ميقات الحج المجلد11

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 -، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص:1

كلمة التحرير

ص:2

ص:3

ص:4

ص: 5

العدد الحادية عشر

كلمة التحرير

ميقاتُ الحجّ- إذ تطوي عامها الخامس- تتمنّى أن تكون أدقّ بياناً وأكثر استيعاباً ورؤًى لكلّ مايتعلّق بفريضة الحجّ المباركة في أيّامها المعلومات وفي مفاصلها المتميزة مناسك وأحكاماً وآداباً وتأريخاً ومفاهيم عبادية واجتماعية وسياسية واقتصادية.. تتجلّى فيها كلّ المعاني الجميلة وكلّ القيم المباركة.. في عبوديةصادقة للَّه تعالى، وفي انقياد تام له والتزام أكيد بتعاليمه وأحكامه، وفي رصّصفوفهم عبر وحدة متماسكة ضدّ أعدائهم ومخططاتهم، وفي ثورتهم ضدّ الطغاة والمستبدين، وفي ثروتهم وبما تمدّهم به من قوة واستقلال.. تتجسّد جميعها عبر مؤتمر مليونيٍّ سنويٍّ وَفَدت إليه النفوس وهوت إليه القلوب من كلّ فجٍّ عميق تلبيةً لذلكَ الأذان القديم الجديد وأذِّن في الناس بالحجِّ يأتوك...

وقد شاءت السماء ألّايقع هذا التجمّع المثير العظيم المهيب إلّامرّة واحدة في كلّ عام ليشهدوا منافع لهم و يذكر وا اسمَ اللَّه في أيّام معلومات .. .. ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم على أقدس بقعة عرفتها الدُّنيا وألفها الناس أمّ القرى مكّة

ص: 6

المكرمة، حيث .. أوّل بيتٍ وُضعَ للناس للّذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين.

وداخل أطهر بيت عندَ بيتك المحرم، وفي أعظم مسجد المسجد الحرام، ليطوفوا بالبيت العتيق متراصين كأنهم نفس واحدة وبدن واحد وقطعة واحدة تتحرك أشواطاً متواصلة متلاحمة..

راجيةً وهي تعيش سنتها السادسة أن تكون أعمق بحثاً لكلّ مايخصّ البلاد الطيبة الحجاز الحبيب مكة والمدينة ومافيهما ومابينهما وماحولهما مواقيت ومواقع وآثاراً وشخصيات كُتِبَ لها أن تحيا في كنف ذلك البيت، فآمنت وطهرت وتألقت إيماناً وجهاداً وتضحيةً وعلماً.. فخلفت أرقى الذكريات وأجملها عبراً ومواعظ ودروساً تنتفع بها الأجيال.

وأخيراً وليس آخراً تصبو مجلتكم هذه- في عامها الجديد- إلى أن تكون أوسع وأكثر انفتاحاً على كلّ المثقفين علماء وكتّاباً ومؤلفين وقراءً لعلها تحظى بقبولهم واهتمامهم كتابةً ونقداً وإرشاداً وتثبيتاً، مترقبةً أقلاماً ناضجة وأفكاراً بكراً وآراءً رصينة وثقافات جديدة متنوعة تمدّها بما خفي عليها طيلة هذه السنين، وتكشف لها كلّ ماعجزت عن سبر أغواره من معالم بلد الوحي والرسالة والنبوّة، وماانطوت عليه هذه الفريضة المقدسة ..

ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا: إنّ ماقدمته هذه المجلّة المختصّة- وللاختصاص كما تعلمون ثمنٌ باهظ وجهدٌ مضاعف- والوحيدة- حسب اطلاعنا في المكتبة الإسلامية- من مادة قيمة في نواحٍ متنوعة ومحاور متعددة فقهاً وتفسيراً وتحقيقاً وتأريخاً وترجمة.. أفادت كثيراً، وجعلتها موضع تقدير، وليس أدلّ على ذلك من إشادات وصلتنا من الاخوة كتابةً ومشافهةً. ولا يسعنا إلّاأن نقول: إنّها جهودكم الكريمة التي تعانقت وتضافرت مع جهود متواضعة اخرى، فمدّتنا بمزيد من الثقة، وإن كُنّا نطمع لتتراكم هذه الجهود استكمالًا للفائدة واقتراباً من الهدف، الذي رسمته وهي في أوّل عملها، وتحملته مسؤوليةً كبيرةً. وإن أخفقت، أو لم يسعفها الحظ في

ص: 7

طرح موارد أكثر نفعاً وفائدة في عمرها المنصرم، فإنّها تمدّ يديها لكلّ من يهمّه هذا الجهد ليسعفه بما تجود به يداه وهو كريم .. فخزين هذه الفريضة بأبوابها ومعالمها لم تستوفِ مجلّتكم هذه شيئاً منه، وهو ينبوع لا ينضب ورصيد لا ينفد. فعظمته وسعته وشموله من عظمة وسعة وشمول أعظم فريضة شرعتها السماء ورعتها وأرستها جهود تواصلت لأنبياء كبار بدءاً بإبراهيم وإسماعيل... وانتهاءً بخاتمهم محمد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله وبأهل بيته عليهم السلام وأصحابه والتابعين لهم ومن سار بهداهم.

إنّ منافع ومشاكل وأسئلة كثيرة تنتظر الإجابة عنها في كلّ الميادين، وعلى جميع الأصعدة خاصة الفقهية منها محلّ ابتلاء الملايين من المسلمين. ومنبر المجلة- مع احترامه للمنابر الاخرى- وانطلاقاً من أمانة الاختصاص التي تحملها، باب مفتوح وكتاب ميسور لتلك الحلول وهذه الإجابات ..

من هنا تجدّد المجلة دعوتها إلى دراسة علمية واعية مستوعبة لحيثيات هذه الفريضة المقدسة وفلسفتها ومفاهيمها وثمارها وآثارها على مجمل حياتنا؛ لنؤديها ولنعيشها كما خططت لها السماء وأرادتها ذات خير عميم وعطاء دائم ومنافع كثيرة ..

ص: 8

الحج في أحاديث الإمام الخميني- قدس سره-

الحجّ في احاديث الامام الخميني

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني

- قدس سره-

أقدم التهاني والتبريكات الخالصة لجميع المسلمين في العالم بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك. هذا العيد الذي يذكّر الناس الواعين بمذبح الفداء الإبراهيمي، هذا المذبح الذي قدّم درس الفداء والجهاد في سبيل اللَّه تعالى لأبناء آدم وأصفياء وأولياء اللَّه، هذا العمل بعمق أبعاده التوحيدية والسياسية لا يستطيع إدراكه غير الأنبياء العظام والأولياء الكرام وخاصّة عباد اللَّه. هذا أبوالتوحيد ومحطّم أصنام العالم، علّمنا والبشريّة جمعاء أنّ التضحية في سبيل اللَّه وقبل أن تكون ذات بُعد توحيدي و عبادي، تمتلك أبعاداً سياسية وقيماً إجتماعية، علمنا وجميع الناس كيف نقدّم أعزّ ثمرات حياتنا في سبيل اللَّه، لذا فإني اناشدكم: ضحّوا بأنفسكم وأعزّائكم وأقيموا دين اللَّه والعدل الإلهي.

لقد عرفنا نحن ذرية آدم أنّ مكّة ومنى أماكن لنشر التوحيد ونفي الشرك، الذي من مصاديقه التعلّق بالنفس والأعزاء.

لقد تعلّم أبناء آدم من هذهِ الأماكن الجهاد في سبيل اللَّه فعليكم أن تعلموا

ص: 9

العالم قيمة الفداء والتضحية، وقولوا له، إنّه في سبيل اللَّه وإقامة العدل الإلهي وقطع أيادي المشركين في هذا الزمان، يجب أن يخلد الحق بتمامه ببذل أيّ شي ء حتى ولو كان مثل إسماعيل. إنّ إبراهيم وإسماعيل وولده العزيز سيّد الأنبياء محمّد المصطفىصلى الله عليه و آله محطمو الأصنام ومعلمو البشريّة أنّه يجب تحطيم كل الأصنام والأوثان كيفما تكون. وأنّ الكعبة، أمّ القرى على امتدادها وسعتها وحتّى آخر نقطة من الأرض، وحتّى آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الأصنام، أيصنم كان وكيفما كان أكان هياكل أو شمساً أو قمراً أو حيواناً أو إنساناً أوصنماً وهل هناك أسوأ وأخطر من الطواغيت على امتداد التاريخ، من زمن آدمصفيّ اللَّه حتّى ابراهيم خليل اللَّه، إلى محمّد حبيب اللَّهصلى الله عليه و آله حتّى آخر الزمان الذي يظهر فيه إمامنا المهدي الموعود ليحطم آخر الأصنام ويطلق نداء التوحيد من الكعبة. أو ليست القوى الكبرى في زماننا أصناماً كبيرة سيطرت على العالم ودعته لعبادتها وفرضت نفسها عليه بالقوّة والتزوير؟!... إنّ الكعبة المعظّمة هي المركز الأوحد لتحطيم هذه الأصنام وتطهير هذهِ البقاع من كلّ أنواعها.. قال اللَّه تعالى:... وطهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود.

ص: 10

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظله العالي-

الحجّ في احاديث الامام الخامنئي

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

- مد ظله العالي-

معرفة عظمة اللَّه ورحمته في الحجّ تعني التأمّل في رفع قواعد هذا البيت الذي هو بيت اللَّه وهو في الوقت نفسه بيت الناس أيضاً.

إنّ أوّل بيتٍ وُضِعَ للنّاس لَلَّذي ببكّة مباركاً وهدًى للعالمين (1) إنّه البقعة التي يتّجه إليها الإنسان الخاشع المتبتّل، وإنّه أيضاً محلّ تجلّي عظمة الدين الإلهي. خليط من العظمة والصفاء والبساطة، ذكرى أوّل نداء للتوحيد ومحطّ لتحقّق وحدة الكلمة، يحمل آثار أقدم المجاهدين فيصدر الإسلام الذين جاهدوا فيه وهم غرباء، وهاجروا منه وهم مظلومون، وعادوا إليه وهم فاتحون أعزاء، وطهّروه من رجس جاهلية العرب، ثمّ هو المعطّر بشذى المتهجدين ومحلّ سجود العابدين، ومهوى قلوب الشاكرين، إنّ مطلع فجر الإسلام في البلاد ومشرق طلوع المهدي الموعود في الخاتمة، هو ملجأ القلوب المضطربة ومحطّ آمال النفوس المتبرّمة.

تشريع فريضة الحجّ وترتيب مناسكه يحمل دلائل العظمة ويحمل آيات


1- 1 آل عمران: 96.

ص: 11

الرحمة أيضاً. بهذه المعرفة تستيقظ القلوب وبمشاهدة الكعبة المشرّفة والمسجد الحرام بوعي يعود التائهون إلى الصراط المستقيم..

معرفة العدو حصيلة كلّ هذه الألوان من «المعرفة» ومكملة للنفوس.

وبدونها يكون قلب المسلم وذهنه بدون أسوار ضد الغزاة والخونة.

إنّ أعمال الحجّ، ومنها رمي الجمار تجسيد للمعرفة ومقارعة العدو. والنبي الأكرمصلى الله عليه و آله رفع الأذان في الحج، وتليت آيات البراءة في موسم الحجّ بلسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولو أنّ الأمّة الإسلامية تخلصت يوماً من وجود جحافل الأعداء وأمكن حدوث ذلك فإنّ البراءة ستفقد مبرّرها ولكن مع وجود الأعداء وعدوانهم الحالي فإنّ الغفلة عن العدوّ وإهمال البراءة منه خطأ كبير وخسارة فادحة..

الهوامش:

ص: 12

تحفة الكرام

تحفة الكرام

تحفة الكرام

تأليف: العلّامة السيّد محمّد مهدي بحر العلوم

تقديم: محمّد رضا الأنصاري

«تحفة الكرام في تأريخ مكّة والمسجد الحرام» رسالة نافعة، وهي مما أتحفنا بها يراع أحد أعلام المسلمين وأئمة الدين في القرن الثاني عشر للهجرة،صاحب الحسب النبوي الشريف، والنّسب العلوي المنيف، ألا وهو العلّامة السيد محمد مهدي بن مرتضى بن محمد البروجردي الطباطبائي. ولد رضوان اللَّه تعالى عليه سنة 1155 ه (وفي رواية سنة 1154 ه) بمدينة كربلاء، عند مشهد السبط الشهيد الحسين بن علي عليه السلام، في اسرة علميّة دينية، فوالده السيد مرتضى كان يعدُّ من أعلام كربلاء وأفاضل اسرته، وللمترجم له علاقات مصاهرة ونسب باسرة العلامة المجلسي رحمه الله (المتوفى عام 1110 ه) وكان يعبّر عن المجلسي الأوّل الشيخ محمد تقي بالجدِّ وعن المجلسي الثاني الشيخ محمد باقر بن محمد تقي بالخال. تلّقى المترجم له الدروس أوّلًا في مسقط رأسه عن والده وعن الشيخ يوسف البحراني (صاحب «الحدائق الناضرة» المتوفى 1184 ه) ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف، وحضر دروس أعلامها وهم الشيخ مهدي بن محمد الفتوني العاملي (ت 1183 ه)،

ص: 13

والشيخ محمد تقي الدورقي (ت/ 1186 ه)، والشيخ محمد باقر هزارجريبي (ت/ 1205 ه)، ثمّ عاد إلى كربلاء وتتلمذ على كبير علماء الشيعة آنذاك وهو الآغا محمد باقر الشهير بالوحيد البهبهاني (ت/ 1205 ه) فلازمه مدّة وصار من أبرز تلامذته وموضع اعتماده، وحينما عجز الوحيد عن التدريس لكبر سنه أوصى تلميذه النبيه بأن يعود إلى النجف ويؤسس حوزة دراسية لتربية الطلاب، وفعلًا عاد السيد إلى النجف الأشرف فحلّق حوله جماعة استفادوا من نمير علمه، وصاروا أعلاماً ومنارات للعلم والتقوى اهتدى بهم الناس، وكان منهم السيد حيدر العاملي، الشيخ جعفر بن الشيخ خضر الجناجي (صاحب كشف الغطاء) السيد جواد العاملي (صاحب مفتاح الكرامة)، الشيخ أبو علي الحائري (صاحب منتهى المقال في علم الرجال) والمولى أحمد النراقي، والسيد محمد الطباطبائي المجاهد، السيد محمد الخوانساري، الشيخ أسد اللَّه التستري (صاحب المقابس)، الميرزا محمد النيسابوري الأخباري، حجة الإسلام السيد محمد الشفتي الأصفهاني، الشيخ محمد علي الأعسم، السيد دلدار علي الهندي وآخرون.

سافر السيد سنة 1186 ه إلى خراسان فسكن 8 سنوات بجوار مشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فأفاد واستفاد، وخلال هذه الفترة حضر عند الميرزا مهدي الشهيدي الخراساني ودرس عنده الفلسفة الإسلامية، ولمواهبه العلميّة ونبوغه لقبه شيخه الخراساني بلقب (بحر العلوم) فصار يعرف بعده، واشتهرت اسرته بهذا اللقب.

توجه بحر العلوم سنة 1192 هصوب الديار المقدسة لأداء فريضة الحجّ، فمكث في مكّة (زادها اللَّه تشريفاً وتعظيماً) سنتين ودرّس خلالها الفقه على المذاهب السنّية الأربعة في المسجد الحرام، ولعلّ هذه الرسالة من ثمرات تلك السفرة، كما تنسب له فكرة بناء المآذن الأربع في أطراف الحرم؛ لتسهيل طواف الطائفين حول البيت.

ص: 14

عاد بحر العلوم إلى النجف الأشرف، وتصدّى زعامة الإمامية، فصار مرجعها الأوّل، ومفتيها الأكبر وقد أسدى خلال فترة زعامته خدمات جليلة للطائفة المحقّة وللدين الإسلامي الحنيف ذكرها المترجمون لسيرته. وقد مدحه كلّ من تصدى لترجمة حياته وسيرته من المعاصرين له ومن يليهم، ويكفي للدلالة على علو مقامه ماذكرهصاحب (المواهب السنية في شرح الدّرة الغروية) في ترجمة السيد حيث يقول: «كان ركناً من أركان هذه الطائفة وعمادها، ومن أورع نسّاكها وعبّادها، وهو بحر العلوم المؤيّد بتأييدات الحيّ القيّوم، محيي مدارس الرسوم، لسان المتأخرين، كاشف أسرار المتقدمين، متمّم القوانين العقلية، مهذّب القواعد والفنون النقليّة، علّامة العلماء الأعلام، فخر فقهاء الإسلام، وهو الحبر العلّام، والبحر القمقام، والأسد الضرغام، مفتي الفرق، الفاروق بالحقّ، حامي بيضة المذهب والدين، ماحي آثار المفسدين بترويج مراسم أجداده الطاهرين، نور الهداية في الظُّلمَ ..».

توفي السيد رحمه اللَّه في السابعة والخمسين من عمره الشريف في شهر رجب من سنة 1212 ه ودُفن في مقبرة كان قد أعدّها لنفسه في حياته في الزاوية الشمالية الغربية من مسجد الشيخ الطوسي رحمه الله في النجف الأشرف بجوار مرقد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وعلى مسافة أمتار من قبر شيخ الطائفة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (المتوفى 460 ه) رحمه اللَّه.

مؤلفاته:

كان سيدنا المترجم له على عظمته في العلم والتحقيق، قليل التأليف لعدة امور: لانشغاله بالتدريس والزعامة الدينية، ولكثرة أسفاره في سبيل أداء رسالته الإسلامية، ولشدة احتياطه ودقّة مسلكه، وبالرغم من هذا وذاك فقد احتفظ التأريخ العلمي له بيسير من المؤلفات هي:

1- كتاب المصابيح في العبادات والمعاملات في الفقه، وقد أكثر النقل عنه

ص: 15

الفقهاء والمحققون منذ عصره.

2- الدّرة النجفيّة: وهي منظومة في بابي الطهارة والصلاة من الفقه يتجاوز عدد أبياتها الألفين.

3- مشكاة الهداية: وهي منثور الدرة النجفيّة، ولم يبرز منها إلّاكتاب الطهارة.

4- الفوائد الرجالية في علم الرجال مطبوع في 4 مجلدات.

5- 23- مجموعة رسائل في مواضيع مختلفة من الفقه والاصول والحديث والكلام والأدب والشعر وغيرها.

24- تحفة الكرام في تأريخ مكّة والمسجد الحرام. وهو هذا الذي نحنُ بين يديه حيث استعرض فيه تأريخ المشاعر المقدسة بدءاً بالكعبة الشريفة، حيث أسهب في تأريخ بنائها منذ هبوط آدم عليه السلام وحتى عصر الرسالة المحمديةصلى الله عليه و آله مروراً ببناء إبراهيم الخليل عليه السلام ومن بعده، ومايتعلق بها من الأركان والحِجر، والحَجر الأسود، والباب، والملتزم، والميزاب، والمستجار، والكسوة، والحطيم، وغيرها، فالمسجد الحرام، والمطاف، وزمزم، والأبواب، والمآذن، والمسعى، ومقام إبراهيم، والحرم المكّي، ومدينة مكّة، وما بها من المواقع الدينية الأثرية كمولد النبيِّصلى الله عليه و آله وبيت خديجة، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، والحجون، وشعب أبي طالب عليه السلام وغيرها.

وقد أطال البحث عن كلّ واحدٍ من هذه المشاعر المقدسة والمواقع المباركة، فاستعرض أقوال المؤرخين وأصحاب السير والحديث، فوافق بعضهم وناقش البعض الآخر وأبرز تهافت أقوالهم وفقاً للمنطق التأريخي الصحيح عنده، وهكذا قدّم مجموعة نافعة لمن يحب الوقوف على تأريخ تلك البقعة الشريفة، ومامرّ بها من تطورات خلال عشرات القرون، فشكر اللَّه سعيه وأجزل له الثواب.

استفدنا في تصحيح هذه الرسالة وإبرازها للملإ العلمي من نسختين:

الاولى: نسخة مكتبة مدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة، وهي برقم 1982

ص: 16

بقلم نسخي في 55 ورقة، مجهولة التأريخ، وعلىصفحتها الاولى عدّة تملكات منها باسم السيد علي الطباطبائي يقول فيه: (تصنيف جدّنا السيد محمد مهدي الطباطبائي، ولده السيد علي الطباطبائي) وهو علي بن محمد رضا الطباطبائي آل بحر العلوم (1224- 1298 ه) ويعدّ حفيد المصنف ومن أبرز فقهاء هذه الاسرة الكريمة، ومؤلف كتاب (البرهان القاطع في شرح المختصر النافع) وقد حصلنا على مصوّرة منها منصديقنا الفاضل السيد محمد علي بحر العلوم فشكراً له.

الثانية: نسخة من مكتبة آل كاشف الغطاء في النجف الأشرف، وهي نسخة حديثة الكتابة بقلم نسخي في 44 ورقة، ويبدو أنّ النسخة بخطِّ العلّامة السيد محمدصادق بحر العلوم (1315- 1399 ه) وكان رحمه اللَّه يمتلك مكتبة مخطوطة نفيسة قد جمع فيها الأعلاق، وكان قد استنسخ عشرات المخطوطات النادرة لنفسه بخطه وأودعها مكتبته، ونسختنا من تلك المجموعة المستنسخة بخطه وجاء في نهاية هذه النسخة:

(هذا آخر ما وُجد بخط المرحوم المبرور، المستقر في دار الرحمة والسرور، العالم الرباني، والحبر الصمداني، آية اللَّه في العالمين، السيد السند، والركن المعتمد، التقي النقي الألمعي اللوذعي، السيد مهدي الطباطبائي الملقّب ببحر العلوم، أعلى اللَّه درجته في الجنان، وألبسه ثوب المغفرة والرضوان- وقد حرّر وسطّر امتثالًا لأمر العالم العلّامة، والفاضل الحبر الفهامة، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، والعالم ابن العالم ابن العالم، الذي فضائله لا تعدُّ، وفواضله لا تُحصى، جناب الشيخ عباس نجل الأجل الأكرم الشيخ علي، نجل شيخنا الأعظم الأكبر الشيخ جعفر النجفي- طاب ثراه- وقد وقع الفراغ منه يوم الأحد السادس من شهر اللَّه الأصبّ رجب المرجّب من سنة 1295 ه وأسأل اللَّه العفو والغفران والحمد للَّه أولًا وآخراً).

وقد حصلنا على مصورة من هذه النسخة من الأقراص الكمپيوترية لمخطوطات النجف المشتهر باسم (الذخائر) شكر اللَّه مساعي القائمين بهذا الجهد

ص: 17

وجزاهم عن الإسلام خيراً.

مصادر المقدمة:

مقدمة رجال بحر العلوم: الجزء الأوّل، طبعة النجف الأشرف.

أعيان الشيعة 10: 160- 159

روضات الجنّات 7: 204

مكارم الآثار 2: 216

الكنى والألقاب 3: 62

ريحانة الأدب 1: 234

الأعلام للزركلي 7: 113

تنقيح المقال 1: 156 و 3: 261

جنة المأوى: 236

دانشنامه جهان اسلام 6: 958

ص: 18

صور من النسخ الخطّية

ص: 19

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه، والصلاة على محمد وآله. اللّهم بك أستعين، وبأصفيائك إليك أتوسل وأتشفّع

الكعبة الشريفة

قال الشيخ قطب الدين الحنفي النهرواني، ثم المكي المتوفى سنة 990 في تاريخه؛ تاريخ مكّة المشرفّة، الذي سمّاه ب «الاعلام بأعلام بيت اللَّه الحرام»، وعمله للسلطان مراد (1) بن السلطان سليم العثماني، في الباب الثاني من الكتاب المذكور.

قال قاضي القضاة، السيد تقي الدين محمد بن احمد بن علي المكي الفاسي في كتابه «شفاء الغرام»:

«لا شك أن الكعبة المعظمة بنيت مرات، وقد اختلف في عدد بنائها، ويتحصلُ من مجموع ما قيل في ذلك انها بنيت عشر مرات، وهي بناء الملائكة، وبناء آدم عليه السلام، وبناء اولاده وبناء الخليل ابراهيم عليه السلام، وبناء العمالقة، وبناء جرهم، وبناء قصي بن كلاب (جدّ النبيصلى الله عليه و آله)، وبناء قريش (قبل بعث النبيصلى الله عليه و آله وعمره الشريف يومئذ خمس وعشرون سنة) وبناء عبداللَّه بن الزبير بن العوام الأسدي، وآخرها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي». (2) وفي إطلاق العبارة أنّه بناء الكعبة تجوز، فإنّ بعضها لم يستوعبه البناء، كالبناء الآخر وهو بناء الحجّاج، فإنه إنّما هدّم جانب الميزاب فقط وأعاده، وأبقى


1- 1 هو السلطان مراد بن السلطان سليم بن السلطان سليمان بن السلطان سليم بن السلطان بايزيد بن السلطان محمّد بن السلطان مراد بن السلطان محمّد بن السلطان يلدرم بايزيد بن السلطان مراد اورخان بن السلطان عثمان. هكذا نسبه القُطبي في تاريخه [منه قدّس سره].
2- 2 شفاء الغرام 1: 91.

ص: 20

الجوانب الثلاث، وهي جهة الباب، وجهة المستجار (الذي هو مقابل الباب) وجهة الصفا (المقابل لجهة الميزاب) فإنها باقية على بناء ابن الزبير.

[البِناء الأوّل]

وقال القطبي: أمّا البناء الأوّل فذكره الإمام أبو الوليد احمد بن عبداللَّه بن أحمد ابن الوليد في تاريخه قال: «حدّثنا علي بن مسلم العجلي عن ابيه، حدّثنا القاسم بن عبدالرحمن الأنصاري، حدّثنا الإمام محمد الباقر، بن الإمام زين العابدين، علي ابن الحسين، بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، قال: «كنت مع أبي علي بن الحسين عليهما السلام بمكّة، فبينا هو يطوف وأنا وراءه إذ جاءه رجل طويل فوضع يده على ظهر أبي، فالتفت أبي إليه.

فقال الرجل: السلام عليك يا ابن بنت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، إني أريد أن أسالك.

فرد عليه السلام، وسكت أبي، وأنا والرجل خلفه حتى فرغ من اسبوعه، فدخل الحجر، فقام تحت الميزاب، فصلّى ركعتي اسبوعه، ثم استوى قاعداً، فالتفت اليّ فجلست إلى جانبه.

فقال: يا محمد، اين السائل؟

فأومأت إلى الرجل، فجاء فجلس بين يدي أبي.

فقال له: عمّ تسأل؟

قال: إني أسالك عن بدء هذا الطواف بهذا البيت.

فقال له أبي: من أين انت؟

قال: من أهل الشام.

قال: أين سكنت؟ (1) قال: بيت المقدس.

قال: قرأت الكتابين، يعني التوراة والإنجيل؟

قال: نعم.


1- 1 في النسخة الثانية: أينَ سكنك.

ص: 21

قال له أبي: يا أخا العرب، احفظ عنّي، ولا تحفظ عني إلّاحقاً. أمّا بدء هذا الطواف فإنّ اللَّه تعالى قال للملائكة: إني جاعلٌ في الأرضِ خليفة، (1) فقالت الملائكة أي رب أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ويتحاسدون ويتباغضون ويتباغون اجعل ذلك الخليفة (2) منّا، فنحن لا نفسد فيها ولا نسفك الدماء، ولا نتحاسد، ولا نتباغى، ونحن نسبح بحمدك ونعظمك ولا نغضبك؟

فقال اللَّه تعالى: إني اعلم ما لا تعلمون. (3)قال: فظنت (4)الملائكة أنّ ما قالوا رد على ربهم، وأنّه قد غضب عليهم من قولهم، فلاذوا بالعرش، ورفعوا ايديهم يتضرّعون ويبكون إشفاقاً من غضبه، فطافوا بالعرش ثلاث ساعات، فنظر اللَّه تعالى إليهم، ونزلت الرَّحمة عليهم، ووضع اللَّه سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور على اربع اساطين من زبرجد تغشاهنَّ ياقوتة حمراء.

وقال للملائكة: طوفوا بهذا البيت.

فطافت الملائكة بهذا البيت، وصار أهون عليهم من العرش.

ثم إنّ اللَّه تبارك وتعالى بعث ملائكة وقال لهم: ابنوا لي بيتاً في الأرض بمثاله وقدره، وأمر اللَّه تعالى مَن في الأرض مِن خلقه أن يطوفوا بهذا البيت، كما يطوف أهل السَّماء بالبيت المعمور.

فقال الرجل:صدقت يا ابن بنت رسول اللَّه، هكذا كان» انتهى.

قلت: هذا الحديث الشريف يدل على أنّ بناء الملائكة للكعبة (5)الشريفة كان قبل خلق الأرض، ولنا أحاديث دالة على أنّ الكعبة خُلِقَت قبل الأرض باربعين سنة.

في رواية قال الإمام أبو عبداللَّه محمد بن اسحاق بن العباس الفاكهي المكّي في اوائل «تاريخ مكة»:

حدّثني عبداللَّه بن أبي سلمة، قال حدثنا الواقدي، حدّثنا ابن جرير (6)، عن


1- 1 سورة البقرة: 30.
2- 2 في النسخة الثانية: الخِلقة.
3- 3 سورة البقرة: 35.
4- 4 في النسخة الثانية: فقالت.
5- 5 في النسخة الثانية: الكعبة.
6- 6 في النسخة الثانية: جريج.

ص: 22

بُسر، عن عاصم الثقفي، عن سعيد بن المسيب:

قال قال علي بن أبي طالب عليه السلام: «خلق اللَّه تعالى البيت قبل الأرض والسماوات بأربعين سنة وكان غُشاءً على الماء».

قال الفاكهي: وحدثني عبداللَّه بن أبي سلمة قال: حدّثنا النضر بن شميل، قال: حدّثنا ابن معشر، عن سعيد ونافع مولى آل الزبير، عن أبي هريرة، «قال:

الكعبة خُلِقَت قبل الأرض بألفي عام.

قيل: وكيف خلقت قبل الأرض وهي مِنَ الأرض؟

فقال: لأنه كان عليها ملكان يسبحان بالليل والنهار الفي سنة، فلمّا أراد اللَّه أن يخلق الأرض دحاها مِن تحتها فجعلها في وسط الأرضين».

قال: وحدّثني عبداللَّه بن أبي سلمة، قال: حدثنا الواقدي، قال: حدّثنا أحمد ابن يحيى بن طلحة، أنه سمع مجاهداً يقول:

«إنّ قواعد البيت خلقت قبل الأرض بألفي سنة، بسطت الأرضُ مِن تحته».

أقول: وظهر مما رويناه أن موضع البيت الشريف خلق قبل الأرض، لا نفس بناء البيت، فإنّه أول مَن بنته الملائكة بحمد اللَّه تعالى كما سقناه واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.

الثاني: بناء آدم عليه السلام.

وقد ذكره الإمام أبو الوليد الأزرقي قال: حدّثني جدّي، عن سعيد بن سالم، عن طلحة بن عمرو الحضرمي، قال عطاء بن أبي رباح (بفتح الراء والموحّدَة، بعدها ألف ثم حاءٌ مهملة)، عن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قال: «لمّا اهبط اللَّهُ آدم إلى الأرض من الجَّنة، قال يا ربّ إنّي لا أسمع أصوات الملائكة!

قال: خطيئتك (1) يا آدم، ولكن اذهب فابنِ لي بيتاً، فطف به واذكرني حوله، كنحوما رأيتَ الملائكة تصنع حول عرشي.

قال: فأقبل آدم يتخطّى الأرض فطويت له، ولم يضع قدمه في شي ء من


1- 1 في النسختين: بخطيئتك.

ص: 23

الأرض إلّاصار عمراناً وبركة، حتى انتهى إلى مكّة فبنى البيت الحرام، وأنّ جبرئيل ضرب بجناحه الصخرة فكشف عن اسٍّ ثابتٍ على الارض السابعة، فقذفت فيه الملائكة من الصخر مالا يطيق [حمل] الصخرة منها ثلاثون رجلًا، (1) وأنه بناه مِن خمسة أجبل، من لبنان، وطور زيتا، وطور سينا، والجوديّ، وحِراء، حتّى استوى على وجه الأرض». (2)وهذا يدل على أنّ آدم عليه السلام إنما بنى أساس الكعبة حتى ساوى وجه الأرض، ولعلّ ذلك بعد دثور ما بنته الملائكة بأمر اللَّه تعالى أولًا.

ثُمّ انزل اللَّه تعالى البيت المعمور لآدم عليه السلام ليستأنس به، فوضعه على اساس الكعبة.

ويدل على ذلك ما رواه أبو الوليد الأزرقي في تاريخه قال: حدّثني أبي، عن جدي، قال حدّثنا سالم، عن عثمان بن ساج، قال: بلغني أنّ عمر بن الخطاب قال لكعب، يا كعب أخبرني عن البيت الحرام.

قال كعب: أنزل اللَّه من السماء ياقوته مجّوفةً مع آدم عليه السلام، فقال: يا آدم إنّ هذا بيتي انزلته معك، يطاف حَوله كما يُطافُ حول عرشي، ويصلّى حوله كما يُصلى حول عرشي، ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة، ثم وضع البيت عليه، وكان آدم عليه السلام يطوف حوله كما يطاف حول العرش، ويصلّي عنده كما يُصلّى عند العرش، ولما أغرق اللَّه قوم نوح رفعه إلى السماء وبقيت قواعده». (3)وقال الأزرقي أيضاً: حدّثني أبي، قال حدّثني مُحمد بن يحيى، عن عبدالعزيز ابن عمران، عن عمر بن ابي معروف، عن عبداللَّه بن أبي زياد، أنّه قال:

«لمّا أهبط اللَّه آدم عليه السلام من الجنة، قال يا آدم ابن لي بيتاً بحذاء بيتي الذي في السماء تتعبّد فيه أنت وولدك، كما تتعبد ملائكتي حول عرشي فهبطت عليه الملائكة، فحفر حتى بلغ الأرض السابعة، فقذفت فيه الملائكة حتّى اشرف على وجه الأرض، وهبط آدم عليه السلام بياقوتةٍ حمراء مجوّفة لها أربعة أركان بيض، فوضعها


1- 1 ذكر ابن ظهيرة بعد قوله ثلاثون رجلًا: قال ابن عباس «فكان أوّل من أسّس البيت وصلى فيه وطاف به آدم، ولم يزل كذلك حتى بعث اللَّه الطوفان فدرس مواضع البيت. ثم قال: اقول هذا ما يشهد بأن بناء الملائكة وبناء آدم عليه السلام بناء واحد» انتهى.
2- 2 أخبار مكة 1: 36.
3- 3 أخبار مكة 1: 40.

ص: 24

على الأساس، فلم تزل اليّاقوتة كذلك حتّى كان زمن الغرق، فرفعها اللَّه تعالى». (1) وقال الازرقي أيضاً: حدّثني محمد بن يحيى، عن ابراهيم بن محمد، عن أبي يحيى، عن أبي المليح، أنّه قال: «كان أبو هريرة يقول: حَجَّ آدم عليه السلام فقضى المناسك، فلمّا حَجَّ قال يا ربّ إنّ لكلّ عاملٍ أجراً.

قال اللَّه تعالى: أمّا أنت يا آدم فقد غفرت لك، وامّا ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباءَ بذنبه غفرت له.

فاستقبلته الملائكة، فقالوا: برَّ حجك، يا آدم قد حججنا هذا البيت قبلك بالفي عام.

قال: وما كنتم تقولون حوله؟

قالوا: كنا نقول: (سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلّااللَّه، واللَّه اكبر).

قال: فكان آدم عليه السلام إذا طاف يقول هذه الكلمات، وكان طواف آدم عليه السلام سبعة أسابيع بالليل، وخمسة بالنهار». (2) قال الأزرقي أيضاً: حدّثني محمد بن يحيى، قال حدّثني هشام بن عبدالرحمن، عن سليمان المخزومي، عن عبداللَّه بن أبي سليمان (مولى بني مخزوم) أنه قال: «طاف آدم عليه السلام سبعاً بالبيت، ثمصلّى تجاه باب الكعبة ركعتين، ثم أتى المُلتَزم وقال: إنّك تعلم سريرتي وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلمُ ما في نفسي وما عندي فاغفر لي ذنوبي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، اللهم إنّي أسالك إيماناً تباشر به قلبي، ويقيناًصادقاً حتّى أعلم أنه لا يصيبني إلّاما كتبت لي، والرضا بما قضيت لي.

قال: فأوحى اللَّه تعالى إليه، يا آدم قد دعوتني بدعوات، فاستجبتُ لك، ولن يدعوني بها احد مِن ولدِك إلّاكشفت همومه وغمومه، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلتُ الغنى بين عينيه وتجرتُ له مِن وراء كل تاجرٍ، وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها.

قال: فمنذُ طاف آدمُ عليه السلام كانت سُنَّة الطّواف». (3)


1- 1 أخبار مكة 1: 43.
2- 2 أخبار مكة 1: 44.
3- 3 أخبار مكة 1: 44.

ص: 25

الثالث: بناء أولاد آدم عليه السلام

روى الازرقي بسنده إلى وَهب بن مُنبّه قال: لمّا رُفِعت الخيمة التي عزى اللَّه بها آدم عليه السلام مِن حلية الجنة حين وُضِعَت له بمكة في موضع البيت، ومات آدم عليه السلام فبنوا [فبنى] بنو آدم عليه السلام من بعده مكانها بيتاً بالطّين والحجارة، فلم يزل معموراً يعمرونه هم ومن بعدهم حتّى كان زمن نوح عليه السلام، فنسفه الغرق، وغيّر مكانه حتّى بوّأ [بوِّئ] لإبراهيم عليه السلام». (1) قال الحافظ أبو القاسم السّهيلي في الفصل الذي عقده لبنيان الكعبة:

«وكان بناؤها الأول حين بنى شيثُ بن آدم عليه السلام» انتهى.

ولعلّ مراد السُّهيلي بالأوليّة بالنسبة إلى بناء البشر لا الملائكة، وان بناء آدم عليه السلام هو الأساس إلى ان ساوى وجه الأرض، وانزل اللَّه عليه من الجنة البيت المعمور، فوضعه على ذلك الأساس.

والمراد بالخيمة المشار إليها في خبر وهب بن منبه، هو البيت المعمور، أو لعلها خيمة غير البيت المرفوع، لعلّها رفعت بعد وفاة آدم عليه السلام، وابقي البيتُ المعمور إلى أن رُفِع زمان الطوفان، وفي ذلك من ارتكاب المجاز مما يصحح (2) هذه الروايات المتباينة ظواهرها، واللَّه أعلم.

حكى السَّنجاري قال: «ذكر الفاسي أنّ أول مَن بوّبَ الكعبة أنوش بن شيث ابن آدم عليه السلام، وأنه ذكر عن الفاكهى أنّ أوّل مَن بوّبها وجعل لها غلقاً جُرهُم، واللَّه اعلم» (3) انتهى.

الرابع: بناء الخليل عليه السلام

قال السَّيدُ الإمام الفاسي:

«أمّا بناءُ الخليل عليه السلام فهو ثابت بالكتاب والسنة الشريفة، وهو أوّل مَن بنى البيت على ما ذكره الفاكهي عن علي بن أبي طالب عليه السلام». (4) وجزم الشيخ عماد الدين بن كثير في تفسيره قال: «لم يَرد عن معصوم أنّ


1- 1 أخبار مكة 1: 51.
2- 2 في النسخة الثانية: مما يصح به.
3- 3 شفاء الغرام 1: 90 الباب السابع.
4- 4 شفاء الغرام 1: 91 أخبار عمارة الكعبة المعظمة.

ص: 26

البيت كان بيتاً قبل الخليل عليه السلام (1) فهو ينكر ما قدمناه من الآثار.

وأما على ما قدّمناه من الآثار، فبناء ابراهيم عليه السلام أوّل اسمي بالنسبة إلى مَن بنى بعده لا أوّل حقيقي واللَّه أعلم.

قال ابنُ ظهير [ابن ظهيرة]: «وجعل الخليل عليه السلام طول البيت في السماء تسعة أذرع، وعرضه في الأرض اثنين وثلاثين ذراعاً من الرُّكن الأسود إلى الركن الشامي (الذي فيه الحِجر)، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني احداً وثلاثين ذراعاً، وجعل عرض شقها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعاً، فلذلك سُميت كعبة، لأنها على خِلقة الكعب، وكذلك بنيان أساس آدم عليه السلام وجعل بابها بالأرض غير مبوّب حتّى كان تُبع الحميري هو الذي جعل لها باباً وغلقاً فارسياً وجعل الخليل الحِجرَ (بالكسر) إلى جنب البيت عريشاً مِن أراكٍ تقتحمه فكان زرباً لغنم اسماعيل، وحفر في بطن الكعبة جُبّاً على يمين الداخل يكون خزانة للبيت، وهو الذي نصب عليه عمرو بن اللّحي هُبَل (صنم قريش) ثم عدا على ذلك الجُبّ قوم مِن جُر هم فسرقوا ما فيه، فبعث اللَّه الحيّةَ لحراسته، وهي التي اختطفها العقاب» (2)نقل باختصاره.

وروى الأزرقي في تاريخه عن ابن اسحاق: «أنّ ابراهيم عليه السلام لما بنى البيتَ جعل طوله في السَّماء تسعة أذرع، وجعل طوله في الأرض مِن قِبَل وجه البيت الشريف مِنَ الحجر الأسود إلى الركن اليماني اثنين وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض من قبل الميزاب من الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي يسمى الآن الركن العراقي اثنين وعشرين ذراعاً، وجعل طوله في الأرض من جانب ظهر البيت الشريف من الركن الغربي المذكور إلى الركن اليماني احدى وثلاثين ذراعاً، وجعل عرضه في الأرض من الركن اليماني إلى الحجر الأسود عشرين ذراعاً، وجعل الباب لاصقاً بالأرض، غير مرتفع عنها، ولا مبوباً، وجعل لها تبع الحميري باباً وغَلقاً بعد ذلك،


1- 1 شفاء الغرام 1: 92.
2- 2 شفاء الغرام 1: 91.

ص: 27

وجعل ابراهيم عليه السلام في بطن البيت على يمين من دخله حفرة لتكون خزانة للبيت، يوضع فيها ما يُهدى إلى البيت، فكان إبراهيم عليه السلام يبني وإسماعيل عليه السلام ينقل له الأحجار على عاتقه، فلما ارتفع البُنيان قرّب له المقام، فكان يقوم عليه ويبني ويحوّله له اسماعيل عليه السلام ينقل له في نواحي البيت، حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود.

فقال ابراهيم عليه السلام لإسماعيل عليه السلام: يا اسماعيل إئتني بحجر أضعه هنا يكون علماً للناس يبتدئون منه الطواف. فذهب اسماعيل في طلبه، فجاء جبرئيل عليه السلام إلى سيّدنا ابراهيم عليه السلام بالحجر الأسود، وكان اللَّه عزّوجلّ استودعه جبل أبي قُبيس حين كان طوفان نوحٍ عليه السلام، فوضعه جبرئيل عليه السلام في مكانه، وبنى عليه ابراهيم عليه السلام وهو حينئذٍ يتلألأ نوراً، فأضاء بنوره شرقاً وغرباً وشاماً ويمناً إلى منتهى أنصاب الحرم في كلّ ناحيةٍ وإنّما سوّدته الجاهليّة وأرجاسها.

قال: ولم يكن ابراهيم عليه السلام سَقَّف البيت ولا بناه بمَدَرٍ، وإنّما رصّه رصّاً». (1) قال: وذكر سنده إلى عبداللَّه بن عمر [عمرو] «أنّ جبرئيل عليه السلام نزل بالحجر [من الجنّة] على ابراهيم عليه السلام من الجنة وأنّه وضعه حيثُ رأيتم، وانتم لا تزالون بخير ما دام بين ظهرانيكم فتمسّكوا به ما استطعتُم، فإنّه يوشك أن يجي ء جبرئيل فيرجع به مِن حيثُ جاء به» انتهى. (2)وقال السيّدُ الإمام تقيّ الدين الفاسي: روينا عن قتادة قال: «ذَكَر لنا أنّ الخليل عليه السلام بنى البيت مِن خمسة اجبل: مِن طور سينا، وطور زيتا، ولبنان، والجودي وحراء.

قيل وذكر لنا أنّ قواعده مِن حراء.

قال: ويُروى أنّ الخليل أسّس البيت من ستة أجبل من أبي قبيس، ومن الطّور، ومِنَ القُدس، ومن ورقان، ومن رضوى، ومن أحد». (3) قال الازرقي: قال أبي، وحدّثني جدّي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جُريح


1- 1 أخبار مكة 1: 66- 65.
2- 2 أخبار مكة 1: 63.
3- 3 شفاء الغرام 1: 91 الباب السابع.

ص: 28

[جريج]، عن مُجاهد أنّه قال: «كان موضع الكعبة قد خفي ودرس زمن الطُّوفان فيما بين نوحٍ وابراهيم عليهما السلام.

قال: وكان موضعه أكمة حمراء [مدرة] لا تعلوها السيول غير أنّ الناس يعلمون أنّ موضع البيت هنالك، مِن غير تعيين محلّه، وكان يأتيه المظلوم والمتعوّذ مِن أقطار الأرض، ويدعو عنده المكروب، وما دعى [دعا] عنده أحد إلّااستجيب له، وكان الناس يحجّون إلى موضع البيت، حتّى بوّأ اللَّه سبحانه وتعالى [مكانه] لإبراهيم عليه السلام لما أراد عمارة بيته، واظهار دينه وشعائره [شرائعه]، فلم يزل منذ أهبط اللَّه سبحانه وتعالى آدم عليه السلام الى الأرض معظماً محترماً عند الأمم والملل». (1)وعن ابن عمر: «كان الأنبياء يحجّونه ولا يعلمون مكانه، حتّى بوأه اللَّه لخليله واعلمه مكانه».

وروى أنّ هوداً وصالحاً، ومَن آمن بهما، حجّوا البيت وهو كذلك.

ونقل العلّامة السيوطي في بعض كتبه: «أن جميع الأنبياء حجّوا البيت إلّا هوداً وصالحاً، اشتغلا بأمر قومهما فلم يحجّا، وأنّ آدم لمّا حجَّ حَلَق جبرئيل عليه السلام رأسه بياقوتة من الجنّة، فلما بوّأ اللَّه تعالى لخليله مكان البيت أقبل من الشَّام وله يومئذ مائة سنة، ولاسماعيل ستّ وثلاثون سنة، وأرسل اللَّه معه السّكينة والصرد والمَلَك دليلًا، حتى تبوّأ البيت الحرام.

قال: والسّكينة لها رأسٌ كرأس الهرّة وجناحان.

وفي رواية: كأنها غمامة أو ضبابة تغشى الأرض كالدخان، في وسطها كهيئة الرأس يتكلم، وكانت بمقدار البيت.

فلمّا انتهى الخليلُ إلى مكّة وقعت في موضع البيت، ونادت يا ابراهيم ابنِ عليَّ مقدار ظِلّي، لا يزيد ولا ينقص. (2) وفي رواية: أنّها تطوقت بالأساس الأول كأنّها حيّة.

وفي اخرى أنّها لم تزل راكدة تُظِّلُ ابراهيم وتهديه مكان القواعد، فلّما رفع


1- 1 أخبار مكة 1: 54- 53.
2- 2 أخبار مكة 1: 61- 60.

ص: 29

القواعد قدر قامةٍ انكشفت.

قال: وذكر أنّ الخليل لما حفر القواعد ابرز عن رَبَض كأمثال خلف الإبل، لا يُحرك الصَّخرةَ إلّاثلاثون رجلًا، وكان يبني كلَّ يومٍ سافاً وهو المُدماك في عرفنا الآن.

قال ابن عباس: أما واللَّه ما بنياه بقصةٍ (وهي النورة وشبهها) ولا مَدر، ولا كان معهما ما يسقِّفانه، ولكن أعلماه وطافا به.

وفي رواية رخَّماهُ رَخماً.

قال: وروي أنّ ذا القرنين قَدِم مكّة، والخليل وابنه يبنيان.

فقال: ما هذا؟ فقالا: نحن عبدان امرنا بالبناء.

فطلب منهما البرهان على ذلك، فشهد بذلك خمسة أكبش.

ثم قال: قال السهيلي: بناه الخليل مِن خمسة أجبل، كانت الملائكة تأتيه بالحجارة منها وهي طور سينا، وطور زيتا (وهما بالشام) والجودي (وهو بالجزيرة) ولبنان وحِراء (هما بالحرم).

قال المجدد: في كون لبنان بالحرم نظر، إذ لا يعرف ذلك.

ثم ذكر القطب قصة مهاجرة الخليل بعد أن نجّاه اللَّه مِن نار نمرود، وولادة اسماعيل واسحاق، وإسكان الخليل واسماعيل وأمّه هاجر الحرم، وظهور ماء زمزم، وغير ذلك.

ثم قال، رجوعاً إلى القصة قالوا: ومرت رفقة مِن جُرهُم يريدون الشام، فرأوا طيراً يحوم على جبل أبي قبيس.

فقالوا: إنّ هذا الطير يحوم على ماء، فتبعوه فأشرفوا على بئر زمزم.

فقالوا لهاجر: إن شئت نزلنا معك وأنسناكِ والماءُ مائكِ، نشرب منه؟

فأذنت لهم، فنزلوا معها، وهم أول سكان مكة.

وقال بعد ذلك: قال الأزرقي: ثم ولد لإسماعيل مِن زوجته بنت مضاض بن

ص: 30

عمرو الجُرهمي اثنا عشر رجلًا، منهم ثابت بن اسماعيل، وقيدار بن اسماعيل، وكان عمر اسماعيل مائة وثلاثين عاماً، ومات ودفن في الحِجر مع امّه، فولى البيت بعده ثابت بن اسماعيل، ونشر اللَّه العرب من ثابت وقيدار، فكثروا ونموا، ثم توفي ثابت، ثم ولي البيت بعده جدّه لأمّه مضاض بن عمرو الجُرهمي، وضمَّ بني ثابت بن اسماعيل وصار ملكاً عليهم وعلى جُرهم، فنزلوا بقعيقعان بأعالي مكة، وكانوا اصحاب سلاح كثير، وتقعقع فيهم، وصارت العمالقة- وكانوا نازلين باسفل مكة- الى رجل منهم ولّوه ملكاً عليهم، يقال له السُّميدع، ونزلوا بأجياد وكانوا أصحاب خيلٍ وغيره، وكان الأمرُ بمكّة لمضاض بن عمرو، ورث السميدع إلى أن حدث بينهم البغي، واقتتلوا فقُتِل السُّميدع، وتمّ الأمر لمضاض بن عمرو.

قال: قال: ثمّ نشر اللَّه بني اسماعيل وخئولتهم وجُرهم، وكانت جُرهم ولاة البيت لا ينازعهم بنو اسماعيل لقرابتهم، فلمّا ضاقت مكة انتشروا في الأرض، فلا يأتون قوماً ولا ينزلون بلداً إلّاأظهرهم اللَّه عليهم بدينهم، وهو يومئذٍ دينُ ابراهيم، حتّى ملأوا البلاد، ونفوا عنها العماليق، وكانت ولاة مكة، وكانوا ضيعوا حرمها، واستحلوها، واستخفوا بها، فاخرجهم اللَّه مِن أرض الحرم.

ثمّ إنّ جُرهماً استخفت بأمر البيت والحرم، فاعتزلهم مضاض بن عمرو وخرج ببني اسماعيل من مكة بجانب خزاعة، فاخرجت خزاعة جُرهماً من البلاد، ووليت امر مكة، وصاروا اهلها، فسألهم بنو اسماعيل السكنى معهم فأذنوا لهم، وسألهم في ذلك مضاض بن عمرو فأبت عليه خزاعة، وصارت خزاعة حجبة بيت اللَّه، وولاة أمر مكة، وفيهم بنو اسماعيل لا يشاركونهم في شي ء ولا يطلبونه، الى أن كبر شأن قُصي بن كلاب بن مرّة، واستولى على حجابة البيت وأمر مكة». (1) وقد نقلنا هذا الفصل من القطبي، من ابتداء قصة جُرهم باختصار لا يَخِلُّ بشي ء مما نحن بصدده.


1- 1 أخبار مكة 1: 84- 83.

ص: 31

وقصي تصغيراً اسمه زيد، وإنّما لقب قصياً لأنه ابعد عن أهله ووطنه مع أمّه، لمّا تُوفي أبوه كلاب، وتزوَّجت أمّه بربيعة بن حزام، ورحل بها إلى الشّام، فلما كبر وقع بينه وبين آل ربيعة شرٌّ فعيّرُوه بالغُربة، فرجع إلى قومه بمكة وعليها خزاعة، وكبيرهم خليل بن خيبسة الخزاعي وهذه [هذا] البيت الشريف، فتزوّج ابنته، وهلك وصار مفتاح البيت لأبي غيشان، وكان سكران فأعوز الخمر، فباع مفتاح البيت بِزِقّ مِن خَمر! فاشتراه منه قُصي، وفي الأمثال «أخسرُصفقةً مِن أبي غيشان» اختصر.

الخامس والسادس: بناء العمالقة وجُرهم:

ذكر الأزرقي ذلك، وذكر بسنده إلى سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال في خبر بناء جرهم للكعبة: ثم انهدم فبنته العمالقة، فبنته قبيلة مِن جرهم. (1) روى الفاكهي بسنده إلى سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام، وروى السيد التقي الفاسي قال السَّنجاري وذكر الفاكهي ما يقتضي أنّ بناء جُرهم قبل العمالقة، وفي هذا نظر، فإنّ العمالقة قبل جُرهم ولم يل اليها بعد جُرهم إلّاخُزاعة، (2) انتهى.

قلت: هذا يقتضي أنّ جُرهماً بَنَتِ البيت الشريف قبل العمالقة، والخبر الأول يقتضي أنّ العمالقة بنته قبل جُرهم، وبه جَزَم المحبُّ الطبري.

وروى المسعودي في «مروج الذهب»:

«إنّ الذي بنى الكعبة مِن جُرهم، هو الحارث بن مضاض الأصغر، وأنّه زاد في بناء البيت، وردمه كما كان على بناء ابراهيم عليه السلام، واللَّه اعلم بحقيقة الحال». (3) وروى الأزرقي شيئاً من خبر العمالقة يقتضي سبقهم على جُرهم فانه روى بسنده إلى سيدنا عبداللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما أنّه قال: «كان عليه حي يقال لهم العماليق، كانوا في عِزٍّ وثروة، وكانت لهم خيل وإبل وماشية ترعى حول مكة، وكانت العضاه ملتَّفة، والأرض مبتلة، وكانوا في عيش رخيٍّ، فبغوا في الأرض،


1- 1 أخبار مكة 1: 62- 61.
2- 2 شفاء الغرام 1: الباب السابع.
3- 3 مروج الذهب 2: 23- 22، اخبار مكة 1: 82.

ص: 32

وأسرفوا على انفسهم، وأظهروا المظالم والإلحاد، وتركوا شكر اللَّه، فسُلِبوا نعمتهم، وكانوا يكرون بمكة الظّل، ويبيعون الماء، فاخرجهم اللَّه مِن مكة وسلّط عليهم الَّنمل حتّى خرجوا من الحرم، ثم ساقهم بالجَدب حتى الحقهم اللَّه بمساقط رؤوس آبائهم ببلاد اليمن، فتفرقوا وهلكوا، وأبدل اللَّه بعدهم بجُرهم، فكانوا سكّانه إلى أن بغوا فيه ايضاً، فاهلِكوا جميعاً» (1) انتهى.

السابع: بناء قصي

ذكر الزبير بن بكّار (قاضي مكّة) في كتاب «النَّسب»: «أنّ قُصي بن كلاب لما ولى امر البيت، جمع نفقته ثمّ هدَّم الكعبة، فبناها بنياناً لم يبنه ممَّن بناها قبله مكة» ذكر أبو عبداللَّه محمّد بن عابد الدمشقي في «مغازيه»:

أنّ قصي بن كلاب بنى البيت الشريف» (2) وجزم به الإمام الماوردي في «الأحكام السلطانية» فانه قال فيها:

«أوّل مَن جدّد بناء الكعبة مِن قريش بعد ابراهيم عليه السلام، قُصي بن كلاب، وسقَّفها بخشب الدوم وجريد النخل» (3) انتهى.

قال السيد التقي الفاسي في «شفاء الغرام»، ورواه القاضي الزبير بن بكّار.

«أنّ قُصيّاً بنى الكعبة على خمس وعشرين ذراعاً». (4) ففيه نظرٌ لما اشتهر في الأحكام أنّ ابراهيم الخليل عليه السلام بنى طول الكعبة تسعة اذرع، وأنّ قريشاً لما بنت الكعبة زادت في طولها تسعة اذرع، وأنّ قصياً أراد أن يجعل عرضها خمسة وعشرون [عشرين] ذراعاً، فالمعروف أنّ عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين ذراعاً في بناء الخليل عليه السلام، بل يزيد (على خلافٍ في مقدار الزيادة) وإن أراد عرضها من الشاميّة واليمانية، فعرضها في هاتين الجهتين ينقص عن خمسة وعشرون [ين] ذراعاً، ثلاثة أذرع أو أزيد، وكلُّ مَن بنى الكعبة بعد ابراهيم عليه السلام لم يبنها إلّاعلى قواعد ابراهيم عليه السلام، غير أنّ قريشاً اقتصرت من عرضها في جهة الحجر الشريف لأمرٍ اقتضاه الحال، وكان ما فعله الحجاج بعد


1- 1 أخبار مكة 1: 89.
2- 2 شفاء الغرام 1: 92 الباب السابع.
3- 3 شفاء الغرام 1: 92، الباب السابع.
4- 4 شفاء الغرام 1: 92 الباب السابع.

ص: 33

ابن الزبير عناداً له، واللَّه تعالى أعلم.

الثامن: بناء قريش:

قال خاتمة الحُفّاظ والمحدِّثين مولانا الشيخ محمد الصالحي في كتابه «سبيل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد»، وهو أحسنُ كتابٍ للمتأخرين، وأبسطه في السيرة النبوية ولنا به إجازة عامة.

«إنّ أمرأة جمَّرت الكعبة بالبخور، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة، فاحترق أكثر أخشابها، ودخلها سيل عظيم فصدَّع جدرانها بعد توهينها، فأرادوا أن يشدّوا بنيانها، ويرفعوا بابها حتّى لا يدخلها إلّاقريش، وهم في ذلك إذ رمى البحر بسفينةٍ إلى ساحل جِدّة لتاجر روميّ اسمه باقُوم (بموحدة وقاف مضمومة)، وكان نجّاراً بنّاءً، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى جِدة فابتاعوا خشب السفينة، وكلموا باقوم الرّومي أن يتقدم معهم إلى مكة، فقدموا إليها، واخذوا أخشاب السفينة أعدُّوها لسقف الكعبة». (1) قال الاسنويّ: «كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم يحمل فيها الرخام والخشب والحديد مع باقوم إلى البقعة التي احرقها الذين بالحبشة، فلمّا بلغت قريش مِن مرسى جِدّة بعث اللَّه عليها ريحاً فحطّمها» انتهى.

قلت: لا يعرف طريق بين بحر الروم والحبشة يحرفها إلى جِدّة، إلّاان يكون ملك الروم طلب ذلك مِن ملك مصر، فجهَّزها له مِن بندر السويس أو الطور أو نحو ذلك.

قال ابنُ اسحاق: «وكان بمكة قبطي يعرف نجر الخشب وتسويته، فواثقهم على ان يعمل لهم سقف الكعبة، ويساعده باقُوم.

وقال: وكانت حيّةٌ عظيمة تخرج مِن بئر الكعبة تُشرف على جدار الكعبة، لا يدنو منها أحد إلّاكشت وفتحت فاها، وكانوا يهابونها ويزعمون أنّها لحفظ الكعبة وهداياها، وأنّ رأسها كرأس الجَدي، وظهرها وبطنها أسود، وأنّها أقامت فيها


1- 1 أخبار مكة 1: 160.

ص: 34

خمسمائة سنة!

قال ابن عتبة: فبعث اللَّه طائراً فاختطفها وذهب بها.

فقالت قريش: نرجو أن يكون اللَّه تعالى رضى لنا بما أردنا فعله، فاجمع رأيهم على هدمها وبنائها.

قال هشام: فتقدم عائذ بن عمران بن مخزوم (وهو خالُ أبي النبيصلى الله عليه و آله) فتناول حجراً من الكعبة فوثب مِن يده حتى رجع إلى مكانه.

فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها إلّاحلالًا طيباً، ليس فيه مهر بغي، ولا رباً، ولا مظلمة. (1)ثمّ إنّ قريشاً اقتسموا جوانب البيت فكان شِقُّ الباب لبني زُهرة وبني عبدمناف، وما بين الرّكن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم، ومن انضّم إليهم من قريش، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر لبني عبدالدار وبني اسد بن عبدالعزى وبني عدي بن كعب، وجمعوا الحجارة، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ينقل معهم، حتّى إذا انتهى الهدم إلى الأساس، فأفضوا إلى حجارة خُضر كالأسمنة، فضربوا عليها بالمعول، فخرج برق كاد أن يخطف البصر، فانتهوا عند ذلك الأساس، ثمّ بنوها حتّى بلغ البنيان موضع الركن، فاختصم فيه القبائل، كلُّ قبيلة تُريدُ أن ترفعه إلى موضعه، وكادوا أن يقتتلوا.

فقال لهم أبو أميّة، بن المغيرة، بن عبداللَّه، بن عمرو، بن مخزوم (وكان شريفاً مطاعاً): اجعلوا الحكم بينكم فيما اختلفتم اول من يدخل من باب الصفا.

فقبلوا منه ذلك، وكان أوّل داخلٍ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فلّما رأوه قالوا: هذا محمّد الأمين، وكان يسمّى قبل أن يوحى إليه أميناً لأمانته وصدقه.

فقالصلى الله عليه و آله: هلم الي ثوباً.

فاتي به، فأخذ الركن فوضعه بيده فيه.

ثمّ قال: ليأخذ كبير كل قبيلةٍ بطرف مِن هذا الثوب.


1- 1 سيرة ابن اسحاق: 104، سيرة ابن هشام 1: 205، اخبار مكة 1: 161.

ص: 35

فحملوه جميعاً وأتوا به، ورفعوه إلى ما يُحاذي موضعه، فتناوله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مِنَ الثوب ووضعه بيده الشريفة في محله. (1) وفي ذلك يقول هبيرة بن أبي وهب المخزومي في شعرٍ:

تشاجرت الأحياء في فصل خطة جرت بينهم بالنحس من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبغض بعد مودة وأوقد ناراً بينهم شرّ موقد

فلما رأينا الأمر قد جدّ جده ولم يبق شي ء غير سل المهند

رضينا وقلنا العدل اول طالع يجي ء من البطحاء من غير موعد

ففاجأنا هذا الأمين محمد فقلنا رضينا بالأمين محمد

بخير قريش كلّها أسّ شيمة وفي اليوم مهما يحدث اللَّه في غد

فجاء بامر لم ير الناس مثله اعم وارضى في العواقب والبدء

اخذنا باطراف الردا وكلنا له حصة من رفعها قبضة اليد

فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به اكفهم وافى به خير سيد

وكل رضينا فعله وصنيعه اكرم به من رأي هادٍ ومهتدى

وتلك يد منه علينا عظيمة نروح بها هذا الزمان ونغتدي ولمّا بنت قريش الكعبة علت ارتفاعها مِن خارجها ثمانية عشر ذراعاً، منها تسعة اذرع زائدة على ما عمّره الخليل عليه السلام ونقصوا من عرضها أذرعاً من جهة الحجر لقصر النفقة الحلال التي أعدّوها لعمارة الكعبة، ورفعوا بابها من الأرض ليدخلوا من شاءُوا ويمنعوا من شاءُوا، وجعلوا في داخلها سِت دعائم فيصفّين، ثلاث مِن كلصفٍ مِن شِق الحِجر إلى الشِق اليماني، وجعلوا في ركنها الشامي مِن داخلها درجة يصعد منها إلى سطح الكعبة. (2) قال ابن ظهيرة: «إنّ قريشاً رفعت الكعبة ثمانية عشر ذراعاً، وقيل عشرين».

قال: «وفي رواية أنّ طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعاً، فاقتصرت


1- 1 سيرة ابن اسحاق: 108- 107، سيرة ابن هشام 1: 206، اخبار مكة 1: 164.
2- 2 أخبار مكة 1: 164.

ص: 36

قُريش منها على ثمانية عشر ذراعاً، ونقصوا مِن عرضها أذرعاً أدخلوها في الحِجر».

أخرجها الأزرقي في تاريخه قال: «وهو مناقضٌ لما ذكره في بناء ابن الزبير أنّه زاد على قريش بتسعة أذرع، كما زادت قريش على بناء الخليل بتسع، وهذا هو المشهور في التواريخ».

قال: ولم يصح ان احداً بناها بعد الخليل، ولوصح فلم يصح أنّه جَعَل طولها سبعة وعشرين ذراعاً، وما تقدّم مِن بناء العمالقة وجُرهم وقصي بعد الخليل فإنّما هو مجرد خبر، وهو إنصحَّ فلم يذكر الأزرقي ولا غيره قدر ارتفاع بنائهم.

نعم، نقل الفاسي عن الزبير بن بكّار أنّ قصيّاً بنى الكعبة بناءً محكماً على خمس وعشرين ذراعاً، وهو مع مخالفته لما ذكره المشهور في بنائها، لا يصح به هذه الرواية المتَّضمنّة لبنائها على سبعة وعشرين ذراعاً، فما ذكره الأزرقي مجرد روايةٍ لا تعضد بشي ء، فلا تعويل عليها» نقل باختصار.

تنبيه: اختلِف في سن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حين بنت قريشٌ الكعبة.

فقيل: كان ابن خمس وثلاثين سنة، وهو أشهر الأقوال.

وروى مجاهد: أن ذلك قبل المبعث خمسة عشر عاماً.

والذي جزم به ابن اسحاق أنّه كان قبل المبعث بخمس سنين، اللَّه اعلم. (1) قال ابن ظهيرة: اختلف في سنهصلى الله عليه و آله إذ ذاك، فقيل إنّه خمس وثلاثون سنة، وهو الأظهر، وقيل خمس وعشرون وهو مشهور».

وعن الفاكهيّ «قد ناهز الحُلُم.

وفي تاريخ الأزرقي ما يؤيده، (2) وهو بعيدٌ جداً.

التاسع: بناء عبداللَّه بن الزبير في زمن الإسلام.

وسيأتي في تفصيل ذكره وما وقع له في الباب الثالث.

العاشر: بناء الحجاج بن يوسف الثقفي بعد بناء عبداللَّه بن الزبير.

وسيأتي بيانه عقب ذكرنا بناء ابن الزبير، وبناء الحجّاج، وهو جهة الميزاب


1- 1 شفاء الغرام 1: 95.
2- 2 أخبار مكة 1: 164.

ص: 37

والحِجر (بسكون الجيم) وتعلية جوف الكعبة، ورفع الباب الشريف في لصق الملتزم، وسد الباب الغربي، الذي يلصق المستجار لا غير، وما عدا ذلك في الجهات الثلاث، وهو وجه الكعبة الشريفة، وجهة ظهرها، وما بين الركن اليماني والحِجر، فهو بناء عبداللَّه بن الزبير باق إلى الآن كما سنذكره في زيادة ابن الزبير في المسجد الحرام، وهدم الكعبة وبنائها على قواعد ابراهيم عليه السلام. انتهى.

ثمّ إنّ القطب ذكر في الباب الموعود به: «أنّ عبداللَّه بن الزبير كان ممن امتنع مِن بيعة يزيد بن معاوية وفرَّ إلى مكة، وأطاعه أهلُ الحجاز واليمن والعراق وأنّ يزيد أرسل عليه عسكراً جهّزه، وعليهم حُصين بن نُمير فالتجأ ابن الزّبير إلى المسجد الحرام، فنصب عليه الحُصين المجانيق وأصاب بعض حجارته الكعبة الشريفة، فانهدم بعض جدرانها، ثم احترق بعض اخشابها وكسوتها، وانهزم الحُصين بعسكره لهلاك يزيد وبلوغه خبر نعيه، فرأى عبداللَّه بن الزبير ان يهدم الكعبة ويحكم بناءها ويبنيها على قواعد ابراهيم عليه السلام، لِما سمع مِن حديث عائشة أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال لها: «يا عائشة لولا أنّ قومك حديثو عهدٍ بشرك لهدمت الكعبة وألصقتها بالأرض، وجعلت لها باباً شرقاً وباباً غرباً، وزدت فيها ستة اذرع من الحجر، فانَّ قريشاً استقصرتها حين بنت الكعبة، فإن بدا لقومك بعدي ان يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوه، فأراها قريباً مِن سبعة أذرع».

أخرجه البخاري ومسلم فيصحيحيهما، وهو رواية عن مسلم، عن عطاء. (1) قال: قال ابن الزبير: إنّي سمعت عائشة تقول: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «لولا أنّ قومك حديث عهدٍ بكفر، وليس عندي ما يقوى على بنائه، لكنت أدخلتُ فيه مِنَ الحِجر خمسة اذرع» انتهى.

فاستشار عبدُاللَّه بن الزبير من بقي من الصحابة، فكان فيهم مَن أبى، ومنهم مَن وافقه، فصمّم على ذلك، وأقدم عليه وهَدّم الكعبة.


1- 1 كنز العمال 12: 222.

ص: 38

قال الإمام عبداللَّه بن أسعد اليافعي في تاريخه «مِرآتُ [مرآة] الجِنان»:

إنّ ابن الزبير لما اكمل هدم الكعبة، كشف عن أساس ابراهيم عليه السلام، فوجد الحِجر داخل البيت، فبنى البيت على ذلك الأساس، وأدخل الحِجر في البيت، وألصق باب الكعبة الأرض ليدخُلَ الناسُ منه، وفتح له باباً غرباً في مقابلة هذا الباب ليخرج الناس منه، كما كان عليه لما جددت قريش الكعبة قبل بعثتهصلى الله عليه و آله، وحضره النبيصلى الله عليه و آله وعمره الشريف يومئذ خمسٌ وعشرون سنة، وكانت النفقة قصرت بقريش لما بنوا الكعبة يومئذ، فاخرجوا الحِجر من البيت، وجعلوا عليه حائطاً قصيراً علامة على أنه من الكعبة، فأعادها ابن الزبير كما كانت زمن الجاهلية، وبنى على قواعد ابراهيم عليه السلام، فكان طول الكعبة قبل قريش تسعة اذرع، فزادت قريش عليه تسعة اذرع، فلما بناها ابن الزبير كان طولها ثمانية عشر ذراعاً، فرآها عريضة لا طول لها، فزاد في طولها تسعة اذرع، فكان لها في السماء سبعة وعشرين [عشرون] ذراعاً، فلّما فرِغ من بنائها طيَّبها بالمِسك والعنبر، وكساها بالديباج، وبقيت من الحجارة بقية فرشها حول البيت نحواً من عشرة أذرع، وكان فراغه مِن عمارة البيت الشريف سابع عشر شهر رجب سنة 64 مِنَ الهجرة» (1) انتهى.

ثمّ إنّ عبدالملك بن مروان لمّا ولى الخلافة جهز جيشاً كثيفاً على ابن الزبير، وأمَّر عليهم الحَجّاج بن يوسف الثقفي فحاصره ورمى عليه بالمنجنيق، وخذل ابن الزبير أصحابه فخرج وحده وقاتل قتالًا شديداً إلى أن قتل سنة 73 من الهجرة.

وفي سنة 74 من الهجرة كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يذكر له أنّ عبداللَّه بن الزبير زاد في الكعبة ما ليس فيها، واحدث باباً آخر، فكتب إليه عبدالملك بن مروان، أعِدها على ما كانت في عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فهدم الحجاج مِن جانبها الشامي قدر ستة أذرعٍ وشبراً وبنى الجدار على أساس قريش، ولبَّس أرضها بالحجارة التي فضلت، ورَفع الباب الشرقي وسدّ الباب الغربي وترك


1- 1 شفاء الغرام 1: 97.

ص: 39

سائرها لم يُغيّر منها شيئاً.

ثمّ إنّ عبدالملك لمّا حجَّ ذلك العام وسمع حديث عائشة من الحارث بن عبداللَّه المخزومي ندم على ذلك، فجعل ينكث بقضيبه في الأرض ساعةً طويلةً منكساً، وقال: وددتُّ واللَّه أنّي تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك، كذا ذكره النجم عمر بن فهد. (1) انتهى ما أردنا نقله مِن تاريخ القطب في هذا الموضوع، وفي النقل اختصار، ومخالفة في بعض المواضع لترتب النقل في الأصل على وجه لم يتغير به شي ء من المعنى.

وقال الشيخ جمال الدين، محمد جار اللَّه بن محمد نور الدين بن أبي بكر بن علي بن ظهيرة القرشي المخزومي في تاريخه الذي سماه ب «الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها والبيت الشريف» وقد انتهى تاريخه بعام خمسين وتسعمائة، قال في الباب الثالث مِن تاريخه فيما يتعلق ببناء الكعبة الشريفة: «اعلم أنّ الكعبة- زادها اللَّه شرفاً- بُنيت مرات، قال في «منهاج المتائين» بنيت خمس مرات: بناء الملائكة وقيل آدم عليه السلام، بناء الخليل عليه السلام، بناء قريش، بناء عبداللَّه بن الزبير، بناء الحجّاج.

وقد قيل: إنها بُنيت مرتين اخرتين [أخريين]، بناء العمالقة بعد ابراهيم عليه السلام، ثم بنته قريش واللَّه اعلم» انتهى.

ثم نَقَل عن الفاسي بناءها عشر مرات، كما مر حكايته عن القطب.

ثم قال: «وفي منسك الجَدّ أنّها بُنيت خمس مرات، بناء الملائكة، بناء آدم عليه السلام، بناء ابراهيم عليه السلام، بناء قريش، بناء ابن الزبير، ثم هدم الحجّاج بعضه وبناه.

قال: وفي «الروض الانف» للسهيلي: «إنّ أول مَن بنى الكعبة شيث بن آدم عليه السلام، وذكر في موضعٍ آخر أنّ الملائكة هي التي أسّست الكعبة».

وذكر القاضي تقيّ الدين أيضاً أنه وجد بخط عبداللَّه المرجاني: أنّ عبدالمطلب جَدّ النبيصلى الله عليه و آله بنى الكعبة بعد قُصي بن كلاب، وقبل بناء قريش.


1- 1 شفاء الغرام 1: 100.

ص: 40

ثم قال: ولا أعلم له سلفاً ولا خلفاً، واللَّه أعلم.

ثم حكى عن الفاكهي روايته عن عليٍّ عليه السلام أنّ أول من بنى الكعبة الخليل عليه السلام، وأنّ ابن كثير جزم بذلك في تفسيره قال: وقال (أي ابن كثير في تاريخه) عند قوله تعالى: إنّ أول بيت وضع للناس أنه تعالى يذكر عن خليله انه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون اللَّه فيه، وبوّاه مكانه، أي أرشده إليه، ودلّه عليه.

ثم قال ابن كثير: ومن تمسّك في هذا بقوله تعالى: «مكان البيت» فليس بناهضٍ ولا ظاهر؛ لأن المراد مكانه الكائن في علم اللَّه المعظم عند الأنبياء موضعه من لدى آدم إلى زمن ابراهيم عليه السلام، وقد ذكر أنّ آدم نصب عليه قبة، وأنّ الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأنّ السفينة طافت به اربعين يوماً أو نحو ذلك، وكلّ هذه اخبار عن بني اسرائيل وهي لا تصدق ولا تكذب» انتهى.

قال ابن ظهيرة: أقول: فعلى هذا يكون بناء البيت ثلاث مراتٍ:

الأول: بناء الخليل عليه السلام.

الثاني: بناء قريش.

الثالث: بناء ابن الزبير والحجاج.

لأن بناء الخليل ثابت بنص الكتاب، وبناء قريش ثابت فيصحيح البخاري وغيره، وبناء ابن الزبير والحجاج ذكره عامة المفسرين وأهل التواريخ وغيرهم من العلماء.

ويحتمل أن يقال إنّها بنيت أربع مراتٍ:

[الأول:] بناء الملائكة وآدم عليه السلام معاً في آن واحدٍ.

ويشهد له ما حكي عن ابن عباس في سبب بناء آدم، وهو مجرد تأسيس.

الثاني والثالث: بناء الخليل عليه السلام وبناء قريش.

الرابع: بناء ابن الزبير والحجاج.

ص: 41

فيكون البناء الأول والرابع مشتركاً.

