ميقات الحج المجلد7

مشخصات كتاب

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص: 1

الحج في أحاديث الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه-

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

العدد السابع

الحج في أحاديث الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه-

... بيت اللَّه الحرام أوّل بيت بني للناس، هو بيت للجميع، الجميع سواسية هناك. فأهل البادية، وسكّان الصحاري، الذين يحملون بيوتهم على أكتافهم، متساوون مع العاكفين في الكعبة وسكّان المدن، ورعايا الدول.

هذا البيت شيّد للناس ولأجل نهضتهم ومنافعهم.

***

إنّ المسجد الحرام والمساجد الأخرى في زمان رسول اللَّه الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم كانت مراكز عسكرية وسياسية واجتماعية، ولم يكن مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لأجل الأمور العبادية فقط كالصلاة .. بل كانت المسائل السياسية هي الأغلب، حيث كانت الأمور التي تتعلّق بإرسال الرجال إلى الحرب وتعبئة النّاس إنّما تبدأ من المسجد في أي وقت يحتاجون فيه لذلك.

***

ص: 6

إن الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أنّ الإنسان لن يطوف لغير اللَّه.

ورجم العقبات هو رجم شياطين الإنس والجن، وأنتم عندما ترجمون عاهدوا اللَّه أن تقتلعوا شياطين الإنس والقوى العظمى من البلاد الإسلامية. اليوم كلّ العالم الإسلامي أسير بيد أمريكا، احملوا من اللَّه رسالة إلى مسلمي القارات المختلفة للعالم الإسلامي رسالة أن لاتخضعوا لغير اللَّه ولا تكونوا عبيداً لأحد.

***

لقد وفقتم أنتم لزيارة البيت الذي جعله اللَّه قياماً للنّاس وجعله اللَّه لأجل جميع البشر وتفضل قائلًا:

(إنّ أوّل بيت وضع للنّاس للذي ببكّة)

. وهذا دليل على أنّ اللَّه تبارك وتعالى دعا العالم كلّه إلى الإسلام، وجعل هذا البيت لجميع العالم منذ زمن البعثة وحتّى النهاية.

هذا بيت للنّاس، ولاتوجد أولوية لأحد على أحد، أو لمجموعة على أخرى، أو لطائفة على أخرى، الجميع بشر. الموجودون في جميع أنحاء الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها، مكلّفون أن يصبحوا مسلمين، وأن يجتمعوا ويزوروا هذا البيت الذي جعله اللَّه للنّاس.

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظلّه العالي-

ص: 7

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظلّه العالي-

... إنّ الحديث عن الحجّ أمرٌ عظيم، خاصّة عن قدراته- لو أُدّيَ كما فرضه اللَّه- على معالجة الأمراض الأساسية وإزالة بؤر التخلف. وهذا العلاج لا يأتي دفعة واحدة، إلّاأنّ اجتماعاً مليونيّاً، على مرّ السنين، من الرجال والنساء الوافدين من كلّ فجّ عميق، في بقعة واحدة، وعلى صعيد أعمال متناسقة مليئة بالمعاني، وتحت لواء التوحيد العظيم، وفي أجواء عبقة بذكريات صدر الإسلام من بدر وأحد، وصعيد زيارة مسجد لا تزال جدرانه تعيد إلى الأسماع صدى التلاوة القرآنية العطرة منطلقة من حنجرة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، ولا يزال نداء تكبير المجاهدين في صدر الإسلام يموج في أجوائه، كلّ ذلك في جوّ مفعم بالذكر والاستشعار ومناجاة اللَّه عزّوجلّ، جوّ ينتشل الإنسان من ضعفه وذاتيته واعوجاجه؛ ليرفعه إلى معدن المجد والعظمة وقدرة ربّ العالمين .. كلّ ذلك كافٍ في أن يكون بلسماً شافياً يبعث القوّة في القلوب والرفعة في الهمم، والصلابة في

ص: 8

الإرادة، والاعتماد في النفوس، والسعة في الأفق، والسرعة في تحقق الآمال، والاتّحاد بين الأخوة. ويجعل الهوان في الشيطان، والضعف في كيده.

نعم، الحجّ الصحيح والكامل .. الحجّ التوحيدي .. الحجّ حين يكون منطق حبّ اللَّه وحبّ المؤمنين والبراءة من الشياطين، ومن الأصنام والمشركين .. يعمل أولًا على وقف اتّساع دائرة مشاكل الأمّة الإسلامية، ثمّ يستأصل هذه المشاكل، ويعود على الإسلام بالعزّة، وعلى حياة المسلمين بالازدهار، وعلى البلدان الإسلامية بالاستقلال والتحرر من شرّ الطامعين. واستناداً إلى هذا الفهم الصحيح للحجّ، وضعت هذه الفريضة، بعد انتصار الثورة الإسلامية الكبرى، في رأس قائمة اهتمامات الجمهورية الإسلامية على الساحة الدولية، وركّزت هذه الدولة المباركة على تقريب الحجّ مما كان عليه في صدر الإسلام، وذلك بالمواءَمَة بين الجانب السياسي الإلهي لهذه الفريضة وهو مظهر عزّة الحيّ القيوم وقدرته، والجانب العباديّ، وهو مظهر غفران الربّ ورحمته، ولتجسيد هذا الاقتران أحيت شعيرة البراءة من المشركين ثانية في الحجّ، وهي تواصل العمل بهذا الواجب الإسلامي رغم كلّ المعوّقات السياسية، ورغم كلّ المضايقات الناشئة عن دوافع غير إسلامية.

الجمهورية الإسلامية باعتبارها النظام الذي أثبت قدرة الإسلام على إدارة المجتمعات البشرية الكبرى، ورغم كلّ ما شاع تجاه هذه القدرة من تشكيك وإعلام مضادّ خلال القرن الأخير، تنظر إلى الحجّ، لا كوسيلة لتكريس الذات، بل باعتباره ساحة توعية المسلمين، وغرس روح التقوى والإيمان والاندفاع نحو تطبيق الشريعة الإسلامية، ونحو تحقيق العزّة والاستقلال في نفوسهم.

إنّ أولئك الذين يرفضون روح الحركة والنظرة الشمولية في الحجّ إنّما يرفضون في الواقع عزّة المسلمين واستقلالهم ونجاتهم من براثن الاستكبار

ص: 9

والصهيونية، كلّ فتوى ورأي في مجال هذا الرفض إنّما هو حكم بغير ما أنزل اللَّه، صادر- على أغلب الظن- عن جهل بحقائق العالم وعن انعدام البصر والبصيرة في أمور المسلمين.

كلّ مطّلع على ما تعانيه الشعوب المسلمة اليوم من وضع مرهق ومن سيطرة أمريكية متجبّرة عليهم ..

كلّ من يعلم بما يرتكبه الصهاينة من جرائم، ومايحيكونه من مؤامرات خفية ضدّ البلدان الإسلامية.

كلّ من يحسّ بخطر انتشار هذه الغدّة السرطانية الخبيثة في الأجهزة الاقتصادية والسياسية لدول المنطقة ..

كلّ من يشاهد ما يعيشه الشعب الفلسطيني من وضع متأزّم في مخيّمات الغربة، ومن احتلال الجلّادين لأرض هذا الشعب ..

كلّ من يعلم بما يجري في جنوب لبنان وفي مناطقه المحتلّة بيد الصهاينة وفي أراضيه المعرضة دائماً للهجوم ..

كلّ من سمع بالمآسي المفجعة في لبنان حيث الصهاينة بدعم حكومة امريكا يقصفون بين فترة وأخرى هذا البلد من الجوّ والأرض والبحر، ويقتلون بشكل جماعي الأطفال والنساء والمدنيين ..

كلّ من يطّلع على أوضاع البوسنة وأفغانستان وكشمير وتاجيكستان والشيشان ..

كلّ من يدري بما تدبره أمريكا الطاغية والصهيونية عدوّة البشرية من مؤامرات متواصلة وأعمال عدوانية ضدّ الجمهورية الإسلامية الّتي تمثل اليوم مظهر حاكمية القرآن والإسلام.

نعم .. من يعلم كلَّ هذه الحقائق وهو يتحلّى بغيرة إسلامية ويحسّ بمسؤولية

ص: 10

دينيّة، لا يتردّد في الحكم على أن تضييع رصيد الحجّ العظيم، وفقدان هذا السند الإلهي المستحكم للإسلام والمسلمين خسارة لاتعوَّض وذنب لا يُغتفَر.

إنّ ما تعانيه الدول الإسلامية من ضعف، وما يوجد بينها من تمزّق مؤلم حقيقة لا يمكن كتمانُها أو إنكارها. العالم العربي دفع بنفسه اليوم إلى حالة لا يستطيع معها- مع الأسف- أن يدخل ساحة الحرب حتّى ليوم واحد مع العدو الغاصب لأراضيه، وأن يدافع عن الشعب اللبناني الذي أضحى ضحية جرائم الكيان الصهيوني الغاصب.

نحن نرى المعدّات الحربية الجوّية ومعدّات الدفاع الجوّي المشتراة بأثمان خيالية من مصانع الغرب تملأ مستودعات هذه البلدان، بينما تقصف طائرات الصهاينة بحرية بيوت الشعب العربي اللبناني، وتهدم عليهم منازلهم، ولاتستطيع أية واحدة من هذه الدول أن تقطع الطريق أمام هذا القصف الوحشي وتمنعه.

هذه الحقائق المرّة لو أضفت لها ما تمارسه القوى الاستكبارية من نفوذ سياسي، ومن هجوم دون مانع للسيطرة الثقافية التامّة على كثير من هذه البلدان، وما تشهده الساحة من مصائب فادحة تنذر بالخطر، فإنّها كافية لكلّ ضمير حيّ وعقل سليم أن يتوصّل إلى أن البلدان الإسلامية والشعوب الإسلامية والعيّنة الإنسانية المجتمعة حول الكعبة المشرفة، والمواقف المباركة في أرض الوحي بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى معنى الحجّ وروحه وقوّته المودعة فيه، ولا بدّ لها من أن تستثمر عطاءه.

هذا هو حديثنا عن الحجّ وهذا هدف دعوتنا إلى إحياء الحجّ وسائر شعائر الإسلام الحياتية.

فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه

ص: 11

شمارش پاورقى در اين مقاله به وسيله شمارنده صورت گرفته است

فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه

عباس علي عميد الزنجاني

إنَّ البحث في مسألة الحجّ ومكانته في الشريعة الإسلامية وإن بدا مختصراً وموجزاً، وكذلك البحث في موقعه من الأحكام والفرائض الإسلامية والاهتمام البالغ الذي أبداه الوحي والقرآن والسنّة تجاه الحجّ، ودراسة ماهية وعمق أحكام الحجّ وشعائره والقدم التأريخي الذي يتمتّع به الحجّ، والعلاقة الوثيقة والصّحيحة الّتي تربط الحجّ بأصل التوحيد، كلّ ذلك يمكنه أن يوضّح لنا الخلفيّة لأفق الفلسفة الواسعة الّتي يمتلكها الحجّ، وبحور أسراره العميقة الأغوار والمكنونة في مضمون هذه الشعيرة والعبادة.

لاشكّ في أنّ الحجّ هو أحد أكبر الفرائض الإسلامية (1)، وأعظم شعائر الدين (2)، وأفضل الأعمال التي يُراد بها التقرّب إلى اللَّه تعالى (3)، وهو ركنٌ من أركان الدين (4)، وتركه ارتكابٌ لكبيرة من الكبائر (5)، ممّا يتسبّب في خروج المرء عن جادّة الإسلام والمسلمين (6)، ويؤدّي إلى كفره (7).


1- 1 «ليس شي ء أفضل من الحجّ إلّاالصلاة، وفي الحجّ هنا صلاة»، علل الشرايع: 156. وسائل الشيعة 8: 77، الحديث 2.
2- 2 جواهر الكلام 17: 214.
3- 3 جواهر الكلام 17: 214.
4- 4 قال الباقر عليه السلام: «بُني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم والولاية». وسائل الشيعة 1: 7 و 8، أُصول الكافي 1: 315، المحاسن للبرقي: 286.
5- 5 تحرير الوسيلة 1: 370، وسائل الشيعة 8: 19، 21.
6- 6 المصدر نفسه.
7- 7 «قال الصادق عليه السلام في تفسير قول اللَّه عزّوجلّ: «ومن كفر فإنّ اللَّه غني عن العالمين» يعني من ترك». وسائل الشيعة 8: 20.

ص: 12

ذلكم هو الحجّ الذي يكافح ويناضل المسلم في سبيل أداء مناسكه، ويتمرّغ على تراب الذُلّ ويُحمِّلُ نفسه مشقّة وتعباً عظيمين، ويعاني مرارة الغُربة والهجران، ويمسك عن جميع ميوله ولذّاته، ويمتنع عن كثير من عاداته وطبائعه، باذلًا القدر الأكبر من مصاريفه لذلك، ويتحمّل أعباءَ حجّة مهما بلغت صعوبتها من أجل تنفيذ أمر من أوامر الباري عزّوجلّ (1).

ومع أنَّ الحجَّ يبدو وكأنّه عبادة من العبادات الأخرى، إلّاأنَّ هذه العبادة تجمع في جنباتها- في الواقع- عبادات كبيرة عِدّة (2)، ولايمكن لأيّ عبادة أن توازيه في ذلك (3)، ولا ثواب لهذه الفريضة سوى حيازة رضوان اللَّه ودخول جنّته (4)، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«لو أنفقتَ في سبيل اللَّه بحجم جبل أبي قُبيس ذهباً، فإنّك لن تصل مرتبة الحاجّ وما يحوزه من القَدر»

(5).

إنّه الحجّ الذي يُزيح عن كاهل المؤمن الكثير من المعاصي الكبيرة بأدائه هذه الفريضة، يمحو عن قلبه كلّ صَدإ سبّبته سيئاته فيكون كمن ولدته أمّه توّاً (6)، ولا تكتب ضدّه سيئة أخرى حتّى مرور أربعة أشهر ما دام الحاجّ لم يرتكب كبيرة إثر ذلك، وتكتب له عوضاً عن ذلك حسنات كثيرة (7).

لقد كان الحجّ فريضة مفروضة في أولى الشرائع الإلهيّة، وأدّاه الملائكة وآدم وحوّاء وأنبياء اللَّه جميعاً على أكمل وجه (8) وأدخَلَ إبراهيم إمام الموحّدين تعديلات عليه وَجدَّده (9) وأُمِرَ إسماعيل بالتمهيد لإقامة تلك الشعيرة المقدّسة (10)، وقد أدّى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم شعائر هذه الفريضة مرّات عديدة رغم كلّ الصعوبات الّتي واجهته (11) وسعى مدى سنوات طوال لتثبيت هذه الفريضة، وتهيئة المسلمين لإقامة الحجّ الحقيقي. ووُفّق أخيراً وبعد الحوادث المريرة، والغزوات المتعدّدة. وبعد جهاد بالنّفس والمال والرّوح، وبذل أغلى الشهداء والأعزّاء، وقادة وروّاد الإسلام، وُفِّقَ بالدخول إلى مكّة في السنة


1- 8 جواهر الكلام 17: 214.
2- 9 جواهر الكلام 17: 214.
3- 10 «قال الصادق عليه السلام: ما يعدله شي ء»، وسائل الشيعة 8: 77 و 78، الحديث 3 و 7.
4- 11 مستدرك الوسائل كتاب الحجّ، الباب 24، الحديث 22 و 24، صحيح مسلم 4: 107.
5- 12 وسائل الشيعة 8: 79، الحديث 1، التهذيب 1: 451.
6- 13 ثواب الأعمال: 27، وسائل الشيعة 8: 83، الحديث 15.
7- 14 المصدر نفسه: 79، الحديث 1.
8- 15 من لا يحضره الفقيه 1: 159، علل الشرايع: 399- 406.
9- 16 «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم»، البقرة: 127.
10- 17 «وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود»، البقرة: 125.
11- 18 في صحيح البخاري: «حجّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قبل النبوّة وبعدها، ولم يعرف عددها ولم يحجّ بعد الهجرة إلّاحجّة الوداع». وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: حج رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عشرين حجّة مستقرة.

ص: 13

الثامنة من الهجرة، وتمّ فتحها من قِبَلِ المسلمين، فأدّى صلى الله عليه و آله و سلم حجة الوداع بعد ذلك في السنة التاسعة للهجرة بصحبة آلاف مؤلّفة من المسلمين والصحابة (1)، بكلّ إجلال وأبّهة في جوٍّ تملأه المعنويات الطاهرة، والإخلاص التامّ ممزوجاً بالقُدرة والسلطان الكبيرين للإسلام (2).

ومع وجود نفي الإكراه في الدّين (3)، وطبقاً لسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم المبيّنة على أساس ترك إجبار النّاس على فعلٍ يكرهونه (4)، وقول أمير المؤمنين عليه السلام الواضح في هذا المجال وهو «لستُ أرى أن أجبر أحداً على عملٍ يكرهه» (5)، فإنّ الوالي والحاكم بإمكانه اجبار جماعة بالفعل؛ ذلك من أجل إحياء حجّ بيت اللَّه الحرام (6).

حقّاً إنَّ الحجَّ اختبارٌ كبير لعباد اللَّه (7)، إذ يتعامل الإنسان في الحجّ مع الحجارة والصحراء والصخور والحصى الّتي لاتضرّ ولاتنفع (8) وظلّت الأعمال الّتي يمارسها الحاجّ موضع دهشة الكثير من العقائد الضالّة (9).

الحجّ هو زيارة بيت اللَّه الحرام (10)، البيت الذي يبدو وكأنّه يُعبد كما تلوح به الأعمال في الحجّ (11)، ومثابة للناس وأمناً وقبلةً يتوجّه نحوها الجميع في عباداتهم (12)، وشعبة من جنّة الرضوان (13)، والطريق المؤدّي إلى غفران اللَّه (14)ومجمع عظمته وجلاله (15)، وأوّل بقعة خُلقت في الأرض (16).

وكان إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام المنادي للحجّ (17) حيث لبّت نداءَه كلّ النّطف الطاهرة عبر التأريخ (18) وكانت الملائكة تؤدّي ذلك قبل آدم أبي البشر بآلاف السنين الطويلة (19).

ويجذب الحجّ نحوه، كما هو الحال مع متشابه آي القرآن مقارنة مع محكمه، كلّ الأفكار عِبْرَ زوايا ومنعطفات وأبعاد مختلفة، فيخلّف وراءه الخلود والأثر البالغ والتهذيب والحداثة الدائمة في بؤر التأريخ المندثرة.


1- 19 سفينة البحار 2: 306.
2- 20 نقل الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب والشيخ العاملي في وسائل الشيعة خبر حجّة الوداع عن الإمام الصادق عليه السلام، وكذلك نقله مسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي والنسائ والترمذي في صحاحهم وسننهم عن الجابر عن الإمام الصادق عليه السلام.
3- 21 «لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ»، البقرة: 256.
4- 22 فروغ أبديّت باللغة الفارسية: 388.
5- 23 نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة 5: 359.
6- 24 فروع الكافي 1: 237- 241، علل الشرايع: 138، التهذيب 1: 452.
7- 25 نهج البلاغة، الخطبة رقم 192.
8- 26 نهج البلاغة، الخطبة رقم 192.
9- 27 علل الشرايع: 403.
10- 28 وسائل الشيعة 8: 6، سورة الحجّ: 27.
11- 29 وسائل الشيعة 8: 6، سورة الحجّ: 27.
12- 30 «وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس وأمناً»، البقرة: 125. «فلنولينّك قبلةً ترضاها»، البقرة: 144.
13- 31 «فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه منصوب على اسواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام». فروع الكافي 1: 219.
14- 32 «فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه منصوب على اسواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام». فروع الكافي 1: 219.
15- 33 «فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه منصوب على اسواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام». فروع الكافي 1: 219.
16- 34 «فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه منصوب على اسواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه اللَّه قبل دحو الأرض بألفي عام». فروع الكافي 1: 219.
17- 35 سورة الحجّ: 27.
18- 36 وسائل الشيعة 8: 5، الحديث 9.
19- 37 المصدر نفسه، الحديث 6.

ص: 14

وليس الحجّ لغةَ عقيدة معيّنة، أو دستوراً مُحدّداً أو قيماً متفرّقة فحسب، بل هو مرآةٌ تعكس وجهات النظر لكلّ المدارس والمذاهب، وصورة مُصغّرة لكلّ ما يحتويه الإسلام، ذلك الإسلام الذي خرج بشكل قرآن مجيد مُبيّن الكلمات، وواضح الأسلوب، وتجلّى في قالب الإمام والإمامة فصار حركات وملامح تمثّلت في الحجّ. ويبدو أنّ كلَّ ما أراد اللَّه تلقينه للبشر وتفهيمه إيّاه، قد صبّه في قالب يُدعى الحجّ.

ذلكم هو الحجّ الذي يسير فيه مخلوق في منتهى الصِغر نحو اللّانهاية عِبر سَفَرٍ لاينتهي، فتجسّد خلاله فلسفة خَلق بني آدم فيصوغه مشابهاً للتاريخ والعقيدة والأمّة، والُمخرج لكلّ تلك الأحداث هو اللَّه سبحانه، ولغة التمثيل هي الحركة، وشخصياتها وأبطالها هم آدم وإبراهيم الخليل وهاجر وابنها إسماعيل، ومن ثمّ إبليس الذّليل، والماكياج والملابس هما الإحرام، والممثل في المشهد الفردي ذاك الذي هو قطرة في وسط اليمّ هو أنتَ أيّاً كنتَ (1).

نعم، إنَّ الحجّ هو انموذجٌ مصغّر من هيكل الإسلام ككلّ، كما سمّاه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم ووصفه بأنّه الممثّل الوحيد لكلّ شريعة الإسلام (2).

ومعَ أنَّ كلًا مسؤولٌ عمّا انفق (3)، وصرف في يومٍ يُحاسبُ فيه حتّى الأنبياء (4)، إلّاأنّه لايُسئل عن المال المصروف في سبيل تأدية الحج وإقامة شعائره (5)، ذلك لأنَّ ترك هذه الفريضة يؤدّي إلى بروز الفِتن وتسعيرها (6) وإيجاد المهلكة والفجائع بصورة عامّة (7).

فالحجّ تفسيرٌ (8) لآية (

ففرّوا إلى اللَّه إنّي لكم نذيرٌ مبين)

(9) وبيانٌ ومصداقٌ (10) ل (

ربّ لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فاصَّدَّق)

(11) وأخيراً فهو (

قياماً للناس)

(12) ورمز قوّتهم وعزّتهم (13).

وهكذا، فلا يمكن للحجّ أن يكون مجرّد عمل عاديّ، وعبادة بسيطة،


1- 38 نقلًا عن كتاب الحجّ، للدكتور علي شريعتي.
2- 39 «والخامسة الحجّ وهي الشريعة». علل الشرايع.
3- 40 «ولنسئلنَّ المرسلين»، الأعراف: 67.
4- 41 «ثمّ لتسئلنّ يومئذ عن النعيم»، التكاثر: 8.
5- 42 بحار الأنوار 99: 5.
6- 43 المصدر نفسه.
7- 44 «قال عليّ عليه السلام: لا تتركوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا»، ثواب الأعمال: 212.
8- 45 تفسير القمّي: 448، معافي الأخبار: 222، بحار الأنوار 99: 6.
9- 46 الذاريات: 50.
10- 47 تفسير القمّي: 682، بحار الأنوار 99: 6.
11- 48 المنافقون: 10.
12- 49 المائدة: 97.
13- 50 «قال الصادق عليه السلام: لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»، الكافي 4: 271، الحديث 24. «فرض اللَّه الحجّ تقوية للدين»، نهج البلاغة، المواعظ والحكم، رقم 244.

ص: 15

وشعيرة ظاهرية بحتة. إنَّ سبر أغوار ما ذكر من الأمور سابقاً يُجسّد لنا هذه الحقيقة وهي: أنَّ الحجّ يمتلك روحاً وعقلًا وفلسفة عميقة وراقية، وله أسرارٌ وحكمٌ ولطائف قيّمة جمّة وأهداف وفوائد ونتائج حياتية كبيرة، ألقت بظلالها على حياة الإنسان في البعدين المادّي والمعنويّ، وبالنفوذ ببصيرة إلى أعماق تلك الأعمال الظاهرية. وبالوصول إلى باطن تلك الأعمال يمكننا تفهّم إشاراتها والمشار إليه فيها على السّواء.

(إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السّمع وهو شهيد)

(1).

مصادرنا في الحصول على فلسفة الحجّ وأسراره

مصادرنا في الحصول على فلسفة الحجّ وأسراره:

إنَّ ميزة التفكّر والتعقّل اللتين هما رسول الإنسان في باطن وجوده، وإن كانتا غير عاجزتين عن البحث في فلسفة الحجّ وأسراره المعقدة والعميقة، والآثار الحياتية الكبيرة له وأهدافه في مختلف أبعاده، وكذلك بواسطة تحليل منطقي بعد التنبّه إلى ماهية هذه المراسيم والمناسك والعناصر الأساسية المُشَكِّلة لها، والعلائق والكنايات والإشارات الخاصّة به، كلّ ذلك سوف يمكّننا حتماً من التعرّف على الكثير من هذه الحكم والأسرار. ولكن ونظراً لكون المعطيات والنتائج الحاصلة من ذلك هي عقلية بحتة، لاتخلو أن تكون تلك المعطيات ملوّثة بالإشكالات والهفوات و «دين اللَّه لا يصابُ بالعقول» (2)، ولذا فإنّنا اتّبعنا خطّ سيرٍ أكثر أماناً للحصول على فلسفة الحجّ وأسراره، وسنقوم ببحث وتقصّي أحكام وأسرار الحجّ بالاعتماد على نفس المصادر الّتي استخرجنا منها أحكامه ومناسكه.

ولحسن الحظّ فإنّ الوحي (الكتاب والسنّة) لم يتركانا سدًى في هذا المجال، حيث وضّحا لنا قسماً كبيراً من أسرار هذه العبادة وآثارها وأهدافها السامية في


1- 51 سورة ق: 37.
2- 52 بحار الأنوار 3: 303، الحديث 41.

ص: 16

الحياة الإنسانية.

ولن نستند في بحثنا هنا- فيما يتعلّق بفلسفة الحجّ وأسراره- على النظرة العقلية والتفسير والتوجيه العقلانيّين، بل سنسعى إلى توضيح جزء من بحر لطائف وأسرار وأهداف ونتائج الحجّ الواسع مستفيدين من النّصوص الّتي بحوزتنا والمستخرجة من آيات الكتاب، ومتون الأحاديث ونتعرّف على جانب من روح وعقل هذه العبادة الجماعية.

ما الذي نستشفّه من فلسفة الحجّ

ما الذي نستشفّه من فلسفة الحجّ؟

عندما نتعرّف على فلسفة وأسرار روح الحجّ، ونحصل على الأهداف العُليا لشريعة الإسلام المقدّسة من خلال هذه الفريضة المهمّة، فإنّنا حينئذ لن نسمح لأنفسنا بالاكتفاء في أداء مراسيم شكليّة وأعمال جافّة تنقصها الروحية المطلوبة، فنشهد سنوياً هدر كثير من الطاقات والإمكانات دون الاستفادة من الآثار العظيمة التي تخلّفها هذه المراسيم الجليلة في نفوسنا.

إنَّ بحث فلسفة الحجّ يمكننا من التعرّف على أنَّ هذا الحجّ هو حجٌّ صوريّ لا حياة فيه وعارٍ من الحقيقة والعبودية، وأنهّ حجٌّ جاهليّ، أو أنّه هو الحجُّ الإسلاميّ النبويّ المطلوب، وأنّه حجٌّ يُمكنه بحقّ أن يكون حجّة الإسلام، ومحتوياً على تلك الروح العظيمة والتأثيرات الإيجابية في طريق تحقيق الأهداف المتوخاة من حجّة الإسلام، وحجّاً يكون مَعْلَماً وحَلًاّ جذريّاً للفرد والأمّة على سواء للوصول إلى الأسرار والنتائج الرفيعة.

لكنَّ الحجّ الذي يقام كلّ سنة، بتشريفاته وتشكيلاته وأصدائه الرّنانة وزخرفه الجذّاب، هذا الحجّ ليس فاقداً للروح المعنوية المطلوبة والمتوخاة منه، وليس خالٍ من الفلسفة وعارٍ من كلّ نوع من النتائج الإيجابية الخلّاقة وحسب،

ص: 17

بل إنَّ مثل هذا الحجّ الذي يكون مخالفاً للأصول والأهداف الإسلامية، وملوّثاً بارتباطاته المشبوهة، ويركن إلى الاستكبار والغطرسة العالمية، ويُقام في جوٍّ من الميولات الدنيئة للروح الفاسدة في عالم المادّة والنسيان والجهل والمظالم والظُّلم والنّفاق، والاعتماد على كلّ الإمكانات والوسائل لِعَزل الإسلام العظيم المُعين للمظلوم والمعادي للظالم، إنَّ حجّاً كهذا لايمكن اعتباره حجّاً إسلامياً مقارنة مع بحثنا لفلسفة وأسرار الحجّ، ولن نرضى بحجّ جاهلي كهذا لأن يكون بديلًا للحجّ الإسلامي الواقعي والحقيقي (1).

يقول ابن عبّاس: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع وقد أمسك بباب الكعبة، فالتفت نحو النّاس وذكر حوادث تقع في المستقبل لأناس آخر الزّمان، وذكر ضمن حديثه شيئاً عن حج آخر الزّمان قائلًا:

«يحج أغنياء أمّتي للنزهة، ويحجّ أوساطها للتجارة، ويحجّ فقراؤهم للرياء والسّمعة» (2).

لقد كان قلق الرسول الكريم صلى الله عليه و آله و سلم من حيث إنَّ الحجّ بهذا الشكل سيفقد عناصره وروحه وحقيقته، وبدل من أن يكون الحجّ خلّاقاً وبنّاءً، سيتّخذ سبيلًا للوصول إلى الأهداف الدنيئة.

فإذن، ما هو ردّ فعلنا على وضع الحج الذي يؤدّيه المسلمون اليوم، والذي تسعى بعض الجهات إلى تحويله عن أهدافه الإسلامية الأصيلة، بعد أن أبدى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قلقه حول تبدّل الحجّ العبادي وتحوّله إلى سفرة ورحلة استجمام؟

ما هي المعايير والأسس التي نستطيع بواسطتها تمييز الحجّ عن غيره، وأنّه قد غيّر مسيره وهدفه المنشود أم لا، وأنّه أي الحجّ، هو نفسه الحجّ الذي أوصى به رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكيف يتسنى لنا تمييزه عن الحجّ الذي أقلق الرسول صلى الله عليه و آله و سلم آنذاك؟

هل يمكننا ذلك ببحث فلسفة الحجّ وأسراره وآثاره الحياتية وحسب،

العلم بفلسفة الأحكام لا يتنافى وروح التعبّد


1- 53 مستدرك الوسائل 2: كتاب الحجّ، الباب 17، الحديث 5، سفينة البحار 2: 71.
2- 54 تفسير الميزان 5: 434.

ص: 18

فيرتدّ الشيطان على عقبيه ويخسأ الخاسئون؟

العلم بفلسفة الأحكام لا يتنافى وروح التعبّد:

إنَّ سيرنا قدماً للتحقيق في فلسفة الأحكام يتأتى بعد تسليمنا ودون جدل بأنَّ الحجّ وفرائض الإسلام الأخرى هي أوامر إلهية علينا تنفيذها دون تردّد أو نقاش، فيكون بحثنا هذا لا لتضعيف روح التعبّد بل تقويته لامحالة.

إنَّ تعرّفنا على فلسفة الأحكام ليست من أجل الحصول على تلك النتائج والمنافع والعِلل عبر أدائنا للفرائض، بل لكي تُنفّذ أوامر اللَّه- والّتي نريد بها قصد التعبّد والتقرّب من اللَّه عزّوجلّ وهو الدافع الأساس لعملنا هذا- بشكل يَدرّ علينا بالنتائج والآثار المذكورة آنفاً.

فهذا التفكُّر لايؤثّر لا على الإخلاص ولاعلى روح التعبّد ولا يتسبّب في تضعيفه، ذلك أنَّ معرفة فلسفة ونتائج حكمٍ ما ليست دليلًا على العمل ولاهدفاً أو غاية له. إنَّ دليل العمل هو أمر الوحي، وهدفه وغايته هما التقرّب إلى اللَّه وإطاعة أمره وعبادة الخالق (1).

علاوة على ما قيل، فإنَّ الوحي نفسه قد فتح هذا الطريق أمام العقل، وقد ذكر الكثير من الأمور الفلسفية والآثار والغايات والمنافع المختلفة في القرآن الكريم لأحكام كثيرة، كتحريم الخمر، والقمار، والرّبا، والغيبة، وتشريع الحجاب، والقصاص، والشهادة، والحجّ، والصلاة، والصوم، وكذلك وردت تلك الأمور في مختلف الأحاديث النبويّة الشريفة، ولعلّ كتاب علل الشرائع للمؤلّف القدير الشيخ الصدوق عليه الرحمة كان مثالًا حيّاً لنماذج من هذه الأحكام.

والواقع أنّنا لا نعدّ ما توصلنا إليه عن هذا الطريق نهايةً لمطافنا، ولانطبع ما نصل إليه عن طريق العلم والعقل بطابع الأصالة، كما لا يمكن لفلسفة الحجّ أن


1- 55 «قال الإمام زين العابدين عليه السلام: ولا يصاب الدين إلّابالتسليم»، بحار الأنوار 3: 303، الحديث 41.

ص: 19

تكون مدعاة لأبسط تغيير في شكل الحجّ.

فممّا لا شكّ فيه أنَّ أعمال الحجّ وأحكامه ومناسكه قد اتخذت قالباً وشكلًا تعبدياً ثابتاً وغير قابل للتغير، فحلال محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حلالٌ إلى يوم القيامة وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة (1).

ولكن في الوقت الذي تُرفض فيه عملية التمسّك بظاهر العبادة ونفي روحها وفلسفتها، فإنَّ أيَّ تدخّل أو تصرّف لتغيير الشكل الظاهري لتلك العبادة والأعمال والمراسم المتعلّقة بالحج، بحجة التفلسف والوصول إلى أسرار وأهداف الحجّ ونتائجه القيّمة، محكوم بالرفض ومردود كذلك.

إنَّ مانبغيه في بحثنا هذا هو الابتعاد عن الإفراط والتفريط، واتّخاذ مسلك وسط بينهما والمبنيّ على الصراط المستقيم للتعبّد في جميع ظواهر الشّرع.

وبالرغم من سكوت الوحي في الإفصاح عن بعض تلك الأحكام وبيان حكمتها، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحجّ وأبعاده المجهولة وجزئيّات أحكامه التي لم نتعرف بعد على فلسفتها وأسرارها. فإنّنا لا نتيح المجال للشكّ من الولوج إلى داخلنا لمجرّد أنَّ فلسفة هذه الأحكام ليست واضحة، ولن نسمح لها بمساس إيماننا بحقّانيّة وضرورة التبعيّة وحتّى التقيّد بقالب وشكل لغة الوحي الخاصّتين.

وبالرغم من أنَّ العلم والتقنيّة في الوقت الحاضر كشفت عن كثير من الأبعاد التي ظلّت مجهولة في الأحكام الإلهيّة هذه، وفلسفة وأسرار قوانين السماء وفتحت- في هذا المجال- آفاقاً واسعة وجديدة أمامنا، فإنّنا لانعلم حدّاً لفلسفة الأحكام والقرارات الإلهية أو كونها نهاية المعرفة على الإطلاق (2).

البعد المعنوي والمسيرة الرّوحانية للحج

البعد المعنوي والمسيرة الرّوحانية للحج:

حين نطالع سيرة إبراهيم عليه السلام وحركته كما بيّنها لنا القرآن الكريم، ونتابع


1- 56 تأريخ اليعقوبي 1: 90، أُصول الكافي 1: 332.
2- 57 تأريخ اليعقوبي 1: 90، أُصول الكافي 1: 332.

ص: 20

كيفيّة جلبه لولده وزوجه إلى صحراء مكّة، ومن ثمّ قضيّة ذبح إسماعيل ووصول الذبح السماويّ، وبناء الكعبة المشرّفة، وما تبعها من أعمال الحجّ، فإنّنا نحصل على دورة كاملة للمسيرة العبادية والسلوك الرّوحاني والمعنوي للإنسان خروجاً من مُختَنقِ الذّات وعبادتها ووصولًا إلى التقرّب إلى اللَّه، ونبذ متعلّقات النّفس الماديّة، والالتحاق بمقام الربّ، والركون إلى دار الكبرياء (1).

مع أنّه يبدو للوهلة الأولى أنَّ الأحداث التي واجهت إبراهيم، وكذلك أعمال ومناسك الحجّ تتألّف ظاهرياً من أحداث منفصلة عن بعضها البعض، إلّا أنَّ مطالعة دقيقة في هذا المجال، تبيّن لنا حقيقة أنَّ هذه المناسك إنّما هي سلسلةٌ متّصلة تُلاحق هدفاً واحداً، يُعبّر عنها العرفاء بمراحل السير والسلوك الرّوحانيّين، ومراتب الطلب والحضور ومراسيم الحبّ والعشق والإخلاص، وأخيراً خروج المرء من جلده والالتحاق ببحر وجود الخالق اللامحدود، كلّ ذلك يكون في باطن تلك المناسك، ويحصل الإنسان بذلك على نقاط ألطف كلّما دَقَّقَ في تلك الأمور (2).

هذا هو السلوك الرّوحاني الذي يُمثّل عقل وروح العبوديّة في كل العبادات (3). لكنّه يتجلّى في الحج أكثر من غيره من العبادات، وأنّ الأشكال الظاهرية لمناسك الحجّ يمكنها توضيح ذلك أكثر من باقي العبادات (4).

ويُشترط في مسيرة الإنسان نحو الربّ الخروج من دائرة العالم المادّي، وتبنّي طريقة السالكين إلى اللَّه، كما تفضّل الإمام الصادق عليه السلام قائلًا:

«إذا أردت الحجّ فجرِّد قلبَك للَّه تعالى من كلِّ شاغلٍ، ثمّ اغتسل بماء التوبة الخالصة من الذنوب، وَدعِ الدنيا والراحةَ والخَلق»

(5).

وما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام مخاطباً الشبلي:

فحينَ نَزَلتَ الميقاتَ أَنَوَيتَ أنَّك خلعتَ ثوبَ المعصية ولَبِستَ


1- 58 تفسير الميزان 1: 301.
2- 59 تفسير الميزان 1: 301.
3- 60 جامع السعادات 3: 332.
4- 61 البقرة: 196، آل عمران: 91.
5- 62 مصباح الشريعة، الباب 211.

ص: 21

ثوبَ الطاعة؟ ... فَحينَ تجرّدتَ عن مخيطِ ثيابك أَنَويتَ أنَّك تَجرَّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ ... فحين اغتسلتَ أَنويت أنَّك اغتسلتَ من الخطايا والذنوب؟ ... فحين تنظَّفت وأحرمتَ وعقدت الحجَّ أنويت أنَّك تنظَّفتَ بنور التوبة الخالصة للَّه تعالى؟ ...

فحين أحرمت أَنويت أنَّك حرّمت على نفسك كلَّ محرّمٍ حرّمه اللَّه عزّوجلّ؟ ... فحين عقدتَ الحجَّ أَنويتَ أنَّك قد حلّلت كلَّ عقدٍ لغير اللَّه؟ ...

وهكذا حتّى يصل الإمام عليه السلام إلى مسأله التقصير حيث يقول:

أَنويتَ أنَّك تَطَهَّرتَ من الأدناس ومِن تَبَعةِ بني آدم، وخرجتَ من الذنوب كما وَلَدتْكَ أُمُّك؟ ... فعندما ذبحتَ هَدْيَكَ أَنَوَيْتَ أنَّك ذَبَحتَ حنجرةَ الطَّمَعِ بما تَمَسَّكتَ به من حقيقةِ الوَرَع، وأنَّكَ اتَّبعتَ سُنَّةَ إبراهيم عليه السلام بذبحِ ولده وثمرةِ فؤاده وريحانِ قلبه؟ ... فعندما رَجعت إلى مكّة وطُفْتَ طوافَ الإفاضة أَنويتَ أنَّك أفَضتَ مِن رحمةِ اللَّه تعالى ورجعتَ إلى طاعته؟ ...

فختم كلامه عليه السلام قائلًا:

«ارجع فإنّك لم تحجّ»

(1).

ولهذا كان الأئمّة عليهم السلام- وهم العُلماء والهُداة إلى الصراط المستقيم السالك إلى اللَّه- يتغيّر لونهم وتتبدّل أحوالهم عند وقوفهم في الميقات وقولهم لبّيك، وهو الحال الذي كان يُهيّأهم للانتقال إلى مرحلة التحليق في العلياء، وتتبيّن على وجوههم آثار خشية القلب، وقد تمرّ دقائق وكأنّهم لا يستطيعون أن يقولوا:

لبّيك (2).

وحينما يُسأل الإمام زين العابدين عليه السلام عن تلك الحالة التي تعتريه،


1- 63 مستدرك الوسائل 2: كتاب الحجّ، الباب 17، الحديث 5.
2- 64 المحجّة البيضاء 2: 201.

ص: 22

يقول عليه السلام:

«أخشى أنْ يَقولَ لي رَبّي: لالَبَّيْكَ ولاسَعْدَيكَ»

(1).

يقول سفيان بن عيينة، وهو الرّاوي لهذا الحديث:

«فلمّا لبّى غُشِيَ عليه وسَقَطَ مِنْ راحِلَتِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعتريه ذلك حتّى قضى حَجّه»

(2).

وتستمرّ روح العبودية هذه والسلوك الرّوحاني والتقرّب، وترك الدنيا والانسلاخ عن عالم المادّة، والالتحاق بالملكوت والاستغراق في اللَّه، تستمرّ هذه الحالة حتّى انتهاء مراحل وأعمال الحجّ ومناسكه، فيحسّ بها الحاجّ عبر تلك اللحظات.

إنَّ الحجّ بهذا البعد المعنوي الواسع والجاذبية الرّوحانيّة العظيمة هو بمثابة دورة كاملة من البناء الذاتي والتريّض والرّهبانية؛ للتخلّص من العوالق وتشذيب وتهذيب النفس من كلّ صنوف الدّنس، وللتزيّن بمظاهر الأسماء والصفات الإلهية، وحين سُئِل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم عن الرهبانية، قال:

«أبدلنا بها الجهاد والتكبير على كلِّ شرف» يعني الحجّ

(3).

ويتّضح لنا ذلك بصورة أكثر تجليّاً في قولنا «لبّيك ... تعبّداً ورقّاً» عند التلبية في حكم تكبيرة الإحرام في الصلاة (4).

كانت تلك نظرة موجزة عن البعد المعنوي والتربوي للحجّ الذي فرضه الإسلام، وأدّاه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم واستوت على أساسه سيرة أئمة الدّين. لاشك إذن في كون أيّ حجّ يفتقد هذه الرّوح وذلك العقل، وتعوزه المعنوية والطهارة والخلوص والرّقي الروحاني مهما بلغت درجة سُطوع ظاهره وتزينه بالمظاهر البرّاقة، لايتعدى كونه ضجيجاً وحسب.

وهنا نتوقف عن البحث للحظة، ونطرح السؤال التالي على كلّ المفكّرين


1- 65 المصدر نفسه.
2- 66 المصدر نفسه.
3- 67 سنن أبي داود 2: 5، نقلًا عن المحجّة البيضاء 2: 197.
4- 68 مجمع الزوائد 3: 223.

ص: 23

المسلمين وعلماء الدين الحريصين والمسلمين الغيارى، وكلّ المهتمّين بشؤون الإسلام ومصير المسلمين، ثمّ نُعرض عليهم اقتراحاً بعد ذلك:

إثر إلقاء نظرة واقعية خالية من العنصرية والتحيّز، وبعد التمعُّن في مسألة الحجّ، ما هي نسبة الاستفادة الروحانية والمعنوية التي تحصل عليها سيول المسلمين المتعطشين للإسلام، والعاشقين لشريعة النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله و سلم والمتدفقة تجاه بيت اللَّه الحرام، هذا السفر الذي يستغلّ عادة الكثير من الإمكانات المالية والمعنوية اللازمة لقطعه؟

ما هو الدور الذي يلعبه علماء الإسلام ومفكرو الدين، والذين تقع على عاتقهم المسؤولية الايدوليوجية والفكرية، والإرشاد والتعليم والأمر بالمعروف ومراقبة المجتمعات الإسلامية كافّة؟

أقول: ما هو دورهم حال التحضير لقوافل الحجّ بالنسبة إلى المعنوية العظيمة ورفع تلك المعنوية إلى أقصى درجاتها الممكنة؟

ما هي التدابير التي تتخذها الدول وحكّام الأقطار الإسلامية- وهم المسيطرون الفعليون على دين المسلمين ودنياهم- والذين لايحق الحكم إلّاللَّه ولهم باعتبارهم المنفذين والراشدين إلى أوامر اللَّه، وأنّهم خلفاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمة عليهم السلام والخلفاء؟

هل يتسبّبون في إخراج الحجّ من محتواه الحقيقي لكونهم لا يستطيعون فعل شي ء ما إزاء ذلك؟

ماهو العمل الإيجابي الذي قام به متولو الحرمين الشريفين سوى فسح المجال لبروز الرّوى الضيقة والجاهلية العمياء، والتسبب في تفرقة المسلمين ومضايقة حجّاج بيت اللَّه الحرام، وتسلّطهم اللامشروع على أرواح وأموال وأعراض وشرف هؤلاء الضيوف (1)؟


1- 69 «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: أمراء يكونون بعدي يميتون الصلاة»، سنن الترمذي.

ص: 24

نعم فهم تارة وتحت عنوان حفظ قدسية الحجّ وحماية معنوياته يمتنعون عن توفير الوسائل الصحيّة مع كون الطهارة والنظافة جزءاً لايتجزأ عن الدين (1) وتتكون كلّ سنة مناظر قبيحة تشمئزّ لها النفوس وتعصر قلب كلّ مسلم.

وأمّا اقتراحنا فهو لايتعدّى أمراً واحداً وهو عودة علماء الإسلام إلى مكانتهم الطبيعية الأصيلة في المجتمع، وتتمثل في المركزية الايدولوجية للمجتمع الإسلامي (2).

وبتحقق هدف كهذا، فإنّ الجموع الإسلامية الغافلة ستستيقظ من غفلتها، وتتذوق التجارب القيّمة الموجودة في تاريخنا، وباعتمادهم روح الأمل فإنّهم سوف يسيرون خلف عالمهم، ممّا سيضطرّ الحكّام إلى تغيير مسارهم مقابل التعبئة المعنوية للشعب والمركزية العقائدية للمجتمع، ويتطهّر بذلك بيت اللَّه ويتهيّأ لاستقبال زائريه:

إنّ مسؤولية وواجب (

وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والرّكع السّجود)

(3) تقع اليوم على عاتق العلماء الربّانيين والمفكّرين الحريصين على الإسلام؛ ليقوموا وينهضوا فيحييوا روح الحجّ الإسلامي، ويُلبسوا المجتمعات الإسلامية تلك الحياة بعد أن غدت هيكلًا لاروح فيه.

الدور الخلّاق للحج في الرقيّ والتطوّر الثقافي

الدور الخلّاق للحج في الرقيّ والتطوّر الثقافي:

عندما يُذكر بيت اللَّه الحرام بكونه علماً وراية للإسلام: «جعله اللَّه سبحانه وتعالى للإسلام علماً» (4)وأنَّ ترك الحجّ يعني الكفر لامحالة، حيث يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم مخاطباً عليّاً عليه السلام في حديث صريح: «ياعلي تارك الحجّ وهو مستطيع كافر» (5) ويستدل بالقرآن لتأكيد ذلك (6): (

وللَّه على النّاس حجّ


1- 70 «النظافة من الإيمان- إنّ اللَّه... نظيف يحبّ النظافة»، سنن الترمذي، 41.
2- 71 «صنفان من أمّتي إن صلحا أصلحت الأمّة وإذا فسدا فسدت أمّتي، قيل: يا رسول اللَّه من هما؟ قال: الفقهاء، والأمراء»، سفينة البحار 1: 30. «وقال صلى الله عليه و آله و سلم: ويل للأمراء، ويل للفقهاء»، مسند أحمد بن حنبل 2: 52.
3- 72 البقرة: 125.
4- 73 نهج البلاغة، الخطبة 1.
5- 74 من لا يحضره الفقيه 2: 335، الخصال للصدوق رحمه الله 2: 61.
6- 75 آل عمران: 97.

ص: 25

البيت)

، ويقول: (

ومن كفر فإنّ اللَّه غنيّ عن العالمين)

. ولا يكتفي بذلك بل يوضّح أكثر حيث يقول: «يا علي من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثه اللَّه يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً» (1) وهنا يتّضح دور الحجّ في تغذية الإيمان والارتقاء الثقافي للمسلمين أكثر من أي مكان آخر.

كأنّي بالحجّ وهو يمثّل دورة تعليميّة في الدين، حيث لايصل المسلمون إلى حقيقة الإيمان إلّابدخول تلك الدورة على الأقل مرة واحدة في حياتهم (2).

ويوصي الإمام علي بن الحسين عليه السلام- وهو أحد المسارعين دائماً إلى حجّ بيت اللَّه الحرام- أصحابه قائلًا: «حجّوا واعتمروا ... يُصلح إيمانكم» (3).

وتنصهر الرُّؤى الدينية والإيمانية والثقافة الإسلامية وتفكير المسلمين في بوتقة الأعمال الخالصة عبر الحجّ ومناسكه فيصل الحاج إلى الثقافة الإسلامية الأصيلة.

وحين يسأل هشام بن عبدالملك الإمام الصادق عليه السلام عن فلسفة الحج، يجيب الإمام عليه السلام عند ذكره لحكمة الحجّ قائلًا:

«فجعل الإجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ... ولتُعرف آثار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وتُعرف أخباره ويُذكر ولا ينسى، ولو كان كلّ قوم يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخُربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك فذلك علّة الحجّ» (4).

إنّ الحجّ بحقّ رجوعٌ إلى التوحيد وتاريخ حماة هذه الفريضة، آدم وإبراهيم وإسماعيل وصولًا إلى الإسلام ونبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، وصدام متواصل بين الإيمان من جهة والكفر والنفاق من جهة أُخرى، وببقاء الكعبة شامخة سيظلّ هذا التأريخ متجسّداً وعاكساً للتوحيد وعلماً ومَعْلَماً نشأت عنه حقائق الدين؛ فيخلد بذلك التوحيد وثقافته ويحيا حياةً أبدية (5).


1- 76 وسائل الشيعة 8: 21.
2- 77 المحجّة البيضاء 2: 145.
3- 78 وسائل الشيعة 8: 21.
4- 79 علل الشرايع: 405، الحديث 6.
5- 80 «قال الصادق عليه السلام: لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة»، الكافي 4: 271.

ص: 26

ويكون الإنسان في الحج مُخاطباً من قِبَل الحرم والميقات والإحرام ومكّة، والكعبة، والطواف، والسعي، والصفا والمروة، والتقصير، وعرفات، والمشعر الحرام، ومنى، والمذبح والجمرات، والمبيت، كلّ تلك المشاهد تخاطب الإنسان وتجعله يغطّ في تأمّل طويل، وتمنحه نظرة جديدة توحيدية خالصة، وترجع به إلى الثقافة الإسلامية الأولى.

إنّ الظلم والحروب والجهالة والغرور والظلمات في الحياة الإنسانية، كلّها تنبع من طريقة تفكير الإنسان ومدى تعقّله. ولأجل استئصال كلّ تلك الآفات والمفاسد على الاصلاح أن يبدأ من فكر وعقلية الإنسان أوّلًا. ولغرض إقامة العدل والسلام والأخوّة والنموّ ورقي الإنسان والأسس الفكرية والجذور العقلائية، وتقوية هذه الأسس وتلك الجذور لا بدّ من اعتمادها التفكير المتبادل والتعاون البنّاء للبشر والشعوب على حدّ سواء.

إنَّ الحجَّ تعليم عمَليّ لثقافة المساواة والأخوّة والتعاون نحو الخير ومصلحة الإنسانية، وهو فرصة ذهبية للتبليغ ونشر الثقافة الإسلامية الغنية في الطبقات الواسعة من المسلمين حيث يبثّ عامل القوّة في المجتمعات الإسلامية والذي له دور فاعل وأساسيّ.

ولاريب في أنّ المقدمات الأولية للذهاب إلى الحجّ تتمثّل بتعلّم الكثير من المسائل الإسلامية والتفقّه الابتدائي، وهي أرضية مناسبة تُتيح لعلماء الإسلام إرشاد جموع غفيرة من المسلمين، ونشر الثقافة الإسلامية وإشاعة التفقّه في الدين. وبالتأكيد فإنّ روحانية الحجّ هي نفسها عامل مهم يُهيأ القلوب لتعلّم الحقائق والمعارف الدينيّة للإسلام.

يقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام مخاطباً الفضل بن شاذان (1):

«مَعَ ما فيه مِنَ التفقّه وَنَقْلِ أخبارِ الأئمّة عَليهم السلام إلى كلّ


1- 81 عيون أخبار الرضا: 236.

ص: 27

صقعٍ وناحية كما قال اللَّه عزّوجلّ: (فلولا نَفَر من كلّ فرقةٍ منهم طائفة ليتفَقّهوا في الدين ولينذروا قَومَهُم إذا رَجعوا إليهم لَعلَّهم يَحذرون)»

(1).

ولاتقتصر نعمة وبركة نشر المعارف والثقافة الإسلامية في مراسم الحجّ على المسلمين القادمين من أقصى البقاع أو أقربها، ذلك أن كلًاّ من هؤلاء المسلمين سينقل معه تلك الثقافة وماتعلمه إلى بلده ويعمل على نشرها هناك وبثّها في أوساط المسلمين كافّة، وعلى هذا يتّخذ دور الحجّ أبعاداً أوسع وخصوصاً بتكرار عمليّة الحجّ كلّ عام، ويجعل من الدين أقوى آصرة تلم المسلمين وتضمن خلود الإسلام.

وقد وردت هذه الحقيقة في حديث قصير وبليغ للإمام علي عليه السلام حيث يقول: «فَرَضَ اللَّه ... والحجّ تقوية للدّين» (2). والإمام الصادق عليه السلام إذ يقول:

«لايزال الدين قائماً ما قامت الكعبة» (3).

إنَّ النموّ الثقافي هو الهدف الذي ينشده الإسلام في مراسم الحجّ البهيّة، ويقوّي هذه الأرضية ويعزّز الحقيقة القائلة: إنّ جميع البشر على الرغم من الاختلاف في اللّون والبشرة والعنصر واللّغة والميزات الإقليمية والتأريخية والطبقية وغيرها يتمتّعون بفطرة واحدة، وإنَّ هذه الفطرة متساوية عند كلّ البشر، والتي تمنح الثقافة الإنسانية وحدتها، وترسم صورة عامّة وشمولية تامّة لماهية أصل الثقافة، مبيّناً أنّ ثقافة التوحيد وهي نفسها ثقافة الفطرة هي ثقافة مشتركة بصورتيها العينيّة والرمزيّة.

وأثناء المسيرة التي تقطعها مناسك الحجّ تتحرّر الثقافات الثائرة، وتخرج عن نطاق العادات والسنن القومية والإقليمية ودائرة الهوية الوطنية، وتنتمي إلى الهوية الإسلامية الجامعة والعامّة حيث الثقافة الفطرية الإنسانية الناتج عن


1- 82 التوبة: 123.
2- 83 نهج البلاغة، المواعظ والحكم، رقم 244.
3- 84 الكافي 4: 271، الحديث 4.

ص: 28

المكانة الثابتة للثقافة الفطرية داخل كيان الإنسان.

ويدرك الإنسان في الحجّ أصالة البنية التحتية للثقافة الإنسانية، التي هي نفسها الثقافة التوحيدية الإبراهيمية الخالصة دون أن يفقد الإنسان أيّاً من القيم الثقافية والعادات والتقاليد الخاصّة به، فيما يتعلّق بالمسائل والأشكال التي تؤلّف حياته الطبيعية- لا من حيث المحتوى ولا من حيث البرامج- مهما كانت جنسيته وقوميته وعرقه، فيجذبه ذلك نحو الفكرة والعقيدة الخاصّة به.

والحقّ أن الحجّ دورة تعليمية تتيح انتقال الثقافات، والتعرّف على الثقافة الإنسانية الفطرية للحصول على هوية ثقافية إسلامية مشتركة، فتكون الملايين المتعلّمة شجرة طيّبة ثابتة عند رجوعها إلى أوطانها. وبعد ارتداء الملابس الخاصّة بها والرجوع إلى أشكالها وقوميّاتها، تتزيّن تلك الشجرة بثمار يافعة وأغصان نضرة فتؤتي أكلها في كلّ حين وزمان وتزداد وحدة وسيادة وقدرة وتعالٍ (1).

ونستنتج في نهاية بحثنا الموجز هذا شيئاً ونختمه باقتراح نرجو أن ينال رضا الجميع. حيث نصل إلى نتيجتين من خلال النظر إلى البعد الثقافي للحجّ واللتين تعتبران من الأسرار والنتائج الحياتية والحكم والأهداف الأصيلة لهذه الفريضة العظيمة:

1- يجب أن تقام مراسيم ومناسك الحجّ بطريقة يَتِمّ بواسطتها انتقال ثقافات الشعوب الإسلامية، وتثبيت الرابطة والآصرة فيما بين الثقافات والتراث والهويّات الوطنيّة على أساسٍ من التفاهم المنطقي وتتهيّأ الأرضية المناسبة للتعاون والمشاركة الثقافية؛ لتقوية وتعزيز التعرّف على الثقافة والهويّة الإسلامية، ومعرفة القيم الثابتة والخصائص المُستندة على الفطرة الواحدة، وتوسيع السُّبل الخاصّة بتطبيق الجغرافية الثقافية الخاصّة بالشعوب وآثارها


1- 85 سورة إبراهيم: 24- 25.

ص: 29

المتخلفة عن ذلك على أساس المعايير والموازين الأصيلة المشتركة للثقافة الإسلامية، فيزول بذلك كلّ جهل وتعصب، كما تزول الشعوبية والمعايير غير المنطقية الموجودة في الفطرة الإنسانية الداعية للفُرقة عن كلّ المجتمع الإسلامي الكبير، ويتحرّر عموم المسلمين من القيود التي فرضها الاستعمار الغربي باسم الوطنية وإحياء الثقافة الوطنية ويُسقطها عن كاهله.

إنَّ التجارة التأريخية والتوصيات الدينية (1) تبعث فينا الطمأنينة من عدم وجود مخاطرة تذكر باستخدام هذه الطريقة المستقاة من الثقافة التكاملية للحجّ على الوجود الثقافي والتراث الخاصّ بالشعوب على الرغم من الضجيج والإعلام المعادي الذي يصطنعه الاستكبار العالمي وعملاؤه في هذا المجال، بل بانتقال القيم المشتركة، وبالمشاركة الفعلية للثقافة، والحصول على الهوية الإسلامية المشتركة ستزول الخصوصيات الثقافية لشعب ما التي لم تحمل في ثناياها القيم الفطرية الأصيلة والتوحيدية المشتركة؛ فتحفظ مكانتها بصورة تراث تأريخي ضمن التكامل الوطني.

2- يجب أن تبدأ مراسيم الحج باستئصال جذور الثقافة الاستعمارية، والارتباط الثقافي للشعوب الإسلامية بالغرب والشرق وكلّ المصادر التي تمّت بصلة إلى روح الاستعمار والاستثمار.

إنَّ الحجّ رجوعٌ وعَوْد عقلانيّ إلى الإسلام الأصيل، وتعليم لإصلاح الإيمان ومعرفة لآثار وتراث الإسلام ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم وتذكرة للتفكّر التوحيدي الفطري.

لذا وَجَبَ على الحاجّ تجريد فكره وروحه وعقله ونفسه عن الثقافات اللاتوحيدية، والارتباطات الثقافية التي تبعده عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله و سلم والخلق أجمعين والتي تجذبه نحو خدمة المصالح الغربية والشرقية.

على الحجّ أن يكون عاملًا لإحياء التفكّر هذا، ومحاربة التشريفات


1- 86 نهج البلاغة، رقم 53.

ص: 30

الاستعمارية بلا هوادة، والابتعاد عن كلّ مظاهر الارتباط الثقافي الاستعماري.

ونقصد بذلك رفض تلك الثقافة الاستعمارية التي تحاول فرض تجاربها هي، وتضع آثار ثقافتها الغريبة على الآخرين، التي لا تُعدّ انتخاباً حُرّاً ومنطقياً للتجارب العلمية والتقنية للآخرين في المستوى العالمي (1).

ونقترح هنا:

1- يجب أن يكون هناك تفاهم وتقارب ثقافي على المستوى العام للنّاس، وبالأخصّ بين المفكّرين والمتخصّصين في مجال إقامة مراسيم الحجّ، إذا أُريد للهدفين المذكورين أن يتحقّقا على أكمل وجه، وأن يُخصّص الحجاج جزءاً من وقتهم لذلك.

2- إيجاد وإنشاء المراكز الخاصّة بانتقال الثقافات والوصول إلى ثقافة إسلامية مُوحّدة، والتخلّص من الثقافة الاستعمارية في مختلف الأقطار، وتهيئة أرضية مناسبة لمركز عالمي ثقافي إسلامي.

3- إرشاد الدول الإسلامية أو إجبارها بالوسائل المتاحة على اتّباع سياسة ثقافية في المجالين المذكورين أعلاه، واعتماد سياسات ثقافية واقتصادية من أجل التنمية الثقافية للشعوب المسلمة.

البعد السياسي والاستعدادات البطولية في الحجّ

البعد السياسي والاستعدادات البطولية في الحجّ:

يذكر الإمام علي عليه السلام في حديث له أن ترك حجّ بيت اللَّه مدعاة للهلاك والفناء: «لاتتركوا حجّ بيت ربّكم فتهلكوا» (2)، وفي حديث آخر يُذكّر فيه القادة من بعده والمسلمين عموماً بأنّ عدم إحياء الحجّ سيجعلهم يفقدون عزّتهم وشخصيّتهم وسيادتهم مقابل الغرباء وبالتالي لن تكون لهم مكانة ضمن الشعوب الأخرى:


1- 87 في فتح مكّة كسر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم الأصنام وخرجها من الكعبة.
2- 88 ثواب الأعمال: 212. بحار الأنوار 99: 19.

ص: 31

اللَّه اللَّه في بيتِ ربكم لاتخلوه مابقيتم فإنّه إن تُرِكَ لم تناظروا»

(1).

وفي حديث للإمام الصادق عليه السلام يذكر فيه مضمون الحديث السابق:

«أما أنّ النّاس لو تركوا حجّ هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا»

(2).

إنّ الرابطة بين الحديثين السابقين هي ترك الحجّ والذي يُعدّ نموذجاً للعذاب الدنيوي أو على الأقلّ هذا ما يعنيه، وهو العذاب الذي نشهده اليوم بين معظم الشعوب والأقطار الإسلامية ممّا جعلهم عبيد السياسة والعساكر.

ونطالع في حديث آخر للإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:

«لو كان كلّ قومٍ إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد»

(3).

إنّ بقاء الشعوب الإسلامية ضمن إطار القومية الغربية المصطنعة لن يؤدّي إلّا إلى تجزئة العالم الإسلامي، وتبديل المجتمع الإسلامي الكبير إلى قطع صغيرة يسهل بَلعها من قِبَلِ الاستعمار المجرم.

إنَّ المسلمين أُقتيدوا إلى الاستضعاف والعجز، ولمّا لاتكون لديهم قدرة على مجابهة عدوّهم احساساً منهم بهذا العجز، وأنّه لاتوجد لديهم التجهيزات أو الإمكانات اللازمة لذلك التصدّي فإنّهم يتجهون إلى الحجّ؛ ليتمكنوا عن طريق هذه المراسيم السياسية- العبادية اكتساب الاستعداد اللازم لذلك، وبالاخلاص والانقطاع للَّه تعالى تستمدّ أرواحهم قدراً كبيراً من القدرة اللامتناهية للَّه عزّوجلّ، وبالارتباط المعنوي والأمل والحُبّ والثبات في طريق اللَّه برؤية أحبّائهم واخوانهم، يتحدّون معاً بالروح والشخصية والإسلام، ويعودون إلى أوطانهم ليباشروا تعليم ما تعلّموه في الحجّ تماماً كما يفعل الأبطال في ميدان

دو فصلنامه «ميقات الحج»،


1- 89 نهج البلاغة، الكتاب رقم 47.
2- 90 علل الشرايع، نقلًا عن بحار الأنوار 99: 19.
3- 91 علل الشرايع: 408- 409، الحديث 6.

7، ص: 32

الحرب بما تعلموه في التدريب والمناورة؛ لوضعها حيز التنفيذ على أرض الواقع، والوقوف بوجه القوى الاستكبارية والأخذ بالعوامل المؤدّية إلى اضعافه.

إنَّ حديث «الحجّ جهاد الضعفاء» والمنقول بطرق مختلفة (1) يبيّن بوضوح أبعاد الحجّ بدءاً من المجال العباديّ والسياسي ووصولًا إلى الأفق الواسع للفعّاليات الجهادية، وخاصّة فيما نطالعه من جواب الإمام زين العابدين عليه السلام على المعترض الذي أخذَ على الإمام حجّه على أساس تركه للمشقّة وصعوبة الجهاد والميول إلى طلب الراحة في الحجّ زاعماً نصيحة الإمام ومنتقداً له على هذا الانحراف ممّا يدعو إلى التأمّل: «فقال علي بن الحسين عليه السلام: ... قال اللَّه عزّوجلّ:

(التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون ...)

(2) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» (3).

إنَّ الحجّ حقّاً يصنع أبطالًا جديرين بالاحترام كهؤلاء.

فالتناسب الماهوي بين الاشتراك في غزوة مع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم وحجّ بيت اللَّه في الحديث التالي: «

الغازي في سبيل اللَّه والحاجّ والمعتمر وفد اللَّه دعاهم»

(4) يعلّمنا أن العلاقة مع البعد السياسي- العسكري للحجّ هي أنَّ المجاهدين في سبيل اللَّه وحجّاج بيت اللَّه مجموعة وصفوة منتخبة وممثلون للَّه الذي دعاهم إليه.

ونرى تعبيراً أبسط آخر في بعض الروايات: «الحجّ جهاد» (5) وعلى هذا فإنَّ الحجّ يعدّ من مصاديق الجهاد، وأنَّ المراسيم العظيمة في الحجّ إنّما هي صورة من صور الجبهة والجهاد في سبيل اللَّه، وفي حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: «نِعمَ الجهاد الحجّ» (6)يصوّر الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على أنّه أبهى صور الجهاد في سبيل اللَّه.

وقد ورد حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يُزيل كلّ شكّ وشبهة في هذا المجال: «النفقة في الحجّ كالنفقة في سبيل اللَّه» (7).

إنَّ التساوي والمساواة بين الحجّ والجهاد في الإسلام هو بيانٌ لمجموع


1- 92 من لا يحضره الفقيه 2: 359، علل الشرايع: 57، تفسير العياشي 2: 254.
2- 93 التوبة: 112.
3- 94 فروع الكافي 1: 332.
4- 95 سنن ابن ماجة، المناسك 5، سنن النسائي، الحجّ: 4.
5- 96 سنن ابن ماجة، المناسك: 44.
6- 97 صحيح البخاري، كتاب الجهاد: 62.
7- 98 مسند أحمد بن حنبل 5: 200.

ص: 33

الإسلام، ويُبيّن الحقيقة القائلة: إنَّ هاتين الفريضتين كانتا وماتزالان تمتلكان أهدافاً مشتركة، وفي الوقت نفسه فلكلّ منهما خصوصية ماهوية خاصّة بهما، ويُعدّ كلّ منهما عبادةً وعملًا سياسياً لتقوية وتحقيق الأهداف السياسية للإسلام على حدّ سواء.

فمن ذا الذي يستطيع في مقابل مثل هذه التصريحات الثابتة للنبي صلى الله عليه و آله و سلم وأئمة الدين أن يدخل الشكَّ في قلبه فيما يتعلّق بفلسفة الحجّ السياسية؟ ومن ذا الذي يمتنع عن رفض واستنكار الصدى المنكر والإعلام الساذج الداعي إلى فصل الدين عن السياسة والقائل بعزل مراسيم الحج عن المنافع السياسية التي ينطوي عليها الحجّ لمصلحة الإسلام وضدّ الاستكبار والإلحاد والنفاق والمجتمعة في خندق واحد لهدم قدرة الإسلام وإرغام الأقطار الإسلامية للاحتماء تحت لواء الاستكبار وبالتالي لنهب مواردها ومصادر ثرواتها الطبيعية والنّعم الإلهيّة؟ أم من ذا الذي لايلغي النيّات السيئة لدعوات الاستعمار وبائعي نفوسهم للأجنبي الشرقي والغربي؟

إنَّ هذا الداعي الشّؤم غلادستون ليس وحده الذي يدعو العالم إلى الاحتراس من ازدياد قدرة المسلمين بالحجّ والحيولة دون تعاليهم، بل هناك أفراد مسلمون في الظاهر بينما تربط مصالحهم في الباطن مع مصالح الاستعمار العالمي، وباسم حماة الإسلام والحرمين سلبوا قداسة مراسيم الحجّ ومنعوها من أن تظهر بجلاء وأبّهة مطلوبتين وهم يتمنّونَ في داخلهم إرتداء لباس غلادستون وتنفيذ مرامه.

