ميقات الحج المجلد12

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص:1

من كلام الإمام قدس سره

ص:2

ص:3

ص:4

ص:5

ص:6

العدد الثانية عشر

من كلام الإمام قدس سره

كونوا يداً قرآنيةً واحدةً.

أيّها الحجّاج.. احملوا من ربّكم نداءً إلى شعوبكم ألّا تعبدوا غير اللَّه، وأن لا تخضعوا لغيره..

الإسلام دينٌ عبادتُه سياسة وسياستُه عبادة.

الحجّ الخالي من الروح والحركة والقيام والبراءة والوحدة،

والحجّ العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك، ليس هذا حجّاً.

إنَّ صرخة البراءة من المشركين في مواسم الحج هي صرخة سياسية- عبادية قد أمر بها رسولُ اللَّه صلى الله عليه و آله، وليست مختصّةً بزمان خاصٍ، وإن انقرض المشركون من الحجاز، فنهضة الناس ليست مختصّة بزمان بل هي دستور كلّ زمان ومكان، وفي هذا التجمّع البشري العام سنويّاً تعدّ من جملة العبادات المهمّة الخالدة إلى الأبد.

الامام في احاديث القائد آية اللَّه السيّد الخامنئي

ص: 7

الإمام في أحاديث القائد آية اللَّه السيّد الخامنئي

لابدّ أن نذعن بمرارةٍ إلى أنّ الفاصلة كبيرة بين الشكل الحالي لأداء هذه الفريضة الإلهيّة، فريضة الحجّ، والشكل المطلوب للحجّ الإبراهيمي المحمّدي.

الإمام الراحل العظيم وبنيّته الخالصة للَّه تعالى وبعمله الصادق بذل جهوداً جدّية وفعّالة- طول حياته المباركة- في هذا السبيل، ووضع نصب أعين الأمّة الإسلاميّة وشعوبها صورةً واضحةً عن الحجّ الإبراهيمي المحمّدي؛ حجّ العظمة والعزّة، حجّ الرفض، والتحوّل والتغيير سواءً على مستوى الأفراد أو المجتمعات.

وكان طرح الإمام لهذا التصوّر للحجّ بحدّ ذاته مبعث خير وعطاء وبركات وافرة في العالم الإسلامي، إلّاأنّ نشر هذه الفكرة وهذا المنهج العملي بين جميع الشعوب المسلمة بحاجة إلى جهود مخلصة يبذلها علماء الدين وينهض بها المخلصون الواعون من هذه الأمّة. وهي بحاجة إلى ما يبديه حكّام كلّ البلدان الإسلاميّة من تعاون ووعي لهذا المنهج. آمل أن تكون هذه المهمّة الحسّاسة موضع اهتمامهم وعملهم جميعاً.

الراحل العظيم

ص: 8

الراحل العظيم

محسن الأسدي

إليك يا روح اللَّه

إلى مَنْ كانت روحه نفحةً من نفحات السماء، وروضةً من رياض الإيمان، ومدرسةً لمبادئ القرآن، ودوحةً للخير والعطاء.

إلى مَنْ ذابت روحه في الإسلام فكان بحقّ إسلاماً يلوي رقاب الظالمين، وكان بحق إسلاماً ينتشل المعذَّبين، وكان بحقّ إسلاماً نصيراً للمستضعفين.

إلى من ثار فلم يستأثر، وحكم فلم يستبد، وقضى فلم يظلم، ومات فلم يورّث.

إلى مَنْ كانت روحه ينبوعاً ينتهل منه الأحرار والكادحون.

إلى مَنْ كانت روحه ملجأً يلوذ به الثوّار والمجاهدون.

إلى مَنْ كانت روحه بلسماً لجراح المجاهدين والمعذَّبين.

ص: 9

إلى مَنْ كانت روحه ركناً شديداً يأوي إليه المستضعفون.

إلى مَنْ خَلُد أنشودةً تردّدها الشفاه، ويتسلّى بها المحرومون والمضطهدون، ويتغنّى بها الأحرار والمجاهدون.

إلى مَنْ أرعبت روحه الطغاة والمستكبرين.

إلى مَنْ لم تَعرف روحه الخنوع والانصياع إلّاللَّه.

إلى مَن كان كلّ همّه أن يعالج الجراح الغائرة في الجسد الإسلامي.

إلى مَنْ انتفت من نفسه كلّ أشكال العنصرية وأحقاد القومية.

إلى مَنْ أراد لإيران أن تكون قلعةً للإسلام، ومثابةً للمجاهدين، وبلداً آمناً للمهاجرين و الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلّاأن يقولوا ربّنا اللَّه.

إلى مَنْ أراد لإيران أن تكون أُمَ القرى وأبى آخرون إلّاأن تكون غير ذلك.

إليك يا روح اللَّه بضاعتي المزجاة، فلعلّها تفي ببعض ما عليك في رقابنا.

فميقات الحجّ وهي تتربّع في عامها السادس، تقف اليوم- في ذكراك المئوية- لتساهم بجهد متواضع قد لا يفي إلّا بجزء بسيط من معروفك علينا، وممّا لك من دَين طوّق أعناقنا وفضل قيّد أيادينا.

أيّها الحيّ في نفوسنا، والماثل في أرواحنا، والمتجسّد في مشاعرنا.

يا مَن فقدنا بفقده الأسوة الحسنة، ويا من خسرنا بغيابه المَثَل الأعلى..

ص: 10

هيهات سيّدي أن نلحق بركبك، فهو ركب الصالحين والمجاهدين..!

هيهات سيّدي أن نسمو إلى ما سموت إليه، فكلّ ما سموت إليه عظيم وجميل..!

فسلامٌ عليكَ يا روحَ اللَّه يومَ ولدتَ، ويومَ متَّ، ويومَ تُبعثُ حيّاً.

هويّة الإمام

مقتطفات من حياة الإمام الخميني قدس سره، أدلى بها ودوّنها نجله المرحوم السيّد أحمد الخميني، وأعاد سماحة الإمام تصحيحها.

كانت ولادتي حسب ما تفيد الجنسية المرقّمة 2744 في عام 1279 للهجرة الشمسيّة في مدينة خمين (ولكن في الواقع في 20 جمادى الثانية عام 1320 للهجرة القمريّة)

والتاريخ القطعي هو 20 جمادى الثانية المصادف للأوّل من مهر عام 1281 للهجرة الشمسيّة.

اللقب مصطفوي، واسم الأب مصطفى، واسم الأم هاجر (كريمة المرحوم الميرزا أحمد مجتهد الخوانساري الأصل الخميني السكن).

محلّ صدور الجنسيّة هو مدينة گلپايگان، وموقعّة من قبل صفري نجاد مدير دائرة الأحوال الشخصيّة في گلپايگان.

بدأت درسي بمدينة خمين على يد المرحوم «أبوالقاسم» وأكملت دراستي الابتدائيّة على يد المرحوم الشيخ جعفر والمرحوم الميرزا محمود (افتخار العلماء)، ثمّ درست المقدّمات على يد خالي المرحوم الحاج الميرزا محمّد مهدي، وبدأت بدراسة المنطق على يد المرحوم النجفي الخميني، وعلى يد (آية اللَّه بسنديده) السيوطي وشرح الباب الحادي عشر والمنطق على ما يبدو، وشيئاً من المطوّل

ص: 11

مسلّماً.

وفي عام 1339 ه. ق. ذهبت إلى أراك لغرض الدراسة، ودرست المطول عند المرحوم الشيخ محمّد علي البروجردي، والمنطق عند الشيخ محمّد الگلپايگاني، وشرح اللمعة عند المرحوم عبّاس الأراكي.

وفي أعقاب هجرة الشيخ عبدالكريم الحائري (رحمة اللَّه عليه)، إلى قم في عام 1340 ه. ق. الذي صادف مع بداية السنة الهجريّة الشمسيّة عام 1300، أتممت دراسة المطوّل عند المرحوم أديب الطهراني الموسوم بالميرزا محمّد علي، ودرست شيئاً من مرحلة السطوح عند المرحوم سيّد محمّد تقي الخوانساري وأكملت القسم الأعظم عند الميرزا سيّد علي اليثربي الكاشاني حتّى نهاية مرحلة السطوح، وذهبتُ وإيّاه سويّة لدراسة مرحلة البحث الخارج عند الشيخ عبدالكريم الحائري، وأنهينا معظم بحث الخارج على يده. ودرست الفلسفة عند المرحوم السيّد أبوالحسن القزويني، والرياضيات (الهيئة والحساب) عنده أيضاً وعند المرحوم الميرزا علي أكبر اليزدي، وكان أكثر ما جنيناه من فائدة في العلوم المعنويّة والعرفانيّة من المرحوم الميرزا محمّد علي شاه آبادي.

وبعد وفاة المرحوم الحائري انهمكنا أنا وبعض الأصدقاء بالبحث والتدريس إلى حين قدوم المرحوم البروجردي إلى قم، ومن أجل توجيه الأنظار إليه أخذت أحضر في دروسه، ومع ذلك استفدت منها كثيراً.

كنت قبل مجي ء المرحوم البروجردي إلى قم أدرس المعقول والعرفان والسطوح العالية في الأصول والفقه، ولكن من بعد مجيئه استجبت لطلب بعض الأخوّة ومنهم المرحوم المطهّري وأخذت أدرّس الفقه لمرحلة البحث الخارج وتركت دراسة العلوم العقليّة، وبقيت على هذا الحال طوال مدّة إقامتي في قم وفي النجف. وبعد هجرتي إلى باريس حرمت من كلّ هذه الأمور وانشغلت بأمور أخرى وبقيت على هذا الوضع إلى يومنا هذا.

ص: 12

اسم زوجتي خديجة الثقفي المعروفة بقدس إيران، وهي من مواليد 1292 للهجرة الشمسيّة، وهي كريمة الحاج الميرزا محمّد الثقفي الطهراني. كان زواجي منها في عام 1308 ه. ش. ورزقت بأوّل مولود في عام 1309 ه. ش. وسمّيته مصطفى.

ولديّ حالياً ثلاث بنات على قيد الحياة، إضافة إلى أحمد وهو من مواليد عام 1324 ه. ش. أسماء بناتي وفقاً لترتيب السنّ: صديقة، وفريدة، وفهيمة، وسعيدة، ومن بعد أحمد بنت أخرى اسمها لطيفة. وآخر ابن لي على قيد الحياة هو أحمد.

قراءة في حياته المباركة

قبل مئة عام، في العشرين من شهر جمادى الآخرة من عام 1320 من الهجرة النبوية المباركة، وفي مدينة خمين التابعة لمحافظة أراك في إيران ولد روح اللَّه الموسوي الخميني لأبوين كريمين وفي اسرة عرفت بالعلم والاستقامة والفضل والجهاد ومقارعة الظالمين، فأبوه هو آية اللَّه السيّد مصطفى الموسوي عالم فقيه تلقّى أعلى دروسه في النجف الأشرف، بعد أن قضى فيها سنوات عديدة حتى نال رتبة الاجتهاد، وعاد بعدها إلى حيث مدينته خمين؛ ليواصل فيها دروسه بحثاً وتدريساً كما راح يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بقوّة وبشكل تميّز به وعرف ذلك عنه، وقد حدى به ذلك إلى أن يخطو خطوات ويتّخذ مواقف لم ترق للسلطة يومذاك، فدبّر أعوانها وعملاؤها مكيدةً أدّت إلى استشهاده على أيدٍ غادرة اعترضته حينما كان في طريقه من مدينة خمين قاصداً مدينة أراك.

كان عمره المبارك يوم استشهاد والده رحمة اللَّه عليه أقلّ من خمسة أشهر، فانبرت لرعايته كلّ من عمّته وهي امرأة صالحة تقيّة وامّه السيّدة هاجر التي كانت من أحفاد آية اللَّه الخونساري، وهي أيضاً سيّدة تقيّة ورعة يعمر قلبها الإيمان، راحت تربّي وليدها منذ نعومة أظفاره على مخافة اللَّه تعالى، وقد ظلّت هذه الصفة

ص: 13

البارزة تواكبه في سلوكه، ولم يتخلّف عنها أبداً طيلة عمره المديد.

نشأ سيّدنا في كنف هذه الاسرة المحافظة، وتربّى على تقاليدها، وتخلّق بأخلاقها التي كان محورها تقوى اللَّه، وبفضل اللَّه تعالى ورعاية هذه الاسرة الكريمة راح سيّدنا- بعد أن أبصر نور الهداية، وتنشق هواءَها العطر، ورشف أوّل قطرة من مائها العذب- يتسلّق شجرة الإيمان ويتفيّأ ظِلالها حتى وثب إلى أعلاها، فكان بحقّ ذلك العبد الصالح الأوّاب، الذي عرف قيمة الإيمان، وتجلّى في قلبه حبّ الرّحمن، فغدا لا يهاب إلّااللَّه، ولا يخشى إلّاعدله وحسابه وعقابه، ولا يرجو إلّا رحمته وثوابه، فكان من الذين يجاهدون في سبيل اللَّه ولا يخافون لومة لائم، وكان من الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار....

عرف سيّدنا رضوان اللَّه عليه بقوّة القلب وصلابته في الحقّ، فراح يواجه الحياة بكلّ مفاصلها في سرّائها وضرّائها برأي ثاقب وحكمة عالية خاصةً وهو يواجه نظاماً طاغوتياً آزرته كلّ الدول الكبرى بكلّ ما اوتيت من قوّة.

لقد كانت لمواقفه الجهادية في سبيل اللَّه تعالى- إضافةً إلى قوّة إيمانه وقوّة شخصيته- جذورٌ قويّة تمتد بعيداً إلى الطبيعة الجهاديّة لأسرته وقوّة إيمانها، ولما كان يحيطه من ظروف سياسية واجتماعية اكتنفت حياته المباركة، فغدت ملامح الجهاد تصقل شخصيته منذ صباه، وراحت تتكامل في جميع أبعاده العلمية والروحية والسياسية جنباً إلى جنب تطوّر ما حوله من أوضاع وتغيّرات سياسية واجتماعية، فخلقت فيه روحاً قيادية عظيمة شكّلت هي مع إسلامية الثورة المباركة عنصرين رئيسيين في نجاح الثورة الإسلامية في ايران وديمومتها..

هذا عن نشأته وإيمانه، وجهاده، أما عن حياته العلمية التي بدأها في مدينته فقد واصل- بعد أن منَّ اللَّه تعالى عليه بذكاء حادّ وذهن وقّاد وصبر عجيب- دروسه الحوزوية التي كان شغوفاً بها محبّاً لها، فشرع بدراسة اللغة العربية

ص: 14

وآدابها، ودراسة القرآن والمنطق والفقه والاصول وباقي العلوم الاخرى، وواظب على حضور بحوث أساتذة مدينة خمين حتى عام 1919 م، فانتقل بعدها إلى مدينة أراك؛ ليواصل دراسته الحوزوية هناك قبل أن يأتي إلى مدينة قم لينضمّ إلى حوزتها عالماً واستاذاً، فساهم مساهمة بارزة في نظم شؤونها، وكان عضواً رئيسياً في الوفد الذي شكّل لإقناع آية اللَّه السيّد البروجردي بالمجي ء إلى مدينة قم واستلامه زعامة حوزتها بعد تفرّق كلمتها واضطراب أمرها ثماني سنوات، إثر وفاة زعيمها ومؤسّسها الشيخ عبد الكريم الحائري.

وظلّ يدعم- رعاية للمصلحة الإسلاميّة- زعامة السيد البروجردي طيلة مرجعيته على الرغم من أنّ هذا الأخير لم يدعم- استجابة لأطراف أخرى- مشروعه الاصلاحي لتنظيم شؤون الحوزة، الذي قدّمه مع ثلّة مخلصة من علماء الحوزة يومذاك.

بقي عالماً فذّاً واستاذاً بارزاً في حوزة قم وفي حوزة النجف الأشرف بعد رحيله إليها، يحضر دروسه ما لا يقل عن ألف شخص حظي بعضهم بمكانة مرموقة في الحياة العلميّة والسياسيّة والجهاديّة، فيما صار بعضهم من المجتهدين والفقهاء والمراجع في وقتنا الحاضر.

وخلاصة الأمر أنّ هذه النشأة المباركة تركت بصماتها عليه، وعلّمته كيف يكون الاعتزاز بالإسلام وبالأصالة، وأن يأخذ بالامّة إلى ما فيه خيرها وسؤددها.

حقّاً: «إنّ اللَّه سيبعث لهذه الامّة على رأس كلّ مئة سنة مَن يجدّد لها دينها».

لقد كان سيّدنا الإمام الخميني رضوان اللَّه عليه عالماً مجدّداً، ومجاهداً عنيداً، وكان ركناً متيناً من أركان الامّة، وكان فقيهاً ومرجعاً كبيراً من مراجع التقليد الكبار، الذين ازدهرت بهم الحوزات العلمية في مدينتي قم المقدّسة والنجف

ص: 15

الأشرف، وكان زعيماً إسلامياً قلَّ نظيره بل زعيماً فريداً وقائداً فذّاً لا يشقّ له غبار، بسطت له الوسادة بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة على غياب الزعامة السياسية الدينية، وغياب الدولة الإسلامية عن الساحة السياسيّة، فكان في شؤونه الشخصية والدينية والعلمية والسياسية.. نموذجاً رائعاً للقائد الإسلامي الذي لم تغرّه الدنيا بملاذها، ولم تلنه بمطامعها، ولم يبتغ منها نفعاً، ولم يخرج منها بشي ء...

ظلّ هذا العظيم هكذا كفاءات عالية وهمماً دؤوباً وعطاء خصباً ثرّاً طيلة حياته الممتدة قرابة التسعين عاماً.

كما ظلَّ طيلة عمره المبارك وفيّاً لدينه ومبادئه، يكدح ويكافح بعلمه ومنهجه وجهاده وبمشاريعه وآثاره، التي كان أهمّها تأسيسه للجمهورية الإسلاميّة في إيران.

كانت مواقفه جليلةً، وكانت كلماته وأحاديثه ووصاياه نابعةً من قلب يخفق حبّاً للَّه وخشيةً منه؛ لهذا كانت مرآةً صادقةً لسلوكه المبارك وسيرته العطرة وإيمانه وتقواه وزهده وإخلاصه.

كان همّه أن تبقى راية الإسلام مرفوعةً خفّاقةً، لا يحجبها شي ء أبداً، ولا يمنعها كيد كائد وحقد حاقد...

وكان همّه أيضاً أن تعيش الامّة الإسلامية همّ الإسلام، وأن تبقى عزيزةً كبيرةً سيّدةً في مواقفها لا تابعة للآخرين ولا ذيلًا لأحد.. وأن تبقى قويةً بوجه أعدائها لا ضعيفةً ذليلةً كما أراد لها أعداؤها والمتخاذلون ممّن ينتسبون إليها.

لقد عرف سيّدنا دينه وعرف قدره وعرف تكليفه وعرف ما حوله .. وأدرك بكلّ وعي ودقّة مسؤوليته إزاء دينه وإزاء امّته، فتولّدت مواقفه وآراؤه من خلال ذلك كلّه، وتجلّت مواهبه، وصقلت شخصيته، فكان بحقّ العبد الصالح والعابد الزاهد والعالم المجاهد والرجل الشجاع المتفاني في خدمة دينه وامّته، فاقتدى به

ص: 16

المخلصون، وبايعته الجماهير بإرادتها واختيارها وبشكل يبعث على الفخر والعجب؛ لأنها وجدت فيه الإخلاص كلّه والصدق كلّه والزهد كلّه.. واندفع بكامل وعيه لوظيفته الشرعية وللغة عصره وتناقضاته.. لتحمّل مسؤولية السماء وأمانتها على عظمتها وخطورتها.. وراح يشقّ طريقه بكلّ ثقة واطمئنان لموقفه وسلامته مهما كانت التضحيات، والصعاب التي نصبها أعداء الإسلام، مستفيداً من كلّ الطاقات التي حوله، وموظّفاً كلّ المفاصل والمحاور الإسلامية، وما توفّرت عليه الشريعة من فرص سواء أكانت عبادية أو غيرها.. وفريضة الحجّ كانت ولا زالت واحدةً من أهمّ العبادات الإسلامية وأوسعها وأعظمها، رأى فيها موتمراً سنويّاً عظيماً وقوّة ووسيلة دينية وسياسية وإعلامية يستطيع من خلالها توعية المسلمين وشدّهم إلى دينهم، وأن يضع عنهم إصرهم والأغلال، ومعالجة الجراح الغائرة في جسم هذه الأمّة عبر سنين الظلم والحيف والاضطهاد بسبب إبعادها عن منزلتها ومكانتها...

يقول سماحته عن فريضة الحج: «الجميع يعلم أنه ليس بمقدور أي إنسان وأية دولة عقد مثل هذا المؤتمر الكبير، وأنّ أمر اللَّه تعالى هو الذي صنع هذا الاجتماع العظيم، إلّا أنّه مع الأسف لم يستطع المسلمون على مرّ التاريخ أن يستفيدوا من هذه القوّة السماوية، وهذا المؤتمر الإسلامي كما ينبغي لصالح الإسلام والمسلمين».

فوضع ثقله فيها وصبّ جهوده على إقامتها بشكلها القائم على محورين أساسيين:

وحدة المسلمين. وإعلان البراءة من المشركين.

وواصل تحرّكه هذا على كلا المحورين بكلّ قوّة وإصرار.

يقول السيّد الإمام في خصوص الوحدة بين المسلمين:

هذه الوحدة التي يؤكّدها ويكرّرها الإسلام الشريف والقرآن الكريم، ويجب

ص: 17

تحقيقها في الواقع من خلال الدعوة والتبليغ بها بشكل واسع، ومركز هذه الدعوة مكة المعظّمة عندما يجتمع المسلمون لأداء فريضة الحج..

الذي يقتلع كلّ المآسي ويقطع دابر الفساد هو طريق واحد: الوحدة بين المسلمين بل وحدة جميع المستضعفين، وكلّ المستضعفين والمكبلين بالسلاسل في العالم.

الحجّاج المحترمون الموجودون في جوار بيت اللَّه ومحل رحمته، تعاطوا برفق ومروءة وإخوّة إسلامية مع جميع عباد اللَّه، واعتبروا الجميع ودون النظر إلى اللون واللسان والمنطقة والمحيط منكم، وكونوا جميعاً يداً قرآنيةً واحدةً حتى تسيطروا على أعداء الإسلام والإنسانية.

يجب أن نعلم أنّ إحدى الفلسفات الاجتماعية لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام، أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم.

كما حذّر سماحته الحجّاج من مغبّة التساهل في هذا الأمر أو إيجاد خلل فيه:

وإذا لا سمح اللَّه أوجد بعض الحجّاج من خلال أعمالهم خللًا في هذه الوحدة أدّت إلى التفرقة، فذلك سيوجب سخط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعذاب اللَّه القادر الجبّار.

أما بخصوص المحور الثاني وهو البراءة من المشركين فيقول سماحته:

إنّ إعلان البراءة من المشركين تعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج.. فهل تحقيق الدين هو غير إعلان المحبّة والإخلاص للحقّ، وإعلان الغضب والبراءة من الباطل؟

فحاشا أن يتحقّق إخلاص الموحّدين في حبّهم بغير إظهار السخط على المشركين والمنافقين، وأي بيت هو أفضل من الكعبة البيت الآمن والطاهر، بيت الناس لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرقّ والدناءة واللا إنسانية قولًا وفعلًا، وتحطيم

ص: 18

أصنام الآلهة تجديداً لميثاقه: ألست بربّكم وذلك إحياء لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول، التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: وآذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه...

أيّها الحجّاج.. احملوا من ربّكم نداءً إلى شعوبكم أن لا تعبدوا غير اللَّه، وأن لا تخضعوا لغيره.

نعم كونوا دعاةً للَّه مخلصين له الدين ولو كره المشركون.

وهكذا راح سماحته في كلّ خطاباته يؤكّد على هذين المحورين لهذه الفريضة المقدّسة، ويقف بكلّ قوّة مدافعاً عنهما مندّداً بمن يريد تضعيفهما أو النيل من الذين ينادون بهما، وبقي- رغم شيخوخته ومتاعبه الصحية والصعاب الكثيرة، وما تكنّه الدول الكبرى ومؤسساتها وعملاؤها من عداء لتحرّكاته، وحقد دفين على الإسلام والمسلمين الواعين- على موقفه هذا حتى آخر عمره الشريف لم يغيّر ولم يبدّل.

فسلام عليه من رجل صبور وقائد جسور، وسلام عليه من راحلٍ عظيم!

الهوامش:

ص: 19

آيات الحجّ ومناسكه ...

آيات الحجّ ومناسكه بين التفسير الدلالي والتفسير التطبيقي- في نظر الإمام الخميني-

آيات الحجّ ومناسكه بين التفسير الدلالي والتفسير التطبيقي- في نظر الإمام الخميني-

عبدالسلام زين العابدين

أهمّ ما يمتاز به تفسير الإمام الخميني للقرآن الكريم أمران أساسيان:

الأوّل: الأبعاد المتعدّدة، والاتجاهات المتنوّعة، التي تنطلق مع الآيات القرآنية في آفاقها الرحبة، وأبعادها الواسعة التي تتجاوز الفرد إلى المجتمع والأمّة والدولة.

الثاني: التطبيق والتجسيد، وهو عملية تلمّس المصاديق الحيّة المعاصرة، والنماذج الفاعلة الحاضرة لما تطرحه الآيات القرآنية.. وهو ما يعرف ب (التفسير التطبيقي).

ويعطي الأمر الأوّل للتفسير طابع الشمولية والامتداد لكلّ ساحات الحياة، ومواقع التدافع: الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثورية.. فيما يُعطي الأمر الثاني طابع الواقعيّة والعصريّة.. بعيداً عن التجريدية والماضويّة.

من هذا المنطلق يأسف الإمام الخميني على تلك النظرات التفسيرية الضيّقة للآيات المباركة التي تجعلها محصورة في زاوية معتمة، وبُعد ضيّق، وافق قريب لا يتجاوز دائرة المحلّة التي يصلّون في مسجدها، أو على حدّ تعبير الإمام «لا يتجاوز محور تفكيره محيط المسجد».

ص: 20

فإذا أرادوا أنْ يطبّقوا- مثلًا- آية أكل السحت في سورة المائدة: لولا ينهاهم الرّبانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون، «لا يخطر ببالهم سوى البقّال القريب من المسجد الذي يطفّف في البيع مثلًا... فلا يلتفتون إلى التطبيقات الواسعة والكبيرة لأكل السحت والنهب، التي تتمثّل ببعض الرأسماليين الكبار أو من يختلسون بيت المال، وينهبون نفطنا، ويحوّلون بلادنا إلى سوق لبيع المنتوجات الأجنبية غير الضروريّة، والغالية الثمن؛ لكونهم يمتلكون وكالات الشركات الأجنبية، ويملأون جيوبهم وجيوب المتموّلين الأجانب من أموال الشعب غير هذا السبيل».

يؤكّد الإمام على هذا النمط المغفول عنه من السحت، بقوله: «هذا أكلٌ للسحت على مستوى واسع ودولي»!

كما يدعو الناس- وهم يقرأون آية أكل السحت- إلى تطبيق الآيات في واقعنا المعاصر لتشمل المصاديق الكبيرة، قائلًا:

«ادرسوا أوضاع المجتمع وأعمال الدولة والجهاز الحاكم بشكلٍ دقيق؛ لتروا أنّ (أكل السحت) مرعب يجري عندنا».

وإذا أرادوا أن يفسِّروا آيات (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ويطبقوها على المجتمع، فإنّهم لايرون المنكر إلّافي «نطاق دائرة صغيرة»، ك «سماع الموسيقى في الباصات، أو ارتكاب بعض المخالفات في المقاهي، أو تجاهر بعض الناس بالإفطار» في الساحات، من دون أن يلتفتوا إلى «تلك المنكرات الكبيرة»، وإلى «أولئك الذين يقومون بضرب الإسلام معنوياً، وسحق حقوق الضعفاء».

ولم تشذّ آيات الحجّ عن تلك النظرة الضيّقة لبعض الناس، ممّا أدّى بنا الأمر إلى حصرها في آفاق ضيّقة سواء على صعيد التفسير الدلالي أو التطبيقي.

كما لم تشذّ تلكم الآيات عن ذلك المنهج التفسيري القيّم للإمام الخميني، بل إنّها تشكّل مصاديق بارزة، ونماذج حيّة، تؤكّد على طابعي الشمولية والمعاصرة

ص: 21

في منهجه التفسيري.

ينطلق الإمام في تفسيره لآيات الحج ومناسكه في آفاق رحبة بعيدة؛ ليكتشف أبعادها السياسية والاجتماعية والثورية، إضافة إلى أبعادها الروحية العرفانية.

المبحث الأوّل: آية شهود المنافع

وأذِّن في الناس بالحجِّ يأتوك رجالًا وعلى كُلِّ ضامرٍ يأتينَ من كُلِّ فَجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم....

لماذا هذا الإعلام الإبراهيمي برفع الصوت بالحجّ عالياً، والنداء؟

لماذا كلّ هذا الحرص على حضور الناس وحشدهم في زمان واحد وفي مكانٍ واحد وفي مناسك موحّدة؟

لماذا كلّ هذا الحشر في ذلك المكان المقدّس الطاهر؟

ما هو سرّ هذا الحشد المليوني الهائل لهؤلاء المسلمين الآتين من شرق الأرض وغربها؟

ما هي المقاصد والأهداف والغايات التي تجعل هؤلاء الملايين من المسلمين يهجرون أوطانهم وأهليهم، ويعطّلون أعمالهم ومشاريعهم، ليلتحقوا بركب الحجيج المقبلين من أقطار بعيدة، وأصقاع نائية؟

إنّ الآيه الثانية تعطي لنا الجواب الشافي عن هذه الأسئلة المتعدّدة مبنى، المتّحدة مضموناً ومعنىً، حيث ترسم لنا فلسفة الحجّ، وعلّته أو غايته- على اختلاف اتجاه التفسير في حرف (اللام)- بقوله: ليشهدوا- ذلك التجمّع المليوني للمسلمين الآتين من كلِّ فجٍّ عميق، راجلين وراكبين: ليشهدوا منافع لهم!

(التجارات) هي المنافع الدنيويّة: بين الأمس واليوم!

يتساءل الإمام الخميني: ما هي هذه (المنافع) التي تمثِّل العلّة أو الغاية من حضور هذا الحشد المليوني الهائل؟

ص: 22

ماذا يتصوّر المسلم القارئ للقرآن الكريم من دلالات وأبعاد وآفاق لهذه (المنافع) التي أراد اللَّه تعالى أن يشهدها الملايين الوافدون من أصقاع الكرة الأرضية؟

هل نكتفي بتفسير (المنافع) بكونها منافع اخروية في الجنّة فيما يعطيه اللَّه للحجّاج من الثواب الجزيل كما ذهب بعض المفسِّرين، أو نفسّرها ب (التجارات في الدنيا كما ذهب بعض آخر، أم نجمع بين التفسيرين (التجارات في الدنيا، والمغفرة في الآخرة)؟! وكأنّ (التجارات) هي المنافع الدنيوية الوحيدة التي من أجلها فرض اللَّه عزوجل فريضة الحجّ، وأوجب على المسلمين أن يحقّقوا ذلك الاجتماع المليوني الكبير!!

وإذا كان السابقون يدركون المقاصد التجارية للحج باعتباره يمثِّل- فيما يمثِّل- سوقاً إسلامية عالمية رائجة، فنحن- في واقعنا المعاصر- لا يمكن أن نعتبر هذه السوق من (المنافع) التي ذكرتها الآية المباركة، وجعلتها علّة أو غاية للحكم...

ذلك لأنّ السوق في مكّة والمدينة أصبحت (أمريكية- أوروبيّة- يابانية) بكلّ معنى الكلمة!!

وقد نبّه الإمام الخميني إلى هذه الظاهرة الخطيرة وحذّر الحجّاج المسلمين، الذين تركوا الأهل والديار، وأتوا ملبّين دعوة إبراهيم الخليل عليه السلام، من أن يكونوا «مستهلكاً» ممتازاً للبضائع الأمريكية، بقوله:

«أسواق البلدان الإسلامية أصبحت مركز تنافس بضائع الغرب والشرق، حيث تتجه إليها سيول البضائع الأمريكية والأوروبية واليابانية الكمالية واللعب والاستهلاكيات.

ومع الأسف الشديد فانّ مكّة المعظّمة وجدّة والمشاهد المشرّفة في الحجاز..

حيث مركز الوحي ومهبط جبرائيل وملائكة اللَّه، ومحلّ تحطيم الأصنام والبراءة منها، أصبحت مملوءة ببضائع الأجانب، وغدت سوقاً رائجاً لأعداء

ص: 23

الإسلام وأعداء الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله».

وقد حذّر الإمام بصورة متكرّرة من هذه الظاهرة السيئة الخطيرة التي تحوّل (المنافع) التجارية- التي ذكرها المفسِّرون المتقدّمون- إلى مضار كبيرة، بحيث نرى أنّ الحجيج يستغرقون الليالي والأيّام في أسواق مكة والمدينة ليشتروا تلك البضائع، يقول الإمام: «كثير من حجّاج بيت اللَّه الحرام الذين يذهبون لأداء فريضة الحج، ومن المفروض بهم أن يلبّوا استغاثة المسلمين لما يحيط بهم من مؤامرات، نراهم يتجوّلون غافلين في الأسواق بحثاً عن البضائع الأمريكية والأوروبية واليابانية، وبذلك يُؤلمون قلب صاحب الشريعة بعملهم هذا المسي ء إلى كرامة الحج والحجّاج معاً».

وفي خطابه للعام التالي (1406 ه) ركّز الإمام في تحذيره على البضائع الأمريكية خاصة، وذلك في النقطة الثالثة من توصياته السنوية إلى الحجّاج الايرانيين، معتبراً عرضها مخالفاً لمقاصد الحج وأهدافه، كما أنّ شراءها يُعدّ دعماً ومساندةً لأعداء الإسلام، بقوله:

«بالنسبة للبضائع المعروضة في الحجاز للحجّاج المحترمين ما كان يرتبط منها بأمريكا، فانّ عرضها مخالفٌ للأهداف الإسلامية، بل مخالفٌ للإسلام تماماً، وشراءها دعمٌ لأعداء الإسلام، وترويجٌ للباطل، فيجب الاجتناب عن ذلك».

واعتبر الإمام- إبّان الحرب المفروضة- أنّه «ليس من الإنصاف أن يقدّم شبابنا أرواحهم في الجبهات ويضحون، بينما أنتم تساعدون مجرمي الحرب بشرائكم هذه البضائع.. فإنّ في ذلك إساءة إلى الإسلام والجمهورية الإسلامية وشعبكم المظلوم».

وقد أشار إلى أنّ هذه المسألة قد ذكرها في السنوات السابقة، بيد أنها تستحق التكرار والتأكيد لأهمّيتها، حيث يقول:

«لقد ذكّرت بهذا في السنوات الماضية لأهمية الموضوع وحسّاسيته، ومن واجبي أن اكرّر ذلك».

ص: 24

(المنافع) بنظر المفسِّرين المعاصرين

ركّز بعض المفسّرين المعاصرين على التعليل أو الغاية: ليشهدوا منافع لهم، ورسموا الأبعاد المتنوّعة والمتعدّدة لهذه المنافع، التي أراد اللَّه تعالى أن يشهدها موسم الحج في مكّة المكرّمة.

العلّامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان) نبّه إلى إطلاق تعبير (منافع)، وعدم تقييده بالدنيوية أو الأخروية، ممّا يعني شمولهما معاً، وقد عرّف المنافع الدنيويّة بأنّها تلك «التي تتقدّم بها حياة الإنسان الاجتماعية، ويصفو بها العيش، وترفع بها الحوائج المتنوعة، وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والآداب والسنن والعادات، ومختلف التعاندات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها».

ثمّ أعطى العلّامة مصاديق هذه المنافع الدنيوية مشيراً إلى الأمور التالية:

أولًا: التعارف بين المسلمين القادمين من أصقاع الأرض المختلفة.

ثانياً: اتحاد المسلمين على كلمة واحدة هي كلمة الحق.

ثالثاً: التعاون فيما بينهم في سبيل حلّ مشاكلهم.

رابعاً: امتزاج المجتمعات الإسلامية لتكون «مجتمعاً وسيعاً له من القوّة والعدّة ما لا تقوم له الجبال الرواسي، ولا تقوى عليه أيّ قوّة جبّارة طاحنة، ولا وسيلة إلى حلّ مشكلات الحياة كالتعاضد، ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كتفاهم الدِّين».

ومن المفسِّرين المعاصرين الذين أعطوا لآية المنافع دلالاتها وأبعادها، هو صاحب (في ظلال القرآن) سيّد قطب، حيث يقول:

«والمنافع التي يشهدها الحجّ كثيرة، فالحجّ موسمٌ ومؤتمر. الحجّ موسم تجارة وموسم عبادة. والحجّ مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة.

ص: 25

ثمّ يعدّد هذه المنافع الكثيرة، ويرسم بريشته الفنّية الأرواح وهي ترفّ حول بيت اللَّه وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترفّ كالأطياف.

طيف إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يودّع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمّه، ويتوجّه بقلبه الخافق الواجف إلى ربِّه: ربّنا انّي أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم....

وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرّة الملتهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش، وهدّها الجهد وأضناها الاشفاق على الطفل.. ثمّ ترجع في الجولة السابعة وقد حطّمها اليأس لتجد النبع يتدفّق بين يدي الرضيع الوضي ء. وإذا هي زمزم ينبوع الرحمة في صحراء اليأس والجدب.

وطيف إبراهيم عليه السلام وهو يرى الرؤيا، فلا يتردّد في التضحية بفلذّة كبده...

وطيف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت، في إنابة وخشوع ...».

ويستمرّ (سيِّد) في رسم تلك الأطياف.. إلى أن يقول:

«والحجّ بعد ذلك كلّه مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة. مؤتمرٌ يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل: ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا.. ويجدون محورهم الذي يشدّهم جميعاً إليه:

هذه القبلة التي يتوجّهون إليها جميعاً، ويلتقون عليها جميعاً.. ويجدون قوّتهم التي قد ينسونها حيناً. قوّة التجمّع والتوحّد والترابط الذي يضمّ الملايين. الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدّد.. راية العقيدة والتوحيد».

«وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل

ص: 26

المتكامل مرّة في كلّ عام...».

ويرى صاحب (في ظلال القرآن) أنّ كلّ ذلك يمثِّل «بعض ما أراده اللَّه بالحجّ يوم فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن به في الناس» ليشهدوا منافع لهم.. فإنّ كلّ جيل يشهد تلك المنافع «بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته»!

(المنافع) بنظر الإمام الخميني

ركّز الإمام على آية (شهود المنافع) كثيراً، وذكرها في العديد من خطاباته السنوية التاريخية في موسم الحج، وأعطى دلالاتها وتطبيقاتها معاً.

وقد أكّد على شمولية هذه المنافع؛ لتشمل كلّ نفع للمسلمين والامّة الإسلامية على جميع الأصعدة الروحية والسياسية والثورية والاجتماعية والاقتصادية، وقد دعا- بقوّة- الحجيج جميعاً إلى تحقيق تلكم المنافع المتنوّعة في ذلك «المؤتمر الإسلامي الكبير، في الأيام المباركة والأرض المباركة»، قائلًا:

«على المسلمين الملبِّين لدعوة اللَّه تعالى أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي، إضافة إلى المحتوى العبادي، وأن لا يكتفوا بالشكل والصورة فحسب».

وقد أطلق الإمام في خطاباته زفرات الأسف واللوعة على ما آل إليه المسلمون في الغفلة عن تلكم (المنافع) العظيمة، التي توخّاها القرآن من تشريعه لفريضة الحجّ.. إلى درجة بدا فيها (الحجّ الإبراهيمي- المحمّدي) غريباً ومهجوراً، حيث يصرّح قائلًا:

«إنّ الحجّ (الإبراهيمي- المحمدي) غريبٌ ومهجور منذ سنين على الصعيد المعنوي والعرفاني، كما هو غريب ومهجور على الصعيد السياسي والاجتماعي، وعلى الحجّاج الأعزّاء من جميع أقطار العالم الإسلامي أن يزيلوا عن بيت اللَّه غربته على الأبعاد والأصعدة كافّة».

ص: 27

ولهذا حذّر من أن يكون هذا الاجتماع المليوني للمسلمين الآتين من كلِّ فجٍّ عميق، مصداقاً للرواية القائلة:

«ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج»!

وهناك مقولة رائعة للإمام تعبّر عن مدى المنافع والعطاءات لفريضة الحج، وعلى جميع الأصعدة، وهي: «الحجّ كالقرآن مائدة ينتفع منها الجميع»، ولذا فإنّه يرى الاستفادة من جواهر بحره تختلف بحسب اختلاف مستويات الناس الفكرية والثقافية، وحملهم لهموم الأمّة الإسلامية، وشعورهم بآلامها وآمالها.

كما يرى أنّ الحجّ يشبه القرآن في غربته ومهجوريته، حيث يقول: «الحجّ مهجور كالقرآن».

من هنا ندرك أنّ الإمام يرى أنّ الحج كالقرآن في أعماقه، وكالقرآن في غربته.

من هذا المنطلق يوجب مفسّرنا الإمام على جميع المسلمين «أن يسعوا من أجل إعادة الحياة إلى الحجّ والقرآن معاً»، كما يدعو علماء الإسلام الملتزمين إلى «أن يضطلعوا بمسؤولية تقديم وإعطاء التفاسير السليمة والواقعية لفلسفة الحج ومناسكه، بعيداً عمّا تنسجه خيالات وتصوّرات (علماء البلاط) من خرافات».

(المنافع): البعد السياسي- الاجتماعي

لقد ركّز الإمام على البعد (السياسي- الاجتماعي) في قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم؛ أكثر ممّا ركّز على البعد (النفسي- العرفاني)، رغم تصريحه بأنّ البعد الثاني هو الأساس، وهو المنطلق لكلّ الأبعاد الأخرى، حيث صرّح قائلًا:

«إنّ البعد (السياسي- الاجتماعي) لا يتحقّق إلّابتحقّق بُعده المعنوي الإلهي».

وقد كان يؤكّد في كتبه أنّه: ما لم تتكسّر أصنام كعبة القلب، لا يمكن للإنسان أن يكسِّر الأصنام الأخرى الحجرية والبشرية المتمثّلة بالطاغوت

ص: 28

السياسي- الاجتماعي، ذلك لأنّ الإنانية هي امّ الأوثان وأعدى أعداء الإنسان، وأنّ «كلّ جهود الأنبياء من آدم حتّى الخاتم استهدفت كسر صنم الذاتية الذي هو أكبر الأصنام، ثمّ كسر بقية الأصنام».

ولهذا يرى أنّ الطواف حول الكعبة «يرمز إلى عدم الالتفاف حول غير اللَّه»، كما هو «رمزٌ إلى عشق اللَّه وتنزيهٌ للنفس من أن تخاف غيره تعالى»، كما أنّ الصفا والمروة يمثِّل «السعي لإيجاد المحبوب».

بيد أنّ سر تركيز الإمام على البعد (السياسي- الاجتماعي) في فريضة الحج يكمن في إيمانه بأنّ أعداء الإسلام ما تآمروا على بُعد من أبعاد الحجّ أكثر ممّا تآمروا على هذا البعد السياسي الاجتماعي، من أجل أن يفرغوا فريضة الحج منه، حتى غدا الحج أبعد ما يكون عن السياسة والاجتماع!! يقول الإمام:

«إنّ من أكثر أبعاد الحجّ تعرّضاً للغفلة والهجران هو البعد السياسي لهذه المناسك العظيمة. ولقد عملت الأيدي الآثمة أكثر ما عملت- ولا زالت- على هجرانه».

ولهذا فإنّ «المسلمين اليوم، وفي هذا العصر- عصر الغاب- مسؤولون أكثر من أيّ وقتٍ مضى على إبرازه وإزالة الحجب عنه».

تغييب البعد السياسي: مؤامرة كبرى

يرى الإمام قدس سره أنّ تغييب البعد السياسي الاجتماعي الثوري لفريضة الحجّ ومناسكه إنّما هو مؤامرة كبرى تولّى كبرها عناصر ثلاثة:

العنصر الأوّل: الاستكبار العالمي (المتلاعبون الدوليون).

العنصر الثاني: الحكّام العملاء التابعون.

العنصر الثالث: العلماء (المزيّفون+ المتحجّرون).

ولا يخفى أنّ العنصر الثالث يتضمّن طائفتين:

أ- المزيّفون المأجورون (وعّاظ السلاطين)، أو (علماء البلاط).

ص: 29

ب- المتنسكون المتحجّرون (المتزمتون).

ولا يكاد يخلو خطاب سنوي تاريخي من خطابات الإمام في موسم الحج، من تسليط الأضواء على هذه المؤامرة الكبرى بأطرافها الثلاثة، التي نجحت إلى حدٍّ كبير في إفراغ الحج من محتواه السياسي، ومضمونه الاجتماعي الثوري.

ففي عام 1404 ه كشف الغطاء بصراحة عن مثلث التآمر، قائلًا:

«لقد عملت الأيدي الآثمة أكثر ما عملت- وما زالت- على تغييبه وهجرانه، يساندهم في ذلك- عن علم أو غير علم- عملاؤهم الطامعون والغافلون الجهلة، وعلماء الدين المأجورون أو المنحرفون، والمتنسكون المتزمّتون المتحجّرون».

وهذا النصّ يشير بصراحة إلى مثلث التآمر برؤوسه الثلاثة.

وفي بداية ذات الخطاب أكّد على العنصر الأوّل والثاني باعتبارهما الأخطر؛ لأنّ العدوّ الداخلي أخطر بكثير من العدوّ الخارجي، حيث يقول:

«ومن المؤسف أنّ الأبعاد المختلفة والمتنوّعة لهذه الفريضة المصيرية العظيمة، بقيت مغيّبة من وراء حجب، بسبب انحرافات حكومات الجور في البلدان الإسلامية [العنصر الثاني]، ووعاظ السلاطين السافلين [العنصر الثالث- أ]، وسوء فهم بعض علماء الدين المتزمّتين المتحجّرين في العالم الإسلامي [العنصر الثالث- ب]».

ومن دون شك فإنّ العنصر الأخطر في هذه المؤامرة هو العنصر الثالث بكلا قسميه، وقد عانى الإمام منهم- كما صرّح بذلك- أكثر ممّا عانى من أمريكا!!

يقول الإمام: «وقد بلغ الأمر بهؤلاء المنحرفين إلى أن وقفوا معارضين لإقامة الحكومة الإسلامية، واعتبروها أسوأ من حكومة الطاغوت، وحصروا فريضة الحج الكبرى بظواهر فارغة، واعتبروا طرح مشاكل المسلمين والبلدان الإسلامية (في هذا المؤتمر الإسلامي المليوني) مخالفة للشريعة، بل يصل إلى حدّ الكفر!!

ص: 30

هؤلاء العملاء المرتبطون بالحكومات الجائرة المنحرفة صوّروا صرخة المظلومين المجتمعين من أرجاء العالم، وفي مركز النداء هذا، بأنّها زندقة مخالفة للإسلام!!

هؤلاء المهرِّجون- من أجل إبقاء المسلمين على تخلّفهم، وفتح الطريق أمام الغزاة والسلطويين... حصروا الإسلام في زوايا المساجد والمعابد، واعتبروا الاهتمام بأمور المسلمين مخالفاً للإسلام ولواجبات المسلمين وعلماء الإسلام!!».

وعاظ السلاطين يدينون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!

«إنّ الحجّ- منذ انبثاقه- لا يقلّ بعده السياسي أهميّةً عن بعده العبادي، بل إنّ البعد السياسي هو بذاته عبادة»، وإنّ «البعد السياسي» يمثِّل «إحدى حكم الحجّ الكبرى»، وإنّ «الحجّ إنّما هو لهذه المسائل (السياسية- الاجتماعية..) إنّما هو لقيام الناس قياماً للناس، لكي يدرك المسلمون مشاكلهم ويسعوا في حلّها».

ولهذا فإنّه خاطب عام 1403 ه، أحد وعّاظ السلاطين الذي أفتى بمخالفة الهتاف ضد أمريكا وإسرائيل لمراسم الحج وقدسيّة بيت اللَّه الحرام، قائلًا له:

«هل التأسّي برسول اللَّه واتّباع أمر اللَّه مخالف لمراسم الحجّ؟!

هل تنزهون مراسم الحج من البراءة من المشركين؟!

أتكتمون أوامر اللَّه ورسوله من أجل متاع الحياة الدنيا، وترون إعلان البراءة من أعداء الإسلام والظالمين كفراً؟!»

وفي نفس الخطاب، أكّد على الدور السيئ ل (وعّاظ السلاطين) في إفراغ الحجّ من محتواه ومضمونه بإبعاده عن السياسة والاجتماع، وأنّهم بمقولاتهم «يدينون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويدينون أئمّة الهدى».

وفي عام 1407 ه، أشار الإمام في خطابه التاريخي إلى تصاعد دور (العناصر الثلاثة) في الوقوف أمام الوعي السياسي لفريضة الحج ومناسكه، الذي بدأ ينتشر في صفوف المسلمين، وحذّر من تسخير (الناهبين الدوليين) لعلماء البلاط،

ص: 31

السلاطين؛ لإشاعة فلسفاتهم وتحليلاتهم الخاطئة والمنحرفة، التي تجرّد الحج من مقاصده السياسية وغاياته الاجتماعية تحت شعار (قدسية الكعبة وحرمتها). هذا إضافة إلى (المتنسكين الجاهلين) [العنصر الثالث- ب] الذين يرون أنّ الحج ليس له علاقة بالأمور السياسية.

يرى الإمام أنّ مقولات هؤلاء هي «من إيحاءات ومكر السياسات الخفيّة للناهبين الدوليين».

وفي آخر نداء تاريخي له وجّهه عام (1408 ه) إلى الحجيج الآتين من كلِّ فجٍّ عميق، سلّط الأضواء على الدور الخطير لمن أسماهم ب (أحفاد بلعم بن باعورا) في طمس فلسفة ومقاصد فريضة الحج، وتفريغها من محتواها الفاعل؛ ليكون الحج «ما هو إلّارحلة سياحية يتمّ فيها زيارة (القبلة) و (المدينة) لا أكثر!، وذلك من خلال تساؤلاتهم التعجبية الاستنكارية حول علاقة الحج بالسياسة ومشاكل المسلمين والناس المستضعفين في العالم:

ما علاقة الحج بالبحث عن أساليب الجهاد والنضال، وسبل مواجهة قوى الشرك والاستكبار؟!

ما علاقة الحج بالمطالبة بحقوق المسلمين والمستضعفين من الظالمين الجائرين؟!

ما علاقة الحج بمشاكل المسلمين ومعاناتهم، والتفكير بإيجاد الحلول لها؟!

ما علاقة الحج بظهور المسلمين كقوّة كبرى ومقتدرة في العالم؟!

ما علاقة الحج بدعوة المسلمين إلى القيام والنهوض والانتفاضة ضدّ الأنظمة الطاغوتية العميلة التي تتحكّم على رقابهم؟!».

أهم (المنافع) السياسية

في كثير من خطاباته السنوية في موسم الحج أعطى الإمام أهم المفردات السياسية والاجتماعية لمنافع ذلك الحشد المليوني الهائل للمسلمين الملبّين نداء الحجّ، من شرق الأرض وغربها.

ص: 32

ومن خلال استقراء تلك الخطابات والنداءات نستطيع أن نتلمس أهم تلك المنافع والمفردات:

المنفعة الأولى: قطع يد الاستكبار العالمي عن الامّة الإسلامية.

يصرّح الإمام في أكثر من خطاب بأنّه لا توجد منفعة أعظم وأسمى من قطع يد الاستكبار العالمي عن أمتنا الإسلامية بل عن المستضعفين جميعاً:

«وأيّ منافع أعظم وأسمى من قطع يد جبابرة العالم والظالمين من السيطرة على البلدان المظلومة، ومن أن تكون الذخائر المادية العظيمة للبلدان ملكاً لشعوبها؟!».

وفي خطابٍ آخر يقول:

«على المسلمين المجتمعين في مواقف هذه العبادة الرامية إلى تجميع المسلمين من كلّ أرجاء الأرض؛ ليشهدوا منافع لكلّ المستضعفين في العالم، وأيّ منافع أعظم من قطع يد الطامعين عن البلدان الإسلامية؟!».

المنفعة الثانية: التفاهم وترسيخ الاخوّة بين المسلمين.

يعتبر الإمام «أنّ واحداً من أهم أركان فلسفة الحج هو إيجاد التفاهم وترسيخ الاخوّة بين المسلمين».

ولا يكاد يخلو خطاب للإمام في موسم الحج من الدعوة إلى وحدة الكلمة بين المسلمين، وضرورة نبذ الفرقة والتمزّق والتشتّت الذي يسعى أعداء الإسلام إلى إبقائه والمحافظة عليه.

ولهذا يرى الإمام أنّ «من واجبات هذا التجمّع العظيم، دعوة الناس والمجتمعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة، وإزالة الخلافات بين فئات المسلمين. وعلى الخطباء والوعّاظ والكتّاب أن يهتمّوا بهذا الأمر الحيوي، ويسعوا إلى إيجاد جبهة للمستضعفين للتحرّر- بوحدة الجبهة ووحدة الكلمة وشعار (لا إله إلّااللَّه- من أسر القوى الأجنبية الشيطانية والمستعمرة».

ص: 33

من هذا النص يظهر جليّاً أنّ المنفعة الأولى (قطع يد الاستكبار) لا تأتي إلّا بتحقيق المنفعة الثانية (الوحدة والتآزر).

من هذا المنطلق يخاطب الإمام حجّاج بيت اللَّه الحرام كافة قائلًا:

«تبادلوا وجهات النظر، وتفاهموا لحلّ مشاكل المسلمين المستعصية.

اعلموا أنّ هذا الاجتماع الكبير الذي يعقد سنوياً بأمر اللَّه في هذه الأرض المقدّسة يفرض عليكم- أنتم المسلمون- أن تبذلوا الجهود على طريق الأهداف الإسلامية المقدّسة ومقاصد الشريعة المطهّرة السامية، وعلى طريق تقدّم المسلمين وتعاليهم واتحاد المجتمع الإسلامي وتلاحمه».

المنفعة الثالثة: اجتماع رجال السياسة في العالم الإسلامي

يرى الإمام أنّ هناك فرصة ذهبية لزعماء السياسة في العالم الإسلامي أن يستثمروا موسم الحج؛ ليعقدوا في مكّة مؤتمراً إسلامياً عالمياً يطرحوا فيه كلّ مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليكتشفوا لها الحلول الناجعة:

«على زعماء القوم أن يجتمعوا في مكّة المعظّمة استجابةً لأمر اللَّه تبارك وتعالى، وأن يطرحوا مشاكلهم بينهم ويتغلّبوا عليها. ولو حدث ذلك ما استطاعت القوى الاخرى أن تقف بوجههم مهما كانت عظمتها».

ويتساءل الإمام مستغرباً ومتعجّباً على ما آلت إليه أوضاع المسلمين:

لماذا يغفل المسلمون عن قدرة الإسلام العظيمة التي مكّنت شعباً ليغلب بيد خالية دولة غاصبة كبرى؟

لماذا تعيش الحكومات الإسلامية الغفلة عن هذه القوة العظيمة المقتدرة؟

لماذا تتلقّى الحكومات العربية الصفعات خلال السنوات المتمادية من الصهيونية؟

لماذا كلّ هذا الاستسلام والرضوخ لسيطرة القوى الأجنبية؟

لماذا لا يجتمعون ولا يتعاضدون ليكونوا تجسيداً لقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله: (وهم

ص: 34

يداً على من سواهم).

إنّ مشكلة المسلمين تكمن في العداء المرير بين الحكومات الإسلامية الذي أنشأه الاستعمار بعد الحرب العالمية.

من هذا المنطلق يقترح الإمام ذهاب رجال السياسة والفكر والأدب والثقافة إلى الحج، وأن لا يقتصر الحج على عامة الناس.

إنّه ينفث زفرات اللوعة والأسف على غفلة المسلمين عن هذا الأمر الحيوي والفاعل، حيث يقول:

«نحن الآن ليس لنا من التشرّف بمكّة وحجّ بيت اللَّه الحرام سوى ذهاب مجموعة من عامة الناس إلى هناك، ومع الأسف الشديد فإنّ مسألة ذهاب أشخاص فاعلين من الحكومات ورجال القوم (من أصحاب الفكر والكتاب والثقافة)؛ ليجتمعوا هناك ويدرسوا مسائل الإسلام والمسائل السياسية والاجتماعية للمسلمين، هذه المسألة مغفولٌ عنها.

إنّ مشاكل المسلمين كثيرة، ولكن مشكلة المسلمين الكبرى هي أنّهم وضعوا القرآن الكريم جانباً وانضووا تحت لواء الآخرين».

«القرآن الكريم يقول: واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا ولو عمل المسلمون بهذه الآية الواحدة؛ لانحلّت جميع مشاكلهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من دون التشبّث بالآخرين».

المبحث الثاني: آية البراءة من المشركين

انطلاقاً من آية البراءة: وأذانٌ من اللَّه ورسوله يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه، دعا الإمام الخميني الحجيج الآتين من كلِّ فجٍّ عميق ليشهدوا منافع لهم، إلى ضرورة إعلان البراءة من المشركين والمستكبرين في موسم الحج، وفي مكة المكرّمة؛ ليطلقوا «بجوار بيت التوحيد صرخة البراءة من المشركين والملحدين من مستكبر رأسه أمريكا المجرمة».

ص: 35

وما ركّز الإمام على آية من الآيات المباركة في فريضة الحج، كما ركّز على آية البراءة، حيث إنّه سلّط الأضواء الكاشفة على هذه الآية، ودعا بكلّ قوّة وإصرار إلى تجسيدها في واقعنا المعاصر.. حتّى لا نعيش التفسير الدلالي والمفاهيمي للقرآن بعيداً عن التجسيد والتطبيق.

ولا يكاد يخلو خطاب من خطابات الإمام في موسم الحج من ذكر لآية البراءة ودعوة إلى تجسيدها في واقعنا المعاصر.

ويمكن تلخيص تفسيره الدلالي والتطبيقي لآية البراءة بالنقاط التالية:

أوّلًا: إعلان البراءة: إحياء لذكرى حادثةٍ سياسية كبرى

يرى الإمام أنّ «إرسال سورة (براءة) لقراءتها في ذلك الجمع إنّما كان يستهدف تعليمنا ضرورة قراءة سورة براءة في ذلك المكان».

كما يرى أنّ إعلان البراءة في موسم الحج يعتبر «إحياءً لذكرى أهمّ وأكبر حركةٍ سياسيةٍ للرسول صلى الله عليه و آله، التي عبّر عنها القرآن بقوله: وأذانٌ من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه، ذلك لأنّ سنّة الرسول صلى الله عليه و آله وإعلان البراءة لن يبليا».

إنّ «إعلان البراءة من المشركين في موسم الحج، هو إعلانٌ سياسي- عبادي».

ومهما اختلف المفسِّرون في تعيين المراد من يوم الحجّ الأكبر- يوم النحر كما جاء في روايات أهل البيت عليهم السلام أو يوم عرفة أو جميع أيّام الحج- فإنّ الآية المباركة واضحة في دلالتها في إعلان البراءة من المشركين في أكبر يوم من أيّام الحج، حيث يجتمع المسلمون الآتون من كلّ فجٍّ عميق؛ ليشتركوا في مراسم إعلان صرخة البراءة تلك، وليكونوا على اهبة الاستعداد لإنفاذ أمر اللَّه فيهم بقتال أعداء اللَّه بعد انسلاخ الأشهر الحرم حيث وجدتموهم في أي زمان ومكان، في حلٍّ أو حرم، وبأيّ وسيلة ممكنة بالأخذ أو الحصر أو القعود لهم في كلِّ مرصد وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد حتّى يفنوا عن آخرهم، وتطهر الأرض

ص: 36

من وجودهم.

وقد ذكر المفسِّرون من الفريقين أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله كان قد بعث أبا بكر مع (براءة) ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: لا يبلِّغ عنك إلّاعلي، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليّاً أن يلحق أبا بكر ليأخذها منه ويقرأها على الناس.

فقد جاء في الدر المنثور للسيوطي: أخرج عبداللَّه بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند، وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي رضى الله عنه قال: لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه و آله دعا أبا بكر ليقرأها على أهل مكّة، ثمّ دعاني فقال لي؛ أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه. ورجع أبو بكر، فقال: يارسول اللَّه نزل فيَّ شي ء؟

قال: لا، ولكن جبريل جاءني فقال لي: لن يؤدّي عنك إلّاأنت أو رجلٌ منك».

وفي الدرّ المنثور كذلك: أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة، ثمّ بعث علياً على أثره، فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه، فقال النبي صلى الله عليه و آله: يا أبا بكر إنّه لا يؤدِّي عنّي إلّاأنا أو رجل منّي».

من هذا المنطلق يعتبر الإمام أنّ إعلان البراءة يمثِّل حدثاً تاريخياً عظيماً في مسيرة الإسلام بقيادة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قد حقّق انعطافة في الموقف تجاه المشركين وأعداء الدين، وأننا إذا قمنا بإعلان البراءة في موسم الحجّ فإنّما هو تأسٍ برسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإحياء لسنّته.

ولهذا يستنكر الإمام على فتاوى (وعّاظ السلاطين) و (علماء البلاط) من تحريمهم إعلان البراءة في مكة، وفي موسم الحجّ، بحجّة الأمن والسلامة وقدسيّة الكعبة المشرّفة!!

يخاطب الإمام ذلك «الواعظ العميل الذي يرى الهتاف ضدّ أمريكا واسرائيل مخالفاً لمراسم الحج»، قائلًا: «وهل التأسّي برسول اللَّه واتّباع أمر اللَّه مخالف لمراسم الحجّ؟!

ص: 37

هل أنت وأمثالك من الوعّاظ الأمريكيين تخطِّئون فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأمر اللَّه؟!

هل التّأسّي بتلك الشخصية الكبرى، وإطاعة أمر اللَّه تعالى مخالف للإسلام؟!

هل تنزّهون مراسم الحجّ من البراءة من الكفّار؟!

أتغطون على أوامر اللَّه ورسوله من أجل مصالحكم الدنيوية، وترون البراءة من أعداء اللَّه من محاربي المسلمين ومن الظالمين ولعنهم كفراً؟!».

ولم يشجب الإمام (وعّاظ السلاطين) فحسب، بل هناك ممّن يسمّيهم «المتنسكين الجاهلين» يدّعون- كذلك- أنّ حرمة وقدسيّة الكعبة المعظّمة، تنتهك برفع الشعارات وإقامة التظاهرات والمسيرات وإعلان البراءة!!

ويعتبر الإمام أنّ «مثل هذه الأقاويل هي من إيحاءات وخبث السياسات الخفيّة للناهبين الدوليين، ولابدّ للمسلمين أن ينهضوا، وبكلّ ما لديهم من إمكانات... لخوض المواجهة الجادّة، والدفاع عن القيم الإلهية ومصالح المسلمين».

ثانياً: الكعبة أجدر وأنسب بيت لإعلان البراءة

يتساءل الإمام متعجّباً ومستنكراً على أولئك الذين يعتبرون إعلان البراءة في موسم الحج يسيئ إلى فريضة الحج ومناسكها، كما يسيئ إلى قداسة البيت الحرام، قائلًا:

«وأيّ بيت أفضل وأنسب وأجدر من (الكعبة) المشرّفة، بيت الأمن والطهارة والناس؛ لإعلان البراءة، قولًا وعملًا، بوجه كلِّ أشكال الظلم والاستغلال والعبودية والدناءة واللإنسانية؟!».

«إذا لم يعلن المسلمون براءتهم من أعداء اللَّه، في بيت الناس وبيت اللَّه، فأين اذن يُعلنون البراءة؟!

وإذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب معاقل وسنداً لجنود اللَّه والمدافعين عن الحرم وحرمة الأنبياء، فأين إذن يكمن مأمنهم وملجأهم؟!».

ص: 38

ينطلق الإمام بنظرته هذه إلى دور الكعبة والمسجد الحرام، من منطلق القرآن، الذي تعطي آياته بكلّ صراحة ووضوح ذلك الدور العظيم الذي لا ينفكّ عن القيام والنهوض والبراءة من المشركين والمستكبرين.

الآية الاولى: جَعَلَ اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.

يرى الإمام: أنّ اللَّه عزّوجلّ في هذه الآية المباركة «يقرّر أنّ سرّ الحجّ وبواعثه والغاية من الكعبة والبيت الحرام هي نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس والجماهير المستضعفة في العالم».

لقد بدأ خطابه عام 1401 والموجّه إلى حجّاج بيت اللَّه الحرام، بآية القيام، أعطى فيه السبل التي تجعل من ذلك التجمّع المليوني في موسم الحج مصدر نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس المستضعفين في العالم.

ولن يتحقّق ذلك القيام إلّاإذا وعى المسلمون الآتون من كلِّ فجٍّ عميق مقاصد وأهداف الحج الكبرى، وعرفوا واجباتهم في ذلك «التجمّع الإلهي العظيم الذي لا تستطيع أيّ قدرة سوى قدرة اللَّه أن تعقده».

ودراسة مشاكل المسلمين، وبذل الجهود في سبيل إيجاد الحلول لها، هو الواجب الأوّل الذي يجب أن يضطلع به أولئك الحافّون حول بيت اللَّه الحرام.

ويرى الإمام: أنّ «إحدى أكبر هذه المشاكل وأكثرها أهمّية هي عدم الوحدة بين المسلمين وتمزّقهم وتشتّتهم».

«هذا المسجد الحرام ومساجد عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كانت مركز الحروب، ومركز السياسات والشؤون الاجتماعية والسياسية».

«لو أننا ذهبنا إلى الحج، ولم نأخذ بنظر الاعتبار مصالح المسلمين، بل وخلافاً لمصالح المسلمين نغطّي على الجرائم التي ترتكب بحقّهم، ولا ندع المسلمين يتداولون ما ترتكبه بحقّهم الحكومات والقوى الكبرى من جرائم ومظالم، فليس هذا بحجٍّ؛ لأنّه صورة فاقدة للمعنى، وشكل مفرّغ من المضمون».

ص: 39

الآية الثانية: وإذْ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود.

انطلاقاً من هذه الآية المباركة يرى الإمام أنّ «الكعبة التي هي أُمّ القرى وما امتدّ منها حتّى آخر نقطة في الأرض- وإلى آخر يوم من حياة العالم- ينبغي أن تطهّر من لوثة الأصنام مهما كانت هياكل أم شمساً أم قمراً أم حيواناً أم إنساناً. وأيّ منهم أسوأ من (الطواغيت) على مرّ التاريخ، ابتداءً من زمان آدم صفي اللَّه ومروراً بإبراهيم خليل اللَّه ومحمّد حبيب اللَّه... حتى آخر الزمان، حيث يرفع محطّم الأصنام الأخير نداء التوحيد من الكعبة؟!».

ويشجب الإمام النظرة الضيّقة الخاطئة للأصنام، التي تحصرها بالأصنام الحجرية فحسب، حيث يتساءل: «أَليست القوى الكبرى في زماننا هذا أصناماً كبرى تدعو الناس إلى طاعتها وعبادتها والخضوع لها، وتفرض نفسها عليهم بالقوّة والمال والتزوير؟!

مكّة المعظّمة هي المركز الوحيد لتحطيم هذه الأصنام. إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام، وحبيب اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله، وابنه العزيز المهدي الموعود- روحي فداه- رفعوا وسيرفعون نداء التوحيد في آخر الزمان من الكعبة المشرّفة».

«والمهدي المنتظر على لسان كلِّ الأديان وبإجماع المسلمين يَرفع نداءَه من الكعبة، ويدعو البشرية إلى التوحيد، والجميع يرفعون نداءهم من مكّة، وعلينا أن نتّبعهم، ونعلن كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة من ذلك المكان المقدّس».

«وما لم نعقد الاجتماعات الحيّة المدويّة في مركز تجمّع المسلمين (مكة المكرّمة)، وما لم نكسِّر الأصنام ونرجم الشياطين وعلى رأسهم الشيطان الأكبر في (العقبات)، لن يكون حجّنا حجّ خليل اللَّه وحبيب اللَّه ووليّ اللَّه المهدي العزيز، ولقيل في حقّنا: «ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج»!.

ص: 40

الآية الثالثة: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً وهُدًى للعالمين.

هذه الآية المباركة- كما يرى الإمام- تقرّر أنّه ليس هناك أولوية ببيت اللَّه على سائر الناس، لشخص أو مجموعة أو طائفة.. فإنّ الناس جميعاً، أينما كانوا، وفي أيّ بقعةٍ من بقاع الأرض، في مشارقها ومغاربها، مكلّفون أن يكونوا مسلمين، وأن يجتمعوا في هذا البيت الذي وُضع للناس، وأن يزوروا هذا البيت المقدّس.

«بيت اللَّه الحرام هو أوّل بيت وضع للناس، إنّه بيتٌ عام، ليس لشخص ولا لنظام ولا لطائفة حقّ الأولوية فيه، سواء فيه أهل البادية وسكنة الصحراء والمتنقلون، والعاكفون وسكنة المدن»: سواءً العاكفُ فيه والباد.

«هذا البيت المعظّم بني للناس، ولقيام الناس، وللنهوض العام، ولمنافع الناس، وأيّ منافع أعظم وأسمى من قطع يد جبابرة العالم والظالمين من السيطرة على البلدان المظلومة».

ثالثاً: صرخة البراءة هي صرخة المستضعفين المظلومين.

يرى الإمام أنّ إعلان البراءة لا يتجزّأ؛ لأنّه يمثِّل صرخة براءة المستضعفين والمحرومين بوجه المستكبرين الظالمين.. وبالتالي يُعبّر إعلان البراءة في موسم الحج من قبل المسلمين الآتين من أصقاع الأرض الإسلامية عن الرفض لكلّ الظالمين الذين يتحكّمون برقاب المسلمين.

يقول الإمام: «إنّ صرخة براءتنا من المشركين والكافرين اليوم هي صرخة البراءة من الظلم والظالمين، هي صرخةُ امّة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق والغرب، وعلى رأسهم أمريكا وأذنابها، وغضبُ مَن نُهب بيتها وثرواتها». ثمّ يقول:

«إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعب الأفغاني المظلوم ضد الاتحاد السوفيتي».

«وإنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعوب المسلمة المضطهدة في أفريقيا».

ص: 41

«إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعبين اللبناني والفلسطيني..».

«إنّ صرخة براءتنا هي صرخة جميع الذين ما عادوا يتحمّلون فرعنة أمريكا وتواجدها السلطوي..».

«إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الدفاع عن الشعوب والكرامات والنواميس..».

«إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الفقراء والجياع والمحرومين الذين نهب الجشعون والقراصنة الدوليون حصيلة كدِّ يمينهم وعرق جبينهم».

المبحث الثالث: آية سقاية الحاجّ

حرص القرآن الكريم على تحديد مقاصد وأهداف فريضة الحج ومناسكها، والدور الذي يضطلع به بيت اللَّه الحرام، واستنكر المحاولات التي تجعل ما ليس في المقاصد والأهداف والقيم مقصداً أكبر وهدفاً أسمى وقيمةً أعلى.

من هذا المنطلق نزلت آية (سقاية الحاج) لتحبط إحدى تلك المحاولات الخاطئة في تشخيص القيم والأولويات، على أثر تلك الحادثة المعروفة التي يذكرها المفسِّرون في أسباب نزول قوله تعالى:

أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه....

يرى الإمام الخميني أنّ هذه الآية الشريفة كأنها نزلت اليوم، وفي واقعنا المعاصر، حيث اعتبر بعض أنّ سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أكبر الأعمال والمنجزات والمقاصد في موسم الحج، وراح يفتخر بذلك.. من خلال الحديث عن الخدمات التي يوفّرها، والتوسعات المعمارية التي أنشأها، وما إلى ذلك من الامور التي تدخل تحت عنوان (سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام).

ولهذا يقول الإمام:

«كأنّ هذه الآية الشريفة نزلت في عصرنا، وتحكي عن حالنا، وتصف الانشغال بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام- مع الغفلة عن الإيمان باللَّه وباليوم الآخر،

ص: 42

والابتعاد عن الجهاد في سبيل اللَّه- بأنّه ظلم، وتعتبر الفاعلين لذلك ظالمين».

وقد نبّه الإمام إلى هذه الحقيقة القرآنية، قائلًا:

«ها أنا أغتنم هذه الفرصة؛ لأشير إلى إحدى آيات الكتاب الكريم، حيث يقول جلّ وعلا: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه واللَّه لا يهدي القوم الظالمين.

ويوضّح الإمام دلالات الآية المباركة بقوله:

«إنّ اللَّه سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: أنتم ذوي القلوب العمياء، أمِنَ الممكن أن تساووا بين سقاية الحجيج وعمارة المسجد الحرام، وبين أولئك الذين آمنوا باللَّه وبيوم الجزاء وجاهدوا في سبيل اللَّه؟!

حاشا أن تتساووا أنتم وأولئك، فاللَّه لا يهدي القوم الظالمين».

ثمّ يستفيد من سياق الآية المباركة نكتة رائعة، بذكر الجهاد في سبيل اللَّه بعد الايمان باللَّه واليوم الآخر، فيقول:

«إنّ ما يلفت النظر في هذه الآية هو أنّ اللَّه سبحانه قد ذكر الإيمان باللَّه واليوم الآخر، وقد اختار من بين كلِّ القيم الإسلامية الإنسانية، الجهاد في سبيل اللَّه ضدّ أعداء اللَّه وأعداء البشرية، وجاء به مباشرةً بعد الايمان باللَّه ويوم الجزاء، وقد علم المسلمون كافّة من هذا الاختيار أنّ أهمّية الجهاد تفوق كلّ شي ء».

ويؤكّد الإمام- في خطابٍ آخر، وانطلاقاً من آية (سقاية الحاج)- أنّ «سدانة البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام غير كافية، ولا ترتبط بالهدف والمقصد».

ولهذا يرى أنّ «بساطة البيت والمسجد- كما كانا عليه زمان إبراهيم عليه السلام وفي صدر الإسلام- مع تلاحم المسلمين الوافدين على ذلك المكان البسيط، أفضل ألف مرّة من تزيين الكعبة والأبنية المرتفعة فيها، مع الغفلة عن الهدف الأصلي، والمقصد الأساس المتمثّل بقيام الناس وشهود المنافع: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام

ص: 43

كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه واللَّه لا يهدي القوم الظالمين، كأنّ هذه الآية الشريفة نزلت في عصرنا، وتحكي عن حالنا!!».

المسجد: مركز انطلاق زحف القوّات الإسلامية

«إنّ المسجد في صدر الإسلام، كان دوماً مركز النهضة والتحرّكات الإسلامية.

من المسجد كانت تنطلق الدعوة إلى الإسلام. ومن المسجد كانت تزحف القوات الإسلامية لقمع الكفّار، أو لجذبهم تحت راية الإسلام».

«هذا المسجد الحرام ومساجد عصر الرسول صلى الله عليه و آله كانت مركز الحروب والمعارك، ومركز السياسات والشؤون الاجتماعية والسياسية. لم يكن مسجد النبي صلى الله عليه و آله مقتصراً على المسائل العبادية كالصلاة والصيام فحسب بل إنّ مسائله السياسية كانت أكثر، فمتى ما أرادوا إرسال المقاتلين إلى ساحات القتال والجهاد، وتعبئتهم في الحروب والمعارك، كان المسجد هو المركز والمنطلق».

لقد كان الإمام- وانطلاقاً من آيات القرآن التي تتحدّث عن الكعبة ودورها في القيام والنهضة- يرى أنّ البيت الحرام «اسس للقيام.. لقيام الناس، كما أُسس للنّاس.. فيجب- إذن- الاجتماع فيه لهذا الهدف الكبير، ويجب تحقيق منافع الناس في هذه المواقف المشرّفة»، ويؤكّد- انطلاقاً من آية (سقاية الحاج)- على أنّ «سدانة البيت وسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام غير كافية، ولا ترتبط بالهدف والمقصد».

ولهذا كان يخاطب الحجّاج الوافدين على بيت اللَّه بأن يتجهزوا من (مركز تحطيم الأصنام) لتحطيم الأصنام السياسية والطاغوتية في العالم، حيث يقول:

«أنتم يا حجّاج بيت اللَّه الحرام، يا من وفدتم من أقطار العالم وأكنافه على بيت اللَّه، مركز التوحيد ومهبط الوحي ومقام إبراهيم ومحمد الرجلين العظيمين الثائرين على

ص: 44

المستكبرين، وسارعتم للوصول إلى المواقف الكريمة التي كانت في عصر الوحي أرضاً يابسة وهضاباً قاحلة، غير أنّها كانت مهبط ملائكة اللَّه ومحلّاً لهجوم جنود اللَّه... اعرفوا هذه المشاعر الكبرى وتجهّزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الأصنام الكبرى التي ظهرت على شكل قوى شيطانية، وغزاة يمتصون الدماء، ولا تخشوا هذه القوى الفارغة من الإيمان. وفي هذه المواقف الكريمة، وبالتوكل على اللَّه العظيم، اعقدوا بينكم ميثاق الاتحاد والاتفاق في مواجهة جنود الشرك والشيطان، واحذروا من التفرّق والتنازع ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم».

«إنّ ريح الإيمان والإسلام- التي هي أساس النصر والقوّة- تزول وتذهب بالتنازع والتشرذم المنطلق من الأهواء النفسية والانانيات».

إعلان البراءة: الخطوة الأولى في طريق الجهاد والنضال

يؤكّد الإمام أنّ إعلان البراءة في موسم الحج، في مكة المكرّمة، ليس مجرّد «شعارات وهتافات» فحسب، بل إنّه يتعدّى ذلك «إلى تعبئة الأمة وتنظيم جنود اللَّه في مواجهة جنود إبليس».

ويصرّح: بأنّ إعلان البراءة «هو المرحلة الاولى في طريق الجهاد والكفاح، وأنّ مواصلة المراحل الاخرى هي من واجبنا، حيث إنّ أداءه في كلّ عصر وزمان يختلف باختلاف الأساليب ومتطلّبات العصر».

ويشجب الإمام تلك المحاولات التي تريد تفريغ الحج من مضمونه الجهادي الثوري التعبوي، من خلال:

أوّلًا: «إلقاء روح اليأس والعجز والخنوع في نفوس المسلمين».

ثانياً: «الإيحاء بأنّ محاربة ومقارعة الأنبياء للأصنام ولعبادة الأوثان، تنحصر وتقتصر على الحجارة والأخشاب الجامدة التي لا روح فيها، وأنّ أنبياء من مثل (إبراهيم) الذي كان سبّاقاً في تحطيم الأصنام، قد اقتصر عمله- والعياذ باللَّه- على تلك الأصنام الحجرية، وترك ساحة الجهاد وميدان النضال ضدّ الظالمين».

ص: 45

ويردّ الإمام على هؤلاء المتآمرين على الحقائق القرآنية والتاريخية بأنّ «كلّ ما أقدم عليه النبيّ إبراهيم من تحطيم الأصنام وجهاد النمروديين وعبدة الشمس والقمر والنجوم، ما هو إلّامقدّمة لهجرة كبرى، وإنّ كلّ تلك الهجرات والشدائد والصعاب والعيش في وادٍ (غير ذي زرع) وبناء البيت والتضحية بإسماعيل، كانت مقدّمة لبعثه ورسالة ختمت فيها الرسل، وضمّت عودة لحديث أوّل وآخر بناة ومؤسسي الكعبة، وأبلغت رسالتها الأبدية بكلامٍ خالد: إنّي بري ءٌ ممّا تشركون!

مقارعة الأوثان المعاصرة

يرى الإمام أنّ الاقتصار على الرؤية التاريخية القديمة للأصنام ومعابدها، يوصلنا إلى نتيجة خاطئة وهي: «عدم وجود صنم أو وثن وعبادته في هذا العصر»، ولذا يرى أنّه لا يوجد إنسان عاقل في الدنيا «لا يدرك عبادة الأصنام الجديدة وأحابيلها، ولا يعرف هيمنة معابد الأصنام في واقعنا المعاصر- كالبيت (الأسود) الأمريكي- على البلاد الإسلامية، وعلى أرواح وأعراض المسلمين والعالم الثالث..».

يرى الإمام أنّ عصرنا زاخرٌ بالأصنام والأوثان ومعابدها، وأنّ الطاغوت السياسي هو الصنم الكبير الذي دعانا القرآن إلى رفضه والثورة عليه:

فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

اللَّه وليّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.

إنّه الصراع التاريخي المرير بين أولياء اللَّه وأولياء الطاغوت، وما صراعنا المعاصر إلّاامتداد لذلك التصارع والتدافع، وتبقى المصاديق للطاغوت والظلمات ثابتة في مضمونها وإن اختلفت أشكالها.

ويعطي الإمام المصاديق المتنوّعة للظلمات:

ص: 46

(الجهل) و (المعصية) و (التبعية للغرب والانبهار به)، ويعتبر الأخير من أشدّ الظلمات «لأنّ جميع مشاكلنا ومصائبنا تكمن في أننا فقدنا أنفسنا، ونسينا مفاخرنا، وقضينا على كرامتنا واستقلالنا ووطنيتنا. كلّ هذه ظلمات، والطاغوت هو الذي أخرجنا من نور الاستقلال والوطنية والإبداع العلمي، إلى ظلمات التبعية والذيلية والشعور بالدونية».

بيد أنّ أكبر هذه الظلمات وأحلكها وأخطرها هي ظلمة (الأنانية) لأنها «العدوّ الأسوء من كلّ الأعداء، والوثن الأكبر من كلّ الأوثان، بل هي امّ الأوثان، وما لم يحطِّم الإنسان هذا الوثن لا يمكن أن يُصبح إلهياً؛ لأنّه لا يمكن الجمع بين اللَّه والوثن، وبين الإلهية والأنانيّة».

ومن منطلق هذه الرؤية القرآنية الرائعة والمعاصرة لمعنى (الطاغوت) و (الوثن) و (الصنم) يمتزج البعد السياسي- الاجتماعي لفريضة الحجّ بالبعد النفسي- العرفاني؛ ليشهد الحجيج الآتون من كلّ فجّ عميق منافع على أصعدة متعدّدة، وساحات متنوّعة، وميادين شتّى.

إنّ هذا الالتحام الرائع بين أبعاد الحجّ وآفاقه لا يتحقق إلّابوعينا لأبعاد (الطاغوت) ومصاديقه، التي تمتدُّ من ميدان النفس إلى ميادين القتال والجهاد والنضال.

ومن هنا ندرك مقولة الإمام ومدى دلالاتها العميقة:

«إنّ البعد (السياسي- الاجتماعي) للحج لا يتحقق إلّابتحقق بعده (المعنوي- الإلهي)»!

ولهذا يدعو حجّاج بيت اللَّه الحرام قائلًا:

«لتكن تلبياتكم تلبية لدعوة اللَّه، وليكن إحرامكم من أجل الوصول إلى ساحة الحضور الإلهي. وأنتم تلبّون ارفضوا الشرك بجميع مراتبه، وهاجروا من ذواتكم التي هي مصدر الشرك الأكبر إلى اللَّه عزّوجلّ».

ص: 47

ويتمنّى للحجّاج المهاجرين الوصول إلى «الوفاة التي تعقب الهجرة، لينالوا ما وقع على اللَّه من أجر».

وهذه إشارة واضحة إلى آية الهجرة: ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى اللَّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللَّه.

وآية الهجرة هذه طالما ركّز عليها الإمام في خطاباته ورسائله وكتبه إلى درجةٍ تكاد تكون في المقام الثاني بعد آية القيام، ذلك لأنه يؤمن إيماناً عميقاً بأنّ وصول السالك إلى مرحلة الفناء التام، والمحو المطلق، ثمّ الصحو بعد المحو، هو الذي يجعله ذا إرادة نافذة للحق تعالى، حينما يزول غبار الكثرة، وتتكسّر أصنام كعبة القلب، وما لم تتكسّر تلك الأصنام لا يمكن للإنسان أن يسعى في تكسير الأصنام الاخرى الحجرية أو البشرية المتمثِّلة بالطاغوت السياسي- الاجتماعي.

من هذا المنطلق يؤكّد الإمام على حقيقة بعثة الأنبياء والمرسلين، والمقصد الأساس وراء إنزال الكتب السماوية، قائلًا:

«لقد بعث الأنبياء كافّة، وأنزلت الكتب السماوية كافة، من أجل إخراج الإنسان من معبد الأصنام هذا- (الأنانية التي هي امّ الأوثان)- وتحطيمها، وتحويله إلى عابد للَّه»، وعندما يخرج الإنسان من ظلمات الأنانية «يصبح عاملًا للَّه، مقاتلًا في سبيل اللَّه».

من هذا المنطلق- أيضاً- يخاطب الإمام حجّاج بيت اللَّه قائلًا:

«ما دمتم مكبّلين بأغلال ذاتياتكم وأهوائكم وأنانياتكم لا تستطيعون الجهاد في سبيل اللَّه، ولا الدفاع عن حريم اللَّه».

«ولو تحقّق في الإنسان هذا الجانب العرفاني والمعنوي وحده، واقترنت التلبية- (لبّيك اللهمّ لبّيك)- صدقاً بنداء اللَّه تعالى، فإنّ الإنسان سيحقّق الانتصار في جميع الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية، وحتّى العسكرية.

وإنّ مثل هذا الإنسان لا يفهم معنى الهزيمة والفشل».

ص: 48

«بتلبيتكم قولوا (لا) لكلّ الأصنام. وأي صنم أكبر من الشيطان الأكبر أمريكا الطامعة؟!

أرفضوا كلّ الطواغيت الصغار والكبار.

اجعلوا قلوبكم في الطواف حول بيت اللَّه خالية من غير اللَّه، فإنّ الطواف يرمز إلى عشق اللَّه.

نزّهوا أنفسكم من أن تخاف من غير اللَّه تعالى.

تبرّأوا- مع عشق اللَّه- من الأصنام الكبيرة والصغيرة، ومن الطواغيت وأتباعهم..

وفي لمسكم للحجر الأسود بايعوا اللَّه لأن تكونوا أعداءً لأعداء اللَّه ورسوله والصالحين والأحرار..

اقتلعوا جذور الخوف من قلوبكم فإنّ كيد أعداء اللَّه- وعلى رأسهم الشيطان الأكبر- كان ضعيفاً، مهما تفوّقوا في وسائل القتل والدمار والإجرام..

وفي السعي بين (الصفا) و (المروة) اسعوا- بصدق وإخلاص- لتجدوا المحبوب، فإن وجدتموه يتقطع كلّ انشداد إلى الدنيا، وينقلع كلّ شكٍّ وتردّد، وتنفصم كلّ القيود، وعندها تتفتّح براعم الحرية وتتحطّم الأغلال التي كبّل بها الطواغيت عباد اللَّه، وأسروهم واستعبدوهم.

واتّجهوا إلى (المشعر الحرام) و (عرفات) بشعورٍ وعرفان، وزيدوا دوماً من ثقتكم بوعد اللَّه وحكومة المستضعفين، وتفكّروا بآيات اللَّه في هدوء وسكون.. وفكّروا في إنقاذ المحرومين والمستضعفين من مخالب المستكبرين.

اذهبوا إلى (منى) لتنالوا فيها الأماني الحقّة المتمثِّلة في تقديم أعزّ ما عندكم قرباناً على طريق المحبوب..».

