ميقات الحج المجلد10

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص:1

الحج في احاديث الامام الخميني قدس سره

ص:2

ص:3

ص: 4

ص: 5

العدد العاشر

الحج في أحاديث الإمام الخميني قدس سره

الحجُّ هو نداء لإيجاد وبناء المجتمع البعيد عن الرذائل المادية والمعنوية. الحجُّ ومناسكه هو تجلّي عظيم لحياة كريمة ومجتمع متكامل في هذه الدنيا. ومن ذلك المكان ومن ذلك الموقع الذي يتواصل فيه مجتمع المسلمين من أي قومية كانوا ويصبحوا يداً واحدة، ينطلق أداء هذه الفريضة المباركة، التي يجب أن يكون أداؤها وجوهرها توحيدياً إبراهيمياً محمديّاً. إنّ الحج هو ساحة عرض ومرآةصادقة للاستعدادات والقابليات المادية والمعنوية للمسلمين، الحج كالقرآن يستفيد منه المجتمع. فالمفكرون والعارفون بآلام الأمة الإسلامية إذا ما فتحوا قلوبهم، ولم يهابوا الغوص عن قرب في أحكامه وسياساته الاجتماعية، سيصطادون الكثير منصدف هذا البحر، جواهر الهداية والرشد والحكمة والحرية، وسيرتوون إلى الأبد من زلال حكمته ومعارفه، ولكن ماذا نفعل؟

وأقولها بألم وحزن: إن الحج أصبح مهجوراً كالقرآن وبنفس النسبة التي اختفى فيها هذا الكتاب- كتاب الحياة والكمال والجمال- بسبب حجب النفس التيصنعناها

ص: 6

بأيدينا، ودفنا هذا الكنز، كنز أسرار الخلق، فكذلك الحج أصبح أسيرَ هذا القدر، قدر أن الملايين من المسلمين يجتمعون كلّ سنة ويضعون أقدامهم محل قدم محمد وإبراهيم وإسماعيل وهاجر ولا يوجد أحد يسأل ماذا فعل إبراهيم ومحمد؟ ما هو هدفهما؟ ماذا طلبا منّا؟ وهذا ما لا نفكر فيه!

من المسلّم أن حجّاً دون معرفة ووعي ودون روح ودون حركة ونهوض، وحجّاً دون براءة، وحجّاً دون وحدة، وحجاً لا ينتج هدماً للكفر والشرك، ليس حجّاً. وخلاصة الأمر أنه يجب على جميع المسلمين السعي لأجل تجديد حياة الحج والقرآن وإعادتهما ثانية إلى ساحة حياتهم، وعلى المحققين المؤمنين بالإسلام أن يبينوا التفاسير الصحيحة والواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كلّ نسيج خرافات وادعاءات علماء البلاط..

وإنني اوصي جميع العلماء المحترمين والكتاب والمتحدّثين الملتزمين أن يوضّحوا لجميع المسلمين وخاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدّسة..

كما أني أوصيهم بتعليم الحجاج مناسك الحج وكيفية أدائها بشكلها الصحيح حتى يكون عملهم خالياً من الأخطاء، وعدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة وأنجزنا الواجب كيفما كان، فإنّ الأخطاء في هذه الفريضة تترك آثاراً واشكالات علىصحتها قد تكلفهم وقتاً وجهداً مضاعفاً لتصحيحها..

الحجّ في احاديث الامام الخامنئي

ص: 7

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي

- مد ظله العالي-

أيّها الحجاج الكرام... امتنا الإسلامية تمتلك اليوم أكثر مصادر النفط، التي تعدُّ بدون مبالغة شريان حياة الحضارة العالمية الراهنة، وهي اليوم موجودة في أرض العالم الإسلامي، أكثر المناطق استراتيجية في العالم وتحت تصرّفكم كما أنّ القسم الأعظم من المصادر الأرضية الضرورية لبناء العالم في الحاضر والمستقبل تتوفر في بلدان المسلمين، وأن خمس سكان العالم مسلمون، كما أنّ أكبر الأسواق الاستهلاكية لمصنوعات البلدان التي فرضت نفسها على المسلمين تكون في بلدانكم، هذا وأنّ ثقافة المسلمين الغنية العريقة وعلومهم ومعارفهم شكلت الدّفعة الأولى لاعتلاء الغربيين ذروةصرح علوم العالم المعاصر، فللمسلمين حقّ الحياة على علوم الغرب وحضارته... ومع كلّ ذلك لا يمتلك المسلمون اليوم على الساحة العالمية وفي معترك السياسة الدولية أيّ دور في اتخاذ القرارات الكبرى وفي تعيين النظام الدولي، وأفظع من ذلك فإنّ كثيراً من البلدان الإسلامية تنهج في سياستها الوطنية منهجاً ذيلياً تابعاً، وتخضع لإحدى البلدان المستكبرة المتعنتة...

ص: 8

حكوماتها عميلة، وضعيفة النفس، وشعوبها مضطهدة أو مغفلة، وعلماؤها ومثقفوها مصابون بالخوف والتغافل، وبحبّ البطر والراحة... وكانت النتيجة أن تبددت ثروات الأمة الإسلامية، وأصبح تعيين مكانتهم السياسية بإشارة القوى المستكبرة، وأن لا يحسب لعددهم وعدتهم حساب، وأن تحرم الأمة الإسلامية من قسم عظيم من إمكاناتها، وأن يستفيد أعداء الإسلام والمسلمين، من تلك الامكانات للاضرار بالإسلام والمسلمين بينما كان ينبغي أن تستفيد الأمة الإسلامية الكبرى من كلّ ما تمتلكه من طاقات لاستحصال ما تستحقه من عزّة واقتدار.

إنّ الأوضاع الراهنة للعالم الإسلامي والحوادث والمحن التي أذاقت المسلمين القهر والمرارة، كمأساة فلسطين المغتصبة وافغانستان وغيرها.. ووضع الأقليات المسلمة في بعض البلدان الأوربية.. كلها شواهد ناطقة على هذه الحقيقة المرّة..

فعليكم أيها الحجاج الكرام أن تجعلوا فريضة الحج مؤتمراً تتداولون فيه تلك المشاكل والمحن، وتتدارسون فيه أفضل السبل لحلّها ولتوعية شعوبكم بكل ذلك..

فالأمة الإسلامية الكبرى تعدُّ أكبر سندٍ للعالم الإسلامي وأن الشعوب المسلمة بوحدتها وتلاحمها وتفاهمها وبما فيها من ثرواتٍ طبيعيةٍ وخيراتٍ كثيرةٍ..

تذيب قلب كل مستكبر وتصم إذنه وتقصم ظهره. والحج هذه الفريضة المباركة، يعرض لنا مظهراً جميلًا ونموذجاً رائعاً لهذا السند العظيم.

مفرحة الانام في تأسيس بيت اللَّه الحرام

ص: 9

مفرحة الأنام في تأسيس (1) بيت اللَّه الحرام

تأليف: الشهيد زين العابدين بن نور الدين علي الحسيني الكاشاني (1040 ه)/ تحقيق: محمد رضا الأنصاري القُمّي

تقديم

هذه الرسالة تتحدث عن قضية تاريخية حدثت عام 1039 ه بمكة المكرمة وهي هطول أمطار غزيرة يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر شعبان المعظّم، فتجمعت في وديان مكة وشعابها، ومن ثمّ توجّهت على شكل سيول مدمرةصوب قلب مكة أي المسجد الحرام والكعبة المشرفة، فامتلأت ساحة المسجد الحرام وأروقته بمياه السيول، بحيث عجز الناس عن الطّواف والصَّلاة، ثمّ ازدادت نسبة الماء حتى بلغت عتبة الكعبة الشريفة فدخلها مما سبّب في تصدّع أركانها، فانهارت وسقطت معها جدرانها، وعلى اثر هذا السيل قتل 442 شخصاً بينهم ثلاثونصبيّاً مع معلمهم حيث كانوا متحلقين حوله في المسجد الحرام يعلمهم القرآن. وبعد أن توقف اندفاع


1- 1 وردت كلمة «تأسيس» في أصل المخطوطة، وكان الأولى أن تكون «تجديد بيت اللَّه الحرام» فما حدث هو تجديد للبناء بعد أن هدّم لا تأسيس له.

ص: 10

مياه السيولصوب المسجد الحرام، وتمّ إخلاء المسجد من الماء المتبقي فيه، شرعوا في تقييم الخسائر، والسعي في إعادة بناء البيت العتيق، فانتدب الباب العالي ناظراً ليشرف بنفسه وبمعاونة أمير مكّة وقاضيها على إعادة بناء البيت. وكان من حُسن حظّ مؤلف رسالتنا هذه وتوفيقه أنّه كان من المشاركين في بناء الكعبة، وقد شرح في رسالته تفاصيل الحدث بدقة وحسب الأيام، ثمّ تحدّث عن بناء الكعبة المشرّفة ومساهمته في ذلك، وأنّه كيف تمكن بلباقة وذكاء أن يُدخِل نفسه وجماعة من المؤمنين ضمن المجموعة العاملة في بناء البيت، هذا فضلًا عن أنّ المؤلف عقد فصلين تحدث فيهما بإسهاب عن الكعبة وما بداخلها وما يتعلق بها وبالمسجد الحرام من الأبواب والأساطين والمآذن والأركان وسائر الأماكن المقدسة فيه كالحِجر ومقام إبراهيم وغيرها.

ومصنّف هذه الرسالة هوالمولى ميرزا زين العابدين بن نور الدين علي الحسيني الكاشاني من علماء الإمامية في القرن الحادي عشر. هاجر من بلاده الى مكّة المكرمة، فاختار جوارها، وكان بيته مواجهاً لأحد أبواب المسجد الحرام ومقابلًا للكعبة. تتلمذ عند المولى محمد أمين الاسترابادي (رأس الأخباريين المتأخرين، والمنظِّر العنيد للمدرسة الإخباريّة، ومؤلف كتاب الفوائد المدنيّة) وورد ذكره في «رياض العلماء» ج 2/ 399، و «حديقة الشيعة» لعبدالحيّ الرضوي، كما نقل العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» ج 107/ 14 إجازته الروائية التي أعطاها لتلميذه عبدالرزاق المازندراني.

ومن المؤسف أنّ هذا السيد الشريف، والعالم الجليل، والمهاجر في سبيل اللَّه، والمجاور لبيته العتيق، والمشارك في تجديد بناء قواعده، نالته يد الغدر والخيانة.. ممن كانوا يضمرون الحقد والبغضاء لمبدئه، فتوفي رحمه اللَّه شهيداًصابراً محتسباً بمكّة المكرّمة، ومَن يخرج من بيتهِ مُهاجراً إلى اللَّه ورسُولِه ثمَّ يُدرِكه الموت فقد وقع أجرُهُ على اللَّه.

اعتمدنا في طبع هذه الرسالة على نسخة في (كتابخانة مجلس شوراى اسلامي)

ص: 11

[راجع فهرست مخطوطات كتابخانه مجلس شورى اسلامى ج 12/ 70] وهي من الورقة 42 لغاية 57 بخط نستعليق من خطوط القرن الحادي عشر.

ولهذه الرسالة عدة ترجمات الى اللغة الفارسيّة [مخطوط رقم 86 في كلية الآداب- بجامعة طهران (1)، مخطوط رقم 8133 مكتبة السيد المرعشي بقم] ولها تحرير ثانٍ باللغة العربية كتبه فتح اللَّه بن مسيح اللَّه وسمّاه ب (أبنية الكعبة). ويبدو أنّ ناسخ رسالتنا هذه لم يكن يُجيد العربيّة، فقد وقع في هفوات كثيرة خاصة فيما ذكره من أشعار لم نعثر على مصدرها، حاولنا قدر الإمكان إزالة العُجمة عنها.


1- 1 قام بنشرهاصديقنا المحقق الفاضل الشيخ رسول جعفريان في ميراث اسلامي ايران، دفتر أول ص 392- 367.

ص: 12

الحمد للَّه الذي جعل بيته الحرام بين جبالٍ خَشنةٍ، وأمر عباده بالحجّ به (كذا) ليحيى مَن حيَّ من المطيعين بمناسكهم الحسنة عن بيّنة، ويَهلَكَ من هَلَكَ من المتمردين بعقيدتهم الفاسدة عن بيّنة، وصلّى اللَّه على سيّدنا محمّد، المبعوث على حين فترة من الرُّسل من الأزمنة، وآله المعصومين الذين مَن تبعهم جعله اللَّه من أصحاب الميمنة.

أمّا بعدُ: فلمّا كان إدخال السرور على المؤمنين مِن السعادة العُظمى، كما رُويت أحاديث كثيرة في «أصول» الكليني في باب (إدخال السرور على المؤمن) وأنا أروي طرفاً منها:

حدّثني سلطان المحققين والمدقّقين الشيخ محمد أمين الاسترابادي- رحمه اللَّه- بأسانيده الصحيحة وطرقه المضبوطة في مضانها عن ثقة الإسلام محمد [بن] يعقوب الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، ومحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، جميعاً عن الحسن بن محبوب، عن أبي حمزة الثمالي قال:

«سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: مَنْ سَرَّ مؤمناً فقد سَرّني، ومَنْ سرّني فقد سرّ اللَّه» (1).

وعن عبيداللَّه بن الوليد الوصّافي قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: إنّ فيما ناجى اللَّه به عبده موسى عليه السلام قال: إنّ لي عباداً أبيحهم جنّتي وأحكّمهم فيها.

قال: ياربّ ومَن هؤلاء الذين تبيحهم جنّتك وتُحكّمهم فيها؟

قال: مَن أدخل على مؤمن سروراً.

ثمّ قال: إنّ مؤمناً كان في مملكته جبّارٌ، فولع به فهرب منه الى دار الشرك، فنزل برجلٍ من أهل الشرك، فأظلّه وأرفقه وأضافه. فلما حضره الموت أوحى اللَّه عز وجل إليه: وعزّتي وجلالي لو كان في جنتي مسكنٌ لأسكنتك فيها، ولكنّها مُحرمة على من مات بي مشركاً، ولكن يانار هيديه ولا تؤذيه، ويؤتى برزقه طرفي النهار.


1- 1 الكافي 2: 188.

ص: 13

قلتُ: مِنَ الجنّة؟

قال: من حيث ما شاء اللَّه» (1).

وعن محمد بن يحيى، عن محمد بن جمهور، قال: كان النجاشي- وهو رجلٌ من الدهاقين- عاملًا على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو مؤمن يدين بطاعتك، فإن رأيت أن تكتب لي اليه كتاباً.

فقال: فكتب اليه أبو عبداللَّه عليه السلام:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، سرّ أخاك يسرك اللَّه».

قال: فلمّا أورد الكتاب عليه وهو في مجلسه، فلمّا خلى ناوله الكتاب فقال له:

هذا كتاب أبي عبداللَّه عليه السلام!

فقبّله ووضعه على عينيه وقال له:

ما حاجتك؟

قال: خراجٌ عليّ في ديوانك.

فقال له: وكم هو؟

قال: عشرة آلاف درهم.

فدعا كاتبه وأمره بأدائها عنه، ثمّ أخرجه منها وأمر أن يثبتها له لقابل.

ثمّ قال له: سررتك؟

قال: نعم جُعلتُ فداك.

ثمّ أمر له بمركبٍ وجاريةٍ وغُلامٍ، وأمر له بتخت ثيابٍ، في كلّ ذلك يقول له:

هل سررتك؟

فيقول: نعم جُعلت فداك.

فكلما قال: نعم زاده حتى فرغ، ثم قال له: أحمل فراش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ اليّ كتاب مولاي الذي ناولتني فيه، وارفع إليَّ حوائجك.

قال: ففعل، وخرج الرّجلُ الى أبي عبداللَّه عليه السلام، فحدّثه الرجل بالحديث على جهته، فجعل يسرُّ بما فعل.

فقال له الرجل: يابن رسول اللَّه كأنّه قد سرّك ما فعل بي؟

فقال: إي واللَّه، لقد سرّ اللَّهَ ورسولَه» (2).

وإظهار معجزة المعصومين عليهم السلام من المقصد الأقصى، [ف] أردتُ أن ادخل السرور على المؤمنين، وإظهار معجزاتهم التي ظهرت منهمصلوات اللَّه عليهم سنة ألف وأربعين في تأسيس الكعبة المشرفة- زيدت مهابتها- فكتبتُ هذه الرسالة مشتملة على ثلاثة


1- 1 الكافي 2: 189- 188.
2- 2 الكافي 2: 191- 190.

ص: 14

فصول وخاتمة وسمّيتها ب «مفرحة الأنام في تأسيس بيت اللَّه الحرام» وأرجو من كرم اللَّه أن يجعلها سبباً لمرضاته عنّي وعن جميع المؤمنين، بجاه محمدٍ وآله الطيبين.

***

الفصل الأول: في سبب سقوط الكعبة المعظّمة- زادها اللَّه مرتبةً وتعظيماً- وكيفية بنائها.

الفصل الثاني: في علة بناء الكعبة في الأرض، وبدء الطواف بها، وذكرصفة الكعبة المشرفة، وطولها وعرضها وارتفاعها من خارجها وداخلها وسقفها وأساطينها، وغلظ جدارها، وبابها وسلميها الداخل والخارج، والحِجر، والميزاب، والحَجَر الأسود، والحطيم، والمستجار، وكسوتها الخارجة والداخلة، وشاذروانها، ومطافها، والمقام والمنبر.

الفصل الثالث: في ذكرصفة المسجد الحرام، وأبوابه وأسمائها، وأساطينه، وما فيه من القباب فيصحن المسجد، وفي رواقه، وصفة زمزم المكرّم.

الخاتمة: فيصفة الأمكنة المشرّفة التي بمكة المعظمة- سوى ماذكر- مثل المولد الشريف لسيد المرسلينصلى الله عليه و آله، ومولد سيّدة نساء العالمينصلوات اللَّه عليها، وعلامة مرفقه الشريف في الحَجَر المبنيّ، وذكر الجَّبانتين المُعلّى والشبيكة، وما في المُعلّى من قبور أهل الصلاح، والكلام على نثرها وسجعها يوم الأربعاء سابع شوال عام ألف وأربعين.

وألتمس من إخوان الصَّفا وخلّان الوفاء إذا نظروا فيها ورأوا خللًا يُصلحونه، ويذكرونني بالخير، فإنّ الإنسان محلُّ الخطإ والنسيان، إلّامن عصمه اللَّه في كلّ امةٍ، وجَلّ من لا فيه عيبٌ وعُذر، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل.

*** الفصل الأول

(في سبب سقوط الكعبة المعظمة- زيدت مهابتها- وكيفيّة بنائها)

اعلم ياأخي وفّقك اللَّه وإيّاي في الدارين، أنّ نهار الأربعاء التاسع عشر

ص: 15

من شهر شعبان المعظّم سنة تسع وثلاثين بعد الألف أمطرت السماء بمكّة المعظمة- زادها اللَّه شرفاً وتعظيماً- ودخل سيلٌ عظيمٌ في المسجد الحرام، وامتلأ المسجد الى أن دخل الماءُ في جوف الكعبة طول إنسان مربوع القامة وشبرٍ واصبعين مضمومتين، وأنا الذي قستُ الماءَ بطولي، حيث دخلتُ الكعبة بعد سقوطها. وكانَ عَرشُه عَلى الماء (1)

وخرب بيوتاً كثيرةً، وأهلك من الناس كبيرهم وصغيرهم أربعمائة واثنتين وأربعين نسمةً تخميناً- واللَّه أعلم- من جملتهم معلّم أطفال مع ثلاثين طفلًا في نفس المسجد، لأنه كانَ فيصُفةٍ مرتفعة في أصل جدار من جدرانه، ولمّا دخل السيل من أبواب المسجد ماقدر على الخروج مع أطفاله، ورجا نقصان السيل، وآخر الأمر ما قدر أحدٌ من خارج المسجد يصل اليهم حتى غرقوا. نعوذ باللَّه من شرور أنفسنا.

ثمّ فتحوا دربَ خروجِ الماء من باب إبراهيم، وخرج السيل وبقي الماء حوالى البيت الشريف الى (2)... الآدمي.

ودخلتُ يوم الخميس نهار عشرين من الشهر المذكور، ورأيت المطاف خالياً من الطائفين بسبب ماء السيل الذي حواليه، فدخلتُ في الماء وطفتُ بالبيت الشريف سبعة أشواط، فلمّا دعوتُ في الحطيم [و] أردتُ أن أصلي ما لَقيتُ مكاناً اصلّي فيه؛ لأنّ كل واحدٍ من مقام إبراهيم وحِجر إسماعيل- عليهما السلام- والمطاف كان ممتلئاً من ماء السيل، فطلعتُ (3) المنبر فصليّتُ ركعتي الطواف عليه، ولمّا نزلتُ من المنبر سقطت الكعبة الشريفة تمام العرض الشامي، وطول وجه الكعبة الى الباب تقريباً، وطول ظهرها الى قريب من النّصف تخميناً، وكنتُ آخر طائفٍ بالبيت الشريف،...

فتعجبتُ وقلتُ في نفسي سبحان اللَّه هذه إشارة عجيبة من المعصومين عليهم السلام لأن تجديد الأساس كان من سيّد العابدين والزاهدين علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام (4)(5) فكان انتهاء قيام جداره بطواف عبدٍ من عبيده زين العابدين بن نور الدين الحسيني والحمد للَّه.


1- 1 هود: 7.
2- 2 بياض في الأصل.
3- 3 يقصد أنه اعتلى المنبر.
4- 4 يشير المصنف الى بناء الكعبة الشريفة أيام عبدالملك بن مروان حيث هدّمها الحجاج حين حاصر المسجدالحرام لإخراج ابن الزبير حيث كان متحصنا فيه، وحينما أراد الحجاج إعادة بناء الكعبة طلب من الإمام علي ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام أن يتصدى لبنائها، فوضع الإمام الأساس وأمر الناس أن يحفروا حتى انتهوا الى موضع القواعد، قال لهم علي بن الحسين عليهما السلام: تنحوا فتنحوا فدنا منها وغطّاها بثوبه ثم بكى ثم غطاها بالتراب بيد نفسه ثم دعا الفعلة فقال: ضعوا بناءكم، فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فقلّب فألقي في جوفه، فلذلكصار البيت مرتفعاً يصعد اليه بالدرج» هذا ما رواه الشيخ الكليني بسنده في «الكافي» في كتاب الحج 4: 222.
5- 4 يشير المصنف الى بناء الكعبة الشريفة أيام عبدالملك بن مروان حيث هدّمها الحجاج حين حاصر المسجدالحرام لإخراج ابن الزبير حيث كان متحصنا فيه، وحينما أراد الحجاج إعادة بناء الكعبة طلب من الإمام علي ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام أن يتصدى لبنائها، فوضع الإمام الأساس وأمر الناس أن يحفروا حتى انتهوا الى موضع القواعد، قال لهم علي بن الحسين عليهما السلام: تنحوا فتنحوا فدنا منها وغطّاها بثوبه ثم بكى ثم غطاها بالتراب بيد نفسه ثم دعا الفعلة فقال: ضعوا بناءكم، فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فقلّب فألقي في جوفه، فلذلكصار البيت مرتفعاً يصعد اليه بالدرج هذا ما رواه الشيخ الكليني بسنده في «الكافي» في كتاب الحج 4: 222.

ص: 16

وكنت قبل هذه القضيّة قرأتُ في كتاب الحجِّ من كتاب الكليني في باب (ورود تُبّع...) حديث تأسيس علي بن الحسين عليهما السلام الكعبة المشرفة، وخطر ببالي أنّ الشيعة- رضي اللَّه عنهم- كانت تفتخر بأنّ مؤسس الكعبة الشريفة بعد إبراهيم عليه السلام كان النبيّصلى الله عليه و آله وبعد النبيّصلى الله عليه و آله كان علي بن الحسين عليهما السلام فإذا جاء رجلٌ من عند سلطان الروم وبنى الكعبة الشريفة ينسَّدُ بابُ هذا الافتخار عن الشيعة... واجتهدتُ اجتهاداً عظيماً، و [كنت] أقول عسى تبني [البيتَ] بدراهم المؤمنين بأيّةِ حيلة تكون، واحاول مع شريف مكّة المعظمة، حتى أرضيه بأن نبنيها ظاهراً باسم سلطان الروم (1)، وباطناً بمال أخي في اللَّه وسلطان العارفينصدر الدين علي (2)، الملقب بمسيح الزمان- أطال [اللَّه] بقاه، وبلّغه غاية ما يتمناه- لحسن ظني به، ويكون لي طريقٌ الى أساسها، وكلّما أرضيه يجي ء الناس يخوّفونه من سلطان الروم، حتى وقف على البناء، وأُرسل الخبرُ الى مصر وقسطنطينية، فلمّا سمعوا أرسلو رجلين وكيلًا من جهة السلطان ومباشراً، وشرعوا يوم الثلاثاء الثالث من جمادى الثاني «الآخرة» سنة ألفٍ وأربعين في هدم بقية جدران البيت الشريف، فحثني داعي الشوق وغلبة الوجد، ودخلت معهم في الشُّغل (3).

واللَّهُ يْعلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح (4)

، وسألت اللَّه أن يمنحني حُسن الأدب في ذلك المحل العظيم، ويُلْهِمني ما يستحقه مِنَ الإجلال والتعظيم، وأن يرزقني منه القبول والرضا والتَّجاوز عمّا سَلَف ومضى، وكنتُ في بعض الأوقات أجلسُ في وسط الكعبة الشريفة وأتلو القرآن، فلمّا رآني الوكيل والمباشر والبنّاؤون والفَعَلة اعتقدوا فيَّ اعتقاداً عظيماً ببركة المعصومين عليهم السلام وكلّ كلامٍ أقول لهم من جهة البيت الشريف يقولون: سمعاً وطاعةً، حتّى هدموا بقية جدران البيت إلّاالحَجَر الفوقاني الذي على الحجر الأسود، والحَجَر الذي تحته، فرأيت الفعلة يدوسون بأرجلهم على الحَجَر الفوقاني الذي على الحجر الأسود، فقلتُ للمباشر: الوقوف على الحجر الفوقاني وقوفٌ على الحجر


1- 1 يقصد به الخليفة العثماني فقد كانت العرب تسمّي بلاد الأناضول وتركيا الحالية باسم الروم.
2- 2 لم نعثر على ترجمته في المصادر الموجودة.
3- 3 أي أقدمت على العمل في بناء البيت مع بقية العمال.
4- 4 البقرة: 220.

ص: 17

الشريف بواسطة، فينبغي أن يُمنع الركنُ من الدّوس بأن تجعله خارجاً عن محطّ أقدام المشتغلة، فقال: بسم اللَّه، فطلبتُ ألواح الخشب وجعلنا الزاوية خارجاً عن محل تردد الفَعَلة، فانسترت (1) الزاوية بخمسة ألواحٍ من الخشب عدد آل العباء عليهم السلام (2)(3)فخطر ببالي أنّ هذه إشارة من آل العباء عليهم السلام بأنّهم يحفظون الحَجَر الأسود... وذكرتُ لبعض الصالحين هذه الإشارة، وآخر الأمرصار كما خطر ببالي والحمد للَّه.

فلما فرغوا من هدم الجُدران لقينا أساس الجدران الثلاثة في غاية الاستحكام، ودخلوا في الاساس من جهة العرض الشامي الذي فيه الميزاب قريب ذراعٍ وربع، وأخرجوا الصخور العظيمة، والذي احتاج الى التغيير غيّروه، وليلة الأحد الثاني والعشرين من الشهر المذكور وقع القول بأنّ غداً في الصبح يشرعون في التأسيس، وكنتُ أنا أُفكر تلك الليلة وأقول في نفسي: ياربّ وقت الصبح إذا حضر أشراف مكّة والقاضي وشيخ الحرم ووكيل السلطان والمباشر وعلماء مكة... كيف يكون حالي حين التأسيس؟ وأتضرع الى من له الحول والقوة، وأناجي بهذه الابيات:

بالبيت، بالحرم الشريف، بزمزم بالحِجر والميزاب والأستار

بمقام إبراهيم مع ما حوله بالركن إلّا... سيد الأحجار

بالمروة العُظمى فضلًا بالصَّفا بفضيلة المسعى وجرى الجار

بمنى بجميع المشاعر كلّها بالواقفين بموقف الأخيار

بمحمدٍ بوصيّه وبنيّه بأئمة النجباء والأبرار أسألك أن تجعلني مؤسساً لبيتك الحرام، وقمتُ سحر تلك الليلة، واغتسلتُ غسل دخول الكعبة ودخلتُ المسجد، وصلّيتصلاة الليل وصلاة الصبح، فرأيتُ المباشر دخل الكعبة مع جماعة قليلة من البنّائين وليس معهم أحدٌ من أهل المناصب، حتى الوكيل، كأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى قيّدهم في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً (4)

فدخلتُ معهم، فقال المباشر: ياسيّد


1- 1 أي اخفيت وسترت.
2- 2 أشارة الى الحديث المشتهر بحديث الكساء وقد رواه الخاصة والعامة عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري رضى الله عنه ومفاده أن النبيصلى الله عليه و آله أحسّ في بدنه الشريف ضعفاً فأمر فاطمة عليها السلام فغطّاها بكساء يماني، ودخلت هي وزوجها وابناها الحسن والحسين تحت الكساء فنزل الأمين جبرائيل فأوحى الى النبيصلى الله عليه و آله قوله تعالى: إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. راجع: مسند أحمد بن حنبل 6: 323، 1: 330، 7: 130. فضائل الصحابة 2: 632 ح 1077 و 2: 672 ح 1149، 2: 685 ح 1170.
3- 2 أشارة الى الحديث المشتهر بحديث الكساء وقد رواه الخاصة والعامة عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري رضى الله عنه ومفاده أن النبيصلى الله عليه و آله أحسّ في بدنه الشريف ضعفاً فأمر فاطمة عليها السلام فغطّاها بكساء يماني، ودخلت هي وزوجها وابناها الحسن والحسين تحت الكساء فنزل الأمين جبرائيل فأوحى الى النبيصلى الله عليه و آله قوله تعالى: إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً. راجع: مسند أحمد بن حنبل 6: 323، 1: 330، 7: 130. فضائل الصحابة 2: 632 ح 1077 و 2: 672 ح 1149، 2: 685 ح 1170.
4- 3 الحاقة: 32.

ص: 18

العابدين اقرإ الفاتحة.

فرفعت يدي وقرأت الفاتحة، بعدها دعوتُ بالدعاء المسمّى بدعاء سريع الإجابة، الذي رواه محمد بن يعقوب الكليني في (أصول الكافي) في كتاب الدعاء وهو هذا:

«اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم، الأعظم، الأجلّ، الأكرم، المخزون، المكنون، الحقّ، البرهان المبين، الذي هو نورٌ على نور، ونورٌ من نور، ونورٌ في نور، ونورٌ على نور، ونورٌ فوق كلّ نور، ونورٌ على كلّ نور، ونور يُضي ء به كُلّ ظُلمة، وتكسرُ به كلّ شدة، وكلّ شيطان مريد، وكلّ جبار عنيد، ولا تقرُّ به أرضٌ، ولا تقوم به سماءٌ، ويا من يؤمن به كلّ خائف، ويُبطل به سِحرُ كلّ ساحر، وبغي كلّ باغ، وحسد كلّ حاسد، ويتصدّع لعظمته البرُّ والبحر، ويستقر به الفلك حين يتكلم به الملك فلا يكون للموج عليه سبيل، وهو اسمك الأعظم، الأجلّ، الأكرم، النور الأكبر الذي سمّيت به نفسك، واستويت به على عرشك، واتوجَّه إليك بمحمدٍ وأهل بيته، وأسألك بك وبهم أن تُصلّي على محمدٍ وآل محمد».

ودعوتُ... وأخذتُ حَجَر الركن المبارك الغربي وهو الآن في داخل الأساس، وجاء رجلٌ من المؤمنين اسمه محمد حسين من أهل أبرقوه (1)بطاسٍ من النّورة وكبّ (2) في الأساس، وفرشتُ تلك النُّورة بيدي، وقلتُ:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم، اللهم ثبّت دولة محمدٍ وآل محمد، وعجّل فرجهم»

وحطّيت (3) ذلك الحَجَر في زاوية الركن الشريف الغربي في أساس إبراهيم عليه السلام والحمد للَّه.

وشرعت في البناء، وقلتُ أوّل شروعي:

«اللهم إني اشهدك وملائكتك المقربين بأني أشركتُ معي جميع المؤمنين والمؤمنات، أحيائهم وأمواتهم، والذين في أصلاب الرجال، وفي بطون الامهات الى يوم الدين في عملي هذا»، واغتنمت الفرصة، وللَّه دَرُّ القائل:

تمتّع إن ظفرتَ بنيل قرب وحصّل ما استطعت من ادخار


1- 1 مدينة من أعمال شيراز ببلاد فارس.
2- 2 وكبّها أي أدارها.
3- 3 وضعت.

ص: 19

فقد وسعت أبواب التداني وقد قربت للزوار داري

وقد بنيت نسيمات بنجد فطب واشرب بكاسات لباري

فودّع أهل نجدٍ قبل بُعد فما نجدٌ ولم تُحلل بدار

أقولُ لمن لم يمرَّ بأرض نجدٍ ويظفر مِنْ رُباها بالديار

تزوّد من شميم عرار نجدٍ فما بعد العشية من عرار واشتغلت الى نصف النهار، وحطّيت أحجاراً كثيرة حتى ارتفع تمام جدار العرض الشامي من أصل الأساس قريب ثلاثة أذرع، فلمّا قضيتُ من ذلك الوطر، ومتَّعتُ عيني من ذلك الأساس بالنظر لاتحف بوصفه المشتاقين، وأنشر من طيّب أخباره في المحبّين، وقع الكلام... بأنّ الذي أسس الكعبة مجتهدُ الرافضة، فلمّا سمعتُ هذه الحكاية قلتُ:

«موتوا بغيضكم ما لكم من علاج، قد كان ما كان» فقلّلت المدخلَ؛ لأنّ الذي يُفهم من حديث علي بن الحسين عليه السلام الآتي ذكره نفس التأسيس فقط، لا بناء الجدران (1)، فاحضر بعض الأوقات وأغيب بعضها حتى وصل العمل الى الركن الذي فيه الحَجَر الأسود يوم التاسع من رجب، هذا وأنا أتّقي وما أدخل معهم في الشغل، فذكرتُ لبعض أشراف بني حسن- هو شريك سلطنتهم- وقلتُ له: أحضر الكعبةَ عسى أن تمنعهم من أن يرفعوا الحَجَر، والهمتُ في ذلك اليوم بقراءة الدعاء المبارك السّيفي، فلمّا قرأت سبعاً وعشرين مرةً وصل اليّ الخبر بأنْ لما كشفوا الحجر تخيّل لهم كأنّه تنينٌ عظيم يريد أن يأكلهم، ودخل السيد علي بن بركات- أيده اللَّه تعالى- وهو من أكابر أشراف بني حسن ومنعهم أيضاً وقال لهم لا تشيلوه (2)!

فالحاصل، منع المعصومون عليهم السلام (الآخرين) أن يرفعوا الحَجَر الأسود، وأعطانا اللَّه بركاتهم عليهم السلام منصب التأسيس هذا عطاؤنا فَاْمنُنْ أو أمسِكْ بغَير حِساب (3)

، وكانَ حَقًّا علينا نَصْرُ المؤمنين (4)

.

ويوم الثاني والعشرين من رجب هذا المذكور علّقوا الباب الشريف،


1- 1 أي نفهم من الحديث الذي رواه الكليني عن بناء أساس البيت الشريف على يد سيدنا الامام زين العابدين عليه السلام هو أن كلمة تأسيس البيت يطلق على بناء القواعد فقط دون الجدران.
2- 2 أي لا ترفعوه.
3- 3ص: 39.
4- 4 الروم: 47.

ص: 20

ويوم الثالث عشر من شعبان بعد رجب أدخلنا أعمدة سقف بيت اللَّه الحرام، ويوم الخامس عشر دخلتُ الكعبة ووضعت في باطن جدارها أربعةً من الأحجار: وضعت حجراً في نفس زاوية الحَجَر الأسود، وحجراً في الحطيم، وحجراً في مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (وهو بعيد عن زاوية الحَجَر بثلاثة أذرع من جهة الركن اليماني تخميناً، واللَّه أعلم) وحجراً قرب زاوية الركن اليماني.

ويوم الثامن عشر من هذا الشهر أدخلنا ألواحاً بين أعمدة السّقف ورُكِّبت مع الأعمدة، ويوم التاسع عشر من شعبان المذكور رُكّبَ ميزاب الرّحمة، ويوم الثاني من شهر رمضان المعظم بعد شعبان المذكور المبارك شرعوا في عمل الرّخام في سطح الكعبة الشريف، ويوم التاسع منه ابتدأوا في شغل رخام باطن جدران الكعبة وأرضها، وفي يوم الأربعاء التاسع والعشرين منه تمّ العمل، و [يوم] الجمعة آخر الشهر، أعني شهر رمضان المذكور دخل الخلقُ الكعبة. والحمد للَّه.

فأول التأسيس الى آخر البناء ثلاثة أشهر وخمسة أيام. وموافقة ابتداء هذا الأساس مع أساس علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وهو أساس العرض الشامي الذي رماه الحجّاج بالمنجنيق؛ لأن أساس الجدران الثلاثة على حالها الأوّل، وموافقة اسم العبد الذليل مع اسمٍ شريفٍ علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، وكمال ضعفه، وقلة حيلته... مع هذا يؤسس بيت [اللَّه] الحرام، لاشك في أنّ هذا معجزة من معجزات المعصومين عليهم السلام لإدخال السرور على محبّيهم كي يفرحوا ويذيعوا (1) في التواريخ والتصانيف حتى بهذا الخبر من كان في أصلاب الرجال، ويتيقَّنوا بأنّ المعصومين عليهم السلام ليسوا غافلين عن حال رعيتهم في كلّ أوانٍ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهَ والمُؤمِنُونَ (2)

.

ونُشرّف هذا الفصل بالحديث الشريف الذي فيه ذكر تأسيس علي بن الحسين عليه السلام [الذي] رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني في (كتاب الحج) في باب (ورود تُبّع) عن عدّة من


1- 1 في الأصل: يؤخروا وهو خطأ.
2- 2 التوبة: 105.

ص: 21

أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن أبي عُمير، عن أبي عليصاحب الأنماط، عن أبان بن تغلب قال:

«لمّا هَدّم الحجّاجُ الكعبة فرّق الناس ترابها، فلمّاصاروا الى البناء فأرادوا أن يبنوها خرجت عليهم حَيّة فمنعت النّاس البناء، حتّى هربوا فأتوا الحجّاج فأخبروه، فخاف أن يكون قد مُنع بناؤها، فصعد المنبر ثم نشد الناس وقال:

أنشد اللَّه عبداً عنده مما ابتلانا به علمٌ لما أخبرنا به.

قال: فقام اليه شيخٌ فقال: إن يكن عند أحدٍ علمٌ فعند رجلٍ رأيته جاء الى الكعبة فأخذ مقدارها ثم مضى!

فقال الحجاج: من هو؟

فقال: علي بن الحسين عليهما السلام.

فقال: هو معدنُ ذلك، فبعث الى علي بن الحسين عليه السلام فأتاه فأخبره ما كان من منع اللَّه إيّاه البناء.

فقال له علي بن الحسين عليه السلام:

ياحجّاج! عمدتَ الى بناء إبراهيم وإسماعيل فألقيته في الطريق وأنميته، كأنك ترى أنه تراثٌ لك، اصعد المنبر وأنشد الناس أن لا يبقى أحدٌ منهم أخذ منه شيئاً إلّاردّه.

قال: ففعل وأنشد الناس أن لا يبقى منهم أحدٌ عنده شي إلّاردّه فردّوه، فلمّا رأى جميع التراب علي بن الحسين عليه السلام فوضع الأساس وأمرهم أن يحفروا منه فتغيّبت عنهم الحيّة، وحفروا حتى انتهوا الى مواضع القواعد.

قال لهم: تنحّوا، فتنحوا فدنا منها فغطّاها بثوبه ثم بكى، ثمّ غطّاها بالتراب بيد نفسه، ثمّ دعا الفعلة فقال:

ضعوا بناءكم فوضعوا البناء، فلمّا ارتفعت حيطانها أمر بالتراب فقلب في جوفه، فلذلكصار البيت مرتفعاً يُصعد اليه بالدرج» (1).

الفصل الثاني

«علة بناء الكعبة المشرفة، وبدء الطواف بها، وفضلها، وذكرصفة الكعبة المُعظّمة، وطولها وعرضها وارتفاعها من خارجها وداخلها، وسقفها وأساطينها وغلظ جدارها، وبابها وسلميها الداخل والخارج،


1- 1 الكافي 4: 222.

ص: 22

والحِجْر، والميزاب، والحَجَر الأسود، والحطيم، والمستجار، وكسوتيها الخارجة والداخلة، وشاذروانها، ومطافها، والمقام، والمنبر».

ولنزيّن هذا الفصل بأحاديث المعصومين عليهما السلام:

روى محمد بن يعقوب الكليني رحمه الله في أول كتاب الحج من «الكافي» في باب (بدء البيت والطواف) بسنده عن أبي عبداللَّه عليه السلام عن أبيه عليه السلام قال:

«... أمّا بدء هذا البيت، فإنّ اللَّه تبارك وتعالى قال للملائكة: إني جاعلٌ في الأرضِ خَليفةً (1)

فردّت الملائكة على اللَّه عزوجل أتَجْعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِّماءَ (2)

فأعرض عنها، فرأت أن ذلك من سخطه فلاذت بعرشه، فأمر اللَّه ملكاً من الملائكة أن يجعل له بيتاً في السماء السادسة يُسمى الضراح بازاء عرشه فصيّره لأهل السماء، يطوف به سبعون ألف ملكٍ في كلّ يوم لا يعودون ويستغفرون. فلما أن هبط آدم الى سماء الدنيا أمره بمرمّة هذا البيت وهو بإزاء ذلك، فصيّره لآدم وذريته كماصيّر ذلك لأهل السماء...» (3).

وبسنده عن أبي خديجة قال: «إن اللَّه عزوجل أنزل الحجر لآدم عليه السلام من الجنة، وكان البيت دُرّة بيضاء، فرفعه اللَّه عزّوجلّ الى السماء وبقي أسّه وهو بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملكٍ لا يرجعون إليه أبداً، فامر اللَّه عزوجل إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد» (4).

وبسنده عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«إنّ اللَّه عزّوجل دحا الأرض من تحت الكعبة الى منى، ثم دحاها من منى الى عرفات، ثم دحاها من عرفات الى منى، فالأرض من عرفات، وعرفات من منى، ومنى من الكعبة» (5).

وبسنده عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومائة رحمة منها: ستون للطائفين، وأربعون للمصلّين، وعشرون للناظرين» (6).

والأحاديث في فضل الكعبة كثيرة فمَن أرادها فليرجع الى كتاب الكليني رحمه اللَّه وأدام منفعته للمؤمنين الى يوم الدين، بحقّ محمدٍ وآله الطاهرين.


1- 1 البقرة: 30.
2- 2 البقرة: 30.
3- 3 الكافي 4: 187- 188، الضراح: بضم الضاد المعجمة ثمّ الراء والحاء المهملة: البيت المعمور، انظر الصفحة نفسها في الكافي.
4- 4 الكافي 4: 188- 189.
5- 5 الكافي 4: 189.
6- 6 الكافي 4: 240.

ص: 23

اعلم يا أخي أيّدني اللَّه وإياك، أن الكعبة المشرفة- زيدت مهابتها- بعض جدرانها أطول من بعض ولها طولان وعرضان:

أما الطول الأول: من الركن العراقي- وهو الذي فيه الحَجَر الأسود- الى الركن الشامي، وهو خمسة وعشرون ذراعاً، وهو وجهها وفيه بابها.

وأمّا الطول الثاني: فمن الركن اليماني الى الركن الغربي، وهو خمسة وعشرون ذراعاً، وهو ظهرها وفيه بابها المسدود.

وأما عرضها الأول: فمن الركن الشامي الى الركن الغربي، وهو إحدى وعشرون ذراعاً، وعليه الميزاب.

وأمّا عرضها الثاني: فمن الركن اليماني الى الركن العراقي، وهو إحدى وعشرون ذراعاً وشبر.

وأمّا ارتفاعها في الهواء: فثلاثون ذراعاً، والسقفُ منها على كمال سبع وعشرين ذراعاً، وهو على ثلاثة أعمدة غلاظ في جدار الطول، على ثلاث أساطين مُصطّفة ما بين عرضيها، ولها سقفٌ ثانٍ لكن ليس [له] عملٌ إلّالربط أستارها الظاهرة.

وأما طولها من داخلها: فالأول: هو الوجه فسبع عشرة ذراعاً.

وأما عرضها الأول: وهو الشامي فخمس عشرة ذراعاً.

وأما الثاني: وهو الظهر فثمانية عشر ذراعاً.

وأما ارتفاعها في الهواء: فسبعة وعشرون ذراعاً وربع ذراع، فاثنتان وعشرون ذراعاً الى السقف الاول الذي عليه العمل، وخمسة وربع ذراع الى السقف الثاني الذي ليس عليه عمل.

وأما غلظ جدرانها الأصليّة الخالية من الرخام: فأربعة أشبار وأربع أصابع مضمومة في بطن الجدران، في كلّ قامةٍ لوحٌ من الخشب عريضٌ متين لحفظ الجدار في خمسة مواضع. وحجارته من الخارج منحوتة ضخمة على عادة بناء الأقدمين.

وأمّا بابها: فطوله سبعة أذرع ونصف، مصفحٌ بالفضة، مطليٌ

ص: 24

بالذهب، منقشٌ بنقش عجيب، وفيه أربعٌ [حَلَقٍ] من الفضة، فالعليا منهاسمسة مشبكة مستديرة مع بعض استطالة، وهي في العظم والغلظ متوسط.

وأمّا السُّلقي: فكسائر الحَلَق مقدار غلظ الإصبع، وبينهما قفل حديد مُذَّهب متوسط الكبر له ثلاث زرر فضةٍ غلاظ، وعلى دوره حلق حديد ثمانية، أربع في الشق الأيمن، وأربع في الشق الأيسر لربط الأستار التي حوله.

وأما عتبته: فحجرٌ أزرقٌ.

وأمّا سُلّمها: فالخارج سبع ادراج، وهو من الخشب الصنوبري مُحلّى بصفائح النحاس والحديد، تجري على أربع بكرات نحاس، وطوله على قدر ارتفاع الباب في الجدار، وعرضه على قدر عرضه أيضاً.

وأما الداخل: فهو في عرضها الشامي قريباً من الركن، عليه جدار رخامٍ يستره وله بابان:

الأول: من أسفل الى وسطه.

والآخر: من أعلاه الى سطحها.

وعدد درجه: تسع وعشرون درجة مستديرة كالمنارة.

وأما سطحها: فمرخمٌ أيضاً.

وأما حِجر إسماعيل عليه السلام: فالجدار القصير المستدير كنصف دائرة المقابل العرض الشامي، وفيه قبر هاجر أمِّ إسماعيل عليه السلام وشُبّر وشُبير ابني هارون ابن عمران عليهما السلام كما ورد في الأحاديث الشريفة، وارتفاع جداره ذراعان ونصف، وعرضه مثل ذلك. وطول سعته من جدار عرض الكعبة الى جدار طرفي الحِجر المقابل لجدار العرض الذي فيه الميزاب ستة عشر ذراعاً ونصف الذراع، وعرض سعته من طرفه الى طرفه الآخر عشرون ذراعاً. وله فجوتان وهما باباه، وسعة كلّ واحدٍ منهما ذراعان ونصف، وهو مرخمٌ كلّه- وجداره كذلك- برخام أبيض وأكحل وأحمر وأخضر، قطعٌ ووصلٌ عجيبٌ، وفي وسطه قريباً من جدار العرض حيث ينزل ماء الميزاب رخامة خضراء مائلة الى الصفرة مستديرة كالمحراب، وعن يمينها وشمالها محاريب الى طرفيها المتوازيين الى الركن الشامي والمغربي.

ص: 25

وأما ميزاب الكعبة: فهو قطعة خشبٍ عليهصفائح الفضة المذهبة من أوله الى آخره، وطوله أربعة اذرع ونصف، وعرضه ثلثا ذراع، وارتفاعه مثل ذلك.

وأما الحجر الأسود: المغروز في الركن العراقي فطوله في الظاهر نصف شبر، وعرضه شبر، وارتفاعه في الجدار ثلاثة أذرع. وطوله الأصلي الذي في باطن الجدار ثُلثا ذراعٍ بذراع عمل البنائين، وعلى عرضه الذي في داخل الجدار وثائق ثلاث من فضة في ثلاثة مواضع، وعلى طوله الذي في الجدار دائرة من الفضة لحفظ الخدش الذي فيه. وعلى طوله وعرضه في الخارج أيضاً فضة دائرة.

وأمّا الحطيم: فهو ما بين باب الكعبة الى الحجر الاسود، وهو أفضل بقاع الأرض، وفيه قبلت توبة آدم عليه السلام.

وأما المستجار: فهو في مقابل الحطيم، ظهر الكعبة، من الباب المسدود الى الركن اليماني.

وأما كسوتها الخارجة المعظمة: فأربعة أرباع، وكلّ ربعٍ على جدار من جدرانها الأربعة، وكلّ ربعٍ جُزءَان.

وأما ربع وجهها جزءٌ منه سبع شقق، وجزءٌ منه ثماني شقق.

وأما ربع ظهرها فمثل ذلك.

وأما ربع عرضها الشامي ففي كلّ جزء من جزئه أيضاً ست شقق، وعرض الشقة ذراع وثلثا ذراع.

وأما شققها: أربعٌ وخمسون شقة من الحرير الخالص الأسود، مكتوب عليه (اللَّه ربّي، لا إله إلّااللَّه، محمّدٌ رسول اللَّه) محبرة محابراً شبه الدلل (والتحبير هو التخليط) وعلى قدر ثلثي ارتفاعها طراز مخيط بخيوط الفضة المذهبة، دائرة عليها كالمنطقة، عرضه كعرض الشقة، مكتوبٌ عليه: إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنّاسِ... (1)

وكلّ آية فيها ذكر البيت، واسم السلطان، وتاريخ عملها.

وهذه الأرباع والأجزاء مُبطّنة بخامٍ أبيض يجمعها إزارٌ من القطن أبيض متوسطة الغلظة، وكذلك شريطها الذي أوثقها من أعلاها وأسفلها.

وأما وثيقتها من أعلاها: ففي حَلَقٍ وخشب معرضته في ثلثي الذي وصفناه فيما تقدّم.


1- 1 آل عمران: 96.

ص: 26

وأمّا وثيقتها من أسفلها: ففي حلقٍ متوسطة الغلظة مغروزة على ظهر الشاذروان، وعددها سبع وأربعون حلقة، وفي ربع الوجه البرقع وهو الستر الذي على الباب، وهو قطعتا حريرٍ أسود عرض الشّقة، طوله من أعلى الباب الى أسفل الجدار، عليه نقوشٌ وخواتيم عجيبة ومحاريب وقناديل شُغل الإبرة بخيط الفضّة الخالصة المُذَّهبة وغير المُذَّهبة، حتى طمست الحرير، ولم يظهر إلّاكأنه منسوجٌ، ومكتوبٌ على حواشيه: قُلْ هُوَ اللَّهُ أحدٌ ولإيلافِ قُرَيشٍ وآية لقدصدَقَ اللَّهُ رسُوُلَه الرُّؤيا بالحَقّ (1)

.

وأما كسوتها الباطنة: في تخريمتها وتبطينها وتزريرها وتوثيقها كالظّاهرة، غير أنّها ليست بموثقة من أسفلها، ولونها أبيض، وأسماء الصحابة مكتوبة عليها، وكسوةالأساطين والسقف مثلها.

وأما شاذروانها الأصلي المحيط:

فارتفاعه ثُلثا شبرٍ وعرضه نصف ذراع، وفي كتب الشافعية مذكورة قصة وهي: «أنّ السيل هدم الكعبة قبل مبعث النبيّصلى الله عليه و آله بعشرين سنة، فأعادت قريش عمارتها على البنيّة التي عليها اليوم؛ ولم يجدوا من الأموال الطيّبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحِجر بعض البيت وأخّروا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم عليه السلام وضيّقوا عرض الجدار الذي بين الركنين [الحَجَر الأسود] والشامي الذي يليه، وبقي من الأساس الذي كان مرتفعاً وهو الذي يُسمى شاذروان».

وأنا لا اعتقد بهذا القول؛ لأن الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي رحمه الله روى في أول كتاب الحج من كتاب (من لا يحضره الفقيه) عن المعصومين عليهم السلام هذه العبارة الشريفة هكذا:

(وما في الحِجر شي ء من البيت ولا قلامة ظُفرٍ) (2).

وعلى ظهر شاذروانها جُصٌّ مسندٌ الى جدارها ارتفاع... قدصُفت عليه ألواح رخامٍ طولها ذراع ونصف، فصار لأجل ذلك محدودباً كلّه لا تثبت عليه رجلٌ إلّاعند الباب.

وأما مطافها: فهو مفروش


1- 1 الفتح: 27.
2- 2 من لا يحضره الفقيه 2: 193.

ص: 27

بالرُّخام، وعلى دوره أساطين مستديرة لاستدارته، عددها ثلاث وثلاثون أسطوانة، وعلى كلّ واحدة قبةصغيرة، وعلى بعض القبة هلالٌ وكلاهما منصفر، وبين كلّ اسطوانتين ميل حديد، وطرفاه مغروزان في الاسطوانتين اللتين على طرفه، ومعلّق على هذا الميل سبعة قناديل تُسرج في الليالي، وسعة دوره مائتان وثمان عشرة ذراعاً، سعته من الركن العراقي الى طرفه المنتهي الى قبة زمزم سبع وثلاثون ذراعاً، وسعته من الركن الشامي الى طرفه الذي قرب المقام ثلاث وثلاثون ذراعاً، وسعته من الركن الغربي الى المحيط المقابل له خمس وثلاثون ذراعاً.

وأما مقام ابراهيم عليه السلام: فحجرٌ مربع طول... (1) طوله ذراع، وعرضه قدر نصف ذراع، وارتفاعه قدر ثلثي ذراع، فيه الآيات البيّنات موضع قدمي إبراهيم الخليل عليه السلام وهو مواجه لوجه البيت، بل مائل عن البيت الى جهة اليمين للداخل قليلًا، وفي زمان إبراهيم عليه السلام كان لاصقاً بالكعبة فحوّلته قريش، فردّه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فحوّله عمر في خلافته الى مكان كفار قريش كما روى رئيس الطائفة الشيخ الطوسي- طاب ثراه- في كتاب (التهذيب) في زيادات الحج بسنده عن عبداللَّه بن ميمون القدّاح، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام قال: «كان المقام لازقاً بالبيت، فَحوّله عُمر» (2).

ونحن مأمورون من المعصومين عليهم السلام بأن نُصلّيصلاة الطواف الواجب في المكان الذي فيه الآن حتى يظهر المهدي عليه السلام.

وعليه قبّة منصفائح الحديد طولها قدر ذراعين وثلثي ذراع، وعرضها قدر ذراعين ونصف، لها بابصغير عليه قفل من حديد وعليها كسوة حرير.

وهي منقوشة أيضاً كنقش البرقع إلّا أنها أخفُّ نقشاً منه، مكتوب على جوانبها: إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنّاس... (3)

وكلّ آيةٍ فيها ذكر البيت واسم السلطان، وهذه القبة في وسط قبةٍ أخرى منقوشة بالذهب، وبين أساطينها شبابيك حديد، ولها هلالٌ مذهبٌ عجيب، وعلى بابها رواقٌ على أسطوانتين، وبابها أحد شبابيكها وهو


1- 1 بياض قدر كلمة.
2- 2 التهذيب 5: 454.
3- 3 آل عمران: 96.

ص: 28

في رواقها وعليه قفل، وعلى الرواقصُفَّة مزخرفة مذهّبة عجيبة، وعلى سطحها و سطح الرواق ألواح رصاص بين كلّ لوحٍ ولوحٍ تاليه ضلع، شغل عجيب متقن لم أر مثله، وارتفاع هذه القبة ورواقها ارتفاع جيّد متوسط، وطولها ستة أذرع وعرضها خمسة أذرع.

وأما المنبر: فعالٍ ضخمُ الهيكل، من الرخام الأبيض، عدد درجاته ست عشرة درجة، وعلى جوانبه خواتم من نفس الجنس (1)، وعلى درجته العليا قبّة عجيبة على أربع اسطوانات على هيئة الشكل الصنوبري، مذهبة وعلى رأس القبّة شبكة فيها لفظتا (الجلالة) و (محمد) مشبكة بشكل رأس الراية، وعلى الدرجة السفلى بابٌ من الصفر عليه شراريف حسان من الصفر.

*** الفصل الثالث

في ذكرصفة المسجد الحرام، وأبوابه وأسمائها وأساطينه، وما فيه من القباب فيصحن المسجد، وما على رواقه، وصفة زمزم المكرم، والصفا والمروة.

اعلم أيّها الأخ اللبيب، جعلني اللَّه وإياك في جوار المعصومين عليهم السلام أن المسجد الحرام أيضاً بعض جوانبه أطول من بعض، وهو متسع مُحصَّبٌ إلّاخلف المقام، وحيث يوقف درجة البيت والمنبر، وبين يدي زمزم فإنه مفروش مرّخم، وطوله أربعمائة ذراع، وعرضه مائتان وسبعون ذراعاً سوى الزيادتين الآتي ذكرهما، وجدرانه عالية، وشراريفه بادية، وفي كلّ ركنٍ من الأربعة منارةٌ طويلةٌ، وما بين جدار العرض الذي في مقابل وجه الكعبة أيضاً منارتان، وما بين جدار الطول الذي في مقابل العرض الشامي الذي فيه الميزاب أيضاً منارة، والكعبة في وسط المسجد كالعروس، وجملة عدد منائر المسجد سَبعُ منائر، وفيه زيادتان خارجتان من تربيعه:

فالأولى في الطول المقابل للعرض الشامي.

والثانية في جانب عرضه لظهرها.

وأما أبوابه: فتسعة عشر باباً.


1- 1 في المخطوط: الجسد وهو خطأ والصحيح ما أثبتناه.

ص: 29

الباب الأول: باب السلام وله ثلاثة منافذ.

الباب الثاني: باب الدريبة وله مدخلٌ واحد.

الباب الثالث: باب السُّويقة، وهو في الزيادة الأولى، له أيضاً ثلاثة منافذ.

الباب الرابع: باب الفهود، وهو في الزيادة الأولى وله مدخلٌ واحد.

الباب الخامس: باب العجلة، وهو مشهور بباب الباسطية وله مدخلٌ واحد.

الباب السادس: باب السُّدة وله مدخلٌ واحد، ولجنبه من جهة اليمين بيت الفقير، ومتصلٌ به مسكني وله شبابيك تجاه الكعبة الشريفة، والحمدللَّه الذي جعلني من جيران بيته الحرام.

الباب السابع: باب العُمرة وله مدخلٌ واحد.

الباب الثامن: باب إبراهيم، وهو في الزيادة الثانية وعليه قصرٌ عالٍ، وله مدخلٌ واحد.

الباب التاسع: باب حزورة، وهو في الزيادة الثانية وعليه قصر عالٍ، وله مدخلٌ واحد الى حزورة، وعوام الناس يُسمونه عزورة بالعين المهملة، وهو غلطٌ؛ لأنصاحب «النهاية» ذكر في كتابه حزورة بالحاء المهملة (1)، وذكر حديث عبداللَّه بن الحمراء أنه سمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو واقفٌ بالحزورة من مكّة، وهو موضع عند باب الحنّاطين.

روى رئيس الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله في كتاب (التهذيب) الحديث هكذا: الحسن بن سعيد، عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «خَطّ إبراهيم عليه السلام بمكّة ما بين الحَزورة الى المسعى» (2) وله مدخلان.

الباب العاشر: باب أمّ هاني، له مدخلان.

الباب الحادي عشر: باب الرحمة، وله مدخلان.

الباب الثاني عشر: باب المجاهدية، وله مدخلان.

الباب الثالث عشر: باب جياد، وله مدخلان.

الباب الرابع عشر: باب الصَّفا، وله خمسة منافذ.

الباب الخامس عشر: باب البغلة، وله مدخلان.


1- 1 النهاية 1: 380.
2- 2 التهذيب..

ص: 30

الباب السادس عشر: باب بازان، وله مدخلان.

الباب السابع عشر: باب أمير المؤمنين، وإمام المتّقين، ويَعسوبُ المسلمين، وقائد الغُرّ المحجّلين، قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، أسد اللَّه الغالب، علي بن أبي طالب عليه السلام وله ثلاثة منافذ.

الباب الثامن عشر: باب العباس، وله ثلاثة منافذ.

الباب التاسع عشر: باب الجنائز، وله مدخلان.

فجملة منافذه ومداخله تسع وثلاثون.

وأمّا أساطينه التي هي خارجة عن الجدار، خمسمائة أسطوانة، ففي طوله المقابل لعرضها اليماني ثلاثةصفوف، وفي طوله المقابل لعرضها الشامي- وفيه الزيادة الأولى كما تقدم- ثلاثةصفوف أيضاً، وفي بعضه أربعة. وفي عرضه المقابل لوجه الكعبة ثلاثةصفوف، و في عرضه المقابل لظهرها ثلاثةصفوف أيضاً.

فجملة الخمسمائة في هذه الصفوف الإثني عشر، والتي غير خارجة تقرب من ستين أسطوانة، واللَّه أعلم.

وأما الذي فيصحن المسجد من القباب فثلاث:

القبة الأولى: قبة العباس رضى الله عنه وهي مربعة حسنة البناء، ولها شراريف، ولها ستة شبابيك حديد من جهاتها، وملصقٌ الى ظهرها قبةصغيرة قد ضمّها تربيعاً حتىصارتا كالقبة الواحدة لم يفترقا إلّافي المدخل. وفي وسطها حوضٌ مستدير متوسط العظم من ألواح رخام مضلّعة بالرصاص، وفي وسطه قصبة لدخول الماء.

القبة الثانية: قبة الفراشين، وهي مربعة أيضاً، ولها ستة شبابيك، وفي زاويتها الشرقية حجر فيه أثر قدم النبيصلى الله عليه و آله واللَّه أعلم.

القبة الثالثة: قبة زمزم، وهي مر بعة عالية، و لها ثمانية شبا بيك حديد من جهاتها الثلاث، وسقفها منفرجٌ وملصق اليها من جهتها التي تقابل باب الصَّفا فيه [فتحة]صغيرة مستطيلة، لها ثلاثة شبابيك حديد وعلى سطح الكبير رواق مزخرف، يؤذنون فيه، وعليه قبةٌلها هلال، وله درجٌ أوله عند الباب وآخره على

ص: 31

عجزالقبة، وفي رأس الدرج بابصغيرٌ.

وأمّا بئر زمزم: وهو في وسط هذه القبة أي الكبيرة، وطوله أربعون ذراعاً وعليه خرزة من ألواح رصاص لها أضلاع، بين كلّ ضلع منها والآخر لوح رخامٍ، وعلى دوريها طوقان من حديد بينهما أميال من حديد، بين كلّ ميلين لوحٌ من نحاس مستديرة كاستدارتها، وارتفاع هذه الخرزة ذراع وثُلثا ذراع، وعرضها شبرٌ وثلاثة أصابع، ودورها عشرون ذراعاً، وهي عظيمة الهيكل، هائلة المنظر، وعليه بكراتٌ في الخشبتين المغروزتين، أحد طرفيهما في جدار الباب، وطرفهما الآخر في الجدار المقابل له، الذي ينتهي اليه طرف المطاف، وعلى الخشبتين خشبتان اخريان لتغليق البكرات.

وأمّا القباب اللّاتي على رواق المسجد: مائة وعشرون قبة، واللّاتي على الزيادتين إحدى وثلاثون قبة، ست عشرة في الأولى، وخمس عشرة في الثانية.

وأما الأمكنة المُبتدعة (1) لكلّ إمام فلا حاجة الى ذكرها.

وأما الصّفا: كما روي عن المعصومين عليهم السلام أن المصطفى- آدم- نزل عليه؛ لأن اللَّه تعالى قال في كتابه العزيز: إنّ اللَّهَ اصْطَفى آدمَ وَنوحًا وَآلَ إبراهيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلى العالمين (2)

وعليه بيوت لأهل مكّة.

وفي أصل الجبل دكوك مبنية وثلاثة من العقود المتصلة بعضها الى بعض:

الدّكة الأولى: لها ثلاث دُرج.

والثانية: لها أربع دُرج.

والثالثة: لها أربعُ دُرج.

والرابعة: لها درجتان.

وأما المروة: أيضاً جَبَلٌ نزلت عليه حواء عليها السلام ووجه تسميته هو أنّ المرأة نزلت عليه، كما روي أيضا عنهم عليهم السلام، وعليه أيضاً بيوت أهل مكّة، وفي أصل الجبل دكّة واحدة أرفع من أرض المسعى بدرجتين.

وبين الصّفا والمروة سوق للعطّارين وغيرهم، ليس عليه سقف، ومن وقف على الصفا يرى المروة وبالعكس.

ومن الصفا الى المروة خمسمائة وثلاثون خطوة إنسان معتدل القامة.


1- 1 كانت توجد في المسجد الحرام أربعة محاريب مُسماة بأسماء المذاهب السُّنية الأربعة، يُصلّي في كلّ واحدٍمنها إمامٌ يُنسب الى أحد المذاهب، ويُصلّي خلفه أتباع مذهبه، وحسبما روى المؤرخون فإن الصلاة جماعةً في المسجد الحرام كانت تُعدّ من المهازل، التي تُضحك الثكلى، فإن أئمة المذاهب كانوا يقيمون الجماعة في وقت واحد. فيكبر لركوع الشوافع، فيرفع الحنفي رأسه من السجدة الأولى أو الثانية، أو يكبّر للمالكي فيسجد الحنبلي أو يركع. أَو هكذا يصحّ أن تؤدى الصلاة، التي هي عمود الدين في هذه البقعة المقدسة، التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى رمزاً للتوحيد والوحدة في العقيدة والعبادة؟!
2- 2 آل عمران: 33.

ص: 32

الخاتمة

«فهي في ذكرصفة الأماكن الشريفة المطهرة غير المشاعر العظيمة، منها المولد الشريف السيد البشر وشفيع المحشر، والمولد الشريف لسيدة النساء. والحَجَر الذي فيه علامة مرفقهصلى الله عليه و آله. والجبّانتان المعلّى والشبيكة».

اعلم يا أخي هداني اللَّه وإياك أنّ المولد الشريف لسيد البشر، والشفيع في المحشر، هو روضةٌ عالي البناء مزخرفٌ، له بابان وله محرابٌ في الركن القبلي، ومسقط رأسهصلى الله عليه و آله قريبٌ منه، وهو حفرةصغيرة، عليه قبّة عود مربعةصغيرة، مفرجة الجوانب، عليها كسوة كتانٍ، شُغل الإبرة، قطع ووصل عجيب (1).

وأما مولد أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغُرّ الُمحجَّلين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في المكان الذي هو مشهورٌ بمكّة فغلطٌ؛ لأن مولده الشريف نفس الكعبة الشريفة (2)(3)(4)، ذكره أبو منصور الطبري في كتاب (إعلام الورى) (5) هكذا:

«ولد أمير المؤمنين عليه السلام بمكّة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر اللَّه الأعظم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولم يولد قطّ في بيت اللَّه تعالى مولودٌ سواه، لا قبله ولا بعده، وهذه فضيلةٌ خَصّه اللَّه تعالى بها إجلالًا لمحلّه ومنزلته، وإعلاءً لرتبته. وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكانت من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بمنزلة الامّ، وربيّ في حجرها، وكانت من سابقات المؤمنات الى الإيمان، وهاجرت معه الى المدينة، وكفّنها في قميصه يدرأ به عنها هوامَّ القبر، وتوسّد في قبرها؛ لتأمن بذلك من ضغطة القبر، ولقّنها الإقرار بولاية ابنها- كما اشتهرت- فكان أمير المؤمنين عليه السلام هاشميّاً من هاشميين، وأوّل من ولده هاشم مرتين».

وأمّا مولد سيدة نساء العالمين، البتول (6)، امّ الأئمة النقباء النجباء فاطمة الزهراء عليها السلام فهو روضة عليه


1- 1 هذه البقعة التي ولد فيها سيد البشرصلى الله عليه و آله كانت مئات السنين مزاراً يتبرك الناس بها، ويشكرون اللَّه سبحانه وتعالى على هذه النعمة التي خصّهم بها. لكن بعد أن استولت جماعة حاولت جاهدة اطماس جميع آثار السلف الصالح في الحرمين الشريفين، فقد اقدمت على هدم مجموعة كبيرة من المساجد وبيوت الصحابة والتابعين وحوّلتها الى مواقف للسيارات أو مزابل، ومما هدمته مولد النبيصلى الله عليه و آله حيث بقيت خربة سنوات طوال، ثم بعد أن واجهوا استنكار المسلمين، حولوها الى مكتبة عامة.
2- 2 إنّ المنقب في التاريخ والحديث جِدّ عليم بأن فضيلة ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الحقائق التي تطابق على اثباتها الرواة وتضافر النقل لها وتواترت الاسانيد اليها. قال الحافظ أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 ه في المستدرك على الصحيحين في باب مناقب حكيم بن حزام 3: 483، عن مصعب بن عبداللَّه: «أنّ أمّ حكيم ولدته في الكعبة، ضربها المخاض وهي في جوفها ولم يولد قبله ولابعده في الكعبة أحد». قال الحاكم: وَهَم مصعب في الحرف الأخير، وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن ابي طالب- كرم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة». وقد وافقه على ذلك جماعة من افذاذ أهل السنة مثل المحدّث الدهلوي والكنجي الشافعي وشهاب الدين الآلوسي المفسّر وغيرهم من اعيان أهل السنة، هذا فضلًا عن اتفاق الامامية والشيعة واجماعهم على ذلك. وقد أصدر كثير من الاعلام رسائل وكتباً حول هذا الموضوع، منها كتاب عليٌّ وليد الكعبة للمحقق الاديب الشيخ محمد علي الاردوبادي، الذي جمع فيه أقوال القدماء والمتأخرين وآراءَهم في هذا المجال. راجع أيضاً: «الكافي 4: 376، التهذيب 6: 19، ومستدرك الحاكم 3: 180، مناقب ابن المغازلي 6: 2، مناقب الخوارزمي: 12 و 13، اسد الغابة 5: 517، الرياض النضرة 3: 104، الفصول المهمة: 30 و 31...».
3- 2 إنّ المنقب في التاريخ والحديث جِدّ عليم بأن فضيلة ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الحقائق التي تطابق على اثباتها الرواة وتضافر النقل لها وتواترت الاسانيد اليها. قال الحافظ أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 ه في المستدرك على الصحيحين في باب مناقب حكيم بن حزام 3: 483، عن مصعب بن عبداللَّه: «أنّ أمّ حكيم ولدته في الكعبة، ضربها المخاض وهي في جوفها ولم يولد قبله ولابعده في الكعبة أحد». قال الحاكم: وَهَم مصعب في الحرف الأخير، وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن ابي طالب- كرم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة. وقد وافقه على ذلك جماعة من افذاذ أهل السنة مثل المحدّث الدهلوي والكنجي الشافعي وشهاب الدين الآلوسي المفسّر وغيرهم من اعيان أهل السنة، هذا فضلًا عن اتفاق الامامية والشيعة واجماعهم على ذلك. وقد أصدر كثير من الاعلام رسائل وكتباً حول هذا الموضوع، منها كتاب عليٌّ وليد الكعبة للمحقق الاديب الشيخ محمد علي الاردوبادي، الذي جمع فيه أقوال القدماء والمتأخرين وآراءَهم في هذا المجال. راجع أيضاً: «الكافي 4: 376، التهذيب 6: 19، ومستدرك الحاكم 3: 180، مناقب ابن المغازلي 6: 2، مناقب الخوارزمي: 12 و 13، اسد الغابة 5: 517، الرياض النضرة 3: 104، الفصول المهمة: 30 و 31....
4- 2 إنّ المنقب في التاريخ والحديث جِدّ عليم بأن فضيلة ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الحقائق التي تطابق على اثباتها الرواة وتضافر النقل لها وتواترت الاسانيد اليها. قال الحافظ أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 ه في المستدرك على الصحيحين في باب مناقب حكيم بن حزام 3: 483، عن مصعب بن عبداللَّه: «أنّ أمّ حكيم ولدته في الكعبة، ضربها المخاض وهي في جوفها ولم يولد قبله ولابعده في الكعبة أحد». قال الحاكم: وَهَم مصعب في الحرف الأخير، وقد تواترت الأخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن ابي طالب- كرم اللَّه وجهه- في جوف الكعبة. وقد وافقه على ذلك جماعة من افذاذ أهل السنة مثل المحدّث الدهلوي والكنجي الشافعي وشهاب الدين الآلوسي المفسّر وغيرهم من اعيان أهل السنة، هذا فضلًا عن اتفاق الامامية والشيعة واجماعهم على ذلك. وقد أصدر كثير من الاعلام رسائل وكتباً حول هذا الموضوع، منها كتاب عليٌّ وليد الكعبة للمحقق الاديب الشيخ محمد علي الاردوبادي، الذي جمع فيه أقوال القدماء والمتأخرين وآراءَهم في هذا المجال. راجع أيضاً: «الكافي 4: 376، التهذيب 6: 19، ومستدرك الحاكم 3: 180، مناقب ابن المغازلي 6: 2، مناقب الخوارزمي: 12 و 13، اسد الغابة 5: 517، الرياض النضرة 3: 104، الفصول المهمة: 30 و 31...».
5- 3 إعلام الورى بأعلام الهدى للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، من أعلام القرن السادس الهجري.
6- 4 البتول: أي المنقطعة الى اللَّه تعالى عن الدنيا.

ص: 33

شراريف في قبلة الرواق، فيه محرابٌ وفي مؤخره قبة عالية متوسطة العِظم، على رأسها هلال نحاسٍ، بابها قبلي وفضلها مرويّ، يقال لها «قبة الوحي»، ومسقط رأسها عليها السلام في مخزنٍ مستطيل عن يمين الداخل [الى] القبة، وهي حفرةصغيرة، وعليه قبّة أصغر من قبّة أبيهاصلى الله عليه و آله.

وأما علامة مرفقهصلى الله عليه و آله فأنواره لائحة، ومعجزة للناظرين واضحة، وهو حفرةصغيرة في حجر قد بني في جدار دارٍ، وارتفاعه ذراعان.

وكلّ ما وصفناه في رسالتنا هذه من الأذرع فمتوسط ذراع الآدمي إلّازمزم والحَجَر الأسود فإنهما بذراع العمل المتعارف بين البنائين.

وأما المُعلّى: جبّانة عظيمة قد دفن فيها ما لا يُحصى من أهل الكرامات والمقامات، من أهل البلد والآفاق.

فالمشهور اليوم من القبور التي عليها الاتفاق:

قبر سيدة النساء بعد بنتها، وفريدة دهرها، والمعتنية للخيرات، المطمئنة لقلب الرسول حين أتاها مُفاجَأً بأول النزول، وزوجة سيّد المرسلين، امّ سيّدة نساء العالمين، جَدّة الأئمة المعصومين عليهم السلام خديجة الكبرى بنت خويلد عليها السلام.

والمشهور عندنا قبر جدّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله سيّدنا عبدالمطلب، وعبد مناف، وعمّه ومعينه أبو طالب- رضي اللَّه عنهم.

وقبر سيد الصّالحين، نصير الدين حسين، وقبر سلطان المحقّقين والمدقّقين استاداي في فنّ الرِّجال والأحاديث الشريفة والنحو ملا محمد أمين الاسترابادي- طاب ثراه- وميرزا محمد الاسترابادي- رحمهم اللَّه تعالى.

ومن تفضّلات ربّي الرحيم في هذه السنة لما توفي ثمرة فؤادي السيّد أبو جعفر محمد الباقر مع والدته، وأخوه عليّ نزلَ من بطن أمّه حيّاً ثم ماتت أمّه- رحمهما اللَّه- بسبب عدم خروج المشيمة، ومات عليٌّ بعد أُمّه- رحمهم اللَّه وأسكنهم [الجنّة] بعليّ وولده- [دفنتهم في] ثلاثة من القبور من الموضع الذي يقف الناس به ويقرأون الفاتحة لخديجة الكبرى عليها السلام قبالصندوقها،

ص: 34

دفنتُ في واحد من القبور الثلاثة:

امّ السيد أبو جعفر سكينة بيگم- رحمها اللَّه- التي كانت معينتي في طلب العلم بمكة المعظمة.

