصب، وجعل لها باباً يُغلق بضُبة فارسية. قال ابن جريج: كان تُبّع أول من كسا البيت كسوة كاملة (4).


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 الدخان: 37.
3- 3 هذيل: قبيلة عربية كبيرة قطنت شمالي الجزيرة، فريقٌ منهم حثَّ تُبّعاً على هدم الكعبة حسداً لقريش على ولايتها البيت. لكنهم دافعوا عن الكعبة وقاتلوا قتالًا شديداً حينما همَّ إبرهة الحبشي بهدم الكعبة، انظر معجم الحضارات السامية هنري س. عبودي: 882.
4- 4 أخبار مكة 1: 133- 134.

ص: 154

وقد جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه و آله قال: «لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم» (1).

وروي عن الصادق عليه السلام قال: «إن تُبعاً قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبيّ، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجتُ معه» (2).

هذا ما كان لقوم تُبّع، أما قوم إبرهة الأشرم أو الحبشي (أصحاب الفيل) فقد ذكرهم القرآن الكريم وكيفية هلاكهم عن آخرهم نتيجة ما كانوا يكيدون للكعبة وتدميرها، وملخص ما جاء من أمرهم في تفاسير القرآن الكريم: أنّ الأحباش بعد أن انتصروا على ملك اليمن، وتسلط إبرهة الأشرم على اليمن، بنى القليس بناءً من الذهب والفضة محكماً يضاهي الكعبة، ودعا الناس للحج إليه بدل الكعبة، وانتشر خبره في العرب، فدعا رجل من بني مالك بن كنانة رجلين من العرب ليذهبا ويحدثا فيه، فدخل إبرهة البيت فرآى أثرهما فيه، فغضب وأقسم على هدم الكعبة، وتخريبها، فسار مع جيشه يتقدمهم فيل أو أكثر حتى وصلوا إلى مكان بالقرب من مكة يُقال له: «المغمّس» فنزلوا فيه، وأرسل إبرهة إلى قريش مَن يخبرهم بأنه لم يأت لحربهم، وإنما لهدم البيت والحرم، فإن لم يعرضوا له بحرب فلا حاجة له بدمائهم. وما أن همَّ إبرهة بهدم البيت أرسل اللَّه عليه وعلى جيشه أسراباً من الطير ترميهم بحصى صغيرة لا تصيب أحداً منهم إلّاهلك، ومات وتناثر لحمه، فذعر الجيش وصاحبه، وفرّوا هاربين ومات إبرهة بعد أن وصل صنعاء، وسقط لحمه قطعة قطعة إلى أن انتهى (3).

قال تعالى : أَلم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل* أَلم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصفٍ مأكول (4)

.

يقول د. طه حسين في كتابه «مرآة الإسلام»: «وفي هذه الموقعة أظهر عبدالمطلب من الصبر والجلد، ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف


1- 1 الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي 18: 154.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 انظر الكاشف 7: 609- 610، والميزان، ومروج الذهب 2، وأخبار مكة 1: 134- 154، والطبري وغيرها من كتب التاريخ والتفسير.
4- 4 الفيل: 1- 5.

ص: 155

قريش، ذلك أنه قد أشار على قريش أن تخلي مكة، فسمع له قومه، وأقام هو بمكة لم يعتزلها، وإنما أقام عند الكعبة يدعو اللَّه ويستنصره. ويقول الرواة: إنّ الجيش أغار على إبل قريش فاحتازها، وجاء عبدالمطلب إلى إبرهة، ولما دخل عليه لم يكلمه إلّافي إبلٍ له، فصغر في نفس إبرهة وقال له: كنتُ أظن أنك تكلمني في شأن مكة، وشأن هذا البيت الذي تعظمونه. قال عبدالمطّلب: إني أكلمك في مالي الذي أملكهُ، أما البيت فإنّ له ربّاً يحميه إن شاء. فأرسل اللَّه على إبرهة وجيشه من تلك الطير، التي ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كصعفٍ مأكول، وعادت قريش مكة، فازداد إكبارهم لعبدالمطلب وشجاعته وثقته وثباته» (1).

وبذلك حمى اللَّه تعالى بيته من إبرهة ومن كلّ من نوى لها بسوء. وهكذا صمدت الكعبة الشريفة في وجه أكبر الصدمات التاريخية حيث فشلوا في خرابها والقضاء عليها.

بعثة محمد صلى الله عليه و آله وفريضة الحج

ولد محمد بن عبداللَّه بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن حكيم (كلاب) بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن اللياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد، وينتهي نسبهُ الشريف إلى اسماعيل بن ابراهيم عليهم السلام (2)، ولد في مكة في اشرف بقاع العالم ولم يلد نبيّ قبله ولا بعده- حسب اطلاعنا- في هذه البقعة المباركة الشريفة إلّاهو، وقد شرّفه اللَّه تعالى وكرّمه وجعله سيد البشر وسيد الأنبياء وخاتمهم وجعل تابعيه «خير أمة اخرجت للناس، وبعثه في عامه الأربعين في محل ولادته نبياً عالمياً للناس كافة، قال تعالى :

وما أرسلناك إلّاكافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون (3)

.

بُعث النبي صلى الله عليه و آله في قوم يعبدون الأصنام في البيت الحرام، وكانت أصنامهم


1- 1 نقله محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف 7: 610، عن مرآة الاسلام، د. طه حسين.
2- 2 الاعلام، الزركلي.
3- 3 سبأ: 28.

ص: 156

أساس الحياة خصوصاً عند قريش زعيمة العرب في مكة آنذاك، إذ كانت القرابين تقدم لهذه الأصنام، وفي ذلك كانت مصلحة اقتصادية وأدبية لقريش التي كانت تحمي الدار، فالقضاء على «الدين الوثني» يعني القضاء على منافع قريش وزعامتها.

لذلك كانت مهمة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في نشر الدين الجديد مهمة شاقة جدّاً، كمهمة أبيه ابراهيم عليه السلام، فقد ندّد بالوثنية والمعتقدات التي لا تتلاقى مع وحدانية اللَّه، وأظهر فساد نظمهم الاجتماعية، مما أثار غضب قريش عليه ومقاومتها إياه مقاومة شديدة حتى قال صلى الله عليه و آله: «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت».

ومضى محمد صلى الله عليه و آله يواصل الدعوة بثقة، ومضت الصفوة من الدعاة تواصل السير معه وتترسم خطاه المباركة، وقد أعيى قريشاً إصرارُ محمد صلى الله عليه و آله وأصحابه على تحدّيها فراحت تجدّ في تحطيم دعوته وتعذيب المؤمنين به، مما اضطره إلى الهجرة بعد أن هاجر مئتا مسلم بإذنٍ منه صلى الله عليه و آله قبله بشهرين، قسم منهم هاجر إلى الحبشة، وقسمٌ آخر إلى المدينة. ثم استقر الجميع في المدينة المسماة «يثرب» (1) قبل هجرة الرسول صلى الله عليه و آله وبهجرته إليها تشرفت باسم «مدينة الرسول».

وحين وصول النبيّ الأكرم إليها شرع ببناء الدولة الإسلامية حيث توفرت له عناصرها- الأرض، الأمة، السلطة السياسية المتمثلة بقيادته الحكيمة-، فأسس المسجد؛ ليكون منطلقاً للقيادة ومركزاً لبناء الدولة إلى جانب مهام المسجد العبادية والفكرية، وقد تمثل بناء الدولة في الخطة الحكيمة التي وضعها رسول اللَّه في بناء الجبهة الداخلية بمؤاخاة المهاجرين والأنصار، والمساواة في الحقوق والواجبات بمختلف قبائلهم، وعقد معاهدة مع اليهود بعدم الاعتداء، ثم تكوين الجيش المسلم والقوة المسلحة والجهاد في سبيل اللَّه، وبناء جهاز إداري متين، وعلاقات خارجية ببعث رسائل إلى بعض الملوك والحكام وغيرها من الأمور.

والذي يهمنا هنا أنّ الرسول صلى الله عليه و آله أصبح قوة لا تستطيع قريش مقابلتها، فجهّز


1- 1 يثرب: مدينة زراعية تقع على بُعد أربعمائة وخمسين كيلومتراً إلى الشمال من مكة المكرمة.

ص: 157

جيشاً من عشرة آلاف مقاتل وسار سرّاً ليباغت قريشاً، وليصادر إمكانية الدفاع من يدها، ولئلا يقع قتال في مكة الأمن والسلام.

وتحرك جيش محمد صلى الله عليه و آله صوب مكة في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة، واستخدم حرباً نفسية بإشعاله النيران في الصحراء على مقربة من مكة؛ ليُشعر قريشاً بقوة الجيش الإسلامي، ويثير الرعب في نفوس طغاتها، ويحملهم على الاستسلام والخضوع من غير قتال (1).

و هكذا دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- الذي خرج من مكة مستخفياً يطارده كفارها- دخل فاتحاً محطّماً أعظم حصون الشرك والجاهلية، ولم يستطع الذين حاربوه طوال واحد وعشرين عاماً أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة، فاستسلموا، وأتوا إليه مذعنين، ودفعوا إليه الجزية التي فرضها عليهم صاغرين منكسرين.

وبهذا ثبتت الدولة والدعوة وأركانها في الجزيرة وتحقق الفتح المبين، واستلم الرسول صلى الله عليه و آله ولاية الكعبة وحطّم أصنامها، وصار يُطافُ بها كما طاف ابراهيم وابنه اسماعيل عليهم السلام من قبل حوالى خمسة آلاف من السنين، واستُجيبت دعوة ابراهيم عليه السلام: ربِّ وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة (2)

.

وأذّن محمد صلى الله عليه و آله للناس بالحج، كما أذن جده ابراهيم ودعاهم إليه وعادت مناسك الحج الإبراهيمي كما خطّها جبرئيل لإبراهيم عليه السلام بإذن السماء...

الكعبة أحب بقاع الأرض إلى اللَّه

لقد ورد في الروايات الشريفة عن خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه و آله وعن آله الأطهار: أنّ أحبّ بقاع الأرض إلى اللَّه تعالى هي الكعبة الشريفة. إضافةً إلى ما أشارت إليه الآيات القرآنية كما ذكرنا سابقاً...

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حين هجرته إلى يثرب ملتفتاً وراءه ناظراً إلى الكعبة الشريفة مناجياً إياها: «واللَّه إنك لأحبّ البقاع إلى اللَّه، ولولا أنّي أُخرجتُ منك


1- 1 راجع تاريخ الطبري، ومروج الذهب، وقصة الحضارة وغيرها من كتب التاريخ في فتح مكّة.
2- 2 البقرة: 129.

ص: 158

ما خرجت» (1).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «أحبّ الأرض إلى اللَّه عزّوجلّ مكة، ما تربة أحبُّ إلى اللَّه عزّوجلّ من تربتها، ولا حجر أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من حجرها، ولا شجر أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من شجرها، ولا جبال أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من جبالها، ولا ماء أحبُّ إلى اللَّه عزّوجل من مائها» (2).

وقال عليه السلام أيضاً: «ما خلق اللَّه تبارك وتعالى بقعة في الأرض أحبّ إليه منها- وأومأ بيده نحو الكعبة- ولا أكرم على اللَّه عزّوجلّ منها، لها حرّم اللَّه الأشهر الحُرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض» (3).

وهناك روايات أخرى نستغني عن ذكرها ونكتفي بما ذكرنا، ويكفي أن نستنتج حب اللَّه تعالى للكعبة الشريفة مايعطي لزائرها وللحاج إليها ... فقدجاءفي الصحيح:

«الحاج ثلاث أصناف: صنفٌ يُعتقُ من النار، وصنفٌ يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وصنفٌ يُحفظ في أهله وماله وهو أدنى ما يرجع به الحاج» (4).

الحج بين ابراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه و آله

ومما تقدم يتضح أنّ هناك قاسماً مشتركاً مقدساً بين حج أبي الأنبياء الخليل ابراهيم عليه السلام وحج خاتم الأنبياء الحبيب محمد صلى الله عليه و آله، قاسماً إلهياً فطرياً صحيحاً...

بعيداً كلّ البعد عن الإضافات البشرية والزوائد واللواحق الخارجة عن الحج الحقيقي...

ولكن للزمان معاوله وأنيابه، وللإنسان أهواؤه ورغباته الدنيوية... وقد لعبت في الأصول والمقدسات فحرفتها وأخرجتها في أحيان كثيرة عن خطّها الطبيعي الذي وضعه اللَّه تعالى ...

قد شَوَّه أو حَرفَ هذا الخط الإلهي (الحج) كثيرٌ من ولاة الكعبة الشريفة وغيرهم ممن جاؤوا (5) بعد النبي ابراهيم عليه السلام فجعلوه- الحج- مجرد طقوس


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 5، ونقلها بعض كتب التفسير منه كالكاشف والميزان وغيرها.
2- 2 المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني 2: 152، والفقيه: 215 تحت رقم 8.
3- 3 المصدر السابق نقلًا عن الكافي، الكليني 4: 253، والتهذيب 1: 248.
4- 4 المصدر السابق نقلًا عن الكافي، الكليني 4: 253، والتهذيب 1: 248.
5- 5 نقصد بالذين جاؤوا بعد النبي ابراهيم عليه السلام في منطقة الجزيرة من السدنة والولاة والحكام. الأنبياء بعدابراهيم عليه السلام قد حجوا إليها كما حج ابراهيم عليه السلام.

ص: 159

خاوية وافعال مادية جسدية محدّدة، وأخرجوه من معناه الروحي والقدسي الذي أراده اللَّه تعالى ...

فلم تعد الكعبة ذلك الصرح الإلهي العظيم الذي أقامه النبي ابراهيم الخليل عليه السلام ووضع قواعده، والهدف الإلهي الذي استهدفه من تأسيسها...

وانما أصبحت مركزاً ومقراً للأفكار والأوضاع التي حملها العرب في العصر الجاهلي بما يحملون من روح وثنية من خلال إدخالهم الأصنام فيها وعبادتهم لها، والتقرب من خلالها إلى اللَّه زلفا، أو مركزاً للأعاجم من فرس وغيرهم ممن لم يؤمنوا إيماناً صحيحاً، وإنما جاؤوا لإحياء ذكريات أو لأغراض أخرى غير دينية ولا إلهية من قبيل التجارة أو الترويح عن النفس، أو لقضاء الحاجة من خلال تقديم النذور والقرابين مما ورثوه من عادات وعقائد...

وهكذا ابتعد الحج عن أهدافه السامية الأولى الروحية والمعنوية، وصار مجرّد شكل ومظهر مادي لا مضمون فيه ولا روح...

وبُعث النور الأعظم، النبي محمد صلى الله عليه و آله وغيّر الدنيا، والمجتمع.. وإذا بالكعبة والحج الأصيل نفسه يعيد مجده السالف التليد الذي أرساه النبي ابراهيم الخليل عليه السلام وأبناؤه وأحفاده المخلصون...

جاء محمد بن عبداللَّه صلى الله عليه و آله ليضع الحج في موقعه المناسب، الحج الأبدي، ما دام الإنسان حيّاً يجري على سطح الأرض...

جاء الحج في لمساته الأخيرة ركناً مرتبطاً كامل الارتباط بالخالق البارئ عزّوجلّ، وممتداً امتداداً طويلًا إلى كلّ إنسان يجري في المعمورة؛ ليصوغ شخصية اجتماعية تستمد من الحج (ذلك الاجتماع الكبير) شخصية سوية كسائر الناس، تنظر إلى الآخرين نظرتها إلى نفسها... باعتباره عبداً من ملايين العبيد للَّه عزّوجل...

وهكذا عاد الحج الإبراهيمي على يد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعد أن ابتعد عن

ص: 160

ابراهيم عليه السلام رويداً رويدا وخلف عن سلف كما قال تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً (1).

الهوامش:


1- 1 مريم: 59.

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (5)

ص: 166

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (5)

حسن السعيد إلى المدينة المنورة

رغم انتهاء موسم الحج، إلّاأنّ بيركهارت اجبر على البقاء في مكّة المكرمة، بسبب الوضع المتقلب في البلاد. وعندما غادر هذا الرحالة السويسري مكّة متوجهاً إلى المدينة المنورة، التي ظلّت مفتوحة للزائرين، حتى منع الوهابيون زيارتها.. لكن هذا المنع أُلغي نتيجة لحملة محمد علي باشا. وكان بيركهارت أوّل اوروپي يصل إلى المدينة المنورة، بعد الخطر الوهابي (1).

في منتصف كانون الثاني (يناير) 1815، غادر بيركهارت مكة المكرمة على ظهر جمل، في رحلة استغرقت حوالى اسبوعين (2)، وفي صباح اليوم الثامن والعشرين، من الشهر نفسه، يكون قد وصل المدينة المنورة. ومن سوء حظه أنه وقع مريضاً بمرض البرداء (الملاريا)، حتى أصابه اليأس من نفسه، وظنّ أنه سيقضي نحبه في المدينة فيقبر فيها.

لكنه مع ذلك استطاع أن يرى أشياء كثيرة من أحوال المدينة ومافيها، بحيث استطاع أن يكتب عدّة فصول عنها، في الجزء الثاني من رحلته


1- 1 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 115.
2- 2 صحيفة الحياة؛ م. س.

ص: 167

(الصفحة: 138- 292) (1).

بقي في المدينة المنورة ثلاثة أشهر، أمضى منها ثمانية أسابيع في الفراش؛ لذا كتب عن المدينة بطريقة أقل شموليّة من كتاباته عن مكّة (2)، بل إنّ وصفه للمدينة المنورة ناقص وهزيل، بالنسبة لوصفه لمكّة وجدّة والطائف. كما يقول «برينث»، وهو يعتمد في كثير ممّا كتبه عن المدينة على السماع، وماجمعه من الأخبار، التي التقطها بدقة وأناة، وهي تأتي بمفهوم جديد بالنسبة للقارئ الاوروپي، ولكن تلك المعلومات ليست مؤسسة على ملاحظاته الشخصية وتجاربه، ومع ذلك فقد كان يتوخى الحقيقة ببرود في أحكامه (3).

وفي البداية، يقول بيركهارت:

إنّ القافلة التي جاء ضمنها من مكّة المكرمة، نزلت في الساحة الكبرى الكائنة في ضاحية المدينة، ووجد له منزلًا بواسطة المزوّر، وأخذ كالعادة لزيارة الحرم الشريف، فلاحظ أنّ مراسيم الزيارة أقصر وأسهل من مراسيم الحج ومناسكه بطبيعة الحال، لكنه لاحظ أنّ المدينة كان قد احتلها طوسون باشا مؤخراً، وطرد منها الوهابيين، فنفر عنها البدو وأصحاب الإبل، الذين كانوا يأتون إليها بالأقوات والمؤن. فعزّ فيها الطعام، ولاحظ وخامة الجو فيها كذلك، وطعم الماء المقيت.

ويأخذ بيركهارت بوصف المدينة وموقعها الطبيعي... فيقول:

إنه وجد أسوارها عامرةً، بحيث تعدها للدفاع على أحسن وجه بالنسبة لمقاييس تلك الجهات؛ ولذلك كانت المدينة المعقل الرئيسي في الحجاز. وكان السور قد بُني حولها سنة 360 للهجرة، ثمّ اعيد بناؤه بعد ذلك في أوقات مختلفة أخصّها سنة 900 للهجرة، لكنّ الخندق كان قد مُدّد حولها سنة 751. على أنّ بناءه، بشكله في أوائل القرن التاسع عشر، كان قد تمّ بأمر من السلطان سليمان القانوني، في نهاية القرن السادس عشر، وهناك أبواب ثلاثة


1- 3 المدينة في المراجع الغربية؛ م. س، 3: 243.
2- 4 صحيفة الحياة؛ م. س
3- 5 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 115

ص: 168

جميلة فيه: الباب المصري في الجهة الجنوبية، وهو مع باب الفتوح في القاهرة أجمل الأبواب التي شاهدها بيركهارت في المدن الشرقية، والباب الشامي في الجهة الشمالية، وباب الجمعة في الجهة الشرقية، وهناك باب يُسمّى «الباب الصغير»، في الجهة الجنوبية، كان الوهابيون قد أغلقوه عندما احتلوا المدينة قبل سنوات.

ويقول بيركهارت: إنه شاهد المدينة مبنيّةً بالحجر كلّها، وتتألف بيوتها من طابقين بوجه عام ومن سطوح منبسطة.. أمّا الحارات فيورد أسماءها.. لينتقل إلى الحديث عن ضواحي المدينة المنورة، وأهمّ الحارات في تلك الضواحي، والتي لا تخلو من الأماكن التأريخية، فمثلًا هناك مسجدان في المناخة، أحدهما يسمى «مسجد علي»، ويُقال: إنه قديم منذ صدر الإسلام، لكن بنايته القائمة كانت قد شيِّدت في 876، والمنقول أنّ النبيّ عليه السلام كثيراً ماكان يصلي فيه. ويُسمى المسجد الآخر «جامع عمر» وقد الحقت به مدرسة عامة كانت تستخدم بنايتها مخزناً للذخيرة وملجأ لكثير من الجنود.

وبعد أن يصف بيركهارت أشياء اخرى في المدينة، وأهمّها مشروع الماء فيها، يقول: إنّ الجوهرة الغالية التي تجعل المدينة في صفّ مكّة من حيث الأهمية، لا بل وتفضلها عليها، في نظر بعض الناس مثل أتباع مالك بن أنس، هو المسجد الأكبر الذي يضمّ في داخله قبر النبيّ محمد صلى الله عليه و آله، وهو مثل جامع مكّة يسمى «الحرم»، ويقع هذا المسجد في الطرف الشرقي من البلدة وليس في وسطها. أمّا أبعاده فهي أصغر من أبعاد الحرم المكي، إذ يبلغ طوله مئة وخمساً وستين خطوةً، ويبلغ عرضه مئة وثلاثين، لكنه مشيّد على الطراز نفسه تقريباً.

وبعد أن يصف بيركهارت سائر أجزاء الحرم، والضريح المطهّر ومايوجد حوله من القبور الاخرى، يقول: إنّ نفائس الحجاز كانت تحفظ في السابق حول هذه القبور إمّا معلقة

ص: 169

بحبال من حرير يمتد في داخل المبنى، أو مودعة في صناديق خاصة موضوعة على الأرض. ويمكن أن يذكر من هذه على الأخص نسخة من القرآن الكريم مكتوبة بالخط الكوفي تعود إلى الخليفة عثمان بن عفان، ويُقال: إنّها لا تزال موجودة في المدينة..

ثمّ يتطرق إلى ذكر حصار الوهابيين للمدينة، وإلى أنّ شيئاً كثيراً من هذه النفائس، ولا سيما الأوعية الذهبية منها، استولى عليها رؤساء البلدة، بحجة توزيعها على الفقراء، لكنهم تقاسموها فيما بينهم بعد ذلك.

وحينما دخل الأمير سعود الوهابي إلى المدينة، واستولى عليها، دخل الحجرة النبوية نفسها، ووصل إلى ماوراء الستائر، فوضع يده على جميع النفائس التي وجدها هناك، وقد باع قسماً منها إلى شريف مكة، وحمل الباقي إلى الدرعية معه. ومن الأعلاق النفيسة التي أخذها، وهي أغلى من أي شي ء آخر، النجمة البراقة المتلألئة المطعمة بالماس واللؤلؤ، التي كانت معلقة فوق القبر المقدّس مباشرة، وقد كانت تسمى «الكوكب الدري»، وقد كانت تودع، في هذا المكان، جميع أنواع الأوعية والأواني الثمينة المطعمة بالجواهر، والأقراط، والأساور، والقلائد، وسائر النفائس التي كانت تُهدى من جميع أنحاء الامبراطورية العثمانية، ويأتي بها الحجاج في أثناء زيارتهم للمدينة. ولا شكّ أنّ ذلك كلّه كان يؤلف مجموعة ذات قيمة غير يسيرة، لكنها لا تكاد تُقدّر بثمن. فقد قدّر الشريف غالب مااشتراه من الامير سعود بمائة ألف دولار.. كما يُقال: إنّ ماأخذه الأمير سعود معه يتألف غالباً من اللؤلؤ والمرجان، وإنّ قيمته تساوي ماباعه إلى الشريف غالب، وربما يبلغ مجموع كلّ ماوجد في قيمته حوالى ثلاثمائة ألف دولار (1).

في رحاب المسجد النبوي الشريف

وهناك من الأسباب مايجعلنا


1- 6 المدينة في المراجع الغربيّة؛ م. س، 3: 248.

ص: 170

نعتقد- والكلام مايزال لبيركهارت- بأنّ هدايا المسلمين التي تجمعت في هذه البقعة، عبر القرون والأجيال، كانت تبلغ أكثر من هذا بكثير. ومن المحتمل جدّاً أن يكون حكّام المدينة الذين كانوا مستقلين، في كثير من الأحيان، وسدنة الضريح المقدّس أنفسهم، قد أخذوا الشي ء الكثير مما كان يُهدى بين حين وآخر، كما فعل علماء مكّة قبل ثلاثمئة سنة، حينما سرقوا مصابيح الذهب العائدة للكعبة، وأخذوها إلى الخارج بين طيّات أردانهم، على مايقول المؤرخ قطب الدين، وقد أخذ طوسون باشا، عند مجيئه المدينة، يفتّش عن الأواني الذهبية التي بيعت في المدينة، فوجد قسماً منها وابتاعه من مالكيه بعشرة آلاف دولار، ثمّ أعاده إلى مكانه.

ثمّ يذكر بيركهارت أنّ فوق «الحجرة» قبة جميلة عالية الذرى، ترتفع فوق القباب الاخرى، التي تكوّن السطح الممتد من فوق الأعمدة، وترى من مسافة بعيدة في المدينة. وحالما تلوح للزائرين من بعيد يبدأون بالصلاة وقراءة الأدعية.

وتغطى بالرصاص، كما يعلوها هي كرة غير صغيرة بالحجم وهلال كبير، وكلاهما يتوهج بذهبه. وقد صنعت الكرة والهلال في استانبول، بأمر من السلطان سليمان القانوني، أمّا القبة والحرم بأجمعه فقد بناهُ قايتباي سلطان مصر مابين سنتي 881 و 892 ه.

وكان الوهابيون قد أغراهم بتهديم القبة الكبيرة الذهب اللماع، وتعاليمهم القاضية بتهديم القباب المقامة فوق القبور جميعاً، بما فيها قبة الرسول الأعظم، فحاولوا ذلك وابتغوا رفع الكرة والهلال، لكن متانة البناء، ووجود الغطاء الرصاص، جعل من الصعب عليهم تنفيذ مايريدون. ثمّ سقط اثنان منهم، بعد أن تزحلقا من فوق السطح الأملس، فتركت المحاولة وعُدّ ذلك من معجزات النبي.

وهناك على مقربة من ستائر الحجرة، وفي داخل محيطها قبر «ستّنا

ص: 171

فاطمة» مغطّى بغطاء أسود من الحرير المطرّز. وهناك بعض الاختلافات في الرأي، حول مدفن الزهراء البتول في هذه البقعة أو في مقبرة البقيع. ولذلك يزورها الزوّار في هذين المكانين معاً.

وبعد أن يشرح بيركهارت الكيفية التي يزور بها الزوار الحرم الشريف، يبدأ بوصف الصحن الأوسط «الذي يوجد بالقرب منه سياج خشبي غير مرتفع، في داخله نخلات تعتبر مقدسة؛ لأنها على مايُقال كانت قد زرعتها الزهراء عليها السلام، وفي جانب النخلات بئر تسمى «بئر النبي»، لكن ماءها عكر؛ ولذلك لا يتمتع بشهرة قدسية.. وحينما يأتي على ذكر الاضاءة والشموع يذكر أنّ زوجة الخديوي محمد علي باشا، التي كانت يومذاك في المدينة، جاءت بكميات كبيرة من الشمع، وأهدتها إلى الحرم الشريف (1).

ثمّ ينتقل بيركهارت إلى وصف دقيق لأبواب الحرم الشريف الأربعة:

(السلام، الرحمة، الجبريل، النساء)، وجميع هذه الأبواب تغلق بعد الغروب بثلاث ساعات يومياً، ولا تفتح إلّا قبل الفجر بساعة. لكن الذين يرغبون في الصلاة داخل المسجد، طوال الليل، يمكنهم أن يستحصلوا الرخصة لذلك من الآغا المكلف بالخفارة.. أمّا في أيام رمضان، فيبقى الحرم مفتوحاً طوال الليل.

وتعهد مهمة أمن المسجد النبوي، وغسل الحجرة، وسائر أجزاء المبنى جميعاً، وإنارة الحرم وماأشبه، إلى خمسين آغا من الأغوات الخصيان، الذين توجد منظمة خاصة لهم، تشبه المنظمة الموجودة في بيت اللَّه الحرام في مكّة، لكن هؤلاء تُعطى لهم أهمية كبيرة في المدينة، فتجدهم يلبسون أحسن، ويستعملون الشال الكشميري، وأفخر أقمشة الهند الحريرية، وحينما يمرون بالسوق يسارع الجميع إلى تقبيل أيديهم، ولذلك يمارسون نفوذاً غير يسير في شؤون البلدة الداخلية..

ويسمى رئيس هؤلاء الأغوات «شيخ


1- 7 المرجع السابق، 3: 250.

ص: 172

الحرم»، وهو رئيس الجامع بأسره أيضاً، والشخصية الاولى في المدينة عادة.. وقد كان شيخ الحرم الذي شاهده بيركهارت يومذاك «قزلر أغاسي» في عهد السلطان سليم...

وقد شوهد مراراً، وهو يتقدّم على طوسون باشا، الذي كانت رتبته برتبة الباشا في جدّة.. ولذلك تسنّى لبيركهارت أن يشاهد طوسون باشا وهو يقبل يد شيخ الحرم، في داخل المسجد النبوي (1).

وينتقل بيركهارت بعد ذلك إلى الكتابة عن الوضع الاقتصادي قائلًا:

إنّ المدينة لا تحتوي أية صناعات، وإنّ أي ترميم في المسجد النبوي كان يتطلب إحضار الحرفيين من مصر، إلّا أنه لاحظ أنّ الزراعة كانت متطورة جدّاً (2).

أماكن الزيارة الاخرى

ويمضي بيركهارت في ذكر أماكن الزيارة الاخرى، ويبدأ بالبقيع حيث يثوي عدد من الصحابة والأئمة والشهداء، ويصف مدى الخراب الذي لحق بها على يد الوهابيين، مشيراً إلى بقايا القبب والمباني الصغيرة التي عمدوا إلى تخريبها من فوق: قبور العباس وبعض الأئمة وعثمان وستنا فاطمة وعمّات النبي صلى الله عليه و آله. والموقع بأجمعه عبارة عن أكوام من التراب المبعثر، وحفر عريضة، ومزابل، على حدّ تعبير بيركهارت.

ويذكر بيركهارت بالمناسبة أسماء الشخصيات الإسلامية، التي قُبرت في البقيع.. لكنه حينما يذكر قبر الإمام الحسن بن علي عليهما السلام يتوهم أنه قبر الإمام الحسين سيِّد الشهداء، فيقول: إنّ جسمه فقط دون الرأس قد دُفن فيه، ويشير إلى أنّ الرأس قد اخذ إلى القاهرة وحفظ في جامع خاص يُدعى، الحسنية (3)!

