ميقات الحج المجلد6

اشارة

عنوان و نام پديدآور : ميقات الحج[پيايند: مجله]

مشخصات نشر : تهران: منظمة الحج و الزيارة، 1417 ق. - = 1375 -

فاصله انتشار : شش ماه يكبار

يادداشت : عربي

فهرست نويسي براساس سال3 شماره5 سال1417ق.

يادداشت : اين نشريه در بيروت نيز منتشر مي شود

يادداشت : المدير المسؤول: محمد محمدي ري شهري

رئيس التحرير: علي قاضي عسكر

يادداشت : كتابنامه

ترجمه عنوان : Mighat al - haj

موضوع : حج -- نشريات ادواري

شناسه افزوده : محمدي ري شهري، محمد، 1325 - ، مدير مسئول

Muhammadi Reyshahri, Muhammad

قاضي عسكر، سيدعلي، 1325 - ، سردبير

شناسه افزوده : سازمان حج و زيارت

رده بندي كنگره : BP188/8

رده بندي د... : 297/35705

ص:1

الحجّ في احاديث الامام الخميني- قدس سره-

ص: 2

ص: 3

ص: 4

ص: 5

العدد السادس

الحجّ في أحاديث الإمام الخميني- قدس سره-

من النقاط المهمّة التي ينبغي على الحجّاج الكرام االالتفات إليها أن مكّة المكرمة والمشاهد المشرّفة هي أساس الأحداث الكبيرة لنهضة الأنبياء والإسلام ورسالة النبي الأكرمصلى الله عليه و آله، وهي مكان نزل فيه الأنبياء وجبريل الأمين، هذا المكان الذي يذكّرنا بالمصائب والصعوبات، التي تحمَّلها النبي الأكرمصلى الله عليه و آله في سبيل الإسلام والبشرية لسنين طويلة، وأن التواجد في هذه المشاهد المشرفة والأماكن المقدسة لهو من الأهمية بمكان. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبي عرفنا أكثر مسؤولية الحفاظ على إنجازات هذه النهضة وهذه الرسالة الإلهية، وكم عانى النبي الأكرمصلى الله عليه و آله وأئمة الهدى عليهم السلام من الغربة لأجل دين الحق وإزهاق الباطل. لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا على كثرة التهم والإهانات التي كالتها ألسنة امثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان. وفي نفس الوقت استمروا وأكملوا طريقهم مع وجود الحصار

ص: 6

الاقتصادي في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا ولم يهنوا ومن بعدها تحمّلوا الهجرة والغربة ومراراتها وآلامها في سبيل دعوة الحق، وتبليغ رسالة اللَّه، وتواجدوا فى الحروب المتتالية وغير المتكافئة. ورغم المؤامرات ومع كثرة المنافقين، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمّة عالية وصلبة حيث شهدتصخور وحصى مكّة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقتها وأسواقها آثار تبليغ رسالتهم.

وإذا ما رفعنا الستار وكشفنا النقاب عن سرّ ورمز تحقق، «فاستقم كما أمرت». لعرف وعلم زوّار بيت اللَّه الحرام كم سعى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لأجل هدايتنا وحصول المسلمين على الجنّة، وكم أن مسؤولية أتباعه ثقيلة، ويقيناً أن حجم الظلم والعذاب والصعوبات التي مرت على أئمتنا كانت أكبر وأكثر بمراتب من مشاكلنا وآلامنا نحن، مع أن الشعب في إيران قدم الشهداء وخاصة إبان الحرب الفروضة وأثناء أحداث الثورة المباركة، وعانى الكثير من الصعوبات والآلام، وتحمل الظلم الكبير وقدم الشباب الأعزاء في سبيل اللَّه.

*** إن الكعبة المعظّمة هي المركز الأوحد لتحطيم الأصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة إبراهيم الخليل في أول الزمان، وسيرفعه حبيب اللَّه ولده المهدي العزيز الموعود- روحي فداه- في آخر الزمان، وسيبقى مرتفعاً. قال اللَّه تعالى لخليله إبراهيم:

«وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق».

الحج في أحاديث الامام الخامنئي- مد ظله العالى-

ص: 7

الحج في أحاديث الإمام الخامنئي- مد ظله العالى-

الحجّ .. هذا الينبوع الفياض بالتقوى والمعنويّة والخير والبركة، يتدفّق بعطائه كلّ عام والى الأبد على العالم الإسلامي، وعلى كلّ مسلم موفّق لأداء هذهِ الفريضة المباركة، فينال كلّ فرد وكلّ جماعة من عطائه بقدر الوسع والقابليّة.

عطاء هذا الينبوع الفيّاض لايقتصر على حجّاج بيت اللَّه الحرام، إذ لو عرفت هذه الفريضة العظيمة وجرى العمل بها بشكلصحيح، فإن كل الافراد والشعوب في جميع أرجاء العالم سينعمون ببركاتها.

الافراد والجماعات البشرية يتعرضون للكوارث والمصائب والآلام من جانبين. الاول: من داخل أنفسهم، ومنشأ ذلك الضعف البشري والاهواء الجامحة والشكوك وجَدب الايمان والخصال المخرّبة. والثاني: الاعداء الخارجيون. فهم النكدُ لحياة الافراد والجماعات بسبب طغيانهم وأطماعهم وعدوانهم ووحشيتهم، وهم البلاء الداهي بسبب حروبهم وظلمهم وتجبّرهم وتعنّتهم.

ص: 8

العالم الاسلامي بأفراده وشعوبه كان دائماً عرضة لهذين التهديدين، وهو اليوم مهدّد أكثر من ذي قبل. فمن جانب نرى إشاعة الفساد في البلدان الاسلامية وفق خطة مدروسة وضعها الأعداء، ونرى فرض الثقافة الغربية- بمساعدة بعض الانظمة العميلة- على مظاهر الحياة بدءاً من السلوك الفردي وحتى تخطيط المدن والحياة العامّة والصحافة وغيرها، هذا من جانب، ومن جانب آخر نشاهد الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية على بعض الشعوب المسلمة، والمذابح الوحشية في لبنان وفلسطين والبوسنة وكشمير وافغانستان ..

وكلها شواهد بارزة على هذين التهديدين في أجوائنا الاسلامية.

الحجّ، هو تلك الهدية الإلهية، والرحمة التي لا ينضب معينها، به يستطيع المسلمون أن يتخلصوا الى الأبد من نكد العيش ومرارته، ومن مرض الانحراف ولوثته، وبمساعدة هذا الذخر الأبدي يستطيعون تحصين أنفسهم في كل زمان من هاتين الكارثتين.

ما في الحج من عناصر التقوى والذكر وحضور القلب والخشوع والتوجّه الى اللَّه سبحانه وتعالى هي كفيلة بمواجهة التهديد الاول، وما فيه من عناصر التجمّع والتوحّد والإحساس بعظمة الأمة الإسلامية الكبرى وقدرتها على ساحة الحجّ هي كفيلة بمقابلة التهديد الثاني.

كلما قوي هذان الجانبان في الحج ازدادت حصانة ومقاومة الافراد والمجتمعات الاسلامية إزاء هذين التهديدين، ومتى ما ضعف او زال أحدهما أو كلاهما فإن الامة الاسلامية بافرادها وشعوبها وبلدانها تصبح أكثر عرضة للكوارث والمحن.

في نصّ القرآن الكريم، وفي نصوص الشريعة الاسلامية المقدّسة تصريح بكلا الجانبين بحيث لا يبقى مجال للشك لكل ذي عين وقلب وإنصاف. مافرضه

ص: 9

اللَّه سبحانه في قوله: «فاذكروا اللَّه كذكركُم آباءَكم أو أشدّ ذكرا» (1)

جاء الى جانبه فريضة أخرى حيث يقول سبحانه: «وأذانٌ من اللَّهِ ورسولِهِ الى الناسِ يومَ الحجّ الأكبر أنَّ اللَّهَ بري ءٌ من المشركين ورسولُه» (2) واتساقا مع قول الحكيم جلّت قدرته: «لن ينالَ اللَّهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُهُ التقوى منكم كذلك سخَّرها لكم لتُكبّروا اللَّه على ما هداكم وبشّر المحسنين» (3)

، نزل قول اللطيف سبحانه: «ليشهدوا منافع لهم» (4).

كل توصية واعلام وسعي لتضعيف واحد من هذين الجانبين أو إبعاده إنّما هو مجابهة مع آيات القرآن الكريم وتعاليمه.

ليس ثمة خسارة للأمة الإسلامية أفدح من أن تتعرّض تعاليم الإسلام وتوجيهاته، برصيدها الحياتي للمسلمين وجميع البشرية، لغفلة وجهل الزعماء الدينيين والسياسيين، وأن يُحال بينها وبين أن يتزوّد من عطائها الناسُ جميعاً.

الحج جزء من هذا الرصيد الحياتي الدائم، وعلى كل المسلمين أن يتعمّقوا في معرفته ويزدادوا انتهالًا من زاده.

الهوامش:

اضواء حول الحجَ


1- 1 البقرة: 200.
2- 2 التوبة: 3
3- 3 الحج: 37.
4- 4 الحج: 28.

ص: 10

أضواء حول الحجَ

عبد اللَّه جوادي آملي

إن أوّلَ بيتٍ وُضعَ للناسِ لَلَّذي ببكةَ مباركاً وهُدًى للعالمينَ فيه آياتٌ بيناتٌ مقامُ إبراهيم ومَن دخلَهُ كان آمناً وللَّه على الناسِ حِجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلًا ومَن كفرَ فإنّ اللَّهَ غنيٌ عن العالمين» (1).

إن القرآن الكريم وبعد ردّه على الشبهة الأُولى لأهل الكتاب حول الأطعمة، ينتقل إلى الردِّ على اعتراضهم الثاني ويجيبهم بقوله: لا تتوهموا بأن بيت المقدس هو «المحور» بل: «إن أُول بيت وضع للناس للذي ببكة ... الآية».

أهمية أحكام الحجِّ:

للحج أهمية خاصة، وفي هذا الخصوص يمكن الوقوف علىصفة هذه الأهمية من خلال رواية زرارة التي يسأل فيها من الإمام الصادق عليه السلام عن الحجِّ بقوله: «يا أبا عبد اللَّه جعلني اللَّه فداك أسألك في الحجِّ منذ أربعين عاماً فتفتيني؟!» فقال عليه السلام:


1- 1 آل عمران: 96- 97.

ص: 11

«يا زرارة بيت يحج قبل آدم عليه السلام بألفي عام تريد أن تفنى مسائله في أربعين عاماً» (1).

حرم الكعبة:

يستفاد من الآية الكريمة أن الكعبةَ بيتٌ بُني للناس «وُضِعَ للناس» وعليه فإن حرمته بسعة استيعاب جميع الناس. إن حرم الكعبة ليس كحرم مسجدٍ تحدد أرضه من قبل الواقف.

ومن جانب آخر فإن اللَّه- سبحانه وتعالى- أعطى إبراهيم عليه السلام أمراً بالأذان العام:

«وَأذِّن في النّاس بالحجِّ يأتوكَ رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتينَ من كلّ فجٍّ عميقٍ» (2).

وعندما يكون الإعلان عاماً، فمن البديهي أن يكون البيت موضوعاً للناس كافة. ومن الممكن قهراً أن يبلغ حرم الكعبة عدّة كيلومترات أيضاً، ولو تحققت بلطف اللَّه حكومة إسلامية على تلك الديار، يحقّ لها أن تهدم جميع بيوتات مكة وتوسّع حرم البيت، ويعد هذا العمل حلالًا وشرعياً ولا إشكال فيه، وعندها لا تواجه الطائف والزائر أي مشكلة؛ لأن اللَّه- عزّ وجلّ- قال:

بيت وضع للناس كافة «سواءً العاكفُ فيه والبادِ» (3)

، وعليه فإن الحرم سيتوسع قهراً.

لا بد أيضاً من الالتفات إلى هذه الملاحظة: وهي أن حرم الكعبة وسدانتها، لا يخضعان للخصوصيات الإقليمية والتقسيمات الجغرافية لقوله تعالى: «إنْ أولياؤه إلّاالمتّقونَ» (4)

؛ أي إن الكعبة ليست ملكاً لأحد، ويتحمل مسؤوليتها المتّقون في جميع أرجاء المعمورة، وإن أولياء الكعبة إلّا المتقون في أرجاء الوجود وليس خصوص سكنة الحجاز.

والكعبة بيت عتيق أي مُعتقٌ وحرّ ولا يخضع لقانون من القوانين الدولية، وليس كالجبال والمعادن والنفط التي تعود للحجازيين بسبب


1- 1 من لا يحضره الفقيه، ج 2،ص 306.
2- 2 الحج: 27.
3- 3 الحج: 25.
4- 4 الأنفال: 34.

ص: 12

وجودها في أرضهم، كلا فالكعبة ليست كذلك، بل هو بيت وضع للناس كافة ولن يخضع أبداً للقوانين الخاصة بالحجاز.

القاء إحدى الشبهات والردّ عليها

يقول القرآن الكريم في سورة يونس:

«وأَوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوَّءَا لِقومكُما بمِصرَ بيوتاً واجعلوا بيوتكم قِبلةً وأقيمُوا الصلاةَ وَبشِّر المؤمنينَ» (1).

بعد أحداث هلاك فرعون وجنوده، عاد بنو إسرائيل المحرومون إلى مصر بتوجيه من النبي موسى عليه السلام.

ولدى عودة هؤلاء المبعدين إلى مصر، حيث إن مراكزهم العبادية، تم تخريبها على أيدي الفراعنة، ولم يمتلكوا القدرة والسلطة لإعادة بنائها بعد، فإن اللَّه- سبحانه وتعالى- أمرهم بجعل بيوتهم قبلة. هنا تطرح هذه الشبهة ومفادها:

«كيف أصبحت منازلهم قبلة لصلاتهم؟» وفي الإجابة عن هذه الشبهة لابدّ من القول: إن المراد من القبلة، مصلّى ومحل الصلاة وليس «جهة» الصلاة؛ بمعنى أنه لوصلى بنو إسرائيل خارج بيوتهم فيجب أن يؤدواصلاتهم باتجاه منازلهم حتماً! وبناءً على ذلك فلا منافاة بين هذا المطلب والآية التي هي محل بحثنا، حيث تقول بأن الكعبة هي أول قبلة وضعت للناس.

وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون معنى الآية بهذا النحو.

«واجعلوا بيوتكم متقابلات بعضها مع بعض»؛ «ليعلم بعضكم بأحوال بعض ولضمان أمنكم». ولكن في كلّ الأحوال، لا يمكن أن يكون المراد من الآية أن يتوجه كلّ من أراد الصلاة منهم خارج بيته باتجاه منزله ليكون قبلةصلاته؛ لأنها مراكزهم العبادية، ومساجدهم ومعابدهم قبل التخريب، كانت باتجاه الكعبة، ولكن بعد التخريب لجأُوا إلى بيوتهم وأخذوا


1- 1 يونس: 87.

ص: 13

يمارسون عباداتهم فيها؛ متجهين فيصلاتهم باتجاه الكعبة، كما كانت مساجدهم متجهةً باتجاه الكعبة قبل التخريب، إذن فلا وجود لأي منافاة أو تعارض في البيت.

بعض الأحداث التي مرت على الكعبة في التاريخ

لقد طوت الكعبة وراءها ماضياً طويلًا وأحداثاً كثيرة، ولعل إحدى الحوادث المرّة التي واجهت هذا البيت الشريف- الذي كان معبد الأنبياء وقبلة الأولياء- هي في جعله معبداً للأصنام لفترة طويلة من الزمن؛ أي إن الوثنيين وعبدة الأصنام من أهل الحجاز، كانوا يضعون الأصنام فوق الكعبة وأحياناً داخلها، ويفتخرون بمفاتيح وسدانة هذا البيت. لقد طهّر القرآن الكريم الكعبةَ من جميع النجاسات. وذكّر جميع الأنبياء بقول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ «أن طهِّرا بيتيَ للطّائفينَ» (1)

. فكان الجميع ملزمين بتطهير الكعبة من نجاسة الأصنام، ليكون قبلة ومحل طوافٍ للمصلين وزوّار اللَّه تعالى.

وفي زمن الجاهلية، كانت سقاية الحاج وعمارة بيت اللَّه من مسؤولية عبدة الأصنام. وكان للكعبة مفتاحٌ وسدانة للبيت.

وهو منصب ينتقل من فرد إلى آخر بالتناوب. وأحد الذين نال سمة سدانة الكعبة، رجل يدعى أبو غشان وبينما كان ثملًا في إحدى الليالي، باع هذا الرجل حقَّ سدانة الكعبة ببعير وقربةٍ من شراب.

لقد ألغى الإسلام جميع القيم الخرافية وقال: «أجعلتم سقايةَ الحاجّ وعمارةَ المسجدِ الحرامِ كمن آمن باللَّهِ واليومِ الآخرِ وجاهدَ في سبيل اللَّه» (2).

حيث إن هذه الآية نزلت عندما طرحت مسألة خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأراد بعضٌ أن يفضل نفسه عليه فخاطبهم اللَّه تعالى بهذه الآية الشريفة.


1- 1 البقرة: 125.
2- 2 التوبة: 19.

ص: 14

توضيح حول كلمة «آية»

ليس المراد من كلمة آية، المعجزة الخارقة للعادة كناقةصالح، وانشقاق القمر ونحوها، بل إن الآية هي بمعنى العلامة التي تظهر الحقّ وتذكر بها.

وتستعمل كلمة آية بمعنى العلامة التكوينية أحياناً، وأخرى بمعنى العلامة التشريعية مقابل العلامة التكوينية، وتستعمل أحياناً بالمعنى الأعم من التكوين والتشريع أيضاً.

ففي قوله تعالى: «أَتَبْنُونَ بكلّ ريعٍ آيةً تَعْبثونَ وتتّخذونَ مصانعَ لعلكم تخلُدُونَ» (1)

استُعملت بمعنى العلامة والامارة.

وكذا قوله تعالى:

«ما نَنسخ من آيةٍ أو نُنسِها نأتِ بخيرٍ منها أو مِثلِها» (2)

فقد جاءت بمعنى العلامة.

وبناءً على ذلك، فيما يتعلق بقوله تعالى: «فيه آيات بينات» لا يستلزم أن تكون جميع الآيات المتعلقة بالكعبة؛ من نوع المعجزة وخلاف العادة والطبيعة. بل يمكن أن تطلق كلمة آية على كلّ شي ء يذكر الإنسان بالحق. كما قال بمعنى قوله تعالى «ومَن دخله كان آمناً»: بأنه جاء من باب التفصيل بعد الإجمال ومصداقاً لآيات بينات، من دون وجود أمرٍ خارقٍ في البيت، مع أنه مذكرٌ بالحق، وبهذا السبب فهو علامة إلهية. وقال سيدنا الأستاذ قدس سره بتعبير ألطف مع أن جملة «مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً» جاءت بدلًا من آيات بينات. والظاهر من أسلوب الكلام البدلية، إلّاأنه استدلالٌ على البدل في الحقيقة.

توضيح حول قوله تعالى «مقام إبراهيم عليه السلام»

إحدى آيات اللَّه البينات وعلاماته الواضحة في مكة، مقام إبراهيم، وتلك الصخرة التي وضع سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام قدمه عليها وبقي أثره عليها وكانت سابقاً


1- 1 الشعراء: 128- 129.
2- 2 البقرة: 106.

ص: 15

موضوعة على الأرض جوار الكعبة بشكل حسن وبأمرٍ من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أو الأعمال التي قام به بعضهم ووافق عليها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فقد تم وضعه حيال الملتزم فيما بعد؛ أَي أن قسماً من تلك الصخرة دفنوه في الأرض لغرض عدم نقله من مكان إلى آخر، ولا يزال موضع المقام واضحاً وبارزاً وقد وضعوا عليه قفصاً فلزياً.

وهذا هو ما أشار له في الميزان:

«استفاض النّقل على أنّه مدفون بحيال الملتزم»، والملتزم: موضعٌ ما بين باب الكعبة والحجر الأسود «الركن الشرقي» حيث إن مقام إبراهيم يكون بإزائه.

توضيح حول «الحطيم»:

ينقل المحدث القمي- رضوان اللَّه عليه- في السفينة، باب «حطم» روايةً مفادها، أن المراد ب «الحطيم» المسافة بين الحجر الأسود وباب الكعبة. وتأسيساً على ذلك فإن الملتزم هو ذات هذا الموضع. ومقام إبراهيم الذي هو مقام الحطيم سيكون قهراً حيال الملتزم، والسَّر في تسمية هذا المكان بالحطيم، هو أن سيدناإبراهيم عليه السلام اتخذه اسطبلًا لأغنامه، ويحطّم فيه التبن والاعلاف لتغذيتها (وبهذا المعنى يطلق على الأعلاف حطيم وعلى التبن حطام؛ لأن المحطوم يعني المهشّم والمكسّر)، وكان عليه أن يصلي في هذا المكان ويتوجه بالعبادة والتضرع والمناجاة.

وعلى هذا الأساس فإن الحطيم أفضل مواضع أطراف البيت، ولهذا السبب أيضاً ورد في الروايات، لو أن الفرد أمضى سنين متمادية بالعبادة ليلًا ونهاراً في ذلك المكان، ولم يكن على ولاية أهل البيت عليهم السلام فلن تقبل منه.

ونقل المحدث القمي مثل هذا المضمون أيضاً في السفينة باب «الحجر»- أن الحطيم يطلق على المسافة ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة.

ويقول: «إن مفهوم ومكان

ص: 16

الحجر الأسود معلوم والحدّ الفاصل بين الحجر الأسود وباب الكعبة يسمى بالحطيم».

ويضيف بعد ذلك: أن جماعة كانوا يقولون حين استلامهم الحجر الأسود:

«إني اقبّلك وأعلم أنك لا تضرّ ولا تنفع»؛ إلّاأنّ المنتمين لأهل البيت عليهم السلام كانوا يجيبونهم بالقول:

«واللَّه إنّه ليضرّ وينفع»؛ أي إن هذا الحجر ليس كسائر الأحجار، فإنه ينفع ويضر؛ لأنه يشهد لصالح بعض ويشتكي من غيرهم. ومع أن مسألة الشفاعة والشكوى غير موجودة في هذه الجملة، إلّاأنّ النفع والضرر ناظران لهذا المعنى».

ويقول المرحوم الطريحي في كتاب مجمع البحرين باب لغة «حطم»:

«تكرر ذكره في الأحاديث»؛ ثم يتناول المعنى اللغوي لكلمة «حطيم» ويقول:

«هو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وبين الباب وسمي حطيماً لأن الناس يزدحمون فيه على الدعاء».

وأفضل الأماكن الموجودة في أطراف البيت، هو هذا المكان. ثم يذكر فضيلة ومنزلة الأماكن الأُخرى بالتسلسل.

لقد ذكرنا فيما مضى نظرية أهل اللغة، وبعض من أهل الحديث حول كلمة «الحطيم»، إلّاأنّ سيدناالأستاذ قدس سره يقول:

وفسّرت بعض كتب اللغة والجغرافية كلمة الحطيم بهذا المعنى؛ مثلما ورد في «التهذيب». وجمع بعضٌ المعنيين معاً؛ نظير ما ذكر في «لسان العرب:ص 19 «وهو ما بين الركن والباب، وقيل هو الحجر المخرج منهما» وقيل: إن المراد بالحطيم حجرُ إسماعيل.

ويذكر عدة وجوه في تسميته بالحطيم منها:

1- لأن البيت رُفع وترك فصار محطوماً.

2- لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت فيه من الثياب فبقي حتى

ص: 17

حُطم بطول الزمان. والنتيجة: أن ما ذكره أهل اللغة، لا يمتلك سنداً روائياً.

ولو قالت إحدى الروايات، بأن المراد بالحطيم ما بين الركن والباب، والأُخرى نَفَت هذا المعنى، لثبت بأن المراد بالحطيم خصوص تلك الفاصلة، وإلّا فمن الممكن أن يكون المعنيانصحيحين.

الحجر الأسود:

كلّ ما كان خارجاً في الوجود، له أصلٌ في مخزن اللَّه وينزَّلَ منه، إلّاأن الحجر الأسود يمتلك خصيصة أُخرى يختص بها. بلحاظ أن اللَّه تبارك وتعالى يقول في بعض الموارد:

«أنزلنا»؛ مثل قوله تعالى: «وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ» (1)

. فإن تعبير «أنزلنا» هنا ليس بديلًا عن «خلقنا»، بل إنه ناظرٌ إلى المعنى الواقعي للإنزال. وطبعاً الإنزال بنحو التجلي لا بصورة التجافي. أو كقوله تعالى: «وأنزلَ لكم من الأنعام ثمانيةَ أزواجٍ» (2)

؛ أي أنزل لكم ثمانية أزواج من كلّ نوع، سواء الداجن منها أو الوحشي «الغنم الداجن والوحشي، والبقر الداجن والوحشي، الخيل الداجنة والوحشية ...»، تجدر بالاشارة إلى أنه لا يراد بإنزال البقر والغنم أو الحديد نفس النوع من إنزال المطر والثلوج. بل بمعنى أن أصله ومنبعه عند اللَّه تعالى كما في قوله تعالى في سورة الحجر: «وإنِ من شي ءٍ إلّاعندنا خزائنه ومَا ننزلُه إلّابقدرٍ معلوم» (3)

أي إن كلّ ما موجود في عالم الطبيعة، أصله موجود في خزائن اللَّه تعالى وتنزل منها. وبهذا المعنى، فهو إنزال حقيقي، لا بمعنى الخلق والايجاد.

ومع كلّ ما قدّمناه، فإن الحجر الأسود يمتلك خصيصة أخرى غير هذا المفهوم العام؛ أي كما أنهُ لو تحول مكان ما إلى مسجد، فإنهَ سيشنع ويشتكي يوم القيامة، إلّاأن الأماكن الأُخرى لا تمتلك مثل هذه الخاصيّة؛ لأنه لا تقام فيها أعمال ومناسك خاصة، والمسجد


1- 1 الحديد: 25.
2- 2 الزمر: 6.
3- 3 الحجر: 21.

ص: 18

فقط هو الذي يشتكي من البعض ويشهد لصالح البعض الآخر؛ والحجر الأسود أيضاً له هذه الخاصيّة، وإن كان قد جاء في نهج البلاغة: من أن الكعبة تضم أحجاراً لا نفع لها ولا ضرر (1).

فإن هذه المقولة تعني أحجار الكعبة نفسها دون الحجر الأسود؛ لأن هذا الحجر يمتلك خصائص أخرى أيضاً طبقاً لماورد عن المحدث القمي قدس سره.

نظرية العلامة الطباطبائي قدس سره حول «أمن الحرم»

يقول العلامة: المراد من الأمن المذكور في الآية: «ومن دخله كان آمناً». هو الأمن التشريعي دون التكويني؛ لأنه حدثت في تاريخ الكعبة الكثير من الحروب، والمذابح والاضطرابات. ولهذا السبب لا يمكن للآية أن تدل على الأمن التكويني، ولئن كان هناك وجود للآمن، فإنما يكون مراعاة قوانين الشريعة من قبل الناس، لا بسبب الأمن التكويني.

نقد هذه النظرية

لا يمكن قبول هذه النظرية. لأن القرآن يقول في سورة قريش: «الذي أَطعمهم من جُوعٍ وآمنهم من خوف» (2)

، فهذه الآية تريد الأمن التكويني، لأن أهل مكة كانوا يعانون من الجوع، ولكنهم نجوا بلطف اللَّه من الجوع والفقر الاقتصادي، مع أن منطقة مكة، ليست محلًا مناسباً للزراعة وتربية الحيوانات وممارسة الصناعة، إلّا أنّهُ توجد فيها الكثير من النعم.

ومن الممكن طبعاً أن يرفع اللَّه- سبحانهُ وتعالى- حكم هذه الآية (أي الأمن) في مقطعٍ زمنيٍ محدد، إلّاأن أصل الأمن يبقى تكوينياً.

والنتيجة التي نخلص لها. هي أن خليل الرحمن عليه السلام وإن كان قد دعا بدعائه، ومن ثم قال اللَّه سبحانه وتعالى: «أولَم يروا أَنّا جعلنا حرماً آمناً» (3)

، ولكن ذلك لا يعني أن باستطاعة كلّ فرد أن يفعل ما يشاء في ذلك المكان بشكل مطلق؛ لأنه تعالى


1- 1 نهج البلاغة، الخطبة 192، اختبر الأولين ... باحجارِ لا تضر ولا تنفع.
2- 2 قريش: 4.
3- 3 العنكبوت: 67.

ص: 19

يقول في مكان آخر: «وَضربَ اللَّهُ مثلًا قريةً كانت آمنة مطمئنةً يأتيها رِزقُها رَغَداً من كلّ مكانٍ فكفرتْ بأنعُمِ اللَّهِ فأَذاقها اللَّهُ لباسَ الجُوع والخَوفِ بما كانوا يصنعونَ» (1)

؛ أي مع أنهم كانوا ينعمون بنعمة الأمن، إلّا أنّه وبسبب الكفران بتلك النعمة، تغيرت الأوضاع وزال الرزق الوفير وحلّ محلّه الجوع. إذن فإن المسألة ليست بهذا الشكل، بأن اللَّه- سبحانه وتعالى- لو جعل بقعةً ما من الأرض مأمناً، وكفر أهل تلك البقعةِ بأَنعُمِ اللَّه، فإنّه- تعالى- سيديم نعمته عليهم، ويتلطف عليهم بدوام الأمن والأمان، كلا، حيث يقول جلّ وعلا في موضع آخر:

«ولو أنّ أهلَ القرى آمنوا واتقوا لفتَحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرضِ ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسِبُونَ» (2)

؛- وأهل القرى يشمل هنا كل منطقة بشكل عام- إذن فكلتا الحالتين- نزول البركات والبلاء- أمران تكوينيان إلّاأنّه من الممكن طبعاً أن يمهل اللَّه أحياناً ومن ثم يعود فيؤاخذهم.

إن الأمن لا يعني عدم وقوع المذابح هناك، بل إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- جعل من ذلك المكان مأمناً، على أساس لطفه الخاص، ولكن لو ضلّ الناس هناك وكفروا، فإنه- تعالى- سيؤاخذهم؛ لأنه قال: «ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم» (3)

، ومن الممكن طبعاً أن تتمكن حكومة ظالمة في غير مكة أن تحكم بالظلم لسنين متمادية، ولكن الأمر ليس كذلك في أرض مكة. إذن نخلص إلى القول، بأن أرض مكة لا يمكن أن تتجرد عن أي أمنٍ تكويني، وأن يعود أمنها إلى خصوص التشريع فقط.

وبعبارة أخرى: أن أرض مكة ليست كالجنّة لا يقع فيها أي إثم: «لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ» (4)

، بل إن لها أحكام الدنيا، إلّاأنّ هذا المكان يختلف


1- 1 النحل: 112.
2- 2 الأعراف: 96.
3- 3 آل عمران: 178.
4- 4 الطور: 23.

ص: 20

عن الأماكن الأخرى، والشاهد على ذلك قوله تعالى: «ومَن يُرد فيه بإِلحاد بظُلمٍ نذقهُ من عذابٍ أليمٍ» (1)

؛ ولكن اللَّه تعالى يؤاخذ الظالمين في الأماكن الأخرى أيضاً: «ولا تحسبَنّ اللَّهَ غافلًا عمّا يعملُ الظالمونَ» (2)

. غير أن الأخذ الفوري والقضاء السريع على حياة الظالم، يختص بالبلد الأمين وأرض مكة فقط.

وتأسيساً على ذلك، فإن دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام بطلب الأمن والرزق لمكة وساكنيها، يجمع بين التكوين والتشريع. «وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهلَه منَ الثمرات مَن آمن منهم باللَّه واليوم الآخِر قال ومَن كفرَ فَأمَتّعُهُ قليلًا ثم أضطرُّهُ إلى عذابِ النار وبئسَ المصيرُ» (3)

؛ فبعد أن دعا عليه السلام ربّه بجعل هذا البلد آمناً، وأن يرزق أهله من الثمرات، خصّ دعاءَه بالمؤمنين من الناس، ولهذا قال عليه السلام مباشرةً ودون فصل: من آمن منهم باللَّه واليوم الآخر، دون أهل الكفر. فاستجاب اللَّه سبحانه وتعالى لدعائه، فجعلنا مكة أرضاً مباركةً لأهلها جميعاً، إلّاأن المؤمن له في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ويمكن طبعاً أن ينعم الكافرون بنعم مكة أياماً معدودة ببركة المؤمنين، ولكن عاقبة أمرهم ستكون سوء العذاب.

الشاهد الآخر قوله تعالى في سورة الأنفال: «واذكروا إذ أَنتم قليلٌ مستضعَفونَ في الأرض تَخافونَ أن يتخطّفكم الناسُ فَأويكَمْ وأيّدكُم بنصره ورَزَقَكُم من الطيبات لعلّكم تشكرونَ» (4)

؛ حيث كان الاختطاف أمراً تكوينياً؛ ولذا فإن الأمن مقابل ذلك يعدّ أمراً تكوينياً أيضاً.

والشاهد الآخر: هو قول أهل مكة لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «وقالوا إنْ نَتَّبعِ الهدى معكَ نُتَخطّف من أرضنا» (5)

أي لو آمنّا بك فلن نشعر بالأمن.

د


1- 1 الحج: 25.
2- 2 إبراهيم: 42.
3- 3 البقرة: 126.
4- 4 الأنفال: 26.
5- 5 القصص: 57.

ص: 21

ويجيب القرآن الكريم على دعائهم بقوله: «أَولَم نمكّن لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمراتُ كلّ شي ءٍ رزقاً من لَدُنّا ولكنَّ أكثرَهُم لا يعلمونَ» (1)

؛ أي إننا جعلنا لبلد مكّة ميزتين:

1- وجود الأمن حيث إن جميع الناس يلتزمون بمراعاة حرمة الحرم.

2- البركات المادية المتمثلة بتوفر جميع الأطعمة والثمرات فيها. بينما ينعدم توفرُ الاثنين معاً أو أحدهما في مكان آخر، ويندر توفر هاتين النعمتين معاً في مكان واحد، طبقاً للظروف الاعتيادية والاقليمية المألوفة.

جديرٌّ بالإشارة إلى أن أهل مكّة وبحسب الظاهر يجب أن يفتقدوا حالة الإحساس بالأمن؛ لأن أهل الحجاز كانوا مطبوعين بطابع البطش وشن الغارات من جهة، ومن جهة أخرى كانوا محرومين من مظاهر العلم والثقافة، والزراعة وتربية الحيوانات، والصناعة وغيرها. ومن الطبيعي أن يتحول المجتمع الجاهل الجائع إلى مجموعة قطاع طرق يتصفون بالسلب والنهب وشن الغارات، ولكن مع ذلك، فإن اللَّه سبحانه وتعالى يقول:

لقد جعلنا مكة محلًا آمناً ومباركاً، ولهذا فإن أهل مكة لا يمتلكون حقّ التعلل وخلق الأعذار.

الجواب على إحدى الشبهات:

لو كانت أرض مكة ترفل بالأمن، فلماذا هاجر المسلمون فيصدر الإسلام، إلى أرض الحبشة؟

وجواباً عن هذا التساؤل لابد من القول: ولئن كان المسلمون يعانون من المشقة والألم، إلّاأنّ هجرتهم إلى الحبشة كانت تنطوي على بعدٍ تبليغي أكثر من تعبيرها عن الاستجابة للضغط المستخدم ضدهم؛ لأن النساء كانت تعيش بأمان في مكة، بينما لاحظنا مرافقة النساء للرجال في الهجرة إلى الحبشة، وإن دّل هذا على شي ء فإنما يدل على الرغبة في قيام النساء بالترويج للشريعة في أوساط النساء، والرجال في أوساط الرجال.


1- 1 القصص: 57.

ص: 22

أمن الحرم والسلاح (بحثٌ روائي):

في نهاية هذا البحث، لابد من الإشارة إلى أن الأمر الإلهي تحرك من أجل الحفاظ على الأمن وإقراره وتطابق التشريع مع التكوين، حيث يقول تعالى: لا يحق لمن كان مسلماً دخول الحرم، ويمنع حمل السلاح حال الإحرام، عند انعدام الخوف أو الضرورة. ويجوز حمل السلاح لأهل مكة ولمن خرج من الإحرام وأصبح محلّاً، إلّاأنّ إظهاره غير مستحسن؛ لأنه من الممكن أن يشعر الناس بالخوف فيما لو شاهدوا السلاح، في حين أن ذلك المكان، هو بلد الأمن.

وألفت انتباهكم إلى مجموعة من الروايات في هذا الخصوص:

1- عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ المحرم إذا خافَ العدوّ يلبس السلاح فلا كفارة عليه» (1)؛ تجدر الإشارة إلى أنه يُستفاد من مفهوم الجملة الشرطية: لا يحق له حمل السلاح، إن لم يكن في حال الخوف.

2- عن عبد اللَّه بن سنان قال، سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام «أيحمل السلاح المحرم؟ فقال: إذا خاف المحرم عدوّاً أو سرقاً فليلبس السلاح» (2). وبما أن «الأمر» جاء بعد «توهم الخطر والمنع»، يدل هذا فقط على جواز حمل السلاح وليس وجوبه؛ إي لا حرمة في حمل السلاح في مثل هذه الموارد.

3- عن عبد اللَّه بن سنان عن أبي عبد اللَّه قال: «المحرم إذا خاف لبس السلاح» (3).

4- عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا بأس بأن يحرم الرجل وعليه سلاحه إذا خاف العدو» (4)، وهذه الروايات تتعلق بحال الإحرام، وحمل السلاح يعد من تروك الإحرام، وأما الروايات التي تتعلق بالوضع العادي:

1- عن حريز عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا ينبغي أن يدخل الحرم بسلاح إلّا أن يدخله في جوالق أو يغيبه. يعني يلفّ على الحديد شيئاً» (5).

2- عن أبي بصير عن أبي


1- 1 وسائل الشيعة، ج 9،ص 137، ب 54، ابواب تروك الاحرام، ح 1.
2- 2 المصدر نفسه: ح 2.
3- 3 المصدر نفسه ح 3.
4- 4 المصدر نفسه: ح 4.
5- 5 وسائل الشيعة، ج 9،ص 358، ب 25، ابواب مقدمات الطواف، ح 1.

ص: 23

عبد اللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الرجل يريد مكة أو المدينة يكره أن يخرج معه السلاح، فقال: لا بأس بأن يخرج بالسلاح من بلده ولكن إذا دخل مكة لم يظهره» (1).

واستناداً إلى هذه التعاليم الدينية، فإن التشريع سيتطابق مع التكوين. تجدر الإشارة إلى أن حمل السلاح من قبل قوات الأمن، يوجب الأمن والاطمئنان للقادمين الجدد، ويجعلهم في مأمن من هجوم عابري السبيل عليهم.

الحج تكليف عام:

«وللَّه على الناس حجّ البيت مَن استطاع اليه سبيلًا».

كلمة «الناس» لا تختص بالمسلمين فقط، بل تشمل جميع شرائح المجتمع؛ بما في ذلك اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين،صغاراً وكباراً. تجدر الإشارة إلى أن أصل التكليف بأداء فريضة الحج، وإن كان يشمل جميع الناس على وجه الاستحباب، إلّاأنّ وجوبه مختص بالمكلفين، بينما سائر العبادات الأخرى ليست كالحج؛ وعلى سبيل المثال فإن الصلاة التي هي عمود الدين، يشرع بأدائها من قبل الأطفال بعد سنّ السابعة لأغراض الممارسة، (طبعاً مع الأخذ بنظر الاعتبار، اختلاف الفقهاء حول عبادات الصبي وهل هي مشروعة أم لأغراض الممارسة؟ وإن كان الحقّ في كون عبادات الصبّي المميز مشروعة)، إلّاأنّه لاصلاة على الأطفال دون سنّ السابعة فضلًا عن الصيام و ...، أما في باب الحج فالمسألة ليست بهذا النحو، حيث يمكن للفرد أداء أعمال فريضة الحج سواء في مرحلة الطفولة، أو مرحلة الصِّبا أو الشباب والبلوغ. إلّاأنّ الطواف مستحب في مرحلة الطفولة؛ بمعنى أنه يفضل للأُم والأب أن يطوفوا بوليدهم، طبعاً بإتيان النية ثم يطّوّفون بالطفل، دون أن يؤدوا الطواف نيابة عنه. تجدر


1- 1 المصدر نفسه: ح 2،ص 359.

ص: 24

الإشارة إلى أن هذا الطفل عندما يبلغ سنّ الصِّبا والتمييز بإمكانه الإتيان بالنيّة وأداء أعمال الحج بنفسه وإن لم يبلغ بعد ولم يعد مكلفاً، إلّاأن حجّه في هذه الحالة مشروع كفضيلة، وإن لم يحسب له بعنوان حجة الإسلام- الحج الواجب-، ويجب عليه أداء الحج بعد سنّ البلوغ إن استطاع لذلك سبيلًا.

إذن بإمكان الإنسان الإتيان بثلاثة أنواع الحج في مراحل عمره المختلفة:

1- حجّ الطواف.

2- الحجّ المندوب (المستحب).

3- الحجّ الفريضي (الواجب).

وفيما يتعلق بالأقسام الثلاثة للحج تأملوا الروايات التالية:

1- عن عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام «قال سمعته يقول: مرّ رسول اللَّه برويثة وهو حاج، فقامت إليه امرأة ومعهاصبي لها فقالت: يا رسول اللَّه أيحجّ عن مثل هذا؟ قال: نعم ولك أجره» (1).

2- عن محمّد بن الفضيل، قال سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام عن الصّبي:

«متى يحرم به؟ قال عليه السلام إذا ثغر» (2).

هذه الروايات تتعلق بمرحلة الطفولة، أما في مرحلة الصبا بحيث يكون مميزاً، يمكنه أن يؤدي أعمال الحج بشكل مستقل وهو مشروع، إلّا أنه لا يكفي عن حجة الإسلام. وتأملوا الروايات التالية في هذا المجال:

1- عن ابان بن الحكم قال:

سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «الصّبي إذا حجّ فقد قضى حجة الإسلام حتى يكبر ...» (3).

2- عن سمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «لو أن غلاماً حجّ عشر حجج ثم احتلم كانت عليه فريضة الإسلام» (4).

مكانة الحجِّ في نهج البلاغة:

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الأولى بشأن الحج:

«وفرضَ عليكم حجَّ بيته


1- 1 وسائل الشيعة، ج 8،ص 37، ب 20، ابواب وجوب الحج، ح 1.
2- 2 المصدر نفسه: ح 2.
3- 3 وسائل الشيعة، ج 8،ص 37، ب 2، ب 13، ابواب وجوب الحج، ح 1.
4- 4 المصدر نفسه: ح 2.

ص: 25

الحرام، الذي جعلَه قبلةً للأنام، يَرِدونَهُ ورودَ الأنعام، ويألهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمام، وجعلَه- سبحانه- علامةً لِتواضعهم لعظمته، وإذعانِهم لعزتِه، واختارَ مِن خلقِهِ سُمّاعاً أجابوا إليه دعوتَه، وصدّقوا كلمتَه، ووقفوا مواقفَ أنبيائه، وتشبَّهوا بملائكته المُطيفينَ بعرشة، ويحرزُونَ الأرباحَ في متجرِ عبادتِه، ويتبادَرونَ عنده موعدَ مغفرته، جعله- سبحانه وتعالى- للإسلام علَماً، وللعائِذين حرماً، فرضَ حَقَّهُ، وأوجبَ حجَّهُ، وكتب عليكم وِفادتَهُ، فقال سُبحانه: «وللَّه على النّاس حِجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلًا ومَن كفرَ فإن اللَّه غنيٌّ عن العالمين».

ويقول عليه السلام في الخطبة العاشرة بعد المائة:

«إن أفضل ما توسَّل به المتوسلونَ إلى اللَّه سبحانه وتعالى الإيمانُ به وبرسوله، والجهاد في سبيله ... وحجُّ البيت واعتمارُهُ، فإنهما يَنفيان الفقرَ ويرَحَضَانِ الذنبَ ...».

ويقول عليه السلام في أواسط الخطبة القاصعة ناظراً إلى التواضع ونبذ الاستكبار:

«أَلا ترونَ أنَ اللَّه- سبحانه- اختبرَ الأولينَ من لدن آدَم-صلوات اللَّه عليه- إلى الآخِرينَ من هذا العالَم، بأحجارٍ لا تضرُّ ولا تنفعُ، ولا تُبصِرُ ولا تَسمَعُ، فجعلَها بيتَه الحرامَ «الذي جعلَه للناسِ قياماً». ثمَّ وضعَهُ بِاوْعَرِ بِقاعِ الأرض حَجراً، وأقلِّ نتائِقِ الدنيا مدراً، وأضيقِ بطونِ الأودية قُطراً. بين جبالٍ خَشِنَةٍ ورمالٍ دَمِثةٍ وعيونٍ وَشِلةٍ وقُرًى مُنقطعةٍ، لا يَزكُو بها خُفٌّ ولا حافِرٌ ولا ظِلفٌ. ثمّ أمرَ آدمَ عليه السلام وَولدَهُ أن يثنُوا أعطافَهم نحوهُ، فصارَ مثابةً لمنتجعِ أسفارِهم، وغايةً لمُلقى رحالِهم، تهوي إليه ثمارُ الأفئدةِ من مفاوِزِ قِفارٍ سحيقةٍ، ومهاوِي فِجاجٍ عميقةٍ، وجزائرِ بحارٍ منقطعةٍ، حتى يهزّوا مناكبَهم ذُللًا يهلّلونَ للَّه حولَه، ويرمُلُونَ على أقدامِهم شُعْثاً غُبْراً له.

قد نبذوا السرابيلَ وراءَ ظهورِهم،

ص: 26

وشوَّهوا بإعفاء الشعورِ محاسنَ خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختياراً مُبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله اللَّه سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنّته. ولو أراد- سبحانه- أن يضعَ بيته الحرامَ، ومشاعره العِظامَ، بين جنّاتٍ وأنهارٍ وسهلٍ وقَرارٍ، جمَّ الأشجارِ دانِي الثمارِ، مُلتفَّ البُنى، مُتصل القُرى، بين برّة سمراء، وروضة خضراءَ، وأريافٍ محدقةٍ، وعِراصٍ مُغدقةٍ، ورياضٍ ناضرة، وطرقٍ عامرةٍ، لكان قدصَغُر قدرُ الجزاء حسن ضعفِ البلاء. ولو كان الإِساسُ المحمولُ عليها، والأحجار المرفوع بها، بين زُمرّدةٍ خضراءَ، وياقوتةٍ حمراء، ونورٍ وضياءٍ، لخفَّفَ ذلك مصارعةَ الشكّ في الصدور، ولوضعَ مجاهدةَ إبليس عن القلوبِ ولنفى معتلجَ الريبِ من الناس، ولكنّ اللَّه يَختبر عباده بأنواع الشدائِدِ، ويتعبدهُم بأنواع الَمجَاهِدِ، ويبتليهم بضروب المكارة، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فَضله، وأسباباً ذللًا لعفوه» (1).

وفي موضع آخر من نهج البلاغة يقول عليه السلام حين وصيته للحسنين عليهما السلام والناس كافة بعد أن جُرِحَ على يد ابن ملجم المرادي عليه اللعنة:

«اللَّه اللَّه في بيت ربّكم، لا تخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناظروا» (2).

وقال عليه السلام في كتاب أرسله إلى واليه على مكة قثم بن عباس:

«أما بعدُ، فأقِم للناسِ الحجَّ، وذكّرهم بأيام اللَّه، واجلس لهم العصرَيْنَ فَأفْتِ المستفتي، وعلّم الجاهلَ، وذاكر العالمَ، ولا يكُن لكَ إلى الناس سفيرٌ إلّالسانُكَ، ولا حاجبٌ إلّا وجهُكَ ... وَمُرْ أهْلَ مكّة ألّا يأخذوا من ساكنٍ أجراً، فإن اللَّهَ سبحانهُ يقول: «سواءً العاكفُ فيه والبادِ» فالعاكف: المقيم به، والبادي:

الذي يحجّ إليه من غير أهله. وفقنا اللَّهُ وإياكم لِمحابّهِ والسلام» (3).


1- 1 الخطبة: 192.
2- 2 نهج البلاغة، الكتاب رقم 47.
3- 3 نهج البلاغة، الكتاب رقم 66.

ص: 27

شبهةٌ حول بركة الكعبة وهدايتها:

يقولصاحب تفسير «المنار» في تفسير آياتٍ بينات وبركة البيت:

«أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحدٍ أحدها أو منها: مقام إبراهيم، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة، تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر. فأي دليل أبين من هذا على كون البيت أول بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد، وضع ليعبد الناس فيه ربّهم. وإبراهيم أبو الأنبياء في الأرض الذي أبقى أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم، لا يعرف لنبيّ قبله أثر، ولا يحفظ له نسب وقوله:

«ومَن دخله كان آمناً» آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد، وهي اتفاق قبائل العرب كلّها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى اللَّه، حتى إن مَن دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وايذائه فقط، بل يأمن من أن يثأر منه من سفك هو دماءَهم واستباح حرماتهم مادام فيهم. مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع، والأهواء والمعبودات وكثرة ما بينها من الأحقاد والأضغان واقرّه الإسلامُ،

أقول: وقد تقدم في تفسير:

«واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» (1)

إن بعضهم يقول: إن مقامه عبارة عن موقفه حيث ذلك الأثر للقدمين وإن هذا ضعيف. والكلام هنا في أن مقام إبراهيم مشتمل على ما ذكره من الأثر، أما الأثر نفسه فقد كانت العرب تعتقد أنه أثر قدمي إبراهيم عليه السلام ثم يواصل شبهتهُ بالقول:

«وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه هذا القول ضَعيف، إذ ليس آية وعدم نفرة الطير من الناس هناك، ويرد عليه أن الطير تألف الناس لعدم تعرضهم لها، ولذلك نظائر في الأرض، وانحراف الطير عن موازينه، ليس بمتحقق.

ثم يقول بعد ذلك: «إذا أراد أحد الجبابرة أن يظلم فسيضربه اللَّه، ويرغم


1- 1 البقرة: 125.

ص: 28

أنفه ويعذبه يوم القيامة عذاباً شديداً».

نقد الكلام المذكور:

لا بد من الإشارة إلى أن الموارد المذكورة ليست من عداد الآيات القرآنية كي يقول: «إن الحمائم لا تشعر بالخوف؛ لأن البيت مكان آمن».

ولكن ثِقل الشُبهة يكمن في الموارد الأخرى المتمثلة في أن الحيوانات المتوحشة لا شأن لها بالحيوانات الأليفة فعلًا، حيث لو تمّ إثبات ذلك، لأصبح أمراً جديراً بالنظر والتأمل.

وأما مسألة عدم وقوف الحمائم على سطح الكعبة، فهي غير مؤكدة؛ لأنه لوحظ أحياناً وقوفها على سطح الكعبة.

إلّا أنّ ما كان من الآيات، هو لو قصد من أراد خرابها، فإنه- سبحانه وتعالى- لن يمهله طرفة عين أبداً، مثل حادثة أبرهة وأصحاب الفيل، التي كانت معجزةً خارقةً للعادة. ومثل هذه الآثار تعدّ آثاراً تكوينية، لابد من بقائها وثباتها، وأدنى مستوى يدل على آية الكعبة، هي آيتها التكوينية، حيث ما انفك الأمن موجوداً في مكة، وأن اللَّه سبحانه وتعالى أخضع ذلك المجتمع العاصي المتوحش بحيث جعلهم يجلّون حرمة هذا البيت ويحترمونها، والآيات التالية من قبيل: «الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف» (1)

و «أوَلَم يَروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويُتخطّفُ النّاسُ من حولهم ...» (2)

وقوله تعالى «وقالوا إن نتّبعِ الهدى معكَ نُتخطَّف من أرضنا أوَلَم نُمكّن لهم حَرَماً آمِناً يُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شي ءٍ» (3)

، هذه الآيات تتعلق بالعصر الجاهلي وقبل تشريع مسألة الأمن. إذن فإن حكم الأمن التشريعي- جاء بعد ظهور الإسلام، إلّاأنّ القرآن الكريم يذكر الأمن الموجود منذ زمن الجاهلية وحتى ظهور الإسلام كدليل. وإلّا فإن جميع هذه الآيات الشريفة نزلت بعد ظهور الإسلام، ولكنها جميعاً تذكّر بالأمن الشائع قبل الإسلام.


1- 1 قريش: 4.
2- 2 العنكبوت: 67.
3- 3 القصص: 57.

ص: 29

تجدر الإشارة إلى أن الآية الشريفة: «ومَن يُرد فيه بإلحاد بظُلمٍ نُذِقه من عذابٍ أليم» (1)

يحتمل أن تشير الى من يمارس الظلم في خصوص الحرم والبيت، فإن اللَّه سبحانه وتعالى سيضطره إلى عذاب أليم، نظير حادثة أبرهة وأصحابه، الذين أخذهم اللَّه تعالى بعذابه. إلّاأنّ الذي يظلم الناس في خصوص الحرم، من الممكن أن لا يؤاخذه اللَّه تعالى في مدةٍ قصيرة ويمهلهُ إلى أجلٍ قريب.

وبعبارة أخرى فإن مفاد هذه الآية مفاد قوله تعالى: «إنّ الذينَ يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلماً إِنَّما يأكلونَ في بطونِهم ناراً» (2)

، حيث إنها تشير إلى المنع التشريعي؛ لأن كلّ من يأكل المال الحرام إنّما يأكل في بطنه ناراً، إلّا أنه جاء التعبير على هذا النحو بخصوص الذي يأكل مال اليتيم، لأن اليتيم في واقع الحال هو مظلوم لا ملاذ له، وإلّا فإن مثل هذا الحكم، يسري على المال الحرام وإن لم يكن من مال اليتيم. إلّاأنّه لو كان دعاء الظلم خصوص الحرم، فإن اللَّه تعالى أشدّ انتقاماً وأنكى.

وفي نهاية هذه الطائفة من الآيات فإن القرآن الكريم وبعد أن ردّ شبهات أهل الكتاب بخصوص حلّية وحرمة الطعام والقبلة، وبيّن أهمية الكعبة وزيارتها انتقل إلى القول:

«ومَن كفر فإن اللَّه غني عن العالمين» (3).


1- 1 الحج: 25.
2- 2 النساء: 10.
3- 3 آل عمران: 97.

ص: 30

الهوامش:

تاملات جمالية

ص: 31

ص: 32

تأملات جمالية

عرفان الفهدي

إنَّ أوّلَ بيت وضعَ للناس» (1)

و «لَلّذي ببكة مباركاً وهدىً».

توضّح لنا أن هناك ثلاث قضايا عالجتها الرسالة الإسلامية في شعاعها الصادق الأول، هي:

1- الانفراط في علاقة بين ما هو قلبي وبين ماهو عقلي.

2- فوضى الزمان والتاريخ.

3- ترمّل المكان وتصحّره.

الإسلام دين المعالجات الكبرى، وهو غالباً يوجز المعالجات في سلوكية نوعية، وكان عليه أن يصهر القضايا الثلاث السابقة في مركب، ويناضل من أجل دمجها في بوتقة واحدة، فبأي أسلوبية يمكن ذلك دون أن يسجل انسحاقاً للقناعات البشرية؟ فكان الحجّ .. فهو الفريضة من دون الفرائض الأخرى لها سعة الاستيعاب والامتداد والتنوّع، القادرة على طرح الزائد والناقص من


1- 1 سورة إبراهيم. آية 37.

ص: 33

الشعور الاجتماعي والفردي.

لانتحدث هنا عن كشوفات الإسلام علىصعيد التشريع الخاص بالإطار العام للفريضة، وإنما نختصر على جانب واحد من جوانب الإبداع فيها.

فأُسلوبية الإبداع من طبعها أن تحتوي الموروث والتقليدي، وتصّبه في قوالب جديدة ممتعة تنعكس فيها تجربة المبدع ورؤيته الجمالية وهدفيته وهو قضيته في الحياة والجماعة والواقع .. من أجل مل الفراغات وإشباع العواطف، ولتتوائم مع الإحساس والتطلع والنزوع الكوني.

ويبرز المكان في الحجِّ ومناسكه كأحد أهم الصور الجمالية التي تعكس عناية الإسلام بالنصّ وبالصورة الذهنية، إذ تتبرعم لنا المناسك- وفي حالة الأداء الجماعي الواحد- على شكل مشاهد أخاذة، يكون فيها الجمال حالة حياة لها، إلى حدّ أن جعل الإبداع الإسلامي في الحجّ للجمادات استحقاقاً وحرمة، وتطالعنا في الوصف لوحة رائعة لأمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف البيت الحرام (... ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً ... بين جبال خشنة، ورمالٍ دمثة ... ثم أمر آدم عليه السلام ووَلَدَهُ أن يثنوا أعطافهم نحوه ... تهوي إليه ثمار الأفئدة ...) (1).

أسلوبية الإبداع، هي التي ساعدت التشريع الإسلامي على الانطلاق إلى أخصّ خصوصيات النفس الإنسانية وغوامضها القصّية، كما لم يكن قبول الآثار والتطبيقات العملية للتشريع فكرة قد تمّت بعيدة عن قطب الإبداع بمعية الاكتشاف، ولولا الابداع لما كانت عبادة الصلاة ومعركة الذات في المحراب والصوم والزكاة والجهاد والحجّ، وما تنطوي عليها من الزامات ومكابدات وممنوعات وتضحيات ومعاناة أعمالًا مأنوسة جميلة، ويتهاتف معها بغرام فريد مقدس، يتحول فيها كل شي ء إلى لذةٍ مشوّبة بسرور فيّاض ... يعيش معها


1- 1 نهج البلاغة/ ضبط الدكتورصبحي الصالح: 293/ خطبة رقم 192.

ص: 34

الموّحد كما لو أنه كائن غير ذي تراب.

ماهي أقدر العبادات على اكتشاف الفكرة والطاقة الجوهرية للإبداع؟ بل ماهي العبادات التي تكون كاشفةً ومبدعةً ومادةً للجمال بنفس الوقت؟ لعل البعض يلخصها بأنها الدعاء والمناجاة، أو أنها تلك التي ترشح اليقظة الروحية أثناء السجود، أو ...

لا يختلف متأملان على أن هذه أشكالًا وظواهرَصالحة تقع مع غيرها من مستلزمات بهذا الشكل أو ذاك؛ لتتم بها الوظيفة. أما الحج فهو الأقدر على الاكتشاف والابداع فهو الفريضة التي يكون الابتداء بل الأنتهاء من مناسكها المدخل الطبيعي للسلوك نحو اللَّه تعالى ... فهو ليس فقط وظيفة .. كما أن السعي والطواف فيه ليسا ركناً أو واجباً فقط ... وأن قوة الواجب فيه ليس كقوة الواجب في إمساك الصوم أو تحديدصباح العيد في إخراج زكاة الفطرة ... إن الإطار العام للواجب في الحجّ لهو من القوة أن يمنع عن الحاج المباح والمندوب، الذي عادة لا يخلّ الإتيان بهما بواجب الصلاة أو الصوم ... يتكشف لنا أن في أداء مناسك الحج شيئاً وجامعاً مؤثراً ليس في العبادات الأخرى مثيل له.

إن الزمن بين المنسكين في الحجّ زمن مقدسٌ، ويقع في إطار الرصيد العبادي، ولا يجوز في الغالب ممارسة المباحات فيه ... وهذه الالتزامات لا تقرّرها طبيعة وشخصية فريضة الحجّ فحسب، وإنما للحج بكامله أبعد أخرى لاتقل أهمية عن الفريضة نفسها .. ومساحة هذه الأبعاد ليس المخلوق العاقل فقط .. بل الأشياء والجمادات والكائنات غير العاقلة وغير الناطقة أيضاً .. ومن هذه الأبعاد جميعاً تنبع القيمة الجمالية للعبادة ..

فالمناسك أداء آخر داخل إطار الأداء العام لفريضة الحج التي تغطي المساحة الزمنية والاجتماعية الواقعة بعد الانتهاء من الحجّ .. ولهذا كان وجوبه

ص: 35

مرة واحدة في العمر ...

الجمال في حياة المؤمن وفي العبادة وفريضة الحج خاصة، له أهمية كبرى ويشكل مضموناً فكرياً لصياغة النظرية الفنية في الإسلام ... ولهذا فإن المنبع الذي يرفد الجمال بالواقعية ويسدّد حياة المؤمن وعباداته بالأثر الطيب هو الإيمان .. لكونه الطاقة العظمى التي توازن بين طرفي الانتماء بالمطلق من جهة، وبالواقع العملي والموضوعي من جهة أخرى.

فيكون عندنا أن المناسك في الحج تقوم بعملية ربط منظم ومرتّب ومحدّد ببرنامج زماني ومكاني بين طرفي الطاقة الإيمانية .. فتصبح وظيفة المناسك في الحجّ وظيفة نوعية تنفتح على الساحات بقدر علاقتها مع طرفي الإيمان، المطلق والواقع ...

وعليه فإن الوظيفة في المناسك حين تقعصريحة لا تؤرخ وتضبط لنا الفراغ اليقيني أو تشتبك مع الاشتغال اليقيني فقط بل هي أوسع وأشمل من هذا وذاك وهذا هو الفرق بين الوظيفة في الحج و الوظيفة في الأعمال الصالحة والواجبة الأخرى ...

إذاً وظيفة الحجّ تبقى بعد الإتيان الصحيح بها مقلعاً للخيال والجمال، وتدعو المؤمن الموّحد أن يوّحد بين مشاهد .. مشاهد حياته والمجتمع ومشاهد الحجّ ... وبالرغم من أن العبادات تشترك في هذا الهدف السامي إلّاأن وظيفة الحج ومن موقع الإشباع والتسلل والتنقل بين مختلف الأشكال والأشياء والنسبيات توحي بفعالية أقوى على رسم الصورة في ميدان حياة الفرد والأمة.

إن مفهوم «كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ...» (1)

له علاقة عضوية موضوعية مع التجمع الإسلامي الهادف في الحجّ .. ويتفرع من مفهوم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهما أقوى مصاديق الجمال والامتداد غير


1- 1 آل عمران 110.

ص: 36

المحددين بسلوك عبادي واحد معين.

ثم إن مفردة «الإفاضة» تركّز لنا اللون البارز فيصور الرابطة الجمالية الإيمانية من خلال أداء المناسك .. «ثم أفيضوا من حيثُ أَفاض الناسُ واستغفروا اللَّه» (1).

وما تفيده دلالة الإفاضة هو التلاحم في الموج البشري العائد من مكان الحج .. وإذن فالمكان هنا ليس كأي مكان يفصل أو يعزل أو يصنّف الروافد على ضوء طبيعة التضاريس والأعماق والسطوح .. الإفاضةصيغة جمالية في نص الآية السابقة استدعت فكرة أخرى سابحة في فضاء حياة الجماعة المؤمنة .. هي فكرة الاستغفار غير المحددة بكمٍّ أو زمن أو مكان أو مسلكية خاصة واحدة ..

فالاستغفار يتّجه بضوء قاعدة الإفاضة على شكل تيار جماليصاعد حيث الفضاء الإلهي.

ذكرت هذه النماذج .. لتوكيد مفهوم الجمال في العبادة النابع من مفهوم الإيمان الرابط بين المطلق والواقع.

فلسفة التلبية والدعاء في الحج:

تنطلق التلبية والدعاء من قلوب الحجاج لحظة الدخول في آخر نقطه من قنوات الميقات ... وبهذا يكون الحاج قد قام بعمليتين التلبية والدعاء يؤشر إليهما الإحرام.

وللدعاء في الإسلام أهمية واعتبار كبيران فهو ليس طلباً أو التماساً وتبريكاً لمشاعر النفس المؤمنة؛ بمعنى أن الاستجابة ليست فقط الفعالية الموضوعية أو ما يعادلها في طريقة الدعاء، وإنما هناك عنصر الإثارة ..

فالدعاء يثير الخوافي والمكاتم والأحلام الراغدة ويدمجها في أجواء


1- 1 سورة البقرة. آية 199.

ص: 37

ساخنة. وحين يكون فضاء الكون الساحة المقترحة التي ينطلق فيها خطّ الإثارة والاستجابة للدعاء فإنه والحال هذه يحتاج إلىصيغة أكثر غنىً وثراءً ..

ويحتاج إلى مكان وزمان متحدين يلمان بأسباب الدعاء من حيث الإثارة والاستجابة فكان الميقات وكانت التلبية .. الميقات هو زمن في مكان، ومكان في زمن، وسرُّ اسم المفعول فيه أقوى بياناً من المفاعيل الأخرى في العربية .. لأنه اسم ينفعل فيه الزمان والمكان والإنسان والدعاء والإحرام والتجرد .. و ... أما التلبية الخاصة فهي استجابة للإثارة الشعورية وإثارة للاستجابة الموضوعية، وهذه الثنائية توفر لنا وعياً ومعرفة لفلسفة الدعاء في الإسلام.

ومن الميقات وبالتلبية تنسجم النوايا وتتماسك في نية واحدة. وفيما يكون التوازن بين نقطتي الانطلاق والنهاية في الدعاء تحدّد لنا نيّة الحجّ نوعية الإجابة .. ومع أن المكان يتحرر من قيوده الطبيعية، ويأخذ الطبيعة الجمالية لكن مع هذا يبقى العنصر الجمالي غير قادر على رزم المساحات التي تطويها أسئلة الدعاء .. فنعود إذن إلى أن الدعاء الصادر في التلبية ليس مطلبه الوحيد الاستجابة ولا توقّع زمانها، وإنما هناك جانب الإثارة فيها ... الذي يحرّر الكائن الأرضي من محدودية المشاعر والحاجات وضيق التطلعات إلى ماهو أوسع وأوجب.

إن هذا لا يلغي تدخل العمل بالمناسك فيما بعد الميقات، في أن يكون محدداً لاتجاهات وتنويعات الدعاء وإجاباته، ويستدعي هذا التدخل أن يُصار للشعيرة في الحجّ موضوعية تتبادل التأثير مع موضوعية الدعاء. ويتفاعل الاثنان فيشكلان موضوعية أكبر، هي: موضوعية دعاء الحج.

الدعاء في الحج يهدف أساساً إلى التخطيط من أجل إبراز ظاهرة التجلي، ويتجاوز كونه مدعاة لالتماس العفو والثواب والرزق ... ليهدف إلى رفع مستوى

ص: 38

الإنسان إلى أن يكون كائناً مرهف الشعور والأحاسيس، تتجلى فيه كلّ معاني الخير. وتحتشد فيه تجليات كلّ معاني الكمال والسمو بعيداً عما هو أرضي- دنيوي- وبالتالي الإعراب عن مكنون الهوية الأصلية للسرّ المودع في كيانه، ومعرفة ما إذا كان قابلًا على تجربة الاستخلاف، لا غرو أن نجد أساليب الدعاء جاءت على شكل آيات قرآنية مقدسة نازلة بخط راجع على غير المألوف في اتجاه الدعاء .. وهذه الأدعية القرآنية أكثر ما اختصّ بها الحج دون غيره من العبادات «قل ربّ أَدخلني مُدخَلصدقٍ وأَخرجني مخرجَصدق ...» (1) «قل إنصلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه ربِّ العالمين لا شريكَ له وبذلك أمرتُ وأنا أوّلُ المسلمين». (2) «ربنا واجعلنا مسلمين لكَ ومن ذريتنا أُمةً مسلمة لك وأرنا مناسكناً وتب علينا ..» (3) «رب اجعل هذا بلداً آمناً» (4).

إنك تجد في هذه الطائفة من الآيات الكريمة «المثال الأعظم» للدعاء .. وأنه شديد الارتباط بالبيت الحرام ... وأن فيه تَمَثُلًا لدعاء إبراهيم عليه السلام. فإذا كان الدعاء بهذه الشخصية المحملة بجلال المعاني فإنه يحوّل الخطّ الواصل بين سكن الحاج ومناسك الحج إلى خطّ مستقيم يصلح لقياس وتقييس الفسحة الرحيبة بين الأرض والسماء، ودائماً تقترن حالة التطهّر من النجاسات والخبائث بالاقتراب من نقطة التكليف الخاص بشعائر الحج، وتتناسب طردياً مع الدخول إلى دائرة الأداء الفعلي المباشر للمناسك بحيث تنسحب «الطهارة» على الذات وحركة الجوارح .. فيصبح كلّ كيان الحاج في أداء منظّم غاية في الدقة.

من المفاهيم الكبرى في الحج التركيز على مصطلح (أرض اللَّه) انطلاقاً من قاعدة عباد اللَّه وسوف يبلور المتأملون في أداء المناسك مصداقاً أكثر تكثيفاً


1- 1 سورة الأسراء. آية 80/ اذ إن هناك اجماعاً، كما نقل ذلك الطبرسي في مجمع البيان 6: 671 وتفسير البيضاوي 1: 580 والكشاف 2: 688.
2- 2 سورة الأنعام. آية 162- 163.
3- 3 سورة البقرة. آية 128.
4- 4 سورة البقرة. آية 126.

ص: 39

وحسية لمفهوم أرض اللَّه، وهذا المصداق، هو الكعبة، فالمصداق يؤشر دلالة الطهارة والتطهر للتراب الأرضي والآدمي وبها تصلح أن تكون الأرض الطاهرة قاعدة لنشر حركة الدعاء وخطوطه الصاعدة من أي مكان ونقطة.

ومن داخل كرة الكعبة الكونية يتحول شعور الحاج بالسلام إلى تجربة عملية، ويتمثل إلى حالة القبول النفسي الذي هو أساس وتطوير للالتزام بالأمر والنهي، وقد عبرت المناسك عن هذا القبول النفسي وتجربة السلام بطريقة حرمة الاعتداء عمداً أو سهواً على حيوان أو دابة أو طير إن داخل الكعبة، أو ما يتصل بها أثناء الأداء والإحرام من الداخل أو الماحول أو الفضاء، وفي بعض الأحيان حتى في حالة الحلّ من الإحرام داخل الحرم، ولعلّ ما يشابه هذا السلام والأمن هو ما جُبِل عليه الحيوان والمخلوقات الأخرى على أسباب حماية البيت والمقام. ويشار إلى هذا الأمن (بالأمن التكويني) حتى في الزمن الذي لم يكن فيه أثر للتشريع والأحكام «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (1)

وهي اشارة واضحة على أمن البيت التكويني وما حوله، الذي يوِّلد لنا أمناً آخر «مَنْ دخله كان آمناً» وأقصى ما يستعرضه القرآن دلالة على الأمن التكويني في سورة الفيل «ألم تر كيف فعل ربُّكَ بأصحاب الفيل ...» (2).

الأمن التكويني جعل البيت هدىً ومباركاً، ومن هذه الأرضية يصبح الدعاء رسالة ... وذا معرفة، وليس تقليداً أو ترديداً للصيغ الموروثة، فالحج وتكرار الدعاء في مناسكه يحول الإنسان إلى كلمة طاهرة من كلماته سبحانه ..

إلى حرفٍ ذي إيقاعٍ فريد من حروف القداسة المتعالية، ومعنى أن يكون الإنسان (الحاج) كلمة أو حرفاً في أدعية المناسك هو احتفاظه بالشكل .. وبقابلية التجربة الموضوعية المقروءة، وبوجود ثرٍّ للوصف والوصفية والانطباعية والتعبيرية. ويصحح لنا هذا الحضور الشكلي قبالة الحضور الإعاني في كليه


1- 1 سورة قريش. آية 4.
2- 2 سورة الفيل آية 1 وما بعدها.

ص: 40

الإنسان الحاج فكرة الانفراط بين الإنسان وأشيائه الدنيوية. فالتجرّد المقصود في الدعاء والحج ليس إقصاء ما هو دنيوي ترابي أرضي إنساني، فهذا ما يواجهه بكلّ حسية وبطريقة جمالية ممتعة في رمزية الأشكال والأشياء في المناسك ..