وفي القبر الثاني دفنتُ ثمرة فؤادي سيد أبو جعفر محمد الباقر، الذي قرأ في مدة خمس سنين وتسعة [أشهر] القرآن الى نصف سورة «إنّا فَتَحنا» وقرأ الأمثلة وبعضاً من التصريف للزنجاني، يقرب نصفه.

والثالث: بنيته لنفسي ودخلت فيه وقرأت التلقين مع بعض سور من القرآن وأودعت فيه، وأرجو من اللَّه أن يجعل ذلك التَّلقين كافياً، فإن كان ظهر سيدنا ومولانا وإمامناصاحب العصر والزمان وخليفة الرحمان-صلوات اللَّه عليه- فلا حاجة الى ذلك القبر أيضاً، ومَا تَدري نَفسٌ بأيّ أرضٍ تَمُوتُ (1)

.

وأما الشبيكة: فهي جبّانة عظيمة أيضاً قد دفن فيها ناس كثير، لكن ليس فيها من مشاهير القبور المعتمدة عندنا شي ء.

نصيحة: أيها المؤمنون أنصح نفسي وإياكم، اجتهدوا في تعمير دار الآخرة بزيارة هذه الأماكن المشرّفة وغيرها من أفعال الخير؛ لأن الآخرة دار القرار، وفيها الأنبياء والمرسلون، والأولياء والصالحون، وحسن أولئك رفيقاً.

وذكر علي بن إبراهيم، عن الشيخ محمد بن يعقوب الكليني- رحمهما اللَّه- في تفسيره في سورة لقمان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام يحدّث لحمّاد قال:

«فوعظ لقمان بآثار حتى تفطّر وانشق، وكان فيما وعظ به: ياحمّاد الى أن قال: يا بُني إنك منذ سقطتَ الى الدنيا استدبرتها واستقبلتَ الآخرة، أنت تسير إليها أقرب إليك من دارٍ أنت عنها متباعد» (2).

ولنختم الخاتمة بأسامي جماعة من المؤمنين الذين اشتغلوا في الكعبة:

محمد الحسين المذكور، وسيد أحمد ابن محمد معصوم، ومحمد علي بن عاشور وأبوه، وحسن بن عبداللَّه السمناني المكّي، ودرويش حيدرالكشميري، وميرزا خان الكشميري، والحاج حسن علي الأردبيلي، والحاج معصوم بيك التبريزي، وحاجي محمد شفيع


1- 1 لقمان: 34.
2- 2 بحار الأنوار 13: 411 ح 2.

ص: 35

التبريزي وولده إبراهيم بيك، والشيخ طائف رفيع ولدي أبو جعفر، وإسماعيل ابن شهيد أوغلي، والشيخ عبد علي، وعبدان للفقير مفلح ونافع.

وألهمني اللَّه تعالى لتاريخ هذا التأسيس الشريف اقتباساً من الآية الشريفة وإذْ يَرفَعُ إبراهيمُ القَواعِدَ مِنَ البيتِ (1)

هذا رفع اللَّه تعالى قواعد البيت.

*** تَمَّصورة ما كتب رحمه اللَّه تعالى، والحمد للَّه الذي وفقنا لإتمام هذه الرسالة الشريفة.


1- 1 البقرة: 127.

ص: 36

مخطوط

ص: 37

الهوامش:

ص:38

ص: 39

قرن المنازل دراسة وتحقيق في موضعه (1)

ص: 40

قرن المنازل دراسة وتحقيق في موضعه (1)

علي ابراهيم المبارك البحراني

قرن المنازل أحد المواقيت، التي وقتها رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله لأهل الآفاق، وهو الميقات المهم بالنسبة لنا أهل المشرق، إذ إنّه الواقع على طريقنا إلى مكة، ولما رأيت اختلاف إخواننا في موضع هذا الميقات، رأيت أن أبحث هذه المسألة بحثاً جغرافياً، حاولتُ فيه أن أثبت أن قرن المنازل هو المسمى الآن بالسيل الكبير حسب ما سأعرضه من القرائن، وإني أسأل الله أن ينفع به المؤمنين.

أصل اشتقاقه:

يحتمل في اشتقاق قرن المنازل عدّة احتمالات:

الأول: أن القرن: الجبل الصغير أو المنفرد.

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (1) نقلًا عن الأصمعي: القرن: الجبل الصغير المنفرد، وقال الحموي (2): وقرن (بالسكون) ومعناه يأتي في اللغة على معاني: القرن: الجبل الصغير.

الفيروزآبادي (3): والقرن... والجبل الصغير أو قطعة تنفرد من الجبل.


1- 1 معجم مقاييس اللغة.
2- 2 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
3- 3 القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي 4/ 365.

ص: 41

القاضي عياض (1): وهو قرن أيضاً غير مضاف، وأصله الجبل الصغير.

أما إضافته للمنازل فلعله كما قال الشيخ الفضلي (2): إنه القرن الوحيد الواقع في منازل الطريق بين مكة والطائف المار بالنخلة اليمانية.

لكن الذي يبعد هذا الاحتمال ما سيأتي من أن قرن المنازل ليس جبلًا بل هو اسم الوادي أو القرية، وهما معروفان حتى الآن بهذا الاسم، إلا أن يقال: إنّ تسمية القرية والوادي باسم قرن المنازل؛ لوجود قرن فيها أو قريباً منها.

الثاني: من اقتران المنازل إذ هو المنزل الذي يقرن عنده منازل الطريق القادم من نجد والطائف ومنازل الطريق القادم من العراق، فيجتمع عنده الحجاج كما سمي حج القران بذلك؛ لاقتران الحج بالعمرة، أو لاقتران الحج بالهدي، ويقال: قرن بين الحج والعمرة.

ويؤيد هذا ما ورد من اختلاف الروايات في أن قرن المنازل ميقات لأهل نجد، وبعضها أنه ميقات لأهل الطائف، وبعضها أنه ميقات لإهل اليمن.

ويؤيد هذا أيضاً ما حكاه الحموي في معجم البلدان (3)عن تعليق القابسي:

مَن قال: قرن بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومَن قال: قرن بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنّه موضع فيه طرق مختلفة مفترقة.

ويؤيد ذلك ما ذكره الحموي في معجم البلدان أيضاً (4) نقلًا عن أبي زيد الكلابي: نخلة وادي من الحجاز بينه وبين مكة مسيرة ليلتين، إحدى الليلتين من نخلة يجتمع بها حاج اليمن وأهل نجد ومن جاء من مثل الخط وعمان وهجر ويبرين واليمن، فيجتمع حاجهم بالوباءة وهي أعلى نخلة وتسمى اليمانية.

قال ابن السكيت في شرح قول المتلمس (5):

لن تسلكي سبل البوباة منجدة ما عاش عمرو وما عمرت قابوس قال: البوباة: ثنية في طريق نجد على قرن ينحدرصاحبها إلى العراق.


1- 1 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
2- 2 ميقات الحج العدد 5، السنة الثانية 1417 ه.ص 85.
3- 3 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
4- 4 معجم البلدان، ياقوت الحموي 5/ 278.
5- 5 معجم البلدان، ياقوت الحموي 1/ 506.

ص: 42

وقال البلادي (1): البوباة: علم معروف وهي أرض ميثاء داث منصدر نخلة اليمانية، تشرف عليها من الشرق بلدة السيل الكبير، وهي كئود في الصعود سهلة في النزول، تعرف اليوم باسم البهيتة.

وقال (2): وحدّد الأقدمون البوباة بأنّها على طريق الطائف من مكة المكرمة، وأنّها منصدر نخلة اليمانية، وقالوا: تخرج منها على قرن المنازل، وكلّها تحديداتصحيحة.

قال [البلادي]: تعرف اليوم بالبُهيتة: تقع فيصدر نخلة اليمانية تخرج منها على السيل الكبير، وهو ميقات أهل نجد، وكان يعرف بقرن المنازل.

وقال دهيش (3): وأصل النخلة اليمانية وادٍ رأسُه من البوباة (البُهيتة) اليوم عند بلدة قرن المنازل (السيل الكبير) إلى قرية الزيمة..

ضبط اللفظ:

قال الجوهري في الصحاح (4): والقَرَن: موضع وهو ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني.

والصحيح هو السكون كما نصّ عليه أغلبية أهل اللغة، وغلّطوا الجوهري في تحريكه وفي نسبته إلى أويس القرَني، وسنذكر جملة من أقوالهم حتى يتضح ذلك:

المصباح المنير (5): قال الجوهري: هو بفتح الراء وإليه ينسب أويس القرني وغلطوه به، والصواب في الميقات السكون، قال عمر بن أبي ربيعة:

ألَم تسأل الربع أن ينطقا بقرْن المنازل قد أخلقا؟ مراصد الاطلاع (6): وقرن بالتحريك آخره نون ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني، قاله الجوهري، وغيره يقول بسكون الراء.

مختار الصحاح (7): والقرن بالتحريك موضع وهو ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني، قلت: هو في التهذيب بسكون الراء نقله عن الأصمعي.

النهاية لابن الأثير (8): قرن المنازل هو اسم موضع يحرم منه أهل نجد، وكثير


1- 1 أودية مكة، عاتق بن غيث البلاديص 181.
2- 2 معالم مكة التاريخية والأثريةص 44.
3- 3 تعليقته على كتاب أخبار مكة للفاكهي 5/ 98.
4- 4صحاح اللغة، الجوهري.
5- 5 المصباح المنير، أحمد بن محمد المقري الفيوميص 501.
6- 6 مراصد الإطلاع،صفي الدين البغدادي 3/ 1082.
7- 7 المختار منصحاح اللغةص 420.
8- 8 النهاية لابن الأثير.

ص: 43

ممن لا يعرف يفتح راءه وإنما هو بالسكون.

معجم البلدان للحموي (1): قال الجوهري: قرَن بالتحريك ميقات أهل نجد ومنه أويس القرني، وقال الغوري: هو منسوب إلى بني قرن، وغير الجوهري يقوله بسكون الراء.

القاموس للفيروزآبادي (2): وغَلَطَ الجوهري في تحريكه ونسبة أويس القرني إليه؛ لأنّه منسوب إلى قرَن بن ردمان بن ناجية بن مراد أحد أجداده.

الحموي (3): والقرْن: قال الأصمعي: جبل بعرفات، وقال الغوري: هو ميقات أهل اليمن والطائف يقال له قرن المنازل، وقال القاضي عياض: قرن المنازل وهو قرن الثعالب بسكون الراء: ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة...

ورواه بعضهم بفتح الراء وهو غلط إنما قَرَن قبيلة من اليمن.

لسان العرب (4): وهو اسم موضع يحرم منه أهل نجد، وكثير ممن لا يعرف يفتح راءه، وإنما هو بالسكون أيضاً.

تاج العروس (5): وقرن المنازل ميقات أهل نجد، وهي بلدة عند الطائف أو اسم الوادي كلّه، وغلط الجوهري في تحريكه، قال شيخنا: هو غلط لا محيد عنه، وإن قال بعضهم: إنّ التحريك فيه لغة هو غير ثبت، قلت: وبالتحريك وقع مضبوطاً في نسخ الجمهرة وجامع القزاز كما نقله ابن بري عن ابن القطاع عنهما، وقال ابن كثير: وكثير ممن لا يعرف يفتح راءه وإنما هو بالسكون، وغلط الجوهري أيضا في نسبة سيد التابعين راهب هذه الأمة أويس القرني إليه؛ لأنه منسوب إلى قرَن بن درمان بن ناجية بن مراد أحد أجداده.

تنبيه:

كلام تاج العروس: (وبالتحريك وقع مضبوطاً في نسخ الجمهرة وجامع القزاز، كما نقله ابن بري عن ابن القطاع عنهما.). مخالف لما نقله لسان العرب عن ابن بري، قال في اللسان (6): والقَرَن: موضع وهو ميقات أهل نجد ومنه أويس


1- 1 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 331.
2- 2 القاموس المحيط، الفيروزآبادي 4/ 365.
3- 3 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
4- 4 لسان العرب، ابن منظور 11/ 143.
5- 5 تاج العروس.
6- 6 لسان العرب، ابن منظور 11/ 143.

ص: 44

القرني، قال ابن بري: قال ابن القطاع: قال ابن دريد في الجمهرة والقزاز في الجامع:

قرْن: اسم موضع.

ويحتمل هنا احتمالان:

الأول: أنّ تاج العروس قد نقله عن ابن منظور فأخطأ في النقل، فحينئذ يكون المرجع هو كلام ابن منظور وهو السكون.

الثاني: أنّه نقله عن ابن بري بواسطة غير ابن منظور، فحينئذ يكون نقله معارضاً لنقل ابن منظور فيتساقطان، فلا يحصل لنا علم بوجود قائل بالتحريك غير الجوهري.

وقد ذكرنا أقوال العلماء في تغليطه وفي كشف اللثام (1) والجواهر (2) نقلًا عنه: اتفق العلماء على تغليطه فيهما أي في تحريكه، وفي نسبة أويس القرني إليه.

صفته:

اختلفت أقوال العلماء واللغويين في بيان ماهية قرن المنازل، هل هو قرية أو وادي أو جبل أو موضع:

الأول: أنّه قرية:

صبح الأعشى: (ت 128 ه) (3): ذكر في طريق مصر إلى مكة: قال ابن خرذابة: ثم من مكة إلى بئر ابن المرتفع، ثم إلى قرن المنازل قرية عظيمة.

الحسن بن محمد المهلبي (4): قرن قرية بينها وبين مكة أحد وخمسون ميلًا..

وبينها وبين الطائف ذات اليمين ستة وثلاثون ميلًا.

ابن فارس في معجم مقاييس اللغة (5): وقرن المنازل ميقات أهل نجد وهي بلدة عند الطائف أو اسم الوادي كلّه.

الفيروزأبادي في القاموس المحيط (6): قرن جبل مطل على عرفات، وميقات أهل نجد، وهي بلدة عند الطائف أو اسم الوادي كلّه.

الشيخ أحمد رضا (7): قرن المنازل قرية عند الطائف أو اسم الوادي كلّه.


1- 1 كشف اللثام 1/ 306.
2- 2 جواهر الكلام 18/ 113.
3- 3صبح الأعشى، القلقشندي 5/ 43.
4- 4 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
5- 5 معجم مقاييس اللغة، ابن فارس.
6- 6 القاموس المحيط، الفيروزآبادي 4/ 365.
7- 7 معجم متن اللغة، الشيخ أحمد رضا.

ص: 45

الزبيدي (1): وقرن المنازل ميقات أهل نجد، وهي بلدة عند الطائف أو اسم الوادي كلّه.

البلادي (2): لكن قرن المنازل علَمٌ مشهور في كتب الأدب، وهو ما يعرف اليوم باسم السيل الكبير، بلدة عامرة على الطريق بين مكة والطائف المار بالنخلة اليمانية وهو ميقات أهل نجد.

الثاني: أنه اسم للوادي كلّه:

وقد مرّ عن ابن فارس في معجم مقاييس اللغة والفيروزابادي في القاموس والزبيدي في تاج العروس والشيخ أحمد رضا في معجم متن اللغة.

وفي معجم البلدان ومرصد الاطلاع (3) قال: والنخلة اليمانية تصب في قرن المنازل، وهو يكشف عن كونه وادياً.

الثالث: أنه جبل

عن الأصمعي (4): قرن جبل مطل على عرفات.

المطرزي في المغرب (5): والقرن ميقات أهل نجد جبل مشرف على عرفات.

الفيومي (ت 770) في المصباح المنير (6): وقرن بلاسكون أيضاً ميقات نجد، وهو مشرف على عرفات.

مراصد الاطلاع لصفي الدين عبد المؤمن البغدادي (ت 739) (7): قرن المنازل جُبيل قرب مكة يحرم منه حاج نجد.

حاشية الجامع الصحيح (8) للملا علي: قوله قرن المنازل: هو جبل مدور أملس كأنّه بيضة مشرف على عرفات.

الرابع: أنه موضع

في الصحاح للجوهري (9): القرن موضع وهو ميقات أهل نجد.

ابن الأثير (10): قرن المنازل هو اسم موضع يحرم منه أهل نجد.

معجم مقاييس اللغة لابن فارس (ت 395) (11): والقرن موضع وهو ميقات


1- 1 تاج العروس.
2- 2 أودية مكة، عاتق بن غيث البلاديص 180.
3- 3 معجم البلدان، ياقوت الحموي 5/ 277، مراصد الإطلاعصفي الدين البغدادي 3/ 1364.
4- 4 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332، لسان العرب، ابن منظور 11/ 143.
5- 5 المغرب، المطرزي.
6- 6 المصباح المنير، الفيوميص 501.
7- 7 مراصد الاطلاع، عبد المؤمن البغدادي 3/ 1082.
8- 8 حاشية الجامع الصحيح 4/ 4.
9- 9صحاح اللغة، الجوهري.
10- 10 النهاية، ابن الأثير.
11- 11 معجم مقاييس اللغة، زكريا بن فارس.

ص: 46

أهل نجد.

مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي (ت 666) (1): والقرن بالتحريك موضع، وهو ميقات أهل نجد.

لسان العرب لابن منظور (ت 711) (2): عن بن شميل: القرن موضع، وهو ميقات أهل نجد.

وقال: قال ابن بري: قال ابن القطاع، قال ابن دريد في كتاب الجمهرة والقزاز في كتابه الجامع: وقرن اسم موضع... وفي حديث المواقيت: أنّه وقت لأهل نجد قرناً، وفي رواية قرن المنازل وهو اسم موضع يحرم منه أهل نجد.

تحقيق الأقوال:

إنّ الموضع أعم من الوادي والقرية، فلا يتعارض مع الأقوال الأخرى، أما إطلاقه على الجبل فغير متعارف، إلا إذا سمي المكان كلّه باسم ذلك الجبل، وقد أطلقوا عليه موضعاً؛ لعدم معرفة ماهيته.

أما القول الأول والثاني فيمكن الجمع بينهما بأن كثيراً من البلدان تسمى باسم الوادي، الذي هي فيه أو يسمى الوادي باسمها، كما تسمى البحور والبحيرات بأسماء المدن الواقعة عليها، فيقال بحيرة أرومية في إيران، وبحيرة فكتوريا في تركيا، وبحر عمان، وبحر فارس، وخليج العقبة، ومن أمثلة تسمية المدن بأسماء الوادي ما قاله البلادي (3) تعقيباً على قول البكري بأن وادي رابغ من مر، قال البلادي: وأما أسفله فكان يسمى رابغاً واد كثير المياه والغابات، ولما قامت تلك البلدة (رابغ) على مصبه سميت رابغاً باسم الوادي فنسي اسم الوادي فأطلق عليه اسم مر.

وكذلك ينبع سميت باسم الوادي، فإنّ ينبعاً وادي فحل كثير العيون والنخيل غرب المدينة (4).

ومن القرى التي سميت باسم الوادي المحيط بها ما قاله حمد الجاسر (5): بدا:


1- 1 مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر الرازي.
2- 2 لسان العرب، ابن منظور 11/ 142.
3- 3 أودية مكةص 150.
4- 4 أودية مكةص 145.
5- 5 المناسكص 71.

ص: 47

قرية في واد يعرف بهذا الاسم.

تانه: الوادي الثاني الرئسي من روافد وادي الليث.. وفيه قريه وسوق بنفس الاسم (1).

بلدة الليث: على مسافة 185 كيلومتراً من مكة، سميت باسم الوادي (وادي الليث) (2).

وسرف سميت باسم الوادي وادي سرف، والزبارة سميت باسم وادي الزبارة، والمضيق باسم وادي المضيق، ومر باسم وادي مر، وأمثال ذلك كثير.

وعلى هذا فإنّ قرن المنازل يمكن أن يكون اسماً للقرية واسماً للوادي، فلا تنافي بين القولين، بل الذي نستظهره أنّ العطف بمعنى أو، ولكن نحتاج إلى التحقيق في أنّ الميقات هل هو القرية أم الوادي كلّه، وهذا يترتب عليه كون الإحرام عما زاد عن القرية من الوادي لا يكون إحراماً من الميقات، لو قلنا بأنّ الميقات هو القرية، وكونه من الميقات، لو قلنا إنّ الميقات هو الوادي كله.

أما كونه جبلًا فالأصل فيه كلام الأصمعي، فإنّه قال: (القرن جبل مطل على عرفات)، وهو لا يدل على كون قرن المنازل جبلًا مطلًا على عرفات؛ لأن قرناً بدون إضافة تطلق على عدة مواضع وجبال، بعضها واقع في تلك المنطقة، منها:

قرن المنازل الذي هو الميقات، واقع قرب النخلة اليمانية، ومنها: قرن الثعالب وهو جبل أو موضع في منى، ومنها: قرن البوباة وهو واد يجي ء من السرات، وقرن الذهاب وهو موضع ذكره معجم البلدان والقاموس ولم يحددا مكانه، وقرن غزال، قال في القاموس ومعجم البلدان: ثنية معروفة، وقرن ظبي: ماء فوق السعدية وقيل جبل لبني أسد بنجد، وقرن معية: من مخاليف الطائف، وقرن أبي ريش:

موضع في ظهر جبل قعيقعان، وقرن مصقلة وهو قرن ذكره الفاكهي، وقال: وهو قرن قد بقيت منه بقيه بأعلى مكة في دبر دار أبي سمره، قرن القرط وهو بذنب أجيادين كما ذكر الفاكهي، وقرن شها ب ذكره الفاكهي، مشرف على ماجل بن


1- 1 المناسكص 77.
2- 2 المناسكص 66- 68.

ص: 48

طارق، القرن الأحمر وهو واقع كما قال الفاكهي دون محسر على يمين من خرج من مكة (1).

وكذلك يطلق قرن على عدّة حصون في اليمن منها قرن عشار وقرن بقل، كمايطلق قرن على عدّة مواضع في غير منطقة مكة والطائف (2)، فلا يدل كلام الأصمعي على أن مراده هو قرن المنازل.

وأما من جاء بعده فلم أجد مَنصرح بأنّ قرن المنازل جبل مشرف على عرفات إلّاما عن المطرزي في المغرب (3) وتبعه الفيومي في المصباح (4) حيث قال المطرزي: والقرن ميقات أهل نجد: جبل مشرف على عرفات، والملا علي في حاشية الجامع الصحيح (5): قرن المنازل جبل مدور أملس كأنه بيضة مشرف على عرفات، والظاهر أنهما قد توهما أن القرنَ الذي قال عنه الأصمعي: إنّه جبل مطل على عرفات هو قرن المنازل، ولم أجد هذا الوصف لقرن المنازل في غير حاشية الجامع، ولعله أخذه مما ذكره أصحاب اللغة في معنى قرن بأنّه الجبل الصغير أو القطعة تنفرد من الجبل والحجر الأملس النقي، فإنهم ذكروا هذه المعاني للفظ من باب الاشتراك اللفظي، لاصفات للقرن الذي هو الميقات، نعم قال ياقوت الحموي (6): مقص قرن: جبل مطل على عرفات عن الأصمعي وأنشد:

وأصبح عهدها بمقص قرن فلا عين تحس ولا أثار وقال في مقص قرن: جبل مطل على عرفات ذكره في قرن، وأنشد ابن الأعرابي لابن عم خداش بن زهير عن الأصمعي:

وكائن قد رأيت من أهل نجد دعاهم رائد لهم فساروا

فأصبح عهدهم كمقص قرن فلا عين تحس ولا أثار

فانك لا يضيرك بعد حول أظبي كان خالك أم حمار قال: فإنّ قرناً جبلصعب أملس ليس فيه أثر ولا مقص، يقال قرن مقص


1- 1 انظر معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332، 333.
2- 2 انظر معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 333.
3- 3 المغرب، المطرزي.
4- 4 المصباح المنير، أحمد بن محمد المقري الفيوميص 501.
5- 5 حاشية الجامع الصحيح.
6- 6 معجم البلدان، ياقوت الحموي 5/ 175.

ص: 49

للأثر، يريد يقص فيه الأثر، ولعلّ من نقل أنّ قرناً جبل مطل على عرفات قد اشتبه عليه قول الأصمعي، أو أنّ الأصمعي أراد أنّ مقص قرن، ومقص قرن هو ما يعرف اليوم باسم القرين، وجبل الرحمة وجبل عرفات (1).

أماصاحب مراصد الاطلاع (2) فإنّه قال: قرن: بالفتح ثم السكون قيل: هو سبعة أودية، وقيل جبل مطل بعرفات، نعم قال: مقص قرن: مطل على عرفات تبعاً لياقوت الحموي في معجم البلدان.

وبعد أن تبين أنّ القائل: إنّه جبل يطل على عرفات هو المطرزي في المغرب، وتبعه الفيومي في المصباح دون غيرهما من أصحاب اللغة، وعلى خلاف أكثر أهل اللغة، الذينصرحوا بأنّ قرن المنازل هو قرية أو وادٍ أو موضع.

ويحتمل في كلام المطرزي سقوط الواو العاطفة وأنه أراد: والقرن ميقات أهل نجد، وجبل مشرف على عرفات من باب ذكر المعاني المترادفة لمعنى القرن، كما في عبارة الفيروزآبادي (3) حيث قال: قرن جبل مشرف على عرفات، وميقات أهل نجد وهي بلدة عند الطائف، أو اسم الوادي كلّه، وبعد سقوط الواو من كلام المطرزي إما نسياناً منه أو من النساخ جرى عليه من تبعه كالفيومي وغيره. وليس ذلك بدعاً فإنّ الجوهري غلط في المقام غلطتين اتفقوا على تخطئته فيهما وهما تحريك قرن، ونسبة أويس القرني إليه، فتكون للفيومي غلطتان أيضا أحدهما أنّ قرن المنازل هو قرن الثعالب، والأخرى أنّه جبل مشرف على عرفات، وما ذلك إلّا لعدم التدقيق والنقل بلا تحقيق.

منشأ التوهم:

ولن نتعرض إلى أوهام الفقهاء وأهل الحديث فإنّهم يرجعون كما هو الظاهر من كلامهم إلى أهل اللغة، فمثلا قال حسين بن محمد سعيد بن عبد الغني المكي الحنفي في حاشيته الموسومة ب (إرشاد الساري إلى مناسك الملا علي القاري (4) عند قوله: وهي قرية عند الطائف، قال: قال في المغرب: وقرن ميقات أهل نجد) جبل


1- 1 ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 88.
2- 2 مراصد الاطلاع، عبد المؤمن البغدادي 3/ 10822، 1299.
3- 3 القاموس المحيط، الفيروزآبادي 4/ 365.
4- 4 المناسك للملا علي القاريص 55، ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 هص 88.

ص: 50

مشرف على عرفات، ومثله في المصباح.

وقال البلادي (1): والغريب أنّي رأيت منسكاً يقول: إنّ قرن المنازل جبل مشرف على عرفات، وهذا خطأ فادح.

ولعل منشأ الاشتباه هو الخلط بين قول الأصمعي: قرن جبل مطل على عرفات، وما ورد في بعض الروايات من أنّ النبيَّصلى الله عليه و آله قد وقت لأهل نجد أو الطائف قرناً، ففسر قرن في كلام النبيصلى الله عليه و آله بما ذكره الأصمعي، ثم قيد قرن بالمنازل للجمع بين ماورد في الروايات مطلقاً وما ورد مقيداً.

والأمر الآخر الذي يمكن أن يكون منشأ لهذا الاشتباه هو الخلط بين قرن المنازل وقرن الثعالب حيث عدّه جماعة بأنهما واحد.

وأصل هذا التوهم ما حكي عن القاضي عياض (2) من أنّ قرن المنازل هو قرن الثعالب، وتبعه ابن الأثير (3)، ثم ابن منظور في لسان العرب (4)، ثمصفي الدين عبد المؤمن البغدادي في مراصد الاطلاع (5)، فقالوا: قرن المنازل هو اسم موضع يحرم منه أهل نجد، ويسمى أيضاً قرن الثعالب. ثم جاء الفيومي (6) فقال:

وقرن المنازل ميقات أهل نجد، وهو جبل مشرف على عرفات، ويقال له قرن الثعالب، فوقع في خطأين، أحدهما كونه مطلًاّ على عرفات، وقد تقدم أن منشأ هذا هو كلام الأصمعي مع ضميمة ما ورد في الأحاديث من أن قرناً ميقات أهل نجد، وقد تقدم بيانه، والخطأ الثاني هو قوله: إنّ قرن المنازل هو قرن الثعالب الذي منشأه كلام القاضي عياض.

قرن المنازل وقرن الثعالب:

قد تقدم في تعاريف بعض اللغويين أن قرن المنازل هو قرن الثعالب. وقلنا:

بأن هذا خطأ منشأه كلام القاضي عياض، ولتوضيح هذا الخطإ نذكر شاهدين:

الأول: ما ذكره العلماء والمحققون في عدم اتحادهما.

الثاني: تحديد موقع قرن الثعالب.


1- 1 كتاب أودية مكة، عاتق بن غيث البلاديص 9.
2- 2 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 332.
3- 3 النهاية، ابن الأثير.
4- 4 لسان العرب، ابن منظور 11/ 143.
5- 5 مراصد الاطلاع، عبد المؤمن البغدادي 3/ 11082.
6- 6 المصباح المنير، أحمد بن محمد المقري الفيوميص 501.

ص: 51

أقوال العلماء في عدم اتحاد القرنين:

1- شرح السيوطي على النسائي (1):

حكى الرويان عن بعض قدماء الشافعية: أن المكان الذي يقال له قرن موضعان: أحدهما في هبوط، وهو الذي يقال له قرن الثعالب؛ لكثرة ما يأوي إليه من الثعالب، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت.

2- في رياض المسائل وكشف اللثام والجواهر (2): وعن بعضهم أن قرن المنازل غيره، وأنّه جبل مشرف على أسفل منى بينه وبين مسجدها ألف وخمسمائة ذراع.

3- معجم متن اللغة (3): قرن المنازل قرية عند الطائف أو اسم الوادي كلّه وهو ميقات أهل نجد. وقرن الثعالب موضع قرب مكة.

4- ما ذكره ملحس (4) بعد قول الفاكهي الآتي، قال ملحس: قلنا: وقد وهم بعض الكتاب فجعلوا قرن الثعالب وقرن المنازل واحداً، والحقيقة أنهما مختلفان اسماً ومكاناً، فقرن الثعالب هو من منى، وقرن المنازل هو ميقات أهل نجد واقع في النخلة اليمانية.

4- قال حمد الجاسر في تعليقة كتاب مقتطفات من رحلة العياشي (5): هنا خلط بين قرن الثعالب وقرن المنازل، فالأول جبل مطلّ على عرفات وليس بمحل الإحرام. وأما الثاني فقرن المنازل وهو ما يعرف الآن باسم السيل. والمؤلف يقصد وادي قرن.

الثاني: تحديد موقع قرن الثعالب:

1- الفاكهي في أخبار مكة (6): ومن مسجد منى إلى قُرين الثعالب ألف وخمسمائة ذراع وثلاثون ذراعاً.

وقُرين الثعالب: جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجدها ألف وخمسمائة ذراع، ويُقال له قرين الثعالب؛ لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب.


1- 1 شرح السيوطي على النسائيص 122.
2- 2 رياض المسائل 6/ 290، كشف اللثام 1/ 306، جواهر الكلام 18/ 113.
3- 3 معجم متن اللغة.
4- 4 تعليقته على كتاب أخبار مكة للأزرقي 2/ 185.
5- 5 مقتطفات من رحلة العياشي ماء الموائد حمد الجاسرص 109.
6- 6 أخبار مكة، الفاكهي 4/ 282.

ص: 52

2- ذكر الفاكهي (1) في عدد الأميال من المسجد الحرام إلى الموقف بعرفة وموضعها:... وموضع الميل الثالث عند مأزمي منى، وموضع الميل الرابع دون الجمرة الثالثة التي تلي مسجد الخيف بخمسة عشر ذراعاً، وموضع الميل الخامس وراء قرين الثعالب بمئة ذراع، وموضع الميل السادس حدّ جدار حائط محسر.

3- قال الأزرقي في ذرع منى والجمار ومأزمي منى إلى محسر (2) ومن مسجد منى إلى قرين الثعالب الف ذراع وخمسائة وثلاثون ذراعاً.

4- قال في ذكر الأميال التي بين المسجد الحرام وموضع الإمام بعرفات وذكر مواضعها (3): وموضع الميل الخامس وراء قرين الثعالب بمائة ذراع، وموضع الميل السادس في جدار حائط محسر.

5- الأغاني (4) في ذكر الهدنة بين المختار بن عوف الأزدي وعبد الواحد بن سليمان قال: منزل أبو حمزة بقرن الثعالب من منى.

6- ما تقدم عن الرياض وكشف اللثام والجواهر (5) بلفظ القيل بأنه جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجدها ألف وخمسمائة ذراع، فإنه إشارة إلى وجود قائل وإن لم يذكره.

7- قال البلادي في معجم معالم الحجاز (6): وقرن الثعالب كان بمنى، أكيمةصغيرة ثم أزيلت.

8- حاشية أخبار مكة لعبد الملك دهيش (7) تعليقاً على حديث ذكره الفاكهي مسنداً إلى عائشة أنّها قالت لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله: هل أتى عليك يوم كان أشدّ عليك من يوم أحد؟ قالصلى الله عليه و آله: ولقد لقيت من قومك، وكان أشدّ مالقيت منهم يوم العقبة أن عرضت نفسي على ابن عبد يليل... فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مغموم علي وجهي، فلم استفق إلّابقرن الثعلب...

قال المحقق في الحاشية على الكتاب: قرن الثعالب سألت عنه الشريف محمد ابن فوزان الحارثي، فأخبرني أنّه القرن الذي يقابل ريع البابور من الشمال، وقد


1- 1 أخبار مكة، الفاكهي 5/ 51، 52.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 2/ 185.
3- 3 أخبار مكة، الأزرقي 2/ 189.
4- 4 الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني 22/ 228.
5- 5 رياض المسائل 6/ 190، كشف اللثام 1/ 306، الجواهر 18/ 113.
6- 6 نقله عنه الفضلي، ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 88.
7- 7 حاشية أخبار مكة للفاكهي، عبد الملك بن عبداللَّه بن دهيش 4/ 281.

ص: 53

أزيل رأسه وسوي بالشارع الموازي لجسر الملك خالد حتىصار أشبه بهضبة من الهضاب، ويطلق عليه اليوم (ربوة) ويرى على طرفه الغربي الشارع القادم من جسر الملك خالد.

ويرجح كلام الفاكهي والأزرقي على غيرهما ممن قالوا باتحاد الموضعين لأمرين:

الأول: قدم عصرهما.

الثاني: قربهما من هذه البقاع من سكان مكة، وقد كتبا في تاريخ مكة وجغرافيتها.

كما أنّ البلادي ودهيشاً كليهما من أهل مكة، وقد قال المثل: أهل مكة أدرى بشعابها.

وقد تبين مما تقدم أمور:

الأول: أنّ قرن الثعالب جبل في منى، ومن المعلوم أن منى جزء من الحرم، فلا يمكن أن يكون هو الميقات.

ثانياً: أنّ ما بين قرن الثعالب إلى مسجد منى 1500 ذراع، وهو أقل من نصف الكيلو متر، فيكون مخالفاً لما سيأتي في تحديد قرن المنازل- أنّه على يوم وليلة من مكة، أو على مرحلتين، وبينه وبين مكة واحد وخمسون ميلًا، وأنّه على بعد 94 كيلومتراً... الخ.

الجبل المشرف على عرفات:

تقدم الكلام في أنّ دعوى أنّ قرن المنازل هو جبل مشرف على عرفات جاء اشتباهاً من بعض اللغويين، خلطاً بين كلام الأصمعي وما ورد في الأحاديث المحدّدة لميقات أهل نجد من أنّه قرن وقرن المنازل، وقد بينا هذا الالتباس ومنشأه.

ويؤيد أن قرن المنازل ليس هو الجبل المطل على عرفات ما سيأتي في تحديد المسافة بين مكة وقرن المنازل، وأنّها تقرب من 94 كيلومتراً، أو واحد وخمسين

ص: 54

ميلًا، فكيف يكون مطلًاّ على عرفات مع هذه المسافة الطويلة؟ وما سيأتي من أنّه يصب فيه النخلة اليمانية، وهي واقعة شمال شرق مكة، بينها وبين مكة وادي حنين ويدعان.

أما قرن الثعالب فقد مرّ أنّه جبل مشرف على أسفل منى، بينه وبين مسجد الخيف ألف وخمسمائة ذراع، وبين منى وعرفات ما يقرب من خمسة أميال. فقد ذكرالأزرقي في ذرع المسافات بين المسجد إلى حدّ الحرم: أنّه من مسجد منى إلى مسجد المزدلفة ميلان، ومن مسجد مزدلفة إلى مسجد عرفة ثلاثة أميال وثلاثة آلاف وثلثمائة وتسعة عشر ذراعاً.

كما أنّ تعريفه بأنّه جبل مشرف على عرفات من التعريف بالأخفى، إذ الأولى بأن يقال: مشرف على منى أو على وادي محسر.

احتمالات أخرى:

مما تقدم نعلم أنّ الجبل الذي ذكره الأصمعي بأنّه «قرن جبل مشرف على عرفات» ليس هو قرن المنازل ولا قرن الثعالب، فما هو القرن الذي يمكن أن يكون مراداً للأصمعي؟

هناك احتمالات أخرى:

القرن الواقع في وادي محسر:

قد أطلق لفظ قرن مطلقاً بدون تقييد على جبل في منى، قال الحربي (1): فإذاصعدت (أي في وادي محسر) فأنت حينئذ في الخروج من الوادي، ثم إذا علوت فهناك من يمينك وأنت ذاهب من منى إلى عرفات فوق جبل يأتي، فذلك آخر وادي محسر، فإذا جاوزت آخر ذلك القرن فأنت في المزدلفة.

ثم قال (2): هذا القرن الذي وصفت لك عن يمين الذاهب إلى عرفات هو أول المزدلفة وآخر وادي محسر.

ثم قال (3): فإذا جاوزت المأزمين حتى تخرج منها إلى الفضاء، فذلك الفضاء


1- 1 المناسك، للحربيص 505.
2- 2 المناسك، للحربيص 506.
3- 3 المناسك، للحربيص 507.

ص: 55

أول المزدلفة، وأنت جائي من عرفات إلى حيال القرن الذي وصفت لك، والآن وأنت مقبل من عرفات عن يسارك.

وعن جريج (1) قلت لعطاء: أين محسر؟ وأين يبلغ من جمع؟ وأين يبلغ الناس بمنازلهم من محسر؟ يعني بمبيتهم بجمع المزدلفة، فقال عطاء: لم أرهم يختلفون بمنازلهم القرن، يعنى لا يتجاوزون، قال عطاء: وهو أقرب قرن في الأرض من محسر عن يمين الذاهب، الذي يأتي من مكة عن يمين الطريق، قال: ومحسر إلى ذلك القرن يبلغه وينقطع إليه، قال عطاء: لا أحب أن ينزل أحد أسفل من ذلك القرن تلك الليلة يعني ليلة جمع.

وقال الفاكهي في أخبارمكة (2): مسنداً إلى ابن عباس قال: جمع من مفضى المأزمين إلى القرن الذي خلف وادي محسر.

وعن عطاء: إلّاأنّه قال: حتى يبلغ القرن الأحمر دون وادي محسر، على يمين من خرج من مكة.

وهذا الجبل وإن سمّي قرناً إلّاأنّه لا يشرف على عرفات؛ لبعده عنها فإنه مشرف على وادي محسر والمزدلفة.

جبل كرا:

قال الشيخ القطبي في منسكه (3): وهو جبل فيه بعض القرى بقرب الطائف، وبه مزارع وبساتين ويجلب منها الفواكه إلى مكة.

وقال القاضي عيد في شرح المناسك (4): وهذا الجبل يسمى عند أهل مكة وأهل تلك النواحي (كرا) بفتح الكاف والراء المهملة. ويوافق ما ذكره الشارح (ره) ما في القاموس حيث قال في تعداده معنى (قرن): جبل مطلّ على عرفة، والحجر الأملس النقي، ميقات أهل نجد، وهو قرية عند الطائف، أو اسم الودي كلّه.

أقول: ما استشهد به من كلام القاموس لا يتم؛ لأنصاحب القاموس إنما ذكر عدّة معاني ل (قرن)، ثم بعد أن قال: وميقات أهل نجد. فسّرها بقوله وهي قرية


1- 1 المناسك، للحربيص 507.
2- 2 أخبار مكة، الفاكهي 4/ 311.
3- 3 نقله عنه الفضلي في مجلة ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 92.
4- 4 نقله عنه الفضلي في مجلة ميقات الحج ع 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 92.

ص: 56

قرب الطائف.

ومثل هذا الخلط ما حصل منصاحب مرآة الحرمين (1)كما سيأتي حيث خلط بين بحرة الواقعة في طريق جدة- مكة وبين بحرة الرعاء الواقعة في لية جنوب وغرب الطائف، التي مرّ بها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في مسيره ومنصرفه من غزوة الطائف، حتى ألجأه هذا الخلط والاشتباه الذي وقع فيه إلى التشكيك في سيرة ابن هشام وكتب المؤرخين.

والذي ألجأ القاضي إلى هذا التفسير ما تقدم من وصف الميقات بأنّه جبل مشرف على عرفات، وبعضهم بأنّه قرية قرب الطائف، وأراد أن يجمع بين هذه الأوصاف ولا يمكن ذلك، ففسر الجبل بجبل كرا والقرية بالهدا.، لكن جبل كرا لا يسمى قرناً حيث لا تنطبق عليهصفات القرن، التي هي الجبل الصغير المنفرد إضافة إلى بعد المسافة بين جبل كرا وبين عرفات.

جبل الرحمة الواقع في عرفات

وقد احتمل الفضلي (2) أنّه الجبل الذي ذكره الأصمعي أنّه يطلّ على عرفات، وأيد هذا الاحتمال بأمور:

الأول: انطباق الوصف الذي جاء في كتب اللغة لمعنى القرن، وهو الجبل الصغير المنفرد.

الثاني: أنّه الجبل المشرف على عرفات، فهو وإن كان في عرفات إلّاأنّ الذي يصعد على الجبل يطلّ ويشرف على عرفات.

الثالث: ما ورد في الحديث أنّهصلى الله عليه و آله وقف على طرف القرن الأسود.

الرابع: ما ذكره ياقوت الحموي في معجم البلدان: مقص قرن جبل مطل على عرفات، فقد ذكر البلادي (3)(4) أن مقص قرن هو جبل الرحمة (جبل عرفات).

* قرن النابت في عرفات

قال الفاكهي (5): في ذكر الأميال: وموضع الميل الثاني عشر خلف المقام


1- 1 مرآة الحرمين، إبراهيم رفعت باشا 1/ 26، 27.
2- 2 مجلة ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 88.
3- 3 معجم معالم الحجاز، عاتق غيث البلادي نقله عنه الفضلي في مجلة ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 88.
4- 3 معجم معالم الحجاز، عاتق غيث البلادي نقله عنه الفضلي في مجلة ميقات الحج العدد 5، السنة الثالثة 1417 ه،ص 88.
5- 4 أخبار مكة، الفاكهي 5/ 53.

ص: 57

حيث يقف الإمام عشية عرفة على قرن يقال له النابت، بينه وبين موقف رسول اللَّه عشرة أذرع.

وقال: حدثنا... محمد بن عبد الله عبيد بن عمير قال: وقف رسول الله على النابت أمام الجبل الذي يسمى اللآل.

* الجبل الذي في وادي عرنة:

ويحتمل أن يكون هوالجبل الذي على حدّ عرفة في بطن عرنة، روى الفاكهي (1) عن الزبير بن أبي بكر بسند متصل إلى ابن عباس قال: حدّ عرفة الجبل المشرف على بطن عرنة إلى جبال عرفة.

* جبل كبكب:

قالصاحب معجم البلدان (2): جبل خلف عرفات مشرف عليها قيل: هو الجبل الأحمر الذي تجعله في ظهرك إذا وقفت بعرفات، وقال الأصمعي: ولهذيل جبل يقال له كبكب، وهو مشرف على موقف عرفة.

أقول: الواقف بعرفات إن كان مستقبلًا القبلة (3) لا يكون جبل كبكب في خلفه، بل يكون على يمينه، قال الفاكهي في أخبار (4)مكة: وكبكب جبل على يمين الإمام إذا وقفت بعرفة، ثم إنّ جبل كبكب لا يسمى قرناً؛ لعدم انطباق أوصاف القرن عليه فهو جبل كبير.

وهذه الثلاثة هي المحتملة في القرن المطل على عرفات دون غيرها مما ذكرناه، وهناك جبال أخرى قريبة من عرفات ومطلة عليها يحتمل أن يكون أحدها.


1- 1 أخبار مكة، الفاكهي 5/ 6، 7.
2- 2 معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 434.
3- 3 أخبار مكة للفاكهي 5/ 40: قال ابن جريج: فقلت لعطاء: أرأيت الموقف بعرفة أحقٌ علي الناس أن يوجّهواإلى البيت؟ قال: أما إذا وجهتَ نحو الحرم فحسبك، الحرم كلّه قبلة ومسجد، ثم تلا عليَّ «فول وجهك شطر المسجد الحرام» البقرة: 144، قال: فالحرم كلّه قبلة.
4- 4 أخبار مكة، الفاكهي 5/ 11.

ص: 58

الهوامش:

ص: 59

ص:60

ص:61

لمحات فنيّة من آيات الحجّ

ص: 62

لمحات فنيّة من آيات الحجّ

د. محمود البستاني

يُلاحَظ: أنّ النصّ القرآني الكريم يعتمد ثلاثة أنماطٍ من التعبير:

التعبير العلمي. التعبير الفنّي. التعبير الذي يلفّق بينهما...

وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ التعبير العلمي يتناول المعرفة الإنسانية والطبيعية البحتة، بما أنّها حقائق تعتمد الملاحظة والعرض والاستدلال العقلي (أي: اللغة التي تعتمد المنطق والأرقام، التي لا تتدخل فيها عناصر الخيال أو العاطفة) حينئذٍ فإنّ التعبير الفنّي يظلّ على عكسه تماماً حيث يعتمد اللغة التخيلية والعاطفية... هذا في نطاق التجربة البشرية...

وأمّا في نطاق النصّ الشرعي (كالقرآن الكريم ونصوص المعصومين عليهم السلام) فإنّ اللغات الثلاث (اللغة العلمية، اللغة الفنّية، اللغة الجامعة بينهما) تجد سبيلها في النصّ المشار إليه. وبمقدورنا ملاحظة ذلك في الظواهر التي يتناولها القرآن الكريم، حيث يتناول الظواهر الفيزيائية أو الكيميائية وغيرهما من المعرفة (الطبيعية) بلغة (الفن) في بعض النصوص، والأمر كذلك حيث يتناول الظواهر العقائدية أو

ص: 63

الأخلاقية أو التاريخية.

والأمر كذلك حين نتّجه إلى نصوص المعصومين عليهم السلام، حيث نجد أن الإمام عليّاً عليه السلام مثلًا، يتناول ظواهر علمية تتصل بنشأة الكون وفق لغة فنّية تعتمد عناصر إيقاعية (كالسجع أو التجنيس أو توازن العبارة...) وعناصرصورية (كالتشبيه أو الاستعارة أو الرمز...).

طبيعياً، السياق هو الذي يحدّد فيما إذا كانت اللغة العلمية أو الفنّية أو اللغة الملفّقة بينهما، هي اللغة الأشدّ تأثيراً في المتلقي، وهو أثر لا يفسح لنا المجال الآن بتفصيل الكلام عنه، بقدر ما تجدر الإشارة إليه فحسب..

*** في ضوء هذه الحقائق يمكننا أن نتّجه إلى بعض النصوص القرآنية الكريمة «بالنسبة إلى إحدى الممارسات العبادية، وهي الحجّ» لملاحظة (اللغة الفنّية) التي يستخدمها النصّ في هذا الميدان.

ومن البين أنّ اللغة الفنّية تعتمد جملة عناصر لفظية وإيقاعية وصورية وبنائية...، إلّاأننا نكتفي بأحد العناصر وهو عنصر «الصورة»...

أي: العبارة المركّبة التي ترصد العلاقة بين ظاهرتين؛ لاستخلاص ظاهرة ثالثة، وهذا كالتشبيه والاستعارة والتمثيل والرمز....

ونقف أوّلًا مع: قوله تعالى: (الحجُّ أشهر معلومات فَمن فرضَ فيهن الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه اللَّه وتزودوا فإنّ خير الزاد التقوى واتقون يا أُولي الألباب) (1)

.

(فإذا قضيتُم مناسككم فاذكروا اللَّه كذكركم آباءَكم أو أشدّ ذكراً...) (2)

.

(حُنفاء للَّه غيرَ مشركين به ومَن يُشرك باللَّه فكأنّما خرّ من السماء فَتَخطَفُهُ الطيرُ أو تهوي به الريحُ في مكانٍ سحيق) (3)

.

النصوص المتقدّمة تتضمّن مجموعة من (الصور): الاولى منها نطلق عليها


1- 1 البقرة: 197.
2- 2 البقرة: 200.
3- 3 الحجّ: 31.

ص: 64

(الصورة التمثيلية) وأمّا الاخريان فيتضمنانصورتين (تشبيهيتين) الاولى منهما قد اعتمدت أداة التشبيه (الكاف) والاخرى قد اعتمدت أداةً تشبيهية اخرى هي (كأنّ).

المهم: نقف عند الصورة (التمثيلية) أوّلًا، وهي:

* قال تعالى: (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى).

النصّ المتقدّم ينطوي علىصورة مألوفة كلّ الإلفة، حيث نعرف تماماً بأن الصور قد تكون مضبّبة يحتاج المتلقّي خلالها إلى بذل جهدٍ فكري وعصبي؛ ليدرك العلاقة بين طرفي الصورة وبين الدلالة المستخلصة منها، وبعضها يتّسم بالضبابية الخفيفة والممتعة بحيث تتطلّب جهداً بسيطاً؛ لإدراك العلاقة ودلالتها، وبعضها يتّسم بالطرافة، وبعضها يتّسم بالإلفة؛ كما هو الملاحظ بالنسبة إلى الصورة التي نحن فيصددها... طبيعياً، يستخدم القرآن الكريم جميع الأنماط التي أشرنا إليها ما عدا النمط الأوّل (المضبّب تماماً) لأنّ ذلك يستتلي جهداً مضنياً يتنافى مع هدف (توصيل) الدلالة إلى المتلقّي، ومن ثم، فإنّ السياق هو الذي يحدّد ما إذا كان الأمر يتطلّب الصورة المضبّبة الممتعة، أو الطريفة، أو المألوفة...

الصورة المألوفة التي نواجهها، تنطوي على دلالة عميقة بطبيعة الحال،...

إنّها تتحدّث عن (التقوى) فيما تجسّد التقوى هدفاً ما بعده من هدف بالنسبة إلى ممارسة الإنسان لمهمّته العبادية في الحياة، بصفة أن اللَّه تعالى ما خلق الجنّ والإنس إلّا ليعبدوه، والعبادة المطلوبة ليس هي مجرّد أدائها، بل بلوغ الدرجة الأعلى منها، تبعاً لما تقرّره الآية الكريمة: (ليبلوكم أيّكم أحسنُ عملًا...) (1)

، أي: إنّ المطلوب من الممارسة العبادية هي (الأجود) وليس (الجيّد) فحسب، وهذا ما استهدفه النصّ القرآني الكريم في الصورة التمثيلية، حيث تجسّد (التقوى)- كما هو بيّن- (أحسن) العمل أو القمّة منه، فانتخب ظاهرة (الزاد) ليربط بينها وبين (التقوى)...

ونتساءل: لماذا (الزاد) دون غيره من الظواهر؟


1- 1 هود: 7.

ص: 65

واضح، أن (الزاد) هو المادة التي تمدّ الإنسان بالحياة، وهو ممّا يفتقر إليه باستمرار، وليس في أوقات أو مراحل أو حالات خاصّة... وإذا كانت المهمّة العبادية للإنسان هي: مهمّة (استمرارية) منذ أن يقع عليه التكليف إلى آخر عمره، حينئذٍ فإنّ انتخاب ظاهرة استمرارية (الزاد) تتناسب مع إبراز مفهوم (التقوى) تماماً. فالتقوى مطلوبة في الحالات والأزمنة جميعاً (كالغذاء الذي نحتاجه في الحالات والأزمنة جميعاً).

من زاوية اخرى: نلاحظ أنّ (الزاد) لا ينحصر أثره هنا في الحياة الدنيا، بل ينسحب على الحياة الأخروية، أي: بقدر مايتزوّد الإنسان بالتقوى: يترك أثره على الحياة المقبلة وهذا هو الجديد والطريف في الصورة... فالنصّ لم يعتمد (الزاد) من حيث كونه مادّة تمدّ الإنسان بالعطاء الدنيوي فحسب، بصفة أنّ مَن يتّق اللَّه تعالى يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لايحتسب دنيوياً، بل تجاوزه إلى الع طاء الأخروي، حيث تمدّه (التقوى) باستمرارية حياته الأخروية من أعلى درجات الإشباع.

وهذا ما يفسّر لنا انتخاب ظاهرة (الزاد) دون غيرها من الظواهر (كالأكل) مثلًا، حيث إنّ الأكل أو الشرب يمدّان الإنسان بالحياة، إلّاأنّ ذلك ينحصر في الحياة الدنيا. أما الزاد فبالرغم من كونه يتناول ظاهرتي (الأكل والشرب) إلّاأنّه- من جانبٍ آخر- وهذا هو المهمّ في الصورة: يجسّد مفهوماً آخر لظاهرة تناول الغذاء، ألا وهي (تهيئته) فكما أنّ المسافر مثلًا يحتاج إلى (الراحلة والزاد) للإفادة منهما في رحلته لاحقاً، وليس آنياً فحسب... كذلك (الزاد) بالنسبة إلى ممارسة (التقوى) حيث يستهدف النصّ لفت النظر إلى (تهيئة) الزاد للإفادة منه آنياً ولاحقاً بالنحو الذي أوضحناه.

إذن: أمكننا أن ندرك- ولو سريعاً- أهمّية هذه الصورة (التمثيلية) المتّسمة بالبساطة، إلّاأنّها اكتسبت دلالات عميقة كما لاحظنا.

***

ص: 66

* قال تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللَّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً...).

الصورة التي نواجهها الآن، تنتسب- كما قلنا- إلى (التشبيه)،... والتشبيه نمطان: مجازي وواقعي، ويُقصد بالأول ما تُرصد به العلاقة بين طرفين لا واقع لهما كتشبيه السفن بالجبال في قوله تعالى: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام) (1)

حيث لا علاقة واقعية بينهما، وهذا بعكس التشبيه الواقعي وهو التشبيه الذي نحن فيصدده (فاذكروا اللَّه كذكركم آباءكم...) حيث إنّ استحضار دلالةٍ ما (كذكر اللَّه تعالى) في الذهن وممارسة ذلك لفظياً، أو استحضار (ذكر الآباء) في الذهن وممارسته لفظياً أمرٌ واقعي، لم تُستحدَث علاقة مجازية بينهما...

من زاوية اخرى، ينشطر التشبيه إلى نمطين: التشبيه المتكافئ وهو ما يتكافأ طرفاه في الدلالة على شي ءٍ ما، كالتشبيه الذي لاحظناه بالنسبة إلى السفن والجبال، أو تشبيه (ذكر اللَّه تعالى) بذكر الآباء، حيث يتماثل أو يتساوى طرفا التشبيه دون تفاوت بينهما... وأمّا النمط الآخر من التشبيه فيمكن تسميته ب (التشبيه المتفاوت) وهو ما يشير إلى (الأعلى) أو (الأدنى) من الطرف الآخر، وهو قوله تعالى (أو أشدّ ذكراً)، حيث أشار النصّ إلى أن يذكر اللَّه تعالى بنحو (أشدّ) من ذكر الآباء، أي: أعلى درجة منه... المهم: أنّ الآية الكريمة (فاذكروا اللَّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكراً) تنطوي على نمطي التشبيه: المتكافئ والمتفاوت، ومن ثم فإنّ الأهمّ من ذلك هو ملاحظة الأسرار الفنية وراء النصّ التشبيهي المذكور...

تقول النصوص المفسّرة بما مؤدّاه: إنّ الناس كانوا إذا فرغوا من الحج، ذكروا آباءهم ومفاخرهم؛ لذلك أمرهم اللَّه تعالى بأن يذكروا اللَّه تعالى على نحو ذِكرهم لآبائهم أو أشدّ ذكراً...

سرّ ذلك، أن الحاجة إلى (تأكيد الذات) من جانب، والحاجة إلى (الانتماء الاجتماعي) من جانب آخر، مضافاً إلى الأعراف الاجتماعية التي تغذّي الحاجتين


1- 1 الرحمن: 24.

ص: 67

المذكورتين، حيث إنّ (الذات) تتسع لتشمل كلَّ ما يتصل بها من قريب أو بعيد، ومنه: المجد النسبي (ذكر الآباء والأجداد)، وحيث إنّ (الانتماء الاجتماعي) يتسع ليشمل كلّ فرد أو مؤسسة يرتبط بها الشخص: الآباء، الاسرة، القرابة، القبيلة...

نقول: إنّ الحاجتين المذكورتين تفسّران لنا سرّ التشبيه المشار إليه من حيث كونه قد انتخب (ذكر الآباء) دون أنماط الذكر الاخرى؛ نظراً لإلحاحهما بالنسبة إلى دوافع الإنسان المتنوّعة... لكن: بما أنّ ذكر اللَّه تعالى لا يمكن أن يقاس بذكر الآباء خاصّة لمن يمتلك وعياً عبادياً جادّاً، حينئذٍ فإنّ النصّ التشبيهي المذكور أردف التشبيه المتكافئ بالتشبيه المتفاوت، فقال (أو أشدّ ذكراً) بصفة أن عظمة اللَّه تعالى ونعمه التي لا تحصى لا يمكن أن تُقاس بمجد الآباء وفضلهم...

**** قال تعالى: (حُنفاء للَّه غيرَ مشركين به ومَن يُشرك باللَّه فكأنّما خرّ من السماء فَتخطَفُهُ الطيرُ أو تهوي به الريحُ في مكان سحيق).

تشير النصوص المفسّرة إلى أن التشبيه المذكور، يومئ إلى أنّ المشرك لا يملك لنفسه حيلة فهو هالك لا محالة، أو أن بُعده عن الحقّ كبعد الساقط من السماء...

ومع أن هذا النمط من التذوّق الفنّي للصورة ينطوي (من حيث الحصيلة النهائية للشرك) على الصواب، إلّاأنّ الأسرار الفنّية الكامنة وراء هذا التشبيه لا تزال مجهولة لم يهتد الأقدمون ولا المعاصرون إلى استكناه دلالاته الفنّية، فالملاحظ أنّ قسماً من النصوص الفنّية وسواها قد اهتدى الأقدمون إلى كشف أسرارها، والبعض الآخر لم تسمح الثقافة الموروثة آنئذٍ بالكشف عنها؛ نظراً لمحدودية المناخ الثقافي آنئذ (كما هو ملاحظ مثلًا في سكوت الأقدمين عن الحديث عن الأسرار الفنّية لقصص القرآن) والقسم الآخر من النصوص الفنّية قد اهتدى المعاصرون إلى كشفها بالنسبة إلى الجيل السابق منهم، والقسم الآخر قد اهتدى الجيل الحالي إلى كشفه، مما يعني أنّ قسماً آخر لا يزال ينتظر جيلًا جديداً يمتلك

ص: 68

أدوات فنّية جديدة؛ ليكتشف بها أسرار الفن...

والمهم هو: أن نشير إلى جملة نقاط، منها:

- أن ننتبه إلى أنّ التشبيه الذي نحن فيصدده قد اعتمد أداة (كأن)، ولابد من أن يكون انتخاب النصّ لهذه الأداة دون غيرها منطوياً على سرّ فنّي، فالملاحظ (وهذا ما رصدناه في استخدام القرآن الكريم لأدوات التشبيه) أنّ أدوات التشبيه الثلاث المعروفة (الكاف) (مِثْل) (كأنّ) تضطلع كلّ منها بوظيفة خاصة، فإذا كان طرفا التشبيه يتماثلان في السمات المشتركة بينهما إلى درجة كبيرة تتجاوز المتوسط، حينئذٍ فإنّ الأداة (مِثْل) هي التي تستخدم في هذا المجال، وهذا ما نجده في الصورة التشبيهية التي رسمها القرآن الكريم بالنسبة الى أحد ابني آدم عليه السلام عندما قتل أخاه وجهل كيفية مواراته، حيث شاهد غراباً (يبحث في الأرض) (1)

فقال: (يا ويلتى أَعجزتُ أن أكون (مثل) هذا الغراب..) (2)

فالملاحظ هنا أن طرفي الصورة يتماثلان إلى درجة كبيرة تتجاوز المتوسط، حيث إنّ الإنسان والطائر متماثلان جنساً، ومواراتهما في الأرض يتماثلان، وهكذا؛ لذلك استخدمت أداة التشبيه (مثل)،...

وأمّا إذا كانت درجة التشابه متوسطة المدى كما هو الغالب في التشبيهات القرآنيّة، استخدم أداة (الكاف).

وأمّا إذا كانت دون درجة الوسط، فإنّ الأداة (كأنّ) هي تضطلع برسم الصورة، وهذا ما نجده في التشبيه الذي نحن فيصدده. فالشرك باللَّه عملية (فكرية)، وأمّا السقوط من الجو، وخطف الطير، وإلقاء الريح إيّاه في مكان سحيق، فظواهر (مادية) كما هو بيّن؛ لذلك استُخدمت الأداة (كأنّ) نظراً للسمات المتفاوتة بين الطرفين... طبيعياً، أن السياق هو الذي يحدّد استخدام هذه الأداة أو تلك، وأمّا نسبة السمات المشتركة كثرت أو ضؤلت لا دخل لها في جعل التشبيه متميّزاً عن التشبيه الآخر؛ لأنّ المهم هو: اقتناص أحد وجوه الشبه والتركيز عليه، حتّى إنّه ليمكن القول: إنّ التشبيه قد يصل إلى ذروة قيمته الفنّية (في تجارب البشر)


1- 1 المائدة: 31.
2- 2 المائدة: 31.

ص: 69

من خلال اقتناص سمة واحدة، إلّاأنّها ذات إثارة وطرافة...

وأيّاً كان الأمر، فإنّ النصّ الصوري قد تحدّث عن الشرك باللَّه تعالى في سياق المطالبة بأن يكون الحُجّاج (حنفاء للَّه غير مشركين به)، سواء أكان المقصود من ذلك (وفقاً للنصوص المفسّرة) الإشراك في تلبية الحجّ، أو مطلق الشرك، وسواء أكان ذلك في نطاق الشرك الاصطلاحي أو الشرك الخفي كالرياء ونحوه.. ففي الحالات جميعاً، فإنّ إشراك (الآخر) مع اللَّه تعالى في مطلق الممارسات، يعني:

إكساب (الآخر) فاعليةً ما، مع أنّ الحقيقة أنّ الفاعلية هي للَّه تعالى وحده، وحينئذٍ من الممكن أن يكون النصّ قد استهدف الإشارة إلى أنّ من أشرك أحداً مع اللَّه سوف يسقط من (حساب) اللَّه تعالى حتماً، ويخسر كلّ شي ء، وعندها سيكون مَثَلُه مَثلَ مَن سقط من الجوّ (والسقوط وحده كافٍ في إلغاء الشخص من الحساب) وفي حالة سقوطه سوف لن يستنقذه أحدٌ ممّن أشركه مع اللَّه تعالى، فإمّا أن تخطفه الطير فتنهش لحمه دون أن يستنقذه الطرف المذكور، وإمّا أن تهوي به الريح في مكان بعيد لا يصل إليه أحد ليستنقذه من الموت، إن كان به رمق- على سبيل المثال....

المهم، يظلّ التشبيه المذكور- كما قلنا- واحداً من الصور الفنّية، التي تنتظر مَن يستكنه أسراره لاحقاً، مادمنا نعرف تماماً بأنّ النصّ القرآني الكريم نصٌّ (معجزٌ) فنّياً، وأنّ الاستخلاصات المتعدّدة بعدد قرّاء النصّ، تظلّ إحدى سماته الفنّية المدهشة حيث يترك المتلقي- كلًا بحسب مرجعيته الثقافية والتذوقية- يستخلص دلالة تفترق أو تتماثل أو تتفاوت مع الآخر، بالنحو الذي أوضحناه.

ص: 70

ضريح عبداللَّه بن عبدالمطلب والد الرسول صلى الله عليه و آله

ص: 71

ضريح عبداللَّه بن عبدالمطلب والد الرسولصلى الله عليه و آله

محمدصادق النجمي

يعدُّ المرقد الشريف لعبداللَّه بن عبدالمطّلب- والد الرّسول الكريمصلى الله عليه و آله- من الآثار المعروفة في المدينة المنورة، التي تقع خارج البقيع، حيث كان محلّاً للزائرين حتى عام (1976 م) فبعد أن كان بناءً مشيداً ضمّ الجسد الطاهر لعبداللَّه كما ذكرته كتب التاريخ، تمّت إزالته بحجّة توسيع مسجد النبيّصلى الله عليه و آله والسّاحات التي تُحيط به، ولم يبقَ أيُّ أثر له اليوم.

قبل الدخول في تفاصيل وكيفية تشييد هذا الضريح على مرّ التاريخ ارتأينا من المناسب ذِكر بحث كلاميّ ولو بصورة موجزة حول إيمان والدي النبيّصلى الله عليه و آله:

فقد تأكّد لدى علماء الشيعة ومُتكلّميهم وكذا بعض عُلماء أهل السُنّة ومُثقّفيهم، وللأدلّة من آيات وأحاديث من كلا الطريقين السّنّي والشّيعي، أنَّ والدَ الرّسول الأعظمصلى الله عليه و آله وكذلك أجداده الكرام كانوا جميعاً مؤحّدين، وأنَّ أيّاً منهم لم تلوّثه أدران الشّرك أو الوثنية. وليست مسألة انتقال نور وجوده المقدّس عِبر الأرحام العفيفة

ص: 72

والأصلاب الطّاهرة حتى استقراره فيصُلب عبداللَّه الموحِّد وَرَحِم آمنة المؤمنة مقتصرة عليهصلى الله عليه و آله وحده، بل إنَّ الأنبياء الآخرين يمتلكون مثل هذه الخصوصية أيضاً إذ وُلِدوا جميعهم من أبوين طاهريين.

نظرة عُلماء أهل السنّة:

لجلال الدين السيوطي،صاحب تفسير «الدرّ المنثور» ومؤلّف كتب كثيرة أخرى، وأحد الشخصيات العلمية الموثوقة عند أهل السنّة، بحث طويل ومُسهب، نوجزه هنا:

يقول السيوطي في بحثه المذكور: لقد ثبت أنَّ أجداد النبيّ وامّه وأباه، الذين كانوا حُنفاء على دين جدهم إبراهيم عليه السلام ويعملون بشرائعه، كما كان الحال مع كثير من الأشخاص في جزيرة العرب من أمثال ورقة بن نوفل وزيد بن عمر بن نفيل، الذين كانوا موحّدين يعبدون اللَّه وحده.

ويضيف السيوطي قائلًا: تعتقد مجموعة من علمائنا ومنهم الإمام فخر الرازي بهذا الرأي، وقد أورد عدّة أدلّة في تفسيره «أنوار التنزيل» على ذلك منها الآية: الذي يراكَ حين تقوم* وتقلّبكَ في الساجدين (1)

. يقول الفخر الرازي، (والكلام للسيوطيّ):

«يعتقد المفسّرون أنّ المراد من الآية الشريفة وتقلّبكَ في الساجدين، انتقال نطفة الرسولصلى الله عليه و آله منصُلب الساجدين والموحّدين والمعترفين بوحدانية اللَّه واحداً بعد آخر. وهذه الآية دليل واضح على أنَّ جميع آباء النبيّصلى الله عليه و آله كانوا موحّدين وحُنفاء لم يسجدوا إلّاللَّه ولم يعبدوا إلّاإيّاه».

كما في قولهصلى الله عليه و آله: «لم أزَلْ انقلُ من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات».

وجاء في القرآن الكريم كذلك:

إنّما المشركون نجسٌ فلو كان أجداد النبيّصلى الله عليه و آله وجدّاته مشركين، لما كانَصلى الله عليه و آله أيَّدَ طهارتهم وأوثق عِفّتهم.

ثم قال السيوطي بعد نقله لأدلّة أُخرى عن الفخر الرازي:

إنَّ الفخر الرازي بإيمانه واعتقاده بقداسة وطهارة أجداد الرسولصلى الله عليه و آله وببيانه لهذه الأدلة، إنّما يضفي بذلك


1- 1 الشعراء: 218 و 219.

ص: 73

عظمة وفخراً؛ لكونه أحد أكبر وأعظم أئمة الدين، والشخصية العلمية الفذّة، التي تمكّنت من الإجابة عن كثير من التساؤلات، ومختلف المسائل العلمية في زمانه.

وبدأ السيوطي بتأييد نظرية الفخر الرازي، وذلك ببيانه لعدّة أدلّة عقلية ونقلية، مورداً بعض الأحاديث عن البخاري والبيهقي وأبي نعيم ومحدّثين آخرين محاولًا إثباتصحة هذا الموضوع، وبالإشارة الى الأدلة التي أوردها الشهرستاني والماورديّ (1).

هذا وقد قام بعض علماء أهل السنة بتصنيف الكثير من الكتب والمؤلفات حول مسألة إيمان أجداد الرسولصلى الله عليه و آله ووالديه، وينفرد السيوطيّ وحده بمؤلفاته الأربعة حول هذا الموضوع وهي:

1- الدرج الرّفيعة في الآباء الشريفة.

2- المقاصد السّندسيّة في النسبة المُصطفويّة.

3- التعظيم والمنّة بأنّ أبوي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في الجنّة.

4- السّبل الجليّة في الآباء العليّة (2).

نظرة عُلماء الشيعة:

إنَّ مسألة إيمان والدي الرسولصلى الله عليه و آله، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، وطهارتهم بل وقداسة ولادة جميع الأنبياء هي من المُسلّمات بل من السّمات البارزة في عقيدة الشيعة.

يقول الفخر الرازي: «قالت الشيعة:

إنَّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً...» (3).

وكلام الرازيّ هذا دليل واضح على عقيدة الشيعة واتفاق علمائهم حول هذا الموضوع، بل إنَّ هذا الأمر كان نفسه جزءاً من عقيدة أهل السّنة ومن المسلمات عندهم.

يقول المجلسيّ رحمه الله: اتّفقت الإمامية- رضوان اللَّه عليهم- على أنَّ والدي الرسول وكلّ أجداده الى آدم عليه السلام كانوا مسلمين، بل كانوا من الصّديقين: إمّا أنبياء مرسلون أو أوصياء معصومون، ولعلَّ بعضهم لم يُظهر الإسلام لتقيّة أو لمصلحة دينيّة (4).

الأدلّة:

تتّسم الكتب الكلامية وكتب


1- 1 مالك الحنفاء:ص 17، نقلًا عن هامش البحار 15: 121- 128.
2- 2 المصدر السابق.
3- 3 المصدر السابق.
4- 4 المصدر السابق:ص 117.

ص: 74

التفسير عند الشيعة بإيراد أدلّة متعدّدة سواء من القرآن الكريم أو من السّنة النبوية الشريفة، كلّما تطرّقوا الى مسألة إيمان أجداد الرسولصلى الله عليه و آله. وللإيجاز نكتفي بالآيتين اللتين استشهد بهما الفخر الرازي على إيمان أجداد الرسولصلى الله عليه و آله وهما: الذي يراكَ حينَ تقوم* وتقلّبك في الساجدين.

ولأننا قُمنا ببيان وتوضيح تفسير هذه الآية نقلًا عن الفخر الرازيّ في الصفحات الآنفة فلا داعي لتكرار ذلك.

الروايات:

أ- جاء في حديث نبويّ شريف يُخاطب أمير المؤمنين علي عليه السلام ما يلي:

«يا عليّ، إنَّ عبدالمطلب كان لا يَستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام، ولا يأكل ما ذُبِحَ على النّصب، ويقول أنا على دين إبراهيم عليه السلام» (1).

ب- قال الأصبغ بن نباتة أنَّ أمير المؤمنين علي عليه السلام قال:

«واللَّه ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبد منافصنماً قطّ. قيل فما كانوا يعبدون؟ قال:

كانوا يُصلّون الى البيت على دين إبراهيم عليه السلام مُستمسكين به» (2).

لِمَ يُتَّهم أجداد الرسولصلى الله عليه و آله بالشرك؟!

كلّنا نعلم أنّ زمام السلطة السياسية للإسلام، ومصير الامّة الإسلامية في القرن الأول الهجري كان بيد أشخاص هم سليلو الشرك والوثنية، فقد كان آباؤهم وأجدادهم والأقربون لهم ممّن ترعرعوا على عبادة الأصنام والجاهلية الأولى، وليس هذا وحسب بل إن كثيراً من آبائهم وأقوامهم قُتِلوا في سوح المعارك، التي جرت بين المسلمين وأولئك الوثنين، مِمّا حدا بالتأريخ الى وسَمهم بالوثنية وبعار الشرك على مدى العصور، فكفى بهذا الأمر دافعاً الى تنسيبهم أجداد الرسولصلى الله عليه و آله وآبائه الى زمرة آبائهم وأجدادهم هم، وهو أمر كان لابد منه لحلّ معضلتهم هذه حتى يتخلصوا من لعنة التأريخ وغضب الأجيال المسلمة في المستقبل.

فقاموا، إثر ذلك، بنقل أحاديث ملفقة وكاذبة على لسان الرسولصلى الله عليه و آله، مثل:

«إنَّ رجلًا قال يا رسول اللَّه أين


1- 1 الخصال للصدوق، نقلًا عن البحار: 15: 144؛ ومن لا يحضره الفقيه، باب النوادر.
2- 2 كمال الدين، نقلًا عن البحار 15: 144.

ص: 75

أبي؟ قال: في النار، فلمّا قفى دعاهُ، إنَّ أبي وأباكَ في النار!» (1).

حادثة زيارة الرسولصلى الله عليه و آله لقبر والدته وتحريف ذلك:

ورد أنّ النبيّصلى الله عليه و آله توقّف في «الأبواء» عند قبر امّه «آمنة» بعد عودته من فتح مكّة ورجوعه الى المدينة. فجلسَ عند رأسها، وبعد استذكار تضحياتها ومشاقّها، لم يتمالك نفسه، وشرعَ بالبكاء حتى تأثر أصحابه وشاركوه بالبكاء والنحيب.

وقد لاحظ الصحابة جميعهم يومئذ أحاسيسه وعواطفه تجاه امّه في ذلك المشهد المُعَبِّر والمؤثّر، ومدى احترامه وتقديره لها ولجهودها التي بذلتها في سبيله. وما كان لمشهد مؤثّر وحسّاس كهذا أن يُنسى بالسهولة التي يشتبهها البعض خصوصاً في ظروف كتلك التي هيّأت له هذا الأمر وبحضور آلاف مؤلّفة من المسلمين وقتئذ من الذين يُرافقونه في هذه الرّحلة، ولم تكن حادثة عابرة يمكن للتأريخ أن يطويصفحتها دون وضع بصمات لها على الصفحات التالية. إلّاأننا نرى، مع الأسف الشديد، تدخل أيدٍ ماهرة تمكّنت من تحريف الواقعة والتصرّف فيها خدمةً لأغراضهم الشخصية، تماماً كما حصل لحادثة «الغدير» وهي أشهر من نار على علم، عندما اجتهدوا فيما تعنيه كلمة «مولى» المذكورة في تلك الحادثة، وادّعوا قائلين: إنَّ مسألة زيارة النبيّصلى الله عليه و آله قبرَ امّه وبكاءه عندها وإبكاءَصحابته كذلك لا غُبار عليها، إلّا أن تصرف الرسولصلى الله عليه و آله هذا لم يكن دليلًا على إيمان امّه. أو شاهداً على أنها كانت مُوحّدة، والدليل على ذلك أنَّ النبيّصلى الله عليه و آله ذكر عبارة بعد هذه الحادثة مباشرة دلَّت دلالة واضحة على شرك امّه وكفرها وهو ما يؤيّده الحديث التالي (بزعمهم):

«عن أبي هريرة قال: زار النبيّصلى الله عليه و آله قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله، فقال استأذنتُ ربّي في أن استغفر لها، فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِنَ لي، فزوروا القبور فإنّها تذكّر الموتَ».