ثمّ يصف زيارته إلى جبل أحد، حيث وجد المسجد، الذي شُيِّد حول قبر الحمزة وغيره من شهداء احد..

وقد هدّم الوهابيون القبة المشادة فوق القبر، لكنهم لم يتعرضوا للقبر نفسه.


1- 8 المرجع نفسه، 3: 251.
2- 9 صحيفة الحياة؛ م. س
3- 10 المدينة في المراجع الغربيّة؛ م. س، 3: 254.

ص: 173

وعلى مسافة من هذا المسجد وجد قبةً صغيرة تشير إلى المكان الذي اصيب فيه الرسول عليه السلام في موقعة احد، وعلى مسافة قصيرة من هذه القبة وجد قبور اثني عشر صحابياً من أصحاب الرسول، الذين استشهدوا في موقعة احد أيضاً، وقد خرّب الوهابيون قبورهم وعبثوا بها..

وزار بيركهارت منطقة قبا أيضاً، وأهم مايذكره عنها أنها ملأى بالبساتين العامرة... ويقوم مسجد قبا التأريخي مع ثلاثين أو أربعين بيتاً من حوله في وسط هذه البساتين، وقد وجد المسجد صغيراً وبحالة خربة، ويلاحظ فيه «مبرك الناقة».

والبقعة التي صلّى فيها النبي عند وصوله إلى (قبا).. وعلى مسافة قصيرة من مسجد قبا شاهد مسجد علي، وبقربه بئر عميقة تسمى «العين الزرقاء» (1).

سكّان المدينة

أمّا سكان المدينة المنورة وطبقات الناس فيها، فيقول بيركهارت عنها: إنهم مثل سكان مكّة، أكثريتهم من الغرباء الذين تجذبهم قدسية البلد إليها، من جميع أنحاء العالم الإسلامي. وعلى هذا فهناك فيها جاليات من كلّ بلد إسلامي تقريباً، ولا توجد فيها إلّا أقلية صغيرة من نسل الأنصار، الذين كانوا يسكنون المدينة، عندما هاجر النبي إليها سنة 622 للميلاد. فهناك حوالى عشر اسر يمكنها إثبات نسبها وتحدّرها من الأوس والخزرج، وهذه اسر فقيرة تعيش على الفلاحة في الضواحي والبساتين.

على أنّ عدد الشرفاء الحسينيين غير قليل في المدينة، لكن معظمهم غير مدنيين في الأصل، وإنما كان آباؤهم قد نزحوا إليها من مكّة خلال الحروب التي كان يشنّها الشرفاء للاستيلاء عليها. وينتمي معظم هؤلاء تقريباً إلى طبقة العلماء، أمّا الشرفاء المحاربون الذين يشبهون شرفاء مكّة فقليلون جدّاً. وهناك أيضاً قبيلة صغيرة من الشرفاء الحسينية


1- 11 المرجع نفسه، 3: 255.

ص: 174

المنحدرين من نسل الحسين شقيق الإمام الحسن عليهما السلام. ويُقال: إنهم كانوا أقوياء في المدينة سابقاً، وكانوا يأخذون لأنفسهم القسم الأكبر من واردات الحرم الشريف، فإنهم كانوا خلال القرن الثالث عشر سدنة القبر المطهر المحظوظين.

لكنهم تضاءلوا بعد ذلك، حتى أصبحوا اليوم يقتصرون على عدد محدود من الاسر، التي لا تزال من علّية القوم في البلد وسكانه الأغنياء، وهم يشغلون حارة خاصة بهم، ويحصلون على أرباح طائلة ولا سيما من الحجاج الإيرانيين الذين يَفِدون على المدينة للزيارة. ويُفهم مّما كتب في هذه الرحلة أنّ هؤلاء من شيعة المدينة، الذين يمارسون عبادتهم على الطريقة السنّية في الظاهر، ومع هذا فيطلق عليهم «الرافضة».

والمعروف في كلّ مكان أنّ بقايا الأنصار القدماء، وعدداً كبيراً من عرب المدينة الفلاحين الذين يفلحون البساتين والحقول من حولها هم من «الرافضة»، أي الشيعة كذلك.

ويُسمّى هؤلاء «النخاولة»؛ لأنهم يعيشون بين النخيل، وهم كثيرون في عددهم وشجعان في الحروب..

ولذلك قاوموا الوهابيين حينما احتلوا المدينة مقاومة عنيفة.. ونقول إنّ المعروف في التأريخ، ولدى المطلعين من الناس، أنّ النخاولة من الفلاحين الذين كانوا يفلحون في بساتين الإمام الحسن عليه السلام، ويقول بيركهارت كذلك:

إنّ النخاولة لا يتزاوجون مع غيرهم إلّا فى النادر، ومعظمهم يجاهرون بالشيعية حينما يكونون بين نخيلهم، لكنهم يدّعون بالسنية حينما يكونون في البلد، وقد استوطن بعضهم في الضواحي فاحتكروا مهنة القصابة.

وتعيش في البادية من جهة الشرق، على مسيرة ثلاثة أيام من المدينة، قبيلة بدوية بكاملها يسمى أفرادها «بني علي»، وهؤلاء كلّهم من الشيعة أو من معتنقي المذهب الإيراني، على حدّ تعبير بيركهارت، الذي يستغرب كيف أنّ أقدس مدينتين في الإسلام

ص: 175

تُحاط إحداهما بالزيدية (أي مكّة) والاخرى بالجعفرية (أي المدينة)، ولا تبذل أية محاولة لاجلائهم!!

ومن بين الاسر القديمة في المدينة اسر تنحدر بنسبها من نسل العباسيين كذلك، لكن شأنهم قد انحطّ الآن حتى أصبحوا فقراء. ويطلق عليهم «الخليفة»، أي المنحدرون من نسل الخلفاء.. ثمّ يسهب بيركهارت في ذكر الجنسيات الأصلية التي ينتمي إليها سكّان المدينة، ويقول: إنّ الجيل الثاني أو الثالث، من السكان غير العرب، يستعربون بالتدريج، ويصبحون عرباً حتى في قسمات وجوههم. ويتطرق بعد ذلك إلى لباس المدنيين وأسلحتهم، وأحوالهم المعاشيّة والاقتصادية، وتجارتهم وأطعمتهم، وعاداتهم وطباعهم (1).

وفي فصل خاص بحكومة المدينة يلخص بيركهارت تاريخها منذ صدر الإسلام إلى يوم وصوله تلخيصاً مختصراً جدّاً، لا نرى موجباً لنقله هنا.. (2).

القاهرة.. نهاية المطاف

كانت ينبع آخر محطة له في الحجاز، حيث واجهه مرض الطاعون فغادرها بسرعة. وفي الرابع والعشرين من حزيران (يونيو) 1815 عاد إلى القاهرة، بعد غياب دام سنتين ونصف السنة؛

كانت صحته عليلة، إلّاأنه لم يفقد الأمل في الذهاب إلى تمبكتو (3)، وقد قضى سنواته الأخيرة في أعمال تعتبر لهواً وتسلية. فقد كانت لا تزال أمامه تلك الرحلة عبر الصحراء الكبرى إلى ضفاف نهر النيجر. وفي الوقت نفسه كان أعضاء الجمعية الأفريقية ينتظرون عودته إلى لندن (4). ولمّا سأل عن القافلة جاء الجواب مخيّباً لآماله مرّة اخرى: مجي ء القافلة لم يكن متوقعاً في المستقبل القريب! عندها استقرّ ودوّن رحلاته، وأمضى شهرين في صحراء سيناء يستكشف مناطق جديدة (5)، وذلك في ربيع عام 1817. وفي حزيران عاد إلى القاهرة، واستعدّ للمسيرة إلى


1- 12 المرجع نفسه، 3: 257.
2- 13 لمزيد من الاطلاع يراجع الجزء الثالث من موسوعة العتبات المقدسة قسم المدينة.
3- 14 صحيفة الحياة؛ م. س
4- 15 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 115.
5- 16 صحيفة الحياة؛ م. س

ص: 176

الجنوب الغربي.

بعد رجوعه إلى القاهرة بأيّام، تغلّب عليه المرض فتوفي في 15 تشرين الأوّل (اكتوبر) 1817، ودفن في العاصمة المصرية.. بعد شهرين فقط انطلقت أوّل قافلة إلى تمبكتو منذ أربع سنوات (1).

قبيل وفاته، أوصى بيركهارت بوقف مجموعة مخطوطاته على مكتبة جامعة كمبردج، وكتاباته كلّها تدور حول رحلاته، كرحلة للشام والأراضي المقدسة (2).

وهي حسب تأريخ صدورها:

الرحلة إلى بلاد الشام (لندن 1814- 1822)، ورحلة إلى الجزيرة العربية (لندن 1829)، وسجلات أسفار في الشرق الأدنى والاتصال بالبدو والوهابيين (لندن 1831، باريس 1835)، ومجموعة من الأمثال العربية، متناً وترجمة انجليزية وشرحاً (لندن 1830) وقد ترجمت من الإنجليزية إلى لغات اخرى اوروپية، منها الألمانية، بقلم ه. ج كرمز (1834)، وكتاب الرحلات النوبية. وهو من أوائل الكتاب الاوروپيين، الذين كتبوا عن العرب القاطنين في شمالي السودان وفي مملكة سنار.

وقد تولّت الجمعية الأفريقية في انجلترا نشر جميع مصنفاته، ومازال بعض مخطوطاته في مكتبة ابن أخيه جاكوب بيركهارت، وكان رئيساً لقسم العلاقات الدولية في وزارة الخارجية السويسرية (3).

وعندما نُشر كتاباه عن رحلته إلى بلاد العرب، ومشاهداته عن البدو والوهابيين.. أدرك علماء اوروپا مدى خسارتهم بفقد بيركهارت، خاصة وأنهما أصبحا مرجعاً يعتمد عليه، ويتجلّى ذلك من رجوع المستشرقين، في مواطن كثيرة، إلى بيركهارت، في موسوعتهم الموسومة ب «دائرة المعارف الإسلامية». أمّا على صعيد الرحالة فقد بزّ سابقيه وأعجز اللاحقين. وهذا الرحالة الشهير ريتشارد برتون الذي زار الحجاز


1- 17 المرجع نفسه.
2- 18 الاعلام للزركلي؛ م. س، 8: 268، والمستشرقون للعقيقي؛ م. س، 2: 52.
3- 19 كذلك.

ص: 177

والشام، ورغم ملاحظاته وهوامشه التفصيلية الكثيرة أقرّ أنه لا يستطيع أن يضيف لما كتبه بيركهارت عن البدو إلّا قليلًا (1). مؤكداً أنه قد وصف مارآه قدر الإستطاعة، ولكنه اعترف أنه لا يستطيع أن يصل إلى دقة بيركهارت، الذي يعترف برتون أنه مدين له ليس بالشكر والامتنان فحسب، بل بالاقتباس عنه بصورة جلّية واسعة واضحة (2).

يقول الباحث البريطاني «بيتر برينث»: من المضحك المبكي أن نسمع أنه عندما طُرحت فكرة إنشاء نصب تذكاري لبيركهارت يُنصب فوق قبره في القاهرة، تحمّس العلماء والامپرياليون والمستكشفون الجالسون على كراسيهم في الغرب، وجمعوا بعضهم مع بعض مبلغ عشرين جنيهاً استرلينياً فقط (3)!

لم يوضّح «برينث» سبب هذه المفارقة، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ بيركهارت ليس انكليزياً قحّاً، فهو سويسري مأجور للدوائر البريطانية، ولا ننسى أنّ الامبراطورية البريطانية كانت تتوثّب إلى دخول الحقبة الفيكتورية، بكلّ غرورها وغطرستها وتعاليها على الآخرين، بمن فيهم الغربيون غير الإنكليز!!

اشكالية.. واثارة

وعلى ذكر النصب التذكاري، فإنّ ثمّة مفارقة اخرى ملفتة للانتباه، يحملها قبره الموجود في القرافة الكبرى بسفح المقطم، إذ كُتبت عليه العبارة الآتية: «هذا قبر المرحوم إلى رحمة اللَّه تعالى الشيخ حاج إبراهيم المهدي بن عبد اللَّه بركهرت اللوزاني، ولادته 10 محرم سنة 1199، وتأريخ وفاته إلى رحمة اللَّه بمصر المحروسة في 16 ذي الحجة سنة 1232 ه» (4).

والسؤال هو: هل العبارة الآنفة الذكر قد كُتبت بناءً على توصية خاصّة من بيركهارت نفسه.. أم كانت بايعاز من القنصل البريطاني في القاهرة، أم كانت مجرّد اجتهاد من المشرفين على المقبرة..؟!

إنّ هذه الإثارة تطرح- بقوة


1- 20 نقلًا عن كتاب صورة العرب في الصحافة البريطانية؛ م. س: 44 هامش 94.
2- 21 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 161.
3- 22 المرجع نفسه: 116.
4- 23 الاعلام؛ م. س، المستشرقون؛ م. س.

ص: 178

ربما- اشكالية علاقة بيركهارت بالإسلام، الأمر الذي يحتاج إلى قدر من تعرية هذا الإبهام. خاصة وأنّ البعض استسلم- سذاجة أو سوء نيّة- لحكاية إسلام (الشيخ) إبراهيم بيركهارت!!

ففي حدود علمنا، لم يجرؤ أحد على تسويق قصة إسلامه سوى الكاتب النصراني «أمين الريحاني»، الذي أشار إلى اسمه بأنه (الحاج عبداللَّه) ووصفه بأنه (صديق محمد علي وصديق العرب والإسلام)..

وقال عنه: «كان بيركهارت في قيافته وفي إسلامه محترماً موقراً»، دون أن ينسى الريحاني الإشادة ببيركهارت لشهادته العلمية المنزهة عن الأهواء الخاصة والمذهبية؛ لا لشي ء سوى أنه قال: «جاء الوهابيون يطهرون الحجاز»! كما وصف الوهابية بأنها تمثّل الإسلام في طهارته الاولى (1).

وعلى خطى الريحاني، وإن كانت بصورة أخف، جاءت الصحافية «رالي الزين» لتقول عن بيركهارت بأنه «اعتنق الإسلام» بعد فترة من الزمن خلال مكوثه في حلب (2). في حين نجد أنّ نجيب العقيقي صاحب كتاب «المستشرقون» لم يُشر قط إلى مسألة إسلام بيركهارت، واكتفى بالعبارة «وقد تسمّى بإبراهيم بن عبد اللَّه» دون تعليق (3).

أمّا صاحب قاموس «الأعلام» فقد شكّك في إسلام بيركهارت، إذ قال: «ثمّ مضى إلى الحجاز مسلماً أو متظاهراً بالإسلام، وتسمى بإبراهيم ابن عبد اللَّه» (4) ومن نافلة القول التأكيد بأنّ «خير الدين الزركلي» لم يكن أوّل المشككين، بل إنّ بيركهارت نفسه أشار إلى بعض معاصريه، وفي مقدمتهم محمد علي باشا، إذ يُستبان ممّا دونه أنّ محمد علي باشا كان يشكّ في إسلامه، ومع هذا فقد سمح له بالتوجه إلى الحج في مكّة (5)، ويكاد المريب يقول خذوني!

قبال ذلك نكتفي بثلاث شهادات من الضفة الاخرى، يرقى بعضها إلى درجة الاعتراف. فهذا صاحب


1- 24 للمزيد من الاطلاع على ماكتبه الريحاني عن بيركهارت يراجع كتابه: «تأريخ نجد الحديث»، المنشور ضمن الأعمال العربية الكاملة للمؤلف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980: 80- 81. معلوم أنّ علامات الاستفهام ماتزال تطارد الريحاني حول علاقاته المشبوهة بالدوائر الدولية وأذنابها في المنطقة.. وإذا عُرفَ السبب بطل العجب!
2- 25 صحيفة الحياة؛ م. س.
3- 26 المستشرقون؛ م. س، 2: 52.
4- 27 الأعلام؛ م. س.
5- 28 المدينة في المراجع الغربيّة؛ م. س، 3: 264.

ص: 179

«المنجد» يقول عن بيركهارت: «.. ثمّ زار مكّة وجدة متنكراً باسم الشيخ إبراهيم» (1)، فيما اعترف ناشر كتبه الإنكليزي ويليام أوسلي، كما مرّ، بأنّ معرفة بيركهارت للعربية واطلاعه التام على أحوال المسلمين وعاداتهم قد ساعداه على تقمص دور الرجل المسلم بنجاح، حتى استطاع أن يعيش في مكّة، خلال موسم الحج كلّه، ويشترك في مناسكه وشعائره، من دون أن يثير أدنى شك بشخصيته المنتحلة (2).

ورغم ماتعنيه الألفاظ المتقدمة مثل «متنكراً» و «تقمّص» و «شخصيته المنتحلة».. من دلالات، بل شهادات ثبوتية، فإنّنا نترك الحكم الفيصل للبروفيسور «ادوارد سعيد» حيث يقول: «لقد هاجم مؤرخون ثقافيون محترمون، مثل ليبولد فون رانكه وجاكوب بيركهارت، الإسلام بعنف كأنهم كانوا يتعاملون لا مع تجريد من التشبيه التجسيمي، بل مع ثقافة سيا- دينية يمكن إصدار تعميمات عميقة حولها، واعتبارها مسوّغة. ففي كتابه تأريخ العالم (1881- 1888) تحدّث رانكه عن الإسلام واصفاً هزيمته أمام الشعوب الجرمانية- الرومانية، وفي «شذرات تأريخية» (ملحوظات غير منشورة، 1893). تحدّث بيركهارت عن الإسلام (كشي ء) بائس عارٍ، وتافه (3).

فأين يا ترى هذه الرؤية الحاقدة عن الإسلام من ادّعاء الريحاني بأنه صديق العرب والإسلام؟! وأين هي شهادة العلماء المنزهين عن الأهواء..؟!

ويبقى من المفيد الإشارة إلى ملاحظة المرحوم «جعفر الخياط» الخبير بكتابات الغربيين عن الإسلام والشرق، إذ يقول: «ويلاحظ من بعض مايكتبه بيركهارت في الرحلة أنه ربّما كانت لهُ علاقة بالاستخبارات البريطانية في تلك الأيام، فهو يقول:

إنّ وصول الغرباء من جميع أنحاء العالم الإسلامي، أي من تمبكتو إلى سمرقند،


1- 29 يُراجع «المُنجد في الأعلام» ط 12، بيروت، 1982. المطبعة الكاثوليكية.
2- 30 المدينة في المراجع الغربيّة؛ م. س.
3- 31 الإستشراق لادوارد سعيد؛ م. س: 219.

ص: 180

ومن بلاد الكرج إلى بلاد بورنيو، تجعل جدّة مكاناً ممتازاً جدّاً للاوروبي المسافر المعني بجمع الأخبار وحب الاستطلاع. فهو بتقديمه المساعدة للحجاج الفقراء، وصرف مبالغ زهيدة لتجهيزهم بالمؤن، يمكنه أن يجتذب إليه عدداً كبيراً فيستطيع بهذه الوسيلة جمع معلومات كثيرة تختص بأبعد البلاد المعروفة في أفريقيا وآسيا..» (1).

وهذا غيض منشور للملإ... من فيض خفي ماتزال تحتفظ به أراشيف اللعبة الكبرى.. التي كان شرقنا الإسلامي، ومايزال، مسرحها العريض!!

ملاحظة بيركهارت تفتح شهيّة الأطماع

ظلّت ملاحظات «بيركهارت» عن الحرمين الشريفين مرجعاً مهماً، ويعتمد عليها من قبل المعنيين في الأوساط الأوروپية. ولم يتمكّن رحالة آخر من إضافة شي ء مهم، وذي قيمة علمية، الى ما ذكره في كتابه (رحلات الى بلاد العرب) الذي صدر عام 1829 م، أي بعد اثنتي عشرة سنة من وفاته ... حتى قيام الرحالة البريطاني «ريتشارد بورتون» برحلته الشهيرة التي وصفها في كتابه «الحج الى مكة والمدينة»، إذ يُعدّ من أعظم المراجع عند الغربيين في موضوعه (2).

وما بين رحلة بيركهارت سنة 1814 م، ورحلة برتون سنة 1853 م .. أمست جزيرة العرب بشكل عام، والحجاز خاصة، مسرحاً لمغامرات عديدة قام بها دبلوماسيون وضباط وموظفون ومغامرون وجواسيس. ورغم الحشد من هؤلاء لم يبرز منهم سوى بعض الأسماء التي ظلّت شبه مغمورة، دون أن يترك أيٌّ منهم أثراً ثقافيّاً مرموقاً، سوى «فالين» الذي ترك يومياته وطبعت بعد وفاته.

ومن المثير أن نجد أغلب المحاولات الرامية للحج قد باءت بالفشل الذريع، وحتى أولئك الذين تسنّى لهم الوصول الى الديار المقدسة


1- 32 مكّة في المراجع الغربية؛ م. س، 2: 219.
2- 1 الاعلام للزركلي؛ م. س- 3: 38.

ص: 181

لم تتم مهماتهم بالشكل المطلوب، لهذا السبب أو ذاك، ما عدا الرحالة الفنلندي «فالين» الذي تمكن من الدخول الى مكة فعلًا، دون أن يُحقق شيئاً ذا بال!

وفي هذا السياق؛ كان للتنبّؤ الذي أطلقه بيركهارت، حول احتمال انتهاء حكم الأتراك في الحجاز، أثره في إلهاب حماس طلائع المستعمر، وفتح شهيّة الأطماع للسيطرة على مناطق النفوذ، وهكذا رأينا تزاحمهم في المشرق الاسلامي، متذرّعين بشتى التبريرات. وقبل أن يمضي عامان على وفاة بيركهارت، وصلت بعثة من بومباي في الهند تنقل تهاني البريطانيين الى ابراهيم باشا بن محمد علي باشا لاستيلائه مع جيشه المصري على مركز الحركة الوهابية في الدرعية. وكان رئيس هذه البعثة رجلًا متكبراً عنيداً يفتقر الى الخيال، وهو من الضباط المتعجرفين، على حد قول بيتر برينت، وهذا الرجل يدعى الكابتن «سادلير Sadlier»، وقد أُعطي الصلاحية لابرام معاهدة صداقة وحلف مع ابراهيم باشا (1).

ولكن «سادلير» هذا أصبح أحد المستكشفين المتطوعين لبلاد العرب، وقد عبر شبه الجزيرة من الشرق الى الغرب، وربما كان أول أوروپي يقوم بمثل هذا العمل، ومع أنّ رحلته كانت في شهر تموز، إلّاأنه قد نجا من ويلات الصيف في الصحراء، بعد سقوط الأمطار غير الموسمية، ولم يذكر شيئاً عن الشعب .. وأما ملاحظاته الطبوغرافية، فمع أنها كانت قليلة ونادرة، إلّاأنها كانت دقيقة ومفيدة.

وبعد أن مرّ «سادلير» قرب المدينة المنورة التي كانت لا تسمح أن يدوس على أرضها وشوارعها رجل كافر، وصل أخيراً الى شواطئ البحر الأحمر قرب (ينبع)، وعلى الرغم من مقدرته على الاحتمال ونشاطه إلّاأنّه لم يكن كفؤاً لابراهيم باشا دبلوماسياً.

وذلك لأنّ إبراهيم لم يكن بحاجة الى البريطانيين، وهكذا فقد فشلت البعثة في أهدافها الرئيسية، ولم يحدث أي


1- 1 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 116.

ص: 182

تقارب أو اتفاق مع محمد علي في مصر ومع البريطانيين. وبعد مرور بضعة أشهر وجد «سادلير» سفينة أوصلته الى الهند، وهكذا حصلت شبه الجزيرة العربية على وصف شامل على يد رجل كاره لذلك، ولكن مضى حوالى خمسين عاماً، قبل أن تُنشر نتائج تلك الرحلة، وأصبحت معروفة عند حلقة واسعة من المجموعات الأدبية والدوائر العلمية في بومباي. ومن ذلك الحين فصاعداً بدت بلاد العرب، وكأنها أصبحت لغزاً أو حصناً محصناً ضد حشرية الغرب، ولم يتجرّأ أحد على اقتحامها سوى بعض الرحالة الذين جلبهم سوء طالعهم الى تلك المناطق (1).

وفي غمرة احتدام التنافس الاستعماري بين القوتين العظميين يومئذ؛ بريطانيا وفرنسا .. بدأت دول غربيّة أخرى في التسلل الى المنطقة تحت واجهات عدّة.

من الطيف الاستعماري

فبعد مرور خمس سنوات على وفاة «بيركهارت» في القاهرة، حيث دُفن هناك، ودُفنت معه أخطر الأسرار عن طبيعة مهمته، لتكون القاهرة على موعد آخر مع شخص غامض قادم هذه المرّة من العالم الجديد (أمريكا)، وليس من أوروپا، كما كان المألوف في تلك الأيّام!، وبهذا تكون أمريكا قد دشّنت حضورها الذي سيتكثّف لاحقاً.

ففي عام 1823، وصل «اينجليش» المخبر السري لدى وزير الخارجية الأمريكي «أدامز» الى مصر، واعتنق الاسلام، وانخرط في جيش والي مصر محمد علي (باشا)، وحاول بكلّ الوسائل أن يوسّع الاتصالات مع السلطات المحلية.

ونتيجة هذا النشاط المتعدد الجوانب وجه الرئيس الأمريكي «جاتسون» 1829 م بعثة خاصة الى اسطنبول، بغية توقيع المعاهدة الأمريكية- العثمانية الأولى . وممّا له دلالته أنّ رئيس البعثة هو قائد عمارة المتوسط الأمريكية «بيدل»، وأنّ أعضاءها هم


1- 1 المرجع نفسه: 117.

ص: 183

من كبار تجار الأفيون. وفي 7 مايس (مايو) 1830 وقعت أول معاهدة عثمانية هيّأت لتجار الأفيون والدبلوماسيين الأمريكان إمكانيات واسعة للتغلغل في المنطقة العربية (1).

في تلك الأثناء، وخاصة خلال السنوات العشر، بين 1826- 1836 م، كان قد تمّ تخطيط سواحل الجزيرة العربية، من قبل البعثات الانكليزية، وكان من نتائج هذين؛ التخطيط والإعداد، الهجوم الانكليزي العسكري على عدن واستعمارها، في حين كانت عُمان قد وقعت قبلها تحت النفوذ الانكليزي.

وفتح استعمار عدن الطريق واسعاً، أمام الانكليز، لمدّ نفوذهم الى جميع أنحاء العالم العربي .. وقد استغل كثير من علماء الآثار والمستشرقين والدبلوماسيين وجود الانكليز في جنوب الجزيرة، فرحلوا الى هناك، للبحث والتنقيب عن الآثار الحضارية القديمة (2)، فيما يظلّ اختراق الديار المقدسة طموحاً يراود الجميع. ونكتفي بايراد نموذج واحد.

بوتا؛ المحاولة الفاشلة

في عام 1836 م، رحل عالم الآثار الفرنسي «أميل بوتا»، الذي كان يعمل كمستشار ديبلوماسي في القنصلية الفرنسيّة في الاسكندرية الى اليمن، ومن اليمن رحل الى العراق، حيث زار بغداد والموصل، ثم انتقل الى طرابلس، فالقدس. وكان الارتباط بين العلم والديبلوماسية وثيقاً، وذلك لتبرير البعثات الاستعمارية وأهدافها، التي تقوم بالتنقيب عن الآثار القديمة، وتكوين علاقات مع العشائر والتجار.

ومع المعروف، أيضاً، أنّ أغلب الموظفين الكبار، الذين كانوا يعملون في السفارات والقنصليات الأوروپية، خلال القرن التاسع عشر، كانوا من العلماء والمستشرقين، وبصورة خاصة في القنصليات الانكليزية والفرنسية.

و «أميل بوتا» كان من أولئك العلماء، الذين رحلوا، على رأس بعثة علمية من قبل حديقة الحيوانات في باريس، للبحث في التاريخ الطبيعي


1- 1 د. محمد ابراهيم الفيومي: «الاستشراق رسالة استعمار» القاهرة، دار الفكر العربي، 1993 م/ 1413 ه: 121.
2- 2 ابراهيم الحيدري: «صورة الشرق في عيون الغرب»، لندن، دار الساقي، 1996 م: 55.

ص: 184

لمصر وسيناء واليمن. وقد ساعدته الظروف، حينذاك، لجهة الاستقرار السياسي النسبي، الذي ساد الجزيرة العربيّة، فقام باعداد بعض البحوث والتقارير عن التاريخ الطبيعي والخلافات العشائرية، فأقام علاقات وطيدة مع الشيخ حسن، أحد رُؤساء العشائر الكبيرة، الذي كان بينه وبين إمام صنعاء خلافات حادّة، ممّا جعله يتقرّب الى ابراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير. وكانت هذه العلاقة قد وفّرت له إمكانية زيارة أجزاء كبيرة من الأراضي الجبلية في اليمن.

وبمساعدة من جنود الشيخ حسن وخدمه، استطاع، أيضاً، الوصول الى قمّة جبل سبإ، الذي لم يستطع «فورسكال» الوصول اليه، من قبل.

إلّا أنّ الفرصة لم تسنح لبوتا لزيارة الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وذلك لسبب أنّ الحجاز أصبح منذ 1841 م جزءاً من اليمن، وخضع لسلطة الدولة العثمانية، وبات عليه أن يحصل على «فرمان» من السلطان، لزيارة مكة والمدينة (1).

ولم يكن «بوتا» الأوروپي الوحيد الذي أخفق في الوصول الى الديار المقدسة، وقد عزفنا عن ذكر البقيّة، وليس هناك من مهمة يكتنفها الغموض تستحق التوقّف غير تلك التي قام بها كلّ من «روش» و «فالين».

روش: المشروع الخائب

و «ليون روش» أحد مشاهير الرّحالة الفرنسيين الى الجزيرة! ولد في «غرينوبل» عام 1809 م، فاحتضنته خالته، بعد وفاة أمّه وهجرة والده الى الجزائر. وحين بلغ الثالثة والعشرين ترك دراسة القانون وانضمّ الى والده في الجزائر، كضابط في الحرس الوطني.

وهناك وقع روش الحالم في حبّ فتاة من الارستقراطية الجزائرية في الرابعة عشرة من العمر تدعى خديجة، لكن أهلها رفضوا السماح لها بالزواج من مسيحي.

وانصرف «روش» الى تعلّم العربية؛ لكي يتمكّن من مراسلة


1- 1. Botta P. E Jemen s. 41- 91- 0481 «نقلًا عن المرجع السابق: 57»، هامش رقم 75.

ص: 185

خديجة عن طريق خادمتها، وبعد ذلك أصبح مترجماً في الحملة الفرنسية ضد الزعيم الوطني عبدالقادر الجزائري، لكن بدلًا من أن يكنّ الكره والبغضاء لعبد القادر نمت لدى «روش» موجة إعجاب شديد بالزعيم الثائر. وما لبث أن اعتنق الاسلام من أجل أن «يجمع بين الجزائر المسلمة وفرنسا المسيحية». ثم سافر في داخل الجزائر أياماً طويلة الى أن بلغ مضارب الأمير عبدالقادر. وقد اعجب الأمير بصدق «ليون روش» بحيث تكفّل شخصيّاً بتدريسه التعاليم القرآنية، وجعله مساعده الخاص. وحين عثر والد «روش» على معسكر عبدالقادر اتجه اليه وتوسّل ابنه به للعودة معه لكنه رفض. وقد أثّر ذلك في نفس عبدالقادر تأثيراً كبيراً. وبعد فترة انتقل الأمير وقواته الى بلدة «عين مهدي» فحاصروها أربعة أشهر.