وانطلاقاً من وحدة الزماني والمكاني في بوابة الميقات، بل التجرد هو تحريك كلّ ماهو دنيوي إنساني بعيد عن النواقص والنقائض، ودمجه مع مكملاته الأخرى التي سوف تترافد في مسيرة المناسك، واعتماد تشكيلة رمزية للجميع ودفعها في ساحة الكعبة؛ لتمارس أعنف وأجمل تمارين السباحة الكونية والتلاقي مع جذبات جواهرها الساكرة في العلو، والتي إلى ما قبيل الحجّ والميقات كانت تعاني من عوازل وعازلات مصطنعة سميكة ناتجة من عدم اقتراب الزمان إلى المكان والذي يتكفل «الميقات» بالتقريب بينهما في حالة الاستعداد النفسي للورود داخل البيت الحرام.

من هذه الأرضية، ومن هذه التسامت بين الإنسان وأشيائه يحرّك لنا الدعاء طيفاً من الشعور الحرّ، لا ليجرد الأشياء عن أشكالها المادية الحسّية، كما هو شأن المألوف عن التجرد المثالي، وإنما في اكتشاف الخيوط الرابطة الدقيقة المبعثرة، وضبطها من جديد ونسجها بكيفية أخرى أمثل للحس، ونظراً لاعتبار الحجّ وقفة عبادية سنوية، وأن فيها تتلامس وتتجاور الألسنة والدماء والأمزجه والمذاهب والقناعات فإنه وعبر تكراره في حياة الأجيال يحتوي على بنيوية شاملة تظم من الخارج منظومة كبيرة من الأصوات، وينبثق فيها من الداخل وبالضرورةصوت واحد.

ومهما يكن فإن التركيب بين الأصوات والأمزجة والألوان والانتماءات في وحدة أداء الحجّ لم تكن عملية سهلة يمكن اتقانها ومن ثم تكرارها في يوم أو شهر أو سنة، لكنها تميل إلى الانتظام والاتساق والتوافق على المدى، وفي فرصة

ص: 41

تكاد تكون نادرة في وحدة عمر الإنسان الفرد والجماعة.

فإذا كان الإسلام أو بالأحرى الإيمان بالصوت الداخلي الذي يوّحد أصداء النزوع الروحي للجماعة المسلمة هو العنوان العام الذي لا يتعارض مع خصوصيات أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب في إطار الانتماء العقيدي الواحد، فإن هذا يدعونا إلى تأمل الأصوات الخارجية للجماعة العامة، ورصدها بعدد المرات التي يتشكل منها اتجاهات اللغات والطبائع والمذاهب في الجماعة الكبرى، ويمكن إحصاء الأصوات الخارجية للجماعة الإسلامية الكبرى، ثم إخضاعها في عملية توافق أخرى تتكفل بها تجربة الحج .. وهذه العملية الثانية تحوّل الأصوات إلىصوت واحد لكنه على شكل مستويات. وإذن فالحج يتقدم على العبادات الأخرى في تحويل الأصوات المختلفة في الخارج ونظمها فيصورة واحدة محددة بإطار تميل إلىصوت واحد ذي عدّة مستويات ... ثم الجهاد من أجل تقريب المستويات نحو الشكل الواحد، وقد تتعهد المسيرة التاريخية المستقبلية لتحويل المستويات إلى شكل واحد طاغٍ.

وللتوافق بين المستويات الخارجية عدّة أشكال ستستقر على أحدها الجماعة الإسلامية أخيراً في إحياء تجربة الحجّ الواقعية في الحياة مستقبلًا، وهي:

1- مستوى اللغة التي ينطق بها الناس.

2- مستوى المشاعر والعواطف الإنسانية الإسلامية.

3- مستوى وحدة المذاهب.

4- مستوى وحدة الهموم والتطلعات الاجتماعية.

5- مستوى الانتقاء الثقافي والتقني والمنهجي.

هذه المستويات وربما غيرها لم تكن في منأى عن التحقيق الذي تكفلت به مسيرة الحج التاريخية وقد دفعت بعض تجارب الحج بعض هذه المستويات إلى

ص: 42

الإحياء الحقيقي .. ولكن لما لم تنفذ رسالة الحج على عموم المجتمع البشري يبقى لنا في المنظور، على المدى البعيد الكثير من إشكاليات تحويل المستويات بكاملها إلى مستوى الصوت والشكل الواحد ... بمعنى أن هناك اشكاليتين متقابلتين لم يتطور إلى واقع وعي ومنهج ومعالجة هما: أن بعض قوانين تجربة الحجّ لم تكن في مقدور الجماعة البشرية والمسلمين خاصة أن يتفهموها، والأخرى أن الحاج وقوانين موسم الحج لم يكن بمقدورهما أن يستوعبا فهم قوانين الاجتماع البشري حتى الآن.

تبقى حالة مستوى أداء المناسك القمة في تجربة استدعاء المستويات الخمسة السابقة إلى التوليف والائتلاف، وإذا كانت مناسك الحج حظيت بمقام خاص ومتميز في التشريع لأمكنتها أجوائها، وأصالة وجودها التاريخي وقدسية الأثار فيها، توفر للجماعة الإسلامية والإنسانية خارطة مكانية متنوعة منسجمة مع الأبعاد التكوينية على الأرض وحول البيت الحرام، فإن خارطة المشاهد في المناسك تقترح على الجماعة بيوتاً أخرى كالبيت الحرام في أي أُفق مكاني «في بيوت أذن اللَّهُ أن ترفع ويذكر فيها اسمه» (1)

. وتقترح المناسك الزينة التي منعت في الحج أن تكون على أجملها وأروعها في أي مسجد وبيت «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد ...» (2)

وكذلك جهزت الناس بالبلدان الآمنة بعدما حدّد أولًا الأمن بالبيت الحرام فأصبحت مكة بلداً آمناً «وهذا البلدِ الأمين» (3).

فتجربة الولوج إلى الميقات وترديد الدعاء ابتداءً منه وحتى الانتهاء من المناسك تدعوا إلى عملية اجتماعية تشترك فيها كلّ عناصر الطبيعة والاجتماع والتاريخ، وأول خطّ يواجه الاختبار هو خطّ عودة الحاج من المناسك، ومعنى هذا إحداث مقارنة حيّة، فالذاكرة هنا تحمل مستويات متعددة الدلالة لأمكنة


1- 1 سورة النور. آية 36.
2- 2 سورة الأعراف. آية 31.
3- 3 سورة التين. آية 3.

ص: 43

المناسك وأصوات الإنسان الآخر، وهي مادة المقارنة ومعرفة ما إذا كان الحاج قادراً على إنزال الدعاء في ساحته الفردية والاجتماعية، وما إذا كان لمفهوم الميقات (وحدة الزمان والمكان) تعبيرات وتطبيقات في قنوات محلته وقريته وجيرانه ومؤسسته أم لا؟

الميقات والدعاء في الحجّ ومناسكه يبدأ بهما الحاج وينتهي بهما ذهاباً وإياباً، ويشكلان المدخل العملي الذي يتداخل معه التجمع البشري المنتخب بالاستطاعة في كلّ عام لمعرفة وقياس قرب أو بعد المستويات الخمسة السابقة، أو ما يقترح غيرها من محورية الصوت الداخلي، المحور الذي تعبر عنه وعن مضمونه العامصياغيّة (نيّة الحج).

وقبل أن نتأكد من قرب أو بعد المستويات بالنسبة لمحور الحج، فإن مجرد التجمع للأصوات الخارجية في فريضة الحج هو موِّلد آني للكثير من الاقتراحات والصّيغ .. إنه مجرد موّلد آني، وإن هذا الشكل العام للتجمع يشير في الأحساس نوعين من الأشكال المنسجمة، هما:

الشكل الأول: انسجام وحدة المكان في الحج: وهو أداء الحجاج لمناسكهم على المكان المحدّد، وأن تجمعهم لا يجوز أن يؤدي المناسك المفروضة والمستحبة في غير المشاهد المقررة، فكل منسك خاص لا يمكن أن ينجز اليقين في الفراغ منه مالم يؤد في جزء المكان ودائرته العامة الواحدة، وهذا ما يفترق فيه الحج عن بقية الفرائض والواجبات. اذ بإمكان الإنسان أن يأتي بالصلاة جماعة أو فرادى في المسجد أو البيت، في السفينة أو على الجمل أداءً أم قضاءً خارج وقتها أو في زمن وجوبها ومع كلّ هذا تقعصحيحة. فالانسجام في أداء المناسك يرشح وحدة مكانية للجميع وهو أحد ركني الجمال في الحج، ويقرر لنا في النهاية مفهوم مكان القبلة وحالة التوّجه. إذ المكان في الحج له واقع وموضوعية. «جعل اللَّهُ الكعبةَ

ص: 44

البيتَ الحرامَ قياماً للناس» (1).

الشكل الثاني: انسجام وحدة الزمان في الحج، وهو الركن الجمالي الثاني لأداء المناسك ويكون أداؤها في زمن واحد معين «والشهرَ الحرامَ والهديَ والقلائدَ» (2)

وقوله: «الحجُّ أشهر معلومات ...» (3).

ولوحدة الزمان في الحج بعدان، عام: إذ يكون واجباً مرة واحدة في العمر على المستطيع، والآخر: أن تقع المناسك جميعها في وحدة زمنية محددة ويكون أداء جزء المناسك في جزء الزمن المحدد، وإذا ما حدث اختراق ما لزمن بعض المناسك فإن الإتيان به يقع في ضيق دائرة الزمن المحدد قضاءً.

ونحن نقتصر على إبراز الدلالات الجمالية في الانسجام المكاني فقط؛ وذلك في رسمصور ثلاثة للجمالية المكانية في أداء مناسك الحج.

الحج ووحدة الزمان والمكان:

الشرط الزماني والمكاني في منظومة أداء مناسك الحج لا بدَّ من أن يقترنا تدريجياً وعلى دفعات، حتى يصارا إلى وحدة في قالب أو بُعدٍ معين ثابت، والبعد هذا يسمى «الميقات». كثير من العبادات تكون مطبوعة غالباً بأحد بعدي الزمان أو المكان كفريضة الصوم في الشهر المحدّد، أوصلاة الجماعة في المسجد في زمن حضور الإمام المعصوم عليه السلام أو غيرها من العبادات ... حين نرى أن عنصري الزمان والمكان أحد الألوان البارزة في وصف العبادة ... إن لم يكن أحدهما شرطاً فيصحة العبادة.

غير أننا لا نجد لهذا (الزمان والمكان) إلّاشيئين من مجموعة أشياء يدخلان في تصميم شكل الصيام أو الصلاة مثلًا، ويمكن عدم الالتزام بهما، ويصح التعويض عنهما وعن زمنهما بالصلاة قضاء أو الكفارة، بل نرى مثلًا أنصلاة


1- 1 سورة المائدة. آية 97.
2- 2 سورة المائدة. آية 97.
3- 3 سورة البقرة. آية 197.

ص: 45

المرأة في بيتها معادلًا موضوعياً لصلاتها في المسجد.

في أداء مناسك الحج نرى للأشياء وضوحاً كبيراً ومشاركة متكافئة محتشدة لعناصر الزمان والمكان معاً، فهما ليسا عنصرين تكوينيين يراد منهما ضبط الواجب والوجوب فحسب، وإنما هناك دلالات جمالية مؤثرة تترك لمساتها على ذاكرة المسلم وحياته ومراجعاته مع ذاته والآخر والأشياء ...

إنهما في «الميقات» يتجليان بقوة وينسكبان في مثال الكائنات الحيّة القابلة للأنسنة ويستعرضان كلّ قابليتهما ويتحدان مع محورية الإنسان الحاج بحيث لا يمكن أن نسجل تقدماً للزمان أثناء الأداء على المكان في تسمية ووصف الميقات، وكذلك لا يصحُّ العكس لحظة الأداء، ومع لحاظ كيفية ووجوب الإحرام والتلبية فإن المشهد العام يتقدم أكثر في استدعاء حالة التجرّد .. إنه تجرّد من أجل وحدة الأشياء والطبيعة مع الحاج ومن ثم الإنسان الآخر وليس ضدهما.

فهو أي التجرّد- يستبطن قوة الزمن الحي والمكان الحي وأن هناك حيوية وعضوية كامنة شبه معطلّة تبحث عن محفز أقوى يدعوهما إلى التمظهر عن طريق المشاركةالواعية المخططة. إن حدوث مشاركة كهذه توفرللحاج مساحات أكبر للانتماء في المطلق، فيما تعرب الكائنات عن طاقة وأشكال أمثل وأثرى للتسخير الألهي والطبيعي، وعبر التعاطي المتبادل والمتواصل يستبصر الإنسان الانحياز الكلي نحو وجه اللَّه، والتغلغل نحو معرفة الطاعة والطواعية؛ لتتكامل من ثمصورة التكامل الإنساني، وتتكافل معالم التشريع مع أسس التكوين.

فعند عبورصراط الميقات يكون قد حررّ الحاج في تأملاته اللقاء بين الزمان والمكان، وتتصل هذ الصورة والحرية بينهما عند الوقوف على عرفات مثلًا، فالوقوف هناك يشير في الحس الجماعي إشارات إحياء الذاكرة الجمعية، وكسب المسيرة البشرية التاريخية التي شرعت من آدم وحواء عليهما السلام في وحدة

ص: 46

لحظة واحدة فقط، لحظة ويجب أن لا تكون مجردة عن الشكل، فاقترح التشريع الإسلامي الوقوف الطبيعي الجماعي حول شكل مادي حجري.

الوقوف هذا وحركته الطبيعية إيماءة مثيرة يؤسسها التشريع في أداء المناسك عامة نحو فكرة الإبداع والجمال في عبادة الحج، حتى لا تتسرب الذاكرة وتندفع في دفقة حين تكون جماعية تياريّة نحو الخيال المحض، والقفز نحو المجهول والمجهولية، والتي تتوتر بعيداً في الخيالي، وتتجه إلى حيث الأسطورية والخرافة، وإذن فإن في الوقوف بعرفات ذاكرة مسدّدة تخترق الزمن بإشارة وبسماح وبتمويل مكاني حيث يكون الوقوف في التاسع من ذي الحجة (إن جبرئيل كان يطوّف إبراهيم في المشاعر ويعلمه المواضع وهو يقول عرفت) (1) أو (إن فيه تعارف آدم وحواء) (2) أو (إن الناس يعترفون بذنوبهم في المكان) (3).

ما كان للذاكرة أن تتحرر لولا المرور التأملي بالميقات الذي يصمم على المكان وفي الزمان وحدة بين الزمان والمكان.

وكذلك عندما يمرّ الحاج على أطراف مكة فيواجه (المشعر الحرام، عرفات، مِنى) ويرى تلالًا من الحجر الصغير، وكيف أن الحجر المكسر الصغير لا ينتابه نضوب أو تكلس (وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان- كل واحد منهم يرمي سبعين حصاة- ثم لا يرى هناك إلّامالو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير) (4).

إن هذه الايحاءات تتماوج حول الإنسان الحاج، والإسلام حين يدعو إلى المثالية والتجرد وسط حضور هذه الأشكال إيماءاتها لا يدعو إلى الإقصاء الكلي لعالم المادة، وإنما لإشباع وتربية العاطفة وتأكيداً منه على نبالة وقداسة الأشياء والطبيعة، ولتتصاعد عوالم الاشياء والماديات إلى مثالها الأعلى، واذاك تنفتح لوحة الكون بكلّ أسرارها أمام الحاج وتبوح بمكنونها فتحدث عملية تفكيك،


1- 1 في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمد سليم الحوت: 150 بيروت. دار النهار للنشر 1983.
2- 2 في طريق الميثولوجيا عند العرب، محمد سليم الحوت: 150 بيروت. دار النهار للنشر 1983.
3- 3 معجم البلدان. ياقوت الحموي. تحقيق فريد عبد العزيز الجندي 4: 117 بيروت. دار الكتب العلمية 1410.
4- 4 التفسير الكبير. الرازي 8: 145.

ص: 47

وإعادة نظم للموجودات في حياة الحاج الفردية والاجتماعية والتوافق معها على أسلوبية اجتماعية راقية مؤيدة بطاقة وحنان طبيعيّين.

فلتجربة الإنسان مع الماديات وعوالمها قطبان، الأول: مع جواهرها والثاني: مع أشكالها وواقعها ومتى ما تكاملت رؤيته لكل الأبعاد فإنه يقرر في مسيرته الحياتية المحتوى والمثال من جهة، والموضوع والصيغة من جهة أخرى، والإلمام بهذين القطبين في طول الحياة يحدث توازناً اجتماعياً بين قوانين العقيدة والفكر وبين قوانين الواقع والمتغيرات، ومن هنا فلا يكون المسلم الواقعي متعسفاً في تنظيم قضايا المجتمع والمستقبل والمرحلة، ولعلنا من هنا نضع لمسة أخرى في تفسير مفاهيم ومصاديق العصمة والمعجزة والظهور. إذ ليس التكامل هذا بين الإنسان والآخر فحسب بل بينهما والمجتمع وبين الطبيعة والكون.

التنويع الذي يطرحه التشريع بخصوص مثالية التكامل مع الآخر والطبيعة والكون في فريضة الحج، يتسع ليشمل تلوين إطار حياة مجتمع وطبيعة أرض وأعماق تاريخ ومساحة فضاء ويفترضه أولًا في دائرة إنسان واحد (الحاج) بل في فئة معينة من عمره.

التشريعات وكيفيات الأحكام في مناسك الحج أكثر مما هي في أي عبادة، فقد ترى أن عناوين النجاسة والطهارة والسهو والنسيان والغصب، وشرائط العقل والبلوغ والحرية في بعض الفرائض تتجه كلّها نحو تحصين العبادة من غير الجائز أصلًا، أما في عبادة الحج فإن هذه العناوين وأخرى مشابهة ترقى ليس إلى تحصين الحاج والحج من غير الجائز والحرام أصلًا فحسب، وإنما يُفرض نظام حديدي شامل على المحرمات والمباحات والمكروهات، وإلّا فإن قتل برغوث في الصلاة لا يوجب إعادتها أو كفارة ما، وحتى مع الكراهية فإن الصلاة تقعصحيحة تامة. أما في الحج فإن قتل الحيوان يفرض نمطاً معيناً من الإجراء، ولعل

ص: 48

في أداء الحج تكون فرص المباح أقل مما هي عليه في العبادات الأخرى «والشهرَ الحرامَ والهدي والقلائدَ» (1)

إذ يجب عدم التعرض للحيوان إذا قُلد بقلادة ويصبح في أمان حتى وهو يأكل من علف غيرصاحبه من هنا فإن وحدة الزمان والمكان تحدث سيلًا وتلاحماً بين المخلوقات التي يتدخل الزمان والمكان في حياتها وعمرها .. والميقات يشير إلى ذلك لتكون تجربة الحج تجربة روحية مع الطبيعة .. مع الكون .. مع الذات والآخر .. مع الأشياء كما هو واقعها .. مع الأشكال المادية كما هو انتماؤها الطبيعي الكوني؛ لتنطلق جميعاً متهاديةً إلى محور خالقها.

القبلة والجمال

لم يكن اختيار الكعبة قبلة للمسلمين سدىً، أو أنه مجرد تلبية لرغبة الرسولصلى الله عليه و آله و سلم حين رآه سبحانه يقلّبُ طرفه بين الآفاق، وأن الاختيار للقبلة الجديدة للديانة الخاتمة ليس انقلاباً ضد القبلة السابقة في البيت المقدس.

ملاحظة هذين الأمرين والانتقال من قبة الصخرة إلى الكعبة في مكة يحرر لنا فكرة مهمة هي ظاهرة أرض اللَّه وصلاحها وأنها مع كائناتها محض خير وفيض وجمال، وأنها تنطوي على مثال قداسةٍ. إن هذه الفكرة هي التي ترتكن عليها عقيدتنا بقبول الكعبة قبلة جديدة دائمة وخالدة.

فإن طرح «القبلوية» عن المقدس وإضافتها إلى الكعبة لا يخلُّ بطهارة المكان السابق، وإن كان يضفي على الجديد قداسةً.

فإن الجامع بين المكانين المحدّدين بقبة الصخرة والكعبة أو غيرهما من الأماكن الأخرى. هو كونهما طاهرين، وكان يمكن أن يكون أي مكان «كعبوياً» في جهة الغرب أو الشرق مقدساً وطاهراً. لكن اللَّه اختار الكعبة والبيت الحرام «فَلَنُولينَّكَ قبلةً ترضها» (2).


1- 1 سورة المائدة. آية 97.
2- 2 سورة البقرة. آية 144.

ص: 49

الاختيار هذا يصبُّ في اختيار أعظم وأهم وهو الدين الإسلامي الجديد، الدين الذي حفظ المشترك الرسالي في الأديان السابقة فيما اقتطع مرحلة ما بعد الديانه المسيحية، مساحة تاريخية لخاتم الأديان، إن القبلة الجديدة اختيار حفظ لنا مشترك الطهارة والقداسة في القبلة السابقة. لا بدَّ إذن من جديد .. جديد لا يفارق الثوابت الدينية الرئيسية، ولا ينفصل عن المعطيات ووحدتها التي حملتها الأديان السماوية، لكن يجب أن تكون القبلة من الأمور الجديدة في الديانة الجديدة الخاتمة؛ لتصبح أمة المسلمين في حالة وتجربة، يمكن أن توازن فيها بين الخصوصية والمشتركات الدينية، فلا يرى على الديانات السابقة- ورغم الفواصل الزمنية البعيدة بينها- أنها كانت تتجه نحو خصوصية مع ما سبقها أو تعاصر معها. وأقصى ما يصطلح عليه بالخصوصية هو نفسه الذي يصطلح عليه بالشمول والمشترك تجوّزاً، فالجديد في تفاصيل الديانة الإسلامية جاء ليحرك المسلم نحو تسيس العالم البشري وقناعاته من موقع ثنائية الخاص والعام في التشريع الإسلامي؛ ليضع العقلية العالمية وإبداعها في قلب الكون وجهاً لوجه مع كلّ ما تلتزم به من خصوصية، ويطلُّ بها بالكامل على كلّ ما يمكن أن ينطوي على مشتركات.

القبلة إذن في كونها جديداً إسلامياً فهي تدعو إلى الإبداع، وتوثيق المشاعر بالجمال، واستكناه العناصر الجديدة في عملية الإبداع الإنساني .. كما أن القبلة هي المقصد الرئيس لفريضة الحج ومناسكه، ومن هنا ترتبط الكعبة بفريضة الحج ارتباط الجمال بمفهومه وجوهره.

اتجاه الدلالات في المناسك:

الذي يستنطق النصوص والأحكام التي تتعلق بالحج وشؤونه لا يمكن

ص: 50

- إذا أراد أن يكونصورة عامة عن دلالاته وانحلالها في الساحة الاجتماعية- أن يقرأها آيةً آيةً، أو حكماً حكماً أو مقطعاً مقطعاً؛ وإنما حتى تترشح وحدة مفهومية ذات طاقة عملية، عليه أن يتوقف عند مفردات النصوص والأحكام كأجزاء يُراد منها أن تؤسس لصيغة عامة ضابطة ومنظمة لكلّ الأبعاد من الداخل والخارج.

ولما كان الحج بإجماع علماء المسلمين (1)هو ما يجب على المكلف المستطيع مرة واحدة في العمر فإن ترميز (مرة واحدة في عمر المكلف) تحرّك لنا إجماع النصوص والأحكام وتقودها نحو مصبٍّ واحد هو باختصار؛ المطلب الأعلى لعملية الحج بكاملها. وبقدر ما تندمج العناصر العبادية مع الاجتماعية والسياسية والوجدانية في عملية الحج فإن لمدلول الحج حين يكون مرة واحدة في العمرصورة مكثفة تحتشد فيها حزمة من الرموز معبأة بإمكانية السيطرة على مساحة الاجتماع البشري وليس الإسلامي فقط «وأذّن في النَّاس بالحجِّ» (2).

التأمل في الصورة العامة للحج في كيفيتيّ الإحرام داخل البيت الحرام وخارجه يقرّب لنا نظاماً خاصاً في الربط بين الدلالات الماثلة في أداء فريضة الحج، ويمكن تصنيف الدلالات إلى:

1- الدلالات الرمزية.

2- دلالات البعد الطبيعي (المكان+ الزمان).

3- الدلالات الوجدانية.

تتسع عمارات النصوص المتعلقة بالحج لاستيعاب هذه الدلالات الثلاث.

ولا يمكن الانتقال إلى تطبيق حرفية النص أو الحكم دون ربط الدلالات السابقة بفعلية الحج الواقعية العملية الكبرى. إذ ليس بمقدور قراءة الأحكام وحدها أن تؤسس لهذه الأبعاد والدلالات مالم نعتقد أولًا بجملة مفاهيم، وبمنتظم متسلسل


1- 1 راجع جواهر الكلام 17: 220 وكذلك المغني 3: 217، وقد خالف في ذلك الصدوق في علل الشرايع: 405 وقد استدل لذلك بما رواه بإسناده عن أبي جرير القمي، راجع كتاب العلل: 405.
2- 2 سورة الحج. آية 27.

ص: 51

من المعطيات القرآنية الممتدة العامة.

فالحج المحمدي يتحرك بضوء ثنائية المفاهيم/ المعطيات ومتى ما أتقن الحاج وعي العلاقة بين الاثنين، وترتيب الآثار تنبع على الأثر القيمة الاجتماعية كإنعكاس حتمي للمطلب الأعلى، بيْدَ أن هناك تخليطاً أُستدرِج اليه المتحمسون يفيد أن مجرد التجمع الإسلامي الذي هو (معطى طبيعي) والذي تؤكده مسيرة الحج التاريخية منذ بداية التشريع وحتى الآن سوف يحرر لنا المضمون الاجتماعي الحقيقي لفلسفة الحج. وبالتأمل، فإن الوقفات السنوية الموسمية للحجاج يبقى كصيغة اجتماعية على مسافة بعيدة عن وحدوية الهدف القرآني للحج. فليس فقط الطقوسية والتجارية أو طغيان الذهنية الفردية، أو الانسجام مع ثقافة الأنظمة السياسية الحاكمة في بلاد المسلمين هي وحدها الأسباب التي أدّت إلى أن تكون شخصية الحج التاريخية محمّلة بالتراكمات والسلبيات، بل ادعى إلى ذلك أن تكون هذه الأسباب ظواهر ومظاهر لسبب أعمق يغور بحجم تأثير الزمن الذي غلّف مسارات أداء الحج وهو؛ الفصل بين المفاهيم (الحج كمطلب أعلى من عامة النصوص يلم بالدلالات الثلاث السابقة) وبين المعطيات التاريخية، ومع الاتجاه فإن الفصل ناتج من عدم وعي العلاقة بين مفاهيم الحج ومعطياته، بل إن الاندفاع في هذا الاتجاه سوّغَ للبعض أن يضع ويركز على إحلال المعطيات محل المفاهيم، فأحدث هذا على المدى إرباكاً في الأداء الديني والاجتماعي للحج علىصعيديّ الجماعة والفرد، ويضطر الحاج أن يكون منساقاً وراء العروض الطقوسية للفريضة، متنازلًا عن المكاسب التي تماثلت أمامه في حضرة الأداء، وهكذا يكون ضحيةً في عصر يُراد منه أن يكون متمثلًا روحية الحج وجماعته الإسلامية التي تهيكلت على شكل رسوم وخطوط بقوة ومن حوله وفيه في دائرة المشاهد المقدسة.

ص: 52

الطبيعة العبادية في فريضة الحج أقرب من غيرها إلى معطيات الطبيعة والتكوين، ومن واقع تجربة يطالع فيها العبد الحاج حسيّة الجماعة التي تختلف عنه بمعظمها عن لسانه وعاداته ولونه وانتمائه القبلي، وإلى حدٍّ ما يتقارب مع التفاوت المذهبي، وبلحاظ هذا التطلع والتقارب بين الطبيعة والحج تتضحّ لنا الإثارات التي يثيرها القرآن الكريم والسنة الطاهرة بخصوص تعلق أغلب عناوين المناسك بموجودات طبيعية وأرضية معينة ومحددة، والتي تواصلت قوة وضعفاً منذ أن أمر اللَّه سبحانه خليله إبراهيم عليه السلام بإرساء قواعد البيت الآمن.

مجموعات كبيرة من الرموز المكانية والزمانية في سياقات النص القرآني والسنة المطهّرة تصلح أن تترافد كاشفةً عن المحتوى الجمالي لأداء المناسك وعن أصل هذا النوع من الجمال.

ولأن كلّ مفردة في النص قابلة للالتحام مع وحدوية مضمون السياق، ولأن كلّ نص يتواشج مع آخر في إطار الاندماج الموضوعي، فإن تياراً عنيفاً يصرف الذهن والخيال إلى معانٍ جليلة مقدسة، إذ الإنسان في الحج وانطلاقاً من مكانية (الميقات) وبقدر ما يقصي عن طبيعته الآدمية التي خُلق بها كلّ المضافات الترابية، ويتجرد بكلِّ توّهج فإنه من جهة يخلعُ عليه حُلةً ماديةً بيضاء (لباس الإحرام) إنما يتجلى عنصورة أمثل ليكون معرباً عن خروجه من عقده وحالِه ليندمج في عقيدة وساحة أخرى في ذات المكان والزمان الدنيوي؛ هي تلك رمزية تفيد استتلاء المضمون السليم إذ يصبح الحاج وهو يرتدي الإحرام ومعه الحجاج الآخرون بلون الفضاء الممتد بين تخوم الأرض وعنان السماء (فالكعبة ليست البناء الخاص المحدّد بل هي الفضاء الخاص الممتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء) (1).

إن القرية الكونية التي يضع الجمال الكوني مفاتيحها بيد الحاج لهي الساحة


1- 1 الوسائل 3: 247.

ص: 53

التي تنشرح أفقياً أمامه، وتتمحور حول شاقول يشق أحشاء الكون، فالصورة إذن لم تكن هدفاً بلا وسيلة، ولا هي بلا قوة في التوظيف، ولا قوة بلا فعلية متجسدة في الواقع ... وعليه فمن أين تبدأ الفعلية المتجسدة؟ إنها تماماً من نفس بؤرة الميقات، وتمتد رجوعاً على هدى خطّ أفقي إلى بلدة الحاج ووجوده الاجتماعي المباشر المتصل.

المفتاح الرئيس لصور الجمال المكاني في الحج هو مفتاح الميقات بوصفه أو لكونه البؤرة التي تتلاحم فيه عناصر المكان والزمان، ومنه يصلح انفكاك زمان الحج ومكانه .. ويحمل هذا الميقات إشارة للدخول في عالم الحج الخاص ألا وهي إشارة (الإحرام) التي ينطلق لسان التلبية للتعبير عن محتواها الداخلي .. وإذن فهناكصور كثيرة تدل على جمالية أداء المناسك نقتصر علىصورتين منها:

الصورة الجمالية الأُولى لمكانيّة الحج:

تنطلق فريضة الحج من تصوّر هائل للمكان، ولعل أرقى ما يشير إلىصورة التصور المكاني هذا هي آية «وأذّن في النّاس بالحجِّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتينَ من كلّ فجّ عميق» (1)

. إذ تكثّف الصورة الفنية في سياق الآية، حركة الإنسان وهي متجهة من الآقاصي، فالضامرات اللواتي حملن الناس من نقاط وأفجاج بعيدة، تدلنا على رمزية متحركة بسرعة الرهان في ميدان سباق مشهود، وبقدر ما تكون الضامرات قد خاضت تجربة الذهاب إلى بؤرة الميقات، فهذا الأخير يكشف عن مستويين جماليين للآية .. إذ تنحلّ عملية (الاتيان) ومن ثم (يأتين) إلى ممارسة مباشرة مع المكان، وباستثناء الضرورات تصبح رحلة ما بعد الميقات المستوى الدلالي الآخر لرحلة ما قبل الميقات، وهنا تنبع حكمة خط العودة من الحج، ولعلّ انغراس مفردة (ضامر) ومفردة (عميق) في أفق النص


1- 1 سورة الحج. آية 27.

ص: 54

يقصّ لنا عن محتويات المكان، وكائنات الطبيعة المطوّاعة المتمثلة للناس، وهي إشارة إلى تمرين الحج على الطبيعة، واشتراك المخلوقات ضمن إنسيابية التسخير مع الإنسان.

إن مفردة «عميق» تفرض مقاومة طبيعية على «ضامر» والمقاومة هذه متمثلة بطبيعة الخط المكاني المتصل (من كلّ فج) وينتج من الأمر بالحج حالة تعاطي «تعاطٍ» لمنظومة من القوى يفجرها في الأداء التشكيل والتنويع، فيكون الإنسان الحاصد الأخير لجماع المعطيات، وبفضل كيفيات التسخير تتقد مفردة (يأتين) وتومض منها شواظّ تسلّط الأشعة ليس على مستطيل النص فحسب، وإنما على تحوّلات وتضاريس الخط المكاني الرابط بين سكن الحاج والميقات، بمعنى أن البؤرة من جهة والواقع من جهة أخرى يتعاطفان في الإفصاح عن الخوافي والكوامن المعدّة تكوينياً وطبيعياً في رحلة الحج، فيما يكون الحرص على تقريب المفاهيم تمهيداً للقراءة الواضحة البعيدة عن التغميض وتعسفات التأويل.

تبرز لنا القيمة الجمالية هدفاً من انسكاب السرد القرآني في خلاصات بيانية، وذلك في اصطفاء الجمال كأرقى عملية لتوضيح المقاصد العليا للفريضة العبادية، والجمال لا ينبسط بصورة عامة في عرض النص، إنما يترمز في وقفات خاصة ومن عدة زوايا، وهذه الرموز تنقل النصّ نقلات هائلة، وهي تتقدم مع حداثة العصر وتأملات المياه المقدسة لسواقي القرآن، بحيث كلما يتسع المكان وتتنوّع تضاريسه وتتركب معطلاته وتعقيداته فإن نسغاً خالداً في طول النص يعكس أطيافه، ويتوالد بعدة ألوان تغطي آخر قافية معرفية في القرآن.

النسغ هذا: هو وجود الحقيقة المكانية في النصوص كمكون وكجزءصميمي في عملية الشروع بفريضة الحج، وفي أداء مناسكه على السواء. لكن وجودها فرع على وجود الأصل العبادي الخالص. وهذا هو التكافؤ الذي يحقق

ص: 55

النسبية المكانية في القرآن وفي الحج خاصةً «جعل اللَّهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للنّاس» (1).

النسبية المكانية هذه توِّلد لنا المعالجات والأسلوبية المتطورة، وتلائم بين المكان في الخارج وحسيته الواقعية، وبين المحتوى الديني الثابت لفريضة كالحج.

فعنصر المكان هنا لم يكن مقترحاً من الخارج لتفسير النص، كما لم يكن مساعداً كيمياوياً مؤقتاً في تجربة النص والحج، وإنما لكي ينسحب الجدل ومعهصعوبات الانسجام فإن عنصر المكان نابعٌ من ذات الصورة المعنوية للقرآن، وارتبط بجملة رموز طبيعية تسجل للناقد الشكلية الجمالية النسبية؛ ولهذا تأخذ المشاهد المقدسة تسلسلها في القيمة والوسيلة العبادية دون أي انفراط أو ترّخص في أيٍّ من مكونات عبادة الحج.

الصورة الجمالية الثانية:

الصورة الأولى كانت قد تناولت الصيغة الجمالية لمفردة حاج واحد على انفراد، ولذلك فهي إجراء فني نقدي قرآني يصمم لحالة العلاقة المثالية بين ما يجب أن تكون عليه كائنات الطبيعة في ارتباطاتها مع الحج والحاج، أي إن الصورة الفنية وإن كانت لا تركَّز على حكم معين إلّاأنها تستبطن دعوة اجتماعية كونية يتعاطف فيها الإنسان مع غيره من كائنات الوجود .. دعوة أرقى ما يكون عليها حالة الحج والحاج الحقيقية ... ولذلك اختير المكان وينابيعه القصية (فج عميق) ليمهد إلى تمارين أولية .. وهو رسم على المكان ... إذ توفرت أفعال ومفاعيل وروابط وأهداف وتحولات بين المنبع المكاني الواحد وحتى مفتاح الميقات.

الصورة التي نحن بصددها هي: أن الآية السابقة تثير في الاجتماع الإنساني


1- 1 سورة المائدة. آية 97.

ص: 56

مقترحاً خلاصة الدين الإسلامي، وحسب كونه خاتم الأديان، وأنه لا نبيَّ بعد رسولها المصطفىصلى الله عليه و آله وعليه فإنها ذات مهمة رسالية استثنائية أي إنها عالمية تتبنى على ضوء الثبات والمتحرك في التشريع المتداخل مع جزئيات وفواصل الخطّ التاريخي الصاعد من أجل تسيّس المستقبل والمصير الإنسانيين وتشدّهما بمحورية التوحيد الإلهي .. إن هذا ومع تنوّع أداء الحضارات والمدنيات، وتعقّل الذهنية وانسحابها عن النسبيات والمحدودات المادية، فإن الآية السابقة تركّز هذا الموج البشري، وتستدعي موجاته بهدوءٍ نحو المسرى الطبيعي، وتحشّده نحو بؤرة مكانية واحدة كتمرين على وحدة العقيدة في المستقبل .. البؤرة التي انطلق فيها نداء التوحيد المعبّر عن أصالة المشترك الفطري الإنساني. ولا بدَّ إذن من أن نواجه شكلًا مادياً يشبع الإحساس بالمكان، فكان الشكل المادي للكعبة يحقّق هذا الإشباع، ويستعرض عبر فضاءاته كلّ العواطف البشرية على الدوام؛ لأنه الشكل الوحيد الذي اتسع ويتسع لحركة الوجدان، وبنفس الوقت يتصل بالمطلق .. اتصالًا من الداخل حيث أداء المناسك المرتبطة بمركزية الشكل الكعبوي، وكذلك اتصالًا من الخارج وعلى السطح، حيث الخطوط النابعة من كلّ الأقاصي، كما هو شأن الدين الإسلامي حين يكون ولا بدَّ من ذلك دين البشر قاطبة.

فهناك منابع بشرية هائلة تسبح في حركة دائبة، وتتجه فيما تنتظم أخيراً عبر قنوات الميقات، وكلما اقتربت الروافد البشرية من مصبات الميقات، فإن الدوائر المكانية على السطح وفي الخارج تصغر حتى تكون فيصغرٍ طبيعي، وحينما تقترب المحيطات من دائرة المركز (الكعبة) تصبح أنصاف الأقطار التي كانت في الخارج أقطاراً تندمج وتتكثف وتتكيّف.

إن التماس مع الميقات والعبور إلى الكعبة يحرّر في ذات الاتجاه المستقيم

ص: 57

أشكالًا ورسوماً بعدد الكتل البشرية مما يحدث تحوّلًا هندسياً في الروافد البشرية، عملية التحوّل هذه يرشحها الدخول في الإحرام والشروع في التلبية وأداء المناسك، فتتساوق الأعمال هذه مع تلاقي أنصاف الأقطار البشرية على دائرة ضيقة نسبياً، ويكاد ينعدم الفراغ المكاني (الخلاء) وتتماسك خلاياه فيحدث إحساسٌ كبيرٌ بأهمية اللوحة (الرقعة) المكانية المقدسة، وإذْاك تفرغ الروافد المكانية كلّ ما في طبيعتها من لائقية مادية مقبولة، وتتواشج نحو التحامٍ حقيقي يطيح بفوضوية الأجزاء، إن هذا يدعو إلى اعتبار قياسات جديدة للمكان ..

القياسات الجديدة للمواقيت والمشاهد تنبع من الذاكرة .. الذاكرة الجمعية التي هي سنة من سنن الفطرة.

المكان في الصورة المقدسة هذه يصبح كائناً حيّاً فاعلًا، له موضوعية في تجربة المناسك؛ ولذا يكون قابلًا لفرضيات الإنسان والاجتماع، لأن مواجهته بهذه القوة والامتداد المفروضة في التشريعات والأحكام تضفي عليه لوناً من الحركة والتجدد والصيرورة، فلا يكون موضوعاً أو مادة للتاريخ أو حدثاً لزمان معين، إنما يصبح خلية منتجةً من خلايا الوجود تتعاطف إبداعياً مع طهارة الإنسان الحاج. يؤدي هذا إلى تلاشي المقاومة الطبيعية السلبية للمكان وعبر مقابلة اعتراف الحاج وقراره بإقصاء الأنا أو الذات المضافين واللذين هما طرفا النزاع والخصومة والمقاومة مع غفلة الطبيعة وتحجرها.

كلّ هذا يحدث في لحظة الولوج إلى ما بعد الميقات .. وحين يتمُّ انسحاب الأنا المؤثثة بالكثير من التوابع المادية والترابية، تسلم الطبيعة إلى شكلها الأصيل، وتنتمي للحاج وتتصافح معه بقوة وعنف، وتتجلى عن مواقف ومشاهد مشرّفة طاهرة، تؤرخ وتضبط للإنسان حدود وكيفيات أداء المناسك، وتشترك فعلياً في رسمصور السنن الشرعية الخاصة بفريضة الحج.

ص: 58

التنازل الطوعي الذي يحدث للذات ومصافحة الطبيعة للحاج، لم يكن وليد لحظة الولوج في الميقات، وإنما وليد مجموعة من التحولات على المكان يجمعها تمرين (يأتين من كلّ فج عميق) وتطور عملية (الإتيان) إلى (يأتين) المركّزة المشددة، فهذا التنازل إذن كان قد بدأ ليشطب عليةَ الصراع الداخلي، وإذا ما شعر الإنسان الحاج فعلًا أنه في حضرة تجربة يكون فيها الاتجاه عملياً نحو تصفية منابع هذا الصراع من داخله ومن موقع القرار والحكم، فإن ما يُسمى بالصراعات المادية الأخرى والعراك البشري والحروب والكوارث والنزلات التاريخية سرعان ما تتداعى وتنتفي حيثيتها.

الخلاصة التي يرسمها القرآن الكريم لعملية تصعيد التعاطف بين الإنسان الحاج ودواخله من جهة وبين العالم الخارجي وتحدياته من جهة أخرى تكمن في دلالة الآية «وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنّاس وأمناً» (1)

. فالأمن وليس السلام مصداق التصالح الكامل في مجتمع الحاج المقترح مستقبلياً .. الأمن هو أفصح بيان في لغة التعامل مع الموجودات في الكون، وما كان السلام يوماً حقيقةً اجتماعية مالم يشبع بالأمن الاجتماعي، فهو ليس إلّاحالة تعقب الحرب أو الخلاف ومن هنا فهو مهدد بالاختراق من أحد أو من كلا الطرفين، لكنه أي (السلام) مناط بحركة الآتين على الضامرات من كلّ فج عميق .. إنه مداخله مع نوعية القوى المقاومة .. حتى إذا امتزج الجهد الإنساني بحركة الطبيعة وتهادى إلى الميقات كان يجب أن يتحول السلام فيه إلى جوهر حياتي .. إلى حقيقة وينطلق في خطوة نوعية أرقى هي (الأمن). السلام في المنظور الاجتماعي ليس إلّا تدبيراً قانونياً عازلًا يعتمله الإنسان والآخر مع أرضية وحيثية الصراع من أجل أن تكون الأسباب المؤدية ومقاومة الطبيعة حيادية، أو في بعض الحالات يكون السلام مفروضاً، ويمتاز بالصيغة السلبية.


1- 1 سورة البقرة. آية 125.

ص: 59

أما في حالة الأمن يكون السلام نفسه منطوياً على اطمئنان، كما أن الطبيعة وعناصر الصراع والنزاع تنقلب إلى عوامل ايجابية تدر بالرحمة والبركة والحرية .. أي تتصل بأصالتها وفيضها وجمالها الكوني، مما يجعلها في التصاق مع جهد الإنسان في انتاج الهدف الأعلى في الأرض، وتسيّس باقي المعطلات.

ولعل مفردة (ميقات) فيها إيحاء وإيماءة على توقيت الفصل بين ما هو سلام وتطويره عبر تحوّلات مشاعر وألفاظ وحركات ولباس الحجاج إلى ما يجب أن يكون عليه السلام، وبين ما يجب أن يكون عليه الواقع الأمني العام لمجتمع الحاج.

فللأمن في وجدان الإنسان والحاج ذاكرة عجيبة، إذ إنه من وحي الفطرة ويدّر من نميرها ... ولها تعلق قديم في مسلكية الجماعة الأولى ... وتشكل مفردة الأمن معادلًا موضوعياً لمجتمع الجنة ... ولقد توثبت ألفاظ بعينها على تسمية بعض مناسك الحج وذلك ما نلحظه في تسمية (مِنى): (إن جبرائيل عليه السلام لما أراد أن يفارق آدم عليه السلام قال له: تَمنَّ. قال: أتمنى الجنة، فسميت- مِنى- بذلك لأمنيته). (1)فهناك إذن ذاكرة جماعية راجعة، تكيّف إثاراتها واستجاباتها أجواء تلاقي الروافد البشرية بين نقطتي الميقات وباقي مناسك الحج، وتدعوها للتأمل وللالتحام حول شكل مادي إلهي يدعى (الكعبة) بإعتباره مركز كلّ دوائر أمكنة الاجتماع الإنساني في النهاية.

هناك فرق خفي يؤشر لحالتين من توارد المشاعر في سياق الآيات التالية:

«وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً ... وعَهِدنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا بيتي» (2). «فسيحُوا في الأرض أربعة أشُهرٍ» (3). «أَوَ لَم يَروا أنّا جعلنا حرماً آمناً» (4). «.. فلا رفثَ ولا فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ» (5).


1- 1 جواهر الكلام 19: 100.
2- 2 سورة البقرة. آية 125.
3- 3 سورة التوبة. آية 2.
4- 4 سورة العنكبوت. آية 67.
5- 5 سورة البقرة. آية 197.

ص: 60

«... فإجعل افئدةً مِنَ النّاسِ تهوِي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون» (1).

إننا نجد علىصعيد الآيات السابقة مجموعة إشارات:

أولًا: أن الأمن فيها يأخذ مستويات متعدّدة يتصاعد مع حركة الزمن، فمن البيت الحرام وأمر إبراهيم وإسماعيل إلى السياحة الزمنية المحددة بالأشهر الأربعة، إلى التركيز والتأكيد والاستفهام في الآية الثالثة، وهي إشارة إلى غفلة الإنسان عن حقيقة البيت .. إلى تكثيف أدق لحالة الأمن وذلك في نفي مطلق يشمل جنس (الجدال). وحتى مخاطبة الأفئدة وتوليف العلاقة بين البيت وما حوله.

ثانياً: امتزاج عناصر التكوين والتشريع، وذلك في ورود فعل الأمر مقروناً أو متعلقاً بمفردة (الجعل).

ثالثاً: علاقة الأمن بالطهر، بالرزق، بالهوى، (الحب) وكلّها تؤشر اتساق الآثار العملية مع قوة الميل الإنساني لمعرفة حقيقة البيت الحرام.

هذه الأمور الثلاثة لا تلغي خصوصية كلّ آية عن الأخرى، فالآية الأولى ترمز إلى خصوصية البيت ذاته وطهارته من كل ما يشوّه معالمه ورسالته، وتبين بعض أحكامه وتأتي الآية الثالثة لتثير قضية خطيرة (الأمن) عبر مقطع (استفهامي) «أو لم يروا» وتقتطف الحسّ الإنساني بمعية الذاكرة وتوجيههما نحو (أمن الحرم) فإن الرؤية هنا تمتزج بالرؤيا .. لكن الآية رشحت أولًا عنصر الحس في مفردة (يروا) ثم عبر الاستفهام دمجت من بعيد عنصر الرؤيا، التأمل، الذاكرة «أو لم ...» إذ يكون الأمن هنا مسلكاً اجتماعياً وهدفاً متعلقاً بمشاهد الحج ويستتلي هذا ذاكرة كيف يكون مجتمع الجنة .. إن الآية ترمز إلى التفاتة دقيقة نحو المقارنة، والمقاربة بين مجتمع الجنة ومقترح قريب منه هو مجتمع


1- 1 سورة إبراهيم. آية 37.

ص: 61

الحجاج، لكن هذه الالتفاتة القرآنية لا تخلو من المضمون المكاني .. أي جهة الالتفاتة ... فتصبح (حرماً آمناً) شكلًا مادياً يفي بالمطالب الحياتية الدنيوية النقية، وسيان كان الشكل مادياً أم غير مادي فجماعة الحجاج لم يكونوا طبقة أو جهة متميزة عن الوسط الاجتماعي العام .. إنما هم يؤدون الحجّ ضمن أدوار معينة تحوي أروع محاكاة اجتماعية لوضعية الفائزين بالجنة، ويضعون اناملهم على أدق الحوافز التي تفصلهم عن تمثُل الدرجة العليا التي تطمح لها ذاكرة الجميع.

أما الآية الثانية فقد استخدمت مفردة (السياحة) وهو إشباع لطيف ليس لعموم المكان، بل لأخص رقعة فيه ... وهي حتماً ما تناسب الذوق السليم ...

وهذا توّجه كلي بلغة الوجدان إلى خلاصة الطبيعة الجميلة .. لكن الآية تحدّد السياحة بزمن محدّد حاد حاسم فيتدخل الأمر والتشريع، وهذا التحديد جاء من أجل مفهوم «الحج الأكبر» الذي يقع يوماً واحداً في الأشهر الأربعة ... وكان بإمكان القرآن أن يسمي ويحدّد الحج الأكبر .. لكنه أي- القرآن- أراد أن تحدث جولة سياحية في المكان وتتناهى إلى حصيلة زمنية .. وما كان لهذا الايقاع الزمني والحج الأكبر أن ينسكب في طهارة وفي اختتام المناسك، لو لم يكن هناك انتظار .. فالانتظار في الآية جعل المكان في حالة قلق .. أي إنه في النهاية سيتكلس وسيسفر عن المشركين، ورغم أن أربعة الأشهر تحدّد يوم الحج الأكبر مع اختلاف بسيط في الروايات (1)إلّاأنها تتفق على أن الرسولصلى الله عليه و آله أرسل الإمام علياً عليه السلام لقراءة آيات البراءة من المشركين.

ولا بدَّ من حسم الموقف ... ولا شك في أن جمرة الانتظار في الآية ستنطفأ وتتجه الموجه باتجاه آخر .. في زحمة تيار أقوى داخل البيت .. وهنا تنتظرنا الآية الرابعة ... وعند مقطع «ولا جدال في الحج». وللإشارة؛ فإن الجدال نوع من الحوار الفكري وضرب من التأمل والمناظرة ليس فيه في ذاته حرارة وآلة أو


1- 1 تفسير الميزان 9: 149.

ص: 62

سلاح، كما هو في أشكال الصراعات الأخرى .. الانطلاقة نحو (اللاجدال) ستلقي في النفوس نشوة الإحساس بالسرور .. إذ يعزل الحاج على دائرة المكان كلّ حوافز ومسوغات الجدل حتى علىصعيد الشعور والتأمل .. مما يدعو الذاكرة إلى أن تنداح أقوى؛ لأنها تحيا حالة قصوى من التهذيب والتشذيب ... وحتماً أن مستوىً كهذا من الصقل والاستقامة سينقّح لها الفراغ ... وتتوفر لها مجالات أكبر للتنقل والتذكير والإنابة.

ارتفاع حركة النفس والروح إلى مستوى الأمن الحقيقي، يعني أنها تدخل في تجربة التعايش الكامل مع الموجودات .. ولما كانت التجربة في ضمن إطار شكل مادي وبتماوج بشري مختلف، فإن هذا لا يجعل الإتقان سهلًا دون إنزال الدلالات الجمالية بكاملها في عبادة الحج. مقطع «ولا جدال في الحج» يصبّ في بلورة موقف الحاج تجاه أنماط الحياة، التي تزخر بها الدوائر البشرية المتتابعة الدوران حول الكعبة والمناسك .. وهذا الموقف له قطبان، هما: الإنسان مع أخيه، والثاني: الطبيعة، ومهمة الحاج داخل البيت لا تسمح له بالتأجيل أو النقض فيها .. ولما كان هناك حركة دائبة للأشياء فمعناه أن قبالة الحاج نماذج مختلفة من كائنات الطبيعة والبشر .. وهي في حالة حضور وامتثال واصغاء، فما تبقى إذن؟

إنها قيادة البشر والطبيعة وإلى من؟ قطعاً باتجاه المطلق. طالما تعرّف الحاج على نمطية الأسباب المعطلّة للانطلاق نحو اللَّه سبحانه ومن قرب.

المطلق يعني اللَّه- سبحانه- ولا يمكن أن يستوعب الحاج كلّ المساحات والمسافات نحوه- سبحانه- حتى لو كان طاهراً .. لا يمكن له هذا مالم يصحب في رحلته الفريدة التي تقع في أول عمره أو وسطه أو أخريات أيامه عناصر أخرى لها استحقاق الوجود؛ تلك العناصر السايحة، التي تسبح بميلها الطبيعي في الطبيعة، وأهم العناصر في دنيا الطبيعة في زمن الحج هو المكان، ومنه يُدرك أنه

ص: 63

الصبغة الطاغيه على فريضة الحج .. وأن هذا المكان سوف يتّحد مع الزمان فيما بعد الميقات، ويحدث بينهما التعجيل فيما تعود الأمكنة بعد الاتحاد في الميقات إلى حالتها الطبيعية المتناثرة في الحرم وفيما حوله .. إن هذا الاتحاد والتعجيل يكون معنوياً ويرمز لها في شكل الميقات، والتعجيل من القوة بحيث يصبح في منظور الحج أن كلّ ما في الطبيعة يحمل قابلية ومزاجية عبادية، وتنقلب نسبة البيت الحرام المنحوتة فيصدر الآية «مثابة للناس» إلى نسبة إلهية «طهّرا بيتي» ويتطابق اتجاه هذه الآية مع مدلول «وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ للَّهِ» (1).

على هذا فإن التحشيد الفني في الآية يشمل الطبيعة وما تنطوي عليه من أحجار ونبات وحيوان وهوام، إذ تقرر التشريعات حرمة الاعتداء عليها والتعهد بالقضاء والكفارة في بعض حالات العمد والنسيان، إذ لم يكن قبل الميقات أي حرمة أو التزام ...

يكشف لنا الحج ومناسكه أن لغير العاقلات حرمة وبأي نسبة فإنها تشبه حرمة الاعتداء على الإنسان، بيد أن هذه الكرامة لم تكن وليدة العقل في الكائنات غير الإنسانية .. إنما هي لحيثية الوجود ... فللموجود قدسية في أيّ محل وشكل .. وهذا هو المشترك بين الإنسان وغيره فمعنى «أنسنة» الأشياء ليس إحلال العقل فيها، بل في وعي علاقة الوجود وأنماطه بحركة الإنسان.

تزول كلّ الفواصل بين ما يسمى بالمكان الطبيعي، وبين ما يسمى بالزمان الطبيعي، فيما بعد الولوج في الدائرة المتصلة بين البيت والميقات، ويتواصل هذا الالتحام بينهما حتى يوم النحر فينطلق الدعاء من فم الخليل عليه السلام «فاجعل أفئدة ...» وهو المصب والمستوى الاجتماعي الأخير للأمن الإلهي. وفي الآية نطالع مفردات (أفئدة- الثمرات- يشكرون) وهي محملة بومضات وجدانية تومئ إلى أن الفؤاد مكان يغلّف لبَّ الكيان الداخلي للإنسان، والثمرات هي لباب


1- 1 سورة البقرة. آية 196.

ص: 64

وجوهر النعم والأرزاق، فيما تنفرد مفردة يشكرون بأقصىصيغة إيقاع للحمد والثناء والاعتراف.

اللباب الثلاثة وماتستتليه من جذبات على المكان تحدّدلنا ذات الجهة التي يعتاد أن تكون فيها معاً .. إذاً، إنها حركة نحوها معاً .. وعبرها تترشح رسالة البحث عن الأمن الحقيقي، فليس هذا الأخير خلوداً إلى اللذة والراحة والاستلقاء، الأمن الحقيقي في بيت اللَّه، وهو تجربة ومعركة تبدأ من الفرد، الذات، ولها آثار تكوينية وتشريعية تصل إلى خارج البيت فضلًا عن داخله وحتى أهل إبراهيم عليه السلام وعلى جنبات وادٍ غير ذي زرع تلك المعطيات التي تكفلت الآية بإبرازها. إنها تصفية للذات في كهوف الذات والذات الأخرى في أروقة النفس الإنسانية وغوامضها، وهي بدورها نقلة مكانية مثيرة تشكل خطّ النهاية فيصيرورة المكان الإبراهيمي.

في الذات. وأين يقع هذا الذات؟ في أي زاوية من المكان تتناسل نوية الذات .. إنها مواجهة حساسة فعلًا تقتضي متتاليات هندسية على خط المكان، بعدما نزع الإنسان الحاج كلّ ما عليه من مقاسات يمكن أن تُستنفذ زواياها. لقد علمناأن بؤرة المكان التي توجهت نحوها «أنصاف الأقطار» من «كلّ فج عميق» هي الكعبة. فأين المكان الذي تلوذ فيه الذات وتتعرى على حقيقتها؟. من الطبيعي أن نفس الذات لا تظفر بالتشخيص السليم، فلا بد من ذات أخرى تألف المسلك الشائك، ووجهاً لوجه يتصالب الحاج مع أخيه في أقرب نقطه مكانية وزمانية وهو يتقن الطواف والسعي والركعات ورمي الجمرات وغيرها. فما معنى «طهرّا بيتي للطائفين والعاكفين ..»؟ هل في إقصاء رموز الوثنية والجاهلية؟ هل في إبعاد اليهود والنصارى والمشركين؟ وما معنى (والركع السجود)؟ أو ليس الطائفون العاكفون مصلين؟ وهل توجدصلاة ومصلٍ بدون ركوع وسجود؟

ص: 65

تساؤلات تتوالد ويتوارد طيفها ...

وقبل التلامس مع الإجابة يحسن بنا أن نذكر الخلاصات التي انتهت إليها الآيات الخمسة السابقة.

فالآية الأولى: قررت تطهير البيت، والثانية، قررت إشباع المكان بالحركة والانتظار، والثالثة: قررت الأمن كذاكرة جمعية والرابعة اقصت كلّ منابع الصراع على الصعيد النظري فضلًا عن الصعيد المادي، فأقرت أن الأمن ينسحب على النفس فيمتّعها بالسرور، ثم قررت الآية الخامسة أن آل إبراهيم ومن ثم المجتمع وبقدر ارتباطهم بالبيت هم محل الرزق والثمرات والإلفة والمحبة.

هذا التطوير في تكامل الحرمة البشرية كان قد بدأ ولا زال ... وأنه مع الزمن لم ينته إلى النتائج المطلوبة بشكل كامل ... مما يجعل قسماً من النظرية فيصيغة فرض أو فرضية مجردة تلّح على برهانها ...

أين نعثر على البرهان ليتحول باقي النظرية الافتراضي إلى تجربة عملية تامة وأن تكاملها يعكس اجتماعية العقيدة وعالميتها؟ التساؤلات السابقة يعضّدنا على معالجة واستنباط الحلول لها نفس مكان الحج، وفي واحد هو من أهم مناسك الحج .. كما أن الآية التي تضمنت الإشارة إلى الطائفين والعاكفين يتَجلى لنا ختامها وهو يقفل على بيان المطلع فيها في مقطع (الركع السجود).

لما كانت حركة الحجاج في البيت ومن حوله من طواف وأشواط وهرولة وذهاب وإياب. ولما كان الطوّافون في حركة دائرية، وباتجاه لا يحيد ولا تنفصل فيه أداء اليد اليمنى عن أداء اليسرى.

ولما كانت حركة السعي والأشواط بين الصفا والمروة هي التي تفصل بين الطوافين، وهي حركة أفقيه مستقيمة .. لما توضّح كلّ هذا؛ فإننا نحصل على نوعين رئيسيين من أنماط الحركة، ويشكلان أساساً لباقي الأنماط وهما: الحركة

ص: 66

الدائرية، والحركة المستقيمة ... وأن المكان الذيصنف الحركة الواحدة إلىصنفين هو نفسه الذي سوف يعيد الاتجاه في نمط أو نوع واحد.

الدائرة والمستقيم على المكان هما أهم إحداثيتين اجتماعيتين للناس في مناسك الحج وما عداهما ليس إلّاانحرافاً مسدداً بالتشريع .. فالشكل الدائري والمستقيم للحركة يمكن أن يتداخلا في المكان الواحد فيشكلا معاً دائرة كبرى ومحوراً أكبر وقطراً أعظم.

لقد كان الحاج قد توصل إلى دائرة الكعبة، وذلك عبر التكرار المنظّم للطواف حولها، فهل تسنى له أن يقطع أو يكرر الاندفاعة في كلّ الخطوط المستقيمة ليلخصها، من ثم في سباعية الأشواط بين الصفا والمروة؟

تلك مساءلة جمالية ... وليس بالضرورة أن تنفصل العبادة عن الجمال في سائر الواجبات الدينية وخاصة الحج ..

إذن ماذايقترح علينا الحج من مناسك، ومن مكانية لاكتشاف الزاوية التي يكمن فيها عملاق الذات .. بعدما اكتشفنا أن سياقات النصوص تقذف في الذهن أن بؤرة المكان المشعّةالمكتنزه هي الكعبة، فليس حتماًأن يكون الشكل الدائري أتمّ الأشكال وأجملها، فهوبالتحليل خطّ مستقيم، قديتّضح في صوراخرى للأبعاد المكانية في مناسك الحج، والتي منها وحدة المركز المكاني المسمى بالكعبة.

الهوامش:

الجحفة

اشاره

ص: 82

الجحفة

عبد الهادي الفضلي

اكتسبت الجحفة أهميتها كموضع جغرافي من العوامل التالية:

1- وقوعها مرحلة من مراحل طريق الهجرة النبوية الشريفة.

2- كونها مفترق طرق تؤدي الى الحرمين الشريفين، والى ينبع حيث المرفإ البحري والطريق الشامي الساحلي.

3- والعامل الثالث هو العامل الديني حيث اعتبرت الجحفة شرعاً من المواقيت الخمسة، التي وقّتها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم للحجاج والمعتمرين من المسلمين.

4- وقد يضاف الى هذه عامل آخر، هو العامل التاريخي إذ مرت على الجحفة عهود تقدم وازدهار، وعهود تأخر واندثار تسترعي انتباه الباحث وتستدعيه للبحث فيها.

وبغية أن نتبين هذه لابد من تصنيف البحث- وفي ضوئها- الى النقاط التالية:

ص: 83

- اسمها.

- موقعها الجغرافي.

- تاريخها الماضي.

- حاضرها.

- دليل شرعيتها كميقات ومشروعية الإحرام منها.

- الطرق المارّة بها.

اسمها:

كانت تعرف قديماً باسم (مهيعة).

وضُبط الاسم لدى المشهور بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء المثناة تحت، وفتح العين المهملة، فتاء مربوطة.

وذكر السياغي في (الروض النضير 3/ 142): أن القاضي عياضاً حكى عن بعضهم: كسر هائها، وعلّق عليه بأنه غير مشهور.

وهو مأخوذ من هاع هَيعاً- بفتح الهاء- وهيعاناً، بمعنى انبسط، أو من هاع هِياعاً- بكسر الهاء- بمعنى اتسع وانتشر.

قال الخليل في (العين مادة هيع-): وطريق مهيع من التهيع، وهو الانبساط، وبلد مهيع أيضاً أي واسع، قال أبو ذؤيب:

فاحتثهن من السواء وماؤه بئر وعانده طريق مهيع وقد يرجع هذا الى اتساع واديها وانتشاره وانبساطه حيث يبدأ بغدير خم عند نهاية وادي الخرار واسعاً، ويستمر متسعاً ومنبسطاً حتى يصب في البحر.

ثم سميت (الجحفة).

وضبط الاسم- من غير خلاف- بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، وفتح

ص: 84

الفاء، بعدها تاء مربوطة.

وذكر الاسم في (الصحاح) بغير أل، وفي كثير من الكتب سواه بالألف واللام من أولها.

وسميت بهذا الاسم لأن السيل اجتحفها (1) في قصة أخوة عاد، التي ينسبها اللغويون الى ابن الكلبي المؤرخ المتوفى سنة 204 ه، إذ زعم «أن العماليق (وهم ولد عمليق بن لاوذ بن ارم) أخرجوا بني عَبيل- وهم أخوة عاد (بن عوض بن ارم)- من يثرب فنزلوا الجحفة- وكان اسمها مهيعة- فجاءَهم سيل فاجتحفهم فسميت جحفة» (2).

وقد جاء فيما روي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أنه استخدم الاسمين معاً، حيث نقل عنهصلى الله عليه و آله و سلم فيما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عنهصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال- عند دخوله المدينة المنورة وكانت يومها موبؤة-: «اللهم انقل وباء المدينة الى مهيعة».

وفيما رواه البخاري من طريق هشام أيضاً عن أبيه عن عائشة في حديث هجرة النبيصلى الله عليه و آله و سلم، قالت: لما قدم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم المدينة وَعِكَ أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبتِ كيف تجدك؟، ويا بلال كيف تجدك؟، قالت:

فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرى ء مصبّح في أهله والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه الحمّى يرفع عقيرته ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنّة وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت عائشة: فجئت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم فأخبرته، فقال: (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، وصححها، وانقل حمّاها الى الجحفة).


1- 1 قال ابن سيده: سيل جُحاف- بالضم- يذهب بكلّ شي ء ويجحفه أي يقشره. انظر: اللسان- مادة جحف.
2- 2 انظر: اللسان والتاج- مادة جحف.

ص: 85

وكذلك استخدم الاسمان في حديث أهل البيت عليهم السلام، ففيصحيح أبي أيوب الخزاز- الآتي فيما بعد- عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال .... (ووقّت لأهل المغرب الجحفة، وهي عندنا مكتوبة مهيعة) (1).

ولا يزال الاسمان يستعملان في بعض الكتب الشرعية، إلّاأن اسم مهيعة انحسر من الاستعمال الاجتماعي، فلا يعرف المكان عند أبناء المجتمع سواء كانوا من أبناء المنطقة أو غيرها إلّاباسم الجحفة.

موقعها الجغرافي:

اتبع الجغرافيون القدامى لتحديد الموقع الجغرافي لأي موضع يقع على طريق معروف المقياسين التاليين:

1- ذكر المدينتين الرئيستين اللتين يبدأ الطريق بإحداهما وينتهي بالأخرى، فيقولون- مثلًا- الموضع الفلاني يقع بين مكة والمدينة، أو بين البصرة والكوفة.

2- تقدير الموضع بالمرحلة بالنسبة الى إحدى المدينتين، فيقولون- مثلًا- هو على مرحلتين من مكة، أو على ثلاث مراحل من الكوفة. وتابعهم على ذلك بعض الفقهاء كما سنرى في ذكر مصادر التحديد فيما يلي:

ففيصحاح الجوهري ولسان ابن منظور حددت بموضع بين مكة والمدينة (2). وكما ترى، أن مثل هذا التحديد لا يعيّن الموقع بالضبط والدقة، وذلك لكثرة المواضع الجغرافية بين مكة والمدينة، ولذا حاول بعضهم أن يكون أقرب الى ضبط الموقع، فقال: هي منزل أو مكان بين مكة والمدينة، قريب من رابغ، بين بدر وخليص، كما فعل هذا الفيومي في (المصباح المنير)، والطريحي في (مجمع البحرين) (3).


1- 1 معجم ما استعجم 1/ 367- 370.
2- 2 انظر: مادة جحف فيها.
3- 3 انظر: مادة جحف فيها.

ص: 86

ومتى علمنا جغرافياً أن القرى المشهورة، التي تقع على هذا الطريق بين (بدر) و (خليص) هما (رابغ) و (مستورة)، وأضفنا اليه القرينة التي ذكراها، وهي أن الجحفة قريبة من رابغ، وليس من مستورة، يكون التحديد- هنا- أقرب الى تعيين الموقع، إذ إننا وعلى مقياس آخر من المقاييس المستخدمة قديماً، وهو سؤال سكان المنطقة عن الموقع، يكون التحديد قد أوقفنا على الموقع الجغرافي لها.

أما تحديد الموقع بالمرحلة، فقد قدّر بالتالي:

- ثلاث مراحل من مكة (1).

- أربع مراحل من مكة (2).

- خمس مراحل من مكة (3).

- ست مراحل من المدينة (4).

ويرجع هذا الاختلاف في عدد من المراحل بين ثلاث وأربع وخمس الى الاختلاف في:

1- المراد من المرحلة.

2- الطريق.

فالقائلون بالثلاث أرادوا بالمرحلة المسافة بين المنزلين، وبالطريق طريق الهجرة.

والمنازل في هذا الطريق من مكة الى الجحفة، هي: مكة- عُسفان- خيمة أم معبد- الجحفة.

فالمسافة بين مكة وعسفان مرحلة، وبين عسفان والخيمة مرحلة، وبين الخيمة والجحفة مرحلة.

والقائل بالخمس أراد بالمرحلة المنزل، وبالطريق الطريق السلطاني،


1- 1 الروض النضير 3: 142 والروض المربع 1: 135 ولسان العرب مادة جحف: حكاه عن البكري.
2- 2 معجم البلدان 2: 111.
3- 3 معجم معالم الحجاز 2: 122.
4- 4 معجم البلدان 2: 111.

ص: 87

ومنازله- بعد مكة- هي: 1- الجموم 2- عسفان 3- الدف 4- الطارف 5- الجحفة.

وكذلك القائل بالأربع أراد بالمرحلة المنزل، وبالطريق الطريق السلطاني، إلّا أنه حذف (الطارف) لعدم ذكره في بعض الخرائط.

أما المعاصرون من الفقهاء فاتبع بعضهم في تحديد الموقع الجغرافي للجحفة مقياس المسافة المقدرة بالكيلو متر.

منهم: السيد الكلبايكاني في رسالته العملية (مناسك الحجّ) قال:

«والمسافة بين جحفة ومكة المكرمة مائتين وعشرين كيلو متراً تقريباً» (1).

ومنهم: الشيخ سيد سابق في كتابه (فقه السنّة 1/ 652) قال: «ووّقت لأهل الشام الجحفة: موضع في الشمال الغربي من مكة، بينه وبينها 187 كيلو متراً».

والمسافة- كما في خريطة وزارة المواصلات السعودية للطرق البرية في المملكة- من مكة الى مطار رابغ 180 كيلو متراً، ومن مطار رابغ الى الجحفة 9 كيلومترات، فالمجموع 189 كم.

والمواضع التي يمر بها الطريق حالياً هي:

- مكة.

- الجموم.

- عسفان.

- خليص.

- المفرق (مفرق الطريق الى جدة والمدينة).

-صعبر.

- رابغ (مطار رابغ الواقع قبل مدينة رابغ من جهة مكة المكرمة وبعدها من


1- 1صوابه نحوياً: مائتان وعشرون. ومن غيرشك أنه جاء من خطإ المترجم عن الأصل الفارسي أو من الناشر.

ص: 88

جهة المدينة المنورة).

- الجحفة.

يسلك إليها الآتي من مكة يمنة الطريق، والآتي من المدينة يسرة الطريق- كما سأوضحه فيما بعد.

والذي حدّد المسافة بست مراحل من المدينة المنورة أراد بالمرحلة المنزل وبالطريق السلطاني أيضاً.

ومنازله بعد المدينة- هي: 1- الفريش 2- المسيجيد 3- السقيا 4- بئر مبيريك 5- الابواء 6- الجحفة.

ونخلص من جميع ما تقدم- وفي هدي ماذكر علىصفحات الخرائط- الى النتيجة التالية:

1- تقع الجحفة شرقي مدينة رابغ مع ميل الى الجنوب.