وقد وردَ هذا الحديث المنقول عن أبي هريرة فيصحيح مُسلم (2) وسنن


1- 1صحيح مسلم، ج 1، كتاب الإيمان، باب «بيان أنَّ من مات على الكفر فهو في النار»؛ سُنن ابن ماجة، الحديث 1572؛ سُنن أبي داود، 2: 532.
2- 2صحيح مسلم: ج 1، كتاب الإيمان، باب «من مات على الكفر فهو في النار».

ص: 76

النسائي (1) وابن ماجة (2) وأبي داود (3) وتأريخ المدينة لابن شَبَّة (4) واستدلَّ أصحابُ السُنن الثلاثة المذكورة بمضمون الحديث على جواز زيارة قبور المشركين، وأفردوا لهذا الحديث باباً خاصاً في سُننهم تحت عنوان: «جواز زيارة قبر المشرك».

الحديث المذكور يُناقض القرآن:

لسنا فيصدد الجواب عن هذا التحريف الوارد بشكل حديث، إلّاأننا لا نرى مفرّاً من التنويه الى ثلاث نقاط مهمة:

1- يتنافى هذا الحديث ومضمون الآية الشريفة: ولا تصلّ على أحد منهم ماتَ أبداً ولا تَقمُ على قبره إنّهم كفروا باللَّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون (5)

.

فهذه الآية كما نلاحظ لا تمنع المسلم من الدّعاء والصلاة على قبر المشرك أو المنافق فحسب، بل إنّها تحرّض بل وتنهى المسلمين كافة حتى من مجرّد الوقوف على قبورهم؛ لأنّهم استبطنوا الكفرَ باللَّه ورسوله، ولو كان المنافق كما هو معهود عنه يمتلك خصلة سيئة واحدة تتمثّل بكفره الباطنيّ وحقده الدفين في قلبه، فإنَّ للمشرك خصلتين أسوأَ من تلك؛ لأنّ المشركين كافرون باطناً وظاهراً، ويلهجون بالكفر بألسنتهم وقلوبهم، وينكرون اللَّه ورسوله ويكفرون بهما؛ لذا كان من الطبيعي أن يكون ذلك النّهي أشد في المشركين منه في المنافقين، وعدم الدعاء أو الوقوف عند قبورهم، لا كما أدّعى ناقلو الحديث أنَّ الدعاء والوقوف عند قبر المنافق ممنوع، وأنّه يجوز مقابل ذلك الوقوف عند قبور المشركين دون الدعاء لهم.

2- إذا كان الحديث الذي نقله أبو هريرة يدلَّ على عدم رضا اللَّه عن آمنة، ومنع رسولهصلى الله عليه و آله من الاستغفار لها، فإنّ لدينا في مقابل ذلك حديثاً آخر نقله لنا الصحابيّ الجليل عبداللَّه بن مسعود أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لما وصلَ قبر أُمّه قال: «هذا قبر آمنة، دلَّني جبرائيل عليه» (6)، ولا شكَّ في أنَّ حديث الرسولصلى الله عليه و آله الذي نقله عبداللَّه بن مسعود يُشير بكلّ وضوح وجلاء الى عِظَم شخصية آمنة وقداستها حين


1- 1 ج 4، كتاب الجنائز، باب «زيارة قبر المشرك».
2- 2 المصدر السابق، ج 1، باب «ما جاء في زيارة قبور المشركين».
3- 3 2: 159.
4- 4 1:ص 118.
5- 5 التوبة: 84.
6- 6 عن عبداللَّه بن مسعود قال: كنّا نمشي مع النبيصلى الله عليه و آله ذات يوم إذ مرّ بقبر فقال: أتدرون قبرُ من هذا؟ قلنا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: قبر آمنة، دَلّني عليه جبريل. تاريخ المدينة لابن شبّة 1: 117.

ص: 77

يكون جبرائيل نفسه هو الذي دلّ الرسولصلى الله عليه و آله على قبرها.

3- والنقطة الأخيرة هي أنَّ حديث أبي هريرة غير مقبول حتى عند بعض المحقّقين من علماء أهل السّنة أنفسهم؛ وذلك لصريح مخالفته لنصِّ القرآن ومنافاته له، وكما ذكرنا فإنَّ علماء بارزين كالفخر الرازي والسيوطي أهملوا حتى الإشارة الى هذا الحديث، واعتقدوا بإيمان والدي الرسولصلى الله عليه و آله وأنّهما كانا موحّدين تماماً كما هو الحال مع علماء الشيعة، وقاموا بتأليف عدة كُتب في هذا المضمار.

مسجد دار النابغة (أو ضريح والد الرسولصلى الله عليه و آله):

إنَّ التحريف والتصرُّف اللذين طرأ كلّ منهما على حادثة زيارة الرسولصلى الله عليه و آله قبر أُمّه واللذين بيّنا الهدف من ورائهما وكيفية تلفيقهما، طالا كذلك قصة قبر وضريح عبداللَّه بن عبدالمطّلب والد الرسولصلى الله عليه و آله وزيارة النبيّصلى الله عليه و آله لذلك القبر وصلاته عنده كما سنرى ذلك، ولن يتسنّى لنا الوقوف على إشكالات هذه المسألة إلّابعد تعرّفنا على تاريخ «دار النّابغة» وهو مكان دفنِ والد الرسولصلى الله عليه و آله والتحوّلات التي حدثت على ذلك المكان على مرّ التأريخ:

موجز تأريخ دار النّابغة:

كان دار النابغة بيتاً يقع بين بيوت قبيلة بني النّجار في المدينة في الطرف الغربي لمسجد النبيّصلى الله عليه و آله، وكانت تلك الدار لشخص من القبيلة نفسها يُدعى «النابغة». وقد نزل عبداللَّه في المدينة عند هذه القبيلة أثناء رجوعه من رحلة الى الشام؛ لما كانت تربط بين آمنة زوج عبداللَّه وبني النجار من وشائج وروابط عائلية. وحدث أن مرض عبداللَّه عندهم فتوفي إثر ذلك، فووريَ جسده الطاهر الثرى في تلك الدار كما كان متعارفاً في ذلك الزمان.

وقد سافر النبيّصلى الله عليه و آله مع والدته وهو في سنّ السادسة لزيارة أهلها وقومها من بني النجار في المدينة، فنزلا عندهم كما فعل أبوه عبداللَّه من قبل، وأقاما في نفس الدار شهراً كاملًا. وقد قال الرسولصلى الله عليه و آله أثناء هجرته الى المدينة وخلال إحيائه لتلك الذكريات التي مرّت في طفولته: «قبر أبي عبداللَّه

ص: 78

داخل هذه الدار كذلك».

وبسبب زيارة النبيصلى الله عليه و آله لتلك الدار في الهجرة، وصلاته عند قبر والده في بعض الأحيان، دُعيت تلك الدار ب «مسجد دار النابغة» أيضاً.

وكان مؤرخو المدينة يذكرون كلتا التّسميتين لدار النابغة حتى القرن الثالث الهجري، وقد أشاروا مراراً الى أن تلك الدار هي محل دَفن عبداللَّه، وهي كذلك المسماة ب «مسجد دار النابغة». لكنّ الكُتّاب والمؤرخين، وبعد فترة وجيزة من ذلك التأريخ، وخدمةً للمصالح الشخصية والنوايا السياسية كما نوّهنا آنفاً، أودعوا قبر عبداللَّه في دار النابغة عالَم النسيان، وجاهدوا في طيّ تلك الصفحة من التأريخ تماماً كما فعلوا مع قبر امّ الرسولصلى الله عليه و آله وزيارة النبيّصلى الله عليه و آله له، بل حاولوا جاهدين كتم أمر دَفن عبداللَّه في ذلك المكان ومنع التحدّث عن ذلك أصلًا! حتى غَدَت دار النابغة عند الكثيرين مجرّد مسجد لا غير.

وقد دام هذا الوضع حتى القرن العاشر تقريباً حيث احدِث بناءٌ جديدٌ لدار النابغة، وتمّ نصب الضريح على القبر وبناء محراب بالقرب من ذلك الضريح، فتمّ بذلك حفظ السّمات المهمة في تلك الدار وأعني القبر والمسجد اللذين تضمّهما تلك الدار.

ولقد كان معظم الزائرين، الذين لم تكن لديهم معلومات كافية عن وجود المسجد في تلك البقعة، يعتقدون أنّ هذه الدار إنّما هي مكان دَفن عبداللَّه بن عبدالمطلب والد الرسولصلى الله عليه و آله لا كونها مسجداً كذلك. ويسود الاعتقاد أنَّ السبب الرئيس الكامن وراء الحفاظ على هذه البقعة من قِبَلِ المسؤولين حتى عام (1976 م) بالرغم من كونهم قد هدّموا تقريباً جميع الأماكن الأثرية والدينية في المدينة وسائر مُدن الحجاز قبل سبعين سنة من ذلك التأريخ وساووها بالأرض، هو كون تلك الدار تحمل عنوان المسجد، لا بسبب وجود قبر عبداللَّه والد الرسولصلى الله عليه و آله الذي يعدُّ كافراً ومشركاً!

دار النابغة مكان دَفن عبداللَّه:

يقول الواقدي (توفي 230 ه) عن عبداللَّه بن عبدالمطلب ووفاته في المدينة ما يلي:

ص: 79

«ودُفِنَ في دار النابغة، وهو رجلٌ من بني عديّ بن النّجار...» (1).

وقال ابن شبّة (توفي 262 ه) أيضاً:

«قبر عبداللَّه بن عبدالمطّلب في دار النابغة» (2).

ونقل ابن شبة كذلك عن كتاب «تاريخ المدينة» لعبدالعزيز الذي كان معاصراً لسنة (95 ه) قوله: «أنّه عُرِّف ودُلَّ على المكان الدقيق لقبر عبداللَّه والذي يقع في مستهل الدخول الى دار النابغة على يسار الداخل إليها» (3).

وقال الطبري (توفي 310 ه):

«ودفِنَ في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك ليس بين أصحابنا في ذلك اختلاف» (4).

وتجدر الإشارة الى أن نظريات وأقوال المؤرخين، وبالأخصّ منهم الذين كتبوا عن تأريخ المدينة حول هذا الموضوع كثيرة ومُسهبة يطول شرحها ونقلها هنا.

مسجد دار النابغة:

نقل ابن شبّة من خلال عدّة روايات أنَّ من بين الأماكن والبقاع، التي زارها النبيّصلى الله عليه و آله وصلّى فيها هي دار النابغة (5).

ويدلّ تعدّد هذه الروايات على أنَّ الرسولصلى الله عليه و آله كان يكرّر من زياراته لتلك الأماكن والصلاة فيها، ونستوحي من ظاهر تلك الروايات أنَّ كلّ راوٍ للرّواية إنّما قام بتدوين ما شاهده هو بعينه، وشرع في نقل ذلك عِبرَ سطور مُؤَلَّفِه، ويُستَبْعَد كونهم عاصروا بعضهم بعضاً في فترة زمنية واحدة، وأنهم شاهدوا الرسولصلى الله عليه و آله يُصلي تلك الصلاة مرة واحدة فقط، ثم يقومون بنقل ذلك من خلال عدّة روايات لهم.

وقد أشارَ السمهودي (من علماء أوائل القرن العاشر الهجري) الى مسجد النابغة هذا ضمن بيانه وعدِّه لمساجد المدينة آنئذٍ، ثم ينقل كلام ابن شبّة (6) السابق مضيفاً عليه نقطتين اخريين:

أ- ودار النابغة هي المرادة بما رواه ابن شبّة. قبر عبداللَّه بن عبدالمطلب يعني والد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في دار النابغة.

ب- أنّ داره كانت غرب المسجد النبويّ عند بني جديلة (7).

وقداتّبع مؤلف كتاب «عمدة الأخبار» وكان معاصراً لابن شبّة نفس أُسلوبه،


1- 1 الطبقات 1:ص 61، ق 1.
2- 2 تاريخ المدينة لابن شبّة 1: 116- 117.
3- 3 المصدر السابق.
4- 4 تاريخ الطبري، طبعة لندن 2: 76.
5- 5 الطبقات 1: 73، ق 1.
6- 6 وفاء الوفاء 3: 867.
7- 7 تأريخ المدينة 3: 867.

ص: 80

فبعد تعريفه لمسجد النابغة قام بنقل كلام ابن شبّة، الذي ذكر فيه أنَّ دار النابغة تضم كذلك قبر عبداللَّه كما أشرنا (1).

إلّا أنَّ أيّاً من مُؤرخَي المدينة هذين، وبعض آخر من الكُتّاب في القرون المختلفة، لم يتطرّق الى مسألة قبر عبداللَّه على أنّها موضوع مُستقلّ.

إنَّ ما يُمكن الوصول إليه من خلال تلك الأقوال والآراء هو أنَّ الرسولصلى الله عليه و آله بعد هجرته من مكة الى المدينة، ومع مشاغله الكثيرة ومهامّه الصعبة لم يَنْسَ دار النابغة على أنها قبر والده عبداللَّه أبداً، وكان إضافة الى ذلك ينوّه بين الفينة والفينة إلى أهمية هذا المكان وتأريخ القبر وما الى ذلك، وكان غالباً ما يُصلّي عند ذلك القبر، وهي حقيقة اعترف بها مؤرخو القرون الأولى للهجرة، إلّاأنَّ الاتجاه نحو كون هذا المكان مسجداً غَلَبَ علىصفة تلك الدار باعتبارها مرقداً أو ضريحاً، وهو تحريف لحقائق تأريخية سواءٌ أكان مقصوداً أو غير مقصود.

بناء مكان قبر عبداللَّه وتخريبه:

ليس واضحاً لدينا ما إذا كان البناء الذي يضمّ قبر عبداللَّه ومسجد النابغة قبل القرن العاشر بهذا الشكل الذي نراه اليوم أم لا. إلّاأنَّ الفترة التي تلت ذلك التأريخ كشفت عن بناء مهيب وراقٍ نسبياً على قبر عبداللَّه، قام به بعض السلاطين العثمانيين، ثم بنوا ضريحاً عليه وأقاموا عنده محراباً؛ لكي يتمّ بذلك الحفاظ على كلا عنواني المكان باعتباره مقبرة ومسجداً. وكانت تلك البقعة الطاهرة ملاذاً وموئلًا للزائرين وموضع تقدير كتّاب تلك الفترة، الذين تطرقوا الى ذكر تفاصيلها.

ومع تهديم وتخريب كافة البقاع والأماكن داخل وخارج البقيع، إلّاأنَّ مقبرة عبداللَّه ظلّتصامدة حتى عام (1976) حيث قاموا بَسدّ الباب الداخل الى المقبرة بالصخر والآجر، ولم يكن هناك سبيل للدخول إليها.

وقد قمتُ مع جمع من الزائرين بزيارة تلك البقعة الشريفة، الواقعة داخل زقاق ضيق، وكان ذلك عام (1975) أثناء تأدية مناسك حجّ التمتّع، وقد تمّت تلك الزيارة من خارج بابها، وعند تشرّفي بالعمرة بعد عدة شهور


1- 1 عمدة الأخبار في مدينة المختار:ص 194.

ص: 81

من تلك الزيارة لاحظت عملية هدم تلك البقعة والبيوت والسوق، التي كانت حولها بحجّة توسيع المسجد والساحات التي حوله، فضُمَّت تلك الدار الى الساحة الكبيرة، عند الجهة الغربية للمسجد، فَتمَّ بذلك إزالة دار النابغة تماماً، والتي كانت تضمّ قبر عبداللَّه بن عبدالمطلب والمسجد الذي فيها بعدصمودها أربعة عشر قرناً.

مكان دَفن عبداللَّه قبل التخريب:

كما أشرنا سابقاً فقد تحدّث مؤرخو المدينة والكتّاب في القرون الأخيرة- كما كان شأن المؤرخين في القرون الأولى- عن مكان دفن عبداللَّه، سواءٌ أكان ذلك الحديث طويلًا مُسهباً أو قصيراً موجزاً. ومن جملة اولئك علي حافظ وهو كاتب من أهل المدينة، حيث كتب في ذيل كتابه الموسوم ب «قبر والد النبيّصلى الله عليه و آله» يقول:

«ودُفِنَ في المدينة المنوّرة وقبره معروف لدى أهل المدينة بزقاق الطّوال» (1).

وكتب إبراهيم رفعت باشا المصريّ يقول: «من الأضرحة التي في خارج البقيع، ضريحٌ لعبداللَّه بن عبدالمطلب والد النبيّ وهو بداخل المدينة» (2).

وأشار الكتّاب الفرس كذلك الى مَدفن عبداللَّه باعتباره بقعة طاهرة من بقاع المدينة، من أمثال: فرهاد ميرزا (3)، ونائب الصدر الشيرازي (4) والسيد إسماعيل المرندي (5) وعدد آخر من كُتّاب الرحلات.

وعند تشرُّف حسام السلطنة بزيارة مكة عام (1297 ه) كتب قائلًا:

«خرجتُ من منزلي في يوم الاثنين العاشر من محرّم قاصداً زيارة مقبرة جناب عبداللَّه والد الرسولصلى الله عليه و آله وكذلك زيارة أئمة البقيع عليهم السلام، وتقع مقبرة ذلك الرجل العظيم في سوق الطوال على يسار الزقاق، وتحتوي المقبرة المذكورة على فناءصغير يُقابله إيوان. وتقع باب المقبرة في يسار فضاء الإيوان. كانت الباب مُغلقة، وانتظرنا مدة من الوقت حتى تمَّ إحضار السادن، ففتح الباب ودخلتُ البقعة وبدأنا بأداء مراسم الزيارة، وتحتوي المقبرة على ضريح من الخشب، وتُحيط بمضجعه الشريف قماشة وردية مُطرّزة، قامت بخياطتها


1- 1 فصول من تأريخ المدينة، الطبعة الثانية:ص 171.
2- 2 مرآة الحرمين 1: 427.
3- 3 الرحلات:ص 152.
4- 4 الرحلات:ص 232.
5- 5 وَصف المدينة، مجلة ميقات الحج، العدد 5:ص 117.

ص: 82

والدة السلطان عبدالمجيد خان في عهد السلطان عبدالعزيز خان، وقدصلّينا ركعتين في محراب المرقد. توجد كُوّة في الجهة اليُسرى للمحراب تُفتَح على الجُنينة، بعد ذلك خرجنا من هناك مُتّجهين نحو البقيع» (1).

هذا ما كان من بحث الخلفية التأريخية ل «دار النابغة» من وُجهتيها الُمختلفتَين، ويمكن الاستنباط من وُجهتها الثانية، أي مسألة إقامة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الصلاة في تلك الدار وعند قبر أبيه العظيم، أنها غير منفصلة عن وُجهتها الأولى، وهي وجود قبر أبيهصلى الله عليه و آله هناك حتى إنّهصلى الله عليه و آله كان يزور قبر والدته في حلّه وترحاله، ويبكي عنده بُحرقة وألم، فيُبكي أصحابه وخِلّانه، وكان كذلك يُقيم الصلاة عند قبر أبيه على روحه ويدعو له ويُناجيه، سيّما إذا علمنا أنَّ قبر أبيه كان في المدينة وبالقرب منه وفي متناول يده حتى دُعِيَ ذلك المكان ب «مسجد دار النّابغة» وعُرِف واشتُهر به.

الهوامش:


1- 1 يوميات مكّة لحسام السلطنة:ص 148.

ص: 83

الشطر

ص: 84

الشطر

حسن محمد

وردت كلمة (شطر) في كتاب اللَّه الكريم خمس مرّات في الآيات الثلاث التالية:

... فلنولينكَ قبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره... (1)

.

ومن حيثُ خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام (2)

.

ومن حيثُ خرجتَ فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره... (3)

.

بعيداً عن ذكر أهمية وخطورة موضوع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى حيث الكعبة المباركة، وبعيداً أيضاً عن آثار هذا التحول وما تركه من تساؤلات- كانت تنميها أيادي اليهود الخبيثة وأعداء الإسلام- في الساحة الإسلامية، وبعيداً عن الجهود العظيمة، التي بذلها رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله والمخلصون الواعون من أصحابه، للردّ على كلّ الشبهات الخطيرة، التي كانت تبث هنا وهناك من قبل سفهاء الناس


1- 1 البقرة: 144.
2- 2 البقرة: 149- 150.
3- 3 البقرة: 149- 150.

ص: 85

تحت عنوان ما وَلّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها... (1)

.

وكانت السماء تواكب جهود رسول اللَّه وتصديه، وتمدّه بما يحتاجه من قوة وعزم وثبات، وهو يقود حركة خطيرة جدّاً ضد مؤامرة خطيرة جدّاً يقودها أعداؤه من كلّ الأطراف، حتى إنّها أربكت المجتمع المسلم وقتها، وراحت السماء تصور لنا واقع تلك الفترة والانقلاب الذي كاد أن ينخر أو يطيح بالواقع والمجتمع المسلم ووحدته وقدرته، وراحت أيضاً ترسل إجاباتها بقوة:... قل للَّه المشرق والمغرب يهدي مَنْ يشاء إلىصراط مستقيم (2)

.

... وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلّالنعلمَ من يتبعُ الرسولَ ممّن ينقلبُ على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلّاعلى الذين هدى اللَّهُ... (3)

.

... وإنّ الذين أُوتوا الكتابَ ليعلمونَ أنّه الحقّ من ربّهم... (4)

وتختم هذا الصراع آية اخرى بل نتيجة هذا الصراع والنقاش الحاد: ولئن أتيتَ (يا رسول اللَّه) الذين أوتوا الكتابَ بكلّ آية ما تبِعوا قبلَتك وما أنت بتابعٍ قبلتَهم وما بعضُهم بتابعٍ قبلةَ بعض ولئن اتبعتَ أهواءَهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين (5)

.

الذين آتيناهم الكتابَ يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون (6)

على القول بأن الضمير في يعرفونه يعود الى أمر القبلة أي يعرفون أمر القبلة حقّ وهو ما ورد عن ابن عباس (7).

مقالتنا هذه ابتعدت عن كلّ تلك التفاصيل؛ لتكتفي بالجانب الفقهي من موضوع القبلة، الذي يتجلّى في كلمة (شطر) وإن تطرقت قليلًا إلى الجانب اللغوي والجانب التفسيري فلضرورة البحث.

الشَّطْر لغةً: شطرُ الشي ء: نصفه، وجمعه أشطر. وشاطره مالَه: إذا ناصفه، ومن ذلك قولهم: «شاطرتك مالي»، فهو جزء الشي ء ونصفه ومنه: «مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة فعليه..». «السواك شطر الوضوء» للمبالغة في استعماله،


1- 1 البقرة: 142.
2- 2 البقرة: 142.
3- 3 البقرة: 143.
4- 4 البقرة: 144.
5- 5 البقرة: 145.
6- 6 البقرة: 146.
7- 7 مجمع البيان 1/ 423.

ص: 86

والشطر: الجهة والناحية ومنه قصدتُ شطره أي نحوه. والقصد، ومنه «شطر شطره» أي قصد قصده، ومنه قولهم: «خذ شطر زيد» أي قصده، ومنه: فولّ وجهك شطر المسجد... أي جهته وتلقاءَه ونحوه وهو ما عليه أكثر المفسّرين.

فالشطر إذن يأتي بمعانٍ منها النصف ومنها الجزء ومنها القصد والجهة والناحية...

وهذه كلّها خاصة الجهة والتلقاء عند أكثرهم، وردت في تفسير كلمة الشطر في الآيات الكريمة.

وقد ذكرصاحب الدرّ المصون وغيره أشعاراً تدل على أنها بمعنى نحو وتلقاء.

ألا مَنْ مبلغٌ عني رسولًا وما تغني الرسالةُ شطر عمرِو

أقول لأمِّ زنباعٍ أقيمي صدورَ العيس شطرَ بني تميمِ

وقد أظلَّكم من شطر ثغرِكم هولٌ له ظُلَمٌ يغشاكم قِطعاً

تعدو بنا شطرَ نجدٍ وهي عاقدةٌ قد كارب العقدُ من إيقادها الحُقبا

إنّ العسيرَ بها داءٌ مُخامرها وشطرها نظرُ العينين محسورُ كلّ ذلك بمعنى نحو وتِلقاء(1).

وفي مجمع البيان:... وشطر المسجد الحرام أي نحوه وتلقاءه...

وذكر قولًا للزجاج: هؤلاء القوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا كما يقال: هؤلاء يناحوننا أي نحن نحوهم وهم نحونا. وذكر قولًا لصاحب العين: شطر كلّ شي ء نصفه، وشطره نحوه وقصده، ومنه المثل: احلب حلباً لك شطره أي نصفه (2)..

كما أنّ القرطبي يقول: الشطر له محامل: يكون الناحية والجهة كما في آية:

شطر المسجد الحرام وهو ظرف مكان كما تقول: تلقاءه وجهته.. كما يذكر أنّ شطر المسجد: نصفه ومن الحديث «الطهور شطر الإيمان»... وابن العربي الذي كثيراً ما يستفيد القرطبي من آرائه يقول: الشطر في اللغة يقال على النصف من


1- 1 انظر الدر المصون 2: 161- 162 للسمين الحلبي. وانظر التبيان للطوسي 2: 14، والتفسير الكبير للرازي 3: 126، ومجمع البحرين كلمة شطر.
2- 2 مجمع البيان [اللغة] الآية 144 من سورة البقرة: 418، وانظر التبيان للطوسي 3: 14- 15.

ص: 87

الشي ء ويقال على القصد... (1) إعراب الشطر:

جاء في إعرابها وجهان:

1- ظرف مكان: حينما نأخذ بقول: إنّ الفعل «ولّى» يتعدى لمفعول واحد.

2- مفعول به ثان: إذا أخذنا بقول: إن الفعل «ولّى» يتعدى لاثنين (لمفعولين) «وجهك» «شطر».

القراءة:

ذكرت قراءات ثلاث لكلمة شطر في الآيات المذكورة:

فقد قرأ كلّ من:

عبداللَّه بن مسعود، وأبي بن كعب... شطر المسجد... تلقاءَ المسجد الحرام.

كما قرأ كلّ من:

عبداللَّه بن مسعود، وابن أبي عبلة... شطره... تلقاءَه قال داود بن أبي هند: إنّ في حرف ابن مسعود: فولِّ وجهَك تلقاءَ المسجد الحرام (2)..

مع المفسّرين:

نذكر آراء أو أقوال بعض المفسّرين في خصوص كلمة شطر، وإن كانت آراؤهم غير بعيدة أو مختلفة عمّا ذكر في لغتها إلّاقليلًا.

ففي مجمع البيان: فول وجهك شطر المسجد الحرام أي حوّل نفسك نحو المسجد الحرام؛ لأن وجه الشي ء نفسه. وقيل: إنما ذكر الوجه؛ لأنه به يظهر التوجّه. وقال أبو علي الجبائي أراد بالشطر النصف، فأمره اللَّه تعالى بالتوجه إلى نصف المسجد الحرام حتى يكون مقابل الكعبة.

يقول الشيخ الطبرسي عن الرأي الأخير هذا: وهذا خطأ؛ لأنه خلاف أقوال المفسّرين (3).


1- 1 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي 2: 159، وأحكام القرآن لابن العربي 1: 64.
2- 2 انظر معجم القراءات القرآنية 1: 124، الآية 144 من سورة البقرة، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2: 159، وكنز العرفان 1: 84 وغيرها.
3- 3 معجم البيان للطبرسي 1: 420.

ص: 88

وفي التبيان للطوسي: وقوله شطر المسجد أي نحوه وتلقاه، بلا خلاف بين أهل اللغة، وعليه المفسّرون كابن عباس، ومجاهد، وأبي العالية، وقتادة والربيع، وابن زيد، وغيرهم..

وقال الجبائي والكلام ما زال للشيخ الطوسي: أراد بالشطر النصف، كأنه قال: وجهك نصف المسجد؛ لأن شطر الشي ء: نصفه، فأمره أن يولي وجهه نحو نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة. وعن هذا الرأي يقول الشيخ الطوسي:

وهذا فاسد؛ لأنه خلاف أقوال المفسّرين، ولأن اللفظ إذا كان مشتركاً بين النصف وبين النحو ينبغي ألا يحمل على أحدهما إلّابدليل، وعلى ما قلناه إجماع المفسّرين (1)...

صحيح أن أهل اللغة قالوا: إنّ الشطر من معانيه النصف، لكنهم لم يجعلوه أحد معاني الشطر في الآية ولم يفسروه به، حيث لم نعثر- فيما تيسر لنا- على من يقول: إنّ المقصود ب شطر المسجد أي نصف المسجد، إلا الجبائي وتبعه القاضي، وأيضاً الشعراوي كما سيأتي.

يقول الراغب في مفرداته: شطر الشي ء: نصفه ووسطه، ثم قال: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام أي جهته ونحوه.. (2) وفي تفسير الآية قال الرازي في تفسيره الكبير:

فول وجهك شطر المسجد الحرام ففيه مسائل..

المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الشطر: اسم مشترك يقع على معنيين:

أحدهما: النصف. يقال: شطرت الشي ء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل:

احلب حلباً لك شطره. أي نصفه.

والثاني: نحوه وتلقاءه وجهته..

ثم يقول: إن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاؤه وجانبه.. وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين واختيار الشافعي في كتاب الرسالة.


1- 1 التبيان للطوسي 2: 14- 15. فقه القرآن لعبد اللَّه الراوندي- القبلة 2: 480- سلسلة الينابيع الفقهية.
2- 2 المفردات للراغب الأصفهاني:ص 267.

ص: 89

وهذا هو القول الأول.

أما القول الثاني: وهو قول الجبائي واختيار القاضي: إن المراد من الشطر ههنا: وسط المسجد ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف، والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب، فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة، وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد: حسن منه تعالى أن يقول: فول وجهك شطر المسجد الحرام يعني النصف من كلّ جهة، وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة، قال القاضي: ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان:

الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد، ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة، لا تصحصلاتُه.

الثاني: أنا لو فسّرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنّك إذا قلتَ: فول وجهك المسجد الحرام، فقد حصلت الفائدة المطلوبة، أما لو فسّرنا الشطر بما ذكرناه، كان لذكره فائدة زائدة، فإنه لو قيل: فول وجهك المسجدَ الحرام، لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه، الذي هو موضع الكعبة، فلما قيل:

فول وجهك شطر المسجد الحرام حصلت هذه الفائدة الزائدة، فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى.

فإن قيل: لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة، وهي أنه لو قال: فول وجهك المسجد الحرام. لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأن مَن كان في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أنه يولي وجهه المسجد، أما إذا قال: فولّ وجهك شطر المسجد الحرام أي جانب المسجد، دخل فيه الحاضرون والغائبون.

قلنا: هذه الفائدة مستفادة من قوله: وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره فلا يبقى لقوله: شطر المسجد الحرام زيادة فائدة.

وهذا تقرير هذا الوجه. وفيه إشكال؛ لأنه يصير التقدير: فول وجهك نصف

ص: 90

المسجد، وهذا بعيد؛ لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف، وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف، والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني، إلّاأن اللفظ لا يدل عليه انتهى ما ذكره الرازي (1).

بينما ذهب الشعراوي في تفسيره إلى كلا المعنيين للشطر (الجهة، النصف)، حيث يقول في تفسير ما ذهب إليه: لأنه حين يوجد الإنسان في مكان يصبح مركزاً لدائرة ينتهي بشي ء اسمه الأفق وهو مدى البصر... وما يخيل اليك عنده أن السماء انطبقت على الأرض. ثم يواصل كلامه فيقول: إن كلّ إنسان منا له دائرة على حسب نظره، فإذا ارتفع الإنسان تتسع الدائرة... وإذا كان بصره ضعيفاً يكون أفقه أقل، ويكون هو في وسط دائرة نصفها أمامه ونصفها خلفه. إذن الذي يقول:

الشطر هو النصفصحيح، والذي يقول: إن الشطر هو الجهةصحيح (2).

أما السيد السبزواري فيقول في تفسيره لقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام: الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشي ء، أي النصف والجزء، ومنه الحديث: «السواك شطر الوضوء»، وقوله عليه السلام: «مَن أعان على مؤمن ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة اللَّه».

والمراد به هنا النحو والجهة، ولم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم إلّافي تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. وإنما ذكر المسجد الحرام؛ لتوسعة الأمر، وأن الاستقبال إليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدّسة، وإلّا فإن القبلة هي الكعبة؛ لنصوص متواترة بين الفريقين (3)..

وقالصاحب كنز العرفان: والشطر هو النحو والجهة قاله الجوهري وأنشد:

أقول لأمِّ زنباع أقيمي وجوه العيس شطر بني تميمِ (4) فقه الآية:

بعد أن عرفنا أن المراد من كلمة (الشطر) لغةً وتفسيراً هو الجهة أو الناحية


1- 1 التفسير الكبير للرازي 4: 126- 127، والتحرير والتقريب لابن عاشور 2: 28.
2- 2 تفسير الشعراوي 1: 631.
3- 3 مواهب الرحمن 2: 113.
4- 4 كنز العرفان 1: 84.

ص: 91

على أصحّ الأقوال أو القصد أو النصف على قولٍ لا يخلو من ضعف فقد يمكننا أن نقول: إن هذه الكلمة مع ما أضيف إليها شطر المسجد الحرام شطره تشكل لنا القبلة بدليل الآية نفسها:.. فلنولينك قبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام.. فالقبلة التي يرتضيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وبالتالي فالقبلة تساوي شطر المسجد، وشطر المسجد يساوي القبلة، التي وإن اختلف المراد منها على أقوال إلّاأن الصحيح وعليه العمل أن القبلة هي الكعبة حقيقة، وبكلام أكثر دقة هي المكان الواقع فيه البيت (الكعبة) الممتد من تخوم الأرض الى عنان السماء، ولكن نظراً للإحراج الذي يتركه التكليف باستقبال الكعبة عيناً للبعيد عنها وهو- قطعاً حرج عظيم وعسر أعظم، ورفعاً لهذا وذاك كان التوجه نحو الجهة، التي تقع فيه الكعبة أمراً مطلوباً ولا سيما أن التكليف باتخاذ الكعبة قبلة يوم كان المسلمون جميعهم فى المدينة وهي البعيدة عن مكة، ويوم كان التوجه أو الاستقبال نحو البيت المقدس، وحكم البعيد جهة الكعبة لا عينها، وهو ما عليه كلّ المفسّرين، ولا يقدح في هذا ما تفرد به أبو علي الجبائي وتبعه القاضي، ولم أجد فيما تيسر لي من تفاسير من اعتني بما ذهب إليه الاثنان، إلّاالشعراوي وقد أوضحنا رأيه، علماً بأنه تكليف يتسم بالعسر وهويتنافى مع الشريعة، التي وصفت بأنها السهلة السمحاء، وأنى لنا من إصابة المسجد نفسه فضلًا عن مركز الكعبة أو نصفها..؟!

ولزيادة الفائدة ننقل هنا ما قاله الراوندي في فقه القرآن- باب الزيادات- مسألة:

«شطر المسجد الحرام» نحوه، وقرأ أبي: تلقاء المسجد الحرام. «وشطر» نصب على الظرف أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام أي في جهته وسمته؛ لأن استقبال عين الكعبة فيه حرج عظيم على البعيد، وذكر المسجد الحرام دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، فعلى هذا، الكعبة قبلة من كان في

ص: 92

المسجد الحرام، والمسجد قبلة من كان في الحرم، والحرم قبلة من نأى من أي جانب كان، وهو شطر المسجد وتلقاؤه، وقراءة أبي «ولكلٍّ قبلةً» إشارة الى ما ذكرناه.

وقوله تعالى: «هو مولّيها» أي هو موليها وجهته، فحذف أحد المفعولين، وقيل: هو اللَّه أي اللَّه مولّيها إياه على أن القراءة العامة يجوز أن يراد بها ذلك أيضاً، ويكون المعنى ولكلٍّ منكم يا أمة محمّد وجهة أي جهة تصلي اليها جنوبية أو شمالية أوشرقية أو غربية، أينما تكونوا يجعلصلاتكم كأنها الى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام (1).

وبعد هذا فقد أستطيع أن أقول: إن الشطر- اصطلاحاً- الذي يعيّن القبلة كما قلنا قد يُراد به أو قد يصدق إطلاقه- تبعاً لاختلاف أماكن المسقبلين بعداً أو قرباً عن الكعبة- على:

(1) جهة المسجد أو ناحيته، كما هو لغةً وتفسيراً.

(2) المسجد الحرام نفسه كما هو الوارد في الآياتصريحاً.

(3) عين الكعبة نفسها، باعتبار أن الخطاب الوارد في آيات القبلة أطلق على الكلِّ المسجد الحرام وأريد به أهم وأقدس أجزائه وهو الكعبة المباركة.

وهذا الأخير فيه تفصيل:

* ما إذا كان المصلي داخل المسجد وقريباً من الكعبة، فيجب عليه التوجه نحوها، فهي قبلة لمن شاهدها أو كان في حكم المشاهد لها كالأعمى..

* عليه بعين الكعبة سواء أكان قريباً أم بعيداً، ولكنّ الفرق بين القريب والبعيد- كما عند بعضهم- هو أن القريب يجب عليه أن يحرز- يقيناً- التوجه نحو عينها. وأما البعيد فإن أمكنه العلم باستقبال عينها لا جهتها تعيّن عليه ذلك، وإلّا يكفيه الظنُّ، وشرطية الظن هذه لم يقبلها المحقق الكركي حيث يقول: «إن البعيد لا يشترط لصحةصلاته ظنّه محاذاة الكعبة؛ لأن ذلك لا يتفق غالباً، فإن البعد الكثير


1- 1 سلسلة الينابيع الفقهية- فقه القرآن للراوندي- 4:ص 531.

ص: 93

يخلّ بظن محاذاة الجرم اللطيف، فيمتنع اشتراطه فى الصلاة» (1).

وبعد أن اتفقت كلمتهم على أن الكعبة- عيناً- قبلة من كان داخل المسجد الحرام، اختلفوا في كون الحرم قبلة مَن بَعُدَ أو نأى على قولين كما في التقسيم التالي:

الأول:

عين الكعبة قبلة لمن كان داخل المسجد الحرام وهو محلّ اتفاق بينهم.

المسجد الحرام قبلة لمن كان خارج المسجد الحرام أي في الحرم.

الحرم قبلة لمن كان بعيداً عن الحرم، ولمن نأى عنه.

وهذا التقسيم ذهب إليه جمع من المتقدمين منهم الشيخ المفيد في المقنعة- باب القبلة، والشيخ الطوسي في كتبه، وابن حمزة في الوسيلة، وسلار في المراسم، وابن البراج في مهذبه، وآخرون... وقد استدلوا على مختارهم هذا بروايات:

فعن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى جعل الكعبة قبلةً لأهل المسجد، وجعل المسجد قبلةً لأهل الحرم، وجعل الحرم قبلةً لأهل الدنيا» (2).

وفي رواية: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة للناس جميعاً (3).

وفي أُخرى.. ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه.

وأيضاً النبوي المروي عن الاحتجاج للطبرسي بإسناده الى العسكري عليه السلام في احتجاج النبيّصلى الله عليه و آله على المشركين، قال فيه: «فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه الى الكعبة أطعنا، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان، التي نكون بها فأطعناه، فلم نخرج في شي ء من ذلك عن أمره» (4).

وإن كان هذا النبويصريحاً في المراد أعلاه، إلّاأنّ ظاهره يصلح مؤيداً أيضاً لما ذهب إليه جمع آخر من الفقهاء من أن الحرم لم يذكر قبلةً لمن بَعُدَ عنه، إلّاأن العاملي بعد ذكره لهذه الأحاديث يقول:.. وقد ذكر بعض المحققين أنه لا نزاع هنا ولا اختلاف بين أحاديث هذا (الباب 3 والذي قبله، الباب 2 من أبواب القبلة) (5)


1- 1 جامع المقاصد 2: 48.
2- 2 الوسائل كتاب الصلاة، الباب 3 من أبواب القبلة الحديث 3.
3- 3 الوسائل: كتاب الصلاة، أبواب القبلة، الحديث 2.
4- 4 الوسائل: كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب القبلة، الحديث 14.
5- 5 انظر هذه الأبواب في الوسائل.

ص: 94

لأن جهة المحاذاة مع البعد متسعة، وهذه الأحاديث وما دلّ على أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وما دلّ على استقبال المسجد الحرام من الآية والرواية وغير ذلك كلّه إشارة الى اتساع جهة المحاذاة، وتسهيل الأمر ودفع الوسواس، ويؤيده الاكتفاء شرعاً لأهل إقليم عظيم بعلامة واحدة (1)..

هذا في الروايات، وأما فى أقوال الفقهاء الآخرين فقد قالصاحب الجواهر:.. بأنّ القبلة «هي الكعبة لمن كان في المسجد، والمسجد لمن كان في الحرم، والحرم لمن هو خارج عنه» وإن قال المصنف (صاحب الشرائع) إنه كذلك «على الأظهر» وفاقاً للمبسوط والخلاف والمصباح والجمل والعقود والمحكي عن الإصباح والمهذب والمراسم، بل في المسالك نسبته الى كثير، بل في الذكرى والروضة الى الأكثر، بل في المحكي عن مجمع البيان نسبته الى أصحابنا، بل في الخلاف الإجماع عليه، وربما حكي عن المفيد وأبي المكارم أيضاً، لكن ما وصل إلينا من مقنعة الأول: «القبلة هي الكعبة ثم المسجد قبلة من نأى عنها؛ لأن التوجه اليه توجه إليها. ثم قال بعد أسطر: ومَن كان نائياً عنها خارجاً عن المسجد الحرام توجّه إليها بالتوجه إليه». ومن غنية الثاني: «القبلة هي الكعبة، فمن كان مشاهداً لها وجب عليه التوجّه إليها، ومن شاهد المسجد الحرام ولم يشاهد الكعبة وجب عليه التوجّه إليه، ومن لم يشاهده توجه نحوه بلا خلاف». يقول الشيخ في الجواهر عندما يصل الى هذه النقطة: (وهذا) لا يطابق الحكاية، إذ لم يذكر في شي ء منهما الحرم، بل هما الى القول: بأن الكعبة القبلة عيناً أو جهة أقرب من ذلك قطعاً..

أقول: يبدو أنصاحب الجواهر لم يصل إليه ما كتبه المفيد في باب القبلة كاملًا، حيث يقول فيه بعد ذلك.. وجعل اللَّه تعالى لمن غابت عنه أو غاب عنها التوجّه الى أركانها بحسب اختلافهم في الجهات من الأماكن والاصقاع: فجعل الركن الغربي لأهل المغرب، والركن العراقي لأهل العراق وأهل المشرق، والركن اليماني لأهل اليمن، والركن الشامي لأهل الشام، وتوجه الجميع إنما هو من هذه


1- 1 الوسائل 4: 304- 305.

ص: 95

البلاد الى الحرم وهو عن يمين المتوجه من العراق الى الكعبة أربعة أميال وعن يساره ثمانية أميال (1)..

فما حكي عن المفيد من أن.. الحرم قبلة من نأى.. فحاله حال سلار في مراسمه الذي بعد أن يذكر أن الكعبة لأهل المسجد والمسجد قبلة لمن نأى عنه..

والناس يتوجهون الى الأركان.. يقول: وتوجه الجميع إنما هو في هذه البلاد الى الحرم..

وما ذكره عن الغنية فهوصحيح إذ لم يذكر أنّ الحرم قبلة من نأى عنه.

وقد قال الشيخ في المبسوط: المكلّفون على ثلاثة أقسام، منهم من يلزمه التوجه الى نفس الكعبة، وهو كلّ من كان مشاهداً لها بأن يكون في المسجد الحرام، أو في حكم المشاهد بأن يكون ضريراً، أو يكون بينه وبين الكعبة حائل، أو يكون خارج المسجد بحيث لا تخفى عليه جهة الكعبة... وقال أيضاً: «القبلة على ثلاثة أقسام، فالكعبة قبلة من كان مشاهداً لها أو في حكم المشاهد، والمسجد قبلة من لم يشاهد الكعبة، وشاهده أو غلب في ظنه جهته ممن كان في الحرم، والحرم قبلة من نأى عنه وعن الحرم (2)..

وفي التذكرة: «الكعبة القبلة مع المشاهدة إجماعاً» وعن النهاية: «إجماعنا على ذلك». وفي كنز العرفان: «الإجماع عليه أيضاً».

هذا هو القول الأول: إن الكعبة قبلة لمن كان فى المسجد الحرام، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لأهل الدنيا ممّن نأى عنه.

الثاني:

وهو اختيار كلّ من ابن الجنيد وأبي الصلاح وابن إدريس والسيد المرتضى الذي يقول في ذلك:

القبلة هي الكعبة ويجب التوجّه إليها بعينها إذا أمكنه ذلك بالحضور والقرب، وإن كان بعيداً تحرّى جهتها وصلّى الى ما يغلب على ظنّه أنه جهة الكعبة، وهو


1- 1 سلسلة الينابيع الفقهية 3/ 96- 97، المقنعة في الاصول والفروع للشيخ المفيد.
2- 2 المبسوط في فقه الإمامية للشيخ الطوسي 1: 77- 78

ص: 96

اختيار ابن الجنيد وأبي الصلاح، وابن إدريس، وهو الأقوى عندي (1)..

ويقول ابن إدريس في السرائر: يجب على المصلّي أن يتوجه الى الكعبة، وتكونصلاته إليها إذا أمكنه ذلك، فإن تعذر فإلى جهتها، فإن لم يتمكن من الأمرين تحرّى جهته وصلّى الى ما يغلب على ظنّه بعد الاجتهاد (أنه جهة الكعبة).

ثم يقول: وهذا مذهب السيد وغيره من أصحابنا وهو الذي يقوى في نفسي وبه أفتي (2).

وعبارات هذا الفريق خالية من ذكر الحرم، وأنه قبلة من نأى عنه كما هوصريح أقوال الفريق الأول.

من هذا كلّه يظهر رواية وفتوى ألا خلاف بينهم في كون الكعبة عيناً قبلة من يشاهدها، وهذا لا يتسنى إلّالمن كان قريباً منها بحيث يتمكن من رؤيتها ولمن كان بحكمه.

*** هذا وقدصارت بعض الروايات التي تبيّن: أنّ الكعبة قبلة لمن هو في المسجد، والمسجد قبلة لمن هو في الحرم، والحرم قبلة لمن كان خارج الحرم،صارت هذه الروايات والأقوال التي تبعتها سبباً- عند بعضٍ- للقول: إن الكعبة ليست قبلة الناس جميعاً، وإنما هي فقط لمن كان منهم داخل المسجد لمشاهد الكعبة ومن كان بحكمه كالضرير..

ولا شك في أن هذا القول واضح البطلان؛ لأنه مخالف لضرورة الدين الإسلامي، ولجميع الأدلة والروايات التي منها:

* عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلتُ له: متىصرف رسول اللَّه الى الكعبة؟ قال: بعد رجوعه من بدر.

*... وكان يصلّي في المدينة الى بيت المقدس سبعة عشر شهراً، ثم أعيد الى الكعبة.


1- 1 انظر المختلف 2: 60- 61.
2- 2 السرائر لابن إدريس- باب القبلة..

ص: 97

*... فقلت: أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال: أما إذا كان بمكّة فلا، وأما إذا هاجر الى المدينة فنعم، حتى حوّل الى الكعبة.

*... عن أبي عبداللَّه عليه السلام: إنّ اللَّه بعث جبرئيل الى آدم، فنزل غمام من السماء فأظل مكان البيت، فقال جبرئيل: يا آدم، خطّ برجلك حيث أظلّ الغمام، فإنه قبلة لك ولآخر عقبك من ولدك.

*... قال النبيُّصلى الله عليه و آله: لن يعمل ابن آدم عملًا أعظم عند اللَّه عزّوجلّ من رجل قتل نبيّاً، أو هدم الكعبة التي جعلها اللَّه عزّوجلّ قبلةً لعباده...

* وعند نزول آية تحويل القبلة... ثم أخذ (جبريل) بيد النبيّصلى الله عليه و آله فحوّل وجهه الى الكعبة...

*... في احتجاج النبيّصلى الله عليه و آله على المشركين: قال:... فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه الى الكعبة أطعناه،... (1) فالكعبة هي القبلة كما هو واضح من هذه الروايات...

ولمخالفته لاتفاق فقهاء المسلمين على أن الكعبة قبلة جميع المسلمين إما عيناً لمن كان قريباً منها، وإما جهةً لمن كان بعيداً عنها. ولمخالفة ذلك للأمور البديهية عند المتشرعة والتي يلهج بها لسان كلّ إنسان مسلمصغيراً كان أم كبيراً، عالماً كان أم جاهلًا، ولما تعارف عليه الناس في وصاياهم وفي دفن موتاهم من أن القبلة هي الكعبة وليس غيرها، ولا أظنّ إنساناً ما يقول: إنّ الجهة أو المسجد الحرام قبلتي أو إن الحرم قبلتي على نحو الحقيقة، ولم نسمع بهذا أبداً. بل قد يُسخر ممن يقول مثل ذلك إلّاعلى نحو التجوز بوجود الكعبة فيها.

ومع هذا الاتفاق على أن الكعبة هي القبلة، وقع الخلاف بينهم في المقصود بعين الكعبة، وظهر في ذلك قولان:

الأول: أن القبلة هي بناء الكعبة نفسها بشكلها وجدرانها وأركانها الأربعة، وهي بالتالي القبلة التي يجب علينا التوجه نحوها، ولو أخذنا بهذا القول فلازمه:


1- 1 انظر في هذا كلّه الوسائل 4/ 298- 299 أبواب القبلة.

ص: 98

* عدمصحة التوجه نحو الكعبة، لو فرض انهدام بنائها، وحتى لو قلنا: إنّ البناء إذا انهدم فإنه يعاد ببناء جديد، لأنّ هذا البناء الجديد- قطعاً- غير البناء القديم الذي أمرنا بالتوجه نحوه.

* بطلانصلاة كلّ من أهل البلاد المرتفعة عن المنطقة التي فيها بناء الكعبة؛ لأنّه أي بناء الكعبة أخفض منها، اللهم إلّاأن يؤدي المكلفصلاته منكوساً وهو أمر غير ممكن. وأهل البلاد المنخفضة عن منطقة بناء الكعبة؛ لعدم قدرة المكلف أن يؤديصلاته إلّاأن يصلي مستلقياً على ظهره وهذا كالأول غير متيسر..

وهذه الأمور- وقد يكون هناك غيرها- جعلت الحاجة ماسة الى الأخذ بالقول:

الثاني: أن القبلة هي الكعبة ولا شك في ذلك ولا ريب، ولكن ليس خصوص البناء، الذي يشكّل الكعبة، بل المراد من الكعبة هنا الأوسع والأشمل من البنية نفسها، وهو ما يشكّل الامتداد ما بين السماء والأرض «من تخوم الأرض الى عنان السماء» فالفضاء المذكور هو القبلة، ولئن عبر عنه بالكعبة فالمراد مكانها بامتداده المذكور عمقاً وارتفاعاً.

أما عرضها فهو بين 20- 25 ذراعاً من جهاتها الأربع.

وقد يرد هنا هذا الإشكال: بما أن طول كلّ جدار بين 20- 25 ذراعاً- إذا لم نأخذ بقول من يقول: إنّ حجر إسماعيل كلّه 5/ 16 ذراع أو بعضه من البيت 6- 7 أذرع-، فيلزم من هذا بطلانصلاة بعض المصلين الذين يزيد عددهم على المقدار المذكور..، ومنشأ هذا الإشكال هو الاعتقاد بما يسمى بالمواجهة الدقّية: وهنا لابدّ لنا من الحديث عن موضوعين مهمّين بهما سيندفع هذا الإشكال أو التساؤل:

الأول: الاستقبال العرفي:

إنّ المراد بالقبلة هي الكعبة وإنما ذكرت الآيات المسجد الحرام من باب ذكر العام وإرادة الخاص، ذَكَر المسجدَ الحرام وأراد الكعبة، التي هي أشرف أجزائه،

ص: 99

ولولاها لما كانت للمسجد هذه الأهمية والعظمة والقدسية، فوجوده من وجودها وكرامته من كرامتها، وقدسيته من قدسيتها، وهي بالتالي المرادة من الآيات، وهي القبلة التي أمرنا اللَّه تعالى بالتوجه نحوها، وهي قبلة المسلمين قربوا منها أم بعدوا عنها، وسمّي التوجه نحوها استقبالًا.

وليس اتخاذها قبلة يقصد منه التوجه إليها توجهاً دقيّاً، بحيث لو خرج من موقف المصلي خطٌ مستقيم لانتهى- قطعاً- بالكعبة.

نعم قد يكون هذا- واقعاً ومتيسّراً- لمن كان قريباً من الكعبة؛ ولكنه ليس ممكناً بالنسبة لمن كان بعيداً عنها، الذي تصدق عليه المواجهة العرفية دون المواجهة الدقيّة، فما يراه العرف ويدركه بالنسبة لاستقبال المصلي للكعبة ومواجهته لها يكون كافياً، ولا تشترط تلك الدقة في الاستقبال. يقول السيد السبزواري: (الاستقبال والتوجه الى الشي ء من المبينات العرفية يكفي فيهما الصدق العرفي، إلّاإذا دلّ دليل شرعي على الخلاف، وحيث لم يرد دليل شرعي على تحديد خاص في جميع ما يعتبر فيه الاستقبال، مع أنّ بيان قيود المكلّف به وحدوده على عهدة الشارع، فيتعيّن أن يكون المرجع هو الصدق العرفي فقط، كما في سائر متعلقات التكاليف التي لم يرد في تحديدها حدّ شرعي، ثم يستدل على قوله بتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين من الظهر الى الكعبة، فبهذا أدوا هذه الصلاة الى القبلتين..

فيقول: فإن توجه المصلين في أثناءصلاتهم الى القبلة بفطرتهم، وتقرير النبيصلى الله عليه و آله لهم يكشف عن أنه من العرفيات، ويشهد له أيضاً أنه لم يعهد من أحد من المعصومين عليهم السلام ولا من أصحابهم ما هو خارج عن المتعارف بالنسبة الى الاستقبال. ويشهد له أيضاً ذكر المسجد الحرام في الآيات الكريمة، وليس ذلك إلّا لأجل التوسعة لا الدقة (1).

ثم إن المواجهة العرفية هذه تتسع بحسب كيفية المواجهة، فإذا قدر لخمسين


1- 1 مهذب الأحكام 5: 180- 181.

ص: 100

نفراً مواجهة الكعبة مثلًا، فبالابتعاد عنها يتمكن مئة نفر من مواجهتها، وهكذا كلما ابتعدنا عن الكعبة، كلما ازدادت مساحة مواجهتها واتسعت، ولكنه ليس اتساعاً دقيّاً رياضياً بل اتساعاً عرفيّاً تتسع فيها مساحة المواجهة أكثر من اتساعها في المواجهة الدقيّة الهندسية.

ومن هنا جاءت العبارتان المشهورتان: (جهة المحاذاة مع البعد متسعة) (الجرم الصغير كلما ازداد بُعداً ازداد محاذاةً) وهذا كلّه لا يرد في المحاذاة الحقيقية.

إضافة الى هذا فإن المسائل الهندسية ليست لها مدخلية في القضايا الشرعية، التي منها مسألة القبلة بالذات التي تعود للعرف في تحديدها والاستفادة منه فيصدقها، وليس للشرع مدخلية فيها. يقولصاحب الجواهر: «وكيفية استقبالها أمر عرفي لا مدخل للشرع فيه» (1) ويقول السيد السبزواري: (فالاستقبال ليس من الأمور التعبدية ولا من الأمور الدقية، ولا من الموضوعات المستنبطة، ولا من الأمور المسامحية العرفية، بل هو عرفي دقيّ؛ لأنه المنساق من الأدلة..).

ويواصل كلامه: (والمراد به (الاستقبال) عرفاً بحيث يحكم العرف المتعارف أنه واقف نحو الكعبة، فيتحقق مفهوم الاستقبال حينئذ من دون تجوّز، سواء اتصل الخط الفرضي الخارج من جهة الى عين الكعبة أو لا، بل لو أمكن ذلك بغير عذر لا يجب؛ لصدق الاستقبال العرفي بدونه أيضاً، وهو يكفي بحسب الأدلة الشاملة للقريب والبعيد، وإرادة غير ذلك من الأدلة المنزلة على العرفيات تكلّف زائد بلا دليل عليه فيرجع فيه الى أصالة البراءة العقلية والنقلية) (2).

الثاني: المقصود من الجهة:

يقول الشهيد في الذكرى: المراد بالجهة: السمت الذي يظن كون الكعبة فيه لا مطلق الجهة. ومراده بالسمت هو ما يسامته المصلي ويحاذيه عند توجهه اليه.

بينما يقول المحقق الثاني:.. والذي ما زال يختلج بخاطري: أن جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة، بحيث


1- 1 الجواهر.
2- 2 مهذب الأحكام 5/ 182.

ص: 101

يقطع بعدم خروجها عن مجموعه، وهذا يختلف سعةً وضيقاً باختلاف البعد (1).

وفي المقصود من الجهة وفي التفريق بين الاستقبال الهندسي الدقيّ والاستقبال العرفي، حيث إنّ الأول يتأثر بالبعد والقرب دون الثاني الذي لا يتأثر بذلك يقول السيد الشهيد الصدر رحمه الله: نفترض أن عدداً من الناس سبعة مثلًا وقفوا على خط مستقيم فتشكلصفٌ طويل، فإذا وقفت أمامهم قريباً منهم ووجهك نحوهم، فهل تكون مستقبلًا ومقابلًا للصف بالكامل، أو للفرد الذي وقفت أمامه مباشرةً؟ من الواضح أن الثاني هو الصحيح. أما من وجهة النظر الهندسية فلأنك لو مدّدت خطّين مستقيمين متقاطعين أحدهما بين يمينك وشمالك والثاني يقطع ذلك الخط على نحو يشكل زاويتين قائمتين- فيكون الخطّان متقاطعين متعامدين- لو وضعت ذلك وامتد الخط الثاني من أمامك لالتقى بواحد معين في ذلك الصف فقط، وهذا هو المقياس في الاستقبال الهندسي.

وأما من وجهة النظر العرفية فواضح أيضاً لدى كلّ إنسان اعتيادي بحكم نظرته الساذجة وفهمه الفطري أنك إذا وقفت أمام الصف في الوسط فأنت تستقبل الشخص الرابع من السبعة فقط دون الأول والأخير.

ولنفرض أن الصف كان في أرض منبسطة كالصحراء، وأنك ابتعدت عنه متقهقراً الى الخلف آلاف الأمتار ثم أردت أن تستقبل بوجهك أولئك المصطفين، ففي هذه الحالة اذا استعملنا المقياس الهندسي نرى أنك أيضاً لا تستقبل إلّاواحداً من السبعة المصطفين فقط، لو رسمنا خطاً مستقيماً من موضعك على ما تقدم لالتقى في امتداده بواحد منهم فقط، وهذا يعني أن الاستقبال الهندسي لا يختلف فيه القرب والبعد.

وأما اذا لاحظنا الموقف من الوجهة العرفية وبالنظرة الفطرية للإنسان الاعتيادي نجد أنك في هذه الحالة تستقبل السبعة جميعاً بوجهك؛ لأن الاستقبال كما يفهمه الإنسان الاعتيادي هو كون الشي ء يبدو حيال وجهك وفي مقابله، ومن


1- 1 انظر جامع المقاصد 2/ 49.

ص: 102

الواضح أن الصف بالكامل يبدو لك وأنت تستقبله من بعد- حيال وجهك- نتيجة تضائِله بسبب البصر، فإن تضائلَه يجعله يبدو أصغر حجماً، فكأنه لا يزيد عن مقدار وجه من يستقبله، وهذا يعني أن الاستقبال العرفي يتأثر بالقرب والبعد، فما تستقبله عن بعد أوسع كثيراً مما تستقبله عن قرب، وكلما بعدت الجهة التي تريد أن تستقبلها فأنت تستقبل منها مساحة أوسع.

وعلى هذا الأساس اذا وقفت عن قرب أمام الشخص الرابع في الصف المكون من سبعة فأنت مستقبل له خاصة، فإذا رجعت الى الخلف مسافة كبيرة في خط مستقيم وجدت نفسك مستقبلًا للسبعة جميعاً، أي أن منطقة الاستقبال التي كانت مقصورة على الشخص الرابع اتسعت من الجانبين فشملت الصف كلّه. ويمكننا أن نؤكد بهذا الصدد أن اتساع منطقة الاستقبال من كلّ من الجانبين لا تقل عن خمس المسافة بينك وبين المنطقة التي تريد أن تستقبلها، فإذا كنتَ تبعد عن مكة ألف كيلومتر- وكان الصف المكون من سبعة وسط مكة مثلًا فأنت تستقبل على بعد ألف كيلومتر الصف المكون سبعة مضافاً إليه مساحة تمتد من كلّ من الجانبين مائتي كيلومتر، فيكون مجموع منطقة الاستقبال العرفي على هذا البعد أربعمائة كيلومتر، فإذا كانت الكعبة الشريفة واقعة ضمن هذه المنطقة والمساحة اعتبر ذلك استقبالًا عرفياً لها، ولو لم يمكن ايصال خط مستقيم من الناحية الهندسية بينك وبينها على النحو المتقدم، وهذه المساحة هي التي نطلق عليها اسم الجهة حين نقول: يجب على البعيد فيصلاته أن يستقبل جهة الكعبة.

قال السيد السند في المدارك: ثم إن المستفاد من الأدلة الشرعية سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء في التوجه الى ما يصدق عليه عرفاً أنه جهة المسجد وناحيته..

كما أن البلاغي في آلاء الرحمن يقول:.. ولا مانع من أن تسمى الكعبة مسجداً باعتبار أنها يسجد إليها. أو يقال: إن الآية نزلت في السنة الثانية من

ص: 103

الهجرة، فكان الخطاب بجعل الكعبة قبلة عامة ومتوجهاً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله ومَن معه من المسلمين وأهل المدينة وضواحيها فجرى التعبير بالمسجد الحرام، باعتبار سعة استقبالهم للكعبة باستقبال المواجهة وللاحترام والتعظيم مما يتحقق به ذلك عند الناس كما هو الظاهر من الآية، وأن استقبالهم للمسجد بهذا النحو يلزمه استقبال الكعبة بهذا النحو أيضاً وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره أي نحوه بالنحو المتقدم دون الاستقبال الهندسي؛ لأن تكليف النائين به حتى مثل أهل المدينة بل ما كان عن مكة بمرحلة مثلًا يستلزم التكليف بما لا يطاق، ولا شك في أنه كلما بعد المستقبل اتسعت وجهة استقباله للكعبة بالمواجهة الاحترامية التعظيمية (1).

فإذا عرفنا بعد هذا كلّه أن المقصود من المواجهة هي المواجهة العرفية لا المواجهة الدقّية.. فيمكننا حينئذٍ حلّ الروايات التي تقول كما عن الإمام أبي عبد اللَّه الصادق عليه السلام:

إن اللَّه تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا.

البيت قبلة المسجد، والمسجد قبلة مكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة الدنيا.

وأنه بناءً على هذا التفسير للاستقبال يكون مضمون هذه الروايات مضموناًصحيحاً، فإنه من كان داخل المسجد ولقربه من الكعبة فلا يتمكن من مواجهتها عرفاً أيضاً إلّابمواجهة عينها، لكن مساحة المواجهة تكون ضيقة بخلاف من كان خارج المسجد فإن بمواجهته للمسجد الحرام قد واجه الكعبة وهكذا إذا ما ابتعد عن المسجد وصار خارجه أي في الحرم يصدق بمواجهته للمسجد أنه واجه الكعبة، ومن نأى عن الحرم يصدق بمواجهته للحرم أنه قد واجه المسجد الحرام وبالتالي الكعبة.


1- 1 البلاغي- آلاء الرحمنص 136.

ص: 104

وأن من كان في كوكب آخر فاذا ما أراد التوجه الى الكعبة فيمكنه ذلك بتوجهه الى الكرة الأرضية، ويصدق عليه حينئذٍ- ونحن ما زلنا مع العرف- أنه مواجه للكعبة ومستقبل لها ويمكنه أداءصلاته باستقبالصحيح.

إذن المشكلة تحدث عندنا ويطول فيها الكلام والأخذ والرد إذا ما أدخلنا في حساباتنا المسألة الدقيّة الهندسية وجعلها محوراً في تعاملنا مع هذه المسائل، التي هي مسائل عرفية بعيدة حتى عن القضايا الشرعية فضلًا عن المسائل الهندسية ودقتها. وإن إدخال مثل هذه الأمور يعني التعسير على الناس وبالتالي نبتعد عن «الشريعة السهلة السمحاء» وعن «يسروا على الناس ولا تعسروا».

ومن هذا كلّه ظهر لناصحةصلاة الصف الطويل، لأن البعيد فرضه هو الجهة، وإلّا إذا كان فرضه عين الكعبة لماصحتصلاة هذا الصف؛ لأن فيهم- قطعاً- من يخرج عن محاذاة العين التي لا تتجاوز 25 ذراعاً. وكما قال في المجموع (1).. مع الاتفاق علىصحةصلاة الصف الطويل؛ لأنه تظهر فيه المسامتة والاستقبال مع طول المسافة.

وبهذا اندفع الإشكال أو التساؤل السابق.

المذاهب الاخرى

فيما ذهب القرطبي في جامعه الى أن شطر أي ناحية المسجد الحرام يعني الكعبة، ولا خلاف في هذا. قيل: حيال البيت كلّه؛ عن ابن عباس. وقال ابن عمر:

حيال الميزاب من الكعبة؛ قال ابن عطية، والميزاب: هو قبلة المدينة وأهل الشام، وهناك قبلة أهل الأندلس.

قلت: قد روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال:

«البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» (2). انتهى.

وراح القرطبي يذكر أن لا خلاف بين العلماء أن الكعبة قبلة في كلّ افق،


1- 1 المجموع 3/ 204.
2- 2 الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 2: 159، في تفسير الآية 144 من سورة البقرة.

ص: 105

وأجمعوا على أن من شاهدها وعاينها فرض عليه اسقبالها، وأنه إن ترك استقبالها وهو معاين لها وعالم بجهتها فلاصلاة له، وعليه إعادة كل ماصلى، ذكره أبو عمر.

وأجمعوا أن كلّ من غاب عنها أن يستقبل ناحيتها وشطرها وتلقاءها، فإن خفيت عليه فعليه أن يستدل على ذلك بكلّ ما يمكنه من النجوم والرياح والجبال، وغير ذلك مما يمكن أن يستدل به على ناحيتها. ومن جلس في المسجد الحرام فليكن وجهه الى الكعبة وينظر اليها إيماناً واحتساباً، فإنه يروى أن النظر الى الكعبة عبادة، قاله عطاء ومجاهد.

- كما يذكر القرطبي في المسألة الرابعة من هذا البحث أنهم: اختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين أو الجهة؛ فمنهم من قال بالأول.

ويذكر قول ابن العربي بتضعيف من قال باستقبال العين فرضاً للغائب. حيث قال ابن العربي: وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه أو لما لا يوصل إليه. ومنهم من قال بالجهة- أي فرض الغائب الجهة- وهوصحيح لثلاثة أوجه:

الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.

الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم.. يعني من الأرض من شرق أو غرب. فولوا وجوهكم شطره. فلا يلتفت الى غير ذلك.

الثالث: أن العلماء احتجوا بالصف الطويل الذي يعلم قطعاً أنه أضعاف عرض البيت. ويجب أن يعول على ما تقدم، فإن الصف الطويل إذا بعد عن البيت أو طال أو عرض أضعافاً مضاعفة لكان ممكناً أن يقابل جميع البيت (1).

هذا في مسألتي استقبال العين أو استقبال الجهة وأيهما هو فرض الغائب البعيد عن الكعبة.

إذن فالقبلة هي جهة الكعبة أو عين الكعبة، فمن كان مقيماً بمكة أو قريباً منها فإنصلاته لا تصح إلّاإذا استقبل عين الكعبة يقيناً ما دام ذلك ممكناً، فإذا لم يمكنه


1- 1 الجامع لاحكام القرآن للقرطبي 2: 160، أحكام القرآن لابن العربي 1: 64- 65.

ص: 106

ذلك، فإنّ عليه أن يجتهد في الاتجاه الى عين الكعبة، إذ لا يكفيه الاتجاه الى جهتها ما دام بمكة، على أنه يصح أن يستقبل هواءها المحاذي لها من أعلاها، أو من أسفلها، فإذا كان شخص بمكة على جبل مرتفع عن الكعبة أو كان في دار عالية البناء، ولم يتيسر له استقبال عين الكعبة، فإنه يكفي أن يكون مستقبلًا لهوائها المتصل بها، ومثل ذلك ما إذا كان في منحدر أسفل منها، فاستقبال هواء الكعبة المتصل بها من أعلا أو أسفل، كاستقبال بنائها عند الأئمة الثلاثة (أي الحنفي والشافعي والحنبلي)، وخالف المالكية حيث قالوا: يجب على من كان بمكة أو قريباً منها أن يستقبل القبلة؛ بناء الكعبة، بحيث يكون مسامتاً لها بجميع بدنه، ولا يكفيه استقبال هوائها، على أنهم قالوا: إن مَنصلى على جبل أبي قبيس فصلاتهصحيحة، بناءً على القول المرجوح من أن استقبال الهواء كافٍ (1)...

أما من كان بعيداً عن مكة، فالشرط الذي في حقه أن يستقبل الجهة التي فيها الكعبة، ولا يلزمه أن يستقبل عين الكعبة، بل يصح أن ينتقل عن عين الكعبة الى يمينها أو شمالها، ولا يضر الانحراف اليسير عن نفس الجهة أيضاً؛ لأن الشرط هو أن يبقى جزء من سطح الوجه مقابلًا لجهة الكعبة، مثلًا إذا استقبل المصلي في مصر الجهة الشرقية بدون انحراف الى جهة اليمين، فإنه يكون مستقبلًا للقبلة؛ لأن القبلة في مصر وإن كانت منحرفة الى جهة اليمين، ولكن ترك هذا الانحراف لا يضر؛ لأنه لا تزول به المقابلة بالكلية؛ فالمدار على استقبال جهة الكعبة أن يكون جزء من سطح الوجه مقابلًا لها، وهذا رأي ثلاثة من الأئمة (الحنفية والمالكية والحنبلية) وخالفهم الشافعية حيث قالوا: يجب على من كان قريباً من الكعبة أو بعيداً عنها أن يستقبل عين الكعبة، أو هواءها المتصل بها كما في أعلاه، ولكن يجب على القريب أن يستقبل عينها أو هواءها يقيناً بأن يراها أو يلمسها أو نحو ذلك مما يفيد اليقين، أما من كان بعيداً عنها فإنه يستقبل عينها ظناً لا جهتها على المعتمد، ثم إن الانحراف اليسير يبطل الصلاة إذا كان بالصدر بالنسبة للقائم والجالس، فلو


1- 1 انظر الفقه على المذاهب الاربعة للجزيري، مباحث استقبال القبلة- تعريف القبلة:ص 194.

ص: 107

انحرف القائم أو الجالس في الصلاة بصدره بطلت، أما إذا انحرف بوجهه فلا، والانحراف بالنسبة للمضطجع يبطل الصلاة إذا كان بالصدر أو بالوجه، وبالنسبة للمستلقي يبطل إذا انحرف بالوجه أو بباطن القدمين (1).

حجر إسماعيل والقبلة:

في العدد الخامس من مجلة ميقات الحجص 136 كانت لنا مقالة عن حجر إسماعيل، تطرقت فيها الى أن كون الحِجر- كلّه أو بعضه، لا فقط حكماً بل موضوعاً أيضاً- من البيت، وقد مثّل واحداً من موقفين عند فقهاء الإمامية، والثاني هو أن الحجر ليس من البيت موضوعاً بل حكماً وعليه أكثر فقهاء الإمامية، ولهذا ادخل في الطواف فقط للنصوص المستفيضة في ذلك ولسيرة الرسول وللإجماع-.

لقد ذهب الى الرأي الأول كلٌّ منصاحب الدروس والعلّامة في التذكرة وفي المنتهى.. (المشهور أنه من البيت) (عندنا أنّه من الكعبة).

هذه الخلاصة لابدّ من مراجعة تفصيلها في العدد المذكور أعلاه، قبل قراءة هذه الإضافة، التي تبين لنا إن كان من الكعبة وبالتالي يصحّ استقبال بعضه أو كلّه في الصلاة وفي غيرها.. كما عن نهاية الأحكام: «يجوز أن يستقبله؛ لأنه كالكعبة عندنا..» وهذا لمن كان في المسجد الحرام، لا من كان خارج المسجد الحرام كالبعيد أو النائي لأنّ كلًا من الكعبة والحِجر يعدّ شيئاً واحداً بالنسبة إليه فالمطلوب منه استقبال الجهة.

إن الشيخ يوسف البحراني ذكر في حدائقه 6: 381 في البحث السادس من بحوث القبلة أنه أي الشهيد قال في الذكرى: ظاهر كلام الأصحاب أن الحجر من الكعبة بأسره، وقد دلّ عليه النقل أنه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام الى أن بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلآت، فاختصروها بحذفه، وكان كذلك في عهد النبيصلى الله عليه و آله ونقل عنه الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة، وبذلك احتج ابن الزبير


1- 1 انظر الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 1/ 195.

ص: 108

حيث أدخله فيها، ثم أخرجه الحجاج بعده وردّه الى ما كان، ولأن الطواف يجب خارجه. وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها وفي الطواف خارجه. وبعض الأصحاب له فيه كلام أيضاً مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف، وإنما تظهر الفائدة في جواز استقباله في الصلاة بمجرده، فعلى القطع بأنه من الكعبة يصحّ، وإلّا امتنع؛ لأنه عدول من اليقين الى الظن. انتهى قولصاحب الذكرى.

وهنا يقولصاحب الحدائق:... فلم نقف عليه في أخبارنا، وبه اعترف جملة من علمائنا..

كما نقل عن التذكرة قولًا للعلامة يظهر فيه أن الحجر ليس كلّه من البيت بل جزءاً منه فيقول:... إلّاأن العلامة في التذكرة نقل أن البيت كان لاصقاً بالأرض، وله بابان شرقي وغربي، فهدمه السيل قبل مبعث النبيصلى الله عليه و آله بعشر سنين، وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم، وقصرت الأموال الطيبة والهدايا والنذور عن عمارته، فتركوا من جانب الحجر بعض البيت، وقطعوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم عليه السلام وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود الى الشامي الذي يليه، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى بالشاذروان. انتهى.

وهنا يقول حول ذلك: وهو مع مخالفته للنصوص... إنما يدل على جزء من الحجر لا مجموعه كما يستفاد من كلامه..

وذكر أيضاً قولصاحب الدروس: إن المشهور كونه من البيت، ثم قال بعد نقله هذا: ولا يخلو من غرابة.

ونقل في المدارك عن العلّامة في النهاية أنه جزم بجواز استقباله.

وهنا يقول: وهو أغرب؛ لما ورد في النصوص من أنه ليس من البيت حتى إن في بعضها: «ولا قلامة ظفر»...

ص: 109

كما أن السيد السبزواري في مهذبه ذكر أدلته على أن الحجر ليس من الكعبة حقيقة، مستعيناً بذلك بجملة من الأخبار التي منها:.. لا ولا قلامة ظفر.. حينما سئل عليه السلام الحجر أمن البيت..؟ وبالقرائن التي استفادها من الآيات والأخبار والتي منها:

اطلاق لفظ الكعبة من زمان إبراهيم، بل من زمان بناء الملائكة لها، وهي عبارة عن المربع المكعب ولا يطلق على المستطيل.

أنه يبعد عن مثل إسماعيل عليه السلام أن يدفن بناته في جوف الكعبة.

أنه لو كان من الكعبة لا وجه لجعل فتحتين فيه من أول حدوثه، كما تشهد به التواريخ.

أنه لو كان منها لأشير إليه في خبر من أخبار المعصومين، الذين هم أهل البيت، بل دلّت أخبارهم عليهم السلام على أنه ليس من البيت.

أنه لم ينقل عن النبيصلى الله عليه و آله ولا عن أوصيائه ولا عن أحد من أصحابه أنهمصلَّوا إليه بحيث لم يكن متوجهاً الى البيت، فلو كان منها لِمَ لم يصلّوا إليه ولم ينقل ذلك عنهم؟!