«برجمكم (العقبات الثلاثة) عاهدوا اللَّه على رجم وطرد شياطين الإنس والقوى المستكبرة من بلدان العالم الإسلامي».

وهكذا تلتحم الثورة والعرفان، وتتعانق السياسة والعبادة، ويتزامن السعي

ص: 49

بين الصفا والمروة بالسعي نحو تحقيق الأماني الحرّة، ورجم العقبات برجم الطاغوت، وطواف الكعبة بالقيام والنهضة والثورة.

وهكذا- أيضاً- يتحوّل عيد الأضحى المبارك إلى عيد التضحية والبذل والفداء والعطاء في سبيل اللَّه، ومقارعة الظالمين والطاعنين؛ لأنّه «العيد الذي يذكّر الواعين بالتضحية الإبراهيمية، ويقدّم دروس الفداء والجهاد في سبيل اللَّه إلى أبناء آدم وأصفياء اللَّه وأوليائه».

لقد علّمنا إبراهيم- شيخ الموحّدين ومحطّم الأصنام ومؤسس الإيثار- كيف نعيِّد ومتى، «علّمنا وعلّم الجميع أن نقدّم أعزّ ثمار حياتنا في طريق اللَّه، ثمّ نعيِّد!!»:

فلمّا أسلما وتلّهُ للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين* إنَّ هذا لهو البلاءُ المبين* وفديناه بذبحٍ عظيم* وتركنا عليه في الآخرين.

الهوامش:

ص: 50

ص: 51

ص: 52

ص: 53

ص: 54

ص: 55

فتاوى الإمام في الحجّ

فتاوى الإمام في الحجّ

فتاوى الإمام في الحجّ

محمّد جواد الطبسي

عندما نتصفّح الآراء الفقهيّة للإمام الخميني رحمه الله في فريضة الحجّ نظنّ أنّ شطراً كبيراً منها صدرت طبقاً لرعاية الحاج وتسهيلًا عليه في بعض مناسكه.

ومن أجل ذلك ترك كثيراً من الاحتياطات، التي قالها بعض مراجع الإسلام رعاية لموقعهم المكاني والزماني، فإننا وإن لم يسعنا القول بأنّ كل فتاواه صادرة بالنظر إلى هذه المصلحة التسهيلية على العباد، ويمكن أن اجتهاده أدّى إلى هذا القول، ولكن بالقياس إلى كثرة احتياطات مراجع الإسلام في هذا المجال وقلّة احتياطاته، نخلص إلى هذه النتيجة: بأن فتاواه في الحج أسهل بكثير للعمل من فتاوى الآخرين.

ويشهد بذلك أنه أحال كلّ الاحتياطات في الحج إلى من لا يحتاط في ذلك، ممّا يؤكد أنه كان يريد التسهيل عليهم حتى في المواضع الاحتياطية بنحو الوجوب وإرجاعهم إلى الآخرين لئلا يقعوا في الحرج مهما أمكن.

فقال في جواب السائل: هل يجب عندكم الترتيب بين الرمي والذبح والحلق؟ وهل يمكن الرجوع إلى مجتهد آخر لا يرى الترتيب لازماً حتى في

ص: 56

حال الاختيار؟ وهل تجيزون الرجوع في حدّ المطاف إلى مجتهد قد توسّع في أمره؟

قال: رعاية الترتيب واجبة على الأحوط، ويمكن الرجوع إلى الغير في هذا الاحتياط وفي غيره من الاحتياطات».

وإليك جملة من هذه الفتاوى كما يلي:

1- وجوب تبعية حكم القاضي بثبوت الهلال:

أفتى الإمام رحمه الله بمتابعة قول الحاكم في ثبوت هلال شهر ذي الحجة وان لم يثبت عندنا، وإن لم يمكن العمل على طبق المذهب الحق بلا تقية وخوف.

وقال في بحث الوقوف بعرفات في المسألة السابعة: لو ثبت هلال ذي الحجة عند القاضي من العامة وحكم به ولم يثبت عندنا، فإن أمكن العمل على طبق المذهب الحق بلا تقية وخوف وجب، وإلّا وجبت التبعية عنهم وصح الحج لو لم تبين المخالفة للواقع، بل لا يبعد الصحة مع العلم بالمخالفة، ولا تجوز المخالفة، بل في صحة الحج مع مخالفة التقية إشكال...

وأجاب سماحته في المسألة 18 عن هذا السؤال:

ذكرتم أنه إذا حكم قاضي مكة بأنّ اليوم عيد ولم تكن على يقين بخلافه، تجوز لنا متابعته، فإذا كنّا نستطيع في هذا الفرض الاحتياط والإتيان بوقوف عرفات والمشعر وأعمال منى بدون محذور حتى نحرز الواقع، فهل يكون ذلك واجباً أم لا؟

قال رحمه الله: تجب التبعية حتى مع العلم بالخلاف.

2- كفاية الصلاة جماعة مع المسلمين:

وأفتى الإمام رحمه الله بجواز الصلاة خلف العامة، وبكفاية كلّ صلاة صلّاها في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف جماعة معهم ولا يحتاج إلى إعادة ذلك. فنراه حين سئل: هل يجب على من يصلّي الصبح جماعة مع المسلمين أن يعيدها بعد أن تضي ء السماء أم تكفي تلك الصلاة؟

فيجيب الإمام رحمه الله: الصلاة في الفرض المذكور جماعة صحيحة ولا إعادة.

ص: 57

3- جواز الصلاة بنحو دائري في المسجد الحرام:

وسُئل: لو صلّى في المسجد الحرام جماعة بنحو دائري بحيث كان واقفاً مقابل إمام الجماعة أو على جانبيه هل تحتاج الصلاة إلى إعادة؟

فأجاب رحمه الله: لا تجب إعادة الصلاة مع هذا الوضع الفعلي.

4- جواز السجود على السجّاد في مسجد النبي صلى الله عليه و آله

وأفتى سماحته بجواز السجود على السجّاد المفروش في المسجد النبوي الشريف، وبعدم وجوب اختيار مكان آخر غير مفروش، أو استصحاب حصير للسجود عليه، فقال: لا مانع من السجود في مسجد النبي على السجّاد، ولا يجوز وضع التربة، ولا يجب عليه اختيار المكان الموجود فيه حجر للصلاة، ولا يجب عليه أيضاً أن يأخذ معه حصيراً ونحوه، ولكن إن روعي ذلك بحيث لا يوجب الوهن، وأخذ معه حصيراً للصلاة وصلّى عليها بحيث يكون ذلك متعارفاً عليه عند سائر المسلمين فلا إشكال، لكن يؤكّد الاجتناب عن كلّ عمل يوجب الهتك والشهرة.

وأجاب عن السؤال التالي أيضاً:

هل يجوز بعد الإنتهاء من صلاة الجماعة في مسجد النبي السجود على سجّاد المسجد، أم يجب الذهاب إلى حيث يوجد حجر والصلاة عليه؟

فقال رحمه الله: لا يجب إختيار مكان يوجد فيه حجر.

5- عدم لزوم مراعاة مكة القديمة:

ومن فتاواه الميسّرة في مكة هو عدم وجوب مراعاة مكة القديمة لمسائل منها الإستظلال محرماً إلى المسجد الحرام وركوبه السيارات المسقفة وغير ذلك كما سيأتي، فعلى حسب رأي الإمام رحمه الله أنّ المحرم لو نزل مكة وإن كان البيت الذي نزل فيه بعيداً عن المسجد الحرام، فبما أنه يصدق أنه مكة ومن بيوت مكة، فلا بأس بالاستظلال منها نهاراً إلى المسجد الحرام، وهذه الفتوى في مقابل من احتاط بدخول المحرم من مكة القديمة ومن ذلك المكان، لا بأس بالاستظلال إذا اتجه إلى المسجد الحرام لأداء المناسك وإتيان العمرة. وإليك

ص: 58

بعض فتاواه:

أ- جواز الاستظلال من منزله وإن كان بعيداً:

قال الإمام رحمه الله: بعد وصول المحرم إلى المنزل ولو إلى الأماكن الجديدة في مكة البعيدة عن المسجد الحرام، يجوز الذهاب منها إلى المسجد بسيارة مسقوفة كما يجوز الاستظلال.

ب- جواز الاستظلال من التنعيم إلى مكة

وهكذا أفتى بجواز الاستظلال من التنعيم إلى مكة لو أحرم منها وأراد الاستظلال، أو أراد أن يركب السيارات المسقفة للذهاب إلى المسجد الحرام.

وأجاب عن سؤال السائل: ما حكم الاستظلال لمن أحرم في التنعيم؟

قال: حيث إنّ التنعيم جزء من مكة ومكة منزل من المنازل، فلا مانع من الاستظلال في فرض السؤال.

وأجاب عن السؤال التالي: ميقات العمرة المفردة مكة، فهل يستطيع من أحرم فيها لعمرة مفردة أن يركب سيارة مسقوفة أم لا مع الالتفات إلى أن مكة محل سكنه؟

الجواب: لا مانع منه في الفرض المذكور.

ج- جواز إحرام الحج من كل مكان يصدق عليه مكة:

قال في مناسكه: محل الإحرام للحج مدينة مكة في أي موضع منها حتى الأمكنة الجديدة.

وأجاب عن هذا السؤال بأنّ: هناك أماكن جديدة مستحدثة في مكة تبتعد عن المسجد الحرام أكثر من 18 كيلومتراً، ولعلّها عرفاً من توابع مكة دون أن تكون من مكة؛ لأنهم عندما يضعون اللافتات يحدّدون فيها أين تبدأ مكة، فهل يمكن الإحرام في تلك الأماكن؟

الجواب: إن كانت من محلّات مكة فلا مانع، وإن لم تكن أو شكّ في كونها كذلك فلا يصح.

وسُئل أيضاً أنه: تحيط بمكة عدّة جبال شاهقة ومرتفعة وقد بنى على طرفي الجبل، فأحياناً يحتاج الذاهب من أحد الجانبين إلى الآخر لاجتياز عدّة كيلومترات، علماً بأن سكان أحد الجانبين منفصلون عن الجانب الآخر

ص: 59

مثل شعب بني عامر القريبة من المسجد الحرام والعزيزية التي هي في الجانب الآخر على بُعد 9 كيلومترات أو أكثر، لكن حسب المسافة العرفية يقال لجميع هذه النقاط مكة، فهل يصح الإحرام لحج التمتع من هذه النقاط وشبهها أم لا؟

الجواب: إن كانت من مكة صحّ الإحرام منها للحجّ، وإن كانت الأبنية حديثة البناء.

6- جواز الاستظلال في الليل

وأفتى سماحته بجواز الاستظلال ليلًا لمن أراد السير من مسجد الشجرة أو الجحفة في حال الإحرام إلى مكة في مقابل من قال بالاحتياط الوجوبي في ذلك.

فقال: يجوز الاستظلال في الليل، فيجوزللمحرم الذهاب إلى مكة بسيارة مسقوفة في الليل لكن لا يجوز في النهار، وإن كان هناك كثافة غيوم، إلّا إذا كانت هناك ظلمة بحيث لا يصدق الاستظلال.

7- عدم لزوم إعادة الأعمال لثلاث طوائف لو انكشف الخلاف:

وقال عند البحث عن جواز تقديم أربع طوائف المناسك الخمسة الباقية بعد أيام التشريق من الطواف وصلاته والسعي وطواف النساء.

المسألة 3: لا يجوز تقديم المناسك الخمسة المتقدّمة على الوقوف بعرفات والمشعر ومناسك منى اختياراً ويجوز التقديم لطوائف:

الأولى: النساء إذا خفن عروض الحيض أو النفاس عليهنّ بعد الرجوع ولم تتمكّن من البقاء إلى الطهر.

الثانية: الرجال والنساء إذا عجزوا عن الطواف بعد الرجوع لكثرة الزحام، أو عجزوا عن الرجوع إلى مكة.

الثالثة: المرضى إذا عجزوا عن الطواف بعد الرجوع للازدحام أو خافوا منه.

الرابعة: من يعلم أنه لا يتمكن من الأعمال إلى آخر ذي الحجّة.

مسألة 4: لو انكشف الخلاف فيما عدا الأخيرة من الطوائف، كما لو لم يتفق الحيض والنفاس أو سلم المريض، أو لم يكن الازدحام بما يخاف منه، لا تجب عليهم إعادة مناسكهم وإن كان أحوط.

ص: 60

8- من خالف الترتيب يوم العيد سهواً أو جهلًا:

لا يخفى أنّ على الحاج في يوم العيد ثلاثة أعمال: الرمي والهدي والحلق أو التقصير، فيجب عليه أن يأتي بهذه الأعمال بالترتيب المذكور، فلو قدم كلًاّ من الحلق والهدي على الرمي عمداً، يجب عليه الإعادة بنحو الترتيب المذكور إلّاالساهي والجاهل على فتوى الإمام رحمه الله فإنه لا يجب عليه إعادة الأعمال للحصول على الترتيب المذكور.

قال الإمام الخميني رحمه الله: الأحوط تأخير الحلق والتقصير عن الذبح وهو عن الرمي، فلو خالف الترتيب سهواً لا تجب الإعادة لتحصيله، ولا يبعد إلحاق الجاهل بالساهي.

9- جواز الرمي من الطابق الأعلى:

ومن فتاواه الميسّرة في الحج أنه أفتى بجواز الرمي من الطابق الأعلى بخلاف من احتاط في ذلك، وقال: يجوز الرمي في الطابق الثاني للجمار، ولا يجب الرمي في الطابق الأوّل.

10- جواز الحلق في الليل:

وقال رحمه الله في المسائل المتفرّقة في الحلق في المسألة الثانية:

والحلق في الليل صحيح أيضاً ومجزٍ.

11- كفاية الذبح في الليل:

وأفتى أيضاً بكفاية الذبح في الليل في مقابل من احتاط أو قال بعدم الإجزاء، فقال في المسائل المتفرّقة في الهدي في المسألة الخامسة:

لا يجوز تأخير الذبح عن يوم العيد عمداً على الأحوط، لكن لو أخّر عمداً أو جهلًا أو نسياناً يكفي الذبح في الليل.

12- كفاية الذبح في المسلخ الجديد:

قال رحمه الله: يقال: إنّ المسلخ الفعلي قد أخذ شيئاً من وادي محسر، وفي هذه الحال ليكن الذبح في منى إن أمكن ولو بالتأخير إلى آخر ذي الحجّة، لكن الذبح في المسلخ الجديد مجزٍ.

13- كفاية صلاة الملحون لمن لا يقدر على التصحيح:

وأفتى الإمام أيضاً بكفاية صلاة الطواف للذي حاول على تصحيح صلاته، أو ضاق الوقت ولم يقدر على

ص: 61

إتيان الصلاة الصحيحة من حيث القراءة فإنّه قال بكفاية صلاة الملحون ولم يحتط كما احتاط الآخرون من إتيان الصلاة جماعة، أو من يصلّي عنه نيابة وأنه وإن احتاط في صورة الإمكان لتلقين هذا الشخص هذه الصلاة أو الاقتداء بشخص عادل، ولكن صرّح بأنه لا يكتفى به ولا بالنائب، ويجب عليه إتيان الصلاة بنفسه بأي صورة أمكن. فقال: لو لم يتمكّن من القراءة الصحيحة ولم يتمكّن من التعلّم، صلّى بما أمكنه وصحّت ولو أمكن تلقينه فالأحوط ذلك، والأحوط الاقتداء بشخص عادل، لكن لا يكتفى به كما لا يكتفى بالنائب.

14- كفاية طواف نساء واحد عن عمرات متعدّدة:

وأفتى أيضاً بكفاية طواف نساء واحد عن عمرات متعدّدة في مقابل من احتاط بعدم كفاية طواف نساء واحد وقال: لكلّ عمرة طواف نساء.

وقال: إذا أتى الشخص بعدّة عمرات مفردة، لكن من دون طواف النساء يكفي عن الجميع طواف نساء واحد.

15- عدم وجوب الرجوع إلى منى لمن خرج قبل الزوال وإن عصى:

وأفتى أيضاً بعدم وجوب رجوع الحاج إلى منى للنفر في اليوم الثاني عشر بعد الزوال لمن خرج من منى قبل الزوال، وإن عصى بخروجه قبل الزوال.

في قبال من احتاط لذلك وقال برجوعه ليصدق النفر.

قال رحمه الله: إذا أتى الحاج إلى مكة قبل الزوال لا يجب عليه العود إلى منى للنفر بعد الظهر، وإن كان لا يجوز له الذهاب إلى مكة قبل الزوال.

16- جواز خروج من لم يأتِ بأعمال مكة:

وأفتى أيضاً بجواز خروج من فرغ من أعمال منى ولم يأتِ بعد، بأعمال من بعد منى، أن يخرج من مكة ويرجع متى شاء ويأتي بأعمال مكة، وله أن يؤخّر الأعمال إلى آخر ذي الحجّة.

فقال في جواب السائل: هل يمكن الخروج من مكة بعد الإتيان بأعمال منى وقبل الإتيان بأعمال مكة؟

فأجاب رحمه الله أنه: لا مانع فيه.

ص: 62

17- عدم وجوب تثليث الهدي:

ومن فتاواه الميسرة في هذا المجال عدم إلزام تقسيم الهدي إلى ثلاثة أقسام، كما ألزمه بعض ولو بنحو الاحتياط.

فقال رحمه الله: لا يجب تقسيم الهدي ثلاثة أقسام وبيع حصّة الفقير أو هبتها قبل الذبح وبدون القبض باطل، وعليه فما يقوم به البعض إذ يدعون الفقراء أو الوكالة عن فقير ويبيعون ثلث الفقير من الذبيحة للحاج أو يهبونه إيّاه غير صحيح.

كان هذا عرضاً موجزاً لبعض الفتاوى الفقهية الميسّرة للإمام رحمه الله في الحج، ومن أراد أكثر من ذلك فعليه بالمناسك وسائر الاستفتاءات المخصّصة بذلك.

الهوامش:

ص: 63

ص: 64

الابداع السياسي عند الامام الخميني (قدس سرّه)

الابداع السياسي عند الامام الخميني قدس سره

الابداع السياسي عند الامام الخميني قدس سره

خضير جعفر

الفرادة التاريخية التي اتسمت بها شخصية الإمام الخميني قدس سره صيّرت منه رجلًا استثنائياً بكلّ ما تحمل الكلمة من معان فرضت نفسها على الواقع، الذي أطلّ عليه الإمام رضى الله عنه ليهبه من روحه ما لوّن به وجه الحياة وألبسها من برود الثورة وأردية الثوار أكاليل فخار سوف تظل معالم مجدها تحكي قصة الثورة الاسلامية، التي فجرها الخميني الخالد في عصر جديب راهن فيه الكثيرون على استحالة عودة الاسلام الى صلب الحياة برنامج عمل ونظام حكم ومنهج حياة، وإلى الحد الذي كان يتراءى للمحللّين السياسيين أنّ هذا الثائر المارد لا يمكن إلّاأن يكون أحد الساسة اليساريين، وإلّا كيف يمكن لعالم دين يناهز السبعين عاماً أن ينطلق في نهايات القرن العشرين من خارج اللعبة الدولية؛ ليؤسس نظاماً إسلامياً في منطقة امتيازات استراتيجية لا يمكن أن تغفل الدول الكبرى عنها لتنتصب بؤرة ثورة ومثابة ثوار يتبنون الاسلام فكراً وعقيدة ونظاماً، ولذلك جاءت الثورة الاسلامية مباغتة للعالم الذي صحا في الحادي عشر من شباط 1979 م على صوت زلزال هزّ العالم.

ص: 65

وكما حيّر الخميني العظيم دهاقنة السياسة وأساطينها عند انتصاره، فقد حيّرهم أيضاً أداؤه السياسي بعد الانتصار حينما قلب الطاولة على رؤوس المنظّرين السياسيين وأثبت بطلان مقولاتهم، فظلّوا أمام إبداعاته مبهورين، قد سمّرت عمامته السوداء أبصارهم، وهم في حالة ذهول لا يدرون ماذا تخفي تلك العمامة من أفكار في رأس رجل أبى إلّاأن يتمرد على الدنيا، ويلوي أذرع الممسكين بأسباب القوة فيها؛ ليعلن عندها قانون (عجز القوة المادية) عن قهر إرادة الشعوب وقادتها الأحرار الكبار.

فلقد كانت ولادة الثورة الاسلامية بقيادة ربّان سفينها الامام الخميني ولادة قيصرية عسيرة راهن الكثيرون على إمكانية إجهاضها من قبل القوى الكبرى، التي لا يروق لها ولادة ثورة خارج رحم اللعبة الدولية في عالمنا الاسلامي، لكن الخميني العظيم الذي أصرّ على الإبحار باتجاه معاكس لمجاري المياه الاستكبارية وتياراتها الجارفة كان مع النصر على موعد قد آمن به من الأعماق معتمداً على الأمل بنصر اللَّه ومتوكئاً على الثقة التي منحتها له الجماهير.

فانطلق الإمام عملاقاً مارداً لا يعرف التوقف ولا الالتفات الى الوراء؛ ولذلك تميّز بصلابة المواقف رافضاً أنصاف الحلول أو الهدنة المؤقتة رغم علمه بفداحة الخسائر، وأنهار الدماء التي سالت في شوارع طهران والمدن الايرانية الأخرى، وكأنه يعلم أنّ شجرة الثورة عطشى لتلك الدماء النازفة، ولا يمكن أن يتوقف النزف إلّاعند الانتصار، أو كأن شجرة الثورة لا يمكن أن تثمر نصراً حتى ترتوي؛ ولذلك كلما أصرّ شاه ايران على تصفية الحساب مع الشارع الثائر بالمزيد من الرصاص والموت والدماء أصرّ الخميني على المواجهة ومهما كانت التضحيات الى أن أبطل نظريّة الحكم الشاهنشاهي القائمة على القمع والمراهنة على العنف، فسقطالشاه بسقوط تلك النظرية، التي لم تقوَ على مقاومة تيار الثورة الهادر والمصمم على مواصلة الدرب حتى النهاية. عندها لم يجد الشاه مخرجاً من هذا النفق

ص: 66

المسدود غير التوجه الى مطار مهرآباد ليترك إيران فارّاً بجلده غير مأسوف عليه.

وما إن انتهت ملحمة المواجهة الخمينية مع قوات الشاه، إلّالتبدأ مرحلة ثانية في مواجهة واجهة أخرى من صنائع الشاه من عسكريين مغامرين ومدنيين طامحين في السلطة، لكن الإمام ظلّ مصرّاً على المواجهة حتى أسقط من خلّفهم الشاه بطهران فسقطوا واحداً تلو الآخر؛ ليعلن عندها بثقة واطمئنان كلمته الشهيرة في مقبرة (جنة الزهراء) بطهران: (أنا الذي سأعيّن الحكومة).

وما إن أعلن الحكومة المؤقتة حتى التفت الى الجماهير ليستفتيها في نوع الحكم الذي تريد محدداً خياراتها بين أمرين: نعم للجمهورية الاسلامية أم لا.

فجاءت النتائج لتقول (نعم) وبنسبة تناهز الإجماع؛ ليثبّت بذلك حجر الزاوية للنظام الاسلامي، وليؤسس عليه دستور البلاد، فيقطع الطريق على كلّ محاولات الالتفاف المستقبلية، التي ربما يسعى لها الذين في قلوبهم مرض يوماً ما، وليظل ذلك التصويت الجماهيري وذلك الدستور صمام أمان وضمانة كبرى لديمومة الحكم الاسلامي الذي اختارته الأمة وصوّتت لصالحه الجماهير المسلمة، ومن هنا يمكن القول: إنّ الإمام الخميني قد قسّم التاريخ المعاصر الى حقبتين: حقبة ما قبل الخميني وحقبة ما بعده، وإذا ما كانت الحقبة الأولى قد تميّزت بالهيمنة الاستكبارية والتفرعن الطاغوتي في مقابل الانسحاق والشعور بالتبعية من قبل المسلمين، وإذا ما اتسمت الحقبة الأولى أيضاً بالاستئثار؛ الاستكباري والاستهتار؛ ليشعر معها المسلمون بالتهميش والإلغاء والمصادرة والحيف، فإنّ حقبة ما بعد الخميني قد غيّرت المعادلة لصالح الاسلام والمسلمين، وحوّلتهم من مواقع الهزيمة الى خنادق المقاومة، ومن مواضع الإنزواء والإنكفاء الى خطوط التحدي والتصدي، بل ومن مواضع الدفاع الى مواقع الهجوم، وبذلك صيّر الإمام الخميني من الأرقام المهمشة للجماهير رقماً صعباً يستعصي على الإلغاء والشطب والتغييب في كلّ المعادلات السياسية، وكان رهان الإمام في منازلته مع الحكم

ص: 67

الطاغوتي على الأمة وحركتها ومقاومتها وتضحياتها، رافضاً ما تعارف عليه ثوار العالم الثالث من منطق الانقلابات العسكرية، التي لا دور فيها للجماهير إلّا الاستماع الى الراديو والتلفزيون، وهما يعلنان البيان الأول للثورة، وعندها تتساءل الجماهير عن هوية الثورة وقادتها الذين يمتطون ظهور الدبابات ويعلنون حالة الطوارئ ومنع التجول الى إشعار آخر. في حين تحرك الإمام الخميني من وسط الجماهير وقادها لمواجهة الدبابات والقوات العسكرية، التي عجزت عن مواجهة الشارع حتى أذعنت لصموده وإصراره بعد حين.

عناصر القوة في قيادة الإمام

يمكن إجمال عناصر القوة في قيادة الخميني للشارع الايراني بما يلي:

1- الشخصية الفذة للامام، التي امتلكت من قوة الايمان باللَّه والثقة بالجماهير والوضوح في الرؤية والفهم الواعي للواقع ما مكّنها من خوض معتركات الجهاد وسوح المنازلة دون تردد، غير هيابٍ مما لدى السلطة من وسائل ردع وأسباب قوة ودعم خارجي ووسائل إعلام قادرة على تزييف الحقائق وتضليل الجماهير.

2- قدرة الإمام الخميني على ربط الشارع بالشريعة، وتبني الطرح الاسلامي حلًاّ لمشكلات الحياة والمجتمع، وبذلك استطاع الإمام أن ينفذ الى عمق الانسان ويوظف كلّ قدراته في هذا الاتجاه، ومن هنا فإنّ الإمام الخميني تمكّن من أسلمة الصراع وإضفاء الطابع العقائدي والايديولوجي على حركته المباركة فتعامل الجمهور معها على أنّها تكليف شرعي يتطلب بذل المال والجهد والروح دونما منّة أو استكثار، وبذلك لم يُمنِّ الإمام أتباعه بمصالح دنيوية ومكاسب مادية، وإنما وضع مفهوم رضا اللَّه نصب أعين جمهوره، وصيّر من ثقافة الاستشهاد في سبيل اللَّه منبعاً متدفقاً بالعطاء لا يطاله الجدب ولا يخشى عليه الجفاف، ولذلك اندفع الشارع الايراني باستبسال نحو فوهات المدافع والرشاشات والدبابات حتى إذا ما سقط شهيد برصاص قوات الشاه تدافع الجمهور على حمله وتشييعه وهم

ص: 68

يصبغون أيديهم وثيابهم بدمه، عندها أدرك الشعب أنّ من يطلب الموت ستوهب له الحياة، كما أدرك الشاه أنّ المستميت لا يموت؛ ولذلك صار المواطن العادي يقع على الموت وهو يبحث عنه ولا ينتظر الموت لكي يقع عليه.

3- اعتماد الإمام الخميني على الامكانات الذاتية، ولم يفكر- مجرّد تفكير- بالاتكاء على الغير، فقد رفض الارتباط بأية قوة أجنبية، وتوجه للجمهور الذي لم يبخل على قائده بالغالي والنفيس فأعطاه من المال ما موّن الثورة بأسباب الديمومة والتصعيد، ومن الجهد ما دوّخ به النظام وأجهزته الأمنية، التي عجزت عن إيقاف عملية الثورة أو تعطيلها كما قدّم أنهار الدماء؛ ليصيّر منها زيتاً يتوقد بوعي وإيثار كي لا تنطفئ شعلة الثورة الوهاجة النيّرة.

إنّ الإمام الخميني لم يكن يرى ضرورة للاعتماد على أية قوة خارجية، بل كان يرى في ذلك خطراً على الثورة ومستقبلها خاصة وأن القوى الداعمة لأية ثورة لا يمكن أن تدعمها حُبّاً في سواد عيون الثوار، وإنّما كان لها مصالحها وحساباتها، التي قد تتقاطع مع مصالح الثورة وطموحات جماهيرها، هذا فضلًا عن تشخيص الإمام بأنّ عالمنا المادي لا وجود فيه لقوة يمكن أن تناصر الاسلام وقيمه الخيرة وجماهيره الثائرة؛ ولذلك قطع الطريق على من كان يفكر بمدّ جسور التفاهم مع الآخرين لدعم الثورة، وبذلك تمكن من قطع الأيدي الخارجية عن التدخل بالثورة، وشؤونها، فحفظ للثورة أجيالها، ومنحها فضيلة الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتي، فعزّز قوتها وضمن ديمومة حركتها وسلامة خطّها من الانحراف، وقد انطلق الإمام في هذا النهج من خلال رؤية قد تفرّد بها في تقسيم العالم الى معسكرين:

أولهما: معسكر المستكبرين الذي يضم القوى الكبرى وعملاءها المحليين الذين تعاقدوا مع أسيادهم الكبار على خدمة مصالحهم في المنطقة وحراستها حتّى لو اقتضى ذلك قمع شعوبهم واضطهادها ونهب خيرات بلدانهم وتسليمها للأجانب

ص: 69

أولياء نعمة العملاء المتحكمين في رقاب شعوبهم بقوة الحديد والنار.

وثانيهما: معسكر المستضعفين، والذي يضمّ كلّ ضحايا القمع والاضطهاد من شعوب الأرض المغلوب على أمرها والتواقة للتحرر والانعتاق، ووفق هذه الرؤية الموضوعية الجديدة يكون الإمام الخميني قد صنّف الواقع السياسي بدقة لينحاز بشكل طبيعي للمعسكر الثاني، الذي لم يجد معه المستضعفون خياراً غير الانتماء لخط الإمام ومناصرته.

أمّا القوى الكبرى فلأنها متورطة بالأساس في قمع الشعوب وقهرها؛ ولذلك لا يرى الإمام الخميني في الاتكاء عليها أو التعاون معها إلّاعملية تكريس للقمع والقهر والاضطهاد، ولا يمكن للمستكبرين أن يكونوا أنصاراً للثوار والأحرار والمستضعفين حينما يتورون على القهر ويتمردون على الطغيان، ولذلك لم يجد ضرورة ولا مبرراً للاعتماد على القوى الأجنبية ودعمها للثورة والثوار.

4- مصادرة الإمام لكلّ الشعارات، التي طرحتها القوى السياسية إبّان الثورة رغم راديكاليتها، وبذلك استقطب اهتمامات الشارع الايراني، الذي وجد في نهج الإمام صلابة الموقف وأصالة التفكير والرؤية الواضحة للأهداف، وبالتالي لم تملك القوى السياسية غير خيار المتابعة واللحوق بركب الخط الخميني المتسارع الخطى، كما فوّت الفرصة على الذين كانت أنفسهم تحدّثهم بالمرونة وترحيل المطالب والرضا ببعضها، وتأجيل البعض الآخر منها لوقتٍ قد يحين فيما بعد، في حين كان الإمام الخميني يرى أنّ الثمرة الناضجة قد حان قطافها، وأنّ التراخي في حسم الموقف هو ضياع للفرص، ومنح النظام الطاغوتي مجالًا لترتيب اوضاعه المنهارة وإعطاؤه فرصة مثالية لإعادة تنظيم قواه، ومن ثم الإجهاز على الثورة وتشتيت قواها.

5- استحضار الإمام الخميني للرمز الاسلامي الأمثل، الذي يشكل في وعي الجماهير، وفي عمق تفكيرها النموذج الاسلامي الجدير بالاقتداء به، فكانت

ص: 70

شخصية الرسول صلى الله عليه و آله وحكومة الإمام علي وعدله، وتضحيات الإمام الحسين وصحبه، ومواقف الزهراء البتول وجهادها حاضرةً في ميدان المواجهة وشاخصةً في الذاكرة. ولم يترك الامام الخميني فرصةً إلّاويذكّر الأمة بمواقف هذه الشخصيات العظيمة، ودورها في معركة الحق ضد الباطل، وبذلك يكون الإمام قد قفز بأفكار الجماهير وعنفوانها الثوري الى القمة، وهي ترى نفسها على نفس الخط الذي سار عليه النبيّ وأهل بيته الكرام عليهم السلام. مما موّن النهضة الخمينية بزخم ثوري هائل لا يمكن توفيره دون استحضار تلك القمم الشامخة، واستذكار مواقفها التاريخية الرائعة.

6- التنظيم الهرمي للثورة الذي اعتمده الإمام الخميني كان له أكبر الأثر في ربط مفاصل التحرك الجماهيري، حيث تربّع الإمام على قمة الهرم وأشرف عليه بشكل مباشر من خلال دائرة الخبراء والمقربين من أنصاره ومؤيديه من رجال الثورة وعلماء الحوزة العلمية، الذين شكلوا الدائرة الأقرب للإمام، والذين ارتبطوا بوكلاء السيد الإمام في كلّ المدن والقرى الايرانية، والذين كان لهم تماس يومي مع الجماهير هناك، وبذلك التنظيم أوجد الإمام عملية ارتباط مباشرة ومتبادلة بينه وبين الجماهير من خلال النسغ النازل، الذي كانت تمثله تعاليم الإمام للجماهير وتوجيهاته لها سواء عبر النقل الشفوي أو التحريري أو الصوتي المباشر من خلال (الكاسيت) فكانت تعاليمه رضوان اللَّه عليه تصل إلى أقصى نقطة في ايران بوقتٍ قياسي، بينما تواصل النسغ الصاعد من القاعدة الجماهيرية الى الإمام القائد من خلال قنوات التوصيل، التي وفّرها هذا التنظيم الهرمي المتماسك، وبذلك كان الإمام على بيّنة من نبض الشارع وأحاسيسه ومشكلات الثورة وإنجازاتها وهمومها واهتماماتها.

أما الجماهير التي تتابع حركة الإمام وتنفّذ قراراته فقد كانت تدرك أيضاً متابعة الإمام لحركتها، وبالتالي فقد أدى هذا التواصل الى تعميق الصلة بين

ص: 71

الجماهير والقيادة، واختزل بينهما المسافات والفواصل، وصيّر من قرارات الإمام وتوصياته مواقف ميدانية تلامس الواقع وتساير ايقاعاته عن كثب.

7- الروح الاستيعابية للإمام جسدت مقولة السياسيين وهم يعرّفون السياسة بأنها فنّ الممكنات في إدارة التناقضات، فقد تمكّن الإمام الخميني من ادارة الثورة واستيعاب كل مفردات التحرّك من خلال انفتاحه الايجابي على كلّ الممكنات تاركاً لنقاط الاختلاف مجالها النظري خارج إطار حركة الثورة المتفاعلة ميدانياً وفقاً للأهداف الستراتيجية المشتركة، وبذلك استطاع الامام أن يستقطب أقصى اليمين وأقصى اليسار، ويصب جهود الجميع في بحر الثورة الذي أتسع أُفقه ليشمل كلّ أعداء السلطة، وبغض النظر عن نقاط الاختلاف بين تلك الفصائل، وبذلك جمع كلّ الطاقات وصبّها في الاتجاه الصحيح، وجنّب الثورة كلّ الصراعات الداخليّة والنزاعات الهامشية التي لا تخدم إلّاالعدو المشترك. كما قرر الإمام عدم الدخول في صراع مع أولئك الذين وقفوا ضده، ولم يترددوا في استخدام كلّ الأسلحة لمواجهته، وجرّ الثورة الى صراعات داخلية غير مبررة، وبذلك قضى الإمام بصمت على خصومه الذين أزاحتهم جرافات الثورة عن الطريق، ورمى بهم تيار الوعي خارج دائرة الأحداث، فلا تسمع لهم إلّاهمساً سرعان ما خفتت أصواته عندما لم تجد لها أذناً صاغية بين أبناء الشعب.

8- نظرية ولاية الفقيه التي اعتمدها الإمام الخميني أساساً لحركته ومنطلقاً لثورته، ومن ثم اعتبارها الركيزة الكبرى للنظام السياسي الاسلامي والتي تمثل ركناً أساسياً يقوم عليه الحكم الاسلامي في إيران، هي النظرية التي جنّبت تطبيقاتها النظام الاسلامي الكثير من المطبّات، وشكّلت ضمانة كبرى لسلامة الوطن من التشرذم والتمزق والانقسام، خاصة وأنّ القوى الاسلامية جميعها تؤمن بهذه النظرية، وترى في الولي الفقيه مرجعية سياسية ودينية يحتكم إليها في حالة بروز أي خلاف، ويؤخذ برأيها عند كلّ تقاطع، وتمارس الإشراف على مجمل

ص: 72

السياسة العامة وخطوطها الكلية.

وبالرغم من المكانة المهمة للولي الفقيه في النظام الاسلامي، إلّاأنّ الإمام أصرّ على ضرورة الرجوع الى رأي الأمة في اختيار الشخصية المؤهلة لمثل هذا الموقع الحساس، فكان انتخاب مجلس الخبراء من قبل الشعب تصويتاً شعبياً على الولي الفقيه، الذي أعطى المجلس صلاحيات اختياره وعزله بوصفه ممثلًا لإرادة الشعب واختياراته.

9- الرؤية الاسلامية الأصيلة للإمام قد أمدّت الثورة برصيد إسلامي وانساني هائل حينما طرح الاسلام مشروعاً حضارياً لقيادة الحياة متجاوزاً كلّ الأطر القوميّة والاقليمية وهو يصرخ بأنّ (وطننا هو الاسلام وليس البصرة أو الشام) ولذلك انطلق من هذا الفهم لمناصرة الشعوب وقضاياها العادلة سواء في العراق أو فلسطين أو كشمير أو لبنان وغيرها، بل تجاوز ذلك الى ما هو أكثر بعداً حيث يخاطب مستضعفي العالم وأبناء الشعوب المقهورة وهو يدعوها الى الثورة والتحرر ويمدّ يده اليها دون أن يعير أي اهتمام لردود فعل القوى الاستكبارية، التي ترى في مشروع تصدير الثورة خطراً حقيقياً على مصالحها وامتيازاتها وأطماعها الاستعمارية مما أكسب الإمام الخميني رصيداً بشرياً هائلًا غيّر الكثير من معادلات السياسة وحسابات السياسيين، الذين هرعوا لمحاصرة الثورة الاسلامية والوقوف بوجه أعاصيرها الهادرة، ولم يدّخروا وسعاً في محاربتها وتشويه سمعتها والقضاء عليها، لكن إرادة اللَّه ووعي الجماهير وإيمانها بالثورة والاسلام كان أكبر من كلّ كيد وعدوان؛ ولذلك سقطت المؤامرات كلّها، وبقيت الثورة رقماً صعباً وواقعاً يفرض نفسه على الدنيا بأسرها شاء من شاء وأبى من أبى.

10- شكّلت القراءة الجديدة الواعية لمفهوم الحجّ إحدى أهمّ تجلّيات الإبداع السياسي لدى الإمام الخميني قدس سره مع الإصرار على ضرورة الاحتفاظ بالأطر التعبّدية لهذه الفريضة المقدّسة، الأمر الذي جمع بين قداسة الحجّ من جهة

ص: 73

والتعاطي مع الواقع الجديد بكلّ ما فيه من معطيات وتداعيات ومتغيّرات من جهة أخرى، وهو ما أضفى على هذه الشعيرة بعداً سياسياً قد غُيّب عنها زمناً ليس بالقصير، لكن مبادرة الإمام الخميني انطلقت هادفةً لكي يعود الحجّ حجّاً إبراهيمياً يستوعب مفهوم قياماً للنّاس و مثابةً و أمناً ويتعاطى هذا الفهم القديم الجديد مع واقع الأمّة الإسلاميّة التي دبّت في أوصالها عافية الوعي وحيويّة الإحساس بالعزّة والكرامة في ظلال حضارة الإسلام المنقذة.

ولذلك جاءت المبادرة الخمينيّة ومعها كلّ أسباب نجاحها، الأمر الذي عضد من أواصر الترابط بين حجاج بيت اللَّه الحرام ومتّن عرى التواصل بينهم من خلال الشعور المشترك بضرورة تحويل موسم الحجّ المبارك إلى مؤتمر شعبي تتلاقح في أجوائه الرؤى والآمال المشتركة للمسلمين كافّة.

لذلك تحوّلت مسيرة البراءة من المشركين إلى ظاهرة سياسيّة مثيرة للاهتمام والاحترام بقدر ما هي مثيرة أيضاً للهواجس والجدل والخصام، وظلّت الشعارات المطروحة في تلك المسيرة تمتلأ نضجاً سياسياً يغلق الطريق على كلّ أولئك الذين لا يروق لهم أن يتحوّل الحج المبارك إلى مدرسة وعي، وحلقة تواصل بين عموم المسلمين من خلال ممثّليهم الذين كتب اللَّه لهم أن يكونوا ضيوفه في الديار المقدّسة وفي أيّام معلومات، فجاءت تلك الشعارات المركزيّة مدروسة واعية ومعبرة عن الشعور بالكراهيّة للاستكبار العالمي من خلال شعار (الموت لأمريكا) وهو شعار لا يختلف على أهمّيته وجدواه مسلمان.

كما جاءت تحكي رغبة اسلاميّة عارمة من خلال تصعيد وتائر الكراهيّة للصهيونيّة العالميّة وكيانها الغاصب، ثمّ التشديد على ضرورة قيام الوحدة الإسلاميّة التي تمثل رغبة شعبيّة شاملة عبر شعار مركزي جادّ تهتف به الجماهير بحماس (يا أيّها المسلمون اتّحدوا اتّحدوا).

وقد شهدت شعاب مكّة وشوارعها حضوراً إسلامياً واسعاً اصطفّ فيه

ص: 74

الطيف الإسلامي الملوّن من شرق الأرض وغربها هاتفاً بهذه الشعارات متبنياً لها مشيراً بضرورة العمل وفق سياقاتها، لكن تفجير هذا الوعي الشعبي في مثل هذا المكان المقدّس والزمان المطلوب أرعب أطرافاً دوليّة وإقليميّة واستفزّها، فأبت إلا مواجهة الجماهير الملبّية لدعوة اللَّه سبحانه، وحالت دون سريان هذا الطوفان البشري الواعد المتوعّد، وقد جسّدت هذه المواجهة أهمّية وخطورة المبادرة الخمينيّة الرائدة، إذ لو كانت حدثاً عابراً لما أثارت اهتمام أحد، لكن عمق مضامينها وسرعة الاستجابة لها وسعة مدياتها التي ملأ أجواءها الحماس، أفقدت صواب المتوجسين خيفةً منها، فأقدموا على المواجهة التي خسروا معها المصداقيّة، وأعانوا على أنفسهم في فهم هويّتهم وتوجّهاتهم ونواياهم المبيّتة التي كاد الإعلام المضلّل أن يغطّي عليها، لكن الإمام الخميني كان قد سلط عليها الأضواء الكاشفة فانجلت غبرة التضليل عن وقائع وحقائق ستظلّ تلاحق أعداء الوعي إلى أمد بعيد.

11- مثل الإمام الخميني النموذج الأمثل والقدوة الصالحة للأمة حينما وجدته خلال عقود جهاده سواء قبل انتصار الثورة الاسلامية أو بعدها رجلًا كامل الإيمان، لا يخشى أحداً غير اللَّه حيث عظم الخالق في نفسه فصغر ما دونه في عينه؛ ولذلك نازل الكبار واستخفّ بقدراتهم وتحداهم، وكأنه قوة كبرى قادرة على مواجهة الاستكبار كلّه.

فلقد عرفت الجماهير قائدها إنساناً يعيش للإسلام، ويضحي بوجوده من أجله، وظل مع الفقراء والمحرومين يعيش كما يعيشون ويحيى كما يحيون، رحل من الدنيا ولم يترك فيها داراً ولا عقاراً ولا ادخاراً؛ ولذلك ظلّ رمزاً للثورة وبقي سلوكه معياراً للثوار.

المصطلح السياسي عند الامام الخميني

تفرد الإمام الخميني في الكثير من آرائه السياسية؛ ولذلك لا يمكن لأيّ من

ص: 75

المحللين السياسيين أن يعتبره منتمياً لمدرسة سياسية معينة، وإنما أرسى بنفسه قواعد مدرسة سياسية جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم (المدرسة الخمينيّة) التي اعتمدت الاسلام فكراً والقرآن دليلًا في التنظير السياسي، ولذلك حينما نلقي حزمة ضوء على المصطلح السياسي عند الإمام الخميني فإنّما نحاول من خلال ذلك أن نستكمل صور الإبداع السياسي لديه (رضوان اللَّه عليه) إذ يشكل المصطلح السياسي عنده بعض مفردات تفرده السياسي الذي تميز به عن غيره من قادة الدنيا وساستها.

فهو يتبنى فكرة (اللاشرقية واللاغربية) التي تعني فيما تعني فك الارتباط التبعي بالشرق والغرب والوقوف على أرضية الثقة بالنفس والمبادئ والامكانات دون أن يعني ذلك بالضرورة تقاطعاً مع الغرب والشرق، وإنما يعني الاستقلالية الكاملة، التي لا يجوز فيها الانحياز لهذا المعسكر أو ذاك مع ضرورة الانفتاح على الشرق والغرب وفق صيغ متكافئة من الاحترام المتبادل، التي لا تتعرض فيها مصالح الأمة واستقلالها لابتراز وتأثيرات هذا الطريق أو ذاك، وبهذا يكون الإمام قد حدّد معالم الشخصية المستقلة للأمة، ووضعها على الطريق الصحيح، وقطع كلّ علاقة مذلة لها بالآخرين.

اما مصطلح الاستكبار والمستكبرين والاستضعاف والمستضعفين ومصطلح الشيطان الأكبر، فهي إن دلت على شي ء فإنّما تدل على اهتمام الإمام بالرؤية القرآنية، ولفت أنظار المسلمين الى ما لديهم من خزين معرفي وفكر سياسي يؤهلهم للتميز والتفرد ليس فقط في العمل والأداء السياسي، وإنما في إطار التنظير والفكر السياسي القائم على أساس الاسلام والقرآن والسنة المطهرة.

وأخيراً وليس آخراً يظلّ الإمام الخميني وأفكاره السياسية التي بشّر بها وجسّد مقولاتها شاهداً شاخصاً على عظمة النظرية الاسلامية وقدرتها على التصدّي لقيادة الحياة في عصرنا الحاضر وفي المستقبل.

ص: 76

معطيات الحجّ ومناسكه في رؤية الإمام

معطيات الحجّ ومناسكه في رؤية الإمام

معطيات الحجّ ومناسكه في رؤية الإمام

محمّد سليمان

عنت لي- وأنا اهيئ نفسي لكتابة شي ء عن رؤية السيّد الإمام إلى فريضة الحج مناسك ومفاهيم.. وهل هي رؤية فريدة من نوعها أم أنها تكرار لغيرها من الرؤى؟ وهل كانت رؤاه تتسم بالجدّية والارتقاء إلى مستوى تطبيقها العملي أم أنها مجرّد رؤًى لا غير؟- عنت لي ملاحظات تتعلّق بالفريضة نفسها، فهذا المنسك المبارك بكلّ مفاصله أستطيع أن أقول عنه:

إنّه من أعظم العبادات- على عظمتها وقدرها- سعةً وشمولًا وثماراً..

ليشهدوا منافع لهم ثمّ ويذكروا اسم اللَّه في أيّام معلومات.. فهو ينطوي- إضافة إلى عبادة اللَّه تعالى في الأيّام المقرّرة، وما أعظمه من هدف!- على هدف آخر عظيم وخطير طالما اشرأبت إليه الأعناق، وتطاولت إليه الرقاب، وعاشته النفوس أملًا عظيماً، وطموحاً كبيراً، وهدفاً مقدساً، وهو توحيد المسلمين شعوباً وقبائل بغضّ النظر عن مذاهبهم وقومياتهم.. وصهرها في بوتقة التوحيد، هذه العقيدة التي تدل على الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم

ص: 77

يولد* ولم يكن له كفواً أحد، بعيداً عمّا يفرّق الكلم، ويوغر الصدور، ويضعف الهمم ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وترفعاً عن التكاثر في الأموال والأنفس والأنساب.. ليبقى ميزان التفاضل بينهم هو التقوى لا غير «لا فضل لعربي على أعجمي إلّابالتقوى»، هذا النصّ النبوي الذي لا يقبل الجدل والتأويل قبس من نور كتاب اللَّه تعالى إذ صرّح بكلّ قوّة: إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم وقد جسّد هذا الهدف مظاهر متعدّدة في هذه الفريضة يلمسها كلّ واحد منّا، كما تكشف هذه المظاهر هي الأخرى عمّا تنطوي عليه فريضة الحج، هذه المناسبة المباركة، من قيم عليا ومبادئ كبرى وأهداف سامية قلَّ نظيرها في أي عبادة وفي أي شعيرة من الشعائر السماوية الاخرى على قدرها وعظمتها وسموّها، فضلًا عمّا يشرّعه الآخرون ويسنّونه ويهيّئونه من مناسبات..

ومن تلك المظاهر التي صهرت في وهج بوتقة عقيدة الواحد الأحد: وقوف الحجّاج في جمعهم العظيم وحشدهم الهائل وفي كتلهم البشرية المتراصة يجمعها هدفٌ واحدٌ وزيّ واحدٌ خالٍ من التفاخر والتعاظم والاستعلاء، ومكانٌ واحدٌ في عرفات وفي المزدلفة ومنى، ثم البيت المبارك والصفا والمروة، وفي مناسك واحدة في إحرامهم وطوافهم وفي سعيهم.. إضافةً إلى تواجدهم في أماكن أخرى من أضرحة الأولياء ومراقد الصالحين، ومعالم الرسالة وآثار النبوّة..

حقّاً إنّها صورة رائعة مهيبة تحكي لنا قيام مجتمع مسلم على ثوابت وأسس متينة من الحبّ والتعاطف والتسامح والتعاون والتآزر.. بعيداً عمّا يلوّث النفوس من رفث وفسوق وجدال فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ، حتى تطهر النفوس والأرواح، وحتى تصان أجسادنا وأرواحنا وعقولنا من العبث والدنس، فتصل مناسكنا مع طهارة نفوسنا إلى ذروة كمالها الروحي والعبادي.. «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه» فكلّ شي ء في هذا الحرم المبارك ينبغي أن يكون في طهر وأمن وسلام.. نموذجاً رائعاً تتجلّى فيه المحبّة والرحمة..

ص: 78

أساس المفاهيم الإسلامية..

فإذا نظرنا إلى هكذا تجمّع عظيم فإننا نجد فيه ما يشدّ من عزائمنا، ويقوي، إيماننا ويحقّق آمالنا بإمكان قيام مجتمع مسلم كبير تذوب فيه الفوارق والطبقات، وتسود فيه بدل ذلك كلّه المحبّة والوآم والاخوّة والإلفة والعزّة والكرامة في ظلّ إله عادل كريم رحيم، وتعاليم رسول صادق أمين وعلى خُلق عظيم.

إنّها حقّاً تجربة مصغّرة رائعة لدولة كريمة يعزّ بها الإسلام وأهله ويذلّ بها النفاق وأهله، ومجتمع نبيل موحّد طالما كان هدفاً للإسلام، وأنشودة يردّدها المسلمون الثوّار الواعون عبر كفاحهم المرير، وجهادهم الدؤوب، وتضحياتهم الجسيمة.

إنّ الحجّ لا يمكن أن يحقّق ذلك الهدف التوحيدي ولا أظنّه ينهض بذلك إذا لم يؤد إلّابصورته الإبراهيمية وهو ما سعى إليه الإمام. ولا يمكن فهم هذه الفريضة خارج تأريخها وبعيداً عن تشريعها وأهدافه.. ويجب أن تكون مواكبة لحركة الأنبياء والصالحين، وحرّة أي خالية من أيّ قيد فيما عدا قيود الشريعة وضوابطها.

فهي فريضة تتجه نحو تحقيق هدف إلهي، وهذا لا يتم إلّاعبر ما تريده السماء لا ما نريده نحن.

هذا مضافاً إلى أنها شعيرة يلتقي فيها- إضافة إلى أمور أخرى- جانبان رئيسيان: الجانب الروحي والجانب السياسي، فخلوها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني غياب الريادة للإسلام وتغييباً للجوانب الرسالية وللنموذج الإبراهيمي المحمّدي الأصيل، وعندها يكون الحج ليس مخالفاً للشرع فحسب، بل يكون معاكساً لحركة الحج التاريخية.

فيجب أن نعرف أنّ فريضة الحج كالإسلام نفسه يتقاذفها عاملان أو خطّان مهمّان:

خط الرسالة الأصيل.

ص: 79

والخط المنحرف.

فإذا ما ابتعدنا عن الخط الأوّل خطوةً فإننا نقترب من الخط الثاني بقدرها وهكذا، فأي تنازل عن قيم الخط الأوّل معناه الانضمام إلى تبني ما يريده الخطّ الثاني، وتدريجاً نصل إلى نتيجة لا تخفى على ذي عينين، أننا نؤدّي الفريضة لا بخطها المرسوم لها من قبل السماء الذي يمثّله الخطّ الأوّل، وإنما بشكل آخر يبتعد كثيراً عن روح الشريعة ومقاصدها وأهدافها، إنه شكل مفرغ من كلّ شي ء ويبقى مجرّد إطار عام لا غير.

وبدلًا من أن يقود الحجُّ الانسانَ إلى ما فيه خيره، ويقتطف ثماره ويستحصل منافعه كما أرادته السماء، راح الإنسان يرسم للحج منهجه، وبالتالي يجعله وسيلة لتحقيق ما يبتغيه من طموحات دنيوية ومصالح نفعية قد يصبّ أغلبها بصالح المستكبرين والطغاة، ولم يكن للمستضعفين فيه نصيب يذكر.. إنما هو بخدمة الحكّام وأتباعهم وأنظمتهم. وبدلًا من أن تكون علاقة تعبدية واعية أي علاقة مبنية على تحرّك واضح مسؤول نحو اللَّه تعالى ومنهجه، تكون علاقة غير واعية تنتج بالتالي تحرّكاً غير مسؤول، بل هو تحرّك ميّت لا غير.

ما أراده السيّد الإمام:

لأجل ذلك كلّه ولغيره كان عنصر البراءة الذي نادى بها السيّد الإمام إلتزاماً بما تريده الشريعة الأصلية، أساساً متيناً لهذه الفريضة، وروحاً وثّابة لها ولديمومتها وبقائها عبادةً حيّةً تؤتي أُكُلَها في حياة الامّة، وتنمي مسارها، وتقوّي عزيمتها، وبالتالي تحول دون سقوطها بشباك الظلمة. إضافةً إلى هذا كلّه فإن البراءة تذكير للُامّة بالحج الإبراهيمي المحمّدي الأصيل، وهذا عامل مهم بل رئيسي في شدّ الامّة بتاريخها وأمجادها وفكرها الأصيل، والوقوف عنده وعدم تجاوزه أو التخلّف عنه.

فعنصر البراءة- حقّاً- لم يعد بعداً أجنبياً عن الفريضة أو شيئاً دخيلًا عليها

ص: 80

وإنما هو عنصر الوقاية وصمّام الأمان، وعنصر الثبات والاستقامة فيها.

من هنا نهض السيّد الإمام الخميني ليعيد لهذه الفريضة صفاءَها وجوهرها وتأريخها المشرق، وأن يبعدها عن كونها ألفاظاً جوفاء، وحركات تؤدّى لا علاقة لها بروح الدين وروح الفريضة، وبما يعانيه المسلمون من مشاكل وأزمات وصعاب كان سبب أكثرها بُعد الامّة عن إسلامها، وحيلولة الحكّام عن انبثاق وعي الامّة وتطلعاتها.. لهذا راح رضوان اللَّه عليه يصوغ نظراته وفق ما يريده الشرع المقدّس ووفق مثل عليا آخذاً بنظر الاعتبار واقعاً إسلامياً متدهوراً يريد إنقاذه.

لقد قاد حركةً تاريخية كبيرة وخطيرة هدفها التغيير الشامل لكلّ محاور ومفاصل حياتنا العبادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية... وإعادة صياغتها وفق ما تريده السماء بعد تغييب متعمّد للشريعة، وبعد إلغاء لدورها أو تحريف لها، وبعد غياب الحكم الإسلامي الفاعل لأكثر من 1400 سنة، ومن ضمن تلك المحاور فريضة الحجّ التي رأى فيها مجالًا واسعاً وساحة عظيمة لبثّ روح الإسلام من جديد، وإيقاظ المسلمين على واقع فاسد مريض آخذ في التدهور، وتنبيههم إلى مخاطر ذلك على دينهم وعلى دنياهم.

لقد أراد الإمام الخميني أن لا تكون هذه الفريضة تبريراً للواقع، وإنّما أرادها ثورةً تطيح بكلّ ما في الواقع من مفاسد، وأيضاً أرادها أن تفجّر طاقات الامّة نحو البناء والجهاد، كما أرادها وسيلة للإطاحة بغطرسة وانحراف الحكّام، ومنقذةً من هيمنتهم، لا أن تكون وسيلة مهادنة لهم وللوضع القائم وتبريراً للأمر الواقع.

كان يقول: «حوّلوا وبالتنسيق مع الزوار الذين جاؤوا من أنحاء العالم مركزَ مكة المكرمة إلى مركز رفض للظلم والظالمين، حيث يعتبر هذا الأمر أحد أسرار الحج، وأن اللَّه غني عن التلبية وعبادات البشر».

وانظره يقول: من المسلم أنّ حجّاً دون روح ودون حركة ونهوض، وحجّاً دون

ص: 81

براءة، وحجّاً دون وحدة، وحجّاً لا ينتج هدماً للكفر والشرك، ليس حجّاً.

دور القرآن:

وراح أيضاً يبيّن ما يجب على المسلمين من السعي لأجل تجديد حياة القرآن ودوره العظيم، وإعادته ثانيةً إلى ساحة حياتهم، بكلّ محاورها:

يقول سماحته:

إنّي أذكّر الحجّاج المحترمين أن لايغفلوا في جميع المواقف المعظمة وطيلة فترة سفرهم إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة عن الاستئناس بالقرآن الكريم... لأنّ كلّ ما عند المسلمين وما سيكون، على طول امتداد التأريخ الماضي وكذلك في المستقبل، إنّما هو من بركات هذا الكتاب المقدّس. وراح سماحته يوصي العلماء والمفكّرين بأن يستفيدوا من هذه الفرصة، ولا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس وهو تبياناً لكلّ شي ء.. هذا الكتاب السماوي الإلهي الذي هو الصورة العينيّة والكتبيّة لجميع الأسماء والصفات والآيات البيّنات..

وفي رفضه لتحريف القرآن وهجرانه يقول سماحته:

.. والآن وهو في صورته المدونة بعد نزوله بلسان الوحي وصلنا دون نقص أو زيادة حرف، معاذ اللَّه أن يصبح مهجوراً.. ثمّ راح يوصي المخلصين من أبناء الإسلام:

بأن ينهضوا ويخلّصوا القرآن الكريم من شرّ الجاهلين المتنسكين والعلماء المتهتكين..

و على المحققين المؤمنين بالإسلام أن يبيّنوا التفاسير الصحيحة للقرآن والواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كلّ نسيج خرافات وادعاءات علماء البلاط.

وغير هذا الكثير وهو ما سنجده مفصّلًا في كلماته وأحاديثه عن أبعاد فريضة الحج وعن مفاصلها ومعطياتها المختلفة.

رعايته للوحدة الإسلامية

أكّد الإمام في كلّ كلماته ووصاياه بل وأوامره للحجاج جميعاً أن يطوفوا حول الكعبة المباركة «بالطواف المتعارف على النحو الذي يقوم به جميع الحجاج، وأن

ص: 82

يحترزوا من الأعمال التي يفعلها الأشخاص الجاهلون..

كما أنه أكّد على الحجّاج الشيعة: أن يقفوا الوقوفين مع إخوانهم المسلمين من المذاهب الأخرى، فإن اتباع قضاة أهل السنّة لازم ومبرئ للذمّة. حتّى وإن قطع بالخلاف.

كما راح يبيّن لشيعة سائر البلدان ضرورة بل «وجوب الاحتراز من الأعمال الجاهلة التي تؤدّي لتفرقة المسلمين».

كما أكّد على أنه «ينبغي الحضور بين جماعات أهل السنّة» بل «واجتناب الصلاة جماعة في المنازل».

وأما استعمال مكبّرات الصوت بشكل يخالف المتعارف فقد أكّد سماحته على وجوب اجتناب ذلك.

ولم يكتف بذلك كلّه بل راح يلاحق في فتاويه بعض الشيعة، في أن «يجتنبوا الارتماء على القبور المطهّرة»، بل واجتناب كل «الأعمال التي تكون أحياناً مخالفة للشرع الحنيف.

ولم يكتف سماحته عند الفتاوى، بل راح يحذّر- حرصاً منه على وحدة المسلمين- من التفرقة وأصحابها والمروّجين لها، يقول سماحته:

في موسم الحج يمكن أن يقوم بعض الأشخاص حتى من المعمّمين بزرع بذور الخلافات بين الشيعة والسنّة، ويعملوا على اتساع هذه الظاهرة فيصدقهم بعض السذج، ويكونوا سبباً للتفرقة والفساد.

يجب على الاخوة والأخوات من كلتا الفرقتين أن يكونوا حذرين، وليعلموا أنّ هؤلاء أصحاب القلوب العمياء يريدون باسم الإسلام والقرآن المجيد والسنّة النبوية اقتلاع الإسلام والقرآن والسنّة من بين المسلمين أو على الأقل يسيرون باتجاه انحرافه...

إنّ التكليف الإلهي للحجّاج في هذا المقطع الزماني هو استنكار أي كلام يشمّون من خلاله رائحة الخلاف بين صفوف المسلمين، وأن يعلموا أنّ تكليفهم في المواقف

ص: 83

الكريمة هو البراءة من الكفّار وأسيادهم حتى يكون حجّهم حجّاً إبراهيمياً وحجّاً محمّدياً، وإلّا كانوا مصداقاً ل «ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج».

وواصل الإمام حديثه بقوله:

ويجب أن تعلموا أنّ الطريق الأساس في ظل وحدة المسلمين،.. هو في قطع يد القوى العظمى عن الدول الإسلامية، وتطبيق ثمار المواقف الكريمة والمشاهد المشرّفة عملياً في بلادهم والاستفادة منها في حياتهم.

تشديده على إعلان البراءة من المشركين

وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسولُه...

فبعد أن يصرح السيد الإمام بأن إعلان البراءة من المشركين يعدّ من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج؛ وأنّ حقيقة الدين هي أن تحبّ الحق وتبغض الباطل؛ لذا يجب أن تنظّم المسيرات والمظاهرات الكبرى في أيام الحج بكل صلابة وعظمة يقول:

على الحجّاج أن يطلقوا بجوار بيت التوحيد صرخة البراءة من المشركين والملحدين والمستكبرين وعلى رأسهم أمريكا المجرمة، ولا يغفلوا عن إظهار حقدهم وسخطهم على أعداء اللَّه وأعداء خلقه، فهل تحقيق الدين هو غير إعلان المحبّة والإخلاص للحق وإعلان الغضب والبراءة من الباطل؟

فحاشا أن يتحقّق إخلاص الموحّدين في حبّهم بغير إظهار السخط على المشركين والمنافقين، وأي بيت هو أفضل من الكعبة البيت الآمن والطاهر، بيت الناس؛ لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرقّ والدناءة واللإنسانية قولًا وفعلًا، وتحطيم أصنام الآلهة تجديداً لميثاقه: ألست بربّكم وذلك إحياءً لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر..

ص: 84

ذلك أن سنّة الرسول وإعلان البراءة لن يبليا؛ لأنّ إعلان البراءة لا يقتصر فقط على أيام الحج. إذ على المسلمين أن يملأوا أجواء العالم بالمحبّة والعشق للبارئ. وبالبغض والاستياء والرفض لأعداء اللَّه، ويجب ألا يصغوا إلى وسوسة الخنّاسين وشبهات المشككين والجهّال والمنحرفين، وألا يغفلوا لحظة واحدة عن هذا النشيد التوحيدي المقدّس والشامل. ومن المسلّم به أنّ الطامعين وأعداء الشعوب لن يكون لهم قرار بعد ذلك. وسيتمسكون بمختلف الأحابيل والألاعيب والوجوه المختلفة، كأن يتجه أدعياء الإسلام ووعّاظ السلاطين ومرتزقة البلاطات والليبراليون والمنافقون إلى عرض فلسفات وتحاليل واستنباطات خاطئة ومنحرفة ويمارسون كلّ عمل في سبيل نزع سلاح المسلمين، وتوجيه الضربة إلى قدرة وعظمة وصلابة أمّة محمّد صلى الله عليه و آله وقد يقول الجاهلون:

إنه يجب عدم المساس بقداسة بيت اللَّه والكعبة المشرّفة بالشعارات والمظاهرات والمسيرات وإعلان البراءة من المشركين. وإنّ الحج هو مكان للعبادة وذكر اللَّه وليس ساحة للتناحر والاقتتال. وقد يعمد العلماء المزيفون المتهتكون إلى طرح هذه الفكرة وهي: أنّ الجهاد والبراءة من أعداء اللَّه والحرب والمواجهة هي من عمل أصحاب الدنيا ومحبيها. وأن التدخّل في المسائل السياسية خلال أيام الحج ليس من شأن علماء الدين والروحانيين..

وهنا يقف بصلابة ليجيب هؤلاء: إنّ هذا هو أمر يعتبر بحدّ ذاته من السياسات الاستفزازية الخفية التي يخطّط لها أكلة العالم، وعلى المسلمين أن ينهضوا بجميع إمكانياتهم المتوفرة من أجل التصدّي لهذه المؤامرة، والدفاع عن القيم الإلهية ومصالح المسلمين، ويرصّوا صفوفهم الجهادية ويمارسوا دفاعهم المقدّس، ولا يسمحوا لهؤلاء الجهلة الميتة قلوبهم من أتباع الشياطين بمهاجمة عقائد وعزّة المسلمين أكثر من هذا...

نعيش مع كلماته لنرى أنّه كم كان واثقاً من موقفه وسلامته برغم كلّ ما أثير حوله من إشكالات واتّهامات، وأنّ اصراره على إعلان البراءة وإدامتها لم يكن مخالفاً للشرع بل هو واجب بقوله: إنّنا لا نستطيع أن نعدل عن هذا الواجب الذي حدّده

ص: 85

لنا الإسلام. وإنّ البراءة من المشركين هي من وظائف الحجّ السياسية وبدونها لا يعتبر حجّنا حجّاً.

إنّ صرخة البراءة من المشركين في مراسم الحج وهي صرخة سياسية- عبادية قد أمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، لذا يجب أن نقول لذلك المعمّم العميل الذي يرى أن شعار الموت لأمريكا وإسرائيل والاتحاد السوفياتي خلاف الإسلام، هل التأسّي برسول اللَّه، واتّباع أوامر اللَّه تعالى خلاف مراسم الحجّ؟ فهل أنت وأمثالك أيّها المعمّم الأمريكي تخطئ فعل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وتعارض أوامر اللَّه؟ وهل ترى أن التأسّي بذلك الرسول العظيم وطاعة أوامر الحق تعالى مخالفة لذلك؟ وهل تتناسى أوامر اللَّه ورسوله من أجل مصالحك ومنافعك الدنيوية؟ وهل تعتبر أن البراءة من أعداء الإسلام واللعنة عليهم وعلى محاربي وظالمي المسلمين كفراً؟

إنّ صرخة البراءة من المشركين لم تختص بزمان خاص. هذا دستور خالد، وإن انقرض المشركون من الحجاز «فنهضة الناس» ليست مختصة بزمان بل هي دستور كل زمان ومكان. وفي هذا التجمّع البشري العام تعتبر سنوياً من جملة العبادات المهمة الخالدة إلى الأبد.

وينبغي على حجّاج بيت اللَّه الحرام أن يطلقوا بقوّة صرخة البراءة من الظالمين في هذا التجمّع العام والسيل البشري الهادر... حول المسجد الحرام- مركز ثقل الإسلام ومهبط ملائكة اللَّه ومحل نزول الوحي- في سبيل إحياء مراسم الحج العبادية- السياسية ليقوموا بتكليفهم الإلهي والقرآني، ويعلنوا ويطلقوا صرخة البراءة من المشركين التي نفّذها خاتم الأنبياء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بواسطة مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام في الحج الأكبر.

أهداف البراءة من المشركين:

إنّ للبراءة- وهي صرخة جميع الشعوب- أهدافاً كثيرة ومنافع عظيمة، منها كما يقول السيد الإمام:

«وإذا ما أعلن ممثّلو المليار مسلم بالشكل والمضمون براءتهم من المعتدين على

ص: 86

حقوق المظلومين والدول الإسلامية وطالبوا بقطع أياديهم سوف لن تتمكّن أي قوّة من الوقوف بوجههم ومقاومتهم...

هي صرخة مظلومي العالم الإسلامي والشعوب التي ترزح تحت سلطة قوى الجناة، وإيقاظ النائمين والساكتين أمام الجبابرة...

إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعوب المسلمة في أفريقيا. صرخة إخواننا وأخواتنا في الدين الذين يكتوون بسياط ظلم الظالمين العنصريين بسبب لونهم الأسود.

إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الشعبين اللبناني والفلسطيني، وجميع الشعوب والبلدان الاخرى التي تنظر إليها القوّتان العظميان الشرقية والغربية، خاصة أمريكا وإسرائيل بعين الطمع.. إن صرخة براءتنا هي صرخة جميع الذين لم يقدروا على تحمّل تفرعن أمريكا وتواجدها السلطوي.

إن صرخة براءتنا هي صرخة الدفاع عن العقيدة والكرامات والنواميس، صرخة الدفاع عن الثروات. إنها صرخة المتألمين من الشعوب التي مزّقت قلوبها خناجر الكفر والنفاق. صرخة براءتنا هي صرخة الفقراء والجياع والمحرومين والمعدمين والحفاة الذين نهب الجشعون والقراصنة الدوليون ما حصلوا عليه بعرق جبينهم وتعب ليلهم ونهارهم، أولئك الذين امتصوا دماء قلوب الشعوب الفقيرة والفلّاحين والعمّال والكادحين باسم الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية.

فلسفة الحجّ

وقد بين سبب آلام ومشاكل العالم الإسلامي أنّهم لم يدركوا فلسفة ومعنى هذه العبادات وفلسفتها وأسرارها، وما خلقت الجنّ والإنس إلّاليعبدون، يقول رحمه الله:

إنّ من أكبر مصائب وآلام المجتمعات الإسلامية أنهم لم يدركوا حتى الآن الفلسفة الواقعية للأحكام الإلهية، والحج مع أهمية سرّه وعظمته ما زال عبارة عن عبادة جافّة وحركة لا فائدة منها وغير مثمرة، وإن إحدى الوظائف الكبيرة للمسلمين هي متابعة هذا

ص: 87

الواقع، ما هو الحجّ؟ ولماذا على الإنسان أن يصرف قسماً من إمكاناته المادية والمعنوية لأجل القيام بهذا التكليف؟

والشي ء الوحيد الذي يُقال عن فلسفة الحج من هؤلاء الجاهلين أو المحللين المغرضين النفعيين هو أن الحج عبارة عن عبادة جماعية ورحلة سياحية. وما شأن الحج في كيف يجب أن نعيش وكيف يجب أن نقاوم؟ وعلى أي نحو يجب الوقوف في مواجهة العالم الرأسمالي والشيوعي؟ ما شأن الحج في كيفية استرداد المسلمين والمحرومين لحقوقهم من الظالمين؟ ما شأن الحج فيما ينبغي فعله لنفكّر بحلّ ما بخصوص الضغوطات الروحية والجسدية على المسلمين؟ ما شأن الحج فيما يجب فعله ليظهر المسلمون أنفسهم كقوّة كبيرة وقدرة في العالم الثالث؟ ما شأن الحج في كيف يثور المسلمون على الحكومات المرتبطة والعميلة؟ فهل الحجّ هو سفر سياحي لأجل رؤية القبلة والمدينة المنوّرة فقط؟

وهنا راح سماحته يرسم أهداف وفلسفة الحجّ ومنافعه فيقول: إنّ الحجّ هو للتقرّب واتّصال الإنسان بصاحب البيت، وأن الحج ليس ألفاظاً وحركات وأعمالًا فلن يصل الإنسان إلى اللَّه بالكلام والألفاظ والحركات الجامدة. الحج هو مركز المعارف الإلهية التي تنبثق منها مضامين السياسة الإسلامية التي يجب البحث والتفتيش عنها في جميع زوايا الحياة.

وهناك إرشادات أخرى ووصايا تفضّل بها سماحته للحجّاج ليبين فيها فلسفة كلّ عمل يؤدّونه وكلّ منسك يتواجدون عنده.

وكانت وصاياه تنبع من نفس اتصفت بالطهر والنقاء، وبثها لجميع الحجاج بكلّ صدق وإخلاص، وأكّدها في كلّ كلماته وخطبه فما ترى كلمة له أو خطبة إلا ورأيته يوصي وينصح الحجّاج للاستفادة من هذه الأماكن المقدّسة والمواقف الشريفة:

ص: 88

الطواف:

وإنّ الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أنّ الإنسان لن يطوف لغير اللَّه.

وأثناء الطواف في حرم اللَّه حيث يتجلّى العشق الإلهي، خلّوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أي خوف لغير اللَّه.

الحجر الأسود:

وحين تلمسون الحجر الأسود أعقدوا البيعة مع اللَّه أن تكونوا أعداءً لأعداء اللَّه ورسوله والصالحين والأبرار. ومطيعين وعبيداً له أينما كنتم وكيفما كنتم. ولا تحنوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء اللَّه وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء، وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم.

الصفا والمروة:

أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول إلى المحبوب حتى إذا ما وجدتموه هانت كلّ الامور الدنيوية، وتنتهي كلّ الشكوك والترددات، وتزول كلّ المخاوف والحبائل الشيطانية، وتزول كلّ الارتباطات القلبية المادية، وتزدهر الحرية وتنكسر القيود الشيطانية والطاغوتية التي أسرت عباد اللَّه.

المشعر وعرفات:

سيروا إلى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد اللَّه الحق بإقامة حكم المستضعفين، وبسكون وهدوء فكروا بآيات اللَّه الحق، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحقّ تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة.

منى:

عندما تذهبون إلى منى اطلبوا هناك أن تتحقّق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحبّ شي ء في طريق المحبوب المطلق. واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات، التي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق.

ص: 89

الرجم:

وأنتم عندما ترجمون عاهدوا اللَّه أن تقتلعوا شياطين الإنس والقوى العظمى من البلاد الإسلامية.. تبرّأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، حيث إنّ اللَّه ومحبّيه تبرّأوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم.

ارجموا الشيطان واطردوا الشيطان من أنفسكم، وكرّروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهية؛ لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنكم.

في هذا السفر الإلهي الذي تذهبون إليه وترجمون فيه الشيطان، إذا ما كنتم لا سمح اللَّه من جنود الشيطان سترجمون أنفسكم أيضاً، يجب أن تكونوا فيه رحمانيين وأن تصبحوا رحمانيين، حتى يكون رجمكم رجمَ أتباع الرحمن ورجم جنود الرحمن الشيطان.

ومن وصاياه العامّة:

أنتم تقفون في تلك المواقف والمواضع الكريمة، معاذ اللَّه أن يتلوّث وقوفكم بشي ء خلاف الشرع، أو يتلوّث بالمعصية، ففضلًا عن إراقة ماء الوجه أمام اللَّه تسقط كرامة الإسلام في الدنيا، اليوم كرامة الإسلام متقوّمة بوجودكم، أنتم الذين تذهبون جماعات جماعات إلى تلك المواقف الكريمة ويشاهدكم سائر المسلمين.

ظهر لنا إذن أنّ الحجّ الذي سعى له سيّدنا طيلة حياته قبل انتصار الثورة الإسلامية وبعدها هو الحجّ التوحيدي الخالص، البعيد عن الشوائب والتلوّث ومناهج الظالمين والمنحرفين الذين سعوا لأن تكون هذه الفريضة كما أرادوه لها، وأن يكون أداؤها بشكل يدرّ عليهم بالنفع، وتكريسها بما يثبت أنظمتهم ومصالحهم..

إنّ السيد الإمام كان صادقاً مع آرائه ونظراته لهذه الفريضة وهي تنسجم بل هي التطبيق الفعلي لأحكام الحجّ ومفاهيمه حتّى يؤتي ثماره ومنافعه.

حقّاً إنّها رؤية تتّسم بالفرادة من حيث إعلانها بعد سنين عجاف طويلة مرّت

ص: 90

على المنهج المتبع في أداء هذه الفريضة، ومن حيث إنّ الحجّاج والمسلمين عامّة قد تعوّدوا على نمط معيّن موروث لأدائها، ومن حيث سعي الإمام الجادّ لتطبيق رؤاه وتفانيه في الدفاع عنها والوقوف بقوّة ضدّ كلّ من يريد العبث بمناسك هذه الفريضة وأهدافها أو تسخيرها لمنافعه.

الهوامش:

ص: 91

دور الحجّ في تحقيق القيادة الموحّدة

دور الحجّ في تحقيق القيادة الموحّدة

دور الحجّ في تحقيق القيادة الموحّدة

عباس علي عميد الزنجاني

قال اللَّه الحكيم: جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.

إنّ عبادة الحجّ قادرة على أن تؤدّي الدور الكبير على صعيد التوعية والتوجيه الديني، وتوطيد عرى التلاحم بين أبناء امّتنا الإسلامية؛ ولأجل ذلك لقد أُعطي للحج مكانة خاصّة في الشريعة الإسلامية بين سائر الأحكام والفرائض، ولو ألقينا نظرة واسعة على موقفه ومدى اهتمام القرآن والسنّة بهذه الفريضة الكبرى وجذوره التاريخية، والعلاقة الوطيدة المتشابكة بينه وبين أصل التوحيد؛ لأمكننا أن نفهم الأبعاد الواسعة لفلسفة الحج والأسرار العميقة، التي تنطوي عليها هذه العبادة الجماعية، وبالتالي أن نتعرّف على مكانة الحج ودوره الكبير في تمهيد القدرات على صعيد تجسيد الإسلام وتحقيق أهدافه السامية، وأن تثير الوعي الجديد الإسلامي في الجيل المسلم الذي تحول إلى حركة ثورية إسلامية، جعلت العالم يتطلّع إلى الإسلام كموقع جديد من مواقع الثورة وكحركةرائدةمن أجل تفسير المبادلات

ص: 92

السياسية المعاصرة كقوّة جديدة تستطيع أن تقضي على جميع القوى الشريرة شرقيها وغربيها في العالم.

حين نتعرّف على هذه المكانة للحج والفلسفة الكامنة فيه وسائر أهداف الشريعة الإسلامية من هذه الفريضة الكبيرة، فسوف لا نسمح لأنفسنا أن نكتفي بأداء مراسيم شكلية وأعمال خاوية غير ذات محتوى، وأن نشهد كلّ عام إهدار كلّ هذه القوى والإمكانات ونمكث جالسين دون أن نستثمر المعطيات الحياتية العظيمة للحجّ.

نحن نتابع التحقيق في هذه المعطيات وفي الوقت نفسه نؤمن أن الحج وسائر الفرائض الإلهية أمر تعبّدي ونلزم أنفسنا بالامتثال المطلق لها، وهذه الدراسة لا تضعف روح التعبّد بل تتّجه إلى تقويتها.

لا شك أن مناسك الحج وأحكامه لها أشكال تعبّدية ثابتة لا تقبل التغيير، فكل تغيير وتصرّف في الشكل الظاهري لمناسك الحج وأعماله بحجّة التفلسف وتحقيق الأهداف والأسرار مرفوض.

لكن مع ذلك هلّا يلزمنا التعريف بما يحتويه قوله صلى الله عليه و آله: لو أنفقت جبل قبيس ذهباً في سبيل اللَّه ما أدركت فضيلة الحج.

وما يعنيه قول الإمام الصادق عليه السلام: لا تماثل الحج عبادة. وحديث عليّ عليه السلام يؤكّد عن عاقبة ترك الامّة للحجّ، قال عليه السلام: لا تتركوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا.

وفي حديث آخر يحذّر المسلمين وقادتهم من ترك الحجّ، ويرى أن ذلك يؤدي إلى سقوط شخصية الامّة وزوال عزّها وشرفها وسيادتها أمام الأجانب، قال عليه السلام:

اللَّه اللَّه في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا.

والإمام الصادق عليه السلام يبيّن هذه الحقيقة بتعبير آخر ويقول:

أما أن الناس لو تركوا حج هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا؟!.

ولاشك أن ترك الحج على قسمين:

إمّا أن يترك العمل فلا يحجّ أحد، أو يحجّ بصورة شكلية غير ذات محتوى.

هذه الأخيرة هي التي ابتلي بها العالم الإسلامي اليوم، فبالتالي نزل بهم

ص: 93

العذاب ألا وهو الأسر السياسي والاقتصادي وسقوط شخصية الامّة وزوال سيادتها. هذه الأحاديث- وما أكثر عددها- تدعو إلى التأمّل وتشير إلى أنّ الحج مدرسة لتخريج رجال أكفّاء مع الغزاة في سبيل اللَّه، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الغازي في سبيل اللَّه والحاج وفود اللَّه دعاهم.

الحجّ عامل قيام الامّة

انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى:

جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس نستطيع أن نستدلّ على أن الحج له دور عظيم في تمهيد الطريق إلى قيام الامّة وإعطائها القدرة كي تحصل على استقلالها وسيادتها وتحقّق أهداف الإسلام.

لأن كلمة القيام تنطوي على الوجود والاستقلال والحركة والسيادة والشخصية والاتجاه والتنظيم ووحدة المسير والمساهمة الجادّة والاعتماد على الذات وعدم التبعية، وكل المفاهيم السياسية المعاصرة للُامة لإيجاد الكيان الإسلامي الموحّد في العالم.

كما أنّ كلمة المثابة والأمن في قوله سبحانه وتعالى: وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً.

تتضمّن عدّة مفاهيم سياسية بارزة يلزمنا التعرّف عليها في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية والحكم الإسلامي الموحّد في العالم الإسلامي.

لاشك أنّ مثل هذا الشعور له القدرة على توحيد صفوف المسلمين وعلى تنظيم شؤونهم الحياتية وإعدادهم لتحطيم كلّ الأغلال السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تكبّلهم.

عنصر الأمل في التحرّك السياسي

التحريك السياسي مهما كان لونه وطبيعته واتجاهه يحتاج إلى عنصر الأمل كي يدفعه نحو غاياته المرجوة، والحجّاج الذين يقضون خلال موسم الحج دورة إعداد لتأهيلهم على الحركة السياسية في مجتمعاتهم يبيتون ليال في أرض الآمال (منى) حيث قيل لإبراهيم عليه السلام هناك: يا إبراهيم تمَنّ على ربّك ما شئت؛ ولذلك سمّيت هذه الأرض (منى). إنّ عنصر الأمل من خصائص الامّة الإسلامية يقول سبحانه وتعالى: ولا تهنوا في ابتغاء

ص: 94

القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من اللَّه ما لا يرجون.

لابدّ من إحياء عصر الأمل في النفوس إلى جانب التضحية ورجم الشيطان وتنقية النفس والروح، وإذا ماتت الآمال تنتهي حياة الإنسان كما قال الرسول صلى الله عليه و آله:

لا تقوم الساعة حتى لا تحجّ في البيت.

إحياء الأمل في نفوس المستمعين يعطي لهم التأهيل للتغلّب على مشاكلهم السياسية وعلى رأسها السيطرة الأجنبية الشيطانية على مقدّرات المسلمين، وأن يتخذوا الخطوات اللازمة لإحباط مؤامرات الاستكبار العالمي عدوّ الإسلام والشعوب الإسلامية وينسّقون مساعيهم على هذا الطريق طريق النضال ضد عوامل السيطرة والنهب والدمار.

نظام الامّة والإمامة يتجلّى في الحج

القرآن الكريم يُطلِق اسم الامّة الواحدة على كلّ المسلمين بمختلف ألوانهم وقومياتهم وثقافتهم وأصقاعهم، يقول سبحانه وتعالى:

إنّ هذه امّتكم امّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون.

عناصر هذه الامّة الواحدة تتجلّى في العقيدة المشتركة والنظام المشترك والأهداف الموحّدة. مثل هذه الوحدة بحاجة طبعاً إلى تفسير ومركزية وقيادة، وهذه القيادة ينبغي أن تكون بالقوّة وبالفعل على مستوى دفع عجلة هذه الامّة نحو تحقيق أهدافها المنشودة على أساس من العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي.

هذه الحركة المنسجمة السائرة على خط واحد وفي إطار واسع من حياة الامّة تحتاج إلى مرانٍ وتعوّدٍ.

ويعتبر الحج أروع صعيد لهذا المران على الحركة الجماعية المنسجمة، درجة تجلي روح الامّة في الحج تستطيع أن نفهمها من حديث الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: من عرف إمامه عرف اللَّه ودينه ومن أنكره أنكر اللَّه ودينه... فلذلك إن معرفة الرجال دين اللَّه كما ان الأحكام

ص: 95

كلمة انّما تعرف بالنبي صلى الله عليه و آله.. وإنما هذه الرجل.

فالإمام ضالة المؤمن في الحج فيستمد القوّة من مناسك الحج ليضع كلّ إمكاناته تحت تصرّف القائد الذي سوف يجده حينما يسلك في الحج سلوك امّة تحت قيادة إمامها.

كما كان المسلمون يلتقون حول الرسول صلوات اللَّه عليه في حجّة الوداع كالتفاف السوار بالمعصم ويسيرون خلفه مقتدين آثاره.

وهذا اللون من الحركة في موسم الحج يؤكّد دور القيادة في هذا الموسم، وبغير وجود القيادة فإنّ الحجّ افراد مبعثرون لا يجمعهم محور ولا يشدّهم رباط، وهم غثاء كغثاء السيل لا يتجه اتجاهاً واعياً مدروساً كما أراده اللَّه سبحانه وتعالى.

حجّة الإسلام وحجّنا

لقد كانت صيحة اللَّه أكبر وحدها في صدر الإسلام تبعث الرعب والفزع في قلوب أعداء اللَّه، فما بالك بصلاة الجماعة والجمعة بل ما بالك بالحج؟

لقد كان حجّ رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه بدايةً لزوال الشرك في الجزيرة العربية، وإيذاناً بتزلزل عروش الكفر والشرك في كل العالم.

فإذن ماذا يفعل حجّنا اليوم؟

هل يحرِّك ساكناً؟

هل ينقذ مظلوماً؟

هل يجيب دعوة المستضعفين في لبنان وفلسطين وأفغانستان والفلبين وفي معارك التضحية والإيثار في إيران الإسلام؟

هل يؤدّي الحجّ اليوم دوره في التوعية، وفي تركيز التفاف الامّة الإسلامية حول قيادتها الموحّدة؟ وهل نستطيع مع كلّ هذا أن ندّعي بأنّ حجّنا اليوم يقوم على أساس القرآن والسنّة؟

ما هو معنى الجدال المحظورفي الحجّ؟

لاشك في أن أعداء الإسلام ما كان بمقدورهم أن يقضوا على ظاهرة الحج نهائياً بين المسلمين، فعمدوا إلى إفراغها من محتواها ومن مبدإ البراءة، لتفقد عطاءها التغييري الفاعل، بل ولتكون أكثر من ذلك وسيلة بيد الطغاة؛ لتعميق غفلة المسلمين ولتعميق انفصال الدين

ص: 96

عن ساحة الحياة الاجتماعية.