2- يوصل إليها بسلوك أحد طريقين يدلفان إليها من طريق المدينة مكة جدة العام:

أ- أحدهما من مركز مدينة رابغ، وطوله 22 كم.

ب- وثانيهما من مطار رابغ وطوله 9 كم.

تاريخها المعاصر:

إن قصة نزول بني عَبيل الجحفة بعد أن أخرجهم العماليق من يثرب- التي تقدمت الإشارة إليها- تشير الى قدم الجحفة، والى أن تاريخها يرجع الى ماقبل الإسلام.

قال الزبيدي في (تاريخ العروس: مادة جحف): «وكانت تسمى مهيعة، فنزل بها بنو عَبيل- كأمير باللام، وهو الصواب، وفي بعض بنو عُبيد كزبير

ص: 89

بالدال، وهو غلط- وهم أخوة عاد بن عوص بن ارم، وكان أخرجهم العماليق، وهم من ولد عمليق بن لاوذ بن ارم من يثرب، فجاءهم سيل الجحاف، فسميت جحفة، قال ابن دريد: هكذا ذكره ابن الكلبي».

والعمالقة- كما يعرّفهم القلقشندي (1): «قبيلة من العرب العاربة والبائدة، وهم بنو عمليق- ويقال عملاق- بن لاوذ بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمّة عظيمة يضرب بهم المثل في الطول والجثمان، قال الطبري: وتفرقت منهم أمم في البلاد، فكان منهم أهل المشرق، وأهل عُمان والبحرين والحجاز، وكان منهم ملوك العراق والجزيرة وجبابرة الشام وفراعنة مصر».

أما بنو عَبيل فذكرهم القلقشندي (2) عن ابن الكلبي بالدال، فقال: «بنو عبيد: قبيلة من العرب البائدة، قال ابن الكلبي: وهم بنو عبيد بن أرم بن سام بن نوح- عليه السلام- وقيل: عبيد بنصداد (شداد) بن عاد بن عوص بن سام، قال في العبر: وكانت منازلهم بالجحفة بين مكة والمدينة، وهو ميقات الإحرام لأهل مصر، فهلكوا بالسيل، ويقال: إن الجحفة بين مكة والمدينة، وإنما سميت الجحفة؛ لأن السيل أجحف بها وخربها.

قال المسعودي: ومنهم الذي اختط مدينة يثرب، وهو يثرب بن باسة بن مهلهل بن أرم بن عبيل، والذي ذكره السهيلي: أن الذي اختط مدينة يثرب هو ابن عبيل هذا».

ويبدو أن الجحفة بقيت عامرة بعد سيل الجحاف حتى القرن الخامس الهجري، فقد ذكر البكري البلداني المتوفى سنة 487 ه الجحفة في كتابه (معجم ما استعجم 1/ 367) وعرّفها بقوله: «وهي قرية جامعة لها منبر». ووصفها بأن في أولها- أي من جهة المدينة- مسجد النبيّصلى الله عليه و آله و سلم بموضع يقال له (عزور)، وفي آخرها- أي من جهة مكة- عند العلمين مسجد الأئمة.


1- 1 نهاية الأرب 142.
2- 2 م. س 321.

ص: 90

وربما كان خرابها في القرن السادس الهجري، ويفاد هذا مما جاء من تعريف لها في (معجم البلدان 2/ 111) فقد قال مؤلفه ياقوت الحموي المتوفى سنة 626 ه: «الجحفة- بالضم ثم السكون فالفاء- كانت قرية كبيرة ذات منبر ... وهي الآن خراب».

والذي يظهر أنها بقيت خراباً حتى عصرنا هذا.

وقد يرجع هذا الى ما تُمنى به المدن والقرى الواقعة على الطرق العامة عند عدول السابلة الى طريق آخر فتهجر لانقطاع مورد المعيشة فيها، وهو تعامل أهلها مع السالكة والسابلة المارة بها.

حيث يفاد مما يذكره الرحالة من مصريين ومغاربة (1)أن طريق الحاج من المدينة المنورة الى مكة المكرمة المار ب (بدر) ف (الجحفة) عدل عنه، فانحدر من (بدر) الى (مستورة) ف (رابغ).

هذا كلّ ما وقفت عليه من تاريخها الماضي، وبخاصة في العهد الإسلامي.

ونستطيع أن نخلص منه الى النتائج التالية:

1- أن الجحفة حتى القرن الخامس الهجري كانت قرية كبيرة جامعة ذات منبر.

2- وكان يطلق على أولها- للداخل إليها من جهة المدينة المنورة- اسم (عزور)، وكان فيه مسجد يقال له (مسجد النبيّ)، وهو المسجد الجامع الذي فيه منبرها لإقامةصلاة الجمعة.

3- وفي آخرها- للخارج منها إلى جهة مكة المكرمة- مسجد يقال له (مسجد الأئمة).

4- وفي نهايتها- من جهة مكة المكرمة أيضاً- عَلَمان أي علامتان من البناء الثابت لبيان حدود الميقات أو نهاية الميقات.


1- 1 انظر: على طريق الهجرة، للبلاديص 60.

ص: 91

حاضرها:

قمت بثلاث زيارات ميدانية أو رحلات استطلاعية لموقع الجحفة في التواريخ التالية:

1- الرحلة الأولى في أوائل سنة 1402 ه.

2- الرحلة الثانية في 7/ 5/ 1402 ه/ 2/ 3/ 1982 م.

3- الرحلة الثالثة في 18/ 6/ 1409 ه/ 25/ 1/ 1989 م.

ففي الرحلة الأولى: ذهبت إليها من جدة بسيارة سوبربان شفرليت، وكان برفقتي ولدي إياد، وعندما وصلنا مطار رابغ نزلت يمنة الطريق إلى أرض رمليةصخرية غير ممهدة، وليس فيها علامات واضحة يهتدي بها السائر الى الجحفة، فتوقفنا خشية أن نضل الطريق ريثما نرى من نسير معه، فأقبلت علينا سيارة داتسون وانيت فاستوقفتها وسألتُصاحبها عن الطريق، فقال: معي لأن طريقي يمر بالميقات، وعندما بانت لنا منارة المسجد انطلق الى جهته مسرعاً وتركنا نتخذ من المنارة مناراً نهتدي به. وحين وصلنا عند باب المسجد ترجلنا ودخلنا المسجد، فرأيناه قد لعبت به سوافي الرمال وغطّت فرشه، ورأينا فيه خزانات ماء للاستسقاء ومنها للغسل في حماماته الملحقة به.

وبالتفاتة الى إحدى زوايا المسجد رأينا بدوياً متوسداً يده وغاطاً بنوم عميق، وقدرنا أنه خادم المسجد فأيقظناه وسألناه بعض الأسئلة عن الموقع، فقال: إن هذا المسجد شيد قريباً من قبل الحكومة السعودية وملاصقاً لأسس المسجد القديم، وأرانا شيئاً منها، وهي آثار مسجد الأئمة الذي تقدم ذكره، ثم أرانا بجواره بئراً قديمة مطمورة، ثمصعدنا على سطح المسجد ورأينا على بعد ستمائة متر شرقي هذا المسجد بئر ماء ليست بالقديمة يستقي منها الرعاة وأعراب المنطقة، ثم أشار الى امتداد قرية الجحفة حتى قصر علياء، ولأن سيارتنا ليس

ص: 92

فيها (الدبل) المساعد على السحب، لم نستطع الذهاب إليه لمعرفة مسافة القرية القديمة طولًا لوجود كثبان كثيرة من الرمال تجمعت بفعل السيول، فشكرناه، وعدنا أدراجنا الى جدة.

وفي الرحلة الثانية استعرت سيارة جيب تويوتا، وصحبت معي ولدي عماداً، وكان برفقتنا خاله المرحوم السيد ياسين البطاط، وابنه السيد فاضل، وتجاوزنا المسجد المذكور الى قصر علياء، ويبدو من أطلاله أنه أثر عباسي، والى جنبه آثار سوق قديمة وطريقصخري عفّى عليها الذاري. والمسافة بين المسجد الماثل وأطلال القصر أربعة كيلومترات أو تزيد قليلًا.

وفي الرحلة الثالثة كان مركبنا سيارة جيب تويوتا أيضاً، مستعارة، والرفقة: الخطيب الشيخصالح العبيدي والشاب عابد العلّاسي من جدة، وولداي معاد وفؤاد، وابنا عمتهما السبطان السيدان الحسن والحسين الخليفة، ورأينا الطريق من مطار رابغ حتى المحرم قد عبدته الحكومة السعودية وزفتته، وذلك بطلب من الحكومة الإيرانية.

كما أننا رأينا مسجداً جديداً كبيراً شيد على موقع المسجد السابق بعد تهديمه، وفيه مرافق من مراحيض وحمامات للرجال وللنساء، عملته الحكومة السعودية بعد تزفيت الطريق المذكور.

وأيضاً رأينا الى جانب قصر علياء- كما يسميه أعراب المنطقة، ولم أعرف وجه التسمية- قريباً منه، مسجداً آخر، غير مسقوف، قيل إن الذي بناه رجل من شيعة حرب القاطنين بوادي الفرع.

«ويسكن أرض الجحفة اليوم قبائل من زبيد، منهم: الزنابقة والروايضة والعصلان، تخالطهم عناصر من عوف» (1).

ونخلص مما تقدم الى التالي:


1- 1 على طريق الهجرة 57.

ص: 93

1- المسجد المحرم يقع في أرض تلاصق آثار مسجد الأئمة، قبيل نهاية القرية القديمة من جهة مكة.

2- وفي نهاية القرية القديمة من جهة المدينة المنورة، أي في حي عزور تقوم أطلال قصر علياء.

3- الى جانب قصر علياء مسجدصغير غير مسقوف أنشى ء حديثاً.

4- والمسافة ما بين المسجدين لا تزال رمالًا وصخوراً، لا تسلك إلَّا بسيارة جيب وأمثالها.

5- الطريق من المسجد الَمحْرَم الى طريق المدينة- مكة العام مزفت، وبطول تسعة كيلومترات.

6- ومن رؤيتنا لآثار القرية القديمة تحققنا من أن المسجدين الحديثين المذكورين، وما بينهما من الميقات، ذلك أن الميقات هو القرية الماثلة حالصدور النصوص الموقتة لها.

دليل شرعيتها:

ويتلخص الدليل على اعتبار قرية الجحفة ميقاتاً بالتالي:

1- السيرة العملية القطعية المتصلة بعصر التشريع، المسلمون يحرمون منها منذ عصر النبيِّصلى الله عليه و آله و سلم حتى عصرنا هذا.

2- اتفاق فتوى فقهاء المسلمين وتسالمهم على ذلك.

3- النصوص الشرعية المعتبرة، وهي كثيرة، منها:

-صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبداللَّه عليه السلام، قال: من تمام الحجّ والعمرة أن تحرم من المواقيت التي وقّتها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، لا تجاوزها إلّاوأنت محرم، فإنه وقّت لأهل العراق- ولم يكن يومئذ عراق- بطن العقيق من قبل أهل العراق،

ص: 94

ووقّت لأهل اليمن يلملم، ووقّت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقّت لأهل المغرب الجحفة، وهي مهيعة، ووقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ومن كان منزله خلف هذه المواقيت ممّا يلي مكة فوقته منزله (1).

-صحيح أوحسن الحلبي، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: الإحرام من مواقيت خمسة وقتها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لا ينبغي لحاج ولا لمعتمر أن يحرم قبلها ولا بعدها، وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وهو مسجد الشجرة يصلي فيه، ويفرض الحج، ووقّت لأهل الشام الجحفة، ووقت لأهل نجد العقيق، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت لأهل اليمن يلملم، ولا ينبغي لأحد أن يرغب عن مواقيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم (2).

-صحيح أبي أيوب الخزار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: حدثني عن العقيق أوقت وقته رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، أو شي ءصنعه الناس؟ فقال: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ووقت لأهل المغرب الجحفة- وهي عندنا مكتوبة مهيعة- ووقت لأهل اليمن يلملم، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل، ووقت لأهل نجد العقيق وما انجدت (3).

-صحيح علي بن رئاب، قال: سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الأوقات، التي وقتها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم للناس، فقال: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، وهي الشجرة، ووقّت لأهل الشام الجحفة، ووقت لأهل اليمن قرن المنازل، ووقت لأهل نجد العقيق (4).

- وعن ابن عباس: أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهم، ولكل آتٍ أتي عليهن من غيرهن، ممن أراد الحجّ والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة (5).


1- 1 الوسائل: الباب 1 من المواقيت.
2- 2- الوسائل: الباب 1 و 11 من المواقيت.
3- 3- الوسائل: الباب 1 من المواقيت.
4- 4- الوسائل: الباب 1 من المواقيت.
5- 5 المحلى 7/ 71 عنصحيح مسلم 1/ 328.

ص: 95

وقد أفاد فقهاؤنا الإماميون فتواهم من هذه، ونصّوا عليه:

ففي (فقه الرضا) (1)و (المقنع) (2): «وقّت لأهل الشام المهيعة وهي الجحفة».

وفي (الهداية» (3) و (المقنعة) (4): «وقت لأهل الشام الجحفة»، وكذلك في (النهاية) (5)و (الجمل والعقود) (6) و (السرائر) (7) وفي (المواسم) (8) و (الجامع) (9): «وميقات أهل الشام الجحفة». وفي (الاصباح) (10) و (الغنية) (11): «ولأهل المدينة مسجد الشجرة اختياراً، واضطراراً الجحفة، وهي المهيعة، وهي ميقات أهل الشام اختياراً».

وهذا المذكور في (القواعد) من أن الجحفة ميقات اضطراري لمن لم يحرم من ذي الحليفة عند مروره عليه، واختياري لمن لم يمر على ميقات قبله، هو رأي مشهور فقهاء المسلمين، ما عدا المالكية من المذاهب السنّية فقد ذهبوا الى أن الجحفة ميقات تخييري لمن مرّ على المدينة من أهل الشام خاصة، فيتخير الشامي المار بالمدينة بين الإحرام من ذي الحليفة والإحرام من الجحفة.

قال ابن حزم في (المحلّى) (12): «وفي بعض ما ذكرنا خلاف .. ومنه: أن المالكيين قالوا: من مرّ على المدينة من أهل الشام خاصة، فلهم أن يدعوا الإحرام الى الجحفة؛ لأنه ميقاتهم، وليس ذلك لغيرهم».

ولعلهم بهذا يأخذون بظاهر الأمر الوارد في بعض نصوص التوقيت من غير اعتبار لقرينة أن طريق الشاميين عصر التشريع (صدور النصوص) كان على الجحفة.

ومن هذه النصوص ما رواه الامام مالك في (الموطأ) (13) عن عبداللَّه بن عمر «أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قال: يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهلّ أهل الشام من الجحفة .. الخ» ..


1- 1 الينابيع الفقهية 4.
2- 2 م. س 20.
3- 3 م. س 48.
4- 4 م. س 69.
5- 5 م. س 174.
6- 6 م. س 227.
7- 7 م. س 467.
8- 8 م. س 239.
9- 9 م. س 697.
10- 10 م. س 256.
11- 11 م. س 417.
12- 12 7/ 72.
13- 13 1/ 306- 307.

ص: 96

وعنه أيضاً أنه قال: «أمر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة .. الخ).

وإليه ذهب بعض فقهائنا الإماميين- مع فارق عدم قصره على أهل الشام- استناداً إلى بعض النصوص الدالة بظاهرها على هذا، قال الشيخ المظفر في (كتاب الحجّ من شرح القواعد) (1): «هذا كلّه في ميقات أهل المدينة اختياراً وأما اضطراراً فميقاتهم الجحفة- وهي المهيعة- بلا كلام في جواز الإحرام بها اضطراراً، بل قيل بجوازه اختياراً لقوله فيصحيح علي بن جعفر عليه السلام: «وأهل المدينة من ذي الحليفة والجحفة» فإنه ظاهر في التساوي بين الوقتين فيتخير بينهما اختياراً، ودعوى إجماله لاحتمال إرادة الجمع بينهما باطلة، لمعلومية عدم لزوم الجمع بين وقتين فلا بد من أن يراد التساوي بينهما.

وصحيح معاوية بن عمار: «عن رجل من أهل المدينة أحرم من الجحفة، فقال: لا بأس».

ونوقش فيه باحتمال مرور الرجل على طريق الشام فأحرم من الجحفة، وتخيل السائل لزوم إحرامه من الشجرة وإن مرّ على غيرها لكونه من أهل المدينة فأجابه الإمام بعدم البأس.

ويشكل بأن الاحتمال لو سلم لا يضر في العموم المستفاد من ترك الاستفصال الشامل لصورة الإحرام من الجحفة مع خروجه من المدينة.

وصحيح الحلبي: «من أين يحرم الرجل إذا جاوز الشجرة؟ قال: من الجحفة، ولا يجاوز الجحفة الَّا محرماً»، فإنه أجاز الإحرام من الجحفة من دون تقييد بالاضطرار وعسر العود إلى الشجرة، بل هو ظاهر في الاختيار لقوله «ولا يجاوز الجحفة إلَّامحرماً».

وصحيح أبي بصير: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: خصال عابها عليك أهل


1- 1 117- 118.

ص: 97

مكة، قال: وما هي؟ قلت: قالوا: أحرم من الجحفة ورسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أحرم من الشجرة، فقال: الجحفة أحد الوقتين، فأخذت بأدناهما وكنت عليلًا» فانه ظاهر بأنهما بمرتبة واحدة في الإجزاء اختياراً، فلا يضر الأخذ بأقربهما الى مكة خصوصاً مع العلة.

وخبر معاوية أوصحيحه: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إن معي والدتي، وهي وجعة، قال: قل لها فلتحرم من آخر الوقت، فان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل المغرب الجحفة، قال: فأحرمت من الجحفة».

فإن تعليله عليه السلام للأمر بإحرامها من آخر الوقت بتوقيت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم للمواقيت ظاهر في كفاية الإحرام من أي وقت كان بلا دخل للوجع فيه.

ولعلّ الأصحاب إلّاالنادر خصّوا إحرام أهل المدينة من الجحفة بحال الاضطرار لظهور المستفيضة في اختصاص كلّ مصر بميقات فتخص الأخبار السابقة بحال الاضطرار، كما يشهد له خبر الحضرمي الدال على أن الصادق عليه السلام اعتذر عن إحرامه من الجحفة، وهو شاكٍ، بقوله: «قد رخص رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لمن كان مريضاً أو ضعيفاً أن يحرم من الجحفة» فإنه ظاهر في أنه رخصة للضرورة لامطلقاً».

كما كان الأمر كذلك عند فقهاء أخواننا أهل السنّة حيث افتوا بذلك استناداً الى ما تقدم من أدلة وأمثالها.

ففي (متن الخرقي) (1): «وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة».

وفي (الروض المربع) (2): «وميقات أهل الشام ومصر والمغرب الجحفة».

وفي «الفقة على المذاهب الأربعة» (3): «فأهل مصر والشام والمغرب، ومن وراءهم من أهل الأندلس والروم والتكرور، ميقاتهم الجحفة».

وفي (فقه السنّة) (4): «ووّقت لأهل الشام الجحفة ... وقدصارت رابغ


1- 1 المغني 3: 110.
2- 2 1/ 135.
3- 3 1/ 639.
4- 4 1/ 652.

ص: 98

ميقات أهل مصر والشام، ومن يمرّ عليها بعد ذهاب معالم جحفة».

وفي (التحقيق والايضاح) (1): «الثاني: الجحفة: وهي ميقات أهل الشام، وهي قرية خراب تلي رابغ (2)، والناس اليوم يحرمون من رابغ، ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الميقات لأن رابغ (3) قبلها بيسير».

ويلاحظ على قولصاحب فقه السنّة (وقدصارت رابغ ميقات أهل مصر والشام .. الخ): أن اندراس معالم الميقات لا يخرجه عن كونه ميقاتاً، والإحرام مما قبله من الأمكنة إحرام مما قبله من الأمكنة إحرام قبل الميقات يخضع لأحكام الإحرام قبل الميقات من حرمة بغير نذر، أو جواز على كراهة أو بلا كراهة.

والصواب أن يعبّر عنه ب (الَمحْرمَ) بدلًا من الميقات.

قال ابن قدامة في (المغني) (4): «وإذا كان الميقات قرية فانتقلت إلى مكان آخر، فموضع الإحرام من الأولى وإن انتقل الاسم الى الثانية؛ لأن الحكم تعلق بذلك الموضع، فلا يزول بخرابه، وقد رأى سعيد بن جبير رجلًا يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ بيده حتى خرج به من البيوت وقطع الوادي فأتي به المقابر، فقال: هذه ذات عرق».

وكذلك يلاحظ على قولصاحب التحقيق والايضاح: «ومن أحرم من رابغ فقد أحرم من الميقات»، أن الاحرام قبل الميقات لا يجعل المكان الذي يحرم منه ميقاتاً، قريباً كان ذلك المحرم من الميقات أو بعيداً عنه.

ويرجع هذا الى أن التوقيت حكم توقيفي ثبت بالنصّ الشرعي، فتجاوزه لا يعدو أن يكون اجتهاداً في مقابل النصّ، وهو محظور عند جميع المسلمين.

وفي المناسك الحديثة لفقهائنا المعاصرين نقرأ أمثال العبارات التالية:

«الثالث: الجحفة: وهي ميقات أهل الشام ومصر ومَن عبر على طريقهم


1- 1 18.
2- 2 الصواب: رابغاً.
3- 3 الصواب: رابغاً.
4- 4 3/ 111.

ص: 99

الى مكة من أهل الآفاق الأُخَر، إذا لم يمر بميقات آخر، أو مرّ به وتجاوزه ولم يمكنه الرجوع إليه والإحرام منه» (1).

«3- الجحفة: وهي ميقات أهل الشام ومصر والمغرب، وكلّ من يمر عليها من غيرهم إذا لم يحرم من الميقات السابق عليها» (2).

«ثالثاً: الجحفة: وهو لأهل الشام ومصر، ومن يمر على طريقهم إلى مكة من أهل الآفاق والأقطار والأمصار الأخرى إذا لم يمروا بميقات آخر، أو مروا بميقات وتجاوزوه بدون إحرام ولم يمكنهم الرجوع إليه والإحرام منه فيتعين عليهم الإحرام من جحفة» (3).

ويلاحظ على هذه التعبيرات وأمثالها أنها استخدمت مضامين النصوص الشرعية بقولها: (وهو ميقات أهل الشام ومصر والمغرب)، وأضافت عليها ما يعطي المشمولية للحكم بقولها: (وكل من يمر عليها).

واستخدام مضامين النصوص الشرعية كان قديماً من منهج التأليف الفقهي، وبخاصة في كتب الفتوى. وله- فيما أرى- ما يبرره لأن الطرق في عهود التأليفات الفقهية المبكرة بعد لما تزل على ما هي عليه في عصرصدور النصوص.

أما الآن وقد تغيرت الطرق واختلفت فلا بد من مراعاة ذلك أثناءصياغة الفتوى؛ لأنها تعطى لعمل العامي، فأهل الشام ومصر والمغرب وغيرهم قد يسلكون طريق الجو فينزلون في مطار المدينة أو مطار جدة، وقد يسلكون طريق البحر فينزلون في ميناء جدة، وقد يسلكون طريق البر فيقصدون المدينة المنورة أو يقصدون مكة المكرمة عن طريق ساحل البحر الاحمر مروراً بينبع، والمواقيت لهم تختلف باختلاف هذه الطرق المذكورة، وكذلك باختلاف الرأي الفقهي في الإحرام من غير المواقيت الخمسة، فعليه لابد من التعبير بما يناسب الواقع الخارجي الماثل وقت تأليف المناسك ونشرها.


1- 1 منهاج الناسكين للسيد الحكيم ط 6ص 30.
2- 2 مناسك الحج للسيد الخوئي ط 9ص 66.
3- 3ص 41 من مناسك الحج للسيد الكلبايگاني.

ص: 100

الطرق الى الجحفة:

تعتبر الجحفة ميقاتاً اختيارياً ل:

1- من يؤم مكة المكرمة عن طريق جدة جواً أو بحراً على رأي من لا يجوّز الإحرام من جدة نذراً.

2- من يؤم مكة عن طريق ينبع بحراً.

3- من يؤم مكة من أبناء شمالي الجزيرة القاطنين في مدن وقرى وبوادي ساحل البحر الأحمر، ومن يمر على طريقهم الساحلي البري من أبناء الأردن، ومن ينفذ الى الطريق الساحلي المذكور عن طريق الأردن كأبناء العراق وسورية ولبنان وفلسطين وتركيا وايران وغيرهم.

4- القاطنين في ديار وبوادي الحجاز قبل الجحفة وبعد ذي الحليفة، كأهل المسيجيد وبدر ومستورة والابواء ورابغ ووادي الفرع، ومن إليهم.

واليك المسالك البرية المؤدية أو المارة بالجحفة:

الطريق القديم الى الجحفة (من المدينة إلى مكة)

خيف نوح- الخيام- الاثيل

المدينة- ذوالحليفة- الحفين- ملل- السيالة- الروحاء

الصفراء بدر- الجحفة

الرويثة

الاثاية- العرج- السقيا- الابواء

ودان- عقبة هرش- ذات الاصافر

الجحفة- الطارف- الدف- عسفان- الجموم (مر الظهران)- مكة

خيمة أم معبد

ص: 101

الطرق الحديثة إلى الجحفة:

1- من المدينة الى مكة (طريق بري):

المدينة المنورة- المسيجيد- بدر- مستورة- رابغ (الجحفة)- القضيمة (المفرق)

خليص- عسفان- الجموم- مكة المكرمة.

القضيمة (المفرق)

ثول- ذهبان- جدة.

2- من وادي الفرع (ابو ضباع) (طريق بري):

أبو ضباع- عقبة هرش- رابغ (الجحفة).

3- من بدر (طريق بري):

بدر- مستورة- رابغ (الجحفة).

4- من الاردن الى الحرمين (طريق بري):

- مخططص 140 من الأصل-

ص: 102

المراجع:

1- تاج العروس، محمد مرتضى الزبيدي، (القاهرة: م الخيرية 1306 ه) ط 1 «مصورة».

2- التحقيق والايضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنّة، الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز (الرياض: م الأمن العام 1397 ه) ط 17.

3- خريطة الطرق لعام 1406 ه، وزراة المواصلات- المملكة العربية السعودية (الرياض، م الأهلية للأفست 1406 ه- 1986 م).

4- الروض المربع بشرح زاد المستقنع، منصور بن يونس البهوتي (القاهرة: م السلفية 1392 ه) ط 7.

5- الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي (الطائف:

مكتبة المؤيد 1388 ه- 1968 م) ط 2.

6- الصحاح، إسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار (بيروت: دار العلم للملايين 1404 ه- 1984 م) ط 3.

7-صفة جزيرة العرب، الحسن بن أحمد الهمداني، تحقيق محمد بن علي الاكوع، (الرياض: دار اليمامة 1397 ه- 1977 م).

8- على طريق الهجرة، عاتق بن غيث البلادي (مكة: دار مكة-) ط 1.

9- العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي (بيروت: مؤسسة الأعلمي 1408 ه- 1988 م) ط 1.

10- فقه السنّة، السيد سابق (بيروت: دار الكتاب العربي-).

11- الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري (بيروت: دار الكتب العلمية 1406 ه- 1986 م).

12- كتاب الحجّ من شرح القواعد، الشيخ محمد حسن المظفر (النجف: م النعمان 1378 ه- 1959 م).

13- لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور (بيروت: دارصادر-).

14- مجمع البحرين، فخرالدين الطريحي، تحقيق أحمدالحسيني (بيروت: مؤسسة الوفاء 1403 ه- 1983 م) ط 2.

15- المحلّى، ابن حزم الأندلسي، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة (بيروت: دار الآفاق الجديدة-).

16- معجم البلدان، ياقوت الحموي (بيروت: دارصادر ودار بيروت 1404 ه- 1974 م).

ص: 103

17- معجم معالم الحجاز، عاتق بن غيث البلادي (مكة المكرمة: دار مكة 1399 ه- 1979 م) ط 1.

18- معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، ابو عبيد البكري، تحقيق مصطفى السقا (بيروت: عالم الكتب 1403 ه- 1983 م) ط 3.

19- المغني، ابن قدامة (بيروت: دار الفكر 1405 ه- 1985 م) ط 1.

20- مناسك الحج، السيد الخوئي (بيروت: دار الزهراء 1399 ه) ط 9.

21- مناسك الحج، السيد الكلبايكاني (- 1396 ه).

22- منهاج الناسكين، السيد الحكيم (النجف الأشرف: م النجف 1382 ه) ط 6.

23- الموطأ (مع تنوير الحوالك)، الإمام مالك (بيروت: دار الفكر-).

24- نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، أحمد بن علي القلقشندي، تحقيق علي الخاقاني (بغداد: م النجاح 1378 ه- 1958 م).

25- وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة، الحر العاملي، تحقيق الشيخ عبد الرحيم الرباني (بيروت: دار إحياء التراث العربي 1403 ه 1983 م) ط 5.

26- الينابيع الفقهية: الحجّ، تحقيق الشيخ علي أصغر مرواريد (طهران: مركز بحوث الحج والعمرة 1406 ه) ط 1.

27- زيارات ميدانية، الفضلي.

الهوامش:

المنسك الصغير

ص: 68

المنسك الصغير

للشهيدالاوّل قدس سره تحقيق: محمد الإسلامي اليزدي

بعد حمد اللَّه تعالى على آلائهِ، وصلاته على أشرف خلقه محمد المصطفى وأحبّائه وآله الطاهرين. فهذه رسالة في واجبات العمرة والحجّ (1) وجيزة مستوفاة (2) وضعتُها تقرباً الى اللَّه تعالى.

وهي فصلان.

[الفصل] الأوّل في أفعال العمرة

وهي أربعة:

فأوّلُها: الإحرام

ومعناه: توطين النفس على اجتناب الصيد، والنساء، والطيْب على العموم، (والقبض على الأنف عند كريهة الرائحة) (3)، والاكتحال بالسواد وبما فيه


1- 1 في نسخة «س» الحجّ والعمرة.
2- 2 لم ترد، في نسخة «ك» وجيزة مستوفاه.
3- 3 ما بين القوسين لم يرد في نسخة «ك» وفي نسخة «س» و «م»: من كريه الرائحة ..

ص: 69

طيبٌ، إخراج الدم، وقصّ الأظفار، وإزالة الشعر، وقطع الشجر والحشيش النابتين في الحرم- إلا في ملكه، وإلّا الاذْخر وشجر الفواكه- والكذب، والحلف باللَّه، وقتل هوامّ الجسد، ولبس المخيط للرجال، ولبس الخُفَّين وما يستر ظهر القدم، ولبس الخاتم للزينة، والحُليّ للمرأة إلّاأن يكون مُعتاداً، فيحرم عليها إظهارُه للزَوْج، والحنّاء للزينة، وتغطية الرأس للرجل، وتغطية الوجه للمرأة، والتظليل للرجل سائراً، ولبس السلاح بعد التلبية، ولبس ثوبيه إلى (1) أن يأتيّ بالمحلّل من الأفعال.

وكيفيّته: أن ينوي من الميقات بَعد لبس ثوبي الإحرام.

ونيته: «أُحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ، حجّ الإسلام، حجّ التمتُّع، وأُلبّي التلبيات الأربع، لعقد هذا الإحرام، لوجوب الجميع، قربةً إلى اللَّه».

«لَبّيْكَ اللّهم لَبّيْك، لَبّيْك، إنَّ الحمدَ والنّعمَةَ والملك لَك، لاشريكَ لك لَبّيْك.»

وفي هذه النية قيودٌ:

الأوّل: «أُحْرِمُ» وهو القصدُ إلى الفعل المذكور آنفاً.

الثاني: «بالعمرة» وهي عبارة عن زيارة البيت الحرام محرِماً للطواف والسعي.

الثالث: «المتمتّع بها» أي المتُوصَل (2) بها إلى الحجّ، وبه تخرج العمرة المفردة، كما خرج بالعمرة: الحجّ.

الرابع: «إلى حجّ الإسلام» وبه تخرج العمرة المتمتع بها إلى حجّ النذر وشبهه.

الخامس: «حجّ التمتّع» وبه تخرج ما يتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ القران أو حجّ الإفراد، فإنه وإن لم يكن مشروعاً إلّاأنّهُ متصوَّرٌ.

السادس: «لوجوب الجميع» معناه: أفْعَلُ هذه الأفعال لكونها واجبة؛


1- 1 في نسخة «ك» الّا
2- 2 في نسخة «ن» الموصل.

ص: 70

للطفٍ في تكليفٍ عقليٍ وبه يخرج الندب.

السابع: «قربةً إلى اللَّه» أي: اوقع هذه الأفعال لكونها واجبةً للتقرب بها إلى رضا اللَّه تعالى؛ ولكونه أهلًا أنْ يُعْبَدَ بهذه العبادة.

ومعنى قوله: «لَبّيْك» إجابة بعد إجابةٍ لك يا ربّ، وإخلاصاً بعد إخلاصٍ، وإقامةً على طاعتك بعد إقامةٍ.

ومعنى «أَللهُمَّ»: يا أللَّه.

ويجوزُ كسر «إنّ» وفتحها، والكسر أَجود؛ لعموم الإثبات لمعنى التلبية بالنسبة إلى الحمد والنعمة وإلى غيرهما بسببه (1) (2).

وفي هذه التلبية إشارة الى إجابة نداء داعي اللَّه الذي نادى به إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: «وأذّنْ في الناس بالحج يأتوك رجالًا» (3).

وإشارة الى الإخلاص في الطاعة وإلى تنزيهه تعالى عن الشرك (4).

وإلى الإقامة على طاعة اللَّه عزوجل.

وثانيها: الطواف

وهي حركات دورية حول البيت مخصوصة، يقصد بها التقرّب إلى اللَّه تعالى، التأسّي بالنبيّصلى الله عليه و آله و سلم.

وهوصلاة إلا في تحريم الكلام. ومندوبهُ أفضل من الصلاة المندوبة للمُجاور.

وواجباته أحد عشر:

الأوّل: النية وهي: «أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف العُمرة المتمتّع بها إلى الحجّ- حجِّ الإسلام حجِّ التمتع- لوجوبه، قربةً إلى اللَّه»

وقيوده تظهر من القيود الأولى.


1- 1 كذا في نسخة «س» وفي هامش «ن»: بنسبته وهو تحريف ظاهراً. والمراد: أن كسر «إنّ» يسبب ان تكون التلبية ثابتة بالنسبة الى الحمد والنعمة وغيرهما من موجبات التلبية.
2- 2 وفي نسخة «ك»: وغيرهما زيادة «او الى الحمد والنعمة بسببه».
3- 3 سورة الحجّ: الاية 27.
4- 4 في نسخة «م»: التشريك.

ص: 71

الثاني: إيقاعها عند ابتدائهِ، وهو جعل أوّل جُزءٍ من مقاديم البدن عند أوّل جزءٍ من الحَجَر الأسود مما (1) يلي الركن اليماني إما محققاً (2) أو بحسب غَلَبة الظن.

الثالث: الحركة عقيبها بلافَصْلِ، وهي الشروع في الطواف.

الرابع: استدامتها حكماً حتى يفرغ، ومعناه البقاء على ذلك العزم الذى عزم عليه ابتداءً.

ولمّا كان الباقي لايحتاجُ إلى تأثير عند الأكثر كان معنى البقاء عليها أنْ لايأتي في أثنائها بما يُنافيها، كنيّة القطع للطواف أو الزيادة (3) أو جعله طواف الحجّ مثلًا، أو لحجّ النذر، أو العمرة المفردة، أو جعله مندوباً، إلى غير ذلك من المُنافيات.

الخامس: جعل البيت على اليسار.

السادس: جعل المقام على اليمين.

السابع: إدخال الحِجْرِ في الطواف.

الثامن: التداني من البيت بحيث لايخرج في كلِّ جانب عن بعد (4) المقام.

التاسع: خروجه بجميع بدنه عن البيت.

العاشر: إكمال سبعة أشواطٍ مبدؤها من الحَجَر وختامها الحَجَر من حيث ابتداء.

الحادي عشر: حفظ العَدَد، ولو شكّ في النقيصة بطل، وكذا لو شكّ في الزيادة قبل بلوغ الحَجَر.

و شروطه خمسة:

الأوّل: طهارة البدن والثوب من النجاسة، وإن عُفِيَ عنها في الصلاة

الثاني: الطهارة من الحدث، أو حكمها كالمتيمم.


1- 1 في نسخة «ك»: الى بدل مما
2- 2 في نسخة «س» و «ك»: تحقيقاً.
3- 3 في نسخة «ك» و «م»: الرّيا به.
4- 4 في هامش «ن»، حدّ.

ص: 72

الثالث: ستر العورة التي يجب سترها في الصلاة.

الرابع: الختان للرجل المتمكّن منه.

الخامس: الموالاة، وهي أنْ تكمل أربعة أشواط منه، فلو قطعه قبل إكمالها لعذر أوغيره، استأنَفَ.

ولازمه الركعتان، وهي كالصلاة اليومية، ومحلّهما خلف المقام، ووقتها بعد الطواف.

ونيّتها: «أُصلّي ركعتي طواف عمرة الإسلام المتمتّع بها إلى حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع- أداءً لوجوبهما، قربة إلى اللَّه».

ويتخيّر فيهما بين الجهر والإخفات، والأفضلُ الجهر ليلًا، والإخفات نهاراً.

وثالثها: السعي

وهي حركات مخصوصة من الصفا إلى المروة. ويجب إيقاعُه بعد الطواف في يومه، فلو أخره إلى الغد لعذر، أثمَ وأجزء.

و واجباته بعد ذلك اثنا عشر:

الأوّل: أن ينوي على الصفا (1) بأن يقارن أوّل جزء منه أوّل جزء منه (2) «أسعى سبعة أشواط للعمرة المتمتع بها إلى حجّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

الثاني: الاستمرار عليها حكماً.

الثالث: أن يشرع في الحركة عقيبها بلا فصل.

الرابع: الذهاب في الطريق المعهودة.

الخامس: البدْءة بالصفا.

السادس: الختم بالمروة، بأن يُلصق أصابع قدميه بأول جزء منه (3)، أو


1- 1 في نسخة «ك» زياده: اما.
2- 2 فى نسخة «ك» زيادة او اى جزء منه.
3- 3 في نسخة «ن»- اما بان يقارن باول جزء منه اىّ جزء منه أو يصعد عليه.

ص: 73

بجزءٍ منه، فإذا عاد ألصق عقبه بأوّل (1) جزء منه.

السابع: الإحاطة بالمسافة علماً ولو إجمالًا قبل إيقاع النية؛ لامتناع (2) توجه القصد إلى المجهول المُطلق.

الثامن: إكمال السبعة، يُعدّ ذهابه شوطاً وعوده آخر.

التاسع: الموالاة المذكورة في الطواف احتياطاً.

العاشر: استقبال المطلوب بوجهه، فلو مشى مستدبراً بَطَلَ.

الحادي عشر: إيقاعُه بعد الركعتين وبعد الطواف.

الثاني عشر: حِفظُ العدد، فلو شكّ الشكّ المذكور في الطواف بطل.

رابعها: التقصير

وهو قطع بعض شعر الرأس أو قصّ بعض الأظافير.

وبه يتحقّق الإحلال عن العُمرة.

ونيته: «أُقصّر للإحلال من إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحجّ- حجّ الإسلام حجّ التمتع- لوجوبه قربة إلى اللَّه».

الفصل الثاني: في أفعال الحجّ

وهي خمسة أبواب.

الأوّل: الإحرام به

ومعناه وواجباته وكيفيته تقدمت.

ولافرق بينهما- ألبتّة- في شي ء إلّاأنّه ينوي: «أحرم إحرام حجِّ الإسلام حجِّ التمتع».


1- 1 في نسخة «ك» بأخر.
2- 2 وفي «ن» نسخة بدل: «لعدم».

ص: 74

«وأُلبّي التلبيات الأربع لعقد إحرام حجّ الإسلام،- حجّ التمتع- لوجوب ذلك كلّه، قربة إلى اللَّه» إلى آخره

الثاني: الوقوف بعرفة

وهو الكون بها من زوال الشمس يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروبها، وحدّها من نمرة إلى ثويّة إلى ذي الَمجاز إلى عرفة إلى الأراك.

و يجب فيه النية: «أقف بعرفة من هذه الساعة إلى غروب الشمس في حجِّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

و مثله الوقوف بالمشعر وحدُّه من المأزَمين إلى الحياض إلى وادي مُحَسِّر.

ووقته ليلًا من غروب الشمس ليلة العاشر إلى طلوع فجره. واختياريّهُ التام من طلوع فجر العاشر إلى طلوع شمسهِ.

ونيّته: «أقف بالمشعر الحرام من هذه الساعة إلى طلوع الشمس في حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع- لوجوبه، قربة الى اللَّه».

ونية المبيت بالمشعر: «أبيتُ هذه الليلة بالمشعر الحرام في حجِّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

الثالث: إتيان مِنى.

ويجب فيها: الرمي لجمرة العقبة بسبع حصيات يوم النحر بعد طلوع الشمس إلى غروبها.

ونيّته: «أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات في حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع- لوجوبه قربة إلى اللَّه».

ويجب فيه: إصابة الجمرة بفعله، بإلقاء الحصاة عليها بما يصدق عليه

ص: 75

اسم الرمي.

وكون الحصى من الحرم غير مرميّ بها.

والترتيب، حيث يجب رَمْيُ الثلاث، يبدأ ابتداء بالأُولى، فالوسطى، فجمرة العقبة. ويحصل برمي أربع لاعامداً.

والتتابع في رمي السبع في إصابتها.

ولايشترط الموالاة.

والجَمَرةُ اسمٌ لتلك البنية، فلو زالت ثمّ جدّدت رماها.

ثم يجب عليه ذبح الثَني من الإبل، أو البقر، أو المعزى، أو جَذَعٍ من الضأن، بشروط تمامية خِلْقتِه، وعدم هزاله.

ومحلّه: مِنى وحدها من العَقَبة إلى وادي مُحَسِّر.

ووقته: يوم النحر، فإن فات ذَبَحَ طول ذي الحجة.

ونيته: مقارنة لأول جزء من الذبح. والنية: «أذبح هذا الهَدْي، في حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع- لوجوبه، قربة الى اللَّه».

ثم يجب أن يُهدي قسماً منه، ويتصدّق بقسمٍ، ويأكل قسماً آخر.

والنية: «أُهدي، أو أتصدّق، أو آكل من هذا الهدي في حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

ثم يجب بعدها الحَلْقُ أو التقصير من الشعر، كلّ منها واجب مخيّر، وليس أحدهما بَدَلًا عنصاحبه.

وبه يتحقّق التحلّل من إحرام الحجّ إلّامن الطيب، والنساء، والصيد.

ونيته: «أحلِقُ رأسي، أو أُقصّر للإحلال من إحرام حجِّ الإسلام- حجِّ التمتع لوجوبه، قربة إلى اللَّه» مقارنة لأول جزء منه

ص: 76

الرابع: إتيان مكة للطواف والسعي وطواف النساء.

وكيفيتها كما تقدم، إلّافي النية فإنه ينوي:

«أطوفُ سبعة أشواط طواف حجّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه.

«أُصلي ركعتي طواف حجّ الإسلام- حجّ التمتع- أداءً، لوجوبهما، قربة إلى اللَّه».

«أسعى سبعة أشواط سعي حجّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه»

«أطوفُ سبعة أشواط طواف النساء في حجّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

«أُصلّي ركعتي طواف النساء في حجِّ الإسلام- حجّ التمتع- أداءً، لوجوبهما، قربة إلى اللَّه».

الخامس: العود إلى منى.

وذلك بعد قضاء هذه الأفعال، وتحلّله من جميع ما أحرم منه.

ولايجوز تأخير هذه الأفعال عن الحادي عشر اختياراً، فيأثم، وتجزي.

والعود واجبٌ للمبيت بها ليلًا، ورمي الجمار بها نهاراً.

ونيّة المبيت: «أبيت هذه الليلة بمنى في حجّ الإسلام- حجّ التمتع- لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

ونيّة الرمي ووقته كما تقدم.

فإن فاته رمي يوم أو حصاة، قضاهما من الغد بعد طلوع الشمس مقدماً على الحاضرة.

ص: 77

ونيتهما: «أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات أو بحصاة في حجّ الإسلام- حجّ التمتع- قضاءً، لوجوبه، قربة إلى اللَّه».

وإن كان نائباً عن غيره، أضاف الى جميع ما ذكرناه عند كلّ نيةٍ: «نيابةً عن فلان بن فلان لوجوبه عليه وعليّ، قربة إلى اللَّه».

فينوي في الإحرام مثلًا: «احرِمُ بالعمرة المتمع بها إلى حجِّ الإسلام- حجّ التمتع- نيابةً عن فلان بن فلان لوجوب ذلك عليه وعليّ، قربة إلى اللَّه»

وكذا في باقي الأفعال.

تمت الرسالة والحمدللَّه ربّ العالمين

نهاية النسخة المرعشية

«بقلم مالكها الفقير إلى ربه الغني: محمد بن حسن بن أحمد بن فرج الأوالي، في شهر شوال سنة (946)

والحمد للَّه حقّ حمده وصلى اللَّه على محمد وآله وسلم. (1) وفي هامشه بلاغ هذا نصّه:

«بلغ تصحيحاً ومقابلة بحسب الجهد والطاقه، والحمدللَّه حقّ حمده وصلى اللَّه على محمد وآله»

وفي نهاية نسخة ملك العامة ما هذا نصّه:


1- 1 يلاحظ أن كاتب هذه الرسالة هو كاتب المجموعه كلّها بما فيها الرسالة الأُولى «المنسك الكبير» وهو المجازمن قبل السيد إبراهيم الحسيني البحراني عند قراءة المجموعة عليه.

ص: 78

- المخطوط-

ص: 79

مصادر التحقيق والتقديم

1- القرآن الكريم.

2- «أعيان الشيعة». للسيد محسن الامين العاملي/ اعداد السيد حسن الامين دارالتعارف للمطبوعات بيروت.

3- «أمَلُ الآمِل في علماء جبل عامل». للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي/ اعداد السيد احمد الحسيني/ دار الكتاب الإسلامي قم.

4- «بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الاطهار». للمولى محمد باقر المجلسي/ دار إحياء التراث العربي بيروت.

5- «تهذيب الأحكام». للشيخ أبي جعفر الطوسي/ اعداد السيد حسن الموسوى الخرسان/ دار الكتب الإسلامية طهران

6- «ثواب الأعمال وعقاب الأعمال» للشيخ الصدوق/ اعداد على أكبر غفاري/ نشرصدوق.

7- «حاشية الإرشاد». للشهيد الثاني/ تحقيق رضا مختاري/ مركز الأبحات والدراسات الإسلامية. قم-.

8- «حياة الإمام الشهيد الأوّل». للشيخ محمد رضا شمس الدين/ مطبعة الغري الحديثه النجف الاشرف.

9- «الدروس الشرعية في فقه الإمامية». للشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملي/ انتشاراتصادقي- قم.

10- «الذريعة إلى تصانيف الشيعة». للشيخ اقا بزرگ الطهراني/ دارالأضواء- بيروت.

11- «روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات». للسيد محمد باقر الخوانساري/ اعداد أسداللَّه اسماعيليان/ نشر اسماعيليان- قم.

12- «شفاء الصدور في شرح الزياره» الميرزا أبي الفضل بن أبي القاسم الكلانتري النوري الطهراني/ باهتمام الشيخ على المحلاتي الحائري/ بمبئي/

13- «شهداء الفضيلة». للشيخ عبدالحسين أحمد الأميني/ دارالشهاب- قم.

14- «العروة الوثقى» للشيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي/ دارالكتب الإسلامية- طهران.

15- «علل الشرائع». للشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن على بن الحسين بن بابويه القمي/ تقديم السيد محمدصادق بحر العلوم/ المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف.

16- «غاية المراد في شرح نكت الإرشاد». للشهيد الأوّل محمد بن مكي العاملى تحقيق رضا المختاري/ مركز الأبحاث والدرسات الإسلامية- قم.

ص: 80

17- «الكافي». لأبي جعفر ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني الرازي/ تحقيق على أكبر الغفاري/ دارصعب ودارالتعارف بيروت (بالاوفست عن طبعة دارالكتب الاسلامية طهران)

18- «الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون التأويل». لأبي القاسم جاراللَّه محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي/ دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت لبنان.

19- «الكنى والألقاب». للشيخ عباس القمي/ المطبعة الحيدرية- النجف الأشرف.

20- «لسان العرب المحيط» للعلامة ابن منظور/ قدم له العلّامة للشيخ عبداللَّه العلايلي وأعاده يوسف الخياط/ دارالجبل ودارلسان العرب- بيروت.

21- «لؤلؤة البحرين» للشيخ يوسف بن أحمد البحراني/ تحقيق السيد محمدصادق بحر العلوم/ مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم.

22- مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر/ للإمام محمد بن مكرم المعروف بابن منظور/ تحقيق أحمد راتب حموش، محمد نساجى العمر/ دارالفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق- الطبعة الإُولى 1405 ه.

23- «مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل» للحاج الميرزا حسين النوري/ اسماعيليان. قم.

24- «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير». لأحمد بن محمد بن علي الفيوّمي/ دارالكتب العلميه- بيروت.

25- معادن الجواهر ونزهة الخواطر في علوم الأوائل والأواخر» للسيد محسن العاملي/ دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت.

26- «معجم مفردات ألفاظ القرآن» للراغب الأصفهاني/ تحقيق نديم مرعشلي/ دارالكتاب العربي- بيروت.

27- «مقدمه اى بر فقه شيعه كليات وكتابشناسى» للسّيد حسين مدرسي طباطبائي/ ترجمه محمد آصف حكمت/ نشر بنياد پژوهشهاي اسلامي- مشهد.

28- «المقنعة» للشيخ المفيد أبي عبداللَّه محمد بن النعمان البغدادي/ مؤسسة النشر الإسلامي.

29- «من لايحضره الفقيه». للشيخ أبي جعفر الصدوق/ اعداد السيد حسن الموسوي الخراساني/ دارالكتب الإسلامية- طهران

30- «نهج البلاغة» وهو مجموع ما اختاره الشريف أبوالحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبى الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام- اعداد الدكتورصبحي الصالح/ الطبعة الاولى- بيروت.

31- «وسائل الشيعه» للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي/ تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث- قم.

ص: 81

الهوامش:

الطواف ومسائله على ضوء المذاهب الاسلامية

ص: 105

الطواف ومسائله على ضوء المذاهب الاسلامية

محمد إبراهيم الجناتي

تحقيق الكلام في الطواف يتوقف على ذكر الأمور التالية:

1- أنواع الطواف.

2- عدد الطواف.

3- شرائط الطواف الخارجية.

4- شرايط الطواف الداخلية.

5-صلاة الطواف.

6- مستحبات الطواف.

7- أحكام الطواف.

8- مكروهات الطواف.

1- أنواع الطواف

أنواع الطواف في الحج وهي عبارة عما يلي:

ألف- طواف القدوم.

ب- طواف الزيارة.

ج- طواف الوداع.

د- طواف النساء.

ألف- طواف القدوم:

أما الكلام في الأول فنقول: إن

ص: 106

طواف القدوم يفعله الآفاقي (1) حين يدخل مكة ويختص به، وقد اتفقوا على عدم ثبوته للمكي وأن عليه فقط طواف الإفاضة، وكيف كان فهو أشبه بركعتيصلاة التحية للمسجد، ومن هنا سمي طواف التحية، كما أنه سمي طواف الورود، وهذا الطواف يكون تحية للبيت لا للمسجد، وهو مستحب عند جميع فقهاء المذاهب، لما روي أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم طاف حين قدم مكة (2)، ولذلك قالوا: إن ترك هذا الطواف لا يوجب شيئاً على تاركه، ولكن المالكية خالفوا في ذلك وقالوا:

إن على تاركه دماً على ما حكي عنهم.

وكيف كان فقد ذهب جمهورهم والإمامية على أنه لا يجزي عن طواف الزيارة إذا نسيها، ولكن ذهبت طائفة من أصحاب مالك أنه يجزي عنها وكأنهم رأوا أن الواجب هو طواف واحد (3).

ب- طواف الزيارة:

اتفقوا على أن طواف الزيارة ركن يفوت الحج بفواته، وقالوا: إنه المعني بقوله تعالى: «ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيتِ العتيق» (4).

ويسمى هذا الطواف بطواف الزيارة وطواف الإفاضة، وطواف الحج أيضاً، ويأتي به الحاج سواء كان مكّياً أو آفاقياً بعد أعمال منى التي يأتي تفصيلها، ولكل واحد من هذه الأسماء وجه.

أما وجه تسمية هذا الطواف بطواف الزيارة فلأجل أن الحاج يترك منى بعد أن يأتي بأعمالها، ويذهب إلى مكة ويزور البيت من أجله.

أما وجه تسمية هذا الطواف بطواف الإفاضة فلأجل أن الحاج يفيض، أي يرجع من منى بعد إتيانه بمناسكه الثلاثة إلى مكة لأجل الإتيان بأعمال مكة التي منها هذا الطواف.

أما وجه تسمية هذا الطواف بطواف الحج فلأجل أنه ركن من أركانه عند فقهاء جميع المذاهب


1- 1 المراد من الآفاقي غير المكّي.
2- 2 كفاية الأخيار 1: 639.
3- 3 بداية المجتهد 1: 343.
4- 4 سورة الحج: 29.

ص: 107

الاسلامية وأنه يبطل بتركه.

ج- طواف الوداع:

وهو آخر ما يفعله الحاج الآفاقي عند ارادة الخروج من مكة إلى بلاده، وقد اختلفوا في حكمه:

قالت الإمامية: إنه مستحب وتركه لا يوجب شيئاً، وتبعهم المالكية (1).

وقالت الحنفية والحنابلة بوجوبه (2) إذا تركه الحاج يلزمه بنظرهم دم فقط، أي يضحي (3) ولا يبطل حجّه بتركه؛ لعدم كونه من أركان الحج فيجبر تركه بدم.

وللشافعي فيه قولان: أحدهما:

لزوم الدم بتركه. وثانيهما: عدم لزوم الدم بتركه (4) وكيف كان فهو لا يجزي عند الإمامية عن طواف الزيارة لو نسيها.

وأما عند بقية المذاهب فعلى ما حكاه ابن رشد في كتابه بداية المجتهد أنه يجزي به إن لم يكن طاف طواف الزيارة؛ لوقوع طواف الوداع في وقت طواف الزيارة فيجزي عنه، وهذا بخلاف طواف القدوم لوقوعه في غير وقت طواف الزيارة فلا يجزي.

د- طواف النساء:

قالت الإمامية بوجوبه في الحج بشتى أنواعه تمتعاً كان أو قراناً أو إفراداً وقالوا أيضاً: بوجوبه في العمرة المفردة لا عمرة التمتع.

وأما علماء السنة فقد اتفقوا على عدم ثبوت طواف النساء في الحج (5) ويقولون: إن النساء تحلّ بعد طواف الزيارة فيه، وليس بعدها طواف آخر، كما أنهم اتفقوا على أنه ليس على المعتمر إلّاطواف القدوم، وكيف كان فهذا الطواف واجب في الحج عند الإمامية، وقالوا: لو ترك الحاج هذا الطواف حرمت عليه النساء، حتى العقد إن كان الحاج رجلًا حتى يفعله بنفسه أو بنائبه وحرم عليها الرجال إن كانت امرأة إلى أن تفعله بنفسها أو بنائبها، ولو مات قبل أن يؤديه أو يستنيب يقضي عنه وليه بعد الموت بل


1- 1 الفقه على المذاهب الأربعة، وفقه السنّة.
2- 2 الفقه على المذاهب الخمسة.
3- 3 الأم 2: 180، والمجموع 8: 254، والوجيز 1: 123، ومغني المحتاج 1: 510، والسراج الوهّاج 166، والهداية 1: 166.
4- 4 الأم 2: 180، والمجموع 8: 254، والوجيز 1: 123، ومغني المحتاج 1: 510، والسراج الوهّاج 166، والهداية 1: 166.
5- 5 كتاب الخلاف 2/ 363.

ص: 108

قالوا: لو حجّ الصبي المميز ولم يأت به ولو سهواً وجهلًا فلا تحل له النساء بعد البلوغ ولا العقد عليهن حتى يؤدي أو يستنيب للنصوص.

كما أن الامامية يقولون:

بوجوب طواف النساء وعدم حلية النساء بدونه وإن كان قد طاف طواف الوداع؛ لأن طواف الوداع عندهم مستحب، واجزاءَه عن الواجب محتاج إلى دليل معتبر ولم يثبت ذلك.

وأما خبر اسحق بن عمّار عن أبي عبداللَّه أنه قال: لولا ما منّ اللَّه به على الناس من طواف الوداع لرجعوا إلى منازلهم، ولا ينبغي لهم أن يمسوا نساءَهم، وإن كان يدل بظاهره على كفايته عن طواف النساء، وافتى به علي بن بابويه على ما حكي عنه في الجواهر، ولكن مع ذلك نوقش فيه:

أولًا- بضعف السند إلّاأن يقال: إن السند ليس له موضوعية بل إنما يكون له طريقية فعلية إن كان متن الحديث ذا اتقان يكشف عنصدوره فعلم باعتباره.

ثانياً- بعدم امكان معارضته لما دل على وجوب طواف النساء في الحج.

ثالثاً- باختلاف نسخه لأنه ورد في نسخة الوسائل (طواف الوداع) وفي نسخة الكافي (طواف النساء).

ومهما يكن من أمر فالمسألة تحتاج الى الدقة والتأمّل.

وهنا أمور ينبغي لنا ذكرها وهي:

الأوّل- لا ينبغي الإشكال في لزوم طواف النساء على الرجال والنّساء وهو المعروف بين الإمامية بل في الجواهر: «بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل عن المنتهى والتذكرة الإجماع عليه في الجملة ويدل عليه- مضافاً الى الأصل وإطلاق قوله تعالى: «فلا رفث (1) ولا فسوق ولا جدال في الحج» وما دلّ على حرمة الرجال عليها بالإحرام، وقاعدة الإشتراك إلا فيما استثني- ذيل حديث إسحاق بن


1- 1 والرفث هو الجماع بالنصّ الصحيح الوارد في تفسيره.

ص: 109

عمار المتقدم (... لا تحلّ لهم النساء حتى يرجع فيطوف بالبيت أسبوعاً آخر بعدما سعى بين الصفا والمروة وذلك على النساء والرجال واجب) (1)والظاهر أن هذا الذيل جزء للحديث، ويدل عليه أيضاًصحيح علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن الخصيان والمرأة الكبيرة؛ أعليهم طواف النساء؟ قال: نعم عليهم الطّواف كلّهم (2) وما رواه حفص بن البختري عن العلاء بنصبيح وعبد الرّحمان بن الحجّاج وعلي بن رئاب وعبداللَّه بنصالح كلهم يروونه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: المرأة المتمتعة إذا قدمت مكة، ثم حاضت تقيم ما بينها وبين التروية، فإن طهرت طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة، وإن لم تطهر الى يوم التروية اغتسلت واحتشت، ثم سعت بين الصفا والمروة، ثم خرجت الى منى، فإذا قضت المناسك وزارت بالبيت طافت بالبيت طوافاً لعمرتها، ثم طافت طوافاً للحج، ثم خرجت فسعت، فإذا فعلت ذلك فقد أحلت من كلّ شي ء يحلّ منه المحرم إلا فراش زوجها فإذا طافت طوافاً آخر حلّ لها فراش زوجها (3).

الثاني: لا ينبغي الإشكال أيضاً في ثبوت طواف النساء على الصبيان وهو المعروف بين علماء الإمامية لشمولهم اطلاق الأدلة كشموله للبالغين- على ما قرر في محلّه-، بل عن المنتهى وغيره الإجماع على وجوبه على الصبيان.

الثالث: أن الحكم المذكور وهو وجوب طواف النساء على الصبيان- لا يختص بالصبي المميز بل يعم الصبي غير المميز إذا أحرم به وليه، وإلا لم يصح إحرامه، فلا يفيد الحرمة، فيطوف الولي بالصبي غير المميز ويستنيب في الصلاة عنه؛ لأنه يفهم من الأخبار الواردة في حج الصبي المروية في الوسائل أنه يقوم بما يمكن قيامه- كالطواف والسعي والوقوف ونحوها- ويفعل الولي عنه بما لا يمكن أن يقوم به


1- 1 الوسائل ج 2 الباب 2 من ابواب الطواف الحديث 3 و 1.
2- 2 الوسائل ج 2 الباب 2 من ابواب الطواف الحديث 3 و 1.
3- 3 الوسائل ج 2 الباب 84 من ابواب الطواف الحديث 1.

ص: 110

- كالتلبية- ومن أراد الاطلاع على أخبار الباب فليراجع الكتاب المذكور.

وأما الصبي المميز فيطوف ويصلي مباشرة بنفسه، وكيف كان فلو تركه ولم يطف الولي بغير المميز أو تركه المميز بقي على حكم إحرامه إلى أن يطوف بعد بلوغه، أو يستنيب حيث يجوز له ذلك- كماصرح به غير واحد- لاطلاق أدلة التحلل به واحتمال أن إحرامه لا يقتضي حرمة النساء؛ لأنه تمريني لا تشريعي في غير محلّه، لظهور الأدلة في كونه بحكم إحرام البالغ كظهوره في كونه كذلك بالنسبة الى سائر المحرمات.

الرابع: لا ينبغي الترديد في لزوم طواف النساء على الخناثى وهو المعروف بين الفقهاء. أما الخنثى المشكل فلم يرد دليل خاص بالنسبة إليها في طواف النساء لكنها بناء على عدم كونها طبيعة ثالثة فلا إشكال في البين، وأما بناء على كونها طبيعة ثالثة فيكفي في وجوبه عليها إطلاق مثل قوله تعالى: «وليطوفوا بالبيت العتيق» المفسر في بعض الأخبار بطواف النساء وهو مارواه أحمد بن محمد قال: قال ابو الحسن عليه السلام: في قول اللَّه عز وجل. «وليطوفوا بالبيت العتيق» قال: طواف الفريضة طواف النّساء (1) وما رواه حماد بن عثمان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في قول اللَّه عزّ وجل:

«وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق» قال: طواف النساء (2).

الخامس: الكلام في أنه هل يكون وقت طواف النساء وقت طواف الحجّ أولا بل هو موسع؟ وقع الخلاف بين الأصحاب في ذلك، قال في كشف اللثام: «لم ينصّ أكثر الأصحاب على آخر وقته وظاهرهم أنه كطواف الحج) وفي الكافي- على ما هو المحكي عنه- (إن آخر وقته آخر أيام التشريق) وفي المبسوط: (يطوف للنساء متى شاء من مقامه بمكة، ويجوز أن يريد مقامه بها قبل العود الى منى) قد يقوى في النظر جواز الإتيان بطواف النساء بعد ذي


1- 1 الوسائل ج 2 الباب 2 من ابواب الطواف الحديث 4 و 5.
2- 2 الوسائل ج 2 الباب 2 من ابواب الطواف الحديث 4 و 5.

ص: 111

الحجة لاقتضائه إطلاق روايات المقام؛ لأن الروايات المأثورة عنهم في المقام غير متعرضة لتحديد آخر وقته.

إن قلت: إن قوله تعالى: «الحجّ أشهر معلومات» يمنع عنه، قلت: إنه لا يمنع عنه؛ لعدم كون طواف النساء جزء للحج، ولذا لا يحكم بفساد الحج بتركه- على ما حقق في محله- ودل عليه بعض الأخبار (1).

إن قلت: إن مقتضى أخبار البيان كونه من واجبات الحج، وإن لم يكن تركه موجباً لفساد الحج، فعليه- إذا كان من واجباته وأفعاله- تعين الإتيان به في أشهر الحجّ لظاهر الآية المتقدم على إطلاق الاخبار.

قلت: إنه وإن كان كذلك إلا أن مقتضى ظاهر بعض الأخبار الذي اشرنا اليه آنفا عدم كونه من أفعال الحج- فعليه لا دليل على توقيت وقته بذي الحجة، لعدم كونه خالياً عن الإشكال مضافاً الى أنه يمكن أن يقال:

عدم طواف النساء من الواجبات في الحج بل من واجبات الحج ولذا لو تركه عمداً لايوجب بطلان الحج فتدبر.

2- عدد الطواف:

ألف- عدد طواف الحجّ في حجّ الإفراد:

اتفق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على لزوم طواف واحد على المفرد للحج، وخالفهم فقهاء الإمامية حيث ذهبوا إلى أن عليه طوافين، طواف الحج وطواف النساء للأدلة الخاصة عندهم.

ب- عدد طواف الحجّ في القران:

وقع الخلاف بين فقهاء المسلمين في عدد الطواف في حج القران، فقال محمد بن إدريس الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو ثور: إن عليه طوافاً واحداً، وهو مذهب عبداللَّه بن عمر وجابر (2).

وقال أبو حنيفة عليه اثنان (3)،


1- 1 الوسائل ج 2 الباب 59 من ابواب الطواف.
2- 2 بداية المجتهد 1: 344.
3- 3 بداية المجتهد 1: 344.

ص: 112

واختاره الثوري والأوزاعي وبن أبي ليلى (1) واستدلوا لذلك بأنه قارن بين الحج والعمرة وأنهما نسكان من شرط كلّ منهما إذا انفرد طوافه وسعيه فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا.

وقالت الإمامية: إن عليه طوافين، طواف الزيارة وطواف النساء، وكذا في عمرته المفردة.

ج- عدد طواف الحجّ في حجّ التمتع:

إن الإمامية يوجبون على من يحجّ حجّ التمتع ثلاثة أطوفة:

1- طواف للعمرة، وهو ركن منها، فلو أخلّ به يحكم ببطلانها.

2- طواف للحج، وهو ركن منه، فلا يصح الحج بدون الطواف.

3- طواف للنساء، وهو واجب في الحج، وليس ركناً من أركانه، فالحج بدونهصحيح، ولكن لم تبرأ ذمته من هذا الواجب بالخصوص إلّا بعد إتيانه، ولا تحلّ له النساء بدونه أيضاً.

وأما أهل السنة فاتفقوا على أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين:

أحدهما- للعمرة.

وثانيهما- للحج في يوم العيد بعد اعمال منى، وينكرون طواف النساء ولا يرونه من واجبات الحج.

3- شرائط الطواف الخارجية:

وهي أمور:

الأول- الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر، فلا يصح من الجنب، ولا من الحائض والنفساء لما روي أنّ النبيّصلّى اللَّه عليه وآله لما أراد أن يطوف توضأ ثم طاف (2) وقال: خذوا عني مناسككم (3) وقال: الطواف بالبيتصلاة إلّاأن اللَّه أحلّ فيه النطق (4) وقال: لاصلاة إلا بطهور (5).

قالت به الإمامية والمالكية والشافعية والأوزاعية (6) وكذلك الحنابلة، وخالفت فيه الحنفية حيث


1- 1 بداية المجتهد 1: 344.
2- 2صحيح البخاري 2: 183، وسنن البيهقي 5: 86.
3- 3 فتح العزيز 7: 303، وعوالي اللئالي 1: 215، ورواه مسلم فيصحيحه 2: 943، والنسائي في سننه 5: 270 بلفظ قريب منه.
4- 4 سنن الدّارمي 2: 44، وسنن البيهقي 5: 85، نحوه ولكن باختلاف يسير.
5- 5 التهذيب 2: 140، والفقيه 1: 22، وفي الصحاح السّت بلفظ لاصلاة بغير طهور.
6- 6 الفقه على المذاهب الأربعة، وبداية المجتهد 1: 343، والمنهاج للنووي، والسراج الوهّاج للشيخ الزهري 158، وكفاية الأخيار 1: 136، والمنهاج القويم 418، ومغني المحتاج 1: 485، والأم 2: 178، ومختصر المزني 67، وبلغة السالك 1: 274.

ص: 113

ذهبوا إلى عدم اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر فيصحة الطواف، وأنه يجزي بدونها، ولكن يجبر بدم، وقالوا: لو كان محدثاً بالحدث الأصغر وطافصحّ طوافه ولزمه شاة، وإن طاف جنباً أو حائضاًصح ولزم بدنةً، ويعيده مادام بمكة (1).

واستدل للقول الأول بعدة أخبار، منها:

1- ما روي أنّ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم قال لأسماء بنت عميس التي كانت حائضاً: أصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت (2).

2- ما روي عنهصلى الله عليه و آله و سلم أنه لما أراد ان يطوف توضأ ثم طاف وكان يقول: خذوا عني مناسككم.

3- ما روي عنهصلى الله عليه و آله و سلم أنه قال:

الطواف بالبيتصلاة (3)، وقال لاصلاة إلّابطهور.

واستدل للقول الثاني بالإجماع على جواز السعي بين الصفا والمروة من غير طهارة، فكذلك الطواف.

وقالت الإمامية: إن الجنب والحائض لا يجوز لهما المرور في المسجد الحرام، ولا في مسجد النبيّ فضلًا عن المكث، ويجوز لهما المرور من غيرهما من المساجد، وفيه تعرف الكذب والافتراء على الإمامية حيث نسب إليهم أنهم يذهبون إلى الحرم بقصد تلويثه!!.

ينبغي هنا التنبيه على ما يلي:

أ- لو طاف الحاج على غير وضوء وعاد إلى بلده رجع وأعاد الطواف مع الإمكان، وإلّا استناب من يطوف عنه، وقال أبو حنيفة: لا شي ء عليه إلا الدم فيجبره به.

ب- إنما تعتبر الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر في الطواف فيما إذا كان الطواف واجباً، وأما إذا كان مستحباً فلا يشترط فيه الطهارة من الحدث الأصغر، نعم يحرم على المحدث بالحدث الأكبر الدخول إلى المسجد للطواف حول الكعبة، فمن هنا لا يمكن له الطواف أبداً.


1- 1 فقه السنّة 5: 154، وبداية المجتهد 1: 243، والفتاوى الهندية 1: 243، واللّباب 1: 203، والهداية 1: 165، والمبسوط 4: 38، وبدايع الصنايع 2: 129، وتبيين الحقائق 2: 59، والمجموع 8: 17.
2- 2 البداية والنهاية 1: 343.
3- 3 البداية والنهاية 1: 343.

ص: 114

ج- أما الحاج المعذور الذي لا يمكنه الطهارة المائية لمرض ونحوه، فهل تقوم مقامها الطهارة الترابية (التيمم) أم لا؟

الظاهر أنها تقوم مقامها، فلو كان محدثاً بالحدث الأكبر ولم يستطع الغسل لعذر يتعين عليه التيمم، وفيما عدا الجنابة يتعين عليه الوضوء ثم يطوف.

د- من شك في الحدث والطهارة للطواف فحكمه حكم الشك في الحدث والطهارة للصلاة، فإن كان شكّه بالحدث بعد يقينه بالطهارة بنى على الطهارة مطلقاً للاستصحاب وصحّ طوافه، وإن شك في الطهارة بعد اليقين بالحدث تجب عليه الطهارة للاستصحاب، و بنى على عدمصحة الطواف، وإذا شك في الطهارة بعد الفراغ من الطواف فلا اعتبار بشكّه وصحّ طوافه لقاعدة الفراغ.

الثاني- طهارة البدن اوللباس كما هو الحال في الصلاة، قالت به الإمامية والشافعية (1)والمالكية والحنابلة وخالفتهم في هذه المسألة الحنفية حيث قالوا: أما طهارة الثوب والبدن والمكان فسنّة مؤكدة حتى ولو طاف وعليه ثوب كلّه نجس فلا جزاء عليه (2).