ثم واصل السيد السبزواري كلامه بقوله:

نعم، نسب الى بعض العامة أنّه منها، وأن النبيّصلى الله عليه و آله كان يهتم بإدخاله في البيت، وعن بعضهم: أنّ فيه ستة أذرع من البيت، كما عن عائشة: «إنّي نذرتُ أن أصلّي ركعتين فى البيت، فقالصلى الله عليه و آله:صلِّ في الحجر، فإنه فيه ستة أذرع من البيت» (1).

كما أنّ السيد السبزواري عدّ ما نسبه الشهيد في الذكرى الى أصحابنا أن الحجر من البيت، وعن العلّامة في المنتهى جواز الصلاة فيه، عدّه باطلًا وقال في تعليل ذلك: لأنه اجتهاد في مقابل قولصادق أهل البيت- الذي هو أدرى بما في البيت- منصحيح ابن عمار أنه ليس منه، ولا قلامة ظفر. ثم قال: نعم إنه من


1- 1 المغني 3: 382.

ص: 110

البيت من حيث الدخول في الطواف بإجماعهم ونصوصهم، ولا ملازمة بين وجوب إدخاله في الطواف، وكونه قبلة. مع أنه لو كان لدخوله في البيت مدركصحيح حتى عند العامة؛ لاهتم خلفاء بني أمية وبني العباس في إدخاله في البيت، فإنه من أجلّ آثارهم وأهم مفاخرهم خصوصاً بعدما قيل من أنّ ابن الزبير أدخله في البيت وأخرجه الحجاج، ولم يعلم من التأريخ معارضة فقهاء العامة لما فعله الحجاج.

ثم ختم كلامه بقوله: وبالجملة: لم يبق في البين ما يصح عليه لدخول شي ء منه في البيت، وما تقدم من قول أبي عبد اللَّه عليه السلام وقوله عليه السلام أيضاً من أن: «الحجر مدفن إسماعيل وأمّه وبناته، حجّر عليه كراهة أن يوطأ». ظاهر، بل نصّ في الخروج وقرّره الشارع؛ لأن لإسماعيل وأبيه خليل الرحمن عليه السلام كان حقّ بناء البيت وخدمته وسدانته، فيستحق أن يتفضل اللَّه تعالى عليه بهذه الفضيلة العظمى، التي تبقى أمد الدهر (1).

وما انتهى إليه الشيخ حسن زاده آملي في درسه 74 حول حجر إسماعيل...

والمختار أن الحجر مطلقاً أعني كلًاّ أو بعضاً ليس من البيت، فالصلاة مثلًا نحوه ليست بمجزية؛ وذلك لأن الأخبار الواردة في المقام من أنه ليس من البيت مطلقاً أكثر عدداً، وأصحّ سنداً وأوضح دلالة من غيرها، وما دلت على أنّه منه رواية واحدة مروية عن عائشة، ونصوص أهل البيت عليهم السلام تخالفها. على أن محققي العامة أيضاً كما دريت ذهبوا إلى أنّ الشاذروان ليس من البيت. ودخول الحجر في الطواف لا يدل على أنه من البيت؛ وذلك لورود الأخبار الخاصة، وقيام الإجماع من المسلمين على أنه داخل في الطواف...

وفي بعض الرسائل الفقهية: والشاهد على أنه ليس من الكعبة ضيق محلّ الطواف من جانبه، وهو حسن جداً.

ثم راح يواصل كلامه بقوله: على أن الصلاة نحو الحجر وحده تصحّ متى علم


1- 1 مهذب الأحكام 5/ 177.

ص: 111

بأنه من البيت وإلّا فباطلة؛ لأنه عدول عن اليقين الى الظن، والذمة بها مشتغلة، وأنى يحصل القطع بأن الحجر من البيت، وقد ذهب جمٌ غفير من الفريقين الى أنّه ليس منه، وقد دلت أيضاً نصوص أهل البيت عليهم السلام على أنّه ليس منه حتى بمقدار قلامة ظفر؟! ثم ذكر بعض تلك الروايات ثم ذكر أخيراً ما ذكره العلامة بحر العلوم في الدّرة:

وما من البيت مكان الحجر كلّا ولا قلامة من ظفر

فلا تصلّ نحوه وإن دخل كالبيت في الطواف في بعض العلل

وصلّ فيه الفرض مطلقاً بلا حجر وفي الكعبة منع قد جلا انتهى (1).

إذن فالذي يذهب الى أن الحجر من البيت حقيقة جوّز الصلاة اليه وبالتالي توسعة مساحة القبلة عيناً أو بنية وحتى جهة، أما الذي ذهب- وهو المشهور- الى أن الحجر من البيت حكماً لا حقيقةً فلم يتخذ منه قبلة.

أما عند المذاهب الأخرى غير الحنابلة فإن الحجر ليس من الكعبة ولا الشاذروان، فمن كان بمكة واستقبل الحجر أو الشاذروان فإنصلاته لا تصح، وقد خالف ذلك الحنابلة حيث قالوا: إن الشاذروان وستة أذرع من الحجر وبعض ذراع فوق ذلك من الكعبة، فمن استقبل شيئاً من ذلكصحتصلاته (2).

مصلّى المعصوم:

من الوسائل التي يستطيع البعيد الاستعانة بها على تعيين القبلة أو جهتها مصلّى النبيّصلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار عليهم السلام في البقاع التي تشرّفت بهم، وهو محلّ اتفاق الفقهاء، إلّاأنّ الخلاف وقع بين بعض علماء الإمامية؛ فبعد أن اتفقت كلمتهم على أن مصلّى النبيّصلى الله عليه و آله لا يمكن الشك في كونه وضع في الاتجاه الصحيح والدقيق للقبلة، وأنّه على الكعبة وبمنزلتها بالضبط؛ لأنّه وضع بيد معصوم وكان جبريل


1- 1 دروس معرفة الوقت والقبلة للشيخ حسن حسن زادة آمليص 520- 522.
2- 2 الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 195.

ص: 112

معه، وفيه قالصلى الله عليه و آله: «محرابي على الميزاب» وقع الخلاف بينهم في تلك الصحّة وهذه الدقّة بعدما تعرّض في أزمنة مختلفة للتغييرات كالتهديم والتجديد، فأفقدته الصحّة وسلبت منه الدقّة، التي أضفتها عليه يد المعصوم ووجوده، وبالتالي لا يمكن أن يكون مصلى النبيّصلى الله عليه و آله ومصلى الإمام المعصوم عليه السلام أمارة تدلّنا على الاتجاه السليم للقبلة بعد أن لامسته يد التهديم والبناء، وهذا ما ذهب إليه بعضٌ كالشيخ المجلسي وتبعه في ذلك الشيخ الأنصاري في كتابه الصلاة (1).

يقول العلّامة في التذكرة بهذا الخصوص: المصلّي بالمدينة يجعل محراب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قبلته من غير اجتهاد؛ لعدم الخطإ في حقّهصلى الله عليه و آله.

ويقول الشهيد في الذكرى: لا اجتهاد في محراب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في جهة القبلة ولا في التيامن والتياسر فإنّه منزل منزلة الكعبة، وروي أنّه لما أراد نصبه زويت له الأرض فجعله بإزاء الميزاب، ولأنّ النبيصلى الله عليه و آله معصوم لا يتصوّر منه الخطأ، وعند من جوّزه من العامة لا يقرّ عليه، فهوصواب قطعاً، فيستقبله معاينة، وتنصب المحاريب هناك عليه، وفي معنى المدينة كل موضع تواتر أن النبيصلى الله عليه و آلهصلّى فيه إلى جهة معيّنة مضبوطة الآن، وكذا لا اجتهاد في المسجد الأعظم بالكوفة في التيامن والتياسر، مثل ما قلناه في مسجد النبيصلى الله عليه و آله لوجوب عصمة الإمام كالنبيصلى الله عليه و آله وقد نصبه أمير المؤمنين وصلّى إليه هو والحسن والحسين عليهم السلام.

وأمّا محراب مسجد البصرة فنصبه عقبة بن غزوان فهو كسائر محاريب الإسلام، وربّما قيل بمساواته مسجد الكوفة؛ لأنّ أمير المؤمنين عليه السلامصلّى فيه وجمع من الصحابة، فكما لا اجتهاد في مسجد الكوفة فكذا في مسجد البصرة، وأمّا مسجد المدائن فصلّى فيه الحسن عليه السلام فإن كان المحراب مضبوطاً فكذلك، وبمشهد سر من رأى مسجد منسوب إلى الهادي عليه السلام فلا اجتهاد في قبلته أيضاً إن كانت مضبوطة.

ولو تخيّل الماهر في أدلّة القبلة تيامناً وتياسراً في محراب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله


1- 1 انظر دروس معرفة الوقت والقبلة للشيخ حسن زاده آملي: 378.

ص: 113

ومحراب أمير المؤمنين عليه السلام فخياله باطل لا يجوز له ولا لغيره العمل به (1).

وأمّا السمهودي وهو من العامّة فيقول: والذي ذكره أصحابنا أنّه لا يجتهد في محراب النبيّصلى الله عليه و آله لأنّهصواب قطعاً إذ لا يقرّ على خطإ، فلا مجال للاجتهاد فيه حتى لا يجتهد في اليمنة واليسرة بخلاف محاريب المسلمين، سيما وقد تقدّم أنّه وضعه وجبرئيل يؤم به البيت، والمراد بمحرابهصلى الله عليه و آله مكان مصلّاه، فإنّه لم يكن في زمنهصلى الله عليه و آله محراب (2).

وقد ذكر الجزيري: ومن كان بمدينة النبيصلى الله عليه و آله، فإنّه يجب عليه أن يتّجه إلى نفس محراب المسجد النبوي، وذلك لأنّ استقبال عين محراب مسجد النبيصلى الله عليه و آله هو استقبالٌ لعين الكعبة؛ لأنّه وضع بالوحي، فكان مسامتاً لعين الكعبة بدون انحراف (3).

أمّا ما ذهب إليه العلّامة المجلسي: وما ذكره أصحابنا من أن محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه إنّما يثبت إذا علم أن الإمام بناه- ومعلوم أنّه لم يبنه- أوصلّى فيه من غير انحراف عنه وهو أيضاً غير ثابت، بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه.. مع أن الظاهر من بعض الأخبار أن هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بل ظهر لي من بعض الأخبار والقرائن أن محراب مسجد النبيصلى الله عليه و آله بالمدينة أيضاً قد غيّر عمّا كان في زمانه؛ لأنّه على ما شاهدنا في هذا الزمان موافق لخط نصف النهار وهو مخالف للقواعد الرياضية من انحراف قبلة المدينة إلى اليسار قريباً من ثلاثين درجة ومخالف لما رواه الخاصّة والعامّة من أنّهصلى الله عليه و آله زويت له الأرض ورأى الكعبة فجعله بإزاء الميزاب (4).

فإنّ من وقف بحذاء الميزاب يصير القطب الشمالي محاذياً لمنكبه الأيسر، ومخالف لبناء بيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الذي دفن فيه. مع أن الظاهر أن بناء البيت كان موافقاً لبناء المسجد وبناء البيت أوفق بالقواعد من المحراب، وأيضاً مخالف لمسجد قبا ومسجد الشجرة وغيرهما من المساجد التي بناها النبيّصلى الله عليه و آله أوصلّى فيها. ولذا


1- 1 الذكرى، القبلة.
2- 2 وفاء الوفاء 1/ 273.
3- 3 الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 194- 195 للجزيري.
4- 4 تاريخ المدينة للسمهودي 1/ 261 والدرة الثمينة 357.

ص: 114

حمل بعض الأفاضل ممّن كان في عصرنا حديث المفضّل وأمثاله على مسجد المدينة، وقال: لما كانت الجهة وسيعة وكان الأفضل بناء المحراب على وسط الجهات إلّاأن تعارضه مصلحة لمسجد المدينة حيث بنى محرابه على خط نصف النهار لسهولة استعلام الاوقات مع أن وسط الجهات فيه منحرف نحو اليسار فكذا حكموا باستحباب التياسر فيه ليحاذي المصلّي وسط الجهة المتسعة.

ويقول في موضع آخر:.. وأغرب من جميع ذلك أن مسجد الرسولصلى الله عليه و آله محرابه على خط نصف النهار مع أنّه أظهر المحاريب انتساباً إلى المعصوم، وهو مخالف للقواعد لانحراف قبلة المدينة عن يسار نصف النهار أي من نقطة الجنوب إلى المشرق بسبع وثلاثين درجة. وأيضاً مخالفاً لما هو المشهور من النبيصلى الله عليه و آله قال:

محرابي على الميزاب.

ومن يقف في المسجد الحرام بإزاء الميزاب يقع الجدي خلف منكبه الأيسر بل قريباً من رأس المنكب، وكنت متحيّراً في ذلك حتى تأمّلتُ في عمارة روضة النبيصلى الله عليه و آله التي حول قبره الشريف فوجدتها منحرفة ذات اليسار كثيراً، وإن لم يكن بهذا المقدار، وظاهر أن البيوت كانت مبنية بعد المسجد على وفقها، فظهر أن محراب المسجد أيضاً ممّا حرّف في زمن سلاطين الجور. ويؤيّده أن محراب مسجد قبا ومسجد الشجرة، وأكثر المساجد القديمة التي رأيتها في المدينة وبين الحرمين، إمّا موافقة للقواعد أو قريبة منها مع أن النبيّصلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلامصلّوا فيها واللَّه يعلم.

وهنا يقول الشيخ حسن زاده آملي في درسه 56 وبعد أن يصف ما ذهب إليه العلّامة والسمهودي وغيرهما: من أن المصلّي بالمدينة يجعل محراب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قبلته من غير اجتهاد لعدم الخطإ في حقّهصلى الله عليه و آله يصفه بأنّه كلام في غاية الاستواء ونهاية المتانة؛ لعدم تحوّله عمّا بناه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. فيقول: وما ذهب إليه بعض المتأخّرين حيث قال: «ومنها المحاريب التي علم بصلاة المعصوم فيها كمحراب مسجد المدينة والكوفة والبصرة والمدائن، ولكن العلم بكون المحاريب

ص: 115

الموجودة الآن هي التيصلّى فيها المعصومون عليهم السلام بعيد بل معدوم العدم وذلك للتغييرات الفاحشة في تلك المساجد من جهة التخريب والتعمير والتوسعة والتضييق كما لايخفى فهذه العلامة ليست متحقّقة في هذه الأزمنة». فهو في قبلة المدينة خاصة بعيد عنصوب الصواب جدّاً...

ولا يخفى عليك أن تعمير مسجد النبي وتوسعته أو تضييقه لا توجب تغيير المحراب الذيصلّى فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بل المسلمون فضلًا عن مؤمنيهم يراقبون في حفظه على ما كان تبركاً منهم بذلك، وأي غرض يتعلّق في ذلك للمخالف أن يغيّر المحراب مع اهتمام المسلمين طرّاً بذلك بل عدم التغيير معلوم، ومن أين ثبت ونقل أن تغيّر المحراب بالتعمير فضلًا عن أن يكون خامشاً؟ وبالجملة لا يساعد هذا القول دليلٌ بل كما قلنا عدم التغيير معلوم....

ثم بعد ذلك ينتقل إلى قول المجلسي وهو مخالف للقواعد... فيقول فيه: تلك القواعد هي المستفادة من الأرصاد والآلات المبنية على ما ذهب إليه القدماء، ولا يخفى على البصير في الفن أنّه قد وقع للقدماء في تعيين أطوال البلاد وعروضها خبط عظيم، وإن كان الخبط في الطول أشدّ وأكثر....

ثم ان احتمال تحريف قبلة المدينة من سلاطين الجور ضعيف غاية الضعف؛ لأنّهم كانوا متظاهرين بحفظ الدين وآثار النبيّ وشعائر الإسلام، مع عناية قاطبة المسلمين إلى حفظ ما بقي من الرسول وبنى تبرّكاً منهم بذلك، وإن كان هؤلاء السلاطين يردّون الناس على أعقابهم القهقرى.

ثمّ ينتهي في ردّه الى القول: والصواب أن يجعل محرابهصلى الله عليه و آله أصلًا فإن طابقته قواعد الهيئة وما استنبطت من الآلات الرصديّة وغيرها، كما في القانون المسعودي، وإلّا فقد حصل خلل في عمل أرباب الأزياج وأصحاب الأرصاد لا في فعل النبيصلى الله عليه و آله كما فعله غير واحد من مهرة الفن من القدماء (1).


1- 1 دروس معرفة الوقت والقبلةص 376- 379 وتحوي على تفاصيل أكثر.

ص: 116

الهوامش:

من رحلات الحج الإيرانية (2)

ص: 118

من رحلات الحج الإيرانية (2)

رحلة ناصر خسرو

394- 481 ه. ق

حسن الإسلامي

«كنت في جوزجانان أحتسي الخمر، حتى رأيت في المنام أحداً يهتف بي قائلًا: (حتام تحتسي شراباً يُذهب بالعقول؟ أما كان أجدر بك أن تُبقي على وعيك؟... عليك بطلب ما يزيد في عقلك وفهمك). فأجبتُ: وأنّى لي بهذا؟ قال:

(مَن جدّ وجد) ثم أشار الى جهة القبلة ولم يعقّب». ناصر خسرو.

ناصر خسرو

رجلٌ يعمل في الديوان، سعيد الحظّ، ينعم بالمال والجاه والراحة، بعد أن اجتاز أواسط العمر، ونزل في منحدر الموت. فجأة، تملّكه إحساس الملالة والعبث، فراح ينظر الى عُمُره الذي خلّفه وراءَه فلا يرى إلّافناءً وخواءً. تخلّى عن عمله يائساً، وركن الى زاوية- ومن أجل الهروب من الواقع- انغمس في احتساء الشراب؛ ليرسل عقله في خيال بعيد، واستمرّ على هذا الحال شهراً واحداً، حتى رأى في منامه حُلُماً قَلَب حياته رأساً على عقب. يقول ناصر خسرو: ذات ليلة، رأيت أحداً في منامي يقول لي: «حتام تحتسي شراباً يُذهب بالعقول؟ أما كان

ص: 119

أجدر بك أن تُبقي على وعيك؟..» فأجبته: «لم يصنع الحكماء شيئاً يُذهب بهمِّ الدنيا غير هذا». فقال: «لا راحة في اللاوعي، والحكيم لا يهدي الناس الى ما يُذهب بعقولهم، عليك بطلب ما يزيد في عقلك وفهمك». فأجبته: «وأنّى لي بهذا؟» قال: «من جدّ وجد» ثم أشار الى جهة القبلة ولم يعقّب (1).

بهذا الحُلُم وبهذا الحديث انقطع ناصر خسرو عن ماضيه دفعةً واحدة، وارتبط بمستقبل مشرق، وبُعِث من جديد، وراح يحدث نفسه: «استيقظتُ من حُلُم الأمس، وآن لي أن استيقظ من حُلُم الأربعين سنة كذلك» (2) وفعلًا جدّ واجتهد حتى بدّل أعماله وأفعاله كلّها، ووصل إلى الفرج بعد الشدّة.

وعلى هذا الأساس، وضع عنه متعلّقاته، وعزم على السفر الى مكّة المكرّمة برفقة شقيقه الأصغر وبرفقة مملوكه، فوصل إليها عن طريق مصر. وقد حَجّ أربع مرات. وفي الختام أنهى سبع سنوات من السفر ثم عاد أدراجه؛ ليكتب لنا مذكّراته عن هذه الرحلة، ويترك إرثاً يُخلّد ذكره.

حياته:

ولد ناصر عام 394 ه. ق في بلدة قباديان بلخ، وتشرّب من علوم ومعارف عصره، وحفظ القرآن، وقرأ الملل والنِحل، وكان له نصيبٌ في تعلّم الرسم، وأحياناً كان يرتزق منه.

في سنوات شبابه، وجد طريقه الى بلاط الأمراء، حيث حضر في بلاطي الأمير محمود والأمير مسعود الغزنوي، وكان حتى سنّ الثالثة والأربعين، يعمل في الديوان وفي التدريس، وفي هذه المرحلة تفجّرت في داخله ثورة معنوية، فعزم على الرحيل الى مصر، وتعرّف على الفاطميين هناك، واعتنق مذهبهم، وأقام هناك ما يقارب ثلاثة أعوام، وعند انتهاء الرحلة، رجع بلقب حجّة إقليم خراسان، وكمبلّغ عنهم.

ومنذ ذلك الحين، كان في اختفاء وهروب دائمين، حتى التجأ مُرغماً إلى يمگان


1- 1 رحلة ناصر خسرو القبادياني المروزي، تحقيق نادر وزين پور، طهران، كتابهاى جيبى، 1370،ص 2.
2- 2 رحلة ناصر خسرو القبادياني المروزي، تحقيق نادر وزين پور، طهران، كتابهاى جيبى، 1370،ص 2.

ص: 120

إحدى ضواحي بدخشان، وقضى حياته هناك وحيداً ومنعزلًا حتى أغمض عينيه عن هذا العالم في عام 481 ه. (1).

بعد عودته الى خراسان، كان ناصر قد نذر نفسه لمذهبه الجديد ولم يتوان عن خدمته وتبليغه لحظة واحدة، وقد استعان بقوة شعره وقلمه في هذا الطريق.

مؤلّفاته:

دافع ناصر المتشرّب بعلوم عصره، وبطبعه الشاعري وعقله الاستدلالي، وتجربته ذات السنوات السبع، بلا هوادة عن عقيدته الجديدة، وكتب مؤلّفات في تأييد المذهب الإسماعيلي.

مؤلّفات ناصر، التي اصطبغت بصبغة باطنية، هي محاولة لتفسير نظريات الإسماعيلية والباطنية على أساس عصره. ويغالي ناصر كثيراً في هذا المسير إلى الدرجة التي يتجاهل فيها مسلّمات العقل، ويدافع فيها عن التحجّر الطائفي، حتى إنّه ذهب إلى تكفير من لم يكن باطنياً. في حين أنّ مؤلّفاته، عموماً، تنحى منحىً منطقياً. ومجمل هذه المؤلفات هي:

ديوان أشعاره، خوان الأخوان، زاد المسافرين، وجه الدين، الخلاص والنجاة، والرحلة.

الرحلة:

المؤلَّف الوحيد الذي لا يحمل مسحة باطنية، هو رحلة الحج، حتى إنّ بعضاً يعتقد أنّه أثناء كتابته لهذه الرحلة، لم يكن يحمل أدنى ميل لهذا المذهب (2). بعد عودته من السفر، جمع ناصر مذكّراته، ونظّم رحلته المذكورة بحيادية محيّرة، وبشكلٍ أصبحت فيه من أرقى نماذج تسجيل المشاهدات وتصويرها.

في هذه الرحلة، يشرع ناصر من عمله وسبب تركه له، وحُلُمِهِ الذي أقضّ مضجعه، والطريق الذي سلكه، والمدن التي شاهدها، والحكايات التي


1- 1 وصف ناصر حالته مع أعدائه في قصيدة طويلة، وللحصول على تفصيل أكثر حول هذه القصيدة، راجع كتاب: چشمه روشن أي النبع المضي ء، لقاء مع الشعراء، لغلامحسين يوسفي طهران، علمي، 1369ص 89- 79.
2- 2 «ره آورد سفر» هدية السفر، مقتطفات من رحلة ناصر خسرو، تصحيح وتوضيح السيد دبيرسياقي طهران، سخن، 1370ص 19.

ص: 121

سمعها، كلّ ذلك يشرحه بالتفصيل، وينهي رحلته بشرح عودته منها إلى بلخ في عام 444 ه. ق.

خصوصيّات هذه الرحلة:

حاول ناصر في هذا الكتاب عدم الابتعاد عن جادّة الصواب، وأن يوضّح الحقائق بعيداً عن أهوائه فكانت النتيجة، أن أصبح كتابه موضع ترحيب العام والخاص؛ للأسباب التالية:

1- الصدق والإخلاص في عرض الحقائق، حتى على نفسه.

في بداية رحلته، يتحدّث عن شربه الخمر لمدة شهر واحد. ويُلقي على مسامعنا هذا الدرس للنبيّ الأكرمصلى الله عليه و آله «قولوا الحقَّ ولو على أنفسكم» (1).

2- مراعاة الاختصار والإيجاز؛ والابتعاد عن الحشو والزيادة.

يلخّص ناصر لنا مشاهداته ومسموعاته في سبع سنوات من رحلته في 125صفحة فقط، وهذه دلالة على براعة المؤلف بالاستعمال المناسب للكلمات.

3- المشاهدة الدقيقة، ووصف وتصوير ما رأى.

فهو لا يمرّ على الأشياء مرّ الكرام، بل يعطي العين والأذن حقّهما، ويصف مشاهداته بشكل نعتقد معه أننا نحن الذين ننقل مشاهداتنا.

يقول أحد أصحاب الرأي السديد في هذا المجال:

«من قرأ في هذا الكتاب بدقّة وصفه مكّة المكرّمة، والكعبة المشرّفة ومناسك الحجّ، وتُتاح له زيارةُ بيت اللَّه الحرام، يرى أنه بالرغم من ألف عام تفصلنا عنه، غير متخلف في أداء مناسك الحج عن أولئك الذين حظوا بشرف أدائها في ذلك الوقت» (2).

وهنا يضع ناصر معلومات جمّة بين يدي القارئ، فهو يُطلعه على جغرافية المدن، والفن المعماري، والتقاليد الدينية والاجتماعية والمنظمات الإدارية، وعادات الناس، وحتى مسألة الماء ومعدّل الاستفادة منه.


1- 1 الرحلة،ص 2.
2- 2 رحلة الحكيم ناصر خسرو القبادياني المروزي، تحقيق السيد محمد دبيرسياقي طهران، زوار، 1356ص 39.

ص: 122

4- النثر البسيط وبلا تكلّف:

في هذا الحقل، ينظر ناصر إلى اللغة المكتوبة باعتبارها وسيلة اتصال ونقل المعلومات، ومن هذا المنطلق فهو قلّما يقع فريسة للّعب بالألفاظ، كما أنه يبتعد عن الشوائب الأدبية، وبالرغم من أنّه أديب وكاتب، إلّاأنّ هذه الأشياء لم تكن عقبات في طريق عمله. وهذا ما يُفسّر لنا أنّه وبعد مضي ألف عام لا يزال كتابُه مفهوماً ومشوّقاً. وما نراه في الكتاب- أحياناً- مانعاً لعمله من كلمات أو عباراتصعبة؛ فذلك لتباعد الزمان ليس إلّا؛ لأن هذه الكلمات أو العبارات هي بالحقيقة، كانت متداولة تماماً، زمان تأليف الكتاب.

5- الأمانة في نقل المواضيع:

إن ناصر خسرو مع كونه مسلماً ملتزماً، إلّاأنّه لا يسمح لآرائه أن تتدخّل في نقل مشاهداته ومسموعاته، أي حسب ما يُصطلح عليه اليوم (الأمانة في النقل)، هذه الميزة جعلت الكتاب مشوّقاً ومرغوباً فيه حتى من قبل من يخالفون ناصر خسرو في العقيدة.

إن الخصوصيّات أعلاه- علاوة على موضوع الكتاب وعوامل اخرى- أوجبت طبعه مرّات عدّة، وترجمته، وجعلته موضع عناية المحقّقين.

طبع هذا الكتاب، حتى الآن، بشكل كامل، ومنتخب ومحقّق، ونُشرت منه نسخ باللغات العربية والتركية والفرنسية والانگليزية (1).

وننقل منه هنا فقرات تتعلّق بالحج:

رحلة الحجّ الأولى:

(وذهبتُ الى مرو، وطلبتُ إعفائي من عملي، وقلتُ: إني عازم على السفر الى القبلة (الحج)، وعليه فقد سدّدت حساباتي، وتركتُ من دُنياي ما أملك، إلّا القليل الضروري.

فقد رحلتُ من هناك (مشهد الخليل في قرية حبرون) قادماً إلى بيت


1- 1 لأجل الحصول على معلومات أكثر حول طبعات هذه الكتب، اقرأ: تحليل رحلة ناصر خسرو لجعفر الشعار طهران، قطره، 1371ص 28.

ص: 123

المقدس، وانطلقنا من بيت المقدس مع مجموعة كانت عازمة على السفر إلى الحجاز مشياً على الأقدام. لقد كان دليلُنا رجلًا جَلداً، مترجّلًا وطَلِق الوجه. وكان يسمى «أبو بكر الهمداني». وتركتُ بيت المقدس في النصف من ذي القعدة سنة 438 ه، وبعد ثلاثة أيام، وصلنا الى منطقة يُقال لها (ارعز) وكانت تحتوي على جداول ماءٍ وأشجار. ووصلنا إلى منزل آخر يُدعى (وادي القرى) ومن هناك انطلقنا الى منزل آخر، حيث وصلنا بعد عشرة أيام الى مكّة المكرّمة. وفي ذلك العام، لم تكن قد وصلت قافلة من أي مكان، وكان يصعب الحصول على الطعام، وبعد ذلك نزلنا في سكّة العطارين أمام باب النبيِّ عليه السلام.

ويوم الاثنين كنّا على عرفات. وكان الناس يهابون العرب كثيراً، وعند العودة من عرفات، مكثتُ في مكّة يومين، وسلكتُ طريق الشام عائداً الى بيت المقدس. ووصلنا إلى القدس في الخامس من شهر محرّم سنة تسع وثلاثين وأربعمائة هلالية.

لم آت هنا على شرح مكّة المكرّمة والحج، حتى أصل إلى بيان رحلة الحج الرابعة واستفيض بالشرح.

بعد بيت المقدس، عزمت على ركوب البحر، متوجّهاً إلى مصر، ومن ثمّ من هناك إلى مكّة المكرّمة.

رحلة الحجّ الثانية:

في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة هجرية تُليَ حُكم السلطان على الناس من أنّ أمير المؤمنين يقول: «لاصلاح من سفر الحجاج إلى الحجاز هذا العام؛ لأن القحط والجوع قد ضرب تلك البلاد، وأنّ خلقاً كثيراً قضوا نحبهم، وإنّي لأقول هذا من باب الشفقة الإسلامية». وانصرف الحجاج عن عزمهم. وعلى ما هو معهود، فإن السلطان كان يبعث بحلّة الكعبة- كل عام مرتين- ولمّا كانت النية هذا العام في إرسالها عن طريق بحر القُلزم، فقد رافقتهم في ذلك.

ص: 124

غادرت بلاد مصر في غرّة شهر ذي القعدة، ووصلتُ القلزم في العشرين منه، ومن هناك ركبنا السفينة، وبعد مضي 15 يوماً وصلنا إلى منطقة يُقال لها (جار)، وكان ذلك في الثاني والعشرين من نفس الشهر، وبعد أربعة أيام كنّا في مدينة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

المدينة:

مدينة الرسول- عليه السلام- بلدة تقع على أطراف الصحراء، وأرضها رطبة ومالحة، وتجري المياه فيها ولكن بشحّة، وبساتين النخيل تغطّيها. وهناك تكون القبلة باتجاه الجنوب. ومسجد رسول اللَّه- عليه الصلاة والسلام- يوازي المسجد الحرام في مساحته. وحجرة رسول اللَّه- عليه السلام- جنب منبر المسجد. فعندما تستقبل القبلة تكون إلى اليسار، وحينما يريد الخطيب ذكر النبيّ- عليه السلام- والصلاة عليه من على المنبر، يُدير بوجهه إلى اليمين، ويشير إلى قبره. وهذه المقبرة عبارة عن بيت خماسي الأضلاع، وقد ارتفعت جدرانها من بين أعمدة المسجد وعددها خمسة، وقد علت جدرانها واقية تمنع الدخول إليها، وقد وُضع في ساحتها مصيدة تمنع تردّد الطير هناك.

وبين القبر والمنبر حجرة أيضاً بُنيت من الرخام شبيهة بالعتبة، تسمى الروضة، ويُقال: إنّها بستان من بساتين الجنة. كما جاء في حديث رسول اللَّه- عليه السلام- حيث قال: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» وتقول الشيعة في هذا: هناك حيث قبر فاطمة الزهراء عليها السلام.

وللمسجد بابٌ. وخارج البلدة، نحو الشمالصحراء، وفيها مقبرة تضم قبر حمزة بن عبدالمطلب رضى الله عنه، وهذا الموضع يسمى بقبور الشهداء.

واستمرّت إقامتنا في المدينة يومين، ورحلنا عنها لضيق الوقت، حيث سلكنا طريق المشرق، وعلى مسافة منزلين من المدينة كان هناك جبل ومضائق عديدة كمضيق (الجحفة) وهو ميقات أهل المغرب والشام ومصر، والميقات هو

ص: 125

ذلك الموضع الذي يُحرم فيه الحجيج. ويُحكى أنه في إحدى السنين نزل بها حجاج كثيرون، وفجأة غمرهم سيلٌ عرم آبادهم عن آخرهم، ولهذا السبب سُمّي ب (الجُحفة). إن بين مكّة المكرّمة والمدينة مائة فرسخ، وهو طريق حجري، وقد قطعناه في ثمانية أيام.

مكّة:

وصلنا مكة، يوم الأحد، السادس من ذي الحجة، ونزلنا بباب الصفا، وكان عام قحطٍ على مكّة، حيث بلغ سعر كلّ أربعة أرغفة من الخبز ديناراً نيشابورياً واحداً، وكان المقيمون بمكّة يرحلون عنها، ولم يرد أي حاج من أي جهة. وقد أدّينا مراسم الحج على عرفات يوم الأربعاء، بفضلٍ من الباري- سبحانه وتعالى- ثم أقمنا بمكّة يومين، وكان خلقٌ كثيرٌ يهرب من الحجاز، ويهيم بوجهه في كلّصوب بسبب الجوع وقلّة الحيلة. ولن آتي على شرح الحج ووصف مكّة في هذه المرة، بل أدع ذلك إلى المرّة القادمة عندما أصل إليها. حيث المرّة القادمة جاورتها ستة أشهر وما رأته عيناي كتبته يداي.

رحلة الحجّ الثالثة:

ومرّة اخرى في رجب سنة أربعين وأربعمائة هجرية، تُلي حُكم السلطان على الخلق وقد جاء فيه: «ضرب القحط الحجاز، ولا نرىصلاحاً في سفر الحجيج، فهم معذورون، وعليهم بأداء ما أمرهم اللَّه تعالى به».

وفي ذلك العام أيضاً لم يسافر الحجاج. وقد بعث السلطان بهداياه السنوية المتكونة من حُلّة الكعبة، والخدم والحاشية لأمراء مكّة والمدينة، وصلة أمير مكّة وراتبه الشهري حيث كان ثلاثة آلاف دينار شهرياً وحصاناً وخِلعة، بعث كلّ ذلك ولكن على دفعتين، ولم يكن قد أخّرها عن قصور أو احتباس.

في هذا العام، كان هناك شخص يُدعى القاضي عبداللَّه، كان يقضي في الشام، وقد أسندوا إليه حمل تلك الهدايا، وقد رافقته إلى طريق القلزم، ووصلت السفينة

ص: 126

هذه المرّة إلى (جار) في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وكان الوقت يمضي بسرعة. وثمن البعير قد وصل إلى خمسة دنانير، فذهبتُ بعجلة.

وصلت مكّة في الثامن من شهر ذي الحجة وأديتُ مناسك الحج بتأييد من الحقّ- سبحانه وتعالى-.

ولمّا أنهيتُ مناسك الحج، عدتُ أدراجي إلى مصر، حيث كان لي هناك بعض الكتب، ولم تكن لي نية العودة.

رحلة الحج الرابعة:

والآن، أسردُ لكم قصة رجوعي إلى البيت الحرام، في مكة- حرسها اللَّه تعالى من الآفات- من مصر.

فقدصلّيتُ في القاهرةصلاة العيد، وركبتُ السفينة انطلاقاً من مصر، حيث جرت نحو الصعيد الأعلى، وذلك يوم الثلاثاء المصادف للرابع عشر من شهر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة هجرية.

جدّة:

وهي مدينة كبيرة، ولها قلعةٌ حصينة على شاطئ البحر، وفيها خمسة آلاف رجل، يحدّها البحر من الشمال، وتضمّ أسواقاً جميلة. واتجاه قبلة مسجد الجمعة نحو المشرق، ولا توجد أي عمارة خارج المدينة إلّاالمسجد المعروف بمسجد رسول اللَّه- عليه الصلاة والسلام- وبوابتا المدينة، الأولى باتجاه المشرق، التي تواجه مكّة، والثانية باتجاه الغرب، وهي تقابل البحر. والمسافة من هناك إلى مكّة اثنا عشر فرسخاً. وكان أمير جدّة عبداً لأمير مكّة، وكان يُلقّب بتاج المعالي بن أبي الفتوح، وكان أمير المدينة أيضاً كذلك. وقد نزلتُ عند أمير جدّة، وكان بي حفيّاً، وقد أعفاني من دفع الضريبة التي استحقت عليّ، وعند خروجي من بوابة مسلم إلى مكّة كتب أمير جدة يقول: «إنّ هذا رجل عالم، فلا تأخذوا منه شيئاً».

رحلنا عن جدّة يوم الجمعة وبعدصلاة العصر، ووصلنا إلى باب مدينة

ص: 127

مكّة، يوم الأحد، سلخ جمادى الآخرة. وكان فيها خلقٌ كثير جاؤوا من نواحي الحجاز واليمن؛ ليحضروا العمرة في أول رجب. وهو موسم عظيم وكذلك ليحضروا عيد الفطر، ويأتوا عند موسم الحج. ولأن مسيرهم قريب وسهل فهم يأتون ثلاث مرات كلّ عام.

وصف مدينة مكّة- شرّفها اللَّه تعالى-:

تحيط بمدينة مكّة الجبال العالية من كل جانب، وإذا توجهنا إليها من أي جهة كانت، لا نراها حتى نصل إليها، وأعلى الجبال القريبة منها هو جبل «أبو قبيس»، وهو يبدو كقبّة مدوّرة، إذا اطلق سهمٌ من قاعدته وصل إلى قمّته. ويقع على مشرق المدينة، فإذا كنا في شهر دى (هذا الشهر وباقي الشهور الأخرى المذكورة في هذه الرحلة هي من الشهور الهجرية الشمسية) في المسجد الحرام، أشرقت الشمس من فوقه، وعلى قمته ميلٌ من حجر منتصب، يقال: إن إبراهيم عليه السلام نصبه. والعرصة التي أمام الجبل تشكّل موقع المدينة، وهي على مرمى سهمين ليس إلّا، ويقع المسجد الحرام وسط هذه العرصة. وتحيط المدينة بالمسجد الحرام من كلّصوب بأزقّتها وأسواقها.

وكلّ شَقّ في داخل الجبل يشكّل باباً، وقد بني له جدار وقلعة، وعليها بوابة.

ولا يوجد في المدينة أي شجرة سوى واحدة على باب المسجد الحرام، تقع بجهة المغرب. وبجهة المشرق من المسجد يوجد سوق كبير يمتدّ من الجنوب إلى الشمال. ويعلو جبل أبو قبيس على الطرف الجنوبي للسوق. وتقع عند قاعدة أبو قبيس (الصفا)، وقد جعلوا في قاعدة الجبل مدرجات كبيرة، بحيثصُفَّت أحجارها بالتسلسل؛ ليقف الناس على أعتابها ويشتغلوا بالدعاء. وفي نهاية السوق، من جهة الشمال جبل (مروة) وهو عالٍ قليلًا في وسط المدينة، وقد بنوا منازل كثيرة عليه، فيسعى الناس في السوق من أقصاه إلى أقصاه، وما يُقال عن الصفا والمروة هو هذا.

ص: 128

وللّذي ينوي العمرة، إذا أقبل من مكان بعيد، وكان على مسافة نصف فرسخ من مكّة، فأينما وجد الأميال منصوبة، ورأى المساجد، أحرم من هناك للعمرة.

والإحرام هو أن ينزع عنه الثياب المخاطة ويشدّ إزاراً على ظهره، ويلفّ آخر على بدنه ويهتف بصوتٍ عالٍ: «لبّيك اللّهم لبّيك...» ويتّجهصوب مكّة.

وأما المقيم بمكّة ممّن نوى العمرة، إذا وصل إلى تلك الأميال فعليه الإحرام، ويصيح لبّيك، ثم يأتي إلى مكّة بنيّة العمرة، وإذا وصل إلى المدينة أتى المسجد الحرام، واقترب من بيت اللَّه، ويطوف من اليمين، فيكون البيت على يساره: ويصل إلى الركن الذي فيه الحجر الأسود فيقبّله، ويعدّي الحجر، ويطوف حتى يصل مرّة اخرى إلى الحجر ويقبّله فيكون هذا شوطاً واحداً ويكرّره سبع مرّات. ثلاث منها في حالة الهرولة، والأربعة الباقية بتوءَدة. وإذا فرغ من الطواف، يذهب إلى مقام إبراهيم عليه السلام في مقابل البيت، ويقف وراء المقام، فيكون بينه وبين البيت. ويُصلّي عنده ركعتين يقال لها:صلاة الطواف. وبعد ذلك يأتي إلى بئر زمزم، ويشرب منه الماء، أو يمسح به على وجهه، وبعدها يخرج من المسجد الحرام إلى باب الصفا- وهو أحد أبواب المسجد، فإذا خرج منه لقيه جبل الصفا- فيقف على أعتاب جبل الصفا، ويستقبل البيت، ويدعو بالدعاء المعلوم. وبعد قراءته الدعاء، ينزل منه، ويذهب نحو المروة عن طريق السوق، بحيث يكون اتجاهه من الجنوب إلى الشمال، وعندما يمرّ بهذا السوق يدور حول أبواب المسجد الحرام، وداخل السوق- وفي المكان الذي سعى فيه رسول اللَّه، عليه الصلاة والسلام، وهرول وآخرون كذلك هرولوا- يهرول خمسين خطوة.

يوجد على طرفي هذا الموضع- موضع الهرولة-، أربع منارات، فيأتي الناس من جبل الصفا، وعندما يتوسطون هاتين المنارتين، يهرولون من هناك، حتى يصلوا إلى المنارتين الأخريين، الواقعتين في الطرف الآخر من السوق؛ ليمشوا بعدها بتمهّل، حتى جبل مروة، وحينما كانوا يَصلون إلى الأعتاب يصعدون عليها،

ص: 129

ويدعون بذلك الدعاء المعلوم، ويعودون أدراجهم. ومرّة اخرى يدخلون إلى هذا السوق. فعندما يسعون أربع مرات من الصفا إلى المروة، وثلاث مرات من المروة فإنهم بذلك يقطعون السوق سبع مرات، وينزلون من جبل المروة على سوقٍ فيه عشرون دكاناً متقابلة، وفيه حجّامون، وهم منتظرون ليحلقوا الرؤوس. وعندما تنتهي العمرة، يخرجون من الحرم، إلى هذا السوق الكبير الواقع بجهة المشرق، والذي يُدعى بسوق العطّارين: وفيه أبنية جميلة، وكلّهم بائعوا عقاقير.

يوجد في مكّة حمّامان. أرضيّتهما من الحجر الأخضر، وهو الحجر الذي تُسنّ به السكاكين. ولقد خمّنتُ أن عدد سكان مكّة لا يتجاوز ألفي رجل من الحضر، والبقية الذين يقدّرون بخمسمائة رجل هم من الغرباء والمجاورين. وفي ذلك الزمان، كان القحط قد ضرب المدينة، وكانت قيمة 16 مَنّاً من الحنطة، ديناراً مغربياً واحداً مما دفع أهل مكة للخروج منها.

توجد داخل مدينة مكّة منازل كبيرة خاصة لمسافري بلاد خُراسان، وما وراء النهر، والعراق وغيره، ولكن كانت في معظمها خَرِبة ومُهدّمة. وقد شيّد خلفاء بغداد هناك أبنية عديدة وجميلة. وفي ذلك الزمان الذي وصلنا فيه، كان بعضها قد هُدِّم وبعضها الآخر قد بنوا عليها الأبنية الخاصة.

آبار مكّة كلّها مالحة ومُرّة، إلى درجة يصعب شربها، ولكنهم بنوا أحواضاً ومصانع كثيرة قُدّرت كلفة كلّ منها بعشرة آلاف دينار. حيث تمتلئ هذه الأحواض بمياه الأمطار الجارية من الوديان. وفي ذلك الوقت الذي كنّا هناك كانت خالية.

وكان أمير عدن هناك، حيث كان يُدعى ب «ابن شاد دل».

وقد جلب ماء من السراديب إلى مكّة، وبذل في سبيل ذلك أموالًا طائلة، وفي عرفات كانوا يأخذون من ذلك الماء لزراعتهم. وقد سخّروا الماء لتلك المنطقة.

وأنشأوا بساتين فيها، وكان قليل منه يأتي إلى مكّة، ولكن لا يصل الى المدينة

ص: 130

نفسها. وكذلك أنشأوا حوضاً؛ يتجمّع الماء فيه، فيأخذ منه السقّاؤون؛ لبيعه في المدينة.

وعلى مسافة نصف فرسخ من طريق برقة، يوجد مسجدٌ جميلٌ يضمّ بئراً يقال له بئر الزاهد، وماء ذلك البئر عذبٌ، ولهذا يذهب السُقاة إلى هناك ويحملون الماء ليبيعوه في المدينة.

إن المناخ في مكة قائض. ووجدت هناك الخيار والأترج والباذنجان الطازج، حيث كان الوقت أواخر شهر بهمن. وهذه هي المرة الرابعة التي أزور بها مكّة، وقد جاورتها من غرّة رجب سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة وحتى العشرين من شهر ذي الحجة.

في الخامس عشر من شهر فروردين كان العنب قد نضج، وقد شحنوه من الأرياف إلى المدينة، لبيعه في الأسواق. وفي أوائل شهر ارديبهشت، وصلت كمّيات كبيرة من البطيخ إلى هنا، وكان الشتاء هناك يحمل معه مختلف أنواع الفاكهة، ولم تخلُ الأسواق منها أبداً.

قلنا في وصفنا للمسجد الحرام والكعبة المشرفة: إنّ الكعبة تتوسط المسجد الحرام، والمسجد يتوسط مكّة، أما جدار المسجد فمنحنٍ وأركانه مائلة وهو أقرب إلى الدائرة، لتكون الصلاة فيه، ومن جميع الجهات، باستقبال القبلة. ويبلغ طول المسجد الذي يبدأ من المشرق الى المغرب أي من باب إبراهيم عليه السلام وانتهاءً بباب بني هاشم (424) أرشاً، وعرضه من باب الندوة، من جهة الشمال، وحتى باب الصفا، في الجنوب، في أوسع نقاطه، يكون بحدود (304) أرشات. وبسبب شكله الدائري، فهو يحتوي على أماكن واسعة واخرى ضيّقة.

وتحيط بالمسجد من جميع أطرافه، ثلاثة أروقة مغطاة ومحمولة على أعمدة من رُخام، وتشكل هذه الأعمدة خمسة وأربعين قوساً تحيط بساحة المسجد، وعرضها كان ثلاثة وعشرين قوساً، أما عدد الأعمدة الرخامية فهو مائة وأربعة

ص: 131

وثمانون عموداً. وقيل: إنّ جميع هذه الأعمدة، قد جي ء بها من الشام بطريق البحر وذلك بأمرٍ من خلفاء بغداد. وقيل كذلك: إنّ الأعمدة التي يُراد وصولها إلى مكّة، قد انقطعت الحبال التي كانت تُربط بالسفينة التي تحملها وبالعجلات، فتمّ بيعها بستّين ألف دينارٍ مغربياً. وأحد تلك الأعمدة، هو ذلك المنصوب على باب الندوة، وهو عمود رخامي أحمر، وقد ابتاعوه بثقله من الدنانير، وكان وزن العمود الواحد حوالى ثلاثة آلاف مَنّ.

للمسجد الحرام ثمانية عشر باباً، بُنيت كلّها على شكل أقواس، على أعمدة من رُخام.

وتوجد في جهة المشرق، أربعة أبواب: باب النّبي في الزاوية الشمالية وهو مربوط بثلاثة أقواس، وعلى هذه الجهة وفي الزاوية الجنوبية، يوجد باب آخر، وهو أيضاً يسمى بباب النبيّ، والمسافة بين هذين البابين تزيد على مئة أرش.

وهذا الباب مربوط بقوسين، وعندما تخرج من هذا الباب يصادفك سوق العطّارين، حيث كان منزل رسول اللَّه- عليه السلام- في ذلك الزقاق. ويرد إلى الصلاة في المسجد من خلال هذا الباب.

ويلي هذا الباب، على الجدار الشرقي، باب علي عليه السلام وهو الباب الذي كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يَرِدُ منه لأداء الصلاة. وهو مربوط بثلاثة أقواس، وبعد أن تُعدّي هذا الباب، توجد منارة اخرى على زاوية المسجد، وهي تقع على أول السعي، فيجب الهرولة من هذه المنارة، التي هي باب بني هاشم، وهذه هي إحدى المنارات الأربع.

ويوجد على الجدار الجنوبي، الذي يشكّل طول المسجد، سبعة أبواب:

الأول يقع في الركن- وقد جُعل على شكل نصف دائرة- ويسمى بباب الدقاقين، ومربوط بقوسين، وإذا اتّجهت قليلًا نحو جهة الغرب، تجد باباً آخر وقد ربط بقوسين، يدعى بباب الفسانين. وإذا تابعت السير قليلًا سيصادفك باب الصفا، قد

ص: 132

ربط بخمسة أقواس. وأكبر هذه الأقواس، القوس الأوسط، وعلى كلّ جانب، قوسانصغيران، وكان رسول اللَّه- عليه السلام- يخرج من هذا الباب ليصل إلى الصفا ويدعو فيه. وعتبة هذا القوس الأوسط تتألف من حجر أبيض عظيم، وآخر أسود حيث كان رسول اللَّه- عليه الصلاة والسلام- يضع قدمه المباركة عليه. وقد طُبع أثر قدمه الشريفة عليه، وقد اقْتُطِع ذلك الجزء الذي يحمل الأثر المبارك من الحجر الأسود المذكور، ورُكّبَ على الحجر الأبيض، وأنّ رؤوس أصابع القدم تتجه داخل المسجد. وكان بعض الحجاج يمرّغ وجههُ على ذلك الأثر تبرّكاً، والبعض الآخر يرتَئي وضع قدمه عليه، أمّا أنا، فأعتبرُ وضع وجهي على الأثر أدعى.

ونذهب من باب الصفا قليلًا باتجاه المغرب، ليواجهنا باب الطوى وقد ربط بقوسين، ونتابع السير قليلًا فنصل إلى باب التمارين، وقد ربط بقوسين، وعندما نتجاوز الباب المذكور نجد باب المعامل وهو كذلك مربوط بقوسين. ويقابله دار أبي جهل، التي تحولت الآن إلى دورة مياه.

وهناك ثلاثة أبواب على الجدار الغربي، والذي يشكّل عرض المسجد.

الأول: في الزاوية المطلّة على الجنوب، وهو يحتوي على عروة ومربوط بقوسين، وفي وسط هذا الضلع، يوجد باب إبراهيم عليه السلام بثلاثة أقواس.

وأمّا على الجدار الشمالي، الذي يشكّل طول المسجد، فهناك أربعة أبواب، ففي الزاوية الغربية يوجد الباب الوسيط بقوس واحد، وعندما تتركه متجهاًصوب المشرق، يلاقيك باب العجلة بقوس واحد. وعندما نستمر في السير نحو أواسط الضلع الشمالي، يواجهنا باب الندوة بقوسين، ويليه باب المشاورة بقوسٍ واحد. وعندما تصل إلى زاوية المسجد، في الجهة الشمالية الشرقية، يلاقيك باب يُقال له باب بني شيبة.

وتتوسط الكعبة ساحة المسجد، وهي مربعة الشكل طولانية، وطولها من

ص: 133

الشمال إلى الجنوب ثلاثون أرشاً، وعرضها من المشرق إلى المغرب ستة عشر أرشاً.

وباب الكعبة هو باتجاه المشرق، وعند الدخول إلى الكعبة المشرفة يكون الركن العراقي على اليمين، وركن الحجر الأسود على اليسار، والركن الغربي الجنوبي يقال له بالركن اليماني. والركن الشمالي الغربي هو الركن الشامي. والحجر الأسود موجود على زاوية الجدار وقد رُكّب داخل حجر كبير، ومكان الحجر يصل الىصدر شخص يقف منتصباً، وأما ارتفاعه فهو بمقدار كفّ وأربعة أصابع وعرضه ثمانية أصابع. وشكله مدوّر، والفاصلة بين الحجر الأسود وباب الكعبة هي أربعة أرشات. وتدعى هذه الفاصلة بالملتزم. وتعلو باب الكعبة عن الأرض بأكثر من أربعة أرشات، وإذا وقف رجل على الأرض، وانتصب بقامته فسيصل برأسه إلى العتبة. وقدصُنع سلّمٌ من خشب يُوضع أمام الباب عند الحاجة؛ ليصعد عليه مَنْ يريد دخول البيت، وهو من الوُسع بحيث يمكن لعشرة أشخاص ملتصقين من الجوانب الصعود والنزول عليه. وأما أرض الكعبة فهي بالارتفاع الذي ذُكر آنفاً.

وصف باب الكعبة: باب مصنوع من الخشب الساج، ويحتوي على مصراعين، وارتفاع الباب 5/ 6 أرش، وعرض كلّ مصراع ذراع واحدة وثلاثة أرباع الذراع، في حين أن عرض المصراعين هو 5/ 3 ذراع، وهناك على الباب كتابات، وعلى مستوى واحد، وجرى تنقيرها على شكل دوائر وكتابات منقوشة من الذهب والفضة.

وقد كتبت هذه الآية عليها حتى آخرها: إنّ أوّل بيتٍ وُضع للناس للّذي ببكّة...، ووضُعت حلقتان فضيّتان كبيرتان أُرسلتا من غزنين، على مصراعي الباب. لا تصل اليد إليهما.

وهناك حلقتان فضيتان اخريانصغيرتان، وضعتا كذلك على مصراعي الباب، وهما في متناول اليد، وهناك قفل فضّي كبير يوضع على الحلقتين السفليّتين

ص: 134

فتغلق بذلك الباب. وما لم يُرفع القفل لا ينفتح الباب أبداً.

وصف داخل الكعبة:

يبلغ عرض الحائط، أي ثُخنه، ستة أشبار. وأرضية البيت هي من الرخام الأبيض، وتوجد في البيت ثلاث خلوات شبيهة بالدكاكين، إحداها أمام الباب، والاخريان على الجانب والشمال. والأعمدة المنصوبة تحت السقف في داخل البيت هي من الخشب، مقلّمة من أطراف أربعة، ومصنوعة من خشب الساج، عدا عمود واحد مدوّر. وفي جهة الشمال يوجد سرير رخامي أحمر طويل افترش الأرض، حيث يُقال: إنّ رسول اللَّه- عليه الصلاة والسلام-صلّى عليه، ولذلك يسعى للصلاة عليه كلّ من يراه.

وجدران البيت مغطّاة كلّها بصفائح من الرخام الملوّن. وهناك على الجانب الغربي، توجد ستة محاريب مصنوعة من فضة وذهب؛ وقد خيطت على الجدار بالمسامير، وارتفاع كلّ واحدة منها بمقدار قامة رجل، كما أنها مرتفعة عن الأرض. وقد ارتفع أيضاً جدار البيت 4 أرشات من الأرض. وعلاوة على هذا، فالجدار مبنيّ من الرخام حتى السقف. وقد نُقرت عليه النقوش. والجدران الأربعة مطلية بالذهب في معظمها.

أمّا في الخلوات الثلاث التي مرّ ذكرها سابقاً، الموجودة إحداها في الركن العراقي، والثانية في الركن الشامي، والثالثة في الركن اليماني، ففي كلٍّ من هذه الأركان، يوجد لوحان خشبيان خيطا على الجدار بمسامير فضية، وهي الألواح المتبقية من سفينة نوح عليه السلام وطولّ كل لوحة خمسة أذرع، وعرضها ذراع واحد.

وقد أُسدل على زاوية الحجر الأسود من داخل البيت الديباج الأحمر، وفي جهة اليمين عند الخروج من باب البيت، حيث زاوية من البيت وقد قسمت الى أربع جهات، بمقدار 3 أذرع* 3 أذرع، وفي هذا المكان يوجد سلّمٌ يؤدي الى سطح البيت، وقد وضع عليه بابٌ فضيّ، يسمّى باب الرحمة. وعلى الباب قفلٌ فضّي.

ص: 135

وإذا كنتَ على السطح وجدتَ هناك باباً كباب السطح، غُطّي سطحا الباب بالفضة.

أما سطح البيت فقد غُطّي بالخشب، الذي غطّي هو الآخر بالديباج، بحيث لا يُشاهد أي أثر للخشب، وعلى جدار واجهة البيت، أعلى الخشب، خيطت كتابات مذهّبة، وقد كُتب اسم سلطان مصر العزيز لدين اللَّه على هذه القطعة، أيام استيلائه على مكّة، وإخراجها من سلطة الخلفاء العباسيّين. وهناك أربع ألواح فضّية كبيرة اخرى متقابلة، خيطت كذلك على حائط البيت بمسامير من فضة، ونُقش على كلّ منها اسم أحد سلاطين مصر، حيث بعث كلّ منهم لوحاً من هذه الألواح أيام ملكه.

وعُلّقت بين الأعمدة ثلاث قناديل فضية، وقد غُطّي البيت من الخارج برخام يماني كالبلور، وللبيت أربع نوافذ تقع في الزوايا الأربع، وعلى كل نافذة، وُضع لوح زجاجي لإنارة البيت، وليحول دون نفوذ مياه الأمطار إلى الداخل.

وميزاب البيت هو في جهة الشمال، في الوسط تماماً، وبطول ثلاثة أذرع، وقد نُقشت عليه كتابات ذهبية. وحُلّة البيت كانت بيضاء، وكانت مطرّزة في موضعين، وكلّ طراز بعرض ذراع واحد، والفاصلة بين الطرازين حوالى عشرة أذرع، وتفصل نفس هذه المسافة من أعلى وأسفل الطرازين، حيث ينقسم ارتفاع البيت بواسطة هذين الطرازين إلى ثلاثة أقسام، وكلّ قسم بطول عشرة أذرع. وعلى الأوجه الأربعة للحلّة، حِيكَت محاريب ملونة ونقشت عليها خيوط من ذهب، ويوجد على كل جدار محاريب ثلاثة: واحدٌ كبير في الوسط، وعلى جانبيه اثنانصغيران، فيكون بذلك عدد المحاريب المنقوشة على جدران البيت اثني عشر محراباً.

حِجر إسماعيل:

خارج البيت، في الجهة الشمالية منه، بُني جدار بمقدار ذراع واحد ونصف

ص: 136

الذراع، ويقترب طرفا الجدار من البيت، بحيث يكون مقوّساً، على شكل نصف دائرة، وتبعد نقطة الوسط لهذا الجدار عن جدار البيت بحوالى خمسة عشر ذراعاً، وقد جُعل جدار وأرض هذا الموضع من نفس رخام البيت وبمقدار خمسة عشر ذراعاً، وهو من الرخام الملوّن والمنقوش. وهذا الموضع يقال له حِجر. ويفرغ الميزاب الماء المتجمع على سطح البيت في هذا الحِجر. ووُضعت تحت الميزاب لوحة حجرية خضراء، على شكل محراب؛ ليتساقط ماء الميزاب عليه، ومساحتها بمقدار يستطيع شخص واحد الصلاة عليها.

مقام إبراهيم:

وهو من البيت، يقع في جهة المشرق، ويحمل أثر قدمي إبراهيم عليه السلام، وقد وضع على حَجر آخر، وجُعل له غطاء خشبي ذو أربعة أطراف يكون بمقدار قامة إنسان، وقد أُنجز بأروع شكل، ويحمل طبولًا فضّية. وهذا الغطاء مربوط من الجانبين إلى أحجار ضخمة بواسطة سلاسل، ووضع عليها قفلان، حتى لا تمسّها يد، والمسافة بين المقام والبيت هي ثلاثون أرشاً.

بئر زمزم:

وهي من الكعبة المشرفة، وتقع في جهة المشرق، في زاوية الحجر الأسود، وتبعد عن البيت ستة وأربعين أرشاً. ووسع فوهة البئر 5/ 3* 5/ 3 ذراع وماؤها مالح، ولكن يمكن شربه، وقد بنوا على فوهة البئر حُجرة من ألواح الرخام الأبيض، ارتفاعها أرشان، ووضعوا خزانات على أربع جهات، ليصبّوا فيها الماء، حتى يتوضّأ الناس منها، وقدصُمِّمَت أرضيّة بيت زمزم بشكل مشبّك وهي من الخشب، لجذب الماء المسكوب بسرعة.

وباب هذا البيت (زمزم) متّجه نحو المشرق، ويقابله من جهة المشرق، بيت آخر مربع الشكل، يحوي قبّة، يُعرف بسقاية الحاجّ. وُضعت في داخله جِرار ليستقي منها الحجّاج، وعلى مشرق سقاية الحاج أيضاً يوجد بيت آخر طويل،

ص: 137

يحوي ثلاث قُبب، يُدعى بخزانة الزيت، في داخله شموع وزيت وقناديل.

وغُرزت حول الكعبة أعمدة، وعلى رأس كلّ زوج منها وضع خشب، أجريت عليها أعمال النقارة والنقش، وعُلّقت عليها حلقات وكلّابات ليعلّقوا عليها في المساء، المصابيح والقناديل، ويُطلق عليها اسم المشاعل. وبين جدار الكعبة وهذه المشاعل المذكورة، حوالى مائة وخمسين ذراعاً، وهو مكان الطواف.

والبيوت الموجودة في ساحة المسجد الحرام عدا الكعبة المعظمة- شرّفها اللَّه تعالى- هي:

زمزم.

سقاية الحاج.

خزانة الزيت.

وتحت الغطاء الذي يحيط بالمسجد بجانب الجدار، توجدصناديق، كلّ منها مختصّة ببلدان المغرب، مصر، الشام، الروم، العراقين، خراسان وماوراء النهر وغيرها.

وعلى مسافة أربعة فراسخ إلى الشمال من مكّة، هناك منطقة يُقال لها برقة، وهي مقرّ أمير مكّة مع جنده، وتحتوي على الماء الجاري والأشجار، ويبلغ طولها فرسخين، ويبلغ نحواً من ذلك عرضها.

وفي هذه السنة، جاورتُ مكّة من أوّل شهر رجب، وقد جرت عادتهم على فتح باب الكعبة في شهر رجب كلّ يوم عند مطلع الشمس.

وصف فتح باب الكعبة- شرّفها اللَّه تعالى-:

إن مفاتيح الكعبة المشرّفة عند قبيلة من العرب يقال لها «بنو شيبة»، ويقوم على خدمتها زعيمهم. وهو يستلم من سلطان مصر المشاهرة (الراتب الشهري) وخلعة. وهو الزعيم الذي بيده المفاتيح، وإذا حضر رافقه خمسة أو ستة أشخاص، فإذا وصل الزعيم مع مرافقيه، ذهب عشرة أشخاص، وحملوا السُلّم- الذي مرّ ذكره- وجاؤوا به إلى الكعبة ووضعوه أمام الباب، فيصعد عليه ذلك الشيخ

ص: 138

الزعيم، ويقف على العتبة، ويصعد اثنان آخران حتى يرفعا عن الباب الحلّة والديباج. فيمسك أحدهما أحد الطرفين، ويمسك الثاني بالطرف الآخر، كأنهم أرادوا أن يلبسوا الزعيم لبّادة وهو يفتح الباب، فيفتح القفل وينزع الحلقة منها، وفي هذه الأثناء يقف عند باب الكعبة جمع من الحجيج يرفعون أيديهم مبتهلين عند فتح الباب، وعندما يتعالىصوت الحجيج يعلم كلّ الحاضرين في مكّة أن باب البيت قد فُتح، فيهمّ الجميع بالابتهال والدعاء بصوت عالٍ، فتدوّي الأصوات المنادية دويّاً عظيماً في أنحاء مكّة، وعندها يدخل ذلك الشيخ إلى داخل البيت، فيُصلّي فيه ركعتين، حيث لا يزال الشخصان حاملين حلّة الكعبة. ثم يرجع الشيخ ويترك باب الكعبة مفتوحاً على مصراعيه، ويقف على العتبة ليخطب بالناس- بصوت جهور- فيُصلّي على رسول اللَّه- عليه الصلاة والسلام- وعلى أهل بيته. عندها يقف ذلك الشيخ ومُرافقوه على جانبي باب الكعبة فيُمسكون بالحاجّ ويُدخلونه الى الكعبة، فيُصلّي الحجيج ركعتين، ويخرجون، ويستمرّون على ذلك حتى ينتصف النهار، فيؤدّون الصلاة في البيت تجاه باب الكعبة وإن جاز أداؤها إلى ساير الجوانب. ولقد أحصيت عدد الناس الذين دخلوا البيت بحيث لم يبق متّسع لأحد يدخل، فكانوا سبعمائة وعشرين رجلًا.

إنّ حجاج اليمن عندما يأتون إلى الحج، يفعلون كما يفعل الهنود، حيث يلفّون مئزراً على ظهورهم، ويُسدلون شعرهم، ويضفرون لحاهم، متحزّمين بخناجرهم القطيفية، كالهنود، ويُقال إن أصل الهنود من اليمن.

وتُفتح باب الكعبة خلال أشهر شعبان ورمضان وشوال، وأيّام الاثنين والخميس والجمعة، وتُغلق بحلول شهر ذي القعدة.

عمرة جعرانة:

على بعد أربعة فراسخ الى الشمال من مكّة، هناك منطقة تسمى جُعرانة، فمن هذا المكان أحرم المصطفىصلى الله عليه و آله مع جيشه يوم السادس عشر من ذي القعدة، وجاء

ص: 139

إلى مكّة لأداء العمرة. ويحتوي هذا المكان على بئرين: الأولى يُقال لها: بئر الرسول، والثانية: بئر علي بن أبي طالب-صلوات اللَّه عليهما- وماء البئرين عذب فرات، وتفصلهما عن بعضهما عشرة أذرع، ولا تزال تلك السُنّة قائمة، حيث يعتمر الناس من ذلك الموسم. وبالقرب من تلك الآبار يقع جبلٌ تكثر فيه حُفرٌ حجرية تشبه الجِفان أو الأحواض الصغيرة، ويُقال: إنّ النبيّصلى الله عليه و آله كان يَعجن الطحين بيديه الشريفتين في تلك الحُفر. وكذا يفعل الناس الذين يذهبون إلى هناك حيث يقومون بعجن الطحين من ماء تلك الآبار.

وتوجد في هذه المنطقة أشجار كثيرة، يأخذون حطبها ليطبخوا عليه خبزهم فيحملوه معهم ليوزّعوه بعد ذلك تبرّكاً. وهناك توجدصخرة كبيره حيث وقف عليها بلال الحبشي ليؤذّن للصلاة، فلهذا يصعد بعض الناس عليها ليؤذّنوا للصلاة. وفي الوقت الذي كنت هناك، كان الحشد عظيماً، حيث زاد عدد الإبل العِمارية على الألف، واللَّه أعلم بعددها بعد ذلك.

عرفات:

كانت المسافة في الطريق الذي سلكته من مصر الى مكّة هذه المرّة، حوالى ثلاثمائة فرسخ، ومن مكّة إلى اليمن كانت اثني عشر فرسخاً، وصحراء عرفات تبدو وكأنها ضائعة بين الجبال، كالتلال الصغيرة، ووسعها بمقدار فرسخين في فرسخين. وهناك مسجدٌ في هذه الصحراء بناه إبراهيم عليه السلام ولكن لم يبق منه غير منبر خَرِب من الآجر، وعندما يحين وقت الصلاة، يصعد عليه الخطيب، ويُلقي خطبته، ثمّ يُؤذّن للصلاة، وتُؤدَّى ركعتا الصلاة جماعةً وقصراً كصلاة المسافر.

والجميع في هذا الوقت يؤدّون ركعتين اخريين من الصلاة جماعةً، ثم يركب الخطيب على البعير ويتجه نحو المشرق.

جبل الرحمة:

وعلى بُعد فرسخ من هناك، يوجد جبلصغير وحجري يُقال له: جبل

ص: 140

الرحمة، هناك يقف الحجيج ويبتهلون حتى غروب الشمس.

وابن شاد دل أمير عدن، الذي جلب الماء من أماكن بعيدة، وصرف أموالًا طائلة من أجل هذا كما ذكرنا سابقاً، كان قد جلب الماء من هذا الجبل وذهب به إلىصحراء عرفات. وقد أنشأ هناك الأحواض التي تملأ بالماء أثناء موسم الحج ليستقي منه الحاج. وابن شاد دل هذا، قد أنشأ غرفةً عظيمةً على جبل الرحمة، وفي أيام عرفات توقد المصابيح والشموع، وتوضع على قبة هذا البناء حتى يمكن للقادم رؤيتها على مسافة فرسخين.

ويقال: إنّ أمير مكّة قد تلقّى مبلغ ألف دينار من أمير عدن مقابل السماح له بإنشاء ذلك البناء!!...

المشعر الحرام:

في التاسع من شهر ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة هجرية، أدّيت مناسك الحج بفضل اللَّه سبحانه وتعالى، وللمرّة الرابعة. وقد رجع الخطيب والحجيج من عرفات عند غروب الشمس، وقطعوا فرسخاً واحداً حتى وصلوا إلى المشعر الحرام، ويسمى هذا المكان بالمزدلفة، وهو بناء جيد، يشبه المقصورة، ليؤدّي فيه الناس الصلاة، ويأخذوا منه الحصى التي سيرمون بها الجمرات في منى، وجرت العادة على أن يقضوا ليلة العيد هناك، ثمّ يؤدّواصلاة الصبح، وبطلوع الشمس يتحركون إلى منى، ليرمي الحجاج الجمرات ويذبحوا أضاحيهم هناك. كما يوجد هناك مسجد كبير يسمى مسجد الخيف. وليست العادة أن تقامصلاة العيد والخطبة بمنى، ولم يأمر المصطفىصلى الله عليه و آله بهذا. فاليوم العاشر يكونون بمنى ويرمون الحصى، وشرح ذلك قد ورد في مناسك الحج. وفي الثاني عشر من الشهر، كلّ من عزم على العودة، يعود من هنا، وأمّا المقيمون بمكّة، فيعودون أدراجهم إليها (1).


1- 1 فقرات منقولة، عن رحلة ناصر خسرو بتصحيح نادر وزين پور حيث أوردت معلومات عن التعريف بالكتاب. في كتابة هذه المقالة، إضافة للمصادر أعلاه، فقد تمّ الاستفادة من هذين الكتابين: مع قافلة الحُلّة: مجموعة النقد الأدبي، لعبد الحسين زرين كوب، طهران، علمي، 1370 آواره يمگانص 101- 85. لقاء مع أهل العلم: حول العشرين كتاب للنثر الفارسي، لغلامحسين يوسفي طهران، علمي، 1367 سيري در آفاقص 86- 53.

ص: 141

مختاراتٌ شعرية

ص: 142

مختاراتٌ شعرية

رفعوا الأكفَّ وأرسلوا الدعواتِ وتجرّدوا للَّهِ في عرفاتِ

شُعْثاً تُجَلِّلهُمْ سحائبُ رحمةٍ غُبْراً يفيضُ النورُ في القَسَمات

وكَأَنَّ أجنحةَ الملائكِ عانقَتْ أرواحَهم بالبرّ والطاعات

فتنزلت بين الضلوع سكينة علوية موصولة النفحات

وتصاعدت أنفاسهم مشبوبةً وجْدا يسيلُ بِوَاكِفِ العبراتِ

هذي ضيوفُك يا إلهي تبتغي عفواً وترجو سابغَ البركات

غصّتْ بهم في حلِّهِمْ ورحيلهم رحبُ الوهاد وواسعُ الفلوات

تركوا وراء ظهورهم دنيا الورى وأتَوْكَ في شوق وفي إخبات

وفدوا إلى أبواب جودك خُشَّعاً وتزاحموا في مهبط الرحمات

فاقبل إله العرش كلّ ضراعةٍ وامح الذنوب وكَفِّر الزلَّات

***

وتلفَّت الأقصى وبين جفونه دمعٌ وبين ضلوعه نيرانُ

ص: 143

وتلفَّت الأقصى لمكَّة لوعةً أختاه! تنهش أضلعي الغربانُ

أختاه! أين المسلمون وحشدهم أين الملايين الغثاة! أهانوا؟

أختاه! وانقطعت حبال ندائه واغرورقت من دمعه الأجفانُ

وهوت معاول كي تدقَّ حياضه وهوت على أمجاده الجدرانُ

القبلتان مرابعٌ موصولةٌ درجت على ساحاتها الفتيانُ

القبلتان يموج بينهما الهدى نوراً ويخشع عنده الإنسانُ

القبلتان وكلُّ رابيةٍ لها حرمٌ وكلُّ شعابه أكنانُ

يهدي الحمام إلى الشِّعاف هديله ويردُّ جنحيه رضىً وأمانُ

ويضمُّ بينهما ظلال نبوَّةٍ والصَّالحين فطاب منه مكانُ

والكعبة الغرَّاء بين حجيجها نورٌ وتحت ظلاله ركبانُ

تتقطَّع الأيَّام من أحداثها وحجيجها متواصلٌ ريَّانُ

ص: 144

يسعى وما ظمأ به، وبهاجر ظمأ الرُّبى ورضيعها ظمآنُ

أجرى لها الرَّحمن زَمزم آيَةً فَابتَلَّت السَّاحَات والأزمانُ

وجرى بكلِّ عروقها منه هوىً وصفت على جنباتها الغدرانُ

أمقام إبراهيم والبيت العتيق هدىً وآياتٌ له وبيانُ

الطَّائفون الرَّاكعون لربِّهم خفقت قلوبهم وضجَّ لسانُ

تتزاحم الأقدام في ساحاته وترفُّ بين ظلَاله الأَبدَانُ

ومنىًصدى ربواتها التَّوحيد والتكبير والإخبات والإذعانُ

عرفات ساحاتٌ تضجُّ ورحمةٌ تغشى ودمعٌ بينها هتَّانُ

لبَّيك يا اللَّه! وانطلقت بها رسلٌ وفوَّحت الرُّبى وجنانُ لبَّيك والدُّنياصدَى والأفق يرجعها ندىً يبتلُّ منه جنانُ

لبَّيك وحدك لَاشَريكَ لَكَ الرِّضَا وَالخير منكَ ببَابكَ الإحسَانُ

ص: 145

لبَّيك، والتفت الفؤاد ودارت العينان وانفلتت لها الأشجانُ

دقَّت قوارعها الدِّيار فزُلزلت تحت الخطى الأرباض والأركانُ

جمعت مراميه البلاد فمشرقٌ غافٍ وغربٌ لفَّه النِّسيانُ

أين الحجيج! وكلُّ قلبٍ ضارعٍ ومشارف الدُّنيا له آذانُ

نزعوا عن السَّاحات وانطلقت بهم سبلٌ وفرَّق جمعهم بلدانُ

وطوتهم الدُّنيا بكلِّ ضجيجها وهوىً يمزِّق شملهم وهوانُ

ومضى الحجيج كأنَّه ما ضمَّهم عرفات أو حرمٌ له ومكانُ

بالأمس كم لبُّوا على ساحاته بالأمس كم طافوا هناك وعانوا

عرفات ساحاتٌ يموت بها الصَّدى وتغيب خلف بطاحه الألوانُ

لم يبق في عرفات إلَّادمعةٌ سقطت فبكَّت حولها الوديانُ

هي دمعة الإسلام يلمع حولها أملٌ وتهرق بينها الأحزانُ

ص: 146

يا أمَّة القرآن دارك حلوةٌ ما طوَّفت ذكرى وهاج حنانُ في مدح الرسولصلى الله عليه و آله

عبدالحسين الحويزي

جلّ في الذكر للنبيّ ثناء ما حوت بعض وصفه الأنبياء

فهم نسبة لعلياء أرض وهو في مجده الرفيع سماء

وهو روح الهدى وهم منه جسم نشطت للهدى به الأعضاء

وهو قطب للكائنات عليه قد اديرت من العلى أرحاء

وهو بحر بكلّ علم محيط راشح منه في الخليقة ماء

قطرة من علومه تغرق الأر ض ومن بعضها يضيق الفضاء عرجت للسما له ذات قدس نشأت عن وجودها الأشياء

تلك ذات تجرّدت وصفات أنفذت آدماً لها أسماء

كونت قبل خلقه الكون نوراً وبمشكاته تجلى الضياء

ص: 147

حلّ من بارئ السما قاب قوسين غداة انتهت به العلياء

حيث لم يدر أين حلّ سوى اللَّه ومنه له أتاه النداء

قائلًا أنت خاتم الرسل جمعاً وعليهم لك استقل الولاء

أين للرسل من علاه مقام فيه للروح مهبط وارتقاء؟!