ثم على القول بأنّ بناء الملائكة وبناء آدم في وقتين فهو تأسيس أيضاً، كما ذكره الفاسي في «شفاء الغرام» لا بناء مرتفع كغيره من الأبنية، لأنّه حينئذٍ يحتاج إلى معرفة السبب في نقض الملائكة بناء آدم، أو نقض آدم بناء الملائكة، ولم أرَ أحداً ذكر ذلك فيما وقفت عليه، ولا تَعرَّض لمقدار ارتفاع بناء الملائكة وآدم في السماء، فيُحتمل ألّا يكون هناك ارتفاع، أو يكون وهدم بتتابع القرون، فبُني ثانياً على ما وجد مِنَ الأساس.

قال: «وأما سبب بناء ابن الزبير، فهو أنّ الحصين بن نُمير لما قدم مكة، ومعه الجيش مِن قبل يزيد بن معاوية لقتال ابن الزبير، جمع ابن الزبير أصحابه، فتحصَّن بهم في المسجد الحرام حول الكعبة، ونصب خياماً يستظلون فيها من الشمس، وكان الحصين قد نصب المنجنيق على أخشَبَي مكة، وهما أبو قُبيس والآخر الذي يقابله، وصار يرمي به على ابن الزبير وأصحابه، فتصيب الأحجار الكعبة، فوهنت لذلك، وتخرقت كسوتها عليها، وصارت كأنها جيوب النساء.

ثم إنّ رجلًا مِن أصحاب ابن الزبير أوقَد ناراً في بعض تلك الخيام مما يلي الصفا، بين الركن الأسود واليماني، والمسجد يومئذصغير، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة إذ ذاك مبنيّة بناء قريش مدماك من ساج، ومدماك من حجارة، فطارت الريح بشرارة مِن تلك النار فتعلقت بكسوة الكعبة، فاحترقت واحترق الساج الذي بين البناء، فازداد تصدع البيت، وضعف جدرانه، وتصدع الحجر الأسود أيضاً، حتّى ربطه ابن الزبير بعد ذلك بالفضة، ففزع لذلك أهل مكة واهل الشام الحصين وجماعته.

وعن الفاكهي: أنّ سبب حريق البيت، إنّما كان من بعض أهل الشام أحرق على باب بني جُمَح، وهو باب الصفا، وفي المسجد يومئذٍ خيام، فمشى الحريق حتّى أخذ في البيت فظن الفريقان أنّهم هالكون.

ص: 42

قال الجدّ: قلت: وهذا يخالف ما ذُكِر أن السبب في ذلك بعض اصحاب ابن الزبير، ولعل ما ذكره الفاكهي أصوب، على أنّه يمكن الجمع بوقوع كل من ذلك فيكون السبب مركباً» انتهى.

ثم جاء نعيُ يزيدٍ بعد ذلك بتسعة وعشرين يوماً، والحصين مستمر على حصار ابن الزبير، فارسل ابن الزبير إلى الحصين جماعة من قريش، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة.

وقالوا له: إنّ هذا مِن رميكم لها. فانكر ذلك ثم ولّى راجعاً إلى الشام. فدعا ابن الزبير حينئذ وجوه الناس، واستشارهم في هدم الكعبة، فأشار عليه القليل من الناس بذلك، وأبى الكثير، وكان أشدهم عبداللَّه بن عباس.

وقال: دعها على ما أقرها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فإنّي أخشى أن يأتي بعدك مَن يُهدِّمها، فلا تزال تهدم وتُبنى فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارقعها.

فقال ابن الزبير ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت اللَّه؟!

واستقر رأيه على هدمها رجاء أن يكون هو الذي يردُّها على قواعد الخليل عليه السلام لقولهصلى الله عليه و آله لعائشة «لولا قومك حديثو عهد بكفر وفي رواية «حديث عهد بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين». (1) ثم إنّ ابن الزبير أمر بهدم الكعبة، وكان ذلك سنة أربع وستين من الهجرة، يوم السبت النصف مِن جمادى الآخرة، أخرجه الأزرقي.

وقيل: سنة خمس وستين، فلم يجتر أحدٌ على ذلك، وخرج عبداللَّه بن عباس إلى الطائف، فلما رأى ذلك ابن الزبير علاها بنفسه وأخَذَ المِعوَل وجعل يُهدِّمها، فلما رأى أنه لم يصبه شي ءصعدوا معه، وهدَّموا وأرقى ابن الزبير عبيداً مِن الحبش يُهدِّمونها رجاء أن يكون فيهمصفة الحبشي الذي قال فيهصلى الله عليه و آله: «يُخرِّبُ الكعبة ذو السويقتين من الحبشة». (2)


1- 1 كنز العمال 12: 222.
2- 2 كنز العمال 14: 221.

ص: 43

الهوامش:

ص:44

معالم الحجّ وآفاقه في مدرسة اهل البيت عليهم السلام

ص: 46

معالم الحجّ وآفاقه في مدرسة أهل البيت عليهم السلام

منذر الحكيم

تحظى فريضة الحج باهتمام المسلمين جميعاً وتعدّ من الشعائر والعبادات التي يتفق على وجوب أدائها جميع المذاهب الإسلامية، كما تعبّر هذه الفريضة عن وحدة الأمة الإسلامية واستقلال كيانها. وهي بعد ذلك كلّه: رمز قوّتها وعظمة قدرتها واستمرار حيويّتها.

ولم تستطع أيدي العابثين أن تعطّل هذه العبادة العظيمة بالرغم من سعيهم الحثيث لإفراغها من مضمونها ومحتواها الكبير.

ويعود ذلك كلّه لأسباب منها:

الدور الفاعل لأهل بيت الوحي عليهم السلام بما فيهم سيّد المرسلين، وأئمّة المسلمين من أبناء الرسول العظيم، الذين تابعوا الرسول الكريمصلى الله عليه و آله في خُطاه الحكيمة والقرآن العظيم في توجيهاته السديدة، فسلكوا سبيل الهدى بكلّ ما اوتوا من حَولٍ وقوّة وحكمة حتى بيّنوا معالم وتفاصيل هذه العبادة المهمّة بشعائره المتنوّعة، وأرسَوا دعائمها تشريعاً وتشويقاً، وحَثّوا على أدائها كلّ من يرتبط بهم من قريب أو بعيد،

ص: 47

وجسّدوا كلّ ما قالوا في سلوكهم الحيّ، ولم يكتفوا ببيان تاريخها العريق من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياءصلى الله عليه و آله وفضائلها وآثارها الدنيوية المادية وأجرها الأخروي، وإنّما عكفوا على بيان فلسفتها شعيرة شعيرة، وعملًا عملًا، ونَفَذوا إلى أعماقها؛ ليصوّروا عرفانها بالعمل قبل البيان، وبالجنان قبل اللسان.

لقد تميّزت مدرسة أهل البيت في نظرتها إلى الحجّ وشعائره بمميّزات أعطت الحجّ مضموناً خاصّاً، وشكلًا متميّزاً يُشار من خلاله إلى أتباعها بالبنان، وهو يثير لدى المسلمين عامة أسئلة شتّى عن مدى البُعد المعنوي والسياسيّ المتميّز لحجّهم عمّن سواهم، اقتداءً بأئمّة أهل البيت المعصومينصلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.

ويمكن تلخيص هذه المميّزات في عدّة نقاط:

الأولى: شدّة الاهتمام المتمثِّل بالقول والعمل معاً.

الثانية: الاهتمام المتميّز بالشكل والمضمون معاً.

الثالثة: عدم إغفال البُعدين السياسي والجهادي إلى جانب البُعد العبادي.

الرابعة: تعميق البُعد العبادي والعرفاني بشكل ملفت للنظر.

الخامسة: عدم تجاوز نصوص ومقاصد الكتاب والسُنّة بالرغم من كثرة التقريع والتفصيل.

إنّ أهل بيت الرسول الأمينصلى الله عليه و آله وعترته المعصومين- الذين قرنهم الرسولصلى الله عليه و آله بمحكم التنزيل واعتبرهم عِدلًا للقرآن العظيم في حديث الثقلين الشهير وحديث السفينة وحديث النجوم وغيرها ممّا ورد في تفسير آيات الذكر الحكيم التي تشير إلى أنهم أهل الذكر وولاة الأمر والحافظون لحدود اللَّه- هم الروّاد الصادقون الامناء على شريعة جدّهم ورسالته حيث عصمهم اللَّه من الزلل وآمنهم من الفتن، والمطهّرون الذين يتسنّى لهم تفسير الكتاب كما ينبغي، واقتفاء أثره

ص: 48

اقتفاءً يجعلهم الاسوة الحسنة بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والقدوة المثلى التي لا يطمع في إدراكها طامع.

ومن هنا كان من الطبيعي جدّاً أن يكون منهجهم في إرساء دعائم هذه الفريضة العظيمة وتعظيم شعائر اللَّه هو منهج القرآن المجيد، وخُطاهم إلى تثبيت قواعدها تبعٌ لخُطاه.

والقرآن المجيد قد كثّف الإضاءَة على بيت اللَّه الحرام ومشاعر الحج العظام، تاريخاً وتعظيماً وفلسفةً وأحكاماً وعِرفاناً، فجعله مركزاً للتوحيد، وعتيقاً من براثن الشرك، وقياماً للناس، ومباركاً وهدًى للعالمين، وأمناً للناس، ومثابةً لهم، ومطهّراً ومحلّاً خاصّاً للطائفين حول محور الوحدانية الحقيقية والعاكفين والركّع السجود.. فهو التعبير الصادق عن إسلام الوجه للَّه والتسليم لإرادته العليا، والمختبر الكامل للإنسان الطائع باتجاه الكمال اللائق به، والبوتقة التي تصهر شوائب الروح، وتمحو ما علق بها من أدران خلال مختلف مراحل الحياة.

لقد كانت لسيرتهم الزاخرة بالعطاء العلمي والعَمَلي والعرفاني وكان لسعيهم الحثيث- لإرساء معالم الشريعة وقواعدها المحكمة- الدور الكبير والأثر البالغ في تألّق الإسلام والمسلمين بشكل عام وتجلية عظمة الشريعة الإسلامية بشكل خاص، وتركيز شعائر الحج بشكل أخصّ حتى ورد عنهم عليهم السلام «أن الدين لا يزال قائماً ما قامت الكعبة»، وأنّ ولاة الأمر مسؤولون عن رعاية هذه الشعائر في كلّ الظروف التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، وينبغي أن لا يحول بينهم وبين إقامتها أيّ ضعف مالي، أو أيّ خلل اقتصادي ينتاب الناس حيث تخصص بعض ميزانية الدولة الإسلامية؛ لإحياء هذه الشعائر على مرّ الدهور والأحوال.

نعم هذه هي مدرسة أهل البيت عليهم السلام وهي تعطيصورة موجزة وملخّصة جدّاً من معالم نظريتهم وثقافتهم الرّبانية إلى الاسلام ككل،

ص: 49

وإلى هذا الركن الإسلامي العظيم بشكل خاص.

الشعائر الإلهية:

جاء في مختار الصحاح أنّ (الشعائر): هي كلّ ما جُعل علماً لطاعة اللَّه تعالى. وهي أعمال الحج أيضاً، والمشاعر هي موضع المناسك.

وشِعار القوم في الحرب علامتهُم ليعرف بعضهم بعضاً، وأسعر الهديَ إذا طَعَنَ سنامَه الأيمنَ حتّى يسيلَ منه دمٌ ليُعلَم أنّه هديٌ.

ومن هنا فقد عُرّف الشِعار بأنه «ممارسة- كلامية أو غير كلامية- تصبغ شخصية الإنسان الممارِس، وتطبعها بطابعٍ خاص يميّزها عمّا سواها» (1).

فالشعائر الإلهية هي معالم الطاعة للَّه تعالى، والتي تتضمّن ممارستها أهدافاً حقيقيّة هي أهداف الشريعة التي تقودها وتدعو إلى ممارستها، كما أنّها تعطي للممارسين لها عنواناً يميّزهم عَمّن سواهم.

وتتجلّى هذه النقاط بوضوح في جملةٍ من آيات الذكر الحكيم، مثل قوله تعالى:

1- ولكل أمّةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسمَ اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (2).

2- والبُدنَ جعلناها لكم من شعائر اللَّه لكم فيها خير (3).

3- ذلك ومن يعظّم حرمات اللَّه فهو خيرٌ له عند ربّه.. (4).

4- ذلك ومن يعظّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب (5).

فالتقوى هو الهدف الذي تسعى الشريعة الإسلامية لتحقيقه من خلال العمل بقوانينها، والشعائر الإلهية التي نصّت عليها آيات الذكر الحكيم هي شعائر الحج وهي من جملة أركان العبادة الإسلامية، التي ينبغي للمسلمين احترامها وتعظيمها باعتبارها من «حُرُمات اللَّه»، فهي من جملة القوانين التي تحمل طابع العبادة أوّلًا وتعطي للمسلمين معلَماً من معالم شخصيّتهم المستقلّة ثانياً فهي تحمل بين جوانحها روحَ التسليم للَّه،


1- 1 السيد محمد باقر الحكيم: الفكر الإسلامي، العدد 11،ص 10 دور الشعار في النظرية الاسلامية.
2- 2 الحج: 34.
3- 3 الحج: 36.
4- 4 الحج: 30.
5- 5 الحج: 32.

ص: 50

والشعور بالعزّة باللَّه، والشعور بالاستقلال عن سائر الامم بشتى شرائعها ومذاهبها.

شعائر الحج في القرآن الكريم:

تتّضح أهمية الحج وشعائره الإلهية في القرآن الكريم من خلال:

1- المساحة التي استوعبتها آيات الحج في القرآن الكريم.

2- اسلوب الطرح واسلوب الدعوة إلى إقامتها.

3- الاهتمام البالغ بفلسفة إقامة هذه الشعائر.

4- تقنين هذه الشعائر وبيان أحكامها بالتفصيل.

5- الاهتمام ببيان جذورها التاريخية العريقة.

وإذا لاحظنا منهج أهل البيت عليهم السلام فيما يخص إحياء شعائر الحجّ وقارنّاه بالمنهج القرآني وجدناه يحذو حذوه ويتمثّل خُطاه حذو القذّة بالقذّة.

أما المساحة الملفتة للنظر فهي تتوزّع على السور المكيّة والمدنيّة معاً، ولا سيما إذا لاحظنا كلّ ما يرتبط بالحجّ وتأريخه وشؤونه.

فمن السور المكية: سورة إبراهيم [الآيات 35- 37]، والنمل [الآية 91] والقصص [الآية 67]، والعنكبوت [الآيات 24 إلى 28] ومطلع سورة البلد ومطلع سورة التين وسورة قريش وسورة الفيل.

ومن السور المدنية: سورة البقرة [الآيات 125- إلى 129 و 142 إلى 152 و 158 و 189 و 196 إلى 203]. وسورة آل عمران [الآيات 95 إلى 97] وسورة المائدة [الآيات 2 و 95 إلى 97]، وسورة الأنفال [الآيات 34 إلى 40] وسورة التوبة [الآيات 1 إلى 19 و 28] وسورة الحجّ [الآيات 25 إلى 37].

وأمّا اسلوب العرض فهو اسلوب الحثّ والتحضيض والتأكيد والتعميم، فالخطاب فيه للناس كافة وليس للمؤمنين خاصة، قال تعالى:

1- إنّ أوّل بيتٍ وُضع للناس لّلذي ببكة مباركاً وهدًى

ص: 51

للعالَمين (1).

2- وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا (2)

.

3- وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للناس وأمناً (3).

4- جعل اللَّهُ الكعبة البيت الحرام قِياماً للناس (4)

.

5- وأذن في الناس بالحج... (5).

وهناك أدوات أخرى للعموم استخدمها النص القرآني مثل قوله تعالى:

1- ومَن يعظّم حرمات اللَّه فهو خير له عند ربّه.

2- ومن يعظِّم شعائر اللَّه فإنها من تقوى القلوب.

ويتجلّى التأكيد في التكرار المتنوّع، واستعمال شتى أساليب التأكيد البلاغي في الآيات المباركة.

ويأتي بيان حرمة البيت وأمنه وحلول البركة فيه، واعتباره محطّة اشعاع وهداية للعالمين بما فيه من عدّة عوامل إيجابيّة للحثّ والتحضيض والتشويق لقصده وحجّه وإحياء شعائره.

هذا فضلًا عن النص الدالّ على الوجوب، والنصوص المتضمّنة لبيان فلسفة الحج، وفلسفة إقامة هذه الشعائر حيث إنّها تعدّ من أساليب الحثّ والتشويق أيضاً.

وتتكرّر في آيات الحجّ الإشارة والتصريح إلى فلسفة الحج في الإسلام، والحِكَم التي تحققها ممارسة شعائره ومناسكه. قال تعالى:

1- ولكل أمةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (6).

2- والبدنَ جعَلناها لكم من شعائر اللَّه لكم فيها خير.. (7).

3- لن ينالَ اللَّهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم (8)

.

4- كذلك سخّرها لكم لتكبّروا اللَّه على ما هداكم (9).

5- وأذِنّ في الناس بالحجِّ... ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ


1- 1 آل عمران: 96
2- 2 آل عمران: 97
3- 3 البقرة: 125
4- 4 المائدة: 97
5- 5 الحج: 27.
6- 6 الحج: 34.
7- 7 الحج: 36.
8- 8 الحج: 37.
9- 9 الحج: 37.

ص: 52

اللَّه.. (1).

6- ذلك ومن يعظّم حُرماتِ اللَّه فهو خيرٌ له عند ربّه (2).

7- ومن يعظّم شعائر اللَّه فإنّها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجلٍ مسمّى (3).

8- الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ... وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى... (4).

إن تكثيف الإضاءة على فلسفة الحج، وحِكَم ممارسة الشعائر المرتبطة به، هو أسلوبٌ متميّز في بناء الإنسان وتربيته وصياغة تصوّراتهصياغةً تجمع بين طيّاتها روح التعبّد والتعقّل معاً من دون أن يَسلُبَ التعقُّلُ روحَ التعبّد من الإنسان العاقل، وإنّما يتسامى بتقواه ليبلغ مرتبة أُولي الألباب، فيتكامل عقلًا ويتسامى روحاً، وهو يمارس هذه الشعائر بوعي وجدٍّ واهتمام.

ويمكن تلخيص هذه الأهداف التي نصّ عليها الكتاب العزيز فيما يلي:

1- ذكر اللَّه وحده في كلّ حال ومجال وعلى كلّ شي ء، واجتناب رجس الشرك على كلّ المستويات تصوّراً واعتقاداً وتعلّقاً وسلوكاً.

2- تنمية روح التقوى التي بها فلاح الانسان وفوزه على أُسس التوحيد الخالص.

3- الانتفاع من موسم الحج وشعائره على شتّى الأصعدة: اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً فضلًا عن التكامل الثقافي في مثل هذا الموسم الفريد، والتسامي الروحي والمعنوي في جميع لحظات هذا الموسم.

ويتفرّد القرآن الكريم باسلوبه الخاصّ لبيان قوانينه وأحكامه بياناً يتناغم مع منطق العقل ومنطق العاطفة، ويجمع بين متطلّبات العقل، متطلّبات الروح معاً.

قال تعالى:

1) وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر فإنّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين (5).

2) وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام


1- 1 الحج: 27.
2- 2 الحج: 30.
3- 3 الحج: 32.
4- 4 البقرة: 197.
5- 5 آل عمران: 97.

ص: 53

إبراهيم مصلّى (1).

فاللَّه سبحانه- الذي له المولوية المطلقة وله الخلق وحقّ النعمة على جميع الناس- يجعل أداء هذا الواجب أداءً لحقّه، والإعراض عنه كُفراناً للنعم الإلهية وكفراً عملياً بالمنعم، ولا يكون أداؤه تلبية لهذا الحق لحاجةٍ منه تعالى إلى أعمال عباده، بل يعود نفعه إلى الناس أنفسهم. ومثل هذا القانون الذي ينطلق تشريعه للناس من مصالح العباد أنفسهم، ولا يكون للمشرِّع فيه أي غرض أو مصلحة شخصية، لايجد الانسان الطائع في أدائه ثقلًا وحرجاً مهما كانتصعوبته.

ويأتي الاهتمام ببيان الجذور التاريخية العريقة لهذه الشعائر معلماً من معالم المنهج القرآني؛ لإرساء قواعد هذه الفريضة في المجتمع الإسلامي.

إن رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لقواعد البيت يشير إلى أن بيت اللَّه الحرام قد سبق وضعه للناس عصر إبراهيم الخليل عليه السلام، والاهتمام ببيان دور إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام في تشييد دعائم هذا البيت العتيق وأمره بأن يؤذن في الناس بالحجّ بعد تشييد دعائمه.

واستمرار الناس في إقامة شعائره كرمز من رموز الحنيفية..

لَدليل على أهمية بيان الجذور التاريخية لهذه الفريضة المباركة، ومدى تأثير ذلك في إرساء قواعد الحركة التصحيحية والتكاملية، التي خطاها القرآن الكريم باتجاه تعميق هذا التيار في المجتمع الإسلامي الفتيّ.

أهل البيت عليهم السلام على خُطى القرآن الكريم

لم يتخطّ أهل البيت عليهم السلام هدى القرآن الكريم في سيرتهم وسنّتهم، التي هي تجسيد وامتداد لسنّة الرسول العظيم.

إنّ ما تضمّنته مصادر السيرة والتاريخ فيما يخصّ تعامل أهل بيت الوحي مع الحج في مجال العمل والتطبيق، لا يقلّ روعةً وعظمةً عمّا تضمّنته كتب الحديث من نصوصهم


1- 1 البقرة: 125.

ص: 54

الكثيرة حول الحج ومعالمه وفلسفته وتأريخه، وشكله ومضمونه وترامي أبعاده وعمق عرفانه، وتجلية الجانب العبادي فيه.

الحجّ في سيرة أهل البيت عليهم السلام ونصوصهم

لقد تميّز الحج في سيرة أهل البيت عليهم السلام العملية، وتميّزت سيرتهم في مجال الاهتمام بالحجّ حتى ورد أنّ عبّاداً البصري لقي الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصُعوبته، وأقبلت على الحجّ ولينه إنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: إنّ اللَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللَّه...؟!

فقال علي بن الحسين عليه السلام: أتمّ الآية. فقال: التائبون العابدون... الآية. فقال علي بن الحسين عليه السلام: إذا رأينا هؤلاء الذين هذهصفتهم، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ (1). أو قال: إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئاً (2).

وقد حجّ الإمام الحسن السبط خمساً وعشرين حجّة ماشياً على قدميه، وكانت النجائب تقاد بين يديه. وسُئل عن كثرة حجّه ماشياً فأجاب: إنّي أستحي من ربّي أن لا أمضي إلى بيته ماشياً على قدمي (3).

ونقل مثل هذا عن الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام أيضاً (4).

وأمّا زين العابدين (علي بن الحسين عليه السلام) فقد كان ملازماً للحج منذصغره، وكان يحجّ ماشياً وراكباً، وكان يدعو إلى تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت اللَّه الحرام قائلًا:

استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافحوهم وعظّموهم، تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب (5).

وكان إذا أراد السفر إلى بيت اللَّه الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء، حيث إنهم كانوا يكتسبون منه العلم والعرفان والحِكم والآداب حتى قال سعيد بن المسيّب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن


1- 1 وسائل الشيعة 11: 32 الحديث 3 و 6.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 حياة الإمام الحسن بن علي 1: 327- 328.
4- 4 حياة الإمام الحسين بن علي 1: 134.
5- 5 حياة الإمام زين العابدين عليه السلام 1: 226.

ص: 55

الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب (1).

وكان يهتم عليه السلام بسنن الحج بشكل كبير، ويُقبل على اللَّه تعالى بكلّ إخلاص وخشية حتى إنه كان إذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفر لونه واضطرب، ولم يستطع أن يلبّي، فقيل له: مالَكَ لا تُلبي؟ فيجيب وقد أخذته الرعدة والفزع من اللَّه: أخشى أن أقول: لبيك فيقال لي: لا لبّيك.

وكان إذا لبّى غشي عليه من كثرة خشيته من اللَّه، وسقط من راحلته، ولاتزال تعتريه هذه الحالة حتى يقضي حجّه (2).

وهناك ظاهرتان مهمّتان في سيرة أهل البيت عليهم السلام في حجّهم:

الاولى: ظاهرة كثرة الدعاء وشدّة الإقبال على اللَّه تعالى بالأدعية الطويلة الزاخرة بالمفاهيم التربوية والمعرفية العالية مثل دعاء الإمام الحسين عليه السلام المعروف بدعاء عرفة، ولعلّه أطول دعاء من نوعه، ويناظره دعاء الإمام زين العابدين في الصحيفة السجّادية الخاص بيوم عرفة أيضاً.

قال بشر وبشير الأسديان: كنّا مع الحسين بن علي عليهما السلام عشية عرفة فخرج عليه السلام من فسطاطه متذللًا خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هوناً حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت، ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين وقال:

«الحمد للَّه الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعهصنعصانع، وهو الجواد الواسع...

وممّا قال بعد أن دعا طويلًا وكانت دموعه قد جرت على سحنات وجهه الشريف:

«اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك، واسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك وخر لي في قضائك وبارك لي في قدرك، حتى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت، اللهم اجعل غناي في نفسي واليقين في قلبي والاخلاص في عملي...

الثانية: ظاهرة العرفان العميق


1- 1 المصدر 1: 227.
2- 2 المصدر 1: 228.

ص: 56

لهذه الفريضة، وتجاوز مظاهرها باتجاه باطنها، والغور في أعماقها، فلكلّ عمل ظاهر وباطن، ولكل شعيرة مظهر وواقع، وبالرغم من أن الاهتمام بمظاهر الحجّ يحقّق أهدافاً جُلّى، وقد دعا الأئمّة عليهم السلام المسلمين إلى الاهتمام بهذه المظاهر، ولكن الأئمّة أنفسهم لم يقفوا عند حدود المظهر، بل كانوا لا يعتبرون الحجّ حجّاً إلّاإذا نفذ الانسان إلى أعماقه. وهناك نموذج ممّا أثر عن الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا الصدد، وذلك في حديثه مع الشبلي بعد أن حجّ والتقى بالإمام عليه السلام (1).

الهوامش:


1- 1 راجع العدد الرابع من مجلة ميقات الحج، للاطلاع على تفصيل الحديث.

المدينة المنورة فضلها وقداسة ارضها

ص: 58

المدينة المنورة فضلها وقداسة أرضها

محمد جواد الطبسي

المدينة.. بلدة مقدّسة، وأرض طاهرة،.. أسكنها اللَّه تعالى أعزَّ الأنفس وأحبّها إليه رسوله الكريم.. نزلت فيها أكثر آيات القرآن.. هي دار الأبرار ودار الأخيار، هي دار الإيمان ودار الهجرة.. هي مدينة الإسلام وقرية الأنصار.. هي حرم الرسول ومهاجر النبيّ والآل.. هي مدفن النبي ومهبط الملائكة. فيها الروضة المقدّسة والمسجد النبوي.. وفيها قبا ومراقد أصحاب الكساء.. هي طيبة طابة وجابرة ومجبورة.. فسلام على هذه التربة العطرة والبلدة الطاهرة، وسلام على مَن شرّفها وزادها قداسة.

وبعد فهذه روايات يسيرة من عشرات الروايات حول فضل المدينة المنورة، رتبناها تحت ثمانية عشر عنواناً.

1- المدينة المنوّرة أفضل من مكّة:

وممّا يدل على قداسة هذه البلدة الطاهرة أنها أفضل من مكة المكرّمة؛ لما ضمّت أعضاء النبيّ الكريم، الذي هو أعزّ من الكعبة عند اللَّه تعالى.

ص: 59

وقد اختلف الباحثون حول أفضلية المدينة على مكّة، فمنهم من فضّل المدينة على مكة، ومنهم من قدّم مكة على المدينة من حيث الفضل، ولكل أدلّة ولا داعي إلى إطالة الكلام في هذا المقال، ونكتفي بذكر ما قاله السمهودي: قد انعقد الإجماع على تفضيل ما ضَمَّ الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة المنيفة، وأجمعوا بعدُ على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد واختلفوا أيّهما أفضل، فذهب عمر بن الخطاب وابنه عبداللَّه ومالك بن أنس وأكثر المدنيين إلى تفضيل المدينة...

وحكاية الإجماع تفضيل ما ضمّ الأعضاء الشريفة نقله القاضي عياض وكذا القاضي أبو الوليد الباجي قبله، كما قال الخطيب ابن جملة، وكذا نقله أبو اليمن ابن عساكر وغيرهم مع التصريح بالتفضيل على الكعبة الشريفة، بل نقل التاج السبكي عن ابن عقيل الحنبلي أن تلك البقعة أفضل من العرش (1).

وأضاف السخاوي: ولاشك في أن مواضع الأنبياء وأرواحهم أشرف ممّا سواها من الأرض والسماء، والقبر الشريف أفضلها؛ لما تتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة التي لا يعلمها إلّامانحها، ولساكنه عند اللَّه من المحبة والاصطفاء ما تقصر العقول عن إدراكه، ويعمّ الفيض من ذلك على الأمة، سيما من قصده وأمّه (2).

ويكفيك ما رواه معاوية بن خديج عن النبيصلى الله عليه و آله في هذا المجال قال: أشهد سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: المدينة خير من مكة (3).

2- المدينة المنوّرة أحبّ الأرض إلى اللَّه:

ومن فضائل المدينة المنورة أنها أرض أحبّها اللَّه عزّوجلّ واختارها لنبيه أن يكون بها سكناه ومضجعه بعد أن كان يحب مكة المكرمة.

كما روي عنهصلى الله عليه و آله أنه قال حين توجّه إلى الهجرة: اللهمّ إنك قد أخرجتني من أحبّ أرضك إليّ، فأنزلني أحبّ أرض إليك، فأنزله المدينة، فلما نزلها قال: اللّهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً واسعاً (4).


1- 1 وفاء الوفاء 1: 28.
2- 2 التحفة اللطيفة 1: 42.
3- 3 وفاء الوفاء 1: 37.
4- 4 معجم البلدان 5: 83.

ص: 60

3- المدينة المنورة حرم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

للَّه تبارك وتعالى حرم، كما أنّ لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله ولعلي بن أبي طالب ولأهل البيت حرماً، وحرم اللَّه مكة المكرمة وحرم رسوله المدينة المنورة، وحرم علي الكوفة، وحرم العترة الطاهرة قم المقدسة على ما روي عن الصادق عليه السلام حينما دخل عليه من أهل الري فقال: مرحباً بإخواننا من أهل قم. فقالوا: نحن من أهل الري.

فأعاد الكلام. قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولًا، فقال: إن للَّه حرماً وهو مكة، وإنّ للرسولصلى الله عليه و آله حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين عليه السلام حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنّة.. (1).

وللحرم حدود كما أنّ له حرمة، وعلى الذي يدخل الحدود يجب أن يراعي حرمته، ولكن الفرق بين حرم اللَّه وحرم رسوله هو أن ما قيل من الإحرام واجتناب الصيد وقطع الأشجار وغير ذلك من المحرمات يختصّ بمكة المكرمة، ولا يجب مراعاة هذه المسائل في المدينة المنورة، وإن جاء التصريح باجتناب الصيد وقطع الأشجار فيها كما في الأحاديث المروية عنهم عليهم السلام وكما سنوافيك به إن شاء اللَّه.

حدود حرم الرسولصلى الله عليه و آله:

وأمّا حدود حرم الرسولصلى الله عليه و آله فقد روى ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام في ذلك قال: حد ما حرّم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من المدينة من ذباب إلى واقم والعريض والنقب من قبل مكة (2).

حكم الصيد وقطع الأشجار في حرم الرسولصلى الله عليه و آله:

لقد سئل أهل البيت عليهم السلام عن حكم الصيد، وقطع الأشجار في حرم الرسولصلى الله عليه و آله، فمرّة أجابوا بأنه لا يجب المراعاة، كما يجب في الحرم المكي، واخرى فرّقوا بين الصيد وقطع الشجر، وثالثة بعدم الفرق.


1- 5 سفينة البحار 2: 446.
2- 6 بحار الأنوار 96: 376.

ص: 61

- عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا الحسن موسى. يحرم عليّ في حرم رسول اللَّه ما يحرم في حرم اللَّه عزّوجلّ؟ قال: لا (1).

- وعن الصدوق بسنده عن الحسن بن الصيقل قال: قال أبو عبداللَّه كنت جالساً عند زياد بن عبيد اللَّه وعنده ربيعة الرأي، فقال له زياد: يا ربيعة ما الذي حرم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من المدينة؟ فقال له: بريد في بريد، فقلت لربيعة: فكانت على عهد رسول اللَّه بريد؟ فسكت ولم يجبني، قال: فأقبل على زياد، فقال: يا أبا عبداللَّه فما تقول أنت؟

فقلت: حرم رسول اللَّه من المدينة من الصيد بين لابتيها، قال: وما لابتيها؟

قلت: ما أحاط به الحرار. قال: فقال لي: ما حرم رسول اللَّه من الشجر؟

قلت: من عير إلى وعيرة (2).

- وعن معاوية بن عمار قال: سمعت أبا عبداللَّه يقول: ما بين لابتي المدينة ظل عاير إلى ظل وعير حرم. قلت: طائره كطائر مكة؟ قال: ولا يعضد شجرها (3).

ولكن بملاحظة الرواية الاولى الدالة على جواز الصيد وقطع الشجر، خصوصاً بملاحظة عدم وجود فتوى تنص على الحرمة، لابدّ من أن تحمل الرواية الثانية والثالثة وما شابهها على الكراهة.

4- حبّ النبيِّ المدينة المنورة:

كان النبيصلى الله عليه و آله يحب المدينة حبّاً شديداً حتى إنّه لما كان يقدم من سفرٍ إلى المدينة، وينظر إلى جدرانها كان يحرِّك دابته من حبّها.

قال العباسي: وروينا من حديث أنس قال: لم يكن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقدم من سفر، فينظر إلى جدران المدينة إلّاوضع دابته من حبّها (4).

وروي أيضاً عن جابر بن سمرة قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إذا قدم فنظر إلى جدران المدينة أوضع راحلته، وإن كان على دابة حرّكها من حبّها (5).


1- 7 المصدر نفسه: 375.
2- 8 المصدر نفسه: 376.
3- 9 المصدر نفسه.
4- 10 عمدة الأخبار: 66.
5- 11 المصدر نفسه: 86.

ص: 62

5- المدينة المنورة مخصوصة بكثرة الأسماء:

وسبقت هذه المدينة المقدسة سائر البلدان بكثرة الأسماء والصفات، فقد ذكر في التوراة أن للمدينة أحد عشر اسماً، فهي المدينة والمحبة والمحبوبة وطيبة وطابة والمسكينة وجابرة والمجبورة والعذراء والقاصمة (1).

وعقد العباسي باباً خاصاً يختصّ بأسماء المدينة المنورة، وقد أنهاها إلى سبعة وخمسين اسماً، ورتبها حسب الحروف الهجائية بادئاً باثرب ومنتهياً بيندد. وقال في آخر الباب: وجدت في بعض التواريخ تعداد أسماء المدينة وهي أربعة وتسعون.

ونقل ابن زبالة: أن عبدالعزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسماً (2).

وأمّا ما جاء على لسان النبيِّ حول أسماء المدينة فهي تسعة، كما رواه زيد بن أسلم قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: للمدينة أسماء هي: المدينة وطيبة وطابة وسكينة وجابرة وتندر ويثرب والدار (3).

6- المدينة المنورة محروسة بالملائكة:

ومن فضائل هذه البلدة المقدسة أنها محفوظة ومحروسة من قبل اللَّه جلّ وعلا بإرساله ملائكته؛ ليحفظوا هذه المدينة من الدجال، ولذلك فإن الدجال يدخل كلّ بلدة، بل ويدخل رعبه كلّ البلاد إلّاالمدينة المنورة.

ففي مسند أحمد في حديث عن النبيِّصلى الله عليه و آله قال: إن المدينة مشبكة بالملائكة على كلّ نقب منها ملكان يحرسانها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، من أرادها بسوء أذابه اللَّه، كما يذوب الملح في الماء (4).

وروى ابن النجار عن الصحيحين من حديث أنس عن النبيِّصلى الله عليه و آله، أنّه قال:

ليس من بلد إلّاسيطأُه الدجال إلّامكة والمدينة، ليس نقب من نقابها إلّاالملائكةصافين يحرسونها فينزل السبخة، ثم ترتجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كلّ كافر ومنافق (5).


1- 12 المصدر نفسه: 74.
2- 13 المصدر نفسه: 58 و 84، مرآة الحرمين 1: 407.
3- 14 المصدر نفسه: 79.
4- 15 مسند أحمد 1: 183.
5- 16 أخبار مدينة الرسول: 34.

ص: 63

وأخرج البخاري من حديث أبي بكر عن النبيصلى الله عليه و آله قال: لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذٍ سبعة أبواب في كلّ باب ملك (1).

7- ما قصد أحد أهلها بسوء إلّاأذابه اللَّه:

لقد قصد الكثير من الظلمة والطغاة وأهل الفتنة المدينة وأهلها بسوء، ولكن أبى اللَّه إلّابذوبهم وهلاكهم لما خانوا بأهل المدينة.

روى أحمد بسنده عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:... ولا يريدهم أحد بسوء إلّاأذابه اللَّه ذوب الرصاص في النار أو ذوب الملح في الماء (2).

وقال ابن النجار: وخرّج البخاري فيصحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبيصلى الله عليه و آله أنه قال: لا يكيد أحد أهل المدينة إلّاانماع كما ينماع الملح في الماء (3).

قلت: المراد من لا يريدهم أو لا يكيدهم إلّاأذابه ذوب الرصاص، أو انماع كما ينماع الملح في الماء هو: أنّ الظالم إذا قصدهم وهتك حريمهم وجنى عليهم سوف لا يمهله اللَّه عزّوجلّ ويفنيه، لا أنّه المراد منه لا يقترب المدينة أبداً، نعم الذي لا يدخل المدينة المنورة هو الدجال فقط. ويشهد على ما نقوله ما جاء في التواريخ من كثرة الهجوم على أهل المدينة وقتلهم مرّات عديدة، كما دخلها مسلم بن عقبة وقتل من قتل منهم، وجنى بحقهم ما يعجز اللسان عن بيانه:

قال إبراهيم بن علي العياشي واصفاً ما جناه مسلم بن عقبة وأذنابه الذين أرسلهم يزيد بن معاوية لإباحة المدينة: إنّ يزيد أعطاهصكّاً بكأسها ليلغ فيه متى شاء، أجازه بإباحة أهل المدينة ثلاثة أيام، وهو أجاز لنفسه الانتقام من أصفياء اللَّه الكرام، إن وضعت السيوف في قراباتها فإن مسلماً لم يضع بعد سيف حقده وفي يده مقبضته، لم يزل كالثور الهائج قتل من قتل من خيار هذه الامّة، ولا تزال نفسه الخبيثة تتشوّق إلى القتل والأذى.. قال المجد: إنّهم سبوا الذرية واستباحوا الفروج، وأنه يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتي حملن أولاد الحرّة. ويقول ابن الجوزي عن أبي قرة قال هشام بن حسان: ولدت بعد الحرة ألف حرّة من غير


1- 17 المصدر نفسه.
2- 18 مسند أحمد 1: 184.
3- 19 أخبار مدينة الرسول: 33.

ص: 64

زوج.. (1).

8- إنّ غبارها شفاء من كلّ داء:

وردت روايات عديدة في الصحاح وغيرها دالّة على قداسة هذه التربة الطاهرة، وأنها شفاء من الجذام والبرص بل من كلّ سقم، وإليك بعض ما ورد:

- روى العباسي عن محمد بن موسى بنصالح من ولدصيفي بن عامر عن أبيه عن جده قال: أقبل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من غزاة غزاها، فلما دخل المدينة أمسك بعض أصحابه على أنفه من ترابها، فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: والذي نفسي بيده، إنّ تربتها لمؤمنة، وإنّها لشفاء من الجذام (2).

- وعن أبي سعيد الرازي الحافظ في كتابه قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا أبو غزية، حدّثنا عبدالعزيز بن عمران عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: غبار المدينة شفاء من الجذام (3).

- وعن سعد أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لمّا رجع من تبوك تلقّاه رجال من المتخلفين المؤمنين، فثار غبار فخمّر من كان مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنفه، فأزال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله اللثام عن وجهه وقال: والذي نفسي بيده، إنّ غبارها شفاء من كلّ داء.. (4).

- وعن ابن النجار قال: وحدّثنا ابن زبالة عن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة: أن رجلًا اتي به رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وبرجله قرحة، فرفع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله طرف الحصير، ثم وضع إصبعه التي تلي الإبهام على التراب بعدما مسّها بريقه فقال:

بسم اللَّه ريق بعضنا بتربة أرضنا يشفي سقيمنا بإذن ربّنا، ثم وضع اصبعه على القرحة، فكأنما حلّ من عقال (5).

9- دعاء النبي لذهاب الحمّى والوباء عنها:

ودعا النبيصلى الله عليه و آله لهذه المدينة الطاهرة أن يدفع اللَّه عنها سقم الحمّى والوباء، بعدما كان أهلها يعانون الحمّى بأشد ما يكون.


1- 20 المدينة بين الماضي والحاضر: 343.
2- 21 عمدة الأخبار: 93.
3- 22 أخبار مدينة الرسول: 28، عمدة الأخبار: 273 و 447.
4- 23 عمدة الأخبار: 89 و 447، وفاء الوفاء 1: 67.
5- 24 أخبار مدينة الرسول: 28.

ص: 65

روى السمهودي عن مسلم عن عائشة قالت: قدمنا إلى المدينة وهي وبيّة، فاشتكى أبو بكر واشتكى بلال، فلمّا رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شكوى أصحابه قال:

اللهم حبّب إلينا المدينة، كما حبّبت مكة أو أشد وصححها، وبارك لنا فيصاعها ومدّها، وحول حُمَّاها إلى الجحفة (1).

وعن أبي قتادة أنّ النبيّصلى الله عليه و سلمصلّى بأرض سعد بأصل الحرة عند بيوت السقيا ثم قال: «اللهم إنّ إبراهيم خليلك وعبدك ونبيّك دعاك لأهل مكة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثل ما دعاك به إبراهيم لمكة، أدعوك أن تبارك لهم فيصاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت إلينا مكة، واجعل ما بها من وباء نجم (2).

قال السمهودي في علّة دعاء النبي بنقل الحمى إلى الجحفة: لأنّها كانت دار شرك (3).

10- فضل المجاورة والموت في المدينة المنورة:

وممّا يدل على قداسة هذه البلدة أن النبيصلى الله عليه و آله حرّض المسلمين على المجاورة والبقاء والموت فيها، وضمنصلى الله عليه و آله لمن مات فيها أن يكون شهيداً أو شفيعاً له في يوم القيامة.

قالصلى الله عليه و آله: من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل، فإنّه من مات بها كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة (4).

قال العباسي: ودلالة هذه الأحاديث على الحث والحض والتحريض على الإقامة بالمدينة، وطلب الفوز باستيطانها، وقصد السعادة بمجاورة مساحتها ظاهرة واضحة لائحة، فإنّها منبع فيض بحار أنوار الملة الإسلامية، ومشرق طلوع أقمار السعادة الحقيقية، والدار التي اختصّها اللَّه لهجرة حبيبهصلى الله عليه و سلم، وظهور دينه، ومحل إعلامه بالحق، وإذعان الخلق، وأحبّ البقاع إلى اللَّه سبحانه، وموطن أحب الخلق إلى اللَّه، ومهبط الملائكة المقرّبين، ومنزل الروح الأمين... (5).


1- 25 وفاء الوفاء 1: 56، أخبار مكة 2: 153 بتفاوت، أخبار مدينة الرسول: 27.
2- 26 عمدة الأخبار: 187.
3- 27 وفاء الوفاء 1: 56.
4- 28 معجم البلدان 5: 83، الدر الثمين في معالم دار الرسول الأمين: 14.
5- 29 عمدة الأخبار: 30.

ص: 66

11- كراهة الهجرة منها:

وممّا يدل على قداسة أرض المدينة المنورة أنّه يكره لمن سكنها أن يتركها ويهاجر عنها، كما روى ذلك عن النبي الكريمصلى الله عليه و آله:

قال محجن بن الأدرع: بعثني النبيصلى الله عليه و آله إلى حاشي المدينة في حاجة، فلما جئت ذهبت معه حتىصعد أحُداً، فأشرف على المدينة فقال: ويل امّك من قرية، كيف يدعك أهلك، وأنت خير ما تكونين (1).

وعن عليصلوات اللَّه عليه أنّه قال: من خرج من المدينة رغبةً عنها، أبدله اللَّه شرّاً منها (2).

12- الصبر على الشدّة والجهد في المدينة:

ورغب النبيصلى الله عليه و آله حينما كان في المدينة الصبر على الجهد والبلاء والشدّة في المدينة المنورة، وكان يبشِّرهم على منصبر منهم أن يكون شفيعهم في يوم القيامة.

روى ابن النجار بسنده عن سالم بن عبداللَّه قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: اشتد الجهد بالمدينة وغلا السعر، فقال النبيصلى الله عليه و آله: اصبروا يا أهل المدينة وأبشروا، فإنّي قد باركت علىصاعكم ومدكم، كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فأن طعام الرجل يكفي الاثنين، فمنصبر على لأوائها وشدّتها، كنت له شفيعاً يوم القيامة، ومن خرج عنها رغبةً عمّا فيها، أبدل اللَّه عزّوجل فيها من هو خير منه.. (3).

وجاء فيصحيح مسلم عن سعيد مولى المهري، أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لاصبر له على جهد المدينة ولأوائها فقال: ويحك لا آمرك بذلك، إنّي سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: لا يصبر وفي رواية لا يبيت أحد على لأوائها وجهدها إلّاكنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة (4).


1- 30 تاريخ المدينة المنورة 1: 274.
2- 31 بحار الأنوار 96: 378.
3- 32 أخبار مدينة الرسول: 32، معجم البلدان 5: 83 بتفاوت.
4- 33صحيح مسلم 3: 172، وفاء الوفاء 1: 39، عمدة الأخبار: 86.

ص: 67

13- فضلصيام رمضان في المدينة المنورة:

ورغّب النبيُّصلى الله عليه و آله الصيام وخصوصاًصيام شهر رمضان في المدينة المنورة، بحيثصارت هذه من خصائص هذه البلدة المقدّسة.

روى السمهودي عن الطبراني عن بلال بن الحارث قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان.. (1).

وروى ابن النجار بالإسناد عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها (2).

14- استحباب الصوم لزائر المدينة لقضاء الحاجة:

ويستحب لزائر المدينة أن يصوم ثلاثة أيام لقضاء حوائجه، والظاهر أنّ هذا الحكم يختصّ بالمدينة المنورة ومشاهد الأئمّة لا غير؛ لحرمة الصيام في السفر فرضاً وتطوّعاً عدا ما استثني (3). وإليك ما روي:

روى الشيخ بسنده عن: موسى بن القاسم عن معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إن كان لك مقام بالمدينة ثلاثة أيامصمت أول يوم الأربعاء وتصلّي ليلة الأربعاء عند اسطوانة أبي لبابة، وهي اسطوانة التوبة التي كان ربط إليها نفسه حتى نزل عذره من السماء، وتقعد عندها يوم الأربعاء، ثم تأتي ليلة الخميس التي تليها ممّا يلي مقام النبيصلى الله عليه و آله ليلتك ويومك، وتصوم يوم الخميس. ثم تأتي الاسطوانة التي تلي مقام النبيصلى الله عليه و آله ومصلاه ليلة الجمعة، فتصلي عندها ليلتك ويومك، وتصوم يوم الجمعة، وإن استطعت أن لا تتكلّم بشي ء في هذه الأيام إلّاما لابدّ لك منه، ولا تخرج من المسجد إلّالحاجة ولا تنام في ليل ولا نهار فافعل، فإن ذلك ممّا يعد فيه الفضل، ثم احمد اللَّه في يوم الجمعة واثن عليه وصل على النبيصلى الله عليه و آله و سلم، وسل حاجتك وليكن فيما تقول: «اللهم ما كانت لي إليك من حاجة شرعت أنا في طلبها والتماساً، أو لم أشرع سألتكها أو لم أسألكها، فإني أتوجّه إليك بنبيّك محمد نبي الرحمةصلى الله عليه و آله في قضاء حوائجيصغيرها وكبيرها». فإنّك حري أن


1- 34 وفاء الوفاء 1: 433.
2- 35 أخبار مدينة الرسول: 35.
3- 36 راجع المقنعة: 350، التهذيب 4: 232.

ص: 68

تقضى حاجتك إن شاء اللَّه تعالى (1).

15- فضلصلاة الجمعة في المدينة المنورة:

روى نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:صلاة الجمعة بالمدينة كألفصلاة فيما سواها (2).

16- عود الإيمان إلى المدينة المنورة:

ومن فضائل هذه المدينة وخصائصها أن الإيمان سيعود ويأرز إليها كما تأرز الحية إلى حجرها.

روى مسلم فيصحيحه بسنده عن أبي هريرة: أن رسول اللَّهصلى الله عليه و سلم قال: إنّ الايمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها (3).

وروي عن النبي مرفوعاً: ليعودن هذا الأمر إلى المدينة كما بدأ منها حتى لا يكون ايمان إلّابها (4).

17- استحباب التصدّق في المدينة المنورة:

وتمتاز أيضاً عن سائر البلدان عدا مكة المكرمة، باستحباب التصدق فيها على الفقراء لمن دخلها.

وعن إبراهيم بن مهزم عمّن يرويه عن أبي عبداللَّه قال: إذا دخلت مكة فاشتر بدرهم تمراً فتصدّق به؛ لما كان منك في احرامك للعمرة، فإذا فرغت من حجّك فاشتر بدرهم تمراً وتصدّق به، فإذا دخلت المدينة فاصنع مثل ذلك (5).

18- استحباب الغسل لدخول المدينة المنورة:

ولنختم البحث باستحباب الغسل لمن أراد دخول المدينة المنورة، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: ينبغي لمن أراد دخول المدينة زائراً أن يغتسل (6).

ولم يشرع الغسل إلّالقداسة هذه البلدة الطاهرة والأرض المقدّسة كما أفتى الفقهاء الكبار بذلك.


1- 37 التهذيب 4: 232.
2- 38 أخبار مدينة الرسول: 35، وفاء الوفاء 1: 423.
3- 39صحيح مسلم 1: 177، أخبار مدينة الرسول: 29.
4- 40 المدينة المنورة في التاريخ: 25.
5- 41 بحار الأنوار 96: 377.
6- 42 المصدر نفسه: 378.

ص: 69

قال يحيى بن سعيد: ويستحب الغسل لدخول المسجد وزيارة النبيِّصلى الله عليه و آله (1).

وقال العلّامة الحلّي: والغسل عند دخولها وزيارة فاطمة عليها السلام... (2).

وقال المحقّق الحلي: يستحب الغسل لدخولها وزيارة النبيصلى الله عليه و آله استحباباً مؤكّداً (3).

ولاشك في أن للمدينة المنورة فضائل اخر كما يظهر من أسمائها، ولكن تركنا ذكرها مخافة الإطالة والإسهاب.

الهوامش:


1- 43 الجامع للشرايع: 231.
2- 44 قواعد الأحكام: 91.
3- 45 المختصر النافع: 98.

ص: 70

تحديد قرن المنازل

ص: 71

تحديد قرن المنازل

من المعلوم الذي لا شك فيه ولا ريب أنّ الميقات هو قرن المنازل، وإن وقع الإختلاف في أنه ميقات لأهل نجد أو لأهل الطائف، وإنما قصدنا الميقات الذي وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فإنه قذ يطلق الميقات على مكان الإحرام، وإن كان بالمحاذاة لا بالتوقيت؛ ولهذا ورد في عبارة بعض الكتاب أنّ السيل ميقات أهل نجد، ووادي محرم ميقات أهل الطائف (1) مع أنه ذكر أنّ قرن المنازل هو المسمى الآن بالسيل الكبير (2)، والمقصود من هذا البحث هو تعيين قرن المنازل ومكانه، هل هو الواقع في وادي محرم قريباً من الهدى، أو هو المسمى اليوم بالسيل الكبير، أو كلاهما واقعان في وادي قرن المنازل الذي هو الميقات كما ذكر بعضهم؟

هذا الاختلاف والالتباس الذي حصل في هذا الميقات، حصل بسبب تقدم العهد حيث تغيرت أسماء كثير من المناطق، ونسيت أسماؤها المعروفة سابقاً، وحدثت لها أسماء جديدة بحيث خفيت على عامة الناس، ووجود طريقين بين مكة والطائف. وهذان الطريقان- كما ستعرف- قديمان مذكوران في كتب


1- 1 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 8، 9
2- 2 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 180

ص: 72

المتقدمين، وإن تغيرت بعض مساراتهما إلا أنهما يمرّان بمكان الإحرام القديم كما سوف يتبين..

إن الاختلاف في أيهما الميقات شائع بين الناس كما يظهر من استفتآءاتهم للفقهاء، بل هو ظاهر أيضا عند بعض الكتاب، ولهذا فإنّ تحديد الميقات لا يخلو من مشقة، ونحتاج إلى جمع أكبر عدد من القرائن، التي يحصل منها الاطمئنان، ونحن هنا سنحاول أولًا تحديد مكاني الإحرام وهما السيل ووادي محرم، كما هما الآن من أقوال المعاصرين، ثم نشرع في ذكر القرائن التي تعيِّن لنا الميقات الذي أحرم منه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

التعريف بالسيل الكبير

قرن المنازل قرية في أسفل (1) وادي قرن المنازل على الطريق بين مكة والطائف المار بالنخلة اليمانية، وتشرف على قرية البهيتة (البوباة قديماً) الواقعة فيصدر نخلة.

ويظهر من البلادي في أودية مكة (2) أن وادي قرن المنازل يقع بين وادي قرن جنوبا ووادي بعج شمالًا، ويقع قرن بين قرن المنازل وبين وادي محرم.

ويبعد وادي السيل عن مكة مسافة 78 كيلو متراً من بطن الوادي و 75 كيلو متراً من المكان الذي يحرم منه المعتمرون (3).

وقال البلادي (4): قرن المنازل وهو ما يعرف اليوم باسم السيل، بلدة عامرة على الطريق بين مكة والطائف المار بالنخلة اليمانية، وبها مرصلى الله عليه و آله في غزوة الطائف ولا زال واديها يسمى قرناً.

وتقع النخلة اليمانية (اليمانية) غرب قرن، بينه وبين يدعان (جدعان) ويصب فيها يدعان من الغرب وهي تصب في قرن، ويصب وادي دحنا من الشرق وطريق الطائف المار بالسيل يمرّ على الشرايع، ثم يدعان ذات اليسار، ثم النخلة اليمانية ثم السيل (5).


1- 3 اطلاق الأعلى والأسفل هنا بملاحظة مسيل الوادي فإن وادي قرن يسيل من جبال السراة غرب الطائف مارّاً بوادي محرم ثم قرن ثم السيل الكبير ثم بعج
2- 4 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 8، 9 و 461
3- 5 في مواقيت الحج والعمرة المكانية: 72
4- 6 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 180
5- 7 انظر: أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 52 و 361 و معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 772

ص: 73

التعريف بوادي محرم

وادي محرم وهو المكان الذي يحرم منه الحجاج المارين بالهدا، يسيل من الجبال الواقعة بين جبال غفار غربا وجبل الغمير شرقا، ويقع جنوب وادي قرن في لحف جبل كرا، ويليه وادي قرن من الشمال ووادي الغدير من الجنوب، ومن الجنوب الشرقي يقع وادي مسرة ثم الطائف، ومن الغرب تقع قرية الهدى على الطريق إلى مكة (1).

ويظهر من بعضهم أن وادي محرم هو أعلى وادي قرن، كما أنّ قرن المنازل هو أسفله (2).

وطريقه يمرّ بجبل كرا ثم وادي نعمان ثم عرفات، كما سيأتي في ذكر طرق الطائف إلى مكة.

القرائن التي تحدّد وتعين قرن المنازل

هنا سنشرع في ذكر القرائن، التي يستفاد منها في تعيين محل قرن المنازل وتعينه.

الأول: أقوال العلماء والمحققين في أن قرن المنازل هو السيل:

رشدي الصالح ملحس (3): قرن المنازل في طريق نجد واليمن من جهة السراة ويسمى اليوم السيل.

عبد الجبار وعبد العزيز الرفاعي (4): ثم سارت السيارة وبعد ساعتين هبت ريح باردة فقال الشيخ: أقبلنا على السيل الكبير وهو الذي كان يعرف قديماً بقرن المنازل وفيه يحرم القادمون من الطايف ونجد إلى مكة.

الشيخ محمد بن الشيخ عبداللَّه آل عيثان المتوفى في 26/ 12/ 1331 ه: نقل الشيخ فرج آل عمران في الأزهار الأرجية (5) قال: سمعت من الحاج محمد بن حسين المؤمن الإحسائي المتوفى يوم الأربعاء 23/ 4/ 1363 ه أنه حجّ مع العلّامة الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللَّه آل عيثان المتوفى 26/ 12/ 1331 ه وكان حجهم


1- 8 انظر: أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 8 و 461- أخبار مكة- الأزرقي 2: 130.
2- 9 تقدم بيان الأعلى والأسفل.
3- 10 تعليقة على أخبار مكة للأزرقي 2: 130
4- 11 المطالعة السعودية: 72
5- 12 الأزهار الأرجية: 8: 140

ص: 74

على الأباعر، ولما وصلوا العشيرة أراد الحجاج أن يحرموا منها فمنعهم الشيخ محمد قائلا: الميقات الصحيح هو وادي السيل، وهو الذي وقته رسول اللَّه لإهل الطائف، فأخروا احرامهم إليه.

الشيخ فرج العمران- الأزهار الأرجية (1): وفي ضحى اليوم المؤرخ (الثلاثاء التاسع عشر من الشهر، أي 19 رجب 1392 ه) وصلنا محرم الطائف، وهو المسجد الكائن موقعه في قرن المنازل المعروف بوادي السيل.

وقال (2): وفي عصر اليوم المؤرخ وصلنا محرم الطائف وهو قطعة من وادي السيل أي قرن المنازل، وهو أحد المواقيت التي وقتها رسول اللَّه لأهل الآفاق، وقد وقت قرن المنازل لأهل الطائف ومن يمرّ به من أهل الآفاق، فاغتسلنا منها غسل إحرام العمرة التمتعية.

وقال (3): السبت الثاني عشر رجب 1288: وفي ضحى اليوم المؤرخ وصلنا محرم الطائف، فاغتسلنا غسل إحرام العمرة المفردة، وصلينا ركعتين نافلة الإحرام، ثم أحرمنا ونحن في المسجد الكائن موقعه في قرن المنازل المعروف بوادي السيل.

وقال (4): المحرم المعروف الآن بالسيل هو أحد المواقيت التي وقتها رسول اللَّه لأهل الآفاق، وهو المعروف بقرن المنازل الذي وقته لأهل الطائف، وهو على مرحلتين من مكة من جهة الشرق.

وقال بعد ذلك: أقول: من ملاحظة مجموع ما ذكرنا لا ينبغي التشكيك فيصحة الإحرام من وادي السيل، وأنه هو قرن المنازل، وليت شعري ماوجه الإحرام من العشيرة بعد الإحاطة بما ذكرنا، ولعلّهم يزعمون أنه من باب الاحتياط الذي لا يخلو هنا من الاختباط، واللَّه الهادي إلى سواء الصراط؟!

الشيخ سليمان بن الشيخ عبداللَّه بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (5) قال: فإذا وصلت إلى الميقات الذي وقته رسول اللَّه لأهل نجد وهو قرن المنازل (السيل)...


1- 13 الأزهار الأرجية: 41: 844
2- 14 الأزهار الأرجية: 21: 301
3- 15 الأزهار الأرجية: 8: 772
4- 16 الأزهار الأرجية: 8: 140
5- 17 تحفة الناسك بأحكام المناسك ط 1364 ه- ط مكة المكرمة: 6

ص: 75

محمدطاهر الكردي (1): وميقات المتوجه من نجد ونجد اليمن ومن الطايف قرن بفتح القاف وسكون الراء ويقال لها قرن المنازل، وهي على مرحلتين من مكة لنجد، وهي تعادل السيل الكبير. يحرم منه أهل نجد الآن، وقد توهم بعضهم أن قرن المنازل هوقرن الثعالب وليس بصحيح، بل هما موضعان، فقرن الثعالب قريب من عرفات وليس من المواقيت، وقرن المنازل هو الموازي للسيل الكبير هو الميقات المعروف.

قال حمد الجاسر (2): قرن هو قرن المنازل محل الإحرام، ويعرف الآن باسم السيل الكبير فيه قرية

وقال (3): وقرن المنازل يعرف باسم (السيل).

البلادي (4): فإذا انحدر سمي السيل وهو ميقات أهل نجد، والمرحلة الثانية من مكة على نظام القوافل القديمة عن طريق نخلة اليمانية.

وقال (5): قرن المنازل علم معروف مشهور في كتب الأدب، وهو ما يعرف اليوم باسم (السيل الكبير)، بلدة عامرة على الطريق بين مكة والطائف المار بنخلة اليمانية، وهي ميقات أهل نجد، وبها مرّصلى الله عليه و آله في غزوة الطائف، ولا زال واديها يسمى قرناً.

وقال (6): [البوباة] وهي تعرف اليوم بالبهيتة، تقع فيصدر نخلة اليمانية، تخرج منها على السيل الكبير وهو ميقات أهل نجد، وكان يعرف بقرن المنازل.

عبد الملك دهيش (7): وأصل نخلة واد رأسه من البوباة (البهيتة اليوم) عند بلدة قرن المنازل (السيل الكبير) إلى قرية الزيمة.

وقال الفاكهي (8): وقرن المنازل وهو وقت من الأوقات، التي وقتها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله...، وقال دهيش في الحاشية (9): يعرف اليوم بالسيل الكبير وقد اقيم فيها مسجد كبير يحرم منه مَن مرّ على هذا الطريق طريق الطائف من أهل نجد وغيرهم، وتبعد عن مكة 80 كم وعن الطائف.


1- 18 التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم 4: 882 المطبوع سنة 1385 ه
2- 19 حاشيته على كتاب المناسك للحربي: 645
3- 20 حاشيته على كتاب المناسك للحربي: 352
4- 21 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 9
5- 22 أودية مكة- عاتق بن غيث البلادي: 180
6- 23 معالم مكة- عاتق بن غيث البلادي: 44.
7- 24 تعليقة على كتاب أخبار مكة للفاكهي- عبد الملك بن دهيش 5: 98.
8- 25 أخبار مكة- الفاكهى 5: 100
9- 26 حاشية أخبار مكة للفاكهي- عبد الملك بن دهيش 5: 100

ص: 76

مساعد بن قاسم الفالح (1): الميقات الثالث: قرن المنازل،... وهو ميقات لأهل نجد، ويحرم منه الآن حجاج المشرق، الذين يسلكون الطريق البري المعبد، وقد اشتهر هذا الميقات الآن باسم السيل الكبير، ويتصل هذا الوادي بوادي محرم المسمى أيضا قرناً، والذي يمرّ به الطريق المسمى كرا المتّجه إلى مكة.

مجلة الفيصل (2): ميقات أهل الطائف (قرن المنازل) وهو المسمى الآن ب (السيل الكبير).

فوائد متممة:

كان والدي رحمه اللَّه كما نُقل عنه يحرم من السيل، ولما سافرت أول عمرة وهي سنة 1409 ه، وكنت في حملة الحاج عيسى بن إبراهيم بن سلطان، فأراني المسجد الذي كان يحرم منه والدي (رحمه اللَّه) أيام كان يأتي للعمرة، وهو مسجدصغير قديم، وليس فيه مرافق، وقد أغلق بعد أن افتتح المسجد الكبير، وكان القيمُ عليه رجلًا مسنّاً جدّا، لا يقل عمره عن الثمانين بحسب تخميني، وقد أخبرني، أنّ أباه أخبره: أن هذا المكان يسمى قرناً، وكان يرى الحجاج منذ كانصغيراً يحرمون منه، وكانت هذه بداية بحثي وتتبعي لمعرفة هذا الميقات، الذي هو محل ابتلاء بالنسبة لنا، واختلاف بين مشائخنا حفظهم اللَّه وسدّدهم.

قال الشيخ فرج (3): في موسم سنة 1365 ه سافرنا إلى الحجاز على السيارات مقدمين مكة على المدينة، وكان سائق السيارة التي أنا فيها رجلًا من القصيم اسمه عبد الكريم القرزعي عارفاً بالطرق بصيراً بالمسافات، ولما قربنا من الطريق الذي يسلكه أهل الطائف إلى مكة، سألته عن ميقات أهل الطائف فأجاب هو وادي السيل، فسألته ثانيا: هل لهم ميقات آخر؟ فأجاب: لا ميقات لهم سواه.

في سنة سافرت مع بعض الاخوان إلى العمرة، وكنت في كلّ عمراتي أحرم من السيل، ولم يكن لنا قصد بأن نذهب إلى وادي محرم القريب من الهدي لو لا أنه


1- 27 كتاب مواقيت الحج والعمرة المكانية مساعد الفالح: 26
2- 28 عدد 168 ذو الحجة 1312 ه- يونيو 1922 ه
3- 29 في الأزهار الأرجية: 8.

ص: 77

كان معنا رجل من بني جمرة، قال لي: أنا لا أحرم إلا من المكان الذي يحرم منه فلان، فقصدنا وادي محرم، ثم رجعنا إلى السيل واحرمت، وأمرت الجماعة التي معي بالإحرام من السيل، وقد كانت هناك لافتة كتب عليها ميقات قرن المنازل (السيل الكبير)، بينما اللآفتة التي في وادي محرم لم يكتب عليها قرن المنازل بل كتب عليها: ميقات وادي محرم، فقط. ولما أنصرنا في مكة ذهب بعض الشباب ولعله للشك الذي راودهم فيصحة إحرامهم يسألون العلماء الذين رأوهم يحاضرون في الحرم، أخبرني أحدهم قال: ذهبت وسألت أحدهم فقلت له: ما تقول في ميقات القادم على طريق الطائف من أين يحرم؟ من الهدى أم من السيل قال: يحرم من أيهما ويجزيه فكلاهما محرم، قال: فسألته؟ وأيهما قرن المنازل الذي وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: قال هو السيل.

قال: وذهبت إلى الحلاق الكائن في أسفل المبنى الذي كنا نسكنه، فرأيت الرجل الذي يعمل فيه، وكان من الباكستان، كبير السن يجيد العربية تماما كأنه عربي الأصل، فقلت له: أراك تتكلم العربية بفصاحة فكم مضى لك في مكة؟ قال:

أربعون سنة وأنا أعمل في مكة قال: فسألته عن الميقات، فقال: كان الناس يحرمون من السيل وهو قرن المنازل، حتى فتح طريق كرا الجديد فتركوا الناس سلوك طريق السيل؛ لوعورته وعدم قبول أصحاب السيارات الذهاب عليه.

وأخبرني السائق الذي كان يذهب معنا واسمه حبيب من أهل الطائف مثل هذا، وهو أنّ الطريق القديم هو طريق السيل، ولما فتح طريق الطائف في عهد الملك فيصل سلك الناس طريق الهدي لسهولته وتركوا طريق السيل لأنه غير معبد، ثم وجدت هذا الكلام لبعض الكتاب كالكردي وغيره كما سيمر أثناء البحث.

القائلين بأنّ قرن المنازل هو الهدا:

العياشي في رحلته (1): ذكر طريقه إلى الطائف على طريق الهدا قال: وسلكنا مع طريق الساقية التي تأتي من الجبل إلى عرفات، ثم إلى المشاعر ثم إلى مكة وهي


1- 30 مقتطفات من رحلة العياشي ماء الموائد- حمد الجاسر: 107

ص: 78

صاعدة مع وادي نعمان، فلم نزل نسايرهصاعدين إلى أن قربنا من جبل كرا... [إلى أن قال]: وسلكنا في شعاب ذات مياه غزيرة ونبت ملتف إلى أن خرجنا على قرن الثعالب الذي هو ميقات أهل نجد.

وقال في رجوعه من الطائف (1): وخرجنا منه على طريقنا التي مررنا عليه ذهابا، ووصلنا قرن الثعالب الذي هو ميقات أهل نجد.

ولم يذكر أنه قرن المنازل بل قرن الثعالب، ولم يرد في روايات التوقيت اسم قرن الثعالب، وإنما ذكره بعض اللغويين كما ذكرنا وقد بينا فيما سلف خطأه، وهذا يكشف عن أن العياشي الذي هو من أهل المغرب، زار الأماكن المقدسة للحج فكتب رحلته، ولعله لم ير تلك الأماكن إلا مرّة واحدة، فهو لايعرف الأماكن باتقان، فلا يمكن الاعتماد على قوله في مقابل أقوال أهل تلك الديار العارفين بالأماكن، وقد قال المثل: (أهل مكة أدرى بشعابها).

تحديد قرن المنازل كما ذكره القدماء:

1-صبح الأعشى (2): ذكر في طريق مصر إلى مكة قال: قال ابن خربوذ: ثم من مكة إلى بئر ابن المرتفع، ثم إلى قرن المنازل قرية عظيمة، وهي ميقات أهل اليمن للحج منه يحرمون.

ومنه يستفاد أنّ قرناً واقعة بين مكة وبئر ابن المرتفع، وبئر ابن المرتفع ذكرها الفاكهي (3) قال: وبئر ابن المرتفع التي فوق الأنصاب على طريق العراق، وتعرف ببئر ابن المرتفع اليوم لرجل يقال له ابن حوس.

واحتمل دهيش أنها بئر البرود. (4)، وعلى أي حال فإن بئر ابن المرتفع واقعة في طريق العراق عند الأنصاب، وهذا يناسب كون قرن المنازل هو السيل لا الهدا.

2- إنّ قرن المنازل واقع عند النخلة اليمانية

معجم البلدان ومراصد الاطلاع (5): النخلة اليمانية تصب من قرن المنازل


1- 31 مقتطفات من رحلة العياشي ماء الموائد- حمد الجاسر: 113
2- 32صبح الأعشى- أبو العباس القلقشندي 5: 43
3- 33 أخبار مكة- الفاكهي 4: 117
4- 34 قال دهيش في حاشية أخبار مكة للفاكهي: 117، ويغلب على ظني أنها هي بئر البرود؛ لأنها في طريق العراق، ولأنها مطوية بحجارة منحوتة جيدة العمارة؛ لأنها أعذب المياه كما ذكر الفاكهي، وقال أيضاً: ولا يزال حواس يطلق على واد عند البرود، ويصب في المغمس وعلى منطقة قرب بئر البرود يقال لها خريبات حواس، وهذا مما يدعم ما ذهبنا إليه في بئر ابن المرتفع. إن الذي يبعد كلام دهيش أنّ الفاكهي قد ذكر بئر البرود قبلها مما يدل على عدم اتحادهما.
5- 35 معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 277- مراصد الأطلاع- عبد المؤمن البغدادي 3: 1364

ص: 79

وهو على طريق اليمن.

الفاكهي (1): وقرن المنازل وهو ميقات أهل نجد واقع في النخلة اليمانية.

المصباح المنير(2): ويقال نخلة بالإفراد أيضاً، وهما نخلتان أحدهما النخلة اليمانية بوادي يأخذ إلى قرن والطايف

وقال الشاعر (3):

وما أنسى من الأشياء لا أنسى مجلساً لنا مرّة منها بقرن المنازل

بنخلة بين النخلتين بكيتنا من العين عند العين برد المراجل ومما ذكرناه يظهر أن قرن المنازل واقع في النخلة اليمانية أو قربها، ولا يمكن أن يكون هو الذي في وادي محرم؛ لأنه بعيد عن النخلة اليمانية الواقعة في شمال مكة على طريق العراق شرق حنين (الشرايع)، والذي يقع في طريق النخلة اليمانية هو السيل الكبير فهي واقعة بينه وبين الشرائع، لتوضيح ذلك لا بد من بيان موقع النخلة اليمانية.

النخلة

نخلة واديان لهذيل، أحدهما يقع على شمال بستان ابن عامر (4) وهو النخلة الشامية، والآخر أسفل البستان إلى يمينه، ويجتمعان ببطن مر وسبوحة، ويفصل بينهما جبل طويل يقال له دائة (5)

النخلة الشامية:

وادٍ على ليلتين من مكة يصب من الغمير (6) وتأخذ إلى ذات عرق (7) وتصب باليمامة على بستان ابن عامر، وعنده مجتمع النخلتين، وتجتمع مع النخلة اليمانية في بطن مر وسبوحة (8).

وقال أبو زيد الكلابي (9): هي ذات عرق، وأما أعلى نخلة ذات عرق فهي لبني سعد بن بكر، الذين أرضعوا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهي كثيرة النخل وأسفلها بستان ابن عامر، وأخرها أوطاس (10).


1- 36 أخبار مكة- الفاكهي 5: 100
2- 37 المصباح المنير- الفيومي: 597
3- 38 الأغاني- أبو الفرج الإصفهاني 1: 198
4- 39 بستان ابن عامر: مجتمع النخلتين والعامة يسمونه بستان بن عامر، وهو غلط قال ابن قتيبة: يقولون بستان ابن عامر وهو بستان ابن معمر فهو الذي يعرف ببطن نخلة، وأما بستان بن عامر فهو موضع آخر قريب من الجحفة.
5- 40 معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 277- مراصد الأطلاع- عبد المؤمن البغدادي 3: 1364- أودية مكة- البلادي: 9، 10، 163، 164
6- 41 الغمير موضع بين ذات عرق والبستان- معجم البلدان 4: 213
7- 42 سبوحة واد يصب من نخلة اليمانية على بستان ابن عامر معجم البلدان وموقعها كما يظهر من بعض الخرائط شمال مكة أعلى من سرف وبين بطن مر والجموم.
8- 43 معجم البلدان- ياقوت الحموي 5: 278
9- 44 معجم البلدان- ياقوت الحموي 1: 281، 4: 108.
10- 45 سولة: وهي عين جارية بنخلة أسفل من الزيمة عند مصب وادي سبوحة في النخلة اليمانية، وسولة والزيمة قريتان في نخلة اليمانية وليس في نخلة غيرهما من الحياة وقال محمد بن قرية: مرتعي من بلاد نجلة بالصيف بكناف سولة والزيمة والزيمة تبعد 54 كيلو متراً على طريق الطائف، وهي المرحلة الأولى على نظام القوافل القديم من مكة إلى الطائف، والمرحلة الثانية هي السيل الكبير قرن المنازل- انظر: معجم البلدان- ياقوت الحموي 3: 285- أودية مكة- البلادي: 10.

ص: 80

النخلة اليمانية:

وادٍ يصب من قرن المنازل، ويصب فيه يدعان، يجتمع مع النخلة اليمانية في بطن مر وسبوحة.

وقال أبو زيد الكلابي: إحدى النخلتين يجتمع فيها حاج اليمن وأهل نجد، ومن جاء من قبل الخط وعمان وهجر ويبرين، فيجتمع حاجهم بالبوباءة وهي أعلى نخلة، ومنها الزيمة وسولة (1)قال محمد بن إبراهيم بن قرية (2): مرتعي من بلاد نخلة بالصيف باكناف سولة والزيمة.

ويمرّ بها الطريق من مكة على الشرائع (حنين) والسيل الكبير، وقد حدّدها دهيش (3) بأنها بين البهيتة (البوباة قديماً) والزيمة، فتكون البوباة أعلاها من جهة السيل).

ويظهر من قول المسيب بن علس، يذكر رحيل سامة بن لوي إلى عمان (4):

فشد أمونا بأنساعها بنخلة إذ دونها كبكب يظهر أن (كبكب) (5) واقع جنوب نخلة، كما يظهر من بعض الخرائط أنّ وادي الصدر (صدرعرنة) ووادي الكفو يقعان جنوبها.

ويظهر من الباحثين المعاصرين (6) في بيان النخلتين إضافة إلى ما ذكره المتقدمون:

إنّ النخلة الشامية تقع شمال غرب الطائف وشمال شرق مكة، وهي ملتقى وادي بعج بوادي الزرقاء، وتسميها العامة وادي المضيق، وتسمى أيضاً وادي الليمون؛ لكثرة ما فيه من الليمون، وتلتقي بها النخلة اليمانية من الجنوب الشرقي أسفل جبل داءة، ويسمى حينئذ وادي الزبارة، وتأخذ النخلة اليمانية مساقطها الشمالية أعلاها من وادي الخر من البهيتة (البوباة قديماً) قريب السيل، ويمرّ بها طريق الطائف القديم، فيأخذ حنيناً ثم يدعان ذات اليسار، وهو أيضاً طريق نجد ثم نخلة ثم قرن المنازل، ويبعد المضيق عن مكة 54 كيلو مترا على طريق حاج


1- 46 معجم البلدان- ياقوت الحموي 3: 285
2- 47 حاشية الفاكهي عبد الملك دهيش:؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
3- 48 دليل الطرق السعودية- زكي فارسي:
4- 49 أودية مكة- البلادي: 9، 10، 164، 163
5- 50 تعليقة على المناسك للحربي- حمد الجاسر: 416
6- 51 تعليقة على المناسك للحربي- حمد الجاسر: 416

ص: 81

العراق (141 م).