الثالث- ستر العورة على نحو ما تقدم في الصلاة فيجب على من يريد الطواف أن يستر عورته ولو كان قد أمن من الناظر، فلا يصح طواف العريان، وهذا هو المتفق عليه (3)، وقالت الإمامية: إنه يشترط ستر العورة بثوب طاهر غير مغصوب وأن لا يكون من غير مأكول اللحم ولا من الحرير ولا الذهب كما هو الحال في الصلاة بل تشدد بعضهم في أمر الطواف أكثر من الصلاة حيث قال:

بالعفو عن الدم إذا كان بمقدار الدرهم البغلي في الصلاة وعدم العفو عنه في الطواف.

الرابع- الختان، فلايصح الطواف من الأغلف رجلًا كان أوصبياً، وبه


1- 1 المنهاج للنووي، والسراج الوهّاج للزهري: 159.
2- 2 كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1: 535.
3- 3 السراج الوهّاج، والمنهاج للنووي.

ص: 115

قالت الإمامية، فإذا طاف الصبي غير المختون أو طيف به بمعنى أنه حمله وليه أو غيره فطاف به، وكان غير مختون بعد أن أحرم به الولي فلا يجوز لهذا الصبي أن يتزوج بعد البلوغ إلّاأن يأتي بالعمرة المفردة، ولا يفيده تدارك طواف النساء فقط بنفسه فيما إذا أمكنه ذلك وبنائبه فيما إذا لم يمكنه ذلك؛ لأن الختان كان شرطاً فيصحة مطلق الطواف، وبدونه لم يكن طواف حجه أيضاًصحيحاً.

الخامس- النية بالخصوص، وبه قالت الإمامية والحنابلة، ولكن قالت المالكية والحنفية والشافعية: تكفي نية الحج بوجه العموم ولا يشترط نية الطواف بالخصوص (1).

وجميع هذه الشروط معتبرة في كلّ طواف واجب سواء كان لعمرة التمتع أو للعمرة المفردة أو لحج التمتع أو لحج الإفراد أو لحج القران، ويعبر عن هذه الشروط بالشروط الخارجية لخروجها عن عملية الطواف.

وإليك الآن شرائط الطواف الداخلية بعنوان واجبات الطواف، ويعبر عنها بذلك لدخالتها في أصل الطواف:

4- واجبات الطواف الداخلية:

وهي سبعة:

1- الابتداء بالحجر الأسود، والختم به، فلا يصح أن يبدأ بالطواف من غيره كما لا يصح الاختتام بغير الحجر الأسود أيضاً، وبه قالت الإمامية والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وبقية المذاهب، ويكفي عند الجميع حصول الابتداء والاختتام بالحجر الأسود المحاذاة العرفية في ابتداء الشوط وختامه بأن يكون أول جزء من بدنه بإزاء أول جزء من الحجر.

2- جعل البيت على يساره، فلا يصح الطواف بعكس ذلك بان يجعله على يمينه، ويكفي في تحقق ذلك الصدق العرفي، فلا يضر الانحراف اليسير


1- 1 فقه السنّة.

ص: 116

مادام الصدق العرفي متحققاً، وبه قالت الإمامية وبقية المذاهب.

3- إدخال حجر إسماعيل في الطواف بأن يجعله على يساره أي يطوف حوله دون أن يدخل فيه، فإذا طاف بينه وبين البيت فجعل البيت عن يساره والحجر عن يمينه بطل طوافه، وعليه أن يعيد ذلك الشوط فقط إذا كان واحداً.

واستدلوا لذلك بقطع معظم الأصحاب، وأن النبيّصلى الله عليه و آله و سلم طاف خارج الحجر (1).

ينبغي هنا الإشارة إلى أمرين:

أ- أن حجرإسماعيل كان بيتاً له.

ب- أن إسماعيل دفن أُمّه هاجر في هذا المكان، وأنه كره أن توطأ فحجر عليه.

4- خروج جميع بدنه عن البيت، وعن حجر إسماعيل وعمّا يحسب من البيت فلا يصح طواف من داخل البيت أو على جدار الحجر أو على شاذروان الكعبة، وهو المقدار الباقي من أساس الجدار السابق بعد البناء الجديد، فإذا طاف كذلك بطل طوافه.

5- كون الطواف بين البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وهو الصخرة التي عليها أثر قدمه، وكان إبراهيم عليه السلام يقف عليها حينما يبني البيت، وكيف كان فلا يصح أن يجعل مقام إبراهيم داخل المطاف، بل الواجب أن يجعل عن اليمين والبيت عن اليسار ويكون الطواف بينهما مراعياً بذلك القدر من البعد في جميع الجهات، وهي المسافة التي قدرت ب (26) ذراعاً ونصف الذراع تقريباً بذراع اليد، فإذا وقع الطواف خارج الحد المذكور لزمه تدارك ذلك الطواف عند كثير من فقهاء الشيعة، وإلّا فيحكم ببطلانه للخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب، وخالف في ذلك بعض فقهاء الإمامية ولم يجعل حدّاً له للخبر الصحيح المعرض عنه عند الأصحاب لذهابه إلى عدم انكسار الخبر الصحيح باعراض الاصحاب عنه وهذا القول هو الذي اخترناه في


1- 1 كفاية الاخبار 1: 136.

ص: 117

أبحاثنا الاجتهادية على أساس أن إعراض المشهور غير كاسر للخبر الصحيح كما أن عملهم غير جابر للخبر الضعيف، وبما أن الخبر الدال على اعتبار الحدّ المذكور في الطواف يكون ضعيفاً سنداً ولذا ما اشترطناه فيه، وأمّا الخبر الدال على عدم اعتباره فيه فلما يكونصحيحاً سنداً ولذا أخذنا به وقلنا بعدم اعتبار الحدّ المذكور في الطواف.

وأما فقهاء المذهب الحنفي و الشافعي والحنبلي والمالكي فلم يعتبروا الحدّ المذكور في الطواف، وقال الحصني الشافعي في كتابه (1): من واجبات الطواف أن يقع في المسجد، حتى لو طاف في الأروقة جاز، وكذاصرح به ابن جزي المالكي في كتابه (2) حيث قال عند البحث عن واجبات الطواف:

والخامس أن يطوف بداخل المسجد.

6- العدد، أي كون العدد في الطواف حول البيت سبعة أشواط من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، وبه قال فقهاء جميع المذاهب.

7- الموالاة، وعدم الفاصل بين الأشواط، فإنها شرط فيصحة الطواف، وهي أن يتابع بين أشواط الطواف، ولا يعمل في خلالها عملًا ينافي تلك الموالاة، هذا ما قالت به الإمامية والمالكية والحنابلة، وخالفهم الحنفية والشافعية، وقالوا: هي سنّة، فلو فرق الطائف طوافه تفريقاً كثيراً بغير عذر لا يبطل، ويبني على طوافه (3).

وقال أبو حنيفة على ما حكى عنه العلّامة في التذكرة: إذا أتى بأربعة أشواط ثم ترك فإن كان بمكة لزمه إتمام الطواف، وإن كان قد خرج منها جبرها بدم.

ثم إن الإمامية قالوا: إن الموالاة شرط في الطواف الواجب، وأما في المستحب فليست بشرط.

8- أن يطوف ماشياً، فان عجز طاف راكباً، قالت به الحنفية (4) وكذلك الحنابلة على ما نقل عنهم،


1- 1 كفاية الأخيار 1: 136.
2- 2 القوانين الفقهية: 89.
3- 3 على ما حكى عنهم.
4- 4 المبسوط 4: 45، وبدايع الصنايع 2: 130، والمنهل العذب 1: 211، والأم 2: 174، والمجموع 8: 27، وفتح العزيز 7: 315، والشرح الكبير 3: 404.

ص: 118

ولكن قال معظم الامامية والشافعية والمالكية (1)بعدم وجوبه بلصرح جماعة من الإمامية بجواز الركوب له اختياراً؛ لأن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم طاف على راحلته.

5-صلاة الطواف:

صلاة الطواف هي ركعتان مثل فريضة الصبح يصليهما الحاج خلف مقام إبراهيم قريباً منه بحيث يصدق عليه أنهصلاها عنده إن أمكنه ذلك وإلّاصلاها في أحد جانبيه، وإلّا حيث شاء من المسجد الحرام، وكيف كان فقد وقع الخلاف بين فقهاء المسلمين في حكمها في أنها واجبة أو غير واجبة.

ذهب بعض فقهاء المذاهب الإسلامية كالشافعية على قول (2) والحنابلة إلى عدم وجوبها، واستدلوا لذلك بقول النبيّصلى الله عليه و آله و سلم خمسصلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلّاأن تطوع (3) وقالوا باستحبابها لاستظهارهم من الأخبار ذلك.

وذهب بعض آخرمنهم كالإمامية والأوزاعية والثورية والمالكية (4) والحنفية والشافعية على قول إلى وجوبها واستدلوا لذلك بقوله تعالى: «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» (5)

لدلالة الأمر على الوجوب. وبما روي عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أنه طاف بالبيت سبعاً وصلّى خلف المقام ركعتين وقال:

خذوا عني مناسككم (6).

6- مستحبات الطواف:

وهي أمور:

قالت الإمامية: من سنن الطواف الوقوف عند الحجر الأسود والدعاء مستقبلًا وقراءة سورة القدر، وذكر اللَّه والسكينة في المشي واستلام الحجر وتقبيله في كلّ شوط مع الإمكان والإشارة إليه، واستلام الأركان كلّها كلما مرّ بها وتقبيلها، واستلام المستجار (وهو خلف الكعبة قريب من الركن اليماني) في الشوطالسابع والتداني


1- 1 القوانين الفقهية: 89.
2- 2 الوجيز 1: 118، والفتح الربّاني 12: 74، ونيل الأوطار 1: 134، وكفاية الأخيار 1: 139، والشرح الكبير 3: 414.
3- 3 كفاية الأخيار 1: 139.
4- 4 القوانين الفقهية: 89.
5- 5 سورة البقرة: 125.
6- 6 بداية المجتهد 1: 341.

ص: 119

من البيت إلى غيرذلك من الأشياء المذكورة في الأحاديث.

قالت المذاهب الأخرى: من سنن الطواف استقبال الحجر الأسود عند بدء الطواف مع التهليل والتكبير ورفع اليدين كرفعهما في تكبيرة الصلاة، واستلامه بهما بوضعهما عليه وتقبيله بدونصوت ووضع الخد عليه إن أمكن وإلّا لمسه بيده والدعاء بما يشاء.

استحباب الاضطباع:

وأما الاضطباع (وهو جعل وسط الرداء تحت الابط الأيمن وطرفيه على الكتف الأيسر) فقد نسب استحبابه إلى الحنفية والشافعية والحنابلة ولم ينسب إلى المالكية (1).

استحباب الرمل في أثناء الطواف:

أما استحباب الرمل (وهو الإسراع في المشي مع تقارب الخطى دون الوثوب والعدو) فقالت به الإمامية والمالكية (2) والحنفية والشافعية والحنابلة (3) في الأشواط الثلاثة الأُول في طواف القدوم.

7- أحكام الطواف:

ينبغي هنا ذكر مسائل:

الأولى- إذا حاضت المرأة في أثناء الطواف، فإن كان قد تم لها أربعة أشواط فأكثر تمتنع من بقية الطواف، وتأتي ببقية الأعمال من السعي والتقصير إذا كانت في العمرة، ثم تنتظر إلى أن تطهر فتقضي ما فاتها من الطواف والصلاة ولا يجب عليها إعادة السعي.

وإن حدث لها ذلك قبل إتمام أربعة أشواط، أي في الشوط الأول أو الثاني أو الثالث أو في أثناء الرابع فعندئذ تقطع طوافها وتخرج من البيت فوراً ثم تنتظر فإن طهرت قبل الموقف بعرفة تأتي بالطواف كاملًا والصلاة بعدها وكذلك السعي والتقصير، وإذا لم تطهر قبل الموقف فينقلب حينئذ حجّها إلى الإفراد وتمضي بنفس الإحرام الأول إلى عرفة والمشعر وتأتي بأعمال


1- 1 الفقه على المذاهب الأربعة.
2- 2 القوانين الفقهية لابن جزي: 89.
3- 3 بداية المجتهد 1: 340.

ص: 120

منى وبقية أعمال مكة، فإذا فرغت من مناسك الحج كلّها تأتي بعمرة مفردة بعد إكمال المناسك ويجزيها عن حجة الإسلام وذلك للنصوص، هذا ما قالت به الإمامية.

الثانية- إذا انتهى من الأشواط ثم شك في أنه هل أتى بهاصحيحة أو لا؟ لم يلتفت ويبني على الصحة ويمضي ولا شي ء عليه، هذا هو المتفق عليه عند فقهاء المسلمين، وإذا لم يكن الشك بعد الانتهاء من الأشواط فحينئذ إذا حدث له الشك بعد ما أحرز السبعة، كما لو شك بين السبعة والثمانية بنى على الصحة ولم يلتفت إلى شكّه، هذا أيضاً هو متفق عليه. وأما لو شك بين الستة والسبعة فما دون بنى على البطلان وعليه أن يعيد هذا في الطواف الواجب.

وأما في الطواف المستحب فإنه يبني على الأقل ويتم، إن كان أحد طرفي الشك مادون السبعة، ولا يفرق فيه بين أن يكون الشك في أثناء الطواف أو عند انتهاء الشوط الأخير، هذا كلّه بنظر فقهاء الإمامية، وأما بنظر فقهاء السنّة فالقاعدة عندهم هي البناء على الأقل أخذاً بالقدر المتيقن كما هو الحال في الشك في عدد ركعات الصلاة.

الثالثة- من ترك من طواف الزيارة ثلاثة أشواط فما دونها:

فقالت الحنفية: إن عليه دم شاة فيما إذا عاد إلى بلده، ومن ترك أربعة بقي محرماً أبداً حتى يطوفها (1) وقالت بقية المذاهب: إنه لو ترك خطوة منها لم يجزه ولم تحل له النساء حتى يعود إليها فيأتي بها وصرح به الشافعي (2).

8- مكروهات الطواف:

قالت الإمامية: من مكروهات الطواف، الكلام بغير ذكر اللَّه، وغير الدعاء، وغير قراءة القرآن الكريم، والضحك، والتمطي، والتثاؤب، وفرقعة الأصابع، ومدافعة البول والغائط، والأكل، والشرب، ولبس البرطلة (وهي القلنسوة الطويلة التي كانت تلبس قديماً) لأنها زي اليهود.


1- 1 فتح العزيز 7: 304، وبدايع الصنايع 2: 132، والمبسوط 4: 46، والهداية 1: 166.
2- 2 الأم 2: 170، وفتح العزيز 7: 303، والمبسوط 4: 46، وبدايع الصنايع 2: 132.

ص: 121

الهوامش:

نشاة الحياة العلمية في الحجاز

ص: 123

نشأة الحياة العلمية في الحجاز

عبد الجبار الرفاعي

مقدمة في بيان دور أهل البيت وشيعتهم

في ظهور وتطور العلوم الاسلامية في المدينة ومكة

الإسلام أول دين سماوي اقترنت ولادته بالدعوة إلى القراءة والحث على التعلم، فالكلمة الأولى التي هتف بها الوحي ووعتها أسماع النبيّ محمدصلى الله عليه و آله و سلم هي الأمر بالقراءة «اقرأ باسم ربّك الذي خلق» (1)

، وتلتها مباشرة «اقرأ وربّك الأكرم» (2)

، وجاء في سياقها تأكيد دور القلم «الذي علَّمَ بالقلم علَّمَ الإنسان مالم يعلم» (3)

. وتكررت الآيات التي تحث على القراءة والتعلم ومرادفاتها الأخرى منبسطة على مساحة واسعة في كتاب اللَّه تعالى، حتى أضحى هذا الموضوع محوراً أساسياً في القرآن.

وافتتاح نزول القرآن على النبيّ بالأمر بالقراءة ظاهرة متميزة لا نعثر على ما يماثلها في أي كتاب سماوي غيره، تعني في إحدى دلالاتها أن القرآن كتاب يهدف إلى تعميم المعرفة وإشاعة العلم واستئصال منابع الأمية والجهل، ويتجلى هذا المعنى بصورة واضحة في بيان القرآن لمهمة النبيّ المتمثلة في التزكية وتعليم


1- 1 العلق/ 1.
2- 2 العلق/ 3.
3- 3 العلق: 4، 5.

ص: 124

الكتاب والحكمة «.. ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ..» (1)

، هذه المهمة التي باشرها النبيّ منذ اليوم الأول الذي بُعث فيه، وواصلها بدأب ومثابرة حتى آخر لحظة في حياته الشريفة.

لقد اتخذ النبيّ بعد بعثته من بيته ما يشبه المدرسة يعلم فيها ثلة قليلة ممن آمن به وصدقه في دعوته تعاليم دينه الجديد، وما ينطوي عليه من عقائد ومفاهيم وأحكام، ثم انتقل إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، وصارت هذه الدار الواقعة بمكة على الصفا بمثابة مدرسة للدعوة، يجري فيها إعداد وتأهيل المسلمين الأوائل بشكل سري، خشية من تنبه قريش واجهاضها الدعوة قبل أن تقوى شوكتها.

واستمرت هذه الدار تستقبل المؤمنين الجدد ليتعلموا فيها تعاليم الاسلام، (فلما تكامل عددهم أربعين رجلًا خرجوا) (2) وانطلقت الدعوة الى المرحلة العلنية لتنفتح على كل الناس وتجهر عالياً بعقيدة التوحيد. ومع اتساع نطاق الدعوة ضاقت بها دار الأرقم فخرجت تبحث عن أماكن أخرى، فاحتضنتها دور المسلمين الأوائل في مكة، وسعى هؤلاء المسلمون لاتخاذ البيت الحرام منطلقاً لرسالتهم وقتئذ، بيد أن خصومهم من المشركين أصروا على الحيلولة بينهم وبين الإفادة من البيت الحرام كمدرسة لتعليم القرآن والدعوة إلى الدين الجديد، وقد نقلت لنا كتب السيرةصوراً متنوعة من التعذيب والاضطهاد الذي لاقاه المؤمنون من قريش في مكة (3).

وبعد احتدام الصراع بين المسلمين والمشركين في مكه اضطر الرسولصلى الله عليه و آله و سلم للهجرة إلى المدينة المنورة بمعية المسلمين، وكان قد سبق ذلك بسنوات هجرة طائفة من المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش، وبحثاً عن أرض جديدة للدعوة. وفي دار الهجرة دخلت الدعوة مرحلة جديدة حققت فيها مكاسب


1- 1 البقرة 151، آل عمران 164.
2- 2 ابن هشام. السيرة النبوية تحقيق: مصطفى السقا، ابراهيم الابياري، عبد الحفيظ شلبي. القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1936 م، ج 1:ص 270 الهامش.
3- 3 المصدر السابق.ص 342- 343.

ص: 125

عظيمة، عندما امتدت جغرافياً فاستوعبت مناطق نفوذ جديدة. ومنذ وصول الرسولصلى الله عليه و آله و سلم إلى المدينة وإشادة المسجد النبوي، أضحى المسجد مركزاً فاعلًا في حياة الجماعة المسلمة في المدينة، تلقى من على منبره المسلمون أنوار الوحي ومعارف القرآن متدفقاً من فم الرسولصلى الله عليه و آله و سلم مباشرة، ويمكن القول: إن هذا المسجد المتواضع في بنائه وعمارته البسيطة احتضن مدرسة فريدة. الكتاب الذي كان محور الدراسة فيها هو القرآن، والمعلم الأول هو رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وتلامذته هم الصحابة. واستمرت هذه المدرسة تنمو وتتكامل، ففي كل يوم تستقبل تلامذة جدد من المسلمين القادمين إلى المدينة للتعرف على الاسلام، ومع مرور الزمن اتسع نطاق العلوم التي تدرس في المسجد، فلم تقف عند دراسة القرآن الكريم وإنما امتدت لتشمل الحديث الشريف، والمغازي والسيرة الشريفة، والفقه، حيث ظهرت أبرز مدارس الفقه الاسلامي المعروفة لدى المسلمين في أروقة هذا المسجد.

المراكز العلمية عند الشيعة:

من المعالم الشاخصة في مسيرة مدرسة أهل البيت الاهتمام بالعلم وتوقير العلماء، كما نقرأ ذلك في تاريخ أتباع هذه المدرسة من الشيعة في مختلف مراحل التاريخ، فلم تمنعهم ظروف الاضطهاد السياسي والقمع العنيف من أجهزة الخلفاء والسلاطين من طلب العلم.

ويمكن القول: إن التشيع تحقق في العلوم الاسلامية بعمق مثلما تحقق وظهر في الثورات الاسلامية منذ عاشوراء وصبغ التاريخ الاسلامي بلون الدم والشهادة. وكما لانحتاج إلى جهد كبير للتدليل على دور الثوار الشيعة في مقاومة سلاطين الجور، كذلك لا يمكن أن نغفل حجم مساهمات علماء الشيعة عند

ص: 126

الحديث عن نشأة وتطور العلوم الاسلامية (1). وهذا لا يعني أننا نذهب إلى ماقاله بعض الباحثين في رد تمام ما يزخر به التراث الاسلامي من معارف وفنون إلى التشيع ونفي مساهمة بقية فرق المسلمين، فإن المسلمين بأسرهم كان لهم نصيب في ابداع هذه المعارف وتنميتها، إلّاأن العطاء العلمي للتشيع يظل متميزاً كما وكيفاً، ولاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار الوضع الأمني والسياسي الذي عاشه الشيعة في مختلف فترات التاريخ. ولأجل بيان شي ء من آثار هذا العطاء سنتحدث بايجاز عن المراكز العلمية للتشيع بالحجاز وموقعها الريادي في نشأة وتطور العلوم الاسلامية.

المدينة المنورة:

المدينة هي الرحم الذي ولدت فيه بذرة التشيع، واحتضن الجيل الأول من شيعة الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام، وتواصل توطن أئمة أهل البيت عليهم السلام فيها إلى الامام الحسن العسكري عليه السلام، ولم يغادرها أحد منهم إلّالضرورات سياسية أو عسكرية أو علمية أو أن يستقدمه السلطان الجائر فيسيّره إلى بغداد أو سامراء.

إن تراث أهل البيت وعلوم الإمامة فاضت من المدينة إلى بقية الأمصار بعد انتشار التشيع في شتى أقاليم الدولة الإسلامية آنذاك، وكان المسجد النبوي هو المركز العلمي الأهم الذي عقدت تحت سقفه الحلقات الدراسية الأولى عند الشيعة، وشهد هذا المسجد منذ تأسيسه إلى عدة قرون تعاقب مجموعة كبيرة من التلامذة، الذين انخرطوا في حلقات الأئمة عليهم السلام وأصحابهم ثم العلماء الشيعة في فترات لاحقة. فبعد غياب الرسولصلى الله عليه و آله عن المسرح مكث الإمام علي عليه السلام نحواً من ثلاثين سنة أمضى معظمها في المدينة ماخلا نحو خمس سنوات في الكوفة-


1- 1 حول مساهمات الشيعة في نشأة وتطور العلوم الاسلامية راجع: تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام للسيدحسن الصدر. طهران: منشورات الأعلم. والشيعة الامامية ونشأة العلوم الاسلامية، للدكتور علاء الدين السيد أمير محمد القزويني. قم: انتشارات الشريف الرضي.

ص: 127

عكف فيها علىصيانة القرآن الكريم والسنة الشريفة وتعليمهما، وكان قد انبرى لهذه المهمة منذ اليوم الأول بعد وفاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، يقول ابن النديم: إن علياً عليه السلام (رأى من الناس طَيْرَةً عند وفاة النبيصلى الله عليه و آله و سلم، فأقسم أنه لا يضع عن ظهره رداءَه حتى يجمع القرآن، فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن) (1) ويشير إلى ذلك ابن أبي الحديد بقوله (وأمّا قراءته للقرآن واشتغاله به فهو المنظور اليه في هذا الباب، اتفق الكلّ على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه) (2) وانفرد الإمام علي من بين الصحابة كافة باستيعابه لتمام علوم النبوة، فقد أورد الصفار في بصائر الدرجات بسنده (عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إن اللَّه علَّمَ رسوله الحلال والحرام والتأويل وعلَّمَ رسول اللَّه علمه كله علياً عليه السلام) وبسنده (عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: إنّ اللَّه تعالى علَّمَ رسول اللَّه عليه السلام القرآن وعلّمه شيئاً سوى ذلك منا علَّمَ رسوله فقد علَّمَ رسوله علياً عليه السلام) (3) ويقول الإمام علي عليه السلام (كنت أدخل على رسول اللَّه كل يوم دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علِمَ أصحاب رسول اللَّه أنه لم يصنع ذلك بأحد غيري ... وكنت إذا سألته أجابني، وإذا سكتُ وفنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت على رسول اللَّه آية من القرآن إلّاأقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطي، وعلّمَني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وخاصها وعامها، ودعا اللَّه أن يعلمني فهمها وحفظها) (4). وقال عليه السلام موضحاً مرجعيته للتفسير وعلوم القرآن بعد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: (سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية في ليل نزلت أو في نهار أُنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، لأخبرتكم به) (5). واحتفظت لنا كتب الحديث


1- 1 ابن النديم. الفهرست. تحقيق: رضا تجدد، طهران: 1971 م،ص 30.
2- 2 ابن أبي الحديد. شرح نهج البلاغة. تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم. القاهرة: دار احياء الكتب العربية، ط 2، 1965 م، ج 1:ص 27.
3- 3 الصفار، محمد بن الحسن بن فروخ. بصائر الدرجات. تصحيح: محسن التبريزي. قم: 1404 ه،ص 290.
4- 4 الشيخ الصدوق. الخصال، تصحيح: علي أكبر الغفاري. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية،ص 451.
5- 5 الشيخ المفيد: الاختصاص. تصحيح: علي أكبر الغفاري. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية،ص 236.

ص: 128

بعناوين جملة من الكتب، التي أملاها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على علي بن أبي طالب عليه السلام، اشتهر منها «الصحيفة» و «كتاب علي» و «مصحف فاطمة». أما الصحيفة فهي عبارة عن (صحيفةصغيرة تشتمل على العَقْل- مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير) (1) أخرج نبأها البخاري، وغيره (عن أبي جعيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلّاكتاب اللَّه، أو فَهْمٌ أَعطيه رجُلٌ مسلم، أو مافي هذه. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقْل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقْتَلَ مسلمٌ بكافر) (2).

والكتاب الآخر الذي ورثه الإمام علي عليه السلام من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم هو ما عُرِف ب «كتاب علي»، قال غذافِر الصيرفي: (كنت مع الحَكَم بن عُتَيْبَة عند أبي جعفر عليه السلام، فجعل يسأله، وكان أبو جعفر عليه السلام له مُكْرِماً، فاختلفا في شي ء، فقال أبو جعفر عليه السلام: يا بني قم فأخرج كتاب علي، فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، وفَتَحَهُ، وجعل ينظر حتى أخرج المسألة. فقال أبو جعفر عليه السلام: هذا خطّ علي عليه السلام، وإملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم. وأقبل على الحكم وقال: يا أبا محمد، إذهب أنت وسلمة وأبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالًا فواللَّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه السلام (3) وعن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: (واللَّه إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً، فيها جميع مايحتاج اليه الناس حتى أرش الخدش، إملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وكتبه علي بيدهصلوات اللَّه عليه) (4). وعن (الفضيل بن يسار قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا فضيل عندنا كتاب علي سبعون ذراعاً، ما على الأرض شي ء يُحتاج اليه إلّاوهو فيه حتى أرش الخدش، ثم خطه بيده على إبهامه) (5).

وكان «مصحف فاطمة» كتاباً آخر أملاه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على علي عليه السلام، وتوارثه أهل البيت عليهم السلام كأحد ودائع النبوة، روى (أبو حمزة عن أبي عبداللَّه عليه السلام


1- 1 عتر، د. نور الدين. منهج النقد في علوم الحديث. دمشق: دار الفكر، 1408 ه،ص 46.
2- 2صحيح البخاري باب كتابة العلم من كتاب العلم. بيروت: دار الفكر، 1411 ه، ج 1:ص 41.
3- 3 النجاشي، أحمد بن علي. رجال النجاشي. تحقيق: السيد موس الشبيري الزنجاني. قم: جماعةالمدرسين، 1407 ه،ص 360.
4- 4 بصائر الدرجات.ص 145.
5- 5 المصدر السابق.ص 147.

ص: 129

قال: قيل له إن عبداللَّه بن الحسن يزعم أنه ليس عنده من العلم إلّاما عند الناس، فقال:صدق، واللَّه ما عنده من العلم إلّاما عند الناس، ولكن عندنا واللَّه الجامعة فيها الحلال والحرام، وعندنا الجفر، أفيدري عبداللَّه أمسك بعير أو مسك شاة، وعندنا مصحف فاطمة، أما واللَّه ما فيه حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وخط علي عليه السلام ..) (1).

لقد كان الامام علي بن أبي طالب عليه السلام يمثل المرجعية العلمية في حياة المسلمين بعد وفاة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، بالرغم من إقصائه عن المسرح السياسي في حياة الخلفاء الثلاث، لكنه كان يسهر على حماية تجربة الاسلام الفتية من النكوص والتداعي، وهذا ما جعله يسجل حضوراً مشهوداً في مواقف متنوعة، منها ما يرتبط بالقضاء وحسم الخصومات بين الطرفين المتنازعين حين يتعذر على الخليفة اتخاذ موقف قضائي بذلك (2)(3)(4)، ومنها ما يرتبط ببيان المواقف الاستراتيجية في المنعطفات السياسية والعسكرية في الحياة الإسلامية، عندما يتعرض المسلمون لأخطار وشيكة، إثر الصراع المحتدم مع الامبراطوريتين الرومانية والفارسية، وقوى الشرك الأخرى في الجزيرة العربية. يضاف إلى ذلك الدور البارز الذي اضطلع به الإمام علي عليه السلام في حلّ المعضلات العقائدية والفكرية، التي كانت تتوالد كلّ يوم مع ازدياد عدد المسلمين واتساع رقعة الدولة الإسلامية. وهذا ما تحكيه بوضوح المراجع التاريخية، التي تحدثت عن تلك الحقبة، فحين تشير إلى طبيعة التحديات المختلفة، التي كانت تواجه المسلمين وقتئذ، تكشف عن الدور المتميز، الذي كان ينهض به الإمام علي عليه السلام، ففي التفسير وبيان ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه كان هو المرجع، وفي بيان الأحكام الشرعية هو المرجع، وفي حلّ المعضلات الفكرية المتنوعة هو المرجع، وفي المناظرات العقائدية هو المرجع، حتى شهد الخليفة الثاني بمرجعيته


1- 1 المصدر السابق.ص 161. للتعرف المفصل على هذه الكتب، يمكن مراجعة أصول الكافي، ج 1:ص 238- 242 باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة.
2- 1 المصدر السابق.ص 161. للتعرف المفصل على هذه الكتب، يمكن مراجعة أصول الكافي، ج 1:ص 238- 242 باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة.
3- 1 المصدر السابق.ص 161. للتعرف المفصل على هذه الكتب، يمكن مراجعة أصول الكافي، ج 1:ص 238- 242 باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة..
4- 2 راجع: قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالبصلى الله عليه و آله. للمحقق الشيخ محمد تقي التستري.

ص: 130

هذه غير مرة قائلًا: (لولا عليٌّ لهلك عمر)، و (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن)، و (لا يُفتين أحد في المسجد وعليّ حاضر) (1).

من هنا يتبين أنه كان المدرس الأول في المدينة المنورة، فإن (أمير المؤمنين علَّمَ في مجلس واحد أربعمائة باب، مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه) (2). وكان هو منهل العلم الذي استقى منه عدد وفير من الصحابة والتابعين المعارف الاسلامية، واليه ينتهي تأسيس جملة من العلوم الإسلامية، يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: (ومن العلوم علم تفسير القرآن، وعنه أُخِذَ، ومنه فُرِّع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمتصحة ذلك، لأن أكثره عنه وعن عبداللَّه بن عباس، وقد علم الناس حالَ ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه اليه، وأنه تلميذه وخرّيجه. وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنِسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.

ومن العلوم علمُ الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام اليه ينتهون، وعنده يقفون، وقدصرّح بذلك الشِّبْلي، والجُنَيد، وسَري، وأبو يزيد البِسْطامي، وأبو محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم ... ومن العلوم علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه) (3).

في ضوء ذلك يتضح أن الإمام علي عليه السلام مكث في المدينة المنورة بعد وفاة رسول اللَّه مدة ناهزت عقدين ونصف العقد عكف فيها على غرس بذرة العلوم الإسلامية، واعداد جيل من التلامذة كعبد اللَّه بن عباس المعروف بحبر الأمة، أسهم هذا الجيل فيما بعد في الامتداد بمدرسة علي عليه السلام من المدينة إلى بقية الأمصار الإسلامية، وتنمية العلوم التي غرسها. ومثلما كان للإمام علي الريادة في إرساء أسس مدرسة المدينة المنورة، والسهر على تربية طائفة من التلامذة من ذوي البصائر، كذلك فعل الشي ء نفسه لما بويع بالخلافة واتخذ من الكوفة عاصمة له.


1- 1 شرح نهج البلاغة، ج 1:ص 18.
2- 2 الشيخ الصدوق. الخصال. تصحيح: علي أكبر الغفاري. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية،ص 610- 611.
3- 3 المصدر السابق، ج 1:ص 19- 20.

ص: 131

مدرسة المدينة بعد غياب الامام علي عليه السلام:

لم تقفل مدرسة المدينة أبوابها بعد هجرة أمير المؤمنين إلى الكوفة عام 35 للهجرة، ثم استشهاده في مسجد الكوفة بعد خمس سنوات من هذا التاريخ، وإنما تعاقبت عليها عدة أجيال من تلامذة الإمام علي وتلامذتهم. إذ امتدت الحركة العلمية في المدينة بأبناء علي من الأئمة عليه السلام، وبتلامذته الآخرين، الذين برز منهم عبداللَّه بن عباس، الذي باشر تعليم التفسير والحديث والفقه والأدب، وكان مجلسه يكتظ بالدارسين من مختلف الطبقات، قال عطاء: (ما رأيت مجلساً قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر علماً وأعظم جَفْنة، وأن أصحاب القرآن عنده يسألونه، وأصحاب النحو عنده يسألونه، وأصحاب الشعر عنده يسألونه، وأصحاب الفقه عنده يسألونه، كلهم يصدرهم في واد واسع) (1).

إلّا أن ابن عباس عنى بتعليم التفسير وعلوم القرآن عناية فائقة فعرف به، ومُلِئت المصنفات المبكرة للتفسير بمروياته وآرائه الخاصة. وعمل الوضاعون فيما بعد على وضع أشياء كثيرة ونسبتها اليه تزلفاً لأبنائه من الخلفاء في العصر العباسي (2). وعلى هذا لا يمكن القول: أن تراث ابن عباس التفسيري يعبر عن روح مدرسة الإمام علي عليه السلام بصورة نقية أمينة، وإن كان ابن عباس نفسه أميناً فيما حكاه عن أستاذه، لكن التشويه والدس الذي ابتُليَت به آثاره في العصر العباسي نأى بها عن المنبع الذي استقت منه، على أن ابن عباس لم ينفرد في مدرسة المدينة، وإنما سطع فيها نجم الحسن والحسين عليهم السلام، اللذين ورثا ودائع النبوة والعلوم التي نهلها أمير المؤمنين عليه السلام من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ثم أورث الحسين ذلك لولده علي السجاد وصار السلف منهم يوصلها لخلفه، (عن عمر بن يزيد قال أبو جعفر عليه السلام: إن علياً عالِم هذه الأمة، والعلم يتوارث، ولا يهلك أحد منّا إلّا ترك من أهله مَنْ يعلم مثل علمه أو ماشاء اللَّه) (3) وتؤكد المصادر التاريخية أن


1- 1 الخطيب البغدادي. تاريخ بغداد أو مدينة الإسلام منذ تأسيسها حتى سنة 463 ه. بيروت: دار الكتب العلمية، ج 1:ص 174- 175.
2- 2 أحمد أمين. فجر الاسلام. بيروت: دار الكتاب العربي، 1975 مص 173- 174، 202- 203.
3- 3 بصائر الدرجات:ص 118.

ص: 132

عبداللَّه بن عباس كان على بينة من هذا الأمر، ولذلك كان يبالغ في احترام الحسن والحسين، يقول مدرك بن عمارة: (رأيت ابن عباس آخذاً بركاب الحسن والحسين، فقيل له: أتأخذ بركابيهما وأنت أسنّ منهما؟ فقال: إن هذين ابنا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، أو ليس من سعادتي أن آخذ بركابيهما) (1).

لقد واصل الحسنان رعاية مدرسة أبيهم في المدينة، والتف حولهما نخبة من تلامذة أمير المؤمنين وغيرهم ينهلون من حلقات دروسهم في المسجد النبوي الشريف، وذاع نبأ هذه الحلقات فرحل اليها طلاب العلم من خارج المدينة، فكان الحسن (يجلس في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ويجتمع الناس حوله، فيتكلم بمايشفي غليل السائلين، ويقطع حجج القائلين) (2). ونالت حلقة الإمام الحسن في المسجد النبوي اهتمام القادمين إلى المدينة، وتميزت على ماسواها من الحلقات الأخرى في المسجد، يروي الواحدي (في تفسيره الوسيط مايرفعه بسنده أن رجلًا قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يحدِّث عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم والناس حوله، فقلت له: أخبرني عن «شاهد ومشهود» (3)

، فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم عرفة، فجزته إلى آخر يُحدِّث، فقلتُ له:

أخبرني عن «شاهد ومشهود»، فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم النحر، فجزتهما إلى غلام كأن وجهه الدينار، وهو يُحدِّث عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فقلت: أخبرني عن «شاهد ومشهود»، فقال: نعم، أما الشاهد فمحمدصلى الله عليه و آله و سلم، وأما المشهود فيوم القيامة، أما سمعته يقول: «يا أيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً» (4)

، وقال تعالى: «ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود» (5)

. فسألت عن الأول؟ فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثاني؟ فقالوا:

ابن عمر، وسألت عن الثالث؟ فقالوا: الحسن ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان قول الحسن أحسن) (6).


1- 1 ابن عساكر. ترجمة الإمام الحسين من تاريخ مدينة دمشق. تحقيق: محمد باقر المحمودي. قم: مجمع احياء الثقافة الإسلامية، 1414 ه،ص 210- 211.
2- 2 علي بن عيسى الاربلي. كشف الغمة في معرفة الأئمة. تعليق: هاشم الرسول. بيروت: دار الكتاب الاسلامي، ج 2:ص 169.
3- 3 البروج 3.
4- 4 الأحزاب 45.
5- 5 هود/ 103.
6- 6 كشف الغمة، ج 2:ص 169.

ص: 133

أما حلقة الإمام الحسين في المسجد النبوي فقد اشتهرت وتفوقت على نظائرها من حلقات الدرس في المسجد، حتى اضطر معاوية للاعتراف بذلك عندما قال (لرجل من قريش: إذا دخلت مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبداللَّه، مؤتزراً على أنصاف ساقيه، ليس فيها من الهُزِّيلي (1) شي ء) (2).

وتمتع الإمام الحسين عليه السلام بمرجعية علمية في المدينة مثلما تسنم أمير المؤمنين عليه السلام قبل ذلك هذه المرجعية، فكان يدحض الشبهات العقائدية حين يعجز غيره عن تفنيدها، يقول (عكرمة عن ابن عباس: بينما هو يُحدِّث الناس، إذ قام اليه نافع ابن الأزرق، فقال له: يا ابن عباس تُفتي الناس في النملة والقملة،صف لي إلهك الذي تعبد؟ فأطرق ابن عباس إعظاماً لقوله. وكان الحسين بن علي جالساً ناحية، فقال: إليِّ يا ابن الأزرق. قال: لستُ إيّاك أسأل!. قال ابن عباس:

يا ابن الأزرق إنه من أهل بيت النبوة، وهم ورثة العلم. فأقبل نافع نحو الحسين، فقال له الحسين: يا نافع إن من وضع دينه على القياس، لم يزل الدهر في الالتباس سائلًا ناكباً عن المنهاج، ظاعناً بالاعوجاج، ضالًا عن السبيل، قائلًا غير الجميل. يا ابن الأزرق أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرّفه بما عرّف به نفسه:

لا يُدَرك بالحواس، ولا يُقاس بالناس، قريب غير ملتصق، وبعيد غير منتقص، يوحّد ولا يُبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلّاهو الكبير المتعال. فبكى ابن الأزرق، وقال: يا حُسين ما أحسن كلامك! قال له الحسين:

بلغني أنك تشهد على أبي، وعلى أخي بالكفر، وعليَّ. قال ابن الأزرق: أما واللَّه يا حسين لئن كان ذلك، لقد كنتم منار الإسلام، ونجوم الأحكام. فقال له الحسين:

إني أسالك عن مسألة. قال: سل. فسأله عن هذه الآية «وأما الجدار فكان الغلامين يتيمين في المدينة» (3)

؟ يا ابن الأزرق: من حُفِظ في الغلامين؟ قال ابن


1- 1 الهزِّيلي: نسبة إلى الهزل مقابل الجد. وهي اشارة إلى أن حلقة الإمام الحسين ليس فيها عبث وشعوذة وإنما كل ما فيها حق وصواب.
2- 2 ترجمة الإمام الحسين من تاريخ مدينة دمشق.ص 12.
3- 3 الكهف/ 82.

ص: 134

الأزرق: أبوهما. قال الحسين: فأبوهما خير أم رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم؟ قال ابن الأزرق:

قد أنبأ اللَّه تعالى أنكم قوم خصمون) (1).

وبعد الإمام الحسين عليه السلام انبرى ولده الإمام السجاد عليه السلام لتبني مدرسة المدينة ورعايتها، وحظي السجاد عليه السلام بمقام المرجعية العلمية في هذه المدرسة مثلما حظي أبوه وجده عليهما السلام قبل ذلك، وهذا ماتدلل عليه مجموعة شهاداتصدرت من علماء معروفين من معاصريه، (فكان الزهري يقول: علي بن الحسين أعظم الناس عليّ منّة) (2) ويضيف قائلًا: (ما كان أكثر مجالستي مع علي بن الحُسين! وما رأيت أحداً كان أفقهَ منه، ولكنه كان قليل الحديث ... لم أدرك من أهل البيت أفضل من علي بن الحسين) (3). و (قال رجل لسعيد بن المُسَيّب: ما رأيت أحداً أورع من فلان! قال: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال:

لا، قال: ما رأيت أورع منه!) (4).

وقال ابن خلكان في معرض الحديث عنه: (وفضائل زين العابدين ومناقبه أكثر من أن تُحصَر) (5). وكان الإمام السجاد منصرفاً إلى بثّ علوم النبوة، متخداً من المسجد النبوي مدرسة له، ففي كلّ جمعة يستثمر توافد المسلمين على المسجد فينبري للإرشاد والوعظ، يقول سعيد بن المسيب: (كان علي بن الحسين عليهما السلام يعظ الناس، ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة، في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وحُفِظ عنه وكُتِبَ، يقول:

أيها الناس اتقو اللَّه ...) (6).

وحين يتحدث الإمام السجاد واعظاً يتفاعل معه الناس وتهيج عواطفهم، وتسود المجلس موجة من البكاء، (قال أبو حمزة: كان الإمام علي بن الحسين عليهما السلام إذا تكلم في الزهد ووعظ، أبكى مَنْ بحضرته) (7) ويبدو أن الإمام السجاد كان يمضي قسطاً وافراً من وقته يُعلِّم في المسجد النبوي، قال يزيد بن حازم: (رأيتُ


1- 1 ترجمة الامام الحسين من تاريخ مدينة دمشق.ص 225- 226.
2- 2 ابن سعد. الطبقات الكبرى. بيروت: دارصادر، ج 5:ص 214.
3- 3 المزي. تهذيب الكمال في أسماء الرجال تحقيق: د. بشار عوّاد معروف. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1413 ه، ج 20:ص 386.
4- 4 المصدر السابق،ص 389.
5- 5 ابن خلكان: وَفيات الأعيان وأبناء ابناء الزمان. تحقيق: د. إحسان عباس. قم: منشورات الرضي، مج 3:ص 269.
6- 6 الكليني. روضة الكافي. تصحيح: علي أكبر الغفاري. بيروت: دار الأضواء، 1405 ه،ص 60- 63.
7- 7 المصدر السابق،ص 13.

ص: 135

علي بن حسين وسليمان بن يسار، يجلسان بين القبر والمنبر، يتحدثان إلى ارتفاع الضُحى ويتذاكران) (1) و (عن ثوير بن فاخته، قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يُحدِّث في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، قال: حدثني أبي أنه سمع أباه علي بن أبي طالب عليه السلام يُحدِّث الناس، قال: ...) (2)، ولم يقتصر نشاطه العلمي على فترات وجوده في المسجد، وإنما كان أهل العلم يقصدونه حيث مضى ولا ينفكّون عن طلب الإفادة منه والارتشاف من معين علومه حتى في سفره، يقول سعيد ابن المسيب (إن القراء كانوا لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب ..) (3). إن خروج موكب يضم ألف رجل من القراء مع علي بن الحسين، يبرهن بدون شك على حاجة أهل القرآن اليه، وأنه هو المرجع الأول في التفسير وعلوم القرآن يومئذ، ويمكن أن نستنتج من هذا الرقم الكبير «ألف راكب» وجود أجماع بين المسلمين على منزلته العلمية، ولا سيما إذا لاحظنا أن هذا الموكب لا يفارقه في رواحه ومجيئه، يقول سعيد بن المسيب: (كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد الساجدين ..) (4).

إن التفاف الناس وطلاب العلم خاصة حول الإمام السجاد عليه السلام، ومرافقتهم له بنحو دائم في سفره وحضره، يعبر عن ظاهرة ملفتة للنظر، خصوصاً أن السجاد عليه السلام كان يخضع لرقابة السلطة الأموية باستمرار، لكن ذلك لم يُثنِ أهل العلم من الارتباط بمجالسه والحرص على مرافقته أينما رحل. وقد كان الوضع الأمني الذي عاشه الامام السجاد عليه السلام في المدينة عقيب واقعة كربلاء مباشرة لا يسمح له بممارسة مهامه العلمية بحرية، إلّاأنه لم يتخلَّ عن تلك المهام، فتكثف عمله على اعداد وتربية نخبة من الرجال الذين وعوا علومه ونشروها بين الناس، (قال الفضل بن شاذان: ولم يكن في زمن علي بن الحسين عليه السلام في أول أمره إلّاخمسة أنفس: سعيد بن جبير، سعيد بن المسيب، محمد بن جبير بن مطعم،


1- 1 الطبقات الكبرى. ج 5:ص 217.
2- 2 الكليني. روضة الكافي.ص 89- 90.
3- 3 اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي. تصحيح: حسن المصطفوي. مشهد: جامعة مشهد، 1348 ش،ص 117.
4- 4 المصدر السابق،ص 117.

ص: 136

يحيى بن أم الطويل، أبو خالد الكابلي واسمه وردان ولقبه كنكر، سعيد بن المسيّب ربّاه أمير المؤمنين عليه السلام، وكان حزن جدّ سعيد أوصى إلى أمير المؤمنين عليه السلام) (1).

وكان لتلامذة الامام السجاد دورٌ هام في نشر العلوم الاسلامية، فمثلًا عُرِفَ سعيد بن جبير كأحد أبرز رجال التفسير والفقه في عصره، حتى (كان ابن عباس، إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أَليس فيكم ابن أُم الدهماء؟ يعني سعيد بن جبير) (2). واعترف ابن عمر عندما سأله رجال بأن سعيد أفقه منه، (عن أسلم المنقري عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة، فقال: إئت سعيد بن جُبير فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يُفرِض منها ما أفرض) (3). وروى (عمرو بن ميمون عن أبيه، قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد إلّاوهو محتاج إلى علمه) (4).

أما سعيد بن المسيب فكان من أبرز علماء عصره مثلما وصفه الإمام السجاد (عن أبي جعفر، قال: سمعت علي بن الحسين يقول: سعيد بن المسيب أعلم الناس بما تقدمه من الآثار، وأفهمهم في زمانه) (5).

ومضافاً إلى ما أنجبته مدرسة الإمام السجاد عليه السلام من حملة العلوم الإسلامية، خلفت لنا هذه المدرسة أيضاً نصّين هامين، أحدهما عبارة عن مجموعة من الأدعية التي طفحت بالتعاليم والمفاهيم الربانية، اشتهرت باسم «الصحيفة السجادية»، والآخر هو وثيقة حقوقية نصّت على طائفة من الحقوق الأساسية للَّه تعالى، وللنفس، وللأئمة، وللرعية، وللرحم، وللناس ... وغير ذلك وعرفت باسم «رسالة الحقوق».

مدرسة المدينة في عصر الباقر والصادق عليهما السلام:

وبعد وفاة الإمام علي بن الحسين عليه السلام نهض بمهمة إدارة مدرسته والتعليم


1- 1 المصدر السابق،ص 115.
2- 2 تهذيب الكمال، ج 10: 364.
3- 3 الطبقات الكبرى، ج 6:ص 258.
4- 4 تهذيب الكمال، ج 10:ص 364.
5- 5 رجال الكشي،ص 119.

ص: 137

فيها ولده الإمام محمد الباقر عليه السلام، الذي احتضن تلامذة أبيه، واقتفى أثره في تربية مجموعة من العلماء، (وشُهِرَ أبو جعفر بالباقر من: بقر العلمَ، أي شقَّهُ فعرفَ أصلَهُ وخفيَّه) (1). واعترف له بالتفوق العلمي وأهليته لإمامة المسلمين مَنْ ترجم له من المؤرخين، فمثلًا قال عنه الذهبي: (وكان أحد مَنْ جمع بين العلم والعَمَل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلًا للخلافة) (2)، وقال عنه أبو زرعة (ولعمري إنّ أبا جعفر عليه السلام لمن أكبر العلماء) (3). ولم ينفرد الشيعة بتوقير مقامه والإفادة منه، وإنما ورد نميره طائفة من طلاب العلم الآخرين، لما وجدوا لديه من غزارة في العلم وإحاطه شاملة بالعلوم الإسلامية، فكانوا إذا أرادوا معرفة السنة الشريفة جاءوه، وإذا اضطربت الآراء وتزايدت الشبهات لم يجدوا الجواب النهائي عليها عند غيره، فقد (روى أبو جعفر عليه السلام، أخبار المبتدإ وأخبار الأنبياء، وكَتَبَ عنه الناس المغازي، وأثروا عنه السُّنْنَ، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار، وناظرَ مَنْ كان يَرِدُ عليه من أهل الآراء، وحفِظَ عنه الناس كثيراً من علم الكلام ... وروي عنه عليه السلام أنه سُئِل عن الحديث يُرسلُه ولا يُسندُه، فقال: «إذ حدّثتُ الحديث فلم أُسنِده، فسندي فيه أبي عن جدِّي عن أبيه عن جدِّه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم عن جبرئيل عليه السلام عن اللَّه عزّ وجل») (4). وكان مجلسه عامراً بالعلماء، وهم في غاية التواضع والاحترام له، قال عبداللَّه بن عطاء المكي: (ما رأيتُ العلماءَ عند أحدٍ قط أصغر منهم عند أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام، ولقد رأيتُ الحكم بن عُتَيبْةَ- مع جلالته في القوم- بين يديه كأنهصبيّ بين يدي مُعَلِّمه. وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عن محمد بن علي عليهما السلام شيئاً، قال: حدّثني وصيُّ الأوصياء، ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام) (5). وكان عليه السلام يفد عليه السائلون وطلاب العلم


1- 1 شمس الدين الذهبي. سير أعلام النبلاء تحقيق: مأمون الصاغرجي. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1412 ه، ج 4:ص 402.
2- 2 المصدر السابق،ص 402.
3- 3 الشيخ المفيد. الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد. تحقيق: مؤسس آل البيت عليهم السلام الحياء التراث، 1413 ه، ج 2:ص 163.
4- 4 المصدر السابق،ص 163، 167.
5- 5 المصدر السابق:ص 160.

ص: 138

من شتى البلاد في ذلك العصر، ومجلسه يومئذ معروف في المسجد النبوي الشريف، ومزدحم بهؤلاء القادمين من تلك البلاد، كلٌ منهم يسأل ويطلب معرفة الحلال والحرام ومعالم دينه من أبي جعفر عليه السلام، يقول أبو حمزة الثمالي: (كنت جالساً في مسجد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم، إذ أقبل رجل فسلَّمَ، فقال: مَنْ أنت يا عبداللَّه؟ فقلت: رجل من أهل الكوفة، فقلت: ما حاجتك؟ فقال لي:

أتعرف أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام؟ فقلت: نعم، فما حاجتك إليه؟ قال: هيّأت له أربعين مسألة أسأله عنها، فما كان من حقّ أخذته، وما كان من باطل تركته. قال أبو حمزة: فقلت له: هل تعرف ما بين الحقّ والباطل؟ قال: نعم، فقلت له: فما حاجتك إليه إذا كنت تعرف ما بين الحقّ والباطل، فقال لي: أهل الكوفة أنتم قوم ما تُطاقون، إذا رأيت أبا جعفر عليه السلام فأخبرني، فما انقطع كلامي معه حتى أقبل أبو جعفر عليه السلام وحوله أهل خراسان، وغيرهم،، يسألونه عن مناسك الحج، فمضى حتى جلس مجلسه، وجلس الرجل قريباً منه، قال أبو حمزة: فجلست حيث أسمع الكلام، وحوله عالَم من الناس، فلما قضى حوائجهم وانصرفوا، التفت إلى الرجل، فقال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا قتادة بن دعامة البصري، فقال له أبو جعفر عليه السلام: أنت فقيه أهل البصرة؟ قال: نعم، فقال له أبو جعفر عليه السلام: ويحك يا قتادة ...) (1). وقد كان أبو جعفر الباقر عليه السلام مثلما كان أبوه السجاد عليه السلام، حيثما ذهب أوحلَّ يلحقه أهل العلم وينتهز أهل ذلك البلد أو القادمون اليه من بلدان آخرى فرصة وجوده عليه السلام فيرتشفون من منهله الغزير، (عن ثوير بن فاخته، قال:

خرجت حاجّاً فصحبني عمر بن ذر القاضي، وقيس الماصر، والصلت بن بهرام، وكانوا إذا نزلوا منزلًا، قالوا: انظر الآن، فقد حررنا أربعة آلاف مسألة تسأل أبا جعفر عليه السلام منها عن ثلاثين كل يوم ...) (2). أما اذا بلغ الإمام الباقر عليه السلام بيت اللَّه الحرام، فيتهافت على مجلسه المقيمون في مكة وللقادمون من الامصار، ويصبح


1- 1 فروع الكافي. ج 6:ص 256.
2- 2 رجال الكشي.ص 219.

ص: 139

مجلسه في البيت الحرام حديث الحاج في الموسم، لشدة ازدحام الناس عليه، (قال الأبرش الكلبي لهشام، مشيراً إلى الباقر عليه السلام: مَنْ هذا الذي احتوشه. أهل العراق يسألونه؟ قال هذا نبيُّ الكوفة، وهو يزعم أنه ابن رسول اللَّه، وباقر العلم، ومفسِّر القرآن، فاسأله مسألة لا يعرفها، فأتاه، وقال: يا ابن عليّ قرأت التوراة، والانجيل، والزبور، والفرقان؟ قال: نعم، قال: فإني أسألك عن مسائل؟ قال:

سل، فإن كنت مسترشداً فستنتفع بما تسأل عنه، وإن كنت متعنتاً فتضلّ بما تسأل عنه ...) (1). ويؤكد موقف آخر تجمهر طلاب العلم حوله عليه السلام في الحرم، كما يقول أبو بصير: (كان أبو جعفر الباقر عليه السلام جالساً في الحرم، وحوله عصابة من أوليائه، إذ أقبل طاووس اليماني في جماعة، فقال: مَنْصاحب الحلقة؟ قيل: محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال: إيّاه أردت، فوقف عليه، وسلَّمَ وجلس، ثم قال: أتأذن لي في السؤال؟ فقال الباقر عليه السلام: قد أذنّاك فسل ...) (2). وتخرج في مدرسة الإمام الباقر عليه السلام نخبة من العلماء الذين سهروا على حفظ ورواية أحاديث أهل البيت عليهم السلام ونشرها بين حفظة العلم، من أمثال أبان بن تغلب بن رَباح، الذي كان من تلامذة علي بن الحسين، وأبي جعفر، وأبي عبداللَّه عليهم السلام، روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقَدَم ... وقال له أبو جعفر عليه السلام:

«اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحِبّ أن يُرى في شيعتي مثلك» ...

وكان أبان إذا قدم المدينة تَقَوّضَتْ إليه الحَلَق، وأُخليت له سارية النبيصلى الله عليه و آله و سلم) (3). واعترف الجمهور باستيعاب تلامذة الإمام الباقر عليه السلام ودقتهم في رواية الحديث الشريف، فقد ورد في (مسند أبي حنيفة قال الراوي: ماسألت جابر الجعفي قطّ مسألة إلّاأتاني فيها بحديث ...) (4). وهكذا كان محمد بن مسلم الثقفي الذي يقول: (ما شجر في رأيي شي ء قط إلّاسألت عنه أبا جعفر عليه السلام، حتى سألته عن ثلاثين ألف حديث، وسألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن ستة عشر ألف


1- 1 محمد باقر المجلسي: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. بيروت: مؤسسة الوفاء، 1403 ه، ج 46:ص 355.
2- 2 المصدر السابق،ص 354- 355.
3- 3 رجال النجاشي.ص 10- 12.
4- 4 بحار الأنوار. ج 46:ص 289.

ص: 140

حديث) (1). وكان بعض الوافدين إلى مدرسة الإمام الباقر عليه السلام من الأمصار يمكثون عدّة سنوات فيها للتزود من معارف أهل البيت عليهم السلام منقطعين عن أوطانهم وأهليهم، كما فعل محمد بن مسلم الذي (أقام بالمدينة أربع سنين يدخل على أبي جعفر عليه السلام يسأله، ثم كان يدخل على جعفر بن محمد عليه السلام يسأله) (2).

وقدم جابر الجعفي إلى المدينة لطلب العلم منه عليه السلام، يقول جابر: (دخلت على أبي جعفر عليه السلام وأنا شاب، فقال من أنت؟ قلت من أهل الكوفة، قال: ممَّن؟

قلتُ: من جعفي، قال: ما أقدمك إلى ههنا؟ قلت: طلب العلم، قال: ممن؟ قلتُ:

منك ...) (3).

ولا يسعنا في هذا المقام أن نتحدث عن جميع منْ تخرج في مدرسة الامام الباقر، والذين تجاوز عدد المعروفين منهم أكثر من (450) أربعمائة وخمسين رجلًا (4).

وبعد وفاة الإمام الباقر خلفه في مدرسته ولده الإمام جعفر بن محمد الصادق، الذي (نَقَلَ الناس عنه من العلوم ماسارت به الرُّكبانُ، وانتشر ذكره في البُلدان، ولم يُنقَل عن أحدٍ من أهل بيته ما نُقِلَ عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونَقَلةِ الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبداللَّه عليه السلام، فان أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل ... وكان عليه وآبائه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديثُ أبي حديث جدِّي، وحديث جدِّي حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وحديث رسول اللَّه قول اللَّه عزَّوجلَّ») (5). واتسع نطاق مدرسته فاستوعبت عدداً غفيراً من طلاب العلم، وامتدت جغرافياً لتتخد من مدينة الكوفة مركزاً لها في ذروة نموها وتطورها. فإن انتقال الإمام وحلوله في أي مكان كان سبباً لأن


1- 1 رجال الكشي.ص 163.
2- 2 المصدر السابق:ص 167.
3- 3 المصدر السابق.ص 192- 193.
4- 4 الشيخ محمد بن الحسن الطوسي. رجال الطوسي. قم: منشورات الرضي،ص 102- 142.
5- 5 الإرشاد في معرفة حجج اللَّه على العباد- المفيد-ص 179، 186.

ص: 141

يقصده أهل العلم ويلتفوا حوله للارتشاف من نمير علمه. وكان البعض يستفيد من وفود الإمام الصادق عليه السلام إلى بيت اللَّه الحرام فيتلقى العلم منه، ويلجأ اليه في دحض شبهات الزنادقة التي بدأت بالظهور في هذا العصر، وبلغت الجرأة بأصحابها أن يذيعوها في المسجد الحرام في موسم الحج، فان (ابن أبي العوجاء، وابن طالوت، وابن الأعمى، وابن المُقَفَّع، في نفرٍ من الزنادقة، كانوا مجتمعين في الموسم بالمسجد الحرام، وابو عبداللَّه جعفر بن محمد عليهما السلام فيه إذ ذاك يفتي الناس، ويُفسِّر لهم القرآن، ويُجيبُ عن المسائل بالحجج والبيِّنات. فقال القوم لابن أبي العوجاء: هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عمّا يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فقد ترى فتنة الناس به، وهو علّامةُ زمانه، فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم، ثم تقدّمَ ففرّقَ بين الناس، وقال: أبا عبداللَّه، إن المجالس أمانات، ولابد لكل من كان به سُعالٌ أن يسعَلَ، فتأذنُ في السُّؤال؟ فقال له أبو عبداللَّه عليه السلام: «سل إن شئتَ».

فقال له ابن أبي العوجاء: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحَجَر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمَدَرِ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر؟! مَنْ فكّر في ذلك وقدّر، عَلِمَ أنه فعلُ غير حكيم ولا ذي نظرٍ، فقُل فإنك رأس هذا الأمر وسنامُه، وأبوك أُسُّه ونظامه. فقال له الصادق عليه وعلى آبائه السلام: «إنّ مَنْ أضله اللَّه وأعمى قلبه استوخَمَ الحق فلم يستعذبه، وصار الشيطان وليَّه وربَّه، يُوردُه مناهل الهلكة، وهذا بيت استعبد اللَّه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثَّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلة للمصلين له، فهو شُعبة من رضوانه، وطريق يؤدي إلى غُفرانه، منصوبٌ على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال، خلقه قبل دَحْوِ الأرض بألفي عام، فأُحقُّ مَنْ أُطيعَ فيما أمرَ وانتُهي عمّا زَجَرَ، اللَّه عزَّ وجلَّ المنشي ءُ للأرواح والصور».

فقال له ابن أبي العوجاء: ذكرت- أبا عبداللَّه- فأحلت على غائب. فقال

ص: 142

الصادق عليه السلام:

«كيف يكون- يا ويلك- عنَّا غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهدٌ، وإليهم أقربُ من حبل الوريد؟! يسمعُ كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشتغل به مكان، ولا يكونُ إلى مكان أقرب من مكان، تشهد له بذلك آثارُه، وتدلُّ عليه أفعاله، والذي بُعث بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمدٌصلى الله عليه و آله و سلم جاءَنا بهذه العبادة، فإن شككت في شي ء من أمره فاسأل عنه أُوضحه لك». قال: فأبلس ابنُ أبي العوجاء، ولم يدر ما يقول، فانصرف من بين يديه، وقال لأصحابه:

سألتكُم أن تلتمسوا لي خُمرةً فألقيتموني على جمرة، قالوا له: اسكتْ، فواللَّه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، ومارأينا أحقر منك اليوم في مجلسه فقال: ألي تقولون هذا؟! إنه ابن مَنْ حلقَ رؤوس مَنْ ترون، وأومأ بيده إلى أهل الموسم) (1).

وعندما نراجع مواقف المعاصرين للإمام جعفر الصادق من الفقهاء، والرواة، والمفسرين، نجدهم يعترفون بأسرهم له بالفضل والمقام العلمي الشامخ، ويشهد الخصم منهم فضلًا عن سواه بمرجعيته العلمية، وحاجة الجميع اليه واستغنائه عن الجميع، يقول النوفلي: (سمعتُ مالك بن أنس الفقيه يقول: واللَّه ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد عليه السلام زُهداً، وفضلًا، وعبادة، وورعاً، وكُنتُ أقصده فيكرمني، ويُقبل عليّ، فقلتُ له يوماً: يا ابن رسول اللَّه ما ثواب مَنْصام يوماً من رجب إيماناً واحتساباً؟ فقال:- وكان واللَّه إذا قالصدق- حدثني أبي عن أبيه عن جدِّه، قال: قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: مَنْصامَ من رجب يوماً ايماناً واحتساباً غفر له، فقلت له: يا ابن رسول اللَّه فما ثواب مَنْصام يوماً من شعبان؟

فقال: حدثني أبي عن أبيه عن جدِّه، قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: مَنْصام يوماً من شعبان إيماناً واحتساباً غُفِر لهُ) (2).


1- 1 المصدر السابق.ص 199- 201.
2- 2 بحار الأنوار. ج 47:ص 20. عن: أمالي الصدوق.ص 542.

ص: 143

وبمثل هذا يشهد الفقيه المعروف أبو حنيفة، كما في (مسند أبي حنيفة، قال الحسن بن زياد: سمعتُ أبا حنيفة وقد سُئِل مَنْ أفقه من رأيت؟ قال: جعفر بن محمد. لما أقدمه المنصور بعث إليّ، فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد فهيّى ء له من مسائلك الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة، فأتيته، فدخلتُ عليه، وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به، دخلني من الهيبة لجعفر مالم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمتُ عليه، فأومأ إليّ فجلستُ، ثم التفتَ اليه، فقال: يا أبا عبداللَّه هذا أبو حنيفة، قال: نعم أعرفه، ثم التفتَ إليّ، فقال: يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبداللَّه من مسائلك، فجعلتُ أُلقي عليه فيجيبني، فيقول: أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشي ء. ثم قال أبو حنيفة: أليس أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) (1).

وقد أمضى الامام جعفر الصادق عليه السلام جُلَّ حياته في المدينة المنورة منصرفاً لإحياء السنة الشريفة ونشر معارف الوحي، كتب الشهرستاني يصف الإمام الصادق عليه السلام (وهو ذوعلم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة، يفيد الشيعة المنتمين اليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق، وأقام بها مدة) (2).

واشتهر مجلسه في المدينة؛ لأنه (كان يجلس للعامة والخاصة، ويأتيه الناس من الأقطار، يسألونه عن الحلال والحرام، وعن تأويل القرآن، وفصل الخطاب، فلا يخرج أحد منهم إلّاراضياً بالجواب) (3). واستقطب مجلسه القادمين إلى المدينة، فكان أهل العلم لا يتركون الورود عليه عندما يأتونها، فقد دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبداللَّه بن مسلم، فقال له: (يا أبا حنيفة، إن ههنا جعفر بن


1- 1 ابن شهراشوب. مناقب آل أبي طالب. تصحيح: هاشم الرسولي المحلاتي. قم: انتشارات علامه، ج 4:ص 255.
2- 2 الشهرستاني. كتاب الملل والنحل. تخريج: محمد بن فتح اللَّه بدران. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ج 1:ص 147.
3- 3 المسعودي، علي بن الحسين. اثبات الوصية. بيروت: دار الأضواء، 1409 ه،ص 196.

ص: 144

محمد، من علماء آل محمد، فاذهب بنا إليه، نقتبس منه علماً، فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه ...) (1) ولم ينقطع توافد أصحابه عليه على مدار السنة، وكان يزدحم وفدهم وقت الحج، فمثلًا عُرِف عن زرارة بن أعين واخوانه مجيؤهم اليه من الكوفة باستمرار، حتى (قال ربيعة الرأي لأبي عبداللَّه عليه السلام: ما هؤلاء الأخوة الذين يأتونك من العراق، ولم أرَ في أصحابك خيراً منهم ولا أهيأ؟ قال: أولئك أصحاب أبي، يعني ولد أعين) (2).

وهكذا (عمر بن محمد بن يزيد أبو الأسود بياع السابري ... أحد مَنْ كان يفد في كلّ سنة) (3)، إلى أبي عبداللَّه عليه السلام من الكوفة للارتشاف من معارف الوحي لديه.

وهاجر آخرون من أصحابه إلى المدينة عازفاً عن وطنه ملتحقاً به عليه السلام، مثلما فعل حماد بن عيسى الجهني البصري، الذي (لحق بأبي عبداللَّه عليه السلام، ومات بوادي قناة بالمدينة ... سنة تسع ومائتين) (4).

وقد أسهم تزايد وفود أصحاب الصادق عليه السلام إلى المدينة في تنامي الحركة العلمية فيها، وازدهار حلقات الدراسة والمناظرة في أروقة مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، يقول أبو خالد الكابلي: (رأيت أبا جعفرصاحب الطاق، وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة أزراره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه، فقلت: إن أبا عبداللَّه ينهانا عن الكلام، فقال: أمرَكَ أن تقول لي؟

فقلت: لا واللَّه، ولكن أمرني أن لا أكلم أحداً، قال: فاذهب فأطعه فيما أمرك، فدخلت على أبي عبداللَّه عليه السلام، فأخبرته بقصةصاحب الطاق، وماقلتُ له، وقوله لي اذهب وأطعه فيما أمرك، فتبسم أبو عبداللَّه عليه السلام، وقال: يا أبا خالد، إنصاحب الطاق يكلِّم الناس فيطير وينقضّ، وأنت إن قصوك لن تطير) (5). وما كان لهذه الحركة العلمية أن تأخذ بالاتساع لو لم يكن الإمام مرشداً وهادياً لها، فقد كان أبو عبداللَّه عليه السلام، يقول لعبد الرحمن بن الحجاج: (يا عبد الرحمن كلِّم أهل المدينة،


1- 1 الطبرسي. الاحتجاج.ص 210.
2- 2 رجال الكشي.ص 161.
3- 3 العلامة الحلي. رجال العلامة الحلي. تحقيق السيد محمدصادق بحر العلوم. النجف: المطبعة الحيدرية، 1961 م،ص 119.
4- 4 الشيخ المفيد. الاختصاص.ص 205.
5- 5 رجال الكشي.ص 185- 186.

ص: 145

فإنني أُحب أن يُرى في رجال الشيعة مثلك) (1).

وكان الامام جعفر الصادق عليه السلام يغمر تلامذته يفيض من العطف والرعاية والمودة، ويتكفل شيئاً من نفقتهم، ويقوم بضيافتهم في منزله إذا وردوا المدينة، يقول زيد الشحّام: (رآني أبو عبداللَّه عليه السلام وأنا أصلي، فأرسل اليَّ ودعاني، فقالَ لي: من أين أنت؟ قلتُ: من مواليك، قالَ: فأيّ مواليَّ؟ قلتُ: من الكوفة، فقالَ:

مَنْ تعرف من الكوفَة؟ قلتُ: بشير النبّال وشجرة، قالَ: وكيفصنيعتهما اليك؟

فقال: ما أحسنصنيعتهما إليّ! قال: خير المسلمين مَنْ وصلَ وأعانَ ونفعَ، مابتُّ ليلة قط وللَّه في مالي حقّ يسألنيه، ثم قالَ: أي شي ء معكم من النفقة؟ قلتُ:

عندي مائتا درهم، قال: أرنيها، فأتيته بها فزادني فيها ثلاثين درهماً ودينارين، ثم قالَ: تعشَّ عندي، فجئت فتعشّيت عنده، قال: فلما كان من القابلة لم أذهب اليه، فأرسل إليّ فدعاني من عنده (من غده)، فقال: مالك لم تأتني البارحة، قد شفقت عليّ؟ فقلتُ: لم يجئني رسولك، قال: فأنا رسول نفسي إليك مادمت مقيماً في هذه البلدة، أي شي ء تشتهي من الطعام؟ قلتُ: اللبن، قال: فاشترى من أجلي شاة لبوناً ...) (2). ويتكرر هذا الموقف مع آخرين من أصحابه جاءوا المدينة، فعن مفضل بن قيس بن رمّانة، الذي قال: (دخلت على أبي عبداللَّه عليه السلام، فشكوتُ اليه بعض حالي، وسألته الدعاء ... فقال: هذا كيس فيه أربعمائة دينار، فاستعن به، قالَ: قلتُ: لا واللَّه، جُعِلتُ فداك ما أردتُ هذا، ولكن أردت الدعاء لي ...) (3). وفي حالات أخرى يبادر مَن يدخل عليه فيكرمه، كما يقول جابر المكفوف: (دخلت عليه، فقال: أما يصلونك؟ قلتُ: بلى، ربما فعلوا، قال: فوصلني بثلاثين ديناراً ...) (4). بهذا الأسلوب يتفقد أبو عبداللَّه عليه السلام تلامذته، ويتولى تأمين نفقاتهم، ويقيهم الحاجة إلى غيره، وهو أسلوب ينبئنا عن كيفية تمويل التعليم وتأمين نفقات المتعلم وقتئذ.