علة للوجود عائبة الصنع بها يصنع القضا ما يشاء

والمقادير طوع أمر يديه ينبريصرفها ويجري القضاء

سله اللَّه مرهفاً ذا غرارٍ فلّ حد الآجال منه مضاء

واولو العزم تحت ظل علاه خافق للعلى عليهم لواء

أفضل الأنبياء علماً وحلماً وبه للهدى أتت أنباء

وله حلت النبوة جيداً فصلت من عقوده الجوزاء

وتجلّت له الرسالة تاجاً قد تحلى به علًا وبهاء

ص: 148

ذاك خير الأنام بطناً وظهراً مَن اليه يعزى الندى والسخاء

واحد ماله من المجد ثانٍ لم يخب منه بالطلاب الرجاء

قدصفا بينه وبين علي مثل هارون الكليم أخاه

نفس هذا ونفس ذاك قديماً بالمعالي والكرامات سواء

هو وابناه والبتول وطه ضمّهم باليقين ذاك الكساء

خمسة كان سادساً لهم الروح بهم يعرف الهدى والعماء وبهم ينزل السماء فتحيا الأرض فيه وتكشف الغماء

فهم الداء للقلوب اللواتي لم يفد للرشاد فيها الدواء

أولياء الإله يبدو ولاهم حيث أعداؤه لهم أعداء

بدل السيئات عن حسنات حبهم حيث طعمه الكيمياء

بهم باهل النبيُّ النصارى فأبان الحق المبين انجلاء

ص: 149

آل بيت قد أذهب اللَّه عنهم كلّ رجس رجالهم والنساء

كم نجت فيهم عوالم قدماً حين حلّ القضا وعمّ البلاء

وبيوم الجزا لكلّ محب منهم رحمة يفيض الجزاء

ومن الكوثر الزلال يروون قلوباً تلوب وهي ضماء

عصمة في الوجود يأوي إليهم كلّ من انزلت به الضراء

كلّ شي ء يفنى وهم لاله الخلق وجه به يدوم البقاء

فالمثاني بهم مدى الدهر سبعاً ملؤها مدحة لهم وثناء

هم لوجه الإله نور تجلى تمّ في رشدها فما له اطفاء

وهموا للورى أئمة حقّ علماء في عصرهم حكماء

عن فيوض الاله ينهل منهم كرم هل سواهموا كرماء

قد أضاؤا كالزاهرات وجوهاً غير بدع فأمّهم زهراء

ص: 150

يا حماة الهدى بكلّ زمان ولباري السما هم الأولياء

يكشف الضر باسمهم في البرايا حين تدعوا ويستجاب الدعاء

يا بني الوحي رحمة اللَّه أنتم وبكم منه تمت الآلاء

أقعس اللَّه امّة جهلتكم ولكم عزة سمت قعساء شرعة الدين في الوجود تبدت فيكم فهي بالسنا غرّاء

فعليكم من الإلهصلاة ما دعت في أليفها الورقاء

الحجّ عبر الحضارات والامم

ص: 151

الحجّ عبر الحضارات والامم

ماجدة المؤمن

قد يعتقد بعض الناس أنّ الحجّ أمرٌ أو حالة تقتصر على الدين الإسلامي والمسلمين فقط، وبالكيفية التي فصّلتها كتب الفقه المستمدّة من الكتاب الكريم والسُنّة الشريفة.

ولكنّ المتتبّع للحضارات القديمة والديانات السماوية والوضعية يجد أنّ الحج ركن ديني أساسي، مارسته الحضارات المختلفة، وألِفَته الأديان السماوية والوضعية بشكل مشابه بعض الشي ء للحج الإسلامي.

ولعلَّ الكشوفات الأثرية الحديثة والتطوّر في المعارف والثقافة، والاطّلاع على الشعوب البدائية من خلال الدراسات «الإنثروبولوجية» الميدانية، لعلَّ كلّ ذلك كشف المزيد من المعلومات عن هذه الفريضة العالمية الكبيرة.

إنّ كثيراً من الهياكل والمعابد والمراكز الدينية المنتشرة في العالم، في بلاد وادي الرافدين وبلاد وادي النيل، وهياكل العبادة في كثير من المدن والبلدان هي في الحقيقة كانت مراكز أساسية للحج، يأتونها الزائرون قاصدين إليها لأداء أعمال

ص: 152

وأفعال وممارسات وطقوس محدّدة يعرفها المنتسبون لتلك الديانات.. يأتون في وقت محدّد وعلى جماعات، أَليس ذلك هو الحج؟

إنّ الحج وإن اختلف بين حضارة وحضارة ودين ودين، يبقى مرجعه ومحوره النموذجي هو الحج الذي فرضه اللَّه تعالى على عباده.

والمحور النموذجي والمرجع الحقيقي لكل حج في تاريخ الإنسان هو حج الأنبياء والرسل وحج إبراهيم عليه السلام الذي دعا الناس بأمرٍ من اللَّه تعالى لأوّل بيت مقدّس على وجه الأرض، إلى أوّل بيت من بيوت اللَّه جُعل للهداية ولغفران الذنوب، وهو بيت اللَّه العتيق في مكّة المكرّمة، قال تعالى: إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً وهدًى للعالمين (1)

.

أي: جعل هذا البيت لجميع الناس، ولجميع الأديان، منذ خلقه اللَّه تعالى حتّى يقوم الحساب، ولم يخصّصه لفئة معيّنة أو لدين معيّن؛ لأنّ الدعوة إلى الدين، مصدرها الواحد الأحد لا غير، فالخالق واحد، والدعوة إلى الهدى في جميع الأديان السماوية التوحيدية واحدة أيضاً، ولا يمكن أن يفرق بين عباده، بأن يجعل لأحدهم بيتاً مباركاً ذا رحمة وخير وبركة، ولا يجعل للآخرين مثله، وقوله تعالى:

وضع للناس و هدًى للعالمين يدل على ذلك المعنى.

لكنّ الناس عبر المسيرة البشرية حرّفت الأديان والتعاليم السماوية، والكتب المنزلة، كصحف إبراهيم عليه السلام، وتوراة موسى عليه السلام، وإنجيل عيسى عليه السلام، وزبور داود عليه السلام، إلى ما تشتهي الأنفس ويميل الهوى عندهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا (2)

، وابتعدوا تماماً عن الدين، إلّامن هدى اللَّه تعالى منهم، قال تعالى:

ولقد بعثنا في كلّ امّةٍ رسولًا أن اعبدوا اللَّه واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى اللَّه ومنهم من حقّت عليه الضلالة (3)

.

فلما ابتعد أكثر الناس عن الدين الحنيف- دين اللَّه- عبدوا الأصنام،


1- 1 آل عمران: 96.
2- 2 الأنعام: 70.
3- 3 النحل: 36.

ص: 153

وتعدّدت الآلهة، وصُنفت إلى إله الشمس وإله القمر وإله الخير وإله الشر...، وقدّسوا ظواهر الطبيعة من أشجار وغابات وجبال وأنهار وكواكب ووديان وأفلاك. وبعضهم الآخر قدّس قبور الموتى وحيوانات معيّنة...

وجعلوا منها أماكن ومراكز يزورونها في أوقات معيّنة وأكثرها زيارات الأعياد؛ لتكون زيارة جماعية موقتة بزمن ومكان، وإذا اجتمعت هذه الثنائية كوّنت حجّاً!.

الحج في حضارة وادي النيل

اشتهرت أرض مصر الفرعونية بالهياكل، والمقابر الضخمة كالاهرامات، وبتعدّد الآلهة إلّافي زمن اخناتون الموحِّد للآلهة.

فالهياكل انتشرت في أنحاء مصر القديمة وأشهرها «الكَرْنَكْ» و «الأُقصُر» و «إدْفُو» و «دَنْدارة». وهذه الهياكل بعضها محفور في شاهقصخري كمعبد «أبي سِنْبل» في بلاد النوبة، الذي هو أشهر الهياكل وقيل أقدمها، وله أهمية كبيرة في نفوس المصريين القدماء، وحين تولّى رمسيس الثاني عرش مصر نحته في الصخر الحيّ وأتمّ بناءه (1).

واعتقد المصريون بآلهة كثيرة، ولكنّهم آثروا عبادة اثنين كان لهم السبق على جميع الآلهة الاخرى، أحدهما (أوزيريس) الذي لم يقهره الموت، والآخر هو الشمس التي تبهر البصر بضيائها في سماء مصر الصافية، هذا هو الإله «رع» الذي كان أعظم الآلهة المصرية كإله للأحياء، والذي أقام المصريون لعبادته أفخم معابدهم. ولم يكن الهرم إلّارمزاً مقدّساً له (2).

وكانت الهياكل على شكلٍ كبير من الضخامة؛ لتليق بالآلهة- كما يعتقدون- كمعبد «الكرنك» الذي يبلغ طوله حوالى (100) متر تقريباً. والتصميم المعتمد هو


1- 1 انظر قصّة الحضارة، ول ديورانت، مج 1، ج 2. وكتاب الحضارات:ص 26- 27، وكذلك موسوعة المورد: 1/ 30.
2- 2 انتصار الحضارة، چيمس هنري برستر، ترجمة د. أحمد فخري:ص 94، الجامعة العربية.

ص: 154

نفسه تقريباً في كلّ الهياكل. وأقسامه الأساسية هي: بُرجان ضخمان عند المدخل، وأمام كلّ من البرجين تنتصب مِسَلّة حجرية وسارية ترفرف عليها أعلام. وفي بعض المعابد يحيط بالمدخلصفّان من تماثيل «أبي الهول» (1) وفي نهاية المدخل بوّابة تؤدي إلى باحة محاطة بالأعمدة، وفي نهاية الباحة «بهو الأعمدة» الذي لا يدخله إلّاالكهنة والمتنفّذون. ويلي «بهو الأعمدة» حجرة سرّية تحيط بها مقصورات تعجّ بالنفائس، وفي وسطها المركب المقدّس. بينما تمثال الإله يوضع في فناء المعبد (2).

ثمصار الآلهة في آخر الأمر بشراً- أو بعبارة أصحّ أصبح البشر آلهة، ولم يكن آلهة مصر من الآدميين إلّارجالًا متفوّقين أو نساء متفوّقات خُلقوا فيصورة عظيمة باسلة (3). فقد ألَّهوا (أزوريس) الذي أصبح قبره فيما بعد محجّةً لهم وللأجيال بعدهم. ويذكر لنا التاريخ أنّ المصريين القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم تجتمع في معبد «أوزيرس» بمدينة «أبيدوس» في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة، ولمدينة أبيدوس تاريخ ديني وسياسي مرموق، ففيها دُفن أقدم ملوك مصر، وإليها انتقلت عبادة «أوزوريس» وفي المكان المعروف اليوم «بأم العقاب» جعل المصريون قبره، وعُدت أبيدوس كعبة يطوفون بها حول قبر الشهيد «أزوريس» الذيصار لديهم (إمام الموتى) والشهداء، لا يدخلون الجنّة إلّامن بابه، ويبنون لهم فيها مزارات...» (4).

ولهذا الشهيد اسطورة تحكيها لنا الكتابات المسجلة على جدران المعبد باللغة «الهيروغليفية». ولأهمية هذه الاسطورة الخرافية في معتقداتهم بحيث يصبح قبر بطلها كعبة يُحج إليها كلّ عام، ويُقدّم لها كل غالٍ ونفيس، تقول الاسطورة: «إنّه في قديم الزمان كان يحكم هذه البلاد ملك اسمه" جب" وكان له ولدان من الذكور واثنتان من الإناث. وزوّج الملك ابنه أوزوريس من اخته ايزيس، كما زوج ابنه


1- 1 أبي الهول: تمثال رأسه على شكل إنسان، ووجهه كالفرعون خفرع يرقى تاريخه إلى حوالى 2250 ق. م.
2- 2 كتاب الحضارات، لبيب عبدالساتر:ص 27.
3- 3 قصّة الحضارة، مصدر سابق:ص 159.
4- 4 راجع الموسوعة العربية الميسّرة، مصدر سابق:ص 159.

ص: 155

ست من أخته تفتيس.. ولأنّ أوزوريس كان طيب القلب عادلًا ملَّكه أبوه الوديان الخضر والسهول والأنهار. أما ست الذي كان شرّيراً حاقداً فقد ملّكه أبوه أرض الصحارى القاحلة والرمال القفر. وكان أوزوريس موسيقياً بارعاً أحبّهُ الناس، فحقد عليه أخوه ست، وتآمر مع آخرين حتىصنعصندوقاً من الذهب الخالص بحجم أوزوريس، وزعم في حفل أقامه أنّه يهديه لمن يتسع له..

فأقام مأدبة واستلقى فيه كثيرٌ حتى استلقى الأخ، فأمر ست بإغلاق الغطاء وإلقائه في النيل. وراحت الأمواج تتقاذف الصندوق.. ووظّفت زوجته الوفية، ما لديها من علوم السحر، حتّى عرفت محلّه الذي استقر فيه الصندوق. فركبت سفينة انطلقت بها.. وتحايلت على ملك ببلوس الذي احتفظ بالصندوق، وكشفت له عن شخصيتها، وأماطت اللثام عن سيّدها، فسمح لها باسترداد الصندوق. وإذ حلَّ عليها المساء، نامت فوق الصندوق الذي فيه زوجها، فجاءتها الرؤيا وهي نائمة بأنّها حملت من روح زوجها، وعندما عادت إلى مصر اختفت ومعها الصندوق في جزيرة فيلة خوفاً عليه من (ست). وظلّت مختفيةً حتى ولدت «حورس». وعثر (ست) على الصندوق، وقطّع جثة أوزوريس إلى (16) قطعة بعثرها في جميع مقاطعات مصر، وفتشت الزوجة الوفية فعثرت عليها إلّاالقدم اليمنى.. وكانت هذه القدم تجلب الخير والخصب والطمى؛ لتنمو ربوع مصر بالخير والفيضان للنيل، ومنذ تلك اللحظةصار أوزوريس ملكاً للموتى يتولى حسابهم في الآخرة، وأصبح ابنه «حورس» من بعد هو الإله.. ونُصب له تمثال برأس الصقر الذهبي..» (1).


1- 1 انظر قصة الحضارة، مصدر سابق:ص 159- 167. وانتصار الحضارة، مصدر سابق:ص 93- 94. ومجلة العربي، استطلاع: سليمان مظهر:ص 142- 143 منهم من اختصر القصّة ومنهم من فصّلها.

ص: 156

كعبة الفراعنة

معبد «أبي سنبل» وفيه قبر «إمام الموتى والشهداء!» أوزوريس

ص: 157

الحجّ في حضارة وادي الرافدين

أمّا في حضارة ما بين النهرين- السومرية والبابلية والأكدية والآشورية- التي استمرّت ثلاثة آلاف عام، كان (الإله آنو) على رأس (البانتيون)، وكانت الآلهة تخرج بملابس محمولة بشرف على أكتاف الكهنة، في أعياد رأس السنة، وبمراسم خاصّة وطقوس خاصّة، وكانت لها أهمّية ذات حدّين، وقد يقوم الإله بزيارة طقسية إلى معبودات اخرى بمناسبة الأعياد الكبيرة، لذا فإنّ (نابو) في بورسيا يزور بانتظام والده مردوخ في عيد رأس السنة الجديدة في بابل (1).

وتعدّدت الآلهة في وادي الرافدين بتعدّد المدن والدويلات، وحصر السومريون آلهتهم في مجموعتين: الثالوث الأوّل ويتألّف من «آنو» إله السماء «وأنليل» إله الأرض، و «إيا» إله المياه الجوفية، فجمعوا بذلك بين عناصر المادّة الثلاثة: السائل والهواء والجماد. والثالوث الثاني يتألّف من «شَمَشْ» إله الشمس، و «سين» إله القمر، و «أدَدْ» الذي يجمع كلّ عناصر الطبيعة. وأدَدْ هذا أدخله «الاكديون» معهم من بلاد «أمورّو». وأضافت كلّ دولة إلهاً خاصّاً بها مثل «مردوخ» و «آشور» و «عشتار» و «نَبُو» (2).

وأهم الأبنية الدينية عندهم هي المعابد والمقابر: وعُرفت المعابد باسم «الزقورة» أقدمها ما بناه السومريون، وأشهرها «برج بابل» حيث عُبد الإله «نَبُو» (3).

وكان لكلّ مدينة مهمّة- في بلاد ما بين النهرين- معبد مهم، وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونَهُ «زقورة» شكله مربّع في المعابد المربعة، ومستدير في المعابد البيضوية، تراقب منه الكواكب والنجوم. نظراً لما لعلم الفلك من أهمّية وتأثير في الحياة اليومية والدينية، وكانوا يعلنون من خلاله بداية رأس السنة الجديدة، ليعلنوا بدايات الطقوس الدينية السنوية لزوّار الزقورة في المعبد. وقد كشفت التنقيبات الحديثة عن زقورات عديدة منها زقورة اورك ونيبور وآشور وخورس


1- 1 انظر عظمة بابل، د. هاري ساكز، ترجمة د. عامر إبراهيم:ص 412.
2- 2 الحضارات، لبيب عبد الساتر،ص 42.
3- 3 المصدر السابق،ص 46 وقصّة الحضارة: مج 1/ ج 2، الباب التاسع بابل.

ص: 158

ونمرود وماري وغيرها، وكانت هذه أماكن مهمّة (للحج) في أعياد رأس السنة المعروفة عندهم آنذاك على ما يبدو..

«ويشير لنزن H. Lenzen، وهو حُجة في موضوع الزقورة، ويؤكد أن المعبد العالي- أعلى الزقورة- لم يكن مجرّد مكان لاستراحة المعبود، بل أن طقساً حقيقياً كان يتمّ إجراؤه هناك. ولذا فقد كانت الزقورة بهذا المعنى «مذبحاً عظيماً» وفي داخل المعبد، قريباً من قاعدة الزقورة، كانت غُرفة الإله الرئيس، وعدد من المصليات الصغيرة بالنسبة للمعبودات المرتبطة به، على حين يوجد خارج هذا الهيكل الرئيسي ساحة كبيرة حيث تجتمع العامّة في أوقات الأعياد» (1).

يبدو من كلّ ذلك ومن الطقوس والمراسيم والرحلات الجماعية إلى الزقورة (2)ومع ما يصطحبها من ذبح وقرابين وأعمال خاصة من النحور وبعض المراسم الطقسية السنوية. أنّها- الزقورات- أماكن حج لتلك الأقوام.. وبالطبع هو حج وضعي غير إلهي واضح من آلهتهم المتعدّدة وعبادتهم للآلهة البشر.

والجدير بالذكر أنّ حضارة وادي الرافدين الطويلة في الزمن وفي التاريخ، لابد من أن تكون هناك أماكن اخرى محلية قصدها الزوّار؛ لغرض أداء طقوس معيّنة وشكليات منظمة يمكن أن تحسّها أنواعاً من حجّهم.. ولعل السبب في عدم العثور على تلك الحقائق هو طبيعة البناء عندهم، حيث كان ذا أساس طيني ممّا لم تبقِ الفيضانات له شيئاً عبر الزمن. وهذا خلاف طبيعة البناء المصري القديم الذي غالباً ما يكون بناءصخرياً يحافظ عليه مناخ مصر الجاف آلافاً من السنين.

وهناك مذهب ديني في حضارة وادي الرافدين يرجع تاريخه إلى عهدٍ قديم، وهو مذهب الصابئة، يدّعي أصحابه: «أنّ معلميهم الأوّلين هما النبيان الفيلسوفان عاذيمون (أي الروح الطيب) وهرمس، وقد قيل: إنّ عاذيمون هو شيث (3) الابن الثالث لآدم عليه السلام، وإنّ هرمس هو النبي إدريس عليه السلام (4). وكان أورفيوس أيضاً من فلاسفتهم وأنبيائهم» (5).


1- 1 عظمة بابل، مصدر سابق:ص 410.
2- 2 الزقورة: برج هرمي متعدّد الطبقات، يعتبر بمثابةصرح ديني نموذجي على ما يصفه د. هنري س. عبودي في معجم الحضارات السامية. والزقورة تبدو في الصورة أعلاه كالكعبة وسط الحرم. فالزقورة وسط المعبد تحيطها ساحة كبيرة لاستيعاب الحجاج في موسم رأس السنة.
3- 3 شيث: وتعني هبة اللَّه، وهو الجد الثالث لإدريس عليه السلام، وقد حكم في الناس بعد أبيه آدم عليه السلام واستشرعصحفه وما أنزل عليه في خاصته من الأسفار والأشراع.
4- 4 إدريس: تزعم الصابئة أنّه هرمس، ومعنى هرمس عطارد. وقد أنزل اللَّه تعالى عليه ثلاثينصحيفة، وكان قد نزّل قبل ذلك على آدم، إحدى وعشرينصحيفة، وأنزل على شيث تسعاً وعشرينصحيفة فيها تهليل وتسبيح.
5- 5 انظر: دائرة المعارف الإسلامية، مجموعة من المستشرقين: مج 14/ص 89. وكتاب الملل والنحل للشهرستاني:ص 47.

ص: 159

وكانت هذه الفئة تسكن مدينة حرّان الواقعة في الجنوب الشرقي من تركيا الحالية «وهي بين طريق الموصل والشام» (1).

وحرّان: مدينة قديمة جدّاً تقع قرب منابع نهر البليخ بين الرها ورأس عين، وقد اشتهرت بأنّها موطن إبراهيم عليه السلام ولابان، ولكن شهرتها ترجع بصفة خاصة إلى أنّها (قصبة الصابئة) وموئل دينهم (2). واشتهرت في التاريخ أنّها مقر عبادة (سن) إله القمر الذي زيّن معبده أكثر من ملك من ملوك الآشوريين، ولم تتغيّر الأحوال في المدينة على أثر انهيار سلطان الكلدانيين وقيام دولة الفرس (3). وكانت مركزاً هامّاً في طريق التجارة من نينوى إلى قرقميش، وكانت مركزاً لعبادة إله القمر الآشوري (4).

وحرّان المدينة المقدّسة عند الصابئة، ومقصد حجّهم حيث معبدهم مقر «سن» إله القمر، «وفئة من الصابئة تحج إلى حاران- أو حرّان- التي هاجر إليها


1- 1 معجم البلدان، ياقوت الحموي، باب الحاء والراء.
2- 2 انظر دائرة المعارف الإسلامية: مج 7/ص 354.
3- 3 انظر المصدر السابق:ص 355.
4- 4 الموسوعة العربية الميسّرة، مصدر سابق:ص 695.

ص: 160

إبراهيم عليه السلام، وينسب إليها الصابئة الحرّانيون» (1).

والصابئة فرق متعدّدة، رغم قلّتهم، فمنهم من ينتمي إلى كاظم بن تارح، وقد ذكرهم المقريزي بين الفرق المختلفة، وكأنّهم يقابلون دين إبراهيم عليه السلام بدين أخ له ينتمي إلى تارح، أبي إبراهيم في رواية العهد القديم (2).

ويقال: إنّ الحرّانيين ينتمون إلى حاران أو هادان أخي إبراهيم عليه السلام وقد يكون هو نفسه المقصود (كاظم) ولا دليل لنا على ذلك.

وقد ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية: «أنّ أوّل المذكورين من الصابئة: يعني المتنبئين يوذاسف، وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طمهورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملّة الصابئين فاتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممّن كان يستوطن بلخ، يعظّمون النيرين والكواكب وكليات العناصر، ويقدّسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا أولئك الصابئين (بحرّان) يُنسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية وقد قيل: إنّها نسبة إلى هاران بن ترخ أخي إبراهيم عليه السلام وأنّه كان من بين رؤوسائهم أوغلهم في الدين وأشدّهم تمسّكاً به» (3).

والصابئة الحرّانيون لهم أقوال وآراء في إبراهيم الخليل عليه السلام يندى لها الجبين، نذكر هنا ما ينسبونه إليه عليه السلام في خروجه عن دينهم: «إنّ إبراهيم عليه السلام إنّما خرج عن جملتهم؛ لأنّه خرج في قلفته برص، وإنّ من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه، فقطع قلفته بذلك السبب يعني (اختتن) (4)، ودخل إلى بيت من بيوت الأصنام، فسمعصوتاً منصنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، اخرج ولا تعاود المجي ء إلينا، فحمله الغيظ على أن جعلها جُذاذاً، وخرج من جملتهم، ثم إنّه ندم بعدما فعله، وأراد ذبح ابنه لكوكب المشتريصدق توبته ففداه بكبش» (5).

وهناك فرقة اخرى من فرق الصابئة تسمّى (المنديا) (6) أو الصبوة، وهي


1- 1 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد:ص 89.
2- 2 المصدر السابق:ص 90.
3- 3 الميزان في تفسير القرآن، العلّامة الطباطبائي: 1/ 194.
4- 4 مذهب الصابئة يحرّم الاختتان ويعتبر المختتن خارجاً عن الدين.
5- 5 الميزان، مصدر سابق: 1/ 194.
6- 6 المنديا: فرقة من الصابئة وتسمّى نصارى يوحنا المعمدان.

ص: 161

فرقة يهودية نصرانية تمارس شعيرة التعميد في العراق» (1).

وهناك فرق اخر، أفرد الشهرستاني لهم ولشرح أقوالهم فصلًا مسهباً غاية الإسهاب في كتابه الملل والنحل.

ومن الصابئة من يعظِّم بيت اللَّه الحرام والكعبة الشريفة ويحج إليها كلّ عام، وجاء في الأحاديث الشريفة، أن أنواعاً من الحج تعدّدت في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكان أهمّها الحج الجاهلي والحج الحنفي والحج الصابئي.

وتدّعي هذه الفرقة من الصابئة أنّ الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأنّ اللّات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة» (2).

«والمشهور عن الصابئة أنّهم يوقّرون الكعبة في مكّة، ويعتقدون أنّها من بناء هرمس أي إدريس عليه السلام وأنّها بيت زحل أعلى الكواكب السيّارة، ويُنقل عنهم عارفوهم أنّهم قرأواصفة محمّدصلى الله عليه و آله في كتبهم ويسمّونه عندهم ملك العرب» (3).

وقد ذكرهم القرآن الكريم في ثلاثة مواضع فقط، في سورة البقرة، الآية 62.

وفي سورة المائدة، الآية 69، وفي سورة الحج الآية 17.

والصابئة دين خليط يشبه الجميع في بعض شرائعه، ويختلف مع الجميع في بعض شرائعه الاخرى (4).


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية: مج 14/ص 89.
2- 2 الميزان، مصدر سابق.
3- 3 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد:ص 91.
4- 4 إبراهيم أبو الأنبياء، العقّاد:ص 87- 90.

ص: 162

الحجّ في الحضارة الفارسية القديمة

وفي الحضارة الفارسية القديمة طقوس ورسوم وعقائد وأفكار يطول تعدادها لو أردنا الدخول إليها، ولكن لنأخذ مقطعاً من تأريخها وليكن الديانة الزرداشتية؛ لأنّها أشهر ديانة وأعظم تعاليم تمسّك بها الفرس منذ «القرن العاشر أو السادس قبل الميلاد» (1) حتى يومنا هذا توجد بقايا من أتباعه في مدينة يزد الإيرانية وفي الهند.

والذين يدينون بالزرداشتية يعرفون أن تعاليمها تأتي من خمسة كتب مقدّسة ادّعى بها نبيّهم «زرادشت» (2) أنّها من وحي الإله الواحد أهورا- مزدا إله النور والسماء.

ومن بين هذه الكتب المقدّسة كتاب «الياسنا» الذي يهتم بالشعائر والطقوس، ويمكننا أن نلتقط من هذه الشعائر والطقوس ما يمكن أن يمثِّل شكلًا من أشكال الحج، حيث الزيارات السنوية المقدّسة إلى المعابد في الأعياد الدينية، وتقديم الأضاحي والنذورات ومراسم مقدّسة أخرى..

ومن تعاليم هذا الكتاب «التقوى» يقول وِل ديورانت: «ولمّا كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق- عندهم- فإنّ أوّل ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد اللَّه بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزرادشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدّسة على قمم الجبال وفي القصور أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لآهورا- مزدا، أو لغيره منصغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمّونها «أنار» ويعتقدون أنّها ابن إله النور.. وكانوا يقرّبون إلى الشمس، وإلى النار- التي لا تنطفئ طيلة العام- وإلى أهورا مزدا، القرابين من الأزهار والخير، والفاكهة، والعطور، والثيران والضأن والجمال والخيل والحمير وذكور الوعل، وكانوا في أقدم الأزمنة يقرّبون إليها الضحايا البشرية (3)شأن غيرهم من الامم، ولم يكن للآلهة من هذه


1- 1 قصّة الحضارة، مصدر سابق: مج 1/ ج 2/ص 425.
2- 2 زرادشت: مصلح إيراني ظهر في إيران قبل المسيح بمئات السنين، وله قصّة مثيرة ومؤثّرة في نفوس أتباعه، قيل: إنّ امّه قد حملت به حملًا إلهياً قدسياً؛ ذلك أنّ الملاك الذي كان يرعاه تسرّب إلى نبات الهَوْما، وانتقل مع عصارته إلى جسم كاهن حين كان يقرّب القرابين المقدّسة. وفي ذلك الوقت نفسه دخل شعاع من أشعة العظمة السماوية إلىصدر فتاة راسخة النسب سامقة في الشرف، وتزوّج الكاهن بالفتاة، وامتزج الحبيسان الملاك والشعاع، فنشأ «زرادشت» من هذا المزيج، وقهقهه حين ولادته ففرّت من حوله الأرواح الخبيثة، وأحبّ هذا الوليد الحكمة والاصطلاح، ثم تجلّى له رب النور الإله الأعظم، ووضع في يديه الأبستاق أي كتاب العلم والحكمة، وأمره أن يعظ الناس. وهكذا ولد الدين الزردشتي. وعمَّر زرادشت طويلًا حتّى أحرقه وميض برق، وصعد إلى السماء، انظر قصّة الحضارة: مج 1/ ج 2/ص 424.
3- 3 كان تقديم الضحايا البشرية قبل عهد زرادشت أي في عهد المجوس الذي قضى عليهم زردشت.

ص: 163

القرابين إلّارائحتها.. لأنّ الآلهة- على حدّ قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية (1).

«وكان الأهلون- عامّة الشعب المتديّن- يجتمعون في الأعياد وكلّهم يرتدون الملابس البيضاء. وكانت (الشريعة الأبستاقية) (2) كالشريعتين الإبراهيمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة، وكان في كتاب الزرادشتية المقدّس فقرات طويلة ممّا خصّت كلّها بشرح القواعد الواجب اتباعها لطهارة الجسد والروح» (3).

ونفهم ممّا سبق أنّ لهم زيارات سنوية لمعابدهم يؤدّون فيها طقوساً خاصّة، ويلبسون الملابس البيضاء، ويقدّمون الضحايا ممّا يدلّ على أنّ لهم حجّاً بالمعنى اللغوي الذي فهمناه.


1- 1 قصّة الحضارة، مصدر سابق:ص 433.
2- 2 الشريعة الابستاقية هي نفسها شريعة زرادشت وتنسب إلى كتابه المقدّس.
3- 3 قصّة الحضارة، مصدر سابق:ص 439.

ص: 164

الحجّ في الحضارة الرومانية

والحضارة الرومانية كذلك عرفت الحج، ونظّمت طقوساً خاصّة به، ممّا يتعلّق بديانتهم، وبنت الهياكل الكبيرة (1) المربعة منها والمستديرة، وقدّمت للهياكل هدايا وأضاحي ونذورات، وعددت الآلهة، وجعلت لكلِّ شي ءٍ إلهاً، وتقرّبت للآلهة؛ لكسب عونها ورضاها، أو لاتقاء غضبها. وكان الكهنة يوصون الحجّاج أو زائري الهياكل والمعابد أن يلتزموا بالدقّة في ممارسة الطقوس والشعائر الخاصّة في الاحتفال في الأعياد السنوية وغير السنوية، وإذا وقع خطأ في طقس من هذه الطقوس أيّاً كان نوعه، وجبت إعادته من جديد، ولو تطلّب ذلك إعادته ثلاثين مرّة (2).

وكان أهم ما في هذه الطقوس، التضحية «وفي أكبر المناسبات أهمية عيد السو أفي يلية (Su- ove- taur- illa) أي (عيد الخنزير والشاة والثور). وكانوا يعتقدون أنّه إذا تليتصيغ خاصة على التضحية استحالت إلى إله يراد منه أن يتقبلها، وعلى هذا الاعتبار كان الإله نفسه هو الذي يضحى به» (3).

وهناك مراسم اخرى في عيد التطهير «وكان احتفال التطهير من أكثر هذه الطقوس متعة، وكان هذا التطهير يحدث للمحصولات الزراعية أو لقطعات الماشية أو للجيش أو المدينة. وكانت الطريقة المتّبعة في هذا الاحتفال أن يطوف موكب بالشي ء المراد تطهيره، ويقدّم له الصلوات والذبائح والانشودة والرقية، ورجاء الإجابة فانّ لم يجب فإن غلطة ما قد حدثت في الطقوس المرعية» (4).

وهناك مكان آخر حجّ إليه الرومان وهو إله القمر (ديانا) «وكانت- ديانا- في زعمهم روح شجرة جي ء بها من أريشة (Aricea) حينما خضع هذا الإقليم من أقاليم لا ينوم لحكم رومة، وكان بالقرب من أريشيا بحيرة نيمي Nemi وأيكتها، وكان في هذه الأيكة مزار ديانا ملجأ الحجاج، الذين يعتقدون أن هذه الالهة قد ضاجعت في هذا المكان فربيوس Virbius ملك الغابات الأوّل، ولكي يضمن دوام


1- 1 أعظم هيكل روماني هو هيكل يونو المنذرة أو الحارسة على القمّة الشمالية لتل الكپتول وعلى المنحدرالجنوبي من هذا التل يوجد معبد ساترن، ويرجع بناء ذلك المزار أو الهيكل- الذي هو أقدس مزارات رومة- يرجع تاريخه إلى عام 497 ق. م. ولا زالت آثاره باقية حتى الآن. انظر قصّة الحضارة: مج 5/ ج 1/ص 293.
2- 2 المصدر السابق: ج 2/ص 133.
3- 3 المصدر السابق:ص 135- 136.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 165

إخصاب ديانا وإخصاب الأرض كان خلفاء فربيوس- وهم كهنة الصائدة وأزواجها- يستبدل بهم جميعاً واحداً بعد واحد أي عبد قوي يعوذ نفسه بغصن (يسمى عندهم بالغصن الذهبي) يأخذه من شجرة البلوط المقدّسة إحدى أشجار الأيكة ويهاجم الملك ويذبحه. وقد بقيت هذه العادة إلى القرن الثاني بعد ميلاد المسيح» (1).

أمّا رومة المسيحية فقد اتخذت أشكالًا أُخرى وأنواعاً من الحج سنتحدّث عنها في (الحجّ في الديانة المسيحية) وفي وقت آخر إن شاء اللَّه تعالى.

الحجّ في الحضارة الهندية

أمّا الهند فلا يمكن استيعابها بأسرها؛ لكثرة السكان واختلاف اللغات والأديان، فهي ليست أمّة واحدة كمصر أو بابل أو رومة، بل هي قارة بأسرها.

لقد تعدّدت الأديان في الهند، وأخذت عقائدها الدينية ما يمثِّل كل مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدقّ وحدة في الوجود وأكثرها روحانية منذ عام 2900 ق. م إلى يومنا هذا..

لقد وضع الهنود لهم أعياداً سنوية كغيرهم من الامم، وبعض هذه الأعياد يصاحبها حج إلى معبد أو ضريح أو هيكل معيّن، وممارسة بعض الطقوس والشعائر المتعلّقة به، كما وجدنا ذلك عند بقية الامم، فغالباً ما يكون الحج مصحوباً بعيد سنوي ديني.

والهنود قلّدوا ما قبلهم من الأقوام، الذين نطقوا باللغة السنسكريتية، ووضعوا الأدعية والصلاة وغيرها بتلك اللغة «فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من الحجّاج، قاصدين الأضرحة القديمة، ولم يكونوا ليفهموا ما يُقال من عبارات الصلاة في تلك المعابد؛ لأنّها كانت تقال «بالسنسكريتية»، لكنّهم كانوا يفهمون الأوثان، فيزينونها بالحُلى ويطلونها بالطلاء، ويرصعونها بكريم الأحجار، وكانوا أحياناً يُعاملونها كأنّها كائنات بشرية..» (2).


1- 1 المصدر السابق:ص 128.
2- 2 قصة الحضارة: مج 2/ ج 3/ص 224- 225.

ص: 166

وأعظم الطقوس الجماعية عندهم هي تقديم القرابين، فالقربان عند الهندي ليس مجرّدصورة خاوية؛ لأنّه يعتقد أنّه إذا لم يقدمه للآلهة طعاماً تموت جوعاً. ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم قرابين أو ضحايا بشرية.. فلمّا تقدّمت الأخلاق أخذت الآلهة تكتفي بالحيوان قرباناً (1).

وهناك مركز رئيسي للحج عند الهنود منذ القرن 16 ق. م وهو مدينة بنارس الجليلة القدر عندهم، كعبة يحجّون إليها سنوياً يقدّسها البوذيون والچين، ويقصدها سنوياً حوالى مليون حاج؛ لزيارة معابدها وأضرحتها التي تمتد 65 كم بموازاة الجانج، وبها المعبد الذهبي (2).

يقول وِل ديورانت في شأن هذه المدينة:

«.. وبنارس هي المدينة المقدّسة للهند، إذ باتت كعبة الملايين من الحجّاج، يؤمّها الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء جاءوا من كل أرجاء البلاد؛ ليستحموا في النهر المقدّس (نهر الكنج) حتى يستقبلوا الموتى برآء من كل إثم أطهاراً من كلّ رجس. إنّ الإنسان ليأخذه الخشوع، بل يأخذه الفزع، حين يتذكّر أنّ أمثال هؤلاء الناس قد حجّوا إلى بنارس مدى ألفي عام، وغمسوا أنفسهم في مياهها، وهم يرتعشون من لذعة البرد في فجر الشتاء، وشمّوا بنفس متقززة لحم الموتى وهو يحترق، فعلوا كلّ ذلك وهم يفوهون بنفس الدعوات التي كان يقينهم أن تجاب، فعلوا ذلك قرناً بعد قرن، وتوجّهوا بالدعاء إلى نفس الآلهة التي لبثت علىصمتها، لكن عدم استجابة إله من الآلهة لا يحول دون تعلّق القلوب به، فلا تزال الهند تعتقد اليوم بنفس القوّة، التي كانت تعتقد بها في أي عصر مضى في الآلهة، الذين لبثوا كلّ هذا الزمن ينظرون إلى فقرها وبؤسها، فلا تأخذهم من أجلها رحمة (3). وما زال السيخ يحجّون إلى هذا المعبد (4).

هذا نموذج لحج الهند القديمة، وإذا تقدّمنا في الزمن بعيداً من ذلك التاريخ..


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 الموسوعة العربية الميسّرة:ص 407.
3- 3 قصة الرحمة: مج 2/ ج 3/ص 227.
4- 4 انظر موسوعة المورد: مج 5/ص 11.

ص: 167

تقدّمنا إلى الهند في القرن الثامن الهجري، فسنجد نوعاً آخر من الحج المنحرف ينسبه أصحابه هذه المرّة إلى الإسلام، ذلك هو الحج على المذهب الذِكْري، وقد أسّس هذا المذهب: محمد المهدي الأتكي وضمّن آراءه في كتابه البرهان. وتبدأ قصّة هذا الحج كما كتبها (أحمد مولانا عبدالخالق رحمه الله) قال:

«كان الضال ملّا محمّد المهدي الأتكي يسكن في البنجاب، وانتقل منه من موضع إلى موضع حتى وصل إلى موضع مشهور في بلوشستان المسمّى ب (كيج) وبدأ يستفيد من جهّال هذه المدينة استفادة باطلة، ويدّعي بأنّه «المهدي الموعود» فصار مقبولًا عند الخاص والعام، ولم يمر وقت طويل حتّى كتب كتاباً ينبئ فيه امّته المضلة بأنّه قد نُسخت الشريعة المحمّدية بمجيئه في الدنيا، واعتقادها كفر ولا يحاسب أحد يوم القيامة عن أركانها الأربعة من الصوم والصلاة والحج والزكاة» (1).

وبهذا الكلام استطاع محمد الاتكي أن يصرف المسلمين سكّان تلك المنطقة عن الصوم والصلاة والزكاة، والحج إلى الكعبة المشرّفة؛ وابتكر لهم حجّاً مشابهاً للحج الاسلامي المحمّدي لأماكن شبيهة بمقدّسات مكّة المكرّمة كجبل عرفات وجبل ثور وغار حراء، وبنى لهم كعبة ليحجّوا إليها..

ويضيف أحمد مولانا قائلًا: «والحجّ:- لا يحج معتقدو هذا المذهب- المذهب الذِكْري- إلى بيت اللَّه الحرام الذي أمر المسلمون بزيارته. والحج في الأشهر الحرام به، وإنّما اتخذوا جبلًا معروفاً باسم (كوه مراد) حجّاً لهم حيث يقع في جنوب مدينة (تربت) وهو منسوب إلى نائبه الضال (ملّا مراد) ساكن تلك المدينة، فيحجّون في الأيام الأخيرة من شهر رمضان بدايةً من 27 من رمضان ويستغرق ثلاثة أيّام» (2).

ويضيف أحمد مولانا أيضاً: «إنّ محمد الأتكي ادّعى أن كتابه (البرهان) (3) أو بلغتهم (بركهور) كان ينزل عليه في جبل (كوه إمام) من خلال «مهبط الالهام» أو


1- 1 الفاروق، مجلّة إسلامية ثقافية، فصلية تصدر عن رئاسة الجامعة الفاروقية، باكستان:ص 36 العدد 54/ 1988 م.
2- 2 المصدر السابق:ص 37.
3- 3 البرهان: كتاب ألّفه محمّد الاتكي مؤسس المذهب الذكري، وادّعى أنّه قرآنهم الجديد النازل عليه من السماءوالناسخ لقرآن محمّد بن عبداللَّهصلى الله عليه و آله. وفيه كلّ تعاليم المذهب، وفيه أحاديث عن الرسولصلى الله عليه و آله تؤكّد ظهور محمد المهدي الاتكي في القرن الثامن الهجري.

ص: 168

الوحي تحت الشجرة، وجعل لهم هذا الجبل (كغار حراء) ثم اتخذ لهم ميداناً واسعاً كعرفة، حتى إذا أرادوا الحج ذهبوا لزيارته، وهو ميدان يسمّى (بكوه دن) و «كارتيزهزئي» الذي كان نهراً أو منبعاً للماء أصبح لهم بئر زمزم كما في مكة، ولكن من سوء حظّهم نضب ماؤها الآن بأفعالهم الخبيثة» (1).

والطريف أنّ معتنقوا هذا المذهب يؤكّدون بأن للرسول محمّدصلى الله عليه و آله أحاديث تؤكّد وتبشِّر بمجي ء إمامهم الموعود (محمّد المهدي) فنرى الشيخ محمد قصر قندي في نسخته القلمية يقول:

«إنّ أبا بكر الصديق سأل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: متى يكون خروج المهدي؟

فقالصلى الله عليه و آله: السلام: «فقد يجي ءُ بعد مماتي في بلاد الهند سنة سبع وسبعين وتسعمائة اسمه كاسمي واسم أبيه كاسم أبي» (2).

الحج في الصين

والصين كالهند، فهي ليست موطناً موحّداً لُامّة واحدة، بل هي خليط من أجناس مختلفة الأصول متباينة اللغات غير متجانسة.

وقد حدّثنا المؤرِّخون بأحاديث مفصّلة عن تاريخها منذ (3000 ق. م) حتى العصر الحديث، عن عاداتهم، وتقاليدهم ودياناتهم... ولو أردنا استيعاب ذلك بأسره لطال الحديث بنا، ولكن لنأخذ نموذجاً يعطيناصورة منصور حجّهم وطريقتهم في الحج، علماً أن أشهر هيكل حج إليه الصينيون كان «هيكل السماء ومذبحه» اقتداءً بسنّة الإمبراطور العظيم «تاي دز ونج»: الذي كان يأتي هذا الهيكل في الساعة الثالثة منصباح رأس السنة الصينية للصلاة والدعاء لأسرته بالتوفيق والفلاح ولشعبه بالرخاء، ويقرب القربان للسماء التي يرجو أن تكون بصفّهِ لا فيصفِّ عدوّه. وموقع هذا الهيكل بالقرب من سور «پيچنچ» التتاري الجنوبي، ويتكوّن مذبح هذا الهيكل من سلسلة من الدرج والشرفات الرخامية، التي كان لعددها الكبير ونظامها أثر سحري في نفوس الزائرين، والهيكل نفسه


1- 1 الفاروق، مصدر سابق:ص 37.
2- 2 المصدر نفسه:ص 36.

ص: 169

(بچودة) معد من ثلاث طبقات قائمة فوق ربوة من الرخام ومشيّدة من الآجر والقرميد الخاليين من الرونق. وقد نزلتصاعقة من السماء على هذا المعبد في عام 1889 م فأصابتهُ بضرر بليغ (1). وهذا الهيكل كان لعامّة الشعب أي كان معبداً عامّاً للجميع. وهناك معبد وهيكل مخصّص للديانة الرسمية، وهو الذي أمر ببنائه

هيكل السماء في پينج

الامبراطور المذكور أعلاه «تاي دزونج»، فلمّا تربّع هذا الامبراطور العظيم على العرش أمر أن يشاد هيكل ل «كنفوشيوس» (2) في كلّ مدينة وقرية في جميع أنحاء الامبراطورية، وأن يقرب لها القرابين (3). وبنى هيكلًا خاصّاً للديانة الرسمية في «پيكنج» والمسمى بهيكل «كنفوشيوس»، وحارسه پاي- لو، وكان فخماً محفوراً أجمل حفر..

وقد أدخلت عدّة تعديلات عليه، وأُعيد بناء بعض أجزائه عدّة مرّات، وقد وضعت لوحة روح أقدس القديسين المعلم والأب كنفوشيوس على قاعدة خشبية في مشكاة مفتوحة في الهيكل، ونقشت العبارة الآتية فوق المذبح الرئيسي: «إلى


1- 1 قصّة الحضارة: مج 2/ ج 4/ص 182- 183.
2- 2 كنفوشيوس: ولد عام 551 ق. م في مدينة تشو- فو إحدى البلاد التي كانت تكوِّن وقتئذ مملكة لو، والتي تكون الآن ولاية شان توبخ. وصار فيلسوفاً، ومعلّماً محبوباً تهوي إليه القلوب، وألَّف خمسة مجلّدات أسماها كتب القانون الخمسة ولما مات عن عمر 72 سنة واراه تلاميذه التراب باحتفالٍ مهيب جدير بما تنطوي عليه قلوبهم من حبٍّ له وإجلال، وأحاطوا قبره بأكواخٍ لهم أقاموا فيها ثلاث سنين يبكون كما تبكي الأبناء على آبائهم. ثم بنى الامبراطور العظيم فوق قبره هيكلًا ومعبداً وأصبح مكاناً يحجّ إليه الصينيون آلاف الأعوام.
3- 3 قصة الحضارة: مج 2/ ج 4/ص 66.

ص: 170

المعلِّم الأعظم والمثال الذي تحتذيه عشرة آلاف جيل» (1)..

ويمكن تسجيل عدد آخر من الأماكن العبادية المناسبة للحج، ولكن نكتفي بهذين النموذجين اللذين يعتبران أكثر الأماكن أهمّية وقصداً للزيارة في تاريخ الصين.

الحجّ في اليابان

وحين ننتقل إلى اليابان نجدها قد تأثّرت بالصين بكثير من الامور كالفلسفة والعقائد الدينية وفن بناء المعابد وغيرها.. غير أنّ معابد اليابان كانت أغنى من معابد الصين زخرفاً وأرقى نحتاً. فما يُرى في معابد اليابان من بوّابات فخمة على طول المرتقى أو المدخل الذي يؤدّي إلى الحرم المقدّس وغيرها لا يُرى في معابد الصين.

واعتادت فئة في اليابان على تقديس أرواح أسلافها فحيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية (2) في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد (الشينتو)- أي معابد تقديس أرواح الأسلاف- مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له وتسمّى في لغتهم: «فوجي ياما». ولفظة فوجي تعني «النار» (3).

كما يؤمون المعابد البوذية في مدينة «نارا» حيث أقسم أسلافهم القدماء هناك على تحرير وطنهم من التبعية لإمبراطور الصين، فأصبح معبدها محجّةً لهم، ولم تكن ديانة «شنتو» بحاجة إلى تفصيل مذهبي أو طقوس معقّدة أو تشريع خلقي، ولم تكن لها طبقة من الكهنة خاصة بها، كلا! ولا تذهب إلى ما يبعث العزاء في نفوس الناس من خلود الروح ونعيم الفردوس، فكان كلّ ما تطالب به من معتنقيها أن يحجّوا آناً بعد آن لأسلافهم وأن يقدّموا لهم ضراعة الخاشعين، ويضحّوا بالقرابين ويقدّموا النذور وغيرها (4).

ويمكن أن نعدّ في اليابان نوعاً آخر من الحج يتعلّق بالزهور ويمكن أن نسمّيه (حج الزهور):


1- 1 المصدر نفسه:ص 182.
2- 2 البوذية كانت تمارس في اليابان ولكن دخلت تعاليمها عام 522 م من الصين بتفاصيل، وكان على الرجل الياباني أن يختار لنفسه مذهباً من عدّة مذاهب في البوذية، أو أن يختار لنفسه سبيلها في حجصبور إلى حيث دير «كوپاسان» وهناك يبلغ الجنّة بأن يدفن في أرض تقدّست بفضل ما فيها من عظام «كوبودايشي» ذلك العظيم في علمه وفي تديّنه وفي فنّه.
3- 3 موسوعة المورد: 4/ 177.
4- 4 انظر قصّة الحضارة: مج 3/ ج 5/ص 10- 14.

ص: 171

فالزهور عند اليابانيين بمثابة الدين، فهم يعبدونها عبادة تشيع فيها روح التضحية بالقرابين، ويلتقي فيها أفراد الشعب جميعاً، وهم يرقبون في كلّ فصل من فصول العام ما يلائمه من زهور، فإذا ما أزهرت شجرة الكريز مدى اسبوع أو اسبوعين في أوائل شهر ابريل، يخيل اليك أنّ أهل اليابان جميعاً قد تركوا أعمالهم ليحدجوا فيها بأبصارهم، بل ليحجّوا إلى الأماكن المقدّسة التي تزخر بهذه المعجزة، ويكمل فيها إزهار هذا الضرب من الشجر (1).

حجّ الأنبياء والحضارات

لقد قرأنا الحج في الحضارات في النقاط السابقة، ولنا أن نتساءَل... أين عاش الأنبياء، أليس هم بشراً جاؤوا لإرشاد الناس، وأين كان الناس أليسوا هم أبناء الحضارات المختلفة المنتشرة في العالم؟


1- 1 قصّة الحضارة، المصدر السابق:ص 59.

ص: 172

الحقيقة أنّ الأنبياء وهم كثيرون جدّاً، لابدّ من أنّهم عاشوا في ثنايا الحضارات المختلفة يرشدون الناس، ويدلونهم على طريق اللَّه الصائب، وعلى الرغم من أننا نعرف أنّ إبراهيم عليه السلام عاش في حضارة وادي الرافدين، ويوسف وموسى عاشا في حضارة وادي النيل، وأنبياء بني إسرائيل عاشوا في الحضارة الفينيقية وغيرها وآخرين في حضارات اخرى، إلّاأننا لا نعرفهم جميعهم كما جاؤوا في أحاديث نبيّناصلى الله عليه و آله والأئمّة الأطهار عليهم السلام أنّهم (124) ألف نبيّ أو أكثر و (300) رسول أو أكثر.

ولكن على أيّ حال لابدّ من أن نذكِّر أنّ ما تبقى من الشعائر الصحيحة في تلك الحضارات هي لا شك جاءت بفضل كثرة الأنبياء، الذين عاشوا في تلك الحضارات. فقد كان الأنبياء في كلّ الحضارات القديمة، القدوة الحقيقية لشعوبهم، بل ولكلّ العالم، وتصرّفاتهم مستمدّة من السماء لا يفعلون شيئاً شائناً مضرّاً بالناس، وإلّا لا يمكن وصفهم بالأنبياء والقدوة، فالمقتدى به يجب أن يكون أفضل الناس.. وهكذا كان الأنبياء في كلّ مكان وزمان. ولمّا كان الحج فريضة أمر اللَّه تعالى بها، فقد كانوا أولى المبادرين إليه، وكانوا أفضل من يقوم به ويؤدّي شعائره وممارسته..

فقد جاء في الروايات عن النبيّ محمّدصلى الله عليه و آله وعن أهل بيته الكرام عليهم السلام، في حج الأنبياء، أنّ الأنبياء والرسل مارسوا الحج جميعهم إلى بيت اللَّه الحرام، ولم يتخلّف نبيٌّ واحد عن هذا المسار الربّاني السماوي.. وإليك بعض الأحاديث:

عن الحلبي: سُئل أبو عبداللَّه الصادق عليه السلام عن البيت أكان يحجُّ إليه قبل أن يبعث النبيّ محمّدصلى الله عليه و آله؟ قال: «نعم وتصديقه في القرآن الكريم قول شعيب حين قال لموسى حيث تزوّج: على أن تأجرني ثماني حجج ولم يقل ثماني سنين، وأنّ آدم ونوحاً حجّا، وسليمان بن داود قد حجَّ البيت بالجن والإنس والطير والريح، وحجّ موسى على جمل أحمر يقول: لبيك لبيك، وأنّه كما قال اللَّه: إنّ أوّل بيتٍ وضع

ص: 173

للناس للذي ببكة مباركاً وهدًى للعالمين، وقال: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وقال: أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود وأنّ اللَّه أنزل الحجر لآدم وكان البيت» (1).

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال قائل: فَلِمَ جعل وقتها في ذي الحجّة؟ قيل: لأنّ اللَّه تعالى أحبَّ أن يُعبد بهذه العبادات في أيّام التشريق، فكان أوّل ما حجّت إليه الملائكة وطافت به في هذا الوقت، فجعله سُنّة ووقتاً إلى يوم القيامة. فأمّا النبيّون آدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمّد (صلوات اللَّه عليهم) وغيرهم من الأنبياء إنّما حجّوا في هذا الوقت، فجُعلت سُنّة في أولادهم إلى يوم القيامة» (2).

وجاء في أخبار مكة للأزرقي، قال: «ما بين الركن إلى المقام إلى زمزم قبر تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حُجّاجاً فقبروا هنالك» (3).

البيت الحرام، وجهة حج الأنبياء


1- 1 بحار الأنوار: 99/ 94.
2- 2 المصدر السابق:ص 43.
3- 3 أخبار مكّة، الأزرقي.

ص: 174

الحجّ في الجاهلية

والجاهليون في الجزيرة العربية ونواحيها قدّسوا البيت الحرام والكعبة الشريفة ومنى وعرفات، وطافوا ولبّوا ونحروا ورموا الجمرات وأحرموا، وكان حجّهم يبدأ في اليوم التاسع من شهر ذي الحجّة، وعندما يصل الحجاج إلى عرفة، يرتدون لباساً خاصّاً بالحجّ، قال الجاحظ فيهم:

«كانت سيماء أهل الحرم إذا خرجوا إلى الحلِّ في غير الأشهر الحُرم، أن يتقلّدوا القلائد، ويُعلّقوا عليهم العلائق، فإذا أوذم أحدهم الحج، تزيّا بزيّ الحاج» (1).

وكان الحج الإبراهيمي المحور الأساس في الحج الجاهلي، ولم يحفظ العرب من شريعة إبراهيم عليه السلام شيئاً إلّاالحج في مظاهره، غير أنّهم زادوا فيه وحذفوا منه، وأدخلوا الأصنام في الكعبة الشريفة، حتّى بلغ عددها أكثر من (3000)صنم، على رأسها هُبل واللات والعزى ومناة... «.. وهم بعدُ يعظّمون الكعبة ومكّة، ويحجّون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام..» (2).

«ومنهم على ذلك من بقايا عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسّكون بها: من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعُمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البُدن، والإهلال بالحج والعُمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه» (3).

وذكر القرآن الكريم حجّهم وأعمالهم عند بيت اللَّه الحرام، بأنّها مزيج من الشرك والتفاخر والتجارة والهرج والمرج، قال تعالى: وما كانصلاتُهم عند البيت إلّامُكاءً وتصدية (4)

ويتنسّكون عنده مناسك يسمّونها اليوم أعياداً وموالد كشأن الجاهلية الاولى، وكلّ ذلك لا يصيب به تشريع اللَّه.. إلّامن حمله الهوى أو الجهل أن يركب رأسه فيقول، بغير علم ولا بيّنة..» (5). وقد عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى:

إن يتّبعون إلّاالظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى أم


1- 1 البيان والتبيين، الجاحظ: 3/ 65.
2- 2 كتاب الأصنام، الكلبي:ص 6.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 الأنفال: 35.
5- 5 دائرة المعارف الإسلامية، مصدر سابق، المعلق في الحاشية محمد حامد الفقي:ص 305.

ص: 175

للإنسان ما تمنّى (1)

.

وكان لكلّ قبيلة من قبائل العرب في الجاهلية،صنمها الخاص بها تهلل حوله حتى تصل مكّة، وكان عبّاد كلّصنم إذا أرادوا الحج، انطلقوا إليه، وأهلّوا عنده ورفعوا أصواتهم، ووقفت كلّ قبيلة عندصنمها وصلّت عنده، وكانوا عند ترديد التلبية يصفقون ويصفرون (2). وكانت التلبية هي: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك! إلّا شريكٌ هو لك! تملكُهُ وما مَلَكْ! (3).

وكان من شعائرهم في الطواف، أو لبعض منهم أن يطوفوا عرايا متجرّدين من كلّ ثيابهم، وهي شعيرة وثنية واضحة على الانحراف، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم وكُتب الأحاديث والسير وكتب التاريخ.

والجدير بالذكر أنّ الحج إلى «بيت اللَّه الحرام» في زمن الجاهلية لم يكن مقتصراً على العرب فقط، فقد ذكر لنا التاريخ أن الفرس وغيرهم حجّوا إليه وعظّموه وقدّموا إليه الذهب والفضّة والقرابين والنذورات وغيرها.. فقد جاء في مروج الذهب للمسعودي: «وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام، وتطوف به، تعظيماً له».

والمكاء: الصفير، بصيغة المبالغة طائر بالحجاز شديد الصفير، ومنه المثل السائر: (بنيك حمّري ومكئكيني) والتصدية التصفيق بضرب اليد على اليد، والمعنى أنّ المشركين في الجاهلية كان حجّهم وأعمالهم عند البيت الحرام، ما هي إلّا ملعبة من المكاء والتصدية (4). وهرجاً ومرجاً لا خشوع فيها ولا خضوع، لأنّها كانتصفيراً بالأفواه، وتصفيقاً بالأيدي (5).

وقد ورد عن الحج في الجاهلية: «أنّه كان يقام في الجاهلية كلّ عام سوقان في شهر ذي القعدة أحدهما في عكاظ والآخر في مجنة، وكان يتلوهما في الأيام الاولى من ذي الحجة سوق ذي الحجاز، ومنه يخرج الناس إلى عرفات مباشرة.. وكان الحج إلى عرفات يقع في التاسع من ذي ا لحجة، وكانت شتّى قبائل العرب


1- 1 النجم: 23.
2- 2 كتاب الأصنام:ص 7.
3- 3 انظر أخبار مكة: 1/ 75. وتاريخ اليعقوبي: 1/ 296.
4- 4 الميزان: 9/ 74.
5- 5 الكاشف: مج 3/ص 475.

ص: 176

تشترك فيه» (1).

وللحج في الجاهلية مظاهر خاصّة من أعمال وحركات عابثة وأفعال لا معنى لها؛ لأنّها رموز وشعائر ومناسك مقتبسة وغير مقتبسة وتلبيات، دون حضور قلب وهدى، بل حضور هوى وعصبية قبلية، ومحبّة وإخلاص للأصنام التي لا تنفع ولا تضرّ ولا تعي ولا تسمع ولا تغني عنهم شيئاً.

«والواضح الذي لا شكَّ فيه: أنّ الوثنيين قد اتخذوا بما أوحى إليهم الشيطان، معابد وهياكل يحجّون إليها. ليس العرب وحدهم ولا في القديم فقط، بل الناس هذا شأنهم حين تغلب عليهم الجاهلية، ويُشرعون من الدين ما لم يأذن به اللَّه. فقد أقاموا من قبور أوليائهم ومن تماثيل معظميهم الذين غلوا فيهم، فأعطوهم الآلهية، ما يحجّون إليه كلّ عام ولجدِّها إبراهيم عليه السلام، وتمسّكاً بهديه، وحفظاً لأنسابها، وكان آخر من حجّ منهم ساسان بن بابك وهو جدّ أردشير بن بابك، وهو أوّل ملوك ساسان وأبوهم الذي يرجعون إليه... فكان ساسان إذا أتى البيت طاف به وزَمْزَمَ على بئر إسماعيل» (2).

وقد افتخر بعض شعراء الفرس بعد ظهور الإسلام بذلك، فقال:

وما زلنا نحجُّ البيتَ قِدْما ونلقي بالأباطح آمنينا

وساسان بن بابك سار حتى أتى البيت العتيق يطوف دينا

فطاف به، وزمزم عند بئر لإسماعيل تروي الشاربينا (3) وقال المسعودي أيضاً: «وكانت الفرس تهدي إلى الكعبة أموالًا فيصدر الزمان، وجواهر، وقد كان ساسان بن بابك هذا أهدى غزالين من ذهب و جواهر وسيوفاً وذهباً كثيراً فقذفه في بئر زمزم» (4).

ثم يضيف قائلًا: «وقد ذهب قوم من مصنّفي الكتب في التواريخ وغيرها من


1- 1 دائرة المعارف الإسلامية: مج 7/ مادة الحج/ص 304- 305.
2- 2 مروج الذهب، المسعودي: 1/ص 254.
3- 3 المصدر السابق.
4- 4 المصدر نفسه:ص 255.

ص: 177

السير أن ذلك كان لجرهم حين كانت بمكّة، وجرهم لم تكن ذات مال فيضاف ذلك إليها، ويحتمل أن يكون لغيرها، واللَّه أعلم» (1).

البيت الحرام

وجهة حج الجاهلية أيضاً-

الهوامش:


1- 1 المصدر السابق.

ص: 178

ص: 179

ص: 180

ص: 181

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (3)

ص: 182

مهمّات مشبوهة في الديار المقدّسة (3)

حسن السعيد

يهود ونصارى متنكّرون بثياب عربيّة.. وأسماء إسلامية!

مع تزايد قوّة أوروپا، في القرون المتأخّرة، وضعف العالم الإسلامي..

انطلقت في الغرب موجة من الاهتمام الظاهري بما هو عربي قادم من جزيرة العرب، وأخفى ذلك الاهتمام الحقيقي الناتج عن اعتبارات سياسية واستراتيجية.

وبدا للحظة من الزمن أنّ همّ الاوروپيين منصرف للتعرّف على الأماكن المقدّسة بالذات، ومحاولة رصد تحصيناتها، ومعرفة طبائع السكّان وتقاليدهم، والتعرّف على المراسيم الدينية كالحجّ، ودورها في حياتهم (1).

وفي هذا الاتجاه، انتهينا في الحلقتين السابقتين إلى ما خلاصته:

في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، كانت قد توفّرت لدى الغربيين المعلومات الأساسية عن شبه جزيرة العرب: عن المدينتين المقدّستين، واليمن والبدو.

كما أنّ من الواضح أنّ «دي فارتيما» وحده كان، حتى هذا التاريخ، هو الرائد،


1- 1 يُراجع مقال؛ «رجال على ظهر الرمال العربيّة» للاستاذ عبدالرحيم حسن، مجلّة العالم لندن- العدد 276: 27 آيار مايو 1989 م- 22 شوال 1409 ه،ص 50.

ص: 183

أمّا الآخرون فلم يكونوا سوى روّاد مصادفة. ومنذ القرن الثامن عشر بدأ في تاريخ الريادة إلى شبه جزيرة العرب ما يمكن أن يسمّى بالريادة الحقيقية، التي دشّنها شيخ الرحالة «نيبور» [1733- 1815 م] في رحلته الاستكشافية المثيرة، التي بدأها وأربعة زملاء آخرين عام 1761 م، بناءً على تكليف خاص من فردريك الخامس ملك الدنمارك، وقد لقيت هذه الحملة مصادفات عجيبة انتهت بمعظم شخوصها إلى الهلاك. وكان من ثمار هذه الرحلة ترك مذكّرات مهمّة، عن عموم بلاد الجزيرة العربية والعراق، ورسم خريطة كاملة لليمن (1).

وما يعنينا من رحلة «نيبور» هو؛ أنّه أبحر مع رجاله الأربعة ومعهم خادمهم السويدي جنوباً في البحر الأحمر إلى جدّة، حيث استأجروا بيتاً، وانتظروا هبوب رياح مواتية؛ لاستئناف سفرهم إلى أماكن أبعد. وقد انتظروا حوالى ستّة أسابيع، قبل استئناف المسيرة في سفينة مفتوحة.. وفي هذه المرّة لم يرافقوا جموع الحجّاج، الذين رافقوهم عند مغادرة السويس، والذين كانوا قد وصلوا مكّة وأدّوا فريضة الحج ثم عادوا.. (2).

ولأسباب نجهلها، لم يتغلغل «نيبور» إلى الأماكن المقدّسة، في الوقت الذي ذهب بعيداً في مغامرته الجريئة، حينما جاب بقاعاً كانت عصيّة، حتّى ذلك الوقت وإلى وقت لاحق، على أمثاله. الأمر الذي أكسبه شهرة واسعة، وعدّه المؤرّخون علامة فارقة، في تاريخ رحلات الاستكشافات الغربية إلى الجزيرة العربية.

على أنّ ثمّة جهوداً متواضعة سبقته للتعرّف على المناطق الساحلية، وخاصّة في مطلع القرن السابع عشر. وقد كانت شركة الهند الشرقية معنيّة بجمع المعلومات عن موانئ البحر الأحمر وأهميتها، فكلّفت عدداً من رجالها بذلك. وكان من جملتهم «القس جوزيف اوفينكتون» الذي كتب في وصف جدّة وأهميتها، فنشر الوصف في كتابه المسمى «رحلة إلىصوراة»] A VoYage to Suratt [.

وهو يقول: إنّ الميناء الرئيسي في البحر الأحمر يعود للسلطان.. وهو ميناء


1- 2 المرجع نفسه: 51.
2- 3 بيتر برينث؛ «بلاد العرب القاصية»، ترجمة خالد أسعد عيسى وأحمد غسّان سبانو، بيروت، 1411 ه- 1991 م،ص: 85.

ص: 184

مكّة. وليست الأراضي المحيطة بهذين البلدين ذات فائدة مطلقاً، كما أنّها غير قابلة للاصلاح والتحسين، بحيث إنّها قد اصيبت بلعنة من الطبيعة، فحُرمت من نِعَم اللَّه تعالى بندرة وجود الأشياء كلّها فيها، ما لم تستورد لها من الخارج.. وتزدهر جدّة بمواصلاتها الدائمة مع الهند وايران والحبشة، وأجزاء الجزيرة العربية الاخرى، فيأتي العرب إليها ببُنهم (قهوتهم) ليشتريه الأتراك ويحملوه إلى السويس، ويأتي إليها على الشاكلة نفسها الحجّاج في كلّ سنة من أنحاء العالم الإسلامي جميعه.

وفي عهد الشريف سعيد (1700 م) وصل إلى جدّة رجل انگليزي يُدعى «ويليام دانيال»، وآخر فرنسي يُدعى «شارل جاك بوسيه». فخلّفا وصفاً واضحاً عمّا شاهداه. فقد كان الأوّل شاهد عيان للخصام، الذي حصل بين الشريف الأكبر سعيد، والباشا الذي كان يمثِّل السلطان في الحجاز.

أمّا الفرنسي فقد وصل إلى جدّة، في اليوم الخامس، من كانون الأوّل (ديسمبر) أي بعد الحادث المار ذكره بأيّام قليلة (1).

وأيّاً كانت قيمة المشاهدات والانطباعات، التي تركها هؤلاء وغيرهم، فإنّ الرحالة الدانماركي «ينبور» قد ترك بصماته الواضحة في تاريخ الرحلات الغربية، طيلة عقود طويلة. لقد تزامنت شهرة ينبور وذيوعصيته في الدوائر المعنيّة بالشرق مع تنامي حركة التنوير الفلسفية في القرن الثامن عشر.

وقبل أن يؤذن هذا القرن بالرحيل، كان هناك حدثان خطيران في المشرق الإسلامي، أثارا الانتباه لدى البعض والمخاوف- إلى حدّ الذعر- عند البعض الآخر، وهما؛ غزو نابليون لمصر عام 1798 م، والذي كان إيذاناً ببدء مرحلة الاختراق الحضاري للمشرق الإسلامي، من قبل دوائر الغرب وطلائعه الاستعمارية.

الحدث الثاني تمثّل بتصاعد قوّة الوهابيين في قلب الجزيرة العربيّة، وتحرّك محمّد علي باشا لضرب القوّة الجديدة. وهنا وجد الغرب فرصته الذهبية لتكثيف


1- 4 جعفر الخليلي؛ «موسوعة العتبات المقدّسة- قسم مكة»، 2: 258 ط 2، بيروت، 1407 ه- 1987 م.

ص: 185

جهوده في المنطقة (1).

وعلى حين كانت أوروپا تهتزّ وترتعد وتسقط فريسة الحروب النابليونية، ظهر وكأن بلاد العرب أيضاً قد أصبحت تحت قبضة حركة استبدادية مطلقة.. وفي أثناء سنوات الغليان والفوضى هذه، مرّ رحّالتان جديدان، في هذه البلاد الصحراوية، وفي تلك المدن المقدّسة (2)، وقد تظاهرا بالإسلام، منتحلين لهما اسمين مسلمين، في نطاق إخفاء مهمّاتهما السريّة.

اليهودي.. الجاسوس

وبعد ست وأربعين سنة من رحلة نيبور، وبالتحديد عام 1807 يصل الحجاز رجل يهودي اسباني الأصل يُدعى «دومنيكو باديا أي ليبليج» لينتحل اسماً ونسباً عربيّاً «علي بك العبّاسي»، ويدّعي لنفسه أن شريف مكة (الشريف غالب) قد لقّبه «خادم بيت اللَّه الحرام»، وأنّه استقبله بحفاوة، وأشركه معه في غسل الكعبة المشرّفة.

وقد تضاربت الآراء في حقيقة هذا الرجل، كما يقول «برينث» فقد يكون عميلًا للفرنسيين أو البرتغاليين أو ربّما الانكليز، وهناك من يذهب إلى أنّه كان جاسوساً لسلطان مصر «محمد علي باشا» الذي كان يجهّز لحملة ضد الوهابيين، فإن «علي بك العباسي» يكون قد وضع حدّاً للجهود، التي قامت على الرغبة الغامضة والطمع في المنال القريب المتوقّف على اكتشاف الحدود الساحلية. كما أنّه سيكون أوّل أوروپي احتك بالناس، من موقع لم يثر حساسيتهم، وكان لادعائه النسب العباسي، وتأكيده لشريف مكّة بأنّه كان واحداً من عائلتهم الوجه الذي دخل به قلوب الناس، فاستغل ذلك للتجسّس عليهم (3).

فما هي، يا ترى، حكاية «العبّاسي» هذا؟

وما هي حقيقة تظاهره بالإسلام؟


1- 5 مجلّة العالم؛ م. س.
2- 6 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 98.
3- 7 مجلة العالم؛ م. س: 51.

ص: 186

وماذا تكمن وراء ذلك من دوافع.. وأهداف؟

وحتى نصل إلى جليّة الموقف، لابدّ من تتبّع تحرّكات هذا اليهودي، لنمسك برأس الخيط.

ففي عام 1806، وصل إلى الاسكندرية، وكان قد ترك موطنه متوجهاً إلى شمال أفريقيا قبل ثلاث سنوات (1) أي أنّه بدأ رحلاته عام 1803 م، التي شملت المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وفلسطين وسوريا وتركيا، وفي العام 1807 تمّت رحلاته، وقد دوّنها بعد عودته إلى أوروپا، واستقراره في فرنسا باللغة الفرنسية، في كتاب من جزأين (2).

لا نعرف الشي ء الكثير عن تفصيلات حياته. إذ يكتنفها قدر غير يسير من الغموض. وما معروف عنه أنّه كان عالماً ذكيّاً أجرى اتصالات مع كثير من علماء أوروپا. ولكنّه اختفى فجأةً، ولم يسأل أحد عن سبب اختفائه، وذلك لأنّ السلطات المختصّة كانت تعرف إلى أين ذهب، كما يقول «برينث».

فقد أبحر إلى البحر الأحمر، ومن ثمّ إلى جدّة، وكان ينوي أن يشقّ طريقه إلى مكّة (3).

وفي مقدّمته للطبعة الجديدة لكتاب «رحلات علي بك» التيصدرت عام 1993 كتب الاختصاصي البريطاني «روبين بدويل» قائلًا: «لم يقدّم رحالة في العالم العربيصورة غامضة كالتي قدّمها «علي بك»، كما أن تقريره يبدأ بطريقة مبتورة لا مثيل لها».

وبالفعل يستهل «علي بك» سرده بصلاة قصيرة بالعربيّة، يصرّح بعدها بأنّه قرّر القيام برحلة الحجّ إلى مكّة المكرّمة، من أجل مراقبة البلاد التي سيمرّ بها، لصالح البلد الذي سيستقرّ فيه في نهاية المطاف.. وكان هذا البلد- كما نعلم لاحقاً- فرنسا.


1- 8 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 98.
2- 9 يُراجع التحقيق الموسوم؛ «علي بيك العبّاسي الجاسوس للأسبان والفرنسيين: رحلاتهصورة دقيقة عن العالم العربي بين 1803 و 1807»، المنشور فيصحيفة الحياة طبعة لندن- الأحد: 26 أيلول سبتمبر 1993 م- 10 ربيع الثاني 1414 ه،ص 17.
3- 10 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 98.

ص: 187

مهمّة خاصة في المغرب

بعد هذه المقدّمة المختصرة، يصف وصوله إلى طنجة في حزيران (يونيو) 1803 م ويزعم أنّ اسمه «علي بك العباسي» وأنّه ينحدر من سلالة هارون الرشيد، ويقيم في مدينة حلب. لكن «بدويل» يقول: «إنّ قصّة هويته الكاملة ما تزال مدفونة في محفوظات مكتب استخبارات ما، أو أنّها فقدت إلى الأبد».

والواقع أنّ المعلومات عنه قليلة، ويتردّد أنّه كان جاسوساً، عمل أوّلًا لحساب الأسبان، ومن ثم لحساب نابليون. وهو من أصل أسباني، ولد في برشلونة عام 1766 م. درس اللغة العربية والعلوم (الفيزياء وعلم النبات والجيولوجيا) في جامعة فالنسيا. وفي 1801 م قدّم خدماته كمستكشف في غرب أفريقيا إلى شخصية بارزة في السلطة الأسبانية، وفي العام 1802 زار لندن حيث قدّم إلى «جمعية المساعدة لاكتشاف المناطق الداخلية في أفريقيا» مشروعاً للوصول إلى تبكتو عن طريق الجنوب، عبر جبال الأطلس. وبعد سنة فقط، وصل إلى المغرب بزي عربي كامل، وثراء واضح، وحاشية بارزة.

ويعتقد المؤرّخون الذين اهتموا بسيرة «علي بك» أنّ نفقات الرحلات كانت باهظة إلى حدّ لم يكن بإمكان أسبانيا وحدها أن تتحمّلها، ولذلك فمن المحتمل أنّه عمل أيضاً كجاسوس لحساب نابليون، الذي كان يطمح منذ حملته على مصر في العام 1798 م، إلى استغلال العالم الإسلامي لصالح فرنسا. وكان الامبراطور الفرنسي أمر باجراء أسبار سرّية على شواطئ شمال أفريقيا، وجهّز الخطط المختلفة، من أجل استعمار الأراضي الزراعية الغنية في المنطقة ذاتها.

ويقول «علي بيك»: إنّه، خلال إقامته في المغرب، أصبحصديقاً للسلطان مولاي سليمان، وأهداه عشرين بندقية، وبرميل بارود، ومظلّة جميلة. وفي المقابل، قدّم له السلطان رغيف خبز من فرنه الخاص، كدليل على الاخوّة، والأهم من ذلك، حسب كلام الرحالة: «أهداني السلطان أراضي واسعة، سمحت

ص: 188

لي بأن أحافظ على المصاريف التي كان يتطلّبها مركزي، فضلًا عن أموالي الخاصّة».