وقال الجاسر (1): إنّ النخلة الشامية أعلاها ذات عرق، واليمانية أعلاها قرن المنازل (السيل).

ويصبّ في النخلة اليمانية من الجنوب واد يسمى حراض أسفل الزيمة، وهو غير حراض الذي يقع شمال السيل الكبير. (2).

والمتحصل أن النخلة اليمانية واقعة شمال شرق مكة، جنوب النخلة الشامية وغرب قرن المنازل وشرق وادي حنين (الشرايع)، وأما الجنوب فكما ذكرنا أنه يظهر من بعضهم (3) أن جنوبها وادي الكفو وواديصدر عرنة (وادي الصدر) وكبكب وحراض الجنوبي. ويمرّ بها طريق الطائف ماراً بقرن المنازل ثم النخلة اليمانية ثم يدعان ثم الشرائع ثم مكة.

وإذا تحدّد موضع النخلة اليمانية يتبين أنّ طريق الهدى الذي يمرّ على كرا، ثم وادي نعمان، ثم عرفات لا يمرّ على النخلة اليمانية، ولا يتصل وادي محرم بوادي نخلة، وحتى على دعوى أن قرناً يمتد من جبل كرا حتى البستان كما سنذكره، فإن تحديدهم لقرن المنازل الذي هو الميقات هو أسفل الوادي من جهة الشمال الواقع على طريق العراق قريبا من أوطاس وبستان ابن عامر، كما هو ظاهر من كلام القدماء، ونذكر لك كلام الحربي (4) تأكيداً لهذه الدعوى؛ لئلا تكون دعوى بلا بينة ولا برهان.

ذكر في طريق اليمن إلى مكة:... ثم العائب وقرن إلى نخلة وهو البستان.

وفي معجم البلدان (5): قال البطليوسي: فأما بستان ابن معمر فهو الذي يعرف ببطن نخلة.

وما ذكره معجم البلدان (6): أن البستان مجمع النخلتين.

ومن هذا يتبين: أن قرن المنازل هو السيل لا الهدى.

3- الطريق الذي سلكه رسول اللَّه في ذهابه إلى غزوة الطائف، وكذا عند


1- 52 تعليقة على المناسك للحربي- حمد الجاسر: 416
2- 53 أودية مكة- البلادي: 261- 10
3- 54 معالم مكة- البلادي- 300- أودية مكة البلادى: 461
4- 55 المناسك- إبراهيم الحربي: 546
5- 56 معجم البلدان- ياقوت الحموي 1: 414
6- 57 معجم البلدان- ياقوت الحموي 1: 414

ص: 82

رجوعهصلى الله عليه و آله منها:

المغازي (1): وسار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من أوطاس فسلك على نخلة اليمانية ثم على قرن ثم على المليح، ثم على بحرة الرغاء من ليّة.

وفي السيرة النبوية (2): سلك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على نخلة اليمانية ثم على قرن ثم على المليح ثم على بحرة الرغاء من لية... ثم سلك في طريق الضيقة إلى نخب.

وفي معجم البلدان (941 م): بحرة: موضع من أعمال الطائف قرب لية، قال ابن إسحاق: انصرف رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من حنين على نخلة اليمانية ثم على قرن ثم على المليح ثم على بحرة الرغاء من ليّة.

وفي تاريخ ابن جرير (3): سلك إلى الطائف على حنين ثم على نخلة ثم قرن ثم المليح ثم على بحرة الرغاء من لية.

والمليح أسفل السيل الصغير (4) ولية وادي يقع شرق وجنوب الطائف (5)، وبحرة الرغاء تقع كما يظهر من كلام البلادي (6) جنوب الطائف، وقال البلادي (7):

ولا زالت مليح وبحرة الرغاء وليّة تعرف بأسمائها إلى اليوم.

ويستفاد من هذه الرواية أنّ قرن المنازل واقع بين النخلة اليمانية والمليح، وهذا الطريق إنما يناسب طريق السيل دون طريق الهدى وأنّ قرن المنازل هو السيل وليس وادي محرم، وذلك لأنه لا يستقيم أن يمرّ من نخلة إلى وادي محرم فيصل إلى قرب الطائف ثم يرجع شمالًا إلى المليح، ثم ينحرف إلى الجنوب ثم يأتى نخب.

وقال البلادي (8): وهذه هي طريق رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حين غزا الطائف، فقد أخذ على حنين ثم على نخلة اليمانية ثم على مليح أسفل السيل الصغير اليوم، ثم التف حول الطائف من الشمال والشرق، ثم أتاه من الجنوب حيث نزل بحرة الرغاء من ليّة، ثم عاد إليه متجهاً شمالًا، وهي من الخطط العسكرية الممتازة.

وقال الجاسر (9): وهذا هو طريق الطائف الذي يمرّ بالشرائع، وأعلاه وادي


1- 58 المغازي: 429
2- 59 السيرة النبوية لابن هشام 4: 421
3- 60 معجم البلدان- ياقوت الحموي 1: 643
4- 61 تاريخ الطبري
5- 62 معالم مكة البلادي: 300
6- 63 أودية مكة- البلادي: 210
7- 64 أودية مكة- البلادي: 210
8- 65 معالم مكة- البلادي: 300
9- 66 معالم مكة- البلادي: 300

ص: 83

حنين ثم نخلة اليمانية وهي معروفة بأسفلها قرية الزيمة، وبأعلاها البوباة (البهيتة) وقرن المنازل يعرف باسم السيل (1).

طريق الرجوع من غزوة الطائف:

المغازي (2): خرج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من الطائف فأخذ على دحنا ثم على قرن المنازل ثم على نخلة حتى خرج إلى الجعرانة.

وفي السيرة لابن هشام (3): ثم خرج رسول اللَّه حين انصرف من الطائف على دحنا حتى نزل الجعرانة.

ويستفاد من هذا أنّ قرن المنازل واقع بين دحنا والنخلة اليمانية، ودحنا ذكرها الحموي (4) وقال: إنها من مخاليف الطائف وقد مرّ بها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

وذكر دهيش (5) أنها واد يصب في قرن من الشرق وتقع شمال رحاب ب (2) كيلو متر، وبينهما قرية ريحة، ثم ذكر أنها تبعد عن الطايف 42 كم شمالًا.

4- الطرق بين مكة والطائف: كما هي مذكورة من القرن الثاني والثالث الهجري حتى الآن تدلنا على أنه هناك طريقان بين مكة والطائف فقط، هما الطريقان الموجودان حاليا: أحدهما طريق قرن المنازل والآخر هو طريق الهدا.، وسنذكر لك هذه الطرق؛ ليتبين لك أي الطريقين هو الذي يمرّ على قرن المنازل:

الحربي (6): حدثني محمد بن عبد المجيد بن الصباح العثماني قال: إذا أردت أن تخرج من عرفة على جبل يقال له كرا، يظهر على حرة كثيرة المنابت يقال لها: الهدة ومن الهدة إلى الطائف.

وله طريق آخر على موضع يقال له: زيمة. ينفرد من مشاش، ثم قرن المنازل وهو الموضع الذي وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأهل نجد حين قال: (يهل أهل نجد من قرن) ثم من قرن المنازل إلى الطائف، وهذا الطريق ثلاثة أيام، والطريق الأول يومان. انتهى كلام الحربي.

أقول: إنّ الحربي الذي عاش في القرن الثاني والثالث ذكر الطريقين، وهما كما


1- 67 تعليقته على المناسك للحربي: 353.
2- 68 في مرآة الحرمين 1: 62، 72: ذكر بحرة الواقعة في طريق جدة قال: وبحرة وتسمى بحرة الرغاء على يسار الميمم مكة... ثم نقل عن زاد المعاد في هدي خير العباد في غزوة الطائف: ثم خرج رسول اللَّه من الطائف إلى الجعرانة، ثم دخل محرماً بعمرة فقضى عمرته ثم رجع إلى المدينة، وقال بعد ذلك: والطائف في الجنوب الشرقي لمكة والجعرانة بينهما لكنها أقرب إلى مكة، فكيف يتفق مع ذلك أنه مرّ ببحرة منصرفه من غزوة الطايف مع أنها غربي مكة، ولا تقل المسافة بينهما عن ثلاثين ميلًا وبين الجعرانة ومكة حوالى عشرة أميال، إنا لذلك نقف موقف الشك فيما رواه ابن هشام ونقله عنه كثير من المؤرخين حتى يأتينا اليقين. أقول: والعذر لصاحب مرآة الحرمين فيما خلط فيه، وما دعاه إلى التشكيك في كلامصاحب السيرة- مع أنه لم يشكك فيه المؤرخون من أهل مكة كالأزرقي والفاكهي ولا غيرهم- هو أنصاحب مرآة الحرمين ليس من أهل مكة، فهو كالعياشي وغيره من الحجاج الذين لا يتمكنون من معرفة الأماكن وتختلط عليهم الأسماء.
3- 69 المغازى: 939
4- 70 السيرة النبوية 4: 130
5- 71 معجم البلدان- ياقوت الحموي 2: 444
6- 72 حاشية كتاب الفاكهي 5: 100، 101

ص: 84

هو واضح مما تقدم أنهما الطريقان الموجودان، فذكر أولا طريق الهدا الذي يمر على الهدة (1) وجبل كرا وذكر أنه يومان، ولم يذكر أنه يمرّ على قرن ولا أنه محل إحرام.

ثم ذكر الطريق الثاني وهو طريق السيل، الذي يمرّ على الزيمة ومشاش (2) وقال: إنه يمرّ على قرن المنازل، وقال: إنه الموضع الذي وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأهل نجد حين قال (يهل أهل نجد من قرن).

الفاكهي (3) في ذكره لحدود الحرم، ذكر طريق الهداصلى الله عليه و آله فقال: ومن طريق الطائف على طريق عرفة من بطن نمرة على أحد عشر ميلًا ومن طريق العراق على ثنية خل بالمقطع على سبعة أميال. (4)

إبراهيم باشا (5): ذكر في عين زبيدة الواقعة في حنين: فلما بلغ ذلك أمّ جعفر زبيدة زوجة الرشيد، أمرت بإجراء عين حنين (عين زبيدة)،. ومنبع هذه العين في ذيل جبل شاهق يقال: (طاء) بين جبال سود عاليات تسمى جبال الثقبة في طريق الطايف.

أقول: هذا طريق السيل الذي يمرّ من حنين، وعين زبيدة هذه، التي في حنين غير عين زبيدة الواقعة في وادي نعمان، التي تنبع من جبل كرا في طريق الطائف الآخر، فإنه قال في نفس الصفحة:

وكذلك أمرت بإجراء عين وادي النعمان إلى عرفة، وهي عين منبعها في ذيل جبل كرا، وهو جبل شامخصعب المرتقى من أسفله إلى أعلاه، ومسيرة نصف يوم وبعده أرض الطايف.

وذكر طريق السيل أيضاً (6): ومن الشرق على طريق الطائف مكان يقال له:

الجعرانة، أحرم منه النبيّصلى الله عليه و آله مرجعه من الطائف بعد فتح مكة.

وذكر طرق الطائف (7) عنصادق باشا (باختصار):

وبلدة الطائف في الجنوب الشرقي لمكة، ولها طريقان يقطع أقصرهما في 18 ساعة فسلكنا الطويلة لسهولتها على الاخري، فسرنا 20 دقيقة مبحرين


1- 73 المناسك للحربي: 356
2- 74 قال الجاسر في تعليقته على كتاب المناسك: 356، الهدة وتسمى هدة هذيل قديماً هي في قمة جبل كرا، وأصبحت الآن بلدة ذات قصور كثيرة لسراة الناس بعد تعبيد طريق كرا.
3- 75 مشاش: قال الجاسر في التعليقة على كتاب المناسك: 456، مشاش: الموضع الذي أجرت فيه زبيدة عينها الأولى، وأضافت إليها عين حنين بالشرائع والبرود، وهو مجمع طرق حجاج العراق ونجد واليمن بقرب أنصاب الحرم، ويبعد عن مكة بما يقارب عشرة أميال.
4- 76 أخبار مكة- الفاكهي 5: 98
5- 77 قال الجاسر: الأنصاب في الطريق الشمالي من جبل نمرة قديمة واضحة، لكن طريق الطائف تحول اليوم إلى طريقين آخرين غير هذا الطريق: طريق جبل كرى أخذ يميناً ليمرّ على درب اللآحجة قديماً ثم يستمر فيمر بقرب الحسينية والعابدية السلفين قديماً ويلتقي الطريق القديم والجديد في وادي نعمان وسياتي ذكر العلمين اللذين هما حد الحرم على طريق في كلامصاحب مرآة الحرمين عند ذكره لطريق الهدى.
6- 78 مرآة الحرمين- ابراهيم رفعت باشا 1: 210.
7- 79 مرآة الحرمين- ابراهيم رفعت باشا 1: 522.

ص: 85

مشرقين إلى جبل حراء المشهورة بجبل النور، ونزلنا بجوار ساقية، وعند الغروب سرنا وعطفنا يساراً من جبل النور تاركين منى يميننا، سالكين طريق السيل أو اليمانية مبحرين مشرقين، حتى وصلنا إلى بئر البرود فاسترحنا قليلًا، ثم سرنا مشرقين ساعتين في طريق يمثل نصف دائرة، ولجنا بعدهما مدخل جبال السولة، وبعد نصف ساعة استرحنا ببقعة بين الجبال، وفي الساعة 10 والدقيقة 45 من ليلة الأربعاء، شرعنا فيصعود قليل، وبلغنا أعلى الجبل الساعة 11 والدقيقة 30، وسرنا في هبوط مهبط كثرت الأحجار في منحدره إلى مكان فسيح بين جبال، وفي الساعة 12 والدقيقة 20 من يوم الأربعاء وصلنا بقعة فسيحة بها زرع وجنات تحيط بها الأسوار وفيها نخيل وليمون أزوجاً شتى وبعض فواكهها لما تنضج، وينبوع في الجبل تنحدر منه المياه يسمونه نهراً، وهذا المكان يسمى وادي اليمانية، وبعد الغروب سرنا ساعتين ونصفاً ومررنا بالسولة، وفي الساعة 12 ليلًا نزلنا بمحل متسع... وفي يوم الخميس 3 رمضان الساعة 10 رحلنا وسرنا بينصخور مرتفعة وعقباتصعبة حتى الساعة الثالثة والنصف من ليلة الجمعة، وبتنا بمحل يقال له بنية أو كوجك دره، وهناك بئر تسمى بئر عاب، وفي الساعة 10 من يوم الجمعة تابعنا السير، وبعد مضي نصف ساعةصعدنا عقبة حجرية أفضت بنا إلى مستو فسيح به أشجار وسرنا إلى الجنوب، وفي الساعة الثانية مررنا بالجديرة، وفي الساعة الرابعة بأمّ حمص، وفي الساعة السادسة بمحل يسمى الجيم، وفي الساعة 7 والدقيقة 40 وصلنا الطائف.

أقول: هذا الطريق طريق السيل، وإن لم يذكر مروره بالسيل، إلا أنه ذكره في أول كلامه حيث قال: (سالكين طريق السيل أو اليمانية)، وطريق السيل هو طريق اليمانية، كما أنه ذكر مروره ببئر البرود والسولة ووادي اليمانية

وقال (1): والطريق الآخر، قالصادق باشا: بعد إقامتي بالطائف جملة أيام، رغبت في العودة إلى مكة وأعددت البغال اللازمة للسفر فيصباح يوم الخميس


1- 80 مرآة الحرمين- ابراهيم رفعت باشا 1: 443.

ص: 86

17 رمضان؛ لأني عزمت على سلوك طريق الكرا، الذي لا يصلح للسير فيه سوى البغال، وفي الساعة العاشرة رحلنا من الطائف منتهجين سبيل الكرا مابين الشمال والغرب، وبعد ربع ساعة دخلنا بين جبال واجتزنا جملة محاجر، فأرض مرملة تحفّ بها الجبال ذات اليمين وذات الشمال، وفي الساعة 10 والدقيقة 55صعدنا إلى محجر بين جبال حجريةصماء، ثم هبطنا إلى طريق مسوى يسمى بالجميرات أو الجبال الحمر، وفي الساعة 12 والدقيقة 5صعدنا إلى محجر آخر، ثم هبطنا ثمصعدنا فوق تلال متعددة، وبعد عشر دقائق غرّب الطريق، وبعد 7 دقائق هبطنا إلى أرض واسعة، ونزلنا بها بجوار بئر تسمى بئر العسكر عذبة المياه،صلينا عندها المغرب وتابعنا المسير الساعة 12 ونصفاً، وبعد 5 دقائق مررنا بمجرصعب وجملة أخوار، وبعد عشر دقايق مررنا بحدايق وبيوت في وادي محرم، وفي الساعة 2 والدقيقة 10 نفذنا من عقبة كأداءصعبة المرتقى لعلوها وكثرة أحجارها، ولهذا لا يمكن أن يمرّ منها إلّافرد فرد، ومرور التختروان من هذا الطريق متعذر، وبعد أن علوناصخوراً وانثنى الطريق عدة انثناءات إلى الساعة 3 والدقيقة 10 حيث وصلنا الهدة، وهو أعلى الجبل وهناك بيوت وبساتين وفواكه.. وفي الساعة 9 والدقيقة 30 ليلًا سرنا راكبين، وبعد 5 دقائق مررنا بدرب الجمال على اليمين، وتركناه لكونه خاصاً بسير الإبل، وبعد 3 دقايق إبتدا النزول من الجبل في درب ضيقصناعي غير منتظم كثير الانعطاف، وفي الساعة 9 والدقيقة 45 مررنا بعين جارية من الجبل في حوض مبني وتتدفق منه إلى الصخور.. وفي الساعة 11 مررنا بماء جار عذب، وفي الساعة 11 والدقيقة 25 اجتمع الدربان، وفي الساعة 12 والدقيقة 48 وصلنا الكرا آخرصعوبة في الجبل، وبعد أن مكثنا قليلًا لتصليح الأحمال سرنا، وكانت الساعة واحدة وربعاً من يوم الجمعة، وكان السير بانحدار خفيف وفي الساعة 2 والدقيقة 25 نزلنا بقعة مرملة تحيط بها الجبال، فملنا نحو الجنوب الغربي، وفي الساعة 3 والدقيقة 10 وصلنا قهوة شداد، وفي الساعة 10

ص: 87

و 15 دقيقة وصلنا وادي النعمان، وعلى اليمين مبدأ بناء مجرى عين زبيدة، وفي الساعة 11 والدقيقة 8 وصلنا قهوة عرفات، وبعد الإستراحة قمنا الساعة 1 من ليلة السبت، وبعد 50 دقيقة بلغنا جامع نمرة بعرفات، وفي الساعة 2 والدقيقة 10 مررنا بين العلمين، وفي الساعة 4 ليلًا دخلنا مكة المباركة.

أقول: هذا الطريق هو طريق الهدا ولم يذكر أنه مرّ على قرن ولا النخلة اليمانية، كما أنه ذكر مروره بجامع نمرة بعرفات وبين العلمين، اللذين هما حدود الحرم، واللذين مرّ ذكرهما في كلام الفاكهي، ومنه يتبين أنه نفس الطريق الذي ذكره الفاكهي لم يتغير.

العياشي ذكر طريق الهدا (1)

وقد خرجنا إليها بعد العشاء على طريق الحاج إلى منى ثم مزدلفة ثم إلى بسيط عرفة،... ثم ارتحلنا من هناك قرب طلوع الفجر سلكنا مع طريق الساقية، التي تأتي من أصل الجبل إلى عرفات ثم إلى المشاعر ثم إلى مكة، ومنها تأتي المياه إلى مكة، وهذه من عمل بني العباس.. وهي منصدقات زبيدة بنت جعفر المنصور، هيصاعدة مع وادي نعمان وهو وادي عظيم أفيح منحدر من جبل نجد، فلم نزل نسايرهصاعدين إلى أن قربنا من جبل أكرى فعدلنا يمينا مع بعض تلك الهضاب،..

فلما زالت الشمس وتوضّأنا للصلاة، أخذنا فيصعود الجبل العظيم، الذي لا يماثله في عظمته جبل من جبال تهامة... ورأينا القرود به تصيح وتثب في أعالي تلك الصخور،.. ثم ارتحلنا من ذلك المكان قربصلاة الصبح وهبطنا عقبة هناك هي درن التي طلعناها بكثير إلا أنها وعرة، سلكنا في شعاب ذات مياه غزيرة ونبت ملتف إلى أن خرجنا على قرن الثعالب الذي هو ميقات أهل نجد... وإزاءها قرية ذات مزارع وأشجار... جاوزناها قرب الطلوع سلكنا بين تلول هناك فيصعود وهبوط واستواء إلى أن وصلنا بلدة الطائف.

وقال (2): وخرجنا منه ليلة السبت قريباً من نصف الليل على طريقنا، التي


1- 81 مرآة الحرمين- ابراهيم رفعت باشا 1: 153.
2- 82 مقتطفات من رحلة العياشي- حمد الجاسر: 107.

ص: 88

مررنا عليها ذهاباً، ووصلنا قرن الثعالب الذي هو ميقات أهل نجد بعد طلوع الفجر، ونزلنا حتى توضّأنا وصلينا، وأحرمت من هناك بعمرة... ثمصلينا الصبح في الميقات وذهبنا ومررنا على القهوة، التي بتنا بها قبل، وعند طلوع الشمس انحدرنا مع العقبة الكؤود عقبة أكرى وتعجبنا منصعود إبل أهل ذلك البلد فيها وهبوطها بأحمال الفواكه الثقيلة.. وما وصلنا القهوة التي بسفح الجبل حتى اشتد النهار وحمى وطيس الهجير،... وما وصلنا وادي نعمان الأراك إلا بعد العصر، وسايرناه مع العشي مسايرة الخل الرقيق... إلى أن وصلنا القهوة التي هي على حدّ بسيط من عرفات بين العشائين، ونزلنا بها في أرغد عيش حول عين من الساقية تجري على وجه الأرض، وصليناصلاة العشاء وتعشينا ثم أغفينا إغفاءة، ثم ارتحلنا قريباً من ثلث الليل الآخر ومررنا بنمرة ثم بالمأزمين ثم بجمع ثم ببطن محسر كلّ ذلك ليلًا فطلع الفجر ونحن بمنى....

هذا الطريق هو طريق الهدا الذي يمرّ بوادي نعمان وجبل كرا وعرفات ونمرة، وهو كما ذكره الفاكهي والحربي لم يتغير، إلا أنه ذكر مروره بقرن الثعالب وقال: إنه ميقات أهل نجد. وهو اشتباه كما مرّ في بيان قرن الثعالب أنه ليس الميقات، وأن الميقات هو قرن المنازل المار بالنخلة اليمانية، وهذا الطريق الذي ذكره لا يمرّ بالنخلة اليمانية، كما أنه قد أخطأ في موارد أخرى، منها أنه سمى جبل كرا ب (أكرى)، وقال في زبيدة: إنها ابنة جعفر المنصور، وذكر الهدى ولم يذكر اسمها لعله لم يعرفها، وسمى جبال السراة بجبال نجد، والسبب في ذلك أنه رجل مغربي غير عارف بأسماء الأماكن.

البلادي: وكان طريق الطائف القديم يأخذ حنيناً ثم يدعان ذات اليسار وهو أيضاً طريق نجد، كلّ هذا قبل فتح جبل كرا.

وقال (1): وبعد قليل يأتيه من الجنوب الشرقي وادي كبير ذو روافد عديدة يسمى نخلة اليمانية، وقد أطلق عليه أخيرا اسم اليمانية، وبه عينان جاريتان هما


1- 83 مقتطفات من رحلة العياشي- حمد الجاسر: 107.

ص: 89

الزيمة التي يمرّ بها طريق الطايف القديم، وسولة أسفل منها.

وقال: (1) فإذا انحدر سمي السيل وهو ميقات أهل نجد والمرحلة الثانية من مكة على نظام القوافل القديمة عن طريق نخلة اليمانية.

وقال (2): الشرائع عين في وادي حنين تبعد عن المسجد الحرام 82 كيلو متراً وكانت أعمر منها الآن عندما كان طريق الطائف يمرّ بها.

والبلادي ذكر طريق السيل الذي يمرّ على النخلة اليمانية ووادي حنين ويدعان، وقال: إنه الطريق القديم، كما ذكر أنه طريق الطائف ونجد قبل فتح طريق كرا.

الكردي (3): مدينة الطائف أعظم مصيف في الحجاز، وأهل مكة لا يستغنون عن الطائف في الصيف مطلقاً، وللطائف طريقان: طريق قديم وهي عن طريق السيل، وهي طريق اليمانية، فبين مكة والطائف عن هذا الطريق بالجمال ثلاثة أيام ولا تزال السيارات إلى اليوم تسير في هذا الطريق، أما سير الجمال والدواب فقد بطل سيرها.

وللطائف طريق قديم عن طريق الهدا بفتح أوله وثانيه، وطريق الهدا يمرّ من عرفات فشداد فالكر (بضم الكاف وتشديد الراء) فجبل كرا بفتح أوله وثانيه فالهدا (بالفتح) فعلو وادي محرم فبجرة قرن بفتح أوله وسكون ثانية فجبجب فمسرة فمعشى فالطائف.

فتكون المسافة بين مكة والطائف عن طريق كرا الجديد حوالى 85 كيلو متراً.

ثم إنّ الحكومة افتتحت طريقاً جديداً بين مكة والطائف عن طريق كرا، افتتحها الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود في اليوم الثالث من شهرصفر سنة 1385 ه، وهذا الطريق الجديد يمرّ من عرفات فشداد فالكرا فالهدا فوادي محرم فبحرة قرن فجباجب فمسرة فمعشى الطائف، فطريق كرا الجديد هو المشي في نفس


1- 84 أودية مكة- البلادي: 52.
2- 85 أودية مكة- البلادي: 10.
3- 86 أودية مكة- البلادي: 9.

ص: 90

جبل كرا، وكلّ الجبل ملفات مسَفلة بالإسفلت.(1)

وقد مر في التعليقة رقم (166) ما ذكره الجاسر في تعليقته على كتاب المناسك للحربي: أنهما يلتقيان في وادي نعمان، فالتغير حصل في بدايته من جهة مكة فالطريق القديم يمرّ على عرفة من بطن نمرة، والطريق الجديد أخذ يمين اللآحجة حتى يمرّ بقرب الحسينية والعابدية.

ونستخلص من هذه الأقوال أموراً:

الأول: أنّ كلا الطريقين قديمان ومعروفان، وما ورد في بعض كلمات المتأخرين والمعاصرين من تعبيرهم عن طريق السيل بالطريق القديم؛ فلعله لكونه قبل تعبيده وفتح طريق كرا الجديد كان مهمولًا، ثم بعد فتح الطريق أهمل الأول وكثر سلوك الثاني لأنه طريق حديث معبد.

الثاني: أن الذين ذكروا الطريقين سواء كانوا من القدماء أو من المتاخرين لم يشيروا إلى كون الهدا أو وادي محرم هو قرن المنازل، حتى ولا أنه ميقات أو موضع إحرام أو طريق للحاج.

الثالث: كنا قد عرفنا مما تقدم أن قرن المنازل يمرّ على النخلة اليمانية وحنين ويدعان، والطريق الذي يمرّ عليهما هو طريق السيل الكبير، وموضع الإحرام على هذا الطريق هو السيل الكبير.

الرابع: تصريحهم أن قرن المنازل هو واقع على الطريق الأول وهو الطريق المسمى بطريق السيل.

الخامس: أن الطريق الثاني يمرّ على وادي نعمان والهدا وجبل كرا، وهي مواضع معروفة قديماً، ولم يشر أحد ممن ذكرها أنها من منازل الحاج ولا واقعة في طريق الحاج، ولم يذكر أحد ممن ذكر الهدا إنها الميقات ولا واقعة في طريقه.

وسنذكر لك ما ذكره أصحاب المعاجم في الهدا ووادي نعمان وجبل كرا.


1- 87 التاريخ القويم لمكّة وبيت اللَّه الكريم 2: 72، المطبوع سنة 1385 ه.

ص: 91

مصادر البحث:

الأزهار الأرجية- الشيخ فرج العمران (ت)

أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه- عبد اللَّه بن محمد بن إسحاق الفاكهي- تحقيق عبد الملك بن عبداللَّه بن دهيش- ط الثانية 1414 ه، 1994 م- نشر دار خضر للطباعة والنشر- بيروت.

أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار- أبو الوليد محمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأزرقي- تحقيق رشدي الصالح ملحس- ط الثالثة 1402 ه 1983 م- نشر دار الأندلس- بيروت.

إرشاد الساري إلى مناسك ملا علي القاري.

أطلس الطرق السعودية ودليل السياحة- زكي محمد علي فارسي- ط الأولى 1415 ه، 1995 م،

الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني.

الأمّ- محمد بن إدريس الشافعي.

أودية مكة المكرمة- عاتق بن غيث البلادي- نشر دار مكة- ط الأولى 1405 ه- 1985 م

تاج العروس

التاريخ القويم لمكة وبيت اللَّه الكريم- محمد طاهر الكردي- ط الأولى 1385 ه.

تاريخ الطبري

تحفة الناسك بأحكام المناسك- سليمان بن عبد اللَّه بن عبد الوهاب- ط 1364 ه- مكة المكرمة.

الجواهر- الشيخ محمد حسن النجفي- ط دار الكتب الإسلامية قم 1373 ه

حاشية أخبار مكة للفاكهي- عبد الملك بن عبد اللَّه بن دهيش [مع كتاب

ص: 92

أخبار مكة الفاكهى].

حاشية أخبار مكة للأزرقي- رشدي الصالح ملحس-] مع كتاب أخبار مكة للأزرقي.

حاشية الجامع الصحيح

حاشية كتاب المناسك للحربي- حمد الجاسر [مع كتاب المناسك].

الروض المعطار- محمد بن عبد المنعم الحميري (ت...)- ط مكتبة لبنان.

الحدائق الناضرة- الشيخ يوسف آل عصفور- ط جماعة المدرسين- قم

رياض المسائل- السيد علي العاملي- ط جماعة المدرسين 1415 ه

السيرة النبوية- ابن هشام

شرح السيوطي على النسائي- السيوطي

صحاح اللغة-

صبح الأعشى- أبو العباس القلقشندي- ط وزارة الثقافة والإرشاد القومي- مصر

فقه الإمام الصادق- محمد جواد مغنية

القاموس المحيط- مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي- ط الأولى- دار إحياء التراث العربي- بيروت- 1412 ه- 1991 م

كشف اللثام-- الطبعة الحجرية

لسان العرب- ابن منظور- ط الأولى الجديدة المحققة- بيروت 1416 ه- 1995 م

مختار الصحاح

مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع-صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي- تحقيق علي محمد البجاوي- ط الأولى 1374 ه، 1955 م- نشر دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت

ص: 93

مرآة الحرمين- اللواء إبراهيم رفعت باشا- ط الأولى- مط دار الكتب المصرية- القاهرة سنة 1344 ه 1925 م

المصباح المنير- أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي ط الثانية 1414 ه- نشر دار الهجرة- إيران

معالم مكة التاريخية- عاتق بن غيث البلادي- نشر دار مكة- ط الثانية 1403 ه- 1983 م

معجم البلدان- ياقوت بن عبد اللَّه الحموي- ط دار إحياء التراث العربي- بيروت

معجم متن اللغة- أحمد رضا

معجم مقاييس اللغة

المغازي

المغرب- المطرزي

المطالعة السعودية- عبد الجبار الرفاعي

كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة- إبراهيم بن إسحاق الحربي تحقيق حمد الجاسر- نشر دار اليمامة للبحث والترجمة- الرياض.

مقتطفات من رحلة العياشي (ماء الموائد)- لعبد اللَّه بن محمد العياش (1090 ه)- حمد الجاسر- ط الأولى 1404 ه، 1084 م- نشر دار الرفاعي- الرياض

مواقيت الحج والعمرة المكانية- مساعد بن قاسم الفالح- ط الأولى 1413 ه- 1993 م نشر مكتبة المعارف- الرياض

ميقات الحج (مجلة)- عدد 5- السنة الثانية 1417 ه

النهاية- ابن الأثير

ص: 94

الهوامش:

ص: 95

ص: 96

ص: 97

الفور والتراخي في فريضة الحج

ص: 98

الفور والتراخي في فريضة الحج

محسن محمّد

إنّ الأحكام الشرعية تبتنى على كلٍّ من الأمر والنهي، اللذين بهما يتمّ التفريق بين ما أرادته الشريعة المقدسة من حلالٍ، وما وضّحته من حرامٍ ونهت عنه، وبالتالي يتسنى للمكلّف- إذا ما عرف ذلك- الخروج عن عهدة التكاليف الشرعية، التي ترتبت عليه بحكم كونه مسلماً مطيعاً منقاداً لتعاليم السماء.

والبابُ الوحيد إلى ذلك هو الطاعة، التي تتحقق بامتثاله أوامر اللَّه تعالى وبانتهائه عمّا نهى عنه، وإلّا عُدّ عاصياً يستحق العقاب في الدنيا وفي الآخرة.

والذي يعنينا ويهمنا في هذه المقالة المختصرة- التي أحاول أن ابعدها مهما أمكن عن التطويل في ذكر الخلافات العريضة، التي لا ينجو منها أي موضوع سواء أكان اصولياً أم فقهيّاً أو...- هو الأمر دون النهي، وبالذات الأمر المطلق دون المعلّق على شي ء سواء أكان هذا الشي ء شرطاً أوصفة.. وما يدور حوله من أنّه مبنيٌّ على الفور أو التراخي أو لا يعني هذا

ص: 99

ولا ذاك، وإنما هو لطلب الحقيقة والماهية فقط، أو أنّه يدل على القدر المشترك بين الفور والتراخي.. ثم الانتقال بعد ذلك ببيان موجز إلى واحد من آثار هذه المسألة وهو:

فريضة الحج، وهل هي مبتنية على الفور أو على التراخي، والتعرض إلى أقوال الفرق الإسلامية وآراء فقهائها في هذا الخصوص.

فقد اتفقت كلمة الفقهاء وأهل اللغة على أن الأمر يدل على الوجوب إذا ما خلا من القرينة، التي قد تصرفه وتبعده عن الوجوب، الذي هو حقيقة فيه.

لغةً «الأمر حقيقة في الإيجاب بمعنى الإلزام وطلب الفعل وإرادته جزماً».

وشرعاً «الأمر حقيقة شرعية في الوجوب، الذي يترتب على مخالفته استحقاق الإثم والعقاب» (1).

قال تعالى: (أفعصيت أمري) (2)

ولا معصية بلا وجوب: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) (3)

.

فالذم والتحذير والتهديد والوعيد.. كلها تتوجه لمن أعرض وتولى عمّا وجب عليه أداؤه.. وكما أن ذيل الآية هو الآخر (.. أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) يبين أنّ الفتنة والعذاب الأليم يترتبان على مخالفة الأمر. وهذا قد يُعدّ أدلّ نصٍّ على أن الأمر يقتضي الوجوب.

قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّصلاة» فلولا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، وانتقل إلى الندب حيث لا مشقة فيه. والأمر هنا للإلزام والوجوب لو وقع.

والوجوب ثابت للأمر- سواء أكان ثبوته بالوضع أم بالانصراف لغلبة الاستعمال- ولا يحمل على الندب إلّابقرينة، هذا وإن الوجوب أيضاً ثابت للأمر سواء أكان الأمر مطلقاً أم كان مقيداً بوقت معين أو معلقاً على شرط أوصفة.. ولكن الأمر المطلق افرد دون غيره؛ لأنه محل النزاع والخلاف في مسألة الفور


1- 1 سعد الدين التفتازاني، انظر اصول الفقه الإسلامي: 221.
2- 2 طه: 93.
3- 3 النور: 63.

ص: 100

والتراخي اللذين هما محل كلامنا.

الفور لغةً: مِن فار يفور فوراً وفوراناً، وهو مأخوذ من قولهم: فار الماء يفور فوراً: أي خرج من الأرض متدفقاً، ومن فارت القدر أي اشتدّ غليانُها، وسارع ما فيها إلى الخروج..

ثم استعمل في الحالة التي لا بطء فيها..

فالفور: العجلة والسرعة، ولهذا يعبّر بالفور عن الغضب والحدّة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن غضب عليه، وهو مصدر؛ يعبر به عن أول الوقت، فيقال: أتيتُ من فوري، ورجعتُ من فوري، وفعلتُ ذلك من فوري، وفوراً وفور وصولي، أي في الوقت نفسه أو في أول الوقت، وقبل سكون الحالة أو الأمر الذي أنا فيه، والذي لا يتحمل الابطاء ولا التراخي.

وفي الآية (.. ويأتوكم من فورهم..) أي من وقتهم أو ساعتهم.. (1).

وأما اصطلاحاً: فالمقصود بالفور هو: كون الأداء في أول أوقات الإمكان (2) أو المبادرة إلى تنفيذ الأمر بمجرد سماع التكليف مع وجود الإمكان، وإلّا كان المكلّفُ مؤاخَذاً.

التراخي لغةً: مصدر تراخى من رخا... رخاءً: أي اتسع فهو رخو، ورخِي الشي ء رُخاً ورُخاءً أيصار رِخواً وليناً ومنه الآية (فسخرنا له الريحَ تجري بأمره رُخاءً حيث أصاب) أي تجري لينةً طائعةً..

ويُقال: أرخى له العِنانَ أي خلّاه وشأنه.. وتراخى: فتر، وتأخر، وتباطأ، ولهذا يقال: تراخى عن الأمر: أي تقاعد وتقاعس عنه.

وتراخت السماء: أبطأت بالمطر..

وتراخى ما بينهما: تباعد.. فيقال: إن في الأمر تراخياً، أي: امتد زمانه، وفي الأمر تراخي، أي: إن فيه فسحةً وامتداداً.. (3).

وأما اصطلاحاً: فهو كون الأداء متأخراً عن أول وقت الإمكان إلى مظنة الفوت (4).

أو تخيير المكلف بين الأداء فوراً عند سماع التكليف، وبين التأخير إلى


1- 1 آل عمران: 15، وانظر مادة: فور في المصباح وفي لسان العرب والقاموس المحيط والمنجد والمعجم الوسيط...
2- 2 انظر التعريفات للجرجاني مادة فور، واصول الفقه الإسلامي 1: 229 للزحيلي.
3- 3 انظر مادة: رخو في لسان العرب، والقاموس والمحيط والمصباح المنير والمنجد والمعجم الوسيط...
4- 4 انظر كشّاف مصطلحات الفنون 3: 594.

ص: 101

وقت آخر مع ظنّه على أدائه في ذلك الوقت (1).

وأخيراً فالفور إذن ضد التراخي بالضبط.

المراد من الفورية:

وهل تلك الفورية لغةً هي المطلوبة بعينها، أي أن يبادر المكلّف من فوره، ويُسرع لامتثال ما أُمر به بلا أدنى تأخير، وإلّا لا يعدّ ممتثلًا بل يعدّ عاصياً يستحق العقاب؟

وهل التراخي لغةً هو المطلوب أيضاً بكلّ معانيه التي ذكرت؟

الذي يظهر أن هاتين الكلمتين استخدمتا في علم الاصول والفقه لا بمعناهما اللغوي الحقيقي بدقته وصرامته وشدته. فالفورية لا تعني المبادرة بشكل دقيق لمعنى السرعة والتعجيل وبلا فصل بين الأمر والامتثال، فتسبب بذلك احراجاً ليس للمكلف قدرة عليه، وبالتالي قد يصدق عليه أنه تكليف بما لا يطاق..

ولا التراخي استعمل بشكله الممتد السمح، الذي لا يقف عند حدٍّ معين، وبالتالي يكون تضييعاً للأمر ولأهمية التكليف وللغرض منه وللمصالح المترتبة عليه وعلى امتثاله.. فلا ذاك ولا هذا، بل المطلوب هو ما تعارف عليه العرف وما اطلق عليه بالفورية العرفية، التي لا تعني بحال الشدة والصرامة في التلبية والامتثال كما هو معنى الفورية لغة، ولا تعني التسيب الذي يؤدي إلى تفويت الغرض كما هو معنى التراخي لغة.

فإذا ما أتى المكلف بامتثال الأمر فوراً فوراً وبلا أدنى تراخٍ فقد عدّ ممتثلًا واستحق الأجر كلّه والثواب كلّه. وإذا تباطأ وتأخر وإن كان لزمن قليل فقد عدّ عاصياً يجب إنزال أقسى عقوبة به. لا، ليس هذا هو المطلوب، وليست الشريعة سيفاًصارماً على الناس أبداً، وهو يتنافى مع كونها رحمةً للعالمين وكونها الشريعة السهلة السمحاء.. فالفورية العرفية تلك هي الحلّ الأسمى لمعنى الفور، فإذا قال المولى لعبده: افعل كذا، فعل ولو بعد


1- 1 اصول الفقه الإسلامي للزحيلي 1: 229.

ص: 102

حين- بشرط أن لا يترتب على هذا تفويت للغرض- فقد امتثل واستحق الأجر والرضا. وإذا قال له: افعل كذا، فلم يفعل في زمن يتناسب وذلك الأمر وهدفه ولغته ولحنها كان للمولى أن يقول له: لِم لم تفعل؟ وكان له الحقّ في تقريعه بل وفي عقوبته؛ لأن عدم فعل العبد وعدم امتثاله يسبب- قطعاً- تفويتاً لمراد المولى وتضييعاً للملاك أو للمصلحة.

ثم إنّ العرف يميز بين أوامر تتطلب الإسراع والتعجيل في امتثالها وإلّا يفوت الغرض منها، وبين أوامر يحتاج امتثالها إلى التأخير وقتاً ما لإعداد المقدمات التي يكتمل بها ذلك الامتثال، فالأول مثل قول السيد لعبده: اسقني الماء. كان المراد به الفور بقرينة أن طلب الشرب عادةً- والعادة حاكمة- عند الحاجة إلى الماء. والثاني مثل قول السيد لعبده: سافر إلى المكان الفلاني، فلابدّ- كي يتم السفر- من تهيئةلوازمه.. فالأوامر- إذن- تختلف من حيث لغتها ولحنها وغرضها ...

و بالتالي تحتاج إلى وقت- قد يطول وقد يقصر- لتنفيذها.

فالصحيح- إذن- أن كلًاّ من الفور والتراخي يبنى على المتعارف، ولا يصح التأخير الذي يدخل تحت الإمال وقلة الاعتناء، كما يصح مع عدم القرينة على الفور.

تحرير محلّ النزاع

ثمّ إن هذه الفورية وهذا التراخي، وكون الفعل يدلّ على أي منهما أو لا يدل.. وقع النزاع فيه بين الأصوليين من الفريقين قديماً وحديثاً على مذاهب يمكن حصرها في ثلاثة، وكلُّ فريق أو مذهب جاء بأدلته على مختاره، نأتي على ذكر ما تيسّر لنا منها بشكل مختصر؛ لنصل إلى أحد منا شئ أو آثار هذه النزاع، وهو أداء فريضة الحج، يقول الدكتور الزحيلي: ومنشأ الخلاف كلامهم في الحج، هل هو على الفور أو التراخي؟ وكذا غيره.. (1) وقبل التعرض لذلك لابدّ لنا من أن نحرّر محلّ النزاع أولًا بمقدمات، فنقول:


1- 1 اصول الفقه الإسلامي للدكتور الزحيلي 1: 230.

ص: 103

إن الأوامر أربعة أقسام:

1- الأمر المطلق: وهو الخالي من أي قرينة أو قيد..

2- الأمر المؤقت: أي المقيد بوقت ثابت محدّد ومعين، له أول وله آخر؛ كالصيام الذي يمسك فيه المكلّف طيلة الوقت ويستغرق جميع أجزائه.

3- الأمر المعلّق على شرط:

مثل (وإن كنتم جنباً فاطهروا) (1)

.

وغالباً ما يأتي مستعملًا مع أدوات الشرط.

4- الأمر المعلّق علىصفة:

مثل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..) (2)

، (الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مئة جلدة) (3)

.

وقد اتفقت كلمتهم على أن الأمر المطلق أي الأول- دون الأوامر الثلاثة الأخرى- هو محلُّ النزاع. كما أن هذا النزاع يتمّ عند مَن يذهب إلى أن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار كالشيخ المفيد وتبعه الشيخ الطوسي..

وغيرهما الكثير من العامة والخاصة.

أما على مذهب القائلين باقتضائه للتكرار، فإن الفورية تعدّ من ضروريات الأمر، ولأنه يستغرق الأوقات كلّها بالفعل المأمور به (4).

بعد هذا نقول: إن أقوال الفرق الإسلامية يمكن درجها تحت النقاط التالية:

1- المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب والكرخي من الحنفية وبعض الشافعية قالوا: إن مطلق الأمر أي المجرد عن قرينة الفور أو التراخي هو للفور- ومعنى الفور..: الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير تأخير ولا فصل، وقد نسب الشيرازي للكرخي أن مذهبه عدم الفورية.

2- الحنفية على الصحيح من المذهب: إن مطلق الأمر على التراخي، فلا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر.

ومعنى التراخي.. تأخير الامتثال عن وقت الأمر زمناً يمكن إيقاع الفعل فيه فصاعداً. وهو مختار أعيان المعتزلة كالقاضي عبد الجبار،


1- 1 المائدة: 6.
2- 2 المائدة: 38.
3- 3 النور: 2.
4- 4 وتتميماً للفائدة نقول: إن الجميع متفقون على أنه لا ريب في أن الخطاب لو كان مقيداً بقرينة تقتضي التكرار، وجب فيه التكرار كما لو قال:صلِّ أبداً وكذلك لو كان الخطاب مقيداً بقرينة تفيد المرة الواحدة، حمل على الفعل مرّة واحدة، وإنما الخلاف فيما إذا ورد الخطاب مطلقاً فإنه يمكن أن نقسّم آراء الفقهاء والمتكلمين في هذه الصورة إلى أربعة وهي: 1- الأمر بالشي ء لا يقتضي الفعل إلّامرة واحدة ولا يحمل على ما زاد إلّابدليلٍ. 2- الأمر بظاهره يقتضي تكرار الشي ء أبداً، أي لو توجّه الأمر بشي ء، فإن على المكلّف أن يكرّره مدّة حياته بشرط الإمكان.. نأمل أن نتناول في المقالة القادمة «المرّة والتكرار» وهو موضوع اصولي وعلاقته بفريضه الحج. 3- الوقف: وقد اختلفوا في معنى الوقف ومفهومه، فذهب جماعة إلى أنهم توقفوا في الصيغة المطلقة في مقدار الفعل حتى يقوم الدليل على المرة أو الكلي أو على مقدار معلوم. وقال الشريف المرتضى الذريعة 1: 100: «أراد المرّة بلا شك، وما زاد عليها لستُ أعلم هل أراده أو لم يرده. فأنا واقف فيما زاد على المرّة لا فيها نفسها». 4- الأمر بالشي ء لا يقتضي التكرار، حيث يعتقدون أن الأمر إنما يفيد طلب الماهيّة من دون دلالة على الوحدة أو الكثرة، ولكن بما أن الطبيعة لا تحصل في الخارج إلّابإحضارها مرّة واحدة،صارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به، وإلّا فإن الأمر لا يدل بذاته على المرة أو التكرار. فإن مختار الشيخ المفيد قدس سره التذكرة: 30 وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي، هو أنه «لا يجب ذلك أكثر من مرّة واحدة، ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليلُ» أما الشريف المرتضى، فقد ذكرنا رأيه انظر في هذا الهامش كله مع أصحاب الأقوال: العدة في أصول الفقه للشيخ الطوسي- الهامش: 199- 200.

ص: 104

وابن حزم الأندلسي، وقد ذكر هذا القول البيضاوي ونسبه لقومٍ، واختاره السرخسي في أصوله.

وقد استدل هؤلاء بأن هناك فرقاً بين الأمر المقيد والأمر المطلق، فإن قول القائل لخادمه: «افعل كذا الساعة» يوجب الائتمار على الفور، وهذا أمر مقيد، وقول القائل: «افعل» مطلق، وبين المطلق والمقيد مغايرة ومنافاة، فلا يجوز أن يكون حكم المطلق ما هو حكم المقيد، فيما يثبت التقييد به؛ لأن في ذلك إلغاءصفة الإطلاق، وإثبات التقييد من غير دليل، وليس في الصيغة الآمرة المطلقة ما يدل على التقييد، في وقت الأداء، فيكون على التراخي كالأمر بالكفارات وقضاء الصوم والصلاة.

3- الشافعية على الراجح: إن الأمر المطلق لا يفيد الفور ولا التراخي.

وقد استدل هؤلاء؛ بأن ورود الأمر مع الفور، ومع عدمه، ويصح تقييده بالفور وبالتراخي، فيجعل حقيقة في القدر المشترك، وهو طلب الإتيان بالمأمور به، منعاً من الاشتراك والمجاز.

وقد رجح بعضٌ أن الأمر لا يدل بذاته على الفور أو التراخي، بل يستفاد ذلك من القرائن، فمن قال لغيره: «اسقني» كان المراد به الفور بقرينة أن طلب الشرب عادة يكون عند الحاجة إلى الماء، وإذا كان المأمور به مطلقاً عن الوقت كالزكاة والحج وقضاء الصوم والصلاة، وأداء الكفارات، فيجوز فيه التأخير، ولكن المبادرة إلى الفعل أولى وأحوط، قبل مباغتة الموت، وانتهاء الأجل قبل الأداء لقوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات) (1)

.

الإمامية:

- ذهب فريق منهم إلى أن فعل الأمر المطلق مبنيّ على الفور والتعجيل كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي وأبو الحسن الكرخي المتكلم الفقيه..

- فيما ذهب السيد المرتضى إلى أنه مشترك بين الفور والتراخي، أي


1- 1 انظر في هذا كله: الموسوعة الفقهية- مصطلح أمر، واصول الفقه الإسلامي للزحيلي، الأمر، والآية البقرة: 148.

ص: 105

مشترك لفظي وضع بوضعين، لهذا يحتاج إلى دليل؛ لكي يعين لنا المراد منه: الفور أو التراخي.

- بينما ذهب فريق ثالث إلى أن الفعل المطلق أي الأمر ليس فيه دلالة على الفورية ولا على التراخي، بل كلّ ما فيه هو دلالته على مطلق الفعل أي على طلب حقيقته أو طبيعته ومن غير فهم شي ء من الأوقات والأزمان (1).. وأن كلًاّ من الفور والتراخي أمران خارجيان عن تلك الطبيعة، أو أن الفور والتراخي منصفاته، التي هيصفات متقابلة، فلا دلالة له عليهما؛ لأن الموصوف بالصفات المتقابلة لا يدل على واحد معين منها.

هذه خلاصة الآراء الثلاثة، والأقوى فيها والمشهور الثالث الذي عليه أكثر العلماء ومنهمصاحب الشرائع المحقق الحلي، والعلّامة الحلي وصاحب المعالم وغيرهم (2).

أدلة القائلين بالفورية:

لقد وجدتُ أن هناك أدلة مشتركة بين الإمامية وباقي المذاهب الإسلامية الأخرى نكتفي بها ونوجزها وأجوبتها بما يلي:

* إنّ اللَّه سبحانه وتعالى ذم إبليس حينما امتنع عن السجود لآدم عليه السلام بقوله: (... ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) (3)

. فلو لم يكن الأمر للفور لما استحق إبليس الذم.

والجواب: أن هذا الأمر بالسجود لم يكن بذاته يدل على الفور، وإنما لتقيّد الأمر بالوقت المحدّد وهو قوله تعالى: (فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (4)

. كما فيه قرينتان أُخريان تدلان على الفور، إحداهما:

الفاء في قوله فقعوا، والفاء لغة تفيد التعقيب، والثانية: فعل الأمر نفسه:

فقعوا له ساجدين، فالفعل اذن لا يدل بذاته في الآية: (ما منعك ألّا تجسد إذ أمرتك) على الفورية بل بالقرائن وبالتالي فالآية لا تصلح دليلًا على الفور.

* قوله سبحانه وتعالى:


1- 1 انظر الواقية في اصول الفقه للفاضل التوني: 78.
2- 2 معالم الدين للعاملي الجباعي: 150- 152، العدة للطوسي 1: 85.
3- 3 الأعراف: 12.
4- 4 الحجر: 29.

ص: 106

(وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم) (1)

.

فالمغفرة فعل اللَّه تعالى، والمراد إيجاد سببها، إتيان الواجبات وترك المحرمات وعلى قول: المسارعة بالتوبة والندامة التي هي واجبة بحكم العقل، وليس المراد منها الأفعال الخارجية من الواجبات والمستحبات (2) فتجب المسارعة والتعجيل إلى فعل المأمور به وهو سبب المغفرة، وتتحقق هذه المسارعة وتصدق إذا اتصفت بالفورية.

والجواب: أن هذه الآية لا تعين على الفورية أبداً، وإنما تدل على التراخي؛ لأن المسارعة لا تتحقق ولا تصدق إلّاإذا كان الوقت موسعاً أو كان هناك مستحب، أما إذا كان هناك واجب وبالذات إذا كان مضيقاً فلا تتصور المسارعة وفضلها، وإنما هو امتثال لابدّ منه، وليس فيه اختيار ومبادرة يوجب الثناء والمدح.

* بما أن النهي طلب ويفيد الفور، فأيضاً الأمر طلب مثله وبالتالي يفيد الفورية. إضافةً إلى أن الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده «كما فيصلِّ معناه لا تترك الصلاة»، وبما أن النهي يفيد الفورية وهذا من المسلمات، كما في لا تسرق، فالأمر أيضاً- قياساً- يقتضي الفورية.

الجواب:صحيح أن النهي يفيد الفور وإلا يفقد غرضه وهو دفع المفسدة. ولكن قياس الأمر عليه قياس مع الفارق، حيث إنّ الأمر لا يفيد التكرار هذا أولًا. وإنّ القياس خاصة في باب اللغة باطل ثانياً، وثالثاً أن النهي يفيد الفورية إذا كان مستقلًا كما في «لا تغتب» بعكس النهي الوارد في ضمن الأمر الذي لم تثبت الفورية له، وبالتالي فالنهي تابع له.

ثمّ هناك فرق بين الأمر المقيد والأمر المطلق، فإن المولى إذا قال لعبده: «اسقني الماء» فإن هذا مقيد بالحاجة إلى شرب الماء، التي لا تتحمل التأخير، أو قال له: افعل الشي ء الفلاني الآن، فتجب المبادرة من المكلّف إلى أن يمتثل كلًاّ منهما، فهذا حال الفعل المقيد. أما المطلق مثل


1- 1 آل عمران: 133.
2- 2 محاضرات في اصول الفقه- الفياض، من تقريرات السيد الخوئي.

ص: 107

(افعل) فبينه وبين المقيد منافاة ومغايرة، ولهذا لا يصح أن يكون حكم المطلق حكم المقيد وهو الفور؛ لأن في هذا إلغاءً لصفة الاطلاق وإثبات التقييد من غير دليل..

بعد أن اطلعنا عن أدلة القائلين بالفورية وأدلة الرافضين لها وقد تجلّت في إجاباتهم على تلك الأدلة، التي يمكن أن تكون أدلتهم على عدم الفورية، بل على أن الأمر المطلق يدل على طبيعي الفعل أو ماهيته وحقيقته فقط، وأن هذه الطبيعة قد تتحقق بالفور وقد تتحقق بالتراخي من أدلة خارجية. ننتقل إلى رأي السيد المرتضى:

رأي السيد المرتضى:

ويبدو أن السيد في رأيه هذا قد تفرّد به في دائرة الفقه الإمامي، في حين وجدتُ في المذهب الشافعي من يذهب المذهب نفسه (1).

يقول السيد: إنّ الأمر المطلق مشترك بينهما (2) أي بين الفور والتراخي، فيتوقف في تعيين المراد منه على دلالة تدل على ذلك.

ومعنى هذا أن الأمر وضع بوضعين، مرة وضع ويُراد منه الفور، واخرى وضع ويراد منه التراخي كما هو شأن الألفاظ المشتركة الأخرى عند اطلاقها، ويحتاج إلى دليل خارجي لتمييز أي المرادين مطلوب.

وقد استدل السيد المرتضى على مختاره بدليلين:

الأول: أن الأمر قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللغة، ويُراد به الفور، وقد يرد ويراد به التراخي، وظاهر استعمال اللفظة في شيئين، يقتضي أنها حقيقة فيهما، ومشتركة بينهما.

أي أنه استعمل مرةً وأريد به الفورية، كما استعمل أخرى وأريد به التراخي، واستعمال اللفظ في مرادين أو معنيين حاله حال استعمال اللفظ الواحد في معنى واحد ومراد واحد، فإنّ الأصل في الاستعمال هذا الحقيقة.

واجيب عن ذلك بأن هذا يتم إذا فقد الدليل على المجاز، أما إذا وجد


1- 1 اصول الفقه الإسلامي، للدكتور الزحيلي 1: 231.
2- 2 الذريعة 1: 132، معالم الدين للجباعي: 158- 1159.

ص: 108

الدليل هذا، فلا نستطيع أن نتمسك بقاعدة الأصل في الاستعمال الحقيقية.

ثم إن الأمر مستعمل فيما هو أعمّ من الفورية والتراخي كالقدر المشترك..

فلابدّ من انضمام شي ء آخر، لتفهم منه الخصوصية المرادة كوجود القرينة، وإنما يقتضي أن يكون حقيقة فيهما إذا كان مستعملًا بمجرده دون شي ء آخر.

يقولصاحب المعالم: إن الذي يتبادر من اطلاق الأمر ليس إلّاطلب الفعل، وأما الفور والتراخي فإنهما يفهمان من لفظه بالقرينة.

الثاني: أنّه يحسن- بلا شبهة- أن يستفهم المأمور- مع فقد العادات والأمارات- هل أريد منه التعجيل أو التأخير؟ والاستفهام لا يحسن إلّامع الاحتمال في اللفظ.

أي أن المولى لو أمر عبده بشي ء، فهنا يجوز للعبد أن يسأل، أَتريده فوراً أم لا؟ كما أنه يصح للمولى أن يجيب عبده بأني أريد فوراً أو على التراخي.. فهذا دليل على أن الأمر وضع لكليهما، وليس لواحد منهما وإلّا لا يصح الاستفهام.

والجواب بأن العبد إنما سأل مولاه لاحتمال أن يكون هذا الأخير أراد المعنى الحقيقي أو المجازي من طلبه.

يقولصاحب المعالم: ويكفي في حسن الاستفهام، كونه موضوعاً للمعنى الأعم، إذ قد يُستفهم عن أفراد المتواطي لشيوع التجوّز به عن أحدهما فيقصد بالاستفهام رفع الاحتمال.

ولكن يمكننا أن نقول: إذا لم يتبادر من الفعل المطلق إلّاطلب الحقيقة، فلماذا الاستفهام؟

ثم إنه وحسب مقدمات الحكمة أن العاقل ما يريده يقوله، ويقوله بوضوح، فلا داعي منه لهذا الخلط أو الغموض في الطلب الذي يؤدي للسؤال.

كما أن من النادر أن يقع مثل هذا الاستفهام أتريد الحقيقة أو المجاز، أتريد الأسد الحقيقي أم الرجل الشجاع؟

هذا وأن السؤال قد يقع حتى

ص: 109

يرفع الغموض عن طلب المولى الذي قد يكون يريد طلب طبيعة الفعل وحقيقته، لا فقط المعنى المجازي أو الحقيقي أو الفور أو التراخي..

وأخيراً فإن الراجح هو أن الأمر المطلق لا يدل على الفور ولا على التراخي، بل إن كليهما يستفادان من قرائن وأدلة خارجية لا من الفعل بذاته، وعلى هذا أكثر العلماء..

بعد هذه النبذة عن الفور والتراخي والنزاع فيهما، ننتقل إلى معرفة ما إذا كانت فريضة الحج التي هي سبب من أسباب هذا الاختلاف في الآراء؛ حول الفور والتراخي لنرى ما إذا كان فرضها أو وجوبها يقتضي الفورية في أدائها أم التراخي.

علماً أن من أسباب هذا النزاع و آثاره أموراً آخرى كأداء الزكاة و قضاء الصوم والصلاة .. وهل كل واحدة من هذه وجبت على الفور أو التراخي؟

الإمامية:

مع أنّ الخلاف وقع بين فقهاء الإمامية- كما بيناه- في مسألة أن الأمر المطلق يدل- بذاته- على الفور أو التراخي، أو لا يدل على هذا ولا ذاك، وإنما يدلّ على حقيقة الفعل فقط، وليس فيه دلالة على الفورية أو التراخي لا بحسب مادته ولا بحسبصيغته، وهما خارجان عنه، أو هو مشترك لفظي وضع للفور وللتراخي، ويحتاج إلى دليلٍ لتمييز المراد منهما.. إلّا أنهم اتفقوا على أن فريضة الحجّ إذا ما توفرت شرائطها واستقرت تجب على الفور.

المراد بالفورية في فريضة الحج:

هو أنه يجب على المكلف- الذي تحقّقت استطاعته، واستقر عليه الحجّ- الإتيان بالحج والمبادرة إليه في أول عام استطاعته، وليس له تأخيره عنه، فالتأخير- مع توفر الشرائط- يعدّ معصيةً كبيرةً موبقةً (1)، وإن حجّ بعد ذلك، وكان حجّه مجزياً.

والظاهر أن المراد من وجوب الفورية والتعجيل بأداء الحج حتى لا يقع المكلّف في تلك المعصية إذا ما


1- 1 الجواهر 17: 224، في حالة حصول الاستخفاف المؤدي إلى الترك، وكما في مهذب الأحكام للسبزواري 12: 17.

ص: 110

تراخى وتباطأ في أدائه لفريضة الحج، لا عدمصحة الحج منه في الزمن المتراخي أي في السنوات التالية لعام استطاعته.

وإذا اطلعنا على أدلة القائلين بالفور- على تقدير تماميتها- فهي لا تدل على أكثر من العصيان بالتأخير، لا على عدم الصحة.

إذن يجب على المكلف- الذي ترك أداء فريضة الحج في عام استطاعته أو أخّرها- أن يبادر لأدائها في العام الثاني وهكذا. فالفورية أو المبادرة والتعجيل تبقى تلاحق المكلف في كلّ سنة ما دام لم يؤدِ الفريضة، التي استقرت عليه بسبب استطاعته.

وقد قامت على ذلك أدلتهم، التي لا يخلو بعضها من مناقشة وردٍّ بينهم:

القرآن الكريم:

(.. وللَّه على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومَن كفر فإنَّ اللَّهَ غني عن العالمين) (1)

.

فاللام في قوله تعالى (وللَّه) هي لام الإيجاب والإلزام، ومع كونها كذلك، فقد أكد كلّ من الايجاب والإلزام ب (على) التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب، فإذا قال العربي: لفلان عليَّ كذا، فقد وكده وأوجبه.

إذن ذكر اللَّه تعالى الحج ووجوبه بأبلغ ألفاظ الوجوب.. (2).

والوجوب المذكور على الفور ولا يجوز معه التأخير.. والذي يدل على أنه على الفور عموم قوله تعالى:

(وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم) أي ما هو سبب المغفرة، والحجّ كذلك (3).

ونظراً لأن الوجوب في هذه الآية مشروط بالاستطاعة أو متعلق على الاستطاعة فهو ليس أمراً مطلقاً حتى يدخل في النزاع الدائر- كما ذكرنا- حول كونه يدل على الفور بذاته أو لا، أو أنه يدل فقط على الماهية.. فهو إذن خارج عن محل النزاع وبالتالي يمكن اتصافه بالفورية لأنّه مقيّد.

* (وأتموا الحجَّ والعمرةَ) (4)


1- 1 آل عمران: 96.
2- 2 الجامع لأحكام القرآن 4: 142.
3- 3 كنز العمال- كتاب الحج 1: 266.
4- 4 البقرة: 192.

ص: 111

والأمر للوجوب، ويدل على طلب الماهية.

الروايات:

1- قولهصلى الله عليه و آله: «مَن وجب عليه الحجُّ فلم يحج فليمت يهودياً أو نصرانياً» وقد أتى بفاء التعقيب ورتّب الوعيد وهوصريح في الفورية (1).

2-.. عن أبي عبداللَّه عليه السلام: قال اللَّه تعالى: (وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا) قال: هذه لمن كان عنده مال وصحة، وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا هو يجد ما يحجّ به..

3-.. عن معاوية بن عمار قال:

سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل له مال ولم يحجّ قط، قال: هو ممّن قال اللَّه تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى) قال: قلت: سبحان اللَّه، أعمى؟! قال:

أعماه اللَّه عن طريق الحق. وفي رواية:

عن طريق الجنة، وفي رواية: عن طريق الخير.

4-.. فقال: لا عذر له، يسوّف الحج، إن مات وقد ترك الحجّ فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام.

5-.. عن أبي بصير قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ:

(ومَن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا) قال:

ذلك الذي يسوّف الحج، يعني حجة الإسلام، حتى يأتيه الموت. وغير هذه من الروايات في الوسائل باب وجوب الحج مع الاستطاعة على الفور، وتحريم تركه وتسويفه.

* ثمّ إنّ وجوب الحج على الفور من المرتكزات عند المتشرعة المهتمين بالشريعة وأحكامها، وهم يذمّون من يترك الحج أول عام استطاعته من دون عذر. وهذا الارتكاز يصلح دليلًا تاماً لو ثبت اتصاله بزمن المتشرعة، الذين عاشوا فترة المعصومين عليهم السلام وهو بالتالي يكشف عن التلقي عن الإمام المعصوم.

* ثم إن العقل يحكم على المكلف بلزوم تفريغ ذمته فوراً من فريضة الحج، التي استقرت عليه بعد أن


1- 1 كنز العرفان- كتاب الحج.

ص: 112

توفرت شرائطها التي منها الاستطاعة خاصة مع احتمال الموت الذي سيحول بينه وبين أدائه للفريضة وقد يفاجئه في أي وقت .. وهذا الدليل وإن كان تاماً في نفسه إلّاأنه لا ينطبق على تمام المدعى وهو وجوب الفورية في الحج ولو مع العلم بالبقاء والتمكن من الحج في العام القابل، والدليل لا يقتضي ذلك.

* الإجماع، ولأنه إجماع مدركي، وقد عُلم مدرك المجمعين، وبالتالي يمكن الاستناد إلى المدرك نفسه، فالإجماع هذا ليس بحجة.

* وجوب الاستنابة دليل على أن وجوب الحج فوري في أول عام الاستطاعة، وقد دلت الروايات على وجوبها على المكلف إذا ما توفر له العذر من مرض أو عجز، وعلم بعدم زواله.

أما لو علم بزوال العذر فيجوز له التأخير. فدليل وجوب الاستنابة ليس على اطلاقه يصلح دليلًا على ما يُراد من فورية الأداء.

* عدم جواز نيابة مَن استقر عليه الحج، فلو كان الحج على التراخي ولم يكن فورياً؛ لجاز لمن وجب عليه الحج أن ينوب عن غيره، ويؤخر حجّه الواجب إلى سنة أخرى.

*.. عن معاوية بن عمار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجلصرورة مات ولم يحج حجة الإسلام، وله مال: قال:

يحج عنهصرورة لا مال له (1).

* الحج البذلي ورواياته الظاهرة في وجوب الإتيان به فوراً وفي عام البذل، منها:

عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: فإن عرض عليه الحج فاستحيى؟ قال: هو ممن يستطيع الحج، ولم يستحيى؟ ولو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل.

لقد تحققت الاستطاعة بالبذل وهو أحد مصادر تحققها، وبالتالي وجب الحج على المكلف المبذول له، فلماذا لا نلحقه بالحج الواجب


1- 1 الوسائل- أبواب النيابة.

ص: 113

والمبادرة إلى أدائه فوراً؟ فقد وجدت مَن يقول بالفصل بينه وبين الحج الواجب بالأصل، وبالتالي لا يعدّه دليلًا على فورية الحج كباقي الأدلة.

أقوال الفرق الإسلامية:

لقد استدل فقهاء المذاهب الإسلامية على كون الحج مبنيّاً على الفور أو التراخي- كلّ حسب طرقه الخاصة واجتهاده- من الأدلة الخارجية كالروايات، لا من فعل الأمر ذاته. وهذا ما نراه في قراءتنا لأقوالهم الآتية.

- الشافعية:

فقد ذهبوا إلى جواز تأخير الحج وأنه مبني على التراخي، قال الشافعي: يجب الحج وجوباً على التراخي، وليس على الفور، وبهذا نفسه قال كلّ من الأوزاعي، والثوري، ومحمد بن الحسن والشيباني، واحتجوا بما يلي:

* أن آية الحج (وأتموا الحجّ والعمرة..) نزلت سنة ست بعد الهجرة، وأنّ النبيصلى الله عليه و آله تمكن من الحج سنة ثمان وسنة تسع للهجرة، حيثُ حجّ النبيصلى الله عليه و آله بأزواجه وحجّ معه أصحابه. فدلّ هذا على جواز تأخير الحج.

إذن فقد تمسك القائلون بالتراخي وعدم فورية فريضة الحج بأن آية الحج: (وللَّه على الناس حجّ البيت...) نزلت في السنة السادسة للهجرة، ولم يبادر الرسولصلى الله عليه و آله إلى أداء هذه الفريضة، وإنّما أخّرها إلى السنة العاشرة لا الثامنة أو التاسعة، فأدّاها مع زوجته وجمع عظيم من أصحابه في حجّة الوداع، التي التحق بعدها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالرفيق الأعلى. ثم الآية مطلقة عن تعيين الوقت، والفور تقييد للنص ولا دليل عليه...

أقول: وقد اجيب عن ذلك بأجوبة متعددة:

1) أنه قد حجّ سابقاً وبالتالي فهذه ليست حجة واجبة عليه حتى يبادر إليها، وإنما هي مستحبة.

2) أنه لم يستقر عليه الحج لعدم استطاعته.

ص: 114

3) أنه قد هادن قريشاً (أهل مكة) بأنه لا يأتي إليهم. ولما نزلت آية الحج سار حتى وصل الحديبية، فصدّوه، وحينئذ حلق وأحلّ. وقد ردّ هذا بأنه كان قبل عام الفتح، ولا يتم بعده، فإنهصلى الله عليه و آله قد فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة. ولم يحجصلى الله عليه و آله في هذه السنة ولا حتى في السنة التالية لها وهي التاسعة، التي حجّ فيها الإمام علي عليه السلام مع جمع من المسلمين وأدى عن الرسولصلى الله عليه و آله آيات أول سورة براءة.

4) أن تأخيره لعلّه كان لأجل دورات النسي ء وهو تأخير حرمة الشهور الحرم (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) أو شهر منها إلى شهر آخر أو شهور أخرى وهو ما كانت الجاهلية تفعله قال تعالى: (إنّما النسي ءُ زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كفروا يُحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطِئوا عدّة ما حرم اللَّهُ فيحلوا ما حرّم اللَّه...) (1)

.

لهذا فإن مسألة عدم حج النبي لا تخلو من تأمل.

ثم إنّ آيتي الحج (وللَّه على الناس حج البيت..) و (وأتموا الحج والعمرة) لا يقتضيان أن يكون امتثال الحج الواجب على الفور أو في زمنٍ معينٍ، وإنما يقتضيان إيجاب الشي ء وإيجاده فقط، فلفظة افعل تقتضي هذين الأمرين دون التراخي أو الفور.

* أن المكلف إذا أخره من سنة استطاعته إلى السنة التالية أو أكثر، ثم قام بالحج، فإنه يعدُّ مؤدياً للحج، وليس قاضياً له، وعلى هذا إجماع الفقهاء. ولو أن التأخير كان حراماً، أو فات وقته؛ لكان حجّه قضاءً لا أداءً.

وقاسوا ذلك على منصلىصلاة الظهر بعد فوات وقتها، فإنصلاته تكون قضاءً لها وليس أداءً كما في وقتها، لفوات وقتها أو لأن تأخيرها عن وقتها حرام.

* أما الرواية (من أراد الحج فليتعجّل) فإنها مع ضعفها، فإن الأمر


1- 1 التوبة: 37.

ص: 115

بالتعجيل إذا أراد المكلف ذلك، فعلّق التعجيل على إرادته، وما دام هذا الأمر معلقاً فهو خارج عن كونه على الفور؛ لأن الفورية أو التراخي يختصّان بالفعل المطلق كما ذكرنا ذلك.

ثم لو كان على الفور لما أخرهصلى الله عليه و آله بعد وجوبه.

و إذا ما أردنا عدم ترك هذا الحديث فليس لنا إلّا أن نقول: إنه أمر يرادبه الندب ...

ومع قولهم بالتراخي فإنهم يقولون: إن المستحب لمن وجب عليه الحج أن يُسارع في فعله، ودليلهم في هذا:

1- قوله تعالى: (واستبقوا الخيرات).

2- لأنه إذا أخره عرّضه للفوات بحوادث الزمان، فكان الحزم والاحتياط المبادرة إلى فعله متى توافرت شرائط وجوبه وأدائه (1) وبه قال الأوزاعي والثوري والقاضي أبو علي.

ومع أن وجوب الحج عند الشافعية على التراخي، إلّاأنهم قالوا أيضاً: إنّ من وجب عليه الحج، وتمكن من أدائه فمات بعد ذلك ولم يحج، فإنه يموت عاصياً على القول الأصح في مذهبهم؛ لأنه إنما جاز له تأخير الأداء وأنه لا يأثم بشرط سلامة العاقبة، وبشرط العزم على أداء الفريضة في المستقبل، وإمكان قيامه بالحج قبل وفاته، فلو خشي العجز أو خشي هلاك ماله حرم التأخير، فإن لم يفعل كان مفرطاً، فيكون عاصياً. أما التعجيل بالحج لمن وجب عليه فهو سنة عند الشافعي ما لم يمت، فإذا مات تبين أنه كان عاصياً من آخر سنوات الاستطاعة (2).

- الحنفية والحنابلة والمالكية وبعض الظاهرية:

وقد قالوا إن الحج مبنيٌّ على الفور واحتجوا بما يلي:

1- قوله تعالى: (وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا) فهذا أمر بالحج، والأمر يقتضي الوجوب على الفور.


1- 1 المجموع 7: 82، شرح المهذب 7: 85.
2- 2 انظر الأمّ 2: 117- 118، المجموع 7: 90.

ص: 116

2- ثم إن الاحتجاج بأن النبيصلى الله عليه و آله لم يحج بعد نزول آية الحج إلّابعد سنة أو سنتين. والجواب: لأن مكة كانت دار شرك، فكان ممنوعاً عنها.

3-.. عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «مَن أراد الحجّ فليتعجّل».

وفي هذا الحديث دليل على أن الحج واجب على الفورية.

4- روى البيهقي عن أمامة عن النبيّصلى الله عليه و آله قال: «مَن لم يحبسه مرضٌ، أوحاجةٌ ظاهرة، أو سلطان جائر، ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً».

5- روى ابن ماجة في «سننه» عن النبيّصلى الله عليه و آله أنه قال: «مَن أراد الحج فليتعجّل..».

6- ذكر الترمذي حديثاً عن علي بن أبي طالب: من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.

وإن ضعف الترمذي هذا الحديث لوجود هلال بن عبد اللَّه وهو مجهول عنده، إلّاأن الجمهور استدلوا به على الوجوب الفوري للحج.

7- ولأن المكلف لو مات، ولم يكن قد حجّ، لم يخل من أحد أمرين:

* إما أن يكون آثماً.

* وإما أن لا يكون آثماً.

فإن قلنا بالثاني، فقد أسقطنا بقولنا هذا وجوب الحجّ، حيث إن الإثم يتأتى عند ترك الواجب، والذي لا يترتب عليه الإثم هو ترك المندوب، فالحجّ إذن مندوب وليس بواجب.

وإن قلنا: إن المكلف يأثم، فقد سلمنا بأن الحج واجب على الفور.

فمن تحقق الحجّ عليه في عام فأخره يكون آثماً وإذا أداه بعد ذلك كان أداءً لاقضاء وارتفع الإثم.

كما أن هناك بعض الحنفية قالوا:

إنّ الأمر بالحج يحتمل الفور ويحتمل التراخي. وعندهم أن الحمل على الفور أحوط؛ لأن هذا يدفعه إلى المسارعة في أداء واجب الحج، فإن كان على الفور فقد عمل بالواجب، وإن كان على التراخي، فلايضرّه

ص: 117

تعجله في أدائه (1). فالاحتياط في أداء الفرائض واجب، فلو أخّر الحج عن السنة الأولى، فقد يمتدّ به العمر، وقد يموت فيفوت الفرض، وتفويت الفرض حرام فلهذا يجب على الفور من باب الاحتياط.