1- 1 المصدر السابق.ص 242.
2- 2 رجال الكشي.ص 369.
3- 3 رجال الكشيص 184.
4- 4 المصدر السابق.ص 335.

ص: 146

وطالما حثَّ الامام عليه السلام أتباعه على طلب العلم، ولا سيما الشباب منهم، وتمنى لهم أن ينخرطوا في سلك العلماء والمتعلمين، روى (أبو قتادة عن أبي عبداللَّه عليه السلام، أنه قال: لستُ أُحبّ أن أرى الشاب منكم إلّاغادياً في حالين: أما عالماً أو متعلِّماً، فإن لم يفعل فرّط، فإن فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار، والذي بعث محمداًصلى الله عليه و آله و سلم بالحقّ) (1).

وأفصح الصادق عليه السلام عن معيار يحدد في ضوئه منزلة كلّ واحد من شيعته، فيما رواه عن أبيه الباقر عليه السلام حين قال له: (يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرِّواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الايمان، إني نظرت في كتاب لعليّ فوجدتُ في الكتاب:

أن قيمة كلّ أمرء وقدره معرفته، إن اللَّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا) (2).

مدرسة المدينة بعد الامام الصادق عليه السلام:

لم يدم عصر الازدهار الذي عاشته مدرسة المدينة بعد وفاة الإمام الصادق عليه السلام إثر ازدياد الاضطهاد، الذي كان يتعرض له تلامذة الأئمة في العصر العباسي، وقسوة الأحوال الأمنية التي عاشوها، وانتهت بإمامهم موسى الكاظم عليه السلام إلى السجن، ثم القتل بالسم. وهيمنت حالة من الخوف والذعر على الشيعة بالمدينة، أدت إلى حرصهم على التكتم، واحاطة نشاطهم بالسرية، يقول هشام بن سالم: (كنا بالمدينة بعد وفاة أبي عبداللَّه عليه السلام، أنا، ومؤمن الطاق، وأبو جعفر، ... فنحن كذلك إذ رأيت رجلًا شيخاً لا أعرفه يومي إليّ بيده، فخفت أن يكون من عيون أبي جعفر، وذلك أنه كان له بالمدينة جواسيس ينظرون على أن من اتفق من شيعة جعفر فيضربون عنقه، فخفت أن يكون منهم، فقلت لأبي


1- 1 الشيخ الطوسي. الأمالي. تحقيق: مؤسسة البعثة. قم: دار الثقافة للطباعة والنشر، 1414 ه،ص 303.
2- 2 الشيخ الصدوق. معاني الأخبار. تصحيح: علي أكبر الغفاري. قم: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1361 ش،ص 1- 2.

ص: 147

جعفر: تنحَّ فإني خائف على نفسي وعليك، وإنما يريدني ليس يريدك، فتنحَّ عني لا تهلك وتعين على نفسك، فتنحّى غير بعيد. وتبعت الشيخ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على التخلّص منه، فمازلت أتبعه حتى وردني على باب أبي الحسن موسى عليه السلام، ثم خلّاني ومضى، فإذا خادم بالباب، فقال لي: أدخل رحمك اللَّه، قال:

فدخلت فإذا أبو الحسن عليه السلام، .. قلت: جُعلتُ فداك، أسألك عما كان يسأل أبوك؟

قال: سل تُخبَر ولا تُذِع، فإن أذعت فهو الذبح، قال: فسألته فإذا هو بحر. قال:

قلت: جُعلت فداك شيعتك وشيعة أبيك ضلّال فألقي إليهم، وادعوهم إليك فقد أخذت عليّ بالكتمان؟ قال: مَنْ آنست منهم رُشداً فألق إليهم، وخذ عليهم بالكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح، وأشار بيده إلى حلقه ...) (1).

إن هذه الظروف حالت بين الإمام الكاظم عليه السلام واتصال أصحابه به بنحو طبيعي، ذلك أن غياب الحرية ينتج ضمور الحركة العلمية وتراجعها، ومع ذلك فإن الإمام عليه السلام لم يتخلَّ عن مهمة بثّ معارف الوحي ونشرها بين خاصة أصحابه، كما حرص تلامذته على الإفادة من أية فرصة تتاح لهم بلقائه، وتسجيل كلّ شي ء يتفوّه به، روى أبو الوضاح أن أباه قال: (كان جماعة من خاصة أبي الحسن عليه السلام من أهل البيت، والشيعة، يحضرون، ومعهم في أكمامهم ألواح أبنوس لطاف، وأميال، فإذا نطق أبو الحسن بكلمة أوأفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك) (2).

وأصر الشيعة على مواصلة الاتصال بأبي الحسن موسى الكاظم عليه السلام وهو في سجنه ببغداد، عبر مراسلات كانت تجري بطريقة سرية، ولم تمنعه الرقابة المشددة في السجن، وقسوة الأحوال التي كان يعيشها فيه من بيان معارف الوحي على خاصته، يقول علي بن سويد السائي: (كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام وهو في الحبس، أسأله عن حاله، وعن جواب مسائل كتبت بها إليه، فكتب إلي:


1- 1 السيد أبو القاسم الخوئي. معجم رجال الحديث. د. م: ط 5، 1413 ه، ج 20:ص 326- 327.
2- 2 بحار الأنوار. ج 12:ص 278. طبعة الكسباني.

ص: 148

بسم اللَّه الرحمن الرحيم ...) (1).

وربما بادر في بعض المرات فبعث هو رسائل من سجنه إلى شيعته لتجلية وتوضيح أمور معينة؛ لئلا يلتبس الموقف فيها عليهم، يقول الحسين بن المختار:

(خرجت إلينا ألواح من أبي إبراهيم موسى عليه السلام، وهو في الحبس، فإذا فيها مكتوب: عهدي إلى أكبر ولدي) (2). بيد أن ماتعرض له الإمام موسى بن جعفر عليه السلام من رقابه مشددة، آلت في خاتمة المطاف إلى الحبس ثم الشهادة، لم تحجبه عن طلاب العلم وتمنعهم من التلّمُذ على يديه، أحصى منهم الشيخ الطوسي في رجاله ما يربو على مائتين وخمسين (3). ومع أن هذا العدد من التلاميذ يعدّ قليلًا بالمقارنة مع عدد تلامذة أبيه جعفر الصادق عليه السلام، الذي قُدِّر بأربعة آلاف، لكن هذا العدد يعتبر كبيراً بالنسبة إلى طبيعة الظروف السياسية، التي عاشها الإمام وأصحابه في ظل الحكم العباسي.

وبالرغم من أن هذه الظروف أعاقت الإمام الكاظم عليه السلام عن التصدي للتدريس وادارة الحلقات العلمية في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، مثلما كان يفعل سلفه، إلّاأنه عمد لتبني أساليب أخرى لاتثير حفيظة عيون السلطة، في تربية وتعليم تلامذته، ويمكن التعرف على شي ء من ذلك في العدد الوفير من الصحف والنسخ الحديثية التي دونها هؤلاء التلاميذ عنه، فقد ذكر النجاشي طائفة من أسمائهم مع بيان لأسماء كتبهم التي تلقوها من الإمام الكاظم عليه السلام، ومن هؤلاء:

محمد بن تميم النَهشلي التميمي البصري (4)، ومحمد بنصدقة العنبري البصري (5)، وعلي بن عبيد اللَّه بن حسين (6)، والحسن ابن علي بن يقطين (7)، وأخو الإمام الكاظم علي بن جعفر (8)، ومحمد بن الفرج الرُخَّجِيّ (9)، وعبداللَّه ابن محمد الأهوازي (10)، وعلي بن يقطين (11)، وموسى بن إبراهيم المروزي (12)، وعلي بن حمزة بن الحسن (13)، ومحمد بن زُرْقان (14)، ومحمد بن ثابت (15)،


1- 1 رجال الكشي.ص 454.
2- 2 الشيخ الصدوق. عيون أخبار الرضا. تصحيح: السيد مهدي الحسيني اللاجوردي. قم: 1363 ش،ص 30.
3- 3 رجال الطوسي.ص 342- 366.
4- 4 رجال النجاشي.ص 365.
5- 5 المصدر السابق.ص 364.
6- 6 المصدر السابق.ص 256.
7- 7 المصدر السابق.ص 45.
8- 8 المصدر السابق.ص 252.
9- 9 المصدر السابق.ص 371.
10- 10 المصدر السابق.ص 227.
11- 11 المصدر السابق.ص 273.
12- 12 المصدر السابق.ص 408.
13- 13 المصدر السابق.ص 272- 273.
14- 14 المصدر السابق.ص 370.
15- 15 المصدر السابق.ص 369.

ص: 149

ومحمد بن فُضيل بن كثير الصيرفي الأزدي (1). وذكر الشيخ الطوسي في الفهرست «مسائل» ليونس بن عبد الرحمن (2)، ولصفوان بن يحيى (3)، روياها عن موسى بن جعفر عليه السلام.

ولم يقفل مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحقبة أبوابه تماماً عن حلقات الدراسة، ومجالس العلم الشيعية، وإنما كان ينتخب موسى بن جعفر عليه السلام بعض أصحابه، ممن يتوفر على مزايا علمية متميزة، فيوجهه لعقد مجلس علم في المسجد؛ لئلا يغيبصوت الهدى عن هذا المكان الشريف، يقول حماد: (كان أبو الحسن عليه السلام يأمر محمد بن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وأن يكلّمهم ويخاصمهم، حتى كلمهم فيصاحب القبر، فكان إذا انصرف إليه، قال له: ما قلتَ لهم؟ وما قالوا لكَ؟ ويرضى بذلك منه) (4).

على أن قلة ظهور موسى بن جعفر عليه السلام وتكتمه على بعض نشاطه العلمي، لم يخف حقيقته عن المسلمين، فقد أستأثر بمقام المرجعية العلمية خلفاً لسلفه من آبائه الأئمة عليه السلام، واعترف له بذلك قطّاع كبير ممن عاصره أوجاء بعده، فمثلًا (كان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت عليهم السلام، لما روي عنه، قال: حدثني موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال:

حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: قال: رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ثم قال أحمد: وهذا إسناد لو قُري على مجنون لأفاق) (5). بل أن هارون الرشيد الذي حبس موسى بن جعفر عليه السلام فيما بعد، يعترف بمقامه العلمي لما دخل عليه الإمام في المدينة، فبالغ الرشيد في احترامه، سأله ولده المأمون عن دوافع هذا الاحترام بدهشة! (لقد رأيتك عملتَ بهذا الرجل شيئاً ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين، والأنصار، ولا بني هاشم، فمَن هذا الرجل؟ فقال: يابني هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر


1- 1 المصدر السابق.ص 367.
2- 2 الشيخ الطوسي. الفهرست.ص 181.
3- 3 المصدر السابق.ص 83.
4- 4 رجال الكشي.ص 449.
5- 5 ابن شهر اشوب. مناقب آل أبي طالب. ج 4:ص 316- 317.

ص: 150

بن محمد عليهم السلام، إن أردت العلم الصحيح فعند هذا. قال المأمون: فحينئذ انغرس في قلبي محبتهم) (1).

وبعد وفاة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام تصدّى لرعاية مدرسة المدينة ولده الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، الذي نهج منهج سلفه في إشاعة معارف الوحي لتلامذته الخاصين، حذراً من محاولات السلطة العباسية التي اغتالت والده، وكثّفت جهودها لإجهاض مدرسته، ولذلك لم تعد حلقات مدرسة أهل البيت عليهم السلام في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم في هذه الحقبة إلى عصر ازدهارها السابق في أيام جعفر الصادق عليه السلام وأبيه محمد الباقر عليه السلام فقدصوّر أحد تلامذة الإمام الرضا عليه السلام حالة الخوف التي كانوا يعيشونها عقيب وفاة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، بقوله: (لما مضى أبو الحسن موسى عليه السلام، وتكلَّم الرضا خفنا عليه من ذلك، وقلنا له: إنك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية، فقال:

ليجهد جهده، ولا سبيل له عليّ. قالصفوان: فأخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد، قال للطاغي: هذا عليّ ابنه قد قعد وادّعى الأمر لنفسه، فقال: ما يكفينا ماصنعنا بأبيه، تريد أن نقتلهم جميعاً) (2) من هنا اضطر علي بن موسى عليه السلام لاقتفاء أثر أبيه في التكتم على المهم من حركته العلمية في زمن هارون الرشيد، لكن هلاك الرشيد وجلوس المأمون الذي أظهر الولاء لأهل البيت على منصة الخلافة، أشاع مناخاً مناسباً من الحرية للإمام الرضا عليه السلام وتلامذته، وأتاح لهم ممارسة حياتهم الفكرية من دون خشية السلطان، وبرز الدور العلمي للإمام بالتدريج، بحيث أضحى مقامه العلمي في المدينة، هو المرجع الذي يتلقى جميع أهل العلم منه، ويرجع إليه طلاب العلم دون غيره من علماء التابعين، الذين كان عددهم وفيراً في المدينة أنذاك، كما ينقل أبو الصلت الهروي: (ولقد سمعتُ عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام، يقول: كنتُ أجلسُ في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيى


1- 1 الصدوق. عيون أخبار الرضا. ج 1:ص 93.
2- 2 الطبرسي. إعلام الورى بأعلام الهدى. تصحيح: علي أكبر الغفاري: بيروت: دار المعرفة، 1979،ص 313.

ص: 151

الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل، فأجبتُ عنها) (1). وقد أذعن علماء الأديان له، واعترفوا بتفوقه العلمي، بعد أن فنّدَ مقولاتهم، ونقض حججهم، وتغلب عليهم في مناظراته معهم، فقد ذكر الهروي أنه لم يرَ (أعلم من علي بن موسى الرضا عليهما السلام، ولارآه عالم إلّاشهدَ له بمثل شهادته، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد علماء الأديان، وفقهاء الشريعة، والمتكلمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى مابقي أحد منهم إلّاأقرّ له بالفضل، وأقر على نفسه بالقصور ...) (2).

وأكّدَ إبراهيم بن العبّاس تفوق علي بن موسى الرضا عليه السلام العلمي على كافة علماء عصره، بقوله: (... وما رأيته نقل إلّاعلمه، ولا رأيت أعلم منه، بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شي ء فيجيب عنه، وكان كلامه كلّه، وجوابه، وتمثّله، انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاث، ويقول: لو أني أردت أختمه في أقرب من ثلاث لختمت، ولكني ما مررت بآية قط إلّافكرتُ فيها، وفي أي شي ء أُنزلت، وفي أي وقت، فلذلكصرتُ أختمه في كلّ ثلاث) (3).

لقد ازدلف طلاب العلم من شتى الأمصار ينهلون من معارف الوحي عند علي بن موسى الرضا عليه السلام، وصار العلماء يقتفون أثره للتزود منه أينما حلَّ، كما (حدث أبو الصلت، قال: كنت مع علي ابن موسى الرضا عليه السلام، وقد دخل نيسابور، وهو راكب بغلة شهباء، فغدا في طلبه علماء البلد: أحمد بن حرب، وياسين بن النضر، ويحيى بن يحيى، وعدة من أهل العلم، فتعلقوا بلجامه في المربعة، فقالوا:

بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك، قال: حدثني أبي العدل الصالح موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي الصادق جعفر بن محمد، قال: حدثني أبي باقر علم الأنبياء محمد بن علي، قال: حدثني أبي سيد العابدين علي بن


1- 1 المصدر السابق.ص 315.
2- 2 المصدر السابق.ص 315.
3- 3 المصدر السابق.ص 314.

ص: 152

الحسين، قال: حدثني أبي سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي، قال: سمعت أبي سيد العرب علي بن أبي طالب، قال: سمعت رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. قال: وقال: أحمد بن جنبل: لو قرأت هذا الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه) (1). وروى أبو الصلت هذا الحديث في مجلس طاهر بن عبداللَّه بن طاهر بخراسان، (وفي مجلسه يومئذ إسحاق بن راهويه ... وجماعة من الفقهاء وأصحاب الحديث ... فخرس أهل المجلس كلّهم، ونهض أبو الصلت، فنهض معه إسحاق بن راهويه والفقهاء، فأقبل إسحاق بن راهويه على أبي الصلت، وقال له ..: يا أبا الصلت، أي إسناد هذا؟ فقال: يا بن راهويه، هذا سعوط المجانين، هذا عطر الرجال ذوي الألباب) (2).

لقد منحت الحرية النسبية في عصر المأمون الإمام الرضا عليه السلام فرصة ثمينة لنشر السُّنة الشريفة بين رواة الحديث، ولذلك كان يحثّ أصحابه باستمرار على تعلم معارف أهل البيت عليهم السلام، واذاعنها ونشرها بين الناس، كيما يتعرف الناس على معالم مدرسة الوحي عبر قنواتها الأصيلة. يقول الهروي: (سمعتُ أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: رحم اللَّه عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا، ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا ...) (3) ووردت اشارات يستفاد منها أن الإمام الرضا عليه السلام كان يطلب من بعض تلامذته التصدي لمهمة التعليم في مواطنهم، وكان يحيل إليهم أصحابه من مواطنيهم، فقد ذكر عبد العزيز بن المهتدي، الذي كان من خاصة أصحاب الإمام عليه السلام أنه سأله قائلًا: (إني لا ألقاك في كلّ وقت، فعمَّن آخذ معالم ديني؟ قال:

خُذّ من يونس بن عبدالرحمن) (4). وقال ابن المسيب الهمداني: (قلت للرضا عليه السلام شقتي بعيدة، ولستُ أصل اليك في كلّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟

قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا) (5). إن توجيه الإمام


1- 1 الأربلي. كشف الغمة. ج 3:ص 97.
2- 2 الشيخ الطوسي. الأمالي.ص 449.
3- 3 الشيخ الصدوق. عيون أخبار الرضا .. ج 1:ص 7. 3.
4- 4 رجال الكشي.ص 483.
5- 5 رجال العلامة الحلي.ص 75.

ص: 153

الرضا عليه السلام أصحابه لتعلم معالم دينهم من يونس بن عبد الرحمن، وزكريا بن آدم، يدلل على اهتمام الإمام عليه السلام بتنمية النبتة الفتية للحركة العلمية في الأمصار الشيعية، التي غُرست بذرتها من قبل آبائه الطاهرين عليهم السلام وتلامذتهم المخلصين.

وتجدر الاشارة إلى أن العصر الذي عاش فيه الإمام الرضا عليه السلام اتسم بازدهار الحياة العقلية وتأسيس مراكز علمية هامة لدى المسلمين، التي كان من أبرزها بيت الحكمة في بغداد، الذي باشر فيه جملة من المترجمين نقل العلوم اليونانية وغيرها من علوم الأوائل إلى العربية. وقد رافق هذه الحركة ولادة وانبعاث مجموعة تيارات فكرية، كانت تموج بها الحياة العقلية وقتئذ، وولدت في هذا الفضاء الثقافي أسئلة متنوعة، حار أهل العلم في تقديم إجابات شافية عنها، فتكفل علي بن موسى الرضا عليه السلام بيان إجابات دقيقة عن تلك الأسئلة الحائرة، فقد ذكر محمد بن عيسى اليقطيني في تقدير عدد الأسئلة، أنه: (لما اختلف الناس في أمر أبي الحسن الرضا عليه السلام، جمعت من مسائله، مما سُئل عنه وأجاب عنه، خمس عشرة ألف مسألة) (1). وهو عدد كبير، ولاسيما إذا لاحظنا طبيعة العصر آنذاك وبدائية وسائل الاتصال فيه. بيد أن هذا العدد من المسائل يكشف عن مدى نمو الحياة العقلية في ذلك العصر، والموقع الذي كان يحتله الإمام في توجيهها.

وبعد وفاة علي بن موسى الرضا عليه السلام ورثه في الإشراف على مدرسة المدينة ولده أبو جعفر محمد الجواد عليه السلام، الذي نصّ عليه بقوله: (... هذا أبو جعفر، قد أجلسته مجلسي، وصيّرته مكاني، وقال: إنّا أهل بيتٍ يتوارث أصاغِرُنا عن أكابرنا القُذَّةُ بالقُذَّةِ) (2). وقد تصدى أبو جعفر عليه السلام للمهام، التي كان يضطلع بها أبوه من قبل في سن مبكرة، وبرهن للعامة والخاصة تقدمه على سواه، وحمله لمواريث النبوة، فكان إذا دخل مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم هرع اليه أهل العلم


1- 1 الشيخ الطوسي كتاب الغيبة. تحقيق: الشيخ عباد اللَّه الطهراني، والشيخ علي أحمد ناصح. قم: مؤسسةالمعارف الإسلامية، 1411 ه،ص 73.
2- 2 الشيخ المفيد. الإرشاد. ج 2:ص 276.

ص: 154

للإفادة منه، وتؤكد بعض المواقف أنّ التبجيل والاحترام اللذين يعامله بهما هؤلاء يعبران عن اعترافهم بفضله وتقدمه على غيره، ويتجلّى هذا بوضوح في الموقف الذي نقله (محمد بن الحسن بن عمار، قال: كنت عند علي بن جعفر بن محمد جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنين أكتب عنه مايسمع من أخيه- يعني أبا الحسن عليه السلام- إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا المسجد- مسجد الرسولصلى الله عليه و آله و سلم- فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولارداء، فقبّلَ يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر عليه السلام: يا عم أجلس رحمك اللَّه، فقال: ياسيدي كيف أجلس وأنت قائم، فلما رجع علي بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبخونه ويقولون: أنت عم أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟ فقال: اسكتوا، إذا كان اللَّه عزّ وجل- وقبض على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة، وأهّلَ هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، أُنكر فضله؟! نعوذ باللَّه مما تقولون، بل أنا له عبد) (1). مع العلم أن علي بن جعفر كان من العلماء المعروفين في مدرسة أهل البيت عليهم السلام في ذلك الوقت، حتى أن بعض التلامذة كان يبقى عدة سنوات متلمذاً عليه، وهو في هذا المقام العلمي الشامخ نراه يبالغ في تعظيم الإمام الجواد عليه السلام، وهذا يكشف عن الإذعان لمرجعيته العلمية لمدرسة المدينة، والاعتراف بتفوقه على مَنْ عاصره من أهل العلم. وقد تجاوزت شهرة الإمام عليه السلام حدود المدينة، فعرفه أهل العلم في بقية الأمصار، خاصة في عاصمة الخلافة يومئذ بغداد، (وكان المأمون قد شُغِفَ بأبي جعفر عليه السلام، لمّا رأى من فضله معصغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة، والأدب، وكمال العقل، مالم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، فزوجه ابنته أم الفضل، وحملها معه إلى المدينة، وكان متوفراً على إكرامه، وتعظيمه، وإجلال قدره) (2). وكان المأمون قد واجه معارضة شديدة من البيت العباسي لما قرر تزويج ابنته لأبي جعفر الجواد عليه السلام، فاضطر أن يُفصِح لهم عن الأسباب التي دعته للإقدام على ذلك،


1- 1 أصول الكافي. ج 1:ص 322.
2- 2 الشيخ المفيد. الإرشاد. ج 2:ص 281.

ص: 155

بقوله: (وأما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل معصغر سنِّه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ماقد عرفته منه فيعلموا أن الرأي ما رأيتُ فيه) (1). إلّاأن المعترضين لم يقبلوا ما قاله المأمون، (فقالوا: إن هذا الصبي وإن راقك منه هدْيُه، فإنهصبيٌ لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب، ويتفقه في الدين، ثم اصنع ماتراه بعد ذلك .. فقال لهم:

... فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر، بما يتبين لكم به ما وصفتُ من حاله). فاتفقوا مع المأمون على انتداب قاضي القضاة يحيى بن أكثم لامتحانه، وكان أبو جعفر يومئذ ابن تسع سنين وأشهر، فعُقِدَ مجلس بحضور المأمون، والمعترضين، وبدأت المناظرة بسؤال وجهه يحيى بن أكثم لأبي جعفر عليه السلام، بالصيغة التالية: (ما تقول- جُعِلتُ فداك- في مُحرِم قَتَلَصيداً؟ فقال له أبو جعفر: قَتَلهُ في حلٍّ أو حَرَم؟

عالماً كان الُمحرِم أم جاهلًا؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حُراً كان الُمحرِم أم عبداً؟صغيراً كان أم كبيراً؟ مُبتدِئاً بالقتل أم مُعيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟

منصغار الصيد كان أم من كبارها؟ مُصرّاً على ما فعلَ أو نادماً؟ في الليل كان قتلهُ للصيد أم نهاراً؟ مُحرِماً كان بالعُمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان مُحرماً؟ فتحيَّرَ يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاعُ، ولَجلَجَ حتى عَرَفَ جماعةٌ أهل المجلس أمره، فقال المأمون: الحمد للَّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته، وقال لهم:

أعرفتم الآن ما كنتم تُنكِرُونه؟ ...) ثم أجاب أبو جعفر عليه السلام على هذه الفروع بالتفصيل، وعاد فسأل يحيى بن أكثم بمسألة أخرى، فلم يحر ابن أكثم جواباً، فأجاب عليها الإمام عليه السلام مثلما فعل في سابقتها (فأقبلَ المأمون على مَنْ حضره من أهل بيته، فقال لهم: هل فيكم أحدٌ يجيبُ عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدَّم من السؤال؟! قالوا: لا واللَّه، إن أمير المؤمنين أعلَمُ


1- 1 المصدر السابق. ج 2:ص 282.

ص: 156

وما رأى.

فقال لهم: ويحكم، إن أهلَ هذا البيت خُصُّوا من الخلق بماترون من الفضل، وإنَّصِغَر السنِّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام، وحَكَمَ له به، ولم يدعُ أحداً في سنِّه غيره. وبايَعَ الحسن والحسين عليهما السلام، وهما ابنا دون الست سنين، ولم يبايعصبياً غيرهما؟ أفلا تعلمون الآن ما اختص اللَّه به هؤلاء القوم، وأنَّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوَّلهم؟! قالوا:صدقت يا أمير المؤمنين، ثم نهض القوم) (1).

ومكث أبو جعفر مضطلعاً بالمرجعية العلمية في المدينة طيلة حياته، (فلم يزل بها حتى أشخصه المعتصم في أول سنة عشرين ومائتين إلى بغداد، فأقام بها إلى أن توفي في آخر ذي القعدة من هذه السنة) (2). وكان مقامه في المدينة محط أنظار الفقهاء والمحدثين، فقد استقطب القادمين إلى الحج منهم، وكانوا بعد إنصرافهم يردون المدينة للقاء أبي جعفر الجواد عليه السلام والتزود من علومه، والوقوف على الإجابات الصحيحة للأسئلة والإشكالات المختلفة، التي كانت تتوالد كلّ يوم، مع اتساع معرفة المسلمين بالثقافات المترجمة من اليونانية والسريانية وغيرها. ففي أحد السنوات (وكان وقت الموسم، فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلًا، فخرجوا إلى الحج، وقصدوا المدينة؛ ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام لأنها كانت فارغة، ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج اليهم عبداللَّه بن موسى، فجلس فيصدر المجلس، وقام مناد، وقال: هذا ابن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فمن أراد السؤال فليسأله، فسُئِل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا


1- 1 المصدر السابق.ص 283- 287.
2- 2 المصدر السابق.ص 289.

ص: 157

في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل لما كان من عبداللَّه ما كان، ومن الجواب بغير الجواب. ففُتِحَ عليهم باب منصدر المجلس، ودخل موفَّق وقال: هذا أبو جعفر، فقاموا إليه بأجمعهم، واستقبلوه، وسلموا عليه، فدخلصلوات اللَّه عليه، وعليه قميصان، وعمامة بذوابتين، وفي رجليه نعلان، وجلس، وأمسك الناس كلهم، فقامصاحب المسألة فسأله عن مسائله، فأجاب عنها بالحق، ففرحوا، ودعوا له، وأثنوا عليه، وقالوا له: إنّ عمَّك عبداللَّه أفتى بكيت وكيت، فقال: لا إله إلّااللَّه، ياعمّ إنّه عظيم عند اللَّه أن تقف غداً بين يديه، فيقول لك: لِمَ تُفتي عبادي بما لم تعلم، وفي الأُمة مَنْ هو أعلم منك؟) (1).

وخلَّفَ الإمام أبو جعفر الجواد عليه السلام بعد وفاته ولَده الإمام أبا الحسن علي الهادي عليه السلام، الذي شغل مقام أبيه في رعاية مدرسة المدينة، فقد مكث الإمام الهادي عليه السلام في المدينة نحو ثلاث وعشرين سنة بعد وفاة أبيه، ثم أشخصه المتوكل العباسي إلى العراق، (وكان مقامه بسُرّ مَنْ رأى إلى أن قُبِض عشر سنين وأشهراً) (2). وكان أبو الحسن عليه السلام يتولى رعاية تلامذته، ويشرف على أنشطتهم، ويتابع أعمالهم، ويراقب سلوكهم وهو في المدينة، عبر مكاتباته معهم، هذه المكاتبات التي تضمنت حلولًا لمشكلات عقائدية وفكرية كان يتعرض لها أتباع الإمام عليه السلام المنتشرون في شتى الأصقاع، ولعلّ من أبرز هذه المكاتبات رسالته عليه السلام في الرد على أهل الجبر والتفويض، وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين، والتي جاء فيها: (من علي بن محمد، سلام عليكم، وعلى مَنْ اتبع الهُدى، ورحمة اللَّه وبركاته، فإنه ورد عليّ كتابكم، وفهمت ما ذكرتُم من اختلافكم في دينكم، وخوضكم في القَدَر، ومقالة مَنْ يقول منكم بالجبر، ومَنْ يقول منكم بالتفويض، وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم، وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه، وبيانه لكم، وفهمتُ ذلك كله. اعلموا رحمكم اللَّه ...) (3). وكان أصحابه


1- 1 الشيخ محمد باقر المجلسي. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1403 ه، ج 50:ص 100.
2- 2 الشيخ المفيد. الإرشاد. ج 2:ص 312.
3- 3 الحسن بن علي بن شعبة الحراني. تُحف العقول عن آل الرسول تصحيح: علي اكبر الغفاري. قم: جماعةالمدرسين في الحوزة العلمية، 1404 ه،ص 458- 475.

ص: 158

يلجأون اليه في مختلف أنواع التحديات التي تواجههم، ويأتي جوابه ليكون القول الفصل في ذلك، فمثلًا كتب اليه بعض أصحابه: (جُعِلتُ فداك ياسيّدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك، وأنك أنت الأول القديم، وأنَّه بابك ونبيك أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم ... فكتب عليه السلام: كَذَبَ ابن حسكة عليه لعنة اللَّه، وبحسبك أني لا أعرفه في موالي، مالَه لعنه اللَّه، فواللَّه ما بعث اللَّه محمداً والأنبياء قبله إلّابالحنيفية ...) (1).

وكانت الحركة العلمية عند الشيعة تخطى برعاية الإمام بكافة مناشطها وفعالياتها، وحرص الشيعة في عصره على الرجوع اليه فيما التبس من مواقف وأفكار في حياتهم، واطلاعه على التراث الذي بأيديهم، لمعرفة مدى أصالته ومطابقته لهدي أهل البيت عليهم السلام، فقد قال الجعفري: (أدخلتُ كتاب يوم وليلة الذي ألفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه السلام، فنظر فيه، وتصفحه كلّه، ثم قال: هذا ديني ودين آبائي، وهو الحقّ كلّه) (2).

ومع أن المصادر التاريخية تسكت عن الحديث حول النشاط التعليمي الخاص لأبي الحسن الهادي عليه السلام في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة، إلّاأن المصادر الرجالية ترجمت لأكثر من مائة وستين تلميذاً من أصحاب الإمام الهادي عليه السلام (3)، من سائر بلدان التشيع وقتئذ. ويدل هذا العدد على كثافة الجهود التي كان يبذلها أبو الحسن عليه السلام في تربية وتعليم تلامذته المقيمين في المدينة، والذين يعيشون خارجها؛ في سائر البلدان.

مدرسة المدينة بعد الإمام الهادي عليه السلام:

غادر الإمام الهادي عليه السلام موطنه وموطن آبائه عليه السلام المدينة مضطراً، بعد أن أشخصه المتوكل إلى سامراء، وفُرِضت عليه وعلى ولده الإمام العسكري عليه السلام


1- 1 رجال الكشي.ص 518- 519.
2- 2 رجال الكشي.ص 484- 485.
3- 3 رجال الطوسي.ص 409- 427.

ص: 159

الاقامة فيها إلى وفاة الإمام الهادي عليه السلام سنة 254 ه، ثم وفاة الإمام العسكري سنة 260 ه، وغيبة الإمام الثاني عشر المهدي عليه السلام.

وبغياب أبي الحسن الهادي عليه السلام عن المدينة طويتصفحة نور متلألئة من تاريخ مدرسة الوحي بالمدينة، تعاقب على إدارتها سلسلة مطهرة من الهداة بدءاً بالنبيِّ الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم بعد هجرته للمدينة حتى العقد الخامس من القرن الثالث الهجري، بعد أن غادر الإمام العاشر عليه السلام من أئمة أهل البيت عليه السلام المدينة إلى سامراء.

ربما يقال هل أقفلت هذه المدرسة أبوابها، وانصرف طلابها، منذ منتصف القرن الثالث، أم واصلت رسالتها في نشر معارف الوحي في القرون التالية؟ في الجواب عن هذا السؤال، يمكن القول: أنه نستطيع أن نجزم بعدم خلو المدينة من وجود أعلام معروفين من الشيعة في فترات مختلفة، وهذا ما يورده بصراحة المؤرخون وكتّاب التراجم، فمثلًا أحصينا ماترجمهم السيد محسن الأمين في كتابه «أعيان الشيعة» من الأعلام الشيعة المنسوبين إلى المدينة منذ عصر الصحابة إلى القرن الرابع عشر الهجري، فوجدنا الرقم يقترب من الأربعمائة، بيد أن ذلك لا يمنعنا من القول: إن المدينة لم تعد حاضرة علمية أساسية للتشيع بعد عصر الأئمة عليهم السلام؛ لغلبة الآخرين عليها، وانتقال المركز العلمي منها إلى الكوفة، وقم، والري، ثم بغداد. وبقاء الشيعة فيها أقلية إلى عصرنا هذا.

تلخيص واستنتاج:

تأسيساً على ما سبق يمكن استخلاص النقاط التالية؛ لبيان معالم مدرسة المدينة:

1- مؤسس مدرسة المدينة هو رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، بعد الهجرة الشريفة، ثم

ص: 160

وَرثه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وورث الحسنان أبيهما عليهم السلام، ولم يزل أبناؤهم الأئمة يرث الخلف منهم السلف إلى أن هاجر الإمام العاشر أبو الحسن الهادي عليه السلام تاركاً المدينة إلى سامراء مكرهاً بأمر المتوكل العباسي.

2- مركز الحركة العلمية في المدينة هو مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، ففيه كانت تُعقَد حلقات الدروس، وفيه يتلقى الرواة الأحاديث الشريفة، ويتعلم أهل القرآن تلاوته، وتفسيره، وناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه. وفيه أيضاً كانت تجري المناظرات العلمية، وإليه ترد البعثات من سائر الأمصار، ممن يرحلون في طلب العلم. وربما علَّمَ الأئمة عليهم السلام في منازلهم أحياناً خاصة شيعتهم، حذراً من أعين السلطان.

3- لم تقتصر مهمة التعليم في مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم على الائمة عليهم السلام فقط، بل كانت تعقد حلقات لتلامذتهم البارزين أيضاً، مثل حلقة عبداللَّه بن عباس كما ذكرنا فيما سبق، وغيره. وبموازاة ذلك عُقِدت حلقات لرجال معروفين من الصحابة في هذا المسجد كعبداللَّه بن عمر، وآخرين من التابعين بعد ذلك. وتميز فيما بعد دور مالك بن أنس الذي انطلق مذهبه من أروقة مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، وتلميذه محمد بن إدريس الشافعي.

4- مرت مدرسة أهل البيت عليهم السلام بالمدينة تبعاً للظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها التشيع بالأدوار التالية:

أ- الدور الأول: ويبدأ هذا الدور بتأسيس مدرسة المدينة، ويمتد إلى وفاة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام سنة 148 ه، ويمثل هذا الدور الذي استمر قرن ونصف القرن تقريباً عصر نشأة هذه المدرسة ونموها وبلوغها ذروة تكاملها في حياة الإمام الصادق عليه السلام.

ب- الدور الثاني: ويبدأ هذا الدور مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام

ص: 161

بعد وفاة أبيه جعفر الصادق عليه السلام، ويمتد إلى مغادرة الإمام علي بن محمد الهادي المدينة إلى سامراء نحو سنة 234 ه، ويمثل هذا الدور الذي استمر نحو قرن من الزمان عصر انكماش هذه المدرسة، واختفاء بعض نشاطاتها، وانتقال بعض حلقاتها من المسجد النبوي، وغيابها في بيوت أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بالمدينة، وتحّول بعض فعالياتها العلمية، مثل بعض الاتصالات والمكاتبات إلى الحالة السرية، حذراً من السلطان الغاشم وجواسيسه على نشاطات الأئمة وشيعتهم.

ج- الدور الثالث: ويبدأ هذا الدور في منتصف القرن الثالث الهجري، بعد هجرة الإمام الهادي عليه السلام من المدينة، وانتقال مركز علوم أهل البيت عليهم السلام قبل ذلك إلى الكوفة، وقم، والري، ثم بغداد. ويمثل هذا الدور عصر اضمحملال هذه المدرسة، وأفولها، وقلة تعاطي دراسة علوم أهل البيت عليهم السلام فيها.

5- كانت مدرسة المدينة هي الينبوع الذي تدفقت منه علوم أهل البيت عليهم السلام إلى المراكز العلمية الأخرى عند الشيعة، فمنها فاض العلم إلى الكوفة، ومنها فاض العلم إلى البصرة، ومنها فاض العلم إلى قم والري، ثم انتشرت العلوم من هذه المراكز فيما بعد إلى غيرها من البلدان.

6- علوم مدرسة المدينة تمحورت بالسُنة الشريفة، والتفسير وعلوم القرآن، بشكل أساسي، وظهرت فيها في فترة لاحقة بذور علم الكلام والفقه، واشتد عود العلمين الأخيرين في الدور الثاني من أدوار مدرسة المدينة.

7- خَلَّفَت مدرسة أهل البيت عليهم السلام في المدينة ميراثاً علمياً هاماً، تجسَّدَ في مجموعة كُتُب توارثها أهل البيت عليهم السلام، هي: «صحيفة علي عليه السلام»، و «كتاب علي عليه السلام» أو «الجامعة»، و «مصحف فاطمة عليها السلام»، و «الصحيفة السجادية»، و «رسالة الحقوق». هذا غير الكُتب والمصنفات العديدة المنسوبة للأئمة عليهم السلام، التي رواها تلامذتهم عنهم (1).


1- 1 حول هذه الكتب، والمؤلفات المنسوبة للأئمة عليهم السلام، راجع كتاب: تدوين السُّنة الشريفة:ص 52- 78، وص 134- 187. للصديق العلّامة المحقق السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.

ص: 162

8- شهدت مدرسة المدينة أول تجارب للبعثات التعليمية في تاريخ التعليم عند المسلمين، إذ لاحظنا بعض تلامذة أهل البيت عليهم السلام يهاجر من موطنه في العراق، ويقيم في المدينة أربع سنوات لغرض الدراسة، بينما كان آخرون يمكثون فترات أقل، ويتكاثف وجود طلاب العلم في موسم الحج.

9- عرفت مدرسة المدينة بالمدرسة السيارة المتنقلة، كما لاحظنا ذلك في خروج عدد غفير من القراء بمعية علي بن الحسين عليه السلام إلى مكة ورجوعهم معه بعد الفراغ من الموسم، واهتمامهم بالتلقي منه طيلة الطريق، وهكذا فعل أهل العلم مع بقية أهل البيت عليهم السلام. حتى أضحت مدرسة المدينة تنتقل إلى مكة كل عام في موسم الحج مع قدوم إمام ذلك العصر إلى الحج، فيزدحم حوله المحدثون والفقهاء والمتكلمون للارتشاف من نمير علمه في حلقته بالمسجد الحرام طيلة مقامه بمكة.

10- ظهرت في مدرسة المدينة التجارب الأولى لتمويل التعليم عند المسلمين، بإيواء التلميذ القادم من خارج المدينة، واستضافته، والانفاق عليه.

ص: 163

الهوامش:

ارض عرفات

ص: 168

أرض عرفات

علي قاضي عسكر

على بُعد 21 كيلومتراً تقريباً من مدينة مكة، توجد منطقة مقدّسة ذات تاريخ عريق تعرف باسم عرفات. يقصدها الحجيج لأداء حجّ التمتع، بعد ارتدائهم لملابس الإحرام، ويقفون في هذه المنطقة من ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة إلى أوان غروب الشمس، منهمكين بالدعاء والتضرّع؛ لينزل اللَّه تعالى عليهم رحمته، ويعطيهم الرخصة مرّة أخرى للدخول إلى الحرم.

ويبدي الضامئون لعيون المعرفة، والعرفاء العاشقون، شوقاً عظيماً للحضور في عرفات، ولشدّة شوقهم في مجالسة الإمامصاحب الأمر- أرواحنا لتراب مقدمه الفداء- الذي يحضر كلّ عامٍ في هذا الموقف، الذي يذوب المؤمنون في أجوائه.

والمقالة التي بين أيديكم، تناولت منطقة عرفات بمختلف أبعادها بالدراسة والتحقيق:

ص: 169

عرفات في اللغة:

عَرَفات، مأخوذة من كلمة عَرَفَ وعلى قول الراغب: هو إدراك الشي ء بتفكّر وتدبُّرٍ لأثرهِ (1)، وهذه الكلمة اسم مفرد وردت في اللفظ بصورة الجمع، إلّا أنّه لا يُجمع.

ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الأماكن لا تزول، فصارت كالشي ء الواحد، وبهذا الاستعمال كأنّهم جعلوا كلَّ جزءٍ منها عرفة (2).

قال الفرّاء: عرفاتُ معرفةً وإن وردت جمعاً، والدليل على كونها معرفة أنّك لا تُدخلُ فيها ألفاً ولاماً (3).

وقال الأخفش ايضا: وإنّماصرفت عرفات لأنّ التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون، وصارَ التنوين بمنزلة «النون»، فلما سمّي به ترك على حاله (4).

كما قال الجوهري: وقول الناس «نزلنا بعرفةَ» وعرفة مفردة شبيهٌ ب «مولِّد»، وليس بعربي محض (5).

تسمية عرفات:

هناك اختلافات في وجهات النظر حول السبب في تسمية عرفات بهذا الاسم:

1- قال البعض: سُمِّيت بذلك لأنّ آدمَ وحوّاءَ عليهما السلام تعارفا بها بَعد نزولهما من الجنّة (6).

2- وقال قوم آخرون: سمِّيت عرفات لأنّ الناس يعترفون فيها بذنوبهم (7).

3- في رواية عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن عرفات، لم سمّيت عرفات؟ فقال: «إنّ جبرئيل عليه السلام خرج بإبراهيم عليه السلام يوم عرفة، فلما زالت


1- 1 تاج العروس 24: 133.
2- 2 المصدر نفسه: 138.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 المصدر نفسه.
5- 5 لسان العرب 9: 157، دار إحياء التراث العربي- بيروت، 1408 ه. ق.
6- 6 معجم البلدان 4: 117، دار الكتب العلمية- بيروت، لبنان، 1410 ه. ق.
7- 7 المصدر نفسه.

ص: 170

الشمس قال له جبرئيل: يا إبراهيم اعترف بذنبك، واعرف مناسكك، فسميت عرفات لقول جبرئيل: اعترف، فاعترف» (1).

4- وقال آخر: سمي اليوم بيوم «عرفة» والموضع «عرفات» لتعارف الحجيج مع بعضهم البعض في هذا الموضع (2).

5- وقالوا أيضاً: لأنّها مقدّسة معظّمة، كأنّها عُرّفَتْ؛ أي طُيِّبَتْ، لذا سميت عرفات (3).

6- ويعتقد البعض: بما أن أحد معاني كلمة «عِرْف» يعني الصبر، ولما يكابد فيه الحجاج من التعب الشديد للوصول إلى عرفات والوقوف فيه والصبر على ذلك، سميت عرفات، ولدعم وجهة نظرهم هذه، استشهدوا بهذا البيت الشعري، إذ قال الشاعر:

قل لابن قيس أخي الرقيات ما أحسن العِرْفَ في المصيبات! (4) 7- وأخيراً قالوا: والسبب في تسميتها بعرفة أن جبرئيل عليه السلام عرّف إبراهيم عليه السلام المناسك، فلما وقفه بعرفة قال له: عرفتَ؟ قال: نعم، فسميت عرفة (5).

ومن مجموع ما ذكر من الأقول، يمكن القول لعل الاعتراف بالذنب الذي جاء في التسميتين الثانية، والثالثة التي أمضاها الإمام الصادق عليه السلام أيضاً، يعدّ أفضل دليل على تسمية هذه البقعة المقدّسة ب «عرفات».

تاريخ عرفات:

طبقاً لما دوِّن، فإن تأريخ هذا الاسم وهذا الموضع، يعود إلى زمن النبيّ آدم عليه السلام، وذلك عندما أُخرج هو وزوجه حوّاء من الجنّة، وبعد مدة من الزمن تلاقيا في هذا الموضع، ومن هنا فقد رأى البعض أن هذا اللقاء هو السبب في


1- 1 مستدرك الوسائل 10: 26، الباب 14، الحديث رقم 1372.
2- 2 أحكام الحج وأسراره: 237.
3- 3 تاج العروس 24: 137.
4- 4 معجم البلدان 4: 117.
5- 5 المصدر نفسه.

ص: 171

تسمية هذه النقطة من الأرض باسم «عرفات» (1).

وبعد هذا التأريخ وعلى إثر تشريع الحجّ، أصبح الوقوف في عرفات أمراً واجباً (2). إلا أنّ شهرة هذه الأرض ذاعت من عصر النبيّ إبراهيم عليه السلام فصاعداً.

وقبل العثور على بئر زمزم، وبسبب وجود آبار المياه في أطراف عرفات، فإن بعض القبائل كالجرهميين اختاروا هذه المنطقة كمحل مناسب لسكناهم.

كتب المرحوم المجلسي قائلًا:

«... وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات إلى ما قبل ظهور الماء في زمزم، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير على ذلك المكان واتبعوها، واختاروا السكن إلى جوار زمزم (3).

وبامتلاء بئر زمزم بالماء ووجود المصادر المائية حول منطقة عرفات، واستواء الأرض في هذه المنطقة، نزلت مجموعة أخرى من الناس في هذه الأرض، وقاموا بزراعة النخيل والحقول، وقد سكن قسمٌ فيها بشكل دائم، وقسم آخر كانوا ينزلون في هذه المنطقة في بعض فصول السنة. وبعد مدة من الزمن، نقلوا المياه من آبار عرفات الى مكة وليستخدمها الناس الساكنون فيها.

يقول الأزرقي نقلًا عن ابن عباس:

لما انتشرت قريش بمكة وكثر ساكنها، قلّت عليهم المياه واشتدّت المؤنة في الماء، حَفرت بمكة آباراً، فحفر مرّة بن كعب بن لؤي بيراً يقال لها: رُمْ، وبلغني أن موضعها عند طرف الموقف بعرفة قريباً من عرفة (4).

وبئر «الروا» كانت تقع خارج مكة وفي بواديها مما يلي عرفة (5).

ويقول البشاري في أخباره عن عرفات:

«عرفة قرية فيها مزارع وخضرٌ ومباطخ، وبها دورٌ حسنة لأهل مكة ينزلونها يوم عرفة» (6).


1- 1 لسان العرب 9: 157.
2- 2 شفاء الغرام 2: 36، 108.
3- 3 بحار الأنوار 12: 98.
4- 4 أخبار مكة، الأزرقي 2: 214.
5- 5 المصدر نفسه: 220.
6- 6 معجم البلدان 4: 118.

ص: 172

ويقول ياقوت الحموي: إن موضع هذه القرية يقع على بعد ميلين عن الموضع الحالي (1).

والمسلَّم به أن أشخاصاً كانوا يسكنون هذه المنطقة ولهذا كانوا يسمَّون بلقب العَرَفي. ومن هؤلاء زنفل بن شداد العَرَفي، وكان للعاص بن وائل دارٌ في هذه المنطقة، وروي أن سعيد بن المسيب أثناء مروره من جوار تلك الدار سمع مغنياً يغني فيها بهذه الأشعار:

تضوع مسكاً بطنُ نعمانَ! إذ مَشت به زينبٌ في نسوةٍ عَطِرات فضرب برجله الأرض وقال: هذا واللَّه مما يلذّ استماعه:

و ليست كأخرى أوسعت جيب درعها وأبدَت بنانَ الكفّ للجمراتِ

وحلت بنانُ المسك وخفاً مرجَّلًا على مثل بدرٍ لاح في الظّلمات

وقامت تراءى يومَ جمع فأفتنتْ برؤيتها مَن راحَ من عرفاتِ (2) ولم يبق الآن أيّ أثرٍ لتلك المنازل والمزارع في عرفات، إلا أنه في السنوات الأخيرة زُرعت أشجارٌ كثيرة في عرفات، تضفي المزيد من الجمال على هذه المنطقة، كما يقصد أهل مكة هذه المنطقة على مدار أيام السنة بهدف الراحة والاستحمام، وينعمون بفي ء تلك الأشجار وظلالها ومناظرها الجميلة.

حدود عرفات:

لو تصورنا منطقة عرفات على شكل قوس، لوجدنا أن الجبال تحيط بأطراف هذا القوس، ووتر هذا القوس هو وادي عُرَنَة. إذ يَحفُّ بعرفات من الشمال الشرقي جبل سَعْد: وهو جبل عال أسمر، ومن الشرق جبل أمغر (أشهب) يسمى جبل «مِلْحة»، وارتفاعه أقل من الأوّل، ومن الجنوب سلسلة جبيلة لاطيئة (لاطئية) سوداء أبرزها «أم الرضوم». أما في الغرب والشمال الغربي فيمر


1- 1 المصدر نفسه: 117.
2- 2 المصدر نفسه: 118.

ص: 173

وادي عُرَنَة. إذ كانت جميع هذه المناطق تابعة لقريش (1). وفي الموقف أيضاً جبلٌ يصعده الحجيج، ويتضرعون فيه بالدعاء، وسمّي هذا الجبل في الكتب التأريخية بعدة أسماء من قبيل «جبل الرحمة»، و «القُرين»، و «الال»- بكسر وفتح الألف- و «النابت» (2). ومن بين المشاعر، تقع عرفات خارج الحرم فقط.

-صفحه خالى براى نقشه-


1- 1 معجم معالم الحجاز 6: 75.
2- 2 معالم مكة التأريخية والأثرية: 182.

ص: 174

الال أو جبل الرحمة:

جاء ابن هشام إلى الحجاز لأداء الحج، فلما قدم المدينة، ورد عليه كتابٌ من أبيه هشام بن عبد الملك، «أن قف بالناس على الال»، فقرأه فلم يدرِ ما الالُ، فبعث الى الزهري، فدعاه، فقال: إن كتاب امير المؤمنين ورد بأن قف بالناس على الالَ فأي شي ء عندك؟ فقال له الزهري: إنّ فتىً من أهل العراق قد قدم عليّ يطلب العلم، فلعل عنده من هذا علم (علماً) فأرسل الزهري، بطلب الفتى وهو- ابو بكر الهذلي- فجاء الهذلي واطلعه ابن هشام على الأمر وطلب منه الجواب، فقال: هو جبل عرفة الذي يقف عليه الناس، فسأله الزهري: فهل عندك على هذا شاهد؟ قال نعم: فقرأ شعراً أنشده النابغة الذبياني:

بمصطبخاتٍ من أضاف وثَبْرة يُرِدْنَ ألالًا سَيْرُهن التَدافُعُ فأعجب ذلك ابن هشام، فدعا له ووهبه مالًا وكساه (1).

وفي رواية أنّ: رسول اللَّهصلى الله عليه و آله وقف على النابت أمام الجبل الذي يسمى ألال (ألالًا)، حذو الجبل الذي يسمى مسلم (مسلماً) وهو حَبْل المشاة بين النَبْعة والنُبَيْعة (2).

وجبل الرحمة الذي يسمى الالًا أيضاً- بكسر الهمزة والتخفيف- اسم الموضع الذي نزلت به الملائكة لنصرة جيش المسلمين وهو إلى اليسار باتجاه الصفراء (3).

الوقوف في عرفات:

بناءً على ما يذكره التاريخ، وعلى مرّ العصور، كان اتباع الأديان السماوية، من الذين شُرِّع لهم الحجّ كفريضة، يقفون في عرفات أثناء الحج، وفي العصر الجاهلي أيضاً، كانت جماعة من جرهم وتأسّياً منها بإبراهيم الخليل


1- 1 أخبار مكة، الفاكهي 5: 13.
2- 2
3- 3 تقويم البلدان: 109، رحلة ابن بطوطة 1: 132.

ص: 175

وإسماعيل عليهما السلام يعظّمون الكعبة، ويطوفون ويؤدون الحج والعمرة، ويقفون على عرفات والمشعر (1). إلا أن البعض من قبائل قريش والساكنين في مكة، واستناداً إلى بعض الأفكار الخاطئة، ابتدعوا أموراً وتركوا الوقوف على عرفة، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر، ويقرون- أيضاً- أن الوقوف عليها من الأعمال التي يجب أن تؤدى في الحج بناءً على ما جاءَ في دين إبراهيم الخليل عليه السلام (2).

ويقول الأزرقي:

... عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه انه قال: أضللتُ بعيراً لي يوم عرفة، فخرجت أطلبه حتى جيت عرفة، فإذا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله واقف بعرفة مع الناس، فقلت: هذا رجلٌ من الحمس، فما له خرج من الحرم؟ يعني قريشاً كانت تسمي الحمس والأحمسي المشدد في دينه، فكانت قريش لا تجاوز الحرم، تقول:

نحن أهل اللَّه لا نخرج من الحرم، وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قول اللَّه عزّ وجل: «ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس» (3).

ويضيف الأزرقي قائلًا: وجعل الحمسيون موقفهم في طرف الحرم من غرة بمفضى المأزمين بدل الوقوف بعرفة، يقفون به عشية عرفة، ويظلون به يوم عرفة في الأراك، ويفيضون منه إلى المزدلفة (4).

يقول سفيان: جاءهم ابليس، فقال: إنكم إن خرجتم من الحرم الى الحل زهدت العرب في حرمكم فخذلهم عن ذلك، وبه قال سفيان: عن حميد بن قيس عن مجاهد قال: كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يقف بعرفة سنيه كلّها لا يقف مع قريش في الحرم- يعنى اذا كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله بمكة قبل الهجرة- (5).

قال سعيد بن عبد اللَّه الراوندي (المتوفى سنة 573 ه. ق):

كانت قريش في الجاهلية لا تخرج الى عرفات ويقولون لا نخرج من


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 1: 117.
2- 2 المصدر نفسه.
3- 3 البقرة: 199، أخبار مكة للأزرقي 2: 195.
4- 4 أخبار مكة، الأزرقي 1: 145.
5- 5 المصدر نفسه 2: 196.

ص: 176

الحرم، وكانوا يقفون يوم عرفة بالمشعر الحرام وليلة العيد أيضاً بها، وكان الناس الذين يحجّون غيرهم يقفون بعرفات يوم عرفة، كما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق يفعلون، فأمر اللَّه أن يقف المسلمون كلّهم يوم عرفة بعرفات ويفيضوا منها عند الغروب الى المشعر بقوله تعالى: «ثمَّ أفيضوا من حيث أفاضَ الناس»، والإفاضة منها لا يمكن إلّابعد الوقوف أو الكون بها (1).

أرض المغفرة وقبول الدعاء:

إحدى أهم الألطاف التي يحصل عليها الحجاج من رحلة الحج المعنوية، هو غفران الذنوب. ففي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة الحرام، يأتي الحجيج من كل فجٍّ ويجتمعون في عرفات، ويطلبون من اللَّه الغني أن يغفر لهم ما تقدّم من ذنوبهم، ويطهّرهم من الأدران التي علقت بهم، وهم في دعاءٍ وبكاءٍ وتوسل.

وقد اجتمع في هذه الأرض المقدسة جميعُ أنبياء اللَّه تعالى من آدم عليه السلام، إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد اللَّهصلى الله عليه و آله وأوصياؤه عليهم السلام من علي بن أبي طالب إلى المهدي الموعود عليهم السلام، وعلّموا الآخرين، خاصة اتباعهم وأشياعهم، كيفية الدعاء والتضرع والاستفادة من هذا اليوم العظيم. وهذه الأرض المقدسة هي مُلتقى العشّاق والعارفين، وأيّ عارفٍ يقرأ في عرفات، دعاء عرفة للإمام الحسين عليه السلام الملي ء بمعناه ومحتواه، ولا يتأثر بما فيه من الجمال والعذوبة والمعرفة؟!

ولكثرة ما قيل في الروايات الواردة بشأن غفران الذنوب في عرفات، فإن المغفرة والرحمة الإلهية، سرعان ما تتبادر الى الذهن بمجرد سماع اسم عرفة وعرفات، والفت انظار القرّاء الكرام الى بعضٍ من هذه الروايات:

عن علي عليه السلام: «أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله، لما حجّ حجة الوداع، وقف بعرنة فأقبل على الناس بوجهه وقال: مرحباً بوفد اللَّه- ثلاث مرات- الذين إن سألوا أُعطوا،


1- 1 ينابيع الفقهية، فقه القرآن 7: 375.

ص: 177

وتخلف نفقاتهم، ويجعل لهم في الآخرة بكلّ درهم ألفاً من الحسنات، ثم قال: يا أيها الناس ألا أبشركم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: إنه إذا كانت هذه العشيّة باهى اللَّه بأهل هذا الموقف الملائكة، فيقول:

[يا ملائكتي] انظروا الى عبيدي وإمائي أتوني من أطراف الأرض، شعثاً غبراً، هل تعلمون ما يسألون؟ فيقولون: ربّنا يسألونك المغفرة، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فانصرفوا من موقفكم مغفوراً لكم [ما سلف]» (1).

عن علي عليه السلام قال: «قيل: يا رسول اللَّه أيّ اهل عرفات أعظم جرماً؟ قال:

الذي ينصرف من عرفات وهو يظنّ أنه لم يغفر له» (2).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من الذنوب ذنوب لا تغفر إلّابعرفات» (3).

عن الحسين بن علي عليه السلام قال: «جاء رجلٌ من اليهود الى النبيّصلى الله عليه و آله فقال: يا محمّد- الى أن قال- إني أسألك عن عشر كلمات أعطاها اللَّه تعالى موسى في البقعة المباركة حيث ناجاه- إلى أن قال- يا محمد فاخبرني عن التاسع، لأي شي ء أمر اللَّه الوقوف بعرفات بعد العصر؟ فقال النبيّصلى الله عليه و آله: لأن بعد العصر ساعة عصى آدم عليه السلام ربّه، فافترض اللَّه على أمتي الوقوف والتضرّع والدعاء في أحبّ المواضع إلى اللَّه، وهو موضع عرفات، وتكفّل بالإجابة، والساعة التي ينصرف هي الساعة التي تلقى آدم من ربّه كلمات، فتاب عليه إنه هو التوّاب الرّحيم، قال:

صدقت يا محمّد، فما ثواب من قام بها ودعا وتضرّع إليه؟

فقال النبيصلى الله عليه و آله: والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً، إن للَّه تبارك وتعالى في السماء سبعة أبوابٍ؛ باب التوبة، وباب الرحمة، وباب التفضل، وباب الإحسان، وباب الجود، وباب الكرم، وباب العفو، لا يجتمع [بعرفات] أحد إلّاتساهل من هذه الأبواب، وأخذ من اللَّه هذه الخصال، فإن للَّه تبارك وتعالى مائة ألف ملك، مع كل ملك مائة وعشرون ألف ملك، وللَّه مائة رحمة ينزلها على أهل عرفات،


1- 1 مستدرك الوسائل 8: 36.
2- 2 المصدر نفسه 10: 30.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 178

فإذا انصرفوا أشهد اللَّه تلك الملائكة بعتق رقاب أهل عرفات، فإذا انصرفوا أشهد اللَّه تلك الملائكة بأنه أوجب لهم الجنّة، وينادي مناد: انصرفوا مغفوراً لكم فقد أرضيتموني، ورضيت لكم، قال:صدقت يا محمّد ...» (1).

وورد في نقل آخر:

«وأهل موقف عرفات هم وقوف بين يدي اللَّه عزَّ وجلَّ» (2).

وعن أبي نصر البزنطي، عن الرضا عليه السلام قال: كان أبو جعفر عليه السلام يقول: ما من برٍّ ولا فاجر يقف بجبال عرفات فيدعو اللَّه إلّا استجاب اللَّه له، أما البرّ ففي حوائج الدنيا والآخرة، وأمّا الفاجر ففي أمر الدنيا» (3).

عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «المغفرة تنزل على أهل عرفة مع الحركة الأولى، فإذا كانت الدفعة الأولى فعند ذلك يضع الشيطان التراب على رأسه يدعو بالويل والثبور، قال: فتجتمع اليه شياطينه فيقولون: ما لك؟ فيقول: قوم قد قتلتهم منذ ستين وسبعين سنة غُفر لهم في طرفة عين- يعني من يحضر [من] الحاج بعرفة» (4).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «من حفِظَ سمعَهُ وبصرَه ولسانه يوم عرفة حفظه اللَّه- عزّ وجلّ- من عرفة الى عرفة» (5).

وعن ابن عباس أنه أورد مقدمة لها ارتباط بالحديث الآنف الذكر إذ قال:

إن الفضل بن عباس كان رديفَ رسول اللَّهصلى الله عليه و آله عشية عرفة، وكان الفتى يلاحظ النساء، قال: فكان النبيّصلى الله عليه و آله يصرف بصره، ويقول: «يا ابن أخي، إن هذا يومٌ مَنْ ملكَ سمعَه إلامن حقّ، وبصره إلا من حقّ، ولسانَه إلّامن حقّ، غفر له ذنبه» (6).

وقال ابن عباس: إن اللَّه- عزّ وجلّ- يباهي بأهل عرفة أو الحاج أهلَ السموات» (7).

وفي حديث عن الرسولصلى الله عليه و آله قال: وإذا وقفت عشيّة عرفة، فإن اللَّه يهبط


1- 1 المصدر نفسه 10: 32.
2- 2 بحار الأنوار 3: 320.
3- 3 الوافي 2: 42.
4- 4 أخبار مكة، الفاكهي 5: 15.
5- 5 المصدر نفسه 5: 18.
6- 6 المصدر نفسه: 21.
7- 7 المصدر نفسه.

ص: 179

برحمته إلى السماء الدنيا حتى تظل على أهل مكة، فيباهي بهم الملائكة فيقول:

هؤلاء عبادي جاؤوني شعثاً من كلّ فجّ عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبهم بعدد الرمال أو كعدد القطر أو كزبد البحر لغفرت لهم ...» (1).

وقال ابن عباس: رأيت النبيّصلى الله عليه و آله عشية عرفة بعرفة، ويداه إلىصدره يدعو كاستطعام المسكين» (2).

وجاء في رواية أخرى: كان أكثر دعاء النبيصلى الله عليه و آله يوم عرفة: «لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شي ء قدير» (3).

وقال عبد اللَّه بن كريز أيضاً: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة» (4).

وقال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله: «ما رُئي الشيطان يوماً هو أصغر فيه، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذلك إلا مما يرى من تَنزُّل الرحمة، وتجاوز اللَّه عن الذنوب العظام، الّا ما رئي يوم بدر» (5).

وكان الدعاء: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، لا إله إلا اللَّه العلي العظيم، سبحان اللَّه ربّ السموات السبع و الأرض ربّ العرش العظيم، والحمدللَّه ربّ العالمين» (6).

ولعرفات أهمية بالغة لدرجة أنه جاء في الروايات: «الحج عرفة»؛ وطبعاً لا يعني ذلك أن بقية أعمال الحج قليلة الأهمية! بل إن هذه الرواية، ترشد حجّاج بيت اللَّه الحرام، الى أهم أركان الحج أي عرفة، ولعل السبب في هذه الأهمية يعود الى الدور الذي تحظى به عرفات في غفران الذنوب، إذ إن المذنب الذاهب الى عرفات يعود منها مغفوراً له.

الصوم في عرفات:

ورد النهي عن الصوم يوم عرفة في بعض روايات الفريقين، ولعل السبب


1- 1 أخبار مكة، الأزرقي 2: 306. مستدرك الوسائل 8: 42.
2- 2 أخبار مكة، الفاكهي 5: 24.
3- 3 المصدر نفسه.
4- 4 المصدر نفسه: 25.
5- 5 المصدر نفسه: 26.
6- 6 المصدر نفسه 5: 12.

ص: 180

في ذلك يعود الى ضرورة أن يكون الفرد نشيطاً أثناء الدعاء والتضرع؛ لأن الفرد الصائم، في تلك البقعة- وخاصة في الهواء الحار- يستحوذ عليه الضعف ولا يجد القدرة على الدعاء. وكان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لا يصوم يوم عرفة، وفعل ذلك الخلفاء وبعض الصحابة أيضاً تأسّياً بهصلى الله عليه و آله (1).

وقال الشيخ الكفعمي في المصباح: يستحب الصوم يوم عرفة، لمن لا يخاف الضعف في الدعاء (2). ويدلّ ذلك الى أن الكراهية في الصوم، إنما بسبب مخافة الضعف حال الدعاء.

كما أن أدعية الإمام الحسين بن علي والإمام السجاد عليهم السلام يوم عرفة من الأدعية المهمة جداً إذ تنطوي على إشارات عظيمة تهزّ الجَنان.

وعن بِشر وبشير ابني غالب الأسدي قالا: وقفنا مع أبي عبد اللَّه الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهما السلام بعرفة، فخرج عشية عرفة من فسطاطه في جماعة من أهل بيته وولده وشيعته ومواليه، متذللًا خاشعاً فجعل يمشي هوناً حتى وقف في مسيرة الجبل، فاستقبل البيت ورفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين، وشرع بقراءة هذا الدعاء:

«الحمد للَّه الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع ...» (3).

وورد في الدعاء السابع والأربعين من أدعية الصحيفة السجادية، دعاء الإمام السجاد عليه السلام وتضرعه يوم عرفة أيضاً.

نزول رسول اللَّه في عرفات:

عن جابر بن عبد اللَّه رضى الله عنه قال: إن رسول اللَّهصلى الله عليه و آلهصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، ثم سارَ حتى أتى عرفة، وقد ضربت له قبة بِنَمِرَة فنزل بها (4).


1- 1 المصدر نفسه: 29- 33.
2- 2 مفاتيح الجنان: 470.
3- 3 المصدر نفسه: 474.
4- 4 أخبار مكة، الفاكهي 5: 9.

ص: 181

وينقل أبو الوليد عن جدّه، عن مسلم بن خالد، عن ابن جريح قال: سألت عطاء أين كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله ينزل يوم عرفة؟ قال: بنمرة (1)، منزل الخلفاء الى الصخرة الساقطة بأصل الجبل عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة يلقى عليها ثوب يستظل بهصلى الله عليه و آله (2).

وقال الصدوق رحمه اللَّه في المقنع:

فإذا أتيت عرفات فاضرب خباءك بنمرة قريباً من المسجد، فإن ثم ضرب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله خباءه وقبّته، فاذا زالت الشمس يوم عرفة فاقطع التلبية واغتسل، وصلّ بها الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وإنما تتعجل في الصلاة، وتجمع بينهما لتفرغ للدعاء فإنه يوم دعاء ومسألة.

ويقول الأزرقي:

وموقف النبيّصلى الله عليه و آله عشية عرفة بين الأجبل النبعة والنبيعة والنابت وموقفه منها على النابت وهي الظراب التي تكتنف موضع الإمام، والنابت عند النشرة التي خلف موقف الإمام، وموقفهصلى الله عليه و آله على ضرس من الجبل النابت مضرس بين أحجار هنالك ناتئة في الجبل الذي يقال له الالًا بعرفة عن يسار طريق الطائف وعن يمين الامام (3).

وبظهور الإسلام في الحجاز، اتّخذ اتباع هذا الدين الحنيف، الوقوف في عرفات ركناً من أركان الحج، ويقفون يوم التاسع من ذي الحجة في هذه البقعة، ولا يجوّزون الوقوف خارج حدود هذه المنطقة.

السيول في عرفات:

وقع الكثير من الحوادث في عرفات، على مرّ التأريخ، لا يسع المجال هنا للتطرق الى ذكرها جميعاً، وينقل الأزرقي نموذجاً عن تلك الحوادث بهذا الشكل:


1- 1 أودية مكة المكرمة: 115، معجم البلدان 7: 362.
2- 2 أخبار مكة، الأزرقي 2: 194.
3- 3 المصدر نفسه.

ص: 182

في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة سنة 1053 وقع سيل عظيم بعرفة والحجاج وقوف هنالك، فاستمر من وقت الظهر الى الغروب، ولما نفر الناس عاقهم السيل المعترض من تحت العلمين عن المرور ودخول الحرم، فاستمر الناس وقوفاً الى آخر الليل حيث خفّ السيل، فقطعوه بالمشقة (1).

وقال أيضاً:

وأول من أوقد المصابيح النفطية بين الصفا والمروة، وجبلي عرفات في ليالي موسم الحج هو أبو إسحاق المعتصم (2).

إلقاء الخطب في عرفات:

المعروف عن سيرة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام أنهم كانوا يلقون الخطب لحجاج بيت اللَّه الحرام، ويتطرقون في خطبهم إلى بيان المعارف الدينية والأخلاقية. حتى إن الخلفاء والحكام وتأسياً بهم، كانوا يلقون الخطب في هذه


1- 1 المصدر نفسه.
2- 2 المصدر نفسه.

ص: 183

البقعة المقدسة، وشيئاً فشيئاً اقيم منبرٌ لخطيب يوم عرفة، يرتقيه الخطباء للتحدّث الى الحجاج.

وقال عمرو بن دينار: رأيت في زمن ابن الزبير منبر عرفة، حيث يصلّي الظهر والعصر عشية عرفة، مبنياً بحجارةٍصغيراً، فذهب به السيل، فجعل ابن الزبير حينئذٍ منبراً من عيدان (1).

وقام الرسول الاكرمصلى الله عليه و آله في حجة الوداع، وهي آخر حجة له، بإلقاء الخطبة مرتين؛ الأولى قبلصلاة الظهر والعصر، والثانية بعدهما، وأبلغ الناس فيهما بقوانين الدين العامة وأحكامه الأبدية (2).

وخطب محمد بن هشام في عرفة أيضاً وقال: «عرفة كلهّا موقف حتى منبري هذا» (3).