قضى «علي بك» سنتين في المغرب، واستطاع أن يعطي تفاصيل دقيقة عن البلد ومناطقه وسكّانه. غير أن العلماء المختصّين بشؤون المغرب حديثاً لم يجدوا أيّة إشارة إليه في المراجع المعاصرة له. ممّا يؤكّد أنّ هذا اليهودي كان ضالعاً في مهمّة سرّية، وليس في مهمّة علميّة؛ لذا فإنّ المعلومات التي سجّلها والانطباعات التي رصدها قد أخذت طريقها الى كواليس أجهزة الرصد الاستعمارية.

وما يعزّز هذا التحليل، هو أنّ «بدويل» يقول في المقدّمة: «لم تكن هناك أيّة فائدة بالنسبة إلى أسبانيا في متابعة تمويل رحلات" علي بك" بعد المغرب، إلّاأنّ انتقاله تزامن مع اندلاع الحرب الفرنسية- الروسية، وبروز سياسة جديدة عند نابليون تهدف إلى اكتساب أصدقاء في تركيا وايران ومصر.. وحتى في مسقط».

أمضى «علي بك» أشهراً قليلة في طرابلس، انتقل بعدها إلى قبرص، ثمّ توجه إلى مصر، حيث التقى محمد علي باشا. وفي كانون الأوّل (ديسمبر) 1806 م بدأ رحلته إلى مكّة المكرّمة التي وصل إليها بعد شهر، في 23 كانون الثاني (يناير) 1807 م. فاستقبله أمير المدينة بحفاوة وعيّن موظفاً كبيراً لمرافقته (1).

التظاهر بأنّه من أشراف المسلمين!

إذن، هذا اليهودي الذي تزيّا بزي المسلمين، وسمّى نفسه «علي بك العباسي» كان مكلّفاً بمهام خاصّة من قبل الحكومة الفرنسية (2) وعندما وصل إلى بلاد العرب لم يكن هذا الذي وصل إلى الشواطئ العربية رحالة أو عالماً أسبانياً، بل كان رجلًا مسلماً، ومن أشراف المسلمين..!!، إذ اختار لنفسه اسماً مرموقاً وأجداداً ممتازين، كما يقول «يرينث».

ولكي يدلّل على مصداقيته وليبعد الشبهات عنه، اعتاد الخدم من حاشيته


1- 11صحيفة الحياة؛ م. س.
2- 12 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 2: 259.

ص: 189

وضع سجادته المخصصة لصلاته خلف سجادة الإمام مباشرة. وقد وصل علي بك إلى مكّة وهناك استقبله شريف مكة. وإذا كان هناك مجال للتساؤل حول عبقريته فقد زالت هذه الشكوك الآن. إذ إنّ «علي بك» كان يجيد اللغة الفرنسية والأسبانية والايطالية، ولكنّه كان حريصاً على تكلّم اللغة العربية بطلاقة وسهولة أزالت كلّ الشكوك حول أصله ومحتده. ولو كان هناك أدنى شك في هذه القضية، لكان المسوؤل عن بئر زمزم، والذي كان يقدّم ذلك الماء المقدّس للأشراف والنبلاء ويدس السم- على حدّ زعم برينث- لمن تحوم حولهم الشكوك، لكان هذا قد نفّذ فعلته بالنسبة لعلي بك.

دخل «علي بك» مكّة متحديّاً العادات والتقاليد، فقد كان راكباً بعيره، وقد سُمح له بذلك لإصابته أثناء الرحلة. وعند دخوله مكّة اتّجه إلى الكعبة مع بقيّة الحجّاج مباشرة، وكان اثنان من خدمه يدعمانه ويساعدانه على السير والطواف.

ويقول «علي بك» في مذكّراته: «إنّ الخدم الذين أحاطوا بي داخل الرواق المعمد الممتد على مدى البصر، وساحة (المعبد) الهائلة، وبيت اللَّه المغطّى من قمّته لأسفله بالقماش الأسود، والمحاط بحلقة من المصابيح، وتأخّر الوقت وسكون الليل، ومرشدنا الذي كان يتفوّه بكلمات كما لو أنّه يتلو شيئاً قد اوحي إليه، كلّ هذه الأشياء قد شكّلتصورة مؤثّرة لا يمكن أن تنمحي من ذاكرتي أبداً».

وعلى الرغم من هذا التأثّر، إلّاأنّ «علي بك» كان يتوخّى الدقّة في أوصافه طيلة مدّة إقامته. فهو يصف بالتفصيل الأروقة المعمدة والقباب والمآذن في المسجد العظيم، ويخبرنا عن الأماكن المبلّطة والأماكن ذات الأرض الرملية. ويميّز الأمكنة التي تخصّ أتباع كلّ مذهب من المذاهب، فالمالكية هنا، والحنفية هناك، والشافعية من جهة، والحنابلة وهم مؤسسو المذهب الوهابي من جهة اخرى. وقد سُمح لعلي بك بصفته من الزوّار ذوي الأهمّية بالاشتراك في غسل الكعبة، وهكذا فإنّ علي بك هو أوّل زائر عُرف عنه أنّه قام بمثل هذا العمل (1).


1- 13 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 99- 100.

ص: 190

وبذا، يكون علي بك ثاني رحالة أجنبي يقدّم للغرب وصفاً عن مكّة المكرّمة، بعد «جوزيف بيتز» (الذي تحدّثنا عنه بشي ء من التفصيل في العدد الماضي) في كتابه الذي وضعه في أواخر القرن السابع عشر، تحت عنوان «وصف أمين لديانة وأخلاق المحمديين». إلّاأنّ سرد علي بك أكثر دقةً وشمولًا، فهو يصف المدينة والحرم الشريف بصورة شاملة، ويقدّم التخطيطات والرسومات، ويتناول أوضاع الأهالي، والظروف السياسية والتجارية، والأسواق والبضائع، والمباني، والفنون، والعلوم، والحيوانات والزراعة.. والأهم من كلّ ذلك أنّه كان أوّل من حدّد موقع المدينة الحقيقي (1).

شريف مكّة.. كما يراه علي بك

اجتمع علي بك بالشريف غالب. فقال: إنّه في العقد الرابع من العمر، ووصفه بأنّه كان أنانياً غير متعلّم (2) وأنّه على جهله ذو حصافة ودهاء. رآه لأول مرّة في مجلسه وهو يدخن النارجيلة التي كانت محجوبة خوفاً من الوهابيين. فلم ير السائح الأوروپي غير النرپج الذي كان يتصل من خرق في الحائط بالنارجيلة وراءه في الغرفة المجاورة للمجلس (3).

ويمضي «علي بك» في نقل انطباعاته عن شريف مكة، زاعماً أنّ الانگليز كانوا يعتبرونه أحسنصديق لهم، ولذلك كانوا يشجعون التجارة مع الهند بواسطته، كما يقول: إنّ الشريف كان يبعث بسفنه لتتاجر مع مخا ومسقط وصوراة، وأنّه كان يدّعي بعائدية مصوع وجزيرة سواكن له، مع أنّهما كانا يخضعان للسلطان بصورة اسمية (4).

وعن بعض مهمّات الشريف غالب يذكر «علي بك» قائلًا: «دخل شريف مكة وسلطانها محمولًا على أكتاف بعض أتباعه، ورؤوس البعض الآخر تحيط به شيوخ القبائل. وقد حاول بعض الزوّار اللحاق بهم، ولكن الحرّاس- وهم من


1- 14صحيفة الحياة؛ م. س.
2- 15 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 2: 260.
3- 16 أمين الريحاني؛ «تاريخ نجد الحديث» المنشور ضمن الأعمال العاملة، 5: 78 بيروت، 1980 م.
4- 17 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 2: 260.

ص: 191

أصل أفريقي- منعوهم، وذلك بضرب كلّ من يقترب بعصيّهم. وقد بقيت بعيداً عن الباب، وذلك لتجنّب الاختلاط بالجمهور، وعندها رأيت السيّد المسؤول عن بئر زمزم يشير إليّ بيده أن أتقدّم، وذلك بأمر من شريف مكّة، ولكن كيف أستطيع أن أشق طريقي، خلال الألوف من الناس أمامي؟»

بدأ الحرّاس بغسل الكعبة بالماء المقدّس من ماء زمزم، وقد تلقّف الجمهور تلك المياه، وكان البعيدون من الحضور ينادون طالبين حصّتهم من الماء، وقد قُدّمت آنية الشرب، ونال علي بك وعاءً شرب بعض ما فيه، وصبّ الباقي على نفسه، وذلك لأنّ الماء يحمل بركة اللَّه فيه، ومع ذلك فقد كان ممزوجاً بماء الورد ذي الرائحة الزكية. وبعد ذلك حاول علي بك الوصول إلى باب الكعبة، وقد حمله عدّة أشخاص من فوق رؤوسهم، وأخيراً وصل إلى الباب حيث ساعده الحرس الافريقيون على الدخول. وفي داخل الكعبة سلّموه حزمات من (الفراشي) وبدأ يشطف أرض الكعبة، كما كان الشريف يشطف أيضاً وبحماس عظيم، مع أنّ أرض الكعبة كانت نظيفة ولامعة كلوح من الجليد. «وعندما انتهت هذه الاحتفالات أعلن الشريف أنّه قد أنعم عليّ بلقب خادم بيت اللَّه الحرام، وعندها تلقيت تهاني ومباركات جميع المشتركين» (1).

وصف مناسك الحجّ

ويأتي بعد ذلك على إيراد تفاصيل اخرى عن مناسك الحج؛ ليطلع عليها قرّاؤه في أوروپا، فذكر كيفصعد إلى قمّة جبل عرفات، وهو المكان الذي يُقال: إنّ آدم قد قابل به حواء بعد انفصال طويل. ثم يذكر أنّه كان هنالك على قمّة جبل عرفات مكان مقدّس، عمل الوهابيون على هدمه. ثمّ يذكر لقرّائه عن رمي الجمرات أي الحجارة في منى. وقال: إنّ هذه الحجارة ترمز إلى بيت الشيطان، وهو بناء غريب الشكل يرمي عليه جموع لا تُحصى ولا تُعد من الحجّاج الحصى


1- 18 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 100.

ص: 192

والحجارة، وهو يقول: ولمّا كان الشيطان ماكراً وحقوداً بحيث بنى بيته في مكان ضيّق لا يزيد في اتساعه عن أربع وثلاثين قدماً، وأنّه فضلًا عن ذلك مملوء بالحجارة الضخمة، التي يجب على الإنسان تسلّقها، إذا كان عليه أن يصيب الهدف. فالحجّاج مدعوون لإتمام هذا المنسك أو هذه العملية رأساً بعد وصولهم إلى (منى)، وهكذا تسود الفوضى النادرة المثال، ولكنّي أخيراً وبعد أن ساعدني خدمي وأصدقائي تدبّرت أمر إتمام هذا الواجب المقدّس، ولكن أصبت بجرحين في رجلي اليسرى.

كانت ملاحظاته عمّا رأى دقيقة، ولكنّها جافّة، ولم تكن تخلو من إشارات خفيّة وتلميحات تهكمية فيها. فهو يلاحظ مثلًا أنّ الأرض خارج الكعبة كانت على مستوى أرض الكعبة الداخلي، ولكن لا يمكن الوصول إليها الآن إلّاباستعمال بعض الدرجات، وهو يقول: «الحقيقة أنّ الإنسان يجب أن يفترض أنّ الحجر الأسود كان موضوعاً في مكان آخر غير المكان الذي هو فيه الآن، وذلك لأنّه منخفض بمقدار قدمين عن مستوى البوابة. فالكفّار ربّما دار بخلدهم أنّ الحجر الأسود لم يكن موجوداً أو أنّه كان تحت الأرض..».

ثم يقول: «أمّا أنا فلا أعتقد بمثل هذه الأفكار حول ذلك العهد الإلهي الثمين المقدّس» (1) ثم يعطي مقاييس الحجر الأسود فيقول: «يعتقد ان الملاك جبريل قد جلب الحجر الأسود من الجنّة، وكان شفافاً وقد قدّمه لإبراهيم الخليل، ولمّا لمسته امرأة نجسة تحوّل إلى اللون الأسود» ثم يعود.. فيقول: «في الحقيقة أنّ هذا الحجر هو من البازلت البركاني، وهو محاط ببعض البلورات الصغيرة المدببة اللامعة، ويحتوي بعض سلكات الألمنيوم على أرضية سوداء، وهو أسود غامق يشبه المخمل الأسود والفحم باستثناء نتوء واحد يميل إلى الاحمرار» (2).

ولسنا بحاجة إلى التأكيد على أنّ علي بك أو (دومنيكو باديا) لم يُظهر لنا تفاعله الروحي مع مناسك الحج، وأنّى له ذلك وهو اليهودي المكلّف بمهمّة


1- 19 علّق مترجما الكتاب على هذه النقطة بقولهما: «لا داعي لهذا الافتراض، فان الحجر الأسود، حتّى عندما سُحب من مكانه فانّه قد اعيد إلى مكانه نفسه الذي ما يزال عليه حتى اليوم» الكتابص 101، هامش.
2- 20 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 101- 102.

ص: 193

خاصّة؟! لهذا اقتصر عمله على وصف المناسك وكل ما تقع عليه عيناه وصفاً دقيقاً.. ليس إلّا (1). ولعل هذا الأمر كان في مقدّمة مهمّته السرّية التي نُدب إليها!

مشاهدات عن الوهابيين

وإذاصرفنا النظر عن مهمّة علي بك السياسية، فإنّه أوّل أوروپي شاهد جموع الوهابيين في مكّة، وحجّ معهم واعتمر، إذ كان الأمير سعود وأبو نقطة يتقدّمان الحجّاج إلى عرفات، وهم خمسة وأربعون ألفاً، ومعهم علي بك (2).

ومن طريف ما يذكره «علي بك العبّاسي» هذا، الذي أصبح كتابه مرجعاً مهمّاً للغربيين عن مكّة، وصفه لجماعة من البدو الوهابيين الذين جاءوا إلى الحجّ في مكّة سنة 1807 م بصفته شاهد عيان (3)، وقد سنحت له الفرصة لرؤية الجيش الوهابي، وهو يدخل مكة فيصباح أحد أيام شباط (فبراير) عام 1807 م، عندما رأى حشداً من الرجال يكادون يكونون عراة، وهم متنكّبون البنادق، والسيوف في أحزمتهم (4).

يقول علي بك: «.. وسرعان ما دخل البلدة جمهور من الرجال العراة، الذين لم يكونوا يلبسون شيئاً إلّاالأسمال التي كانت تستر عوراتهم. وكان عدد قليل منهم يضعون بالإضافة إلى ذلك شيئاً فوق أكتافهم، كما كان قسم آخر منهم عراة بالكلية، لكن الجميع كانوا مسلّحين إمّا بالبنادق أو بالخناجر. وحالما وقعت أعين المكّيين على هذا السيل من العراة المسلّحين، هرعوا إلى البيوت كلّهم، واختفوا عن الأنظار. وكان البعض من هؤلاء يركبون الخيول، مع عريهم وتسلّحهم بالرماح، ويرتلون أدعيتهم وجملهم الدينية بصوت مرتفع كلّ بالطريقة التي يختارها، ومن دون خشوع أو انتظام. وقد تولّى أطفال مكّة، وهم الأدلّاء على الدوام، إرشادهم والطواف بهم؛ لأنّ الكبار قد تلاشوا عن الأنظار. ولذلك أخذوا يمرّون في داخل البيت الحرام، ويقبّلون الحجر الأسود، وكأنّهم مجموعة محتشدة من الزنابير (5).


1- 21 للأسف، نجد بعض الباحثين يُحسن الظن بجهود أمثال «علي بك»، ويصنّفها على أنّها جهود علمية ..! مجرّدة، تتوخّى خدمة العلم والحقيقة!، وهذا المنحى نلمسه في موسوعة «المستشرقين» بأجزائها الثلاثة، من
2- 22 تاريخ نجد الحديث؛ م. س: 78.
3- 23 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 2: 260.
4- 24 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 102.
5- 25 موسوعة العتبات المقدسة؛ م. س.

ص: 194

ويشير علي بك إلى أنّ الناس عندما رأوا هذا السيل من الرجال المسلّحين العراة هربوا وأخلوا الشوارع لهم. وهكذا ملأ هؤلاء الشارع تماماً. أما أنا- يقول علي بك- فقد بقيت في مكاني، ثم تسلّقت كومة من القمامة حتى أستطيع الرؤية بشكل أفضل، راقبت مرور جيش مؤلف من خمسة أو ستّة آلاف رجل، وكان أمامهم ثلاثة أو أربعة فرسان يركبون الخيول والجمال وفي أيديهم حراب كالسابقين، ولكنّهم لم يحملوا أعلاماً أو طبولًا أو أيّة إشارة تشير إلى النصر العسكري، وفي أثناء سيرهم أطلق بعضهم أصواتاً تدل على الحماس الديني، وآخرون كانوا يتلون بعض الصلوات بشكل مرتفع كلّ حسب طريقته» (1).

أما الشريف غالب فقد كان، خلال ذلك، يشاهد الوهابيين من قصره القائم فوق السفح، بعد أن أوعز إلى جنده من العبيد والأتراك بأن لا يغادروا مقرّاتهم، بينما كان هذا المد القادم من البادية يكتسح مكة، وينحسر عنها دون وقوع حادث يُذكر (2).

وقد أدرك «علي بك» فيما بعد أنّ ذلك الحماس المتوقّد، الذي ظهر لدى الوهابيين، كان بسبب شعورهم بقوّتهم الساحقة. فهو يقول: إنّه لدى نزوله من جبل عرفات استطاع رؤية جيشهم جميعه وهو يقدّر ب (3) ألف مقاتل، جميعهم تقريباً يركبون الجمال، ومعهم حوالى ألف جمل لحمل الماء والخيام وخشب الوقود والتبن والعلف لجمال رُؤسائهم. وكان في مؤخرتهم شرذمة من الجنود يحملون أعلاماً ذات ألوان مختلفة مرفوعة على رماحهم. وهو يستنتج بحق أنّه بعد النظرة الاولى، ورؤية هذا الحشد من الرجال المسلّحين العراة، الذين ليس لديهم أيّة فكرة عن الحضارة أو المدنية، ويتكلّمون لغة بربرية، هذه النظرة تسبّب الفزع والحذر، ومع ذلك فقد وجد فيهم بعضصفات الفضيلة، فهم لا يسرقون ولا ينهبون بالقوّة أو الحيلة إلّاإذا كانوا على يقين من أنّ ما يستولون عليه يخصّ الأعداء أو الكفّار. وكانوا يدفعون ثمن كلّ ما يشترونه أو أجرة أيّة خدمة تُقدّم لهم


1- 26 بلاد العرب القاصية؛ م. س.
2- 27 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س.
3- 45 تُراجع الموسوعة،ص: 226 ط 2، بيروت، 1989 م.

ص: 195

من أموالهم الخاصّة، وهم يتبعون قوادهم ويطيعونهم طاعة عمياء، ويتحمّلون جميع أصناف الشقاء والمشقّة، ويتّبعون شيوخهم إلى أقصى المعمورة (1).

ورغم هذا، فإنّ علي بك لا ينسى إبداء اندهاشه؛ لأنّ أهالي مكة وبقيّة الحجّاج لم يوافقوه على بعض آرائه الايجابية بالنسبة لهؤلاء القادمين الجدد، ولكنّه يسجّل أنّ الوهابيين قد دمّروا وهدّموا جميع المساجد التي خُصصت لذكرى الرسولصلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته. وقد هدّم سعود قبور الأولياء والصالحين من الصحابة وأبطال الإسلام الذين كان الناس يحترمونهم، وهدّم قصر السلطان الشريف أيضاً، ولم يُبقِ من تلك الأبنية إلّاالخرائب والأطلال (2).

أمّا في المدينة المنوّرة فقد علم علي بك أنّ جميع الزخارف، التي أحاطت بقبر النبيصلى الله عليه و آله و سلم قد أتلفت، خلال نوبات من الحماس المتزمّت، حتى لم يبق شي ء من ألوانها الزاهية الفخمة (3).

أمّا في الشؤون الدينية فقد ألغيت وحُرّمت التقاليد القديمة، التي كان الحجّاج يتقيّدون بهاجيلًا بعدجيل بإخلاص وتفانٍ، ومُنعت زيارة القبور. وفي جدّة ظهرت قوّة جديدة من الشرطة، وهم مسؤولون عن تذكير الناس بالصلوات الخمس وإجبارهم على أدائها، وكانوا عراة الأجسام، وفي يد كلّ منهم عصاً غليظة، وقد أمروا أن يصرخوا ويوبخوا الناس، ويسحبوهم قسراً من أكتافهم، حتّى يشتركوا في الصلوات العامة خمس مرّات في اليوم، وقد تولّى رجال مسلّحون حراسة أماكن قبور الأولياء والصالحين، ومنع الناس من الدخول إليها (4).

الجنرال باديا.. في خدمة نابليون!

حرص هذا اليهودي الداهية على التظاهر بأنّه الأمير المكرّم، والعالم المحترم، والحاج الورع الموقّر.. وكان في ظاهره عربيّاً قحاً، ومسلماً حقّاً، لا تعيقه كلمة يقولها، ولا تخونه فعلة أو إشارة، فما شك أحد في دينه أو في نسبه!


1- 28 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 103.
2- 29 المرجع نفسه.
3- 30 المرجع نفسه: 104.
4- 31 المرجع نفسه.

ص: 196

والعبّاسي هذا كان عالماً يحمل في حقائبه أدوات للرصد والمساحة، فاستخدمها في مكة وجوارها، دون أن يعترضه أحد من الناس، بل كان يحترمه الجميع، وقد حاز- كما مرّ- فوق ذلك شرفاً لم يحرزه سواه من المستشرقين، ولا يحوزه إلّاالأفراد القلائل من المسلمين، ألا وهو شرف كناسة الكعبة. ولكنّه على ما يظهر لم يفلح حتّى النهاية في تنكّره (1).

إذ غادر علي بك مكّة المكرّمة في الثاني من آذار (مارس) 1807 م إلى جدّة، وعندما قصد إلى المدينة المنوّرة زائراًصدّه عنها الوهابيون (2) وأُلقي عليه القبض عند محاولته الدخول إلى المدينة، وأوقف واتلفت بعض مقتنياته ومجموعاته، وبعدها أُجبر على الرجوع من حيث أتى. وهكذا عندما شعر علي بك بهذا الخذلان بدأ في الاستعداد للرحيل إلى أوروپا (3).

فتوجّه إلى ينبع ثم عاد إلى القاهرة، لكنّه لم يبق هناك فترة طويلة، بل قرّر العودة إلى أوروپا مروراً بفلسطين وسوريا وتركيا. ولأنّه حمل لقب الحج، تمكّن علي بك من زيارة المسجد الأقصى، الذي لم يكن دخله غربي واحد، منذ الحروب الصليبية. وهنا أيضاً أعطى وصفاً دقيقاً وخرائط تفصيلية. وبعد القدس زار دمشق ثم اسطنبول، ووصل إلى رومانيا، حيث ينهي سرده العام 1807، بالطريقة المبتورة ذاتها التي بدأ بها.

عند عودته إلى فرنسا، استقبله «نابليون» مرّات عدّة، ثم دخل في خدمة أخيه «جوزيف بونابرت» الذي كان وقتها ملك أسبانيا، وبعد فترة انتقل للعيش في پاريس، حيث عُرف باسم «الجنرال باديا» وفي تلك المرحلة وضع كتابه الذي أهداه إلى الملك لويس الثامن عشر.

في العام 1818 م، قرّر الرجوع إلى الشرق الأوسط، على أمل الوصول إلى تمبكتو برفقة قوافل الحجاج الأفارقة العائدة من مكّة المكرّمة (4) وعلى ما يبدو كان تحرّكه الأخير مرصوداً من قبل عيون بريطانيا المبثوثين في المنطقة، على خلفيّة


1- 32 تاريخ نجد الحديث؛ م. س.
2- 33 المرجع نفسه.
3- 34 بلاد العرب القاصية؛ م. س.
4- 35صحيفة الحياة؛ م. س.

ص: 197

التنافس الشديد بين الدولتين الاستعماريتين، للاستحواذ على مناطق النفوذ في الشرق الإسلامي. وفي أثناء عودته إلى المنطقة، غادر علي بك دمشق عام 1818 م، متّجهاً لزيارة مكة للمرّة الثانية. وفي هذه الرحلة عاش كعربي بين أهله العرب وكحاج بين الحجّاج. ولكنّه توفي، بعد قطعه حوالى مائة ميل في طريقه إلى مكّة (1) وذلك في آب (اغسطس) من تلك السنة. وتقول التقارير البريطانية: إنّ وفاته كانت بسبب مرض «الديزنتاريا». لكن التقارير الفرنسية تؤكّد بأنّه قتل مسموماً من قبل البريطانيين (2).

ولأن الغموض يكتنف موته، فقد دار جدل كبير حول هذا الأمر بين الانگليز والفرنسيين منذ القرن التاسع عشر (3)، فهل كان سبب موته إصابته بمرض الزحار (الديزنتاريا) حسب الرواية البريطانية؟ أم هل حدث أن لاحظ أحد الحجّاج الذين يلمّحون بعدّة لغات أنّ هذا الرجل متنكّر يُخفي حقيقته؟ أم أنّ علي بك قد مات مسموماً على يد أحد رجال المخابرات البريطانية، وذلك حسب الإشاعة التي انتشرت بعد موته، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا حدث هذا الاغتيال، بعد انتهاء الحرب بثلاث سنوات؟

الرجل الغامض

وعلى كلّ حال، فها قد سقط علي بك هناك، ولم ينفعه علمه ولا قوّة شخصيته التهكّمية.

وقيل: انّهم وجدواصليباً بين ثيابه. أمّا كتابه الذي نُشر، قبل أربع سنوات من وفاته، والآراء المتناقضة التي تناقلها الناس حول شخصه وأخلاقه ونواياه ومعتقداته، فقد ظلّت حيّة بعده تحكي لنا كلّ شي ء عن تلك الشخصية الغامضة (4).

ومع ذلك، فإنّ علي بك يبقى سرّاً من الأسرار، على حدّ تعبير الباحث البريطاني «بيتر برينث» الذي راح يتساءل: ماذا كان يفعل في بلاد العرب، عندما


1- 36 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 106.
2- 37صحيفة الحياة: م. س.
3- 38صحيفة الحياة: 13/ 9/ 1993.
4- 39 بلاد العرب القاصية؛ م. س.

ص: 198

كان الوهابيون يقلبون الجزيرة العربية رأساً على عقب، وعندما كان نابليون يعسكر قرب الاهرامات؟ وهل كان قصده من البقاء جمع المعلومات بالنسبة للحركة الإسلامية الجديدة، حتّى يساعد نابليون في تقرير خططه للمستقبل بالنسبة للشرق الأوسط؟ أم هل كانت مهمّته مراقبة شواطئ البحر الأحمر لمصلحة السفن الفرنسية، التي كانت پاريس تأمل في إرسالها؛ لتخوض مياه ذلك البحر في المستقبل القريب؟ وهل يعلم أحد حق اليقين عمّا إذا كان هذا الرجل مسلماً حقيقياً أم مسيحياً حقيقيّاً؟ (1)

وعن التساؤل الأخير، فإنّ من المؤكّد أنّ الرجل ليس مسلماً قط، أمّا مسيحيته فهي موضع تساؤل، خلافاً لما هو ثابت عن ديانته اليهودية، ولعلّه كان ماسونياً. وما يدعونا إلى هذا هو ما كان يبديه من شعور بالحماس العام بالنسبة لجميع الأديان، وهذه النقطة بالذات إحدى أبرز مرتكزات الادعاءات الماسونية، التي كانت مزدهرة جدّاً في فرنسا، ومنذ انتصار الثورة الفرنسية، وخاصّة في عهد نابليون بونابرت، الذي كان أحدصنائع الماسونية وضحاياها في آن معاً!

وعلي بك هذا.. كان رسول بونابرت إلى البلاد العربية، كما يقول أمين الريحاني (2)، وكان عمله التجسّس لصالح فرنسا من الامور المحسومة، ولقد اعترف هو نفسه، في مقدّمة كتابه، بأنّه يعمل لصالح البلد الذي يستقرّ فيه في نهاية الأمر!

ومهما كانت الحقيقة بالنسبة لهذا الرجل الغامض، إلّاأنّه كان أوّل رجل غربي يلبس الثياب العربية ويتكلّم اللغة العربية، ويتّخذ لنفسه مظهر وأخلاق العرب بمحض إرادته. وهكذا أصبح الرائد والمعلِّم لكثير من الأوروپيين الذين حاولوا، في القرنين التاليين، سلوك الخطة والطريقة نفسها. وهناك من يظن أنّ هذا العمل ما هو إلّامجرّد تمويه أو إجراء احتياطي، ولكنّ الآخرين يعتقدون أنّ هذا هو ردّ الفعل الطبيعي، نظراً للأساليب السائدة في محيطهم الموقت. ولكن هنالك من


1- 40 المرجع نفسه: 105.
2- 41 تاريخ نجد الحديث؛ م. س: 78.

ص: 199

يظن أنّ هذا الدور قد استثمر بوضوح بكشف الحقيقة، وأنّ هؤلاء الرجال كانوا يبدون وكأنّهم قد رجعوا لطبيعتهم، عندما كانوا ينغمسون انغماساً عميقاً في شخصياتهم الكاذبة. وبالنسبة إليهم، لقد كان مجرّد الاشتراك، في خضم تلك الصرامة والقسوة في الحياة البدوية، ما هو إلّاعامل مكمِّل لشخصياتهم بشكل ليس له مثيل (1).

وقد أفصح، بعد نصف قرن تقريباً، رحالة يهودي بريطاني هو «وليم بلغريف» عمّا كتمه آخرون، حينما كتب في مشاهداته الشخصية عن «رحلة عام في وسط وشرق الجزيرة العربية» عام 1873 م: «لقد حان الوقت لأن نملأ هذا الفراغ الموجود في خارطة آسيا، وهذا الذي سنحاوله رغم كلّ خطر، فإمّا أن تصبح الأرض الممتدة أمامنا قبراً لنا، أو أننا سنعبر أوسع امتداداتها عرضاً»، فإنّه كان يلخص حلم الرحالة الذين سبقوه واغراض أولئك الذين سيأتون بعده (2). ولا يُنبئك مثل خبير.

إعادة طبع الرحلات

بقي أن نشير إلى أن رحلات علي بك التي أثارت جدلًا، قد طبعت بالانگليزية عام 1816، تحت عنوان: «رحلات علي بك في المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وسوريا وتركيا 1803- 1807» (3) ويحمل غلاف الرحلات صورة «علي بك العبّاسي» بزيّه الإسلامي. و اعيد طبعها في لندن عام 1993.

ولندرة الكتاب وأهمّيته غدا سعره مرتفعاً جدّاً، خاصّة في مطلع القرن العشرين، ويذكر أمين الريحاني معاناته للحصول على نسخة من الرحلات، وكيف أنّ أحد الكتبيين نشر إعلاناً في الصحف، لمن لديه نسخة يريد بيعها، وحينما وُجد.. كان الثمن عشرين ليرة إنگليزية فقط!!


1- 42 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 105.
2- 43 مجلّة العالم؛ م. س.
3- 44TurkeY .Between the Years 3081 and 7081 ""Travels of AlY ,BeY in Morocco ,Tripoli ,CYprus EYprus ,EYgpt ,Arabla ,SYria ,and

ص: 200

سيتزن.. أو الحاج موسى!

أمّا الرحّالة الثاني الذي قام بمهمّة مشابهة، فهو الألماني «الريخ سيتزن»، غير أنّ المعلومات عنه شحيحة جدّاً، ولا ترقى المصادر المتوفّرة (لدينا في أقل التقادير) إلى عدد أصابع اليد الواحدة، وحتى هذه المصادر تذكره بإيجاز شديد.

يعرّفه الدكتور عبدالرحمن بدوي بأنّه «مستشرق ورحالة ألماني»؛ ولهذاصنّفه ضمن موسوعته الشهيرة عن المستشرقين (1). ولد عام 1767 م. ونجهل الكثير عن نشأته وحياته، وكلّ ما نعرفه؛ أنّه قضى عشرين سنة يدرّس ويتأهّب لرحلته إلى الشرق. فجاء سوريا سنة 1805 وأقام فيها بضع سنين، وكتب في رحلته كتاباً قيّماً باللغة الألمانية (2).

جاء إلى مصر في 1807 م، فأقام بها طوال عامين. وكان يلبس الزي الإسلامي (3).

وكان قد تعرّف إلى المستشرق النمساوي «همّر پورجشتال» [1774- 1856 م] وفي اسطنبول عام 1802 م، وتبودلت بينهما الرسائل بعد ذلك، فكان سيتزن يصف لهمّر ما يشاهده في رحلاته في سوريا وفلسطين وشرقي الأردن وبلاد العرب ومصر السفلى والفيّوم. وفي مصر جمع مخطوطات عربيّة وآثاراً مصرية قديمة، وقد اقتنى هذه المخطوطات لصالح المكتبة الدوقيّة في جوتا (4).

سافر إلى الحجاز، في زيّ درويش اسمه «الحاج موسى» فدخل مكّة حاجّاً سنة 1810 م.. وهناك قابل الأمير سعود، وكان قد ارتاب بقيافته وإسلامه، ولكن كبير الوهابيين يومئذ لم يمانع العالِم الافرنجي في تجواله (5) ولا ندري ما هو السرّ وراء هذا التساهل الوهابي، مع المشكوك في أمرهم إسلامياً، قبال تشدّدهم المعهود مع بعض المسلمين، الذين لا يتوانون عن إلصاق تهمة «الشرك» بهم، بمناسبة وفي غير مناسبة؟!

وعلى أيّة حال، فإنّ سيتزن المسكين- كما يصفه برينث- تلك الشخصية


1- 45 تُراجع الموسوعة،ص: 226 ط 2، بيروت، 1989 م.
2- 46 تاريخ نجد الحديث؛ م. س: 79.
3- 47 موسوعة «المستشرقين»؛ م. س: 226.
4- 48 المرجع نفسه.
5- 49 تاريخ نجد الحديث؛ م. س.

ص: 201

الواعدة التي قتلتها الخرافات والطمع، قبل أن تستطيع تقديم أيّ شي ء ذي بال، فقد سافر في هذه الفترة من الزمن عبر ذلك المسرح العريض لشبه الجزيرة العربية؛ وتجوّل خلال المدن العربية القديمة التي أصبحت خرائب وأطلالًا مثل البتراء. وقد أعلن إسلامه وأدّى فريضة الحجّ في مكة (1).

وفيصيف عام 1810 قصد سيتزن اليمن، وطوّف فيها فعثر على النقوش، التي أشار إليها نيبور بالقرب من المدينة الحميرية ذمار، فنسخ الكتابات العربية الجنوبية الاولى، وهي عبارة عن خمس قطعصغيرة (2).

وفي رسائله إلى المستشرق همّر تحدّث له أيضاً عن جنوب الجزيرة العربية، وعن البربر، وأرسل إليه رسوماً لنقوش من جنوب الجزيرة العربية، ومن سيناء، وتحدّث عمّن لقيهم من الرجال، فقد التقى بالشيخ عبدالرحمن الجبرتي [1754- 1822 م]، وبالترجمان الفرنسي «Asselin de Cherville» [1772- 1822 م] الذي قال له: إنّ قصص ألف ليلة وليلة نشأت في عصر متأخّر، وهذا هو ما هيّأ لهمّر الفرصة كي يكون أوّل من يحيل إلى الموضع المشهور في «مروج الذهب» للمسعودي، حول هذا الموضوع (3).

وكان في نيّة «سيتزن» أن يجتاز الجزيرة العربية إلى الخليج الفارسي؛ ليسوح في الشرق الأوسط، فعاد من عدن ووجهته الجبال (4) وعندما بلغ مخا اعتقد القوم أنّه ساحر، فما ترك، وقافلته المحملة بمجموعاته، مخا حتى اختفى. فمن قائل: إنّ العرب قتلوه بالقرب من مدينة تعز (5) بعد أن رابهم أمره، خاصّة أنّ هذا المستعرب الألماني لم يكن- على ما يظهر- مثل علي بك العباسي بارعاً في التنكّر (6) ومن قائل:

إنّ الإمام أمر بدسّ السمّ له فيصنعاء، وهناك لقي حتفه (7) عام 1811 م، إذ لم يكن الإمام يقيم وزناً لذلك الأوروپي الوحيد الذي لم يرافقه أحد، وعندما فتحت حقائبه وجدوا فيها بعض النباتات المجفّفة، وأكياساً تحوي بعض البذور والحشرات المحفوظة، وبعض الأدوات الفلكية، والدفاتر المملوءة بالكتابات غير


1- 50 بلاد العرب القاصية؛ م. س: 107.
2- 51 نجيب العقيقي؛ «المستشرقون» 1: 1097 ط 1، القاهرة، 1965.
3- 52 موسوعة المستشرقين؛ م. س.
4- 53 تاريخ نجد الحديث؛ م. س: 79.
5- 54 المستشرقون؛ م. س، 3: 1097.
6- 55 تاريخ نجد الحديث: 80.
7- 56 المستشرقون: م. س.

ص: 202

المفهومة، وصوراً وخرائط أماكن بعيدة، ومبلغاً زهيداً من المال (1)، فيما ترك اختفاء سيتزن أثراً سيئاً في نفوس الرحالة فأحجموا عن جنوب بلاد العرب سنوات (2).

يقول عنه «هوغارث»: «كان سيتزن نباتيّاً مشهوراً في أوروپا، وهو من العلماء الأفاضل، له نظرات ثاقبةصائبة في الأشياء وفي الناس» وإنّ من يقرأ كتبه عن بعض الحكّام في سوريا، وبعض النباتات والصناعات في لبنان، ليتأكّد من ذلك، ويأسف جدّاً، لأنّ كتبه ومذكّراته فقدت بعد موته في اليمن، فحرمنا رأيه في الوهابيين وأميرهم الأكبر سعود، كما يقول الريحاني (3).

وتبقى مغامرات" سيتزن" ومخاطراته الواسعة المتنوّعة، بما في ذلك تظاهره بالإسلام، ولبس زي الدراويش، وحجّه إلى مكّة، وذهابه إلى اليمن، فضلًا عن مكوثه في الشام ومن ثم في مصر.. كلّ ذلك يبقى مثار علامات استفهام حول حقيقة المهمّة، التي كانت موكلة إلى هذا الشاب، الذي لقي حتفه، وهو في غمرة انهماكه بمهمّته السرّية.. والمشبوهة تلك..

اسكتلاندي.. أميراً للمدينة المنوّرة!

ثمّة مغامران آخران استطلعا الحجاز في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، أي بعد سنوات قليلة جدّاً من أداء «علي بك العباسي» و «سيتزن» (أو الحاج موسى) الحج إلى مكّة المكرّمة. وهما السكوتلاندي «توماس كيث»، والايطالي «جيوفاني فيناتي».

وقد زار الحجاز عدد آخر من الاوروپيين الرحالة بعد ذلك، ولا سيما خلال القرن التاسع عشر، منذ بدايته حتى نهايته. وقد كانت حملة الخديوي محمد علي باشا على الحجاز، بأمر من الباب العالي في اسطنبول؛ لانقاذها من الوهابيين، سبباً في دخول عدد من الاوروپيين مع الجيوش المصرية إلى الأراضي المقدّسة،


1- 57 بلاد العرب القاصية: 107.
2- 58 المستشرقون: م. س.
3- 59 تاريخ نجد الحديث: 80.

ص: 203

وزيارتهم مكة والمدينة، كما فعل الرحالة «بورخارت»، كما حصل للجندي السكوتلاندي المغامر «توماس كيث».

فقد كان «توماس كيث» اغا من أغوات المماليك العاملين في جيوش محمّد علي باشا، باسم «ابراهيم أغا» (1). وكان طوسون الشاب مثل أبيه وأخيه ابراهيم متساهلًا في دينه، عاملًا بتساهله في أمور شتّى سياسية وغير سياسية، وكان يميل خصوصاً إلى الاوروپيين، ويحب الانتفاع بعلومهم واختراعاتهم. وقد ضمّ الجيش المصري أولئك المجازفين منهم والمسترزقين (2) وقد كتب لإبراهيم أغا هذا (توماس كيث) أن يشارك في حملة طوسون بن محمد علي باشا، التي سيقت على المدينة المنوّرة سنة 1812 م، فكان أوّل الداخلين إليها، ثم وجد نفسه يشغل أغرب وظيفة في حياته، لفترة قصيرة من الزمن، وهي وظيفة حاكم عسكري للمدينة المنوّرة، على ما يقول هوغارث (3) وهذا ممّا يدلّل على التساهل الذي كان يبديه محمد علي باشا الكبير وأولاده.

ومن ايطاليا مغامر اسمه الحاج محمد!

أمّا المغامر الآخر، فهو رجل من أهالي فيرارا في ايطاليا. وقد قُدّر له، بعد تطويحات ومغامرات عدّة، أن يحجّ إلى مكّة المكرّمة في 1814 م، باعتباره رجلًا (مسلماً) اسمه «محمد!».

لا نعرف عن هذا الأوروبي- كزميله سيتزن- إلّاالنزر اليسير، وكلّ ما لدينا من معلومات عنه، أنّه سيق إلى الجنديّة في بلدته سنة 1805 م، ففرّ منها وقبض عليه، ثم سيق إليها مرّة ثانية. وهناك اتفق مع جنود آخرين، وفرّ إلى ألبانيا، فاشتغل عند أحد الباشوات الأتراك فيها، وتظاهر باعتناق الإسلام، فتوجّه إلى اسطنبول، وبعد مغامرات وتقلبات عدّة وصل إلى القاهرة في 1809 م، وانخرط في سلك الحرس الألباني، وأصبح عريفاً في حرس الخديوي محمد علي باشا الخاص.


1- 60 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 3: 240 ط 2، بيروت، 1407 ه- 1987 م.
2- 61 تاريخ نجد الحديث: 77.
3- 62 موسوعة العتبات المقدّسة: م. س، 3: 241.

ص: 204

واشترك بعد ذلك في حملة سيقت إلى مصر العليا للقضاء على المماليك وثورتهم فيها، ثم رابطت قوّته في المطريّة استعداداً لسوقها بقيادة طوسون باشا بن محمد علي باشا، لتأديب الوهابيين الذين احتلوا الحجاز. فأبحرت القوّة في 1811 م، واستطاعت الإنزال في ينبع، واستولت عليها بعد معركة اشترك فيها جيوفاني أو «محمد» اشتراكاً فعلياً. وبعد أن بقي فيها مدّة من الزمن سمع بانتصارات محمد علي باشا على الوهابيين في الحجاز، فقرّر الالتحاق بالقوّة الألبانية المنجدة التي توجّهت إلى هناك في 1814 م.

وهناك اشترك فيناتي في محاصرة القنفذة والاستيلاء عليها، وكان موجوداً فيها حينما استردّها الوهابيون بفظاظة، فجرح وتمرّض ولذلك قرّر الفرار من الجندية والتوجّه إلى مكّة نفسها، فحجّ فيها وكتب عمّا شاهده، خلال ذلك، بتفصيل غير يسير. فهو يقول:

.. ولمّا كنت مسروراً لنجاحي في الفرار، كنت في وضع فكري يتقبّل شيئاً غير يسير من الانطباعات القويّة، ولذلك تحسّست كثيراً بجميع ما رأيت، عندما دخلت البلدة (يقصد مكّة) لأنّها وإن لم تكن واسعة ولا جميلة بحدّ ذاتها. فقد كان فيها شي ء يبعث الرهبة والاندهاش في النفس، وكان ذلك يلاحظ على الأخصّ عند الظهيرة، حينما يهدأ كل شي ء تمام الهدوء، إلّاالمؤذّن الذي يدعو الناس إلى الصلاة من فوق المأذنة.. وأبرز ما يلاحظ في هذه البلدة البناء المقدّس المشهور الذي يقع في وسطها (1).

ويمضي «فيناتي» في وصف البيت الحرام قائلًا: «هو فناء مبلّط واسع له أبواب كثيرة تؤدّي إليه من جميع الجهات، مع ممر واسع يحمل سقفه أعمدة تحيط بالبناء كلّه، بينما يقوم في وسطه بناء يدعى الكعبة، وتغطّى جدران هذا البناء من الخارج بكسوة من المخمل الثمين الذي تطرّز فوقه كتابات عربيّة بالذهب» (2).

ثمّ يعلّق على ازدحام الناس في مكة، وكثرة الحجّاج فيها فيقول: «.. ومع


1- 63 المرجع السابق 2: 261.
2- 64 المرجع نفسه، 2: 262.

ص: 205

هذا التجمّع الهائل الذي كان ينقطع بين حين وآخر في السنوات الأخيرة، فقد وصلت إلى مكّة، منذ أن أتت إليها قافلتان كبيرتان، إحداهما من آسيا والاخرى من أفريقيا، يبلغ عدد القادمين فيهما حوالى أربعين ألف شخص، كان يبدو عليهم كلّهم مقدار ما يكنّونه في نفوسهم من الاحترام والتقديس للبيت الحرام..».

وهنا يعلّق الرحالة بورتون (1820- 1890 م) (1)، الذي نشر ما كتبه فيناتي في آخر رحلته، على هذا بقوله: إنّ «علي بك» يقدّر عدد الحجّاج الذين وقفوا في عرفات سنة 1807 بثمانين ألف رجل وألفي امرأة وألف طفل. وأنّ الرحالة بيركهارت قدّرهم في 1814 أيضاً بسبعين ألفاً. ثم يقول بورتون: إنّهم لم يتجاوزا الخمسين ألف نسمة، حينما زار مكّة سنة 1835 م (2).

ويقول فيناتي بالنسبة لمناسك الحج في عرفات: إنّ الحجّاج حينما يذهبون إليها، لابدّ من أن يضحّوا ولو بذبح خروف فيها، وإنّ هذا يفعله الغني والفقير، على سواء، ويساعد فيه الغني الفقيرَ عند الحاجة. وكان مثل هذا العدد الهائل من الضحايا يملأ الأماكن المكشوفة كلّها، فيتقاطر الفقراء من جميع أنحاء البلاد ليأخذوا حصّتهم منها.. وبعد أن تتمّ مناسك الحج كلّها كانت تسجّل الأسماء عند كاتب خاص يُعيّن لهذه المهمّة، وعند ذاك ينفضّ الحجّاج ويعودون إلى أماكنهم.

ويعلّق بورتون على هذا القول أيضاً بقوله: إنّ هذه العادة لم يعد يُعمل بها. وإنّ شهادة كان يعطيها الشريف من قبل إلى جميع من يستطيع دفع المال المطلوب عنها، و من يحتاج إلى البرهنة على ذهابه إلى حج البيت الحرام، لكن هذا لم يعد لها وجود (3).

وفي الوقت الذي كان فيه «جيوفاني فيناتي» يقوم برحلة الحج إلى مكّة، كان هناك ثمّة رحالة خطير، يُعدّ من أشهر رحالي القرن التاسع عشر، وأبعدهمصيتاً وشهرة، يشارك في موسم الحج ذاك، متخفّياً تحت اسم مستعار «الشيخ إبراهيم»..

ذلك هو الرحالة السويسري بيركهارت الذي سنأتي على ذكره، في الحلقة القادمة، بإذنه تعالى.


1- 65 سنتحدّث عنه في حلقات قادمة، بإذنه تعالى.
2- 66 يُراجع كتابه: «الحج إلى المدينة ومكّة». ..[ 1856 -1855 ]hacceM dna hanideM -LA ot egamirgliP
3- 67 موسوعة العتبات المقدّسة؛ م. س، 2: 262.

ص: 206

الهوامش:

ص: 207

تأليف نجيب العقيقي!

ص: 208

شخصيات من الحرمين الشريفين (8) عمار بن ياسر

ص: 209

شخصيات من الحرمين الشريفين (8) عمار بن ياسر

راية الحقِّ المبين

محسن الاسدي

مع ما تعرضت له من ظلم وتعسف وتجاوز- كان أخطرها وأقساها تبرئة المعتدي وتبرير أفعاله وكيل المدح له، وإتهام البري ء وإدانته وذمّه وسبه...

بوسائل خبيثة، وبأحاديث موضوعة على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله- بقيتصحبةُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله مدرسةً رساليةً عظيمةً مقدسةً.

كما لا يقدح عظمتها تلك، ولا يضرّ قدسيتها أبداً أنه كما كان فيها المتفوقون كان فيها دون ذلك بكثير، وكما كان فيها المجاهدون المخلصون كان فيها المتخاذلون، وكما كان فيها المؤمنون الصادقون حقّاً كان فيها غير ذلك..

لقد كان فيها الذين زادتهم إيماناً وثباتاً، وكانت شفاءً لما في قلوبهم.. وكان فيها الذين ما ازدادوا إلّا نفوراً وإلّا أذًى وتخريباً لها...

وخلاصة القول: كان فيها محسنٌ وظالم لنفسه مبين، وهم بالآخرة بين شقيّ وسعيد فأما الذين شَقُوا ففي النار... خالدين فيها... وأمّا الذين سُعِدُوا ففي الجنة خالدين فيها... (1).


1- 1 هود: 106- 108.

ص: 210

لقد تعرضت هذه المدرسة المباركة لحالتي الإغواء والابتلاء، فارتفعت أعلام وسقطت أخرى، وتألقت نفوسٌ وهوت غيرها، وفاز جمع وخاب آخر... ومع هذا كلّه وغيره الكثير، بقيت هذه المدرسة المحمدية أعظمَ مدرسة عرفتها الدنيا! ونموذجاً فذاً لم يعهد مثله التاريخ وكيف لا تكون كذلك، وقد راحت السماء تغذيها وتمدّها وتنمّيها وتجذرها في قلوب مؤمنةصادقة، راحت غير عابئة بما يحيط بها من أذًى ومن تعسفٍ ومن ظلم وقسر واضطهاد تبشر بآيات اللَّه وسنّة نبيه لتحملها مفاهيمَ ومبادئ وأحكاماً إلى الناس كافة؟!

لقد خلقت قلوباً أبيّة، ونفوساً كبيرة يحتضنها رجالٌ أفذاذ،صحابةٌ أجلّاء، تركوا آثارهم على تأريخنا بل على تأريخ الإنسانية عطاءً وعلماً، وتضحيةً وجهاداً، وأخلاقاً وآداباً...

لقد آمن هؤلاء والإسلام يعيش أحرج ظروفه وأقساها من حيث القلة والضعف والهوان في ساحة يحيطها الأعداء من كلّ مكان. آمنوا وقدموا كلّ ذاك العطاء وكلّ تلك التضحيات...

بسبب ولائهم الصادق لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله وحبهم العظيم له ولما حمله من قيم السماء. وهو ما شهد به أبو سفيان يوم كان زعيماً لأعداء اللَّه ورسوله: ما رأيتُ من الناس أحداً يحبّ أحداً كما يحب أصحابُ محمد محمداً.

وعمار وأبوه ياسر وأمّه سمية من هذه الفئة المؤمنة حقّاً، ومن هذه النخبة الطاهرة، ومن هؤلاء الأصحاب، الذين سجلوا لنا أمثلة رائعة وكبيرة للإيمان وللتضحية والفداء والصبر والحلم تشهد بذلك سجونُ قريش وسياطُها وحديدتُها المحماة ورماحُها القذرة، التي حملتها نفوسٌ سيئة وقلوبٌ قاسية وأيادٍ ملطخة بدماء البراءة والطهارة، كما تشهد لهم بذلك الصبر رمضاءُ مكة وشمسُها المحرقة، وما ذلك إلّالأنهم دعوا الى اللَّه ومَن أحسن قولًا ممّن دعا الى اللَّه وعملصالحاً وقال إنني من المسلمين.

إن الكتابةَ عن «أبو اليقظان»- هذا الرسالي، الذي وفّقه اللَّه تعالى ليعيش أجواء الرسالة وأفياء مدرستها تلك

ص: 211

بكلّصدق ووعي وثبات- كتابةٌ عن أبيه ياسر، الذي منَّ اللَّه عليه ليكون أول شهيد عرفته المرحلة الأولى من مراحل الإسلام ودعوته، وهي ما زالت في أول خطوة لها، كما أنّ الكتابةَ عنه كتابةٌ عن امّه التي حظيت هي الأخرى بأول وسام للشهادة في الصدر الأول للإسلام، بل هي كتابة عن كلّ المعذبين أمثال بلال وصهيب وخباب... والدين الجديد يخطو خطواته الأولى إلى قلوب الناس؛ لهديهم وإرشادهم، وانقاذهم من الظلم والضلالة والضياع الى حيث برّ الأمان في الدنيا، والى حيث النجاة في الآخرة.

قبل الهجرة النبوية الشريفة بسبع وخمسين سنة، في مكّة، في حي بني مخزوم، ولد عمّار بن ياسر، من أبٍ عربي يمنيٍّ وهو ياسر بن عامر بن مالك الكناني المذحجي العنسي القحطاني.

قدم ياسر من بلاد اليمن مع أخويه الحارث ومالك باحثين عن أخٍ رابع لهم في رحلة طويلة شاقة، انتهت بهم الى مكّة، فرجع الحارث ومالك الى اليمن، فيما ألقى ياسر عصاه بها، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبداللَّه بن عمر بن مخزوم، فاقترن بسمية بنت خياط من جواري أبي حذيفة، ثم أعتقه هذا الأخير بعد أن ولد لهما عمار، ومن هناصار عمّار وهو العربي القحطاني مولىً لبني مخزوم. ولكنهما (ياسر وسمية) بقيا مع أبي حذيفة الى أن مات.

كان عمّار يقول: كنتُ ترباً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله لسنّه، لم يكن أقرب به سنّاً مني. كما كان أخاً لأمِّ سلمة زوج الرسولصلى الله عليه و آله من الرضاعة (1).

صفاته:

كان عمّار أدم اللون، طُوالًا، جعد الشعر، حيث توجد شعرات في مقدم رأسه، وفي مؤخره أيضاً وما بينهماصلع، فيه حبشية، مجدَّع الأنف، أشهل العينين، لا يغير شيبه. بعيد ما بين المنكبين، وكان شجاعاً قويّاً ذا فصاحة وبيان ورأي سديد..

ومنصفاته أيضاً أنه كان طويل الصمت، طويل الحزن والكآبة، وكان عامة كلامه عائذاً باللَّه من فتنته (2).

إسلامه:

وفي قصة إسلامه التي وقعت وكان


1- 1 سيرة ابن هشام 1/ 162.
2- 2 حلية الأولياء:ص 142.

ص: 212

له من العمر أربع وأربعون سنة في دار الأرقم، التي كانت تدعى بدار الإسلام؛ لأنّها الدار التي كان يتم فيها إسلام الراغبين باعتناق الدين الجديد يقول عمّار: لقيتصهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله فيها، فقلتُ له: ما تريد؟ قال لي: ما تريد أنت؟

فقلتُ: أردتُ أن أدخل على محمد فأسمع كلامه، قال: وأنا أريد ذلك، فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا، ثم خرجنا ونحن مستخفون.

وكان عمار وأبواه وكذلك أخوه عبداللَّه من المبادرين لاعتناق الدين الإسلامي، ومن الأوائل الذين أظهروا إسلامهم وجهروا به، فنالوا بذلك وسام السابقين وفضلهم بعد أن حرم منهما كثيرون. ولم ينجو كلّ منهم- بسبب ذلك- من سخط وغضب مشركي قريش وزعمائهم أبي جهل وشركائه، ونقمة بني مخزوم الذين تولوا تعذيبهم، وأنزلوا بهم ألوان العذاب وصنوفه. باءت كلّها بالفشل، ولم تنل منصمودهم، ولم يحصل الطغاة إلّاشيئاً أباحه عمار.

وكان ذلك الصمود كلّه والثبات كلّه بسبب عمق العقيدة في نفوسهم ومكانتها في قلوبهم. وكانت لزيارة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لهم في الأبطح ودعائه وأقواله لهم دور كبير في ذلك الثبات «صبراً أبا اليقظان،صبراً آل ياسر...

فإن موعدكم الجنة»..

لقد كانتصدورهم وصدور مَن معهم كصهيب وبلال وخباب... أقوى من الحجارة الرمضاء الملتهبة بحرارتها، وكانت أجسادهم أقوى من مكاوي النار التي ينزلونها عليهم، ومن دروع الحديد التي ألبسوها لهم وصهروهم بالشمس، وأصبر من كلّ شي ء حتى بلغ الجهد منهم كلّ مبلغ، ففارقت روح سميّة الدنيا ونالت بذلك وسام أول شهيدة في الإسلام لم يسبقها أحدٌ الى هذا الوسام من الرجال أو النساء (1).

بعد أن ربطت بين بعيرين وطعنها أبو جهل رأس الشرك والنفاق بحربة في قُبُلِها فقتلها. وقتل بعدها زوجها، فكان هو الآخر أول شهيد من الرجال عرفته الساحة الإسلامية يومذاك.

لقد كان عمار وأبوه وأمّه قوماً من


1- 1 الطبقات 3/ 247.

ص: 213

المستضعفين في مكّة وهم الذين لا عشائر لهم تدفع عنهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش لا تخشى أحداً فيهم، فتذيقهم أشدَّ العذاب في رمضاء مكّة وفي نهارها؛ لعلّهم يرجعون عن دينهم، ويتخلون عن محمد ودعوته. وما كيد هؤلاء المشركين إلّا في تباب.

لقد ترك ذلك التعذيب آثاره على هذه الأجسام المتشربة بحلاوة الإيمان لسنين طويلة مرّت عليها، فهي على ظهر عمار حتى آخر حياته. تقول الرواية التي يقول فيها محمد بن كعب القرظي: أخبرني مَن رأى عمار بن ياسر متجرداً من سراويل، قال:

فنظرت الى ظهره فيه خيط كبير، فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكّة (1).

أقوال النبيّصلى الله عليه و آله في آل ياسر:

كانت لآل ياسر مكانة مرموقة عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وحظي عمار بالذات بمنزلة رفيعة عندهصلى الله عليه و آله لا ينالها إلّاذو حظ عظيم. فقد كانصلى الله عليه و آله كثير الترحيب به وكان يدفع عنه، ويضفي عليه من الكنى والألقاب والصفات الحسنة ما جعله موضع احترام عند المسلمين عامة والصحابة خاصة.

فقد سمّاهصلى الله عليه و آله الطيِّب المطيَّب، وكان يناديه أبا اليقظان. ومن دعائه وأقوالهصلى الله عليه و آله فيهم: اصبروا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة، اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلتَ. كان ذلك منهصلى الله عليه و آله حينما يمرّ بهم في الأبطح وهم يعذبون...

وفي رواية عمرو بن ميمون:

عذّب المشركون عماراً بالنار، فكان النبيصلى الله عليه و آله يمرّ به، فيُمرّ يده على رأسه ويقول: يا نار كوني برداً وسلاماً على عمّار، كما كنت على إبراهيم. ثم يقول:

تقتلك الفئة الباغية (2).

وفي رواية... وقاتله وسالبه في النار.

وعن هانئ بن هانئ قال: استأذن عمار على علي عليه السلام فقال: ائذنوا له، مرحباً بالطيب المطيَّب، سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: عمّار مُلئ إيماناً الى مشاشه (ما تحت عظامه).

وضربصلى الله عليه و آله مرّة خاصرته وقال:

هذه خاصرة مؤمنة.


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 208.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 18/ 212.

ص: 214

وفي الدفاع عنه، ومنع من يريد أذية عمار، قالصلى الله عليه و آله: مَن حقّر عماراً حقّره اللَّه... ومَن عادى عماراً عاداه اللَّه. ومن أبغض عماراً أبغضه اللَّه. عمار جلدة بين عيني.

ودخل عمّار على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يشكو خالد بن الوليد فقال: يا رسول اللَّه، لقد حَمش قوماً (ساقهم بغضب) قدصلوا وأسلموا، ثم وقع بخالد عند النبيّصلى الله عليه و آله، وخالد جالس لا يتكلم، فلما قام عمار وقع به خالد، فقال النبيّصلى الله عليه و آله:

مه يا خالد! لا تقع بأبي اليقظان، فإنه من يُعاده يُعاده اللَّه، ومن يُبغضه يُبغضه اللَّه، ومَن يُسفهه يُسفهه اللَّه (1).

وعن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله... ما خير عمار بين أمرين إلّااختار أرشدهما.

.. دم عمار ولحمه حرام على النار أن تأكله أو تمسّه.

وقال أنس قالصلى الله عليه و آله: ثلاثة تُساق إليهم الجنة: علي وعمار وسلمان.

وفي رواية أربعة: علي وعمار وسلمان والمقداد.

وليس هذا قد ورد في فضله فحسب بل كانصلى الله عليه و آله يقول للمسلمين: «اهتدوا بهدي عمّار» (2).

عمار وآيات قرآنية:

ذكرت بعض الروايات والأخبار أن هناك آيات قرآنية نزلت في عمار أو في جمع كان عمار أحدهم، وأن هناك غيرها فسّرت فيه، ومن هذه الآيات:

* مَن كفرَ باللَّهِ من بعد إيمانه إلّا مَن أُكره وقلبه مطمئِنٌ بالإيمان... (3)

.

والذي ورد في ذلك أنّه لما جهر عمار وأبواه بإسلامهم، وعرفت بهم قريش وبنو مخزوم، عذبوهم أشد العذاب، وألبسوهم أدراع الحديد، ثمصهروهم تحت الشمس على أن يتركوا الإسلام وهم يأبون من ذلك. حتى ورد أن عمار ابن ياسر كان يعذب حتى لا يدري ما يقول وكانصهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول... فقتلوا أمّه وقتلوا أباه، وأما عمار فقد أعطى معذِّبيه ما أرادوا منه (4).

ذكر المفسرون أنّ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر، وقيل في جماعة أكرهوا وكان عمار أحدهم، وهم عمار وياسر أبوه وأمّه سمية وصهيب وبلال


1- 1 كتاب المغازي للواقدي 3/ 883.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 18/ 212.
3- 3 النحل: 106.
4- 4 مختصر تاريخ دمشق 18/ 208.

ص: 215

وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وأمّه، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه، ثم أخبر سبحانه بذلك رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فقال قوم: إن عماراً قد كفر. فقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: كلا، إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه (فرقه) إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. فجاء عمار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهو يبكي. فقالصلى الله عليه و آله: ما وراءَك؟ فقال: شرٌّ يا رسول اللَّه ما تُركتُ حتى نلتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.

فجعل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يمسح عينيه، ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وفي رواية أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال له بعد أن سمع مقالته: كيف تجد قلبك؟ قال:

مطمئناً بالإيمان، قال: إن عادوا فعد (1). وهذا ما اجتمع أهل التفسير عليه (2).

* والذين هاجروا في اللَّه من بعد ما ظُلِموا لنبوئَنهم في الدنيا حسنةً ولأجرُ الآخرة أكبرُ لو كانوا يعلمون (3)

.

لم تزل قريش تذيق فريقاً ممّن آمن باللَّه ورسوله سوءَ العذاب، فلعلّها تحقق مرادها منهم، أن يكفروا بمحمدٍ ورسالته، ويعودوا الى ملتهم الأولى عبادة اللّات والعزى... لكنّ محاولاتها هذه لم تنفعها شيئاً، إنما الذي حصل هو أن تعذيبها لهم كلّ ما ازداد شدّة وقسوة ازداد معهصمود المعذَّبين، فقرر هؤلاء الهجرة عن هذه البلاد في أول فرصة لهم، وهذا ما تمّ بالفعل فهاجروا جميعاً الى حيث هاجر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الى المدينة المنورة، فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية.

تقول الرواية: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكانصهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين، وفيهم نزلت هذه الآية... (4) يقول الشيخ الطبرسي: نزلت في المعذَّبين بمكّة مثل:صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم اللَّه بالمدينة، وذكر أنصهيباً قال لأهل مكّة: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم ينفعكم، وإن كنتُ عليكم لم يضركم، فخذوا مالي ودعوني، فأعطاهم ماله، وهاجر الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقال له أبو بكر: ربح


1- 1 انظر تفسير مجمع البيان والتفسير الكبير للرازي وغيرهما.
2- 2 ابن عبد البر في الاستيعاب.
3- 3 النحل: 41.
4- 4 مختصر تاريخ دمشق 18/ 208.

ص: 216

البيع ياصهيب. ويروى أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى أحداً من المهاجرين عطاءً، قال له: خذ هذا ما وعدك اللَّه في الدنيا، وما أخّره لك أفضل، ثم تلا هذه الآية (1).

وقال الواحدي في أسبابه: نزلت في أصحاب النبيِّصلى الله عليه و آله بمكة: بلال، وصهيب، وخبّاب، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكّة فعذبوهم وآذوهم، فبوأهم اللَّه تعالى المدينة بعد ذلك (2).

لقد بوّأهم اللَّه تعالى مكاناً محموداً بين اخوانهم المسلمين المهاجرين والأنصار، وجعل لهم ذكرى طيبة تتناقلها ألسنة المؤمنين المجاهدين، وصاروا قدوة حسنة لكل المجاهدين ضد الطغيان والتعسف، ولهم بالآخرة جنة الخلد حيث النعيم المقيم. ولا غرابة في ذلك فقد أعطى عمار واخوانه كلّ شي ء، وقدموا أنفسهم رخيصة، وتحملوا عذاباً ما أقساه وأعظمه! فأعطاهم اللَّه تعالى حسن الدنيا وأجر الآخرة ونعيمها.

* وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا الى ربّهم ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... (3)

.

لم ينفكّ طغيان قريش وكبرياؤها يلاحق هذه الفئة المؤمنة، بعد أن عجزت كلّ محاولاتها وأساليبها القذرة في إطفاء نور الرسالة وإخمادها. فبدأوا بأسلوب آخر: أن اطرد يا محمد هؤلاء «عمار وصهيب وبلال وخباب...» فنجلس معك وقد نتبعك. كم لهذا الموقف من شبه بموقف قوم نوح حيث قال زعماؤهم وكبراؤهم: ما نراك اتبعك إلّاالذين هم أراذلنا بادي الرأي (4)

.

فلعلّ هدف مشركي قريش أو بعض المؤلفة قلوبهم لم يكن إلّازرع بذرة الشقاق بين محمد وأصحابه، إذا ما طردهم من مجلسه ليجلس زعماء قريش بدلًا منهم، وكم لهذا الموقف من أثر على نفوسهم وهم يرون معذِّبيهم مقدمين في مجلس رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهم مبعدون عنه، وكم ستكون ذلتهم كبيرة وقاسية عليهم؟! وهل هذه مكافأتهم، وهل هذا جزاءصمودهم وثباتهم؟!


1- 1 تفسير مجمع البيان للطبرسي 6/ 557، وفي تفسير الآية من سورة النحل.
2- 2 أسباب نزول القرآن للإمام أبي الحسن الواحديص 285.
3- 3 الأنعام: 51.
4- 4 هود: 27.

ص: 217

وهنا تدخلت السماء لما لهذا الأمر من خطورة، لتمنع مثل هذه المحاولات ولتقف بحزم إزاءَها، ولتزيد تكريمها لهذهِ الفئة الرسالية.

روى الثعلبي بإسناده عن عبداللَّه بن مسعود، قال: مرّ الملأ من قريش على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وعندهصهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أفنحن نكون تبعاً لهم؟ أهؤلاء الذين منّ اللَّه عليهم؟

اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك، فأنزل اللَّه تعالى: ولا تطرد....

وقال سلمان وخبّاب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وذووهم من المؤلفة قلوبهم، فوجدوا النبيَّصلى الله عليه و آله قاعداً مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فحقروهم، وقالوا: يا رسول اللَّه لو نحيتَ هؤلاء عنك حتى نخلو بك. فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، ثم إذا انصرفنا، فإن شئت فأعدهم الى مجلسك، فأجابهم النبيصلى الله عليه و آله إلى ذلك، فقالا له: اكتب لنا بهذا على نفسك كتاباً، فدعا بصحيفة وأحضر علياً ليكتب.

قال: ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل عليه السلام بقول: ولا تطرد الذين يدعون... إلى قوله: أليس اللَّه بأعلم بالشاكرين.

فنحّى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الصحيفة وأقبل علينا ودنونا منه، وهو يقول: كتب ربّكم على نفسه الرحمة. فكنا نقعد معه... (1) وعن عكرمة، قال: جاء آل شيبة وعتبة ابنا ربيعة ونفرٌ معهما سمّاهم أبو طالب، فقالوا: لو أن ابن أخيك محمداً يطرد موالينا وحلفاءَنا، فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا (2) كان أعظم فيصدورنا، وأطوعَ له عندنا. فأتى أبو طالب النبيصلى الله عليه و آله فحدثه بالذي كلموه، فأنزل اللَّه عزّوجلّ: الآية. قال وكانوا بلالًا وعمار ابن ياسر مولى أبي حذيفة بن المغيرة، وسالماً مولى أبي حذيفة بن عتبة، وصُبيحاً مولى أسيد، ومن الحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو


1- 1 تفسير مجمع البيان للطبرسي في تفسير الآية.
2- 2 العسيف: الأجير المستهان به. انظر اللسان: عسف.

ص: 218

وغيرهم (1).

* واصبر نفسك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... (2)

.

... فكنا «سلمان وخباب وعمار...» نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام وتركنا، فأنزل اللَّه عزّوجلّ واصبر نفسك... قال: فكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقعد معنا ويدنو حتى كادت ركبتنا تمسّ ركبته، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال لنا:

الحمد للَّه الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات... (3) ويذكر الطبرسي رواية أخرى في تفسيره للآية من سورة الكهف: نزلت في سلمان وأبي ذر وصهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء أصحاب النبيّصلى الله عليه و آله وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاؤوا الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهم عيينة بن الحصين والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا رسول اللَّه إن جلست فيصدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء روائحصنانهم، وكانت عليهم جبات الصوف، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك، فلا يمنعنا من الدخول عليك إلّاهؤلاء، فلما نزلت الآية قام النبيّصلى الله عليه و آله يلتمسهم فأصابهم في مؤخر المسجد يذكرون اللَّه عزّوجلّ، فقال: الحمد للَّه الذي لم يمتني... (4)وهناك آيات أخر قال بعضهم: إنها في عمار نزولًا أو تفسيراً، منها:

* أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه (5)

.

وهو قول ابن عباس ومقاتل عن (6) أبي بكر بن عياش (7).

* هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون قال ابن عياش أيضاً: عمار والذين لا يعلمون مواليه بنو المغيرة (8).

* ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلّاقليل منهم (9)

.

القليل هم عبداللَّه بن مسعود وعمار ابن ياسر، وهو قول عكرمة. وفي مجمع البيان: إلا قليل منهم قيل: إن القليل الذي استثنى اللَّه هو ثابت بن قيس بن


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 210.
2- 2 الكهف: 28.
3- 3 مجمع البيان للطبرسي 3/ 473.
4- 4 مجمع البيان للطبرسي 6/ 718 في تفسير الآية من سورة الكهف. أسباب النزول للواحدي.
5- 5 الزمر: 9.
6- 6 اسباب النزول للواحدي، ومختصر تاريخ دمشق 18/ 210.
7- 7 رجال الحديث للسيد الخوئي 3/ 288.
8- 8 13/ 288.
9- 9 النساء: 66.

ص: 219

شماس، وقيل هو جماعة من أصحاب رسول اللَّه، قالوا: واللَّه لو أمرنا لفعلنا، فالحمد للَّه الذي عافانا، ومنهم عبداللَّه ابن مسعود وعمار بن ياسر، فقال النبيصلى الله عليه و آله: إن من أمتي رجالًا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي (1).

* ما لنا لا نرى رجالًا كنا نعدّهم من الأشرار (2)

.

قال مجاهد: يقول أبو جهل في النار:

أين عمّار، أين بلال؟

وقيل: نزلت في أبي جهل والوليد ابن المغيرة وذويهما يقولون: ما لنا لا نرى عمّاراً وخباباً وصهيباً وبلالًا، الذين كنا نعدهم في الدنيا من جملة الذين يفعلون الشرّ والقبيح ولا يفعلون الخير؟! (3)* أفمن يُلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامة (4)

.

عن عكرمة: أنها نزلت في عمار بن ياسر، (وهو الذي يأتي آمناً يوم القيامة) وفي أبي جهل (الذي يُلقى في النار).

* أومَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (5)

.

عن عكرمة: في أبي جهل وعمار (صاحب النور).

* فإن تنازعتم في شي ء فردوه إلى اللَّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر (6)

.

فعن ابن عباس: بعث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خالد بن الوليد بن المغيرة في سرية- قال: ومعه في السرية عمّار بن ياسر- الى حيّ من قريش، أو من قيس، حتى إذا دنَوا من القوم جاءهم النذير فهربوا، وثبت رجل منهم، كان قد أسلم هو وأهل بيته، فقال لأهله:

كونوا على رجل حتى آتيكم. قال:

فانطلق حتى دخل في العسكر، فدخل على عمار بن ياسر، فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وأهل بيتي، فهل ذلك نافعي أم أذهب كما ذهب قومي؟ قال: فقال له عمار: أقم، فأنت آمن. قال: فرجع الرجل فأقام، وصبحهم خالد بن الوليد، فوجد القوم قد أنذروا، وذهبوا، فأخذ الرجل،


1- 1 مجمع البيان في تفسير الآية.
2- 2 سورةص: 62.
3- 3 مجمع البيان. والتفسير المنير للدكتور الزحيلي في تفسير الآية.
4- 4 فصلت: 40.
5- 5 الأنعام: 122.
6- 6 النساء: 59.

ص: 220

فقال له عمار: إنّه ليس لك على الرجل سبيل، إنّي قد أمّنته، وقد أسلم، قال:

وما أنت وذاك؟ أتجير عليَّ وأنا الأمير؟! قال: نعم، أُجير عليك، وأنت الأمير، إنّ الرجل قد أسلم، ولو شاء لذهب كما ذهب قومه، قال: فتنازعا في ذلك حتى قدما المدينة، فاجتمعا عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فذكر عمار للنبيِّصلى الله عليه و آله الذي كان من أمر الرجل، فأجاز أمان عمار، ونهى يومئذ أن يُجير رجلٌ على أمير، فتنازع عمار وخالد عند رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حتى تشاتما.

فقال خالد: أيشتمني هذا العبد عندك؟

أما واللَّه لولاك ما شتمني.

قال: فقال نبيّ اللَّهصلى الله عليه و آله: كُفَّ يا خالد عن عمّار، فإنّه مَن يبغض عماراً يبغضه اللَّه عزّوجلّ، ومن يلعن عماراً يلعنه اللَّه، قال: وقام عمار فانطلق، فاتبعه خالد وأخذ بثوبه، فلم يزل يترضاه حتى رضي عنه، قال: وفيه نزلت:

... فإن تنازعتم في شي ء فردوه الى اللَّه والرسول... الآية (1).

صفحاتٌ اخر من حياته المباركة:

أبو اليقظان واحد من الذين حظوا بوسام الهجرتين وأوسمة أخر، هاجر الهجرة الأولى مع من هاجر من المسلمين وكانت يومذاك إلى الحبشة (وإن تردّد بعضهم في هجرته الى الحبشة واختلفوا في وقوعها) (2) من بعد ما ظلموا وعذبوا واضطهدوا أيما اضطهاد من قبل مشركي مكة وطغاتها، وبعد أن سمعوا قول رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: لو خرجتم الى أرض الحبشة! فإن فيها ملكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، وهي أرضصدق حتى يجعل اللَّه فرجاً مما أنتم فيه... (3)وأما الهجرة الثانية فكانت الى المدينة، وما إن وطأت قدماه تراب هذه الأرض، وكان اللقاء برسول اللَّهصلى الله عليه و آله حتى آخىصلى الله عليه و آله بينه وبين حذيفة بن اليمان، ثم راح عمار يجمع أحجاراً ليبني بها مسجداً لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله، فكان مسجد قباء، وكان عمار أول مَن بنى مسجداً في الإسلام.

ولم يكتف عمار بذلك فقد اشترك مع الصحابة الآخرين في بناء مسجد النبيِّصلى الله عليه و آله. فلما قدم النبيصلى الله عليه و آله المدينة قال:

ابنوالنامسجداً، قالوا: كيف يا رسول اللَّه؟

قال: عرش كعرش موسى، ابنوه


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 214، أسباب النزول للواحدي، سورة النساء، الآية.
2- 2 البداية والنهاية، ومختصر تاريخ دمشق، ترجمة عمار 3/ 69.
3- 3 الطبري 1/ 547.