والمرحلة الحسّاسة من مؤامرة الاستكبار والطواغيت تتمثّل في البحث عن الصيغة الفقهية، التي تحوّل مراكز اليقظة إلى مراكز غفلة.

وما هذا بعسير فقد كان دوماً في خدمة الظالمين فئة تشتري بآيات اللَّه ثمناً قليلًا فتحرف الكلم عن مواضعه لتضلّ الناس:

ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلّونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون آخر ما أفرزته عقول المحاربين للصحوة الإسلامية المباركة المتجلية في موسم الحج يتمثّل في طرح خطر الجدال في الحجّ مستندين إلى قوله سبحانه وتعالى: ولا جدال في الحجّ متخذين قول اللَّه وسيلة لإخماد الأصوات الإلهية المطالبة بالعودة إلى حج رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه في الشكل والمحتوى.

وهكذا تتكرّر تجربة ضربة الدين بالدين لإفراغ الدين من محتواه وللقضاء على كل صحوة وتحرّك إسلامي أصيل.

ولاشك في أن الجدال المحظور في الحج هو الجدال الخاص أو المنازعة، أو ما يوجب الخصومة والبغضاء بين المؤمنين. كيف، والجدال في الدين يعتبر طاعة وسبيلًا إلى معرفة اللَّه؟ فالجدال في الحجّ ضمّ طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه.

فإذن الجدال المحظور في الحج هو الجدال الذي يثير العداء بين المسلمين، وكلّنا نعلم أن هذه الحركة المقدّسة العبادية السياسية التي تحدث في أيام الحج ببركة صحوة الشعوب المسلمة وبفضل انتشار الوعي الإسلامي لا تثير أي عداء بين المسلمين.

نعم قد تجرّ إلى العداء، ولكن ينبغي أن نعرف الجانب الآخر من هذه المعاداة، هل هي معاداة بين المسلمين أم معاداة بين أبناء الامّة من جهة وبين السلطويين المستعمرين الغزاة وكلّ أعداء الإسلام من جهة اخرى؟

كيف، وهذه المعاداة من أهداف الإسلام وغاياته وليست حراماً، بل

ص: 97

من واجبات الإسلام، قال سبحانه وتعالى: وقد امروا أن يكفروا به فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللَّه فقد استمسك بالعروة الوثقى أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت؟

نحن أيضاً نؤمن بضرورة السيطرة على جوانب الحج، ولا نريد إيجاد جوّ مفتوح مضطرب ملي ء بالارتباك والفوضى، ونلتزم بضرورة الوقوف بوجه العناصر الفاسدة المرتبطة بالسياسات الشرقية والغربية، التي تريد أن تستغل اجتماع الحج العظيم لإثارة الحزازات وإلقاء الشبهات وخلق الفوضى والمشاكل.

لكن نحن وإخواننا من شتّى الشعوب الإسلامية خلال تجربتنا قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران وخلالها وبعد انتصارها اكتسبنا اسلوباً ناجحاً ضمن إطار متعقّل ملتزم بتعاليم الشريعة وآدابها، وبهذا الاسلوب نستطيع أن نواجه الانحراف في كلّ شؤون حياتنا وعباداتنا بما في ذلك أداؤنا لمناسك الحجّ.

الحرم يتعلّق بجميع المسلمين

ان اللَّه سبحانه وتعالى جعل الحرم وبيته للناس ليعبدوا اللَّه فيه، وقد قال سبحانه: إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللَّه والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يُرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب أليم.

إنّ الكثير من المفسّرين يعتبرون أنّ حكم العموم الوارد في هذه الآية بخصوص المسجد الحرام يشمل أيضاً جميع منطقة الحرم، وذلك لأن المشركين كانوا قد منعوا الرسول صلوات اللَّه عليه والمسلمين من الدخول إلى الحرم فضلًا عن منعهم من المسجد الحرام.

فقدسية الحرم وتعظيمه واحترامه وخدمته لا ينحصر بشخص أو جماعة خاصة، بل إنّ هذا الحق يعبّر عن حقيقة عبادة الحج والعمرة ويتعلّق بالعالم الإسلامي، وجميع المسلمين متساوون في تمتّعهم بهذا الحق.

لاشك أن مفهوم هذه الآية هو إخراج الحرم من احتكار مجموعة أو مذهب معيّن، كما أن مفهوم سواء

ص: 98

العاكف فيه والباد هو تساوي الناس الموحِّدين والذين يعبدون اللَّه في هذه الأرض من حيث أداء المناسك العبادية، وإنّ هذا النوع من الحرية يشمل بالتأكيد جميع العقائد ووجهات النظر الموجودة بين المسلمين في إطار المبادئ الإسلامية والقرآنية.

استناداً إلى هذا المبدأ فإنّه عندما تحبس عبادات المسلمين في الحرم والمسجد الحرام داخل إطار مبادئ مذهب معيّن ووجهة نظر خاصة، وعندما يفرض الطوق على عقائد وآراء باقي المسلمين، وتسلب حرية العمل في العبادة لأتباع المذاهب الإسلامية لصالح أتباع مذهب المجموعة الحاكمة، فإنّ ذلك يصبح مصداقاً آخر للآية المباركة:

ومن يُرد بالحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم.

الحرم أرض إسلامية حرّة

يعتقد أكثر علماء المسلمين أنّ منطقة الحرم تعدّ أرضاً حرّة، ويجوز لأيّ وافد لها أن يتّخذ منزلًا من أية زاوية منها، ولقد كانت بيوت مدينة مكة المكرّمة مفتوحة على مصراعيها بوجه الزائرين في صدر الإسلام.

بل كانت تلك البيوت بلا أبواب، وكان الصحابة يبدون انزعاجهم من بعض سكّان مكّة؛ لأنهم وضعوا أبواباً لبيوتهم خشية أن تُسرق، وكانوا يقولون لهم بالحرف الواحد: هل تقفلون بيوتكم بوجه حجّاج بيت اللَّه الحرام؟!

وكان الخلفاء يصدرون أوامرهم في موسم الحج بإزالة أبواب بيوت مكة، لكن تفتح البيوت بوجه الحجّاج.

وجاء في حديث عبداللَّه بن عمر، قال رسول اللَّه صلوات اللَّه عليه: «إنّ اللَّه حرم مكة، فحرام بيع رياعها وأكل ثمنها، ومن أكل من أجر بيوت مكة شيئاً فإنّما يأكل ناراً».

في عهد خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان قثم بن عباس والي الإمام على مكّة، وكان يضطلع بمسؤولية إدارة هذا المركز بالنيابة عن الإمام.

وفي واحد من الأوامر التي أصدرها الإمام إلى حاكم مكة؛ طلب منه أن يدعو أهل مكة إلى عدم أخذ الاجور

ص: 99

من الساكنين فيها، وقد استند الإمام في هذا الأمر إلى ما جاء في الآية المباركة:

سواء العاكف فيه والباد فقد أوضح الإمام ذلك قائلًا: «العاكف هو المقيم في مكة، والباد هو الوافد إلى مكة لأجل الحج، ولا يحسب من أهلها».

إنّ مسألة جعل مكة والحرم حرّاً وعالمياً للمسلمين لا تكتسب أهمية من الناحية الاقتصادية فحسب، بل إنّ جوهر هذا الأمر وهدفه الرئيس هو حفظ هذه المنطقة المقدّسة التي وضعت للعبادة من أيّ نوع من الضغوط أو فرض الآراء، وخلق المضايقات المختلفة الهادفة إلى تجريدها من العبودية الصحيحة.

إنّ الصحوة المباركة التي نشاهدها اليوم في أنحاء العالم الإسلامي ولا تزال تتزايد يوماً بعد يوم هي التي يعتبرها الاستكبار الأمريكي وأذنابه خطراً إرهابياً في العالم.

وقد مارس المؤامرات المتنوّعة الشيطانية للقضاء عليها، وقد كان الهدف الأساسي لهذه المؤامرات القضاء على قيادة علماء الإسلام وإخماد الثورة الإسلامية وضربها في مركز انتصارها؛ كي لا تحصل تلك اليقظة لدى بقية الشعوب والدول الإسلامية كما حصلت لإيران بقيادة سماحة الإمام الخميني، والتي أدّت إلى طرد القوى العظمى والتخلّص من هيمنتها في هذا القطر الإسلامي.

لقد أعلن الإمام الخميني قدس سره زعيم الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران في لقاءٍ مع ممثلي الدول الإسلامية بمناسبة عيد الأضحى بهذا الصدد وقال:

إننّا عندما نقول: إنّ الثورة يجب أن تصدّر إلى كلّ مكان، لا ينبغي لكم تأويل ذلك على أننا نريد فتح الدول.

إنّ المقصود من تصدير الثورة هو أن يحصل نفس الشي ء الذي حصل في إيران من طرد القوى الاستكبارية والتخلّص من هيمنتها في بقيّة الأقطار الإسلامية.

ص: 100

الهوامش:

ص: 101

الامام الخميني والمشروع الحضاري للحج في الحرم الآمن

ص: 102

الإمام الخميني والمشروع الحضاري للحج في الحرم الآمن

مائدة آل مرتضى

الثورات والحركات الأصيلة... تغير الواقع، وتبني أمة... وتترك بصماتها على الأجيال.. وتصنع العمالقة والأفذاذ، بعد أن صنعها وفجرها عملاق واحد، وهكذا رأينا ثورة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لتغيير الواقع الانساني آنذاك بكلّ أبعاده، وكذا تبعه الأئمة الأطهار عليهم السلام.

وقد لمسنا في الثورة الاسلامية الايرانية هذا الأمر، على يد قائدها الفذ الامام الخميني الكبير قدس سره، رائد الصحوة الاسلامية المعاصرة، الذي سعى جاهداً باعلانه للعالم، أن لا منهج لسعادته الحقيقية إلّابالرجوع الى منهج الاسلام المحمدي الأصيل.

فأحيا رضوان اللَّه عليه إيران الاسلام من وهدة الضياع والانحراف بمواصلته المسير، كما أحياها الاسلام أول مرّة في النصف الأول من القرن الأول لهجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله. أحياها بفكره ومعاناته ونضاله المرير، ودماء الأحرار، بتغيير الواقع المر الذي كانت تعيشه في زمن الطاغوت الشاهنشاهي العميل، انطلاقاً من

ص: 103

قاعدة علمية رصينة، ونظرة واقعية تكوينية، بدءاً بإيران الاسلام والى العالم الاسلامي ومن ثم الى العالم أجمع.

فشن حملة واسعة النطاق لتغيير بعض المناهج والأفكار المترسبة في الذهنية الاسلامية، والتي باتت النزعة الاستصحابية، والتحجر والجمود والانغلاق لدى البعض تخامر أذهانهم وعقولهم نحو فكرة البقاء على ما عليه واقعهم المعاصر أو الرجوع الى الوراء بدون وعي متطلبات الواقع المعاش.

فاستطاع الإمام الراحل أن يحقق بعمله الجبار حلم الأنبياء، وحلم الرواد الأوائل- قادة الاصلاح والتغيير- الذين ناضلوا من أجل تشكيل حكومة إسلامية إلهية، بدءاً بالسيد جمال الدين الأفغاني (ت 1897)، ومروراً بالكواكبي عبدالرحمن (ت 1902) المعاصر للشيخ محمد عبده (ت 1905)، ومحمد اقبال (ت 1938) في الباكستان، ثم بديع الزمان النورسي (ت 1960 م) في تركيا، والشيخ مرتضى المطهري (ت 1979) في إيران، والسيد الشهيد الصدر (ت 1980) في العراق الذي تشاطر النهضة المباركة مع الإمام الخميني، وأذاب وجوده فيها.

وسواهم ممن سبقهم من المخلصين الأحرار.

ولما أخذ الإمام الخميني رضى الله عنه على عاتقه مسؤولية التغيير والإصلاح ارتسمت في ذهنه مجموعة من القواعد الاساسية كان لها دور مهم وفعّال في عملية البناء الثوري، وإعطاء زخم للحياة الروحية والاجتماعية، من هذه القواعد: (القضية الحسينية)، والأهم منها جميعاً: (الحج الابراهيمي)، لما له من الدور الخطير في حياة المسلمين. فأولاه عناية ورعاية استثنائيتين وخصص له خطاباً يتلى على ضيوف الرحمن كلّ عام؛ لاستكشاف أسرار هذه الفريضة (الاجتماعية- السياسية- الاقتصادية)، التي فرضها المولى سبحانه على عباده، لما فيها من الفوائد والمنافع، والعزة والمنعة، والأساس المتين الذي به تظل أمة خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، تحمل لواء التوحيد، وتجسد وحدة الانسانية، وتحقق أسمى ما تصبو إليه البشرية من التكامل

ص: 104

الفردي والاجتماعي، والذي يؤدي بدوره الى تحقيق المشروع الحضاري الشامل لتحقيق إرادة السماء في قضية الاستخلاف.

ومن هذا المنطلق يؤكد الإمام القائد رضى الله عنه على الحضور الواعي والفعال في الساحة الاسلامية، في الجمعة والجماعة... في التظاهرات والمسيرات... في الحج (المؤتمر العالمي الكبير)، وذلك لتعظيم حرمات اللَّه سبحانه وشعائره كما أرادها:

ذلك ومن يعظم حرمات اللَّه فهو خير له عند ربّه.

ذلك ومن يعظم شعائر اللَّه فإنها من تقوى القلوب.

وباستشفاف حقيقة هذا الاستدعاء الإلهي ورد في قوله تعالى: وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق، يتبيّن لنا أنه أداة لتحقيق الارتقاء العمودي نحو التكامل الاجتماعي والسياسي، فيما لو أدى المسلمون مناسكه بالصورة التي رسمها المولى سبحانه لنبيه الكريم (صلوات اللَّه عليه وآله)، فكثير من الأحكام العبادية تصدر عنها خدمات اجتماعية وسياسية، وعبادات الاسلام عادة «توأم سياساته وتدبيراته الاجتماعية، فصلاة الجماعة مثلًا واجتماع الحج والجمعه يؤديان- بالاضافة الى ما لها من آثار خلقيه وعاطفية- الى نتائج وآثار سياسية»، ولأجل هذه الامور «استحدث الاسلام هذه الاجتماعات، وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها، حتى تعم المعرفة الدينية، وتعم العواطف الأخوية، وتتماسك عرى الصداقة والتعارف بين الناس، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتُبحث المشكلات السياسية والاجتماعية وحلولها».

من هنا يبيّن الامام القائد القدرة الالهية في عقد هذا الاجتماع الكبير، الذي لا يشابه اجتماعات البشر الوضعية بقوله: «في الدول الاسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيتها، من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر الى عنصر الصفاء وحسن النية والإخاء المهيمن على الناس في اجتماعاتهم الاسلامية، ولا تؤدي بالتالي الى النتائج المثمرة، التي تؤدي إليها اجتماعاتنا

ص: 105

الاسلامية. فقد وضع الاسلام حوافز ودوافع باطنية تجعل الذهاب الى الحج من أغلى أماني الحياة... فما علينا الا أن نعتبر هذه الاجتماعات فرصاً ذهبية لخدمة المبدإ والعقيدة».

المبحث الأول: حرمة الحرم الآمن

لعنصريّ الزمان والمكان بالغ الأهمية في هذه الفريضة الإلهية، فمكان الحج له أهميته الخاصة وموقعه التشريعي في هذه العبادة، وهو أن جعل المولى- سبحانه- الكعبة المشرفة المكان المقصود في الحج، فهي كما قال تعالى: إنّ أول بيت وضع للناس للّذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين. وهذا البيت جعل اللَّه سبحانه الحرمة ملازمة له ولا تنفك عنه أبداً منذ أن اختاره لعباده الى قيام يوم الدين.

وجعله حرماً آمناً ومن دخله كان آمناً ليحس الحاج بالسكينة والطمأنينة والراحة النفسية عند لجوئه الى بيت اللَّه الحرام.

وقد خاطب اللَّه سبحانه نبيه آدم عليه السلام قائلًا: «اجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً وأمناً، أحرم بحرماته ما فوقه، وما تحته، وما حوله، فمن حرمه بحرمتي فقد عظّم حرماتي، ومن أحله فقد أباح حرماتي، ومن أمّن أهله فقد استوجب بذلك أماني، ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي».

وقوله تعالى وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام، إن دل على شي ء فإنما يدل على قداسة هذا البيت وأهمية استشعار الأمن في ربوعه ليوحي للانسان قيمة هذه الحقيقة في الحياة... حقيقة الامن والسلام.

واللَّه جعل لهذا البيت الحرمة الأبدية- كما قلنا سابقاً- ولم يحلّها إلّامرة واحدة، وذلك لرسوله صلى الله عليه و آله عند دخوله مكة في السنة الثامنة للهجرة المباركة.

المبحث الثاني: انتهاك حرمة الحرم الآمن

على الرغم من أن المولى سبحانه جعل لهذا البيت من الحرمة والقداسة

ص: 106

الملازمتين له، وجعله بلداً آمناً، لكن الطغاة وعلى مرّ العصور تعمدوا هتك حرمته وعاثوا فيه فساداً بدءاً بولد اسماعيل الذين استبدلهم اللَّه سبحانه بقبيلة (جرهم) الذين فعلوا الأعاجيب في القتل والنهب والسلب في البلد الحرام، حتى سلط اللَّه سبحانه عليهم (العمالقة)، وهؤلاء لم يكونوا بأحسن حالًا ممن سبقهم، فانهم لم يرعوا لمؤمن إلّاً ولا ذمة، وما أبقوا للبيت قداسة وحرمة، وهم والذين من قبلهم على علم بالنتائج المترتبة عن الظلم والطغيان، بأنه ما ظلم فيه من أحد إلّا وسلّط اللَّه سبحانه عليه معاول غضبه.

وهكذا نزل الغضب الإلهي على (العمالقة) وقُطع دابرهم، بعد أن لم تنفع معهم نصيحة حكمائهم وتحذيرهم لهم، فنجد أحد عقلاء القوم يقف خطيباً ناصحاً، قائلًا: «يا قوم ابقوا على أنفسكم، فقد رأيتم وسمعتم من هلك من صدر الأمم قبلكم...

فلا تستخفوا بحرم اللَّه وموضع بيته، وإياكم والظلم والالحاد فيه، فإنه ما سكنه أحد قط فظلم فيه وألحد إلّاقطع اللَّه دابرهم واستأصل شأفتهم».

وبعد أن تمزّق (العمالقة) شرّ ممزّق على يد (الجراهمة)- الذين عادوا مرة اخرى- ذهبت جرهم هي الأخرى على يد خزاعة التي تمادت في غيّها عدّة مئات من السنين حتى انهارت سلطتها على يد (قريش)، وهذه الأخيرة هي كمن سبقها ممن توالى على سدانة الكعبة، وليست بأحسن حالًا منهم حتى بعث اللَّه رسوله الكريم (صلوات اللَّه عليه وآله)، فطهّر البيت وما حوله من الشرك والطغيان، وعبادة الأوثان وهدم اللَّه أركان قريش، فكسر شوكتهم وجبروتهم، واستسلموا في نهاية الأمر، وذلك عند دخول الرسول الاكرم (صلوات اللَّه عليه وآله) في السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة- لفتح مكة- وهو يتلو قوله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.

وشهدت مكة حالة من السكون والطمأنينة والاستقرار على عهد الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله، ومن بعده الخلفاء، الى أن اعتلى يزيد بن معاوية سدة الحكم، وهو ممن

ص: 107

عُرف باستخفافه وهتكه للحرمات، وممن لا يقيم لشي ء وزناً، ولا يتورع حتى من إراقة الدماء على جدران الكعبة، فرمى عامله على المدينة (الحصين بن نمير)- بأمر منه- الكعبة بالمنجنيق حتى تهدمت جدرانها، وعلى السبيل ذاتها سار (عبدالملك ابن مروان) فتابع السُّنة التي استنها آل أمية، سنة (هتك الحرمات وسفك الدماء)، فأوعز إلى عامله (الحجاج بن يوسف الثقفي)، لقتل ابن الزبير وإن احتمى بالبيت وتعلق بأستاره.

هذا في العهد الأموي المعروف بدمويته واستخفافه بالحُرم، أما في العهد العباسي، والدور المرعب الذي قام به القرامطة في قتل (20 ألفاً) من الحجاج الخراسانيين بعد أداء فريضة الحج سنة (249 ه).

وما فعله الطاغية (أبو طاهر القرمطي) مع أعوانه بضيوف الرحمن ما تصطك منه الأسماع، وتقشعر منه الجلود، برميهم جثث القتلى في بئر زمزم فضلًا عن السرقة والنهب والسلب، وأهم ما سرقوه الحجر الأسود.

وأحفاد القرامطة واليزيديين ورثوا البغي والطغيان من أسلافهم وزادوا عليهم من ترويع ضيوف الرحمن، حتى أحصوا عليهم أنفاسهم. وعشرات المرات تُنتهك حرمة البيت، والحكومات الاسلامية لا تنبس ببنت شفة حتى بزغ فجر الثورة الاسلامية في ايران الاسلام على يد قائدها الخميني الكبير رضى الله عنه، الذي قام بتغييرات واسعة النطاق في كافة الجهات، فكان من أولى اهتماماته تصدّيه ل (فريضة الحج)، باعتبارها من القواعد الاساسية لنهضة الأمة وتطورها.

المبحث الثالث: انتصار الثورة الاسلامية

وما إن انتصرت الامة الاسلامية في ايران، وعمّت الصحوة العارمة أكثر شعوب المنطقة بل كافة البلدان الاسلامية، حتّى حلّق الامام نظره الى ذلك الاجتماع الكبير والمنبر العظيم الذي سيؤدي الدور المبارك فيما لو انطلقت منه صرخة (اللَّه أكبر) من حناجر المستضعفين.

ص: 108

فأدرك الدور الخطير للحج وما له من الأثر الفعال في التغيير الاجتماعي الناتج من تفاعل الأفراد من مختلف الثقافات والعادات والطبائع البشرية، وذلك عن طريق تقريب الأفراد- بأجناسهم المتباينة- نحو بعضهم البعض، وتقصير المسافة المكانيّة بينهم.

فحدث الثورة الاسلامية المعاصرة، غيّر ميزان القوى، وأربك المعادلات السياسية، وأعاد للاسلام مركزه الرائد في مسيرة الانسان، وحقق صحوة إسلامية عارمة تحطم القيود والأغلال، التي كبلت الأمة آماداً طويلة. وليستعيد المشروع الحضاري الاسلامي الشامل روح الحياة بالكامل، لابد من تكريس الصراع بين الحق والباطل، ومحاربة شياطين الانس والجن؛ لإقامة حكم اللَّه في الأرض.

فانبرى الامام القائد رضى الله عنه، وفي أول حج بعد الانتصار المبارك بإصدار بيان تاريخي مهم؛ ليوقظ المسلمين ويفتح أبصارهم وبصائرهم نحو الوضع المرير والواقع المر المخجل الذي وصلوا إليه، من خلال الجهل والضعف والسكوت عن البغي والطغيان من أجل إمرار المعاش.

فكان بيانه يقرع القلوب، ويفتح الأذهان، فاستطاع أن يوصل صوت المستضعفين الى كافة أصقاع الأرض، كما استطاع أن يعيد لهذه الفريضة الإلهية- التي أُفرغت من محتواها بالكامل- دورها الدينامي الحركي القادر على تغيير الأمة نحو المستقبل المشرق، والى أمة قوية ذات عقيدة راسخة تحطم الأصنام وتفك القيود؛ لتتحرر من الظلم والاستضعاف، والتخلف والتبعية للاستكبار العالمي، ومن كلّ ألوان الشرك.

فقد خاطب قدس سره المسلمين جميعاً وفي كلّ مكان بقوله: «اعلموا أيها المسلمون، أنّ هذا التجمع الكبير، الذي ينعقد كلّ عام بأمر من اللَّه تبارك وتعالى، يفرض عليكم بصفتكم أمة مؤمنة ذات عقيدة راسخة، أن تبذلوا جهودكم في سبيل تحقيق أهداف الاسلام السامية

ص: 109

وشريعته الغراء، وفي سبيل تقدم المسلمين وتضامنهم ووحدتهم الشاملة».

ويؤكد الامام في كلّ رسالة سنوية يبعثها لضيوف الرحمان على أخذ الفائدة التامة من هذه القدرة السماوية، فيقول: «هناك عوامل سياسية عديدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القيم، والتي منها التعرف على المشاكل الأساسية والقضايا السياسية للاسلام والمسلمين، ولا يمكن ذلك إلّاباجتماع رجال الدين والمفكرين والملتزمين الزائرين لبيت اللَّه الحرام وذلك بعرض وتبادل الآراء لإيجاد الحلول، وفي العودة الى البلدان الاسلامية يعرضونها في المجامع العامة ويسعون في رفع وحل مشاكلهم».

ثم يضيف في خطابه السنوي محذراً الشعوب الاسلامية من مغبة الركون الى الظالم، فيقول: «دافعوا عن كرامتكم الاسلامية والوطنية وصدوا أعداءكم المتمثلين في أمريكا والصهيونية العالمية والقوى الكبرى سواء الشرقية منها والغربية، دونما خوف ووجل، ودون ملاحظة (بعض) الشعوب والدول الاسلامية، واكتشفوا عن الظلم الذي يمارسه أعداء الاسلام».

ولو استقرأنا خطابات الامام السنوية الى ضيوف الرحمن؛ لتبين لنا أنها تكاد لا تخلو من وصايا وتحذيرات للشعوب الاسلامية وقادتها من مكر الدول الاستكبارية، فنراه من جانب يوصي زعماء الخليج الفارسي بألّا يعملوا على تحقير أنفسهم وشعوبهم من أجل عنصر أفلس سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وأن لا يظهروا ضعفهم وعجزهم عن طريق اللجوء الى أحضان أمريكا، ولا يطلبوا العون من الذئاب والوحوش لرعيهم وحفظ مصالحهم، ومن جانب آخر يحذر جميع القوى العظمى الشرقية والغربية من التدخل في مقدرات الشعوب الاسلامية بل وغير الاسلامية منها.

المبحث الرابع: مسيرة البراءة من المشركين

أكثر ما أكد الامام عليه في الحج هو: (مفهوم البراءة من المشركين)، انطلاقاً

ص: 110

من الآية المباركة وأذان من اللَّه ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر أنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسوله، وإحياءً لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول الاكرم (صلوات اللَّه عليه وآله)، أي براءة من كلّ الوان الشرك ونبذ كلّ أشكال الضلال والدناءة واللاإنسانية.

وكما أدرك الإمام القائد رضى الله عنه الدور التربوي للحج، باعتباره القاعدة والأساس والمنطلق لوحدة المسلمين، وبه يتحرر الانسان المسلم آنذاك من المحيط الضيق، ومن الفكر العتيق، ويعيش حالة الشخصية العالمية بصفته جزءاً من أمة واسعة مترامية الأطراف. كذلك أدرك الاستكبار الدور الأساس والنتائج الطيبة التي ستجنيها الأمة الاسلامية من هذا الاجتماع العظيم في الحرم الآمن بإطلاق صرخة البراءة من المشركين عن وعي وإدراك كاملين، فحاول- الاستكبار- الإخلال بمسيرات البراءة منذ انطلاقتها الأولى وحتى يومنا هذا بكلّ الطرق والوسائل الشيطانية الماكرة، عن طريق عملائه ومرتزقته؛ لإخماد صرخة الدفاع عن الشعوب المظلومة والمحرومة، التي ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق والغرب، صرخة الدفاع عن الكرامات المسحوقة.. صرخة الدفاع عن الثروات المنهوبة..

صرخة أمة تصدح بشعار الاسلام الخالد (هيهات منا الذلة).

ولطالما بين الامام القائد رضى الله عنه طريقة الدفاع عن حياض المسلمين ومقدساتهم، فيقول في أحد خطاباته لضيوف الرحمن: «هيهات أن يسكت الخميني، ويبقى ساكتاً أمام اعتداءات الأشقياء.. لقد وضعت دمي وروحي الرخيصة على كفي بانتظار الفوز بالشهادة العظيمة في سبيل الواجب والحق وأداء فريضة الذود عن حياض المسلمين».

ثمّ يقول قدس سره:

«فإعلان البراءة، يعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج، ويجب أن تقام في أيام الحج بكلّ صلابة وعظمة، مسيرات ومظاهرات كبرى... ويطلقوا بجوار بيت

ص: 111

التوحيد صرخة البراءة من المشركين والملحدين من مستكبرٍ رأسه أمريكا المجرمة، فهل تحقيق الديانة هو غير إعلان المحبة والإخلاص للحق، وإعلان الغضب والبراءة من الباطل؟

وعلى أي حال فإنّ إعلان البراءة في الحج هو تجديد العهد بالجهاد وتربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الاصنام وهو لا يقتصر على الشعارات بل يتعداها لتعبئة جنود اللَّه وتنظيمهم...

ليعرج الحجاج الاعزاء من أفضل أراضي العشق والجهاد وأكثرها قدسية، الى كعبة أكثر رفعة حيث يتوجّهوا كسيّد الشهداء، (الامام الحسين عليه السلام) من احرام الحج الى احرام الحرب، ومن طواف الكعبة والحرم الى طواف صاحب البيت، ومن التوضوء بزمزم الى غسل الشهادة والدم، ليتحولوا الى أمة لا تقهر وبنيان مرصوص... لا شك أنّ روح الحج ورسالته، لن تتحققا إلّابعد أن يلتزم المسلمون بجهاد النفس، وجهاد الكفر والشرك».

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن ندخل الى الواقع الاسلامي للإنسان المسلم، من خلال الحالة التكاملية التي يحصل عليها وهو ينطلق ليؤدي مناسك الحج عن وعي لحقيقته وأسراره.

لو يتساءل الانسان المسلم، ماذا يعني البيت؟ وماذا يعني الطواف حوله؟

وماذا يعني رمي الجمرات والنحر؟ و.. و.. الخ، أليست هي التربية الإلهية للانسان من خلال رموز عينها له ليتوجه اليها بقلبه وعقله ليعي معنى الشيطان؟ فمن هو الشيطان الحقيقي إذن؟ ولماذا تجب محاربته؟ وكيف؟ أسئلة كثيرة ترد في ذهن الحاج وهو في حال الرمي أو غيره.

وعلى الرغم من كلّ الموانع والعوائق التي حالت دون أداء هذه المسيرة المباركة، صمم الحجاج الايرانيون الأحرار وغيرهم على إقامتها على أتم وجه بما يرضي اللَّه سبحانه ورسوله واستجابة لولي أمر المسلمين.

ولكن للأسف الشديد في العام (1407) في اليوم السادس من شهر ذي

ص: 112

الحجة الحرام، اليوم الذي استباح فيه (أبو طاهر القرمطي) بيت اللَّه الحرام، كانت مكة المكرمة (الحرم الآمن) على موعد مع انتهاك عظيم آخر لحرمتها وقداستها وأمنها. فسفك الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.

وفي الذكرى الاولى لهذا الحادث المؤلم، ألقى الامام القائد رضى الله عنه خطاباً مهماً، والألم يعتصر قلبه الشريف، وهو يكشف فيه عن خيوط المؤامرة، إذ يقول: «لابد من التعرف على واقع ما جرى من مؤامرة خطط لها الشيطان الأكبر لذبح ضيوف الرحمن، وتشويش سعي الحجاج لفهم فلسفة الحج الحقة».

وصمم الامام على تصدير الثورة، وإيصال صوت المستضعفين، خاصة عن طريق ذلك (المنبر المقدس العظيم)، فنراه يقول في بيانه التاريخي الى حجاج بيت اللَّه الحرام لعام (1407): «سنطلع العالم على تجاربنا وسنرسم لكلّ المجاهدين طريق الحق والحرية، بدون أي مقابل، وذلك باطلاعهم على حصيلة كفاحنا ودفاعنا ووقوفنا ضد الظالمين.

ولن تكون نتيجة الاستفادة من هذه التجارب الغنية سوى تحقيق الانتصار والاستقلال وانتشار تعاليم الاسلام بين الشعوب المضطهدة».

ويتكلم الامام الراحل بصلابة محمدية وروح حسينية قائلًا: «إني أعلن للعالم وبكلّ حزم بأنه إذا ما أراد السلطويون دنياهم، والناهبون الدوليون الوقوف أمام ديننا فإننا سوف نقف بوجههم ولن نستكين حتى القضاء عليهم جميعاً، فإما أن نتحرر جميعاً، وإما أن نبلغ الحرية الكبرى ألا وهي الشهادة.

فإما أن نشدّ على أيدي بعضنا البعض فرحين بانتصار الاسلام في أرجاء المعمورة كلّها، أو أن نتوجه جميعاً نحو الحياة الأزلية والشهادة، ونستقبل الموت بعزّ وشوق، وفي كلا الحالين سيكون النصر حليفنا.

إنّ أهم علل ما تعانيه المجتمعات الاسلامية، هي أنها لم تدرك الفلسفة لكثير من الاحكام الالهية، والحج بما يشتمل عليه من أسرار وعظمة، لا زال يُمارس كعبادة جامدة

ص: 113

وحركات غير مثمرة؛ لذا فإنّ من الواجبات الكبرى على المسلمين أن يتوصلوا الى فهم حقيقة الحج...».

المبحث الخامس: معنى الحج عند الامام الخميني رضى الله عنه

وهنا يطرح الامام القائد رضى الله عنه سؤالًا على زائري بيت اللَّه الحرام: ما هو الحج؟

ولماذا يجب على الحجاج ان يخصصوا جزءاً من إمكاناتهم المادية والمعنوية لأجل أدائه؟! فهل سيكون الجواب، وكما يصوره المغرضون، بأن الحج عبادة جماعية وزيارة سياحية؟! فحقيقة الأمر يبينها الامام القائد في خطابه فيقول:

«إنّ الحج هو:

اولًا: من أجل اقتراب الانسان من رب البيت وارتباطه به.

ثانياً: الحج منبع المعارف الإلهية، فيجب البحث فيه عن المحتوى الحق للسياسة الاسلامية لجميع شؤون الحياة.

ثالثاً: الحج مظهر تجلّ وإعادة تجسيد جميع ملاحم العشق الإلهي، عشق حياة الانسان الكامل، والمجتمع الكامل في هذه الدنيا.

رابعاً: مناسك الحج هي مناسك الحياة برمتها، وعلى هذا يجب على شعوب الامة الاسلامية من أي قومية كانت أن تصبح إبراهيمية؛ لتلتحق بصف أمّة محمد صلى الله عليه و آله وتذوب فيه فتصبح معه يداً واحدة.

خامساً: الحج ميدان لتجلي عظمة طاقات المسلمين ولاختبار قواهم المادية والمعنوية.

سادساً: الحج تنظيم وتدريب وتأسيس لهذه الحياة التوحيديّة.

سابعاً: الحج كالقرآن... مبارك ينتفع منه الجميع، ولكن العلماء والمتبحرين والعارفين بآلام الأمة الاسلامية، إذا فتحوا قلوبهم لبحر معارفه ولم يرهبوا الغوص والتعمق في أحكامه وسياساته الاجتماعية، فإنهم حاصلون من أصداف هذا البحر على لآلئ الهداية والوعي والحكمة والرشاد والتحرر أكثر

ص: 114

من غيرهم، ولارتووا من خلال الحكمة والمعرفة الى الأبد.

ثامناً: أنّ الحج بغير روح، ولا حركة، ولا انتفاضة، وإنّ الحج بغير البراءة من المشركين، وإن الحج بغير وحدة، وإنّ الحج الذي لا يؤدي إلى تدمير الكفر والشرك، وإن الحج بغير ذلك كلّه، ما هو بحجٍ».

هذا هو الحج عند الامام القائد الفذ رضى الله عنه، الذي ينبثق عنه المشروع الحضاري الكبير الشامل حتى تحقيق الدولة العالمية الإلهية.

«فعلى كلّ المؤمنين الملتزمين، وعلى كلّ الباحثين المتعمقين أن يتصدوا لتبيان أسرار الحج وفلسفته الحقة. ومن دون معرفة ذلك كلّه، لا يمكن أن تقوم لهذه الأمة قائمة، ولابد لها من أن تطأطئ رأسها للأمم الكبرى، بعد أن احتلت مكان الصدارة في عصر الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله. ومن بعده- ولأجل إقصاء الأئمة عليهم السلام عن مناصبهم- بدت تلوح في الأفق ملامح الانهيار والسقوط.

ومن خلال دخول مؤتمر الحج الكبير، وارتقاء ذلك المنبر العظيم الذي من شأنه أن يسمع في ذروة سنام الانسانية صرخات المظلومين الى العالم أجمع، ويدوي منه في الخافقين نداء التوحيد». فالامام القائد رضى الله عنه، أراد انزال الاسلام المحمدي الأصيل الى واقع الأمة الاسلامية، الإسلام الذي لا يعترف بوجود جانب واحد في حياة الانسان، أي الجانب المادي فحسب، بل هناك جانبان يصنعان شخصية الانسان المتكاملة، ألا وهما الروح والمادة.

فالخطط الجهنمية التي أثارها الكفر العالمي في وعي الأمة، أدت دورها في حرف الاذهان نحو الانعزال والفردية والتقوقع والأنانية، بقولهم: ليس لدينا دين ودنيا يشتركان معاً في صنع حياة الانسان، فإن للدين دائرته، وللدنيا دائرتها، وللدين ربّه وللدنيا ربّها، فمن يرتضي قول المسيح الوارد في إنجيل متى «اعط إذن، ما لقيصر لقيصر، وما للَّه للَّه» فهل في الاسلام يكون مثل هذا الفصل بين قيصر واللَّه سبحانه؟ الاسلام دين العقل والتعقل، دين العلم والتدبر، وللعقل مكانة

ص: 115

سامقة لا تضاهيها مكانة، مقابل الجوانب الانسانية الأخرى، والعقل يحكم (بأنّ الدنيا مزرعة الآخرة)، وأنّ الانسان خليفة اللَّه في أرضه، يحكم فيها بإرادة المستخلِف لا بإرادة منفصلة عنه، كما هو الحاصل في الغرب الظالم.

ولهذا حرص الاسلام على أن تكون مباني العقيدة قائمة على ركن وثيق من العلم والمنطق والعقل السليم، بل وعمد الى تفاصيل الحياة الجزئية، فأرفدها بنظم وتعليمات جعلت من مسيرة الانسان تخطو خطواتها المتئدة، واثقة من سلامة مواطئ أقدامها، ومباهية الأمم برزانة ورصانة المبادئ والمعتقدات والسلوك الذي بنت عليه بنيانها وكيانها الشامخ.

وعلى هذا الاساس المتين، نرى الامام القائد رضى الله عنه، وهو الغيور على مقدسات الاسلام والمسلمين، والحريص على تراثه وحرماته، نراه حينما يُستفتى ويُسأل ويُستوضح، يكون جوابه جواب العارفين بمتطلبات الأمور، ومقتضيات المصالح، وما تحتاج تلك الفترة الزمنية من تغيير وتبديل في الآراء والمواقف التي تعتبر من صلاحية الحاكم الشرعي- الولي الفقيه- وبخصوص منطقة الفراغ.

فيوضّح للناس ما خفي عنهم من القضايا المحيطة بهم، بسبب مكر الجبابرة والطواغيت. ومنذ اليوم الأول لقيادة مسيرة الثورة سار الامام على هذا المنوال، فمثلًا يبين للأمة مسألة الحصانة للأمريكان في ايران بكلّ دقة وتفصيل. ويوضح للناس ولمن لم يدرك جيداً سرّ إصرار الجمهورية الإسلامية على مسيرة البراءة من المشركين فيقول: «وكانوا يسائلون أنفسهم والآخرين، ما هي الحاجة للمسيرة وإطلاق صرخة البراءة من المشركين؟ وحتى لو أطلقت صرخة البراءة من المشركين فما الضرر الذي يلحق الاستكبار منها؟ وما أكثر ما كان يتصور السذّج من أن عالم ناهبي المعمورة المسمى «بالمتحضّر» ليس قادراً على تحمّل أمثال هذه القضايا وحسب. بل إنه وحتّى قبل ذلك سيعطي الإذن باحياء التظاهرات والمسيرات لمعارضيه أكثر من هذا.

ويستدلون على هذا المدعى بالسماح للمسيرات بالخروج في بلدان ما يسمى

ص: 116

بالغرب الحر، ولكن يجب أن تتضح هنا حقيقة أن لا ضرر من تلك التظاهرات على القوى الاستكبارية وسائر القوى، أما مسيرات مكة والمدينة فهي تؤدي الى إبادة عملاء روسيا وأمريكا...».

فالظروف الحساسة والحرجة التي أحاطت بالثورة آنذاك، كانت تملي على الامام القائد رضى الله عنه، أن يشن حملة تطهير وتهذيب وتعديل لكلّ الممارسات الدينية- بالاخص مناسك الحج المفرغة من محتواها ومضمونها بالكامل- مما لحقها عبر سنين طوال من تفاعلات، وإرهاصات، تراوحت بين المد والجزر، والسلب والإيجاب، الأمر الذي أدى إلى إعطاء انطباعات سيئة على مجمل العقيدة الاسلامية فضلًا عن الشيعية، والى بروز تيار أخذ بالتشهير والتحريض بالشيعة؛ لذلك ارتأى الامام القائد رضى الله عنه أن تتسم حملته بطابع الهدوء والمرحلية، محاولًا تهيئة الأذهان والأرضية اللّازمة لطرح الحكم القاطع باستئصال تلك الممارسات في مرحلة قادمة انطلاقاً من التحريم المرحلي لبعض الأمور في القرآن الكريم كتحريم الخمر مثلًا.

فكانت الرسائل السنوية من قبل الامام القائد رضى الله عنه تؤكد على أداء المناسك والشعائر وبالصورة التي تتطلبها المرحلة في العصر الراهن، والتأكيد على استلهام الدروس والمعطيات التي من أجلها ضحّى سيد الشهداء- الذي حلّ إحرامه وجعلها عمرة مفردة، وخرج من مكة قاصداً أرض الجهاد؛ للدفاع عن الحق والعقيدة، وحفاظاً على الدين، وحرمة الحرم الآمن- وأكد عليها الأئمة الأطهار عليهم السلام؛ لكي لا تُهدر الطاقات والأوقات في قضايا تشكيلية عديمة الفائدة، لا يصل النفع منها للاسلام والمسلمين اجتماعياً وسياسياً.

المبحث السادس: السائرون على خطى الامام

ثمة عصبة سارت على نهج الامام القائد رضى الله عنه القويم، فنالت الخلود والحياة باستشهادها على طريق الثورة والاصلاح، وأخرى واصلت المسير مستلهمة من

ص: 117

أصالة فكره، وقوة صبره، وشدة حزمه التي ورثها من جده السبط أبي الأحرار وملهم الثوار.

وبفضل المخلصين الواعين من رجال الأمة والمصلحين من العلماء والعاملين بدت تنجلي الغياهب وتنقشع السحب الكثيفة التي تحجب النور الطبيعي من النفاذ الى القلوب، ومن أولئك المخلصين الذين أفرزتهم مدرسة الامام، ومن سار على خطه ومنهجه، فكان العضد المساعد والامتداد للامام الرحل رضى الله عنه وثورته هو:

(السيد علي الخامنئي حفظه اللَّه تعالى)، فتسلّم المسؤولية الكبرى لقيادة الأمة.

ومن أجل سلامة المسيرة البشرية، وصيانتها من الانحراف يقتضي وبحسب المسؤولية الملقاة على عاتق (الولي الفقيه) التدخل واتخاذ كلّ التدابير اللّازمة الممكنة وحسب الظروف والشرائط الزمانية والمكانيّة، إذا ما داهم خطر وأحدق بالمسلمين أو الدولة الاسلامية.

ومن هذه المنطلقات انبرى السيد الخامنئي ليطهر الممارسات الدينية والقواعد الاسلامية- بالأخصّ قاعدة الحج- من البدع والضلالات والأداء اللاواعي للشعائر الإلهية، بدافع من مسؤوليته وغيرته على الاسلام والمسلمين، وحفظهم من خطر الغزو الثقافي والشبهات المثارة لاستقطاب البسطاء والسذّج من الناس، وتحريرهم من أسار العادات السخيفة التي اتخذوها سُنّة بحيث لا يمكنهم تجاوزها والتخلف عنها.

وبما أنّ العدو يخطط دوماً إلى استئصال اللب وإبقاء القشور، موحياً بأنها هي الأصل والأساس، فإنّ المجتمع الذي يعيش حالة الفراغ الفكري والضآلة الدينية والثقافية يأخذ بهذه القشور، ويتّبع الشكليات والمظاهر الخالية من المضامين العالية المؤدية إلى التكامل والرقي والسمو.

ولهذا نجد عدم إمكان استعباد الرعية وظلمها ما دامت غير حقماء وغير تائهة في ظلمة الجهل؛ ولأنّ العلم نور واللَّه خلق النور للإنارة والحرارة والطاقة. والنور

ص: 118

ينشر الخير ويفضح الشر، ويوجد في النفوس الحرارة، وفي الرؤوس الغيرة.

والمستبد يخشى العلوم التي تفتح الذهن وتنشر الوعي بين الناس، وتفهم ما هو الانسان؟ وما هي حقوقه؟ هل هو مغبون؟ كيف يطالب بحقوقه؟ وكيف يمكنه حفظها؟

فالولي الفقيه الامام الخامنئي (حفظه اللَّه) أحد أولئك الواعين الذي تصدى للأخطار المحدقة بالأمة بشدة وصرامة، وبحجم خطورة الموقف، فقال في خطاب له: «إنّ أعمال الحجّ، ومنها رمي الجمار تجسيد للمعرفة ومقارعة العدو. والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله رفع الاذان، وتُليت آيات البراءة في موسم الحج بلسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولو أنّ الأمة الاسلامية تخلصت يوماً من وجود جحافل الأعداء وأمكن حدوث ذلك فإنّ البراءة ستفقد مبرّرها، ولكن مع وجود الأعداء وعدوانهم الحالي فإنّ الغفلة عن العدوّ وإهمال البراءة منه خطأ كبير وخسارة فادحة...».

فالحج الصحيح والكامل- عند الإمام الخامنئي (حفظه اللَّه)- الذي تُرتجى منه العزّة والمنعة والكرامة والاستقلال، والذي يحمل على وقف اتساع دائرة مشاكل الأمة الإسلامية، ثم يستأصل هذه المشاكل، هو: الحج التوحيدي... الحج حين يكون منطقه حب اللَّه وحب المؤمنين والبراءة من الشياطين، ومن الأصنام والمشركين.. والدولة المباركة في ايران الاسلام ركّزت على تقريب الحج مما كان عليه في صدر الاسلام، وذلك بالموائمة بين الجانب السياسي الالهي لهذه الفريضة، وهو مظهر عزّة الحيّ القيوم وقدرته، والجانب العبادي، وهو مظهر غفران الربّ ورحمته، ولتجسيد هذا الاقتران أن أحيت إيران شعيرة البراءة من المشركين ثانية في الحج، وهي تواصل هذا العمل بهذا الواجب الاسلامي رغم كلّ المعوقات السياسية، ورغم كلّ المضايقات الناشئة عن دوافع غير إسلامية.

فمن هذا الحج الصحيح يمكن الحصول على المنافع التي قال عنها المولى سبحانه في كتابه الكريم: ليشهدوا منافع لهم وهذا الحج هو الذي يكون مثابةً

ص: 119

وأمناً كما في قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً.... هذه المثابة إن دلت على شي ء إنما تدل على قدرة الأمة على التجمع والاتحاد، فهي ما إن استطاعت تأتي من كلّ فج عميق باتجاه نقطة واحدة، مرددة كلمة واحدة، ومتحركة باتجاه واحد، فهي إذن قادرة على تحقيق الوحدة الاسلامية، والحكم الاسلامي الموحد.

فالحج الصحيح الذي يستطيع تغيير المحتوى الداخلي لكلّ فرد من أفراد المسلمين، ويغرس في نفوسهم روح التوحيد والارتباط باللَّه والاعتماد، والحج الذي يستطيع أن يصنع من الأشلاء الممزقة لجسد الأمة الاسلامية كياناً واحداً فاعلًا ومقتدراً، هذا الحج هو الذي يريده الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله من قوله: «لو أنفقت جبل أبي قبيس ذهباً في سبيل اللَّه ما أدركت فضيلة الحج»، والذي قال عنه الامام الصادق: «لا تماثل الحج عبادة».

وعلى هذا الاساس جاء حرص الاسلام شديداً على هذه الفريضة الالهية الكبيرة؛ لما تنطوي عليه من الاسرار العميقة والمعطيات الواسعة، وجاء اهتمامه بها حتى أعطى الدولة الاسلامية صلاحية قانونية تمنحها الحق في إخراج عدد من المسلمين الى الحج، وإن أدى ذلك الى القوة والاجبار.

فقد ورد عن الامام الصادق عليه السلام قوله: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده. ولو تركوا زيارة النبي صلى الله عليه و آله لكان على الوالي أن يجبرهم على المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين».

ومن المعطيات العظيمة لهذه الفريضة الالهية، والتي بيّنها الامام الخامنئي (حفظه اللَّه) في خطاباته السنوية لضيوف الرحمن هو مظهر (القوة والاقتدار) باعتبارهما مفتاح التطور والنجاح، والوسيلة اللازمة لتحقيق الحياةالطيبة لأفراد المجتمع، ثم يضيف الى ذلك موضحاً معنى الاقتدار فيقول: «المقصود بالاقتدار الوطني

ص: 120

أن يتمتع المجتمع والبلد بالاخلاق والعلم والثروة والنظام السياسي الفاعل والإرادة الشعبية... غير أنّ فقدان ذلك الاقتدار سيعجّل كثيراً من الانحدار في الانحطاط الاخلاقي والسياسي وسيسلب الشعوب دنياها وآخرتها وعلمها وأخلاقها وكلّ شي ء لديها».

فأداء الحج وتوضيحه بالصورة الصحيحة والكاملة أصبح في رأس قائمة اهتمامات الجمهورية الاسلامية في ايران بعد الانتصار المبارك، بدءاً بالامام الخميني رضى الله عنه الذي أكد على مجموعة كبيرة من النقاط الأساسية التي لابد من فهمها وأدائها في الحج، بالأخص تأكيده الشديد على مسيرة البراءة من المشركين الذي تعود بالنفع الكبير على الاسلام والمسلمين، كما أوضحنا ذلك سابقاً. ومن ثم السائرون على خطاه- خاصة الامام الخامنئي (حفظه اللَّه)- الذين لم يدّخروا وسعاً في تحقيق المشروع الحضاري للحج في الحرم الآمن، المطروح من قبل الامام القائد (الخميني الكبير) رضى الله عنه.

وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس وهذا القيام يعني تحرك الأمة وقيامها نحو نبذ كلّ ألوان الشرك والضلالات والتحديات، تمهيداً لاكتسابها القوة، والقدرة، والطاقة من خلال مناسك الحج؛ لتحصل على الاستقلال والحركة والسيادة وتتخلص من التبعية، وتستعيد قدرتها على اتخاذ القرارات والتدبيرات اللّازمة وحسب متطلبات العصر، ووفق الدستور الالهي، ولكن للأسف الشديد، وكما يقول الإمام الخامنئي:

«لا يمتلك المسلمون اليوم على الساحة العالمية وفي معترك السياسة الدولية أيّ دور في اتخاذ القرارات الكبرى، وفي تعيين النظام الدولي، وأفظع من ذلك فإنّ كثيراً من البلدان الاسلامية تنهج في سياستها الوطنية منهجاً ذيلياً تابعاً، وتخضع لأحدى البلدان المستكبرة المتعنتة... لأنّ حكوماتها عميلة، وضعيفة النفس، وشعوبها مضطهدة أو مغفّلة، وعلماءها ومثقّفيها مصابون بالخوف والتغافل، وبحب البطر والراحة. هذا ما بيّنه الامام الخامنئي في خطابه الى حجاج بيت اللَّه الحرام ثم أوصاهم مؤكداً عليهم بأن يجعلوا

ص: 121

فريضة الحج مؤتمراً يتداولون فيه تلك المشاكل والمحن، ويتدارسون فيه أفضل السبل لحلّها وتوعية شعوبهم بكلّ ذلك».

فلابد من السير الحثيث لتحقيق التوعية على أفضل سبلها، وذلك لأنّ الاستكبار العاملي لا يبكي علينا لتخلفنا وتشردنا وجهلنا، ولا يسعى لتحضرنا إلّا بالمقدار الذي يحلو له، وبالطريقة التي تعجبه؛ لاستغلالنا واستعبادنا، فيبقى هو السيد ونحن العبيد الأذلاء، فترى البعض منّا يضحك ويبكي، ويذم ويمدح، ويتحرك ولكن لا يعي كثيراً مما يقول ويفعل، وكما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام:

(همج رعاع أتباع كلّ ناعق).

فهذا اللون من الحج، مما أكد عليه الامام الراحل رضى الله عنه سابقاً ويؤكد عليه الامام الخامنئي (حفظه اللَّه) لاحقاً، يحقق أهداف الاسلام وغاياته، فلابد من العود الى حج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الشكل والمحتوى، ولابد من أن تنطلق صرخة اللَّه أكبر من حناجر المستضعفين في مسيرة البراءة من المشركين؛ لينتبه المسلمون في كلّ مكان ويعي كلّ منهم دوره والمسؤولية الملقاة على عاتقه، فتستعيد الأمة الاسلامية عزّتها وقدرتها اللائقة بها، حتى يؤدي الحج دوره في التربية والتعليم والتوعية المنتظمة.

وهذا اللون من الحج هو الذي ينقذ المظلومين، ويحرر المستضعفين، ويجيب دعوةالمستغيثين، لاالحج الذي يُؤدى بصورة مراسيم شكلية خالية من العطاء المثمر.

فالأعمال لا توزن بكثرتها، بل بكيفيتها ودوافعها، والمؤمن الواعي لا يهدر قواه وإمكاناته في أداء حركات لا تؤدي الى دحر الشيطان الحقيقي على أرض الواقع، ولا تؤدي الى بعث الأمل في النفوس والى تحقيق الهدف المنشود. وما أدى بهذه الأمة الى الانهيار والسقوط والذوبان، إلّابأداء الحج وباقي العبادات بالشكل الخالي من محتواها.

فبركات الحج ومعطياته ومنافعه كما يقول الإمام الخامئني: «وإن كانت

ص: 122

تستوعب كلّ جوانب الحياة البشرية، ويعم مطر رحمتها جميع المجالات ابتداءً من خلوة القلب والفكر، ومروراً بساحات السياسة والاجتماع وعزّة المسلمين وتعاون الشعوب المسلمة، فتثريها وتحييها وتبث فيها نشاط الحياة.. ولكن قد يمكن القول: إنّ مفتاح كلّ هذا هو «المعرفة»، وأولى هدايا الحج- لمن أراد أن يبصر الحقيقة ويستثمر ما ألهمه اللَّه من قدرة على فهم «الظواهر»- هي المعرفة المتكاملة، التي ينفرد بها الحج، ولا يحصل عليها المسلمون عادة إلّامن هذه الفريضة، ولا تستطيع أية ظاهرة دينية أخرى أن تقدم للأمة الاسلامية تلك المنظومة الكاملة من المعارف كما يقدمها الحج، ومن هذه المنظومة المتكاملة من المعارف:

معرفة الذات على الصعيد الفردي، ومعرفة الذات على صعيد الانتماء للأمة الاسلامية العظمى، ومعرفة النموذج الموجود في الحج من تلك الامة الواحدة، ومعرفة عظمة اللَّه ورحمته، ومعرفة العدو...».

هذه البركات والمعطيات المستخلصة من القرآن الكريم والسنة الشريفة بيّنها الامام الخامنئي في رسائله السنوية الى ضيوف الرحمن، ودأب عليها الكثير من الواعين المخلصين لهذا الدين والشرفاء بقدر العطاء والتضحية، خاصة ممن تخرجوا من مدرسة الامام الخميني الكبير رضى الله عنه؛ لتحقيق المشروع الحضاري الكبير وتمهيداً لتأسيس الدولة الاسلامية العالمية.

وخلاصة البيان، هل انتهى الحج بانتهاء أعماله..؟ ذلك ما بينه أحد تلامذة الامام الراحل رضى الله عنه السيد محمد حسين فضل اللَّه بقوله: «وها أنت قد انتهيت من الحج الى ساحة العمل لتنطلق في الحياة كلّها بكلّ أصنامها ومواقفها ومشاكلها وشياطينها ووسائلها وغاياتها..

إنه لم ينته- الحج- بل بدأ الآن ليكون الحج.. الى الحياة الاسلامية التي تنتظر أكثر من حج الى الساحات الملتهبة في الواقع الاسلامي من كلّ أنحاء العالم...

ليكون الدين كلّه للَّه.. وتكون الحياة في خدمة اللَّه...

ص: 123

وبكلمة واحدة؛ إنّ إعلان البراءة من المشركين في الحرم الآمن أطلقها الامام القائد العظيم رضى الله عنه؛ لتمثل المرحلة الأولى للنضال...».

الهوامش:

الامام الخميني قدس سره في ديوان الشاعر جواد جميل

ص: 124

ص: 125

الإمام الخميني قدس سره في ديوان الشاعر جواد جميل

العظيم الأخضر

كيف لي أن أكتب الشعرَ،

وكلّ الكلمات احترقت فوق يدي؟

ودمي،

يشربه الحزن الذي لوّن أمسي وغدي

وتمنّت كلّ أوتاري بأن تبكي عليكْ،

وتمنّى القلبُ

أن يفنى بشلّال يديكْ

فَخذِ الدمعَ الذي يقطرُ،

من جمرة قلبي، وشظايا كبدي

أنت تدري...

أنّني كنتُ أرى فيكَ قِرانا،

ص: 126

وسواقينا، وبابَ المسجدِ

وأرى فيك ضحايا بلدي

وأمانينا،

وما تحكيه أنّاتُ القصبْ

أي شي ء حملته الريح من صوتِكَ،

غير الوتر الدامي وصيحات الغضبْ؟

أي شي ء حملته الشمسُ،

من أحداق عينيكَ،

سوى لون اللهبْ؟

آه ياعينيك،

يا نافذَتي نورٍ على هذا الزمان الموصدِ

حملت همسَ النبيّينَ،

وشيئاً أبدي

أي شي ء حمل التأريخ من وجهِكَ،

غير الألمِ الخافي،

وأسرار التعبْ؟

يوم كان الخَدرُ الثلجيُّ،

يمتصُّ حكايانا بثغرٍ من ذهبْ

كنتَ تلقي خوفنا،

فوق رمادِ الموقدِ المطفإ،

جرحاً، وخشبْ!

يوم كنّا نتباهى بدخان الموقِد،

رحت كالإعصارِ،

ص: 127

تنبينا بآفاقٍ حبالى بالسحاب الأسودِ

يوم كانت شفرةُ السيف أمَهْ

كنتَ تبكي،

لِليالينا العجافِ المظلمَهْ

لم تكن «عيسى»،

فكيف اجتزت حدّ الكلمهْ؟!

لستَ «إبراهيم»،

كيف انفجرت رؤياك خنجَرْ؟!

لست «موسى»،

كيف صيّرتَ لأتباعِكَ ملحَ البحرِ سكّرْ؟!

أيّها الخالدُ،

مازلتَ على الروح مسمَّرْ

يكبر النجمُ على النجمِ، وقنديلك أكبرْ

وحكاياتك أكبرْ

وستبقى رغم زيف الزمنِ اليابسِ،

وهّاجاً، وأخضَرْ!

ما رأينا غيمةً، إلّاوقالت سأغادرْ

ما سألنا نجمةً، إلّاولمّت خطوها،

خلفَ خطى النجمِ المسافرْ

ما احتضنّا حلماً، إلّاوأبكانا،

فما لليل آخرْ

يا إلهي، ماالذي يحمله النجمُ المسافرْ؟

ص: 128

غيرَ جرحٍ مسّه اللَّهُ،

وأهداهُ إلى مليون ثائرْ!

موت بلون الولادة

لحكاياكَ وجوهٌ كوجوه الأنبياءْ

ولعينيكَ عنادٌ قادمٌ من كربلاءْ

لم تكن خارج هذا الكونِ،

أو شيئاً خرافياً،

ولكن كنتَ ما يشبه أسرارْ السماءْ

كنتَ شيئاً فيه لونُ الجرحِ،

طعمُ القمحِ،

دف ءُ السفحِ، بدءُ العاصفَهْ

عمرٌ ما كسرْتهُ اللحظاتُ الخائفهْ

ويدٌ ما بحثت في قافلات الجوع،

عن خبزٍ... وماءْ

إنّها تبحث عن سيفٍ، لوته الكبرياءْ

لم تكن شيئاً خرافياً،

ولكن ما انحنى ظلُكَ

خلفَ الأمنياتِ الزائفهْ

أيّها الموتُ كفى،

فالنخلةُ الفرعاءُ، ماتت واقفَهْ!

ولهذا سافرتْ خلفكَ كلُّ الكلماتْ

ص: 129

وأنا، يقتلني الصمتُ،

وتحييني مرايا الذكرياتْ

كلّما حاولتُ أن أكتبَ شعراً،

يُغرق الدمعُ،

حروفي المتعباتْ

كلّما حاولتُ أن أنشدَ لحناً،

خشع اللحنُ.. وماتْ

ولماذا لم أقل قد خضتَ في الجمر،

وقد خفنا رَمادَهْ؟

وتلوّيتَ على السكين،

كي تمنح للآتين وجهاً... وإرادَهْ

وشربتَ الملحَ،

صيّرتَ لنا الجرحَ،

قلادَهْ

ولهذا، أنا لا أكتبُ مرثيةَ موتى،

إنّما أكتبُ عن موتٍ،

له لون الولادَهْ!

ص: 130

البعد السياسي للحج في منظار الإمام الخميني

البعد السياسي للحج في الرؤية الخمينية

البعد السياسي للحج في الرؤية الخمينية

جلال الأنصاري

احتدم الجدال طويلًا، بين المدارس السيوسيولوجية، حول تفسير حركة التاريخ الاجتماعي، وقد أدلى علماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ دلوهم في هذه المعركة الفكرية التي تمحورت، في النهاية، على نقطة محددة هي؛ دور البطل في صناعة الأحداث.

فهناك من يرى أنّ الظواهر السياسية ليست نتاجاً مباشراً لدوافع فردية سيطرت على «الأبطال» و «القادة»، بقدر ما تقسرها أسبابها الاجتماعية، التي هي «العلل الحقيقية» الكامنة وراء أحداث ووقائع التاريخ..

في حين يؤكد البعض الآخر على أهميّة دور البطل، خاصة حينما تتحقق السلطة في «الزعيم الروحي» أو تتجسّد «القوّة» في الرائد السياسي، أو تكمن في كيان المحارب البطل. فالقائد الكارزمي «Charismatic Leader» عند «ماكس فيبر» هو مبعوث العناية الالهية، ويحقق الخيرات لشعبه ومجتمعه.

وبعيداً عن الخوض في اشكالية؛ من هو محرّك التاريخ؟... أهو البطل أم أن

ص: 131

البطل ما هو إلّا «الفرصة الاجتماعية المواتية»؟ فإن من الواضح والمتفق عليه لدى المدارس- على تباين مشاربها- هو أن البطل يعبر عن روح العصر، كمرآة تنعكس عليها ملامح الحياة ومواقفها الكلية، وبعبارة أدق؛ إنّ البطل يمثّل شعور المجتمع ووجدانه.

وفي تاريخنا المعاصر؛ تتألق التجربة الخمينية نموذجاً، وبمقدورنا أن نتوغل في آفاق التجربة وبطلها، وفي حالة الامام الخميني سوف لا يكون لكتّاب السير الكلمة النهائية وعندما نريد أن نتوقف على حقيقة هذا الانجاز الذي قام به الامام الخميني رضى الله عنه ليس بإمكان أحد، أن يفهم الأبعاد العميقة لهذا الدور، مالم يرصده ضمن ظروفه الموضوعية؛ بمناخاته السياسية، وخلفياته الفكرية، ومخاضاته الاجتماعية. ومتى ما توفر المرء على ذلك، تكون الصورة قد وُضعت في إطارها الصحيح، وبإمكان المشاهد رؤيتها من جميع أبعادها المختلفة.

ومن هنا تأتي ضرورة الإشارة- ولو سريعاً- إلى أهم معالم الفلسفة السياسية للإمام الراحل، ضمن قراءة شاملة لملامح مشروعه النهضوي، الذي انبرى له، وظل وفيّاً له، رغم كلّ المصاعب والتحديات والإحن.

ثلاثة روافد للفلسفة السياسية

وفي الحديث عن الفلسفة السياسية في فكر الامام الخميني قدس سره تلتقي ثلاثة روافد مهمة، لابدّ للباحث من أخذها بعين الاعتبار إذا ما أراد أن يستتم صورة متكاملة ومتجانسة عن منهج الامام الخميني في الشأن السياسي التغييري، فالامام كانت تستجذب شخصيته ثلاثة عوامل استطاع الامام رضى الله عنه أن يجمعها في شخصيته وفكره ووجوده، وبالتالي في تجربته السياسية المنجزة، وهذه الروافد أو العوامل هي:

1- العرفان.

2- الفلسفة.

3- السياسة.

وعلى هذا الأساس تمكّن الامام من أن يتوفّر على رؤية عرفانية روحية، وعلى رؤية فلسفية عقلية، وعلى رؤية سياسية تغييرية؛ وهذه الأبعاد الثلاثة

ص: 132

التي توفرت عليها شخصية الامام الراحل تتجلى في المجال العرفاني الذي انطوت عليه شخصية الامام الراحل، والذي برز في طريقة تفكيره ونظرته لمختلف قضايا الحياة. وفي المجال الفلسفي الذي أظهر الامام براعة ودقة في التعامل معه والتعرّف على دقائق مباحثه العقلية والنظرية، وفي المجال السياسي الحركي الذي أفصح الامام عن قدرة خاصة على الخوض فيه واستيعاب متطلبات التحرك في أجوائه.

وبالقدر الذي تلاحمت فيه هذه الأبعاد الثلاثة والتصقت بشخصية الامام الراحل رحمه الله، فإنّ من العسير، إنْ لم يكن من المستحيل، التعرّف على شخصية الامام الخميني ووعي منهجه في التغيير الاجتماعي والديني الذي تمثله في فلسفته السياسية العملية، من دون الإحاطة بهذه الأبعاد الثلاثة من شخصيته؛ ومن هنا نرى- كما يقول باحث جاد- أنّ خطأً يمكن أن يتعرّض له أي باحث يستهدف دراسة فكر وتجربة الامام الخميني في المجال السياسي بعيداً عن التعرّف التام وبشكل مسبق على رؤيته العرفانية ورؤيته الفلسفية.

ومهما يكن من أمر، فإنّ المجال السياسي، الذي تحرّك الامام الخميني في أجوائه، لم يكن ينطلق فيه بلا استناد الى رؤية واضحة لمتطلبات التغيير الاجتماعي، بل على العكس من ذلك، فإنّ الممارسة السياسية التي تمثلها الامام الراحل تفصح، بما لا يقبل الشك، عن أسس متينة، ومبادئ انسانية وإسلامية شاملة ومستوعبة، كانت تنطلق منها هذه الممارسة، بمختلف صورها ومراحلها.

وتأسيساً على ذلك؛ قد يكون الحديث عن الخط الفكري السياسي للامام الخميني، بصورة شاملة، متعسّراً أو متعذراً، في مقال محدود؛ لأنّ المجالات التي تحدّث عنها، أو خاض فيها، أو حارب من أجلها ليست محصورة في حدود معينة، أو دوائر ضيّقة، بل كانت تتسع للعالم كلّه، في دائرة الاسلام كلّه، لأنه كان ينطلق في عمق فلسفته العرفانية إلى اللَّه في أوسع

ص: 133

الآفاق، حتى كان يتجاوز الشكليات التقليدية في حركة هذا الخط، وكان يتحرّك في وعيه الاسلامي للمسألة الانسانيةفي واقع الاستضعاف والاستكبار، فيما هي آلام المستضعفين في حركة امتيازات المستكبرين، فكان يتألّم للانسان أيّاً كان انتماؤه، ويفكر أنّ الآلام الانسانية لا تمثّل في إيحاءاتها الشعورية مجرّد مشاعر حزينة، أو أصوات صارخة، بل لابدّ لها من أن تتمثل في حركة فاعلة من أجل إزالة هذه الآلام، وكان يرى أنّ مسألة الاسلام في وعي المؤمنين به، على مستوى القيادة أو القاعدة، هي مسألة الدعوة المتحركة في كلّ صعيد؛ لتملأ فراغ الفكر الانساني بالفكر الإسلامي، وتشحن روحيّة العاطفة الانسانية بالعمق الروحي للعاطفة في الاسلام، وتحرّك الواقع الانساني بالتشريعات الحركية للانسان في الحياة، ممّا يجعل مسألة الدعوة تنفتح على السياسة كما تنفتح على الفكر، كما يدفع مسألة المعاني الروحية نحو القيم الانسانية في الحياة.

وهذه هي الميزة البارزة في شخصيته، التي استطاعت أن تجعل ملامحها الداخلية والخارجية وحدة في الفكر والسلوك، على أساس وحدة الخط الاسلامي، الذي لا يبتعد فيه العرفان عن الشريعة، بل ينفذ إليها ليزيدها عمقاً في الحركة، ولا تتجمّد الشريعة لديه في نطاق فردي، بل تنطلق لتشمل الحياة كلّها بأبعادها العامة والخاصة في جميع المجالات.

وفي ضوء ذلك؛ لم يكن العرفان لديه استغراقاً في اللَّه بحيث ينسى الحياة التي تضجّ حوله بكلّ آلام المستضعفين ومشاكلهم، وينعزل عن ذلك كلّه... كما يفعله الكثيرون من العرفانيين الذين استغرقوا في الجانب الفلسفي للعرفان فعاشوا في خيالاته التي تصوروها حقائق، وابتعدوا عن واقعهم.. فتحولوا الى كائنات إنسانيّة قد تستوحي منها بعض القداسات الروحية، لكنك لن تستوحي منها حركة الحياة في روحية المسؤولية الحركية.

شمولية النظرة العامة

لقد استطاع أن يدمج شخصية العارف بشخصية الفقيه، ثم انطلق من

ص: 134

ذلك ليندفع- من خلال هذه الشخصية الجديدة- الى اللَّه، في خط المعرفة والحركة معاً، ليعيش في حياته في شخصية الداعية الى اللَّه والمجاهد في سبيله.

ومن هذا الموقع كان انفتاحه على الأمة كلها، وعلى المستضعفين.. وهكذا رأينا كيف كانت حياته كلّها خاضعة لعناوين ثلاثة تلخّص كل العناوين الصغيرة في حركته.

وهي: «اللَّه»، و «الاسلام»، و «الأمة في دائرة الاستضعاف» ليقابلها «الشيطان» بأحجامه الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، في عالم الغيب، وفي عالم الحسّ والكفر بكلّ معانيه «الفكرية والعملية، وبكل إفرازاته الواقعية في دائرة الضلال والانحراف والظلم، والطاغوت» بكلّ رموزه الشخصية والاجتماعية والسياسية، على مستوى الفرد والجماعة والدولة.

وهذا هو سر شمولية النظرة العامة للحياة عنده، وشجاعة الموقف في حياته، وصلابة التمرّد في مواقفه، وصفاء الشعور في إحساسه، وامتداد الأهداف في كلّ خطواته، وانفتاح الثورة في مواجهته للواقع على مستوى العالم كلّه.

ف «اللَّه» هو ربّ العالمين، و «الشيطان» هو العدو الأساسي للانسان كلّه.. و «الاسلام» هو رسالة اللَّه الى الناس كافة، و «الكفر» هو خط الشيطان الذي يريد أن ينحرف بالحياة كلّها، وبالانسان كلّه عن «اللَّه». و «الأمة» تمثل العنوان الذي يشمل المسلمين جميعاً، كما أنّ ارتباط قضاياها بقضايا المستضعفين كلهم جعلها تنفتح على كلّ قضاياهم في العالم كلّه.. والطاغوت الفردي والجماعي والدولي يمثل كل مواقع الطغيان الفكري والعملي في واقع الانسانية كلّه.

وهذا هو الذي يجعلنا نلاحظ تكرر هذه الكلمات في كلّ كلماته، بحيث لا تغيب عن لسانه في كلّ مناسبة من مناسبات الصراع.

من الواضح أنّ الامام الخميني تحرّك ضمن مشروع سياسي نهضوي واسع الأبعاد، ومتعدد الجبهات والجهات، ولقد كان الامام معنيّاً بهموم ومشاكل

ص: 135

وأزمات الوضع الاسلامي العام بالمستوى الذي كان معنيّاً بالوضع السياسي لبلده الأم دون أن يغفل هموم المستضعفين في إطارها الانساني الواسع.

الحديث غير المألوف

قد يحلو للبعض الحديث عن الامام الخميني والمشروع الحضاري الاسلامي وكأنه حديث كما المألوف في الأنماط المشابهة عن منظِّر ونظريته، أو منظِّر ونظريّة، مما يقتضي- بالتالي- طرح موضوع بات من قبيل لوازم الفكر السياسي المستهلك، وتداعيات العلاقة بين الفكر والواقع، وهو موضوع:

النظرية والتطبيق.

فمن التعسّف اعتبار الامام «منظِّراً» بالمعنى الرائج للمصطلح، «فالنظرية» فعل إنساني و «التنظير» من شأن البشر.

أما في الإلهي فثمة أحكام وشرائع وأوامر ونواهي وسنن لا مجال للشك في صحتها ومصداقيتها وخيرها لمصلحة المستخلف البشري على الأرض. وأهم من ذلك كلّه أن الإخلال بها والنكوص عنها مستوجب لاعباء ومسؤوليات وعقوبات موصوفة في الدنيا والآخرة.

وفي هذا السياق؛ لم يعرف التاريخ الاسلامي، بعد الأئمة، قائداً ومفجراً لثورة، تحققت أم لم تتحقق، برؤية ثاقبة مهدية وهادية بالمستوى الذي تجلّت فيه رؤية الامام الخميني. وليس هذا الحكم إسقاطاً عاطفياً، ولا صادراً عن حالة ولاء شخصانية، كما يقول د. سمير سليمان. ففكر الامام وسيرة جهاده الطويل، ومسيرته العملية والسياسية والشخصية، هي بذاتها تحدٍّ كبير للباحثين الموضوعيين، فليسبروا أغوار هذا الرجل التاريخي، ولو كانوا في موقع الخصم الايدولوجي.

وإذا كان إيمان الامام بمصداقيّة و عقيدة المشروع الذي استنقذه، وبحتميّة تحقيق أهدافه، وصوابيّة الدعوة إليه، جزءاً لا يتجزّأ من إيمانه المطلق بمصدر المشروع ومبدئه وأصله، ويقينه بخيريته المطلقة، فإنّ ذلك الايمان صادر- أيضاً- عن إيمان بأهل هذا المشروع وعشيرته وقابليات الأمة التي تحتضنه، بما هي مجتمع انساني متحرّك متحد فكراً

ص: 136

وعقيدةً ومذهباً وطريقاً، لا على مستوى الفكر فحسب، بل على المستوى العملي أيضاً. فأفراد الأمة الواحدة- من أي لون أو دم أوأرض أو عرق كانوا- يفكرون بطريقة واحدة، ولهم إيمان مشترك واحد، ويتحركون بإتّجاه مثل أعلى واحد يكملون فيه ويتكاملون، ويخضعون لقيادة سياسية واجتماعية واحدة. والأمة بهذا المعنى هي الأمة الاسلامية. والملفت أنّ الامام قلّما استخدم هذا المصطلح في كتاباته وخطبه ومحاضراته، غير أنه استخدم- بكثافة ملحوظة- مصطلحات متعددة مثل: الناس، المسلمون، المستضعفون، المظلومون، المحرومون، الجماهير، أهل السوق والشارع والعامل والفلاح والطالب والجميع... الخ، وذلك بذات دلالات مصطلح «الأمة» الذي اعتبره السيد محمد باقر الصدر مرادفاً لمصطلح «المجتمع». إلّاأنّ الامام في استخدامه بعض هذه المصطلحات كان يتجاوز- غالباً- الدلالات التي يحتملها مصطلح الأمة الاسلامية/ المجتمع الاسلامي بما هو مصطلح مخصوص بالمسلمين؛ ليضيف إليها بعداً أشمل ودلالة أعم، لتضم الانسانية بأجمعها، خاصة في مصطلحات مثل:

«المستضعفون»، «المظلومون»، «المحرومون»، «الناس»، وذلك وفاق ما يقتضيه الموضوع ومقدماته في الشأن الذي يخوض فيه.

حيال هذا التعدد المصطلحي، في نصوص الامام، لا يلمس الباحث أي تعثّر أو تداخل أو غموض في المفاهيم يمكن للتعدد أن يقود إليها، كما هي الحال عند كثير من المفكرين المرموقين.

فحركة فكر الامام تبقى على الدوام منضبطة في سياق ثوابت المشروع الإسلامي الذي يضطلع بحمله، ومنبثقة من نظرته الكونية التوحيدية، بما هو هاد الى أهداف دينامية متعددة تلتقي في هدف واحد كلّي، وبما هو محدد لمنهج تحقيقها، فالهدف الكلّي هو إقامة حكم اللَّه في الأرض، بنموذجه الحضاري الالهي ولوازمه وأحكامه العادلة، باعتبارها بسطاً للعدالة الالهية بين الناس، واجلالًا للنظام الالهي في

ص: 137

العالم، «فقد جاء الاسلام ليوحّد شعوب العالم تحت اسم الأمة الاسلامية» بتعبيرالامام.

الحج؛ منظومة فقهية

ولمّا كان الاسلام منهج حياة، فإنه يتسم بالشمولية والتكامل وتلبية حاجات البشرية في كلّ زمان ومكان.

إن للإسلام قواعد ومباني يبتني عليها، ويتكئ عليها، وينهدم دونها، ولا يبقى له بدونها إلّاالاسم العاري من المسمّى.

ومن تلك المباني الحج، حيث يقول الامام الباقر عليه السلام: «بُني الاسلام على خمس: الصلاة والصوم والزكاة والحج والولاية»، فمن ترك الحج متعمداً فقد هدم ركناً من أركان دينه الإلهي فينهدم معه الاسلام الكامل؛ ولذا قال تعالى فيمن تركه عمداً... ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين، حيث عبّر عن تركه العمدي بالكفر، فتارك الحج عمداً كافر عملًا، وإن لم يكن كافراً إيماناً واعتقاداً. وحيث إنّ الحج من مباني الاسلام. فجميع ما ورد في شأنه لابدّ وأن يتبلور في الحج ويكون الحج مُمثلًا إيّاه ومجلىً لظهوره.

ويندرج الحج ضمن سلسلة اجتماعات المسلمين، بحيث يأتي تتويجاً لها، وأهمها لجهة الشمول والاتساع.

أمّا أول هذه الاجتماعات فهو «على مستوى أهل الحي الواحد من البلد، يتكرر في اليوم خمس مرات، وقد شرع اللَّه صلاة الجماعة، أما ثانيهما؛ فاجتماع على مستوى أهل البلدة الواحدة، يتوالى مع كلّ اسبوع، وقد شرع له صلاة الجمعة، وأما ثالثهما؛ فاجتماع على مستوى العالم الاسلامي أجمع.. حيث يتلاقى المسلمون من شتى بقاع الأرض، ليتعارفوا، ويتبادلوا الآراء والخبرات، ويغلّبوا وحدتهم على ما يغالبها من انتماءات تاريخية واجتماعية وثقافية مختلفة.

وهكذا نجد أنّ الحج- كفريضة- يحتل موقعاً أساسياً في بناء حركة المجتمع التوحيدي، إذ تعتبر هذه الفريضة أحد أركان الاسلام، فالجماعة المسلمة تتعامل مع الحج باعتباره فريضة على كلّ مسلم ومسلمة الى يوم الدين، مهما تغيرت الظروف وتقلبت

ص: 138

الأحوال: وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين.

ويتواصل الحج مع منظومة عبادات لدى المسلمين، تبدأ بالصلاة والصوم، وتتوّج بالحج. إلّاأنّ هذه العبادات المختلفة، رغم ما يجمعها من خصائص مشتركة، يبقى لكلّ منها خاصية وفرادية.. لذا فالحج، كظاهرة يمكننا القول: إنها في الوقت الذي تندرج فيه ضمن نظام أعم من العبادات تحمل منطقها وقواعدها ووظائفها المميزة.

إنّ القيام بالحج ليس أمراً عفوياً يقوم به المسلم كيفما اتفق، انطلاقاً من قناعاته الفردية أو تأثراً بالمناخ الحقوقي والقانوني الذي ينظّم العلاقات الاجتماعية المختلفة في البلد الذي يعيش فيه، ولا انطلاقاً من العرف الذي يحكم القبيلة أو الطائفة التي ينتمي اليها.

فالحج تحكمه منظومة فقهية تفصيلية، يتعامل معها المسلمون على أنها شروط إلهية ورسالية، لا يحق للفرد أو الجماعة أو الأمة، في أية مرحلة من مراحل التاريخ وفي أية بقعة من بقاع الأرض، أن يجروا أيّ تعديل عليها، مهما كان الموقع الذي يتبوؤنه في السلطة وفي الحياة العامة.

البعد السياسي للحج

تنطوي شعائر الحج على الكثير من المضامين العبادية والدلالات السياسية، في آن معاً، وقد كانت القبائل عندما تؤم مكة في موسم الحج، تحمل كلّ منها أعلامها المميزة وأصنامها، ومؤكدة بذلك على تمايزها القبلي أو على ترتبتها وعلو شأنها بين القبائل الأخرى.

ولكن الحج، بعد الدعوة، أرسى مؤسسة جديدة تتعارض بل تلغي كافة هذه الممارسات والشعائر، خالقة حالة توحيدية خالصة، تؤمّن للمسلمين إحدى الدعائم التي تجعلهم قادرين على مقاومة الانشدادات المختلفة؛ من قومية وقبلية وما الى ذلك....

وعليه، فالحج كما يتّضح من الكتاب والسنة وسيرة السلف وأقوال العلماء لا يتلخّص في كونه موسماً عبادياً (بالمفهوم المألوف عند كثيرين)، بل هو الى جانب ذلك مؤتمر سياسي عالمي وملتقى اجتماعي عام يوفّر للمسلمين القادمين

ص: 139

من شتى أنحاء المعمورة فرصة التعارف، والتآلف، واللقاء بعضهم ببعض، وانتفاع بعضهم ببعض، ومداولة أمورهم وحل مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في جو من الأمن والقداسة والصفاء والمحبّة.

لقد وصف القرآن الكريم «الحج» في عدّة مواضع بأن فيه ما ينفع الناس ويضمن مصالحهم، كما أنّ السنّة والسيرة النبوية الشريفة هي الأخرى تشير إلى أنّ النبي صلى الله عليه و آله مارس الأعمال السياسية في الحج، فضلًا عن الأحاديث التي تفيد بأن الحج نوع من الجهاد كقوله صلى الله عليه و آله: «نعم الجهاد الحج».

ولعل ما جاء وصحّ عن الرسول صلى الله عليه و آله من الأدعية والأذكار في الحج تلك التي تتضمن معاني سياسية الى جانب معانيها التوحيدية خير شاهد على أنّ الحج موسم مناسب لأن يظهر فيه المسلمون موقفهم من أعداء اللَّه والاسلام.. كالدعاء: «لا إله إلّااللَّه وحده وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده».

وقد أشار كثيرمن علماء الاسلام والمفكرين الاسلاميين الى ما ترمز إليه هذه المناسك من امور معنوية، واقتصادية، واجتماعية وسياسية. كما ورد في البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه و آله عامه الذي استأمن فيه (أي قدم مكة للعمرة) قال لأصحابه: إمِلوا (أي اسرع في المشي، وهزّ منكبيه) ليري المشركين قوتهم.

وفي البخاري ومسلم أيضاً قال ابن عباس: «إنما سعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته».

وهذا يشير الى أنه يجوز أن يضم الحاج الى مناسكه مقاصد سياسية وأغراضاً جهادية مثل إرهاب الأعداء واستنكار أعمالهم، وشجب مؤامراتهم وفضح خططهم.. كما يوحي بذلك عمر ابن الخطاب إذ كان يقول إذا كبّر واستلم الحجر: «بسم اللَّه واللَّه أكبر على ما هدانا، لا إله إلّااللَّه لا شريك له، آمنتُ باللَّه وكفرت بالطاغوت».

إنّ التاريخ يحدّثنا أنّ السلف الصالح لم يقتصر في الحج على المناسك

ص: 140

والعبادة، بل استغلوا هذه المناسبة للعمل السياسي كجزء طبيعي من هذه الفريضة، لا كشي ء زائد عليها أو أجنبي عنها، فها هو الامام الحسين بن علي سبط الرسول صلى الله عليه و آله يحتج على حاكم جائر من حكام زمانه في يوم من أيام الحج.

بل ووجد غير المسلمين فرصتهم في الحج ليعرضوا على الخليفة شكاواهم فيقوم الخليفة بانصافهم في زمن الحج، لا بعدئذ، كما هو الحال في قصة ابن القيطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص (والي مصر يومئذ).. فاقتضى عمر بن الخطاب الذي اقتص من المعتدي على مرأى ومسمع من ألوف الحجيج، وقال كلمته الشهيرة: يا عمرو «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!».

حول هذه الحادثة، يعقّب أحد العلماء المعاصرين بقوله: «فإذا كان الحج موسماً لبيان الظلامات والشكاوى من الحكام والولاة المسلمين، أفلا يكون من الأوْلى أن يجوز فيه الشكوى من الاستعمار وأذنابه وعملائه، واستنصار المسلمين عليهم؟ وهل يجوز أن نشكو الوالي المسلم إذ تعدّى حدوده، ولا يجوز أن نشكو المستعمر الظالم والأجنبي الغازي، وهو يرتكب كلّ تلك الجرائم والمجازر؟

فلسفة الحج عند الامام

إنّ الدلالات السياسية المختلفة التي تتضمنها ظاهرة الحج في المجتمع الاسلامي تنطوي على سمات خاصة بهذا المجتمع، فالسياسة ليس مؤسسة قائمة بذاتها ومنفصلة عن باقي جوانب وأبعاد الحياة الفردية والجماعية. بل هي لحظة تتدرج ضمن ممارسة شمولية متعددة الجوانب، تعطي للنسق السياسي الاسلامي بعداً توحيدياً متميّزاً.

وإذا ما وعينا هذه الحقيقة جيداً، نستطيع أن نفهم أهميّة النداءات والتوجيهات التي أطلقها الامام الخميني، بشأن الحج والحجيج، إنّها نداءات وتوجيهات نابعة عن فهم واعٍ حركي للإسلام، أو هي بعبارة أخرى منطلقة من نظرة واعية للدور الذي يستطيع الحج أن ينهض به على ساحة

ص: 141

التاريخ.

وقبل استعراض هذه النداءات والتوجيهات، لابدّ من الوقوف على عمق فلسفة الحج عند الامام الراحل.

فالطواف حول الكعبة يرى فيه الامام الخميني رمزاً لحرمة «الطواف والسعي حول (أية مبادى ء) غير مبادئ اللَّه، وأن رجم الشيطان هو رمز لرجم كلّ شياطين الانس والجن في الأرض. أيها الحجاج..

احملوا من ربكم نداءً الى شعوبكم، أن لا تعبدوا غير اللَّه وأن لا تخضعوا لغيره».