ويدأب الحجاج الإيرانيون في الوقت الحاضر على القيام بما يلي: في يوم عرفة يبدأ رجل الدين المرافق للقافلة بإلقاءالخطبة للحجاج، ثم يشرعون بقراءة دعاء عرفة، وفي مقر بعثة قائد الثورة الإسلامية أيضاً تقوم إحدى الشخصيات الدينية المعروفة بالتحدث وإلقاء الخطبة، ثم يقوم أحد مدّاحي أهل البيت عليهم السلام بقراءة الأشعار وذكر مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، وفي الختام يُقرأ دعاء عرفة.

وقال الأزرقي: «والمسافة بين المسجد الحرام وبين موقف الإمام بعرفة، عشرة أذرع بريد سواء لا يزيد ولا ينقص» (4).

مسجد عرفات:

يوجد في عرفات مسجد ذكر في التأريخ باسم مسجد عرفة، والمسجد الجامع للنبيّ إبراهيم عليه السلام، أو مسجد إبراهيم أيضاً. وكان هذا المسجدصغيراً جداً في السابق، ويصلّي فيه الحجاج.


1- 1 المصدر نفسه 2: 195.
2- 2 أحكام الحج وأسراره: 238.
3- 3 المصدر نفسه: 34.
4- 4 أخبار مكة، الأزرقي 2: 190.

ص: 184

ويقول الأزرقي في تحديد مسجد عرفات:

وذرع سعة مسجد عرفة من مقدمه الى مؤخره مائة وثلاث وستون ذراعاً، ومن جانبه الايمن الى جانبه الايسر بين عرفة والطريق مائتا ذراع وثلاث عشرة ذراعاً، وعلى جدران المسجد من الشرف مائتا شرافة وثلاث ..

شرافات ونصف، منها على جدر القبلة اربع وستون، وعلى العطف مع جدر القبلة من الجانب الايمن والايسر ثمان شرفات لكل منها، ومنها على بقيته سبع وخمسون ونصف، ومنها على مؤخر المسجد عشر في الأيمن، وفي الايسر أربع، وفي مسجد عرفة من الابواب عشرة ابواب: باب في القبلة عليه طاق طوله تسع أذرع، وعرضه ذراعان وثمان عشرة اصبعاً، وفي الجدر الايمن أربعة ابواب، وفي الايسر أربعة ابواب عرض كل باب ست أذرع، وسعة الباب الذي يلي الموقف مائة ذراع وأحد وثلاثون ذراعاً، ومن حد مؤخر المسجد الايمن الى حد مؤخره الايسر جدر مدور طوله ثلاثمائة ذراع واربعون ذراعاً، وعرضه من وسطه من جدر المسجد ثماني وستون ذراعاً، والابواب التي في الجدر الايمن في الجبر، وطول الجدر في السماء ست أذرع، وفي مؤخر المسجد الايمن في طرف الجبر دكان مربع طوله في السماء خمس أذرع وسعة أعلاه سبع أذرع وثمان عشرة إصبعاً في ست اذرع وثمان عشرة اصبعاً يؤذن عليه يوم عرفة، وفي المسجد محراب على دكان مرتفع يصلي عليه الإمام وبعض من معه ويصلي بقية الناس أسفل؛ وارتفاع الدكان ذراعان ... ومن مسجد عرفة الى موقف الإمام عشية عرفة ميل يكون الميل خلف الإمام إذا وقف وهو حيال جبل المشاة (1).

وقام الملك أشرف قايتباي (873- 901 ه) في عصر سلطنته، بتعمير مسجد النمرة في عرفات وفتح وكري قناة عرفة بعد انسدادها (2).

وبلغت مساحة مسجد النمرة في العمارة والتوسعة الأخيرة 000/ 124


1- 1 المصدر نفسه 2: 452.
2- 2 مسجد الحرام والكعبة: 373 و 374.

ص: 185

متر مربع. وقسم من بناء المسجد مؤلف من طابقين، ومساحتها حوالى 000/ 27 متر مربع، والمسجد مجهز تجهيزاً كاملًا بنظام التبريد، والمرافق الصحية المناسبة وغيرها، ويتسع لأكثر من 000/ 300 الف من المصلين، وبلغت تكاليف عمارته مبلغاً قدره حوالى ثلاثمائة وسبعة وثلاثون مليون ريال سعودي (1).

ويأتي جمعٌ من الحجاج يوم عرفة الى مسجد النمرة؛ ليستمعوا إلى خطبة خطيب المسجد، ثم يصلوا الظهر والعصر بأذان وإقامتين، ثم يشرعوا بالدعاء والتضرع ومسألة اللَّه تعالى حتى غروب الشمس (2).

عرفات والظالمون:

بالرغم من امتلاك عرفات للكثير من الخصائص المعنوية، إلا أنها لم تسلم من ظلم الظالمين على طول التأريخ، ولغرض إبعاد الحجاج وحرمانهم من الآثار المعنوية لعرفات، عمدوا الى تحريف الحقائق.

قال ابو اليقظان: جاء رجلٌ من أولاد عثمان الى هشام بن عبد الملك يوم عرفة وقال: اليوم يومٌ استحب فيه الخلفاء لعن ابو تراب! (3).

وقال سعيد بن جبير أيضاً:

إنّما ترك معاوية التكبير في يوم عرفة، لأن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يكبّر فيه! (4) الماء في عرفات:

مع ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، وازدياد دخول الناس في هذا الدين الحنيف، ازداد اتباع رسول اللَّهصلى الله عليه و آله شيئاً فشيئاً، وفي كل موسم من مواسم الحج يقف عدد كبير من الحجاج الوافدين لأداء مناسك الحج في منطقة عرفات، وبما


1- 1 أحكام الحج وأسراره: 238.
2- 2 في خدمة ضيوف الرحمان: 108، 111.
3- 3 شرح نهج البلاغة، إبن أبي الحديد 13: 221، الباب 238.
4- 4 أخبار مكة، الفاكهي 5: 33.

ص: 186

أن الماء يعدّ أحد المتطلبات الأساسية للناس في عرفات، قام البعض بإحداث الأحواض والحمامات بالقرب من جبل الرحمة؛ ليستفيد منها الحجاج اثناء وقوفهم في عرفات. وبهذا الصدد ذكر المؤرخون ما يلي:

كان أهل مكة فيما سلف يشربون من الآبار التي بداخل البلدة وخارجها، فلما كانت خلافة معاوية أجرى إلى مكة عيوناً عشرة في قنوات عملها لذلك؛ ولما حجّ عبد اللَّه بن عامر جمع العيون وصرفها في عين واحدة في ميدان (صحراء) عرفة عرفت بعين عرفة. وقد كان خلفاء بني العباس والحكام المقتدرون يجرون الماء من عين عرفة الى مكة عن طريق مجارِ متعددة، وحدث أن تخربت عين عرفة أثناء خلافة المتوكل العباسي، فأرسل الخليفة مائة الف دينار الى مكة لتعميرها واجراء ماء عين عرفات إليها، وفي عام 241 ه حصل زلزال غارت منها العيون فتخربت عين عرفات فيها، ولكن ليس من المعلوم تأريخ إعادة تعميرها، وفي حدود عام 500 ه أعيد تعمير العين المذكورة على إثر تخريبها، وقد وجدت في لوحة بجبل الرحمة على يمين الصاعد اليه كتابة تشير الى الذين قاموا بإصلاح عين عرفات وبقية مجاري مياه مكة، وقد جاء في هذه اللوحة:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم ... وصلى اللَّه على سيدنا محمد ... وعلى إمام اللَّه ظل مولانا الإمام الناصر لدين اللَّه أمير المؤمنين أعزّ اللَّه أنصاره؛ أمر الإمام الاصفهتيلار الكبير نصير الدين بن زين الدينصاحب اربل- ولم أعرف ما بعد ذلك- سنة 500 ه لأبي جعفر المنصور المستنصر باللَّه أمير المؤمنين أعزّ اللَّه تعالى ببقائه الإسلام».

ووجدت لوحة أخرى تدل على عمارة لأبي العباس أحمد الناصر لدين اللَّه أمير المؤمنين سنة 584 ه ونصّها: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم أمر سيدنا ومولانا الإمام الخليفة على كافة أهل الاسلام أبو العباس أحمد الناصر لدين اللَّه أعزّ اللَّه

ص: 187

أنصاره وضاعف اقتداره لعمارة عين عرفة والمصانع لحجاج بيت اللَّه الحرام، وذلك في سنة 584 ه».

وهناك لوحة أخرى تدل على عمارة عين عرفة من قبل أمير الأمراء الاصفهتيلار الكبير نصير الدين بن زين الدين أمير اربل في سنة 594 هجري.

ووجدت لوحة رابعة أيضاً تدل على عمارة عين عرفة من قبل المستنصر العباسي في سنة 625 ه، و 627 ه، و 633 ه (1).

وذكر الفاكهي سبعة أحواض لعبد اللَّه بن عامر بن كريز في عرفات، بينما يقول إبراهيم رفعت باشا بأنها ثمانية أحواض (2).

وفضلًا عن استخدام مياه تلك الأحواض لأغراض الشرب، فقد كان البعض يغتسل فيها أيضاً، قال يزيد بن أبي زياد: رأيت مجاهداًصائماً يوم عرفة وهو محرم، اغتسل من بعض حياض عرفة (3).

وكانت في الناحية الجنوبية الشرقية لمسجد النمرة بعض الجدران بقيت آثارها إلى فترة قريبة، وكانت تمثل في الحقيقة الحد الجنوبي لموقف عرفة. كما يوجد جنوب جبل الرحمة سوقٌ كبيرة، بقيت موجودة لسنوات قريبة، وأورد إبراهيم رفعت باشاصوراً لهذه السوق في كتاب مرآة الحرمين (4).

الهوامش:

ترنيمة عرفانية


1- 1 الحرمان الشريفان: 26.
2- 2 أخبار مكة، الفاكهي 5: 43، مرآة الحرمين 1: 45.
3- 3 أخبار مكة، الفاكهي 5: 43.
4- 4 مرآة الحرمين 1: 337.

ص: 190

ترنيمة عرفانية

الدكتور الحسيني

ما أروعَ الحجّ

ما أروعَ الحجّ!

ما أروعَ الحجّ لو لبيّتُ معتمراً ربَّ الحجيج مُجيباًصاحبَ الدارِ!

وقد حدوتُ طُوالَ الدرب قافلتي وقد طويت النوى في طيّ أسحاري

وقد نزلتُ فِناء البيت معتكفاً وطفتُ سبعاً طواف الكوكب الساري

هنا وقفتُ هناصلّيتُ في وَلَهٍ هنا جلستُ هنا راجعتُ أفكاري

هنا عرفتُ معاني الحجّ وازدلفت في مشعر الحقّ آمالي وأوطاري

هنا رميتُ جماراً من هوى كبدي هنا نحرتُ المُنى في كفِّ نحّارِ

هنا تحولتُ رُوحاًصفّقت فَرَحاً وغرّرتْ وشَدَتْ في لحنِ أطيارِ

هنا تحوّل قلبي في الهوى وَتَراً يبثّ ماليس ترجوه بأوتارِ

ص: 191

هنا أذبتُ وُجودي في محبّتهِ هنا تحطم مِزماري وقِيثاري ***

ما أروعَ الحجَّ أنْ يَدنُو لصاحبه من قد أَتى البيت مَحْنِياً بأوزارِ واثقلتهُ خطايا العُمر يحملُها بكفّهِ خَجِلًا من ذُلِّ إقرارِ

وراح يمسحُ بالأحجارِ معتذراً من ذنبهِ خاطِباً وُدَّاً لغفّارِ

يقول ياربِّ إنّي تائبً أبداً ممّا جَنَيتُ وهذا بيتُ ستّارِ!

فقد دعوتَ ضيوفاً ما لهم عددٌ من كلّ فجّ اتَوا سبقاً بمضمارِ

ماطُوْا لِباسَ «الأنا» واستبدلوا حُلَلًا من الصفاءِ بِلُبسِ الكاسي العاري

فمن يحجُّ لباري الخلق بارئِهِ كانت محجَّتُهُ للباريِ الذاري

ومن يحجُّ لكسب المال متَّجِراً فالحجُّ حجٌّ ولكن حجُّ تُجّارِ

ومن يحجُّ لِدُنياً كي يُصيبَ بها جاهاً وجَاراً فحجُّ الجاهِ والجارِ

لكنّما الحجُّ في ديني ومعتقدي بأنْ يَحجَّ كعبدٍ حَجَّ أحرارِ ***

ما أروعَ الحجَّ تطوافاً وتلبيةً من عاشق وامق يصبو لديّارِ!

يطوف في البيتِ يقفو كلّ والهةٍ ووالهٍ ثملًا من لحظ أنظارِ

قدسيّة قد سقت كأساً معتقةً من المحبّةِ لا من كفِّ خمّارِ

هو الشرابُ الذي من ذاقَ جرعته قد ذاقَ من جنّةٍ تجري بأنهارِ

فحلّق الطائفونَ البيتَ في سَفَرٍ مع الأحبَّةِ لا يُرجى بأسفارِ

تُنشى التِلاوة في أكناف كعبته ومسكها الخُلْدُ لا مِنْ عِطرِ عطَّارِ

لقد تجلّى بهم عشق الإله هوًى يُزري بعشقِ نواقيس وزنّارِ

وإنْ تهادوا إلى الاستارِ تَحسبَهم ألحانَ عرشٍ تهادتْ حول أستارِ

يمسّحون بأحجارٍ ويا خسِئتْ جواهرُ الأرضِ أن تسمو لأنوارِ

ص: 192

من جنّةِ الخُلدِ جبريلٌ أتى جَذلًا بأسودٍ حَجَراً في اللون كالقارِ

لكنّه في ضياءٍ أو ملامسةٍ كفٌّ لحور ونَورٌ بين نُوَّارِ اللَّهُ أكبرُ لو بايعتُ مصطفقاً كفاً بكفٍ فقد نُجِّيتُ من نارِ ***

ما أروعَ الحجَّ لو قد جئتُ في نفرٍ يسعَون بين جِبال النور للغارِ!

يهرولون بشوقٍ نحوهُ سَحَراً ليرشفوا من نميرٍ مَارَ فَوَّارِ

ويُفعموا الروحَ في أكنافِهِ مُتَعَاً من كلّ غيثٍ من الرحمن مِدرارِ

مستلهمين من التاريخ عِبْرته بِعَبْرَةٍ سُفِحَتْ من عين عبَّارِ

بالأمسِ قد فَتحَ الدنيا بنغمته محمَّدٌ وسَرَى برقاً بأنصارِ

مشى يخطِّطُ للإسلام دولتَهُ ويبتني مسجداً في رُوح إيثارِ

وراح جُنْدٌ لَهُ في بأسهم شُعَلًا يهدِّمون قُصورَ الظُلم بالنار

حتَّى استوت لمباني العدلِ قامته وقام معتدلًا يزهو بأدوارِ

لكنَّما الفَلَكُ الدوَّارُ طوَّحَهُ وخرَّ في جُرُفٍ وَيلاهُ مُنهارِ

واليومَ عادَ إلى الدُّنيا فراعِنةٌ مِنْ بعدِ ما غُزي الإسلامُ في الدَّارِ

والمسلمونَ وياللَّهِ في زَمَنٍ أضْحَى يَسُوسهُمُ دَجَّالُ أدْهارِ

لكنّما النهضةُ الكبرى مُجَلجِلةٌ بَيْنَ الشعوبِ وشَبَّتْ نارُ إعصارِ ***

ما أروعَ الحجَّ لو أصغيتُ مستمعاً وحيَ الإله نديّاً من فم الغارِ

فمِن حِراءَ مَشَت في الأرضِصيحتُهُ «اقرأ وربُّكَ» قد خُطَّتْ بأنوارِ

وقد تلا أحمدُ المختارُ سُورتَها حرفاً فحرفاً وترتيلًا مع القاري

وهكذا قَرأ القرآنَ في كَبِدٍ نَشْوى وقَلبٍ من الأشواقِ مِعطارِ

وكان مِن قبلها يتلوصحائِفَهُ مِن غير إذنٍ بإعلانٍ لأسرارِ

ص: 193

لكنّما الأمرُ قد حانتْ شرائطُهُ ودارَ دورتَهُ هَدياً لأعصارِ

وقد توالتْ مِن الرَّحمنصادحةً «قُمْ» وانْفُضَنَّ دِثاراً تحتَ دَثَّارِ واصْدَحْ بتكبيرةٍ هدَّتْ عُرووشَهُمُ وأنْذرِ الكُفْرَ طُرّاً أيَّ إِنذارِ

وطهِّرِ الأرضَ من أرجاس ساستِها مِنْ بعدِ تطهير اثوابٍ لأبرارِ

فمنذُ ميلادِكَ الميمونِ قد خَمَدَتْ نارُ المجوس وأهلُ النَّار في النّار

وقد تصدَّعَ إيوانً وأَرْوِقَةٌ هُدَّتْ لقيصرَ وانثالتْ كأحجارِ

وغارَ ماءٌ بأرضٍ لم تكن رُكزَتْ فيها إلى الحقِّ راياتٌ لقهّارِ

فانهضْ لِتخفِقَ راياتٌ قد ارتفعتْ باسم الإله ورفَّت فوقَ أمصارِ

وفي غدٍ من فِناءِ البيتِ يرفعها مهديُّكم ضارباً في حَدِّ بتَّارِ ***

ما أروعَ الحجَّ لو جاء الحجيجُ إلى جَنبِ الغديرِ وحَطُّوا رَحْل زُوَّارِ!

وقد أناخوا المطايا بعد حجّهُمُ مِثلَ النبيّ بخمٍّ يَوْمَ تذكارِ

وسائلُوا الشَّجَراتِ الخُضرَ عن حَدَثٍ قد كان بالأَمسِ مشهوداً لأشجارِ

هلَّا سَمِعتُنَّ أصداءً لركبهُمُ مُذ قام يخطبُ طه فوقَ أكوارِ؟

وقال من كنتُ مولاهُ وسيدَهُ هذا عليٌّ له مولىً مِن الباري

وآيةٌ نزلت «بلّغ» بها نَفَراً من الحجيجِ لِيرووها لأنفارِ

ويعلمَ الناسُ أنَّ الدين مكتملٌ و «اليومَ» تمّت بها أنْعَامُ حَبَّارِ ***

ما أروعَ الحجَّ لو كان الختامُ لَهُ بسبطيبةٍ زائراً قبْراً لمختارِ!

ليرمقَ القبّةَ الخضراءَ سامقةً بينَ السَّماكين نَثَّتْ نثَّ أنوارِ

وقد تساقطَ منها الطَلُّ في حُلَلٍ مِن الجنائنِ حَوْلَ الجارِ والدارِ

ومدَّ أحمدُ في أرضِ البقيع يداً بها ليمسحَ جُرحاً جِدَّ نَغّارِ

ص: 194

مِن القُبُور التي فيها لِبَضعته أفلاذُ أكبادِها قُدّت بأوتارِ

أهكذا يُحفَظُ المختارُ في وَلَدٍ بالقتل والنفي والتَّشرِيدِ عَنْ دارِ؟ أهكذا الغيرةُ المحميُّ جانبُها؟ أينَ الحِفَاظُ فياللخزي والعَارِ؟

ماذا عَدا أوبَدا حتّى مَقابرهُمْ ودورُهُمْ دُرِستْ من دُونِ آثارِ؟ ***

لقاء مع المؤرخ الحجازي عاتق بن غيث البلادي

ص: 195

لقاء مع المؤرخ الحجازي عاتق بن غيث البلادي

في بداية لقائنا هذا، لو تلطفتم بالحديث عن حياتكم وعن مؤلفاتكم.

إذا كان ولابد من الحديث عن حياتي المتواضعة البسيطة، فقد ولدت- في الاصل- في البادية ونشأت حتىصار عمري 12 سنة ثم نزلت مكة ودرست بمدارسها، ولكن معظم تعليمي كان في المسجد الحرام، وللمسجد الحرام يعود كامل الفضل في أن أكون مؤلفاً او كاتباً وليس للمدارس المنهجية. فالمدارس المنهجية لا توصل الإنسان للدرجة هذهِ، حتى يصل للدكتوراه أو فوقها وأنا لم أصل الى هذا كله، وبعد عدّة سنوات من الدراسة هذهِ، التي دامت- تقريباً- ثماني سنوات او حوالى 10 التحقت بالجيش واشتغلت فيه حتىصرت ضابطاً؛ وصلت الى رتبة مقدم، وأثناء هذهِ المدة حصلت لي دراسات هامشية كثيرة منها دراسة اللغة الإنكليزية ودراسات الصحافة ودراسات أخرى. وبدات أكتب بعض الكتب مثل معجم معالم الحجاز، لكن شعرت من الصعب التوفيق بين

ص: 196

العمل العسكري كقائد والعمل الفكري ككاتب فهذا يحتاج الى وقت كثير وذلك يحتاج الى وقت كثير، مما اضطرني أن أتنازل عن واحد منهما، والذين جربوا العمل الفكري يعرفون التنازل عن واحد منهما أمراًصحيحاً، فتنازلتُ- فعلًا- عن الوظيفة العسكرية وتفرغت للعمل الفكري هذا وكان هذا سنة 1398 قبل 18 سنة. وحتى لا أطيل عليكم فأول فكرة أتت في ذهني معجم معالم الحجاز وأمضيتُ فيه عدّة سنوات، وكما تعرفون فإنهصار في عشرة مجلدات، وبعده تتابعت معجم قبائل الحجاز ثم معجم معالم الجغرافية في السيرة النبوية ثم على طريق الهجرة، ثم كتاب آخر في أنساب قبائل الحجاز وكتاب رحلات؛ اربع أو خمس رحلات. حتى الآنصار عندي في السوق مطبوعاً 22 كتاباً؛ ففي هذهِ السنةصدر الكتاب الثاني والعشرون. فهذه عناوين كتبي، فكتاب معالم الحجاز وحده كما قلت 10 مجلدات ومعجم قبائل الحجاز 3 مجلدات جمعت في مجلد ضخم واحد. اضافة إلى مئات من المقالات والبحوث في الصحف والمجلات فهذهِ غير محسوب تعدادها.

هل اكتفيتم في تأليفكم لهذه الكتب خاصة معجم معالم الحجاز على المصادر والمراجع المكتوبة أم أنتم شاهدتم هذه المعالم بأنفسكم وكتبتم عنها؟

أنا اعتمد على الدراسة الميدانية في الدرجة الأولى واخضعها للشواهد التأريخية، فأنا عندما أريد أن اتحدث عن مدينة (رابغ) أزورها وأشاهدها وأحدّدها، ثم أرجع الى التأريخ لأرى هل لها أساس في التأريخ أو أنها مدينة حادثة. وإذا استطعت أرجع الى سنة تأسيسها أو عصره ودراستها فيه.

وردّاً على سؤال حول حدود منى زمن الرسولصلى الله عليه و آله والخلفاء، وهل المجازر الآن هي داخل منى أو خارج منى؟

السؤال هذا ذو شقين: حدود منى كما حدّدها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والى يومنا

ص: 197

هذا من الشرق وادي محسر، وهذا الوادي موجود وعليه علامات وضعتها الحكومة السعودية، وقبل الحكومة السعودية كانت فيه علامات. وحدّها الغربي العقبة (جمرة العقبة الكبرى) وفيه ناس بعد العقبة يذهبون الى منى لان الازدحام كثير. ومن اليمين والشمال الجبلان أو قمم الجبلين. هذهِ حدود منى وقد جعلوا لها مدرجات، أما الشق الثاني من السؤال عن المجازر فأنا لم أرها كلّها.

المجزرة الأولى كانت في منى. والآن- كما فهمت- انتقلت الى مكان اسمه المعيصم، أنا لم أذهب اليه. فأهل مكة ليس عليهم هدي فلا نذهب للمجازر، ولكني أعرف أن الأولى في منى، والمعيصم هذا ليس من منى. وبالنسبة لمذهبنا (مذهب أهل السنة) أن الذبح جائز في كل شعاب مكة للحديث أن شعاب مكة كلها مذبح ...

وبعض المذاهب الاخرى لا تجيز إلا داخل منى، هذا شي ء قد يكون له وجه.

ما رايكم في معنى محسر، ففي الكتب اللغوية أن محسراً من التعب والاعياء، وأخذ من تحسير من الحسر أي الكد والاعياء .. هل هذاصحيح؟

هنا يسمى وادي النار، فمنذ غزو ابرهة وهو على أفواه الناس اسمه وادي النار، وعندنا قصص اصحاب الفيل، لما أرسل ابرهة الجيش ووصلت طلائعه وادي محسر أرسل اللَّه عليهم طيراً ابابيل تضربهم حتى قتلوا، وصارت الطير تضربهم حتى في المغمس غير المحسر وانا أقول ربما أخذت هذهِ الكلمة (محسر) من حسّر القوة الضاربة فصارت قليلة والآية تقول «ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئاً وهو حسير» فحسير بمعنى الكليل والتسمية قديمة، ووادي محسر معلوم ومحدد وقد جعله اللَّه الحدّ الفاصل بين منى والمزدلفة، ومحدود تجد وراءه بتره ويسمونه عمود وهو نهاية مزدلفة وبعده بقليل عمود وهو بداية منى فهو إذن يقع بين منى ومزدلفة. فلا يجوز ان تبيت فيه ليلة مزدلفة ولا تقيم فيه أيام منى، وهو مجرى واديصغير وليس وادياً كبيراً، ليس فيه أكثر

ص: 198

من 20 متراً، ودرب السيلصغير جداً فيه، وهو شعب ويسمونه وادياً، وعندنا قاعدة عند العرب وقد نزل القرآن بلغتهم عندهم الوادي إذا كان حدّاً بين جهتين قد يذهب الوادي يميناً او شمالًا إلى أي مكان يذهب فهو حدّ مهما ذهب يميناً أو شمالًا فهو يبقى حدّاً بين الأملاك، فمحسر يصطدم بالجبل ويرجع واديه شرقاً حتى يكاد يدخل المزدلفة، وبعدها يرجع مرة ثانية الى جهة العزيزية.

والمزدلفة لا تطل على عرفة وانما لها حدود ويصير بعدها حلّ أي بعد حدود مزدلفة يصير هناك حلّ، مكان لا هو من عرفة ولا هو من المزدلفة لكنه حرم، وبعد ذلك تأتي منطقة حدود الحرم. جبل نمره بين منطقة الحرام ووادي عرنة لا هو من الحرم ولا هو من عرفة أي حلّ من غير عرفة وعرفة حلّ، فعندنا منى ثم وادي محسر نسير قليلًا نجد المزدلفة وفيها جبلان يضيقان فهذا حدّ المزدلفة، ما غربها مزدلفة وما شرقها ليس من مزدلفة حرم ولكنه ليس من عرفة، حتى نصل جبل نمره هناك حدّ الحرم، بعد نمره لا هو من عرفة ولا هو من الحرم الذي هو وادي عُرنة، ووادي عرنة حدٌّ بين الحرم وبين عرفة لا ثمر فيه ولا شجرة تقطعها.

هل كان هناك من يزور مكة المكرمة قبل نزول جرهم مكة، وهل كانوا يسعون بين الصفا والمروة ويرمون الحصاة على الجمرات الثلاث؟

لا، لا هذه الجمرات غير موجودة والذبح من سنة إبراهيم، وقبله لم تكن هناك جمرات.

هل كان البيت يحجّ قبل إبراهيم؟

لا يحج لسبب واحد أن اللَّه تعالى قال «وأذن في الناس بالحج ...» فقال ربي لا يبلغ ندائي، قال اللَّه أذن وعليّ البلاغ، فقيل نادى ابراهيم بالحج فسمع الكل نداءَه. فهذا دليل على أن وجوب الحج بعد ابراهيم.

ص: 199

هذا معلوم ولكن قصدي أن جرهم لما كانوا يزورون ويريدون الإحرام يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. هل كان هذا شعارهم؟

لا، لا.

إنه موجود، هذا موجود، إنه شعار جرهم، فهذا ممتزج بالشرك، فسؤالي هل كان حجهم قبل جرهم ممتزجاً بالشرك كما كان حال جرهم وخزاعة حينما يحجون ممتزجاً بالشرك أو لا؟

هذاصحيح فجرهم قبل بناء البيت وبعده كان لهم وجود وبعد أن قال ابراهيم حجّوا، فإبراهيم قد يكون لم يتمكن من أن يُعّلم كل القواعد، وإلا فملة ابراهيم الحنيفية. لكن عندنا شي ء ثانٍ وهو أن نحدّد هل عاد وثمود قبل ابراهيم أو بعده؟

قبله، فعاد في أخبارهم لما اصابهم القحط أرسلوا وفداً يستسقي في الحرم، وهذا معناه أن الحرم كان موجوداً، لكن لم يصل الى علمي هل عاد هؤلاء قبل ابراهيم او بعده؟ على الظاهر أنه كان قبله، هذا كلام مؤلفين كبار. عملت كتاباً قبل مدة عن فضائل مكة وذكرت هذا الكلام وتعرضت الى تأريخ الحرم، لكن لم يمر علي في جميع المصادر أن هناك حجّاً قبل ابراهيم. لكن عاد لما جاءهم الخطر ارسلوا مندوبهم الى مكة ليدعو عند الحرم (في رواية) حتى يسقيهم اللَّه تعالى فنسيهم وجلس يشرب الخمر حتى غنت إحدى المغنيات ألا يا قيل قيل ويلك قم فهينا أي قم فادعو ... فقام يدعو فأرسل اللَّه لهم السحاب اسود بعد ان قال اختر لقومك الأبيض او الأسود فاختار الأسود لان فيه مطر كثير، فقال لقد اخترت لقومك اسوء العذاب. لكن هل هذا قبل ابراهيم او بعده ما في عندنا دليل.

ص: 200

هل شعب المقبرة هو شعب «أبو طالب» الذي بقوا فيه 3 سنين؟

إن شعب بني هاشم هو الذي يوجد جنب المسجد الحرام، والذي ولد فيه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله والإمام علي عليه السلام. ثم سمّي شعب أبي طالب. وفي العهد الأموي اشترى بيت أبي طالب رجل اسمه أبو يوسف فسمي حينئذ ب شعب أبي يوسف، ولما جاء العهد الفاطمي اطلق على هذا الشعب «شعب علي» وحددوا مكان ولادة الإمام علي عليه السلام في هذا الشعب. فالإمام علي عليه السلام ولد في بيت ابي طالب*، وبيت ابي طالب مشهور ومعروف في هذا الشعب. هذا بالنسبة إلى ما يخص شعب (أبو طالب). أما فيما يخصّ الشعب الذي فيه مقبرة فكانوا يسمونه شعب أبي دِب. وكان الازرقي مؤرخ مكة يقول: إنه الشعب الوحيد الذي يستقبل القبلة. وفعلًا إن وقفتَ فيه تستقبل القبلة تماماً.

فهذا المعروف بشعب أبي طالب أليس هو الذي ولد فيه النبيصلى الله عليه و آله؟

هو نفسه. بلي هو نفسه.

وأما الذي هو موجود على حدّ المقبرة، لا يقال له شعب أبي طالب وإنما هو قبر أبي طالب الذي في الشعب وهو ليس قبر عمّ النبيصلى الله عليه و آله وإنما هو للشريف أبو طالب أحد امراء مكة توفي قبل 200 أو 300 سنة. كما يذكر في تاريخ مكة.

وعلى هذا فالشعب الذي حوصر فيه بنو هاشم هو هذا الشعب.

لا، إنما حوصروا في الشعب المسمى (شعب علي)، الذي هو قريب من قصر الملك والصفا، ولهذا فإن كنت في القصر ترى الشعب. أما الشعب الذي هناك عند المقبرة فليس له علاقة بشعب بني هاشم، ولا نزلوا فيه. وانما هو مقبرة على مرِّ التأريخ .. ومقبرة مكة تسير من رعي الحجول (الحجون) حتى الجعفرية وسميت بمقبرة ابي جعفر المنصور.

هل هناك خلاف في قبر خديجة؟

ص: 201

قبر خديجة فيه خلاف. هو من المؤكد في هذهِ المقبرة. ومعرفة هذا القبر كانت معرفة وراثية كما كنتُ أقول للناس. فكل من له قبور في هذهِ المقبرة كان يقول لأبنائه ولغيرهم هذا قبر السيدة خديجة وهكذا يتوارثون هذا القول. ولكن خرجت علينا رواية، أظن أن ابن فهد ذكرها. قال: إن هذا ليس قبرها الحقيقي وإنما هناك شخص رأى رؤيا أن خديجة موجودة هنا في هذا القبر.

هل الحجون بضم الحاء أو فتحها؟

ضبط الاحرف أنا ذكرته في معجم معالم الحجاز، وأنا أظن أنه الحُجون وليس الحَجون. الحُجون جمع والحَجونصفة. وأنا ذكرت ذلك.

نعود الى كلامنا السابق (الشعب)، إذا نزلت على الحجون يوجد جسر كبير، على يدك اليسارالمقبرة القديمة، وعلى اليمنى مقبرة السليمانية، هذه المقبرة حادثة في القرن الحادي عشر تقريباً، والمقبرة التي في اليسار هي التي فيها قبر السيدة خديجة رضي اللَّه عنها وابو طالب ... وبصرف النظر عن الصحة وعدمها فلا يصل واحد إلى ذلك إلا بالبحث المؤكد والمركز، فذاك الشعب ليس له علاقة بسكان قريش ولا يصل بمكة، ففي عهد قريش كان من الضواحي، ومكة كان حدّها بعد مسجد الجن، قرب البريد هذا حدّ مكة ومنه الى الحرم. وسكانها كانوا قليلين.

وبنو هاشم كانت بيوتهم بهذا الشعب، وكان حيّاً من أحياء مكة، وكان بنو مخزوم في شعب، ولهذا فمكة مشهورة بالشعاب، هذا به مخزوم وذاك به بنو عامر جنبهم، وهذا شعب ... وبنو هاشم لهم هذا الشعب .. وكفار قريش تعاهدوا على أن لايبايعوا بني هاشم ولايشاروهم ولايطعموهم .. فبقوا محصورين في هذا الشعب على بعد مرأى من مكة وبيوتهم اذن في الشعب أساساً. وهو حيّ من أحياء مكة.

وهم أي الكفار لم يخرجوا بني هاشم من بيوتهم الى هذا الشعب، وانما هم

ص: 202

كانوا في الشعب، بيوتهم فيه أصلًا. فبنو هاشم هم سادة قريش فلم يخرجوا من بيوتهم الى هذا الشعب ليحاصروا به وإنما هم في هذا الشعب أصلًا. وقال الكفار لا نبايعهم ... وبقوا محصورين فيه حتى أكلوا ورق الشجر. كما ورد عن الرسولصلى الله عليه و آله أو عن آخر أكلنا ورق الشجر. وقد ذكرت هذا في معجم معالم الحجاز (شعب بني هاشم، شعب أبي طالب، شعب أبي يوسف، شعب علي) ويصبّ على المسجد الحرام من الشرق وهو على بعد مئة متر أو أكثر وهو سيل يصب في جبل أبي قبيس. فأبو قبيس الشمالي هو شعب علي، وفي اول الشعب كان بيت أبي طالب، وقد ولد النبيصلى الله عليه و آله فيه وكان بيتاً لعبد المطلب الذيصار فيما بعد لابي طالب، ثمصار الشعب شعب ابي طالب فيما كان في زمن عبد المطلب يسمى شعب بني هاشم، وهناك مثل قديم عند العرب «أهل مكة أدرى بشعابها».

وشعاب مكة كثيرة. وأنا شخصياً في مكة بعض شعابها لا أعرفها على كثرتها.

هناك كتاب يسمى المناسك للحربي، وليس فيه- أصلًا- اشارة الى المناسك. ما هو رأيكم فيه؟

يقصد المناسك هنا مسالك الحج، فهم كانوا يُطلقون على مسالك الحج المناسك وليست عرفة ومنى .. وهناك كتاب آخر للبكري أظن أن اسمه كتاب المسالك والمناسك أو المناسك والمسالك، وقد طبع في الكويت. وشرعاً أو اصطلاحاً المناسك هي أعمال الحج، ولم أحقق فيه وإنما الشيخ حمد الجاسر هو الذي حقق الكتاب هذا وقال: إن إبراهيم الحربي شخصية معروفة.

حدّثنا يا شيخ! حول مسجد الجن والشجرة.

مسجد الجن كان خارج مكة (الاحياء في مكة «هنا حي ثم يأتي حي آخر بينهما براج) احتكمت الجن الى رسول اللَّهصلى الله عليه و آله حسب الرواية واعطاهم حاجاتهم وقضى لهم وأسكن ناساً الى مدينة آخر الشمس لا اذكر اسمها الآن، وكان معه

ص: 203

عبد اللَّه بن مسعود، كما أذكر، وخطّ له خطاً وقال له: لا تتحرك من هنا. ولما رجع الرسولصلى الله عليه و آله أنكر عليه قائلًا كيف خرجت فقد يأخذوك وقد وضعت لك سياجاً عنهم؟ ولما رجع الرسولصلى الله عليه و آله من عندهم، فإذا شجرة حدّثها، وخطت خطوات حتى وقفت عنده ... ارجعي فرجعت .. فسجد الجن ومسجد الشجرة ليس بينهما إلا عدّة خطوات هذا مسجد الجن وهذا مسجد الشجرة وربما بينهما عشرون متراً او ثلاثون متراً او 10- 12 دكاناً. فإذاصليت بمسجد الجن وتخرج تجد مسجد الشجرة.

حول مسجد البيعة.

مسجد البيعة ونسميه مسجد العقبة. مبنيّ بحجر ومرخم، أنا شاهدته من زمن ليس ببعيد.

حول ثنية أذاخر.

ثنية أذاخر: نزل فيها رسول اللَّهصلى الله عليه و آله يوم الفتح، وتقع هذهِ الثنية بعد مسجد الإجابة من الجهة الغربية. وقيل إن الرسول دخل مكة من ثنية أذاخر وهي بجوار شعب النور، فيها مسجد النور. والرواية تقول الرسولصلى الله عليه و آلهصلى هنا هي رواية المؤرخين ولهذا فنحن نقول اخبار الاخباريين لا تلزمناصحتها ولا يجب علينا تكذيبها ففي الدين يجب علينا أن نبحث عن الرواية او الحديث أنهصحيح أو ليسصحيحاً أو أنه حسن أو ضعيف، أما في التاريخ فهو خبر لا تلزمناصحته ولا يجب علينا تكذيبه. فهو مجرد خبر كما يخبرك أحد بوجود حادث في الشارع واصيب رجل، فلا يلزمناصحته او كذبه.

أما إذا رويتصلاة الرسول في هذا المكان تكون سنة تحتاج منا الى البحث عنصحتها وبالتالي يمكننا أن نصلي في هذا المكان تبعاً لآثار الرسولصلى الله عليه و آله.

في سؤال حول مقر الرسولصلى الله عليه و آله عندما أراد دخول مكة، هل كان في

ص: 204

داخل مناطق مسكونة أم كان خارج مكة؟

الرسول كان قائداً وله جناحان من الجيش، فالفرقة التي مع الرسول ليس لها علاقة بالقتال، فقد جاءوا من أطول الطرق ووصلوا أذاخر واستقروا فيها فدخل خالد بن الوليد الى مكة، ودخل القائد الآخر (سعد بن عبادة) وهو يحمل الراية، وكان يقول اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة، ثم قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لرجل من قريش وقد يكون عليّاً: خذ منه العلم وقل اليوم يوم المرحمة ...

فتحولت القيادة الفعلية من الانصاري الذي كان غريباً عن مكة والذي قد يكون يتشفى من المشركين الى رجل من قريش ليكون اكثر رحمة عليهم. أما الرسول فوضع خيامه عند الأبطح حتى جاءه الخبر أن مكة سلّمت فدخل الحرم، وطريقة التسليم وتكسير الاصنام .. معروفة عند المؤرخين.

في طريق التنعيم يوجد مكان باسم الشهداء، ويقولون هذا مكان شهداء فخ، فهل هذا هو مقبرة شهداء فخ أم هم في مكان آخر وهذا بقي باسمهم؟

لا. لا: هؤلاء (شهداء فخ) بعد عصر الإسلام ب 150 سنة، ليس لهم علاقة بالفتح ولا بعهد الرسولصلى الله عليه و آله وهو رجل من بني الحسن كان ثائراً اسمه الحسين بن علي شهيد فخ. جاء ثاراً وقال: وإن كنت مطالباً ولكن أنا حاج ولست مقاتلًا الآن فخرج له القائد العباسي من ولد ابن عباس، واعطوا له الأمان وتعدى أحد الجنود وضربه بالنشاب وقتله، وثارت معركة وهي غير متكافئة فقتلوا، ومحل المعركة موجود وبني عليه حيٌّ.

حول ما كتب عن تاريخ الحجاز.

التأريخ السياسي مستفيض، توجد رسائل كثيرة في تاريخ الحجاز، في العهد الايوبي فى العهد العباسي ..، إنما التأريخ المذهبي لم يتعرض له أحد خاصة في الحجاز، كل سنة يتجمع الناس في الحجاز، وكل مذهب يترك له بقايا ولو كانت

ص: 205

قليلة ثم تنتشر حتى وصل الامر عندنا في المسجد الحرام إلى أن تقام أربع جماعات فيصلاة واحدة وهذا لا يرضاه رسول اللَّهصلى الله عليه و آله. أنت حنفي وأنا شافعي أُصلي وراءَك وهذا مالكي حتى إذا كان جعفرياً أصلي وراءَه، لا يوجد في ذلك مانع الرسولصلى الله عليه و آله له حديث ما احفظ نصه تماماً معناه من قال لا إله إلا اللَّه واتجه الى قبلتنا وصلىصلاتنا فهو منا، فإذا هو منا. فلماذا لا نصلي معه؟ ثم لماذا لا تصلي وراء رجل اقام الإقامة واستقبل القبلة وكبر وقرأ الفاتحة وقرأ قل هو .. وركع ورفع راسه وسجد وقام بركعة ثانية وجلس وقرأ التشهد الأول وقام الى الركعة الثالثة ثم سلّم ...صلّىصلاة كاملةً فلماذا لا تصلي معه الصلاة؟ هل ابتدع في صلاته، او ارتكب بعض المخالفات مثلًا .. فإن كانتصلاته كاملة فلماذا لا يصل خلفه ولا تسأل عن مذهبه؟ في زيارة بعض الاخوان لي اقترحت عليهم اقتراحاً وقلت: أنا لست من العلماء بل انا من تلاميذهم، ولكن أحياناً يقترح التلميذ على استاذه وقلت: لو تشكل لجنة عالمية اسلامية وتدعو المذاهب حتى وإن كانت شاذة، وتبين أسباب الخلاف بينها ودرجاته، سواء كان خلافاً ظاهرياً كبيراً أو كان خلافاً متوسطاً أو طفيفاً. تطالب مثلًا أصحاب المذهب الشافعي وعلماءَه والمتمسكين به في اليمن ومصر وبعض مناطق الحجاز تطالبهم بتقديم قائمةصغيرة بالاختلافات وما يريدونه، ثم انتم أيها الزيدية ما هو الخلاف بينكم وبين الحنابلة أو بينهم وبين الجعفرية وبين هؤلاء والمالكية ... اللجنة هي أيضاً يجب أن تتألف من عقول مرنة ليست متعصبة، فالتعصب في الإسلام يعمي ويصم. الرسول قال يسروا ولا تعسروا. واللَّه يقول لرسولهصلى الله عليه و آله «ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك» اي لما بقي معك أحد. كان الرسولصلى الله عليه و آله يرى خطأً ويبتسم، يرى الرجل يصلي خطأ فلا يقول له انت لا تعرف الصلاة بل يُرشده الى الصحيح دون أن يخجله. دخل رجل غريب مسجداً وجعل المحراب

ص: 206

خلفه وصلى وإذا بالمؤذن يذهب الى الإمام ويخبره واذا بالامام يقول له آه آه ويردعه بشدّة .. وقلتُ دع الرجل يسلم ثم خاطبه كما يقول الرسول بما يفهمه. ثم يا أخي كيف تقول لشخص توجه الى القبلة بصلاته انت لست مسلماً. أنا أعرف أن هناك جماعة التقريب ولكنهم كسالى أو اصطدموا .. فعليهم وعلينا أن نشخص الداء أولًا ثم نُعطي العلاج له. فإذا استطعت أن تعالج الداء فلك أجر كبير ومضاعف وان لم تستطع فقد كُتب لك أجر، فالمجتهد إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة.

نأمل أن تقوم دور التقريب في القاهرة وطهران وفي غيرها بواجبها، وتتعرف على أسباب الخلاف بين المذاهب وتقول كلمتها.

لم يك منظور السائل ما تفضلتم به، وإنما منظوره من الناحية السياسية والتأريخية وعن الناس الذين يعيشون في الحجاز.

إن أوضح التواريخ سياسياً هو تأريخ الحجاز، كان بلداً جاهلياً قامت فيه سلطة لقريش ليست دولة ولكنها سلطة على الحرم وعلى أماكن أخرى، ثم أتت الرسالة وكانت اول البلدان التى التفت حول الرسول وآخرها كما في فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة. وبقيت موحدة في عهد الخلفاء الراشدين ثم استقلت بلاد الحجاز ومصر وشي ء من بلاد فارس في عهد ابن الزبير تسع سنين فصار ابن الزبير وعبد الملك بن مروان خليفتين، وبعدها انتهى الأمر الى عبد الملك بن مروان والدولة الأموية. وكذلك الدولة العباسية.

ولما تفككت الدولة العباسية أو ضعفت قامت دولت الأشراف هنا، وكانت تابعة الى دولة كبرى الى بغداد أو إلى القاهرة. بعدها أتت الدولة الفاطمية وبعد هذا كله الدولة الأيوبية التي حررت فلسطين من النصارى. وكان الحجاز- مع وجود دولة الأشراف- تابعاً الى الدولة الأموية أو تستولي حوالى 1000

ص: 207

سنة عليهم اليمن، وجاءت الدولة العثمانية في القرن العاشر وصارت دولة قوية ولم تذهب وقد ولدتُ في زمنها ثم جاء الحكم السعودي في سنة 1343 ه فهذا تأريخ واضح. وحتى لو ذهب الحكم تبقى السلالات، فالعباسيون منهم في الحجاز كثير، والأمويون منهم كثير أيضاً في الشام ولبنان .. اعرف فلان العباسي وفلان الأموي وعندنا في مكة ايضاً فلان العباسي وفلان الأموي .. والاشراف ايضاً موجودون، وعندهم ناس معروفون، ثم عندنا الحسينيون هم السادة أما الحسنيون فهم الأشراف. وعندنا هنا طبيعة في القبائل ففي كل قبيلة رجل يأمر وينهى وهو شيخ القبيلة والدولة تخاطب الشيخ هذا، فإذا أرادت شخصين من القبيلة فلا يرسلوا مندوباً لجلب فلان وإنما يرسلون الى شيخ القبيلة لإحضار فلان، وكل قبيلة في ديارها، فالامير يطلب من شيخ القبيلة احضار فلان، وعندنا شي ء من الديمقراطية فالقبيلة لا تمتهن او ليس لها رأي، وشيخ القبيلة ايضاً يجمع قبيلته للتشاور إن كانت هناك أزمة في البلد، ويكونون ايضاً حاضرين خاصة ايام الجهاد. وحتى أن والدي كان يحكي لي أن كل شيخ قبيلة كان يعرف قوة قبيلته. فيجمع مقاتلي قبيلته للجهاد.

إن الرابطة موجودة وما زالت حيّة بين افراد القبيلة وإذا حدثت أزمة في البلد يقف الجميع، وإذا كان هناك جهاد ضد عدو ترى القبائل تقدم المال والافراد لدعم المجهود الحربي في عملية الجهاد تلك.

وردّاً على سؤال حول مِن هم أهل البيت؟ قال البلادي

إن هناك خلافاً بين المؤرخين حول أهل البيت. والشي ء الثابت بين الجميع أن أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين، ولكن بعض المؤرخين يضيفون أزواج النبيصلى الله عليه و آله إليهم وهناك من يضيف العباس وعقيل ..

عندنا نحن الشيعة أهل البيت (فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها) وهذا الحصر

ص: 208

فيه روايات موجودة عندنا. وهؤلاء فقط هم المشمولون بآية التطهير «إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً» وهو بحث قرآني وتأريخي .. مفصل.

وإن السادة: كل من ينتسب الى هاشم جدّ النبي الأكرمصلى الله عليه و آله وعندنا بحث مفصل في الفقه في باب الخمس .. عن بني هاشم.

إن سلالة بني هاشم انحصرت بعبد المطلب.

هل الان تُخرجون الخمس من بيت المال؟

نعم هذا حكم شرعي عندنا. كما أن الزكاة حكم شرعي أيضاً عندنا.

وفي سؤال حول غار ثور، قال البلادي

نحن لسنا ملزمين بالذهاب الى كل أثر لرسول اللَّهصلى الله عليه و آله بل نحن ملزمون بالآثار العبادية. فأنا أرى الغار من بعيد واعرف محلّه ولكن لم أصل إليه ولست ملزماً بالذهاب اليه، الرسول ذهب خائفاً مهاجراً ملتجئاً اليه.

ومن الناحية الجغرافية هو في جنوب مكة، والقدماء أخطأوا حينما قالوا هو أسفل مكة، وهو الآن داخل الحرم وليس داخل مكة البنيان، البنيان يبعد عن الطريق.

بعض أصحاب الكتب التأريخية يقولون إنه يبعد 3 كم عن مكة.

المقصود عن الكعبة لان المسافات تؤخذ من باب المسجد الحرام فهو يبعد 3 كم عن الكعبة.

فلما يبعد 3 كم عن الكعبة فهو إذن داخل مكة.

مكة تتسع في الشمال ووصلت إلى 7 كم فمسافة مكة من الشرق الى الغرب 22 كم، ومن والشمال إلى الجنوب 10 كم حتى الحرم، سبحان اللَّه يعني الحرم من الشرق إلى الغرب حوالى 40 كم وزيادة ومن الشمال الى الجنوب بحدود 14 كم

ص: 209

أو 18 كم وهو عبارة عن مستطيل طوله من الشرق الى الغرب وعرضه من الشمال الى الجنوب.

لو كانت هناك محاضرات جيدة بين العلماء لحُلّت كثير من المشاكل الموجودة بين الفرق الإسلامية.

هذا يرجع الى نشاط المؤسسات العلمية، وأنا لحد الآن ما رأيت حكومة تعرف هذا التقارب والاجتماعات بل هناك مؤسسات مثل رابطة العالم الاسلامي في الأردن، جمعية أهل البيت في سوريا، ورابطة العلماء في ايران ومجمع التقريب، جماعة العلماء. رابطة الأزهر، هؤلاء هم الذين يقع عليهم الواجب. أما الحكومات فبعضها لا يعرف الإسلام من أين أتى. الإمام الخميني رحمه الله وأربعة أشخاص أو خمسة قاموا بالسّنة وفرضوا الشريعة، لكن الاخرين لا يعرفون شيئاً.

الإمام الخميني كانت عنده فكرة ايجاد خندق واحد أساسه المدارس والحوزات العلمية ضد الكفر العالمي. ونحن كلنا مسلمون كما قلتم من قال لا إله إلا اللَّه وصلى الى الكعبة فهو مسلم وهم يدٌ واحدة على من سواهم.

نعم ويتركون خلافاتهم يحكم اللَّه بها يوم القيامة إذا ما تمكنا من الاتفاق على إزالتها الآن واللَّه يقول «وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» (1).

وإلا لماذا يكفر بعضنا بعضاً؟ الكافر من أنكر شيئاً من جوهر الإسلام، من أركان الإسلام. أما الذين يكتّفون أيديهم أو الذين يقولون آمين فهؤلاء ليسوا كفاراً، نحن نكتّف أيدينا. وهناك مذهب لا يكتف أبناؤه أيديهم في الصلاة، المالكية والزيدية لا يكتفون أيديهم .. فهل هؤلاء ليسوامسلمين؟ هذهِ اختلافات في الفروع البسيطة والحمد للَّه أركان الإسلام الخمسة لاخلاف فيها. أركان


1- 1 النحل: 124.

ص: 210

الايمان لا خلاف فيها. الكتاب المنزل واحد. وقد سمعت أن عندكم (الشيعة) زيادة، أو عندكم مصحف كبير غير هذا. أو أن الجعفرية يقولون ما عندكم (السنة) شي ء من القرآن نحن عندنا مصحف ..

الجعفرية يا شيخ لا يقولون هذا وإنما الآخرون يتقولون عليهم بهذا .. نحن نسمع أن هناك مصحف فاطمة ونحن في ايران لم نر مثل هذا الكتاب.

المصحف في اللغة هو الكتاب الذي يحويصحائف، فالقرآن اطلق عليه المصحف اصطلاحاً. كما أن الاذان اصطلاحاً (اللَّه أكبر ...) وحتى حين تنادي واحداً فهو أذان. أنا أعرف الكلام هذا، لقد أطلعت أحدهم على كتاب تفسير محمد باقر الناصري وقلتُ له انظر بأي شي ء بدأ؟ لقد بدأ بالفاتحة وهي سبع آيات. وانتهى ب (قل أعوذ برب الناس ...) ثم نظرنا داخل التفسير فوجدنا قال ابن عباس وقتادة ... هذا تفسير ونظرنا أيضاً الى تفسير الطباطبائي ووجدنا فيه سعة ذكر فيه الخلافات المذهبية، هو يقول هذا يجوز وهذا لايجوز، الذي يجوز عنده قد لا يجوز عندنا ..

إن شاء اللَّه تتفضلون الى ايران ستجدون في مكتباتنا الشخصية والعامة كل كتب السنة الفقهية والروائية ومنهاصحيح البخاري وفي مكتبتي الشخصية يمكن عندي 15 دورة تفسيرية .. وكل ما في مكتبتك هذهِ عندي في مكتبتي ..

ولكن مع الأسف في مكتبتكم لا يوجد شي ء من كتبنا .. وتفاسير السنة التي عندي أكثر مما هي عندكم في مكتبتكم هذهِ، تفسير القرطبي. تفسير في ظلال القران. تفسير الطبري، 11 دورة تفسيرية من السنة موجودة عندي ..

أنتم تتبعون الإمام جعفر الصادق عليه السلام وهو من أهل الرسالة والنبوة ..

فالمفروض أنتم ورثة القرآن.

نحن نقول لو كان في مكتبكم كل كتب الشيعة لأمكنم الاطلاع على ما عند

ص: 211

الشيعة، فيميز بين ما يؤمنون به وما اتهموا به. والعجيب أننا إذا ردّ بعض علمائنا تهماً وشبهات تثار حول الشيعة قال الآخرون إن هؤلاء أهل تقية.

نعم إن قلتم هذه التهمة ليست عندنا، قالوا عنكم أنتم أهل تقية.

عندنا تقية ولكن الآن نحن لا نخاف من أحد، الشيعي يخاف من السني في زمن العثمانيين والصفويين فقد كانت هناك تقية، فالسنة في ايران كثيرون وفي مناطقهم كان هناك خوف، مشاجرة وخلاف بينهم تبعاً للخلاف بين الصفويين والعثمانيين فجرّ الخلاف الى السنة والشيعة وتوسع. وكان السبّ والشتم الموجود في كتب السنة والشيعة لأسباب سياسية. فكان أصحاب هذهِ الكتب إما من العثمانيين ضد الشيعة وإما من الصفويين ضد السنة. أما الآن فلا يوجد خوف عندنا. والتقية التي عندنا اليوم هي تقية مداراة، وهذهِ وظيفة لنا، فعندما تدخل مسجداً لأبناء السنة- وحسب فتوى الإمام الخميني- فعليك أن تصلي وراءَهم، لهذا ترى الايرانيين يصلون جماعة في مساجد أبناء السنة توحيداً لصفوف المسلمين، كما أن اخواننا السنة يصلون في مساجد الشيعة لأنه توحيد لصفوف المسلمين في خندق واحد ضد أعدائهم.

على ما نقول نصل الى نتيجة حتمية بأن كل الاختلافات التي بيننا كانت على أساس تاريخي وسياسي والقليل منها على أساس ديني. فلو قسمنا الخلافات الى عظمى ووسطى وصغرى، نجد أن العظمى هذه نتيجة سياسية، نتيجة للقتال بين معاوية وعلي.

تقول إن السياسيين استغلوا الخلافات العقائدية وأذكوها، هذه هي القصة.

والى يومنا هذا إذا تخاصمت دولة في افريقيا وأخرى في آسيا، وصار كل منهما يرجح موقفه أنه هو الصواب ويصف الآخرين بأنهم كفرة وملحدون وأنه

ص: 212

فقط هو المسلم.

كما تلاحظون في العشر سنوات الأخيرة الكثير من الكتب تطبع ضد الشيعة.

لماذا تطبع مثل هذه الكتب وبالذات في السنوات العشرة الأخيرة؟ وهذهِ الكتابات ضد ايران بعد نشوب الحرب العراقية الايرانية بعد أن قام العراق باعتدائه على الجمهورية الاسلامية وقد ساعدته كلّ الدول في اعتدائه على ايران، وبدأت تكتب أيضاً ضد الشيعة. واتحدوا ضد الشيعة، وإلا فالخلاف تاريخياً بيننا وبين السنة حول الخلافة والولاية.

معنى هذا أن الصورة تكررت كما كانت بين العثمانيين والصفويين أيام الدولة العثمانية والدولة الصفوية، وقد تبودلت الاتهامات بينهما، كل منهما ينسب الكفر والخيانة للآخر. وكما كان الحال في الدولة العباسية والدولة الفاطمية، فترى من يقول: إن العبيدية كفرة، طيب كيف يتهمون بالكفر وهذا الأزهر ثمرة من ثمارهم وإن كان هو شافعياً وليس اسماعيلياً؟ وإن لم تكن لهم حسنة إلا بناء القاهرة والازهر لكفى في اسلامهم هذا. قد يكون هناك شي ء من الانحراف ولكن لان الدولة العباسية كانت المسيطرة وانها كما يقولون عنها ظل اللَّه في الارض فكانت تشتم وتتهم الدولة الفاطمية بالكذب والانحراف ... ولهذا يقول شاعر الفاطميين

تقول بنو العباس هل فتحت مصر؟! فقل لبني العباس قد قضي الأمر نحن ندعوكم الى تعلم اللغة الفارسية.

نحن ندعوكم الى لغة القرآن أنتم تدعوننا الى لغة من؟

نحن نفتخر بأن نقول نحن أيضاً عرب أبناء الإسلام.

كانت هناك ندوة في منى وقد اشتركتُ بها، وكانت ندوة جيدة، فأحد

ص: 213

الخطباء قال نحن نقول العرب، ولا نقصد من ناحية الأب والأم إنما العرب بالإسلام، فأبناء الإسلام الذين يؤمنون بالنبيصلى الله عليه و آله وبالقرآن. فنبيهم عربي وقرآنهم عربي فهم ايضاً عرب.

فيلتحقون بهم.

فأنا قلت بعد نهاية الندوة للوزير، يا معالي الوزير عندنا رواية عن النبيصلى الله عليه و آله لابد من أن تسمعها فدعني أقرأها لك:

فقال: اقرأها.

فقلت: عن النبيّصلى الله عليه و آله: علّموا أولادكم اللغة العربية فإني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة العربية.

فنحن مهتمون بالعربية .. ولكن تعلم اللغة الفارسية تجعلكم تطلعون على ما عندنا من كتب بهذه اللغة، فإن كثيراً من الكتب غير مترجمة.

أنا كرأي شخصي بحت، أنا لا أمثل أحداً: ما دام قد ابتلينا بالدول الإسلامية وأنا من النوع الذي لو كان له رأي أو له كلمة أو له قدرة لدعوتُ الى دولة واحدة. والاسلام لن تقوم له قائمة ما دام أن كل دويلة تقطعها في ساعتين بالسيارة، حتى أن بعض الدول حينما تبحث عنها في الخارطة لابد لك من أن تستعمل مجهراً، وبعضها دولصغيرة في قلب أوربا. لهذا فإن الاعداء يقضون عليها دولة دولة ويقضمونها دولة دولة ففي الاتحاد السوفيتي دول اسلامية متعددة، البوسنة والهرسك في قلب اوربا، والدول الاسلامية عددها 50 دولة لاتستطيع أن تقول كلمتها وتسمعصوتها وتقول هذاصح وذاك خطأ، تجد بعضاً منها جائعاً والبعض الآخر له مشاكل مع جيرانه، وبعضها بقايا شيوعية وبعضها حكامها ليس لهم همُّ الإسلام .. فلو هذا العالم دولة واحدة فلا تستطيع ان تقول الدولة العظمى هي امريكا أو تقف أمريكا ضده.

ص: 214

هذا كلام الإمام الخميني: لو كنا نوحدصفوفنا فنحن أكبر دولة، فالإسلام ثلث العالم.

مساحة وسكاناً واقتصاداً أكبر من أمريكا، السكان 1000 مليون على أقل تقدير، وامريكا 240 مليون، المساحة نصف آسيا ونصف افريقيا وجزء من أوربا أيضاً، البترول والقطن والبلح (التمر) والذرة والقمح ... كل هذا يُمكن أن يفيض عن الحاجة. لكن تجد دولةصغيرة ولابرميل بترول عندها وبجانبها دولة تسير أنهاراً من البترول ... فيه دولة القمح فيها كثير وأخرى ليس عندها شي ء وتريد تلك عملةصعبة فهذا ليس هو الإسلام.

وجواباً عن سؤال حول تحريف القرآن:

هذا قلته: إن بعضاً يقول إن الإيرانيين أو الشيعة بالخصوص يقول إن القرآن محرف .. وأنا اطلعت بأن القرآن هو القرآن وليس هناك قرآن آخر.

نحن نأمل منكم ومن العلماء أن نوحدصفوفنا ونبحث في الخلافات، وبهذا نصل الى حلّ بعض الخلافات الموجودة في الناحية العقائدية في قصة الولاية والخلافة وفي الفروع الفقهية، وأن يتم البحث بكل حرية وتحترم آراء كلّ مذهب.

أنا اقول بعض الخلافات من النوع السياسي والبعض الآخر من النوع الديني. من الناحية السياسية انا اقول العالم الاسلامي يكون واحداً، وأما الاختلاف في المذهب فهذا أمر وارد ولا يتنافى والدولة الموحدة، بدليل أن هذه الدولة العثمانية الواسعة الكبيرة كانت فيها مذاهب 6 أو 7 في الشام الاسماعيلية، في لبنان الجعفرية، وفي شرق الجزيرة وفي اليمن الزيدية، وهنا كانت الشافعية والحنفية، وفي نجد الحنابلة، وفي مصر الشافعية .. فهذه المذاهب كلها موجودة في داخل الدولة العثمانية وليس هناك خلاف على من يحكم. وإن كانت الصلاة في

ص: 215

الحرم تؤدى من قبل عدّة أئمة هذا ما كان ينبغي أن لايحصل.

كم ساعة تشتغلون يومياً مطالعة وتأليفاً ..؟

اللَّه سبحانه وتعالى يقول «وخلقكم أطواراً» قال العلماء الكثير في تفسيرها، أنا ارى وأقول في تفسيرها- وإن كان يخالف العلماء- أقول: إن الانسان يخلقصغيراً ويتحرك قليلًا ثم لما يشب قليلًا يبدأ يركض ويلعب طول النهار ولا يطرحه إلا النوم، ولما يكبر ويتكلف بالعمل يظل يتضجر ويقول أنا أعمل كذا ولا أفعل كذا، ثم لما يصير شاباً يتطلع الى الزواج والانجاب والبيت ويريد أن يسكن بيتاً وحده ومن ناحية العمل تبدأ الطريقة نفسها. فأنا أول ما ابتدأت العمل الفكري، لا اعرف حالة اسمها الراحة، فأنام الساعة 12 ليلًا وأقوم الساعة 4 أُصلي الفجر، أربع ساعات فقط، وقد أنام ظهراً ساعة أو لا، وأشتغل الصبح والعصر. أما الآن فقد تغير الوقت كثيراً.

هل تستفيد من كتب المستشرقين؟

لا أقرأ لهم. فبعد أن تكونت عندي فكرة كاملة حولهم، فلا أقرأ لهم بل لا أقرأ حتى للطيب منهم. ولأني أعرف ما يريدون؟ يكفي أنهم يشككون في أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله لم يولد عام الفيل حتى يقولوا أنه نبئ قبل الأربعين، وبالتالي فهو ليس نبياًصحيحاً. فاللَّه سبحانه لم يجعله نبياً قبل الاربعين. بل في الاربعين فهو إذن لم يك النبيّ المطلوب. فهم جاءوا يقولون إن النبيصلى الله عليه و آله لم يولد عام الفيل بل بعده بسنتين حتى يصير عمره عند النبوة أقل من أربعين وبالتالي فليس هو نبياً لأنه لم يبلغ الاربعين «انظر هذه الاستنتاجات». الآن هم يركزون عندنا أن نترك الحديث ونرتل القرآن الذي نزل من السماء وأن هذا هو الصحيح وإذا قلنا غير هذا فنحن كفار. كل هذا يقولونه حتى اذا ثبت هذا في أذهاننا وتركنا الحديث ومسكنا على القرآن يقولون طيب القرآن ما فيه كذا وكذا حتى يبعدونا عن السنة

ص: 216

النبوية ويردونا عن ديننا كما يقول تعالى «حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا»، «ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم» كما أن عندنا من يريد أن يُرضيهم فيكتب التاريخ الميلادي دون الهجري. بدعوى أن العالم لايعرف التاريخ الهجري ونحن نشكل ألف مليون نسمة.

طيب نذكر الهجري حتى يعلم العالم أن عندنا التأريخ الهجري. ثم هم يحتاجون الى بترولنا الى معادننا .. فلنكتب كل ما يخصّ ذلك وغيره بالهجري ليعلموا أن لنا تأريخاً خاصاً بنا كما تعلمنا نحن منهم بأن عندهم تاريخاً خاصاً لهم واذا كانت لنا شغلة أو قضية اول عمل نقوم به أن نرتبها عند الاوربيين او الامريكين ومن قبلهم، أما الموجود هنا فلا قيمة له.

**** هناك مصادر تأريخية للفريقين «الشيعة والسنة» تثبت أنّ ولادة الإمام علي عليه السلام كانت في داخل الكعبة.

الهوامش:

الحجّ قبل مائة سنة

ص: 217

الحجّ قبل مائة سنة

عبد اللَّه المؤمن

عبد العزيز دولتشين وسفرته السرية إلى مكة

بادئ ذي بدء يَحسُن بنا أن نتعرف على البطاقة الشخصية لعبد العزيز دولتشين، حيث «ولد في 24 حزيران 1861 م في عائلة ضابط في الجيش الروسي. وقد شغل والد المؤلف مناصب هامة في ادارة مناطق الاورال الجنوبية في روسيا.

بعد التخرج من مدرسة الامبراطور بافل العسكرية في بطرسبورغ، خدم عبد العزيز دولتشين خمس سنوات في قلعة دينابورغ، وتعلم في سنوات 1887- 1890 م فيصفوف اللغات الشرقية ... اللغات العربية والتركية والفارسية والانكليزية والفرنسية، ولم يسع وراء الوظائف العالية.

وعندما وردت مسألة ضرورة ترشيح ضابط من الجيش الروسي، لأداء فريضة الحج، بعد أن تمت دراسة هذه الممارسة وهل تشكل خطراً على مصالح روسيا العسكرية والسياسية في الشرق؟ ... فقد تم ترشيح دولتشين لهذه المهمة،

ص: 218

وبما أنه كان مسلماً، فقد اعتبر إمكانية أداء فريضة الحج منحة من القدر، ومهمة المأمورية فرصة لمساعدة الآلاف من اخوانه في الإيمان؛ من المسلمين من رعايا روسيا، مساعدة فعلية في أداء فريضة الحج، ...

وفي حياة دولتشين مرحلة خاصة ترتبط ببناء جامع بطرسبورغ حيث كان رئيساً للجنة بنائه، وقد جرى إرساء أساس الجامع في 3 شباط 1910 م.

ومن المؤسف أنه لم يتسنّ لنا أن نعثر على مواد تتعلق بمصير عبد العزيز دولتشين لاحقاً».

حدود الحجاز:

في تقرير بعثه دولتشين عن المأمورية إلى الحجاز يذكر معلومات تمهيدية موجزة- كما تأتي تباعاً- عن الحدود بقوله: «الحجاز الذي تتّجه إليه حركة حجّ المسلمين إنما هو جزء من الجزيرة العربية يمتد شريطاً ضيقاً بمحاذاة ساحل البحر الأحمر ... تحدّه من الشمال فلسطين، ومن الشرق نجد، ومن الجنوب اليمن ومن الغرب البحر الأحمر، واسم الحجاز من فعل حجز، أطلق حسب تفسير العرب، نظراً لوجود هذه المنطقة بين نجد والبحر الأحمر.

وبالنسبة لنا لا يتسم بأهمية غير القسم الجنوبي 3/ 1 من الحجاز حيث تقع مدينتا مكة المكرمة والمدينة المنور».

سطح الحجاز:

ومن ثم يصف لنا دولتشين طبوغرافية الحجاز بمكوناته من السلاسل الجبلية، والصخور الحادة الأطراف وبوديانه، حيث يقول في ذلك: «الحجاز بلد جبلي جداً، سلاسل الجبال المؤلفة من كتل حجرية عارية، وغير العالية نسبياً

ص: 219

(1000- 3000 قدم)، وأحياناً تتواجد بين الجبال- خاصة على مقربة من البحر-صخور مميزة حادة الأطراف.

والجبال تقطعها فجاج رملية خالية من الماء يسمون الواحدة منها «وادي»، وأهمها تتجه نحو البحر، وفي قاع هذه الفجاج فقط توجد ينابيع الماء النادرة في الحجاز، فليس في الحجاز نهر ولاحتى نهير، وماء الينابيع الذي يسيل هنا وهناك في قاع الوادي ينفقونه في الحال لرى البساتين ومباقل الخضروات، والسكان الرحل يستعملون في المعتاد الآبار والصهاريج التي تمتلئ بالماء السائل من الجبال أثناء الأمطار الغزيرة.

وأغنى الفجاج بالماء ومظاهر السيول هي وادي فاطمة، وادي الليمون، السيل الكبير قرب مكة، وادي الصفراء غربي المدينة المنورة.

إن منظر الحجاز هو على العموم واحد- كئيب وصارم ومرهق بقحله وانعدام الحياة فيه؛ ...

النباتات والحيوانات:

ثم ينتقل دولتشين في تقرير رحلته الحجازية إلى نباتات الحجاز واصفاً ندرتها، وكذلك بالنسبة للحيوانات التي لاتتعدىصنفاً من القرود، والثعالب، انظر إليه يقول: «الحجاز فقير جداً بالنباتات من جراء القيظ الخارق ونقص الرطوبة، ومن عداد النباتات الخشبية رأيت في جميع الفجاج شجرة شائكة جداً من نوع الطلح اسمها الشوك ...

وبصورة اندر تقع العين على أصناف أخرى من النباتات، ومنها أم غيلان والسنط، وأقرب إلى البحر تقع العين على مجموعات كبيرة من نبات يشبه الايندرا كثيراً، ولكن مقاييسه كبيرة ويسمى العُشرّ.

ص: 220

في ضواحي مكة ينمو بأعداد كبيرة السنا المكي؛ وأوراقه معروفة في البيع باسم «الورق الاسكندري».

الحجاز الفقير بالنباتات فقير أيضاً بالحيوانات، ومن عالم الحيوان، رأيت شخصياً، بالشكل البري، نوعاًصغيراً من القرود، والثعالب، ورأيت من الطيور الحمام والغراب، والقنابر الكبيرة والحدآن، يقولون: إنه توجد أيضاً ذئاب وضباع وظباء، ومن الطيور اللقلق والهدهد، وغيرهما».