وحين دخلوا اليها اكتشف «روش» أن حبيبته خديجة كانت بين الضحايا!، ومثل جميع رومانسيي القرن التاسع عشر أراد الانضمام اليها، لكن عبدالقادر ثناه طالباً اليه الاستعداد لحملة على الفرنسيين، فتردّد ثم امتنع، وأطلقه عبدالقادر في سبيله غاضباً، قائلًا له: جزاؤك في الاسلام جزاء المرتدين. لكنني أترك معاقبتك للَّه!

عاد «روش» الى پاريس، يوم كانت تعجّ «بالمستشرقين»، فانضمّ الى موظفي الدولة الفرنسية، وعادت اليه أحلامه بالجمع بين الجزائر وفرنسا، وهكذا وضع مشروع «فتوى » في هذا الشأن، وذهب الى جامعة برقة في ليبيا؛ لكي يطلب الى العلماء التصديق عليها، فأحالوه بدورهم على علماء الأزهر، الذين قالوا: إنّ مجلس العلماء في مكة المكرمة وحده يستطيع التصديق عليها.

خلال وجوده في القاهرة تعرّف «روش» الى محمد علي باشا، حيث أعرب الزعيم المصري عن تقديره لكفاح الشعب الجزائري ضد الفرنسيين، وقد أعجب محمد علي بصدق «روش» ونواياه، لكنه لم يؤخذ

ص: 186

كثيراً بمدى اعتناقه الاسلام. وكتب «روش»، فيما بعد، أنه رأى في عيني محمد علي تلك القسوة التي أمرت بمذبحة المماليك. ومن القاهرة أخذ الفرنسي الطريق البري الى السويس ثم بالباخرة الى «ينبع»، حيث أثارته معاملة الحجاج الجزائريين الذين حشروا كلّ 200 في مقصورة، تتسع فقط لخمسين شخصاً، وقد كتب يشكو شركة النقل الى محمد علي، والباب العالي، والقناصل الأوروپيين في جدّة.

وبعد أيام من وصوله اتجه «روش» الى الطائف حيث عرض على مجلس للعلماء المشروع الذي جاء من أجله. ومن هناك اتجه الى عرفات، حيث تعرّف إليه جزائريان...، وفجأةً رأى نفسه محمولًا على أكف ستة من الزنوج الأشداء الذين شدّوا وثاقه الى أحد الجمال السريعة، فنقل الى جدّة، حيث وضع على سفينة أقلته الى مصر. وتبيّن فيما بعد أنّه وضع على سفينة أقلته الى مصر، وأن محمد علي وضع حرّاساً يراقبون تحرّكات «روش» ويحمونه في وقت واحد.

كانت طموحات وأشياء كثيرة تتنازع «ليون روش» الذي وجد نفسه في خدمة الجهاز السرّي الفرنسي. وحين عاد الى اوروپا انتابته نوبة من الندم، من جرّاء عمله التجسسي، فرأى أن الطريق الوحيد الى الهرب هو الانتماء الى سلك الرهبنة، فذهب الى روما وانضمّ الى اليسوعيين، إلّاأنّ الفرنسيين لم يقبلوا استقالته، وأقنعوا البابا غريغوري الثامن عشر بعدم قبوله، وهكذا عاد الى الجزائر؛ لكي يساهم في هزيمة الأمير الكبير عبدالقادر، وأنهى حياته سفيراً لفرنسا في اليابان.

كان «ليون روش» الفرنسي يشبه الى حدّ كبير البريطاني، الذي جاء بعده بعشر سنوات، «ريتشارد بورتون» الذي تنازعته، هو الآخر، مشاعر وأهواء كثيرة من الامپريالية الى الوصولية الى الشغف بما رأى (1).


1- 1 سمير عطا اللَّه: «قافلة الحبر: الرحالة الغربيون الى الجزيرة والخليج 1762- 1950 م» لندن، دار الساقي، 1994 م: 70- 71.

ص: 187

فالين: الاعداد والتحويل

أما المهمّة السريّة الغامضة الثانية فكان بطلها الرحالة الفنلندي «جورج أوغست فالين» (1). وكان هذا يُحسن التحدّث باللغة العربية بطلاقة، وقد أصبح فيما بعد استاذاً للعربية في جامعة هلسنكي. ويُقال: إنه عمل جاسوساً لمحمد علي باشا في شمال نجد.

«والحقيقة أنّ قصّة هؤلاء الرحالة .. تظلّ دائماً والى الأبد من القصص المدهشة المثيرة، في الوقت نفسه الذي بقيت فيه سياسة مصر العثمانية الهاجس والمحرّك الأول لأولئك الأشخاص المختصّين» (2).

ولكي نكون أمام مهمة فالين السريّة، بشكل أكثر وضوحاً، لابدّ من التدرج التاريخي لسيرته، وطريقة إعداده الخاصة. إذ ولد في جزائر آلاند، غربي فنلندا، وتعلّم في جامعتها، وهو في الثامنة عشرة من العمر، وبدأ يدرس اللغات الشرقية موضوعاً أساسياً، وقد خصّص كثيراً من وقته وطاقته للألعاب المختلفة وللموسيقى ، لكنه أيضاً حقّق نجاحاً كبيراً في دراساته. وبصرف النظر عن دراساته الأكاديمية البحتة فقد اكتسب بنفسه معرفة عملية فعالة في لغات عديدة. وكانت اللغة السويدية لغته الأمّ، غير أنه كان يجيد أيضاً الألمانية والروسية والفرنسية والانكليزية.

وكان من الطبيعي، على وجه الدقة إذن، أن يرغب في بلوغ معرفة عملية في اللغات الشرقية (العربية، التركية، الخ) التي درسها في الجامعة.

وتعلّم أن يتكلّم شيئاً من العربية على يدي متفقّه تتري في هلسنكي. ونجم عن اهتمامه في العربية الدارجة كتابة اطروحة ماجستير عن الفروق الرئيسية بين العربية الفصحى والدارجة، تلك الاطروحة التي كتبها باللاتينية في 1839 م (3).

في سنة 1841 م قصد العاصمة الروسية عندئذ (بطرسبرغ)، والتي سُمّيت ليننغراد لاحقاً. فازداد في جامعتها تضلعاً بالعربية على يد استاذها الشيخ محمد عياد الطنطاوي،


1- 1 أشار خير الدين الزركلي الى أنّ منْ نقلوا اسمه حرفياً سمّوه «جورج اوغست ولين» والصواب ما ذكره فالين، كما ينطقه الفنلنديون. يراجع الاعلام- 2: 146، هامش 2.
2- 2 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 131.
3- 3 مجلة الاستشراق البغدادية، العدد الثاني، شباط 1987 م: 95، ولعل فالين أول من طرق باب اللهجة العامية مقارنة باللغة الفصحى .

ص: 188

حيث مكث في مدرسة الألسن لمدة عامين، وبقي هناك حتى آخر سنة 1842 م (1).

ولم تلفت الدراسات الجامعية النظرية انتباه «فالن» كما فعلت الدراسات العملية. ولم يكن هناك شي ء أحبّ الى نفسه من تعلّم المصرية الدارجة على يد معلم العربية الشيخ الطنطاوي (وهو خبير في اللهجة العامية، واستاذ مصري منتدب للتدريس في روسيا). وبالفعل تمكّن «فالين» من كتابة ودراسة لغوية باللهجة المصرية.

وقبل أن يقفل راجعاً الى بلاده التحق «فالين» بأحد معاهد المدينة الطبية، ليتلقى إعداداً تاماً في دراسة الطب العملي (2)، وحال عودته الى هلسنكي يجد «فالن» أمامه منحة زمالة من جامعته، للسفر الى أواسط الجزيرة العربية. وليبدأ فصل المغامرة التي دامت حوالى ست سنوات.

المنحة ... وطبيعة المهمة السريّة

لقد كان فالين هذا رجلًا فقيراً حصل على منحة مالية من جامعته، وكُلّف بالسفر الى الجزيرة العربية، بمهمة الحصول على معلومات عن طبيعة الظروف السياسية السائدة، والوقوف مباشرة على طبيعة أرضها وعادات سكانها. وعندما حصل على المنحة من جامعة هلسنكي لزيارة المنطقة، لم يضيّع أيّ فرصة، فغادر هلسنكي في تموز (يوليو) 1843 م، متوجهاً الى پاريس التي ظلّ فيها فترة قصيرة، ومن هناك الى القاهرة، فوصلها في كانون الثاني (يناير) 1844 م (3) حيث عاش كمسلم لمدة عام يذهب الى الأزهر لتلقي العلوم.

وهناك تقرّب منه أحد موظفي وزارة الخارجية المصريّة، وعرض عليه أن يحوّل رحلته الى الجزيرة العربية، لقاء تزويد الحكومة المصرية بالتقارير عن الأوضاع السياسية. أمّا الغطاء الذي اتفق أن يسافر تحته فهو تجارة الخيول (4).

وبعد أن مكث أكثر من عام في القاهرة لدراسة اللغة ولاتخاذ


1- 1 يُراجع الاعلام للزركلي؛ 3: 146، وموسوعة «المستشرقون»، لنجيب العقيقي، القاهرة، دار المعارف، 1965 م، الجزء الثالث: 1040.
2- 2 يُراجع مجلة الاستشراق؛ م. س، وكتاب «قافلة الحبر»؛ م. س: 72.
3- 3 صحيفة الحياة طبعة لندن- الاثنين 6 نيسان ابريل 1992 م الموافق 4 شوال 1412 ه. العدد 10650-: 17 تراث.
4- 4 قافلة الحبر؛ م. س: 72.

ص: 189

الترتيبات الضرورية، شرع فالن في رحلته الى الجزيرة العربية. وكان هدفه هو اجتياز الجزء الشمالي من الجزيرة (1) وهكذا غادر القاهرة في نيسان (أبريل) 1845 م، ومعه اثنان من البدو، أمّا هو فقد تزيّا بالزي العربي وتسمّى «عبد الولي» (2)، وبعدما عبر سيناء أمضى شهرين في معّان، ثم اتجه شرقاً عبر الصحراء السورية الى آبار ويسات، ومنها الى الجوف، بوابة صحراء النفوذ، أي تلك الصحراء الحمراء التي تقوم على حراسة الجزيرة العربية في الشمال.

بدأ رحلته عبر النفوذ في الأول من أيلول (سبتمبر)، ومعه دليل «يتبع نجمة القطب». وفي اليوم العاشر وصلت القافلة الى مياه جبه والعطش يكاد يقضي عليها. وعلى مسافة أيام أخرى كانت تقع حائل التي «تحيط بها حقول الذرة وحدائق الخضار ويردّ عنها جبل شمّر نفح الشمس» (3).

أمضى فالين شهرين في حائل ...

وكان يأمل أن يتمكن من اختراق العمق في المنطقة الوهابية ويصل الى الرياض. أما جنوب اليمن فقد كان الوصول اليه صعباً لانشغال السكان بالعمليات الحربية والنزاعات الداخلية. ولقلّة أمواله (عكس الرحالة القدماء) والتي كانت تنحصر في المصاريف الضئيلة التي قدمتها له الجامعة، والتي لم تكد تكفي للقيام بأوده. لهذا لم يكن لديه موارد كافية ممكنة من الاستمرار في العمل.

وعندما أصابه المرض علم أن قد حان وقت العودة.

لهذا فقد انضم الى جماعة من الحجاج الآتين من بلاد العجم واشترك معهم في مسيرة دامت حوالى (85) ساعة متواصلة، عبر ذلك السهل الموصل الى المدينة المنورة.

وبعدها ساروا في تلك الهضاب كثيرة الوهاد والصدوع من أرض الحجاز حتى وصلوا الى مكة .. فهل قام بشعائر الحج يا ترى ؟ (4) حول هذه النقطة، هناك رأيان؛ الأول: يُحسن الظن بفالين ولا يشك في


1- 1 مجلة الاستشراق؛ م. س: 95.
2- 2 الاعلام للزركلي؛ م. س- 2: 146.
3- 3 قافلة الحبر؛ م. س: 72.
4- 4 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 133.

ص: 190

إسلامه. والثاني خلاف ذلك. أمّا الرأي الأول فقد انفردت به صحيفة عربيّة في لندن، إذ كتبت تقول عن «فالين»: غادر العاصمة المصرية عن طريق سيناء فالجوف وصولًا الى مكة المكرمة، حيث أعلن إسلامه وتلقّب ب «الحاج عبدالولي»، وأدّى فريضة الحج».

وفي معرض دفاعها المبطّن عن «فالين»، ولإبعاد الشبهات عنه، مضت الصحيفة تلك في سرد أدلّة الدفاع قائلة: يمتاز المستشرقون الاسكندينافيون (السويد، الدنمارك، فنلندا) عن زملائهم الأورپيين الآخرين (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا) والأمريكيين أيضاً، بأنّ رحلاتهم الى المنطقة ودراساتهم عنها إنما تمّت بدوافع عملية إجمالًا، على نقيض أبحاث ودراسات أخرى غربيّة كانت توظّف لخدمة أغراض السياسة الاستعمارية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر».

وتضيف الصحيفة: «ومن بين عشرات المستشرقين الاسكندينافيين، يعتبر فالين (عبدالولي) الأكثر أهمية. فهو أوّل من تجوّل في شمال الجزيرة العربية، ووصف عادات أهله وتقاليدهم، ليس انطلاقاً من حبّ المعرفة فقط، بل لأنه وجد في هذه المناطق مبتغاه الروحي والثقافي (.. هكذا!). ولم يكن اعتناقه الدين الاسلامي- كما كان عند عدد من الرحالة الغربيين- مجرّد غطاء لتحقيق مآرب ومنافع خاصة، وإنما كان إيماناً خالصاً (... هكذا أيضاً!) تمثّل في كتابات نشرها في بلاده، توضّح تعاليم الدين الحنيف وتزيل عنه شوائب علقت في أذهان الغربيين، في القرنين الماضيين».

وتستشهد الصحيفة بقول المؤرخ اللبناني «يوسف ابراهيم يزبك» الذي يقول: «نهج (الشيخ عبد الولي) في دراسته نهجاً علمياً إذ رجع الى مخطوطات عربية قديمة تعدّ من الينابيع في معرفة تاريخنا وجغرافيتنا، وقرأها بإمعان (...) ومع صدق الشيخ

ص: 191

عبد الولي في إسلامه، ظلّ الرجل اوروپي الاسلوب في إنشائه».

ثم تُعقّب الصحيفة على ما تقدم:

«ولعلّ هذا الاسلوب هو الذي مكّن عبدالولي من التأثير الكبير في أوساط ودارسي اللغة العربية وآدابها وحضاراتها في الغرب، خلال تلك الفترة، فهو لم يقع أسير شكليات إيمانه الديني الجديد (..!)، بل أخذ منه الجوهر المناسب لعصره (..!) وطرحه على الناس بجرأة علمية كانت مميزة في ذلك الوقت. ويؤكد الذين حضروا وفاته المبكرة أنّ آخر عبارة ردّدها كانت «الحمد للَّه، الحمد للَّه».

وتختتم الصحيفة دفاعها:

«وعرفت بلاده وجامعة هلسنكي تحديداً، هذه الميزة. وكرمته عند وفاته بمدفن متواضع جدّاً، وضع فوقه حجر نقش عليه اسمه العربي «عبدالولي» وبالعربية أيضاً».

ولم يفت الصحيفة ذكر تسلّمه، عند رجوعه من الشرق، جائزة «الجمعية الجغرافية الملكية» في لندن، عام 1850، بوصفه أحد أوائل الاوروپيين الذين اجتازوا شمال الجزيرة العربية، كما أنّ بلاده قد كرّمته بدورها فعينته في كانون الثاني 1851 استاذاً لكرسي الدراسات الشرقية في جامعة هلسنكي (1).

ونجد لزاماً علينا التوقّف قليلًا، لمناقشة ما ورد آنفاً.

مناقشة ... وردود

وفي الوقت الذي لا ننوي فيه مناقشة بعض الآراء الواردة، التي ترقى الى الأخطاء؛ لأنّ ذلك لا مجال له في منهج البحث ... فإنّ من الممكن الردّ على ما نشرته الصحيفة المذكورة بما يلي:

أولًا: أنّ أدلّة الدفاع التي حشدتها ليس بمقدورها الصمود إزاء حيثيات الاتهام الدافعة. بل نستطيع القول: إنّ الصحيفة لم تثبت إسلام فالين، ولم تدحض، في آن معاً، ضلوعه في مهمة سريّة، إن لم يكن العكس.

ثانياً: أنّ طبيعة الإعداد لمهمّة فالين، وخلفيّات انتدابه في المهمة، وما


1- 1 صحيفة الحياة؛ م. س.

ص: 192

رُصد لها من منحة مالية ... كلّ ذلك لم يكن حبّاً بسواد عيون بدو جزيرة العرب. بدليل أنه أنجز مهمة ...

استحقت أن يُكافأ الرجل من الجمعية الجغرافية الملكية البريطانية، وهي صاحبة اليد الطولى والتاريخ العريق في التخطيط للمهمات السريّة في المشرق الاسلامي.

ثالثاً: استعداده للعب دور العميل المزدوج، وعلى غرار ما يجري اليوم، واتفاقه مع وزارة الخارجية المصرية على تزويدها بالتقارير السريّة، عن الأوضاع السياسية، في شمال الجزيرة العربية .. هو توظيف ماكر لخدمة مهمته السريّة والتستر عليها، تحت هذا الغطاء المناسب.

رابعاً: ليس من المنطقي تكريم شخص يُرسل في مهمة خاصة خطيرة، ثم يعود وقد صبأ عن دينه، معتنقاً ديناً مغايراً بل معادياً، وفق الرؤية الأوروپية الباقية حتى اليوم.

ولو كان فالين قد اعتنق الاسلام حقّاً لناله بعض ما ينال روجيه غارودي اليوم. وما نال ليوپولد فايس (محمد أسد) الذي تبرّأ منه حتى أهله!

إنّ حكاية التظاهر باعتناق الاسلام كانت إحدى المستلزمات الضرورية والمفاتيح الأساسية لنجاح المهمات السرية الكبرى والتعرّف على المشرق الاسلامي، عن كثب.

خامساً: لم ينبر للدفاع عن إسلام فالين- ما عدا الصحيفة العربية حسب علمنا- حتى اولئك الذين يحسنون الظنّ بالاستشراق وينافحون عنه، كما هو الحال مع الاستاذ نجيب العقيقي؛ صاحب موسوعة «المستشرقون» الذي لم يذكر- من قريب أو بعيد- قصّة إسلام فالين، بل لم يصنفه حتى في خانة فئة المستشرقين التي أنصفت الاسلام، وإن لم تدن به، قولًا وعملًا وكتابةً، فضلًا عن ذكره الذين اعتنقوا الاسلام منهم، حسب رأيه، كبيركهارت ولم يشر الى فالين!

ورغم ذلك، فإنّ العقيقي ربما كان أميل الى الاتهام منه الى أي شي ء

ص: 193

آخر، وذلك حين يقول عن فالين:

«... رحل الى الشرق فطوّف، خلال ست سنوات، بمصر وجزيرة العرب وبغداد واصبهان وبصرى ودمشق، متزيياً بزي البدو، متطبعاً بطباعهم، متسمّياً باسم عبد الولي ... حاملًا حقيبة مملوءة بالعقاقير فأحبته القبائل ويسّرت له دراسة عاداتها ولهجاتها واستقصاء حالة بلادها الطبيعية والجغرافية» (1).

سادساً: ثم ماذا يعني أن تكون صورته وهو في زي شيخ عربي ذي عمامة وقباء ونطاق ممّا يزين جامعة هلسنكي الى عهد قريب، ولعله لا يزال الى الآن؟ (2) سابعاً: رغم ندرة التطرّق الى مهمة فالين، من قبل الكتّاب الغربيين، إلّا أنّ إشارة وردت في كتاب «الفارس العربي» للكاتب البريطاني «سيتون ديردون»، ساهمت في إزاحة بعض الستار عن حقيقة مهمّة فالين.

يقول «ديدرون»، وهو يتحدّث عن الرحالة الانكليزي «بورتون»: «قبل أن يتوجه الى مهمته (التي تنطوي على الدخول الى جزيرة العرب والحجاز على الأخص، ومن ثم الوصول الى مكة المكرمة في موسم الحج للكتابة عنها بالتفصيل)، علم أنّ رحالة يدعى «فالين Wallin» كان قد تمكن من الدخول الى مكة والحج مع الحجاج في 1845، لكنه لم يستطع تدوين شي ء عما فعل ورأى ؛ لأنه كان خائفاً على حياته، وخاصة بعد أن لاحظ أنّ اثنين من اليهود قد اكتشف أمرهما في مكة تلك السنة فقتلهما الحجاج الهائجون شنقاً، فقرر (أي بورتون) أن يستفسر منه عن أشياء كثيرة، قبل أن يقدم على الاضطلاع بمهمته، وكتب له بذلك، لكن كتابه لم يصل الى «فالين» إلّابعد أن كان قد توفي ...» (3).

ونترك للقارئ اللبيب مهمة الاستنتاج عمّا يعني هذا التنسيق بين الرحالتين ... وماذا يعني خوف فالين حينما افتضح أمر اليهوديين ..؟! أَلا يكاد المريب أن يقول خذوني؟!

ثامناً: أنّ إصراره على اختراق


1- 1 المستشرقون للعقيقي؛ م. س- 3: 1040.
2- 2 الاعلام للزركلي؛ م. س- 2: 147.
3- 33591 Deardon Seaton The Arabian Knight A Study of Sir Richard Burton ,London . «نقلًا عن موسوعة «العتبات المقدسة- قسم مكة، للمرحوم جعفر الخليلي، ط 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1407 ه- 1987 م: 295، هامش 1. أما «بيتر برينت» فحين تساءل حول عمّا إذا قام فالين بشعائر الحج أم لا ... عقّب قائلًا: «لكنه- أي فالين- لا يذكر شيئاً عن مناسك الحج، ويبدو أنّ مرضه قد أقعده ومنعه عن القيام بذلك. وإذا فعل ذلك فلم يستطع تسجيله في ملاحظاته، إذ كان كل ما يرغب فيه الآن هو مغادرة شبه الجزيرة»- يُنظر كتابه «بلاد العرب القاصية»، م. س: 133.

ص: 194

قلب جزيرة العرب يدلّ على أنّ مهمته السريّة لم تبلغ نهايتها. وظلّ يواصل المحاولة تلو الأخرى لنيل مأربه والوصول الى هدفه. فقد عاد في آذار (مارس) 1846 الى القاهرة، إلّاأنه لم يطل الإقامة فيها، بل غادرها في رحلة قصيرةالى فلسطين خلال كانون الأول (ديسمبر) 1846 عاد بعدها الى القاهرة. لكن رحلته الأطول كانت الثالثة. ففي كانون الأول 1847 غادر مصر عن طريق البحر الأحمر الى الشاطئ الغربي لجزيرة العرب (1) وقطع جبال تبوك ثم اتجه الى حائل؛ لكي يحاول مرّة أخرى الذهاب الى الرياض، لكن الامير طلال بن الرشيد الذي اكتشف حقيقة أمره نصحه بألّا يفعل، وهكذا اتجه صوب بغداد، لكنه بلغ البصرة مفلساً (2) ليعود الى مصر عبر دمشق فبيروت، ثم عن طريق البحر الى الاسكندرية، ليصل القاهرة في حزيران (يونيو) 1849. وأخيراً عاد الى الاسكندرية متوجهاً الى هلسنكي مروراً بلندن لتسلّم جائزة «الجمعية الجغرافية الملكية» سنة 1850.

وحال وصوله فنلندا عين أستاذاً للغات الشرقية في جامعة هلسنكي.

وشرع في الحال يخطط لرحلة جديدة الى الجزيرة العربية والتي أراد لها أن تستغرق ست سنوات .. لكنه توفي قبل أن ينهي الاستعدادات لذلك (3) إذ مات في 23 تشرين الأول (اكتوبر) 1852، ولما يتم الحادية والأربعين من العمر.

آثاره .. ومذكراته.

ترك فالين آثاراً منها: أهم الفروق بين لهجات العرب المتأخرين والمتقدمين، ونشر تائية ابن الفارض ومطلعها: أو ميض برق ... مع شرحها للشيخ عبدالغني النابلسي، وكان قد نسخها بخطه، بترجمة لاتينية وتعليق (هلسنكي 1850). وله مذكرات محاضراته في الكلية. ومخطوطات عربية في مكتبتها. أما يومياته في الشرق، وهي في وصف ما رآه أيام إقامته في البلاد العربية، فقد طبعت بعد


1- 1 صحيفة الحياة: م. س.
2- 2 قافلة الحبر؛ م. س: 72.
3- 3 مجلة الاستشراق؛ م. س، وقافلة الحبر؛ م. س.

ص: 195

وفاته، ووقعت في خمسة مجلدات (1)، وقد أعيد في بيروت سنة 1992 إصدار الطبعة الثانية من كتاب «صور من شمال جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر» التي قام بترجمتها سمير سليم شبلي، وكتب مقدمتها فاروق أبو شقرا أستاذ الدراسات العربية في جامعة هلسنكي.

الهوامش:


1- 1 الاعلام للزركلي؛ م. س- 2: 147، والمستشرقون للعقيقي؛ م. س- 3: 1041.

ص: 196

شخصيّات من الحرمين الشريفين (10) ابو ذر الغفاري «وحده»

ص: 198

شخصيّات من الحرمين الشريفين (10) ابو ذر الغفاري «وحده»

محمّد سليمان

كان معلماً بارزاً في فكره وعلمه ووعيه، وفي عبادته وجهاده، وفي زهده وثورته، وفي صدقه وإخلاصه وحبّه للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه و آله وفي التزامه بما عاهد اللَّه تعالى عليه بمقارعة الظالمين وكشف ظلمهم وزيفهم، والدفاع عن المحرومين. حتّى غدا بحقّ مدرسةً ثائرةً جوّالةً، لا تعرف التوقف ولاالاستقرار، ولاتبحث عن الطمأنينة والراحة، ولا تخشى في اللَّه لومة لائم.

وبقي هذا الرجل الصحابي الجليل حياةً متحركةً ثائرةً وقِمّةً عاليةً شامخةً رائدةً في مواقفها، مثاليةً في صدقها، شجاعةً فيما تقوله وتفعله، فلا تهزّه المحن، ولا يرهبه وعيدُ الطغاة، ولا يخيفه تهديدهم، ولا تغريه أموالهم، ولا تلينه ابتساماتهم. كان سبّاقاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان عملاقاً في تصدّيه لكلّ انحراف في الأمّة ... كان يريد لهذه الأمّة ولحكامها أن يعيشوا الإسلام سلوكاً وعبادةً وجهاداً وحكماً وإدارةً ... كان يريد للحكام أن يكونوا خَدَمةً صادقين للأمة لا جبابرة عليها، وكان يريد للأمة أن لا تكون ذليلةً صاغرةً أمام حكامها إذا ما انحرفوا، وأن لا تسير خلفهم معصوبة العينين، بل موقظة لهم، ومدافعة عنهم إذا

ص: 199

ما صدقوا ... لهذا نراه- قد ركب المركب الصعب- يصارع هاتين النزعتين: نزعة الطغيان لدى الحكام المستبدين والأغنياء المترفين، ونزعة الخنوع والصغار في الأمة. فراح يلاحق الحكام والمترفين ويعلنها بلا هوادة صرخةً مدويةً عاليةً كاشفةً بذخهم وتعاليهم وكبرياءَهم وبعدهم عن اللَّه وشرائعه ... ويبشّرهم بعذاب أليم..

وأيضاً راح يلاحق الأمة ليوقظها من سباتها ويشحذ هممها المعطلة؛ لكي تقف أمام المترفين حكاماً وأفراداً لتقيلهم عن طريقها، وتبعدهم عن مسيرتها، وإلّا حلّت بها الكارثة واستحقت القارعة.

وراح صوته هذا مدوّياً عبر القرون، وغدا انشودةً تردّدها شفاه الثوار جيلًا بعد جيل. إنه أبو ذر الغفاري. «يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده».

*** مع أنّ الاختلاف وقع في تسميته، فهوبرير بن جندب، وهوبريربن جنادة، وهو جندب بن عبداللَّه، وهو جندب بن السكن أو جنادة بن السكن، وهو يزيد بن جنادة (1).

إلّا أنّ جندب بن جنادة هو الاسم الذي عرف به، وهو بعد ذلك ابن سفيان ابن عبيد من بني غفار، من كنانة ابن خزيمة الحجازي، بينما ساق ابن سعد في طبقاته نسبه الى غفار بن مُليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة؛ لينتهي به الى خزيمة ابن مُدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار.

هذا أبوه ونسبه، وأما أمّه فهي رملة بنت الوقيعة أو الرقيعة وهي أيضاً من بني غفار (2).

كنيته: «أبو ذر» و لقبه «الغفاري» وقد اشتهر بهما، وطغى على اسمه الذي بات لا يعرف إلّاعند الخاصة.

وأما صفاته فقد كان أدمَ ضخماً جسيماً كث اللحية والشعر وقد غلب عليه


1- 1 سير أعلام النبلاء للذهبي.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق لابن منظور حرف الذال، الجزء الثامن والعشرون: 277.

ص: 200

الضعف، وأرهقه الفقر وقلة ذات اليد، ولكنه مع كلّ ما هو فيه علا إيمانه حتى جاوز عنان السماء.

وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل قوالًا بالحقّ لا تأخذه في اللَّه لومة لائم على حدَّة فيه.. وقد آخى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينه وبين سلمان الفارسي. فاتته معركة بدر، وشهد فتح القدس (1).

إسلامه:

أما كيفية إسلامه، فالذي يظهر من بعض المصادر أنّ أبا ذر كان موحداً، فقد عرف أنه كان يتعبد ويكثر من العبادة قبل إسلامه، ففي رواية عبداللَّه بن الصامت عن أبي ذر نفسه أنه قال: إني صليتُ قبل أن يُبعث النبيُّ بسنتين.

قلت: أين كنت توجّه؟

قال: حيث وجهني اللَّه. كنتُ أصلي حتى إذا كان نصف الليل سقطتُ كأني خرقة ...

وفي رواية أخرى، عن عبداللَّه ابن الصامت أيضاً قريبة من الأولى: ... قال:

وقد صليتُ يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بثلاث سنين.

قلتُ: لمن؟

قال: للَّه.

قلتُ: فأين توجّه؟

قال: حيث يوجهني ربّي، أصلي حتى إذا كان آخر الليل أُلقيتُ كأني خِفاء (كساء) حتى تعلوني الشمس (2).

وقد روي عن ابن عباس رضوان اللَّه عليه في قصة إسلام أبي ذر أنّه قال:

أَلا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى، قال: قال أبو ذر: كنت رجلًا من غفار، فبلغنا، أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبيّ، فقلت لأخي: انطلق الى هذا الرجل


1- 1 سير اعلام النبلاء للذهبي 2: 47.
2- 2 انظر في ذلك: مختصر تاريخ دمشق 28: 278 وغيره.