الحجّ دافِعٌ لنهضة العالَم

الحجّ دافِعٌ لنهضة العالَم:

لتوضيح البعد السياسي للحجّ، نعتمد سنداً أفضل ونصّاً أوضح وأصلًا

ص: 34

أثبت، وهو كلام اللَّه المجيد في القرآن الكريم، والذي يُعرّف الكعبة صراحة على أنّها العامل والدافع لقيام النّاس ونهضتهم:

(جَعَلَ اللَّه الكعبة البيت الحرامَ قياماً للنّاس)

(1).

إنَّ الوجود والاستقلال والحركة والسلطة والاعتماد أو الاتّكال على النفس، ونبذ التبعيّة للآخر، وإنّ التكتُّل والمساواة والمشاركة الفعّالة تعدّ كلّها من أهمّ مقومات المفاهيم السياسية في العصر الحاضر وما تحتاجه الشعوب الإسلامية بإلحاح. إنّ كلّ تلك المفاهيم اجتمعت في كلمة واحدة ألا وهي (القيام) كما هو الحال مع بيت اللَّه الذي جعل ملاذاً وأمناً: (

وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا)

(2) ويتضمّن مفاهيم سياسية كبيرة.

إنّنا نرى جانباً من المحاكاة والانسجام في حكمة السعي بين الصفا والمروة ونموذجاً للكفاح المتواصل (3)، وحين يُزاحم الشيطان هذا الكفاح وتلك المحاكاة والانسجام يهرول إبراهيم عليه السلام للفرار من براثنه ومن الوقوع في حبائله (4). ولهذا يقوم الكلّ بالسعي فينهار الجبابرة والحاقدون بذلّ وخِزْي، كما يوضحه لنا الإمام الصادق عليه السلام:

«ما مِنْ بُقعةٍ أحبُّ إلى اللَّه عزّوجلَّ مِنَ المَسْعى لأنَّهُ يَذِلُّ كلُّ جبّارٍ»

(5).

وفي ليلة العيد تندفع الجموع نحو المشعر الحرام ذاكرين اللَّه سبحانه:

(فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام)

(6)، لكن العدو ما يزال يترصّدنا محاولًا النَّيل من ذكر اللَّه ومنع لعن عدوّ اللَّه، ذلك أن المشعر هو مكان الشعور والإحساس والمعرفة المكتسبة فلا يتّسع عرفات لكلّ هذا الشعور، إنّه الشعور الذي يجبر الإنسان على القيام بوظيفته والدعوة إلى الجهاد مع وجود متقابل بين تينك العلاقتين. وفي أرض الشعور هذه يستيقظ الجميع


1- 99 المائدة: 97.
2- 100 البقرة: 125.
3- 101 «قال الصادق عليه السلام: إنّ إبراهيم لما خلف إسماعيل بمكّة عطش الصبي وكان فيما بين الصفا والمروة شجر فخرجت أمّه حتّى قامت على الصفا فقالت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد فمضت حتّى انتهت إلى المروة فقالت:... حتّى صنعت ذلك سبعاً فأجرى اللَّه ذلك سنّة». علل الشرايع: 432.
4- 102 المصدر نفسه.
5- 103 المصدر نفسه.
6- 104 البقرة: 198.

ص: 35

ويستعدّ لمحاربة الشيطان غداً فيفكّرون في السلاح اللازم لذلك، وجيش التوحيد العظيم والسلاح ينتظران الصباح للذهاب نحو أرض الفداء ليريقوا دم الهَدي مُؤدّين بذلك عملًا إبراهيميّاً آخر (1) معلنين عبوديّتهم للباري عزّوجلّ من خلال تنفيذه أمره، وهذه القرابين هي الّتي ستكون مركب نجاتنا ونجاحنا غداً (2) حيث اعتبرها اللَّه تعالى من الشعائر: (

والبُدن جعلناها لكم من شعائر اللَّه)

(3) وإراقة دم القربان عامل من عوامل الحسّ واليقظة الخالدة للإسلام، الذي يفرض علينا الطواف والمسلخ معاً والمسجد والجهاد على حدّ سواء.

وفي الجمرات حيث مأوى العدو، وقبل إعطائه فرصة الاعتداء والتسلّط، تبدأ الحملة المسلحة ضدّه، فالكلّ يضرب ويسدّد حجره نحو العدو، لالمرة واحدة بل لسبع مرات متواصلة ولمدّة ثلاثة أيّام متوالية، يضربون الشيطان الأكبر والمتوسّط وكذلك، صغار الشياطين والعدو الذي لم يُضرب بعد لن يبقى في المكان نفسه على أيّة حال.

إنَّ على الحجّ اليوم أن يكون مثالًا للحجّ زمن إبراهيم والرسول صلى الله عليه و آله و سلم ومليئاً بالشعور السياسي والعسكري متمثّلًا في السيل الجارف للحجّاج، وانعكاس هذا الشعور بصورته المصغرة في أرض الواقع في المجتمع الإسلامي الملياري في كلّ العالم يحيل وحدتهم في الحجّ ووعيهم إلى واقع ملموس في حياتهم اليومية.

ولاريب في أنّ مثل هذا الشعور السياسي موجود في كلّ المحاولات في حياة المسلمين في العالم، والمسلمون قادرون على خلق هذا الشعور لامحالة، وتشكيل وحدة تجمعهم وتحضّرهم وتدفعهم إلى كسر الأغلال والعبودية السياسية والعسكرية.

فلو عرَّفنا السياسة بأنّها حسن التدبير لأمور مجتمع ما أو كيفيّة تنظيم


1- 105 الصافات: 103- 105.
2- 106 «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: استفرهوا ضحاياكم فإنّها مطاياكم على الصراط»، علل الشرايع: 438.
3- 107 الحجّ: 37.

ص: 36

العلائق الاجتماعية، أو وعي الإنسان لمحيطه وبيئته ومجتمعه. والمصير المشترك والحياة المشتركة له وبمجتمعه الذي يعيش فيه وينتمي إليه، أو أيّ تعريف آخر، ومهما يكن ذلك التعريف فإنَّ أيَّ سياسة وأيّ حادثة سياسية تحتاج إلى التدبير والتفكّر، وأنَّ أيّ تدبير عاقل يجب أن يُبنى على الأمل والرّجاء.

ويستغرق الإنسان، الذي يروم التفكير والعمل الجدّي للمجتمع غداً، أقول: يستغرق لأيّام في وادي الآمال والأمنيات في (منى) في موسم الحجّ، فعليه أن يُشبع أفكاره ويغذّي روحه ويتزوّد من الوليمة المبسوطة عند اهداء الدم ورجم الخونة الكبار والصغار، وعند النضال ضد الشياطين، كما أوصى إبراهيم عليه السلام في منى: «هناك يا إبراهيم تمنّ على ربّك ما شئت» (1) ولذلك سُمّي الوادي بوادي (منىً) (2)، فلا شك في أن الحياة الإنسانية تذبل وتموت بموت الآمال وتحطّم الأمنيات (3).

ويتطلّع ويطّلع المسلمون في اجتماع الحج على المشاكل السياسية والآلام الاجتماعية لكلّ منهم، فيصلون إلى الحلول المناسبة بالمشاركة الوجدانية والانسجام والتعاون، حلول مبينية على الأصول والمعايير الإسلامية (4)، ويسعون إلى استئصال جذور المشاكل السياسية وعلى رأسها التبعيّة للتسلّط الشيطاني للعدوّ الخارجي، ويتّخذون التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع المؤآمرات المتواصلة للاستكبار العالمي، عدوّ الإسلام والشعوب الإسلامية الذي لايُصالح، وإيجاد التعاون فيمابين المسلمين كافّة.

إنَّ الكثير من المسلمين المقتدرين من الناحية الجسمية والحالة المادية والعقلية الممتازة يرون ويشهدون كلّ سنة تجلي الوحدة الإنسانية في مراسم الحجّ، ويتوصّلون إلى أنَّ حقيقة الإنسانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفطرة والإيمان والقيم العليا وهي موجودة بالطبع في هذه الجموع. ويستنتجون مدى الظلم الذي


1- 108 علل الشرايع 2: 120.
2- 109 المصدر نفسه.
3- 110 نقل البخاري عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: لاتقوم الساعة حتّى لاتحجّ البيت. صحيح البخاري، كتاب الحجّ: 47.
4- 111 «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لأبي ذر: وحجّ حجّةً لعظائم الأُمور»، الخصال 2: 300- 303.

ص: 37

تفرضه الامتيازات والعنصرية القائمة على أساس العرق واللّون واللغة والمحيط وغير ذلك.

إنّهم يدخلون دورة تعليمية سياسية فيخلصون إلى الصعوبة التي تكمن وراء تنفيذ مشروع الأمّة والإمامة مع وجود كلّ عوامل الفرقة والانفصالية.

ويتعرّف جميع المسلمين المستطيعين والمقتدرين على التحقّق الواقعي (بشكل رمزي) للأمّة الواحدة والحركة المشتركة ووحدة الهدف والتكتُّل وعلى انموذج من الإمامة مرّة واحدة على الأقلّ في عمرهم.

والحقّ أنَّ اتّحاد المجتمع الإسلامي الكبير الذي يُعدّ أحد أسمى القيم والأهداف السياسية والاجتماعية للإسلام يُكتسب أثناء قيام المراسم العظيمة للحجّ وبصورة عينية، فيتجسّد للمسلمين الطريق الأمثل لمحاربة عوامل التفرقة، كأنّي بهم وهم يشتركون باللباس والعمل والحديث والأصل والهدف والشكل، يتدرّبون على الاتّحاد في جميع نواحي حياتهم (1).

الحجّ اختبار اللَّه الكبير

الحجّ اختبار اللَّه الكبير:

لقد قرأنا فلسفة الحجّ في القرآن الكريم وعلمنا أنَّ اللَّه سبحانه يضع الإنسان- على طول المراحل الحسّاسة في حياته- في مآزق وعُسرة وظروف صعبة، مختبراً إيّاه حتّى يتبيّن الحقّ من الباطل والخالص من الشائب فيفصل هذا من ذاك (2).

(أحسبَ النّاس أن يُتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لايفتنون)

(3).

ولا يكون الاختبار المذكور متشابهاً لكلّ النّاس، ففي حالات مُعيّنة وبصور متفاوتة تمرّ على الإنسان اختبارات:

(ولنبلونّكم بشي ء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس


1- 112 تاريخ اليعقوبي 1: 92.
2- 113 «ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونَبلُوَ أخياركم»، سورة محمّد: 31.
3- 114 العنكبوت: 2.

ص: 38

والثمرات وبشّر الصابرين)

(1).

ولايُستثنى حتّى الأنبياء من الاختبار الإلهي هذا فهم يجتازون اختبارات متميّزة.

(وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمّهنّ)

(2).

فالبعض من هذه الاختبارات لها صفة مرغوبة وهي معلومة وواضحة كذلك (3) بينما يتميّز البعض الآخر بالتعقيد والصعوبة والتبطُّن والخفاء حيث يذكرها القرآن الكريم على انّها «بلاء عظيم» (4).

إنَّ الحجّ اختبار كبير يدخله المؤمنون قاطبة ولو لمرّة واحدة في كلّ حياتهم.

يقول الإمام علي عليه السلام بهذا الخصوص:

«ألا تَرونَ أنّ اللَّه- سُبحانه اختبر الأوّلينَ مِن لدُن آدم- صلوات اللَّه عليه- إلى الآخرين مِن هذا العالم بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تُبصِر ولا تَسمع، فجَعَلَها بيتَه الحرام الذي جعله اللَّه للنّاس قياماً، ثُمَّ وَضَعهُ بأوعرِ بِقاعِ الأرض حجراً، وأقلّ نتائق الدنيا مدراً، وأضيقِ بُطونِ الأودية قُطراً بين جِبالٍ خشنةٍ ورِمالٍ دَمِثَةٍ، وعُيون وشلة، وقرىً منقطعة، لا يزكو بها خُفّ، ولا حافر ولا ظلف.

ثمّ أمرَ آدم عليه السلام وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصارَ مثابةً لمنتَجع أسفارهم، وعاية لملقى رحالهم، تَهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوزِ قفار سحيقة، ومهاوى فجاج عميقة، وجزائر بحارٍ منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذُللًا، يُهَلّلون للَّه حوله، ويرملون على أقدامهم شُعثاً عُبراً له، قد نبذوا السرابيل وراءَ ظهورهم، وشوَّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيماً وامتحاناً شديداً، واختباراً مُبيناً وتمحيصاً بليغاً، جَعَله اللَّه سبباً لرحمته، ووُصلةً إلى جنّته.


1- 115 البقرة: 155.
2- 116 البقرة: 124.
3- 117 «وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً»، الأنفال: 17، «إنّ هذا لهو البلاء المبين»، الصافّات: 106.
4- 118 «وفي ذلكم بلاء من ربّكم عظيم»، الأعراف: 141.

ص: 39

ولو أراد- سبحانه- أن يضع بيته الحرام ومشاعره العِظام بين جنّات وأنهار، وسَهلٍ وقرار، جمِّ الأشجار، داني الثمار،: مُلتفّ البنى، مُتّصل القُرى، بين بُرّة شمراء، وروضة خضراء وأرياف مُحدقة، وعراصٍ مُغدقة، وزُروعٍ ناضرة، وطُرقٍ عامرةٍ، لكان قد صغَّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء.

ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المَرفوع بها بين زُمُرُّدة خضراء، وياقوتة حمراء ونورٍ وضياء، لَخفَّف ذلك مُصارعة الشكّ في الصدور، ولَوَضَع مُجاهدة إبليس عنِ القلوب، ولَنفى مُعتَلج الرّيب منَ النّاس.

ولكنّ اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويَتَعبَّدهم بأنواع المجاهدين، ويُبتَليهم بضُرُب المَكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليَجعلَ ذلك أبواباً فُتحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلًا لِعَفوه»

(1)

البُعد الاقتصادي للحجّ

البُعد الاقتصادي للحجّ:

يعتري الإنسان، في الواقع، الشكّ في أنَّ الحجّ هذه العبادة المليئة بالمعنويات وبعد إحساسه العمق والتوسّع الخاصّين بالبُعد المعنوي والروحي له، أقول:

يعتريه الشكّ وتتملّكه الريبة في قدرة هذه العبادة على أن تكون لها أبعاد اقتصادية وآثار مادّية بنّاءة في حياة الإنسان. إنَّ هذه النظرة الانحسارية والضيّقة هي في الواقع آفة تعتري كلّ من يطالع مسائل المجتمع الإسلامي، وتُعدّ عاملًا رئيسيّاً في تحريف المسائل الأسياسية.

إنَّ الذين يسعون في إفراغ محتوى الحجّ من مادته الأصيلة بحجّة الحفاظ


1- 119 نهج البلاغة، الخطبة 192، القاصعة.

ص: 40

على المعنوية والروحيّة هم أغلب الذين تصيبهم تلك الآفة، لكنّهم يجهلون أنَّ الإسلام وروح الحجّ أكبر وأوسع من حجم تفكيرهم ومطامعهم الصغيرة.

ولعلّ هذه الآفة الفكرية كانت السبب الرئيس في جعل الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم يُصرّح ويجوّز امكانية الاستفادة الاقتصادية والتعامل التجاري في موسم الحجّ بعد توضيحه لشمولية الحجّ والبعد الاقتصادي له (1).

ومع أنَّ التعبير القرآني (

ليشهدوا منافع لهم)

هو أوضح مثال ودليل على اشتمال المصالح الاقتصادية في الحجّ، إذ تُبيّن بدقّة المسألة الخاصّة بالبعد الاقتصادي حيث تستطيع مختلف الشعوب الإسلامية عرض مظاهر التنمية الإقتصادية ونماذج من بضائعهم الانتاجية في موسم الحجّ على جميع المسلمين واحاطتهم بالوضع الاقتصادي العام للعالم الإسلامي من حيث الكمية والجودة ممّا يُتيح للمسلمين وضع أرضية ملائمة للتفكير المشترك، والتعاون فيما بينهم في المجال الاقتصادي لهم على اختلاف جنسيّاتهم، وهو العامل الذي يمكّن المسلمين من رفع المستوى الاقتصادي في أقطارهم والأقطار الإسلامية المتخلّفة والنامية.

وعلى هذا فإنَّ موسم الحجّ هو مَعرضٌ كبير وسوق عظيم لعرض المنتجات الزراعية والصناعية وغيرها ممّا ينتجه المسلمون في مختلف الأقطار الإسلامية، فينتفع المجتمع الإسلامي الكبير من هذه البركات التي يتيحها له الحجّ باعتباره السوق المشتركة الإسلامية والعالمية على حدّ سواء، فيزدهر التبادل التجاري وتتعمّق العلاقات الاقتصادية بين الأقطار الإسلامية وتتّسع أكثر فأكثر.

ويمكننا استنباط هذه النقطة من الرواية التي ينقلها هشام بن الحكم في مجال فلسفة الحجّ عن الإمام الصادق عليه السلام:

«ولينزع كلّ قومٍ من التجارات من بلدٍ إلى بلدٍ وينتفع بذلك المكارى والحمال»

(2).


1- 120 سنن أبي داود 11:
2- 121 وسائل الشيعة 8: 9.

ص: 41

وقد ورد في إثر هذه الرواية ما نصّه:

«لو كان كلِّ قوم إنّما يَتَكلّمونَ

[يتكلون

] على بلادهم... خربت البلاد وسقطتِ الجلب والأرباح»

(1).

وفي رواية أخرى يقول الإمام زين العابدين عليه السلام:

«حجّوا... تتّسع أرزاقكم ويصلح إيمانكم وتكفّوا مَؤنَةَ النّاس ومَؤنَةَ عيالاتكم»

(2).

إنَّ الفقر الذي هو عامل من العوامل المتأصلة للكفر (3) وحَدَثٌ اقتصادي مغلوط والناتج عن ركود الفعّاليات الانتاجية، يمكن مداواته بحجّ بيت اللَّه كما يقول الإمام علي عليه السلام:

«إنَّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون ... وحجَّ البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب»

(4).

وأيُّ تعبير هو أبلغ من قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم: «وحجّوا تستغنوا» (5) في وصف البعد الاقتصادي للحجّ وترغيب المسلمين للاستفادة الاقتصادية المشروعة من العبادة الكبرى وهي الحجّ؟

إنَّ الاستغناء المادي للمسلمين هي حقيقة ترقى على الاستقلال الاقتصادي، ذلك أنَّ الكثير من الأقطار التي توصلت إلى الاستقلال الاقتصادي بعد كفاح مرير وطويل، تكون مجبورة في معظم الأحايين على تحمّل الاكتفاء الذاتي النهائي للسياسة الاقتصادية السلبية التي تتّبعها، وكذلك الاقتصاد في الصرف وغضّ النظر عن كثير من الاحتياجات الشديدة التي يحتاجها المسلمون.

ولن يتمكن العالَم الإسلامي من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي النهائي والاستغناء التامّ إلّابوضع برنامج محسوب ودقيق مستفيداً من الفرصة الإلهية في


1- 122 وسائل الشيعة 8: 9.
2- 123 المصدر نفسه.
3- 124 «قال الصادق عليه السلام: كاد الفقر أن يكون كفراً»، سفينة البحار 2: 378.
4- 125 نهج البلاغة، الخطبة 110.
5- 126 من لا يحضره الفقيه 2: 94.

ص: 42

الحجّ دون توجيه ضربة إلى قدسية الحج ومعنوياته، فينتفع جميع المسلمين من هذه النعمة الإلهية الكبيرة.

تجلي نظام الأمّة والإمامة في الحجّ

تجلي نظام الأمّة والإمامة في الحجّ:

يسمّي القرآن الكريم جميع المسلمين على اختلاف عناصرهم وألوانهم وألسنتهم وتاريخهم وثقافتهم وأينما كانوا بالأمة الواحدة:

(إنّ هذه أمّتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون)

(1).

إنَّ هذه الوحدة وتلك الرابطة ناشئة عن العقيدة المشتركة، والنظام المشترك والأهداف والطموحات المشتركة، التي تتجلّى في أفعال المسلمين.

وهذه الوحدة قطعاً تحتاج إلى الانسجام والتوافق والمركزية والقيادة العميقة والواسعة، والتي يمكن بواسطتها وضع برنامج وتنظيم يقود الحركات والنهضات بكلّ أبعادها في حياة الأمّة على أساس العقيدة والنظام الإسلامي وطموحات المسلمين، آخذة بنظر الاعتبار كلّ الأرضيات والاستعدادات والامكانات الموجودة والمتاحة.

فهذه الحركة يجب أن تتمّ بنغم واحد منسجم وتحت لواء نظام واحد وعلى خطّ سير واحد مشتملة على الأبعاد المختلفة للأمّة، وتحتاج كذلك إلى تمرين وتعوُّدٍ مستمر، والإسلام يؤكّد عدم إمكانية تحقيق نظام الأمّة والإمامة إذا خلا هذا التعليم من النظام المذكور، ومن جهة أخرى فهو يعدُّ العبادة الجماعية عاملًا مؤثّراً لذلك. إنَّ أداء الفرائض اليومية وصلاة الجمعة والعيد على هيئة جماعية اجتماعية وكذلك إقامة مراسيم الحجّ، كلّها مركز تعليم كبير لهذا التشكّل والانسجام والتحرّك باتّجاه الأهداف المشتركة.

ويمكن استشفاف ميزان التجلّي لروح الإمامة في الحجّ عبر رواية ينقلها لنا


1- 127 سورة الأنبياء: 21.

ص: 43

مفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:

«ثمّ إنّي أُخبرك أنّ الدين وأصل الدين هو رجلٌ وذلك الرجل هو اليقين والإيمان وهو إمام أمّته أو أهل زمانه فمن عرفه عَرَف اللَّه ودينه ومن أنكره أنكر اللَّه ودينه ومن جهله جهل اللَّه ودينه ولا يعرف اللَّه ودينه وحُدوده وشرايعه بغير ذلك الإمام فذلك إنّ معرفة الرجال دين اللَّهِ... وأخبرك أنّي لو قلت أنّ الصلوة الزكوة وصوم شهر رمضان والحجّ والعمرة والمسجد الحرام والبيت الحرام والطهور والاغتسال من الجنابة، وكلّ فريضة كان ذلك هو النبي الذي جاء من عند ربّه لَصَدقتُ لأنّ ذلك كُلّه إنّما تُعرف بالنبيّ ولو لا معرفة ذلك النبيّ والإيمان به والتسليم له ما عرف ذلك فهذا كلّه ذلك النبي صلى الله عليه و آله و سلم...

إنّما هو الرجل... من يطعِ اللَّه الرسول فقد أطاع اللَّه»

(1).

وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«مَن حجَّ ولم يزرني فقد جفاني»

(2).

وحين لمحَ الإمام الباقر عليه السلام جموع الطائفين قال (3):

«أُمروا أن يتطوفّوا بهذا ثمّ يأتونا فيُعرّفوننا مودَّتهم ثمَّ يُعرضوا علينا نَصرهم».

وكأنّي بالحجّ عند انتهائه بداية لتحرّك الأمّة وقيادة الإمام، حيث تضع الأمّة كلّ إمكاناتها وقدراتها تحت تصرّف القيادة، وذلك بعد اكتسابها القوّة والطاقة من مناسك الحجّ، حتّى تجعل الأمّة من الإمام منتصراً وظافراً وهو عين ما يفعله الإمام تجاه أُمّته أيضاً.


1- 128 مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار: 13- 14.
2- 129 مستدرك الوسائل. كتاب الحجّ: 189.
3- 130 مستدرك الوسائل. كتاب الحجّ: 189.

ص: 44

الهوامش:

ص: 45

ص: 46

ص: 47

ص: 48

مناسك الحجّ (منسكٌ مختصر في أعمال الحجّ والعمرة)

تمهيد

ص: 49

مناسك الحجّ (منسكٌ مختصر في أعمال الحجّ والعمرة)

تأليف: العلّامة القطيفي المتوفى 1287 ه

تحقيق: ضياء بدر آل سنبل القطيفي

تمهيد

تميّزت مدرسةُ آل البيت عليهم السلام عن غيرها من المدارس بمميّزات متعدّدة منها: تكامله في جميع الفروع، والدقّة في الاستنباط، والاستمرار في إثراء المكتبة الفقهيّة بما تحتاجه من مسائل في جميع أبواب الفقه؛ وذاك لعوامل عدّة منها:

انفتاح باب الاجتهاد عندهم، فلم يخلُ زمانٌ من فقهاء أُمناء، اتبعوا أنفسهم، وبذلوا وسعهم في استنباط الأحكام الشرعيّة من مدارك صافية، ومنابع عَذبة، ممّا هو معروفٌ عندهم..

ولذا يلاحظ الباحث المتتبّع وفرَةً من الكتب، التي يعسرُ إحصاؤها في هذا المضمار، إذ قلّ فقيهٌ لا تجد له كتباً متعدّدة في ذلك.

ولمّا كان أئمّة الهُدى عليهم السلام قد أمروا شيعتهم بالرجوع إلى الفقهاء فيما يتعلّق بأُمور دينهم، كان لزاماً على الفقهاء أن يقوموا بإبداء آرائهم الفقهيّة، ليرجع إليها مَن أراد أنْ يعمل على ضوئها من المكلّفين. وقد كتب العلماء في ذلك كتباً خاصّة،

ص: 50

عُرِفت فيما بعد بالرسائل العمليّة...

وبما أنّ الحجّ أحد العبادات التي تكثُر فروعها، وكان الحاجُّ في حاجة ملحّة لها يرشده إلى معرفة وظيفته الشرعيّة وأداء نُسكه، فقد وضع الفقهاء كتباً خاصّة حول ذلك، عُرِفت باسم (مناسك الحجّ). وقد أحصى البحّاثة الطهراني في موسوعته (الذريعة) (1) تحت عنوان (مناسك الحجّ) عدداً منها تجاوز مائة وسبعين منسكاً... ومن جملة ما ألّف في ذلك هو هذا المنسك.

والمناسك- جمع مَنسك- لمكان النُّسك- أي: العبادة، ويراد منه- هنا- العبادة، فيكون المراد من (مناسك الحجّ) عباداته، كما في قوله تعالى: (

وأرنا مناسكنا) (2) ، أي: عباداتنا (3).

ترجمة المؤلِّف

ترجمة المؤلِّف:

أ- نسبه وولادته وأسر:

هو الشيخ علي بن الشيخ أحمد بن الشيخ حسين آل عبد الجبّار.

وآل عبدالجبّار (بيتٌ في القطيف عظيم، خرج منهم علماء فضلاء كثيرون، أصحابُ مصنّفات وفتاوى. وأصلهم من البحرين من قرية (سار)، سكنوا بلاد القطيف قديماً) (4).

ومن أعلام أسرته:

1- الشيخ محمّد بن عبدالجبّار الكبير.

ذكره في (أنوار البدرين)، ونقل أنّ ابن اخته الشيخ محمّد بن الشيخ عبدعلي آل عبدالجبّار- الآتي ذكره- ينقل كثيراً من فتاواه.

وذكر المحقق الطهراني: أنّ له كتاب (مشكاة الأنوار)، وأنّه كان معاصراً للشيخ كاشف الغطاء. (ت 1228 ه) (5).


1- 1 الذريعة 22: 253.
2- 2 سورة البقرة: 128.
3- 3 انظر: ترتيب القاموس. مادّة- نسك: ج 4، 366، ومجمع البحرين 5: 295.
4- 4 أنوار البدرين: 316.
5- 5 أنوار البدرين: 316، الذريعة 21: 54.

ص: 51

2- الشيخ محمّد بن الشيخ عبدعلي بن الشيخ محمّد بن عبدالجبّار.

من مراجع التقليد، عالم كبير، اختاره علماءُ النجف الأشرف للحكومة بينهم وبين السيد كاظم الرشتي (ت 1259 ه) أيّام المنازعة معه. له مؤلّفات، منها: (هُدى العقول في شرح أصول الكافي)، وأكبر شروح الأُصول، وهو قيد التحقيق. (ت 1241 ه) (1).

3- الشيخ عبدالجبّار بن محمّد بن أحمد بن علي آل عبد الجبّار.

تلميذ الشيخ خلف بن الحاج عسكر (ت 1246 ه) (2).

4- الشيخ سليمان بن الشيخ سليمان- المتقدّم ذكره.

فقيه عالم، مرجع تقليد، له مؤلّفات كثيرة، (ت 1266 ه) (3).

5- الشيخ سليمان بن الشيخ سليمان- المتقدّم ذكره.

فاضل عالم، له بعضُ الرسائل والأجوبة، كان موجوداً قبل سنة 1266 ه (4).

6- الشيخ عبداللَّه بن الحسن آل عبدالجبّار القطيفي البوشهري المولود سنة 1251 ه، والمتوفّى سنة 1292 ه (5).

وأمّا مترجمنا: فلم ينصّ على تاريخ ولادته، إلّاأنّ السيد الشريف ذكر في (الموسم) (6): أنّ ابن سبطه المحقّق الخنيزي يقرّب ولادته بسنة 1200 ه.

منزلته العلميّة ومؤلّفاته

منزلته العلميّة ومؤلّفاته:

نصّ مترجموه على أنّه عالم فاضل، حكيم فيلسوف، شاعر أديب، محقّق متتبّع. ويدلّ على ذلك ما خلّفه من آثار متعدّدة في شتّى المواضيع، ونذكر من مؤلّفاته ما نصّ عليه في (أنوار البدرين)، ثمّ نعقّب عليه بما وجدناه منها:

1- ديوان شعر في مراثي الحسين عليه السلام ومدائح آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.


1- 1 أنوار البدرين: 317، مجلّة الموسم العدد 9- 10، ص 245.
2- 2 أنوار البدرين هامش: 316، مجلّة الموسم العدد 9- 10.
3- 3 أنوار البدرين: 323.
4- 4 أنوار البدرين: 326، مجلّة الموسم العدد 9- 10، ص 236.
5- 5 ذكره في الموسم العدد 9- 10، ص 239، عن طبقات أعلام الشيعة 2: 775، الذريعة 12: 72، معجم رجال الفكر والأدب: 76.
6- 6 الموسم العدد 9- 10: ص 421.

ص: 52

2- منظومة كبيرة في التوحيد.

3- منظومة ثانية في التوحيد والأُصول الخمسة.

4- منظومة ثالثة مختصرة في التوحيد والأُصول الخمسة- أيضاً.

5- منظومة في تعداد سور القرآن المجيد وبعض أحكام القراءة والتجويد.

6- رسالة في الأُصول الخمسة. مبسوطة.

7- رسالة ثانية في الأُصول الخمسة، متوسطة.

8- رسالة ثالثة في الأُصول الخمسة، مختصرة.

9- رسالة رابعة في الأُصول الخمسة. مختصرة- أيضاً.

10- رسالة في تحقيق (ليس كمثله شي ء).

11- رسالة في عدم وجوب كون أجداد المعصوم لأمّه مسلمين.

12- منسك مختصر في أعمال الحجّ، وهو الذي بين يدي القارئ.

13- ثمرات لبّ الألباب في الردّ على أهل الكتاب.

وقد طبع- أخيراً- بتحقيق ابن سبطه المحقّق الخنيزي.

14- كتاب مختصر معاني الأخبار.

هذا ما ذكره صاحب أنوار البدرين رحمه الله، وقد عثرتُ على مجموع يشتمل على بعض رسائل المؤلّف وفيه تحقيقات متعدّدة، وفوائد كثيرة، وهو بخطّ المصنّف نفسه، وعليه سنة 1268 ه، وممّا اشتمل عليه هذا المجموع- مضافاً إلى بعض ما تقدّم:

1- شرح دعاء التمجيد (أوّل أدعية الصحيفة السجّادية).

2- جواب مسألة حول السلب والإيجاب.

والسائل هو العلّامة الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طعان البحراني القطيفي (ت 1315 ه).

ص: 53

3- رسالة في أنّ ولد الولد هل هو ولد لجدّه حقيقة أم مجازاً؟

4- جواب مسألة حول قراءة القرآن المجيد في الصلاة اليوميّة وغيرها بما انفرد به أحد القرّاء السبعة أو العشرة.

وفاته

وفاته:

توفّي رحمه الله سنة 1287 ه، وقد ناف على ثمانين عاماً، ورثاه العلّامة الشيخ أحمد بن الشيخ صالح آل طعان البحراني القطيفي رحمه الله بقصيدةٍ مطلعها:

يا لخطبٍ قد دهانا بالمصاب صابُهُ في حبّةِ القلب أصاب

فقدُ نورِ العلم نبراسِ الهدى جامِع العليا العليِّ المستطاب إلى أن يقول:

(غاب نورُ المجد) ذا تاريخُهُ يا ليومٍ فيه بدرُ المجدِ غاب 1287 ه

المخطوط

المخطوط:

ذكرنا وجود مجموع مشتمل على بعض رسائل المصنِّف، وقد عثرتُ عليه في بعض المكتبات الخاصّة في القطيف، وممّا اشتمل عليه هذا المنسك.

وعدد صفحاته: (16) صفحة، بمعدّل (20) سطراً في كلّ صفحة.

كما وجدنا نسخةً أخرى منه، وهي منقولة عن النسخة السابقة، وكاتبها هو العلّامة الشيخ حسين بن الشيخ علي القديحي رحمه الله (ت 1386 ه)، وعليها بعضُ تعاليقه، وقد أثبتناه في حاشية المنسك.

ص: 54

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمدُ للَّه ربِّ العالمين، وصلّى اللَّه على باب الرحمة والهدى، محمّد وآله الطاهرين... وبعدُ فهذه كلماتٌ يسيرةٌ في بيان الواجب من أفعالِ الحجّ والعمرة، وقد يتبعها بعضُ المندوب فيهما؛ وضعتُها تذكرةً لذي البصيرة، وتعليماً لغيره من الصرورة (1)، وافداً بها على باب الجود ومنتهى القصود. ورتّبتُها على: مقدّمة، وفصلين، وخاتمة.

المقدّمة

[المقدّمة]

مقدّمة: إِعلم أنّ الدنيا مثالٌ للآخرة وجسدٌ لها. وقد عَلِم أُولو الألباب أنّه لا يمكن الاستدلال للمكلّفين فيها على ما هناك إلّابما هنا، وقد جعل اللَّه سبحانه تكاليفَ العباد صِراطاً إلى رضوانه. ومن ذلك ما شرع لهم من حجِّ بيته الحرام، والوقوفِ بتلك المشاعر العظام، وكفى به أمراً مهمّاً قولُه تعالى في كتابه المبين:

(وللَّهِ على النّاسِ حجُّ البيت مَنْ استطاع إليه سبيلًا ومَنْ كفر فإنّ اللَّه غنيٌّ عن العالمين) (2) . ثمَّ إنّه ينبغي لمن أجاب تلك الدعوة العُظمى أن يجرّد نفسه من تبعات الخلائق، ويُقبل بقلبه على أبواب الخالق، في حركاته وسكناته؛ فإنّه روحُ العبادة؛ وليتذكّر بتهيئه للسفر السفرَ الأكبر، فعن الصادق عليه السلام: (إذا أردتَ الحجّ فجرّد قلبك للَّه (3) تعالى من كلّ شاغل، وحجاب كلّ حاجب، وفوِّض أُمورك كلَّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلَّم لِقضائه وحكمه وقدره، وودّع الدنيا والرّاحة والخلق، واخرج من حقوقٍ


1- 1 الصرورة: يقال للذي لم يحجّ بعدُ. مجمع البحرين- صرر- ج 3/ 365.
2- 2 سورة آل عمران، الآية: 97.
3- 3 في البحار: من قبل عزمك- وبدون لفظ تعالى.

ص: 55

تلزمُكَ من جهة المخلوقين...) الحديث... إلى أن قال عليه السلام: (... ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع، واحرم من كلِّ شي ء يمنعك من ذكر اللَّه ويحجبك عن طاعته، ولَبِّ بمعنى إجابته (1) بنيّة خالصة زاكيةٍ للَّه تعالى في دعوتك، متمسّكاً بعروة اللَّه (2) الوثقى، وطِفْ بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهروِل [هرباً] (3) من هواك، وتبريّاً من [جميع] (4) حولك وقوّتك، واخرج من غفلتك وزلّاتك بخروجك إلى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلُّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند اللَّه بوحدانيّته، وتقرّب إليه واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملإ الأعلى بصعودك على الجبل (5)، واذبح الهوى (6) والطمع عند الذبيحة، وارمِ الشهواتِ والخساسة والدناءة [والأفعال] (7) الذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمانِ اللَّه وكنفه وستره وكلائته (8) من متابعة مرادك بدخولك الحرم ودخول البيت (9)، محقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله، واستلم الحجر رضاً بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ماسواه بطوافِ الوداع ...) (10). الحديث.. وهو طويل، وفيما ذكرنا منه تنبيهٌ للنائم في مضاجع الغفلة ..

على أنّ العبادات الشرعيّة لها ظاهرٌ وباطن، وإنّه لا إيمان بظاهرٍ إلّابباطن، وبالعكس؛ وإنّ لكلّ عملٍ نيّة (11)، وإنّ العمل بغير نيّة جسدٌ لا روحَ له.

وإذا فهمت ما قلناه، فاعلم:

تعريف الحجّ

[تعريف الحجّ]

إنّ الحجّ- لغةً- القصدُ المتكرّر (12)، وشرعاً: القصدُ إلى مكّة ومشاعرها


1- 1 في البحار: إجابة صافيةً خالصة- بدون لفظ بنيّة.
2- 2 في البحار: بالعروة الوثقى.
3- 3 ورد في الأصل: هرولة. وما أثبتناه من البحار.
4- 4 من المصدر.
5- 5 في البحار: إلى.
6- 6 في البحار: واذبح حنجرة الهوى.
7- 7 من البحار.
8- 8 كلأه: كمنعه- كلأً، وكِلاءة، وكِلاءً- بكسرهما: حرسَه. ترتيب القاموس مادّة كلأ، ج 4/ 69.
9- 9 ليست في المصدر. وفيه: وزر البيت متحقّقاً لتعظيم... إلخ.
10- 10 البحار: ج 96/ 124.
11- 11 كما دلّت عليه النصوص، انظر: الوسائل باب 5، من أبواب مقدّمة العبادات. ج 1، 46.
12- 12 أي كثرة الاختلاف والتردّد. ويطلق الحجُّ أيضاً على مطلق القصد. ترتيب القاموس- مادّة حجّ- 1/ 591.

ص: 56

والمناسك المخصوصة، بهيئةِ مخصوصة، في أزمنة مخصوصة.

أنواع الحجّ

[أنواع الحجّ]

وأنواع الحجّ ثلاثة: تمتّع، وقران، وإفراد.

1- حجّ التمتّع

[1- حجّ التمتّع]

والتمتّع مسبوق بعمرة التمتّع، مرتبطة به. وهو فرضُ مَن نآء (نأى) عن مكّة بثمانية وأربعين ميلًا من كلّ جانب. وزمان الحجّ الذي لا يقع إلّافيه: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجّة.

المواقيت

[المواقيت]

ومواقيت الحجّ والعمرة: العقيقُ لأهل العراق، ويَلملم لأهل اليمن، وقَرْن المنازل لأهل الطائف، والجُحفة لأهل المغرب، وذو الحليفة لأهل المدينة.

وفُسِّر- في الصحيح (1)- بمسجد الشجرة، وبه قال جماعةٌ من الفضلاء (2)، ولا ريبَ أنّه أحوط، بل أولى.

و هذه المواقيت لأهلها ولمن يمرّ عليها من غيرهم قاصداً مكّة، عدا مَن استثني.

ومكّة لحجّ التمتّع، وأدنى الحلِّ للعمرة المفردة لِمن خرج من مكّة إليها أو لِمَن أراد أنْ يدخل مكّة من طريق لا يمرّ فيها على ميقات.

الفصل الأوّل: في عمرة التمتّع

الفصل الأوّل: في عمرة التمتّع

وواجباتها سبعةٌ:

[1

] نيّة الإحرام.


1- 1 كما في صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام: ... وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد الشجرة... الوسائل: باب 1، من أبواب المواقيت، الحديث: 3. ج 11، 308.
2- 2 فهم: القاضي المهدّب، ج 1، 213، والمفيد في المقنعة: ص 394، والطوسي في النهاية، ج 1، 466.

ص: 57

وهي القصدُ إلى ما يحرم به وعنه- ولو إجمالًا، وصفتِهِ من الوجوب والنّدب.

[2

] والتلبية:

واللفظ الدالُّ على المعنى المراد منهما (أحرمُ بالعمرة المتمتّع بها لحجّ الإسلام حجّ التمتّع، وأُلبّي التلبيات الأربع؛ لوجوب الجميع، قربة إلى اللَّه تعالى؛ لبيك اللَّهمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك) وينبغي أن يضيف لها (إنّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريكَ لك).

[3] ولبس ثوبي الإحرام، يتّزر بأحدهما من السرّة إلى الركبة، إلى نصف السّاق أفضل. ونيّتُه (ألبس ثوبي الإحرام في العمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه تعالى).

ويُشترط في الإزار الستر- إجماعاً، ويرتدي بالآخر على منكبيه أو على أحدهما. ويشترط في ثوبي الإحرام معاً: كونُهما ممّا تصحّ الصلاة فيه. والأحوط اعتبار الستر في الرّداء أيضاً. ولا يجب استدامة لبسهما، بل له النّزع والتبديل، لكنّ الأفضل أن يطوف في الثوب الذي نوى الإحرام فيه وإن اتّسخ.

[4] والطواف سبعة أشواط حول البيت، على وجهٍ مخصوص؛ قاصداً به مراد الشارع.

ويجب في الطواف الواجب: الطهارة من الحدث والخبث عن الثوب والبدن كالصلاة؛ وستر العورة كذلك؛ والختان في الرجل؛ والنيّة مقارنةً لمحاذاة الحجر الأسود. وتكفي المحاذاة العرفيّة، ولا يتعيّن استقبال الحجر بوجهه، فلو جعله على يساره ابتداءً- بأن يستقبل جهة زمزم- أجزاه؛ وادخال حجر اسماعيل عليه السلام في الطواف، بأن يجعله مع الكعبة حال الطواف على يساره، ويطوف بهما معاً؛ وأن يجعل المقام أو ما حاذاه من المسجد على يمينه؛ ويراعي في مسافة عرض المطاف مقدار ما بين الكعبة والمقام من جميع الجهات. فعلى هذا تكون المسافة من جهة

ص: 58

وسط الحجر مقدار ستّة أذرع ونصف ذراع- تقريباً- بالذّراع الشرعي (1). وقد وضع علامةً على ذلك في فرش أرض المطاف حجارةٌ حُمر مصفوفة من جدار الحجر، قاصدةً إلى جهة مقام الحنفي، بحيث لو راعى الطائف الذَّرعَ الذي ذكرناه وطئ الحجارة الحُمر المذكورة برجله قطعاً.

ويجب على الطائف- حالة الطواف أيضاً- أن لا يستقبل الكعبة ولا يستدبرها، فإن (2) أراد أن يستلم أحد الأركان وقف وعلَّم موضع وقوفه حينئذٍ واستلم وعاد إلى مكانه من غير زيادة ولا نقصان، وجعل البيت على يساره كما كان، وأكمل طوافه.

ونيّةُ الطواف مقارنةً لأوّله مَعنى قولنا (أطوفُ بهذا البيت سبعة أشواط طواف العمرة المتمتّع بها لحجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه).

[5] وركعتاه في مقام إبراهيم (3) عليه السلام. وينبغي أن يقرأ في الأُولى- بعد الحمد- (قل يا أيّها الكافرون)، وفي الثانية- بعد الحمد- (قل هو اللَّه أحد).

ونيّتهما مَعنى قولنا: (أصلّي ركعتي طواف العمرة المتمتّع بها لحجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبهما قربةً إلى اللَّه).

[6] والسعي بين الصّفا والمروة سبعة أشواط، في الطريق المعهود، مستقبلًا للمطلوب بوجهه، فلا يمشي القهقرى ولا على جانب، ولا مستقبلًا لغير المطلوب. ويحتسب من الصّفا إلى المروة شوطاً، ومن المروة إلى الصّفا شوطاً آخر، يبدأ في سعيه بالصّفا كما بدا اللَّه تعالى في قوله: (إنّ الصفا والمروة من شعائر اللَّه) (4) ، بأن يلصق عقبه بها أو يصعد عليها، ويختم بالمروة، بأن يلصق إبهام رجله بها أو يصعد عليها، وفي العود يلصق عقبه بالمروة في أوّل الشوط؛ وابهامه بالصّفا عند آخر الشوط، وهكذا.. إلى أن يُكمل سبعة أشواط كما ذكرنا.

ونيّة السّعي مَعنى قولنا: (أسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط في العمرة


1- 1 الذراع يساوي 64 سم تقريباً. الاصطلاحات: 55.
2- 2 علّق على ذلك العلّامة القديحي رحمه الله بقوله: لا يخفى ما في قوله رحمه الله: فإن أراد... إلخ، من مزيد العسرِوالحرج، المنفيين شرعاً، فعدم الالتزام بما قال أقوى حع.
3- 3 وعلّق العلّامة القديحي رحمه الله هنا أيضاً بقوله: مع التمكّن وعدم العسر، وإلّا فإلى أحد جانبيه، والشمال أولى إنْ أمكن حع.
4- 4 سورة البقرة، الآية: 158.

ص: 59

المتمتّع بها لحجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه تعالى).

ويستحبُّ- مؤكّداً- الهرولة بين الميلين للرّجل لا للمرأة.

[7] والتقصير من شعره قدر الأنملة، أو ظفره. ويكفي المسمّى.

ونيّته مَعنى قولنا: (أقصّر من شعري أو ظفري للإحلال من عمرة التمتّع في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه).

ويقوى في نفسي أنّ التقصير بعد السعي في العمرة والحجّ واجبٌ لذاته، يتحقّق به الإحلال، والاحتياط لا بأس به. فإذا فعل ذلك فقد أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه، وبقي مرتبطاً بالحجِّ لا يخرجُ من مكّة إلّامحرماً بالحجّ عدا ما استثني.

الفصل الثاني: في أفعال الحجّ

الفصل الثاني: في أفعال الحجّ

وهي ستّة عشر فعلًا:

[1] نيّة الإحرام. وتقدّم معناها. وأفضل زمانها اليوم الثامن من ذي الحجّة بعد صلاة الظهر ومحلّها مكّة، وأفضله الحرم، وأفضله المقام أو الحجر.

[2] والتلبية. وصورتهما معنى قولنا: (أحرم بحجّ الإسلام حجّ التمتّع وأُلبّي التلبيات الأربع وجوباً قربةً إلى اللَّه تعالى، لبّيك اللَّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك). وينبغي أن يضيف لها: (إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك).

[3] ولبس ثوبي الإحرام. وصفتهما وكيفيتهما كما تقدّم، ونيّته معنى قولنا:

(ألبس ثوبي الإحرام في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه).

[4] والوقوف بعرفة يوم تاسع شهر الحجّ. وزمانه من زوال الشمس إلى الغروب، ونيّته معنى قولنا: (أقف بعرفات من هذا الآن إلى غروب الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه). ويستحبُّ الغسل قبل الزوال، والإقبال بقلبه على اللَّه، وقطع العلائق المانعة له من ذلك، واستقبال القبلة،

ص: 60

والاستعاذة من الشيطان الرّجيم، والإكثار من الذكر والتسبيح والصلاة على محمّد وآله صلى الله عليه و آله و سلم، والدعاء له ولإخوانه المؤمنين، والبكاء من خشية اللَّه، والتباكي، وصرف زمان كونه بها في ذلك ومثله، والدعاء بالمأثور، ومنه دعاء الحسين وابنه زين العابدين عليهما السلام.

فإذا غربت الشمس أفاض على سكينة داعياً ذاكراً إلى المشعر الحرام.

[5] والمبيت بالمشعر ليلة العاشر. ونيّته معنى قولنا: (أبيت هذه الليلة بالمشعر في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه). ويستحبُّ إحياء تلك الليلة بالدعاء والعبادة، ويستحبُّ التقاط حصى الجمار منه، وهي سبعون حصاة، كلّ واحدة قدر الأنملة، ولتكن رخوة، بُرْشا (1)، كُحْليّة، أبكاراً، طاهرة، من غير المسجد.

[6] والوقوف بالمشعر. وزمانه من طلوع الفجر يوم العاشر إلى طلوع الشمس. ونيّته مَعنى قولنا: (أقف بالمشعر من هذا الآن إلى طلوع الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه).

فإذا طلعت الشمس ذهب الناسك إلى منى. ويستحبُّ للرجل الهرولة إلى وادي محسّر، تقريباً من مائة خطوة، ماشياً كان أو راكباً.

[7] ورمي جمرة العقبة خَدْفًا بسبع حصيات مصيبة للجمرة بما يسمّى رميًا، وصورته بأن يضع الحصاة على باطن إبهامه ويدفعها بظفر السبّابة (2).

وتستحبّ الطهارة حالته، واستقبال وجه الجمرة، واستدبار القبلة، ونيّة الرمي معنى قولنا: (أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه).

وزمان الرمي ما بين طلوع الشمس إلى الغروب.

[8] وذبح الهدي. ويجب كونه تامّاً صحيحاً، فلا يجزي الأعور ولا الأعرج


1- 1 بُرشا: في حديث أخذ حصى الجمار، «خُذْ الحصى الجمار البُرش». وهي المشتملة على ألوان مختلفة. مجمع البحرين- مادّة برش- ج 4، 129.
2- 2 علّق على ذلك العلّامة القديحي رحمه الله بقوله: مع التمكّن وهيهات. حع.

ص: 61

ولا الأجرب، ولا مكسور القرن الداخل، ولا مقطوع الإذن ولا بعضها، ولا الخصيّ ولا الذي ليس على كليتيه شحم.

ونيّة ذبحه مَعنى قولنا: (أذبح هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع وجوباً قربةً إلى اللَّه).

ويجوز التوكيل في ذبحه، وتجب الصدقة بثلثه على بعض المؤمنين على الأظهر، وفقر القابل أحوط، ونيّتها معنى قولنا: (أتصدّق بثلث هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع وجوباً قربةً إلى اللَّه)، وإهداء ثلثه لبعض المؤمنين، ونيّته معنى قولنا: (أهدي ثلث هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع وجوباً قربة إلى اللَّه).

[9] ثمّ يحلق رأسه، أو يقصّر، والمرأة يتعيّن عليها التقصير. ونيّته مَعنى قولنا: (احلق رأسي- أو أقصّر من شعري، أو ظفري- في حجّ الإسلام حجّ التمتّع وجوباً قربةً إلى اللَّه).

[10] ثمّ يذهب إلى مكّة من يومه أو غده، فيبدأ بالطواف، وهو كما تقدّم في العمرة- كميّةً وكيفيّةً وشرطاً وصفة. ونيّته مَعنى قولنا: (أطوف بهذا البيت سبعة أشواط طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه).

[11] وركعتيه (1)، وصفتهما ومحلّهما كما تقدّم. ونيّتهما مَعنى قولنا: (أُصلّي ركعتي طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع وجوباً قربة إلى اللَّه).

[12] والسّعي، وهو كما تقدّم في العمرة- أيضاً- كميّةً وكيفيّةً وشرطاً وصفةً. ونيّته معنى قولنا: (أسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط سعي حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه).

[13] وطواف النساء، وهو كما تقدّم- كيفيّةً وكمّيةً وشرطاً وصفةً. ونيّته مَعنى قولنا: (أطوف بهذا البيت سبعة أشواط طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربةً إلى اللَّه).


1- 1 عطفاً على الطواف في فيبدأ بالطواف في [10] م.

ص: 62

[14] وركعتاه- كما تقدّم- ونيّتهما مَعنى قولنا: (أُصلّي ركعتي طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبهما قربةً إلى اللَّه).

فإذا فعل ذلك كما وصفناه فقد أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه.

[15] والمبيت بمنى ليالي التشريق. ونيّة كلّ ليلة مَعنى قولنا: (أبيت لهذه الليلة بمنى في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه قربة إلى اللَّه).

[16] ورمي الجمرات الثلاث في كلّ يوم من أيام التشريق (1)، كلّ جمرة منها بسبع حصيات، يبدأ بالجمرة الأُولى- وهي أقربها إلى مسجد الخيف-، ثمّ الوسطى، ثمّ جمرة العقبة.

ويستحبُّ استقبال القبلة حال رمي جمرة الجمرتين، واستدبار القبلة حال رمي جمرة العقبة، والبُعد عن الجمرة حالة الرمي قدر عشرة أذرع، وقوله حالة الرمي: (اللّهم ادحر عنّي الشيطان الرجيم). وقد تمّ حجّه.

افعال العمرة المفردة

[أفعال العمرة المفردة]

وأمّا أفعال العمرة المفردة فكأفعال عمرة التمتّع، وتزيد العمرة المفردة عليها- أي: على عمرة التمتّع- بطواف النساء وركعتيه، وتقدّمت صفته وكميّته في الحجّ.

وقد تقدّم في المقدّمة: أنّ ميقات العمرة المفردة أحد المواقيت الخمسة المذكورة، أو أدنى الحلّ لمن خرج من مكّة يريد العمرة، أو لمن أراد دخول مكّة بعمرة مفردة من طريق لا يمرّ فيها على ميقات، كمن قدم جدّة- مثلًا- يريد المدينة أو بلداً غير مكّة، ثمّ بعد أن وصل جدّة- مثلًا- بدا له دخول مكّة، فلا يجب على مَن هذا حالُهُ أن يرجع إلى الميقات الذي مرّ عليه، ولا إلى موضع محاذاة أقرب المواقيت إذا لم يمرّ على ميقات، ولا إلى ميقات أُفُقِهِ، بل له اختياراً أن


1- 1 أيّام التشريق: أيّام منى، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد يوم النحر. مجمع البحرين- مادّة شرق- ج 5، 191.

ص: 63

يدخل مكّة من الطريق المعروف بينها وبين جدّة- مثلًا- ويحرم من أدنى الحلّ- الحديبيّة أو التنعيم أو الجُعرانة- ويدخل مكّة ويفعل أفعال العمرة المفردة، وبذلك قد استفاضت الروايات (1) الصحيحة عن أئمّتنا سلام اللَّه عليهم أجمعين، وبه أفتى غيرُ واحدٍ من الأصحاب.

الخاتمة

[الخاتمة]

يستحبّ مؤكّداً بعد تمام أفعال الحجّ الوفادة لزيارة الرسول وخلفائه والزهراء وأئمّة البقيع صلوات اللَّه عليهم أجمعين، وبذلك أخبارٌ صحيحة (2) كثيرة عن النبيّ وخلفائه صلوات اللَّه عليهم. ومَن تأمّل في معنى العبادات وفطن مراد الشارع الحكيم منها علم أنّ من تمام الحجّ زيارتهم والاستشفاع بهم إلى اللَّه تعالى في قبول الأعمال، وبهذا المعنى أحاديث صحيحة (3) عن أئمّتنا صلوات اللَّه عليهم؛ إذ تعظيم تلك الشعائر إنّما شرّع بتعظيمهم، وجميع ما عَلِمهُ المكلّفون ممّا يجب عليهم فيها من الأقوال والأفعال فهو بتعليمهم، فهم أهل البيت وعُمّار الحرم وقادةُ الأمم، فمَنْ عظّم حرمة البيت كما شرع اللَّه فقد عظمهم، ومَن لم يفعل ذلك لم يقبل اللَّه منه عملًا؛ لأنّه قد عبده من غير الوجه الذي قد شرع، ومَن كان كذلك فهو من الكافرين. وفي الحديث- ما معناه- إنّما أمر النّاس أن يطوفوا بهذه الأحجار، ثمّ يأتوننا (4) ويعرضون (5) علينا نصرتهم (6). وبمعناه أحاديث كثيرة.

هذا ما اقتضاه الحال، ومَن أراد بيان المستحبّات فعليه بالمطوّلات، وصلّى اللَّه على محمّدٍ وآله وصحبه الطاهرين وسلّم كثيراً.

وورد في آخر نسخة ب

وورد في آخر نسخة ب:

[تمّ المنسك المختصر اللطيف، على يد القنّ الضعيف فقير ربّه الغنيّ


1- 1 انظر: الوسائل، باب 2، من أبواب العمرة، الأحاديث: 2، 3، 6. ج 14، 298.
2- 2 انظر: الوسائل، كتاب الحجّ، الباب 2، من أبواب المزار. ج 14، 320.
3- 3 انظر أحاديث باب 29، من أبواب مقدّمة العبادات من الوسائل. ج 1، 118.
4- 4 يأتونا. م.
5- 5 يعرضوا. م.
6- 6 نصّ الحديث: عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «إنّما أمر النّاس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثمّ يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم». الوسائل باب 2، من أبواب المزار. الحديث: 1. ج 14، 321.

ص: 64

السبحاني حسين بن المقدّس الشيخ علي آل المرحوم الشيخ سليمان البلادي البحراني (عفى (1)اللَّه تعالى عنهم وعن المؤمنين والمؤمنات بمحمّدٍ وآله الهداة عليهم أفضل الصلوات يوم 17 جمادى الثاني (2) سنة 1354].

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق:

1- القرآن المجيد.

2- الاصطلاحات في الرسائل العمليّة، العاملي (ياسين بن عسى- معاصر)، قم: جماعة المدرسين.

3- أنوار البدرين، البلادي (علي بن حسن ت 1340 ه)، النجف: مطبعة النعمان 1377 ه.

4- بحار الأنوار، المجلسي (محمّد باقر بن محمّد تقي ت 10- 1111 ه)، بيروت: مؤسّسة الوفاء 1403- 1983 م.

5- ترتيب القاموس المحيط، الزاوي (الطاهر أحمد)، بيروت: دار الكتب العلمية 1399 ه- 1979 م.

6- الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الطهراني (أغا بزرك ت 1389 ه)، بيروت: دار الأضواء.

7- مجمع البحرين، الطريحي (فخر الدين بن محمّد ت 1085 ه)، بيروت:

الوفاء.

8- المقنعة، المفيد (محمّد بن محمّد ت 413 ه)، قم: مؤسسة النشر الإسلامي 1410 ه.

9- المهذّب البارع، الطرابلسي (عبدالعزيز بن البرّاج ت 481 ه)، قم:

مؤسّسة النشر الإسلامي 1406 ه.


1- 1 عفا. م.
2- 2 جمادى الآخرة، إلّاإذا أراد به الشهر. م.

ص: 65

10- النهاية- المطبوع معها نكت النهاية، الطوسي (محمّد بن الحسن ت 460 ه)، قم: مؤسّسة النشر الإسلامي 1412 ه.

11- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، العاملي (محمّد بن الحسن ت 1104 ه)، تحقيق: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، قم: الطبعة الأُولى 1412 ه.

ص: 66

مخطوط

ص: 67

الهوامش:

بيعة العقبة

ص: 69

بيعة العقبة

محمّد هادي اليوسفي الغروي

قال القمي في تفسيره: لمّا قدمت الأوس والخزرج مكّة، وكان أكثرهم مشركين على دينهم، وفيهم عبداللَّه ابن أبي بن أبي سَلول، وفيهم ممن أسلم بشر كثير. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله نازلًا في دار عبدالمطلب (في منى في أيّام موسم الحجّ) ومعه علي عليه السلام وحمزة والعباس. فجاءهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وقال لهم: تمنعون جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم، وثوابكم على اللَّه الجنّة؟ قالوا: نعم يا رسول اللَّه فخذ لنفسك وربّك ما شئت. فقال: موعدكم العقبة في الليلة الوسطى من ليالي التشريق فاحضروا دار عبدالمطلب على العقبة، ولاتنبّهوا نائماً.

فلمّا حجّوا رجعوا إلى منى، وجاءه منهم سبعون رجلًا من الأوس والخزرج فدخلوا الدار. فلمّا اجتمعوا قال لهم رسول اللَّه: تمنعون جانبي حتّى أتلو عليكم كتاب ربّكم وثوابكم على اللَّه الجنّة؟ فقال أسعد

ص: 70

ابن زرارة والبَراء بن معرور وعبداللَّه ابن حرام: نعم يا رسول اللَّه، فاشترط لنفسك ولربّك.

فقال رسول اللَّه: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، وتمنعون أهلي ممّا تمنعون منه أهليكم؟ قالوا: فما لنا على ذلك؟

قال: تملكون بها العرب في الدنيا، وتدين لكم العجم وتكونون ملوكاً في الجنّة.

فقالوا: قد رضينا. فقام العبّاس ابن نضلة الأوسي فقال:

يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنّما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا، فإن علمتم أنّه إذا أصابتكم المصيبة في أنفسكم خذلتموه وتركتموه فلاتغروه، فإنّ رسول اللَّه وإن كان قومه خالفوه- فهو في عزّ ومنعة.

فقال له عبداللَّه بن حرام وأسعد ابن زرارة وأبوالهيثم بن التيهان:

ص: 71

مالك وللكلام؟! ثم قالوا: يا رسول اللَّه، بل دمنا بدمك وأنفسنا بنفسك، فاشترط لربّك ولنفسك ما شئت.

فقال رسول اللَّه: أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً يكفلون عليكم بذلك، كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً. فقالوا:

اختر من شئت.

فأشار جبرئيل عليه السلام إليهم، فقال:

هذا نقيب، وهذا نقيب حتّى اختار تسعة من الخزرج وهم: أسعد بن زرارة، والبَراء بن معرور، وعبداللَّه ابن حرام- وهو أبوجابر بن عبداللَّه الأنصاري- ورافع بن مالك، وسعد ابن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبداللَّه بن رواحة، وسعد بن الربيع، وعبادة بن الصامت. وثلاثة من الأوس هم: أبوالهيثم بن التيهان اليمني حليف بني عمرو بن عوف، وأُسيد ابن حضير، وسعد بن خيشمة.

فلمّا اجتمعوا وبايعوا رسول اللَّه صاح بهم إبليس: يا معشر قريش والعرب، هذا محمّد والصُباة من الأوس والخزرج على هذه العقبة يبايعونه على حربكم فأسمَعَ أهل منى، فهاجت قريش وأقبلوا بالسلاح.

وسمع رسول اللَّه النداء فقال للأنصار: تفرّقوا. فقالوا: يا رسول اللَّه إنْ أمرتنا أن نميل عليهم بأسيافنا فعلنا.

فقال رسول اللَّه: لم أُؤمر بذلك، ولم يأذن اللَّه في محاربتهم.

فقالوا: يا رسول اللَّه فتخرج معنا.

قال: انتظر أمر اللَّه (بالهجرة) فتفرّقوا.

وخرج حمزة وعلي بن أبي طالب فوقف حمزة على العقبة ومعه السيف.

فجاءت قريش على بكرة أبيها قدأخذواالسلاح، فلمّا نظروا إلى حمزة قالوا له: ما هذا الذي اجتمعتم عليه؟

ص: 72

قال: ما اجتمعنا، وما هاهنا أحد، وواللَّه لايجوز أحد هذه العقبة إلّا ضربته بسيفي! فرجعوا. ورجع رسول اللَّه إلى مكّة.

(ولم يطلع المسلمون من الأوس والخزرج المشركين منهم، وفيهم عبداللَّه بن أبيّ بن أبي سلول، فغدت قريش إليه) وقالوا له: قد بلغنا أنّ قومك بايعوا محمّداً على حربنا؟

فحلف لهم عبداللَّه: أنّهم لم يفعلوا ولاعلم له بذلك، فصدّقوه (1).

ذكر ذلك القمي في تفسيره، ونقله عنه الطبرسي في «اعلام الورى» والقطب الراوندي في «قصص الأنبياء» ولم يتبعه تلميذه ابن شهر آشوب في «مناقب آل أبي طالب» بل قال:

كان النبيّ يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم، فلقى رهطاً من الخزرج ستة نفر فقال: أفلا تجلسون أُحدّثكم؟ قالوا: بلى، فجلسوا إليه فدعاهم إلى اللَّه وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض: واللَّه إنّه للنبيّ الذي كان يُوعدكم به اليهود، فلاتسبقنّكم إليه (فصدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام) وقالوا له: إنّا تركنا قومنا ولاقوم بينهم من العداوة والشرّ مثل ما بينهم، فعسى أن يجمع اللَّه بينهم بك، فسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك (ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم اللَّه بك فلا رجل أعزّ منك). ثمّ انصرفوا عن رسول اللَّه راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدّقوا.

فلمّا كان العام المقبل أتى من الأنصار إلى الموسم اثناعشر رجلًا فلقوا النبيّ صلى الله عليه و آله فبايعوه على «بيعة النساء» (2) وبعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم يصلّي بهم (فكان يصلّي بهم ويقرئهم القرآن حتّى سمّي بينهم بالمقرئ، وحتّى لم تبق دار في المدينة إلّاوفيها رجال ونساء


1- 1 تفسير القمي 1: 272، 273، باختلاف في بعض الألفاظ، وعنه في اعلام الورى: 59- 61، وعن القمي أيضاً في قصص الأنبياء: 332، 333، باختلاف في بعض الألفاظ أيضاً.
2- 2 اصطلح المسلمون- فيما بعد- اسمَ بيعة النساء على البيعة التي وردت في الآية الثانية عشرة من سورةالممتحنة، وإنّما يكنّى بها عن بيعة لاقتال فيها في مقابل بيعة الحرب. وسورة الممتحنة نازلة بعد صلح الحديبية، فالتسمية متأخّرة.

ص: 73

مسلمون:

(وفي الموسم القادم) خرج جمع من الأنصار مع حجّاج قومهم، فاجتمع، في ليلة من ليالي التشريق في الشعب عند العقبة، ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان.

(فقام فيهم رسول اللَّه) فقال:

أُبايعكم على الإسلام.

فقال له بعضهم: نُريد أن تعرّفنا- يارسول اللَّه- ما للَّه علينا وما لك علينا وما لنا على اللَّه؟

فقال: أما ما للَّه عليكم: فأن تعبدوه ولاتشركوا به شيئاً، وأما مالي عليكم: فتنصروني مثل نسائكم وأبنائكم، وأن تصبروا على عضّ السيف وأن يُقتل خياركم (1).

قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا على اللَّه؟

قال: أمّا في الدنيا فالظهور على من عاداكم، وفي الآخرة الرضوان والجنّة.

فقال أبوالهيثم بن التيهان: إنّ بيننا وبين الرجال حبالًا، فهل عسيت إن نحن قطعناها أو قطعوها ثمّ أظهرك اللَّه أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

فتبسّم رسول اللَّه ثمّ قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أُحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم.

فأخذ البَراء بن معرور بيده ثمّ قال: والذي بعثك بالحقّ لنمنعنّك بما نمنع به أُزرنا، فبايعنا- يارسول اللَّه- فنحن واللَّه أهل الحروب وأهل الحلقة، ورثناها كباراً عن كبار.

فقال رسول اللَّه: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً. فاختاروا.

فقال لهم: أُبايعكم كبيعة عيسى ابن مريم للحواريين، كفلاء على قومكم، على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فبايعوه على ذلك.

فصرخ الشيطان في العقبة: يا أهل الجباجب (2) هل لكم في محمّد والصُباة معه، فإنّهم قد اجتمعوا على حربكم؟! ففشا الخبر ونفر الناس


1- 1 وهذا معناه أن بيعة النساء السابقة تغيّرت هنا إلى بيعة القتال والحرب.
2- 2 الجباجب: جمع جُبجبة: الوعاء من أُدم ونحوه، وتُطلق على منازلهم في منى لأنّها أوعية لهم.

ص: 74

وخرجوا في الطلب، فلم يدركوا منهم إلّا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأمّا المنذر فأعجز القوم هرباً، وأمّا سعد فأدركوه فأخذوه وربطوه بحبل رحله وادخلوه مكّة يضربونه.

فبلغ خبره إلى جبير بن مُطعم والحارث بن حرب بن أُميّة (أخي أبي سفيان صخر بن حرب) فأتياه وخلّصاه (1).

هذا ما ذكره ابن شهر آشوب في فصل هجرته صلى الله عليه و آله، وقد قال في الفصل السابق في أحواله وتواريخه:

كان حصار الشِعب أربع سنين. وقال قبله: توفي أبوطالب بعد نبوّته بتسع سنين وثمانية أشهر، وذلك بعد خروجه من الشعب بشهرين.

وتوفّيت خديجة بعده بستّة أشهر.