ولا يذهبنّ الظن بالبعض أنّ الامام الخميني قد انتبه مؤخراً الى هذا الفهم، وتحديداً بعد انتصار ثورته الاسلامية، بل إنه تصدّى الى قضايا المسلمين منذ وعى دوره التاريخي، وقبل هذا الزمن بفترة ليست بالقصيرة. ولقد اقترنت اهتمامات الامام الراحل بموسم الحج باهتماماته الرامية الى إصلاح أوضاع المسلمين، وتغيير ما هم عليه من ركود وخنوع وذل واستكانة. الامام أكّد دوماً على ضرورة استثمار هذه الفرص التي وفّرها الاسلام للمسلمين من أجل إعادة الاسلام الى مسرح الحياة، وإعادة تكوين الأمة المسلمة الفاعلة على الساحة التاريخية.

يقول الامام قدس سره في بداية نفيه الى النجف الأشرف: «في الدول غير الاسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد وميزانيتها، من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، وإذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر الى عنصر الصفاء وحسن النية والاخاء المهيمن على الناس، في اجتماعاتهم الاسلامية، ولا تؤدي بالتالي الى النتائج المثمرة التي تؤدّي إليها اجتماعاتنا الاسلامية.

وضع الاسلام حوافز ودوافع باطنية تجعل الذهاب الى الحج من أغلى أماني الحياة، وتحمل المرء تلقائياً الى حضور الجماعة والجمعة والعيد بكلّ سرور وبهجة. فما علينا إلّاأن نعتبر هذه الاجتماعات فرصاً ذهبية لخدمة المبدإ والعقيدة؛ لنبيّن فيها العقائد والأحكام والأنظمة على رؤوس الأشهاد وفي أكبر عدد من الناس.

علينا أن نستثمر موسم الحج، ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة الى الوحدة والدعوة الى تحكيم الاسلام في الناس

ص: 142

كافة، علينا أن نبحث مشاكلنا ونستمد حلولها من الإسلام. علينا أن نسعى لتحرير فلسطين وغيرها.

المسلمون الأوائل كانوا يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعيادهم ومواقف حجهم أحسن الثمار».

التأكيد على الجانب السياسي والاجتماعي

هذا هو الامام الخميني رحمه الله في كلّ المواقف والمنعطفات. رؤية ثاقبة واعية لا تحيد عن الاسلام. ولهذا فهو- انطلاقاً من فهمه الواعي الصحيح للاسلام- لا ينظر الى الأحكام نظرة تجزيئية بل ينظر إليها باعتبارها كلًاّ واحداً لا ينفصل بعضها عن بعض. الأحكام العبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية تقوم على قاعدة واحدة، وترتبط مع بعضها بأواصر وثيقة لتشكّل أساس كيان المسلمين وحركتهم المتسامية.

يقول الامام الراحل قدس سره: «كثير من الأحكام العبادية تصدر عن معطيات اجتماعية وسياسية، فعبادات الاسلام عادة توأم سياساته وتدابيره الاجتماعية.

صلاة الجمعة مثلًا واجتماع الحج والجمعة تؤدي- بالاضافة الى ما لها من آثار خلقية وعاطفية- الى نتائج وآثار سياسية. استحدث الاسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتى تعم المعرفة الدينية وتعم العواطف الأخوية، والتعرّف بين الناس، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتُبحث المشاكل السياسية والاجتماعية وحلولها».

وفي ندائه الى حجاج بيت اللَّه الحرام عام 1399 ه. قال رحمه الله: «الاسلام دين عبادته سياسة، وسياسته عبادة. والآن اذ يجتمع المسلمون من شتى بقاع الأرض حول كعبة الآمال لحج بيت اللَّه، وللقيام بالفرائض الالهية، وعقد هذا المؤتمر الاسلامي الكبير، في هذه الأيام المباركة، وفي هذه البقعة المباركة.. يتوجّب على المسلمين الذين يحملون رسالة اللَّه تعالى أن يستوعبوا المحتوى السياسي والاجتماعي للحج اضافة الى محتواه العبادي».

وفي الوقت الذي يبثّ فيه الامام الوعي في أوساط الأمة، مؤكداً أنّ

ص: 143

الحج فرصة من فرص العودة الى الذات... نراه يثير انتباه جموع الحجيج الى طريق الخلاص، وما يكتنف العالم الاسلامي من تحديات: «إنكم تعرفون أن القوى الكبرى تنهب ثرواتنا المعنوية والمادية، وتتركنا في فقر، تحت سيطرتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، ولا يمكن التخلّص من هذا الوضع إلّا بالعودة الى شخصيتنا الاسلامية، ورفض الظلم والطغيان من أي مصدر كان، وفضح القراصنة الدوليين وعلى رأسهم أمريكا».

وبهذا الهدف الشمولي الانساني أعاد الامام بعث المشروع الحضاري الاسلامي، فمن لوازم عقيدة التوحيد إيمان كلّ مسلم «بأنّ الدين الاسلامي سيسود العالم.. وسيمحو آثار الكفر والاستكبار عن وجه الأرض». إلّاأنّ هذا الهدف الاستراتيجي غير متحقق إلّا انطلاقاً من تحقيق هدف مركزي دينامي يتمثل في قيام حكومة اسلامية تمهيدية، حيث يمكن للمسلمين أن يقيموها، وحيث تتوفر المناخات والظروف الآيلة إليها، فكان أول العقد في ايران، إذ اندلعت الثورة الاسلامية فيها على يدي الامام الخميني نفسه بعد نضوج مقدماتها التكاملية وجهاد استمرّ متواصلًا جاداً على مدى ما يناهز الربع قرن من الزمن. لكن هذه الثورة لم تكن إلّاالخطوة الأولى في المشروع الكبير، بما هي ثورة من أجل العالم الاسلامي، ومن أجل المستضعفين في العالم في الوقت نفسه.

يقول الامام: «إنّ هذه الثورة قد قامت بالدرجة الأولى من أجل العالم الاسلامي، وبالدرجة الثانية من أجل المحرومين والمستضعفين الذين يسعون من أجل تحريرهم.. وبهذا المعنى فإنّ الثورة الاسلامية الايرانية ليست فريدة ومقتصرة على نفسها، بل هي بداية ثورات تماثلها في الهوية والميزات».

وهذا يعني- فيما يعني- أنّ ايران للاسلام وفي خدمة الاسلام، وليس العكس، أي أن ايران ليست للايرانيين، كما يحلو للبعض رفع هذا الشعار، بل إنّ الثورة الاسلامية قامت من أجل المحرومين والمستضعفين، فهي- حسب الرؤية الخمينية- ملاذ

ص: 144

لهؤلاء وداعم لهم، فكيف بالمسلمين الذين هم أولى من غيرهم بهذا الحق..؟!

كان لابدّ للثورة النموذج من أن تنبعث من مكان جغرافي، شاء اللَّه أن يكون ايران (بعدما نضجت فيها مقومات الانتفاض وأسبابه)، لكنها انطلاقة الى كلّ الأمكنة والى كلّ الشعوب بهدف وحدوي توحيدي هو:

«تثبيت واستقرار القيم الاسلامية وحدها».

ولم يفارق خطاب الامام التبليغي هذه المعادلة قط. فلحظ وحدة المشروع مرتبط عنده دائماً بلحظ وحدة العالم والانسان، والمسلمون والمستضعفون في الأرض هم المكلفون، وهم المعنيون بالتحرك والسعي لإنقاذ حكم اللَّه ونظامه، وما المشروع الالهي إلّالاستنهاضهم وتحريرهم من كلّ العبوديات، فهو الهادي المؤدي الى الحق والعدالة، والقسط وخير الانسانية وهم المهتدون، ودور المبلغين والقادة هو إنجاز الارتباط المعرفي بين مشروع الهداية والمهتدين العتيدين.

مسؤولية أصحاب الكلمة في الحج

ولتفعيل الخطى باتجاه هذا الهدف الكبير، لابدّ أن ينبري الرساليون الى ممارسة دورهم الطليعي في توعية الأمة، وبث روح العزيمة في جوانحها، ويتعزّز، هنا، دور أصحاب الكلمة، خاصة في الحج، فأصحاب القلم والبيان ينبغي أن يعيشوا هموم الأمة المسلمة، وينهضوا بمسؤولية توعية الجماهير على مشاكلها، ودفعها على طريق عزتها وكرامتها. مسؤولية الالتزام الفكري تفرض على الكتاب والخطباء أن ينزلوا من الأبراج العاجية، ويبتعدوا عن التزلّف لمراكز القوة، ويندمجوا بالأمة الاسلامية الكبرى.

الحجّ أفضل فرصة لهؤلاء، كي يتفاعلوا بالمسلمين في كافة الأقطار، ويتفهموا ما يعاني منه المسلمون عن كثب، وينهضوا بمسؤولية التوعية اللازمة على أوسع نطاق.

الامام الخميني- إذ يدعو الكتّاب والمفكرين والمثقفين الى انتهاج هذا

ص: 145

الخط الجماهيري الملتزم- لا يقصد طبعاً أن يجتمع هؤلاء في أروقة مرمرية داخل القصور المشيّدة في الأرض المقدسة، بل يطالب ذوي الكلمة أن يعيشوا بمعزل عن إيحاءات مراكز القوة، وعن مراكز شراء الذمم والأقلام، فيندمجوا في أوساط الجماهير ويبثّوا بينها التوعية اللازمة، كي يكون موسم الحج مركز إشعاع فكري ومركز توعية عامة لكلّ الأقطار الاسلامية. يقول:

«على العلماء (المسلمين) أن يشتركوا في هذا التّجمع من مختلف الأصقاع، ويتبادلوا الآراء ويبثّوا التوعية بين المسلمين المتجمعين في مهبط الوحي؛ لتنتقل هذه التوعية بعد ذلك الى جميع الأقطار الاسلامية».

ويقول أيضاً: «على المسلمين الملتزمين الذين يجتمعون مرّة كلّ عام على صعيد المواقف الشريفة، ويؤدون واجباتهم الاسلامية في هذا التجمع العام والحشد الالهي بمعزل عن الامتيازات، وبمظهر واحد، ودون اهتمام بما يميّز بينهم من لون أو لغة أو بلد أو منطقة، وبأبسط المظاهر المادية وباندفاع نحو المعنوية.. عليهم أن لا يغفلوا عن الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه العبادة.

على العلماء الأعلام والخطباء أن ينبّهوا المسلمين على مسائلهم السياسية وواجباتهم الخطيرة.. هذه الواجبات التي لو عمل بها المسلمون واهتموا بها لاستعادوا عزّتهم التي أرادها اللَّه للمؤمنين، ولبلغوا مفاخرهم الاسلامية الالهية التي هي من حق المسلمين، ونالوا الاستقلال الواقعي والحرية الحقيقية في كنف الاسلام العزيز، وتحت بيرق التوحيد وراية «لا إله إلّااللَّه»، وقطعوا أيدي المستكبرين وعملائهم في البلدان الإسلامية، وأعادوا مجد الاسلام وعظمته».

ولا ينفك الامام الراحل عن تذكير قادة الرأي بمسؤولياتهم الجسام إزاء أمتهم وإسلامهم: «ينبغي أن يجتمع المفكرون والكتّاب والمثقفون والعلماء والمسؤولون في موسم الحج لدراسة مشاكل الاسلام والمسلمين السياسية والاجتماعية على الصعيد العالمي».

ص: 146

الكعبة.. هي المنطلق

من خصائص الجسم الحي الحركة، وعدم الحركة في الجسم الحي يعني شلله، ويعني أنه أصبح عرضةً لفتك أنواع الموجودات الغريبة. والحج حركة دائبة، حركة نحو اللَّه. أي نحو التكامل الفردي والاجتماعي، ومن مستلزمات الحركة إزالة العوائق من طريقها، وتحشيد الطاقات نحو بلوغ أهدافها.

الامام الخميني ينظر الى الحج بهذا المنظار الاسلامي الأصيل، ويعتقد أنّ الكعبة ينبغي أن تكون منطلق حركة الأمة نحو التخلص من سلبياتها والقضاء على مذليها وظالميها، ونحو إزالة مايقف بوجه استعادة وجودها وكيانها يقول الامام رحمه الله: «وأنتم يا حجاج بيت اللَّه الحرام الذين بادرتم من كلّ أطراف الدنيا نحو بيت اللَّه.. مركز التوحيد، ومهبط الوحي، ومقام إبراهيم ومحمد صلى الله عليه و آله أعظم رجلين؛ محطمي الأصنام ومعترضي المستكبرين.. أنتم الذين وقفتم على المواقف الكريمة حيث كان في عصر الوحي أراضٍ جبلية جرداء، وجدباء لا ماء فيها ولا زرع، لكنها كانت محط هبوط ملائكة اللَّه، وهجوم جنود اللَّه، وتوقّف أنبياء اللَّه، وعباد اللَّه الصالحين.

الآن عليكم أن تعرفوا هذه المشاعر وتعبئوا أنفسكم من مركز تحطيم الأصنام الكثيرة المتجسدة في صورة القوى الشيطانية والابتزازية المعادية للانسان، ولا تخشوا هذه القوى الخاوية من الايمان، واعقدوا في هذه المواقف العظيمة- بعد الاتكال على اللَّه- عهد الاتفاق والاتحاد في مواجهة جنود الشرك والشيطان، واحذروا التفرّق والتنازع ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.

وفي مناسبة أخرى يقول الامام رضى الله عنه:

«الآية الكريمة جعل اللَّهُ الكعبة البيت الحرام قياماً للناس توضّح سر الحج وبواعثه، والغاية من الكعبة والبيت الحرام، وهي نهوض المسلمين وقيامهم في سبيل مصالح الناس والجماهير المستضعفة في العالم».

الانضواء الكفاحي

بهذه الروح الشفّافة الواعية المنفتحة على هموم الواقع وتحدياته... يمضي

ص: 147

الامام الراحل في تشخيص الخلل وإعطاء البديل. ولو تسنّى لنا متابعة كلّ ما ذكره في خطاباته وكتاباته ووصاياه؛ لوجدنا أنّ الامام رحمه الله لا يفتأ يميط اللثام عن اشكاليات المرحلة، ولا يتوانى عن استعمال مبضعه كالجرّاح في العلاج، كلّ ذلك في نطاق التزام صارم بالمشروع الاسلامي، والانضواء تحته، مهما كانت الظروف، ومهما بلغت التحديات، فالخميني لا يعرف شيئاً اسمه الانصياع أو حتى التراجع!

هذا الانضواء الكفاحي، على صعيد حركة التبليغ والدعوة، كما نلاحظ- يقول كاتب مرموق- يصل عند الامام الى مستوى الذوبان في المشروع الاسلامي، فلا يتنفس إلّامن خلاله، منفتحاً به على أصحاب الحق، يلاحقهم الى أقصى مكان في الأرض مرشداً وشاهداً غير مضطرب ولا متعثّر. فإيمانه بهم يعدل إيمانه بشرعية مشروعهم الذي هو مشروعه في كلّ حال. ولا يستثني في دعوته الى الاسلام أحداً من الأمة. وهو وإن خاطبها بكليتها أفقياً، فلم يفته التوجه أيضاً الى شتى شرائحها العمودية من أهل الشارع الى الحكام، فلا أحد في الأمة محسوب خارج نطاق الرسالة:

«انفخوا في أهل السوق والشارع، وفي العامل والفلاح والجامعي، روح الجهاد، فيهب الجميع الى الجهاد... الكلّ يطلب الحرية والاستقلال والسعادة والكرامة» بذلك يوصي الامام المبلغين ليوصي المبلغون غيرهم، فتنتقل الحركة بالرسالة من حلقة الى حلقة، ومن يد الى يد لتبلغ الهدف النهائي.

وعلى مدى عمره الحافل بالعطاء والمواقف المشهودة... لم يتخلَّ الإمام يوماً عن اداء مهامه الثقيلة، حتى وهو في آخر شيخوخته. ولقد حملت نداءاته المتكررة الى حجاج بيت اللَّه الحرام الكثير من توجيهاته القيمة في هذا الاتجاه. وهنا نقف- بشكل خاص- أمام ندائه الذي وجهه لهم عام 1400 ه. كعيّنة لتلك النداءات، ولما تنطوي عليه من أفكار ورؤى وحلول.

الحج؛ منطلق الوحدة

لئن كانت الحركة مظهراً ضرورياً في حياة الأمة المسلمة، فإنّ وحدة أجزاء

ص: 148

الأمة أكثر ضرورة للحياة؛ لأنّ تفكك الأجزاء يعني فقدان الجسد الواحد.

والأمة الاسلامية ينبغي أن تكون كالجسد الواحد.. إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.

والوحدة أيضاً ضرورة لازمة للوقوف بوجه أنواع التحديات التي تجابه المسلمين.

أهمية وحدة المسلمين تتجلى في تأكيد الاسلام على التجمعات الاسلامية في الجماعات والجمعة والأعياد، وتأكيده على تكوين الجسد الواحد والبنيان المرصوص. كما تتجلّى أيضاً في المؤامرات الواسعة المدروسة، التي يدبرها أعداء الاسلام لتفريق صفوف المسلمين.

الامام الخميني يؤكد مراراً في أحاديثه على أهمية رص صفوف الأمة، ويحذّر الأمة من كلّ تفرّق وتشتت، ويعتقد أنّ موسم الحج أفضل فرصة لتوثيق أواصر الوحدة والتفاهم والتعاون والتعاضد بين المسلمين، يقول:

«لماذا لا يلتزم المسلمون وحكوماتهم بالأحاديث النبوية الكريمة التي جاء فيها:

المسلمون يد واحدة على من سواهم؟! لماذا لا يوجد بينهم إلّاالخلاف المستمر؟!

إنّ مشكلة المسلمين تتمثل اليوم في نشوب الاختلافات بينهم، والمستعمرون وضعوا خطة بث الخلافات بين المسلمين بعد الحرب العالمية، حين واجهوا قوة الاسلام، ففصلوا الحكومات الاسلامية عن بعضها، وألقوا الخلافات بين المسلمين، وجعلوا الحكومات الاسلامية متعادية مع بعضها.

يجب حل هذه المشكلة في يوم العيد، في يوم عرفة في بيت اللَّه، حيث ينبغي أن يجتمع الحكام في مكة المعظمة تلبية لأمر اللَّه تبارك وتعالى، ويطرحوا المشاكل التي يواجهونها، ووضع الخطط الكفيلة بالتغلّب على هذه المشاكل.

إذا تمّ هذا الأمر لا تتمكن أية قوّة أن تتحداكم».

ويقول أيضاً:

«من واجبات المسلمين في تجمع (الحج) العظيم دعوة الشعوب والمجتمعات الاسلامية الى وحدة الكلمة ونبذ الخلافات بين المسلمين، وعلى

ص: 149

أصحاب القلم والبيان أن يبذلوا ما وسعهم على هذا الطريق، وفي سبيل إيجاد «جبهة المستضعفين»، ويحرروا أنفسهم بوحدة الكلمة وتحت شعار لا اله إلّااللَّه من أسر القوى الشيطانية ومن براثن الأجانب والمستعمرين والمستغلين».

وفي جانب من النداء التاريخي يقول الامام مشيراً الى دور أمريكاً في بث الفرقة وزرع الفتنة: «الشيطان الأكبر (أمريكا) دعا فراخه لإلقاء بذور التفرقة بين المسلمين بكلّ الحيل والوسائل، وجرّ الأمة الاسلامية والاخوة في الايمان الى الاختلاف والعداء؛ ليفتح أمامه السبيل الى مزيد من النهب والهيمنة».

وبعد أن يضع يده على بعض أساليب الشيطان الأكبر وأتباعه في إثارة التناحر والتفرقة بين المسلمين...

يوصي المسلمين بضرورة التسلح بالوعي: «على جميع المسلمين أن يعرفوا هؤلاء المنافقين، وأن يحبطوا مؤامراتهم الخبيثة».

الوعي؛ السلاح الأمضى

تضافرت جهود ضخمة ومخططات حقود على تغييب الوعي في أوساط المسلمين. ولعل موسم الحج- بوضعه الفعلي- أفضل معبّر عمّا يعانيه المسلمون اليوم من سطحية وضياع وركود وتشتت، لا أثر للمنافع التي ذكرها اللَّه تعالى في الآية الكريمة... ليشهدوا منافع لهم. ليس هناك أي منافع على صعيد التوعية، ولا على الصعيد السياسي، ولا على الصعيد الاقتصادي... اللهم إلّاما يجنيه معسكر الكفر من أرباح اقتصادية في هذا الموسم، من خلال تدفّق بضائعه الكاسدة على أسواق مكة والمدينة وجدّة.

أكثر حجاج بيت اللَّه الحرام تضيع أوقاتهم في موسم الحج بين أداء جامد غير واعٍ للمناسك، وبين تجوّل في الأسواق، وتهافت على شراء البضائع الأجنبية، وبين جلسات سمر واسترخاء، بأشكال متعددة، هذا هو الذي يعبّر عنه الامام الخميني بالغفلة إذ يقول:

«لا يمكن للمسلمين أن يحيوا حياة مشرفة إلّابالاسلام، لقد أضاعوا إسلامهم، لقد عُدنا نجهل الاسلام، بسبب

ص: 150

إيحاءات الغرب وتشويهاته، ولذلك فإنّ المسلمين يجتمعون كلّ عام في مكة المكرمة حيث جعلها اللَّه ملتقى للمسلمين، لكنهم لا يدرون ماذا يفعلون، لا يستفيدون من هذا الاجتماع إسلامياً، ومثل هذا المركز السياسي جعلوه مركز غفلة عن كلّ مسائل المسلمين. ولو استثمر المسلمون عطاء الحج السياسي؛ لكان ذلك كفيلًا بتحقيق استقلالهم، لكننا أضعنا الاسلام مع الأسف، لقد أبعدوا الاسلام عن السياسة، فقطعوا رأسه وسلّموا لنا بقيته وجرّونا الى الوضع الذي نعيشه اليوم، وما زال المسلمون على هذه الحالة فلن يستعيدوا مجدهم».

وعلى هذا المنوال، يستعرض الامام مظاهر الهجوم الشرس من قبل أعداء الاسلام على العالم الاسلامي، من قبيل ما كان يجري، يومئذ في أفغانستان، حيث الاجتياح السوفيتي، وما تشنه الدولة العبرية من هجوم واسع النطاق على المسلمين في فلسطين العزيزة ولبنان العزيز... ومع إعلان إسرائيل عن مشروعها الاجرامي بشأن نقل عاصمتها الى القدس... وما يقدمه عملاء أمريكا من خدمات كبيرة لتنفيذ مخططها الإجرامي، مع ما يتزامن مع ذلك كلّه من حصار وتآمر ونشر دعايات سوء وأكاذيب وافتراءات ضد الثورة الاسلامية.

وهنا يقول الامام رضى الله عنه: «على المسلمين أن يكونوا يقظين أمام خيانات هؤلاء العملاء الأمريكيين بالاسلام والمسلمين».

ومتى ما توفر الوعي واليقظة فإنّ قدراً مهماً من تفويت الفرصة على أعداء الاسلام، يكون قد تحقق على أرض الواقع، وبخلاف ذلك، فإنّ المخطط المناوئ للاسلام يشقّ طريقه دون أية عوائق تذكر، وهذا ما يدلّنا على سر العداء الشديد الذي تكنّه الدوائر الاستكبارية للحركات الاسلامية، والتي دأبت على وصفها بالحركات الاصولية أو الراديكالية أو الإرهابية...

القوميّة: البديل الخائب

على أنّ الأمر لم يقف عند هذا الحد، فقد عمدت الدوائر المعادية للاسلام الى فتح جبهات عديدة ضد الاسلام

ص: 151

وحركته المتصاعدة. وقد نبّه الامام الخميني الراحل الى خطورة هذه الأساليب ومغبّة الانسياق وراءها، إذ يقول: «من المسائل التي خطط لها المستعمرون، وعمل على تنفيذها المأجورون لإثارة الخلافات بين المسلمين... المسألة القومية، التي جندت حكومة العراق نفسها منذ سنين لترويجها.

بعض الفئات انتهجت هذا (الخط القومي) أيضاً، فجعلت المسلمين مقابل بعضهم، بل وجرّتهم الى المعاداة أيضاً غافلة أنّ موضوع حبّ الوطن وأهل الوطن وصيانة حدوده وثغوره لا يقبل الشك والترديد، وهو غير مسألة النعرات القومية لمعاداة الشعوب الاسلامية الأخرى.

فهذه المسألة عارضها الاسلام والقرآن الكريم والنبيّ الأعظم. النعرات القومية التي تثير العداء بين المسلمين والشقاق بين صفوف المؤمنين تعارض الاسلام، وتهدّد مصالح المسلمين، وهي من مكائد الأجانب الذين يزعجهم الاسلام وانتشاره.

إنّ قوى الكيد الاستعماري وجّهت ضربات قويّة الى كلّ مظاهر الاسلام ومعالمه وركائزه، كما أنّ الحركات القومية في العالم الاسلامي، وجّهت بدورها ضربات مهلكة الى كيان القوى المجاهدة، التي كانت تخوض صداماً مريراً ضد أعداء الاسلام. وان ظهور فكرة «القومية العربية» في العالم العربي، وفكرة «القومية التركية» في تركيا، وفكرة «القومية الفارسية» في إيران، وفكرة القوميات المشابهة في سائر الدول الاسلامية جاء بهدف التصدي للحركات الاسلامية، حيث لعبت تلك الأفكار دوراً كبيراً في ضمان مصالح الاستعمار.

وعلى الصعيد الثقافي، كانت الأنظمة العميلة تسعى دائماً لإحلال الثقافة الغربية محل الثقافة الاسلامية بذريعة إحياء الثقافة الفولكلورية والقومية. وإنّ المساعي الكبيرة التي بذلها نظام الشاه، ورؤوس الأموال التي قام بتوظيفها، في مجال احياء التقاليد القديمة مثل؛ التقاليد (الزرادشتية، والمانوية وغيرها) بمساعدة ما يسمى بمتخصصي الشؤون الايرانية من الاوروپيين والأمريكيين، واستبدال

ص: 152

التاريخ الاسلامي بتاريخ ملكي.. جاءت كلّها للغرض المذكور.

وقد أدان الامام الراحل، مرّات عديدة، النعرات القومية، سواء تلك التي في ايران أو في العالم الاسلامي، مؤكداً أنها من دسائس المستعمرين، وها هو يقول: «إنّ القوى الكبرى درست خلال سنوات طويلة كلّ أوضاع المسلمين.. أجرت مطالعات على الأفراد والجماعات وعلى أراضينا وغاباتنا، وخرجت بنتيجة هي: أنّ الاسلام وحده هو الذي يستطيع أن يقف بوجههم في جميع المجتمعات.. وراحت هذه القوى تخطط لمجابهة الاسلام عن طريق الحكومات الفاسدة، وأوعزت الى هذه الحكومات أن تثير مسائل العصبيات العنصرية بين المسلمين، فجعلت العرب مقابل الفرس والأتراك، وجعلت الفرس مقابل الأتراك والعرب، وجعلت الأتراك مقابل الآخرين.. وهكذا أوقعت بين القوميات المختلفة.

ولقد أكّدتُ مراراً أنّ هذه النعرات القومية هي أساس مصيبة المسلمين، إذ إنّ هذه النعرات تجعل الشعب الايراني مقابل سائر الشعوب المسلمة، وتجعل الشعب العراقي مقابل بقية المسلمين، وهذه المخططات طرحها المستكبرون للتفريق بين المسلمين».

وراح الامام يضرب أمثلة حيّة من واقعنا المعاصر، إذ يقول: «الحكومة السابقة في العراق- وهذه الموجودة- ليست بأفضل من سابقتها طبعاً- طرحت مسألة إحياء أمجاد بني أمية؛ ليجعلوا منها مسألة مقابل المسألة الاسلامية.

فالاسلام جاء ليذيب الأمجاد في مجد اللَّه، ولكن هؤلاء رفعوا شعار إحياء أمجاد بني أمية، وليس طرح هذه المسألة من تدبير تلك الحكومة، بل من تدبير القوى الكبرى التي تروم التفريق بين المسلمين...

وفي ايران، قرع بعض المغرضين والغافلين على طبل القومية، وأرادوا بذلك أن يواجهوا الاسلام... وقبل سنين- وأظن في زمن رضا خان- تأسس في ايران مجمع أعدّ الأفلام والقصائد والمقالات التي تندب الأمجاد الايرانية (...) وتأسف على انتصار العرب على ايران، وتذرف دموع التماسيح على

ص: 153

ضياع طاق كسرى...

وهؤلاء القوميون الخبثاء بكوا كثيراً على اندحار السلاطين الفرس على يد الاسلام!

ومثل هذه الروح المعارضة للقرآن أوجدها المستعمرون في البلاد العربية وغير العربية».

السموم الطائفية

وليت الأمر يقتصر على الغفلة، وإثارة النعرات القومية، فهناك ما هو أخطر من هذه وتلك، وهو الأيدي التي تدس السم في العسل، خلال موسم الحج، وتعمل على تعميق تخلّف المسلمين وتشتتهم وتباعدهم.

هذه الأيدي الخفيّة التي انكشف عنها القناع، بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، تحاول أن تعقّد أوضاع المسلمين أكثر ممّا عليه الآن، بتوزيع الكتب السامّة المثيرة للعنعنات الطائفية والقومية، للإيغال في تمزيق صفوف المسلمين، وتوسيع الثغرة التي ينفذ منها أعداء الاسلام الى ربوع العالم الاسلامي، يقول الامام: «المسلمون ينبغي أن يشهدوا منافع لهم، في هذا الحشد الاسلامي الكبير، لكن ما يحدث- وللأسف الشديد- هو العكس من ذلك. فالاقلام المأجورة المسمومة المفرّقة بين صفوف المسلمين تتحرّك في هذا التجمّع لمصادرة أهداف الوحي الالهي، فتنشر في مهبط الوحي أوراقاً مفرّقة للصفوف مثل (الخطوط العريضة) مليئة بالأكاذيب والافتراءات».

ورغم خطورة إثارة النزعة القومية، فإنّ الامام رحمه الله يحذّر من مغبّة الفتنة الطائفية: «هناك ما هو أخطر من النعرات القومية وأسوأ منها، وهو إيجاد الخلافات بين أهل السنة والشيعة، ونشر الأكاذيب المثيرة للفتن والعداء بين الأخوة المسلمين».

ثم يشير رضوان اللَّه عليه الى مسألة طالما أثارها المتصيدون في الماء العكر، وما يزالون يعزفون على أوتارها الصدئة: «في اطار الثورة الاسلامية في ايران لا يوجد- وللَّه الحمد- أي اختلاف بين الطائفتين، فالجميع يعيشون معاً متآخين متحابين.

أهل السنّة المنتشرون بكثرة في ايران،

ص: 154

والقاطنون مع العدد الكبير من علمائهم ومشايخهم في أطراف البلاد وأكنافها، متآخون معنا ونحن متآخون ومتساوون معهم، وهم يعارضون تلك النغمات المنافقة التي يعزفها بعض الجناة المرتبطين بالصهيونية وأمريكا.

ليعلم الأخوة أهل السنة في جميع البلدان الاسلامية أنّ المأجورين المرتبطين بالقوى الشيطانية الكبرى لا يستهدفون خير الاسلام والمسلمين.

وعلى المسلمين أن يتبرأوا منهم، ويُعرضوا عن إشاعاتهم المنافقة».

وأنهى الامام كلامه حول هذه النقطة بقوله: «إنني أمدّ يد الأخوّة الى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا الى الشيعة باعتبارهم اخوة أعزاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة».

وفي بادرة واعية، تفوّت على المغرضين أغراضهم الدنيئة، وتسحب البساط من تحت أرجلهم، أوصى الامام الراحل رحمه الله الحجاج الايرانيين وجميع الحجاج الشيعة بعدّة وصايا حكيمة تساهم في تمتين وشائج وحدة المسلمين وقطع الطريق على المراهنين على تفرّقهم. إذ يقول: «على الأخوة الايرانيين وجميع الشيعة أن يتجنبوا الأعمال الجاهلة التي تؤدي الى تفرّق صفوف المسلمين، وعليهم أن يشتركوا في جماعات أهل السنة، وأن يتجنبوا عقد صلاة الجماعة في البيوت، ونصب مكبرات الصوت بدون انتظام، والقاء النفس على القبور الطاهرة، والأعمال المخالفة للشرع».

ثم أنهى وصاياه بالقول: «يجزي ويلزم في الوقوفين العمل وفق أحكام قضاة أهل السنة، حتى ولو حصل القطع بخلاف ذلك».

وهنا يثبت الامام الخميني أنه رجل المرحلة التاريخية، وأنه يتصرّف بمستوى ما تقتضيه المصلحة الاسلامية العليا، متجاوزاً كلّ الحسابات الطائفية والمذهبية.

الاسلام هو المستهدف

من المعروف أنّ الاشاعة ظاهرة اجتماعية وُجدت منذ أن وُجد الانسان على الأرض.. ومن أهدافها السياسية؛

ص: 155

بث الخوف والرعب والحقد والكراهية والعداوة، وزرع بذور الفتنة والشك واليأس في نفوس الجمهور المستهدف، وكذلك تشويه سمعة وصورة الأفراد والجماعات والمجتمعات والشعوب والدول والقادة؛ لخلخلة وحدة الصف، والعمل على تكوين الرأي العام أو جسّه أو تعبئته أو تضليله، حول موضوع ما يلامس حياة الناس اليومية.

وفي العقدين الأخيرين، لم تتعرض جهة ما الى هجمة إشاعات مكثفة ومدروسة كالتي استهدفت الثورة الاسلامية، خاصة من قبل الأوساط الإعلامية والسياسية في الغرب، وبالذات الأمريكية منها. وقد تابع ذلك الهجوم المنظم بدقة البروفسور ادوارد سعيد، في كتابه القيّم «تغطية الاسلام»، حيث كشف فيه كيف تقوم وسائل الاعلام وصنّاع الرأي العام في أمريكا بعرض الاسلام والثقافة الاسلامية بصورة مشوهة مقصودة.

ولم تَغِبْ أهداف تلك الإشاعات عن وعي الامام الراحل الذي راح يسلّط الضوء المكثّف عليها، ومن ثم فضح مآربها. إذ يقول: «من الاشاعات المثارة بشكل واسع ضد ايران على الظاهر، وضد الاسلام في الواقع، الزعم بأنّ ثورة ايران لا تستطيع إدارة البلاد، وأنّ الحكومة الايرانية توشك على السقوط؛ لافتقادها الاقتصاد السالم، والتعليم الصحيح، والجيش المنسجم، والقوات المسلحة المجهزة!!

وهذه الاشاعات تنشرها جميع وسائل الاعلام الأمريكية ووسائل الاعلام المرتبطة بها، لتثلج صدور أعداء ايران، بل أعداء الاسلام.

هذه الإشاعات موجهة في الواقع ضد الاسلام، وتستهدف التشكيك في قدرة الاسلام على إدارة البلدان في هذا العصر، وعلى المسلمين أن يدرسوا هذه المسائل جيّداً، ويقارنوا الثورات غير الاسلامية بالثورة الاسلامية في ايران.

وبعدأن يعدّد الامام رحمه الله مظاهر الخطل في حسابات أعداء الاسلام، وكيف أنّ الأمة أثبتت ولاءها واستعدادها للبذل والعطاء والتضحية، على كلّ الأصعدة..

ينتقل ليقول مذكّراً: «وليعلم أعداؤنا أنّ

ص: 156

الثورة الاسلامية فريدة بين ثورات العالم في قلّة خسائرها وعظم مكتسباتها. وهذا مالم يتحقق إلّاببركة الاسلام».

ثم راح يتساءل: «ماذا يقول هؤلاء الموتورون؟!

كيف يعجز الاسلام اليوم عن إدارة البلدان، وهو قد حكم نصف المعمورة، خلال قرون متطاولة، وأطاح بعروش الكفر والظلم خلال أقل من نصف قرن؟!

شعبنا اليوم على أتم الاستعداد والنشاط للمساهمة في إدارة البلاد واستتباب النظام فيها. أعداء الاسلام غافلون أو متغافلون عن قدرة الاسلام على هدم قواعد الظلم، وإقامة صرح إدارة البلاد على أسس العدالة.

أعداء الاسلام، بل كثير من أحبائه أيضاً يجهلون قدرة الاسلام الادارية ومبادئه السياسية والاجتماعية. كان الاسلام في الحقيقة مهجوراً أو محجوباً، خلال العصور التي تلت عصور صدر الاسلام. واليوم ينبغي أن تتضافر جهود جميع المسلمين والعلماء والمفكرين والاسلاميين على طريق تعريف الاسلام، كي يسطع وجهه المشرق الوضاء كسطوع الشمس».

أمريكا.. مصّاصة الدماء

لم تواجه السياسة الأمريكية، في عصرنا الحديث، مقاوماً عنيداً وصلباً كالامام الخميني رضى الله عنه. لقد خلط هذا الشيخ الطاعن في السن كلّ الأوراق على الادارة الأمريكية التي كانت تمنّي نفسها بالأماني، وهي تتحصن بأهم قلاعها في المنطقة، وإذا بأصحاب الأيادي المتوضئة يبرزون اليها من بين الآكام والأكواخ والمعاناة ويلقنونها درساً بليغاً لن تنساه، فيطردونها من تلك القلعة، ويطاردونها في غير موقع.

والامام الراحل لم يترك مناسبة دون أن يشير الى الشيطان الأكبر باعتباره المسؤول الأول عن الكثيرمن المآسي والكوارث التي حلّت بالشعوب، وقد قارع الامام الخميني الهيمنة الأمريكية، منذ وقت مبكر، بل إنه دشن ولوجَه عالم السياسة بمهاجمة السياسة الأمريكية حيال ايران وبقية الشعوب المستضعفة.

وظلّ على موقفه الثائر من أمريكا حتى اللحظة الأخيرة. ولأهمية فضح

ص: 157

الزيف وكشف حقيقة الوجه البشع لأمريكا دأب الامام رحمه الله في كلّ المواطن على توعية الشعوب المسلمة وتحذيرها من الخطر الأمريكي. وقلّما يخلو خطاب له من هذه النبرة. وفي ندائه لحجاج بيت اللَّه الحرام يشير الى هذه النقطة بقوله: «أهم مسألة تعانيها الشعوب الاسلامية وغير الاسلامية الخاضعة للسيطرة وأمضّها ألماً هي مسألة أمريكا.

الحكومة الأمريكية باعتبارها أقوى حكومة في العالم، لا تدّخر وسعاً في ابتلاع المزيد من ثروات البلدان الخاضعة لسيطرتها. أمريكا تحتل المرتبة الأولى بين أعداء الشعوب المحرومة والمستضعفة في العالم، وهي لا تتورّع عن ارتكاب أية جريمة على طريق فرض هيمنتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية على البلدان الخاضعة لسيطرتها. إنها تستغل الشعوب المظلومة في العالم، عن طريق دعايات واسعة تخطط لها أجهزة الصهيونية العالمية. إنها تعمل عن طريق عملائها المتسترين الخونة على امتصاص دم الشعوب الضعيفة، وكأنها هي وحلفاؤها وحدها تمتلك حق الحياة!

ايران اذا أرادت أن تقطع علاقاتها مع هذا الشيطان الأكبر في جميع المجالات، تعاني اليوم من هذه الحروب المفتعلة.

أمريكا تحث العراق على سفك دم شبابنا، ودفعت جميع البلدان الخاضعة لنفوذها الى الإطاحة بنا، عن طريق المقاطعة الاقتصادية. ومن المؤسف أنّ كثيراً من البلدان الأوروبية والأسيوية ناصبتنا العداء أيضاً.

على الشعوب الاسلامية أن تعلم أنّ ايران بلد يحارب أمريكا رسمياً، وأن شهداءنا هم من الشباب الأبطال العسكريين والحرس، الذين يقفون في وجه أمريكا دفاعاً عن ايران وعن الاسلام العزيز.

فمن الضروري أن نذكر- إذن- أن الاشتباكات التي نواجهها يومياً في غرب الوطن العزيز، هي اشتباكات تفتعلها أمريكا عن طريق الفئات المنحرفة المرتبطة بالأجنبي. وهذه مسألة ترتبط بمحتوى ثورتنا الاسلامية القائمة على أساس الاستقلال الحقيقي. إذ لو كنّا قد تنازلنا لأمريكا أو لسائر القوى الكبرى لما

ص: 158

عانينا من هذه المصائب، لكن شعبنا ما عاد مستعداً لقبول الذل والخضوع، وأنه يفضل الموت الأحمر على حياة الذل والعار. إننا مستعدون للقتل، وعاهدنا اللَّه أن نقتدي بإمامنا سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام».

ثم يوجه الامام خطابه الى الحجيج قائلًا:

«أيها المسلمون المتضرعون الى اللَّه قرب بيت اللَّه.

ادعوا الى الصامدين بوجه أمريكا وساير القوى الكبرى، واعلموا أننا لسنا في حرب مع العراق، بل إن شعب العراق يساند ثورتنا الاسلامية. نحن في صراع مع أمريكا، واليوم فإنّ يد أمريكا تجسّدت في حكومة العراق، وسيستمر هذا الصراع بإذن اللَّه حتى نحقق استقلالنا الحقيقي.

ولقد قلت مراراً؛ إنّنا رجال حرب، وليس للاستسلام معنى في مفهوم الانسان المسلم.

أيّها البلدان غير المنحازة.

اشهدي أن أمريكا تستهدف إبادتنا، فكّري في الأمر قليلًا، وساعدينا على طريق تحقيق أهدافنا.

نحن أعرضنا عن الشرق والغرب، عن الاتحاد السوفيتي وأمريكا، لندير بلادنا بأنفسنا، فهل من الحق أن نتعرّض بهذا الشكل لهجوم الشرق والغرب؟!

إنه لاستثناء تاريخي في أوضاع العالم الحالية أن يكون هدفنا منتصراً حتماً بموتنا وشهادتنا وانهزامنا».

هذا هو... الطريق!

وككل عظماء التاريخ وصنّاع أحداثه ومنعطفاته الكبرى، لم يكتفِ الامام بتعداد مظاهر الخلل وتشخيص مواطن الداء.. بل سرعان ما ينتقل الى طرح البديل. وها هو يرسم الخطوط العريضة لمشروع النهوض والوعي.

«أيها المسلمون المؤمنون بحقيقة الاسلام.

- انهضوا... ووحدوا صفوفكم تحت راية التوحيد، وفي ظل تعاليم الاسلام.

- واقطعوا أيدي القوى الكبرى الخائنة عن بلدانكم وثرواتكم الوفيرة.

- وأعيدوا مجد الاسلام.

- وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسية.. فإنكم تملكون كلّ شي ء.

ص: 159

- اعتمدوا على الفكر الاسلامي.

- وحاربوا الغرب والتغرّب.

- وقفوا على أقدامكم.

- واحملوا على المثقفين الموالين لغرب والشرق.

- اوجدوا هويتكم.. واعلموا أن المثقفين الذين باعوا أنفسهم للأجنبي أذاقوا شعبهم ووطنهم الأمرّين.

- وما لم تتحدوا وتتمسكوا بدقة بالاسلام الصحيح، فسيحلّ بكم ما حلّ بكم حتى الآن.

إننا في عصر، ينبغي أن تضي ء الشعوب الطريق فيه لمثقفيها، وأن تنقذهم من الانهيار والضعف أمام الشرق والغرب. فاليوم يوم حركة الشعوب، وهي التي ينبغي أن توجّه مَنْ كان يوجهها من قبل».

بعد ذلك، ينفخ الامام في الحجيج روح الثورة والرفض: «اعلموا أنّ قدرتكم الروحية ستتغلب على جميع الطواغيت، وتستطيعون بعددكم البالغ مليار إنسان وبثرواتكم الطائلة، غير المحدودة، أن تحطموا جميع القوى..

انصروا اللَّه كي ينصركم.

أيها الجموع الغفيرة من المسلمين..

انتفضوا وحطموا أعداء الانسانية، فإن اتجهتم الى اللَّه تعالى، والتزمتم بالتعاليم السماوية، فاللَّه تعالى وجنده العظام معكم».

وبعد..

كانت هذه نفحات من الروح الخمينية التي أرعبت الطغاة، وهددت العروش، وأربكت الحسابات السياسية، وخلطت على دهاقنة السياسة أوراقهم...

اليوم، ونحن نقف أمام مئوية ميلاده... فإنّ من الوفاء أن يُحتفى بهذه المناسبة، بل لعله أقل الوفاء أن تصدر الكتب، والاعداد الخاصة من المجلات، والبوسترات، واقامة الندوات، والمهرجانات.. في هذه المناسبة..

ولكن الوفاء، كلّ الوفاء، أن يظل حَمَلة رايته سائرين في خطّه ومنهجه..

أوفياء أمناء على أفكاره ومشروعه.

لقد عاش الامام العظيم بكلّه للاسلام.. ولم يتفيّأ لحظة غير ظلال الاسلام.. لم ترَ فيه يوماً نزعة وطنية أو قومية، أو ايران للايرانيين!

ص: 160

لم يرضخ ذات مرّة.. ولم يهادن.. ولم يساوم على مبادئه مهما ادلهمّت الخطوب.. وتحت أية ذريعة كانت.

عاش هموم المسلمين والمستضعفين.. أينما كانوا.. فبادله هؤلاء حبّاً بحب.. ووفاء بوفاء.

ولا أظنّ أنّ هناك من يسمح لنفسه أن يتنصّل عن المشروع الخميني، وإن وجد فإنّه قد طعن بفعله هذا الخميني في الصميم أياً كانت الذرائع التي يتذرع بها.

فسلام عليك أبا المحرومين.. وناصر المظلومين في الخالدين.

الهوامش:

ص: 161

ص: 162

ص: 163

الامّة القرآنية

الامّة القرآنية

الامّة القرآنية

فلاح حسن

إنّ فكرة وحدة الأمة الإسلامية والتنظير لها والإيمان الصادق بها قولًا وعملًا ومنهجاً وهدفاً.. يعود كلّ ذلك- بالضرورة- إلى عقيدة التوحيد نفسها، هذه العقيدة التي يرتكز عليها فكرنا الإيماني، وكلّ ما يترتّب عليه من آثار ومستلزمات في حياتنا العملية، وما يتحدّد في ضوئه من علاقات وتصوّرات ورؤى. وما يترشّح من أنشطة مختلفة في جميع مفاصل حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..

فبالوحدة- هذا المفهوم العظيم والركن الرصين والهدف النبيل- يقوم الدين، وتزدهر معالمه، وتنتشر دعوته وتعمّ مبادئه، ويحفظ كيانه، ويُدحض أعداؤه، ويُسعد أبناؤه.. لهذا جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وآثار الصالحين تترى بالحديث عنها والدعوة إليها، وترسيخها في قلوب الناس وأخلاقياتهم وفي سلوك النخبة وأهدافهم..

لقد أكّدت تلك الآيات والروايات والآثار.. هذه الوحدة في حياتنا منطلقاً

ص: 164

وهدفاً ومنهجاً.. فاللَّه الواحد الأحد الذي خلق وأبدع هذا الكون، وقدّر ما فيه وما حوله وفق أنظمة دقيقة ما إن يختلّ جزء منها حتى يترك آثاره على باقي الأجزاء. إنه- حقّاً- جسم واحد يكمل بعضه بعضاً، ويتضرّر بعضه ببعض...

ثمّ خلق فيه نواة تطوره وديمومته بل وسيده آدم وزوجه من نفس واحدة هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وجعل منها زوجها. كان حفنة واحدة من تراب نفخ اللَّه فيها من روحه فتمثّل بشراً سوياً. فقدّر لهذا المخلوق أن يكون سيّد الكائنات والمخلوقات بما أودعه اللَّه فيه من جمالٍ وجلالٍ وقدرةٍ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وبما أهّله لأن يكون خليفة اللَّه تعالى في أرضه وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة.. ثم وضعت السماء بعد ذلك أمانتها في عنقه، بعد أن امتنعت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها: إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان...

نعم حملها مختاراً طواعيةً لا كرهاً، وثقةً منه بما أودعه اللَّه تعالى فيه من قدرات، وشعوراً بتكليفه ومسؤوليته؛ ليبدأ مشواره من اللَّه تعالى، مستمدّاً منه العزم والقوّة؛ لينتهي إلى اللَّه تعالى أيضاً فيجد حسابه وينال ثوابه، ويحصد ثمار أعماله وكدحه يا أيّها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه.

وفي كلّ خطوة يخطوها في مشواره ذاك ينظر نظرتين: نظرة إلى السماء يسأل رحمتها وتسديدها له وهو يردّد: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، إنّا للَّه بدءُنا وإنّا للَّه حياتنا وديمومتنا، وإنّا للَّه مآبنا، وإنا للَّه منتهانا. فهو بدون هذه النظرة لا يستطيع فعل شي ء. وما بين البداية تلك والنهاية هذه ما بين أوّل الشوط وآخره راحت منطلقةً بكلّ وعي وصدق قوافلُ المجاهدين الصابرين؛ لتؤدي دورها العبادي بمعناه الأشمل والأتمّ، الذي أرادته السماء ورسمته ريشتها لبني البشر وما خلقت الجن والإنس إلّاليعبدون ليعبدون ربّاً واحداً، عبر عمل دؤوب ونشاط متواصل

ص: 165

بالخير والعطاء يرضي اللَّه وينفع الناس، وقطعاً إنّ العمل الذي يرضي السماء وينتهل منه الناس خيراً وبركةً ونفعاً ليس العمل الذي يزرع البغضاء ويمزِّق الأمّة، بل هو الذي يبذر الخير للجميع، ويوحّد الصفوف، ويلقي بظلاله الوارفة علينا جميعاً.

أما النظرة الثانية فهي إلى واقعه وما يتضمّنه، وإلى منهجه ومسيرته، وما تتركه حركاته من بصمات على حياته بكلّ ما فيها، نظرة تأمّل ودراسة لساحته وميدان عمله بغية وضع يده على نقاط الضعف فيه لتقويتها. وعلى نقاط القوّة فيه لإدامتها، وبالتالي تطويره وبرمجته وفق إرادة السماء وما خطّطت له ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون.

وأية أمّة هذه التي أرادها اللَّه تعالى أن تكون؟! إنّها الامّة القرآنية الموحّدة؛ لأنّ أمانة السماء التي أبت السماوات والأرض حملها، لا تؤدّيها أمّة متفرّقة، أمّة متخاصمة، أمّة متنازعة ومتناحرة ومتباغضة ومتحاسدة، أمّة تنهشها هذه الأمراض من كلّ جانب لا تستطيع تحمّل شي ء، أو تحريك ساكن فضلًا عن فعل ما فيه خير وصلاح، إنّ التي تحملها وتؤدّيها خيرَ أداءٍ أمّةٌ قوّتها في وحدتها، وعزّتها في تراصها، وكرامتها في تآلفها، وشموخها في تلاحمها، وبقاؤها في تآزرها وانتصارها في تكاتفها..

عندئذ تستطيع أن تحمل تلك الأمانة العظيمة، وتكون جديرةً بها وبالمحافظة عليها وأدائها بالصورة التي تريدها السماء.

إنّ كلمة الامّة في النصّ القرآني إنّ هذه امّتُكم امّةً واحدةً تعني معنى واحداً جامعاً لكلّ من آمن بالإسلام ديناً لا خصوص جماعة معينة أو مذهب أو قومية محدّدة. فالمسلمون جميعاً امّة واحدة تدين بدين واحد وتعبد ربّاً واحداً وأنا ربّكم فاعبدون.

إذن هذه الامّة الواحدة- التي أردتها السماء، وأمرت المؤمنين بالسعي

ص: 166

لتحقيقها، هي الامّة المسؤولة المكلّفة بأحكام السماء لا غيرها، وإذا ما تفرّق أبناؤها وإذا ما تشتّت مذاهب وفرقاً، فلا يصدق عليها حينئذٍ التعبير القرآني والكلمة القرآنية أنها (امّة) ولا تكون مشمولة بما أرادته الآية الكريمة هذه وكذلك الآية السابقة كنتم خير امّة... فبالتنازع والتناحر تلغى خصوصية الامّة، وتلغى آثارها من القوّة والمنعة والقدرة والتآلف، وتستبدل بالضعف والعجز والحقد والبغضاء وما إلى ذلك.

أرادنا اللَّه أن نأمر بالمعروف جماعة وأرادنا أن نستنكر المنكر جماعة ف «يد اللَّه مع الجماعة»، وهذا لا يعني أنّ الفرد بنفسه ليس مكلّفاً ومأموراً باستنكار المنكر والأمر بالمعروف وشجب الظلم، فهذا واجب ومسؤولية ملقاة علينا كأفراد وجماعات، ولكن اللَّه سبحانه يحبّ أن يكون الأمر جماعة فهو أقوى أثراً وأدوم بقاءً، فالصلاة جماعة أفضل من الصلاة فرادى..

إنّ الامّة القويّة القادرة المتآلفة هي الامّة القرآنية، التي لا تفاخر ولا تكاثر بينها بالأنساب والأموال والأنفس ألهاكم التكاثر، وهذه عيوب تفتت جمعها وتمزّق شملَها، وتبعثر وجودها، وبالتالي تطيح بكيانها بعد أن تتركها أكلةً سائغةً للأعداء.

فالامّة القرآنية وهي الهدف الذي كانت تهفو إليه قوافل الأنبياء والمرسلين، وجدّت في المسير إليه ولا زالت كلّ مواكب الصالحين، كما راحت ترفرف حوله وتطوف به أرواح الشهداء، بعد أن عبّدته جماجمهم وسقته دماؤهم.. وظلّت الأجيال المؤمنة المتعاقبة تتوارث كنوزه المضرّجة بدماء الشهداء والمعفّرة بتراب ساحات الفداء حتى وصل إلينا وها هو بين أيدينا هدفاً سامياً عظيماً، أفيصح منا أن نفرّط به وأن نضيّع ما قد وفّرته لنا تلك الجهود المباركة وتلك الحشود الصادقة، فنفد على ربّنا ببضاعة كاسدة فيقول كلّ منّا أين المفرّ بعد أن ينبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر ويومها يتذكّر الإنسان وأنّا له الذكرى* يقول يا ليتني

ص: 167

قدّمت لحياتي؟

لا أريد أن يُفهم ممّا أقوله أنّ الماضين لم يكن بينهم خلاف، ولم تكن هناك مواقف كادت أن تمزّقهم. لا، أبداً، بل أريد أن أقول: إنّ هناك قواسم مشتركة بينهم، زيّنت صفحات حياتهم، وكانت نقاط خير وعطاء للقائهم وتوحّدهم... فما أحرانا وقد كثر أعداؤنا والمتربّصون بنا- أن نلتقي نحن أيضاً عند القواسم المشتركة وما أكثرها. فخلافات الرأي وما يترتّب عليها من مواقف ماثلة أمامنا، ولكن بوجود الصالحين الواعين تضيق دائرتها ويمنع من تجذّرها؛ لنبدأ حياة أكثر إشراقاً وأكثر أملًا دون أن نكبت صوت الحق أو نلغي الآراء المبرّرة والاجتهادات العلميّة، أو أن نصادر الرأي الآخر إذا ما توفّرت أدلّته وقام على ركن قوي.

وبذلك نستطيع أن نحفظ لُامّتنا دينها وأصالتها، وأن نصون وحدتها ونقوي شوكتها ونديم وجودها، فتقف شامخةً بين الامم، ومتعاليةً على ما فيها من خلافات فرضتها طبيعة الحياة وطبيعة العمل والكدح ما دام الهدف الأعلى والغاية الأسمى التي نسعى جميعاً لتحقيقها، هو الامّة القرآنية التي بها كلّ خير وعطاء وبها رضا اللَّه سبحانه وتعالى.

لهذا كلّه ولغيره ممّا لا يسع المقام ذكره بادر السيّد الإمام رضوان اللَّه عليه بعد أن وعى كلّ ذلك وآثاره، وعرف أنّ قيمة هذه الامّة بوحدتها، وأنّ للوحدة قيمة كبرى، وأنّ رسالة السماء ودعوتها يتوقف تبليغها على وحدة الامّة، وأن انتصارها وبقاءها رهين بوحدتها وأنّ موتها وانقراضها بتفرّقها، وبالتالي فإنّ وحدتها فوق كلّ اختلاف.. بادر سماحته يحول نقاط الخلاف بين أبنائها إلى نقاط ائتلاف ضمن رؤية عقائدية وفقهية وسياسية تبحث عن القواسم المشتركة، فيقف عندها دون أن يغور بالخلافات الاخرى فتتعمّق، أملًا أن تجد حلّاً في المستقبل، فالزمن كفيل بحلّ كثير من المعضلات، وما استعصى حلّه اليوم يتيسّر حلّه غداً، وهكذا راح سماحته بحكمته العالية وهمّته التي لا تعرف الكسل، وبأمله الذي لا يشوبه اليأس،

ص: 168

يدلي بوصاياه وأوامره في هذا الخصوص، وسنذكر بعضها بعد أن نقف قليلًا؛

مع القرآن والرسول صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام

بعد هذا التمهيد أجد نفسي ملزماً بالوقوف عند بعض الآيات والروايات حول الوحدة، وأهمّيتها في حياتنا بكلّ مفاصلها ومحاورها، والتحذير من خطورة التخلّف عنها، والركون إلى الفرقة.. لأنتقل بعد ذلك إلى آراء السيد الإمام وأقواله ووصاياه خصوصاً لحجّاج بيت اللَّه الحرام وبما يتعلّق منها بمقالتنا هذه.

فقد دعا القرآن الكريم الناس جميعاً إلى توحيد صفوفهم وإلى التعالي على خلافاتهم، وإلى نبذ حالة التشرذم.. بالتمسّك بحبل اللَّه ومنهجه ففيه الخير كلّه.

قال تعالى: واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا.

وقال أيضاً في آية اخرى: وأطيعوا اللَّه ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنّ اللَّه مع الصابرين.

إنّها دعوة لكلّ الناس، دعوة للبشرية جميعاً، أن يتمسّكوا بحبل اللَّه المنقذ لهم من الغرق في النزاعات والاختلافات، والمنجي لهم من السقوط في اتون الحروب والتطاحن، وأن يجتمعوا بدل كلّ تلك المتاهات حول دين اللَّه الإسلام، وأن لا يتفرّقوا ولا يتنازعوا، وكلّ هذه التعابير تأكيد لذلك الأمر وهو التمسّك والاتحاد.

فإنّ التنازع والتشاجر والتناحر لا يؤدّي إلّاإلى ضعف الكيان وتهاوي الامّة، فتصبح أكلة سهلة سائغة لأعدائها الذين يتربّصون بها الدوائر..

وقد هدّد وأنذر الذين يسعون إلى الفرقة بعذاب أليم ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعدما جاءَهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم.

ولم يترك اللَّه سبحانه وتعالى هذه الامّة بلا ميزان بعد أن شجب التفاخر والتكاثر والتعالي بين أبنائها بغير ما يرضيه، فقد جعل التقوى هي ميزان التفاضل بينهم.

قال اللَّه تعالى في محكم كتابه:

ص: 169

يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم

ثم راح يبيّن صفة هذه الامّة المتماسكة ودورها ووظيفتها: كنتم خير امُّة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللَّه.

ثم إنّ القرآن الكريم جعل حبّ اللَّه تعالى، هذا الوسام الذي ما بعده وسام، وهذا الفخر الذي لا فخر سواه، والأمل الذي لا أمل غيره... حبّ اللَّه سبحانه وتعالى، جعله من نصيب المتوحّدين، والذين جعلوا من أنفسهم صفّاً واحداً في كدحهم وفي جهادهم وفي دعوتهم إلى اللَّه سبحانه...

إنّ اللَّه يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص.

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم فتح مكة: «يا معشر قريش إنّ اللَّه أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء. الناس لآدم وآدم من تراب. ثم راح صلى الله عليه و آله يقرأ الآية: يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وانثى...

فليس هناك من يرتاب في أنّ فريضة الحجّ ومناسكها تدعو للوحدة، وهي مناسبة عظيمة وفرصة كبرى للتمسّك بأخلاق اللَّه تعالى والتصديق بأوامره والانتهاء عمّا نهى عنه، وانتهاج منهج أوليائه من الأنبياء والرسل والصالحين في توحيد الصفوف، والظهور بمظهر واحد خالٍ من التفاخر والتعالي، في مؤتمر إسلامي سنوي ليس له نظير، يرعب الأعداء، ويلقي في نفوسهم الخشية والهيبة من هكذا تجمع بزيّ واحد ومناسك واحدة وكلمة واحدة «لبيك اللهمّ لبيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك».

تعلو هذه الأصوات من حناجر تواضع أصحابها للَّه وحده، وقد لبّوا دعوته، تاركين الأهل والعشيرة والمال والبنين، إنهارحلة العودةإلى اللَّه حقّاً، يقول الإمام علي عليه السلام:

«وفرض عليكم حجّ بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود

ص: 170

الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته، واختار من خلقه سماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرض حقّه، وأوجب حجّه، وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين.

مواقف السيّد الإمام:

فموسم الحج؛ هذا التجمع الذي يخفق على ربوعه لواء التوحيد، يرى السيّد الإمام فيه قوّة عظمى تتحطّم على صخرتها دسائس ومخططات ومؤامرات كلّ الأعداء المتربصين بهذه الامّة سوءاً، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يرى فيه تحقيقاً لطموحات الامّة وآمالها في امّة كريمة واحدة متفاعلة مكتفية ذاتياً في كلّ مجالات وأصعدة تطورها، الثقافية والاقتصادية والعلمية.. ويكون تجمّع المسلمين في الحج صورة مصغّرة لها..

وعلى ضوء تلك الآيات المباركة والأحاديث النبوية الشريفة وانطلاقاً منها، وتمسّكاً بما يمليه عليه دينه وانقياداً لتعاليمه، وللرؤية الواضحة التي يمتلكها ووعيه الدقيق للواقع الإسلامي الذي يضمّ شعوباً مظلومة مقهورة تحت سياط حكّامٍ طغاة ظالمين، وشعوراً منه بالمسؤولية الشرعية الملقاة على عاتقه وهو مرجع كبير وزعيم باتت أنظار كثير من المسلمين متوجّهة صوبه، منتظرةً كلمته ملبيةً دعوته، راح السيد الإمام الخميني يوجّه نداءاته الكثيرة ووصاياه المتعدّدة؛ لتوثيق الوحدة بين المسلمين- التي حظيت من وقته وجهده واهتماماته الكثير، فكانت له رؤى خصبة في هذا المضمار- ونبذ الخلاف ويحذّر من التفرقة والتشتّت.

ص: 171

القومية:

بدءاً بالتحذير من إثارة النعرات القومية التي تنخر في جسم الامّة والتزاماً منه رضوان اللَّه عليه بنهي النبي صلى الله عليه و آله: «دعوها إنها (العصبية) نتنة». «وليس منّا مَن دعا إلى عصبية». راحت أقواله تترى: إنّ النعرات القومية- هذه المسألة التي عارضها الإسلام والقرآن الكريم والنبيّ الأعظم- تثير العداء بين المسلمين والشقاق بين صفوف المؤمنين، وهي بالتالي تهدّد مصالح المسلمين، وهي من مكائد الأجانب الذين يزعجهم الإسلام وانتشاره..

- وتأكّدوا أنكم إخوة متساوون مع جميع الشعوب بغضّ النظر عن اللون والقومية والمحيط والمنطقة، تتبادلون الهموم والآلام، وتؤكّدون الوحدة بينكم، وتنهضون يداً واحدةً ضد أعداء البشرية والمزوّرين ومصاصي الدماء.

- يجب أن تعلموا أنّ الطريق الأساس إنّما هو في ظلّ وحدة جميع المسلمين، واجتماعهم على قطع أيادي القوى العظمى من الدول الإسلامية.

- ينبغي على الحجّاج المحترمين لبيت اللَّه الحرام لأي مذهب أو قومية انتموا أن يرضخوا لأحكام القرآن الكريم، ويقفوا في مواجهة سبل الشياطين الذين يريدون اقتلاع الإسلام، الذي طهر الشرق والغرب منهم ومن عملائهم الذين لا إرادة لهم سوى إرادة أسيادهم. ويمدّوا يد الاخوّة الإسلامية بعضهم لبعض وينتبهوا للآيات الكريمة التي تدعوهم إلى الاعتصام بحبل اللَّه، وتنهاهم عن الاختلاف والتفرقة..

السنّة والشيعة:

لم يكن يرى أنّ الاختلافات المذهبية مسوغة للفرقة بين أبناء الامّة الإسلامية الواحدة، وكان يؤكّد أنّ الاخوّة الإسلامية لا يضرّها اختلاف الآراء..

ويضع اللوم على ما أسماهم بوعاظ السلاطين بإثارة النعرات المذهبية وتأجيج نيران الخلافات بين أهل السنّة والشيعة.

لهذا انبرى السيّد الإمام قبل انتصار الثورة وبعدها إلى تثبيت رؤاه وتحقيق

ص: 172

الوحدة الإسلامية، يقول سماحته:

- هناك ما هو أخطر من النعرات القومية وأسوأ منها، وهو إيجاد الخلافات بين أهل السنّة والشيعة، ونشر الأكاذيب المثيرة للفتن والعداء بين الاخوة المسلمين.. ثم راح يوصي الاخوة المسلمين بأن هؤلاء المأجورين المرتبطين بالقوى الشيطانية الكبرى لا يستهدفون خير الإسلام والمسلمين، وعلى المسلمين أن يتبرأوا منهم ويعرضوا عن إشاعاتهم المنافقة..

وقد خطى السيّد الإمام خطوات كبيرة في توحيد صفوف المسلمين، فبادر إلى إصدار فتواه بتجنّب ما يثير الفتن، ويثير الضغائن بين الاخوة.

يقول: على الاخوة الايرانيين وجميع الشيعة في العالم أن يتجنّبوا الأعمال الجاهلة، التي تؤدّي إلى تفرّق صفوف المسلمين، كنصب مكبّرات الصوت بدون انتظام، وإلقاء النفس على القبور الطاهرة، والأعمال المخالفة للشرع.

كما أصدر فتوى أخرى للشيعة بالاشتراك في الصلوات، حيث يقول:

وعليهم أن يشتركوا في جماعات أهل السنّة، وأن يتجنّبوا عقد صلاة الجماعة في البيوت.

ثم راح يبيّن خطورة تقسيم الامّة الإسلامية إلى مذاهب وحذّر منها:

- إنّ طرح مسألة تقسيم المسلمين إلى سنّي وشيعي وحنفي وحنبلي وأخباري لا معنى لها أساساً..

- المجتمع الذي يريد أفراده جميعاً خدمة الإسلام والعيش تحت ظلال الإسلام لا ينبغي أن يثير هذه المسائل.

- كلّنا اخوة، وكلنا نعيش قلباً واحداً، غاية الأمر أنّ الحنفي يعمل بفتاوى علمائه، وهكذا الشافعي، وثمّة مجموعة أخرى هي الشيعة تعمل بفتاوى الإمام الصادق عليه السلام، وهذا لا يبرّر وجود الاختلاف، لا ينبغي أن نختلف مع بعضنا، أو أن يكون بيننا تناقض. كلّنا اخوة، على الاخوة الشيعة والسنّة اجتناب كلّ اختلاف، فالاختلاف بيننا اليوم هو لصالح الذين لا يؤمنون بالسنّة ولا بالشيعة ولا بالمذهب الحنفي ولا بسائر الفرق الإسلامية.

ص: 173

وهؤلاء يريدون القضاء على هذا وذاك، فهدفهم بثّ الفرقة بينكم. عليكم أن تنتبهوا جيداً أننا جميعاً مسلمون وأتباع القرآن وأهل التوحيد.

دعوة لإحباط المؤامرات

ويبادر سماحته بالدعوة الصادقة إلى الوحدة والتآلف لإحباط المؤامرات فيقول:

- إنني أمدّ يد الاخوّة إلى جميع المسلمين الملتزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا إلى الشيعة بصفتهم اخوة أعزّاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة.

استنهاض المسلمين

ثم واصل حديثه ووصاياه لاستنهاض المسلمين من سباتهم ومن تمزّقهم:

- أيّها المسلمون المؤمنون بحقيقة الإسلام، انهضوا ووحّدوا صفوفكم تحت راية التوحيد وفي ظلّ تعاليم الإسلام، واقطعوا أيدي الدول الكبرى الخائنة عن بلدانكم وثرواتكم الوفيرة، وأعيدوا مجد الإسلام، وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسية، فإنكم تملكون كلّ شي ء. اعلموا أن قدرتكم الروحية ستتغلّب على جميع الطواغيت، وتستطيعون بعددكم البالغ مليار إنسان، وبثرواتكم الطائلة غير المحدودة أن تحطموا جميع القوى.. انصروا اللَّه كي ينصركم.

أيّها الجموع الغفيرة من المسلمين، انتفضوا وحطّموا أعداء الإنسانية فإن اتجهتم إلى اللَّه تعالى، والتزمتم بالتعاليم السماوية، فاللَّه تعالى وجنده العظام معكم.

.. ولنصل إلى النصر من خلال الاجتماع على الحق، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد، التي هي أساس ومنبع عظمة الامّة الإسلامية.

يا مسلمي العالم، ماذا جرى لكم في صدر الإسلام، على قلتكم هزمتم القوى العظمى، وحققتم وجود الامّة الإسلامية الإنسانية الكبرى، وأنتم اليوم تعدّون ما يقارب المليار نسمة وتملكون الثروات الكبيرة، التي تعتبر رأس الحربة، وتعانون إلى هذا الحدّ

ص: 174

من الضعف والانسحاق في مقابل الأعداء؟!

هل تعلمون أنّ كل المصائب التي تعانون منها هي نتيجة التفرّق والاختلاف بين رؤساء بلدانكم وبالتالي فيما بينكم؟

انهضوا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم، واستلهموا أوامر اللَّه تعالى حتى تعيدوا مجدكم وعظمة الإسلام العزيز، تعالوا واستمعوا إلى موعظة واحدة من اللَّه حيث يقول:

قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا للَّه مثنى وفرادى.. انهضوا جميعاً وقوموا للَّه، قوموا فرادى على جنود وشياطين أنفسكم الباطنية وقوموا جميعاً على القوى الشيطانية، إذا كانت الثورة والنهضة إلهية ولأجل اللَّه فهي منتصرة.

ثم واصل حديثه الاستنهاضي هذا بقوله:

أيّها المسلمون ويا مستضعفي العالم مدّوا أيديكم بعضكم لبعض وسيروا في سبيل اللَّه....

يجب أن نعلم أنّ إحدى الفلسفات الاجتماعية لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام، أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم، وإذا لا سمح اللَّه أوجد بعض الحجّاج من خلال أعمالهم خللًا في هذه الوحدة أدّت إلى التفرقة، فذلك سيوجب سخط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وعذاب اللَّه القادر الجبّار.

وفي عبارة اخرى له: وأن ترتفعوا عن الفرقة والتنازع ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.

- الحجّاج المحترمون الموجودون في جوار بيت اللَّه ومحل رحمته، تعاطوا برفق ومروءة واخوة إسلامية مع جميع عباد اللَّه، واعتبروا الجميع ودون النظر إلى اللون واللسان والمنطقة والمحيط منكم.

ثم دعاهم جميعاً إلى شي ء عظيم ألا وهو:

أن تكونوا جميعاً يداً قرآنية واحدة حتى تسيطروا على أعداء الإسلام والإنسانية.

ص: 175

ما أجمله من تعبير: يداً قرآنية واحدة!

نعم يمكننا نحن أن نتجنّب ما يثير الخلاف والنزاع والفرقة دون أن نصادر الرأي الآخر إذا ما قام عليه الدليل، وبذلك نستطيع أن نصون الوحدة لأمّتنا الإسلامية، هذا الأمل الكبير الذي يُراود كلّ المؤمنين المجاهدين والعلماء المصلحين.. تحت ظلال القرآن الكريم.

الهوامش:

ص: 176

الابعاد الاجتماعية لمناسك الحج

الابعاد الاجتماعية لمناسك الحج

الابعاد الاجتماعية لمناسك الحج

زهير الأعرجي

اهتم السيد الإمام الخميني قدس سره، خلال حياته السياسية والاجتهادية، والاجتماعية المديدة التي قاربت قرناً من الزمان، اهتماماً بالغاً بفريضة الحج. فقد كتب العديد من الرسائل، وألقى الكثير من الخطب لارشاد الأمة حول دور الحج، خصوصاً في الانفتاح على مجتمعات المسلمين ومشاركتها همومها وآلامها.

وكان قدس سره يرى الحج مناسبة اجتماعية فريدة ومؤتمراً إلهياً عظيماً تُناقش فيه مشاكل المسلمين وتتبلور فيه طموحاتهم وآمالهم. بل كان قدس سره يرى في الحج هويةً وانتماءً اجتماعياً وسياسياً للمسلمين، اذا احسن اقناعهم بصحة متبنيات الإسلام الحقيقي.

ولذلك، فإنّ هذه المقالة سوف تتناول أولًا: الأبعاد الاجتماعية للحج عبر مناقشة: أ- الانتماء الاجتماعي. ب- محاربة الانعزال الاجتماعي. ج- فلسفة الاقناع. ثم تتناول ثانيا: الإمام الخميني قدس سره والحج، عبر تحليل اقواله وخطاباته السياسية الخاصة بتلك المناسك.

ص: 177

أولًا: الأبعاد الاجتماعية للحج

عندما ندرس الابعاد الاجتماعية للحج، فاننا لا نبتغي دراسة علل الشرائع، فهذا موضوع خارج عن قدراتنا كبشر. ولكننا نلتمس أموراً ظاهرية تُعيننا على فهم أنفسنا ومجتمعنا وطبيعة تكليفنا الديني.

أ- الانتماء الاجتماعي

لاشك أنّ الإنسان لايستطيع أن يعيش منفرداً دون مشاركة الآخرين، ومرافقتهم في أغلب نشاطاتهم الحياتية اليومية في العمل والتعليم والعبادة. فنحن خلقنا كي نعيش في مجاميع صغيرة أو كبيرة؛ ولعل هذا يفسّر لنا إلى حدّ بعيد سبب حثّ الدين الحنيف على ضرورة التزاوج، والتزاور، والعمل المشترك، والمشاركة في الاعمال التعبدية بصورة جماعية. فحاجتنا الانسانية نحو الاتصال بالآخرين والاجتماع بهم ليست مطلباً عملياً يسهّل علينا الحياة الاجتماعية فحسب، بل انها حاجة نفسية غريزية؛ ولذلك فإنّ الانعزال عن الآخرين يسبب أمراضاً عقليةً للفرد المنعزل.

وأهم ثمار الاجتماع الانساني هو إشباع حاجة نفسية أساسية للانسان وهي الشعور ب «الانتماء الاجتماعي»، فالانتماء يميز الفرد ويشعره بهويته الاجتماعية التي تميزه عن الغرباء. والشعور بالانتماء الاجتماعي نحو جماعة أو عقيدة معينة يساهم بشكل فعال في التفاعل والتأثير بين الأفراد. فالأفراد الذين يتجمعون في حافلة للنقل العام في إحدى المدن الكبيرة لا يحصل بينهم التفاعل والتأثير الاجتماعي المطلوب؛ لأنهم لايشعرون بالانتماء إلى نفس الفكرة أو العقيدة التي تجمع الحجيج مثلًا.

إلا أنّ مناسك الحج تلهب شعور المسلم بالانتماء الاجتماعي لمجتمع التوحيد العالمي. فطبيعة التفاعل والتغير المستمر الذي يختبره الفرد في حياته الاجتماعية تجعل مسألة الانتماء مهمة للغاية. ولايشبع هذا الشعور الانساني بالانتماء شي ء غير

ص: 178

الدين ورسالته العظيمة التي توحّد توجهات الأفراد نحو هدف واحد. ومن الطبيعي أنّ أهداف الانتماء الاجتماعي لن تتكامل ما لم يشعر الفرد بالأمان.

والحج يعطي الفرد شعوراً بالأمان؛ لوقوعه في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال أوّلًا، ولأنّ المناسك يجب أن تؤدى في وضع شرعي أمني خاص ثانياً.

والانسان بطبيعته يحتاج إلى حماية الجماعة ومساندتها. ومن أجل ذلك، فقد أورد الإسلام ترتيبات أمنية على درجة عظيمة من الدقة والإحكام، منها:

1- تقرير الأمن في البيت الحرام، بعد أن أوجب اليه الحج- بشروطه الشرعية- على المكلفين، كما ورد في النص المجيد: إنّ أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين* فيه آيات بينات مقامُ ابراهيم ومن دخله كان آمناً...، و لقد صدق اللهُ رسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُنّ المسجد الحرام إن شاء اللهُ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصّرين لاتخافون.... وكون الحرم آمناً يأمن من دخله، يعكس أهمية الأمان في استقرار التأثير الديني على الناس.

2- حرمة الاعتداء على الآخرين، أو حرمة القتال في الأشهر الحرم- وهي شهر رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة ومحرم الحرام- ووجوب حفظ حرمة الشعائر وحرمة القاصدين لزيارة البيت الحرام، كما ورد في النص المجيد: ياأيها الذين آمنوا لاتحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهديَ ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلًا من ربّهم ورضواناً وإذا حللتم فاصطادوا ولايجرمنكم شنآنُ قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الإثم والعدوان...

3- حرمة مكة المشرفة وضرورة تعظيمها. فهي البلدة التي شرّفها اللَّه سبحانه من وجهين؛ الاول: الحرمة باعتبار مناسك الحج. والثاني: نسبة تلك البلدة اليه، كما قال عز من قائل: إنّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدةِ الذي حرّمها ولهُ كلُ شي ءٍ وأمرتُ أن أكون من المسلمين.

ص: 179

4- منع كلّ أساليب تعكير صفو الأمن خلال أداء المناسك، كالكذب والجدال والفسوق، كما جاء في النص المجيد: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.

واللافت للنظر أنّ مناسك الحج- بكثرة عدد المشاركين فيها، واتساع الرقعة الجغرافية التي تمارس فيها- تتم دون وجود قائد ميداني يقود جماهير الحجيج نحو هدف ما مثلًا. بل إن كلّ فرد مسؤول مسؤولية تامة عما يعمله ويقوم به من مناسك في الطواف والصلاة والسعي والوقوف والرمي والنحر والمبيت. وهذا النظام الدقيق الذي ينفّذ على مساحة جغرافية واسعة دون وجود قائد ميداني يقود الأفراد يعتبر من معجزات هذا السلوك الجمعي. ومناسك الحج هذه تتميز عن أعمال الحركات الاجتماعية التي لاتتحرك دون وجود قائد منظور ونظام اداري هرمي يسيطر على الحركة. ولكن تميز مناسك الحج عن نشاط الحركات الاجتماعية يعكس تميز الخالق عز وجل الذي شرع تلك المناسك عن المخلوقات التي أنشأت الحركات الاجتماعية.

ولعل أحد أشكال الإعجاز الديني في الحج، هو أنّ هذه المناسك يقوم بها ملايين الحجيج من شتى المجتمعات والحضارات والتركيبات الثقافية، وبهذه الدقة، دون وجود تركيب اداري لادارة هذه الأعمال الجماعية كما يحصل غالباً في المؤسسات التعليمية والتجارية والعسكرية، ودون سلسلة قيادة لإدارة هذا الجمع العظيم من الأفراد.

إنّ الشعور بالأمان الجماعي خلال أداء المناسك يرسخ فكرة «الانتماء الاجتماعي» التي تعكس حاجة الانسان لتشخيص هويته الدينية والاجتماعية التي تميزه عن الغرباء.

ب- محاربة الانعزال الاجتماعي

ليس عجيباً القول: بأنّ الانعزال الاجتماعي يعدُّ من أخطر العوامل التي تؤدي

ص: 180

إلى الاضطرابات العقلية التي تصيب الفرد المحروم من المشاركة في النشاطات الاجتماعية. وليس غريباً أن نقول: بأنّ المسلمين هم اقل الفئات البشرية انعزالًا، وأقلهم إصابةً بأمراض الاغتراب الاجتماعي. والنقطة الرئيسية هنا هي أنّ الحقيقة الخارجية التي يتم تصورها في ذهن الانسان لايمكن بناؤها اجتماعياً الا بمساعدة الآخرين، فنحن لانستطيع أن نفهم عقيدتنا في الخلق والتكوين والحياة الاجتماعية إلّا عن طريق رسائل يحملها الآخرون لنا. ولذلك، فإنّ للفرد طاقة نفسية لاستيعاب مفردات الحياة الاجتماعية وشروطها، وهذه الطاقة والقابلية النفسية لابد من إشباعها حتى يتحقق الاجتماع الانساني الذي هو أصل بقاء الحياة الانسانية على وجه الأرض.

ويعدّ السجن الانفرادي من أكثر العقوبات قسوة ووحشية على الانسان؛ لأنّ الفرد بحاجة دائمية إلى الاتصال بالآخرين حتى يستطيع أن يحافظ على إحساسه المستمر بالحقائق الخارجية ويحافظ على الشعور بهويته الذاتية؛ ولذلك فإنّ الأفراد الذين يعاقبون بالسجن الانفرادي لفترة طويلة يفقدون إحساسهم بقيمة الوقت مع أنهم يحسبون الأيام عن طريق خطوط يرسمونها على جدران السجون. وعندما يفقدون إحساسهم بقيمة الوقت، فإنّ الشك يبدأ بالسريان إلى كلّ شي ء في حياتهم، فلا يستطيعون- لاحقاً- الاطمئنان إلى الحقائق الخارجية التي اختبروها في حياتهم العامة سابقاً.

ولكن الانعزال والاغتراب الاجتماعي لايكون دائماً نتيجة سجن انفرادي أو عزل قسري، بل قد يتولد من ضعف الانسان أمام المشاكل الاجتماعية، أو فقدانه المعنى الواضح للحياة، أو انهيار الجانب الاخلاقي الاجتماعي.

فالضعف الانساني تجاه المشاكل الاجتماعية التي جلبتها المادية الحديثة، وانعدام العدالة الاجتماعية، وانحلال الأواصر العائلية والأسرية أدّى إلى إحساس الفرد بغربته وانفصاله عن المجتمع الكبير الذي يعيش فيه؛ لان المشاكل

ص: 181

الاجتماعية التي يعاني منها دون حلول واضحة تدفع الانسان المادي نحو الإدمان على المخدرات والكحول، وتجعله يسبح في بحر من الاضطرابات النفسية والعقلية.

أما فقدان الفرد لشعوره لمعنى الحياة الانسانية وأهداف الخلق والوجود، فانه يساعد أيضاً على الاغتراب الاجتماعي، باعتبار أنّ قلق الفرد وعدم استقراره على عقيدة معينة يطمئن اليها لتفسير معاني الخلق والحياة والانسان تعطي ذلك الفرد صورة مرعبة قاتمة عن الحياة ودور الانسان فيها.

وكذلك الحال إذا واجه الفرد غياباً للأعراف والقيم الأخلاقية التي آمن بها، فانه سيشعر بأنّ سلوكه الأخلاقي غير مقبول اجتماعياً من قبل الفئة المسيطرة على النظام السياسي والاخلاقي والاقتصادي. وهي خطوة أولية نحو الاغتراب الاجتماعي.

ولكن الانعزال والغربة الاجتماعية انما هما تعبيران عن شعور الفرد المنعزل عن انسلاخه عن بقية الأفراد الذين يتعامل معهم. فالاغتراب الاجتماعي هو محاولة داخلية لرفض المجرى العام للنظام الاجتماعي من قبل المغترب، والاحساس العميق بأنه قد خُلق في زمان ومكان لم يكونا متلائمين مع بيئته الانسانية ومحيطه الاجتماعي. بمعنى أنّ الفرد المنعزل اجتماعياً يعلم في داخله بأنّ المجتمع لايكافئه مكافَأة نفسية أو فكرية تساعده على الاندماج مع الآخرين، والسير مع السفينة الاجتماعية الماخرة في عباب الزمن.

ولاشك أنّ الإسلام- باعتباره ديناً ورسالة عالمية غير مقيدة بزمن معين- اهتم بقضية الاغتراب الانساني، وعالج هذه المشكلة عبر حثّه الأفراد على ضرورة الانتماء الاجتماعي التي لاحظنا أهميتها الفائقة في كسر طوق الاضطرابات العقلية والنفسية. وكان الحج احد مصاديق محاربة الاغتراب الانساني على مر التاريخ. ونظرة خاطفة لطبيعة الحج في مكافحة الانعزال الاجتماعي، تبين لنا

ص: 182

النقاط التالية:

1- أنّ التهيؤ الاجتماعي للسفر يجمع الأفراد لفترة زمنية معينة، مما يساعدهم على كسر طوق العزلة الاجتماعية.

2- أنّ فكرة الاستطاعة تشجع الأفراد على العمل الجاد من أجل التحصيل المالي والاكتفاء، وهذا يبعد الأفراد عن الكسل ويبعدهم عن الانعزال أيضاً؛ لأنّ التكسب غالباً ما يكون جماعياً.

3- أنّ مناسك الحج تعكس طبيعة التجمع الانساني، فالمسلك الجماعي في العبادة يمنح الفرد شعوراً بالاندماج مع الأمة الكبيرة المنتشرة في كلّ بقاع الأرض.

4- أنّ الإسلام يكافح الانعزال الذاتي «الشخصي» عبر حثّ المكلّف على الاتصال باللَّه سبحانه وتعالى، ويكافح الانعزال الموضوعي «الاجتماعي» عبر تطبيق الاحكام الشرعية على النظام الاجتماعي، وبذلك تسد الشريعة الطريق على الانعزال والاغتراب الاجتماعي بشكل مُحكَم.

5- العدالة الاجتماعية في الإسلام والمساعدات المتبادلة بين الأفراد أنفسهم، وبين الأفراد والدولة، وصلة الرحم، كلّها تقلل من فرص الانعزال الاجتماعي.

والحج يعكس جانباً من جوانب العدالة الاجتماعية الكلية في الإسلام.

6- يعتبر التقدم في السن أحد أسباب الانعزال الاجتماعي في المجتمعات المادية بسبب عدم قدرة المسنّ على الانتاج مما تسبب له مشاكل اقتصادية جمّة.

وإذا اضفنا إلى ذلك مشاكل انحلال الروابط الأسرية بسبب التصنيع وتغيير الخارطة السكانية، يتضح لنا أنّ من أكثر الأمراض النفسية ظلاماً وتأثيراً على الفرد هو الانعزال الاجتماعي للمسنّين. إلّاأنّ الاستطاعة الشرعية لأداء الحج غالباً ما تحصل عندما يتوسط عمر الانسان ويجمع مالًا من عرق جبينه ليحقق شروط الاستطاعة الشرعية. وليس هنا تمييز شرعي من أي نوع تجاه المسنين؛ لأنّ الدين ضمن منهجه الأخلاقي حثَّ على احترام الكبير وضمنَ معيشته على

ص: 183

الصعيد العائلي أو صعيد الدولة. ولما كانت العلاقات العائلية في الإسلام متماسكة كان المسنّ أكثر الأفراد ثراءً في الخبرة والتعبد والعلاقات الاجتماعية، وأكثرهم بعداً عن الانعزال الاجتماعي.

وبكلمة، فإنّ الاطار الاجتماعي لمناسك الحج، تدفع الناس نحو التماسك والتعاون الذي يتحول لاحقاً إلى لبنة من لبنات بناء الدولة الإسلامية العالمية.

ولاشك أن النشاطات الشرعية للحج الإسلامي انما تساعد جميع الأفراد على كسر طوق الانعزال الاجتماعي والغربة الانسانية التي نلاحظ مساوئها النفسية في عالم اليوم.