ص: 201

فكلّمه، وائتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ قال: واللَّه، لقد رأيته رجلًا يأمر بالحقّ، وينهى عن الشرّ، فقلت: لم تشفِني من الخبر، فأخذت جراباً وعصا ثم أقبلت الى مكة، فجعلتُ لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد. فمرّ عليٌّ فقال: كأن الرجلَ غريب؟ قلت: نعم، قال:

فانطلق الى المنزل، فانطلقت معه، لا يسألني عن شي ء، ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت الى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشي ء، فمرّ بي عليٌّ فقال: ما آن للرجل أن يعود؟ قلت: لا، قال: ما أمرك، وما أقدمك هذه البلدةَ؟ قلت: إن كتمته عليَّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قلت: بلغنا أنه قد خرج رجلٌ يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه، فرجع ولم يشفِني من الخبر، فأردت أن ألقاه.

قال: أما إنك قد رشدت لأمرك، هذا وجهي إليه فاتبعني، فادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحداً أخافه عليك قمت الى الحائط، وامضي أنت. قال:

فمضى، ومضيتُ معه حتى دخل، ودخلت معه على النبيّ صلى الله عليه و آله، فقلتُ: يا رسول اللَّه، أعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ، فأسلمتُ مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر وارجع الى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل. قلت: والذي بعثك بالحقّ لأصرُخنّ ما بين أظهركم.

فجاء الى المسجد وقريش فيه، فقال: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلّا اللَّه، وأشهد أنّ محمداً عبدهُ ورسولهُ، فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ فقاموا، فضربتُ لأموتَ، وأدركني العباس، فأكبّ عليّ ثمّ قال: ويحكم! تقتلون رجلًا من غفار، ومتجركم وممرّكم على غفار؟ فأقلعوا عني.

فلما أصبحت الغد رجعت، فقلت ما قلتُ بالأمس، فقالوا: قوموا الى هذا الصابئ، فضربوني، فأدركني العباس، فأكبّ علي (1).

وعن ابي ذر قال: كنت رابعَ الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة، وأنا الرابع، فأتيت النبي صلى الله عليه و آله فقلت: سلام عليك يا نبيّ اللَّه، أشهد أن لا إله إلّااللَّه، وأشهد أنّ محمداً


1- 1 المصدر نفسه.

ص: 202

عبده ورسوله. فرأيت الاستبشار في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: «مَن أنت؟» قلت:

«أنا جندب رجل من بني غفار، قال: فرأيتها في وجه النبي صلى الله عليه و آله حيث ارتدع، كأنّه ودَّ أني كنت من قبيلة أرفع من قبيلتي. قال: وكنت من قبيلة فيها رِقّة (قلّة) كانوا يسرقون الحاج بمحاجن لهم (1).

وهناك روايات أخرى في أول اسلامه اكتفينا بهذه دونها.

سيرته:

كان أبو ذر معروفاً في قومه وعند غيرهم بأنه رجل شجاع كريم وعزيز وكبير وعارف وحكيم.. وقبل حمله لهذه الصفات؛ هناك من يقول إنّه كان أيضاً من قطاع الطرق وقد لا تكون هناك غرابة في ذلك- فهو ابن بيئته ومحيطه الذي نشأ فيه- وإن كنت لا أميل إليه ولا تطاوعني نفسي في ذكر ما قيل، فدراستي لأبي ذر واطلاعي على ما يتحلى به هذا الرجل من نبل وشرف حتّى في جاهليته يمنعني كلّ ذلك وغيره عن تصديق هذه الرواية. تقول الرواية: كان أبو ذر رجلًا يصيب الطريق، وكان شجاعاً ينفرد وحده بقطع الطريق ويغير على الصّرم في عماية الصبح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحي، ويأخذ ما يأخذ (2)، ثم تمرّد على عادات قومه السيئة قبل إسلامه وعرف بالصلاح..

فلما قذف اللَّه تعالى في قلبه الإسلام تحولت حياته الى حياةٍ خصبةٍ معطاء، وغنيةٍ بالعبر والمثل والدروس، وتجسيد للقيم يثير العجب والإجلال له، فإضافة الى قوة الإيمان وصلابته التي يتمتع بها أبو ذر، ورسوخ جذوره في نفسه المباركة، وإضافة الى زهده ونسكه وشجاعته وحلمه ... كان هناك الصدق الذي أخذ بعداً عظيماً واسعاً في حياته الايمانية والجهادية، هذه الصفة التي تحلّى بها خلقه الشريف ولم يحد عنها قيد أنملة أبداً. ميّزته عمّا حوله من الصحابة والتابعين. فكان بحقّ من أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون (3)

. بل تفرّد بها حتى كاد أن لا يوازنه


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 28: 283- 285.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 28: 284- 285.
3- 3 البقرة: 177.

ص: 203

فيها أحدٌ. وكأن أبا ذر خلق للصدق، وهو جدير به.

يقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فيه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين امرءاً أصدق لهجةً من أبي ذر».

وفي رواية أبي الدرداء: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» (1).

حقّاً لقد كانت شهادة عظيمة من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الذي لا ينطق عن الهوى لأبي ذر، يقول الدكتور الجميلي بعد ذكره لتلك الرواية: أعظم صفة لأعظم رجل، من أعظم نبي ... إنّها صدق اللهجة، وهي من أجل دقائق النعوت الموسوم بها أهل الصدق. وهي نادرة في عنصر البشر، وجرثومة الناس التي امتزج طبعها بشهوة الدنيا، وحب الحياة، وكلفوا بزخرف الفانية وتهالكوا عليه.

ولا جرم أنّ أباذر المشهود بصدق لهجته من النبي الصادق المصدوق، لا جرم أنه حريٍ به وقمين بشخصه أن يصدق عليه أيضاً قوله صلى الله عليه و آله: «يرحم اللَّه أبا ذر ...

يمشي وحده ... ويموت وحده ... ويبعث وحده» (2).

لقد كلفه صدقه أن يعيش وحيداً، وأن يعيش بعيداً، وأن يموت غريباً ...

لقد تمرّد أبوذر على واقعه كلّه بعد فترة من نشأته في قبيلة غفار، التي عرف أفرادها واشتهر رجالها بأنّهم قطاع طرقٍ، وبأنهم سادة السطو والسرقة والغدر والقتل، رجل تمرّد على هوى نفسه وعلى بيئته التي ولد فيها ونشأ وترعرع بين أحضانها، وراح يصدع بأن الصدق زينة الرجل، وجمال له ... وراح يربي نفسه على قول الحق ولهجة الصدق مهما كلفه ذلك من تغريب وتبعيد وتعذيب ... ولم يكتف بذلك فقد فاجأ الجميع بإيمانه، وصدع به صرخةً مدويةً لا غموض فيها تهزّ ما حوله، جاهراً بشهادة لا إله إلّااللَّه وأنّ محمداً رسول اللَّه، أعلنها في وسط لا معين له به ولا ملجأ يلجأ إليه ولا مأوى يأوي وكانت قريش بكامل عزّها وجبروتها وطغيانها ... فنال بذلك وسام رابع رجل أو خامس رجل لينضمّ الى السابقين


1- 1 انظر أحمد والترمذي وابن ماجة والطبراني ...
2- 2 صحابة النبي صلى الله عليه و آله، الدكتور السيد الجميلي: 250.

ص: 204

الأولين، أولئك المقربون.

إنّها صرخة الحقّ التي أطلقها أمام أعين الظالمين، وكادوا ينكلون به ويقتلونه، بعد أن أذاقوه سوء العذاب .. حتى غشي عليه مرّات عديدة، ولولا أن تدخل هنا العباس بن عبدالمطلب ليقتلوه، فقد راح يحذرهم ويخيفهم من عواقب ما تقترفه أيديهم، وراح أيضاً يذكرهم بأنّ أبا ذر هذا من غفار- بعد أن أنساهم طغيانهم وحقدهم ذلك- وأهلها معروفون مَن هم، فإن تتعرضوا له بالأذى، فإن قبيلة غفار ستتعرض لقوافلكم التجارية إذ إنّ طريقكم إليه لا تحويل عنه ...

فعندئذ توقفوا عن تعذيبه، وأطلقوا سراحه، فغادر الرجل مكة لا الى الحبشة كما هاجر إليها إخوانه من المسلمين، ولكن الى عشيرته وقومه، لينذرهم، وكان ذلك استجابة لأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ... فهل أنت مبلغٌ عني قومك ...

عاد الى قومه وبقي فيهم، ولم يهاجر الى المدينة إلّابعد غزوة تبوك؛ ليبدأ من هناك مرحلته التبليغية، فالأقربون أولى بالمعروف، وهل هناك معروف أعظم من هدايتهم لدين اللَّه تعالى، وإنقاذهم ممّا هم فيه من انحراف وفجور وسطوٍ واعتداء على الأبرياء وطرق التجارة، التي قدر لغفار أن تكون مركزاً لمرورها؟! وبالتالي تخليص الناس من أذاهم، الى غير ذلك من المنافع إذا ما آمنوا واتقوا. فكان بحقّ رسولَ خير لهم..

وفعلًا كانت البداية حيث علا في أوساطهم قول الحقّ بكلّ وضوح وصراحة صادقة: أن هلموا للإيمان وأن انطقوا بالشهادتين تنالوا بذلك عزّ الدنيا وخير الآخرة. ولأنّ دعوته نبعث من قلبٍ صادقٍ فما أسرع ما لاقت آثارها وجنت ثمارها ...! خُذنا يا أباذر إلى حيث نبع الخير والبركة إلى حيث رسول السماء؛ لكي نضع أيدينا على يديه المباركتين فنتزوّد منه، ونعاهده على أن نكون جنداً له، ونضع سيوفنا الى جنب سيوف المسلمين لنصون الحقّ وأهله.. ونترك كلّ ما

ص: 205

اقترفناه من حيف وظلم وأذى للآخرين. قدم قومه على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتقدمهم الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري ليسمع قوله صلى الله عليه و آله:

«غفار غفر اللَّه لها ... وأسلم سالمها اللَّه».

علمه:

كان أبوذر عالماً عارفاًبالقرآن والحديث، أشادبعلمه جلّ الصحابة، وقد سئل الإمام علي بن أبي طالب عنه، فقال: عَلِمَ العلم ثمّ أوكى (أوكى على ما في سقائه: إذا شدّه بالوكاء: كلّ سير أو خيط يشدّ به فم السقاء ...) فربط عليه ربطاً شديداً.

وفي قول آخر له عليه السلام: أبو ذر وعاء مُلِئ علماً ثم أوكى عليه فلم يخرج منه شي ء، حتى قبض.

وفي قول ثالث له عليه السلام عن أبي ذر: وعى علماً عجز فيه (أعجز عن كشف ما عنده من العلم) وكان شحيحاً حريصاً؛ شحيحاً على دينه، حريصاً على العلم، وكان يكثر السؤال، فيُعطى ويمنع، أَمَا إنه قد مُلِئ له في وعائه حتى امتلأ.

وفي عبارته عليه السلام: «عجز فيه» يبدو أنه أراد أعجز عن كشفه. وقد ورد في طبقات ابن سعد: أعجز عن كشف ما عنده من العلم.

والذي يبدو أنه (أوكى عليه) لأنه لم يجد من يحمله ويستمع اليه كما نرى هذا في موضوع المقاطعة الآتي، وهذا ظلم آخر يضاف الى مظلومية الرجل. وإلّا ما فائدة العلم الذي يبقى مكنوزاً في صدر صاحبه حتى القبر؟ ثمّ إظهار العلم للآخرين مستحب، بل قد يكون أحياناً واجباً، وفيه أجر عظيم. ولا أظنّ أبا ذر كان فيه من الزاهدين.

يقول مالك بن أوس في روايته:

قدم أبو ذر من الشام، فدخل المسجد وأنا جالس، فسلم علينا، وأتى سارية، فصلى ركعتين تجوّز فيهما، ثم قرأ: ألهاكم التكاثر حتى ختمها، واجتمع الناس

ص: 206

عليه، فقالوا له: يا أبا ذر، حدثنا ما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال لهم: سمعت حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: في الإبل صدقتُها، وفي البقر صدقتُها، وفي البر صدقته، من جمع ديناراً أو درهماً، أو تبراً، أو فضة لا يعده لغريم، ولا للنفقة في سبيل اللَّه كُويَ به». قلت: يا أبا ذر، انظر ما تخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإن هذه الأموال قد فشت.

فقال: من أنت يا بن أخي؟ فانتسبت له، قال: قد عرفت نسبك الأكبر، ما تقرأ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه ....

وكثيراً ما كان يردّد هذه الآية وآية ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر.

رواياته:

عرف عنه أنّه كان مواظباً على ملازمته لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله والاستفادة منه، وكان يطيل الجلوس عنده، حتى إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب، وكان أكثر أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله سؤالًا؛ لهذا فقد روى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قرابة 280 حديثاً، وراح بعض الصحابة يروون عنه، فقد روى عنه ابن عباس وأنس بن مالك وحذيفة بن أسيد وابن عمر وجبير بن نفير وأبو مسلم الخولاني وزين بن وهب وأبو الأسود الدؤلي وربعي بن جراش والمعرور بن سويد وغيرهم ...

ومما رواه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن جبريل، عن اللَّه تبارك وتعالى، أنه قال: «يا عبادي، إني حرّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا، يا عبادي، إنكم الذين تخطؤون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم.

يا عبادي كلكم جائع إلّامن أطعمته، فاستطعموني اطعمكم.

يا عبادي كلكم عارٍ إلّامَن كسوته، فاستكسوني أكسكم.

ص: 207

يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، لم يزد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي، لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلّ واحد منهم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً، إلّاكما ينقص البحر أن يُغمس المحيط غمسةً واحدةً.

يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم، فمن وجد خيراً، فليحمد اللَّه، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلّانفسه» (1).

ومن رواياته أيضاً، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يكون في جهنم عقبة كؤود لا يقطعها إلّا المخفون»...

وفي المصافحة والمعانقة سئل أبوذر: هل كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصافحكم إذا لقيتموه؟

قال: ما لقيني قط إلا صافحني، ولقد جئت مرة، فقيل لي: إن النبي صلى الله عليه و آله طلبك، فجئت، فاعتنقني، فكان ذلك أجودَ وأجودَ.

وقال أيضاً: أرسل الي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في مرضه الذي توفي فيه، فأتيته، فوجدته نائماً، فأكببتُ عليه، فرفع يده فالتزمني.

ومن الجدير بالذكر أنّ أبا ذر هو أول من حيّا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بتحية الاسلام (2).

دعاء الرسول صلى الله عليه و آله له ووصاياه:

راحت أدعية رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووصاياه تواكب أباذر وهو يخطو خطواته في طريقه اللاحب. فكان صلى الله عليه و آله كثيراً ما يدعو له حين يراه وفي غيبته، راجياً من اللَّه


1- 1 سير اعلام النبلاء 2: 48.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 28: 281.

ص: 208

تعالى تسديده وإعانته على تجاوز الصعاب والمشاق التي يعلم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأنّ الرجل سيواجهها في حياته ... ويظهر من ذلك أن ما كان مكلفاً به أمر مهم وخطير وأنّ مسيرته شائكة، وأن كلّ ما فعله رضوان اللَّه عليه كان بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ووفقاً لرغبته صلى الله عليه و آله ورضاه.

يقول: أوصاني حبّي (أي رسول اللَّه) بخمس: ... وأن أقول الحقّ ولو كان مرّاً ... «وكيف أنت عند ولاة يستأثرون عليك» قلت (يا رسول اللَّه): أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك ...

أمرنا رسول اللَّه ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.

قال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «يا أبا ذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»

قلت: في اللَّه؟

قال: «في اللَّه».

قلت: مرحباً بأمر اللَّه.

فمنذ أول بادرة إيمانية ظهرت على لسان أبي ذر وهي نطقه بالشهادتين ... كلّفه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يكون داعيةً ومبلغاً لرسالة السماء.

بمن تأمرني يا رسول اللَّه؟

فأجابه صلى الله عليه و آله: ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري ...

فهل أنت مبلغ عني قومك ... عسى اللَّه أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟

وأين؟! إنها دعوة خطيرة، فهي لقومه غفار، هذه القبيلة التي عرفت بالجاهلية من بين قبائل العرب بقسوتها وشدّتها وحبّها للغزو وتفانيها من أجل السطو والنهب الذي كان مصدر عيشها.

نعم بعثه صلى الله عليه و آله مبلغاً لمفاهيم السماء وقيمها في عشيرته، التي كانت مضرب المثل بين قبائل العرب وغيرهم في السطو وبث الرعب في قلوب المارة، حتى صار المار

ص: 209

بديارهم يحسب ألف حساب قبل أن يخطو خطوة في طريقه ... كانوا يرقبون الحاج بمحاجن لهم. وكانوا حلفاء الليل والظلام. والويل والويل لمن يسلّمه الليل الى واحدٍ من قبيلة غفار كما يقول خالد محمد خالد.

فعملية التغيير التي ألقاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على عاتق هذا العبد الصالح ليست أمراً سهلًا أبداً؛ لهذا نرى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يلاحق أبا ذر في تحركاته، ويكثر له من الدعاء في أن يسدّده اللَّه تعالى وأن يثبته. وفعلًا استطاع أبو ذر- وكما تقول مصادر التاريخ- أن يهدي أكثر من نصف قبيلته وبقي النصف الآخر ليعلن إسلامه على يدي رسول الحق صلى الله عليه و آله.

وكان من أدعيته صلى الله عليه و آله التي طالما كررها له:

اللهم أغفر لأبي ذر وتب عليه.

آجرك اللَّه يا أبا ذر ...

أما من وصاياه صلى الله عليه و آله الأخرى:

فعن أبي ذر: دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال: «يا أبا ذر ألا أوصيك بوصايا إن أنت حفظتها نفعك اللَّهُ بها؟

قلت: بلى بأبي أنت وأمّي.

قال: جاور القبور تذكر بها وعيد الآخرة، وزرها بالنهار، ولا تزرها بالليل، واغسل الموتى؛ فإنّ في معالجة جسد خاوٍ عظة، وشيع الجنائز، فإن ذلك يحرك القلب ويحزنه، واعلم أنّ أهل الحزن في أمن اللَّه، وجالس أهل البلاء والمساكين، وكُلْ معهم، ومع خادمك، لعلّ اللَّه يرفعك يوم القيامة، والبس الخشن الصّفيق من الثياب تذلّلًا للَّه- عزّوجلّ- وتواضعاً؛ لعلّ الفخر والبطر لا يجدان فيك مساغاً، وتزين أحياناً في عبادة اللَّه بزينة حسنة تعففاً وتكرماً، فإنّ ذلك لا يضرك- إن شاء اللَّه- وعسى أن يحدث للَّه شكراً» (1).


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 28: 288.

ص: 210

ومن أقواله ووصاياه التي تتسم بالحكمة:

كانت له أقوال ووصايا تتسم بالحكمة وتنمّ عن خبرة وتجربة وعن إيمان متجذر في نفسه وقلبه، كما تكشف عن أن الرجل يتمتّع بعقل قويّ وذهن حادٍ ونفسٍ صلبة وهمّة عالية.. كما أنّ هذه الوصايا تبين لنا أن أباذر كان مخلصاً صادقاً محبّاً لهذه الأمّة وراعياً لها لهذا نراه لم يبخل عليها بشي ء، ومن كان سخياً بنفسه وحياته في سبيلها فهل تراه يبخل عليها بكلماته وأقواله ووصاياه إن رأى فيها مصلحة لها؟!

قالوا: يا أبا ذر، إنك امرؤ ما يبقى لك ولد.

فقال: الحمد للَّه الذي يأخذهم في الفناء، ويدّخرهم في دار البقاء.

قالوا: يا أبا ذر، لو اتخذتَ امرأةً غير هذه؟

قال: لأن أتزوج امرأة تضعني أحبّ اليّ من امرأة ترفعني.

قالوا: لو اتخذت بساطاً ألين من هذا؟

قال: اللهم غَفراً، خذ مما خوّلت ما بدا لك.

- بعث حبيب بن مسلمة الى أبي ذر وهو بالشام ثلاثمائة دينار، وقال: استعن بها على حاجتك، فقال أبوذر: ارجع بها اليه، فما أحد أغنى باللَّه منا، لنا ظل نتوارى به، وثلة من غنم تروح عليها، ومولاة لنا تصدقت علينا بخدمتها، ثم إني لأتخوف الفضل.

- إن لك في مالك شريكين: الحدثان (الليل والنهار) والوارث، فإن استطعت ألّا تكون أبخس الشركاء حظاً فافعل.

- وشتمه رجل: فقال له: يا هذا، لا تُغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى اللَّه فينا بأكثر من أن نطيع اللَّه فيه.

ص: 211

- إني لأقربكم مجلساً من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم القيامة، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة من خرج من الدنيا بهيئة ما تركته فيها» وإنه واللَّه ما منكم أحد إلّاوقد تشبث منها بشي ء.

- وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: والذي بعثك بالحق لالقيتك إلّاعلى الذي فارقتك عليه.

- كان قوتي على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في كلّ جمعة صاعاً، فلست بزائد عليه حتى ألقاه.

- دخل شباب من قريش على أبي ذر- ممّن يريدون إيذاءَه- فقالوا له:

فضحتنا بالدنيا، وأغضبوه، فقال: ما لي وللدنيا، وإنما يكفني صاع من طعام في كلّ جمعةٍ، وشربة من ماء في كلّ يوم.

إلى عند ذلك من الوصايا النافعة والأقوال الحكيمة..

مواكبة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله له:

حقّاً لقد تربى هذا الصحابي الجليل في بيت النبوة فنهل من أخلاقها، وتأدب بآدابها. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يواكبه فإن وجد فيه ما يشين نبهه عليه، وإن وجد فيه خيراً ثبته عليه، وكان أبو ذر طوع بنان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله منقاداً له أيما انقياد، ويسمع منه ويقتدي به ...

يقول ابن سويد: نزلنا الربذة، فإذا رجل عليه برد، وعلى غلامه برد مثله، فقلنا له: لو أخذت بردَ غلامك هذا فضممته الى بردك هذا فلبسته كانا حُلّةً (الحلة عند العرب ثوبان، ولا تطلق على ثوب واحد)، واشتريتَ لغلامك برداً غيره.

قال: إني سأحدثكم عن ذلك: كان بيني وبين صاحبٍ لي كلام، وكانت امّه أعجمية، فنلتُ منها. فأتى النبيّ صلى الله عليه و آله ليعذره مني. (يقال: من يعذرني من فلان؟ أي من يقوم بعذري إن أنا جازيته بسوء صنيعه).

ص: 212

فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ياأبا ذر، ساببتَ فلاناً؟» فقلت: نعم، قال: «فذكرتَ أُمّه؟» فقلت: من سابَّ الرجال ذُكِرَ أبوه وأمُه، فقال لي: «إنك امرؤ فيك جاهلية» قلت: على حال ساعتي من الكِبر؟ قال: «على حال ساعتك من الكبر، إنهم إخوانكم جعلهم اللَّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه».

سمع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبا ذر يقول حِدثانَ إسلامه لابن عمّه: يا بن الأمة، فقال له صلى الله عليه و آله: «ما ذهبت عنك أعرابيتُك بعد».

هكذا كان صلى الله عليه و آله يواكب أصحابه المخلصين ويسدّدهم ويقوّمهم؛ ويقتلع ما فيهم من آثار الجاهليّة وما تركته بيئتهم في نفوسهم والانسان ابن بيئته، ليبدلها بأخلاق إسلامية وآداب قرآنية بعيدة عن حالات التعصب التي طالما كان يقول عنها:

دعوها فإنّها نتنة دعوها فإنّها نتنة.

كرمه:

عرف عنه أنه كان كريماً كثير الإحسان رغم فقره وضعفه وقلة ما في يده، ولم يترك بعد وفاته شيئاً في بيته حتى انه لم يجدوا عنده ما يكفن به.

فمن كرمه:

- دفع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الى أبي ذر غلاماً، فقال: «يا أبا ذر، أطعمه ممّا تأكل، واكسُه مما تلبس».

فلم يكن عنده غير ثوب واحد، فجعله نصفين، فراح الى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال:

«ما شأن ثوبك يا أبا ذر؟».

فقال: إنّ الفتى الذي دفعته اليّ أمرتني أن أطعمه مما آكل، وأكسوه مما ألبس، وإنه لم يكن معي إلّاهذا الثوب فناصفته.

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أحسن اليه يا أبا ذر».

ص: 213

فانطلق أبو ذر فأعتقه.

فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مافعل فتاكَ؟».

قال: ليس لي فتى، قد أعتقته.

قال صلى الله عليه و آله: «آَجَركَ اللَّه يا أبا ذر».

- يقول عطاء بن مروان: رأيت أبا ذر في نمرة (شملة فيها خطوط بيض وسود، وبردة من صوف يلبسها الأعراب) مؤتزراً بها، قائماً يصلي، فقلت: يا أبا ذر، مالك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيته عليّ، قلتُ: فإني رأيت عليك منذ أيام ثوبين، فقال: يا بن أخي، أعطيتهما من هو أحوج مني اليهما، قلت: واللَّه إنك لمحتاج إليهما، قال: اللهم غفراً، إنك لمعظم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البردة؟ ولي أخرى للمسجد، ولي أعنز أحلبهما، ولي أحمرة نحتمل عليها ميرتنا، وعندنا من يخدمنا ويكفينا مهنة طعامنا، فأي نعمة أفضل مما نحن فيه؟ (1) مواقفه:

الذي لا يهاب الموت لا يهاب ما دونه؛ لهذا نرى أبا ذرٍّ لا يخشى بأسهم ولا يخاف طغيانهم، ولا يكترث بظلمهم، ولا يأبه بتهديهم وإنذارهم ووعيدهم ... إنّه كان يخشى فقط وعيد السماء وإنذارها ...

بايعني رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خمساً، وواثقني سبعاً، وأشهد عليَّ تسعاً ألا أخاف في اللَّه لومة لائم، وفي قول آخر له صلى الله عليه و آله: «هل لك الى بيعة ولك الجنة»؟

قلت: نعم، وبسطت يدي فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو يشترط عليَّ: «أن لا تسأل الناس شيئاً» قلت: نعم، قال: «ولاسوطك إن سقط منك حتى تنزل إليه فتأخذه» (2).

فكان هذا عهده وهو الوفي به، وكانت تلك صرخاته المتتالية ضد الظالمين والمترفين عناقيدَ غضبٍ تنهال على رؤوسهم، وكان لسانه سيفاً صارماً يكشف


1- 1 طبقات ابن سعد 4: 235.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 28: 293- 394.

ص: 214

زيفهم ويعري مواقفهم وادعاءاتهم...

كانت كلّ أمنياته أن يحذف ويلغي كلّ انحرافٍ من حياة هذه الأمة، فهو يخشى إن بقي هذا الانحراف أن يتجذر، ويصبح وكأنه هو الصحيح وغيره خطأ، وكان يخشى على هذه الأمة أن تذهب بعيداً عمّا بناه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وارتأته السماء ... لهذا ولغيره تصدى أبوذر وتحمل عواقب هذا التصدي.

كانت له مواقف عديدة شهد بها التاريخ ومؤرخوه تتسم بالقوة والشدّة صبت كلّها ضد حكام عصره والأغنياء وثرواتهم بغير حقّ ... فكانت دروساً قيمة للأجيال في مقارعتها للظلم والظالمين والترف والمترفين، وراحت مواقفه الجريئة هذه انشودةً لا يتخلى عن إنشادها المناضلون ولا يعزف عن التغني بها المجاهدون، وراح يترسمها الأحرار في كلّ مكان وزمان ... وقد سببت له ابتلاءات كثيرة كان يستعذبها لأنها في اللَّه وللَّه، «يا أبا ذر، أنت رجل صالح، وسيصيبك بعدي بلاء»، قلتُ: في اللَّه؟ قال صلى الله عليه و آله: «في اللَّه»، قلت: مرحباً بأمر اللَّه.

كانت كلمات رسول اللَّه تلاحقه، وكان هو الآخر يستحضرها في كلّ خطواته وأقواله، أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ألا نغلب على أن نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونعلم الناس السنن.

وكان في جهاده هذا يستوحي كلّ مواقفه وكلماته من السماء ورسولها ولا يغيّر ولا يبدل: واللَّه، ما كذبتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ولا أخذت إلّاعنه، وعن كتاب اللَّه عزّوجلّ.

واللَّه إني لعلى العهد الذي فارقتُ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ما غيرتُ، ولا بدلتُ.

لقد بايعت رسول اللَّه على أن لا تأخذني في اللَّه لومة لائم ...

قصد أبو ذر الشام واستقرّ بدمشق حيث الثروة المبدّدة، والإسراف الفاحش، والدنيا الفارهة، وحيث الترف والمترفين الى جانب ذلك كلّه وجد الفقر المدقع والحاجة القاتلة، فأعلنها مدويةً صرخةً ضد الأغنياء ليبروا الفقراء، ثورةً ضد

ص: 215

الطغاة لينصفوا الرعية. كان صوتاً عالياً ضد أصحاب الأموال؛ ليمدوا يد العون لإخوانهم.

كانت بحقّ ثورةً كبرى ضد الطبقية القاتلة التي تنخر بالمجتمع المسلم وتهدّد كيانه وتطيح بقيمه ومبادئه.

يقول الدكتور الجميلي:

لقد كان يرى أنّ المال فتنة تثير الغفلة والريبة والشبهات حول أولي الأمر، هذا رأيه، وهذا فهمه، وتلك طبيعته المفطورة على الطهر والنقاء والنظافة والتنزه عن مجرّد الارتياب.

كان يشتدّ به الضيق عندما يرى امراء المؤمنين يتمرغون في القصور، ومن ورائهم يرى الجياع المتربين ذوي الخصاصة يتضورون متهالكين، فكان دائماً يردّد قوله تعالى:

والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه فبشرهم بعذاب أليم* يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (1).

حمل رداءَه، واشتمل بردته، وسار الى بلاد الشام حيث ثمّ معاوية ابن أبي سفيان يقطن ويستمتع بالخصوبة والفي ء والمروج الخضر، حيث الثروات والقصور المنيفة والضيع الوارفة الظلال، ولم يسكت على الثورة الضاربة في داخل كيانه، لكنها انطلقت على لسانه، فصرخ في الناس.

«عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».

فإن أمير القوم أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر من يشبع إذا شبعوا.

كان يأتي معاوية في عقر داره في مجلسه، ويعلنها واضحةً لا لبس فيها:

خياركم أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة، وشراركم أرغبكم في الدنيا وأزهدكم في الآخرة.


1- 1 التوبة: 34- 35.

ص: 216

كانت معارضة أبي ذر معارضة قوية، يُخشى بأسها، ويعمل حسابها؛ لأنها صادرة من نفس أبية عالية وهمة شامخة، شايعها كثير من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والتفوا حولها (1).

سحب أبو ذر فضل ردائه قائلًا: «لا حاجة لي في دنياكم» قال ذلك بعدما استدعاه الخليفة الثالث من دمشق تلبية لطلب معاوية حيث كتب لعثمان: إن كان لك بالشام حاجة فأرسل الى أبي ذر.

فكتب إليه عثمان يأمره بالقدوم عليه، وبعدما سمع قول عثمان له: «ابق معي هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح»...

فكان جوابه رضوان اللَّه عليه:

نعم «لا حاجة لي في دنياكم».