الهوامش:


1- 1 المغني 3: 241- 242، البدائع 2: 119، شرح سنن أبي داود 5: 157، وانظر أيضاً الموسوعة الفقهية لوزارةالأوقاف والشؤون الدينية 17: 24.

ص: 118

ص: 119

الحج في الادب العربي مختارات شعرية

ص: 120

الحج في الأدب العربي مختارات شعرية

إعداد محمّد علي المقدادي

عيد الأضحى المبارك

أحمد الغزاوي

(عيدٌ) به تتضاعفُ الأفراحُ ومناطُه الأجسام والأرواحُ

أضحى (الحجيج) به سعيداً هانئاً يزهو به الإمساء والإصباحُ

يستقبل الغفران فيه مكبّراً وتفيض منه (مشاعر) وبِطاحُ

ظفروا بعفو اللَّه واعتصموا به في كلّ ما هو طاعةٌ وفلاحُ

وكأنما هم في المناسك كلّها أرجٌ يطيب نسيمه الفواحُ

بالحمد والشكران للَّه الذي هو للعباد الواهب المنَّاحُ يتهافتون على الحطيم وزمزم في نشوة منها القلوبُ تراحُ

وقلوبهم من بهجة خفَّاقة كادت تطير وما لهنّ جناحُ

وتلجّ بالتوحيد من أعماقها وتُبكتُ الإلحاد وهو لقاحُ

تخشى من الأوزار وهي محيطة بالأرض والأخطار وهي جراحُ

ص: 121

وتطوفُ بالبيت الحرام مثابةً ترجو النجاة وللهدى تمتاحُ

وكأنما الأنفاس منها جِذوة من فرط ما عبثت بها الأتراحُ

نزلت بها الأحداث وهي كوارث شتى ومنها القهر والأقراحُ

اللَّه أكبر ما تألَّق كوكبٌ وانجابَ ليل واستهلَّصباحُ

ولينعم الحجاج بالفوز الذي هو في المعاد ذخيرة ورباحُ

ولينصرنَّ اللَّهُ كلّ موحّدٍ وله الهدى في العالمين سلاحُ لبيك

حسين عرب

لبيك ياربَّ الحجيج، جموعه وفدت عليك ترجو المثابة في حماك، وتبتغي الزلفى لديك

لبيك والآمال والإفضال، من نُعمى يديك لبّى لك العبد المطيع، وجاء مُبتهلًا إليك ***

هذي الجموعُ تَدفَّقت منها المسالك والبطاحْ قطعوا لك الغبراءَ، والدأماءَ، واجتازوا الرياحْ

متضرّعين إليك، مُستهدين، يرجون السَّماحْ لبيك في الليل البهيم، وفي الغدوِّ وفي الرَّواحْ ***

هذا الصباح يضجّ بالتهليل، يتبعه الدعاء هذا السماء يَضِجُّ بالتكبير، يبعَثُهُ الرجاء

في الأرض تلبية تفيض بها القلوب إلى السماء لبيك في حرّ الهجير وفي الصباح وفي المساء

ص: 122

بينَ المضارب في البِطاح، وفي حمى البيت الحرام عند الُمحَصَّبِ أو بأرجاء الحطيمِ أو المقام

مُهَجٌ وأرواحٌ تطوف بها كما طافَ الحَمام لبيكَ تسألك الهداية والعناية والسلام ***

سبحانك اللهم يا حامي حِمى البيتِ الأمين يا مُسبِلَ الرَّحَمات، تغسل من خطايا المذنبين

إيّاك نعبدُ مخلصين، وما بغيرك نستعين لبيك سَبَّحْنا بحمدك، فاهدِنا نهج اليقين ***

يا كاشف الضُّرِّصفحاً عن جرائِمنا لقد أحاطت بنا ياربُّ بأساءُ

نشكو إليك خطوباً لا نُطيق لها حَملًا ونحنُ بها حقاً أحقّاء

زلازلٌ تخشعُ الصُّمُّ الصِّلابُ لها وكيف تقوى على الزلزال شمّاء

أقام سبعاً يرجُّ الأرض فانصدعت عن منظرٍ منه عينُ الشمسِ عشواء

بحرٌ من النار تجري فوقَه سفُنٌ من الهضاب لها في الأرض إرساء

ترمي لها شرراً كالقَصْرِ طائشةً كأنَّها ديمةٌ تنصبُّ هطلاء

ص: 123

تنشق منها بيوتُ الصخرِ إن زفَرَت رُعباً وترعد مثلَ السَّعفِ أضواء

منها تكاثف في الجوِّ الدُّخانُ إلى أن عادت الشمسُ منه وهي دهماء

قد أثَّرت سعفةً في البَدرِ لفْحتُها فليلةُ التِّمِّ بعد النور ليلاء

تحدَّتِ النَّيِّرات السبعَ ألسُنُها بما تلاقى بها تحت الثرى الماء

وقد أحاطَ لظاها بالبروج إلى أن كادَ يُلحقها بالأرض أهواء

فيالها آيةٌ من معجزاتِ رسو ل اللَّه يعقلُها القوم الألبَّاء

فباسمك الأعظم المكنونِ إن عظُمَت منّا الذنوبُ وساءَ القلب أسواء

فاسمح وهَبْ وتفضَّل بالرضى كرماً واصفح فكلٌّ لفرطِ الجهلِ خطّاء

فقومُ يُونس لما آمنوا كشف الت - عذيب عنهم وعمَّ القومَ نعماء

ونحنُ أمّةُ هذا المصطفى ولنا منه إلى عفوِكَ المرجوِّ دعّاء

هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت محجةٌ في سبيل اللَّه بيضاء

ص: 124

فارحم وصلِّ على المختارِ ما خطبتْ على عُلا منبرِ الأوراق ورقاء ***

دار الحبيبِ أحقُّ أن تهواها وتحنُّ من طرَبٍ إلى ذكراها

وعلى الجفونِ متى هممْتَ بزَوْرةٍ ياابن الكرامِ عليك أن تغشاها فلأنتَ أنتَ إذا حللتَ بطيبةٍ وظللْتَ ترتَعُ في ظلالِ رُباها

مغنْى الجَمال مُنَى الخواطِرِ والتي سلَبَتْ عقولَ العاشقين حُلاها

لا تَحسب المِسكَ الزكيَّ كتُربِها هيهاتَ أينَ المِسكُ من رَيَّاها!

طابَتْ فإن تَبْغِ التَّطيُّبَ يا فتى فأدم على الساعات لَثْمَ ثَراها

وابشِرْ ففي الخبرِ الصحيح مُقرَّراً أنَّ الإلهَ بطابةٍ سمَّاها

واختَصَّها بالطَّيِّبين لِطيبها واختارها ودَعا إلى سُكناها

لا كالمدينةِ منزلٌ وكفى لها شَرفاً حلولُ محمَّدٍ بِفناها

حظيَتْ بهجرةِ خيرِ من وَطِئَ الثَّرى وأجلِّهم قدراً فكيفَ تَراها

ص: 125

كلُّ البلادِ إذا ذُكِرْنَ (1) كأحْرُفٍ في اسمِ المدينةِ لا خَلَت معناها

حاشا مُسمَّى القُدْسِ فهي قريبةٌمنها ومكةَ إنّها إيّاها

لا فرقَ (2) إلا أنَّ ثَمَّ لطيفةً مهما بَدَتْ يجلُو الظلامَ سَناها

جزم الجميعُ بأنَّ خيرَ الأرضِ ما قدْ حاطَ ذاتَ المصطفى وَحَوَاها

ونَعَمْ لقدصدَقوا بساكِنها عَلَتْ كالنفسِ حينَ زَكَتْ زكا مأْوَاها

وبهذه ظَهرتْ مزيَّةُ طيبةٍ فغدَتْ وكلُّ الفضلِ في معناها

حتى لقد خُصَّت بروضةِ جنَّةٍ اللَّهُ شرَّفها بها وحبَاها

ما بينَ قبرٍ للنبيِّ ومنبرٍ حيّا الإلهُ رسولَه وسقَاها

هذي محاسِنُها فهل من عاشقٍ كَلِفٍ شحيحٍ باخِلٍ بنواها

إنِّي لأرهبُ من توقُّعِ بينِها فيظلَّ قلبي موجَعاً أوَّاها

ولقلَّما أبصرتُ حالَ مودِّعٍ إلا رَثَتْ نفسي له وشجاها


1- 1 في الوفاء وسبل الهدى «ذكرت».
2- 2 في الوفاء «لا غرو».

ص: 126

فَلَكَمْ أراكم قافِلينَ جماعةً في إثرِ أُخرى طالبينَ سِواها

قَسَماً لقد أذكى فؤادي بينكم ناراً وفجَّرَ مُقلَتي ميَّاها

إن كان يُعجزُكم طِلابُ فضيلةٍ فالخيرُ أجمعُه لدى مثواها

أو خِفتُمُ ضرَّاءَها (1)فتأمَّلوا بركاتِ بُلغتها فما أزكاها

أُفٍّ لِمَن يبغي الكثير لشهوةٍ ورفاهةٍ لم يدْرِ ما عُقباها

والعيش ما يكفي وليس هو الذي يُطغي النفوسَ ولا خسيسَ مُناها

ياربِّ أسأل منك فضلَ قناعةٍ بيسيرها وتحبَّباً لِحِماها

ورضاكَ عنِّي دائِماً ولزومَها حتى تُوافي مُهجتي أُخراها

فَإِنِ الذي أعْطَيتَ نفسي سُؤلها وقَبلتَ دعْوتَها فيا بُشراها

بجوار أوفى العالمينَ بذمَّةٍ وأَعزِّ منْ بالقُرْب منه يُبَاهى

مَن جاء بالآياتِ والنورِ الذي داوى القلوب من العَمى (2) فشفاها


1- 1 في الوفاء وسُبل الهدى ضراً.
2- 2 قال محقق تحقيق النصرة: في نسخة آ والأصل: الأذى.

ص: 127

أوْلى الأنام بخُطَّةِ الشَّرف التي تُدعى الوسيلة خيرُ من يُعطاها

إنسانُ عَين الكونِ سرُّ وجوده (1) «يس» إكسيرُ المحامدِ «طه» (2)

حَسبي فَلَسْتُ أفي بذكرصفاتِه ولو أنَّ لي عَددَ الحصى أفواها (3)

كَثُرتْ محاسنُه فأعَجزَ حصرها وغَدتْ وما نُلقِي لها أشباها

إنِّي اهتديتُ من الكتاب بآيةٍ فعلمتُ أنَّ عُلاهُ ليس يُضاهى

ورأيتُ فضلَ العالمينَ مُحدَّداً وفضائلُ المختارة لا تتناهى

كيف السبيلُ إلى تَقَصِّي مدح مَن قال الإلهُ له- وحسبُك جاها-

إنّ الَّذينَ يُبايعونك إنَّما- فيما يقولُ- يُبايعون اللَّه؟!

هذا الفخارُ فهل سمعتَ بمثلِهِ واهاً لنشأتهِ الكريمة وَاها!

صلُّوا عليهِ وسلِّموا؛ فبذلِكُم تهدى النفوسُ لرُشْدِها وغِنَاها (4)

صلّى عليه اللَّه غيرَ مُقيَّدٍ وعليه من بركاتِهِ أنماها


1- 1 انظر مجموع الفتاوى 11: 94- 98.
2- 2 انظر الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقةصلى الله عليه و سلم 30، 204، 272 ودلائل النبوة للبيهقي 1: 158، 159 حيث ذكرهما رحمه الله في أسمائهصلى الله عليه و سلم، والإشارة للحافظ مغلطاي، وقد حققته والحمد للَّه وحده، وانظر الدر المنثور أيضاً عند الآيتين، من سورة طه، يس، واللَّه أعلم.
3- 3 في التحقيق «أفداها» ولعله من المطبعة.
4- 4 في التحقيق «وعناها» بالعين المهملة، ولعله من المطبعة أيضاً.

ص: 128

وعلى الأكابرِ آلهِ سُرُجِ الهُدى أحبِبْ (1) بعترتِهِ ومَنْ والاها

وكذا السَّلامُ عليهِ ثمَّ عليهم وعلى عصابتهِ التي زَكَّاها

أعني الكِرامَ أُولي النُّهى أصحابَهُ فِئة التُّقى ومَن اهتدى بِهُداها

والحمدُ للَّه الكريمِ وهذهِ نجَزَتْ وظنِّي أنَّهُ يرضاها الهوامش:

وأزواجُهُ أُمهاتُهم امُّ سلمة


1- 1 في سبل الهدى، والفضائل «أكرم».

ص: 129

وأزواجُهُ أُمهاتُهم امُّ سلمة

حسن الحاج

إنّ الكتابة عن امّ المؤمنين امّ سلمة وحياتها المضيئة، كتابة عن أطهر بيت عرفته الدُّنيا، وأعظم مكانصنعته السماء وباركته.. وكيف لا يكون كذلك وقد رعته يدُ الغيب؛ ليكون مبعث الطهر كلّه ونبع الخير كلّه، ومصدر العطاء كلّه، ومشعلًا للهداية، ومدرسةً للخُلق الكريم والأدب الرفيع وقدوةً ورحمةً للعالمين...

لقد كان هذا البيت مأوى الرسالة ومهبط الوحي، ومنزل القرآن ومبعث النور، الذي حملهصاحب هذا البيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الذي وصفه اللَّه تعالى في كتابه الكريم: وإنّك لعلى خُلق عظيم فكان هذا الخُلق يواكب البيت الأوّل للدين الجديد.. وصارت عفته محطّ اعجاب مَنْ حوله وصار القدوة لهم والاسوة الحسنة قربوا أم بعدوا عنه. ولما يتركه من آثار خطيرة- إذا ماعصفت حوله المغريات..

على مسيرة الرسالة والرساليين.. تولته السماء، وراحت تُرسل آياتها الكريمة مبينة أهمية هذا البيت ومرشدة نساءه إلى مكانتهنّ ودورهنّ الرسالي ووظيفتهنّ. وفي الوقت الذي ضاعفت السماء العذاب لمن تأتي منهنّ بفاحشة، جعلت الأجر مرّتين

ص: 130

لعملهنّ الصالح؛ لخطورة تواجدهنّ في هذا البيت وأنّهنّ القدوة، التي يجب أن تكونصالحة، والاسوة التي يجب أن تتحلّى بأرقى درجات الإيمان و الخلق الكريم..

يانساء النبيّ من يأتِ منكنّ بفاحشة مبيِّنة يضاعف لها العذاب ضعفين.. ومن يقنت منكُنّ للَّه ورسوله وتعملصالحاً نؤتها أجرها مرّتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً (1)

.

ثمّ راحت السماء تبيّن مكانتهنّ، وخطورتهم وتكاليفهن ما دامت قد ارتبطت حياتهنّ بهذا البيت الكريم نساءً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يانساء النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمعُ الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفاً وقرن في بيوتكنّ ولا تبرجن تبرجَ الجاهليةِ الاولى وأقمنَ الصلاة وآتينَ الزكاة وأطعنَ اللَّه ورسوله (2)

وكان لابدّ لهذا الطهر ولتلكَ العفة من ستر فكان الحجاب ياأيُّها النبيُّ قل لأزواجكَ.. يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ.. (3)

.

لقد كانت امُّ سلمة أوّل نساء هذا البيت- بعد امّ المؤمنين خديجة بنت خويلد- رضوان اللَّه عليها- وعياً لدورها الرسالي، كما كانت أكثر نساء النبي التزاماً بهذا كلّه وأسرعهنّ طاعة للَّه ورسوله، وعاشت حياتها الإيمانية ومسؤوليتها الرسالية ووظيفتها الشرعية على أكمل وجه حتّى وفّقت لأن تكون أفضل نسائهصلى الله عليه و آله وأصدقهنّ وأخلصهنّ في تحمّل أمانة هذا البيت الكريم ورسالته.. بعد أن قُدر لها أن تكون من نسائهصلى الله عليه و آله، وعاشت في كنفه، وظلّت في بيته كأتقى نسائه وأفضلهنّ بعد خديجة رضوان اللَّه عليها طهارةً وعفّةً وإيماناً وجهاداً وعلماً.. فقد راحت تتغذى من علمهصلى الله عليه و آله وأدبه وسنّته، وتستقي من مصدر الوحي الذي مافارق منزلها.. وبرزت امّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم وهو وسام منحته السماء.. وحفظت امُّ سلمة ذلك ورعته ووعته مسؤوليةً كُبرى، وراحت تكثر الشكر للَّه تعالى على هذه النعمة.. مما جعلها مثلًا أعلى في إيمانها وعبادتها وورعها.. فنالت بذلكَ حبّ اللَّه تعالى وحبّ رسولهصلى الله عليه و آله وأهل بيته


1- 1 سورة الأحزاب: 31.
2- 2 سورة الأحزاب: 32- 33.
3- 3 سورة الأحزاب: 59.

ص: 131

الطيبين، والمؤمنين جميعاً على مرّ الأجيال.

لقد كانت أمّ سلمة ترى هذه الامومة تكليفاً عظيماً ومسؤولية كبيرة لها حقوقها وعليها واجبات كثيرة لا بدّ من رعايتها، فكانت بحقّ أمّاً للمؤمنين بحنانها وشفقتها ورعايتها لهم واهتمامها بهم وخوفها عليهم وحرصها لهم ...

لقد كانت- وكما عودتنا في حياتها المباركة- المبادرة إلى كلّ مايرضي اللَّه تعالى ورسوله ولم تتطاول عليهصلى الله عليه و آله أبداً طيلة حياتها معه، كما تطاولت عليه بعضُ نسائه، وكان هذا سبباً لأذيتهصلى الله عليه و آله، فحينما رأى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ بعض نسائه كنّ يخلقن لهُ المتاعب، ومطالبتهنّ بالنفقة والزينة حتى ورد قول بعضهنّ لهُ: لعلّك ترى أنّك إن طلقتنا أن لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوجوننا.. وهذا الموقف دفع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلى أن يعتزلهنّ تسعة وعشرين يوماً، فكان موقفهنّ هذا سبباً لنزول آية التخيير ياأيُّها النبيّ قل لأزواجكَ إن كُنتنّ تردن الحياة الدُّنيا وزينتها فتعالينَ امتعكنّ واسرحكنّ سراحاً جميلًا وإن كنتنّ تردن اللَّه ورسوله والدار الآخرة فإنّ اللَّه أعدّ للمحسناتِ منكنّ أجراً عظيماً (1)

.

فبادرت هنا امُّ سلمة قائلةً: قد اخترتُ اللَّه ورسوله، فنالت بذلكَ سبق الاختيار هذا وفضله وأجره.. ثمّ قامت بعدها بقية نسائهصلى الله عليه و آله، فعانقنه وقلنَ مثل الذي قالت امُّ سلمة، ولم تتخلف عن هذا إلّاواحدة وهي فاطمة بنت الضحّاك، فإنّها اختارت الدّنيا، ففارقها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وبقيت في شقاء طول حياتها (2).

في بيتٍ كريم:

هند (وقيل رملة وهو ضعيف) بنت سهيل أبي أمية بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم القرشية، وكان أبوها جواداً كريماً سخياً، عرف بذلكَ في الجاهلية ولقبته العرب بزاد الركب حين كان هذا اللقب لا يُطلق إلّاعلى ثلاثة أو أربعة أشخاص، راحت الأمثال تضرب بجودهم، وسارت بذلكَ الركبان، كان هو أحدهم. فإذا ماكان أحدهم في سفر فإنّ رفقاء سفره مهما كثروا يتحمّل عنهم


1- 1 سورة الأحزاب: 28- 29.
2- 2 البحار 22: 204، الميزان في تفسير الآية.

ص: 132

زادهم وطعامهم طيلة الرحلة التي جمعتهم، ويرفض أن يحمل رفقاؤه شيئاً من ذلكَ.

قالصاحب لسان العرب في مادة زود (1)..

وأزواد الركب من قريش أبو أمية بن المغيرة، والأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى، ومسافر بن أبي عمرو بن أمية، وكانوا إذا سافروا، فخرج معهم الناس، فلم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا، يكفونهم ويغنونهم. وهناك من يقول:

إنهم أربعة، فأضاف زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد (2) أمّا أمّها فهي عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة أو خذيمة بن علقمة الكنانية من قبائل بني فراس الأشراف الأمجاد. وعلقمة جدّها كان يلقب بجذل الطعان، وذكرته كتب التأريخ بأنه رجل كريم يعطي ولا يبخل، يجود ولا يمنع.

وهناك من يقول: إنّ أمّها هي عاتكة بنت عبد المطلب بن عبد مناف عمّة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. وقال آخر: إنّها ليست بنت عاتكة هذه وإنمّا هي بنت زوجها.

وعلى فرض كونها بنتاً لعاتكة بنت عبد المطلب أو بنتاً لزوج عاتكة فهي اخت لكلّ من عبد اللَّه وزهير ابني عمة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ...

كما أنّها اخت لعمار بن ياسر الصحابي الجليل من الرضاعة، وكانت قد تزوجت أخاً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله من الرضاعة أرضعتهما ثويبة، مولاة أبي لهب وترباً له وابن عمته برّة بنت عبد المطلب، وأحد أشراف بني مخزوم رأياً وشجاعةً وكرماً وجوداً، من المسلمين الأوائل وممن هاجر الهجرتين وهو أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم، وكان ذاك قبل أن يمنّ اللَّه تعالى عليها لتكون أمّاً للمؤمنين بنصّ القرآن الكريم، بعد أن تلطّف اللَّه تعالى عليها لتكون زوجة لحبيبه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

وكانت- كما يقول الذهبي- من أجمل النساء، وأشرفهنّ نسباً.


1- 1 ابن منظور في لسان العرب 4: 181. وغيره من مصادر التاريخ.
2- 2 ذكر ذلك في الهامشصاحب كتاب نساء أهل البيت عن المحبر 137 وعن المنمق: 368- 369.

ص: 133

قالت امُّ المؤمنين عائشة- عن جمال امّ سلمة-: «لمّا تزوّج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله «امّ سلمة» حزنتُ حزناً شديداً لما ذكر لنا من جمالها، فتلطفتُ حتى رأيتها، فرأيتُ أضعاف ماوُصفت به».

إذن فكلّ من أصلها العريق ومنبتها الكريم أضفى على حياتهاصفات عظيمة وخلقاً كريماً واكبها طيلة حياتها المباركة وميّزها عن غيرها من النساء..

يقول عنها أحمد خليل جمعة في موسوعته القيمة (نساء أهل البيت): لو أَلقينا الأضواء على حياة امّ سلمة قبيل الإسلام؛ لألفينا أنّها امرأة ذات شرف وطهر في أهلها، وذات نسب مُعرِقٍ في المعالي، ومنبتٍ كريم حسيب في قومها بني مخزوم، ثمّ هي بعد ذلكَ كلّه، ابنة واحد من كرماء قريش، وأنداهم كفّاً، وأجودهم عطاءً، فأبوها زاد الركب أحد الأجواد الذين سارت الأمثال والركبان بالحديث عن جودهم، فكانوا إذا سافروا، وخرجَ معهم الناس، لم يتخذوا زاداً معهم، ولم يوقدوا ناراً لهم، فيكفونهم ويغنونهم.

ولا ريب أنّ هند بنت أبي اميّة، قد تأثرت بهذه البيئة الكريمة، التي عاشتها في مطلع فجر حياتها، وأرت مارأت من مكانة أبيها وكرامته وكرمه بين الناس، فلا عجب أن تكون هي الاخرى، ذات يد معطاء، ونفسصافية، تعرف مكامنَ الرحمة، فتفجّر البّر في نفوس الناس تفجيراً (1).

إسلامها وهجرتها:

في بداية نور الإسلام ورغم عناد الوليد بن المغيرة، زعيم بني مخزوم، أسلمت امُّ سلمة وزوجُها.. وبعد ما ثارت حفيظة مشركي مكة وعظم غيضهم واشتد أذاهم للمسلمين، هاجرت معه إلى الحبشة فكانا أوّل المهاجرين، فنالت بذلكَ وسام أولى المهاجرات.

يقول النووي في تهذيبه نقلًا عن ابن الأثير: أوّل مهاجرة من النساء امُّ سلمة (2). وماإن عادت وزوجها إلى مكّة من الحبشة مكان هجرتها الأولى حتى


1- 1 أحمد خليل جمعة- نساء أهل البيت: 225- 226.
2- 2 تهذيب النووي 2: 362.

ص: 134

استعدا للهجرة مرّة اخرى إلى المدينة بعد أن توفي أبو طالب عمّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وحاميه، فعادت بذلكَ قريش إلى اضطهاد المسلمين، فصدر أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بالهجرة إلى المدينة، فكان زوجها أبو سلمة أوّل المهاجرين حيث هاجر قبل بيعة العقبة بسنة، وقد حلّت مصيبة مؤلمة بهذه الاسرة الكريمة.

تقول الرواية عن امّ سلمة:

قالت: لما أجمع أبو سلمة على الخروج الأوّل إلى المدينة رحّل لي بعيره، ثمّ حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثمّ خرجَ يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة.. قاموا إليه، فقالوا: هذه نفسكَ غلبتنا عليها، أرأيتَصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبد أسد، رهط أبي سلمة، قالوا: لا واللَّه لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها منصاحبنا، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم، حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو أسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلقَ زوجي أبو سلمة إلى المدينة، ففرقَ بيني وبين زوجي وبين ابني. فكنتُ أخرج كلّ غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمّي أحد بني المغيرة، فرأى مابي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تحرجون من هذهِ المسكينة، فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها؟ فقالوا لي: ألحقي بزوجك إن شئتِ، وردّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني.

فارتحلتُ بعيري، ثمّ أخذتُ ابني فوضعته في حجري، ثمّ خرجتُ اريد زوجي بالمدينة، ومامعي أحد من خلق اللَّه.. حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة [وكان مشركاً] أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يابنت أبي اميّة؟

قالت: فقلتُ: أريد زوجي بالمدينة.

ص: 135

قال: أوما معك أحد؟

فقلتُ: لا واللَّه إلّااللَّه وابني هذا.

قال: واللَّه مالك من مترك.

فأخذ خطام البعير، فانطلقَ يهوي بي، فواللَّه ماصحبتُ رجلًا من العرب قط أرى أنه كان أكرمَ منه، حتى أقدمني المدينة.

فلما نظر إلى قرية بني عامر بن عوف بقباء قال: زوجك في هذهِ القرية- وكان أبو سلمة بها نازلًا- فأدخليها على بركة اللَّه. ثمّ انصرف راجعاً إلى مكّة، وهنا كانت تقول امُّ سلمة: واللَّه ماأعلمُ أهل بيت في الإسلام أصابهم ماأصاب آل أبي سلمة، ومارأيتُصاحباً قطّ أكرم من عثمان بن طلحة، وهناك رواية أخرى تحمل كلاماً آخر لها تقول فيه:

«فواللَّه ماصحبت رجلًا من العرب قط أكرم منه، ولا أشرف منه، كان إذا بلغ منزلًا من المنازل ينيخ بعيري، ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض، دنا اليه وحطّ عنه رحله، واقتاده إلى شجرة وقيده فيها ... ثم يتنحى عني إلى شجرة أخرى فيستريح جوارها، فإذا حان الرواح، قام إلى بعيري، فإذا ركبت، أخذ خطامه وقاده. (وقد أسلمَ في الحديبية وهاجر إلى المدينة، ثم شهد فتح مكّة، وتسلمّ مفتاح الكعبة من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله). هذا عن هجرتها إلى المدينة.

أمّا عن هجرتها الاولى إلى الحبشة وكانت برفقة زوجها أبي سلمة، فقد تفرّدت روايتها عن تلك الهجرة بدقة وصفها لها وللدور العظيم الذي أدّاه جعفر بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه. تقول رواية امّ سلمة التي اتسمت بقوة بيانها وفصاحتها ودقة تصويرها لأحداثها حتى عدّت روايتها للهجرة من أوثق مصادر الهجرة.

تقول روايتها:

لما ضاقت على النبيصلى الله عليه و آله مكّة، وأوذي أصحابه، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم

ص: 136

من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في منعة من قومه ومن عمّه، لا يصل إليه شي ء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل اللَّه لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه.

فخرجنا إليها أرسالًا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش ظلماً.

فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، اجتمعوا على أن يبعثوا إليه فينا؛ ليخرجنا من بلاده، وليردنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبد اللَّه بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يَدَعُوا منهم رجلًا إلّابعثوا له هدية على حِدَة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثمّ ادفعوا إليه هداياه، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

أقول: كانت تخشى قريش أن ينطلق الحقّ من لسانهم ووقع الذي كانت تخشاه.

فقدما علينا، فلم يبق بطريق من بطارقته إلّاقدّموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنّا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم، فبعثَنا قومُهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل، ثم قدّموا إلى النجاشي هداياه، فكان من أحبّ ما يهدى إليه من مكّة الأَدَم. فلما أدخلوا عليه هداياه، فقالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لَجأُوا إلى بلادك، فبَعَثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فهم أعلى بهم (1) عيناً.

فقالت بطارقته:صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم وكانوا هم أعلى بهم، فإنهم لم يدخلوا في دينك فيمنعهم أملك. فغضب، ثمّ قال: لا، لعمر اللَّه، لا أردهم


1- 1.. وأعلى بهم عيناً أي أبصر بهم، وأعلم بحالهم. اللسان: علا.

ص: 137

عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لَجأُوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عيناً فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم- ولم يكن شي ء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبداللَّه بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم- فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقال: ماذا تقولون؟

فقالوا: ماذا نقول؟! نقول واللَّه ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبيناصلى الله عليه و آله كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي:

ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانيه، فما هذا الدين؟

.. أيها الملك كنّا قوماً على الشرك، نعبد الأوثان، ونأكل الميتة، ونسي ء الجوار، ونستحلّ المحارم.. وغيرها، لا نحلّ شيئاً ولا نحرّمه، فبعث اللَّه إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءَه وصدقَه وأمانتَه، فدعانا إلى أن نعبد اللَّه وحده لا شريك له، ونصلَ الرحم، ونُحسِنَ الجوار، ونصلّي للَّه تعالى، ونصوم له، ولا نعبد غيره، فقال:

هل معك شي ء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم، فقال: هلمّ فاتلُ عليَّ ما جاء به. فقرأ عليهصدراً من كهيعص فبكى واللَّه النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى؛ انطلقوا راشدين، لا، واللَّه لا أردهم عليهم، ولا أنعمكم عيناً، فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبداللَّه بن أبي ربيعة، فقال عمرو بن العاص: واللَّه لأثنينه غداً بما أستأصل به خضراءهم (1). فلأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبداللَّه بن أبي ربيعة: لا تفعل.. فإنهم إن كانوا خالفونا فإن لهم رحماً


1- 1 خضراءهم: شجرتهم التي منها تفرعوا.

ص: 138

ولهم حقاً، فقال: واللَّه لأفعلن، فلما كان الغد دخل عليه، فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولًا عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم، ولم ينزل بنا مثلها. فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟

فقالوا: نقول واللَّه الذي قاله اللَّه تعالى، والذي أمرنا به نبيناصلى الله عليه و آله أن نقول فيه: فدخلوا عليه وعنده بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

نقول: هو عبدُ اللَّه ورسوله وكلمتهُ وروحهُ ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه، فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد (1)، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم واللَّه، اذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي- والشيوم: الآمنون- مَن سبّكم غرم، ثمّ من سبّكم غرم، ثمّ مَنْ سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دَبْراً وأني آذيتُ رجلًا منكم- والدبر بلسانهم: الذهب- فواللَّه ما أخذ اللَّه تعالى مني الرشوة حين ردّ علي ملكي فآخذ الرشوة منه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة إلي بها، وأخرجا من بلادي. فرجعا مقبوحَيْن مردوداً عليهما ما جاءا به.

فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار.

فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فواللَّه ما علمنا حزناً حزنّا قط كان أشدّ منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو اللَّه ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً... فهزم اللَّه ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه... فواللَّه ما علمنا فرحنا بشي ء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثمّ أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام... (2) وأخيراً عادت امّ سلمة وزوجها ومعهما أولادهما (زينب وسلمة وعمر ودرة) الذين ولدوا هناك- على قولٍ- في دار هجرتها الحبشة، عادوا جميعاً إلى مكّة، وكانت عودة المهاجرين إلى مكّة إمّا خفاءً أو بجوار أحدٍ من وجوه مكّة بعد


1- 1 العويد: أي مقدار هذا العود الصغير.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 6: 63، 64، 65.

ص: 139

أن وردتهم أخبار بأنّ أهل مكة قد أعلنوا إسلامهم وآمنوا برسالة محمدصلى الله عليه و آله، فلما وصلوا مكة عرفوا أن لاصحة لما سمعوا، فدخلوها متخفين أو لائذين بوجه من وجوه أهل مكة، فدخلت أم سلمة وزوجها في جوار أبي طالب بن عبدالمطلب وهو خاله.

وهناك من يقول: إنها وزوجها هاجرت هجرتين إلى الحبشة: الأولى في رجب سنة خمس من المبعث، والثانية بعدها بعدّة شهور بعد أن رجع المسلمون المهاجرون ظانين إسلام قريش، فاشتد أذى قريش لهم، فأذن لهم الرسولصلى الله عليه و آله بالهجرة مرة ثانية. (1)رحيل «أبو سلمة»

كانصحابياً مجاهداً هاجر الهجرتين، وشهد بدراً وقد أبلى فيها بلاءً حسناً، وبعدها شهد احداً فلم يقل بلاؤهُ فيها عن بدر، حتى ثخن بالجراح، فشفي منها إلّا جرح كان غائراً في عضده اندمل ظاهره دون باطنه، ومع هذا فقد استعمله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على المدينة مرّةً، ومرّة اخرى قاد بأمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سرية، ومعه مائة وخمسون رجلًا إلى قطن وهو جبل لبني أسد في نجد. نترك ابنه عمر يشرح لنا كلّ ذلك حيث قال: خرج أبي إلى أحد فرماه أبو سلمة الجشمي في عضده بسهم فمكث شهراً يداوى من جرحه ثم برئ الجرح. وبعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أبي إلى قطن (وهي جبل من أرض بني أسد ناحية فيد وفي الطبقات: بَيْد (2)). في المحرم، على رأس خمسة وثلاثين شهراً، فغاب تسعاً وعشرين ليلة ثم رجع. فدخل المدينة لثمان خلون منصفر سنة اربع. والجرح منتقض، فمات منه لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة أربع من الهجرة. (3) لقد كان الهدف من غزوة أبي سلمة هو منع بني أسد من الهجوم على المسلمين في المدينة بعد أن بلغه- أي بلغ رسول اللَّه- أن قائدي بني أسد يحرضان قومهما لغزو المدينة ونهب أموال المسلمين فيها. (4) فكان لحملته دور كبير في إعادة ماخسره


1- 1 انظر طبقات ابن سعد 1: 203- 207.
2- 2 معجم البلدان 4: 374.
3- 3 الطبقات 8: 87- 88.
4- 4 غزوات الرسول، لمحمود شيت خطاب.

ص: 140

المسلمون في احد من معنويات بعد أن نالت النصر على أعدائهم..

وراح هذا الصحابي الجليل يواصل جهاده في الوقت الذي لم يندمل جرحه الذي راح هو الآخر يتسع، مما دفع أبو سلمة إلى أن يلازم فراشه.

مما أنعمَ به اللَّه تعالى على هذا المجاهد أن يكون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو أخوه من الرضاعة وابن عمته وحبيبه حاضراً لحظات حياته الأخيرة يودعه ويسبل يديه ويغلق عينيه ويدعو له:

«اللهُمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المقربين..»

ثمّصلّى عليه. ويروى أنّ الرسولصلى الله عليه و آله كبّر في هذه الصلاة تسع تكبيرات، ولمّا انتهى من الصلاة سأله أصحابه عن ذلك فقال: لو كبرتُ على أبي سلمة ألفاً لكان أهلًا لذلك.

الزواج المبارك:

رحل عنها أبو سلمة، وتركها ذات عيال، أربعة أولاد: سلمة وقد وُلِدَ بالحبشة، وعمر ودرة (رقية) وبرة وقد غيّر اسمها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إلى زينب، قائلًا:

لا تزكوا أنفسكم، اللَّه أعلمُ بأهل البر منك (منكم)، سموها زينب.

وقد كبر سنّها، وراحت- مع كلّ آلامها على زوجها، الذي ماجفّت دموعها لفقده، فقد كانت تحبّه حبّاً عظيماً- ترعىصغارها، وتتذكر ماكان يوصيها به أبو سلمة في مرضه الذي توفي فيه، عبر حوارٍ دار بين الاثنين أحدهما كان مسجّى والآخر يذرفُ دموعه بألم وحرقة ومرارة.

قالت امُّ سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنّة، ثمّ لم تتزوج بعده إلّاجمع اللَّه بينهما في الجنّة، وكذلك إذا ماتت المرأة وبقي الرجل بعدها.

فتعال اعاهدك على ألّا تتزوج بعدي، ولا أتزوج بعدك.

قال أبو سلمة: أ تطيعينني؟

قلت: مااستأمرتك إلّاوأنا أريد أن أطيعك.

ص: 141

قال: فإن متُّ فتزوجي بعدي، ثمّ قال: اللهُمّ ارزق امَّ سلمة بعدي رجلًا خيراً مني لا يُحزنها ولا يؤذيها (1).

وإني لأذكر ماكان يقوله أبو سلمة ويدعو به وهو ماتعلمهُ من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، اللهُمّ عندكَ أحتسب مصيبتي، فأجرني فيها، وأبدلني بها ماهو خير منها.

وتقول امُّ سلمة: لما احتضر أبو سلمة قال: اللهُمّ اخلفني في أهلي بخير. فلما قبض قلتُ: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، اللهُمّ أحتسب عندكَ مصيبتي. وأردت أن أقول (وهنا توقفت امُّ سلمة قليلًا قبل أن تقول): وأبدلني بها خيراً منها، فقلت:

ومن خير من أبي سلمة؟!

وفي رواية أنّها قالت: من هذا الفتى الذي هو خيرٌ من أبي سلمة؟ وفي اخرى قالت: أي المسلمين خيرٌ من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول اللَّه؟!

قالت: فما زلتُ حتى قلتها (2).

وهي في هذا الحال- وبعد أن انتهت عدّتها- تقدّم لخطبتها بعض كبار الصحابة: أبو بكر، فلم توافق عليهِ، وجاءها خاطباً عمر بن الخطاب وهو من أرحامها، يلتقي نسبه ونسبها في كعب، فعمر بن نفيل بن عبد العزى... بن عدي ابن كعب. وأمّا امُّ سلمة فهي بنت أبي اميّة... بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب.

في حين وجدتُ أنّ موسوعة أمّهات المؤمنين قد ذكرت أنّ في زاد المعاد في ج 1ص 41 أنّ امّ سلمة خالة عمر بن الخطاب، فامّه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة، وامُّ سلمة بنت سهيل بن المغيرة.

أقول: إنها هنا- وبحسب ما ذكره- ابنت عمّ امّه وليست خالته، ولهذا تقدّم لخطبتها (3) فردّته بقوة.

أرسل لها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من يبلغها برغبته في الزواج منها.

تقول: أرسل لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حاطب بن أبي بلتعة يخطبني لهُ.


1- 1 الطبقات 8: 87- 88.
2- 2 الطبقات 8: 78.
3- 3 موسوعة امهات المؤمنين، هامش: 143.

ص: 142

فقلتُ: مرحباً برسول اللَّه وبرسوله. أخبر رسول اللَّه أني فيّ خلال، لا ينبغي لي أن أتزوّج رسول اللَّه. وراحت بكلّ أدب وحياء وعفّة تبيِّن لهُ هذه الصفات.

وهي: أني أمرأة مُصبية. أي ذات أولاد. وأني غَيْرى. وأنه ليس أحد من أوليائي شاهداً. وأنا امرأة قد دخلت في السن...

فبعثَ لها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أمّا قولك: إني مُصبية، فإنّ اللَّه سيكفيكصبيانك.

وأمّا قولك: إني غيرى، فسأدعو اللَّه أن يُذهبَ عنك غيرتَك. وأمّا الأولياء، فليس أحد منهم، شاهد أو غائب، إلّاسيرضاني (1). وأمّا ماذكرتِ من السن، فقد أصابني مثل الذي أصابك.

فتزوجها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في السنة الرابعة وقيل الثالثة في العشرالأواخر من شهر شوال، وقد زوّجه إيّاها سلمة بن أبي سلمة ابنها، وأصدقها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فِراشاً حشوه ليف، وخدماً وصَحفَةً ومِجَشةً (2).

وبذلكَصارت امُّ سلمة زوجة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وولجت بيته المبارك، وكانت غرفتها غرفة امّ المؤمنين زينب بنت خزيمة، التي توفيت في أوّل العام الرابع للهجرة، وهي أول من توفي من نسائه اللاتي كنّ عنده بعد أمّ المؤمنين خديجة.

وفي أوّل يوم زواجها أخذت أمّ سلمة تتفحص حجرتها؛ لتعرف مابها، قالت:... فإذا جرة فاطلعت فيها، فإذا فيها شي ء من شعير، وإذا برحى، وبرمة، وقدر، فنظرتُ فإذا فيها كعب من إهالة، فأخذت ذلك الشعير وطحنته، ثمّ عصدته في البرمة، وأخذت الكعب من الإهالة فأدمت به، فكان ذلك طعام رسول اللَّه، وطعام أهله ليلة عرسه. (3) وكانت المكافأة التي قدّمها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لسلمة على ماقدمه هذا الأخير في زواج امّه من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن زوّجه رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله أمامةَ بنت حمزة سيد الشهداء، وأقبلصلى الله عليه و آله على أصحابه قائلًا: ترون كافأته؟

حبّها للجهاد:

لم يكلف الإسلام المرأة بالقتال وجنّبها إياه، وإن تحمّلت أعباءَه وآثاره، فقد


1- 1 الطبقات 8: 87.
2- 2 السيرة النبوية لابن هشام 4: 645. المجشة: الرحى، يُقال: جششتُ الطعام في الرحى إذا طحنته طحناً غليظاً، ومنه الجشيش والجشيشة.
3- 3 الطبقات 8: 92.

ص: 143

كانت المرأة المسلمة تبادر إلى الخطوط الخلفية للمعارك وحتى الأمامية أحياناً، لتضميد الجرحى ومداواتهم وتجهيز المقاتلين بما يحتاجون إليه من ماءٍ وطعام وعدّةٍ وسداد.

وامُّ المؤمنين امُّ سلمة كانت واحدة من اللواتي قمن بدورهنّ هذا، ونالت شرف الجهاد والمجاهدين بعد أنصحبت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في غزواته ومعاركه في غزوة المريسيع وفي فتح خيبر وفي حصاره للطائف وغزوة هوازن وثقيف، كما أنّها رافقته في رحلته الاولى إلى مكّة حيث تمّصلح الحديبية.

طالما تمنت هذه المرأة مع غيرها من المؤمنات أن يكلّفهنّ اللَّه سبحانه وتعالى بالجهاد إلى جنب إخوانهنّ من المؤمنين طمعاً في أجره العظيم وثوابه الجزيل وشرفه الكبير في الدُّنيا والآخرة فقلن:

(ليتَ اللَّه كتب علينا الجهاد، كما كتب على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل مالهم).

فكان قولهنّ هذا وامنيتهنّ سبباً في نزول الآية الكريمة: ولا تتمنوا مافضّل اللَّه بهِ بعضكم على بعض (1)

.

منزلها مهبط الوحي:

كانت حجرتها مهبط الوحي، فقد وردَ أن من مكارمها أنها رأت جبرئيل عليه السلام وهو فيصورة دحية الكلبي، فقد ورد عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضوان اللَّه عليه حيث قال: انبئتُ أنّ جبرئيل عليه السلام أتى النبيَّصلى الله عليه و آله وهو عند امّ سلمة، فجعل يتحدّث، ثمّ قام، فقال النبيّصلى الله عليه و آله لأمِّ سلمة: ومَن هذا؟

قالت: هذا دحية الكلبي.

قالت: واللَّه ماحسبتُه إلّاإيّاه. (2)

ومن مكارمها أيضاً نزول آية التطهير إنما يريدُ اللَّهُ ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهركم تطهيراً في بيتها. فبعد أن جمع رسولُ اللَّه كلّاً من علي


1- 1 أعلام النساء 5: 224.
2- 2 التاج الجامع للاصول 3: 383.

ص: 144

وفاطمة والحسن والحسين وضمّهم تحتَ كساء واحد، نزل جبرئيل بهذه الآية المباركة عليهم.. تنظر امُّ سلمة إلى ماقام به رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من جمعهم وضمّهم تحت كساء واحد.. ولأنها على قدر كبير من المعرفة والمنزلة، ولأنها السباقة إلى كلّ خير والى كلّ ما ينفعها في آخرتها ودنياها أيضاً، ولأنها تعرف منزلة المجتمعين، راحت تتمنى بل طلبت الانضمام اليهم بقوة وأن تكون معهم؛ لتنال بذلك ممّا أعدّه تعالى لهؤلاء الصفوة من خير وبركة..

وكيف لا تتمنى أن تكون معهم وهي تسمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ودعاءه: اللهُمّ هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

فتبادر إلى ذلك قائلة:

فأنا منهم يانبيّ اللَّه؟!

ويأتيها الجواب من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

«أنتِ على مكانك، وأنتِ على خير» أي أنّ مكانك محفوظ امّاً للمؤمنين، وموقفك يتسم بالخير والصحة، ولكنّك لست من أهل بيتي الذين خصّهم اللَّه تعالى بخصائص، وتفرّدوا بصفات اختارها اللَّه لهم دون غيرهم، وميّزهم بها على جميع خلقه..

وكان لأمّ سلمة شرف رواية هذا كلّه حيث قالت: «دعا رسول اللَّه حسناً وحسيناً، وفاطمة، فأجلسهم بين يديه ودعا علياً فأجلسه خلفه، فتجلّل هو وهم بالكساء، ثمّ قال: «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً». (1) فعن عطاء بن أبي رباح عن امّ سلمة: أنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان في بيتها، فأتته فاطمة ببرمة فيها جزيرة، فدخلت بها عليه، فقالصلى الله عليه و آله لها: ادعي زوجك وابنيك .. إلى أن قالت: فأنزل اللَّه عزّ وجلّ هذه الآية: إنما يريدُ اللَّهُ ليذهبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهركم تطهيراً... ثمّ قالت: فأخذ فضل الكساء، فغشاهم به، ثمّ أخرجَ


1- 1 تاريخ الطبري، تاريخ ابن كثير، الترمذي فيصحيحه.

ص: 145

يده، فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: «اللهُمّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهُمّ أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».

قالت امُّ سلمة: فأدخلتُ رأسي البيت، فقلتُ: وأنا معكم يارسول اللَّه؟

قالصلى الله عليه و آله: «إنّك إلى خير، إنّك إلى خير».

تحدثت رواية اخرى عن أنّها من أهل البيت بنصّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، وهي ماكانت تسعى إليه طيلة عمرها المديد: حدّثوا أنه كان يوماً عندها وابنتها زينب هناك، فجاءته الزهراء مع ولديها الحسن والحسين عليهما السلام، فضمّهما إليه، ثمّ قال:

رحمة اللَّه وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميدٌ مجيد.

فبكت امُّ سلمة فنظر إليها رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله وسألها في حنو: مايبكيك؟

أجابت: يارسول اللَّه خصصتَهم، وتركتني وابنتي.

قال: إنّك وابنتك من أهل البيت (1).

ومن حبّها لأهل البيت:: أن جعلت ابنها عمر بن أبي سلمة في جيش عليّ عليه السلام. ولها مواقف أخرى سنأتي على ذكر بعضها.

أبو لبابة الأنصاري:

«إن نزلتم على حكمه (حكم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله) فهو الذبح».

هذا ماقاله أبو لبابة الأنصاري لزعماء يهود بني قريظة. فقد غزاهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في السنة الخامسة للهجرة وحاصرهم حتى جهدهم الحصار. قذف اللَّه في قلوبهم الرعب، فبعثوا إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يرسل إليهمصاحبه «أبا لبابة ابن عبد المنذر الأنصاري؛ ليستشيروه في أمرهم. فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرّقَ لهم.

وسألوه: ياأبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟

فأجاب: نعم، إنّه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه.

فما زالت قدماه من مكانهما حتى عرف أنّه خان اللَّه ورسوله. وانطلق على


1- 1 انظر السمط الثمين: 20.

ص: 146

وجهه، فربط نفسه إلى عمود من عمد المسجد، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللَّه عليّ مماصنعت...

ولما بلغ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما أنه لو جاءني لاستغفرت له. فأمّا إذ فعل مافعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللَّه عليه.

أو أنّ الانصاري المذكور كان واحداً من جماعة تخلفوا عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في غزوة تبوك على رواية ثانية.. وكلٌّ منهما- لا شك- ذنب كبير وخطير.

أَوثَق- لأحد السببين المذكورين- نفسه بسارية المسجد النبوي معترفاً بما جنته نفسه، وبقي هكذا ست ليال، كانت تأتيه امرأته في كلّصلاة فتحمله للصلاة، ثمّ يعود فيرتبط بالجذع رافضاً أن يُطلقه غير رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.. وقد رفض هو الآخر إطلاقه حتى يأتيه أمر اللَّه تعالى به، وكان رسول اللَّه منتظراً لذلك.

وشاءت السماء أن يكون منزل امّ سلمة مهبطاً للوحي يحمل الآية الكريمة:

.. وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًاصالحاً وآخر سيئاً.. (1)

.

تقول امُّ سلمة: سمعتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله من السحر وهو يضحك.

قالت: قلتُ: ممّ تضحك يارسول اللَّهصلى الله عليه و آله، أضحك اللَّه سنّك؟

قال: تيب على أبي لبابة.

قالت: قلت: أفلا ابشره يارسول اللَّه؟

قال: بلى، إن شئتِ.

فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يُضرب عليهنّ الحجاب.

فقالت: ياأبا لبابة، أبشر فقد تاب اللَّه عليك.

قالت: فثار الناس إليه ليُطلقوه.

فقال: لا واللَّه حتى يكون رسول اللَّهصلى الله عليه و آله هو الذي يطلقني بيده..

فلمّا مرّ عليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- بعد نزول الآية- خارجاً إلى الصلاة، أطلقه (2)(3).


1- 1 سورة التوبة: 102.
2- 2 السيرة النبوية لابن هشام 3: 238، وأسباب النزول للواحدي: 263 ومجمع البيان للطبرسي، الآية من سورة التوبة.
3- 2 السيرة النبوية لابن هشام 3: 238، وأسباب النزول للواحدي: 263 ومجمع البيان للطبرسي، الآية من سورة التوبة.

ص: 147

ومن بيتها أيضاً انطلقت توبة السماء على الثلاثة (كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع) الذين تخلفوا من الصحابة عن غزوة تبوك.

يقول واحد منهم وهو كعب بن مالك مبيناً دور أم سلمة وإحسانها اليه:

... ونهى النبيّصلى الله عليه و آله عن كلامي وكلامصاحبي، ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناسُ كلامنا، فلبث كذلك حتى طال عليّ الأمر، وما من شي أهم إليّ من أن أموت فلا يصلي عليّ النبيّصلى الله عليه و آله، أو يموت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليّ، وفي رواية: أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: اقسم باللَّه، لا أطلقهم حتى أؤمر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون هو يعذرهم، فانزل اللَّه توبتنا على نبيّهصلى الله عليه و آله حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله عند امّ سلمة، وكانت امّ سلمة محسنة في شأني، معنية في أمري.

فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «يا أمّ سلمة تيبَ على كعب».

قالت: أفلا أرسل اليه فأبشره؟

قال: «إذاً يحطمكم الناس (يدوسونكم ويزدحمون عليكم) فيمنعونكم النوم سائر الليلة، حتى إذاصلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصلاة الفجر، آذن بتوبة اللَّه علينا .. (1)الرشيدة الشفيعة الحازمة

ذكرت مصادر التأريخ دورها الرشيد في السنة السادسة للهجرة، وقدصحبت الرسولصلى الله عليه و آله وهو يريد مكة للعمرة فصدته قريش ومنعته والمسلمين من دخول مكّة. وبعد أن تمّت كتابة شروطصلح الحديبية.. واضطربت الامور بين المسلمين، وكان الأمر ينذر بخطر جسيم بينهم..

تقول الرواية:... أمر النبيّ أصحابه أن يقوموا فينحروا ثمّ يحلقوا.. فما قام منهم رجل، فقال ذلك ثلاث مرات، ومامنهم من يستجيب.

فدخل على زوجه امّ سلمة التي كانت معه يومذاك، فاضطجع، فقالت: مالكَ يارسول اللَّه؟


1- 1 انظر المغازي في حديث كعب بن مالك. ومسند أحمد وغيرها ...

ص: 148

فذكر لها مالقي من الناس، وأنه أمرهم بالحلق والنحر مراراً فلم يجيبوه، وهم يسمعون كلامه، وينظرون إلى وجهه الشريف.

قالت امُّ سلمة: التمس لهم العذر يارسول اللَّه. إنّهم يرون الكعبة ويرون ديارهم، ثمّ يُحرَمون من دخول مكّة..

ثمّ قالت: يانبيّ اللَّه أتحبّ ذلك؟

اخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم كلمةً واحدةً حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك فيحلقك.. فإنّ ذلك سيقطع أملهم..

فقام فخرج فلم يكلّم أحداً حتى فعل ذلك، ونحر بدنته، ودعا حالقه..

فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً (1).

كما كانت شفيعة للمؤمنين وهذا جزء من مسؤوليتها كأمّ لهم، فقد شفعت لأخيها عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، حيث قالت للنبيصلى الله عليه و آله وهي تغسل رأسه: كيف ينفعني عيش وأنت عاتب على أخي؟

فرأت من النبيصلى الله عليه و آله رقّة، فأومأت إلى خادمها، فدعت أخاها، فلم يزل بالنبيصلى الله عليه و آله يذكر عذره حتى رضي اللَّه عنه ... (2) وشفعت لأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبداللَّه بن أمية بن المغيرة وقد كانا من الذين يؤذونهصلى الله عليه و آله.

وقد كلمته أم سلمة فيهما ورجت أن يصفح عن زلتهما فيما مضى، فقالت:

يارسول اللَّه لا يكن ابن عمك، وابن عمتك وصهرك أشقى الناس بك. قالصلى الله عليه و آله: لا حاجة لي بهما. أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال.

قال أبو سفيان بن الحارث- لما سمع بذلك-: واللَّه لتأذن لي، أو لآخذنّ بيد بُنيّ هذا، ثمّ لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً.

فلما سمع الرسولصلى الله عليه و آله بذلك رقّ لهما، فدخلا وأسلما. وسرت بذلك أم سلمة.


1- 1 الطبري 2: 786.
2- 2 الكامل في التاريخ 2: 378

ص: 149

أما حزمها وقوة شخصيتها، فقد ظهرت بوضوح في مواقفها الحكيمة القوية من عائشة وحفصة وفي موقفها من قريبها عمر بن الخطاب، تقول بنت الشاطئ:

وبدا واضحاً أنّ أم سلمة تعرف لنفسها قدرها، وتأبى على عائشة أو سواها المساس بكرامتها، وقد أعزّها مجدٌ عتيق موروث وآخر حديث مكتسب. وكذلك أبت على «عمر» أن يتكلم في مراجعة امهات المؤمنين لزوجهن الرسولصلى الله عليه و آله، وقالت له منكرةً: عجباً ياابن الخطاب، قد دخلت في كل شي ء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول اللَّه وأزواجه.

قال عمر: فأخذتني أخذاً كسرتني به عن بعض ما كنتُ أجد. (1) الفتنة:

«استحي أن ألقى محمداًصلى الله عليه و آله هاتكةً حجاباً قد ضربه عليّ».

هذا جزء من كلمة طويلة قالتها لعائشة حينما هبّت هذه الأخيرة تقارع الإمام عليّاً عليه السلام وتقف بجانب طلحة والزبير تحرض الناس ضد الإمام من على ناقتها، فكان دورها خطيراً جدّاً فيما وقع من فتنة بين المؤمنين، وفيما وقع من بغي على الإمام عليه السلام في معركة الجمل في البصرة.

قالت لعائشة كلمات تتصف بالقوة والشدة: أيّ خروج هذا الذي تخرجين؟!

نصّ كلمتها لعائشة حينما جاءتها هذه الأخيرة؛ لتخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان، وقد قالت عائشة لها: يابنت أبي أمية، أنتِ أوّل مهاجرة من أزواج رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وأنت كبيرة امهات المؤمنين، وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقسم لنا من بيتِك، أو كان يشير إلى بيتك عندما يؤتى بالهدايا، ومن بيتك يبعث إلينا بسهامك (بسهامنا)، وكان جبرئيل أكثر مايكون في منزلك..

فقالت امُّ سلمة: لَأمَر ماقلت هذه المقالة!

ثمّ لما سمعت برغبتها أو مسيرها مع كلّ من طلحة والزبير؛ لشنّ حربهم ضدّ الإمام عليّ كتبت تقول: فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلّاهو.


1- 1 انظر نساء النبي: 144 الدكتورة بنت الشاطئ.

ص: 150

أمّا بعد فقد هتكت سُدةً بين رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وامّته، وحجاباً مضروباً عليّ حرمته، قد جمع القرآن ذيولك فلا تسحبيها، وسكّر خفارتك فلا تبتذليها، واللَّه من وراء هذه الامّة. لو علم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّ النساء يحتملن الجهاد عهد إليك، أَما علمت أنّه قد نهاك عن الفراطة في الدين؟ فإنّ عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال، ولا يرأب بهنّ إنصدع. جهاد النساء غضّ الأطراف وضمّ الذيول وقصر الموادة. ماكنت قائلة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصبة قلوصك قعوداً من منهل إلى منهل؟ وغداً تردين على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. وأقسم لو قيل لي: ياامّ سلمة أدخلي الجنة؛ لاستحييت أن ألقى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله هاتكةً حجاباً ضربه عليّ، فاجعليه سترك، وقاعة البيت حصنك فإنّك أنصح لهذه الامّة ماقعدتِ عن نصرتهم، ولو أنّي حدثتك بحديث سمعته من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لنهشتِ نهشَ الرقشاء المطرقة، والسلام (1). وهناك رواية لكلمتها هذه تختلف عنها قليلًا.

ثمّ راحت امّ سلمة تعلن تأييدها للإمام عليصلى الله عليه و آله. تقول عنها بنت الشاطئ:

ثمّ حاولت من بعدهصلى الله عليه و آله أن تتجنب الخوض في الحياة العامة.. إلى أن كانت الفتنة الكبرى، فاندفعت تؤازر الإمام عليّاً، ابن عمّ الرسول، وزوج ابنته الزهراء، وأبا الحسن والحسين.

وودّت لو تخرج فتنصره، لكنّها كرهت أن تبتلى وهي امُّ المؤمنين بمثل ذاك الخروج، فجاءت «عليّاً» كرمّ اللَّه وجهه، وقدمت إليه ابنها «عمر» قائلة:

ياأمير المؤمنين، لولا أن أعصي اللَّه عزّ وجلّ، وأنّك لا تقبله منّي؛ لخرجتُ معك. وهذا ابني عمر، واللَّه لهو أعزّ عليّ من نفسي، يخرجُ معك فيشهد مشاهدك.

وفعلًا شهد عمر مشاهد الإمام عليه السلام ومنها معركة الجمل. واستعمله على فارس وعلى البحرين.

وممّا يدلُّ على حبّها لآل الرسولصلى الله عليه و آله وخاصة للإمام علي عليه السلام ودفاعها عنه عليه السلام ماكتبته إلى معاوية مستنكرة ماكتبه إلى عمّاله أن يلعنوا عليّاً على المنابر،


1- 1 العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3: 96.

ص: 151

ففعلوا، فكان ماكتبته رضوان اللَّه عليها: إنّكم تلعنون اللَّه ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليّ بن أبي طالب، ومَن أحبّه، وأنا أشهد اللَّه أنّ اللَّه أحبّه، ورسوله.. لكن معاوية لم يلتفت إلى كلامها (1).

وكيف لا يكون حبّها لآل البيت عظيماً ثابتاً وقد رافقت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حياته ومسؤولياته ووعت كلّ ماسمعته عنهم، خاصة وهو يلقي آخر خطبة له في حجّة الوداع ... من كنتُ مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله..

استوقفتها هذه الكلمات كثيراً، وراحت تتأمل ما تحمله كلماتهصلى الله عليه و آله هذه وغيرها بوعي وأناة حتى دخلت قلبها ومشاعرها، فثبت ولاؤها لأهل البيت.

وانطلقت تقول كلمة الحقّ وتكشف الظُلم وتشجب كلّ فرقة، وتقيم دعائم الوحدة بين المسلمين على أساس حبّها للَّه تعالى ولمحمد وآلهصلى الله عليه و آله.

علمها وروايتها:

كانت جليلة القدر، جزيلة الرأي، ملتزمة، تقية، عارفة بالقرآن الكريم وأحكامه، راويةً للسنّة الشريفة، شارحة لأحكامها، مبينة لها، طالما اجتمع حولها النساء يستمعن لها ويتعلمن منها وينقلن عنها، ويسترشدن بآرائها ويتحاكمن إليها كما تفعل بعض نساء النبيصلى الله عليه و آله وقد انتفع الرجال بعلمها وروايتها ونصائحها وآرائها حتى عدّت مصدراً من مصادر التفسير والفقه والرواية والتأريخ والسيرة النبوية..

وقد بلغ عدد ماروته من الأحاديث ثلاثمائة وثمانية وسبعين حديثاً.

يقول أحمد خليل جمعة عنها: وامُّ سلمة رضي اللَّه عنها قد وعت الحديث الشريف، وتفقهّت بامور الدين والشريعة الغراء، حتى كانت تعدّ من فقهاء الصحابيات، وممّن يُرجع اليها في بعض الامور والأحكام والفتاوى، وخصوصاً فيما يخصّ فقه المرأة المسلمة، وفيما يتعلّق ببعض أحكام الرضاع، أو الطلاق، أو


1- 1 العقد الفريد، ابن عبد ربّه 3: 127.

ص: 152

ماشابه ذلك. وقد ورد أنّ سيدنا عبد اللَّه بن عباس كان يُرسل، فيسألها عن بعض الأحكام.

كما كانت تعّد من جملة مَن يُرجع إليهم بالفتيا من الصحابة، وقد روى عنها كلٌّ من عبد اللَّه بن عباس، وأبو سعيد الخدري وابنها عمر بن أبي سلمة، ومن النساء عائشة، وابنتها زينب بنت أبي سلمة. ومن التابعين؛ سعيد بن المسيب والشعبي، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وآخرون. ومن النساء طيرة امّ الحسن البصري، وهند بنت الحارث الفراسية، وصفية بنت شيبة، وصفية بنت محسن وغيرهنّ (1).

ومن رواياتها:

استأذن أبو ثابت مولى علي عليه السلام على ام سلمة، فقالت: مرحباً بكَ ياأبا ثابت، ثمّ قالت: ياأبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطيرها؟ قال: تبع علياً، فقالت: وفقت، والذي نفسي بيده لقد سمعتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: عليٌ مع الحقّ والقرآن، والحقّ والقرآن مع عليٍّ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

قالت امُّ سلمة: أغدف (2) رسول اللَّهصلى الله عليه و آله على عليّ وفاطمة والحسن والحسين خميصة سوداء، ثمّ قال: «اللهُمّ إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي». قالت:

قلتُ: وأنا يارسول اللَّه. قال: «وأنتِ».

وقريب من ذلك ماروته ابنتها زينب مع اختلاف يسير حيث قالت: إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله كان عند امّ سلمة، فجعل حسناً في شقٍّ، وحسيناً في شقٍّ، وفاطمة في حجره وقال: رحمة اللَّه وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (3)

. وأنا وامُّ سلمة جالستان، فبكت امُّ سلمة، فقال: «مايبكيك؟» قالت: يارسول اللَّه خصصتهم وتركتني وابنتي. فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «إنّك [وابنتك] من أهل البيت» (4).

ومما روته، قالت: قال لنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: إذا حضرتم المريض أو الميت


1- 1 نساء أهل البيت: 246- 265 وانظر الهوامش.
2- 2 أغدف: بغين فدال ففاء: ارسل وغطى، ومنه غداف المرأة، وهو ماتستر به وجهها: 154 من كتاب ازواج النبيّ للإمام محمد بن يوسف الدمشقي.
3- 3 سورة هود: 73.
4- 4 ذكرهصاحب كتاب أزواج النبي عن الطبراني في الكبير 24: 281- 282 وغيره..

ص: 153

فقولوا: خيراً، فإنّ الملائكة تؤمن على ماتقولون. فلما مات أبو سلمة أتيتُ النبيّصلى الله عليه و آله فأخبرته، فقال: قولي: اللهُمّ اغفر لي وله، وأعقبني منه عقباً حسناً، فقلتُ ذلكَ. فأعقبني اللَّه منه مَنْ هو خيرٌ منه رسول اللَّه.

وعنها قالت: كان النبيّصلى الله عليه و آله إذا خرجَ في سفر يقول: «اللهُمّ إني أعوذُ بكَ أن أزِل أو أزل» (1).

عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمّها امّ سلمة رضي اللَّه عنها: قالت سمعتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: «إنما أنا بشر، وأنتم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي نحو ماأسمع منه، فمن قضيتُ لهُ بشي ء من حقّ أخيه منه شيئاً، فإنما أقطعُ لهُ قطعةً من النار» (2).

ولما قدم ابن أبي جهل المدينة، فجعل يمرّ في الطريق، فيقول الناس: هذا ابن أبي جهل. فذكر ذلك لأمّ سلمة، فما كان منها إلّا أن ذهبت إلى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فذكرت له ماسمعت: فخطبصلى الله عليه و آله الناس وقال: «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات» (3).

ولما سئلت: ماأكثر دعاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه: «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك».

قالت: فقلتُ لهُ: يارسول اللَّه: ماأكثر دعاءك «يامقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك»؟!

قال: «ياامّ سلمة، إنّه ليس من آدمي إلّاوقلبه بين اصبعين من أصابع اللَّه، ماشاء اللَّه أقام وماشاء أزاغ» (4).

ومما روته بحقِّ أخيها من الرضاعة عمار بن ياسر، الذي طالما رعته وغضبت لهُ حينما فعل به عثمان فعلته القذرة، شتمه وأمر به فأخرج من مجلسه...، وقد أثقلوه باللبن حينما شارك في بناء مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في المدينة، فقال: يا رسول اللَّه قتلوني يحملون عليّ مالا يحملون.


1- 1 ربيع الأبرار 4: 196.
2- 2 البخاري، ومسلم في الأقضية والنسائي في القضاء والشافعي في الأم..
3- 3 ربيع الأبرار 2: 841.
4- 4 العقد الفريد 3: 22.

ص: 154

وهنا قالت امُّ سلمة: فرأيتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ينفض وفرته بيده، وكان رجلًا جعداً وهو يقول: «ويح ابن سميّة ليسوا بالذي يقتلونك، إنما تقتلك الفئة الباغية» وارتجز عليّ بن أبي طالب عليه السلام:

لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعداً ومن يرى عن الغبار حائداً

فأخذها عمّار بن ياسر فجعل يرتجز بها (1).

وفاتُها:

أبت امُّ سلمة- وقد عرفت جيداً قدر نفسها- أن تموت دون أن تترك خلفها دروساً ينتفع بها الآخرون، فحياتها بكلّ مفاصلها كانت مفعمة مليئة بالأحداث سواء قبل اسلامها وهي تعيش في بيت عرف- كما قلنا- بالكرم والشرف والإباء، أم في حياتها الاولى مع أبي سلمة زوجةًصالحةً، أم في إسلامها وهجرتها وتصويرها لهجرتها حتى كانت روايتها أوثق وأدقّ روايات الهجرة، أم في هجرتها الثانية إلى المدينة وأحداثها وما رافقها من آلام..

أم في زواجها المبارك الذي اختارته السماء، وهي تعيش أطهر بيت مع أعظم إنسان عرفته الدنيا، لم تكن حياتها معهُ إلّاطاعة وإيماناً وتصديقاً وخدمة وجهاداً، حتى لم يعثر على خطإ لها على كثرة ماترتكبه النساء من أخطاء وما تصنعه من متاعب..

ورغم ماعانته من غيرة وحسد امّ المؤمنين عائشة وكذلك أمّ المؤمنين حفصة وماخلقتا لها من متاعب وصعاب. كانت تقابل كلّ ذلك بحكمة وهدوء حتى تبعد هذا البيت عن كلّ ما يتعبصاحبهصلى الله عليه و آله ويعكّر عليه حياته، أو يشغله عن مهامه العظيمة ...

وبقيت محافظة على سيرتها وإن طال عمرها حتى تجاوز الثمانين عاماً،


1- 1 السيرة النبوية لابن هشام 2: 114.

ص: 155

فكانت آخر من توفي من زوجاتهصلى الله عليه و آله ويبدو أنه قدر لهذه المرأة الصالحة المخلصة لزوجها ولأهل بيته أن تشارك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عزاءه وحزنه، فقد بلغها استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، فوجمت لذلك، وغشي عليها، وحزنت حزناً شديداً، ولم تلبث بعد ذلكَ إلّايسيراً، ثمّ انتقلت إلى رحمة اللَّه (1).

وأمّا بنت الشاطئ فتقول: وتقدم العمر بأمّ سلمة حتى امتحنت، كما امتحن الإسلام وامته، بمذبحة «كربلاء» ومصارع الإمام الحسين وآل البيتصلوات اللَّه عليهم، على الساحة المشئومة.

توفيت رضي اللَّه عنها بعدما جاءها نعي الحسين بن علي عليه السلام (2).

ويكفيها فخراً أنّ رسول اللَّه توفي وهو راض عنها وعن أولادها الذين تكفلهم برعايته وتربيته..

وبقيت هذه المرأة ورضا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يلاحقها ويواكبها حتى غدت وبيتها «مركز الإشعاع العلمي والفقهي للصحابة والتابعين والعلماء من شتى الأمصار» (3).

توفيت سنة إحدى وستين وقيل سنة اثنتين وستين في عهد يزيد بن معاوية، وشيعها المسلمون تشييعاً عظيماً حتى مرقدها الأخير في مقبرة البقيع في المدينة المنورة.

الهوامش:


1- 1 الرسول في بيته: الدكتور أحمد شلبي: 78.
2- 2 نساء النبيصلى الله عليه و آله: الدكتورة بنت الشاطئ: 150- 151.
3- 3 نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة: 269.

ص: 156

ص: 157

ص: 158

الحجّ عبر الحضارات والأمم (2)

الحج عبر الديانات والامم (2)

الحج عبر الديانات والامم (2)

ماجدة المؤمن

الحجّ في الديانة اليهوديّة:

مارس اليهود الحج بأشكال مختلفة، واتجهوا إلى أماكن متعددة، واتخذت كل فرقة من فرقهم وجهة معينة، تحجُّ اليها في أعيادها الخاصة، وعلى وفق مذهبها وتعاليمه وعقيدتها، وما تفرض عليها من الأوامر والنواهي...

وفكرة الحج، ليست طارئة على اليهود، فقد كانت منتشرة آنذاك، فمن كان على دين ابراهيم عليه السلام، كان يعرف الحج ويمارسه في بيت اللَّه الحرام، ومن كان من الأقوام السامية، فانه يحج إلى المعابد والهياكل وقبور الموتى، وغير ذلك مما وجدناه في الحضارات والأمم.

فاليهود كغيرهم، حجوا ومارسوا طقوساً خاصة بالحج، وسفر الخروج في التوراة حدّد لهم أعياداً دينية سنوية يزورون فيها مقدساتهم بملابس خاصة أو جديدة، وينحرون ويطوفون ويقرأون الأدعية والتعويذات الخاصة وغير ذلك، وحجهم خليط من حج وضعي وحج سماوي، فهوصورة جديدة بين حج

ص: 159

وثني باطار توحيدي.

والظاهر أن حج اليهود كان فرضاً واجباً أوجبته التوراة عليهم، هذاما يؤكده النص التالي:

«والحج إلى معبد من المعابد عادة سامية قديمة جعلت حتى في الأجزاء القديمة من أسفار موسى الخمسة فرضاً يجب أداؤه، فقد ورد في سفر الخروج، في الاصحاح الثالث والعشرين، الآية الرابعة عشرة:

«ثلاث مرات يعيّد لي في السنة» وفي الآية الثالثة والثلاثين من الاصحاح الرابع والثلاثين «ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب إله إسرائيل» وربما كان في بلاد العرب أيضاً أماكن كثيرة للحج حيث كانت تقام شعائر شبيهة بالحج إلى عرفات» (1).

وفي كل عيد من هذه الأعياد الثلاثة اتخذت الفرق اليهودية حجاً الى أماكن معينة، ففي يوم الاستغفار (عيد المظال) كانوا يحجون إلى جبل سيناء، وفي عيد الفصح إلى بيت المقدس، وفي عيد استير وعيد المطر و... و... الخ يتجهون إلى أماكن أخرى، كما سنرى من خلال البحث ان شاء اللَّه...

مع هذا، وعند استقرائنا للتوراة، لم نجد ذكر مكان معينٍ خاصٍ للحج على لسان نبيهم موسى عليه السلام كوعدٍ الهي لهم، ونتساءل هنا: هل اللَّه تعالى لم يشرع لهم فريضة الحج إلى مكان معين، أم رواة وكتبة النصوص الدينية التوراتية تجاوزوا ذكرها، أم تعمدوا تحريفها لعنصريتهم المعروفة؟

ولهذا تعددت اماكن الحج، وكثرت اليها الرحلات اليهودية في الأعياد السنوية، ويكاد كل موضع يبدأ اسمه بكلمة «بيت» يكون مكان حج وزيارة سابقاً أو لاحقاً، فمثلًا «بيت المقدس» و «بيت إيل» و «بيت آوِن» كان بالقرب من بيت إيل و «بيت إصِلْ» في يهوذا و «بيت حور» بالقرب من القدس و «بيت هاجَنَّ» في المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام في بيت لحم و «بيت هاشطة» وبيوت أخرى


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية 7: 305.

ص: 160

وأخرى كثيرة يطول الكلام في عدّها وذكرها، يمكن الرجوع إلى الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) حيث أحصاها وعدّها عدّاً... وفي تحديد أوقات الحج، يقول د. حسن ظاظا: أما الأوقات التي يحجون فيها فهي موازية لأعيادهم وهي ثلاثة أوقات:

1- عيد الفصح: ويقع في فصل الربيع، ومدته 7 أيام تبدأ يوم 15 نيسان في التقويم اليهودي.

2- عيد الحصاد أو الأسابيع (شبو عوت)، ومدته يوم واحد، 6 من شهر سيوان اليهودي، ويقع في أوائل الصيف (يونية).

3- عيد الظُلل: (سوكوت) ومدته ثمانية أيام، ويأتي في الخريف، ويبدأ يوم 15 تشري اليهودي، ويسمون هذه المواسم «الثلاثة الاعتيادية» يستحب فيها الحج؛ لاقترانها بالكثير من الصدقات (1).

وجهة النبيّ موسى عليه السلام في الحج

ومن الضروري والمناسب أن نعرف وجهة كليم اللَّه النبي موسى عليه السلام في الحج، قبل أن نقف على ما حرّف اليهود من شريعة موسى عليه السلام نبيهم الذي ينسبون أنفسهم إليه، ويدّعون أنهم من أتباعه ومحبيه والسائرين على خطه وتعاليمه...

عند تتبعنا للأخبار والروايات والأحاديث الواردة من السُنة الشريفة لا نجد الكليم موسى عليه السلام توجه بوجهة معاكسة أو مخالفة لما توجه إليها أنبياء اللَّه والمرسلون فهو عليه السلام حج وطاف ولبى في بيت اللَّه العتيق مقتدياً بسنة آبائه وأجداده من الأنبياء، ومجيباً لأوامر السماء، هذا ما تؤكده الروايات في حجه عليه السلام، نختار منها:

روي عن ابن عباس أنه قال: «كنّا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بين مكة والمدينة، فمررنا بوادٍ، فقال:

أي واد هذا؟ قالوا: وادي الأزرق، قال: كأني أنظر موسىصلى اللَّه عليه وسلم (فذكر من طول شعره شيئاً لا يحفظه داود- أحد رواة


1- 1 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 10.