ص: 221

لنا بلَبن، فجعلوا يبنون ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله يعاطيهم اللَّبن علىصدره، ما دونه ثوب، وهو يقول:

اللهم، إنّ العيشَ عيشُ الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة فمرّ عمار بن ياسر، فجعل رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ينفض التراب عن رأسه ويقول: ويحك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية.

لقدكان عمار الى جوار رسول اللَّهصلى الله عليه و آله الذي كان هو الآخر يحمل الحجارة معهم، ويومها كان عمار يرتجز ويقول:

نحن المسلمون نبتني المساجدا

ورسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله يردّد مع المسلمين:

المساجدا.

و راح عمار ينشد ما كان ير تجزبه عليّ عليه السلام:

لا يستوي من يعمر المساجدا يظلّ فيها راكعاً وساجداً أو: يدأب فيها قائماً وقاعدا

ومن تراه عانداً معانداً عن الغبار لا يزال حائداً أو: من يُرى عن الغبار حائدا

يقول ابن هشام في سيرته:...

فدخل عمار وقد أثقلوه باللبن. فقال يا رسول اللَّه: قتلوني، يحملون عليَّ ما لا يحملون.

وعن مجاهد: رآهم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وهم يحملون الحجارة على عمار، وهو يبني المسجد، فقال: ما لهم ولعمار، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار، وذلك فعل الاشقياء الأشرار.

كما كان ممّن شهدوا بيعة الحديبية التي تمّت تحت الشجرة المعروفة وهي شجرة السمرة، وسميت هذه البيعة ببيعة الرضوان، وجاءت هذه التسمية من الرضا الوارد في الآية النازلة فيها: لقد رضي اللَّهُ عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان اللَّهُ عزيزاً حكيماً... (1)

.

وكما كان عمار من السابقين الى اعتناق الإسلام، كان من المبادرين إلى الاشتراك في معارك الإسلام الكبرى، فشهد بدراً فنال بذلك وسام البدريين وأحداً والخندق ومعركة حنين كما لم


1- 1 الفتح: 18- 19.

ص: 222

يتخلف عن مشاهد ومعارك الإسلام الأخرى حتى بعد وفاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله فقد شارك في معارك الردّة، اليمامة، وفي الفتوحات الإسلامية زمن الخلفاء، وكان له دور كبير في معركتي الجمل وصفين التي استشهد فيها.

وفي حفر الخندق: كان لعمار- مع كونهصائماً- السبق في ذلك، يقول جابر بن عبداللَّه: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والمسلمين لما أخذوا في حفر الخندق جعل عمار بن ياسر يحمل التراب والحجارة في الخندق، فيطرحه على شفيره، وكان ناقهاً من مرض،صائماً، فأدركه الغشي، فأتاه أبو بكر، فقال:

أربع على نفسك (كفَّ وارفق) يا عمار، فقد قتلت نفسك، وأنت ناقه من مرض، فسمع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قول أبي بكر، فقام، فجعل يمسح التراب عن رأس عمار ومنكبه وهو يقول: يزعمون أنك متّ، وأنك قد قتلت نفسك، كلا واللَّه حتى تقتلك الفئة الباغية.

وفي معركة اليمامة سنة 11 ه ضد المرتدين مسيلمة الكذاب وجنده وقع قتال وصفه الطبري بقوله: ثم التقى الناس ولم يلقهم حربٌ قطّ مثلَها من حرب العرب، فاقتتل الناس قتالًا شديداً... (1) وكان لعمار بن ياسر أيضاً دور كبير فيها، وفي تثبيت المسلمين وتحقيق النصر. وقد اصيبت أذنه يومها، فعن ابن عمر أنه قال: رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة علىصخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرّون، أنا عمار بن ياسر، هلمّ إليَّ، وأنا أنظر الى أذنه قد قطعت، فهي تَذبذَب، وهو يقاتل أشدَّ القتال (2).

وكان جدع أذنه موضع فخر له فيما راح آخرون يعيرونه به، فإذا ما اختلفوا معه وتنازعوا، قالوا له: أيها العبد المجدَّع. فكان يجيبهم: عيرتموني بأحبّ أذنيّ إليّ- أو خير أذنيّ.

وفي عهد الخليفة الثاني تولى عمار ولاية الكوفة لأكثر من سنة، وقد جاء فيما كتبه عمر إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني قد بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبداللَّه بن مسعود معلماً (قاضياً) ووزيراً، وإنهما من نجباء أصحاب محمدصلى الله عليه و آله ممن شهدا بدراً، فاسمعوا لهما


1- 1 تاريخ الطبري 2/ 279.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 18/ 219.

ص: 223

وأطيعوا (واقتدوا بهما)، وقد آثرتكم بهما على نفسي (1).

إلى غير ذلك من الأوسمة الكبيرة التي حاز عليها هذا الصحابي الجليل...

مروياته:

ذُكر في عدّة الرجال أن يعقوب بن شيبةصنف مسند عمار بن ياسر، وهناك في جامع المسانيد والسنن مسندٌ لعمار ذُكر فيه مَن روى عنه كما ذُكرت فيه مروياته عن رسول اللَّه (2) كما ذكرصاحب الأعلام أن عماراً روى اثنتين وستين رواية عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وممّا رواه:

... قال: سمعتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول:

إن طولصلاة الرجل وقصر خطبته مِئنَّة، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، فإن من البيان سحراً (3).

... قال عمار: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله:

كفى بالموت واعظاً وكفى باليقين عزّاً.

وعن ابن عباس، عن عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حين احتبس عن قلادة عائشة بذات الجيش، فلما طلع الفجر أو كاد نزل آية التيمم.

فمسحنا الأرض بالأيدي، ثم مسحنا الأيدي الى المناكب ظهراً وبطناً، وكان يجمع بين الصلاتين في سفره (4).

وفي رواية أخرى لعمار كما في أسباب النزول للواقدي: عرّس رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بذات الجيش، ومعه عائشة زوجته، فانقطع عقد لها من جذع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء... فأنزل اللَّه تعالى على رسولهصلى الله عليه و آله قصة التطهر بالصعيد الطيب، فقام المسلمون فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم، فلم يقبضوا من التراب شيئاً، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم الى المناكب، وبطون أيديهم الى الآباط (5).

من دعائه وأقواله الأخرى:

نسبت لعمار أقوال كثيرة وأدعية تدلنا على عمق إيمانه وحكمته، وكان منها:

كان عمار بن ياسر مع جماعة في المسجد وعنده أعرابي، فذكروا المرض، فقال الأعرابي: ما مرضتُ قط، فقال عمار: ما أنت؟! أو لست منا؟! إن المسلم يُبتلى بالبلاء، فيكون كفارة


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 219 والاستيعاب.
2- 2 جامع المسانيد والسنن لعماد الدين الدمشقي 9/ 329- 388.
3- 3 مختصر تاريخ دمشق 18/ 220، ومعنى الحديث أن ذلك مما يعرف به فقه الرجل، انظر اللسان: مأن.
4- 4 كتاب المغازي للواقدي 2/ 435.
5- 5 أسباب النزول للواقدي في سبب نزول آية التيمم، الآية 43 من سورة النساء.

ص: 224

خطاياه فتتحاتّ كما يتحاتّ ورق الشجر، وإن الكافر يُبتلى، فيكون مثله كمثل البعير عُقل، فلا يدري لم عُقل، وأُطلق فلا يدري لم اطلق (1).

ومرّ عمار بن ياسر على ابن مسعود يَرْسُسُ داره، فقال: كيف ترى يا أبا اليقظان؟ قال: أراك بنيت شديداً، وأمّلت بعيداً، وتموت قريباً (2).

ومن أقواله كفى بالموت موعظة، وكفى باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلًا (3).

ومن دعائه رضوان اللَّه عليه:

اللهم، اجعلني من عبادك الصالحين، وأعطني منصالح ما تعطي عبادك الصالحين، من الأمانة، والإيمان، والأجر، والعافية، والمال، والولد النافع غير الضار ولا المضر، ولا الضالّ ولا المضلّ (4).

وعن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار أنه قال- وهو يسير على شط الفرات-:

اللهم لو أعلم أن أرضى لك عني أن أتردى فأسقط، فعلتُ. ولو علمتُ أن أرضى لك عني أن ألقي نفسي في هذا الماء فأغرق فيه، فعلتُ (5).

قال عمار: كنتُ أنا وعليّ رفيقين مع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في غزوة العشيرة، فنزلنا منزلًا، فرأينا رجالًا من بني مُدْلج يعملون في نخل لهم، فقلت: لو انطلقنا! فنظرنا إليهم كيف يعملون، فانطلقنا فنظرنا إليهم ساعة، ثم غَشِينا النعاسُ، فعدنا الىصور من النخل؛ فنمنا تحته في دقعاء من التراب، فما أيقظناإلّا رسولُ اللَّهصلى الله عليه و آله، أتانا وقد تترَّبنا في ذلك التراب، فحرّك عليّاً برجله، فقال: قم يا أبا تراب، ألا أُخبرك بأشقى الناس؟

أحمر ثمود عاقر الناقة، والذي يضربك يا عليّ على هذا- يعني قرنه- فيخضب هذه منها، وأخذ بلحيته (6).

البشارة والشهادة:

في الوقت الذي ما زالت سياط الجلادين تلاحق جسد عمار، كانت كلمات البشير النذير محمد بن عبداللَّهصلى الله عليه و آله هي الأخرى تلاحقه لتكون شفاء له ورحمة:صبراً يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة. ويح ابن سمية! تقتله الفئة الباغية. أبشر عمارُ تقتلك الفئة الباغية. آخر زادك من الدنيا ضياح لبن. قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لعلي عندما ذكر


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 222.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 18/ 222، يرسس يصلح. انظر اللسان: رسس.
3- 3 مختصر تاريخ دمشق 18/ 222.
4- 4 مختصر تاريخ دمشق 18/ 224.
5- 5 حلية الأولياء 1/ 142- 143.
6- 6 تاريخ الطبري 2/ 14.

ص: 225

عماراً: أما أنه سيشهد معك مشاهد أجرها عظيم، وذكرها كثير، وثناؤها حسن (1).

«أي أبشر يا عمار فإنك ستموت شهيداً بيد فئة ظالمة وهي جماعة معاوية، التي كانت ضد عليّ وجيشه رضي اللَّه عنهم، وكان عمار في جيش علي بصفين، فلما استشهدصلى عليه عليّ ودفن هناك رضي اللَّه عنهم...

وفيه أن علياً رضى الله عنه كان على الحقّ، وأنه كان أحقّ بالخلافة، لا شك في هذا، وفيه معجزة للنبيّصلى الله عليه و آله لإنه إخبار بغيب وقع» هذا ما قاله الشيخ منصور علي ناصف من علماء الأزهر الشريف في تاجه الجامع للأصول (2).

الشهادة التي جاءت تسعى إلى عمار وراح يسعى إليها بعد أن طال انتظاره لها قرابة خمسين سنة حتى وافته وهو يربو على التسعين من عمره المبارك؛ لينال بها أرفع درجات العاملين، وأعلى درجات المجاهدين، فوقع شهيداً، وقد أثخنته الجراح، وضرجته الدماء، وصار جسده موضعاً التقت به ضربات البغاة مع آثار سياط المشركين من قبل حين أظهر إيمانه بدعوة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله.

وهذا هو الخيار الذي ارتآه عمار لنفسه، أن يقف بجانب علي عليه السلام وأن لا يحيد عنه أبداً، وكيف يحيد وقد عهد إليه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: يا عمار إن رأيت علياً قد سلك وادياً، وسلك الناس وادياً غيره، فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى، ولن يخرجك من الهدى.

لقد كان عمار رايةً للحقّ والهدى فقد ذكر عبداللَّه بن سلمة: رأيتُ عماراً يومصفين شيخاً كبيراً، آدم، طُوالًا، أخذ الحربة بيده، ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده، لقد قاتلتُ بهذه الراية مع رسول اللَّه ثلاث مرّات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده، لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر، لعرفتُ أن مصلحتنا على الحقّ وأنهم على الضلالة (على الباطل) (3).

وفيما قاله عمرو بن العاص:...

ولكنا كنا نراهصلى الله عليه و آله يحب رجلًا، قالوا:

فمَن ذلك الرجل؟ قال: عمار بن ياسر، قالوا: قتيلكم يومصفين، قال: قد واللَّه قتلناه (4).


1- 1 كنز العمال 11/ 723، حلية الأولياء، أبو نعيم 1/ 142.
2- 2 التاج الجامع للأصول 3/ 371 الهامش.
3- 3 مختصر تاريخ دمشق 18/ 206.
4- 4 مختصر تاريخ دمشق 18/ 214.

ص: 226

لقد كان عمار- بحق- الراية التي مَن انضوى تحتها فالجنة مأواه، ومن زاغ عنها فالنار مثواه.

تقول الرواية: جاء رجل الى عبداللَّه ابن مسعود، فقال له: يا أبا عبدالرحمن، إنّ اللَّه عزّوجلّ، قد أمننا من أن يظلمنا، ولم يؤمنا من أن يفتنّا، أرأيت إن أدركتُ فتنة؟ قال: عليك بكتاب اللَّه، قال: أرأيت إن كان كلهم يدعو الى كتاب اللَّه؟ قال: سمعتُ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول: إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق.

وفي حديث آخر عن ابن مسعود أيضاً، جاء رجل إليه فقال: إن اللَّه أجار أهل الإسلام من الظلم ولم يُجرهم من الفتن، فإن وقع فما تأمرني؟ قال:

انظر عمار بن ياسر أين يكون فكن معه، فإني سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقول:

عمار يزول مع الحق حيث يزول (1).

وهذا هو بعينه ما وقع يوم التقى الجمعان فيصفين ورفعت المصاحف، واضطرب الناس، فكان ابن سمية الراية الخفاقة التي تصدع بالحق، وتجهر به وتدعوهم أن هلموا اليّ.

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً ولكن لا حياة لمن تنادي فأبوا إلّاراية الضلالة راية لهم يقاتلون تحتها ومن أجلها.

لقد كان عمّار مع الحق في حلّه وترحاله، في حركته وسكونه، في قوله وفي فعله. كما كان متيقناً أن ما قاله رسول اللَّهصلى الله عليه و آله واقع لا محالة ولا يقع غيره. فقد اشتكى عمار شكوى ثقُل منها، فغشي عليه، فأفاق، تقول مولاة له: ونحن نبكي حوله، فقال: ما يبكيكم؟ أتحسبون أني أموت على فراشي؟ أخبرني حبيبي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر زادي من الدنيا مذقة لبن.

وفي حديث آخر: إني لستُ ميتاً من وجعي هذا، إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عهد إلي أني مقتول بين فئتين من المؤمنين عظيمتين، تقتلني الباغية منهما (2).

وكان هذا الحديث الذي عرفت به الفئة الباغية حديثاً متواتراً ومن أصح الحديث، وحين لم يقدر معاوية على إنكار هذا الحديث قال: إنما قتله من أخرجه، وقد أجاب علي عليه السلام عن قول


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 18/ 215.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق 18/ 218. المذقة: الطائفة من اللبن الممزوج بالماء، انظر اللسان: مذق.

ص: 227

معاوية هذا بأن قال: فرسول اللَّهصلى الله عليه و آله إذاً قتل حمزة حين أخرجه (1).

وهذا ما حدث بالفعل، فقد بغى معاوية بن أبي سفيان وجنده على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فكانت وقعة عظيمة بينهما فيصفين وقف فيها عمار وكان معه ثمانون بدرياً ومائة وخمسون ممّن بايع تحت الشجرة، وجمع كبير من القراء، وكان مجموع من شهد معه من الصحابة ألفين وثمانمائة (2) وراح ضحيتها الآلاف، وكان بينهم الكثير من الصحابة والتابعين، الذين استشهدوا دفاعاً عن الحقّ ورايته التي يحملها عمار.

وهنا لابدّ لنا من وقفة قصيرة، فنقول: لقد كانت معركةصفين أمراً لابدّ من وقوعه، فهو النتيجة الطبيعة للصراع بين الإسلام الحقيقي ووارثيه والإسلام الآخر المحرّف ووارثيه أيضاً؛ وهي بالتالي لا تختلف ولا تقل أهمية وخطورة عن معارك الإسلام الكبرى بدر وأحد والخندق وحنين... ضد الشرك والمشركين، وهذا ما طواه عمار بكلمته المشهورة: أيها الناس هل من رائح الى اللَّه تحت العوالي (الرماح)؟

والذي نفسي بيده، لنقاتلهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله. وأكّد هذا وهو يشقّ طريقه مقاتلًا بين الصفوف فيصفين وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحقّ الى سبيله (3).

وهذا ما يبين لنا تأكيد النبيصلى الله عليه و آله أن عماراً تقتله الفئة الباغية، واعادته لهذه العبارة في كثير من المناسبات: إذا رأى عماراً قالها له، وإذا مرض عمار وظن زائروه أنه ميت قالها رسول اللَّه، إذا اشتكى عمار من ألم أو من شي ء آخر أعادها رسول اللَّه عليه.. وكانصلى الله عليه و آله يحرص أن يُسمع قولَه هذا الآخرين، ولم يكتفصلى الله عليه و آله بهذا بل كان يصرح ويبين هدف القتال الذي سيقع قطعاً، وهذا الهدف متمثل بقوله عن عمار:...

يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار.

وأنّه ستقتلك الفئة الباغية وأنت مع


1- 1 الروض المعطار في خبر الأقطار للحميريص 363- 364.
2- 2 البداية والنهاية 7/ 255، والمستدرك للحاكم 3/ 104.
3- 3 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 810، ومروج الذهب 2/ 422.

ص: 228

الحق، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني (1). وأن آخر شراب له ضَياح لبن...

كلّ هذا وغيره ليدلهمصلى الله عليه و آله على الحق المبين في وقت قد تلتبس الأمور فيحلّ الغموض بدل الوضوح، وتقع الفتنة ويتيه بعض ويضطرب آخرون فأشار الى الرمز والى الدليل، إنه عمار بن ياسر وإنه بالتالي عليّ بن أبي طالب «يا عمار إن رأيت علياً سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره فاسلك مع علي ودع الناس، إنه لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى». لقد كان عمار الميزان، وكان الحجة الأخيرة على المخالفين والمناوئين «الناكثين والمارقين والقاسطين» الذين أعماهم حقدهم وبغضهم لعلي عليه السلام عن أن يروا الحقّ الناصع والهدى المبين فيه ومن خلاله.

وأخيراً وقعت معركةصفين، ووقف عمار خطيباً: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت، اللهم إنك تعلم أني لو أعلم رضاك في أن أضع ظُبة سيفي فيصدري، ثم أنحني عليه حتى تخرج من ظهري لفعلت، وإني لا أعلم اليوم عملًا هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم أن عملًا من الأعمال هو أرضى لك منه لفعلته (2).

وبدأ القتال وتحدثت الأخبار:

أن عماراً كانصائماً، وقد غربت الشمس فأُتي بلبن فشربه، ثم قال: إنّ النبيَّصلى الله عليه و آله قال: هذه آخر شربة أشربها من الدنيا، أو آخر زادك من الدنيا ضياح لبن، فقام فقاتل حتى قتل رضوان اللَّه عليه.

وعن أبي سنان الدؤليصاحب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: قال: رأيتُ عمار بن ياسر دعا بشراب، فأتي بقدح من لبن فشرب منه، ثم قال:صدق رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، واليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه. إنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «إنّ آخر شي ء تزوده من الدنيا ضيحة لبن» ثم قال مبيناً يقينه بأنه- قطعاً- على الحق المبين، وأن خصمه على الباطل، انظره يقول: واللَّه لو هزمونا حتى يبلغونا سعفات هجر، لعلمنا أنا على حق وهم على باطل. ولأنه راية الحق والهدى ترى أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله في


1- 1 كنز العمال 11/ 351.
2- 2 الكامل 3/ 157 والبداية والنهاية 7/ 267، 292، الطبري 6/ 21.

ص: 229

معركةصفين يتبعونه في كلّ مكان يتواجد فيه من ساحة القتال، وهو ينادي: أين مَن يبغي رضوان ربّه، ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟

وفي رواية اخرى: في يوم من أيامصفين- التي وقعت- على قول- من أول ذي الحجة سنة 36 وانتهت في 13صفر سنة 37 وعلى قول الطبري كان وصول الإمام علي وجنده الىصفين في أواسط ذي القعدة سنة 36 أو في العشرين منه، وعلى رواية المسعودي أن مقامهم بصفين كان مائة يوم وعشرة أيام، كان فيها نحو تسعين أو سبعين وقعة- رجع عمار الى موضعه من المعركة فاستسقى، فأتته امرأة من بني شيبان من مصاخهم بعس فيه لبن.

فدفعته إليه، وروي أن الذي سقاه أبو المخاريق (1)، فقال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، اليوم ألقى الأحبة تحت الأسنة،صدق الصادق. وبذلك أخبرني الناطق. وهو اليوم الذي وعدتُ فيه، ثم قال: أيها الناس هل من رائح إلى اللَّه تحت العوالي (الرماح)، والذي نفسي بيده لنقاتلنهم على تأويله كما قاتلناهم على تنزيله، وفي قول أنه نادى اني لقيتُ الخيار وتزوجت الحور العين. اليوم نلقى محمداً وحزبه. وانطلق يجول في ساحة المعركة وهو يقول:

نحن ضربناكم على تنزيله فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحقّ الى سبيله

على مقربة من عمّار، وقف أبو الغادية وهو من جيش معاوية يستحضر موقف عمار من الخلافة الثالثة- فقد كان له موقف يتسم بالقوة والصلابة من هذه الخلافة، التي لم تقضِ بالحقّ، ولم يكنصاحبها ولا ذوو قرباه من الذين يعدلون، وكانت خيمةً انضوى تحتها أعداء الدين، ورتع فيها المنافقون. كلّ هذا دفع عماراً لهذا الموقف الذي يقول عنه ابن كثير: «كان عمار يحرض الناس على عثمان ولم يقلع ولم يرجع ولم ينزع...» (2)-، وراح أبو الغادية يراقب عماراً، فلعلّ فرصة تحدث ليتمكن منه ويداهمه فيقتله.


1- 1 الطبري، الزوائد 7/ 243.
2- 2 البداية والنهاية 7/ 171.

ص: 230

وكان عمار يناديصاحبه هاشم بن عتبة: يا هاشم الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الأسل، وقد فتحت أبواب السماء، وتزينت الحور العين. اليوم ألقى الأحبة محمداً وحزبه (1).

يقول أبو الغادية: فلما كان يومصفين. جعل عمار يحمل على الناس.

فقيل: هذا عمار، فرأيتُ فرجة بين الرئتين وبين الساقين. فحملتُ عليه فطعنته في ركبته، فوقع فقتلته (2). وفي رواية اخرى (3): فاختلفت أنا وهو ضربتين، فبدرته فضربته، فكبا لوجهه ثم قتلته.

ولما قتل رضوان اللَّه عليه اختصم في قتله اثنان، فقال عمرو بن العاص:

واللَّه، إن يختصمان إلّافي النار، واللَّه، لوددتُ أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة (4).

وقدصلى عليه الإمام علي عليه السلام ودفن فيصفين. وقد نسب الى الإمام علي عليه السلام بعد استشهاد عمار رضوان اللَّه عليه، قوله:

أَلا أيّها الموتُ الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيتَ كلَّ خليل

أراك مضرّاً بالذين أحبُّهم كأنَّك تنحو نحوهم بدليل (5) كان ذلك في سنة 37 ه عن عمرناهز الثلاث والتسعين سنة. فسلام عليك يا أبا اليقظان في العالمين.


1- 1 الطبري 6/ 23.
2- 2 الطبقت لابن سعد 3/ 261.
3- 3 الزوائد 9/ 298.
4- 4 أحاديث أم المؤمنين عائشةص 117.
5- 5 ديوان الإمام علي عليه السلامص 125، تحقيق الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي.

ص: 231

ص: 232

ص: 233

المعلّقات

ص: 234

المعلّقات

نعمان النصري

كان فيما اثر من أشعار العرب، ونقل إلينا من تراثهم الأدبي الحافل بضع قصائد من مطوّلات الشعر العربي، وكانت من أدقّه معنى، وأبعده خيالًا، وأبرعه وزناً، وأصدقه تصويراً للحياة، التي كان يعيشها العرب في عصرهم قبل الإسلام، ولهذا كلّه ولغيره عدّها النقّاد والرواة قديماً قمّة الشعر العربي وقد سمّيت بالمطوّلات، وأمّا تسميتها المشهورة فهي المعلّقات. نتناول نبذةً عنها وعن أصحابها وبعض الأوجه الفنّية فيها:

فالمعلّقات لغةً من العِلْق: وهو المال الذي يكرم عليك، تضنّ به، تقول: هذا عِلْقُ مضنَّةٍ. وما عليه علقةٌ إذا لم يكن عليه ثياب فيها خير (1)، والعِلْقُ هو النفيس من كلّ شي ء، وفي حديث حذيفة: «فما بال هؤلاء الّذين يسرقون أعلاقنا» أي نفائس أموالنا (2). والعَلَق هو كلّ ما عُلِّق (3).

وأمّا المعنى الاصطلاحي فالمعلّقات: قصائد جاهليّة بلغ عددها السبع أو العشر- على قول- برزت فيها خصائص الشعر الجاهلي بوضوح، حتّى عدّت


1- 1 العين للفراهيدي 1/ 162 تحقيق د. مهدي المخزومي و د. ابراهيم السامرائي، ط لبنان 1988.
2- 2 لسان العرب لابن منظور 9/ 362. دار إحياء التراث العربي- ط 1 بيروت 1988.
3- 3 المصدر السابقص 359.

ص: 235

أفضل ما بلغنا عن الجاهليّين من آثار أدبية (1).

والناظر إلى المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد العلاقة واضحة بينهما، فهي قصائد نفيسة ذات قيمة كبيرة، بلغت الذّروة في اللغة، وفي الخيال والفكر، وفي الموسيقى وفي نضج التجربة، وأصالة التعبير، ولم يصل الشعر العربي الى ما وصل إليه في عصر المعلّقات من غزل امرئ القيس، وحماس المهلهل، وفخر ابن كلثوم، إلّا بعد أن مرّ بأدوار ومراحل إعداد وتكوين طويلة.

وفي سبب تسميتها بالمعلّقات هناك أقوال منها:

لأنّهم استحسنوها وكتبوها بماء الذهب وعلّقوها على الكعبة، وهذا ما ذهب إليه ابن عبد ربّه في العقد الفريد، وابن رشيق وابن خلدون وغيرهم، يقولصاحب العقد الفريد: «وقد بلغ من كلف العرب به (أي الشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلّقتها بين أستار الكعبة، فمنه يقال: مذهّبة امرئ القيس، ومذهّبة زهير، والمذهّبات سبع، وقد يقال: المعلّقات، قال بعض المحدّثين قصيدة له ويشبّهها ببعض هذه القصائد التي ذكرت:

برزةٌ تذكَرُ في الحس - نِ من الشعر المعلّقْ

كلّ حرفٍ نادرٍ من - ها له وجهٌ معشّق (2) أو لأنّ المراد منها المسمّطات والمقلّدات، فإنّ من جاء بعدهم من الشعراء قلّدهم في طريقتهم، وهو رأي الدكتور شوقي ضيف وبعض آخر (3). أو أن الملك إذا ما استحسنها أمر بتعليقها في خزانته.

هل علّقت على الكعبة؟

سؤال طالما دار حوله الجدل والبحث، فبعض يثبت التعليق لهذه القصائد على ستار الكعبة، ويدافع عنه، بل ويسخّف أقوال معارضيه، وبعض آخر ينكر


1- 1 المعجم الأدبي د. جبّور عبدالنورص 257 ط دار العلم للملايين.
2- 2 العقد الفريد لابن عبد ربّه 6/ 118 ط دار الكتب العلمية بيروت- تح: د. عبدالمجيد الترحيني- ط 1- 1404 ه. وانظر خزانة الأدب للحموي 1/ 61 ومقدّمة ابن خلدون: 511 وتاريخ آداب العربية لمصطفىصادق الرافعي 1833.
3- 3 تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف:ص 140.

ص: 236

الإثبات، ويفنّد أدلّته، فيما توقف آخرون فلم تقنعهم أدلّة الإثبات ولا أدلّة النفي، ولم يعطوا رأياً في ذلك.

المثبتون للتعليق وأدلّتهم:

لقد وقف المثبتون موقفاً قويّاً ودافعوا بشكل أو بآخر عن موقفهم فيصحّة التعليق، فكتبُ التاريخ حفلت بنصوص عديدة تؤيّدصحّة التعليق، ففي العقد الفريد (1) ذهب ابن عبد ربّه ومثله ابن رشيق والسيوطي (2) وياقوت الحموي (3) وابن الكلبي (4) وابن خلدون (5)، وغيرهم إلى أنّ المعلّقات سمّيت بذلك؛ لأنّها كتبت في القباطي بماء الذهب وعلّقت على أستار الكعبة، وذكر ابن الكلبي: أنّ أوّل ما علّق هو شعر امرئ القيس على ركن من أركان الكعبة أيّام الموسم حتّى نظر إليه ثمّ احدر، فعلّقت الشعراء ذلك بعده.

وأمّا الادباء المحدّثون فكان لهم دور في إثبات التعليق، وعلى سبيل المثال نذكر منهم جرجي زيدان حيث يقول:

«وإنّما استأنف إنكار ذلك بعض المستشرقين من الإفرنج، ووافقهم بعض كتّابنا رغبة في الجديد من كلّ شي ء، وأيّ غرابة في تعليقها وتعظيمها بعدما علمنا من تأثير الشعر في نفوس العرب؟! وأمّا الحجّة التي أراد النحّاس أن يضعّف بها القول فغير وجيهة؛ لأنّه قال: إنّ حمّاداً لمّا رأى زهد الناس في الشعر جمع هذه السبع وحضّهم عليها وقال لهم: هذه هي المشهورات» (6)، وبعد ذلك أيّد كلامه ومذهبه فيصحّة التعليق بما ذكره ابن الأنباري إذ يقول: «وهو- أي حمّاد- الذي جمع السبع الطوال، هكذا ذكره أبو جعفر النحاس، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنّها كانت معلّقة على الكعبة» (7).

وقد استفاد جرجي زيدان من عبارة ابن الأنباري: «ما ذكره الناس»، فهو أي ابن الأنباري يتعجّب من مخالفة النحاس لما ذكره الناس، وهم الأكثرية من أنّها علقت في الكعبة.


1- 1 العقد الفريد 6: 119.
2- 2 المزهر 2/ 480 وعبارته هي عين عبارة العمدة.
3- 3 خزانة الأدب 1/ 61.
4- 4 كما ذكره الرافعي في تأريخ آداب العربية 3/ 183 وغيره.
5- 5 المقدّمة: 511.
6- 6 تأريخ آداب اللغة العربية 1/ 95. ط دار مكتبة الحياة- بيروت.
7- 7 المصدر السابق.

ص: 237

النافون للتعليق:

ولعلّ أوّلهم والذي يعدُّ المؤسّس لهذا المذهب- كما ذكرنا- هو أبو جعفر النحّاس، حيث ذكر أنّ حمّاداً الراوية هو الذي جمع السبع الطوال، ولم يثبت من أنّها كانت معلّقة على الكعبة، نقل ذلك عنه ابن الأنباري (1). فكانت هذه الفكرة أساساً لنفي التعليق:

كارل بروكلمان حيث ذكر أنّها من جمع حمّاد، وقد سمّاها بالسموط والمعلّقات للدلالة على نفاسة ما اختاره، ورفض القول: إنّها سمّيت بالمعلّقات لتعليقها على الكعبة، لأن هذا التعليل إنّما نشأ من التفسير الظاهر للتسمية وليس سبباً لها، وهو ما يذهب إليه نولدكه (2).

وعلى هذا سار الدكتور شوقي ضيف مضيفاً إليه أنّه لا يوجد لدينا دليل مادّي على أنّ الجاهليين اتّخذوا الكتابة وسيلة لحفظ أشعارهم، فالعربية كانت لغة مسموعة لا مكتوبة. ألا ترى شاعرهم حيث يقول:

فلأهدينّ مع الرياح قصيدة منّي مغلغلة إلى القعقاعِ

ترد المياه فما تزال غريبةً في القوم بين تمثّلٍ وسماعِ؟ (3) ودليله الآخر على نفي التعليق هو أنّ القرآن الكريم- على قداسته- لم يجمع في مصحف واحد إلّابعد وفاة الرسولصلى الله عليه و آله (طبعاً هذا على مذهبه)، وكذلك الحديث الشريف. لم يدوّن إلّابعد مرور فترة طويلة من الزمان (لأسباب لا تخفى على من سبر كتب التأريخ وأهمّها نهي الخليفة الثاني عن تدوينه) ومن باب أولى ألّا تكتب القصائد السبع ولا تعلّق (4).

وممّن ردّ الفكرة- فكرة التعليق- الشيخ مصطفىصادق الرافعي، وذهب إلى أنّها من الأخبار الموضوعة التي خفي أصلها حتّى وثق بها المتأخّرون (5).

ومنهم الدكتور جواد علي، فقد رفض فكرة التعليق لُامور منها:


1- 1 تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان 1/ 95 ط دار مكتبة الحياة- بيروت.
2- 2 تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان 1/ 67 ترجمة د. عبدالحكيم النجّار.
3- 3 تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهليص 140.
4- 4 المصدر السابقص 142.
5- 5 تاريخ آداب العرب 3/ 183.

ص: 238

1- أنّه حينما أمر النبي بتحطيم الأصنام والأوثان التي في الكعبة وطمس الصور، لم يذكر وجود معلقة أو جزء معلّقة أو بيت شعر فيها.

2- عدم وجود خبر يشير إلى تعليقها على الكعبة حينما أعادوا بناءَها من جديد.

3- لم يشر أحد من أهل الأخبار الّذين ذكروا الحريق الذي أصاب مكّة، والّذي أدّى إلى إعادة بنائها لم يشيروا إلى احتراق المعلّقات في هذا الحريق.

4- عدم وجود من ذكر المعلّقات من حملة الشعر من الصحابة والتابعين ولا غيرهم.

ولهذا كلّه لم يستبعد الدكتور جواد علي أن تكون المعلّقات منصنع حمّاد (1)، هذا عمدة ما ذكره المانعون للتعليق.

بعد استعراضنا لأدلة الفريقين، اتّضح أنّ عمدة دليل النافين هو ما ذكره ابن النحاس حيث ادعى انّ حماداً هو الذي جمع السبع الطوال.

وجواب ذلك أن جمع حماد لها ليس دليلًا على عدم وجودها سابقاً، وإلّا انسحب الكلام على الدواوين التي جمعها أبو عمرو بن العلاء والمفضّل وغيرهما، ولا أحد يقول في دواوينهم ما قيل في المعلقات. ثم إنّ حماداً لم يكن السبّاق الى جمعها فقد عاش في العصر العباسي، والتاريخ ينقل لنا عن عبد الملك أنَّه عُني بجمع هذه القصائد (المعلقات) وطرح شعراء أربعة منهم وأثبت مكانهم أربعة (2).

وأيضاً قول الفرزدق يدلنا على وجودصحف مكتوبة في الجاهلية:

أوصى عشية حين فارق رهطه عند الشهادة في الصحيفة دعفلُ أنّ ابن ضبّة كان خيرٌ والداً وأتمّ في حسب الكرام وأفضلُ كما عدّد الفرزدق في هذه القصيدة اسماء شعراء الجاهلية، ويفهم من بعض الأبيات أنّه كانت بين يديه مجموعات شعرية لشعراء جاهليين أو نسخ من


1- 1 المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام 9/ 516 وما بعدها.
2- 2 خزانة الأدب 1/ 124.

ص: 239

دواوينهم بدليل قوله:

والجعفري وكان بشرٌ قبله لي من قصائده الكتاب المجملُ وبعد ابيات يقول:

دفعوا إليَّ كتابهنّ وصيّةً فورثتهنّ كأنّهنّ الجندلُ (1) كما روي أن النابغة وغيره من الشعراء كانوا يكتبون قصائدهم ويرسلونها الى بلاد المناذرة معتذرين عاتبين، وقد دفن النعمان تلك الأشعار في قصره الأبيض، حتّى كان من أمر المختار بن أبي عبيد واخراجه لها بعد أن قيل له: إنّ تحت القصر كنزاً (2).

كما أن هناك شواهد أخرى تؤيّد أن التعليق على الكعبة وغيرها- كالخزائن والسقوف والجدران لأجل محدود أو غير محدود- كان أمراً مألوفاً عند العرب، فالتاريخ ينقل لنا أنّ كتاباً كتبه أبو قيس بن عبدمناف بن زهرة في حلف خزاعة لعبد المطّلب، وعلّق هذا الكتاب على الكعبة (3). كما أنّ ابن هشام يذكر أنّ قريشاً كتبتصحيفة عندما اجتمعت على بني هاشم وبني المطّلب وعلّقوها في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم (4).

ويؤيّد ذلك أيضاً ما رواه البغدادي في خزائنه (5) من قول معاوية: قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حِلزه من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً (6).

هذا من جملة النقل، كما أنّه ليس هناك مانع عقلي أو فنّي من أن العرب قد علّقوا أشعاراً هي أنفس ما لديهم، وأسمى ما وصلت إليه لغتهم؛ وهي لغة الفصاحة والبلاغة والشعر والأدب، ولم تصل العربية في زمان إلى مستوى كما وصلت إليه في عصرهم. ومن جهة اخرى كان للشاعر المقام السامي عند العرب الجاهليين فهو


1- 1 النقائض لأبي عبيدة 1/ 189.
2- 2 الخصاص لابن جني 1/ 392- 393، ولمزيد من التفصيل عليك بكتاب مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التأريخية للدكتور ناصر الدين الأسدص 134 وما بعدها. ط. دار الجيل بيروت، وانظر أيضاً فصل الكتابة عند العرب قبل الإسلام من مكاتيب الرسول ج 1 للشيخ الأحمدي الميانجي.
3- 3 ديوان حسّان بن ثابت- مخطوط بمكتبة أحمد الثالث ورقة 15- 16 عند مصادر الشعر الجاهلي لناصر الدين الاسد.
4- 4 سيرة ابن هشام 1/ 375- 376.
5- 5 خزانة الأدب 3/ 162.
6- 6 خزانة الأدب 3/ 162.

ص: 240

الناطق الرسمي باسم القبيلة وهو لسانها والمقدّم فيها، وبهم وبشعرهم تفتخر القبائل، ووجود شاعر مفلّق في قبيلة يعدُّ مدعاة لعزّها وتميّزها بين القبائل، ولا تعجب من حمّاد حينما يضمّ قصيدة الحارث بن حلزّة إلى مجموعته، إذ إنّ حمّاداً كان مولى لقبيلة بكر بن وائل، وقصيدة الحارث تشيد بمجد بكر سادة حمّاد (1)، وذلك لأنّ حمّاداً يعرف قيمة القصيدة وما يلازمها لرفعة من قيلت فيه بين القبائل.

فإذا كان للشعر تلك القيمة العالية، وإذا كان للشاعر تلك المنزلة السامية في نفوس العرب، فما المانع من أن تعلّق قصائد هي عصارة ما قيل في تلك الفترة الذهبية للشعر؟

ثمّ إنّه ذكرنا فيما تقدّم أنّ عدداً لا يستهان به من المؤرّخين والمحقّقين قد اتفقوا على التعليق.

فقبول فكرة التعليق قد يكون مقبولًا، وأنّ المعلّقات لنفاستها قد علّقت على الكعبة بعدما قرئت على لجنة التحكيم السنوية، التي تتّخذ من عكاظ محلًا لها، فهناك يأتي الشعراء بما جادت به قريحتهم خلال سنة، ويقرأونها أمام الملإ ولجنة التحكيم التي عدُّوا منها النابغة الذبياني ليعطوا رأيهم في القصيدة، فإذا لاقت قبولهم واستحسانهم طارت في الآفاق، وتناقلتها الألسن، وعلّقت على جدران الكعبة أقدس مكان عند العرب، وإن لم يستجيدوها خمل ذكرها، وخفي بريقها، حتّى ينساها الناس وكأنّها لم تكن شيئاً مذكوراً.

موضوع شعر المعلّقات

لو رجعنا إلى القصائد الجاهلية الطوال والمعلّقات منها على الأخصّ رأينا أنّ الشعراء يسيرون فيها على نهج مخصوص؛ يبدأون عادة بذكر الأطلال، وقد بدأ عمرو بن كلثوم مثلًا بوصف الخمر، ثمّ بدأ بذكر الحبيبة، ثمّ ينتقل أحدهم إلى وصف الراحلة، ثمّ إلى الطريق التي يسلكها، بعدئذ يخلص إلى المديح أو الفخر (إذا كان الفخر مقصوداً كما عند عنترة) وقد يعود الشاعر إلى الحبيبة ثمّ إلى الخمر،


1- 1 انظر تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان 1/ 67.

ص: 241

وبعدئذ ينتهي بالحماسة (أو الفخر) أو بذكر شي ء من الحِكَم (كما عند زهير) أو من الوصف كما عند امرئ القيس.

ويجدر بالملاحظة أنّ في القصيدة الجاهلية أغراضاً متعدّدة؛ واحد منها مقصود لذاته (كالغزل عند امرئ القيس، الحماسة عند عنترة، والمديح عند زهير..)،

عدد القصائد المعلّقات

لقد اختلف في عدد القصائد التي تعدّ من المعلّقات، فبعد أن اتّفقوا على خمس منها؛ هي معلّقات: امرئ القيس، وزهير، ولبيد، وطرفة، وعمرو بن كلثوم.

اختلفوا في البقيّة، فمنهم من يعدّ بينها معلّقة عنترة والحارث بن حلزة، ومنهم من يدخل فيها قصيدتي النابغة والأعشى، ومنهم من جعل فيها قصيدة عبيد بن الأبرص، فتكون المعلّقات عندئذ عشراً.

نماذج مختارة من القصائد المعلّقة مع شرح حال شعرائها

أربع من هذه القصائد اخترناها من بين القصائد السبع أو العشر مع اشارة لما كتبه بعض الكتاب والأدباء عن جوانبها الفنية .. لتكون محور مقالتنا هذه:

امرؤ القيس

اسمه: امرؤ القيس، خندج، عدي، مليكة، لكنّه عرف واشتهر بالاسم الأوّل، وهو آخر امراء اسرة كندة اليمنيّة.

أبوه: حجر بن الحارث، آخر ملوك تلك الاسرة، التي كانت تبسط نفوذها وسيطرتها على منطقة نجد من منتصف القرن الخامس الميلادي حتى منتصف السادس.

امّه: فاطمة بنت ربيعة اخت كليب زعيم قبيلة ربيعة من تغلب، واخت المهلهل بطل حرب البسوس، وصاحب أوّل قصيدة عربية تبلغ الثلاثين بيتاً.

ص: 242

نبذة من حياته:

قال ابن قتيبة: هو من أهل نجد من الطبقة الاولى (1). كان يعدّ من عشّاق العرب، وكان يشبّب بنساء منهنّ فاطمة بنت العبيد العنزية التي يقول لها في معلّقته:

أفاطمُ مهلًا بعض هذا التدلّل

وقد طرده أبو ه على أثر ذلك. وظل امرؤ القيس سادراً في لهوه إلى أن بلغه مقتل أبيه وهو بدمّون فقال: ضيّعنيصغيراً، وحمّلني دمه كبيراً، لاصحو اليوم ولا سكرَ غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ، ثمّ آلى أن لا يأكل لحماً ولا يشرب خمراً حتّى يثأر لأبيه (2).

إلى هنا تنتهي الفترة الاولى من حياة امرئ القيس وحياة المجون والفسوق والانحراف، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، وهي فترة طلب الثأر من قَتَلة أبيه، ويتجلّى ذلك من شعره، الّذي قاله في تلك الفترة، الّتي يعتبرها الناقدون مرحلة الجدّ من حياة الشاعر، حيكت حولها كثير من الأساطير، التي اضيفت فيما بعد إلى حياته. وسببها يعود إلى النحل والانتحال الذي حصل في زمان حمّاد الراوية، وخلف الأحمر ومن حذا حذوهم. حيث أضافوا إلى حياتهم ما لم يدلّ عليه دليل عقلي وجعلوها أشبه بالأسطورة. ولكن لا يعني ذلك أنّ كلّ ما قيل حول مرحلة امرئ القيس الثانية هو اسطورة.

والمهم أنّه قد خرج إلى طلب الثأر من بني أسد قتلة أبيه، وذلك بجمع السلاح وإعداد الناس وتهيئتهم للمسير معه، وبلغ به ذلك المسير إلى ملك الروم حيث أكرمه لما كان يسمع من أخبار شعره وصار نديمه، واستمدّه للثأر من القتلة فوعده ذلك، ثمّ بعث معه جيشاً فيهم أبناء ملوك الروم، فلمّا فصل قيل لقيصر: إنّك أمددت بأبناء ملوك أرضك رجلًا من العرب وهم أهل غدر، فإذا استمكن ممّا


1- 1 الشعر والشعراءص 27 ط ليدن 1902.
2- 2 المصدر السابق:ص 39.

ص: 243

أراد وقهر بهم عدوّه غزاك. فبعث إليه قيصر مع رجل من العرب كان معه يقال له الطمّاح، بحلّة منسوجة بالذهب مسمومة، وكتب إليه: إنّي قد بعثت إليك بحلّتي الّتي كنت ألبسها يوم الزينة ليُعرف فضلك عندي، فإذا وصلت إليك فالبسها على الُيمن والبركة، واكتب إليّ من كلّ منزل بخبرك، فلمّا وصلت إليه الحلّة اشتدّ سروره بها ولبسها، فأسرع فيه السمّ وتنفّط جلده، والعرب تدعوه: ذا القروح لذلك، ولقوله:

وبُدِّلْتُ قرحاً دامياً بعدصحّةٍ فيالك نُعمى قد تحوّلُ أبؤسا ولمّاصار إلى مدينة بالروم تُدعى: أنقرة ثقل فأقام بها حتّى مات، وقبره هناك.

وآخر شعره:

ربّ خطبةٍ مسحنفَرهْ وطعنةٍ مثعنجرهْ

وجعبةٍ متحيّرهْ تدفنُ غداً بأنقرةْ ورأى قبراً لامرأة من بنات ملوك العرب هلكت بأنقره فسأل عنها فاخبر، فقال:

أجارتنا إنّ المزار قريبُ وإنّي مقيم ما أقام عسيبُ

أجارتَنا إنّا غريبانِ هاهنا وكلّ غريب للغريب نسيبُ (1) وقد عدَّ الدكتور جواد علي والدكتور شوقي ضيف وبروكلمان وآخرون بعض ما ورد في قصّة امرئ القيس وطرده، والحكايات التي حيكت بعد وصوله إلى قيصر ودفنه بأنقرة إلى جانب قبر ابنة بعض ملوك الروم، وسبب موته بالحلة المسمومة، وتسميته ذا القروح من الأساطير.


1- 1 الشعر والشعراءص 45- 47، وعسيب: جبل هناك.

ص: 244

قالوا فيه:

1- النبيّصلى الله عليه و آله: ذاك رجل مذكور في الدنيا، شريف فيها منسيّ في الآخرة خامل فيها، يجي ء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار (1).

2- الإمام علي عليه السلام: سُئل من أشعر الشعراء؟ فقال:

إنّ القوم لم يَجروا في حَلبةٍ تُعرفُ الغايةُ عند قصبتها، فإنْ كان ولابُدّ فالملكُ الضِّلِّيلُ (2). يريد امرأ القيس.

3- الفرزدق سئل من أشعر الناس؟ قال: ذو القروح.

4- يونس بن حبيب: إنّ علماء البصرة كانوا يقدّمون امرأ القيس.

5- لبيد بن ربيعة: أشعر الناس ذو القروح.

6- أبو عبيدة معمّر بن المثنّى: هو أوّل من فتح الشعر ووقف واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها... (3) معلّقة امرئ القيس

البحر: الطويل. عدد أبياتها: 78 بيتاً منها: 9: في ذكرى الحبيبة. 21: في بعض مواقف له. 13: في وصف المرأة. 5: في وصف الليل. 18: في السحاب والبرق والمطر وآثاره. والبقية في امور مختلفة.

استهلّ امرؤ القيس معلّقته بقوله:

قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزِلِ بِسِقْط اللِّوَى بين الدَّخُوْلِ فَحَوْمَلِ

فتوضِحَ فالمقراة لم يعفُ رسمُها لما نسجتها من جنوبٍ وَشَمْأَلِ وقد عدّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته، إذ وقف واستوقف وبكى وأبكى وذكر الحبيب والمنزل، ثمّ انتقل إلى رواية بعض ذكرياته السعيدة بقوله:

ألا ربّ يومٍ لَكَ منهُنَّصالحٌ ولاسيّما يومٌ بدراة جُلجُلِ

ويومَ عقرت للعِذارى مطيّتي فيا عجباً من رحلِها المتحمّلِ


1- 1 الشعر والشعراء.
2- 2 نهج البلاغةص 556 حكمة 456 للدكتورصبحي الصالح.
3- 3 الشعر والشعراءص 52.

ص: 245

فضلّ العذارى يرتمينَ بلحمها وشحمٍ كهذّاب الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ وحيث إنّ تذكّر الماضي السعيد قد أرّق ليالي الشاعر، وحرمه الراحة والهدوء؛ لذا فقد شعر بوطأة الليل؛ ذلك أنّ الهموم تصل إلى أوجها في الليل، فما أقسى الليل على المهموم! إنّه يقضّ مضجعهُ، ويُطير النوم من عينيه، ويلفّه في ظلامٍ حالك، ويأخذه في دوامة تقلّبه هنا وهناك لا يعرف أين هو، ولا كيف يسير ولا ماذا يفعل، ويلقي عليه بأحماله، ويقف كأنّه لا يتحرّك.. يقول:

وليلٍ كموج البحرِ أرخى سدوله عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي

فقُلْتُ لَهُ لمّا تمطّى بصلبِهِ وأردف أعجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ

ألا أيّها الليلُ الطويل ألا انجلي بصبحٍ وما الأصْبَاحُ منكَ بِأمْثَلِ وتعدّ هذه الأبيات من أروع ما قاله في الوصف، ومبعث روعتها تصويره وحشيّة الليل بأمواج البحر وهي تطوي ما يصادفها؛ لتختبر ما عند الشاعر من الصبر والجزع.

فأنت أمام وصف وجداني فيه من الرقّة والعاطفة النابضة، وقد استحالت سدول الليل فيه إلى سدول همّ، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة، وانتقل الليل من الطبيعة إلى النفس، وانتقلت النفس إلى ظلمة الطبيعة.

فالصورة في شعره تجسيد للشعور في مادّة حسّية مستقاة من البيئة الجاهلية.

ثمّ يخرج منه إلى وصف فرسه وصيده ولذّاته فيه، وكأنّه يريد أن يضع بين يديصاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته في ركوب الخيل واصطياد الوحش يقول:

وقد أَغتدي والطير في وُكُناتِها بِمُنْجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبرٍ معاً كجُلْمُودِصَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ وهو وصف رائع لفرسه الأشقر، فقدصوّر سرعته تصويراً بديعاً، وبدأ فجعله قيداً لأوابد الوحش إذا انطلقت في الصحراء فإنّها لا تستطيع إفلاتاً منه كأنّه قيد يأخذ بأرجلها.

وهو لشدّة حركته وسرعته يخيّل إليك كأنّه يفرّ ويكرّ في الوقت نفسه، وكأنّه يقبل ويدبر في آن واحد، وكأنّه جلمودصخر يهوى به السيل من ذورة جبل عال.

ثمّ يستطرد في ذكرصيده وطهي الطهاة له وسط الصحراء قائلًا:

فظلّ طهاةُ اللحمِ ما بين منضجٍ صفيف شواء أو قدير معجّلِ وينتقل بعد ذلك إلى وصف الأمطار والسيول، التي ألمّت بمنازل قومه بني أسد بالقرب من تيماء في شمالي الحجاز، يقول:

أحارِ ترى برقاً كأنّ وميضَهُ كلمعِ اليدين في حبيٍّ مكَلّلِ يضي ءُ سناهُ أو مصابيحُ راهبٍ أهانَ السَّليطَ في الذُّبالِ المفتّلِ

قعدتُ له وصحبتي بين حامِرٍ وبين إكامٍ بُعْدَ ما متأمّلِ

وأضحى يسحُّ الماء عن كلِّ فيقةٍ يكبُّ على الأذهان دوحَ الكَنهْبَلِ

وتيماءَ لم يترك بها جذعَ نخلةٍ ولا اطماً إلّامشيداً بِجَنْدَلِ استهلّ هذه القطعة بوصف وميض البرق وتألّقه في سحاب متراكم، وشبّه هذا التألّق واللمعان بحركة اليدين إذا اشير بهما، أو كأنّه مصابيح راهب يتوهّج ضوؤها بما يمدّها من زيت كثير.

ويصف كيف جلس هو وأصحابه يتأمّلونه بين جامر وإكام، والسحاب يسحّ سحّاً، حتّى لتقتلع سيوله كلّ ما في طريقها من أشجار العِضاه العظيمة، وتلك تيماء لم تترك بها نخلًا ولا بيتاً، إلّاما شيّد بالصخر، فقد اجتثّت كلّ ما مرّت به، وأتت عليه من قواعده واصوله.

ص:246

ص: 247

لبيد بن ربيعة

هو لبيد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة.. الكلابي

قال المرزباني: كان فارساً شجاعاً سخيّاً، قال الشعر في الجاهلية دهراً (1).

قال أكثر أهل الأخبار: إنّه كان شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان قد نذر أن لا تهبّ الصبا إلّانحر وأطعم، ثمّ نزل الكوفة، وكان المغيرة بن شعبة إذا هبّت الصبا يقول: أعينوا أبا عقيل على مروءته (2).

وحكى الرياشي: لمّا اشتدّ الجدب على مضر بدعوة النبيّصلى الله عليه و آله وفد عليه وفد قيس وفيهم لبيد فأنشد:

أتيناك يا خير البريّة كلّها لترحمنا ممّا لقينا من الأزلِ

أتيناك والعذراء تدمى لبانها وقد ذهلت أمّ الصبيّ عن الطفلِ

فإن تدعُ بالسقيا وبالعفو ترسل ال - سّماءَ لنا والأمر يبقى على الأَصْلِ وهو من الشعراء، الّذين ترفعوا عن مدح الناس لنيل جوائزهم وصِلاتهم، كما أنّه كان من الشعراء المتقدّمين في الشعر.

وأمّا أبوه فقد عرف بربيعة المقترين لسخائه، وقد قُتل والده وهوصغير السّنّ، فتكفّل أعمامهُ تربيتَه.

ويرى بروكلمان احتمال مجي ء لبيد إلى هذه الدنيا في حوالى سنة 560 م. أمّا وفاته فكانت سنة 40 ه. وقيل: 41 ه. لمّا دخل معاوية الكوفة بعد أنصالح الإمام الحسن بن علي ونزل النخيلة، وقيل: إنّه مات بالكوفة أيّام الوليد بن عقبة في خلافة عثمان، كما ورد أنّه توفّي سنة نيف وستين (3).

قالوا فيه:

1- النبيصلى الله عليه و آله: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:

ألا كلّ شي ء ما خلا اللَّه باطلُ (4)


1- 1 الاصابة في تمييز الصحابة 6: 4. ط دار الكتب العلمية- بيروت.
2- 2 اسد الغابة 4: 261 والإصابة 6: 5.
3- 3 المفصل 9: 546- 547.
4- 4 الإصابة 6: 5.

ص: 248

وروى أنّ لبيداً أنشد النبيصلى الله عليه و آله قوله:

ألا كلّ شي ء ما خلا اللَّه باطلُ

فقال له:صدقت.

فقال:

وكلّ نعيم لا محالة زائلُ

فقال له: كذبت، نعيم الآخرة لا يزول (1).

2- المرزباني: إنّ الفرزدق سمع رجلًا ينشد قول لبيد:

وجلا السيوف من الطلولِ كأنّها زبر تجدّ متونَها أقلامُها فنزل عن بغلته وسجد، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنا أعرف سجدة الشعر كما يعرفون سجدة القرآن (2).

القول في إسلامه

وأمّا إسلامه فقد أجمعت الرواة على إقبال لبيد على الإسلام من كلّ قلبه، وعلى تمسّكه بدينه تمسّكاً شديداً، ولا سيما حينما يشعر بتأثير وطأة الشيخوخة عليه، وبقرب دنوّ أجله؛ ويظهر أنّ شيخوخته قد أبعدته عن المساهمة في الأحداث السياسية التي وقعت في أيّامه، فابتعد عن السياسة، وابتعد عن الخوض في الأحداث، ولهذا لا نجد في شعره شيئاً، ولا فيما روي عنه من أخبار أنّه تحزّب لأحد أو خاصم أحداً.

وروي أنّ لبيداً ترك الشعر وانصرف عنه، فلمّا كتب عمر إلى عامله المغيرة ابن شعبة على الكوفة يقول له: استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام. أرسل إلى لبيد، فقال: أرجزاً تُريد أم قصيداً؟ فقال:

أنشدني ما قلته في الإسلام، فكتب سورة البقرة فيصحيفة ثمّ أتى بها، وقال:

أَبدلني اللَّه هذا في الإسلام مكان الشعر. فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص من


1- 1 خزانة الأدب 2: 252، تحقيق عبدالسلام هارون.
2- 2 الاصابة 6: 5.

ص: 249

عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد (1).

وجعله في اسد الغابة من المؤلّفة قلوبهم وممّن حسن إسلامه (2)، وكان عمره مائة وخمساً وخمسين سنة، منها خمس وأربعون في الإسلام وتسعون في الجاهلية (3).

مختارات من شعره

له قصيدة في رثاء النعمان بن المنذر، تعرّض فيها للموت ولزوال النعيم ولعدم دوام الدنيا لأحد، مطلعها:

ألا تسألان المرء ماذا يحاولُ أنحب فيقضى أم ضلالٌ وباطلٌ؟ وقد ذكر فيها اللَّه جلّ جلاله بقوله:

أرى الناس لا يدرون ما قدرُ أمرِهمُ بلى: كلّ ذي لبّ إلى اللَّه واسلُ

ألا كلُّ شي ءٍ ما خلا اللَّه باطلُ وكلّ نعيم لا محالة زائلُ

وكلُّ اناسٍ سوف تدخلُ بينهم دويهيّةٌ تصفرّ منها الأناملُ

وكلّ امرئ يوماً سيعلمُ سعيه إذا كشّفت عند الإله المحاصلُ (4) معلّقة لبيد بن ربيعة

البحر: الكامل. عدد الأبيات: 89 موزّعة فيما يلي: 11 في ديار الحبيبة. 10 في رحلة الحبيبة وبعدها وأثره. 33 في الناقة. 21 في الفخر الشخصي. 14 في الفخر القبلي.


1- 1 المفصل 9: 553.
2- 2 اسد الغابة 6: 262.
3- 3 الإصابة 6: 4.
4- 4 المفصّل 9: 550- 551.

ص: 250

يبدأ الشاعر معلقته ببكاء الأطلال ووصفها، وكيف أنّ الديار قد درست معالمها حتّى عادت لا ترى فقد هجرت، وأصبحت لا يدخلها أحدٌ لخرابها:

عفت الديار محلّها فمقامها بمنىً تأبّد غولها فرجامها

رزقت مرابيع النجوم وصابها ودقَ الرواعد جودها فرهامها ثمّ عاد بمخيلته شريط الذكريات، ذكريات فراق الأحبّة فيتحدّث عن الظعائن الجميلات الرشيقات، وعن هوادجهنّ المكسوّة بالقماش والستائر:

مشاقتك ظعن الحيّ يوم تحمّلوا فتكنّسوا قطناً تصرّ خيامها

من كلِّ محفوف يظلّ عصيّه روح عليه كلّةٌ وقرامها ويرى أن يقطع أمله منها ويترك رجاءه فيها ما دامت نوار قد تغيّر وصلها:

ما قطع لبانه من تعرّض وصله ولشرّ واصل خلّةصرّامها ثمّ يأخذ في وصف ناقته بألفاظ غريبة وتعابير بدوية متينة، فهو يشبهها بالغمامة الحمراء تدفعها رياح الجنوب فيقول:

فلها هبابٌ في الزمامِ كأنّها صهباء خفّ مع الجنوب حمامُها واخرى يشبّهها بالبقرة الوحشيّة قائلًا:

خنساءُ ضيّعتِ الغريرَ فلم ترِمْ عُرْضَ الشّقائقِ طوفها وبُغامُها لمعفّرٍ قَهْدٍ تنازعَ شلوهُ غبسٌ كواسبُ، لا يُمَنّ طعامُها وعلى الرغم من تعرّضه لوصف الناقة فلم تفته الحكمة:

صادفْنَ منها غرّة فأصبنها إنّ المنايا لا تطيش سهامها ويقول:

لتذودهنّ وأيقنت إن لم تَزُدْ أن قد أحمّ من الحتوفِ حمامها فهو مؤمن بقضاء اللَّه، قانع بما قسم له وكتب عليه، راضٍ بذلك، ويدعو النّاس إلى الرضا:

فاقنع بما كتب المليكُ فإنّما قسم الخلائق بيننا علّامها ثمّ ينتقل لبيد للفخر بفروسيّته، وكونه يحمي قومه في موضع المحنة والخوف، يرقب لهم عند ثغور الأعداء وهو بكامل عدّته متأهّباً للنزال، حتّى إذا أجنّه الظلام نزل من مرقبه إلى السهل، وامتطى جواده القوي السريع:

ولقد حميت الحيّ تحمل مثكتي فرطٌ وشاحي إذ غدوت لجامها

فعلوت مرتقباً على ذي هبوةٍ حرجٍ إلى أعلامهنّ قَتَامُها

حتّى إذا ألقت يداً في كافرٍ وأجنّ عورات الثغور ظلامها

أسهلت وانتصبتْ كجذعِ منيفةٍ جرداءَ يَحْصَرُ دونَها جرّامُها ولبيد خير شاعر برّ قومه، فهو يحبّهم ويؤثرهم ويشيد بمآثرهم ويسجّل مكرماتهم، ويفخر بأيّامهم وأحسابهم، فسجّل في معلّقته فضائل قومه، وافتخر بأهله وخصّهم بأجود الثناء:

إنّا إذا التقت المجامعُ لم يزل منّا لزازُ عظيمةٍ جشّامُّها

من معشرٍ سنّت لهم آباؤهم ولكلّ قومٍ سنّةٌ وإمُامها

لا يطبعون ولا يبور فعالُهم إذ لا يميل مع الهوى أحلامُها

وهم السعاةُ إذا العشيرة افظِعَتْ وهُمُ فوارسها وهم حكّامُها

ص:251

ص: 252

وهُمُ ربيعٌ للمجاور فيهمُ والمرملاتِ إذا تطاولَ عامُها

وهُمُ العشيرةُ أن يُبَطّئ حاسدٌ أو أن يميلَ مع العدى لوّامُها زهير بن أبي سلمى

هو زهير بن أبي سلمى- واسم أبي سلمى: ربيعة بن رباح المزني من مزينة ابن أد بن طايخة.

كانت محلّتهم في بلاد غطفان، فظنّ الناس أنّه من غطفان، وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة أيضاً.

وهو أحد الشعراء الثلاثة الفحول المقدّمين على سائر الشعراء بالاتّفاق، وإنّما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر، وهم: امرؤ القيس وزهير والنابغة. ويقال:

إنّه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، وكان والد زهير شاعراً، واخته سلمى شاعرة، واخته الخنساء شاعرة، وابناه كعب ومجبر شاعرين، وكان خال زهير أسعد بن الغدير شاعراً، والغدير امّه وبها عرف، وكان أخوه بشامة بن الغدير شاعراً كثير الشعر.

ويظهر من شعر ينسب إليه أنّه عاش طويلًا إذ يقول متأفّفاً من هذه الحياة ومشقّاتها حتّى سئم منها:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم قالوا فيه:

1- الحطيئة استاذ زهير: سئل عنه فقال: ما رأيت مثله في تكفِّيه على أكتاف القوافي، وأخذه بأعنّتها حيث شاء، من اختلاف معانيها امتداحاً وذمّاً (1).

2- ابن الاعرابي: كان لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره (2).

3- قدامة بن موسى- وكان عالماً بالشعر-: كان يقدّم زهيراً.


1- 1 المفصّل 9: 544.
2- 2 شرح الشواهد للسيوطي 1: 133.

ص: 253

4- عكرمة بن جرير: قلت لأبي: مَن أشعر الناس؟ قال: أجاهليةٌ أم إسلامية؟ فقلت: جاهلية، قال: زهير (1).

مميّزات شعره:

امتاز زهير بمدحيّاته، وحكميّاته، وبلاغته، وكان لشعره تأثير كبير في نفوس العرب. وكان أبوه مقرّباً من امراء ذبيان، وخصوصاً هرم بن سنان والحارث ابن عوف، وأوّل قصيدة نظمها في مدحهما على أثر مكرمة أتياها. معلّقته المشهورة.

ويؤخذ من بعض أقواله أنّه كان مؤمناً بالبعث كقوله:

يؤخَّر فيودَع في كتابٍ فيدَّخَرْ ليومِ الحسابِ أو يعجّلْ فينتقمِ وممّا يدلّ على تعقّله وحنكته وسعةصدره حِكمه في معلّقته، وقد جمع خلاصة التقاضي في بيت واحد:

وإنّ الحقّ مقطعه ثلاث: يمينٌ أو نفارٌ أو جلاءُ معلّقة زهير بن أبي سلمى

البحر: الطويل. عدد الأبيات: 59 موزّعة فيما يلي: 6 في الأطلال. 9 في الأظعان. 10 في مدح الساعين بالسلام. 21 في الحديث إلى المتحاربين. 13 في الحكم.

يبدأ الشاعر معلّقته بالحديث عمّاصارت إليه ديار الحبيبة، فقد هجرها عشرين عاماً، فأصبحت دمناً بالية، وآثارها خافتة، ومعالمها متغيّرة، فلمّا تأكّد منها هتف محيّياً ودعا لها بالنعيم:

أمن امّ أوفى دِمنةٌ لم تَكَلَّمِ بحَوْمانَةِ الدّرّاجِ فالمتثَلَّمِ

وقفتُ بها من بعدِ عشرينَ حجّةً فَلَأْياً عرفتُ الدار بعد توهُّمِ


1- 1 الشعر والشعراء: 57.

ص: 254

فلمّا عرفتُ الدار قلت لربعها ألا أنعمصباحاً أيّها الربع وأسلمِ ثمّ عاد بالذاكرة إلى الوراء يسترجع ساعة الفراق، ويصف النساء اللاتي ارتحلن عنها، فيتبعهنّ ببصره كئيباً حزيناً، ويصف الطريق الّتي سلكنها، والهوادج التي كنّ فيهاو...:

بكرن بكوراً واستحرنَ بسحره فهنّ ووادي الرسّ كاليدِ للفمِ

جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محلّ ومحرمِ

فلمّا وردنَ الماء زرقاً جمامه وضعْنَ عِصِيَّ الحاضرِ المتخيَّمِ

وفيهنّ ملهى للّطيف ومنظرٍ أنيق لعين الناظر المتوسّمِ وكأنّه حينما وصل إلى هذا المنظر الجميل الفتّان سبح به خاطره إلى جمال الخلق وروعة السلوك، وحبّ الخير والتضحية في سبيل الأمن والاستقرار، فشرع يتحدّث عن الساعين في الخير، المحبّين للسلام، الداعين إلى الإخاء والصفاء، فأشاد بشخصين عظيمين هما هرم والحارث، وذلك لموقفهما النبيل في إطفاء نار الحرب بين عبس وذبيان، وتحمّلهما ديات القتلى من مالهما وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير، قال:

سعى ساعياً غيظ من مرّة بعدما تبزّل ما بين العشيرة بالدمِ

فأقسمت بالبيت الّذي طاف حوله رجال بنوه من قريشٍ وجرهمِ

يميناً لنعم السّيّدان وُجدتما على كلّ حالٍ من سحيل ومبرمِ

تداركتما عبساً وذبيان بعدما تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشمِ

ص: 255

وقد قلتما: إن ندرك السلم واسعاً بمالٍ ومعروفٍ من القول نسلمِ

فأصبحتما منها على خير موطنٍ بعيدين فيها من عقوقٍ ومأثمِ ثمّ وجّه الكلام إلى الأحلاف المتحاربين قائلًا:

هل أقسمتم أن تفعلوا ما لاينبغي؟ لا تظهروا الصلح، وفي نيّتكم الغدر؛ لأنّ اللَّه سيدخره لكم ويحاسبكم عليه، إن عاجلًا أو آجلًا، يقول:

ألا أبلغ الأحلاف عنّي رسالة وذبيان هل أقسمتم كلّ مقسمِ

فلا تكتمنّ اللَّه ما فيصدوركم ليخفى ومهما يكتم اللَّهُ يعلمِ

يؤخّر فيوضع في كتابٍ فيدّخر ليوم الحساب أو يعجّل فينقمِ ثمّ انتقل من هذا المجال مجال النصح والتوجيه وتأكيد السلام إلى مجال الحكمة الإنسانية العامة، حكمة الرجل المجرّب للحياة، الذي ذاقها وخبرها وعاش في خضمّها، ثمّ امتدّ به العمر فزهدها وانصرف عنها، قال:

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله على قومِهِ يُسْتَغْن عنهُ ويذمَمِ

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يُهَدَّمْ، ومن لا يظلم الناسَ يُظْلَمِ

ومن لا يصانع في امورٍ كثيرةٍ يضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسمِ

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يَفُرْهُ ومن لا يتّقِ الشّتم يُشتَمِ

ص: 256

ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناسِ تُعلَمِ

سئمتَ تكاليفَ الحياةِ ومن يعش ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمِ

وأعلمُ ما في اليومِ والأمسِ قبلهُ ولكنّني من علم ما في غدٍ عمِ رأيتُ المنايا خبط عشواءَ من تُصب تمتْهُ ومن تُخطئ يعمّر فيهرمِ ويختمها بتأكيد معروف الممدوحين عليه فيقول:

سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتمُ ومن يكثر التسآلَ يوماً سيحرمِ عنترة بن شدّاد العبسي

هو عنترة بن عمرو بن شدّاد بن عمرو ... بن عبسي بن بغيض (1)، وأمّا شدّاد فجدّه لأبيه في رواية لابن الكلبي، غلب على اسم أبيه فنسب إليه، وقال غيره:

شدّاد عمّه، وكان عنترة نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه، وكان يلقّب ب (عنترة الفلحاء) لتشقّق شفتيه. وانّما ادّعاه أبوه بعد الكبر، وذلك لأنّه كان لأمة سوداء يقال لها زبيبة، وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من امّه استعبده.

وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إيّاه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على قوم من بني عبس، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم، وعنترة فيهم، فقال له أبوه أو عمّه في رواية اخرى: كرّ يا عنترة، فقال عنترة: العبد لا يحسِن الكرّ، إنّما يحسن الحلاب والصرّ، فقال: كرّ وأنت حرّ، فكرّ وقاتل يومئذٍ حتّى استنقذ ما بأيدي عدوّهم من الغنيمة، فادّعاه أبوه بعد ذلك، وألحق به نسبه (2).


1- 1 الشعر والشعراءص 130.
2- 2 المفصل 9: 558.

ص: 257

كان شاعرنا من أشدّ أهل زمانه وأجودهم بما ملكت يده، وكان لا يقول من الشعر إلّاالبيتين والثلاثة حتّى سابّه رجل بني عبس فذكر سواده وسواد امّه وسواد اخوته، وعيّره بذلك، فقال عنترة قصيدته المعلّقة التي تسمّى بالمذهّبة وكانت من أجود شعره: هل غادر الشعراء من متردّمِ (1).

وكان قدشهد حرب داحس والغبراء فحسن فيها بلاؤه وحمد مشاهده.

أحبّ ابنة عمّه عبلة حبّاً شديداً، ولكنّ عمّه منعه من التزويج بها. وقد ذكرها في شعره مراراً وذكر بطولاتها أمامها، وفي معلّقته نماذج من ذلك.

وقد ذكر الأعلم الشنتمري في اختياراته من أشعار الشعراء الستة الجاهليينص 461 أنّ النبيصلى الله عليه و آله حينما أنشد هذا البيت:

ولقد ابيتُ على الطوى وأظله حتى أنال به كريم المأكلِ قالصلى الله عليه و آله: ما وصف لي أعرابي قط، فأحببتُ أن أراه إلّاعنترة.

نماذج من شعره:

بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني أصبحتُ عن عرضِ الحتوفِ بمعزلِ

فأجبتها إنّ المنيّة منهلٌ لابدّ أن اسقى بذاك المنهلِ

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي أنّي امرؤٌ سأموتُ إن لم اقتلِ ومن إفراطه:

وأنا المنيّة في المواطن كلّها والطعنُ منّي سابقُ الآجالِ وله شعر يفخر فيه بأخواله من السودان:

إنّي لتعرف في الحروب مواطني في آل عبسٍ مشهدي وفعالي

منهم أبي حقّاً فهم لي والدٌ والامّ من حامٍ فهم أخوالي (2) قال الدكتور جواد علي: انصحّ هذا الشعر هو لعنترة دلّ على وقوف الجاهليين على اسم «حام» الوارد في التوراة على أنّه جدّ السودان، ولابدّ أن تكون التسمية قد وردت إلى الجاهليين عن طريق أهل الكتاب (3).


1- 1 الشعر والشعراءص 131- 132.
2- 2 الشعر والشعراءص 133- 134.
3- 3 المفصّل 9/ 560.

ص: 258

وقد اختلف في موته، فذكر ابن حزم (1) انّه قتله الأسد الرهيص حيّان بن عمرو بن عَميرة بن ثعلبة بن غياث بن ملقط. وقيل: إنّه كان قد أغار على بني نبهان فرماه وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني فقطع مطاه، فتحامل بالرميّة حتّى أتى أهله فمات (2).

معلّقة عنترة العبسي

البحر: الكامل. عدد الأبيات: 80 بيتاً. 5 في الأطلال. 4 في بعد الحبيبة وأثره.

3 في موكب الرحلة. 9 في وصف الحبيبة. 13 في الناقة. 46 في الفخر الشخصي...

يبدأ عنترة معلّقته بالسؤال عن المعنى الذي يمكن أن يأتي به ولم يسبقه به أحد الشعراء من قبل، ثمّ شرع في الكلام فقال: إنّه عرف الدار وتأكّد منها بعد فترة من الشكّ والظنّ فوقف فيها بناقته الضخمة ليؤدّي حقّها- وقد رحلت عنها عبلة وصارت بعيدة عنه- فحيّا الطلل الّذي قدم العهد به وطال ...

فيقول:

هل غادر الشعراء من متردّمِ أم هل عرفت الدار بعد توهُّمِ

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي وعميصباحاً دار عبلة واسلمي

فوقفت فيها ناقتي وكأنّها فدن لأقضي حاجة المتلوّمِ

حُيّيتَ من طللِ تقادمَ عهدهُ أقوى وأقفر بعد امّ الهيثمِ

ولقد نزلت فلا تظنّي غيره منّي بمنزلةِ المحبّ المكرمِ

إن كنت أزمعت الفراق فإنّما زمّت ركابكمُ بليلٍ مظلمِ

ما راعني إلّاحمولة أهلها وسط الديار تسفّ حبّ الخمخَمِ ثمّ سرد طرفاً من أسباب هيامه، فقال:

إنّها ملكت شغاف قلبه بفم جميل، أبيض الأسنان طيّب الرائحة، يفوح العطر


1- 1 جمهرة أنساب العربص 400.
2- 2 المفصل 9: 561 عن أسماء المغتالينص 120 مخطوط.

ص: 259

من عوارضه:

إذ تستبيك بذي غروب واضح عذب مقبّله لذيذ المطعمِ ثمّ قارن بين حاله وحالها؛ فهي تعيش منعّمة، وهو يعيش محارباً، وتمنّى أن توصله إليها ناقة قويّة لا تحمل ولا ترضع وتضرب الآثار بأخفافها فتكسرها ...