«لا حاجة لي في ذلك تكفي أباذر صُريمتُه.. دونكم معاشر قريش دنياكم فاخذموها ودعونا وربّنا.. لم تكن هذه كلمات فقط، وإنّما كانت مواقف هزّت كيان الظالمين وأرست قواعد للإيمان الصحيح والمواقف المبدئية الصلبة...

ومن تلك المواقف:

كان أبو ذر أشدَّ الصحابة غضباً على ما فعله الخليفة الثالث حين ولي الخلافة، فقد قام بتوزيع كثير من أموال بيت المال على من يرغب وهو عطاء غير مسؤول، فقد أعطى مروان ابن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث ابن الحكم ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم ...

فوقف أبو ذر موقفاً مليئاً بالقوة والشدّة والغضب، وراح يتلو قوله تعالى:

والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه فبشرهم بعذاب أليم.

وجرت محاورات كانت في بعض جوانبها تتسم بالجرأة، وأثبت له خطأ تصرفاته وأنها بعيدة عن الشرع في الوقت الذي راح كثير من الصحابة- وقد


1- 1 صحابة النبي صلى الله عليه و آله للدكتور الجميلي: 252.

ص: 217

ملئت قلوبهم غيظاً وضيقاً على أفعال الخليفة- يميلون الى تأييد أبو ذر في مساعيه وجهوده من أجل إيقاف هذا الانحراف أو الحد منه، وبدلًا من أن يتعظ الخليفة بذلك، أخذته العزّة بنفسه مؤيداً من قبل المستفيدين، فقد أصدر أمره بإبعاد الصحابي الجليل أبو ذر عن المدينة الى الشام، وكان ذلك سنة تسع وعشرين للهجرة، وفعلًا التحق أبو ذر بالشام، وهناك راح ينكر على معاوية اموراً كثيرة وانحرافات خطيرة، فما كان من معاوية إلّاأن يرسل له ثلاثمائة دينار كي يستميله الى جانبه أو على الأقل يخرس صوته ...

فقال له أبو ذر: إن كان من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

ولما رأى قصر الخضراء الذي بناه معاوية بدمشق، لم يلذ أبوذر بالسكوت بل أعلنها واضحة جلية أمام معاوية: يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال اللَّه فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف.

فلم يحر معاوية جواباً بل لاذ بالسكوت منتظراً نزول الظلام، فبعث اليه بألف دينار. فما كان من أبي ذر إلّاأن أنفقها في سبيل اللَّه.

ولما صلى معاوية صلاة الصبح، دعا رسوله، فقال: اذهب الى أبي ذر فقل: أنقذ جسدي من عذاب معاوية، فإني أخطأتُ.

قال: يا بني، قل له: يقول لك أبو ذر: واللَّه ما أصبح عندنا منه دينار، ولكن انظرنا ثلاثاً حتى نجمع لك دنانيرك.

فلما رأى معاوية أن قوله صدّق فعلَه؛ كتب الى عثمان: أما بعد؛ فإن كان لك بالشام حاجة أو بأهله، فابعث الى أبي ذر فإنه وغّل صدور الناس ... (1) فما كان من عثمان إلا أن كتب الى معاوية: أما بعد، فاحمل جندباً على أغلظ مركب وأوعره.

فوجه معاوية مَن سار به الليل والنهار (2) وكان ذلك سنة ثلاثين بعد أن


1- 1 اعلام النبلاء 2: 50.
2- 2 أنساب الاشراف ج 5، ترجمة عثمان.

ص: 218

قضى سنة في دمشق، وأما في تاريخ اليعقوبي: فكتب اليه أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به الى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه.

أما في مروج الذهب: فحمله على بعير عليه قتب يابس، معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة وقد تسلّخت أفخاذه وكاد أن يتلف.

ومع كلّ ذلك لم يترك أبو ذر جهاده وصرخته بالحق والعدل ضد كلّ ظلم وانحراف وتعدي. فلما قدم أبو ذر المدينة جعل يقول مخاطباً الخليفة: تستعمل الصبيان، وتحمي الحمر، وتقرب أولاد الطلقاء. فما كان من الخليفة إلّاأن سيره الى الربذة (1).

المقاطعة:

وخلال فترة مناهضته للحكام وللأغنياء الذين استحوذوا على الأموال بغير حقّ، وقبل نفيه الى الربذة لإبعاده عن الأمة، تعرّض الرجل الجليل المسنّ الى مضايقات كثيرة وأذى عظيم، فإضافةً إلى منعهم عطاءَه من بيت المال منع الناس من الاتصال به وحضور مجالسه وحلقات دروسه، فقد كانت لأبي ذر حلقات للتفسير والحديث والفتيا، وكان الناس يحتوشونه، بعض يطلب تفسير آية، وبعض يستفتيه، وآخر يقول له: حدّثنا عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فكانت هذه الحالة وهي كثرة الذين يستفتونه ويأخذون العلم منه تلقي في قلوب بعضهم الخشية منه، حتى منعه بعض أمراء عصره من ذلك، ولكي لا يتصل به أحد فيتأثر بآرائه راحوا يلاحقون مجالسه ويحظرون الاستماع اليه ...

يقول أبو كثير: حدّثني أبي قال: أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل، فوقف عليه، فقال: أَلم ينهكَ أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه اليه ثم قال: أَرقيب أنت عليَّ؟!

لو وضعتم الصمصامة (السيف القاطع) على هذه- وأشار بيده الى قفاه- ثمّ


1- 1 أنساب الاشراف ج 5، ترجمة عثمان.

ص: 219

ظننتُ أن أُنفذ كلمةً سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها.

وفي رواية أنّ رجلًا أتى أبا ذر فقال:

إنّ المصدقين- يعني جباة الصدقة- ازدادوا علينا، فنغيّب عنهم بقدر ما ازدادوا علينا؟

قال: لا، قف مالك عليهم فقل: ما كان لكم من حقّ فخذوه، وما كان باطلًا فذروه، فما تعدّوا عليك جعل في ميزانك يوم القيامة.

وكان على رأسه فتى من قريش، فقال: أما نهاك أمير المؤمنين عن الفتوى؟

فرفع رأسه اليه ثم قال له: أرقيب أنت عليّ؟! لو وضعتم الصمصامة ...

يقول الأحنف بن قيس: أتيتُ المدينة، ثم أتيتُ الشام، فجمّعتُ (أي شهدت الجمعة) فإذا أنا برجل لا ينتهي الى سارية إلّافرّ أهلها، يصلّي ويُخفُّ صلاته، فجلستُ إليه، قال: قم عني لا أغرُّك بشرٍّ، فقلت: كيف تغرُّني بشرٍّ؟ قال: إنّ هذا- يعني معاوية- نادى مناديه أن لا يجالسني أحدٌ.

وفي رواية أخرى له: كنتُ جالساً في حلقة بمسجد المدينة، فأقبل رجل لا تراه حلقة إلّافروا حتى انتهى الى الحلقة التي كنت فيها، ففروا، وثبتُ، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أبو ذر صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، قلت: فما يُفِرّ الناس منك؟

قال: إني أنهاهم عن الكنوز، قلت: فإنّ أعطيتَنا قد بلغت وارتفعت، أفتخاف علينا منها؟ قال: أما اليوم فلا، ولكن يوشك أن يكون أثمان دينكم، فإذا كان أثمان دينكم فدعوهم وإياها.

وكل هذا وغيره لم يثنه عن عزمه، وعن الوفاء بعهده الذي عاهد عليه رسول اللَّه، وراح يواصل ثورته وكفاحه ضد كنز المال بعد أن رأى أنه عصب خطير وعظيم في حياة الناس؛ لهذا فقد راح ينادي أن للفقراء حقّاً في مال الأغنياء وأنه نصير للفقراء، فاجتمع حوله الكثيرون وناوأه آخرون ممن كان هواهم جمع المال ...

يقول الأحنف بن قيس كما في سير أعلام النبلاء (1):


1- 1 سير أعلام النبلاء 2: 64.

ص: 220

قدمت المدينة، فبينما أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم، فقال: بشّر الكنازين برَضْفٍ (الحجارة المحماة) يُحمى عليهم في نار جهنم.

قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع اليه شيئاً، (أي أجابه بشيى ء) فأدبر، فتبعته حتى جلس الى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلّاكرهوا ما قلت لهم، فقال: إنّ هؤلاء لا يعقلون شيئاً، إنّ خليلي أبا القاسم دعاني، فقال: «يا أبا ذر» فأجبته، فقال: «ترى أُحداً» فنظرت ما عليه من الشمس، وأنا أظنه يبعث بي في حاجة له، فقلت: أراه، فقال: «ما يسرني أن لي مثله ذهباً أُنفقه كلّه إلّاثلاثة دنانير».

ثمّ هؤلاء يجمعون للدنيا، لا يعقلون شيئاً! فقلت: ما لك ولإخوانك من قريش، لا تعتريهم، وتصيب منهم؟

قال: لا وربِّك ما أسألهم دنيا، ولا أستفتيهم عن دين حتى ألحق باللَّه ورسوله.

إضافةً الى كلّ ذلك فإنه لم ينجو من الاتهامات الأخرى، التي اعتاد الحكام على مل ء وسائل إعلامهم بها ضد من يخالفهم، فقد اتهموه بأنه من الخوارج ومثير الفتن حتى اضطرته هذه الامور- أحياناً- الى التصدي لها وتفنيدها في مجالسهم، فقد دخل يوماً على عثمان وهو في مجلسه يحيطه جمع، فقال له وقد حَسَر عن رأسه: واللَّه ما أنا منهم ... يريد الخوارج ومثيري الفتن.

وكيف يكون من هؤلاء وهو الصادق القائل لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: والذي بعثك بالحق لالقيتك إلّاعلى الذي فارقتك عليه.

خرج من مجلس الخلافة قاصداً الربذة وهو يقول للخليفة الذي قال له: نأمر لك بنعمٍ من نعم الصدقة تغدو عليك وتروح: لا حاجة لي في ذلك، تكفي أبا ذر صريمته ... ثم راح يخاطبهم: دونكم معاشر قريش دنياكم فأخذِموها، ودعونا وربّنا.

ص: 221

المنفى الأخير «الربذة»:

لقد كان الصراع الذي خاضه أبو ذر طيلة عمره الشريف ضد الحكام واستئثارهم وضد ثروتهم المتزايدة بعيداً عن المبادئ والقيم وحاجة الناس وعوزهم ... لابدّ أن ينتهي الى إبعاده عن الساحة- على أقل التقادير- وهذا ما جرى بالفعل، وخير ما يصور لنا جهاد الرجل وإخلاصه ومناوأته للظالمين نهج البلاغة، يقول الإمام علي عليه السلام: وهو يودعه: يا أبا ذرٍّ، إنّك غضبتَ للَّه، فارجُ من غضبتَ له. إنّ القوم خافوك على دنياهم، وخفتهم على دينك، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه، واهرب منهم بما خفتهم عليه، فما أحوجهم الى ما منعتهم، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرابح غداً، والأكثر حُسَّداً. ولو أنّ السماوات والأرضين كانتا على عبد رتقاً، ثمّ اتقى اللَّه؛ لجعل اللَّه منهما مخرجاً! لا يؤنسنّك إلّاالحقّ، ولا يوحشنّك إلّاالباطل، فلو قبلتَ دنياهم لأحبوك، ولو قرضت منها لأمنوكَ (1).

اشتد مرضه الذي ألمّ به، وانتابه ضعف شديد جعله يجود بنفسه وحيداً في غربة قاتلة، وقد فقد المعين وغاب عنه الناصر إلّاابنته وعلى رواية زوجته، وماذا تستطيع البنت أن تقدم لأبيها وهو يصارع سكرات الموت؟!

رمقها بنظرة فرآها تبكي، عرف معنى بكائها، فقال لها: ما يبكيك؟

قالت: مالي لا أبكي وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يدان لى بتغييبك وليس عندي ثوب يسعك كفناً لي ولا لك؟! ولابدّ منه لنعشك، قال: فأبشري ولا تبكي، إني سمعت حبيبي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول: «لا يموت بين امرأين من مسلمين ولدان أو ثلاثة فيصبرا ويحتسبا، فيريان النار أبداً».

وإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لنفر وأنا فيهم: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين».


1- 1 نهج البلاغة: صبحي الصالح: 188.

ص: 222

ثم أردف قائلًا: وليس من أولئك النفر أحد إلّامات في قرية أو بجماعة. فأنا ذلك الرجل، واللَّه ما كذبت ولا كذبت، فأبصري الطريق.

فقالت: أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطرق؟!

فقال: اذهبي وتبصري.

وطلب منها أن تعلو مرتفعاً من الجبل تؤشر للمارة؛ كي يحضر بعضهم اليه ساعة الوفاة، فكانت تشدّ الى كثيب، ثمّ ترجع الى أبي ذر المحتضر.

فبينما هما على هذه الحالة وإذا برجال كأنهم الرخم تجدّ بهم رواحلهم. ورأوا هذه المضطربة تلوّي بطرف ردائها إليهم، فأسرعوا اليها حتى وقفوا عليها وهي تنادي:

يا عباد اللَّه المسلمين، يا عباد اللَّه الصالحين.

- سألوها- ما بك؟ وما تريدين؟

- هذا أبوذر صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله هلك غريباً، ليس لي أحد يعينني عليه!

- صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟

- نعم

فنظر بعضهم بعضاً، وحدّوا اللَّه على ما ساق اليهم واسترجعوا وقالوا: فداؤه آباؤنا وأمهاتنا.

أسرع اليه القوم وفيهم مالك الأشتر بن الحارث النخعي رضى الله عنه وأسرعوا حتى دخلو عليه.

فقال أبو ذر لهم: «ابشروا فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لنفر وأنا فيهم:

«ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين، ما من أولئك النفر رجل إلّاوقد هلك في قرية أو جماعة، واللَّه ما كذبت ولا كذبت. أنتم تسمعون أنه لو كان عندي ثوب يسعني كفناً لي أو لامرأتي- لم أكفن إلّافي ثوب لي أو لها.

إني أنشدكم اللَّه إني أنشدكم اللَّه أن لا يكفنني رجلٌ منكم كان أميراً أو عريفاً

ص: 223

أو بريداً أو نقيباً، وليس من أولئك النفر إلّاوقد قارف ما قال، إلّافتى من الأنصار فقال: (أنا أكفنك يا عم أكفنك بردائي هذا أو في ثوبين في عبيتي من غزل أمي) قال أبو ذر (أنت تكفنني) ثم قال (بسم اللَّه وباللَّه وعلى ملةرسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولفظ نفسه الأخير).

وهكذا انطفأ هذا المصباح، وضاع هذا الصوت، ومات هذا البطل المجاهد العظيم استرجع القوم على عظم المصيبة، وبكوا ثم شرعوا في تجهيزه، وتنافسوا في كفنه (1).

حتى خرج من بينهم بالسواء، وتولى غسله مالك الأشتر وصحبه حتى فرغوا، ولفّه مالك الأشتر في برد يماني كان قيمته 4000 درهم وصلى عليه، ودفنوه على قارعة الطريق. ثم مسح الأشتر القبر بيده وقام عليه وقال:

(اللهم هذا أبوذر صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عبدك في العابدين، وجاهد فيك المشركين. لم يغيّر ولم يبدل، لكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر. ثم مات وحيداً غريباً ...) الى آخر ما قاله (2). وكانت وفاته رضى الله عنه في آخر ذي القعدة الحرام سنه إحدى وثلاثين بعد الهجرة (3).

أما ابنته أو زوجته على رواية، فقد حملها القوم معهم الى المدينة وسلّمها مالك الأشتر الى الإمام علي ابن ابي طالب عليه السلام معزّزةً مكرّمةً محترمةً الى ما شاء اللَّه (4).

وأنهى أبو ذر في سنة 32 ه حياةً جليلةً وعظيمةً كانت كلّ مفاصلها في عين اللَّه تعالى؛ ليجد نداء الحقّ أمامه: أن تلكم الجنّة اورثتموها بما كنتم تعملون.

فدفن رضوان اللَّه عليه في مكان على قارعة الطريق في الربذة وهي من قرى المدينة على ثلاثة أيام قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة ... (5) وقد حفرت عندها آبار وقناة، وأشهر آبارها (بئر الوسيط) راح أهالي القرى


1- 1 تنقيح المقال في علم الرجال 2: 49 باب الميم في ترجمة مالك الأشتر.
2- 2 المستدرك للحاكم النيسابوري 3: 345.
3- 3 أنساب الأشراف للبلاذري 5: 56.
4- 4 معالم الزلفى: 106، سير اعلام النبلاء 2: 47- 48.
5- 5 معجم البلدان 3: 24.

ص: 224

المجاورة والقوافل يرتون من مائها العذب وغرست بجوارها أشجار النخل والرمان وغيرهما، وتعرف اليوم باسم قرية واسطة تقع عند الكيلومتر 126 للذاهب من المدينة الى جدة أو مكة المكرمة على حافة الطريق المبلط بالأسفلت بانحراف قليل عن الجادة القديمة. تقع مدرستها الابتدائية ومركز شرطتها وبيوت القرية وبساتينها على جانب الطريق الأيسر، لها سوق وبساتين ومزارع أنشئت مع امتداد الطريق، وتسقى من قناةتسمى ب (سُقيا الوسيط) ويمرّ أغلب الحجاج بهذه الناحية ولا يعرفون عنها شيئاً (1).

«رحم اللَّه أبا ذر يحشر وحده ويموت وحده ويبعث وحده».

هذا ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حينما رآه وقد أبطأ بعيره في غزوة تبوك، فحمل متاعه على ظهره، وتبع أثر الرسول صلى الله عليه و آله ماشياً حتى لحق به.

فسلام عليك يا أباذر في الخالدين.

الهوامش:


1- 1 أبو ذر في سطور، محمد رضا: 19 بتصرف.

رسالة في الترتيب بين أعمال الحجّ

ص: 226

رسالة في الترتيب بين أعمال الحجّ

محمّد حسن القديري

الحمد للَّه رب العالمين وصلّى اللَّه على نبيّنا محمّد وآله الطيّبين والسّلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين ... وبعد

من واجبات الحجّ أعمال منى، التي هي في حجّ التمتّع عبارة عن الرمي والذّبح والحلق أو التقصير.

ومن الواجبات المهمّة للحجّ أعمال مكّة أي الطواف وصلاته والسعي وطواف النساء وصلاته. ولكلّ من هذه الأعمال زمان ومكان، واعتبر فيها شرائط بيّنت في محلّها مع التفصيل والاستدلال.

ومن جملة الشرائط المعتبرة في تلك الأعمال الترتيب بين أعمال منى، والترتيب بين أعمال منى وأعمال مكّة، وحيث إنّ لاعتبار الترتيب أثراً مهمّاً وهو بطلان الحلق قبل الذّبح لو اعتبر الترتيب بينهما، ومع عدم الاعتبار يصحّ الحلق مع تأخير الذّبح، ويخرج المحرم عن إحرامه بالحلق قبل الذّبح، فيمكن تأخير الذبح إلى وقت يمكن حفظ الذبيحة عن التلف، أو مراعاة سائر أحكام الذّبح؛ فلذا انقدح في بالي أن أكتب رسالة في هذه المسألة؛ وحيث إنّ صاحب الجواهر قدس اللَّه نفسه

ص: 227

بحث فيها بنحو أوفى وأحسن قدّمت عين عبارته، وذكرت بعض المطالب بعدها، واللَّه وليّ التوفيق.

قال في الجواهر:

ويجب تقديم الحلق أو التقصير على زيارة البيت لطواف الحجّ والسّعي بلا خلاف أجده فيه، وفي كشف اللّثام «كأنّه لا خلاف فيه» وفي المدارك «لا ريب في وجوب تقديمهما على زيارة البيت للتأسّي وللأخبار الكثيرة» ولعلّ مراده ما تسمعه من النّصوص (1) الآمرة بإعادته للناسي أو مطلقاً وبالشاة للعالم، لكن في الرّياض- بعد الاعتراف بنفي خلاف ظاهر فيه في جملة من العبائر- قال: «فإن تمّ إجماعاً وإلّا فظاهر الصحيح المتقدّم وغيره المتضمّنين للفظي (لا حرج) و (ينبغي) كالصحيح الآتي المتضمّن أيضاً للفظ «لا ينبغي»- خلافه، ولا ينافيه إيجاب الدّم في الأخير؛ لإمكان الحمل على الاستحباب، لكن لا خروج عمّا عليه الأصحاب» ومراده بالصحيح الأوّل صحيح جميل (2) عن الصادق عليه السلام: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتاه أُناس يوم النحر، فقال بعضهم: يا رسول اللَّه، حلقت قبل أن أذبح، وقال بعضهم: حلقت قبل أن أرمي، فلم يتركوا شيئاً كان ينبغي لهم أن يقدّموه إلّاأخّروه، ولا شيئاً كان لهم أن يؤخّروه إلّاقدّموه، فقال: لا حرج».

والظاهر كما في كشف اللّثام إنّما ينفي الإثم عن الجاهل والنّاسي أو أحدهما.

وأمّا الآخر فهو صحيح جميل أيضاً وحسنه، سأل الصادق عليه السلام «عن الرّجل يزور البيت قبل أن يحلق فقال: لا ينبغي إلّاأن يكون ناسياً، ثمّ قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أتاه اناس يوم النحر» إلى آخر ما سمعناه آنفاً، ونحوه صحيح محمّد بن حمران (3) عنه عليه السلام أيضاً، لكن يمكن إرادة النّهي


1- 1 الوسائل، الباب 5 و 2 من أبواب الحلق والتقصير.
2- 2 الوسائل، الباب 39 من أبواب الذّبح، الحديث 4.
3- 3 الوسائل، الباب 2 من أبواب الحلق والتقصير، الحديث 2.

ص: 228

منه، ولو بقرينة شهرة الأصحاب وما تسمعه من النصوص.

وعلى كلّ حال، فلو قدّم ذلك على التقصير عامداً جبره بشاة بلا خلاف أجده فيه، بل نسبه بعض إلى قطع الأصحاب، وإن أغفل في بعض الكتب كمحكي المقنعة والمراسم والغنية والكافي، ونسبه في الدّروس إلى الشيخ وأتباعه، بل عن ابن حمزة: فإن زار البيت قبل الحلق أعاد الطواف بعده، وإن تركه عمداً لزمه دم شاة، فيحتمل ترك الإعادة أو إرادة ترك الحلق حتّى زار، إلّاأنّ الجميع ليس خلافاً محقّقاً، وفي صحيح ابن مسلم (1)، عن أبي جعفر عليه السلام «في رجل زار البيت قبل أن يحلق فقال:

إن كان زار البيت وهو عالم أنّ ذلك لا ينبغي فإنّ عليه دم شاة» وهو ظاهر في الوجوب المقتضي لوجوب الترتيب عليه، بل هو مشعر بإرادة عدم الجواز من قول «لا ينبغي» في غيره من النّصوص، فما سمعته من الرّياض من إمكان إرادة ندب الدّم فيه في غير محلّه، نعم هو خالٍ عن ذكر الإعادة التي مقتضى الأصل نفيها أيضاً، بل في الدّروس نسبة ذلك إلى ظاهرهم، بل عن الصيمريّ التصريح به، ولكن فيه أنّه معارض بما حكاه ثاني الشهيدين من الإجماع على وجوب الإعادة الذي يشهد له أولويته من الناسي؛ وترك الاستفصال في صحيح ابن يقطين (2):

«سألت أباالحسن عليه السلام عن المرأة رمت العقبة وذبحت ولم تقصّر حتى زارت وطافت وسعت من اللّيل، ما حالها وما حال الرجل إذا فعل ذلك؟ قال:

لا بأس به يقصر ويطوف للحجّ ثمّ يطوف للزيارة، ثمّ قد أحلّ من كلّ شي ء». وما قيل: من أنّ الطواف المأتي به قبل التقصير منهي عنه فيكون فاسداً، فلا يتحقق به الامتثال وإن كان لا يخلو من نظر؛ لأعمّيّة ذلك من الشرطيّة. اللّهم إلّاأن يدعى ظهورها من الأمر بها في نحو العبارات المركّبة، وحينئذ يتّجه الاستدلال به على المطلوب الذي لا ظهور في


1- 1 الوسائل، باب 2، من أبواب الحلق والتقصير، الحديث 1.
2- 2 الوسائل، الباب 4، من أبواب الحلق والتقصير، الحديث 1.

ص: 229

الصحيح المزبور بما ينافيه، إذ خلوّه عن ذكر الإعادة أعمّ من عدم وجوبها، لكن في الرّياض بعد ذكر الصحيح الدّال عليها بالإطلاق، قال:

«وتنزيل هذا على ما يؤل إلى الأوّل بحمله على غير العامد، وإبقاء الأوّل على ظاهره من عدم وجوب الإعادة ليس بأولى من العكس، وإبقاء هذا على عمومه وحمل الأوّل على خلاف ظاهره، وبالجملة التعارض بينهما كتعارض العموم والخصوص من وجه يمكن صرف كل منهما إلى الآخر، وحيث لا مرجّح ينبغي الرّجوع إلى مقتضى الأصل، وهو وجوب الإعادة كما مرّ» ولا يخفى عليك ما في ذلك. هذا كلّه في العالم العامد.

ولو كان ناسياً لم يكن عليه شي ء من دم ونحوه بلا خلاف أجده فيه للأصل وغيره، ولكن عليه إعادة الطواف على الأظهر، بل لا أجد فيه خلافاً كما اعترف به في المدارك وغيرها؛ لإطلاق صحيح ابن يقطين السابق الذي لا ينافيه صحيح جميل السابق وغيره الذي استثنى فيه الناسي بعد عدم إشعار فيه بعدم الإعادة، بل ولا نفي الحرج في صحيحه الآخر المراد منه عدم بطلان الحجّ كنفي البأس في صحيح ابن يقطين.

وأمّا الجاهل فلا دم عليه للأصل المعتضد بمفهوم صحيح ابن مسلم، نعم عليه الإعادة وفاقاً لثاني الشهيدين وغيره؛ لأولويته من النّاسي، وإطلاق صحيح ابن يقطين الذي لا ينافيه الحرج في صحيح جميل بعدما عرفت المراد منه، فما عن الشهيد من الميل إلى العدم لا يخلو من نظر.

هذا والظاهر كما في كشف اللّثام أنّ كلّ من وجبت عليه الإعادة فإن تعمّد تركها بطل الحجّ إلّامع العذر فيستنيب وإن كان تعمّد التقديم.

كما أنّ الظاهر وجوب إعادة السعي حيث تجب إعادة الطواف، كما

ص: 230

عن العلّامة في التذكرة التصريح به تحصيلًا للترتيب الظاهر من الأدلّة وجوبه، وربّما كان ظاهر المتن عدمه، ولعلّه لصحيح ابن يقطين السابق الذي لا ظهور له في ذلك.

ولو قدّم الطواف على الذّبح أو على الرّمي ففي إلحاقه بتقديمه على التقصير وجهان: أجودهما ذلك كما في المسالك والمدارك.

انتهى موضع الحاجة من كلام صاحب الجواهر.

قوله: والظاهر كما في كشف اللّثام إنّما ينفي الإثم عن الجاهل والناسي أو أحدهما.

أقول:

أوّلًا: ظاهر «لا حرج» في الصحيح أنّه لا حرج في تقديم ما ينبغي أن يؤخّر ولا حرج في تأخير ما ينبغي أن يقدّم وهذا أمر وضعي لا تكليفي، ومعناه صحّة المتقدّم والمتأخّر، ف «لا حرج» لا ينفي الإثم بل ينفي شرطية الترتيب.

وثانياً: لم يفصّل في الصحيح بين العالم والعامد، وبين الجاهل والنّاسي أو أحدهما، ولا نسلّم دعوى ظهوره في الجاهل والناسي والانصراف بدويّ، وإطلاق الصحيح شامل للجميع. فمحصّل الحديث أنّ الترتيب بين أعمال منى وبين أعمال مكّة وفي نفس أعمال منى لا يكون شرطاً للصحّة، وهذا بإطلاقه قابل للانطباق على مورد العلم والعمد أيضاً، ولا موجب لتقييده بمورد الجهل والنّسيان، نعم لو كان لسان الحديث لسان النّهي أو ثبوت الإثم لاختصّ بمورد العلم والعمد، ولو كان لسانه نفي الإثم لاختصّ بمورد الجهل والنسيان، إلّاأنّ لسان لا حرج في مخالفة الترتيب لسان الوضع ونتيجته الصحّة، فيشمل جميع الموارد بالإطلاق، وعليه يكون وجوب الترتيب مطلقاً تعبّدياً لا شرطياً حتى حال العلم والعمد، فيصحّ العمل وإن كان آثماً لو خالف بلا عذر. واللَّه العالم.

قوله: ولو قدّم الطّواف على الذّبح أو على الرّمي الخ.

ص: 231

أقول: الدّليل إنّما هو ناظر إلى الترتيب بين الحلق والطواف، لا بين أعمال منى وأعمال مكّة، فحيث نقول بلزوم الترتيب إنّما نقول به بين الحلق والطواف لا غير.

واللَّه العالم.

قوله: كما أنّ الظاهر وجوب إعادة السعي حيث تجب إعادة الطواف.

أقول: لا دليل على لزوم الترتيب شرطاً بينهما والأصل البراءة عن الشرطية، ووجوب الترتيب الظاهر من الأدلّة على ما أفاده غير مسلّم، ومع التسليم فلا إطلاق للأدلّة بالنسبة إلى الاشتراط حتّى في مورد العلم والعمد فإنّها في مقام بيان حكم آخر.

قوله: لإطلاق صحيح ابن يقطين الّذي لا ينافيه صحيح جميل السّابق وغيره، الّذي استثنى فيه الناسي بعد عدم إشعار فيه بعدم الإعادة، بل ولا نفي الحرج في صحيحه الآخر المراد منه عدم بطلان الحجّ كنفي البأس في صحيح ابن يقطين.

أقول: الظاهر أنّ هذا الكلام مورد للتعجّب من مثله قدّس سرّه الشريف، كيف لا تنافي بين هاتين العبارتين: «يقصّر ويطوف» في صحيح ابن يقطين و «لا ينبغي إلّاأن يكون ناسياً» في صحيح جميل، وكيف لا يدلّ على عدم لزوم الإعادة في مورد النسيان. ولا سيّما بملاحظة قوله عليه السلام «لا حرج» في ذيل الصحيحة المنطبق على الصّدر ولا أقل في مورد النسيان، وقوله أيضاً المراد من لا حرج عدم بطلان الحجّ كنفي البأس في صحيح ابن يقطين يُزيد في التعجّب، ألَيس جواب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لسؤال الناس: «لا حرج» يدلّ على صحّة أعمالهم؟ ألَيس عدم ذكر وجوب الإعادة بعد قوله صلى الله عليه و آله: «لا حرج» مع فرض وجوبها تأخير البيان عن زمان الحاجة؟ وكيف كان، فهمي قاصر عن تصديق ما أفاده رحمه الله هنا.

والظاهر المعارضة بين صحيح جميل الدالّ على عدم لزوم الإعادة في موارد الإخلال بالترتيب بين أعمال منى ومكة حتى في حال العلم والعمد، وصحيح ابن

ص: 232

يقطين الدالّ على لزوم إعادة الطواف مطلقاً، فلابدّ من حمل هذا على الاستحباب جمعاً. فلا تجب الإعادة إلّاأن يكون إجماع ودون إثباته خرط القتاد.