ولبث بعدها بمكّة ثلاثة أشهر فأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة (!) فخرج جماعة من أصحابه بأهاليهم، وذلك بعد خمس من نبوّته (!) وقال:

فلمّا توفّي أبوطالب خرج إلى الطائف وأقام فيه شهراً، ثمّ انصرف إلى مكّة ومكث فيها سنة وستّة أشهر في جوار مُطعم بن عدي.

ثمّ ذكر مختصر بيعة العقبة الأُولى والعقبة الثانية، ولكنّه أضاف ذكر أسمائهم فقال: كانت بيعة العقبة الأولى بمنى، بايعه خمسة نفر من الخزرج وواحد من الأوس، في خفية من قومهم «بيعة النساء» وهم: جابر ابن عبداللَّه (2)، وقطبَة بن عامر بن حَرام، وعوف بن الحارث، وحارثة ابن ثعلبة (3)، ومرثد بن الأسد، وأبو أمامة ثعلبة بن عمرو، ويقال:

هو أسعد بن زرارة.

وفي السنة القابلة- وهي العقبة الثانية- أنفذوا معهم ستّة أخرى بالإسلام والبيعة، وهم: أبوالهيثم بن التيهان، وعُبادة بن الصامت، وذكوان ابن عبداللَّه، ونافع بن مالك بن العجلان، وعبّاس بن عبادة بن نضلة، ويزيد بن ثعلبة حليف له. ويقال:

مسعود بن الحارث، وعُويم بن


1- 1 مناقب آل أبي طالب: 181، 182. وهو مختصر خبر ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 70- 93.
2- 2 لايوجد جابر فيمن شهد العقبة بل أبوه عبداللَّه بن عامر بن حرام. بل يعدّ جابر من أتراب الحسين عليه السلام.
3- 3 ولايوجد هذا الإسم أيضاً في السنة الأُولى ولا الأخيرة، بل هو جدّ الأوس والخزرج، اليعقوبي 2: 30.

ص: 75

ساعدة حليف لهم.

ثمّ أنفذ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم معهم ابن عمّه: مصعب بن عمير بن هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة، فاجتمعوا عليه وأسلم أكثرهم.

وفي السنة القابلة كانت «بيعة الحرب» (1) كانوا سبعين رجلًا وامرأتين من الأوس والخزرج، واختار منهم اثني عشر نقيباً ليكونوا كفلاء قومهم: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، فمن الخزرج:

أسعد بن زرارة، وجابر بن عبداللَّه الأنصاري (2)، والبراء بن معرور، وعبداللَّه بن عمرو بن حرام، وسعد ابن عبادة، والمنذر بن عمرو، وعبداللَّه بن رواحة، وسعد بن الربيع.

ومن القوافل: عُبادة بن الصامت.

ومن الأوس: أبوالهيثم بن التَّيهان، وأُسيد بن حُضير، وسعد بن خيثمة (3).

وظاهره- كما ترى- أنّه يعدّد ثلاث بيعات في ثلاث سنوات متواليات، ولم يسند الخبر لاهنا ولافي فصل هجرته صلى الله عليه و آله و سلم ولم يذكر سيرة ابن هشام أو ابن إسحاق عند ذكره لطرقه إلى كتب العامّة في مقدّمة كتابه، نعم ذكر طريقه إلى مغازيه (4)ومع ذلك فإنّي لا أراه إلّاأنّه اختصر خبره من سيرته كما في سيرة ابن هشام، مع فارق:

أن ابن إسحاق يبدأ في خبر إسلام الأنصار، فيذكر عرض الرسول نفسه على العرب، ولقاءه بالستة من الخزرج عند العقبة، وأنّهم: أجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام. ثمّ انصرفوا عن رسول اللَّه راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدّقوا. ثمّ يسمّيهم. ولايذكر شيئاً عن البيعة ولايسمّيهما «بيعة النساء» ولا «العقبة الأُولى» وابن شهر آشوب سمّاها: بيعةَ العقبة الأُولى، وبيعةَ النساء. والعقبةُ التي اضيف فيها إلى الستة الأُولى ستّة آخرون فكان


1- 1 في الكتاب: الحرث، أو الحرس، ولاريب أن الحرس مصحّف الحرث، وهو مصحّف الحرب، فهو الصحيح ولامعنى لغيره.
2- 2 روى الكشي في رجاله عن الباقر عليه السلام قال: كان عبداللَّه أبوجابر بن عبداللَّه من السبعين ومن الاثني عشر، وجابر من السبعين وليس من الاثني عشر. رجال الكشي: 41 طمشهد.
3- 3 مناقب آل أبي طالب 1: 174، 175، وهو مختصر خبر ابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام 2: 73- 75 و 81- 87 ومنها ما بين الأقواس.
4- 4 مناقب آل أبي طالب 1: 10.

ص: 76

الجميع اثني عشر رجلًا وبُعث معهم مصعب بن عمير، يسمّيها: العقبة الثانية. والعقبةُ الثانية التي كان الأنصار فيها ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين يسمّيها بيعةَ الحرب، وهي كذلك، ولكنّه يجعلها البيعة الثالثة في السنة القابلة أي الثالثة. ولعلّ منشأ الشبهة له هو أنّ ابن اسحاق أو ابن هشام لايسمي اللقاء الأول (1)، ويسمي اللقاء الثاني بالعقبة الأولى (2)، ويسمّي اللقاء الثالث بالعقبة الثانية (3) ثمّ يعود على شروط هذه البيعة بعنوان: شروط البيعة في العقبة الأخيرة: قال ابن إسحاق: وكانت بيعة الحرب (4) فلعلّه وِهمَ أن البيعة الأخيرة بيعة الحرب غير بيعة العقبة الثانية، فهي الثالثة.

وابن إسحاق يروي الخبر الأوّل عن اللقاء الأوّل للنبيّ بالستّة من الخزرج عن عاصم بن عمر بن قَتادة عن أشياخ قومه (5)، وخبر العقبة الأُولى عن عُبادة بن الصامت بثلاثة وسائط (6)، وبطريق آخر عنه بواسطتين (7)، وخبر العقبة الثانية عن كعب بن مالك الخزرجي بواسطة ابنه معبد عن أخيه عبداللَّه عن أبيه كعب (8) وخبر أسر سعد بن عُبادة عن عبداللَّه بن أبي بكر عنه (9).

ويوهم قوله: كانت البيعة الأُولى على بيعة النساء، وذلك أنّ اللَّه لم يكن قد أذن لرسوله صلى اللَّه عليه [وآله] وسلم في الحرب، فلمّا أذن اللَّه له فيها وبايعهم رسول اللَّه (10) وقوله:

وكان رسول اللَّه قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تُحلل له الدماء .. فلمّا عتت قريش على اللَّه عزّوجل .. أذن اللَّه عزّوجلّ لرسوله في القتل والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ... بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء: أنّ أوّل آية أُنزلت في اذنه له في الحرب وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم قول اللَّه تبارك وتعالى: (

أُذن للذين يقاتَلون


1- 1 سيرة ابن هشام 2: 70.
2- 2 ابن هشام 2: 73.
3- 3 ابن هشام 2: 81.
4- 4 ابن هشام 2: 97.
5- 5 سيرة ابن هشام 2: 70.
6- 6 ابن هشام 2: 75.
7- 7 ابن هشام 2: 76.
8- 8 ابن هشام 2: 81.
9- 9 ابن هشام 2: 91.
10- 10 ابن هشام 2: 97.

ص: 77

بأنّهم ظُلموا وإنّ اللَّه على نصرهم لقدير) (1) .. فلمّا أذن اللَّه تعالى له في الحرب وبايعه هذا الحيّ من الأنصار (2)يوهم قوله هذا: أنّ الإذن له بالحرب صدر بهذه الآية قبل بيعة الحرب في العقبة الثانية قبل الهجرة، ولذلك بايعهم النبيّ بيعة الحرب.

ويردّه مارواه ابن اسحاق عن معبد بن كعب عن أخيه عبداللَّه بن كعب عن أبيه كعب بن مالك: أنّ العبّاس ابن عُبادة بن نَضلة قال له: إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا! فقال رسول اللَّه: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم (3).

والآية من سورة الحجّ، وهي بعد المئة في ترتيب النزول، أي النازلة بعد عشرين سورة نزلت بعد الهجرة، تقريباً، ممّا لايناسب معه نزولها حتى قبل وقعة بدر في منتصف السنة الثانية للهجرة، بل يناسب نزولها بعد ذلك تحكي علّة الإذن في ذلك، فضلًا عن أن تكون قد نزلت قبل بيعة الحرب في العقبة الثانية قبل الهجرة، ممّا يوهمه ظاهر مقال ابن إسحاق، ولكن الحديث اختلط بعضه ببعض في غير وضوح. نعم كان يفهم من بيعة الحرب أنّ ذلك سيكون، وكانت لابن إسحاق رواية عن عروة بن الزبير وغيره عن أوّل آية أُنزلت في الإذن في الحرب والقتال، فانتقل إلى نقل الرواية كجملة معترضة، ومثله كثير في الكتب القديمة.

الهوامش:

مقام ابراهيم


1- 1 الحجّ: 39.
2- 2 ابن هشام 2: 110- 111.
3- 3 سيرة ابن هشام 2: 91.

ص: 79

مقام إبراهيم

محسن الأسدي

هناك عبر جهادٍ مرير، ومعاناة شاقّة، راح شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل يُلقي بذور رسالة السماء إلى أهل الأرض، فكانت- حقّاً- بذوراً مباركة مورقة ذات بهجة، تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربِّها، في عصره وفيما تلته من عصور، فغدت كلّها عصوراً نابضةً بآيات الإيمان، زاخرة بمعالم الخير والعطاء، شاخصة بالعزّ والشموخ. وراح ذلك الوادي- الذي كان مكاناً مقفراً في جوف تلك الصحراء النائية- راح يضجّ بحياة تدبّ في كلّ مظاهر دنياه وتُضفى عليها السلامة والطمأنينة والأمان.

وليس هذا غريباً على خليل الرحمن الذي أعدّته السماء خير إعدادٍ، وهيّأته على أكمل وجه؛ ليؤدّي رسالته خير أداء، ويبلّغ ما حمّل على أحسن وأكمل شكل. وما انكفت تلاحقه السماء فتبتليه أحياناً، فتجده عبداً صابراً، وتثبّته أُخرى وهو يجتاز أشواك وعقبات طريق دعوة الحقّ الملقاة على عاتقه، فكان

ص: 80

ثواب اللَّه له عظيماً أن جعل ثمار بذوره بل وكل ما استعان به من صخور صمّاء في مشروعه السماوي الحافل آيات لا تحدّ بحدٍّ ولا تنتهي بأمد معيّن، مَنّ اللَّه عليه بأن ينضج كلّ ما بذره وكلّ ما استعان به سريعاً ليدوم طويلًا وليخلد عبر أجيال متقادمة فكان- حقّاً- عطاءً خالداً ما دام ليل وما بقي نهار، تنتفع منه الأجيال المؤمنة، وتقتطف ثماره ويكون مأوى الأفئدة وتصلّي وتبارك وتترحم على إبراهيم وآل إبراهيم.

لقد كانت أنشطته وأعماله بذور خير نمت وترعرعت (بوادٍ غير ذي زرع) فكان ذلك البيت العامر الخالد عبر القرون يطوف حوله الصالحون، ويصلّي عنده الراكعون الساجدون. وكانت تلك الصخرة التي استعان بها؛ ليرفع أحجاراً يشيّد بها بناء بيت اللَّه تعالى الذي شاءت إرادته أن يعبد فيه، صخرة وقف عليها ليرفع قواعد البيت، واتّخذها مكاناً لأذانه بالحجّ ثمّ لتكون بعد ذلك آية، يتّخذها الطائفون العابدون مصلّى لهم، فتذكرهم بعظمة صاحبها وتضحيته وصبره، وكيف كان رمزاً خالداً لكلّ قِيَم ومبادئ السماء، ويتأمّلون عظمة هذا الرجل وما ناله من أوسمة مباركة؛ منها: (

واتّخذ اللَّه إبراهيم خليلًا) (1) و (

إنّ إبراهيم كان

أُمّةً) (2) ... تقول الرواية التي يرويها ابن عباس:

جاء إبراهيم فوجد إسماعيل يُصلح نبلًا له من وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل! إنّ ربّك قد أمرني أن أبني له بيتاً.

فقال إسماعيل، فأطع ربّك فيما أمر.

فقال إبراهيم: قد أمرك أن تُعينني عليه.

قال: إذن أفعل.

فقام معه- فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة. ويقولان (

ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم) (3) ، فلمّا ارتفع البنيان، وضعف عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم فجعل يبني وإسماعيل يناوله، فلمّا فرغ، أمره اللَّه أن يؤذِّن في النّاس بالحجّ ..).

وفي رواية ثانية أيضاً تُنسب لابن عباس نذكر منها ما يخصّ المقام:

«... ويحمل له إسماعيل الحجارة على رقبته ويبني الشيخ إبراهيم، فلمّا ارتفع البناء (البنيان) وشقّ على الشيخ إبراهيم تناوله، قرّب له إسماعيل هذا الحجر- يعني المقام- فكان يقوم عليه، ويبني، ويحوّله في نواحي البيت، حتّى انتهى إلى وجه البيت. يقول ابن عباس: فلذلك سُمّي مقام إبراهيم لقيامه عليه» (4).


1- 1 النساء/ 125.
2- 2 النحل/ 120.
3- 3 البقرة/ 127، أخبار مكّة للأزرقي 1: 60.
4- 4 أخبار مكّة للأزرقي: ج 1، ص 59.

مكانه

مكانه:

بما أنّ إبراهيم وإسماعيل استفادا من صخرة في بناء البيت، حتّى انتهيا، حيث

ص: 82

بدَءا (واجهة البيت). فقد تركاها ملاصقة للبيت ثمّ طافا به، ولم أعثر على شي ء يدل على أنّهما- بعد انتهاء عملهما- نقلا الصخرة إلى موضع يبعد أذرعاً عن البيت نفسه. وإنّما تركاها حيث انتهيا في واجهة البيت، وعند هذا الحدّ تقف الأخبار ساكتة عمّا جرى للصخرة بعد ذلك حتّى غيّر أهل الجاهلية مكانها فأبعدوها عن البيت 26 ذراعاً أو أكثر قليلًا حيث مكان المقام الآن وهو مدار الطواف، وإنّما أقول: مدار الطواف أو المطاف؛ لأنّه لم يكن قبل الإسلام ذكر للمسجد الحرام، وكلّ ما هناك هو مدار للطواف، فالطواف هو المتعارف عندهم حول الكعبة. ثمّ أعاده رسول اللَّه إلى مكانه السابق وبعده أرجعه عمر إلى حيث هو الآن. هذا ما تقوله المصادر التي تيسّرت لي. بينما ورد في الجواهر عن ابن سراقة أنّ ما بين باب الكعبة ومصلّى آدم أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام وصلّى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين، وأنزل عليه (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

ثمّ نقله إلى الموضع الذي هو فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعاً من الكعبة لئلّاينقطع الطواف بالمصلّين خلفه، ثمّ ذهب به السيل في أيام عمر إلى أسفل مكّة فأُتي به، وأمر عمر بردِّه إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. ونحوه في أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم هو الواضع له هنا ما عن ابني عنبسة وعروية .. انتهى ما ورد في الجواهر. (1) فهذا الكلام واضح في أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وليس عمر بن الخطاب، الذي وضع الصخرة في المقام الحالي. ولكن المشهور تأريخيّاً وروائيّاً غير هذا حيث إنّ العديد من روايات أهل البيت وروايات غيرهم تؤكّد أنّ المقام (الصخرة) كان لاصقاً بالبيت بعد أن أعاده رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فحوّله عمر إلى حيث هو الآن.

ففي الكافي والفقيه: كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح


1- 1 الجواهر: 19/ 297.

ص: 83

النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكّة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام إلى أن ولّي عمر بن الخطاب فسأل الناس: مَن منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال بعض:

أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فأتاه به فقاسه ثمّ ردّه إلى ذلك المكان.

وفي مضمرة ابن مسلم وصحيحة إبراهيم بن أبي محمود المرويّتين في الكافي عن الإمام الرضا ما يدلّ على أنّ محلّ المقام على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم غير محلّه في أيام الأئمّة عليهم السلام إلى الآن.

وفي تفسير القمّي في سورة الحج: أنّ المقام كان في زمن إبراهيم يلصق بالبيت ...

وفي الدُرّ المنثور كما عند الأزرقي في أخبار مكّة عن المطلب بن أبي وداعة وعن آخر: أنّ سيل أم نهشل في أيام عمر احتمل المقام من محلّه، فسأل عمر عن محلّه، فزعم المطلب أنّ عنده مقياس محلّه، فوضع في محلّه الآن.

وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج البيهقي في سُننه عن عائشة: أنّ المقام كان في زمن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وزمان أبي بكر ملتصقاً بالبيت ثمّ أخّره عمر بن الخطاب.

أمّا السيّد السبزواري فقد جاء بشي ء لم يسبقه أحدٌ إليه- حسب اطّلاعي- فقد ميّز بين مقامين لإبراهيم الخليل، حين ذكر أنّ هناك مقامين (مقام قدمي- مقام عبادي) كما صرّح به في الفائدة الثالثة من مهذّب الأحكام، حيث قال: لإبراهيم الخليل عليه السلام مقام صلاة وعبادة في مسجد الكوفة، ومسجد السهلة، وبيت المقدس، وبعيد في الغاية أن لا يكون له مقام صلاة وعبادة في المسجد الحرام ولا بدع في ذلك، فإنّ كثرة تفاني الخليل في مرضاة خليله لا يقتضي إلّا ذلك، والظاهر أنّ المقام الفعلي كان مقام صلاته وعبادته، وكان مقام قدميه أي:

الصخرة ملصقاً بجدار البيت فكان له عليه السلام مقامان ..

المقام القدمي .. المقام العبادي.

فجمع في الجاهلية بين المقامين، وفرّق بينهما رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لمصالح، ثمّ جمع

ص: 84

بينهما وقرّره المعصومون عليهم السلام لمصالح كثيرة فيكون

منتهى الطواف ومحلّ صلاته مقامه العبادي لا مقامه القدمي

ويقتضيه الاعتبار. ولعلّ اهتمام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم على التفريق بينهما لئلّا يخضع العوام وضعفة العقول لقدميه عليه السلام في مقابل التخضّع للَّه تعالى وبيته، ولئلّا يكون له استقلال في قبال البيت الشريف بل يكون ملصقاً به ومن تبعاته تبعية آلات البناء وأدواتها لنفس البناء.

وقد ذكر أيضاً في الفائدة الثانية أنّه: يظهر من الأخبار أنّ الصخرة التي عليها أثر قدمي الخليل المسمّى بالمقام قد تغيّر محلّه عمّا كان عليه، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكّة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام فلم يزل هناك حتّى ولّي عمر فسأل الناس: مَن منكم يعرف المكان الذي فيه المقام؟ فقال رجل:

أنا قد أخذت مقداره بنسع (حبل عريض يُشدّ به الرحال) وهو عندي، فقال:

إئتني به، فأتاه فقاسه ثمّ ردّه إلى ذلك المكان». وفي روضة الكافي عن علي عليه السلام:

«لو أمرتُ بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم ... لتفرّقوا عنّي».

وقال الشهيد الثاني في المسالك:

الأصل في المقام أنّه العمود من الصخر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقف عليه حين بنائه البيت، وأثر قدميه فيه إلى الآن .. ثمّ بعد ذلك بنوا حوله بناءً، وأطلقوا اسم المقام على ذلك البناء بسبب المجاورة حتّى صار إطلاقه على البناء كأنّه حقيقة عرفية.

وهذا واضح في أنّه لم يكن هذا الموضع مقاماً عبادياً قبل نقل الصخرة إليه، ولا موضع دعاء إبراهيم عليه السلام حين دعا لأهله كما ورد.

ص: 85

بقي شي ء هنا: وهو أنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم حينما صلّى ركعتي الطواف هل صلّاهما عند الموضع نفسه الذي وُضعت فيه الصخرة في الجاهليّة، أم أنّه بعد أن أرجع الصخرة إلى حيث كان موضعها زمن إبراهيم عليه السلام صلّى الركعتين عندها؟ لم أجد جواباً صريحاً على ذلك، لا في الأخبار التأريخية ولا في الروايات، وكلّما هناك أنّه أعاد الصخرة إلى حيث كانت أيام إبراهيم عليه السلام، وأنه مشى أو تقدم بعد طوافه نحو المقام وأدّى الركعتين اللّهم إلّاأن نقول: إنّ الفعل «مشى» أو «تقدم» يدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلم أدّى الركعتين عند المقام الحالي قبل أن ينقله إلى موضعه السابق الذي ليست هناك مسافة بينه وبين نهاية الشوط الأخير لملاصقته للبيت، هذا وأن الأخبار لم تذكر لنا أن هذا المقام هو المقام العبادي أو موضع دعاء إبراهيم عليه السلام لأهله (1)- وإن كان هناك من يذكر أن دعاءَه لهم كان عند جبل كداء.؟ ..

وصفه

وصفه:

تعرّض صاحب معجم البلدان- فيما تعرض له- إلى وصف المقام فقال:

وذرع المقام ذراع، هو مربع سعة أعلاه أربع عشرة إصبعاً في مثلها وفي أسفله مثلها وفي طرفيه طوق من الذهب وما بين الطرفين بارز لا ذهب عليه، طوله عن نواحيه كلّها تسع أصابع، وعرضه عشر أصابع، وعرضه من نواحيه إحدى وعشرون إصبعاً، ووسطه مربع، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع وحولهما مجوّف، وبين القدمين من الحجر إصبعان ووسطه قد استدقّ من التمسّح به، والمقام في حوض مربع حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح من رصاص، ومن المقام في الحوض إصبعان، وعليه صندوق ساج وفي طرفه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق ويقفل عليه قفلان، ... ثمّ راح ياقوت الحموي ينقل قول البشّاري: المقام بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب، وهو أقرب إلى البيت من


1- 1 أحكام القرآن لإبن العربي 1: 60.

ص: 86

زمزم، يدخل في الطواف في أيام الموسم، ويُكَبّ عليه صندوق حديد عظيم راسخ في الأرض طوله أكثر من قامة وله كسوة. ويُرفع المقام في كلّ موسم إلى البيت، فإذا رُفع جُعل عليه صندوق خشب له باب يُفتح في أوقات الصلاة، فإذا سلّم الإمام استلمه ثمّ أغلق الباب.

وفيه أثر قدم إبراهيم عليه السلام، مخالفة.

أمّا لونه وحجمه فيقول عنهما: إنّه «أسوَدُ وأكبر من الحجر الأسود» (1).

مع الآيتين

مع الآيتين

(واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى) (2) (فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم) (3) هاتان آيتان وردتا في خصوص المقام نتحدّث أوّلًا عن الآية الأُولى:

القراءة

القراءة:

وقع اختلاف بين القرّاء في قراءتهم هذه الآية: فأكثرهم على أنّ اتّخذوا فعل أمر، أمّا ابن عامر ونافع وغيرهما فقد قرأوا هذا الفعل على لفظ الخبر من فعل ماضٍ، وهذه القراءة فيها ثلاثة أوجه:

الأوّل:

أنّه معطوف على «جعلنا» المخفوض ب (إذ) في (وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتّخَذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

يقول الرازي: فيكون الكلام جملة واحدة، وهو إخبار عن ولد إبراهيم أو متّبعيه أنّهم اتّخذوا من مقامه (مصلى)، فيكون هذا عطفاً على (جعلنا البيت) واتّخذوه مصلّى. وقال أبو علي الفارسي: وجه قراءة من قرأ على الخبر أنّه عطف على ما أُضيف إليه إذ كأنّه قال:

وإذ اتّخذوا قال: وتقوية قوله أنّ ما بعده خبر، وهو قوله: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل ...). تكملة الآية نفسها.


1- 1 معجم البلدان 5: 164. أخبار مكّة للأزرقي 2: 38.
2- 2 البقرة/ 125.
3- 3 آل عمران/ 97.

ص: 87

الثاني:

أنّه معطوف على مجموع قوله (وإذ جعلنا ...)

فيحتاج إلى تقدير «إذ» أي (وإذ اتّخذوا)

ويكون الكلام جملتين لا جملة واحدة.

الثالث:

أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: فثابوا واتّخذوا.

هذا فيما يخصّ القراءة الثانية قراءة (

واتّخذوا)

بفتح الخاء على أنّها فعل ماضٍ.

أمّا القراءة الأولى وهي المشهورة، قراءة الأمر (واتّخذوا)

بكسر الخاء أي قطعوه عمّا سبقه وجعلوه معطوفاً جملة على جملة. ففيها خمسة أوجه:

الأوّل:

أنّها عطف على (اذكروا)

في (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ..)

إذا قيل: إنّ الخطاب هنا لبني إسرائيل أي: (اذكروا نعمتي واتّخذوا من ..).

الثاني:

أنّها عطف على الأمر الذي تضمّنه قوله: (مثابةً) كأنّه قال: ثوبوا «ارجعوا» واتّخِذوا.

الثالث:

أنّه معمولٌ لقولٍ محذوف أي: وقُلنا اتّخذوا إن قيل بأنّ الخطاب لإبراهيم وذرّيته أو لمحمدّ صلى الله عليه و آله و سلم وأُمّته.

الرابع:

أن يكون مستأنفاً.

الخامس:

ذكره الرازي: أنّه عطف على قوله (إنّي جاعلك للناس إماماً) والمعنى أنّه لما ابتلاه بكلمات وأتمّهنّ، قال له جزاء لما فعله من ذلك (

إنّي جاعلك للناس إماماً)

وقال (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى) (1).

مَن المامورون

مَن المأمورون؟

وبعد اتفاق المشهور على قراءة (واتّخذوا) بكسر الخاء، وقع الاختلاف في المأمورين بهذا الأمر. فهل المقصود به أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أو الخطاب عام يشمل


1- 1 يراجع في ذلك كلّه: تفسير الآية 125 من سورة البقرة في: مجمع البيان للطبرسي، التبيان للطوسي، إملاء ما مَن به الرحمن لأبي البقاء، الدرّ المصون للسمين الحلبي، التفسير الكبير للفخر الرازي.

ص: 88

الذين عاشوا فترة إبراهيم عليه السلام وما بعده، خصوصاً أنّ الآية جاءت ضمن آيات تشكّل قصة إبراهيم الذي يزعم اليهود والنصارى إنتماءهم إليه، حيث ذكر اللَّه تعالى بني إسرائيل بنعمه وأبان كيف قابلوا النعم بالكفر والجحود، فأعقب ذلك بقصة إبراهيم، ولو صدقوا زعمهم بالانتماء إليه لاتّبعوا النبي صلى الله عليه و آله و سلم لأنّه أثر دعوة أبيه إبراهيم حين دعا لأهل الحرم؟ ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده، إلّاأنّه تعالى أضمر قوله وقال، ونظيره قوله تعالى: (

وظنّوا أنّه واقع بهم خذوا ما أتيناكم بقوّة)

. وراح الرازي يسجّل قولًا آخر: أنّ هذا أمر من اللَّه تعالى لأمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أن يتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى، وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام، وكأنّه وجهه؛ وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتّخذوا أنتم من مقام إبراهيم مصلّى، والتقدير إنّا لما شرّفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتّخذوه أنتم قبلة لأنفسكم، والواو والفاء قد يذكر كلّ واحد منهما في هذا الموضع وإن كانت الفاء أوضح وأمّا على قراءة الفتح فيقول الرازي: فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى ... (1).

وذكر الشيخ الطوسي في تفسيره للآية: وظاهر قوله (

واتّخذوا ...)

أنّه عام لجميع المكلّفين إلّامن خصّه الدليل وعليه أكثر المفسّرين (2).

مِنْ:

في مِن من قوله تعالى: (

من مقام ..)

وجوه أربعة:

الأوّل:

أنّ من تبعيضية كما هو الظاهر، أي من بعض مقام إبراهيم.

الثاني:

أنّ مِن جاءت هنا بمعنى في.

الثالث:

أنّها زائدة وهذا ما ذهب إليه الأخفش.

الرابع:

ذكر في تفسير الرازي: إنّها بيانيّة لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في


1- 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 4: 53.
2- 2 التبيان للطوسي 1: 452.

ص: 89

ذلك المعنى عن غيره (1).

المقام:

المقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً. وأصله «مقوم» فأُعِلَّ بنقل حركة الواو إلى الساكن قبلها وقلبِها ألفاً، ويُعبَّرُ به عن الجماعة مجازاً كما يُعبَّر عنهم بالمجلس، قال زهير:

وفيهم مقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهم وأنديةٌ ينتابُها القولُ والفعلُ في حين ذكر القرطبي في الجامع أنّ المقام في اللغة: موضع القدمين. وراح ينقل قول النحّاس: «مِقَام» من قام يقوم، يكون مصدراً واسماً للموضع. ومُقام من أقام؛ فأمّا قول زُهير أعلاه فمعناه: فيهم أهل مقامات.

وقال صاحب أقرب الموارد: المَقام والمُقام: الإقامة وموضعها وزمانها.

(المَقام) أيضاً: موضع القدمين والمقام المنزلة ومنه مقامات الأعداد و (مَقَام إبراهيم) قيل هو الحجر الذي فيه أثر قدميه في الكعبة (2)

معنى المقام

معنى المقام:

وهنا أيضاً وقع الخلاف في معنى المقام، وقد ذكر الشيخ الطوسي في البيان أربعة أقوال:

أحدها:

قال ابن عباس الحجّ كلّه مقام إبراهيم.

ثانيها:

وقال عطا مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار.

ثالثها:

وقال مجاهد: الحرم كلّه مقام إبراهيم.

رابعها:

وقال السدي: مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم حين غسلت رأسه. فوضع إبراهيم رجله عليه وهو


1- 1 انظر الدر المصون والتفسير الكبير للرازي.
2- 2 يراجع في ذلك كلّه: تفسير الآية 125 من سورة البقرة في مجمع البيان للطبرسي، والتبيان للطوسي، وإملاء ما مَن به الرحمن لأبي البقاء، والدرّ المصون للسمين الحلبي والتفسير الكبير للرازي وديوان زهير 113، القرطبي 2/ 112 وأقرب الموارد: 2/ 54- 1 ق- الشرتوني، زبدة البيان: 1/ 286 للأردبيلي.

ص: 90

راكب فغسلت شقّه ثمّ رفعته من تحته وقد غابت رجله في الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت أيضاً رجله فيه فجعلها اللَّه من شعائره، فقال:

(واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

وبه قال الحسن، وقتادة والربيع، واختاره الجبائي، والرماني، وهو الظاهر في أخبارنا، وهو الأقوى؛ لأنّ مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلّاالمقام المعروف الذي هو في المسجد الحرام. وفي المقام دلالة على نبوّة إبراهيم عليه السلام؛ لأنّ اللَّه تعالى جعل الصخرة تحت قدمه كالطين حتّى دخلت قدمه فيها وكان ذلك معجزة له (1).

يقول صاحب أحكام القرآن: (... فمن النّاس من حمله على عمومه في مناسك الحجّ، والتقدير: «واتّخذوا من مناسك إبراهيم في الحجّ عبادةً وقُدوةً» ..) (2) وهذا كما يبدو يتّفق مع ما ذهب إليه ابن عبّاس في الرأي الأوّل:

الحجّ كلّه مقام إبراهيم، «ومن خصّصه قال: معناه موضعاً للصلاة المعهودة؛ وهو الصحيح ...» (3) والشيخ الطوسي يذهب إلى الرابع الذي أيّدته روايات أهل البيت عليهم السلام كما سنرى. كما أنّ الفخر الرازي في تفسيره الكبير يذهب إلى هذا الرأي كما يظهر ذلك من قوله بعد ذكر تلك الوجوه ويستعرض الأدلّة عليه: واتّفق المحقّقون على أنّ القول الأوّل- كما هو ترتيب الأقوال عنده حيث كان الرابع عند الطوسي الأوّل عند الرازي- أولى، ويدل عليه وجوه:

الأوّل:

ما روى جابر أنّه عليه السلام لمّا فرغ من الطواف. أتى المقام وتلا قوله تعالى (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدلّ على أنّ المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر.

وثانيها:

أنّ هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، والدليل عليه أنّ سائلًا لو سأل المكّي بمكّة عن مقام إبراهيم .. ولم يفهم منه إلّاهذا الموضع.


1- 1 التبيان للطوسي: ج 1، ص 453. في تفسير الآية.
2- 2 أحكام القرآن لابن العربي 1: 60.
3- 3 أحكام القرآن لابن العربي 1: 60.

ص: 91

وثالثها:

ما رُوي أنّه عليه السلام مرّ بالمقام ومعه عمر، فقال: يا رسول اللَّه أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: بلى. قال: أفلا نتّخذه مصلى؟ قال: لم أُؤمَر بذلك. فلم تَغِب الشمس من يومهم حتّى نزلت الآية.

ورابعها:

أنّ الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتّى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام، وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية اللَّه تعالى، ومعجزة إبراهيم عليه السلام. فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى.

وخامسها:

أنّه تعالى قال (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

وليس للصلاة تعلّق بالحرم ولا بسائر المواضع إلّابهذا الموضع، فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع.

وسادسها:

أنّ مقام إبراهيم هو موضع قيامه، وثبت بالأخبار أنّه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعني:

مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى، قال القفال: ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

على مجاز قول الرجل:

اتّخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني اللَّه من فلان أخاً صالحاً، ووهب اللَّه لي منك وليّاً مشفقاً. وإنّما تدخل «من» لبيان المتّخذ الموصوف وتميّزه في ذلك المعنى من غيره، واللَّه أعلم (1) ...

مُصَلَّى

مُصَلَّى:

مفعول اتّخذوا وهو هنا اسم مكان أيضاً وجاء في التفسير بمعنى قبلة. وقيل:

هو مصدرٌ، فلابدَّ من حذف مضافٍ أي: مكان صلاة، وألّفه منقلبة عن واوٍ، والأصل: «مُصَلَّوَ» لأنّ الصلاة من ذوات الواو (2) وقيل هو اسم مكان لا مصدر


1- 1 انظر التفسير الكبير للرازي: ج 3/ 54- القرطبي في الجامع لأحكام القرآن. الطبرسي في مجمع البيان.
2- 2 الدرّ المصون: ج 1، ص 94، تفسير الآية 3 من سورة البقرة. و ج 2، ص 106.

ص: 92

ووزنه مفعل.

وفي معناه وردت عدّة أقوال (1):

1-

مدعى يُدعى فيه، وهو مأخوذ من صلّيت بمعنى دعوت وهذا قول مجاهد. قال اللَّه تعالى (

يا أيّها الذين أمنوا صلّوا عليه).

2-

قبلة، وذهب الى هذا القول كلّ من الحسن والجبائي.

3-

الصلاة عنده أو موضع صلاة يصلى عنده بعد أن أمرنا بالصلاة عند المقام وهذا قول الحسن وقتادة، يقول الطوسي وهذا هو المروي في أخبارنا.

وبذلك استدلوا على أن صلاة الطواف فريضة مثله، لأنّ اللَّه تعالى أمر بذلك، والأمر يقتضي الوجوب. وليس هاهنا صلاة يجب أداؤهاعنده غيرهذه بلاخلاف.

وأمّا الرازي فقد ذكر أنّ مجاهداً إنّما ذهب إلى هذا التأويل (المصلى:

المدعى) ليتمّ له قوله: إنّ كلّ الحرم مقام إبراهيم وهو أحد الأقوال في المقام. ثمّ يضيف: أنّ أهل التحقيق قالوا: وهذا القول: (القول الثالث) «أُمروا أن يصلّوا عنده» أولى؛ لأنّ لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاه المفعولة بركوع وسجود، ألا ترى أنّ مصلّى المصر، وهو الموضع الذي يصلّى فيه صلاة العيد؟ وقال عليه السلام لأُسامة بن زيد: المصلّى أمامك، يعني به موضع الصلاة المفعولة، وقد دلّ عليه أيضاً فعل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للصلاة عنده بعد تلاوة الآية؛ ولأنّ حملها على الصلاة المعهودة أولى؛ لأنّها جامعة لسائر المعاني التي فسّروا الآية بها.

إذن المراد بالمقام والمصلى: هو مقام إبراهيم والصلاة عنده، وهو أصحّ الأقوال عند الفريقين.

المقام والطواف وصلاته

المقام والطواف وصلاته

إذن ثبت لنا أنّ المقام قد تغيّر مكانه، واتّفقت على ذلك الأخبار التأريخية


1- 1 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مجمع البيان للطبرسي، التبيان للطوسي، التفسير الكبير للرازي.

ص: 93

والروايات وبالتالي أقوال الفقهاء والمؤرّخين، ويظهر لنا من خلال ذلك أسئلة.

منها: هل لهذا التغيير أثر بالنسبة للطواف ولصلاته الأمرين الرئيسين اللّذين لهما علاقة بمقام إبراهيم؟ وبمعنى آخر هل هناك من مدخلية للمقام في الطواف وحدِّه؟

وهل له مدخلية في أداء ركعتي الطواف؟

فإذن عندنا الآن سؤالان الأوّل يتعلّق بالطواف ومدخلية المقام فيه، والثاني يتعلّق بصلاة الطواف ومدخلية المقام في مكانها.

أمّا الأوّل فمن خلال تتبّع الروايات وأقوال الفقهاء يظهر أن لا مدخلية للمقام، ولا خصوصية له في الطواف وإنّما ذكر في الروايات بأنّ يكون الطواف بينه وبين البيت كتحديد للمطاف لا غير فلو حول عن مكانه، وجب الطواف في المقدار المخصوص له وهو ست وعشرون ذراعاً ونصف الذراع من كلّ جوانب الكعبة.

فرواية محمّد بن مسلم- التي جبر ضعفها بعمل الأصحاب وبالشهرة عند من يقول بالانجبار- الذي قال: سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي مَن خرج عنه لم يكن طائفاً بالبيت؟

قال: كان الناس على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يطوفون بالبيت والمقام، وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت، فكان الحدّ موضع المقام اليوم، فمن جازه فليس بطائف، والحدّ قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلّها، فمَن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت، بمنزلة من طاف بالمسجد؛ لأنّه طاف في غير حدٍّ ولا طواف له (1).

إذن: الناس كانوا يطوفون- زمن رسول اللَّه- بالبيت والمقام أي أنّ الأخير داخل في طوافهم لكونه ملاصقاً للبيت، أما وقد تغيّر موضع المقام إلى ما هو عليه الآن فصار المقام حدّاً للمطاف باعتبار المساحة المذكورة التي إن خرج الطائف


1- 1 الوسائل: 13/ 350.

ص: 94

عنها لا يصدق عليه أنّه طائف بالبيت الطواف المطلوب بل طائف بالمسجد الذي هو عبارة عن المطاف نفسه، اللهمّ إلّاأن يكون لضرورة كما تصرّح به الرواية الأُخرى عن محمّد بن علي الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الطواف خلف المقام، قال: ما أحبّ ذلك، وما أرى به بأساً، فلا تفعله إلّاأن لا تجد منه بدّاً ..

فالعبرة بالمساحة المحدودة وليس للمقام دخل في ذلك وإنّما هو يمكن أن يكون حدّاً فقط وعلامة لذلك الحدّ أي حدّ المطاف، فالخصوصية والاعتبار لمدار المطاف، فلو قدّر أن يبتعد المقام أكثر من المساحة المذكورة أو يقترب نحو البيت لا تتغيّر هذه المساحة بل تبقى كما هي لا يجوز للطائف تجاوزها إلّاإذا لم يكن له بدّ.

وأخيراً قد يبدو من تحديد المطاف ب 26 ذراعاً ونصف الذراع هو أنّ هذه المساحة كانت هي المسجد أيام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قبل التوسعات التي حدثت في زمن عمر وعثمان وما بعدهما. فكلّ طواف يتمّ داخل هذه المساحة هو طواف بالبيت وضمن المساحة الأصلية للمسجد. وكلّ طواف يتمّ خارج هذه المساحة هو طواف بالبيت لكنّه خارج المسجد، وقد تمسك بعض العلماء بعدم جواز مثل هذا الطواف حتّى في حال الضرورة، وذهب البعض الآخر إلى جوازه مع الضرورة، في حين نسب للصدوق من الجواز مطلقاً على كراهة ..

ويمكن استظهار هذا كلّه من بعض الروايات، التي تشير إلى أنّ هناك طوافاً يتمّ خارج المطاف الذي هو مساحة المسجد الأصلية، فالرأي الأوّل الذاهب إلى وجوب الطواف بين البيت والمقام تعضده الرواية السابقة لمحمّد بن مسلم. والرأي الثاني الذاهب إلى جواز الطواف خارج المقام تعضده رواية الحلبي السابقة كما أنّ صاحب الرأي الثالث استفاد رأيه من هذه الرواية نفسها.

وما بالنسبة للمسألة الثانية وهي مكان صلاة ركعتي الطواف فبعد أن

ص: 95

اتّفقت كلمة الفقهاء على وجوب أدائهما عند مقام إبراهيم عليه السلام وقع الخلاف بينهم حول أي مكان من المقام تؤدّى فيه هاتان الركعتان:

فذهب فريق منهم إلى أنّه يجب ايقاعهما في المقام وفي هذا الخصوص يقول الشهيد في الدروس: إنّ معظم الأخبار وكلام الأصحاب ليس فيهما الصلاة في المقام بل عنده أو خلفه (1). وتعبير بعض الفقهاء بالصلاة في المقام مجاز تسمية لما حول المقام باسمه؛ لأنّ المراد بالمقام حقيقة هو الصخرة التي عليها أثر قدم إبراهيم عليه السلام ولا يصلّى عليها ولا قدّامها، وهذا حقّ (2). ثمّ يقول: لكنّ المراد بالمقام: هو البناء المعدّ للصلاة، الذي هو وراء الموضع، الذي فيه هذه الصخرة بلا فصل، ومع الزحام يصلي خلف هذا الموضع أو إلى جانبيه (3). في حين ذهب الفريق الثاني إلى أنّه يجب ايقاعهما خلف المقام، بينما راح الفريق الثالث إلى القول:

إنّه يجب أداؤهما عند المقام الشامل للخلف وأحد الجانبين.

وفي الوقت الذي ذهبت الفرق الثلاث إلى وجوب ايقاعهما (في المقام، خلف المقام، عند المقام ..) ذهب في الخلاف إلى أنّه يتوجب ايقاعهما خلف المقام، وإن لم يفعل وفعل في غيره أجزأه، ولم يكتف بهذا بل ادّعى عليه الإجماع.

في حين قال الشهيد في الدورس: لكن المراد بالمقام: هو البناء المعدّ للصلاة، الذي هو وراء الموضع، الذي فيه هذه الصخرة بلا فصل ومع الزحام يصلّى خلف هذا الموضع أو إلى أحد جانبيه عن إبراهيم بن أبي محمود، قلت للرضا عليه السلام: أُصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة، أو حيث كان على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ قال: حيث هو الساعة (4).

فهذه الرواية توضّح لنا أنّ المقام الذي يجب أن تؤدّى ركعتا الطواف (فيه) حسب تعبير بعض الفقهاء، أو خلفه أو عنده كما هو تعبير الروايات وكثير من الفقهاء، هذا المقام هو حيث الآن موجود لا في الموضع الذي كان في عهد


1- 1 الدروس: 113. هامش جامع المقاصد للكركي 3: 196.
2- 2 هامش جامع المقاصد: 3/ 196.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 الوسائل: 13/ 423، باب 71.

ص: 96

رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

نأتي الآن إلى استعراض بعض الروايات التي استفاد منها الفقهاء آراءهم حول مكان الصلاة في المقام:

* .. عن الحلال قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة فلم يذكر حتّى أتى منى، قال: يرجع إلى مقام إبراهيم فيصلّيهما.

* .. عن ابن عمّار: إذا فرغت من طوافك فأت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين (1).

* .. عن ابن عمّار، قال أبو عبد اللَّه عليه السلام: إذا فرغت من طوافك فإت مقام إبراهيم عليه السلام فصلّ ركعتين

واجعله اماماً ...

* .. عن جميل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: يصلّي ركعتي طواف الفريضة

خلف

المقام ..

* .. عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في رجل طاف طواف الفريضة ولم يصلّ الركعتين حتّى طاف بين الصفا والمروة، ثمّ طاف طواف النساء فلم يصلّ الركعتين حتّى ذكر بالأبطح، يصلّي أربع ركعات؟ قال: يرجع فيصلّي

عند

المقام أربعاً.

هذا وإن للشيخ البلاغي رأياً حيث يقول: وقد رُوي في الوسائل عن أئمّتنا عليهم السلام أكثر من اثني عشر حديثاً في أنّ صلاة الطواف خلف المقام بحسب موضعه في زمانهم عليهم السلام والآن، خمس منها استشهد فيها بقوله تعالى (

واتّخذوا ...)

وست نصّت على الخلف، وعلى ذلك يحمل ما كان لفظه عند المقام والتعبير بعند؛ فيه أيضاً تقييد لإطلاق الخلف، وكذلك ما كان لفظه ارجع إلى المقام أو إئت المقام، وهذا ممّا يشهد لإرادة الجهة ومقدار سعتها. كما أنّه يقول:

والظاهر أنّ المراد من مقام إبراهيم في الآية هو جهة موقعه ومحل قيامه لا


1- 1 الوسائل: 13/ 423، باب 71.

ص: 97

خصوص موطئه في قيامه أو نفس الصخرة فإنّه لا يمكن أن يتخذ منه مصلّى (1).

ثمّ راح الشيخ البلاغي يبيّن وجهة نظره في تقديم المقام فيقول: ولعلّ وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن الاستدبار، أو لأجل الستر على الشيعة. والحصر في رواية زرارة بالمقام المعروف ظاهر في أنّه بالإضافة إلى الصلاة لطواف المتطوّع في أنّها حيث شاء المتطوّع من المسجد، ويمكن أن تنزل على ذلك مرسلة صفوان، كما يمكن أن تنزل صحيحة إبراهيم بن أبي محمود وسائر الروايات على الستر على الشيعة فتجوز الصلاة ما بين موضعي المقام أوّلًا وثانياً، ولكن الاحتمال لاحترام ذات المقام يرجح ظاهر الروايات ويمنع عن اليقين (2).

وأمّا ما ذكره الأردبيلي في زبدة البيان .. وكون الصلاة المخصوصة في المقام المخصوص كأن المراد به ما هو المتعارف والمعدّ للصلاة الآن، إذ الحقيقيّ لا يصلى فيه ويدلّ عليه بعض الأخبار أيضاً، أو جملة الحرم، فيكون من للتبعيض ويكون المراد البعض المخصوص وهو المقام الآن (3).

وأخيراً نذكر ما احتمله السيّد السبزواري حول المراد بالمقام في الآية الكريمة وخلف المقام في الروايات، فقال: يحتمل أن يُراد بالمقام في الآية الكريمة، بخلف المقام في الروايات الدائرة المحيطة بالمطاف في جميع الجوانب، وإنّما ذكر المقام؛ لأنّه لم يكن علامة لتعيين هذا الحدّ وغيره، ويشهد له الاعتبار أيضاً، لأنّ خلف المقام وعنده في زمان نزول الآية الشريفة لم يكن يسع مائة من المصلّين فكيف بالأُلوف ومئات الأُلوف، مع أن بناء الشريعة على التسهيل مهما أمكن في هذا المجمع الكبير العجيب الذي يزداد كلّ عام ازدحاماً، فالمناط كلّه أن لا تكون صلاة في المطاف لتزاحم الطائفين، ثمّ يعقّب السيّد بعد احتماله هذا قائلًا: ولكن لا يساعد هذا الاحتمال ظاهر بعض الأخبار .. وكلمات الفقهاء بل هو من الاجتهاد


1- 1 آلاء الرحمن 1: 125.
2- 2 آلاء الرحمن: ج 1، ص 125.
3- 3 زبدة البيان 1: 285- 286.

ص: 98

في مقابل النصّ. وكذا ما عن بعض علماء العامة من أن المراد بالمقام الحرم المكّي (1).

تبقى عندنا مسألة أخرى في هذا الخصوص وهي: بما أن المقام- كما ظهر- لاخصوصية له بالمطاف سواء أوجد على حدّ المطاف أم لا، ولكن له خصوصية بمكان صلاة الطواف (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى)

فقد يرد عندنا هذا السؤال، هل الاعتبار لموضع المقام أم للمقام ذاته؟ وبعبارة أخرى هل نَلحقُ المقام (الصخرة) أو كما يسمّيه السيد السبزواري المقام القدمي لو نقل إلى مكان آخر سواء أكان داخل المسجد أم خارجه؛ لنؤدّي صلاة الطواف عنده، أم نحن ملزمون بأداء هذه الصلاة في موضع المقام الحالي وإن خلا من الصخرة؟

وبعبارة ثالثة هل حكم المقام هذا حكم البيت المبارك، الذي تبقى القبلة ويبقى الطواف حول موضعه حتّى لو أزيل جرمه والعياذ باللَّه تعالى؟

قلنا أنّ السيد السبزواري في مهذب الأحكام يذهب إلى أنّه لا موضوعية في التحديد للمقام القدمي، فلو فرض تغييره عن وضعه ونقله إلى محلّ آخر لايتغيّر تحديد المطاف بذلك هذا بالنسبة إلى الطواف. أمّا بالنسبة إلى صلاة الطواف فيمكن معرفة أنّ السيد يذهب إلى أنّ الصلاة تؤدّى عند المقام الذي يسمّيه المقام العبادي والعبرة به لا بالصخرة التي يسميها المقام القدمي سواء جمعت مع العبادي أو افترقت عنه. قد يعرف هذا من قوله في تفريقه بين المقامين العبادي والقدمي: «فيكون منتهى الطواف ومحلّ صلاته مقامه العبادي لا مقامه القدمي» (2).

بينما ذكر صاحب براهين الحج: .. فإن انتقل المقام في موضعه الفعلي ..

فالظاهر عدم تفاوت حكم الطواف قبل الإنتقال وبعده .. وأما الركعتان للطواف، فلا يبعد انقلاب حكمها فكما كان في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم خلف المقام

قريباً من


1- 1 مدارك الأحكام: 14، ص 101- 102.
2- 2 مهذب الأحكام 14: 65- 66.

ص: 99

البيت

، وكان في عهد الأئمّة عليهم السلام في مكانه الفعلي خلفه، فكذا إن انتقل بحكم الدولة أو غيره إلى محلّ أبعد من البيت، فالظاهر جواز الصلاة خلفه أيضاً؛ لأنّ الظاهر أنّ المناط خلف المقام في أي موضع كان .. وذهب أخيراً إلى أن الطواف لا يتغيّر محلّه بتغير محلّ المقام، بخلاف الصلاة فإنّها يؤتى بها خلفه في أي موضع انتقل إليه إلّا أن ينتقل إلى خارج المسجد الحرام ففيه إشكال لانصراف الأدلة عنه (1) فإذن الكاشاني فرّق بين أمرين كما يظهر بين انتقال المقام إلى موضع داخل المسجد فيصلى خلفه وبين انتقاله إلى خارج المسجد، ففيه إشكال لانصراف الأدلّة عنه .. وليتنا عثرنا على تلك الأدلّة، وتوصلنا إلى ذلك الانصراف!

وهنا أرى من الضروري ذكر ما تفضّل به سماحة الشيخ آية اللَّه الجنّاتي، حيث قال: إنّ الصخرة (المقام) أينما انتقلت داخل المسجد أو خارجه حتّى وإن كانت بمسافات بعيدة جداً فيجب أداء ركعتي الطواف عندها. وأمّا القول: إنّها فقط لوانتقلت داخل المسجد فيجب أداء الصلاة عندها، مثل هذا القول لا دليل عليه. وقال سماحته: إنّ بعض المراجع كالسيّد الخوئي والسيد الشاهرودي- وعلى ما أظن ذكر السيد الإمام أيضاً- كانوا يذهبون إلى أنّ العبرة بموضع المقام (الصخرة). فلو انتقلت يبقى أداء الركعتين عند الموضع نفسه، ونظراً لما دار من حديث بينه وبينهم في النجف الأشرف حول المقام وموضعه، تغيّر رأيهم بأن جعلوا العبرة للصخرة نفسها لا لموضعها مستفيدين هذا من الآية نفسها (

واتخذوا ...)

هذا ما تفضّل به سماحته، وأنا أنقله هنا بعد إذنه لفائدته.

أسئلة أخرى وهي: لماذا اختار عمر أو الجاهلية من قبل نقل الصخرة إلى حيث هي الآن على 5/ 26 ذراعاً عن البيت والتي قد تكون هي حدود المطاف؟

وهل اختياره أو اختيار الجاهلية لهذا المكان كان اعتباطاً أم أنّه كان هناك أثرٌ لإبراهيم كأن يكون مقام عبادة له، فوضعت الصخرة فيه وعندئذ اجتمع المقامان


1- 1 براهين الحج للكاشاني 4: 47- 48.

ص: 100

القدمي والعبادي أم أنّه أراد أن يجعله على حدّ المطاف؛ لكي لا يكون عائقاً للطائفين ..؟ وهل المراد بالمقام في الآية الكريمة (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

المراد المقام القدمي (الصخرة) أم المقام العبادي الذي هو على حدّ المطاف؟ وإذا قلنا- وكما هو رأي الجميع تقريباً- إنّ المراد هو المقام القدمي (الصخرة) فكيف تتم الصلاة عنده في حالة كونه ملاصقاً للبيت ألا تشكل الصلاة عائقاً للطائفين ويشكّل الطائفون مانعاً لأدائها نقول هذا بعيداً عن أحكام الضرورة؟ ثمّ ما هو المانع من أن يكون المقام الوارد في الآية (

واتّخذوا ...)

المقام العبادي الذي كان لإبراهيم عليه السلام وأظنه المكان الذي دعا فيه إبراهيم دعاءَه حين ترك أهله وأراد العودة من حيث أتى (.

.. ربّنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من النّاس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ..) (1) وبالتالي يشكّل رأياً آخر يضاف إلى الآراء الأخرى في المراد من المقام؟! وتتلخص الإجابة عن هذا الأخير في مخالفته للأخبار التأريخيّة وللروايات التي لم أعثر فيها حتى على إشارة بسيطة عليه.

وقفات

وقفات

أقول:

بما أنّ مثل هذا المقام العبادي لم يقم عليه- كما أظن- دليل إلّامجرّد استبعاد أن لايكون للخليل مقام في المسجد الحرام كما له مقام في المساجد الأخرى، وكما لآدم ولغيره مقام في البيت. مثل هذا المقام الذي خلقه الاستبعاد هذا لا أظنّه أيضاً يصلح أن يكون هو المراد من الآية الكريمة (

واتّخذوا ...)

ومن كونه آية بيّنة كمافي (

فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم)

في الوقت الذي قامت عندنا أدلّة كالروايات وأقوال الكثير من المفسّرين على كون الصخرة هي المقام وهي الآية، فلماذا نلجأ


1- 1 ابراهيم/ 37.

ص: 101

إلى مجرّد الاستبعاد لنرتب عليه الآثار الأخرى؟!

وإذا كانت العبرة بموضع المقام (الصخرة) لا بالصخرة نفسها، فلماذا لا يراعى الموضع الأوّل للصخرة حيث كانت ملاصقة للكعبة دون الموضع الثاني الذي نقلت إليه؟!

وإذا كان المقام (الصخرة) هو المعتبر في أداء ركعتي الطواف ألا يشكل نقله خاصّة خارج البيت وفي أماكن بعيدة حرجاً- بعيداً عن أحكام الضرورة- على المكلّفين في أداء الركعتين عنده وأنّه خلا من تيسير الشريعة وسهولتها؟

ثمّ إنّ التفريق بين نقل الصخرة داخل المسجد فيذهب المصلّي إلى حيث هي ليصلّي الركعتين عندها، وبين نقلها خارج الحرم وبالتالي لا يجب عليه الذهاب إليها وأداء الصلاة عندها. مثل هذا القول (التفريق) لم أتوفّر على دليل واضح عليه أو مشعر به.

الآية (واتّخذوا ...) ووجوب الركعتين

الآية (واتّخذوا ...) ووجوب الركعتين

ذهب بعض إلى جعل هذه الآية من ضمن أدلّته على وجوب ركعتي الطواف، قال صاحب كنز العرفان: ذكر أن الصلاة في مقام إبراهيم واجبة للأمر باتّخاذه مصلّى الدال على الوجوب وهو ركعتا الطواف إذ لا صلاة واجبة عنده غيرهما بلاخلاف.

وهنا يمكن القول: إنّ الأمر (

واتّخذوا ...)

يدلّ على وجوب أن نتّخذ من المقام موضعاً لأداء الصلاة لا أنّه يدلّ على وجوب تلك الصلاة الواقعة في المقام.

فحاله حال من يقول لك: اتّخذ المسجد الفلاني مصلّى تؤدّي فيه صلاتك، فهل هذا يدل على وجوب تلك الصلاة؟!

وأمّا القول: يثبت وجوب الركعتين من الآية بعد ضميمة الإجماع على عدم

ص: 102

وجوب غيرهما في المقام الذي ورد فيه فعل الأمر (

واتّخذوا ...)

هذه المحاولة هي الأخرى ليس لها ضرورة ولا أظنّها تعين صاحبها على ما يريد، وعليه بالروايات الآمرة بأدائهما والآمرة أيضاً بقضائهما مع فواتهما فهي كافية في إثبات الوجوب لهما. كما أن فعل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. وإن كان فعله يدل على الاستحباب والوجوب بل على الأعم منهما، لكن بضميمة قوله صلى الله عليه و آله و سلم وهو يعلّم المسلمين مناسك الحجّ: خذوا عنّي مناسككم، هذا الأمر يمكن الاستفادة منه في أن نبعد الاستحباب المحتمل في فعل الرسول ونتمسّك بالاحتمال الثاني وهو الوجوب فنقول: إنّ فعل الرسول وتأديته للركعتين بعد الطواف الواجب يدل على وجوبهما، إضافة إلى أن ذلك الإجماع على وجوبهما إجماع مدركي لا يعتمد عليه بل لا بدّ من العودة إلى المدرك نفسه .. فالآية تصلح لإثبات وجوب إيقاع الركعتين عند المقام لاوجوب الركعتين، وفرق بين وجوب الإيقاع ووجوب الركعتين.

هذا وإن الروايات الآمرة باتّخاذ المقام مصلّى كانت تستعين بالآية الكريمة (

واتّخذوا ...)

تعليلًا ودليلًا على وجوب اتّخاذ المقام مصلّى لا على وجوب الصلاة نفسها فعن:

1- أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ليس لأحد أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة إلّا خلف المقام؛

لقول

اللَّه عزّوجلّ: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى ...)

فإن صليتهما في غيره فعليك إعادة الصلاة.

2- أبي عبداللَّه الأبزاري، قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن رجل نسي فصلّى ركعتي طواف الفريضة في الحجر، قال: يعيدهما خلف المقام،

لأن

اللَّه تعالى يقول:

(واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

عنى بذلك ركعتي طواف الفريضة.

3- أبي الصباح الكناني قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن رجل نسي أن يصلي

ص: 103

الركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام في طواف الحجّ والعمرة، فقال: إن كان بالبلد صلّى ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السلام فإنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: (

واتّخذوا ...)

...

فالرويات التي تضمّنت الآية الكريمة (

واتّخذوا ...)

يُستفاد منها في تعليل وجوب إيقاع الصلاة في المقام. كما أن الصلاة في المقام استناداً إلى أمر هذه الآية تكاد تكون مرتكزة في أذهان النّاس. انظر أبا بصير حين يسأل الإمام عليه السلام:

سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن رجل نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام، وقد قال اللَّه تعالى: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

...

فحسب متابعتي للروايات لم أجد رواية استندت على الآية الكريمة (

واتّخذوا ...)

إلّافي وجوب إيقاع الصلاة في المقام لاوجوب الصلاة ذاتها. اللّهم إلّا أن يُقال- كما ذهب إليه البعض- إن الأمر باتّخاذ المقام مصلّى، يدل أيضاً على صلاة الطواف باعتبار عدم وجوب صلاة غيرها فيه وهذا لا يخلو من تأمل.

فالذي يظهر أنّ وجوب صلاة الطواف يتمّ من خارج الآية؛ من الروايات والسنّة النبويّة قولًا وفعلًا لا من الآية نفسها.

وقد استفاد ابن العربي في أحكام القرآن أربعة أمور في قراءة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم للآية (

واتّخذوا ...)

ومن صلاته عند المقام وهي: أنّ ذلك الموضع هو المقام المراد من الآية، وأنّه بيّن الصلاة وأنّها المتضمّنة للركوع والسجود لا مطلق الدعاء. وأنّه عرّف وقت الصلاة فيه وهو عقب الطواف،

وأنّه أوضح أنّ ركعتي

الطواف واجبتان ... فهذه الاستفادات الثلاث ممّا فعله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ادلّة ايقاع صلاة الطواف عند المقام

أدلّة إيقاع صلاة الطواف عند المقام

كما هو معروف عند الفريقين أنّ للطواف ركعتين (صلاة الطواف) تكون واجبة إن كان الطواف واجباً، ومستحبّة إن كان الطواف مستحبّاً، وقد أقام كلا

ص: 104

الفريقين أدلّتهما على ذلك، ولكن الذي يعنينا في هذا الصدد هو أدلّتهما على إيقاعهما عند المقام، فالإمامية قالوا: إنّ من لوازم الطواف أن تؤدّى ركعتاه خلف مقام إبراهيم عليه السلام ووجوب ذلك قد اشتهر بين فقهائهم وإن خالف الشيخ الطوسي في الخلاف وقال: يستحبّ أن يصلّي الركعتين خلف المقام، فإن لم يفعل وفعل في غيره أجزأه ...

وقد ساق فقهاء الإمامية أدلّتهم التالية على وجوب أداء الركعتين خلف المقام أو عنده:

1- آية (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

ففعل الأمر (

اتّخذوا)

ظاهر في الوجوب، حيث إنَّ الأمر للوجوب- بلاخلاف- في القرآن العزيز إلّامع قيام قرينة على خلافه.

2- التأسي برسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم القائل: خذوا عنّي مناسككم، وقد أدى الركعتين خلف المقام. وقد يرد على هذا أن فعل الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أعم من الوجوب والاستحباب. وقلنا يمكن أن نبعد الاستحباب بدليل أن فعله اقترن بقوله (

اتخذوا ..)

وأنّه كان بصدد تعليمهم المناسك ...

3- روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام التي منها: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبداللَّه عليه السلام القائلة: إذا فرغت من طوافك، فأت المقام فصل ركعتين واجعله أماماً واقرأ ... (1).

مكان الطواف عند الفرق الإسلامية

مكان الطواف عند الفرق الإسلامية

اتّفقت كلمتا الفريقين على وجوب الطواف واختلفت في المطاف في حدوده، فذهبت الإمامية كما يبدو إلى أن الطواف يجب إيقاعه بين المقام والبيت، ولايصح تجاوز المقام إلّاعند الضرورة وعلى هذا قامت أدلّتهم، التي منها روايات أهل


1- 1 وسائل الشيعة والمصادر الحديثيّة الأخرى.

ص: 105

البيت عليهم السلام. فيما راحت الفرق الإسلامية الأخرى إلى أن الطواف يصح في داخل المسجد حول البيت، وليس هناك خصوصية للمقام في طوافهم كما هي عند الإمامية نعم القرب من البيت عندهم معتبر شريطة عدم الزحام وعدم التأذي، هذا فيما يخصّ الرجال والصبيان، أما النساء فيسنّ عدم القرب صيانةً لهنّ (1).

الحنفية قالت في مكان الطواف: أن يقع حول البيت في المسجد لقوله تعالى: (

وليطوفوا بالبيت العتيق)

والطواف بالبيت هو الطواف حوله ...

المالكية: أن يطوف بداخل المسجد فلايجزئ خارجه.

الشافعية: أن يكون الطواف داخل المسجد للاتّباع فلا يصح حوله بالإجماع ويصح داخل المسجد وإن وسِّع.

الحنابلة: كون الطواف في المسجد شرط بالاتّفاق (2).

هذه خلاصة ما ورد، المهم لم يرد ذكرٌ للمقام عندهم.

مكان صلاة الطواف عند باقي الفرق الإسلامية

مكان صلاة الطواف عند باقي الفرق الإسلامية

تراوحت كلمة الفرق الإسلامية حول صلاة الطواف بين وجوبها كما عند المالكية والحنفيّة، واستحبابها كما ذهب إلى ذلك كلّ من الشافعية والحنابلة.

يقول الزحيلي في خلاصة آراء الفقهاء في شروط الطواف ... (10) صلاة ركعتي الطواف: واجب عند المالكية، وواجب في وقت مباح فيه الصلاة لا كراهة فيه، كلّ اسبوع، عند الحنفية. وسنة عند الشافعية والحنابلة (3). وأمّا في مكان هذه الصلاة سواء في حالة وجوبها أو في حالة استحبابها هناك قول للشافعية:

والأفضل صلاتهما خلف المقام، وأما الحنفية فقد ذكروا لهذه الركعتين أماكن فقالوا: ويستحب أداؤهما خلف المقام ثمّ في ... (4) هذا فيما يخصّ آراء فقهائهم. أمّا فيما يخصّ الروايات فقد وردت عدّة


1- 1 الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري 1: 655- 658.
2- 2 الفقه الإسلامي- للزحيلي 3: 153- 162.
3- 3 3/ 162 الفقه الإسلامي وأدلته- الزحيلي.
4- 4 1/ 656- 658 الفقه عند المذاهب الأربعة- الجزيري.

ص: 106

روايات عنهم تصرح بأن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم أدّى تلك الصلاة عند مقام إبراهيم وهو يقرأ الآية. قال جابر .... ثمّ تقدم صلى الله عليه و آله و سلم إلى مقام إبراهيم فقرأ: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

فجعل المقام بينه وبين البيت (1).

الترمذي: لما قدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مكة دخل المسجد ... ثمّ أتى المقام فقال:

(واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

فصلّى ركعتين والمقام بينه وبين البيت ...

يقول صاحب التاج في الهامش (المقام: المكان الذي كان يقوم فيه إبراهيم عليه السلام حينما بنى الكعبة) (2).

حدّثنا عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر يقول: قدِم النبي صلى الله عليه و آله و سلم فطاف بالبيت سبعاً، وصلّى خلف المقام ركعتين ثمّ خرج إلى الصفا، وقد قال اللَّه تعالى:

(ولقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة) (3).

ما يجب أن يكون عليه الطواف في الفتاوى

ما يجب أن يكون عليه الطواف في الفتاوى

قال السيد الإمام قدس سره: أن يكون الطواف بين البيت ومقام إبراهيم عليه السلام ومقدار الفصل بينهما في سائر الجوانب، فلا يزيد عنه، وقالوا: إنّ الفصل بينهما ستّة وعشرون ذراعاً ونصف الذراع، فلابدّ أن لايكون الطواف في جميع الأطراف زائداً على هذا المقدار.

وفي مسألة ثانية يقول: لايجوز جعل مقام إبراهيم داخلًا في طوافه، فلو أدخله بطل، ولو أدخله في بعض أعاد ذلك البعض، والأحوط إعادة الطواف بعد إتمام دوره بإخراجه.

أما في صلاة الطواف فيقول:

يجب بعد الطواف صلاة (ركعتين له) ... ويجب أن تكون الصلاة عند مقام إبراهيم عليه السلام، والأحوط وجوباً كونها خلفه، وكلّما قرب إليه أفضل، لكن لا بحيث


1- 1 صحيح سنن المصطفى، ص 299 جمع أبي داود.
2- 2 التاج الجامع 2: 128.
3- 3 البخاري 2: 588، باب من صلّى ركعتي الطواف خلف المقام.

ص: 107

يزاحم النّاس، ولوتعذر الخلف للازدحام أتى عنده من اليمين أواليسار، ولولم يمكنه أن يصلّي عنده يختار الأقرب من الجانبين والخلف، ومع التساوي يختار الخلف، ...

أمّا السيد السبزواري قدس سره فيقول: أن يكون الطواف بين الكعبة المشرفة ومقام إبراهيم عليه السلام مع الإمكان. وفي الصلاة يقول: والأحوط وجوباً إتيانها خلف مقام إبراهيم مع الإمكان بما يصدق أنّه خلفه، ومع عدم الإمكان فيصلى في الأقرب ثمّ الأقرب.

وقفة قصيرة مع «وافقت ربي!»

وقفة قصيرة مع «وافقت ربي!»

ذكر في سبب نزول (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

ما رواه البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلتُ: يا رسول اللَّه، لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

... (1).