ص: 161

الحديث-) واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى اللَّه بالتلبية ماراً بهذا الوادي، قال: ثم سرنا حتى كذا وكذا... الخ» (1) أي ذكر حجه إلى مكة المكرمة والكعبة الشريفة.

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام:

مرّ موسى بن عمران عليه السلام في سبعين نبياً على فجاج الروحاء... يقول: لبيك عبدك ابن عبديك» (2).

وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام أيضاً أنّه قال: «أحرم موسى من رملة مصر، قال: ومرّ بصفائح الروحاء محرماً، يقود ناقة بخطام من ليف، عليه عباءتان قطونيتان، يُلبي وتجيبهُ الجبال» (3).

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مرّ موسى النبي (صلوات اللَّه عليه) بصفائح الروحاء على جمل أحمر، خطامه من ليف عليه عباءتان قطونيتان وهو يقول: لبّيك يا كريم لبيك» (4).

وجاء في أخبار مكة: «حج موسى النبي على جبل أحمر فمرَّ بالروحاء عليه عباءتان قطونيتان متزر بأحدهما مرتدي بالأخرى فطاف بالبيت، ثم طاف بين الصفا والمروة فبينا هو بين الصفا والمروة إذ سمعصوتاً من السماء وهو يقول: لبيك عبدي أنا معك، فخر موسى ساجداً» (5).

والنبي موسى عليه السلام من كبار الأنبياء والرسل، وفي مصطلحاتنا الإسلامية يُعدُّ من أُولي العزم، وعليه فلا يمكن أن ينحرف في حجه إلى الوجهة غير الصحيحة وغير المرضية عند اللَّه تعالى، وإذا وجدنا هناك انحرافاً في اليهودية فهو في قومه الذين خالفوه، ولم يلتزموا بتعاليمه وأوامره مما أخذهم اللَّه تعالى بانحرافهم وذنوبهم، فكانوا قوماً مهانين ومغضوباً عليهم إلى يوم يبعثون، قال تعالى فيهم:

وضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة وباءوا بغضبٍ من اللَّه ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللَّه ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما


1- 1 سنن ابن ماجة 2: 965، محمد بن يزيد القزويني، الحلبي وشركاه.
2- 2 وسائل الشيعة 12: 385 ح 16574.
3- 3 وسائل الشيعة 9: 54.
4- 4 بحار الأنوار 99: 185، الطبعة البيروتية.
5- 5 أخبار مكة، الأزرقي:ص 68- 69.

ص: 162

عَصَوا وكانوا يعتدون (1).

انحراف اليهود في حجهم

لم يتبع اليهود سُنة كليم اللَّه موسى عليه السلام، نبيهم الذي توجه في حجه الى بيت اللَّه العتيق كما مرّ علينا سابقاً، بل حرّفوا أغلب تعاليم دينه ومن ضمنها الحج، ومن الملاحظ أن:

«الحج عند اليهود في الوقت الحاضر ليس بفريضة عندهم ولا بركن من أركان العبادة كما هو في الإسلام، فهو على أكثر تقدير يشبه (العُمرة) عند المسلمين» (2).

وانقسم (3) اليهود بعد الكليم عليه السلام الى عدة فرق، وكلُّ فرقة اتخذت لها وجهة ومكاناً تحج إليه بوضع تعاليم وطقوس وشعائر خاصة بها.

ولنعرض قسماً منها على سبيل المثال لا الحصر:

1- توجه قسم منهم إلى بيت المقدس وهيكل سليمان عليه السلام.

2- والقسم الآخر إلى جبل النبي موسى عليه السلام في طور سيناء.

3- وآخرون إلى بئر الحي الرائي بالقرب من مدينة الخليل.

4- ومنهم من توجه إلى (بقاع مباركة)- حسب تعبيرهم- أهمها الجبال الشامخة والتلال والآبار وعيون الماء وأماكن طبيعية أخرى.

وسنحاول ان شاء اللَّه تعالى تفصيل هذه النقاط قدر استطاعتنا، وبيان الأساليب المتبعة في حجهم وتاريخه والمواقع الجغرافية لكلّ منها.

الحج إلى بيت المقدس

يُعدُّ بيت المقدس أو القدس من أهم الأماكن المقدّسة لدى اليهود- إضافة إلى أهميته عند المسيحيين والمسلمين- لذلك تميّز حجهم لهذا البيت بقدسية ومعنى خاصين.

عظّم اليهود بيت المقدس وخاصة فرقة (يهوذا) المنحدرة من داود وسليمان عليهما السلام، خصوصاً بعد بناء النبي سليمان عليه السلام للهيكل المعروف في القدس الشريفة ب (هيكل سليمان).

«وقدسية بيت المقدس عند اليهود تاريخها مقارناً لبناء سليمان


1- 1 البقرة: 61.
2- 2 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 10.
3- 3 انقسم اليهود بعد موسى عليه السلام إلى عدة فرق ودويلات من الناحية السياسية ومن الناحية القبلية ومن الناحيةالدينية، والذي يهمنا هنا انقسامهم من الناحية الدينية، فقد انقسموا إلى خمس فرق دينية، وهي: فرقة الفريسيين وفرقة الصدوقيين، وفرقة السامريين، وفرقة الحدسيين، وفرقة القرائين.

ص: 163

الهيكل، والهيكل المعبد المركزي لليهود الذيصار حرماً للحج وقبلة للصلاة منذ عهد داود وسليمان عليهما السلام، وهذا المعبد الضخم تعرض عبر تاريخه ولحد الآن إلى أحداث جِسام لم يبق منه إلّاجزء من جدار، يعرف عند اليهود باسم (الجدار الغربي) وعند سائر الأُمم باسم «حائط المبكى» وهو جدار من سور يرجع إلى عهد هيرودس المعاصر لمولد المسيح عليه السلام» (1).

والقدس: مدينة تقع وسط فلسطين فوق تلصخري من تلال اليهودية على ارتفاع (762 م) على بُعد حوالى 5 كم من يافا، وهي المدينة الجديدة... أما المدينة القديمة فتقع بآثارها الدينية بالمملكة الأردنية الهاشمية.

وبيت المقدس: هو البيت الذي فيه مقدسات الأديان الثلاثة (اليهودية- والمسيحية- والإسلام) وتضم المدينة القديمة معظم الأماكن المقدسة. كان اليهود يعتقدون أن جانباً من أحد جدران المسجد الأقصى بني بأحجار أخذت من هيكل سليمان، وهو الجدار المعروف بحائط المبكى... وقد تكون هي شليم، المذكورة في سفر التكوين، وجعلها داود عاصمته بعد انتزاعها من اليبوسيين، وأقام سليمان هيكله العظيم بها، فزاد من بهائها وعظمتها، واتخذها ملوك يهوذا عاصمة مملكتهم. التي ظهر فيها كثير من عظماء الأنبياء من بني اسرائيل الذين نادوا برسالتهم في شوارعها.

ويُقال: «ما فيها موضع شبر إلّا وقدصلّى فيه نبي» (2).

«حارب اليهود العرب لانتزاعها من ايديهم، واضطر اليهود إلى أن ينزلوا للعرب عن المدينة القديمة، ولكن المدينة الجديدة لا تزال في قبضتهم» (3).

المهم، أنّهم- فرقة يهوذا- اتخذت من بيت المقدس وهيكل سليمان محجةً سنويةً لها في العيد السنوي الديني المسمى ب (عيد


1- 1 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 9.
2- 2 معجم البلدان 1: 112.
3- 3 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 454.

ص: 164

الفصح) (1).

وأهم المراسم المتبعة فيه هي «الضحية» أي القربان أو «الهدي» في المصطلح الإسلامي، يقدم إلى الرب أو الإله، وهذا القربان تؤكده وصايا تلمودهم (2)، التي تختلف اختلافاً كبيراً مع الوصايا المنصوص عليها في التوراة في مسألة «الضحية»، فالتوراة أوصاهم بتقديم «ثور» (3) قرباناً للرب في عيد الفصح. أما تعاليم التلمود فكانت توصيهم أن تكون الضحية من البشر:

و «تختار الضحايا أو الذبائح في عيد الفصح من الأطفال، الذين لا تتجاوز سنهم العاشرة أو تزيد عنها قليلًا. ويمزج دم الضحية بعجين الفطائر قبل تجفيفه أو بعده...

ويستنز اليهود دم الضحية بطرائق كثيرة: فأحياناً يتم ذلك عن طريق «البرميل الابري» وهو برميل مثبت على جوانبه من الداخل إبر حادة توضع فيه الضحية حيّة فتنغرز هذه الإبر في جسمها، وتسيل الدماء ببطء من مختلف الأعضاء، وتظل كذلك في عذابٍ أليم حتى تفيض روحها، بينما يكون اليهود الملتفون حول هذا البرميل في أكبر نشوة بما يبعثه هذا المنظر في نفوسهم من لذة وسرور.

وينحدر الدم إلى قاع البرميل ثم يصب في إناء مُعد لجمعه» (4).

و «أحياناً تقطع شرايين الضحية في عدة مواضع ليتدفق الدم من جروحها. وأحياناً تذبح الضحية كما تذبح الشاة ويؤخذ دمها، وبعد أن يتجمع الدم بطريقة من الطرق السابقة أو غيرها تسلم إلى الحاخام أو الكاهن أو الساحر، الذي يقوم باستخدامها في إعداد الفطائر المقدسة أو في عمليات السحر» (5).

أما الزمان أو الوقت الذي يحجون فيه إلى بيت المقدس، ليقيموا شعائرهم في عيدهم الديني هذا، فهو اليوم الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم الدينية وهو شهر نيسان، ويحتفلون فيه بنجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون وقومه


1- 1 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 454.
2- 2 التلمود: تعاليم دينية وضعها علماء اليهود، وهي كالرسائل العملية عندنا، مع فارق لا قياس فيه.
3- 3 العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح 29: «خذ ثوراً واحداً ابن البقر وكبشينصحيحين و... الخ» راجع.
4- 4 اليهود واليهودية، د. علي عبدالواحد وافي: 44- 45، وكتاب حقائق وأباطيل، فوزي محمد حميد: 141- 200.
5- 5 المصدر نفسه، ومن المعلوم عندهم أن يكون دم الضحية من غير اليهود، وإذا كان دم مسيحي فيكون أفضل عندهم.

ص: 165

وخروجهم من مصر (1).

والفصح في اللغة (فصح أي الفسح أو الخروج أو المرور).

وقد ورد أن هذا العيد «عيد اليهود، 15 نيسان (الشهر السابع في التقويم العبري) ويسمى أيضاً عيد الفطير، وفيه خروج بني إسرائيل من مصر هرباً من فرعون» (2).

وعن قضية التضحية بالأطفال يقول وِل ديوارنت:

«لقد كان اليهود الأقدمون يشتركون معَ الكنعانيين والمؤابيين والفينيقين والقرطاجنين وغيرهم من الشعوب في عادة التضحية بطفل، بل بطفل محبوب، لاسترضاء السماء الغضبي، ثم أصبح في الإمكان على توالي الأيام أن يستبدل بالطفل المجرم المحكوم عليه بالإعدام، وكان البابليون يلبسون هذا الضحية أثواباً ملكية، لكي يمثل بها ابن الملك، ثم تجلد وتشنق، وكان هذا نفسه يحدث في رودس في عيد كرونس. وأكبر الظن أن التضحية بحمل أو جدي في عيد الفصح ليست إلّاتخفيفاً لهذه التضحية البشرية اقتضاه تقدم المدنيّة» (3).

والظاهر أن اليهود في الحال الحاضر يضحون بحمل أو جدي في حجهم إلى بيت المقدس، وقتلهم للبشر اتخذَصوراً أخرى...

جبل موسى عليه السلام فيصحراء سيناء

اعتقد اليهود أن الجبل الواقع في طور سيناء، الذي يبعد (320) كيلومتراً عن منطقة عيون موسى والذي يبلغ ارتفاعه (7600) قدم، هو الجبل الذي كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام فيه، وأنزل عليه الألواح المقدسة... فقدسوا هذا الجبل جيلًا بعد جيل وحجّوا إليه، وعدّوه من المقدسات اليهودية المهمة.

وقدصرّح الاستاذ (منشه حاريل) استاذ الجغرافيا الدينية وتاريخ الأديان بالجامعات العبرية قائلًا: «إن اليهود يحجون كلّ عام...

ومن القرن السابع الميلادي حتى اليوم الى جبل موسى، ويتحملون مشقة


1- 1 انظر العهد القديم، سفر اللاوبين، الاصحاح 23، الفقرات 5- 9.
2- 2 الموسوعة العربية الميسرة: 1247.
3- 3 قصة الحضارة، مج 6، 1: 264.

ص: 166

الوصول إليه، وتسلق (3800) درجة للوصول إلى قمته، التي يعتقدون أن موسى كلّم ربّه فوقها، وتلقى منه الرسالة والوصايا، حتى أصبح ذلك الجبل بالنسبة لهم كالكعبة بالنسبة للمسلمين. ولا يقل عدد من تحملوا مشقة ذلك الحج عن العشرين مليون يهودي، حتى أصبح ذلك الجبل من المقدسات الدينية» (1).

ثم بيّن خطأ اعتقادهم وصرّح في حديث له نُشر في مجلة المختار الألمانية عام (1974 م) بأنّ كلّ ما ورد ببحوث البعثة الأمريكيةصحيح، وأنّه يتفق مع النتائج، التي توصلت إليها بحوث معهده، وتمَّ تسجيلها وإعداد مخططاتها من بضع سنوات، فالجبل الذي يحجون اليه ليس هو نفسه الجبل الذي كلّم اللَّه تعالى موسى عليه السلام فيه.

ولما سئل عن سبب عدم موافقته على نشرها واعلانها رسمياً قال:

«فإعلان تلك البحوث أو الحقائق التاريخية ستخيب آمالهم وتفقدهم ثقتهم في اسطورة تحولت إلى عقيدة» (2).

والحقيقة، أنّ التوراة تذكر مشخصات وعلامات لجبل موسى عليه السلام تختلف عما موجود في الجبل الذي يحجون إليه سنوياً كبُعده من عيون موسى، وارتفاعه وغيرها من العلامات... ووصف الأرض أنّها أرض مناجم الفيروز والنحاس، الذي اشتهر اليهود بصناعتها والتجارة فيها في ذلك الوقت (3).

فالجبل الذي يحجون إليه سنوياً بعيد عن عيون موسى، وأكثر ارتفاعاً من الجبل المذكور في التوراة، والذي كشفته البعثة الأمريكية للآثار، وليس لمناجم الفيروز والنحاس وجود فيه...

إذن هذه العقيدة الإسطورية لليهود، أصبحت واضحة للعيان كوضوح الشمس في ظهر النهار أنّها بِدعة ابتدعتها أنفسهم بعد ميلاد عيسى المسيح عليه السلام بسبعة قرون، ومثلها تعاليم التلمود، ومثلها من تدوين التوراة من قبل، وهكذا. أما


1- 1 فرعون موسى، د. سيد كريم، مجلة الهلال، العدد 5: 73، عام 1975 م.
2- 2 المصدر السابق.
3- 3 راجع سفر الخروج العهد القديم يبين ويوضح جغرافية ذلك المكان.

ص: 167

مناسك حجهم إلى هذا الجبل، يمكن بيانها من خلال الموازنة التي أجراها (هوتسما) (Houtsma) بين الوقوف- وقوف المسلمين في عرفات- وبين إقامة بني إسرائيل على جبل سيناء، فهؤلاء يعدون أنفسهم لهذه الإقامة بالامتناع عن النساء (سفر الخروج، الاصحاح 19، آيه 15)، وبغسل ثيابهم (الخروج، 19/ 10 و 14) وبذلك يقفون أمام الرب، وعلى هذا النحو لا يقرب المسلمون النساء ويرتدون ثياب الإحرام ويقفون أمام الخالق في سفح جبل سيناء» (1).

ومن مناسك هذا الجبل أيضاً، الاستسقاء من ماء عين (شيلوه المقدسة) ولهذا الاستسقاء تعويذة خاصة، وإنارة المعبد، وكذلك الضحية (الهدي) وأمور أخرى، إضافة إلى ذلك فإن وقت هذا الحج لهذا الجبل، يكون عادةً في عيد المظال أو (يوم الاستغفار) (2)، «فمن الطبيعي عند البحث في معناه الأصيل أن نوازن بينه وبين عيد الخريف عند سامي الشمال، وهو عيد المظال (أو يوم الاستغفار) وهو أمر نجد له ما يؤيده أيضاً من أن عيد المظال في التوراة غالباً ما يطلق عليه للايجاز اسم «حج» (سفر القضاة، الاصحاح 21، الفقرة 19، وسفر الملوك الأولى، الاصحاح الثامن، الفقرات 2 و 65)...» (3).

بئر الحي الرائي بالقرب من الخليل

وهناك فرقة أخرى من اليهود قدست هذه المنطقة التي فيها (البئر المقدس) وحجت إليها، وما زالت هذه الفرقة تعتقد أنّها بلد جدّهم الأعلى إسحاق بن الخليل ابراهيم عليهم السلام، ومدينة إقامته ووفاته.

جاء في التوراة: «وكان بعد موت إبراهيم أن اللَّه بارك إسحاق ابنه، وأقام إسحاق عند بئر الحي الرائي و... الخ» (4).

وذكرت التوراة أيضاً أنّ إسحاق تزوج من (رفقة) في ذلك المكان في حياة أبيه إبراهيم عليه السلام وامّه سارة:

«وكان إسحاق قد أتى من وُروُد


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 306.
2- 2 راجع المصدر نفسه: 310.
3- 3 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 306.
4- 4 العهد القديم، سفر التكوين، الاصحاح 25، الفقرة 11.

ص: 168

بئر لحي رُئي. إذ كان ساكناً في أرض الجنوب، وخرج إسحاق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء، فرفع عينيه ونظر وإذا جِمالٌ مقبلة، ورفعت رفقةُ عينيها فرأت اسحاق فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد: مَن هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد:

هو سيدي. فأخذت البرقُعَ وتغطّت، ثم حدَّث العبدُ إسحاق بكلّ الأمور التيصنع، فأدخلها إسحاق إلى خِباء سارة أُمّه، وأخذ رفقة فصارت له زوجة وأحبها» (1).

ولهذه القصة في هذا المكان المقدس، لها وقع خاص في قلوب اليهود؛ لذلك قُدست المنطقة وقُدس ماءُ بئرها.

ومنطقة (بئر الحي الرائي) تقع بالقرب من مدينة الخليل، والخليل على بُعد (44) كم جنوب بيت المقدس، وهي مدينة حبرون القديمة، وفيها قبر الخليل إبراهيم وزوجه سارة وإسحاق ويعقوب وقبر رفقة، ويضمّ هذه القبور مسجدٌ كبير (2).

ولهؤلاء الخمسة مكانة خاصة عند بعض اليهود؛ لذلك قُدست قبورهم وأماكن ذكرياتهم، واعتبرت مكاناً يُحج اليه، ويتقرب بهم إلى اللَّه في تقديم الأضاحي والنذورات والهدايا، وقراءة الأدعية والتضرع والتخشع والبكاء؛ للحصول على النعيم الاخروي من خلالهم ولرضا الربّ الاله.

ويقول د. حسن ظاظا في الحج الى هذه المنطقة:

«وبئر الحي الرائي، بالقرب من الخليل، وقباله سنديانة قمْرا، كثير من أتقياء اليهود يحجون اليها حتى اليوم، لِما جاء في التوراة: وكان بعد موت إبراهيم أنّ اللَّه بارك إسحاق ابنه، وأقام إسحاق عند بئر الحي الرائي، وتزوج عندها في رفقة قبل موت ابويه سارة وإبراهيم» (3).

معبد (بيت إيل) بالقرب من نابلس (4) عظمت هذا المعبد فرقة أخرى


1- 1 المصدر السابق، الاصحاح 24، الفقرات 62- 67.
2- 2 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 764.
3- 3 طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 7.
4- 4 نابلس: مدينة بالمملكة الأردنية الهاشمية، على الضفة الغربية لنهر الأردن، وعلى بُعد 6 كم شمال بيت المقدس، يعيش بها عدد قليل من السامريين القدامى، الذين مازالوا يحافظون على طقوس عبادتهم وعلى تقاليدهم القديمة. ذكرتها التوراة باسم شكيم بمعنى منكب، انظر الموسوعة العربية الميسرة: 1811.

ص: 169

من اليهود وهي فرقة (السامرية) وهي الفرقة اليهودية التي لا تؤمن إلّا بالأسفار الخمسة، التي تمثل القسم الأول من (العهد القديم)، وكذلك لا تؤمن بالبعث واليوم الآخر... وقد ذكرها ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) قائلًا:

«أنّهم يبطلون كلّ نبوة كانت في بني إسرائيل بعد موسى ويوسع عليهما السلام، فيكذبون شمعون وداود وسليمان وأشعيا واليسع وإلياس وعاموص وحبقوق وزكريا وأرميا وغيرهم، وأنّهم يقولون: إنّ مدينة القدس هي نابلس، وهي من بيت المقدس على ثمانية عشر ميلًا، ولا يعرفون حرمة بيت المقدس ولا يعظمونه. وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها» (1).

وكان معبد «بيت إيل» الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس، المكان الأول الذي يحج اليه بنو اسرائيل حتى أن شيّد سليمان الهيكل في القدس، ولم يفقد منزلته هذه إلّابعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته:

1- السامرة شمالًا وكانت مملكة معادية لأسرة داود وسليمان في الجنوب، وتسمي نفسها إسرائيل! واستمرت في الحج إلى بيت إيل.

2- يهوذا المنحدرة من داود وسليمان، فكانت تحج إلى «الهيكل» في أورشليم، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان (2).

وفي هذا المعبر قبر يوسف عليه السلام، وعين يعقوب عليه السلام بالقرب منها (3).

أما القبلة التي تتوجه إليها فرقة السامرة فهي نحو جبل يقال له «غريز يم» بين بيت المقدس ونابلس. قالوا:

إنّ اللَّه تعالى أمر داود أن يبني بيت المقدس بجبل نابلس، وهو الطور الذي كلّم عليه موسى عليه السلام، فتحول داود إلى (إيلياء) وبنى البيت ثمة، وخالف الأمر، فظلم، والسامرة توجهوا إلى تلك القبلة دون سائر اليهود (4). الذين قبلتهم بيت المقدس.


1- 1 الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم 1: 82.
2- 2 انظر طقوس الحج عند اليهود، د. حسن ظاظا، الفيصل، العدد 210: 7.
3- 3 الموسوعة العربية الميسرة: 1811.
4- 4 الملل والنحل، الشهرستاني، ت 548 ه: 200، الطبعة الإيرانية.

ص: 170

وكلمة «إيل» تعني «اللَّه» فيكون معنى المعبد «بيت اللَّه» ويجاور هذا المعبد، جبل ونخلة، الجبل اتخذوه كعرفات في مكة، والمعبد كالكعبة، والنخلة ك (العُزى): وهي في وادي بطن نخلة، قطعها خالد بن الوليد بأمر النبي محمدصلى الله عليه و آله التي كان يُحجُ إليها في الجاهلية ويُعلق عليها النذور والهدايا... فمقام تلك النخلة كهذه.

ولفرقة السامرة طقوس خاصة كالطواف والأضاحي وغيرها منصعود الجبل والوقوف عليهِ، وتقديم النذورات والهدايا والقرابين للشجرة المقدسة؛ لتقضي لهم حوائجهم... وقد جاء في سفر القضاء: «وكانت دبورة النبيّة، زوجة لفيدوت متولية قضاء بني إسرائيل في ذلك الزمان- أي بعد موسى بقرنين- وكانت دبورة تجلس تحت (نخلة دبورة) بين الرامة وبيت إيل (في إقليم نابلس) في جبل أفرايم، وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها لتقضي لهم» (1).

ومن الجدير ذكره أنّ دعاء السمات للشيعة الإمامية، ذكر قدسية هذا المكان، ويبدو أنّ السبب هو تجلي مجد اللَّه تعالى للنبي يعقوب عليه السلام جاء في الدعاء: «اللهم وباسمك العظيم الأعظم الأعز الأجل الأكرم، وبمجدك الذي تجليت به لموسى كليمك عليه السلام ول...

ول... وليعقوب نبيك عليه السلام في بيت إيل» (2).

أماكن مقدسة من الطبيعة

وحجَّ قسمٌ آخر من اليهود إلى أماكن طبيعية كالجبال الشاهقة، وبعض التلال والأشجار والآبار وعيون الماء، اعتماداً على النصوص التوراتية، واقتداءً بسُنة الأجداد، الذين قدسوها واعتبروها آيات عظيمة تقربهم إلى الرب.

وهذا النص التوراتي يبين قدسية الأماكن الطبيعية من الأرض: «هذه هي الفرائض والأحكام التي تحفظون لتعلموها في الأرض التي أعطاك الربُّ إله آبائِك؛ لتمتلكها كلّ الأيام التي تحيون على الأرض. تخربون جميع الأماكن حيث عبدت الأُمم، التي


1- 1 سفر القضاء، الإصحاح 4، الفقرات 4- 5.
2- 2 مفاتيح الجنان، الحاج الشيخ عباس القمي، دعاء السمات.

ص: 171

ترثونها آلهتها على الجبال الشامخة، وعلى التلال، وتحت كلّ شجرة خضراء. وتهدمون مذابحهم، وتكسرون أنصابهم، وتحرقون سواريهم بالنار، وتقطعون تماثيل آلهتهم، وتمحون اسمهم من ذلك المكان... لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم. بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليضع اسمه فيه سُكناه تطلبون والى هناك تأتون.

وتقدمون إلى هناك محرقاتكم وذبائحكم وعشوركم ورفائع أيديكم ونذوركم ونوافلكم وأبكار بقركم وغنمكم» (1).

وهذا النص التوراتي له وقع كبير في نفوس بعض اليهود، حيث يذهبون سنوياً إلى تلك الأماكن المخصصة من الطبيعة، التي احتلها الأجداد وقضوا على سكانها، وأحرقوهم، وقتلوهم، يذهبون إليها حجاجاً معيدين مع ذبائحهم وضحاياهم ونذورهم وهداياهم، وهذا ما يوجبه عليهم المقطع الأخير من النص، اضافة إلى أمرهم بالصلاة الخاصة هناك، وتقديم البكر من البقر والغنم إما ضحية أو هدية، وقبل هذا كلّه يوصيهم النص أن يقدموا محرقاتهم اي (ينيروا المكان) ليستضيئوا ولا تمسهم الظلمة.

وهذا الحج في الحقيقة عادة وثنية اقتبسها اليهود، الذين عاشوا في قرون سبقت عهد موسى عليه السلام، فانتقلت الى ابناءئهم فادخلوا عليها عبر القرون والأيام ما يسدّ حاجتهم العنصرية والنفسية، فجعلوها ضمن معتقدهم الديني.

ويقول د. حسن ظاظا: «كان اليهود- أو بنو إسرائيل- يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجون إليها ويتبركون بها، ويبنون عندها معابدهم» (2).

جاء في الحديث عن إبراهيم عليه السلام في التوراة: «وتجلّى له الرب في سندبانة (قَمْرا) وهو جالس بباب الخيمة، عند ارتفاع النهار. فرفع بصره وألقاه فرآى ثلاثة رجال


1- 1 سفر التثنية، الاصحاح 12، الفقرات 1- 7.
2- 2 طقوس الحج عند اليهود: 7.

ص: 172

واقفين أمامه، فلما رآهم هَمَّ لاستقبالهم أمام باب الخيمة، وسجد الى الأرض قائلًا: مولاي! إن كانت لي حظوة في عينيك، فلا تضربصفحاً عن عبدك، سأقدّم لكم بعض الماء فتغسلون أرجلكم، وتتكئون تحت الشجرة، وأقدّم كسرة خبز، لتسندوا بها قلوبكم، ثم تنصرفوا، بعد ذلك، فإنكم لذلك مررتم بعبدكم.

قالوا: اصنع كما قلت! فاسرع إبراهيم الى الخيمة، الى سارة، وقال: هاتي ثلاثة أصواع من دقيق سمين، فاعجنيها واصنعيها خبز مَلَّة. وبادر إبراهيم إلى البقر فأخذ عجلًا حنيذاً طيباً، ودفعه إلى الغلام، فأسرع في إعداده. ثم أخذ زبداً ولبناً، والعجل الذي كان قد هيّأه، ووضع ذلك بين أيديهم، وهو واقف أمامهم تحت الشجرة، فأكلوا. ثم قالوا: أين سارة، امرأتك؟ قال: هي في الخباء، قال:

سأرجع إليك مثل الآن في العام القادم، ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة تستمع عند باب الخباء، وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة شيخين طاعنين في السن، يستحيل أن يكون لهما ما للنساء. فضحكت سارة في نفسها قائلة: أبعد شيخوختي يكون لي تَنعُّم (1)؟ وبعلي شيخ كبير! فقال الرب لإبراهيم: ما بال سارة قد ضحكت قائلة: أألدُ وأنا عجوز؟ أهذا على الرب أمر عسير؟ في مثل هذا الوقت من قابل، أعود اليك ويكون لسارة ابن» (2).

ولأن التجلي الإلهي والبشرى بإسحاق كانتا عند هذه الشجرة (السنديانة)، فقد قدسها بنو إسرائيل وكانوا يحجون إليها، ويتبركون بها، ويطلبون منها حوائجهم.

«أما العيون والآبار فمن أشهرها «قادش» الذي يدل اسمها المؤابي على تقديسها، واحتفظت في اسمها بالعربية (عين قديس) ويتصدر الآبار (بئر سبع) جنوب شرقي غزّة. وكان الساميون القدماء من بني إسرائيل وغيرهم يعتقدون أنّ هذه البئر (مسكونة) أي تقيم فيها كائنات غير


1- 1 التنعّم: يعني بنين أو بمعنى الذريّة.
2- 2 سفر التكوين، الاصحاح 18، الفقرات 1- 14.

ص: 173

منظورة من الملائكة والجن، وأنّ عددهم سبعة، تسهر على عقاب الحانث في يمينه، المتعمد للكذب، فكان عليه أن يذهب مع خصمه إلى تلك البئر، ويدعو على نفسه باللعنات السبع، كأن يموت بلا عقب، وأن يفقد كلّ عزيز عليه، وأن يصاب في ماله، وصحته، وشرفه، وأن يضرب في الأرض شريداً، وأن يفقد السمع والبصر والعقل... الخ» (1).

تلخيص واستنتاج

وصفوة القول أنّ الديانة اليهودية عرفت الحج كممارسة عبادية، مادية ومعنوية، كما عرفتها الديانة الإسلامية والديانات الأخرى التوحيدية وغير التوحيدية، لكن الفرق يكمن في ماهية هذه العبادة والأعمال والشعائر والمكان والزمان، والأهم من هذا كله، اتباع ما اعتقدوا هم به، وليس بما جاءهم به نبيهم من شريعة السماء، بالتوجه الصحيح إلى المكان المطلوب، والزمان المعين، والمناسك المفروضة و... الخ.

والحج فُرض على الناس منذ زمن الخليل إبراهيم عليه السلام حين أذن في الناس: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلِّ فجّ عميق (2)

.

وهذا الفرض السماوي عيّن المكان وعيّن الزمان واشترط الإستطاعة لأدائه، فقال تعالى: وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليهِ سبيلًا (3)

أي حقّ على الناس كافة أن يحجوا إليه- إلى البيت الحرام- حيث هي الدعوة عامة وليست خاصة لفئة معينة من الناس دون أخرى، ولم يخصص المسلمين دون غيرهم أو المؤمنين دون غيرهم، اللَّه تعالى لا يفرق بين عباده، فلم يقل وللَّه على المسلمين أو على المؤمنين أو على الفرقة الفلانية أو الفئة الفلانية، أو تلك القبيلة أو العنصر المعين أو اللون المفضل، بل جاء الخطاب عاماً للنّاس.

وقوله تعالى: إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً


1- 1 طقوس الحج عند اليهود: 7.
2- 2 الحج: 27.
3- 3 آل عمران: 97.

ص: 174

وهدًى للعالمين (1)

. ومن غير الممكن ان يجعل اللَّه تعالى لفئة من عباده بيتاً فيه البركة والهدى والرحمة وغفران الذنوب و... و... ويحرم آخرين منه.

وقد روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام حين سُئل عن هذه الآية وللَّه على الناس حج البيت... ومن كفر فان اللَّه غني عن العالمين قال: «من قال ليس هذا هكذا فقد كفر»(2).

إذن فالحج لغير بيت اللَّه الحرام لا يُقبل من أي إنسان اياً كان، فهو بِدعة لا يقبلها اللَّه تعالى ولا تأخذ معنى الحج الحقيقي.

هناك نصوص قرآنية تدين الخلط بين الحق والباطل، وتدين التباس الأمر على الناس نتيجة الإنحراف، وترجعها إلى انعدام الرؤية الواضحة والصحيحة والاضطراب عند بعض من الناس، من أضلهم وأغواهم الشيطان للانحراف عن الطريق المستقيم وعن جادة الصواب، الى طريق الهوى وطريق الغواية... قال تعالى:

لِمَ تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (3)

.

فاليهود يعلمون أن اللَّه تعالى شرع حجّاً... ويعلمون قدسية بيت اللَّه الحرام، ويعرفون أن جدهم إبراهيم الخليل عليه السلام بنى بيتاً لعبادة اللَّه تعالى، مع هذا انكروا الحق وألبسوه بالباطل وتوجهوا إلى أماكن ارتاحت لها أنفسهم وثبتت فيها عنصريتهم. ونسج الانحراف خيوطه فتاهت الحقيقة عليهم جيلًا بعد جيل، وضاعت معه مقدساتهم الحقيقية ومعتقداتهم الواقعية، ولعب الهوى أيضاً دوره، والإنسان ابن الهوى إذا لم يقيده قيد ويرشده مرشد (4)... وهذه المسألة في غاية الدقة والأهمية.

الحجّ في الديانة المسيحية:

مضى النصارى على شاكلة نظائرهم اليهود في اتخاذ وجهات متعددة، ومراسم وسلوكيات خاصة، خطّتها لهم خيالاتهم وأهواؤهم،


1- 1 آل عمران: 96.
2- 2 وسائل الشيعة 11: 16، ح 4128.
3- 3 آل عمران: 71.
4- 4 نقصد بالقيد والمرشد: العقل والإيمان الحقيقي، والارتباط باللَّه تعالى.

ص: 175

وزيّن لهم الشيطان سوء أعمالهم وتصرفاتهم، حتى أحسّوا أنّهم على حقّ وغيرهم على باطل.

عرفوا الحج أنّه طواف ودوار حول مقدسات العقيدة، فطافوا بمقدساتهم، وقدموا الأضاحي والنذورات والهدايا... بكوا وتضرعوا وطلبوا الغفران، وبعضهم ترك ملذات الدنيا المحللة والشهوات المباحة، واتجهوا للرهبانية عن الحياة ليتخذوا من (العذراء مريم) اسوة، ومن إلههم الثاني عيسى المسيح ربّاً- كما يزعمون- يغفر ذنوبهم ويكفر عنهم سيئاتهم ويدخلهم نعيم الجنة!!

وانقسم المسيحيون إلى عدّة فرق وكلّ فرقة اتخذت وجهة خاصة في الحج ومراسم وطقوس حجّ خاصة.

وقد خصّص لهم كتابهم (الإنجيل المحرف) أعياداً دينية، ك (عيد الفصح) و (عيد القيامة)، و (عيد الميلاد) و (عيد الفطاس)، وغالباً ما يصاحب أعيادهم حج وطقوس خاصة به.

يقول أحد الكتاب المسيحيين (فنسنك wensinck) في معنى الحج عندهم: «وقد فسّر لغويو العرب الحج بأنه «القصد» ويتفق هذا ومعنى الحج عندنا (أي عند النصارى) على أنه من الواضح أنّ هذا المعنى اصطلاحي، كالفعل العبري، ولعل المادة ومعناها في اللغات السامية الشمالية والجنوبية «يطوف» أو «يدور»...» (1).

ولم نقرأ في إنجيلهم المحرف ذكراً للحج عندهم، بل هناك أعياد دينية، يفرحون بها ويذكرون اللَّه (الأب) وابنه (يسوع المسيح) الذي جمع في تكوينه بين الروح الإلهية والتكوين الإنساني فهو- حسب تعبيرهم- مركب من إله وإنسان.

وعلى هذا فالمسيحية ذات إلهينْ وليس إلهاً واحداً، وإنَّ ديناً له أكثر من إله واحد ليس ديناً توحيدياً بل ثنائياً أو ثلاثياً يُسيِّره الإله الأب والإله الابن وروح القدس.

فالمكان الذي وُلد فيه الإله الابن محجة أولى لهم، ومكان الصلب والرفع


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين 7: 304.

ص: 176

محجة ثانية، وكل مكانٍصلى فيه عيسى المسيح أو ظهر هو أو أمّه مريم العذراء، فهو مكان مقدس ومحجة لهم، وهذا الظهور والتجلي في أي زمان أو مكان أو لأي شخص منهم فهو مقدس ومحل زيارة ومحجة سنوية في أحد الأعياد الدينية التي رسمها لهم كتبة الإنجيل.

الإنسان المتدين بدين المسيحية كأي إنسان آخر فهو ابن عقيدته، ونظرة أي إنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات، بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلّها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والاجتماعي والعبادي.

فإذا حكّم الإنسان عقله تجلى له الطريق الصحيح، وإذا قلّد أو غفل أو تعصب انحرف. فكتبة الإنجيل من أمثال هؤلاء الذين قلّدوا وغفلوا وتعصبوا فامتزج عندهم الحق بالباطل. وأول من أدخل البِدع وحرّفَ في الديانة المسيحية، شاب يهودي اسمه شاؤول يذكر قصته الكتاب المقدس في الاصحاح السابع من العهد الجديد، ادّعى أنّه حصلت له رؤيا ظهر فيها عيسى المسيح ودعاه الى التبشير. وفجأةً غيّر هذا الشاب اسمه إلى (بولص) وأدخل في المسيحية ما ليس فيها؛ ليكسب بدعوته الوثنيين والجهال من اليهود ومن غيرهم. ففي كتاب: «المئة: تقييم الأشخاص الأكثر أهمية في التاريخ» فإنّ مؤلفه مايكل هارت يقول: «ليس هناك شخص لعب دوراً في الضخامة كالدور الذي لعبه بولص في إشاعة المسيحية» (1).

وجهة النبيّ عيسى عليه السلام في الحج

وعيسى روح اللَّه عليه السلام لبّى نداء نبي اللَّه وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، حين أمره اللَّه تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، وعَلِم (وهو من الأنبياء الكبار: أي من أولي العزم) من اللَّه تعالى أن هذا النداء عام ولم يختص بشريحة معينة من شرائح المجتمع، بل هو يشمل جميع الأديان السماوية


1- 1 عن كتاب: نظرة عن قرب في المسيحية، بربارة براون: 22.

ص: 177

وجميع الأنبياء والرسل، وهو تكليف عام، واجب على المكلفين ومستحب لغير المكلفين، وسنبين شروط التكليف في الفصول اللاحقة إن شاء اللَّه تعالى.

وقد أكدت الروايات الشريفة عن الرسولصلى الله عليه و آله وعن أئمة الهدى عليهم السلام، حج ابن مريم عيسى روح اللَّه عليه السلام، إلى الكعبة الشريفة، فقد جاء عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنّه قال: «والذي نفس محمد بيده ليُهلَّن ابن مريم بفجّ الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنّيهما» (1).

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: «ومرّ عيسى بن مريم عليه السلام بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك» (2).

وفي تحديد الوقت الذي كان الأنبياء يحجون فيه إلى البيت العتيق، ومن ضمنهم عيسى عليه السلام، قال الإمام الرضا عليه السلام:

«... وقتها عشرة ذي الحجة...

النبيون آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد (صلوات اللَّه عليهم) وغيرهم من الأنبياء، إنما حجّوا في هذا الوقت، فجعلت سُنة في أولادهم إلى يوم القيامة» (3).

والنبيّ عيسى عليه السلام أحد أولي العزم الخمسة، ومن غير الممكن أن تكون وجهته في الحج مخالفة عن وجهة بقية الأنبياء والرسل، كأن يتخذ من بيت المقدس أو مكاناً آخر محجة خاصة له ولقومه واتباعه.

انحراف النصارى في الحج

والنصارى أو المسيحيون حالهم حال اليهود في التحريف والانحراف عن سُنة اللَّه والأنبياء، وعدم التزامهم بتعاليم نبيهم المرسل إليهم الذي ينسبون أنفسهم إليه، وما انزل عليه من شرائع السماء، وضربهم على تعاليم الشريعة بحُجب التحريف والكتمان، والترك الصريح لها، وقد ذكرهم القرآن الكريم، مستنكراً أعمالهم وعبادتهم في آيات بينات كثيرة منها قوله تعالى:

قل يا أهل الكتاب لستم على شي ء حتى تقيموا التوراة والإنجيل


1- 1 مسند أحمد 2: 240 و 272 بتفاوت يسير و 290 في حديث قال فيه: «وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما».
2- 2 بحار الأنوار، المجلسي 99: 185، الطبعة البيروتية.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 178

وما أُنزل إليكم من ربّكم وليزيدنَّ كثيراً منهم وما أُنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين (1)

.

فالآية الكريمةصريحة البيان واضحة المعنى أن أعمالهم ليست مقبولة، وهي لا شي ء حتى يعملوا بما أمرهم اللَّه من خلال الكتب السماوية المنزلة على أنبيائه.

عيسى عليه السلام كغيره من الأنبياء جاء بشيراً ونذيراً وهو بشر نبياً، لكن المسيحيين انقسموا فريقين من بعده: فريقاً كفروا وعادوا إلى وثنيتهم. والفريق الآخر جعل من شخصية عيسى عليه السلام مرتكزاً للدين وأخذ الدين اسمه من عيسى المسيح، وأخذت كل المعتقدات المسيحية تتمحور حول عيسى؛ المسيح. الأعياد المسيحية الرئيسية تتعلق بأحداث في حياة عيسى المسيح. ورمز العقيدة المسيحية، وهو الصليب، يشير إلى عيسى المسيح. وصلوات المسيحيين موجهة إلى عيسى لأنهم يعتبرون أن اللَّه نفسه لا يمكن أن يخاطبه إنسان عادي. وحسب ما يقوله المؤلف المسيحي فرتز رايدنور: «إن مفتاح العقيدة المسيحية هو أن عيسى المسيح كان في الواقع السبب في وجودها كلّها، وأنه هو الذي يحافظ على تماسكها بأجمعه» (2).

فهذه الملّة من البشر جعلوا من أماكن ذكريات نبيهم، وما تجلى لهم من شخصه وشخصية أمّه عبر تاريخه الى يومنا هذا، جعلوها أماكن حج دينية في أعيادهم السنوية... نذكر من هذه الأماكن المقدسة ما يلي:

1- اتجه بعض المسيحيين إلى بيت المقدس في فلسطين حيث الصليب الأصيل للسيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام اقتداءً بسنة الملكة هيلانة.

2- واتجه قسمٌ آخر إلى كنيسة رومة في ايطاليا (rom) Rome.

3- ومنهم من حجَّ إلى لورد في فرنسا للمكان الذي ظهرت فيه السيدة العذراء لهم.


1- 1 المائدة: 68.
2- 2 كيف تكون مسيحياً في عالم غير مسيحي: 176، نقلًا عن نظرة عن قرب في المسيحية، بربارة براون: 14.

ص: 179

4- وتوجه منهم إلى كنيسة (فاطيما) (Fatima) لتجلي السيدة النورانيةصاحبة المسبحة فاطيما.

5- وآخرون توجهوا إلى أماكن متفرقة كقبور الأسلاف من موتاهم، أو إلى الجبال وغيرها من الطبيعة.

وسنحاول قراءة كلّ واحدة من هذه النقاط قدر استطاعتنا، وإلقاء الضوء على الموقع الجغرافي ونبذة عن تاريخها إن شاء اللَّه تعالى.

الحج إلى بيت المقدس

التوجه في الحج إلى بيت المقدس، لم يرد فيه نص لا في التوراة ولا في الإنجيل، بل سُنة اتبعت نتيجة اسباب معينة، فعند النصارى كان السبب الرئيسي هو اتباع سُنة الملكة، (هيلانه (ste) (Helene) أمّ الامبراطور قسطنطين، التي اكتشفت العود الأصلي، الذيصُلبَ عليه عيسى المسيح، فجُعلَ ذلك اليوم مباركاً وعيداً يحج فيه إلى بيت المقدس الذي يحتضن العود المقدس...

«وهيلانة التي اهتدت إلى الدين المسيحي، وقامت عام (326 م) بجولة تفقدية في الشرق، زارت خلالها الأماكن المقدسة في فلسطين، وقامت ببناء كنائس في أورشليم وبيت لحم.

يُروى أنّها عثرت على عود الصليب الحقيقي» (1).

ويُروى أنّها «كرست اهتمامها لكشف مواضع الحوادث المهمة للمسيحيين، ولبناء كنائس تذكاراً لها» (2).

فالمسيحيون يكرّمون «كنيسة القبر المقدس، التي تقوم على المكان التقليدي لجبل (الجلجثة)، الذي يعتقد المسيحيون أن المسيحصلب عليه.

يحيط بالمدينة القديمة سور شيده السلطان سليمان القانوني عام (1541)، وفي شرق المدينة القديمة يقع وادي قدرون وبه بستان جشماني» (3) و «حينما منع الأتراك السلاجقة، المسيحيين من زيارة بيت المقدس، وهدّموا كنيسة القبر المقدس (الآن كنيسة القيامة) قامت الحروب


1- 1 معجم الحضارات السامية، هنري س. عبّودي: 896، طرابلس- لبنان.
2- 2 العرب واليهود في التاريخ، د. أحمد سوسة: 390، العربي للإعلان والنشر.
3- 3 الموسوعة العربية الميسرة.

ص: 180

الصليبية، فسقطت في أيدي الصليبيين عام (1099)...» (1).

والزيارة أو الحج إلى كنيسة القيامة (كنيسة القبر المقدس)، عادةً تكون في عيد الفصح السنوي وهو:

«العيد الرئيسي عند المسيحيين، وهو ذكرى قيامة المسيح بين الأموات في العقيدة المسيحية، ويقع بين (22) مارس و (25) أبريل ويرتبط به عدد كبير من الأعياد الأخرى، ويُسبق بالصيام الكبير الذي يدوم أربعين يوماً، ويجمعه «آلام المسيح»...» (2).

وعيد الفصح: عيد ديني تُمارس فيه أوامر ونواهٍ خاصة كالصوم والصلاة والدعاء والنذور والأضاحي وغيرها، ويختلف بكثير عن عيد الميلاد المسيحي المشهور، الذي تحوّل الى عيد قومي يُلزم به المتدين وغير المتدين من المسيحيين، وهو ذكرى مولد السيد المسيح، يليصيام أربعين يوماً (هذا بالنسبة للملتزمين، أما غير الملتزمين فلا يعنيهم هذا الصيام)، وهو يوم 25 ديسمبر بالتقويم الغربي، ويوم 29 كهيك بالتقويم القبطي، احتُفِل به قبل (200)، ثم انتشر وأصبح شائعاً وشعبياً في القرون الوسطى، التصقت به عادات وتقاليد قومية، مثل غناء الترانيم، وتبادل الهدايا وإرسال التهاني، وغير ذلك، أما إقامة (شجرة عيد الميلاد) فهي عادة ألمانية الأصل (3).

وهنا لا يهمنا هذا العيد، ولكن الشي ء بالشي ء يذكر، لأنهم يستحب لهم في عيد الميلاد زيارة (كنيسة القيامة المقدسة) إن استطاعوا، وإلّا فأي كنيسة أخرى.

أما الحج إلى (كنيسة القيامة) في بيت المقدس الشريف المُسن من قبل الملكة هيلانه، فهو ذكرى العثور على عود الصليب الأصلي كما ذكرنا سابقاً، يحيون ذكراه، حتى أصبحت عادة وسُنة جيلًا بعد جيل، وكأنهم يحجون إليه لفريضة أو أمر إلهي شرعه له عيسى المسيح عليه السلام فتركز في نفوسهم، أما حقيقة هذا الحج فهو التراث الذي


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 الموسوعة العربية الميسرة: 1247.
3- 3 انظر المصدر السابق.

ص: 181

خلّفته (هيلانه)، فهو تراث وحج مزيف وليس حجاً إلهياً حقيقياً.

كنيسة القيامة في القدس الشريف

رومة في ايطاليا Rome] rom [

تعدُّ روما من المدن المهمة والمقدسة للمسيحيين، وهي مركز ثقافي وفني وديني منذ عهد طويل ويطلق عليها: (المدينة الخالدة) وكذلك (المدينة المقدسة) وهي وسط ايطاليا قرب الساحل الغربي على ضفتي نهر «التيبر»، عاصمة ايطاليا،

دو فصلنامه «ميقات الحج»،ص: 182

وفيها الفاتيكان مقر البابوية، وكان للإصلاح الكاثوليكي بعد عام (1527) م أثر في استفادة البلاط البابوي- بعد أن خرب جنود شارل روما عام 1527 م- وكذلك استعاد مكانته وسلطته الروحية. استمرت روما في الازدهار والإفادة من وفود جموع الحجاج عليها (1).

وروما من كُبرى مُدن ايطاليا، ويرقى تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد. كانت فيما ما مضى عاصمة الجمهورية الرومانية، ثم عاصمة الامبراطورية الرومانية، ثم عاصمة المقاطعات البابوية... وهي اليوم عاصمة الجمهورية الإيطالية، والعاصمة الإدارية والروحية للكنيسة الرومانية الكاثوليكية بوصفها مقرَّ الكرسي الرسولي (في الفاتكان) (2).

جاء في تاريخ الحضارات العام:

«فإننا نشاهد عناصر عديدة من المسيحيين تقوم في العاصمة روما، ملتقى جميع الملل والطوائف، ومحجّة الشعوب على اختلافها» (3).

وروما المدينة الجميلة ذات الطبيعة الخلابة والآثار الجذابة ومقر الكنيسة الكاثوليكية ومقر الكرسي الرسولي، التي تستهوي القلوب المسيحية التي تعلقت بشخص عيسى المسيح عليه السلام، اعتُبرت كنيستها والآثار المحيطة بها، محجّة سنوية ومركزاً تجارياً وترفيهياً.

والحج لهذه المدينة الأثرية- في اعتقادنا- ما هو إلّانزهة سنوية ترفيهية اكثر مما هي معنوية الهية أو روحية.

إنّ هذا النوع من النزهة السنوية ممكن في كل مكان وزمان، ولم يتوفر على أيّ من شروط الحج، ونحن نعتقد وتبعاً لما نعرف من الأوضاع الاجتماعية المتردية في الغرب، لابد وأن يصاحب هذه السفرة السياحية قضايا وامور انحرافية لا أخلاقية مما لا يرضى اللَّه بها ولا السيد المسيح نفسه، فكيف يطلقون على هذه النزهة «حجاً»؟!


1- 1 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 898- 900.
2- 2 انظر موسوعة المورد، منير البعلبكي 8: 163.
3- 3 تاريخ الحضارات العام، اشراف موريس كروزيه 2: 426.

ص: 182

ص: 183

والظاهر أن زيارة المسيحيين لرومه تكون عادةً في عيد القيامة، ويصاحبها استعمال البخور والماء المقدس في التطهير، وإيقاد الشموع وتقديم النذور وبعض الأضاحي (1).

كنيسة لورد في فرنسا Loord

ابتدع هذا الحج عام (1858 م) أي بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام بأكثر من ثمانية عشر قرناً، ويرجع سببه إلى ادّعاء إحدى راهبات الكنيسة في فرنسا أنها شاهدت مريم العذراء، تجلت لها بجوار المغارة التي كانت بالقرب منها.

ولورد: بلدة في الجزء الجنوبي الغربي من فرنسا. كانت في القرون الوسطى ذات موقع استراتيجي هام.

أصبحت منذ العام (1858 م) محجّاً يقصده المرضى من الكاثوليك التماساً للشفاء بعد الذي أُذيع من أن العذراء تجلّت غير مرة، في مغارة هناك لفتاة ريفية اسمها برنادت «Bernadette) (2)).

وتدّعي الكتب المسيحية أن برنادت سوبيروس... المولودة عام (1844 م) في لورد (فرنسا) ظهرت لها السيدة العذراء عام (1856 م) أو (1858 م)، أي كانت بالغة من العمر (12- 14) عاماً، ودعتها إلى تأسيس معبد (لورد) الحالي، وكانت وفاتها عن عمر يناهز (35) عاماً أي عام (1879 م) (3).

ومدينة لورد الواقعة بمقاطعة البرانس العليا جنوب غرب فرنسا يؤمها حوالى مليون زائر سنوياً، التماساً للعلاج عن طريق المعجزات (4).

ولا شك أن (مُودة) ظهور السيدة العذراء وتجليها للنصارى، أصبحت معروفة: وهي إما خيالات لمغالين أو لأغراض سياسية أو اجتماعية أو تبشيرية أو لُامور أخرى! عِلماً أنّ هذه المغارة أصبحت لهم (باب المراد) يطلبون حوائجهم منها وينذرون لها ما استطاعوا إليه سبيلًا أو أكثر، يحيون الليل بالبكاء والتضرع آملين من العذراء غفران الذنوب


1- 1 انظر قصة الحضارة 11: 314- 320.
2- 2 موسوعة المورد 6: 148.
3- 3 المنجد، لويس معلوف: 127، دار الشرق- بيروت.
4- 4 انظر الموسوعة العربية الميسرة: 1574.

ص: 184

وستر العيوب والشفاء من الأمراض.

وعجباً لسذاجة بعض المسيحيين، أن يطلقوا على هذه الأماكن، أماكن حج يُعبد فيها الرب الإله والرب اليسوع عيسى وامّه، تذكرها كتبهم بكلِّ جرأة ووقاحة...

تجرهم طفلة أحبت العذراء مريم عليها السلام وتعلقت بها وتخيلتها مرّات، هذا تعليقنا على هذه القضية إنصحت الأخبار في نقلها...

كنيسة (فاطيما) في البرتغال «Fatima»

وقصة فاطيما تتمحور في قضية مقدسة حدثت في أورپا، اهتم بها العالم المسيحي. لأنها من شؤونه الدينية الخاصة، وقد ارتبطت هذه القصة باسم يمت إلى العالم الإسلامي بصلة.

وفاطيما: قرية في شبه جزيرة (فيبري) غرب اسپانيا في مدينة ليشبونة في البرتغال، فتحها عبد الرحمن عام (710 م) وبقيت تحت راية الإسلام حتى القرن الحادي عشر الميلادي، استولت عليها أورپا وانجلى الإسلام عنها، وأصبح أغلب سكانها من المسيحيين.

وفي عام (1917 م) أصبحت فجأةً محجة للمسيحيين ومقصداً للزوّار، والمتابع لأخبارها يعجب للدين المزيج من التعاليم المسيحية والتعاليم الإسلامية، خصوصاً عند أهل القرية التي تحتضن كنيسة فاطيما...

وبدأت القضية هكذا: ثلاثة اطفال قرويين يفتحون عيونهم على حقيقة تجلت لهم في ضواحي القرية، لتصبح فيما بعد مَعيناً متدفقاً لاعتقاد عميق في حياة أبناء هذا البلد.

الأطفال هم: جاسنيتا- سبع سنوات- وفرانسيسكو- تسع سنوات- ولوسيا- عشر سنوات- الشاهد الأصلي لهذه الحادثة هي لوسيا.

وتروي ألسنة الأطفال الثلاثة الحادث على النحو الآتي: في عام 1916، قبل عام واحد من رؤيتنا السيد التي تشع بالنور، تراءت لنا

ص: 185

«ملاكاً» ورددت هذه العبارة:

لا تخافوا... أنا «ملاك السلام».

وقالت أيضاً «إلهي! أنا أعتقد بك وأؤمن بك وأحبك، وإني أطلب الغفران لهؤلاء الذين لا يؤمنون، ولا يعتقدون بك، ولا يحبونك».

بعد ذلك تراءت لهم ملاكاً مرتين في الصيف والخريف، وفي كلّ مرّة كانت تقول لهم: «قدّموا الأضاحي، واستغفروا للمذنبين وادعوا لهدايتهم» وقد لعبت المواقف الثلاثة دوراً في تهيئة الأطفال لرؤية السيدةصاحبة المسبحة، وفي الثالث عشر من آيار (مايس) 1917 م، رأى الأطفال هالة النور مرتين، ثم أطلّ نور عظيم من أعلى شجرة البلوط، سيدة أشد ضياء من نور الشمس تسمى «فاطيما» راحت تكلمهم:

- لا تخافوا، لا أريد أن اخيفكم

- من أنت؟

- فاطمة بنت الرسول

- من أين جئت؟

- جئتُ من الجنة

- ماذا تريدين منّا؟

- جئت لأطلب منكم أن تواظبوا على المجي ء إلى هنا، وسأقول لكم فيما بعد ماذا أريد منكم. وأخذت تظهر كلّ شهر وفي لقائها السادس والأخير أظهرت معجزة كبرى أمام أنظار سبعين ألف شخص كانوا قد احتشدوا لرؤيتها... إذ شاهدت الحشود المنتظرة، توقف هطول المطر فجأة، واهتزت الشمس واستقرت، ثم دارت مرّتين بنحو ظنَّ الناس بأنّها ستسقط في أي لحظة على رؤوسهم.

ثم عادت الشمس إلى موضعها. وأولصحيفة نشرت هذا الخبر (صحيفة ليسبون) في الخامس عشر من تشرين الثاني من العام نفسه (1).

وهناك مصدر آخر يقول: «ان فاطيما قرية وسط البُرتغال زُعم أنّ السيدة العذراء ظهرت لثلاثة من أطفالها (اطفال القرية) في 13 مايو عام 1917 م. ومنذئذ أصبحت محجةً يقصد إليها المسيحيون من مختلف أرجاء الأرض...» (2).


1- 1 «فاطيما» مهوى الأفئدة وملاذ المتضرعين، الطاهرة، العدد 70: 11- 12. والفلم التحقيقي الذي عرضه تلفزيون الجمهورية الإسلامية باللغة الفارسية.
2- 2 موسوعة المورد، البعلبكي 4: 108.

ص: 186

وتعتبر ليلة الثالث عشر من مايو- يوم الحادث- من كلّ عام ليلة الدعاء المهمة في مزار فاطيما، إذ ينبغي وفقاً لوصية السيدةصاحبة المسبحة، قضاؤها بالدعاء والتسبيح والاستغفار، وهو درس تعلّمهُ الناس هنا من السيدة فاطيما؛ ليصبح فيما بعد واحداً من معتقداتهم وتصوراتهم الدينية. والطريف أن هذه الحشود البشرية، التي تقطع مئات الكيلومترات كلّ عام من شمال البلاد وجنوبها، قاصدة هذه المدينة المقدسة، لم يثنها عن مجيئها حرٌّ ولا برد، ولا ليل ولا نهار، بل وبعد انتهائها من الزيارة يتمتم كلّ واحد بهذه الكلمات:

«سيدتنا فاطيما! السيدةصاحبة المسبحة! السيدة هالة النور! أنا مضطر الآن للابتعاد عنكِ، ولكن أطلب من اللَّه أن لا يجعل هذا اللقاء آخر لقائي بك، وأن يكون هذا الالتماس وهذا الشوق حيّاً في وجودي دائماً يا فاطمة! في أمان اللَّه يا سيدتنا الطاهرة» (1).

وتعليقنا على هذه الواقعة التي جاءتنا من بعيد، من البرتغال أو بالأحرى من قرية نائية من البرتغال، من بيئة مسيحية، واقعة شاهد آثارها عدد كبير، وزارها الباب نفسه (2)...

وفي نفس الوقت تتعلق القضية بشأن إسلامي مهم هو ظهور السيدة فاطمة بنت الرسولصلى الله عليه و آله ذات المسبحة (3).

ونحن نحترم السيدة مريم العذراء عليها السلام، وفي الوقت نفسه نقدس السيدة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، فهل يا ترى أنّ الذي وردصحيح مئة بالمئة؟ ذلك ما لا أستطيع أن أنفيه على الأقل...

ولكن أتساءل... لَمْ نقرأ أن مجموعة من المسيحيين ومنهمصاحبة القضية الأصلية الراهبة (لوسيا) أنهم أسلموا مع أن القضية تستحق الإسلام، هذا اذا كان التجلي لشخص فاطمة الزهراء عليها السلام، وإذا كان التجلي لشخص مريم العذراء عليها السلام فلَم نقرأ أن لمريم عليها السلام اسماً يشابه اسم فاطمة؛ لكي


1- 1 «فاطيما» مهوى الافئدة وملاذ المتضرعين: 13.
2- 2 في عام 1967 م. في الذكرى الخمسين لإقامة المزار، زارها البابا بولس السادس تجليلًا للبقعة المقدسةوتكريماً لها. كما زارها الباب بولس الثاني عام 1982 م.
3- 3 الطريف أن حجاج تلك الكنيسة يحملون بأيديهم مسبحة ويسبحون كتسبيح الشيعة الإمامية أي: يذكرون اللَّه 34 مرة اللَّه اكبر، ويحمدون اللَّه 33 مرة الحمد للَّه، ويسبحون اللَّه 33 مرة سبحان اللَّه، كلٌ بلغته الخاصة.

ص: 187

تُسمى المنطقة باسمها.

ثم إنّ اهتزاز الشمس ودورانها مرتين ورجوعها إلى حالها منذ زمن قريب جدّاً (سنة 1917 م)... ليس أمراً عادياً، إنه أمر كوني تنقلب له الدنيا وتهتز له عقول العلماء الفلكيين، ولكن لم نسمع ولم نقرأ عن هذا الحدث الكوني شيئاً، في حين أن تسجيلات خسوفات وكسوفات عادية جاءت من آلاف السنين.

إنّ القضية أو القصة يجب أن تُقرأ بشكل مفصل نظرياً وميدانياً، واللَّه أعلم ما وراء ذلك...

وقد سمعنا من أحد الناقلين القادمين من البرتغال أن التي تجلت لهم (1) كانت (فاطمة) بنت أحد الخلفاء المسلمين وليست بنت الرسولصلى الله عليه و آله، فإن كانت هذه أو تلك فالقضية تحتاج إلى دارسة أكثر كما ذكرنا أعلاه...

حجهم إلى مقدسات أخرى

إضافة إلى ما ذكرنا من مقدسات النصارى، هناك أماكن أخرى قدسها البعض منهم؛ كقبور الموتى وبعض الأشجار التي رُمز لها (بشجرة عيد الميلاد) وبعض الجبال وغيرها، ونذكر هنا تقديسهم وحجهم للقبور القديمة:

كانت طريقة الدفن المسيحية آخر ما تُكرَّمْ به حياة المسيحي، ذلك أن من عقائد دينهم عودة الحياة إلى الجسم والروح، ولهذا كان يُعنى بالميت أشد عناية، فيقوم قسيس بالخدمة الدينية للميت وقت دفنه... فكان العمال يحفرون طرقات طويلة تحت الأرض مختلفة البُعد عن سطحها، توضع فيها أجسام الموتى في دياميس بعضها فوق بعض ممتدة على جانبي هذه الطرقات، وسار الوثنيون واليهود على هذه السنة نفسها، ولعلهم فعلوا هذا ليسهلوا مشقة الدفن ونفقاته على الجمعيات التي كانت تقوم بهذه المهمة. ويبدو لنا أن بعض هذه الطرقات قد جعلت ملتوية عمداً، وقد يبعث على الظن بأنها كانت تستخدم كمخابى ء في أوقات الاضطهاد، فلما أن علا شأن المسيحية


1- 1 أي تجلت للأطفال الثلاثة.

ص: 188

وانتصرت على أعدائها زالت عادة دفن الموتى في السراديب، وأضحت الدياميس أماكن معظمة «يحجُّ» اليها الناس (1).

والظاهر أنّ هذه الدياميس بقيت محجة لمئات السنين حتى حلَّ القرن التاسع الميلادي، سدّت السراديب ونسيها الناس، ولم تُكشف إلّا بطريق المصادفة عام (1578) ميلادية (2).

وكذلك عادة تقديس بعض الجبال وبعض الأشجار، فقد انقرضت بظهور عادة الحج إلى رومة وفاطيما ولورد والقدس وغيرها من المقدسات الحديثة...

تلخيص واستنتاج

والحج المسيحي هو الآخر ليس حجاً إلهياًصحيحاً، وذلك بسبب من أصل العقيدة التي اختاروها أوصنعوها ومزجوا بها بين اللَّه والانسان، فديانتهم التي اختارتها عقولهم رأت أن المسيح عليه السلام هو الإله (الابن) المكمل للإله الحقيقي، فالمسيحية هي ديانة ذات إلهين وليس إلهاً واحداً، وأن ديناً له أكثر من إله واحد ليس ديناً توحيدياً...

وكما ذكرنا في المقدمة ما قالته (بربارة براون) الكاتبة الأمريكية التي أسلمت عن قناعة راسخة بعد أن رأت أن المعتقدات المسيحية كلّها تدور حول الإله الابن (عيسى عليه السلام) وقالت: «إنّ المسيحية هي ديانة ذات إلهين وليس إلهاً واحداً» (3)، والأعياد والصلاة و... و... كلّها موجهة إلى عيسى المسيح...

وكذلك الحج عندهم ليس عبادة خالصة موجهة إلى الواحد الأحد- كما عند المسلمين- بل هي مرتبطة إما بشخص عيسى عليه السلام أو مكان ذكرياته كمسقط رأسه أو العود الذيصُلب عليه، أو المكان المرتبط بالسيدة العذراء مريم عليها السلام إذا تجلت لهم في خيال أو تصور أو منام أحدهم أو للمغالين منهم...

ومن هنا تبين الانحراف والابتعاد عن الحج الحقيقي، الذي


1- 1 انظر قصة الحضارة 6، 11: 285- 286.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 نظرة عن قرب في المسيحية: 13.

ص: 189

وضع اللَّه الواحد الأحد هدفه الأسمى والأول والآخر، وغير ذلك لا يمكن أن نعتبره حجاً بأي حال من الأحوال مهما كانصاحبه مخلصاً، ومهما عمل من الأعمال والمناسك الدينية...

فالحج عند النصارى إذن ليس مرتبطاً بالإله الحقيقي بالمرة، وإنما مرتبط بالإنسان الذي خلقه اللَّه تعالى للبشر؛ ليُبشر ويُنذر وليبين الحق من الباطل... والنبي عيسى عليه السلام ما هو إلّا بشرٌ مثلنا يُشاركنا ونشاركه بالإنسانية، اصطفاه اللَّه تعالى ليكون رسولًا نبياً. وأمه أيضاً لا يمكن أن تُعبد أو أن تكون في مقام أُم الإله اليسوع- كما يدّعون-، فهي امرأة انسانة، لكنها وصلت مرحلة الأولياء الصالحين نتيجة علاقتها باللَّه وعبوديتها الحقّة له، ممّا جعلها سيدة نساء زمانها، وأمّ نبي اللَّه.

وأمّا النصارى فقد أشركوا باللَّه تعالى، حين جعلوا لعيسى عليه السلام وامّه عليها السلام مقام الإلوهية...

الهوامش:

ص: 190

ص: 191

ص: 192

من رحلات الحجّ الإيرانيّة (3) مقتطفات من يوميات مكة لكريمة فرهاد ميرزا

ص: 193

من رحلات الحجّ الإيرانيّة (3) مقتطفات من يوميات مكة لكريمة فرهاد ميرزا

هذه هي إحدى يوميات السفر إلى مكة، التي كُتبت في العهد القاجاري، وكاتبة هذه اليوميات هي كريمة فرهاد ميرزا (صاحب إحدى يوميات الحج هو الآخر والتي طُبعت مراراً). وحسام السلطنة هو عَمُّ الكاتبة، وهو كاتب اليوميات المعروفة باسم «سفرنامه مكه» والذي طبع على شكل كتاب مستقل. وجدير بالذكر أنّ حسام السلطنة كان قد حضر حج العام نفسه، الذي تشرفت به كاتبة هذه اليوميات بالحج ودوّنت هذا الكتاب، وكتب هو الآخر يومياته في السنة نفسها. وقد أورد الكاتبان ذكراً عن بعضهما الآخر في يومياتهما.

وأمّا ما يخصّ كريمة فرهاد ميرزا فلا نعلم عنها سوى أنّها كانت زوجة وزير العسكر، وقد تكدّر مزاجها كثيراً عند سماعها بالمرض الشديد الذي أصاب وزير العسكر في أواخر سفرها.

وقد تعرضت هذه اليوميات كغيرها من اليوميات المؤلَّفة، في العهد القاجاري، إلى بيان منازل الطريق إلى الحج والمشاكل والعقبات، التي يواجهها

ص: 194

المسافرون. وكانت القوافل إبّان ذلك الوقت قلّما تخلو من مواجهة المصاعب والمشاكل، وخصوصاً عند تعرّضها للهجمات، التي كان يقوم بها الأعراب وقطاعُ الطرق. وقد أطنب المؤلف في وصف تلك العقبات والمشاكل.

لقد سعى رجال البلاط في العهد القاجاري بجدّ إلى التعرف على الأدب والثقافة والتاريخ، وهو أمرٌ شمل عدداً محدوداً من نساء الطبقة العُليا لتلك العوائل.

والكتاب الذي بين أيدينا هو خير شاهد على مستوى الثقافة الذي تطلّعت به بعض نساء البلاط آنذاك، وتأتي أهمية هذا الكتاب إضافة إلى ما ذُكر في كونه تأليفاً لامرأة، من طبقة الأشراف، حيث يعكس انطباعاتها بمهارة، وهو ما يميّزه عن باقي اليوميات المكتوبة في الفترة نفسها. وهذه اليوميات، التي تعود إلى العهد القاجاري هي الثانية بعد يوميات السفر المنظومة في العهد الصفوي من قبل امرأة مثقّفة، وقد طبعت ونشرت.

وقد تمّت تهيئة هذا المتن طبقاً لنسخة كانت معروفة لدينا، هي نسخة محفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإسلامي رقم 2 تحت رقم (1225) (الفهرست، ج 2،ص 172).

*** بداية الرحلة

هذه هي يوميات الرحلة إلى بيت اللَّه الحرام، التي اكتبها بمعونة اللَّه القادر المتعال مشروطة بسلامة مزاجنا.

يوم الثلاثاء 24/ شهر رمضان المبارك/ 1297 ه، لأربع ساعات بقين للغروب. تحركنا بالطالع الحسن من دار الخلافة،...

بداية السفر إلى الحج (1) ليلة السبت، الثالث من شهر ذي القعدة الحرام، جلستُ حتى الساعة السابعة مشغولة بالكتابة والتوديع وأردّد مع نفسي:


1- 1 بما أن هذه الرحلة طويلة، فقد اقتبسنا منها ما يخصّ الحج فقط.

ص: 195

إلهي آمنّي حتى أرى ثانيةً وجه الأحبة وعيون المحبّين.

وبعد كتابة الرسائل أعطيت الظروف إلى الساعي، ثم نمتُ بعض الوقت، وبعدها سمعتُصوت الطّبل.

الحقّ أنّ روحي تكاد تخرج من جسدي اليوم. فقمتُ وتوضأتُ وأدّيت فريضة الصبح. فقيل: بسم اللَّه، اركبوا. فجاء من كربلاء واحدٌ أو اثنان من المودّعين. إنَّ التحرّك اليوم أشدّ وطأة من تحركنا من طهران. وبعد قولنا بسم اللَّه، استودعنا الجميع بحفظ اللَّه! وتحركنا من الحضيرة من هناك ولساعتين بقيتا للغروب نزلنا، وكان الهواء حارّاً والسير غير طبيعي. عسى اللَّه أن يتفضّل علينا بالفرحة والسلامة في مسيرنا خلال هذا السّفر الطويل.

يوم السبت، الثالث من شهر ذي القعدة الحرام، كان المنزل في «خان شور».

فقضينا الليلة هناك، وعند السَّحر دَقَّ الطّبل، وبعد أداءصلاة يوم الأحد الرابع، من الشهر نفسه، ركبنا وتابعنا المسير. وفي أثناء الطريق كانت هناك قلعة وعين ماء تُعرف ب (عين سعيد). فغرس أمير الحاج عبد الرحمن هناك لواءً لأجل أخذ الماء، ويبدو أنّه لا يمكن الحصول على الماء حتى اليوم التالي. فأقمنا في الخيام، وقد استعذت باللَّه واستعنت به علىصعوبات الطريق وشدة حرّ النهار، ورجوتُ أن لا أمرض.

ليلة الاثنين، الخامس من ذي القعدة الحرام، عند مُنتصف الليل ركبنا، ولساعتين بقيتا للغروب ترجلنا فيصحراء لا يرى فيها إلّاالرمال. وبقينا في هذه الصحراء إلى وقت السّحر، ولساعتين بقيتا لانبلاج الصبح تحرّكنا، يوم الثلاثاء، السادس من هذا الشهر الغروب تقريباً، ولمّا وصلنا إلى المنزل، توقّفنا فيه قليلًا من اللّيل، ثم تحركنا لساعتين بقيتا للأذان. ماذا أقول وكيف أصوّر قلة الماء وحرارة الجوّ؟! أسألُ اللَّه أن لا يتعرض المسلم للهلاك في هذه الصحراء القاحلة، التي لا ماء فيها ولا زرع.

ص: 196

يوم الأربعاء وصلنا إلى مكان كانت فيه عدّة آبار، إلّاأنَّ ماءها كان مالحاً.

وهنا أيضاً ذُكِرَ أنّه لا مجال للحصول على الماء حتى منازل ثلاثة قادمة، فملئتِ القدور ماءً، ويوم الخميس والجمعة وليلة السبت لم يكن هناك ماء. ولأنَّ الجمالين لم يكونوا وصلوا بعد، ضُرِبَ الطبلُ في أول تلك الليلة وتحركنا. بعض المشاة كان يبدو عليهم أنهم على وشك أن تُقْبَضَ أرواحهم. وفي ذلك المنزل أيضاً بدا أحدهم وهو من أهل شميران مريضاً فتوفي، وبعد مشقة كبيرة حصلنا على قِربة من الماء، ودُفع تومان واحد وعشرا التومان كمقدمة لتغسيله، ثمّ دُفِنَ المسكين في تلك الصحراء بشكل من الأشكال.

ركبنا وسرنا ساعة أو اثنتين حيث جاء كل جَمّال حاملًا الماء لرئيس القافلة.

وكانت في هذه الليلة نوبة واحدة لأخذ الماء بشكل لا يمكن أن يذكر بالكتابة.

وبحمد اللَّه تعالى فقد وصل الماء واستقرت أرواحنا. العجب من هذه الجمال التي ليس لها ماء ولا عَلَف، وتسير النهار بطوله هُنا!

ثلاث ساعات بقينَ للغروب، وصلنا إلى بئر الماء التي قالوا عنها: إنها تحوي ماءً حُلواً. في الصحراء الأحجار والصخور تحت الرمال، فإذا أردوا أن يغرسوا مسامير حديدية فيها من أجل ربط أطناب الخيام تحطّمت تلك المسامير. فكان لابد من ربط سرادق الخيام بالحجارة. كلما أزيل الرّمل تكشّفت الحجارة من تحتها. ويقولون: إنَّ في هذه الصحراء مئة وثمانين بئراً، وإنّها من عمل الغيلان! ويبدو أنّ الأمر هو كما يُقال، ذلك أنّه ليس بمقدور البشر أن يحفر في الصخر. ويبدو كذلك أنّ هذه الصحراء مخلوقة من الصّخر. على أيّة حال سحبوا بعض الماء، والماء هنا حلوٌ، إلّاأنَّ لونه أصفر كالزّعفران؛ وذلك من كثرة أوساخ الجمال وسقوطها فيه.

بعد مضيّ ساعتين من اللّيل أعلن نقيب القافلة أنّه لا وجود للماء في المنزلين القادمين. وعند السحر ركبنا وكانوا يسيرون فيها أظنّ أربع عشرة ساعة أو خمس

ص: 197

عشرة ساعة في اليوم.

نحو جَبَل:

يوم الثاني من ذي القعدة الحرام، خرجنا من كربلاء، ويوم الجمعة السادس عشر وصلنا جَبَل. وفي هذه الأيام لم يُشاهد سوى تُراب الأرض والسّماء. قبل وصولنا إلى الجبل بيوم واحد كانت هناك قلعة، وكانت هناك مزرعة للذرة.

ولأجل تناول الطعام، توقفنا هناك ساعة أو اثنتين وشربنا فنجاناً من الشّاي، وبعد أن تزودنا بالماء ركبنا. ولساعة بقيت للغروب نزلنا؛ ولأنّ هذه المنازل ليس لها اسم مُعيّن، لم يذكر هنا.