كلام صاحب الجواهر في ترتيب المناسك يوم النحر

قال في الجواهر:

وكيف كان، ترتيب هذه المناسك واجب يوم النّحر، والرمي ثم الذّبح ثم الحلق كما في النافع والقواعد، بل ومحكي النهاية والمبسوط والاستبصار، وظاهر المقنع في الاخيرتين، بل نسبه غير واحد إلى أكثر المتأخّرين؛ لقوله تعالى (1): ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه وللتأسّي مع قوله (2) صلى الله عليه و آله: «خذوا عنّي مناسككم» وقول الصّادق عليه السلام في خبر عمر بن يزيد (3): «إذا ذبحت أضحيتك فاحلق رأسك واغتسل وقلّم أظفارك وخذ من شاربك» وفي خبر جميل (4): «تبدأ بمنى بالذّبح قبل الحلق». وفي صحيح معاوية بن عمار أو حسنه (5): «إذا رميت الجمرة فاشتر هديك». وفي خبر أبي بصير (6): «إذا اشتريت أضحيتك وقمطتها في جانب رحلك فقد بلغ الهدي محلّه، فإن أحببت أن تحلق فاحلق» وإن كان هو دالًاّ على قيام ربطها في رحله مقام الذّبح، ونحوه أخبار (7).

وفي موثّق عمّار (8) عنه عليه السلام أيضاً: «سألته- إلى أن قال-: وعن رجل حلق قبل أن يذبح، قال: يذبح ويعيد الموسى «لأنّ اللَّه تعالى يقول:

ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه» وخبر سعيد السّمان (9)

«سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عجل النساء ليلًا من المزدلفة إلى منى ، فأمر من كان عليها منهنّ هدي أن ترمي ولا تبرح حتّى تذبح، ومن لم يكن عليها منهنّ هدي أن تمضي إلى مكّة حتّى تزور».


1- 1 سورة البقرة: الآية 192.
2- 2 تيسير الوصول 1: 312.
3- 3 الوسائل، الباب 1، من أبواب الحلق والتقصير، الحديث 1.
4- 4 الوسائل، الباب 1، من أبواب الذّبح، الحديث 3.
5- 5 المصدر السابق ح 1.
6- 6 المصدر السابق ح 7.
7- 7 الوسائل، الباب 39، من أبواب الذّبح، الحديث 7 بطريقين آخرين.
8- 8 الوسائل، الباب 39 من أبواب الذّبح الحديث 8.
9- 9 الوسائل، الباب 17، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 5.

ص: 233

وصحيح أبي بصير (1)عنه عليه السلام أيضاً، قال: «سمعته يقول: لا بأس أن تقدّم النساء إذا زال اللّيل فيقفن عند المشعر الحرام ساعة، ثم ينطلق بهنّ إلى منى فيرمين الجمرة، ثم يصبرن ساعة، ثم يقصّرن وينطلقن إلى مكة فيطفن، إلّاأن يكن يردن أن يذبح عنهنّ، فإنّهن يوكّلن من يذبح عنهنّ» وصحيح سعيد الأعرج (2) «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: جعلت فداك معنا نساء فأفيض بهنّ بليل؟ فقال: نعم- إلى أن قال-: افض بهنّ حتّى تأتي الجمرة العظمى فيرمين الجمرة، فإن لم يكن عليهن ذبح فليأخذن من شعورهنّ وليقصّرن من أظفارهنّ».

وخبر موسى بن القاسم (3) عن عليّ عليه السلام قال: «لا يحلق رأسه ولا يزور البيت حتّى يضحّي فيحلق رأسه ويزور متى شاء». وصحيح عبداللَّه بن سنان (4)، سأل الصادق عليه السلام «عن رجل حلق رأسه قبل أن يضحّي، قال: لا بأس، وليس عليه شي ء ولا يعودنّ» بناءً على إرادة الحرمة من النّهي عن العود وعدم الإعادة منه نفي البأس، كما ستعرف إن شاء اللَّه.

وعلى كلّ حال فلا إشكال في ظهور مجموع ما ذكرناه من الآية والرواية في وجوب الترتيب في الثلاثة، خلافاً للمحكيّ من الخلاف والسرائر والكافي ومن عدم الوجوب، وعن الأوّلين استحبابه كما عن المختلف، ومال إليه بعض متأخّري المتأخّرين؛ للأصل وصحيح جميل السابق المشتمل على نفي الحرج، الذي قد عرفت احتمال إرادة الإِجزاء منه وحال الجهل والنسيان والضرورة ونفي الفداء ونحوه، بل مال إليه في الرياض مرجّحاً لاحتمال حمل الأوامر المزبورة على النّدب على احتمال غيره بالأصل، وخبر أحمد بن محمّد بن أبي نصر (5) «قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: جعلت فداك إنّ رجلًا من أصحابنا رمى الجمرة يوم


1- 1 المصدر السابق، ح 7.
2- 2 الوسائل، الباب 17، من أبواب الوقوف بالمشعر، الحديث 2.
3- 3 الوسائل، الباب 39، من أبواب الذبح، الحديث 9.
4- 4 المصدر السابق، ح 10.
5- 5 المصدر السابق، ح 6.

ص: 234

النّحر وحلق قبل أن يذبح، قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لما كان يوم النحر أتاه طوائف من المسلمين، فقالوا: يا رسول اللَّه ذبحنا من قبل أن نرمي، وحلقنا من قبل أن نذبح. فلم يبق شي ء ممّا ينبغي لهم أن يقدّموه إلّا أخّروه ولا شي ء ممّا ينبغي لهم أن يؤخّروه إلّاقدموه، فقال: لا حرج. بل وغيره من الأخبار، ومصير أكثر العامّة كما في المنتهى إلى الوجوب، قال: فيترجّح بهما الاستحباب وإن تساوى الجمعان. والتأسّي إنّما يجب لو لم يظهر الاستحباب من الخارج، مضافاً إلى أولوية حمل صحيح النّهي عن العود على الكراهة ممّا عرفت؛ لظهور نفي البأس في جواز الترك، ولذا استدلّ به الفاضل في المختلف عن النّدب، إلّاأنّ الجميع كما ترى، خصوصاً مع تصريح الآية بالبعض مع عدم القول بالفصل، وخصوصاً مع الشهرة وغير ذلك.

وكيف كان، فلو قدّم بعضاً على بعض عالماً عامداً أثم قطعاً ولا إعادة بلا خلاف محقّق أجده فيه، بل في المدارك أنّ الأصحاب قاطعون به، وأسنده في المنتهى إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، وحينئذٍ يكون الوجوب المزبور تعبديّاً لا شرطياً، ولعلّه المراد من صحيح ابن سنان السابق المشتمل على نفي البأس والنهي عن العود لمثل ذلك، بل ونصوص نفي الحرج وإن لم يكن قد صرّح فيها بالعمد، والأمر بامرار الموسى بعد الذبح لمن قدم الحلق محمول على ضرب من الندب، فما في المدارك- من إشكال ذلك بأنّها محمولة عند القائل بوجوب الترتيب على الجهل والنسيان وإلّا لم يجب الترتيب- في غير محلّه، وان صدر من بعضهم ذلك، ووجوب الترتيب أعمّ من شرطيّته، كما ان ما فيها وفي غيرها من إشكال الحكم المزبور بأنّه مناف لقاعدة عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه المقتضية وجوب الإعادة كذلك أيضاً،

ص: 235

ضرورة عدم الشرطيّة على التقدير المزبور جمعاً بين الأدلّة، بل لعلّ المراد من قوله عليه السلام «لا حرج» الإشارة إلى قوله تعالى: وما جعل عليكم في الدين من حرج الذي منه التكليف بالإعادة، فحينئذٍ يكون الترتيب واجباً مستقلًا لا شرطاً، فالفاعل ممتثل في أصل الفعل وإن عصى في عكس الترتيب، وعلى كلّ حال فما عن أبي علي- من أنّ كلّ سائق هدياً واجباً أو غيره يحرم عليه الحلق قبل ذبحه، ولو حلق وجب دم آخر- محجوج بما عرفت إن أراد عدم الإجزاء إذا خولف الترتيب، وقد يحتمل الكفّارة، فلا خلاف حينئذ، واللَّه العالم.

انتهى موضع الحاجة من كلام صاحب الجواهر.

قوله: وقول الصادق عليه السلام في خبر عمر بن يزيد إلى آخر ما ذكره من الأخبار.

أقول: الإنصاف أنّ ظهور الأقوال والأخبار في وجوب الترتيب في أعمال منى غير قابل للإنكار.

ولكنّ الوجوب الشرطي منفي بصحيحة جميل، وقد مرّ بيانه تفصيلًا في المسألة السابقة ويبيّنه بعد ذلك بعد قول المحقّق قدس سره: فلو قدّم بعضاً على بعض أثم ولا إعادة. فلاحظ.

قوله: لقوله تعالى: ولا تحلقوا ... الخ.

أقول: الآية الكريمة واردة في مقام بيان حكم الحصر «وإن أحصرتم» وهذا لا يدلّ على حكم أعمال منى ولزوم الترتيب بينها، ومن هذا يظهر عدم تماميّة الاستدلال بموثّق عمّار: سألته- وعن رجل حلق قبل أن يذبح، قال: يذبح ويعيد الموسى؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول: ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه، فإنّ التعليل بالآية الواردة مورد بيان حكم الحصر يدلّ على أنّ السؤال والجواب في الرواية عن وظيفة المحصور. فلا يمكن الاستدلال بالرواية أيضاً للزوم الترتيب بين الذّبح والحلق في أعمال منى في غير مورد الحصر.

ص: 236

قوله: وللتأسّي مع قوله صلى الله عليه و آله «خذوا عنّي مناسككم».

أقول: لو سلّم تمامية هذا الدليل للزوم اتّباع فعل النبيّ صلى الله عليه و آله في المناسك ولا نسلّم؛ لأنّ الفعل أعمّ من الوجوب والنبيّ صلى الله عليه و آله يعمل بالمستحبّات فيها قطعاً، ولا دلالة لما ذكر أي «خذوا عنّي مناسككم» للزوم اتباع فعله صلى الله عليه و آله في المناسك حتّى يقال: بأنّ الأصل في فعله صلى الله عليه و آله هنا الوجوب إلّاما خرج بالدّليل.

فمع ذلك لا يتمّ هذا الدليل في مسألة الترتيب فإنّ المدّعى دلالة الدليل على عدم لزوم الترتيب، فلابدّ من البحث في ذلك.

خلاصة الكلام

إنّ المستفاد من الكلمات خصوصاً الجواهر هو أنّه لا وجوب شرطي للترتيب في أعمال منى، ونسب ذلك إلى المشهور بل أزيد، ولو فرض وجوبه فهو وجوب تعبّدي، بل ذهب بعض إلى استحبابه، ولكن الترتيب بين الحلق وأعمال مكّة اعتبروه شرطاً خصوصاً حال العلم والعمد، وعليه فلو أنّ شخصاً حلق بعد الرّمي وأخّر الذّبح يوماً أو أكثر فلا إشكال في الصحّة على المشهور المنصور، بل ادّعي عدم الخلاف في ذلك كما هو الظاهر من كلام فقيه أهل بيت العصمة صاحب الجواهر رضوان اللَّه عليه، وعلى تقدير الوجوب فالمخالفة تكليفية؛ التي تسقط عند العذر، وأيّ عذر أوجه من تلف الهدي لو لم يؤخّر الذبح؟ ومع التأخير يمكنه إعطاء الهدي للفقراء. وبناءً عليه فمع عدم كون الإخلال مضرّاً بصحّة العمل لا إشكال تكليفياً أيضاً.

هذا كلّه على المشهور في الترتيب وهو المنصور أيضاً بالنسبة إلى نفس أعمال منى، وأمّا بين أعمال منى وأعمال مكّة فبحسب الصناعة الوجوب تكليفي أيضاً، وان لم يكن مشهورياً في صورة العلم والعمد. والأحوط ما عليه المشهور. وأمّا في مورد الجهل والنّسيان فليس الوجوب شرطياً، واللَّه العالم.

ص: 237

ونؤيّد ما مرّ بما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره في مناسكه وآية اللَّه البهجة في الحاشية وما أفتى به السيّد القائد.

قال الشيخ قدس سره: «اعلم أنّ الترتيب بين الرمي والذبح والحلق واجب على الأشهر الأحوط، ولكن إذا خالف فقدّم الثاني على الأوّل أو قدّم الثالث على الثاني أو الأوّل فإن كان ذلك عن نسيان فلا يضرّ، وأمّا إن كان عن عمد فالمشهور عدم وجوب الإعادة، وفي دليلهم تأمّل، فلا يترك الاحتياط إن أمكنه ذلك».

وذكر آية اللَّه البهجة في الحاشية «الأظهر تمامية قول المشهور».

وجاء في مناسك السيِّد القائد:

مسألة 286: يجب في يوم العيد رمي جمرة العقبة أوّلًا ثم الذبح ثم التقصير أو الحلق، فإن أخلّ عمداً بالترتيب المذكور كان عاصياً، ولكن لا يجب عليه إعادة الأعمال مرتَّبة على الظاهر، وإن كانت الإعادة مع التمكّن موافقة للاحتياط، وكذا الحكم في صورتي الجهل والنسيان.

والحمد للَّه ربّ العالمين

الهوامش:

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

ص: 239

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

محسن الأسدي

واحدة من آيات ثلاث ذكرت الطواف الذي هو من أعظم وأفضل مناسك الحجّ- على عظمتها وفضيلتها- أجراً وثواباً وأكثرها أحكاماً وآداباً وتفصيلًا:

وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (1)

وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (2)

والآية التي نحن بصدد الوقوف عندها هي الثالثة:

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (3)

.

وفقرتها الأولى وليطّوفوا...

هي محور مقالتنا هذه من الناحيتين التفسيريّة والفقهيّة.. لنصل بعد ذلك إلى واحد من الأطوفة المهمّة عند الإماميّة وهو طواف النساء الذي سينصبّ أكثر بحثنا عليه.. فيما ستكون فقرتها الثانية... بالبيت العتيق محلّ بحث آخر إن شاء اللَّه تعالى .

وليطّوفوا...

الاعراب:

وليطوّفوا: معطوف بالواو على فعل مضارع مجزوم بلام الأمر قبله


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 الحجّ: 26.
3- 3 الحجّ: 29.

ص: 240

وهو ليقضوا، فحذفت نونه لأنّها علامة جزمه وهو من الأفعال الخمسة يطوفون. والواو فاعله، والألف للتفريق. ثمّ هو نفسه أيضاً مجزوم بلام الأمر الداخلة عليه.

القراءة:

قرأ بعضهم- وهو المشهور- اللام في الكلمات الثلاث الواردة في هذه الآية: ... ثمّ لْيَقْضوا ... ولْيُوفُوا .. ولْيَطَوّفوا .. بإسكان لام الأمر في جميعها.

فيما قرأ آخرون: وليوفوا ..، وليطوفوا .. بكسر اللام فيهما (1).

الطواف لغةً:

طاف حول الشي ء وبالشي ء طوفاً وطوافاً وطوَفاناً دار حولَه.

والجمع: الأطواف.

وطوّف حول الشي ء وبه تطويفاً وتَطوافاً، وتَطوّف تطوّفاً واطَّوَّفَ اطّوافاً ..

واستطاف استطافةً طاف وأكثر المشي حوله، وطوّف فلاناً. طاف به.

وأطاف بالشي ء إطافةً ألمَّ به وقاربه.

قال بشرٌ:

أبو صبيةٍ شُعثٍ يُطيفُ بشخصهِ كوالحُ أمثالُ اليعاسيب ضُمَّرُ

والطَوَاف: مصدر. ورجل تطوّف: أي طاف. ورجل طافٌ أي كثير الطوَّاف، وطوّف أي أكثر الطواف وطاف بالبيت وأطاف عليه: دار حوله.

قال أبو خراش:

تُطيفُ عليه الطيرُ وهو ملحّبٌ خلافَ البيوتِ عند محتملِ الصُّرْمِ

الطواف: أصله المشي أو مشى فيه استدارةً. طاف حول الكعبة وبها يطوف طوفاً وطوافاً وطوفاناً ومطافاً وطوّف وطاف يطيف وتطوّف واطّوّف واستطاف: استدار بها وطوّف: أكثر الطواف. والمطاف:

موضع الطواف. ورجل طاف: كثير الطواف (2). وهو من أعمال الحجّ والعمرة.

فالطوافُ: الدوران بالشي ء من جوانبه. يقول تعالى: وليطوّفوا بالبيت العتيق. والمطافُ: موضع الطواف حول الكعبة وغيرها (3).


1- 1 معجم القرآءات القرآنية 4: 178.
2- 2 انظر الافصاح في فقه اللغة 2: 1177. لسان العرب لابن منظور 9: 225 طوف. محيط المحيط، المعلم بطرس البستاني: 560 طوف.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 241

الطواف اصطلاحاً

وشرعاً فهو وجوب الدوران سبعة أشواط حول البيت (الكعبة المشرّفة) تعظيماً لها وامتثالًا لأمره تعالى في ذلك بدليل الآية المذكورة والسنّة النبويّة: «خذوا عنّي مناسككم». والنصوص والإجماع.

ابتداءً من الحجر الأسود وانتهاءً به وفق ضوابط وشروط مذكورة في كتب الفقه عند جميع الفرق الإسلامية .. ليشكل بذلك منسكاً عظيماً من مناسك فريضة الحج وركناً من أركانها الستّة: «النيّة والإحرام والوقوف بعرفات والوقوف بالمشعر والطواف والسعي» وسواء أكان الحج حجّ تمتّع أو إفراد أو قران.

وركناً- أيضاً- من أركان العمرة «النية والإحرام والطواف والسعي» سواءًأكانت عمرةمفردةأو عمرة التمتّع.

*** وقد ذكروا للطواف أنواعاً:

عند المذاهب الأربعة

1- طواف القدوم: يستثنى منه أهل مكّة ومن هم في ضواحيها؛ لعدم صدق القدوم إلى مكّة عليهم، كما أنّه لا يسنّ للحاج بعد الوقوف بعرفة ولا للمعتمر لأنّه دخل وقت طوافهما المفروض، فيما هو سنّة عند جمهور فقهائهم لكلّ حاج دخل مكّة المكرّمة أي الآفاقي وهو غير المكّي، قبل الوقوف بعرفة سواء أكان هذا الحاج مفرداً أم قارناً.

إذاً هو مستحب في مذاهبهم ويشبه ركعتي التحية للمسجد وهو هنا تحية للبيت لا للمسجد. ولهذا سمّي طواف التحية، استحبابه متّفق عليه عند الشافعية والحنبلية والحنفية، أمّا المالكية فقد تفرّدوا بقولهم: إنّ على تارك هذا الطواف دماً.

يقول الزحيلي:

فيسقططواف القدوم عن ثلاثة:

المكي ومن في حكمه وهو من كان منزله دون المواقيت.

المعتمر والمتمتع ولو آفاقياً.

ومن قصد عرفة رأساً للوقوف.

ونقل قول المالكية: إنّ طواف

ص: 242

القدوم يجب على من أحرم من الحلّ ولو كان مكياً، وتجب الفدية على من قصد عرفة وترك طواف القدوم وكان الوقت متسعاً.

وقالوا أيضاً: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة ثمّ يطوف طواف الإفاضة.

أمّا الحكمة منه: فيقول: إنّ الطواف تحية البيت لا المسجد، فيبدأ به لا بصلاة تحية المسجد؛ لأنّ القصد من إتيان المسجد البيت، وتحيته الطواف.

وذكر له أحكاماً وآداباً متعدّدة .. (1)ومن أسمائه الأخرى التي ذكروها:

طواف التحية للسبب الذي ذكر.

وطواف القادم. طواف الورود لورود الحاج مكة أو الوارد.

2- طواف الزيارة: باتفاق جميع الفقهاء من الفريقين أنه ركن لا يتمّ الحج بدونه ويفوت بفواته. وأنّه إن ترك لا يجزئ عنه دم للآية الكريمة:

وليطوّفوا بالبيت العتيق. ولما ورد عن أمّ المؤمنين عائشة: «حججنا مع النبيّ صلى الله عليه و آله فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبيّ صلى الله عليه و آله منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يارسول اللَّه، إنّها حائض، قال: أحابستنا هي؟

قالوا: يارسول اللَّه، إنّها قد أفاضت يوم النحر، قال: اخرجوا» (2).

يقول الزحيلي بعد ذكره لهذه الرواية: فمن ترك طواف الزيارة، رجع من بلده متى أمكنه محرماً، لا يجزئه غير ذلك، لقصة صفية المتقدّمة، فإنّه صلى الله عليه و آله قال بعد أن حاضت:

«أحابستنا هي؟ قيل: إنّها قد أفاضت يوم النحر، قال: فلتنفر إذاً».

فهذا يدلّ على أنّ هذا الطواف لابدّ منه، وأنّه حابس لمن لم يأت به، فإن نوى التحلل ورفض إحرامه، لم يحل بذلك؛ لأنّ الإحرام لا يخرج منه بنيّة الخروج. وعلى هذا فإذا فات طواف الإفاضة عن أيّام النحر لا يسقط، بل يجب أن يأتي به؛ لأنّ سائر الأوقات وقته.


1- 1 الزحيلي 3: 144- 146 الفقه الإسلامي وأدلّته.
2- 2 نيل الأوطار 5: 88 متفق عليه.

ص: 243

ومع أنّه ركن في جميع المذاهب بالإجماع، إلّاأنّ أبا حنيفة مع كونه واجباً ركناً عنده إلّاأنّه فرّق بين أشواطه السبعة، فجعل الأشواط الأربعة منها شرطاً والثلاثة الأخيرة واجباً.

وأيضاً له أسماء عندهم:

فهو يسمّى بطواف الزيارة؛ لأنّ الحاج يأتي مكة زائراً لا مقيماً فيها، فمبيته في منى.

وسمّي بطواف الإفاضة؛ لأنّ الحاج- سواء أكان مكياً أو آفاقياً- يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكّة، وهو من أعمال مكة.

وسمّي بطواف الركن؛ لأنّه ركن لا يتمّ الحجّ إلّابه وهو محل اتّفاق جميع الفقهاء، وأيضاً- لهذا السبب- يسمّى بطواف الحج وبطواف الفريضة.

3- طواف الوداع أو طواف الصدر وهو آخر طوافٍ بالبيت سمّي بذلك لأنّ الحاج يودع البيت ويصدر عنه عائداً إلى أهله ووطنه، وقال الحنفية والحنابلة بوجوبه إذا تركه الحاج يلزمه دم فقط فيما قالت المالكية:

إنّه مستحبّ. أمّا الشافعي فله قولان فيه: الوجوب، الاستحباب.

عند الإمامية:

هناك أطوفة واجبة عند الإماميّة وأخرى مستحبّة:

أمّا الواجبة فهي أربعة:

1- طواف عمرة التمتّع وهو واجب وركن فيها تبطل بتركه عمداً.

2- طواف الحجّ ويسمّى طواف الزيارة وهو واجب وركن يبطل الحجّ بتركه عمداً.

3- طواف النساء، واجب في الحجّ وفي العمرة المفردة وليس ركناً فيهما.

4- طواف العمرة المفردة واجب وركن فيها تبطل بتركه عمداً.

أما المستحبّة فهي كثيرة حتّى ورد أنّه يستحبّ للحاجّ أن يطوف عشرة أسابيع في كلّ يوم وليلة، بل ورد أنّه «يستحبّ أن يطوف ثلاثمائة وستّين اسبوعاً على عدد أيّام السنة،

ص: 244

فإن لم تستطع فثلاثمائة وستّين شوطاً، فإن لم تستطع فما قدرت عليه من الطواف» (1).

فمع استحباب الاكثار من الطواف بالبيت إلّاأنّ هناك أطوفة أكّد استحبابها وعظم ثوابها، منها:

1- طواف القدوم: مستحب يجوز تركه.

2- طواف الوداع: مستحب هو الآخر، وإن قيل بأنّه يجزي عن طواف النساء إلّاأنّ هذا يفتقر إلى دليل معتبر لإجزائه عن الواجب الآخر وهو طواف النساء. نعم هناك خبر إسحاق ابن عمّار وهو الخبر الوحيد بهذا الخصوص، الذي أفتى على ضوئه علي ابن بابويه على ما حكي ذلك عنه في الجواهر وفي الحدائق (2)، والذي يدلّ بظاهره على كفاية طواف الوداع عن طواف النساء. وابن الجنيد سمّى طواف النساء.. طواف الوداع وأوجبه (3).

فعن موسى بن القاسم عن عبداللَّه بن سنان عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لولا ما منَّ اللَّه به على الناس من طواف الوداع؛ لرجعوا إلى منازلهم ولا ينبغي لهم أن يمسّوا نساءَهم .... (4) وهو ما جاء في التهذيب 5: 253/ 856.

وهو خبر مردود لأنّه:

أوّلًا: ورد في الكافي ب (طواف النساء) وليس بطواف الوداع، والكافي أقدم من غيره. فعن عبداللَّه ابن سنان عن اسحاق بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لولا ما منّ اللَّه عزّوجلّ على النّاس من طواف النساء لرجع الرجل إلى أهله وليس يحلّ له أهله.

وفي هامش هذه الرواية في الكافي ذكر أنّ معناها: ظاهر والأظهر طواف الوداع بدل طواف النساء كما في التهذيب والفقيه. وتوجيهاً منه لهذه الرواية راح يذكر: أنّ العامّة وإن لم يوجبوا طواف النساء.. إلّاأنّ طوافهم ينوب مناب طواف النساء وبه تحلّ لهم النساء وهذا بما منّ اللَّه تعالى به عليهم.. أو المراد من نسي طواف


1- 1 وسائل الشيعة 13: 308.
2- 2 الحدائق الناضرة 16: 185.
3- 3 انظر فتاوى ابن الجنيد: 139.
4- 4 وسائل الشيعة 13: 299، ح 3.

ص: 245

النساء وطاف طواف الوداع فهو قائم له مقامه بفضل اللَّه في حلّ النساء ولزمه التدارك (1).. وإن كانت هذه مجرّد استحسانات.. لا دليل معتبر عليها.

ثانياً: ضعيف السند. وفيه تأمّل.. حيث قال في الحدائق: إنّ في إسحاق بن عمار قولًا (2). ولعلّ هذا لكونه فطحياً أو لأنّ هناك من قال:

فالأولى عندي التوقّف فيما ينفرد به.

علماً بأنّه من أصحاب الصادق والكاظم وهو ثقة وأصله معتمد..

وقال عنه النجاشي: كان شيخاً من أصحابنا ووثّقه ابن شهر آشوب أيضاً .. فإسحاق بن عمار سواء قلنا بأنّه واحدٌ أو قلنا بأنّه متعدّد أيّ الصيرفي أو الساباطي.. فهو- فيما تيسّر لي- لا شك في أنّه ثقة باتّفاق علماء الرجال (3).

ثالثاً: معارض من قبل الروايات الأخرى الدالّة صراحة على وجوب طواف النساء.

رابعاً: يخالف ما عمل به المشهور وما أجمع عليه من وجوب طواف النساء لا طواف الوداع الذي هو مستحب عندهم.

وهناك رواية لم يعمل بها الفقهاء لأنّها مرسلة، فقد روي فيمن نسي طواف النساء أنّه إن كان طاف طواف الوداع فهو طواف النساء (4)***

بعد كلّ هذا نأتي إلى ما يقوله المفسِّرون والفقهاء بخصوص الطواف المأمور به في الآية: وليطوفوا أمر بالطواف بالبيت بل فيه توكيد ومبالغة أي جاء الأمر بالطواف والمبالغة فيه والاكثار منه، بعدما تطهروا في منى وبعدما وفوا بنذورهم... ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم .. وقد انتهى احرامهم وجاءوا إلى البيت الحرام لأداء باقي المناسك وقد حلّ لهم كلّ شي ء بالحلق إلّامسّ النساء والطيب وهذا الأخير يحلّ بطواف الزيارة، وأمّا حلية النساء فلا تتمّ إلّابطواف النساء وهو ما عليه الإمامية وتفرّدت به دون الفرق الأخرى التي يحلّ


1- 1 الكافي 4: 513، الهامش.
2- 2 الحدائق الناضرة 16: 185.
3- 3 أنظر جامع الرواة 1: 82، والخلاصة للعلّامة الحلّي: 317- 418 و خاتمة الوسائل 30: 37 وغيرها من كتب الرجال.
4- 4 وسائل الشيعة 13: 408.

ص: 246

لحجّاجها كلّ شي ء حرّم عليهم بالنحر وبعد إتمام الحجّ بالطواف الواجب طواف الزيارة.

يقول الشيخ مغنية في تفسيره:

وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى الطواف في صيغة المبالغة حيث يستحب الإكثار منه، كما يستحبّ الإكثار من الصلاة، فلقد اشتهر عن نبيّ الرحمة صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الطواف بالبيت صلاة» (1).

وفي وصفه لهذا الطواف، بعد أن تطهر الحاج في منى من ذنوبه ومن قبلها في المزدلفة وعرفات وممّا تحيطه من أدران وأوساخ ... وحلّ له كثيرٌ ممّا حرّم عليه بعد إحرامه، يقول القشيري صاحب كتاب لطائف الإشارات:

فيبدأ الطواف بالبيت حيث يطوف بنفسه حوله وبقلبه في ملكوت السماء، وبسرّه في ساحات الملكوت (2) ..

الطواف المراد بالآية:

وقد اختلفت آراء المفسّرين والفقهاء حول الطواف المراد بهذه الآية فبعضهم وقف في مرادها عند الواجب فيما ذهب فريق آخر إلى أنّ المراد الطواف الواجب والمستحب..

السنّة:

فبعد قوله في تفسير هذه الآية: ... وبالنحر ينتهي الإحرام فيحلّ للحاج حلق شعره أو تقصيره، ونتف شعر الابط، وقصّ الأظافر والاستحمام، ممّا كان ممنوعاً عليه في فترة الإحرام، وهو الذي يقول عنه:

ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم التي نذروها من الذبائح غير الهدي الذي هو من أركان الحجّ.

يقول سيد قطب بخصوص آيتنا المذكورة: وليطوّفوا بالبيت العتيق طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات، وبه تنتهي شعائر الحجّ، وهو غير طواف الوداع (3).

أمّا الزحيلي فبعد أن يقول: ثمّ أمر بالنظافة وإيفاء النذر والطواف فقال: ثمّ ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوّفوا بالبيت العتيق هذه أوامر بواجبات ثلاثة على سبيل الإيجاب، أي ليزيلوا الأوساخ من على أجسادهم بقصّ الأظفار وحلق


1- 1 تفسير الكاشف لمحمد جواد مغنية في تفسير الآية 29 من سورة الحج.
2- 2 لطائف الإشارات 2: 540.
3- 3 في ظلال القرآن 4: 2420 في تفسير الآية 29 من سورة الحج.

ص: 247

الأشعار ونحوه من الأغسال، وليوفوا نذورهم التي نذروها تقرّباً إلى اللَّه تعالى من أعمال البرّ. والنذر: كلّ ما لزم الإنسان أو التزمه. ذكر أنّه:

وليطوّفوا طواف الركن أو الإفاضة، وقبل طواف الوداع، بالبيت العتيق أي القديم، فهو أقدم بيت للعبادة (1).