أكتفي بما يخصّ موضوعنا من تلك الفقرات الثلاث وهو الصلاة عند مقام إبراهيم لأبين باختصار أن مثل هذا الادعاء لايصح أبداً وهو مردود- حتّى على فرض صحّة سند الرواية فكيف والسند فيه ما فيه- لأسباب منها:

1- حتّى لو أنّ الصلاة- دعاءً كانت أو بأي شكل كانت تؤدى- لم تكن من مناسك الحجّ التي بيّنها اللَّه تعالى لإبراهيم عليه السلام، فإن هذا الإدّعاء باطل؛ لأنّ الأحكام الشرعية ومن ضمنها مناسك الحجّ التي شرعها اللَّه تعالى لنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم والتي منها ركعتا الطواف عند مقام إبراهيم أحكام تمّت صياغتها من قبل اللَّه تعالى وفق ملاكاتها الخاصّة ولا تجري وفق رغبات وأهواء أشخاص، وكم هو خطير مثل هذا المنحى أن تجري الأحكام والقوانين وتصاغ وفق ماتقتضيه رغبات فرد أو أفراد، ومثل هذا لا يصحّ في سنّ القوانين والانظمة


1- 1 التفسير المنير للزحيلي 1: 302، تاريخ المدينة المنورة 3: 860، التاج الجامع 1: 154.

ص: 108

الوضعية التي ينأى أصحابها جهد إمكانهم عن مثل هذا المنحى والنهج. فما بالك باللَّه تعالى خالق كلّ شي ء حيث سنّ لمخلوقاته أنظمة وتشريعات وأحكاماً وفق معرفته الدقيقة بما يصلحها، وهو ليس بحاجة إلى أن ينتظر فلاناً يشتهي شيئاً فينزل فيه قرآناً، ويشرع وفق رغبته حكماً يلزم النّاس جميعاً بالامتثال له، أو يتوقف عن التشريع أو لايلتفت- معاذ اللَّه- إلى حكم مادام فلان لم يرغب أو يصرح بما يحب.

هذا لو قلنا: إنّ صلاة الطواف لم يشرع فيها حكم ولم تكن من مناسك الحجّ الإبراهيمي، فكيف يكون الأمر إذا عرفنا أن مناسك الحجّ ومن ضمنها هذه الصلاة سنّت في عهد إبراهيم عليه السلام؟!

2- ليس من المعقول أن إبراهيم يؤذن بالحجّ تلبية لأمر اللَّه تعالى دون أن يعرف معنى مضامين الحجّ ومناسكه، التي عليه أن يبلغ النّاس بها ويعلمهم.

فلا بدّ في الرتبة السابقة أن يعرف تفصيلًا هذه المناسك (المواضع والأفعال).

والآية التالية التي تحكي دعاء إبراهيم وإسماعيل (.

.. وأرنا مناسكنا ...) (1) خير بيان لما نقول. فهذا صاحب التفسير الكبير الرازي يقول في هذه الآية:

في أرنا قولان:

الأوّل

: معناه علمنا شرائع حجّنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو النّاس إلى حجّه، فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول ...

الثاني:

أظهرها لأعيننا حتّى نراها ... قال الحسن: إنّ جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلّها حتّى بلغ عرفات، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال: نعم ...

وهذان هما القولان المعتبران عند الرازي حيث يقول: فمن قال بالقول الثاني قال: إنّ المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحجّ كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها، ومن قال بالأول قال: إنّ المناسك هي أعمال الحجّ كالطواف


1- 1 البقرة/ 128.

ص: 109

والسعي والوقوف (1) ... وعن قتادة فأراهما اللَّه مناسكهما الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات ومن جمع ورمي الجمار حتّى أكمل بها الدين (2).

3- ... أخبرني محمّد بن إسحاق قال: لمّا فرغ إبراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام جاءه جبريل فقال: طف به سبعاً فطاف به سبعاً هو وإسماعيل ...، فلمّا أكملا سبعاً هو وإسماعيل

صليا خلف المقام ركعتين

. قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلّها ... ثمّ أمر إبراهيم أن يؤذّن في النّاس بالحج ..

4- قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع: (خذوا عنّي مناسككم لعلي لاألقاكم بعد عامي هذا) فبيّن لهم صلى الله عليه و آله و سلم المناسك مواضع وأفعالًا ولم يترك منها شيئاً فمضى يبينها لهم واحدة واحدة وهم يقتدون به.

5- الرواية المنسوبة إلى جابر، فقد قال ابن جريج: أخبرني جعفر بن محمّد عن أبيه، أنّه سمع جابر بن عبداللَّه يحدّث عن حجّة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بالبيت، ذهب إلى المقام، وقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى)

وصلى ركعتين. وهناك غيرها من الروايات المشابهة (3).

6- رواية الترمذي: لما قدم النبي صلى الله عليه و آله و سلم مكّة دخل المسجد فاستلم الحجر ثمّ مضى عن يمينه (جعل البيت عن يساره) فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثمّ أتى المقام فقال: (

واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى) (4) ... وهناك من يقول: صلاهما وتلا قوله تعالى (

واتّخذوا ...)

أو أنّها نزلت عليه حين فعلهما (5).

7- قراءة من قرأ الآية: (

واتّخذوا ...)

فعلًا ماضياً وهم نافع وابن عامر والذماري وشريح (6). فهذه القراءة على فرض صحتها تحكي حالة كانت معروفة وموجودة عندهم، كانوا يتّخذون من المقام مصلّى. فليس اتّخاذ المقام مصلّى حالة وجدت تحقيقاً لرغبة طارئة.


1- 1 الرازي في تفسير الآية 1: 68- 69- 70.
2- 2 مجمع البيان 1: 393.
3- 3 اخبار مكة للأزرقي 2: 115.
4- 4 التاج الجامع، الطواف.
5- 5 الجواهر 19: 301.
6- 6 معجم القراءات: 111.

ص: 110

فهذه الأسباب هي التي تحضرني الآن وقد يكون هناك غيرها تبين بطلان القول المنسوب إلى عمر بن الخطاب في أنّ الصلاة في المقام جاءت تلبية لرغبته أو موافقة لها.

المكافآت

فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم

(فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم)

في وادي مكّة الذي وصفته السماء بأنّه (

غير ذي زرع)

، كانت المكافآت ثمينة وعظيمة تتناسب وعظمة وخطورة الابتلاء الذي اجتازه شيخ الأنبياء وأهله بجدارة فائقة، حيث واصل هذا الشيخ الجليل تنفيذ أوامر اللَّه تعالى دون كلل أو ضجر أو ملل ولو على مستوى التصور، فضلًا عن التمرّد أو العصيان فأثبت إبراهيم أنّه العنوان الصادق للعبوديّة الخالصة للَّه سبحانه وتعالى؛ لهذا كانت المكافآت المباركة وأولى هذه المكافآت شهادة اللَّه له بالوفاء الكامل في الطاعة وفي الانقطاع إليه وفي الصبر على أوامر الابتلاء فقال فيه (و إبراهيم الذي وفّى)

... وجاءت المكافآت الأخرى، التي منها هذه الصخرة- التي اعتلاها وارتقاها إبراهيم كي يتمّ بها قواعد البيت بعدما تطاول بناؤه- أن تكون آيةً له على مدّ الدهر، تنحني عندها القلوب قبل الاعناق والأجسام داعيةً مستغفرة شاكرة سائلة اللَّه التوبة والرضوان.

قال صاحب الجامع اللطيف: اعلم أن لهذا البيت المعظم- زاده اللَّه تشريفاً وتعظيماً- آيات كثيرة، و عجائب غزيرة تدل على شرفه وفضله، منهامقام إبراهيم.

عن ابن سنان، قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّوجلّ (فيه آيات بيّنات ...)

فما هذه الآيات البيّنات؟

ص: 111

قال عليه السلام: مقام إبراهيم عليه السلام حين قام عليه، فأثرت قدماه فيه، ...

وإنّما خصّ المقام بالذكر في القرآن (فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم)

لأنّه أظهر آياته للنّاس اليوم ولاشتماله على عدّة آيات منها: قوّة الدلالة على قدرة اللَّه ونبوّة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدميه في حجر صلد (1). ومنها حفظه من المشركين مع كثرة اعدائه. وإبقاؤه إلى مدّة من السنين ومدى الدهر (2). وفي تعداده للآيات البيّنات قال صاحب منهاج الإحرام (3): ... ومنها مقام إبراهيم عليه السلام وهو صخرة كان يقف عليها لبناء البيت، وعليها أثر قدميه غائصاً في تلك الصخرة، وخصّه اللَّه بالذكر؛ لاشتماله على عدّة آيات تدلّ على قدرة اللَّه تعالى ونبوّة إبراهيم، لأن ألانة بعض الصخور دون بعض آية، وبقاء الصخرة والأثر على مرور الأحقاب على رغم الملحدين آية.

وعن أبي سعيد الخدري قال: سألت عبداللَّه بن سلام عن الأثر الذي في المقام، فقال: كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم إلّاأنّ اللَّه سبحانه وتعالى أراد أن يجعل المقام آية من آياته، فلمّا أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذّن في النّاس بالحجّ قام على المقام ... فقال: يا أيّها النّاس أجيبوا ربّكم، فأجابه النّاس، فقالوا: لبّيك اللّهم لبيك، فكان أثر قدميه فيه لما أراد اللَّه سبحانه (4).

كما أنّ الشيخ يوسف صاحب الحدائق يقول في كلام له عند ذكر هذه الآية

(فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ..)

بمعنى أن وجود هذا الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام في البيت من آياته عزّوجلّ لاباعتبار هذا المكان، وإلّا فهذا المكان حدّ للطواف وضع فيه الحجر أم لم يوضع، كما في زمانه صلى الله عليه و آله و سلم حسبما دلّت عليه رواية محمّد بن مسلم. والمراد بكونه آية من حيث تأثير قدم إبراهيم عليه السلام فيه، فهو آية بيّنة وعلامة واضحة على قدرة اللَّه تعالى. وبهذا أيضاً يصحّ أن يكون علماً كما ذكره عليه السلام ... وكان الشيخ يوضح مراد الإمام الحسين عليه السلام من كلمته عن المقام:


1- 1 الوافي 12: 7.
2- 2 يراجع الجامع.
3- 3 ص 612.
4- 4 اخبار مكّة 2: 30.

ص: 112

إنّ اللَّه قد جعله علماً ...(1).

الاذان

الأذان

مع اختلاف الأقوال في الموضع الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام حين أمره اللَّه تعالى بالأذان بالحجّ (

وأذّن ...)

فبعض ذهب إلى أنّه اتّخذ من المقام نفسه مرتفعاً وقف عليه وأذّن بالحج، حتّى ذهب بعض إلى أن إبراهيم حين أمر بالأذان في النّاس بالحجّ قام على المقام فارتفع به المقام حتّى صار أطول من الجبال وأشرف على ماتحته، فقال: يا أيّها النّاس أجيبوا ربّكم ...

في حين ذهب آخرون إلى القول: إنّ إبراهيم خليل الرحمن حين أمر بالأذان في النّاس بالحجّ صعد على جبل أبي قبيس فأذن فوقه (2). فقال: يا أيّها النّاس أجيبوا ربّكم، فقالوا لبّيك اللّهم لبّيك ... (3).

مع هذا الاختلاف إلّاأن الراجح هو أنّه اتخذ من هذه الصخرة مكاناً يعلو عليه ليلبّي أمر ربّه (

وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق ...) (4) فأعانته تلك الصخرة- التي كانت صخرة لاكالصخور- لئن يُسمع صوته- الذي يجهر بدعوة النّاس للحجّ وزيارة بيت اللَّه الحرام- آذاناً جعلها اللَّه بقدرته صاغية، وقلوباً صاغها اللَّه برحمته فجعلها واعية، فكان صوته من على تلك الصخرة يتجاوز كلّ العقبات، ويتخطى كلّ المسافات؛ ليصل إلى تلك الفجاج البعيدة بل إلى تلك الأجيال التي لم تر النور بعد، فتأتي لتقف عند تلك الصخرة نفسها فتتذكر نداء الخليل فوقها، وتتحسس عن قرب نبراته التي قطعت الصحاري والوديان واجتازت الظلمات؛ لتصل إلى تلك الفطرة السليمة والقلوب المؤمنة (

ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللَّه في أيّام معدودات على مارزقهم من بهيمة الأنعام ... وليطوفوا بالبيت العتيق ...).

وفي فضل المقام ورد أيضاً


1- 1 الحدائق 16: 115- 116.
2- 2 أخبار مكّة 2: 203
3- 3 أخبار مكّة 2: 29، والرواية عن المجاهد.
4- 4 الحج/ 27.

ص: 113

وفي فضل المقام ورد أيضاً

عن مجاهد: لا يمس المقام فإنّه آية من آيات اللَّه عزّوجلّ. وعن ابن عبّاس:

ليس في الأرض من الجنّة إلّاالركن الأسود والمقام، فإنّهما جوهرتان من جوهر الجنّة ولولا مامسّهما من أهل الشرك ما مسّهما ذوعاهة إلّاشفاه اللَّه (1).

وفي مهذب الأحكام قال السيد السبزواري عند تعرضه للأماكن المقدسة التي يرتجى فيها زيادة الثواب ولها أحكام وآداب فقال: ... ومنها مقام إبراهيم:

ويكفيك اسمه عن بيان فضله، إذ أي مرتبة تتصور فوق مرتبة الخليل عند ربّه الجليل الذي أفنى نفسه وأهله وماله في سبيل التوحيد وتشعير المشاعر العظام، وبناء الكعبة في بيت اللَّه الحرام، فشكر اللَّه تعالى بعض متاعبه بأن جعل النبوّة في سلالته، والدين الحنيف الأبدي من طريقته وملّته ... (2).

افضل مكان

أفضل مكان

من المكافآت التي منحتها السماء لشيخ الأنبياء أن جعلت الصلاة (صلاة ركعتي الطواف) عند مقامه المبارك، وأنّه ليس أفضل مكان من البيت تؤدى فيه الصلاة وخاصّة ركعتي الطواف فحسب بل جعل أداء هاتين الركعتين واجباً لاتقبلًا في غير هذا المكان إلّالضرورة.

عن داود الحضرمي قال: سألت أبا الحسن عن الصلاة بمكّة في أي موضع أفضل؟ قال: عند مقام إبراهيم الأوّل، فإنّه مقام إبراهيم وإسماعيل ومحمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

وعنه عليه السلام: إنّ اللَّه فضل الكعبة، وجعل بعضها أفضل من بعض، فقال:

(واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى).


1- 1 أخبار مكة 2: 29.
2- 2 تهذيب الأحكام 14: 115.

ص: 114

الهوامش:

الحرم المكّي في مرآة الفقه

ص: 117

الحرم المكّي في مرآة الفقه

عبد الكريم آل نجف

لعلّ من أبرز معالم عالمية الإسلام أنّه عنى بتقديم تصوّر جيوسياسي عن الانسان والأرض. فمن ناحية أساسية عبّر الإسلام والانسان بغض النظر عن جنسيّته ووطنه موضوعه الوحيد، ولكن حينما تفاوتت الاستجابة من الانسان كان من الطبيعي أن يضع الإسلام أحكاماً تفصيلية بحسب درجات الاستجابة الانسانية لنداءاته، فهناك المشرك الذي اختار البقاء على شِركه، وهناك الكتابي الذي آمن بالتوحيد ورفض التصديق بالإسلام، وهناك مَن أمن بالإسلام ديناً نهائياً للإنسان، وبين هؤلاء الثلاثة انقسم المجتمع الانساني في التصوّر الإسلامي إلى فئة مشركة وأُخرى كتابية وثالثة مُسلمة. وعداء الفئة الأُولى للتوحيد جعلها محرومة من حقّ الحياة فهي مخيّرة بين النطق بالشهادتين وبين القتل، وقبول الفئة الثانية بأصل التوحيد أكسبها حقوقاً إنسانية فقط شريطة تبعيّتها لراية الإسلام ودولته، واستعداد الفئة الثالثة للاعتقاد بالإسلام أكسبها وحدها

ص: 118

الحقّ السياسي على الأرض فلا سيادة شرعية لغير المسلم على وجه الكرة الأرضية، فالقاعدة الأساسية في الإنسان أنّه خليفة اللَّه في أرضه، وحيث لم يستجب الكتابي والمشرك لشروط هذه الخلافة؛ لذا انحصرت في المسلم دون غيره. هذا من جهة الانسان ومن جهة الأرض عدّها الإسلام كذلك إقليماً واحداً للإنسان فلا تفاوت بين شبر وآخر منها، ولا امتياز لبقعة على بقعة أُخرى منها. ولكن الأرض بما هي أرض ليست أساساً للحقوق والامتيازات، والأساس الوحيد لذلك هو الدين والتوحيد، وهو الذي حرم المشرك من كلّ حقّ وأعطى الكتابي نصف حق مشروط، ومنح المسلم حقّاً إنسانياً وسياسياً كاملًا، ومن هنا فمن الطبيعي أن تنقسم الأرض بين دار للإسلام ودار للكفر.

الأُولى للمسلمين ومن يتبعهم من أهل الذمّة. والثانية تكون مغتصبة من قبل المشركين وأعداء الرسالات ومن يتبعهم من الكتابيّين. ولدار الإسلام عاصمة روحية تحظى بامتيازات أدبية وروحية على ما سواها من بقاع الإسلام تتمثّل بالجزيرة العربية ثمّ بالحرم المكّي ثمّ بمكّة نفسها. وهكذا فالإنسان في التصوّر الإسلامي هو الدائرة الكبيرة التي انقسمت الى جزء مشرك وآخر كتابي وثالث مسلم، والأرض هي الدائرة الكبيرة التي انقسمت الى دائرتين دائرة الإسلام ودائرة الكفر. وتكوّنت دائرة الإسلام من أربع دوائر متداخلة مع بعضها دائرة كبيرة تشمل كلّ بلاد الإسلام، ودائرة صغيرة تشمل الجزيرة العربية، ودائرة أصغر خاصّة بالحرم المكّي، ودائرة أصغر تختص بمكّة التي تمثّل القلب للإسلام.

وفي دراستنا هذه لا نريد أن ندرس دوائر الانسان، بل نقتصر على بعض الأرض في التصوّر الإسلامي، وهي الدوائر الداخلية الثلاث التي تمثّل عاصمة التوحيد في الأرض وهي الحرم المكّي، ومكّة. والجزيرة العربية. فقد أعطى الإسلام لهذه الدوائر أحكاماً خاصّة، وشيّد لها مكانة متميّزة كرمز تاريخي

ص: 119

يحكي انبثاق الحضارة الإسلامية من القطب ذي الثنائية العجيبة الدين والسياسة، وذلك حينما تحوّلت العبادة المكّية إلى دولة نبويّة. ولذا فحينما نقول إنّ الجزيرة العربية هي عاصمة التوحيد لا نحتاج إلى التفريق بين العاصمة الروحية والسياسية.

وأهمية هذه الزاوية من البحث تنبع من قابليتها على تسليط أضواء كافية على جوانب مغمورة من الفقه السياسي بنحوٍ عام وممّا يصطلح عليه بالحج السياسي، بنحوٍ خاص. وبامكان الباحث أن يخوضها بمستويات ثلاثة.

1- مستوى عرض آراء فقهاء ونصوص الإمامية فقط.

2- مستوى عرض مقارن لآراء ونصوص المذاهب الإسلامية كافّة.

3- مستوى الاستدلال والعرض المقارن.

ومن الطبيعي أنّ المستوى الثالث هو الأكمل، ولكن حيث لا تسع الفرصة له ولا للذي قبله؛ لذا نكتفي بالبحث على المستوى الأوّل. وسنتناول في هذه الدراسة

1- أحكام الحرم المكّي.

2- أحكام مكّة.

3- أحكام المدينة.

4- أحكام الجزيرة العربية.

ومعلوم أنّ الأحكام المقصودة هي تلك التي ينظر فيها الشارع إلى البقعة المقصودة بما هي أرض فلا تتعرّض للأحكام ذات العلاقة بالحج ومناسكه.

حدود الحرم المكّي

حدود الحرم المكّي

الحرم المكّي هو ما أحاط بمكّة من جميع جهاتها، تعرّض الفقهاء لبيان

ص: 120

حدود الحرم المكّي نظراً لما يترتبّ على ذلك من أحكام، فذكر ابن البرّاج الطرابلسي «ت 481 ه» في المهذّب انّ «حدّ الحرم من جهة المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق اليمن على سبعة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق جدّة على عشرة أميال ومن طريق الطائف على عرفة أحد عشر ميلًا من بطن نمرة» (1) وهو ما اختاره الجغرافي ابن رسته في كتابه الأعلاق النفيسة على ما نقله السيّد الحكيم في المستمسك عنه (2)، ونقله الشيخ محمّد حسن النجفي في الجواهر عن السروجي أحد أعلام السُنّة (3) أيضاً، واستقرّت كلمة أعلام المذاهب على ما نقله الحرّ العاملي في الوسائل عن التهذيب للشيخ الطوسي بسند ينتهي إلى زرارة أنّه قال «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول حرّم اللَّه حرمه بريداً في بريد أن يختلى خلاه ويعضد شجره ... الخ» (4).

وأورد الشيخ الصدوق «ت 381» في علل الشرائع خبراً عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال «إنّ اللَّه تعالى لمّا أهبط آدم من الجنّة أهبطه على أبي قبيس فشكى إلى ربّه عزّ وجلّ الوحشة، وأنّه لا يسمع ما كان يسمع في الجنّة فأهبط اللَّه تعالى عليه ياقوتة حمراء فوضعها في موضع البيت، فكان يطوف بها آدم عليه السلام وكان ضوؤها يبلغ موضع الأعلام فعلمت الأعلام على ضوئها فجعله اللَّه عزّ وجلّ مرماً» (5).

وعن صفوان بن يحيى قال سُئل الحسن عليه السلام عن الحرم وأعلامه فقال «انّ آدم عليه السلام لمّا هبط من الجنّة هبط على أبي قبيس والناس يقولون بالهند فشكى إلى ربّه الوحشة وأنّه لا يسمع ما كان يسمع في الجنّة فأهبط اللَّه تعالى عليه ياقوتة حمراء فوضعت في موضع البيت فكان يطوف بها آدم عليه السلام وكان يبلغ ضوؤها الأعلام فعلمت الأعلام على ضوئها فجعله اللَّه عزّ وجلّ حرماً» (6) وفي جواهر الكلام أنّ العلامة الحلي «ت 726» جعل في كتابه المنتهى حدّ الحرم الذي لا


1- 1 مرواريد. علي أصغر. الينابيع الفقهية. ج 7. ص 324.
2- 2 الحكيم. محسن. المستمسك. ج 11، ص 287.
3- 3 النجفي. محمد حسن. جواهر الكلام. ج 20، ص 303.
4- 4 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. وسائل الشيعة، ج 12، ص 555.
5- 5 الصدوق. محمّد بن علي. علل الشرائع. ص 420- 422.
6- 6 الصدوق. محمّد بن علي. علل الشرائع. ص 420- 422.

ص: 121

يجوز قتل صيده ولا قطع شجره بريداً في بريد، وأنّ الشهيد الثاني «ت 966» اختار ذلك في المسالك. ثمّ علّق صاحب الجواهر قائلًا: «وعلى كلّ حال فالظاهر انّ التحديد المزبور هو المروي عن أئمّة الهدى عليهم السلام. وأفتى به علماؤنا».

ثمّ نقل آراء علماء السنّة واختلافهم في ذلك، ثمّ علّق قائلًا «قلت: المدار الآن على النصب المعلومة المأخوذة يداً عن يد إلى أهل بيت الوحي عليهم السلام» (1)وفي المستمسك انّ تحديد الحرم بما يكون مجموعه بريداً في بريد طبقاً لموثقة عبد اللَّه ابن بكير عن زرارة لا إشكال فيه، ونقل عن كشف اللثام أنّه لا خلاف فيه. ثمّ قال: «وقد أطال في كشف اللثام والجواهر في نقل كلمات مَن تعرّض لذكر مسافة الحرم من الجهات المحيطة بمكّة، وليس بمهم بعد وضع العلامات على الحدود بنحوٍ صارت معلومة ..» (2) ونقل في الفقه على المذاهب الخمسة عن «فقه السنّة» أنّ حدّ الحرم المكّي نُصبت عليه أعلام من جهات خمس، وهي أحجار مرتفعة قدر متر منصوبة من جانبي كلّ طريق فمن جهة الشمال مكان يدعى التنعيم وبينه وبين مكّة 6 كم، ومن الجنوب اضاءة لبن وبين مكّة 12 كم ومن جهة الشرق الجعرانة بينها وبين مكّة 16 كم ومن جهة الغرب الشميسي وبينه وبين مكّة 15 كم (3) ولكن الظاهر من الموثّقة انّ الحرم مربع الشكل بحيث يكون طوله بريداً وعرضه بريداً أي أربعة فراسخ في أربعة فراسخ وهذا ما يخالف النصب المعلومة التي لا تحيط بمكّة بصورة المربع. ولذا فسّر صاحب المستمسك الموثّقة بأنّ المراد منها «تقدير المساحة بحيث لو جمعت تلك المساحة وكانت بشكل مربع كان طولها بريداً وعرضها بريداً (4) وتشير النصوص الواردة عن الأئمّة عليهم السلام إلى وجود حرمٍ آخر يحيط بالحرم المكّي وانّه على مسافة بريد من نهاية الحرم المكّي من كلّ الجهات وهو ما يسمّى بحرم الحرم وله أحكامه الخاصّة أيضاً.

الحرم الآمن

اشارة


1- 1 النجفي. محمّد حسن. جواهر الكلام. ج 20، ص 303.
2- 2 الحكيم. محسن. المستمسك. ج 11، ص 287.
3- 3 مغنية. محمّد جواد. الفقه على المذاهب الخمسة. ص 226.
4- 4 الحكيم. محسن. المستمسك. ج 11. ص 287.

ص: 122

الحرم الآمن

يُعدّ الأمن أبرز خصائص الحرم المكّي، بل هو الأساس في حمله هذا العنوان، فإنّ معنى الحرم مأخوذ من إعطاء مكان ما حُرمة بحيث تُمنع فيه بعض الأعمال الجائزة في نفسها، وتراعى فيه بعض الآداب التي لا تراعى في مكان آخر. قال تعالى: (

إنّما أمرت أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة الذي حرّمها) (1) . (وإذ

قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) (2) . (والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) (3). (فيه آياتٌ بيّناتٌ

مقامُ إبراهيم ومَن دخلهُ كان آمناً) (4).

والتحريم الوارد في هذه الآيات وإن كان خاصاً بالمسجد الحرام، «وبمكّة فقط»، إلّاانّ نصوص النبي صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة، قد وسّعت ذلك إلى ما تحيط به المواقيت، كما تبيّن لنا من قبل. وتحريم بعض المباحات في هذه المنطقة يُعدّ بنفسه دليلًا لتأكّد حرمة المحرّمات، وعندما يتقرّر على الباحث أن يدرس نظرية الأمن والسلام في الإسلام فلابدّ من أن يجعل عناية الإسلام بمنطقة تساوي من حيث المساحة 144 ميلًا مربعاً وهي منطقة الحرم المكّي، التي تمثلّ قلب التوحيد ومنبع الأديان السماوية، واعتبارها منطقة آمنة تحرّم فيها كلّ الممارسات المخلّة- المشروعة وغير المشروعة- بحياة كلّ كائن حي- انسان، حيوان، نبات- بل بحياة الكائنات الشبيهة بالكائنات الحيّة- شَعر، ظفر-، أن يجعل ذلك ركناً من أركان تلك النظرية.

لقد دعا إبراهيم عليه السلام أن يجعل اللَّه مكّة حرماً آمناً، وهو في أوّل مجيئه إليها، لأنّ الحياة لا تستقيم إلّامع الأمن، والمدن لا تعمّر إلّامع السلم وشيوع الاطمئنان. وقد استجاب اللَّه سبحانه دعاء إبراهيم فجعل مكّة حرماً آمناً، وتفرع على ذلك جملة من الأحكام والخصائص هي!

1- حرمة القتال في الحرم


1- 1 النمل/ 91.
2- 2 إبراهيم/ 35.
3- 3 التين/ 1- 3.
4- 4 آل عمران/ 97.

ص: 123

1- حرمة القتال في الحرم

قال تعالى: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين) (1).

يُفهم من هذه الآية حرمة البدء بالقتال في المسجد الحرام. وهذا هو أحد القولين في المسألة، والقول الثاني هو جواز ذلك وأنّ الآية منسوخة.

قال الراوندي «ت 573 ه» في فقه القرآن «.. وقيل: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ناسخة للآية الأُولى التي تضمّنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام حتّى يبدأوا بالقتال؛ لأنّه أوجب قتالهم على كلّ حال حتّى يدخلوا في الإسلام «حيث ثقفتموهم» أي حيث وجدتموهم في حلّ أو حرم وقوله تعالى: (من حيث أخرجوكم)

أي من مكّة وقد فعل رسول اللَّه لمن لم يسلم منه يوم الفتح» «وقال قتادة القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله تعالى:

(وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة)

وقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين)

وقال عطاء هو باقٍ على التحريم .... أمّا في الحرم فلا يبدأ بقتال أحد من الكفّار كائناً من كان ..» (2).

وقال المحقّق الحلّي «ت 676 ه» في الشرائع «ويجوز القتال في الحرم وقد كان محرّماً فنُسخ» وفي الجامع للشرائع لأبي زكريّا يحيى بن أحمد الهذلي «ت 689 ه» «ويقاتل بمن شاء وأين شاء إلّاالحرم إلّاأن يُبدأ فيه بقتال ..» (3).

وفي مسالك الإفهام تابع الشهيد الثاني رأي المحقّق الحلّي فيها (4).

وتابع أيضاً صاحب الجواهر المحقّق الحلّي في رأيه فقال «كان الجهاد سائغاً في جميع البقاع إلّاالحرم فإن الابتداء بالقتال فيه كان محرّماً لقوله تعالى: (

ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه ....)

أمّا تحريم القتال في المسجد الحرام فإنّه منسوخ أي بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)

ومن


1- 1 سورة البقرة/ 191.
2- 2 مرواريد. علي أصغر. الينابيع الفقهية. ج 9، ص 118.
3- 3 المصدر السابق. ص 235.
4- 4 النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام: ج 11، ص 303.

ص: 124

ذلك يعلم الوجه في قول المصنّف: ويجوز القتال في الحرم وقد كان محرّماً فنُسخ بالآية المزبورة بل وبقوله تعالى: (

واقتلوهم حيث ثقفتموهم واخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)

. قال في الكنز هذه الآية ناسخة لكلّ آية فيها أمر بالموادعة أو الكّف عن القتال كقوله تعالى: (

ودع أذاهم)

وقوله (

ولكم دينكم ولي دين)

وأمثاله لأنّ حيث للمكان أي في أي مكان أدركتموهم من حلّ أو حرم، وكان القتال في الحرم محرّماً ثمّ نسخ بهذه الآية وأمثالها فصدرها ناسخ لعجزها» (1).

ويُفهم من هذا العرض أنّ القول بالجواز اعتماداً على نسخ آية التحريم كان أحد القولين في المسألة إلى زمان المحقّق الحلّي في القرن السابع، ثمّ اشتهر وذاع بعد ذلك وربّما كان الأساس فى شهرته اختيار المحقّق له.

وأخيراً ردّ السيّد أبو القاسم الخوئي هذا القول واختار القول بالتحريم. فقد كتب يقول «يحرّم قتال الكفّار في الحرم إلّاأن يبدأ الكفّار بالقتال فيه فعندئذٍ يجوز قتالهم فيه ويدلّ عليه قوله تعالى: (

ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ...) (2) . وقد اعتمد في رأيه هذا على نظريّته في النسخ التي ردّ فيها أكثر ادّعاءات النسخ.

حيث استعرض في كتابه البيان في تفسير القرآن الأقوال في 36 آية ادُّعي حصول النسخ فيها، فردّ كلّ تلك الادّعاءات ولم يقبل إلّابنسخ آية النجوى.

ومن الآيات التي ناقش دعوى النسخ فيها آية تحريم القتال في المسجد الحرام فقد نقل عن أبي جعفر النحّاس في كتابه الناسخ والمنسوخ أنّ أكثر أهل النظر على هذا القول: إنّ الآية منسوخة وإنّ المشركين يقاتلون في الحرم وغيره، ونسب القول بالنسخ إلى قتادة أيضاً، وردّ عليه قائلًا «والحقّ أنّ الآية مُحكمة ليست منسوخة فإنّ ناسخ الآية إن كان هو قوله تعالى: (

فاقتلوا المشركين حيث


1- 1 الجبعي العاملي؛ زين الدين؛ مسالك الإفهام: ج 3، ص 16.
2- 2 الخوئي، أبو القاسم، منهاج الصالحين: ج 1، ص 369، ط 28.

ص: 125

وجدتموهم)

فهذا القول ظاهر البطلان؛ لأنّ الآية الأُولى خاصّة، والخاصّ يكون قرينة على بيان المراد من العام وإن علم تقدّمه عليه في الورود، فكيف إذا لم يعلم ذلك؟ وعلى هذا فيختصّ قتال المشركين بغير الحرم إلّاأن يكونوا هم المبتدئين بالقتال فيه فيجوز قتالهم فيه حينئذٍ، وإن استندوا في نسخ الآية إلى الرواية القائلة: إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقتل ابن خطل وقد كان متعلّقاً بأستار الكعبة فهو باطل أيضاً أوّلًا: لأنّه خبر واحد لا يثبت به النسخ. ثانياً: لا دلالة فيه على النسخ. فإنّهم رووا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قوله: «إنّها لم تحلّ لأحد قبلي، وإنّما أُحلّت لي ساعة من نهارها»، وصريح هذه الرواية أنّ ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه و آله و سلم فلا وجه للقول بنسخ الآية إلّاالمتابعة لفتاوى جماعة من الفقهاء والآية حجّة عليهم» (1) ويُفهم من تقييد تحريم القتال في الحرم بقيد كون الطرف الآخر من الكفّار، إنّ هذا التحريم لا يشمل البُغاة، وإنّ مبادرة البُغاة بالقتال في الحرم أمر جائز. وممّا يؤكّد ذلك ويشرحه قوله قدس سره قبل عدّة أسطر من الصفحة نفسها حيث أفتى بجواز قتال الطائفة الباغية في الأشهر الحُرم معلّلًا ذلك بأنّ «الآية الدالّة على حرمة القتال في الأشهر الحُرم تنصرف عن القتال المذكور حيث إنّه لدفع البغي وليس من القتال الابتدائي كي يكون مشمولًا للآية».

وقد تنطلق هنا بادرة للتأمّل العلمي في هذا الرأي؛ وهي أنّ المستفاد من النصوص القرآنية وغيرها انّ الكفر والبغي سببان تامّان لإيجاب القتال. وأنّ الحرم المكّي والأشهر الحُرم سببان تامّان لتحريمه. والتحريم منصبٌّ على القتال بما هو قتال لا على نوع منه؛ لأنّ القتال بما هو قتال لا يتناسب مع حرمة الحرم وحرمة الأشهر الحُرم. والتفكيك بين الكفر والبغي بتحريم مقاتلة الكفّار، وإباحة مقاتلة الباغين في الحرم والأشهر الحُرم بدعوى انصراف آية التحريم إلى الجهاد الابتدائي وعدم شمولها لقتال الباغين أمر قابل للدفع من جهة دعوى الانصراف


1- 1 المصدر نفسه. ص 303- 304.

ص: 126

في الآية. إذ لا مجال لهذه الدعوى مع تأكّد وصف الحرمة في الحرم المكّي والأشهر الحُرم في ست آيات من القرآن (1) عدا ما ورد فيها من السنّة، وإطلاق هذه الحرمة وعدم تقييدها بقتال دون آخر يمنع من حصل الانصراف المدّعى. ويجعل الجهاد الابتدائي المذكور في الآيات القرآنية دون سواه مصداقاً من مصاديق القتال المحرّم في الزمان والمكان المذكورين. واقتران التحريم في القرآن بهذا النوع من القتال لا يوجب انحصار الحكم به والانصراف عن غيره؛ لأنّ مناسبات الحكم والموضوع تفيد أنّ لا مدخلية لوصف الكفر في التحريم حتّى يُحكم بتقييد حكم تحريم القتال بحالة القتال مع الكفّار دون سواهم. والمدخلية كلّ المدخلية للزمان والمكان المذكورين والموصوفين بالحرمة بنحوٍ مطلق. ولعلّ القرآن نفسه لا يسمح بالانصراف المدّعى، ويؤكّد على إطلاق التحريم وشموله لكلّ قتال، ففي سورة التوبة نقرأ قوله تعالى: (

إنّما النسي ء زيادة في الكفر يُضلّ به الذين كفروا يحلوّنه عاماً ويحرّمونه عاماً ليواطئوا عدّة ما حرّم اللَّه فيُحلّوا ما حرّم اللَّه زُيِّن لهم سوء أعمالهم واللَّه لا يهدي القوم الكافرين) (2) . فهذه الآية تشنّ حملة شديدة ضدّ عرب الجاهلية الذين يتلاعبون بالأشهر الحُرم فيقدّمون ويؤخّرون ما شاؤوا من الشهور حتّى يتخلّصوا من حرمة الأشهر الحُرم، مع أنّ القتال الذي تتحدّث عنه الآية ليس من الجهاد الابتدائي ولا من القتال المشروع أصلًا بل من القتال القبلي الجاهلي. فيُفهم أنّ التحريم قد انصبّ على أصل القتال لاعلى نوع منه.

واستمراراً لهذا الحكم دلّت النصوص على كراهة إظهار السلاح في الحرم.

ففي الوسائل عقد الحرّ العاملي باباً سمّاه «باب كراهة إظهار السلاح بمكّة والحرم» أورد فيه ثلاث روايات فمنها رواية ينتهي سندها إلى حريز عن الإمام الصادق عليه السلام انّه قال «لا ينبغي أن يدخل الحرم بسلاح إلّاأن يدخله في جوالق أو يُغيّبه» و منها خبر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «لاتَخرِجُوا بالسيوف إلى الحرم» (3).

2- حكم الجاني في الحرم

أ- حدّ الجاني


1- 1 هي 37/ التوبة، 9/ التوبة، 36/ التوبة، 67/ العنكبوت، 194/ البقرة، 91/ النمل.
2- 2 التوبة/ 37.
3- 3 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 13، ص 256، ط مؤسّسة آل البيت.

ص: 127

2- حكم الجاني في الحرم

يختلف حكم الجاني في الحرم عن حكمه في مكان آخر، وهنا ثلاث جهات للبحث:-

أ- حدّ الجاني:

اتّفقت كلمة فقهاء الإمامية قديماً وحديثاً على أنّ من أحدث جناية في غير الحرم المكّي ثمّ التجأ إلى الحرم لم يُقم عليه الحد فيه بل يُضيّق عليه في المطعم والمشرب حتّى يخرج منه بذلك قال الشيخ المفيد «ت 413» في المقنعة (1) والشيخ الطوسي «ت 460» في النهاية (2). وابن البرّاج «ت 481 ه» في المهذّب (3) وابن إدريس «ت 598» في السرائر (4) والمحقّق الحلّي «ت 676 ه» في الشرائع والمختصر النافع (5) والعلّامة «ت 726» في قواعد الأحكام (6) والشيخ البحراني «ت 1186» في الحدائق (7) والشيخ صاحب الجواهر (8)، ومن المعاصرين السيّد أبو القاسم الخوئي (9) ومستندهم في ذلك روايات منها صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «في الرجل يجني في غير الحرم ثمّ يلجأ إلى الحرم؟ قال لا يُقام عليه الحدّ ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُكلّم ولا يُبايع، فإذا فُعل به ذلك يوشك أن يخرج فيُقام عليه الحدّ ... الخ» (10).

ويلاحظ في هذه الرواية عدم وجود كلمة التضييق التي أوردها الفقهاء في عباراتهم؛ ولذا قال في الحدائق أنّ «لفظ التضييق لم يقع في شي ء من روايات المسألة وقد فسّر التضييق بأنّ يُطعم ويُسقى ما لا يحتمله مثله عادة أو ما يسدّ الرمق ولا ريب أنّ كلا المعنيين مناسب للفظ التضييق، إلّاأنّه كمّا عرفت لا أثر له في النصوص، وإنّما ظاهرها عدم إطعامه وسقيه بالكلّية ولو مات جوعاً وعطشاً» (11) وحاول صاحب الجواهر الانتصار للقائلين بالتضييق حينما قال: إنّ


1- 1 مرواريد. علي أصغر. الينابيع الفقهية: ج 23، ص 29.
2- 2 المصدر نفسه. ص 89.
3- 3 المصدر نفسه. ص 149.
4- 4 المصدر نفسه. ص 234.
5- 5 المصدر نفسه. ص 363.
6- 6 المصدر نفسه. ص 405.
7- 7 البحرانى. يوسف. الحدائق: ج 17، ص 344.
8- 8 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 20، ص 47.
9- 9 الخوئي. أبو القاسم. مباني تكملة المنهاج: ج 1، ص 216.
10- 10 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 11، ص 59.
11- 11 البحراني. يوسف. الحدائق: ج 17، ص 344.

ص: 128

النصوص «وإن لم تكن مشتملة على لفظ التضييق المزبور لكن يمكن إرادته منها ولو بمعونة الفتاوى ومراعاة بعض العمومات بل الأولى تفسيره بما فيها بل في المسالك حكايته عن بعض واستحسنه» (1) وهكذا ظهر في المسألة اتّجاهان.

اتّجاه فسّر النصوص بالتضييق وهو المشهور، واتّجاه حافظ على ظاهر النصوص المؤدّي إلى منع الطعام والشراب كلّياً لا إلى التضييق فقط.

ويلاحظ أنّ نصوص المسألة تفاوتت بين تعميم الجناية والتخصيص بالقتل أو السرقة. والظاهر أنّ النصوص الخاصّة بالقتل أو السرقة جاءت لإبراز مصداق من مصاديق الجناية، ولذا جاءت كلمات الفقهاء بلسان التعميم لكلّ جناية إلّاما ذكره الإمام الخميني «لو قتل خارج الحرم والتجأ إليه لا يقتصّ منه فيه لكن ضيّق عليه في المأكل والمشرب إلى أن يخرج منه ..» (2)فذكر المسألة بعنوان القتل لا عموم الجناية. والظاهر انّه أوردها بهذا العنوان؛ لأنّه العنوان المناسب للكتاب الذي ذكرت فيه وهو كتاب الديّات، وذلك لا يعني أنّ الإمام الخميني يلتزم باختصاص الحكم في صورة القتل دون الجنايات الأخرى.

وقد فصّلت النصوص وبتبعها كلمات الفقهاء بين صورتين في المسألة:

صورة ما إذا كانت الجناية في الحلّ والتجأ الجاني إلى الحرم. وصورة ما إذا وقعت الجناية في الحرم نفسه، وما مضى كان حكم الصورة الأُولى. أمّا الصورة الثانية فحكمها إجراء الحدّ في الحرم، ففي تتمّة صحيحة هشام بن الحكم المذكورة قبل قليل قال الإمام الصادق (3) «... وإن جنى في الحرم جناية أُقيم عليه الحدّ في الحرم» وعلّل ذلك ب «أنّه لم يرَ للحرم حرمة». وكأن الجناية في الحلّ ثمّ الالتجاء للحرم تدلّ على اعتقاد الجاني بحرمة الحرم واحترامه لها واحتمائه به، فيمنح فيه الحماية لأجل ذلك. بينما تدلّ الجناية في الحرم على هتك الجاني لحرمة الحرم وعدم اعتنائه بها ولذا لم يمنع الحماية فيه.


1- 1 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 20، ص 47.
2- 2 الإمام الخميني. روح اللَّه. تحرير الوسيلة: ج 2، ص 502.
3- 3 مرواريد. علي أصغر. الينابيع الفقهية: ج 23، ص 29، ط 1.

ص: 129

ويلاحظ المتتبع في كلمات القدماء حكمهم على الجاني في الحرم بتعزير اضافي زائد على الحدّ المقرّر بجنايته، وذلك في مقابل هتكه لحرمة الحرم. بذلك قال الشيخ المفيد في المقنعة (1) والشيخ الطوسي في النهاية (2) وابن البرّاج في المهذّب (3). وابن إدريس في السرائر (4) ولم يتعرّض المحدّثون لذلك سوى ما ذكروه في باب التعزيرات من انّ للحاكم تعزير المخالفين للأحكام الشرعية والنظم الإسلامية بما يراه من المصلحة، ولا شكّ انّ هتك حرمة الحرم من أبرز مصاديق ذلك. إلّاانّهم لم ينصّوا على التعزير فيه.

ب- ديّة المقتول في الحرم

ب- ديّة المقتول في الحرم:

تختلف ديّة المقتول في الحرم عن ديّة المقتول في مكان آخر بإضافة الثلث إليها، وهذا ما يعبّر عنه بتغليظ الديّة في الحرم والأشهر الحُرم. بذلك قال الشيخ المفيد في المقنعة (5)والشيخ الطوسي في النهاية (6) وابن البرّاج في المهذّب (7) وابن إدريس في السرائر (8). وصاحب الجواهر (9) وأخيراً الإمام الخميني (10).

فيما اختار السيّد الخوئي عدم التغليظ (11).

وإذا رمى وهو في الحلّ بسهم ونحوه إلى من هو في الحرم فقتله لزمه التغليظ أيضاً. بذلك قال المحقّق في الشرائع (12)، وهو المحكي عن الفاضل. وصرّح به صاحب الجواهر (13) وقال به الإمام الخميني (14)، لصدق القتل في الحرم. وتردّد الأكثر في صورة العكس أي إذا رمى في الحرم من هو في الحلّ فقتله فيه واختار السيّد الخميني عدم التغليظ. وفي الجواهر أنّ ظاهر النصّ والفتاوى اختصاص التغليظ بالقتل «ولذا قال المصنّف- أي المحقّق الحلّي- ولا نعرف التغليظ في الأطراف؛ لأنّه لم يذكره أصحابنا كما عن المبسوط والسرائر بل عن الأخير دون قطع الأطراف عندنا، بل فى المسالك لا قائل به من أصحابنا ولا في قتل الأقارب


1- 1 مرواريد. علي أصغر. الينابيع الفقهية: ج 23، ص 29، ط 1.
2- 2 المصدر السابق. ص 87.
3- 3 المصدر السابق. ص 144.
4- 4 المصدر السابق. ص 226.
5- 5 المصدر السابق. ج 24، ص 42.
6- 6 المصدر السابق. ج 24، ص 42.
7- 7 المصدر السابق. ص 210.
8- 8 المصدر السابق. ج 25، ص 339.
9- 9 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 43، ص 27.
10- 10 الخميني. روح اللَّه. تحرير الوسيلة: ج 2، ص 502.
11- 11 الخوئي. أبو القاسم: مباني تكملة منهاج الصالحين: ج 2، ص 203.
12- 12 الشرائع، كتاب الحج.
13- 13 النجفي. محمد حسن. الجواهر: ج 43، ص 30.
14- 14 الخميني. روح اللَّه. تحرير الوسيلة: ج 2، ص 502.

ص: 130

للأصل وعدم الدليل، وبه صرّح الفاضل وغيره نعم هو مناسب لمذاق العامّة القائلين بالقياس والاستحسان كما يحكى عن بعضهم القول به فيها» (1) وبذلك قال السيّد الخميني أيضاً (2).

ج- ديّة المقتول في المدينة المنوّرة

ج- ديّة المقتول في المدينة المنوّرة:

وبحث الفقهاء في ديّة المقتول في المدينة المنوّرة، وباقي المشاهد المشرَّفة، فاختار بعضهم التغليظ واختار آخرون عدمه كما سيأتي مفصّلًا في أحكام المدينة المنوّرة.

3- استحباب دفن الميّت في الحرم المكّي

اشارة

3- استحباب دفن الميّت في الحرم المكّي:

ومن خصائص الحرم المكّي ما ورد في بعض الأخبار من استحباب الدفن فيه، فقد ورد في بعض الأخبار انّ الميّت يموت في منى أو عرفات فهل يُدفن هناك، أو يُنقل إلى الحرم؟ فيجيب الإمام عليه السلام بأن يُحمل إلى الحرم ويُدفن فيه وأنّه أفضل (3) وفي خبر آخر عن الإمام الصادق عليه السلام «من دُفن في الحرم أمن من الفزع الأكبر. فقلت من بِرِّ الناس وفاجرهم؟ قال من بِرِّ الناس وفاجرهم» (4).

فيُعرف من ذلك انّ وجه الاستحباب هو خصوصية الأمن التي يتميّز بها الحرم المكّي، فهو آمن للأحياء والأموات معاً.

احكام صيد الحرم

أحكام صيد الحرم:

وللحرم المكّي خصوصية أُخرى هي حرمة الصيد فيه، وهي حكم عام يشمل المحلّ والمحرم، نعم هي حرمة مؤكّدة في المحرم وهناك خصوصيات إضافية فيه من جهات الفدية والكفّارة.


1- 1 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 42، ص 30.
2- 2 الخميني. روح اللَّه. تحرير الوسيلة: ج 2، ص 502.
3- 3 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل. ج 13، ص 287، ط مؤسّسة آل البيت.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 131

قال الشيخ البحراني في الحدائق «قد صرّح الأصحاب رحمهم الله بأنّه يحرم من الصيد على المحلّ ما يحرم على المحرم في الحلّ والظاهر أنّه مجمع عليه بينهم كما حكاه في المنتهى» (1)وفي الجواهر «لا خلاف بيننا في أنّه يحرم من الصيد على المحلّ في الحرم ما يحرم على المحرم منه في الحلّ والحرم، بل الإجماع بقسميه عليه مضافاً إلى النصوص التي منها ما تقدم آنفاً من صحيح الحلبي وحسنه، بل لعلّه كذلك عند العامة إلّاما يحكى عن داود منهم من عدم الضمان إذا قتل صيداً في الحرم ولا ريب في فساده» (2) ويكره ذلك لمن كان في الحلّ وهو يؤم الحرم، أو من كان ما بين البريد والحرم. ونَقل في الجواهر قولًا بالحرمة عن الشيخ في جملة من كتبه (3). وتردّد صاحب الحدائق في المسألة (4) والتحريم في الحرم المكّي لا يختصّ بالنقل. إذ يحرم على المحرم الاصطياد والأكل والإثارة والدلالة والاغلاق والذبح فرخاً وبيضاً. ويحرم على المحلّ الاصطياد والأكل (5). وتجب عليه الصدقة فيما لو نتف ريشه من حمام الحرم وتتكرّر الصدقة بتكرر النتف (6) وفي مفهوم الصيد بحث واسع بين الفقهاء. ففي الجواهر انّ «الصيد هو الحيوان الممتنع حلالًا كان أو حراماً كما في القواعد مع زيادة بالأصالة التي يمكن إرادة المصنّف لها أيضاً ولو بدعوى انسياقها من اطلاق الممتنع، فلا يرد حينئذٍ دخول ما توحّش من الأهلي وامتنع كالإبل والبقر ونحوهما ممّا قتله جائز إجماعاً محكياً في المسالك وغيرها بل ومحصّلًا، ولا خروج ما استأنس من الحيوان البري كالظبي ونحوه ممّا لا يجوز قتله إجماعاً محكياً في المسالك وغيرها، بل ومحصّلًا بل عن الراوندي:

«هو- أي التعريف بما سمعت- مذهبنا مشعراً بالإجماع عليه، وما عن المبسوط والتذكرة والاتفاق على عدم حرمة قتل الذئب والفهد والنمر لا ينافي دخولها في اسم الصيد وأن حلّت كما أنّه لا ينافيه أيضاً اقتصار المصنّف على حرمة الثعلب والأرنب والضب واليربوع والقنفذ والزنبور وغير المأكول إذ أقصاه أنّ ما عداه


1- 1 البحرانى. يوسف. الحدائق. ج 15، ص 297.
2- 2 النجفي. محمّد حسن. الجواهر. ج 20، ص 294. والصحيحة المُشار إليها هي المذكورة في الوسائل الباب الأوّل من أبواب تروك الإحرام الحديث الأوّل نقلًا عن الكافي بسند ينتهي إلى الحلبي عن الإمام الصادق ع انّه قال «... ولا تدلنّ عليه محلّاً ولا محرماً فيصطاده ولا تشر إليه فيستحل من أجلك فإن فيه فداء لمن تعمده».
3- 3 المصدر السابق. ص 297، ص 299.
4- 4 البحراني يوسف الحدائق: ج 15، ص 300- 303.
5- 5 الخميني. روح اللَّه. تحرير الوسيلة. ج 1، ص 358.
6- 6 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 5، ص 310.

ص: 132

صيد حلال» «ولكن مع ذلك قيل والقائل الشيخ في محكي المبسوط بل عن بعض نسبته إلى الأكثر، بل اختاره المصنّف في النافع: «يشترط أن يكون حلالًا، ولا ينافيه إيجاب الكفّارة في الثعلب والأرنب والقنفذ واليربوع والضب لإمكان كون ذلك لخصوص نصوصها لا لأنّها صيد» ثم سرد الأدلة على ذلك، وعقب بالقول:

«فلا مستند حينئذٍ لدعوى العموم في الصيد» (1) واختار في الحدائق التعميم ونقل عن المدارك أن جملة من الأصحاب ألحقوا الأسد والثعلب والأرنب والضب والقنفذ واليربوع بالمحلَّل، وعن آخرين أنّهم ألحقوا الزنبور والأسد والعظاية، وعن أبي الصلاح أنّه حرّم قتل جميع الحيوان إلّاإذا خاف منه أو كان حيّة أو عقرباً أو فأرة أو غراباً، واستظهر أن مراده بالحيوان «الممتنع لا مطلق الحيوان للنصّ والإجماع على جواز ذبح غيره، وعلى هذا يرجع كلامه إلى ما تقدّم نقله عن المحقّق في الشرائع من العموم للمحلَّل والمحرَّم» (2) والصيد المحرَّم هو صيد البر دون ما كان من البحر.

ويترتّب على إتيان الصيد وعدم الالتزام بالتحريم ضمان القيمة والكفّارة على تفصيل أورده الفقهاء في مصنّفاتهم. ويتضاعف الضمان على من أصاب الصيد محرماً وهو في الحرم. قال في الجواهر: «كلّما يلزم المحرم في الحلّ من كفارة الصيد فداؤه أو بدله أو قيمته، أو المحلّ في الحرم من القيمة على الأصح يجتمعان على المحرم في الحرم فيجب الفداء والقيمة أو القيمتان على المشهور بل عن شرح الجمل للقاضي الإجماع عليه لقاعدة تعدّد المسبّب بتعدّد السبب وللمعتبرة المستفيضة المتقدّمة في الحمام والطير والفرخ والبيض بل هو المراد من المضاعفة في قول الصادق عليه السلام في حسن معاوية بن عمّار وإن أصبت الطير وأنت حرام في الحرم فالفداء مضاعف عليك، وإن أصبته وأنت حلال في الحرم فقيمة واحدة، وإن أصبته وأنت حرام في الحلّ فإنّما عليك فداء واحد». (3)


1- 1 المصدر السابق.
2- 2 البحراني. يوسف. الحدائق: ج 15، ص 138.
3- 3 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 20، ص 316.

ص: 133

ويجري على الصيد أحكام خاصّة فلا يُملك ولا يجوز أكله، قال في الجواهر «ولا يدخل الصيد في ملك المحرم في الحلّ وفي الحرم باصطياد ولا ابتياع ولا هبة ولا ميراث ولا غير ذلك من أسباب التملّك كما في النافع والقواعد وغيرهما، بل في المدارك نسبته إلى القطع به في كلام الأصحاب، بل عن المنتهى الاجماع عليه في الاصطياد» (1).

وعليه اخلاء سبيله، وإرجاع الثمن إلى المشتري في حالة البيع. سبب فساد المعاملة وإن تلف بيده فعليه الجزاء. وإن كان قد ذبحه فيجري عليه حكم الميتة وعدم جواز التناول منه إلّافي الاضطرار والمخمصة. ومن الأحكام أيضاً حرمة إخراج حمام الحرم وسائر الطير والصيد منه ووجوب ردّه إلى الحرم ولزوم ثمنه أو فداؤه لو تلف قبل الردّ والإرجاع. وقد عقد صاحب الوسائل باباً بهذا العنوان ذكر فيه عدّة روايات بهذا المضمون (2).

4- أحكام شجر الحرم

4- أحكام شجر الحرم:

وكما ذكرنا سابقاً فإن الأمن في الحرم لا يختصّ بالانسان والحيوان، بل يتجاوزهما إلى النبات. فمن خصائص الحرم المكّي عدم جواز قلع شجر الحرم سواء كان القالع محلّاً أو محرماً. قال في المدارك: «اعلم أن قطع شجرة الحرم كما يحرم على المحرم يحرم على المحلّ أيضاً، كما صرّح به الأصحاب، ودلّت عليه النصوص وحينئذٍ كان المناسب أن لا يجعل ذلك من تروك الإحرام بل يجعل مسألة برأسها كما فعل في الدروس» (3)واستظهر في الحدائق أن يكون الحكم كذلك في حشيش الحرم واحداً للمحرم والمحلّ (4). واستثني من التحريم النخل وشجر الفواكه سواءً أنبته اللَّه أو الإنسان، والأذخر، وما أنبته الإنسان أو غرسه من البقول والزروع والرياحين والشجر. وعودا المحالة وهي البكرة التي يستقى


1- 1 المصدر نفسه. ص 331.
2- 2 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن، الوسائل: ج 13، ص 37.
3- 3 العاملي. محمّد. مدارك الأحكام: ج 7، ص 372.
4- 4 البحراني. يوسف. الحدائق: ج 15، ص 537.

ص: 134

بها، وما ينبت في ملك الإنسان، واليابس من الشجر والحشيش لكونه ميّتاً لا حرمة له، وما انكسر ولم يبن لأنّه بمنزلة الميّت (1). وذكر الفقهاء حكمين يترتّبان على قطع شجر الحرم خاصة ولا يشملان حشيشه وهما:

أ- الكفّارة

أ- الكفّارة:

قال في الحدائق: «قد اختلف الأصحاب في كفارة قلع الشجر، فقال الشيخ في الخلاف والمبسوط في الشجرة الكبيرة بقرة وفي صغيرة شاة، وفي الأغصان قيمته. وقال ابن الجنيد وإن قلع المحرم أو المحلّ من شجر الحرم شيئاً فعليه قيمة ثمنه. وقال أبو الصلاح في قطع بعض شجر الحرم من أصله دم شاة ولقطع بعضها أو اختلاء خلاها ما تيسّر من الصدقة. وقال ابن البرّاج فيما يجب فيه بقرة: أو يقلع شيئاً من شجر الحرم الذي لم يغرسه هو في ملكه ولا نبت في داره بعد بنائه لها، ولم يفصل بين الكبيرة والصغيرة. وقال ابن حمزة: والبقرة تلزم بصيد بقرة الوحش وقلع شجر الحرم، ثمّ قال تجب شاة بقلع شجر صغير من الحرم. وقال ابن إدريس: الأخبار واردة عن الأئمة عليهم السلام بالمنع من قلع شجر الحرم وقطعه ولم يتعرّض فيها للكفّارة لا في الصغيرة، ولا في الكبيرة. قال في المختلف: وهذا قول يشعر بسقوط الكفّارة وظاهر المشهور بين المتأخّرين القول الأوّل وتردّد المحقّق في الشرائع فيه» (2).

ب- وجوب الإعادة

ب- وجوب الإعادة:

أي اعادة الشجرة المقطوعة إلى الحرم. قال في الجواهر «ولو قلع شجرة منه وغرسها فى غيره، أو لم يغرسها، أعادها كما في القواعد وظاهرهما إرادة إلى مكانها كما عن المبسوط وعن التحرير والمنتهى والدروس إلى الحرم واستجوده


1- 1 المصدر السابق. ص 533- 537.
2- 2 المصدر السابق. ص 531- 532

ص: 135

في المسالك إلّاأن يكون محلّها الأوّل أجود فيتعيّن أو مساويه، وإلّا فأرض الحرم متساوية في الإحرام» ولو «جفّت على وجه لم تفدها الإعادة العود إلى ما كانت عليه قبل كما عن المبسوط والتحرير والمنتهى والتذكرة يلزمه ضمانها معلّلين له بالإتلاف. وفي القواعد قيل يلزمه ضمانها ولا كفّارة ومقتضاه كون الضمان بالقيمة لا البقرة والشاة» (1).

آداب الحرم وخصوصيّاته الأُخرى

1- حكم لقطة الحرم

آداب الحرم وخصوصيّاته الأُخرى

وللحرم المكّي آداب وخصوصيّات أُخرى يمكننا إدراجها ضمن النقاط التالية:

1- حكم لقطة الحرم:

فقد تحدّث الفقهاء بشكل مفصّل عن خصوصيات لقطة الحرم وامتيازها على لقطة ما سواها من الأماكن. وأجاد صاحب الجواهر في بيان الأقوال والآراء والأدلّة في المسألة؛ ولذا نقتصر على هذا المصدر في استعراضها. فقد كتب بعد أن استعرض الآراء والأقوال في المسألة: أنّ «محصّل الجميع الحرمة مطلقاً من غير فرق بين الدرهم وأقل منه وأزيد، أو بنيّة الإنشاء وعدمها، وبنيّة التملّك وعدمها والكراهة كذلك والتفصيل بين الأقل من الدرهم وغيره فيجوز الأوّل بلا كراهة والثاني معها أو مع الحرمة وبين نيّة التملّك فلا يجوز مطلقاً وبنيّة الإنشاء فيجوز كذلك وبين الفاسق والعدل، فيحرم على الأوّل ويحلّ الثاني وأمّا التملّك ففي المختلف لا يجوز تملّك لقطة الحرم إجماعاً، بل يجب تعريفها وفي التذكرة: لا يجوز تملّكها عند أحد من علمائنا أجمع، لكن عن التقي القول بجواز تملّكها بعد التعريف وربّما مال إليه بعض من تأخّر عنه» (2).


1- 1 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 20، ص 427- 428.
2- 2 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 38، ص 284.

ص: 136

بيان ذلك أنّ المسألة تنحل إلى مسألتين: مسألة جواز الالتقاط وعدمه، ومسألة جواز التملّك وعدمه. وفي المسألة الأُولى ثلاثة آراء: رأي بالحرمة مطلقاً، ورأي بالكراهة مطلقاً. ورأي بالتفصيل. وهنا ثلاثة تفاصيل تفصيل بين الأقلّ من الدرهم وغيره فيجوز الالتقاط في الأقل بلا كراهة، ولا يجوز في غيره أو يكره، وتفصيل بين الالتقاط بنيّة التملّك والالتقاط بنيّة التعرّض والإنشاء فلا يجوز في الأوّل مطلقاً ويجوز في الثاني مطلقاً. وتفصيل بين العدل والفاسق فيجوز للأوّل دون الثاني. أمّا التملّك بعد الالتقاط ففيه رأيان رأي بعدم الجواز ورأي بالجواز بعد التعريف.

2- استحباب الغسل

2- استحباب الغسل:

ومن آداب الحرم المكّي الغسل لدخوله. ففي الوسائل أورد خبراً ينتهي سنده إلى أبان بن تغلب قال: «كنت مع أبي عبد اللَّه عليه السلام مزامله بين مكّة والمدينة، فلمّا انتهى إلى الحرم نزل واغتسل، وأخذ نعليه بيديه ثمّ دخل الحرم حافياً فصنعت مثل ما صنع» (1) فقال: يا أبان مَن صنع مثل ما رأيتني صنعت تواضعاً للَّه محى اللَّه عنه مائة ألف سيّئة وكتب له مائة ألف حسنة، وبنى اللَّه له مائة ألف درجة، وقضى له مائة ألف حاجة» (2) كما أورد أخباراً أُخرى تفيد استحباب الغسل أيضاً، ذكرها صاحب المدارك ونصّ على أنّ «مقتضاها استحباب غسل واحد، أمّا قبل دخول الحرم أو بعده من بئر ميمون الحضرمي الذي في الأبطح، أو من فخ وهو على فرسخ من مكّة للقادم من المدينة، أو من المحلّ الذي ينزل فيه بمكّة على سبيل التخيير، وغاية ما يستفاد منها أنّ ايقاع الغسل قبل دخول الحرم أفضل» (3).

وردّ عليه في الجواهر بأنّ «النصوص المزبورة ظاهرة الدلالة على غسلين


1- 1 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 13، ص 195.
2- 2 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 13، ص 195.
3- 3 العاملي. محمّد. المدارك: ج 8، ص 121، ط مؤسّسة آل البيت.

ص: 137

أحدهما للحرم والآخر لدخول مكّة» (1).

3- كراهة مطالبة الغريم

3- كراهة مطالبة الغريم:

وعقد في الوسائل باباً سمّاه «باب كراهة مطالبة الغريم في الحرم والتسليم عليه حتّى يخرج» ذكر فيه خبراً نقله عن الكافي بسند ينتهي إلى سماعة بن مهران عن الصادق عليه السلام انّ سماعة سأله عن رجل لي عليه مال فغاب عنّي زماناً ثمّ رأيته يطوف حول الكعبة أفَأتقاضاه مالي؟ قال لا لا تسلّم عليه ولا تروعه حتّى يخرج من الحرم» (2).

ويظهر من هذا النصّ جليّاً أنّ هذا الحكم من توابع خصوصية الأمن في الحرم؛ لأنّ مطالبة الغريم تسلب عنه الاطمئنان النفسي وتجعله في اضطراب.

ومن الطريف أن يلاحظ أن التحيّة التي غرضها اشاعة السلم والاطمئنان في المجتمع تصبح بالنسبة للغريم ذات أثر عكسي، فتثير في نفسه القلق والاضطراب من المطالبة بالدين.

4- كراهة سؤال الناس

4- كراهة سؤال الناس:

وعقد في الوسائل باباً أيضاً بعنوان «كراهة سؤال الناس في الحرم ويوم عرفة، وكراهة ردّ السائل بها» نقل فيه خبراً عن علل الشرائع للشيخ الصدوق عن الزهري أنّه قيل لعليّ بن الحسين عليه السلام: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك وكان بمكّة والوليد بها؛ لقضى لك على محمّد بن الحنفية في صدقات علي بن أبي طالب، فقال: ويحك، أفي حرم اللَّه أسأل غير اللَّه عزّ وجلّ إنّي لآنف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي؟

قال الزهري: فلا جرم أنّ اللَّه ألقى هيبته في قلب الوليد حتّى حكم له على


1- 1 النجفي. محمّد حسن. الجواهر: ج 19، ص 280.
2- 2 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 13، ص 265.

ص: 138

محمّد بن الحنفية» (1).

5- كراهة إنشاد الشعر في الحرم

5- كراهة إنشاد الشعر في الحرم:

وعقد في الوسائل أيضاً باباً سمّاه «باب كراهة إنشاد الشعر للمحرم وفي الحرم وإن كان شعر حقّ» ذكر فيه خبراً ينتهي سنده إلى حمّاد بن عثمان أنّه سمع من الإمام الصادق عليه السلام يقول: تكره رواية الشعر للصائم والمحرم وفي الحرم، وفي يوم الجمعة، وإن يروى بالليل. قال: قلت: وإن كان شعر حقّ؟ قال: وإن كان شعر حقّ» (2).

الهوامش:

تعمير الكعبة ومراسمه


1- 1 الحرّ العاملي. محمّد بن الحسن. الوسائل: ج 13، ص 556.
2- 2 المصدر السابق. ج 12، ص 565.

ص: 142

تعمير الكعبة ومراسمه

إعادة بناء الكعبة سنة 1039 ه. ق.

من كتاب مرآة الحرمين لأيّوب صبري باشا

إعداد: السيد علي قاضي عسكر

المقدّمة

المقدّمة

تُعدّ الكعبة المشرَّفة من أجمل أماكن الحرمين الشريفين وأكثرها جاذبية وقُدسية. وهي في تراثنا الديني قبلة المسلمين في كلّ أقطار الدنيا، وقد ورد في الأخبار أنَّ مجرَّد النظر إليها يكيل للناظر ثواباً جزيلًا.

لقد مرّت على البيت العتيق عِبْرَ مختلف مراحل التأريخ حوادث تعرّضت جدران الكعبة خلالها إلى الانهيار في بعض الأحيان. وقد أسهبَ المؤرّخون في نقل أدقّ التفاصيل عن هذه الحوادث المؤسفة وبحث دقائق أُمورها.

في حج العام الماضي (1416 ه)، وبعد انتهاء مراسم الحج الشريفة، بادرت الحكومة السعودية، ودون انذار مُسبق بنصب السّقالة وأحاطت الكعبة الشريفة بجدار خشبي مرتفع ضَمَّ خلاله الكعبة وحجر إسماعيل عليه السلام إلّاالحجر الأسود الذي بقي خارج

ص: 143

الجدار الخشبي، مثيرةً بهذا العمل تساؤلات شتّى، وتاركة المعتمرين في حيرة من أمرهم وألمٍ شديد، ذلك أنّهم ما تحمّلوا كلّ تلك المشاق إلّامن أجل التشرّف بالنظر إلى بيت اللَّه الحرام والتمتّع بكلّ ركنٍ وجانبٍ منه.

وقد أورد بعض المعتمرين- مِمّن أُتيحت له الفرصة ودخل الجدار الخشبي إلى داخل الكعبة من خلال باب في الجدار- أنّ الحكومة السعودية أزالت السقف الخشبي للكعبة المشرَّفة، وأقامت بالفعل عدّة أعمدة خرسانية، وغطّت أرضية الكعبة كذلك بالاسمنت، وساوته ببوّابة البيت العتيق.