ج- فلسفة الاقناع

ويبرز سؤال مهم هنا، وهو: ما هي الظروف الموضوعية التي تكون سبباً قوياً لتغيير اتجاهات الأفراد واعتقاداتهم وسلوكهم؟ وكيف نصدّق بأنّ ذلك التغيير سيكون تغييراً جوهرياً حقيقياً وليس تغييراً سطحياً ظاهرياً لامعنىً له؟

لاشك أننا نتعرض يومياً إلى محاولات اجتماعية عديدة للتأثير علينا في التفكير والشعور والسلوك، وهذه المحاولات تهدف إلى إقناعنا بقبول أو رفض سلوك وتفكير معين، وبطبيعة الحال فإنّ الإقناع لايتحقق ما لم يتم تغيير اتجاه الأفراد المراد اقناعهم.

ولكي نفهم طرق الاقناع، لابد أن نفهم أصول الاتجاه الانساني وهي ثلاثة:

(1) العقيدة التي يؤمن بها الانسان. (2) القضايا العاطفية المرصوصة بين أحجار تلك العقيدة. (3) النية، والقدرة على الاستجابة للمحفزات الخارجية.

فعندما نكوّن اتجاهنا نحو الأشياء والظواهر الخارجية التي من حولنا، فاننا نحتاج إلى معلومات يقدمها لنا الآخرون:

أولًا: أنّ من أهم وسائل الاقناع لتثبيت أو تغيير اتجاهاتنا هو كمية المعلومات الواردة إلى أذهاننا من المصادر الخارجية.

ص: 184

ثانياً: ملاحظة سلوك القادة يؤثر دائماً على أفكارنا.

ثالثاً: نظام الثواب والعقاب يؤثر دائماً على توجهاتنا السلوكية.

وفيما نحن فيه، تعتبر ساحة الحج من أنشط الأماكن الاجتماعية فعالية في الاقناع؛ لأنّ الحجيج يأتون من مختلف بقاع العالم وهم يحملون معلومات جديدة عن الخبرات الاجتماعية والدينية في مجتمعاتهم. ويتعرض الحجيج إلى فعالية التأثير السلوكي للذين يحتلون موقعاً متميزاً على صعيد القيادة الدينية والحركية والثقافية الإسلامية في مجتمعاتهم المتباينة. ولاشك أنّ التبليغ الإسلامي الذي ينبغي أن يقوم به المبلّغون- وهو يشمل تذكير الحجيج بالثواب والعقاب الآخروي الذي تعرض له القرآن الكريم- يعدُّ وسيلة أخرى من وسائل الإقناع الاجتماعي بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية على كلّ أركان الحياة الاجتماعية الإسلامية.

ومع أنّ فلسفة الاقناع وتطبيقاتها قد تطورت في العقود الأخيرة، إلا أنّ مبادئها قديمة قدم فكرة: المصدر، والرسالة، والجمهور. وهي من اهم متغيرات الاقناع؛ وتُلَخّص بالأسئلة الثلاثة: «مَن الذي يخاطب مَنْ؟ ويقول ما؟ وما هو التأثير؟».

وحتى لو فهمنا الحج من هذا المنظار؛ لرأينا أنّ هذا العمل العبادي يجمع كلّ متغيرات الاقناع التي لازال الفلاسفة يناقشونها لحد اليوم. فالحاج المبلِّغ- وهو مصدر الإقناع- ينبغي أن يجمع ما بين الخبرة، والثقة، والمنزلة العلمية والاجتماعية، والجاذبية الخارجية والذاتية. والرسالة ينبغي أن تحمل كلّ معاني الجذب العقلائي والعاطفي، والاسلوب اللغوي الفصيح، والموضوعية في طرح الايجابيات والسلبيات. والجمهور ينبغي أن يكون على درجة من الاستعداد لتقبل المعلومات من اجل الاقتناع.

وهذه المتغيرات- في واقع الأمر- لها مدلولاتها العملية في إقناع الناس بضرورة تطبيق المفردات الشرعية والوصول إلى التغيير الاجتماعي المنشود.

ص: 185

ولاشك أنّ من أهم خطوات عملية الاقناع هو أن يشعر الأفراد جميعاً بالمساواة الحقوقية والاجتماعية فيما بينهم. فاذا تفاوتت طبقاتهم في المجتمع، انعدمت- عندئذٍ- وسائل الاقناع الذاتية الحقيقية؛ لأنّ الإقناع الجديد المفروض من قبل طبقة اقوى سيكون مجرّد إكراهٍ يرضخ لشروطه الأفراد، وهذه المسألة مهمة في الحج أيضاً، فشعور الحجيج بالمساواة التامة يفتح أبواباً عديدةً للإقناع الشرعي بضرورة التغيير الاجتماعي.

نقطة أخرى مهمة، وهي أنّ ايجابية طرح الأفكار المُقنِعة يؤدي إلى ايجابية القبول والاقتناع من قبل الحجيج. ومثال ذلك، لو ان فرداً حاول إقناع الآخرين بتطبيق الأحكام الشرعية عن طريق عرض العقوبات الإسلامية والجزاء الرادع مجرّداً من أي إشارة إلى الرحمة الالهية والمغفرة والثواب الأخروي، فان ذلك التبليغ سوف لايشجع الأفراد على الاقتناع بتلك الافكار ما لم يلازمها طرحٍ موازٍ للعفو والغفران الإلهي.

نقطة ثالثة، وهي أنّ السلوك الانساني لايتبدل إلّابتبدل الاتجاه الداخلي للفرد.

فالفرد لايسلك سلوكاً مختلفاً ما لم تؤثر عليه قوة فكرية عظيمة تستطيع أن تصل إلى قرارة نفسه وأعماق وجدانه، فتغير اتجاهه الذاتي نحو العقائد والأفكار، وعندها فقط يتبدل سلوكه الشخصي أو الاجتماعي. ومن المهم أن نعلم أنّ الرسالة الدينية كانت ولا تزال تهدف بالاصل وبشكل واضح إلى تغيير اتجاه الأفراد أولًا عن طريق تغيير توجه القلوب كما أشارت إلى ذلك الآية القرآنية الكريمة بصدق:

إنّ اللَّه لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وإذا ما تم تغيير اتجاهات القلوب، فإنّ تبديل السلوك سيكون امراً ممكناً، ان لم يكن طبيعياً.

ولكن إذا قاوم الفرد وسائل الاقناع لاعتبارات ذاتية محضة، فماذا يحصل؟

لاشك ان الفرد لايستطيع أن يعيش في تنافر ذاتي بين قوتين تجذبه كل منهما نحو

ص: 186

الطرف المضاد. فلنفترض أنّ فرداً ما كان يرتكب عملًا مخالفاً للشريعة- مساندة الظالم مثلًا- ثم التقاه عالم من علماء الدين وعرض عليه فكرة العقوبة الأخروية إذا لم يتوقف عن ارتكاب ذلك العمل، ملمّحاً إلى ابواب التوبة التي فتحها الدين أمام المذنبين. فلكي يزول هذا التنافر بين الطبيعة الفطرية التي يمثلها الدين وبين المخالفة الشرعية التي ترفضها الفطرة الانسانية، يقف ذلك الفرد أمام نظرية الاقناع عبر الخطوات التالية:

أ- يغيّر اعتقاده بأنّ المخالفة عمل طبيعي مستساغ.

ب- يغير سلوكه السابق، وذلك بالتوقف عن ارتكاب تلك المخالفة الشرعية.

ج- يعيد تقييم سلوكه بالتوبة والاستغفار.

د- يضيف بعداً جديداً إلى تفكيره الجديد حول الالتزام بتطبيق الأحكام الشرعية.

إنّ الانسان- مهما كان اعتقاده- ملزمٌ ذاتياً بتقليل التنافر الفكري الداخلي إلى أدنى حدّ ممكن؛ لأنّ التنافر بين ما يعتقده الفرد وبين ما يعمله يؤدي إلى تمزيقه نفسياً وعقلياً؛ ولذلك كانت الرسالة الدينية- ورسالة الحج بالخصوص- منسجمة تماماً مع الفطرة الانسانية، كما اشار القرآن المجيد إلى ذلك: فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق اللَّه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون.

هذه ملامح مختصرة عن الأبعاد الاجتماعية لمناسك الحج، وقد عرضناها كمدخل لدراسة الفهم الاجتماعي لفريضة الحج عند السيد الإمام الخميني قدس سره.

ثانياً: الإمام الخميني قدس سره والحج

تعرض الإمام الخميني قدس سره لأفكار الحج بكثير من الدقة الاجتماعية، وحاول ان يرسّخ في ذهن الأمة فكرة مهمة. وهي أنّ مناسك الحج ليست مناسك روحية فحسب، بل إنّ لها مقاصد وملاكات اجتماعية على نطاق المسلمين في العالم أجمع.

ص: 187

وسوف نعرض خمس عشرة فكرة من أفكار الإمام قدس سره حول الحج مع تعليق مختصر عل كلّ منها.

(1) الفريضة ذات المحتوى الاجتماعي

يقول الإمام قدس سره في إحدى رسائله واصفاً فريضة الحج بالقول: «نظراً لاقتراب أيّام إقامة واحدة من الفرائض الإسلامية الكبرى ذات المحتوى الانساني، الروحي، السياسي، الاجتماعي، العظيم، أعني فريضة حج بيت اللَّه الحرام يلزم... تطهير هذه الفريضة المقدسة من آثار الطاغوت لتعود إلى الإسلام الحقيقي...».

تعليق: تعدُّ مناسك الحج التي شرعها الإسلام شكلًا من أشكال السلوك الجمعي ووجهاً من أوجه التفاعل الروحي والاجتماعي بين المسلمين. ومع أننا ننظر إلى الحج من زاوية: الأحكام الشرعية التي تلزم الفرد بوجوب الحضور عند تحقق الاستطاعة الشرعية، وما يرافق ذلك الحضور من إلزامات في تطبيق تلك الأحكام. وننظر إلى تلك العبادة أيضاً من زاوية الإطار الروحي الذي يتجسد في الرحلة الشيقة إلى بيت الله الحرام وما يرافقها من سمو أخلاقي عظيم يرفع الفرد المكلف إلى أعلى درجات الكمال النفسي والروحي مع خالقه العظيم. إلا أنّ الحق هو ان هناك جانباً ثالثاً خطيراً من جوانب الحج، ألا وهو الجانب الاجتماعي وما يرافقه من سلوك جمعي عالمي ينتهي إلى تغيير اجتماعي له أبعاد خطيرة.

ولما كانت مناسك الحج على درجة عظيمة من الأهمية على الصعيد الشرعي، فإننا نفترض أن ينبثق عن تلك الفريضة لونان من ألوان النشاط الانساني.

اللون الأول: هو النشاط التعبدي الفردي وما يصاحبه من خشوع وتواضع وتذلل للمولى عز وجل.

اللون الثاني: هو النشاط الاجتماعي الذي يتمثل بالسلوك المشترك بين المتعبدين، وما ينتج عنه من تفاعل بين الأفراد من مختلف الأجناس، ويؤدي

ص: 188

بالنهاية إلى التغيير الاجتماعي الذي هو الأصل في نشاطات السلوك الجمعي.

ولايتوقف الأمر عند ذلك، بل إنّ الحج يولد شعوراً لدى الأفراد المندمجين بمناسكه وأفعاله، بالوحدة الكونية التي تجمع الخلق والمخلوقات. فالنظام الكوني في الحركة والدوران والبداية والنهاية ينعكس بشكل من الأشكال على هذه الأفعال التعبدية المنتظمة كالطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والصعود إلى جبل عرفات، والإفاضة إلى المزدلفة، ونحوها. وهذا الانسجام في طبيعة مناسك الحج يبرز شكلًا جديداً من أشكال التنظيم الاجتماعي الديني الذي يستحق تأملًا دقيقاً في أهدافه ومقاصده الحياتية.

(2) هذا المؤتمر العظيم

يشير الإمام قدس سره إلى مناسك الحج ومناسبتها، فيصفها بالمؤتمر العظيم. يقول قدس سره:

«لايخفى على أحد أنّ إقامة مثل هذا المؤتمر العظيم لايتسنى لأية شخصية ولا لاية حكومة. فهذا امر اللَّه تعالى هو الذي أعدّ هذا التجمع الكبير».

تعليق: إنّ الإسلام لم يقدّم للبشرية أعظم نظريات السلوك الجمعي فحسب، بل وضع الأفراد على محك التكليف الشرعي العملي وأوجب عليهم- عند تحقق الاستطاعة الشرعية وضمن تحديد زماني معين- التوجه إلى بيت الله الحرام في وسط صحراء الجزيرة العربية القاحلة لأداء تلك المناسك الشرعية في الطواف والصلاة والسعي والوقوف والنحر والمبيت. والتزام الأفراد بهذا العمل على مدى القرون المتمادية، مع ملاحظة المشّاق التي كان يعاني منها الفرد في التنقل، عبّر عن حقيقتين:

الأولى: حقيقة الرسالة الإسلامية وارتباطها بالتصميم الإلهي للخلق والمخلوقات. فلو قامت أية حركة اجتماعية أو حزب سياسي بدعوة الناس إلى التجمع في ذلك المكان الصحراوي في وقت محدد من كلّ عام، لما استجاب لتلك الدعوة أحد.

ص: 189

الثانية: أنها عبّرت عن أنّ النتائج المترتبة على تأدية تلك المناسك إنما تثمر على صعيدين:

فردي: وهو ما يتعلق بالتهذيب الروحي للذات.

وجماعي: وهو ما يتعلق بتهذيب المجتمع الانساني الكبير.

ولاشك أن الآثار الناتجة عن مناسك الحج يمكن فهمها على أساس أنها آثار مؤتمر عظيم للمكلفين من اهل الأرض، قد دعت له السماء.

(3) المعاني والاشارات

يشير الإمام قدس سره إلى أنّ أعمال الحج التعبدية لايمكن أن تؤخذ على ظاهرها، بل لابد من فهم معانيها، ف: «الطواف حول بيت اللَّه مؤشر لعدم الالتفاف حول غير اللَّه، ورجم العقبات رجم شياطين الانس والجن...».

تعليق: بالرغم من أنّ اللغة تعتبر وسيلة مهمة من وسائل التفاعل الاجتماعي، إلا أنّ الاتصال غير الشفهي- وهو تبادل المعلومات أو التعبير عن عمل ما بواسطة رموز غير لغوية كالاشارات والتعابير الجسدية- يعتبر مهماً أيضاً في وسائل الاتصال الاجتماعي والديني.

فيستطيع الجسم الانساني عموماً- والوجه البشري بالخصوص- القيام بحركات متنوعة، كالغضب والحزن والفرح والتعجب والخوف والقلق ونحوها.

ولاريب أنّ حركات الجسم الانساني تبعث بشكل مباشر أو غير مباشر برسائل ورموز مفهومة على الصعيدين الاجتماعي والديني.

ومن الواضح أنّ الاشارات والتعابير الجسدية تختلف من مجتمع إلى آخر حسب التركيبة الثقافية والدينية التي يعيشها الأفراد في ذلك المجتمع، فهذه الاشارات تستطيع ان تبعث برسائل اجتماعية فعالة بين الأفراد.

ولكن الاشارات والتعابير الجسدية غير محدودة بحدود الاشارات الاجتماعية، بل إنّ لها معانٍ دينية وروحية. فالدين، وفهماً منه لطبيعة الانسان في

ص: 190

التعبير استخدم الاشارات والتعابير الجسدية في العبادات كالصلاة والحج.

فالصلاة بشكلها الخارجي، كاستحباب رفع اليدين إلى الأذنين أو حيال الوجه في تكبيرة الاحرام، والوقوف في القراءة، والانحناء في الركوع والسجود، والجلوس في التسليم، ورفع اليدين عند الدعاء ما هي الا تعابير جسدية للاتصال بالخالق عز وجلّ عبر اللغة والتعبير الجسدي الشرعي الذي وضعه الشارع عزّ وجل للمكلف. والطواف، والسعي، والوقوف في عرفات والمشعر الحرام، والرمي، والمبيت في منى هي أيضاً تعابير جسدية لطبيعة هذه العبادة الواجبة على المكلفين.

والذي يهمّنا على هذا الصعيد هو أنّ التعابير الجسدية في الحج هي وسيلة من وسائل التفاعل الاجتماعي، لأنّ الجدية في أداء المناسك والتي تعكسها تلك التعابير الجسدية من الخوف من الخالق عزّ وجلّ، والبكاء خشية منه، والتضرع والدعاء، وانتظام الجسم في الطواف، والاسراع في بعض مراحل السعي، كلّها تساهم في عملية التماسك الديني بين الأفراد؛ خصوصاً عندما يشعر الأفراد أنهم يؤدون هذه المناسك مجتمعين، فتكون التعابير الجسدية وسيلة من وسائل انتظام الأفراد وانضباطهم كأمة لها كيانها الروحي والفكري والعبادي المتميز. ولاشك أنّ هذه التعابير الجسدية الجماعية في ممارسة الفريضة تساهم في إنشاء انسجام داخلي بين المسلمين له أبعاده الاجتماعية العظيمة.

اذن، فان رجم الشيطان أو الطواف حول البيت ينبغي أن يكونا مؤشرين لحسن توجه المكلف نحو اللَّه سبحانه وتعالى. فالهدف هو الوصول إلى اللَّه سبحانه عبر هذه الوسائل.

(4) القدرة العقلية

يقول الإمام قدس سره ضمن وصاياه في الحج: «... يلزم تذكير السادة العلماء، وعلماء الدين المتمرسين المرافقين للقوافل بتشكيل جلسات قبل الحركة؛ لتعريف الحجاج المحترمين على المسائل الشرعية والواجبات الانسانية».

ص: 191

تعليق: لاشك أنّ العلم بالأحكام الشرعية الخاصة بالمناسك ضروري من أجل أدائها بصورة صحيحة. ولعل أهم ما ينتجه الجانب التطبيقي المتعلق بمناسك الحج هو التغيير الناتج من ملاقاة الحجيج بعضهم مع بعض. فالتكليف الوجوبي لتأدية تلك الفريضة مرهون بشروط ثلاثة، وهي: البلوغ والعقل والاستطاعة.

بمعنى أنّ القدرة المالية والعقلية هي التي تحدد وجوب الحج. ولكن إذا استثنينا القدرة المالية باعتبارها مجرّد وسيلة للوصول لتأدية أعمال الحج، بقيت لدينا القدرة العقلية، وهي الأصل في التغيير الاجتماعي. أي أنّ المكلفين الذين يجتمعون لأداء المناسك هم الذين لديهم القابلية الفكرية والاستعداد النفسي على استيعاب شروط ومفردات التغيير الاجتماعي. ولاشك أنّ الحجيج يفدون من مجتمعات إنسانية متباينة في الفكر واللغة والعادات الاجتماعية والثقافية، والحج لايوحّدهم على صعيد السلوك العبادي فحسب، بل على صعيد الفهم الاجتماعي لطبيعة المجتمعات الأخرى. ومثال ذلك، أنّ المكلفين المنتمين لمجتمعٍ أكثر تطبيقاً لاحكام الإسلام وإلزاماته الاخلاقية، إذا تواجدوا على ساحات البيت الحرام وحرم مكة فإنهم سيتميزون عن غيرهم من بقية افراد المجتمعات، بسبب تطابق سلوكهم مع السلوك الشرعي. وهذا السلوك العملي القريب من جوهر الإسلام سيترك آثاره الواضحة على بقية الأفراد من المجتمعات الأخرى. وبسبب هذا التفاعل الاجتماعي، فإنّ المسلمين على اختلاف تركيبتهم الثقافية والاجتماعية سيكتسبون بعضهم من بعض بما يرفع من مستواهم الأخلاقي والتطبيقي بالمقدار الذي ينسجم مع الشريعة، وهذا هو المقصود من التغيير الاجتماعي المطلوب.

وثمة عامل آخر مهم ينبثق عن مناسك الحج، ويقوم بدور البناء الاجتماعي أيضاً، وهو ترسيخ دور القيادة الدينية المرجعية في حياة الأمة الإسلامية؛ لأنّ المفترض بالحجيج ان يقلّدوا فقيهاً مرجعاً يرشدهم إلى تعاليم دينهم، وهذه القيادة الشرعية الفكرية لها مردودها الايجابي على انسياب العمل الاجتماعي، وانسجام

ص: 192

الأفراد في توجهاتهم العملية والروحية. ولاريب أنّ القيادة العلمائية تستطيع أن تفرض التغيير الاجتماعي على الأفراد، إلا أنّ ذلك ليس من طبيعة الرسالة الإسلامية التي تهتمّ بالفرد اهتماماً شاملًا، وتحمّله مسؤولية القيام بالعمل العبادي الفردي والعمل الاجتماعي على خطٍ متوازٍ كما نتلمس ذلك من روح النص المجيد:

إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولذلك فان دور الفقيه هو إرشاد الأفراد نحو ضمان صحة تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، خصوصاً فيما يتعلق بمناسك الحج التي نحن بصددها. إلا أنّ التفاعل الاجتماعي بين الأفراد وما يحققه من نتائج عظيمة في التغيير الاجتماعي هو من مسؤولية الأفراد أنفسهم.

ويجب ان لا يغيب عن بالنا أبداً أنّ هؤلاء الأفراد لديهم القابلية العقلية والفكرية المشروطة في التكليف الشرعي الخاص بوجوب الحج، على ايصال مجتمعاتهم إلى مستوى الكمال الروحي والاجتماعي الذي صمّمه لهم الإسلام.

(5) سفرٌ إلى اللَّه

يقول الإمام قدس سره: «اعلموا أنّ سفر الحج ليس سفر تكسّب، ليس سفر حصول على متاع الدنيا، انه سفر إلى اللَّه. أنتم تتجهون إلى بيت اللَّه، فعليكم أن تؤدوا كلّ الأمور في إطار الهي...».

تعليق: إنّ هذا السلوك الجمعي «أداء المناسك» هو سفرٌ خالص إلى اللَّه.

والسفر إلى اللَّه يقتضي طهارة استثنائية. فأداء المناسك مبنيٌّ على طهارة الحجيج من النجاسات المادية كالحدث والخبث، والنجاسات الروحية كالجدال والفسوق، ومبنيٌّ على إلزامهم بارتداء زيٍّ مُوَحَّدٍ يُعَدُّ من أبسط الأزياء الانسانية، وعلى حثهم على مراقبة سلوكهم في عدم إيذاء الكائنات الحية كالحيوانات والأشجار، بل كلّ ما يخصّ البيئة الانسانية وما حولها. ولاشك أنّ هذا التهذيب الفردي ضمن السلوك الجماعي يترك آثاره النفسية والتربوية العميقة داخل شخصيات الأفراد.

ص: 193

إنّ الطهارة الروحية والمادية تعتبران من أهم مميزات السلوك الجمعي الإسلامي. ففي الطواف بالبيت تتوجب- إجماعاً- الطهارة من الحدث الأكبر وهو ما يوجب الغسل، والأصغر وهو ما يوجب الوضوء، باعتبار أنّ الطواف بالبيت صلاة، كما جاء في المشهور من حديث رسول الله صلى الله عليه و آله. وكذلك تتوجب طهارة المرأة من الحيض. وبذلك يكون السلوك الجمعي الإسلامي من أطهر التجمعات الانسانية على وجه الأرض؛ حيث يتجمع للطواف والسعي وبقية المناسك، الملايين من الأفراد وهم على أتم أشكال الطهارة البدنية والروحية.

(6) رداء الحج والانسجام الاجتماعي

يقول الإمام قدس سره بشأن رداء الحج وتأثيره على الانسجام الاجتماعي بين المسلمين: «المسألة الأساسية في هذه الاجتماعات- يعني مناسك الحج- هي أن يجتمع المسلمون معاً في هذه المواقف في جوٍّ خالٍ من التشريفات وبعيد عن كلّ الجوانب الذاتية وبكفن واحد أو بثوبين بسيطين».

تعليق: إنّ الموضة في الأنظمة المادية تستهلك جزءاً كبيراً من موارد النظام الاجتماعي المالية؛ لأنها تصميم مؤقت يستبدل دائماً بتصميم آخر، خصوصاً الملابس وما يتعلق منها بالمظهر الخارجي للفرد. ويعتبر الفرد- الذي يعيش في المجتمع المادي ولايساهم في الموضات الحديثة المتناوبة الصدور- كائناً انعزالياً خارجاً عن إطار الانسجام الاجتماعي. ولكن الحج يُشعِر الفرد بأنّ الزي ما هو الا وسيلة من وسائل تغطية مساوئ الانسان فحسب، وليس مظهراً من مظاهر الطبقية والثراء والتميز والتفاضل الانساني. فارتداء ثياب الاحرام البسيطة توفر للنظام الاجتماعي الانساني موارد غير قليلة، عندما يتحتم على الحجيج ارتداؤها، وهي ثوبا الإحرام للرجل يأتزر بأحدهما، ويرتدي الآخر. ولاشك ان وجوب ارتداء قطعتين من قماش غير مخيط، لابد من أن يجعل الفرد يشعر بقيمته الحقيقية وتواضعه في الحياة الاجتماعية.

ص: 194

ويمكن اعتبار أعمال الحج من أكمل أشكال السلوك الجمعي، لما تتميز به من دقة وتنظيم، مع أنه خالٍ من التشريفات. فالمناسك التعبدية الجماعية التي يقوم بها الأفراد في الحج تختلف تماماً عن نشاط الحركات الاجتماعية مثلًا، وأعمال الكنائس النصرانية والمعابد اليهودية، وتختلف تماماً عن كل سلوك الجمعي آخر. ومن المناسب على سبيل الافتراض ان نطلق على السلوك التعبدي والاجتماعي الذي يقوم به الأفراد في الحج بالسلوك الجمعي الإسلامي، حتى يتميز عن بقية أشكال التصرفات التي تفسرها الافكار الدينية والاجتماعية الأخرى.

ولعل منشأ اختلاف أعمال الحج عن أعمال الأفراد المنضوين تحت راية الحركات الاجتماعية هو أنّ الأعمال العبادية للمكلفين في الحج مع أنها خاضعة للاحكام الشرعية بدقة، إلا أنّ التأثر والتأثير الذي يحصل بين الأفراد في الطواف، والسعي، والوقوف في عرفات، والافاضة إلى المزدلفة، والمبيت في منى، يُخرِج أعمال الحج عن اعمال الحركات الاجتماعية المحضة التي تهدف بالأساس إلى ايصال صوتها إلى الجهات السياسية فقط. بينما يؤدي الحج ومناسكه العظيمة إلى إكمال العمل العبادي وإلى انسجام فكري وروحي بين الحجيج.

(7) تبادل المعلومات

يقول الإمام قدس سره بشأن بعض وظائف الحج: «المهم- في هذه التجمعات- أن تبادلوا المعلومات بشأن ما مرّ في بلاد المسلمين...».

تعليق: لما كانت المجتمعات الانسانية تختلف في درجات الرقي والتقدم الحضاري والثقافي، فان اجتماع الناس من مستويات متباينة في الابداع يساهم في تبادل المعلومات وفي التأثر البنّاء على الصعيد الانساني العالمي. ولاشك أنّ تعدد المواقف في الحج والفترة التي يقضيها الحجيج قبل مناسك الحج وبعدها، تمنح هؤلاء الأفراد فرصة عظيمة للتفاعل والتأثير الاجتماعي فيما بينهم. وتبادل المعلومات، على اطلاقه، يعني انتشار المعرفة والعلم بأوضاع المجتمعات بين

ص: 195

المسلمين.

بيْدَ أنّ مقتضيات تبادل المعلومات خلال أداء المناسك وبعدها تؤدي إلى تغيير هائل يتم على صعيدين:

الصعيد الأول: التغيير الروحي والتطهير النفسي من آثام الانحراف، فقد ورد في النص المجيد: واذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لاتشرك بي شيئا وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود. فطهارة البيت الحرام من عبادة الأوثان يجعل تلك البقعة من أطهر المناطق الجغرافية على وجه الأرض. فهذه الأرض الطاهرة تحمل وقت الحج، بل في كلّ وقت، أطهر الأفراد وأنقاهم؛ لأنهم يعيشون حالة من حالات الكمال النفسي مع خالقهم العظيم؛ فمنهم «الطائفون» حول البيت، و «القائمون» و «الركع السجود».

الصعيد الثاني: هو التغيير الاجتماعي الذي عكسته الآية الشريفة بصدق ليشهدوا منافع لهم. خصوصاً إذا ما لاحظنا أنّ التحديد الزمني للحج الوارد في قوله تعالى: ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلومات، والتحديد الجغرافي: إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً، ودعوة الأفراد للاشتراك: واذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا، كلّ ذلك يجعل الحج وأعماله من أعظم وسائل التغيير المنشود.

(8) مدار الأمر: المسلمون

ويقول قدس سره: «... وأن يفكروا في حلّ مشاكل المسلمين».

تعليق: إنّ الدليل على أنّ التأثير الاجتماعي والتأثر يجب أن يتم بين المسلمين أنفسهم خلال مناسك الحج، هو عدم السماح للمشركين بالدخول إلى حرم مكة والتأثير على شعائر الحج العبادية، وما يصحبها من تغيير اجتماعي مرتقب. ولعلّ ما ورد في القرآن الكريم يصرّح بذلك: يا أيّها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. والمراد بالنجس هو النجاسة

ص: 196

الشرعية، و لايقربوا المسجد الحرام هو منعهم من دخوله ودخول كلّ مسجد.

(9) تبادل وجهات النظر

يقول الإمام قدس سره شارحاً طبيعة الحج الإبراهيمي: «تبادلوا وجهات النظر وتفاهموا لحلّ مسائل المسلمين المستعصية. اعلموا أنّ هذا الاجتماع الكبير الذي يعقد سنوياً بامر اللَّه تعالى في هذه الأرض المقدسة يفرض عليكم انتم المسلمين ان تبذلوا الجهود على طريق الاهداف الإسلامية المقدسة ومقاصد الشريعة المطهرة السامية، وعلى طريق تقدم المسلمين وتعاليمهم واتحاد المجتمع الإسلامي وتلاحمه».

تعليق: إنّ تعلم الخبرات الاجتماعية من أفراد يختلفون تماماً في المنشأ واللون واللغة والمكان، يساهم مساهمة عظيمة في بناء الدولة العالمية الموحّدة، وهو دليل على عالمية الإسلام، وعالمية الرسالة السماوية على النطاقين النظري والتطبيقي.

ولاشك أنّ السلوك الجمعي في احكام الحج يصهر تلك الخبرات الاجتماعية، فيتعلم المسلمون الوافدون من قارات العالم المختلفة بعضهم من بعض التقاليد والعادات الاجتماعية والعلوم النظرية والثقافات والقضايا الفكرية، وهذا يؤدي حتماً إلى تقارب في وجهات النظر الفردية والجماعية بخصوص المشاكل التي تعاني منها تلك المجتمعات. ولما كان الفرد مُكلَّفاً على الصعيد الوجوبي بالحج مرة واحدة عند تحقق الشروط، فان اختلاف نوعية الأفراد المكلفين بالحج كلّ سنة يساهم في نقل الخبرات الاجتماعية فيما بينهم، ويقلل من فرص احتكار تلك الفريضة على طبقة معينة من الأفراد. وبالتالي، فانه يساهم في ازدهار نمو تلك المجتمعات البشرية المتباينة في العادات والتقاليد والثقافات.

(10) اشتراك الافكار

يقول الإمام قدس سره شارحاً طبيعة التجمع: «لتشترك أفكاركم وعزائمكم على طريق الاستقلال واقتلاع جذور سرطان الاستعمار».

تعليق: إنّ المناسك التعبدية الجماعية تولّد إحساساً عظيماً بالشعور الموحّد

ص: 197

تجاه المشاكل المشتركة، بل حتى فيما يتعلق بطبيعة الانسان ووحدة الخالق عزّ وجلّ. ولاشك أنّ التأثير الاجتماعي في الحج ينبع من وعي أبعاد تلك الفريضة من قبل المكلفين، وقد جاء في «كتاب أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى (قثم بن عباس) عامله على مكة فقال: أقم للناس في الحج واجلس لهم العصرين فأفتِ المستفتي وعلّم الجاهل وذاكر العالم...». وهذا العمل- لاشك- يعتبر من أعظم وسائل التأثير الاجتماعي على الناس.

ورسالة الدين على درجة عظيمة من الأهمية على صعيد التأثير، لأنّ تلك الرسالة تهذّب نظرة الأفراد وتوحّدها تجاه الحياة الاجتماعية والسياسية والخلق والخالق والوجود. فالفرد يقارن رأيه مع فرد آخر يشابهه في الدين والاعتقاد، ولايكترث كثيراً لفرد آخر يبتعد عنه في الدين والمنشإ الاعتقادي والموقع الجغرافي. وإذا كان البعد شاسعاً بين آراء ذلك الفرد ومعتقداته وبين آراء الآخرين ومعتقداتهم، فان التأثير الاجتماعي سيكون في أدنى مستوياته. فالفرد الذي يعتنق ديانة معينة ويعيش في قرية أفريقية مثلًا لايمكن أن يكون له تأثير اجتماعي على أفراد يعتنقون ديانة أخرى ويعيشون في مدينة آسيوية نائية. وعلى ضوء ذلك، نفهم أن التأثير الاجتماعي يحصل غالباً بين الأفراد الذين يعتنقون ديناً واحداً ويؤمنون بنظام عقائدي واحد، فيما إذا اجتمعوا في مكان واحد؛ لأنّ اجتماع هؤلاء الأفراد في مكان واحد سيولد ضغطاً نحو الانسجام الاجتماعي. وهذا الضغط هو الذي يبدل قلوب الناس بعضهم تجاه بعض آخر، ويجعلهم أكثر اقتناعاً بضرورة تقاربهم الفكري والسلوكي. وهذا عين ما يحصل أثناء مناسك الحج العظيمة وقبلها وبعدها.

(11) المسائل الاساسية

يشير الإمام قدس سره في تشخيصه لطبيعة المسائل التي ينبغي تناولها في الحج، فيقول: «... وفي هذا الاجتماع المقدس للحج عليهم أن يتبادلوا وجهات النظر في

ص: 198

المسائل الإسلامية الأساسية أولًا، وفي المسائل الخاصة للبلدان الإسلامية ثانياً...».

تعليق: يمرّ التأثير الديني على الناس بمراحل ثلاث. ولنفترض أنّ طالباً يذهب إلى محاضرة ما؛ فذلك الطالب يمر بمراحل فكرية ثلاث تشخّص تقبّله للفكرة التي يطرحها المحاضر.

فالمرحلة الاولى: انفتاح ذهنية ذلك الطالب وتهيؤه لتقبل مفردات التأثر والتأثير. بمعنى أنّ الفرد الذي يبذل جهده للذهاب إلى إحدى مجالس الدرس للاستماع إلى محاضرة في علم السياسة مثلًا، لابد له من تهيئة ذهنه بشكل مسبّق لتقبل أو رفض النظريات السياسية التي يقدّمها المحاضر.

المرحلة الثانية: تشخيص المستمع للنقص الفكري الذي يعاني منه، أو حاجته لتقبل الأفكار والمعتقدات التي يطرحها الطرف المقابل؛ ومصداقها أنّ المستمع إذا لاحظ ان المحاضر- في مثالنا السابق- قد قدّم نظرية جديدة مقنعة، فاقتنع هذا المستمع بصحتها وانسجام مفرداتها مع الواقع، عندئذ يمسي هذا الطالب أقرب إيماناً بتلك النظرية.

المرحلة الثالثة: هضم الفرد للفكر المطروح من أجل التأثير، وتقبّله لذلك التأثير باعتباره فكراً يتناسب مع نظامه الأخلاقي الذي آمن به، وهذه المرحلة تعكس إيمان الفرد- في المثال المذكور سابقاً- بأن تبني تلك النظرية المطروحة من قبل المحاضر سيكون أمراً شخصياً حتمياً.

ومن المسلّم به بين أواسط علماء اهل الفن، أنّ التجانس الاجتماعي يعتبر من أهم عناصر التأثير السياسي والفكري على الأفراد؛ لأنّ التأثير الحقيقي لايعمل عمله الفعّال إلّامع أفراد متقاربين في الفكر والاعتقاد؛ بمعنى أنّ التأثير الاجتماعي يتم بين أفراد متقاربين فكرياً أكثر مما لو كان بين أفراد يختلفون تماماً في الفكر والمعتقد؛ ولذلك، فان الحج واقعاً هو أعظم ساحة للتأثيرات والتغيرات الاجتماعية التي تهدف الرسالة الإسلامية إحداثها على الصعيد العالمي. ولولا طاعة

ص: 199

الأفراد للرسالة الدينية وأحكامها الشرعية لما حصل التأثير الاجتماعي المنشود.

فإطاعة الأفراد للنظام الديني طوعية اختيارية إذا كانت السلطة سلطة شرعية، بمعنى أنّ الأفراد يحاولون- بصدق- اطاعة النظام الديني أو الاجتماعي إذا لم تُسلَّطْ عليهم سلطة لايؤمنون بشرعيتها. واعتقاد الناس بأنّ الدين سلطة شرعية يسهّل عملية الانقياد له ولأحكامه، بل يسهّل في الواقع عملية تغيير توجهاتهم، وبنائهم بالطريقة التي صممتها الشريعة لهم. ولولا طاعة الأفراد للنظام الاجتماعي لما استطاع المجتمع وقيادته السياسية من الصمود بوجه الفوضى الناتجة من عصيانهم للقوانين التي تنظّم حياة المجتمع. وبذلك نستنتج أنّ للطاعة دوراً رئيسياً في اكمال عملية التأثير على الأفراد، خصوصاً فيما يتعلق بالحج.

فالحج ينشئ استعداداً عظيماً عند الأفراد لإطاعة الأحكام الشرعية دون نقاش أو جدال.

وفي جوٍّ عبادي كهذا، لابدّ من طرح المسائل الأساسية وتجاوز المسائل الهامشية، ذلك أنّ المسائل الأساسية لها ساحة أوسع في الحج من زاوية التقبل والاستيعاب.

(12) اجتماع أهل الفكر والرأي

يقول قدس سره: «... وأن يجتمع هناك أصحاب الفكر والكتاب والمثقفون والعلماء لدراسة مشاكل المسلمين ولحلّ ما أمكن حلّه...».

تعليق: إنّ إطلاق الشريعة وعدم تقييدها لتصرفات الناسك خارج إطار الأعمال الواجبة في الحج، يفتح الطريق لاستثمار ألوان الملاقاة والتلاقح الفكري بين الحجيج بلحاظ الأعراف الاجتماعية والارتكازات العقلية المتفق عليها. فإذا كان العرف الاجتماعي يتقبل الكتاب المكتوب كوسيلة من وسائل التأثير، تعيّن على المؤمنين بدافع وعيهم لمتطلبات التغيير الاجتماعي بذل جهودهم في إيصال أحكام الشريعة الغراء وأفكارها عن هذا الطريق إلى كلّ المجتمعين في تلك البقعة الطاهرة

ص: 200

من العالم. وإذا كان العرف الاجتماعي لايتقبل إلا التأثير الشفهي تعيّن على المؤمنين أخلاقياً، القيام بذلك العمل. وهذه الحرية في استخدام وسائل التأثير على الأفراد، تعتبر أنضج ثمراً وأعمق انتاجاً على صعيد التغيير الاجتماعي المطلوب.

إنّ السلوك الجمعي الإسلامي في الحج يؤدي إلى تغيير ملموس. فالحج باعتباره سلوكاً جمعياً منتظماً وثابتاً في الزمان والمكان والشروط، يمتلك تأثيراً هائلًا في النفوس. ويمكن ملاحظة طبيعة السلوك الجمعي لأهل الرأي عبر النقاط التالية:

أ- إنّ السلوك الجمعي الإسلامي يؤدى كلّ سنة في موعد منتظم ومحدّد.

وهذا يعني أنّ تأثير السلوك الجمعي الإسلامي يبقى مستمراً على مرّ السنين.

ب- إنّ الحج والسلوك الجمعي المنبثق عنه قضية عالمية بكل أبعاد الكلمة؛ لأنّ الحجيج يأتون إلى مكة من مختلف أنحاء العالم، ولايفصلهم في أداء مناسكهم فاصل عرقي أو جغرافي أو لغوي، وقد جاء في النص المجيد:... يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميق. ولذلك فإنّ التأثير الذي يكتسبونه من خلال التلاقح الفكري فيما بينهم هو أهم مصادر التغيير الاجتماعي.

ج- إنّ شروط ذلك السلوك الجمعي تحقق كمالًا أكبر نحو التغيير الاجتماعي، وهي شروط البلوغ وسلامة الجهاز العقلي والاستطاعة الشرعية للفرد. بمعنى أنّ الحجيج هم من الأفراد الذين لديهم القدرة العقلية على تحمل أعباء الحج ومسؤولياته الاجتماعية؛ بينما يحتمل أن يقوم بالسلوك الجمعي في مناسبة غير الحج أفراد ليست لديهم قابليات عقلية على التغيير، أو صبيان ليست لديهم الخبرة الكافية، مع أنّ سلوكهم يسمى سلوكاً جمعياً.

(13) اجتماع الكعبة والمنهج الإلهي

يقول الإمام قدس سره في وصف ذلك المؤتمر ومنهجه الالهي: «اجتماع الكعبة أكبر اجتماع، لاتستطيع أية حكومة أن تعقده بنفسها، واللَّه سبحانه وضع المنهج لاجتماع

ص: 201

المسلمين دون أن يكلّف ذلك الحكومات أية مشقة أو نفقات».

تعليق: إنّ الحركات الاجتماعية التي يؤسسها الأفراد لمعالجة مشكلة من المشاكل الاجتماعية، غالباً ما تنحلّ وتموت بانحلال تلك المشكلة. فحركات التحرر الوطنية من الاستعمار تنحلّ مع رحيل الاستعمار، وحركات تحرر المرأة تنحلّ مع اكتساب المرأة حقوقها الاجتماعية، وحركات المساواة بين الأجناس البشرية المتباينة تموت بعد تحقق التغيير الاجتماعي في المساواة بين الأفراد. إلا أنّ الحج وشعاره العظيم بالبراءة من المشركين، يبقى فوق كلّ الحركات الاجتماعية وطروحاتها. فهو، وإن كان سلوكاً جماعياً منظّماً، إلا أنّ أطروحته الفكرية الشاملة، وتصميمه الإلهي يجعله مستمراً مع بقاء الحياة الاجتماعية على وجه الأرض. وما القرون الأربعة عشر التي مرّت على تنزيل التشريع، والأحداث التي مرّت خلالها على الانسانية، إلا دليل موضوعي ناصع على أنّ الحج ما هو إلا جزء من التصميم الآلهي للخلق والمخلوقات ومصالحهم الاجتماعية.

(14) البراءة من المشركين

يقول قدس سره في إعلان البراءة من المشركين: «... علينا أن نعلن كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة من ذلك المكان المقدس... لنكسر الأصنام ولنرمِ الشياطين وعلى رأسهم الشيطان الأكبر في العقبات ونطردهم، ليكون حجّنا حج خليل اللَّه...».

تعليق: لما كان الحج يعكس أكمل مثال من أمثلة السلوك، فإنّه لابدّ وأن يرفع أرقى الشعارات الاجتماعية التي تؤدي في النهاية إلى التغيير الاجتماعي المطلوب. وهذا الشعار الذي أمر الإسلام المكلفين برفعه في الحج هو شعار (البراءة من المشركين)، كما ورد في قوله تعالى: براءة من اللَّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، وقوله تعالى: وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن اللَّه بري ء من المشركين ورسولُه فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي اللَّه وبشّر الذين كفروا بعذاب اليم. فأعظم

ص: 202

الانحرافات التي يدينها الإسلام ويعدّها مصدر كلّ أنواع الشقاء الإنساني هو الشرك باللَّه عزّ وجلّ. ولاشك أنّ بقاء الشرك في المجتمع الانساني يعدّ عائقاً من عوائق اقامة العدالة الاجتماعية. فاعلان البراءة من المشركين هو من أعظم المساهمات في التطلع نحو هدف تغيير المجتمع الانساني إلى مجتمع موحّد قائم على أساس تطبيق أحكام الرسالة الإلهية، وما ينبثق عنها من عدالة اجتماعية على جميع المستويات.

(15) المبلِّغ في الحجّ

يقول قدس سره في خطابه الموجّه إلى المبلغين في الحج: «أوصلوا هذا المؤتمر الإسلامي الكبير إن شاء اللَّه إلى النتيجة المطلوبة التي يريدها الإسلام».

تعليق: ما هي المواصفات التي يجب أن يتحلى بها المبلِّغ حتى يستطيع أن يقوم بتأثير اجتماعي فعّال على بقية الأفراد من الحجيج؟ قد يتلخص الجواب بثلاثة عوامل يجب أن تتوفر في ذلك المبلّغ الذي يحاول أن يؤثر على الحجيج على الصعيدين الفردي والجماعي:

أولًا: الثقة بالنفس. وهي من أهم عوامل التأثير الاجتماعي؛ لأنّ الثقة بالنفس تعكس إيمان المبلّغ بالعقيدة التي يحملها ويدعو اليها. وإقناع الآخرين بصحة النظرية التي يطرحها الفرد المؤثِّر لابدّ من أن يكون مستنداً على ثقته المطلقة بصحة فكرته؛ لأنّ الشك في أصل الفكرة لايساهم في إنجاح عملية التأثير الاجتماعي، بل يساهم في تحطيمها وافشالها.

ثانياً: العلم والمعرفة، وهي حالة الفهم التي يختبرها الفرد من خلال الدراسة والخبرة والاستكشاف. فالعالِم هو الذي يستلم مباشرة المعلومات التي يستطيع إدراكها بوضوح، فيحللها ويبني عليها فهماً جديداً على درجة عالية من اليقين دون أدنى شك.

ثالثاً: أنّ من وسائل التأثير الاجتماعي المهمّة هو مقابلة المؤثِّر أو المبلّغ

ص: 203

للأفراد الذين يريد تغييرهم وجهاً لوجه. بمعنى أنّ إقناع جماهير الحجيج بضرورة تطبيق أحكام الإسلام ورسالة الدين ومكافحة الظلم والفساد مثلًا، يكون أكثر فاعلية إذا تمّ الاتصال بين المبلّغ وبقية الأفراد اتصالًا شفهياً مباشراً.

إنّ التأثير الاجتماعي في الحج ينبع من تطابق آراء الحجيج ونظراتهم تجاه العدالة والحق والخالق والكون والحياة. والحقائق الكونية والاجتماعية المرسومة في ذهنية هؤلاء الحجيج ما هي إلا نتاج المعالم الأخلاقية للرسالة الإسلامية. ولما كان التجانس الاجتماعي من أهم وسائل التأثير، أصبح واضحاً أنّ من أهم أهداف الحج هو تغيير المجتمعات الإسلامية المتباينة في العادات والتقاليد والثقافات ورفعها إلى مستوى شرعي مقبول، بحيث تكون مهيّأة فكرياً ونفسياً لإقامة الدولة الإسلامية العالمية الموحّدة.

الهوامش:

ص: 204

ص: 205

الإمام الخميني والحج

الإمام الخميني رحمه الله والحج

الإمام الخميني رحمه الله والحج

كفاح الحداد

وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود* وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيّامٍ معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير* ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق.

وممّا ورد في خطبة الزهراء عليها السلام:

فجعل اللَّه الايمان تطهيراً لكم من الشرك والحجَّ تشييداً للدين.

عن الإمام الصادق عليه السلام: لو عطّل الناس الحجّ لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحجّ إن شاءوا وإن أبوا.

فان هذا البيت انّما وضع للحجّ.

وفي البحار عن الخصال الأربعمائة قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحجّ جهاد كلّ ضعيف.

المقدّمة

الحجّ هو الهجرة إلى المحبوب، وهو

ص: 206

رحلة الفرد إلى اللَّه تعالى.. رحلة مادية عبر السفر إلى بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً... ورحلة معنوية عبر هجر الأهل والأحباب والشوق إلى لقاء اللَّه وتجديد البيعة عند بيته العتيق.. وشاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الدعوة السماوية المسبوقة بالأذان هي رحلة المسلمين من كلّ الأمصار والأقطار والألوان والوجوه..

رحلة جماعية تتوافد فيها الجماعات الإنسانية المختلفة اللغات والقوميات ليكون الحج ملتقى لهم.. ولم يدعُ تعالى الذين آمنوا فقط لأداء هذه الفريضة الإلهية بل إنه دعا الناس جميعاً إلى بيته وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا.

ليكون هذا التجمّع البشري الإسلامي المصغّر عن الامّة الإسلامية العظيمة كنتم خير أمّة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللَّه؛ مؤتمراً لتجديد البيعة وإحياء ذكريات انطلاقة الإسلام الأولى في وادٍ غير ذي زرع.

وعلى هذا فالحج هو أروع وسيلة تربوية تتناسب فيها الأقوال والأفعال والذكريات والمتاعب مع أيّام اللَّه وبيت اللَّه ليعود الحاج إلى وطنه مغفوراً له مشحوناً بشحنات الدين والجهاد ومملوءاً بالعزيمة والقوّة؛ ليكون ثورة على الاستكبار والطواغيت.

الحج مدرسة روحية ومحطّة تربوية لتربية الفرد على الطاعة والتسليم وتقوية الشعور بالعزّة والقوّة عن طريق شدّ العلائق مع مصدر القوّة الأصلي وهو اللَّه تعالى.. وللحج منافع وفوائد- كأي فريضة عبادية اخرى- نذكر منها الشي ء اليسير:

أوّلًا:- الحج يمهِّد للقاء المسلمين من مختلف أرجاء المعمورة، وهذا اللقاء يتيح لهم التواصل وتقوية العلاقات بعضهم مع بعض، ودراسة أوضاعهم السياسية والاجتماعية والعالمية والتباحث في إيجاد الحلول لمشكلاتهم المختلفة، فالموج البشري الذي ينطلق من الميقات المحدّد لمسيرته نحو الكعبة مع فوران القلوب واهتزاز الروح؛ ليلتقي حول البيت الحرام كالأنهار التي جاءت من مصادر عديدة؛ لتلتقي عند

ص: 207

البحر الكبير مع رحمة اللَّه تعالى المطلّة على هؤلاء الذين جاءوا متعلّقين بأستار بيته طلباً للرحمة والغفران.

وقبل الميقات كان الكثير منهم يعيش حالة التفاخر والرفعة والكبرياء، ويجادل بعضهم بعضاً ويخشى الضعيف منهم بطش القوي، ومع انطلاقة الميقات تغيب كل هذه الصور، فهي المساواة المطلقة وهي الأمان المطلق عند البيت الآمن، وهي تجاوز كلّ صنوف التوتر الأخلاقي التي قد تزيد العداوة والبغضاء بين المسلمين.. ولعلّ هذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً.

والمثابة هي المحل الذي يثوب إليه الناس ويرجع إليه المسلمون.. وإذا أردنا أن ندرج بعض فوائد هذا المؤتمر الإسلامي العظيم فنقول:

1- ان الحج يؤدّي إلى اجتماع المسلمين والتعارف فيما بينهم، وهذا التعارف هو من أهداف رسالة الإسلام ودعوة الأنبياء يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند اللَّه أتقاكم.

2- المساواة المطلقة بين الجميع:

الغني والفقير والأسود والأبيض والقرشي والهندي.. من خلال طوافهم حفاةً حول الكعبة، ومن لباسهم البسيط البعيد عن كلّ أشكال الزينة.

3- إنّ الحرم هو عينة صغيرة لنموذج الحياة المنشودة في الإسلام، الحياة الآمنة المطمئنة التي يأمن فيها الإنسان على دمه وماله وعرضه، وهذا الشعور الأمني هو بغية الإنسان في كلّ مكان خاصة في وقتنا الحاضر إذ يعصف التيّار اللاأمني بالناس جميعاً، فترى التوتر والقلق والخوف يسيطر على البشرية كلّها.. والفرد يعيش هواجس الخوف من أخيه وصاحبته وبنيه ودوماً تتطاير في السماء نذر الحروب والقتل والدمار خصوصاً للمسلمين.. ولكنه في مكة لو رأى قاتل أبيه لما تعرّض له بل إنه لا يسحق النملة ولا يصطاد الطيور؛ لأنه ليس الإنسان لوحده يعيش الأمن والأمان، بل حتى الطيور والحيوانات، وتكاد

ص: 208

تكون صفة الأمان هي مرتجى البشرية الحاضرة.

4- الحج الذي هو مؤتمر إسلامي كبير يربي عند الإنسان المسلم الشعور الديني والانتمائي بأنه جزء من أُمّة كبيرة، وهو واحد من الجموع المليونية الموحّدة للَّه والمتناثرة في الأصقاع، وهؤلاء الطائفون حول الكعبة هم صورة مصغّرة لتلك الامّة العظيمة..

والحاج يؤدّي مناسكه من طواف وسعي ووقوف عند المشعر وعرفات والذبح يؤدّيها جماعة مع الآخرين، بل إنّ القرآن الكريم ليدعو الحاج إلى أن لا يفيض بمفرده إنّما من حيث يفيض الناس ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه ان اللَّه غفور رحيم.

فالحج حركة إلى اللَّه، ولكن من خلال الانصهار في الناس والتعامل معهم على مبنى أخلاقي بعيد عن الجدال والفسوق فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ولا يستطيع أي مؤتمر عالمي أن يحقّق شيئاً ممّا يحقّقه مؤتمر الحج للمسلمين.

ثانياً:- الحج رحلة للإبحار في عالم الزمان والمكان.. إلى الماضي العزيز الراسخ في النفوس.. وهو انطلاقة إلى تلك الربوع السامية التي مازالت تحكي للعالم على مدى آلاف السنين قصة الإسلام العظيم والفداء الكبير، فهذا الذي يطوف حوله الحجيج هو بيت اللَّه أوّل بيت وضع للناس إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً.

ومع تأمّل البيت تتجدّد ذكريات إبراهيم عليه السلام الذي بنى الكعبة بأمر منه تعالى، وحينما أكمل البناء تراه يتوسّل هو وابنه باللَّه تعالى أن يتقبّل عملهما وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم.

ليكون درساً عظيماً في التواضع أمام اللَّه والرجاء دائماً بقبول الأعمال، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يرجو قبول أعماله، فكيف بالإنسان العادي الذي يجب أن يكون طموحه هو قبول حجّه

ص: 209

ومناسكه؟

وهناك ذكريات الإسلام الاولى التي انطلقت من جوار الكعبة، فهناك غار حراء الذي كان يلجأ إليه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليتلقى الوحي ويناجي ربّه، وهناك شعب أبي طالب الذي حوصر فيه المسلمون ثلاثة أعوام كاملة حتى أكلوا تراب الأرض، وبين الصفا والمروة تتجدّد صورة سعي هاجر لينبثق الماء من زمزم، ويكون باقياً مدى الدهور لإرواء الحجيج، إنّ هذه كلّها تجعل المسلم يطير في افق جديد، افق العقيدة التي لاقت الصعوبات الجسيمة حتى أصبح هو مسلماً، ولا زالت كلمات الرسول صلى الله عليه و آله وأقواله واضحة جلية على كلّ التلال.. وهذه كلّها تشدّ المسلم إلى تأريخه العظيم وإلى رسالته، فالتاريخ مدرسة الإنسان.. وقد نحتاج إلى هذا الربط في وقتنا الحاضر بعد أن حاول أعداء الإسلام تشويه تاريخنا العظيم لإزالة الفكرة الدينية عند المسلمين.

ثالثاً:- تحرير الذات الإنسانية من عبودية الهوى واتباع الشهوات.

هذا الأمر الذي يبدأ من هجر الاخلّاء والأصحاب والأولاد والسفر إلى لقاء اللَّه. وفي مظاهر الحج تلغى أشكال الزينة والترف والتفاخر والتعالي، وتنطلق دعوة جديدة للإنفاق على الفقراء من خلال تقديم الهدي..

وإذا درسنا شعائر الحج لوجدناها رحلة لاجتياز الأنا.. فالحج ينزع الأهواء عبر الميقات الأوّل ولبس ثياب الإحرام ونزع كل زينة والتجرّد عن كلّ تعلّق دنيوي. الحج يعلِّم الإنسان أن يكون طوافه حول اللَّه، وأن تكون نيّته خالصة لوجهه تعالى، ويسعى لتكون مسيرته نحو اللَّه تعالى.. والسعي بين الصفا والمروة يُعلِّم الفرد كيف ينطلق نحو تحقيق الخير بسرعة ونبذ الخمول والتقاعس، وبهذا ينطلق ضمن الدائرة الحركية الرافضة لكلّ أسباب القعود والتباطؤ فضّل اللَّه المجاهدين على القاعدين وليقتدي بالعائلة الإبراهيمية التي عانت الكثير لتكون حياتها سلوكاً يُقتدى به على مرّ الأجيال.

إّن الحجّ مسيرة تكاملية ترفض الأنا وتجمد الشهوات؛ كي ينطلق الفرد

ص: 210

في رحاب التوحيد الإلهي نابذاً كلّ مظاهر الشرك الخفي والبائن، وهو بهذا يربّي الفرد على كثير من المعنويات الروحية، التي لا تستطيع آلاف المجلّدات والكلمات الوصول إليها.

عقبات أمام الحج الإبراهيمي

لقد عمد الاستكبار العالمي من خلال غزوه الفكري للبلاد الإسلامية، الذي كان أقسى وأشدّ عليها من الغزو العسكري.. عمد إلى تشويه صورة الشعائر الإسلامية وإماتتها وتحويلها إلى شعائر جوفاء لا روح فيها، وبذلك تفقد هدفها الذي شُرِّعت من أجله ألا وهو تربية الإنسان المسلم وتوحيد الامّة الإسلامية وجمع صفوفها..

ووضع أمام الحج الصحيح عقبات وتشويهات كثيرة منها:

1- عدم فهم الحاج لشعائر الحج ومناسكه والمنطلقات التي تهدف إليها، وهذا جاء عبر الترويج بأنّ الهدف هو إكمال المناسك بأسرع وقت كي يحلّ له ما حرّم عليه وقت الإحرام.. ولهذا يطوف الحاج ويسعى بين الصفا والمروة وهو لا يفهم لماذا هذا الطواف؟ وما أهمية السعي والهرولة بين الجبلين؟

وبهذا فهو يؤدّي عملًا فارغاً ليس له أي مدلول تربوي أو روحي، وقد يهمّه أن يحمل لقب الحاج للتفاخر على الآخرين وينسى إنّ أكرمكم عند اللَّه أتقاكم.

2- فصل الدين عن السياسة.. فما للَّه للَّه وما لقيصر لقيصر.. وأصبح الدين بعيداً عن السياسة بل إننا نرى أنّ الكثير من المسلمين- مع الأسف- يرون في تدخّل علماءالدين في شؤون السياسة تدخّلًا فيما لا يعنيهم.

لقد كان لهذه الفكرة الاستعمارية آثار سيئة ووخيمة للغاية منها: دخول المبادئ الوضعية والكافرة والملحدة إلى البلاد الإسلامية واحتلالها قاعدة التشريع؛ لتكون قوانينها هي النافذة، ففي كثير من البلاد الإسلامية نجد التباين في أحكام الزواج والطلاق والإرث مع الشريعة الإسلامية مع أن «حلال محمّد صلى الله عليه و آله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة».. وهذا أدّى إلى فقدان الإنسان المسلم لاعتزازه بدينه كدين وعقيدة قادرة

ص: 211

على الإدارة والحكم، وأصبح المسلم يرى الإسلام (أساطير الأوّلين) وهذا الفصل بين الدين والسياسة جعله يلتمس المبادئ التشريعية الوضعية التي أسقطته في دائرة الشرك، والابتعاد عن اللَّه وعن الإسلام كالمبادئ الشيوعية والعلمانية وغيرها.

3- في كثير من الدول الإسلامية نجد محدودية سن الحجيج وعددهم، ومع الأسف فكثير من الدول لا تسمح للشباب بالذهاب إلى مكة وأداء فريضة الحج، وتضع معدّلًا للأعمار قد يتجاوز الخمسين أو الستين سنة حينما يصبح الفرد عاجزاً مريضاً كبيراً غير قادر على التجاوب مع معطيات الحج وأهدافه، في الوقت الذي اعتنى صلى الله عليه و آله بالشباب وأوصى بهم «أوصيكم بالشبان خيراً فإنهم أرقّ أفئدة».

والأمر الآخر هو تقليل الحصص في بعض الدول إلى عدد قليل، خاصة إذا كانت الحكومة معادية للإسلام، فلا تسمح سوى للعجائز والشيوخ ورجال الاستخبارات بالذهاب إلى الحج، ومعنى هذا أنّ الأغلبية المسلمة محرومة من أداء هذه الفريضة، وإنّما هي تعمد إلى هذا الأمر كي لا يحتك المسلمون بغيرهم من بلدان الشعوب الاخرى، وكي يبقى التصوّر بأن الحج هو فريضة العجزة.

4- لقد تحوّلت مكة إلى سوق عالمي تُعرض فيه البضائع من كلّ الأشكال والألوان والدول، ونجد الحاج يعيش آفاق التفكير فيما سيشتري قبل وأثناء الحج. وبعض منهم يقضي وقتاً طويلًا- خاصّة النساء- في التجوّل في الأسواق ناسين أنها أيام معدودات قد لا تعود مستقبلًا، وأنّ الأفضل أداء المناسك وإكمالها ثم الانتقال إلى الأسواق.. لقد وجدتُ اناساً نزلوا إلى السوق قبل أن يفكّوا إحرامهم باتمام مناسكهم، وهذا معناه عمق التفكير المادي الذي زرعته الحضارة الغربية في نفوس أبنائنا، علماً بأنّ هذه البضائع لكلّ الدول ومنها الدول الموالية لإسرائيل، والتي تجد في سوق مكة خير سوق للربح العظيم، لتشتري بتلك الأموال السلاح وتقدّمه عوناً لإسرائيل.. كي تقضي به على

ص: 212

المسلمين.

إنّ الحج الغربي أو الحج الأمريكي والذي يجعل الحج مجرّد سفرة سياحية للترف والنزهة، والذي هو أصبح سجية الكثير من الحجّاج المسلمين بسبب التضليل الإعلامي الديني.. إنّ هذا الحج يصادر أهداف الحج السامية، فلا هو مؤتمر ديني ولا هو تربية روحية، ولا هو انبعاث جديد للمسلمين وشحنهم بالقوّة ضد الطاغوت.. وبهذا أصبح خالياً من المنافع السياسية والفكرية والروحية التي أشارت إليها الآية الكريمة:

وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيامٍ معلومات... وأصبح قصراً على المنافع الاقتصادية التي تخدم الاستكبار العالمي!!

الإمام الخميني رحمه الله والحجّ

«الحجّ يمثِّل مركز المعارف الإلهية الذي ينبغي أن يؤخذ منه محتوى السياسة الإسلامية في جميع الأبعاد الحياتية» الإمام الخميني قدس سره

لقد كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران عاملًا في إعادة طرح النظرية الإسلامية إلى العالم أجمع بعد دهور عديدة من التزييف والتضليل والتحريف..

لقد أعاد انتصار الثورة الإسلامية في إيران إلى المسلم اعتزازه بالرسالة الإسلامية، التي صوّرها الاستكبار العالمي على أنها شي ء قديم لا ينفع (أساطير الأوّلين) وأنها غير صالحة لهذا الزمان ولا تواكب التطوّر الحديث.. وكثير من المفاهيم الإسلامية والفروض الإلهية التي تقوقعت تحت شراك الغزو الثقافي قد حاولت الثورة الإسلامية تصحيحها وتحريكها، وكان لخطابات الإمام ونداءاته وكلماته الأثر الفاعل في ذلك، فنحن لا نكاد نجد مناسبة إسلامية إلّاوعالج الإمام الخميني ما فيها بالفكر الإسلامي القرآني الصحيح.

لقد بزغ فجر النهضة الخمينية بعد سنوات من التشويه الذي حاصرالدين وعلماءالدين. وكان هدف الإمام هو

ص: 213

تحقيق أهداف المرء المسلم الذي طالما غيبته الحكومات الوضعية فسلبت شخصيته وهويته وتراثه؛ ليتسنى لها أن يبقى المسلم مقهوراً ضعيفاً لا يستطيع المقاومة أو الرفض، وجاءت كلمات الإمام لتحتل مكانة واسعة في قلوب المسلمين وغيرهم، الذين لفّهم العجب لهذا الرجل الكبير المجرّد من السلاح المادي، والذي سحق عرش الطاغوت ليقيم دولة الإسلام.

ورغم ان العالم الإسلامي شهد خطابات ومفردات كثيرة، لكنها لم تنفع في إعادة الحيوية إلى الشعوب المسلمة وتحرير عقيدتها من أسر الطاغوت والاستبداد..

لقد كان لخطابات الإمام التأثير الفاعل على المسلمين بحيث أوجد عند الإنسان المسلم القناعة بأنّ عليه أن يفهم مفردات الإمام الجديدة كي ينطلق بحيوية وحركية أوضح إلى المجتمع..

لقد سُئل السيد الخامنئي (دام ظلّه) عن السبب في تغلغل كلمات الإمام في النفوس فأجاب: «إنّ الإمام الخميني سلك الطريق نفسه الذي سلكه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من أجل إعادة الحياة إلى الإسلام وهو طريق الثورة».

لقد أيقن الإمام ان المفهوم الديني والسياسي الذي حقّق الانتصار على الإمبراطوريات القديمة وهزم الأحزاب، لا يزال قادراً على هزيمة الجاهلية الجديدة المتمثِّلة اليوم بالحضارة المادية الغربية، التي قوقعت الإنسان في إطار الشهوات والغرائز.

إنّ الإمام الخميني في خطابه الديني والسياسي الذي كان خطاباً دينياً قرآنياً في كلّ مفرداته ومفاهيمه، باعتبار أنّ الإسلام دين كامل على الصعيد النظري والعملي، ولا حاجة للمسلمين أن يتلقفوا مفردات ومفاهيم مستوردة من الثقافة الغربية.. وهو الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون من العلماء المسلمين..

ولهذا نجد أنّ لكلمات الإمام وخطاباته صدًى واضحاً على النفوس وعلى جميع المسلمين وغيرهم، ولعل من الأسباب التي هيّأت لهذا:

1- إطلالةالإمام الخميني رضى الله عنه في القرن العشرين، الذي ظهرت فيه

ص: 214

الكثير من النظريات المعادية للدين من قبيل (الدين إفيون الشعوب) وهو كعالم دين دعا إلى نبذ كلّ الطواغيت الأرضية والفكرية، وعلى هذا فقد عادت صورة الإسلام إلى الظهور على الشاشة العالمية.. ولهذا جدّد النهضة الإسلامية.

2- كان الإمام صورة للإسلام في التطبيق العملي، فهو الإمام القائد الذي قهر امبراطورية الفرس العظيمة، لكنّه رجل زاهد لم تأخذه الدنيا بزخارفها، ولم يداخله الزهو بما حقّقه للعالم الإسلامي من عزّة وقوّة.. وبهذا جدّد صورة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله المربِّي الأوّل للانسان وللبشرية جمعاء، ولعل توافق القول مع التطبيق والسلوك هو الذي جعل كلماته نافذة في القلوب الوالهة بهذه الصورة الجديدة.

3- سهولة بيانات الإمام وشمولها..

فهدف الإمام هو إيصال الفكر الديني بأقصر طريق إلى أكثر عدد من المسلمين وغيرهم؛ ولهذا جاءت كلماته مفهومة واضحة ليس عليها غبار، كما أنها كانت كلمات واسعة المضامين عالية المفاهيم، ولعل نجاح الإمام رحمه الله في إحياء الخطاب الديني كان من العوامل المساعدة على تهافت الناس لتتبّع خطاباته، وهذا جاء في الوقت الذي استطاع الاستكبار العالمي إيجاد هوة واسعة بين علماءالدين والناس حتى أوجدوا نفوراً منهم، وكما يقول الإمام في إحدى خطاباته: إنّ سائق التاكسي كان يرفض حمل عالم الدين في سيارته..

فنقول إنّ الخطاب الديني عند الإمام كان طفرة واضحة في هذا القرن.

وكانت بيانات الإمام من البساطة والحركة بحيث يفهمها الامّي والمثقّف ويعمل بها.. يقول الإمام الخميني قدس سره:

الإسلام دينٌ عبادته سياسة وسياستُه عبادة. والآن إذ يجتمع المسلمون من شتّى بقاع الأرض حول كعبة الآمال؛ لحج بيت اللَّه وللقيام بالفرائض الإلهية..

يتوجّب على المسلمين الذين يحملون رسالة اللَّه تعالى أن يستوعبوا المحتوى السياسي والاجتماعي للحج إضافة إلى محتواه العبادي.

وبهذا أخرج الإمام العنوان الجديد «سياستنا ذات ديننا» أخرجه من حيّز التنظير والجدل، ومن دائرة الآمال

ص: 215

والأحلام المسيطرة على مخيلة المسلمين إلى واقع الاداء والفعل.. فالمدرسة الإسلامية تحتوي على تصوّر شامل للكون وللحياة بكلّ أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. بل إنّ رسالة الإسلام انطلقت من المسجد..

يقول الإمام قدس سره:

«لقد انطلقت منذ صدر الإسلام إلى اليوم كل الحركات من المسجد، إنّ المسجد هو الذي أوجد القوّة الموحّدة ضد الكفّار والمشركين، وأنتم المسجديون لابدّ من أن تبنوا المساجد على أساس الإسلام والحركة الإسلامية؛ لأجل قطع أيادي الشرك والكفر، ولدعم المستضعفين ضد المستكبرين. فالمسجد كان محلّ الصلاة والقيادة والحكومة والإدارة».

يقول الإمام قدس سره:

«إنّ لفريضة الحج خصائص متميّزة بين كلّ الفرائض الإلهية، ولعلّ الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه الفريضة تفوق جوانبها الاخرى مع أنّ لجانبها العبادي خصائص متميّزة».

وقد أكّد الإمام الخميني على ضرورة الاستفادة من هذه المناسبات في سبيل تصحيح المفاهيم الخاطئة، التي عشعشت في أذهان الناس، ولإيجاد العلائق بين المسلمين كافة من خلال اجتماعهم في ذلك المؤتمر الكبير.. ولعل الإمام كان يرى ضرورة تزويد وشحن المسلم بالقوّة الكافية وإعطائه شيئاً من الجرأة من خلال انفتاحه مع اخوانه هناك، وتبادله وجهات النظر حول الشؤون الإسلامية المتعدّدة.. يقول الإمام:

«علينا أن نستثمر موسم الحج ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة إلى الوحدة والدعوة إلى تحكيم الإسلام في الناس كافّة.. المسلمون الأوائل كانوا يجنون من جماعاتهم وجمعاتهم وأعيادهم ومواقف حجّهم أحسن الثمار».

ويقول في مكان آخر:

«على المسلمين الملتزمين الذين يجتمعون كلّ عام مرّة واحدة في المواقف الشريفة، ويؤدّون واجباتهم الإسلامية في هذا التجمّع العام والحشد الإلهي بمعزل عن الامتيازات وبمظهر واحد دون اهتمام بما يميّز بينهم من لون

ص: 216

أو لغة أو بلد أو منطقة وبأبسط المظاهر المادية وباندفاع نحو المعنوية والوفود على اللَّه، عليهم أن لا يغفلوا عن الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه العبادة».

3- دعا الإمام قدس سره إلى ضرورة تفهم شعائر الحج وأسراره كي ينطلق الحاج لاداء الفريضة بوعي وهدفية أكثر تمكّنه من الوصول إلى ساحة القرب الإلهي.

يقول الإمام الخميني رحمه الله:

«إنّ مكة المعظّمة والمشاهد المشرّفة هي مرآة الأحداث الكبرى لنهضة الأنبياء وبعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ورسالته».

ويقول أيضاً:

«إنّ الحضور في هذه المشاهد المشرفة والأماكن المقدّسة، يجعلنا نتعرّف على مسؤوليتنا في المحافظة على مكتسبات هذه النهضة والرسالة الإلهية..

ويظهر لنا مدى استقامة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأئمة الهدى من أجل دين الحق وإزهاق الباطل، وعدم مبالاتهم بالتهم والاهانات التي كان يوجّهها أبو جهل وأبو سفيان ومن لفّ لفّهم.. إنهم لم يستسلموا في أصعب الظروف حينما كانوا محاصرين أشدّ المحاصرة من الناحية الاقتصادية في شعب أبي طالب».

يقول الإمام الخميني رحمه الله حول الطواف:

«إنّ الطواف حول بيت اللَّه يعلمكم أن لا تطوفوا حول غير اللَّه، وأنّ رجم الشيطان رمز لرجم شياطين الإنس والجن.. حين ترجمون الشيطان عاهدوا ربّكم على طرد كل شياطين الإنس والقوى الكبرى من بلادكم العزيزة».

إنه يعلِّم المسلمين أنّ هذه الشعائر ليست عملًا أجوف، فمثلًا الطواف حول البيت يذكّر المسلم بالطواف حول اللَّه تعالى أي أن تكون أعماله مقصودة لوجهه تعالى وتكون حركته منه وإليه ابتغاء مرضاته، وبذلك يبتعد عن الشرك الظاهر والشرك الخفي.. وحتى رجم الشياطين تمنح الفرد المسلم القوّة والايمان لمواجهة شياطين الإنس والجن، وإنّما ذكر شياطين الإنس كي يذكّر الجموع المسلمة أن الطواغيت الذين يطوفون حولهم هم أولى بالرجم من غيرهم.

ويقول الإمام في موضع آخر:

«إن كلمة لبيك التي تتلفّظون بها هي

ص: 217

استجابة كبيرة وعميقة لدعوة الحق تعالى، وبها تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، وعليكم أن تشعروا بذلك أنفسكم، وبها تهاجروا بأنفسكم التي هي منشأ الشرك الكبير نحو الباري جل وعلا.. وعندئذ تنالون أجركم وهو على اللَّه تعالى».

نعم إنه يؤكّد على أنّ هذه التلبية هي ليست ترديداً أجوف لكلمات واحدة، بل إنها كلمات التوحيد المنبعثة من القلوب المهاجرة إلى اللَّه الساعية إلى رضوانه ومحبته، وحقاً ما أوسع البون بين من يردّد كلمات لا يتعايش بها، وبين من يعيش العشق الإلهي فيناجي المحبوب في كلمات منبعثة من القلب المقرّللَّه بالذل والخضوع!

يقول الإمام قدس سره:

«ليس حجّاً هو الحجّ الخالي من الروح والحركة والقيام والبراءة والوحدة، والحج العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك».

4- دعوة الإمام جميع المسلمين إلى المشاركة في مسيرة البراءة من المشركين.

يقول الإمام قدس سره:

«إنّ إعلام البراءة من المشركين يعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج».

وقفة:

ممّا لا شك فيه أنّ التوحيد هو أساس العقيدة الإسلامية، وهو المحور الذي تتفرّع منه حركة التاريخ الفاعلة المؤثِّرة في كلّ جوانب المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن البديهي أنّ للتوحيد جانبين:

1- الجانب النظري وهو الاعتقادي على مستوى الذهن والتفكير، ويقوم على تطهير الفرد من التلوّث والشرك الفكري، وبهذا يحافظ على حرم العقل من الخبائث النظرية.

2- الجانب العملي وهو تجلّي آثار التوحيد النظري على الواقع العملي على حياة وسلوك وقيم الفرد والمجتمع.

ورغم أهمية الجانب النظري، ولكن التوحيد إذا لم ينطلق إلى واقع الحياة، ولم يكن له حضور في المسرح الحياتي، فهنا يصبح تطبيق الشريعة أمراً صعباً

ص: 218

مستصعباً، ومعناه فتح الطريق والثغور أمام قوى الشرك الفكرية والتشريعية والعملية لغزو المجتمع من محطات الفراغ والضعف، خاصة في المواضع التي يغيب فيها الفكر التوحيدي.

وعلى هذا فقد يكون واجب المسلم دوماً هو إقصاء الشرك عن معالم وقيم وأفكار المجتمع، وتقويض سلطة الفراعنة والمتألهين والطواغيت الوثنيين، الذين يرهبون الناس كي يخشوهم ولا يخشوا اللَّه تعالى.

إنّ الشرك العالمي يسعى لتطويق دائرة التوحيد؛ لكي يستطيع التسلّط على الناس والثروات.

ولما كان الشرك مَعْلَماً من معالم الانحراف يشلّ المجتمعات عن التقدّم، ويصادر حقوق المستضعفين والموحِّدين، فلابدّ من التصدّي لهذا الوجود سواءً على صعيد النظريات المطروحة أو على الصعيد العملي، وهنا تظهر أهمية البراءة من المشركين كحركة سياسية اجتماعية حضارية تهدف إلى تربية المسلم على إنكار الشرك والتصدي لمحاربته.

يقول الإمام الخميني قدس سره:

«أي إنسان عاقل لا يدرك عبادة الأصنام الجديدة بأشكالها وأحابيلها وحيلها الخاصة، ولا يعرف هيمنة معابد الأصنام- كالبيت الأسود الأمريكي- على البلدان الإسلامية وعلى أرواح وأعراض المسلمين والعالم الثالث؟!

إنّ صرخة براءتنا من المشركين والكفّار اليوم، هي صرخة البراءة من الظلم والظالمين، وصرخة امّة ضاقت ذرعاً باعتداءات الشرق والغرب وعلى رأسهم أمريكا وأذنابها، وغضبت جراء نهب بيتها وثرواتها.

وربّ سائلٍ يسأل ماذا تعني البراءة؟

هل تعني المخالفة اللسانية أم القلبية، أم تعني الاستئصال لوجود هؤلاء المشركين؟

والحق أنّ البراءة تشمل كلّ هذه الأشكال، وعلى الكل أن يعلن براءته بما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه للوصول إلى الهدف المنشود وهو تطهير الأرض

ص: 219

من الأصنام المرئية وتطهير القلوب من الأصنام الصورية، لقد ألحّ اللَّه تعالى على خليله حينما بنى الكعبة أن يطهّرها أن لا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود.

وإبراهيم عليه السلام كان محطّم الأصنام:

وتاللَّه لأكيدن أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين.

وأوّل عمل قام به صلى الله عليه و آله حينما دخل مكة هو تحطيم الأصنام لتطهير البيت، ولما كان القلب هو حرم اللَّه تعالى فالأولى تطهير حرم اللَّه من كل ألوان الشرك الظاهر بالتماثيل والأصنام المرئية وإزالة الأصنام القلبية سواء كانت أهواءً أو مطامع أو طواغيت أو رجساً ذاتيّاً يحول بين الفرد وسعيه إلى ربه ليدخل جنّته».

وعلى هذا فمبدأ البراءة يرتكز على أمرين:

1- ضمن حركة الفكر والاعتقاد أي ضمن الحرم الداخلي للإنسان، وهو الذي يحافظ على نيّة العمل وعلى الهدفية في الحياة ويمهِّد لتحقيق الأهداف الكبرى.

2- ضمن الحركة الخارجية وهو الإعلان للتصدّي من المشركين إنّ اللَّه بري ء من المشركين ورسوله.

وعلى هذا فالمسلم لا يستطيع الإنطلاق إلى الدائرة التغييرية في المجتمع ما لم يعش مفهوم البراءة من المشركين قلباً ولساناً وفكراً وعملًا.

يقول الإمام الخميني رحمه الله:

«إنّ إعلان البراءة في الحج هو تجديد العهد بالجهاد وتربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الأصنام، وهو لا يقتصر على الشعارات بل يتعداها لتعبئة وتنظيم جنود اللَّه أمام جنود إبليس وبقية الأبالسة، والبراءة، هذه تعتبر من المبادئ الأوّلية للتوحيد».

ويقول أيضاً:

«إن إعلان البراءة هو المرحلة الاولى من الجهاد، ومواصلته هي من المراحل الاخرى لواجبنا، وأنه يتطلّب في كلّ عصر وزمان مفاهيم وأساليب خاصة».

ورغم أنّ الصراع بين الشرك والتوحيد صراع أزلي، ولكننا الآن نرى قيمومة كيانات الشرك والإلحاد في أرجاء المعمورة، وهي تسعى سعياً

ص: 220

مسموماً لتحطيم عقيدة التوحيد سواء بمحاربة الفرد الموحِّد أو الدولة الموحِّدة أو بنشر الفساد والرذيلة لإلهاء الناس بها أو التنكيل بالموحّدين.. ومشكلة الإنسان المسلم أنه بحاجة إلى تجديد الشعور بالقوّة والعزّة، وبحاجة إلى استحضار الوعد الإلهي كتب اللَّه لأغلبن أنا ورسلي وبحاجة أيضاً إلى استحضار الشعور بالمعية مع اللَّه ومع المسلمين، وأنه ليس وحده الذي يخوض هذا الصراع، بل هناك الملايين التي تشاركه هذه الأحاسيس النيّرة، وعلى هذا فقد كان اختيار أيام الحج واختيار مكة المكرّمة ليكون التوقيت الزماني والمكاني متلائماً مع الغاية المنشودة.

يقول الإمام رحمه الله:

«وأي بيت هو أفضل من الكعبة؟! البيت الآمن والطاهر لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرق واللاإنسانية قولًا وفعلًا وتحطيم أصنام الآلهة تجديداً لميثاق ألست بربّكم وذلك إحياءً لذكرى أهم وأكبر حركة سياسية للرسول عبّر عنها القرآن بقوله وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحجّ الأكبر».

إنّ التوقيت الزماني في أيام السفر إلى اللَّه وفي أيام مباركة هجر فيها الحاج أسباب الدنيا وجاء متعلّقاً برحمته شاعراً بمسؤوليته، والتوقيت المكاني الذي يشدّ المسلمين إلى أيام ظهور الدعوة الاولى التي كان فيها المسلمون قلائل مستضعفين وإذا بهم يصبحون قادة للبشرية جميعاً نحو الخير والعزّة والكرامة، إنّ هذا التوقيت ليشحن الفرد المسلم بأسباب القوّة والإرادة؛ ليعود الحاج إلى وطنه إنساناً آخر هو «ثورة على كلّ باطل وطاغوت وسعياً لبناء الذات والمجتمع ووعياً للحياة وتضحية في سبيل الأهداف وفي سبيل رضا اللَّه».

يقول الإمام:

«ليعرج الحجّاج الأعزاء من أفضل أراضي العشق والجهاد وأكثرها قدسية..

إلى كعبة أكثر رفعة حيث ينطلقون من إحرام الحج إلى إحرام الحرب، ومن طواف الكعبة والحرم إلى طواف صاحب البيت، ومن التوضؤ بزمزم إلى غسل

ص: 221

الشهادة والدم ليتحوّلوا بذلك إلى امّة لا تقهر وبنيان مرصوص لا تستطيع معه القوى العظمى الشرقية والغربية الوقوف بوجهها...»

وعلى هذا يمكن إيجاز الهدف من إعلان البراءة على المشركين أيام الحج ب:

1- تربية المسلم على رفض الطواغيت، وافهامهم أن الطاغوت صورة من صور الشرك الواجبة التطهير.

2- شحن المسلم بقدر من القوّة يؤهله للوقوف والمجابهة والرفض بعد أن استطاع الاستكبار العالمي أن يؤسره في دائرة الخوف من المواجهة.

3- إشعار المسلم بأنه ليس وحده الذي يقف في المواجهة ضد شياطين الإنس والجن، وإنّما هناك الملايين التي تشاركه وهو جزء من هذه الامّة المجاهدة.

4- استمداد القوّة والإرادة من ذكريات الإسلام الاولى التي يفوح شذاها في سماء مكة.

5- إنذار المستكبرين بعظمة الإسلام وشدّة الصحوة الإسلامية، التي ستدكّ حصونهم وقلاعهم يوماً ما.

6- الإعلان عن الإسلام كدين سياسي اجتماعي.

7- وبهذا تكون البراءة من المشركين.. المسيرة الرافضة لكلّ الأصنام، والتي تنطلق من بيت التوحيد العتيق هي صورة من صور تصدير الثورة والمفاهيم التي حملتها إلى خارج حدود الدولة الإسلامية.

لقد استطاع الإمام قدس سره أن يخرج المسلمين من صورة الحج الأجوف..

الحج الأمريكي.. إلى الحج الإبراهيمي المحمّدي الذي يؤتي أكله كلّ حين بإذن ربّه.

ص: 222

الهوامش:

ص: 223

ص: 224

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

محمد حسن يزبك

هذا الموضوع له أبعاده ولا يمكن أن تتفلسف الحكمة الإلهية لعبادة من أهم العبادات، بل هي الشرعية على حدّ وصف بعض الروايات لها، ولكنني اقتنص بعض معالم تلك الفلسفة من قوله تعالى: جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.

القيام وما يعنيه أن دور الإنسان في الحياة الحركة المستمرّة مع حركة الكون؛ لأنه إذا ما توقّفت حركة الكون انتهى كلّ شي ء، وجميل الربط بين الإنسان والكون من خلال الحركة؛ لأنّ مهمّة الإنسان البناء والإعمار، وهذا يستلزم الحركة المتجدّدة، لكي لا يتساوى يوما الإنسان فيكون مغبوناً فضلًا عن أن يتروى غده فيكون ملعوناً على حدّ فلسفة أمير البيان والبلاغة ومرجع الفلسفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

قيام الناس الذي رتب عليه جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام لم يكن هذا القيام إلّاعظيماً يتجاوز بعظمته حدود ما رتّب عليه لأنه لا يحفظ بدونه. وهذه

ص: 225

العظمة نتلمسها من القائد الأوّل الذي نهض في وجه الأصنام والصنمية مكسّراً ومعلناً عن أبعاد دعوته المقدّسة وقد نسجها القرآن الكريم بأروع بيان: إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين* قالوا أجئتنا بالحقّ أم أنت من اللاعبين* قال بل ربّكم ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنَّ وأنا على ذلكم من الشاهدين* وتاللَّه لأكيدنَّ أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين* فجعلهم جُذاذاً إلّاكبيراً لهم لعلّهم إليه يَرْجِعُون* قالوا مَنْ فَعَلَ هذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين* قالوا سمعنا فتى يذكرُهُم يقال له إبراهيم* قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلّهم يشهدون* قالوا ءأنتَ فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم* قال بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون* فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنّكم أنتم الظالمون* ثمّ نُكِسُوا على رؤوسهم لقد علمتَ ما هؤلاء ينطقون* قال أفتعبدون من دون اللَّه ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم* أفٍ لكم ولما تعبدون من دون اللَّه أفلا تعقلون* قالوا حرقوه وانصروا ءآلهتكم إنْ كنتم فاعلين

هذه الآيات عرضتها بهذه الكيفية؛ ليعطى مفهوم القيام وزنه ومعناه وحقيقته وما بعد القرآن من حقيقة.

فالآيات وضحت أنّ القيام دعوة وثورة ومواجهة للظلم والانحراف والعصبية والتقاليد البالية، والمتأمّل يدرك حقيقة الثورة أنّها ثورة من أجل التوحيد وربط الإنسان بخالقه، وتطهير العقول من التبعية العمياء والابتعاد بها عن منطق أننا وجدنا الأمر كذلك فمضينا حيث تاريخ الآباء والأجداد والتقاليد والعادات.

أترى نترك ما كان عليه الآباء؟ نعم صرخة الحق والعدل والضمير لم توجد أيّها الإنسان لتلغي دور العقل متذرعاً وهكذا وجدت الآباء ولعلّهم كانوا في ضلال مبين، وهل من ضلال أوضح من عبادة الأصنام واعتبارها الإله؟ الإنسان الذي

ص: 226

كرّم بالعقل وسخّر له كلّ شي ء فينحدر إلى أسفل ما يتصوّر؛ ليتخذ من الصنم معبوداً وخالقاً أو ليقربه إلى الخالق والمعبود، ولا يعرف الخالق ما قيمة هذا الحجر والوثن أولست أنت الصانع له؟ وهل ينفع أو يضر؟

كان دور نبي اللَّه إبراهيم عليه السلام أن يصحح العقيدة وينفض عنها غبار الوثنية والصنمية والتحجّر، دعاهم والحق والهدى سبيله، تحرّكت العقول أجئتنا بالحق؟

لم نسمع بهذا في الملّة الاولى، وإذا لم تكن الأصنام هي الآلهة؟ فمن الإله قال بل ربّكم ربّ السماوات والأرض الذي فطرهنَّ.