وينتهي الزحيلي أخيراً إلى أن قوله تعالى: وليطوفوا .. يدلّ على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج، وينقل قول الطبري أنه: لا خلاف بين المتأولين في ذلك (2).

ثمّ راح يردّ على من يقول: إنّه طواف الوداع- وهو ما احتمله ابن عطيّة كما ذكره صاحب تفسير البحر المحيط الذي كان يذهب إلى أنّه طواف الزيارة وهو ركن والذي به تمام التحلّل (3)- أمّا القول بأنّه طواف الوداع (الصدر) فهو بعيد؛ لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنّما هو طواف الإفاضة، فلا مناسبة هنا لطواف الوداع (4).

وبعد أن يذكر أنواع الأطوفة عند الفرق الإسلامية الأربعة ينتهي إلى أن طواف الإفاضة فرض وركن لا يتمّ الحجّ إلّابه بالاتفاق؛ لقوله تعالى:

وليطوّفوا بالبيت العتيق (5).

يقول الرازي حول هذه الآية في تفسيره الكبير: إنّ المراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة (6). وهو ما عليه القرطبي كما في أحكامه حيث يقول: هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحجّ (7)، وقد نفى الطبري في تفسيره الخلاف فيه كما ذكرناه آنفاً (8).

وقد نفى الجصاص في أحكامه أن يكون الطواف المذكور في الآية غير طواف الحج: وليطوفوا بالبيت العتيق فالطواف المذكور هو طواف الحج لا غيره وهو طواف ركن لا واجب فقط يبطل الحج بتركه بنصّ هذه الآية، ولا يمكن الاستناد إليها على وجوب الأطوفة الأخرى عند الفريقين، فيبقى الطواف الواجب بنص القرآن الكريم هو طواف الحج الذي


1- 1 التفسير المنير. الدكتور الزحيلي 17: 197.
2- 2 التفسير المنير. للدكتور الزحيلي 17: 202.
3- 3 انظر تفسير البحر المحيط لابن حيّان الأندلسي 6: 339.
4- 4 التفسير المنير. للدكتور الزحيلي 17: 203.
5- 5 التفسير المنير 17: 203.
6- 6 التفسير الكبير للرازي. الآية.
7- 7 أحكام القرآن للقرطبي في تفسير الآية.
8- 8 تفسير الطبري، الآية.

ص: 248

يسمّى طواف الزيارة أو طواف الإفاضة أو ..

ثمّ إنّ بعد أعمال يوم النحر في منى، لا طواف واجب يكتمل به الحج إلّا طواف الحج هذا المذكور في الآية.

كما راح يذكر: أنّ هناك من صرف هذه الآية إلى طواف آخر فبعد أن يذكر قول الحسن إنّه قال: طواف الزيارة، وقول مجاهد: إنّه الطواف الواجب، فإن قيل: يحتمل أن يريد به طواف القدوم الذي فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأصحابه حين قدموا مكة وحلّوا به من إحرام الحج وجعلوه عمرةً إلّارسول اللَّه صلى الله عليه و آله فإنّه كان قد ساق الهدي فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته.

وهنا يذكر ردوداً على هذا فيقول: لا يجوز أن يكون المراد به طواف القدوم من وجوه:

الأوّل: أنّه مأمور به عقيب الذبح، وذبح الهدي إنّما يكون يوم النحر؛ لأنّه قال: ويذكروا اسم اللَّه ... وليطوّفوا بالبيت العتيق (1)

.

وحقيقة ثمّ للترتيب والتراخي وطواف القدوم مفعول قبل يوم النحر، فثبت أنّه لم يُرد به طواف القدوم.

الثاني: أنّ قوله: وليطوّفوا هو أمر والأمر على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب. وطواف القدوم غير واجب، وفي صرف المعنى إليه صرف للكلام عن حقيقته.

الثالث: أنّه لو كان المراد الطواف الذي أمر به أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى قدموا مكة لكان منسوخاً؛ لأنّ ذلك الطواف إنّما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى: وأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه (2).

وبما روى ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال:

قلت: يا رسول اللَّه أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس كافة؟ قال:

«بل لكم خاصّة» وروي عن عمر وعثمان وأبي ذر وغيرهم مثل ذلك.

وقال ابن عبّاس: لا يطوف الحاج للقدوم وإنّه إن طاف قبل عرفة صارت حجّته عمرة. وكان يحتجّ بقوله


1- 1 سورة الحجّ: 28 و 29.
2- 2 سورة البقرة: 196.

ص: 249

تعالى: ثمّ محلّها إلى البيت العتيق فذهب إلى أنّه يحلّ بالطواف قبله قبل عرفة أو بعده، فكان ابن عبّاس يذهب إلى أنّ هذا الحكم باقٍ لم ينسخ وإن فسخ الحجّ قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة فيصير حجّه عمرة. وقد ثبت بظاهر قوله تعالى:

وأتمّوا الحجّ والعمرة للَّه نسخه.

وهذا معنى ما أراده عمر بن الخطّاب بقوله: «متعتان كانتا على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما؛ متعة النساء ومتعة الحجّ» وذهب فيه إلى ظاهر هذه الآية وإلى ما علمه من توقيف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إيّاهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصّة؛ وإذا ثبت أنّ ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى:

وليطوّفوا ... عليه فثبت بما وصفنا أنّ المراد طواف الزيارة (1).

وفي تفسير الوسيط يقول النيسابوري: وليطوفوا ... يعني الطواف الواجب ويسمّى طواف الإفاضة لأنّه يكون بعد الإفاضة (2).

وقال ابن عربي في أحكامه: هذا هو طواف الزيارة وهو طواف الإفاضة وهو ركن الحجّ باتفاق، وبه يتمّ الحجّ؛ لأنّه أحد أعماله ونهاية أركانه (3).

الشيعة الإماميّة:

في هذه المسألة لهم أقوال ثلاثة:

الأوّل: يذهب إلى أنّ المراد بالآية الطواف الواجب سواء أكان طواف الحجّ أو طواف عمرة التمتّع أو العمرة المفردة.

الثاني: يذهب إلى أنّ المراد بالآية الطواف الواجب وطواف النساء.

الثالث: يذهب إلى أن المراد بالآية هو طواف النساء وهو ما سنجده فيما يأتي.

الرابع: يذهب إلى أكثر من هذا وذاك ليخلص إلى أنّ الآية تدلّ على الأطوفة الواجبة والمستحبّة.

أمّا ما قاله الشيخ الطوسي في تبيانه: وليطوّفوا بالبيت العتيق أمرٌ من اللَّه تعالى بالطواف بالبيت (4).


1- 1 أحكام الجصاص 3: 354.
2- 2 الوسيط في تفسير القرآن المجيد، الواحدي النيسابوري 3: 268 في تفسير الآية 29 الحجّ.
3- 3 أحكام القرآن لابن عربي 3: 285.
4- 4 تفسير التبيان الآية 29 الحجّ.

ص: 250

دون أن يذكر نوع هذا الطواف، إلّا أنّه واضح من كلمته «أمرٌ» أنّه يقصد الطواف الواجب دون المستحبّ وإن لم يبيّن نوع الطواف الواجب..

أمّا السيّد شبّر في تفسيره فيذهب إلى أن وليطوّفوا أعمّ من كونها تختص بالطواف الواجب طواف الحجّ فيقول: وليطوّفوا طواف الزيارة والنساء أو الوداع أو ما يعمّها (1).

وهو ما ذهب إليه أيضاً صاحب كنز العرفان حيث يقول: وليطوّفوا بالبيت العتيق صريح في الأمر بالطواف بالبيت الدال على الوجوب اتّفاقاً، لكنّه مجمل علم بيانه من الرسول صلى الله عليه و آله لقوله صلى الله عليه و آله: «خذوا عنّي مناسككم» (2) فيكون شاملًا لطواف الزيارة والنساء وغيرهما من طواف العمرة فلا وجه [حينئذٍ] لحمله على طواف الزيارة لا غير أو النساء لا غير (3).

واستظهر صاحب زبدة البيان (طواف الزيارة): ويجب طواف البيت الذي في المسجد الحرام وهو القبلة ...

وقيل: المراد طواف الزيارة وقيل طواف النساء ويحتملهما معاً، وقيل:

طواف الوداع، ويحتمل الكلّ مجازاً، والظاهر الأوّل. حيث كان الكلام في الحجّ، وأنّه ذكره بعد التحليل والذبح، ويمكن فهم وجوب الترتيب في الجملة بين مناسك منى (4).

ولعلّ مستندهم ما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد .. قال: قال أبو الحسن عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ:

وليطوّفوا بالبيت العتيق قال:

«طواف الفريضة طواف النساء» باعتبارهما طوافين واجبين بعد مناسك منى.

أو جمعاً بين الروايات التي تفسّر الطواف الوارد في الآية بطواف الفريضة وبين التي تفسّره بطواف النساء.

فعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا عليه السلام قال: سألته عن قول اللَّه تبارك وتعالى: ثمّ ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم قال: تقليم الأظفار،


1- 1 تفسير القرآن الكريم، الآية 29 الحج.
2- 2 سنن أبي داود 1: 456 ولفظه: لتأخذوا مناسككم فإنّي لا أدري لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي هذه.
3- 3 انظر كنز العرفان في فقه القرآن للسيوري، كتاب الحج 1: 270.
4- 4 زبدة البيان للمقدس الأردبيلي، كتاب الحج: 288.

ص: 251

وطرح الوسخ عنك، والخروج من الاحرام وليطوفوا بالبيت العتيق طواف الفريضة (1).

فيما روى حمّاد بن عثمان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ:

وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق قال: طواف النساء (2).

في حين كان الطبرسي في تفسيره للآية أكثر تفصيلًا فقد قال: هذا أمر وظاهره يقتضي الوجوب، وقيل: أراد به طواف الزيارة؛ لأنّه من أركان أفعال الحج بلا خلاف. وقيل: إنّه طواف الصدر (أي طواف الرجوع من منى) لأنّه أمر به عقيب المناسك كلّها.

وذكر في ذيل كلامه هذا أنّه: وروى أصحابنا أنّ المراد به طواف النساء الذي يستباح به وصل النساء وذلك بعد طواف الزيارة، فإنّه إذا طاف طواف الزيارة حلّ له كلّ شي ء إلّا النساء، فإذا طاف طواف النساء حلّت له النساء (3).

بينما راح جمع من الفقهاء- واستناداً إلى طائفة من الروايات التي تفسّر الطواف الوارد في الآية المذكورة، بأنّه طواف النساء- يصرّحون بأنّ طواف النساء هو مراد الآية والذي هو واجب في الحجّ بأنواعه وفي العمرة المفردة وبدونه لا تحلّ النساء لأزواجهنّ ولا يحلّ الرجال لزوجاتهم يقول في الجواهر:

«.. وكذاتحرم عليه النساء لمساً بشهوة وعقداً لنفسه أو لغيره.

بلا خلاف بل الاجماع بقسميه عليه (4).

الروايات:

فعن حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ:

وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق قال: «طواف النساء» (5).

وعن حمّاد الناب قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ:

وليطوفوا بالبيت العتيق قال: «هو طواف النساء» (6).

واتخذ فقهاء الإمامية هذه الآية وتفسيرها المذكور في الروايات دليلًا على وجوب طواف النساء إضافةً إلى روايات أخرى منها:


1- 1 الوسائل 13: 297 باب 1 وجوب طواف الحج والعمرة ح 13.
2- 2 الوسائل 13: 299 باب 2 وجوب طواف النساء ح 5.
3- 3 مجمع البيان 7: 130.
4- 4 الجواهر 18: 289 وغيره.
5- 5 الوسائل 13، الباب 2، من أبواب الطواف، ح 2.
6- 6 الوسائل: 13: 299، ح 4.

ص: 252

عن معاوية بن عمّار في الصحيح أو الحسن عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«القارن لا يكون إلّابسياق الهدي، وعليه طواف بالبيت وركعتان عند مقام إبراهيم وسعي بين الصفا والمروة، وطواف بعد الحجّ وهو طواف النساء» (1).

وعن أحمد بن محمد، قال: قال أبو الحسن عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ:

وليطوفوا بالبيت العتيق قال:

طواف الفريضة طواف النساء (2).

صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «على المتمتع بالعمرة إلى الحج ثلاثة أطواف بالبيت، وسعيان بين الصفا والمروة، فعليه إذا قدم مكة طواف البيت وركعتان عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعي بين الصفا والمروة، ثمّ يقصّر وقد أحل، هذا للعمرة، وعليه للحج طوافان وسعي بين الصفا والمروة ويصلّي عند كلّ طواف بالبيت ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام» (3).

يقول هنا صاحب الحدائق:

قوله عليه السلام: «وعليه للحج طوافان» المراد طواف الزيارة وطواف النساء (4).

وما رواه في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «المتمتع عليه ثلاثة أطواف بالبيت وطوافان بين الصفا والمروة» (5).

وعن منصور بن حازم في الصحيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«على المتمتع بالعمرة إلى الحج ثلاثة أطواف بالبيت، ويصلّي لكل طواف ركعتين، وسعيان بين الصفا والمروة» (6).

وهناك رواية فسّرت طواف الزيارة بطواف النساء، ففي الصحيح عن معاوية بن عمّار- كما رواه الشيخ في التهذيب- عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه قال: «... وأما المفرد للحج فعليه طواف بالبيت، وركعتان عند مقام إبراهيم وسعي بين الصفا والمروة، وطواف الزيارة وهو طواف النساء، ...» (7).

هذابالنسبة لما ورد من نصوص.


1- 1 الوسائل 13: الباب 2، من أبواب أقسام الحجّ، ح 12.
2- 2 الوسائل 13، من أبواب الطواف، ح 4.
3- 3 الوسائل 11: الباب 2، من أبواب أقسام الحج، ح 8.
4- 4 الحدائق 17: 282.
5- 5 الوسائل 11: الباب 2، من أبواب أقسام الحجّ، ح 11.
6- 6 الوسائل 11: الباب 2، من أبواب أقسام الحجّ، ح 2.
7- 7 الوسائل 11: باب 2، من أبواب أقسام الحجّ: 212- 2137 ح 2.

ص: 253

وأمّا أقوال فقهاء الإمامية:

يقول الشيخ الطوسي: دليلنا على وجوب طواف النساء: إجماع الفرقة، وطريقة الاحتياط (1).

ويقول صاحب الحدائق:

ولا خلاف بين أصحابنا في وجوبه على جميع أفراد الحاج من الرجال والنساء والصبيان والخصيان، وادّعى عليه الإجماع في المنتهى ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن علي بن يقطين قال:

سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخصيان والمرأة الكبيرة، أعليهم طواف النساء؟ قال: «نعم عليهم الطواف كلهم».

فيما يقول صاحب الجواهر بلا خلاف معتدّ به أجده فيه بل عن المنتهى [هذا الطواف المسمّى بطواف النساء فرض واجب على الرجال والنساء والخصيان من البالغة وغيرهم، ذهب إليه علماؤنا أجمع، وأطبق الجمهور على أنّه ليس بواجب ] وفي التذكرة الإجماع عليه في الجملة (2)ويدل عليه مضافاً إلى الأصل وإطلاق قوله تعالى:

فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [والرفث هو الجماع ] وما دلّ على حرمة الرجال عليها بالاحرام.

وقاعدة الاشتراك إلّافيما استثني، ذيل حديث إسحاق بن عمّار: «... ولا تحلّ لهم النساء حتى يرجع فيطوف بالبيت اسبوعاً آخر بعدما سعى بين الصفا والمروة وذلك على النساء والرجال واجب».

وقال صاحب براهين الحج:

أجمع الأصحاب على وجوب طواف النساء في الحج والعمرة المفردة ... (3) أمّا في مهذب الأحكام فيقول:

طواف النساء واجب في الحج بجميع أنواعه للإجماع والنصوص المستفيضة .. (4).

فالمسلّم به عند فقهاء الإماميّة هو وجوب هذا الطواف وعدم كونه ركناً من أركان الفريضة..

وتبقى النصوص الواردة بهذا الخصوص هي أقوى الأدلة لوضوحها واستفاضتها.


1- 1 انظر الخلاف ومختلف الشيعة، الحجّ، الطواف.
2- 2 الجواهر 19: 410.
3- 3 براهين الحج للكاشاني 4: 122.
4- 4 مهذب الأحكام للسبزواري 14: 27.

ص: 254

طواف النساء والعمرة المفردة والمتمتّع بها:

وطواف النساء واجب في العمرة المفردة كما هو واجب في الحج، وليس بواجب في العمرة المتمتع بها إلى الحج، التي يتحلّل فيها الحاج من إحرامه وتروكه بمجرّد التقصير.

فالمشهور بين فقهاء الإمامية وتوصف بأنّها شهرة عظيمة أنّه واجب في العمرة المفردة، كما أن المشهور بينهم عدم وجوبه في العمرة المتمتع بها إلى الحج، فيما قال السيّد الخوئي: لا يجب طواف النساء في عمرة التمتّع، ولا بأس بالإتيان به رجاءً. وقد نقل شيخنا الشهيد وجوبه عن بعض العلماء (1). فيقول في التذكرة: «هذا الطواف واجب في الحج والعمرة المبتولة عند علمائنا أجمع».

الروايات:

فعن إسماعيل بن رباح، قال:

سألت أبا الحسن عليه السلام عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟ قال: نعم (2).

وعن محمد بن عيسى، قال: كتب أبو القاسم مخلّد بن موسى الرازي إلى الرجل عليه السلام يسأله عن العمرة المبتولة، هل على صاحبها طواف النساء، والعمرة التي يتمتع بها إلى الحج؟

فكتب: أمّا العمرة المبتولة فعلى صاحبها طواف النساء، وأمّا التي يتمتّع بها إلى الحجّ فليس على صاحبها طواف النساء (3) وغيرها (4).

في حين ورد عن أبي خالد مولى علي بن يقطين أنه قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟ قال عليه السلام: ليس عليه طواف النساء (5).

وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن عدّة من أصحابنا، عن محمد بن عبد الحميد مثله، إلّاأنه قال:

عن مفرد الحج.

أقول: والقول ما زال لصاحب الوسائل: حمله الشيخ على من أفرد العمرة في أشهر الحج، ثمّ أراد أن يجعلها عمرة التمتّع لما [جاء في الأحاديث 12، 2، 5، 8 من أحاديث


1- 1 مناسك الحجّ للسيّد الخوئي: 154، المسألة 357.
2- 2 الوسائل الباب 82 من أبواب وجوب الطواف: 443 ح 1، 8.
3- 3 المصدر السابق.
4- 4 انظر الوسائل 13 الباب 82.
5- 5 الوسائل 13 باب 82: 445.

ص: 255

الباب 82 باب وجوب طواف النساء في الحج مطلقاً، وفي العمرة المفردة دون عمرة التمتع: 442- 445] ويحتمل الحمل على الانكار، وعلى التقية (1).

فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة وجوبه فيها، بل لم يعرف الخلاف إلّاعن الجعفي الذي نسب إليه عدم وجوبها فيها (2)، مستفيداً من الخبر الوارد عن أبي خالد علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألت أباالحسن عليه السلام عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟ قال: ليس عليه طواف النساء (3).

ومرسل يونس: ليس طواف النساء إلّاعلى الحاجّ.

وفي صحيح معاوية، قال الصادق عليه السلام: إذا دخل المعتمر مكة من غير تمتع وطاف بالكعبة وصلّى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام وسعى بين الصفا والمروة فليلحق بأهله إن شاء» (4).

وغيرها من النصوص وهي صريحة أو ظاهرة في عدم الوجوب؛ إلّا أن عدم وجوب طواف النساء في العمرة المفردة لا يثبت بها، لأنّها تعارض الاخرى التي عليها مشهور الفقهاء ولأنّهم أعرضوا عنها، ولموافقتها للعامة، كما أن الجمع بينها وبين النصوص الموجبة للطواف غير ممكن لوضوح التعارض بينها ..

فالرواية القائلة: ليس على صاحبها طواف النساء والاخرى القائلة: في مفرد العمرة على صاحبها طواف النساء واضحة التعارض بنظر العرف. فإذن الجمع بينها لا يمكن لأنّ التعارض مستقرّ فلابدّ من إعمال تلك المرجحات وبالتالي يترجّح العمل بالروايات الدالّة على وجوب طواف النساء في العمرة المفردة (5).

هذا وأن طواف النساء وإن كان واجباً إلّاانّه ليس ركناً في الحج وهو ما عليه فقهاء الإمامية ومسلّم بينهم، فلو أخلّ به الحاج أو تعمّد تركه لا يوجب بطلان الحج. نعم حلية النساء لا تتمّ إلّا بأدائه، وإن كان هذا لا يخلو من كلام بينهم، كما سيأتي.


1- 1 الوسائل: 13 باب 82: 445 ذيل خبر أبي خالد مولى علي بن يقطين.
2- 2 الجواهر 9: 406.
3- 3 الوسائل 13 باب 82: 445 ح 9.
4- 4 الوسائل باب 9 من أبواب العمرة ح 2.
5- 5 السيد السبزواري، نقاش لما ورد من الروايات بهذا الخصوص في مهذب الأحكام 14: 29، وغيره.

ص: 256

التحلّل:

فتروك الإحرام والتي منها النساء يتحلّل منها الحاج في الأوقات أو الأماكن التالية:

الأوّل: بعد أن يحلق أو يقصّر، يحل له كلّ شي ء حرّم عليه إلّاالطيب والنساء. والصيد ظاهراً؛ وإن حرم لاحترام الحرم باعتبار أن الصيد المحرم بالاحرام أو للحرم...

الثاني: بعد طواف الحج الذي يسمّى طواف الزيارة وركعتيه وعن بعضهم بعد السعي بين الصفا والمروة، فيحلّ له الطيب.

الثالث: بعد أدائه لطواف النساء وركعتيه، فتحلّ له النساء.

فعن معاوية بن عمّار في صحيحته عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إذا ذبح الرجل وحلق (أي: يوم النحر) فقد أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه، إلّا النساءوالطيب. فإذا أراد البيت وطاف وسعى بين الصفا والمروة فقد أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه إلّاالنساء، وإذا طاف طواف النساء فقد أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه إلّاالصيد.

وعن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: لولا ما مَنَّ اللَّه عزّوجلّ على الناس من طواف النساء؛ لرجع الرجل إلى أهله وليس يحلّ له أهله.

دائرة الحلية:

وقد اختلف في سعة دائرة هذه الحلية المتوقّفة على أداء هذا الطواف بعد السعي، تبعاً لاختلاف ما ورد فيها من روايات على ثلاثة وجوه: ثالثها الاحتياط وهي:

الأوّل: حلية الجماع؛ لأنّ الاستمتاعات والامور الأخرى وقع إحلالها قبل طواف النساء أي بعد الحلق والتقصير في مناسك منى.

ويستفاد هذا الوجه من صحيحة الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن رجل نسي أن يزور البيت حتّى أصبح، فقال: ربما أخرته حتى تذهب أيام التشريق، ولكن لا تقربوا النساء والطيب (1).

إذن فالذي نهت عنه هذه الرواية


1- 1 الوسائل: أبواب زيارة البيت، الباب الأوّل ح 2.

ص: 257

هو مقاربة النساء أي الجماع بدليل ولا تقربوهنّ حتّى يطهرنَ.. أي بالجماع (1).

الثاني: حلية الجماع والاستمتاعات الأخرى كالتقبيل وهو ما ورد في صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن رجل قبّل امرأته وقد طاف طواف النساء ولم تطف هي، قال: عليه دم يهريقه من عنده (2).

مع أنّه لم تصرّح الرواية بالحرمة إلّا أنه واستناداً إلى الملازمة العرفية يمكن القول بالحرمة المستكشفة من وجوب الكفارة على هذا الفعل. إلّاأنّ صاحب الجواهر وكما حكى ذكر في ذيل هذه الرواية التي يكون سندها صحيحاً معتبراً أنه لم يحضرني أحد عمل به على جهة الوجوب فلا بأس بحمله على ضرب من الندب؛ لأن الغرض كونه قد أحلّ فلا شي ء عليه إلّا الإثم لو كان (3).

الثالث: وهو أنّ حلية النساء وكلّ ما يتعلّق بها من عقد وتقبيل ولمس يتوقّف على أداء طواف النساء.

يقول السيّد الإمام: «يجب الاحتياط عن مطلق التلذذ» (4).

وجوب طواف النساء على الجميع:

لا فرق في وجوب هذا الطواف بين الرجال والنساء والصبيان والخناثي والخصيان.

فهو لا يختصّ بالرجال دون النساء ولمقتضى إطلاق الآية فلا رفث... التي لم تفرق بين الرجال والنساء وغيرهم في التحريم، وللإجماع وللروايات التي تصرّح بأنّ هذا الطواف يجب على النساء أيضاً، ولأن الرفث المذكور في الآية فلا رفث ... هو الجماع كما ورد عن ابن مسعود وقتادة ... وهو الجماع والتعريض له بمداعبة أو مواعدة عن الحسن.

يقول صاحب مجمع البيان في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم: الرفث الجماع هاهنا بلا خلاف.


1- 1 سورة البقرة: 222. وانظر مجمع البيان للطبرسي.
2- 2 الوسائل أبواب كفارات الاستمتاع الباب 18 ح 2.
3- 3 تفصيل الشريعة 5: 381.
4- 4 مناسك الحجّ: 421، مسألة 1205.

ص: 258

وفي الرواية... قال: الرفث:

جماع النساء... (1) وقد جاء في المختار أنّ الرفث:

الجماع، وهو أيضاً الفحش من القول إلّا أنّه جاء في المعجم الوسيط: الرفث كلمة جامعة لما يريد الرجل من المرأة في سبيل الاستمتاع بها من غير كناية (2).

وبالتالي فإنّ الجماع والمجامعة صيغة مفاعلة تحتاج إلى الطرفين، فلابدّ من أن التحليل يشمل هذين الطرفين.

ورواية عبداللَّه بن صالح عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: المرأة المتمتعة إذا قدمت مكة ... ثمّ خرجت للحج إلى منى، فإذا قضت المناسك .. ثمّ طافت طواف الحج. ثمّ خرجت فسعت، فإذا فعلت ذلك فقد أحلّت من كلّ شي ء يحلّ منه المحرم إلّافراش زوجها، فإذا طافت طوافاً آخر، حلّ لها فراش زوجها (3).

وعن الحسين بن علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخصيان والمرأة الكبيرة، أعليهم طواف النساء؟ قال: نعم عليهم الطواف كلّهم (4).

ويقول في مهذب الأحكام: تحرم النساء على الصبيان بعد البلوغ إن لم يأتوا بطواف النساء في الحجّ قبله؛ لعدم التكليف عليهم قبل البلوغ وثبوته بعده، ويبطل العقد من الولي لهم قبل البلوغ أيضاً .. فيكون طواف النساء واجباً نفسياً حكمته حلية النساء لا أن يكون واجباً غيرياً يدور وجوبه مدار إمكان مباشرة النساء فعلًا (5).

فرواية أبان بن تغلب قال:

سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «الصبي إذا حجّ به فقد قضى حجّة الإسلام حتى يكبر» فيكفي في هذا قصد الولي ومساعدته فهو نظير تزويج الولي إيّاه. فيستفيد الفقهاء من هذا أن إطلاق حجّة الإسلام عليه ظاهر بل صريح في كونه مشروعاً وصحيحاً وإن لم يكن المراد الحجّة الواجبة، وهذا يتضمّن أنّه إذا أحرم الصبي مميزاً كان


1- 1 وسائل الشيعة 13: 115.
2- 2 المختار من صحاح اللغة: رفث، المعجم الوسيط: 358.
3- 3 الوسائل، أبواب الطواف، الباب الرابع والثمانون ح 1.
4- 4 الوسائل، أبواب الطواف، الباب 2، ح 1.
5- 5 مهذب الأحكام للسيد السبزواري 14: 28.

ص: 259

أو غير مميّز فإنّه محرم واقعاً ولابدّ من أن يحصل التحلّل ممّا حرّم عليه. ولذا يترتّب عليه الآثار مثل وجوب اتقاء الولي عليه من المحرمات، ويترتّب عليه وجوب الكفارة على أبيه، وهذا واضح في حديث زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: إذا حجّ الرجل بابنه وهو صغير فإنّه يأمره أن يلبّي ويفرض الحج، فإن لم يخشَ أن يلبي لبّوا عنه ويطاف به ويصلّى عنه. قلت:

ليس لهم ما يذبحون. قال: يذبح عن الصغار ويصوم الكبار، ويقضى عليهم ما يتقى على المحرم من الثياب والطيب، وإن قتل صيداً فعلى أبيه (1).

فإنّ وجوب الاتقاء وثبوت الكفارات على أبيه واضح وظاهر في صحّة حجّه وشرعيته وكذا عمرته.

كما يترتّب على هذا الأجر والثواب، فعن عبداللَّه بن سنان عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: مرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم برويثة وهو حاج، فقامت إليه امرأة ومعها صبيّ لها فقالت: يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أيحج عن مثل هذا؟ قال: نعم ولك أجره (2).

فترتب الأجر على أداء عمل أو ترتيب الكفارة على تركه دليل على مشروعيّته.

فلابدّ من أن يطوف به طواف النساء حتّى يصحّ تزويجه بعد بلوغه، أو يأتي بطواف النساء بعد بلوغه؛ لأن طواف النساء لا تشترط فيه الفورية.

إذن فطواف النساء مع وجوبه إلّا أنّه ليس ركناً من أركان فريضة الحج، بل ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه ليس بجزء من الحج ولا شرطاً متأخّراً عنه. بل هو مأمور به بأمر وجوبي مستقل وأن يؤتى به في وقت مخصوص بعد الحج، وعنوان البعديّة كما في رواية ابن عمّار... «وطواف بعد الحجّ وهو طواف النساء» (3) لا يتحقّق مع الجزئيّة. فمن تركه عمداً أو سهواً فلا يبطل حجّه بل حجّه صحيح، ولكن لا تحلّ له النساء حتّى يأتي به مع إمكان الإتيان به وإلّا فله أن يستنيب للروايات، وكيف لا تصحّ النيابة فيه وهو لم يكن بأهمية طواف


1- 1 الوسائل، الباب 17 من أبواب أقسام الحج ح 5.
2- 2 الوسائل، الباب 20 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
3- 3 الوسائل، الباب الثاني من أبواب أقسام الحجّ، ح 6، 12، 1.

ص: 260

الزيارة الذي تجوز فيه النيابة؟

كما أنّه ليس واجباً غيرياً يدور وجوبه مدار إمكان مباشرة النساء فعلًا بل هو واجب نفسي حكمته حلّية النساء بل لا تتحقق إلّابه (1).

فالطواف إذاً إما مباشرة من قبل المكلّف فإن لم يستطع يطاف به كما هو الحال مع الطفل غير المميّز أو مع السرير .. فإن لم يستطع من الأمرين المذكورين ينتقل عمله إلى المرحلة الثالثة وهو أن يطاف عنه، أي يأتي دور الاستنابة كما هو حال الحائض أو عدم القدرة على الرجوع إلى مكة لأداء الطواف تداركاً لما تركه نسياناً أو سهواً أو تعمّداً (2) ..