ولكي تبقى الباب بمنأىً عن أيّ ضرر أو تلفٍ (حسب ادعاء المسؤولين السعوديين) فقد خُلعت الباب من مكانها، ووُضعت في زاوية بعيدة عن متناول الأيدي. ثمّ بَنَتِ الحكومة المذكورة سقفاً جديداً على الأعمدة الخرسانية التي نصبتها آنفاً، في حين بقي الحائط الخارجي للكعبة من دون أن يطرأ عليه أدنى تغيير. وطالت تعميرات الشاذروان وهو القاعدة السفلية المحيطة بالبيت الشريف، واستُبدلت الأحجار المحيطة بحجر إسماعيل عليه السلام. هذا وقد تمّ البناء في شهر رجب من عام 1417 ه.

ومن جانب آخر فقد وصلت إليَّ نسخة مخطوطة باسم مرآة الحرمين تأليف أيوب صبري باشا، وبعد إلقاء نظرة على تلك المخطوطة تبيّن لي أنَّ المؤلّف تطرّق فيها إلى تأريخ التعميرات والترميمات التي أُجريت على الكعبة الشريفة، حيث يعرض أوجه الشبه بين أساليب التعمير والبناء في الماضي وما هي عليه في وقتنا الحاضر. ومن جملة ما ذكر، أنَّ فيضاناً عظيماً حدث في زمن الشريف مسعود والي مكة تَسبَّب في تهدّم جزء من جدار الكعبة الشريفة، فأوفدت الدولة العثمانية في حينها مبعوثاً لها يدعى

«رضوان آقا»

للنظر بما يمكن القيام به من أجل إعادة بناء تلك الجُدران وتعميرها. وبالفعل فقد أُقيم جدارٌ خشبي حول الكعبة المشرَّفة واستُؤنِفَ البناء في الحال.

ويستطرد صبري باشا قائلًا: لقد حذا مبعوث الدولة العثمانية لهذا العمل حَذْوَ عبد اللَّه بن الزبير، بمعنى أنّ مبعوث الدولة كان قد اتَّبع الخطوات نفسها التي اتّبعها عبد اللَّه ابن الزبير، واستخدم الأساليب نفسها.

ص: 144

ومن هنا فقد عقدتُ العزم على نشر هذه المعلومات والأخبار التأريخية القيّمة، ووضعها في متناول أيدي قرّاء مجلّة ميقات الحجّ الأعزّاء، وأبدأها بإعطاء نبذة ولو مختصرة عن الكتاب ومؤلّفه ومترجمه:

وُلِدَ أيّوب صبري باشا بن السيد شريف الإسلام بن الحاج أحمد في مدينة (أرمية) إحدى توابع (روم ايلي) (1) أو (تساليا) من توابع بني شهر التركية.

وقد استهلَّ حياته الإجتماعية والوظيفية بالإلتحاق بدار صناعة الأسلحة في القوّة البحرية التركية، واعتلى مناصب كثيرة بسرعة حتّى وصل إلى منصب قائد، ثمّ أُوفِدَ إلى الحجاز بما يتناسب ومنصبه الجديد، وقضى فترة لا بأس بها في مكّة والمدينة المنورة، فكانت نتيجة ذلك أن تعرّف على مُجمل تأريخ هذه المنطقة.

ومع أنَّ تأريخ وصول صبري باشا إلى الحجاز لم يُعرف بالتحديد، إلّاأنّه ذكر في مُؤلَّفة (مرآة الحرمين) ما يلي (2):

«تشرّف الحقير مؤلف الكتاب بالوصول إلى مكة المكرمة في أواسط شهر شعبان سنة (1289 ه. ق.) (3).

وقد سجّل صبري باشا في خلال رحلته تلك الكثير من المعلومات والمذكّرات وكان أحياناً كثيرة يقوم بالبحث والتقصّي شخصياً، فألَّف بعد ذلك كتابه المعروف ب (مرآة الحرمين).

وإذا ما اعتبرنا سنة (1289 ه) هي السنة التي قام فيها صبري باشا بالسفر لأوّل مرة إلى الحجاز وعلمنا أنَّ سنة (1299) كانت السنة التي ألَّف فيها المذكور كتابه (مرآة الحرمين) لاستنتجنا أنَّ هذا الكتاب القيّم استغرق حوالى عشر سنوات للظهور بمظهره ذاك (4).

وقد أُلّف الكتاب المذكور في ثلاثة أجزاء، يضمُّ الجزء الأوّل كتاب (مرآة مكّة)، والجزء الثاني (مرآة المدينة) وأمّا الجزء الثالث فيدعى ب (مرآة الجزيرة العرب)، وطُبِعت الأجزاء الثلاثة على التوالي سنة (1301) و (1304) و (1306) في مطبعة (سنده) بالقسطنطينيّة- اسطنبول- بتركية باللغة التركية الاسطنبولية.

ويصف أيوب صبري باشا الهدف من تأليفه كتاب (مرآة الحرمين) قائلًا: «حيث إنّه لم يُؤَلَّف لحدّ الآن


1- 1 دائرة المعارف التركية العثمانيّة.
2- 2 عاتق بن غيث البلادي، نشر الرياحين، ج 1، ص 86.
3- 3 ترجمة مرآة الحرمين، مخطوطة، ص 60.
4- 4 طبقاً لما ذكره إبراهيم الكردي المكّي، حيث يقول: «كتب أيّوب صبري باشا في الجزء الأخير من كتابه مرآة الحرمين ص 1343، يقول: انتهيت من تأليف كتاب مرآة الحرمين بعون اللَّه الرحمن في يوم 24 ربيع الأوّل المبارك، سنة 1299 ه. ق. ويضيف إبراهيم الكردي قائلًا: ويظهر من ذلك أنّ المؤلّف وبعد انتهائه من تأليف الكتاب سنة 1299 ه بدأ بطبع كتابه المذكور سنة 1301 وانتهى من إكمال طبعه بعد سنة من ذلك التأريخ. راجع: التأريخ القويم، ج 6، ص 331.

ص: 145

كتابٌ مستقلٌّ باللغة التركية حول ذلك، وحيث إنّ الروايات التي تداولتها ألسن وأفواه العامّة، كانت مختلفة ومتضادّة؛ لهذا فإنّ الوصول إلى الحقيقة المطلوبة كان في غاية الصعوبة، ممّا أدّى إلى عدم اطّلاع أبناء البلد بشكل مطلوب على فوائد وفضائل هاتين البلدتين الطيّبتين، وصعوبة الحصول على المعلومات المطلوبة على حدٍّ سواء ... لذا فقد عزم العاجز الفاني على توفير تلك المعلومات، ووضعها في متناول أيدي الخاصّة والعامّة من الناس نظراً لإحساسي بفوائدها الجمّة ومنزلتها العالية التي لا يمكن وصفها أو ايجاد نظير لها». وقد أُلِّف كتاب مرآة الحرمين باللغة التركية في مجلّدين اثنين، وهو يتحدّث بالتفصيل عن الجغرافية العامّة لمكّة والمدينة المنوّرة؛ تأسيس هاتين المدينتين، الأبنية الإسلامية والتأريخيّة الموجودة فيها، الحوادث والمناسبات التي طرأت على الحرمين الشريفين على مرِّ التأريخ، الفتنة الوهابية وغير ذلك. وقد احتوى المجلّد الأوّل على (434) صفحة بينما احتوى المجلّد الثاني من الكتاب على (294) صفحة حيث زُيّنت صفحته الأُولى والثانية بنقوش ذهبيّة ولاجوردية وخضراء، واحتوت صفحاته الخمس الأُولى على تذهيب ما بين السطور، وكُتبت عناوين صفحاته بالحبر الأحمر محاطةً بإطار أسود اللون مُطَعّم باللونين الأزرق والأحمر كذلك، ثمّ أُحيط الإطار المذكور بإطار خارجي حوله أيضاً (1).

وقد اعتمد صبري باشا في تأليفه الكتاب المذكور على عدّة مصادر، أهمّها: أخبار مكّة للأزرقي، أخبار مكّة للفاكهي، التفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير روح البيان، وتفسير أبي السعود، تفسير ابن كثير ...

وصحيح البخاري، وفتاوى قاضي خان، وخلاصة الوفاء بأخبار مدينة المصطفى، ووفاء الوفا، وتاريخ الخُميس، وتاريخ ابن هشام، والعقد الثمين في فضائل البلد الأمين، وبدائع الزهور في وقائع الدهور، وشفاء الغرام، ونور العين في مشهد الحسين، وقرة العين في أخذ ثأر الحسين والأحكام السلطانية للماوردي، فذلكة الكتاب للچلبي، تدقيقات وتحقيقات الدكتور رائف أفندي، فضائل بيت اللَّه، ذراع الكعبة المشرَّفة، مضبطة سهيلي أفندي، فتوح


1- 1 فهرست النسخ الخطيّة للمكتبة الوطنية، ج 4، ص 325.

ص: 146

الحرمين، تاريخ نوح أفندي، روضة الصفا لمحمّد خاوند شاه، التواريخ التركية، وغيرها.

وكتب أيّوب صبري باشا هذا الكتاب باللغة التركية واستفاد من الحكايات والأشعار التركية والعربية والفارسية.

وقد أثنى عليه البعض كعاتق بن غيث البلادي في كتابه: نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين في الجزء الأوّل، الصفحة 86. ومحمّد طاهر الكردي صاحب كتاب التأريخ القويم، حيث قال: «والحقّ يقال، إنّه كتابٌ فريد في بابه، وحيد من نوعه ... وإنّه لكتاب مشحون بالفوائد والمعلومات التأريخية الوثيقة وحبّذا لو ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية ثم يطبع وينشر لأنّه كتاب خاصّ بتأريخ الحرمين فقط».

وقد كتب الأديب الكبير «نجيب نادر أفندي» تقريظاً جميلًا لكتاب مرآة الحرمين: «طالما طالعت أطايب المطولات، وتفرست في أفخر المفصلات، قصد الوصول لا صدق التفاصيل، متوقياً الوقوع بسقطات الأقاويل، حتّى حان الحين وحلّت الحان، ورق يراع مرآة الحرمين الرنّان، وهتف هاتف التهليل، بسل سبيل السلسبيل وخل الدخيل، وواصل الأصيل، فافترست فرصة التفرس، واسترقت ساعة التجسس، فإذا بذوات الذوابل، ومنهومات النهى وناعمات الأنامل، يحتجبن المحاسن حياء، ويتوارين من أنوار المرآة الوراء، فراعتني يراعتها، وبهرتني براعتها وقلت إنّ هذه:

تمثال أجيال مضت وسراة حلّت محل الحال بعد فوات ...

قم صاح واستطلع صباحاً رائقاً واعجب من المرقات في المرآة

مرآة نور اللَّه زينها التقى تحكي حمى الفردوس في نغمات

أهدى بها الأيام «أيوب» فما تنفك تشكر منه فيض هبات ...

والعلم يشهد أنه بحر له بربجل عوائد وصلات ...

أحيى لنا الأعيان في آثاره ولتلك أكبر حكمة وثبات ...

فلقد أقر عيون كلّ ذوي الحجا ما بين ماض في الزمان وآت

ص: 147

وغدا له الحر (النجيب) مؤرخاً «قد حصل الحرمين في مرآت» (1)

هذا وإنّ صبري باشا بعد عودته من الحجاز حاز منصب رئاسة المحاسبات في القوة البحرية التركية وبعد أن حصل على رتبة لواء وهي من الرتب العسكرية بدأ بالتدريس في الكليّة البحرية التي تُسمّى «شاهانية» في إسطنبول.

وأخيراً توفي صبري أيوب باشا في 15 من شهر صفر 1308 ه الموافق 30 أيلول 1890 الميلادي في إسطنبول ودفن في مقبرة قاسم باشا.

وقد صمَّم وزير الانطباعات (2) أيام حكومة ناصر الدين شاه على ترجمة الكتاب المذكور فأعطاه عبد الرسول المنشي (السكرتير) وكان مترجم البلاط آنذاك، وفعلًاتمّت ترجمته في سنة (1307 ه) في دار الترجمة المعروفة ب (همايوني)، فخرج الكتاب على هيئة قطعة منثورة نثراً جميلًا ومسبوكة سبكاً دقيقاً.

وتصدّى محمّد القزويني المعروف بالآشوري العاشر لنسخ الكتاب بالخط النستعليق وتذهيبه بدقّة مزّيناً بالأشكال الجميلة وذلك سنة (1308 ه) أي قبل ما يزيد على مئة عام.

وكما ذكرنا آنفاً فإنّ لصبري باشا مؤلّفات عدّة، أهمها:

1- تأريخ الوهابيّين: باللغة التركية وقد تمّ طبعه من قبل «منشورات بدر» سنة (1992) باسطنبول.

2- تكملة المناسك.

3- ترجمة الشمائل.

4- عزيز الآثار.

5- رياض الموقنين.

6- محمود السّير.

***


1- 1 التاريخ القويم 6: 333.
2- 2 وهو ما يعرف اليوم بوزير الثقافة والإرشاد، أو الإعلام.

ص: 148

يُعدّ السلطان مراد خان رابع بن السلطان أحمد خان أحد السلاطين العثمانيّين الباني الحادي عشر لبيت اللَّه الحرام، حيث لم يجز شرعاً (1) تجديد بناء البقعة المقدّسة أو طرف منها إلّابعد إنهدامها وسقوطها، ولذا فلم يجرأ أحد على تجديد أو تعمير البقعة المقدّسة المباركة منذ أيّام الحجّاج الظالم، وحتى زمن السلطان المشار إليه آنفاً، حتى استوجب تعمير تلك البقعة المقدّسة بعد أن اندرست أركانها الأربعة وآلت إلى السقوط، ممّا حدى بالمسؤولين إلى تعميرها (2). وبالنظر إلى المسألة المذكورة لم يتمكّن السلاطين سابقاً من تعمير أو تجديد تلك البقعة الشريفة، حتّى وصل حالها في أيّام السلطان أحمد خان إلى وضع حرج وكادت أن تتهدّم كلّياً، مع أنّ السلطان أحمد خان كان ينوي قبل ذلك تجديد الأبنية الرخوة من البيت الحرام، ولكن لعدم حصوله على مجوّز يسوّغ له ذلك العمل، فقد تمّ تقوية البيت بالأحزمة والمفاصل الحديدية، وتمّ تعمير وترميم أحد الأركان الأربعة على قدر ما أمكن ذلك.

وبالرغم من أنّ الترميمات المذكورة ساعدت على صيانة البيت المعظّم إلى ما يقارب ثماني عشرة سنة ومنعته من الانهدام والسقوط، إلّاأنّ الأمطار الغزيرة- التي رافقها الرعد والبرق والصواعق- سالت مياهها من الجبال المحيطة بالبقعة المقدّسة، وتجمّعت مكونةً سيلًا كسيل العرم (3)فهجم السيل المذكور من أطراف الحرم الأربعة ودخل المسجد الحرام، وكانت شدّته تزداد ساعة بعد أُخرى، وارتفع مقدار ذراعين بمحاذاة مفتاح باب الكعبة الشريفة. وقد تهدّمت المتاجر والبيوت التي كانت في طريق مسير السيل المذكور، ولم تستطع جدرانها من مقاومة قوّة السيل واندفاعه فجرفتها مياه السيل دافعة إيّاها داخل الحرم الشريف، وأحاطت به من كلّ جانب. ولا توجد إحصائية دقيقة حول عدد الأفراد الذين قُتلوا من جرّاء السّيل والذين كانوا في تلك المتاجر والبيوت.


1- 1 لم يوضح المؤلّف المصدر أو المذهب الذي استند عليه في عدم الجواز المذكور.
2- 2 اشارة إلى المباحث السابقة من هذا الكتاب مرآة الحرمين، التي سننشرها إن شاء اللَّه.
3- 3 السيل الذي أصاب مدينة سبأ بأرض اليمن في القرن الثاني قبل الميلاد وفرَّق أهل هذه الأرض في البلاد.

ص: 149

ولمّا كانت حيطان البيت المعظّم عرضة للانهدام والسقوط فقد سقط فعلًا في اليوم الثاني من دخول السيل إلى الحرم الشريف (والمصادف لليوم الحادي عشر من شعبان) سقط الركن الشامي والعراقي دفعة واحدة وذلك بعد صلاة العصر من ذلك اليوم. وقد رافق ذلك السقوط والهدم صوت الرعد والبرق ممّا أحدث صوتاً رهيباً أثار في نفوس أهالي مكّة الخوف والهلع ممّا حدى ببعضهم إلى مغادرة منازلهم، وترك وسائلهم داخل تلك البيوت. وقد أثار ذلك الانهدام والسقوط دهشة المكّيين وحيرتهم حتّى انّ البعض منهم وصفَ صورة ذلك اليوم وما حصل فيه بأنّها علامة من علامات يوم القيامة.

هذا وقد هامت النساء والرجال على وجوههم، ولم يعرفوا أيّ بلاء نزل بهم! فافترقت الأُمّ عن ولدها ولم تسأل عنه، وانفصل الابن عن أُمِّه وأبيه ولم يبادر أحد أن يجد من فقد، أو يتعقّبه. وقد ظلّت المياه داخل الحرم الشريف مدّة ثلاثة أيام بعد انقطاع السيل، وتمَّ في اليوم الرابع خروج الماء من داخل الحرم إلى خارجه وذلك بعد انفتاح ممرّ السيل (المسيل). سالكاً الطرق التي سلكها السيل من قبل بينما ظلّت الأحجار والأتربة التي كان السيل قد أتى بها داخل الحرم بارتفاع قامة انسان مكوّنة تلالًا صغيرة تُذكّر بما حدث.

وقد عقد الشريف مسعود بن إدريس (أمير مكّة آنئذٍ) مجلس استشارة داخل الحرم الشريف ضَمَّ جمهور الأشراف وسكان بلد اللَّه الحرام، فانتُزعت قناديل الذهب والفضة، التي كانت معلّقة داخل الحرم الشريف. وكتب محمّد باشا والي مصر تفاصيل الحادثة وسقوط بيت اللَّه الحرام وأرسلها إلى السلطان. ولمّا كان وصول تلك المعلومات إلى دار الخلافة في اسطنبول وإيصالها إلى البلاط العثماني يكلّف وقتاً طويلًا، وحيث إنّه لم يكن من اللائق ترك الكعبة المشرَّفة على حالها تلك، فقد كتب (محمّد باشا) إلى مصطفى آقا (أمين جدّة في ذلك الوقت)

ص: 150

يأمره بتحضير الآلات والأدوات اللازمة فوراً لتعمير بيت اللَّه الحرام، وكتب في الوقت نفسه إلى الشريف بن مسعود يأمره بتطهير البيت الحرام من الحجارة والطين إلى حين وصول خبر من اسطنبول وأن يطلب من مصطفى آقا كلّ ما يلزمه أو يحتاجه لعمل ذلك.

وقد هيّأ الشريف مسعود بمساعدة مصطفى آقا وعلي بن شمس الدين أفندي (مهندس مكّة المشرَّفة) الأخشاب اللازمة من جدّة، وأحكم بواسطتها حيطان البيت المعظَّم، التي لم تتهدّم بعد ودَعَمَ أطرافه الثلاثة بالسقالة اللازمة.

ولغرض حفظ السقف الشريف والحيلولة دون سقوطه، أُقيمت أعمدة من الخشب القوي عن أطرافه الأربعة ثمّ رُبطت تلك الأخشاب بعضها مع بعض وقد غطّت تلك الأخشاب والألواح بيت العزّة إلى سقفه.

وقد شرع في تلك الأعمال يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك، وانتهت في الثالث عشر من شهر شوال، حيث استمرّت أربعة عشر يوماً، وتمَّ إكساء بيت اللَّه الحرام بالدَّنيم الأخضر، الذي كان قد هُيّئ من قبل في المدّة التي تمَّ فيها التعمير، وذلك في السابع عشر من شهر شوال. وقد كان تأثير انهدام بيت اللَّه الحرام كبيراً على المسلمين في الأقطار الإسلامية كافة، وقد سيطرعليهم الحزن والألم، خاصّة المصريين لقرب المسافة بين بلدهم والبلد الحرام.

وبما أنّ موسم الحج كان قريباً، ولم يكن الجواب ورد بعد من اسطنبول ممّا هَزَّ مشاعرهم وأثَّر في نفوسهم أيما تأثير، ممّا حدى بمحمّد باشا والي مصر إلى احضار رضوان آقا (أحد المقرّبين للحرم الخاص بالسلطان) وأعطاه خلعة وأوكل إليه أمانة أبنية بيت اللَّه الحرام حتّى وصول الأمر السلطاني من اسطنبول؛ لأنّ موسم الحج كان قد قرب، وأمَرَه بالسفر إلى مكّة المكرّمة فوراً، وتحضير وتهيئة كلّ المستلزمات الضرورية للتعمير، وأخبره بلزوم طلب ما يحتاجونه

ص: 151

هناك من مصر والكتابة إليه حول ذلك.

هذا وقد بعث محمّد باشا خلعة أيضاً إلى الشريف مسعود وبرسالة توصية، وأوفد رضوان آقا إلى مكّة المكرّمة.

فلمّا نزل رضوان آقا في إحدى المحلّات القريبة من مكّة، أرسل رسولًا إلى الشريف مسعود وأعلمه بكلّ ما يتعلّق بمأموريّته، والخلعة التي معه فأوفدَ الشريف كذلك أعيان البلاد وأشرافها لاستقبال رضوان آقا. ثمّ انتقل رضوان آقا إلى مكّة بعد أربعة أيام من لقائه بالمبعوثين من مكّة (أي في السادس والعشرين من شوال) ووصل إلى الكعبة المشرَّفة، وأقام في المنزل الذي كان الشريف مسعود هيّأه له من قبل. واجتمع في اليوم التالي (27 من الشهر المذكور) كلّ الأهالي في الحرم الطاهر وذلك لمشاهدة مراسيم إكساء الكعبة الشريفة. وقد اتَّبع الشريف مسعود ورضوان آقا والعلماء وكلّ أعيان المملكة والقوات الحكومية الأُصول والتشريفات الخاصّة بتلك الشعيرة الشريفة، ووقف الجميع عند باب كعبة اللَّه ومقام إبراهيم، وتمَّ تلاوة الأوامر العالية المكتوبة، التي نصَّت على إبقاء أصحاب المناصب في الحجاز على ما هم عليه، واحتوت الكتب كذلك على أوامر أُخرى. ثمّ تمَّ إهداء الخلعة الفاخرة التي أرسلها والي مصر إلى الشريف مسعود الذي أهدى من جانبه خلعاً فاخرة إلى رضوان آقا، وإلى الوفد الذي كان يرافقه حسب درجتهم ومنزلتهم. ثمّ شرع المجتمعون بتلاوة الأدعية الخاصّة بهذه المراسيم تجلّت من خلالها عظمة الإسلام وعزّته، ثمّ تفرّق الجمع بعد ذلك.

وبعد مرور ثلاثة أيام على وصوله إلى مكّة المكرّمة، دعا رضوان آقا إلى تجمّع في داخل الحرم الطاهر يضمّ الشريف مسعود وأعيان المملكة وذلك للنظر في أمر الأحجار والطين والغرين الذي تجمَّع داخل الحرم الشريف، ومداخل المحل المقدّس بسبب السيل الذي حصل من قبل، ثمّ تشاور المجتمعون حول كيفيّة

ص: 152

تطهير وتنظيف تلك الأماكن، فأبدى الحضور آراءهم حول ذلك، وتلخّصت في أنّه من العسير القيام بتطهير وتنظيف الحرم الشريف في مدّة قصيرة. ولأنّ الوقت كان يقترب من موسم الحج، وكانت القوافل تتوافد على مكّة المكرّمة من شتّى الأقطار، رفض رضوان آقا كلّ الآراء التي قيلت في ذلك الاجتماع ولم يقبلها.

وأرسل رجاله إلى القرى والقصبات الواقعة بين المدينة المنوّرة وجدّة، وأمرهم بجلب كلّ دابة مثل البغال والجمال واعطاء أصحابها ضعف الاجرة التي يحصلون عليها، واغرائهم بالحضور مع حيواناتهم إلى مكّة المكرّمة، فلمّا تمَّ له ذلك بدأ بالعمل بهمّة عالية وقام بتطهير البيت الحرام من الأحجار والطين خلال سبعة وعشرين يوماً وانتهى من ذلك في (19 من ذي القعدة الحرام).

والجدير بالذكر أنَّ مادة الطين والحجارة اللتين جاء بهما السيل إلى داخل الحرم الشريف كانا قد اختلطا وتحجّرا تحت شعاع الشمس مكوّنتين طبقة صلبة في الحرم المذكور، بلغ ارتفاعها حوالى (7- 8) أذرع ممّا تعذّر تكسيرها حتّى بواسطة المعاول الحديدية. فكانوا يصبّون عليها الماء في الليل ليأتوا في اليوم التالي وقد لانت بعض أجزاء تلك الطبقة الجبلية فيعملون على تكسيرها. وكان العمّال يفصلون الرمل عن الحجارة وينقلون كلّ مادة إلى جهة معيّنة ويضعونها على شكل ركام هناك.

وذكر المرحوم سهيلي أفندي في مضبطته، انّه كانت تُنقل تلك الأحجار والطين والرمال وما إلى ذلك على نحو (30- 40) ألف مرّة من الحرم إلى خارجه على الدواب. ولمّا امتلأ مجرى عين زبيدة من كثرة الأحجار والطين ابتلي أهل مكّة بعطش شديد وقلّة مياه الشرب، فقام رضوان آقا أيضاً بإصلاح وتعمير بعض أماكن ذلك المجرى الذي تهدّم فانتهى من هذا العمل والخدمة الجليلة في السادس من ذي الحجّة.

كرامات ومعجزات بيت اللَّه الحرام

ص: 153

كرامات ومعجزات بيت اللَّه الحرام

لمّا آلت الكعبة الشريفة، تلك البقعة المقدّسة إلى السقوط، تغيّر طعم ماء زمزم وأصبح مُرّاً لا يُطاق شربُه، فاجتمع العلماء الأعلام ورجال البلد وقرّروا تطهير وتنظيف البئر المذكورة قائلين: إنّ أهل الإيمان يحتاجون إلى شرب الماء من زمزم ويتحسّرون على ذلك. إلّاأنّ تلك العملية كانت تحتاج إلى مبلغ كبير (30) ألف قرش فى ذلك الوقت، وصرف مبلغ كهذا كان بالطبع يتطلّب أمراً من السلطان نفسه، ولم يكن رضوان آقا موكلًا بصرف مبلغ يزيد على (5- 6) آلاف قرش، فقد أخبر رضوان آقا الجموع بأنّه سيرسل بكتاب إلى والي مصر، ويطلب منه الإذن بصرف ذلك المبلغ، ولكي لا تبقى الأحوال هكذا ويتوقّف العمل إلى حين وصول الجواب قرّر أن يشغل نفسه بعمل ما غير ذلك. هذا وقد توقّف رضوان آقا عن تطهير بئر زمزم حتّى اشعار آخر. ومن جهة أُخرى بدأت مرارة بئر زمزم الشريف تتناقص تدريجيّاً منذ البدء ببناء الكعبة الشريفة، ولمّا انتهت عملية البناء، صار ماء بئر زمزم حلواً بالمرّة، سائغاً شرابه وبهذا فهو لم يحتج إلى تنظيف ولا تطهير.

هذا وكان رضوان اقا قد كتب إلى والي مصر في أوائل ذي القعدة، ذاكراً كلّ ما يحتاجه من الأدوات والآلات والألواح والأخشاب التي يلزم تحضيرها للبناء، وطلب ارسال تلك المواد في أسرع وقت ممكن. وبمجرّد وصول خطاب رضوان آقا قام والي مصر محمّد باشا بتحضير وتهيئة كلّ تلك المستلزمات على الفور، وأحضر كذلك بعض النجّارين والحرفيين وأرسلهم جميعاً نحو الحجاز، فوصلت تلك الأشياء مع أصحابها جدّة في أواخر ذي القعدة وسلّموا مسودّة تضمّ تلك الأشياء إلى أحمد قبّاني أفندي كاتب المالية في جدّة، وقام هذا الأخير (وحسب الأمر الذي كان لديه من قبل رضوان اقا) بإرسال تلك الأشياء إلى

ص: 154

مكّة المكرّمة في قافلتين. وقد وضعت الأشياء التي أُرسلت في القافلة الأُولى في البيوت التي تعرف بمضارب عبد الرحمن بن عقيق وحُفظت هناك. وأمّا رضوان آقا فكان قد أصلح ورمَّم الطرق المائية التي كانت تمرّ بوادي خليص، والتي كانت قد تعرّضت للخراب من جرّاء السيل، وذلك قبل وصول القافلة، ولهذا فقد انقطعت المياه عن تلك المناطق تماماً. وقد أصلح رضوان آقا المجرى المذكور وعمّره، وبقي أيّاماً في الوادي المُشار إليه وبيّنَ لعلي بن شمس الدين مهندس مكّة المكرّمة كلّ الأماكن الخربة التي يتوجّب إصلاحها وتعميرها. فجرت المياه في العين المذكورة فى التاسع من ربيع الثاني وأُقتيدت تلك المياه إلى مكّة المشرَّفة، وعاد بعد ذلك إلى مكّة. وكان قد عيّن رجالًا لتحضير الحطب والفحم والجص وكلّ المستلزمات الأُخرى التي يحتاجها بناء وتعمير الأماكن الشريفة، وأعطى كلًاّ منهم ما يكفيه من الأجر إزاء ذلك، ثمّ جمع الأحجار التي كانت قد سقطت من تلك الأبنية، وتمَّ وضعها في أماكنها المناسبة وأُصلحت وعُمّرت على أكمل وجه وأُعطي النجّارون والبنّاؤون الأوامر والتعليمات اللازمة حول ذلك. ولمّا كان قد شاع بين الأهالي أنّ الاحجار الخاصّة بالأبنية ستوضع في أماكنها المناسبة، تردَّدت أقوال بين الأهالي وكلٌّ عبّر عن ذلك بما ارتآه، فاعترض بعض العلماء ممّن لم يجيزوا ذلك على هذا العمل وقدّموا احتجاجهم إلى رضوان آقا. وكان من بين العلماء المعترضين، محمّد علي بن علان مُفتي الشافعية، إذ قال: إنّه ما لم يصل نائب أو وكيل معيّن من قِبل السلطان لا يمكن الشروع في تلك الأعمال، وعلى الجميع أن ينتظروا أمر السلطان في كلّ الأحوال، وقد كتب العالم المذكور فتوى بذلك مصرّحاً برأيه.

فدعى رضوان آقا فقهاء المذاهب الأربعة للاجتماع في الحرم الشريف، وأخبرهم أنّ البعض قد اعترض على أعمال التعمير في بيت اللَّه الحرام، وطلب

ص: 155

منهم أن يفتوه في انّه: هل يجوز لمن يرسله البلاط العثماني أن يتولّى مسؤولية تلك التعميرات أم لا؟

فأجاب العلماء الأعاظم من أهل الفتوى وكان من بينهم شيخ الإسلام خالد بن أحمد المالكي، وعبد العزيز الزمزمي (مُفتي الشافعية) وأحمد بن محمّد آقا شمس الدين (مُفتي الحنفيّة) وعبد اللَّه بن أبي بكر القرشي (مُفتي الحنابلة)، بما يلي: «إنّ هذا العمل فرض كفائي، وكلّ من أخذ على عاتقه عمل ذلك فله الأجر والثواب». وبعد صدور هذه الفتوى بدأ رضوان آقا العمل طبقاً لتلك الفتوى، وتهيّأ لإصلاح الأحجار المذكورة وترتيبها. إلّاأنّ الشيخ محمّد علي بن علان الذي كان على رأس المعترضين على ذلك كرّر اعتراضه وشجبه لتلك الأعمال، وحشَّد جمعاً غفيراً من الأهالي وأمرهم بمنع العمّال والنحّاتين من مواصلة أعمالهم ممّا حدى برضوان آقا إلى استدعاء علماء المذاهب الأربعة ثانية، وشرح لهم المسألة بالتفصيل وطلب منهم أن يُفتوه بذلك. فذكر كلّ العلماء الحاضرين جملة:

«يجوز كلّ فعل ما دعت إليه ضرورة أو حاجة» وافتوا بجواز العمل بالتفصيل، واستطاعوا إقناع الحشود المعترضة، وإفهامهم الأمر على حقيقته، وانّه لابدّ من البدء بالعمل قبل وصول الأمر العثماني.

وجدير بالذكر أنّ المعترضين لم يكونوا ليعترضوا على إصلاح الحجارة، أو وضعها في أماكنها المناسبة بل كان اعتراضهم على غير ذلك كما ورد في كتاب قدّمه المهندسون وأبدوا ملاحظاتهم فيه. وإليك بعض الأسباب المجبرة التي استند عليها أولئك المعترضون:

السبب الأوّل:

أنَّ الأحجار الساقطة من الأبنية المباركة لم تكن تصلح للاستعمال أبداً، لأنّ الكثير منها كان قد تعرّض للكسر، فلا يمكن والحال هذه تعمير بيت اللَّه الحرام بتلك الأحجار، ولذا وجب احضار كميّة كافية من

ص: 156

الأحجار من خارج البلاد.

السبب الثاني:

مع انّه يمكن بناء حائط يسند الحائط الذي لم يتهدّم بعد وإلصاقهما بعضهما ببعض، إلّاأنّه وبمرور الوقت سيتهدّم الحائط القديم إضافةً إلى وجود جدران قديمة أُخرى آئلة للسقوط، والتي يتوجّب تهديمها ثمّ بناؤها من جديد وهو ما تفرضه قواعد الفن المعماري.

وامّا الجواب عن تلك الادّعاءات

وأمّا الجواب عن تلك الادّعاءات:

الجواب الأوّل:

لا يجوز الإتيان بأحجار من الخارج وإصلاح الأحجار المتكسّرة، ويجب استخدام الأحجار الموجودة كما هي، أي انّه يجب تعمير وبناء الحيطان الخاصّة بالأبنية المباركة بالأحجار القديمة الأصليّة لتلك الأبنية.

الجواب الثاني:

أنّ تهديم الحيطان التي لم تتهدّم يعدّ عملًا سهلًا، لكنّ الصعوبة تكمن في أنّ أحجار هذه الحيطان لا يجوز إخراجها عن موضعها بل يجب إبقاؤها وبناء الكعبة الشريفة بها ممّا يشكّل عائقاً في البناء.

ولا يظن أنَّ المعترضين كانوا يطالبون بما قلناه فقط، بل انّهم إضافة إلى ذلك أرادوا أن يتدخلّ البلاط العثماني في تلك العملية حيث إنَّ واقعة تهدّم بيت اللَّه الحرام أمرٌ يتعلّق بالبلاط المذكور، لذا فلا يجوز بدأ العمل بالتعمير والبناء، بل والبت فيه قبل صدور أمر عثماني بذلك، وحتّى إن كان الأمر يتعلّق بتنظيف الحرم الشريف واكساء الكعبة المشرَّفة بردائها الخاص. إضافة إلى ذلك فإنّهم لم يجيزوا تهديم الحائط الواقع بين الركن اليماني والحجر الأسود بأيّ شكل من الأشكال، بينما كانوا يجيزون الجلوس داخل الكعبة، وتدريس كتاب البخاري في عقر تلك الدار المقدّسة ويحلّلونه على الاطلاق. إلّاأنَّ جميع تلك الادّعاءات وكما رأينا كانت واهية ولا أساس لها من الصحّة، ذلك انّ عدم جلب الأحجار من الخارج

ص: 157

لن يؤمّن وصول جدران بيت اللَّه الحرام إلى ارتفاعه الأوّل، وإذا لم يُصلّح ما بقي من الأحجار الأصليّة فإنّه وحسب قواعد الفن المعماري لن تستقر في أماكنها المناسبة، وأنّ إلصاق الجدار المائل بآخر جديد لا يجوز أبداً نظراً لعدم امكانية دوامه وبقائه. وأمّا اعتراضهم على تنظيف الحرم الشريف وتطهيره من الأحجار والطين وما إلى ذلك، فإن كان اعتراضهم هذا بسبب خوفهم من دخول الحيوانات والدواب إلى المسجد الحرام وهتكها لقدسيّة الحرم، فإنّه كذلك غير صحيح؛ لأنّ تلك الأحجار والطين لا يمكن نقلها خارج الحرم الشريف إلّا بواسطة تلك الدواب كما فصّلناه أعلاه، وأنّ تلك الحيوانات تقوم بهذه العملية في حوالى (30- 40) ألف مرّة كلّ يوم وهو ما يصعب على الانسان تنفيذه ولو بمصاريف باهظة، وقد تطول مدّة التطهير إلى (5) أو (6) سنوات ممّا سيؤدّي إلى حرمان الحجّاج في تلك الفترة من الطواف وأداء مراسم الحج على النحو المطلوب، ولذا لا يمكن حتّى للجاهل قبول ذلك أو تجويزه، وبما أنّه يجوز إحاطة الكعبة المشرّفة بالجدران الخشبيّة، وتنظيف الأماكن المهمّة وأداء التعظيمات الواجبة، حسب الفتاوى التي ذكرت في آخر هذه المقالة. وبما أنّ تدريس كتاب البخاري في داخل تلك البقعة المقدّسة غير جائز؛ لذا فإنّ رضوان آقا استند على تلك الفتاوى الصادرة من علماء المذاهب الأربعة وبدأ بالعمل بمقتضى ماخُوَّل إليه.

وقد أطلع محمّد باشا والي مصر كما ذكرنا الباب العالي في اسطنبول على الواقعة المؤلمة لتهدّم بيت اللَّه الحرام، كما أخبره بذلك الشريف مسعود في كتاب مفصّل، فقد أحدثت تلك الرسالة ضجّة كبيرة عند الباب العالي وأوصل الخبر إلى السلطان نفسه فأصدرت الأوامر إلى السيّد محمّد أفندي أنقروي (نقيب الأشراف) مطالبة إيّاه بالإشراف على تنفيذ الأعمال المطلوبة للبقعة المقدّسة

ص: 158

وإرجاعها إلى حالتها السابقة، وأصدر أمراً آخر إلى محمّد باشا والي مصر لإرسال ما يستطيع إرساله من أموال الجزية المفروضة على الأقباط المصريين لتأمين احتياجات تلك العملية، وكذلك أمر والي مصر بتعيين شخص متديّن ليكون أمين الأبنية المباركة وإيفاده إلى هناك لمراقبة سير العمل في تلك الأماكن المقدّسة، فأوكل إلى سيّد محمد أفندي (المذكور آنفاً) هذا المنصب وأرسله إلى مكّة المكرّمة وأعلم الشريف مسعود بالأمر السلطاني. فشكلّ محمّد باشا والي مصر مجلساً لتعيين وانتخاب شخص لمنصب أمانة الأبنية والأماكن المقدّسة وذلك حسب الأمر الصادر له من السلطان العثماني، ودعى جميع المسؤولين في الحكومة وأعيان البلاد وخطب فيهم قائلًا: لقد أطلعتُ الباب العالي على تهديم بيت اللَّه الحرام وأرسلتُ كتاباً إلى البلاط السلطاني يضمّ كتاب الشريف مسعود حول ذلك، وأمر جلالة السلطان بتعيين سيّد محمّد أفندي أنقروي (قاضي المدينة المنوّرة) للإشراف على التعميرات المطلوبة، وأمرَ جلالته كذلك بتعيين شخص مُتديّن من مصر لأمانة الأبنية المذكورة، وأمر بتأمين مصاريف ذلك من خزينة مصر الشخصيّة. ويتضمّن الأمر السلطاني أيضاً إرسال خلعة إلى الشريف مسعود وأمر بتسليم البيرق السلطاني إلى من يُعَيَّن بمنصب الأمانة المذكورة.

وتعلمون بأنّني قد أوفدت قبل هذا رضوان آقا، وقد أرسل رضوان آقا بدوره كتاباً ذكر فيه كلّ ما يحتاجه لتلك الأبنية، وقد عُين محمّد چاوش لمرافقة القافلة التي ستحمل هذه الأشياء إلى الحجاز، فإذا أرتأيتم أنَّ رضوان آقا يليق بهذه المهمّة فلنرسل محمّد چاوش إلى هناك حاملًا تلك المستلزمات معه، وإلّا فاتفقوا على من ترضونه بديلًا لرضوان آقا لإتمام هذه المهمّة. وبعد أن تداول المجتمعون وتبادلوا الآراء حول ذلك وتشاوروا فيما بينهم، اتّفق الجميع على أنّ رضوان آقا هو الشخص المناسب واللائق لذلك لما عُرِف عن تديّنه واستقامته وأهليّته في

ص: 159

مثل تلك الأمور، وقد تصدّى من قبل لأعمال من هذه وأبرز فيها قدرته ومعرفته، ولكي لا نضيّع وقتاً ثميناً نصرفه في البحث والمداولة، فإنّنا لا نجد أنسب وأجدر منه للقيام بذلك.

فأرسلت العطية التي بعث بها السلطان إلى رضوان آقا وباقي الأشياء اللازمة؛ لكي يستطيع المشار إليه إتمام جميع الأعمال الخاصّة بالأبنية المقدّسة الموكلة إليه. فنكون قد أدّينا واجبنا تجاه خزينة الدولة من حيث صرفها لتلك الأموال من جهة، وإلى الأماكن المقدّسة في الكعبة الشريفة من جهة أُخرى.

وهكذا صادق محمّد باشا والي مصر على مأمورية رضوان آقا، ثمّ كتب رسالة مُفصّلة إلى الشريف مسعود وبعث بها بواسطة مأمور خاص محمِّلًا إيّاه الفرقان والخلعة من قِبَل جناب السلطان إلى الشريف المذكور. وكان سيّد محمّد أفندي (في تلك الفترة في مصر) فأُرسل مع الوفد الذاهب إلى مكّة المكرّمة حاملًا معه الآلات والأشياء التي كان رضوان آقا قد طلبها من قَبْل. فحُملت تلك المستلزمات إلى جهة قناة السويس، وشُحنت داخل سفينة القبطان هناك وهو محمّد بيك (قبطان السويس) لتُسلَّم بعد ذلك إلى رضوان آقا، وهكذا تحرّكت السفينة متّجهة إلى جدّة.

وصل محمّد بيك إلى ميناء يَنْبُع في اليوم التاسع عشر من شهر ربيع الثاني.

فنزل محمد چاوش من على متن السفينة ثمّ امتطى جملًا وتوجّه إلى مكّة المكرّمة قاطعاً الصحراء. فلمّا وصل بيّن تجديد مأمورية رضوان آقا قائلًا: مع أنَّ سيد محمد أفندي لا يزال في مصر الآن، إلّاأنّ جميع الأُمور الخاصّة بأبنية البيت المعظّم المباركة قد فُوّضت إلى باشا والي مصر بصورة تامّة، وقد عُمِلَ اللازم ودوّنت الأوامر السلطانية المطلوبة؛ لكي يتمّ ذلك بالدقّة والعناية المطلوبتين.

وقد عيّن محمد باشا رضوان آقا وكيلًا عنه لأداء هذه المهمّة الشريفة نيابة عنه.

ص: 160

هذا وقد وصل سيد محمد أفندي إلى مكّة المكرّمة بعد فترة وجيزة والتقى رضوان آقا وبحثا مسألة الأبنية المباركة للكعبة الشريفة بالتفصيل. وفي الوقت الذي كان يواصل محمد چاوش رحلته برّاً من ميناء ينبع إلى مكّة المكرّمة، كان محمد بيك يقطع البحر باتّجاه ميناء جدّة فوصلها في الحادي والعشرين من ربيع الثاني، وسَلَّم الأشياء التي كانت بعهدته، كالآلات والألواح واللوازم الأُخرى إلى أحمد قباني أفندي كاتب المالية طبقاً للقائمة المثبّتة عنده لتلك المواد. ولمّا كان أحمد قباني أفندي يعلم أنّ الأبنية الشريفة بحاجة ماسّة إلى تلك الألواح والمواد، فقد هيّأ قافلة خاصّة في تلك الليلة مباشرة، وبعث بها إلى مكّة المكرّمة في الحال، فوصلت القافلة في صباح اليوم الثاني إلى البلدة الطيّبة (مكّة). وما إن وصلت هذه القافلة مكّة توجّه رضوان آقا على التوّ وأحاط الكعبة الشريفة بتلك الألواح. ثمّ وصلت باقي المواد التي كانت في جدّة بعد ذلك بيوم واحد فوضعت في مخزن خاص وحُفظت هناك.

وهكذا سُتِرَتْ الكعبة عن أنظار عشّاقها في الثاني والعشرين من ربيع الثاني بواسطة تلك الألواح احتراماً وتعظيماً لها عن رؤيتها بتلك الحالة. ولمّا كان سيّد محمد أفندي ناظر العمليات حاملًا لأمر السلطان، كتب إلى سيد عبد الكريم أفندي وكان أخاً للشريف مسعود، وإلى جميع الأشراف والأعيان والقاضي وشيخ الإسلام في مكّة المكرّمة يدعوهم فيها إلى الاجتماع في داخل الحرم الشريف وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني وفي ساعة معيّنة.

وفعلًا تمّ الإجتماع داخل الحطيم الشريف، وقُرِئَ الأمر السلطاني الذي كان يخاطب الشريف (مسعود) شخصيّاً. ولمّا كان الشريف مسعود مريضاً راقداً في سريره، لم يستطع الحضور إلى ذلك الاجتماع، فأُرسلت الخلعة السلطانية التي بعث بها السلطان إلى دار المشار إليه، ثمّ أُلبِسَ رضوان آقا الخلعة التي أُرسلت

ص: 161

إليه أمام الحضور، وأُلبِسَ سيد علي بن إفرع وباقي الخَدَمة هناك خلعاً كذلك حسب ما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت، وبدأ الحاضرون بالدعاء لرفعة الإسلام وشموخه. وأُهدِيَ إلى رضوان آقا كذلك البيرق السلطاني نظراً لخدماته الجليلة. هذا ولأنّ رضوان آقا لم يشأ أن تُناط إليه أعمال غير تلك الأعمال المقدّسة التي خدم فيها الأماكن الشريفة، فقد طلب أن تُناط إليه مأمورية شيخ الحرم (في المدينة المنوّرة) لأنّه كان مولعاً كما ذكرنا بالأعمال الخاصّة بالأماكن المقدّسة. فقُبِلَ طلبه، ووكّلت إليه قصبة جدّة المعمورة ومنصب شيخ الحرم لدار الهجرة. ولما أنهى رضوان آقا مأموريّته على أحسن وجه رجع إلى اسطنبول، ثمّ وُكِّلَ إليه منصب بيكلر بيكي كري كذلك لكنّه لم يقبل ذلك المنصب.

وقد ورد في الرسالة التي بعث بها محمد باشا والي مصر إلى الشريف مسعود: أن الوالي يحثّ الشريف مسعود لبذل كلّ الجهود والمساعي من أجل إتمام عملية البناء والتعمير المذكورتين وأن يستعين بمن شاء لإنهاء ذلك. فَسُرَّ الشريف مسعود بذلك كثيراً، وبعث يشكر الوالي المصري على ايكال تلك المهمّة إليه، وأهدى خلعاً إلى رضوان آقا والوفد المُرافق له. ثمّ انتقل بعد ذلك الشريف مسعود إلى الملكوت الأعلى في السابع والعشرين من ربيع الثاني تاركاً منصبه شاغراً. وقد أدّى رحيل الشريف مسعود إلى إحداث ضجّة بين الأهالي. ممّا حدى برضوان آقا إلى استخدام كلّ طاقاته وملكاته الرفيعة والعمل على نشر الهدوء والأمن في تلك المنطقة، ثمّ أعلن أنَّ كلّ من يسعى إلى نشر الفوضى والإخلال بالأمن هو مهدور الدم. وقد قرأ المنادون هذا الاعلان في الأزقّة والأسواق والمحلّات على الناس. وأمّا الشريف مسعود فبعد تجهيزه وتكفينه والصلاة على جنازته في الحرم الشريف أُقيمت له مراسيم التشييع ثمّ دُفن في

ص: 162

مقبرة المعلّاة، وقد دعى رضوان آقا جميع الأعيان والأشراف في مكّة والقاضي وشيخ الحرم وذوي المقامات والمناصب العليا من الأهالي وغيرهم فحضر الجميع في الحرم الشريف. ثمّ خاطب رضوان آقا السيد الشريف عبد اللَّه ابن حسن (والذي كان في ذلك الوقت مفخرة آل عبد مناف ومُنتخب السادات والأشراف) بقوله: يا سيّدنا، نُعلمكم أنّه بشهادة ومصادقة جميع الحاضرين في هذا الحشد، وكذلك الموجودين في كلّ الأماكن والنواحي، يُناط إليكم المنصب الأميري الجليل والرتبة العال العال للشرف على الأشراف، والذي هو حقكم الصريح والواضح فنرجو منكم أن تلبسوا خلعة الإمارة الفاخرة، وأن تبدأوا بضبط وإحكام أُمور المملكة. وهكذا أُطفئت نار الفتنة والفوضى التي أراد أهل الضلال والفساد تأجيجها.

ومع أنّ سيد عبد اللَّه أفندي كان معارضاً لهذا التكليف الذي وكّله رضوان آقا إلى الشريف عبد اللَّه بن حسن، إلّاأنّ جميع الحاضرين من الأعيان والأشراف والعلماء الأعلام في مكّة المكرّمة خاطبوا الشريف عبداللَّه بن حسن قائلين: «إنّ التكليف الذي وُكِّلَ إليكم من قبل رضوان آقا نافعٌ للدين والدولة، ونحن كذلك نطلب منكم قبول هذا المنصب». فلبس الشريف المذكور خلعة خضراء (1)، وشرع بالقيام بمهام عمله في حفظ الأمن ومنع الفوضى.

لقد أنقذ عمل رضوان آقا البلاد من فتنة كبيرة، وطرد الأوهام التي عشعشت فى أدمغة الأهالي، فشكر له الخلائق عمله ذاك والخدمة الجليلة التي قدّمها للكعبة المشرَّفة، فكانت تلك إحدى خدماته الفرعية في الواقع التي برز فيها كما هو ديدنه.

هذا وقد بقيت الأحجار الساقطة من جدران الكعبة الشريفة داخل الحرم المبارك متناثرة هنا وهناك، فاجتمع الأشراف والأعيان في المملكة وخَدَمة بيت


1- 1 الخلعة الخضراء: الثوب الذي يرتديه شريف مكّة في تلك الفترة.

ص: 163

اللَّه الحرام في يوم الجمعة غُرّة جمادى الأُولى في الحرم الطاهر، وجمعوا الأحجار التي كانت موجودة في الحرم، فوُضِعَ قسم منها قرب الركن العراقي تجاه المقام الحنفي، وأقاموا عليها خيمة تحفظها. ثمّ جمع الخَدَمة ما تبقّى من الحجر ووضعوه قرب المدرسة السليمانية، وأُحضِرَ الكثير من أساتذة النحت من خارج البلاد.

وكان المرحوم الشريف مسعود قد وضع قناديل الذهب والفضة الخاصّة ببيت اللَّه الحرام قرب محلّة باسقلية. وقد أُخرجت تلك القناديل في اليوم المذكور وضُبطت الواحدة تلوَ الأُخرى وطُوبقت مع سِجلّ خاص بها ثمّ سُلّمت إلى رضوان آقا. فكان من تلك القناديل ثماني عشرة مصنوعة من الذهب وإحدى وثلاثون مصنوعة من الفضة فكان مجموع الكلّ إحدى وخمسين قطعة.

ثمّ اجتمعت الهيئة المذكورة في يوم السبت (الثاني من جمادى الأُولى) ووضعت الأحجار التي كانت في أطراف الركن العراقي تجاه المقام الحنفي، ثمّ رُفعت أحجار المرمر الخاصّة بالمطاف الشريف ووضعت في مكان ما قرب باب السدّة. هذا وبدأ الحجّارون بتسوية وترتيب الحجارة الساقطة من الكعبة الشريفة، وشرع النجّارون كذلك بقطع الأخشاب والألواح اللازمة.

ثمّ خلعت باب خزينة الشموع (وهى عبارة عن نصف سقاية عباس بن عبد المطلب) في الثالث من جمادى الأُولى، وأُخرِجَ الحزام الذي كان قد أرسله السلطان أحمد خان، وأُحْضِرَ جمعٌ من الصاغة بحضور قاضي مكّة وشيخ الحرم وسائر الأعيان في البلاد، وفصلوا الذهب والفضة عن الحزام المذكور، فأخرجوا من صفائح الحديد لذلك الحزام عشرة آلاف درهم من الذهب ومئة وأربعة وعشرين درهماً من الفضة. إلّاأنَّ ذلك لا يشمل الذهب والفضة التي كانت موجودة في الجدار الذي يتوسّط الركن اليماني والحجر الأسود. فلو حُسِبَ الذهب والفضة الموجودة في حزام هذا الطرف كذلك لوجب إضافة ثلث المقدار

ص: 164

المذكور إليها.

وقد أرسل محمد باشا والي مصر قدراً كافياً من الأخشاب والألواح والآلات بالسفينة عن طريق السويس إلى جدّة. وقد تعرّضت السفينة التي كانت تحمل تلك المواد إلى عاصفة هوجاء ممّا أدى في النهاية إلى غرقها في البحر، وقد وصلت أخبار غرقها إلى مكّة المكرمة في يوم الجمعة (15 جمادى الأُولى) ممّا تسبّب في حزن وكآبة الأهالي هناك.

وفي اليوم الثالث والعشرين من الشهر المذكور، بُدِئَ بتهديم جدران الكعبة المشرَّفة بعد أن أُحيط البيت الشريف بسور خشبي، وكان الغرض من ذلك هو منع الأهالي من النظر إلى العُمّال والمشتغلين في البيت الشريف، وهي الطريقة التي استخدمها عبداللَّه ابن الزبير قبل ذلك حيث أحاط البيت الشريف بستار مانع عندما أراد تهديم الكعبة.

وبينما كان النجّارون مشغولين بإقامة السور حول الكعبة، كان رضوان آقا والشيخ من جهة ورئيس العمّال من جهة أُخرى يتباحثون في اختيار اليوم المناسب لتهديم البقعة المقدّسة. وبعد ساعات من المباحثات قرّر الطرفان أن يكون يوم الأحد يوم تهديم وتخريب البيت العظيم. وفعلًا بُوشر العمل بذلك يوم الأحد الرابع والعشرين من الشهر المذكور بحضور الأشراف الكرام والعلماء الأعلام وسائر الأهالي هناك. فأُحيطت جدران الحرم الشريف من الخارج بسور من الألواح الخشبية إلى ارتفاع ستة أذرع، وفتحوا طريقاً يستطيع من خلالها أهل الطواف تقبيل واستلام الحجر الأسود، كما فعل ابن الزبير ذلك من قبل أيضاً. وكان الطّائفون يطوفون حول الكعبة خارج السور الثاني الُمحاط بها.

وقد وُضعت سقالة متينة وقوية في أطراف السور الأربعة.

وكان هدف رضوان آقا من بناء تلك السقالة تسهيل ذهاب ومجي ء

ص: 165

البنّائين، وسهولة تنقّل العمّال الذين كانوا ينقلون الطين والحجر. وبعد انقضاء ستة أو سبعة أيام على تلك الأعمال، استخرج ما تبقّى من الحزام الحديدي الذي كان فوق جدار الحجر الأسود (1) وذلك في غرّة جمادى الآخرة، ثمّ اجتمع في اليوم الثاني من الشهر المذكور الشريف علي بن بركات وسادة البلدة صباحاً في دائرة الحطيم الشريف، ولاحظوا مع رضوان آقا جدران بيت اللَّه الحرام، التي لم تتهدّم بعد مع سقفه. وقد حضر هناك أيضاً معماريو الأبنية الشريفة ومهندسو البلاد عموماً. فعاين المهندسون والمعماريّون الأماكن المذكورة وفحصوها بدقّة وانتظام. فتوصّلوا إلى أنَّ الجدران التي لم تتهدّم وسقف الدار الشريف قد أصابها التهرُّؤ والفساد فخاطبوا الحضور قائلين أنَّ أبنية هذه البقعة الشريفة قد تحرّكت وتزحزحت عن موضعها الأصلي، وها نحن نُخبركم بأنّ لا تتّهمونا بالتقصير والإهمال وإخفاء الحقيقة عنكم، وقد قلنا ذلك من قبل أمام فقهاء المذاهب الأربعة وقاضي أفندي وجميع الأشراف والأعيان في البلدة، وها نحن نكرّر ذلك مرّة أُخرى أنّه لا يجوز تعمير جزء من بيت اللَّه الحرام والاقتصار على ذلك؛ لأنّ جميع أركان وجدران البيت الشريف آئلة للتهدّم والسقوط في أيّ وقت؛ لذا فإنَّ تجديد كلّ أجزاء البيت العظيم واجب وحتميّ، وقدموا أدلتهم لإثبات ادّعاءاتهم أمام جميع المسلمين الحاضرين، وقد وافق الحضور على تلك التصريحات، وذلك لإسكات محمد علي بن علّان الذي كان ضمن العلماء الذين اعترضوا من قبل، ذلك انّ (ابن علّان) لم يُجز تهديم جدران البيت ما دامت لم تسقط بعد، واستطاع بهذه الفرية خداع مجموعة من الناس وحرّضهم على منع المهندسين والمشتغلين من تهديم الجدران، التي أصابها السيل وتهرّأت بسبب ذلك لمجرّد أنّها لم تسقط فعلًا. ممّا حدى برضوان آقا إلى التردّد في المسألة واستفسر من فقهاء المذاهب الأربعة ممّن ملأت شهرتهم الآفاق، فأجاب أُولئك العلماء بفتواهم المشهورة


1- 1 في النسخة الأصلية: شجر الأسود، وهو اشتباه من المؤلّف على ما يظهر.

ص: 166

قائلين: «لا بأس بتجديد البناء ما دامت الضرورة تقتضي ذلك بشهادة أهل الخبرة على أن يصرف لذلك من المال الحلال».

وبالاستناد إلى الورقة المختومة للمهندسين والمعماريّين وشهادة أكثر المسلمين، فقد أُزيل الستار المكون من الألواح الخشبية، التي كانت موضوعة بدل الجدران المتهدّمة، ورُفِعتِ الأحجار المتبقية بكلّ احترام وتعظيم، ووضِعَتْ في محل قرب المدرسة الباسطية والذي تمّ تعيينه من قبل.

وبُدئَ في يوم الأربعاء الرابع من جمادى الآخرة بعملية إنزال السقف الشريف، ولم يفارق رضوان آقا في ذلك اليوم المهندسين والمعماريّين، وأنزل كذلك الذي كان فوق السقف المبارك، واللوحة التي كانت مخصّصة لربط الكسوة الشريفة، ووُضِعَتا في خزينة الشموع، وجُمِعَ ما سقط من التراب من السقف الشريف ووضع قرب المطاف.

وفي يوم الجمعة (السادس من جمادى الآخرة) اجتمع الشريف علي ابن بركات والأعيان والعلماء وفقهاء المذاهب الأربعة داخل الحطيم الكريم، وشاهدوا العمارة الجديدة لبيت اللَّه الحرام، وأكّدوا متانةَ وقوّة البناء الجديد. هذا وقد حضر الاجتماع كذلك الشيخ محمد علي بن علّان الذي كان أحد المعترضين من أهل مكّة. فقام رضوان آقا وخطب بالجموع قائلًا: إنَّ بن علّان لا يرضى على هدم الجدران التي خرّبها السيل، ويُلقي بعض الأحاديث المحرِّضة على العصيان، وإشعال نار الفتنة بهذا الخصوص ممّا تسبّب في إخلال الأمن والفساد بين الناس. فماذا أنتم قائلون؟ فصاح الحضور والفقهاء جميعاً: إنَّ الجدران التي أريتموها إيّانا، وحسب قول المهندسين والمعماريّين يجب أن تهدّم، ويُجَدَّد أساس بيت اللَّه الحرام حيث وصل الأمر إلى درجة الوجوب.

وأنزلت بقية السقف الشريف في يوم السبت السابع من جمادى الآخرة،

ص: 167

ووضع قسم منها قرب مدرسة السليمانية، بينما وضع القسم الآخر فوق الأحجار المتراكمة في أطراف بيت اللَّه الحرام.

وكان السبب في وضع الألواح في أماكن متفرّقة هو عدم اصابتها عندما كانوا يُهدّمون الجدار الشريف، وسقوط أحجاره عليها وحمايتها من التلف.

وفي ظهر ذلك اليوم تمّ إنزال الجدار الشريف، أي ما تبقّى من الجدار من جهة بئر زمزم، ثمّ في اليوم التالي (8 جمادى الآخرة) أُنزل الجدار الغربي، أي بقية كعبة اللَّه الشريفة، الذي كان مقابل باب إبراهيم، واللوحة التي كانت موضوعة فوق هذا الجدار، ثمّ هُدِّمَ الجدار اليماني أيضاً وهو بقية الجدار المقابل لباب الصفا.

ولما انتهت عملية هدم الجدار اليماني في (9 جمادى الآخرة) بُدِئَ بتهديم بقية الجدران الأُخرى لبيت اللَّه الحرام وذلك يوم (10 جمادى الآخرة)، ثمّ هدَّموا العتبة العليا لباب الكعبة الشريفة في يوم الجمعة (14 جمادى الآخرة) فجي ءَ بالباب العليا لبيت اللَّه نهاراً إلى الموقع الخاصّ الذي فيه الحجّارون الذين كانوا مشغولين بتنظيف وتسوية الأحجار الشريفة، ثمّ خلع وقلع الباب الشريف، ثمّ وُضِعَتْ واقفة في الخلوة التي كانت تقع تحت دار المرحوم ميرزا.

بعد ذلك هُدّمت أحجار الشاذروان لبيت اللَّه الحرام، والركن اليماني والأحجار الأُخرى، التي كانت موضع استلام الطائفين الكرام، ووضع كلّ منها في أماكن مُختلفة. وقد احتوت أحجار الشاذروان على بعض الحلقات الحديدية المكسوّة بالذهب، والتي كانت مُخصّصة لربط الكسوة الشريفة.

وفي يوم الأربعاء (الثامن عشر من جمادى الآخرة) لم يبق حجر في طرف من أطراف جدران الكعبة سوى تلك التي كانت فوق وتحت الحجر الأسود، فأحضرت جميع الآلات والأدوات الخاصة بالحجّارين والنجّارين ووضعت في خزينة المال. وفي يوم الخميس (19 من الشهر المذكور) نُقِلَتِ الأحجار الكبيرة

ص: 168

إلى محل قريب من بيت اللَّه الحرام؛ وذلك للبدء بحفر وتطهير أساس وجدران بيت اللَّه الأربعة، وقد تمّ تعيين ذلك على أساس الأحجار الخضراء اللون الأصلية للبناء الشريف، وأساسه الذي ظهر بعد ذلك وبُديَ بالتجديد عند الجانب الشامي من الكعبة الشريفة فوضِعَ صَفٌّ من الأحجار، وقد وُضِعَ أساس بيت اللَّه في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. من الأحجار الأساسية لكعبة اللَّه حتى سقفها حسب الترتيب الذي سار عليه عبداللَّه بن الزبير. وُضِعَ (25) صفّاً من الحجر، إلّاأنّ الأحجار التي كانت موجودة على الأحجار خضراء اللون؛ ولأنّها كانت موجودة تحت شاذروان الكعبة لم تُحْسَب مع تلك الصفوف. وقد عُدّلَتْ الأحواض المائلة في يوم (24) جمادى الآخرة، ثمّ نُقِلَتِ الأحجار التي كانت في الخارج إلى المطاف الشريف.

ثمّ جي ءَ بأحجار جديدة من جبل شبيكة في اليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ووضعت بالقرب من ضريح العارف باللَّه الشيخ محمود بن إبراهيم أدهم ونُحِتَت هناك، ثمّ حُملت إلى الحرم الشريف في المسجد الحرام من قبل الحمّالين، ثمّ غُسلت تلك الأحجار قرب المقام المالكي، وكانت تُنْقَل بعد ذلك إلى مقربة من جدران كعبة اللَّه.

وفي اليوم السادس والعشرين من جمادى الآخرة شرع بالبناء على الأحجار، التي كانت قد وُضِعت سابقاً وارتفع البناء من الجهات الأربعة الطائفين إلى أرضية المطاف، وقد حضر ذلك اليوم كلّ من شريف مكّة وقضاة الحرمين المحترَمين وشيخ الحرم وجميع العلماء وفقهاء أهل مكّة للتمتّع بذلك المشهد العظيم، فكان كّل أُولئك الرجال الحضور يتشرّفون بحمل الأحجار ونقلها اعتقاداً منهم بأنّهم بهذه الخدمة الجليلة يَنالون منزلة رفيعة. وانشغلوا لمدّة، وبعد ذلك جاءوا إلى الحطيم الكريم وجلسوا هناك.

ص: 169

ولمّا كان رضوان آقا أيضاً معهم، فقد قام بعد مدّة وأخرجَ دفتراً من جَيْبه وقرأَ اسم الشريف عبد اللَّه وقاضي مكّة المكرّمة المعظّمة وشيخ الحرم ونائب ووالي البلدة المباركة وفقهاء المذاهب الأربعة وعشرين شخصاً آخرين كانوا مستخدمين في خدمة البناء، ولكلّ واحد منهم ألبَسَ خلعة وبعد ذلك خَتَموا مجلس البناء.

وفي اليوم الذي بُدِئَ بالعمل في قواعد أساس بيت اللَّه الحرام، قام أحد فضلاء مكّة المكرّمة وألقى قصيدة ارتجالية (رفع اللَّه قواعد البيت) على المدعوّين المشار إليهم كما شُرِحَ. وبعد أن زارَ المدعوّون أساس بيت اللَّه عديم الإندراس، واكتسوا بالخلعة داخل الحطيم الكريم، وجلسوا بمعيّة زوّار آخرين حول بيت اللَّه وتلوا القرآن، عادوا.

وكان رضوان آقا يجمع الحُفّاظ وقرّاء القرآن كلّ يوم داخل المقامات الأربعة، ويبدأون بقراءة القرآن الكريم كلّه، وكان قد عيّن ثلاثة قُرّاء فقهاء يأتون كلّ يوم، ويقومون بقراءة سورة الفتح في الوقت الذي يبدأ العمّال فيه بالبناء. هذا وقد أضاف رضوان آقا باباً إلى المحيط والمكوّن من الألواح وسلَّم، مفتاح تلك الباب إلى شخص عيّنه هو بنفسه، وكان كلّما فُتحت تلك الباب في الصباح كان القرآء الموجودون داخل المقامات الأربعة قد انتهوا من ختم القرآن المجيد، وإذا بُدِئَ العمل في جدران الكعبة، قام الحُفّاظ الموجودون في المقام الحنفي بتلاوة سورة الفتح المباركة. هذا وقد دامت تلك الأُصول والتقاليد حتّى الانتهاء من بناء البقعة المشرَّفة لبيت اللَّه الحرام، إذ كان القرآن يُختم كلّه في يوم واحد وتقرأُ سورة الفتح بعد ذلك. وكانت الأيام (26، 27، 28 من جمادى الآخرة) قد خُصّصت لتحضير الأدوات واللوازم الخاصّة بالأحجار المتعلّقة بالصف الثاني للبناء وترتيبها، ثمّ بُدِئَ بتنضيد الأحجار للصف الثاني في (29) من الشهر المذكور، ثمّ

ص: 170

وُضِعَ الحجر المبارك في اليوم الثلاثين من ذلك الشهر في زاوية من الركن اليماني، ثمّ أُذيب مقدار كافٍ من الرصاص وصُبَّ على المكان المتكسّر له من سائر جهاته فالتأم مع بعضه.

وأثناء وضع الحجر المبارك في محلّه الشريف قام الأمين على مفتاح البيت المبارك بإحضار العطور الخاصّة وعطّر بها الحجر المذكور والأحجار الموجودة عند أطرافه. وبعد أن وضع البنّاؤون الحجر المبارك في محلّه الشريف وأحكموا عليه من كلّ جهاته بدأوا بتنضيد أحجار الصف الثاني للركن الغربي والجدار الشامي، وانتهوا من إتمام ووضع أحجار الصف الثاني لأركان البيت الحرام الأربعة في اليوم التالي، الذي كان الأوّل من شهر رجب المرجّب.

وشرع في (2) رجب بتخمير وتصفية الطين وتحضير أحجار الصف الثالث، ثمّ وضعت العتبة الشريفة لباب الكعبة الطاهرة على الأحجار المرصوفة، ثمّ شرع الصاغة الموجودون بوضع إناء النحاس المخصّص للحجر الأسود في مكانه وثُبِّتَ بالفضة، وأمّا الحجّارون فقد قاموا بوضع ثلاثة ألواح ضخمة داخل بيت اللَّه الحرام وتركيزها هناك بمعونة الحمّالين، وتمَّ نقل مصراعي باب الكعبة المطهّرة إلى الباحة المقدّسة لبيت اللَّه الحرام.