ومن القيام الذي نهض به خليل الرحمن عليه السلام نفهم علاقة الحج بإبراهيم عليه السلام والبيت والاتخاذ من مقامه مصلّى ومعنى تطهير البيت للطائفين والركّع السجود، وفلسفة هذا التشريع، ويبتني على ركيزتين أساسيتين:

الأولى: التوحيد.

الثانية: علاقة الشريعة الإسلامية بالشرائع السابقة واستمراريتها بالحفاظ على الركيزة الاولى.

هو دعوة الأنبياء جميعاً لُاممهم ولقد بعثنا في كلّ امّة رسولًا أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت.

وتجلّى الصراع مع الشرك والوثنية بعد الطوفان بشخص القائد الامّة الذي نعته القرآن بذلك إنّ إبراهيم كان امّة قانتاً للَّه حنيفاً ولم يك من المشركين.

والنبي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم الذي جاء قومه بخير الدنيا والآخرة واختصر عليهم كلّ شي ء:

«أنا دعوة أبيكم إبراهيم عليه السلام قولوا: لا إله إلّااللَّه تفلحوا». إنه النبيّ والرسول الذي ولد بمكة وترعرع فيها، وساءه الكثير من المشاهد، وأزعجه ما كان عليه الناس في ذلك الوقت، يتنافسون على عبادة الأصنام، ويتسابقون على تعليق آلهتهم في الكعبة وجدرانها، ولم يبق من الإبراهيمية إلّابصيص أمل ونور يلمع من بين ظلمات الشرك. النور الذي استقر بالنبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعدما تناقله الأجداد

ص: 227

والامّهات من الأصلاب الطاهرة والأرحام المطهّرة من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وكان لهذا النور من العظمة أن كشح ظلام الجاهلية وليل الشرك الدامس بفجر الإسلام المشرق، الذي ألقى بخيوطه النورانية على العالم فهرب الشيطان وصُعِق وتهاوت معه الأصنام وتكسّرت وسكت نفس الشرك واندثر، وتعالى صوت اللَّه أكبر من حنجرة بلال الحبشي على مأذنة الفجر الساطع، وردّد الكون لا كبير إلّا اللَّه، وتهلّل وجه الدنيا وتلألأ فرحاً وابتسامة بكلمة التوحيد...

والحجّ الذي كان أحد الأركان الأساسية للإسلام، «بني الإسلام على خمس:

الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية» فقد جمع بين العبادة البدنية والمالية وفيه من الكدح ما فيه، وكانت فلسفته بقيام الناس جميعاً من خلال مؤتمرهم الشعبي العام الذي يلتقون فيه في الأرض المقدّسة، ليحجّوا مع نبيّهم حجّته ويقفوا مواقفه معلنين معه النداء «لا إله إلّااللَّه» مقتلعين من أنفسهم كلّ ما سواه لأنه الباطل، متأسين بطهارة ونقاء الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وسيرته متّخذين من أنفاسه وتعاليمه الهدى يتذكّرونه ويذكرونه مع ذكر اللَّه؛ لأنه الدليل الصادق والبار الوفي والتقي المعلم، يستعرضون وهم يؤدّون الفريضة كلماته العذبة الرقيقة وهي تدغدغ المشاعر والأحاسيس: «إنّ حرمة المسلم أعظم من حرمة الشهر الحرام وعرفات والحرم والبيت» فتنبعث انتفاضة وثورة في داخل الإنسان وهو يتألّم من تقصيره بهذا الحقّ. اللَّه أكبر أهكذا حرمة المسلم؟ فأين أنا من حقوق المسلمين وهو يرمقهم ببصره يتحولقون حول البيت ويهرولون وإلى الجبل يمشون؟ مشهد من مشاهد يوم القيامة، ولا يكادُ يصدق الأسود والأبيض والعربي والأعجمي والألسن مختلفة واللغات متعدّدة سبحانك ياربّ الكلّ منك وإليك وأنت الغفور الرحيم.

أدركت فلسفة الحج بكلمة واحدة من خلال هذه المناظر وأداء المناسك (كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة) سبحانك يارب لو التزمنا بذلك وأدّينا الحق الذي اعتبره رسولك أعظم من كلّ شي ء حقّ المسلم، فأين كانت امّتنا؟ فهل كنّا نعاني

ص: 228

من الفرقة والتمزّق والضياع....؟ أَلسنا جميعاً نقف مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ونطلّ معه على الغيب نستحضر ذلك الماضي فنرى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام بعد أبينا آدم عليه السلام في هذه الأماكن يؤدّي المناسك ويرمي الشيطان ويقدِّم القربان؟ وأي قربان؟! نبي اللَّه إسماعيل عليه السلام ونتذكّر التسليم والصدق والإخلاص بالطاعة ونحن نقرأ في سورة الصافات فلما بلغ معه السعي قال يا بُني إنّي أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين* فلما اسلما وتلَّه للجبين* وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين* إنّ هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبحٍ عظيم.

سبحانك ربّي أنت الخالق وأنت المشرِّع، فالرسالة واحدة والرسول صلى الله عليه و آله و سلم يقول: «مثلي ومثل من تقدّمني من الأنبياء كمثل بيت كمل ولم يبق إلّاموضعة لبنة وأنا تلك اللبنة»..

والحجّ من أهم العبادات التي تؤكّد هذه الوحدة بالمواقف الحسية التي لا ندرك علّة تشريعها، وهرولة هاجر امّ إسماعيل تحوّلت إلى عبادة فضلًا عن سائر المناسك.

فالضرورة قاضية من أجل إعطاء الحجّ بُعده الحقيقي وفلسفته الصادقة من التوحيد وربط الرسالة الإسلامية بالرسالات السابقة واستمراريتها أن يعود الحجّ إلى انطلاقته المحمّدية صلى الله عليه و آله و سلم التي تجسّدت بالبراءة من الشرك، وسورة براءة قد بلغها خليفة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم الإمام علي عليه السلام والتي حدّدت معالم العلاقات وآذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يومَ الحجّ الأكبر أنّ اللَّه بري ءٌ من المشركين ورسولُه وإذا لم يؤد الحج هذا الدور فقدت الفريضة فلسفتها وأهدافها، ولا نعجب أن يكون وضع المسلمين على ما هو عليه من المآسي.

والحجيج يتدافعون إلى بيت اللَّه الحرام ولكنّهم لم يرموا الشيطان وحبه من قلوبهم، لم يتبرأوا من المشركين، ولم يلتفتوا إلى هذه الفريضة العبادية السياسية،

ص: 229

ولم يهتموا بالجانب الآخر الذي لا يتم الجانب الأوّل بدونه، وفهمنا ذلك البُعد لهذه الفريضة من خطبة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في عرفة وغدير خم...

ونحن نستعرض هذا الواقع الأليم نتذكّر الإمام الخميني قدس سره قائد الامّة الإسلامية وصانع مجدها وعزّها في هذا العصر كيف نظر إلى الفرائض، فقال عن الجمعة: «العبادية السياسية» والحج: «فريضة عبادية سياسية» والشبه كبير بين الجمعة والحج، والقاسم المشترك اجتماع الناس، والاستفادة من هذا الاجتماع، وتذكير الامّة بكلّ ما يعانيه أبناؤها، واطلاع الشعب على كلّ مجريات الامور، ومن هذه المواقف تحدّد الخطوط السياسية للُامّة من حيث العلاقات والمودّة والموالاة والبغضاء والمعاداة، والحجّ أهمّ لأنّه مؤتمر عالمي جامع لكلّ مؤتمرات الجمعات في مكان واحد. فلا حجّ بدون البراءة فكيف يجتمع حبّ اللَّه مع حبّ أعدائه؟! وكيف يكون هذا القلب محطّة للعشق الإلهي مع استيلاء الشيطان عليه؟!

نحن اليوم- وبفضل الإمام الخميني- نرى أنفسنا نعود إلى الحجّ المحمّدي صلى الله عليه و آله و سلم الإبراهيمي، ونرفع راية البراءة من المشركين، ونعلنها صرخة مدوّية في وجه الشيطان الأكبر وأذنابه. وما هذا إلّاتعبير عن إعطاء هذه الفريضة بُعدها الحقيقي؛ ليطّلع المسلمون على أوضاعهم عن كثب ونقتنع جميعاً بضرورة الأمّة الموحّدة، ولا خلاص لهذه الامّة من الضياع إلّابالعمل الجاد من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة.

فالمسلمون اليوم مدعوون للتأمّل بواقعهم ومصيرهم وعليهم أن يحافظوا على هذه الصحوة الإسلامية لتنمو وتكبر، والسعي الدؤوب للوصول إلى جذور الوحدة الإسلامية، التي هي الردّ العملي والمباشر على كلّ مخططات الاستكبار، والصاعقة في وجه الشيطان الأكبر أمريكا والأذناب، والتي تمنع من تحقّق النظام الدولي المتفرعن على حساب المسلمين والشعوب المستضعفة؛ لأنّ مؤشرات هذا النظام الدولي الموهوم أنه محكوم لمصالح الصهيونية والصليبية العالمية والمؤسسات

ص: 230

الدولية بحسب الممارسات العملية، محكومة كلّها لهذه الإرادة فلا شي ء خارج قبضة الطاغوت إلّاالإسلام.

أيُّها المسلمون: عودوا إلى إسلامكم من خلال حجّكم الإبراهيمي المحمّدي صلى الله عليه و آله و سلم، وهو ما نادى به السيّد الإمام، وارفضوا الشرك والاستعانة بغير اللَّه تعالى واعتمدوا على قدراتكم وطاقاتكم متوكلين على اللَّه تعالى رافضين القوى الطاغية والظالمة والحلول الاستسلامية المهينة وفرض هيمنة النظام الدولي الجديد (نظام المحميات) بأساليبه البشعة وأنيابه الكاسرة.

من الحجّ يجب أن يتخرج الثوّار المجاهدون الذين يلبّون نداء العراق الجريح النازف عراق الإسلام الذي قدّم الآلاف من الشهداء المظلومين وعلى رأسهم المرجع الكبير والمفكّر الإسلامي السيّد محمّد باقر الصدر، على مذبحة الحق ضد أعتى طاغية يتحكّم بمصيره، ونداء البوسنيين والهرسك وسرايفو الذين يواجهون عصابات الصهيونية والصليبية المتمثّل مفتاحها بالصربيين، وفلسطين التي طال عذابها وأوحش ليلها كلّ عفيفة وحرّ وطفل حتى تفجّرت بانتفاضة إسلامية عارمة، حوّل فيها الطفل الحجر إلى قنبلة والمقلاع إلى مدفع والخنجر إلى قاذف، والقبضات والعصي إلى غضب إلهي. وكشمير التي تسجّل بدمائها دوماً الوفاء للإسلام في مواجهة وثنية القرن العشرين وهجمته، والأقليات المسلمة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً الذين يعانون الكثير من الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي، والشيشان والمجازر التي يرتكبها الجيش الأحمر فيها. والجزائر وتونس ومصر الذين يستنهضون همم المسلمين ليرفعوا كابوس الأنظمة البوليسية الظالمة عن رقابهم.

ولبنان الذي قدّم المزيد من الشهداء مجاهدين وقادة من شيخ المقاومة راغب حرب إلى شيخ الأسرى عبد الكريم عبيد إلى سيّد شهداء المقاومة الإسلامية السيّد عبّاس الموسوي إلى كلّ الشهداء الذين سقطوا من أجل تحرير لبنان

ص: 231

وفلسطين والامّة من الكيان الغاصب الغدّة السرطانية إسرائيل ومن مخطّطات الشيطان الأكبر أمريكا.

من الحجّ المحمّدي صلى الله عليه و آله و سلم تخرج الامّة بجوّ الالفة والمحبة والمناصرة تحت راية قيادة إسلامية موحّدة، وإنّه عصر الإسلام وليس عصر الشيطان الأكبر أمريكا والنظام الدولي الفرعوني الموهوم إنّها الراية بيد القائد الإمام الخامنئي (دام ظلّه) سنتوحد تحت هذه الراية ممهّدين لدولة الإسلام الكبرى التي تشرق أنوارها بالعدالة والمساواة والاستقامة بنور الإمام المهدي (عجل اللَّه تعالى فرجه المبارك).

الهوامش:

ص: 232

الحج الابراهيمي

الحج الابراهيمي- رؤية احيائية جديدة في منظور الامام الخميني

الحج الابراهيمي- رؤية إحيائية جديدة في منظور الامام الخميني

مختار الأسدي

مقدمة

عاش الامام الخميني أمة في رجل، ورحل عظيماً عن أمة، كان تجسيداً كاملًا للمبادئ التي عاش لها ودعا إليها. لم تنفصل أقواله عن أفعاله، ولم تنسلخ كينونته عن كلماته، فكان النظرية والتطبيق، والقول والفعل، والمصداق والمفهوم، كان صدى أهل السماء لأهل الأرض، وهبة اللَّه تعالى للمؤمنين والمسلمين والمستضعفين في نهاية القرن العشرين...

حرّك الشارع الاسلامي عقداً كاملًا من السنين، ومن أقصى الأرض الى أقصاها، وحكم وما زال يحكم وسيظل هكذا عقوداً أخرى ومن قبره الشريف، ما دام على وجه الأرض غيارى يرفضون الظلم، أو أحرار يتمردون على البغي، أو ثوار يتحدّون الطغاة.

لقد أصبحت كلماته، مثل مرقده الشريف، مزاراً للعشاق ومنهلًا للثوار ومثابة لطلاب الكرامة والمحرومين، ونشيداً للمستضعفين والشرفاء ودعاة التغيير

ص: 233

والاصلاح.

لم تكن كلماته التي تركها في أعناق الرجال إلّامشعلًا آخر من مشاعل النور يضي ء الدرب للأحرار والثوار، ليشقوا طريقهم في الدهاليز المظلمة التي صنعها طواغيت الأرض، ونبراساً يواصل به رجال خطه الأصيل إضاءة هذه الدهاليز...

نعم، ستظل كلمات الامام الخميني ومواقفه ووصاياه مصاديق صارخة لكشف زيف الأدعياء والمقاولين ووعاظ السلاطين وتجار الدين. كما ستظل صيحاته ورؤاه صرخات غضب مقدس لاستنهاض الأحرار والشرفاء واستصراخهم ومناشدتهم لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، سعياً حثيثاً لاستكمال المشروع التغييري الذي بدأه وصولًا لإنجاز مشروع النهضة الاسلامية المعاصرة...

من هنا صار الوفاء واجباً لهذا الرجل، وصار لزاماً أن تبقى كلماته خالدة في ضمائر الأحرار والنجباء، وأن تبقى بياناته وأفكاره شاخص هداية ونبرات نور للسالكين والمناضلين والمؤمنين...

العبادات وفلسفة التغيير عند الامام

في فلسفة التغيير الاجتماعي والعبادات، كان للإمام الخميني قدس سره رؤية خاصة وأطروحة متكاملة ميّزته عن الكثيرين من العلماء ومراجع الدين العظام، وجعلت منه رائداً ومجدّداً استطاع أن يؤكد قدرته التغييرية ومنهجه التجديدي بموفقية ونجاح باهرين. ولا نجانب الحق إذا قلنا: إنّ منهجه الإحيائي نال إعجاب العدو والصديق والقريب والبعيد حيث أعاد للدين الاسلامي العظيم قدرته الكامنة على تغيير النفوس، وفعله المؤثر على النفس البشرية في انطلاقتها نحو التكامل والرقي...

وقد لُخصت رؤيته الإحيائية هذه في إيمانه العميق بقدرة الاسلام العزيز على

ص: 234

إحداث نقلة نوعية في المحتوى الداخلي للانسان وصولًا الى التغيير الاجتماعي الشامل... ومن هنا نالت أفكاره قدرة إشعاعية فائقة، وصارت ثقافة جماهيرية يتحدث بها المثقفون والمفكرون وعوام الناس، فضلًا عن الفلاسفة والمتخصصين والعلماء.

هذه الرؤية هي التي مكّنته من تفجير ثورته الاسلامية العملاقة وإنهاء طاغوت متحكم، انطلق بعدها لتحكيم دين اللَّه على أرض ايران الاسلام بعد غياب أو تغييب دام مئات السنين.

هذا الايمان وهذه الرؤية وهذا التصدّي لإقامة حكم إسلامي، كلّها كلّفت الامام ضريبة باهضة جعلته يتقاطع مع رؤى الكثيرين أو اجتهاداتهم ومناهجهم، ووضعته أمام مرافعات تاريخية حساسة خرج منها منتصراً، بعد أن تحدّدت المرتكزات الفقهية لهذا التوجّه، وبعد أن تجلّت قدرة الامام، بتوفيق اللَّه تعالى، على صياغة نظرية متكاملة في حركة التغيير وإعادة الروح الى عبادات وطقوس ما جاءت إلّالصالح الانسان، أو ما جي ء بها إلا لمصلحة البشرية وإرساء دعائم الحب والمودّة بين بني البشر، وصولًا لتحكيم حدود اللَّه وشريعته وقرآنه...

لقد كان واضحاً تمام الوضوح لدى الامام رضى الله عنه أنّ الجماهير إذا عُبئت تعبئة رسالية واعية، ستكون أقوى من كلّ الأسلحة المادية والقوى السلطوية المعروفة في دنيا الناس... وقد أثبت فعلًا أنّ (القبضات الخالية) إلّامن الايمان كانت أقوى من كلّ (سافاك) الشاه وجيشه ودرعه وأسلحته...

ففيما يرى بعض العلماء- وفق رؤيتهم الحركية ومنهجهم التغييري- مثلًا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجبان إلّابعد (ضمان الأثر وحرز الأمن من الضرر) وأن التغيير يمكن أن يأتي بسياسة اللين ومداراة الحاكم، والتسلل تدريجياً الى أجهزة السلطة، يرى الامام الخميني- وفق مبناه الفقهي طبعاً- أنّ التضحية والمواجهة وثقافة الاستشهاد وتحدّي السلطة الظالمة كلّها كفيلة بإحقاق الحق

ص: 235

وإزهاق الباطل.

وهذا يعني أنّ الامام أدرك بثاقب بصيرة وعمق رؤية أنّ الطواغيت لا يتنازلون عن السلطة ولا يذعنون للحق إلّاتحت التهديد والذعر، وهو عين ما فعله النبي صلى الله عليه و آله حيث بدأ دعوته المباركة سلمية وعظية حكيمة في البداية، ولكن، وحين لم ترق لقريش وجبروتها وخيلائها، وحين قررت مواجهتها وملاحقة دعاتها، شهر السلاح وحكّم السيف في رقاب المتجبّرين وأعداء (الحكمة والموعظة الحسنة).

صحيح أنه صلى الله عليه و آله وعلى امتداد رسالته الحركية دعوة وثورة ودولة لم يرق من الدماء إلّاالقليل القليل جدّاً، وأنه تحمّل من الأذى ما لم يتحمّله نبيّ قبله من أجل حقن الدماء واستفراغ الحجة، ولكنه صلوات اللَّه وسلامه عليه وآله، لم يجد بدّاً من تحكيم القوة في مرحلة من مراحل الصراع...

من هذا المنطلق يمكن القول: إنّ للامام منهجاً خاصاً يتميز به عن الكثير من العلماء سمي فيما بعد ب (خط الامام) أو (نهج الامام) أو (ما أطلق اصطلاحاً (خط الاسلام المحمدي الأصيل)) وكلّها مصطلحات حديثة شاع استخدامها بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وتمّ ترويجها مقابل (الاسلام الامريكي) و (الخط الأموي) و (الحكم السلطاني) الذي كان يطلق على إسلام الملوك والسلاطين، الذين كانوا يوظفون الدين ونصوص الدين لتمرير مخططاتهم وتبرير شرعيتهم أو مشروعية حكمهم، وبتبريك من وعاظهم طبعاً (وعاظ السلاطين) وإطلاق بخور فقههم السلطاني (معمّداً) بمسوح دينية مزيفة.

ولا يعني هذا، على الإطلاق، أنّ نهج الامام جاء شرعاً جديداً أو خطاً مذهبياً أو عقيدياً جديداً في الاسلام مقطوعاً أو مبتوراً عن مبادئ الاسلام وقيم الدين العظيم، وإنما جاء سلوكاً وتجربة وممارسة، وجاء دعوة صادقة لإحياء المغيّب من تعاليم الاسلام، والدعوة الى إعادة حكومة الشريعة التي غابت أو

ص: 236

غيبت لقرون مديدة، تارةً تحت شعار طاعة الحاكم الظالم براً كان أو فاجراً، وتارة تحت تمييع فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخرى تحت شعار التقية وعدم الاصطدام بالسلاطين، وهكذا...

منهج الامام يهزّ الضمير المسلم بعنف

هذا من جانب، ومن جانب آخر، جاء خط الامام مندداً بدعاة انتظار الفرج بمعنى القعود والانتظار السلبي وليس الايجابي، وجاء مشدّداً النكير على أولئك الذين يريدون تهميش دور العالم الديني وحصره في التكايا وحلقات الذكر وفتاوى الفقه الفردية المحدودة، التي ابتعدت عن الواقع الاجتماعي كثيراً، وانهمكت بالكامل بأحكام الطهارة والنجاسات والقصاص والديات وأحكام الشكوك والمياه، وعموم العقود والايقاعات، والزواج والطلاق، وما الى ذلك، أي استغرقت في العبادات دون المعاملات.

وهذا يعني أنّ الامام الخميني استطاع أن يُحدث هزّة عنيفة في ضمير الانسان المسلم، ويُحدث (زلزالًا) في وجدان الشعوب الاسلامية، بعد أن أحدث يقظةً في نفوس العلماء، وفجر صحوة في الفكر السياسي الاسلامي المعاصر.

هكذا تشكّلت خيوط (خط الامام) وهكذا بدأت حركته التغييرية من الحوزة ضد الطاغوت الحاكم، ومن العلماء ضد الحكم القائم، فتزلزلت (الثوابت) أو الرواسب البالية والموروثة، وتراجع الكثيرون ممن كانوا يعانون الحيرة في شرعية الثورة، وتأمّل آخرون ممن كانوا يعتقدون أنّ السيف أقوى من الدم، وأنّ الدبابة لا تُهزم بالقبضة الخالية، وانبهر صنف ثالث قائلين: إنّ (الفرج) يمكن أن يأتي على يد نائب صاحب الأمر وليس بالضرورة أن تكون كلّ راية ترفع قبل ظهور (الحجة عليه السلام) (راية ضلال) وصاحبها (طاغوت) (تصطلمه البليّة)- على حدّ تعبير الروايات التاريخية المتدافعة-... نعم، اهتزت ثوابت ما كان يُظن أنها ستهتز أو تهزّ، وارتجت مقاييس ما ظنّ أصحابها أنها سترجّ يوماً أو تُرجّ.

ص: 237

جاء خط الامام ليؤكد احتواء العصر، ويوجّه محددات الزمان والمكان وتحولاتها ومتغيراتها وحقائقها، ويترك للفقيه الكفوء العادل تقدير مصالح المجتمع الاسلامي الجديد، وفق هذه المتغيرات والتحولات. فقال:

«لو كان هناك شخص أعلم من ناحية العلوم المعهودة في الحوزات، ولكنه لا يستطيع تحديد مصلحة المجتمع، فهذا الشخص ليس مجتهداً في المسائل الاجتماعية والحكومية» أي أنه قدس سره اعتبر القدرة على تحديد مصالح المجتمع شرطاً من شروط الاجتهاد الجديدة، وأضاف عمقاً آخر لما يسمى ب (الاحكام الثانوية) التي تأتي مع الظرفين الزماني والمكاني، وبالتالي أسّس رؤيته هذه على حدّ قوله:

«إنّ القضية التي لها حكم معيّن في السابق، يمكن أن يكون لها في الظاهر حكم جديد، فيما يتعلق بالعلاقات التي تحكم السياسة والاجتماع والاقتصاد في نظام ما، بمعنى أنّ نتيجة المعرفة الدقيقة في العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحوّل الموضوع الأول- الذي لم يتغير في الظاهر- الى موضوع يستلزم حكماً جديداً بالضرورة...» هذا (الاتجاه الاجتهادي) الذي سماه بعض الفقهاء (تحوّل الاجتهاد) والذي يقوم على أساس الزمان والمكان والظروف والأحوال، هو الذي استلّ خيوطه (منهج الامام) هذا، وهذا لا يعني بطبيعة الحال تغييراً في حكم الشرع المقدس، بل المتغيّر هو موضوع الحكم؛ لأنّ (المقيّد عدم عند عدم قيده) كما يقول الذهن الفقهي، ولذلك فإنّ الحكم يمكن أن يتبدّل تبعاً لتبدّل الموضوع.

دوائر التغيير لدى الامام

وهنا نأتي الى إحصاء سريع لأهم الدوائر المغلقة التي سعى الامام لفك مغاليقها والانطلاق بها الى دوائر الفعل والتغيير وتجاوز دوائر التنظير والتحذير، لنأتي في خاتمتها على أهم هذه الدوائر في الفعل الحركي الاسلامي وهي دائرة الحج الابراهيمي حسب تعبيره رضوان اللَّه عليه.

ويمكن القول: إن أول هذه الدوائر المغلقة هو الفصل بين الدين والسياسة،

ص: 238

حيث انتقل الامام بعالم الدين من كونه (مفتياً) في دار الافتاء أو موظفاً في وزارة الأوقاف أو (عابداً) في صومعة، الى مرجع للأمة وقائد للجماهير، وحاكم مبسوط اليد لتحكيم دين اللَّه وتفعيل المشروع الاسلامي النهضوي الجديد...

وهذا يعني أنّ الامام قدس سره استطاع أن يتخطى الكثير من الأطر التقليدية، التي انكمشت داخلها الحوزة العلمية، وكادت تخنقها في جو من التشرنق والدوران حول الذات، وينتقل بالفكر الاسلامي من حالة التحجر والجمود والتقوقع الى آفاق واسعة في الانفتاح والواقعية والشمول...

بكلمة أخرى استطاع الامام أن يتجاوز الواقع المتكلّس، ويقفز على المخطط الاستكباري المدروس الذي أراد أو أريد به استغفال الشعوب الاسلامية واستهبالها، فنزل الى ميدان المعركة بوعي شمولي ثاقب وإرادة حديدية لا تخضع للتدجين ولا تنثني أمام الابتزاز والإرهاب، فقال بوضوح كامل:

«إنّ المؤسسات الاستعمارية كلّها وسوست في صدور الناس أنّ الدين لا يلتقي مع السياسة، والعلماء ليس لهم أن يتدخلوا في الشؤون الاجتماعية، وليس من حق الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الأمة، ومن المؤسف- والقول للامام طبعاً- أنّ البعض منا صدّق تلك الأباطيل، وقد تحقّق بهذا التصديق أكبر أمل تحلم به نفوس المستعمرين...».

وهذا يعني أنّ الامام نسف القاعدة الغربية التي تدعو الى فصل الكنيسة عن السلطة؛ لأنّ الاسلام ليس كالمسيحية وأنّ علماء الاسلام ليسوا كالبابوات، وإذا صاروا مثلهم فسوف يحل بهم ما حلّ بأولئك... وباختصار شديد أنّ الغرب أراد للبابا أن يكون أباً روحياً لا علاقة له من قريب أو بعيد بشؤون الدولة وأمور الناس إلّامايخصّ الآثام والذنوب والاستغفار و (صكوك الغفران) السيئة الصيت ...

ولكن ومع هذا الشدّ الأصيل لعدم فصل الدين عن السياسة، حذّر أشدّ الحذر من عدم انجرار العالم الديني الى بحر السياسة الآسنة واصطياد أسماكه الميتة؛ لأنّ ذلك كما قال يؤدي الى خراب الدين والدنيا معاً... فقد كان دائم التحذير من

ص: 239

الانجرار الى ألاعيب السياسة والسياسيين، وكثير التأكيد على تهذيب النفس وتزكيتها قبل الدخول في دهاليز العمل السياسي... وكان يذكّر دائماً بأقوال الأئمة سلام اللَّه عليهم في تحذيرهم الناس من حب الرئاسة وكيف أنّ «حب الرئاسة شاغل عن حب اللَّه» وأن (السلطة ماء آجن) و «من طلب الرئاسة هلك» و «ملعون من ترأّس» و «الرئاسة عطب» وأمثال ذلك.

أي أنّ الامام حاول التأكيد على الموازنة الدقيقة بين السياسة كهدف دنيوي رخيص، وبين كونها وسيلة ضرورية لإحقاق الحق وتحكيم الدين وإقامة المضيّع من حدوده وتعاليمه وقيمه...

هذا بشأن العلماء والسياسة، أما حول الأمة والسياسة، ودور الجماهير، فقد كان الامام الراحل دائم التأكيد على حضور الأمة في الميدان وتحمّلها للمسؤولية في خضم الصراع... وكان رضوان اللَّه عليه يراهن على المستضعفين؛ لأنهم مادة الثورة ووقودها ومعينها الذي لا ينضب، ويوصي بخدمة هؤلاء ورعايتهم...

ولعله لم يترك مناسبة إلّاوأكّد فيها على ما كان يسميه حضور الجماهير ورقابة الأمة، وكان يقول:

«ولولا حضوركم في ساحة المواجهة لكانوا يسوّدون وجه ثورتكم في العالم،..

إنكم بحضوركم الدائم أحبطتم مكائد أعدائكم... ليس هناك إثم أكبر من السكوت أمام أعداء الأمة... ولا توجد منحة إلهية أكبر من منحة حضوركم لمقاومة أعداء الثورة...».

انقذوا القرآن الكريم أولًا

وحين يقترب الامام قدس سره من شؤون العبادة وطقوسها المعروفة، خاصة في كتاب العبادة الأول في الاسلام (القرآن الكريم) نراه يتألم ألماً كبيراً وهويرى هذا الكتاب العظيم يتحول في دوائر الناس والعلماء والسياسيين الى (رقيّة) يُعلق على صدور الفتيات، أو وسيلة تبرّك يوضع على الرفوف، أو وسيلة اصطياد للبسطاء

ص: 240

عبر توظيف بعض نصوصه وتجاهل النصوص الأخرى، وفي أحسن الأحوال يتحول هذا الكتاب المقدس الى كتاب موتى يُقرأ على القبور وأيام الفواتح...

وليس كتاب أحياء.

يقول الامام في هذا السياق:

«وقد عمدت الحكومات الشيطانية وبواسطة الحكومات المنحرفة التي تتظاهر كذباً بالارتباط بالاسلام، الى طبع القرآن الكريم بخط جميل وإرساله الى البلدان المختلفة، فيتم بذلك استغفال بعض الجهلة ممّن يتصورون أنّ هذا وحده يكفي...».

الى أن يعلن رأيه الواضح الصريح في دور القرآن الكريم في الحياة، ويدعو الى تحكيم حدوده وتعاليمه دون تعسف أو اجتزاء، ويصرخ بأعلى صوته يوماً قائلًا:

«إننا نريد إنقاذ القرآن الكريم من المقابر».

بهذا الفهم للقرآن الكريم وتكريس دوره في حياة الناس، قيمةً ومنهجاً وثقافة، عقيدة ونظاماً، يأتي منهج الامام الراحل ردّاً واضحاً وصريحاً على أولئك الذين حاولوا إقصاء القرآن وتحنيط تعاليم السماء، ويأتي أيضاً تذكيراً صارخاً لأولئك الذين يريدون محاكمة (النص الديني)- كما يقولون- حين يتهمون القرآن أنه أصبح شيئاً ثميناً في ذاته، وبالأحرى أريد له أن يكون هكذا فيتألمون أو يتباكون قائلين:

«لقد تحول هذا النص المقدس الى شي ء ثمين في ذاته، وتمّ تشييئه في الثقافة، فصار حلية للنساء ورقيّة للأطفال وزينة تعلّق على الحيطان، تُعرض الى جانب الفضيّات والذهبيات...».

الإمام الخميني والحج الابراهيمي:

حين يأتي الإمام الخميني الى الشعائر نرى له رؤية خاصة وفهماً خاصاً ميّزاه عن الكثير من العلماء والفقهاء... ويأتي هذا الفهم من إدراك الامام الى الدور

ص: 241

العملي للشعار وليس فقط الى ظاهره وشكله...

ولعلّ الشغل الشاغل الذي استحوذ على فكر الامام وأثقل عليه همومه في ايجاد معنى جديد لهذه الشعائر المقدسة هو رؤيته لمسألة الحج وما شخّص فيها من أبعاد إجتماعية مهمة جدّاً، أبعد بكثير مما كان يتصوّره الآخرون في كونها ممارسة عبادية تنأى بالعبد الصالح بعيداً عن هموم الدنيا ومشاغلها وارتباطاتها...

نعم، كان الامام يقدر ما للحج من آثار معنوية ومعين روحي هائل وتزكية وتهذيب للنفوس لا حدود لهما، لما في مشاعرها المقدسة من هيبة وأثر في نفوس المؤمنين... ولكنه حاول أن يضيف الى ذلك المعنى الروحي معنىً اجتماعياً أغفله أو تغافل عنه الكثيرون ممن ينظرون الى الأمور بعين واحدة أو بُعدٍ واحد...

وكان أكثر ما أشار إليه الإمام وأكّده في بياناته المتكررة الى حجاج بيت اللَّه الحرام وتوضيح رؤيته في فلسفة الحج، هو تحويل هذه الشعيرة الاسلامية الكبرى الى فعل عبادي حركي يقضي على ذلك (الفصام النكد) بين الدين والسياسة، من جهة، وبين العبادة في بُعديها الروحي والاجتماعي من جهة أخرى...

هذا الموسم العبادي المقدس- في وجهة نظر الإمام- الذي يجتمع فيه قرابة المليوني مسلم من مختلف أصقاع العالم الاسلامي، والذي شرعه الباري- عزّوجلّ- كملتقى عام للمسلمين يجب أن يتحول الى مؤتمر عالمي شعبي جماهيري يتدارس فيه المسلمون همومهم وشجونهم، ويسعون من خلال دراسة أهدافه الى الانعتاق من جور الطواغيت والحكام الظلمة، وأن تتخطّى شعاريته حدود كونه طقساً عبادياً لتزكية النفس وتهذيبها رغم ما في هذه التزكية والتهذيب من معانٍ عظيمة ودور مؤثر في صياغة النفس الانسانية وإشعاعها.

جاء الامام لينسف الفهم التقليدي المتحجّر الذي يريد لهذه الفريضة الالهية أن تبقى طقساً عبادياً مجرّداً، لا يُعمق فيه وعي، ولا تتبلور فيه فكرة، ولا ينضج

ص: 242

فيه رشد، ولا يتصعّد فيه شعار الى شعور... أراد الإمام أن يجعل من هذا الحج الابراهيمي- كما أراده خليل اللَّه ابراهيم عليه السلام- قياماً للناس جعل اللَّه الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.

فكان- رضوان اللَّه عليه- يقول:

«إنّ على المسلمين الملتزمين الذين يجتمعون في كلّ عام مرة واحدة في المواقف الشريفة، ويؤدون واجباتهم الاسلامية في هذا التجمع العام والحشد الالهي... وباندفاع خالص نحو اللَّه والقيم المعنوية والوفود على بيت اللَّه العتيق أن لا يغفلوا عن الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه العبادة في هذا الملتقى العبادي السياسي» ويضيف:

«على العلماء الأعلام والخطباء العظام أن ينبهوا المسلمين على مسائلهم السياسية وواجباتهم الخطيرة التي لو عملوا بها لنالوا الاستقلال الواقعي والحرية الحقيقية في كنف الاسلام العزيز وقطعوا أيدي المستكبرين وأعادوا مجد الاسلام وعظمته».

ويقول الامام الخميني في مكان آخر من هذا البيان:

«في هذا التجمع الالهي العظيم، الذي لا تستطيع أية قدرة سوى القدرة الأزلية للَّه تعالى أن تعقده، يتوجب على المسلمين أن يباشروا في دراسة مشاكل المسلمين العامة ويبذلوا جهودهم بالتشاور لحلّها...».

فمن هذا الفهم الواعي لهذا المؤتمر الاسلامي الالهي الكبير، ينطلق الامام من محطة تغييرية كبرى يجدر بالمسلمين استثمارها في تصعيد وعيهم ودراسة مشاكلهم والارتفاع الى مستوى مسؤوليتهم في كونهم مستخلفين من قبل اللَّه تعالى على هذه الأرض في إحقاق الحق وإقامة العدل...

وما دام هذا التجمع الالهي عالمياً- كما يرى الامام- وهو كذلك، فلماذا لا يجري تدارس الوحدة الاسلامية؟ ولماذا يتواصل الطرْق على الخلافات بين المسلمين في محاولات خبيثة لزرع الفتنة في الصف الاسلامي؟ ولماذا لا يحجّم دور الحكام في إذكاء نار الفتنة هذه؟

ص: 243

الحج والوحدة بين المسلمين

يقول الامام متحرقاً في هذا السياق:

«إنّ من أكبر هذه المشاكل وأكثرها أهمية، هي عدم الوحدة بين المسلمين، وإنّ بعض من يُسمّون بزعماء الدول الاسلامية هم أساس هذه المشكلة، إذ إنهم يقومون تماماً كما يقوم الجناة الطامعون باستغلال هذه الخلافات بين الشعوب والحكومات لصالحهم، فيرسّخون هذه الخلافات عن طريق عملائهم الذين لا يعرفون اللَّه، وأكثر من ذلك كلما وضع أساس للوحدة بين المسلمين هبّ هؤلاء لمحاربته بكلّ ما أوتوا من قوة وعملوا على نشر بذور الفرقة والخلاف بين أبناء الأمة الاسلامية...».

ولعل أكثر هذه الخلافات أو الاثارات خبثاً ومكراً هو ما يثيره بعض وعاظ السلاطين حول بعض المسائل العبادية المذهبية، التي لا تخلّ بأصل العقيدة ولا تؤثر على جوهر الدين، وكيف أن بعض هؤلاء الوعاظ مثلًا ينشغلون في مواسم الحج في إثارة هذه النعرات الجانبية، فهذا يدعو اللَّه باسم أوليائه وأنبيائه، وآخر لا يرضى بذلك؛ لأنّ المدعو هو اللَّه تعالى وحده، وآخر يطلب الشفاعة بالوسيلة كما وردت في القرآن الكريم وغريمه يؤاخذه على هذه الوسيلة ويعتبرها شركاً أو كفراً، وثالث يُقبّل قبر النبيّ مثلًا وصاحبه لا يرضى منه ذلك وهو يقبل القرآن الكريم مثلًا، وما الى ذلك من قناعات روحية وعاطفية لا تقتل في الود قضية ولا تخلف ديناً جديداً أو عقيدة جديدة ما دام الربّ واحداً والنبيّ واحداً والقرآن واحداً والقبلة واحدة وكان اللَّه يحب المحسنين.

ولم يكن الامام الخميني قدس سره ليقول هذه الكلمات أو يؤكد على الوحدة الاسلامية بعبارات مجردة ويترك الأمور العملية على عواهنها كما يفعل الكثيرون، ولكنه- رضوان اللَّه عليه- اقترب خطوات عملية أذهلت الخصوم وجعلتهم في حيرة من أمرهم، فتراه مثلًا يُفتي بوجوب الصلاة خلف أئمة الجماعة في مكة

ص: 244

والمدينة، وعدم جواز الصلاة خلف غيرهم في الديار المقدسة رغم الخلافات الظاهرية المزعومة بين الطائفتين المسلمتين، ويُفتي كذلك بعدم الصلاة على التربة الحسينية التي يعتبرها المسلمون الايرانيون شعاراً عظيماً لاستحضار التواضع والسجود على التراب كما صلى النبيّ صلى الله عليه و آله في مسجد المدينة... لئلا يثير حفيظة إخوانهم المسلمين الآخرين الذين لم يألفوا هذا الطقس... محاولًا جهد إمكانه توصية المؤمنين أن يكونوا يداً واحدة ضد أعداء الاسلام وخاصة المستكبرين الذين لا يريدون للاسلام عزّاً ولا لأهله وحدةً أو مجداً أو كرامة...

إثارة الخلافات في الحج جريمة

ويروح الامام يندّد بأولئك الجناة الذين يحاولون شق الصف الاسلامي وتمزيق كلمة المسلمين الواحدة بقوله:

«إنّ إثارة الخلافات بين المذاهب الاسلامية تعتبر من الخطط الإجرامية، التي تدبّرها القوى المستفيدة من الخلافات بين المسلمين، بالتعاون مع عملائها المنحرفين بمن فيهم وعاظ السلاطين الذين اسودت وجوههم أكثر من سلاطين الجور أنفسهم..».

ولعلّ أكثر ما كان يجرح قلب الامام قدس سره هو تلك المعزوفة أو كلمة الحقّ التي أريد بها الباطل، والترويج لها في موسم الحج من قبل بعض وعاظ السلاطين، وكيف كانوا يوظفون ظاهرها أو معناها الظاهري لإيقاع القطيعة بين المسلمين ومنعهم من الحوار وتجاذب الحديث وتدارس الهموم والمشاكل...

فكانوا يرفعون الآية القرآنية الكريمة فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج شعاراً لمنع أي حديث سياسي أو اجتماعي يمرّ خلاله المسلمون على آلامهم وأمالهم وتطلعاتهم، ويروحون يؤكدون فقط وفقط على الجوانب العبادية التي تنأى بالمسلمين بعيداً عن أي حديث له علاقة بالأرض والواقع، وتُحرّضهم على

ص: 245

التحليق والتحليق فقط في ملكوت اللَّه تعالى في تلك الأجواء الروحانية العظيمة... وفي محاولات مقصودة لإبعادهم عن كلّ ما يثير اهتماماتهم بشعوبهم وأرضهم وأوطانهم وحكامهم وثرواتهم ووحدتهم وعزتهم...

هذا الشعار الذي أريد له أن يكون معولًا لتهديم كلّ حلقة حوار بنّاء بين المسلمين، ووصفه بأنه جدل وفسوق مقروناً بالرفث... جاء الامام ليحوّله الى جدل بالتي هي أحسن والى موعظة ودعوة كريمة لتلاقي المسلمين وحلّ مشاكلهم وحتى خلافاتهم بالكلمة الطيبة، وبعيداً عن السجال الفارغ والجدل المتهافت الذي لا يحل المشاكل فعلًا وإنّما يعقّدها ويُذكي نيرانها...

بل يمكن أن تكون خطورة هذا الشعار أكثر من ذلك الذي حجز القرآن في المقابر، أو ذلك الذي راح يفسره ويوظف نصوصه لما يخدم أغراضه ومعالمه...

يقول الامام:

«إنّ هناك قضايا مؤسفة توجب البكاء عليها دماً... إنّ فقهاء البلاط الذين هم أسوأ من الطغاة اتخذوا من القرآن الكريم وسيلة للظلم وترويج الفساد وتسويغ أعمال الظلمة والمعاندين لإرادة الحق تعالى... فوا أسفاه، إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية الرباني هذا، لم يُعد له من دور سوى في المقابر والمآتم بسبب الأعداء المتآمرين...» وأكثر من ذلك- والقول للامام طبعاً- «وبسبب الأصدقاء الجهلة أيضاً، وبدل أن يكون محوراً لتوحيد المسلمين في العالم ودستوراً لهم، أصبح هذا القرآن وسيلة للتفرقة وإثارة الفتن والخلافات...».

رسالة الحج امتداد لرسالة القرآن:

وفي سياق هذا الفهم الواعي لرسالة الحج يأتي الامام ليؤكد أنّ الدور المعوّل على هذا المؤتمر الالهي العالمي، لا يقلّ عن دور القرآن الكريم في إحياء الأمة

ص: 246

المسلمة واستنهاض مسؤوليتها في الحركة والتغيير، اعتقاداً منه قدس سره أن القرآن كما هو كتاب هداية وحياة وليس كتاب موتى وقبور وفواتح فقط، فإنّ الحج هو الآخر كان وسيبقى مؤتمراً إسلامياً عالمياً لبناء الوحدة الاسلامية وتأكيد عزة المسلمين واستخلافهم أو ميراثهم لخلافة الأرض.

يقول الامام في هذا السياق:

«الحج هو النداء السماوي لإيجاد وبناء المجتمع الجديد البعيد عن الرذائل المادية والمعنوية. إنّ الحج ومناسكه هو التجلّي الأعظم لحياة كريمة ومجتمع متكامل في هذه الحياة الدنيا...» ويضيف:

«ومن ذلك المكان ومن ذلك الموقع الذي يتواصل فيه مجتمع المسلمين من أي قوميةٍ كانوا ويصبحون يداً واحدة، ينطلق أداء هذه الفريضة المباركة التي يجب أن يكون أداؤها وجوهرها توحيدياً إبراهيمياً محمدياً. إنّ الحج هو ساحة عرض ومرآة صادقة للاستعدادات والقابليات المادية والمعنوية للمسلمين. الحج كالقرآن يستفيد منه المجتمع، فالمفكرون والعارفون بآلام الأمة الاسلامية إذا ما فتحوا قلوبهم، ولم يهابوا الغوص عن قرب في أحكامه وسياساته الاجتماعية سيصطادون الكثير من صدف هذا البحر، جواهر الهداية والرشد والحكمة والحرية، وسيرثون الى الأبد من زلال حكمته ومعارفه، ولكن ماذا نفعل؟».

وهنا يتأوه الإمام ويزفر زفرة مُرّة تعبّر عن لوعةٍ وحزن وألم، لما يراه من واقع المسلمين وابتعادهم عن جوهر الهداية هذا، فيقول:

«وأقولها بألم وحزن، إنّ الحج أصبح مهجوراً كالقرآن وبنفس النسبة التي اختفى فيها هذا الكتاب- كتاب الحياة والكمال والجمال- بسبب حجب النفس التي صنعناها بأيدينا ودفنّا هذا الكنز. كنز أسرار الخلقة، فكذلك الحج أصبح أسير هذا القدر، قدر أنّ الملايين من المسلمين يجتمعون كلّ سنة ويضعون

ص: 247

أقدامهم محل قدم محمد وإبراهيم وإسماعيل وهاجر ولا يوجد أحد يسأل:

ماذا فعل إبراهيم ومحمد؟ وما هو هدفهما؟ ماذا طلبا منا؟ ماذا أرادا؟ وهذا مالا نفكر به مع الأسف الشديد».

بهذا التشخيص الدقيق للدور، وبهذه الرؤية الفاحصة لرسالة الحج يروح الامام الخميني منظّراً ومفكراً حين يرى أن لابد من التنظير، والتنظير على الأقل، لإنقاذ المسلمين من هذا الواقع المؤلم.

الحج دون وعي ليس حجاً

يواصل الامام حديثه قائلًا:

«من المسلّم أن حجاً دون معرفة ووعي ودون روح ودون حركة ونهوض، وحجّاً دون براءة، وحجاً دون وحدة، وحجاً لا ينتج هدماً للكفر والشرك ليس حجاً. وخلاصة الأمر أنه يجب على جميع المسلمين السعي لأجل تجديد حياة الحج والقرآن وإعادتهما ثانية الى ساحة حياتهم، وعلى المحققين المؤمنين بالاسلام أن يبيّنوا التفاسير الصحيحة والواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كلّ نسيج الخرافات وادعاءات علماء البلاط».

ولم يكتف الامام بعرض هذا البُعد العملي لفلسفة الحج ودوره في البناء الرسالي للشخصية الرسالية، بل راح الامام وفي مواطن كثيرة من بياناته وتوجيهاته يؤكد على البعد الآخر، وهو البعد الروحي والمعنوي، وهو ليس أقل من البعد الأول في دوره وهدفيته في بناء الشخصية الرسالية المتوازنة... إذ يقول قدس سره:

«إنني أوصي جميع العلماء المحترمين والكتاب والمتحدثين الملتزمين أن يوضحوا لجميع المسلمين وخاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدسة. كما إني أوصيهم بتعليم الحجاج مناسك الحج وكيفية أدائها بشكلها

ص: 248

الصحيح حتى يكون عملهم خالياً من الأخطاء، وعدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة وأنجزنا الواجب كيفما كان، فإنّ الأخطاء في هذه الفريضة تترك آثاراً وإشكالات على صحتها قد تكلفهم وقتاً وجهداً مضاعفاً لتصحيحها...».

الحج عبادة ورسالة

ومن قراءة متأنية لبعض كلمات وخطابات الامام العميقة حول الحج كفريضة عبادية ذات بُعد اجتماعي وسياسي يكتشف المحلل أن الامام لم يفصل بين السماء والأرض، ولم تتضخّم لديه حالة على أخرى، فكما تراه هائماً عرفانياً في ملكوت السماء عاشقاً لقدرة اللَّه غارقاً في محبته تراه في الجانب الآخر غارقاً في حب الناس مستشعراً همومهم متحسساً لآلامهم وأوجاعهم يحثّ السير لتحقيق العدل والحرية لبني الانسان مستلًاّ عمقاً اجتماعياً من هذه العبادة، ووعياً سياسياً تغييراً من تلك...

لنستمع الى الامام وهو يقول:

«عندما تلفظون لبيك اللهم لبيك، قولوا: لا، لجميع الأصنام، واصرخوا: لا، لكل الطواغيت الكبار والصغار...».

وهو بهذا يجسد الوحدانية الكبرى للَّه تعالى والألوهية المطلقة له سبحانه...

فالتلبية للَّه وحده هي رفض لكلّ الآلهة المزيفة الأخرى، والتوحيد المطلق لقدرته جلّ وعلا، هي الرفض المطلق لكلّ الأصنام البشرية،... وعبارة (اللَّه أكبر) هي الأخرى تعني أنّ اللَّه سبحانه وتعالى أكبر من كلّ كبير... وأن تكبيره سبحانه هو تصغير لكلّ الطواغيت الصغار والكبار وخاصة الكبار...

وهو بهذا المعنى يريد أن يؤكد أن هؤلاء الطواغيت والحكام الظلمة إنما هم أصنام وأوثان يجب سحقهم، وأنّ على المسلمين أن يعتمدوا على القدرة المطلقة للباري تعالى وأن يتمردوا على الحكومات الظالمة ويحققوا عزتهم وكرامتهم من

ص: 249

خلال الانتماء لقدرة اللَّه وإرادته وجبروته...

وهو في مكان آخر، وحين يؤكد على مسيرة البراءة من المشركين والظالمين إنما يريد أن يعلن موقفه الواضح والصريح من أصنام الشرق والغرب وأذنابهم وأذيالهم، فنراه يقول:

«وأثناء الطواف في حرم اللَّه حيث يتجلّى العشق الالهي، أخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أي خوف لغير اللَّه، وفي موازاة العشق الالهي، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة، وكذلك من الطواغيت وعملائهم وأزلامهم، حيث إنّ اللَّه تعالى ومحبيه تبرأوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم...

وكلما اقترب الامام من تفاصيل الممارسة العبادية للحج، يضع لكلّ ممارسة هدفاً اجتماعياً يَشدّ المتعبد خلالها بما وراءها من أجل العمل في سبيل عيال اللَّه وعدم الاكتفاء بالارتواء الروحي الذي هو بحد ذاته حالة نفسية عظيمة تشدّ العبد الى خالقه والتأمل بما وراء هذا الخلق والهدف منه ونهايته ومآله... يقول الامام:

«وحين تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البيعة مع اللَّه أن تكونوا أعداءً لأعداء اللَّه ورسوله والصالحين والأحرار، ومطيعين وعبيداً له، أينما كنتم، لا تحنوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء اللَّه وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء وإنْ كانوا متفوقين في قتل البشر وجرائمهم وجناياتهم».

وفي توجيهه أو تفسيره للسعي بين الصفا والمروة، يشير الامام الى هدف اجتماعي آخر أقل ما فيه هو الوصول الى المعشوق والسعي للالتحام به، وتجاوز كلّ المعشوقات الطينية الدنيوية التي تشدّ الانسان إلى الأرض وتُخذله وتُمسك به، وتُثقله بهموم تافهة وطموحات صغيرة...

يقول الامام في هذا الصدد:

«أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول الى المحبوب،

ص: 250

حتى إذا ما وجدتموه هانت كلّ الأمور الدنيوية، وانتهت كلّ الشكوك والترددات... وحينها تزول كلّ المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات القلبية المادية، فتزهر الحرية، وتنكسر القيود الشيطانية والطاغوتية التي أسرت عباد اللَّه...».

وهكذا في كلّ موقف ومشهد من مواقف ومشاهد المشاعر المشرفة في مسيرة الحج الكبرى، فترى للامام رؤية في المشعر الحرام وفي عرفات، ورؤية في منى وعند الرجم ورؤية عند الطواف وعند الذبح... وكلّها تؤكد على ضرورة استشعار الانسان لدوره على هذه الأرض وأنه خليفة اللَّه وعليه أداء الرسالة وحمل الأمانة باخلاص وصدق... يقول الامام:

«سيروا الى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان، كونوا في كلّ موقف مطمئني القلب لوعد اللَّه الحق بإقامة حكم المستضعفين. وبسكون وهدوء فكّروا بآيات اللَّه الحق، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سبل النجاة. بعد ذلك عندما تذهبون الى منى اطلبوا هناك أن تتحقق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شي ءفي طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات، التي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا الى المحبوب المطلق. وفي هذا الحال ارجموا الشيطان، واطردوا الشيطان من أنفسكم، وكرّروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الالهية، لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنكم ...».

لاحظ استخدام الامام لكلمة (الشياطين) و (أبنائهم) ولاحظ التوجيه المتعمّد للتأمل في شياطين الأرض الذين هم أسوأ من شياطين السماء...، ولاحظ أيضاً كم استغرق (المستضعفون والمحرومون) من فكر الامام وهمّه، والذين هم ضحية الطواغيت وأبناء الشياطين.. هؤلاء الفقراء والحفاة- كما يسميهم الإمام- الذين

ص: 251

يصنعون الحياة وهي محرّمة عليهم...

ولم يكتفِ الامام بأن يقف مع مناسك الحج وقفة عبادية بحتة لا علاقة لها مع دنيا الناس، ولكنه حاول إشعار ضيوف الرحمن بأن يتأدبوا بآداب اللَّه ويتخلقوا بأخلاق رسول اللَّه وأن يكونوا رحمانيين في تعاملهم مع عباد اللَّه، وأن يحفظوا كرامة الاسلام بمحاربة أعداء الدين وتبنّي هموم المسلمين...

يقول الامام قدس سره:

إن هذا السفر الالهي الذي تذهبون إليه، وترجمون فيه الشيطان، وإذا ما كنتم- لا سمح اللَّه- من جنود الشيطان سترجمون أنفسكم أيضاً، يجب أن تكونوا في هذا السفر رحمانيين، وأن تصبحوا رحمانيين، حتى يكون رجمكم رجم أتباع الرحمن وجنوده للشيطان، وأنتم تقفون في تلك المواقف والمواضع الكريمة.

معاذ اللَّه أن يتلوث وقوفكم بشي ء خلاف الشرع، أو يتلوث بالمعصية، ففضلًا عن إراقة ماء الوجه أمام اللَّه تسقط كرامة الاسلام في الدنيا. إنّ كرامة الاسلام اليوم متقومة بوجودكم، أنتم الذين تذهبون جماعات جماعات الى تلك المواقف الكريمة ويشاهدكم سائر المسلمين في شتى بقاع العالم...».

الحج هدف ووسيلة

وكما هي بقية العبادات في نظر الامام، فإنّ الحج ليس هدفاً بحد ذاته وإلا «فما أكثر الضجيج وأقل الحجيج» كما جاء في روايات أهل البيت عليهم السلام والحج ليس تزكية للنفس فقط من براثن الآثام وشرورها فقط، فقد يكون المرء أحياناً وليّاً من أولياء اللَّه في طهره ونظافته ونزاهته، ولكنه ليس ولياً لعباد اللَّه... أي أنه عمل لتزكية نفسه وتطهيرها ولم يعمل لتطهير الآخرين وتزكيتهم وتغيير نفوسهم، وربما يكون المرء نقياً طاهراً في ذاته ولكنه لا علاقة له بالناس ولا شأن له بهم... يدور حول نفسه وذاته صائناً نفسه مهذباً لها، ولكن ليس له همٌّ غير همّ نفسه ولا يهمه غير تهذيب عائلته وبيته ولو تلوّث جو الأرض ومن عليها.

ص: 252

هذه الإثارة الحساسة، حاول الامام الخميني التحرش بها ودعوة الناس والعلماء خاصة للتأمل في آثارها الاجتماعية، ويتساءل كيف ولماذا بعث اللَّه تعالى الأنبياء مبشرين ومنذرين؟ وكيف دعا سبحانه في العديد من آياته البينات حتى الى القتال في سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟

قال تعالى:

وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللَّه والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان.

وهذا يعني أنّ العبادات والأحكام والأنبياء والرسل والكتب السماوية كلّها جاءت من أجل الناس والمستضعفين منهم خاصة الذين لا حول لهم ولا قوة، والذين يسحقهم طغيان الجبابرة وفرعونيتهم وغلظتهم...

فالمستضعفون في نظر الامام هم صناع التاريخ ووقود الثورات، وهم «أراذلنا» في مصطلح القرآن الكريم، الذين اتبعوا الأنبياء وانتصروا لهم، وكانوا ندّاً للطغاة والمستكبرين على امتداد التاريخ... هم الحفاة الجياع القادرون على المواجهة ونزف الدم، فهم لا يساومون ولا يجاملون ولا يداهنون... فهم الذين أوصى القرآن الكريم بإطعامهم وتقديم الأضحية لهم في موسم الحج والبدن جعلناها لكم من شعائر اللَّه لكم فيها خير فاذكروا اسم اللَّه عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر.

ولم يرفع الامام الخميني شعار المحرومين والمستضعفين للتجارة والاستهلاك كما يفعل السياسيون عادة لتوظيف الشارع وتعبئته وتحشيده باتجاه هدف خاص، وإنما كان ذلك من مقدمات وبواكير أفكاره... فهو القائل في بدايات محاضراته حول الحكومة الاسلامية قبل سنين من انتصار ثورته:

«وقد استعان المستعمرون بعملاء لهم في بلادنا من أجل تنفيذ مآربهم الاقتصادية الجائرة، فنتج عن ذلك أن يوجد مئات الملايين من الناس الجياع

ص: 253

يفتقدون أبسط الوسائل الصحية والتعليمية، وفي مقابلهم أفراد ذو ثراء فاحش وفساد عريض... وهؤلاء الجياع هم دائماً في كفاح مستمر ضد الحكام الجائرين، أما نحن فمكلّفون بانقاذ المحرومين والمظلومين، وإننا مأمورون بإعانتهم لمناوأة الظالمين وفقاً لما جاء في وصية أمير المؤمنين عليه السلام «كونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً».

واستمر الامام على هذا النهج طيلة أيام حكمه حتى قيل فيه: إنه لم يوجد عالم أو مرجع مبسوط اليد على امتداد عصر الغيبة، يحب شعبه ويناصر المحرومين، ويعيش همومهم وآلامهم مثل هذا الرجل. أما أقواله الشهيرة «أنا خادم وليس قائداً» و «أنا أقبّل أيادي شباب التعبئة» و «إنّ شعرة واحدة من جلد فقير تساوي كل أصحاب القصور» معروفة للقاصي والداني، وأنه مثّل تلك المفاهيم مصاديق واضحة في شخصيته وزهده وتواضعه... فكان الوريث الطبيعي والامتداد الحق لذلك الوصي الزاهد العظيم، الذي عاش ورحل مثالًا رائعاً لقولته الخالدة:

«ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» أي أنه لم يكن يطلق هذه العبارات كشعارات ولافتات للاستهلاك والارتشاء السياسي، ولكنه كان مصداقاً رائعاً لما قاله وأطلقه وتحدّث به قبل ثورته وبعدها، فهو القائل لنجله (أحمد): «لا تكتب لي بعد الآن (اسحب خط هاتف وأنا أدفع) فأنت أيضاً لا تملك شيئاً سوى أموال الفقراء.

احترز من الصرف الزائد».

وهذا حينما كان الامام في النجف الأشرف، ونجله في ايران، وكذلك ما تذكره سيرته العطرة عن عدم وجود هاتف في بيته في النجف، وكانت زوجته كلما أرادت الاتصال بأولادها في ايران كان عليها أن تخرج الى دائرة البريد في حر الصيف أو تذهب بخجل الى بيت الشيخ نصر اللَّه الخلخالي لتستأذنه في الاتصال بايران، وكان الرجل يرحّب بها ويستقبلها بتكريم...

أما بعد انتصار الثورة وأثناءها فمعروفة مواقفه ومصاديق زهده بشكل

ص: 254

مذهل، فهو الذي رفض أن يسكن بيتاً فخماً في قم أو طهران، ورفض أن تخصص له سيارة خاصة فارهة، واعترض يوماً حين جي ء له بسيارة أخرى غير السيارة الشعبية المصنوعة في ايران، كما اعترض بشدّة يوماً حين اكتشف أنه قد تمّ إعداد ملجإ له خاص يحميه من القصف الجوي أثناء الحرب وأمر بتهديم الملجإ.

أما ما كتبه حول مسألة تَرِكته فتتوقف عنده العقول والقلوب معاً، ولا يعبّر فقط عن موقف استنهاضيّ أو تعبوي، وإنما عن موقف رسالي ومبدَئي مسؤول لا يقوله ولا يفعله إلّاالأولياء والأوصياء.

هاك ما كتبه في هذا الصدد وأكّده على كلّ مسؤولي الدولة الاسلامية:

«... وإني أعلم بوضوح كامل، أنه ليس لابني أحمد في أي بنك داخلي أو خارجي، أو أية مؤسسة أي سهم أو مبلغ، وأنه لا يملك في أي مكان لا في الداخل ولا في الخارج أية أرضٍ، زراعية أو غير زراعية، ولا يملك أي مبنىً أو عقار أو ما شابه ذلك...».

ويضيف:

«وإذا ما تبيّن من بعدي أنه يملك أياً من ذلك في الداخل أو الخارج فإنّ على الحكومة أن تصادرها منه بإجازة فقيه ذلك الزمان، أو تحاكمه (لاحظ)...

والمؤمل أن يراعي مسؤولو الجمهورية الاسلامية دوماً الضوابط وأن يحترزوا من الروابط...».

وعلى نفس النهج وفي نفس الاتجاه جاءت كلماتٌ معبّرة في وصيته لنجله المذكور (رحمة اللَّه عليه) ووصيته له بالمستضعفين والمحرومين، حين كتب له يوماً يقول:

«... آمل أن يرضى اللَّه تعالى عنه (عن أحمد) كما رضي عنه أبوه، وأن يوفّق ما وسعه ذلك في خدمة المحرومين والمستضعفين، الشريحة الأكثر استحقاقاً لتقديم الخدمة من بين جماهير الشعب التي أوصى بها الاسلام...».

ص: 255

وفي وصية أخرى له لنجله أيضاً جاء فيها:

«... وكذلك من الأمور المهمة التي ينبغي أن أوصي بها: هي الحرص على إعانة عباد اللَّه خصوصاً المحرومين والمستضعفين المظلومين الذين لا ملاذ لهم إلّااللَّه تعالى، فابذل ما وسعك في خدمتهم، فذلك خير زاد وهو من أفضل الأعمال عند اللَّه، ومن أفضل الخدمات التي تقدّم للاسلام العظيم...»

وأضاف:

«اسعَ في خدمة المظلومين وفي حمايتهم مقابل المستكبرين الظلمة»

وكأنه بذلك تجسيد جديد بل إحياء عظيم لذلك الصوت السماوي (صوت العدالة الانسانية) الخالد، صوت أمير المؤمنين عليه السلام حين كتب لواليه على البصرة يقول:

«... أأقنع من نفسي بأن يقال عني أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش...».

وهكذا، ولئن افتتح الامام الخميني مقدمات ثورته بهذا الحب للمستضعفين ومواساته لهم، فإنه عاش لهم نفس الحب ونفس المواساة في ثورته وأيام حكمه، ولم ينس ذلك في معظم بياناته حتى لحجاج بيت اللَّه الحرام وهم يؤدون مناسك حجهم الأعظم، ولم ينس أن يترك رؤيته الصريحة في هؤلاء المحرومين حتى في وصيته الخالدة، حيث كتب يقول:

«... إنّ كلّ ما فعلته الحكومات المتسلطة كان من أجل مصالحها الشخصية أو الفئوية، أو من أجل رفاهية فئة المترفين والأعيان، فيما كانت الفئة المظلومة وسكنة الأكواخ محرومين من كلّ مواهب الحياة، حتى الماء والخبز وما يُقام به الأوَد، وهؤلاء المساكين مسخّرون لخدمة تلك الفئة المترفة المنغمسة في الملذّات...»

وأضاف مستصرخاً هؤلاء المحرومين أنفسهم:

ص: 256

«وليحرص أبناء الشعب النبيل أن يكون رئيس الجمهورية والنوّاب من الذين تحسّسوا حرمان المستضعفين والمحرومين وظلامتهم، وممن يسعون الى رفاهيتهم، وليسوا من الرأسماليين والإقطاع والأعيان المترفين الغارقين في الملذات والشهوات، الذين لا يستطيعون إدراك معنى الحرمان وآلام الجياع والحفاة...».

اذن، ومن خلاصة ما أراد الامام تركيزه في صناعة هدفية العبادة والحكم، والبحث عن مقاصد الشريعة كما يقولون، في الحج وغير الحج، هو تأكيده على هؤلاء المستضعفين، وأنهم الأبناء البررة للثورة الذين يعطون عادةً ولا يأخذون، أو أنهم يعطون أضعاف ما يأخذون، أي عكس غيرهم الذين يأخذون ولا يعطون، وإذا أعطوا فإنهم يأخذون أضعاف ما يعطون... وهذا هو الفرق بين من يدرك أنّ السلطة عطاء وتضحية ونزف، وغيره الذي يفهم أنها سلطة وفرصة وحصة وسهم...

من هذه المنطلقات ووفق هذه الأسس والمقاييس كان الامام الخميني يحاول خلق ثقافة جماهيرية ورأي عام إسلامي يُشعر الأمة الاسلامية أولًا بمسؤوليتها ويستنهضها على الارتفاع لتلك المسؤولية والنهوض بها... فلم يجد ملتقى أفضل من ملتقى الحج الابراهيمي هذا الذي يقوم فيه مئات الألوف من المسلمين الآتين لبيت اللَّه العتيق من كلّ فج عميق، وجميعهم يرددون: «لبيك اللهم لبيك، لبّيك لا شريك لك لبيك... إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»..

ومن هذه التلبية ومن هذا الجو الروحي المفعم بمعاني الطهر والصفاء وتزكية الروح... أراد الامام أن ينتقل بالفرد المسلم الى أبعد من هذه التزكية، وأن ينتقل بالعبادة من شأنها الفردي العظيم بحد ذاته الى شأنها الاجتماعي الفاعل ودورها في تغيير الأمم والشعوب...

فما دام المسلمون في هذا المؤتمر قلباً واحداً وروحاً واحدة، وتوجهاً واحداً

ص: 257

نحو أنبياء اللَّه، تجمعهم كعبة واحدة وقرآن واحد ونبيّ واحد وقبل كلّ ذلك وبعده ربّ واحد، فلماذا لا تستثمر هذه المعاني العالية لخلق إرادة إسلامية واحدة ومنهج إسلامي واحد وعلى الأقل لمواجهة أعداء الاسلام أو ممن يريدون تمزيق المسلمين بإثارة الفتن والثغرات، والنأي بهم بعيداً عن همومهم وآلامهم وآمالهم وتطلعاتهم...

كان الامام بهذا الاتجاه، وكان في تعاطيه مع مسألة الحج بهذا المستوى من الشعور بالمسؤولية... مسيرة من الفرد الى المطلق، وسفر من الخلق الى الحق، وعودة ناضجة وراشدة لتحقيق رسالية المرء المسلم في كونه خليفة اللَّه في أرضه ومستخلفاً عاهد ربّه على حمل رسالته حين ناءت بحملها الأرض والسماء والجبال...

إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان...

الهوامش:

ص: 258

ص: 259

أثر الحج في الوحدة السياسية والاجتماعية والثقافية

اثر الحج في الوحدة السياسية والاجتماعية والثقافية

أثر الحج في الوحدة السياسية والاجتماعية والثقافية

عفيف النابلسي

قال تعالى: وأذن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كل ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير.

فكرة الحج هي فكرة تمهيدية وصورة مصغّرة عن يوم القيامة، بل قل هي القيامة الصغرى، وهذه الفكرة تقوم بدور تذكيري كبير لإعادة الوضع الإنساني إلى الدائرة الوسط.

فهي أوّلًا: تثير بنفس الإنسان حالة القرب من النهاية، والتي تجعل الإنسان يراجع حساباته في الظروف الصعبة، ويتراجع عن أمور كثيرة، ويتنازل عنها لحساب المستقبل.

وثانياً: تعيد إلى الإنسان ذاكرة الإنسانية في نفسه، بل قل العبودية الصحيحة؛ لأنّ البيئة الاجتماعية خلقت فيه ميلًا حسيّاً ونفسيّاً إلى عبوديات كثيرة، فهو مستغرق في أشكال العبوديات يهتف لها ويعمل من أجلها ويفلسفها ويدعو إلى العمل تحت

ص: 260

شعاراتها، كما نسمع أو نقرأ عن أشكال متعددة وعناوين متنوعة من فلسفة انجرار الإنسانية إلى عبودية البشر والحجر والشجر والذات والهوى والجند والرئاسة والقومية والعرقية والأصالة والعراقة والكرامة والمصلحة، فهو عندما يحرم ويلبّي ويصلّي وينوي ويطوف ويسعى ويقصر ويقف ويبيت ويرجم ويذبح ويحلق، يستشعر عظمة اللَّه في نفسه، ويستصغر كلّ الآلهة المصطنعة وأنصاف الآلهة الذين جعلوا أنفسهم أرباباً تُعبد من دون اللَّه.

نعم في مناسك الحج يتجاوز الإنسان ذاته ويهاجر كهوفها المظلمة ويترك أنانيته وكبرياءه؛ ليحقق أفضل المنطلقات الجديدة لها، أو قل ليبني ذاته من جديد، ويركز وجوده من جديد ويؤمن ذاته من جديد. ويعلي ذاته من جديد؛ لأنه كما ساهم في إنزال الذات وإسقاطها من لباس الكبرياء والعظمة والأنانية كما أعلى شأنها وأقام بناءها على أتمّ أساس وأكرم مستقبل.

ثالثاً: أن الحج يثير في النفس فكرة التجرّد والصعود إلى العلو حيث الشوق الكلي والاستغراق المجموعي في انس القداسة حيث للنفس أشواق تتجاوز فيها المعاني التي تعرفها عبر الحب والعلم والمجد والأمر والنهي والكرامة، ولا يتم ذلك إلا من خلال المعاناة والقرب المعنوي، الذي يجعل دائرة الذات أقرب إلى دائرة الاتحاد الكلّي.

لا يدرك الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلّامن يعانيها رابعاً: الحج على مستوى الدائرة الشخصية أنفع عمل شاق لراحة النفس يكتسب الإنسان فيها قوّة ومناعة وطاقة روحية وإضاءة نفسية تعكس صورته وطاقته على حياته الفردية والعائلية والاجتماعية، ويتحوّل الفرد من خلال هذا السلوك إلى امّة؛ لأنه يحقّق جوهر العبودية، ولم يصل سيّدنا إبراهيم عليه السلام إلى هذا المستوى الرفيع من السلوك، أو قل لم يتحوّل إلى امّة إلّابعد أن مرَّ بمرحلة الاحتراق الكامل والانصهار التام بنار المحبّة الإلهية إنّ إبراهيم كان أمّةً قانتاًللَّه.

خامساً: عندما يصل الإنسان إلى المستوى العالي، ويطهر هذه الذات

ص: 261

الأمّارة بالسوء ينتقل إلى حبّ الآخرين ويعمل من أجل إسعادهم، فهو يذوب جوعاً وشوقاً في محبتهم وخدمتهم، ويعمل جاهداً من أجل راحتهم، وإذا أصبح الإنسان كذلك، ذابت من نفسه كلّ الفوارق القومية والعرقية والقبلية واللونية، ونظر إلى بقية المسلمين بمنظار عالمي لا يفرق بين أرض وأرض وجنس وجنس وعرق وعرق ومذهب وآخر وعاد هذا الفرد يشكِّل امّة بكلّ ما لها من أحاسيس ومشاعر عامة وطموحات وتطلّعات كبيرة.

وأتذكّر أنني عندما تشرّفت قبل عشرين سنة إلى بيت اللَّه الحرام وشاهدت عن كثب كيف أن الملايين من المسلمين ترمق بنظر الذلّة إلى العزيز الجبّار، والجميع يطلبون منه تعالى فكاك رقابهم من النار، ذهبت من نفسي كلّ الرواسب الجغرافية والعرقية والمذهبية، ورحت معهم أدعو إلى اللَّه أن يغفر لهؤلاء جميعاً. شعرت أنني أحبّهم بصدق؛ لأنهم يحبّون معبودي ومعشوقي بصدق.

وعندما تصل الامّة إلى هذا المستوى من الصدق في التعاطي، وتذوب فيها كلّ الرواسب الجليدية، وتلتقي على محبة اللَّه سيكون عندئذ للُامّة شأن آخر.

سادساً: عندما يحجّ الإنسان بوعي سوف يشعر أنه كان معزولًا عن أهله ومحبّيه، وأنّ له اخوة إذا استحكمت علاقته الطيبة معهم سوف يكون علاقة من الوشائج الثقافية على مستوى طموحات الامّة ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ومن الأخطاء أن يحاول بعضٌ جرّ الناس لنفسه بدل أن يجرّها لربّه، ويقدِّم لها ثقافةً شخصية بدل أن يزوّدهم بثقافةٍ إلهية.

لأنه عندما يحجّ ويرى هذه الحشود البشرية الدولية العالمية كلّها تلتقي في الكعبة المشرّفة وتؤدّي نفس المناسك، وتعبِّر المناسك عن مدلول وحدوي كبير سوف يشعر الحاج بأدائه لهذه الفريضة أنه مل الزمن ومل التاريخ ومل المستقبل، وأنّ المعاناة التي يلاقيها من طواغيت زمانه ما هي إلّامشقّة صغيرة، وبعدها الراحة الكبرى في وصول الإسلام المحمّدي الأصيل كما

ص: 262

نادى به الإمام الخميني قدس سره- إلى قيادة الامّة، وإحلال العدل الإلهي والسلام العالمي المنشود.

سابعاً: أنّ تأمّلات المسيرة الاجتماعية من خلال التصور الإسلامي سوف تظهر بشكل أبرز وأوضح: لأنّ المجتمع الإسلامي المجتمع النخبة يعيش حالة الانصهار الكامل في المشاعر والعواطف والشعائر، وهذا المجتمع المتماسك القوي، والذي يتفاعل مع ربّه وأوليائه في هذه الرحلة هو الذي سوف ينقل هذا التفاعل من خلال عملية تلقيحية تنتج زروعاً نامية الثمار في الحقل الاجتماعي الكبير. وأفضل وسيلة لتربية الامة التعليم السلوكي، الذي يجسِّد الفكرة عملياً من خلال صبر القيادة أو صلاتبها أو ذوبانها في الحق.

وما كانت المسيرة الإسلامية في حياة الرسول الأقدس لتنتصر لولا وجود المجتمع القدوة صاحب السلوك النبيل والفارق في الايثار والمحبة وخدمة الناس، وكذلك ما كانت المسيرة الالهية لتنتصر لولا وجود عناصر ذابت في الوحدة والامة وأعطت كلّ ما عندها، وتنازلت عن الكثير الكثير من وجودها وحضورها في المسرح وتحت الشعاع.

ثامناً: أنّ المدخل السياسي المهم لحركة الامّة يؤخذ من قوّتها وتمسّكها بشعائرها ومقدّساتها، وأنّه بلغ من حفاظ الامّة على مقدّساتها أن تبذل النفس والنفيس للوصول إليها، فهاهم المسلمون اليوم وقبل اليوم يستجيبون لنداء اللَّه، ويأتون على كلّ ضامر ومن كلّ فجّ عميق في الجو والبر والبحر، ليعلنوا موقفاً موحّداً وهدفاً موحّداً وثقافة موحّدة وشعائر موحّدة.

وعلى الامّة في هذا المجال أن تضع القيادة الموحّدة، وتتّخذ المواقف الموحدة من أعدائها، وتحدّد العداوات على ضوء المرحلة أو على ضوء الهدف.

والعدوّ جاد لانتزاع الكعبة من يد المسلمين؛ لأنّ بقاءها يشكِّل نقطة التمركز الكلّي الدائم والعام، ويضفي عليها قوّة إضافية يصعب على العدو اختزان هذه المفاهيم.

بعد كلّ هذه المقدّمات، لابد لي من إثارة بعض النقاط الهامّة:

ص: 263

أوّلًا: أنّ الاستكبار العالمي يرصد بحذر شديد كلّ تحركات الامة، ويعمل جادّاً بكلّ ما يملك من وسائل متطوّرة لإيجاد حالة الشرخ بين المذاهب الإسلامية كما أوجد حالة الشرخ بين القوميات والعرقيات، لهذا فإنّ هذا المؤتمر من الوسائل الأساسية للوقوف في وجه المدّ المعادي خارجياً وداخلياً، وعلى علماء المذاهب الإسلامية تقع مسؤولية توعية الامّة أمام المخاطر المحدقة بها، وأنّ كلّ فرد يثير في مجتمعه أي نوع من التشنجات والتعقيدات المذهبية يجب الوقوف في وجهه ومناقشته وبيان خطورة ذلك، وأنّ عمله يصبّ في خانة الاستكبار العالمي، وأنه يضرّ بالوحدة الإسلامية، وبالتالي يضرّ طائفته ونفسه.

ثانياً: على علماء المذاهب الإسلامية أن يدفعوا بعجلة اعتراف المذاهب بعضها ببعض، ولا يسمح لمن يكفر المسلمين لأي بادرة أن تتغلغل أفكاره بينهم، بل يجب عليهم العمل السريع، وتربية الناشئة على عملية التسامح المذهبي بين أهل القبلة كما فعل وأفتى المرحوم الشيخ محمود شلتوت، وكما فعل الإمام المقدس الإمام الخميني قدس سره في دعوته إلى الوحدة بين المسلمين، وتجنب ما يثير البغضاء بينهم..

ثالثاً: دعوة الحركة الإسلامية العالمية للالتحاق بالموقف السياسي العام، الذي تتبناه الجمهورية الإسلامية رائدة المسلمين، حيث لا يجوز أمام التغيرات السياسية المتلاحقة أن نستفرد كلّ حركة على حدة، بل لابد من ضم كلّ حركة إلى اخرى؛ لتتحول الحزمة الصغيرة إلى عود قوي وغليظ يصعب على الآخرين كسره فضلًا عن عصره.

رابعاً: أنّ مسيرة البراءة من المشركين، التي جدّدها الإمام الخميني وراح يدعو لها بكلّ قوّة، تعني رفض اطروحة الشرك، لأنها تتباين مع الحالة الإسلامية العالمية تبايناً كلّياً في تصوراتها وحضارتها ورفض كلّ لوازمها، التي منها رفض نظرية السلام الأمريكية والصلح مع العدوّ الصهيوني الغاشم.

خامساً: جعل القدس قضية الإسلام المركزية، التي تتمحور حولها كلّ قضايا

ص: 264

الامة المصيرية مثل قضية المسلمين في فلسطين ولبنان وافغانستان والعراق وكشمير والبوسنة والهرسك والفلبين والصومال وغيرها.

إعادة النظر في اسلوب الحركات الإسلامية والاستفادة من خبرات الجمهورية الإسلامية والعمل على إسقاط الأنظمة الأمريكية التي تحكم بالحديد والنار.

سادساً: توجيه الرأي العام الإسلامي لدعم الانتفاضة الإسلامية الباسلة في فلسطين و المقاومة الإسلامية في جبل عامل لبنان.

الهوامش:

ص: 265

أبعاد الحجّ في فكر الإمام الخميني (قدّس سرّه)

ابعاد الحجّ في فكر الامام الخميني قدس سره

أبعاد الحجّ في فكر الإمام الخميني قدس سره

ماجدة المؤمن

مقدمة

أبعاد الحج بعيدة المدى، متعددة الميزات، واحدة الهدف في شموليتها للفكرة الواقعية للفرد والجماعة والمجتمع، وهذه الأبعاد لا تسمح في خصائصها الذاتية بالانفصال عن الأخرى، يمتزج بعضها مع بعض في كلّ الجوانب المادية والروحية والمعنوية، فليس هناك بُعد مادي تختنق فيه الروح داخل الأسوار المادية، أو عنصر روحي تحلّق فيه النفس بعيداً عن المادة في حالة تجريدية، بل يمتزج فيه- في الحج- البُعد الروحي مع البُعد التربوي، وهكذا مع البُعد السياسي والعبادي والاقتصادي والثقافي والفقهي والاخلاقي بحيث تكمّل بعضها البعض؛ لتصبح كتلة واحدة لا تقبل الانفكاك أو التباعد أو التجريد...

وسنتحدث عن هذه الأبعاد بعد تفكيكها وقراءتها منفصلة الواحدة عن الأخرى؛ لغرض منهجي يبين الفروقات بين البعد الواحد والآخر، وإلّا فالبُعد الواحد لا شك هو ذائب في الأبعاد الأخرى لا يمكن فصله عنها.

ص: 266

سنقرأ أبعاد الحج في أفكار الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- واحداً واحداً وبُعداً بُعداً؛ لنعرف قيمة الحج المتكامل الذي يجمع بين الأعمال المادية والمعاني الروحية والهدف الإلهي السامي، الذي أراده اللَّه تعالى من عباده الملتزمين المخلصين.

تمهيد

على الرغم من أنّ الحج في الدين الاسلامي الحنيف واحد في أغلب تفاصيله، يتفق المسلمون على صلبه ويختلفون في بعض تفاصيله، إلّاأنّ الامام الخميني تميز بين أقرانه العلماء برأيه المتميز في هذه الفريضة الاسلامية.

فما أتى به الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- أن أخرجه من جموده وروتينيته، مضيفاً اليه معنىً حيوياً جديداً، فقد نادى بتفعيله وتحريكه على الساحة الاسلامية.

فلم يعد ذلك الحج الطقوسي أو الشعائري الجامد، لم يعد مجرّد سفر وحركات محددة وأداء واجبات معينة، وإنما صار إضافة الى الأداء الصحيح لمراسمه وأركانه، صار فريضة فاعلة لعبت دوراً حيوياً في الحياة الاجتماعية والسياسية والنفسية و... الخ.

فأصبح من خلال أفكار الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- أقرب الى المؤتمر السنوي الحامل لرسالة الوعي والإرشاد، يستضي ء المسلمون بضوئه في حياتهم وسلوكهم، دنيا وآخرة.

وهذا طرح جديد على مستوى الحياة الاسلامية الدينية اقتضتها ضرورة التجديد وإصلاح حال الامة الاسلامية التي جمدت على أفكار لابد من تفعيلها.

وما قام به الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- لم يكن غريباً على الدين الاسلامي ولا جديداً على أصالته، وإنما هو الرجوع الى الأصالة، والعودة الى الصورة الأصلية التي أتى بها رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه و آله، منفذاً ما أمر اللَّه تعالى،

ص: 267

ومطبقاً فريضة إسلامية لابد من تطبيقها تطبيقاً دينياً صحيحاً منسجماً مع هدفها الأصلي الأول.

وهكذا دخل الامام الخميني الى أبعاد الحج المتنوعة واحداً واحداً ليدرسها ويقرأها من جديد، ويقدمها للأمة حالة اسلامية عصرية ضرورية، فقد سلط الضوء على البُعد الفقهي للحج والبُعد الروحي والعبادي وكذلك البُعد التربوي والأخلاقي وأعطى للبُعد السياسي الثقل الأكبر والنصيب الأوفر، وتحدث عن البُعد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، كما سنرى لاحقاً:

البعد الفقهي

البعد الفقهي عند الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- أحد الأبعاد الكثيرة للحج التي تحدث عنها الامام في مؤلفاته، وهو لا شك بُعد أساسي ومحوري قامت الأبعاد الأخرى لدعمه وتركيزه، وقد أعطاه المعنى الحقيقي، فكان الحج الذي تحدث عنه الامام هو الحج الحقيقي المتكامل المعنى والأبعاد.

وحيث إنّ البعد الفقهي محور وأساس لكلّ الأبعاد الأخرى، وجدنا من المناسب الحديث عنه- مختصراً- كما ورد في كتبه الفقهية...

فقد جاء عنه: أن الحج ركن من أركان الدين وتركه من الكبائر، وأنه واجب على من استجمع الشرائط كالبلوغ والعقل والمال والصحة وغيرها، وتجب في أصل الشرع مرة واحدة في العمر، ووجوبه فوري مع تحقق الشرائط، بمعنى وجوب المبادرة اليه في العام الأول من الاستطاعة ولا يجوز تأخيره.

ولو توقف إدراكه على مقدمات بعد حصول الاستطاعة في السفر وتهيئة أسبابه، وجب تحصيلها على وجه يدركه في ذلك العام.

ويجب الحج بالنذر والعهد واليمين، ويشترط في انعقادها: البلوغ والعقل والقصد والاختيار.

ويحج عن الميت إذا أوصى بالحج أُخرج من الأصل لو كان واجباً، إلّاأن

ص: 268

يصرح بخروجه من الثلث فأخرج منه، فإن لم يفِ أخرج الزائد من الأصل، ولا فرق في الخروج من الأصل بين حجة الاسلام والحج النذري والافسادي، وأُخرج من الثلث لو كان ندبياً، ولو لم يعلم كونه واجباً أو مندوباً فمع قيام قرينة أو تحقق انصراف فهو، وإلّا فيخرج من الثلث إلّاأن يعلم وجوبه عليه سابقاً وشك في أدائه فمن الأصل.

ويستحب لفاقد الشرائط من البلوغ والاستطاعة وغيرهما أن يحج مهما أمكن، وكذا من أتى بحجه الواجب، ويستحب تكراره بل في كلّ سنة بل يكره تركه خمس سنين متوالية، ويستحب نية العود اليه عند الخروج من مكه، ويكره نية عدمه.

ويستحب التبرع بالحج عن الأقارب وغيرهم أحياءً وأمواتاً، وكذا عن المعصومين عليهم السلام أحياءً وأمواتاً، والطواف عنهم عليهم السلام وعن غيرهم أمواتاً وأحياءً مع عدم حضورهم في مكة أو كونهم معذورين، ويستحب احجاج الغير استطاع أم لا، ويجوز إعطاء الزكاة لمن لا يستطيع الحج ليحج بها.

ويستحب لمن ليس له زاد وراحلة أن يستقرض ويحج إذا كان واثقاً بالوفاء، ويستحب كثرة الانفاق في الحج، والحج أفضل من الصدقة بنفقته.

لا يجوز الحج بالمال الحرام، ويجوز بالمشتبه كجوائز الظلمة مع عدم العلم بحرمتها، ويجوز إهداء ثواب الحج الى الغير بعد الفراغ عنه، كما يجوز أن يكون ذلك من نيته قبل الشروع فيه، ويستحب لمن لا مال له يحج به أن يأتي بالحج ولو باجارة نفسه عن غيره.