فقال:

تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّة وأبيت فوق سراة أدهم ملجمِ

وحشيتي سرج على عبل الشوى نهد مراكله نبيل المحزمِ

هل تبلغنّي دارها شدنيّة لعنت بمحروم الشرابِ مصوّمِ ثمّ يتجّه بالحديث إلى الحبيبة يسرد أخلاقه وسجاياه قائلًا:

إن ترخي قناع وجهك دوني فإنّي خبير ماهر بمعاملة الفرسان اللابسين الدروع، وأنا كريم الخلق لين الجانب إلّاإذا ظُلمت فعند ذلك يكون ردّي عنيفاً مرّاً:

إن تغدفي دوني القناع فإنّني طبّ بأخذ الفارس المستلئم

أثني عليّ بما علمت فإنّني سهل مخالقتي إذا لم اظلمِ

فإذا ظُلمت فإنّ ظلمي باسل مرّ مذاقته كطعم العلقمِ ثمّ يستمرّ البطل في وصف بطولته لحبيبته، فيحثّها أن تسأل عنه فرسان الوغى الّذين شهدوه في معترك الوغى وساحات القتال ليخبروها بأنّ لعنترة من الشجاعة ما تجعله لا يهاب الموت بل يقحم فرسه في لبّة المعركة، ويقاتل، وبعد الحرب- وكعادة الجيش المنتصر- فإنّ أفراده ينشغلون بجمع الغنائم، امّا هو فيده عفيفة عن أخذ الغنائم، فقتاله لا للغنيمة وإنّما لهدف أبعد وهو أن يكسب لقومه شرف الانتصار.

ويستمرّ في مدح نفسه فيذكر في شعره معان نبيلة، وهي معان ارتفعت عنده إلى أروعصورة للنبل الخلقي حتّى لنراه يرقّ لأقرانه الّذين يسفك دماءهم، يقول وقد أخذه التأثّر والانفعال الشديد لبطشه بأحدهم:

ص: 260

فشككت بالرمح الطويل ثيابَهُ ليس الكريم على القنا بمحرّمِ فهو يرفع من قدر خصمه، فيدعوه كريماً، ويقول إنّه مات ميتة الأبطال الشرفاء في ساحة القتال.

وكان يجيش بنفسه إحساس عميق نحو فرسه الّذي يعايشه ويعاشره حين تنال منه سيوف أعدائه ورماحهم، يقول مصوّراً آلامه وجروحه الجسديّة وقروحه النفسية:

فأزورّ من وَقْعِ القَنا بِلبَانهِ وشكا إليّ بعبرةٍ وتَحَمْحُمِ

لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ولكان لو عَلِمَ الكلامَ مكلِّمي وكأنّما فرسه بضعة من نفسه.

ثمّ يختم قصيدته بأنّه يعرف كيف يسوس أمره ويصرف شؤونه، فعقله لا يغرب عنه، ورأيه محكم، وعزيمتهصادقة، ولا يخشى الموت إلّاقبل أن يقتصّ من غريمه:

ذلّل ركابي، حيث شئت مشايعي لبّي وأحفره بأمر مبرمِ

ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن للحرب دائرةٌ على ابني ضمضمِ

الشاتمَي عرضي ولم أشتمهما والناذرَينِ إذا لم ألقِهِما دمي

إن يفعلا فلقد تركت أباهما جزر السباعِ وكلّ نسرٍ قشعمِ

ص: 261

ص: 262

ص: 263

ص: 264

الوضع الاجتماعي في الجزيرة العربية

ص: 265

الوضع الاجتماعي في الجزيرة العربية

أحمد الواسطي

إنّ النظم الاجتماعية لعرب الجاهلية هي حصيلة التفاعل بينهم وبين البيئة التي عاشوا فيها. فقد خضعوا لشروط بيئتهم ولاءموا حياتهم الاجتماعية مع الظروف الطبيعية التي نشأوا فيها.

والجدير بالذكر أنّ الظروف المعيشية الصعبة والأرض الصحراوية القاحلة أوجبت أن يكون الأساس في حياة العرب، وبخاصة عرب الشمال، البداوة، والبداوة تعني الحياة القبلية المتنقلة، إذ إن طبيعة البلاد الصحراوية تفرض على ساكنيها أن يعانوا حياة شاقة لا مجال فيها للقرار واستيطان الارض.

والقبيلة هي الوحدة التي يتجمع حولها الأفراد، والأفراد لا يعرفون سوى قبيلتهم ملاذاً لهم، خلافا لأهل الحضر الذين يكرّسون ولاءهم للدولة في أيامنا الحاضرة.

وإذا كانت القبيلة تقوى بأفرادها، وكانت قوة الأفراد من قوة الجماعة، وجب على الفرد في القبيلة أن يتضامن مع قبيلته على الخير والشر، وأن ينصر

ص: 266

أخاه ظالماً أو مظلوماً، وأن يكون أفراد القبيلة يداً واحدة على من سواهم:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ماقال برهانا فالناظر الى مجتمعات شبه الجزيرة العربية، سواء في ذلك المجتمعات القبلية البدوية أو مجتمعات الحضر التي تظهر على أوضحها في التكوينات السياسية الكبيرة، يجد أنها تشترك جميعا في عنصرين أساسيين:

العنصر الأول: عوامل التماسك التي تبدو وكأنها تشدّ المجتمع الى بعضه.

والعنصر الثاني: عوامل الانقسام الطبقي التي تسير في موازاة العوامل الأولى.

عوامل التماسك:

وفيما يخصّ عوامل التماسك فإننا نجد عدداً واضحاً منها في التكوينات القبلية تهدف الى إشاعة التماسك، حسب تصور معين في المجتمع القبلي، ومن هذه العوامل: عامل العصبية وعامل آخر مكمّل له وهو الثأر.

وتتولد العصبية القبلية عند الأفراد عن وعي أو غير وعي، وتستمر بتعاقب الأجيال على نمط عاطفة عميقة وفكرة ثاقبة. فهي بمثابة الرباط الذي يشدّ بطون القبيلة وأفرادها بعضهم الى بعض، فيجعلهم يداً واحدة.

ولولا هذا الشعور لما كان في وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ومصالحهم.

فالعصبية القبلية بهذا المعنى هي البديل الذي لابد منه للرابطة القومية، ولكن في حيّزها المتطرف (1).

ويقترن بالعصبية القبلية عادة الثأر، إذ تقضي تقاليد البادية أن يطالب أهل المقتول بقاتله ليقتلوه به، وهو الأمر المعروف باسم (القَوَد) إلّاإذا رضوا بدية القتيل.

والدية تختلف باختلاف مركز القتيل من الناحية الاجتماعية، فالدية واجبة عن الملوك والزعماء، وتختلف عن دية الأفراد والصعاليك، ودية الصريح ضعف


1- 1 الآلوسي: بلوغ الارب في معرفة احوال العرب: 3/ 22. د. جواد علي: تاريخ العرب قبل الاسلام 1/ 367- 368.

ص: 267

دية الحليف. والذي جرى عليه العرب أن يأخذوا مائة من الإبل دية القتيل من عامتهم، ودية الأشراف تزيد عن ذلك، بينما تكون دية الملوك ألف بعير.

أما إذا لم يحصل القَوَد، ولم يرضَ ذوو القاتل أو عشيرته بدفع الدية، ويكون القاتل قد لاذ بالفرار، عندئذ يصبح الأخذ بثأره واجباً محتماً، إذ يصمم ولي المقتول، ويكون عادةً أقرب الناس إليه، على الأخذ بثأره، وغالباً ما يحرم على نفسه أن يشرب الخمر أو يقرب النساء أو يمس رأسه غسل حتى يدرك ثأره (1)، وقد يستغرق طلب الثأر عشرات السنين.

والعرب يعتقدون أن القتيل تخرج من رأسه هامة تنادي على قبره (اسقوني فإنيصدية)، ولا ينقطع نداؤها إلّاحين يؤخد بثأره (2).

وحتى أدرك أولياء القتيل ثأرهم، ورأوا أنّ من قتلوه كفؤ لقتيلهم، نام الثأر فيصدورهم، وعندئذ يسمى (الثأر المنيم). أما الذي يتوانى عن طلب الثأر لقتيله فيلحقه العار. وقد يلحق العار القبيلة بأسرها إذا نامت عن ثأرها ولم تسعَ إليه، فينظر العرب إليها نظرة ازدراء واحتقار. وحتى من يقبل دية قتيله ينظر إليه بمثل هذه النظرة. وكثيراً ما يتولد عن الانتقام للدم المسفوح ثأر جديد، يجرُ وراءه سلسلة من الثارات المتبادلة، أشبه ما يكون بالحلقة المفرغة وقد يستغرق ذلك أجيالًا. كما قد تسوى الأمور، بأن يسلّم القاتل طوعاً أو كرهاً الى أهل القتيل كي يقتلوه به، فلا يبقى مجال لطلب الثأر. لكن القبيلة التي تفعل ذلك تكون قد جلبت على نفسها عاراً لا يمحى.

لذلك فإنّ القبائل تفضل أن تقتل القاتل بدلًا من تسليمه طوعاً للمطالبين به، دفعا للعار.

وقد تتفق قبيلتان متحاربتان على تسوية الثارات بينهما لحقن الدماء فترضيان بالتحكيم، يتولاه شخص معين أو هيئة محكمين، يرضى بهم الطرفان، يحكمون بأن تدفع القبيلة التي يكون قتلاها أقل من الثانية فضل الديات لها. وقد


1- 1 الآلوسي: 3/ 24.
2- 2 الآلوسي: 2/ 312.

ص: 268

يحكمون بإبطال المطالبة ببعض الدماء، باعتبارها لا تستوجب دفع الدية، ويقال لذلك (الشرخ). والمثال على ذلك: الحكم الذي أصدره (يعمر بن عوف) بين قصي وخزاعة، فحكم بأن كلّ دم أصابه قصي من خزاعة موضوع، يشدخه قصي تحت قدميه، فسمي يعمر لذلك باسم (يعمر الشداخ) (1).

وحقيقة إنّ العصبية والثأر قد أدّيا الى مناسبات كثيرة من الصراع بين قبائل شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام، وكان هذا الصراع يصل في بعض الأحيان الى فترات من العداء الصريح الذي يستمر عقوداً بأكملها بين توتر أو مناوشات أو غارات كثيفة متبادلة حفظ التراث العربي لنا عدداً من مواقعها وهي التي تسمى أيام العرب (2).

ولكن من الجانب الآخر فإن كلًّا من هذين العاملين كان أمراً حيوياً بالنسبة للقبيلة حتى لا يذوب كيانها في مجال العلاقات بين القبائل في ظلّ الظروف القاسية، التي سادت مجتمع البادية في شبه الجزيرة. فالعصبية التي تنتج عن تصور حقيقي أو مفترض لرابطة القرابة أو الدم كانت وسيلة التكتل الأساسية بين أفراد القبيلة في غياب أية وسائل أخرى ثابتة لإشاعة هذا التكتل. وهي وسيلة تجمع بين هؤلاء الأفراد بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى المطروحة مثل اعتبارات الحق والباطل أو الظلم والعدل، بحيث يصبح هذا التكتل هو القيمة الأولى في حياة القبيلة، التي كثيراً ما كان يدفعها السعي وراء الكلإ الى التنقل، وهو ظرف قد يؤدي الى التشتت ومن ثم الاندثار كوحدة اجتماعية، أو الى التصارع مع قبائل أخرى في سبيل الحصول على هذا الكلإ أو على عين ماء إذا أدخلنا في اعتبارنا قلة الماء في شبه الجزيرة الى درجة الندرة في بعض الأحيان.

والجدير بالذكر أن العصبية والثأر هماصنوان متلازمان وأمران طبيعيان في الصحراء، حيث لا قوة أو دولة تحمي الفرد إذا ضعف، أو تنتقم له إذا اعتدى عليه أحد، اللهم إلّاعشيرته أو قبيلته. ولذا فرضت تقاليد البادية أن يثأر الفرد لنفسه


1- 1 جواد علي/ 1/ 369.
2- 2 جرجي زيدان/ العرب قبل الاسلام: 254- 274، عمر فروخ/ تاريخ الجاهلية: 77- 86، السيد عبدالعزيز سالم/ تاريخ العرب في العصر الجاهلي: 426- 443، سعد زغلول عبدالحميد/ تاريخ العرب قبل الاسلام: 311- 318.

ص: 269

أو لذويه من كلّ من يلحق الأذى به أو بذويه. ويتضامن معه أفراد عشيرته، أو بطون قبيلته في الوصول الى حقّه ضد أي فرد أو جماعة تعتدي عليه من خارج قبيلته.

عوامل الانقسام:

ولكن مع كلّ العوامل المؤشرة الى التماسك سواء في مجتمع التكوينات القبلية، أو في مجتمع التكوينات الكبيرة، فإنّ عوامل الانقسام كانت موجودة في داخل هذه التكوينات في الوقت ذاته. ففي المجتمع القبلي رغم ماكانت عليه العصبية من رسوخ يدفع القبيلة الى أن تخفّ للدفاع عن أي فرد من أفرادها إذا تعرّض لأذى أو اعتداء أو إهانة من قبيلة أخرى، فإن نداء العصبية هذا لم يكن يمارس بنفس الحماس في حالة كلّ الاشخاص.

ولعل الأقرب الى الواقع في هذا الصدد هو أن هذا الحماس في الاستجابة لنداء العصبية كان يشتد أو يخفّ أو حتى ينعدم حسب وضع الشخص في القبيلة، فإذا كان من الوجهاء أو الاعيان أو السادة فإن القبيلة تهب في استجابة فورية لهذا النداء، كما حدث على سبيل المثال، فيما يرويه (ابن الاثير) من غضب (عمرو بن كلثوم) حين أحسّ أن إهانة قد لحقت بأمّه على يدي أمّ الأمير اللخمي (عمرو بن هند) فنادى آل قبيلته تغلب، واستجابت القبيلة للنداء، وكان بعدهاصدام مسلح انتهى لصالح التغلبيين (1).

ونحن نستطيع أن نقابل بين هذا وبين ما نستنتجه من شعر قاله (قريط بن أنيف) أحد بني العنبر (وهو شاعر مخضرم) وكان عدد من أفراد (بني ذهل بن شيبان) قد نهبوا عدداً من إبله فاستغاث بقومه فلم يغيثوه، فندّد بموقفهم هذا في أبياته. والتفسير المنطقي هنا هو أن قريطاً ربما كان من (طبقة العوام) في قبيلته، ومن ثم لم يكن ما أصابه من أذى (سواء بالحق أو بالباطل) مدعاة للاهتمام بين أفرادها ليهبّوا لمساندته، وهو يشرح لنا هذا الموقف بكلّ وضوح حين يقول:


1- 1 ابن الأثير: الكامل في التاريخ: ج 1/ 331.

ص: 270

لو كنت من مازن لم تُستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ هانا

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شي ء وإن هانا (1) وهكذا تتكون بالتدريج داخل كلّ قبيلة فئة أو طبقة لا تشعر بالانتماء الكامل لها، ويمكن أن تصبح عنصر انقسام بدلًا من أن تكون عنصر تماسك.

والشي ء ذاته نجده في أفراد القبيلة الذين تخلعهم القبيلة؛ لتصرف أتَوه ولم ترضَ القبيلة عنه. إن القبيلة تعلن عن لسان سيدها أو شيخها أنها غير مسؤولة عن تصرفاته، وبالتدريج تتكون مجموعة من المنبوذين عن المجتمع القبلي تشكل بدورها عنصراً من عناصر الانقسام.

رتب الأنساب:

وتشمل الشعب، القبيلة، العمارة، البطن، الفخذ، والفصيلة (2). وكلّها أصول وفروع للنسب القبلي تقابل أسماء من أعضاء الجسم.

الشعب:

وهي تشمل النسب الأبعد كعدنان وقحطان، ونسل كلّ منهما شعب فهما شعبان. وفي القاموس: الشاعبان هما: المنكبان لتباعدهما. وفيه أيضا: الشعب:

موصل قطع الرأس (في أعلاه) وربما سمي الشعب بهذا الاسم؛ لانه أعلى مرتبة من مراتب النسب، مثلما الشعب (موصل قطع الرأس) في أعلى رأس.

القبائل:

والقبائل العربية تتفرع من الشعب كما تتفرع قبائل الرأس، (وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها الى بعض) من أعلى الرأس (أي الشعب).


1- 1 ديوان الحماسة مختارات أبي تمام، طبعة الرافعي، القاهرة، أولى قصائد الديوان.
2- 2 الآلوسي: 3/ 188.

ص: 271

يقول القلقشندي: القبيلة هي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر.

ربما سميت القبائل باسم جماجم أيضاً: «جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطون».

العمارة:

وهي بمثابة العنق والصدر من الإنسان. وهي ما انقسمت فيه أقسام القبيلة كقريش أو كنانة.

البطن:

وهو ما انقسمت فيه أقسام العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم.

الفخذ:

وقد جعلوها بعد البطن؛ لأن الفخذ من الإنسان بعد البطن. والفخذ ما انقسمت فيه أقسام البطن كبني أمية على سبيل المثال.

الفصيلة:

وقد جعلوها بعد الفخذ؛ لأنها النسب الأدنى الذي يفصل عنه الرجل بمثابة الساق والقدم، والفصيلة ما انقسمت فيه أقسام الفخذ كبني العباس (1).

والعصبية القبلية هي في الأصل الشعور بصلة النسب الى جد واحد، وتختلف شدة رباطها باختلاف درجات الالتحام في النسب. غير أن هنالك من الدلائل ما يشير الى أن النسب أمر عرضي، الى جانب كونه أمراً طبيعياً، إذ يدخل فيه الأفراد الذين يصاهرون القوم وينتسبون اليهم بالولاء ولو كانوا من قبائل أخرى.

ويكون للعصبية القبلية قيمة أعظم من حيث الرباط الذي يجمع بين القبائل التي ترجع الى نسب واحد، إذا رفد رابط النسب رابط من المصلحة والجوار، وقد لا يكون للنسب شأن كبير أحياناً إذا تضارب مع المصلحة وحسن الجوار.

ويبلغ الشعور بوحدة النسب في القبيلة درجة من القوة بحيث تعتبر أن كلّ من لا ينتمي إليها إنما هو غريب، وأحيانا وفي ظروف معينة عدو، ذلك أن القبائل


1- 1 القلقشندي: نهاية الارب في معرفة أنساب العرب:ص 13- 14، الآلوسي: بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب: 3/ 188- 189، وراجع المنجد عن معاني كلّ كلمة من الكلمات التي تطلق على مراتب الأنساب.

ص: 272

العربية كانت تألف مجتمعاً يسوده التفكك وعدم الشعور بالروابط القومية الجامعة.

العناصر التي تتألف منها القبيلة:

والقبيلة تتألف في العادة من عناصر كثيرة:

1- الصرحاء: وهم أبناء القبيلة الذين يجري في عروقهم دمها النقي، كما أنهم ينحدرون من الجد الذي تنتسب إليه، وهؤلاء هم الذين يسودون القبيلة، ويؤلفون بيوتات الشرف فيها.

2- ابناء القبيلة بالنقلة: فقد كان جائزاً نقل رجل نسبه من قبيلة الى قبيلة أخرى، فيصبح من أفرادها.

3- أبناء القبيلة بالاستلحاق: فقد تُزوّج القبيلة عبداً من عبيدها امرأة من القبيلة، فيصبح مع الزمن فرداً من أفرادها يحمل نسبها. أما أولاد العربي من زواج غير شرعي أو من جواريه، فله الخيار في أن يلحقهم بنسبه أو لا يلحقهم، وإذا فعل أصبحوا يحملون نسب القبيلة (1).

4- العبيد: وهم على نوعين: عرب وأجانب، ومصدر الرقيق العربي بين القبائل العربية، إذْ أن العربي الذي يقاتل في الحرب ذوداً عن قبيلته، كان عليه أن يواجه إحدى حالات ثلاث: إمّا أن يُقتل أو يَفِر أو يُجرح، وحينئذ يؤسر فيُستَرَقّ.

أمّا الناس فغالباً ما كنّ يؤخذن أسيرات وسبايا في عقب القتال. وربما كان هدف الغارة سبي النساء، وهذا ما كان يدعو القبائل إلى أخذ الحيطة الشديدة لحمايتهن.

وتمنح القبيلة من يقوم بهذه المهمة بشجاعة ألقاباً بطولية (كحامي الظعينة)، أو (فارس الظعينة)، وكثيراً ما كانت القبائل تبيع سبيها واسراها (أم عمرو بن العاص كانت سبيّة، ثم بيعت في سوق عكاظ).

أما مصدر الرقيق الأجنبي فكان الشراء، حيث كان العرب يرتادون أسواق الروم وفارس، فيشترون الأرقاء الذين كانت كلّ من دولتي الروم والفرس


1- 1 د. فروخ: تاريخ الجاهلية:ص 150.

ص: 273

المتعاديتين تأسرهم من الأخرى اثناء الحروب الكثيرة، التي كانت تجري بين الطرفين. كما كان العرب يعتبرون أبناء جواريهم، الذين لا يعترفون ببنونتهم رقيقاً لهم.

والرقيق أصناف يختلف ثمن العبد باختلافها، فهناك: الرقيق الأسود، وكان في منزلة غاية في الانحطاط بالنسبة للرقيق الأبيض، ذلك أن العرب كانوا يتعشّقون البياض ويحتقرون السواد، حتى ليطلقون على العبيد السود اسم (الاغربة) تشبيها لهم بطائر الغراب البغيض المشؤوم (1).

أمّا الرقيق الأبيض فهو ذو مكانة أعلى وثمن أغلى وهو من جنسيات مختلفة:

فارسية أو بيزنطية أو من بعض الشعوب الأوربية.

وبالرغم من أن الرقيق قد اعتُبر كالآلة، يؤمر فيستجيب ويعمل، غير أن أثره كان عظيماً على أهل مكة من حيث كثرة أفراده إذْ ندر ما خلا دار من دور مكة من عبيد يقتنيهم رب الدار.

وقد استخدمهم مالكوهم، لما لهم من معرفة وخبرة ومهارة فنية، لا سيما الرقيق الأبيض في الحرف المختلفة، كأعمال البناء والتجارة والتعدين وغيرها، يشتغلون لحساب أسيادهم، كما استخدموهم كحرس لهم ومشرفين على إدارة مبيعاتهم، وقد روي أن عاملًا رومياً عمل في بناء الكعبة، في حياة الرسول قبل البعثة.

كما رسم بعض العمال المسيحيينصوراً للأنبياء والملائكة ومريم العذراء، وغير ذلك من قصص الوحي الديني على جدران الكعبة، حتى إذا فتح الرسولُ مكةَ طمسها مثلما حطم الأصنام، التي كانت هذه الصور قد أقحمت معها للزينة وربما تقديساً لها.

وكان لهؤلاء الأرقاء سهم في إدخال بعض الألفاظ الفارسية والإغريقية والحبشية الى اللغة العربية، منذ عهد ما قبل الإسلام، كما استخدموا في الترفيه من


1- 1 أحمد ابراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول:ص 37- 39.

ص: 274

رقص وغناء وضرب على الأوتار. وكان بوسع العبد أن يسترد حريته بأن يؤدي لسيده خدمة عظيمة، أو يظهر شجاعة فائقة في موقعة حربية، أو يتفق مع سيده على أن يشتري حريته بمبلغ من المال، ويعرف ذلك باسم (المكاتبة). والرقيق الذي يتحرر بهذه الطريقة يعرف باسم (المكاتب) (1).

5- الموالي: وهناك أيضا الموالي، ويرجعون الى مصدرين:

الأول: أن الرقيق عندما يعتق يصبح من الموالي، إذا أراد البقاء في القبيلة.

والثاني: أن يلتجئ فرد من إحدى القبائل الى قبيلة أخرى بسبب خلع قبيلته له، فيعتبر مولى من مواليها، ويطبق عليه التقليد المعروف باسم (الجوار)، وهو: إمّا جوار ضد عدو معين، أو جوار عام، وفي هذه الحالة يصبح للمستجير ما لأفراد القبيلة من حقوق، من حيث حمايته والأخذ بثأره إذا قتل، ويطلق عليه اسم (حليف) (2). وقد يصل الأمر بالمجير أن يقتل أعزّ الناس إليه إذا قتل حليفاً مستجيراً، كما فعل أوفى بن مطر المازني الذي قتل أخاه؛ لأنه فتك بمستجير به طمعاً في زوجته الجميلة التي كانت ترافقه.

وقد ينزل رجلصريح من غير الحلفاء على زعيم قبيلة فيصبح حليفه ويعقد بين الاثنين عهد وميثاق، يشهد عليه الملأ، وينصّ على بنود تقول: «دمي دمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، ترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك» (3).

وللحليف واجبات: ألا يسي ء مادياً أو معنوياً الى القبيلة المجيرة وإلّا خلعته، وتحللت من التزاماتها نحوه، ومع ذلك لم يكن للحليف منزلة كمنزلة أبنائها الصرحاء، ذلك أن ديته نصف دية الفرد الصريح منها.

الخلع والخلعاء:

وفي مقابل ما يرفد القبيلة من عناصر خارجة عنها، هناك من التقاليد المعروفة عند العرب ما يقضي بأن القبيلة تستطيع أن تخلع أي فرد من أفرادها ولو


1- 1 أحمد إبراهيم الشريف/ المصدر نفسه/ص 37- 39.
2- 2 في لسان العرب: الحليف هو من انضم الى شخص فعزّ بعزه وامتنع بمنعته.
3- 3 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه:ص 43- 44.

ص: 275

كانوا من الصرحاء، ويسمى هؤلاء بالخلعاء (مفردها خليع ويطلق عليه ايضا اسم لعين).

والخَلْع في المجتمع القبلي شبيه باسقاط الجنسية عن المواطن في عصرنا الحاضر، ويجري الخلع لأسباب:

1- إذا قتل فرد ما شخصاً آخر من قبيلة، ورفض ذوو المقتول قبول الدية، عندئذ تصبح القبيلة، بشخص زعيمها مضطرة لقتل القاتل، أو خلعه حفاظاً على وحدة القبيلة.

2- لما كانت القبيلة مسؤولة عن أعمال أفرادها، تضطر أحيانا الى خلع من يسي ء منهم اليها، بكثرة اعتدائه وجرائره ضد القبائل الأخرى، التي تَحْملُها أفعاله على شن الغارات الثأرية ضدها مفضلة أن تضحي بفرد بدلًا من جماعات منها.

3- وتخلع القبيلة كلّ من يلحق بها العار بأعماله اللاأخلاقية والمشينة، التي تعتبرها لوثة في جبينها.

يذاع الخلع بطرق عديدة في المواسم والأسواق بالمناداة أو الكتابة. وكان الرجل يأتي بابنه الى المواسم ويقول: «ألا إني قد خلعت ابني هذا فإن جُرَّ (أي أخذ بجريرة) لم أضمن، وإن جُرَّ عليه (أي قتل) لم أطلب» (1) فلا يؤخذ الأب بجرائر ابنه الخليع. ومن وقتها تصبح قبيلته في حلّ من أعماله، وتسقط حقوقه عليها، ويحرم عليه البقاء فيها، فيذهب ملتجئاً الى غيرها.

وأما إذا كانت شروره ومآثمه كثيرة فنادراً ما يلقى مجيراً ويصبح الأمر خطيراً بالنسبة إليه، إذ يجد نفسه في موقف حرج ووضع شاذ (2).

وقد يتكتل الخلعاء، ويطلق عليهم أيضا اسم (ذُؤبان العرب) بضروب من الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالحياة، بحيث كان بعض الرؤساء والزعماء يستخدمونهم للفتك بخصومهم، وقد انضم قسم منهم الى امرى ء القيس الشاعر الكندي عندما نهض مع قبيلة بكر للأخذ بثأر أبيه من قبيلة أسد.


1- 1 الآلوسي: 3/ 27.
2- 2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه:ص 31- 36.

ص: 276

كما كانوا متحللين من العصبية القبلية، لا يفرّقون بين قبيلتهم وغيرها، من حيث الإغارة عليه والسطو على أموالها، وإن كانوا في أغلب الأحيان يؤثرون التمركز في المناطق المجاورة للأسواق التجارية أو طرق القوافل التجارية، بحيث يغيرون عليها، ويُعملون يد السلب والنهب فيها (1).

وقد اشتهر منهم عدد من الشعراء الذين اطلق عليهم اسم (الشعراء الصعاليك)، والذين مارسوا هذه الأعمال، مثل (الشنفري) و (عروة بن الورد)، الذي اشتهر بعلوّ الأخلاق والجود والكرم، ينفق مايسلبه على الفقراء والمعوزين.

ومنهم (تأبط شرا) و (السليك بن السلكة) و (جعفر بن علية).

والشعراء الصعاليك كانوا على العموم كرماء يتصفون بالشهامة والمروءة والأنفة. وفي شعر (للشنفري) ما يبسط لنا بعض الصفات الخلقية لهؤلاء الشعراء، حيث يخاطب بني قومه الذين آذوه، بأبيات من قصيدته المعروفة باسم (لامية العرب) (2).

الأسرة:

إن الوحدة الاجتماعية في البادية والحضر معاً هي القبيلة، وركن القبيلة هي الأسرة، والرجل هو عماد الأسرة وربّها وصاحب نسبها، والعلاقة الاجتماعية بين أفراد الأسرة كانت قائمة على أساس التضامن الوثيق بين أفرادها كتضامن أسر القبيلة ضد القبائل الأخرى.

فالعلاقات في المجتمع العربي تقوم على أساس التضامن المتسلسل الصاعد، اعتبارا من أفراد الأسرة ثم الأفخاذ فالبطون فالعشائر، ثم الأحلاف، وللنسب دخل كبير في هذا التضامن، وهو الذي نسميه بالعصبية القبلية.

الزواج:

كانت الأسرة تقوم على أساس الزواج بعقد وبمهر معين، يدفعه الزوج بعد رضا أولياء الفتاة ورضاها في بعض الأحيان، وهو مايسمى بزواج المهر، أو زواج


1- 1 جواد علي: المصدر السابق: 1/ 369.
2- 2 أقيموا بني قوميصدور مطيّكم فإني الى قوم سواكم لأميلُ فقد خمّت الحاجات والليل مقمر وشُدّت لطيّات مطايا وأرحُلُ وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزّلُ لعمرك مافي الأرض ضيق على امرئ سرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ

ص: 277

البعولة، وقد يغالي بعض الآباء في قيمة المهر مغالاة شديدة، على أنه ذكرت الى جانب هذا أنواع أخرى من الزواج منها زواج السبي من نساء العدو الأسيرات، ولا يشترط فيه رضا الفتاة أو المهر، ثم زواج الإماء، ويكون بشراء أمة تكون هي وأولادها منه ملك يمينه إلّاإذا أعتقهم. وهذه الانواع من الزواج كان يقرّها المجتمع الجاهلي، وقد أقرّها المجتمع الإسلامي بعد ذلك مع شي ء من التعديل، من حيث تحديد تعدّد الزوجات، والتشجيع على عتق الإماء.

ومن أنواع الزواج التي عرفت في الجاهلية (زواج الشغار)، وذلك بأن يتفق رجلان على أن يتزوج كلّ منهما قريبة الآخر، ممن له عليها حقّ الولاية كالأخت أو الابنة، وبدون مهر (1) وفي ذلك ما فيه من عدم احترام المرأة وحقوقها، ولم يكن شائعاً شيوعاً كبيراً. وقريب منه (نكاح البدل) كأن ينزل رجلان كلّ منهما للآخر عن زوجته، وهو لا يقتضي المهر.

وقد عرف في الجاهلية نكاح (الخدن) (المخادنة) كأن يتخذ رجلصديقة له (خليلة).

ومن انواع الزواج التي استهجنها المجتمع الجاهلي أيضاً، (زواج المقت)، ويكون بأن يرث الابن الأكبر زوجة أبيه، إذا لم يكن لها أولاد منه، كما يرث المتاع، إلّا إذا افتدت نفسها من الورثة برضا منهم، وإذا أراد زوّجها من أحد إخوته بمهر جديد، وما ذلك إلّالأن الزواج كان يعني أن تقطع المرأةصلتها بأبيها واخوتها، فإذا لم تكن ذات ولد ساءت حالتها ولم تجد من يعيلها (2) والمعتقد أن هذا النوع من الزواج كان نادر الوقوع، ومقصوراً على فئات خاصة ضئيلة من السكان.

وقد سمي باسم «زواج المقت» لأنه كان ممقوتاً، والولد الذي يكون ثمرته يسمى (مقيت). أما الرجل الذي يخلف أباه على امرأته إذا طلقها أومات عنها أو يزاحم أباه على امرأته فكانوا يطلقون عليه اسم (الضيزن) أي الشريك أو المزاحم


1- 1 الآلوسي: مصدر سابق: 2/ 3- 5.
2- 2 د. أحمد شلبي: التاريخ الاسلامي والحضارة الإسلامية: 1/ 79. د. جواد علي: مصدر سابق: 5/ 274.

ص: 278

عند الاستسقاء. وقد حرّم المجتمع الجاهلي زواج الاب بابنته، والزواج بالأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الاخت وزوجات الأبناء. لكن زواج الرجل باختين تكونان معاً في عصمته كان مباحاً.

ويضاف الى العادات التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية أن أحدهم إذا تقابل مع آخر من غير قبيلته ومعه ظعينة قاتَلهُ عليها، وإن تمكّن أخذها منه، واستحلّها لنفسه.

كما أن الجاهليين قد اعتبروا الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة بدون عقد ضرباً من الزنى، فيقولون للمرأة عندئذ إنها بغي وزانية وفاجرة وعاهرة ومسافحة (1).

ولم يكن عدد الزوجات محدّداً، بل كان للجاهلي أن يعدد من الزوجات ما يشاء، مدفوعاً الى ذلك بعوامل شتى، قد تكون شخصية بحتة أو إنسانية، كأن يدخل في عصمته نساء لا معيل لهنّ، أو سياسية بأن يُصهر الى عدد كبير من القبائل، تناصره عند الحاجة.

الطلاق:

كان الطلاق من حقّ الرجل يستعمله متى شاء، لأي سبب أو حتى بدون سبب. وكان العرف يقضي بأن الرجل إذا طلّق زوجته واحدة كان أحق الناس بها.

أما إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها، فالطلاق ثلاثاً معناه الفرقة التامة بين الزوجين (2) على ان هناك من النسوة من كنّ يشترطن عند الزواج أن يكون لهنّ الحق في الطلاق إذا أردن.

وكانت المرأة إذا أرادت أن تطلّق زوجها غيّرت باب قبائها، فإن كان قِبَل المشرق جعلته قِبَل المغرب، فإذا رأى الزوج ذلك عرف أنها قد طلقته فلم يأتها، لكنّ ذلك لم يكن ليحصنهنّ من تطليق أزواجهنّ لهنّ إذا أرادوا.

وإذا طُلقت الزوجة أو مات عنها زوجها أُلزمت بقضاء العدة حتى يتبيّن ما


1- 1 جواد علي: 5/ 254- 258.
2- 2 الآلوسي: 2/ 49.

ص: 279

إذا كانت حاملًا أم غير حامل، خوفاً من أن تختلط الأنساب فيما لو تزوجت قبل انقضاء العدة (1).

العلاقات ضمن الأسرة:

لقد اختلف الباحثون المحدثون حول وضع المرأة الاجتماعي في العهد الجاهلي، وقد استنتج بعضهم (2) من الآيات القرآنية التي تدعو الى إحقاق حقوق المرأة، وعدم إمساكها ضراراً إذا طُلّقت- كقوله تعالى: وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهنّ (3) ويا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ... (4)

- أنها كانت مضطهدة، يُبْغى عليها ويستهان شأنها، بينما استنتج آخرون من اخبار الجاهلية التى وصلت إلينا في كتب التاريخ والآداب القديمة، أنها كانت تتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع الجاهلي.

لكن الواقع أن موضوع مكانة المرأة في العصر الجاهلي، يحتاج الى دراسة عميقة وشاملة، ولا يمكن للباحث أن يعطي أحكاماً مطلقة موجزة عنه في ثنايا البحوث العامة. ومن الأخبار المتناثرة في بعض كتب الأدب نلمس أن علاقة الرجل بالمرأة في العهد الجاهلي كانت قائمة على الاحترام المتبادل في كثير من الأحيان، إذ كانت تستشار في بعض الأمور وتشارك الرجل أكثر أعماله، وتتمتع بقسط من الحرية. وبعض الآباء يستشيرون بناتهم في أمر زواجهنّ واختيار بعولتهنّ (5).

لا نكران بأن الرجل في الأسرة الجاهلية كان له المركز الممتاز، فهو قوام الأسرة وربّها والمسؤول عن حياتها ورزقها ومختلف شؤونها، والمحارب المدافع عنها، والمطالب بالثأر والغرامات، وصاحب الكلمة النافذة، والمرأة كانت تابعة له، ومنسوبة إليه، وتحت حمايته ومسؤوليته، غير أنها كانت تشاطر الرجل كثيراً من مسؤولياته. وإذا كانت لا تغني غناء الرجل في الحروب، والحروب هي أساس الحياة في المجتمع الجاهلي، ولذلك تدنّت منزلتها عن منزلته، إلّاأنها كانت خير


1- 1 جواد علي: 3/ 273.
2- 2 محمد عزة دروزة: عصر النبي وبيئته قبل البعثة: 131- 135.
3- 3 البقرة: 232.
4- 4 النساء: 19.
5- 5 د. أحمد شلبي: مصدر سابق:ص 77. والشيخ محمد الخضري: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية: 1/ 17- 20.

ص: 280

رفيق له وخير عون، وكانت تجيد من الفنون ما يجعلها في مستوى يلائمه، بالاضافة الى قيامها بواجباتها كأمّ ومربية للأطفال، وكانوا يسمونها ربة المنزل تكريماً لها (1).

وفي الروايات القديمة أن المرأة مارست الكهانة والعرافة كالرجل، وكان الرجال يلجأون الى رأيها في معضلات الامور.

والمرأة الجاهلية فوق ذلك كانت تشعر بسخصيتها وبمكانتها في المجتمع، وتحرص على مكانتها من أن تُهان.

ومما تجدر الإشارة إليه أن العرب لم يكونوا يزوّجون بناتهم من غير العرب، وأن الفتيات البدويات لم يكنّ يُحبِبن الزواج في الحضر، وأن المرأة المرغوب فيها هي الولود التي تنجب كثيراً من البنين؛ لأنهم عماد الأسرة العربية، التي اعتادت أن تعيش في حراسة السواعد المفتولة والرماح السمهرية.

كان العربي يغار على نسائه، ويحرص عليهن، ويعتبر العرض أغلى من النفس والمال والولد (2).

ولذلك كان الرجال يصطحبون نساءهم في الغزوات والحروب، ويجعلونهن في مؤخرة الجيش، خوفا من مباغتة العدو لهنّ في مضارب القبيلة والرجال غائبون، وكي يدرك المحارب، بأن هزيمته ستجعل عرضه مباحاً لأعدائه فيستميت في القتال؛ ليُجنّب نساءه السبي. وفضلًا عن ذلك فإن النساء في المؤخرة كنّ يعنين بالمرضى ويضّمدن جراح المصابين، كما يشجعن المحاربين، ويأخذن بتلابيب الفارّين من ساحة القتال.

معاملة الأولاد:

إن أولوية الرجل في الأسرة الجاهلية، قد جعلت للأب سلطة على أفراد عائلته، وقد تصل الى حدّ تجعل للآباء على أولادهم حقّ التصرف بمصائرهم، ففي بعض الأحيان، كانوا يجعلون أولادهم رهائن في أيدي خصومهم، فيؤدي ذلك


1- 1 يقول أحدهم: يا ربة البيت قومي غيرصاغرة ضمّي إليك رحال القوم والقربا
2- 2 المعتقد أن الجاهليين يعاقبون الزانية بالرجم فجاء الإسلام وأقرّ ذلك.

ص: 281

أحيانا الى قتل هؤلاء لهم، وإذا استثنينا هذه الحالة الشاذة، ومثلها ما كان من وأد البنات، فإن العربي كان يعامل أبناءه معاملة تنطوي على اللطف والحنان والمحبة (1) مع حرصه على تربيتهم تربية خشنة، تؤدي بهم الى استكمال أسباب القوة، ليكونوا درعاً حصيناً له ولقبيلته. وكان الآباء يتخيّرون لأبنائهم الأسماء التي تدل على الخشونة، أو توحي بالتفاؤل بالظفر على الأعداء مثل: كلب، أسد، فهر،صخر، غلاب، ضرار، حنظلة، حرب، بينما كانوا يتخيّرون لأرقائهم أسماء جميلة مثل: سهيل، ميسور، وهانى ء، نجاح، فلاح ونحو ذلك.

كان الجاهليون يُفضلون من المواليد البنين على البنات، وقد دعاهم الى ذلك عوامل عديدة، فالأولاد يصبحون في المستقبل محاربين، تعتمد عليهم القبيلة في الدفاع عن حوزتها، وفي الكسب، بينما تكون البنت عبئاً ثقيلًا تحتاج الى حماية، أو قد تجلب العار الى قبيلتها، فيما إذا تعرّضت للسبي. تقول الآية الكريمة: وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم* يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون (2)

.

وكذلك جاء في قوله تعالى: وإذا بُشّر أحدُهم بما ضرب للرحمن مثلًا ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم أَوَ مَن يُنَشَّؤا في الحِلية وهو في الخصام غيرُ مبين.. (3) وإذا الموؤدة سئلت* بأي ذنب قُتلت (4)

.

يتضح لنا من هذه الآيات أن العرب كانوا يفضلون البنين على البنات، وأنهم كانوا يئدون البنات، وقد لمس الباحثون أسباباً أخرى للوأد منها الإملاق كما في الآية: ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (5)

، وعدم القدرة على إعالة الأولاد، أو الحرص علىصيانة العرض، وخشية أن يلحق القبيلة عار من السبي.

وعلى كلّ حال لم يكن الوأد شاملًا، بل اقتصر على بعض الأوساط المتردية مادياً واجتماعياً، ولا سيما في سني القحط والمجاعة، وفي البوادي القاحلة، ويروى


1- 1 كقول احد شعراء الجاهلية: وانما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الارضِ
2- 2 النحل: 58- 59.
3- 3 الزخرف: 17- 18.
4- 4 التكوير: 8- 9.
5- 5 الأنعام: 151.

ص: 282

أنه قد اقتصر على بعض الحالات في بعض بطون قبيلتي تميم وأسد (1)، كحالة ولادة مولود مشوّه، أو إذا كان الوالد فقيراً، أو كثير العيال، أو كان مع فقره مئناثاً، وفوق ذلك لا يستطيع الدفاع عن حريمه لضعفه.

ومع ذلك كان هناك ما يحدّ من هذه العادة السيئة، كإقدام ذوي الشهامة والمروءة على تبني أولاد ليسوا منصلبهم، يجعلون لهم مثلما لأولادهم من حقوق، وانقاذ المجتمع من عادة الوأد. فالشاعر الفرزدق كان يفتخر بأن جدّه (غالب بنصعصعة)، كان يُعرف في الجاهلية أنه محيى الموؤدات.

الإرث:

كان الإرث من حقّ الرجل فقط، وقد حُرمت منه المرأة والأولاد الصغار والجواري والبنات. ويظهر أن هذا الحق قد خُصّ به الذين يركبون الخيل ويحملون السلاح، وقاعدتهم في ذلك «لا يرث الرجلَ من ولده إلّامن أطاق القتال» (2).

وللرجال أن يرثوا من النساء، وأن يرثوهن أنفسهن، كما يرثون المتاع (يرث الابن الأكبر زوجات أبيه). ومَن مات عن بنات ولم يكن له أبناء ذكور يرثه إخوته، وتحرم بناته من ميراثه. ولكن يظهر أن حرمان المرأة من الميراث، لم يكن عاماً في جميع القبائل، بل إن بعضها كانت تعطي النساء الحق في الإرث (3).

الهوامش:


1- 1 محمد الخضري: مصدر سابق:ص 21.
2- 2 د. جواد علي: مصدر سابق: 274.
3- 3 د. جواد علي: مصدر سابق: 6: 328- 329.

ص: 283

ص: 284

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة و المعالم المشرفه في الحجاز (7)

ص: 285

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة و المعالم المشرفه في الحجاز (7)

عبدالجبار الرفاعي

1163- الرحلة المكّية

عليخان الصغير بن مطلب بن عليخان الكبير بن خلف بن عبد المطلب المشعشعي العويزي الموسوي

ظ: الذريعة 10/ 170- 171

1164- (ارجوزة طويلة فيها بيان لرحلة المؤلف من هجر إلى مكّة وغيرها)

ناصر بن هاشم بن أحمد بن الحسين الموسوي الأحسائي (1291- 1358 ه)

ظ: الذريعة 10/ 171.

1165- الرحلة المكّية المدنية

معتوق مكي البعاج

النجف: مط الآداب، د. ت، 35ص.

1166- الرحلة المكّية والنخلة المسكية

(ارجوزة في ألف بيت أنشأها الناظم في سفره إلى الحج 1292 ه، وذكر فيها ما جرى عليه من خروجه من بغداد الى عودته إليها، وكتب عليها مجموعة من العلماء والشعراء عدّة تقريضات)

ص: 286

محمد حسن بن محمدصالح كبة البغدادي ت 1336 ه.

ظ: الذريعة 10/ 170.

1167- الرحلة النجدية

عاتق بن غيث البلادي

جدة: دار المجمع العلمي، ط 1، 157ص، 24 سم.

1168- الرحلة الوهبية الى الاقطار الحجازية

(تحقيق مختصر حول سفر لفريضة الحج)

أحمد علي شاذلي

86ص.

1169- رحلة الوزير الشرقي الاسحاقي المغربي الى الحج

الوزير الاسحاقي الشرقي ت بعد 1143 ه.

العرب. س 19: ع 11- 12 (5، 6/ 1405 ه/ 2، 3/ 1985 م)ص 736- 757.

س 20: ع 1- 2 (7، 8/ 1405 ه/ 4، 5/ 1985)ص 108- 119.

ع 3- 4 (9، 10/ 1405 ه/ 6، 7/ 1985 م)ص 264- 272.

ع 5- 6 (11، 12/ 1405 ه/ 8، 9/ 1985 م)ص 387- 402.

ع 7- 8 (1، 2/ 1406 ه/ 9، 10/ 1985 م)ص 528- 538.

ع 9- 10 (3، 4/ 1406 ه/ 11، 12/ 1985 م)ص 647- 649 (حمد الجاسر).

1170- رد شبهات المستشرقين عن الحج

نذير حمدان

التضامن الإسلامي (مكة المكرمة) س 33: ع 9 (4/ 1399 ه- 3/ 1979 م)ص 41- 51.

1171- الرد على الاخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية

أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام

ابن تيمية (661- 728 ه)

القاهرة: المكتبة السلفية ومطبعتها، 1346 ه، 400ص.

القاهرة: ط 2، 1950 م، 232ص (تحقيقات: عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، عنى بنشره:

عبدالملك بن إبراهيم ومحمد بن

ص: 287

حسين نصيف).

القاهرة: المكتبة السلفية ومطبعتها، 1976 م.

1172- الرّد على الوهّابية

(في تحريم بناء القبور)

عبدالكريم الزّين، ت 1360 ه.

ظ: تراثنا: ع 17 (1409 ه)ص 163، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 493.

1173- ردّ الفتوى بهدم قبور الأئمة في البقيع

محمد جواد البلاغي، ت 1352 ه.

مطبوع

ظ: معجم المؤلفين العراقيين 3/ 124، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 493.

1174- رسائل في تاريخ المدينة

جمعها ونشرها: حمد الجاسر.

وهي تتضمن:

1- وصف المدينة المنورة في مطلع القرن الرابع عشر، لعلي بن موسى.

2- التحفة اللطيفة في عمارة المسجد وسور المدينة الشريفة، لمحمد بن خضر الرومي.

3- الوفا بما يجب لحضرة المصطفى، للسمهودي، علي بن عبداللَّه.

4- حوادث تتعلق بالحجرة النبوية.

5- بناء سور المدينة.

6- وضع الأهله فوق القبة ومنائر الحرم النبوي

طبعت في:

الرياض دار اليمامة 1972 م، 245ص، 24 سم (نصوص وأبحاث جغرافية وتاريخية عن جزيرة العرب 16).

1175- رساله اركان حج وعمره

(بالفارسية)

محمود حسيني

سنندج: المؤلف، 1365 ش، 15ص.

1176- رسالة اعلام العامة فيصحة الحج مع العامة

عبدالنبي العراقي

مطبوع سنة 1346 ه.

1177- رسالة أقانيم العلى في أحوال أمّ القرى

(في تاريخ مكة بالفارسية)

أحمد بن الحسين اليزدي المشهدي ت 1310 ه.

ص: 288

ظ: الذريعة 11/ 101.

1178- رسالة الى قبر النبيّصلى الله عليه و آله

عبداللَّه بن السيد البطليوسي ت 521 ه.

ظ: فهرست ابن خير الاشبيلي 420، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 44.

1179- رساله اى در آداب حج

(بالفارسية)

سلطان العلماء علاء الدين حسين ابن رفيع الدين محمد بن أمير شجاع الدين محمود الحسيني ت 1064 ه.

1180- رساله اى در مناسك حج

(بالفارسية)

محمد إبراهيم بن محمد حسن خراساني كرباسي ت 1363 ه.

1181- رساله اى در مناسك حج

(بالفارسية)

محمد بن أبي القاسم حبيب اللَّه واعظ اصفهاني

خ: ملي بتبريز، برقم 722.

ظ: فهرس المكتبة 3/ 3230.

1182- رساله اى در كفارات احرام حج

(بالفارسية)

محمد باقر بن محمد تقي المجلسي

خ: المرعشي بقم، ضمن مجموعة برقم 429، 22 ورقة.

1183- رسالة بشأن هل يجوز التوسل بجاه النبيصلى الله عليه و آله؟

سليمان بن عبداللَّه بن محمد بن عبدالوهاب النجدي ت 1233 ه.

خ: جامعة الملك سعود 3422/ 15 م،صفحة 50- 55، سنة 1345 ه.

ظ: الاعلام 3/ 191، مشاهير علماء نجد 29، معجم المؤلفين 4/ 268، فهرس مخطوطات جامعة الملك سعود (اصول الدين والفرق الإسلامية) 5/ 75- 76، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 44.

1184- رسالة تفسير آية: إنّ أوّل بيت وضع للناس للّذي ببكّة مباركاً

زين العابدين خان كرماني ت 1360 ه.

كتبها سنة 1346 ه.

1185- رسالة تفسير آية: إنّ أوّل

ص: 289

بيت وضع للناس للذي ببكّة مباركاً

كاظم الرشتي

1186- الرسالة الثانية في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء عليهم السلام

محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي ت 1352 ه.

القاهرة: مطبعة المعاهد، 1348 ه، 72ص.

1187- رسالة الحج

(بالفارسية)

مجهولة المؤلف

خ: آستان قدس رضوي، برقم 8215، تاريخها 1213 ه.

1188- رسالة الحج

حسين الخوانساري

خ: مدرسة آخوند بهمدان، برقم 1131.

1189- رسالة حجية

(في فقه الحج، بالفارسية)

المحقق الأردبيلي وأبو الحسن المطلبي

ميقات حج: ع 15 (بهار 1375 ش)ص 24- 44.

1190- رسالة در احوال مكه معظمه ومدينه مشرفه

(بالفارسية)

آقا محمد علي كرمانشاهي

ظ: مرآة الاحوال 1/ 135، 149.

1191- رساله در افعال حج وعمره

(بالفارسية)

حبيب اللَّه شريف كاشاني ت 1340 ه.

1192- رساله در حج

(بالفارسية)

محمد جعفر الاسترآبادي

خ: سيه سالار.

ظ: فهرست المكتبة، 4/ 86 م 2.

1193- رسالة دفع الشدة بجواز تأخير الأناقي الحرام الى جدة

جعفر بن أبي بكر اللبني الحنفي المكي

بغداد: مط الأمة، 1971 م، 6ص.

1194- رسالة ذرع الكعبة المعظمة ومساحة المسجد الحرام

ديار بكري ت 966 ه.

خ: برلين.

مكتبة الاسكندرية.

دار الكتب العربية بالقاهرة.

ص: 290

مكتبة الحرم المكي.

المحمودية بالمدينة المنورة.

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 205.

1195- رسالة رئيس منظمة الحج والزيارة الى وزير حج المملكة العربية السعودية

ميقات الحج: ع 8 (1418 ه)ص 141- 156.

1196- رساله شريفه توضيح المناسك يا دستور حج

(بالفارسية)

محمد حسيني الشاهرودي

قم: بهار، ط 1، 1372 ش، 103ص، 17 سم.

1197- رسالة في آداب الحج وكيفية وضع المسجد الحرام

محمد يوسف بن پهلوانصفر القزويني

1198- رسالة في إجزاء حج مَن أدرك المشعرين بحكم العامة

عبدالنبي الوفي العراقي

1199- رسالة في إجزاء المشعر الحرام اضطراراً في تمامية الحج

عبدالنبي الوفي العراقي

1200- رسالة في أدعية الطواف والسعي وطواف الوداع ودعاء عرفة وبهامشها مسائل الحج التي لابدّ منها إذا أراد ان يحرم

خ: الخديوية بمصر.

1201- رسالة في اشتراط الرجوع الى الكفار في الحج

ميرزا أبو المعالي

1202- رسالة في أقل المدة بين العمرتين

محمد إسماعيل المازندراني الخاجوئي ت 1173 ه.

تحقيق: مهدي الرجائي

قم: دار الكتاب الإسلامي، ط 1، 1411 ه (الرسائل الفقهية 1: 122- 153).

1203- رسالة في بيان العمارة الواقعة بعد سقوط الكعبة

علي عبدالقادر الطبري

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 205.

ص: 291

1204- رسالة في ترغيب سكنى المدينة

أحمد زرّوق

خ: عارف حكمت برقم 567/ 80 مجاميع

ظ: العرب. س 21: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 349.

1205- رسالة في جواب الشيخ محمد عبدالقادر الهلالي الوهابي في اعتراضه على الشيعة في البناء على القبور وتجديدها والإسراج عليها وتجصيصها وزيارتها، وغير ذلك.

محمد حسين بن كاظم الكشوان الكاظمي النجفي، ت 1356 ه.

ظ: الذريعة 11/ 165، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 499.

1206- رسالة في جواز التوسّل

(في الرد على محمد بن عبدالوهاب)

مفتي فاس مهدي الوازناني

ظ: التوسّل بالنبي لابن مرزوق 252، تراثنا: ع 17 (1409 ه)ص 164، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 499.

1207- رسالة في الحج

صدرالدين الصدر

1208- رسالة في الحج

علي بن الحسين الكركي ت 940 ه.

تحقيق: محمد الحسون.

اشراف: محمود المرعشي.

قم: مكتبة السيد المرعشي، ط 1، 1409 ه (رسائل المحقق الكركي 2:

147- 165).

1209- رسالة في الحج

محمد علي جعفر الكبيرت 1268 ه.

1210- رسالة في حكم الاستيجار للحج من غير بلد الميت

محمد إسماعيل المازندراني الخاجوئي ت 1173 ه.

تحقيق: مهدي الرجائي

قم: دار الكتاب الإسلامي، ط 1، 1411 ه (الرسائل الفقهية 1: 227- 232).

1211- رسالة في حكم التوسل بالأنبياء والأولياء

محمد حنين مخلوق

مطبوعة

ص: 292

ظ: تراثنا: ع 17 (1409 ه)ص 165.

1212- رسالة في ذكر ما جاء في زيارة الرسولصلى الله عليه و آله

خ: في الجامع الكبير بصنعاء ضمن مجموع.

ظ: المورد مج 3: ع 2 (1974 م)ص 288.

1213- رسالة في زيارة أهل القبور

(بالفارسية)

محمد باقر بن محمد تقي المجلسي

ظ: الذريعة 12/ 78، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 500.

1214- رسالة في زيارة أولاد الأئمة والسادات والعلماء

محمد باقر بن إسماعيل الكجوري (1255- 1313 ه)

مطبوعة

ظ: الذريعة 12/ 78، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 500.

1215- رسالة في زيارة قبر النبيصلى الله عليه و آله

الكمال بن الهمام محمد بن عبدالواحد ت 861 ه.

خ: أوقاف بغداد برقم 14/ 10010 مجاميع

ظ: معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 355، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 60.

1216- رسالة في زيارة قبر النبيصلى الله عليه و آله وحكمها

محمد بن عبدالوهاب النجدي ت 1206 ه.

خ: في أوقاف بغداد برقم 5/ 7002 مجاميع

ط: معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 355، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 60.

1217- رسالة في سياق العمل بالتمتّع بالعمرة الى الحج

جمال الدين عبداللَّه بن علي بن زهرة الحلبي

1218- رسالة فيصفة حج النبي

محمود شويل بن علي

القاهرة: مكتبة المنار، 1931 م (مع:

ثلاث رسائل للمؤلف).

1219- رسالة في العمرة المفردة

ص: 293

لمستأجر الحج

محمد إسماعيل

1220- رسالة في فضل المدينة وأهلها

عبدالكريم بن عبداللَّه العباسي الخليفتي المدني ت 1133 ه.

خ: رضا برامبور في الهند: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، برقم 929/ 42، 10 ورقة، مصورة عن النسخة اعلاه.

ظ: العرب. س 31: مج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 349.

1221- رسالة في فضل المدينة وساكنها

شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي (977- 1069 ه) (فرغ منها سنة 996 ه)

خ: المحمودية بالمدينة المنورة، برقم 2728 مجاميع.

ظ: العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 349.

1222- رسالة في الكلام على الحجر الأسود

أحمد بن أحمد الفيّومي ت 1101 ه.

خ: الحرم المكي، تاريخ 42/ 1.

ظ: معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 18، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 66.

1223- رسالة في مسألة الزيارة: في الرد على ابن تيمية

محمد بن علي المازني

ظ: معجم المؤلفين 11/ 31، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 66.

1224- رسالة في مناسك الحج

جعفر كاشف الغطاء ت 1227 ه.

1225- رسالة في مناسك الحج

(بالفارسية)

محمد باقر المجلسي ت 1111 ه.

خ: سپه سالار.

ظ: فهرست المكتبة 4/ 285- 286، 3/ 13.

1226- رسالة في مواقيت الحج

(معها خريطة في تعيين المواقيت)

محمد جواد البلاغي

ظ: الذريعة 23/ 231.

1227- رسالة في نيّات حج التمتع وعمرته

ص: 294

(بالفارسية)

خ: ملك بطهران، ضمن مجموع برقم 2147.

1228- رسالة في هدم المشاهد

أبو تراب الخونساري ت 1346 ه.

ظ: الذريعة 25/ 201، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 502.

1229- رسالة في وصف المدينة المنورة

علي بن موسى الأفندي، ألّفها سنة 1303 ه.

حققها: حمد الجاسر

ظ: رسائل في تاريخ المدينة 43، العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 350.

1230- رسالة في وصف مكة والمدينة وبيت المقدس

العرب س 8:ص 324، س 22:

ص 382.

1231- رسالة في الوصية بالحج الواجب

محمد مولانا، ت 1360 ه.

1232- رسالة في وقعة الحرّة سنة 63 ه.

محمد بن عمر الواقدي (130- 207 ه)

ظ: العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 350.

1233- الرسالة المباركة

(تتناول جغرافية الحرمين، بالفارسية)

حاجي عبدالرحمن سمرقندي

ظ: الفهرس، المشترك 3982، العرب. س 32: ج 1، 2 (7، 8/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م)ص 36.

1234- رسالة مختصرة في مناسك الحج

ناصر الأحمد

البصرة: مط الأديب، د. ت.

1235- الرسالة المرضيّة في الرد على مَن يُنكر الزيارة المحمدية

محمد السعدي المالكي

خ: شستربتي ضمن مجموعة برقم 3406، سنة 830 ه.

ظ: المورد مج 1، ع 1، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 2/ 72.

1236- رسالة مفرحة الأنام في

ص: 295

تأسيس بيت اللَّه الحرام

(بالفارسية)

زين العابدين بن نور الدين علي حسيني كاشاني

به ضميمه گزارشي از مدينة وبقيع در سال 1255

إسماعيل المرندي

إعداد: رسول جعفريان

ميقات مج س 2: ع 5 (پائيز 1372 ش)ص 95- 122. 1237- رسالة المهدي الى أهل مكة

مجهولة المؤلف

خ: جامعة كمبرديج، برقم 44 ق ق.

1238- رسالة وجيزة في واجبات الحج

أحمد بن محمد بن فهد الحلي (757- 841 ه)

تحقيق: مهدي الرجائي، إشراف:

محمود المرعشي

قم: مكتبة السيد المرعشي، ط 1، 1409 ه (الرسائل العشرص 331- 337).

1239- الرسول حول الكعبة

محمد السيد أحمد المسير

القاهرة، ط 1، 1984، 176ص، (فلسفة السيرة، 3).

1240- الرسولصلى الله عليه و آله في المدينة

علي حسني الخربوطلي

القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1973 م، 279ص، 5/ 23* 17 سم.

1241- الرسول في المدينة

محمد حسن شمس

الهداية (البحرين) س 13: ع 153 (6/ 1990 م)ص 85- 89.

1242- الرسولصلى الله عليه و آله في المدينة

محمد المهدي الحسيني الشيرازي

النجف الأشرف: مطبعة الآداب، 1966 م/ 1385 ه، 116ص، 21 سم، (سلسلة المنابع 52 و 53).

1243- الرسول ويهود يثرب

الهداية (تونس) س 15: ع 2 (9/ 1990 م)ص 25- 31.

1244- الرسولصلى الله عليه و آله يعلم الناس مناسكهم في حجة الوداع

علي حسب اللَّه

القاهرة: مكتبةصبيح.

القاهرة: دار مطابع الشعب،

ص: 296

1966 م، 79ص.

1245- الرفيق الى البيت العتيق

محمد رأفت سعيد

القاهرة: دار الصحوة للنشر والتوزيع، ط 1، 1985 م، 96ص.

1246- رمضان في الحرم المكي

عزة بدير

العربي (الكويت) ع 458 (يناير 1997 م)ص 38- 39.

1247- رمضان في مكة المكرمة والمدينة المنورة

صلاح أحمد البهنسي

المنهل (جدة) مج 56: ع 521 (9/ 1415 ه)ص 8- 10.

1248- ره آورد مجاز

(بالفارسية)

حبيب اللَّهصابري

طهران: دار الكتب الإسلامية.

1249- ره آوردى از ديار دوست

(بالفارسية)

محمد علي مهدوي راد

ميقات حج: ع 24 (تابستان 1377 ش)ص 166- 180.

1250- ره توشه حج مطابق با فتواى امام خميني

(بالفارسية)

علي محمد اسدي

قم: انتشارات جهان آرا، ط 1، 1365 ش، 120ص، 21 سم.

1251- رهنماى حج

(بالفارسية)

محمد آصفي

تبريز: مطبعة حافظ، ط 1، 1366 ش، 247ص، 17 سم.

1252- رهنماى حج: براى حجاج افغان

(بالفارسية)

ع. ر. ف

ترجمة: ج. ر

كابل: وزارة العدل، ط 1، 1359 ش.

1253- رؤى الإمام الخميني في الحج الابراهيمي

محمد محمدي ري شهري

ميقات الحج: ع 1 (1415 ه)ص 67- 76.

1254- روائع مختارة من الحج

محمد حسن النائيني

1255- روافد الشعور عند المسلم

ص: 297

الحاج

محمد علي التسخيري

التوحيد (طهران) ع 11 (11- 12/ 1404 ه)ص 114.

1256- الروايات المشتركة: كتاب الحج

محمد قانصوه

التوحيد (طهران) ع 23 (11- 12/ 1406 ه)ص 21، ع 24 (1- 2/ 1406 ه)ص 27، ع 25 (3- 4/ 1401 ه)ص 39، ع 32 (5- 6/ 1408 ه)ص 23، ع 33 (7- 8/ 1408 ه)ص 22.

1257- روايت حج خونين

(بالفارسية)

اعداد: وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي

انتشارات پيام آزادى، ط 1، 1367 ش، 320ص.

1258- روزنامه سفر از تهران الى كربلا

(بالفارسية)

ناصر الدين شاه

(1264- 1313 ه)

طهران: 1870 م.

ظ: استورى 1/ 341، آثار ملى 18 «سفرنامه كربلا ناصر الدين شاه» في 1299 ه، فهرستواره منزوى 1/ 81.

1259- روزنامه سفر عتبات

(رحلة ناصر الدين شاه في محرم سنة 1273 ه، وفيها ذكر مشاهداته بشكل يومي، بالفارسية)

عبدالعلي أديب الملك بن حاج ليخان حاجب الدولة

ط: نسخه ها 6/ 4006، ملك 9/ 340 «سفرنامه عتبات» فهرستواره منزوى 1/ 83.

1260- روزنامه سفر مدينة السلام وبيت اللَّه الحرام

(بالفارسية)

معتمد الدولة فرمانفرماى فارس

ظ: به سوى ام القرى 15.

1261- روزنامه وقايع سفر كربلا/ سفرنامه كربلا

(رحلة الى كربلاء، سجل فيها مشاهداته وذكرياته عن علماء الشيعة، بالفارسية)

ص: 298

مجهولة المؤلف

ظ: نسخه ها 6/ 4007، مشار 3/ 3025 «سفرنامه كربلا» ملى 1/ 386، فهرستواره منزوى 1/ 85.

1262- روشى نوين در بيان مناسك حج مطابق با فتواى امام خميني

(بالفارسية)

علي محمد احمدي

قم: دفتر انتشارات اسلامي، ط 1، 1346 ش.

1263- الروضة الفردوسية والحضيرة القدسية في أسماء من دفن بالبقيع

محمد بن أحمد بن أمية الأقشهري (665- 733 ه)

انتهى من تأليفها سنة 718 ه.

ظ: الاعلان بالتوبيخ 275، التحفة اللطيفة 3/ 463.

العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 351- 352.

1264- الروضة المستطابة في من دفن في البقيع من الصحابة

مجهول، من علماء القرن الحادي عشر.

خ: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فلمية، برقم 6235/ 4، 22 ورقة (44ص).

ظ: العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 352.

1265- الروضة المقدسة

محمد جواد الطبسي

ميقات الحج ع 1 (1416 ه)ص 257- 270.

1266- رياض الجنّة في زيارات الأئمة

مجهول المؤلف

ظ: كشف الحجب والأستار 299، مرآة الكتب 3/ 38، الذريعة 11/ 323، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 507.

1267- الرياض المستطابة في فضل سكان طابة

جلال الدين بن الياس بن خير الدين المدني، من علماء القرن العاشر

ظ: تحفة المحبين والأصحاب 39، العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 352.

1268- الزائرية في المزار

ص: 299

(بالفارسية)

مير محمد مهدي الرضوي

فرغ منه سنة 954 ه.

خ: الرضوية، وقف الخواجة شير أحمد.

ظ: الذريعة 12/ 1، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 511.

1269- زاد الحاج والمعتمر

عبداللَّه إبراهيم الأنصاري

الدوحة. دار إحياء التراث الإسلامي، 1988 م، 186ص.

1270- زاد الحاج من الأحكام والأدعية والزيارات

مصطفى قصير

بيروت: 1404 ه، 110ص، 17 سم.

1271- زاد الحجيج

(بالفارسية)

خ: مسجد گوهرشاد، برقم 898 في 106 ورقة.

1272- زاد الحجيج

(بالفارسية)

علي بن ميرزا محمد رشتي گيلاني

خ: مكتبة رشت برقم 306، في 157 ورقة.

1273- زاد الزائرين

(مجموعة زيارات)

النجف الأشرف: المطبعة العلمية، 1356 ه، 32ص، حجرية.

1274- زاد الزائرين

(بالفارسية)

عبداللَّه بن محمد رضا الشبر الحلّي الكاظمي

ظ: الذريعة 12/ 2، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 511.

1275- زاد الزائرين في الزيارات

عبدالوهاب بن محمد الرضوي الحسيني الطوسي

ظ: فهرس جامعة طهران 1/ 12، الذريعة 12/ 2، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 511.

1276- زاد الزائرين وجامع الزيارة

محمد حسن العسكري السمناني

خ: الرضوية، 3360

ظ: معجم ما كتب عن الرسول

ص: 300

وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 512.

1277- زاد السفينة في أحوال المدينة

(بالفارسية)

ظ: فهرست مشترك باكستان 10/ 26.

العرب س 32: ج 1، 2 (807/ 1417 ه/ 11، 12/ 1996 م)ص 36.

1278- زاد السفينة في أسامي المدينة

(في ذكر فضائل المدينة وعدد أسمائها، كتب في سنة 1133 ه، بالفارسية)

محمد هاشم بن عبدالغفور تتوى

(1104- 1174 ه)

ظ: مشترك 10/ 26 و 292، تكملة مقالات 56، پاكستان مين 3/ 809، فهرستوارى منزوى 1/ 223.

1279- زاد الناسكين

(مناسك الحج مطابقة فتاوى مراجع التقليد، بالفارسية)

حبيب اللَّه القمي ت 1359 ه.

1280- زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال

(رسالة في تاريخ مكة والمدينة)

سعد الدين محمد بن محمد بن عمر ابن محمد الإسفرائيني

من علماء القرن الثامن

خ: الحرم المكي برقم 3496.

الجامعة الإسلامية، مصورة برقم 7705.

طوپ قپوسراى برقم 606782994، في 81 ورقة، تاريخها القرن العاشر الهجري.

ظ: العرب. س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 352.

1281- زبدة الأقوال الشريفة في أحوال مكة المنيفة

رحمة اللَّه الشاهجهانپوري

(كان حيّاً سنة 1268 ه).

ظ: الثقافة الإسلامية في الهند 76.

1282- زبدة الفكر في زيارة سيد البشر

علي خيري الكوتاهيه وى الرومي الحنفي

(كان حياً سنة 1037 ه).

ظ: ايضاح المكنون 1/ 612.

1283- زبدة المناسك در بيان

ص: 301

واجبات ومحرمات حج

(بالفارسية)

محمد رضا عبدالحميدي

طهران: 1352 ش، 32ص.

1284- الزحف الى مكة

تأليف: عبد الودود شلبي

رسالة الجهاد (باولا- مالطا) س 9:

ع 93 (11/ 1990)،ص 114- 120.

1285- الزراعة في المدينة عوامل سقوطها وكيف نرقيها

حسين حسن

المنهل (جدة) مج 1: ج 9 (8/ 1356 ه/ 10/ 1937 م)ص 37.

1286- الزلف والقربة في تعمير ما سقط من الكعبة

تاج الدين بن أحمد المصري ت 1040 ه.

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 205.

1287- زمزم، طعام طعم وشفاء سقم

يحيى حمزة كوشك

جدة: دار العلم، ط 1، 1403 ه.

1288- زمزم في الشعر العربي

ميقات الحج ع 3 (1416 ه)ص 161- 167.

1289- زمزمه زمزم

(بالفارسية)

علي قاضي عسكر

ميقات حج. س 3: ع 10 (زمستان 1373 ش)ص 84- 105.

1290- زهر الربا في فضل مسجد قبا

محمد علي بن علان الصديقي المكي ت 1057 ه.

ظ: خلاصة الأثر 4/ 187، حسن النبا 26، العرب.

س 31: ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 352.

1291- زهر الرياض وزلال الحياض

الحسن بن علي بن شدقم المدني (942- 999 ه)

خ: المتحف البريطاني برقم ADD 9437، ج 3 في 317 ورقة، 995 ه.

الخزانة التيمورية، برقم 637، جزء منه.

الرضوية، الجزء الثالث منه،

ص: 302

برقم 4242.

مدرسة الفاضل الشريباني بالنجف، ج 3.

جامعة طهران.

ظ: إيضاح المكنون 1/ 618، هدية العارفين 1/ 290، تاريخ آداب اللغة العربية 3/ 337، الذريعة 12/ 70، رياض العلماء 2/ 34، معجم المؤلفين 3/ 251، العرب. س 31:

ج 5، 6 (11، 12/ 1416 ه)ص 356 (نقلًا عن حمد الجاسر).

1292- الزهرة في أعمال الحج والعمرة

محمد بن هبة اللَّه الطرابلسي

1293- زهرة المزارات وعزّة الزيارات

محمد بن أحمد البصري الكاظمي ت 1246 ه.

ظ: الذريعة 12/ 75، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 516.

1294- كتاب الزهور المقتطفة من تاريخ مكة المشرفة

لتقي الدين الفاسي

أحمد علي محمد

عالم المخطوطات والنوادر (الرياض) ع 1 (1417 ه)

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه- 10، 11/ 1989 م)ص 205.

1295- كتاب الزيارات

أحمد بن محمد بن الحسين بن الحسن بن ذول القمّي، ت 350 ه.

ظ: رجال النجاشي 90، الذريعة 12/ 77، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 516.

1296- كتاب الزيارات

الحسن بن علي بن فضّال الكوفي

ظ: رجال النجاشي 36، الذريعة 12/ 77، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 517.

1297- كتاب الزيارات

الحسين بن سعيد بن حمّاد بن مهران مولى علي بن الحسين عليه السلام.

ظ: رجال النجاشي 58، فهرست الطوسي 58، ذكره باسم: كتاب المزار، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 9/ 517.

ص: 303

1298- كتاب الزيارات

الحسين بن علي الخزّاز القمّي، أبو عبداللَّه

ظ: رجال النجاشي 68، الذريعة 12/ 77، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 517.

1299- كتاب الزيارات

محمد بن علي بن الفضل بن تمّام بن سُكين

ظ: رجال النجاشي 385، الذريعة 12/ 77، 20/ 321، ذكره بعنوان المزار، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 517.

1300- كتاب الزيارات

المنصور عبداللَّه بن حمزة، ت 614 ه.

خ: الجامع الكبير بصنعاء، برقم 659، في 10 ورقات، تاريخها 1198 ه.

ظ: معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 517.

1301- زيارات أولاد الأئمة والعلماء

(بالفارسية)

باقر الواعظ الكجوري

طبع بايران

ظ: الذريعة 12/ 77، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 517.

1302- كتاب زيارات قبور الأئمة عليهم السلام

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي، ت 381 ه.

ظ: رجال النجاشي 390، الذريعة 12/ 78، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 517.

1303- الزيارات المخصوصة في الأيام الشريفة

مرتبة على أربعة فصول

مجهولة المؤلف، تاريخها 1174 ه.

ظ: الذريعة 12/ 78، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 518.

1304- زيارات مفاتيح الجنان

عباس القمي

طهران: اقبال، 1328 ش، 350ص.

1305- كتاب الزيارات منصحيح الروايات

ص: 304

علي بن أبي بكر الهروي

ظ: ايضاح المكنون 2/ 301، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 518.

1306- زيارات وأدعية الحرمين

نبيل شعبان

طهران: مؤسسة الهدى، 171ص.

1307- كتاب الزيارات والمناسك

أبو يعلى حمزة بن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسين بن عبيد اللَّه بن العباس بن أمير المؤمنين عليهما السلام

ظ: رجال النجاشي 140، الذريعة 12/ 78، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 518.

1308- كتاب زيارات

(مجموعة زيارات الأئمة المعصومين عليهم السلام، بالفارسية)

خ: المرعشي 7398، 183 ورقة، سنة 1231 ه.

ظ: فهرس المرعشي 19/ 196، 197، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 518.

1309- زيارت

(بالفارسية)

جواد محدثي

طهران: نشر مشعر، ط 1، 1371 ش، 168ص.

1310- زيارت

(بالفارسية)

محمد مهدي ركني

مشهد: المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام، 1364 ه، 40ص، 24 سم.

1311- زيارت حضرت رسولصلى الله عليه و آله وحضرت فاطمة عليها السلام وائمه بقيع

(بالفارسية)

اعداد: معاونيت التعليم والتحقيق في بعثة السيد القائد.

طهران: نشر مشعر، 1371 ش، 36ص.

1312- زيارت خرافه يا حقيقت

(بالفارسية)

غلام حسين رحيمي اصفهاني

طهران: شركت سهامى انتشار، 1347 ش، 104ص (مع مقدّمة:

د. محمد مفتّح).

ص: 305

1313- الزيارة الجامعة

طبعت في:

تبريز: 1315 ه (جمع الشيخ النوري).

النجف الأشرف: المطبعة العلوية، 1340 ه، 32ص، 21 سم.

1314- الزيارة في الكتاب والسنة

تحليل لمفهوم الزيارة وآثارها وأحكامها

جعفر السبحاني

[د. م]: [د. ن]، د. ت، 88ص (على مائدة العقيدة، 9).

1315- زيارة المراقد الشريفة في سوريا وفلسطين

نبيل شعبان

طهران: الهدى، 1368 ش، 100ص.

زيارة المصطفى المجاهد (القاهرة) س 9: ع 91 (7/ 1988 م)ص 37.

1316- الزيارة النبويّة عند دعاة السلفية

محمد علوي المالكي

الإسلام وطن (القاهرة) س 3: ع 36 (3/ 1990 م)ص 14- 15.

1317- الزيارة والبشارة

أحمد بن رضي الموسوي المستنبط

النجف الأشرف: مطبعة العزي الحديثة، 1381 ه، ج 1، 260ص، ج 2، 452ص.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.