هذا وقد انتهت الأعمال الخاصّة بالكعبة الشريفة في أواخر شهر رمضان المبارك من تلك السنة وتمّت بكلّ دقّة وعناية.

وقد كُتِبَ على لوحة عُلِّقت في أعلى الباب الشريف للكعبة الطاهرة فوق اللون اللاجوردي للباب الذهبية ما يلي:

(إنَّ أوّلَّ بيتٍ وُضِعَ للناس لَلَّذي ببكّةَ مباركاً وهدًى للعالمين

فيه آياتٌ بيِّناتٌ مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا) (1) ، وكُتبت الأبيات التالية تحت تينك الآيتين الشريفتين:

تاريخ اللّوح


1- 1 سورة آل عمران 96- 97.

ص: 171

تأريخ اللّوح

اللوح لما استرم مجدّداً قد بدّل السلطان أحمد عسجداً

قيد اللَّه من حديد ذو جدا اللَّه أنعم بالمجدّد أيّدا

ألهمت في تأريخه لما بدا للّوح والسلطان أحمد جدّدا وبعد أن عَلَّقوا القطعة الشريفة المذكورة، أنزلوا الكسوة العتيقة وعَلَّقوا ستاراً جديداً كما سنذكر ذلك بعد هذا في محلّه. وكانت العادة والتقاليد بين السلاطين والملوك تقضي بتقسيم الكسوة المباركة القديمة بين خُدّام بيت اللَّه الحرام إلّاأنَّ الشريف عبد اللَّه وأمين المفتاح وعموم الخُدّام في بيت اللَّه الحرام وكلّ الذين كان لهم حقّ في تلك الكسوة تنازلوا عن حقّهم إلى رضوان آقا وذلك لما قدّمه من سعي وهمّة، وبذله من جهد تجاه البيت العتيق وأهدوا إليه الكسوة وأصرّوا عليه لقبولها، فقبلها رضوان آقا وقسَّم (40) ألف ليرة على خُدّام بيت اللَّه هديّةً منه. وأمّا رضوان آقا فقد قدَّم بدوره تلك الكسوة الشريفة هديّةً إلى السلطان لما امتثل أمامه في بلاطه وشكرَ جناب السلطان همّة وسعي رضوان آقا، وكان موضع احترامه وتقديره.

وفي اليوم الخامس من شهر شوّال إفتتحوا البيت الشريف فدخل الرجال والنساء وأدّوا واجبات العبودية للَّه تعالى.

الهوامش:

الحجّ البذلي

ص: 172

ص: 173

الحجّ البذلي

محمّد علي المقدادي

قال اللَّه الحكيم: (

وللَّهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليه سبيلًا) (1).

إنَّ الاستطاعة من أهمّ شرائط وجوب الحجّ، كما دلّت عليها الآية المباركة والروايات الواردة عن رسول اللَّه الأعظم صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته المعصومين عليهم السلام.

والاستطاعة على ثلاثة أقسام: 1- الاستطاعة البدنيّة، 2- الاستطاعة المالية، 3- الاستطاعة البذلية.

فالاستطاعة البدنية خارجة عمّا نحن فيه وإن كان لها دخل في إتيان الحجّ.

وأما الاستطاعة المالية فتحصيلها تارةً يكون من مجراه الطبيعي وهو تملّك الزاد من طرقه المشروعة وتهيئة الراحلة، وتارةً أخرى تحصل الاستطاعة ببذل الباذل وعطائه وهبة الواهب وإباحته، وهذه الأخيرة هي التي نسمّيها بالاستطاعة البذلية.


1- 1 سورة آل عمران، الآية: 97.

ص: 174

وقبل الخوض في البحث لابدّ من أن نتعرض إجمالًا إلى معنى البذل عند أهل اللغة ثم نتابع دراستنا وباللَّه التوفيق.

قال الطريحي: والبذلُ: العطاء.

وبَذَلَ بَذْلًا من باب قَتَل: سمح وأعطاه وجاد به وهو يناقض المنع (1).

وقال ابن منظور في لسان العرب:

بذل/ البَذْل: ضد المنع.

بَذَله يَبْذُله بَذلًا: أعطاه وجاد به (2).

وقال الفيّومي في المصباح المنير:

بَذَله: (بَذْلًا) من باب قتل: سَمَح به وأعطاه و (بذله) أباحه عن طيب نفسٍ (3).

فمعنى البذل هو العطاء والإباحة عن طيب نفسٍ من ناحية المعطي (الباذل) إلى الآخذ والقابل (المبذول له).

وعلى ذلك فالحجّ البذلي هو إعطاء ما يحجّ به بحيث يصير ذلك الشخص مستطيعاً بسبب هذا الإعطاء. وبعبارة أخرى: الحجّ البذلي هو إعطاء الاستطاعة وبذلها إلى من ليس بمستطيع أن يحجّ.


1- 1 مجمع البحرين 1: 171.
2- 2 لسان العرب 11: 50.
3- 3 المصباح المنير، الجزء الأول: 41.

ص: 175

آراء الفقهاء في المسألة

آراء الفقهاء في المسألة:

أجمع فقهاء الإمامية على أنّه لو بذل باذل نفقة الحج لمن لم يكن له زاد وراحلة ويقال للمبذول له: حجّ وعليّ نفقتك، وجب عليه الحجّ؛ لأنّه صار بذلك مستطيعاً، ولا فرق بين أن يكون الباذل أباحه له أو ملّكه، كائناً من كان الباذل.

وعن الشافعي أنّه إذا بذل له ولده ما يتمكّن به من الحج لزمه، لأنّه أمكنه الحجّ من غير منّة (1).

دو فصلنامه «ميقات الحج»،ص: 175

وفي إشارة السبق: ... ومن حجّ ببذل غيره له ما يحتاج إليه لكونه فاقد الاستطاعة، صحّ حجّه ولايلزمه قضاؤه لو استطاع بعد ذلك (2). وفي النهاية:

... ومن ليس معه مال وحجّ به بعض إخوانه، فقد أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام، وإن أيسر بعد ذلك، إلّاأنّه يستحبّ له أن يحجّ بعد يساره، فإنّه أفضل (3).

وقال المحقّق الحلّي رحمه الله: لو بذل له الركوب والزاد، وجب عليه الحجّ مع استكماله بقية الشروط، لتحقّق الاستطاعة، وكذا لو حجّ به بعض إخوانه أو خدم حاجّاً ويوصل معه، ودلّ على ذلك روايات ... (4).

وقال صاحب الحدائق رحمه الله: ظاهر الأصحاب (رضوان اللَّه عليهم) الإجماع على أنّه لو بذل له باذل الزاد والراحلة ونفقة له ولعياله، وجب عليه الحجّ وكان بذلك مستطيعاً، وتدل عليه جملة من الأخبار ... (5).

وقال صاحب الجواهر رحمه الله: وكيف كان فلو بذل له زاد وراحلة ونفقة له بأن استصحبه في الحجّ وأعطى نفقة لعياله إن كانوا، أو قيل له: حجّ وعليّ نفقتك ذهاباً وإياباً ونفقة عيالك، أو لك هذا تحجّ به وهذا لنفقة عيالك، أو أبذل لك استطاعتك للحجّ، أو نفقتك للحجّ وللإياب ولعيالك، أو لك هذا لتحجّ بما يكفيك منه وتنفق بالباقي على عيالك، ونحو ذلك، وجب عليه الحجّ من حيث الاستطاعة إجماعاً محكياً في الخلاف والغنية وظاهر التذكرة والمنتهى وغيرهما إن لم يكن محصّلًا، وهو الحجّة بعد النصوص المستفيضة أو المتواترة (6).

وقال الفقيه اليزدي رحمه الله: إذ لم يكن له زاد وراحلة ولكن قيل له: حجّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك وجب عليه، وكذا لو قال: حجّ بهذا المال وكان كافياً له ذهاباً وإياباً ولعياله، فتحصل الاستطاعة ببذل النفقة كما تحصل بملكها (7).

وقال رحمه الله في موضع آخر: لافرق في الباذل بين أن يكون واحداً أو متعدّداً، فلو قالا له: حجّ وعلينا نفقتك، وجب عليه (8).


1- 4 المغني، لابن قدامة 3: 170.
2- 1 إشارة السبق، للحلبي: 127، من كتاب «الجوامع الفقهية».
3- 2 النهاية، للشيخ الطوسي رضى الله عنه: 204.
4- 3 المعتبر 2: 752.
5- 4 الحدائق الناضرة 14: 99.
6- 5 جواهر الكلام 17: 261.
7- 6 العروة الوثقى 1: 445.
8- 7 المصدر نفسه 1: 449.

ص: 176

وقال الإمام الراحل الخميني الكبير (قدس اللَّه روحه): لو لم يكن له زاد وراحلة ولكن قيل له: «حجّ وعلي نفقتك ونفقة عيالك» أو قال: «حجّ بهذا المال» وكان كافياً لذهابه وإيابه ولعياله وجب عليه، من غير فرق بين تمليكه للحجّ أو إباحته له، ولابين بذل العين أو الثمن، ولابين وجوب البذل وعدمه، ولابين كون الباذل واحداً أو متعدداً، نعم يعتبر الوثوق بعدم رجوع الباذل، ولو كان عنده بعض النفقة فبذل له البقية وجب أيضاً، ولو لم يبذل تمام النفقة أو نفقة عياله لم يجب، ولايمنع الدين من وجوبه (1).

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في الخلاف: إذا بذل له الاستطاعة لزمه فرض الحج، وللشافعي فيه وجهان: أحدهما مثل ما قلناه، والثاني وهو الذي يختارونه أنّه لا يلزمه.- دليلنا- إجماع الفرقة والأخبار الواردة في هذا المعنى، وأيضاً قوله تعالى: (

من استطاع إليه سبيلًا)

وهذا قد استطاع (2).

أقول: لم أجد بين الإمامية من خالف في وجوب الحجّ بالنسبة للمبذول له، فحينما وثق المبذول له بقول الباذل ووثق أيضاً بأنّه لايرجع عن قوله: «حجّ وعليّ نفقتك» فعليه الإقدام في إتيان ما وجب عليه.

وما نقله الشيخ الطوسي رحمه الله عن الشافعي في أحد قوليه الموافق لما اختاره الشيخ فهو الذي نقلنا عن المغني قبل قليل بأنّه يجب على الوالد أن يقبل ما بذله ولده للحجّ، فراجع (3).

ولا يخفى أن للشافعي قولًا آخر في قبول الصلة ويقول: الصلة لاتحرم على أحد من النّاس ... وإنّما السبيل الذي يوجب الحجّ أن يجد المؤنة والمركب من شي ء كان يملكه قبل الحجّ أو في وقته (4).

وفي كتاب الفقه على المذاهب الخمسة: البذل- جاء في كتاب المغني للحنابلة: «إذا بذل شخص مالًا لغيره فلا يجب عليه أن يقبل البذل، ولايصير


1- 1 تحرير الوسيلة 1: 377.
2- 2 الخلاف، للشيخ الطوسي 1: 373.
3- 3 المغني 3: 170.
4- 4 كتاب الأمّ، للشافعي، الجزء الثاني: 116.

ص: 177

مستطيعاً بذلك، سواء أكان الباذل أجنبيّاً أم قريباً، وسواء أبذل له الركوب والزاد، أم لا. وعن الشافعي أنّه إذا بذل له ولده ما يتمكّن به من الحجّ لزمه؛ لأنّه تمكّن من الحجّ من غير منّة تلزمه، ولا ضير يلحق به». وقال الإمامية: إذا أعطاه مالًا على سبيل الهدية دون أن يشترط عليه الحجّ لم يجب عليه كائناً من كان الباذل، وإن بذل مشترطاً عليه الحجّ وجب القبول، ولايجوز أن يرفض، حتّى ولو كان الباذل أجنبيّاً؛ لأنّه والحال هذه يكون مستطيعاً (1)

اهل السنّة وأقوالهم في المسألة

أهل السنّة وأقوالهم في المسألة:

لم أجد حتّى رواية واحدة حول الحجّ البذلي فيما عندهم من كتب الحديث وإنّما الموجود هو الأقوال المنقولة عن علماء المذاهب الأربعة السنيّة، نستعرضها:

المذهب الشافعي

المذهب الشافعي:

قال الشافعي في كتاب الأمّ: ومن كفاه غيره مؤونته أجزأت عنه متطوّعاً أو بأجرة لم ينتقض حجّه إذا أتى بما عليه من الحجّ، ومباح له أن يأخذ الأجرة ويقبل الصدقة، غنيّاً كان أو فقيراً، الصلة لاتحرم على أحد من النّاس، إنّما تحرم الصدقة على بعض النّاس. وليس عليه إذا لم يجد مركباً أن يسأل ولا يؤاجر نفسه وإنّما السبيل الذي يوجب الحج أن يجد المؤونة والمركب من شي ء كان يملكه قبل الحجّ أو في وقته (2).

وللشافعية قول آخر وهو إنّه لايلزم الحجّ إذا بذل المال ولد أو أجنبي، ولا يجب قبوله، لما في قبول المال من المنّة (3).

وهذا القول موافق لما سأنقل من ساير المذاهب السنّية الأخرى، وأمّا ما نقلت من كتاب الأم فهو موافق لمذهب الإمامية كما لايخفى.

المذهب الحنفي


1- 1 الفقه على المذاهب الخمسة: 194.
2- 2 كتاب الأمّ، للشافعي، الجزء الثاني: 116.
3- 3 الفقه الإسلامي وأدلته، وهبة الزحيلي 3: 33.

ص: 178

المذهب الحنفي:

ونرى في فقه مذهب أبي حنيفة أنّه لا يجب قبول الحج البذلي، من دون فرق بين من تعتبر منّته أو لا.

قال في كتاب الفتاوي الهندية، في مذهب أبي حنيفة: ومنها القدرة على الزاد والراحلة بطريق الملك أو الإجارة دون الإعارة والإباحة، سواء كانت الإباحة من جهة من له منّة عليه كالوالدين والمولودين. أو من غيرهم كالأجانب. كذا في السراج الوهاج. ولو وهِبَ له مال ليحجّ به لايجب عليه قبوله سواء كان الواهب ممّن تعتبر منته كالأجانب أو لاتعتبر كالأبوين والمولودين، كذا في فتح القدير (1).

المذهب الحنبلي

المذهب الحنبلي:

ونرى في فقه هذا المذهب ما رأينا في مذهب الحنفية من عدم لزوم الحجّ البذلي.

قال ابن قدامة الحنبلي: ولايلزمه الحجّ ببذل غيره له ولايصير مستطيعاً بذلك، سواء كان الباذل قريباً أو أجنبيّاً وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالًا. وعن الشافعي أنّه إذا بذل له ولده مايتمكّن به من الحجّ لزمه لأنّه أمكنه الحجّ من غير منّة تلزمه ولا ضرر يلحقه، فلزمه الحجّ كما لوملك الزاد والراحلة.

ولنا أن قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم «يوجب الحجّ الزاد والراحلة»، بتعيين فيه تقدير ملك ذلك أو ملك ما يحصل به بدليل ما لو كان الباذل أجنبيّاً، ولأنّه ليس بمالك للزاد والراحلة ولاثمنهما فلم يلزمه الحجّ كما لوبذل له والده ولانسلّم أنّه لايلزمه منّة، ولو سلمنا فيبطل ببذل الوالد وبذل من للمبذول له عليه أيادي كثيرة ونعم (2). انتهى كلام ابن قدامة.


1- 1 الفتاوى الهندية في مذهب أبي حنيفة 1: 217.
2- 2 المغني، لابن قدامة 3: 170.

ص: 179

وفيه أنّه لماذا لايلزم قبول مابذل؟ فإذا قبل ما بذله الباذل فله التصرّف في الشي ء الموهوب له وأن يصرفه في طريق الحجّ. ثمّ إنّ ما نقله عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:

يوجب الحجّ الزاد والراحلة، فلم يصرّح النبي صلى الله عليه و آله و سلم باشتراط الملكية القبلية فيهما، لأنّه يمكن إحراز الزاد والراحلة ولو من طريق قبول الهبة وغيرها وقبولها جائز بلاشك، أضف إلى ذلك أن الهبة نوع من أنواع التمليك؛ لأنّنا نرى في تعريف الهبة: أنّ الهبة هي تمليك العين من غير عوض (1).

وعلى ذلك فالمبذول له بعد الوثوق بعدم رجوع الباذل عن قوله، يمكن له أن يمتلك الزاد والراحلة أو أثمانهما من قبل الباذل، وبعد التملّك يجب عليه إتيان الحجّ؛ لأنّ المبذول له قد استطاع: (

وللَّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا).

المذهب المالكي

المذهب المالكي:

ومذهب مالك: لايجب الحجّ بالعطيّة من هبة أو صدقة بغير سؤال، ولابالسؤال مطلقاً أي سواء أكانت عادته السؤال أم لا، لكنّ الراجح أن من عادته السؤال بالحضر، وعلم أو ظن الإعطاء في السفر ما يكفيه، يجب عليه الحجّ، أي أن معتاد السؤال في بلده يجب عليه الحجّ بشرط ظنّ الإعطاء، وإلّا فلايجب عليه (2).

ونرى مذهب المالكية أيضاً في كتاب هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك: ... أن من كانت عادته السؤال في بلده وإن سأل في الطريق أعطي لا يعتبر في حقّه القدرة على ذلك ويلزمه الحجّ، بخلاف من لايسأل في بلده وإن كان إذا سأل في الطريق أعطي (3).

وفيه ما لا يخفى، حيث إنّهم قالوا بعدم وجوب الحجّ على من أعطي له الزاد


1- 1 شرح اللمعة 2: 231 طتبريز، رحلي.
2- 2 الفقه الإسلامي وأدلّته 3: 28.
3- 3 هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك 1: 187.

ص: 180

والراحلة ولكنّهم أفتوا بلزوم الحجّ على من يسأل النّاس! وهو يصير مستطيعاً بذلك الأمر المرجوح الذي ذكره رئيس هذا المذهب في كتابه (1). والعجب أن من يأخذ الهبة للحجّ بطيب نفس من الواهب، لايصير مستطيعاً ولايجب عنه القبول!

روايات الباب

1- روايات أهل السنّة

روايات الباب:

1- روايات أهل السنّة:

بعدما راجعتُ كتب أهل السنّة الروائية والفتوائية، كصحيح المسلم، وصحيح البخاري، وسنن الترمذي، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، والسنن الكبرى للبيهقي، والمبسوط للسرخسي، والمحلّى لابن حزم، والموسوعة الفقهية (الكويت) و ...، لم أجد رواية صريحة حول الحج البذلي. وكلّ ما عثرت عليه إطلاقات وردت في كتبهم:

نقل البغوي في مصابيح السنّة عن علي عليه السلام أنّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم:

«مَنْ مَلك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديّاً أو نصرانيّاً، وذلك أنّ اللَّه تبارك وتعالى يقول: (

وللَّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا)» (2).

ونقل الشوكاني في نيل الأوطار عن أنس: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم في قوله عزّوجلّ (

من استطاع إليه سبيلًا)

قال: قيل يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة. رواه الدارقطني (3).

ونقل أيضاً عن ابن عبّاس أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: الزاد والراحلة يعني قوله: (

من استطاع إليه سبيلًا)

رواه ابنُ ماجة (4).


1- 1 أُنظر: الموطّأ لمالك بن أنس 2: 997- 1000.
2- 2 مصابيح السنة، للبغوي 2: 228، الدر المنثور 2: 56.
3- 3 نيل الأوطار، للشوكاني 4: 2- 321.
4- 4 المصدر نفسه.

ص: 181

وروى الترمذي في سننه عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال:

يا رسول اللَّه! ما يوجب الحجّ؟ قال: الزاد والراحلة (1).

2- روايات الإمامية

2- روايات الإمامية:

1- روى الصدوق في كتاب التوحيد عن العلاء بن رزين قال: سألت أباعبداللَّه عليه السلام عن قول اللَّه- عزّوجلّ- (

وللَّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا)

قال: يكون له ما يحجّ به، قلت: فمن عرض عليه فاستحى؟ قال: هو ممّن يستطيع (2).

2- عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: قوله تعالى (

وللَّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا)

؟ قال: يكون له ما يحجّ به قلت: فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال: هو ممّن يستطيع الحجّ، ولِمَ يستَحيي؟! ولو على حمار أجدع أبتر، قال: فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل (3).

3- عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل لم يكن له مال فحجّ به رجل من إخوانه. أيجزيه ذلك عن حجّة الإسلام، أم هي ناقصة؟ قال:

بلي هي حجّة تامّة (4).

4- عن الإمام الصادق عليه السلام- في حديث- قال: فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل فإنّه لايسعه إلّا (أن يخرج) ولو على حمار أجدع أبتر (5).

5- نقل الشيخ المفيد رحمه الله في المقنعة عن المعصوم عليه السلام قال: من عرضت عليه نفقة الحجّ فاستحيى فهو ممّن ترك الحجّ مستطيعاً إليه السبيل (6).

6- عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول: من عرض عليه الحجّ ولو على حمار أجدع مقطوع الذنب فأبى فهو مستطيع للحجّ (7).


1- 1 سنن الترمذي 3: 177، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.
2- 2 وسائل الشيعة 11: 4- 33، الباب 8 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، الحديث 2.
3- 3 التهذيب 5: 3- 4، الاستبصار 2: 140/ 456، وسائل الشيعة 11: 40- 33.
4- 4 وسائل الشيعة 11: 40، 14186.
5- 5 المصدر نفسه، 14187.
6- 6 المصدر نفسه، 14188.
7- 7 المصدر نفسه، 14191.

ص: 182

7- عن أبي أسامة زيد الشحام عن أبي عبداللَّه عليه السلام في قوله: (

وللَّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا)

قال: سألته: ما السبيل؟ قال: يكون له مايحجّ به، قلت: أرأيت إن عرض عليه مال يحجّ به فاستحيى من ذلك؟ قال: هو ممّن استطاع إليه سبيلًا، قال: وإن كان يضيق المشي بعضاً والركوب بعضاً فليفعل، قلت: أرأيت قول اللَّه: (

ومن كفر)

، أهو في الحج؟ قال: نعم، قال: هو كفر النعم، وقال: من ترك (1).

8- عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: رجل عرض عليه الحجّ فاستحيى أن يقبله أهو ممن يستطيع الحجّ؟ قال: نعم مُره فلا يستحيي ولو على حمار أبتر وإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل (2).

أقول: لا يخفى أن الأخبار التي ذكرناها، بين صحيحة وحسنة وغيرهما، تدلّ على وجوب قبول ما بذل للحجّ من قبل المبذول له، وأن الإمام عليه السلام فسّر الآية المباركة في سورة آل عمران (3)، فيمن يكون له ما يحجّ به ولو بعروض الحجّ له، وأن الاستطاعة الواردة في تلك الآية كما ذكره صاحب كتاب تفصيل الشريعة- دام بقاه- من العناوين التي أخذت في موضوعات أدلّة الأحكام، فإنّ الحاكم في تشخيصها هو العرف، ومن الواضح حكم العرف بثبوت القدرة عند البذلِ خصوصاً إذا قيل له: حجّ ببذل المال، وكان كافيّاً للحجّ لنفقة عياله، فالآية بنفسها تدلّ على الوجوب بالبذل (4).

كما لا يخفى أيضاً بأنّه لافرق بين البذل والهبة وإن زعمه بعض؛ لأن المفردة (عَرَضَ) التي كانت في تلك الأخبار تشمل البذل والهبة كليهما.

نعم، من فرّق بين البذل والهبة صرّح بعدم وجوب قبول إتيان الحجّ بسبب الهبة، وفيه مالايخفى بعد الدقّة والنظر فيما نقلناه من الأخبار الواردة في هذا الباب وأقوال أهل اللغة.


1- 1 تفسير العياشي 1: 193، الحديث 115. وسائل الشيعة 11: 42، 14194.
2- 2 تفسير العياشي 1: 192.
3- 3 سورة آل عمران، الآية: 97.
4- 4 تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، للعلّامة الأستاذ الشيخ الفاضل اللنكراني- دام بقاه- 1: 176- 175.

ص: 183

ثمّ إنّه يظهر من كلمات بعض الأعاظم القول بعدم الفرق بين البذل والهبة، كالشهيد رحمه الله في الدروس حيث قال: في الفرق [بين البذل والهبة] نظر (1). وبه صرّح المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد والسيد السند رحمه الله في المدارك (2) وقال صاحب الحدائق رحمه الله: الظاهر أنّه لافرق بين بذل الزاد والراحلة وبين هبتهما في حصول الاستطاعة، لإطلاق النصوص المتقدّمة (3).

أضف إلى ذلك كلّه أنّه تحصل الاستطاعة بمجرّد قول الباذل: «حجِّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك» وحينئذ هل الواجب الواقع على عاتق المبذول له صار واجباً مطلقاً حتّى يلتزم به، أم صار واجباً مشروطاً، لكي يستطيع المبذول له في قبول الحجّ وعدمه؟

لا شك في أنّه لايشترط تحصيل شرط الواجب المشروط كما اشترط ذلك في الواجب المطلق مثل تحصيل الطهارة للصلاة ومسّ الكتاب العزيز، وعلى ذلك فمن لم يتحقّق له الاستطاعة فلايجب عليه تحصيلها.

فالحجّ وإن كان واجباً مشروطاً بالنسبة إلى الاستطاعة ولكنّ الاستطاعة البذلية حصلت بمجرّد قول الباذل فصار الواجب هنا واجباً مطلقاً فوجب على المبذول له القبول، ووجب عليه أيضاً الإقدام في تهيئة المبادئ للتشرّف إلى الحجّ لما استفدنا من الآية المباركة والأخبار الدالّة على وجوب القبول.

وممّا يجدر ذكره أن في أكثر الروايات الواردة في هذا الباب ذيلًا يحكي: أن على المبذول له الخروج إلى الحجّ ولو على حمار أجدع أبتر، ونحن نرى أن الاستطاعة في ساير الأمور تكون لصالح الحاجّ، وأن لايتحمّل أيّ حرج ومشقّة وأن يحجّ موافقاً لزيّه وشرفه، بخلاف الحجّ البذلي، لأنّ الحج البذلي ربّما يستلزم الحرج والمشقّة على المبذول له كما قد يستلزم ركوب حمار أجدع أبتر: فما هي الطريقة لرفع هذه العويصة؟


1- 1 الدروس: 83.
2- 2 مدارك الأحكام 7: 48. ط، جماعة المدرسين.
3- 3 الحدائق الناضرة 14: 104.

ص: 184

أقول:

أوّلًا: تلك الفقرة ليست في صحيحة العلاء بن رزين وعلى ذلك فهذه الصحيحة كافية لإثبات وجوب القبول.

وثانياً: كأنّ تلك الفقرة تحكي عن الحثّ والتوكيد لإتيان الحجّ البذلي، وأنّه لاينبغي ردّ هذه الاستطاعة البذلية.

وثالثاً: هذا الذيل (ولو على حمار ...) يحكي عن استقرار الحجّ عليه وبعد أن استقرّ الحجّ على المبذول له، يجب عليه المبادرة ولو بالركوب على حمار أجدع أبتر.

ثمّ أنّه لايبقى مجال للقول بلزوم العقد والتمليك فيما إذا وهبه، بأن الهبة تحتاج إلى الإيجاب والقبول ويلزم على الواهب أيضاً أن يملّكه، كما لايبقى مجال للبحث في التمليك بعد ما قلنا: إنّ المبذول له صار مستطيعاً بعد قول الباذل: «حجَّ وعليّ نفقتك ونفقة عيالك». لإطلاق النصوص، فلانحتاج إلى التمليك.

وبهذا ظهر ضعف ما ذكره ابن إدريس حيث قال:

والذي عندي في ذلك، أنّ من يعرض عليه بعض إخوانه ما يحتاج إليه من مؤونة الطريق فحسب، لايجب عليه الحجّ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم، بل هذا يصحّ فيمن لايجب عليه نفقة غيره، بشرط أن يملكه ما يبذل له، ويعرض عليه، لاوعداً بالقول دون الفعال ... (1) وقال صاحب المدارك رحمه الله بعد نقل كلام صاحب السرائر رحمه الله: وهو تقييد للنصّ من غير دليل (2).

نعم يمكن القول بوثوق ما قاله الباذل واطمئنان المبذول له به، فتأمّل.

قال صاحب المدارك رحمه الله: ... لايبعد اعتبار الوثوق بالباذل، لما في التكليف بالحجّ بمجرّد البذل مع عدم الوثوق بالباذل من التعرّض للخطر على النفس المستلزم للحرج العظيم والمشقّة الزائدة، فكان منفيّاً (3).

بذل العين او بذل الثمن


1- 1 السرائر، لابن إدريس 1: 517.
2- 2 مدارك الأحكام 7: 46.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 185

بذل العين أو بذل الثمن

إن إطلاق الأدلّة يقتضي عدم الفرق بين بذل الزاد والراحلة وبين أثمانهما، به صرّح صاحب المدارك، وصاحب الحدائق، وصاحب الجواهر وغيرهم.

قال السيد السند رحمه الله في المدارك: إطلاق النصّ وكلام أكثر الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وأثمانهما ... واعتبر الشارح (1) قدس سره. بذل عين الزاد والراحلة، قال: فلو بذل له أثمانهما لم يجب القبول ...

ويتوجّه عليه أوّلًا: أن مقتضى الروايات المتقدّمة تحقق الاستطاعة ببذل ما يحجّ به، وهو كما يتناول بذل عين الزاد والراحلة، كذا يتناول أثمانهما ... (2).

وقال صاحب الحدائق رحمه الله: بقي الكلام فيما ذكره شيخنا الشهيد الثاني رحمه الله- وقبله العلّامة في التذكرة- من دعوى حصول الفرق بين بذل عين الزاد والراحلة وبذل أثمانهما في وجوب الحجّ، وحصول الاستطاعة على الأول دون الثاني، فإن إطلاق النصوص المتقدّمة شامل للأمرين. وتعليلهما المنع في الثاني- باعتبار اشتماله على المنّة، وأنّه موقوف على القبول وهو شرط للواجب المشروط فلا يجب تحصيله- وارد عليهما في بذل العين أيضاً. وبالجملة فالنصوص المتقدّمة- كما عرفت- شاملة باطلاقها لعين الزاد والراحلة وأثمانهما، فإن عمل بها على إطلاقها ففي الموضعين، وإلّا فلا فيهما (3).

وقال صاحب الجواهر رحمه الله: ... إنّ المتّجه لذلك كلّه أيضاً ما صرّح به غير واحد من الأصحاب من عدم الفرق في الوجوب بين بذل الزاد والراحلة وبين بذل عين أثمانهما (4).

وينبغي التنبيه على أمور

وينبغي التنبيه على أمور:

الأوّل:

لافرق في الباذل بين أن يكون واحداً أو متعدداً، لأنّ الخبر الرابع


1- 1 الشارح هو الشهيد الثاني رضى الله عنه، صاحب المسالك.
2- 2 مدارك الأحكام 7: 46.
3- 3 الحدائق الناضرة 14: 103.
4- 4 جواهر الكلام 17: 266.

ص: 186

من الأخبار التي ذكرناها في هذا المقال: (... فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه ...) (1)صريح في مورد تعدّد الباذل وإطلاق ساير الأخبار (فإن عرض ...) يشمل صورة تعدد الباذل وعدمه.

الثاني:

هل يجب على المبذول له أن يعيد الحجّ إذ استطاع استطاعة مالية أم لا؟ ظاهر رواية معاوية بن عمّار ورواية الفضل بن عبدالملك بل صريحهما (2) وكلمات الأصحاب أيضاً يدلّ على أنّ هذا الحجّ مجز عن حجّة الإسلام. وإليك بعض كلماتهم:

قال ابن البرّاج رحمه الله: ومن لايكون متمكّناً من الاستطاعة ومكّنه بعض إخوانه من ذلك وجب عليه الحجّ، فإن أيسر بعد ذلك كان عليه إعادة الحجّ استحباباً (3).

وقال الحلبي رحمه الله: ومن حجّ ببذل غيره له مايحتاج إليه لكونه فاقد الاستطاعة، صحّ حجّه، ولايلزمه قضاؤه لو استطاع بعد ذلك (4).

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله: ... ومن ليس معه مال، وحجّ به بعض إخوانه، فقد أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام، وإن أيسر بعد ذلك، إلّاأنّه يُستحبّ له أن يحجّ بعد يساره، فإنّه أفضل (5).

وقال في الحدائق: وممّا يوضح ذلك بأوضح وجه، دلالة الأخبار المتقدّمة على حصول الاستطاعة الشرعية بالبذل، وأنّه يجب عليه الحجّ بذلك، وهي حجّة الإسلام البتة، وليس بعدها إلّاالاستحباب (6).

وقال الفقيه اليزدي رحمه الله: الحجّ البذلي مجز عن حجّة الإسلام فلا يجب عليه إذا استطاع مالًا بعد ذلك على الأقوى (7).

الثالث:

هل الدَّين مانع عن قبول الحجّ البذلي أم لا؟

قال المحقّق القمي رحمه الله: وأمّا مسألة بذل الحجّ إلى المديون فالظاهر أن الدَّين


1- 1 وسائل الشيعة 11: 40، 14187.
2- 2 المصدر نفسه، 14186، 14190.
3- 3 المهذب، للقاضي ابن البراج 1: 268.
4- 4 إشارة السبق: 127- الجوامع الفقهية.
5- 5 النهاية: 204.
6- 6 الحدائق الناضرة 14: 107.
7- 7 العروة الوثقى 1: 446.

ص: 187

ليس مانعاً لوجوب الحجّ بل الواجب هو القبول وأداء الحجّ لإطلاق الأخبار الواردة وإطلاق مدلول الاستطاعة. وكذا من وهبه مال؛ لأن يحجّ به فالظاهر وجوب الحجّ عليه (1).

وقال صاحب الجواهر رحمه الله: ولا يمنع الدَّين الوجوب بالبذل وإن منعه في غيره ... للإطلاق المزبور، وليس المبذول من أملاكه المطلقة له كي يجب عليه إعطاؤه ما يلزمه منه، ومن هنا قلنا لا يمنعه الدين، ومن ذلك من وهب له مال اشترط الحجّ به عليه كما صرّح به في الدروس (2).

وقال صاحب الحدائق رحمه الله: الثالث- قال في المسالك: ولايشترط في الوجوب بالبذل عدم الدين أو ملك ما يوفيه به بل يجب الحجّ وإن بقي الدين.

أقول: وهو كذلك لإطلاق النصوص (3).

أقول: إنّ الاستطاعة البذلية ليست كالمالية؛ لأن سبق الدين، حالًاّ كان أو مؤجّلًا، مانع شرعي لاستقرار الاستطاعة المالية، وهذا بخلاف الاستطاعة البذلية، لأنه لايمكن صرف ما بذله الباذل في أداء الدين. فبهذا وبغيره أجمع فقهاء الإمامية على وجوب القبول، لما في الدليل من القوّة والمتانة.

هذا كلّه إذا كان الدين ممّا لايمكن أن يصرف الوقت والزمان لأدائه، فلو صرف المبذول له ذلك الزمان الذي أراد أن يصرفه للحجّ، في العمل لأداء الدين، فهل يمكن القول بعدم وجوب القبول في صورة التزاحم بين صرف الوقت في أداء الدين الحالّ وبين صرفه في أداء الحجّ البذلي، أم لايمكن القول بعدمه؛ لظاهر قول الأكثر بعدم كون الدين مانعاً للاستطاعة البذلية ولإطلاق النصّ؟ الأوجه هو الأخير.

الرابع:

هل يجوز للباذل الرجوع عن بذله أم لا؟

قال الإمام الخميني قدس سره: يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في


1- 1 جامع الشتات 1: 63.
2- 2 جواهر الكلام 17: 267- 266.
3- 3 الحدائق الناضرة 14: 105.

ص: 188

الإحرام وكذا بعده على الأقوى، ولو وهبه للحجّ فقبل فالظاهر جريان حكم ساير الهبات عليه، ولو رجع عنه في أثناء الطريق فلا يبعد أنه يجب عليه نفقة عوده، ولو رجع بعد الإحرام فلايبعد وجوب بذل نفقة إتمام الحجّ عليه (1).

وقال المحقّق النائيني قدس سره: وأمّا بعد إحرامه فالأقوى لزوم البذل ولغوية رجوعه نحو مامرّ من لغوية رجوع مالك المكان عن إذنه في الصلاة فيه بعد الإحرام لها (2).

أقول: لايمكن إتيان العمل من قبل المبذول له، إلّاإذا اطمأنّ بصحّة ما قاله الباذل، فيما إذا كان البلد الذي يريد أن يخرج منه إلى الحجّ نائياً جدّاً، خصوصاً إذا كان المبذول له، ممّن ليس له زاد وراحلة، ولايمكن له تحصيلهما بالتسكع أو بغيره.

ولذا قلنا بوثوق ما قاله الباذل واعتماد المبذول له، به.

وبما أنّ للباذل حقّ الرجوع عن بذله قبل الإحرام أو بعده. فهل للمبذول له، أخذ نفقة الرجوع (إن كان الرجوع قبل الإحرام) ونفقة الإتمام (إن كان رجوع الباذل عن بذله بعد الإحرام) أم لا؟

الظاهر أنّ هذا الأخذ حقّ موجود للمبذول له، لأنّه اعتمد على الباذل، والقاعدة المبتنية على النبوي المرسل المشهور: «المغرور يرجع على من غره» (3) حاكمة في هذا المورد بلاشك.

وأمّا التنظير الذي ذكره المحقّق النائيني قدس سره فليس دخيلًا في المقام كما لايخفى.

وأمّا بالنسبة لنفقة الإتمام فيما إذا كان رجوع الباذل عن بذله بعد الإحرام، فالمجال للبحث فيه واسع لايسعه هذا المقال.

وبالنتيجة فما قاله الإمام الخميني قدس سره جيد لاغبار عليه.

الخامس:

هل الكفارات وثمن الهدي على عاتق الباذل أم على المبذول له؟

إنّ الحجّ بجميع أفعاله وفروعاته، وواجباته، وشرائطه، عمل واحد. فإذا


1- 1 تحرير الوسيلة 1: 378.
2- 2 رسالة في مناسك الحج، للمحق النائيني رحمه الله.
3- 3 مستمسك العروة الوثقى 10: 144.

ص: 189

تحقّق كلّ الأعمال من عند شخص تحقّق الحجّ وأمّا إذا أفسد ذلك الشخص واجباً من واجباته أو شرطاً من شرائطه، لم يتحقّق الحجّ وصار الحجّ حجّاً ناقصاً غير مبرئ للذمّة. والباذل بعد أن بذل الحجّ للمبذول له، أراد منه حجّاً تامّاً وصحيحاً، ولذا ضمن أداء كلّ المؤونة اللازمة للحجّ، فمن تلك المؤونة ثمن الهدي.

وبما أن الهدي واجب من واجبات الحجّ فعلى الباذل أداؤه.

وأمّا الكفارات التي تترتب على موجباتها، فيما أنّها خارجة عن هيكليّة الحج، بل هي جزاء أعمال ارتكبها المبذول له، فعلى عاتقه أن يؤدي ما وجب عليه من الكفارات، اختيارية كانت تلك الأعمال الموجبة لها، أم إضطرارية، وليس على الباذل أداؤها. به قال الإمام الخميني قدس سره وتوقّف في ذلك السيد الفقيه اليزدي رحمه الله في العروة فراجع.

قال في تحرير الوسيلة: «الظاهر أنّ ثمن الهدي على الباذل، وأمّا الكفارات فليست على الباذل وإن أتى بموجبها اضطراراً أو جهلًا أو نسياناً، بل على نفسه» (1).

الهوامش:

الحجّ في الادب العربي


1- 1 تحرير الوسيلة 1: 378.

ص: 190

ص: 191

ص: 192

الحجّ في الأدب العربي

على كُلِّ أُفق بالحجاز ملائكٌ تزف تحايا اللَّه والبركاتِ

لدى الباب جبريلُ الأمين، براحِهِ رسائلُ رحمانيةُ النَّفحاتِ

وما سكب الميزابُ ماءً، إنّما أفاضَ عليكَ الأجرَ والرحماتِ

وزمزم تجري بين عينيكَ عينا من الكوثر المعسول منفجراتِ

ويرمون إبليس الرجيم، فيصطلي وشانيك نيراناً من الجمراتِ لك الدين يا رب الحجيج جَمَعْتَهُمْ لبيتٍ طَهورِ الساحِ والعرَصاتِ

ص: 193

أرى النّاس أصنافاً، وفي كلّ بقعةٍ إليك انتهوا من غربة وشتاتِ

تساوَوْا، فلا الأنسابُ فيها تفاوتٌ لديك، ولا الأقدار مختلفاتِ

عنَتْ لك في التُّربِ المقدّسِ جبهةٌ يدين لها العاتي من الجبهاتِ

وركب كإقبال الزمان محجَّل كريم الحواشي كابرِ الخطواتِ

يسير بأرض أخرجت خير أمّة وتحت سماء الوحي والسوراتِ

يفيض عليها الُيمْنَ في غدواته ويُضفي عليها الأمنَ في الروحاتِ

إذا زرت بعد اليوم قبر محمّد وشاهدت مثوى الأعظم العطراتِ

ستهمي مع الدمع العيونُ مهابةً لأحمد بين السِّتر والحُجراتِ

ويشرق نورٌ تحت كلِّ ثنيَّةٍ وضاعَ أريجٌ تحت كلّ حصاةِ

لمظهر (1)دين اللَّه فوقَ تَنُوفَةٍ (2) وباني صروح المجد فوقَ فلاةِ

عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد


1- 1 معلنة: الجاهر به.
2- 2 المفازة، وهي الأرض الواسعة البعيدة الأطراف.

ص: 194

يا مَوطئاً من عهد إبراهيم لا يُمحى.. ولا تَعفو عليه رياحُ

بيدِيه شادَ أجلَّ بيتٍ يُبتنى للَّه يُغدى نحوَهُ ويُراحُ

تهوي النفوس إليه.. فهي بساحِهِ لا إثمَ يُرهِقُها ولا أتراحُ

وهُناكَ «إسماعيل» قامَ مُلبّياً وكلاهُما بدعائه مِلحاحُ

قمرانِ من وحي الإله سناهُما خُلُقٌ أبرُّ. وعِفَّةٌ وسماحُ

ربّاه.. هذا البيتُ بيتُك خالِصاً ومعالمُ التوحيد فيه صُراحُ

أرِنا مناسِكنا على النهج الذي يُرضيكَ عنّا.. ليس عنه بَراحُ عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد

أوصى بها الرحمن، فهي عظيمة مَن غيرها الرحمن قد أوصى بها؟

لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت اللَّه فوق ترابها ولَما اصطفاها اللَّه قبلة خلقه وَلما سعى الساعون نحو ركابها

ص: 195

ولما اصطفى خير البريّة مرسلًا بالحقّ والتوحيد من أعرابها

وقفتْ على رأس الخلو بدينها وبأهلها تاجاً، ألا أعظم بها

النسك والإيمان من أفيائها والعدل والإحسان من أطيابها

فكأنّها صوت الزمان وثغره وكأنّ «زمزمها» زلال رضابها

«سجيلها» باق على أعدائها وعلى حقول الحق: قطر سحابها

أترابها خير الترائب ذا «منى» وهناك «طيبة» أين من أترابها؟

دانت لها الدنيا، فما عرف الورى شِعبا طهور الظلّ مثل شعابها

لو يوضع البيت العتيق بكفّة والأرض في الأخرى لأعدلها بها

حمداً لك اللهمّ أن أبصرتني درب الحجاز فكنت من أنسابها

هي قلب هذي الأرض، مقلة وجهها والباقيات علقن في أهدابها

خُلق النهار كصبحها متألّقا والليل داجٍ مِثل كون حجابها

ص: 196

فسل «الصفا» و «منى» وكلَّ ثنيّة عن أشرف الماشين فوق رحابها

حجت لها قبل الأنام سماؤها بحجيج «سجيل» على سُلّابها

أرض يكاد- لفرط عزّة رملها- يروي عطاشى الماء وهج سرابها

جمع الزمان جميعه فإذا به يجثو خشوع القلب في محرابها

من ها هنا مرّ «الأمين» ومن هنا أسرى وفاض العدل من «أبوابها»

ما زال يخترق الفضاء «بلالها» هرم الزمان ولم تزل بشبابها

عشرون عاماً ما اغتسلت من اللظى واليوم أبردني عظيم شرابها

أهلي.. من ازدانوا بنور فضائها وأحبّتي في اللَّه.. من أحبابها! أبكي على وطني.. وحين دخلتها صار البكاء توسّلًا لثوابها!!

أعظمت من شوقي خيول تشرّدي لما رمتني في نعيم هضابها..!

وطني عزيز.. والأعزّ من الثرى ديني، فما روحي بغير كتابها؟

ص: 197

فوحق من خلق الخليقة واستوى حلمي يكون القلب عُتبة بابها

فاغسل فؤادك يا شريد بمائها أو شحَّ ماء فاغتسل بترابها! عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد

بيتٌ بنته يدُ التقوى وشيَّدهُ أبو النبيّينَ.. للأجيالِ يَرْفَعُهُ

أمجاده في كتاب الدهر حافلةٌ ثوبُ الجلالِ عليه الربُّ يَخلَعُهُ

تَدَرَّعَتْ بسياج الدين حُرْمَتُه واللَّهُ من عبثِ الباغينَ يَمنَعُهُ

أولاهُ بالحجّ تَشْريفاً وتَكرمةً حتّى غَدَت موئلَ التقديس أربعُهُ

وكعبةُ الروحِ بالتوحيدِ شاهِدَةٌ كالشمسِ تسطُعُ نوراً وهي مَنْبَعهُ عيد سعيد عيد سعيد عيد سعيد

رعى اللَّهُ رَكْبًا يمّمُوا أرضها التي أجادَت يدُ الغيثِ الهَتونِ صِقالَها (1)

ولما ألَمُّوا في السُّري بيلَمْلَمٍ لأجسادِهم احرامُها قد حَلالَها (2)

ولَبّوا فبلُّوا بالنَّسيم عَلِيلَهم وحَيَّوا فأحيوا للنّفُوسِ كمالَها (3)

يميناً بَهَبّات النَّسيمِ بسُحرْةٍ لقد فازَ مَنْ مَدَّتْ إليه شِمالَها (4)

شدا باسمها الحادي فحركَ ساكِناً وذَكَّر موصولُ الحنين اتّصالَها


1- 1 يمموا: قصدوا، الهتون: المدرار.
2- 2 يلملم: مكان يحرم منه الحاج القادم من اليمن.
3- 3 بلوا: شفوا.
4- 4 بسحرة: وقت السحر.

ص: 198

ولما رأوا أعلامَها هاجَ شوقُهم وحَثّوا مطاياهم وحَلّوا عِقالها

وحين تَجلّى وجْهُهَا خضَعوا له فللَّه ربِّي ما أعزَّ جلالها

وطافوا بها مستَبشِرين بأنعُمٍ مِن اللَّهِ لم يُحصوا بِعَدٍّ خِصالَها

رَقوا للصَّفا بالحمدِ شكراً لسعيهم وبالمروة النفسُ اشتَفَت ما بَدا لها (1)

وقد أُسْعِدوا يومَ الصُّعودِ وأُسعِفوا ونالَتْ نُفوس الطّالبين مَناها

وفي عرفاتٍ عُرَّفوا بسَعادةٍ عَليهِم بجمع الشَّمل شامُوا اشتمالها (2)

فكم تائبٍ مستغفرٍ مُتَيقّن بمغفرةٍ تهمي بفَيضٍ سِجاها (3)

وذي عِلّة قد طال عُمْرُ مِطالها فقصَّرَ عفوُ اللَّه عنه مِطالها

وإذ نَفروا فازوا فهم نَفُر التُّقى سَقَتهم سَحابُ العفو صَفْواً زُلالها (4)

بمزدلفاتٍ أقبلَ الوَفدُ مُقبلًا ولاقَتْ من البُشرى النُّفوسُ اقتبالَها

أفاضوا دموعاً إذ أفاضوا مخافةً مِنَ البين أحيَت للنفوسِ اعتلالها


1- 1 رقوا: صعدوا.
2- 2 شاموا: نظروا وتطلعوا.
3- 3 تهمِي: تتابع وتعمر، السجال جمع سجل، وهو ذنوب الماء.
4- 4 نفروا: يقصد النفير إلى مزدلفة.

ص: 199

وعاود لتوديعِ الحَما سُبْقَ الحَما وألسِنةُ الوفدِ استطابتْ سؤالها

وزمزم حادِيهم بزمزمَ مُرصَدٍ تروَّى وذي صدّ حَبَتْهُ وصالها (1)

وبل غليلًا في طواف وداعه فأحسن لكن كم دموع أسالها (2)

وقد رَفعوا أيدي الدعا بانكسارِها وجَزْمِ الرّجا حتّى أتى الفَتْحُ حالها

وما استكثروا من أدمع مستهلَّةٍ نهار استَقلُّوا للرحيلِ انهِمالها (3)

وقَلَّ لقومٍ فارَقوا الكعبةَ البُكا وقد فَقدوا أفضالَها واكتمالَها

وقَدْ آل ذاكَ الصَّحْبُ بَعْدَ وَداعِها إلى أسفٍ إذ فارق الصَّحبُ آلها (4)

أجادوا وجَدّوا في السُّرى قاصدي الحِ- مَى وقد نَفَّروا ضبَّ الفَلا وغَزالها (5)

وشارَفَ من أرضِ الحصيْبِ دليلُهم عرائسَ روضٍ حينَ أرختْ دَلالها (6)

أغاني حاديهم شُكرٌ لربّهم وأدعيةٌ لا يكتُمون احتفالها (7)

إلهي مَثلُ الشمس لاحتْ ذُنُوبُنا فيسر علينا بالمَتابِ زوالها


1- 1 زمزم حاديهم: صاح بصوت مدوٍّ، مُر صدٍ: أي: مر أيها الظامئ. تروّى: تضلع.
2- 2 وبل: روى. غليلًا: شوقاً.
3- 3 انهمالها: سيلانها.
4- 4 آل: رجع. آلها: أهلها.
5- 5 السرى: المسير.
6- 6 شارف: رأى عن قرب. الحصيب: مكان باليمن.
7- 7 احتفالها: التجمع بها.

ص: 200

أحلنا على العفوِ العَميم فإنّناسئمنا على التَّسويفِ دَهراً محالها

وَصَلِّ على خيرِ الأنامِ مُحمدٍ صلاةً مدى الدنيا تُديم اتّصالها

الهوامش:

القرامطة وفتنتهم في مكّة

ص: 201

القرامطة وفتنتهم في مكّة

يعقوب الجعفري

تُعدُّ فرقة «القرامطة»- التي وصفها التأريخ بأنّها فرقة مشاغبة ومُتمرّدة، وكانت عاملًا أساسيّاً أدّى إلى مذابح جماعية، وإلى حملات إغارة على أموال المسلمين- فرعاً من الفرقة المعروفة ب «الإسماعيلية» حيث ظهرت في قلب المجتمع الإسلامي، وسبّبت الكثير من المتاعب والمشاكل آنذاك بسبب أفكارها وعقائدها الخاصّة، خصوصاً في العهد العبّاسي، ممّا أدّى إلى وقوع العديد من الضحايا نتيجة انحرافاتهم الايديولوجية والمغالاة في أفكارهم. ويمكننا القول بوجود التشابه الكبير بينها وبين فرقة الخوارج المعروفة التي ظهرت في عهد الخلفاء الأمويين وإن اختلفتا من الناحية العقائدية.

و «الإسماعيلية» هي فرقة من فرق الشيعة كانت تعتقد بإمامة «إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام» وذلك بعد وفاة جعفر الصادق عليه السلام، وأولاد إسماعيل من بعده ثمّ انقسمت على نفسها إلى عدّة فِرَق أُخرى. وقد انبرى من الفرقة ذاتها

ص: 202

شخصيّات فسَّر كلٌّ منهم المذهب الإسماعيلي حسب ما يَرتئيه هو ودعا إلى إمامة شخصيّة معيّنة في ذلك الزّمان.

وكان «حمدان قرمط» أحد أبرز أولئك الدعاة من الإسماعيلية، والسّبب المباشر في ظهور العديد من الحوادث في حينها، فأوجد هذا فرقة مُنشعبة عن الإسماعيلية وذلك بعد وفاة أبوالخطّاب الأجدع أحد مؤسّسي فرقة الإسماعيلية، وأدخل «حمدان قرمط» تعديلات وآراء جديدة على المذهب المذكور فسمّي أتباعه بعد ذلك بالقرامطة.

وتذكر المصادر لروايات أهل السنّة- وعلى غرارها المصادر الغربية كذلك- أنّ حمدان قرمط كان أحد تلاميذ عبداللَّه بن ميمون القدّاح، الذي له تأثيرٌ واضح على تشكيل آراء ومعتقدات حمدان قرمط، وتعتبر المصادر ذاتها أنَّ عبداللَّه بن ميمون هذا هو أحد موالي الإمام جعفر الصادق عليه السلام وينسبونه إلى اليهوديّة (1) أحياناً والدّيصانية (2) والمجوسية من أصل إيراني (3) أحياناً أُخرى.

كما وينسبون الفاطميين «في مصر» إلى حمدان قرمط هذا (4).

هذا في حين توثّق المصادر الشيعيّة عبداللَّه بن ميمون، وتُسقط كل الاحتمالات- كما سنرى- التي تقول بكونه ينتمي إلى القرامطة أو الإسماعيلية.

وقبل إيراد أيّ نصوص عن علماء ورجالات الشيعة حول عبداللَّه بن ميمون، نستدعي انتباه الأخوة القُرّاء إلى آراء بعض من الكتّاب المعروفين حول نفس الموضوع.

ينقل ابن النديم عن شخص يدعى ابوعبداللَّه بن رزام حيث كان لهذا الأخير كتاب في الردّ على الإسماعيلية ما يلي (دون أن يؤيّد أو يُفنّد ادّعاءات ابن رزّام هذا):

في البداية، كان ميمون قدّاح من أتباع أبوالخطّاب، وكان يجهر بالدعوة إلى


1- 1 الإسماعيليون في التاريخ، تأليف عدد من المستشرقين، ترجمة يعقوب آثرند، مقالة برنارد لويس، ص 80.
2- 2 الفهرست لابن النديم، ص 278.
3- 3 الاسلام في ايران، پطروشنسكي، ترجمة كريم كشاورز، ص 299.
4- 4 روند نهضتهاي ملي واسلامي در ايران، تأليف انصاف پور، ص 454.

ص: 203

إلوهية علي بن أبي طالب، وقد كان وأبنه عبداللَّه، ديصاني المذهب، ومن محلة على أطراف الأهواز، وكان ابنه عبداللَّه مشعوذاً وساحراً وقد ادّعى النبوّة لفترة طويلة، ... وفرّ إلى السلميّة بالقرب من حمص وهناك انضمّ إلى دعوته رجل يسمّى حمدان بن الأشعث الملقّب ب (قرمط) (1).

بعد ذكر قصّة تشتّت أصحاب محمد بن إسماعيل بن جعفر، يتابع الخواجة رشيد الدين القول بأنّ (عبداللَّه بن ميمون القدّاح كان قد اكتسى حُلّة العابد الزاهد، وقد أقام في منطقة عسكر مكرّم، ومنها رحل إلى كوهستان عجم أهواز حيث قام بدعوة النّاس وإرسال الرسل إلى العراق والري وإصفهان وقم وهمدان) (2).

يقول الفخر الرازي في تعريف فرقة الباطنية مايلي:

(يروى أنّ رجلًا من الأهواز يدعى عبداللَّه بن ميمون القدّاح وكان من الزنادقة، جاء إلى جعفر الصادق عليه السلام، وقد قضى أكثر وقته في خدمة ابنه إسماعيل وبعد وفاة إسماعيل أصبح في خدمة ابنه محمّد، ودعا إلى اتّباع هذا الأخير مدعيّاً بتلقّي الزندقة على يده) (3). كما يلاحظ، فإنّ عبداللَّه بن ميمون هذا يعرّف على أنّه مؤسّس فرقة الباطنيّة والقرامطة وعلى أنّه رجل دجّال وكذّاب، في حين هو في المصادر الشيعية أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام المخلصين، وبأنّه أحد رواة الأحاديث الثقات.

يقول النجاشي في (الرجال):

كان عبداللَّه بن ميمون الأسود القداح أحد موالي بني مخزوم ... وكان يروي عن الإمام الصادق عليه السلام وهو رجل ثقة، وتنسب إليه كتب مثل (مبعث النبي) و (صفة الجنّة والنّار) (4).

وحسب قول النجاشي وهو أحد علماء الرجال المعروفين، بأنّ عبداللَّه بن


1- 5 ابن النديم، المصدر نفسه.
2- 6 رشيد الدين، جامع التواريخ، ص 10.
3- 7 اعتقادات فرق المسلمين، الفخر الرازي، ص 106.
4- 8 رجال النجاشي، ص 148.

ص: 204

ميمون ثقة، لايبقى مجال للشك في منزلة ابن ميمون الجليلة، خاصّة بعد عِلمنا أنَّ كلّ كتب رجالاتنا لم تورد قدحاً في تعريفها لعبداللَّه بن ميمون، ولو كان إسماعيلياً كما قيل، لما تردّد علماء الرجال في ذكر ذلك على الإطلاق، ذلك أنّ علماءنا في الرجال يمتلكون حساسية عجيبة تجاه الأشخاص المنتمين إلى مذهب منحرفٍ.

ويقول الكشي بعد نقله حديثاً للإمام الباقر عليه السلام في معرض تأييده لعبداللَّه بن ميمون: كان عبداللَّه بن ميمون يقول بالتزيّد (كذا) (1).

ولايعرف المقصود بكلمة «تزيّد» بوضوح، فربّما أراد معنى أنّه كان «يحبّ زيداً» في حين ذكر البعض احتمالات وتفسيرات غير منطقية لذلك ولا علاقة لها به (2). أضف إلى ما قيل أنّ كل كتب الشيعة في شرح الملل والنحل أمثال فرق الشيعة للنوبختي والمقالات والفرق للأشعري، وخلال وصفهم للفرق الإسلامية كالإسماعيلية والقرامطة، لم يذكروا شيئاً بصدد ابن ميمون أو حتّى ثابت بن سنان وهو أحد المعاصرين لحمدان قرمط، الذي ألّف كتاباًتحت عنوان «تأريخ أخبار القرامطة» فهو لم يذكر اسم عبداللَّه بن ميمون البتة.

وعلى أي حال وطبقاً للمصادر الشيعية فليست هناك أدنى علاقة بين عبداللَّه بن ميمون وبين القرامطة. فالشي ء المسلَّم به هو أنَّ مؤسّس فرقة القرامطة وهي فرقة متفرعة عن الإسماعيلية، هو رجل يسمّى حمدان بن الأشعث القرمطي الذي اعتزل جماعة محمّد بن إسماعيل بن جعفر بعد وفاة الأخير وأحدث فرقة متشعبة عن الإسماعيلية بعد أن أوجد آراء ومعتقدات خاصّة لهذه الفرقة. وطبقاً لما أورده ابن النديم فإن حمدان قرمط كان مشغولًا بالزراعة وتربية الحيوان في قرية تسمى «قس بهرام» وكان رجلًا ذكيّاً، ممّا حدا برجل عالم مثل «عبدان»، الذي صنّف كثيراً من الكتب باتّباعه وأرسل رسلًا ومبلّغين إلى سواد الكوفة لنشر معتقدهم هذا (3).

كلمة القرامطة


1- 9 اختيار معرفة الرجال، الكشّي، ج 5، ص 687.
2- 10 تنقيح المقال للمامقاني، ج 2، ص 220.
3- 11 الفهرست، ابن النديم، ص 279.

ص: 205

كلمة القرامطة

علمنا فيما سبق أنّ كلمة القرامطة مأخوذة من لقب مؤسّسها حمدان قرمط، ونريد الآن فهم معنى هذه الكلمة أكثر وما تعنيه من مضامين، والسبب الذي من أجله نُسبت هذه الكلمة إلى حمدان. لقد وردت احتمالات كثيرة بهذا الصدد، نذكر أهمّها فيما يلي:

- يقول ابن النديم أنّ السبب في إطلاق كلمة «قرمط» على حمدان هو أنّه كان قصير القامة (1).

- ويقول البغدادي: كان يقارب ما بين خطوه في السير أو أنّه كان يضع فواصل قليلة بين السطور في كتاباته (2).

- ويقول ابن منظور دونما اشارة إلى وجه تسمية القرامطة بهذا الاسم:

القرمطة هي المقاربة ما بين القدمين وكذلك بين السطور في الكتابة والدقّة في ذلك (3).

- ويقول الجرجاني: قرمط هي إحدى قرى واسط (4)، في حين يُسمّي ابن خلف الأشعري لقب حمدان ب «قرمطويه» (5).

- وينقل الدكتور مشكور عن الطبري وثابت بن سنان قوله أنّ هذه الكلمة أي قرمط، بمعنى كرميتي وتعني حُمرة العين، وينقل عن ابن الجوزي قوله أنَّ كرميتي تعني حدة البصر وقوته، ثمَّ يُضيف: ويظهر أن هذه الكلمة مأخوذة عن اللهجة الآرامية المحلية لمدينة واسط واستعيرت منها لهذا المعنى والتي لايزال معناها مُدَلِّس (من دالس مدالسة). يقول كارل نولدرس: لكلمة «قرمط» علاقة وثيقة بالأصل اليوناني «قرماطا» وتعني الحَرف. وكذا كلمة «قرمط» التي تُطلق على الخط الخاص بالنّسخ، وقد كُتبت بالألفباء السرّية القرمطية متون كثيرة ذكرت في اليمن (6).


1- 12 المصدر السابق.
2- 13 الفَرْق بين الفِرَق، البغدادي، ص 282.
3- 14 لسان العرب، ج 7، ص 377. وانشد الخيام النيشابوري: انا لااعرف أسرار العوالِم وكذا انت إنني أجهل خط القرمطيّ وكذا أنت
4- 15 شرح المواقف للجرجاني، ج 8، ص 388.
5- 16 المقالات والفرق، ص 83.
6- 17 أدب الفرق الإسلامية، الدكتور محمد جواد مشكور، ص 359.

ص: 206

- وينقل لويس ماسينيون الذي كتب عدّة تحقيقات بخصوص القرامطة، ينقل عن «ولرز» انّه يسوّي بين كلمة القرامطة وكلمة يونانيّة مشابهة لها تماماً، إلّا أنّه يُحتمل أن تكون هذه الكلمة مشتقة عن اللغة المحليّة الآرامية لمدينة واسط، أي بمعنى «مُدَلِّس». ويُطلق المصطلح «قرمط» في علم الخطوط على الخط الكتابي الذي كان يدعى بالنّسخ. وقد عثر گريفين أخيراً على خطوط قرمطية في متون وجدها بالخطّ السرّي في اليمن (1).

- ينقل بطروشفسكي بعد إيراده لأقوال ماسينيون، في حاشية لكتابه عن لسان «ايفانوف» قائلًا: إنَّ كلمة «قرمط» مأخوذة عن كلمة «قرميثة» وتعني الفلاح أو الريفيّ في اللهجة السريانية في المناطق السفلى لما بين النهرين، أي اللغة الآرامية نفسها (2).

فلو تصوّرنا أن لقب «قرمط» قد أطلق على مؤسّس فرقة القرامطة من قبل مخالفيهم ومناوئيهم، فإن أنسب معنى لذلك هو التدليس والمدلِّس بعد عِلمنا بأنّ أولئك المخالفين قد اطلقوا على عبداللَّه بن ميمون- بغضّ النظر عن صدق انتسابه إلى القرامطة- لقب المشعبذ والحيّال. وأمّا في حال تصوّرنا أن هذا اللقب إنّما أُطلق على حمدان قرمط من قبل مريديه ومناصريه فالمعنى الأصح لهذه الكلمة هو «الفلاح»، ذلك أن ابن النديم وكما أوضحنا سابقاً قد ذكر أن حمدان كان يشتغل بالزراعة وتربية الحيوان، مع بقاء الاحتمالات الأخرى لمعنى هذه الكلمة من أنّه كان أحمر العينين أو أنّه كان قريب الخطو في مشيه أو أنّه كان يكتب بخطّ ناعم، علماً بأنَّ هذه الأمور ثانوية وليست ذات أهميّة يُعوَّل عليها.

معتقدات القرامطة

معتقدات القرامطة:

تُعدُّ الأصول والمعتقدات الأولية للقرامطة نفسها التي تعتقد بها


1- 18 الاسماعيليون في التأريخ، ص 134.
2- 19 الاسلام في ايران، ص 298.

ص: 207

الإسماعيلية، إلّاأنَّ هذه الفرقة المتشعّبة عن الإسماعيلية تملك بعض العقائد الخاصّة بها، التي تميّزها عن باقي الفرق والجماعات المنتمية بدورها إلى الإسماعيلية؛ ولأنَّ تلك العقائد هي كلّ ما ذكرته كتب المناوئين لهذه الفرقة فلايمكن إزاء ذلك الاعتماد على صحّتها ودِقّة انتسابها إلى القرامطة.

وطبقاً لمؤلّفات النوبختي وأبي خلف الأشعري، فإنّ القرامطة يقولون بإمامة محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصادق عليه السلام ويُعرّفونه على أنّه الإمام القائم المهدي المذكور، بل انّهم يقولون بنبوّته ونبوّة سائر الأئمة كذلك، ويقولون: إنّ رسالة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد انقطعت عنه يوم الغدير وانتقلت إلى أميرالمؤمنين عليه السلام ثمّ انتقلت منه إلى باقي الأئمّة، وإنَّ الأئمة مع كونهم يحتفظون بمقام الإمامة فهم يمتلكون مقام الرسالة كذلك. ويُضيف هؤلاء قائلين: إنَّ محمّد بن إسماعيل حيٌّ لم يَمت وهو غائب في بلاد الروم (1).

ويقول أبوالحسن الأشعري: يعتقد القرامطة أنَّ «محمّد بن إسماعيل» حيٌّ وهو نفسه المهدي الذي أُخبر عن ظهوره (2).

وأمّا الشهرستاني فيقول: لقد مزجَ أولئك (الذين يُعرفون في العراق بالباطنية والقرامطة والمزدكية والمعروفون في خراسان بالتعليمية والملحدة) كلامهم بكلام بعض الفلاسفة، ولهم في ذلك المؤلّفات. ويقول هؤلاء: إنّ اللَّه تعالى ليس موجوداً وليس غير موجود، وكذا فإنّه ليس عالماً وليس جاهلًا وليس قادراً ولا عاجزاً. وقس على ذلك سائر صفاته تعالى! ذلك أنّ الإثبات الحقيقي يقتضي أن يكون من جهة إطلاقنا عليه شريكاً مع سائر الموجودات وهو مايُعرف بالتشبيه (3). ويقولون كذلك: وكما أنَّ الأفلاك والطبائع هما في حركة دائمة بواسطة تحريك النّفس والعقل، فإنَّ المجتمع البشري أيضاً في حركة مع الشرائع بتحريك النبيّ والوصيّ وهذا حاصلٌ وواقعٌ في كلّ زمان وعلى شكل


1- 20 المقالات والفرق، ص 83، وفرق الشيعة ص 104.
2- 21 مقالات الاسلاميين للاشعري، ج 1، ص 98.
3- 22 المِلَلْ والنِحَل للشهرستاني، ج 1، ص 194.

ص: 208

سبعة فسبعة حتّى ينتهي ويصل إلى دورته الأخيرة ويحين وقت يوم القيامة وتُرفع التكاليف عن البشر (1).

ويُضيف أبوالحسن الملطي، بعد أن ينسب إليهم عدداً من العقائد العجيبة كقولهم بعدم وجوب الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ، يُضيف قائلًا:

وهم يُكفّرون من يخالفهم وينسبونه إلى الشرك ويحلّلون ماله ودمه، ويمكنهم أخذه أسيراً لديهم (2).

والحقّ أن ما ينسب إلى القرامطة من العقائد والآراء أكثر ممّا قلناه بكثير، وإنّما أردنا ذكر بعض تلك العقائد حتّى تكون أرضية مناسبة لبحوثنا فيما بعد.

قيام دولة القرامطة في الإحساء والبحرين

قيام دولة القرامطة في الإحساء والبحرين:

يذكر المؤرخون أن القرامطة تمكّنوا من تشكيل دولة قويّة نسبياً وذلك سنة (286) في المناطق الجنوبية من الخليج الفارسي في البحرين والقطيف والإحساء، وكان يرأسهم شخص يُدعى «أبوسعيد الجنابي» آنذاك. وقد وردت أخبار مختلفة عن هذه الشخصية وهو ما كتبه المؤرّخون هنا وهناك. وأفضل ما لدينا من الأخبار هو ما رواه ابن حوقل عن سوابق ابو سعيد هذا، وكيفيّة تعرّفه على فرقة القرامطة، وتشكيل حكومة لهم في البحرين وأماكن أخرى، ونورد أدناه نصَّ العبارات التي ذكرها ابن حوقل:

«كان أبوسعيد بهرام الجنابي من «جنابة» وبائعاً للطحين. اعتنق معتقدات القرامطة وآمن بها وانضمَّ إلى «عبدان كاتب» زوج أُخت حمدان قرمط، ثمّ بدأ بنشر هذه الدعوة في نواحي ومناطق مدينة جنابة أو «گنابة» ومناطق أخرى مثل فارس، فاستطاع الحصول على أموال كثيرة من النّاس. فكتب حمدان قرمط إلى أبوسعيد كتاباً من «كلواذا» يدعوه للمجي ء والمثول لديه. ثمّ أرسله هو


1- 23 المصدر اعلاه.
2- 24 التنبيه والرّدّ للملطي، ص 20- 21.