اما محرمات الحج ومكروهاته فقد ذكر الامام رضى الله عنه أن المحرمات هي:

الأول: صيد البر اصطياداً وأكلًا- ولو صاده محل- وإشارة ودلالة واغلاقاً وذبحاً وفرخاً وبيضه، فلو ذبحه كان ميتة على المشهور وهو أحوط، والطيور حتى الجراد بحكم الصيد البري، والأحوط ترك قتل الزنبور والنحل إن لم يقصد إيذاءه.

ص: 269

الثاني: النساء وطأً وتقبيلًا ولمساً ونظراً بشهوة، بل كل لذة وتمتع منها.

الثالث: إيقاع العقد لنفسه أو لغيره ولو كان محلًا، وشهادة العقد وإقامتها عليه على الأحوط ولو تحملها محلًا وإن لا يبعد جوازها، ولو عقد لنفسه في حال الاحرام حرمت عليه دائماً مع علمه بالحكم، ولو جهله فالعقد باطل لكن لا تحرم عليه دائماً. والأحوط ذلك سيما مع المقاربة.

الرابع: الاستمناء بيده أو غيرها بأية وسيلة، فإن أمنى فعليه بدنة والأحوط بطلان ما يوجب الجماع بطلانه..

الخامس: الطيب بأنواعه حتى الكافور صبغاً وإطلاءً وبخوراً على بدنه أو لباسه، ولا يجوز لبس ما فيه رائحته، ولا أكل ما فيه الطيب كالزعفران، والأقوى عدم حرمة الزنجبيل والدارصيني..

السادس: حرمة لبس المخيط للرجال كالقميص والسراويل والقباء وأشباهها.

السابع: لا يجوز الاكتحال بالسواد إن كان فيه الزينة وإن لم يقصدها.

الثامن: النظر في المرآة من غير فرق بين الرجل والمرأة.

التاسع: لبس ما يستر جميع ظهر القدم كالخف والجورب وغيرهما، ويختص ذلك بالرجال ولا يحرم على النساء.

العاشر: الفسوق، ولا يختص بالكذب، بل يشمل السباب والمفاخرة أيضاً وليس في الفسوق كفارة، بل يجب التوبة عنه، ويستحب الكفارة بشي ء، والاحسن الذبح.

الحادي عشر: الجدال وهوقول «لا واللَّه» و «بلى واللَّه» وكلّ ما هو مرادف لذلك في أي لغة كان إذا كان في مقام إثبات أمر أو نفيه.

الثاني عشر: قتل هوام الجسد من القملة والبرغوث ونحوهما، وكذا هوام جسد سائر الحيوانات...

ص: 270

الثالث عشر: لبس الخاتم للزينة واستعمال الحناء للزينة...

الرابع عشر: لبس المرأة الحلي للزينة، ولا بأس بما كانت معتادة به قبل الاحرام.

الخامس عشر: التدهين وإن لم يكن فيه طيب.

السادس عشر: إزالة الشعر كثيره وقليله حتى شعرة واحدة عن الرأس واللحية.

السابع عشر: تغطية الرجل رأسه بكلّ ما يغطيه حتى الحشيش والحناء والطين.

الثامن عشر: تغطية المرأة وجهها بنقاب وبرقع ونحوهما.

التاسع عشر: التظليل فوق الرأس للرجال دون النساء...

العشرون: إخراج الدم من بدنه ولو بنحو الخدش أو المسواك..

الحادي والعشرون: قلم الأظفار وقصّها كلًا أو بعضاً من اليد أو الرجل.

الثاني والعشرون: قلع الضرس ولو لم يدم على الأحوط، وفيه شاة على الأحوط.

الثالث والعشرون: قلع الشجر والحشيش النابتين في الحرم وقطعهما.

الرابع والعشرون: لبس السلاح على الأحوط كالسيف والخنجر والطبنجة ونحوها مما هو آلات الحرب إلّالضرورة، ويكره حمل السلاح إذا لم يلبسه إن كان ظاهراً، والأحوط الترك.

هذا وقد تناول الامام- قدّس سرّه الشريف- كلّ ما يتعلق بالحج من الناحية الفقهية، لكننا نكتف بهذا المقدار ولغرض منهجي.

والجدير بالذكر أنّ الامام ركز على أهم مقومات الحج، كما ركّز العلماء الآخرون عليه، لكنه تميز أن فرّع من تلك المقومات الشرعية أبعاداً أبعدَ مدًى من المادة الفقهية والشرعية، فأقام أسساً جديدة جمع من خلال المادة الفقهية بالحياة

ص: 271

العملية للانسان، فأخرج بذلك الحج من الفكرة النظرية المجردة الى واقع عملي يعيشه الانسان بكلّ جوارحه، وذلك هو ما مارسهُ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام عندما كانوا يعتبرون الحج قاعدة حوار فكري وساحة تربوية ومدرسة علم ومعرفة لكل أبعاد الحياة وساحة صراع مع شياطين الانس والجن، بل كانوا عليهم السلام يعتبرون الحج الساحة التي يريدون للأمة المسلمة أن تسير في خطّها الاسلامي المستقيم، في خطة توجيهية عملية شاملة.

البُعد العبادي والروحي

المؤمن الصادق الطموح يجهد نفسه في أداء مناسك الحج بشكل متقن وصحيح وبنفسٍ طاهرة متعلقة بخالقها ومعبودها؛ لأنّ نفسه تنظر الى المرآة الالهية قبل أن تنظر الى المرآة الاجتماعية والاقتصادية وغيرهما... بحيث يكون سلوكه الذاتي والداخلي والروحي مطابقاً للخطاب الشرعي وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فج عميق.

وقد وجه الامام الخميني- قدّس سرّه الشريف- خطابات عديدة في هذا المجال؛ ليبين أنّ على الحاج أن يطهّر نفسه ويخلي قلبه من كلّ شي ء إلّاحب اللَّه والطاعة والخضوع له، وأنه يجب عليه أن يربط روحه بمعبوده الواحد الأحد، فقد قال رضى الله عنه محدثاً الحجيج:

«عندما تلفظون لبيك اللهم لبيك، قولوا: لا، لجميع الاصنام، واصرخوا: لا، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار، وأثناء الطواف في حرم اللَّه حيث يتجلى العشق الالهي، اخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهروا أرواحكم من أي خوف لغير اللَّه. وفي موازاة العشق الإلهي، تبرأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، من حيث أنّ اللَّه تعالى ومحبّيه تبرّوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم، وأثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول الى المحبوب، حتى إذا ما وجدتموه هانت كلّ الامور الدنيوية، وتنتهي كلّ الشكوك والترددات. وتزول كل المخاوف والحبائل

ص: 272

الشيطانية والارتباطات المادية.

وحين تلمسون الحجر الأسود أعقدوا البيعة مع اللَّه أن تكونوا أعداء لأعداء اللَّه ورسوله والصالحين والأحرار، ومطيعين وعبيداً له، أينما كنتم وكيفما كنتم، لا تحنوا رؤوسكم واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء اللَّه وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء، وإن كانوا متفوقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم.

ويسترسل الامام رضى الله عنه في حديثه للحجيج مذكرهم بالاطمئنان القلبي الحاصل من الحالة العرفانية التي يعيشها العبد من معبوده ومحبوبه قائلًا:

سيروا الى المشعر الحرام وعرفات وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد اللَّه الحق بإقامة حكم المستضعفين، وبسكون وهدوء فكّروا بآيات اللَّه الحق، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحق تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيق سُبل النجاة. بعد ذلك عندما تذهبون الى منى أُطلبوا هناك أن تتحقق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شي ء في طريق المحبوب المطلق، وأعلموا أنه ما لم تتجاوزا هذه الرغبات، التي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا الى المحبوب المطلق. وفي هذا الحال ارجموا الشيطان. واطردوا الشيطان من أنفسكم، وكرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهية؛ لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنهم.

هذا وقد أكّد الامام رضى الله عنه مراراً وتكراراً أنّ هذا السفر سفر إلهي وليس سفراً عادياً مادياً مجرّداً، وأنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة وهي التي تقرّب الانسان من افق التوحيد والتنزيه، وأنّه لن يحصل عليها الحاج ما لم يطبق أحكام وقوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن. وحرفاً بحرف، وإذا دفن الحاج في عالم النسيان الجوانب المعنوية فلا يظن أنه قادر على التخلص والتحرر من مخالب شيطان النفس، وما دام في أسر وقيد ذاته وأهوائه النفسية فلن يستطيع جهاداً في سبيل اللَّه ودفاعاً عن حرماته تعالى...

ص: 273

ومن الجدير بالمعرفة أنّ روح الحاج من خلال المراسم العبادية تسمو وترتفع الى أعلى درجات الكمال النفسي والروحي مع المعبود المحبوب من خلال تطبيق المناسك بالشكل الصحيح المتقن ومن خلال الأدعية والخوف والانسجام والتضرع والبكاء، خصوصاً عندما يشعر الحاج أنه من أناس يخافون الخالق ويهابونه في بيته وحرمه الشريف. يقول الامام رضى الله عنه: «اعلموا جميعاً أنّ البعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق إلّابعد أن يتحقق البُعد المعنوي».

فالبُعد المعنوي هو الدافع والوازع للمسلم يدفعه نحو الأبعاد الأخرى بالشكل الذي يرضي اللَّه جلَّ وعلا...

البُعد التربوي والاخلاقي

مناسك الحج ومراسمه ما هي إلّادورة تدريبية تربوية للنفس والروح والبدن على السواء لصنع انسان الحياة الحرّ في فكره وإرادته وفي حركة الحياة من حوله غير منقادٍ لأعداء اللَّه شياطين الانس والجنّ كبيرهم وصغيرهم.

فالافعال العبادية والتروك والالتزامات، كلّ هذه التعابير الجسدية والنفسية وسيلة من وسائل انتظام الخُلق وسموه ككيان روحي فكري أخلاقي عبادي متميز، ولهذا نجد الامام رضى الله عنه اهتم بهذا الجانب؛ لأنه الوسيلة الناجعة لارتقاء المسلم الأبعاد الأخرى، فقد جاء عنه قدس سره:

«في المواقيت الإلهية والمقامات المقدسة، في جوار بيت اللَّه الملي ء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدسة للعليّ العظيم، وحرّروا قلوبكم أيها الحجاج الأعزاء من جميع الارتباطات المتعلقة بغير اللَّه...».

وفي محلٍ آخر بيّن الامام رضى الله عنه أنّ الحجاج الحقيقين الواعيين المعتبرين يرجعون الى أوطانهم حاملين الأخلاق المفروضة عليهم بالحج وكأنها ملكة تأصلت بروحهم والتصقت بتصرفاتهم، فيقول رضى الله عنه:

«وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل، يعودون الى أرضهم وبيتهم

ص: 274

الأول، وبمراعاتهم للأخلاق الاسلامية الكريمة، وتجنبهم للجدال ومظاهر الزينة، يجسدون صفاء الأخوة الاسلامية ومظهر وحدة الأمّة المحمدية».

ففي الحج يتعود المسلم الإلفة، والتعارف عن طريق السفر والاختلاط، فتنمو لديه الروح الاجتماعية، وتتهذب ملكاته الأخلاقية، عن طريق هذه الممارسة التربوية، والتفاعل البشري الرائع، الذي يشهده في الحج، بأرقى درجات الالتزام، والاستقامة السلوكية، من خلال المناسك والمراسم الشرعية. وكثير ما يتغير الانسان الى الأفضل، فهو يربي- أي الحج- النفس على السلوك الصالح ويقضي على النوازع السلبية لدى الانسان المسلم الملتزم الصادق مع اللَّه ومع نفسه، فيتعود الحاج على الصبر، واحتمال المشاق والصعاب، اضافة الى تعوده من خلال المعاشرة على حسن الخلق والصدق واتساع الصدر للمجاملة والنقاش أو المجادلة والحوار مع الحجاج الآخرين، ويتعود اللطف، والتواضع، واللين، وحسن المحادثة، والتعاطف، والكرم، والامتناع عن: الكذب، والخصومة والغيبة والنميمة والتكبر، والعظمة، والجدال وغيرها حيث قال تعالى: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.

وهذه النواهي في الحج تساهم في بناء شخصية المسلم، وتعمل على اعادة تنظيمها، وتصحيح مسيرتها في الحياة، وتسد وجهتها ومسارها الى اللَّه تعالى...

وتزرع في النفس مكارم الاخلاق وتقودها الى استقامة السلوك، وحسن المعاشرة...

فقد قال الامام الخميني قدس سره مخاطباً الحجاج حاثاً على مكارم الاخلاق:

«أخرجوا من قلوبكم غير حب اللَّه ونوّروها بأنوار التجليات الالهية، حتى تكون الأعمال والمناسك في سيرها الى اللَّه مليئة بمضمون الحج الابراهيمي وبعده بالحج المحمدي، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنية، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون الى

ص: 275

أوطانكم، وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية، وبقبضات مليئة بالقيم الاسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من ابراهيم خليل اللَّه الى محمد حبيب اللَّه صلى اللَّه عليهم وآلهم أجمعين...».

وقال في مكارم الأخلاق وتربية النفس ايضاً:

«... تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة. هذه القيم والدوافع التي تحرّر الانسان من أسر النفس الأمارة بالسوء، وتنجّي من الارتباط بالشرق والغرب، وتوصل الى شجرة الزيتون المباركة اللاشرقية واللاغربية».

البُعد السياسي

إنّ أغلب خطابات الامام رضى الله عنه السنوية لحجاج بيت اللَّه الحرام كانت تتناول البُعد السياسي بالخصوص بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران... كان يعرض فيها قضايا الأمة الكبرى ومشاكلها، مستنهضاً المسلمين الى وجوب التحرك الشامل للتصدي بها، داعياً إياهم الى الوحدة في العمل والصف والأهداف تحت راية الاسلام للتخلص من الظلم والاستضعاف والتخلف والتبعية للاستكبار العالمي، والسعي الى تحقيق ما من شأنه تعزيز ونشر قيم اللَّه وأحكامه في الأرض.

يقول الامام الخميني قدس سره: «هناك عوامل سياسية عديدة وراء عقد الاجتماعات والمجامع وخاصة اجتماع الحج القيم، والتي منها التعرف على المشاكل الأساسية والقضايا السياسية للاسلام والمسلمين، ولا يمكن ذلك إلّاباجتماع رجال الدين والمفكرين والملتزمين الزائرين لبيت اللَّه الحرام، وذلك بعرض وبتبادل الآراء لإيجاد الحلول، وفي العودة الى البلدان الاسلامية يعرضونها في المجامع العامة ويسعون في رفع وحل مشاكلهم».

كان موسم الحج فرصة نادرة؛ ليوصل الامام قدس سره فكره النهضوي لجميع مسلمي العالم، فكان يناشد المسلمين في موسم الحج قائلًا:

ص: 276

«ماذا دهاكم يا مسلمي العالم، أنتم الذين استطعتم أن تحطموا القوى العظمى في صدر الاسلام مع قلة عددكم، وأوجدتُم الأمة الاسلامية الكبرى، واليوم مع ما يقارب من مليار نسمة وامتلاككم للثروات الكبيرة، التي هي أكبر حربة أمام الأعداء، أصبحتم هكذا أذلاء ضعفاء! هل تعلمون أنّ جميع مصائبكم ناشئة من الاختلاف والتفرقة بين رُؤساء بلادكم وبالتالي بينكم أنفسكم.

قوموا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم بأيديكم واخضعوا لأمر اللَّه تعالى؛ لكي تعيدوا مجد الإسلام العزيز وعظمته. تعالوا واستمعوا الى موعظة واحدة من اللَّه عندما يقول: قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا للَّه مثنى وفرادى.

قوموا جميعاً للَّه قياماً فردياً لمواجهة جنود الشيطان في باطنكم وقياماً جماعياً أمام القوى الشيطانية؛ لذا كان القيام إلهياً وكانت النهضة للَّه وهي منتصرة.

يا زوار بيت اللَّه: اتحدوا معاً في المواقف والمشاعر الإلهية، واطلبوا من اللَّه تعالى غلبة الاسلام والمسلمين ومستضعفي العالم.

أيها المسلمون وأيها المستضعفون في العالم؛ تعاضدوا وتوجهوا الى اللَّه العظيم والجأوا الى الاسلام وانتفضوا ضد المستكبرين ومنتهكي حقوق الشعوب.

ولا نستغرب من الامام رضى الله عنه بصفته مرجعاً دينياً أن يتجه هذا الاتجاه في مفهوم الحج وواقعه العملي، فإنه كما قال د. سمير سليمان: «إنّ هذه الطروحات التي رأى الامام موسم الحج من خلالها هي- من غير شك- انعطاف مفهومي كبير في اتجاه العودة الى الينابيع والاصول الاسلامية التي لم تكن عبادة الحج فيها إلّامصادر طروحات الامام ومرجعها، فلم يكن الحج أيام النبي صلى الله عليه و آله إلّافي الإطار الذي أعاد الامام رسمه وربطه بالمتغيرات الزمنية والاجتماعية والسياسية المستجدة، فكان له في رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أسوة حسنة عندما قام بمفرده ليرفع لواء التوحيد لصالح المستضعفين، في وجه عبدة الاصنام والمستكبرين».

وقد كان الامام رضى الله عنه جاداً ومخلصاً في توجيه المسلمين كافة وتحويل الحج الى

ص: 277

مؤتمر اسلامي عام، تعرض فيه المشاكل الصعبة التي يعانيها العالم الاسلامي في كل بقاع العالم، كقضية فلسطين وغيرها، ومعالجة كل القضايا بصدق وإخلاص ووفاء...

ولكن كانت الظروف أقوى من أن تأخذ هذه الخطوة مجراها الطبيعي، فقد قوبلت بالضغط والتعتيم والتشويه والتضيق من قبل الاستكبار العالمي.

«ولو رجع المسلمون الى الماضي قليلًا، الى ما عانى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأئمة الهدى من الغربة لأجل دين الحق وازهاق الباطل، لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا على كثرة التهم والإهانات التي كالتها ألسنة أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان. وفي نفس الوقت استمروا وأكملوا طريقهم مع وجود الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا ولم يهنوا، ومن بعدها تحمّلوا الهجرة والغربة ومراراتها وآلامها في سبيل دعوة الحق، وتبليغ رسالة اللَّه وتواجدوا في الحروب المتتالية وغير المتكافئة، رغم المؤامرات وكثرة المنافقين، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمة عالية وصلبة حيث شهدت صخور وحصى مكّة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقتها وأسواقها آثار تبليغ رسالتهم.

وإذا ما رفعنا الستار وكشفنا النقاب عن سرّ ورمز تحقق فاستقم كما أمرت لعرف وعلم زوّار بيت اللَّه الحرام كم سعى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لأجل هدايتنا وحصول المسلمين على الجنّة».

البُعد الاجتماعي

الحج ذلك المؤتمر الكبير الذي يجتمع فيه الملايين من المسلمين في كلّ عام، وأغلبهم حريصٌ على أن يكون على أتم أشكال الطهارة البدنية والروحية، ولا شك أن هؤلاء الأفراد- بسبب شروط الحج في البلوغ والعقل- لديهم القابلية الفكرية والاستعداد الروحي والذاتي على استيعاب وتقبل شروط ومفردات التغير الاجتماعي...

يقول الامام الخميني قدس سره في هذا المجال: «اعلموا أيها المسلمون، أن هذا التجمع

ص: 278

الكبير، الذي ينعقد كلّ عام بأمر من اللَّه تبارك وتعالى، يفرض عليكم- بصفتكم أمة مؤمنة ذات عقيدة راسخة- أن تبذلوا جهودكم في سبيل تحقيق أهداف الاسلام السامية وشريعته الغراء، وفي سبيل تقدم المسلمين وتضامنهم ووحدتهم الشاملة».

وهذا المؤتمر الالهي لا يعطي ثماره ولا يسمو الى الهدف الاسلامي المطلوب، إلّا إذا عرف الحاضرون فيه والمدعوون اليه كيف يتصرفون ويستخدمونه «لتبادل الآراء في حل مشاكلهم العامة أولًا، ومشاكل بلادهم الاسلامية ثانياً، وليتعرفوا على ما يحلّ بإخوانهم المسلمين في بلادهم من أساليب المستعمر، وماذا يجري عليهم من مصائب وآلام» و «الآن حيث يجتمع مسلمو العالم من البلاد المختلفة حول كعبة الآمال وحج بيت اللَّه؛ للقيام بهذه الفريضة الإلهية العظيمة، وعقد هذا المؤتمر الاسلامي الكبير في هذه الأيام المباركة، فإنّ على المسلمين الذين يتحملون رسالة اللَّه تعالى، أن يستفيدوا من المحتوى السياسي والاجتماعي للحج بالاضافة الى المحتوى العبادي منه ولا يكتفوا بالمظهر».

وقد دعا الامامُ المسلمين في كافة قارات العالم المدعوين الى مؤتمر السماء وحثهم على الوحدة الاسلامية ووحدة الكلمة والتعاون والاعتصام بحبل اللَّه المتين وعدم التفرقة قائلًا: «أيها المسلمون في العالم ويا أتباع مبدإ التوحيد: إنّ سبب كلّ المشاكل في البلاد الاسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم التعاون، ورمز الانتصار هو وحدة الكلمة وايجاد التعاون. قال تعالى في جملة واحدة: واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرقوا... الاعتصام بحبل اللَّه بيان لتعاون المسلمين، كونوا جميعاً للاسلام وتوجهوا الى الاسلام ولصالح المسلمين، وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذي هو أساس مشاكلنا وتخلّفنا».

وقال قدس سره أيضاً: «إنّ الحج يمثل أفضل مكان لتعارف الشعوب الاسلامية، حيث يتعرف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّى أنحاء العالم، ويلتقون مع بعضهم في البيت الذي تتعلق به كلّ المجتمعات الاسلامية من أتباع إبراهيم الحنيف».

ص: 279

فالحج إذن محل اجتماع المسلمين أسودهم وأبيضهم، عربيهم وأعجميهم، غنيهم وفقيرهم، رئيسهم ومرؤوسهم، رجالهم ونسائهم، كلّ ذلك يدلّ على أنّ من مقاصد الحج هو تقريب الأفراد من مختلف الأجناس والمواطن نحو بعضهم البعض، حتى يتم تفاعلهم الاجتماعي وهم في أسمى درجات العبادة والتنسك والابتهال والدعاء في مجتمع التوحيد الاسلامي وبالقرب من بيت المعبود والمحبوب.

ولا شك أنّ هذا ينسجم تماماً مع أهداف الرسالة الاسلامية في إقامة دولة التوحيد العالمية المنسجمة على كلّ الأصعدة الحياتية.

يقول الامام الخميني قدس سره في بيانه الى حجاج بيت اللَّه الحرام:

«ليعلم الاخوة أهل السُنة في جميع البلدان الاسلامية أنّ المأجورين المرتبطين بالقوى الشيطانية الكبرى لا يستهدفون خير الاسلام والمسلمين. وعلى المسلمين ان يتبرأوا منهم ويعرضوا عن اشاعاتهم المنافقة».

ثم يضيف قائلًا: «إنّي أمد يد الأخوة الى جميع المسلمين المتلزمين في العالم، وأطلب منهم أن ينظروا الى الشيعة باعتبارهم أخوة اعزاء لهم، وبذلك نشترك جميعاً في إحباط هذه المخططات المشؤومة».

وقال أيضاً: «... وتجنبوا التفرقة والتنازع: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم......».

وخاطب الكتّاب والخطباء المجتمعين مع إخوانهم في عرفات ومنى والمشعر وغيرها، قائلًا:

«أيها الكتّاب والخطباء: أُذكروا قضاياكم الاجتماعية والسياسية لاخوانكم المؤمنين أثناء الاجتماعات الكبيرة في عرفات ومشعر ومنى ومكة المعظمة والمدينة المنورة واطلبوا منهم العون».

وقد يعرّف الامام الحج بأنه نداء لايجاد وبناء المجتمع البعيد عن الرذائل

ص: 280

المادية والمعنوية، وأنّ مناسكه تجلٍ عظيم لحياة كريمة ومجتمع متكامل في هذه الدنيا، وانه يتواصل فيه مجتمع المسلمين من أي قومية كانوا ويصبحوا يداً واحدة، وأنه كذلك ساحة عرض ومرآة صادقة للاستعدادات والقابليات المادية والمعنوية للمسلمين.

البُعد الثقافي

الحج يمنح المجتمعات الإنسانية مصدراً مستمراً من مصادر الكسب الثقافي الناتج عن تفاعل الأفراد من مختلف الثقافات والطبائع البشرية، وذلك عن طريق تقريب الأفراد- بأجناسهم المتباينة- في المكان الواحد في الوقت المعين؛ ليتشاوروا في أمور دينهم وعقيدتهم وحياتهم، ويتبادلوا الخبرات والتجارب والآراء والعادات الحسنة، ويتعرف بعضهم على أخبار البعض الآخر، فيزداد الوعي، وتنمو المعرفة، وتشحذ الهمم من أجل الاصلاح والتغيير والاهتمام بشؤون الأمة والعقيدة ليشهدوا منافع لهم.

وقد بين الامام قدس سره أنّ الحج فرصة ثمينة لتشترك أفكار المسلمين لنشر الثقافة الاسلامية والقرآنية، وحذّر من تسرب الثقافة الغربية الى الشعوب المسلمة، فقال:

«اليوم حيث نشبت براثن الاستعمار الخبيثة- بسبب تهاون وتساهل الشعوب الاسلامية- في أعماق الأرض المترامية لأمة القرآن، لتنهب جميع الثروات الوطنية والخيرات الطائلة، ولتنشر الثقافة الاستعمارية المسموعة في أعماق وقصبات العالم الاسلامي، ولتقضي على ثقافة القرآن، وتجنّد الشباب أفواجاً لخدمة الأجانب المستعمرين، وتطلع علينا كلّ يوم بنغمة جديدة وبأسماء خادعة تضلّ بها شبابنا. في مثل هذه الظروف عليكم، يا أبناء الأمة الأعزاء المجتمعين لأداء مناسك الحج في أرض الوحي هذه، أن تستثمروا الفرصة وتفكروا في الحل، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحل مسائل

ص: 281

المسلمين المستعصية».

ثم قال- قدّس سره الشريف- في مناسبة أخرى للحج:

«من المسلّم أن حجاً دون معرفة ووعي ودون روح ودون حركة ونهوض، وحجاً دون براءة، وحجاً دون وحدة، وحجاً لا ينتج هدماً للكفر والشرك، ليس حجاً، وخلاصة الأمر أنه يجب على جميع المسلمين السعي لأجل تجديد حياة الحج والقرآن وإعادتهما ثانية الى ساحة حياتهم، وعلى المحققين المؤمنين بالاسلام أن يبينوا التفاسير الصحيحة والواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كل نسيج خرافات وادعاءات علماء البلاط».

وقال أيضاً:

«إنني أوصي جميع العلماء المحترمين والكتاب والمتحدثين الملتزمين أن يوضّحوا لجميع المسلمين وخاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدسة، كما أني أوصيهم بتعليم مناسك الحج وكيفية أدائها بشكلها الصحيح حتى يكون عملهم خالياً من الأخطاء. وعدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة وأنجزنا الواجب كيفما كان، فإن الأخطاء في هذه الفريضة تترك آثاراً واشكالًا على صحتها قد تكلفهم وقتاً وجهداً مضاعفاً لتصحيحها».

وأيضاً خاطب العلماء وحملهم المسؤولية في إيقاظ المسلمين في هذا الاجتماع الكبير، فقال:

«وعلى العلماء المشاركين في هذا الاجتماع، من أي بلد كانوا، أن يصدروا- بعد تبادل وجهات النظر- بيانات صريحة واضحة لإيقاظ المسلمين، وأن يوزعوها في مهبط الوحي بين أبناء الأمة الاسلامية، ثم ينشروها في بلدانهم بعد عودتهم».

كان الامام قدس سره متيقناً أنّ التلاقح الفكري للمسلمين في موسم الحج سيعطي ثماراً جيدة، لكن أين الأيادي المؤيدة لهذا المشروع الاصلاحي؟!

ص: 282

البُعد الاقتصادي

والحج بما هو تجمع بشري ضخم، يستقطب الملايين من المسلمين، يأتون رجالًا وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فحجّ عميق، فهو ينتج حركة بشرية هائلة، يتبعها تحرك اقتصادي ومالي ضخم، عن طريق النقل، والاستهلاك، وحمل البضائع، وتبادل النقود، وشراء الأضاحي والحاجيات، ومستلزمات الحج والإقامة والسفر، فينتفع العديد من المسلمين ويشهد مجتمعهم حركة اقتصادية ومالية نشطة.

والحالة الاقتصادية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع، وما يشهد من منافع يمكن تحقيقها من خلال الحج في الحياة الفردية والاجتماعية الى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر اللَّه تعالى في الأيام المعلومات وذلك في قوله تعالى:

ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير.

وكذلك في قوله تعالى: ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربكم حيث توهم البعض أنّ الاكتساب في أيام الحج حرام، فأزال اللَّه سبحانه هذا الوهم وبين أنّ الاكتساب لا يتنافى مع الإخلاص في أعمال الحج.

ولم يغفل الامام الخميني قدس سره البعد الاقتصادي للحج فقد اصدر بياناً بمناسبة موسم الحج قال فيه:

«اخواني وأخواتي:

إنكم تعرفون أنّ القوى الكبرى الشرقية والغربية تنهب جميع ثرواتنا المادية والمعنوية وقد جعلونا في حالة فقر وحاجة، سواء من الناحية السياسية أم الاقتصادية أم الثقافية، عودوا الى أنفسكم واسترجعوا شخصيتكم الاسلامية.

لا تخضعوا للظلم وافضحوا- بكلّ حذر- المؤامرات المشؤومة للناهبين الدوليين وعلى رأسهم أمريكا».

ص: 283

هذا وقد اكد الامام الخميني على الجانب الاقتصادي للحج رامياً الى عدم تقديم العمل التجاري على مبادئ وأوليات وأساسيات الحج، حيث يجب أن لا تطغى العمليات التجارية على أصالة الحج، وإلّا فالتجارة أيام الحج مباحة شرعاً، لكن المفروض أن لا تتغلب على الجانب الروحي والمعنوي والشرعي، وفي هذا المجال اكد الامام هذا المعنى معبّراً أنّ العمل التجاري من أمور الدنيا... فقد قال لحجاج بيت اللَّه الحرام محذراً:

«يا حجاج بيت اللَّه الحرام! انتبهوا الى أنّ السفر الى الحج ليس سفراً للتجارة، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا، وإنما هو سفر الى اللَّه. أنتم ذاهبون الى بيت اللَّه الحرام، فأتموا كلّ الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية... معاذ اللَّه أن تجعلوا هذا السفر سفراً للتجارة، وأن يكون ميداناً تبيحوا فيه الامور والمسائل التجارية فيما بينكم».

وفي النهاية

لابد من القول: إنّ جميع المذاهب الاسلامية اهتمت بفريضة الحج وعدتها شعيرة مهمة من شعائر الدين الحنيف، وأنها مظهر من مظاهر وحدة الأمة الاسلامية واستقلال كيانها، وأنه- أي الحج- مظهر قوة المسلمين وعظمتهم...

لكن كثيراً من المسلمين، ابتعدوا عن أهدافه وجردوه من أصالته، وألبسوه لباساً شكلياً يهتم بالمظهر الخارجي في أغلب تكاليفه الشرعية، حتى ظهور المشروع الاصلاحي للامام الخميني رضوان اللَّه تعالى عليه الذي شمل كلّ جوانب الحياة العبادية والسياسية والاجتماعية والروحية... الخ.

وكان الامام يتحرك في مشروعه الاصلاحي باتجاه هدف واضح، وقد أعلن عنه في أكثر من مناسبة، من خلال توجيهاته وبياناته وخطاباته الموجهة للأمة ولحجاج بيت اللَّه الحرام في موسم الحج من كلّ عام، وبذلك أثبت صدقية مشروعه من خلال الواقع...

ص: 284

وقد حرص على تأكيد دور علماء الدين في الأمة باعتبارهم: «خلفاء الرسل» و «حكاماً على الناس» و «ورثة الأنبياء».

وذكّر أبناء آدم بشكل عام مبيناً الهدف الرئيسي من إيجاد فريضة الحج في الأماكن المقدسة من مكة ومنى، قائلًا:

«لقد عرفنا نحن ذرية آدم أنّ مكة ومنى أماكن لنشر التوحيد ونفي الشرك، الذي من مصاديقه التعلّق بالنفس والأعزاء.

لقد تعلّم أبناء آدم من هذه الأماكن الجهاد في سبيل اللَّه، فعليكم أن تعلموا العالم قيمة الفداء والتضحية، وقولوا له: إنه في سبيل اللَّه وإقامة العدل الإلهي وقطع أيادي المشركين في هذا الزمان، يجب أن يخلد الحق بتمامه ببذل أي شي ء حتى ولو كان مثل اسماعيل».

وقال أيضاً:

«إن إبراهيم واسماعيل وولدهم العزيز سيد الأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه و آله محطمو الأصنام ومعلمو البشرية أنه يجب تحطيم كلّ الأصنام والأوثان كيفما تكن. وأنّ الكعبة أم القرى على امتدادها وسعتها حتى آخر نقطة من الأرض وحتى آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الأصنام. أي صنم كان وكيفما كان أكان هياكلَ أو شمساً أو قمراً أو حيواناً أو انساناً أو صنماً».

ثم يضيف قائلًا ومتسائلًا:

«أوليست القوى الكبرى في زماننا أصناماً كبيرة سيطرت على العالم ودعته لعبادتها وفرضت نفسها عليه بالقوة والتزوير؟!... إنّ الكعبة المعظمة هي المركز الأوحد لتحطيم هذه الأصنام وتطهير هذه البقاع من كلّ أنواعها... قال اللَّه تعالى: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود».

وكان ما نسجه الامام في مشروعه على منوال أجداده السابقين من آل البيت- صلوات اللَّه عليهم جميعاً- فكان هدف الحج لديه واضحاً كوضوح

ص: 285

الشمس في رابعة النهار، كما كان لديهم، فقد تحدث الامام جعفر الصادق عليه السلام عن منافع الحج وفوائده بإجابته البليغة عن سؤال أحد أصحابه (هشام بن الحكم).

قال هذا الصحابي الجليل للامام يسأله: ما العلة التي من أجلها كلّف اللَّه العباد بالحج والطواف بالبيت؟

فقال عليه السلام: «إنّ اللَّه خلق الخلق... الى أن قال- وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب، ليتعارفوا، ولينزع كلّ قومٍ من التجارات من بلد الى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى... الخ».

وعن الامام الرضا عليه السلام قال: «إنما امروا بالحج لعلة الوفادة الى اللَّه عزوجل، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف العبد، تائباً مما مضى، مستأنفاً لما يستقبل،... وحظر النفس عن اللذات، دائماً مع الخضوع والاستكانة والتذلل مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع، لجميع من في شرق الأرض وغربها، ومن في البر والبحر ممن يحج وممن لم يحج، من بين تاجر، وجالب، وبائع، ومشتر، وكاسب، ومسكين، ومكار، وفقير، وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه، ونقل أخبار الأئمة الى كل صقع وناحية، كما قال اللَّه عزّوجلّ... فلولا نفرَ من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وليشهدوا منافع لهم..

وبهذا خرجت فريضة الحج من جمودها وسكونها الى الحج المتحرك الهادف الذي أراده اللَّه تعالى لبني البشر في سبيل بناء الروح وتكامل الذات، ومن ثم بناء مجتمع متكامل الأبعاد.

ص: 286

الهوامش:

ص: 287

فريضة الحجّ في نظر الامام

ص: 288

فريضة الحجّ في نظر الإمام

حيدر حسن

«فريضة الحجّ لها بين الفرائض الإلهيّة خصائص متميّزة، ولعلّ الجوانب السياسية والاجتماعية لهذه الفريضة تفوق جوانبها الأخرى، مع أنّ جانبها العباديّ ذو خصائص متميّزة أيضاً.

على المسلمين الملتزمين الذين يجتمعون مرّةً في كلّ عام على صعيد المواقف الشريفة ويؤدّون واجباتهم الإسلاميّة في هذا المجتمع العامّ والحشْد الإلهيّ بمعزل عن الامتيازات، وبمظهر واحد، ودون اهتمام بما يميّز بينهم من لون أو لغة أو بلد أو منطقة، وبأبسط المظاهر المادّية، وباندفاع نحو المعنويّة والوفود على اللَّه... عليهم أن لا يغفلوا عن الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة لهذه العبادة».

الإمام الخميني قدس سره

ص: 289

اعتاد المسلمون على ممارسة الحج ممارسة عباديّة جافّة لا تنعكس لها أيّة آثار على شخصياتهم وسلوكهم إلّانادراً، كما لم يستغل هذا الملتقى الواسع والشامل لكلّ الشعوب الاسلاميّة- يوماً ما- من قبل المسلمين ولا سيّما العلماء المتواجدين في الحج لطرح القضايا والمشاكل المشتركة بينهم أو التفكير بوضع الحلول المناسبة لها. بل صيّروا منه سفرة سياحيّة لزيارة بيت اللَّه الحرام وزيارة قبر النبي وآله الأطهار مع الإتيان بالواجبات والمستحبّات المواردة في هذه العبادة فقط. أمّا التدخُّل في الشؤون الإسلاميّة فهو من ضمن الخطوط الحمر التي لا يحقّ للحاج تجاوزها؛ لذلك افتقدت هذه العبادة روحها والغاية من تشريعها.

مفهوم الحجِّ عند الإمام

«إنّ الحجّ هو أفضل ملتقًى للتعارف بين أبناء الشعوب الإسلاميّة. إذ يتعرّف المسلمون على إخوانهم في الدين من جميع أنحاء العالم، ويجتمعون في ذلك البيت الذي يخصّ جميع المجتمعات الإسلاميّة، وأتباع إبراهيم الحنيف، ويرجعون إلى بيتهم الأوّل من خلال وضع كلّ القوميّات والألوان والعناصر جانباً، ويعرضون على العالم كلّه صفاء الأخوّة الإسلاميّة، وآفاق انسجام الأمّة المحمديّة، من خلال رعاية الأخلاق الكريمة، وتجنُّب الجدل والتمحّلات».

إنّ الحج عند الامام- مفهوماً- يتجاوز حدود الممارسة العباديّة والطقوس التقليديّة إلى دائرة أوسع. فالحجّ- برأيه- مناسبة نادرة وفرصة ثمينة حيث تلتقي أعداد كبيرة من مسلمي العالم بما في ذلك العلماء والمفكّرون استجابة لأمر اللَّه- تعالى- لأداء مناسك الحجّ، ومثل هذه الفريضة لا يمكن أن تحقّقها أيّ قوّة اخرى.

يقول الإمام قدس سره: «اجتماع الحجّ أعظم اجتماع إذ لا تستطيع أيّ دولة أن تخلق مثله، واللَّه- تبارك وتعالى- أوجده لكي يجتمع المسلمون دون أن تنفق الدول أموالًا طائلة لتحقيق ذلك، ودون مشقّة وتعب، ولكن لا يستفاد من ذلك مع الأسف».

ص: 290

لذا يجب أن تستغل هذه المناسبة من قبل المسلمين؛ لتدارس أوضاعهم العامّة والخاصّة بعد أن يتعرفوا على بعضهم بعضاً.

وقد أناط الامام مهمّة تبنّي عقد الاجتماعات واللقاءات وإدارة الندوات إضافة إلى تعبئة المسلمين الوافدين إلى الديار المقدّسة وتوعيتهم، أناطها بالعلماء والمرشدين، فخاطبهم قائلًا:

«يجب على العلماء الذين يشاركون في هذا الاجتماع- من أيّ بلد كانوا- أن يتبادلوا الآراء وينشروا بيانات تستهدف توعية الشعوب، وينشروها بين المسلمين في مهبط الوحي، كما يجب عليهم نشرها بين أبناء بلادهم بعد الرجوع إليها. وليطلبوا فيها الى زعماء البلدان الإسلاميّة أن يجعلوا الأهداف الإسلاميّة نُصْبَ أعينهم، فلا يختلفوا فيما بينهم، ويتفكّروا في التخلّص من براثن الاستعمار».

ويضيف رحمه الله:

«على العلماء الأعلام، والخطباء العظام، أن يُنبّهوا المسلمين على مسائلهم السياسيّة وواجباتهم الخطيرة».

كما طالب الإمام أن تكون هذه الاجتماعات محرّرة من القيود، بعيدة عن الاضطهاد والإرهاب والممارسات التعسّفية؛ لأنّ المسلمين- كما يقول رحمه الله- المضطهدين في بلدانهم سياسيّاً يجب أن تعطى لهم الفرصة للتعبير عن آرائهم وإبداء وجهات نظرهم بالقضايا الراهنة. فهو يقول:

«بما أنّ مسلمي العالم لا يستطيعون تبيان مصائبهم والمظالم التي يفرضها عليهم حكّامهم المسلّطون عليهم بسيف الإرهاب والسجن والإعدام، فيجب أن يُسمح لهم بأن يعرضوا مظلوميّتهم ويبيّنوا مصائبهم في حرم الأمن الإلهيّ بكامل الحريّة ليذكِّروا باقي المسلمين بالسعي لإنقاذهم؛ لذا نحن نصرّ (بقوّة) على أن يَعتبِر المسلمون أنفسهم في بيت اللَّه الحرام وحرم الأمن الإلهيّ

ص: 291

أحراراً، في الأقل، من جميع قيود الظالمين، وأن يعلنوا البراءة ممّا يبغضون في استعراض مهيب ويستثمروا كلّ الوسائل للخلاص».

فلسفة الحجِّ في نظر الإمام

يقول رحمه اللَّه:

«إنّ أهم أسباب ما تعانيه المجتمعات الإسلاميّة هي أنّها لم تدرك الفلسفة الحقيقيّة للكثير من الأحكام الإلهيّة. والحجّ- بما يشتمل عليه من أسرار وعظمة- لا زال يُمارَس كعبادة جامدة، وحركات غير مثمرة؛ لذا فإنّ من الواجبات الكبرى على المسلمين أن يتوصّلوا إلى فهم حقيقة الحجّ. فما هو الحجّ؟ ولماذا يجب عليهم أن يخصّصوا جزءاً من إمكاناتهم المادّيّة والمعنويّة من أجل أدائه؟!

كلّ ما قدّمه الجهلة أو المغرضون أو المرتزقة تحت عنوان (فلسفة الحجّ) لا يعدو إطار تصويره بأنه عبادة جماعية وزيارة سياحيّة، فما علاقة الحجّ بالإجابة عن تساؤلات: كيف يجب أن نحيا؟ وكيف يجب أن نجاهد؟ وبأيّة صورة نواجه عالَم الرأسماليّة والشيوعيّة؟ وما علاقة الحجّ بوجوب انتزاع حقوق المسلمين والمحرومين من الظالمين؟ ما علاقة الحجّ بلزوم أن يظهر المسلمون كَقوّة كبرى ثالثة في العالم؟ وما شأنه هو بتحريض المسلمين للانقضاض على الحكومات العميلة؟ وهل هو إلّاسفرة سياحيّة لزيارة الكعبة والمدينة لا أكثر؟

هذا كلّما قدّمه أولئك».

انتهج المستكبرون في البلاد الإسلاميّة سياسة معادية مبرمجة تستهدف صرف أبناء الأمة الإسلامية عن دينهم وإسلامهم عن طريق نشر المدارس الفكريّة المادّية والتيّارات المنحرفة، فعمدوا بواسطة الحملات الإعلاميّة المكثّفة إلى إفراغ الإسلام من محتواه وروحه، وتشويه أحكامه ومبادئه حتّى أصبح الدين في أذهان معتنقيه مجرد طقوس لا علاقة لها بحياة الإنسان ومستقبله.

ص: 292

وقد وظّف الطغاة طاقات كبيرة لتحقيق ذلك، كما استعانوا ببعض المثقفين دعاة الحداثة والمعاصَرة المرتبطين بالشرق أو الغرب، والمتظاهرين بالتطرّف الدينيّ السلفيّ لتنفيذ مشاريعهم وخططهم.

لكن بالرغم من جميع تلك المحاولات لم تتمكن تلك الجهود أن تحقّق كامل أهدافها طالما كان في الأمّة رجال يَقِظون كالإمام القائد رحمه الله يتمتّعون بدرجة عالية من الوعي والثقافة، فلا تنطلي عليهم خطط الاستعمار وألاعيبه.

والحجّ هو أحد المفردات التي عمل عليها الاستكبار العالمي بواسطة عملائه طويلًا حتّى تمكّن من أن يصيِّر منه طقساً عبادياً يحظر خلاله ممارسة أيّ نشاط آخر خلافاً لما كان عليه المسلمون الأوائل، وبعيداً عن روح التشريع الإسلاميّ.

لذا يقول الإمام بهذا الصدد:

«لقد كان هذان الحرمان مركزين للعبادة والسياسة الإسلاميّة. فيهما ترسم خطط الفتح، وتحدّد مناهج السياسة في عهد الرسول صلى الله عليه و آله وهكذا بقيا فترة طويلة بعد رحيله.

بيد أنّ سوء الفهم وأغراض القوى الكبرى ودعايتها الواسعة جعلت المشاركة في الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة، التي هي من أهمّ واجبات المسلمين، داخل الحرمين الشريفين جريمة.

... هل هتاف هؤلاء ضدّ أميركا وإسرائيل- عدوّتي اللَّه ورسوله- جريمة؟».

إنّ فصل السياسة عن الدين من الأمور التي يرفضها الإمام رحمه الله لأنه يعتقد أنّها جزء منه. وما لم يتمكن الدين من ممارسة دوره على الصعيد السياسيّ يفتقد حركيّته وفاعليّته. كما يعتقد أنّ التجمّعات العباديّة تنطوي في ذاتها على عطاء سياسيّ؛ فلا يجوز أن تجرَّد عنه وإلّا فقدت محتواها ولم تحقّق أهدافها. يقول رحمه الله:

«كثير من الأحكام العباديّة تصدر عنها معطيات اجتماعيّة وسياسيّة. فعبادات الإسلام عادة توأم سياسته وتدابيره الاجتماعيّة.

ص: 293

صلاة الجماعة، مثلًا، واجتماعات الحجّ والجمعة تحقق- بالإضافة إلى مالها من آثار خلقيّة وعاطفية- نتائج وآثاراً سياسية.

استحدث الإسلام هذه الاجتماعات وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتّى تعمّ المعرفة الدينيّة وتعمّ العواطف الأخويّة وتتماسك عرى الصداقة والتعارف بين الناس، وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتبحث المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة وحلولها.

المسلمون الأوائل كانوا يجنون من جماعاتهم وجُمعاتهم وأعيادهم ومواقف حجّهم أحسن الثمار».

لذا فالإمام رحمه الله يتوفّر على فلسفة خاصّة بالحجّ تعتمد على أساس إسلاميّ رصين. وفيما يلي استعراض موجز لفلسفة الحجّ على ضوء توجيهاته وبياناته:

أولًا: العمل على إرساء دعائم الوحدة الإسلاميّة، وتوظيفها لخدمة المصالح الإسلاميّة المشتركة، وتكريسها لطرح الحلول المناسبة للقضايا الراهنة، واستغلالها لمواجهة التحدّيات الداخليّة والخارجيّة. يقول الإمام قدس سره:

«علينا أن نستثمر موسم الحجّ ونجني منه أطيب الثمار في الدعوة إلى الوحدة، وإلى تحكيم الإسلام في حياة الناس كافّة. علينا أن نبحث مشاكلها ونستمدّ حلولها من الإسلام. علينا أن نسعى لتحرير فلسطين وغيرها».

«في هذا الاجتماع المقدّس (الحجّ) لابدّ من تبادل الآراء في القضايا الاساسيّة للإسلام أوّلًا، وتبادل الآراء في القضايا والمشاكل الخاصّة للبلدان الإسلاميّة، وليتعرّف الحجاج على ما يحلّ بإخوانهم المسلمين في بلدانهم على أيدي الاستعمار وعملائه. ولابدّ لأهل كلّ بلد في هذا الاجتماع المقدّس أن يعرّفوا المسلمين في العالم بمشاكلهم الداخليّة».

ثانياً: تعميق روح العبودية للَّه تعالى، من خلال ممارسة مناسك الحجّ ممارسةً عباديّةً واعية تتجاوز حدود المظاهر والأفعال المرئية، وترقى بالمرء إلى أعلى

ص: 294

درجات سلّم التكامل الأخلاقي والعقائدي، وتدفعه نحو بناء مجتمع تحكمه المبادئ والقيم الإسلاميّة. يقول الإمام رحمه الله:

«الحجّ هو منطلق رسالة بناء مجتمع المستقبل المطهّر من الرذائل الماديّة والمعنويّة كافة».

«مناسك الحجّ هي مناسك الحياة برمّتها».

«الحجّ تنظيم وتدريب وتأسيس لهذه الحياة التوحيديّة... والحجّ ميدان لتجلّي عظمة طاقات المسلمين ولاختبار قواهم الماديّة والمعنويّة. والحجّ كالقرآن...

مبارك ينتفع منه الجميع، ولكنّ العلماء والمتبحرين والعارفين بآلام الأمّة الإسلاميّة، إذا فتحوا قلوبهم لبحر معارفه- ولم يرهبوا الغوص والتعمق في أحكامه وسياساته الاجتماعيّة- فإنهم حاصلون من أصداف هذا البحر على لئالئ الهداية والوعي والحكمة والرشاد والتحرر أكثر من غيرهم، ولارتووا من زلال الحكمة والمعرفة إلى الأبد».

«إنّ الحجّ أفضل مناسبة تدعو المؤمن للتفكير؛ لأنّها تثير أمامه الكثير من التساؤلات بشأن الأهداف الداعية إلى ممارسة هذه العبادة الشاقّة المكلفة، وتدفعه لبلورة أجوبة مقنِعة بشأنها:

لماذاالطواف في البيت الحرام؟ لماذا السعي بين الصفا والمروة؟ لماذا الوقوف في عرفات والمشعر الحرام؟ لماذا المبيت في مِنى؟ لماذا يرجم الشيطان؟

وعندما يقف المؤمن على أرض مكّة يتوجّب عليه أن يتساءل مع نفسه:

لماذا حطّم إبراهيم الاصنام؟ ولماذا حطّم محمدّ صلى الله عليه و آله الاصنام؟ وما هي دعوى رسول اللَّه؟ وهل نحن على نهجه سائرون؟ وماذا ينبغي علينا الآن فعله؟».

يقول الإمام رحمه الله:

«حقيقة الأمر أنّ الحجّ هو من أجل اقتراب الإنسان من ربّ البيت وارتباطه به، فليس الحجّ حركات وأوراداً وألفاظاً وحسب، فبالكلام والألفاظ والحركات

ص: 295

الشكليّة الجامدة لا يمكن أن يصل الإنسان إلى اللَّه.

الحجّ منبع المعارف الإلهيّة، فيجب البحث فيه عن المحتوى الحق للسياسة الإسلاميّة لجميع شؤون الحياة».

«على شعوب الأمّة الإسلاميّة من أيّ قوميّة كانت أن تصبح إبراهيمية؛ لتلتحق بصفّ أمّة محمّد صلى الله عليه و آله وتذوب فيه فتصبح معه يداً واحدة».

«الملايين يذهبون كلّ عام إلى مكّة وتطأ أقدامهم الأرض التي وطئتها أقدام النّبي الأعظم صلى الله عليه و آله وإبراهيم وإسماعيل وهاجر، ولكن ما من أحد يسائل نفسه:

مَنْ هما إبراهيم ومحمّد عليهما السلام؟ وماذا فعلا؟ وماذا كانت أهدافهما؟ ولأيّ شي ء دعوانا؟ وكأنّ هذا هو الشي ء الوحيد الذي لا ينبغي لنا التأمّل فيه!».

«الإسلام دينٌ عبادته سياسة، وسياسته عبادة. والآن إذ يجتمع المسلمون من شتّى بقاع الأرض حول كعبة الآمال لحجّ بيت اللَّه، والقيام بالفرائض الإلهيّة، وعقد هذا المؤتمر الاسلاميّ الكبير، في هذه الأيّام المباركة وفي هذه البقعة المباركة... يتوجّب على المسلمين، الذين يحملون رسالة اللَّه- تعالى- أن يستوعبوا المحتوى السياسيّ والاجتماعي للحجّ إضافة إلى محتواه العبادي».

«إنّ الطواف حول بيت اللَّه يعلّمنا أن لا نطوف حول بيت إلهٍ غيرِ اللَّه، ورجم الشيطان يرمز لرجم شياطين الإنس والجنّ».

«فحينما ترجمون الشيطان عاهدوا ربّكم على طرد شياطين الإنس والقوى الكبرى من بلادكم الإسلاميّة العزيزة».

ثالثاً: البراءة من المشركين.

«ولاشكّ في أنّ الحجّ بغيرروح ولاحركة، ولاانتفاضة ... ولابراءة من المشركين ...

ولا وحدة... ودون أن يؤدي إلى تدمير الكفر والشرك... ما هو بِحَجٍّ».

«على المسلمين، إذن، تقع مهمة إحياء الحجّ والقرآن الكريم وإعادتهما إلى ميادين حياتهم. وعلى الباحثين الملتزمين أن يلقوا في اليمّ بكلّ الخرافات

ص: 296

والضلالات التي يطرحها فقهاء البلاط، وذلك بأن يتصدوا بجدّ لإيضاح أسرار الحجّ وفلسفته الحقّة».

«إنّ إعلان البراءة من المشركين يعتبر من الأركان التوحيديّة والواجبات السياسيّة للحجّ. ويجب أن تقام في أيّام الحجّ بكلّ صلابة وعظمة مسيرات ومظاهرات كبرى. وعلى الحجّاج المحترمين- إيرانيّين وغير إيرانيّين- أن يشاركوا فيها بتنسيق تامّ... ويطلقوا بجوار بيت التوحيد صرخة البراءة من مشركي الاستكبار العالمي وملحديهم وعلى رأسهم أمريكا المجرمة، وأن لا يغفلوا عن إظهار عدائهم وتذمُّرهم من أعداء اللَّه وأعداء خَلقه».

إن كلمة التوحيد وشعار المسلمين (لا إلهَ إلّااللَّه) عبارة عن معادلة متوازنة وثابتة لا تقبل التلاعب ولا الالتواء. أحد طرفيها: إثبات الألوهيّة للَّه وحده.

وطرفها الآخر: نفي كلّ الآلهة الأخرى.

ويترتّب على هذه المعاملة الصارمة أننا عندما نؤمن بالطرف الأوّل يجب أن نكفر بالثاني. وعندما ندين للأوّل نترك الثاني. وعندما نحب الأول نتبرأ من الثاني. وهذه هي حقيقة العبوديّة للَّه تعالى كما يقول الإمام رحمه الله:

«تُرى هل تحقيق الديانة هو غير إعلان المحبّة والإخلاص للحقّ وإعلان السخط والغضب والبراءة من الباطل؟ يستحيل أن يتحقّق خلوص حب الموحّدين بغير إعلان الاستياء من المشركين من أعداء اللَّه وأعداء خلقه».

ولما كان الحجّ عبارة عن تكريس وتأكيد العبودية للَّه سبحانه تعالى- قولًا وعملًا- فيجب إذن في قبال ذلك أن نكرّس ونؤكّد البراءة من كلّ المشركين والشياطين والطواغيت قولًا وعملًا؛ لذا ففي الوقت الذي نطوف فيه في البيت، ونقف في عرفات لدعاء اللَّه يجب أن نذهب لنرجم الشيطان، ونعلن براءتنا منه، وعندما نلبّي بأعلى أصواتنا: «لَبَّيك اللّهمّ لَبَّيك...» يجب أن نرفع أصواتنا عالياً لإعلان البراءة من أعدائه؛ لكي تبقى (لا إله إلّااللَّه) حيّةً في قلوبنا وتتفاعل في

ص: 297

نفوسنا، وعلى ضوئها نتّخذ موقفنا، ونرسم منهج سياستنا، ونخطط لمستقبلنا، ونضع الحلول لمشكلاتنا.

إذ لم تكن أطروحة الإمام (إعلان البراءة من المشركين) في موسم الحجّ عن طريق التظاهرات والمسيرات، وعقد الندوات والمؤتمرات أجنبيّةً عن روح الاسلام، ولا غريبة على تشريعاته، وإنّما السياسات العملية هي التي عملت على قلب الحقيقة ودأبت على تمويهها حتّى صار إعلان البراءة من المشركين مخالفاً يتنافى مع مناسك الحجّ ويؤدّي إلى المساس بقداسة بيت اللَّه الحرام!!

مع أنّ الحجّ- كما مرّ- ليس إلّاتظاهرة عامّة دعا لها اللَّه (جلّ وعلا):

وَأذَانٌ مِنَ اللَّهِ ورسولهِ إلى النّاس يَوم الحج الأكبر... لتأكيد العبودية الخالصة للَّه- تعالى- وإعلان البراءة من الشرك والمشركين.

وهنا يقول الإمام الخميني رحمه الله:

«وأيّ بيت هو أفضل من الكعبة- البيت الآمن، الطاهر... بيت الناس- لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرقّ والدناءة واللاإنسانيّة قولًا وفعلًا؟

وتحطيم أصنام الآلهة تجديداً لميثاق: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ... وذلك إحياءً لذكرى أهم وأكبر حركة سياسيّة للرسول صلى الله عليه و آله؟»

«فإذا لم يعلن المسلمون البراءة من أعداء اللَّه في بيت الناس وبيت اللَّه، فأين يستطيعون إعلان ذلك؟ وإذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب خندقاً ومتراساً لجنود الرحمن، المدافعين عن الحرم، وحرمة الأنبياء، فأين هو مأمنهم وملجؤهم إذن؟».

«وعلى أية حال، فإنّ إعلان البراءة في الحجّ هو تجديد العهد بالجهاد، وتربية المجاهدين لمواصلة الحرب ضد الكفر والشرك وعبادة الأصنام، وهو لا يقتصر على الشعارات بل يتعداها لتعبئة جنود اللَّه وتنظيمهم أمام جنود إبليس، وبقيّة الأبالسة، والبراءة هذه تعتبر من المبادئ الأوّليّة للتوحيد».

ص: 298

الحج وآثاره التربوية والاجتماعية والسياسية..

الحج وآثاره التربوية والاجتماعية والسياسية..

الحج وآثاره التربوية والاجتماعية والسياسية..

حسين علاوي

الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، التي ثبتت أصولها بالكتاب والسنّة، وقد عرّف بتعاريف متعدّدة أجمعها وأشملها ما جاء في كتب الفقه من أنّ الحج هو قصد مكة لأداء عبادة الطواف والسعي والوقوف بعرفة، وسائر المناسك استجابة لأمر اللَّه وابتغاء مرضاته..

والكتب المقدّسة تذكر أنّ أوّل من بنى البيت، وأقام أركان الكعبة هما إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بعد أن أوحي إليهما.. وأدركا أنّ البناء الذي أقاماه لم يكن رصّاً للأحجار وتعلية للجدار.. فجهرا بالدعاء وهما يبنيان القبلة، أن يقبل اللَّه منهما ما عملا وما جهدا في طاعة أمره وإبلاغ وحيه.. ثمّ رغبا إليه حين انتهيا من الرفع والتشييد أن يعلمهما مناسك العبادة التي وضع لها هذا البيت فعلمهما، فكانت الكعبة أوّل بيت للعبادة وضع في الأرض، ثم أُمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحجّ، وضمن اللَّه سبحانه أن يستجيب الناس للنداء.. فأقبلوا على الحج مشاةً وركباناً يحملون الأجساد والقلوب

ص: 299

والتقوى.. ثم ظلّت تلك الاستجابة تزداد مع كل عام.. حتى أقرّ مؤذن الرسالة الخاتمة أن تستمر الفريضة بعد أن تتضح معالمها من الإبهام الذي غشيها.. وتنتفي أكدارها من الرّين الذي أصابها.. فكانت الدعوة الاولى في دائرة أبي الأنبياء، والدعوة الثانية في دائرة خاتمهم.. فأسمعت الاولى قوم إبراهيم في حدود البلدان التي هاجر إليها.. واتبعه من أهلها.. أما الثانية فقد أسمعت الخليقة كلّها.

«وخطّ الإمامان الأولان مشرعا للحنفية الاولى، وقاما لها في أرض العرب إرهاصاً للمطلع الذي تطلع منه دعوة الختام التي صرخت في العرب والعجم، للحفاظ على ما استفاض عن الإمامين من المسالك والمناسك في قول الرسول صلى الله عليه و آله: «قفوا على مشاعركم فإنّكم على إرث من أبيكم إبراهيم».

ولاشك ان في سيرة الحج إلى مكة منذ إبراهيم إلى محمد- عليهما الصلاة والسلام- لم ينكرها التاريخ بل أكّدها قولًا وفعلًا..

وللحج شروط بوجودها يجب، وبانعدامها ينعدم الوجوب، منها الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والاستطاعة.. والشروط الثلاثة الاولى من شروط التكليف في كلّ عبادة.

وأما الشرط الرابع فقد زال بزوال العبودية.. بعد أن جاء الإسلام مرغباً في العتق.. أما الشرط الأخير فهو الاستطاعة وهي القدرة المادية مصداق قوله تعالى: وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا.

والحجّ هو مظهر من مظاهر مجاهدة الفرد لميوله الشخصية.. وطموحاته التي قد تتعارض والمصالح العامة..

فالزيّ الذي يرتديه الحاج بصرف النظر عن مركزه الاجتماعي يدخل في شكله البسيط ولونه الملائكي في عملية عميقة جذورها عميم نفعها ألا وهي عملية توحيد فصائل المجتمع؛ لأنّ المجتمع الإسلامي هو مجتمع لا يعترف بالقوميات.. ولا بالطبقيات.. ووحدة الأدعية.. ووحدة المشاعر.. وتجمع المسلمين في مكان واحد هي من الأهداف الكبرى التي تهدف شريعة القرآن إلى زرعها في رحاب المجتمع

ص: 300

الأكبر حتى يكون مجتمعاً متّحداً عقيدة وسلوكاً وأخلاقاً.. مجتمعاً يتفاوت فيه الناس بحسب أعمالهم وأهدافهم من وراء أدائهم لتلك الأعمال.

الحج مؤتمر عالمي

وبالإضافة إلى كونه منهجاً تربوياً يغرس في نفس المسلم المشاعر الإنسانية العالية، والأخلاق الحميدة الفاضلة، فهو أيضاً لقاء يكتسب منه المسلم ثقافة اجتماعية، وفوائد مسلكية، ومنافع مادية قد تنجر عنها بركة عظيمة، وفوائد جمّة لشعوب إسلامية بكاملها، إذ قد تعقد فيه المعاهدات التجارية، كتبادل البضائع ممّا ينشط الاقتصاد الإسلامي..

ولم يكن هذا ليقع لولا تعارف المسلمين بسبب اجتماعهم المبارك لأداء هذه الفريضة المباركة. ذلك أنّ في تعارف الشعوب الإسلامية وتبادلها الآراء وطرحها لمشاكلها ما يقرب شقّة الخلاف إن كان هناك خلاف، وإذا انعدم الخلاف عمّ التفاهم ووحدت الغايات واتحدت المناهج.

إلّا أن الحديث عن العبادات والشعائر وما يتعلّق بها غدا حديثاً ناقصاً ومملًا لدى الكثيرين.. لأنه توقف أو كاد عند عتبة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، أو تحت مظلّة الشكليات التي تقيم هيكل العبادة دون أن تبثّ الروح فيها.. ممّا أورث تصوّراً خاطئاً عن العبادة أشبه ما يكون بالطقوس في الأديان الاخرى..

ومن هنا فإن إعادة قراءة هذه العبادات والشعائر قراءة تستوحي أهدافها التربوية.. وأبعادها النفسية..

ومفرداتها العملية.. ووظيفتها التربوية والاجتماعية والسياسية والتنظيمية..

أصبحت ضرورة يلح الواقع عليها.

وممّا يؤكّد هذه الأهمية أنها تمثّل ركناً أساسياً من أركان النهوض بالشخصية المسلمة بما تتركه من آثار في النفس الإنسانية، وبالمجتمع الإسلامي بما تمليه من قواعد تنظيمية وتكافلية.. فمعرفتها بالصورة المقنعة المتوازنة بين الطرح المتكرّر والمفرط لشكلياتها.. وبين الجانب الغائب ما وراء هذه الشكليات جدير بأن يعزّز المسير في اتجاه الوعي الإسلامي

ص: 301

النهضوي المتوازن والمتكامل.

الحجّ ثورة على العادة..

الحجّ ثورة موظّفة لمعنى يتجلّى من وراء تقنينها بالسلوكيات والشكليات والرمزيات.. ثورة ضد التقليد الذي يسير عليه الإنسان بجميع أشكاله ليعيش نمطاً جديداً من الحياة في أيام، فحمل من إيحاءاتها ما يثقل وزنه في سلوكه ووجدانه..

فاللحظة الاولى فيه لحظة تخليه الواعي الممنهج عن اللباس والطيب وأسباب الزينة وملذّات الدنيا.. وليس رداءً وإزاراً أبيضين غير مخيطين يمثِّلان الاستسلام للَّه طواعية قبل الاستسلام له كراهية عند الموت في لباس شبيه..

إقبال على اللَّه بفتح صفحة جديدة من العمل محفوفة بالأمل الذي لا يلغي من حسبانه ساعة الموت، الذي هو صفحة جديدة أيضاً ولكن من حساب قديم..

والمناسك التالية لهذه الخطوة تأكيد لها، وتسديد لمستقبلها المنشود في حياة جديدة منتظمة قائمة على منهج اللَّه، وتكرّس في نفس صاحبها روح الخير والبذل والعطاء من خلال ما يغدقه الحاج في سبيل هذه الفريضة ومناسكها، وتعوّد على النظام والجدّية والمسؤولية في الحياة بالتزامه بنظام دقيق شامل لجميع شؤون الفرد لباساً وطعاماً وجسداً وزماناً ومكاناً ومجتمعاً و...

إنّها «حركة شمولية ذات أبعاد تربوية حقيقية استعملت فيها أساليب الحسبة والتجريدية والممارسات التجريبية بكل ما تعني من عمق في قدرة الحج على التغيير بطريقة تخلو من كلّ السلبيات في العملية التربوية على العموم.. فالحج فريضة متعدّدة الجوانب والاطر: اجتماعية، تربوية، سياسية، علمية، عقلية، وجدانية، بدنية، فنية..».

الحج ترسيخ لقيم التواضع والمساواة

إنّ الحجّ تدريب عملي للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها الإسلام، فقد أراد دين اللَّه أن لا تكون تعاليمه ومبادئه مجرّد شعارات أو نداءات، بل ربطها بعبادته وشعائره ربطاً وثيقاً، حتى تكون سلوكاً تطبيقياً

ص: 302

في حياة المسلم وفي علاقته مع الآخرين.

«فمن خلال الإحرام- مثلًا- الذي هو ركن من أركان الحجّ- وحيث تشمل الجميع صحوة للنفس البشرية التي قد يستولي عليها الكبرياء والخيلاء في بعض الأحيان، وتجمع بها الشهوات، أن تفكر وهي محرمة في أصلها وتدرك أنه لا يُفضّل أحدٌ أحداً إلّا بالتقوى والعمل الصالح».

إنّ المسلم هناك وعندما يتجرّد عن الثوب الأنيق بل الثوب المخيط ويحرم عليه أن يمسّ الطيب.. ويرى نفسه في لباسٍ يساوي أقلّ الناس مالًا وجاهاً، هناك يتلقّى درساً في المساواة لا تبلغه أقوى العبارات وأعظم الدروس.

الحجّ ترسيخ للوحدة الإنسانية

إنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس وتعصم السلوك بل هو أيضاً عنوان للُاخوّة الإنسانية العامة.. إنّ الإسلام بتعاليمه لا يدع الفرد ينطوي على أنانية مُفرِّقة.. بل تطبعه بشرائعه وآدابه على الإيثار والحبّ..

«فأرض الحج هي البلد الحرام، والبيت الحرم من دخله كان آمناً..

أمانٌ وسلام فريد في نوعه، يشمل الطير والصيد والنبات فضلًا عن الإنسان، وان المسلم حين يُحرم بالحجّ يظلّ فترة إحرامه في سلامٍ حقيقي مع من حوله، فلا يجوز له أن يقطع نباتاً أو يقلع شجرة، كما لا يجوز أن يذبح حيواناً صاده غيره له أو يرمي هو صيداً في الحرم أو خارجه».

وهكذا نرى من خلال مناسك الحج وشعائره خدمة لما يخص المجتمع البشري على اختلاف ألوانه ولغاته وبلاده دون تفرقة ولا تمييز.. ولقد أعطت المسألة الإسلامية الفتية قوّة دفع كبيرة لإحدى مرتكزات المجتمع الإسلامي الأساسية، عبر تحريرها الفرد المسلم والجماعة المسلمة من جملة قيود تاريخية وراهنة أحالت دورة الحج إلى واقعة محكومة بنظم فكرية وسياسية مسيطرة على المجتمع الإسلامي، هجرت الشريعة الإسلامية منذ زمن بعيد، وحطّت رحالها في أرض التبعية الشاملة لنظم التسلط العالمية!

ص: 303

لقد أوصلت التجربة الإسلامية الفتية المجتمع الإسلامي المعاصر بأصول الشريعة في أكثر من نقطة كانت عصور الظلم السابقة ونظم القهر الحديثة قد قطعتها وأحلت مكانها منطقها وأفكارها وسياساتها التي مزّقت الشخصية الإسلامية على أكثر من صعيد، وصادرت هوية الامّة في أكثر من موقع.

إنّ انفتاح الحالة الإسلامية الفتية على فضاء البشرية التوحيدية، فتح لها آفاق حركة شاملة في مواجهة ظلم الآخرين.. وغفلة الذات، وذلك عبر ما أحيته من قيم ومعايير غطّت جوانب أساسية من شبكة العلاقات الناظمة والموجّهة لسلوك المسلمين. لكن ذلك وضعها مباشرةً في مواجهة التيارات الفكرية والسياسية المناهضة لتطلّعات المجتمع الإسلامي ولقضاياه العادلة.

«وإذا كانت الحالة الإسلامية قد تمكّنت من فرض نفسها كتيّار جديد ومجدّد ومكتمل البنيان في مواجهة تيارات العجز والقصور التي تقودها نظم التبعية والانحطاط، فإن واقع المواجهة وما ينطوي عليه من مشاكل شتّى سيشكّل عنواناً لمرحلة طويلة قادمة».

الحجّ عبادة وسياسة

لقد دفعت النظم الهاجرة للشريعة، في مواجهة التصوّر الإسلامي للحج، مقولة أنّ الحج ممارسة عبادية لا ارتباط لها بالسياسة.. وقبل علماء الامّة هذا التحدّي، عبر تقديمهم لتصوّر إيجابي متكامل يؤكّد استناداً إلى القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، كون الحج جزءاً لا يتجزّأ من دورة المجتمع الإسلامي العامة وبالتالي ميزان الامّة وقضاياها.. فإنه من الطبيعي، أن يحمل كلّ ركن من أركان الامّة هموم الامّة في أحشائه بهذا القدر أو ذاك وبشكلٍ أو بآخر.. أي أنّ الحج كركن أساسي لابدّ له من أن ينفتح على سماء الامّة وقضاياها السياسية المختلفة..

«فتحوّل الحج في قائمة معطيات الثورة الإسلامية العظمى، ليحتلّ مكانة خاصة. إنه تحوّل، لا في الشكل المعين لمناسك هذه الفريضة الإلهية الكبرى، بل في إحياء هذه المناسك وفي إثراء هذا

ص: 304

الركن الإسلامي الركين بالمعنى والاتجاه.. في هذا التحوّل، عاد الحج ليكون مرّة اخرى مؤتمراً عظيماً عبادياً- سياسياً وتجمعاً لإعلان البراءة من المشركين..».

فركّز الإمام الخميني قدس سره في أكثر نداءاته التي كان يطلقها في كلّ موسم حج على ضرورة إعلان البراءة من المشركين كأمر وجوبي لابدّ منه لكلّ فرد موحِّد؛ لأنه يعتبر من الأركان التوحيدية والواجبات السياسية للحج.. ويجب أن تقام في أيّام الحج بكلّ صلابة وعظمة..

وطلب من الحجّاج- الإيرانيين وغير الإيرانيين- المشاركة فيها وإطلاق صرخة البراءة من المشركين والملحدين في جوار بيت التوحيد..

حيث إنّ هذه البراءة تهدف إلى وضع الحواجز النفسية والاجتماعية والعقائدية بين معسكر الموحِّدين من جهة، ومعسكر المشركين من جهة اخرى..

ويعتبر الإمام أنّ إعلان البراءة هو المرحلة الاولى من الجهاد، ومواصلته هي من المراحل الأساسية لواجبنا..

وثمرة هذا المفهوم الشامل تتمثّل في تجييش الامّة نحو أعدائها.. وتربية أبنائها على المناعة والصلابة في مقابل التحديات التي تعصف بها..

فأكثر حجّاج بيت اللَّه الحرام مصابون بالغفلة كما وصفهم الإمام الخميني قائلًا: «لا يمكن للمسلمين أن يحيوا حياة مشرّفة إلّابالإسلام، لقد أضاعوا إسلامهم، لقد عدنا نجهل الإسلام بسبب إيحاءات الغرب وتشويهاته، ولذلك فإنّ المسلمين يجتمعون كلّ عام في مكة المكرّمة، لكنّهم لا يدرون ماذا يفعلون...».

ولو استثمر المسلمون عطاء الحج السياسي كما يقول الإمام:

«لكان ذلك كفيلًا بتحقيق استقلالهم، لكننا مع الأسف أضعنا الإسلام.. لقد أبعدوا الإسلام عن السياسة فقطعوا رأسه وسلموا لنا بقيته، وجرّونا إلى الوضع الذي نعيشه اليوم، وما دام المسلمون على هذه الحالة فلن يستعيدوا مجدهم..».

ويقول الإمام الراحل قدس سره:

«كثير من الأحكام العبادية تصدر عنها

ص: 305

معطيات اجتماعية وسياسية، فعبادات الإسلام عادةً توأم سياسته وتدابيره الاجتماعية.. فصلاة الجمعة- مثلًا، واجتماع الحج والجمعة تؤدّي بالإضافة إلى ما لها من آثار خلقية وعاطفية، إلى نتائج وآثار سياسية، فالإسلام هو الذي استحدث هذه الاجتماعات وندب الناس إليها وألزمهم ببعضها حتى تعمّم المعرفة الدينية، وتسيطر العواطف الأخوية والتعارف بين الناس.. وتتلاقح الأفكار فتنمو وتنضج، وتبعث المشاكل السياسية والاجتماعية وحلولها.. فيستوجب على المسلمين الذين يحملون رسالة اللَّه تعالى، أن يستوعبوا المحتوى السياسي والاجتماعي للحج إضافة إلى محتواه العبادي».

الحج ووحدة المسلمين

وبما أنّ الوحدة هي الكفيلة لحفظ كيان الامّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها.. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة، ومنبع القدرة والمنعة.. وأنّ القوّة أمر ضروري لحفظ الشرائع والمبادئ.. والوحدة مصدر قوّة.. يقول الإمام الخميني قدس سره: «من واجبات المسلمين في تجمع الحج العظيم دعوة الشعوب والتجمّعات الإسلامية إلى وحدة الكلمة ونبذ الخلافات بين المسلمين».

ويقول قدس سره: «إنّ الحجّ أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية، حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّى أنحاء العالم، ويلتقون مع بعضهم في البيت الذي به كلّ المجتمعات الإسلامية وأتباع إبراهيم الحنيف..

وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية ..

والأصل.. يعودون إلى أرضهم وبيتهم الأوّل..».

ص: 306

الهوامش:

ص: 307

وقفة مع مجتمع الحجّ

وقفة مع مجتمع الحجّ

وقفة مع مجتمع الحجّ

محمّد المدني

إنّ ما تعانيه امّتنا الإسلامية خاصة والمستضعفون بشكل عام من أشكال القهر والابتزاز في كلّ النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من قبل الأنظمة الاستكبارية خصوصاً بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وما رافقتها من آثار وأوضاع جديدة سادت كثيراً من مناطق العالم وبالذات العالم الثالث الذي كان الضحية الرئيسية لنتائج تلك الحرب المدمّرة وما تلاها من عقد اتفاقيات على تقسيم النفوذ بين الدول المنتصرة.. وممّا انتهت إليه نتائج الحرب العالمية الثانية أيضاً- وكما هو متوقع- كانت شعوبنا الإسلامية هي الخاسرة بعد أن تسلّط عليها حكّام عملاء وأنظمة قاهرة ليس لديها- إلّاالسيف والمال، فمن لم يرضخ لها بالمال فالسيف مصيره المحتوم. فتشتت فرقاً وأحزاباً وتضاعفت عليها الويلات وصودرت حرياتها وانتهكت مقدّساتها، وما بقي شي ء فيها إلا ونالته يد الضيم والقمع والتعسف والتشتت والتقسيم...

فراح النظامان الغربي والشرقي بوصفهما يشكِّلان القوّتين الرئيسيتين في العالم

ص: 308

يحكمان سيطرتهما المباشرة أو غير المباشرة عبر عملائهما وعبر قوى سياسية أفرزها الواقع السياسي المداهن لها في المنطقة على كلّ الأمة الإسلامية والشعوب الإسلامية.

وفي الوقت الذي ظهرت- نتيجة ذلك كلّه- مدارس ومؤسسات وكتابات ومؤلّفات همّها دعم هذه الأنظمة المتسلّطة وتبرير وجودها بل وتسويقها، ظهرت بالمقابل مدارس وحركات متنوّعة إسلامية ووطنية وأخرى قومية كان همّها الذي يؤرقها هو حماية شعوبها من ذلك الانحراف الجارف، ومن ذلك القمع المتواصل والتشتت والتمزّق إرباً إرباً، فقدّمت من أجل ذلك الكثير من الضحايا والقرابين في سبيل إبقاء الحالة خاصة الإسلامية بعيدةً عن الموت والانتهاء والفناء، وكم حاولت هذه الحركات وبالذات الإسلاميّة أن تلملم جراحها العميقة التي تولّدت نتيجة صراعها المرير وغير المتكافئ قوّةً وعدداً مع الجهات الظالمة. وكم كانت الحركات الإسلامية والشخصيات الإسلاميّة جاهدة في قراءة وأسباب انحسار النظام الإسلامي عن الساحة السياسية.. وطرق عودته إلى هذه الساحة والعقبات والصعاب التي تواجه ذلك..

وقد انبرى سماحة السيد الإمام لمعالجة ما تعانيه الأمة الإسلامية وشعوبها من فرقة وتناحر، فرأى أن يجمع ما يمكن جمعه، وأن يوقظ ما يمكن إيقاظه، وأن يداوي ما يمكنه من جراحها الكثيرة، فراح رحمه الله يضع الحلول ويستفيد من كلّ ما يمكنه من فرص متاحة لجمع شتاتها سواء أكانت هذه الفرص عبادية أو غيرها كالمؤتمرات والندوات والتجمعات ومن كلّ ما يتاح له من وسائل إعلاميّة وسياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة..

فعلى مستوى العبادات راحت وصاياه وفتاواه تؤكّد على إقامتها جماعة فكانت صلاة الجمعة العبادية السياسية، وكانت دعواته للمشاركة في الصلوات التي يقيمها أبناء الإسلام من المذاهب الأخرى.. كلّ هذا وغيره ليحقّق لهذه الأمة

ص: 309

مجتمعاً إسلامياً وإن كان مصغّراً إلّاأنه يبتغي من ورائه بناء مجتمع آخر أوسع منه وأكثر شمولًا ونفعاً، مجتمع موحّد وبالتالي الحيلولة دون انهيار الأمة وقيمها ومحاولة شدّ أزرها لمقارعة الاستبداد والظلم من أي طرف حصل وبأي شكل كان، فالظلم قطعاً يحول دون سمو الفرد وبالتالي يحول دون سمو المجتمع والأمة.

فالحج هذه الظاهرة الربّانية الاجتماعية جعلها اللَّه تعالى مناسبة لأكبر وأعظم لقاءٍ اجتماعي كبير يحتضن الآلاف من المسلمين من كلّ حدب وصوب ليشكّلوا مجتمعاً يكون نموذجاً مصغّراً لمجتمع كبير أفراده من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويكون هذا المجتمع قائماً بالقسط ليقوم الناس بالقسط وبالتالي ينتج أمّة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ولتنبثق منه حكومة إسلامية تتصف بالعدل وتعمل به انطلاقاً من الآية الكريمة إنّ اللَّه يأمر بالعدل...

حقّاً إنّ مجتمع الحج مجتمع يدعوننا إلى التفاؤل والسعادة ويدعوننا أيضاً إلى أن نقول إنّ أمتنا بخير.

ولا أظنّ أحداً خاصّة ممّن وفّق لأداء هذه الفريضة المقدّسة، أو كان ممّن اطّلع على خطاباتها وأحكامها الشرعية وأهدافها الساميّة وطريقة أدائها، لا يشاركني في أنّ لفريضة الحج إطاراً آخر غير ما يترتّب على تطبيق أحكامها وأداء فعاليتها من إطار إنساني تفوح منه رائحة الإيمان وتسمو به روحيات المشاركين وأخلاقهم، والإطار الذي أعنيه هو الإطار الاجتماعي بكلّ ما يتضمّن من أبعاد تربوية وسياسية وثقافية... تجعله يحمل نواة بقائه وديمومته وخلوده.

إن الهدف الأسمى للدين الإسلامي الحنيف هو خلق روحية اجتماعية- والإنسان اجتماعي بطبعه كما يقولون- تصبو لأن يكون كلّ تعاملها مع من حولها مبنياً على صفات نبيلة كالتآلف والتوادد والمحبة ممّا يولّد في نفوسنا جميعاً حاجة نفسية للاجتماع والاتصال بأجناس أخرى وشعوب متعدّدة تكون ساحة الحج ميداناً واسعاً وحقلًا خصباً لتواجدها وتلاقح أفكارها واستماع آراء الآخرين مهما

ص: 310

كانت مخالفةً أو متقاطعةً.

فالحجّ إذن- إضافة إلى أنّه يستطيع الإنسان فيه أن يشبع ويروي حاجته النفسيّة وهو الانتماء الاجتماعي، الانتماء إلى أبناء جنسه، وظمأه الروحي- فهو مؤتمر تتجاذب الأفكارَ فيه كثيرٌ من الطوائف والقوميات والألوان؛ ليتم التعارف بينهما والانتفاع بثمار هذه الفريضة وما يترتّب على أدائها بشكلها الإبراهيمي المحمّدي من إيجابيات وفوائد جمّة يحمل الحجّاج أكثرها إلى حيث بلادهم وإلى أوطانهم وشعوبهم حتّى يكونوا دعاةً لها إذا رجعوا إليهم.

يخاطب السيّد الإمام الحجّاج بقوله: «احملوا من ربّكم نداءً إلى شعوبكم أن لا تعبدوا غير اللَّه، وأن لا تخضعوا لغيره» ما أروعه من خطاب!

خاصة إذا كانت هذه الشريحة متميّزة بفهمها لأهداف هذه الفريضة وعارفة بأحكامها، فإنّها ستترك بصماتها على باقي فصائل المجتمع الحاج من قوميات أخرى وشعوب أخرى وعادات ولغات مختلفة، كما ستجيد نقل ما لمسته من آثار هذه الفريضة إلى قومها وستحسن تصويره لهم، وبالتالي تُقتطف ثمارٌ أخرى خارج الحرم وبعيداً عن مكة والمدينة تضاف إلى ثمار ومنافع الحج ليشهدوا منافع لهم.. فتشدّ تلك الأقوام الرحال إلى منابع النور والعظمة إلى مكّة والمدينة، وتتوجه إلى أهمية هذه الفريضة ودورها الإيجابي الكبير في التغيير الاجتماعي بل والفكري والثقافي، فتشتاق النفوس أكثر وتتعلّق القلوب بأداء هذه الفريضة واقتطاف ثمارها، وبالتالي ديمومتها وإمدادها بطاقات بشرية جديدة في كلّ عام وهكذا.. يبدأ التحوّل سنوياً ويتواصل التغيير في المجتمع الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه.. ويتمّ عبر الحج- وهو وسيلة من وسائل التغيير- التغيير المنشود إنّ اللَّه لا يغير ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.

إنّ المساواة بين أفراد الحجيج، مساواتهم في الزي (لباس الإحرام) المتكوّن من ثوبين يرتدي بالأول ويأتزر بالثاني على أن لا يكونا مخيطين إيغالًا في البساطة

ص: 311

وبعيداً عن التكاثر والتظاهر والتفاخر بالأنساب والألقاب.. يعدّ هذا مساواة وعدلًا بين الناس الذين وفّقوا لأداء مناسك الحج بأموال ليس للغير حقّ فيها نظيفة من كلّ شائبة حرامٍ. كل هذا يعدّ محطّات لتزكية النفوس.

يقول السيّد الإمام: «هذا البيت للنّاس، ولا توجد أولويّة لأحد على أحد، أو لمجموعة على أخرى، أو لطائفة على أخرى، الجميع بشر...»

إنّ الحجيج وهم يؤدّون مناسكهم بعيداً عن كلّ أشكال النجاسات المادية والمعنوية التي تتمثّل بالجدال والفسوق والأذى للحيوانات والنباتات فضلًا عن الإنسان، يشكلون بذلك مجتمعاً إنسانياً متحرّكاً هنا وهناك في عرفات، وعند الإفاضة إلى المزدلفة وفي منى، وعند الطواف بالبيت وفي السعي.. حقّاً إنه مجتمع إنساني بدوافع ذاتية مستجيبة لنداء ربّها لا غير وملبّية لأذان إبراهيم لا غير، ومنقادة لخطاب السماء لا غير، ومنفّذة لأحكامها الشرعية لا غير.. دون أن يكون هناك أمر دنيوي يُطاع..

مثل هكذا تجمّع في بقعة مباركة محدودة، وفي زمن هو الآخر محدّد، وفي مظهر واحد، وتحت ظلّ شعار واحد، ومنسك واحد يضمّ محاور متعدّدة ممّا يجعله ذا خصوصية لا تجدها في غيره، لا شك ولا ريب أنه سيترك آثاره سواءً كانت آثاراً نفسية أم كانت آثاراً تربوية على الإنسان الحاج كشخص، أو على الإنسان الحاج كمجتمع، كما يترك آثاره على من يرى من بعيد هذه المشاهد عبر وسائل النقل والاعلام أو يسمع عنها أو يقرأ..

لهذا رأى القائد الامام الخميني في موسم الحج فرصاً عظيمة لتحقيق الأهداف العليا.

إن الحج إذا ما أودّي بشكله الإبراهيمي المحمّدي وتحت الشعار الرئيسي فيه وهو البراءة، البراءة من المشركين «صرخة البراءة من المشركين في مراسم الحجّ هي صرخة سياسيّة عباديّة» كما عبّر عنها الإمام الخميني، فهو قطعاً بهذا الشكل مجتمع

ص: 312

متحرّك واع، رافض للظلم والطغيان، يحتفظ بسلوك منظم، ويتقيّد بما وضع له من أحكام وتشريعات، وسيبقى بلا شك نموذجاً اجتماعياً رائعاً فاعلًا ذا آثار كبيرة على الوضع النفسي للأفراد وبالتالي الوضع الاجتماعي، وهو بعد ذلك نموذج فذّ لتصميم سماوي، غايته خدمة الإنسان ومصالحه التي غالباً ما تتأتى من خلال اجتماعه وائتلافه مع بني جنسه.

يقول السيّد الإمام: «إنّ الحجّ هو أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في دين الإسلام من جميع أنحاء العالم.. ومع مراعاة الأخلاق الكريمة الإسلامية واجتناب الجدال، يتجلّى ويتمظهر صفاء الاخوة الإسلامية وأبعاد تنظيم الأمة المحمّدية في جميع أنحاء العالم.