الجمعة السادس عشر، لخمس ساعات بقين للغروب وصلنا «جَبَل» لنقضي فيه ليلة السبت السابع عشر ويوم السبت السابع عشر، جاء (الامير محمد خان) ملك «جَبَل» إلى الحجيج وزار مكانهم، وقد كان أنيقاً جدّاً في هيئته، وقد شَدَّ لفرسه لجاماً من الذّهب، ولبس هو قباءً غُجراتيّاً مُذَهَّباً. وأمّا غِلمانه فكانوا مُزينين تماماً ببنادق ذات محاجل فضيّة، وجلسوا خارج الخيمة. وبعد أداء التشريفات جلس هو وسط الخيمة، فيما جلس جميع رجاله في الخارج. وكعادة الأعاجم حيث يجب على الخادم أن لا يجلس قرب المخدوم، ولم تكن هنا من تلك التشريفات والمراسيم. وكانت لديه خمسة مدافع. وفي كلّ ليلة يطبخون عِدّة جمال في معمله لإطعام رجاله وعُمّاله.

ليلة الأحد، الثامن عشر وليلة الاثنين التاسع عشر، وبعد مضيّ ساعتين على النّهار، ركبنا، فسِرنا حتى ساعة بقيت للغروب، ومن كربلاء وحتى جَبَل لم يلُح لنظرنا جَبَلٌ على الإطلاق، ما عدا أرض مستوية وتراب ناعم لا غير. كانت ثلاثة من المنازل التي مررنا بها عبارة عن أرض رملية، ورمالها كانت حمراء، ويُعرف هذا النّوع من الرمل برمل الصياغة حيث يُنَظَّف به الذهب والفضة. كانت منطقة جَبَل التي تكاد تكون كلّها أرضاً جبلية، تحيط كالسور بهذه الصحراء

ص: 198

المترامية، وفي بعض الاماكن كان الجبل يبعد عن مثيله مقدار مئة ذراع لا غير.

ولما رجعتُ ثانية من هناك كان يبدو أن سوراً كبيراً يُحيط بهذه الصحراء.

ليلة الثلاثاء العشرين، لأربع ساعات بقين للغروب، وصلنا إلى قرية يُسمونها (عربان مستة جدّة). ونزلنا خلف حائط بستان، ثم ردّد نقيب القافلة ثانيةصوته الكريه قائلًا: احملوا معكم ماءً كثيراً، لأننا لن نحصل على الماء خلال الأيام القليلة القادمة.

ليلة الأربعاء، الحادي والعشرين ركبنا من مستة جدّة لستّ ساعات مضين من اللّيل، ولأربع ساعات بقين للغروب أصبحنا فيصحراء يدعونها (غرالية).

وعلى بُعد فرسخين بدت لنا منازل. كانت هنا أرض الأمير محمد. وبعد يومين آخرين يخرجون من أرض محمد ويدخلون أرض حربي (1).

ليلة الخميس، الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام، بعد طلوع القمر، تابعنا المسير. حفظنا اللَّه بفضله وسلّمنا من كلّ سوء خلال مسيرنا في هذا الطريق؛ لنصل مقصدنا إن شاء اللَّه بسلام.

من ليلة الخميس، الثاني والعشرين وحتى ليلة الأحد الخامس والعشرين، لم يكن هناك ماء في منازلنا التي مررنا بها. يوم الأحد، وفي أثناء الطريق، وُجِدَت بئر ماء، فأخذوا من مائها الذي كان مُرّاً ومالحاً، بعدها لم نجد ماءً في المنازل الأخرى حتى يوم الثلاثاء، السابع والعشرين، حيث وُجِدَت بئر ماء أخرى.

وكانت تكثر في هذه الصحراء أشجار امّ غيلان، وكان يُظَنُّ أنَّ هذه الأشجار مزروعة باليد، وكلّها مُرّتبة ومزروعة على شكلصفوف ثابتة. وأيضاً كانت هناك بعض المزروعات، والتي تُدعى (الدّفلى). وكلّما أمطرت اخضرَّت جميعها.

وكان أحد الحجّاج وهو من جرجان، والذي كانت امرأته في نفس المحفّة التي كان شخصنا فيها، وقد تخلّف يوم الأحد عن القافلة، وعندما نزلوا في الليل عُلِمَ أنّه بقي في الصحراء. فبعثنا أحدهم للبحث عنه، فجي ء بهصباح يوم الثلاثاء. وبعد


1- 1 المقصود هو «آل حرب».

ص: 199

قدومه علَمنا أن اثنين من العرب الفرسان وثالثاً كان راجلًا سألوه: يا حاج! لِمَ تخلّفت عن القافلة؟ فأخبرهم المسكين- والذي كُتِبَ له أجلٌ جديد- أن بعيره لا يستطيع السّير. فأجابوه: إذا أعطيتنا نقوداً فسنحمل لك متاعك. وعلى أيّة حال أنزل الفرسان الرجل المشار إليه من على بعيره، وحملوا متاعه على بعيرهم، وتحرّكوا ببطء شديد حتى غابوا عن أعين الحجيج، ثم أنزلوه، وكان معه (60) توماناً من النقود فأخذوها منه واقتسموها بينهم، وأخيراً فكّروا في قتله، ولمّا احَسّوا منه عجزاً شديداً انصرفوا عن قتله، ثم ضربوه ضرباً مُبرحاً، وأخرجوا ونهبوا ما تحت ثيابه، وبعد ذلك قالوا له: اذهب من هنا إلى حيث شئت. فقضى الحاج المسكين ليلته في تلك الصحراء بالبكاء والعويل حتى طلوع النهار. بقي الحاج على هذا الحال إلى الظهر حتى عثر عليه الرجال الذين خرجوا للبحث عنه، فأركبوه وهو في حالة يرثى لها وأوصلوه إلى قافلة الحجيج.

يوم الثلاثاء، السابع والعشرين، وصلنا رأس البئر، فملأنا الأواني ثانية بالماء، ثم ركبنا، ويبدو- إن شاء اللَّه وبمساعدة الأئمة الاطهار عليهم السلام- أنّنا سنصل بعد يومين موقع الإحرام.

يوم الاربعاء، الثامن والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام، تحركنا بعد أداء فريضة الصبح، ولساعة بقيت للغروب وصلنا المنزل، وأمّا الماء وان كان حُلواً ولكنه ليس ماءً مُستساغاً جداً.

يوم الخميس، التاسع والعشرين، تحركنا بعد فريضة الصّبح، فلاحت لناصحراء مليئة بأشجار أُمّ غيلان، وبقُدرة اللَّه تعالى كانت تبدو وكأنّها مرتّبةٌ من قِبل بستانيّ. كان قِسم من الصحراء يبدو وكأنّه كالبستان. وكنّا مستمرين في المسير. ليلة الجمعة غرة ذي الحجة، أنْبِئنا بأننا سنصل غداً (وادي عقيق).

ليلة السّبت، الثاني من شهر ذي الحجة الحرام (1297) وصلنا المحرم عند مُنتصف الليل. كان الجو لطيفاً تلك الليلة. وكان الغلمان والرجال الذين معنا، قد

ص: 200

علّمهمصِهْرُ السّيد حاجي آخوند آداب الإحرام، حيث أحرموا في وادي عقيق.

وبقينا في الإحرام ثلاثة أيام.

يوم الأحد، الثالث من شهر ذي الحجة وصلنا (وادي ليمو). وكانت تلك البساتين موجودة هناك. ولم تَلُح لنا بيوت مسكونة في تلك المنطقة التي كان فيها الطريق كلّه من الوديان، أخذنا كمية من اللّيمون والنارنج، واللّيمون الحامض هناك هو نفسه الذي يُعْصَر في شيراز. عرب البادية لا يعرفون شيئاً عن اللّيمون الرّيان.

مكة المعظّمة:

الاثنين، الرابع من الشهر، وصلنا على بُعد فرسخ واحد إلى الاسفل من الوادي. وفي هذا اليوم لأربع ساعات بقين للغروب، بحمد اللَّه وصلنا مكّة المعظمة.

وعلى بعد فرسخين كانت توجد هناك بئر مشهورة باسم (بئر الإمام الحسن عليه السلام).

ويبدو أنَّ جبل النور على بعد نصف فرسخ.

ليلة الخامس من ذي الحجة، جاءوا بقرب ماء من بئر زمزم، فاغتسلنا غُسل الطواف، ثم تشرفنا بالحرم الشريف. وبعد أداء الطواف، أدّينا السعي بين الصفا والمروة، وعندما رجعت إلى المنزل، كان بعضهم يقرأ المناجاة. ومن شدة الحرّ والتعب فإنني لم أتناول العشاء، فقد سقطت على الفراش لمدة يوم وليلة كالمصعوق. ثم تحاملتُ على نفسي بالرغم من ذلك وتشرّفت في الليل بالذهاب إلى الحرم...

والبيت الذي كان قد كُريَ لأجلنا لم يكن فيه مجلس للخدم، فشاهدنا البيت ثم غيّرنا المكان، ثم جئنا إلى بيت آخر يعود لأحد الأشراف القدماء والذي يُدعى (الشريف مهدي). أعوذ باللَّه من الطابق العُلوي لهذا البيت، فللوصول اليه يتحتّمصعود (56) دَرْجَة بحيث ينقطع نفس الشخص من التعب...

مع كلّ المشقة كنا نتشرف بزيارة الحرم الشريف مرتين في اليوم، مرة في

ص: 201

الصباح ومرّة في الليل. وفي كلّ مرة من المرّات الثلاث (1)كنّا نؤدي الطواف ثلاث مرّات أو مرّتين.

نحو عرفات:

ليلة الجمعة، الثامن من الشهر، اشتُهِر بين السادة من أهل السنة أنَّ اليوم هو يوم عرفة. والحمد للَّه رحل الجميع إلى منى. ليلة الجمعة كان الحرم الطاهر خالياً.

فاغتنمنا الفرصة هذه الليلة، وانشغلنا بالطواف حتى الصبح تقريباً، والحمد للَّه، كنّا نُقبّل الحجر بكلّ قلوبنا. وأدّيتُ الطواف خمس مرات، وكلّ طواف سبعة أشواط.

الحمد للَّه الذي أنعمَ علينا بهذه النعمة، حيث اغتسلنا مجدّداًصباح يوم الجمعة الثامن من الشهر، وتشرّفنا بالحرم، ثم لبسنا الإحرام تحت ميزاب الرّحمة، ثم ذهبنا إلى عرفات... وفي الظهر أدّينا الوقوف في عرفات، وانشغلنا بالدعاء حتى الغروب. وفي الليل ركبنا وجئنا إلى المشعر. فجمعنا الحصى، وكان أهل السُّنة قد ذهبوا إلى منى. وفي الصباح بعد طلوع الشمس جئنا إلىصحراء منى، وأتممنا رمي الجمرات، ثم قدّموا القرابين. لم يكن بالإمكان الذهاب إلى مكة المشرفة لأجل الطواف.

منى:

ليلة الحادي عشر والثاني عشر قام السادة من الحجاج الشاميين والمصريين بألعاب نارية لطيفة، كلٌّ من جهته. كانوا قد نشروا ذلك على جبل باروط (2)، وكان انطلاقها شيّقاً وممتعاً. وقد انشغلوا بالألعاب النارية لمدة ثلاث ساعات بل أكثر من ذلك. وفي اليوم الحادي عشر رجع السادة إلى مكّة. أنا كذلك جئتُ إلى المدينة وأدّيت طواف الحجّ وطواف النساء، ثم رجعت. وبقينا ليلة الثاني عشر كذلك، وبعد ظهر اليوم الثاني عشر ذهبنا إلى (مسجد الخيف) وأدّينا الصلاة، ثم عُدنا إلى رمي الحجرات ورجعنا بعدها إلى مكّة. وفي اللّيل، وبالرغم من التعب والكلل، ذهبنا إلى بيت اللَّه وأدّينا الطواف، وسألنا اللَّه تعالى أن يُجيب دعوة


1- 1 وكذا في الأصل.
2- 2 كذا في الاصل.

ص: 202

السائلين ويعطيهم حوائجهم المشروعة في الدنيا والآخرة إن شاء اللَّه.

كان الجوّ في منىً رديئاً، وقد توعّكتصحة الكثير من الحجيج. ليلة الثالث عشر ابتليتُ بالحُمى ووجعٍ في العظام، واستمرّت الحمى ثمانية أيام. إضافة إلى سوء حالتي العامة بحيث لم أستطع التحرّك أبداً. بحمد اللَّه تعالى نزلت رحمته، فقد استعدْتُصحّتي، وتشرّفت بزيارة الحرم ليلًا مع ما كان بي.

في يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر، تحسّنت حالتي قليلًا، فتشرفت بزيارة حضرة أبو طالب والسيدة خديجة الكبرى وعبد المطّلب وعبد مناف والسيدة آمنة والدة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، ثم تشرفت بزيارة الحرم كذلك في الليل مع ما كان بي، ولم أستطع الطواف أكثر من مرّتين. وفي اليوم الخامس والعشرين من ذي الحجة، تشرفتُ عصراً بزيارة الحرم الشريف ثم ركبنا وجئنا إلى المكان الذي يأخذون منه الناس إلى العُمرة والمعروف ب (الشيخ محمود)، على أمل أن نركب ونسير غداً. ثم تبيَّن أنَّ هذا العربي من آل حرب لا يملك أيَّ بعير.

نحو المدينة:

لساعة واحدة بقيت للغروب من يوم الاربعاء، السابع والعشرين من ذي الحجة. تحركنا من موقف (شيخ محمود) وركبنا بعيراً من آل حرب ثم سرنا.

نعوذ باللَّه من هذه البُعران التي تسير مقدار فرسخ واحد كلّ ثلاث ساعات. قريب طلوع الصبح وصلنا إلى (وادي فاطمة). كان فيه ماء يجري. ويبدو أنَّ ماء العين المذكورة حارٌّ لدرجة كأنّه مَغْليّ.

لثلاث ساعات بقينَ للغروب من يوم الخميس الثامن والعشرين من الشهر المذكور، ركبنا ثم سِرْنا ليلة الشتاء بطولها حتى انبلج الصَّباح. فَلم يكن بإمكاننا تناول العشاء، ولا كان بالإمكان أخذ قسط من الراحة.

وبعد أداءصلاة الفجر ركبنا ثانية. وما إن انقضت ثلاث ساعات حتّى وصلنا إلى منزل آخر. كانت تلك الجِمال المنهكة تماماً تسير ثماني عشرة ساعة. وفي

ص: 203

الساعة التاسعة من تلك الساعات وصلنا إلى منزل (بئر طفلة)، وكانت هناك بعض البيوت. ويوجد هناك بطيّخ أيضاً، إلّاأنّه لم يكن من النوع الجيّد.

في يوم الجمعة، التاسع والعشرين من ذي الحجة، ركبنا ثم سِرنا، وعند الغروب ترّجلنا للصلاة، ثم أقمنا الصلاة. أستجير باللَّه من الجمّالين، إنّهم مجموعة من الغلمان السّود، الذين يتسببون في جَلْب المصائب على الحجيج، لا يَدَعون الجَمَل يرفع قدماً عن قدم، يصيحون على الجميع ويصرخون: شوَيْ شوَيْ.

لأربع ساعات مضينَ من الوقت، نزلنا. وعند وقتصلاة الصبح نزلَ كذلك المطر.

ومع مرور عدة أيّام على الشتاء، لا يمكن ارتداء شي ء أبداً. حتى في داخل المحفّة كُنّا نَعرق. نعوذ باللَّه من الصّيف إذ لا يُعْلَم ماذا يحصل للناس!

يوم السّبت غرّة شهر محرّم الحرام 1298، نزلنا في (بئر هندي). كانت هناك بعض الآبار وقليل من البيوت المبنيّة من القَصَب. عند الغروب من اليوم نفسه ركبنا، وعند انقضاء ساعة من اللّيل توقّف الحجاج؛ لأن الطريق كان موحّلًا ولا يمكن السّير فيه، فَصَفّوا الجمال واحداً بعد آخر، وبمشقة كبيرة سِرْنا هذه الليلة حتىصلاة الصبح. بعد أن أقمنا الصلاة ركبنا. ولأربع ساعات بقينَ للغروب وصلنا منزل (رابغ) عند ساحل البحر. كُنّا لعشرين ساعة كاملة في المحفّة، جائعين، دون قوت أو غذاء. منزل (رابغ) تكثر فيه النخيل، وفيه قلعة، وهناك جنود كانوا فيه رافعين عَلَماً، وبعض المدافع كذلك توجد في هذه القلعة. يوجد اللّيمون والنارنج كذلك في هذا المكان، ولم يبقَ للحجاج إلّاالتعب والمشقة...

ليلة الأحد الثاني من شهر محرّم، لثلاث ساعات بقينَ من الوقت ركبنا من منزل (رابغ)، وأدينا فريضة الصبح خلال الطريق، ثم ركبنا ثانية. وفي العصر نزلنا لأداء فريضة الظهر والعصر، ثم ركبنا ثانية حتى سبع ساعات مضينَ من اللّيل، سِرْنا باستمرار حتى وصلنا إلى منزل (بئر عثمان). كانت هناك بعض آبار الماء في هذا المنزل. لا أحد يخطر بباله أنّ كلّ واحد منّا ما ظَلَّ راكباً إحدى وعشرين

ص: 204

ساعة! ومن قِلّة الجمال والحركة البطيئة للبقية الباقية منها، فقد كانت معاناة الحجّاج بشكل لا يمكن وصفه في هذه السطور. الكلّ مُتعب وحَيْران ودون عشاء، والجميع أصيبوا بالدهشة خاصة المشاة منهم!

وبعد مشقة وعناء ركبنا ثانية، وكان الركوب المذكور في يوم الثلاثاء الرابع من شهر محرّم الحرام. كان الطريق اليوم كلّه أودية مُحاطة بأشجار ام غيلان من طرفيها. ووقتصلاة العصر، نزلنا، وبعد أداء الواجب ركبنا. لثلاث ساعات مضينَ من اللّيل، وصلنا ليلة الاربعاء الخامس من الشهر. كان الحجّاج الشاميّون ساقطين. وكانت الجمال كلّها سائبة خلال الطريق بشكل لا يمكن وصفه.

وفي منتصف تلك اللّيلة قام الحجيج الشاميّون بالطّبخ، ثم تحركنا وقت أذان الصبح، وبقيَ الحجيج كلّهم على الأرض. هذا المنزل الذي يُعرَف ب (أبو زجاح) (1)، ويُقال (بئر قچي) و (شيخ علي) كذلك، ويقولون: إنَّ أهل هذه القرية كلّهم من الشيعة، هذا المنزل تكثر فيه النخيل، وفيه قناتان أو ثلاث للماء الجاري أيضاً...

قضت القافلة أربع ساعات على هذا المنوال، لقد تحمل الحجّاج المساكين الكثير من الأذى على يد هؤلاء الجمّاليين، كان لابدّ من الإتيان تدريجيّاً بالجمال السائبة، ثم ركبوا. تحركنا من منزل اليوم وهو (بئر قچي)، وقطعنا الطريق كلّه خلال الوديان. كان هناك قليل من الاماكن العامرة، وهناك الكثير من النخيل على سفوح الجبال، كما كانت فيها مياه جارية جيّدة. مما جعله مكاناً لطيفاً وجميلًا جداً.

الخميس، السادس من الشهر، لأربع ساعات مضينَ من اللّيل، وصلنا منزل (بئر قچي) وكان الماء يخرج من تحت أرض قچي. وفي الساعة الثامنة تناولنا الطعام ثم نمنا. وعند انبلاج الصبح، تحرّك الحجيج الشامي وكان السّيدصاحب السّمو حسام السلطنة دام اقباله العالي قد تحرّك معهم، وبقي هُنا الأمير ابو النصر ميرزا (2) مع متاعه. بعد انقضاء ساعتين من النهار، ذهب أحد الحجّاج إلى بستان


1- 1 هكذا في الأصل.
2- 2 ابو حسام السلطنة.

ص: 205

كان هناك لكي يأتينا بالأنباء، ولحقه بعض المسلمين إلى المكان المشار إليه فوجدوه وقد أُخذ كلّ شي ء عنده فبادروا لإنقاذه منهم ومما يعاني من الآلام، وعلم أنه لو لم يذهبوا هناك لقُتِلَ المشار إليه. تصوروا إلى أيّ حَدّ وصل الحقد والعداوة عند هؤلاء ضدّ (الشيعة)، اذ لم يتورّعوا حتى عن قَتْل مساكين كهذا الحاج!

أربع ساعات مضينَ من يوم الخميس، ركبنا من منزل (بئر قچي) وسِرنا.

مع حساب هذا اليوم بقيَ لنا منازل ثلاثة أُخرى حتى المدينة المنوّرة. هذا هو منزل (بني الحرين). قَسَمَ اللَّه الرحمن لنا الوصول بسلامة وبركة إلى تلك المدينة المباركة والتّشرّف بها وزيارتها. مضت أربع ساعات من ليلة الجمعة من محرّم، وصلنا منزل (خيام). اسم هذا المنزل كما يبدو هو (عكّام)، فاذا وُجِدَ هنا أيّ غلط أو اشتباه فالمُقَصِّر في هذا هو الرّاوي.

صباح الجمعة السابع من محرّم 1298، تحرّكنا بعد طلوع الشمس، ولساعة ونصف الساعة بقيت للغروب، نزلنا لأداءصلاة الظهر والعصر، ومع كون الصحراء كلها مملوءة بالأشواك، إلّاأنّهاصحراء نابضة بالحياة والجلال إلى حَدّ لا يوصف. وقد كانت هناك بعض الاشجار التي لا تحتوي أوراقها على الاشواك، فسألنا عنها، قالوا: هي أشجار يخرج منها الصّمغ فيصنعون منه دهن البلسان.

كان جذع البعض منها سميكاً جدّاً، ولها أوراقصغيرة خضر كأوراق الصَّعْتَر.

وعلى مسافة نصف ساعة أُخرى من المسير، وجِدَتْ بئرٌ وأشجار النخيل تملأ المكان في الصحراء. ويبدو أَنّنا سنصل إلى المنزل الآخر بعد انقضاء أربع ساعات من اللّيل. على أي حال فإنّ هذه الجِمال الضعيفة المُتْعَبة وكلاب الجمال السود هذه سارت ببطء شديد جدّاً حتى أنّنا وصلنا إلى الحجيج الشامي بعد أذان الصّبح، وكانوا على وشك التحرّك. لقد ظلّ الناس المساكين جالسين في محفّاتهم عشرين ساعة كاملة. أعانَ اللَّه المساكين السائرين مَشْياً حتى وكأنهم أوشكوا على الهلاك. وحتى نَصْب الخيام، تكون الصلاة قد فات وقتها. مَنَّ اللَّه على القُنصل

ص: 206

بشي ء من الإنصاف حتى لا يجعلوا الحجيج رَهن هؤلاء السُّود الذين لا يفقهون حديثاً، وهذه الجمال النحيفة.

إنَّ منزل هذا اليوم، السّبت، الثامن من شهر محرّم، يُقال له (بئر ماشي)، ويبدو أنّه بقيت هناك ستّة فراسخ إلى مدينة الرسولصلى الله عليه و آله. وفّقنا اللَّه تعالى لنكون في المدينة ليلة العاشر من المحرم ذكرى استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وصحبه.

مَضَتْ أربع ساعات من ليلة الأحد التاسع من محرّم الحرام 1298، تركنا (بئر ماشي) راكبين ثم سرنا، اللّيلة هي ليلة التاسع من المحرم، وعند وقت فريضة الصبح وصلنا مسجد (الشجرة). وأقمنا فريضة الصبح في مسجد الشجرة ثم ركبنا ثانية. ولما سِرنا بعض الشي ء، جاء المستقبلون مُصطحبين معهم خَيّالة، فاصطّف العسكر جميعاً، وكانوا يعزفون الموسيقى. ويؤدّون (الهوسة) مع أنَّ هذه الليلة هي ليلة عاشوراء، لم يكن من المناسب ولا من اللّائق أن تُعزف هذه الألحان...

المدينة المنورة:

وبعد أن سرنا شوطاً، بانَتْ لنا قبة الحرم المبارك وهي قبّة خضراء، مع منائر الحرم كذلك. وبعد شكر اللَّه وحمده الذي جعل هذه النعمة العظيمة من نصيب هذه الأمة، أدّيتُ سجدة الشّكر.

مضت أربع ساعات من يوم الأحد، التاسع من محرّم، حيث دخلنا المدينة المنوّرة، فنزلنا قُرب الحرم المبارك في بيت المؤذّن (الذي هو الخطيب كذلك)، وسكنا في الطابق الأعلى الذي يطلُّ على بستان وعلى جبل أُحد كذلك، يالِصفاء المدينة وطيب هوائها! الحقيقة أنّها كالجنّة! إنَّ لهذه الجبال جَمالًا يَسلب لُباب البَشر! وبما أنّ الوقت الآن هو الشتاء فإنَّ كلّ شي ء سينضُج؛ من أمثال الباقلاء والباذنجان والخُضَر كذلك والشبيهه بالزّمرّد.

وبعد دخولنا المنزل تناولنا الغداء، ثم اغتسلت، وتشرّفت بعدها بالحرم المبارك. فقبّلتُ الضريح المبارك، وقرأنا الزيارة، ومن ثمَّ تشرّفنا بحرم البقيع وزُرنا

ص: 207

ثم رجعنا أدراجنا. في الليلة الأولى تشرّفنا بالحرم المبارك عن طريق باب الرّحمة.

وبعد قراءة الزيارة قضينا في الحرم المبارك أربع ساعات مضين من اللّيل. كانوا قد أناروا جميع المنائر. وكانت تبدو جذّابة للناظر اليها من الزّقاق. إنَّ تلك المنائر التي كانوا قد أناروها هي على شكل ثلاث طبقات، وهناك ثماني منائر وفي كلّ طابق منها بالطّبع يضي ء مئتا مصباح. وكانت تضي ء الحرم المبارك كذلك مصابيح كثيرة.

وكانت أصوات هذه المنائر تُسمع من البيوت أيضاً. وكذلكصوتُ عَزْف عالٍ.

وفي الحرم المبارك بعدصلاة العشاء مقابل مسجد النساء أمام منزل خواجات الحرم، جَلَسَ جمعٌ من الناس في حلقة ذكرٍ. ومجموعة أخرى كذلك مقابل الحرم المبارك كانت مشغولة بالذّكر أيضاً، وكانوا يردّدون (لا إله إلّااللَّه) بلحنٍ جميل. والحقّ أنَّ ذلك المنظر كان ممتعاً للنّاظرين. لقد كانوا يردّدون هذا الاسم المبارك بطريقة متواصلة بحيث ينقطع نَفَسَهم فيغشى عليهم ويسقطون على الأرض، وكان الآخرون من جماعتهم يمسحون أوجههم ورؤوسهم من عَرَق أولئك المغشي عليهم للتبرّك. وكان يُوجد في الحرم المبارك مقابل الضريح المبارك مَحْمَل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومحمل آخر.

صباح يوم الاثنين الذي كان يوم الاستشهاد أي يوم عاشوراء، بعد أن تشرّفنا بزيارة الحرم المبارك وقراءة الزيارة وزيارة عاشوراء، ركبنا العربة وتشّرفنا بمرقد (حمزة). وزُرنا المكان الذي تُحفظ فيه الأسنان المباركة، ومن هناكصعدتُ إلى الأعلى وزُرْتُ باقي الشهداء حتى وصلت قريباً من الجَبَل حيث يوجد مسجدٌصغير وله محرابٌ كذلك. فدخلنا وصلّينا ركعتين. في هذا الجبل توجد شجرة نابتة من بين الصخور، وقيل: إنّها انزلت على خاتم الأنبياء. فصعدنا قليلًا حتى وصلنا إلى شقّ الجبل. وهناك أيضاً أدّينا الزيارة ورجعنا.

ليلة الثلاثاء، الحادي عشر من شهر محرّم الحرام 1298 دخلنا من باب الرّحمة، وتشرّفنا بزيارة الحرم المبارك، وقرأنا زيارة النبيصلى الله عليه و آله والصّديقة الطاهرة

ص: 208

فاطمة الزهراء- سلام اللَّه عليها- وجئنا قرب عمود التوبة وصلّينا وقرأنا كذلك الدعاء الخاص بالعمود ورجعتُ.صباح الثلاثاء، الحادي عشر تشرّفنا بالحرم الشريف من باب جبرئيل. وبعد الزيارة جئنا إلى (بيت الاحزان). وأقمنا مجلس العزاء، وبعد الاستماع إلى ذكر المصيبة... قرأنا زيارة السيدة فاطمة بنت أسد في مكانين، الأول في البقعة التي تقع خلف البقيع، والشيخ أبو سعيد مدفون هناك كذلك، فقرأنا الزيارة، والثاني في الحرم المبارك للإمام الحسن عليه السلام، وقرأنا زيارة السيدة فاطمة بنت أسد- سلام اللَّه عليها- ورجعنا إلى البيت، وبعد تناول الغداء تشرّفنا بزيارة عبد اللَّه عليه السلام والد الرسول الأكرمصلى الله عليه و آله. قرأنا الزيارة ثم رجعنا.

ليلة الأربعاء، الثاني عشر من شهر محرّم، بعدصلاة العشاء، تشرّفَ السادة بزيارة الحرم المبارك، وبعد زيارة سيدنا خاتم الانبياءصلى الله عليه و آله والصّديقة الطاهرة عليها السلام رجعنا إلى البيت.صباح الاربعاء تشرّفنا بالدخول إلى الحرم المبارك من باب جبرئيل، ومن هناك ذهبنا إلى البقيع وقرأنا زيارة أئمة البقيع. ورجعتُ إلى المنزل.

صباح الخميس، الثالث عشر من محرّم تشرّفتُ بزيارة الحرم المبارك عن طريق باب جبرئيل، وبعد الزيارة ذهبت إلى البقيع وزُرت أئمة البقيع عليهم السلام وعند الرجوع، رأيت الحجّاج خلال الزّقاق وقد وصلوا حديثاً، فجئتُ إلى البيت.

وفي ليلة الجمعة الرابع عشر، وبعد الصلاة، تشرّفتُ بالدخول إلى الحرم الشريف عن طريق باب السلام، فقرأت زيارة خاتم الرّسلصلى الله عليه و آله والسيدة الصديقة الطاهرة عليها السلام ثمّصلّيت بالقرب من عمود أبو لُبابة، ودعوتُ هناك ثم رجعنا...

صباح السبت، الخامس عشر من الشهر، وكالعادة تشرّفتُ بزيارة الرسول الكريمصلى الله عليه و آله والصدّيقة الطاهرة عليها السلام، وبعد الزيارة رجعت إلى المنزل، ليلة الأحد وليلة الاثنين وليلة الثلاثاء الثامن عشر كذلك كنت كلّ يوم وكلّ ليلة- بحمد اللَّه تعالى- أتشرّف بزيارة الحرم المبارك، وعندما نقلوا مَحَفّة النبيّصلى الله عليه و آله ومحفّة عائشة، لم يسمحوا كالعادة للحجاج الفُرس من الاقتراب من الضريح المبارك وذلك حتى

ص: 209

الساعة الرابعة. والعجب أنَّ هؤلاء الاشخاص الذين لا يتورّعون ولا يحتاطون من أيّ شكل من أشكال النجاسة، لكننا نرى معزهم متروكة وسائبة في الأزّقة، وفي الليل تذهب هذه الحيوانات إلى بيت مالكها دون أن يفكّر أحد في سرقتها.

السّير نحو جدّة:

لقد تقررَّ أن يحرّك الشريف الحجاج القادمين عن طريق البحر يوم الثلاثاء.

فحُملت الأمتعة ثم توقّفت العملية. وصباح يوم الاربعاء السابع عشر من محرّم الحرام، وبعد مضيّ خمس ساعات على القافلة، تحركن من المدينة المنورة وبعد مشقّة وعناء كبيرين استطعنا اجتياز الأزقّة والأسواق. وكانوا يوقفوننا في كلّ تحرّك مطالبين بالإتاوة. على أي حال خرجنا من المدينة، وتوقّفنا خارجها لكي يلحق الحجّاج بعضهم ببعض.

ليلة الاربعاء الثامن عشر من الشهر وهي الليلة الأولى من ليالي منتصف الشتاء توقفنا خارج المدينة. وفي الواقع الجوّ هنا يشبه جوّ الربيع وهو مُنعش كثيراً. إنَّصحراء وجبال المدينة شبيهتان بالجنّة، نسأله تعالى أن يمنّ علينا مرّة أخرى بأن نأتي ونتشّرف بتقبيل عتبة ضريح هؤلاء الأعاظم بحقّ أولئك الاشراف المدفونين في هذه البقعة. إنَّ قُبْلة واحدة على العتبة الشريفة أنستنا كلّ مصاعِب الطريق والجمّالين السود.

صباح الأربعاء، ركبنا من خارج البّوابة، كان الهواء متغيّراً قليلًا. وبعد مضي قليل من الوقت، بدأت السّماء تمطر. وأمّا السادة الأشراف الذين كان أهل الحاج قد أكروا منهم الجِمال. فقد ذكروا أنّهم لم يصلهم شي ء من السيد حسام السلطنة، ولم يدفعوا نصف الاجرة ورحلوا عن طريق الشام، وعلى هذا قالوا: إنّنا سنمنع هذه الأميرة من الرحيل، وسنحتجزهم في المطر حتى نأخذ مئة تومان. فجاءوا ومنعونا من السّير فقيل لهم: لِمَ تمنعونا من السير؟ فأجابوا قائلين: يُريدون اتاوة.

فقال رجالنا: لقد دفعنا كامل الأجرة، وأعطينا خلْعَة كذلك. فأجاب المؤجرون:

ص: 210

لقد أعطيتم الاجرة إلى محمد الكائني (1) وليس لنا. ورأيت الوضع سيّئاً، فقلتُ لرجالنا: ارجعوا إلى المدينة إلى الوالي هناك وأنهوا المسألة مع الحكومة، واللّعنة على هؤلاء، سأذهب معَ حُجّاج جَبَل. سأعطي هذا الوصل إلى والي المدينة ليأخذ النقود من الشريف. فلمّا رأى أولئك أنّ هذه الأرض لا تقبلُ بذرهم، ولا مكان لحيلهم ومكائدهم، جاءوا يتوسّلون، فذهب كلّ الحجّاج الشيرازيين و «نصير المُلك» والآخرون جميعاً، فظلّت جِمالُ الشريف هذه التي أكراها لنا. وبعد المسير اشتدَّ نزول المطر، وأثناء سيرنا،صادفنا نهراً أمامنا، ولم يكن باستطاعة الجمال عبوره. فغيّرنا الطريق، ومعنا أحد الاشخاص يدعى (كامل أفندي)، وهو يقول:

إنني لستُ خادماً لإيران بل إنَّ القنصل ترجى مني أن ارافِق الحجّاج. إنّه رجل شاطر ولبيب. ولما غيّرنا مسيرنا قليلًا،صادفنا مجرى نهر آخر قد تكون من أثر الفيضان. لا مناص من عبور النهر، مع أنَّ المياه تكاد تجرف معها الجمال. ومع مشقة وعناء كبيرين اجتزنا النهر، وحتى ساعة ونصف بقي من الوقت للغروب، كان الرّعد والبرق لا يزالان يقصفان، وكان الهواء كذلك ضَبابيّاً، ثم طلعتِ الشّمس، أقمناصلاة الظهر والعصر ثم ركبنا. بحمد اللَّه تعالى وصلنا المنزل بسلام مع أنَّ عددنا كان قليلًا، أي نحن وخدَمُنا وسط هذه الصحراء والجبال. ولما وصلنا (قبة الرود)، كانت قد مضت من الليل ثماني ساعات. بعد الوصول ونَصب الخيام، جاءت عيال عبدالحسين خان قائد اللّواء للاعتذار قائلة: إننا لم نكن نعلم.

فأجبتُها قائلة: بحمد اللَّه سار كلُ شي ء بسلام، لكن ما كنتُ أعلم أنّ شخصاً مثل نصير الملك إلى هذا الحد يكون مقصّراً، حيث يترك العسكر ويذهب تاركاً القافلة دون أن يكلّف فيها حتى أربعة مسلّحين ليكونوا برفقتها، فيبعث قائلًا: إن شاء اللَّه ينتهي هذا الأمر بخير.

مضت خمس ساعات من يوم الخميس العشرين من محرّم الحرام تحرّكنا من منزل (قبّة الرود)، ومع أنَّ السماء غائمة، إلّاأنّه لا يوجد مطر، وبعض الأماكن


1- 1 ربّما كان المقصود «الكاتبي»

ص: 211

اكتست أرضها ببساط أخضر كالزّمرّد.

مضت تسع ساعات من ليلة الجمعة، الحادي والعشرين من الشهر، وصلنا الى منزل (بيراية). كان فيها بعض المنازل، وقد شوهد فيها كذلك بئر ماءٍ وغنمٍ وماعز. ست عشرة ساعة، سرنا خلالها ستة فراسخ، بسبب رداءة جِمال آل حرب هذه وبطئها في السّير. في يوم الجمعة، الحادي والعشرين، بعد مضيّ ستّ ساعات على القافلة، ركبنا. إنَّ طريق اليوم كلّه أودية وجبال. وتوجد بعض الممرات الضيقة التي اصطدمت المحفّات والهوادج بجبالها. وليس هناك جمال تسير.

تصوّروا أنَّ قطاراً من النّمل يسير. لقد اصبتُ بنزلة شديدة وبدأصدري يُؤلمني كذلك. وبقيتُ مستلقية في هودجي في حالة رديئة لا توصف.

كانت هناك الكثير من الأحمال تُنْقَل من (ينبع) إلى (المدينة)، وبعض الحجّاج الذين قدموا عن طريق البحر والذين نفدت نقودهم، ظَلّوا في مكة المعظمة. واليوم شوهدوا يأتون عن طريق ينبع للتشرّف بالذهاب إلى المدينة. كانوا قد ذهبوا من مكة إلى جدة، وعادوا عن طريق ينبع.

في ليلة السبت، الثاني والعشرين من الشهر، بعد مضيّ ستّ ساعات من اللّيل وصلنا إلى منزل (بئر خلع)؛ يوم السبت، لخمس ساعات بقين للغروب، تحركنا من منزل (بئر خلع)، وفي الليل حيث لم نصل إلى المنزل بعد، سمعنا أصوات اللّصوص من جهاتنا الأربع. بعد ذلك عُلِمَ أنّه وخلال الطريق، سُرِق هِميان ابن الحاج عبدالهادي الاسترآبادي الذي يشتغل بالتجارة في بغداد، سُرِق من تحته معصرّة ثيابه. كانوا يقذفون الحجارة نحو طاس المشعل الامامي لكي يطفئوه، حتى يتمكّنوا من الولوج داخلصفوف الحجيج. وتشبه هذه العملية إلى حَدّ بعيد تلك التي ينقلونها عن حسين كُرْد في الكتب.

هذه الليلة وبحمد اللَّه تعالى وصلنا بسرعة إلى المنزل. اسمُ هذا المنزل هو (بئر الحسان). وتقتصر العمارة هناك على بعض الآبار وبضعة منازل ودكّان أو اثنين،

ص: 212

ولمّا ذهب الحجّاج المساكين ليأخذوا قسطاً من الراحة، عَلَتْ أصوات تقول:

لصوص، لصوص. لقد سرق اللّصوص ابّالة من حِمْل حسن خان نامي من أهالي شيراز، وأراد أن يُظهر شيرازيّته هُنا إذْ خرج في منتصف الليل يقفو أثر اللّصّ فضُرِبَ على امّ رأسه بالنّبوة وعادَ ورأسه كان مشدوخاً. وقد تبيّن أنَّ اللّصوص قد سرقوا الكيس الذي كان فيه مقدار من الرّز والطحين معصُرّة ثيابه. وأمّا ما بقي له فهو رأسه المكسور.

ولأننا قد وصلنا إلى المنزل بسرعة، وبعد مضيّ ساعة على طلوع الشمس، تحرّكنا من منزل (بئر الشيخ) وبدأنا في السّير.

إنَّصحراء اليوم عبارة عن أرض مُنبسطة لا ماء فيها ولا كلأ. إنَّ هذين المنزلَين، أي بئر الحسان وبئر الشيخ، لا يوجد فيهما ماءٌ حَسَن، فطعمه غير مُستساغ، وهو مالح المذاق كأنّه يحتوي على الزرنيخ. والمنازل التي في طريق مكة المشرفة كلّها كانت فيها مياه، وكان الماء فيها عذب طيّب. فلا معنى لأي عاقل يسلك غير هذا الطريق ويترك العسكر، ويُسلّم عقله إلى الجمّال. ما أُريدُ قوله: إنَّ الأسف والنّدم على الماضي لا يؤدّي إلى نتيجة. إنَّ الظنَّ باللَّه المتعال هو أن تَنْقَضيَ الأيام القليلة الباقية بسلام كذلك.

مضت أربع ساعات من يوم الاثنين، الرابع والعشرين من محرّم، وصلنا إلى منزل (مستورة). وانفصلت قافلة هندية قبل ساعتين أو ثلاث عن الحجاج الفُرس حتى وصلنا. وارتفعصوتٌ من جهة الهنود. فعُلِمَ أنَّ الصندوق الذي يحتوي على الأوراق والمستندات وسبعمئة ريال فرنسي قد سُرِق.

الهواء في هذه الليلة بارد بحيث يميل المرء فيه إلى ارتداء اللّباس وإشعال النّار.

بعض الاشخاص من أمثال الشريف وأخيه وكامل افندي وبضعة افراد آخرين، ومنذ رحيل السّيد حسام السلطنة هُم في خيمة الخَدَم. من الليل حتى الصباح هم مشغولون بشُرب الشّاي والشّيشة. وهناك أفراد يتناوبون في الحراسة. وقرّروا في

ص: 213

الصباح أن يتحرّكوا لساعتين بقيتا للغروب؛ لكي يصلوا إلى المنزل الآخر وقتصلاة الصبح، على أساس أنّه لو حدث نقصٌ في الأحمال أثناء اللّيل فإنَّ الجمّال سيتحمّل المسؤولية، هذا في الوقت الذي كان قد سُرِق كيس ابن الحاج عبدالهادي من على دابّته، ولم يُعَوّضه أحد عن ذلك.

الماء في (مستورة) مُرٌّ إضافة إلى كونه مالحاً، وقد كان طعم العشاء مُرّاً، فلم يكن هنالك بُدٌّ من ذلك إذ قلتُ لهم: بأن يتناولوا الغداء ويصلّواصلاة الظهر والعصر وأن يركبوا بعدها.

أربع ساعات بقينَ للغروب، في يوم الاثنين، الرابع والعشرين من محرّم الحرام، ركبنا من منزل (مستورة) وسرنا نحو منزل (رابغ).صحراء هذا اليوم عبارة عن أرض منبسطة كذلك، وكلُّ تحرّكنا من المدينة إلى الآن هو باتّجاه القبلة.

في النهار مع كون السّماء غائمة، إلّاأنّه مضت بضعة أيام من الجدي. مُقدّم الهَوْدج مائل إلى الأرض. مع أننا لم نرتدِ إلّاواحداً، فالعرق يجري من جسمنا.

عند وقتصلاة المغرب نزل الحجيج يقيمون الصلاة، ثم ركبوا، وبعد مضيّ ثماني ساعات من ليلة الثلاثاء، الخامس والعشرين من الشهر، وصلنا الأرض النَّخالة في (رابغ). بسبب وجود المياه أمامنا تعطّل الحجّاج. فتح الجمّالون السود البُلَهاء قيود جِمالنا وتركوها ترعى حوالى ساعتين ونصف في الصحراء. لقد ذهبوا في جميع الجهات إلّاأنهم لم يجدوا طريقاً سالكة. وبعد مشقة وعناء اجتزنا الحاجز المائي وحتى تمكّنوا من إيجاد الطريق ونصب الخيام،صار وقتصلاة الصّبح. أقمنا الصلاة وشربنا الشّاي.

في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر محرم، بقينا في (رابغ) ليلة الأربعاء السادس والعشرين، ووقت طلوع الشمس، وفي يوم الأربعاء، السادس والعشرين، ركبنا من المنزل المذكور. ولساعتين بقيتا للغروب نزلنا لأداء الفريضة، وبعد أداء الصلاة، نزلنا. وبعد مضيّ ساعتين من اللّيل، سدَّ الجمّالون

ص: 214

الطريق قائلين نُريد أن نفرّغ الحمولة. أرادوا أن يمنعوا ذلك. وبدأوا يخادعون مدّعين أنّهم ضلّوا الطريق. على أي حال فأيّ شخص له ذرّة من العقل والإحساس لن يُسلَّم نفسه بيد جمّالين سود مجانين كهؤلاء. الحقّ أنَّ الكُتب التي ألّفها الناس حول ذَمّ وإهانة طريق الجبل هذا، التي تخيف كلّ من يقرأها لا تخلو من الصّحة والحقيقة.

وفي أثناء الطريق انْتُزِع الهِميان الذي كان تحتصاحبه في الهودج بعد قطعه. كانصاحبه المسكين يحِسُّ بأنَّ الهودج مائل، إلّاأنّه اعتقد أنَّ الجمّال يحاولُ شدَّه وتسويته. ثم عُلِمَ أن طرفاً من الكيس كان قد سُرِق. والعجب من أنَّ الدولة تعلم عِلْمَ اليقين كلَّ ما يجري من مَذلَّة للحجّاج. وإذا ما تَمَّ تقديم شكوى أو احتجاج نتيجة ذلك، لا وجود للعدل هناك. الواقع أنَّ مجموعة من الحجّاج ظَلّوا أسيري هؤلاء الغلمان السّود وتحت رحمتهم. كلّما واجَهَ الحجيج مشكلة في طريق «جبل»، كانَ يوجد على الأقل شخص ما، يمكن سؤاله والحصول على الجواب منه.

على أي حال، بعد مضيّ عشر ساعات من ليلة الخميس، السابع والعشرين من الشهر، وصلنا منزل (قطيمة)، وتوقفنا نهاراً، ولثلاث ساعات بقين للغروب من يوم الخميس، السابع والعشرين، تحرّكنا من المنزل المذكور، وفي الساعة السادسة من اللّيل، أوقف الجمّالون الحجيجَ خلال الطريق قائلين: لقد ضلَلْنا الطريقَ. وبعد أن أبدوا قليلًا من الخداع تابعوا السّير، ولمّا ساروا مقداراً من الطريق، تجمّعوا كذلك وعلاصوت الصياح والضوضاء. قال أحدهم: هوذا بحر! وصاح الآخر: إنّه مُستنقَع! وبعد مدّة من التّأخير، عُلِمَ أنّه هو قليل من ماء المطر.

كان أحد المسؤولين عن المشاعل قد تأخر في إيصال المشعل. لقد مُزِّق الهميان من تحتنا كما يظهر، وقد سُرِقَ ما كان في الهيمان. كان قد بقي فرسخٌ واحدٌ حتى منزل (خيط) عندما اوقِفَ الحجيج قائلين لقد ضَللنا الطريق، يجب أن نتوقّف هنا. كلّ

ص: 215

الحجّاج اجتمعوا، أرادوا أن يُصرفوا هؤلاء الغلمان السود الأربعة عن ذلك، فلم يكن بالإمكان فعل شي ء. فكان لابدّ من النزول. لم يكن هناك قدْر يكفي من الماء حتى للوضوء للتّهيؤ لصلاة الصبح. وبعد مشقة وعناء كبيرين أقمنا الصلاة على أي حال، ثم ذهبوا على بعد فرسخ وجاءوا بماءٍ وَحل وسخ كثيراً تسبح فيه كلّ أنواع الجراثيم. يالَها من مصيبة تلك التي يصبّونها على رؤوس الحجيج! الواقع أن ذلك لا يمكن تدوينه هنا.

في يوم الجمعة، الثامن والعشرين من الشهر، قضينا الوقت فيصحراء لا اسم لها، ولأربع ساعات بقينَ للغروب من اليوم المذكور تحرّكنا وبدأنا المسير، لنرى ما سيحصل هذه اللّيلة، هل سيوصلون الحجّاج المشدوهينَ إلى جَدّة أم أنّهم سيختلقون لُعبة أخرى في هذه الصحراء. بعد مضيّ ساعة واحدة من الغروب، نزلنا لأداءصلاة المغرب. وبعد أداء الفريضة ركبنا، وفي الساعة السادسة، سُمِعَصوتصياح يقول: إنَّ البعير قد سُرِقَ مع حِمْلهِ. فخرجوا لاقتفاء الأثر، فلم يجدوا فرصةً لسرقة الجَمَل اذْ تركوه في البرية وهربوا، وكان الصندوق ملكاً للحاج ميرزا محمّدصِهْر الحاج محمّدصادق الأصفهاني التاجر المعروف. تحرّكت هذه الجِمال وسارت كَسَيْر النملة من الليل حتى الصباح. لأجلصلاة الصبح نزلنا أرضاً جميلة، فيها كلّ أنواع الورود والزروع، وكان يكثر فيها الخطمي الوردي والزّهور الصفراء. كانت الصحراء كالزمرد الأخضر بعد طلوع الشمس. ومع أنَّ الأرض هنا رَمليّة، فإنّه بقدرة اللَّه نَبَتت كلّ هذه النباتات من خلال قطرتَيْن.

ويبدو أنَّ المطر لم يهطل في هذه البلاد منذ أربع سنوات، والحمد للَّه فإنّه بسبب قدوم الحجّاج الميمون هذه السّنة هطلت أمطار كثيرة مفيدة.

بقيت أربع فراسخ حتى مدينة جدّة، جاء القُنصل للاستقبال. وقد أصرَّ كثيراً علينا للذهاب إلى القُنصلية. ولأنه لم يكن لديه عيال (زوجة) فلهذا السّبب لم أذهب. لقد أبدى منتهى الأدب.

ص: 216

في جدة:

مضت ستّ ساعات من يوم السبت، التاسع والعشرين من محرّم الحرام سنة (1298)، وصلنا مدينة جدّة. لقد نزلنا في طابق علوي من بيت حيث يُشاهَدُ البحر كلّه. هذه الليلة الوابور (السفينة البخارية) واقفٌ على البحر دون حراك.

ليلة الأحد، غرّة شهرصفر المظفّر (1298) رأينا الهلال من السطح، وحمدنا اللَّه لكوننا سالمين لحدّ الآن! نتمنّى من حضرة الباري سبحانه أن يحفظ أرواحنا وتنجو من هذا البحر العظيم. يَعلم اللَّه أين سنكون غرّة ربيع الأول.

«اللهم اجعل عواقب امورنا خيراً بحقّ محمّد وآله».

صباح يوم الأحد، غرّة شهرصفر، جاء الحاج عبد اللَّه ديرباج بالباخرة وقال: هذه السفن البخارية ليست جيّدة، فعلى الحجّاج أن يتوقفوا هنا عدّة أيام حتى تصل سفينة جيّدة أخرى. في كلّ عصر كنتُ أنظر إلى البحر بالمنظار. هذا هو تقدير اللَّه، فأين أنا من جدّة والتفرّج على البحر؟! في الحقيقة أنّ الانسان يجهل عاقبة اموره أين تؤول. لحدّ اليوم وهو يوم الثلاثاء، لم يكن أثرٌ للسفينة. في حين لا تزال السفن البخارية السبع مرابطة في مكانها السابق في البحر.

إنَّ بيوت جدّة كبيوت مكة المعظّمة. هذا المنزل الذي نسكن فيه حالياً، فيه ثمانون درجة سُلّم من الأسفل حتى السطح، والى هذه الغرفة التي نقيم فيها هناك أربع وستّون درجة. ليومين متتالين تهبّ الريح هنا. وما دامت هناك ريح فإنَّ الهواء بارد بحيث يميل الفرد إلى ارتداء السترة. وبمجرّد توقّف الريح، يصبح الجوّ حارّاً.

منذ اليوم الأول لدخولنا الجزيرة العربية، والذي كان في أوائل برج الميزان، وحتى الآن وهو الوقت الذي يقترب فيه من انتصاف الشّتاء، تُرى هذه الحالة في كلّ وقت وفي كلّ مكان. إلى الوقت الذي يكون فيه هناك نسيم، فالجوّ جيّد، وليس حارّاً، ومتى ما انقطع النسيم، فالجوّ يشبه جهنّم إلى حدّ كبير. والآن ومع هبوب النسيم ليومين متتالين، إلّاأنَّ الماء ما زالَ بارداً داخل الجرار. عجَّل اللَّه في مجي ء الوابور

ص: 217

إن شاء اللَّه ووصوله. ما أجمل أن يعرف الانسان عاقبة الأمور! فبدل التأخير الذي تحمّلناه في جدة، ألَم يكن من الأجدر أن نقضيه في المدينة المنورة، التي هي في الحقيقة جَنّة عامرة تجدّد الحياة والروح في الإنسان؟! روحي فداك يا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: أناشِد اللَّه بحقّ ذلك العظيم أن يرزقنا التشرّف ثانية بزيارة ذلك الضريح المبارك الشريف.

عندما تحرّكنا من مكة المعظّمة باتّجاه المدنية الطيّبة، سلكنا طريق (فرع).

وأمّا أسماء المنازل المذكورة هي: وادي فاطمة، عسفان، قطيمة، رابغ، بئر رضوان، أبو عاع، ريان، قصير، بئر ماشي، المدينة الطيبة. وأمّا الرجوع فكان عن طريق (السلطاني)، وذلك بحسب هوى الجمّالين والشّريف عديمي الإنسانية.

إنَّ الميزة التي كانت في طريق (السلطاني) هي المرتفعات والمنخفضات التي فيه، إلّا أنّه من حيث الماء والجمال لا مقايسة بينه وبين طريق (فرع) على الإطلاق.

والمنازل التي مرّت بنا عند الرجوع من المدينة إلى جدّة عن طريق (السلطاني) هي: قبّة الرود، عار، بئر حسان، بئر الشيخ، مستورة، رابغ، قطيمة، خيط، جدّة.

إنَّ مدينة جدّة مدينة كبيرة؛ وهي أكبر من المدينة الطيّبة. وقد وُضِعَتْ سَبعة مدافِعَ متجهّة نحو البحر وقريباً منه. كان هناك كلّ أنواع المأكولات في المدينة الطيّبة، في حين لا توجد هنا إلّابعض الأشياء مثل النباتات الخُضريّة والنارنج.

وأمّا البرتقال والليمون فيوجدان بكمية ضئيلة في السوق. وبالنسبة إلى الخيار الأخضر فهو على عدد الأصابع. وان كان لا ينفع الندم ولا الحسرة، إلّاأنَّ التأخير هنا لو كان في المدينة لكانت تلك نعمة جزيلة. ما أسوأَ أن نتوقّف قرب منزل واحد عن مكة المعظمة ولا يكون بالإمكان التشرّف بها...!

إنَّ ما يحزّ في نفسي هو أن أكون في منزل قرب مكة المعظمة ولا نُسْعَدُ بالتشرّف بزيارة الحبيب مرة اخرى. لَمْ يبدِ المرافقون أيّ هِمّة أو جدارة وإلّا كنّا

ص: 218

تشرّفنا بالزيارة. على أيّة حال، الآن أنا تحت رحمة طابق علوي في جدّة...

نحن بانتظار الوابور كلّ يوم. لقد توقّف العمل في وابور الحاج موسى بسبب عدم رغبة الحجيج إليه، فكانت الأجرة في بداية الأمر ثلاثين ريالًا وأربعين ريالًا للشخص الواحد، والآن وصلت الاجرة إلى خمسة عشر ريالًا واثني عشر ريالًا كذلك. ولأن الحجّاج تأخروا في جدة طويلًا، لم ينتبهوا إلى الثالث عشر منصفر، حيث تحرّك في يوم الخميس الثاني عشر منصفر (830) شخصاً من الحجيج على وابور الحاج موسى. حفظ اللَّه الجميع.

نحن الآن ما نزال مقيمين في جدّة، حتى نرى ما يكون من التقدير المقدَّر، والحصول على إذنٍ من أم البشر للرحيل. ومن فرط النسيان لحدَّ اليوم وهو الثاني عشر من شهرصفر، لم اتشرّف بزيارة جدّتنا (حواء)، والآن وبعد التحقُّق في الأمر، ذُكِرَ أنّها قريبة من المنزل، فلم نجد بُدّاً من الذّهاب مشياً. وبينما كنّا نمرّ خلال الزّقاق، لَمحنا ساحة دارٍ ودهليز فَخْمَين كانا قد وُضِعَ فيهما كراسيّ ومقاعِد كثيرة، وقد وقف شيخٌ على باب الدار. فتقدّمنا وتفرّجنا ثم أردنا العبور. فأفهمنا الشيخ بالعربية أنَّ هناك أشخاصاً في الداخل. ومتى أردتم التفرّج على الطابق العلوي، فذلك ممكن. وكانت معنا زوجة عبدالحسين خان قائد اللّواء، واخت سهام الدولة، ودخلنا إلى الطابق العلوي. كان الطابق العلوي قد دخل بعضه في بعض.

وقد وضعوا المقاعِد هناك. كانت سيدة البيت وهيصاحبة البيت قد ذهبت في زيارة خارج الدار. كانت هناك ابنتانصغيرتان وبعض الإماء الحبشيات الحسناوات. قال الشيخ باللغة العربية: تفرّجوا على كلّ مكان جيداً. كانت بنايةً فاخرة. كان فيها حمّام جميل من المرمر. وقد بَنَوا قبّة كذلك كما هو متعارف لدينا.

كانوا قد نصبوا زجاجاً. وهناك حنفيّة ماء بارد واخرى للماء الحار آيتان من الخارج. كان الحمّام فاخراً جدّاً. سألتُ الشيخ: أين مولاك؟ أجاب: في السوق.

خرجتُ من هناك والمسافة طويلة حتى بيت الجدّة. والهواء حارّ كذلك. على

ص: 219

أيّ حال وصلنا. قبر أمّ البشر، السيدة حواء عليها السلام على هيئة أو شكل ميزاب سحب من طرفيه إلى الأعلى. وعند القدم توجد فتحة شباك حديدية، فقبّلنا وقرأنا الفاتحة، ثم طلبنا إذن الخروج. وتفصيل ذلك كما هو مكتوبٌ من قِبل السّيد العالي معتمد الدولة- روحي فداه- في كتاب «يوميات السّفر إلى مكة المعظمة» (1). وهذه البقعة هي محل السُّرّة المباركة. هناك بقعتان اخريان كذلك بين تلك شبيهتان بقبر السيدة حوّاء حيث بُنِيَ حائط وعُمِّر المكان. ويبدو من الذي ذكره السّيد العالي في كتابه اليوميات أن أحدهم هو قبر عثمان باشا والآخر هو أحد أقرباء عثمان باشا.

يالَهُ من عمل قبيح هذا الذي فعلوه حيث دفنوا آخرين مقابل جسد السّيدة! بعد الزيارة حصلنا على الإذن للخروج، ثم رجعنا.

بمجرّد الدخول إلى المنزل أخبرونا أنَّ الوابور قد وَصل، وإن شاء اللَّه سنذهب الى بوشهر. اليوم غادرَ وابوران وعادَ وابوران. وبما أنَّ اليوم هو يوم الجمعة والثالث عشر منصفر، فإنّه قد توقّفنا أربعة عشر يوماً في جدة. ليس لدينا عملٌ إلّا الهمّ والغمّ. الهواء حارٌّ جداً منذ عدة أيام وليال، ومع ارتداء لباس واحد وفي مكان عالٍ يتمّ الوصول اليه بصعود ستين أو سبعين درجة، إلّاأن العرق يجري باستمرار. الحمد للَّه على كلّ حال حيث هطل مطرٌ نافعٌ قبل وصولنا إلى جدّة، وإلّا لا أحد يعلم ما كان سيحصل من قلة المياه خصوصاً وأنّهم يقولون: إنَّ المطر لم يهطل هنا منذ أربع سنوات، وكيف كنّا سنتحمّل كل ذلك التأخير؟!

اليوم، الحجّاج الذين تأخروا عَنّا عندما كنّا نغادر المدينة، وهم كانوا ما يزالون يدخلونها، جاء بعضهم عن طريق (ينبُع) والبعض الآخر عن طريق (رابغ) فراراً. لقد أعطوا ألف ريال إلى مسؤول القافلة كإتاوة. وقد أخذ مسؤول القافلة الأموال وهرب. وفي (رابغ) سَدّوا الطريق أمام الحاج مطالبين إيّاهم بالإتاوة، وبما أنَّ هؤلاء الحجاج المساكين كانوا قد أعطوا أموالهم إلى مسؤول القافلة فقد أوقفوهم هناك، وهرب البعض الآخر. ويبدو أنَّ الحجّاج الذين جاءوا عن طريق


1- 1 تقصد «كتاب هداية السبيل» لفرهاد ميرزا.

ص: 220

(ينبع) قد قابلوا الشريف في (ينبع).

إنَّ الخُدَع التي أرادوا أن يمرّروها علينا أيام كنّا نخرج من المدينة، فقد مَرّروها على الحجاج المساكين. أنزل اللَّه البلاء على رأس شريف هؤلاء، ويقيناً أنَّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بري ء من هذه الذريّة. العجب كلّ العجب من هذه الطائفة التي تقول: لا إله إلّااللَّه ولا يتورّعون أو يحتاطون من أيّ شكل من أشكال النجاسة، ففي نفس المكان الذي يتبوّلون فيه، يتوضأون على الفور ويسيرون حُفاةً فيه.

هنالك أشياء غريبة تُشاهَد من هؤلاء. وقد بَنَوا دورة المياه بشكل لا يمكن تحاشي ترشيش الماء على الانسان. ومع عدم اكتراثهم وعدم تحوّطهم، فهم يدخلون حرم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في حين كانوا يمنعون الفُرس المساكين عن الحرم!!...

الهوامش:

زعماءُ مكّة

ص: 221

زعماءُ مكّة

قاسم محمّد

نحاول أن نتحدث عن إلمامة تاريخية سريعة عن تاريخ الزعماء، الذين انيطت بهم إدارة مكّة المكرمة من أول الأنبياء آدم عليه السلام حتى خاتم الأنبياء محمدصلى الله عليه و آله. وعن المشاريع والتشريعات والأحداث التي حدثت لكلّ واحد من هؤلاء الزعماء والقادة. وقد تشرفت مكة في هذه الفترة أن يكون من بين زعمائها مجموعة من الأنبياء عليهم السلام والصالحين من القادة؛ ولذا حظيت مكّة بأفضل الأنساب وأفضل القيادات، وصدرت منها أفضل التشريعات، حتى في الجاهلية التي احتفظت ببعض الأعراف والتقاليد الجيدة وعندما جاء الإسلام أقرَّ الكثير منها، ثم إنّ الكثير من الأحداث التي حدثت فيها تعدُّ أحداثاً عالمية تأثرت بها معظم الأمم والشعوب، وتحدثت عنها الكتب السماوية المقدسة بما فيها القرآن الكريم، وامهات الكتب التاريخية المهمّة، وما حظيت مدينة في العالم من الاهتمام كالذي حظيت به مكّة.

ص: 222

أهمية مكّة

تعود أهمية زعماء مكة، إلى أهميتها من الناحية التأريخيه، والمعنوية والاقتصادية.

الناحية التأريخية والخلاف في قدم مكة

فمن الناحية التأريخية. فقد اختلف في تأريخ مكة، هل كانت قائمة قبل إبراهيم عليه السلام ثم عرض عليها الخراب بعد ذلك فجدّدها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، أم أنّ تاريخ بنائها وإنشائها يعود إلى إبراهيم عليه السلام؟ ذهب بعض أهل التفسير وكتّاب التأريخ من المسلمين إلى أنّها أسبق من إبراهيم عليه السلام ويعود تأريخها إلى آدم عليه السلام، مستدلين على ذلك بمجموعة من الروايات والأقوال والأقاصيص. في حين ذهب الرأي الآخر إلى أنّ هذه الروايات أخبار آحاد. والأقوال والأقاصيص خرافات وإسرائيليات، وبعضها يعتمد على ما حرّف من التوارة والإنجيل، فلا مجال للاعتماد عليها. وإنما المتيقن أنّ إبراهيم هو أول من بناها. كتاباً وسنةًصحيحةً.

وبعضهم توقف عن الحكم. وقالوا: اللَّه أعلم؛ لأنّ العقل لا مجال له للحكم في هذا الباب سلباً أو إيجاباً (1).

دافع السيد الطباطبائي (2) عن الرأي القائل بقدم مكة: فقال في معرض تعليقه على هذه الأخبار «ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة وهي وإن كانت آحاداً غير بالغة حدّ التواتر لفظاً أو معنى، لكنّها ليست معادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس» وفي موضع آخر أثناء رده على الرأي الآخر: قال: «ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة إلّاأنّهُ أفرط في المناقشة، فإنّ التناقض أو التعارض إنما يضرّ لواحد بكلّ واحد منها.

أما الأخذ بمجموعها من حيث هي- بمعنى لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلًا أو يمنع عقلًا- فلا يضره التعارض الموجود فيها، هذا بالنسبة لأخبار المعصومين (الأنبياء والأئمة عليهم السلام)، أما غيرهم من المفسّرين فحالهم حال


1- 1 الكاشف، مغنية: 203 الهوامش.
2- 2 الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي 1: 285.

ص: 223

غيرهم من الناس، وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض حال كلامهم المشتمل على التناقض، وبالجملة لا موجب لطرح رواية أو روايات إلّاإذا خالفت الكتاب والسنة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل» (1).

ويمكن إضافة بعض المرجحات التي تدعم هذا الرأي:

المرجح الأول: ما جاء في الكتاب العزيز عند قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: (ربّنا إنّي أسكنتُ من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم) (2)

فقول إبراهيم عليه السلام عند بيتك المحرم يدل على أنّ البيت كان قبل ذلك، إلّا أنّه دخل عليه الخراب. نعم هناك توجيهات اخر للآية كأن يقال: إنّ كلام إبراهيم عليه السلام هذا كان آخر عمره بعد بنائه للبيت الحرام. وبعدما سكنته جرهم.

وهذا يمنعه أن يكون دليلًا، ولا يمنعه أن يكون مرجحاً. وكذلك الكلام في قوله تعالى: (إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة) (3)

فيمكن حمل الأول على أقدم بيت وضع للعبادة في عصر آدم عليه السلام لا كونه أقدم من القدس كما في بعض التفاسير.

المرجح الثاني: ما ورد في خطبة القاصعة في نهج البلاغة (4). قال أمير المؤمنين: (أَلا ترون أنّ اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم (صلوات اللَّه عليه) الى الآخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً؟) وفيهصراحة أن البيت وضع من لدن آدم عليه السلام.

المرجح الثالث: مرجح عقلي، وهو أنّ اللَّه سبحانه وتعالى بعد إخراج آدم من الجنة. لايعقل أن يتركه من غير أن يعلمه مراسم عبادية تناسب موقعه الجديد حتى يأنس بها ويروي غريزة العبودية للَّه تعالى. وعلى قول الشهيد الصدر رضوان اللَّه عليه: (5) إنّ العبادة حاجة إنسانية ثابتة في نفس الإنسان في جانبها الحسي المعنوي.

والقبلة والحج من أبرز المظاهر العبادية الحسية والمعنوية. فما المانع أن يكون البيت الحرام ولدمع آدم عليه السلام ليلبي تلك الحاجة. ونحن نعلم ما للحج من فضيلة وأثر في هذا


1- 1 الميزان 1: 288.
2- 2 ابراهيم: 37.
3- 3 آل عمران: 96.
4- 4 نهج البلاغة 2: 146، الكافي 4: 199.
5- 5 الفتاوى الواضحة: 597.

ص: 224

المجال؟! فقد ورد عن الباقر عليه السلام (1): «لا زال الدين قائماً ما قامت الكعبة» وعن أبي عبداللَّه عليه السلام: «الحجّ أفضل من الصلاة والصيام».

وإنّ القرآن الكريم قرن ترك الحج بالكفر إذ قال تعالى: (وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا ومَن كفر فإنّ اللَّه غنيّ عن العالمين) (2)

وغير هذا كثير.

وإذا ثبت هذا عند ذلك نقول: إنَّ زعامة مكة بدأت بآدم عليه السلام وبأوصيائه من بعده، إلى أن دبّ الفساد في بني آدم، عند ذلك هجروا الكعبة. وبقيت مهجورةً من زمن نوح عليه السلام بعد الطوفان، من غير زعامة ولا سكن إلى أن جاء إبراهيم عليه السلام فأعاد بناءها وجدّد مناسكها. وظهر ماء زمزم فيها، ثم بقيت قائمةً شامخةً تهوي إليها أفئدةٌ من الناس إلى يومنا هذا.

الأهمية المعنوية

ولعلّها الأهم في هذا الباب؛ لأنّها الدافع الأول للتنافس على زعامتها، ولأنّ غالباً ما تمتد الزعامة المعنوية إلى أبعد من مكة والجزيرة، لتشمل العالم كلّه.

ولأهمية زعامتها هذه نجد كثيراً من الأحيان أن يتقاسم هذه الزعامة مجموعة من الوجوه أو القبائل، كلّ له جانب من جوانب تلك الزعامة، وسميت بأسماء بقيت موضع فخر لمن حاز طرفاً من تلك الزعامة، وأحياناً يزداد عدد الزعماء والمهام، فيتألف بذلك نظام حكومي أشبه ما يكون بالجمهوريات المعاصرة.

وتعود أهمية مكة المعنوية إلى كونها المنطلق الأول للبناء التكويني للحضارة الإنسانية، وكذلك البناء التشريعي حيث عرف الإنسان أول الشرائع على يد آدم عليه السلام في مكة المكرمة. واضيفت إليها تشريعات جديدة كلما تجددت الحياة.

وعندما تحرك الإنسان من هذه الأرض حمل معه ميراثه من هذه الشرائع. إلّاأنّه للأسف الشديد عمد إلى تغييرها وتحريفها، تدفعهُ إلى ذلك المصالح الشخصية والأهواء النفسية. ومع ذلك بقيت مكة محط أنظار العالم تنطلق منها بين الفينة


1- 1 علل الشرائع للشيخ الصدوق: 396.
2- 2 آل عمران: 97.

ص: 225

والأخرى أنوار هدى يستضي ء بها العالم.

وبقيت معظمةً من قبل جميع الأديان والقوميات، يقدمون لها الهدايا والقرابين والنذور ويزورونها للدعاء حتى قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها. فكان الهنود يعظمونها ويقولون: إنّ روح «سينا» وهو الأقوم الثالث عندهم حلّت في الحجر الأسود.

حيث زار سينا مع زوجته بلاد الحجاز (1).

وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة. وربما قيل: إنّه بيت زحل لقدم عهده وطول بقائه (2)، وكان الفرس يحترمون الكعبة أيضاً زاعمين أنّ روح هرمز حلّت فيها (3). وكان أسلافهم يقصدون البيت الحرام ويطوفون به تعظيماً له ولجدهم إبراهيم. وكان آخر من حجّ منهم ساسان بن بابك. وقد أهدى غزالين من ذهبٍ وجواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً، فدفن في زمزم. وقد افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام وقال:

وما زلنا نحجّ البيتَ جمعاً ونلقى بالأباطح آمنينا

وساسان بن بابك سار حتى أتى البيت العتيق يطوف دينا (4) وكان اليهود يعظمونها ويعبدون اللَّه فيها على دين ابراهيم عليه السلام وبهاصور وتماثيل منها تمثال إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام وصور العذراء والمسيح عليهما السلام ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها (5). وموضع البيت الحرام يأتيه المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض. ويدعو عنده المكروب، فكلّ من دعا هناك استجيب له. وكان الناس يحجّون إلى موضع البيت حتى بوّأ اللَّه مكانه لإبراهيم عليه السلام لما أراد عمارة بيته وإظهار دينه وشريعته (6).

ولم أهبط منذ أنزل اللَّه آدم عليه السلام إلى الأرض محرماً بيته تتناسخه الأمم والملل امة بعد امة وملّة بعد ملّة (7).

وكان النبيّ من الأنبياء إذا هلكت امته لحق بمكة، يتعبد فيها ذلك النبي ومن


1- 1 الميزان 4: 414.
2- 2 مروج الذهب، للمسعودي 2: 228.
3- 3 الميزان 4: 414.
4- 4 مروج الذهب 1: 242.
5- 5 الميزان 4: 414.
6- 6 أخبار مكة للازرقي: 51.
7- 7 أخبار مكة للأزرقي: 55، معجم البلدان- الكعبة.

ص: 226

معه حتى يموت فيها، فمات فيها نوح وهود وصالح وشعيب، وقبورهم بين زمزم والحجر (1). وبين زمزم والركن قبور سبعين نبي (2).

ومن هذا نعلم مدى أهمية زعامة مكة عالمياً، وليس فقط بالنسبة للجزيرة والعرب.

الأهمية الاقتصادية

يمكن إيجاز الأهمية الاقتصادية لمكّة بكونها الممر التجاري للقوافل، التي تنقل البضائع من مختلف بقاع العالم، وتكون حلقة وصل بين الحضارات المختلفة؛ لذلك أنشئت في مكة مجموعة من القنصليات لمختلف الدول والممالك المحيطة بالجزيرة العربية كالأحباش، والروم، والفرس، وعيّن فيها ممثلون لبعض الممالك العربية التي أسست على أطراف الجزيرة العربية. وأنشئت مجموعة من الأسواق للتبادل التجاري بين هذه الأمم. كسوق عكاظ وذات المجاز وغيرها، وأنشئت أحلاف وعلاقات للحفاظ على هذه التجارة وحركة القوافل بين القبائل والممالك المختلفة.

والشي ء الآخر الذي أعطى مكة أهمية اقتصادية هو الهدايا والنذور والقرابين التي تقدم للكعبة والحرم، وقد خصص مكان لجمع هذه الهدايا والنذور.

زعامة آدم عليه السلام

عندما أنزل اللَّه سبحانه وتعالى آدم إلى الأرض حمّله الأمانة على هذه الأرض (إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّهُ كان ظلوماً جهولًا) (3)

.

ثم أخذ منه ومن ذريته ميثاق الربوبية (وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذريتَهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (4)

.

وعندما أحسّ آدم وحواء عليهما السلام بالوحدة والوحشة طلبا من اللَّه سبحانه


1- 1 أخبار مكة: 68.
2- 2 أخبار مكة: 73.
3- 3 الاحزاب: 72.
4- 4 الاعراف: 172.

ص: 227

وتعالى أن يأتيهماصالحاً يأنسا به، فأوحى اللَّه إلى آدم: (سأخرج منصلبك من يسبحني ويحمدني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري، وأجعل فيها بيتاً أخصّه بكرامتي واسميه بيتي، وأجعله حرماً آمناً... تعمره أنت يا آدم ما كنت حيّاً، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك...) (1)

.

ولما حقق اللَّه لهُ ذلك، وأصبحت لهُ ذرية ورعية، واجه آدم في زعامته المشكلة الأولى، وهي الصراع بين قابيل وهابيل.

وعلى ما في بعض الروايات احتكموا إليه في أمر زواج كلّ واحد من توأم أخيه الآخر، وكانت توأم قابيل أكثر جمالًا، فحكم عليهم أن يقربا قرباناً تأكل النار من تقبل منهما ويستحق الاخت الجميلة (واتلُ عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر) (2)

.

فاستشاط قابيل غيضاً عندما جاء الحكم ليس بصالحه ورفض الحكم، وقتل أخيه هابيل بعد أن قال له هابيل (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يَدِيَ إليك لأقتلك) (3)

لكن قابيل (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله) (4)

.

ومن هذا الحدث الخطير انقسمت الانسانية ومنذ عصر آدم عليه السلام إلى قسمين:

أهل الخير وأهل الشر. احتفظ أبناء آدم الخيرين من ذرية آدم بموقعهم قرب الكعبة في جبال مكة وضواحيها. بينما ذهب قابيل وبنوه إلى سهول الجزيرة واليمن، واندفعوا في أرض اللَّه الواسعة بعيداً عن نور النبوّة ومشعل الهدى فراحوا في ظلام الجهل يتخبطهم الشيطان، يفعلون المنكر ويأتون الشهوات ويعيثون في الأرض فساداً، وتعلموا الطرب والغناء وما شابه ذلك من الموبقات.

زعامة شيت

عندما مرض آدم عليه السلام مرضه الأخير. جعل الوصيّة لابنه شيت، وأمره أن يكتم علمه عن قابيل حتى لا يفعل به ما فعله مع هابيل، ومنع بنيه من الاختلاط


1- 1 الكامل في التاريخ 1: 39- 40.
2- 2 المائدة: 27.
3- 3 المائدة: 28.
4- 4 المائدة: 30.

ص: 228

بأبناء قابيل، حتى يحصّنهم من الأمراض التي انتشرت بين أبناء قابيل من اللهو واللعب والفساد والافساد.

ومن نشاطات شيت (1): أنّهُ بنى الكعبة من الحجارة والطين بعدما كانت من الخيام.