ص: 209

وعبدان كاتب إلى البحرين وأمره بدعوة النّاس هناك إلى مذهبه، مُعزّزاً بعثته بالأموال والرسائل والتوصيات الخاصّة بذلك.

ولما وصل أبوسعيد إلى البحرين تزوّج هناك امرأة من بني سنبر وبدأ بنشر دعوته بين عرب تلك المنطقة فالتفَّ حوله كثيرون، واستطاع بمساعدتهم فتح مدن كثيرة في تلك الأنحاء فانضمَّ إليه عدد كبير من العشائر والقبائل إمّا من خوف ورهبة أو مودّة ورغبة (1).

ويذكر الطبري في تقرير موجز عن ذلك قائلًا:

في هذه السنة (286) خرج رجلٌ من القرامطة يُدعى أبوسعيد الجنابي في البحرين فاجتمع حوله جماعة من الأعراب والقرامطة ... فاشتدت شوكته وقويت دعوته. فقتل كثيراً من الحضر ثمّ رحل إلى موضع يسمّى القطيف، التي تبعد عدّة منازل عن البصرة وقثل جمعاً كثيراً منهم كذلك. وقيل إنّه كان يرغب في فتح البصرة، فلمّا علم والي البصرة بنيّة القرامطة كتب إلى السلطان يخبره بذلك، فأمره السلطان بجمع الخراج والصدقات ويبني بتلك الأموال سوراً حول البصرة. فكانت مخارج هذا العمل قد وصلت إلى أربعة عشر ألف دينار. وبالفعل فقد استطاع البصريون من بناء سورٍ حول المدينة لحمايتهم من أيّ اعتداء (2).

ويورد ابن عماد الحنبلي تفاصيل أكثر حول هذه الحادثة حيث يقول: لقد بني السور المحيط بالبصرة بأمر من المعتضد العبّاسي في حين كان ابوسعيد يشتغل بالكيالة، ويقول عن لقبه: إنّه كان من «جنابة» وهي إحدى قُرى الأهواز. ثمّ ينقل عن الصولي قوله: أنَّ أبوسعيد كان معوزاً فقيراً يبيع الطحين. فجاء إلى البحرين وهناك بدأ ينشر دعوته فانضمَّ إليه جمعٌ ممّن بقي من الزنج واللّصوص، فاشتدت شوكته وتمكّن من دحر جيوش الخليفة مرّات عدّة آنذاك.

وطبقاً لما رواه ثابت بن سنان: فإن قرامطة البحرين شنّوا هجوماً على


1- 25 صورة الارض، ابن حوقل، ص 62.
2- 26 تأريخ الطبري، ج 5، ص 286.

ص: 210

مدينة دمشق سنة (306) فقتلوا الكثير من أهالي دمشق، بل إنّهم زادوا على ذلك بحملتهم على مصر فاصطدموا مع جيش جوهر الصقلي قائد قوات المعزّلدين اللَّه الفاطمي، في منطقة تدعى ب «عين الشمس» فهزموا جيش الصقلي، إلّاأنّ جيوش الفاطميين تمكّنت بعد هذه الحملة من دحر قرامطة البحرين وطردهم من مصر. وفي ذلك ينشد حسين بن بهرام قائلًا:

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم يروي ثراك فلاسقاني النيل (1) وقد وردت الكثير من الروايات المشابهة في عدد من كتب التأريخ ولكن لامجال هنا لذكرها جميعاً، ونكتفي بذكر موجز لما أورده ابن الأثير، من أنَّ أبوسعيد الجنابي الذي كان رأس القرامطة في البحرين، لما قُتل كان يحكم الاحساء (2) والقطيف والهجر والطائف وسائر بلاد البحرين، حيث قتله غلام له (3).

وبعد مقتل ابوسعيد، تولّى رئاسة القرامطة من بعده ابنه ابوطاهر سليمان الجنابي أحد أكثر الحكام القرامطة شغباً وصخباً، فسار الابن على ما وجد عليه أباه من السلوك والمغالاة. فامتدّت قدرته إلى معظم المناطق، وهو الذي كان يهاجم قوافل الحجّاج مراراً فيقتلهم ويسلب أموالهم، حتّى انتهى به الأمر إلى هجومه على الكعبة المقدسة واحدث فيها مقتلة مريعة، فسرق الحجر الأسود منها كما سنورد ذلك مفصّلًا فيما بعد.

كان أبوطاهر هذا قاسي القلب ومتهوراً. شنَّ بعد اكتمال السور حول البصرة حملة عليها فاستطاع الدخول إلى المدينة بمساعدة قواته، والسلالم التي استخدمها للعبور من على السور المحيط بالمدينة.

وطبقاً لما ذكر ابن كثير: فقد كان تحت امرته (1700) فارس، ولمّا تسنّى لهم


1- 27 شذرات الذهب، ابن عماد الحنبلي، ج 2، ص 192.
2- 28 تأريخ أخبار القرامطة، ثابت بن سنان، ص 58- 59.
3- 29 ورد في بعض كتب المؤرخين الغربيين المترجمة الى الفارسية اسم هذه المنطقة ب «لحساء» وهو خطأ والصحيح هو اسمها المعروف ب «أحساء» وقد وصل هذا الخطأ عبر التراجم المعورفة للمؤرخين الإيرانيين أمثال السيد انصاف پور في كتاب روند نهضتها.

ص: 211

الدخول إلى المدينة قاموا بمجزرة حقيقية حيث اوقعوا السيف في رقاب النّاس مدّة سبعة عشر يوماً ... (1).

واتّخذ ابوطاهر من «الهجر» مقراً وعاصمة لمُلكه، والتي كانت على مايذكره ياقوت مركز البحرين، وتُطلق هذه التسمية احياناً على مجموع البحرين (2).

وكان أبوطاهر يمتلك فدائيين ورجالًا انتحاريين كُثراً مما ساعده على إحراز النصر في كلّ غزوة كان يقوم بها. ويُقال إنَّ «ابن أبي الساج» لما أراد المسير بجيشه المؤلّف من ثلاثين ألفاً من الجنود نحو القرامطة لمحاربتهم، وإتماماً للحجّة، أرسل إلى أبوطاهر الجنابي رسولًا. فلمّا وصل الرّسول إلى أبوطاهر سأله قائلًا:

كم عدد جنود «ابن أبي الساج»؟ فأجابه الرسول: ثلاثون ألف فارس. فسخر منه أبوطاهر قائلًا: الحقّ أنّه لا يملك حتّى ثلاثة فرسان. ثمّ التفتَ إلى أحد فرسانه وأمره بقتل نفسه، فاستلَّ هذا خنجراً وشقَّ بطنه في الحال. فقال أبوطاهر للرسول: ما الذي يستطيع «ابن أبي الساج» عمله مع جنود فدائيين كهؤلاء (3)؟

مهما يكن من أمر فقد كان أبوطاهر مخلوقاً عجيباً، فقد أغار على المدن والمناطق المجاورة وقتل الكثير من سكّانها، ومن هذه المناطق الكوفة والبصرة والرقة والقادسية ورأس العين ونصيبين وكفر توثا والموصل وغيرها من المناطق. بل حتّى وصل به الأمر إلى شنّ حملات ضدّ دمشق وفلسطين إلّاأنّه لم يوفَّق في ذلك، ووصل إلى حدود بغداد لكنّه طفق راجعاً (4).

وإضافة إلى ما قيل فأبوطاهر كان شاعراً مُجيداً كذلك، ويُلاحظ ممّا نُسِبَ إليه من الشعر كيف يصف طموحاته وأنّه الداعي إلى المهدي بعينه، بكل وضوح.

ويقصد بالمهدي هنا بطبيعة الحال، المهدي الفاطمي الذي خرج في أفريقيا. ومن أشعاره مما يلي:

أغرّكم منى رجوعي إلى هجر فعمّا قليل سوف يأتيكم الخبر


1- 30 الكامل لابن الأثير 6: 187.
2- 31 البداية والنهاية لابن كثير 11: 158.
3- 32 معجم البلدان لياقوت الحموي 5: 393.
4- 33 روند نهضتها، انصاف پور، ص 470، نقلًا عن حبيب السّير.

ص: 212

إذا طلع المرّيخ من أرض بابل وقارنه كيوان فالحذر الحذر

فيا ويلهم من وقعة بعد وقعة يساقون سوق الشاة للذبح والبقر

سأصرف خيلي نحو مصر وبرقة إلى قيروان الترك والروم والخزر إلى أن يقول:

أنا الداع للمهدي لا شكّ غيره أنا الصارم الضرغام والفارس الذكر

أعمّر حتّى يأتي عيسى بن مريم فيحمد آثاري وأرضى بما أمر (1) على كلّ فلسنا هنا بصدد ذكر جميع تفاصيل حياة أبوطاهر، ويُعلَم ممّا أوجزناه أنّ أبوطاهر كان قد شكَّل دولة قويّة في البحرين وجنوب خليج فارس وكان من الصعب مواجهته، ممّا يوضّح لنا السبب في عدم توجيه اللّوم إلى المسلمين حتّى بعد سلب وسرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة، كما سنذكر ذلك فيما بعد.

هذا وقد تناوب على سدة الحكم في البحرين بعد موت أبوطاهر سنة (332) سلسلة الجنابيين القرامطة، إلّاأنّهم لم يملكوا نفس القدرة والسلطان السابقين.

هجوم القرامطة على مكّة وقصة الحجر الأسود

هجوم القرامطة على مكّة وقصة الحجر الأسود:

لقد أدخلت الحملات الوحشية التي كان يقوم بها القرامطة على المدن القريبة والبعيدة الرّعب والهلع في نفوس المسلمين، وخصوصاً عمليات الإبادة والقتل الجماعي التي كان القرامطة يمارسونها، وبالأخصّ على قوافل الحجّ التي كانت تتعرّض دوماً لغارات وحملات من هذا النوع. فقد كان الحجّاج الذين


1- 34 الكامل لابن الأثير، ج 5، ص 187، وراجع كذلك: الخطط للمقريزي، ج 1، ص 250 فما بعد.

ص: 213

يمرّون بمناطق يُسيطر عليها القرامطة وخصوصاً القادمين من العراق، يتعرّضون لحملاتهم الوحشية، حتّى وصل الأمر إلى أنّه في سنة 263 و 316 لم يتمكن أي من الحجّاج القادمين من العراق من أداء مراسم الحجّ في هاتين السنتين (1).

وفي سنة 317 وصل الأمر إلى ذورة الخشونة والوحشية فنتجت عنه فاجعة كبرى، فقد امتنع القرامطة على غير عادتهم من مهاجمة قوافل الحجّاج القادمين من العراق باتّجاه الديار المقدّسة، فوصلت القوافل ومنها قافلة العراق بقيادة منصور الديلمي سالمة إلى مكّة دون مضايقة تذكر (2). إلّاأنَّ القرامطة بقيادة أبوطاهر الجنابي هاجموا الحجّاج يوم التروية في مكّة على حين غرة فقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وليس ذلك وحسب بل هجموا على أهل مكّة وعملوا منهم مذبحة مريعة وانتهكوا حرمة وقدسية المسجد الحرام.

ويذكر أنّ أبوطاهر هاجم الحجّاج وأهل مكّة على رأس (900) فارس بينما كان هو ثملًا ممتشقاً حسامه على ظهر حصانه الذي تبوّل قريباً من بيت اللَّه الحرام (3).

وينقل المؤرّخون أنَّ القرامطة قتلوا ما استطاعوا من الحجّاج وأهل مكّة، وهتكوا الحرمات ودنّسوا المقدّسات. فقتلوا ما يقارب (1700) نفس كان معظمهم متمسّكاً بأستار الكعبة (4). وكانت سيوف القرامطة تحصد رؤوس النّاس من الطائفين والمصلّين وحتّى الذين هربوا من بطشهم إلى الوديان والجبال، فكان النّاس يصيحون عليهم: أوَ تقتلون ضيوف اللَّه؟ فكان القرامطة يجيبونهم: إنَّ من يخالف أوامر اللَّه ليس بضيف له. وقد وصل عدد الذين قُتلوا في هذه الحملة الوحشية قرابة (5) ألف انسان، ورمى القرامطة بجثث أكثر هؤلاء في بطن بئر زمزم ودُفن الكثير كذلك منهم دون أن يُغسلوا أو يكفّنوا (6).

وفي تلك الحالة التي كان القرامطة يُذبّحون فيها المسلمين ويعملون من


1- 35 النجوم الزاهرة، ابن تغري، ج 3، ص 226.
2- 36 البداية والنهاية، ابن كثير، ج 11، ص 163- 165.
3- 37 المصدر السابق، ص 171، وانظر كذلك تقي الدين الفارسي في شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام ج 2، ص 218.
4- 38 اتحاف الورى بأخبار أمّ القرى، نجم عمر بن فهد، ص 374، وقد ذكر في شفاء الغرام أنّ عدد الفرسان القرامطة الذين هاجموا مكّة كان 700 فارس.
5- 30 الكامل لابن الأثير 6: 187.
6- 39 شفاء الغرام، ج 2، ص 218.

ص: 214

جثثهم كومات متراكمة بعضها فوق بعض، كان أبوطاهر ينشد البيت التالي وهو يقف بقرب الكعبة:

أنا باللَّه وباللَّه أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا (1) هذا وإضافةً إلى المقتلة العظيمة التي أحدثها القرامطة، والوحشية التي اتّبعوها مع الحجّاج، واستيلائهم على أموالهم وأموال أهل مكّة، فقد قاموا بسرقة معظم الحلي والنفائس الموجودة في الكعبة ومن جملة ما سرقوا ستار الكعبة المشرّفة، وقلعوا بابها ثمّ عمدوا إلى ميزابها لقلعه وأرسلوا واحداً منهم إلى سطح الكعبة لأجل ذلك إلّاأنَّ المرسل لفعل ذلك سقط من على السطح وخرَّ ميّتاً في الحال. وأهم ممّا قيل فقد سرق القرامطة الحجر الأسود بعد أن قلعوه بواسطة مقلاع أو فأس وحملوه معهم إلى البحرين. وقد ورد موضوع سرقة الحجر الأسود من قبل القرامطة في كتب التأريخ جميعاً، وقد اضافت مصادر تأريخية أخرى قائلة إنَّ أبوطاهر ضَرَبَ الحجر الأسود بفأس كانت بيده وذلك في محاولة لقلعه، فانكسر الحجر ثمّ التفت إلى الجموع هناك قائلًا لهم: أيّها الجهلة! أنتم تقولون: إنَّ كلّ من يرد البيت فهو آمن وقد رأيتم ما فعلتُ أنا إلى الآن. فتقدم إليه رجل من الحاضرين ممّن كان قد هيأ نفسه للموت فأمسك بلجام حصان أبوطاهر وأجابه قائلًا: إنَّ معنى ذلك ليس كما قلت بل انَّ المعنى هو أن من يدخل هذا البيت فعليكم منحه الأمان على نفسه وماله وعرضه حتّى يخرج منه. فامتعظ القرمطي وتحرك بحصانه دون أن ينبسّ ببنت شفة (2).

وذكر ابن كثير أنَّ أبوطاهر هدَّم القبّة التي كانت موضوعة على رأس بئر زمزم، وهو الذي أمر رجاله بقلع باب الكعبة ونزع ستارها الذي قطعه إرباً إرباً ووزّعه على أصحابه، ثمّ أمر أحد رجاله بالصعود إلى سطح الكعبة لقلع ميزابها فلمّا سقط الرجل من أعلى السطح ومات انصرف أبوطاهر عن قلع الميزاب،


1- 40 تأريخ مكّة، أحمد السّباعي، ج 1، ص 171.
2- 41 تاريخ أخبار القرامطة، ص 54. وقد نُقل هذا الشعر بصيغ مختلفة وقد ذكر ما أوردناه آنفاً في كتب أخرى بالإضافة إلى ما ضمّته من أخبار القرامطة، مثل النجوم الزاهرة ج 3، ص 224، شذرات الذهب ج 2، ص 274. اتحاف الورى ج 2، ص 375، تاريخ مكّة، ج 1، ص 171، وكتب أخرى كذلك. في حين ورد نصّ عجز البيت بصورة مختلفة في كتب غير التي ذكرناها: الخلقُ وأُفنيهم أنا. البداية والنهاية ج 11، ص 171، وهو يشبه إلى حدّ بعيد الادعاء بالأُلوهيّة وهو ما يُستبعَد.

ص: 215

وتوجّه إلى الحجر الأسود وأصدر أوامره إلى رجاله بإخراج الحجر، فعمد أحدهم إلى فأس وبدأ يضرب الحجر به وهو يقول: «أين الطيور الأبابيل، أين الحجارة من سجّيل؟» ولمّا قلعوا الحجر أخذوه ورحلوا إلى بلادهم (1).

وقد جاء في التكملة لتأريخ الطبري أنّ القرامطة سرقوا الحلي التي كان الخلفاء قد زيّنوا بها الكعبة وأخذوها معهم، ومن تلك الحلي «درّة اليتيم» التي كان وزنها أربعة عشر مثقالًا من الذهب، وأفراط مارية وقرون كبش إبراهيم عليه السلام وعصا موسى والموزونة ذهباً، وطبق ووشيعة من الذهب وسبعة عشر قنديلًا من الفضّة وثلاثة محاريب فضيّة أقصر من الإنسان بقليل كانت موضوعة في صدر البيت (2).

وقد قيل: إن كثيراً من العلماء المحدثين قتلوا أثناء الهجوم الذي قام به القرامطة على الحجّاج أثناء طوافهم، من جملتهم: الحافظ أبوالفضل بن حسين الجارودي وشيخ الحنفية في بغداد أبوسعيد أحمد بن حسين البردعي وأبوبكر بن عبداللَّه الرهاوي وعلي بن بابويه الصوفي وأبوجعفر محمّد بن خالد البردعي (والذي كان يسكن في مكّة) (3).

وذُكرَ أنّ أحد المحدّثين في ذلك الوقت أنشد بيتاً من الشعر بينما أحاطت به سيوف القرامطة:

ترى المحبّين صرعى في ديارهم كفتية أهل الكهف لايدرون كم لبثوا (4) وقد ظلَّ القرامطة يرزحون في مكّة مدّة أحد عشر يوماً وقيل ستّة أيام وبرواية أخرى سبعة أيّام، ورجعوا بعدها إلى هجر مصطحبين معهم الحجر الأسود. ويقال: إن أربعين بعيراً هلكوا حينما أرادوا حمل الحجر الأسود، وبقي مكانه في الكعبة خالياً فكان النّاس يمسحون أيديهم بمكانه ويتبركون به (5).


1- 42 المنتظم لابن الجوزي، ج 6، ص 223.
2- 43 البداية والنهاية، ج 11، ص 172.
3- 44 صلة تأريخ الطبري، عريب القرطبي، ص 134 ذيل حوادث سنة 1316 وجدير بالذكر أنَّ تأريخ الطبري ينتهي في سنة 302. وممّا تجدر إليه الإشارة كذلك أنّ فتنة القرامطة في مكّة حدثت سنة 317 بينما أوردها القرطبي في ذيل الحوادث 316 وهو اشتباه واضح.
4- 45 اتحاف الورى، ج 2، ص 376.
5- 46 البداية والنهاية، ج 11، ص 172.

ص: 216

وقد حمل القرامطة الحجر الأسود إلى الإحساء، ويدلّ ذلك على أن ما ذكرته المصادر التأريخيّة من أنَّ القرامطة حملوا الحجر الأسود إلى البحرين أو هجر هو صحيح إذ إنَّ منطقة واسعة من شمال الجزيرة العربية اليوم كانت تدعى بالبحرين أو الهجر حيث تقع الإحساء في داخل هذه المنطقة كذلك.

هذا، ولما خرج القرامطة من مكّة حاملين معهم الحجر الأسود والأموال التي غنموها من النّاس متوجّهين إلى هجر، تعقَّب «ابن محلب» أمير مكّة من قبل العبّاسيين القرامطة مع جمع من رجاله وطلب منهم ردّ الحجر الأسود إلى مكانه على أن يملّكهم جميع أموال رجاله. إلّاأنَّ القرامطة رفضوا طلبه مما اضطرّه إلى محاربتهم حتّى قتل على أيديهم (1).

وكما قلنا سابقاً فالقرامطة يعتبرون أنفسهم جزءاً من الإسماعيلية، ولذا فقد خطب القرامطة في مكّة باسم عبيداللَّه المهدي وهو نفسه أبوعبيد اللَّه المهدي الفاطمي العلوي الذي خرج في أفريقيا، ثم كتبوا إليه كلّ ما حدث في مكّة. فكتب عبيداللَّه المهدي جواباً شديداللهجة إلى أبوطاهر القرمطي يقول فيه: لقد اعترتني الدهشة والعجب من رسالتك التي بعثت بها إليَّ إذ تمنُّ فيها عليَّ بأنّك ارتكبت جرائم وحشية باسمنا في حرم اللَّه وأهله، وفي مكان لم ترق فيه قطرة دم واحدة منذ الجاهلية، ولم يُهن أهله أو تُنتهك حرمهم فيه. بل وتجاوزت حدّك بأخذك الحجر الأسود الذي هو يداللَّه اليمنى في الأرض فاقتلعته وحملته إلى بلدك. فهل كنت تنتظر منّا الشكر والتقدير على عملك هذا؟ لعنة اللَّه عليك (2).

وقد أورد ثابت بن سنان نصّ ومضمون الرسالة بشكل آخر، إذ أرسل عبيداللَّه المهدي كتاباً إلى أبوطاهر القرمطي بعد أن اطّلع على الأحداث المذكورة يقبّح فيه عمله هذا ويلعنه على فعلته، فمن جملة ما كتب: «لقد لطّخت صفحتنا في التأريخ بنقطة سوداء لايمحوها مرور الزمن ولايزيلها غبار المحن ... لقد وصمت


1- 47 اتحاف الورى، ج 2، ص 178.
2- 48 الكامل لابن الأثير، ج 6، ص 204، البداية والنهاية، ج 11، ص 172. ولم يذكر ابن كثير اسم أمير مكّة، في حين أورده ابن الأثير وقال اسمه «ابن محلب» وذكر بعض من المؤرخين ومنهم الذهبي اسم أمير مكّة بأنّه «ابن محارب». العبر في خبر من غبر، ج 2، ص 167، وهو كذلك في النجوم الزاهرة، ج 2، 324.

ص: 217

بعملك هذا دولتنا وشيعتنا والدّعاة لنا بالكفر والزندقة ...» واستطرد عبيداللَّه المهدي في رسالته إلى أبوطاهر القرمطي يحذره من أنّه إن لم يَرُد أموال أهل مكّة التي سرقها وإرجاع الحجر الأسود إلى مكانه ووضع ستار الكعبة عليها مجدّداً فإنّه سيأتيه بجيش لاقِبَلَ له بهم. ثمّ ذكر أخيراً بأنّه بري ءٌ منه ومن أعماله كما يبرأ من الشيطان الرجيم (1).

هذا وقد ظلّ الحجر الأسود بحوزة القرامطة مدّة (22) سنة في البحرين، ولم تجد كل المحاولات والمساعي التي بذلها قطبا السياسة الإسلامية (أي القطب العبّاسي في بغداد والفاطمي في أفريقيا) من أجل الضغط على القرامطة وإجبارهم على إعادة الحجر الأسود، وقد عرض الخلفاء على القرامطة مبلغاً قدره (2) ألف دينار مقابل إرجاعهم للحجر الأسود، لكنّ القرامطة ظلّوا يخوضون في عنادهم (50). ويقول ابن سنان الذي كان معاصراً لتلك الأحداث:

لقد عُرِضَت الكثير من الأموال على القرامطة كثمنٍ لردّهم الحجر الأسود لكنّهم رفضوا كلّ تلك العروض، وكان السبب الحقيقي وراء امتثال القرامطة للأمر هو التهديد الذي وجّههُ المهدي العلوي الفاطمي إليهم ممّا أجبرهم على ردّ الحجر الأسود إلى مكّة ثانية (3).

وعلى أي حال فقد أرجع الحجر الأسود إلى مكّة سنة (339) وقد حمله رجل من القرامطة يُدعى سنبر (والذي يحتمل أن يكون حمو أبوسعيد القرمطي) ويُقال إن الحجر الأسود حمل قبل إرجاعه إلى مكّة إلى الكوفة ونصب في العمود السابع لمسجد الكوفة حتّى يتسنّى للنّاس رؤيته، وقد كتب شقيق أبوطاهر رسالة جاء فيها (4): أخذناه بقدرة اللَّه ورددناهُ بمشيئة اللَّه (5).

ولمّا رُدَّ الحجر الأسود إلى مكّة كان أمير مكّة حاضراً مع حشد من أهلها.

وأرجع سنبر الحجر بيديه إلى مكانه، وقيل إن رجلًا يُدعى حسن بن مزوّق


1- 49 اتحاف الورى، ج 2، ص 378.
2- 50 تأريخ أخبار القرامطة، ص 54.
3- 51 البداية والنهاية، ج 11، ص 237.
4- 52 تأريخ أخبار القرامطة، ص 57.
5- 53 البداية والنهاية، ج 11، ص 237، تأريخ أخبار القرامطة ص 57، الكامل لابن الأثير، ج 6، ص 335.

ص: 218

البناء قام بنصب الحجر عند جدار الكعبة وأحكم مكانه بالجصّ (1)، هذا وقد ورد ذكر أسماء آخرين ممّن ساهموا في ذلك.

وفيما يخصّ الشخص الذي قام بوضع الحجر الأسود في مكانه، فقد نُقِلَ عن أحد علمائنا الكبار خبراً يتضمّن حادثة موجزة ننقلها إلى القارئ الكريم باختصار:

نُقلَ عن الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولويه أحد أبرز العلماء المحدّثين المشهورين لدى الشيعة واستاذ الشيخ المفيد، أنَّ في نفس السنة التي تمَّ إرجاع الحجر الأسود إلى مكّة من قبل القرامطة، قرَّر الشيخ السّفر إلى هذه المدينة المقدّسة. ولما كان عُلماء الشيعة يعتقدون بوجوب حضور المعصوم أو ولي اللَّه؛ ليقوم بوضع الحجر بنفسه في مكانه، وأنه لايمكن ولايجوز لأي شخص غير المعصوم من وضع الحجر في مكانه، فقد عزم بن قولويه على السفر إلى مكة وأعدّ عدّته ليشهد حضور إمام العصر عليه السلام. لكنّه وللأسف الشديد ساءت حالته الصحيّة أثناء الطريق ممّا اضطرته إلى التخلّي عن السفر والبقاء في بغداد. إلّاأنّه بعث أحد أصدقائه المعتمدين لديه ويُدعى (ابن هشام) وأرسله نائباً عنه إلى مكّة وسلّمه رسالة وأوصاه بتسليمها إلى الشخص الذي يراه وهو يضع الحجر الأسود وينصبه عند جدار الكعبة. فوصل ابن هشام إلى مكّة ولحسن الحظ كان حاضراً لمراسم وضع الحجر الأسود. يقول ابن هشام: لقد رأيت أنَّ كلّ من حاول أن يضع الحجر الأسود في مكانه أن الحجر يسقط من بين يديه، حتّى ظهر شابٌ حسن الصورة آدم الوجه فاستلم الحجر من الواقفين ووضعه في محلّه فاستقرَّ الحجر في مكانه وفرح الحاضرون بذلك. ثمّ خرج ذلك الشاب من المسجد الحرام وذهبت أنا وراءه حتّى تسنّى لي تسليم رسالة ابن قولويه إليه فنظر إليّ دون أن يفتح الكتاب أو يقرأه وقال: قل له لابأس عليك فستعمّر


1- 54 النجوم الزاهرة، ج 3، ص 302.

ص: 219

ثلاثين سنة أُخرى. ثمّ التفت فلم أجده معي ودهشت من ذلك (1).

على أي حال فقد رجع الحجر الأسود إلى مكانه ثانية بعد غيابٍ استغرق (2) سنة وانتهت بذلك محنة المسلمين في الأرجاء كافة، وبقيت وصمة العار هذه مطبوعة على جبين القرامطة إلى انقضاء الدهر.

ولا يسعنا إلّاأن نتصوّر زعماء القرامطة كأفراد وضعوا معتقدات النّاس فيما يخص المهدي وظهوره تحت تصرّفهم وسخّروها لأغراضهم الدنيئة، وكان همهم الوحيد هو الوصول إلى سُدّة الحكم والرئاسة والجاه والمنزلة، وكان السخط الشديد الذي عمّ المسلمين والنّاس عموماً ضد بطش وإرهاب العبّاسيين أرضية مناسبة للقرامطة لتنفيذ أغراضهم، والدعوة الكاذبة في كونهم دعاة المهدي الموعود ممّا حدا بالكثيرين ممَّن عانوا الظلم والقهر إلى الالتفاف حولهم. واجتمع هؤلاء المخدوعون وكان اغلبهم من الفقراء ومتوسطي الحال حول القرامطة الذين ادّعوا زوراً أنّهم رجال المهدي والدعاة إليه، تجرّهم أوهامٌ وأمانيّ في أنَّ القرامطة هم المخلصون لهم من أيدي الظلم العبّاسي، حتّى إذا ما استوى القرامطة على كرسي الزعامة وتسلطوا على رقاب النّاس خيّبوا آمال الكثيرين ممن آمن بهم وصدّق إدّعاءهم، وما كانوا إلّاشرذمة تركض وراء المال والجاه، واستخدموا أقسى الأساليب وأشدها وحشية في التأريخ.

ويلاحظ أن العلّة في ادّعاء القرامطة أنّهم ينتسبون إلى الفاطميين في المغرب، تكمن أولًا في أنّ هذه المسألة تتيح لهم سهولة نشر دعوتهم، خصوصاً فيما يتعلّق بكونهم يدعون زوراً إلى الحركة المهدية باسم داعية الفاطميين وهو أبوعبيداللَّه المهدي العلوي. وثانياً العداوة والخصومة التي كانت بين الفاطميين والعبّاسيين (3) ممّا هيأ لهم جوّاً مناسباً خصوصاً كونهم يعيشون في البلاد التي يسيطر عليها العبّاسيون مستفيدين من سخط النّاس على السلطة العبّاسية،


1- 55 اتحاف الورى، ج 2، ص 395.
2- 22 المِلَلْ والنِحَل للشهرستاني، ج 1، ص 194.
3- 56 القطب الراوندي، الخرائج الجرائح، ج 1، ص 476، كشف الغمّة ج 2، ص 502 وبحار الأنوار ج 52، ص 58.

ص: 220

فاستطاعوا تسخير هذا السخط لصالحهم، وقد يكون السبب في فتنة سنة 317 وهجوم القرامطة على مكّة في موسم الحجّ وقتلهم الأبرياء وسلبهم الحجر الأسود، هو تهيئة الأجواء لتسلط الفاطميين على مكّة والسيطرة عليها. نظراً لما كان يُشاع في تلك الفترة من أنّ «أميرالمؤمنين» الحقيقي هو من يستطيع الاستيلاء على الحرمين الشريفين وتعيين أمير الحاج كذلك. لكنّنا لاحظنا كيف أن الخليفة الفاطمي وبّخ القرامطة على تلك الأعمال، وقبّح مسلكهم في الرسالة شديدة اللهجة التي بعثها المهدي العلوي، والتي أوردنا هنا قسماً منها، وكيف أنّه تبرأ منهم ومن أعمالهم واعتبرها وصمة عار لا يمحو آثارها مرُّ السنين.

وكما أشرنا آنفاً، ... كرس القرامطة موضوع المهدية لخدمة أغراضهم الدنيئة. فقد اندحر جيش القرامطة مرّة أمام الجيش العبّاسي سنة 316 وذلك قرب مدينة الكوفة، وسقطت رايات القرامطة من أيديهم وفرّوا هاربين، وقد لوحظ أن الآية الكريمة التالية قد كُتبت على تلك الرايات وهي: (ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين)

(1) ونحن نعرف أن هذه الآية لها علاقة بخلاص قوم موسى من أيدي الفراعنة في مصر، ثمّ فُسِّرت أيضاً بعد ذلك بكونها تصف ظهور الإمام المهدي عليه السلام وتخليص المجتمع البشري من فراعنة الزمان والطغاة. وهكذا فقد استغل زعماء القرامطة هذه النقطة والاعتقاد السائد حول المهدية، وغدت أُلعوبة بأيديهم في تلك الفترة.

وبعد أُفول نجم القرامطة قامت الحكومات في ذلك الوقت بملاحقتهم وقتلهم، ونخصّ بالذكر السلطان محمود الغزنوي الذي كان أشدّ المناوئين للقرامطة. ويُنشد شاعر البلاط الغزنوي «فرخي سيستاني» في ذلك فيقول:

قد أخذتَ الرَّيَّ فانظر مُلككَ اليومَ منىً وكذا الصفّا ثم أنشد الشاعر نفسه بعد وفاة السلطان محمود الغزنوي يرثيه قائلًا:


1- 57 وقد وصل حدّ المنافسة بينهما إلى درجة أن الخليفة العبّاسي طعن في نسب الفاطميين في مصر، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من بني هاشم، وقد أصدر وثيقة سنة 402 موثقة من كبار العلماء والرجال المعروفين من الأسرة العلوية من جملتهم السيد المرتضى والسيد الرضي. في حين كان الرضي قد مدح الفاطميين مراراً في أشعاره. راجع السيوطي. حسن المحاضرة، ج 2، ص 151، والكامل لابن الأثير، ج 7، ص 263.

ص: 221

أبكي وقد فرحَ القرامط إثْرَ موتك فلاخافوا شجاعاً ولابطشاً كبطشك الهوامش:

ص: 222

ص: 223

(58) الكامل لابن الأثير، ج 6، ص 194.

مختصر معجم معالم مكة التأريخية (4)

ص: 224

مختصر معجم معالم مكة التأريخية (4)

عاتق بن غيث البلادي

عَيْنُ زُبَيدة

عَيْنُ زُبَيدة:

عين عذبة الماء غزيرة، أجرتها أم جعفر زبيدة زوج هارون الرشيد. تنبع من وادي نعمان، ثم تمرّ في عرفات فتقطع وادي عُرنَة إلى الخَطْم ثم تنحدر إلى منى فمكة، وكانت مصممة بطريقة انسيابية انحدارية، وكانت تسقي أهل مكة، إلى أن أجريت عيون أخرى في العهد الحديث. انظر المعجم.

لقد هُجِر اليوم مجرى العين فحولت إلى أنابيب ضخمة. وكانت هناك عين المشاش أجريت من حنين، غير أنها كانت قليلة الجدوى فتوقفت، وبقيت عين زبيدة تقاوم التأريخ إلى اليوم، وقد مرّ عليها قرابة ألف ومئتي سنة، وظل الولاة والحكام يولونها عناية خاصة، فيتعهدونها بالإصلاح والعمل، ولها اليوم إدارة خاصة تسمى إدارة عين زبيدة والعزيزية.

وكان من مشاكل عين زبيدة:

ص: 225

أ- أنه تجي ء السيول فتسد الدبل أو تكسره، فيتوقف الماء عن مكة مدة قد تطول أو تقصر.

ب- أنه كلما هاجم مكة عدو استغل عين زبيدة فأوقفها حصاراً لأهل مكة، لذا كثرت الآبار في مكة حتى بلغت عدداً كبيراً (عددتُ منها مما أعرفه 45 بئراً ومع أنى نوهتُ مراراً إلى أن هذا العمل العدائي قد يحدث أي يوم، وطلبت أن تعلّم هذه الآبار وترسم في خرائط كي يهتدى إليها وقت الحاجة، إلّاأن الناس أصبحوا يعيشون ليومهم، وكأنّهم ضمنوا المستقبل، فردمت كل آبار مكة إلّاما يعد على الأصابع).

غَيْناء

غَيْناء:

بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة، يمد ويقصر: وهي قنة ثَبِير الأثبر أو ثبير غَيْناء- إسمان لمسمى- وهي رأس ثبير الأعظم الذي يسميه أهل مكة اليوم «جبل الرخم» ذلك أن الأنوق من عاداتها ألّا تضع بيضها وتتخذ مساكنها إلّافي أعسر موقع، وغيناء كذلك، وإذا أتيت مكة من أسفلها رأيت قنة ثبير (غَيْناء) تبدو من وراء كلّ مكة لا يحجبها حاجب، وعلى جانبيها ما يشبه الكتفين مما يجعل ثَبِيراً يشبه نسراً مستقبلًا مغيب الشمس، وفي غَيْناء يقول أبو جندب الهذلي: وقد ينسب إلى أبي خراش الهذلي أيضاً: (1)

لقد عَلِمتْ هذيل أنّ جاري لدى أطراف غَيْنا من ثَبِيرِ

أحُضّ فلا أجير، ومن أجِرهُ فليس كمن يدلى بالغرورِ قال: لدى غيناء كناية عن المنعة والعزة لارتفاعها الشاهق.

وكانت تسمى (ذات القَتَادة) لشجرة قتاد كانت عليها، ولذلك يقول الحارث بن خالد:


1- 1 معجم معالم الحجاز: غيناء.

ص: 226

إلى أطراف الجِمار فما يليها إلى ذات القَتَادةِ من ثَبيرِ أما الأثبرة فقد تقدم البحث عنها في حرف الثاء.

فَخٌّ

فَخٌّ:

على لفظ الفَخّ الذي هو الطَّرَق:

هو الوادي الرئيسي الثاني بمكة، يأخذ أعلى مساقط مياهه من جبل السِّتَار عند علمي طريق نجد، وجبل حِراء، وما حوله، ولما عدلت مياه وادي إبراهيم العُلَى حولت إلى فخ هذا، ويسمى اليوم بعدة أسماء: أعلاه خريق العُشر ووسطه الزاهر والشهداء، وأسفل من ذلك أم الجود. وكان ما بين الزاهر والحُديبية يسمى بَلْدَح، وقد ذكر. وكان فخ في عهد الأزرقي يسمى أعلاه مكة السدر، وأطلَق عليه وادي مكة، وسمَّى وادي ابراهيم وادي بكة. وفخ مشهور بتلك الواقعة التي وقعت سنة 169 ه. بين العلويين بقيادة الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنهم، وبين العباسيين بقيادة العباس بن محمد بن علي بن عبد اللَّه بن عباس، فالتقوا يوم التروية، فقُتل العلويون يومئذ قتلًا ذريعاً حتى قيل: ما كانت مصيبة بعد كربلاء بأشد من يوم فخّ، وظل القتلى ثلاثة أيام في العراء حتى أكلت لحمهم الكلاب، فرثاهم عيسى بن عبد اللَّه قائلًا (1):

فلأبكين على الحسي - ن بعولة وعلى الحَسَنْ

وعلى ابن عاتكة الذي واروه ليس بذي كَفَنْ

تركوا بفخٍّ غُدوةً في غير منزلةِ الوَطَنْ وقال داود بن سلم (2):

يا عين بكِّي بدمع منك مُنْهمرٍ فقد رأيت الذي لاقى بني حَسَنِ


1- 1 معجم معالم مكة التأريخية والأثرية فخ.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 227

صرعَى بفخٍّ تجر الريح فوقهمُ أذيالها وغوادي دُلَّج المُزُن

حتى عفت أعظم لو كان شاهدها محمَّدٌ ذب عنها ثم لم تهن وهناك من روى أن عبد اللَّه بن عمر دفن بفخ، والصواب أنه دفن بمقبرة بني أسيد بأذاخر. وبفخّ مقبرة كانت تعرف بمقبرة المهاجرين وهي لا زالت معروفة مسورة. وقد تقدم معنا في بلدح شعر يذكر أصحاب فخ ينسب إلى أحد الجن.

وكذلك تقدم شعر بلال رضى الله عنه، ومنه:

ألا ليت شعري هل أبيتَنّ ليلةً بفخّ وحولي أذخر وجليل وقد أصبح فخ اليوم يسمى وادي الزاهر، وعليه أحياء عديدة من مكة، من أعظمها حي الشهداء، وهو نفس المكان الذي وقعت فيه تلك الوقعة المشار إليها، وحي الزاهر الجميلان، وانظر تفاصيل أوفى في الجزء السابع من «معجم معالم الحجاز».

قُعَيْقعانِ

قُعَيْقعانِ:

بضم القاف وفتح المهملة وكأنه تصغير قَعْقَعَان: هو الجبل الضخم المشرف على المسجد الحرام من الشمال والشمال الغربي، ممتداً بين ثنيتيْ: كَدَاء، وكُدًى- بالقصر- بين وادي إبراهيم شرقاً ووادي ذي طوى غرباً.

ولا يعرف اليوم اسم قعيقعان إنما يسمى بأسماء كثيرة: فطرفه الشمالي الغربي يسمى جبل العبادي، والشرقي المشرف على ثنية كَدَاء (الحُجُون) والمشرف على مقبرة المَعْلاه يسمى جبل السُّلَيمانية، نسبة إلى حي السليمانية المنسوب إلى الشيخ محمد بن سليمان المغربي، أما جزؤه الجنوبي فجلّه يسمى (جبل هِندِي) وشرقه

ص: 228

المتصل بريع الفلق- فلق ابن الزبير- إلى نفق السليمانية يسمى جبل الفلق، ويسمى طرفه المشرف على حارة الباب جبل المطابخ، وطرفه المشرف على ثنية كُدًى- بالقصر- ريع الرَّسَّام اليوم يسمى قرناً، وما أشرف على دحلة الموارعة بجرول يسمى جبل السودان، وبين الفلق والقرارة له عدة أجزاء: جبل القرارة، وجبل فلفلة، وجبل النَّقا، إلخ.

وقال الأقدمون في سبب تسميته: إن جُرْهم وقَطُوراء- حيان سكنا مكة- تحاربت بمكة، فخرجت جرهم وعلى رأسها مضاض بن عمرو الجرهمي من قُعَيْقِعَان فقعقع السلاح، فسمي الجبل. ب (قعيقعان) وخرجت قَطُوراء من أجياد على الخيل فسمي أجياداً.

قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي: (1)

هيهات منك قُعيقعان وأهلها بالحزنتين، فشطّ ذاك مزارا وقد مرّ معك أنه أحد أخشبي مكة، وقد كان يسدّ هواء الشمال عن المسجد الحرام فيزيد من شدة الحر هناك حتى شُقّت فيه الأنفاق، مثل: انفاق السليمانية، ونفق الموارعة، فانساب الهواء منها، وقربت المسافة لأهل جرول والعتيبية، فصار كثير منهم يحضر الصلاة في المسجد الحرام مشاة.

كَدَاء

كَدَاء:

بفتح الكاف وفتح الدال المهملة والمد:

ثنية من ثنايا مكة أصبحت تعرف اليوم بريع الحُجُون، تفصل بين جبل قُعَيْقِعان وجبل الحجون، وتفضي إلى البطحاء على مقبرة أهل مكة، وكانت هذه الثنية كأداء شاقة المسلك، وما زالت الحكومات المتعاقبة تنجر جوانبها وتسهلها حتى أصبحت واسعة سهلة المسلك، وحتى إعداد هذا الكتاب للطبع والعمل


1- 1 ديوانه: 117- 119.

ص: 229

جار في توسعتها، قال ابن قيس الرُّقَيّات (1):

أقفرت بعد عبد شمسٍ كَدَاء فَكُديّ فالركن فالبَطْحاءُ وقال ابن أبي سنة العَبْلي: (2)

أفاض المدامع قتلى كُدَى وقتلى بكُثْوَةَ لم ترمس قالوا: كُثْوَة مكان من مكة. وقال الأحوص الأنصاري:

رام قلبي السّلوّ من أسماءِ وتعزَّى وما به من عَزاءِ

إنني والذي تحجُّ قريشٌ بيته سالكين نقب كَدَاءِ

لم ألم بها وإن كنت منها صادراً كالذي وردتُ بداء قلت: والأكدية بمكة ثلاثة: كَدَاء هذا، بفتح الكاف والمد، وكُدىً، بضم الكاف والقصر منوناً، وكُدَيّ بضم الكاف أيضاً وفتح الدال والياء المثناة تحت.

وهذا لا يزال معروفاً، يصل بين مسفلة مكة وجبل ثَوْر جنوب المسجد الحرام. أما المقصور فيعرف اليوم بريع الرسَّام، ذلك أن باب جُدَّة كان فيه، وفيه كان يؤخذ الرَّسم على البضائع الداخلة عن طريق جدة، وسمي الحي الذي قام عند هذا الباب حارة الباب، ثم نقل باب جدة إلى جرول، حيث يسمى اليوم البيبان، نسبة إلى باب جدة الأخير (3).

المازمان

المأزمان:

مثنى مأزم، وهو الطريق الضيق بين الجبلين ونحوه، وهو طريق يأتي المزدلفة من جهة عرفة، لا يدفع الناس ليلة المزدلفة إلّامعه، فإذا أفضوا منه كانوا في المزدلِفَة.

وهي (جمع) وهو طريق ضيق بين جبلين يسميان الأخْشَبين، وهما غير أخْشبي مكة ومنى، وقد عُبِّد اليوم وجُعِلت له ثلاث معبَّدات: إحداهما للمشاة


1- 1 معجم معالم الحجاز كَدَاء.
2- 2 الأغاني: 1553، هو عبد اللَّه بن عمر بن عبد اللَّه، يكنى أبا عدي، من بني أمية، قال في الأغاني: ابن أبي سنة وفي معجم البلدان ابن أبي شيبة.
3- 3 والبحث في المطول وفي معجم معالم الحجاز بأطول من ذلك.

ص: 230

فقط، يفصلها عن طريقي السيارات شبك يمنع اختلاط الناس بالسيارات، وطريقان أو مساران بالأصح للسيارات.

وقال أعرابي، قيل هو من جرهم:

ألا ليتَ شِعْري هل أبيتَنَّ ليلةً وأهلي معاً بالمأزَمَين حُلُولُ وهل أُبصرنّ العيس تنفح في البُرَى لها بمنىً بالمحرمينَ ذميلُ

منازلُ كُنَّا أهلها فأزالنا زمانٌ نبا بالصالحين حَدُول وقد يطلق اسم المأزَمين على منى عند العقبة لضيق المكان.

قال كُثَيّر بن عبد الرحمن (1):

فقد حلفتْ جُهداً بما نحَرتْ له قريش غَداة المأزمين وصلّت أما أبيات الأعرابي المتقدّمة فتمثل أمماً كثيرة سادت مكة ثم بادت، أزالها اللَّه بما أحدثت وبما أفسدت وعلت في أرض اللَّه التي حرمها يوم خلق السماوات والأرض، فأذاقها اللَّه وبال أمرها، وجعلها أحاديث وعِبَراً، من هذه الأمم جرهم وإيَّاد وَرَبيعة الفرس وغيرها.

وكلما ضاق الوادي بين جبلين سموه (مأزماً أو بازماً) ثم يثنون ذلك أو يجمعونه كعادتهم، ومن ذلك (البُزَّم) جمع بازم (2).

مُحسّر

مُحسّر:

بضمّ الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد السين المهملة أيضاً، وآخره راء:

هو وادٍ صغير يأتي من الجهة الشرقيّة لثبير الأعظم من طرف (ثَقَبَة)


1- 1 ديوانه: 96.
2- 2 انظر: معجم معالم الحجاز.

ص: 231

ويذهب إلى وادي عُرَنَة- بالنون- فإذا مرّ بين مِنىً ومزدلفة كان الحدّ بينهما، فيتجه جنوباً، ويمرّ سيله عند عين الحُسينية قبل أن يصب في عُرَنَة، وهو قبل ذلك يختلط بأودية المفاجر الثلاثة؛ فتصير وادياً واحداً، وقد عُمِر اليوم اجتماعها فصار حيّاً من أحياء مكّة. ليست بمحسر زراعة ولا عمران، والمعروف منه للعامّة ما يمرّ فيه الحاج بين مزدلفة ومنى، وله علامات هناك منصوبة، وكثير من النّاس يركضون حتى يجتازوه، كما يركضون بين الصفا والمروة، إذا وصلوا بطن وادي إبراهيم.

وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، أنّه قال: عرفة- بالفاء- كلّها موقف، وارتفعوا عن بطن عُرَنَة- بالنون- وجمع كلّها موقف، وارتفعوا عن بطن مُحسّر. ويسمّى مُحسّر (وادي النّار) ويُسمّى (المُهلّل) وكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، يوضع فيه راحلته، أي يحثها على العدو. وكان عمر يفعل كذلك ويقول:

إليك تسعى قَلقاً وضينُها مخالفاً دين النصارى دينُها

معترضاً في بطنها جنينُها قد ذهب الشحم الذي يزينُها وكان ابنه عبداللَّه يفعل ذلك إذا هبط بطن مُحَسِّر ولا زالت ترى هذه السنّة من المشاة.

الُمحَصِّب

الُمحَصِّب:

بضمّ الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الصاد المهملة أيضاً، مع الكسر ويروى بالفتح، ثمّ موحده تحتية:

اختلف المتقدّمون في تحديده، فقال بعضهم هو من شعب عمرو- الملاوي اليوم- إلى شعب بني كنانه، قرب البياضة، وقال آخرون: هو خيف بني كنانة، وحدّه من الحجون إلى منى. وقال غيرهم: هو موضع رمي الجمار، ذلك أنّ

ص: 232

حصى الجمار يسمى الحصباء، واستدل بالشاهد الآتي: «ترمي جمار المحصب»، والذي أراه أنّ المحصب هو المكان الذي تنتظم فيه الجمرات الثلاث، فهو يخصّص من منى بالمحصب، ومنى يشمل المحصب وخيف بني كنانة، حيث مسجد الخيف، من منى.

لاحِج

لاحِج

كفاعل اللحج: قال ياقوت: من نواحي، وأورد:

أرقت لِبَرقٍ لاح في بطنِ لاحجٍ وأرَّقني ذكر المليحةِ والذكر (1)

ويظهر أنّ هذا الشعر متأخر تدل على ذلك ركاكته. وتوجد اليوم اللاحِجَة:

مؤنث الذي قبله، وهو الوادي الذي يبتدئ من وجه جبل ثور الشمالي، ومن غرب جبل سُدَير، ثم يسيل غرباً ماراً بين ثور في الجنوب الشرقي وجبل السَّرد في الغرب، وأسفله يسمى بطحاء قُريش، وينتهي سيله الى عرنة بطرف جبل حُبشي من الغرب. يمر فيه طريق كُدَيٍّ الى ثور والحُسَينية، كان يسمى (درب اللَّاحِجة) وهذيل تقول: (اللّاحِية) وماسمعت هذه اللغة عند هذيل إلا في هذا.

ومن روافده: خُمّ، المتقدم، والنَّبعة: نَبْعة كُدَيٍّ وكانت خُمّ وبطحاء قريش، ولا زالت من متنزهات أهل مكة. ومن جياد الكبير إلى اللاحجة طريق تأخذريع بخش من رأس أجياد ثم في شعب خم فالى حي الهجرة في المفجر الغربي.

ومن قال: إن خيف بني كنانة قرب الحجون فقد أخطأ.

قال الحارثي بن خالد المخزومي: (2)

يا دار أقفر رسمها بين المحصب والحجون

أقوت وغير آيها مرّ الحوادث والسنين وهذا يشهد أنه بعيد من الحجون، بحيث يكون بينهما حوز.


1- 1 له بقية في المطول.
2- 2 الأغاني 1175 ط. دار الشعب.

ص: 233

وقال أحمر الرأس السلمي:

عكوفاً وقوفاً بالمحصب من منى يديرون شمساً إن يحين ظلامها فقال من منى. وهذا شاهد أيضاً يدحض مَن قال: إنه من الابطح عند الحجون.

وقال عمر بن أبي ربيعة: (1)

نظرت إليها بالمحصب من مِنىً ولي نظر- لولا التحرُّم- عارمُ

فقلت: أشمسٌ أمْ مصابيح بِيعةٍ بدت لك تحت السجف أم أنت حالمُ؟ أما إذا سلمنا أن هذا الذي يقولون عنه خيف بني كنانة صحيح، فهما خيفان: خيف منى وهو الوارد في الشواهد الشعرية، وخيف بني كنانة.

مسجد

مسجد:

المساجد التأريخية والاثرية كثيرة في مكة، منه ما هو معروف تأريخه وسبب بنائه، وبعضها يظهر أنه حدث في عصور متأخرة ولكنه بني على أساس روايات تأريخية، كمسجد أبي بكر ومسجد خالد ومسجد الجن وغيرها. ونحن نورد طائفة منها هنا حسب تسلسلها المعجمي، مع ذكر شي ء موجز عنها، وذكر المصدر لمن أراد التعمق في معرفة ذلك.

مسجد إبراهيم الخليل

مسجد إبراهيم الخليل:

جاء في أخبار مكة للأزرقي:

أنّ أول من جمع بالحاج صلاة الظهر والعصر هو إبراهيم عليه السلام في (مسجد إبراهيم) ثم راح بهم إلى الموقف من عرفة (2). وهذا المسجد يعرف بمسجد (نَمِرة)


1- 1 الأغاني 1175 ط. دار الشعب.
2- 2 أخبار مكة: 2/ 70.

ص: 234

ونمرة جبل تراه غرب المسجد بينهما بطن عُرَنة، وهو معروف أيضاً في عهد الأزرقي، وبعضهم يسمي المسجد بالمكان فيقول (مسجد عرفة) والأزرقي سماه (مسجد إبراهيم خليل الرحمن) (1).

ثم يقول الأزرقي: ومسجد بعرفة عن يمين الموقف يقال له: مسجد إبراهيم، وليس بمسجد عرفة الذي يصلي فيه الامام (2).

ومسجد على جبل أبي قبيس، يقال له مسجد إبراهيم، سمعت يوسف بن محمد بن إبراهيم يسألُ عنه، هل هو مسجد إبراهيم خليل الرحمن؟ فرأيته ينكر ذلك، ويقول: إنما قيل هذا حديثاً من الدهر. ثم نسب المسجد الى إبراهيم القُبيسي نسبة الى أبي قبيس (3).

أقول: وهذا المسجد يسمى اليوم مسجد بلال، وليس هو بلال بن رباح.

وقد هدم سنة 1406 ه ضمن إزالة عمران أبي قبيس.

مسجد الاجابة

مسجد الإجابة:

مسجد ينسب إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم، يقع في شعبة النور، وقد تقدمت وذكر بأوفى من هذا في

(مسجد قنفد)

مسجد أبي بكر

مسجد أبي بكر:

لم يذكره الأزرقي ضمن المساجد التي ذكرها، وهذا دليل على أنه لم يكن موجوداً، ثم ذكره ابن ظَهِيرة في الجامع اللطيف، فقال: مسجد بأسفل مكة ينسب لأبي بكر الصديق، يقال: إنه من داره التي هاجر منها إلى المدينة. ويعرف الآن بدار الهجرة، وهو بالقرب من بركة الماجن (4).

أقول: وهذا المسجد لا زال معموراً بمسفلة مكة بسفح ثَبِير الزنج من


1- 1 الجامع اللطيف ص 32.
2- 2 أخبار مكة: 2/ 201.
3- 3 الجامع اللطيف ص 332.
4- 4 الجامع اللطيف 32.

ص: 235

الشرق. وبركة الماجن، صوابها بركة الماجل.

مسجد البيعة

مسجد البيعة:

قال الازرقي، ومسجد بأعلى مكة أيضاً يقال له: (مسجد الجنّ) وهو الذي يسميه أهل مكة (مسجد الحرس) وإنما سمي مسجد الحرس أن صاحب الحرس كان يطوف بمكة حتى إذا انتهى إليه وقف عنده ولم يجزه حتى يتوافى عنده عرفاؤه وحرسه، الى أن يقول: وهو فيما يقال: موضع الخط الذي خطه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لابن مسعود ليلة استمع الى الجن، وهو يسمى (مسجد البيعة) يقال: إنّ الجنّ بايعوا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، في ذلك الموضع (1).

أقول: هذا المسجد لا يعرف اليوم إلا بمسجد الجن، وهو بعد ريع الحجون الى المسجد الحرام غير بعيد، وقد عمر سنة 1399 ه عمارة بديعة، ولبست جدرانه الخارجية بالحجر الممثل الجميل.

ومسجد البيعة أيضاً: مسجد دوين العقبة، مبني بالحجر والجص بناية عثمانية، يظل دائماً مهجوراً، وربما صلِّي فيه أيام الحج، وهو المكان الذي بايع الانصار فيه رسول اللَّه مرتين في منى ودعوه الى المدينة. وذكره ابن ظَهِيرة في الجامع اللطيف. وأخبار البيعة مستفيضة في السيرة.

مسجد التنعيم

مسجد التنعيم:

التنعيم وادٍ يقع شمال مكة والمسجد الأثري هناك يسمى مسجد عائشة، ذلك أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، أمر عبدالرحمن بن أبي بكر بعد النزول من حجة الوداع بأن يعمر أخته عائشة من ذلك الموضع؛ لأنها عندما قدمت مكة حاجة كانت حائضاً، فأعمرها بعد الحج، وهذا المسجد أقرب الحل الى الحرم، وقد عمر


1- 1 أخبار مكة: 2/ 201.

ص: 236

حديثاً عمارة حسنة. وظل الناس يعتمرون منه، وفيهم كما روى الأزرقي- عبداللَّه بن الزبير، ثم ابنتى محمد بن علي الشافعي مسجداً في ذلك الموضع، وذكر الازرقي أيضاً أنّه كان خراباً في عهده، ثم عمره أبو العباس عبداللَّه ابن محمد بن داوود، وجعل على بيره قبة، وكان أمير مكة، ثم بنته (العجوز) وجودته وأحسنت بناءه (1). ولا زال هذا المسجد معروفاً، ويزدحم بالحجاج أيام الحج، وله خط منظم من النقل الجماعي.

روى الازرقي أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة عمرة الجعرانة، والرابعة عمرة حجته. ثم ذكر أن رجلًا من قريش بنى مسجداً هناك (2)، غير أنه ذكر أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم كان بالعدوة القصوى بينما المسجد اليوم وفي عهد الازرقي في العدوة الدنيا، ولازال معموراً يعتمر منه أهل مكة، وهو مبني بالاسمنت.

مسجد الجن

مسجد الجن:

انظر: مسجد البيعة. مسجد الحرس/ مسجد البيعة أيضاً.

مسجد خديجة

مسجد خديجة:

ذكر في المطول، وقد هدم سنة 406 في التوسعة الجديدة.

مسجد الارقم

مسجد الارقم:

ذكر في المطول.

مسجد الخيف

مسجد الخيف:

راجع المطول.

مسجد ذي طوى


1- 1 أخبار مكة: 2/ 209.
2- 2 أخبار مكة: 2/ 209.

ص: 237

مسجد ذي طوى:

قال الأزرقي: ومسجد بذي طوى بين ثنية المدنيين المشرفة على مقبرة مكة، وبين الثنية التي تهبط على الحصحاص، بنته (زبيدة) بأزج (1).

قلت هذا التحديد لا يستقيم؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، بات عند بئر ذي طوى، وهي معروفة الآن الى يمين هذا التحديد للداخل الى مكة بمسافة تبعدها عنه، ولكن بجوار هذه البئر على أقل من عشرين متراً مسجداً كان عامراً قبل الدولة السعودية، ثم عمر سنة 1411- 1412 ه عمارة حسنة وبنيت فيه منارتان، فهذا قمنة أن يكون محل مصلاه، صلى الله عليه و آله و سلم.

مسجد الراية

مسجد الراية:

لا زال معروفاً بالمعلاة، مقابل مصب شعب عامر، معموراً بالمصلين.

وأُنظر المطول، فالبحث هناك.

مسجد سوق الغَنَم

مسجد سوق الغَنَم:

قال الأزرقي: ومسجد بأعلى مكة عند سوق الغنم عند قرن مسقلة، ويزعمون أن عنده بايع النبي صلى الله عليه و آله و سلم الناس بمكة يوم الفتح (2).

المؤلف: سوق الغنم يتغير باستمرار، ولكنه في وقت الأزرقي كان بشارع الجودرية في نهاية الغزة من أعلاها، ومسحد الغنم معروف اليوم عند كبار السن من أهل مكة. وهو على يسار البطحاء قبيل أن يفترق سوق الجودرية عن سوق الغزة، ويليه من يسار النازل مع الوادي فم شعب عامر، ويقابل شعب عامر من الجهة اليمنى مسجد الراية.

مسجد سلسبيل


1- 1 أخبار مكة: 2/ 201.
2- 2 أخبار مكة: 2/ 201.

ص: 238

مسجد سلسبيل

ذكره الأزرقي بنص قد يكون فيه تحريف، فقال: الحجون الجبل المشرف على مسجد الحرس (مسجد الجن) بأعلى مكة على يمينك وأنت مصعد، وهو أيضاً مشرف على شعب الجزارين في أصله دار ابن أبي ذر الى موضع القبة بمسجد سلسبيل أم زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر (1).

قلت: لم أسمع عن هذا المسجد، غير أن هناك مسجداً يجاور مسجد الجن، لا أعلم اسمه. وقوله: على يمينك وأنت مصعد سبق قلم، صوابه على يسارك، ذلك أن جبل الحجون هو الذي في أصله مقبرة مكة القديمة، وفي جانبه الغربي كانت المجزرة الى ما بعد عام 1370 ه، ثم نقلت الى أذاخر. وسلسبيل أظنه تحريف سبيل.

هذا ما كان في المطول الذي نشر سنة 1400 ه، ولكني استدرك هنا النقاط التالية:

1- ظهر لي بعد ذلك أن مسجد سلسبيل: هو المسجد الصغير الذي إذا تجاوزت مسجد الجن ذاهباً إلى المسجد الحرام تراه على يسارك، مسجد صغير بجوار موقف السيارات الذي أقيم هناك، ويسمى ما وراءَه الى الشرق (دحلة الجن).

2- المسجد الذي يجاور مسجد الجن من جهة المسجد الحرام، ظهر أنه هو مسجد الشجرة الذي في مكة.

3- استدراكي على الازرقي بأن قوله: على يمينك وأنت مصعد، سبق قلم، أرى مؤرخي مكة قد تواطأوا عليه، وكلّهم فيما يبدو ناقل عن الأزرقي، ولكني أرى الرجوع إليهم وموافقة ملحس بالقول: إن هذا هوالحجون الجاهلي، واللَّه أعلم.

4- صح أن اسم المسجد المشار اليه آنفاً هو (سلسبيل) تيمناً بما جاء في


1- 1 نفس المصدر 2/ 160.

ص: 239

القرآن الكريم.

مسجد الشجرة

مسجد الشجرة:

ذكره الازرقي قرب مسجد الجن، وقال ابن ظَهيرة: قد اندثر. ولكن المشهور بمسجد الشجرة هو مسجد الحُدَيبية، ولم يذكره مؤرخو مكة؛ لأنه خارج الحرم، والناس يتعسون أن يكون المسجد الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة الحديبية، ولكن الثقات من الصحابة قالوا: لقد التمسناه بعد مدة فلم نعرفه.

راجع ذلك في السيرة النبوية، وراجع الحديبية وتفاصيل عنها في (معجم معالم الحجاز). وهذا المسجد هو اليوم خراب، وقد بنت الحكومة السعودية مسجداً غيره يصلَّى فيه. ثم ظهر بعد ذلك أن مسجد الشجرة الذي في مكة هو الذي يجاور مسجد الجن، كما قدمت آنفاً.

مسجد قُنفُد

مسجد قُنفُد:

قال الأزرقي: إن شعب قنفد يسارك وأنت ذاهب إلى منى من مكّة فوق حايط خرمان، وفي هذا الشعب مسجد مبني يقال إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم، صلّى فيه (1).

قلت: هذا الشعب يسمّى اليوم شعبة النور، والمسجد لا زال يصلّى فيه، والنّاس لا زالوا على اعتقادهم به. كما قال الأزرقي: إنّه منسوب إلى قُنفد بن زُهير من بني أسد بن خزيمة.

وقال ابن ظهيرة: مسجد يعرف بمسجد الإجابة ثمّ وصفه بما تقدّم (2).

مسجد

مسجد:

بقية المساجد الأثرية انظرها في المطول أو في معجم معالم الحجاز.

المعابدة


1- 1 أخبار مكّة 2: 287. وقنفد: لغة في قنفذ لسان العرب.
2- 2 الجامع اللطيف: ص 333.

ص: 240

المعابدة:

هي اليوم أحد أحياء مكّة، وتقع بين المنحنى إلى شعبة النور إلى البياضة، وسبب ذكرها هنا أنّى رأيت أحدهم تمحل فقال: إنّها منسوبة إلى امرأةتدعى أم عابدة، كان الجمّالة يعقلون جمالهم عندها إذا هبطوا مكّة، وهذا القول مفند لسببين:

1- إنّ الجمالة الذين كانوا يهبطون مكّة من الناحية الشرقيّة ما كانوا ينيخون في المعابدة لبعدها عن السوق، وكانت سوقهم هي المعلاة، ما بين موقع البريد اليوم إلى المسجد الحرام، وقد أدركنا آخر العمل على الجمال بين 64 و 1372 ه، فكانت المناخات حول الحلقة القديمة من زقاق الراقوبة إلى الفلق إلى دحلة الجن.

2- ذكر التقي الفاسي المعابدة في ترجمة: محمّد بن عمر المعابدي المتوفى سنة 782 ه، ثمّ قال: والمعابدي نسبة إلى موضع بظاهر مكّة (1). وكانوا يرون آنذاك كلّما تجاوز سوق المعلاة، خارجاً عن مكّة. وبهذا النصّ يظهر لك أنّ المعابدة كانت ضاحية من ضواحي مكّة قبل سبعة قرون.

المعلاة

المعلاة:

مكة عموماً تقسم جغرافياً إلى: معلاة ومسفلة. فالمعلاة كلّما ذهبت من المسجد الحرام مصعداً، والمسفلة كلّما ذهبت منه هابطاً. ولكن عامّة النّاس لا يعرفون اليوم من المعلاة إلّامقبرة مكّة؛ لأنّها تسمّى مقبرة المعلاة، ويحرفونها فيقولون (المعلا)، وكانت مقابر مكّة كمقابر العرب عموماً يدفن كلّ شخص في قبر مستقلّ، حتّى قام الشيخ محمّد بن علي بن سليمان فشرع يوم الأربعاء 29 ربيع الثاني سنة 1086 ه في هدم قبور المعلاة، وبنى مقبرة خاصّة ذات جدر


1- 1 العقد الثمين 2: 228.

ص: 241

أربعة، وقسمها تقسيم الشطرنج (1).. إلخ.

قلت: فسميت المقبرة السليمانيّة إلى حين، ثمّ توحد الحي المجاور لها باسم السليمانيّة، وكذلك وجه قعيقعان من جهتها سمي جبل السليمانيّة.

يأجَجُ

يأجَجُ:

بالمثناة من تحت، وهمزة ثم جيمين: ويعرف اليوم باسم (ياج)، حذفت منه الجيم الأخيرة، وتخفف همزته: وادٍ من أودية مكّة يمرّ شمال عمرة التنعيم، فيصبّ في مَرّ الظهران عند دفّ خُزاعة بينه وبين المقوّع.

وتسمية عامّة أهل مكّة- وادي بئر مقيت- لبئر هناك. وقد أصبح قسمه الذي يمرّ به الطريق من مكّة إلى المدينة معموراً، وبه بساتين ضعيفة. وكان من منازل ابن الزبير، وبطرفه من الشمال الموضع الذي قتل فيه الصحابي الشهيد خُبَيب بن عَديّ- أحد أسرى يوم الرجيع. وطول هذا الوادي 33 كيلًا. قال أبو دَهيل الجُمحي:

وأبصرتُ ما مرّت به يوم يأججٍ ظباءٌ وما كانت به العِيرُ تحدَجُ وقال عمر بن أبي ربيعة:

وموعدُك البطحاءُ من بطنِ يأججٍ أو الشعبُ ذو الممروخِ من بطنِ مغربِ الهوامش:

واقعة الحرّة


1- 1 شفاء الغرام 1: 294.

ص: 242

ص: 243

واقعة الحرّة

شهاب الدين الحسيني

تعريف الحرّة: (أرض ذات حجارة سوداء نخرة، والحرّة: الأرض مسيرة ليلتين سريعتين أو ثلاث، فيها أحجار أمثال الإبل البروك، وما تحتها أرض غليظة) (1).

والواقعة حدثت في حرّة واقم، وهي الحرّة الشرقية من المدينة وهي: (أطم من آطام المدينة تنسب اليه الحرّة) (2).