ثمّ إنّ الذي يدلّ على الجزئيّة إضافةً إلى البَعديّة «وطوافٌ بعد الحجّ وهو طواف النساء» الرواية... امرأة حاضت ولم تطف طواف النساء...

لا يقيم عليها جمّالها ولا تستطيع أن تتخلّف عن أصحابها، تمضي وقد تمّ حجّها.

فيما وردت غيرها تدلّ على الجزئيّة، مثل رواية منصور بن حازم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: على المتمتّع بالعمرة إلى الحجّ ثلاثة أطواف بالبيت ويصلّي لكلّ طواف ركعتين وسعيان بين الصفا والمروة (3).

ورواية ابن عمّار عن أبي عبداللَّه... وعليه للحجّ طوافان وسعي بين الصفا والمروة ويصلّي عند كلّ طواف بالبيت ركعتين عند مقام إبراهيم (4).

وهنا لابدّ من وقفة قصيرة:

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ (5)

.

1- فالحجّ أشهر معلومة وهي شوال، ذوالقعدة، العشرة الأولى من ذي الحجّة وعلى قول هو ذوالحجّة كلّه، لا يقع الإحرام للحجّ إلّافي هذه الأشهر...

ففي مجمع البيان: وأشهر الحجّ عندنا شوّال وذوالقعدة وعشر من ذي الحجّة على ما روي عن أبي جعفر وبه قال ابن عباس ومجاهد والحسن


1- 1 مهذّب الأحكام 14: 28.
2- 2 انظر في هذا تفصيل الشريعة، ومهذب الأحكام، وفقه الصادق عليه السلام، وبراهين الحجّ.
3- 3 الوسائل، الباب الثاني من أبواب أقسام الحجّ، ح 9.
4- 4 الوسائل، الباب الثاني من أبواب أقسام الحجّ، ح 8.
5- 5 سورة البقرة: 197.

ص: 261

وغيرهم، وقيل هي شوال وذوالقعدة وذوالحجّة عن عطاء والربيع وطاوس وروي ذلك في أخبارنا، وإنّما صارت هذه أشهر الحجّ لأنّه لا يصحّ الإحرام بالحجّ إلّافيها بلا خلاف، وعندنا لا يصح أيضاً الإحرام بالعمرة التي يتمتّع بها إلى الحجّ إلّابها.

ومن قال: إنّ جميع ذي الحجّة من أشهر الحج، قال: لأنّه يصحّ أن يقع فيها بعض أفعال الحجّ مثل صوم الأيام الثلاثة وذبح الهدي... (1) وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى : الحجّ أشهر معلومات... قال:

الحجّ أشهر معلومات شوال وذوالقعدة وذوالحجّة ليس لأحد أن يحجّ فيما سواهنّ.

2- والذي أوجب على نفسه الحجّ أي من أحرم فيهن بالحجّ عليه أن يلتزم بتروك الإحرام هذا كما ذكرت مفصلةً من قبل الفقهاء في رسائلهم وكتبهم الفقهيّة...

3- كلّ أفعال الحجّ تقع في هذه الأشهر وبأوقاتها المخصوصة، إلّاأنّ للحاجّ أن يؤخّر ذبح الهدي وصوم الأيام الثلاثة على أن لا يتعدى التأخير نهاية ذي الحجّة، باستثناء السبعة أيام فيصومها الحاجّ عند رجوعه إلى أهله فيما إذا لم يكن من أهل مكّة. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْىِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [أي في أشهر الحجّ الثلاثة لا في غيرها] وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (2)

و ماعدا ذلك فالذي يبدو أنّه لا يجوز للحاج أن يتعمّد تأخير عمل من أعمال الحجّ ومناسكه ومنها طواف النساء إن ثبتت جزئيته حتّى وإن لم يكن ركناً منه. كما عليه رواية ابن حازم ورواية عمار المتقدمتان، وأنّه يجب قضاؤه.

وهذه الجزئيّة تنسجم مع الاستدلال بالآية فلا رفث... الذي هو الجماع.

رابعاً: فلا رفث... الذي هو الجماع بدليل الآية الأخرى أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (3)


1- 1 مجمع البيان للطبرسي 1: 524، التبيان للطوسي 2: 162.
2- 2 سورة البقرة: 196.
3- 3 سورة البقرة: 187.

ص: 262

وما ورد في الرواية من أنّ الرفث الجماع وما عليه اللغة.

فالرفث الذي هو الجماع محرم بنصّ هذه الآية على من أحرم سواء كان إحرامه للحجّ أو للعمرة المفردة أو لعمرة التمتّع .. فهو إذن من تروك الإحرام وهو بالتالي يكون محدّداً كباقي التروك بوقت الحجّ وما دام المكلّف لم يتمّ الحجّ. كما في نصّ الآية... في الحجّ والذي أقصاه نهاية ذي الحجّة.

فالمذاهب الإسلاميّة الأربعة تذهب إلى أنّ التحلل يقع بعد طواف الزيارة أي طواف الحجّ فيجوز الجماع بعده.

وأمّا عند الإماميّة فيقع التحلل من حرمة الجماع بعد أداء الحاج رجلًا كان أو امرأة لطواف النساء.

فإذن الآية تحدد الممنوع ما دام الحجّ باقياً، فإذا انتهى الحجّ بطواف الزيارة فإنّ كلّ ما حرّم يتحلل منه الحاجّ إلّاالنساء عند الإمامية فقط، لأنّ هذا الأمر يحتاج إلى طواف آخر وهو طواف النساء، فإن قلنا: إنّ طواف النساء جزء من الحجّ فلابدّ من الإتيان به في أشهر الحجّ ولا يجوز تركه عمداً وعندئذ لا يتمّ الفراغ من الحجّ إلّابأدائه، وبالتالي يتلاءم هذا مع الاستدلال بالآية على المراد. وهو حرمة الجماع. وأمّا إذا قلنا: بأنّه ليس جزءاً من الحجّ والحجّ يتمّ بدونه..

فعندئذ من تعمد تركه فلا تحلّ له النساء وبالتالي يتمدد وقت التحريم إلى وقت قد يطول وقد يقصر خارج مدّة الحجّ المحدّدة قرآنياً، وعندئذ لا يمكن الاستدلال بالآية، لأنّ طواف النساء يكون بذلك خارجاً عن الحجّ وزمنه، وهو ما ذهب إليه بعض من الفقهاء مستفيداً من رواية «وطواف بعد الحجّ وهو طواف النساء» والبعدية هذه لا تنسجم مع الجزئية، في حين أنّ الآية الكريمة المذكورة الحجّ أشهر معلومات... مع ضمّ الروايات التي يظهر منها وبشكل واضح قد يصل إلى التصريح بأنّ طواف النساء جزء من مناسك الحجّ

ص: 263

وهي ليست قليلة، تصلح لأن تكون أقوى دليلًا من غيرها على جزئية هذا الطواف وأنّه منسك لا يجوز تركه تعمّداً أو تأخيره حتّى تنتهي مدّة الحجّ المحدّدة في الآية المذكورة.

ثمّ إنّ الروايات التي تدعو إلى جزئيّة هذا المنسك تنسجم مع الآية وبالتالي لا يقع تعارض وهو ما قد يبدو من الأخذ بالروايات الأخرى التي تدلّ على عدم الجزئية وبالتالي أليس من الأفضل إسقاطها وتركها خصوصاً مع وجود روايات أخرى قويّة سنداً ومتناً تدلّ على الجزئيّة؟

ونكتفي أخيراً بما انتهى إليه المحقق الداماد بعد أن يطرح السؤال التالي: هل يعتبر طواف النساء في حجّهن بالنسبة إلى حلّ الرجال لهن أم لا؟

يقول: قد يستدل لذلك بقوله تعالى : ولا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ حيث إنّ إطلاقها يدلّ على حرمة الرفث المفسّر بالجماع مادام الحجّ باقياً، ففي خلاله يحرم الرفث من دون التفاوت في ذلك بين الرجال والنساء.

ثمّ يقول: ولكن الاستدلال بها متوقّف على توقّف الفراغ من الحجّ على طواف النساء بحيث يكون من مناسكه، فما لم يؤت به لم يتمّ الحجّ، وأمّا إذا كان خارجاً عن الحجّ، فلا يكون الفراغ منه متوقفاً على إتيانه وإن فرض لزوم الإتيان به.

فيخلص إلى أنّ هذه الآية فلا رفث ولا فسوق... وحدها غير كافية في الاستدلال. نعم بانضمام ما يدلّ على أنّه من المناسك يتمّ نصاب البرهان.

ثمّ راح يقسم الروايات الواردة بخصوص هذا الطواف إلى ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى : ما يدلّ على توقّف حلية الرجال لهن على طواف النساء.

التي منها:... ثمّ طافت طوافاً للحجّ ثمّ خرجت فسعت فإذا طافت طوافاً آخر حلّ لها فراش زوجها (1).


1- 1 الوسائل، أبواب الطواف، الباب 84 ح 9.

ص: 264

الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ طواف النساء من المناسك وينقل رواية حسين بن علي بن يقطين.. نعم عليهم الطواف كلّهم. ورواية اسحاق ابن عمار... لا تحلّ لهم النساء حتّى يرجع فيطوف بالبيت اسبوعاً آخر بعد ما يسعى بين الصفا والمروة وذلك على النساء والرجال واجب..

ويستفيد من هاتين الروايتين أمرين:

الأوّل: أن حلية النساء متوقفة على هذا الطواف.

والثاني: كون طواف النساء بنفسه أيضاً من الواجبات الحجية...

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على قضاء طواف النساء، وينقل رواية معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن رجل نسي طواف النساء حتّى يرجع إلى أهله، قال عليه السلام:

لا تحلّ له النساء حتّى يزور البيت فإن هو مات فليقض عنه وليّه أو غيره مادام حيّاً فلا يصلح أن يقضى عنه وإن نسي الجمار فليسا بسواء أن الرمي سنة والطواف فريضة (1).

وظهورها في لزوم القضاء واضح فيكشف عن كونه من المناسك، لا انه ليس له الا تحليل النساء فمن شاء طاف ومن لم يشأ ترك، بل يجب على الكلّ الاتيان به. ويتلوها روايات ابن عمّار والحلبي (2) في لزوم القضاء على الولي بعد الموت.

ثمّ يقول: وممّا يترتّب على كونه من المناسك أنّه لولا اعتبار الولاء والتتابع فيها لحكم ببقاء الإحرام ولوازمه بحالها ما لم يأت بطواف النساء وإن طال الفصل. وأما على اعتبار التتابع فلعل ذلك الفصل مبطل لأصل الحجّ وليس ذلك إلّا لأنّه من اجزاء الحجّ (3).

أحكام أخرى :

هذا وأن طواف النساء يبقى بذمّة المكلّف إن تركه عصياناً أو لعذر ولم يأت به لا مباشرة ولا استنابة ثمّ وفق لحج آخر أو لعمرة مفردة فلا يسقط عنه ذلك الطواف أي طواف النساء وإن أتى بطواف النساء بالحج


1- 1 الوسائل، أبواب الطواف، الباب 52، ح 2.
2- 2 الوسائل، ابواب الطواف، الباب 58، ح 3 و 6 و 11.
3- 3 كتاب الحجّ. المحقّق الداماد 3: 375- 379.

ص: 265

الآخر أو العمرة الأخرى المفردة، فلا يسقط ما أتى به من طواف النساء طواف النساء السابق. وهل تحلّ عليه النساء بما أتى به من طواف النساء لاحقاً أو لا تحلّ إلّابالإتيان بما وجب عليه سابقاً؟

وهنا يجيب السيّد السبزواري في مهذب الأحكام عن ذلك بقوله:

وجهان: مقتضى الأصل هو الأخير (1) في حين ذهب السيّد الإمام إلى كفاية طواف نساء واحد إذا لم يطفه في العمرة المفردة وطاف طواف النساء في حجّ الإفراد، فأفتى سماحته رحمه الله على كفايته (2).

ومن أحكام هذا الطواف أنّه: لو نسي وترك الطواف الواجب من عمرة أو حجّ، أو طواف النساء، ورجع وجامع النساء، يجب عليه الهدي، ينحره أو يذبحه في مكة ..

الهوامش:


1- 1 مهذب الأحكام 14: 31.
2- 2 مناسك الحجّ للسيّد الإمام: 425 مسألة 1217.

تامّلات في آيات الحجّ

ص: 269

تأمّلات في آيات الحجّ

عبدالرحمن شرفي

قاضى المحكمة العليا- السودان

هذه رؤى لهموم ووحدة المسلمين وإسلامهم من خلال مناسك الحجّ وآياته ... والفارق يبدو جلياً بين الواقع والواجب- من هذه الرؤى .

مقدّمة

قال تعالى:

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ* ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ* وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِن

ص: 270

بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الُمخْبِتِينَ* الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِيِّ الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الُمحْسِنِينَ* إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ* (1).

هذه الآيات الكريمة، وما تضمّنتها من حرمات اللَّه وشعائره، ومناهج ابتغاء الغايات ... نتلمّس فيها بعض معاني الوحدة الإسلامية والتسليم للخالق .... وما يقتضيه هذا التسليم- والايمان- من مدافعة ومناصرة ... ونهدي هذه المعاني إلى كلّ من لبّى النداء الإبراهيمي من لدن أبي الأنبياء، إلى أن يورث اللَّه أرضه لعباده الصالحين ويرثها ومن عليها ....

هذه المعاني إلى كل من أجاب النداء وأقبل إلى اللَّه وهو يردِّد: (لبّيك اللهمّ لبّيك) ... أُقدّم هذه المعاني ذكرى .. فالغفلة قد استطالت واستطارت ... امّة الإسلام غافلة- غافلة، مغيّبة، ممزّقة، مذبوحة، مغتصبة. ... إنّها مؤامرة مدبَّرة من قبل النظام العالمي الجديد، شعارها: (إبادة المسلمين واستخراب ديارهم) ... إنّها بعض الحقيقة ونحن في غناء عن مزيد بيان، غير أنه ما زال هنالك رجاء .. الرجاء كائن، ما ظلّ الناس يهرعون رجالًا، وعلى كلّ ضامر، من كلّ فجٍّ عميق، ليذكروا اسم اللَّه


1- 1 الحج: 27- 41.

ص: 271

في أيّام معلومات ... يؤدّون فيها شعائر اللَّه، وليطّوَّفوا بالبيت العتيق ... الأمل كائن رغم الغفلة ...

إنّ الذين اتقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون (1).

... الغفلة ليست أبدية ... إنّها طائف تبدّدها التذكرة ... (المسلمون قادمون) ...

هتاف بدأ ينبعث من حناجر شبابنا المسلم ... شعاع الفجر الصادق بدأ يشقّ ثنايا ظلمات افق الجاهلية المعاصرة ... جاهلية النظام العالمي الجديد ... إنّها بدايات التذكرة ... الذين كانت أعينهم في غطاء عن منهج اللَّه ... سيتّخذون إلى ربّهم سبيلًا وتولد امّتنا من جديد، من بين أرحام ظلمات الجاهلية، ويصدق وعد اللَّه القائل:

ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون (2).

.. الأرض التي عاث فيها الكافرون فساداً، يرثها الصالحون من عباد اللَّه ...

الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وللَّه عاقبة الامور ... ومبدأ المنطلق من هنا ... من هذه الشعائر ... نستشعر ذلك من تسلسل هذه الآيات المبدوءة بالآذان الإبراهيمي ...

مروراً بصياغة الإنسان الرسالي- والامّة الرسالية-، وبيان الغايات ومناهج بلوغها ... بلوغ غاية الغايات وللَّه عاقبة الامور.

ينخرط الإنسان المسلم في الطريق ... بعد التمكين الرباني ... تسعد الإنسانية بمنهج الامّة الرسالية ... هذه معاني بعض أهداف الآيات القرآنية العظيمة حول شعائر اللَّه ... حجّ بيت اللَّه ... فإن أصابت الرؤية- والقراءة- فالحمد للَّه على نعمة الضياء ونعمة البصر ونعمة العلم الذي لم نؤت منه إلّاقليلًا ... وقل ربِّ زدني علماً ... وإن كانت الاخرى فنسأل اللَّه المغفرة وإقالة العثرات.

الحجّ رمز وحدة المسلمين

جاءت آية فرضية الحجّ من سورة آل عمران مقرونة مع وحدة


1- 1 الأعراف: 201.
2- 2 الأنبياء: 105.

ص: 272

المسلمين- مع بيان منهج الوحدة ودستورها- قال تعالى: وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ... ولمّا كان الحج يمثِّل مؤتمراً إسلامياً جامعاً سنوياً، فقد أراد اللَّه سبحانه وتعالى أن يبيِّن منهج الجماعة وهديها ... إنّه الاعتصام باللَّه، والإيمان الصادق به وتسليم الأمر والاستسلام للخالق وحده، ووصلًا لآيات فرضية الحج قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* (1)

.

انظروا يا أهل التلبية أنّ هذه الشعيرة التي تدافعتم إلى أدائها رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ من كلّ فجٍّ عميق، في وحدة ناطقة، لها منهج ... صحيح أنكم أحرمتم في الميقات ... استوى الأثرياء والفقراء، حين تجرّد الجميع من الثياب والرياش ...

وحين ارتدى الجميع هذا الزيّ الموحَّد ... المتواضع ... زالت كلّ الفوارق ... إنّها وحدة نادرة ناطقة بأروع بيان ... ولكن الأمر أعمق من وحدة شكلية ... الوحدة الشكلية الخالية من المنهج هي التي تجمعنا الآن ... هذا هو الواقع ... إنّها الحقيقة الأليمة ... كيف لا نتأمّل ... كيف لا نستشعر التكليف الحقيقي من وراء هذه الوحدة ...

الوحدة أصبحت استراتيجية العالم المعاصر ... عند تحقّق وحدتنا بالمنهج الإسلامي، نكون أقوى وأوثق، وتكون الجماعة الإسلامية صاحبة القيادة والريادة للبشرية ... منهج وحدة الجماعة الإسلامية، أن تعتصم الجماعة الإسلامية أن تلتزم وجوباً بالايمان والتقوى يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللَّه حقّ تقاته ... ...


1- 1 آل عمران: 101- 105.

ص: 273

منهج وحدة الجماعة الإسلامية أن تستسلم وجوباً إلى اللَّه وحده فلا تخضع ولا تركع إلّاللَّه ... ولا تستذل ولا تستعبد لمخلوق ... ولا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون ...

أليست هذه الآيات الكريمة هي ذات آيات فريضة الحجّ ...؟ إننا فقط نعيد قراءتها بتأمّل ... ونضيف في معرض التأمّل في ذات الآيات ... إن منهج وحدة الجماعة الإسلامية أن تتحرّر وجوباً ... تحرّر قرارها ... لا ترهن مصيرها وقرارها لأهل الشرّ وأهل الشرك- ولو كانوا من أهل الكتاب- أو كانوا من دونهم، ... اولئك لا يعرفون القسط والعدل في حقّ امّتنا ... ولا يريدون لها أن تبلغ حقّها وغاياتها ...

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَايَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ* هَا أَنْتُمْ أُوْلَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَايَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* (1).

... يا ترى كم من قلوب امّة الإسلام اتّخذت اليوم بطانة من دون المؤمنين؟ ...

رغم البغضاء التي تبدو من أفواههم ... وما تخفي صدورهم أكبر ... ها أنتم تحبّونهم ولا يحبّونكم ... ما أروع بيان القرآن وهدايته ... إن تمسسكم حسنة تسؤوهم ...!

تلك بعض تأمّلاتي في آيات فرضية الحجّ من سورة (آل عمران) ... فالحجّ رمز وحدة المسلمين .. وفي الإحرام تتجسّد الوحدة ... الكلّ يرتدي لوناً واحداً ..

غطاءً واحداً، وبنمط واحد ... الكلّ يردّد ذات الكلمات ... والكلّ في موقف واحد في عرفات ... الكلّ يفيض ... الكلّ يطوف حول البيت العتيق ... الكلّ يسعى ... وحدة في المبتدإ ووحدة في المنتهى ... وحدة في التوجّه ... الإله واحد ... الدين واحد ...


1- 1 آل عمران: 118- 120.

ص: 274

القبلة واحدة ... البيت واحد ... الجماعة واحدة، والفرد عضو في جسد جماعة موحّدة ... الوحدة رمزنا، والحجّ رمز وحدتنا ... غير أننا قد أضعنا المنهج .. ضللنا ..

لم يعد الحجّ سوى مكان إجتماع ... مؤتمر عام يجمع ذوي مشارب شتّى ... يجتمع المؤتمرون وقلوبهم شتّى، ويفترقون وقلوبهم شتّى ... يجتمعون في ذات الميقات والمكان، وبين قلوبهم بعد المشرقين ... ويتفرّقون بذات ما حملتها الصدور من إحن .. بذات روح العداء .. مفرّقون ممزّقون .. إنّها الفريضة الحاضرة الغائبة .. امّتنا واجهها التأمّل والعمل الفوري بكلّ أمر وجوبي ذكرناه آنفاً بعبارات- وجوباً ..

وجوباً .. وجوباً .. والأمل في إنقاذ الواجبات قريب بإذن اللَّه .. على الافق تلوح تباشير الإنقاذ بعد أن كنّا على شفا حفرة من النار .. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ... تتنزّل رحمة الإنقاذ بالتوجّه والعمل الخالصين .. وكما تنزلت قبل، تكون اخرى- بإذن اللَّه- فإنّ مع العسر يسراً ... إنّ مع العسر يسراً ... وتعود امّتنا إلى الوحدة على منهج القرآن .. وتتآلف قلوبنا بعد طول البغضاء والشحناء ..

وتعتصم امّتنا بحبل اللَّه جميعاً من جديد، ولا نعود بعدها إلى التفرّق والتمزّق أبداً بإذن اللَّه، فقد رأينا بأعيننا مدى بغض أعدائنا لنا .. في الأندلس .. في البلقان .. في الهند .. في روسيا .. في الغرب كلّه .. في الشرق .. في فلسطين وفي البوسنة والهرسك وما تخفي صدورهم أكبر ...

الحجّ إسلام وتسليم

قلنا قبل: إنّ من آيات فريضة الحجّ قوله تعالى: ولا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون .. إنّها دعوة إلى الإسلام المقرون بالتقوى ..

أيّها الحجّاج:

الآن .. فوراً .. يجب أن نرقى إلى درجة الإسلام، فلا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون ..

فقد تموت اللحظة .. الموت غيب وما تدري نفس بأي أرض تموت ... ولا تدري نفس في أي وقت تموت ... ويجب أن يكون إسلامنا شاملًا .. استسلامنا للَّه

ص: 275

الخالق وحده .. بالطاعة الكاملة واتباع المنهج .. والاحتكام إلى اللَّه فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً (1).

... ولنطمئن أننا قد عرجنا في مدارج الاستسلام للَّه، نراجع ذواتنا ونحن في الطواف حول البيت العتيق .. وفي السعي بين الصفا والمروة .. وفي رمي الجمرات ..

وقبل ذلك كلّه في الوقوف بعرفة .. كلّها ترمز إلى الاستسلام والتسليم .. الطاعة للَّه والخضوع له .. هذه الشعائر من ذا الذي يحيط بشي ء من حكمتها .. سوى اللَّه الخالق .. العليم الخبير .. ما علينا إلّاالترديد بإخلاص وصدق (لبّيك اللهمّ لبّيك) ..

وهذا هو التسليم الخالص للَّه سبحانه وتعالى .

ولقد وهنت عرى التسليم الواعي في الأنفس .. كثيرون لا خلوص لهم في التسليم والاستسلام للَّه. ينادون (لبّيك اللهم لبّيك) ولا تكاد الكلمات تنفذ إلى دواخلهم، لتزلزل كلّ علائق الشرك أو الهوى. المطلوب هو التوجّه الخالص إلى ربّ الخلائق .. إنّه وحده المعبود المحبوب المطاع .. بعض الملبّين يشركون المال أو السلطان .. بعضهم يشركون في الحبّ .. حبّ الذات أو المال أو الولد .. أو خلاف ذلك .. لا تسليم ولا إسلام لُاولئك الذين يشركون .. إفراد الخضوع للَّه والخلوص في التوجّه إلى الخالق المعبود هو ما يجب استحضاره مع كلّ تلبية .. وفي كلّ حين .. فلا خضوع لغير الخالق المعبود .. ذلك هو المقام الذي يجعل من الإنسان مخلوقاً ربّانياً ..

يدعو فيستجاب له .. يجاهد في سبيل اللَّه فيهديه اللَّه إلى سبيله .. سبل النصر والعزّة والتوكّل والرقي في مدارج الكمال .. والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبلنا (2)

... إنه الإنسان المستسلم إلى اللَّه- المتوكّل عليه- توكلًا إبراهيمياً .. أبو الأنبياء سلَّم أمره للَّه وهو يُلقى في النار .. فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين (3)

.. وبعد طول سؤال ودعاء رزقه اللَّه سيّدنا إسماعيل .. ربِّ هب لي من الصالحين* فبشّرناه بغلامٍ حليم (4).


1- 1 النساء: 65.
2- 2 العنكبوت: 69.
3- 3 الصافات: 98.
4- 4 الصافات: 100- 101.

ص: 276

... وجاء الاختبار الثاني: فلمّا بلغ معه السعي قال يا بني إنّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين (1)

... وضرب سيّدنا إبراهيم المثل في غاية الخضوع للَّه والاستسلام له .. ذهب ليذبح ابنه ... وتأهب ثم بدأ يشرع، خاضعاً للَّه فلمّا أسلما وتلّه للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين (2)

... ومن قبل تمثّل التوكّل الإبراهيمي في الاستسلام للَّه بترك هاجر وطفلها إسماعيل عليه السلام عند مقام البيت الحرام، حيث كان المكان صحراء جدباء، وقفل راجعاً وهو يستهل لربّه قائلًا- كما في سورة إبراهيم- ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون (3)

... تلك بعض صور الخضوع الخالدة .. يرمز إليها الحج، في التلبية وفي كلّ الشعائر .. وبإخلاص التوجّه للَّه والاستسلام له يرقى المسلم في مدارج الإسلام والإيمان .. وحين تبلغ الجماعة المسلمة وأفرادها، هذه المقامات، تسعد البشرية جمعاء .. هذه البشرية التي جمعت من النعم المادية، وحقّقت في عالم المادة ما لم يتحقّق من قبل، تعاني من فشل ذريع في جبهه السلام والأمن والطمأنينة والوشائج الإنسانية .. فأصبحت على شفا جرف هار تنهار بها في نار جهنّم .. غير أن اللَّه لطيف بعباده رحيم .. أرحم من أن يدع البشرية تعاني ويلات طغيان المادية .. وغداً بإذن اللَّه يجي ء الإنقاذ، فيشرق فجر الإسلام من جديد، ويملأ الكون نوراً .. ويسود السلام وتعمّ المحبّة .. ويأتي نظام عالمي جديد، قوامه العدل والحرية والمساواة بين كلّ بني آدم.

الإنقاذ وشرطه

نعم غداً بإذن اللَّه يجي ء الإنقاذ .. هذه الامّة الموحّدة شكلًا .. باجتماعها خلال هذه المناسك، تعود إليها وحدتها الفعلية- الإسلامية- فتصبح جماعة واحدة، معتصمة بحبل اللَّه، قائمة بدورها الرسالي، عند تحقيق ركيزتين .. على نحو ما (في


1- 1 الصافات: 102.
2- 2 الصافات: 103- 105.
3- 3 إبراهيم: 37.

ص: 277

ظلال القرآن) في بيان آيات فرضية الحج .. أولى هاتين الركيزتين هي ركيزة الإيمان والتقوى. التقوى التي تبلغ أن توفي بحق اللَّه الجليل .. التقوى الدائمة اليقظة، التي لا تغفل ولا تفتر لحظة من لحظات العمر، حتى يبلغ الكتاب أجله .. يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللَّه حقّ تقاته ... اتقوا اللَّه كما يحقّ له أن يُتّقى ولا تموتنّ إلّاوأنتم مسلمون .. أما الركيزة الثانية فهي ركيزة الاخوّة في اللَّه .. على منهج اللَّه .. لتحقيق منهج اللَّه .. واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا* واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ... .. إنّها الإخوّة النابعة من التقوى والإسلام .. من بين ثنايا الركيزة الاولى .. إنّه تجمّع المؤمنين الذين تخفق قلوبهم بالتقوى .. وتتوثّق الأواصر بينهم بالاخوّة في اللَّه .. لا يكونون محض جماعة متآلفة في الظاهر، وإنّما جماعة متآلفة القلوب .. فألّف بين قلوبكم .. إنّه التآلف المفقود في تجمّعات عالم اليوم .. إنّه السبيل الأوحد لتوثيق الوشائج الإنسانية بين بني البشر أجمعين. والامّة الوحيدة المرشّحة لأداء هذه الرسالة، هي الامّة الإسلامية .. كنتم خير امّة اخرجت للناس ..

يقول الشهيد سيّد قطب في معرض بيان معاني هذه الآية (في ظلال القرآن):

«هذا ما ينبغي أن تدركه الامّة المسلمة؛ لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها اخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة .. بما أنها هي خير امّة. واللَّه يريد أن تكون القيادة للخير لا للشرّ في هذه الأرض، ومن ثمَّ لا ينبغي لها أن تتلقّى من غيرها من امم الجاهلية، إنّما ينبغي دائماً أن تعطي هذه الامم ممّا لديها، وأن يكون لديها دائماً ما تعطيه .. ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصوّر الصحيح، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح، والمعرفة الصحيحة، والعلم الصحيح.. هذا واجبها الذي يحتّمه عليها مكانها، وتحتمه عليها غاية وجودها. واجبها أن تكون في الطليعة دائماً .. في مركز القيادة دائماً .. ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاءً، ولا يسلم لها به إلّاأن تكون هي أهلًا له .. وفي أوّل مقتضيات هذا المكان، أن تقوم

ص: 278

(الامّة) على صيانة الحياة من الشرّ والفساد، وأن تكون لها القوّة التي تمكّنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. فهي خير امة اخرجت للناس، لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف- تعالى اللَّه عن ذلك كلّه علوّاً كبيراً- ... إنّما تبوّأت امّة الإسلام هذا المقام بالعمل الإيجابي لحفظ الحياة البشرية من المنكر، وإقامتها المعروف، مع الايمان الذي يحدِّد المعروف والمنكر .. في هذه الآية وصف اللَّه سبحانه وتعالى امّة الإسلام بأن صفتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. إنّ الامة الإسلامية لا توجد وجوداً حقيقياً إلّاأن تتوافر فيها هذه السمة الأساسية، التي تعرف بها في المجتمع الإنساني .. فإمّا أن تقوم بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- مع الايمان باللَّه- فهي موجودة وهي مسلمة. وإمّا أن لا تقوم بشي ء من هذا فهي غير موجودة، وغير متحقّقة فيها صفة الإسلام» ... قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».

تلك بعض الرؤى .. في مناسك الحج وآيات فريضتها .. بعض واقع المسلمين، وما يجب أن يكون حالهم عليه .. فلنبدأ العمل الإيجابي بإنفاذ الواجب الذي يكون به الإنقاذ والفجر الجديد .. ونردّد بصدق النيّة ونقاء الطوية: «لبيك اللهمّ لبيك» «لبيك لا شريك لك لبيك» «إنّ الحمد والنعمة لك والملك» «لا شريك لك».

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.