ولنصل إلى النصر من خلال الاجتماع على الحق وتوحيد الكلمة، وكلمة التوحيد التي هي أساس ومنبع عظمة الأمة الإسلامية».

فكلّ منسك يؤدّيه الحاج وكلّ موقف يقفه، بل وكلّ حركة وسكون يلتزم بهما الحاج تشعره بأنه جزء مهمّ من منظومة الأمة الواحدة، فالمناسك وأحكامها تجعل الإنسان الحاج يعتقد بأنّ عليه مسؤولية خاصة مسؤوليّة عظيمة في إطار العمل العام والجهد العام للحجّاج فتدفعه إلى أن يجهد نفسه لكي لا يعيق ذلك التحرّك العام أو يمنعه بل وعليه أن يفكّر بمسؤوليته كإنسان في مجتمع عام إزاء الآخرين من هذا المجتمع، فيتدرب على ذلك السلوك وعلى رعايته وتبنّيه في حياته العامة والخاصة.

وما توصيات السيد الإمام على أن يكون الوقوف واحداً في عرفات والمزدلفة ومنى؛ إلّاكان تأكيداً منه على الجانب الاجتماعي الموحّد في هذه الفريضة، إضافة إلى آثاره الأخرى ومنافعه المتعدّدة، وكذلك أمره بالصلاة جماعة مع الطوائف المسلمة الأخرى، وعدم جواز أدائها جماعة في البيوت وفي مراكز بعثات الحجّ، بل وعدم جواز إعادتها «ينبغي الحضور بين جماعات أهل السنّة،

ص: 313

واجتناب الصلاة في المنازل» إلا جانب آخر من جوانب اهتماماته رضوان اللَّه عليه في مسألة هذا الاجتماع ودليل حرصه الأكيد على ما يتركه من آثار، فشقّ الصف يؤدّي إلى نتائج وخيمة وبالتالي نفقد ونخسر فوائد الحج واجتماع المسلمين في هذا الموسم المبارك وما يتركه من هيبة ورهبة في صفوف الأعداء، فمن أقواله بهذا الخصوص:

«طوفوا حول الكعبة بالطواف المتعارف على النحو الذي يقوم به جميع الحجاج».

أي بعيداً عمّا يثير الانتباه لنشازه وغرابته، فيكون له أثر بالغ في شقّ الظاهرة الاجتماعية هذه «احترزوا من الأعمال التي يفعلها الأشخاص الجاهلون» لما تتركه هذه الأعمال من آثار سيئة على هذه الفريضة ووحدة الصف فيها واجتماع المسلمين الموحّد، «ويجب على الاخوة الايرانيين وشيعة سائر الدول الاحتراز من الأعمال الجاهلة التي تؤدي لتفرقة المسلمين».

ولم يبخل رحمه اللَّه تعالى بما يمدّ هذا التجمّع الأكبر من عناصر القوّة والثبات والديمومة؛ ليؤدي معانيه الإنسانية الجميلة في ظلال الدين الإسلامي الحنيف.

فالهدف الأسمى من إرسال هذه الرسالة الخاتمة هو إنشاء الجماعة الفاضلة التي تُبنى على الفضيلة، ويرتبط أبناؤها بالأخلاق الفاضلة والمودّة الواصلة؛ لتكون نموذجاً يحتذى من قبل الآخرين، وفضيلة متحرّكة قد يتأثّر بها من يراها حتّى وإن كان من أعدائها.

الهوامش:

ص: 314

البعد الإجتماعي للحج في نظر الإمام الخميني (قدّس سرّه)

البعد الإجتماعي للحج في نظر الإمام الخميني قدس سره

البعد الإجتماعي للحج في نظر الإمام الخميني قدس سره

أحمد الواسطي

يتمتّع الإمام الخميني قدس سره بفكر وعبقرية ذات طابع تجديدي مستوحى من مبادئ الإسلام الأصيلة. فهو رحمه الله عندما ينظر لمسألة الحج في بعده الاجتماعي ينطلق من هذا المعين المتمثّل بأحكام السماء الخالدة، ومن الصعب- بهذه العجالة- الإحاطة بفكر الإمام العملاق.

لقد أصبح الإمام قدس سره رمزاً إنسانياً عالمياً؛ لأنه كرّس كلّ حياته وعمره الشريف- الذي ليس ملكاً له- من أجل تغيير الإنسان وتزكيته من كلّ أشكال العبوديات وبنائه بناءً إسلامياً جديداً.

موقع النظرية الاجتماعية في الحياة الإنسانية

إنّ الجوانب الرئيسية لاسلوب وطريقة تعامل النظرية الاجتماعية مع مختلف جوانب الحياة البشرية تتمثّل بالمجتمع الإنساني والسلوك الاجتماعي.

والجدير بالذكر أنّ النظرية الاجتماعية هي ما يطرحه الدين على نطاق النظرية الفقهية الدينية.

ص: 315

وتتمتّع النظرية الاجتماعية بخاصية وضع المؤشرات الدقيقة للموازين الاجتماعية في الحكم والسياسة، والقضاء والتعليم، والعائلة، والقانون، والدفاع، والصحة، والتجارة والزراعة، والصناعة... لذا فالمسؤولية الملقاة على عاتق النظرية الاجتماعية كبيرة جدّاً، ذلك أنّ جميع العناوين السابقة ستدخل تحت مظلّة عنوان كلّي هو دراسة السلوك الاجتماعي والمجتمع الإنساني. ومن هنا يتضح ان النظرية الاجتماعية في ظل النظام الإسلامي، تستلهم أفكارها من مبادئ الدين وأحكامه الشرعية ونظامه الأخلاقي.

الإسلام والواقع الاجتماعي للحج

إنّ الإسلام كنظام عالمي خالد قرّر أحكاماً وقوانين ثابتة لجميع نواحي الحياة الإنسانية. منها ماله علاقة بالخالق البارئ، ومنها ما يرتبط ببني النوع المماثلين في الخلق. ومنها ما يرتبط بأتباع الدين الواحد من سائر المسلمين.

والإسلام يربّي المسلمين تربية إلهيّة، ويوجّههم نحو صراط العزيز الحكيم من خلال تذكيرهم وإرشادهم إلى صالح الأعمال، قال تعالى:... قد جاءكم من اللَّه نور وكتاب مبين* يهدي به اللَّه من اتّبع رضوانه سُبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم.

فالقرآن المبيّن للأحكام والوظائف دعوته عامة لكلّ الأفراد والجماعات، كما أنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه و آله رسول اللَّه إلى الناس جميعاً. ومن هنا، فالإسلام يدعو الناس جميعاً وبصوت واحد. والمسلمون المعتقدون بالإسلام تتوحّد أهدافهم الإسلامية باتجاه واحد وبخطى متراصّة.

وان كلّ ما رآه الإسلام هدفاً قيّماً مقدّساً يراه جميع المسلمين كذلك. هذا مع العلم بأنّ هذه الأحكام والقوانين كالحج مثلًا تبيّن فيما يتعلّق بالمسلمين أهدافاً يهتم بها الإسلام ويركّز عليها.

وأن العزّة والانتصار في حياة المسلمين يترتّبان على مدى الالتزام بهذه

ص: 316

الأحكام والقوانين وتحكيمها في مختلف شؤون الحياة اليومية.

وقد أكّد الإمام الراحل قدس سره على «أنّ جميع الانتصارات والهزائم تنطلق من الإنسان، والإنسان أساس النصر وأساس الفشل، وما يحمله الإنسان من أفكار وتصوّرات هو أساس كلّ شي ء».

فالذي يحثّ عليه الإمام رحمه الله بشكل متواصل لبلوغ الهدف هو مسألة التغيير الذاتي والنفسي للفرد والمجتمع على حدٍّ سواء انطلاقاً من مبادئ الإسلام ومفاهيمه الكلية الشاملة إنّ اللَّه لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم.

الإمام والمسيرة التاريخية

إنّ حركة التاريخ في فكر الإمام قدس سره، ترتكز على مبدإ وحدة الامّة، وأيّ أمر من شأنه إيجاد العقبات، أو تفريق الامّة يكون مرفوضاً إسلامياً. فالإمام رحمه الله شخّص القاسم المشترك والأرضية المشتركة، التي يجب أن تقف عليها الامّة في مواجهة قوى الاستكبار العالمي.

فهو قدس سره ينظر إلى الحج باعتباره الساحة التي يمكن فيها تعرية النفاق في الامّة.

وفيما يتعلّق بالانقسامات بين المسلمين، فقد استطاعت الطائفية أن تَنْخَرَ جسم عالمنا الإسلامي طيلة قرون عديدة.

وكان نتيجة هذه الظاهرة والانقسام الكبير بين السنّة والشيعة، أن تسود العالم الإسلامي حالة الضعف. وقد كان ميسوراً على الإمام الاستفادة من هذا الوضع، إلّاأنه بشخصيّته الإسلامية الفذّة، بقي فوق كلّ هذه الانقسامات، بل قام بوظيفته الإسلامية بتوحيد صفوف جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم، من خلال نظرته الإسلامية الشاملة.

فالإمام الراحل قدس سره لا يمكن تحجيمه بأي شكل من الأشكال، أو تحديده ضمن مدرسة فكرية إسلامية. كما أنّ الحجّ بالنسبة للإمام يمثِّل أقصى درجات التعبير عن قوّة الإسلام.

ص: 317

الحجّ في الفكر الاجتماعي الشمولي للإمام قدس سره

قال اللَّه تعالى: وأذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميق.

تشغل أهمية البُعد الاجتماعي للحج حيّزاً كبيراً في فكر الإمام الخميني رحمه الله لما له من دور تغييري على الصعيد العالمي. ذلك أنّ المسلم في الحج يدرك بشكل واضح وجليّ أنه يعيش في جسم الامّة، وأنّه جزءٌ لا يتجزّأ من هذه الامّة الكبيرة.

كما يشعر بأنّ كيانه مرتبط بكيانها، وأن المسلمين جميعاً ذمّتهم واحدة يسعى بها أدناهم.

فهذا الأذان والإعلان العام للحج من قبل خالق الكون والرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، ثم التجاوب البشري من مختلف بقاع الأرض يمثِّل التواجد الواقعي للُامّة الإسلامية. ومن هنا جاء نداء الإمام رحمه الله «يا مسلمي العالم، يا مستضعفي الأرض هيّا إلى النظام الذي جاء من قِبل اللَّه تعالى لنموّكم وتكاملكم ولسعادتكم في الدنيا والآخرة، ولإزالة الظلم وحقن الدماء ونصرة المظلومين في العالم...».

فالحج في رؤية الإمام العميقة تترتّب عليه الأهداف الإسلامية الكبرى لإزالة الظلم ونصرة الحق.

لذا يتّضح أنّ الحجّ حركة إلى اللَّه من خلال الاندكاك والذوبان مع الجماعة الإسلامية ومن مختلف الأجناس والألوان والأصقاع. فالوسط الاجتماعي يعتبر المحكّ الذي من خلاله يستطيع الفرد المسلم تهذيب «الأنا» وتجاوز الوقوع في دائرة الإغراء، أو الإثارة. ذلك أنّ المسلم إسلام مجسّد لتحقيق أهدافه وطموحاته وتجسيدها في حيّز الواقع. علماً بأنّ هذه الأهداف تؤثّر في إيجاد علاقة اجتماعية بين كلّ المسلمين، فإذا كان كل مسلم بصدد تحقيق هذه الأهداف، فهو يكون بصدد بناء مجتمع عالمي صالح على ما يدعو إليه إسلامه.

لقد أكّد الإمام رحمه الله على التحرّك الجماهيري الإسلامي في مختلف بقاع العالم

ص: 318

الإسلامي، وبقي وفياً لشعاراته الواضحة حتى انتهاء حياته، وأوصى بها بعد وفاته.

وكم كان يتألّم رحمه الله حينما يرى هذا التخاذل والتراجع المستمر، فهو رحمه الله كان يحذِّر المسلمين من القعود والوقوف مكتوفي الأيدي إزاء ما يجري حولهم.

لقد سعى الإمام قدس سره بكل ما أُوتي من قوّة من أجل ربط الإسلام بواقع المسلمين الاجتماعي. كما وقف بحزم وشدّة بوجه الذين شوّهوا صورة الإسلام الواقعية، حيث قال بشأنهم: «أَبعَدوا الإسلام عن واقع الحياة الاجتماعية... فقطعوا رأسه وسلّموا لنا بقيّته، وجرّونا إلى الوضع الذي نعيشه اليوم، وما دام المسلمون على هذه الحالة فلن يستعيدوا مجدهم».

وعلى صعيد آخر نجد الإمام رحمه الله يُلفت أنظار المسلمين إلى مسألة إثارة الشكوك حول الإسلام وعلمائه، وأن الدين لا علاقة له بالأوضاع الاجتماعية من خلال ما أثارته المؤسسات الاستعمارية حيث يقول قدس سره:

«ووسوست لهم في صدور الناس أنّ علماء الدين ليس لهم أن يتدخّلوا في الشؤون الاجتماعية...، ليس من حق الفقهاء أن يعملوا لتقرير مصير الامّة..

ومن المؤسف جدّاً أنّ بعضنا صدّق بتلك الأباطيل. وقد تحقّق بهذا التصديق أكبر أمل كانت تحلم به نفوس المستعمرين».

ومن هنا يمكن القول: إنّ الإمام رحمه الله من خلال وصاياه وتوجيهاته في مختلف المناسبات، يحاول إماطة اللثام عن مكر الماكرين، وتوعية الامّة على أهمية الأهداف الاجتماعية في تبليغ الرسالة الإسلامية.

فهو قدس سره يشير مراراً وتكراراً إلى أنّ «كثيراً من الأحكام العبادية تصدر عنها معطيات اجتماعية...».

فصلاة الجماعة مثلًا واجتماع الحج والجُمعة تؤدي- بالإضافة إلى ما بها من آثار خلقية وعاطفية- إلى توحيد كلمة المسلمين باتجاه الأهداف المطلوبة.

ص: 319

كما أشار رحمه الله موضّحاً آثار الحج الاجتماعية قائلًا:

«استحدث الإسلام هذه العواطف، وندب الناس إليها، وألزمهم ببعضها حتى تعمّ المعرفة الدينية وتعمّ العواطف الأخوية، والتعارف بين الناس وتنضج الأفكار وتنمو وتتلاقح، وتبحث المشاكل الاجتماعية... وحلولها».

لقد استوحى الإمام قدس سره هذه المعطيات من القرآن وسنّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في تكريس الوظيفة الاجتماعية للحج الإسلامي، وتعرية كلّ المحاولات الجاهلية لتشويه هذه الشعيرة، وإبعادها عن أهدافها الحقيقية. فعندما نمعن النظر في مسألة الطواف والسعي وغير ذلك من شعائر الحج الإبراهيمي نلاحظ أنّ هناك انصهاراً وذوباناً ضمن كتلة بشرية واحدة تسودها القوة والفاعلية، وتموت فيها «الأنا» ولا نجد أي مجال للفردية، بل الحضور كلّ الحضور للجماعة المسلمة، حيث يشعر الفرد المسلم بأنّ هذه الامّة لم تعدّ أمّة مجزّأة ومشتّتة العرى والأوصال، وإنما تتمتّع بكيان واحد ومصير مشترك. ذلك أنّ المسلمين في الحج يتحوّلون إلى امّة واحدة، عندما يتحرّكون باتجاه واحد، ويلبّون تلبية واحدة، ويلبسون لباساً واحداً، ويطوفون حول كعبة واحدة، ويسعون في اتجاه واحد، وفق مناسك مشتركة.

لذا من أجل هكذا نوع من الارتباط والتلاقي، تمّ إعداد الإنسان ليكون اجتماعياً. ذلك أنّ الإنسان من خلال هذا اللقاء والارتباط بالمجتمع يصل إلى درجة من النضج والرُقيّ في سُلّم الكمال الذي أعدّه اللَّه تعالى له.

فالإحرام من الميقات تعبير عن الذوبان في المجموع. والطواف حول البيت يمثِّل الانجذاب إلى اللَّه تعالى والتوجّه نحو الحياة، قال تعالى: قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي للَّه ربّ العالمين* لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أوّل المسلمين.

ومن هنا يتضح أنّ الامّة من خلال مناسك الحج تعيش تجربة التوحيد، والارتباط باللَّه والمعايشة الفعلية مع الامّة- بنظر الإمام الراحل- في جوّ يسوده

ص: 320

الودّ والاخاء بعيداً عن روح الإثارة والفوضى والجدل.

ومن هنا جاء تأكيد الإمام الراحل بشكل متواصل على توحيد الكلمة والصفّ الإسلامي، ونبذ الخلافات الجانبية، والرجوع إلى القرآن الكريم مصدر القوّة والعزّة، حيث قال رحمه الله بهذا الصدد: «إن سبب كل المشاكل في البلاد الإسلامية هو اختلاف الكلمة وعدم التعاون، ورمز الانتصار هو وحدة الكلمة وإيجاد التعاون... كونوا جميعاً للإسلام، وتوجّهوا إلى الإسلام ولصالح المسلمين، وابتعدوا عن التفرقة والخلاف الذي هو أساس مشاكلنا وتخلّفنا».

فالإمام رحمه الله يعمل بدقّة ومبدئية لتوحيد كلمة المسلمين، وإرجاعهم إلى القرآن والسنّة والعمل على أساس الإسلام. والحج الإسلامي في بعده الاجتماعي الكبير والواسع أحد أهم الطروحات، التي أعلنها الإمام الراحل في مواجهة المستكبرين والمتصيدين بالماء العكر، والحيلولة دون تحقيق أهدافهم المتمثِّلة بفرض سيطرتهم على البلاد الإسلامية، وبثّ روح الخلاف والتفرقة بين المسلمين؛ ليسهل بالتالي نهب ثرواتهم ومصادرتها.

إنّ البُعد الاجتماعي للحج من خلال فكر الإمام الشمولي يعدّ عاملًا واسع الأبعاد؛ لما له من دور مهم وكبير في تربية الإنسان على أن يكون تغييرياً لا يقبل الواقع الفاسد بشكل مطلق.

فنجده رحمه الله يقول: «يجب استثمار هذه الاجتماعات لأهداف الإعلام والتعليمات الدينية، وتوسعة مدار النهضة العقيدية...».

كما كان يحرص رحمه الله كلّ الحرص في أن يؤدّي الحجّ دوره الكبير في إعداد المجتمع الإسلامي المؤمن، العابد، الموحِّد، الواعي لخطط الاستكبار ودسائس المستعمرين.

ص: 321

الهوامش:

ص: 322

هموم الوحدة

هموم الوحدة

هموم الوحدة

نبيل علي صالح

تمهيد عام:

تواجه امّتنا الإسلامية في العصر الراهن تحديات مصيرية جمة، تختزن- في كلّ مضمونها وحركتها الداخلية- أبعاداً وأهدافاً تخريبية عنصرية، تتحرّك- في حسابات الواقع- من خلال مخطط استكباري عالمي ينظم حركتها، وينسق مواقفها، ويجسّد مطامعها في تحقيق مزيد من حالات السيطرة والاستغلال عبر أساليب همجية بعيدة كلّ البعد عن أدنى حالات التخلّق بالقيم الإنسانية، ومبادئ حقوق الإنسان في العيش الآمن المستقر، وطبيعة الهدف التكاملي الأعلى للإنسان في حركة الحياة.

ويمكننا- في هذا المجال- ملاحقة هذه التوجّهات العامة، ودراسة إرهاصاتها، ونوعية أهدافها في الواقع العالمي الجديد، من خلال معرفة كيفية تحرّك مساراتها في داخل حياتنا ونسيجنا السياسي والاجتماعي، حيث يصرّ منتجوها- كما يظهر- على تكريس حاكمية الاستعمار الحديث المستكبر، في فرض سيطرته المطلقة

ص: 323

على حركة الشعوب الإنسانية المستضعفة في شتّى بقاع المعمورة، وفي جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتّى الفكرية والإعلامية.

ونحن لا نريد أن نُتَّهم بالتجنّي على الغرب أو الدخول في متاهات العقدة النفسية والفكرية تجاه السلوكية الغربية- كما يحلو للبعض أن ينسب إلينا ذلك- لأنّ المسألة ترتبط ارتباطاً مباشراً ووثيقاً بالواقع المتعثّر والمفكّك الذي خُلقنا فيه، ونتحرّك ضمنه، ونتنفّس هواءه، ونعايشه بكلّ معطياته، وعناصره، ومقوّمات وجوده الداخلية والخارجية التي تتصل بقضايا وإشكاليات هامّة وخطيرة على مستوى علاقة الإنسان بحركة الأبعاد الفكرية والسياسية والاجتماعية في ضمن أجواء ومناخات العمل الحضاري الراهن.

ويكاد هذا الواقع العالمي الجديد يُجْمِع بكليته- من خلال سلوكيته وأدائه، وإنْ لم يعلن ذلك رسمياً- على أنّ هناك تحرّكات وفعاليات منظمة ودقيقة يقوم بها الاستكبار والكفر العالمي لتأكيد خطّه الحضاري الذي يتوافق مع مصالحه في استمرارية جَعْل المنطقة العربية والإسلامية عموماً دائرةً لنفوذه وسيطرته، ومجالًا حيوياً لتنفيذ مخطّطاته ومؤمراته ومصالحه، بهدف تطويق الأمّة، ومواجهة إسلامها الحركي الفاعل الذي يشعرون بأنّه أصبح يمثّل خطراً داهماً على مصالحهم الاستكبارية في العالم كلّه؛ ولهذا فإنّهم يواجهونه بكل الوسائل التعسفية على جميع المستويات والأصعدة. ونستطيع أن نتلمس واقعياً آثار هذا المخطط، وامتداداته العملية من خلال متابعة الأحداث، التي جرت وتجري الآن في العالم الإسلامي الذي حوّلوه إلى بؤرة للتوتر والانفجار.

إنها مشاكلنا نحن كمسلمين، حُوربنا في وجودنا الفكري والعقائدي، وفقدنا شعورنا الواعي والأصيل بهويتنا وانتمائنا الديني الحضاري، وتغرّبنا عن واقعنا تائهين في سراديب العالم وأنفاقه المظلمة، نلتقط فكرة هنا واخرى هناك، عسى أن تساهم في حلّ مشاكلنا التي استعصت علينا، والحلّ كائن- أصلًا-

ص: 324

بين ظهرانينا. لقد أصبحنا فرقاً وشِيَعاً يكفّر بعضنا بعضاً وينافق بعضنا على بعض آخر، ويحاول كلّ فريق منّا أن يبحث عن عقد الفريق الآخر، وهو يحمل في ذاته أكثر من عقدة، فقط من أجل النيل منه، أو تسجيل نقطة لصالح هذا الطرف أو ذاك.

أجل لقد انطلقنا نحو الزوايا المظلمة والضيّقة، وابتعدنا- في سلوكنا الذاتي والاجتماعي، وأساليب ممارستنا لأجواء وأبعاد الواقع المختلفة- عن ساحة اللقاء والتواصل، والحوار الهادئ والواعي والمنفتح على اللَّه تعالى بقلوب صافية وعقول واعية من أجل نيل رضاه، وإعلاء كلمته. ولعل الأمر الذي يدعونا- أكثر من أي وقت مضى- إلى تعميق أواصر الوحدة، والمحبة، والتعاون، والتضامن ورص الصفوف، هو وجود كلّ تلك المشاكل والعقبات المتأصلة في نفوسنا وواقعنا (وهي في أغلبها مضخّمة، ومصطنعة، ومطبوخة في دوائر المخابرات والأمن الإقليمي والدولي). حيث نجد أنها تعيق مسار حركتنا باتجاه اللَّه أوّلًا، ومن ثم باتجاه وحدتنا الإسلامية ثانياً. ونحن- حقيقةً- المعنيين والمستهدفين بها أوّلًا وأخيراً؛ لأنها وُجدتْ وانطلقت في فكرنا وعاطفتنا وواقعنا، ولا نجد أن هناك إمكانية لحلّها والتخلّص من أجوائها السلبية الضاغطة، إلّابتعميق الشعور بالتقريب الروحي والفكري بين المسلمين، ومن ثم السعي الحثيث الصادق والمخلص على طريق تحقيق وحدتنا الإسلامية المنفتحة والواعية والواقعية. ولكن ما هي هذه الوحدة؟! وكيف السبيل إلى تمثُّل هذا الهدف السامي والعظيم؟! ومن ثم كيف يمكننا تَفّهُم حقيقة بواعث ونتائج تلك الوحدة على ضوء القرآن الكريم والسنّة الشريفة؟! وما علاقتها بقضية النهضة الإسلامية المنشودة؟ هل هي مجرّد دعوات وصيحات حماسية انفعالية نُطلِقها في الهواء ليحلم بها الإنسان المسلم كملجإ يفرّ إليه هارباً من تعقيدات الواقع، ومشكلات الحياة، وضبابية الأهداف فيها، أم أنها مخدّر روحي يبعث في النفس راحة وطمأنينة لبعض الوقت كملاذ يعيش فيه مجتمعنا

ص: 325

وإنساننا ازدواجية الشخصية الروحية والسلوكية؟

إنّ العناوين القادمة تحاول رصد إجابات واقعية هادئة وعقلانية عن ذلك كله، من خلال متابعة الهدف الكبير في إطار الواقع الحي، في مواقع السمو والرفعة بطريقة متوازنة بعيدة عن أجواء العاطفة الانفعالية، والحماس اللاعقلاني المنطلِق كردّة فعل على واقع التخلّف والتجزئة الذي نعايشه في عصرنا الراهن.

الوحدة الإسلامية على ضوء القرآن والسنّة:

أبدى القرآن اهتماماً بالغاً وملحوظاً بقضية الوحدة وإشكالية التقريب بين مذاهب المسلمين، ودعا إلى بذل كلّ الطاقات والجهود الممكنة على هذا الطريق من أجل الوصول إلى الواقع الوحدوي الإسلامي، فيما يعطيه من عوامل متعدّدة تتحرّك في مفردات الحياة من موقع القوّة الحركية في الفكر والوجدان والعاطفة، بهدف تحصين الامة الإسلامية من عوامل الانهيار والانقسام والتفكّك الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والفكري، وإعادة حضارتها الشاملة، وثقافتها الإنسانية الرسالية الغنية إلى الساحة العالمية.

ويمكن أن نقرأ في صفحات كتاب اللَّه العظيم الآيات التالية التي تشكّل- بحدّ ذاتها- عناصر وحدوية فعّالة، واسساً راسخة في عملية الدعوة إلى بناء فكر واحد، وعاطفة واحدة، وشعور واحد، يمكن أن تنطلق- في كلّ زمان- دعوةً في المطلق، تحتاج- فيما تحتاج- إلى إنزالها، بوعي، حركةً وممارسةً نسبيةً على أرض الواقع المحدود- المثقل بالهموم والانكسارات والانقسامات والتراجعات- لتشييد الدولة الإسلامية الواحدة في مستقبل الدعوة:

قوله تعالى: واعتصموا بحبل اللَّه جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذْ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ....

تُحدّثنا الآية الكريمة السابقة عن عمق هدف الوحدة من خلال إظهارها لنتائج الوحدة وآثار التفكّك والتفرقة، فالمجتمع الجاهلي- وكلمة جاهلية

ص: 326

تتحرّك في كلّ زمن يبتعد فيه الإنسان عن اللَّه- كان يحمل بين طيّاته عوامل الضياع والانقسام والتشرذم إلى عصبيات قبلية، وعقد طائفية، وعاطفة ساذجة ممزوجة بالحقد والبغضاء، بينما كانت الحالة مختلفة تماماً في ظلّ الدولة الإسلامية الواحدة التي عَمِلت على تجسيد أهداف الوحدة، وتمثّلت- بعمق ووعي- دعوتها الوحدوية المبنية على المحبة، والمودة، وروح التعاون والوفاق والأخوة والإلفة فيما هي الوحدة في العاطفة والوجدان، وفيما هي الوحدة في الفكر الواحد أيضاً، حيث لَمَّتْ الدعوة الوحدوية الإسلامية شَعْثهم، وجمعت كلمتهم، ووحّدت صفوفهم فكراً وروحاً، قلباً وقالباً، ونسفت من الجذور المناخات الجاهلية بكلّ موروثاتها وتبعاتها السلبية. ونستطيع أن نفهم من خلال كلمة «الاعتصام» بحبل اللَّه تعالى معنى الالتزام بنهج القرآن كقاعدة صلبة متماسكة للوحدة المنطلقة من عوامل الوحدة الفكرية والعملية بعيداً عن كلّ الإثارات العائلية، والقومية، والإقليمية المصطنعة والمستغرقة في الذاتية والانفعالية والأنانية.

يقول الشيخ محمد عبده، في تفسير المنار، معلّقاً على الآية السابقة: «.. في كلمة الاعتصام المشتقّة من كلمة العصمة، توجد نقطة مهمة وجميلة جدّاً وهي أنه سبحانه كأنما يريد أن يقول:

إنّ أساس هذا الاعتصام يتهيّأ عن طريق التمسّك (بحبل اللَّه) وهو نفسه الشريعة الإلهية، وبعبارة اخرى الكتاب السماوي.

إذاً يمثّل الاعتصام بحبل اللَّه القاعدة الصلبة التي يمكن للمسلمين أنْ يرتكزوا عليها من أجل توحيد المسيرة، وتوحيد الهدف في نطاق توحيد الامة، وذلك في إطار التخطيط الواعي الذي يتجاوز السلبيات والإيجابيات، ويقف مع السلبيات وقفة فكر لا عاطفة، ويعتبر أن وضوح الرؤيا لدى أية جهة لا يعني وضوحها لدى الآخرين ممّا يستدعي مزيداً من العمل والصبر والتحمُّل في سبيل الوصول إلى وحدة الرؤية للأشياء والمواقف في اتجاه وحدة الهدف الكبير، وذلك هو ما يبعدنا عن متاهات النظرات والتحليلات التي

ص: 327

يثيرها الآخرون في أجواء غير إسلامية ممّا استحدثوه واستنتجوه من تجارب ذاتية أو أهواء منحرفة.

قوله تعالى: إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شي ء إنّما أمرهم إلى اللَّه ثمّ ينبئهم بما كانوا يفعلون.

تستنكر الآية السابقة إثارة الخلافات والنزاعات المنحرفة، وتدين- في الوقت نفسه- عناصر الضعف والتباعد والتفرقة في كلّ زمان، ويتبرأ فيها النبي صلى الله عليه و آله و سلم من اولئك الذين حملوا راية الفتنة، وحاولوا تحجيم دور الإسلام الرسالي في الحياة، ومن خلال إضعاف وحدته وبثّ الفتن والاضطرابات، وزرع الأحقاد داخل المجتمع الواحد.

قوله تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.

يأمرنا اللَّه تعالى في هذه الآية المباركة بلزوم الوحدة، والابتعاد عن الأجواء الخانقة والضيّقة التي تثير الخصومات، وتؤجج الصراعات والمنازعات بين أفراد المجتمع؛ لأنها تنطلق من الأفكار الذاتية المنحرفة والخاضعة لسلوكية النوازع الشخصية، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف حركة الإنسان والرسالة في الواقع في خط وحدة الكلمة والصف والموقع.

قوله تعالى: إنّ هذه امّتكم امّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون.

إنّ هذه امّتكم امة واحدة وأنا ربّكم فاتقون.

في هذه الحالة الإنسانية النفسية الرائعة، ومن خلال هذا المناخ الروحي المنفتح، تنطلق الآيتان على طريق الإنسانية الموحدة بهدف حثّنا على ضرورة أن نكون امّة واحدة في الفكر والشعور والهدف من خلال وحدتنا في عبودية الخالق الواحد العظيم .. لنتحرك في الدائرة الإنسانية- بعد تَوَحُّدِنا في الدائرة الإسلامية- على طريق التوحيد والشريعة، بعيداً عن الانغلاق والتقوقع والتعصب، وبالتالي الانفتاح على الآفاق الإنسانية الرحبة من موقع رسالتنا وفكرنا ومبادئنا الإسلامية الرفيعة ..

فالوحدة الإسلامية إذاً أمر إلهي علينا أن نصدع له بالانفتاح بعضنا على بعض

ص: 328

في مواقع كلٍّ منّا في الإسلام، وتعميق أواصر الاخوة واللحمة بيننا؛ لتشرق من جديد شمس الامة الإسلامية الواحدة فكراً وروحاً، وذلك بالابتعاد عن مواطن الفرقة، وتجاوز العقد الذاتية من خلال العمل على ترسيخ النظرة الكلية الواعية المنطلقة في وعينا على أساس القواسم المشتركة الكبيرة القائمة- بالدرجة الاولى- على وحدة الخالق والشعور بعظمته، وهذا ما نحسّ به من قوله تعالى: كنتم خير امّة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. إننا نتصوّر أن التحرّك على طريق تمثّل وتجسيد قيم ومبادئ القدوة الحسنة لا يتمّ إلّا بالتأسيس لعناصرها القاعدية الأساسية في شتّى الحقول والميادين الحياتية والاجتماعية، ومن أولويات وبديهيات ذلك، مسألة الوحدة العملية .. هذا ما بدأه عملياً رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والائمة الأطهار عليهم السلام من خلال السعي الى تقوية ركائزها، وتوثيق عُراها وأركانها بين المسلمين جميعاً.

أولًا- رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم داعية الوحدة:

يمثِّل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم المحور المركزي الواعي في حركة الرسالة الإسلامية، في ذهنية الامّة الإسلامية، بغضّ النظر عن طريقة الارتباط بهذه «الشخصية- الرمز» التي سعت منذ البداية- من خلال قوّة وعنفوان ووعي فكرها الرسالي- إلى نسف جذور المجتمع الجاهلي الذي كان يتحرّك في دائرة العصبيات القبلية والعشائرية والنعرات الطائفية المعقّدة .. يقول صلى الله عليه و آله و سلم:

«إنّ اللَّه تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها .. ألا إنّ الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند اللَّه أتقاهم».

وقد كانت السيرة النبوية الشريفة للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مليئة بنماذج وحدوية هامّة، وأعتقد أنّ قصة رفع الحجر المعروفة بالنسبة إلينا جميعاً، مَثّلتْ درساً عملياً بليغاً أراده الرسول لنا كي يفهم الناس- على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم- أن الوحدة قوّة والفرقة ضعف. مع ضرورة التزام

ص: 329

القيادة الشرعية العادلة والواعية وهكذا كانت معركة بدر التي انتصر فيها جيش المسلمين- بقلّته القليلة المؤمنة باللَّه- على جيش المشركين بكثرته الغالبة في الكم والضعيفة في الكيف والنوعية والروحية. وكذلك كان الأمر نفسه بالنسبة لفتح مكة، وغيرها من النماذج الوحدوية الرائدة في تاريخ الإسلام، التي أراد من خلالها الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أن يبني في وعي الناس فكراً وحدوياً رسالياً يرتبط باللَّه الخالق الواحد، والقرآن الواحد، والرسول الواحد، ويذوب في الرسالة الإسلامية ليرتفع بهم جميعاً إلى مستوى القيادة الحكيمة للإنسانية جمعاء في خط العدل والتقوى والاستقامة. هذا ما نقرأه في خطابات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً».

«مَثَلُ المسلمين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

«.. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمّتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم».

ثانياً: أهل البيت عليهم السلام وحدة الإسلام في حركية الهدف:

حرص أهل البيت عليهم السلام جميعاً على وحدة وعزّة الامّة، ودعوا إلى إزالة عوامل التناقض والتباعد والخلافات بين أهلها إعلاءً لراية الحق والإسلام وكلمة اللَّه، وهذا ما يمكن متابعته في حركة الدعوة في خط الإمام علي عليه السلام ومواقفه الإيجابية التي لا تُنسى مع الخلفاء الذين سبقوه في الحكم ..

قوله عليه السلام يوم السقيفة: «سلامة الدين أحبّ إلينا».

وقوله عليه السلام: «واللَّه لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ...».

وقوله عليه السلام أيضاً في خطاب تحذيري إلى قوم من أهل العراق كانوا يسبّون أهل الشام: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكن لو وصفتم أفعالهم وذكرتم حالهم لكان أصوب في القول، وأصدق في الحجّة، وقلتم مكان سبّكم إيّاهم: ربّنا أحقن دماءنا ودماءهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم

ص: 330

من ضلالتهم حتّى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به ..».

اما الإمام الحسين عليه السلام فقد نهض في عاشوراء الإسلام، وانطلق بوعي وثبات من موقع الإيمان بضرورة الحفاظ على وحدة الصف الإسلامي، وتحصينه من الطائفية والعصبيات العشائرية، محاولًا إعادة الامّة إلى حالة الوعي والنقاء الذي كانت عليه زمن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ومصحّحاً مسيرة النهج الإسلامي الأصيل والرافض لقيم الجاهلية والطغيان والاستكبار والتمرّد على قيم اللَّه ومبادئ الإسلام.

يقول عليه السلام: «إنّي لم أخرج أشِراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في دين جدّي، اريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي صلى الله عليه و آله و سلم ...».

لقد كانت كربلاء محطّة وحدوية إسلامية في وعي الامّة؛ لأنها وضعت وحدة المجتمع والامة الإسلامية هدفاً لها، كما وكانت- في الوقت ذاته- قفزة نوعية رائدة في الفكر والوجدان حاولت، وقد نجحت في محاولتها تلك، أن تؤسس قواعد راسخة للحياة الحرّة الكريمة في خط العدالة الإنسانية. ولولا هذه «النهضة- الثورة» لما كان بإمكاننا أن نشهد تلك التغيرات الكمية والكيفية المتنوّعة التي ظهرت على مسرح الأحداث في العصور اللاحقة.

أما الإمام جعفر الصادق عليه السلام فيقول في حديثٍ معبّر له عن معاملة الشيعة لبقية المسلمين: «صلّوا في جماعتهم، وعودوا مرضاهم، واحضروا جنائزهم أو موتاهم، حتى يقولوا:

رحم اللَّه جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه. كونوا زيناً لنا، ولا تكونوا شيناً علينا ..».

واقع الوحدة الإسلامية

لاشك بأنّ للوحدة الإسلامية دوراً كبيراً في الحفاظ على المقدّسات الإسلامية، وممارسة الشعائر المرتبطة بها والمعبّرة عن امتداد معاييرها وقيمها إلى ساحة الحياة كلّها. ومن الطبيعي أن يكون العامل الوحدوي- في هذا السياق- عامل قوّة ووقاية وأمن

ص: 331

للإسلام ببعديه الروحي والمفاهيمي، ومدى ارتباط- كلا البعدين- بالمقدّسات الإسلامية، على أساس فهم معنى الوحدة، ودراسة سُبل إنجازها، ووعيها في واقع المسلمين حاضراً ومستقبلًا.

ومن المهم جدّاً- بالنسبة لقضية الوحدة الإسلامية، في إطار وعي معنى الدفاع والجهاد- أن نعي حقيقة أساسية مفادها أن هذه المقدسات، التي تمثّل عنواناً إسلامياً بارزاً، هي في الأساس من أهم العوامل الوحدوية القوية التي يجب ممارستها والسعي لإنجازها، والعمل على إطلاق سراحها من السجون الطائفية والمذهبية التاريخية المختنقة والمغلقة إلى ساحة الحياة الواسعة، لتتنفّس الهواء الطلق، ولتكون عملية التزامها- في إطار الحياة- واعية وعاقلة وصلبة في وجه المخططات التآمرية والتحديات المصيرية التي تواجهها امّتنا في الوقت الحاضر.

لذلك فإن من واجب المثقفين والدعاة الإسلاميين أن يتحرّكوا بوعي عميق على الطريق الذي يبرز أهمية الوحدة، وضرورة تعميقها في الذهنية الإسلامية عموماً، لكونها وسيلتنا الوحيدة للحفاظ على مقدّساتنا وقيمنا وشعائرنا التي يحاك ضدّها- خصوصاً عندما يتمّ تفسيرها، كما هي في واقعها الأصيل، في خط العدل والقوة والمساواة ورفض الظلم والتبعية والاستلاب والذوبان في الآخر- مخطط استكباري همجي، تمثّل بولادة الغدّة السرطانية «اسرائيل» في قلب العالم الإسلامي، من أجل ابتلاع أولى القبلتين وثالث الحرمين (مبتدى المعراج ومنتهى الاسراء- القدس الشريف) وخلق أجواء التوتر والخلافات في هذه المنطقة بالذات بغية السيطرة على الطاقات، والإمكانيات الطبيعية والبشرية الموجودة في العالم الإسلامي.

من هنا نؤكّد مرّة اخرى على أهمية وحدتنا في هذا الظرف العصيب من حياة امّتنا، الذي يراد له أن يكون ظرفاً استكبارياً عالمياً بامتياز على أساس منطق القوّة والتفرّد والهيمنة المطلقة.

وقد لاحظنا مدى القدرة التي يمتلكها الاستكبار العالمي في الوصول إلى

ص: 332

مطامعه ومصالحه عن طريق بثّ التفرقة، والضعف، والشّقاق في الصف الإسلامي مرّات كثيرة جدّاً بالرغم من السلبيات ونقاط الضعف الموجودة في داخله (في داخل قوى الاستكبار).

لذلك يجب علينا أن نستوعب التطوّرات العلمية «الجديدة- القديمة»، ونتفهم واقعنا جيداً، وندرك تمام الإدراك أن الاستعمار- الذي جزّأ امّتنا الإسلامية الواحدة، وفكّك قوّتها، وحولها إلى شراذم وعشائر وقبائل متناحرة، وسيطر على معظم مقدّراتها في الأرض والفضاء وفي السياسة والاقتصاد، ورَبطها معه باتفاقيات ومعاهدات منفصلة ووثيقة- يريد الآن أن يضمنَ استمرارية تحكّمه بوجودنا وحريتنا، وهيمنته علينا من خلال قيامه بمسخ الشخصية الإسلامية، وإلغاء الانتماء الرسالي الإسلامي بالالتفاف على المقدّسات والمبادئ والشعائر الإسلامية في كل مكان، وتفسيرها بما يتناسب وتحقيق تلك المصالح. ولا حل كائن في الواقع إلّابالوحدة، وزرع ركائزها ومقوّماتها في النفوس قبل النصوص؛ لأنّها تشكّل الضمانة الحقيقية للإطار القيمي وأنساقه الحضارية التي تحفظ- من خلالها- حُرْمة مقدّساتنا، ونأمن لشعائرنا الإلهية أن تنطلق في الخط العام قوّة وحركة مستمرّة.

لهذا كلّه ولغيره آمنت الجمهورية الإسلامية في إيران- منذ بداية تفجّر ثورتها الإسلامية العالمية بقيادة الإمام الخميني الراحل رحمه الله- بأهمّية الوحدة- وبالحلّ الإسلامي لجميع قضايا المسلمين في العالم، وبخاصة القضية الأساس (فلسطين- القدس) من خلال دعوتها إلى وحدة إسلامية مدروسة وواعية. وقد عبّر الإمام الخميني عن هذا الموقف العملي، وصرّح به في جميع مواقفه وأفعاله الشجاعة الجريئة والحكيمة .. من خلال ما يلي:

تقوية العلاقات وأواصر الاخوّة الإسلامية بين جميع المسلمين، وتوثيق عرى الصف الداخلي عبر انفتاح كلّ فريق (السنّة والشيعة) على الفريق الآخر .. وما اهتمام الإمام الخميني بأداء فريضة الحج- التي تجتمع فيها كلّ الفرق والمذاهب الإسلاميّة- بصورتها

ص: 333

الإبراهيميّة التي ترتكز على الوحدة بين المسلمين والبراءة من أعدائهم وأعداء الإنسانيّة إلا دليل عملي واعٍ تتّصف به الثورة الإسلاميّة على أدائها الوحدوي وبعدها عن التفرقة والتشرذم.. يقول الإمام: «إنّ إحدى الفلسفات الإجتماعيّة لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم هو توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام، أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم..». ونحن عندما نقرأ الإمام الخميني في واقع النهضة الإسلامية في إيران، لا نرى فيه إلّاقائداً إسلامياً عامّاً نذر نفسه لخدمة الإسلام، ووضع طاقاته ومواهبه كلّها تحت تصرّف المسلمين جميعاً .. فها هو يقول- وقد حوّل قوله هذا إلى فعل واقعي- عند افتتاحه اجتماعاً لطلّاب المدارس العالية: «لقد جئت إلى هذا المكان لأعرض خدمتي عليكم، فأنا خادمكم جميعاً ما دمت حيّاً، أنا في خدمة الشعوب الإسلامية».

ويقول قدس سره: «كلّنا إخوة، وكلّنا نعيش قلباً واحداً، غاية الأمر أن الحنفي يعمل بفتاوى علمائه، وهكذا الشافعي، وثمّة مجموعة أخرى هي الشيعة، تعمل بفتاوى الإمام الصادق عليه السلام، وهذا لايبرّر وجود الاختلافات .. لا ينبغي أن نختلف مع بعضنا، أو أن يكون بيننا تناقض، كلّنا اخوة .. على الاخوة الشيعة والسنّة اجتناب كل اختلاف، فالاختلاف بيننا اليوم هو لصالح الذين لا يؤمنون بالسنة ولا بالشيعة، ولا بالمذهب الحنفي، ولا بسائر الفرق الإسلامية، وهؤلاء يريدون القضاء على هذا وذاك .. فهدفهم بثّ الفرقة بينكم، عليكم أن تنتبهوا جميعاً. إننا جميعاً مسلمون وأتباع القرآن وأهل التوحيد».

الدعوة إلى الوحدة الإسلامية في مستوى الخارج (الاخوة الإسلامية) من أجل الدفاع عن القيم والمقدّسات الإسلامية في وجه الدسائس والمؤامرات.

يقول الإمام الراحل: «إنّ الدعوة إلى الإسلام تعتبر في الحقيقة دعوة إلى الوحدة، وهي تعني أن يكون المسلمون مجتمعين معاً حول كلمة الإسلام ..».

والواضح أن هذا الخطاب الوحدوي الخميني لم يتغيّر بعد تسلمه للسلطة في

ص: 334

إيران، ولا نجد- بالنظر إلى ذلك- تمييزاً في التوجّه بالعطاء والدعم إلى عموم المسلمين المستضعفين، بين مرحلتي الثورة والدولة.

فمن مرحلة الثورة يمكن أن نستذكر النصّ التالي الذي يوجّه فيه الإمام رحمه الله الحديث إلى حكّام إيران آنذاك: «ليعلم حكّام إيران بأن منهجنا هو الإسلام، وأن رائدنا هو وحدة المسلمين في أرجاء العالم، وإرساء أسس تحالف رصين مع جميع البلدان الإسلامية للوقوف صفّاً واحداً متراصّاً بوجه الصهيونية وإسرائيل وكل الدول الاستعمارية».

أمّا عندما أصبح قائداً للدولة والمجتمع (منطق الدولة) فإننا نسجّل للإمام الخميني قوله التالي الذي يعلن فيه- وبوضوح تام- وقوف الجمهورية الإسلامية الإيرانية بكل إمكاناتها ومقدّراتها إلى جانب المسلمين في كل مكان: «إنني أعلنها صراحةً أنّ الجمهورية الإسلامية في إيران توقف إمكاناتها وكلّ جهودها لأجل إحياء الشخصية الإسلامية للمسلمين في كلّ أرجاء المعمورة».

لقد كان التطبيق العملي لكلمات وأقوال الإمام الراحل هو الأصل الثابت في الموقف الشعبي والرسمي للجمهورية الإسلامية، وهو ما تحكيه عناصر ومكوّنات هذا الخط، بحيث أصبحت مصداقية تجربة التطبيق في سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تُقاسُ بمدى التزامها (مجتمعاً ودولة) بنهج ومحتوى الخط الخميني، وثوابته الروحية والفكرية الوحدوية الإسلامية. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مجموعة الإجراءات العملية التي اتبعها الإمام قدس سره فور انتصار الثورة سنة 1979، والتي تدلّ على وعي إيماني عميق وراسخ بقضية الوحدة الإسلامية:

1- مقاطعة الكيان الصهيوني، وتحويل سفارته في طهران إلى سفارة لفلسطين، ومن ثمّ إلى موقع أساسي لعمل المجاهدين الفلسطينيين بعد استسلام عرفات وأتباعه من منظمة التحرير.

2- تشديد الحصار وتضييق الخناق على الكيان الصهيوني من خلال إقفال أنابيب البترول، التي كانت تضخ النفط

ص: 335

إلى فلسطين المحتلة، مع نسف جميع المعاهدات والمواثيق والاتفاقات الموقّعة في عهد الشاه البائد.

3- رفع درجة المواجهة مع إسرائيل إلى حالتها القصوى من خلال دعوته إلى تشكيل جيش العشرين مليون مسلم لتحرير القدس وجميع الأراضي الإسلامية المغتصبة.

4- الدعم المادي والمعنوي للانتفاضة الباسلة (سابقاً) ولجميع الحركات الإسلامية- وغير الإسلامية- الثورية التحررية العاملة ضد الكيان الصهيوني وعملائه في كلّ مكان.

5- إعلان الإمام رحمه الله ليوم القدس العالمي في آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، ونقرأ قوله: «إنّ يوم القدس ليس يوم فلسطين فحسب .. بل هو يوم إحياء الإسلام ..».

وقد يثير الكثير من المتابعين لحركة السياسة الإيرانية حالياً بعض الأسئلة (الإشكالية) عن صدقية التوجّهات والسياسات (والنوايا) الإسلامية الراهنة التي دارت (وتدور) حول ضرورة تخلّي الجمهورية الإسلامية عن همومها ومشاغلها خارج الحدود بذريعة التصدّي لأعباء الإعمار، والتفرّغ لمتطلّبات إعادة البناء الحضاري المدني ..!

.. ولكنّنا نودّ أن نقول للجميع: بأنّ الإمام الخميني قدس سره لم يعطِ تلك الاتجاهات أيّة فرصة لتنمو وتتعملق وتمتدّ داخل ايران، بل قطع الطريق عليها بمجموعة من المواقف المبدئية الثابتة، وحشَدَ لها نصوصاً وأقوالًا متراصة لا تزال موجودة بقوّة في الحركة السياسية الخارجية للجمهورية الإسلامية، بل إنّها تعدّ من أهم الشعارات الوحدوية العملية التي سلكت تعابير وطرقاً أخرى، وإنْ بدا ذلك للكثيرين بأنه تراجع عن أسس وثوابت الثورة الإسلامية، على صعيد حركتها الخارجية الداعمة للعدل والتحرّر والوحدة الإسلامية. يقول قدس سره محذّراً المسؤولين في الجمهورية الإسلامية: «ليعلم المسؤولون أنّ ثورتنا لا تنحصر بحدود ايران، فثورة شعب إيران هي طليعة وفاتحة الثورة الكبرى للعالم الإسلامي». وعلى هذا المسار

ص: 336

الإسلامي المشرق جاءت مبادرات الإمام الخميني إزاء استمرارية الدعم الكامل للمقاومة الإسلامية الباسلة في جنوب لبنان، ولجميع فصائل وحركات التحرّر الإسلامية في فلسطين المحتلة.

وعلى الخط نفسه، ولكن بعنوان وبتعبير آخر، جاءت رسالة الإمام إلى غورباتشوف عام 1989، وموقفه من كتاب سلمان رشدي، وغير ذلك من المواقف الإسلامية الصلبة والثابتة، بالرغم من كلّ التحدّيات والأخطار والدسائس، ممّا يعبر عن استمرار نهج العناية والاهتمام الكبير بقضايا وهموم المسلمين، وتخطي الجغرافية الإيرانية.

البعد الإنساني للوحدة الإسلامية: ويتجلّى ذلك من خلال النظرة الإنسانية العالمية التي انطلقت في خط العدل والحق. ويمكننا، في هذا المجال، قراءة عناوين إنسانية بارزة في خطابات الإمام الراحل قدس سره: «إنّ ثورتنا إسلامية قبل أن تكون إيرانية .. إنّها ثورة المستضعفين في كلّ أنحاء العالم، قبل أن تتعلّق بمنطقة خاصة».

هذا وقد ترسّخ الدور الوحدوي الإسلامي الرائد للجمهورية الإسلامية الإيرانية في الوقت الراهن من خلال إقامة المؤتمرات الفكرية الإسلامية، والاحتفالات المختلفة، وتشجيع المبادرات الثقافية ذات الطابع الوحدوي، وتنسيق المواقف والأدوار والآراء، وإعلان اسبوع خاص بالوحدة الإسلامية يتزامن مع ولادة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله. وذلك عمل أوّلي (تمهيدي) يهدف إلى تعميق الوحدة في النفوس. وقد جاء تأسيس مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية- ضمن الاتجاه نفسه- كلبنة أساسية للعمل الوحدوي المشترك، حيث تمّ وضعه موضع التنفيذ الفعلي، والسعي الجدّي المسؤول نحو بناء وحدة فكرية وثقافية ثمّ سياسية فاقتصادية. والواقع أن الآمال المعقودة على هذا المجمع كبيرة ولاشك، وهذا الأمر يفترض تحرّكاً واعياً ومنسقاً من جميع الدول الإسلامية المستقلّة في أكثر من ستّين دولة، من أجل دعم هذا المشروع الوحدوي المتكامل كخطوة أساسية على طريق الوحدة الإسلامية الكبرى

ص: 337

التي تشكّل بحدّ ذاتها هدف المسلمين جميعاً على هذه البسيطة. والواضح أن هذا المجمع يحتاج إلى دعم كبير باعتباره باعثاً حيوياً لنصرة جميع قضايا المسلمين العادلة في كل مكان. على أساس أننا أصبحنا نشهد اليوم بداية إحداث تكتلات سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة على أنقاض التكتلات والأحلاف السابقة.

الوحدة الإسلامية وحقيقة السؤال النهضوي الإسلامي عند الإمام الخميني:

في خطاب له وجّهه إلى حجّاج بيت اللَّه الحرام يقول سماحته: «يا مسلمي العالم، ماذا جرى لكم في صدر الإسلام، على قلتكم هزمتم القوى العظمى، وحقّقتم وجود الأمة الإسلامية الإنسانيّة الكبرى، وأنتم اليوم تعدّون ما يقارب المليار نسمة وتملكون الثروات الكبيرة، التي تعتبر رأس الحربة وتعانون إلى هذا الحدّ من الضعف والإنسحاق في مقابل الأعداء؟ هل تعلمون أنّ كلّ المصائب التي تعانون منها هي نتيجة التفرّق والاختلاف بين رؤساء بلدانكم وبالتالي فيما بينكم؟..».

تدفعنا الإمكانات الوحدوية النفسية والشعورية، والطاقات العملية الذاتية- التي تختزنها أمّتنا الإسلامية في داخل ذاتها الحضارية، ومنظومتها العقائدية التاريخية، وفي داخل أراضيها الطبيعية- إلى إثارة مواجهة الأسئلة الملحة الراهنة عن واقع المسلمين، وأسباب ما هم فيه من تخلّف وتبعية وانقسام. ونبدأ من الأسئلة الأساسية التالية:

لماذا لا يزال المسلمون في شتّى أنحاء العالم خاضعين ورازحين تحت سطوة الحكومات الظالمة المستبدة، والقوى الاستكبارية الكبرى؟! ما هو الحل الموضوعي لهذه «المشكلة- العقدة» التي لا تزال تفعل فعلها في كلّ مواقعنا وأوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟! وأين يكمن سرّ قدرة المسلمين في التغلّب على هذه المشاكل المستعصية؟! ثمّ إنّ هناك واقعاً عالمياً جديداً- بدأ بالتشكّل بعد سقوط الشيوعية- يلزمنا أن نبحث عن دور

ص: 338

لنا في خضم صراعاته، ودوائر عمله السياسي والثقافي والحضاري الآن وفي المستقبل .. فهل نبقى في عزلة وتباعد من خلال أجواء ومناخات التفكّك والتفرقة المسيطرة على واقعنا، على أساس أن لكلّ واحد منّا مشاكله وهمومه الخاصة، أم أن هناك آفاقاً ومنافذ وإمكانات حقيقية يمكننا الالتقاء عليها كمسلمين نطمح إلى مشاركة فعّالة في المسيرة الحضارية العالمية، وممارسة دور رسالي وتبليغي رائد بين أمم العالم كلّه؟!

إننا نعتقد أن تلك الأسئلة الإشكالية الخطيرة تعكس هاجس أمّة بقيت تعيش- طوال أجيال متعاقبة- على هامش الفعل والانتاج والحياة الحضارية الإنسانية، وهي تبذل الآن قصارى جهدها، وتحاول توظيف واستثمار كلّ طاقاتها ومواردها على طريق إعادة الوعي الذاتي بالإسلام، وصياغة الفعل الإبداعي الهادف الخاص بالحضارة الإسلامية، وبالتالي المساهمة الفاعلة في توليد مجتمع إنساني تسوده قيم العدالة والمحبّة والسلام.

وقد حاول روّاد النهضة والإحياء العربي والإسلامي تقديم بعض الإجابات الفكرية والعملية عن تلك الأسئلة منذ نحو قرنين من الزمن ..

ولكنّها قلّة تلك الطروحات والمشاريع الاستنهاضية التي أشارت إلى موضع الخلل، وسبب المعاناة، وأساس الأزمة.

ولعلّ الطرح الفكري الإسلامي الأصيل للإمام الخميني قدس سره- المبني على قاعدة الوحدة الإسلامية، ومحاولة بعثها وإيقاظها من جديد بين مذاهب المسلمين جميعاً- كان من أبرز التحليلات المعمقة التي ربطت بين الوحدة وبين النهضة.

لقد ركّز النص الوحدوي الخميني- في سياق وعيه لإشكاليات وهموم المشروع النهضوي الإسلامي- على أنّ هناك مشاكل أساسية لم تأخذ بعد موقعها الصحيح المميّز في الوعي الإسلامي المعاصر، تقف أمام مسيرة الحركة الوحدوية والنهضوية الإسلامية، وتتجلّى في النقاط التالية:

1- انطفاء وركود الطاقة الروحية الكامنة في الذات الإسلامية.

ص: 339

2- تمركز عقدة الخوف المصطنع (من الآخر) في نفوس المسلمين.

3- التبعية والاستلاب وفقدان الشعور العملي الملتهب بالهوية الروحية والثقافية.

لقد أدّت تلك العوائق مجتمعة إلى إصابة المسلمين بعقدة الإحساس بالحقارة والدونية بين أمم العالم، الأمر الذي أفضى لاحقاً إلى تكبيل إرادتهم، وشلّهم عن الحركة والعطاء، وبالتالي انكفاء الأمة عن الانتاج والإبداع، بل وحتّى عن مجرّد التأمّل والتفكير بتغيير الأوضاع المتردية القائمة؛ لأنّ بناء الإنسان معنوياً، وتقوية إرادته ووعيه الذاتي بالإسلام، وشعوره العميق بهويته المفقودة- مع وجود مشروع هادف ومتكامل البنى والعناصر والإمكانات- هو الذي يشكّل القاعدة الصلبة، والمرتكز التكويني الحقيقي لإطلاق وإثارة القدرات الكامنة للإنسان المسلم، وتركيز طاقاته باتجاه الفعل الخارجي المبدع، بعد تحريره من قيود الخوف الوهمي المصطنع والمضخّم في الدوائر الظالمة (محلياً وعالمياً) .. وهذا ما يؤكّد عليه إمامنا الخميني قدس سره في نصوص كثيرة تفيض بمعاني النهضة الواعية، وتكشف النقاب عن أهمية ودور الطاقة الروحية الإنسانية في مواجهة تعقيدات الواقع، وأزمات الحياة الإسلامية الراهنة. يقول: «إن من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلّفة، ويَحُوْلوا دون إصلاحها ونموّها». وهذه هي مهمّة الإسلام الأساسية في أنه «يربّي الإنسان ليكون إنساناً في جميع الحالات»، لأن بناء الإنسان الصالح والواعي من الداخل هو الركيزة الحقيقية لبناء العالم الخارجي .. «ويمكن لإنسان صالح واحد أن يربّي عالماً بأكمله، ويمكن أن يجرّ إنسان فاسد طالح العالم إلى الفساد».

والواضح أنّ اكتمال الإنسان السليم لا يتمّ إلّابالقضاء التام على الشعور المَرَضي بالخوف من الآخر. هذا الخوف الذي لا يزال يتحكّم ويسيطر على نفسية الإنسان المسلم. ونحن نعتقد- في هذا الإطار- أن أنظمتنا السياسية القائمة- التي توزّعت في منطقتنا إثر خريطة سايكس بيكو، ومعاهدات الاستقلال- تساهم مساهمة فاعلة في

ص: 340

ممارسة النهج النفسي الضاغط ذاته الذي مارسه الاستعمار قبلها، وأراد من خلاله تحطيم نفسيات الشعوب المستضعفة، وقتل إرادة النهوض والاستقلال والحرية لديها عبر ممارسة أساليب القمع والكبت، واتباع سياسة كمّ الأفواه، وكتم الأنفاس، وملاحقة الصلحاء والمعارضين، وانتهاك كرامات الناس بطريقة منهجية منظّمة.

من هنا جاء تركيز الإمام الخميني في نهضته الوحدوية الرائدة على تحرير الإنسان، وتطهير شعوره من هواجس الخوف، وتأكيده على ضرورة أنّ جهود المخلصين في أي بلد يجب أن تتجه صوب الشعوب وعموم الناس؛ لتهديم مرتكزات الهيبة الزائفة للقوى السلطوية الظالمة المحلية والعالمية، وإعادة الثقة بالذات الإسلامية.

يقول الإمام الخميني قدس سره: «عليكم أن توقظوا أبناء الأمة التي ركزوا في ذهنها خلال سنوات متطاولة عدم إمكان معارضة أمريكا أو الاتحاد السوفيتي (السابق)، ولا زالت هذه الدعاية راسخة في الأذهان .. عليكم أن تُفهموا الجماهير أنّ هذا الأمر ممكن، وخير دليل على ذلك ما وقع في ايران».

والأمر لا يقف عند حدّ الخوف من الآخر، بل يتكرّس بشكل أكبر وأوسع من خلال عقدة الانبهار الأعمى بكلّ ما هو أجنبي أو بالتحديد «غربي».

والاستهانة- إلى درجة الاستهزاء المستفز- بكلّ ما هو شرقي وعربي أو بالتحديد «إسلامي». وقد تأطرت هذه العقدة في الواقع الإسلامي المعاصر من خلال تأثيراتها السلبية على الوعي، وفي السلوك الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي أيضاً، حيث أدّت إلى إيجاد فصل حادّ وخطير بين القدرة والطاقة التي توافرت عند المسلمين، وبين واقعهم المنقسم والمفكّك من خلال قعود المسلمين أنفسهم عن العمل، وانتظارهم السلبي لكلّ شي ء من عالم الغرب، كما وأشاعت- تلك العقدة- بعض المفاهيم الاستلابية التي عطّلت ممكنات الحركة، وعمّقت الإحساس الجامد بالأمر الواقع الراهن الذي انغرست فيه بقوّة الأنظمة السياسية التغريبية بمختلف اتجاهاتها، وتياراتها،

ص: 341

ومرجعياتها الفكرية التي أوصلت مسيرة الأمة إلى الغايات والأهداف نفسها التي رغبت بتحقيقها الإدارات السياسية الغربية في واقعنا الإسلامي.

وهنا يعبّر الإمام الخميني عن هذه العقدة- ويتابع آثارها النفسية والسلوكية- في نصوص كثيرة نختار منها النص التالي: «نسي المسلمون الشرقيون مفاخرهم كلّها ودفنوها .. نسبوا كلّ شي ء إلى الغرب .. نقلوا إلينا كل موضوع من الغرب .. لقد نسينا أنفسنا حقّاً وجلسنا مخلوقاً غريباً في مكاننا!».

ونقرأ في نصّ آخر للإمام الراحل رؤيته الموضوعية الخاصة بتجاوز تلك العقدة، وضرورة تحرير المسلم من نتائجها وتراكماتها التاريخية السلبية التي لا تزال تتكدّس بعضها فوق بعض حتّى الآن، وذلك من خلال:

أ- تحقيق الانتماء الرسالي الفعّال إلى الدائرة الإسلامية (العودة إلى الذات).

ب- التمرّد على الضغوطات الغربية، ووجوب مواجهتها ومقارعتها (بحسب الواقع والإمكانات).

ت- تحقيق الحسم السياسي والاجتماعي الداخلي (تغيير أنظمة التبعية والتغريب).

ث- البدء الفوري بإجراءات إحلال النظام الإسلامي كبديل للأنظمة القائمة.

يقول قدس سره: «يتوجّب على الأشخاص الموجودين في البلاد الإسلامية، من أولئك المعتقدين بالإسلام الذين تنبض قلوبهم من أجل شعوبهم، ويريدون خدمة الإسلام، يجب أن ينهض كلّ واحد منهم ببعث شعبه من الداخل لكي تعثر شعوبهم على ذاتها التي افتقدتها، ذلك أنّ الشعوب التي فقدت ذواتها فقدت في الحقيقة بلادها».

ويبدو أنّ تحقيق الاستقلال الروحي والفكري أولًا- كشرط مسبق لتحقيق الاستقلال السياسي والتنموي والحضاري من خلال العودة إلى الذات، ووعي طبيعة متغيّرات الحياة وتحوّلات الواقع الداخلي الذاتي والموضوعي- يشكّل عند إمامنا الراحل قدس سره المعادل النفسي البديل الذي يقضي على المحتوى النفسي للعقدة، ويجهز عليها، ليحل محلّه. أي يحلّ الاعتزاز بالانتماء والهوية مكان

ص: 342

الاعتزاز بالغرب والشوق إليه وإلى حمل هويته. على أننا نلاحظ أنّ استعادة الأمة لذاتها وحضارتها لا تقوم في أطروحة الإمام قدس سره على بدائل مفتوحة لا عدّ لها ولا حصر، وإنّما شرط الاستعادة أن تتمّ بالإسلام المحمّدي الأصيل الذي يعتبره إمامنا النظام العقلاني الموضوعي البديل عن أنظمة القهر والظلم والتبعية التي ساهمت- بحكم تبعيتها واستلابها وتماهيها مع الذات الاستعمارية الغربية- في زيادة حالة الفشل والإفلاس لمشاريعها السياسية والتنموية، وذوبان الهوية، وترسيخ الأنماط التبعية للمركز والمحور الغربي. هذه الظواهر- وغيرها مجتمعة- عمّقت إحساس الشعوب الإسلامية المستضعفة بالعجز عن التغيير المنشود، وضاعفت من شعورها بضرورة الالتحاق والذوبان الكامل بالغرب كمشروع إنقاذي وحيد.

لقد استطاع الإمام الخميني قدس سره تحقيق نهضة إسلامية راشدة وناضجة، أكسبت الإسلام المعاصر قوّة محرّكة ودافعة باتجاه تجسيد قيم ومبادئ الرسالة الإسلامية على أرض الواقع المعاش، في محاولة جادّة ومسؤولة لإعادة الحياة، وبثّ الروح في طروحاته الرسالية التي كاد الزمن يضعها طي الكتمان والنسيان.

كما وأثبت- في الوقت نفسه- أنّ الفكر الاجتماعي الإسلامي قادر- بل هو المؤهل حصراً- على قيادة السفينة إلى شاطئ وبر الأمان؛ لأنه يمتلك ديناميات الحركة والتحول الذاتي الخاص بالدوافع الروحية والعملية لمشاعر وإرادات كلّ العرب والمسلمين على طرق التحرير والتنمية والتحديث.

أجل لقد كان إمامنا الخميني الراحل- كما عبّر عن ذلك الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي- «الحل والبديل الإسلامي» الحضاري ليس في الفكر والتغيير والثورة فحسب، وإنّما في التقريب والوحدة.

خاتمة البحث

إن المنطق القرآني والعقلاني يفرض علينا أن نسلك طريق الوحدة في الواقع العملي للمسلمين؛ لأنّها تشكّل القاعدة الأساسية في التحرّك الفاعل والمثمر من أجل مواجهة تخلفنا المفروض علينا

ص: 343

(الذي نتحمّل فيه القسط الأوفر من أسبابه ونتائجه) لذلك لابدّ لنا من تهيئة الأجواء المناسبة والظروف الحركية المؤاتية للعمل الوحدوي، بعيداً عن كلّ حالات الفرقة والتنابذ ومحاولة إيقاف تيّار الوحدة.

إننا نجد ضرورة ملحة في مؤازرة ودعم الجهود المضنية الكبيرة التي تبذلها إيران في إطار رغبتها إقامة علاقات وحدوية بين جميع الدول الإسلامية؛ لأنّ الهدف واحد ومشترك وهو لا يختصّ بإيران وحدها، لذلك من المفروض أن تظهر في الواقع العملي ردود أفعال إيجابية واضحة على تلك الدعوات الصريحة- الصادرة من أعلى هيئات ومؤسسات الحكم الإسلامي في ايران- من قبل جميع الدول العربية والإسلامية كي يتمّ توفير التربة الخصبة والمناخ المناسب لنمو بذرة الوحدة الفكرية والعملية بين المسلمين.

إننا يجب أن نفهم واقعنا جيداً، ونعرف طبيعة متغيّراته وتطوّراته السريعة، وننطلق لنمتلك- من خلال وحدتنا- كلّ ما يمكن أن يجعلنا قادرين على التحرّك الفعّال لمواجهة هذا الواقع المعقّد والمظلم، ولو اقتضى ذلك أن نعاني من مشكلة الزمان، فلا ضير أن نصل إلى هدف الوحدة المنشود بعد قرن من الزمان، المهم أن نمتلك المبادرة للانطلاقة المؤثّرة والمنتجة، ونبدأ الحركة باتجاه أهدافنا العالية والطموحة من موقع الحوار الإسلامي المنفتح على هدى القرآن وطريقه المستنير، ومن موقع المعرفة الواعية لحقيقة ما يدور في عالم اليوم والغد.

إننا نؤمن إيماناً راسخاً بأنّ الجدران والحواجز التي أقامها الآخرون بين علومهم وتقنيتهم المتطوّرة- التي يعود الفضل الأساسي في نموها وإثمارها إلى حضارة العرب والإسلام- وبين واقعنا المتخلّف المنقسم، لابدّ من أن نواجهه (بل نقتحمه) بالعمل اليومي الحثيث الصادق في كلّ العناوين والمفردات من خلال الوعي والعلم والعقل وامتلاك أسس التكنولوجيا الحديثة. بالرغم من أنّ ذلك سيصطدم- لا محالة- بأكثر من مشكلة ومشكلة، لكن الأمر المهم هو البدء الفوري بتحقيق شروط الحسم

ص: 344

الداخلي من أجل بناء الاجتماع السياسي الوحدوي، ثمّ الانطلاق إلى فتح الثغرات في واقع الآخرين؛ لأنّه من غير المعقول أن نبني جداراً على أساس ضعيف وهشّ ومتخلّف يعاني من التبعية والاستلاب للآخر، لاسيّما أن هذا الجدار محكوم عليه بالتعرّض للأهوال والعواصف والزوابع التي يثيرها ضدّه الاستكبار العالمي، وكثير من أصابعه الرجعية في المنطقة.

إننا نعتقد أنّه من الأفضل- بالنسبة للحركة الإسلامية، على طريق انجاز وحدتها- أن تعمل على إيجاد قنوات فكرية وسياسية وإعلامية يمكن أن تفسح المجال للتنسيق في نطاق خطة مشتركة، أو تصوّر متقارب كوسيلة أولية من وسائل اكتشاف أسس تقاربها ووحدتها مع بعضها في كثير من الطروحات والمناهج والأساليب بحيث تتمثّل أمامها الصورة الإسلامية الصحيحة للمشروع الحضاري الإسلامي العام، مع التنوّع في دائرة الوحدة، أو الوحدة في خط التنوّع ممّا يسهِّل للوحدة ظروفها الثقافية، ويمهّد الطريق لإنجاز بعض ملامحها العامّة في انتظار تكامل مناخاتها وظروفها النفسية والعملية، والوصول إلى مزيد من التعاطف والتواصل والتلاقي على أكثر من قضية كبيرة وهامة. وقد أثبتت التجربة أن من يبدأ بوعي سيصل إلى مبتغاه مهما كانت الظروف صعبة والأجواء معقّدة. إننا ندعو- في هذه الأجواء- إلى اعتماد الحوار الجري ء الهادئ والموضوعي باعتباره هو القادر على إثارة دفائن العقول في خط الوعي نحو هدف التقريب والوحدة بين المسلمين، كأساس عملي ناهض وقوي لعمل مشترك في كلّ المجالات الحياتية؛ لأن قيمة الحوار- في الواقع العملي للمسلمين- مؤثرة وضرورية جدّاً من حيث كونه مطهراً لنفوس المسلمين من التباغض، والحقد، والعصبية العمياء، وعملًا فعالًا للتبادل الثقافي والمعرفي كمرحلة أساسية لتعميق وإنضاج مرتكزات الأفكار والمعارف من أجل الوصول إلى النقاط الثابتة المشتركة، وبالتالي الإيمان بالحقيقة الواعية والمستنيرة، طبعاً إذا أخذنا بعين

ص: 345

الاعتبار أنّ هذا الحوار سيكون منطلقاً من خلال ثوابت القرآن الكريم والسنّة الشريفة ومعطيات التاريخ الصحيح من خلال إعادة دراسته بنزاهة وموضوعية بعيدة عن الأهواء النفسية والانفعالية، مع تجاوز الذات، وموضوعية القصد والرؤية والهدف، أي من موقع الفكر لا العاطفة. وهذه الطريقة قد تساهم- إلى حدٍّ كبير- في بناء وتأسيس وحدتنا النفسية الأولية؛ لأنّها تؤدي إلى الوحدة الفكرية التي هي القلب النابض للوحدة الإسلامية الشاملة، ثمّ العمل على ملاحقة التجارب الوحدوية الاخرى في مجالات العمل السياسي والاقتصادي ..

إلخ، بالرغم من تعقيدات الأوضاع والظروف والمواقف العامّة للمسلمين التي يخلقها الاستكبار العالمي (ونحن نشاركه في ذلك أيضاً) في كلّ لحظة كحجر عثرة في طريق الوحدة الإسلامية المطلوبة. وأود التذكير هنا بأنّ النظرة المثالية لقضية الوحدة- التي يحاول أصحابها النظر إلى القضية من المنظار العاطفي في مستوى الفكر والتشريع على أساس النظرة التجزيئية للدائرة الإسلامية- لا يمكن أن تحقّق الأهداف والتطلعات الأساسية للمسلمين على طريق إنجاز وحدتهم؛ لأنّ الأمر يتطلّب في الواقع أن ننظر بعمق إلى المستوى الإسلامي ككيان متكامل في الفكر والروح والعمل فيما يمثّله من قاعدة للفكر والحياة والإنسان.

ونحن نجد أنّ النظرة الواقعية لمسألة الوحدة تتمثّل- في تحد تعابيرها وتجلّياتها- في تلك اللقاءات المتواترة التي تعقد بين القيادة الإسلامية من جهة، وفي وحدة القضايا المصيرية المشتركة والآلام والتحديات القاسية التي تصيب هذا الجسم الإسلامي هنا من جهة ثانية، فيتفاعل معها الجسم الإسلامي هناك.

إننا نجد في ذلك كلّه حركة إيجابية في اتجاه الانفتاح الواعي الواسع على الواقع الإسلامي برمّته، بتعقيداته وأجوائه الباردة والساخنة، على مستوى العاطفة المتفاعلة مع النتائج السلبية والإيجابية، والموقف الحاسم في نصرة الخط والموقع

ص: 346

بطريقة وبأخرى. وربّما نجد، وفي هذا المجال، ضرورةً في أن ننبّه الحركيين الإسلاميين- العاملين في طرق الوحدة والتقريب- إلى أهمية الاستفادة من هذه الإيجابيات الروحية والفكرية الكبيرة، ومحاولة تعميقها ذهنياً وشعورياً وحركياً لتوسيع مدارات التجربة، والإكثار من نماذجها الحيّة، وإبعاد الأوضاع القلقة والمواقع المضطربة والمهتزة التي تحاول دائماً- بفعل عناصر التخلّف والانقسام المزروعة في داخلها- التركيز المتواصل على مواطن الخلاف والضعف بدلًا من تركيزها على مواقع اللقاء والتوحُّد والإبداع.

إنّ الزمن يمرّ بسرعة ونحن لا نزال في حالة السكون، وعدوّنا شرس ولعين، وهو يفكّر دائماً- دون كلل أو ملل- من أجل إحكام سيطرته على مقدّراتنا وثرواتنا الروحية والمادية، وهو المستفيد الوحيد من حالة ضعفنا وتشرذمنا وضياعنا في متاهاته، ودهاليز مفاوضاته. ولا مجال أمامنا البتّة إلّاأن نفكّر بتأسيس القوّة الفكرية والعلمية من خلال وحدتنا، وألا ننهار- كما ذكرنا- أمام قضية الزمن كحالة تبعث في نفوسنا الملل والسكون والاسترخاء والإذعان للأمر الواقع.

نعم .. من الضروري بالنسبة إلينا جميعاً- كعرب ومسلمين- أن نسبق الزمن ونصل بسرعة، لكن الأهمّ من ذلك أن نعي طريقة الحركة، وكيفية سلوكها- على أرض الواقع- بوعي وحذر؛ لأن المسألة تتعلّق بالأرض لا بالسماء، بالواقع لا بالمثال .. وهذا أمر يقتضي تجنّب سياسة القفز فوق الحواجز (التي ستكون حتماً من مصلحة عدوّنا الذي يحرص دائماً على إثارة خلافاتنا بعناوين بارزة وعريضة) وإدارة أزماتنا وهمومنا الصغيرة والكبيرة.

من هنا نستنتج أنّ طريق الوحدة الإسلامية ملي ء بالأشواك، والحفر الحقيقية والعراقيل المصطنعة والوهمية.

من هذا المنطلق لابدّ أن نمارس الأجواء المحيطة بنا- التي يجب أن نعمل على جعلها تتحرّك على خط الوحدة الإسلامية- فكراً حركياً رسالياً يعتمد

ص: 347

على الحوار العقلاني الواعي، والإيمان باللَّه تعالى كأساس للعمل من أجل الوصول إلى أهدافنا الكبيرة.

وهذا بدوره يقتضي من الإسلام والمسلمين- في مجال الدعوة والحركة والوحدة والجهاد- دراسة الواقع المحلي والعالمي- في تفاصيله ودقائقه وعناوينه الكبيرة والصغيرة- من أجل مواكبة المسيرة الإنسانية في تحريك مفاهيم الإسلام وتصوراته، وشرائعه، وأساليبه الحضارية بحيث لا يقف غريباً عن الذهنية المعاصرة الحديثة، لأنّ علينا- في إعلامنا وثقافتنا وسياستنا وتبليغنا الديني- أن نفهم أن الذهنية لغة خاصة، تماماً كما هي الكلمات والمفردات الاخرى، فمن لا يفهم ذهنية العصر، وأجواء الحياة الراهنة، لا يفهم خطابها، ولا يدرك طريقة التفاهم مع أهل هذا الزمن.

من هنا تكون الأولوية في أن نعي ذهنية وروح الواقع العالمي، ونمتلك حسّ المعاصرة؛ لندخل إليه من الباب الواسع والعريض، ليجد إسلامنا- في داخل هذا الواقع- مكانه وموقعه وامتداده.

وهذه المواكبة أو المسايرة للحياة المعاصرة لا تعني- بأي حال من الأحوال- أن نتخلّى عن ثقافتنا ووعينا التوحيدي الإسلامي، وشرائط وجوده في الحياة، ولكنها تعني- فيما تعني- أن نستفيد من الإمكانات والمنافذ المتاحة لنا في الحياة من أجل الدعوة إلى الإسلام النقي والأصيل، والعمل على تعميقه في الذهنية المعاصرة من خلال الأساليب المتوفّرة بين أيدينا، والتي تؤكّد على ضرورة انطلاقتها في خط الدعوة إلى الإسلام في العقيدة والشريعة والمنهج والوسائل والغايات من أجل تثبيت الإسلام في نفوس المسلمين في كلّ بقاع المعمورة، وإطلاقه في حياة غير المسلمين؛ لأنّ الخطورة هنا تكمن في انحسار الإسلام- الفكر، والممارسة، والانتماء، والوحدة، والنهضة- في الشخصية السليمة بفعل ضغط الأفكار المادية، والقيم الغربية، والمناهج الفكرية المنحرفة التي بدأت تطبق بقوّة على العمق الروحي للإنسان المسلم لتبعده عن عقيدته، وفكره، وقيمه الروحية

ص: 348

والأخلاقية، وخطوطه ومناهجه في السلوك والعمل، وهذا ما يندرج ضمن هدف واحد هو: أن نُطلِق الإسلام في ساحة الحياة الرحبة لنتنفّس معه- ومن خلاله- الصحو والنقاء والصفاء، في دائرة الضوء، ولا نحبسه في العلبة الطائفية والعشائرية المظلمة والضيّقة، وبذلك نحرّر أنفسنا، وواقعنا، وحاضرنا، ومستقبلنا، وأجواءنا الرسالية من كلّ أغلال وقيود الآخرين وأوهامهم الذاتية، من أجل أن نكون الفكر الخصب المعطاء الذي يمتدّ بقوّة إلى ساحات الحياة والإنسان ليوحي، ويحاور، ويؤسّس للمستقبل المشرق والمضي ء، بعيداً عن دهاليز التجريد الحالم والمحلق عالياً في الفضاء في أوهام الخيالات الوردية.

من هذا المنطلق نؤكّد على أنّ الإخلاص للإسلام، وقضية الوحدة، والانفتاح المدروس على الواقع الحاضر وعلى جميع القضايا الكبيرة التي جعلها اللَّه تعالى أمانة في أعناقنا ورضينا نحن بذلك- يقتضينا، أولًا وأخيراً، أن نضحّي بكثير من الجوانب المتصلة بأحداث وتواريخ وأوضاع إسلامية ماضية وراهنة .. وقد عشنا هذا الأسلوب مع الإمام علي عليه السلام في وعيه العميق لطبيعة الأجواء السلبية التي ترافقت مع انتقال الرسول صلى الله عليه و آله إلى الرفيق الأعلى. حيث يتحدّث الإمام- عن تلك المناخات المتوتّرة، وموقفه الرصين منها- قائلًا:

«.. فما راعني إلّاانثيال الناس على فلان يبايعونه فأمسكتُ يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يريدون مَحْقَ دين محمّد صلى الله عليه و آله، فخشيتُ إنْ أنا لم أنصر الإسلام وأهله أنْ أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبةُ به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنّما هي متاعُ أيامٍ قلائلٍ يزولُ منها ما زال كما يزول السراب، فنهضت حتى زاحَ الباطل وزهق، واطمأنَّ الدين وتنهنه ...».

والواقع أنّ هذه الكلمات- وغيرها من المواقف العملية لأهل البيت عليهم السلام جميعاً- تبعث في نفوسنا إيجابية التعاطي مع الإسلام كلّه في مواجهة الأخطار الكبيرة التي تقف أمام تقدّم الإسلام والمسلمين حالياً، والتي هي أشدّ وطأة

ص: 349

من التحديات والأخطار التي واجهت الواقع الإسلامي سابقاً .. وذلك هو وحده الذي يفرض علينا الانفتاح بعضنا على بعض (كمسلمين) في الساحة الإسلامية الكبرى؛ لنكون جزءاً من الامّة في قضاياها المصيرية الكبيرة، لنلتقي- عندما نلتقي- من موقع الوعي الذاتي بالإسلام لمصلحة الإسلام، ولنختلف- عندما نختلف- من موقع الإسلام لمصلحة الإسلام، لنعطي قضية الإسلام كلّ ما عندنا من فكر وحركة وجهاد وإيمان وأصالة، ولنستجيب لنداء اللَّه تعالى: إنّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون.

من هذا المنطلق نقول: بأنّه إذا ما أراد العرب والمسلمون أن يبقوا- الآن وفي المستقبل- أحياء بالمعنى الروحي والاجتماعي الحضاري فيجب- على نهج وخطى وطريق هذه المقاومة- أن يسيروا وينتجوا ويبدعوا، وأن يتحرّكوا في الاتجاه نفسه الذي انطلقت وتحرّكت عليه الجمهورية الإسلامية وثورتها بقيادة الإمام الراحل الخميني العظيم قدس سره والسائرين على خطّه المبارك، من حيث وعيها الإسلامي الملتزم والفعّال لقضايا وهموم الواقع الإسلامي المعاصر بتحدّياته ومتغيّراته ومستجدّاته السريعة والمتلاحقة، إضافة إلى تحملها الكبير لمسؤوليات بناء وإنجاز مواقع صمود ومواجهةٍ قوية وفاعلة في وجه تعقيدات هذا الواقع. وأنا أتصوّر- في هذا السياق- أن من مصلحتنا أن نبادر فوراً إلى فتح المغاليق النفسية والفكرية والسياسية مع هذه الدولة الإسلامية، وبناء علاقات التفاهم والحوار، والتعاون معها على ركائز الأخوّة الإسلامية الحقيقية- التي هي المرتكز الهامّ في حياتنا الإسلاميّة- بما يقطع الطريق على أعداء الأمة، ويمنعهم من التدخّل السافر ضد هذا الطرف أو ذاك.

إذاً ثمّة خطأ استراتيجي بالنسبة إلينا يجب أن نتداركه من لحظتنا الراهنة، وإلّا فإن استمرار هذه القطيعة وذلك الخطأ الفادح، سيحقّق لأعدائنا وحلفائهم والدائرين في فلكهم مصالحهم في المنطقة من خلال تعزيز

ص: 350

سيطرتهم المباشرة على مقدّرات وثروات الأمة الإسلاميّة، وتوفّر لهم الشرعية بالتحرّك في أجواء ومياه منطقتنا الإسلاميّة.

إننا نقول، توخياً لعدم الإطالة: إنّ إيران- بعد انتصار الثورة الإسلاميّة فيها- ليست لوحة صعبة ومعقّدة الفهم، ولا يحتاج فهمها إلى كبير جهد، بل يحتاج- فيما يحتاج- إلى وعي حضاري وإنساني، وإرادة قوية واعية تتحرّك مستقلّة، من دون أخذ الموافقات (الأوامر) من الآخرين أعدائنا وأعداء مبادئنا.

نحن نفهم أن ما يكفي الجمهورية الإسلامية تحضراً، وفخراً، ووعياً حضارياً، ومسؤولية أمام اللَّه تعالى وأمام الأجيال العربية والإسلامية الصاعدة، هي أنّها لا تزال تقف وتساند وتدعم بلا حدود- بالرغم من الأطواق الأمنية والاقتصادية والضغوطات السياسية المفروضة، التي استطاعت التغلّب عليها وكسر حلقات عزلتها من خلال ممارسة سياسة الانفتاح والذكاء والوعي السياسي الخارجي ومعرفتها بمشاكل أمّتنا ومايحيطيها من مصاعب ومؤامرات وخطط إجراميّة تريد النيل منها بل الإطاحة بها وإلغاء وجودها كأمّةٍ قويّة ذات تأثيرٍ في العلاقات الدوليّة وقادرة على الوقوف على قدميها والنهوض لبناء مستقبلها وحضارتها كما أرادت لها السماء ذلك.

إنّها أمّة جديرة بحمل أمانة السماء وتأديتها خير أداءٍ إذا ما أحسنت إيمانها بعقيدتها الإسلاميّة والتزمت بمبادئها التزاماً قويّاً ولم تخش في ذلك لومة اللائمين، ومؤامرات الحاقدين، ومخطّطاتهم التي ما انفكّوا عنها من أجل تقويض كياننا الإسلامي ووجودنا.

نسأله تعالى أن يمدّنا لتحقيق كلّ ذلك بقوّة وسداد.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.