وكانت أول واقعة يتمرد فيها أهل المدينة على حكومة يزيد بن معاوية بعد واقعة الطف، استنكاراً لمقتل الإمام الحسين بن علي عليه السلام ورفضاً للسيادة الأموية على مقدّرات المسلمين، وانتهت الواقعة بسيطرة جيش الشام واستباحته المدينة ثلاثة أيام فكثر القتل والنهب والسلب والاعتداء على الأعراض، خلافاً لتحذيرات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم المتكررة من الاعتداء على أهل المدينة.


1- 1 معجم البلدان- الحموي 2: 249. دار إحياء التراث العربي 1379 ه.
2- 2 معجم ما استعجم: عبد اللَّه الأندلسي 1: 438، عالم الكتب 1403 ه الطبعة الثالثة.

ص: 244

قال صلى الله عليه و آله و سلم (من أخاف اهل المدينة اخافه اللَّه، وعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين) (1).

ولمّا مرّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بالحرّة وقف فاسترجع وقال: (يُقتل في هذه الحرّة خيار أمّتي) (2).

العوامل والاسباب البعيدة للواقعة

العوامل والاسباب البعيدة للواقعة

لم تكن الواقعة وليدة عام 63 ه ولم تكن مفاجئة للحكم الأموي أو لأهل المدينة أو للمسلمين عموماً، بل تظافرت عوامل وأسباب عديدة لتتفجر في تمرد واسع قام به أهل المدينة، وكان يزيد يتوقع ذلك منهم حسب وصّية أبيه معاوية له حيث جاء فيها: (إن رابك منهم ريب أو انتقض عليك منهم أحد فعليك بأعور بني مرّة مسلم بن عقبة) (3).

ويمكن تحديد العوامل والأسباب البعيدة بمايلي:

أولًا:

هواجس الأنصار من وصول الأمويين للحكم.

كانت للأنصار هواجس ومخاوف من وصول الطلقاء إلى الحكم سواء كانوا من بني أمية أو من غيرهم أعلنوا عنها بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وبالخصوص في اجتماع السقيفة سنة 11 ه، وكان الحباب بن المنذر يخاطب الأنصار والمهاجرين مؤكداً هواجسه من ذلك (أما واللَّه وكأني بأبنائكم، وقد وقفوا على أبوابهم يسألون الناس الماء فلايُسقون ... هيهات ياأبابكر ... اذا مضيت أنا وأنت وجاءنا قوم من بعد يسومون أبناءنا سوء العذاب، واللَّه المستعان) (4).

وفي مقطع آخر من الحوار قال الحباب: (منّا أمير ومنكم أمير، إنا واللَّه ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط، ولكنّا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم واخوانهم).


1- 1 الذهبي، تاريخ الاسلام: 26، دار الكتاب العربي 1412 ه. ط 1.
2- 2 الإمامة والسياسة: للدينوري 1: 219. القاهرة 1388 ه.
3- 3 م. ن 1: 209.
4- 4 كتاب الردّة للواقدي: 72.

ص: 245

وفي تعليق يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة على هذه الفراسة قال: (لقد صدقت فراسة الحبّاب، فإن الذي خافه وقع يوم الحرّة، وأخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر) (1).

واستمرت الهواجس متفاعلة في نفوس الأنصار وجعلتهم لا يتفاعلون مع الوضع الجديد الذي أفرزه اجتماع السقيفة واعترف عمر بن الخطاب بذلك قائلًا:

(وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها) (2)

ثانياً:

تهديد بعض القرشيين للأنصار.

لما بويع أبو بكر واستقر أمره ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً (وذكروا علياً وهتفوا باسمه) وجزع لذلك المهاجرون، وكان أشد قريش على الأنصار سهيل بن عمرو فكان يقول: (فادعوهم الى صاحبكم والى تجديد بيعته، فإن أجابوكم وإلّا قاتلوهم)، والحارث بن هشام (فإنهم قد خرجوا مما وُسِموا به، وليس بيننا وبينهم معاتبة إلّاالسيف)، وأبو سفيان (وأيم اللَّه لئن بطروا المعيشة وكفروا النعمة، لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا) (3).

فأثارت هذه التصريحات حفيظة الأنصار، وأيقنوا صحة ما يتخوفون منه، وكادت الفتنة أن تحدث لولا المسارعة في اخمادها من قبل الإمام علي عليه السلام، وتأصلت المخاوف في نفوس الأنصار، وكانوا يتعاملون مع غيرهم بحذر، وتتوّج هذا الحذر بأقصى الدرجات بعد وصول الأمويين الى المراكز الحساسة في عهد عثمان بن عفان، ثمّ وقوفهم في وجه الحكم الجديد الذي يقوده الإمام علي عليه السلام، ووقوف الأنصار في صفّه في معركتي الجمل وصفّين؛ للحيلولة دون عودة الأمويين الى الحكم، وتبددت طموحات الأنصار بعد انتقال الحكم الى معاوية ثمّ ابنه يزيد.

ثالثاً:

السيادة الأموية في عهد معاوية.


1- 1 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 53. دار إحياء الكتب العربية 1962.
2- 2 تاريخ الطبري 3: 205. مطبعة سويدان.
3- 3 الأخبار الموفقيات: الزبير بن بكار: 584. منشورات الشريف الرضي 1416 ه. ط 1.

ص: 246

عادت السيادة الأموية من جديد بعد اضطرار الإمام الحسن عليه السلام الى تسليم السلطة الى معاوية، وبها فَقَدَ الأنصار مواقعهم في المسيرة التاريخية للمسلمين، وأيقنوا أنّ السيادة الأموية جادّة في استئصالهم، فمعاوية قبل وصوله للحكم وبعد استقلاله بالشام وفي عهد علي عليه السلام كان يرسل الغارات على المدينة ويوصي من يكلّفه بالغارة الى إخافة أهل المدينة ونهب أموالهم، وفي الوقت نفسه يوصيه بعدم التعرض لأهالي مكة، وفعلًا غزا بسر بن أرطأة المدينة ونهب الأموال ثمّ صعد المنبر وقام خطيباً (ياأهل المدينة .. شاهت الوجوه)، واستمر بشتمهم الى أن نزل من المنبر (1).

واستمر معاوية على نهجه في التنديد بالأنصار واهانتهم بعد وصوله الى الحكم وكان يسميهم بأبناء (قيلة) وهو اسمهم في الجاهلية وينزعج من كلمة الأنصار (2).

واستعان معاوية بالأخطل النصراني لهجاء الأنصار فهجاهم بقوله:

(ذهبت قريش بالسماحة والندى واللؤم تحت عمائم الأنصار) (3)

وشعر الأنصار أن الدين الذي شيّدوه بجهادهم ودمائهم أصبح أداة بيد من وقف أمام زحفه في بدر وأحد، وان الجاهلية عادت من جديد بلباس اسلامي فمعاوية قد حوّل الخلافة الى ملك وكان يقول: (رضينا بها ملكاً) (4).

وصرّح بعدم الوفاء بشروط الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام: (ألا انّ كلَّ شي ء أعطيته للحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به ... اني واللَّه ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا: ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم) (5).

وازداد حنق أهل المدينة على الحكم الأموي وعلى رأسه معاوية حينما تنصّل معاوية عن الشروط التي وافق عليها قبل الصلح، ولم يفِ بها في الواقع بعد


1- 1 تاريخ اليعقوبي 2: 197- 198. دار صادر- بيروت.
2- 2 دائرة المعارف الشيعية: حسن الأمين 1: 20.
3- 3 الأخبار الموفقيات: 228.
4- 4 البداية والنهاية لإبن كثير 6: 200.
5- 5 مقاتل الطالبيين: 77- 78. أنساب الأشراف 3: 44.

ص: 247

استشهاد الامام الحسن (لعن معاوية علياً على المنابر، وكتب الى عمّاله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا) (1).

ولعن علي عمّق كراهة معاوية في قلوب الأنصار، لأن عليّاً مثّل موقف الحق في الفتنة، وكانوا يرونه امتداداً للرسالة ولرسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، واستمر معاوية على نهجه في عدم الوفاء بالشروط فقتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق وآخرين من خيار صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وفي السنوات المتأخرة على استشهاد الإمام الحسن عليه السلام (ازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد .... إلّا وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض) (2).

ولما استخلف زياد بن سمرة بن جندب على البصرة أكثر القتل فيها (قال ابن سيرين: قتل سمرة في غيبة زياد هذه ثمانية آلاف) (3).

وازداد بغض أهل المدينة للحكم الأموي، وأيقنوا أن الاسلام قد أصبح مشوها في عهد معاوية، وقد حُرِّف عن الأسس الثابتة التي شيّدها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكانت مسيرة معاوية بعيدة كل البعد عن تلك الأسس ومنها استئثاره بالفي ء وضربه من لاحدّ له، واسقاط الحد عمّن يستحقه، وحكمه برأيه في الرعية، واستلحاقه زياد بن سمية بأبي سفيان، وشراء الضمائر بالأموال واختيار الولاة القساة وتسليطهم على رقاب المسلمين (4).

وقد عبّر الأنصار عن كراهيتهم للحكم الأموي، وعن حقيقة الصراع بينهم وبينه حينما أغلظ لهم معاوية في قوله: (مافعلت نواضحكم)، فقالوا: (أفنيناها يوم بدر لمّا قتلنا أخاك وجدّك وخالك) (5).

وكانوا قد تخلّفوا عن استقباله حينما قدم للمدينة، وقد اعترف معاوية بكراهية الأنصار لحكمه قائلًا: (أمّا بعد فإني واللَّه ماوليت أمركم حين وليّته إلّا وأنا أعلم أنكم لاتسرون بولايتي ولاتحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم، ولكني


1- 1 العقد الفريد لإبن عبد ربه الأندلسي 5: 114. دار الكتب العلمية 1404 ه. ط 1.
2- 2 شرح نهج البلاغة 11: 46.
3- 3 الكامل في التاريخ لإبن الأثير 3: 462. دار صادر 1965 م.
4- 4 شرح نهج البلاغة 5: 130- 131.
5- 5 تاريخ اليعقوبي 2: 223.

ص: 248

خالستكم بسيفي هذا مخالسة ... واياكم والفتنة، فلا تهمّوا بها فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة وتورث الاستئصال) (1).

وأدخل معاوية مبدأً جديداً في نظام الحكم يتنافى ويتعارض مع مبادئ الاسلام وهو توريث الحكم وتحويل الخلافة الى ملك يتوارثه الأبناء من الآباء، فعين ابنه يزيد ولياً للعهد، وأجبر أهل المدينة وبقية الأمصار على بيعة ابنه، فكانت خلافة الأمويين (بنظر الفقهاء ملكاً دنيوياً لاتستند الى الدين ... وكانت المدينة يومئذٍ مركز الفقهاء، وكانت حانقة على الأمويين) (2).

واستمر أهل المدينة وأغلبهم من الأنصار في كراهيتهم للحكم الأموي في عهد معاوية ومن بعده يزيد.

العوامل والأسباب القريبة للواقعة

العوامل والأسباب القريبة للواقعة

كان لمعاوية سياسة خاصة تختلف عن سياسة ابنه يزيد، فكان يستخدم الشدّة مع اللين في سياسته مع أهل المدينة، كما وكان مدارياً للأنصار بأساليب عديدة من اغراء وخداع وترغيب وإذا لم تنفع هذه فيأتي دور الترهيب، فأبقى أحقادهم وكراهيتهم لحكمه في نطاق المعارضة السلمية، ولم تظهر منه موبقات كالتي ظهرت في عهد يزيد، فتحولت المعارضة السلمية الى معارضة مسلحة أفرزتها الممارسات السلبية التي ارتكبها يزيد في سنوات حكمه القليلة:

أولًا: تشجيع حياة المجون والانحراف

أولًا: تشجيع حياة المجون والانحراف:

اشتهر يزيد بولعه بالمعازف وشرب الخمر والغناء واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب، والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، ومامن يوم إلّاويصبح فيه مخموراً، وكان يشدّ القرد على مسرجة ويسوق به ويلبسه قلانس الذهب (3).


1- 1 مختصر تاريخ دمشق لابن منظور: 25- 45. دار الفكر 1408 ه. ط 1.
2- 2 موجز تاريخ الحضارة العربية: د. عبد العزيز الدوري: 21.
3- 3 البداية والنهاية 8: 235.

ص: 249

(كما كان فاسقاً قليل الدين مدمن الخمر ... وله أشياء كثيرة غير ذلك غير أنني أضربت عنها لشهرة فسقه ومعرفة الناس بأحواله) (1).

وانتقل الفسق والانحراف من يزيد الى كثير من ولاته، ولم ينحصر ذلك بين الحاكم وولاته بل عملوا على: (تشجيع حياة المجون في المدينة من جانب الأمويين الى حد الإباحية ... لأجل أن يمسحوا عاصمتي الدين (مكة والمدينة) بمسحة لاتليق بهما ولا تجعلهما صالحين للزعامة الدينية) (2).

فوجد أهل المدينة أن الإسلام بدأ ينحسر عن التأثير وتنطمس معالمه وأسسه التي شيدها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم والتي شيدوها بمآزرته ومناصرته، وان الجاهلية عادت من جديد ودبّ الانحراف واستشرى في عاصمة الإسلام مصحوباً بالغاء دور المدينة في سير الأحداث واصلاح الأوضاع الطارئة، فلم يبقَ لهم إزاء هذه التطورات الخطيرة إلّاالتخطيط لاعادة الأمور الى مجاريها التي أرادها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فأعدّوا العدّة لاسترجاع مكانة المدينة، واسترجاع المفاهيم والقيم الإسلامية الى ماكانت عليه قبل حكم الأمويين بتحكيم الاسلام وتقرير مبادئه في العقول والقلوب والمواقف، وتأجّل الموقف الثوري الى وقته وظرفه المناسب.

ثانياً: مقتل الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته

ثانياً: مقتل الامام الحسين عليه السلام وأهل بيته:

كان مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وخيرة الصحابة والتابعين معه ذا أثر كبير على نفوس أهل المدينة؛ لأن الإمام الحسين عليه السلام يمثل القيادة الحقيقية للمسلمين، والأمل المنشود في اعادة الإسلام الى ماكان عليه في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم مضافاً الى الحب والتكريم الذي يكنّه أهل المدينة له، باعتباره ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وابن أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي وقف أهل المدينة معه


1- 1 النجوم الزاهرة 1: 163.
2- 2 الإمام الحسن لعبد اللَّه العلايلي: 26. منشورات الشريف الرضي 1415 ه. ط 1.

ص: 250

في جميع أدوار مسيرته التاريخية، فازدادت كراهية أهل المدينة خصوصاً والمسلمين عموماً للحكم الأموي بمقتل الحسين عليه السلام تلك القتلة المأساوية، من قتل للكبار والصغار وقتل بعض النساء، وما رافقها من تمثيل بجثث القتلى، واقتياد بنات رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم سبايا الى الكوفة ثم الى الشام، وحمل رؤوس الشهداء على الرماح، وضرب عبيد اللَّه بن زياد لوجه الحسين بالقضيب (1).

وتحدّى الحكم الأموي مشاعر أهل المدينة بنصب (رأس الحسين في المدينة) (2). وهو تحدٍّ سافر لهم، تحدٍّ لعواطفهم وأفكارهم، فوجدوا أنّ هتك حرمة الاسلام بمقتل سبط رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم لم يبق لأحد حرمة بعده، وممّا زاد في كراهيتهم ليزيد وتحريك ضمائرهم باتجاه التمرد على حكم يزيد قيام الإمام علي ابن الحسين عليه السلام وعمته زينب وزوجة أبيه الرباب باثارة المظلومية وابراز تفاصيل الظلم الذي تعرض له الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته، فحرّكت تلك المظلومية كوامن الغضب والكراهية وتحولت من طور القوة الى طور الفعل والتحدّي العسكري، فتظافرت جميع الوقائع في انضاج الموقف الثوري، كما قال المسعودي: (ولما شمل الناس جور يزيد وعمّاله وعمّهم ظلمه، وما ظهر من فسقه، من قتله ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأنصاره وما أظهر من شرب الخمور وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون بل كان فرعون أعدل منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته ... أخرج أهل المدينة عامل يزيد ...) (3).

وقال الديار بكري: (إنّ أكابر أهل المدينة نقضوا بيعة يزيد لسوء سيرته، وأبغضوه لما جرى من قتل الحسين) (4).

ثالثاً: الاستهانة بالمفاهيم والقيم الاسلامية

ثالثاً: الاستهانة بالمفاهيم والقيم الاسلامية:

لم يكتفِ يزيد بقتل الحسين عليه السلام وأهل بيته، بل ترقّى في موبقاته ليعلن


1- 1 الكامل في التاريخ 4: 79- 80. تاريخ الطبري 5: 456.
2- 2 أنساب الأشراف للبلاذري 3: 219. دار التعارف 1397 ه. ط 1.
3- 3 مروج الذهب للمسعودي 3: 69. دار الهجرة 1409 ه. ط 2.
4- 4 تاريخ الخميس لحسين الديار بكري 2: 300. مؤسسة شعبان.

ص: 251

بصراحة مايختلج في خاطره من مفاهيم واعتقادات ومن أهداف أراد تحقيقها فتحققت أولى خطواتها بمقتل الحسين عليه السلام، فحينما شاهد يزيد رؤوس الشهداء على المحامل لم يتمالك خواطره وأفصح عن سريرته في شعره الذي يقول فيه:

(لمّا بدت تلك الحمول وأشرفت تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل فقد اقتضيت من الرسول ديوني) (1)

فأثبت يزيد أن دوافع قتل الحسين دوافع جاهلية تعود الى طلب ثأر المشركين الذين قتلهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وأمير المؤمنين علي عليه السلام، وتأسف يزيد على قتلى المشركين في معركة بدر وتمنّى حضورهم لمشاهدة أخذ الثأر فأنشد شعراً له أو لغيره متمثلًا به.

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

فأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا لي هنيّاً لا تسل

حين حكت بقباء بركها واستحرّ القتل في عبد الاشل

قد قتلنا الضعف من أشرافكم وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل (2) وقد أضاف ابن العماد الحنبلي بيتاً آخر ليزيد.

لعبت هاشم بالملك فلا ملك جاء ولا وحي نزل (3)

ومن خلال هذه الأشعار أفصح يزيد عن متبنياته الفكرية والعاطفية والسلوكية، وأعلن تحديه الواضح لأفكار المسلمين وعواطفهم، فأيقن أهل المدينة انحراف الحكم الأموي عن الإسلام وتخطيطه لعودة الجاهلية الى مسرح الأحداث من جديد، فوجد أهل المدينة ان اصلاح الأوضاع القائمة لايتحقق من خلال المعارضة السلمية الهادئة، فلا جدوى للقول ولامعول على الكلام، مالم يُتخذ موقف يتناسب وحجم التحدي، حجم المخاطر المحيطة بالاسلام وبالكيان الإسلامي، فكان الموقف هو الثورة المسلحة في أوانها.

رابعاً: السخط العام على الحكم الأموي


1- 1 روح المعاني للآلوسي 26: 73. دار احياء التراث العربي.
2- 2 البداية والنهاية 8: 192. المنتظم 5: 343.
3- 3 شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 1: 69. دار الآفاق بيروت.

ص: 252

رابعاً: السخط العام على الحكم الأموي

واجه الحكم الأموي سخط عام من قبل المسلمين جميعاً وفي جميع الأمصار، واستشرى السخط العام ليمتد الى الأسرة الحاكمة نفسها والموالين لها، فتبرأت أمّ عبيد اللَّه بن زياد من ابنها لاصدار أوامره بقتل الإمام الحسين عليه السلام وساندها في البراءة أحد أبنائها، ولاقى يزيد استنكاراً شديداً من قبل نسائه ومن قبل أخواته، واستنكر يحيى بن الحكم أخو مروان مقتل الإمام الحسين عليه السلام وأصاب الندم الغالبية العظمى من قادة الجيش وجنوده الذين شاركوا في مقتل الحسين كعمر بن سعد وشبث بن ربعي (1).

كما استنكر البقية من صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم مقتل الحسين عليه السلام ومنهم زيد ابن أرقم وواثلة بن الاسقع، وندم الكثير من المسلمين لعدم اشتراكهم في المعركة الى جنب الحسين عليه السلام، خصوصاً أهل الكوفة والبصرة والمدائن، وأخذوا يعدّون العدّة للوثوب على الحكم الأموي في ثورة مسلحة، وقد اعترف يزيد بالسخط العام على حكومته، وحاول التنصّل عن جريمة قتل الحسين وإلقاء اللوم على عبيد اللَّه بن زياد فقال: (بغّضني بقتله الى المسلمين، وزرع في قلوبهم العداوة، فأبغضني البر والفاجر) (2).

وقد اضطرّ يزيد إلى إكرام الإمام زين العابدين، وارساله مع نساء الحسين الى المدينة بتبجيل واحترام ملقياً باللوم على ابن زياد، وهذه الأحداث جعلت أهل المدينة يشعرون بضعف الحكم الأموي وانحسار شعبيته في داخل الشام وحدها، خصوصاً أنه لم يتخذ موقفاً حازماً من تمرّد عبد اللَّه بن الزبير في مكة وجمعه للأتباع والأنصار، فازداد شعور أهل المدينة بضعف الحكم الأموي، ممّا دفعهم للتخطيط الى القيام بثورة مسلحة.

العوامل والأسباب الفعلية للواقعة


1- 1 الكامل في التاريخ 4: 86- 90.
2- 2 البداية والنهاية 8: 232.

ص: 253

العوامل والأسباب الفعلية للواقعة

أولًا: الاعتداء على بعض أهل المدينة

أولًا: الاعتداء على بعض أهل المدينة

جعل والي المدينة عمرو بن سعيد الأشدق على شرطته عمرو بن الزبير، فأرسل بدوره الى نفر من أهل المدينة فضربهم ضرباً شديداً منهم المنذر بن الزبير وابنه محمد، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد اللَّه بن حكيم، ومحمد بن عمّار بن ياسر وغيرهم، ممّا أثّر هذا الموقف على نفوس أهل المدينة من بقية المهاجرين وأبنائهم والأنصار وأبنائهم، واعتبروا ذلك بداية للاستهانة بهم والاعتداء على كرامتهم وأرواحهم، وأيقنوا أن الحكم الأموي الذي تجرأ على قتل ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، سيكون أكثر جرأة واقداماً على قتلهم وهو يعلم بكراهيتهم لحكمه، فأيقنوا أن الهجوم على المدينة بات وشيكاً فتهيَّأوا للمواجهة المسلحة.

ثانياً: التحولات الادارية

ثانياً: التحولات الادارية

عزل يزيد عمرو بن سعيد الأشدق عن ولاية المدينة، وأعاد الوليد بن عتبة اليها، ثمّ عزله فولّى مكانه عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وهو فتى حدث صغير السن قليل التجربة في الإدارة وفي التعامل مع أهل المدينة، وفيهم بقايا المهاجرين والأنصار، ورافق كل التحولات تغيير في الأجهزة الحكومية العاملة في المدينة ممّا أضعف السيطرة عليها وأصبحت الفرصة مناسبة للخروج من قبضة الحكومة الحالية.

ثالثاً: الاطلاع المباشر على ممارسات يزيد

ثالثاً: الاطلاع المباشر على ممارسات يزيد

أرسل عثمان بن محمد وفداً من أهل المدينة الى يزيد ومنهم عبد اللَّه بن

ص: 254

حنظلة غسيل الملائكة، وعبد اللَّه بن أبي عمرو بن حفص المخزومي وبعض الأشراف فأكرمهم يزيد بالأموال والعطايا لشراء ذممهم، ولكن ذلك لم يثنهم عن عزمهم بعد ان اطلعوا اطلاعاً مباشراً على ممارسات يزيد المخالفة للمنهج الإسلامي، فلما رجعوا أظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا: (... قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير ويعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب).

وقال ابن حنظلة موضحاً دوافع الثورة: (... فواللَّه ماخرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة) (1). وقد أخذوا العطايا من يزيد لتعينهم على التمرّد المسلح في وقته المناسب.

رابعاً: مصادرة الأموال وردود الأفعال الحكومية

رابعاً: مصادرة الأموال وردود الأفعال الحكومية

منع أهل المدينة من وصول الحنطة والتمر الى الشام، واعتبروا ذلك حقّاً لهم في ظرف الفقر الذي خيّم عليهم والذي فرضه الحكم الأموي عليهم، فأخبر المسؤول عن إيصالها الوالي عثمان بن محمد فأرسل الى رؤوس أهل المدينة وكلمهم بكلام غليظ وتأزم الموقف فأعلنوا الخروج عليه، وحينما سمع يزيد بالحدث كتب اليهم كتاباً شديد اللهجة جاء فيه: (... وأيم اللَّه لئن آثرت أن أضعكم تحت قدمي لأطأنكم وطأةً أُقلّ منها عددكم، وأترككم أحاديث تتناسخ كأحاديث عادٍ وثمود، وأيم اللَّه لايأتينكم مني أولى من عقوبتي فلا أفلح من ندم).

ولما قُرئ الكتاب وأيقن عبد اللَّه بن مطيع ورجاله معه أن يزيد باعث الجيوش اليهم أجمعوا على الخلاف والخروج عن طاعته (2).

وهكذا (كان تحرك المدينة استنكاراً مباشراً لمقتل الحسين ورفضاً للسيادة


1- 1 تاريخ الاسلام للذهبي: 27. تاريخ الخلفاء للسيوطي: 167.
2- 2 الامامة والسياسة 1: 207.

ص: 255

الأموية التي حادت برأيهم عن الشرعية وانحرفت عن روح الإسلام) (1).

واستثمر يزيد موقفهم لابراز موقفه الانتقامي منهم بدافع الثأر لماحدث في بدر، لأن غزوة بدر (التي كانت غالبيتها من الأنصار ... قد أثارت حقد قريش على هؤلاء مُلقية عليهم مسؤولية الهزيمة التاريخية التي ظلّت تتفاعل أجيالًا في نفوس بني أمية) (2).

سير الاحداث

سير الأحداث

ولّى يزيد عثمان بن محمد بن أبى سفيان المدينة وهو فتى حدث، لم يمر بتجربة في التعامل مع الأفراد أوالتعامل مع الأحداث، فأرسل وفداً من أهل المدينة الى يزيد ومنهم عبد اللَّه بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد اللَّه بن أبي عمرو بن حفص المخزومي فأكرمهم يزيد بالعطايا، ولكن ذلك لم يمنعهم من إظهار مساوئه التي اطلعوا عليها، فلما وصلوا الى المدينة اتفقوا على خلع يزيد، ومنعوا من وصول الحنطة والتمر الى الشام، فلما سمع يزيد بالخبر بعث الجيوش اليهم، فأعلنوا العصيان المسلح وتهيأوا للمقاومة وحصروا بني أمية ومواليهم وكانوا ألفاً ثم أخرجوهم بعدما أخذوا منهم المواثيق أن لا يظاهروا عدّوهم عليهم.

أوصى يزيد قائد الجيش مسلم بن عقبة: (أدع القوم ثلاثاً فان أجابوك وإلّا فقاتلهم فإذا ظهرت عليهم فانهبهاثلاثاً).

وقام أهل المدينة بحفر خندقٍ حولها، وحين وصول جيش الشام خان مروان وأبناؤه الميثاق، وظاهروا الجيش على قتال أهل المدينة، وأقنعوا بني حارثة بادخال جيش الشام من جهتهم، فدخل الى جوف المدينة، فكان الهجوم على أهلها من الأمام ومن الخلف ثم من الجهات الأربع، فحوصرت المدينة، لكن أهلها استبسلوا بالقتال واستطاع عبد اللَّه بن حنظلة أن يهزم كل من توجه الى


1- 1 التوابون للدكتور ابراهيم بيضون: 82.
2- 2 الأنصار والرسول: د. ابراهيم بيضون: 29.

ص: 256

قتاله الى أن قُتل أخوه وأبناؤه العشرة، وبعد مقتلهم انهزم أهل المدينة، واستطاع الجيش الأموي اخماد حركتهم وأباح قائدهم المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال، ودعى ابن عقبة أهل المدينة الى البيعة على أنهم عبيد ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم فمن أبى البيعة بهذه الصورة قُتل، واستثنى من ذلك الإمام علي بن الحسين عليه السلام، واستطاع عليه السلام أن يشفع لبقية أهل المدينة، وأنقذهم من القتل (1).

نتائج الحقد الأموي على المدينة وأهلها

أولًا: عدد القتلى

أولًا: عدد القتلى

استمر الجيش الشامي بإبادة أهل المدينة وإكثار القتل فيهم ثلاثة أيام، حتّى بلغ العدد الذي أُحصي يومئذٍ (من قريش والأنصار والمهاجرين ووجوه الناس ألفاً وسبعمئة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان).

(وقُتل من أصحاب النبى صلى الله عليه و آله و سلم ثمانون رجلًا، ولم يبق بدريّ بعد ذلك) (2).

وفي رواية الزهري: (سبعمائة من وجوه الناس، ومن لا يعرف من عبد وحر وامرأة عشرة آلاف) (3).

وفي رواية ابن أعثم (6500) ورواية المسعودي (4200) (4).

والظاهرة البارزة في هوية القتلى تُظهر التركيز على أبناء الصحابة وبقية الصحابة من حملة القرآن ومن المشاركين في بدر، حتّى كانت الحرّة نهاية للبدريين جميعاً وقتل فيها

(سبعمائة من حملة القرآن) (5).

ومن الوجوه البارزة التي قتلت في الواقعة: عبد اللَّه بن حنظلة غسيل الملائكة وأبناؤه العشرة وأخوه لأمه محمّد بن ثابت بن قيس وزيد بن عبد


1- 1 الكامل في التاريخ، تاريخ الطبري، الامامة والسياسة، مروج الذهب.
2- 2 الامامة والسياسة 1: 215- 216.
3- 3 المنتظم 6: 16.
4- 4 الفتوح 5: 181. مروج الذهب 3: 70.
5- 5 تاريخ الاسلام للذهبي: 30.

ص: 257

الرحمن بن عوف، وعبد اللَّه بن زيد بن عاصم، ومحمد بن عمرو بن حزم، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن حاطب، ومعقل بن سنان الأشجعي، وابراهيم بن نعيم النحّام، ومحمد بن أبي كعب، وسعد وسليمان وإسماعيل وسليط وعبد الرحمن وعبد اللَّه أبناء زيد بن ثابت، وعون وأبو بكر ابنا عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، وجعفر بن محمد بن الحنفية والفضل بن العباس بن ربيعة، وحمزة بن عبد اللَّه بن نوفل بن الحارث، والعباس بن عتبة بن أبي لهب، ومحمد بن أبي الجهم.

ثانياً: الاعتداء على النساء والأطفال

ثانياً: الاعتداء على النساء والأطفال

لم يرع الجيش الشامي أية حرمة للنساء والأطفال، فاستقبلوا أوامر الإباحة باندفاع منقطع النظير، وحولوها الى واقع ملموس، فبعد هزيمة أهالي المدينة (افتض فيها ألف عذراء) وانه (حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج) (1).

فقد خالف الجيش المسلّمات الأساسية في الشريعة الإسلامية وفي الأعراف القائمة، فمهما كان ذنب الرجال فلا ذنب للنساء وهنّ مؤمنات مسلمات لايجوز سبيهنّ أو الاعتداء عليهنّ. ودخلت الجيوش الشامية أحد البيوت فلما لم يجدوا فيه إلّاامرأة وطفلًا ليس لديها مال أخذوا طفلها وضربوا رأسه بالحائط فقتلوه (2). وقام أحد جنود الشام بتكرار العملية حينما ضرب ابناً لابن أبي كبشة الأنصاري بالحائط فانتشر دماغه في الأرض (3).

ثالثاً: النهب والسلب

ثالثاً: النهب والسلب

أول دور انتهبت والحرب قائمة دور بني عبد الأشهل، فما تركوا في المنازل التي دخلوها شيئاً إلّانهبوه من أثاث وحلي وفرش حتّى الحمام والدجاج كانوا


1- 1 تاريخ الخلفاء: 167. البداية والنهاية 8: 221. تاريخ الاسلام: 26.
2- 2 المحاسن والمساوي ء للبيهقي 1: 104.
3- 3 الامامة والسياسة 1: 215.

ص: 258

يذبحونها، ودخلوا على أبي سعيد الخدري، فقال لهم أنا صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له جنود الشام: مازلنا نسمع عنك، ولكن أخرج الينا ماعندك، فلما لم يجدوا عنده شيئاً نتفوا لحيته وضربوه، ثم أخذوا ماوجدوه من مواد عينية لاقيمة لها، وأرسلت سعدى بنت عوف المرّي الى مسلم بن عقبة المرّي تطلب منه عدم التعرض لابلها باعتبارها ابنة عمٍّ له، فقال:

(لاتبدأوا إلّابها)

، واستمر جيش الشام بالنهب والسلب ثلاثة أيام فما تركوا مالًا أو ممتلكات عينية إلّا أخذوها (1).

رابعاً: انتهاك المقدسات

رابعاً: انتهاك المقدسات

لم يرع جيش الشام أي حرمة للمقدسات الإسلامية فكان همّه ارضاء يزيد بن معاوية بأي اسلوب كان، وكانت طاعته مقدمة على كل شي ء، فكان الجيش يخاطب بقايا المهاجرين والأنصار (يايهود) (2).

وسمّى ابن عقبة المدينة (نتنة وقد سمّاها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم طيّبة) (3).

وعطّلت الشعائر الإسلامية ثلاثة أيام، قال أبو سعيد الخدري: (فواللَّه ما سمعنا الأذان بالمدينة ... ثلاثة أيام إلّامن قبر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم) (4).

وحينما وصلت الأخبار الى يزيد وفي رواية حينما ألقيت الرؤوس بين يديه جعل يتمثل بقول ابن الزبعري:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

حين حكّت بقباء بركها واستحر القتل في عبد الأشل (5)

وسبق ليزيد أن تمثل بهذه الأبيات حينما وصل اليه رأس الإمام الحسين عليه السلام.

وهكذا كانت الواقعة تعبيراً عن الحقد الذي يكنّه الأمويون للأنصار منذ واقعة بدر، والذي ظهر في توجيهات يزيد لابن عقبة قبل الواقعة: (فإذا قدمت


1- 1 م. ن: 1- 213. المنتظم 6: 15.
2- 2 أنساب الأشراف: قسم 4، 1، 327.
3- 3 مروج الذهب 3: 69.
4- 4 الفتوح 5: 182. ابن أعثم دار الكتب العلمية 1406 ه. ط 1.
5- 5 أنساب الأشراف 4- 1- 333. الأخبار الطوال: 267. العقد الفريد 5: 139.

ص: 259

المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك الحرب، فالسيف السيف، أجهز على جريحهم وأقبل على مدبرهم واياك أن تبقي عليهم) (1).

وقد نفّذ ابن عقبة تلك التوجيهات وشجّع على الإبادة الجماعية فكان مناديه ينادي: (من جاء برأس فله كذا وكذا ومن جاء بأسير فله كذا وكذا)، فلم يبق بدري إلّاقتل (2).

فأخذ يزيد ثأر المشركين الذين قتلوا ببدر يوم الحرّة فانتقم من بقايا المهاجرين والأنصار وأبنائهم انتقاماً متناسباً مع درجة الحنق التي يكنّها لهم.

النتائج البعيدة للواقعة

أولًا: تنامي الحركات المسلحة

أولًا: تنامي الحركات المسلحة:

قال الذهبي: (لما فعل يزيد بأهل المدينة مافعل، وقتل الحسين واخوته وآله ... بغضه الناس وخرج عليه غير واحد، ولم يبارك اللَّه في عمره) (3).

تنامى البغض عند المسلمين ليتحول بالتدريج الى موقف عملي مسلح، فلم يمر على واقعة الحرّة إلّاعام واحد حتّى تمرد أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل مكة على الحكم الأموي. وضعفت سيطرة الولاة الأمويين على هذه الأمصار، فكانت واقعة عين الوردة وحركة المختار الثقفي وحركة عبد اللَّه بن الزبير، وكان لمقتل الحسين عليه السلام ولمقتل أهل المدينة دور كبير لتفاعل العمل الثوري وتناميه واستشرائه في أرض الواقع بالتخلص من السيطرة الأموية.

ثانياً: زوال الدور السياسي لأهل المدينة

ثانياً: زوال الدور السياسي لأهل المدينة:

كانت واقعة الحرّة محنة عظيمة تعرض لها أهل المدينة، وقدموا فيها خسائر


1- 1 الامامة والسياسة 1: 209.
2- 2 معالم الفتن 2: 317. عن كتاب المحن 1: 151- 158.
3- 3 تاريخ الاسلام: 30.

ص: 260

كبيرة كمّاً ونوعاً طالت رجالهم وممتلكاتهم، حيث فقدوا فيها القيادات المؤثرة في سير الأحداث من بقايا المهاجرين والأنصار وخصوصاً المشاركين في بدر حيث كانت لهم مكانة خاصة عند المسلمين، وبفقدانهم فقدت المدينة مؤهلاتها القيادية كما يقول الدكتور ابراهيم بيضون: (ان المحنة العظيمة التي نزلت بهم في الحرّة دفعتهم الى العزلة التامة وانتهت بهم الى زوال دورهم السياسي بصورة نهائية) (1).

فالمآسي التي تعرض لها أهل المدينة والوحشية التي واجهها الجميع بقيت ماثلة أمامهم، أدّت بهم الى الركون الى حياة الدعة والانسحاب من الأحداث الساخنة، ولم تبرز للعيان عملية مشابهة للحرّة إلّافي سنين متأخرة من الحكم الأموي والحكم العباسي.

وقد أصبحت مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حكم بني أمية (كالواحة في الصحراء التي تحيط من جهاتها الأربع الكآبة الموحشة، والظلام الدامس، ولم تسترد المدينة قط عهودها الغابرة حتّى أصبحت في عصر بني أمية بلدة الماضي السحيق) (2).

ثالثاً: انكشاف حقيقة الحكم الأموي

ثالثاً: انكشاف حقيقة الحكم الأموي:

لم يستطع يزيد أن يستمر في إضفاء الشرعية على حكمه والباسه لباساً اسلامياً بعد الذي حدث في واقعة كربلاء وواقعة الحرّة، فقد أبدى يزيد فرحه بما جرى على أهل المدينة وأنشد شعر ابن الزبعري مستشفياً بقتلى أهل الحرّة مصرّحاً بأخذ ثأر بدر منهم، وقد كشفت الممارسات اللاإنسانية الحقيقة التي أخفاها الأمويون والمتمثلة بإحياء المفاهيم والقيم الجاهلية من جديد، فلم يستطع يزيد ولا ولاته ولا بعض الفقهاء السائرين وراء مصالحهم الذاتية من


1- 1 الأنصار والرسول: 56.
2- 2 الامام الحسين للقرشي 1: 292. عن مختصر تاريخ العرب: 75.

ص: 261

إخفاء الحقائق، فأصبح الحكم الأموي في نظر المسلمين حكماً فاقداً للشرعية لايمثل الخلافة بل هو حكم ملكي قائم على أساس الوراثة التي ابتدعها معاوية.

تقييم أسباب الانتكاسة العسكرية

تقييم أسباب الانتكاسة العسكرية

كان هدف أهل المدينة هو الثأر لدم الحسين عليه السلام ورفضاً للسيادة الأموية، وكانت البيعة تتركز على بذل الدماء، فلم يكن للتمرد العسكري أهداف أخرى ومنها اسقاط الحكم الأموي، لذا كان التخطيط منصبّاً على تكريس التحدي، ولهذا كانت النتيجة هي الانتكاسة العسكرية، التي يمكن تحديد أسبابها بالنقاط التالية:

اولًا: فقدان الموقع الاستراتيجي

أولًا: فقدان الموقع الاستراتيجي:

لم تكن المدينة ذات موقع استراتيجي صالح للعمليات العسكرية من ناحية الهجوم والدفاع، وقد أثبتت الوقائع عدم قدرتها على المقاومة حينما داهمتها قوات معاوية بقيادة بسر بن أرطأة في عهد الإمام علي عليه السلام حيث استطاع بسر احتلالها دون مقاومة، اضافة الى ذلك فإن المدينة بقيت في العهد الأموي تعيش الفقر بسبب قلّة الموارد الأولية من جهة وكثرة الضرائب المفروضة عليها، حيث كانت مواردها الأساسية تبعث إلى الشام، ولا يبقي لها والي المدينة إلّااليسير من الموارد، وكان أهل المدينة يشعرون بفقدانها الموقع الاستراتيجي لذا اضطروا الي حفر خندق حولها كما اضطر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة الخندق الى حفره، ولهذا لم تستمر المقاومة في المدينة لجيش الشام أكثر من نهار واحد.

ثانياً: عدم التنسيق مع الأمصار الأخرى

ثانياً: عدم التنسيق مع الأمصار الأخرى:

ان الأمصار الأخرى كالبصرة والكوفة واليمن وغيرها مهيأة للمقاومة

ص: 262

المسلحة، وكانت تنتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على الحكم الأموي، فلو حدث تنسيق بينها وبين المدينة لتغيرت مسيرة الأحداث نحو الأفضل بتكاتف الجهود والأعمال المسلحة، ولكن لم يحدث أي تنسيق يؤدي الى توزيع القوى وفتح جبهات عديدة لتشتيت الجيش الأموي والتقليل من تمركزه في موقع واحد، فأهل المدينة بمفردهم لايستطيعون الصمود في وجه جيش محترف أكثر من يوم واحد وهي نتيجة معلومة سلفاً بدون تنسيق مع الأطراف الأخرى.

ثالثاً: تعدد القيادة العسكرية

ثالثاً: تعدد القيادة العسكرية:

توزعت القيادة العسكرية على قائدين: عبد اللَّه بن مطيع العدوي على قريش، وعبد اللَّه بن حنظلة على الأنصار، وقد تنبأ عبد اللَّه بن عباس بالنتيجة العسكرية من جراء تعدد القيادة قائلًا: (أميران! هلك القوم) (1).

فالقيادة الواحدة تعمل على تنسيق البرامج والخطط، وتجعل الأوامر والتوجيهات واحدة وتساعد على سرعة تنفيذ الأعمال والنشاطات، أما تعدد القيادة يؤدي الى تعدد كل مايتعلق بسير الاحداث، فكانت النتيجة هي استشهاد عبد اللَّه بن حنظلة وانسحاب عبد اللَّه بن مطيع من المعركة ولحوق أتباعه به، وكانت النتيجة هي الهزيمة وعدم الصمود أمام القوات المهاجمة.

رابعاً: عدم التكافؤ بين القوتين

رابعاً: عدم التكافؤ بين القوتين:

اعداد القوة كماً ونوعاً من ضروريات الحسم العسكري، وفي واقعة الحرّة لايوجد تكافؤ بين القوتين من حيث الكم و النوع، فالجيش الأموي كان يفوق الجيش المدني أضعافاً، فقد أرسل يزيد مع مسلم بن عقبة: (اثني عشر ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل) (2). وهم جيش منظم ومدرب ومحترف


1- 1 العقد الفريد 5: 137.
2- 2 البداية والنهاية 8: 218.

ص: 263

للقتال واشترك جميعهم في عدة معارك سابقة، أما الجيش المدني فإنه جيش غير منظم يعتمد على المتطوعين فقط، ولاتوجد لديه امدادات ومراكز إسناد إن احتاج الى ذلك على عكس ماعليه الجيش الشامي.

خامساً: التسرع وعدم اتخاذ التدابير اللازمة

خامساً: التسرع وعدم اتخاذ التدابير اللازمة:

كان التحرك سريعاً فلم يسبقه تخطيط متواصل وكانت القرارات أشبه بالارتجالية فلم تتخذ التدابير اللازمة في انجاح سير الحركة، فأهل المدينة أطلقوا الأمويين ومواليهم وكان عددهم ألفاً، فكشفوا أسرارهم الى الجيش الأموي، وأعطوهم المعلومات الكاملة عن نقاط الضعف والثغرات المتروكة، وفعلًا استطاع مروان أن يدخل الى داخل المدينة برفقة بعض القطعات العسكرية من ناحية بني حارثة، فشجعت هذه الثغرة جيش الشام على الالتفاف ومحاصرة أهالي المدينة من جميع الجهات.

سادساً: وجود المثبطين للعزائم

سادساً: وجود المثبطين للعزائم:

العزيمة والروح المعنوية لها تأثيرها الملحوظ في الاندفاع للقتال والاستمرار عليه دون كلل أو ملل أو تراجع أو نكوص، وعلى الرغم من تحلي أهل المدينة بالعزيمة والاندفاع والاستبشار بالصمود والمقاومة لكن العزيمة لم تدم طويلًا لوجود المثبطين والناهين عن التمرد والخروج، وعلى رأس المثبطين عبد اللَّه بن عمر، فقد منع أبناءه من الاشتراك في المقاومة وقال لهم: (فلايخلعنّ أحد منكم يزيد، ولا يسرعنّ أحد منكم في هذا الأمر فيكون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم بيني وبينه).

وكان يدخل على قادة التحرك وأتباعهم ويحاول منعهم من الخروج،

ص: 264

فدخل على عبد اللَّه بن مطيع وقال له: (إنما جئتك لاحدثك حديثاً سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: من نزع يداً من طاعة فإنه يأتي يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات مفارق الجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية) (1).

وأنكر على أهل المدينة مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت، وقال: (إنما كنا نبايع رسول اللَّه على أن لانفر) (2).

ولما انهزم أهل المدينة وسمع ابن عمر صياح النساء والصبيان قال: (بعثمان ورب الكعبة) (3).

فكان له تأثير كبير على اضعاف معنويات المقاتلين باعتباره فقيها من فقهاء المدينة وممّن عاصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وهكذا اجتمعت ظروف وملابسات عديدة أدت الى الهزيمة العسكرية واستباحة المدينة بسيطرة الأمويين عليها، والقضاء على روح الثورة فيها.

الهوامش:

المساجد والاماكن الاثرية المجهولة (5)

لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

اشارة


1- 1 مختصر تاريخ دمشق 28: 28. تاريخ الاسلام: 25.
2- 2 البداية والنهاية 8: 218.
3- 3 م. ن 8: 221.

ص: 265

ص: 266

ص: 267

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة (5)

لزائر المدينة المنوّرة الميمونة

تأليف عبد الرحمن خويلد

مقدّمة

اشارة

مقدّمة:

بما أنّ للمدينة المنوّرة فضلًا كبيراً على المسلمين، لأنّها مهاجر الرسول الكريم محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وعاصمة الإسلام الأُولى، ومنها انطلق الإسلام إلى الآفاق، وعمَّ بنوره البشرية، وأنقذ مَن هداه اللَّه سبحانه من الشك والضلالة إلى التوحيد والهداية؛ لذلك لابدّ من معرفة معالمها المهمة، وآثارها الرائعة.

وقد رأيت أنّ أكثر الزائرين لطيبة الطيبة لا يعرف عنها سوى المسجد النبوي الشريف، والبقيع، والمزارات الأربعة المشهورة، وهي (مسجد قباء، ومسجد القبلتين، والمساجد السبعة، وشهداء أُحد)، علماً بأنّ قسماً منهم لا يعرف حتّى هذه المزارات الأربعة إلّابعد سماعه عنها من أصحابه أو من بعض سائقي السيّارات عندما يرفعون أصواتهم بعبارة (زيارة يا حاج).

أمّا بقيّة المساجد والأماكن الأثرية الأُخرى فأعتقد أنّ أغلب زوّار هذه

ص: 268

المدينة العزيزة إن لم يكن كلّهم لا يعرف أو لم يسمع عن بعضها، بالرغم من زيارته للمدينة المنوّرة مرّات عديدة.

وكيف تُجهل هذه المساجد والأماكن التي كانت عامرة بنزول الوحي عليه السلام، أو كونها مصلّى أو مقيلَ أو مبيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم؟

فتجّول زوّارها في ربوعها يعيد إلى أذهانهم الذكريات العطرة، والصور الرائعة للسيرة النبوية على هذه الأرض المباركة، ممّا يثلج صدورهم ويسعد نفوسهم، ويزيد إيمانهم؛ لذلك رأيت أنّ من الضروري إخراج هذا الكتاب لينتفع به الزوّار.

والمنهج الذي اتّبعته في ذلك هو: تصوير هذه المساجد والأماكن لسهولة التعرّف عليها أوّلًا، وللحفاظ على صورتها خشية اندثارها ثانياً، ثمّ إيضاح أماكنها، والتعليق عليها.

وقد رتّبتها من حيث القرب والبعد عن مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، مراعياً في ذلك موقعها في اتجاه واحد. ووضعت خريطة تبيّن أماكنها، وتسلسل أرقامها؛ ليستطيع الزائر الوصول إليها بسهولة ويسر، وختمتُ الكتاب بوضع أربعة فهارس له. وحرصت على ذكر المساجد التي ثبت أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم صلّى فيها.

راجياً من اللَّه تعالى العون والسداد والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، إنّه نِعم المولى ونِعم النصير.

ص: 269

23- بئر غَرْس

23- بئر غَرْس

مكان هذه البئر على يسار القادم من مسجد قباء أو من قربان إلى باب العوالي، وهي خلف الإشارة الضوئية، من الجهة الشرقية، وتبعد عنها بمسافة تقدّر بخمسمائة وخمسين متراً، وتقع بمحاذاة معهد دار الهجرة ومدارس الشاوي

ص: 270

الأهلية من الناحية الغربية. وهي الآن مسوّرة من جهاتها الأربع، ولا يمكن رؤيتها إلّابالصعود على جدار سورها.

وهذه البئر مَعْلَم أثري قديم، وهي لسعد بن خيثمة، الذي كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يبيت أيّامه في منزله في قباء قبل أن ينتقل إلى المدينة (1).

جاء في تاريخ معالم المدينة (2) الآتي (قال المطري: وكانت هذه البئر قد خربت فجددت سنة 700 ه وهي كثيرة الماء وعرضها عشرة أذرع وطولها يزيد على ذلك، وماؤها تغلب عليه الخضرة وهو طيّب عذب، وقد خربت بعد ما اشتراها وما حولها الخواجة حسين بن الشهاب أحمد القاواني، وحوّط عليها حديقة وعمّرها، وجعل لها درجة ينزل إليها من داخل الحديقة وخارجها، وأنشأ بجانبها مسجداً عام 882 هجري) (3).

أمّا الآن فهي جافّة من الماء، وقيل: إنّ مَن اغتسل من مائها ثلاثة أيّام ذهبت حُمّته، وقد جرّب ذلك مَن لازمته الحمّى فترة طويلة أو متقطعة، فبرئ منها، وقيل: (4) إنّ في مائها مادة معدنية تداوي مغص المعدة وآلامها.

وقد توهمّ الأُستاذ عبيد اللَّه كردي محقّق كتاب تاريخ معالم المدينة المنوّرة (5) بقوله: (وموقعها الآن أمام معهد دار الهجرة، يفصل بينها وبين المعهد الشارع، كما أنّ بئر غريس بالتصغير تلاصق المعهد من الناحية الغربية).

والصواب كما سألت بعض أهل المحلّة، وكذلك التقيت بالفلّاح الكبير السن الذي يعمل في المزرعة التي فيها هذه البئر، فأخبروني بأنّ هذه البئر المجاورة للمعهد هي المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، وهي المجرّب ماؤها في شفاء بعض الأمراض، ولكن يسمّيها بعض الناس بئر غُرس، ويطلق عليها البعض الآخر بئر غريس.

وقد دعا الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بدلوٍ من مائها فتوضّأ منه، ثمّ سكب بقية وضوئه


1- 1 تاريخ المدينة: 1/ 162، والمغانم المطابة: ص 456.
2- 2 ص 182.
3- 3 لم يبق أثر لهذا المسجد.
4- 4 الدُرّ المنثور: ص 126.
5- 5 ص 182 في الهامش.

ص: 271

فيها. (1) وذكر المراغي في كتابه تحقيق النصرة (2) أنّ أبا نعيم وابن النجّار رَوَيا عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «رأيت الليلة أنّي أصبحت على بئر من الجنّة، فأصبح على بئر غرس، فتوضأ منها، وبزق فيها، وقيل: أُهدي له عسل فصبّه فيها».

وجاء في طبقات ابن سعد (3) «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شرب من بئر غرس وبرّك فيها، وقال: هي عين من عيون الجنّة».

ورُوي عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شرب من بئر غرس وغُسِّل منها.

وأخرج ابن ماجة في سُننه (4) عن عليٍّ رضى الله عنه قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قِرَب من بئري بئر غرس».


1- 1 تاريخ المدينة: 1/ 61؛ وتاريخ معالم المدينة: ص 18؛ والدُر الثمين: ص 126.
2- 2 ص 170.
3- 3 1/ 502- 504.
4- 4 تاريخ المدينة: 1/ 162.

ص: 272

24- مسجد الفُقَيْر

24- مسجد الفُقَيْر

يقع هذا المسجد على يمين الطريق الموصل بين قربان والعوالي، ويبعد عن مسجد قباء بمسافة تقدّر بكيلو متر واحد وتسعمائة متر، وعن الإشارة الضوئية بمسافة كيلو متر واحد، ومكانه على يمين محطة (نفط) للبنزين بالنسبة للقادم من قباء أو قربان.

وفيه أثر لمسجد قديم، وهو عبارة عن غرفة مبنيّة من الحجر، لكنّه مُهْمَل، ومع ذلك يصلّي فيه بعض الزوّار، وقد سوِّر بسور حديدي حديثاً.

وسبب تسميته بالفُقَيْر، لأنّ الرسول صلى الله عليه و آله و سلم قال لسلمان رضى الله عنه عندما جُمعت له فسائل النخل: «اذهب يا سلمان ففقّر (1) لها، فإذا فرغت فأتني: أكن أنا أضعها بيدي» (2).

وكان سلمان رضى الله عنه مسترقّاً ليهودية، وقيل ليهودي يملك هذا المكان الذي


1- 5 فقِّر أيْ احفر، ينظر: القاموس المحيط، فصل الفاء- باب الراء، ص 588.
2- 6 سيرة ابن هشام 1/ 226، وينظر: وفاء الوفاء 2: 991- 992.

ص: 273

كان أصله بستاناً.

وعندما أسلم سلمان رضى الله عنه بعد تأكّده من صحة علامات النبوّة للرسول محمد صلى الله عليه و آله و سلم، والتي أخبره بها آخر راهب نصراني كان يعمل معه، وهي: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم يقبل الهديّة، ولا يقبل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوّة.

ولمّا طلب من اليهودي عتقه من الرقّ، شرط عليه ذلك اليهودي شرطاً إعجازياً، فأخبر سلمان رضى الله عنه الرسول صلى الله عليه و آله و سلم بذلك، فحقّق له المصطفى صلى الله عليه و آله و سلم ذلك الشرط، جاء في الدُرّ الثمين (1) (ولمّا قسم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المسلمين إلى مهاجرين وكلّفهم بالجهة الغربية من الخندق، وإلى أنصار وكلّفهم بالجهة الشرقية منه، اختلفوا في سلمان رضى الله عنه، فقال الأنصار: سلمان منّا، وقال المهاجرون سلمان منّا، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: سلمان منّا أهل البيت، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم هو الذي دفع عوض عتقه لليهودي الذي كان يسترقّه، وهذا العوض: غرس ثلاثمائة نخلة حتّى تثمر، وأربعون أُوقية من الذهب، فغرس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم النخل بيده الشريفة فلم تمضِ عليه سنة حتّى أثمر (2)، وأعطاه قدر بيضة من الذهب، فوزن منها أربعين أُوقية وبقيت كما كانت، وكتب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بذلك كتاباً بينه وبين اليهودي).

25- مشربة أُمّ إبراهيم

25- مشربة أُمّ إبراهيم

مكان هذه المشربة على امتداد شارع العوالي بعد مستشفى الزهراء الخاصّ، ثمّ اتّباع الشارع الأيسر المتّجه إلى مستشفى المدينة الوطني، وتبعد عن مستشفى الزهراء بمسافة تقدّر بسبعمائة متر، ويمكن للقادم من مسجد الفُقَير إلى العوالي الوصول إليها باتّخاذ الشارع الأيمن.

وموقعها مقابل باب سور ضخم، مبنيّ بالطوب الأحمر، كُتبت عليه عبارة (انتاج الميمني للطوب الأحمر)، وباب المشربة أخضر اللون، ويمكن من خلاله


1- 1 ص 204، وينظر: سيرة ابن هشام 1/ 226- 227.
2- 2 أُحرق هذا النخل قبل فترة من الزمن، وبقيت بعض آثاره.

ص: 274

رؤية الربوة المرتفعة الواقعة في الوسط، والتي هي أصل مكان المشربة. وكانت عبارة عن غرفة مبنيّة من الحجر، وفي أسفلها سلالم توصل إلى بئر فيه ماء، وقد دخلتُ الغرفة، وصلّيتُ فيها عام 1987 م.

وقد أُزيلت الغرفة قبل ست سنوات تقريباً، وأُبدل الباب الخشبي القديم بباب حديدي، ويصعب الدخول إليها في الوقت الحاضر إلّالأهل تلك المحلّة؛ لدفن بعض الموتى هناك.

وأصل المشربة أحد بساتين مخيريق بن النضير، التي أوصى به وبغيره من أملاكه للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد اشتراكه في غزوة أحد، وقتله فيها (1)، جاء في سيرة ابن هشام (2) (قال ابن إسحاق: وكان ممّن قتل يوم أحد مخيريق: وكان أحد بني ثعلبة بن الغطيون قال: لمّا كان يوم أحد، قال: يا معشر اليهود، واللَّه لقد علمتم أنّ نصر محمّد عليكم لحق، قالوا: إنّ اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدّته، وقال: إنْ أُصبت فمالي لمحمّد يصنع فيه ما شاء؛ ثمّ غدا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقاتل معه حتّى قُتل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم- فيما بلغنا- مخيريق خير


1- 1 سيرة ابن هشام 2/ 29، وتاريخ المدينة 1/ 172.
2- 2 2/ 29.

ص: 275

يهود).

وكانت السيدة مارية القبطية- رضي اللَّه عنها- تسكن ذلك البستان، وفيه ولدت إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، جاء في الدُرّ الثمين (1) (وقد صلّى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في مشربة أُمّ إبراهيم في بعض زياراته لجاريته وسريته وأُمّ ولده (ماريا القبطية) وبُني في مكان صلاته مسجد في أيام عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة).

وقيل (2): إنّ سبب تسميتها بمشربة أُمّ إبراهيم هو تعلقّ السيدة ماريا القبطية بخشبة من خشب تلك المشربة حين ضربها المخاض وقت ولادة إبراهيم.

وكان موقعها يُسمّى قديماً بالدشت أو الدشيت، وهو بين نخل تُعرف للأشراف القواسم، وهي نسبة إلى بني قاسم بن جعفر أخي الحسن العسكري (3).


1- 1 ص 149.
2- 2 عمدة الأخبار: ص 171؛ والدُرّ الثمين: ص 149.
3- 3 معالم تاريخ المدينة: ص 121.

ص: 276

26- مسجد الفضيخ

26- مسجد الفضيخ

يقع هذا المسجد إلى الجنوب من مشربة أُمّ إبراهيم، في الشارع الموصل بين شارع العوالي وخط الحزام، على الطريق المتّجه إلى مستشفى المدينة الوطني، في الشارع الفرعي الأيمن قبل صالة (مرحبا) للأفراح بمسافة تقدّر بخمسمائة متر.

وكلمة الفضيخ هي عصير العنب، أو شراب يُتّخذ من البسر، وهو التمر قبل إرطابه. وفَضْخُه: أي دَفْقُه (1).

وقد ذكر ابن شبة في كتابه تاريخ المدينة (2) سبب تسميته بمسجد الفضيخ أنّه روي عن (جابر بن عبد اللَّه (رضي اللَّه عنهما) قال: حاصر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بني النضير، فضرب قبَّته قريباً من مسجد الفضيخ، وكان يصلّي في موضع الفضيخ ست ليالٍ، فلمّا حرّمت الخمر خرج الخبر إلى أبي أيوب ونفر من الأنصار وهم يشربون فيه فضيخاً، فحلّواوكاءالسقاء، فهرقوه فيه، فبذلك سُمِّي مسجد الفضيخ).


1- 4 القاموس المحيط، باب الخاء- فصل الفاء ص 329، والصحاح، باب الراء- فصل الباء 2/ 589.
2- 5 1/ 69. وينظر: عمدة الأخبار: ص 171، والدُرّ الثمين: ص 142.

ص: 277

وبناء هذا المسجد متين، تعلوه خمس قباب، وله رحبة واسعة تحت السماء، وفيه رَوْحانية وخشوع، ويؤمّه أهل تلك المحلّة وغيرهم للصلاة فيه.

ويرى البعض (1) أنّ حادثة ردّ الشمس لعليّ كرّم اللَّه وجهه بعد غروبها؛ ليدرك صلاة العصر، وقعت في هذا المسجد، فلمّا فرغ من صلاتها انقضّت انقضاض الكوكب. وهذا الرأي هو الأكثر صحّة؛ لأنّه المروي عن عدد من العلماء القُدامى (2).

وقيل: إنّ هذا المسجد يُطلق عليه اسم مسجد الشمس؛ لوقوعه إلى جهة شروق الشمس بالنسبة لمسجد قباء (3).

وهذا تعليل غير واقعي؛ لأنّ هناك الكثير من المساجد واقعة في جهة شروق الشمس بالنسبة لمسجد قباء، فَلِمَ لم تُسمَّ بمسجد الشمس؟ كمسجد الفُقَيْر ومسجد بني قريظة (4) ومسجد بني ظفر (5).

جاء في كتاب عمدة الأخبار (6) (قال القاضي عياض في الشفا: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يُوحى إليه ورأسه في حِجر عليّ رضى الله عنه، فلم يصلِّ العصر حتّى غربت الشمس، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أصلّيت يا عليّ؟ قال: لا، فقال: اللهمّ إنّه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء: فرأيتها طلعت بعد ما غربت، ووقفت على الجبال والأرض).

وأخرجه الطماوي في مشكل الآثار (7)، وقال: (عن أحمد بن صالح إنّه كان يقول: لا ينبغي لمن كان سبيله العِلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء الذي روي لنا عنه، لأنّه من أجل علامات النبوّة).

وذكر الطريحى في كتابه ردّ الشمس (8) نص قول الفضل بن الحسن الطبرسي الآتي (ما استفاضت فيه الأخبار ونظّمت فيه الأشعار رجوع الشمس له مرّتين، في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مرّة وبعد وفاته أُخرى. فالأُولى قد روتها أسماء


1- 1 آداب الحرمين: ص 147.
2- 2 ردّ الشمس: ص 94.
3- 3 الدُرّ الثمين: ص 140؛ وتاريخ معالم المدينة: ص 125؛ وآثار المدينة: ص 97.
4- 4 لم أقف له على أثر، وقد صلّى فيه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أيام حصاره لبني قريظة.
5- 5 قد أُزيل مكانه، وأصبح الآن وسط شارع الملك عبد العزيز في أوّل صعوده مع الحرّة الشرقية، وقيل: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أتى مسجد بني ظفر، ومعه بعض الصحابة، وأمر قارئاً أن يقرأ عليه القرآن فقرأ حتّى أتى على قوله تعالى في سورة النساء 4/ 41 فكيف إذا جئنا من كلّ أُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، فبكى صلى الله عليه و آله و سلم. ينظر: الدُرّ الثمين: ص 152.
6- 6 ص 171.
7- 7 2/ 11، وينظر: البداية والنهاية 6/ 80.
8- 8 ص 37.

ص: 278

بنت عميس وأُمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وجابر بن عبد اللَّه وأبو سعيد الخدري في جماعة من الصحابة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان ذات يوم في منزله وعليّ عليه السلام بين يديه إذ جاء جبرئيل يناجيه عن اللَّه عزّ وجلّ فلمّا تغشّاه الوحي توسّد فخذ أمير المؤمنين عليه السلام فلم يرفع رأسه حتّى غابت الشمس وصلّى العصر جالساً بالإيماء فلمّا أفاق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال له: أدعُ اللَّه ليردّ عليك الشمس فإنّ اللَّه يُجيبك لطاعتك اللَّه ورسوله، فسألَ اللَّهَ عزّوجلّ أميرُ المؤمنين في ردّ الشمس فردّت عليه حتّى صارت في موضعها من السماء وقت العصر فصلّى أمير المؤمنين الصلاة في وقتها ثمّ غربت وقالت بنت عميس: أمّا واللَّه لقد سمعنا لها عند غروبها صريراً كصرير المنشار في الخشب.

وأمّا الثانية: أنّه لمّا أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم ورحالهم وصلّى بنفسه في طائفة معه العصر، فلم يفرغ الناس عن عبورهم حتّى غربت الشمس وفات كثيراً منهم الصلاة، وفات جمهورهم فضل الجماعة، فتكلّموا في ذلك فلمّا سمع كلامهم فيه سأل اللَّه عزّوجلّ ردّ الشمس عليه فأجابه بردّها عليه فكانت في الأُفق على الحال التي تكون وقت العصر فلمّا سلّم بالقول غابت فسُمِع لها وجيب (1) شديد).

ومن الخير للمسلم أن يدعو في هذا المسجد قائلًا:

(اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، ولا تدع لي في هذا المكان المكرّم والمسجد المعظّم ذنباً إلّاغفرته، ولا همّاً إلّافرّجته، ولا مرضاً إلّاشفيته، ولا عيباً إلّا سترته، ولا رزقاً إلّابسطته، ولا خوفاً إلّاآمنته، ولا شملًا إلّاجمعته، ولا غائباً إلّا حفظته وأدنيته، ولا دَيْناً إلّاأدّيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة لك فيها رضىً ولي فيها صلاح إلّاقضيتها يا أرحم الراحمين) (2).


1- 1 وجيب: خَفْق، ينظر: القاموس المحيط، باب الراء فصل الواو ص 180.
2- 2 آداب الحرمين ص 147.

ص: 279

الهوامش:

ص: 280

ص: 281

ص: 282

59- من أحاديث الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- في الحجِّ 605

60- الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظلّه العالي- 607

61- فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه 611

62- مناسك الحجّ (منسكٌ مختصر في أعمال الحجّ والعمرة) 649

63- بيعة العقبة 669

64- مقام إبراهيم 679

65- الحرم المكّي في مرآة الفقه 717

66- تعمير الكعبة ومراسمه 742

67- الحجّ البذلي 773

68- الحجّ في الأدب العربي 792

69- القرامطة وفتنتهم في مكّة 801

70- مختصر معجم معالم مكة التأريخية (4) 824

71- واقعة الحرّة 844

72- المساجد والأماكن الأثرية المجهولة 868

ص: 283

الحج في أحاديث الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- 609

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظلّه العالي- 611

فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه 615

مناسك الحجّ (منسكٌ مختصر في أعمال الحجّ والعمرة) 653

بيعة العقبة 673

مقام إبراهيم 683

الحرم المكّي في مرآة الفقه 721

تعمير الكعبة ومراسمه 746

الحجّ البذلي 777

الحجّ في الأدب العربي 796

القرامطة وفتنتهم في مكّة 805

مختصر معجم معالم مكة التأريخية (4) 828

واقعة الحرّة 847

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة (5) 871

ص: 284

محدّداً

صقعٍ عزّوجلّ:

أكلها السياسة

(جَعَلَ اللَّه الكعبة البيت الحرامَ قياماً للنّاس)

(99).

النبيّ صلى الله عليه و آله هجرته صلى الله عليه و آله النبيّ صلى الله عليه و آله هجرته صلى الله عليه و آله يزل

بلى لها يعلّم أذهان الآية، بيّن فأت يبدو

وقفة قصيرة مع «وافقت ربي!» أبرز هذه

1- حرمة القتال في الحرم به الالتقاط

4- كراهة سؤال الناس: وجب المذهب المالكي

4- كراهة سؤال الناس: وجب المذهب المالكي:

بعدما راجعتُ قلنا:

الثالث: الثاني: الخامس:

ودعا أي حدا حدا

فأخذ يزيد ثأر المشركين الذين قتلوا ببدر يوم الحرّة فانتقم من بقايا المهاجرين والأنصار وأبنائهم انتقاماً متناسباً مع درجة الحنق التي يكنّها لهم.

أسر: أسرته: عليهما السلام

محمد الشريف وبنيت

ص: 285

الصفحة الأُولى من المخطوط بخطّ المصنّف رحمه الله

الصفحة الأخيرة من المخطوط بخطّ المصنّف رحمه الله

ص: 286

الحجّ البذلي 777

الحجّ في الأدب العربي 796

الحجّ في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظلّه العالي- 611

الحج في أحاديث الإمام الخميني- رضوان اللَّه تعالى عليه- 609

الحرم المكّي في مرآة الفقه 721

القرامطة وفتنتهم في مكّة 805

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة (5) 871

بيعة العقبة 673

تعمير الكعبة ومراسمه 746

فلسفة الحجّ وأسرار مناسكه 615

مختصر معجم معالم مكة التأريخية (4) 828

مقام إبراهيم 683

مناسك الحجّ (منسكٌ مختصر في أعمال الحجّ والعمرة) 653

واقعة الحرّة 847

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.