واستطاع شيت أن يضبط من كان تحت ولايته على المنهج الإلهي الصحيح فترة حياته، وينجح في عزلهم عن أبناء قابيل؛ ليحافظوا على الفطرة التي فطرهم اللَّه تعالى عليها، والأمانة التي أودعها سبحانه وتعالى، ويلتزموا بالميثاق الذي أخذه اللَّه على الإنسان.

وعندما حضرته الوفاة أوصى لابنه آنوش ما أوصاه آدم عليه السلام إليه. وما زال أبناء آدم الذين سكنوا الحرم محافظين على التزامهم ما لم يختلطوا بأبناء قابيل وذريته، ويتوارد زعامتهمصالح بعدصالح إلى أن جاء «برد» فنزل بعض ذرية شيت من الجبل، واختلطوا بذرية قابيل التي عمّها الفساد ومن بعد «برد» «اخنوح» وقيل: إنّه إدريس النبي عليه السلام (2) فزاد الاختلاط وكثر الفساد حتى بين أبناء شيت، ولم يبق من الصالحين إلّانفر قلائل، فنقضوا الميثاق وعبدوا الأوثان، وبدأت مرحلة العمل الاصلاحي التي تزعمها نوح عليه السلام.

زعامة نوح:

وفي زمانه استشرى الفساد وعبدوا الأوثان كما ذكر القرآن الكريم (وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوقَ ونسراً وقد أضلوا كثيراً) (3)

. ولما طالت دعوته دون أن يستجيب له أحد، بل وجد الأبناء أشر من الآباء اعتذر نوح إلى ربّه (قال ربِّ إني دعوتُ قومي ليلًا ونهاراً* فلم يزدهم دعائي إلّافراراً) (4)

.

فأجابه ربّه: (أنّه لن يؤمن من قومك إلّامَن قد آمن...) (5)

عند ذلك دعا نوح ربّه: (ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) (6).


1- 1 أخبار مكة 1: الكامل في التاريخ 1: 62.
2- 2 مروج الذهب 1: 39، الكامل في التاريخ 1: 67، اليعقوبي 1: 34.
3- 3 نوح: 23، 24.
4- 4 نوح: 6- 30.
5- 5 هود: 36.
6- 6 نوح: 26.

ص: 229

فاقتضت الحكمة الإلهية أن تطهر الأرض من الكافرين لتبدأ دورة حياة جديدة للإنسان. فأمر اللَّه تعالى نوحاً أن يصنع الفلك (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) (1)

وفعلًا تحقق أمر اللَّه فيهم وعلموا ما كانوا يجهلون (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) (2)

وحتى لا تنقرض الحياة على هذا الكوكب (قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلّا من سبق عليه القول ومن آمن) (3)

واستثنى اللَّه تعالى ابن نوح (... إنّه ليس من أهلك إنّه عمل غيرصالح) (4)

ثم جاء أمر اللَّه إلى السماء والأرض (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) (5)

ولم ينفع ابن نوح الذي اعتصم بأحد الجبال الشاهقة حيث (لا عاصم اليوم من أمر اللَّه إلّامن رحم) (6)

وعندما طهرت الأرض من الظالمين (وقيل بعداً للقوم الظالمين)(7)

عند ذلك جاء الأمر الإلهي الآخر (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء) (8)

.

وبهذا بدأت دورة حياة جديدة للإنسانية. وزّع عناصرها نوح عليه السلام- مما بقي معه في السفينة- على الكرة الأرضية (9). فكان سام الابن الأكبر لنوح ووصيه كذلك، جعله في القسم الذي فيه مكة.

وفي الفترة بين نوح عليه السلام وإبراهيم عليه السلام لم يحدثنا التاريخ أنّ مكة بنيت في هذه الفترة أو مصّرت. إلّاأنّها بقيت مقدسةً، وكان يأتيها المظلوم والمتعوذ من أقطار الأرض ويدعو عندها المكروب، فكلّ من دعا هنالك استجيب له. وكان الناس يحجّون إلى موضع البيت حتى بوّأ اللَّه مكانه لإبراهيم عليه السلام (10).

زعامة ابراهيم

في خضم الصراع البشري بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر. ينتصر إبراهيم عليه السلام لرسالة الحق بعد أن ادّخره اللَّه وحفظه بالاعجاز من طاغوت عصره النمرود؛ ليكلفه تبليغ رسالة السماء. وتكلفه هذه الرسالة الشي ء الكثير، وتضطره للهجرة هنا وهناك، والتنقل من بلاد إلى اخرى، ويبتليه اللَّه تعالى كما ابتلى سائر


1- 1 هود: 37.
2- 2 هود: 40.
3- 3 هود: 40.
4- 4 هود: 46.
5- 5 القمر: 12.
6- 6 هود: 43.
7- 7 هود: 44.
8- 8 هود: 44.
9- 9 الكامل في التاريخ 1: 75، المروج 1: 41، اليعقوبي 1: 51.
10- 10 أخبار مكة للأزرقي: 52.

ص: 230

الأنبياء والرسل، ويمتحنه عدة امتحانات، ومما امتحن به ابراهيم عليه السلام خلوه من الولد- بعد أن بلغ من العمر عتياً- ليكون وصيه يحمل همّ الرسالة من بعده. فمد يد الضراعة إلى اللَّه والسؤال (ربِّ هب لي من الصالحين) (1)

ويأتي الجواب من ربّ العالمين (فبشرناه بغلام حليم) (2)

لكن لا من زوجته ساره. وإنما من هاجر، التي وهبتها سارة لإبراهيم عليه السلام. بعد أن دفعتها مشاعر الحنو إلىصوت الطفولة؛ ليبدد سكون البيت الممل. ولكن لما ولدت هاجر اسماعيل انقلبت المشاعر إلى مشاعر الغيرة الكامنة في النفس، فتطلب سارة من إبراهيم أن لا يسكنا مع هاجر في مكان واحد. فيأتي الأمر الإلهي لإبراهيم عليه السلام أن يهاجر بهاجر وابنها إلى حرم اللَّه. ولما انتهت الرحلة بأرض مكة القاحلة، توجه إبراهيم إلى ربّه (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم) (3)

فاستجاب له ربّه أن هَيّأَ أسباب الحياة في ذلك الوادي، فنبع الماء من تحت قدم إسماعيل، ثم جاء الخير الذي ترجوه هاجر بعدما دلت الطيور النازلة في ذلك الوادي على الماء، فاجتذبت تلك الطيور إحدى القوافل إلى ذلك الوادي فوجدوا هاجراً وابنها تحت عريشها، فاستأذنوها بالهبوط معها في ذلك الوادي، فأَذنت لهم مستبشرة بذلك، ولما علموا أنّها حرم إبراهيم وهذا ابنه إسماعيل زادوها احتراماً، واهدوا لولدها مجموعة من الماعز، ولما بلغ إسماعيل عليه السلام مبلغ الرجال تزوج منهم زوجته الأولى.

وكان لإبراهيم عليه السلام ثلاث زيارات لإسماعيل قبل بناء البيت، وعند زيارة ابراهيم الأولى، لم يجد ابراهيم الحفاوة والتكريم المعهود في عصره من زوجة إسماعيل بعد أن كان إسماعيل غائباً عنها في الصيد. فترك رسالة شفوية رمزية.

تقول له: «غير عتبة دارك» (4). ومفادها أن يطلق زوجته فامتثل ابراهيم عليه السلام أمر أبيه وطلّقَ زوجته وتزوج بثانية. وعندما زاره للمرة الثانية وجد الحفاوة التامة والكرم حتى إنها (زوجة إسماعيل الثانية) غسلت رأسه من غبار التعب. فترك إبراهيم عليه السلام رسالة شفوية أخرى تقول له «حافظ على عتبة دارك» (5).


1- 1 الصافات: 100.
2- 2 الصافات: 101.
3- 3 ابراهيم: 37.
4- 4 الكامل في التاريخ 1: 90، مروج الذهب 2: 47، 48.
5- 5 الكامل في التاريخ 1: 90، مروج الذهب 2: 47، 48.

ص: 231

وأما الزيارة الثالثة. فقد جاء بأمرٍ عظيم. ألا وهو الأمر الإلهي ببناء الكعبة؛ لتكون مثابة للناس وأمناً (وإذ يرفع إبراهيمُ القواعدَ من البيت وإسماعيلُ ربّنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) (1)

.

ولما فرغ إبراهيم وإسماعيل من البناء أتاه جبرئيل عليه السلام وأقاما مراسم الحج معاً؛ لتكون سُنّه للأَجيال القادمة، وعندها دعا إبراهيم الناس للحجّ (وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجٍّ عميق) (2)

.

اسماعيل عليه السلام

الذبح: عندما تقترن الزعامة بالنبوّة. تصبح لها نكهة خاصة، تجذب إليها النفوس الكريمة، وتهوي إليها الافئدة الطاهرة، ويقترب منها الصالحون. وعندما يختار اللَّه سبحانه وتعالى عبداً لحمل رسالته، يدخله في دورة من الابتلاءات والامتحانات حتى تكتمل شخصيته، ويكون مؤهلًا لحمل الرسالة. وإسماعيل عليه السلام كان واحداً من أولئك العباد الصالحين، الذين اختارهم اللَّه لرسالته، وادخله دورة تأهيلية لحمل النبوّة. ومن مفردات تلك الدورة قصة الذبح. حيث يرى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) (3)

ورؤيا الأنبياءصادقة كاليقظة. فيلبي إبراهيم أمر ربّه، وفي رحلة الحج أو غيرها يقف ابراهيم على إسماعيل وهو يصلح النبل للصيد، ليبلغ إسماعيل عليه السلام بالأمر الصعب. فهل يستجيب له كما استجاب في المرّات السابقة من الطلاق وبناء البيت والحج وغيرها؟ (يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء اللَّه من الصابرين) (4)

ويحاول إبراهيم أن ينفذ الأمر في ابنه (فلما أسلما وتلّه للجبين) (5)

تنفيذاً لأمر اللَّه وعندما وضع السكين على رقبته أدركتهُ الرحمة الإلهية فجاءه النداء الإلهي (... أن يا ابراهيم* قدصدّقت الرؤيا إنّا كذلك نجزي المحسنين* وإنّ هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم) (6)

.

وانطلق إسماعيل يبدأ خطى الحياة من جديد. بعد أن أصبح مؤهلًا للزعامة


1- 1 البقرة: 127.
2- 2 الحج: 27.
3- 3 الصافات: 102.
4- 4 الصافات: 102.
5- 5 الصافات: 103.
6- 6 الصافات: 104- 107.

ص: 232

الدينية والدنيوية. ويحسن إدارة مكة مستعيناً بأبنائه الاثني عشر وعلى رأسهم نابت وقيدار، الذين يرتبط نسب العرب المستعربة بهم، والذين نزل القرآن بلغتهم. ولذلك كان الرسولصلى الله عليه و آله يقول: أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وعبداللَّه.

وورد عنهصلى الله عليه و آله كذلك. «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً فإنّ لهم ذمة ورحماً» وكان يقصد هاجر أمّ إسماعيل المصرية ومارية أمّ ابراهيم زوجة النبيصلى الله عليه و آله القبطية المصرية.

ولما حسنت إدارة مكة على عهد إسماعيل وبنيه، كثرت الهجرة إلى مكة وتمصرت، خاصة بعد خراب سد مأرب حيث انتشرت الأقوام المحيطة في السد، وقسم منها هاجر إلى مكة. ويُستدل من بعض الأخبار أنّ مكة قد عمرت بالسكان في عهد إسماعيل حتى كان لها نظام حكم وسلطة وإدارة، خصوصاً أن مكة كبرت واتسعت وتشابكت مصالح سكانها، وأصبحت لها مواسم تختلف مهماتها من طقوس دينية وعروض تجارية وغير ذلك (1). وبقيت هكذا تزدهر إلى أن توفي إسماعيل، وجاء من بعده ابنه نابت، وكان الرئيس بعده والقائم بالأمور والحاكم المطلق في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم. ثم جاء بعد نابت قيدار بن إسماعيل وسار بالطريقة التي سار بها أخوه نابت وأبوه إسماعيل عليهما السلام.

زعامة جرهم:

اختلف المؤرخون في إدارة مكة بعد نابت وقيدار، فمن قائل: إنّ إدارتها كانت لجرهم بعدهما، وآخر ينسب ذلك إلى العماليق، وثالث يقول: إنّها كانت مشتركة بين جرهم والعماليق، ثم حدثصراع بينهم أدى إلى نفي العماليق عن مكة، والى سيطرة جرهم عليها. وآخر يعيد ذلك الحدث من الصراع الى «طسم» أو أبناء قنطورا. إلّاأن أشهر الأخبار تشير إلى أن الذين تولوا إدارة مكة بعد أبناء إسماعيل هم جرهم، وهم الذين تزوج إسماعيل منهم زوجته، إلّاأنهُ كذلك اختلف في كيفية استيلائهم على الادارة، هل كانت بالحرب والقوة أم بالسلم؟ واختلف كذلك هل


1- 1 موسوعة العتبات المقدسة، قسم مكة، جعفر الخليلي: 34.

ص: 233

كانت جرهم تسكن مكة أو قريباً منها قبل إبراهيم وزوجته هاجر وابنها، أم أنّها كانت غير مسكونة، وإنما اتفق مجي ء قافلة من جرهم، وفي أثناء مرورهم علموا من نزول الطير وجود ماء في وادي مكة، وعثروا على هاجر وابنها في تلك الحال (1)؟

ثم إنه هناك من يقول: إنّ جرهم اثنان. الأولى ابيدوا على يد القحطانيين.

والثانية هي التي تولت إدارة مكة بعد أبناء إسماعيل (2).

وعلى كل حال أنّ جرهم تصاهرت مع إسماعيل وكانوا يتكلمون العربية، وأنّ إسماعيل أخذ منهم اللغة العربية بعد أن عاش بين ظهرانيهم منذ نعومة أظفاره حتى وفاته.

ثم إنّه في أيام إدارة جرهم، لم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة غير ولد إسماعيل تعظيماً لهم. فقام بأمر الكعبة بعد ثابت أمين، ومن بعده يشجب بن أمين، ثم الهميع، وبعده أدر الذي عظم شأنه في قومه وجلّ قدره، وأنكر على جرهم أفعالهم، وهلكت جرهم في عصره (3). على إحدى الروايات وفي رواية المسعودي في المروج (4): أنّ أول ملوك جرهم بمكة مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هيتي بن نبت بن جرهم بن قطحان، ثم بعده عمرو بن مضاض، ثم الحارث بن عمر، ثم عمر بن الحارث، ثم مضاض بن عمر الأصغر. وفي رواية أخرى لليعقوبي (5)؛ أنّ أول ملوك جرهم مضاض بن عمر، ثم الحارث بن مضاض، ثم عمر بن الحارث، ثم المفسم بن ظليم، ثم الحواس بن جحش بن مضاض، ثم عداد بن ضداد بن جندل، ثم محص بن عداد، ثم الحارث بن مضاض بن عمر، وكان آخر من ملك من جرهم.

دفاع جرهم عن مكة: وقد دخلت جرهم في حروب متعددة دفاعاً عن موقعها، فمن ذلك أنّ الحارث بن مضاض أول من ولي البيت، وكان كلّ من دخل مكة بتجارة عشرها عليه في أعلى مكة. وملك العماليق السميدع بن هوبز بن


1- 1 اليعقوبي 1: 270.
2- 2 دائرة المعارف الإسلامية 6: 350، تاريخ ابن خلدون 2: 3.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 1: 271.
4- 4 مروج الذهب 1: 51.
5- 5 تاريخ العقوبي 1: 271.

ص: 234

لاوي بن قيطور بن كركر. وكان يعشر من دخل مكة من ناحيته، وكانت بينهما حروب فتارة تكون على الجرهمين وأخرى لهم، واستقام الأمر لجرهم آخر المطاف (1) وينقل حسين أمين في موسوعة العتبات المقدسة (2): أنَّ في أيام الحارث ابن مضاض الجرهمي نشطت حركة بني إسرائيل، وزحفوا يريدون مكة من الشمال، فقاتلهم الحارث بن مضاض، فهزمهم واستولى على تابوت من الكتب يحملونه، وفيه ما انتحلوه من الزبور.

سقوط جرهم

وردت أخبار متباينة في كيفية سقوط جرهم. فمن ذلك ما ذكره ابن هشام (3): أنّ جرهماً بغوا بمكة واستحلوا حلالًا من الحرمة، فظلموا من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها، ففرق أمرهم، فلما رأت بنو بكر ابن عبد مناة من كنانة، وغبشان من خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من مكة، وكانت مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلماً ولا بغياً، ولا يبغي فيها أحد إلّا أخرجته، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلّاهلك مكانه. فيقال: إنها ما سميت بكة إلّاأنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئاً. فلما أحسَّ عمرو بن الحارث الجرهمي خرج بغزالي الكعبة وبحجر الركن فقذفها في زمزم، وانطلق هو ومن معه إلى اليمن، فحزنوا على ما فارقوا عن أمر مكة وملكها حزناً شديداً، فقال عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض في ذلك شعراً:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

فقلت لها والقلب مني كأنما يلجلجه بين الجناحين طائر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا صروف الليالي والجدود الغوائر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ولهذا الشعر قصة لطيفة: إنّ عمرو بن الحارث كان قد نزل بقنونا من أرض


1- 1 مروج الذهب 2: 49، سيرة ابن هشام 1: 117، بدل العماليق مَطورا.
2- 2 سيرة ابن هشام 1: 119.
3- 3 سيرة ابن هشام 1: 119.

ص: 235

الحجاز، فضلت له إبل فبغاها حتى أتى الحرم، فأراد دخوله ليأخذ إبله، فنادى عمرو بن لحى: من وجد جرهمياً فلم يقتله قطعت يده. فسمع بذلك عمرو بن الحارث، وأشرف على جبل من جبال مكة، فرأى إبله تنحر ويتوزع لحمها، فانصرف بائساً خائفاً ذليلًا وأبعد في الأرض، وبغربته يضرب المثل، ثم قال هذا الشعر.

وفي رواية اليعقوبي (1). أن جرهم لما طغت وظلمت وفسقت في الحرم، وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى إليها، سلط عليهم الذر فاهلكوا عن آخرهم.

ورواية المسعودي (2) تقول: لما بغت جرهم في الحرم وطغت حتى فسق رجل منهم في الحرم بامرأة، بعث اللَّه على جرهم الرعاف والنمل وغير ذلك من الآفات، فهلك كثير منهم. وكثر ولد إسماعيل وصارو ذوي قوة ومنعة، فغلبوا على أخوالهم جرهم، وأخرجوهم من مكة فلحقوا بجهينة، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم.

مشاريع جرهم:

1- حلف الفضول: من مشاريع جرهم حلف الفضول الأول. وذلك أن نفراً من جرهم وقطوراء يقال لهم الفضيل بن الحارث الجرهمي والفضيل بن وداعة القطوري المفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالماً. لا ينبغي إلّاذلك لما عظم اللَّه من حقها. ثم درس ذلك فلم يبق إلّاذكره في قريش، إلى أن أعيد في حياة النبيصلى الله عليه و آله في دار عبداللَّه بن جدعان، وقبل البعثة النبوية الشريفة (3).

2- بناء الكعبة: والحدث الآخر بناء الكعبة بعد أن أخذها السيل وزادوا في بناء البيت، ورفعته على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه السلام (4).

3- الإطعام: والشي ء الآخر إطعام الطعام للوافدين إلى مكة، وطبخوا الكثير


1- 1 تاريخ اليعقوبي 1: 271.
2- 2 مروج الذهب 2: 50.
3- 3 الكامل في التاريخ 1: 473.
4- 4 مروج الذهب 2: 50.

ص: 236

وسمي المكان بطابخ (1).

بعد سقوط جرهم عادت مكة لأبناء إسماعيل. وكان أول من تولى الزعامة من ذرية إسماعيل عليه السلام أياد بن نزار بن معد، لكن لم يستتب الأمر إلى أياد حتى نشب نزاع بين أياد ومضر، فكانت بينهم حروب كثيرة حتى ظهرت مضر على أياد، فأنجلوا من مكة إلى العراق قرب الكوفة، واجلاهم كسرى أنوشيروان إلى تكريت والجزيرة والموصل، ثم نزحوا منها إلى بلاد الرومان والشام (2).

وذكر اليعقوبي (3) أنّ أياداً لما أرادوا الرحيل من مكة حملوا الركن على جمل فلم ينهض به، فدفنوه وخرجوا، وبصرت بهم امرأة من خزاعة حين دفنوه فلما بعدت أياد اشتد على مضر وأعظمته قريش وسائر مضر، فقالت الخزاعية لقومها:

اشرطوا على قريش وسائر مضر أن يصير إليكم حجابة البيت حتى أدلكم على الركن ففعلوا ذلك، فلما أظهروا الركنصيروا إليهم الحجابة.

تضاربت الأخبار في كيفية وصول خزاعة إلى زعامة مكة، وكذلك اختلفوا فيهم هل هم من قحطان أو من عدنان؟ هناك رأي يذهب إلى أنّ قبيلة خزاعة كانت تنزل حول الحرم في أيام جرهم، وأنّ أصلها من اليمن كالجرهميين، وقد هاجرت بسبب ما كان ينتظر من الدمار، الذي خلفه السيل وأقامت في مكة، فقامت خزاعة في وجه جرهم ووقع القتال بينهما، واعتزل بنو إسماعيل القتال، فتغلبت خزاعة على جرهم، وانتزعت منهم الإمارة وأجلتهم عن مكة (4).

في حين كتب الدكتور حسين أمين في الموسوعة نفسها (5): أن خزاعة خزع من قبيلة الأزد العربية الكبيرة، ويضيف أنّ معظم النسابة ينسبون هذه القبيلة إلى عمر بن لحي بن حارثة. ويذكر المسعودي (6) أنّ سبب تسميتهم خزاعة لما خرج عمر بن عامر وولده من مأرب انخزع بنو ربيعة فنزلوا بتهامة، فسموا خزاعة لانخزاعهم. أماصاحب الميزان (7) يُسميهم الإسماعيليين، ثم نسبهم إلى عمر بن لحي، وهو أول زعيم لخزاعة على مكة. ويعتقد الأخباريون أن أول من نصب


1- 1 سيرة ابن هشام 1: 118، مروج الذهب: 51.
2- 2 موسوعة القرن العشرين، فريد وجدي 6: 247، مروج الذهب 2: 274.
3- 3 انظر موسوعة العتبات المقدسة قسم مكة: 28.
4- 4 المصدر السابق: 68.
5- 5 المصدر السابق: 68.
6- 6 مروج الذهب.
7- 7 الميزان.

ص: 237

الأوثان على الكعبة هو عمرو بن ربيعة، وهي لحي بن حارثة بن عمر بن عامر الأزدي، أبو خزاعة، ويعتبر أول من غيّرَ دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة وحمى الحمى (1). ويذهب ابن الأثير (2) إلى أنَّ أول من ولي البيت بعد جرهم عمرو بن ربيعة وقيل وَلِيَه عمر بن الحارث العساني ثم خزاعة بعده. وقال: إنّ خزاعة أبقت لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالحج من عرفة وذلك الى الغوث بن حر بن اد، وهوصوفة. والثانية الإضافة من جُمع إلى منى، وكانت إلى بني زيد بن عدوان. والثالثة: النسي ء للشهور الحرام فكان ذلك إلى القلمس.

الاصنام:

يذكر أنّ أول من أدخل الأصنام إلى مكة هو عمر بن لحي (3). وقصة ذلك:

عندما مرض عمر بن لحي وصفوا له أحد العيون في البلقاء من ربوع الشام، أن من يغتسل بها يشفى، ولما استحمّ بها وبرئ من مرضه، رأى أهل ذلك البلد يعبدون الأصنام، ولما سألهم عنها أجابوه: هذه أرباب نتخذها لنا نستنصر بها ونستشفي بها. عند ذلك طلبصنماً منها فأعطوه «هبل» فوضعه بعد عودته فوق الكعبة، ومن ذلك اليوم بدأت تنتشر الأصنام بين العرب، وأصبح لكلّ قبيلةصنم، ومع ذلك بقيت ثلة مؤمنة على دين الحنفية دين إبراهيم عليه السلام.

كانت نهاية خزاعة على يد قصي بن كلاب، والذي اسمه الحقيقي زيد بن كلاب. مات أبوه وتركهصغيراً، فتزوجت أمّه من ربيعة بن حزام كبير بني عذرة، فنقلها إلى بلد عذرة من مشارف الشام، وحملت معها زيداً لصغره، فشب في حجر ربيعة، وسمّي قصياً لبعده عن دار قومه. ولما عيره أخوه لأمّه الفضاعي بالغربة، رجع إلى امّه وسألها عما قال. فقالت له: يا بني أنت أكرم منه نسباً ونفساً أنت ابن كلاب بن مرّة، وقومك في مكة عند البيت الحرام. وعندها شدّ الرحال إلى مكة وأقام مع أخيه زهرة، ثم خطب إلى حليل بن حبشة ابنته فزوجه، وحليل يومئذٍ يلي الكعبة وهو شيخ كبير. فولدت لقصي أولاده عبد مناف وعبدالعزى وعبد


1- 1 بلوغ الأرب 2: 200، الأغاني 13: 109.
2- 2 الكامل في التاريخ 1: 475.
3- 3 مروج الذهب 1: 274، ابن هشام 1: 78.

ص: 238

قصي. وكثر ماله وعظم شرفه، ولما هلك حليل أوصى بولاية البيت لابنته حبى.

فقالت: إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل فتح الباب إلى ابنه المحترش، فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وبعود فضربت العرب المثل فقالت:

أخسرصفقة من أبي غبشان. وقيل: أحليل من حبشة أوصى قصياً بذلك، وقال:

أنت أحق بولاية البيت من خزاعة. عندها جمع قومه وأرسل إلى أخيه من فضاعة يستنصره، فحضر فضاعة في الموسم. وكانتصوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منى. فأتاهم قصي ومن معه من قومه ومن فضاعة فمنعهم وقال: نحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه وقاتلهم قتالًا شديداً فانهزمتصوفة، وغلبهم قصي. فانحازت خزاعة بعد أن عرفت أنه سيمنعهم كما منعصوفة، وكثر القتال بين خزاعة وبني بكر من طرف وقصي وفضاعة من طرف آخر. ثم تداعوا الى الصلح، على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب بن ليث من كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت من خزاعة، وإنّ كلّ دم أصابه من خزاعة وبني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه، وإنّ كلّ دم أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففي ذلك الدية مؤداة (1).

زعامة قريش

الزعيم الأول قصي:

تولى قصي الزعامة بعد أن حكم له عمرو بن عوف بالأحقية في ولاية البيت، وهو أول رئيس. ووردت الأخبار أنه لمّ شعث قومه وجمعهم من الأودية والشعاب والجبال إلى مكة، وابتنى مقر رئاسته وسمي دار الندوة، يجتمع فيه أعيان قريش ويقررن ما شاءُوا من الأحكام في أمور السلم والحرب، فكان يشبه المجلس النيابي أو مجلس الشورى. وسنّ تشريعات جديدة تقضي بعدم أحقية من لم يبلغ الأربعين من السنين أن يدخل هذه الدار. وكلما توسعت مكة وكثر سكانها وروادها


1- 1 الكامل في التاريخ 1: 458- 460، موسوعة العتبات المقدسة: 68، طبقات ابن سعد 1: 46- 47، ابن هشام 1: 130.

ص: 239

والمهاجرون إليها، كلما تعددت الأغراض وتوسعت المهام واحتاج الوضع إلى نظام إداري أفضل، وخاصة بعد أن أصبحت مكة وأسواقها المركز التجاري الأول في العالم؛ للاختلال الذي وقع في النقل البحري بسبب الصراع القائم بين الدول العظمى والروم والفرس والأحباش، فأصبح الممر التجاري البري أكثر أماناً، فاندفعت آلاف الإبل تنقل البضائع وتحط الرجال في مكة المحطة العالمية الأمينة، خاصة بعد انهدام الممالك العربية في أطراف الجزيرة ودخول الأحباش لها.

عند ذلك عمد قصي إلى أن يؤسس نظاماً إدارياً أشبه ما يكون بالنظام الجمهوري، فكان هذا النظام قائماً على أساس تقسيم المهام وتوزيعها على مجموعة أفراد. والمهام هي:

1- السدانة: وهي الحجابة، وباستطاعة المتولي فتح الباب وغلقها لأن المفتاح بيده.

2- دار الندوة: ويمكن أن نعبر عنها مجلس الشورى والقضاء.

3- اللواء: وهو الراية فكان لقريش راية اسمها العقاب، وكانوا إذا أرادوا الحرب أخرجوها. فإذا اجتمع رايهم على واحد سلموه إياها، وإلّا فإنهم يسلمونها إلىصاحبها.

4- السقاية: وهي عبارة عن حياض من أدم (جلود كانت على عهد قصي توضع في فناء الكعبة، ويسقى فيها الماء العذب من الأبار على الإبل ويسقاه الحجاج).

5- الرفادة: خرج من المال كانت قريش تخرجه من أموالها في كلّ موسم فتدفعه إلى قصي يصنع به طعاماً للحجاج يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.

6- القيادة: هي إمارة الركب وتقودهم إلى القتال في الحرب ويتزعمهم في قيادته وفي الخروج للتجارة.

وتفرعت من هذه المناصب مناصب أخرى أهمها (الاشناق) وهي تنظر في

ص: 240

الديات والغرم. (القية) وهي تجهيزات الجيش في الحرب. (الاعنة) وهي تدبير شؤون الخيل عند قريش في الحرب (المشورة) وهو منصب مهمته إسداء النصيحة والمشورة. (السفارة) وهي القيام بالاتصال بين قريش وغيرهم من القبائل إذا وقعت حرب، أو تطلّب الأمر مذاكرة وصلحاً. (والايسار) وهي الأزلام التي كانوا يستقسمون بها للاستخارة مما يشبه سحب القرعة. (الحكومة) وهي التي تحكم بين الناس إذا اختلفوا أشبه بالقضاء. (الأموال المحجرة) وهي الأموال التي كانت تخص آلهتهم من النقد والحلي والسلاح، وهي تشبه بيت المال في الإسلام. وكانت ولايتها في بني سهم.

(العمارة) ويراد بها أن لا يتكلم أحد في المسجد الحرام يهجر ولا يرمث ولا يرفعصوته. ويمكن أن يوصفصاحبها المسؤول والمحافظ على حرمة البيت (1) وهذا النظام جعل مكة عامرة ذات أمجاد وشهرة انفردت بها بين جميع المدن العربية قبل الإسلام. وتعطى هذه المناصب وتوزع على وجهاء بطون قريش لاسترضائهم للمشاركة في فعاليات مكة وضمان وحدتها.

الصراع على الزعامة

لما كبر قصي وعلم قرب وفاته أجمع على أن يقسم أمور مكة بين بنيه.

فأعطى عبدالدار السدانة ودار الندوة واللواء، واعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة (2). في حين يرى اليعقوبي (3) أنّ قصياً جعل السقاية والرئاسة لعبد مناف، والدار لعبدالدار، والرفادة لعبد العزى، وحافتي الوادي لعبد قصي.

ولما مات قصي حدثصراع بين عبد مناف وعبدالدار في الاستئثار بالمناصب، وانقسمت لذلك قريش فطائفة مع بني عبدالدار، وأخرى مع بني عبد مناف، فكانصاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس ومعه من قريش بنو أسد بن عبدالعزى، وبنو زهرة بن كلاب وبنو تميم بن مرة وبنو الحارث بن فهر. وكانصاحب أمر بني عبدالدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار، وكان بنو


1- 1 موسوعة العتبات المقدسة مكة: 40- 44.
2- 2 أخبار مكة: 66.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 1: 292.

ص: 241

مخزوم بن مرة، وبنو السهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمح بن عمر بن هصيص، وبنو عدي بن كعب مع بني عبدالدار. وخرجت عامر بن لؤي ومحارب ابن فهر فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.

وعقد كل قوم على أمرهم حلفاً مؤكداً على أن لا يتخاذلوا، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً، وضعوها لاحلافهم في المسجد عند الكعبة ثم غمس القوم أيديهم فيها، فتعاقدوا وتحالفوا ثم مسحوا الكعبة بأيديهم، فسموا المطيبين.

وتعاقد بنو عبدالدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفاً مؤكداً فسموا الاحلاف. ويقال إنّهم وضعوا أيديهم في دم جزور ذبحوها، ولعق أحدهم من ذلك الدم فسموا الأحلاف ولعقة الدم.

ثم تداعوا بعدذلك للصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبدالدار كماكانت، و تحاجز الناس عن الحرب (1).

زعامة عبد مناف

قام عبد مناف بن قصي على أمر أبيه بعده، وأمر قريش، واحتفظ بمكة رباعاً بعد الذي كان قصي قد قطعه لقومه.

ولماجلّ قدره وعظم شأنه وشرفه وكبر أمره، جاءته خزاعة وبنو الحارث ابن مناة بن كنانة يسألونه الحلف؛ ليعزوا به فعقد بينهم الحلف الذي يقال له حلف الأحابيش (2).

زعامة هاشم:

وهو أكبر أبناء عبد مناف واسمه عمرو العلا. وإنما سمي هاشماً؛ لأنّه أول من هشم الثريد لقومه وأطعمهم. ويمتاز بشخصية قوية ونفوذ واسع لما قدم من خدمات لقومه، وما ابتدع من مشاريع. وكان منها حفر الآبار. مثل بئر (سجله) وبئر بدر.

وهاشم أول من سنّ الرحلتين لقريش رحلة الشتاء للحبشة. ورحلة الصيف


1- 1 سيرة ابن هشام 1: 138، ابن الأثير 2: 14.
2- 2 تاريخ اليعقوبي 1: 292.

ص: 242

الى غزة وبلاد الشام... ذكرها القرآن الكريم (لإيلاف قريش* إيلافهم رحلة الشتاء والصيف).

وهو الذي أخذ الحلف من قيصر لقريش على أن تأتي قريش للشام وتعود آمنة (1).

ومن أخلاقه وكرمه أنّه خرج بتجارة عظيمة يريد الشام، فجعل يمرّ بأشراف العرب، فيحمل لهم التجارات مجاناً، ولا يلزمهم مؤنة حتىصار إلى غزة فتوفي فيها (2).

كما كان هاشم يخرج مالًا كثيراً، ويأمر بحياض من أدم فتُجعل في موضع زمزم، ثم يسقى فيها من الآبار التي بمكة، فيشرب منها الحاج، وكان يطعمهم بمكة ومنى وعرفة وجُمح، وكان يثرد لهم الخبز واللحم والسمن والسويق، ويحمل لهم المياه حتى يتفرق الناس إلى بلادهم فسمي هاشماً (3).

وكان يخطب الناس ويحثهم على إكرام ضيوف اللَّه فيقول: «يا معشر قريش إنكم جيران اللَّه وأهل بيته فهم أضياف اللَّه، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره. فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثاً غبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح وقد أعيوا ونفلوا وقملوا وارملوا فأقروهم وأغنوهم»، فكانت قريش ترافد على ذلك (4).

صراع أمية وهاشم

ويبدو أنّ ما أصاب هاشماً من علو المكانه وسمو المجد أثار حسد أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وكان ذا مال فيتكلف أن يصنعصنيع هاشم فعجز منه، فشمت به ناس من قريش فغضب، ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنه وقدره فلم ترعه قريش وأحفظوه، قال هاشم: فإني أنافرك على خمسين ناقة سود الحدق تنحرها ببطن مكة، والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية بن عبد شمس بذلك، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي وهو جدّ عمرو بن


1- 1 تاريخ اليعقوبي 1: 294، سيرة ابن هشام 1: 143.
2- 2 تاريخ اليعقوبي 1: 295.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 1: 293، سيرة ابن هشام 1: 143.
4- 4 تاريخ اليعقوبي 1: 293.

ص: 243

الحمق ومنزله بعسفان، وقد قضى لهاشم بالغلبة، فأخذ هاشم الإبل ونحرها وأطعمها من حضره، وخرج أمية إلى الشام عشر سنين، فكانت هذه أول عداوة بين هاشم وأمية (1).

وقد أجاد في شعره مطرود بن كعب الخزاعي عندما مرَّ برحل مجاور في بني هاشم وفيه بنات له وله امرأة في سنةٍ شديدة:

يا أيّها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف

هبلتك أمّك لو حللت بدارهم ضمنوك من جوع ومن إقراف

عمرو العلى هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

نسبوا إليه الرحلتين كليهما عند الشتاء ورحلة الاصياف الآخذون العهد في آفاقها والراحلون لرحلة الإيلاف (2) تولى الزعامة بعد هاشم بن عبد مناف أخوه المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم وذا شرف في قومه وفضل وكان سيداً مطاعاً في قومه، وكانت قريش تسميه الفيض لسماحته، فولي بعد هاشم السقاية والرفادة، وهو الذي عقد الحلف لقريش مع النجاشي في متجرها، وخرج مرّةً لتجارة إلى أرض اليمن، وتوفي بردمان من بلاد اليمن (3).

زعامة عبد المطلب

لما أراد هاشم الخروج إلى الشام حمل امرأته سلمى بنت عمرو إلى المدينة؛ لتكون عند أبيها وأهلها، وكان معهُ ابنهُ (شيبة). فلما توفي هاشم في سفره، أقامت بالمدينة مع ابنها. واتفق أن مرَّ رجل من تهامة بالمدينة فرأى غلماناً يتناضلون فإذا غلام منهم إذا أصاب يقول: أنا ابن سيد البطحاء، فقال له الرجل: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف، وانصرف الرجل حتى قدم مكة، فوجد المطلب جالساً في الحجر، فقصّ الرجل على ما رأى من ابن أخيه، فقال


1- 1 طبقات ابن سعد 1: 56، ابن الأثير 2: 10.
2- 2 تاريخ اليعقوبي 1: 295.
3- 3 سيرة ابن هشام 1: 144، طبقات ابن سعد 1: 62، اليعقوبي 1: 296.

ص: 244

المطلب: أغفلته أما واللَّه لا أرجع إلى أهلي حتى آتيه.

ثم خرج على راحلته حتى أتى بني عدي بن النجار، فلما نظر إلى ابن أخيه قال: هذا ابن هاشم فأردفه خلفه وعاد به إلى مكة، وقال البعض من غير علم أمه، وزعم الآخرون كان بإجازة من أمّه.

فلما استقبل أهل مكة المطلب وهم يرحبون به ويحيونه ويقولون: من هذا الذي معك؟ فيجيب هذا عبدي ابتعته بيثرب. وبقيت قريش إذا رأته تقول: هذا عبدالمطلب، فلجّ اسمه عبدالمطلب وترك شيبة (1). هذه هي قصة اليتيم الثاني بعد قصي، وكلٌ كانت لهُ زعامة استثنائية، وننتظر اليتيم الثالث في مكة، الذي تزعَّم الإنسانية كلّها وإلى الأبد، ذلك رسول اللَّه محمدصلى الله عليه و آله.

ولما حضر رحيل المطلب إلى اليمن قال لعبدالمطلب: أنت يا بن أخي أولى بموضع أبيك فقم بأمر مكة. فتوفي المطلب في سفره، فقام عبدالمطلب بأمر مكة.

إعادة حفر زمزم

لما تكامل لعبدالمطلب مجدُهُ، وأقرت لهُ قريش بالفضل، رأى وهو نائم في الحجر، آتياً أتاهُ فقال له: قم يا أبا البطحاء واحفر زمزم، وتكررت الرؤيا وفيها علامات تدل على مكان زمزم، فانطلق فأتى بمعول وابنه الحارث وحيده، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ماذا تفعل؟ فقال: أمرني ربّي بما يروي الحجيج الأعظم، فاعترضوا ولم يكترث باعتراضهم. فلم يحفر إلّاقليلًا حتى بدا الطي فكبّر، واجتمعت قريش وعلمت لما رأت الطي أنّهصادق. وحفر حتى وجد سيوفاً وسلاحاً وغزالين من ذهب، فضرب من الأسياف باباً للكعبة، وجعل أحد الغزالينصفائح ذهب في الباب، وجعل الأخرى في الكعبة (2).

يدعي الأخباريون أنّ عبدالمطلب لم يكن لهُ من الولد أولًا إلّاالحارث، فنذر للَّه إن رزقه اللَّه عشرة أولاد أن يذبح ولداً قرباناً للَّه، ولما تكاملوا عشرة بولادة عبداللَّه وهو أجملهم وأكثرهم خصالًا كريمة، جمعهم وأقرع بينهم فكانت القرعة


1- 1 تاريخ اليعقوبي 1: 227، 276، سيرة ابن هشام 1: 144- 145.
2- 2 تاريخ اليعقوبي 1: 228- 300، مروج الذهب 2: 127، ابن هشام 1: 120- 155.

ص: 245

على عبداللَّه خصمهم على أن يفي بنذره ويضحي بولده المذكور، ولما عرفت قريش منه الجد في ذلك اجتمعت عليه؛ لتصرفه عن هذا الأمر، لئلا يصبح سنة بين العرب، واقترحوا عليه أن يأخذ مائة من الإبل ويقرع بينها وبين عبداللَّه، ففعل ذلك ثلاث مرات فجاءت القرعة في كلّ مرّة على الإبل فنحرها وتركها للناس، فتواثبوا عليها من كلّ جانب. ويذكر أن دية القتل لهذا أصبحت مئة من الإبل (1).

حادثة الفيل

ومن الأمور التي حدثت أثناء زعامة عبدالمطلب وأعطته دفعة معنوية، وجعلت الناس تكنّ له الاحترام وتهابه؛ قصة الفيل التي ذكرها القرآن الكريم في سورة الفيل (أَلم ترَ كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل* أَلم يجعل كيدهم في تضليل* وأرسل عليهم طيراً أبابيل* ترميهم بحجارة من سجيل* فجعلهم كعصفٍ مأكول).

وخلاصة القصة التي ذكرتها جميع التفاسير وكتب التاريخ المطولة والمختصرة هي: أنّ إبرهة الأشرم أحد قواد النجاشي الحبشي العظام، لما فتح اليمن بنى كنيسة كبيرة أراد بها أن يصرف العرب عن حجّ مكة إليها. فتغوط بعض العرب فيها، وقيل هدموا بعض جدرانها بقصد الإهانة، فعزم إبرهة أن يسير إلى مكة فيهدمها.

وإنّ مقدمات إبرهة أصابت نعماً لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبدالمطلب، فاستأذن عبدالمطلب الملك، فلما رآه أكرمه ونزل من سريره وجلس بجنبه، ثم قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن تردَّ إلي إبلي فاستصغره الملك، فأجابه عبدالمطلب: أنا اكلمك أيّها الملك في مالي، ولهذا البيت ربٌ يحميه فراع ذلك الملك.

وإنّ عبدالمطلب أمر قريشاً أن يخرجوا إلى رؤوس الجبال، بعد أن قالوا: لا طاقة اليوم لنا بأبرهة وجيشه، بينما التجأ عبدالمطلب إلى الكعبة وهو يدعو:

لا هم أن المرء يمنع رحلهُ فامنع جلالك.

لا يغلبوا بضيلبهم ومحالهم عدواً محالك.


1- 1 سيرة المصطفى هاشم معروف الحسني: 40، اليعقوبي 1: 303، ابن هشام 1: 160، المروج 2: 127.

ص: 246

فأظهر من الجلد والشجاعة والثقة باللَّه ما لم يظهره أحد غيره، فكان لهذا أثره البالغ عند عامة العرب، وتضاعفت ثقتهم بهِ فاتسعت زعامته في خارج مكة، بعد أن رأوا مكر اللَّه بأبرهة وجيشه وفيله، وهي لا تلوي على شي ء، فارةً مذعورةً، والطير وراءها يسقط عليهم تلك الأحجار فأين ما وقعت قتلتصاحبها، وآخر من قتل ابرهة على مشارف اليمن فانشقت بطنه فإلى لعنة اللَّه (1).

ومن مفاخر عبدالمطلب أنه من القلائل، الذين أقروا بالتوحيد وتركوا عبادة الأوثان، وبقي على دين ابراهيم عليه السلام (2).

وكذلك حضانته لرسول الإنسانية حتى كان يقدمه على أولاده. وبالرغم من وجود أمّه وانصرافها إليه، فلقد أصبح الشغل الوحيد لعبدالمطلب وأعزّ شي ء لديه، وأوكل امر إرضاعه إلى جارية لولده أبي لهب تدعى ثويبه، وضمّ اليه اليتيم وأمّه، ثم رأى أن يرسل حفيده إلى بادية سعد؛ ليرضع هناك وينشأ، ويتعلم في البادية النطق بالكلمات كما كانت عادة الأشراف في مكة. وكان عبدالمطلب قد تعود أن يستظل نهاراً بالكعبة على فراش مرتفع يحيط به ولده وأشراف مكة، فيأتي محمدصلى الله عليه و آله وهو غلامصغير فيثب على فراش جده، فيأخذه أعمامه ليصرفوه عنه فيقول لهم: دعوه إنّ لابني هذا شأناً عظيماً (3).

وعند وفاته أوصى عبدالمطلب إلى ابنه الزبير بالحكومة وأمر الكعبة، وإلى أبي طالب برسول اللَّه وسقاية زمزم وقال له: قد خلفت في أيديكم الشرف العظيم الذي تطأون به رقاب العرب.

وروي عن رسول اللَّه أنّه قال: إنّ اللَّه يبعث جدي عبدالمطلب أمّة واحدة في هيئة الأنبياء وزي الملوك.

فكفل رسول اللَّه بعد وفاة عبدالمطلب أبو طالب عمُّه فكان خير كافل، وكان أبو طالب سيداً شريفاً مطاعاً مهيباً رغم إملاقه.

قال علي بن أبي طالب عليه السلام أبي ساد فقيراً وما ساد فقير قبله (4).


1- 1 الميزان 20: 419، اليعقوبي 2: 304، وجميع التفاسير وكتب التاريخ.
2- 2 مروج الذهب 2: 227، اليعقوبي 2: 331.
3- 3 سيرة المصطفى: 46، ابن هشام 1: 177.
4- 4 اليعقوبي 2: 335.

ص: 247

الهوامش:

مهمّات مشهبوهة في الديار المقدسّة (4)

ص: 248

ص: 249

ص: 250

ص: 251

مهمّات مشهبوهة في الديار المقدسّة (4)

بيركهارت: المستشرق الرحالة... في خدمة الدوائر البريطانية!

حسن السعيد

في الثامن عشر من تموز (يوليو) 1814 م. نزل في جدّة أحد أخطر الرحالة الغربيين في القرن التاسع عشر. وسار منها إلى الطائف لمقابلة الخديوي محمد علي باشا، ثمّ قصد مكة المكرمة؛ لإداء فريضة الحج على مايدّعي متخفياً تحت اسم مستعار هو «الشيخ إبراهيم».

إنّه الرحالة السويسري الأصل البريطاني الجنسية «يوهان لودنج بيركهارت» أهم الرحالة الأوربيين، وأغزرهم علماً وثقافة وأبعدهمصيتاً وشهرة.

فمن هو بيركهارت هذا؟

وماهي طبيعة مهمته؟

وماذا أنجز منها؟

بطاقته الشخصيّة

يسميه الإنجليز «جون لويس»، مستشرق سويسري رحالة. ولد في لوزان عام 1784 م، وتخرّج من ليبزيج وغوتنجن في الكيمياء، وزار انجلترا وتعلّم في كمبردج الطب وعلم الفلك واللغة العربية (1806- 1809 م)، وتجنّس بالجنسية

ص: 252

البريطانية، ثمّ قصد حلب حيث أتقنَ اللغة العربية، وقرأ القرآن وتفقه في الدين الإسلامي، وتظاهر باعتناقه عام 1809 م، وتسمى بإبراهيم بن عبد اللَّه.

زار تدمر ودمشق ومصر وبلاد النوبة وشمالي السودان، ثمّ مضى إلى الحجاز، فأدّى مناسك الحج!، ليعود إلى القاهرة عام 1815 م، وقد أخذ منه الاعياء كلّ مأخذ. وفي السنة التي بعدها زار سيناء وعاد إلى القاهرة في حزيران (يونيو) 1816؛ ليبدأ منها رحلة جديدة للاستكشاف، ولكنه مرض وتوفي في القاهرة عام 1817 م.

تلك هي- باختصار شديد- أبرز محطات حياة بيركهارت، وبالإمكان القول: إنّ بيركهارت يُعدّ نقلةً نوعيّة، في تأريخ الرحّالة الاوروبيين؛ وذلك لتضافر ثلاث حلقات تمازجت فتكاملت.. فكان بيركهارت.

فمن طبيعة المناخ الدولي الذي شهدته اوروپا عقب حملة نابليون على مصر، وماأفرزته من تداعيات، علىصعيد التنافس بين الدول الكبرى، لا سيما بين فرنسا وبريطانيا.

إلى طبيعة الإعداد الخاص الذي تلقّاه بيركهارت في أروقة لندن وجامعة كمبردج بالذات، تمهيداً لتكليفه بمهمّة خاصة، ليست بمنأى عن الاستخدام الاستعماري للحقول الاستشراقيّة.

ثمّ إنّ طبيعة الاستعدادات الخاصة لدى بيركهارت؛ من نزوع إلى المغامرة، وشغف بالعلم، وقدرة على تحمّل الصعاب، ومهارة مدهشة على التخفّي بعباءة الإسلام، ومَلَكَة عالية لقراءة الحاضر والمستقبل.. كلّ ذلك أضفى على طبيعة مهمته أهمية خاصة؛ نظراً لأنها دشّنت مرحلة جديدة في تأريخ الاستشراق.

ولابدّ من إلقاء بعض الأضواء الكاشفة، ولو بشكل سريع:

حملة نابليون: تداعيات التنافس

كان احتلال نابليون مصر عند مطلع القرن التاسع عشر

ص: 253

(1798- 1801) منطلقاً لمرحلة جديدة من العلاقات الفرنسية مع الامبراطورية العثمانية، التي تميّزت بمزيد من التركيز والحزم. ومنذ ذلك الحين أدركت فرنسا أنّ دورها لم يعد يقتصر على حماية الكاثوليك، بل عليها أن تناضل في سبيل الحفاظ على هيبتها ونفوذها، في وجه المنافسة العنيفة الجديدة، في الامبراطورية العثمانية، من قبل دول عظمى كروسيا وبريطانيا وألمانيا.

وقد كتب المؤرخ تويبني يقول:

«... كانت الضربة الحاسمة غزوة نابليون لمصر (1798- 1801)، تلك الغزوة التي تركت طابعاً لا يُمحى على الخيال الشرقي، ولم يكن لهزيمة فرنسا، في المرحلة الأخيرة من مراحل حروب نابليون أي أثر سيّئ في محو هذا الطابع. وكانت بريطانيا العظمى التي كانت قد أتمّت ثورتها الصناعية، في أثناء حرب 1792- 1814، قد انتزعت من فرنسا حصّة الأسد في التجارة مع بلدان المشرق. غير أنّه لجميع الشعوب الشرقية غربي برزخ السويس، وغربي نهر الفرات ظلّت اللغة الفرنسية والآداب الفرنسية، والنظريات السياسية الفرنسية، منبع الحضارة الغربيّة (1).

يقول البروفيسور ادوارد سعيد: «إذا اتخذنا حملة نابليون..

تجربة أولى مقوية للاستشراق الحديث، فإننا نستطيع أن نعتبر إبطالها المدشّنين- في الدراسات الإسلامية، ساسي ورينان ولَيْن (2)2 المرجع السابق، فصل «المدينة المنورة في المراجع الغربيّة»، (3)- بناة للحقل، خالقين لتراث، وأسلافاً للأخوة الاستشراقية. ومافعله ساسي ورينان ولَيْن هو أنّهم منحوا الاستشراق أسساً علمية وعقلانية. وقد نتج عن ذلك لا كتاباتهم النموذجية وحسب بل خلقُ مفردات وأفكار يمكن أن تستعمل بصورة لا شخصانية، من قبل أي إنسان يرغب في أن يصبح مستشرقاً، وكان تدشينهم للاستشراق انجازاً كبيراً؛ إذ إنه جعل وجود مصطلحات علمية أمراً ممكناً، ونفى التعقيد الابهامي وأنشأ شكلًا


1- 1 جعفر الخياط: مكة في المراجع الغربية، مقال مفصل منشور ضمن موسوعة العتبات المقدسة، ج 2، قسم مكّة، بإشراف جعفر الخليلي، ط 2، بيروت 1407 ه- 1987 م: 264.
2- 1 جعفر الخياط: مكة في المراجع الغربية، مقال مفصل منشور ضمن موسوعة العتبات المقدسة، ج 2، قسم مكّة، بإشراف جعفر الخليلي، ط 2، بيروت 1407 ه- 1987 م
3- ج 3، قسم المدينة: 242.

ص: 254

خاصاً من الاضاءة للشرق، وأسس شخصية المستشرق بوصفه السلطة المرجعية المركزية للشرق؛ ومنح الشرعية لنمط خاص من العمل الاستشراقي الذي يمتلك انسجاماً وتماسكاً محددين؛ وأدخل إلى مجال الاستعمال الثقافي نوعاً من العملة النقدية الاستطرادية أصبح الشرق، بسبب حضورها، من يتحدّث، منذ الآن، باسمه؛ وفوق كلّ شي ء، فإنّ عمل المدشنين قد اقتضى حقلًا دراسياً وعائلة من الأفكار، كان بمقدورها هي بدورها أن تشكّل مجتمعاً من الباحثين كانت الوشائج بينهم، وكان تراثهم، وطموحاتهم، في آن واحد، داخلية تنبع من الحقل الدراسي، وخارجية بما يكفي لضمان التمتع بمزايا خاصة. وبمقدار ماازداد فرض ارورپا لنفسها على الشرق وعبورها لحدوده، خلال القرن التاسع عشر، بمقدار ماازداد اكتساب الاستشراق للثقة العامة بهِ (1).

وحين نبدأ بمعاينة الاستشراق بوصفه نمطاً من الإسقاط الغربي على الشرق وارادة السيطرة عليه؛ فلن يواجهنا إلّاعدد قليل من المفاجآت، وذلك أنه إذا كانصحيحاً أنّ مؤرخين مثل ميشليه، ورانكه، وتوكفيل، وبيركهارت، يحبكون سردهم «كقصة من نمط خاص» فإنّ الشي ء نفسه يصدق على المستشرقين الذين حبكوا التأريخ الشرقي، والشخصية الشرقية، والمصير الشرقي لمئات من السنين.

لقد أصبح المستشرقون، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، جماعة أكثر جديّة؛ لأنّ آماد الجغرافيا التخيليّة والواقعية كانت، بهذا الوقت، قد تقلّصت، إذ إنّ العلاقة الشرقية- الاوروپية كانت قد تحدّدت بتوسّع أوروپي لا يُصَدُّ بحثاً عن الأسواق، والمصادر الطبيعية، والمستعمرات. وأخيراً؛ لأنّ الاستشراق كان قد انجز تقمصه وتحوّله من إنشاء بحثي إلى مؤسسة امپريالية (2).

وهكذا غدا التراث الاستشراقي


1- 3 خير الدين الزركلي: «قاموس الأعلام»- 8: 334 ط 7، بيروت، دار العلم للملايين، 1986 م، نجيب العقيقي: «المستشرقون»- 2: 52 ط 4، القاهرة، دار المعارف، 1980.
2- 4 زين نور الدين زين: «الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان» بيروت، دار النهار للنشر، 1971: 34.

ص: 255

بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق وأوديته، من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه واذلالها «فالمعرفة بالأجناس المحكومة أو الشرقيين التي تجعل حكمهم سهلًا ومجدياً. فالمعرفة تمنح القوة. ومزيد من القوة يتطلب مزيداً من المعرفة.. فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات والسيطرة المتنامية (1)».

ابحثوا عن التبشير.. و عن كمبردج

وفيما يخصّ بحثنا، وتحديداً الموقف البريطاني، الجهة المموّلة والمكلّفة لبيركهارت في مهمته، فمرة اخرى؛ كانت القوتان الاستعماريتان الرئيسيتان بريطانيا وفرنسا، رغم انّ روسيا وألمانيا لعبتا بعض الدور كذلك.

وكان الاستعمار في البدء يعني تمييزَ بل، بالفعل، خلقَ المصالح وتحديدها؛ المصالح التي قد تكون تجارية، أو دينية، أو ثقافية، أو متعلقة بالاتصالات، فقد شعرت بريطانيا، مثلًا، فيما يتعلّق بالإسلام والبلدان الإسلامية أنها، بوصفها قوة مسيحية، ذات مصالح مشروعة ينبغي المحافظة عليها. وقد نما جهاز معقّد لرعاية هذه المصالح. فبعد المنظمات المبكّرة مثل «جمعية نشر المعرفة المسيحية» (1698)، و «جمعية نشر الإنجيل في المناطق الأجنبية» (1701)، تشكّلت جمعيات دعمتها مثل «جمعية التبشير الإنجيلية» (1792)، «جمعية التبشير الكنيسية» (1799)، «جمعية الكتاب المقدّس البريطانية والأجنبية» (1804) و «الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود» (1808). وقد شاركت هذه الارساليات بصورةصريحة في التوسّع الاوروپي.

فإذا أضفت إليها الجمعيات التجارية، والجمعيات المتفقهة، ومؤسسات الإستكشاف الجغرافية، ومؤسسات الترجمة، وغرس المدارس، والبعثات، والمكاتب القنصلية، والمصانع، والجاليات


1- 5 فيما عُرف الأولان بعدائهم السافر للإسلام، أقام الثاني في مصر بين سنتي 1833- 1835 متستراً بالإسلام وراء اسم «منصور أفندي»!

ص: 256

السكانية الاوروپية الواسعة، أحياناً، في الشرق، فإنّ مفهوم «المصلحة» يكتسب قدراً كبيراً من المعنى. ولقد أصبحت هذه المصالح تُحمى، فيما بعد، بحماسة شديدة ونفقات عالية (1).

ومن هنا، لسنا بحاجة إلى التأكيد على أنّ الطابع السياسي العسكري قد غلب على مجمل العلاقات البريطانية مع الشرق، والذي تُوّج بالغزو العسكري الاستعماري، بعد أن مثّل مستشرقو بريطاينا طليعة هذا الغزو وجهاز الرصد والاستطلاع لنجاحه. وكان معظم هؤلاء المستشرقين- إن لم نقل جميعهم- قد تخرجوا من المعاهد البريطانية ومؤسساتها، للقيام بهذه المهمة الدبلوماسية تحت ستار العلم والاكتشاف (2).

ويأتي في مقدمة المعاهد البريطانية، التي خدمت المصالح البريطانية في الشرقصرحان أكاديميان هما: جامعة أكسفورد التي يعود تأسيسها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وجامعة كمبردج التي تأسست سنة 1257 م.

وفيما يتعلّق الأمر بالجامعة الأخيرة، لأنّ بيركهارت، أحد أبرز خريجيها، فلقد كانت أوّل ماأسست كرسيّاً للدراسات العربية في بريطانيا، وكان ذلك سنة 1632، بفعل «السير توماس آدامز» الذي كان من كبار تجّار الجوخ في بريطانيا.

وطبيعي أن لا يكون الهدف «العلمي الصافي» هدفاً أساسياً وراء هذا التأسيس، بل يتجاوزه إلى الناحية التجارية ثمّ السياسية والعسكرية أيضاً. وهذا ماعبّر عنه بكلّ وضوح، دون أي لبس أو غموض، أوّل استاذ قام بترأّس كرسي للدراسات العربية في جامعة كمبردج، وهو «ابراهام ويلوك» في رسالة موجهة إلى مؤسسها «آدامز» بقوله: «إنّها لا تهدف فقط تنشيط الآداب ونشر المعرفة، ولكن أيضاً لخدمة الملك والدولة في مجال التجارة مع البلدان الشرقية، وتوسيع آفاق


1- 6 ادوارد سعيد: «الاستشراق: المعرفة. السلطة. الإنشاء» تعريب كمال أبو ديب، ط 2، بيروت، 1982: 145.
2- 7 المرجع نفسه: 120.

ص: 257

الكنيسة ونشر الديانة المسيحية بين القابعين في الظلام».

وبدأت بريطانيا تتطور في هذا المضمار، كما بدأت تطوّر من أساليبها أيضاً، خصوصاً بعد أن برز عدد من المستشرقين فيها على جانب كبير من الأهميّة... ولعلّ أهم حادثة جرت في القرن الثامن عشر، بالنسبة إلى الاستشراق، هي تأسيس «الجمعية الآسيوية في البنغال» سنة 1784، على يد السير وليم جونز.

في هذا الإطار، أنّ عدداً من مستشرقي هذا العصر كانوا ممّن عملوا في السلك الدبلوماسي، أو ممّن انخرطوا في سلك الجندية، وعملوا في خدمة التاج البريطاني كضباط، أو كانوا أبناء ضباط، أو موظفين في وزارة المستعمرات البريطانية.

وفي أوائل القرن التاسع عشر شرعت جامعة كمبردج، تحت قيادة «ادوارد غرنول براون»، في تنظيم دروس للموظفين الملحقين في السلك القنصلي في المشرق، والذين سيتولون أعمال الترجمة، وهكذا كان ينظر إلى تعلّم لغات الشعوب الإسلامية في كمبردج من ناحية تطبيقية، وليس فقط من الناحية الأكاديمية، كما كانت الحال في سائر الجامعات البريطانية (1).

والسؤال المطروح هو: أين موقع بيركهارت من كل هذا؟

في خدمة الامبراطورية العظمى

ثمّة تجربة مريرة عاشتها عائلة بيركهارت، تركت آثارها العميقة على توجهاته، تلك هي أنّ عائلته أُجبرت على الفرار من موطنها سويسرا، بعد الاحتلال الفرنسي، واستقرت في ألمانيا، حيث أكمل بيركهارت دراساته، قبل انتقاله إلى بريطانيا.

ولكن... لماذا انتقل بيركهارت إلى بريطانيا؟

وهل هناك علاقة بين هذا الانتقال وحالة العداء الذي يضمره لفرنسا التي احتلت دياره، وسبّبت مأساة التشريد لعائلته؟!

وهل لعب والده، الذي كان


1- 8 د.صالح زهر الدين: «الإسلام والإستشراق»، بيروت، 1412 ه 1991: 107.

ص: 258

ضابطاً في الجيش، دوراً في دفع ابنه إلى التوجه لخدمة التاج البريطاني، بغضاً بعدوّه التقليدي فرنسا؟

ليس بين أيدينا أدلّة وثائقية، بيد أننا نميل كثيراً إلى أنّ الدافع الأكبر لانتقال بيركهارت، ومن ثمّ تجنّسه بالجنسية البريطانية، لم يكن علمياً بحتاً، خاصة وأن لندن كانت مزدهرة، في تلك الفترة، بنشاط محموم لتدجين المشرق وتحويله إلى «حقل للعلم الأورپي» كما يقول ادوارد سعيد (1)، وذلك في ظل التنافس المتزايد بين بريطاينا وفرنسا.

في لندن تعرّف بيركهارت إلى سير جوزيف بانكس عضو الجمعية الأفريقية، التي كانت موّلت رحلات استكشافية سابقة إلى منطقة النيجر، انتهت جميعها بوفاة المستكشفين. أمّا الباحث البريطاني «بيتر برينث» فيؤكّد أنّ بيركهارت قد ذهب إلى لندن؛ لوضع نفسه تحت تصرّف الجمعية الأفريقية.. وكانت هناك مجموعة من العلماء والتجار الارستقراطيين نصف الامپرياليين تتوق لحل سر غموض افريقيا الغربية ومجرى نهر النيجر، وذلك لنشر النفوذ البريطاني على ضفاف ذلك النهر.

كان أحد الطرق إلى ذلك النهر لا يقع إلى الشرق من سواحل غامبيا، وهو الطريق الذي سلكه هوثورن وبارك من قبل، بل يقع في جنوب غربي مصر، عبر واحة فزان ومنها إلى النهر. وهناك كانوا يأملون أن يجدوا الطريق في مكان ما فيما وراء الصحراء، حيث توقع أولئك الذين يسلكون هذا الطريق أن يجدوا تمبكتو على أحد جانبيها، ومصب النهر المجهول على الجانب الآخر (2).

وعندما قدّم بيركهارت فكرته ببلوغ تمبكتو بمرافقة قوافل الحجاج العائدة من مكة المكرمة تبنتها الجمعية، ووظفته بقيمة جنيه استرليني في اليوم (3). وما ان قبلت الجمعية الجغرافية بيركهارت كممثل لها، في هذه المغامرة الخطرة، حتى قرر أن يعدّ نفسه اعداداً كافياً لتلكَ الحياة


1- 9 أدوارد سعيد: م. س؛ 124.
2- 10 د.صالح زهر الدين: م. س؛ 108.
3- 11 المرجع نفسه: 110، 111.

ص: 259

المليئة بالمصاعب والاختبارات والمحن التي تنتظره (1). فالتحق بجامعة كمبردج عام 1808؛ لدراسة اللغة العربية والطب وعلم الفلك وعلوم اخرى. وراح يعوّد نفسه على الحياة الصعبة (2)، حتى وهو في انگلتره، نجد أنه قيّد حياته بقيود جعلته يهجر حياة الترف الغربيّة، فينام على الأرض مثلًا، ويمشي ساعات طويلة، ويأكل الخضر فقط (3)، ليخطو بعد ذلك أولى خطواته تجاه شواطئ آسيا، وهو يحمل في جوانحه المعتقدات العنصرية للغرب، من قبيل نظرية التفوّق القائمة على قانون المركز والأطراف ونهب الثاني لحساب الأوّل، ومن قبيل أنّ الغرب هو موطن الحضارة؛ لذا فبريطانيا (رائدة الغرب) مدعوّة لحمل رسالة (الرجل الأبيض) ولقيادة (البرابرة) و (المتوحشين) نحو الحضارة!!

وليس من شك أنّ كلّا من هذه الاستعدادات والتصورات تنطوي على مهمّة سريّة ليست عادية، إذ ماعلاقة اللغة العربية بعلم الفلك؟

وماذا يربطهما بالطب؛ ليتعلمها بيركهارت في وقت واحد، وفي كمبردجصاحبة التأريخ العريق في المبادرات الاستعمارية، ومحاولات تشويه الإسلام؟!

إنّ بعضاً من خفايا المشهد الخلفي لمهمة بيركهارت يتضح حينما نعلم أنّ بريطانيا كانت وقتئذٍ، مدفوعةً بحماية طرقها إلى الهند من جهة، ولموجهة المضايقة والنفوذ المتزايدين من فرنسا، أو محاولة إيقافه من جهة اخرى إذ إنّ فرنسا، بعد هزيمتها في الهند، عملت على مضايقة الجزء الشرقي من الامبراطورية البريطانية باعتراض طرقها عن طريق مصر المسلمة، لكلّ هذا أخذت بريطانيا تظهر مزيداً من الاهتمام بالمشرق، ولا سيما مصر (4).

وفي الوقت الذي كانت فيهِ شبه الجزيرة العربية تشهد احتدام المواجهة بين محمد علي باشا والوهابيين، الذين مدّوا سيطرتهم من نجد إلى الحجاز..


1- 12 للمزيد يراجع كتاب الإستشراق لأدوارد سعيد، فصل «الجغرافية التخيلية»صفحة: 80 ومابعدها.
2- 13 بيتر برينث: «بلاد العرب القاصية؛ رحلات المستشرقين إلى بلاد العرب»، ترجمة خالد أسعد عيسى، وأحمد غسّان سبانو، بيروت، 1411 ه 1990 م: 108.
3- 14 رلى الزين: «اوروپيون في الشرق»، الحلقة الخامسة،صحيفة الحياة لندن الإثنين 27 نيسان ابريل 1992- 25 شوال 1412 ه. العدد 10671: 15.
4- 15 بيتر برينث: م. س

ص: 260

وصل الشام أحد الرحالة الذي امتاز بالذكاء والنشاط وتعدّد المواهب، فأصبح مثالًا ونموذجاً لُاولئك الذين حاولوا اختراق شبه الجزيرة العربية، وإثبات مصداقية الاسطورة العربية (1).

ولم يكن هذا الرحالة سوى بيركهارت، الذي بدأ مهمته في مدينة حلب السوريّة... وليشرع في مغامرته الكبرى.

الشام: خطوة في مسيرة الألف ميل

أمضى بيركهارت سنتين في هذه المدينة، وهناك أتمّ ثقافته ليس في اللغة العربية فحسب، بل في آداب اللغة العربية ولا سيما القرآن الكريم وتفاسيره، لدرجة أنّه استطاع ان يستحوذ على احترام اولئك الذين كانوا يحرصون على النقاش في المعاني الداخلية لأي نص من النصوص، فقد ظهرت مهارته واتقانه في هذا المضمار (2)، كما أظهر براعته عندما أكمل ترجمته لكتاب «روبنسون كروز» ودرس الدين الإسلامي بالجديّة ذاتها. واتخذ لنفسه اسم إبراهيم بن عبد اللَّه.

خلال إقامته في سوريا كان يتجوّل مع البدو، خصوصاً قبيلة «عنيزة». ووصل إلى تدمر والفرات، ونُشرت نتائج زياراته وأبحاثه تباعاً، وهي تشكل اليوم أوّل دراسة اثنوغرافية لقبيلة في الصحراء. وعن ذلك الوقت كتب بيركهارت:

«أمضيت بين البدو أسعد الأيام في حياتي. وفي الوقت ذاته أمضيت ساعاتصعبة ومملة. وكنت أنتظر- في بعض الأيام- بفارغ الصبر غياب الشمس؛ لأنني كنتُ أعلم أنّ حفلات الغناء والرقص في المساء ستخرجني من لعبة الداما مع رفاقي (3).

وخلال إقامته في سوريا- وجزيرة العرب لاحقاً- دوّن ملاحظات طريفة عن أعراف وعادات البدو الذين أحبّهم واعجب بهم. وكانت ملاحظاته هي أوّل مسعى «موضوعي» لدراسة


1- 16 رلى الزين: م. س
2- 17 بيتر برينث: م. س، ورلى الزين: م. س أيضاً.
3- 18 د. حلمي خضر ساري: «صورة العرب في الصحافة البريطانية»، ترجمة عطا عبد الوهاب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1988: 32.

ص: 261

المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للبدو (1).

في شباط (فبراير) 1812، شعر بيركهارت بأنه مستعد لمتابعة رحلته نحو النيجر، وتحرّك ببطء من سوريا إلى القاهرة، مكتشفاً في طريقه آثار البتراء في الأردن (2)، وبتوغله إلى الجبال المتاخمة للبحر الميت اعتبر أوّل اوروپي شقّ طريقه، خلال تلك الصخور الناتئة، المحيطة بعاصمة الأنباط القديمة التي قهرت «سيتزن»، فلم يستطع الوصول إليها. وقد استطاع أن يرسل وصفاً لمدينة البتراء الأسطورية، مما أدهش العالم حينذاك (3).

وبينما كان يستعد للرحيل إلى القاهرة، كانت «الليدي هستر ستانهوب» قافلة من هناك، في طريقها إلى مقر إقامتها في لبنان، حيث كانت هي الاخرى تقوم بمهمة سريّة، من مفرداتها رصد عيون نابليون من الفرنسيين في الشام، والعمل على استمالتهم، وتجنيدهم كجواسيس لبريطانيا... وأثناء عودة ستانهوب، وفي مدينة الناصرة تحديداً، فوجئت يوماً بدخول شاب غربي السمات، عربي الملبس، قدّم نفسه لها على أنه «الشيخ إبراهيم» وأخذ يحادثها بانجليزية سليمة، ولم يكن هذا الشاب سوى الرحالة الكبير بيركهارت...

مكتشف البتراء، وآثار أبي سمبل (4).

وعلى مايبدو أنّ بيركهارت كاشفها بمهمته أو بعض خباياها، وخاصة فيما يتعلق بجهوده المضنية مع بدو الصحراء، وماحققه من إنجاز معهم، بحاجة إلى تواصل وتوظيف.

وقد قررت ستانهوب، بعد فترة قصيرة من وصولها لبنان، السفر إلى دمشق، ومنها بدأت اتصالاتها بالبدو، وعقدت معهمصداقات، كما قامت برحلة إلى تدمر.. واتصلت بشيوخ القبائل في بادية الشام، ولم يبخل عليهم بالمال، فكانت بعملها هذا أوّل أمرأة اوروپية وطئت قدماها أرض مدينة زنوبيا التأريخية (5).

وليس من المستبعد أبداً أن


1- 19 بيتر برينث: م. س؛ 108.
2- 20 المرجع نفسه.
3- 21صحيفة الحياة: م. س
4- 22 للمزيد يراجع كتاب: «صورة العرب في الصحافة البريطانية» م. س: 44 هامش 95.
5- 23صحيفة الحياة: م. س

ص: 262

يكون بيركهارت قد لعب دور العرّاب، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في مهمّة ستانهوب الصحراوية هذه. كما أنّ ستانهوب بدورها قد زوّدت بيركهارت- على الأرجح- برسالة خاصة إلى محمد علي باشا، الذي تحتفظ بعلاقات وطيدة معه، حتى إنه لم يرد لها طلباً، على حدّ تعبيرها (1)، لا سيما وأنها أقامت في ضيافته شهراً كاملًا من تلك السنة، آيار (مايو)، وهاهي قادمة توّاً من القاهرة.

وبذا تكون ستانهوب قد اختزلت كثيراً من الجهد على بيركهارت، تماماً كما ذلّل لها، هو الأخر، كثيراً من المتاعب، في تحركها على بادية الشام.

تطواف في وادي النيل

شقّ بيركهارت طريقهصوب القاهرة، بعد أسابيع قليلة من لقائه بستانهوب. وصل إلى هناك في أيلول (سبتمبر) 1812، وحلم الوصل إلى تمبكتو يحدوه، ويشغل كلّ اهتمامه، وحال وصوله القاهرة قابل محمد علي باشا، وهو يأمل أن يجد طريقاً أو قافلة تنقله إلى المناطق الغربيّة، في المرحلة الاولى لرحلته إلى نهر النيجر، ولكن الصحراء الكبرى تمتد أمامه وتقلّل من فرص نجاحه (2).

ولم يمض وقت قصير، حتى علم بيركهارت أنّ القافلة المتجهة إلى أفريقيا الغربية لن تتحرك قبل حزيران (يونيو) 1813. وهذا يعني أنه سيمكث حوالى تسعة أشهر في القاهرة. لم يرق لهُ الأمر، وقرّر أن ينزل إلى النيل، على أمل إيجاد طريق تتجه غرباً من بلاد النوبة، وفكّر أنّه حتى لو لم ينجح في ذلك، فيكون استكشف مناطق جديدة، إذ لم يكن أي اوروپي دخل الأراضي الواقعة جنوب أسوان بعد.

وتمكن بيركهارت من اجتياز 200 ميل إلى الجنوب، مكتشفاً في طريقه «معبد أبي سمبل». وهناك واجهصعوبات مع الحكام المحليين.

وعندما اتضحّ لهُ أن لا مجال لمتابعة


1- 24 بلاد العرب القاصية: م. س؛ 109.
2- 25 د. محمود السمرة: «ليدي هسترستانهوب» تعريف بكتاب الشهر، مجلة العربي الكويتية، العدد 99- شوال 1386 ه- شباط 1967: 131 ومابعدها.

ص: 263

سيره جنوباً أو غرباً، قطع النيلصعوداً وعاد إلى نقطة انطلاقه. وفي اسيوط، بعدما اقتنع بأنّ ذهابه إلى افريقياً الغربيّة لن يحصل قبل سنة، اتخذ قرار التوجّه إلى الحجاز، ولعلّ ماشجعه على تغيير وجهته وجود محمد علي باشا هناك، إذ كان يتابع حملته على الوهابيين، ولعلّها الأوامر قدصدرت إليه من مرؤوسيه بالتوجّه إلى مكّة.

وتبعاً لطريقته المنظمة، خلف بيركهارت وصفاً دقيقاً لأمتعته: كان يرتدي قميصاً وسروالًا وعباءة عربية، وعلى رأسه قبعة لفّ حولها قماشة، وحمل معه دفترين وقلماً وسكينة وبوصلة و 50 دولاراً أسبانياً وقلادتين من الذهب. وذكر أيضاً أنّ البضائع والمأكولات التي حملها مع رفاقه لعبور الصحراء النوبيّة، وهي رحلة استغرقت أربعة أشهر، احتوت على 40 رطلًا من الطحين، و 20 من البسكويت، و 15 من التمر، و 10 من العدس، و 10 من الزبدة، و 5 من الملح و 3 من الأرز، و 2 من البن، و 4 من التبغ... كما حمل معه رسائل من محمد علي، باشا مصر لحمايته.