حركة الحجّ في الحجاز:

يصف دولتشين طرق المواصلات- في زمنه- وما يتعرض له المسافرون من مخاطر وظروف خاصة، ونتيجة لذلك فالسفر يكون عادة نهاراً تجنباً لما لاتُحمد عُقباه، انظر إليه حيث يقول: «لإجل النقل يستعملون في المعتاد بعيراً- جملًا للنقل، وفي هذه الحالة يشدّون إلى ظهره سلّتين (قفتين) لهما، لأجل التضليل، ضرب من خصين، ويسميان بالرحل، او يستعملون بعيراً خفيفاً (هجيناً) يشدّون على ظهره سرجاً فقط.

وعدا الرجال يوجد أيضاً ما يسمى «التختروان»- أي اكشاك معلقة بين عريشين طويلين، وتختروان يتطلب جملين للنقل غالباً ما يستبدلونهما نظراً لثقل هذه المنشأة الكبيرة، ولذا يكون النقل عليهما غالياً جداً، الامر الذي لايستطيعه سوى كبار الاغنياء.

ومن الجمال يؤلفون قوافل كبيرة نوعاً ما بقيادة «المقوّمين»! أما الهجائن، فيشكلون منها ركباً يقوده على طول الطريق كله شيخ ينتخبه المسافرون أنفسهم عند الانطلاق.

ونظراً لمخاطر الطريق، تسير القوافل عادة في النهار، وتنطلق في الصباح

ص: 221

الباكر وتتوقف تبعاً لطول المرحلة، وتشكل جمال كلّ مقوّم مجموعة منفردة تصطف وفقاً لعرض الطريق، في ثلاثة أو أربعة خطوط متوازية. وتسير المجموعات بحيث لا تكون بعيدة بعضها عن بعض.

والمقوّم نفسه يمضي على ظهير هجين؛ أما سواقوا الجمال، فإنهم يمضون دائماً سيراً على الاقدام مهما كان الطريق طويلًا، لأن الرحال (الشقادف) التي تشغل مكاناً كبيراً من حيث العرض غالباً ما تتصادم، فلا يندر أن يتعرض الجالسون فيها لانقلابات غير مستطابة ابداً.

وفي أوقات القيظ من السنة ينطلق الركب بحكم الضرورة ليلًا وذلك في الساعة الواحدة أو الثانية، ويتوقف حوالى الساعة السابعة، ثم ينهض حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر ويسير حتى الساعة 8 أو 9 مساء.

عادة تجري حركة القوافل والركب في غضون 4- 5 أشهر من الحج وفي شهر رجب حين يقوم سكان مكة بالحج إلى المدينة المنورة! أما في الوقت الباقي، فيتوقف كلّ اتصال».

المحملان السوري والمصري:

ودرءاً للمخاطر- مخاطرطريق الحج- يلجأ الحجاج منذ زمن سحيق- كما يقول دولتشين- إلى إرسال قوافل كبيرة كلّ سنة في زمن الحج محمية بخفر قوي أو كما يقول: «نظراً لمخاطر الطريق، يلجأون من سحيق الزمان إلى إرسال قوافل الحجاج كلّ سنة إلى مكة والمدينة المنورة لمناسبة زمن الحج، بحيث تكون قوافل كبيرة جداً، ويحميها خفر قوي، ويسير على رأسها محمل.

أحد المحامل- المحمل السوري- ينطلق من دمشق، وعادة يقطع المحمل السوري الطريق الى المدينة المنورة في غضون 27- 30 يوماً، ومن المدينة الى

ص: 222

مكة في غضون 12 يوماً؛ وبعد انتهاء المراسم، يعود في الحال الى دمشق بالطريق ذاته.

المحمل الآخر- المصري- ينطلق من القاهرة، قبل أن يحتلّ الانجليز القطر المصري، كان المحمل ينطلق في طريق البر عبر السويس والعقبة والوجه وينبغ ورابغ الى مكة ويعود بالطريق ذاته، معرجاً على المدينة المنورة.

أما الآن فينقلون المحمل المصري من السويس الى جدة بالباخرة، ويعيدونه عبر المدينة المنورة الى الوجه حيث تنتظره باخرة خاصة، ومع المحمل المصري ينقلون «الكسوة» المهيّأة كلّ سنة في القاهرة، وهي غطاء حريري أسود لأجل الكعبة».

بين جدّة ومكة:

ويصف دولتشين الطريق بين جدّة ومكة بكونه أكثر السبل انتعاشاً حيث تتوفر فيها مخافر ومقاه أو كما يقول:

«الطريق بين جدّة ومكة هو أكثر السبل انتعاشاً وأنسبها في الحجاز، وتحرسه على كلّ امتداده مخافر يضمّ كلّ منها 10- 12 رجلًا، وفي النقاط التي يتوفر فيها الماء، توجد سقائف من القصب، وهي ضرب من خانات قهوة أي مقاه يمكن الحصول فيها على القهوة والشاي. وعلى طول الطريق، يستخرجون الماء من الآبار؛ وطعم الماء في النصف الأول من الطريق حتى جدة غير مستطاب في كل مكان.

وبمحاذاة الطريق ينطلق الخط التلغرافي الواصل حتى مكة على أعمدة جيدة من الحديد الصبّ ومنها عبر عرفات الى مدينة الطائف على اعمدة خشبية».

ص: 223

بيوت مكة:

ثم يعرج دولتشين الى مكة واصفاً بيوتها ذات الطوابق الثلاث، التي بنيت بالهندسة المعمارية الاصلية، وذاكراً أن مادة بنائها الحجر المستورد، أو كما يقول:

«البيوت في مكة مبنية في المعتاد من ثلاثة طوابق، مع أنه توجد كذلك بيوت من 4 أو 5 طوابق، الهندسة المعمارية أصلية جداً، جميع الجدران تحفل بصفوف من نوافذ ناتئة تسمى «مشربية»، أما مادة البناء فهي الحجر والآجر المحروق، المرصوصان على الأغلب على الطين؛ وكذلك الخشب المستورد على الاغلب من جزر الزوند، والخشب الروسي (الألواح) المستورد من القسطنطينية.

والمشربيات تزينها من الخارج نقوش بديعة الرقة والإناقة أحياناً، ونتوء المشربيات يضعون في داخله دواوين واطئة ومخدات؛ وبما أنه ابرد مكان في الغرفة فإنه يشكل زاوية مفضلة».

الحياة الفكرية في مكة:

يصف دولتشين الحياة الفكرية في مكة بقوله: إنها تدنت كما كانت من قبل حضارة طليعية وثقافة رائدة، على الرغم من وصول بعض الجرائد المصرية والتركية، وكذلك بالنسبة إلى أن العرب حرفيون ممتازون، انظر إليه في قوله:

«الحياة الفكرية عند هذا الشعب القدير واللطيف لم تتقدم منذ ذلك العهد المجيد، الذي كان فيه العرب يسيرون في طليعة الحضارة، وليس هذا وحسب، بل على العكس تراجعت أيضاً؛ وتلك العلوم التي ابتدعوها وطوروها فيما مضى لفّها النسيان تماماً في الوقت الحاضر، بل إن التعليم الاولي البسيط- مجرد القراءة والكتابة- محصور ضمن حلقة ضيقة جداً؛ وأشراف مكة الذين يقومون بدور قادة الحجاج اثناء القيام بمراسم الحج لايعرفون- بأغلبيتهم الساحقة- القراءة

ص: 224

ولا الكتابة.

وفي المدارس الدينية المحلية، كما في جميع المدارس الدينية في أي مكان آخر، يعلمون العلوم الرتيبة الدينية ذاتها بتفاصيلها الدقيقة جداً وغير الضرورية، مزدرين المواد الضرورية كالحساب والجغرافية مثلًا.

يرد إلى مكة عدد تافه جداً من الجرائد المصرية وعدد أقل من الجرائد التركية؛ وفي الحال يصبح مضمونها معروفاً في المدينة كلّها، نظراً لشدة تحرقها إلى الأنباء، وبالغ اهتمامها بالحياة السياسية للشعوب الأخرى.

يبقى أن أقول: إن العرب حرفيون ممتازون في الشغل على الحجر وعلى الخشب، ويملكون ذوقاً رفيعاً جداً، ومباني الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة تتميز بعمل بارع جداً».

معاش أهل مكة:

يصف دولتشين معاش اهل مكة بأنهم يعيشون على الحجاج، وتصبح مكة عند ورود الحجاج إليها سوقاً واسعة أو كما يقول: «يمكن وصف اشغال سكان مكة بإيجاز بالغ- أنهم يعيشون على الحجاج. كانت مكة مركزاً تجارياً لعموم الجزيرة العربية، وكان زمن الحج في الوقت نفسه زمن السوق التجارية السنوية، وهذا الطابع بقي حتى الآن؛ وأثناء توافد الحجاج، تتحول المدينة إلى بازار هائل ينتشر من أبواب الحرم بالذات في جميع الشوارع والأزقة.

علاوة على استيراد كمية كبيرة من المنتوجات المعيشية لتلبية حاجات جموع الحجاج البالغ عددها أكثر من مائة ألف، يستجلبون إلى هنا كمية كبيرة من شتى البضائع من القسطنطينية ومصر والبلدان المجاورة في آسيا، وذلك مع قوافل الحجاج أو بالبواخر الى جدّة.

ص: 225

(مصر): تقدم على الأغلب المنتوجات المعيشية: الحنطة، الفول، الشعير، الذرة الصفراء، العدس، الرز، السكر، زيت الزيتون، وما الى ذلك.

(سوريا): ترسل مع المحمل الدمشقي وبحراً، عبر بيروت، كمية كبيرة من البضائع الحريرية، والألبسة الحريرية الجاهزة، والمناديل المطرزة بالحرير، والفواكه المجففة، والفالوذة.

(بغداد والبصرة): ترسلان مع قوافل الحجاج البضائع الحريرية والصوفية والرز، والسمنة البقرية والسمنة الغنمية.

(بلاد فارس): ترسل السجاد والحصائر والعباءات وغير ذلك من البضائع الصوفية.

(الهند): ترسل البضائع المستعمرية، والآنية من النحاس والبورسلين، والمطبوعات والمرجان والمواد العلاجية والمواد العطرية، وفلافلها.

(اليمن): ترسل البن، وعين الشمس، والعقيق.

(جزر السند): ترسل الكندر.

أثناء الحج، لايتعاطى السكان المحليون وحدهم التجارة، بل يتعاطاها كذلك تجار قادمون كثيرون».

المسجد الحرام:

يصف لنا دولتشين عمارة المسجد الحرام في مكة ويبين لنا أنه مبني على طراز المساجد في دمشق والقاهرة، وأنه عبارة عن ساحة شاسعة مربعة مخططة.

انظر إليه في قوله: «حرم مكة الواقع في قاع الوادي وفي وسط المدينة تقريباً مبني بنفس التصميم، الذي بنيت به جميع المساجد القديمة في دمشق والقاهرة؛ وهو عبارة عن ساحة شاسعة مربعة مخططة، محاطة من جميع الجهات برواق مسقوف؛

ص: 226

ولكنْ هناك فرق واحد، هو أن الوجه الموجه إلى مكة في المساجد العادية يكون أوسع، ويقام فيه محراب ومنبر، أما في الحرم، فإن جميع الجهات متساوية من حيث العرض، والمحراب تحلّ محله الكعبة، والمنبر مقام في مكان مكشوف في وسط المسجد.

الرواق الذي يحيط بالمسجد يتألف من أعمدة أغلبيتها منتصبة في ثلاثةصفوف، وموصولة بعضها ببعض بالأقواس ومغطاة بقبب غير كبيرة مخروطية الشكل، أرضية الرواق مرصوفة بصفائح حجرية؛ أما القسم المكشوف منه، فهو مغطى بالرمل فقط.

في الزوايا الأربع وفوق الوجه الشمالي والوجه الشرقي، تنتصب سبع مآذن مبنية في ازمان مختلفة وبأساليب هندسبة معمارية مختلفة.

وللدخول إلى المسجد توجد أربعة أبواب كبيرة، من الواجهة الشرقية باب السلام؛ ومن الواجهة الجنوبية باب الصفا. من الواجهة الغربية باب ابراهيم، من الواجهة الشمالية باب الزندة؛ وعداها، يوجد 18 مدخلًاصغيراً.

الرقعة التي يشغلها المسجد ادنى من سطح الشوارع المحيطة، ولهذا يجب النزول بضع درجات مبنية تحت الابواب لإجل الدخول الى الحرم. وفي وسط الحرم تقريباً تنتصب الكعبة».

ثم يذكر دولتشين موقع الحجر الأسود وتاريخ بنائه مستطرداً ذلك بقوله:

«في الزاوية (الشرقية) من الكعبة، من الخارج، يوجد حجر يكرمه المسلمون تكريماً خاصاً هو الحجر الأسود.

في سنة 929 م نقلوا الحجر الأسود إلى اليمن، وفي سنة 951 م أعادوه من جديد إلى مكة؛ وفي سنة 1873 م وضعوه في إطار فضي ضخم مستدير وثبتوه في الجدار في المكان المذكور اعلاه.

ص: 227

المنظور من الحجر .. أن لونه قاتم مع تلوين ضارب إلى الأحمر، وعليه آثار شقوق، ونقر في الوسط، سطح الحجر مملس جداً من جراء لمسه من قبل الحجاج على مر القرون».

ثم يصف دولتشين موضع الركن اليماني بقوله: «في الزاوية (الجنوبية)، وعلى العلو ذاته- علو الحجر الأسود-، يوجد حجر مثبت آخر يكرمه المسلمون هو ايضاً، ويسمى باسم هذه الزاوية- ركن اليمن-».

ثم يصف لنا دولتشين مراحل التاريخ التي مرت على كسوة الكعبة، ووصف مكوناتها من الأقمشة الحريرية السوداء ومبلغ قيمتها كما يقول: «جدران الكعبة مكسوة من الخارج على كل علوها بقماش اسود يسمى الكسوة أو كسوة السعادة، وللمرة الاولى أخذ أحد حكام اليمن، ابو كرب أسعد، يغطي جدران المعبد دليلًا على الاجلال والتكريم الخاص، وفي عهد المأمون، كانوا يغيّرون هذه الكسوة المصنوعة آنذاك من قماش فاتح اللون ثلاث مرات في السنة، ولكن الملك المصري إسماعيل شرع في سنة 1349 م يرسل الكسوة من قماش أسود ويغيرها مرة واحدة فقط في السنة؛ وهذه العادة بقيت حتى الوقت الحاضر.

والكسوة عبارة عن قماش أسود حريري سميك جداً مخيط من 8 قطع، ومطوق ثلثها الاعلى بآيات من القرآن الكريم موشاة بالذهب، وهذا القماش يصنعونه كلّ سنة في مصر بمبلغ خاص من أموال الأوقاف قدره 4500 ليرة مصرية، ويرسلونه إلى مكة المكرمة مع المحمل.

وكل سنة يجري تغيير الكسوة في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة؛ وتوضع الكسوة القديمة تحت تصرّف نظار الكعبة، فيبيعها هؤلاء قطعاً من الحجاج؛ اما الكتابات بخيوط الذهب، فتوضع تحت تصرف الشريف؛ وفي السنوات التي يصادف فيها اليوم العاشر من شهر ذي الحجة يوم الجمعة

ص: 228

يرسلون الكسوة الى السلطان في القسطنطينية».

ثم ينتقل دولتشين في وصفه البيت الحرام إلى ذكر الحطيم، الذي هو بشكل حدوة أو كما يقول: «من الوجه الشمالي، يلتصق بمبنى الكعبة حاجز غير عال، بشكل حدوة، يطوق مكاناً للصلاة يسمى الحطيم، والكعبة والحطيم مطوقان بدرابزين أهليلجي الشكل؛ وعبر هذه الفسحة المبلطة ببلاطات من المرمر يطوف الحجاج سبع مرات حول الحرم، قائمين بفريضة الطواف».

ثم ينتقل دولتشين خطوة أخرى قريبة واصفاً مقام إبراهيم عليه السلام بالهيكل البرونزي ضمنصندوق حديدي مرسل من مصر، أو كما يصفه: «من الجهة الشرقية، يوجد في الدرابزين المذكور- الذي يطوق الكعبة والحطيم- باب الشيبة، واذا دخل المرء عبر هذا الباب الى مكان الطواف، فإنه يجد الى اليمين في خط الدرابزين مقام ابراهيم عليه السلام وهو عبارة عن هيكل مصبّع برونزي كثيف في داخله، ضمنصندوق حديدي مكسو بقماش حريري مطرز بالذهب، مرسل من مصر مع الكسوة، حجر بقامة الإنسان، كان سقالة لابراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة».

أما بئر زمزم فيتحدث دولتشين عن شي ء من تأريخه ومتى جفت وأن المأمون أجرى تعميقها فظهر الماء من جديد: «إلى شمال الباب، توجد عمارة خاصة ببئر زمزم المقدسة، في سنة 762 م، وفي عهد ابي جعفر المنصور بنيت عمارة فوق البئر وفي سنة 838 م جفت البئر؛ وبأمر من المأمون جرى تعميقها فظهر الماء من جديد، وأخيراً في- سنة- 1611 م بني حول فتحة البئر حاجز حجري عال؛ لأنه تواجد من كانوا يرمون بأنفسهم هناك قصد الانتحار.

يستقي الماء معاً أربعة أشخاص خصوصيين؛ يقفون على الحاجز ويعملون بدلاء جلدية موصولة بحبال طويلة ممررة عبر بكرات معدنية مثبتة في اعلى.

ص: 229

لماء زمزم طعم مرّ نوعاً ما؛ وهو يؤثر في أناس كثيرين، كمسهّل خفيف وهو ساخن جداً عند استخراجه من البئر».

ثم يعرج دولتشين في أثناء حديثه عن البيت الحرام إلى وصف الصفا والمروة، والأصل التاريخي لهما بقوله في ذلك: «من الجانب الشرقي من الحرم يمتد شارع المسعى، ويصل بطرفه الشمالي الى جبل المَروة وبطرفه الجنوبي الى جبل الصفا، وينتهي عند الجبلين ببضع درجات واسعة في اعلاها ساحةصغيرة، بين هذين الجبلين فتشت هاجر- زوج ابراهيم الخليل عليه السلام، وقد أضناها العطش- عن الماء راكضة من جبل الصفا الى جبل المروة ذهاباً وإياباً.

وفي المساء ينيرون الحرم وبعض أمكنة المسعى بعدد هائل من المصابيح؛ وهذه عبارة عن أنصاف كرات زجاجية معلقة في سلسلة، وفي قاعها يسكبون الزيت ويضعون عوامات فيها فتيل».

سرّ الحج:

في هذه الفقرة يحاول دولتشين أن يطرح بيننا فلسفةً للحج نابعة من ملاحظاته وتتبعه لسلوك الحجيج فيقول- بكلامنا: أن من الأسباب الأساسية للحج كون الحج فريضة إسلامية، والخلاص من الذنوب، واكتساب لفظة الحاج- كما يقول في فلسفته، التي لا نتفق معه فيها كلية- انظر إليه وهو يتحدث عن نظرته هذه بقوله: «الاسباب الرئيسية التي تحمل على الحج كانت أساساً، بقدر ما استطيع أن اكوّن فكرة عنها، الرغبة في اداء فريضة من فرائض الدين الالزامية الرئيسية، والايمان في الخلاص من الخطايا- الأمر الذي يشكل بنظر المتدينين، ولا سيما في سنوات الشيخوخة، سبباً هاماً جداً يجبر على القيام بهذه السفرة الصعبة، والمحفوفة بالمخاطر، ومن جهة أخرى، يعود بلا ريب بعض الدور إلى

ص: 230

الغرور، ورغبة المرء في أن يكتسب في وسطه بعض الوزن والوقار المتعلقين بلقب «الحاج»، رغم أن هذا اللقب بين المسلمين في روسيا الداخلية لأبعد من أن يحظى الآن بذلك الاحترام، الذي كان يحظى به منذ 40- 50 سنة، حين كانت الطريقصعبة جداً، وحين كان السفر يتطلب مالايقل عن سنتين، وحين كان لايقدم على الحج غير عدد قليل جداً ممن يحدوهم شعور ديني عميق ويملكون ما يكفي من الأموال، وهذان العاملان نادراً ما يجتمعان عند مسلمينا.

ومع تطور البواخر والسكك الحديدية أصبح من الممكن القيام بالسفرة كلها في غضون شهرين أو ثلاثة، وبنفقات غير كبيرة، فتكاثر الحجاج كثيراً جداً، وبينهم لايندر أن يتواجد أفراد لايتمتعون بسمعة طيبة».

الطائف:

يذكر دولتشين بعد وصفه لمكة مدينة الطائف بأنها ذات مناخ معتدل وانها خالية من رياح السموم، وأن الماء الجاري كثير فيها، انظر إليه متحدثاً: «إن القيظ الذي لايطاقصيفاً في مكة يجبر سكانها على الذهاب إلى المدينة- مدينة الطائف- الواقعة تقريباً إلى الشرق من مكة.

تختلف مدينة الطائف وضواحيها- بفضل موقعها العالي (على ارتفاع 5150 قدماً فوق سطح البحر)- اختلافاً شديداً عن سائر أنحاء الحجاز، وتتميز بمناخ أكثر اعتدالًا، وبغياب رياح السموم، وبوفرة الماء الجاري، وبهطول الأمطار احياناً كثيرة نسبياً؛ ولذا تتواجد تبعاً للظروف المذكورة أعلاه، نباتات مغايرة تماماً؛ فهنا الكروم وبساتين الموز والبرتقال والدراق والمشمش والرمان وغير ذلك، والطائف تزود مكة بخضروات لاتنبت في أنحاء الحجاز الأخرى.

تقع الطائف في محلة مكشوفة، على السفح الشرقي من جبل القرى، وتحيط

ص: 231

بها بساتين كثيرة يخصّ قسم منها سكان المدينة وقسم آخر بدو الضواحي، والطائف تشبه مكة من حيث الشوارع والبازارات ومعمارية البيوت، وحول الطائف ينتصب سور حجري له 3 بوابات يغلقونها ليلًا».

المدينة المنورة:

ثم يذهب دولتشين ونحن معه إلى وصف مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام موقعاً وسوراً محيطاً بها وشوارع وبيوتاً بقوله: «المدينة المنورة أو مدينة النبيصلى الله عليه و آله هي المدينة الثانية من حيث الكبر في الحجاز، ومن حيث الأهمية في العالم الإسلامي.

تقع المدينة إلى الشمال من انقاض مدينة يثرب القديمة، وسط سهل عريض يحيطه جبل أُحد من الشمال وجبل خيبر من الجنوب، ويضيق السهل الى الغرب وينفتح الى الشرق، والمدينة مطوقة بسور حجري تنتصب أبراج في زواياه وقرب بواباته الاربع؛ وقد بني السور في عام 1535 م.

وإذا دخلنا عبر البوابة الغربية للضاحية المسماة «الانبارية» التي لايجيزون إلا عبرها دخول وخروج القوافل والركب، فإن العين تقع على شارع عريض مخطط باستقامة، وتنتصب فيه أعمدة للمصابيح من كلا الجانبين وبيوت كبيرة، وضاحية مناخية تتصل بالمدينة عبر بوابتين، أهمهما البوابة السورية التي تؤدي إلى شارع ضيق، ولكنه أكثر شوارع المدينة المنورة انتعاشا وحركة؛ وهو يعبر المدينة كلّها وينتهي عند بوابة الحرم، وهناك شارع رئيسي آخر، أوسع بقليل، وتقوم فيه أفضل البيوت في المدينة المنورة. القسم الباقي من المدينة تتقطعه في اتجاهات مختلفة أزقة ضيقة موزعة بشكل شبكة مشوشة خارق التشوش.

الحجر هو مادة بناء البيوت هنا كما في مكة، كذلك يستعملون الحمم

ص: 232

(السائل البركاني) المتجمدة، التي تغطي كل السهل في جوار المدينة المنورة، ومعمارية البيوت كما في مكة، ولكن يبنون أيضاً في الطوابق السفلى غرفة خاصة بدون نوافذ مزودة بمدخنة عريضة متصاعدة الى اعلى، وتجوز جميع الطوابق العليا، هذه الغرفة المسماة «القاعة» هي غرفة الاستقبال عند أهل المدينة لأنها من غيرها، وفي الطوابق العليا يبنون المشربيات؛ وعلى السطح يوجد مكان لاجل راحة الليلصيفاً والتدفؤ في الشمس شتاء».

أخلاق ومعايش أهل المدينة:

ثم ينتقل حديث دولتشين إلى وصف أخلاق أهل المدينة، الذين يصفهم بالبشاشة والود والضيافة، أما سوق أهل المدينة فيشبه سوق مكة، ولكن أسعار السلع أغلى أو كما يقول: «يتألف السكان من عناصر متنوعة كما في مكة، وسكان الحجاز الأصليون هم هنا، في المدينة المنورة، أقل أيضاً مما في مكة؛ وقد بدا لي عرب المدينة المنورة ألطف من سكان مكة؛ فهم بشوشون جداً، مضيافون، ودودون، مستعدون دائماً لمدّ يد العون عند الاقتضاء، رفاق ممتازون في الطريق؛ وسكان الحجاز الآخرون يفسّرون على طريقتهم هذه السمات من طبع المدينة المنورة قائلين: إن بركة النبيصلى الله عليه و آله لاتزال تشملهم؛ لأنهم كرموه بعد الهجرة من مكة.

اشغال السكان في المدينة المنورة تشبه أشغال السكان في مكة جزئياً التجارة؛ وأساساً مختلف موارد الرزق من خدمة الحجاج.

البازارات في المدينة المنورة عبارة عن نسخة غير كبيرة عن بازار مكة، وهي تتاجر بالبضائع ذاتها تماماً، ولكنها تبيع بأسعار أغلى بكثير، ونادراً ما تطرأ عليها التقلبات، نظراً لأن استجلاب البضائع أصعب ولأن العرض غير كبير،

ص: 233

وبدرجة كبيرة جداً ترتفع أسعار مواد الضرورة الأولية المستجلبة من ينبع ومنها مثلًا الشاي والسكر، أما القمح والرز فإن المدينة المنورة تحصل عليهما جزئياً بفضل القوافل القادمة من منطقة ما بين النهرين؛ بينما ترد سمنة البقرة والضأن والدهن من نجد».

المناخ في المدينة:

تتميز المدينة المنورة بحرارة أقل في فصل الصيف- من مكة- وببرد محسوس في فصل الشتاء كما يقول دولتشين: «تقع المدينة المنورة أبعد إلى الشمال وفي محلة مكشوفة، ولذا تتمتع بحرارة أدنى بعض الشي ء في فصل الصيف؛ وفي الشتاء يكون البرد، كما يقولون محسوساً جداً، ولربما بسبب الفرق الكبير بين حرارة الصيف وحرارة الشتاء، أو بسبب وفرة وقرب المياه الجوفية المتواجدة في كل مكان، أو بسبب انتشار الآبار في البيوت بالذات، تتخذ الملاريا في المدينة المنورة شكلا خطيراً جداً، فاتكة بكثيرين من المرضى».

المدارس الدينية في المدينة:

ثم يتحدث لنا دولتشين عن حال المدارس الدينية في المدينة المنورة، التي يصفها بأن الدرس فيها لاينقطع حتى في موسم الحج، وأما الدارسون فيها فهم من الاتراك والسوريين والتتر وغيرهم: «تسنى لي أن أطلع بمزيد من التفصيل على المدارس الدينية في المدينة المنورة، حيث الدروس لاتتوقف حتى في زمن تجمع الحجاج، وكل ما اقوله هنا عن هذا النوع من المدارس يصح كذلك على المؤسسة التعليمية من هذا الطراز في مكة التي لاتختلف الا من حيث قوام التلامذة؛ ففي مكة يشكل الماليزيون الأغلبية، وفي المدينة المنورة الاتراك

ص: 234

والسوريون والتتر وغيرهم.

وفي المدينة المنورة 17 مدرسة دينية تضم قرابة 250 تلميذاً، جميع مباني المدارس الدينية مبنية حسب طراز واحد- عمارة مربعة الزوايا من طابق أو من طابقين مع حوش في الوسط تطلّ عليه جميع ابواب غرف غير كبيرة- أي مساكن معدّ كل منها لايواء شخص واحد، وعدد هذه الغرف لايربو عادة على 10- 15؛ ...

في عداد التلامذة يقبلون أبناء جميع القوميات ماعدا السكان المحليين، ومن جميع الأعمار، وفقاً لعدد الغرف الفارغة، دون السؤال عن المعارف التي يملكها طالب العلم.

تبدأ الدروس في المدرسة فورصلاة الصبح، مع طلوع الشمس؛ وجميع التلامذة والعائشين في المدرسة ملزمون بالاستماع إلى محاضرة واحدة من مدرّسهم، ثم يتصرفون بوقتهم كما يطيب لهم، دون أية رقابة.

ولكل من يعيش في المدرسة الدينية مفروشاته ولوازم منزلية بسيطة، وهو يهتم شخصياً باعداد الطعام لنفسه، وحوالى الساعة 9 مساء تقفل المدرسة ابوابها؛ وقبل ذلك يعود الجميع في المعتاد الى غرفهم».

جدة:

ويستمر دولتشين في حديثه منتقلًا وواصفاً مدينة جدة، التي هي أهم مرفإ على البحر الأحمر، وهي ممر الحجاج الرئيسي، ويكون مناخها سيئاً جداً ومياهها غير مستساغة الطعم، فهو يقول: «جدة أهم مرف ءٍ على ساحل البحر الأحمر؛ وعبره تمرّ حركة الحجاج الرئيسية، سواء عند نزولهم على ساحل الجزيرة العربية أم في طريق العودة إلى الوطن، تشبه جدّة مكة شبهاً كبيراً من حيث طابع

ص: 235

عماراتها ومواقع الشوارع والبازارات والحالة الصحية.

يعتبر مناخ جدّة سيئاً جداً، غيرصحي من جراء التبخرات الشديدة من البحر، والحمّى هي المرض السائد.

في الوقت الحاضر تستعمل جدّة مياه نبع مجرورة الى المدينة من الجبال القريبة، ولكن الماه لاتتميز بطعم مستطاب».

تمت بذلك بعضُ ملاحظات دولتشين وآرائه عن الحج في رحلته هذه وذلك في السنة 1898 م الى السنة الميلادية 1899 م بكل ايجابياتها وسلبياتها ومخاطرها وطبيعتها، التي اتخذت طابعاً سياسياً مغلّفاً بالدين إنصحّ القول، وقد تم تلخيص هذه الرحلة من كتاب الحج قبل مئة سنة.

عبد اللَّه بن عباس

ص: 236

عبد اللَّه بن عباس

ايماناً وجهاداً وعلماًمحسن الأسدي

عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم. كنيته أبو العباس وقيل أبو عبد الرحمن. لقبه الهاشمي والقرشي. شهرته حبر الأمة.

أُمّه أمّ الفضل أخت ميمونة زوج النبيّصلى الله عليه و آله و سلم. اسمها لبابة الصغرى الهلالية (1) بنت الحارث بن حزن من بني عامر بنصعصعة.

في السنة الثالثة قبل الهجرة (2) المباركة جاء العباس عمُّ النبيّصلى الله عليه و آله و سلم وهو يحمل وليده في خرقة متجهاً به نحو النبيّصلى الله عليه و آله و سلم ليضعه بين يديه المباركتين فضمّه اليه وحنكه بريقه (3). كان ذلك أيام كان رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته وصحبه محاصرين بالشعب، شعب بني هاشم في مكة (4). توفي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة. يقول عن نفسه: راهقت الاحتلام في حجة الوداع.

صفته:

كان ابن عباس أبيض طويلًا مشرباًصفرة جسيماً وسيماًصبيح الوجه له


1- 1 الإصابة ج 4ص 122. مختصر تاريخ دمشق ج 12ص 293. حلية الأولياء 314.
2- 2 الإصابة ج 4ص 122. مختصر تاريخ دمشق ج 12ص 293. حلية الأولياء 314.
3- 3 التاج الجامع للاصول للشيخ منصور علي ناصيف ج 3ص 36.
4- 4 الإصابة ج 4،ص 122.

ص: 237

وفرة يخضب بالحنّاء. هذا ما وصفه به ابن مندة. أما ما قاله أبو إسحاق:

رأيتُ ابن عباس رجلًا جسيماً قد شاب مقدم رأسه وله جُمّة (1). وكان إذا قعد أخذ مقعد الرجلين، وكان يخضب بالسواد، ويسمى الحبر والبحر لكثرة علمه وحدّة فهمه (2).

من دعاء رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم له:

- اللهم أعطه الحكمة وعلّمه التأويل.

- اللهم فقّه في الدين وعلّمه التأويل.

ومما قال رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم له: «يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك اللَّه بهن؟

احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده أمامك، تعرف الى اللَّه في الرخاء يعرفك في الشدّة، إذاسألت فاسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن باللَّه، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئاً لم يكتبه اللَّه عزّ وجلّ لك لم يقدروا عليه، وعلى أن يمنعوك شيئاً كتبه اللَّه عزّ وجلّ لك لم يقدروا عليه، فاعمل للَّه تعالى بالرضا في اليقين، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» (3).

قالوا فيه:

قال الإمام علي عليه السلام فيه: إنه لينظر الى الغيب من ستر رقيق لعقله وفطنته.

خطب ابن عباس وهو على الموسم، فجعل يقرأ ويفسّر، فقال رجل: لو سمعت فارس والروم لأسلمت. وعندما قرأ ابن عباس سورة النور وجعل يفسرها قال فيه الخليفة الثاني عمر: لو سمعت هذا الديلم لأسلمت. ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.


1- 1 العقد الفريد ج 4ص 123.
2- 2 مختصر تاريخ دمشق ج 12،ص 296- 297.
3- 3 حلية الأولياءص 1/ 314. مختصر تاريخ دمشق 12ص 300.

ص: 238

قال فيه ابن عمر: لقد أوتي ابن عباس علماًصدقاً.

عن عطاء: مارأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس وأكثر فقهاً، وأعظم خشية، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من وادٍ واسع.

وعن مسروق: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجهل الناس؛ فإذا نطق قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث قلت: أعلم الناس. (1) من أقواله في نفسه:

عن عبداللَّه بن بريدة، قال: شتم رجل ابن عباس، فقال: إنك لتشتمني وفيّ ثلاث: إني لأسمع بالحاكم من حكّام المسلمين يعدل في حكمه فأحبه، ولعلّي لا أقاضي عليه أبداً. وإني لأسمع بالغيث يصيب البلاد من بلدان المسلمين فأفرح به ومالي به سائمة ولا راعية. وإني لآتي على آيةٍ من كتاب اللَّه تعالى فوددتُ أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم (2).

من حكمه وأقواله:

- مفهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.

- ذَلَلتُ طالباً فعززت مطلوباً.

- ومن أقواله الدقيقة والجميلة في الغوغاء، .. والغوغاء: الدّبا وهيصغار الجراد، وشُبِّه به سوادُ الناس. قال فيهم بعد أن ذُكر الغوغاء عنده: ما اجتمعوا قط إلا ضرُّوا، ولا افترقوا إلا نفعوا. قيل له: قد علمنا ما ضرّ اجتماعهم، فما نفع افتراقهم؟ قال: يذهب الحجّام إلى دكانه، والحدّاد إلى أكياره، وكلصانع إلىصناعته.


1- 1 يراجع في ذلك وفي غيره- تاريخ الإسلام .. للذهبي في حوادث سنة 60- 80 ترجمة عبد اللَّه بن عباس- مختصر تاريخ دمشق- البداية والنهاية .. حلية الأدباء- طبقات ابن سعد وغيرها من المصادر.
2- 2 الإصابة 4/ 129، مختصر تاريخ دمشق 12/ 293 ...

ص: 239

- وفي فضل الصداقة على القرابة قال: القرابة تقطع والمعروف يُكفر، وما رأيت كتقارب القلوب.

- لا تحقرنّ كلمة الحكمة أن تسمعها من الفاجر ... ربّ رمية من غير رام.

- لا تمار سفيهاً ولا حليماً فإن الحليم يغلبك والسفيه يزدريك.

- اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودع منه ما تحب أن يدع عنك.

- الدنيا العافية، والشباب الصحة.

- من لم يجلس في الصغر حيث يكره، لم يجلس في الكبر حيث يحب.

وله قول في الشعر: الشعر علم العرب وديوانها؛ فتعلموه، وعليكم بشعر الحجاز.

وكان ابن العباس في طريقه من البصرة الى الكوفة يحدو الأبل ويقول:

أوبي إلى أهلكِ يارباب أوبي فقد حان لكِ الإيابُ وقال لما كفّ بصره:

إن يأخذ اللَّه من عينيّ نورهما ففي لساني وقلبي منهما نورُ

قلبي ذكيّ وعقلي غيرذي دخَلٍ (1) وفي فميصارم كالسيف مأثور ومن طريف أقواله:

أصيبت إحدى عينيه فنحل جسمه، فلما أصيبت الأخرى عاد إليه لحمه، فقيل له في ذلك، فقال: أصابني ما رأيتم في الأولى شفقةً على الأخرى، فلما ذهبتا اطمأن قلبي (2).

ماقيل فيه من شعر:

قال فيه حسان بن ثابت (3):


1- 1 الدخل: الفساد والغيبة. البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 8/ 305.
2- 2 البداية والنهاية لابن كثير 8/ 304.
3- 3 ديوان حسان بن ثابت.

ص: 240

كفى وشفى ما في الصدور ولم يدع لذي إريةٍ في القول جدّاً ولا هَزلا

سموتَ إلى العليا بغير مشقةٍ فنِلتَ ذُراها لا دنيّاً ولا وغلا

إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه رأيت له في كلّ مجمعه فضلًا

إذا قال لم يترك مقالًا لقائل بملتقطات لا ترى بينها فصلًا وفي كتاب الجليس للمعافي من طريق ابن عائشة عن أبيه: نظر الحطيئة الى ابن عباس في مجلس عمر وقد فرع بكلامه، فقال: من هذا الذي نزل عن القوم بسنه، وعلاهم في قوله؟

قالوا: هذا ابن عباس، فأنشأ يقول:

إني وجدتُ بيان المرء نافلةً يهدي له ووجدت العَيَّ كالصّمم

المرء يبلى ويبقى الكلمُ سائرةً وقد يُلامُ الفتى يوماً ولم يَلُمِ وقال فيه معاوية (1):

إذا قال لم يترك مقالًا ولم يقف لعيّ ولم يثن اللسان على هجر (2)

يُصرّف بالقول اللسانَ إذا انتحى وينظر في أعطافه نظر الصقر من وصاياه:

عن عكرمة قال سمعت عبد اللَّه بن عباس يقول لابنه علي بن عبد اللَّه:

ليكن كنزك الذي تذخره العلم، كن به أشدّ اغتباطاً منك بكنز الذهب الأحمر، فإني مودعك كلاماً إن أنت وعيته أجمع لك به أمر الدنيا والآخرة.

لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، ويقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي فيها لم يشبع، وإن منع منها لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ويأمر بما لا يأتي، يحبّ الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الجاهلين وهو أحدهم ... (3)


1- 1 العقد الفريد 2/ 130.
2- 2 الهجر الهذيان، والقبيح من الكلام.
3- 3 انظر الأمالي للشيخ المفيدص 330. هذه الوصية تشبه ماورد عن الإمام علي عليه السلام مع اختلاف في الألفاظ وزيادة فيها، وقد ذكرها الحراني في تحف العقولص 105- 106 تحت عنوان موعظته عليه السلام ووصفه المقصرين. ط 5. منشورات مكتبة بصيرتي.

ص: 241

حياته:

كان ابن العباس في طفولته برعماً من البراعم الإيمانية، التي ارتوت من ينبوع الرسالة العذب، فقد احتضنته المدرسة النبويةصغيراً، وتربى في كنفها تزقه العلم والأدب والأخلاق. لتجعل منه عالماً مجاهداً في شبابه وكهولته من أجل المبدإ والعقيدة، ومثلًا إيمانياً رائعاً يقتدي به الآخرون.

إن من المعالم الشاخصة في حياة ابن عباس: العقيدة الراسخة، والمؤهلات النادرة التي منها عقليته المتزنة، وذكاؤه الحاد، وحافظته المبكرة، فغدا بكلّ هذا عالماً ملئت كتب التفسير والحديث والتاريخ بآرائه ورواياته ومحاوراته. كما أن شجاعته تشكل هي الأخرى معلماً واضحاً في شخصيته، جعلته يؤدي واجبه الجهادي في ميادين القتال على خير ما يؤدي الشجاع واجبه القتالي، ناهيك عن لباقته وسرعة بديهيته وقدرته العجيبة على المحاورة السياسية والمناظرة العلمية، التي قلّ مثيلها، والتى تكشف عن علم واسع، ومعرفة دقيقة، وخبرة عميقة، وحجة قوية يتصف بها الرجل. كما أنصفتي الأناة والحلم كانتا من مميزات ابن عباس، فالشجاعة هذهِ الصفة التي تدعو الى الإقدام والاندفاع قد يتصف بها كثيرون لكنها إذا ما تعانقت معصفتي الحلم والأناة تكونصفة عظيمة محمودة، وتدل بالتالي على كمال النفس وعظمتها وعلو همتها، وهذا ما كان لابن عباس.

ففي الوقت الذي كان فيه رجل سياسة وبطل حوار، وصاحب بصيرة ورأي ونظر، كان رجل حرب؛ لهذا نرى الإمام علياً عليه السلام قد اتخذه وزيراً له وقائداً ميدانياً يقود جبهة من جبهات القتال حينما تشتد ضراوة المعارك، فميسرة الجيش في حربصفين كانت له قاتل فيها قتالًا شديداً، وفي معركة الجمل كان على مقدمة جيش الإمام علي عليه السلام وهكذا في النهروان ..

يرمي به الإمام عليه السلام مقاتلًا كما يرمي به محاوراً سياسياً بارعاً، ففي وقعة

ص: 242

صفين حينما لم يكن بدٌّ من التحكيم، انظر كيف يصفه الإمام عليه السلام:

(إن معاوية لم يكن يضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص ... فعليكم بعبد اللَّه بن عباس فارموه به؛ فإن عمراً لا يعقد عُقدة إلا حلّها عبد اللَّه، ولا يحلّ عقدة إلا عقدها، ولا يبرم أمراً إلا نقضه ولا ينقض أمراً إلا أبرمه) (1).

وفي كلام آخر له في شأن الحكمين قال ... فادفعوا فيصدر عمرو بن العاص بعبد اللَّه ابن عباس. وفي هذا يقول ابن أبي الحديد: يُقال هذا لمن يرام كفّه عن أمر يتطاول له: ادفع فيصدره، وذلك لأن من يقدم على أمر ببدنه فيدفع دافع فيصدره حقيقة فإنه يردّه أو يكاد، فنقل ذلك الى الدفع المعنوي.

هذا في حربه وسياسته وأما في محاوراته فقد جرت بينه وبين الخليفة الثاني وعائشة والزبير وطلحة ومعاوية ويزيد وعتبة بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم وعبد الرحمن بن الحكم وزياد بن أبيه وابن الزبير والمغيرة وغيرهم جرت بينه وبينهم مناظرات واحتجاجات كثيرة، كانت له الحجة عليهم. ومن جميل مناظراته وهي كثيرة، هذه التي جرت بينه وبين الخليفة الثاني:

قال عمر يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمد؟ فكرهت أن أجيبه. فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجَّحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووُفِّقت.

فقلت: ياأمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمتُ.

فقال تكلم يا ابن عباس:

فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار اللَّه عزّ وجلّ لها لكان


1- 1 وقعةصفين لنصر بن مزاحم- منشورات مكتبة المرعشي.ص 500

ص: 243

الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة فإن اللَّه عزّ وجلّ وصف قوماً بالكراهية فقال:

«ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل اللَّه فأحبط أعمالهم» (1) فقال عمر، هيهاتَ واللَّه يا ابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت كرهت أن أقرَّك عليها فتُزيل منزلتك منّي.

فقلت: وماهي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقّاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلًا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنماصرفوها عنا حسداً وظلماً.

فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن إبليس حسد آدم ونحن ولده المحسودون (2).

ومن محاوراته التي استطاع بها أن يلقي الحجة على الخوارج فعاد منهم ألفا رجل وبقي أربعة آلاف على عنادهم:

لمّا أعلن الخوارج حربهم على علي عليه السلام، وقبل أن يحاربهم وجّه إليهم عبد اللَّه بن عباس، فلماصار إليهم رحّبوا به وأكرموه ...

قالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟

قال: جئتكم من عندصهر رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وابن عمّه، وأعلمنا بربّه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار.

فقالوا: إنا أتينا عظيماً حين حكّمنا الرجال في دين اللَّه؛ فإن تاب كما تُبنا، ونهض لمجاهدة عدوّنا رجعنا.

فقال ابن عباس: نشدتكم اللَّه إلا ماصدقتم أنفسكم، أما علمتم أن اللَّه أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟


1- 1 سورة محمد: الآية 9.
2- 2 عبد اللَّه بن سبإص 144- 145 للسيد العسكري.

ص: 244

فقالوا: اللهم نعم.

قال: فأنشدكم اللَّه هل علمتم أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم أمسك عن القتال للهدنة بينه وبين أهل الحُديبية؟

قالوا: نعم، ولكن عليّاً محا نفسه من خلافة المسلمين.

قال ابن عباس: ليس ذلك يزيلها عنه وقد محا رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم اسمه من النبوة، وقال سُهيل بن عمرو: لو علمتُ أنك رسول اللَّه ما حاربتك، فقال للكاتب: اكتب «محمد بن عبداللَّه». وقد أخذ عليٌّ على الحكمين ألا يجورا، وإن يجورا فعليٌّ أولى من معاوية وغيره.

قالوا: إن معاوية يدعي مثل دعوى عليّ.

قال: فأيهما رأيتموه أولى فولّوه.

قالوا:صدقت.

قال ابن عباس: ومتى جار الحكمان فلا طاعة لهما ولا قبول لقولهما. فاتبعه منهم ألفان وبقي أربعة آلاف (1).

كما أن من معالم شخصيته أنه كان أديباً شاعراً وخطيباً بليغاً، فبعد أن أنهى الإمام علي خطبته قبل معركةصفين محرضاً أصحابه على القتال، قام ابن عباس خطيباً يبين أحقية علي وجبهته وباطل معاوية وجبهته في كلام بليغ جميل يدل على عمق إيمانه وعظيم بيانه وسعة معرفته ودقة وعيه، وأنه على بصيرة من أمره:

الحمد للَّه ربّ العالمين، الذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك فوقنا سبعاً؛ ثم خلق فيما بينهنّ خلقاً، وأنزل لنا منهنّ رزقاً، ثم جعل كلّ شي ء يبلى ويفني غير وجهه، الحيُّ القيوم الذي يحيا ويبقى. ثم إن اللَّه بعث أنبياء ورسلًا فجعلهم حججاً على عباده، عُذراً أو نُذراً، لا يطاع إلا بعلمه وإذنه، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها، ويعصى [بعلم منه] فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا


1- 1 العقد الفريد ج 2ص 233.

ص: 245

يبلغ شي ء مكانه، أحصى كلّ شي ء عدداً، وأحاط بكلّ شي ء علماً. ثم إني أشهد ألا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسولهصلى اللَّه عليه، إمام الهدى والنبيّ المصطفى. وقد ساقنا قدر اللَّه إلى ما ترون، حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها، أنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على علي بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللَّه وصهره، وأوّل ذكرٍصلى معه، بدريّ قد شهد مع رسول اللَّهصلى اللَّه عليه كلّ مشاهده التي فيها الفضل. ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام. واعلموا واللَّه الذي ملك الملك وحده فبان به وكان أهله، لقد قاتل عليّ بن أبي طالب مع رسول اللَّهصلى اللَّه عليه، وعلي يقول:صدق اللَّه ورسوله. ومعاوية وأبو سفيان يقولان: كذب اللَّه ورسوله. فما معاوية في هذه بأبرّ ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في قتالكم.

فعليكم بتقوى اللَّه والجدّ والحزم والصبر، وإنكم لعلى الحق وإن القوم لعلى الباطل. فلا يكونن أولى بالجدِّ في باطلهم منكم في حقكم. أما واللَّه إنا لنعلم أن اللَّه سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم. اللهم ربنا أعنّا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدونا ولا تخلّ عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين. والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته أقول قولي وأستغفر اللَّه لي ولكم. (1) قال معاوية لعمرو بن العاص: إن رأس الناس بعد علي هو عبد اللَّه بن عباس، فلو ألقيتَ إليه كتاباً لعلك ترققه به، فإنه إن قال شيئاً لم يخرج عليّ منه، وقد أكلتنا الحرب ولا أرانا نصل الى العراق إلا بهلاك أهل الشام. قال عمرو: إن ابن العباس لا يُخدع، ولو طمِعت فيه لطمعت في علي فقال معاوية: عليّ ذلك، فاكتب إليه كتاباً في ذلك وكتب في أسفله شعراً، كان أوله:

طال البلاءُ وما يرجى له آسِ بعد إلاله سوى رفق ابن عباس فلما قرأ ابن عباس الكتاب أتى به عليّاً فأقرأه شعره فضحك وقال: «قاتل


1- 1 وقعةصفين لنصر بن مزاحمص 318، منشورات مكتبة المرعشي.

ص: 246

اللَّه ابن العاص، ما أغراه بك يا ابنَ عباس، أجبه ..»

فكتب ابن عباس (... وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعلي، ابتدأها عليٌّ بالحق وانتهى فيها الى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها الى السرف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام. بايع أهل العراق علياً وهو خير منهم، وبايع معاوية أهل الشام وهم خير منه. ولست أنا وأنت فيها بسواء أردتُ اللَّه وأردتَ أنت مصر ... فإن ترد شرّاً لا نسبقك به، وإن ترد خيراً لاتسبقنا إليه) (1).

ومن شعره الذي ردّ فيه على ابن العاص حين خدع أبا موسى الأشعري في قصة التحكيم:

كذبت ولكن مثلك اليوم فاسقٌ على أمركم يبغي لنا الشرّ والعزلا

وتزعم أن الأمر منك خديعةٌ إليه وكلّ القول في شأنكم فضلًا

فأنتم وربّ البيت قدصار دينكم خلافاً لدين المصطفى الطيب العدلا

أعاديتم حبّ النبيّ ونفسه فما لكم من سابقاتٍ ولا فضلًا

وأنتم وربّ البيت أخبث من مش على الأرض ذانعلين أو حافيلًا رجلًا

غدرتم وكان الغدر منكم سجيّةً كأن لم يكن حرثاً وان لم يكن نسلًا (2) إن أعمال الرجل ومواقفه وخطبه وكتبه وأشعاره، التي تجلّى فيها ولاؤه المخلص والصادق للإمام علي عليه السلام بقدر ما جعلته أقرب الناس الى علي وآثرهم عنده، جعلته عرضة للإتهام والطعن لا لشي ء إلا بسبب تلك المواقف وذلك الولاء الذي شهد به الأعداء فضلًا عن الأصدقاء، ولاء متين ثابت نابع من (علي مع الحق والحق مع علي). فهو إذن وليد العقيدة الحقّة.

دقته العلمية:

لقد كان ابن عباس دقيقاً فيما ينقل عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وفيما يقول ويطرح


1- 1 المصدر نفسهص 413.
2- 2 المصدر نفسهص 550.

ص: 247

من آراء. يراجع ما يسمعه مرات قبل أن ينقله، لهذا فقد أتّسم عمله العلمي بالدقة والحرص، وكان يبذل قصارى جهده لطلب العلم والحقيقة، ويسعى بكل تواضع بين الصحابة يسأل ويتحقق حتى يتأكد من أي رواية يريد نقلها عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم لئلا ينقل حديثاً موضوعاً أو مكذوباً على رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم. حتى ورد عنه: إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم.

إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي إليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول يا ابن عمّ رسول اللَّه ما جاء بك؟ هلّا أرسلتَ إليّ فآتيك ..؟

فأقول، أنت أحقّ بأن أسعى إليك، فأسأله عن الحديث وأتعلم منه!.

ابن عباس مفسراً:

يُعد ابن عباس من كبار المفسّرين، بل هو الثاني بعد علي عليه السلام فقد قال ابن عطية «وكان جلّة من السلف كثير عددهم يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي اللَّه عنه، فأماصدر المفسرين والمؤيد فيهم فعليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ويتلوه عبد اللَّه بن عباس وهو تجرّد للأمر وكمّله، وتبعه العلماء عليه ... (1).

قال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فمن علي بن أبي طالب. وكان عليّ رضي اللَّه عنه يثني على تفسير ابن عباس ويحضّ على الأخذ منه، وكان ...

يقول: نِعم تَرجُمان القرآن عبد اللَّه بن عباس. وقال عنه عليّ رضي اللَّه عنه: «ابن عباس كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق» .. ويتلوه عبد اللَّه بن مسعود ... (2) هذا ما ذكره القرطبي، وأما ما ذكره السيوطي (3) عن ابن عباس:

وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن الذي دعا له النبيصلى الله عليه و آله و سلم: «اللهم فقّهه


1- 1 الجامع لأحكام القرآن القرطبي 1/ 27.
2- 2 الجامع لاحكام القرآن- للقرطبي 1/ 35.
3- 3 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 4/ 234- 240.

ص: 248

في الدين وعلّمه التأويل»

وعن مجاهد قال: قال ابن عباس: قال لي رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم: «نعم ترجمان القرآن أنت». وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود، قال: «نعم ترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس».

وأخرج عن الحسن، قال: إن ابن عباس كان من القرآن بمنزل.

وعن ابن عمر- حينما بلغه تفسير ابن عباس للآية «.. أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ..» (1)

- أنه قال: قد كنت أقول: ما يُعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه أوتي علماً.

يقول أحمد أمين عن الإمام علي عليه السلام: .. كان أستاذاً لعبد اللَّه بن عباس أخذ عنه كثيراً (2) وكان لابن عباس مصحف خاص به ذكره الشهرستاني في مقدمة تفسيره وكان ترتيبه كالتالي:

1 اقرأ ... 2 ن ... 3 والضُّحى ... 4 المزمل ...

5 المدثر ... 6 الفاتحة ... 7 تبّت يدا ... 8 كوِّرت ...

9 الأعلى 10 والّليل ... 11 والفجر ... 12 ألم نشرح لك

13 الرحمن ... 14 والعصر ... 15 الكوثر ... 16 التكاثر ...

17 الدين ... 18 الفيل ... 19 الكافرون ... 20 الإخلاص ...

21 النجم ... 22 الأعمى ... 23 القدر ... 24 والشمس ...

25 البروج ... 26 التين ... 27 قريش ... 28 القارعة ...

29 القيامة ... 30 الهمزة ... 31 والمرسلات ... 32 ق ...

33 البلد ... 34 الطارق ... 35 القمر 36ص ...

37 الأعراف 38 الجنّ ... 39 يس ... 40 الفرقان ...


1- 1 الأنبياء: 30.
2- 2 فجر الإسلامص 149.

ص: 249

41 الملائكة ... 42 مريم ... 43 طه ... 44 الشعراء ...

45 النمل ... 46 القصص ... 47 بني اسرائيل ... 48 يونس ...

49 هُود ... 50 يوسف ... 51 الحجر ... 52 الأنعام ...

53 الصافات ... 54 لقمان ... 55 سبأ ... 56 الزُّمر ...

57 المؤمن ... 58 حم السجدة ... 59 حم عسق ... 60 الزخرف ...

61 الدخان ... 62 الجاثية ... 63 الأحقاف ... 64 الذاريات ...

65 الغاشية ... 66 الكهف ... 67 النحل ... 68 نوح ...

69 إبراهيم ... 70 الأنبياء ... 71 المؤمنون ... 72 الرعد ...

73 الطور ... 74 الملك ... 75 الحاقة ... 76 المعارج ...

77 النساء ... 78 والنازعات ... 79 انفطرت ... 80 انشقت ...

81 الروم ... 82 العنكبوت ... 83 المطففون ... 84 البقرة ...

85 الأنفال ... 86 آل عمران ... 87 الحشر ... 88 الأحزاب ...

89 النور 90 الممتحنة ... 91 الفتح ... 92 النساء ...

93 إذا زلزلت ... 94 الحج ... 95 الحديد ... 96 محمّد (ص) ...

97 الإنسان ... 98 الطلاق ... 99 لم يكن ... 100 الجُمعة ...

101 ألم السجدة ... 102 المنافقون ... 103 المجادلة ... 104 الحجرات ...

105 التحريم ... 106 التغابن ... 107 الصف ... 108 المائدة ...

109 التوبة ... 110 النصر ... 111 الواقعة ... 112 والعاديات ...

113 الفلق ... 114 الناس ...

ابن عباس والوضاعون:

الوضع: الاختلاق. وضع الرجل الحديث: افتراه وكذبه واختلقه (1).

تشير مصادر كثيرة إلى أن وضع الحديث كان في عهد رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم وفي حياته المباركة، وقد ورد عنهصلى الله عليه و آله و سلم النهي عنه (يا أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة، فمن


1- 1 المعجم الوسيط، مادة وضع.

ص: 250

كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ...).

وللوضع عوامله وأهدافه وطرقه. ومن طرقه اختيار سند ينتهي الىصحابي جليل يتمتع بوجود محترم بين الصحابة ومكانة كبيرة عند عموم المسلمين وقد يكون ذا مكانة علمية مرموقة ومعروفة، وربما يكون من الذين يستعين به الصحابة في حلّ كثير من المسائل التفسيرية والفقهية، حتى يُعطى للرواية- بكاملها سنداً ومتناً- قوةً وأثراً ومقبولية لدى الآخرين.

لأن «الواضع بداهة لا يختار لنفاقه إلا الشخصيات الرفيعة من ذوي الشهرة الواسعة لكي تلقى اكذوبتهصداها في نفوس الناس بنسبتها إليهم» (1).

وابن عباس ممن تتوفر فيه هذه الصفات إضافة إلى أنه شخصية علمية فهو ذات رصيد اجتماعي وصاحب دور سياسي مطلع على الأحداث، التى مرت في تأريخ الإسلام والمسلمين، كما أنه من عائلة كريمة اجتمعت فيهاصفات النبل والسخاء والشجاعة. كل هذه الأمور وغيرها جعلت الرجل عرضة للوضع له والمبالغة فيه للوصول الى مآرب سياسية من خلال ذلك، كماصار عرضة للوضع عليه نيلًا منه وتبريراً لأفعال أعدائه واعداء البيت الهاشمي. يقول أحمد أمين:

ويظهر أنه وضع على ابن عباس وعليّ أكثر مما وضع على غيرهما. ولذلك أسباب:

أهمها أن علياً وابن عباس من بيت النبوة، فالوضع عليهما يكسب الموضوع ثقة وتقديساً لا يكسبهما الإسناد إلى غيرهما ... وابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون، يتقرب إليهم بكثرة المروي عن جدّهم.

ثم يواصل أحمد أمين كلامه فيقول: وقد روي عن ابن عباس ما لا يحصى كثرة، فلا تكاد تخلو آية من آيات القرآن إلا ولابن عباس فيها قول أو أقوال.

وكثر الرواة عنه كثرة جاوزت الحد ... (2).

كما أن السيد الحكيم يقول:


1- 1 انظر المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريمص 244؛ ومجلة قضايا إسلامية 2: 47.
2- 2 فجر الإسلام- أحمد أمينص 202- 203.

ص: 251

«لقد ذكرنا في مقدمة كتابنا عن عبد اللَّه بن عباس مختلف العوامل الداعية للوضع له أو عليه في زمنه وبعد زمنه وعلى الأخص فيما دار من ملاحاة بين السلطة العباسية ومناوئيها من أئمة الزيدية الراغبين في الحكم، وبالطبع إن هذا الرجل- وهو مصدر من مصادر شرعية سلطة الخلفاء العباسيين، التي استندوا إليها أو بعضهم على الأقل عندما ادعوا لأنفسهم وراثة النبوة وتسلسلها في أعقاب العباس حتى وصلت إليهم- لا بد وأن يرتفع رصيده في نفوس الرأي العام ويغالى فيه الى درجة تسمو به وترتفع عن سائر البشر المتعارف، فالكرامات مازالت ترافقه منذ ولادته وحتى نهاية حياته، بينما يهبط رصيده في نفوس الخصوم حتى يجرد عن جلّ مواهبه وإمكاناته وخلقه» (1) لقد تعرض الرجل وهو حبر الأمة لمثل هذه الاختلاقات والافتراءات فاسندت له أحاديث وروايات كثيرة- لا يغيب أكثرها عن نباهة المحقق (2)- حتى ورد عن الإمام الشافعي قوله (لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث) (3) كما أن علماء التفسير ضعفوا كثيراً من الأسانيد المنتهية إلى ابن عباس حتى وصفها بعضهم بأنها من أوهى الطرق، ضاربين لذلك مثلًا طريق الكلبي عن أبيصالح عن ابن عباس، وقالوا فإذا انضم الى ذلك محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب (4) والسدي الكبير وصفوه بأنه ضعيف وكذاب (5) كما ذكروا مثالًا آخر للوضع كان بطله (نوح الجامع) أبو عصمة نوح بن أبي حريم، قيل له (من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة (6) وفي كلام آخر أقرّ بوضعه على ابن عباس (7).

كما أن الضحاك بن مزاحم الهلالي روى التفسير عن ابن عباس وهو


1- 1 محمد تقي الحكيم- قصة بيت المال في البصرة ...ص 344 مقالة فى ثمرات النجف.
2- 2 ألفت كتب فى الموضوعات من الفريقين انظر أصول الحديث للفضلي 164، 165، 166.
3- 3 الإتقان للسيوطي 4: 239.
4- 4 الإتقان للسيوطي 4: 239.
5- 5 الإتقان للسيوطي 4: 239.
6- 6 علوم الحديث لابي عمرو بن الصلاح: 90.
7- 7 علوم الحديث ومصطلحاته.ص 283.

ص: 252

لم يلقه (1) ناهيك عن الإسرائيليات التي لم ينجو منها تراث ابن عباس والتي نشط اليهود في بثّها في عموم تراثنا الإسلامي ومن هؤلاء اليهود كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد اللَّه بن سلام ... مع أن ابن عباس كان دقيق الملاحظة أمين الوصف والرواية واعياً لأفعال هؤلاء ومدى ما تتركه على التراث الإسلامي من آثار وقد نهي عن الأخذ منهم، ورد عنه.

«كيف تسألونهم عن شي ء، وكتاب اللَّه بين أظهركم» (2) ووقف موقفاً آخر حازماً إزاء الأحاديث الموضوعة والإسرائيليات، فقد قال كما أخرجه البيهقي بسنده عن ابن عباس. قال: «إذا حدثتكم بحديث عن رسول اللَّه فلم تجدوا تصديقه في الكتاب، أو هو حسن في أخلاق الناس فإنه كاذب».

ومع هذا فقد زخر تفسيره برواياتهم مما حدى بالذهبي في كتابه (التفسير والمفسرون) وبغيره الى اتهام ابن عباس بالاطمئنان إليهم والنقل عنهم والاستعانة بهم في تفسيره، لعدم امكان نفي ماورد في تفسيره من الإسرائيليات لكثرتها.

ونحن نرى تراث ابن عباس وآثاره عند تحققها ودراستها قد احتوت على كثير من الإسرائيليات والأساطير والكرامات والمعاجز المنسوبة له، إضافة الى ما تعرض له تراثه من أكاذيب واختلاقات مما جعل هذا التراث غامضاً بعض الشي ء ومرتبكاً أو مضطرباً في بعضه الآخر، كما أنه مضطرب كثرة وقلة، قال بعضهم- لم يتجاوز عدّة أحاديث.

ذكر الآمدي في كتاب الإحكام في أصول الأحكام:

أن ابن عباس لم يسمع من رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم سوى أربعة أحاديث لصغر


1- 1 الإتقان للسيوطي 4: 238.
2- 2 جامع بيان العلم وفضله لابن عبد ربه 3: 51.

ص: 253

سنه (1).

كما ذكر محمود ابوريه في أضوائه: قال ابن القيم في الوابل الصيب: إن ما سمعه ابن عباس عن النبيصلى الله عليه و آله و سلم لم يبلغ العشرين حديثاً: وعن ابن معين والقطان وأبي داود في السنن أنه روى تسعة أحاديث وذلك لصغر سنه. ومع ذلك فقد أسند له أحمد في مسنده 1696 حديثاً (2).

ومن الروايات المختلقة لأهداف سياسية ما رواه الترمذي عن ابن عباس:

أن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم دعا للعباس بدعاء قال فيه:

«واجعل الخلافة باقية في عقبه».

وكذلك عن ابن عباس: ليكونن الملك- أو الخلافة- في ولدي، حتى يغلبهم على عزّهم الحمر الوجوه، الذين كأن وجوههم المجان المطرقة (3).

ابن عباس وبيت مال البصرة:

ما إن انتهت حرب الجمل بانتصار الإمام علي عليه السلام وصحبه على ناكثي البيعة حتى بادر الإمام الى تعيين عبد اللَّه بن عباس والياً على البصرة، فقال «يا معاشر الناس! قد استخلفتُ عليكم عبد اللَّه بن عباس، فاسمعوا له وأطيعوا أمره ما أطاع اللَّهَ ورسولهَ، فإن أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فأعلموني أعزله عنكم؛ فإني أرجو أن أجده عفيفاً تقياً ورعاً، وإني لم أولّه عليكم إلا وأنا أظن ذلك به، غفر اللَّه لنا ولكم» (4).

ثم أوصى عبد اللَّه بن عباس بوصاياه قائلًا:

«يا ابن عباس! عليك بتقوى اللَّه والعدل بمن ولِّيت عليه، وأن تبسط للناس وجهك، وتوسع عليهم مجلسك، وتسعهم بحلمك، وإياك والغضب، فإنه طيرةٌ من الشيطان، وإياك والهوى فإنه يصدك عن سبيل اللَّه، واعلم أن ما قربك


1- 1 كتاب الاحكام للآمدي 2/ 178- 180.
2- 2 أضواء على السنة المحمدية: 71.
3- 3 اضواء على السنة المحمدية لمحمود أبوريةص 136.
4- 4 كتاب الجمل للشيخ المفيد، تحقيق السيد علي مير شريفي: 420- 421.

ص: 254

من اللَّه فهو مباعدك من النار، وما باعدك من اللَّه فهو مقربك من النار، واذكر اللَّه كثيراً ولا تكن من الغافلين» (1) كان هذا في سنة 36 ه (2).

في سنة 40 ه بدأ أهم حدث في تاريخ هذا الرجل، وبالذات في تاريخ علاقته بالإمام علي عليه السلام فيما يتعلق ببيت مال البصرة وتجاوزه عليه كما زعم. فقد اضطربت أقوال المؤرخين وآراؤهم في هذه المسألة اضطراباً عجيباً، وحقاً ما قاله السيد محمد تقي الحكيم في دراسته حياة ابن عباس حيث يقول (3):

«والحقّ أن هذه القصة من أكثر ما قرأت- وأنا أؤرخ لهذه الفترة من حياة ابن عباس في كتابي عنه- غموضاً في فصولها فقد اختلف فيها المؤرخون على أقوال لا التقاء بين ما تباعد من أطرافها، فبعضها ينفي هذه القصة نفياً باتاً ويعتبرها اسطورة من الأساطير وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد الزاهد المعروف، وبعضهم يثبتها، والمثبتون أنفسهم يختلفون، ويدخل إلى أقوالهم التناقض في أكثر من مجال، فبعضهم يتبنى إثباتها بأفظعصورها فيغالي في كثرة ما أخذ من المال، ثم في اللهجة التي راسل بها الإمام، وفي الفتنة التي ألحقها وهو خارج بأموال بيت المال من البصرة وهارب بها إلى الحجاز، وعلى رأس هؤلاء من المتأخرين الدكتور طه حسين في كتابه (علي وبنوه) معتمداً مارواه الطبري وابن عبد ربه وأمثالهما من قدماء المؤرخين. بينما يتبنى فريق تقليل ما أخذ من المال وإبقاءه في البصرة بعد إرجاع المال والياً من قبل الإمام».

أما وجهة نظر النافين فقد عبر عنها عمرو بن عبيد وهو يرد على من ينسب له ذلك: «لا. كيف تقول هذا وابن عباس لم يفارق علياً حتى قتل وشهدصلح الحسن .. وأي مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة علي إلى الأموال وهو يفرغ بيت مال الكوفة في كل خمس ويرشه. وقالوا: إنه كان يقيل فيه فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة هذا باطل» (4)


1- 1 كتاب الجمل للمفيد: 420. نهج البلاغة 465 الكلمة 76. الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1: 105.
2- 2 الطبري حوادث سنة 36 ه.
3- 3 دراسة قيمة تحمل روحاً علمية منهجية قل نظيرها. تناولت هذا الموضوع بالتفصيل تحت عنوان قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها. انظر ثمرات النجف: 239- 252 نقلًا عن مجلة النجف- السنة الخامسة- العدد السادس- شوال 1382/ آذار 1963 م.
4- 4 نقلًا عن أمالي السيد المرتضى، ج 1ص 123، ط السعادة.

ص: 255

وهنا يقول السيد الحكيم: وكلام عمرو هذا ذو شقين اثنين نختلف معه في حسابهما، فأما ادعاؤه استمرار بقاء ابن عباس مع علي ثم مع الحسن فهذا من قبيل الرواية، ونحن لانملك تكذيبه فعلًا فيها، وأما الشق الثاني من دعواه فهي قابلة للمناقشة، إذ لا تلازم بين تفريغ مال الكوفة وعدمصحة القصة لجواز أن تكون يده قد امتدت الى المال حين مجي ء الخراج وقبل توزيعه من قبله، والحقيقة أن هذا من قبيل الاستحسان المحض وهو أقرب إلى الاجتهاد في مقابل النص لوصح وروده في هذا المجال.

التهم الموجهة لابن عباس:

الاتهام الأول ورد في تاريخ الطبري في حوادث سنة 40 ه في سبب شخوصة الى مكة وتركه العراق. وخلاصة هذا الاتهام أن الدؤلي بعد شجار له مع ابن عباس كتب الى الامام علي عليه السلام قائلًا: ... وان ابن عمك قد أكل ما تحت يديه بغير علمك ...

فكتب الإمام علي عليه السلام اليه كتاباً وآخر الى ابن عباس وتتالت كتب الامام وابن عباس ومما جاء في أحد كتب الإمام:

أما بعد فأعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذت؟ وفيم وضعت؟

فكتب اليه ابن العباس: أما بعد، فقد فهمتُ تعظيمك مرزأة ما بلغك أني رزأته من مال أهل هذا البلد، فابعث الى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه.

والسلام.

ثم دعا ابن عباس أخواله بني هلال بن عامر ... (1) الاتهام الثاني ورد على لسان قيس بن سعد حينما لحق عبيد اللَّه بن عباس بمعاوية الذي جاء لحرب الحسن عليه السلام حيث اغراه معاوية بالمال: قام قيس


1- 1 تاريخ الطبري، حوادث سنة 40 ه المجلد 3ص 154- 155، دار الكتب العلمية- بيروت.

ص: 256

فخطب في الجند قائلًا: يا أيها الناس، ... إن هذا وأباه، وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط:

إن أباه عم النبيصلى الله عليه و آله و سلم خرج يقاتله ببدر ... وإن أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة فسرق مال اللَّه ومال المسلمين. فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال ...» (1).

الاتهام الثالث: اتهام ابن الزبير:

خطب ابن الزبير بمكة على المنبر، وابن عباس جالس مع الناس تحت المنبر، فقال:

«... وإن هاهنا رجلًا قد أعمى اللَّه قلبه (يعني ابن عباس الذي كان يسمعه) كما أعمى اللَّه بصره، يزعم: أن متعة النساء حلال ... وقد احتمل بيت مال البصرة بالأمس ..»