في 7 تموز (يوليو) 1814، قطع بيركهارت برفقة العبد الذي كان اشتراه ب 16 دولاراً البحر الأحمر، ووصل إلى جدّة بعد 11 يوماً. وهناك مرض بيركهارت، ثمّ تعرّض لضائقة مالية، إذ انّ التاجر الذي قدّم له الرحالة رسالة الاعتماد رفضها، ولم يسلفه الأموال. فأجبر على أن يبيع عبده ب 48 دولاراً؛ أي ثلاثة أضعاف سعر الكلفة. وفي الوقت ذاته كتب إلى محمد علي باشا مستنجداً به، فاستجاب فوراً لطلبه، وأمر أن يُعطى الأموال والثياب (1).

في جدّة.. والطائف

مكث بيركهارت في جدّة شهراً، وكتب عنها نحو «100»صفحة واصفاً الحياة فيها والتجارة والعادات (2)، وفي هذا الإطار، وصف تلك المدينة وسكانها، كما وصفها


1- 26 المرجع نفسه.
2- 27 من القاهرة كتبت ستانهوب إلى أحد أصدقائها تقول: «لقد كان محمد علي حفيّاً بي، ولم يكن يستقبلني إلّا واقفاً، وقد سمح لي أن أزوره متى أردت، ولم يرفض لي طلباً طيلة اقامتي في ضيافته، حتى انه سمح لي أن أزور أرامل المماليك الذين قتلهم عندما طلبتُ منه ذلك» تُراجع مجلة العربي؛ المرجع السابق: 132.

ص: 264

الآخرون من الرحالة: البنايات الحجرية العالية، الأسوار ووسائل الدفاع التي بدأت بالتهدّم، إلى الأراضي القفراء التي كانت تضمّ وتأوي السكان متعددي الأجناس، الذين أتوا من جميع أجزاء شبه الجزيرة العربية، ومن سوريا وتركيا ومن الهند، ومن جزر الهند الشرقية.

وإضافةً إلى ذلك، فقد استطاع بيركهارت أن ينفذ إلى تفهّم اقتصاد تلك المدينة، وأسباب انحطاطها، والتهديدات التي تستهدف مستقبلها، وإلى حدٍّ ماتوصّل إلى معرفة أسباب فنّ الدراسة الديموغرافية لتلك البلاد (أي دراسة المواليد والوَفيات والصحة والزواج).

وهو يخبرنا عن الأهمية العظيمة، التي وصلت إليها تلك المدينة الصغيرة على الصعيد التجاري، في أوائل القرن التاسع عشر، بسبب موقعها على مفترق الطرق، التي يسلكها الحجاج والتجار من جميع أنحاء العالم.. لم ينسَ أن يطلق نبوءاته، حول قرب تراجع أهمية المركز التجاري لجدّة، كما تنبّأ بأنه عندما تنتهي السيادة العثمانية على الحجاز، والتي دعمها محمد علي بنشاطه، فإنّ العرب عندها سوف ينتقمون لأنفسهم ولخضوعهم للأتراك، مع أنّ ذلكَ الخضوع كان اسميّاً فقط، ولسوف ينتهي الحكم التركي، ولكن سوف يصاحب انتهاءه إراقة الدماء (1).

وراح بيركهارت يصف مدينة جدّة بالتفصيل، بشكل لم يحاول أن يفعله أي رحالة من قبل، ماعدا نيبور، إذ ربّما لم يكن أي واحد من هؤلاء الرحالة يشعر براحة تجعله يلتفت إلى مثل هذه التفاصيل. أو ربّما لم يكونوا متمكنين من ناحية اللغة بشكل كافٍ. ومن بيركهارت علمنا أنّ جدّة تحتوي على عدد الحوانيت التي أحصاها بشكل دقيق، وذكر أصناف المبيعات، وكذلك البضائع المبيعة، ومناطق استيرادها (2).

ومن جدّة سافر بيركهارت إلى


1- 28 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 109.
2- 29صحيفة الحياة؛ م. س.

ص: 265

الطائف، وهو يصف مارآه للآخرين أيضاً، وهو ذلك السهل الوعر الكثير الحجارة والغبار والتلال، التي تغطيهاصخور الغرانيت والكوارتز اللامع الذي يبهج الأنظار، خصوصاً عند رؤية أشجار النخيل المنتشرة هنا وهناك. ثمّ يصف الوديان الخضر، فيما وراء جبل «القرى» على سفوح تلك السلسلة الجبلية... ورغم اعتدال الطقس، لكن بيركهارت كان يسافر، في معظم الأحيان، ليلًا خوفاً على نفسه من حرارة الشمس (1).

حال وصوله الطائف التقى محمد علي باشا، الذي كان يدير الحملة التي جردتها الدولة العثمانية بقيادته، لاسترداد البلاد المقدسة من الوهابيين. وكان محمد علي باشا قد وصل الحجاز في ربيع 1813، وأقام في الطائف للاشراف على مهمته، والقضاء على الوهابيين في عقر دارهم كذلك (2).

سكن بيركهارت عند طبيب محمد علي الأرمني، وأمضى الليلة الاولى مع الباشا، يتحدثان عن «أمور الدنيا»، وأوضح له محمد علي أنّه يخشى احتلال البريطانيين لمصر، بعد انتصارهم على نابليون، منتهزين قوتهم ومحوّلين الموقف الدولي لمصلحتهم. وكتب بيركهارت عن محمد علي قائلًا: «حاكم عظيم لا يعرف سوى سيفه وكيس نقوده، يسحب الأوّل لتعبئة الثاني» (3).

وفي الطائف اجتمع بأعيان البلد، وكان محمد علي باشا قد جعل الطائف مركز القيادة لجيوشه في حملته على بلاد العرب. وقد نال بيركهارت إعجاب قاضي مكة بعلمه وثقافته (4) حتى انه أعلن لاحقاً أنّ بيركهارت ليس مسلماً فقط بل هو عالم أيضاً (5)كما أنه نال اعجاب محمد علي باشا، بعد أن روى له تلك القصص عن رحلاته. ولكن يظهر أنّ محمد على باشا قد راودته الشكوك بالنسبة لهذا (المسلم) الأجنبي، ومع ذلك فقد كان يصغي بشوق لأي معلومات يُدلي بها بيركهارت. وكان محمد على يلقي عليه


1- 30 المرجع نفسه.
2- 31 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 110.
3- 32 للمزيد يُراجع المرجع نفسه: 111.
4- 33 المرجع نفسه.
5- 34 مكة في المراجع الغربية؛ م. س 2: 264.

ص: 266

بعض الأسئلة مثلا: «كم يلزم من الجنود لإخضاع بلاد العرب حتى سهل شنغار؟».. وعندما وصلته نسخة من معاهدة باريس طفق الباشا في درسها مع بيركهارت، وكان الحاكم المصري يأمل أن يتجدّد القتال في اوروپا، حتى تنشغل الدول العظمى بنفسها ولا تتدخل بشؤونه، ولكي يزيد في سعر الذرة التي يصدّرها إلى الخارج (1).

ويُستبان ممّا دوّنه بيركهارت أنّ محمد علي باشا كان يشك في إسلامه، ومع هذا فقد سمح له بالتوجه إلى الحج في مكّة (2) وهكذا سنحت له فرصة ثمينة، لإنجاز مهمته الاختراقية.

الحجّ إلى مكّة

بعد مسيرة يومين حافلين بأحوال جوّية غير مناسبة من رياح وأمطار ورعد وبرق، وصل بيركهارت إلى مكة (3)، وكان المستر بيركهارت قد أسلم- على مايزعم- عند قدومه إلى مصر، في عهد الخديوي محمد علي باشا، وسمّى نفسه الشيخ إبراهيم. ويقول ناشر كتبه الإنكليزية، ويليام أوسلي، في كانون الثاني (يناير) 1829؛ إنّ معرفة بيركهارت العربية، واطلاعه التام على أحوال المسلمين وعاداتهم قد ساعداه على تقمّص دور الرجل المسلم بنجاح، حتى استطاع أن يعيش في مكّة، خلال موسم الحج كلّه، ويشترك في مناسكه وشعائره، من دون أن يثير أدنى شك بشخصيته المنتحلة... وكان بيركهارت نفسه يقول: إنّه من بقايا المماليك الذين قضى عليهم محمد علي باشا في مصر، حينما كان يُسأل عن هويته (4).

دخل مكّة في 8 أيلول (سبتمبر) 1814، حيث مكث لغاية كانون الثاني (يناير) اللاحق، والملاحظ مما كتبه بيركهارت نفسه أن إقامته في مكة كانت مريحة جدّاً، فهو يقول: إنّه لم يتمتع خلال سفراته في البلاد الشرقية كلّها بمثل ماتمتّع به في مكّة من الراحة»، وإنه سيظلّ يتذكر إقامته فيها إلى الأبد، برغم انحراف المزاج


1- 35صحيفة الحياة؛ م. س.
2- 36 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 111.
3- 37صحيفة الحياة؛ م. س.
4- 38 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 118

ص: 267

الذي ألمَ به، فلم يسمح له بالتمتع بجميع ماسمحت له الأحوال التمتع به (1)، وقد كتب: «خلال جميع رحلاتي في الشرق، لم أتمتع براحة كالتي عشتها في مكّة. وسأحتفظ بذكريات جميلة عن إقامتي هنا».

ولا شكّ أن بيركهارت لم يمضِ وقته سُدى، إذ وضع 350صفحة من الملاحظات والوصف الدقيق للمدينة وأهلها... وتركَ وصفاً مفصلًا لبيت اللَّه الحرام الذي تمتع بجماله، خلال ليالي شهر رمضان عندما «تلتمع آلاف الفوانيس في أعمدته» وعندما «تنعشنا النسمة الباردة فيه، بعد يوم طويل وحار من الصيام» (2).

ماتجدر الإشارة اليه، أنّ بيركهارت يشرع بوصف الحج وشعائره قبل وصوله مكة، ويبدأ بذكر مايختصّ بالإحرام بطبيعة الحال.

ويستشهد بما رواه المؤرخون عن هارون الرشيد وزوجته زبيدة اللذين قصدا الحج، في سنة من السنين، مشياً على الأقدام من بغداد إلى مكّة، ولم يكن يستر جسمهما غير لباس الإحرام، على طول الطريق.

ويأتي بعد ذلك على ذكر التوجه إلى المسجد الحرام، والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وزيارة العمرة، ثمّ العودة إلى مكّة، على أنّ بيركهارت يذكر كذلك أنّ الكعبة كانت مكاناً مقدساً في أيام الجاهلية أيضاً، وأنّ الناس كانوا يطوفون حولها بنفس النمط الذي يطوفون فيه حولها اليوم تقريباً، لكن المبنى المقدس كانت تزينه يومذاك ثلاثمائة وستونصنماً، وأن على الرجال والنساء أن يظهروا أمامها عراة كما خلقهم ربّهم؛ ليستطيعوا التجرّد عن الخطايا والذنوب، والتخلّص منها مع الملابس التي يتجردون منها (3).

وصف مسهب لمكّة

وبعد أن يشير إلى التقديس والتبجيل اللذين يكنّهما العرب جميعاً لمكّة، وإلى الأسماء التي تطلق عليها مثل: «امّ القرى» و «المشرّفة» و «البلد الأمين»، يأخذ بوصفها من


1- 39 مكة في المراجع الغربية؛ م. س.
2- 40 بلاد العرب القاصية؛ م. س.
3- 41 مكة في المراجع الغربية؛ م. س، 2: 263- 624.

ص: 268

جميع النواحي، فيقول: إنّ البلدة تشغل فضاءً يبلغ طوله حوالى ألف وخمسمائة خطوة، أي من محلّة الشبيكة إلى نهاية المعلا. لكن جميع مايطلق عليه اسم مكّة، بالمعنى الأوسع، يمتدّ من ضاحية جرول (المدخل من طريق جدّة) إلى ضاحية المعيدة على طريق الطائف. ويبلغ هذا حوالى ثلاثة آلاف وخمسمائة خطوة.

أمّا الجبال التي تحيط بهذا الوادي، الذي كان يسميه العرب وادي مكّة أو بكّة، فيبلغ ارتفاعها مابين مئتين وخمسمائة قدم، وهي جرداء خالية من الزرع والشجر. وينحدر الوادي برفق نحو الجنوب، حيث تقع محلّة المسفلة؛ ولذلك يتبدّد المطر الذي يسقط أحياناً على مكة في جنوب مسفلة، في الوادي المكشوف الذي يسمّى وادي الطرفين، وتقع معظم البلدة في ضمن الوادي نفسه.

ويقول بيركهارت: إنّ مكّة يمكن أن تعتبر بلدة جميلة؛ لأنّ شوارعها أعرض من شوارع المدن الشرقية الاخرى بوجه عام. وبيوتها عالية مبنية بالحجر، فيها عدد من الشبابيك التي تطلُّ على الشوارع فتسبغ عليها منظراً تملأه الحيوية، بخلاف الدور في مصر وسوريا، التي لا تطلّ على الطرق في الغالب،. وهي مثل جدّة، تحتوي على عدد من الدور ذات ثلاثة طوابق، ويقول كذلك: إنّ مكّة مفتوحة من جميع الجهات، لكن الجبال المحيطة بها تكون مانعاً حصيناً ضد العدو، إذا مادوفع عنها بطريقة اصولية. وقد كان لها في الزمن القديم ثلاثة أسوار تحمي جوانبها المتطرفة (1)..

ويمضي بيركهارت في التطرق إلى العديد من التفصيلات، كالماء الذي يعتمد عليهِ سكان مكّة، وبئر زمزم، وقناة زبيدة التي يسهب في سرد تأريخها وماشهدته من ترميم وإصلاح، على مرّ التأريخ.

ومن أمتع مايكتبه بيركهارت عن مكّة وصفه المسهب لمحلاتها المختلفة، بعد أن شاهدها بنفسه ودقّق


1- 42 المرجع نفسه، 2: 265.

ص: 269

أحوالها. فهو يقول: إنّ القادم من جدّة إلى مكّة المكرمة يجد في مدخلها برجين عاليين للحرس، كان قد أنشأهما الشريف غالب للدفاع عن عاصمته المقدسة.

وبعد أن يدخل القادم من بينهما بمسافة غير بعيدة يصادفه موظفو الشرف الذين يجبون الرسوم على البضائع. ثمّ يدخل إلى «حارة جرول» التي يعيش فيها البدو المشتغلون في تجارة النقل مابين مكة وجدّة، وتأتي بعد «حارة الباب» التي تتألف من شارع عريض متسع، يقوم في جانبيه عدد غير يسير من الدور الكبيرة الحسنة «حارة الشبيكة» التي تمتد إلى اليمن في الغالب، ويقول بيركهارت: إنّ هذه المحلة كان أصحاب النبي عليه السلام قد ضويقوا فيها جدّ المضايقة، في حروبهم مع قريش (1).

وعلى هذا المنوال، يمضي بيركهارت في وصف أدق التفصيلات الاخرى عن مكة وحاراتها أو مطوّفيها، وأسواقها، وسفوحها، وأجهزتها الإدارية، ونفوسها وأماكنها التأريخية... الخ.

حارات مكّة.. ومواقعها التاريخيّة

كان بيركهارت يحرص على رصد كلّ شاردة وواردة في مكة، ويتطرق إلى كلِّ شي ء تقع عليه عيناه، أو يتناهى إلى سمعه. ومن ذلك اهتمامه بالواقع المعاش كاهتمامه بالتأريخ الغابر، كلّ ذلك بمنهجيّتة موضوعيّة ونظرة جامعة مانعة. إنصحّ التعبير.

وغالباً نراه يشير إلى المواقع التأريخية المبثوثة في حارات مكة، دون أن يغفل واحداً منها. فمثلًا يقول بالمناسبة: إنّ القمة الغربيّة من وادي الطرفين التي تقابل المسفلة، كانت تقوم فوقها بنايةصغيرة وقبة شيّدت لتخليد ذكرى الخليفة عمر بن الخطاب، فصارب تسمى «مقام سيدنا عمر»، لكن الوهابيين حينما استولوا على مكّة، قبل أن يستردّها منهم محمد علي باشا، هدموا هذه البناية والقبة وخربوهما (2).

وفي المحل الذي ينتهي فيه


1- 43صحيفة الحياة؛ م. س.
2- 44 مكة في المراجع الغربيّة؛ م. س.

ص: 270

السعي، من جهة المروة، لاحظ بيركهارت وجود الدار، التي كان يسكن فيها العباس عمّ النبي عليه السلام...

وتوجد على مقربة من هذا المكان بركة وسبيل للشرب بناهُ السلطان سليمان القانوني، واستمدّ له الماء من قناة مكة المشهورة... (1).

ويذكر بيركهارت كذلك «زقاق الحجر» الذي يقول: إنّ الزهراء البتول عليها السلام وأبا بكر الصديق قد ولدا فيه. وقد سُمّي الزقاق باسم الحجر الذي كان يحيي الرسول الأعظم كلّما كان يمر به، عند رجوعه من الكعبة على مايُقال... (2).

وعند انتهاء المعلا، وعلى مسافة غير بعيدة من قصر الشريف الكائن في شمال منطقة البرك، يوجد قبر أبي طالب والد الإمام علي عليه السلام، وعمّ النبي الكريمصلوات اللَّه عليه. وقد عمد الوهابيون إلى تقويض البناء الذي كان قائماً فوق القبر، فأحالوه إلى كومة من الأنقاض، ولم يجد محمد علي باشا بعدهم من المناسب أن يعيد البناء إلى سالف عهده. ويقول بيركهارت: إنّ الناس في مكّة يقدسون أبا طالب ويجلّونه غاية الإجلال، ويخشون القسمَ كذباً به.

ويختم بيركهارت بحثه عن حارات مكّة بالإشارة إلى عدد نفوسها، بعد أن يبحث فيصعوبة تقدير النفوس في المدن والبلاد الشرقية عامة. وهو يقدّر نفوس مكّة في غير مواسم الحج، في تلك الأيام، بخمسة وعشرين إلى ثلاثين ألف نسمة، يُضاف اليها حوالى ثلاثة إلى أربعة آلاف عبد حبشي وغير حبشي، ثمّ يقول: إنّ مكّة كان بوسعها، في تلك الأيام، أن تسكن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الحجاج أيضاً. ويشير كذلك إلى أنّ إحصاءً للنفوس كان قد جرى في عهد السلطان سليم الأوّل (923 ه) فوجد أنّ النساء والرجال والأطفال قد بلغ عددهم حوالى اثني عشر الف نسمة.

وهو يروي ذلك عن المؤرخ قطب الدين، الذي يذكر أيضاً أنّ نفوس


1- 45 المرجع نفسه، 2: 265.
2- 46 المرجع نفسه، 2: 268.

ص: 271

مكّة كانت أكثر من هذا بكثير في القرون الخالية؛ لأنّ القرامطة، حينما هاجموا مكة في 314 ه، بلغ عدد من قُتِلَ بأيديهم من سكان مكة حوالى ثلاثين ألف نسمة (1).

الأماكن المقدّسة

ويخصص بيركهارت في رحلته فصلًا خاصاً لذكر بعض الأماكن والبقع المقدسة التي يقول عنها: إنّ الناس، خلال احتلال الوهابيين لمكة، لم يكونوا يجرأون على زيارتها أو التقدّم منها، وأنّ جميع الأبنية أو القبب المشادة عليها قد تمّ تهديمها.

وأوّل مايذكر من هذه الأماكن «مولد النبي»، أو الموقع الذي ولدَ فيه سيد الكائنات النبي الأعظمصلوات اللَّه عليه. وهو يقول: إنّه وجد العمال يعيدون بناء المبنى الذي كان مشيداً فوقه. وقد وجد حفرةصغيرة في الوسط، قيل لهُ إنّها البقعة التي كانت أمّ النبي جالسة فيها، حينما جاءها المخاض فولدته. والمقول انّ المكان كلّه كان بيت عبد اللَّه بن عبد المطلب والد النبي.

ثمّ يذكر «مولد ستنا فاطمة» أو المكان الذي وُلدت فيهِ الزهراء البتول سيِّدة نساء العالمين، ويوجد هذا «المولد»، على مايقول بيركهارت، في بناية حسنة مبنيّة بالحجر، يُقال أنها كانت بيت أمها خديجة الكبرى، في شارعصغير يسمّى «زقاق الحجر».

ويؤدي سلمصغير إليهِ عندَ الدخول، لأنه تحتَ مستوى الشارع، وتوجد فيهِ بقعتان محددتان؛ احداهما ولدت فيها فاطمة الزهراء عليها السلام، والثانية كانت تجلس فيها لتدير رحاها وتطحن الحب. ويقول: وفي جناح بالقرب من ذلكَ توجد حجرةصغيرة، كان يجلس فيها النبي عليهِ السلام، حينما كان جبريل ينزل عليهِ بالوحي، ولذلكَ كانت تسمى «قبة الوحي».

ويذكر بعد ذلكَ «مولد الإمام علي» في الحارة المسماة «شعب علي»، ويقول بيركهارت: إنّ هذه عبارة عن مسجدصغير توجد حفرة في فنائه


1- 47 المرجع نفسه، 2: 269.

ص: 272

لتدلّ على البقعة التي ولد فيها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (51) (1)، وهذا اشتباه واضح، إمّا من بيركهارت الذي ربّما اختلط الأمر عليه، أو لعلّه من اشتباهات العوام، اذ من المعروف أنّ الإمام علياً عليه السلام هو وليد الكعبة.

ويشير بيركهارت بعد ذلك إلى «مولد سيدنا أبا بكر»، الذي يقول انه ضمن مسجدصغير يقع في مقابل الحجرالذي كان يحيى النبيصلى الله عليه و آله عند مروره به، ويقول كذلك انّ هذا المكان ليست فيه بقعة خاصة بالذات، لكن ساحته مغطاة بسجادة إيرانية، ويعلّق بعد ذلك فيقول انّ جميع هذه «الموالد» كانت قد أعيد بناؤها وترميمها، بعد اخراج الوهابيين من مكّة، في تلك الأيام، عدا «مولد النبي» الذي كان يجري بناؤه مجدداً، وتشارك في سدانة هذه الأماكن المقدسة عدّة أسر شريفة.

وقد ألفى بيركهارت انّ «مولد أبي طالب»، في محلة المعلا، قد تمّ تهديمه عن آخره، وهو يتوقع ان لا يُعاد بناؤه من بعد ذلك أيضاً. كما وجد الوهابيين قد هدموا القبة التي كانت مشيدة على قبر «سيدتنا خديجة» ولم يعد بناؤه أيضاً، مع انّ الحجاج وسائر الناس كان من المعتاد أن يزوروه بانتظام، لا سيما في أيام الجمعصباحاً، ويقع هذا القبر في المقبرة الكبيرة الموجودة في محلة «المعلا»، وهو محاط بجدار مربّع ليس فيهِ مايلفت النظر، سوى حجر حفرت عليه آية الكرسي بخط كوفي.

وعلى مسافة غير بعيدة من هذا القبر كان هناك قبر آمنة والدة النبيصلى الله عليه و آله.

وكان مغطّى بحجرٍ حفرت فيه بعض الآيات القرآنية بخط كوفي قديم. ومّما يذكره عن هذه المقبرة انه وجد في نهاية كل قبر من قبورها تقريباً نباتاً من نباتات (الصبر) قد زرع، ليدل على الصبر الذي يجب ان يتحلّى به الموتى، قبل أن يبعثوا في يوم المحشر (2).

وهناك أماكن كثيرة اخرى،


1- 48 المرجع نفسه، 2: 271.
2- 49 المرجع نفسه، 2: 273.

ص: 273

خارج مكة، يأتي بيركهارت على ذكرها، ويشير إلى قداستها، كجبل أبي قبيس، وقمتيه؛ «مكان الحجر» و «مكان شق القمر»، و «جبل النور»، و «جبل ثور»... الخ.

بيت اللَّه الحرام

ويصف بيركهارت في الجزء الأوّل من رحلته بيت اللَّه الحرام بالتفصيل، فيأتي على كلّ شي ء فيه، بحيث يستغرق وصفه مايزيد على خمسينصفحة.. ومن طريف مايورده بيركهارت، في هذا الفصل، قائمة بأسماء الأبواب الموجودة في المسجد الحرام تحتوي على تسعة وثلاثين اسماً حديثاً، تقابلها الأسماء القديمة لبعض الأبواب. لكنه يقول انّ أهم الأبواب كانت: باب السلام الذي يجب ان يدخل منه كل حاج، وباب العباس، وباب النبي، وباب علي، هذه كلّها من الجهة الشمالية. أمّا الشرقية فأهمّ أبوابها؛ باب الزيت، وباب العشرة، وباب الصفا، وباب الشريف، ثمّ باب إبراهيم، وباب العمرة في الجنوب، وباب الزيارة في الجهة الغربية. ومعظم هذه الأبواب لها عقود عالية مدببة (1).

ويستطرد في هذا الفصل في وصف محيط المسجد الحرام من الخارج، الذي كانت تزينه سبع منارات، كما ويتحدّث عن سدنة البيت الحرام، والطواشين الذين يقومون بواجبات الشرطة، في داخل الحرم الشريف، علاوةً على قيامهم بغسل أرضية الكعبة وكنسها يومياً..

ويعتبر أغا الطواشين من شخصيات مكّة على مايلاحظ، بحيث يكون مخولًا بالجلوس مع الشريف والباشا والحاكم... ومعظم هؤلاء من العبيد السود. وبعضهم من الهنود (2).

وعلى عادته في التقصّي، يأتي بيركهارت كذلك على ذكر الكعبة المشرفة، فيقول؛ انها تفتح ثلاث مرات في السنة فقط، في اليوم العشرين من رمضان، واليوم الخامس عشر من ذي القعدة، والعاشر من محرم الحرام (3).

ويتمّ ذلك عادة بعد طلوع


1- 50 المرجع نفسه، 2: 274.
2- 51 المرجع نفسه، 2: 277.
3- 52 المرجع نفسه، 2: 276- 278.

ص: 274

الشمس بساعة واحدة، بنصب سلّم فيما يقرب من الباب الكبير، وحالما يتمّ ذلك تتدفق عليه جموع المسلمين المحتشدين في أسفله، وسرعان ماتمتلي ء بهم داخلية الكعبة نفسها...

ويقول بيركهارت انه لم يستطع البقاء هناك أكثر من خمس دقائق، لأنّ حرارة المكان كانت مرتفعة بحيث لم يحتملها، وأوشكَ أن يخرّ مغشيّاً عليه منها.

وبعد أن يصف بيركهارت داخلية الكعبة وأستارها، وقد زارها هو مرّتين، في يومي 15 ذي القعدة و 10 محرم الحرام، فشاهد في المرّة الأخيرة أنّ الستائر الجديدة التي بعث بها محمد علي باشا من القاهرة قد علّقت، فكان قماشها ثميناً، ونسجها أدق من نسج الكسوة السوداء التي تغطّي الكعبة من الخارج. أمّا الستائر القديمة التي كان قد مرّ عليها أكثر من عشرين سنة، فقد بيعت علناً للمتمكنين بسعر ريال واحد، لكلّ قطعة مساحتها ست بوصات مربعة (1).

ملاحظات حول سكان مكّة

وفي رحلته التفصيلية، يخصص بيركهارت مايزيد على سبعينصفحة منها، للتحدّث عن سكّان مكّة وطبقاتهم وطباعهم، مع أحوالهم الإجتماعية والإقتصادية وغير ذلك.

فهو يقول أوّلًا انّ سكان مكّة يمكن أن يُقال عنهم كلّهم انهم غرباء وأجانب عنها. لأنّ قبائل قريش الأصلية التي كانت تسكنها قد تفتتت وهاجرت إلى الخارج، بحيث لم يبق لها ذكر يعتدّ به في مكّة. على أنّ محيط مكّة وما جاوره مازال يوجد فيه البعض من تلك القبائل البدوية على الأخص. وقد كانت توجد في مكّة على أيام بيركهارت ثلاث اسر قرشية معروفة فقط، وكان يرأس احداها نائب الحرم. أمّا أكثر طبقات السكان فقد كانوا من أهالي اليمن وحضرموت، وكان يليهم في العدد أبناء الهنود المستوطنين والمصريين والسوريين والمغاربة والأتراك. وكان


1- 53 المرجع نفسه، 2: 275.

ص: 275

هناك أيضاً مكيون من أصل إيراني وتاتاري وبخاري وكردي. ومن كلّ بلد مسلم آخر تقريباً.

على أنّ أقدم السلالات المكيّة، التي بقيت في مكّة كذلكَ، هي سلالة الشرفاء الأصليين، الذين ينتمون إلى الدوحتين الحسنية والحسينية، من أبناء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ يأتي بيركهارت على وصف أنواع الشرفاء في داخل الحجاز وخارجه، ويقول انّ تقاسيم الشرفاء في مكّة هي تقاسيم جميلة مقبولة تقارب تقاسيم البدو في شكلها، ولا سيما في الوجه والعيون والأنف والأقنى (1).

وبعد أن يصف لباس المكيين بالتفصيل، يتطرق إلى اقتناء الجواري الحبشيّات، ثمّ يصف حالة مكّة الإقتصادية باسهاب.. ويعرّج إلى ذكر مايقترفه المكيّون، وهو آسف، من أنواع الفساد والفجور... وهو يسهب في ذكر ذلك، على أننا لا نعرف مقدار الصحة في كلامه.

على أنه مع جميع مايذكره من السيئات يشير إلى الصفات الحسنة عند المكيين كذلك مثل السخاء والكرم، ومحبّة الغريب ومساعدته، والإمتناع عن السرقة والغشّ.

ويتطرّق بيركهارت إلى الناحية العلمية في مكّة، فيقول انّ العلم وتعلمه لا يمكن أن يؤمل ازدهارهما في مكان يفكر فيه الجميع بالحصول على الربح والمغنم أو الجنة.

وهو يعتقد انّ مكّة في يومه ذاك لم تكن في مستوى البلاد الإسلامية الاخرى، من هذهِ الناحية، وحتى من ناحية العلوم الدينية. ويروي عن الفاسي المؤرخ انّ مكّة كان فيها إحدى عشرة مدرسة في أيامه، بجانب عدد من الرباطات وغيرها.

بينما لم تكن توجد ولا مدرسة واحدة تُلقى فيها المحاضرات على مايقول، وليس فيها مكتبة عامة ملحقة بالحرم الشريف أيضاً. ومع عدم اهتمام المكيين بالكتب والتعلّم فانّ لغة مكّة، على مايقول بيركهارت ماتزال أكثر نقاء ورقة في اللفظ والتركيب، من لغة


1- 54 للمزيد من الإطلاع على التفصيلات انظر المرجع السابق، 2: 275، ومابعدها.

ص: 276

أي مكان آخر يتكلّم أهله العربية في العالم (1).

في أعقاب ذلك، يسلّط بيركهارت الأضواء على حكومة مكّة والشرفاء، إذ كانت مكّة والطائف وقنفذة وينبع، على مايقول، تابعة لشريف مكّة، قبل أن يحتلها الوهابيون، والمصريون من بعدهم، في أوائل القرن التاسع عشر.. وقد مدّد الشريف نفوذه إلى جدّة، لكنّها بقيت منفصلة عن ممتلكاته اسميّاً؛ لأنّها كان يحكم فيها «باشا» ينتدب لحكمها من استانبول فيقسّم وارداتها مع الشريف. وكان الشريف يتربّع على دست الحكم في مكّة بالقوة عادة، أو بنفوذه الشخصي، وموافقة أسر الشرفاء القوية.

وبعد أن يأتي بيركهارت على تأريخ الكثير من الشرفاء وأعمالهم، ولا سيما الشريف سرور والشريف غالب، يبدأ بوصف لباسهم ومواكبهم عند الخروج للصلاة وغيرها، ويذكر بالمناسبة انّ الوهابيين حينما احتلوا مكة أجبروا الشريف على الخروج ماشياً إلى المسجد الحرام في أوقات الصلاة، لأنّ الركوب والفخفخة لا يناسبان الخشوع والورع، الذي يجب أن يبديه الحاج أو المصلي بجوار الكعبة (2).

وبعد خوض مفصّل في عادات الشرفاء واهتماماتهم.. ومايتسمون به من خصال كالاهتمام الزائد الذي يولونه للسخاء والضيافة والإيمان بالعقيدة الحقة.. فانّ بيركهارت يعلّق انّ المكّيين يشككون كثيراً في نزاهة الشرفاء واستقامتهم، ثمّ يذكر انّ القسم الأعظم من شرفاء مكة نفسها، وخاصة الشرفاء الحاكمين من ذوي زيد، يحتمل جدّاً أن يكونوا من الزيدية الذين يكثر أتباعهم في اليمن، ولا سيما في جبالصعدة، لكن الشرفاء يكذبون ذلك، ويتمسكون بالمذهب الشافعي الذي يتمذهب به سكان مكّة معظمهم، أمّا الشرفاء المقيمون في الخارج فلا ينكرون ذلك (3).


1- 55 يشير الرحالة الهولندي هورغرونيه، الذي زار مكة عام 1884، إلى أنّ الكعبة تفتح في أيام 10 محرم الحرام، و 27 رجب، و 15 شعبان، وبعض أيام رمضان وفي أشهر الحج، لكنها قد تفتح في أيام غير هذه للأثرياء الغرباء الذين يدفعون مبالغ غير قليلة عن ذلك. يراجع المرجع السابق 2: 309.
2- 56 المرجع نفسه، 2: 278- 279.
3- 57 المرجع نفسه، 2: 280.

ص: 277

الحج مناسك.. وقوافل

وفي الجزء الثاني من رحلته، يخصص بيركهارت فصلًا كبيراً للحج ومناسكه وجميع مايختص به من شؤون. وأوّل مايبدأ به الاشارة إلى أنّ المسلمين قد قلّت حماستهم لتأدية الواجبات الدينية المفروضة عليهم، في تلك الأيام، ومن جملتها الحج الذي أصبحت تكاليفه الباهظة على الكثيرين من المسلمين، تحول دون تجشمهم المصاعب من أجله. وصار قسمٌ كبير منهم ينيب غيره للحج عنه بالأجرة، إذا لم يترك الأمر بالكلية أو يماطل به.

ويشير بعد ذلك إلى أنّ عدداً غير يسير من المسلمين كانوا قد وصلوا إلى مكّة، قبل موعد الحج بثلاثة أو أربعة أشهر، لأنّ تقضية رمضان المبارك في البلد المقدّس فيه كثير من الأجر والثواب. ثمّ يأخذ بوصف مواكب الحجاج وقوافلهم التي تأتي من البلاد الإسلامية المشهورة، ولا سيما سورية ومصر.

فيقول: إنّ موكب الحج القادم من سورية كان على الدوام من أقوى المواكب، منذ كان الخلفاء يصحبون الحجاج بأنفسهم من بغداد. ويبدأ الموكب الشامي في العادة بالتحرك من الاستانة، فيجمع في طريقه حجاج المدن والبلاد الأناضولية والسورية حتى يصل إلى دمشق الشام، حيث يمكث عدّة أسابيع. وفي خلال الطريق الممتدمن الاستانة إلى الشام كلّه تُؤخذ التدابير اللازمة للمحافظة على سلامة القوافل ومافيها من حجاج، وتصحب الموكب من بلدة إلى اخرى قوات مسلحة يجهزها الحكام المسؤولون.

وفي كل محطّة أو خان كان يجد الحجاج البرك والأحواض العامة من الماء، التي كان السلاطين القدماء قد أنشأوها لراحتهم والعناية بهم. ويقابلون بمظاهر البهجة والفرح في كلّ مكان ..

وكان الموكب الشامي على انتظام تام في سيره وسائر شؤونه، فانّ باشا الشام أو منْ يُنيبه من ضباط كان يرأسه على الدوام، فيعطي الإشارة في

ص: 278

الحل والترحال بإطلاق الرصاص.

وتتقدّم الموكب في الطريق ثلة من الخيّالة، كما تسير خلفه ثلّة اخرى لرعاية المتخلفين. ويجتمع في ضمن الموكب الحجاج القادمون من المدن المختلفة في جماعات تسير سويّة على طول الطريق.

ويتعاقد الحجاج عادة معَ أحد المقومين، وهو يتعهّد بتجهيز الدابة إلى الحاج، مع سائر مايحتاج إليه، خلال السفر، ولذلك يلاحظ كل عشرين أو ثلاثين حاجاً مع مقومهم الخاص، الذى يهيئ لهم الخيم، ويجهّز الخدم، فيوفر على الحجاج أتعاب السفر، ولا سيما بتحضيره شؤون الطعام والقهوة والماء وما أشبه لهم. ولقد كانت اجرة الحاج عند المقوّم في 1814 مع اعاشته تبلغ مئة وخمسين ريالًا من دمشق إلى المدينة، وخمسين ريالًا من المدينة إلى مكّة (1).

أمّا قوافل الحجاج المصريين وموكبهم فتسير على نفس النظام الذي تسير عليه القوافل السورية، لكنها نادراً ماتساويها في العدد، لأنها تتألف من الحجاج المصريين فقط، إلى جنب الحرس العسكري، ويكون طريقها على جانب أكبر من الخطر والمشقة، لأنّ الطريق الممتد على سواحل البحر الأحمر يمرّ من ديرات قبائل شرسة قويّة الشكيمة، كثيراً ماتحاول قطع الطريق على القوافل بالقوّة. وكان الموكب المصري في 1814 يتألف من الجند المرافق للمحمل (2) وحاشيته مع بعض الموظفين الرسميين. لأنّ جميع الحجاج المصريين فضلوا الحج عن طريق السويس.

وفي 1816 رافق موكب الحج عدد من وجوه مصر وسراتها، وقد جاء أحدهم بمئة وعشرة جمال، لتحمل عفشه وحاشيته، مع ثماني خيم كبيرة. ولابدّ من أن تكون نفقات سفره قد بلغت حوالي عشرة آلاف دينار، وكان مع الموكب أيضاً حوالي خمسمائة فلاح مع نسائهم من مصر السفلى.. والغريب انّ بيركهارت


1- 58 المرجع نفسه، 2: 283.
2- 59 المرجع نفسه، 2: 285.

ص: 279

يقول انه شاهد معهم جماعة من البغايا والراقصات، وانّ خيم أولائي النسوة كانت أجمل خيم الموكب وأكثرها زينة وتزويقاً (1).

ويقول بيركهارت كذلك أنّ موكب الحج الإيراني الذي كان يخرج من بغداد، في سالف الأيام، فيأتي إلى مكّة عن طريق نجد، قد انقطع مجيئه حينما أوقف الوهابيون مجي ء الموكب الشامي من سورية. وبعد ان عقد عبد اللَّه بن سعودصلحاً مع طوسون باشا (بن محمد علي) في 1814، كان العدد القليل من الحجاج الإيرانيين القادمين عن طريق البر، قد عبروا من بغداد إلى الشام، وساروا مع الموكب الشامي بصحبة عكامين من بغداد.

ومن الجدير بالذكر، على مايقول بيركهارت، إنّ الإيرانيين لم يكن يسمح لهم على الدوام أن يأتوا إلى مكّة. فبعد أن اعيد بناء الحرم الشريف في 1634 م أمر السلطان مراد الرابع بأن لا يُسمح لأي إيراني من «شيعة علي» بتأدية الحج أو الدخول إلى بيت اللَّه الحرام. فبقي التحريم سارياً عدّة سنوات، غير انّ المال الذي بذله الإيرانيون سرعان مافتح الطريق أمامهم إلى الكعبة وعرفات.

وقد توقف مجي ء الموكب المغربي للحجاج مدّة سنين عديدة، وقد أصبح قدومهم على دون هدى أو انتظام. وكان من المعتاد أن يرأس الموكب قريب من أقرباء ملك مراكش، فيسير مسيرات بطيئة نحو تونس وطرابلس، ويجمع الحجاج في طريقه من كل منطقة. ويسلك هذا الموكب من طرابلس الطريق الممتد على ساحل البحر إلى درنة، ومن هناك يسير مع الساحل المصري إلى القاهرة، عن طريق الاسكندرية. ولا يرافق هذا الموكب إلّاعدد قليل من الجند، لأنّ الحجاج يكونون مسلحين تسليحاً حسناً في العادة.. ويقول بيركهارت؛ يوجد مع موكب الحجاج المغاربة عادة اناس من أهالي جزيرة جربا، الذين يعتقد أنهم من شيعة


1- 60 المرجع نفسه، 2: 286.

ص: 280

الإمام علي، كما يقول بيركهارت.

وكان يأتي من اليمن موكبان للحج عن طريق البر، من قبل، وكان أحدهما يتحرك منصعدة فيسير في المناطق الجبلية إلى الطائف ومنها إلى مكّة. أمّا الموكب الثاني فقد كان يتألف من حجّاج يمانيين، مع حجاج إيرانيين وهنود يصلون في العادة إلى موانئ اليمن. وقد أبطل هذا الحج في 1803، بعد أن كان من المواكب الغنية بالسلع المختلفة والبُن، وبعد أن كان يرأسه أئمة اليمن. وقد كان لهذا الموكب، كما كان لغيره، مكان خاص في مكّة المكرمة ينزل فيه..

أمّا الحجاج الباقون فيأتون إلى مكّة عن طريق البحر من اليمن وجزر الهند الشرقية، وهؤلاء هم مسلمو الهند، وكشمير، وكجران، والإيرانيون القادمون عن طريق الخليج والعرب من البصرة ومسقط وعمان وحضرموت.. فضلًا عن القادمين من سواحل مليندا ومومباسا الذين يطلق عليهم «السواحليون»، ويأتي مسلمو الحبشة وسائر بلاد العبيد بالطريق نفسها كذلك..

ويأخذ بيركهارت بوصف مناسك الحج بالتفصيل.. ويقدّر عدد الحجاج الذين وقفوا في عرفات (سنة 1814) بسبعين ألف حاج. وقد كان مخيم الحجاج هناك يبلغ طوله بين ثلاثة وأربعة أميال، وعرضه حوالي الميلين. وهو يقول في هذا الشأن أنّه ليس هناك، على وجه الأرض، بقعة في مثل هذا الحجم الصغير يقف عليها مثل هذا العدد من الناس، الذين يتكلمون بهذا العدد الكبير من اللغات واللهجات. ويقول كذلكَ انه شخصياً لاحظ وجود أربعين لغة بين الحجاج، وأنه كان هناك عدد آخر من اللغات الاخرى بطبيعة الحال.. (1)

ونجد لزاماً التنويه إلى أنّنا عزفنا عن ذكر الكثير من الملاحظات والمعلومات المهمة، التي ذكرها بيركهارت، خشية الاطالة، مكتفين بالاحالة إلى مضانها للمستزيد.


1- 61 المرجع نفسه، 2: 289.

ص: 281

الهوامش:

ص: 282

ص: 283

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة والمعالم المشرفة في الحجاز (8)

ص: 284

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة والمعالم المشرفة في الحجاز (8)

عبدالجبار الرفاعي

1318- ساختار شهري مدينة ومحلات قبايل در دوره نبوي

عبدالعزيز عبداللَّه بن إدريس

رسول جعفريان

ميقات حج: ع 16 (تابستان 1375 ه)ص 102- 121.

1319- السالك المحتاج الى معرفة مناسك الحاج

رضي الدين علي بن موسى بن طاووس الحسيني الحلي ت 674 ه.

1320- سؤال وجواب پيرامون مسائل حج مطابق با فتواى سيد محمد رضا گلپايگاني

(بالفارسية)

قم: دار القرآن الكريم، ط 1، 1368 ش، 99ص.

1321- سُبُل الحجّ في مناسك الحجّ

عبداللَّه بن محمد رضا شبر الحسيني ت 1242 ه.

1322- سُبُل الفجاج في مواقف الحاج

باقر واعظ كجوري ت 1313 ه.

1323- 56 موشحة على طريقة السادة الوقائية في تعظيم البيت

ص: 285

والتشويق للكعبة، ومدح الرسول، وغير ذلك

ظ: الذريعة 12/ 129.

1324- سخنى چند با حجّاج محترم

(بالفارسية)

سلمان غفّاري

طهران: انتشارات همدمي، ط 1، 1362 ش.

1325- سدنة الكعبة عبر التاريخ

الهداية س 11: ع 129 (7/ 1988 م)ص 20- 21.

1326- الأسرار في ذكر الصلاة على النبيّ المختار، الصلوات الطيبية.

أحمد الطيب بن البشير

بيروت: المكتبة الثقافية، 1985 م، 143ص.

1327- سر تحويل القبلة

اسامة أحمد محمد، المجاهد (القاهرة) ع 112 (3/ 1990 م)ص 32- 33.

1328- سرزمين عرفات

(بالفارسية)

علي قاضي عسكر

ميقات حج. س 4: ع 12 (تابستان 1374 ش)ص 142- 163.

1329- السعي المشكور في الرد على المذهب المأثور في زيارة القبور

عبدالحي بن عبدالحليم

(صنفه سنة 1294 ه).

ط: الثقافة الإسلامية في الهند 245.

1330- سعى هاجر «گزارش سفر حج»

(بالفارسية)

شكوه ميرزا دگى

طهران: ط 1، 1356 ش، 131ص، 21 سم.

1331- سفر حج

(بالفارسية)

مجموعة تحقيق مسائل الحجّ

طهران: شركت انتشار، ط 1، 1359 ش (نشريه، 9).

1332- سفر حج

(بالفارسية)

محمدصادق نجمي

قم: المؤلف، ط 1، 1359 ش.

1333- سفر الحرمين

(رحلة الى مكة والمدينة أيام

ص: 286

عبدالحميد 1188- 1203 ه، بالفارسية).

مجهول المؤلف

ظ: راجستان 1/ 269، فهرستواره منزوى 1/ 89.

1334- سفر عشق

(مناسك حج)

مرضيه فاميل دردشتي

ميقات حج: ع 23 (بهار 1377 ش)ص 132- 154.

1335- سفرنامه اى شيرين وپر ماجرا

علي قاضي عسكر

ميقات حج: ع 19 (بهار 1376 ش)ص 165- 187.

1336- سفرنامه بيت اللَّه

(بالفارسية)

ميرزا عليخان اعتماد السلطنة ت 1285 ه

(شرح فيه رحلته الى الحج سنة 1263 ه)

خ: الإمام الرضا عليه السلام، وقف 1334.

ظ: الذريعة 12/ 186، استورى 1155، فهرستواره منزوي 1/ 105.

1337- سفرنامه تشرف مكة

(بالفارسية)

مخبر السلطنة مهدي قلي خان هدايت ت 1334 ه

طهران: 1330 ش، 129ص، 21 سم.

1338- سفرنامه حاج ميرزا مشترى بمكه

(منظوم، بالفارسية)

حسام الشعراء محمد ابراهيم مشترى خراساني ت 1305 ه.

طهران: 1300 ه.

ظ: الذريعة 12/ 189.

1339- سفرنامه حج

(رحلة من بادكوبه الى الحجاز والعودة من جدة الى طهران وذلك في سنة 1316 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: أشكورى 16/ 345

فهرستواره منزوى 1/ 105.

1340- سفرنامه حج

(رحلة رفيع الدين شاه أبو تراب في سنة 989- 987 ه/ 78-

ص: 287

1579 م الى الحج، بالفارسية)

أبو الفيض فيضي دكني

(ت 1004 ه/ 1595 م)

ظ: استورى 1141 (الرقم 1590)، پانكيپور، ذيل 1/ 7/ 1995، فهرستواره منزوى 1/ 104.

1341- سفرنامه حج

(بالفارسية)

پادشاه خواجه بن رحمت اللَّه خواجه المتخلص بنديم

ظ: فهرست مشترك باكستان 6/ 966، 10/ 66، فهرستواره منزوى 1/ 105.

1342- سفرنامه حج

(بالفارسية)

جواد مجابي

طهران: انتشارات موج، 1352 ش، 90ص.

1343- سفرنامه حج

(بالفارسية)

عبداللَّه دهش

طهراند 1353 ش، 60ص.

1344- سفرنامه حج

(رحلة الى الحج بالفارسية)

علي خانصدر اعظم أمين الدولة ظ: فهرستواره منزوى 1/ 104.

1345- سفرنامه حج

(بالفارسية)

لطف اللَّه الصافي الگلپايگاني

مطبوع

قم: دفتر انتشارات اسلامي، ط 1، 1364 ش.

1346- سفرنامه حج

(رحلة الى الحجاز عن طريق العراق وسورية في سنة 1321 ه (1903 م)، بالفارسية)

محمد حسن خان سرهندي مجددي

ظ: مشترك 2/ 1402 و 10/ 67.

ترجمه ها 364.

فهرستواره منزوي 1/ 104.

1347- سفرنامه حج

(بالفارسية)

محمد حسين بن مهدي عشرت كلبن فراهاني

طهران: 1342 ش.

1348- سفرنامه حج

(بالفارسية)

حاجي محمد حسين خان بن بايرام

ص: 288

علي خان

ظ: استوري 1148.

فهرستواره منزوي 1/ 104.

1349- سفرنامه حج

(رحلة الى مكة مع أخيه آقا محمد في شهر رمضان سنة 1307 ه، بالفارسية)

محمد حسين همداني رضوي

ظ: نسخه ها 6/ 4030، نشريه 5/ 378.

فهرستواره منزوي 1/ 105، 126.

1350- سفرنامه حج

(بالفارسية)

محمد علي بن محمد رضي بروجردي

ألفه سنة 1276 ه.

1351- سفرنامه حج

(رحلة الى مكة والمدينة من سنة 1254 ه الى 1256 ه، بالفارسية)

نواب عظيم الدولة محمد مصطفى حسرتي شيفته دهلوي (ت 1286 ه)

ظ: مشترك 11/ 770، استوري 896، الذريعة 9/ 239 «ديوان حسرتي»، مشار مؤلفين 6/ 226 «وهو: ترغيب السالك للمؤلف»، فهرستواره منزوي 1/ 105.

1352- سفرنامه حج

(بالفارسية)

محمد طالقاني

مطبوع

1353- سفرنامه حج

(بالفارسية)

ناصر خسرو فبادياني

باهتمام: نادر وزين پور

طهران: انتشارات جيبي، 1350 ش.

1354- سفرنامه حج 1260 قمري

(بالفارسية)

محمد ولي ميرزا قاجار

تحقيق: رسول جعفريان

[د. م]: نشر مشعر، ط 1، 1373 ش (مع: به سوى ام القرى، وغيره).

1355- سفرنامه حج البيت/ سفرنامه مكة

(رحلة الى مكة، بالفارسية)

ابراهيم بن درويش محمد كازروني

[كان حياً في 1274 م (1334 ه)]

ظ: الذريعة 12/ 186،

ص: 289

فهرستواره منزوي 1/ 105، 126

1356- سفرنامه حج بيت اللَّه الحرام

(بالفارسية)

علي أكبر ميرزائي المتخلص بتجار

خرم آباد: 1342 ش، 48ص.

1357- سفرنامه حج سال 1331 قمري

(بالفارسية)

ميرزا علي اصفهاني

تحقيق: رسول جعفريان

[د. م]: نشر مشعر، ط 1، 1373 ش (مع: به سوى ام القرى، وغيره).

1358- سفرنامه حج: لحظه هاى غنيمت

(بالفارسية)

رضا بنده خدا

طهران: سازمان تبليغات اسلامي حوزه هنري، ط 1، 1375 ش، 96ص.

1359- سفرنامه حج وارهنماى حجاج

(بالفارسية)

حسين ذو القدر شجاعي

طهران: 1334، 76ص.

طهران: 1335 ش.

ظ: الذريعة 12/ 186.

1360- سفرنامه حجاز

(رحلة الى الحجاز في أيام أمير حبيب اللَّه خان، بالفارسية)

شاه بيگ خان ركن دربار كابل

ظ: مشار 3/ 3020 «سفرنامه حافظ» مطبوع خطأ، فهرستواره منزوي 1/ 104.

1361- سفرنامه حجاز

(رحلة الى الحجاز، بالفارسية)

محمد حسين بن محمد علي شهرستاني

(ت 1315 ه)

ظ: الذريعة 12/ 186.

فهرستواره منزوي 1/ 104.

1362- سفرنامه حجاز

(رحلة الى الحجاز ومكة والمدينة مع مولانا محمد إسحاق عن طريق البحر وذلك في بداية سنة 1230 ه (1815 م)، بالفارسية)

هدايت علي بن فضل علي

ظ: فهرست مشترك 10/ 62.

فهرستواره منزوي 1/ 104.

ص: 290

1363- سفرنامه حرمين شريفين

(بالفارسية)

حسين محيي الدين حاجي منشي

ظ: فهرستواره منزوي 1/ 105.

1364- سفرنامه حرمين شريفين

(بالفارسية)

محمد عرفان الدين... (قاضي)

ظ: فهرستواره منزوي 1/ 105.

1365- سفرنامه عتبات

(بالفارسية)

جلال بن محمد حسين جزايري شوشتري

(كان حياً سنة 1316 ه)

ظ: الذريعة 12/ 187.

فهرستواره منزوي 1/ 114.

1366- سفرنامه عتبات

(رحلة من همدان الى كربلا والنجف في سنة 1321 ه، بالفارسية)

حسين خان جامي مهاجراني

ظ: نسخه ها 6/ 4023.

دانشگاه 14/ 3831.

فهرستواره منزوي 1/ 113.

1367- سفرنامه عتبات

(رحلة الى العتبات في سنة 1329 ه، بالفارسية)

رضا خان تبيان الملك

ظ: الذريعة 12/ 188.

سنا 2/ 144.

فهرستواره منزوي 1/ 113.

1368- سفرنامه عتبات

(رحلة ناصر الدين شاه الى العتبات مع محمد حسين رئيس الكتّاب في سنة 1287 ه، بالفارسية)

محمّد حسين رئيس الكتّاب

ظ: نسخه ها 6/ 4024.

راهنماي كتاب 12/ 181.

فهرستواره منزوي 1/ 113.

1369- سفرنامه عتبات

(رحلة الى العتبات بعد سنة 1259- 1260 ه بقليل، بالفارسية)

محمد ولي ميرزا قاجار نجفقلي

ظ: نسخه ها 6/ 4024.

فهرستواره منزوي 1/ 114.

1370- سفرنامه عتبات

(رحلة الى العتبات من هرات وذلك في بداية القرن الرابع عشر الهجري، بالفارسية)

ص: 291

محمد عظيم خان قندهاري

ظ: نسخه ها 6/ 4024.

مجلس 9/ 74.

فهرستواره منزوي 1/ 114.

1371- سفرنامه عتبات

(رحلة الى العتبات من اصفهان في سنة 1344 ه، بالفارسية)

گلستانه محمد مؤرخ

ظ: اشكوري 16/ 251.

فهرستواره منزوي 1/ 114.

1372- سفرنامه عتبات

(بالفارسية)

ناصر الدين شاه قاجار

ظ: راهنماي كتاب 12/ 181 «ملخص سفرنامه عتبات».

افشار 3/ 22 «الرقم 441».

فهرستواره منزوي 1/ 114.

1373- سفرنامه عتبات

(قطع شعريه في وصف رحلة الى العتبات، بالفارسية)

مشتري خراساني

(ت 1305 ه)

ظ: نسخه ها 6/ 4024 «سفرنامه منظوم عتبات».

دانشگاه 15/ 4186.

مجلس 8/ 185

فهرستواره منزوي 1/ 114

1374- سفرنامه عتبات ومكة

(بالفارسية)

سيف الدولة

مطبوع

ط: به سوى ام القرى 14

1375- سفرنامه كربلا

(رحلة الى كربلاء في سنة 1299 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: فيلم ها 2/ 191.

نشريه 7/ 1 «الرقم 5».

فهرستواره منزوي 1/ 118.

1376- سفرنامه كربلا

(الوقائع اليومية لرحلة ناصر الدين شاه الى كربلا، بالفارسية)

ناصر الدين شاه

ظ: فهرستواره منزوي 1/ 118.

1377- سفرنامه مشهد

(رحلة ناصر الدين شاه الى مشهد مع القائد ميرزا ابراهيم سررشته دار في سنة 1300 ه، بالفارسية)

ص: 292

ابراهيم سر رشته دار

ظ: نسخه ها 6/ 4010 «سفرنامه» امين لشكر.

مشهد، فردوس 105 «سفرنامه ميرزا ابراهيم».

نشريه 3/ 93 «سفرنامه ايمن لشگر».

فهرستواره منزوي 1/ 123.

1378- سفرنامه مشهد

(بالفارسية)

وكيل الملك ميرزا اسد اللَّه منشى وزير مختار

ظ: فيلم ها 2/ 275.

فهرستواره 1/ 124.

1379- سفرنامه مشهد

(رحلة الى مشهد في سنة 1315 ه، بالفارسية)

رضا تبيان الملك تبريزي

ظ: الذريعة 12/ 188 «سفرنامه».

فهرستواره منزوي 1/ 123.

1380- سفرنامه مشهد

(رحلة من طهران الى مشهد «بداية المشروطية»، منظوم بالفارسية)

شفيع خان محرم تفرشي

ظ: نسخه ها 6/ 4034 «سفرنامه منظوم (مشهد)».

الذريعة 19/ 208 «مثنوي سفرنامه».

دانشگاه طهران 11/ 2068،

فهرستواره منزوي 1/ 123.

1381- سفرنامه مشهد

(رحلة الى مشهد في نهاية القرن الثالث عشر الهجري، المتن باللغة الأورديه) مترجم الى الفارسية

صوبيدار بني أحمد

ترجمه: سيد امتياز حسين

ظ: مشترك 10/ 67.

كنج بخش «الرقم 8127».

فهرستواره منزوي 1/ 124.

1382- سفرنامه مشهد

(رحلة ناصر الدين شاه الى مشهد مع خادمه وطبيبه حكيم الممالك في سنه 1283 ه، بالفارسية)

علي نقي حكيم الممالك

ظ: الذريعة 12/ 189، آستان قدس 3/ 134 «سفرنامه حكيم الممالك 83- 1284 ه»، تبريز، دانشگاه، تسبيحي 41 «سفرنامه

ص: 293

ناصر الدين شاه به خراسان»، دانشگاه 13/ 3145 «سفرنامه يا روزنامه»، مشهد، فردوسي 105 «سفرنامه حكيم الممالك»، نشريه 3/ 93 «سفرنامه حكيم الممالك» فهرستواره منزوي 1/ 123.

1383- سفرنامه مشهد

(رحلة من اصفهان الى مشهد، منظوم بالفارسية)

محمد داود عشوح اصفهاني

(ت 1133 ه)

ظ: نسخه ها 6/ 4033 «سفرنامه منظوم»، الذريعة 19/ 207 «مثنوي سفرنامه»، سپهسالار 2/ 595- 598، فهرستواره منزوي 1/ 123.

1384- سفرنامه مشهد

(بالفارسية)

ناصر الدين شاه قاجار

ظ: مشار 3/ 3030 «سفرنامه ناصر الدين شاه به مشهد»، نشريه 5/ 394 «سفرنامه ناصر الدين شاه»، فهرستواره منزوي 1/ 124.

1385- سفرنامه مكة

(رحلة الى مكة في سنة 1288 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: نسخه ها 6/ 4032.

فيلم ها 1/ 121.

ملي طهران 2/ 301.

فهرستواره منزوي 1/ 126.

1386- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة من طهران وذلك في سنة 1296 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: نسخه ها 6/ 4032.

ملي طهران 2/ 399.

فهرستواره منزوي 1/ 126.

1387- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1261 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: ملك 3/ 465.

فهرستواره منزوي 1/ 126.

1388- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة والمدينة مروراً بكربلاء في سنة 1309 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ص: 294

ظ: نسخه ها 6/ 4032.

ادبيات حكمت طهران 20.

فهرستواره منزوي 1/ 127.

1389- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة من طريق مشهد في سنة 1319 ه، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: چند نسخه خطي 1/ 105.

فهرستواره منزوي 1/ 127.

1390- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

ظ: آشنايي با چند نسخه خطي 105.

1391- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

خ: المرعشي في قم برقم 6388.

1392- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

مُهدى إلى ناصر الدين شاه سنة 1297 ه.

خ: ملي في طهران برقم 865 ف.

ظ: به سوى ام القرى 14- 15.

العرب س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه- 11، 12/ 1996 م)ص 32.

1393- سفرنامه مكه/ سفرنامه منظوم

(رحلة الى مكة والعتبات نظمها باسم محمد شاه قاجار، بالفارسية)

ميرزا جلاير

ظ: نسخه ها 6/ 4033.

الذريعة 19/ 207 «مثنوي سفرنامه مكه».

ملي طهران 2/ 374.

فهرستواره منزوي 1/ 125 و 127.

1394- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في النصف الأول من القرن 14 ه، بالفارسية)

داوود وزير وظايف

ظ: نسخه ها 6/ 4030.

آستان قدس 7/ 123.

دو كتابخانه مشهد 844.

آستان قدس (الفبائي) 308 (سفرنامه).

فهرستواره منزوي 1/ 126.

1395- سفرنامه مكه

دليل الأنام في سبيل زيارة بيت اللَّه الحرام والقدس الشريف ومدينة

ص: 295

السلام

(بالفارسية)

سلطان مراد حسام السلطنة بن عباس ميرزا (1233- 1300 ه)

اعداد: رسول جعفريان

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1374 ش، 360ص، 24 سم.

ميقات حج. س 4: ع 12 (تابستان 1374 ش)ص 197- 199.

1396- سفرنامه مكه/ سفرنامه منظوم

(رحلة الى مكة، منظومة بحدود 1300 بيت، بالفارسية)

زوجة ميرزا خليل رقم نويس دربارصفوي

خ: جامعة طهران برقم 2591، الأوراق 764- 779.

ظ: نسخه ها 6/ 4034.

الذريعة 19/ 207.

افشار 3/ 24 «الرقم 491، مثنوي سفرنامه ومجازيه».

دانشگاه طهران 9/ 1406 «سفرنامه زوجه ...».

فهرستواره منزوي 1/ 125 و 127.

1397- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة، بالفارسية)

شهزاده خانم دختر فرهاد ميرزا همسر نصير الدولة

ميقات حج: ع 17 (پاييز 1375 ش)ص 57- 117 (رسول جعفريان).

ظ: شنا 2/ 172.

نشريه 7/ 179 (؟).

فهرستواره منزوي 1/ 125.

1398- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1129 ه، بالفارسية)

ضياء الدين آل كيوان قاري

ظ: نسخه ها 6/ 4031.

مجلس 10/ 1365 «سفرنامه حج».

فهرستواره منزوي 1/ 124.

1399- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

عبدالحسين خان افشار

ظ: به سوى ام القرى 15.

1400- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

ص: 296

أمين الدولة علي بن مجد الملك محمد، ت 1322 ه.

طهران: 1328 ش، 199ص، 24 سم.

ظ: الذريعة 12/ 189.

1401- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1263 ه، بالفارسية)

علي خان اعتماد السلطنة

ظ: نسخه ها 6/ 4031، الذريعة 12/ 186 «سفرنامه بيت اللَّه»، آستان قدس 3/ 90، تبريز 1/ 161، آستان قدس، الفبايي 308 «سفرنامه علي خان ...»، فهرستواره منزوي 1/ 124.

1402- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

علي خان حاجب الدولة

ظ: به سوى ام القرى 14.

1403- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة، بالفارسية)

علي خان والي خوزستان

ظ: فهرستواره منزوي 1/ 125.

1404- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1325 ه، بالفارسية)

عليصدر الذاكرين تفرش تهراني

ظ: الذريعة 12/ 189.

فهرستواره منزوي 1/ 125.

1405- سفرنامه مكه/ هدايت السبيل وكفاية الدليل

(رحلة الى مكة في سنة 1272 ه، بالفارسية)

فرهاد ميرزا قاجار (ت 1305 ه)

(مطبوع)

خ: مجلس الشورى الثاني بطهران برقم 1225

ظ: نسخه ها 6/ 4056، الذريعة 12/ 189 «سفرنامه مكه» و 25/ 177، استوري 1157 «الرقم 1624»، برگل 2/ 863، 864، مشار 5/ 5460 «طبعة واحدة»، مشار مؤلفين 4/ 820، آستان قدس 3/ 155، فيلم ها 1/ 121، ملي تبريز 1/ 184، نشريه 3/ 141، 252، آصفيه هند 3/ 350 «الرقم: 96»، فهرستواره منزوي 1/ 125 و 157.

ص: 297

1406- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1348 ه، بالفارسية)

لطفعلي اعلايي

ظ: نسخه ها 6/ 4031، آستان قدس 7/ 124، آستان قدس «الفبائي» 308 «سفرنامه»، فهرستواره منزوي 1/ 124.

1407- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

محمد بن أسماعيل الشهير بقيري

خ: مسجد أعظم برقم 2947.

ظ: فهرستواره منزوي 1/ 125.

1408- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة، وفيها مقطوعات شعرية في وصف العتبات المقدسة، بالفارسية)

محمد إبراهيم مشتري خراسان

(ت 1305 ه)

ظ: نسخه ها 6/ 4034 (سفرنامه منظوم)، الذريعة 12/ 189 (سفرنامه حاج ميرزا مشتري به مكة) و 19/ 208 (سفرنامه مكه) به نظم، مشار 3/ 3027 (سفرنامه حاج ميرزا مشتري به مكه)، آستان قدس 7/ 511 (ضمن ديوانه)، جامعة طهران 12/ 2788 رقم 3806 (سفرنامه) و 15/ 4186 رقم 5263، ملك 3/ 466 (سفرنامه مكه)، مجلس 3/ 415، فهرستواره منزوي 1/ 126.

1409- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة من طريق رشت وذلك في سنة 1279 ه، بالفارسية)

سيف الدولة سلطان محمد بن فتحعلي شاه قاجار

ظ: نسخه ها 6/ 4031، ملي طهران 2/ 282، فهرستواره منزوي 1/ 125.

1410- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

محمد تاجر طهراني

خ: المرعشي في قم برقم 9008.

1411- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

محمد رضا بن عبدالجليل حسني حسيني طباطبائي تبريزي

ص: 298

خ: ملك في طهران برقم 2357.

ظ: فهرست المكتبة 3/ 465، فهرستواره منزوي 1/ 125.

1412- سفرنامه مكه

(بالفارسية)

محمد علي فراهاني

خ: مجلس الشورى في طهران برقم 2310.

ظ: فهرست المجلس 6/ 268، فهرستواره منزوي 1/ 125.

1413- سفرنامه مكه/ هدايت السبيل

(رحلة الى مكة، بالفارسية)

محمد علي منشي

(ابن فتحعلي شاه)

ظ: فيلم ها 1/ 121، نسخه ها 6/ 4056، الذريعة 25/ 177، فهرستواره منزوي 1/ 127 و 157.

1414- سفرنامه مكه

(رحلة الى مكة في سنة 1321 ه، بالفارسية)

مدير الدولة

خ: ملك بطهران برقم 3899

ظ: ملك 3/ 466، فهرستواره منزوي 1/ 126.

1415- سفرنامه مكه

نائب الصدر الشيرازي

طبع في بمبي

ظ: الذريعة 12/ 190.

1416- سفرنامه مكه ومدينه وكربلا

(بالفارسية)

خ: مكتبة إمام الجمعة في كرمان برقم 393.

ظ: العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م)ص 32.

1417- سفرنامه ناصر خسرو

حج در آينه سفرنامه ها

(بالفارسية)

حسن اسلامي

ميقات حج س 2: ع 5 (پائيز 1372 ش)ص 235- 254.

1418- سفرنامه هاى حج در ادب عربي (سر مقاله)

ميقات حج: ع 17 (پاييز 1375 ش)ص 5- 20.

1419- سفري به ديار معبود

ثريا قدك پور

ص: 299

ميقات حج: ع 17 (پاييز 1375 ش)ص 204- 218.

1420- سفينة الأدعية والزيارات

بعض المعاصرين

ظ: الذريعة 12/ 193، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 525.

1421- سكان المدينة المنورة

محمد شوقي بن إبراهيم مكي

الرياض: دار العلوم، 1405 ه، 243ص، 21 سم.

1422- السلاح والعدة في تاريخ جدة

عبدالقادر بن أحمد بن محمد بن فرج الشافعي الخطيب ت 1010 ه.

خ: الحرم المكي برقم 28.

1423- السلام عليكم يا سيدي رسول اللَّه

حامد الجوهري

الهداية س 12: ع 133 (10/ 1988 م)ص 20- 25.

1424- السلام عليك يا رسول اللَّه

محمد عبده يماني

الإسلام وطن س 4: ع 47 (2/ 1991 م)ص 16- 17.

1425- سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي

(يشتمل المجلد الرابع منه على أشراف مكة المكرمة إلى وفاة المؤلف)

عبدالملك بن حسين بن عبدالملك العصامي المكي (1049- 1111 ه)

قدم له: محب الدين الخطيب

القاهرة: المطبعة السلفية، 1380 ه، 4 مج (يشتهر هذا الكتاب باسم:

تاريخ العصامي).

1426- السمهودي أشهر مؤرخي المدينة

حمد الجاسر

العرب (الرياض). س 7: ع 3 (9/ 1392 ه/ 11/ 1972 م)ص 161- 178.

1427- سندى از يك حج نيابتي

جمال الدين ترابي طباطبائي

ميقات حج: ع 23 (بهار 1377 ش)ص 69- 74.

1428- السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات

ص: 300

محمد عبدالسلام خضر الشقيري

بيروت: دار الكتب العلمية، 1980 م، 439ص.

1429- السنة والحج المبرور

معوض عوض إبراهيم

الأزهر (القاهرة) س 61: ع 12 (7/ 1989 م)ص 1327- 1330.

1430- سهولة الحج في عهد الأمن والإصلاح

المنهل (جدة) مج 2: ج 8 (7/ 1357 ه/ 9/ 1938)ص 27.

1431- سوانح سفر الحجاز

(رحلة الى الحجاز، بالفارسية)

مجهول المؤلف

ظ: استوري 161 برقم 20/ 1631، فهرستواره منزوي 1/ 134.

1432- سوژه هاى سخن در مكه ومدينه

(بالفارسية)

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1372 ش، 115ص، 24 سم.

1433- سوغات حج

(بالفارسية)

كاظم أرفع

طهران: تربت، ط 1، 1375 ش، 64ص، 21 سم.

1434- سياحتي الى الحجاز

غريب بن عجيب الهاشمي

القاهرة: 1915 م، 457ص.

1435- السيدة زبيدة ودورها السياسي والعمراني في مكة والمدينة

ملك محمد محمد الخياط

مكة المكرمة، جامعة أمّ القرى، كلية الشريعة، 1982 م، 257ص (ماجستير).

1436- سيرة الرسول في مكة كما بدت في شعر بعض معاصريه

معيد خان

الرسالة الإسلامية (بغداد) ع 46

(1392 ه)ص 10- 18.

ع 48 و 49 (1392 ه)ص 18- 30 م.

1437- سيرة عن الحرمين

إبراهيم عبده

طُبع بالقاهرة عام 1380 ه.

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475

ص: 301

(3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 206.

1438- سيرة من الحرمين

محمد السنوسي

المنهل (جدة) مج 21: ج 9 (11/ 1380 ه/ 4/ 1961 م)ص 634- 636.

1439- سيري در اماكن سرزمين وحي

(بالفارسية)

علي أكبر حسني

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1371 ش، 136ص، 21 سم.

1440- سيري در مدينه، سفري به مكه

(بالفارسية)

أحمد محفوظي

زائر س 1: ع 2 (ارديبهشت 1373 ش)ص 15- 22.

1441- سيري در وادي عشق

(تعريف بمكة المكرمة والمدينة المنورة، بالفارسية)

محمد مهدي شمس الدين

قم: انتشارات شفق، ط 1، 1373 ه، 168ص، 21 سم.

1442- سيري كوتاه در سفرنامه هاى حج

(بالفارسية)

محمد شهري برآبادي

مشكوة ع 25 (زمستان 1368 ش)،ص 182- 202.

1443- سيماي حج در سال 1370 ش

(تقرير عن نشاط بعثة الولي الفقيه في الحج لسنة 1370 ش، بالفارسية)

مرتضى سرهنگي، وعبداللَّه گيويان، وهدايت اللَّه بهبودي

طهران: حوزه نمايندگي ولي فقيه در امور حج وزيارت، ط 1، 1371 ش، 396ص، تصاوير.

1444- السيول في منطقة مكة المكرمة

أحمد سعيد حديد

المجلة التاريخية المصرية ع 3 (1974 م)ص 342- 362.

1445- الشؤون الاقتصادية والمالية في حياة الدولة العربية الاسلامية الأولى

ص: 302

الحبيب الجنحاني

قضايا عربية س 10: ع 2 (2/ 1983 م)،ص 109- 139.

1446- شؤون الحرمين الشريفين في العهد العثماني: في ضوء الوثائق التركية العثمانية

محمد عبد اللطيف هريدي

القاهرة: دار الزهراء للنشر، ط 1، 1989، 163ص.

1447- شارع النجاة في حجّة الوداع

أحمد بن علي المقريزي ت 845 ه ط هدية العارفين 1/ 127، معجم ما ألّف عن رسول اللَّه (ص) 245.

1448- شاهد المشاهد

(يعني مراقد الأئمة (ع) في ذكر شرفها وتفاصيل زياراتها الصحيحة وتواريخها المعتبرة.)

هبة الدين الشهرستاني

ظ: الذريعة 13/ 15، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 535.

1449- شبهاى مكّه: سرگذشت سفر من

(بالفارسية)

حسن أبطحي

مشهد: انتشارات كانون بحث وانتقاد ديني، ط 1، 1404 ه، 469ص، 2 ج، 24 سم.

1450- شبه جزيرة العرب: الحجاز

محمود شاكر

دمشق: المكتب الاسلامي، ط 1، 1977 م، 201ص 21 سم.

1451- الشجرة النبوية في بطون قريش وقبائلها

الدجاني

طبع في مصر.

ظ معجم المطبوعات لسركيس 866.

1452- شخصيات من الحرمين الشريفين (7)

ام المؤمنين خديجة الكبرى

محمد سليمان

ميقات الحج: ع 9 (1419 ه)ص 123- 141.

1453- شخصيات من الحرمين الشريفين (8)

عمار بن ياسر

محسن الأسدي

ص: 303

ميقات الحج: ع 10 (1419 ه)ص 209- 233.

1454- شدّ الأبواب في سدّ الأبواب في المسجد النبوي

جلال الدين السيوطي ت 911 ه

خ: المكتبة المحمدية برقم 97 مجاميع.

برلين 9756/ 21.

جامعة الرياض فيلم 95.

طبع في القاهرة: بضمن الحاوي للفتاوي 2/ 102 ظ كشف الظنون 1028، حسن المحاضرة 1/ 342، هدية العارفين 1/ 540.

1455- شد الرحال إلى مسجد الرسول: القبر الشريف أم المسجد الشريف أيّهما له النية الاولى؟ عند القبر وفي المسجد مشاهد مترابطة وذكريات متآلفة:

كمال أحمد عون

منبر الاسلام (القاهرة) س 48:

ع 12 (7/ 1990) (12/ 1410 ه)

1456- شرافت كعبه وبرترى آن بر بيت المقدس (بالفارسية)

هادى امينى، و محسن آخوندى

ميقات حج س 2: ع 4 (تابستان 1372 ش)ص 153- 164.

1457- شرح حديث ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ومنبري على حوضي.

من المحتمل انه: لصدر الدين الشيرازي

ظ الذريعة 13/ 206.

1458- شرح دعاء عرفة

محمد علي فاضل

خ: المكتبة الرضوية بر قم 6746.

1459- شرح زيارت جامعه كبيره (بالفارسيه)

محمد الحسيني الشبستري

المشهور بوحيدي

طهران: مصطفوي، 1333 ش، 222ص، 21 سم.

1460- شرح زيارت جامعه كبيره (بالفارسية)

محمد هادي شيخ الإسلامي (فخر المحققين الشيرازي) تحقيق: محمد جواد الطبسي الحائري

مشهد: مكتبة الطبسي الحائري

ص: 304

1461- شرح الزيارة

محمد الشهير بلايذ بن ناصر بن حسين الصيقل آل عيسى (1245- 1326 ه)

ظ: ماضي النجف وحاضرها 3/ 523، معارف الرجال 2/ 381، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 5/ 543.

1462- شرح الزيارة الجامعة

(شرح مختصر لهذه الزيارة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام)

معين الدين أشرف بن محمدصادق الحسيني

ظ: معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 544.

1463- شرح الزيارة الجامعة

علي نقي بن حسين المعروف بالحاج آغا بن السيد المجاهد الطباطبائي الحائري ت 1289 ه.

ظ: الذريعة 13/ 306، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 544.

1464- شرح الزيارة الجامعة

محمد بن عبد الكريم الطباطبائي البروجردي

ظ: الذريعة 13/ 306، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 544.

1465- شرح الزيارة الجامعة

بهاء الدين محمد بن محمد باقر الحسيني النائيني المختاري، ت 1135 ه.

ظ: الذريعة 13/ 306، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 544.

1466- شرح الزيارة الجامعة

محمد تقي بن مقصود على الاصفهاني المجلسي ت 1070 ه

ظ: الذريعة 13/ 305، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 544- 545.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.