هذا كلام من ابن الزبير لم يتركه ابن عباس يذهب سدًى بل تصدى له بحزم وبحجة قوية، ولكن تهمة ابن الزبير له باحتماله مال البصرة لم يردّها أو ينفيها ولكنه بين وجهة نظره فيها:

... وأما حملي المال فإنه كان مالًا جبيناه فأعطينا كلّ ذي حقّ حقّه، وبقيت بقية هي دون حقّنا في كتاب اللَّه فأخذناها بحقنا ...

ونشير هنا اشارة سريعة الى النتائج فقط التي توصل اليها السيد جعفر مرتضى العاملي «والتي تدل على افتعال القصة واختلاقها من أساسها» ونحيل القارئ الكريم الى التفاصيل في كتاب ابن عباس واموال البصرة للسيد العاملي فقد ناقش الروايات الثلاث (الاتهامات) سنداً ومتناً.

فقد أورد السيد العاملي ملاحظاته وأدلته، التي تحكم على أن رواية الطبري (الاتهام الأول) بالوضع والافتعال. كما أنه ناقش الاتهام الثاني المنسوب الى قيس بن سعد والمنقول عن مقاتل الطالبين، ناقشه قائلًا: فيكفي أن نشير


1- 1 مقاتل الطالبين: 73 ط الشريف الرضي، قم.

ص: 257

بالنسبة اليه الى ما ذكره بعض المحقّقين (1) من أنه كلام مفتعل، قد دسّ في بعض نسخ مقاتل الطالبين دون بعض؛ وذلك لأن ابن أبي الحديد قد نقل كلام أبي الفرج بعينه، ولم يذكر كلام قيس هذا، وإنما قال عن قيس: «ثم خطبهم، فثبتهم، وذكر عبيد اللَّه، فنال منه، ثم أمرهم بالصبر والنهوض الى العدو؛ فأجابوه ..». ونُقل ابن أبي الحديد مقدمٌ؛ سيما ونحن نراه ينقل عن أبي الفرج بين قوله: «فاخرجوا رحمكم اللَّه الى معسكركم بالنخيلة»، وقوله «ثم إن الحسن سار في عسكر عظيم» ينقل كلاماً كثيراً ليس في نسخ المقاتل المطبوعة منه عين ولا أثر .. وابن أبي الحديد قد سمع المقاتل املاءً عن شيوخه؛ فنقله أثبت إذ يحتمل قوياً: أن تكون هوامش قد زادها النساخ في الأصل اشتباهاً ..

والنقاش الثالث تمّ لرواية ابن الزبير (اتهامه) وقد توصل السيد العاملي الى أنه مع ضعف سند الرواية فإن العبارة التي يعير فيها ابن عباس بسرقة أموال البصرة هي الأخرى مفتعلة كما أن جواب ابن عباس هو الآخر مفتعل ولم ترد العبارة المزعومة ولا جوابها عند الكثيرين من المؤرخين الذين نقلوا الرواية التي تحمل اتهامات ابن الزبير وجواب ابن عباس عنها.

كما يذكر في الهامش أن المؤرخين قد ذكروا ما عدا مروج الذهب أن القضية جرت بين ابن عباس وعروة بن الزبير لا عبد اللَّه، ولكنها كلها تتفق في خلوها عن الفقرة التي تتهم ابن عباس بأموال البصرة، وذكر عدّة مصادر ..

كما أنه ناقش الرواية سنداً ومتناً وفنّد متنها الذي يذكر أن الزبير تزوج أسماء متعة وانها علقت بعبد اللَّه (2) .. ويستبعد هذه الدعوى.

هذا وأن هناك الكثير من العلماء والمؤرخين ينفون هذه التهمة عن ابن عباس، أو تثبت أن ابن عباس بقي والياً لعلي على البصرة الى ما بعد مقتله عليه السلام نستعرض بعضاً منهم وأقوالهم:


1- 1 قاموس الرجال. التستري 6: 439 باب العين.
2- 2 ابن عباس وأموال البصرة: 49- 50.

ص: 258

قال ابن كثير: «... وتأمر على البصرة من جهة علي، وكان إذا خرج منها يستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، وزياد بن أبي سفيان على الخراج، وكان أهل البصرة مغبوطين به: يفقههم، ويعلم جاهلهم، ويعظ مجرمهم، ويعطي فقيرهم، فلم يزل عليها حتى مات علي. ويقال: إن علياً عزله عنها قبل موته ...) (1).

- قال ابن حجر في الإصابة: «فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى قتل علي؛ فاستخلف على البصرة عبد اللَّه بن الحارث ومضى الى الحجاز ...» (2).

- أما ابن أبي الحديد فقد قال بعد أن ذكر الكتب المتبادلة بين الإمام عليه السلام وابن عباس: (وقال آخرون هم الأقلون: هذا لم يكن ولا فارق عبد اللَّه بن عباس علياً عليه السلام، ولا باينه ولاخالفه، ولم يزل أميراً على البصرة الى أن قتل عليّ عليه السلام.

قالوا: ويدل على ذلك مارواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهانى من كتابه الذي كتبه الى معاوية من البصرة لما قتل علي عليه السلام، ... وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية، ويجرّه الى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمال أمير المؤمنين عليه السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين عليه السلام، فما باله وقد علم النّبْوَة التي حدثت بينهما، ولم يستمل ابن عباس، ولا اجتذبه الى نفسه، وكل من قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مشاقّه ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي عليه السلام، وما كان يلقاه به من قوارع الكلام، وشديد الخصام، وما كان يثني به على أمير المؤمنين، ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما» وبعد أن يورد ابن أبي الحديد كل هذا يقول وهذا عندي هو الأمثل والأصوب. وإن توقف أخيراً. بعد ذلك يردّ على قول الراوندي الذي يقول:

المكتوب اليه هذا الكتاب (كتاب أمير المؤمنين) هو عبيد اللَّه بن عباس، لا


1- 1 البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 8: 304. مكتبة المعارف بيروت.
2- 2 الإصابة 2: 334. وانظر عدم مفارقته للإمام أمالي المرتضى 1: 177 وقاموس الرجال 6: 15، وانظر ايضاً تذكرة الخواص: 150، 252 وتاريخ اليعقوبي 2: 205.

ص: 259

عبداللَّه» فيقول: وليس ذلك بصحيح، فإن عبيد اللَّه كان عامل علي عليه السلام على اليمن، ولم ينقل عنه أنه أخذ مالًا، ولا فارق طاعة ثم يردف ابن أبي الحديد قوله هذا:

«وقد أشكل عليّ أمرُ هذا الكتاب، فإن أنا كذبت النقل وقلت: هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام، خالفتُ الرواة، فإنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير، وإنصرفته الى عبد اللَّه بن عباسصدّني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته.

وإنصرفته الى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام؟ والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبني عمّه» لهذا نرى ابن أبي الحديد متوقفاً في هذا بقوله «فأنا في هذا الموضع من المتوقفين».

فانكارها- حقاً- أمرصعب «والحقيقة أن إنكار هذه القصة من الأساس واعتبارها مختلقة موضوعة كما يذهب الى ذلك منكروها وهم القلة في المؤرخين .. أمر تأباه طبيعة البحث الموضوعي؛ لأن هذه القضايا الكبرى في التأريخ والتي يكثر الحديث فيها لا تكون بغير منشإ انتزاع غالباً» (1).

كما أن الايمان بها بهذه السعة التي تستند الى رواية الطبري والى من سار على ضوئها أمثال ابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وصاحب العقد وطه حسين وغيرهم، أمر كما يقول السيد الحكيم لا يمكن الاطمئنان اليه ...) فابن عباس «الشخصية الفذة، الذي قام بدور رئيس في تأييد الإمام علي عليه السلام .. سواء في حياة الإمام عليه السلام أو تأييد حق علي، وحق أهل بيته بعد وفاته ..

والرجل .. الذي اشتهر بصراحته المثيرة ومواقفه الجريئة .. والإنسان الذي كان- ومايزال- يتمتع بالاحترام والتقدير، وله شهرة علمية وأدبية واسعة والتي لم تكن لتكون له لو لم يكن يتمتع بالمؤهلات الحقيقية والنادرة، التي رسخت بمعطياتها هذه الشهرة الواسعة، وجسدت المثال الحي للشخصية التي تستحق كل


1- 1 السيد محمد تقي الحكيم- ثمرات النجف: 243.

ص: 260

هذا الاحترام، وكل هذا التقدير ..» (1).

وكما يقول عنه طه حسين: «من العلم بأمور الدين والدنيا ومن المكانة في بني هاشم خاصة، وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعاً، ما كان خليقاً أن يعصمه عن الانحراف عن ابن عمّه، مهما تعظم الحوادث، وتدلهم الخطوب ..» وإن كان طه حسين يثبت تهمه السرقة له (2).

فصاحب التاريخ العريض الملي ء بالأخلاق والحب والتفاني قولًا وفعلًا دفاعاً عن الإمام ومواقفه، لا يمكن لهذا الرجل أن ينسب اليه مثل هذا العمل (السرقة).

وأخيراً أرى أن ما حدّث به اليعقوبي في تأريخه هو الأنسب والأقرب للصحة ونكتفي بما حدث به:

كتب أبو الأسود الدؤلي- وكان خليفة عبداللَّه بن عباس بالبصرة- إلى علي عليه السلام يعلمه أن عبد اللَّه أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم فكتب اليه يقسم له باللَّه لتردنها، فلما ردّها عبداللَّه بن عباس أو ردّ أكثرها كتب إليه علي عليه السلام: أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحاً وما فاتك فلا تكثر عليه جزعاً، واجعل همّك لما بعد الموت والسلام. فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين أو ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم كانتفاعي بهذا الكلام) (3).

والنتيجة- باختصار- التي توصل اليها السيد محمد تقي الحكيم في بحثه هذا هي:

1) الأخذ برواية اليعقوبي ففي جوها تلتقي جميع الخطوط والآراء (4) ...

2) أن ابن عباس في أخذه لهذا المال كان أخذه ينطوي تحت العنوان الأولي وهو حقّه الطبيعي في الخمس. وإن اصرار الإمام على إرجاع المال يناسب وجهة


1- 1 السيد مرتضى العاملي.
2- 2 الفتنة الكبرى للدكتور طه حسين.
3- 3 تاريخ اليعقوبي 2: 205- دارصادر. نهج البلاغة ضبط الدكتورصبحي الصالحص 378 رقم الكتاب 22. تحف العقول للحرانيص 138 مع بعض الاختلاف.
4- 4 ثمرات النجف- قصته-: 247، 250- 251.

ص: 261

نظره عليه السلام في أن حرمان بني هاشم من حقّهم في الخمس للعنوان الثانوي أجدى على الإسلام في رأيه من تنفيذ العنوان الأولي (حق بني هاشم في الخمس) (1) 3) يؤيد هذه النتيجة قول ابن عباس نفسه ردّاً على اتهام ابن الزبير (على فرضصحة الرواية) من أنه أخذ البقية من المال التي هي دون حقّه في كتاب اللَّه تعالى. وما يؤيد ذلك أيضاً الرواية التي جاءت في العِقد الفريد: كان عبد اللَّه بن عباس من أحب الناس الى عمر بن الخطاب، وكان يقدمه على الأكابر من أصحاب محمدصلى الله عليه و آله و سلم، ولم يستعمله قط، فقال له يوماً: كدت أستعملك، ولكني أخشى أن تستحلّ الفي ء على التأويل، فلماصار الأمر الى علي استعمله على البصرة فاستعمل الفي ء على تأويل قول اللَّه تعالى «واعلموا أن ما غنمتم من شي ء فأن للَّه خمسه وللرسول ولذي القربى» (2) هذا وإن لكثير من علماء الرجال كلاماً ينصب جلّه على ما تفرد به الكشي في رجاله، وفي كلامهم ما يؤيد نزاهة ابن عباس وبراءته من التهمة المنسوبة إليه، نستعرض بعضاً منهم.

الكشي وابن عباس:

فقد ذكر الكشي أحاديث تتضمن قدحاً في ابن عباس، ومن جملة تلك الأحاديث حديث مفارقته للإمام علي عليه السلام، وأخذه المال من بيت المال البصرة، وكتب أمير المؤمنين وأجوبة ابن عباس عنها (3).

وفي ذلك يقول السيد الخوئي:

هذا الرواية وما قبلها من طرق العامة، وولاء ابن عباس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه السلام هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التهم والطعون عليه، حتى إن معاوية لعنه اللَّه كان يلعنه بعد الصلاة مع لعنه عليّاً


1- 1 ثمرات النجف- قصته-: 247، 250- 251.
2- 2 فجر الإسلام/ أحمد أمينص 147.
3- 3 رجال الكشيص 279- 280 حرف العين.

ص: 262

والحسنين وقيس بن عبادة والأشتر!! كما عن الطبري وغيره وأقل ما يُقال فيهم انهمصحابة رسول اللَّهصلى الله عليه و آله و سلم، فكيف كان يلعنهم ويأمر بلعنهم؟!

وراح السيد الخوئي يبين رأيه في ابن عباس بوضوح: والمتحصّل مما ذكرنا أنّ عبداللَّه بن عباس كان جليل القدر، مدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام كما ذكره العلامة وابن داود (1).

كما قال الشهيد الثاني في حاشية الخلاصة: جملة ما ذكره الكشي من الطعن فيه خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند (2).

وقد ذهب السيد ابن طاووس الى نفي كل ذلك نفياً تاماً، فقد قال في ابن عباس: حاله في المحبة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وموالاته والنصر له والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة له مما لا شبهة فيه، ثم قال معرضاً بأخبار الذم، ومثل الحبر موضع أن يحسده الناس ويباهتوه:

كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لذميم قال: ولو ورد في مثله الف رواية أمكن أن تعرض للتهمة، فكيف بهذه الأخبار الضعيفة الركيلة؟! (3). فكل ما ورد بخصوص قصة بيت مال البصرة وابن عباس هي أخبار ضعفها ابن طاووس.

وأماصاحب الوسائل في خاتمتها يقول عن ابن عباس: حالُه في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين عليه السلام أشهر من أن يخفى، وروي فيه قدحٌ وهو أجل من ذلك (4).

وفاته

توفي ابن عباس في الطائف سنة 68 للهجرة بعد أن أُصيب بالعمى، وصلى عليه محمد ابن الحنفية (5)، فسلام عليه في الخالدين.


1- 1 معجم رجال الحديث للسيد الخوئي 11: 254، 256.
2- 2 ذكر في كتاب في رحاب أئمة أهل البيت محسن الأمين 2/ 241.
3- 3 ذكرهصاحب رحاب أئمة أهل البيت- محسن الأمين 2: 241.
4- 4 خاتمة الوسائل للعاملي 30/ 411.
5- 5 الإصابة 1: 90. البداية والنهاية ابن كثير 8/ 305.

ص: 263

المصادر

1- الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر العسقلاني.

2- مختصر تاريخ دمشق. ابن منظور.

3- حلية الأولياء. أبو نعيم الأصفهاني.

4- التاج الجامع للاصول. منصور علي ناصيف.

5- العقد الفريد. ابن عبد ربه الأندلسي.

6- البداية والنهاية. ابن كثير.

7- الإمامة والسياسة. ابن قتيبة الأندلسي.

8- أمالي المفيد. الشيخ المفيد.

9- وقعةصفين. نصر بن مزاحم.

10- اخترنا لك 3 (ثمرات النجف). قصة بيت المال في البصرة ودور ابن عباس فيها. السيد محمد تقي الحكيم.

11- أكاذيب وحقائق (1) ابن عباس وأموال البصرة- السيد جعفر مرتضى العاملي.

12- مقاتل الطالبين. ابو الفرج الأصفهاني.

13- قاموس الرجال. التستري.

14- أمالي المرتضى. السيد المرتضى.

15- تاريخ اليعقوبي. اليعقوبي.

16- تاريخ الطبري. بن جرير الطبري.

17- تذكرة الخواص. ابن الجوزي.

18- وسائل الشيعة. الحر العاملي.

19- معجم رجال الحديث. السيد الخوئي.

ص: 264

20- في رحاب أئمة أهل البيت. محسن الأمين العاملي.

21- علوم الحديث ومصطلحاته. الدكتورصبحي الصالح.

22- علوم الحديث. ابن الصلاح.

23- الجامع لأحكام القرآن. القرطبي.

24- الاستيعاب في أسماء الأصحاب.

25- ديوان حسان بن ثابت.

26- المنهج الأثري في تفسير القرآن الكريم. هدى جاسم أبوطبرة.

27- رجال الكشي.

28- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

29- أضواء على السنة المحمدية. محمود أبورية.

30- تحف العقول. ابن شعبة الحراني.

31- عبد اللَّه بن عباس. السيد مرتضى العسكري.

الهوامش:

ص: 265

المساجد والاماكن الاثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة (4)

ص: 266

ص: 267

المساجد والأماكن الأثرية المجهولة لزائر المدينة المنوّرة الميمونة (4)

عبد الرحمن خويلد

مقدّمة:

بما أنّ للمدينة المنوّرة فضلًا كبيراً على المسلمين؛ لأنّها مهاجر الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه و آله)، وعاصمة الإسلام الأولى، ومنها انطلق الإسلام إلى الآفاق، وعمّ بنوره البشريّة، وأنقذ مَن هداه اللَّه سبحانه من الشرك والضلالة إلى التوحيد والهداية، لذلك لابدّ من معرفة معالمها المهمّة، وآثارها الرائعة.

وقد رأيت أنّ أكثر الزائرين لطيبة الطيبة لا يعرف عنها سوى المسجد النبوي الشريف، والبقيع، والمزارات الأربعة المشهورة، وهي (مسجد قباء، ومسجد القبلتين، والمساجد السبعة، وشهداء أُحد)، علماً أنّ قسماً منهم لا يعرف حتّى هذه المزارات الأربعة إلّابعد سماعه عنها من أصحابه، أو من بعض سائقي السيارات عندما يرفعون أصواتهم بعبارة (زيارة يا حاج).

أمّا بقية المساجد والأماكن الأثرية الأخرى فاعتقد أنّ أغلب زوّار هذه

ص: 268

المدينة العزيزة إن لم يكن كلّهم لا يعرف أو لم يسمع عن بعضها، مع كثرة زياراته للمدينة المنوّرة.

وكيف تُجهل هذه المساجد والأماكن، التي كانت عامرة بنزول الوحي عليه السلام، أو كونها مصلّى أو مقيل أو مبيت النبي (صلى الله عليه و آله)؟

فتجوّل زوّارها في ربوعها يعيد إلى أذهانهم الذكريات العطرة، والصور الرائعة للسيرة النبويّة على هذه الأرض المباركة، ممّا يثلجصدورهم، ويسعد نفوسهم، ويزيد إيمانهم. لذلك رأيت أنّ من الضروري إخراج كتابٍ لينتفع به الزوّار. والمنهج الذي اتّبعته فيه هو: تصوير هذه المساجد والأماكن لسهولة التعرّف عليها أوّلًا، وللحفاظ علىصورتها خشية اندثارها ثانياً، ثمّ إيضاح أماكنها، والتعليق عليها. وقد رتّبتها من حيث القرب والبعد عن مسجد الرسول (صلى الله عليه و آله)، مراعياً في ذلك موقعها في اتّجاه واحد، ووضعت خريطة تبيّن أماكنها، وتسلسل أرقامها؛ ليستطيع الزائر الوصول إليها بسهولة ويسر، كما أني حرصت على ذكر المساجد التي ثبت أنّ النبي (صلى الله عليه و آله)صلّى فيها، وختمتُ الكتاب بوضع أربعة فهارس له.

راجياً من اللَّه تعالى العون والسداد والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، إنّه نِعم المولى ونِعم النصير.

19- ثنية الوداع

تقع هذه الثنية على يمين الذاهب إلى مسجد قباء من طريق قباء الطالع، وهي قبل المسجد بمسافة تقدر بكيلومتر واحد، وعليها الآن قلعة من العهد التركي، وهي مَعْلَم بارز وواضح للعيان.

وللمدينة ثنيتان إحداهما جنوبية، وهي التي نتحدّث عنها الآن، والأُخرى

ص: 269

شمالية لوداع المسافر إلى الشام، وهذه الأخيرة أُزيلت لتوسعة مَيدان ملتقى طريقي سيد الشهداء وسلطانه.

وقد خُلّدت ثنيات الوداع لورودها في نشيد الأنصار عند استقبالهم النبي (صلى الله عليه و آله) حينما قَدِم للمدينة مهاجراً، وهو تعبير حيّ لفرحتهم به، ومطلع هذا النشيد:

طلع البدر علينا مِن ثَنيّات الوداع (1)

ويظهر أنّ سبب تسميتها بثنية الوداع، أنّها كانت موضع توديع المسافرين من تلك الجهة قبل هجرة المصطفى (صلى الله عليه و آله) (2).

20- مسجد بنات النجّار

وهو مسجد فيه رَوْحانية وخشوع، ويقع في الجنوب الشرقي من ثنيه


1- 1 الدرّ الثمين: 123- 124، وسنذكر بقية الأبيات عند حديثنا عن مسجد بنات النجار.
2- 2 تاريخ معالم المدينة: 125.

ص: 270

ص: 271

الوداع، ويمكن للزائر الوصول إليه بسهولة من طريق قباء النازل؛ لأنّ المسجد في أوّل شارع فرعي على يمين الطريق المذكور، ويبعد عن مسجد قباء بمسافة تقدّر بتسعمائة متر، وعن الشارع العام بحوالى مائة متر.

ويغلب على هذا المسجد عند أكثر الناس اسم مسجد الجمعة، وهو غيرصحيح؛ لأن الطريقة الغالبة هنا عند تجديد أي مسجد تكون إمّا بتجديده في مكانه، أو في مكان مجاور له، والذي حدث لمسجد الجمعة، أنّه جُدِّد في مكان مجاور للمسجد القديم.

وبنات النجار هنّ من بنات أخوال النبي (صلى الله عليه و آله)، فلمّا قدم من مكة مهاجراً إلى المدينة، قابلته بنات النجار ينشدن الأبيات الجميلة المشهورة على الألسن وهي:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا للَّه داع

أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

جئت شرّفت المدينة مرحباً يا خير داع

قد لبسنا ثوب عزّ بعد تمزيق الرقاع (1) وقد فُرِش هذا المسجد الأثري، ويصلّي فيه بعض الزوار.

21- مسجد الجمعة

مكان هذا المسجد مقابل مسجد بنات النجار، وهو في أول شارع فرعي على اليمين للقادم من مسجد قباء عن طريق قباء النازل.

وسمي بمسجد الجمعة؛ لأنّ الرسول (صلى الله عليه و آله)صلّى فيه أول جمعة في الإسلام، التي أوجبها اللَّه تعالى بقوله:


1- 1 تاريخ معالم المدينة: 117.

ص: 272

«يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعَوا إلى ذكر اللَّه وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» (1) فعندما وصل إلى قباء، ومكث فيها أيّاماً، انتقل بعد ذلك إلى المدينة، ومرّ ببني سالم بن عوف، فنزل عندهم، ولمّا أدركتهصلاة الجمعة في ذلك المكانصلّاها، وخطب أول خُطبة فيها، وهي:

«الحمد للَّه أحمده و أستعينه و أستغفره وأستهديه وأؤ من به، ولا أكفره وأعادي مَن يكفره، وأشهد أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلّة من العلم وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، مَن يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومَن يعصهما فقد غوى وفرط وضلّ ضلالًا بعيداً، وأوصيكم بتقوى اللَّه، فإنّه خير ما أوصى به المسلمُ المسلمَ: أنْ يحضّه على


1- 1 سورة الجمعة 62/ 9.

ص: 273

الآخرة، وأن يأمره بتقوى اللَّه، فاحذروا ما حذّركم اللَّه من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ...» (1) إلى آخر الخطبة.

وكان هذا المسجد يسمى بمسجد عاتكة (2) فترة من الزمن. وكذلك أُطلق عليه سابقاً مسجد الوادي؛ لأنه يقع في بطن وادي رانوناء (3). كان هذا المسجدصغير الحجم، ثمّ وسّع عام 1412 ه توسعة كبيرة وجميلة.

22- مسجد ردّ الشمس

يقع هذا المسجد إلى الشرق من مسجد قباء باتجاه القادم منه إلى شارع قربان أو باب العوالي، في أول شارع متفرع من الجهة اليمنى قبل الإشارة الضوئية الأولى، ويبعد عن مسجد قباء بمسافة تقدر بكيلومتر واحد، وعن الإشارة الضوئية المذكورة بمسافة ثلاثمائة متر، ومكانه على طول امتداد شارع قربان.


1- 1 تاريخ الطبري 2: 294- 295.
2- 2 تاريخ المدينة المنوّرة 1: 68؛ وتاريخ معالم المدينة: 115.
3- 3 تاريخ معالم المدينة: 115- 116.

ص: 274

ص: 275

ولم يبق من هذا المسجد قبل فترة من الزمن إلّاجدار خَرِب لا يتجاوز المتر الواحد (1)، ثمّ أُزيل هذا الجدار القديم، وبقي أرضاً جرداء يُصلّي فيه بعض الزوار، ولقدصليتُ فيه، لكنه سوِّر بعد ذلك ولا يمكن الدخول إليه إلّالدفن الموتى من الأطفال.

وهذا المسجد المشهور عند أهل تلك المحلة بأنّه الذي ردّت فيه الشمس لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لأداءصلاة العصر بعد أن فاتته بسبب نوم النبيّ (صلى الله عليه و آله) على فخذه، فدعا (صلى الله عليه و آله) اللَّه أن يردّها، فاستجاب اللَّه دعاءه.

وقيل (2): إنّ مسجد الفضيخ- الذي سيرد ذكره لاحقاً- هو الذي رُدّت فيه الشمس، واللَّه أعلم.

الهوامش:

مَن ألّف في الحجِّ من أهل هَجَر


1- 1 تاريخ معالم المدينة: 125.
2- 2 آداب الحرمين: 147.

ص: 276

مَن ألّف في الحجِّ من أهل هَجَر

أحمد الكناني

ثبت ببليوغرافي روعي فيه النقاط التالية:

1- نعني بهجر الاطلاق القديم للّفظة الشامل للإحساء والقطيف والبحرين.

2- يقتصر على الدراسات المستقلة للحج دون المذكور ضمن المجاميع الفقهية.

3- مرتب هجائياً على أسماء المؤلفين.

4- المخطوطة المذكورة للكتاب اقتصرنا على الموجود منها في مكتبات ايران، التي هي العمدة في هذا المجال.

1- إبراهيم آل عرفات:

إبراهيم بن مهدي بن حسن بن عيسى بن علي بن عرفات بن عيد بن

ص: 277

قوام القديحي القطيفي.

ولد سنة 1180 ه في القديح.

كثير الأسفار، جاب البلاد وساح الديار، ولم يتزوج، ولم يتخذ بقعة وطناً.

من مؤلفاته: ردود ونقود، الكشكول، الحج والعمرة، شرح الكفاية.

لم يؤرخ لوفاته، إلّاأنه انتهى من كتابة شرح الكفاية للسبزواري، سنة 1237، وهو آخر عملصدر من قلمه الشريف.

انظر: طبقات اعلام الشيعة: (الكرام البررة) 2/ 19.

ترجمة آل عرفات بقلم عبد الغني عرفات (مخطوط).

الحجّ والعمرة:

مخطوطة في مجلس الشورى برقم 1/ 5507، 6 أوراق، ذكرت في فهرسها 16/ 408.

2- أحمد بن ابراهيم آل عصفور البحراني:

فقيه مجتهد محدث، باعهُ طويل في العقليات والرياضيات.

له شأن كبير في بلاد البحرين، وإمام للجمعة والجماعة هناك.

من مؤلفاته: رسالة في بيان القول بحياة الأموات بعد الموت، رسالة في الجوهر والعرض، رسالة في الأذان، رسالة في ثبوت الولاية على البكر، رسائل كثيرة في مباحث الفقه المختلفة.

توفي في بلاد القطيف بعد أخذ الخوارج للبحرين فيصفر 1131، عن عمر يقرب من 47 سنة.

دفن بالقطيف في المقبرة المعروفة بالحباكة.

ص: 278

انظر: أنوار البدرين: 161، الذريعة 22/ 253.

مناسك الحج:

مختصراً مع رسالة غسل الاموات، قال في الذريعة 22/ 253: يوجد ضمن مجموعة رسائل السماهيجي.

3- أحمد بن زين الدين الاحسائي:

أحمد بن زين الدين بن إبراهيم بنصقر بن إبراهيم بن داغر بن رمضان بن راشد بن دهيم بن شمروخ آلصقر القرشي الاحسائي.

ولد في المطيرفي من قرى الاحساء في رجب 1166 ه.

حضر عند كبار الطائفة في الاحساء وكربلاء والنجف، منهم، الوحيد البهبهاني، والسيد علي الطباطبائيصاحب الرياض، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والسيد مهدي بحر العلوم.

نزل مدينة يزد أثناء زيارته للإمام الرضا عليه السلام، فسمع بذلك السلطان فتح علي شاه القاجاري فكتب إليه يدعوه إلى طهران، فحلّ دار السلطان، وهناك سأله الشاه مجموعة من الأسئلة طُبعت ضمن جوامع الكلم وسنقف عليها.

استوطن (كرمانشاه) نزولًا عند طلب محمّد علي ميرزا بن السلطان فتح علي شاه الوالي من قبل أبيه على المدينة.

للوقوف على مؤلفاته المطبوع منها والمخطوط، راجع الاحصاء الذي أجريناه في «احصاء مخطوطات علماء الاحساء والقطيف في مكتبات ايران لمصنفات أحمد بن زين الدين.

توفي في هدية قرب المدينة المنورة في 22 ذو القعدة 1241 عن عمر ناهز 75 عاماً أثناء سفره إلى الحج ودُفن بالبقيع.

ص: 279

راجع: أدب الطف 6/ 367، الاعلام للزركلي 1/ 124، الاعيان 2/ 589، أنوار البدرين/ 406، دائرة المعارف الشيعية 3/ 98، الروضات 1/ 97 مؤلفين كتب چابي 1/ 354، معجم المؤلفين 1/ 228، معجم المطبوعات/ 268. أعلام هجر 1/ 112.

احرام أهل المدينة:

ضمن أجوبة مسائل الشيخ أحمد بنصالح بن طوق (الثالثة)، حول النية، وكفاية الشاهد واليمين أو البينة في اثبات الدعوى على الميت.

مخطوطة في المكتبة الوطنية (ملّى)، برقم 39/ 755، ذكرشافي فهرسها 8/ 246.

الزاد والراحلة:

ضمن أجوبة مسائل الملا محمد الدامغاني، حول بسيط الحقيقة كل الاشياء، وتفسير «إنا للَّه وإنا اليه راجعون» و «تفسير الى اللَّه تصير الأمور».

مخطوطة في ملك طهران، برقم 9/ 633/ 96، راجع فهرسها 5/ 120 بعنوان «أجوبة المسائل».

4- أحمد بنصالح بن سالم بن طوق القطيفي:

عالم فقيه مرجع في (الفتيا) ببلاد القطيف.

معاصر للشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي، وله عنه مسائل ذكرناها في إحصاء مخطوطات علماء الاحساء والقطيف في مكتبات ايران: ضمن مؤلفات أحمد بن زين الدين، وطبع بعضها ضمن جوامع الكلم للشيخ أحمد.

من مؤلفاته التي تربو على الأربعين: نزهة الألباب، نعمة المنان في إثبات وجودصاحب الزمان، جامعة الشتات، شرح حديث مَن عرف نفسه، الفرائض

ص: 280

والمواريث، رسالة في الأصول الخمسة، المسائل العويصة التي أرسلها للشيخ أحمد بن زين الدين.

انظر أعيان الشيعة 2/ 607، الذريعة 23/ 254.

أحكام العمرة:

في أحكام العمرة والمسائل المرتبطة بها بطريقة استدلالية مختصرة، مرتبة على مقدمة وعدّة فصول، المقدمة في وجوب العمرة في العمر مرة، والفصل الأول في مواقيت العمرة، والفصل الثاني في الطواف.

مخطوطة في المرعشية، برقم 17/ 2358، بخط زرع بن محمد علي الخطي، النسخة غير تامة.

أولها: ولاحول ولا قوة إلّاباللَّه ... وبعد فهذهِ نبذة يسيرة في أحكام العمرة كتبتها امتثالًا لقوله تعالى ...».

آخرها: وهو أوضح إشكالًا وضعفاً كما لا يخفى واللَّه العالم ...

ضمن مجموعة تحتوي على (17 رسالة) كلها لابن طوق. عليها حاشية تصحيحية بخط المؤلف.

مناسك الحج:

فرغ منه في 8 ربيع الثاني 1238. وفيه حج القران والإفراد.

قال في الذريعة 22/ 254: رأيت المناسك في كتب الشيخ حسين القديحي.

5- الحسن بن حسين بن محمد بن أحمد البحراني:

من أهل أوائل المائة الثالثة عشرة.

كان له من الأخوة خمسة كلُّهم من العلماء والفضلاء، هو أشهرهم.

ص: 281

انتقل من البحرين بعد وفاة والده سنة 1216 الى بوشهر وصار إماماً للجمعة والجماعة والقضاء الى أن توفي ودفن في بيته، وقبره مزار معروف.

من مصنفاته رسالة عملية في الطهارة والصلاة، شرح منظومة والده في الأصول الخمسة المسماة بشارحة الصدور ودافعة المحذور، رسالة الصوم.

مناسك الحج:

ذكره في أنوار البدرين: 57، والأعيان 5/ 57، والذريعة 22/ 259.

6- حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني:

والد الحسن المتقدّم، له ستة من الاولاد كلهم من العلماء.

ابن أخ المحدّث البحراني وأحد المجازين منه في اللؤلؤة.

توفي في شوال بشاخور سنة 1216.

انظر: الأعيان 5/ 57، الذريعة 22/ 259.

مناسك الحجّ الكبير:

ذكره في الذريعة 22/ 261. طبع في بمبي.

مناسك الحجّ المتوسط:

ذكره في الذريعة 22/ 261.

مناسك الحجّ الصغير:

ذكره في الذريعة 22/ 261.

7- حسين بن محمد بن عبد الصمد البحراني:

مناسك الحج:

ذكره في الذريعة 22/ 261.

ص: 282

8- حسين بن مفلح بن الحسن الصيمري البحراني:

قال الشيخ سليمان بن عبداللَّه في رسالة علماء البحرين:

كان كثير العبادات والصدقات، وقلّ إن يمضي عليه عام في غير حجّ أو زيارة.

اجتمع في بعض أسفاره مع المحقق الكركي فاستجازه فأجازه.

توفي سنة 933 وقبره مع أبيه في سلماباد بالبحرين.

له كتاب «محاسن الكلمات في معرفة النيات» ذكر فيه كثيراً من فتاوى والده في كتابيه وشرح الموجز، وشرح الشرائع، وله أجوبة المسائل.

انظر: أنوار البدرين: 76.

مناسك الحجّ:

ذكره في الذريعة 33/ 262.

مناسك الحجّ:

وهو غير المناسك المتقدّم، الذريعة 22/ 262.

9- سليمان بن أحمد بن الحسين آل عبد الجبار القطيفي:

نشأ في القطيف وسكن في مسقط.

له مؤلفات كثيرة منها النجوم الزاهرة في أحكام العترة الطاهرة (مجلد في الفتوى ويشير أحياناً إلى الدليل)، شرح المفاتيح في الطهارة والصلاة، الأنوار المشرقية في شرح اللمعة الدمشقية، شرح الباب الحادي عشر في المعارف الخمسة (مبسوط ويسمى إرشاد البشر في شرح الباب الحادي عشر)، وشروح على الفصول النصيرية والشمسية وتهذيب المنطق للتفتازاني، ورسائل في الفلسفة والكلام، وأجوبة مسائل، للوقوف على كلّ ذلك انظر: أنوار البدرين: 325.

ص: 283

توفي سنة 1266 ه.

الدرة في أحكام الحجّ والعمدة:

ذكره في الذريعة 8/ 89.

مناسك الحجّ:

قال في أنوار البدرين/ 325: مبسوط جيد جداً.

مناسك الحجّ (الصغير):

قال في الذريعة 22/ 264: وهو غير الدرة في أحكام الحج والعمرة على ما هو مذكور مع سائر تصانيفه على ظهر كتابه الرد على النصارى.

وذكره في أنوار البدرين أيضاً:ص 325.

نيات مناسك الحجّ:

ذكره في أنوار البدرين: 325.

10- سليمان بن سليمان بن أحمد بن الحسين القطيفي:

يسمى سليمان الصغير بن سليمان الكبير المتقدّم.

سكن بعد وفاة والده «ميناب» أو «مينا» من بلاد ايران.

له شرح لأبيات عمّه الشيخ علي من منظومته في التوحيد والرد على الشيخية.

وله أجوبة مسائل الشيخصالح.

انظر:

أنوار البدرين: 326، الكرام البررة 2/ 610.

مناسك الحجّ:

ذكره في أنوار البدرين، والكرام البررة (المصادر المتقدمة).

ص: 284

11- سليمان بن عبداللَّه بن علي بن الحسن بن أحمد السراوي الماحوزي:

ولد سنة 1075 ه.

تلميذ الشيخ عبداللَّه السماهيجي.

له البلغة والمعراج ومنسكان للحجّ يأتي ذكرهما.

توفي 1121 ه.

مناسك الحجّ:

ذكره تلميذه الشيخ عبداللَّه السماهيجي في إجازته الكبيرة للشيخ ناصر البحراني.

صنف المناسك للسيد أحمد بن عبد الرؤوف الجدحفصي البحراني. نسبة إلى جد حفص من قرى البحرين.

انظر: الذريعة 22/ 264، الأعيان 7/ 304.

مناسك الحجّ الثانية:

مقصوراً فيه على المسائل الخلافية فيها، ذكره في إجازةصدرت منهُ بخطه في سنة 1111 لتلميذه محمد رفيع البيرمي اللاري.

أولهُ: الحمد للَّه وكفى ... وضعتها في المسائل الخلافية التي تعم بها البلوى في مناسك الحجّ. تاريخ كتابة النسخة سنة 1111 ه.

12- عبداللَّه بن أبي القاسم بن علي البلادي البحراني الغريفي:

ولد سنة 1291 ه.

أخذ الفقه والأصول عنصاحب الكفاية.

له تأليف كثير في العلوم المختلفة تبلغ الأربعين: منها: طرق الوعظ، زلال العين، الكشكول، الردود الستة على ابن تيمية في الإمامة، رحلة الحرمين.

ص: 285

وغيرها تقف عليها عند مراجعة الأعيان 8/ 49.

توفي سنة 1372 ه

رحلة الحرمين في مناسك الحجّ:

ذكر في الأعيان 8/ 49، وقال في الذريعة 10/ 168: أنه فارسي.

مناسك الحجّ:

ذكره في الذريعة 22/ 266.

ويحتمل اتحاده مع رحلة الحرمين.

13- عبداللَّه بنصالح البلادي البحراني:

مناسك الحجّ:

صنفهُ بطلب السيد أحمد بن عبد الرؤوف الجدحفصي البحراني.

ذكره في الأعيان 2/ 624.

4 1- عدنان بن شبر بن علي مشعل بن محمد الغياث الغريفي:

ولد في البصرة سنة 1283 ه.

انتقل الى خرمشهر مع والدته بعد وفاة والده وله من العمر خمس سنين.

هاجر الى النجف سنة 1297 ه وكان عمره أربعة عشرة سنة.

سنة 1311 ه عاد الى خرمشهر بأمر المجدد الشيرازي وإيعاز من شيخه محمد طه نجف للقيام بوظائفه الشرعية.

جاء العراق للتداوي فتوفي في الكاظمية سنة 1340 ه، وانتقل جثمانه إلى النجف ودفن في الصحن الشريف.

ص: 286

من آثاره: قبسة العجلان فيصلاة الإيمان (طبع بأصفهان 1317 ه)، أنساب العرب، ميزان المقادير، كتاب في الجفر، حاشية العروة الوثقى. ديوان شعر (جمعه الدكتور حسين علي محفوظ).

مناسك الحجّ:

ذكره في نقباء البشر 3/ 1262.

منظومة في الحجّ وأسراره:

تقرب من ألف بيت.

5 1- علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن أبي شبانة البحراني:

والدصاحب تتمة الأمل، ومن أجداد السيد ناصر بن عبد الصمد، ساكن البصرة ورئيسها المتوفى في رجب 1331 ه.

تلميذ الشيخ سلمان الماحوزيصاحب البلغة المتقدّم، والجامع لديوانه.

من الأدباء اللامعين، قد أكثر الشعر والنثر إلّاأنه ضاع إثر حوادث أوال، ونقل بعضاً من شعرهصاحب أنوار البدرين: 98.

مناسك الحجّ:

مبسوط، حكاه محمدصالح البحرانيصاحب الدرة الثمينة، وقال في أنوار البدرين: إن النسخة عنده ومعها مزار كبير للنبيّ وأئمة البقيع.

6 1- علي بن جعفر بن علي بن سليمان القدمي البحراني:

ذكره السيد عبد الدين نور الدين بن نعمة اللَّه الجزائري في إجازته الكبيرة ووصفه بالفاضل المحقق، وذكره أيضاً السيد الأميني في الأعيان 8/ 181.

توفي سنة 1131.

ص: 287

مناسك الحجّ:

ذكره الشيخ عبد اللَّه السماهيجي في إجازة للشيخ ناصر الجارودي.

انظر الذريعة 22/ 268.

17- علي بن جعفر بن علي بن الحسين بن علي:

مناسك الحجّ:

ذكره في الذريعة 22/ 268.

18- علي بن الحسن بن علي بن حسن الخنيزي:

ولد في القطيف سنة 1285 ه.

انتقل الى النجف الاشرف لإكمال درسه العالي سنة 1308.

درس عند محمد طه نجف والشيخ محمود ذهب، والسيد كاظم اليزدي، والشيخ فتح اللَّه شيخ الشريعة.

سنة 1323 عهدت اليه الحكومة العثمانية أمر القضاء والفتيا في القطيف، وأقره الملك عبد العزيز بن سعود على منصبه، وبقي فيه الى حين وفاته.

توفي سنة 1362 ه.

من آثاره: أسفار الناظرين في شرح تبصرة المتعلمين، شرح نجاة العباد للشيخ الجواهري، رسالة عملية وهي في الشكوك خاصة.

تبصرة الناسك في أعمال المناسك:

قال في الأعيان: وهو الكتاب الوحيد الذي أتمه، ويعتبر هذا المنسك.

مبسوطاً بالقياس الى غيره من المناسك.

انظر الأعيان 8/ 299.

ص: 288

19- علي بن سليمان بن درويش بن حاتم القدمي:

محدث، فقيه، أصولي: نشر علم الحديث في بلاد البحرين.

من تصانيفه: رسالة في الصلاة، رسالة في جواز التقليد، حاشية على المختصر النافع.

توفي سنة 1064 ه.

انظر: معجم المؤلفين 7/ 103.

مناسك الحجّ:

قال في رسالة علماء البحرين: إن منسكه مع أكثر تصانيفه موجودة عندي.

انظر الذريعة 22/ 269.

20- محمد بن الحسن المكنى بأبي مجلي القطيفي:

تلميذ المحدث الشيخ يوسف البحراني.

مناسك الحجّ:

في بيان الأماكن الشريفة وتحديدها وعلائمها وأعمالها.

ذكره الشيخ محمدصالح البحراني آل طعان.

انظر الذريعة 22/ 272.

21- محمد بن الحسين أبو خمسين الاحسائي:

ولد في حدود 1226 ه

له شرح على إرشاد العلّامة مبسوط، وشرح على تبصرة العلّامة، رسالة عملية كبرى أسماها منار العارفين، ورسالة عمليةصغرى أسماها مصباح العابدين.

ص: 289

توفي في ذي القعدة سنة 1316 عن عمر ناهز التسعين عاماً.

مناسك الحجّ:

ذكره السيد ناصر بن هاشم الاحسائي.

انظر أنوار البدرين: 414، الذريعة 22/ 272.

22- محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الاحسائي:

متكلم، فقيه، محدث، عارف.

ولد في الاحساء في حدود سنة 840 ه.

انتقل إلى النجف الأشرف لإكمال دراسته العالية عند كبار الأساتذة منهم الشيخ عبدالكريم الفتال.

نزل كرك نوح، سنة 877 ه والتقى فيها بالشيخ علي بن هلال الجزائري وأقام عنده مستفيداً من علومه.

مؤلفاته كثيرة أحصيناها في «إحصاء مخطوطات علماء الاحساء والقطيف في مكتبات ايران» أشهرها مجلي مرأة المنجي (قيد التحقيق)، غوالي اللئالي العزيزية (طبع بتحقيق مجتبى العراقي). درر اللئالي العمادية (قيد التحقيق)، زاد المسافرين (طبع بتحقيقنا)، كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال (طبع بتحقيقنا)، وشرحان على الباب الحادي عشر.

توفي في حوالى العشر الأولى من القرن العاشر الهجري.

انظر: الفوائد الرضوية: 382، روضات الجنات 7/ 32، مستدرك أعيان الشيعة 2/ 282.

أسرار الحجّ:

في بيان أسرار ولطائف الحجّ في جانبه الفلسفي والأخلاقي مع الاستدلال

ص: 290

على ذلك من طرق العامة والخاصة. فرغ منه سنة 901 ه.

طبع على الحجر في طهران سنة 1324 ه ضمن كتاب المجلي.

وطبع ثانية في طهران أيضاً سنة 1329 على الحجر أيضاً، باهتمام الشيخ أحمد الشيرازي مع المجلي أيضاً.

انظر: فهرست كتابهاي چابي عربي: 51، الذريعة 2/ 43.

انتهينا تواً من تحقيقه.

23- محمد بن محسن الموسوي البوشهري البحراني:

المتوفى سنة 1355.

مناسك الحجّ:

فرغ من كتابته سنة 1324 ه.

قال في الذريعة 22/ 273: النسخة موجودة عند ولده السيد محمد طاهر.

4 2- محمدصالح بن أحمد بنصالح آل طعان القطيفي:

ابن اعلا الملا طعان القطيفي المعروف بتقواه ببلاد القطيف.

قال في أنوار البدرين: 269، كان كأبيه في التقوى والكرم.

له مصنفات كثيرة منها: شرح منظومة والده في الشكوك والسهو، كتاب في الفقه، منظومة في الأصول الخمسة، ذرائع الآمال فيما يخصّ السنة من الأعمال، وله شعر في المراثي.

توفي في شعبان 1333 ه في كربلاء ودفن في الصحن الشريف.

أعمال مكة والمدينة:

ذكره في أنوار البدرين: 269.

ص: 291

مناسك الحجّ الأولى:

في مجرد الأعمال والأدعية في عرفة والغدير وزيارة المدينة.

أوله «اللهم أرنا مناسكنا ... انظر الذريعة 22/ 265.

مناسك الحجّ الثانية:

ذكره في الذريعة 22/ 265.

5 2- محمد مهدي بن أحمد المقابي البحراني:

مناسك الحجّ:

فرغ منه سنة 1210.

ذكره في الذريعة 22/ 274.

6 2- يوسف بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني:

ولد سنة 1107 في قرية الماحوز من قرى البحرين.

تتلمذ عند والده الشيخ أحمد والشيخ سليمان الماحوزي، ثم على يد الشيخ حسين الماحوزي.

تنقل بين القطيف والبحرين ثم كرمان وشيراز ومن ثم الى كربلاء حيث أدركه الأجل.

من آثاره: الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، سلاسل الحديد في تفسير ابن أبي الحديد، الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب، الدرة النجفية، النفحات الملكوتية في الرد على الصوفية، تدارك المدارك، اعلام القاصدين، معراج النبيه، لؤلؤة البحرين، وغير ذلك من المصنفات، وقف عليهاصاحب أنوار البدرين: 198.

ص: 292

توفي في ربيع الأول 1186.

مناسك الحجّ:

ذكره في الذريعة 22/ 275، أنوار البدرين: 198، لؤلؤة البحرين: 447.

المصادر:

1- ادب الطف، جواد شبر، دار المرتضى بيروت- 1988 م.

2- الاعلام، خير الدين الزركلي. دار العلم للملايين. بيروت ط 8، 1989 م.

3- اعلام هجر، هاشم محمد الشخص، مؤسسة البلاغ بيروت.

4- أعيان الشيعة، محسن الأمين، تحقيق حسن الأمين، بيروت 1986 م.

5- أنوار البدرين، علي بن الحسن البلادي، نشر مكتبة السيد المرعشي، قم- 1407 ه.

6- ترجمة آل عرفات، عبد الغني آل عرفات. مخطوط.

7- دائرة المعارف الشيعية، حسن الأمين، دار التعارف بيروت ط 3، 1981 م.

8- الذريعة الى تصانيف الشيعة. آقا بزرك الطهراني، دار الأضواء ط 2، نشر علي نقي المتروي 1978 م

9- روضات الجنات. محمد باقر الخوانساري، الدار الإسلامية بيروت ط 1، 1991 م.

10- طبقات أعلام الشيعة، اقا بزرگ الطهراني، تعليق عبد العزيز الطباطبائي ط 2 مشهد 1404 ه.

11- فهرست آل بابوية وعلماءالبحرين، سليمان الماحوزي البحراني، اعداد احمد الحسيني، نشر مكتبة المرعشي- 1404 ه

12- فهرس مجلس الشورى، بهاء الدين انواري- محمد تقي دانش پژوه، نشر چاپخانة مجلس شورى، طهران- 1359 ه. ش

13- فهرس المرعشي، أحمد الحسيني، نشر مكتبة المرعشي.

14- فهرس المكتبة الوطنية (ملى)، عبد اللَّه انوار، طهران.

15- فهرس ملك طهران، ايرج افشار، محمد تقي دانش بزوه، ومساعدة الحجتي والمنزوي.

16- الفوائد الرضوية، عباس القمي، طبعة خالية عن المواصفات.

17- مستدرك اعيان الشيعة، حسن الأميني، دار التعارف للمطبوعات، بيروت- 1987 م

18- معجم المؤلفين، عمر رضا كحالة، نشر مكتبة المثنى، بيروت- دار إحياء التراث، بيروت.

19- معجم مؤلفين كتب چابي، خانبابا مشار.

ص: 293

معجم ما كتب في الحجّ والزيارة والمعالم المشرّفة في الحجاز (3)

عبد الجبار الرفاعي

تعريف بمصادر دراسة الحج ومكة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، والمعالم المشرّفة في الحجاز، وما يرتبط بذلك. يشتمل على ما كُتِبَ من مؤلفات، ورسائل جامعية، وبحوث، ومقالات، باللغتين العربية والفارسية.

إشارات:

1- بلغ عدد العناوين ما يقارب (2000) عنوان.

2- شملت التغطية الزمانية ما كُتِب منذ بداية التدوين عند المسلمين إلى اليوم.

3- ينشر هذا العمل خلال حلقات في مجلة «ميقات الحج» بناءً على طلب رئيس تحرير المجلة. وبعد الفراغ من نشره هنا ستقوم معاونية شؤون التعليم والبحوث الإسلاميّة في الحجّ، التابعة لممثليّة الوليّ الفقيه لشؤون الحجّ والزيارة

ص: 294

بنشره مستقلًا إن شاء اللَّه تعالى.

4- لا تمثل هذه القائمة استقراءً تاماً لجميع ما كُتِب في هذه الموضوعات، لذا يرجو المؤلف من السادة الكُتّاب إعلامه بأعمالهم التي لم تُرصد في القائمة على عنوان المجلة، كيما يجري استدراكها حيثما ينشر هذا العمل في كتاب.

5- اعتمدت المداخل على عناوين الكتب والبحوث والمقالات.

6- رُتبت المداخل تبعاً للترتيب الهجائي التام، واعتبار الوحدة في الترتيب هي الكلمة، أي على أساس كلمة كلمة، ثمّ حرف حرف.

المختصرات:

ت: تاريخ الوفاة

ج: الجزء

ح: الحلقة

خ: نسخة مخطوطة

د. ت: بدون تاريخ

د. م: بدون ذكرمكان النشر في المطبوع

د. ن: بدون ذكر الناشر

س: السنة

سم: سنتيمتر

ش: السنة الهجرية الشمسية

ص: الصفحة

ط: الطبعة

ظ: انظر

ع: العدد

ق 7 ه: القرن السابع الهجري

م: السنة الميلادية

مج: مجلد

مط: المطبعة

ه: السنة الهجرية القمرية

*** 377- تقريب المرام الى زيارة سيّد الأنام في الرد على القول المحقق المحكم

عبد اللَّه القَنْدَهاري

ظ:

الثقافة الإسلامية في الهند 245،

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 407.

378- تقرير عن المياه الجوفية في الحرم المكي الشريف

يحيى كوشك وآخرون

جدة: جامعة الملك عبد العزيز، 1400 ه، 62ص.

ص: 295

379- التكامل الاجتماعي الذي أرساه الرسولصلى الله عليه و آله في المدينة

نفيسه مصطفى زهرة

بيروت: الجامعة اللبنانية، كلية الآداب (رسالة ماجستير).

380- تكوّن الدولة الإسلامية في المدينة: البداية والنموذج

إبراهيم بيضون

العرفان (بيروت) مج 73: ع 1، 2 (6، 7/ 1405 ه/ 3، 4/ 1985/ م)ص 30- 46.

381- التلبية

محمد مهدي الآصفي

ميقات الحج: ع 2 (1416 ه)ص 117- 139.

382- تلويح الإشارة في تلخيص شرح الزيارة

(تلخيص شرح الزيارة للشيخ أحمد الإحسائي)

مير محمد حسين بن مير محمد علي بن محمد حسين الحسيني المرعشي المعروف بالشهرستاني الحائري (ت 1315 ه).

ظ: ريحانة الأدب 3/ 273، الذريعة 4/ 430، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيتصلوات اللَّه عليهم 9/ 414.

383- التمتع في الحج

أبو بكر الجزائري

الجامعة الإسلامية (المدينة المنورة) س 13: ع 49 (1- 3/ 1401 ه)ص 23- 26.

384- تمكين المقام في المسجد الحرام

علي بن الحاج الحنفي الشهير ب (على دده) [ت 1007 ه].

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

385- تنزيل السكينة على قناديل المدينة

تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي (756 ه)

ظ: العرب. س 31: ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 79.

386- تنزيه المسجد الحرام عن بدع جهلة العوام

ابن الضياء المكي

ظ: المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 203.

387- التنظيم الهندسي للدفاع عن المدينة في غزوة الأحزاب

محمد جمال الدين محفوظ

ص: 296

الأزهر س 63: ع 4 (11/ 1990)ص 411- 416.

388- تنظيمات الرسول الإداريّة في المدينة

صالح أحمد العلي

بغداد: 1968 م.

389- تنظيمات مكة والمدينة عند ظهور الإسلام

صالح أحمد العلي

الاجتهاد (بيروت) س 2: ع 7 (ربيع 1990 م/ 1410 ه)ص 31- 67.

390- تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت اللَّه الحرام

إبراهيم بن محمد الميموني

(991- 1079 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

391- تهييج الغرام على البلد الحرام

محمد بن يعقوب الفيروز آبادي

(729- 817 ه)

ظ:

المنهل (جدة) س 56: ع 475 (3- 4/ 1410 ه/ 10- 11/ 1989 م)ص 204.

392- تواريخ المدينة المنورةومؤرخوها

حمد الجاسر

ظ:

العرب. س 31: ج 1، 2 (7- 8/ 1416 ه/ 12/ 95- 1/ 1996 م)ص 79.

393- تواريخ المدينة المنورة ومؤرخوها

عبيد مدني (ت 1396 ه)

ظ: موسوعة الأُدباء والكتاب السعوديين 171.

394- توسعة الحرم النبوي الشريف

هاشم دفتردار وجعفر فقيه

بيروت: مطبعة الانصاف، 1953 م.

395- توسعة المسجد الحرام عبر التاريخ

محمد عبد اللَّه مليباري

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 34- 51.

396- التوسّل

محمد عبد القيوم القادري الهزاروي

باهتمام: حسين حلمي

استانبول: حسين حلمي، 1984 م.

397- التوسل بالأنبياء والصالحين بندائهم وطلب شفاعتهم

محمد بن دايل (ق 13 ه)

خ: دار البحرين برقم 94، في 8 ورقات تاريخها 1237 ه.

398- التوسّل بالموتى

تركية: 1976 م.

ص: 297

399- التوسّل بالنبيّ والصالحين وجهلة الوهابيين

أبو حامد بن مرزوق الدمشقي الشامي

استانبول: حسين حلمي، 1975 م، و 1984 م.

400- التوسّل والزيارة

محمد الفقي

القاهرة: مصطفى البابي الحلبي.

401- توشه خانه خدا

(بالفارسية)

محمود مير هندي الاصفهاني

اصفهان: انتشارات مشعل، 1345 ش، 310ص، 17* 5/ 11 سم، مصور.

402- التوصل بالبديع الى التوسل بالشفيع

عز الدين علي بن الحسين بن علي بن أبي بكر محمد بن أبي الخير الموصلي (789 ه)

(شرح لبديعيته في مدح الرسولصلى الله عليه و آله)

ظ:

ايضاح المكنون 1/ 173،

الغدير 6/ 45،

معجم ما ألّف عن رسول اللَّهصلى الله عليه و آله 347،

معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 425.

403- توصيف آثار تاريخي مكّه ومدينه وفلسفه مناسك حج در فتوح الحرمين

(بالفارسية)

محيي لاري (ق 10 ه)

باهتمام: رسول جعفريان

قم: مكتبة انصاريان، ط 1، 1373 ش، 111ص، 24 سم.

404- توصيه هايى در رابطه با سفر حج

(بالفارسية)

(ايران): سهامى انتشار، 1359 ش، 34ص، 17 سم.

405- توضيح مناسك الحج

حسن كاظم علوش الحلي

النجف: مط القضاء، 1978 م، 16ص.

406- توضيحات مناسك الحج وما يلحقه اعمال المدينة المنورة

محمود الحسيني الشاهرودي

النجف: مط النعمان، 1970 م، 256ص.

407- توضيح المناسك على المذاهب الأربعة وأدعية الطواف والعمرة

أحمد عبد القادر

الرياض: مكتبة المعارف ومكتبة الشباب، ط 2، 1400 ه.

408- توضيح المناسك كامل حجّ

(بالفارسية)

مهدي ملتجي

طهران: مكتبة اشرفي، 1354 ش، 446ص.

ص: 298

409- توضيح المناسك وهداية النّاسك

(بالفارسية)

أسد اللَّه شريفي

طهران: ط 1، 1361 ش، 269ص، 21 سم.

410- توضيح المناسك يا دستور حج

(بالفارسية)

علي اصغر كرباسچيان

طهران: 1335 ش، 118ص، 17 سم.

411- توضيح المناسك يا دستور حج

(بالفارسية)

محمود الشاهرودي

مشهد: انتشارات جعفري، 1351 ش، 96ص، 17 سم.

412- التوعية الشاملة في الحج

عبد اللَّه عبد المطلب بوقس

مكة المكرمة: رابطة العالم الإسلامي، 1401 ه، 112ص (مطبوعات رابطة العالم الإسلامي، 9).

413- توقّعات الاقبال على الحج عام 1420 ه

أحمد حفيظ وآخرون

جدة: جامعة الملك عبد العزيز، 1402 ه، 13ص.

414- توقير المصطفى

عبده غالب أحمد عيسى

بيروت: دار الجيل، ط 1، 1987، 71ص.

الخرطوم: دار الفكر، ط 4، 1987 م، 50ص.

415- التونسيون في مكة

(من كتاب الدرالكمين بذيل العقدالثمين)

نجم الدين بن فهد

تحقيق: محمد الزاهي

الحياةالثقافية (تونس) س 7: ع 22، 23 (9- 10/ 1982 م)ص 182- 191.

416- ثامن شوّال

(بحث فيه عن الحوادث التي وقعت في ذلك اليوم من سنة 1343 ه من هدم القبور في البقيع في المدينة المنورة، والردّ على فتوى الأبله ابن بليهد الذي أمر بذلك، وفضائح الوهّابية).

ظ:

الذريعة 17/ 271،

تراثنا: ع 17 (9- 12/ 1409 ه)ص 157.

417- ثروات أهل مكة في عصر الرسالة

هاشم يحيى الملاح، وعبد الواحد الرمضاني

المؤرخ العربي (بغداد) س 16: ع 43 (1990 م)ص 101- 113.

418- ثغرة مهملة في تاريخ مكة

عبد القدوس الأنصاري

ص: 299

المنهل (جدة) مج 24: ج 11 (11/ 1383 ه/ 3- 4/ 1964 م)ص 661- 664.

419- ثواب أعمال حج بضميمه منتخب المناسك مطابق با فتاواى هفت نفر از مراجع (بالفارسية)

محمود بن مهدي الموسوي الاصفهاني

قم: دار التبليغ الإسلامي، ط 1، 1393 ه.

420- ثواب الحج

الحسن بن علي الوشاء البجلي الكوفي

ظ:

رجال النجاشي 39، الذريعة 5/ 18.

421- كتاب ثواب الحج

سَلَمة بن الخطاب البراوستاني الأزدورقاني

ظ:

رجال النجاشي 187، الفهرست للشيخ الطوسي 79، الذريعة 6/ 251.

422- كتاب ثواب الحج

محمد بن إسماعيل بن بزيع

ظ:

رجال النجاشي 330.

423- ثواب الحج

يونس بن عبد الرحمن

ظ:

رجال النجاشي 448، الذريعة 5/ 18.

424- ثواب الحج وأعماله

علي محمد علي دخيل

بيروت: دار المرتضى، 1403 ه، 198ص، 17 سم.

425- ثواب الحج وأعماله

علي محمد علي دخيل

بيروت: دار المرتضى، 1403 ه، 198ص، 17 سم

426- جارى هاى حج در گفتگو با رياست سازمان حج وزيارت

(بالفارسية)

ميقات حج س 2: ع 5 (پائيز 1372 ش)ص 225- 232-

427- كتاب جامع آداب المسافر للحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ: رجال النجاشي 390

428- جامع الأدعية والزيارات

أحمد عارف الزين العاملي،صيدا:

مطبعة العرفان

429- كتاب جامع تفسير المنزل في الحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ:

رجال النجاشي 389

ص: 300

430- كتاب جامع الحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ:

رجال النجاشي 389

431- جامع الزيارات العباسي

محمد باقر بن محمد السبزواري (ت 1090 ه)

ظ:

الذريعة 5/ 57، معجم ماكتب عن الرسول وأهل البيت عليهم السلام 9/ 422

432- كتاب جامع علل الحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ: رجال النجاشي 389

433- كتاب جامع فرض الحج والعمرة

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ:

رجال النجاشي 390

434- كتاب جامع فضل الكعبة والحرم

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ:

رجال النجاشي 389، معجم ماكتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 433

435- كتاب جامع فقه الحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ظ: رجال النجاشي 390

436- الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف

جمال الدين محمد جار اللَّه بن محمد نور الدين بن أبي بكر علي بن ظهيرة القرشي المخزومي (ت 986 ه)

غوتبخن: 1274 ه (بعناية: وستنفلد)

القاهرة: مطبعة عيسى الحلبي، 1340 ه، 1358 ه.

بيروت: 1964 م (اوفسيت). ط 2، 1392 ه، 412ص، 21 سم.

بيروت: المكتبة الشعبية، 1979 م،ص 259.

437- جامع المسالك في أحكام المناسك في الفقه على المذاهب الأربعة

عبد اللَّه التليدي

مكة المكرمة: ط 1، 1345 ه

دمشق: دار المعاجم

الرياض: ط 2، 1409 ه، 78ص 21 سم

438- كتاب جامع نوادر الحج

الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 381 ه)

ص: 301

ظ:

رجال النجاشي 390

439- الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة

عبد القدوس الأنصاري

المنهل (جدة) مج 21: ج 5 (5/ 1380 ه/ 11/ 1960 م)ص 293- 295.

440- الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة

حسن بن حمود بشير

المنهل (جدة) مج 34: ح 12 (12/ 1393 ه/ 1/ 1974 م)ص 972- 995

441- جامه خراساني برقامت كعبه

(بالفارسيه)

آصف فكرت

ميقات حج س 2: ع 5 (پاييز 1372 ش)ص 125- 147

442- الجانب الأخلاقي في الحج

إبراهيم عبد السلام ناصف

المجاهد (القاهرة) س 9: ع 92

443- جايگاه حج در انديشه اسلامى

(بالفارسية)

على قاضى عسكر

ميقات حج س 1: ع 1 (پاييز 1371 ش)ص 128- 117

444- جايگاه حج در فرهنگ ارتباطات

(بالفارسية)

رضا هاشمى

ميقات حج س 2: ع 8 (تابستان 1373 ش)،ص 186- 205

ع 14 (زمستان 1374 ش)ص 186- 196

445- جبال الحجاز

رشدي الصالح ملحس

المنهل (جدة) مج 7: ج 9 (9/ 1366 ه/ 7/ 1947 م)ص 397- 401

ج 11- 12 (11- 12/ 1366 ه/ 10- 11/ 1947 م)ص 499- 502

446- جبل ثور بالمدينة

محمد فؤاد لباني

المنهل (جدة) مج 16: ج 2 (3/ 1375 ه/ 10- 11/ 1955 م)ص 54- 57

447- جدال در حج

(بالفارسية)

علي حجتى كرمانى

ميقات حج. س 4: ع 11 (بهار 1374 ش)ص 75- 84

448- جداول أمراء مكة وحكامها

مساعد بن منصور آل عبداللَّه بن سرور

[د. م]: مطبعة النهضة الحديثة، 1388 ه، 51ص

ص: 302

449- جدة بين ماضيها وحاضرها

رزق الطويل

المنهل (جدة) مج 20: ج 10 (12/ 1379 ه/ 5- 6/ 1960 م)ص 671- 676

450- جدة عبر التاريخ

عبد القدوس الانصاري

المنهل (جدة) مج 22: ج 8 (8/ 1381 ه/ 1/ 1962 م)ص 510- 517

ج 9 (9/ 1381 ه/ 2/ 1962 م)ص 595- 604

451- جدّة في مطلع القرن العاشر الهجري «السادس عشر الميلادي»

نوال سراج ششه

مكة المكرمة: مكتبة الطالب الجامعي، ط 1، 1406 ه، 163ص، 24 سم

452- جذب القلوب إلى ديار المحبوب (في تاريخ المدينة المنورة وفضل زيارة النبي الأكرمصلى الله عليه و آله و سلم وأئمة البقيع عليهم السلام)

(ترجمة خلاصة الوفاء بالفارسية)

عبد الحق بن سيف الدين الدهلوي (ت 1052 ه)

خ: مكتبة المرعشي في قم برقم 4137 في 228 ورقة

ظ: فهرسها 11/ 156، منزوي 10/ 17، فهرستوراه منزوي 1/ 191

453- جُرعه اى از بيكران زمزم

(بحث حول أسرار الحج، بالفارسية)

عبداللَّه جوادي آملي

ترجمة وتحقيق: علي حجتي كرماني

[طهران]: معاونية التعليم في بعثة الولي الفقيه لشؤون الحج والزيارة، ط 1، 1371 ش، 177ص

454- الجزء الخاص بالمدينة المنورة من رحلة ابي سالم العياشي

تحقيق ودراسة: محمد امحزون

الرياض: جامعة الملك سعود، كلية الآداب (رسالة ماجستير مسجلة بإشراف: عبداللَّه العثيمين)

ظ: نشرة أخبار التراث العربي ع 21 (9- 10/ 1985 م)ص 22

455- جزازات من تاريخ مكة المكرمة

محمد بن عبداللَّه آل زلفة

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 106- 123

456- الجزيرة العربية في أخبار المؤلفين الصينيين

نقولا زيادة

دراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض) ج 1 (1979 م)ص 29- 40

المؤرخ العربي (بغداد) ع 6:ص 127- 143

ص: 303

457- الجزيرة العربية في الجغرافيات والرحلات المغربية وما إليها

محمد المنوني

مجلد المجمع العلمي العراقي مج 29 (1978 م)ص 150- 187

مصادرتاريخ الجزيرة العربية (الرياض) ج 2 (1979 م)ص 299- 326

458- الجزيرة العربية في رحلتي ابن جبير والعبدري

عبد القدوس الانصاري

العرب س 11: ج 11، 12 (5- 6/ 1977 م)ص 806- 816

مصادر تاريخ الجزيرة العربية ج 2 (1979 م)ص 327- 334

459- الجزيرة العربية في كتب الرحالة الغربيين

عبد الشافي غنيم عبد القادر

مصادر تاريخ الجزيرة العربية ج 2 (1979 م)ص 421- 436

460- الجزيرة العربية في كتب السّير والتراجم، مع دراسة تحليلية لكتاب «الطبقات الكبرى» لابن سعد، وأهميته مصدراً لتاريخ الجزيرة العربية

إبراهيم علي طرخان

في: الندوة العالمية الأولى لدراسات تاريخ الجزيرة العربية (الرياض:

5/ 1397 ه/ 4/ 1977 م)

دراسات تاريخ الجزيرة العربية ج 1 (1979 م)ص 143- 181

461- الجزيرة العربية في المصادر الكلاسيكية

لطفي عبد الوهاب يحيى

دراسات تاريخ الجزيرة العربية ج 1 (1979 م)ص 55- 71

462- الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام

أحمد أبو الفضل عوض اللَّه

الدارة س 1: ع 4 (ديسمبر 1975 م)ص 132- 149

463- الجزيرة العربية وماضيها التاريخي العربي والإسلامي والإنساني

عبد السلام هاشم حافظ

الدارة س 8: ع 2 (اكتوبر 1982 م)ص 62- 66

464- الجزيرة والتاريخ الإسلامي (حول عصرصدر الإسلام)

إبراهيم عبد القادر المازني

الرسالة (القاهرة) س 5: ع 196 (ابريل 1937 م)ص 535- 537

465- جسر الإسلام في شعيرة الحج

الهداية (البحرين) س 12: ع 141 (06/ 1989 م)ص 43- 45

ص: 304

466- جغرافية الإسلام التاريخية في عصر النبوة: دراسة جيوبولتيكية

إسماعيل سرور شلش

قضايا عربية (بيروت) س 10: ع 2 (3/ 1983 م)ص 55- 99

467- جغرافية مكة المكرمة

مصطفى عطار

المنهل (جدة) مج 51: ع 475 (3- 4/ 1410 ه)ص 6- 11

468- جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام

ابن قيم الجوزية

تحقيق: شعيب الارناؤوط، عبد القادر الارناؤوط

الكويت: دار العربية، 1987 م، 492ص

469- جلاء الأوهام عن مذاهب الأئمة العظام

(التوسل بجاه خير الأنام)

مختار بك بن أحمد مؤيد باشا العظمى (ت 1340 ه)

دمشق: 1330 ه، 99، و 15ص

ظ:

معجم المطبوعات لسركيس 1715

470- جلوه هايى از سيماى محمدصلى الله عليه و آله و سلم «مناسك فكرى حج» (بالفارسية)

علي شريعتي

طهران: وزارة ارشاد ملي، ط 1، 1359 ش

471- جمرات كُجاست؟

(بالفارسية)

مهدي پيشواى، حسين گودرزى

ميقات مج س 3: ع 9 (پاييز 1373 ش،ص 16- 6)

472- جمع الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي (ص)

صلاح الدين خليل بن الأمير كيكلدي ابن عبد اللَّه العلائي الشافعي الدمشقي (694- 761 ه)

ظ:

فهرس الفهارس والاثبات 791، معجم ماكتب عن الرسول وأهل البيت 1/ 441

473- جمعه خونين مكه به روايت شاعران امروز

(بالفارسية)

محمود شاهرخى، وعباس مشفق كاشانى، ومحمد رضا عبد الملكيان

(د. م): انتشارات سروش، ط 1، 1368 ش، 440ص، 21 سم

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.